النـدوة
آية اللّه العظمى
السيد محمد حسين فضل الله
النـــدوة
سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق
محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة
إعداد: عادل القاضي
الجزء الرابع عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
شؤون الشباب وقضاياهم
وطأت قدماي شوارع بيروت لأول مرة في العام 1992م.. وكانت أول المعرفة هي (الضاحية الجنوبية - بئر العبد) وكان أول من زرته فيها المفكر الإسلامي الكبير سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله – دام ظله- وكان أول الأسئلة التي طرحتها عليه: لقد كتبتم في شؤون فكرية شتّى، لكنّني لم أجد - فيما أتحفتم به المكتبة الإسلامية - مؤلّفاً خاصّاً في الشؤون الشبابية يتمحّض في مناقشتها بأسلوب حركيّ معاصر؟!
وكانت إجابة سماحته، بعد أن تشاطرنا الرؤية في ضرورة إفراد كتاب خاص بذلك، هو أنه منشغل – حدّ المعذريّة – في مسائل تستغرق جهده وتستهلك وقته، مما كان له الأولوية يومذاك، لكنّه ألمح بالضمن إلى إمكانية أن نجري حواراً في مختلف المسائل والمشاكل الشبابية موضع اهتمام هذه الشريحة الحيوية، ليكون حصادُ الحوار كتاباً، كنّا نتطلّع أن يكون رائداً في بابه.
فسرّتني الفكرة التي سقطت في حجر وجداني ثمرة ناضجة، وخرجت منه ورأسي مزدحمٌ بالأسئلة التي تراكمت في جعبته طوال السنين التي اضطلعت فيها بمهمة خدمة ابنائنا الطلبة والشباب منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، وذلك من خلال عملي في إدارة (الاتحاد الإسلامي لطلبة العراق) الذي كان يخوض جهاده التربويّ والتنمويّ والتوعويّ آنذاك إلى جانب فصائل المعارضة الإسلامية العراقية.. كنا ننحتُ في صخر، وكان يليّن لنا صلابة الصخور.
وهكذا، رأى (دنيا الشباب)(*) النور، ليردفه – من قبل أخوات فاضلات – (دنيا المرأة) و(دنيا الطفل).. ورغم أنّ دنيا الشباب لقي ما كنّا نتوقعه له من حفاوة واستقبال شبابيّين بالغين، وما قدّرنا له من آثار طيّبة، لكنّني وبعد مرور أكثر من عشرة أعوام على صدوره استشعر بالحاجة المتنامية إلى استكمال نواقصه، وملء فراغاته، وإشباع مطالبه، وإثراء معالجاته، فيما لا يزال حيّاً من موضوعاته، وفيما استجدّ خلال عقد من الزمن في دنيا الشباب من قضايا وهموم وتطلّعات.
وإذ استرجع ذكرياتي البيروتية، يطوّف بي خاطري في جنبات (مسجد الإمام الرضا(ع) وفي (مسجد الحسنين(ع) لاستحضر الأعناق الشبابيّة المشرئبّة، والعيون الفتيّة الشاخصة، إلى علم يتدفّق، وأدب يترقرق، وأبوّة تحنو، وإذا بمسافة ما بين المنبر وبين المجلس تدنو وتدنو حتى يتصاهرا في جوّ من الروحانيّة التي ما أن يشرع سماحته بتلاوة الدعاء عقب الصلاة حتى تخرّ الجباه اليافعة ساجدة تردّد معه تلك النبضات العبرى، والآهات الحرّى، في الشوق إلى اللّه، أو التوبة إليه، أو الاعتراف بين يديه، فتراهم وقد رفرف الهديُ الإيمانيُّ على المكان، ملائكة الطُهر في حرم الرضوان.
ولا أظنّ أنّ أحداً من شباب (الاتحاد الإٍسلامي لطلبة العراق) سواء الذين كان يزورهم في مقرّاتهم، أو يزورنه في مقرّ إقامته خلال تردّده على طهران وقم في ثمانينات القرن الغارب، ينسى توصياته وتوجيهاته في أن يغتنموا فرصة العمل في هذه المؤسسة التربوية ليغطّوا حاجة العراق المستقبلية إلى الكفاءات والطاقات الإسلامية، كيما يعوّضوا الهدر والنقص الهائلين في كوادره التي سحقتها عجلة التخلّف السلطوي على مدى ثلاثة عقود ونيّف، وها أنذا اليوم – وقد انزاحت سحابةُ القهر عن سماء العراق أو كادت – أرى الكثيرين منهم وقد تسنّموا المواقع اللائقة بمواهبهم وكفاءاتهم.. فأشكر الله على منّته، وأفخر بما آلت إليه البراعم من ثمار ناضجة، وتعودُ بي الذاكرة - وهي نشوى – إلى أيام كنّا وكان يحدّثنا عن غدٍٍٍ لناظره قريب!
وإذ أنسى لا أنسى يوماً قائضاً من صيف عام 1996م، وكنتُ قد دعوتُه إلى إلقاء كلمة في الصبية المنخرطين في دورة التعليم الدينيّ السنوية في دمشق.. كنتُ قد حبستُ أنفاسي وأنا أحدّث نفسي بأنّني ورّطتُ سماحته ونفسي وأشبال الدورة في هذا الموقف الذي تخيّلته صعباً. وكم كانت دهشتي كبيرة حينما رأيته يخاطبهم بلهجة مغايرة لأسلوبه في أحاديثه المعهودة.. لهجة بسيطة تفيض أبوّة وحناناً وشوقاً إلى أن يكونوا أبناء الإسلام الأوفياء ليملأ بهم سمع الدنيا وبصرها، وكيف راح يدعوهم لأن يكونوا المتفوّقين دائماً حتى ينعم العالم بعطاءاتهم ويتسع.. وقبل أن أبادره بخوفي الابتدائيّ، ودهشتي اللاحقة، قال: لا تعجب فلطالما رافقتُ الطفولة اليتيمة في المبرّات، وتعلّمتُ كيف أحاكيهم وأتناغمُ معهم!
لماذا تراني أذهبُ بعيداً، وأنا مدينٌ لهذا الناذر عمره وعلمه وتجربته في خدمة الدين وأتباعه، كيف ربّاني وهذّبني وعلّمني وهداني – أبّان شبابي – وملأ الفراغات الكبيرة من عقلي ووجداني، يوم كنتُ لا أملكُ من ميعة الصبا سوى خرير الدماء في عروقيّ الضاجّة بالحياه – وإذا به – بورك مسعاهُ - يقدّمني إلى المنصّة التي أُطلُّ منها على جمهوره ومريديه ومحبّيه من قرّاء (الندوة) و(فكر وثقافة) و(دنيا الشباب) و(فقه الحياة) و(الهجرة والاغتراب) ولستُ أنسى – ما حييت – كلمات الدفع والتشجيع والتأييد والتكريم التي كنتُ أحظى بها من لدنه، وخاصّة كلماته الكبيرة والأثيرة إلى نفسي: أنا سعيدٌ باكتشافي إيّاك!!
ويوم قرّرت (حوزة المرتضى) بدمشق افتتاح جلسات الندوة المباركة في صيف عام 1995م، كان المحفلُ الشبابيّ الذي عمرت به الندوة طيلة عقد من الزمن، قد أغنى – من جانبه – المسائل الشبابية المثارة كلّ سبت، لأنّ القسط الأوفر من الأسئلة التي كانت تُطرح هي من قبل هذه الشريحة التي كانت تجدُ في المنبر وفارسه ضالّتها المنشودة في استحصال الإجابات المتنوّعة والمباشرة على قضايا ومشاكل شبابيّة تشكل العمود الفقريّ لسلسلة الندوة المباركة.
فلقد كان الشباب، إضافة إلى أسئلتهم الفقهية والفكرية والتربوية والقرآنية، يستنصحون سماحة السيد بين الحين والآخر.. ويلوذون به، يسألونه نور النصيحة في حلَكِ التحدّي.. وكنتُ أسعدُ بهذه الطلبات الدالّة على أنّ النصيحة لم تكسد، كما يحاول البعضُ ممن أفسد السوقُ ذوقه تصويرها.
وقد واجهتني، وأنا أضع عنوان هذه المقدمة التي أطمع – عادة – وأطمح أن تكون بمثابة دراسة أوليّة في أحد أبرز موضوعات الندوة الكثيرة، واجهتني مشكلة أنّ الغالبية العظمى من أسئلة الندوة كانت موجّهة – كما ألمحت - من قبل الشباب أنفسهم، فكيف يتسنّى لي أن أحصر هذا الكمّ الهائل من المسائل والمشاكل الشبابية في صفحات معدودات؟ ثم رأيت أن أوجّه عناية القارئ الكريم إلى عنوان أو محور واحد، طالما أنني كنتُ قد تطرّقت إلى بعض قضايا الشباب في مقدمة المجلد الحادي عشر: (الفقه التربويّ).
نصائح وإرشادات سماحته للشباب والطلاّب:
1. الشباب طاقة .. ومسؤولية
في إحدى نصائحه الموجهة إلى الشباب يلفت سماحته أنظارهم إلى إنّ شبابهم طاقة أنعم الله تعالى بها عليهم، وكشكر لهذه النعمة عليهم أن يفجّروا هذه الطاقة ويحّركوها بما يحقّق النتائج الإيجابية في الدنيا والآخرة، وأنّ لا ينشغلوا بالتفاهات من الأمور، وأن لا يستغرقوا في شهواتهم وملّذاتهم، بل إنّ عليهم مسؤولية أن يُنتجوا لشباب المستقبل القادمين على الأثر علماً أوسع، وإبداعاً أكبر، وحياة أكثر حرية وعدالة( ).
وفي معرض ردّه على ظاهرة السهرات الشبابية التي تمتدّ حتى ساعات الفجر الأولى والتي تُنفق في المزاح والثرثرة والأمور التافهة، يوجّه سماحته النصيحة التالية:
((هؤلاء يعيشون حياتهم من دون أن يمارسوا مسؤولياتهم، ويواجهون الحياة من موقع العبث والهزل واللامبالاة لا من موقع الجدّ والمسؤولية، وقد قال رسول الله(ص) ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسئل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وشبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟)) فالإنسان مسؤول عن كلّ لحظة من لحظات حياته: هل صرفها في الخير أم في الشرّ؟! فعمرك هو رأسمالك الذي أراد اللّه لك أن تدخل من خلاله في تجارة معه، فمن ضيّع رأسماله جاء إلى اللّه وهو مفلس ليس معه شيء، بل ربّما يأتي وكاهله مثقل بالأوزار وذلك هو الخسران المبين))( ).
وفي وصية في الإطار نفسه.. خاطب سماحته الشباب بالقول: ((الشباب يمثلون قوة الحياة وطاقة الأمة، وعندما نتحدث عن الشباب المؤمن فالمفروض أن تكون قوتهم وطاقاتهم وعلاقاتهم مع بعضهم البعض منطلقة من خلال أن يوظفوها لخدمة الإسلام، فالله لا يتحدث عن الشباب فقط بل عن الشباب والشابات وعن المؤمنين والمؤمنات وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( ) ولذلك فالمفروض أن لا يضيّع الإنسان طاقة شبابه في العبث وفي اللاجدّية وفي اللهو. نعم، لا مانع من أن يلهو ولكن على طريقة ما ذكره أمير المؤمنين(ع) فيما روي عنه ((ينبغي للمؤمن أن يكون له ثلاث ساعات، ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يرّم فيها معاشه، وساعة يخلّي بين نفسه وبين لذتها في غير محرّم، فإنها عون على تينك الساعتين)) وورد عنه (ع) ((روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة)) وعنه (ع) أيضاً ((إن للقلوب إقبالاً وإدباراً فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض)).
إن الإسلام، أيّها الأحبة، يريد للإنسان أن يرتاح، لكن لا يريد للإنسان أن يتلف عمره بالعبثية وباللهو، وإنما يريده أن ينطلق على أساس أن يحقق نتائج كبرى أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ( )))( ).
2. تقوية الإرادة والعزيمة في خط الطاعة:
ويدعو في نصيحة أخرى إلى توجيه الطاقات الشبابية وتسخيرها في ميادين العلم والعمل الصالح، فيقول: ((إنّ لديكم طاقات يمكن أن تنموّها وتقووّها وتطوّروها.. إن لكم إرادة يجب أن تُصلّبوها.. وأنّ هناك أفقاً كبيراً يجب أن تقتحموه، ولاتيأسوا لأنّ الشباب إرادة وعزيمة وقوّة، وإذا فقدنا هذه العزيمة في الشباب فمن ذا الذي يمكن أن يبني الحياة، ويحمي القضايا الكبرى))( ).
ودعاهم في نصيحة أخرى لاغتنام شهر رمضان لتربية إرادتهم في خط طاعة الله، وذلك من خلال الانفتاح على قراءة القرآن، والدعاء، والصلاة والتأمّل، ومحاسبة النفس، للتوبة من التفريط في الماضي، والتخطيط الروحي الواعي للمستقبل( ).
3. الصبر على التجربة والتفاؤل بالمستقبل:
وسئل سماحته ذات مرّة عن نصيحة يوجهها للشباب الباحث عن بصيص أمل في عالم غارق بالظلام، وكيفية العمل لإصلاح الواقع المتردّي، فقال: ((إنّ علينا أن نعيش الثقة بالله والثقة بأنفسنا، وأن ندرس الواقع الذي نعيش فيه لنتعرّف على ثغراته التي يمكن أن ننفذ منها، وعلينا أن نصبر على التجربة، يقول الله تعالى ولا تيأسوا مَنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لا يَيْئأسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ( ).
أيّها الأحبّة! إن الحياة تختصرها التجربة، وإنّ فشل ألف تجربة لا يعني فشل الفكرة، فعلينا أن نجرّب ونجرّب، ولابدّ أن نلتقي – في نهاية المطاف – بالنتائج الإيجابية.
تأمّلوا في تقدّم العلم سواء في مجال الطبّ أو التغذية.. كيف ينطلق العلماء من روح المواصلة.. مواصلة التجربة، فكم من السنين قد طويت والعلماء في بحث دائم عن دواء للسرطان أو الإيدز أو الأمراض الفتّاكة الأخرى..
إنهم يقتربون تارة.. ويبتعدون أخرى.. وإذا لم ينجحوا في العصر الراهن فربّما هيّأوا الفرصة لجيل آخر.. ولعصر آخر))( ).
وفي إطار الحديث عن الأمل، توجّه لفيفٌ من الطلبة الجامعيين الذين أنهو تحصيلهم العلمي، بعدما أصيبوا بحالة من اليأس والإحباط، حينما لم يجدوا فرص العمل والتوظّف، إلى سماحته طالبين النصيحة، فقال: ((من خصائص الإنسان المسلم أولاً وأخيراًً أنْ يعيش حالة الثقة باللّه سبحانه وتعالى، لأنّ اليأس يعدل الكفر، إِنَّهُ لا يَيْئسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ( )، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا( )، فللرزق نظام، وللعمل نظام، وعلى الإنسان أن يسعى في تحصيل رزقه الحلال وفاقاً لقوله تعالى فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ( )، ولابدّ من الصبر والتوكل على اللّه في طلب الرزق))( ).
4. الاجتهاد في الدرس والتحصيل:
ذاتَ عام دارسيّ، طُلب إلى سماحته تقديم نصيحة لأبنائه الطلبة، فقال: ((النصيحة لكلِّ أبنائي من الطلبة أن يجتهدوا في الدرس ليبلغوا أعلى درجات العلم، سواء كانت أكاديمية أو حوزوية، وأقولها لكلِّ الناس: لطلبة الجامعات، وطلبة الحوزات، والمراحل الدراسية المختلفة، إنّ عليكم أن تستغلوا كلّ دقيقة في التحصيل العلمي، وأنْ لا تضيعوا أوقاتكم باللهو والعبث أو السهرات الفارغة هنا وهناك، فإنّ قيمة كلّ إنسان هي أن يكبر علمه، وينمو عقله.
وأقول لطلبة الحوزات - خصوصاً - بأنهم يتحملون المسؤولية الكبرى في المجتمع، لأنهم يجلسون في موقع رسول اللّه(ص)، فإذا كانوا جاهلين ومتخلفين، فإنهم يعكسون الجهل والتخلف باسم الرسول(ص)، وبذلك يخونون اللّه ورسوله، ويخونون الناس وأماناتهم في ذلك، فإنّ الذي يبقى متخلّفاً وجاهلاً ويلهو هنا وهناك، هو إنسان لا يحترم نفسه ولا الآخرين))( ).
5. ادرسوا الإسلام فكراً وشريعة وحركة:
وطُلبَ إليه - ذات مرة - أن يوجّه نصيحتين: واحدة للشباب المسلم بشكل عام وأخرى للشباب الحوزويين بشكل خاص، فقال: ((إنَّ على الطلبة والشباب المسلمين أن يعيشوا الإسلام فكراً، فلا يأخذوا أيَّ فكر غير فكر الإسلام، ممّا يختلف مع الإسلام من التيّارات التي تتحرك هنا وهناك، ولا سيّما التيارات العلمانية. وأن لا يتحرّكوا في كلِّ مواقعهم العملية إلا بما يؤكّده الإسلام في شريعته، مما يجب على الإنسان أن يفعله أو يتركه. وعلى الإنسان أن يخلص للإسلام، ليدعو إلى اللّه سبحانه وتعالى من ضلَّ عن طريق الله تعالى، وليدافع عن الإسلام دفاعاً ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، وحتى أمنياً.
أما الحوزويون، فعليهم أن يكونوا في مستوى الرسالة التي تمثِّلها الحوزة، في أن يكونوا كما ورد في دعاء الافتتاح: ((اللهمَّ إنَّا نرغب إليك في دولة كريمة، تُعزُّ بها الإسلام وأهله، وتُذِلُّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك))، فعلى الطالب الحوزوي أن يعيش رساليّة الدعوة وروحيّتها، وأن لا تكون حوزويته دكاناً يعيش منه، بل أن تكون رسالة ينطلق بها، وأن يعمل على أساس أن يهيئ نفسه في علمه وفي خبراته، وفي كل ما يتحرك به في تقواه، ليكون مشروع الإنسان القائد، بحيث إذا خلت الساحة من القائد، يكون هو البديل))( ).
وسبق لسماحته أن قدّم نصائح في الاتجاه ذاته لكلا الفريقين، ومن ذلك دعوته إلى أن يكون الشباب المسلم بسعة الإسلام، وأن يعيشوا اهتمامات الإسلام وهموم المسلمين، وأن يتجنّبوا الخلافات الهامشية، حيث قال:
((إنّ الأساس هو أن يكون الشاب المسلم مسلماً بحجم الإسلام، وبسعة الإسلام، وبعالمية الإسلام، وبعمق الإسلام، وبشمولية الإسلام، فأن تكون مسلماً يعني أن تكون منطلقاً في وعيك من أن تأخذ موقعك كما لو كنت شيئاً من رسول الله(ص)، فالرسول قد انطلق إلى العالم، وعلينا أن نفكّر كيف ننطلق إلى العالم لأسلمة العالم بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نعيش اهتمامات الإسلام والمسلمين: ((من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)). وعلينا أن نملك الأفق الواسع، فلا نحاول أن نثير الخلافات الجانبية والهامشية عندما يحاول العدو أن ينسف الإسلام من جذوره. أنا لا أريد أن أخفّف من القضايا التي تحدث بيننا وبين السنّة، ولا أريد أن أخفّف من أية قضية بين الشيعة أنفسهم، لكن أقول عندما يكون العدو على الأبواب فلا يجوز أن نتحدث عن الهوامش. هناك شيء اسمه مصلحة الإسلام والمسلمين، وأرى من خلال الكثير من التجارب الموجودة أننا متخلّفون بأكثر درجات التخلّف فأية قضية صغيرة يمكن أن تخلق مشكلة كبيرة بحيث ننسى الاستكبار العالمي والطغاة والظلمة وما إلى ذلك، وتتحول القضايا الصغيرة عندنا إلى قصص كبيرة، وكأنه لا مشكلة لدينا سوى الانشغال بالأمور الجزئية))( ).
6. الأخذ بأسباب العقل والتخطيط:
وكان سماحته قد أوصى الشباب في أوقات ومناسبات مختلفة بالابتعاد عن الانفعال والارتجالية والتبعية، ومن بين تلك النصائح، النصيحة التالية: ((نصيحتي للشباب أن يدرسوا الإسلام، وأن يأخذوا بأسباب العقل لا العاطفة، ويأخذوا بأسباب التخطيط لا الارتجال، وأن ينفتحوا على الواقع من دون أن يستسلموا له، ليفهموه بمداخله ومخارجه.. وأن يعملوا على أن لا يستبدلوا بالإسلام غيره. ومع الأسف، فإنّ البعض أصبح يصرّح بأننا لا نريد حكماً إسلامياً أو حكومة إسلامية، ونريد فصل الدين عن الدولة. هل سمعتم قومياً يقول بأنه لا يريد دولة قومية؟! أو ماركسياً يقول إنه لا يريد دولة ماركسية؟! واللّه تعالى يقول: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ( ). نحن نقول: إنّ هناك استراتيجية وتكتيكاً، وعلى التكتيك أن لا يغلب الاستراتيجية الإسلامية، ومشكلتنا في الواقع العربي أننا نجعل التكتيك استراتيجية والاستراتيجية تكتيكاً))( ).
7. احترسوا من شباك الإعلام المُضلّل:
وسئل مراراً عن نصيحته إزاء التأثير الخطير لوسائل الإعلام على الشباب، فقال في بعضها: ((إن وسائل الإعلام التي تخاطب في الشباب غرائزه الجنسية، أو تخاطب عنصر الجريمة الذي قد يكون كامناً فيه، وما إلى ذلك، تُضلّ كثيراً من الناس وليس الشبّان فقط، لكن الإنسان الذي يعيش دائماً مع نفسه ومع ربّه يستطيع أن يحمي نفسه من ذلك. لذلك نحتاج أن نعيش مع شبابنا كما نعيش مع أنفسنا ونربيهم بحيث نعمّق القيم في نفوسهم، لكننا في شغل عن شبابنا، بل حتى في شغل عن أولادنا، فمن منا يعرف ماذا التقط ابنه في المدرسة؟ أو ماذا التقط من هذا الفيلم أو من هذه القصة أو من تلك الجماعة؟ أو ماذا تعلّم من هؤلاء أو أولئك الرفاق؟ المهم عندنا هو أن نطعمهم ونكسوهم، فنحن للأسف مع أولادنا في الخارج وليس معهم من الداخل))( ).
ويضيف سماحته معلقّاً على البدائل المطروحة لوسائل الإعلام المغرضة ((هناك مساع لإيجاد وسائل مماثلة، فمثلا على شبكة المعلوماتية (الأنترنيت) ثمة صفحات إسلامية توجيهية وأخلاقية، وكذلك هناك بعض التلفازات الإسلامية والعربية تقوم بمسؤولياتها في هذا الاتجاه، وينبغي للتلفزيون الايراني أن يقدّم أكثر مما يقدّمه الآن في هذا الأمر خصوصا القناة العربية، ومع ذلك فإننا لا نعدم برامج جيدة علمية وإسلامية هنا وهناك. نعم على الإنسان أن يحصّن نفسه وأهله من البرامج المنحرفة أينما كان))( ).
8. مسؤولية المرجعيات الدينية في رعاية الشباب:
وسئل سماحته عمّا يمكن أن تقّدمه المرجعية على صعيد بناء وتربية الشباب، فقال في النموذج المرجعّي الرائد.. الشهيد السيد محمد باقر الصدر رحمه الله: ((كان رسالياً حركيّاً يعمل من أجل التغيير، ومن الطبيعي أن يكون الشباب أطوع الناس للتغيير، حيث يمكن لك أن تغيّر فكر الشاب بسهولة لأنه لا يزال يعيش حركية الفكر، بينما الذين بلغوا من العمر سنّاً متقدمة، فقد تكون مسألة تغييرهم من المسائل الصعبة، لذلك فإن الشاب هو الذي يفتح عقله للجديد لأنه يمثل جدّة الحياة، وهو الذي يملك الطاقة الكبيرة التي يمكن أن تعطي الرسالة حركيتها وحيويتها، وأن تتحدى القوى الكبرى.
ولذلك رأينا كيف أنّ النبي(ص) قد اهتمّ بالشباب وكان يرعى ما عندهم من قوّة، وكان اهتمامه بهم منطلقاً من أنهم يشكّلون قوة الرسالة فيما يتمتعون به من طاقة حركية قابلة للتطوير والتغيير والإنتاج والثبات والصلابة والتحدّي، وتلك مسؤولية كل الذين يعيشون المسؤولية إن على مستوى المرجعية أو غيرها، حيث أنّ عليهم أن يعملوا على رعاية الشباب وعلى إنتاج فكرهم وحركيتهم، وأن يفتحوا قلوبهم وعقولهم، ليفهموا الشباب جيداً، لأنّ أول شرط في الإنسان الرساليّ الحركّي هو أن يفهم الناس، وأن يفهم كيف يفكّر الشاب وكيف يتألم وكيف يحلم، وكيف يتطلع، وأن يفهم نقاط ضعفه ليحوّلها إلى نقاط قوة، وأن يفهم نقاط قوته ليزيدها قوة، فأن تكون مسؤولاً يعني أن تكون رسالياً وأن يكون الشباب - عقلاً وقلباً وأحلاماً وآلاماً وحركة - كلّ مسؤوليتك))( ).
9. حافظوا على دينكم أيّها المغتربون:
وتكرّر السؤال في غيرما ندوة عن نصيحة للشباب المهاجرين المغتربين، فكان من بينها: ((نصيحتي هي أن يحافظوا على دينهم، تماماً كما يحافظ الإنسان على ماله في بلد يكثر فيه اللصوص، ويحافظ على نفسه في بلاد يكثر فيها المجرمون، ألا يقوم باتخاذ الاحتياطات اللازمة ليتجنب هذا وذاك؟ وبعبارة أخرى، فان على الإنسان الذي يسافر إلى بلاد الكفر التي لا يعيش فيها الأجواء الإسلامية، والتي تقدّم له فيها المعصية على طبق من ذهب، أن يعيش حالة طوارئ في الحفاظ على دينه، لأنّ الإنسان في بعض البلدان ينطبق عليه الحديث الشريف ((القابض على دينه كالقابض على الجمر)). ولا يجوز للإنسان أن يسافر إلى بلد يضعف فيه دينه أو دين أهله، أمّا إذا أراد أن يحقّق الشرعية لسفره فعليه أن يحاول – ما أمكنه ذلك – أن يحفظ دينه وأهله))( ).
إحالات:
هذه لمحات سريعة من النصائح والإرشادات التي أدلى بها سماحته بناء على طلب الشباب أنفسهم، ويمكن مراجعة كتب: (دنيا الشباب)، (دنيا المرأة)، (الهجرة والاغتراب)، (فقه الحياة)، (تحديات المهجر)، أسئلة (الندوة)، خاصة الفقهية والتربوية، بالإضافة إلى كلمات الافتتاح – على مدى ربع قرن - الموجّهة إلى الشباب والطلبة (الجماعة الإسلامية) في أميركا وذلك للمزيد من الاطلاع على مسائل ومشاكل الشباب.
عادل القاضي
ديربورن – أميركا
25 محرم الحرام 1426 ه
7 آذار 2005 م
جدول إحصائي بمسائل الندوة
المحاضرات 30 محاضرة
المسائل القرآنية 133
المسائل العقيدية 63
المسائل الفكرية 56
المسائل التربوية 29
المسائل الفقهية 354
مجموع أسئلة ج14 635
باب المحاضرات
المحاضرة الأولى 8 جمادى الأولى 1425 ه - 25/6/2004م
الفساد الاجتماعي(*)(1)
التمييز القانونيّ
ليس في الإسلام محاباة لأحد مهما كان كبيراً وعظيماً إذا خالف القانون
منع الفساد
صناعة الأمم
شريعة الباطل
العدل باب الرحمة
الطريق إلى الفشل
(*) هذه الحلقة في سلسلة الموضوعات التي طرحها سماحة السيد في محور الفساد الاجتماعي تعتبر امتداداً لحلقات في نفس المحور طرحت في المجلد (13) / المعد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا نزال نواصل البحث عن عناصر الفساد في المجتمع، التي قد تدمّر المجتمع في أوضاعه العامّة، لأنها تبتعد به عن حالة التوازن في العلاقات والمعاملات وفي قضايا السياسة والأمن والاقتصاد، وما إلى ذلك.
منع الفساد:
وقد جاءت الأحاديث عن رسول الله(ص) وعن الأئمَّة من أهل البيت(ع) حول بعض هذه العناصر، ونحن في الواقع الذي نعيش فيه، سواء كان في البلاد الإسلامية، أو في البلاد الأخرى، نجد مثل هذه الظواهر السلبية ونتائجها في الوقت نفسه.
ومن بين الكلمات التي تعالج بعض هذه الظواهر، ما ورد عن النبي(ص)، أنه قال: ((إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد..))، ثم يقول(ص): ((والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها))( )، والسيدة فاطمة الزهراء(ع) المعصومة فوق ذلك، وهي أحبّ الناس إليه، ولكن النبي(ص) أراد أن يعرّف المسلمين أنه ليس في الإسلام محاباة لأحد مهما كان كبيراً وعظيماً إذا خالف القانون.
ونقرأ أيضاً في بعض كلمات الإمام علي(ع)، وهو يتحدث مع بعض عمّاله، كما ورد في (نهج البلاغة): ((والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل ذلك، ما كان لهما عندي هوادة..))( )، يعني أنني سوف أعاقبهما كما أعاقبك؛ لأن قضيّة الخطّ الشرعي، في ما حرّمه الله تعالى وأحلّه، لا فرق فيه بين كبير وصغير...
وهذه الكلمة الشريفة إنّما تتحدّث عن واقع الأمم السابقة التي كانت تفرّق في تطبيق القانون الذي يراد من خلاله تأكيد العدالة بين الناس، ليأخذ كلُّ ذي حقّ حقّه، وليعاقب الشخص الذي ينحرف عن خطِّ العدل فيظلم صاحب الحق، مهما كانت صفته وموقعه.
إنَّ النبي(ص) كان يقول: ((إنما أهلك من كان قبلكم...))، يعني أن الذي أسقط حضارات الأمم السابقة... ((أنهم إذا سرق الشريف تركوه))، والشريف هو الشخص الذي يتميَّز بموقع اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي متقدّم، عندما يعيش الناس الطبقية الاجتماعية، فيميّزون بين أصحاب الطبقة الرفيعة وأصحاب الطبقة الوضيعة، كانوا إذا سرق فيهم هذا الشريف تركوه، سواء كانت سرقته من أموال الأمة كما في الحاكمين أو الموظفين الكبار، أو كانت سرقته تتّصل بالناس من حوله، من الضعفاء الذين قد يأكل أموالهم بالباطل مستغلاً موقعه، فإذا ذهب هذا الضعيف ليشكو أمره إلى السلطة وإلى رجال القانون، لم يعبأوا به، وتركوا هذا السارق، لأنه فوق القانون. أما إذا سرق الضعيف، وربما يكون قد سرق ليأكل أو ليلبس أو ليشتري دواءً لعائلته أو لنفسه، فإن كل قوة القانون تتوجَّه إليه، ويطبّق عليه القانون بصرامة، فإذا كانت مخالفته للقانون من خلال السرقة فإن يده ستقطع تطبيقاً لقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا( )، وإذا كان في غير ذلك، فإن القانون يطبق عليه بحرفيته، وربما يُتشدّدُ في تطبيق القانون ضده بما يتجاوز حدود القانون استغلالاً لضعفه.
إن الذين يطبقون القانون، أو الذين يجلسون في مواقع القضاء ومواقع الحكم يخشون من سطوة هذا الشريف، ولكنهم لا يخشون من سطوة هذا الفقير، وهذا ما يجعل المجتمعات تفقد توازنها، وعندما يتعاظم ذلك في المجتمع، فإنه يؤدي إلى الهلاك، وإلى تدمير المجتمع، لأنّ ما يقيم المجتمع إنما هو المساواة بين الناس، في الحقوق والواجبات، مما يركّزه القانون هنا وهناك...
صناعة الأمم:
ونحن عندما ندرس الكثير من الأوضاع التي دمرت الحضارات في التاريخ، أو التي أسقطت الدول والحكام، من خلال بعض الأوضاع الحادَّة والقاسية، فإننا نجد مثل ذلك في الواقع الذي نعيشه، حيث نعرف الطغاة الذين يسيطرون على المجتمعات بالقوَّة السياسيّة التي يحصلون عليها، من خلال الدول الكبرى التي توظّفهم ليكونوا حراساً لمصالحها على حساب مصالح الشعوب فيملكون القوّة السياسية التي يستطيعون من خلالها ترتيب الدولة على قياس مصالحهم الخاصة، في أقربائهم وأصدقائهم ومحازبيهم، من دون أن يسمحوا لأحد أن يحاسبهم على ذلك كلّه، فيسرقون أموال الناس من خلال ما اكتسبوه من قوة سياسية قد تتحوّل إلى قوة أمنية عسكرية مما يملكونه من السلاح، وما إلى ذلك، وهكذا بالنسبة إلى القوَّة الاقتصادية. ونحن لا نزال نعيش في مثل هذه الظروف التي عاش معها هؤلاء الطغاة وسقطوا لأن وظيفتهم قد انتهت، ولأنهم يريدون استبدالهم بغيرهم. أما الشعب، فإنه يعيش مضطهداً مدمَّراً، يرصد الطغاة كل أوضاعه، ويسلّطون الأجهزة المخابراتية التي تمسك على الناس أنفاسهم، وتحاكمهم على ما لم يفعلوه، وتقسو في محاكمتهم على ما فعلوه، وخشية أن يتحوَّل هؤلاء الناس إلى قوة شعبية في المجتمع، يعملون على تسجيل الكثير من الاتّهامات التي قد تصل بهم إلى حدِّ الإعدام، وهم براء منها...
إنّ النبي(ص) يؤكد في هذا الحديث، أنّ مثل هذا الواقع يؤدّي إلى دمار المجتمعات، وبالتالي دمار الذين يصنعون مثل هذا الواقع، ومن الطبيعي أن النبي(ص) عندما يؤكد ذلك، فإنّه لا يؤكّده على أساس أن يحدّثنا عن التاريخ، لكي يلهو الناس بقصص التاريخ، كما إن القرآن عندما يتحدَّث عن التاريخ، فإنه يتحدث عنه على أساس قوله: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ( )، وقوله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ( )، وإنما أراد النبي(ص) من خلال كلمته أن يؤكد أن خطّ العدل لا يعرف قويّاً ولا ضعيفاً، ولا شريفاً ولا حقيراً، وهذا ما أكّده أيضاً القرآن الكريم، عندما دعا المؤمنين إلى أن يتحرّكوا بالعدل حتى ضد الأقربين، قال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى( )، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ..( )، حتى إن القرآن الكريم يريد منّا أن نعدل مع أعدائنا إذا كان الحق لهم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لله شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( )، اعدل حتى مع عدوّك...
وعلى ضوء هذا، فإنّ المطلوب منّا أن نعيش هذه الذهنية الإسلامية القانونية الحقيقية التي تؤكد أنّ على المجتمع، سواءً في البيت أو الشارع أو النادي أو في كل المواقع، أن يتربى على أساس أن يحاسب الشريف على انحرافه، كما يحاسب الفقير على انحرافه، حتى نستطيع أن نصنع مجتمعاً عادلاً، وحتى نستطيع أن نصنع دولةً عادلةً، لأنّ الكثيرين منّا قد يطلبون العدل من الآخرين، ويسبون ويلعنون الظالمين، ولكنهم لا يعدلون مع زوجاتهم، ولا مع أولادهم، ولا مع جيرانهم، ولا مع الذين يتعاملون معهم، ولذلك قال الإمام جعفر الصادق(ع) لبعض أصحابه: ((اعدلوا، فإنكم تعيبون على قوم لا يعدلون))( )، أيْ إذا كنتم تعيبون عليهم على أساس أنهم لا يعدلون، فما بالكم لا تعدلون في ما تملكون أمره في الأوضاع التي تتصل بمسؤوليتكم هنا وهناك...
شريعة الباطل:
وهناك كلمة أخرى للإمام علي(ع) في (نهج البلاغة)، وقد أرسلها إلى أمراء الأجناد الذين كان يرسلهم إلى الجبهات، يقول(ع): ((إنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحق فاشتروه، وأخذوهم بالباطل فاقتدوه))( )، والمراد من ذلك، أنه في المجتمعات التي سبقتكم، كان الحكام والذين يملكون السلطة السياسية أو الاجتماعية، والذين كانت بيدهم حركة حقوق الناس في قضاياهم المتصلة بأرزاقهم وبكل أمورهم المرتبطة بمفردات حياتهم هنا وهناك، والتي من المفترض أن يؤديها الحاكمون دون أي مقابل، كانوا يمنعون الناس حقّهم، ما اضطر الناس إلى أن يدفعوا الرشوة، وإلى أن يشتروا الحق الذي هو حقهم الذي فرضه الله تعالى، ألا يوجد في واقعنا الذي نعيشه، سواء في البلاد العربية والإسلامية، أو في بلدان العالم الثالث، الكثيرون من الناس الذين يمنعون من حقوقهم، فيضطرون إلى أن يدفعوا المال للحصول على حقوقهم الطبيعية، وحقوقهم الشرعية، وحقوقهم الوطنية، وما إلى ذلك... إننا نواجه كثيراً من ذلك، حتى على مستوى الدول، فنحن نعرف أن الكثير من الدول الكبيرة تمنع الدول الصغيرة من حقوقها الإنسانية، فتضطر معها الدول الصغيرة إلى أن تدفع من ثرواتها، ومن استثماراتها، ومن كل أوضاعها، وتخضع للشروط التي تفرضها الدول الكبرى.
ثم يقول(ع): ((..وأخذوهم بالباطل فاقتدوه))، أي أنهم طبّقوا عليهم شريعة الباطل وحركته، واعتبروها قانوناً يفرضونه بالقوّة، حتى أصبح مألوفاً لدى الناس، وأصبح الخطّ الذي يفرض على الناس أن يسيروا عليه، والقانون الذي يفرض عليهم أن يطبقوه. وهذا هو الذي يؤكد سقوط المجتمعات وسقوط الأمم؛ لأن الأمّة إنما تحيى وتكبر وتعظم وتتطوَّر إذا انطلقت لتأخذ حقوقها غير منقوصة من دون أن تقدِّم أيَّ تنازل في مقابل هذه الحقوق.. فإذا منعوا الحق، فسيضطرون إلى شرائه من خلال كل أوضاعهم الحيوية، وإذا أخذوا بالباطل، فإنهم يضطرون ـ بفعل هذه القوة ـ أن يقتدوه وأن يتبعوه، وأن يخضعوا كل حياتهم له، ما يؤثر تأثيراً سلبياً على كل واقع الحياة، باعتبار أن الباطل لا يمكن أن يبني الحياة، بل الحق هو الذي يبني الحياة التي يشعر فيها الناس بالطمأنينة والسكينة والتوازن والاستقامة.
العدل باب الرحمة:
وهناك حديث آخر عن رسول الله(ص) يقول: ((كيف يقدِّس الله قوماً لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم))( )، يقول: قد يكون هناك بعض الضعفاء ممّن لهم حقوق على الأقوياء، كما هو الحال في بعض العمال الذين يعملون عند شخصية مسؤولة هنا وهناك، فتمنعه تلك الشخصية أجره، أو أن يكون لإنسان ضعيف دينٌ على إنسان شديد أو قوي، فإنه يمنع الضعيف حقَّه، أو أن يصادر القوي مال الضعيف، وهكذا في الحقوق التي تتَّصل بالنفس وبالعرض، وهي الحقوق المعنوية وما إلى ذلك..
فالنبي(ص) ـ حسب هذه الرواية ـ يقول: إن هذه الأمة لا يقدِّسها الله تعالى، يعني لا يحترمها، ولا ينـزل إليها بلطفه وبرحمته؛ لأنه سبحانه وتعالى أراد من الأقوياء أن يتحسّسوا مسؤولية قوّتهم، بأن لا يغمطوا حقوق الضعفاء، بل أن يدافعوا عنهم، ويريد للأمَّة التي يعيش فيها هؤلاء الضعفاء والأشدّاء الأقوياء، أن تمسك يد القوي لتأخذ منه الحق للضعيف، وهذا ما روي عن إمامنا أمير المؤمنين(ع) عندما تسلم الخلافة الفعلية داخل السلطة، لأن الخلافة حقه بنص الله تعالى ورسوله، ولذلك كان يقول: ((الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه))( )، ليس هناك في الحق قوي وضعيف. وعندما يتحدث الرسول(ص) فكأنه يقول لنا: إن عليكم أن لا تقدِّسوا أيّة جماعة أو فئة، أو أية حكومة، أو أية دولة لا يؤخذ فيها الحق للضعيف من القوي...
وفي حديث آخر، يقول(ص): ((إن الله لا يقدِّس أمة لا يأخذ الضعيف حقه من القوي وهو غير متعتع))، يعني بقوة، ليس فيه نقصان. فالله عندما يقدّس، فإنه يقدس الذين يطيعونه، ويطبّقون شريعته، ويخافون من عقابه، ويرجون ثوابه. أما الناس الذين لا يتّقون الله تعالى في ذلك، سبحانه وتعالى لا يقدّسهم ولا يحترمهم...
الطريق إلى الفشل:
ونقرأ في عناصر الفساد التي تحدث عنها رسول الله(ص)، ومسألة (اختلاف الأمة)، أي الأمة التي تعيش في حالة اختلاف وتنازع في كل أمورها، ولا تعمل على أساس الحوار والتفاهم والخضوع للحق من خلال الذين يبينون الحق، خصوصاً إذا جاءتهم الرسالات وجاءهم الرسل ليبينوا لهم ما يريده سبحانه وتعالى، فما هي النتيجة من خلال ذلك؟ في الحديث عن الرسول(ص) يقول: ((ما اختلفت أمَّة بعد نبيّها…))( )، كما نلاحظ في الخلافات التي تحركت داخل الواقع الإسلامي، فجعلت المسلمين يحاربون بعضهم بعضاً، على أساس أن هناك من عاش في خطِّ أطماعه، كما حدث في حرب (الجمل) ضد الإمام علي(ع)، وحرب (صفين)، وحرب (الخوارج)، مع أن الإمام علي(ع) أقام الحجة عليهم في حوار طويل مستمر، من أجل أن يبيّن لهم الحق من الباطل، لا لمسألة شخصية وطمع شخصي. ((... إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقها)) لأنها فقدت التوازن، وعندما تفقد الأمة التوازن، فإن من الطبيعي أن يهيمن الباطل على الحق، وذلك عندما يضعف أصحاب الحق، ويقوى أصحاب الباطل.
وقد جاء هذا أيضاً في حديث الإمام علي(ع) لأصحابه يخبرهم عن غلبة جيش معاوية: ((إني والله لأظنَّ أن هؤلاء القوم سيدالون منكم..)) أي سيأخذون منكم وسيتغلبون عليكم، بأي شيء؟ ((..باجتماعهم على باطلهم، وتفرّقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم))( ). إنه يقول: إن المشكلة هي أن هؤلاء القوم الذين يمثلون خطَّ الباطل اتَّفقوا على باطلهم، وأطاعوا إمام باطلهم، وأدوا إليه الأمانة، وأصلحوا أمرهم معه. أما أنتم، فقد تفرَّقتم عن الحق، وعصيتم إمامكم، وابتعدتم عن أداء الأمانة، وأفسدتم كل أمركم.
وهذا أيها الأحبة، هو ما نلاحظه ـ في واقعنا ـ في تفرّق أهل الحق عن حقهم، وعدم التزامهم بالخط المستقيم، الذي يمثله الحق، وهكذا رأينا كيف أنّ أهل الباطل ـ في أيِّ خط من خطوط الباطل ـ يسيطرون على أهل الحق، ويتغلّبون عليهم، وهذا ما لابد لنا أن نستفيد من تجربته، في ما نقبل عليه من شؤوننا في القضايا الإسلامية في كل المجالات. فنحن نلاحظ الآن أن أهل الباطل الذين يمنعون الإسلام من أن يحكم المسلمين ويستبدلونه بغيره من المناهج التي انطلق بها أهل الكفر، لأنهم مجتمعون على ذلك، ونحن متفرَّقون عن كل ذلك. إنها كلمات تضيء لنا الطريق، ولكن مشكلتنا أننا قد نرى الضوء أمامنا، ولكننا نبتعد عنه لنغرق في الظلمات؛ ظلمات الجهل والحقد والعداوة، وما إلى ذلك..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثانية 16 جمادى الأولى 1425 ه - 3/7/2004م
من برنامج
الإمام علي(ع) السياسي
القائد الرسالي هو الإنسان الذي يريد أن يركّز عقول الناس على الحق، وحياتهم على العدل، وعلاقاتهم وخطواتهم على خط الاستقامة.
علاقة القائد بالناس
توزيع الأموال
امتداد الرسالة
المسؤولية الإدارية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
علاقة القائد بالناس:
من الأمور التي عالجها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، علاقة القائد بالناس، وذلك لأن القائد الرسالي هو الإنسان الذي يريد أن يركز عقول الناس على الحق، وحياتهم على العدل، وعلاقتهم وخطواتهم على خطِّ الاستقامة؛ تلك مسؤوليته التي حمّله الله سبحانه وتعالى إيّاها في موقعه القيادي، ولكن الناس تتطلع إلى القائد من أجل أن يحقِّق لها مطامعها، ويهيئ لها حاجاتها، بقطع النظر عمّا إذا كانت هذه المطامع تنسجم مع الخط الرسالي القيادي الذي يلتزمه القائد، أو تنسجم مع الخطوط الشرعية في ما يأخذ به القائد نفسه والناس من تطبيق حكم الله تعالى.
وهنا يواجه القائد مشكلةً في مسؤوليته وفي حكمه، ولا سيّما إذا كانت هناك قيادة أخرى معارضة له لا تلتزم القاعدة الرسالية في حركة الحكم؛ إذ ستعمد القيادة الأخرى إلى اجتذاب الناس إليها لتلبية مطالبهم حتى لو لم تكن شرعية، وتحقيق حاجاتهم حتى لو كانت على خلاف العدل، فيجتمع الناس عليها، ولا سيّما إذا كان هؤلاء القادة ممن يملكون القوة في المجتمع، من رؤساء القبائل أو من وجهاء المجتمع، أو ممن يملكون الموقع السياسي الذي يفسح لهم أن يجمعوا الناس حولهم، وما إلى ذلك.. ولذلك فإنّ المشكلة التي يواجهها القائد الرسالي هي في الذين يعتبرون أنّ التزامهم بالقائد وتأييدهم له يمثل وسيلة من وسائل تحقيق أطماعهم وتنمية أوضاعهم، فينكفئون عنه، وربما يتحركون مع خصومه، وربما يخذلونه إذا لم يحقق هذه الأطماع.
ولقد كانت هذه مشكلة الإمام علي(ع) في حكمه، وذلك أن الناس كانوا يريدون له أن يكون لهم، وكان عليّ الفكر والروح والرسالة والحق والعدل، يفكر بأن يكون لله تعالى، وأنْ تكون علاقته بالناس من خلال علاقتهم بالله تعالى، وهذا ما قاله في أكثر من نص في (نهج البلاغة)، ففي بعض كلماته: ((ليس أمري وأمركم واحداً، إنّني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم))( )، فأنا أسير في طريق، وأنتم تسيرون في طريق آخر، واتّجاهي يختلف عن اتجاهكم؛ لأنني أريدكم لله تعالى لتحققوا من خلال هذه العلاقة القيادية المسؤولة بيني وبينكم إرادة الله سبحانه وتعالى في ما يريد منكم من إقامة الحق وإزهاق الباطل، وأن تحقّقوا العدل بينكم، وهذا ما عبّر عنه عندما تحدث مع ابن عمه حبر الأمة عبد الله بن عباس، عندما رآه يخصف نعله، فقال له(ع): ((أترى إلى هذه النعل؟ قال: بلى. قال: إنها أحبّ إليّ من إمرتكم إلاّ أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً))( )، لا قيمة للإمرة عندي، إنها تثقلني، ولكن هذه النعل تحمي قدمي من برد الشتاء ومن حرارة الصيف، وإنّما قبلت الإمرة لأنها الوسيلة التي تجعلني أقيم الحق الذي فرضه الله سبحانه وتعالى، وأزهق الباطل الذي رفضه الله.
وفي كلمة أخرى في آخر خطبة له (الشقشقية) يقول(ع) ((لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز))( ).
ويتابع الإمام قوله السابق: ((أيُّها النَّاس، أعينوني على أنفسكم..))؛ لأني أريد أن أدخل إلى أنفسكم وعقولكم لأغرس في نبضاتها غراس المحبة، وأدخل إلى حياتكم لأحرّكها في خطِّ العدل. ثمّ يحلف الإمام(ع) وهو يبيّن برنامجه في الحكم: ((وأيم الله لأنصفنّ المظلوم من ظالمه)) ليرجع للمظلوم حقّه الذي منعه إياه الظالم أو غصبه منه، ((ولأقودنّ الظالم بخزامته)) والخزامة هي حلقة من قليل شعرٍ تجعل في وتر أنف البعير حتى يشدّ فيها الزمام ويسهل قياده، وقد استعار الإمام(ع) هذا المعنى للدلالة على عدم التهاون مع الظالم على ظلمه، ((حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً))( ). إنّه(ع) يصمّم ويستنفد كل الوسائل، مستفيداً من قوّة موقعه، لينتصف للمظلوم من ظالمه، وكان(ع) يقول: ((القويّ العزيز عندي ضعيف ذليل حتى آخذ منه الحق، والضعيف الذليل عندي قوي عزيز حتى آخذ له بحقه))( ).
ويقول(ع) في كلمة أخرى في توبيخ أصحابه: ((إنكم والله لكثير في الباحات)) يعني عندما نتطلع إلى الساحات فإننا نجد هناك جموعاً كثيرة من أعدادكم ((قليل تحت الرّايات))، رايات الجهاد، وذلك أنّكم إذا جاءكم نداء الجهاد في سبيل الله تعالى بأموالكم وأنفسكم، فلن نجد منكم إلا القليل، ((وإني لعالمٌ بما يصلحكم ويقيم أودكم)) وذلك بأن أوزّع عليكم المال من دون حساب، أقرّب هذا وأُبْعِد ذاك في غير اتجاه الحقّ، ((ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي))( )، فأنا أستطيع أن أجمعكم حولي، وأستطيع أن أتحرّك لأجذب غرائزكم وشهواتكم وعصبيّاتكم. ولكنّ علياً لا يمكن أن يجتذب من الناس غرائزهم وشهواتهم؛ لأنه يريد أن يجتذب منهم عقولهم، ويرفع مستواهم، ليجعلهم أمة تعرف كيف تنفتح على كل مواقع التقدم في الحق، والاستقامة في العدل، ولذلك يقول إني لست مستعداً لأن أفسد نفسي، فأنا لا أعمل في موقع القيادة لحساب نفسي، وإنما أعمل لحساب الله تعالى، ولذلك فإني عملت على أن أربي نفسي لتكون في كل عناصرها وكل امتداداتها وكل حركتها صورةً عمَّا يحبه الله سبحانه وتعالى ويرضاه؛ لأني أحب الله تعالى كما لم يحبّه أحد.
توزيع الأموال:
ويتحدث الإمام علي(ع) في موقع آخر في هذا الاتجاه، وقد جاءه بعض الناصحين الذين ينصحون القيادات لكي تقوي حكمها وتؤكد سلطتها بأيّ وسيلة مهما كانت طبيعتها من الحقّ والباطل، ينصحونه بأنْ يستخدم الوسائل التي تجتذب الناس إليه، ولا سيّما من كبار القوم، وهو ما ينقله الشيخ المفيد رحمه الله في أماليه: ((إن طائفة من أصحاب علي(ع) مشوا إليه عند تفرق الناس عنه وفرار كثير منهم إلى معاوية طلباً لما في يديه من الدنيا..))؛ لأن معاوية كان يبذل كلَّ ما لديه من أموال بيت المال ليفرقها على الناس ليجذبهم إليه وإلى حكمه وإلى الالتفاف حوله، ((فقالوا له: يا أمير المؤمنين، أعط هذه الأموال وفضّل هؤلاء الأشراف...))، يعني تحرّك بالطبقية؛ لأن العرب هم الذين يمثّلون الأكثرية في المجتمع، وقريش أيضاً لا زالت تمثل القبيلة التي تمتلك موقعاً متقدماً في الواقع العربي، أعط هؤلاء وفضلهم على الموالي والعجم حتى يأتي الناس إليك. فماذا كان جواب الإمام علي(ع) لهؤلاء الناصحين الذين يفكّرون في علي السلطة، ولا يفكرون في علي الرسالة؟ ((أتأمرونّي أن أطلب النصر بالجور...))، بالظلم، ((لا والله، لا أطور به))، يعني لا أقاربه، ولا آمر به، ((ما سمر سمير))، ما دامت الناس تعيش السمر في الليالي، ((وما أمّ نجم في السماء نجماً))، ثم قال(ع) لهم: ((لو كان المال لي لسوّيت بينهم)) عندما أريد أن أبذل المال الذي أملكه وأنا في موقع الحكم، فلا بد أن أبذله بالعدل بين الناس، أي لمن يحتاجه، من دون أن أنظر إلى موقعه الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، أو أي موقع كان، بل إني أنظر هل يستحق هذا الإنسان أم لا؟ أنظر حاجاته الطبيعية فأسدّها... ((كيف والمال مال الله)) فهذا المال أمانة بين يدي، والله أمرني أن أساوي في العطاء، وأن أنظر الناس في حاجاتهم التي فرض الله هذه الحقوق من أجل تلبيتها، ومن أجل أن يعيشوا بسعادة وراحة وسلام.
ثم أراد الإمام علي(ع) أن يوجه هؤلاء الناس وغيرهم إلى الطريقة التي يعطي فيها الإنسان ماله، بقطع النظر عما إذا كان هذا المال مالك أو كنت مؤتمناً عليه، إذ ربما يفكر بعض الناس أن يعطي المال لمن يستحقّه ولمن لا يستحقه أيضاً، طمعاً في أنْ يحصل على النتائج الإيجابية من خلال جذب من لا يستحقّونه إلى تأييده. إن الإمام(ع) يريد أن يؤكد أن النتائج لن تكون إيجابية عندما تعطي المال في غير حقّه، فإنّ هؤلاء يبقون معك ما دمت تدرّ عليهم المال، ولكن إذا انقلب الزمان عليك، وابتعدت عنك كل هذه الهالة، وكل هذه الإمكانات، فلن تجد منهم أحداً...
يقول الإمام(ع) في (نهج البلاغة): ((ألا وإنَّ إعطاء المال في غير حقّه تبذيرٌ وإسراف))( )، فالمال وظيفةٌ وليس شرفاً. والله سبحانه وتعالى يعطيك المال لسدِّ حاجاتك، في ما تتحمَّل مسؤوليته في حاجاتك الشخصية، أو في حاجات عيالك، أو في مسوؤلياتك الاجتماعية، وما إلى ذلك، فإذا صرفته في غير موضعه وتجاوزت به حاجتك الخاصة الطبيعية وأهدرته في الموارد التي لا نفع لك منها، كنت مبذّراً في إنفاقه ومسرفاً في تحريكه... والمال ليس أنت، بل إنه مجرد شيء تحرّكه من خلال انتسابه إليك انتساباً قانونياً، من خلال ما تبيع وتشتري وترث، وما إلى ذلك... املك الملايين! فإنّ الملايين لا تدخل في تكوين ذاتك، إنما هي شيء يجعل الناس ينفتحون عليك للحصول على بعض ذلك، أو تجعل إمكاناتك في ما تريده من توسعة أمورك بشكل أفضل. وإذا ما أحسنت توجيهه في ما يحقق لك النتائج الكبرى في أهدافك الكبرى في الحياة، أو في ما يقربك إلى الله سبحانه وتعالى، فإنك تحصل على ما يرفع موقعك، ولذلك كان الإمام علي(ع) يقول: ((يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق. يا كميل، هلك خزّان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة))( ).
نتابع كلام أمير المؤمنين(ع)، إذ يقول: ((ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الآخرة))، فالله تعالى عندما رزقك هذا المال ولم تؤدّ الحق الذي فرضه عليك، فإن ذلك يضعك وينقص قدرك عند الله تعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى يريد منك أن تصرفه في ما حمّلك من مسؤولية. قال تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ( )، ((ويكرمه في الناس)) الذين يعطيهم هذا المال، ((ويهينه عند الله))، ثم يعطي النتائج، ((ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه ولا عند غير أهله إلا حرمه الله شكرهم))، يعني إن أنت أعطيتهم في غير ما جعله الله تعالى من الحق في صرف المال لتحصل على شكرهم وعلى تقديرهم، فإن الله تعالى يحرمك ذلك الشكر، ((وكان لغيره ودّهم، فإن زلّت به النعل))، إذا تبدلت الأمور وانقلبت الأوضاع، كما لو فقد ماله بعد ذلك، ((فاحتاج إلى معونتهم، فشرّ خليل وألأم خدين))( ) كانوا شر الأصدقاء والأصحاب...
وهكذا يؤكد الإمام علي(ع) لكل القيادات مسألة الخط المستقيم، فيقول في كلمة أخرى: ((أيها الناس، إن الوفاء توأم الصدق)) فإن الإنسان الذي يعيش الوفاء بكل عهده، لابد أنْ يعيش الصدق، لأنهما يولدان من قاعدة واحدة، لأن الإنسان الوفي هو الذي يتحرك وفاؤه لمن يفي له من موقع صدقه في علاقته به، ((ولا أعلم جُنة)) أي درعاً يحمي الإنسان ((أوقى منه)) أشدّ وقايةً منه ((ولا يغدر من علم كيف المرجع))، لا يمكن أن يغدر بالإنسان الذي حمّله الله تعالى مسؤوليته، أو بأي إنسان، ((ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كَيْساً))، يعني الإنسان الذي يغدر ويلعب على أكثر من حبل ـ كما يقولون ـ وهم يعتبرونه "شاطراً"، ولذلك كانوا يقولون ـ ولا يزال بعض الباحثين يقول ـ إن الإمام علياً لا معرفة له بالسياسة، وإن معاوية هو الذي يعرف السياسة جيداً، ويعرف كيف يلعب على أكثر من حبل، في اجتذاب الناس إليه، وفي المحافظة على حكمه، تماماً كما لو كان الحكم هو الهدف، ولم يكن الحكم وسيلة للوصول إلى الهدف.
كان الحكم عند علي(ع) وسيلةً لإقامة الحق، وكان(ع) يستمع إلى بعض كلمات هؤلاء الذين يعتبرون أن معاوية يمثِّل الدهاء السياسي، لأنه يعرف وسائل الحيلة، ((ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة))( )، وكان الإمام علي(ع) يقول: ((والله ما معاوية بأدهى منّي))، فأنا أعرف كيف تنطلق الحقيقة عندي من أعماقها لأبرزها إلى الناس، فأنا عليٌّ الفكر، وأنا أعرف كلَّ مواقع الدهاء والحيلة، ((ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس))( )، فمعاوية لا يملك الفكر السياسي الذي أملكه، ولا يعرف مصادر الأمور ومواردها كما أعرف، ولكن يؤكد خطه في الفقرة الثانية: ((ما لهم قاتلهم الله! قد يرى الحوَّل القُلّب))، والحوّل هو الذي يحوّل الأمور من موقع إلى آخر، والقلّب هو الذي يعرف كيف يقلبها، ((وجه الحيلة)) أمامه، ((ودونها حاجز من أمر الله ونهيه))، أي أنه يستطيع أن يرى وجه الحيلة، لكن أخلاقه ومبادئه وأمر الله تعالى ونهيه يمنعونه من ذلك، ((فيدعها رأي العين))، فهو يراها بأمّ عينه، ((وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين))( ) أي يأخذ بها من لا يراعي المبادئ والأخلاق وأحكام الله.
امتداد الرسالة:
ولا بدّ هنا من أن نشير إلى نقطة، وهي أنّ الناس عندما تتحدّث عن الخلافة، وعن حق علي(ع) فيها مقابل الآخرين، فإن بعض الناس كان يتحدث عن السن، وذلك أن علياً(ع) كان لا يزال شاباً، وأن الآخرين أكبر منه سنّاً ومستقبله أمامه، فإذا لم يحصل على الخلافة الآن، فإنه سيحصل عليها غداً، وكان بعضهم يقول إن الخلافة تحتاج إلى شخص ليس للمجتمع ثأر عليه، والإمام علي(ع) وتر قريشاً، إذ قتل الكثير من آباء هؤلاء الذين أسلموا بعد ذلك أو إخوانهم أو أقربائهم، ومن المعلوم أن العقدة التي يعيشها الإنسان ضد من قتل أباه أو أخاه أو قريبه تبقى متجذّرة في النفس حتى لو تبدّل خطه الفكري، لذلك فإن الخلافة يراد لها شخص لا يعيش المجتمع تعقيداً بالنسبة إليه... ثم إن الناس لا يريدون أن تجتمع لقريش النبوة والخلافة، فالنبوة كافية، والمجتمع مجتمع عصبيات. هذه الكلمات التي كانت تُقال، ونحن نعرف أن كل هذه الكلمات لا علاقة لها بمعنى الخلافة الإسلامية، لأن الخلافة الإسلامية هي خلافة عن النبي محمد(ص)، وللنبي شخصيتان: شخصية الرسول وشخصية الحاكم، وهذه هي صفة الدولة، لأن الدولة هي أولى بالناس من أنفسهم، فلها أن تفرض عليهم الكثير من القوانين ومن الالتزامات حتى لو لم يقبلوا بها.
لذلك كان الإمام علي(ع) هو الشخص الوحيد الذي تجتمع فيه مسألة ثقافة الرسالة ووعيها وحركيتها وجهادها، فقد ربّاه رسول الله(ص)، وهو في طفولته الأولى، وكان يلقي إليه كل يوم خلقاً من أخلاقه، وكان يأمره بالاقتداء به، وعندما بعث الله رسوله بالإسلام، كان علي(ع) أول من أسلم، وأول من صلّى، وهو القائل: ((لم يسبقني بالصلاة غير رسول الله))( )، وكان يعيش مع رسول الله(ص) ليل نهار، ويعرف القرآن كلَّه، متى نزلت كل آية منه، وأين نزلت، في سهل أو في جبل، وما هي امتداداتها، وما هي خلفياتها، وما هي آفاقها، حتى قال(ع): ((علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فتح لي من كل باب ألف باب))( )، حتى إنه جاء عن رسول الله(ص) مما رواه المؤالف والمخالف: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها))( )، وهو الذي قال فيه رسول الله(ص): ((علي مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيثما دار))( )، وهو الذي قال له رسول الله(ص): ((أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي))( )، لذا فإن الشخص الوحيد المؤهَّل لأنْ يحمل الرسالة ويقود مسيرتها هو الإمام علي(ع). نحن لا نتحدث عن عصبية، ولكن عن حساب، وفي كلمة أحد علماء اللغة العربية، وهو الخليل بن أحمد الفراهيدي: (قيل له: لم قدّمت علياً على غيره؟ قال: احتياج الكل إليه، واستغناؤه عن الكل، دليل على أنه إمام الكل)، هذا الشخص الذي احتاجه كل المجتمع. فهذا عمر يقول: ((لولا علي لهلك عمر))( )، وقوله: ((قضية ولا أبا حسن لها))، لذلك هو المؤهَّل لأنْ يكون الامتداد الرسالي في الدعوة، والحركة، والتوعية، والعطاء الرسالي بعد رسول الله(ص).
المسؤولية الإدارية:
أما الإدارة، فنحن عندما نقرأ الإمام علي(ع) في (نهج البلاغة)، ونقرأ عهده لمالك الأشتر، ورسائله إلى ولاته، نجد أنه يتحدَّث عن الإدارة في تكوين الدولة، وكيفية إدارتها، بما لا يزال الإداريون يدرسون كلماته في هذا المجال. لذلك ليس هناك في المسلمين شخص يملك العلم كله، ويملك الإدارة كلها، غير الإمام علي(ع)، ولذلك فعندما ندرك أن النبي(ص) لم يستطع ـ بحسب الظروف الموضوعية ـ أن يبلغ كلَّ شيء بشكل تفصيلي، إذ إن قريش شغلته بالحروب، نعرف أن الإسلام كان بحاجة إلى هذا الامتداد الرسالي الثقافي التوعوي الروحي، وليس هناك في المسلمين آنذاك من يملك ما يملكه علي(ع). لذلك نقول: هو الأولى بالخلافة بعيداً عن كل العصبيات، وعن كل الطائفيات والمذهبيات. ولذلك كانت مشكلة الإمام علي(ع) في حكمه وقبل حكمه، هو أنه كان يتحسَّس مسؤوليته عن الإسلام وهو خارج الخلافة، ومسؤوليته عن الإسلام وهو داخلها، لأنه كان يتطلع إلى رسول الله كما لو كان هنا، كيف كان يفعل؟ وكان يفعل ما يفعله. كان الإمام علي(ع) صورةً عن رسول الله(ص)، ولذلك لا يملك علي(ع) أن ينحرف ليحافظ على الكرسي، ولا يملك علي(ع) أن يجور أو يظلم، ولذلك فإننا عندما نقدّم الإمام علي(ع) للعالم، فإننا نقدم الإنسان الذي أعطى للحكم صدقه وأمانته وعدله وكل ما فيه من الحق، فإذا أردنا أن نلتفت إلى كل مواقع الحكم في حياتنا، فعلينا أن نتطلع إلى المقارنة بين علي(ع) وبين الآخرين، والسلام عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حياً. وختاماً، في هذه المسألة، نقرأ بيت الشاعر المسيحي بولس سلامة، عندما يقول:
يا سماء اشهدي، ويا أرض قري واخشعي، إنني ذكرت علياً
المحاضرة الثالثة 22 جمادى الأولى 1425 ه - 10/7/2004م
الفساد الاجتماعي (2)
أطره العلمية والاجتماعية
كل مَنْ يملك موقعاً في المسؤولية لابدّ له من أن يحرَّك مسؤوليّته في ما أوكله الله سبحانه وتعالى إليه مما يحتاجه الناس
قوام الدنيا
مسؤولية تعليم الناس
الاستعباد العلمي
خبرات اليهود العلمية وخبراتنا
العلم أساس الحضارة
توظيف الغنى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
من بين العناصر التي تؤكِّد الأحاديث علاقتها بالفساد العام للناس، عنصر القيادة في علاقتها مع الناس بشكل عام، من خلال أنَّ كلَّ شخص يملك موقعاً في المسؤولية لا بدّ له من أن يحرِّك مسؤوليّته في ما أوكله الله سبحانه وتعالى إليه مما يحتاجه الناس، فإذا لم يقم هذا الإنسان بمسؤوليّته، فإن ذلك سوف ينعكس سلباً على الناس الذين يحتاجون حركة هذه المسؤولية في حياتهم، وقد وردت بعض الأحاديث التي تعالج هذا الأمر.
قوام الدنيا:
ففي حديث يقول: ((قوام الدنيا بأربعة: بعالم مستعمِلٍ لعلمه، وبغنيٍّ باذل لمعروفه، وبجاهل لا يتكبَّر أن يتعلّم، وبفقير لا يبيع آخرته بدنيا غيره. وإذا عطّل العالم علمه، وأمسك الغني معروفه، وتكبّر الجاهل أن يتعلّم، وباع الفقير آخرته بدنيا غيره، فعليهم الثبور))( )، أي الهلاك. هذه العناوين الأربعة يرتبط بعضها بالبعض الآخر، فالعنوان الأول، هو عنوانُ فئةِ العلماء الذين يملكون العلم الذي تتوقّف عليه أوضاع الناس الفكرية والعلمية، سواء العلم الذي يرتبط بالواقع الديني في ما يجب على الإنسان أن يتعلّمه من أمور دينه، أو الذي يرتبط بكل مفاصل الحياة، مما ينفتح على الحاجات العامة للحياة، وما يعطي للحياة نمواً وتقدماً وازدهاراً، ويعطي للناس كل ما يمثل ضروراتهم في حاجاتهم وفي أوضاعهم. فلا فرق في مضمار العلم بين العلم الذي ينفتح على أسرار الكون أو على أسرار الإنسان أو على أسرار القضايا التي تتعلّق بالإنسان في حياته، وفي كل أوضاعه الداخلية أو الخارجية.
والعلم في الإسلام ليس حالة ذاتية، بمعنى أنّه ليس للعالم الحرية في أن لا يعطي علمه، بل إنّ علمه يمثل مسؤوليته وعليه أن يبذله، وقد ورد في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين(ع): ((إن الله ما أخذ على الجهّال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلِّموا))( ).
وعن الواقع الذي تتحرك فيه الانحرافات الفكرية على جميع المستويات، بحيث يصبح الانحراف حالة عامة، تماماً مثل الأمراض الخطيرة التي تؤدي إلى هلاك الإنسان؛ لأنّ الانحرافات الفكرية تؤدي إلى الهلاك العقيدي، أو الهلاك الشرعي، أو ما إلى ذلك… نقرأ في الحديث الشّريف: ((إذا ظهرت البِدَع فعلى العالم أن يُظهر علمه، ومن لم يفعل فعليه لعنة الله))( ). وقضية إظهار العلم ليست ـ كما يفهمه البعض ـ بأن يستجيب العالم لمن يسأله، فإذا لم يسأله أحد فلا مسؤولية عليه، أو كما يقول البعض: (إن العالم كالشجرة، إذا لم تهزّها، فلن يسقط الثّمر عليك)، وبذلك يبرر الكثير من العلماء انعزالهم عن قضايا المجتمع.
ولكننا نستوحي من هذا الحديث وغيره، أنّ على العالم أنْ يُظهِر علمه، بحيث يندفع إلى الساحة العامة ليلاحق كلَّ خطوط البدع التي تعمل على إسقاط العقيدة أو الشريعة أو الواقع.
مسؤولية تعليم الناس:
وهناك نقطة لا بدَّ أن نلتفت إليها أمام تلك الفكرة، وهي أن هناك الكثير من الحالات التي يعيش الناس فيها الغفلة عمّا يسألون، بمعنى أنّهم لم يتثقّفوا بالثقافة التي ترسم من خلال رحابتها علامات الاستفهام التي تدفعهم إلى السؤال، فلا يعتبرون أن الكثير من الأشياء مشاكل تستدعي البحث عن حلول لها، بل يعتبرون أنّ الواقع الذي يعيشه النَّاس هو الاستقامة والحقيقة. ولذلك لابد أن نعرّف الإنسان العادي كيف يفكر، وأن نشجّعه على أن يسأل، وأن يقوم العالِمُ بدوره في توعية الناس ويحضّهم على أن يسألوا. ونحن نقرأ في القرآن الكريم، أنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ( )، ونقرأ في سيرة الإمام محمد الباقر(ع)، أنه كان يقول لبعض أصحابه: إذا حدَّثتكم بأيِّ شيء فاسألوني عن الأساس من القرآن في هذا الشيء. كأنه يقول لهم: لا تتقبَّلوا أيَّ شيء من دون أن تتعرفوا جذوره، لأنني أحدّثكم بالقرآن الكريم، فإذا سمعتم منّي الفكرة، فاسألوني عن جذورها من القرآن الكريم، فقد كان يريد أن يثير في أنفسهم علامات الاستفهام عمّا يسمعون من فكر، وكيف يربطونه بالقرآن الكريم، لتكون لهم ثقافة القرآن. وبذلك أراد الإمام الباقر(ع) ـ وهو إمام معصوم ـ أن يعلّمهم أنهم إذا سمعوا كلاماً من غيره، فعليهم أن يسألوا عن الأساس في هذا الكلام، وأن لا يتعبّدوا بكل كلام، وأن يتثقّفوا بالقرآن الكريم في كلِّ ما يصدر من هذا العالِم أو ذاك... كأنه يريد بذلك أن يجعل المسلم إنساناً جريئاً على السؤال، بحيث لا يخاف من سؤالِ أحد، ولا يتعقَّد من سؤال أحد، وفي هذا إيحاء للعلماء أن لا يتعقّدوا مما يسألهم الآخرون، في أيِّ شيء من الأشياء في هذا المقام.
وقد تحدَّثنا في أكثر من حديث وفي أكثر من مجال أنَّه ليس هناك مقدَّسات في الحوار، وكان شعارنا: ليس هناك سؤال تافه ولا سؤال محرج، الحقيقة بنت الحوار؛ لأن الإسلام يريد للعلم أن ينتشر في الناس كلهم، فلا يريد لأحد أن يحبس علمه مما يملك من العلم، ولا يريد لأحد أن يبقى على جهله في ما يعيشه من حالات الجهل.
وعليه، فإنَّ هذا الحديث الشريف يؤكد هذه النقطة، وهي أنّ العالم إذا عطّل علمه أو كتمه، فسوف تكون النتيجة سلبية بالنسبة للجاهل؛ لأن العالم إذا حجب علمه ولم يتحمّل مسؤولية العلم، فعند ذلك يتكبّر الجاهل أن يتعلّم، وعند ذلك يقول: أنا غير مستعدّ لأن أذلّ نفسي وأذهب إلى العالم وأتوسّل إليه كي يعلّمني وهو يمتنع عن بذل علمه، فهو يشعر بأن ذلك يضعه في مواقع الذل، وفي المواقع الحقيرة في شخصيته، وما إلى ذلك.
ولهذا نستطيع أن نأخذ فكرة عامة، وهي أن مسألة العلم في الأمة هي مسألة المسؤولية المشتركة بين العالم والجاهل، فالعالم مسؤول عن أن يحرّك علمه في كلِّ حاجات الجاهل ليتعلَّم، والجاهل مسؤول عن أن يلاحق العالم في كل ما يحتاجه من علم؛ لأنّ نموَّ المجتمعات وتقدّمها يتوقف على ما تمتلكه من الدرجة العالية من العلم.
الاستعباد العلمي:
وفي واقعنا المعاصر، نعرف أن قيمة الأمم في العالم هي بمقدار ما تملك من خبرة، وما تملك من علم، ونعرف أيضاً أنَّ الدول الكبرى إنما سيطرت على الدول الصغرى أو دول العالم الثالث واستعبدتها من خلال ما تمتلكه من علم وخبرة، لأن العلم والخبرة جعلاها تنتج من هذا العلم ما يحتاجه العالم في حربه وسلمه، ونحن نقرأ في الكلمة المأثورة ـ وربما تنسب إلى الإمام أمير المؤمنين علي(ع): ((أحسن إلى من شئت تكن أميره، واستغنِ عمَّن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره))( )، فإننا عندما نكون شعوباً مستهلكة، لا تنتج ما تأكل أو ما تلبس أو ما تحتاجه في كل قضايا الحياة، فإننا نشعر بالحاجة إلى الدول الكبرى التي تفرض علينا شروطها السياسية والأمنية والتربوية والاقتصادية لتلبية حاجاتنا، والقضيَّة ليست مجرد أن نستورد ـ مثلاً ـ من هذا البلد أو ذاك؛ لأنّ كلَّ عملية استيراد ترتبط بشروط تنتقص من كلِّ أوضاعنا، ومن كل حرياتنا واستقلالنا.
خبرات اليهود العلمية وخبراتنا:
وأضربُ مثلاً آخر: اليومَ نحن نتحدث عن اليهود أنهم شذّاذ آفاق، وأنهم لا يمثّلون في العالم كثرةً عددية، ولعلَّ إحصائيات عدد اليهود في العالم لا تتجاوز العشرين مليوناً، بينما عدد العرب ـ إذا تحدثنا عن عرب ويهود ـ قد يبلغ حوالي ثلاثمائة مليون، وإذا تحدثنا عن المسلمين، فإنه قد يتجاوز عددهم المليار ومائة مليون، ولكننا مع ذلك نلاحظ أن اليهود الموجودين اليومَ في فلسطين، والتي حوَّلوها إلى إسرائيل، يملكون الخبرة العلمية التي جعلت بعض الدول الكبرى تحتاجهم، كالصين والهند، حتى بريطانيا وفرنسا في بعض الأمور، ونحن مَنْ الذي يحتاجنا؟ إننا نجد أن الكثيرين من أبناء تلك المجتمعات الحيَّة يملكون الخبرة العلمية، سواء في مسألة صنع الطيران، أو في صنع الأسلحة، أو في كثير من الأسرار الكونية، بحيث استطاعوا أن يشاركوا أمريكا في كثير من قضايا عالم الفضاء، وما إلى ذلك، فأصبحوا حاجةً للعالم من خلال ما يملكون من علم.
أما نحن في العالم العربي، وربما في العالم الإسلامي، وبفعل الأوضاع السياسية، فإننا لا نستقبل ولا نقدّر علماءنا. بحيث نجد أن من تخصص ونال شهادات عليا في أمريكا وفي أوروبا، يصبح عاطلاً عن العمل في بلاده، وفي أحسن الأحوال قد لا يجد له عملاً في مجال اختصاصه، فيعيّن أستاذاً في ثانوية أو في أي عمل آخر... بينما نجد أن أمريكا وأوروبا تشتريان الأدمغة. وأمريكا الآن تشتري الأدمغة العراقية، وخصوصاً في مجال علم الذرَّة، ليعملوا عندها؛ فنحن أمة لا تحترم العلم والعلماء، بينما هم يحترمون العلم والعلماء، حتى العلماء العرب والمسلمين، لا لسواد عيوننا، ولكن حتى نخدمهم، وحتى يستفيدوا من طاقاتنا.
العلم أساس الحضارة:
لذلك فالمسألة المعاصرة هي مسألة أن العلم هو أساس الحضارة، وأساس التقدّم، وأساس العزّة والقوة والمنعة في العالم، وبقدر ما تمتلك من مقدّرات علمية بقدر ما يحتاجك العالم، وتكون محترماً لديه لذلك كنّا نقول للكثير من شبابنا، إنَّ عليكم أن تتخَّصصوا ـ بحسب ظروفكم ـ في أعلى درجات التخصص، ونحن نقرأ في أبحاث الفقه أنَّ هناك واجبات تسمى بالواجبات (النظامية)، وهي الواجبات التي يتوقف عليها سير نظام الأمة، ومن هذه الواجبات حاجة الأمة إلى العلوم التي يتوقَّف عليها نظامها، وهناك بعض الآراء الفقهية التي تقول: إنه يجب على الأمة أن تبذل المال لأولئك الذين تحتاج الأمة لأن يتعلّموا حتى يقيموا لها نظامها على جميع المستويات.
ونحن نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا( )، بحيث إنَّ الله سبحانه وتعالى أراد للنبي(ص)، وأراد للأمة من خلال النبي(ص)، أن تدعو الله بأنْ يزيدها علماً، فإذا بلغت درجةً في العلم، شعرت أنّها لا بدَّ أن تعمل حتى تبلغ درجة أعلى وأعلى في هذا المجال. وقد أكّد القرآن الكريم هذه المسألة: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ( )، وقد استوحى إمامنا أمير المؤمنين(ع) هذه الآية القرآنية، فكانت كلمته الرائعة: ((قيمة كلّ امرئ ما يحسنه))( ) يعني: قل لي ما هو علمك، وماذا تحسن من العلم والفكر والخبرة، أقل لك ما هي قيمتك.
إنّ عظمة الإسلام هي أنَّه جعل العلم مسؤولية العالِم، يعني أنك عندما تبذل علمك للناس، فأنت لست متفضِّلاً عليهم، بل إنك تؤدي واجبك تجاههم، وعندما ينتشر الجهل والخرافات بين الناس، فعلى العلماء أن ينفذوا إلى بيوت الناس ومجتمعاتهم، تماماً كما يقف الأطباء عندما ينتشر المرض المعدي، على مفارق الطرق، ليجبروا الناس على أخذ اللقاح الطبي لهذا المرض أو ذاك. وكذلك فإنّ مسؤولية الجاهل أن يتعلّم، وأن يلاحق العالم حتى يتعلّم. هذه هي المسؤولية، فلا بد لنا من أن نمارسها، فإذا تخلينا عنها فإنَّ قوام المجتمع سوف يسقط؛ لأن المجتمع سيبقى جاهلاً، ونحن نعرف كم يؤثِّر الجهل في سقوط القيم العامة للمجتمع، وفي سقوط حاجاته الحيوية.
توظيف الغنى:
((.. وبغني باذل لمعروفه ..)) والغني قد يتمثَّل في شخص يملك المال، وقد يتمثل في جهات تملك المال أو في دولة، وما إلى ذلك، أي كلّ من يملك المال الذي وضع الله سبحانه وتعالى فيه حقوقاً للآخرين، وهذه هي المسألة الشرعية الإسلامية؛ فنحن نقرأ قوله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ( )، فالقضية بالنسبة إلى المال الخاص أو المال العام هي قضية الحق، وليست قضية الإحسان والتفضّل. وعليه، فإنّ السائل والمحروم ـ وهما نموذجان للإنسان الذي يعيش الحاجة، ليسا مورداً للتفضّل، وذلك لأن السائل أو المحروم له حق في مالك، وقد ورد في بعض الأحاديث عن الأئمّة من أهل البيت(ع): ((إن الله فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكفيهم، ولو علم أنه لا يكفيهم لزادهم))( )، وفي رواية أخرى: ((إن الله أشرك الفقراء في أموال الأغنياء))( )، بحيث إنه عندما تتعلَّق الزكاة بمالك، أو عندما يتعلَّق الخمس بمالك، فإن حق الزكاة وحق الخمس ليسا لك، وإذا أخذته، فأنت سارق.
وهذا البرنامج يمثِّل (التكافل الاجتماعي)، يعني أن المجتمع الإسلامي هو مجتمع متكافل، بحيث يكفل بعضه بعضاً في أمور إلزامية، وهي الفرائض الإلزامية، وفي أمور مستحبَّة غير إلزامية في ما أراده الله تعالى للإنسان أن يبذله... وقد ورد في الأحاديث أن النبي(ص) ربط بين إيمان الشخص وبين رعايته للإنسان المحروم، ولا سيما إذا كان جاراً له: ((ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع))( )، بحيث إنه جعل مسألة الإيمان ليست مجرَّد مسألة تعيش في وجدانك الفكري، ولكنها مسألة تتصل بحركتك الفكرية.
((وبفقير لا يبيع آخرته بدنيا غيره))؛ لأنّه يُدرك بالتزامه الديني القويّ ووعيه، النتائج السلبيّة والإيجابيّة في قضايا المصير الأخروي، فلا يسقط أمام حالة الفقر التي تصيبه، بل يتماسك ويتوازن ويخطّط لحلِّ مشكلته بالطريقة التي يحفظ فيها التزامه ويحلّ مشكلته باليسير من الوسائل، ويصبر على ما لا يستطيعه، ويستفيد من الناس الطيّبين الذين يبذلون المعروف للمحتاجين من خلال قيمة العطاء في التزاماتهم الدينية الإنسانيّة.
فإذا أمسك الغنيّ معروفه، ((باع الفقير آخرته بدنيا غيره))( ) لأن الفقير قد يضطر بفعل جوعه والحرمان الذي يعيشه، إلى أن يسقط أمام تأثير هذه الحاجات، وعلى هذا الأساس، قد يسقط فيتّبع الحرام، ويسعى ليحصل على المال في ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى. إن الله سبحانه وتعالى يريد من الفقير أن يصبر ويصمد ويتماسك، وذلك بما كلّف به الغني من كفالة هذا الفقير. فإذا لم يكفل الغنيّ الفقير، فربما تشتدّ الحاجة به، فيسقط تحت تأثير هذه الحاجة، فيبيع آخرته بدنياه، وبذلك يسقط توازن المجتمع، والإسلام يسعى إلى سدِّ الثغرات التي تحصل في المجتمع، ولكنّنا إذا أبقينا الثغرات العلمية والثغرات المالية والثغرات الاجتماعية على حالها، فإن هذه الثغرات سوف تشارك في تهديم المجتمع، ولذلك يسقط قوام الدنيا من خلال سقوط هذه الركائز التي ترتكز عليها الدنيا، وللكلام بقية...
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الرابعة 29 جمادى الأولى 1425 ه - 17/7/2004م
الفساد الاجتماعي (3)
مظاهر الانحطاط وفساد النخبة
إذا امتنع العالم من أنْ يبذل علمه، فإن ذلك يغلق على الجاهل السعي نحو العلم
مظاهر الانحطاط
فساد النخبة
قيمة اللذة
الطريق إلى الانحدار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
تحدَّثنا في المحاضرة السابقة عن الشخصيات التي تمثِّل العناصر المتحرّكة في المجتمع، وعن العالم الذي لابدَّ له أن يستعمل علمه وأن يبذله للناس، وعلى الجاهل الذي لا بد له من أنْ يتعلم لينفتح على دوره من موقع علمه، وعن الغني الذي لا بد له أن ينفق ماله ومعروفه، وعن الفقير الذي يصرّ على التمسك بمبادئه بالرغم من كل قساوة الفقر. فإذا امتنع العالِم من أنْ يبذل علمه، فإن ذلك يغلق على الجاهل السعي نحو العلم، لأنه لا يجد من يعلّمه. وإذا بخل الغني بمعروفه، باع الفقير آخرته بدنياه. كان هذا هو العنوان الذي اعتبر الإمام علي(ع) أنه يمثل خطَّ الفساد في المجتمع، لأن المجتمع لا بد له من أنْ ينفتح على العناصر الحيويّة التي تبني له قوامه، وتطوّر له حركته، لكي يسير في خط تصاعدي، بحيث ينتقل من مرحلة في خط الصعود إلى مرحلة أخرى.
مظاهر الانحطاط:
وقد أكمل الإمام علي(ع) كلامه حول نتائج البُخل ببذل الطاقات، إذ يقول: ((.. فإذا كتم العالِم علمه، وبخل الغنيّ بماله، وباع الفقير آخرته بدنياه، واستكبر الجاهل عن طلب العلم رجعت الدنيا إلى ورائها القهقرى))، أي أن المجتمع يبدأ بالتراجع والتخلف والسقوط؛ لأنه افتقد العناصر التي تكفل له القوة والتقدّم والتطوّر. ((..فلا تغرّنكم كثرة المساجد..))، أيْ ادرسوا المسألة من ناحية النوع، ولا تدرسوا المسألة من ناحية الكم، فقد تكون هناك مساجد كثيرة يبنيها الذين يحبّون المساجد، ويتقربون بذلك إلى الله تعالى، ولكن انفذوا إلى داخلها، ماذا تقدم هذه المساجد الكثيرة؟ ما هي مساهمتها في تطوير الجانب الروحي للأمة؟ أو كيف يمكن لها أن تنمّي القدرات الحية؛ كالعلم في مواقعه وفي حاجاته، وكالسياسة في منطلقاتها وخطوطها، وما إلى ذلك مما ينمي للأمة كيانها، ويفتح لها أبواب المستقبل؟ إذ إنّ وجود المساجد مع عدم توفر العناصر الأساسية لإحياء الأمة، يعني أن الإسلام ليس بخير ما لم تتحقق تلك العناصر. ((.. وأجساد قوم مختلفة..)) ولا تغرّنكم هذه الكثرة من الأجساد التي ربما تبلغ الأرقام العالية في تعدادها.
((قيل يا أمير المؤمنين: كيف العيش في ذلك الزمان؟))، عندما يعيش الناس مثل هذا التخلف، هل ننفذ إليهم؟ هل نتبعهم؟ هل نطيعهم؟ هل نتبع العالم الذي يكتم علمه ولا يستعمله في التعليم؟ هل ننفتح على الغني الذي يبخل بمعروفه؟ هل نتعامل مع الفقير الذي يبيع آخرته بدنياه؟ هل نتحرَّك ونتعاون مع الجاهل الذي يستكبر أن يتعلّم؟ فهؤلاء موجودون في المجتمع ونحن مضطرّون أن نخالطهم، ((فقال: خالطوهم بالبرانية، وخالفوهم في الباطن))( )، والبرانية يعني الظاهر، أي هناك حالة من التعايش الظاهري، من خلال الحاجات السطحية التي يحتاج فيها الناس بعضهم لبعض. أما في الباطن، فإن الباطن عند هؤلاء خواء وفراغ وانحراف، ولذلك فإن عليكم أن لا تتأثّروا بباطنهم من خلال ما يجذبكم من ظاهرهم. والإمام علي(ع) في هذا الحديث يعالج المسألة على أساس أن هذه الفئات الاجتماعية لا تقوم بمسؤولياتها، وإن كانت تملك ما تتحمَّل به المسؤولية.
فساد النخبة:
وهناك حديث آخر للإمام علي(ع) يعالج فيه أساس الفساد من جانب آخر، وهو جانب فساد هؤلاء أنفسهم، ليس من جهة أنهم لا يبذلون ما عندهم، أو لا يتحركون في هذا الاتجاه من موقع المناعة، بل من جهة أنّ الفساد في رؤوسهم يقول(ع) لما سئل عن أحوال العامة: ((كيف تفسد العامة؟)) من الناس، ((قال: إنما هي من فساد الخاصَّة))، يعني من هذه الفئات القيادية في المجتمع التي قد يمثِّل بعضها القيادة العلمية، وقد يمثل بعضها القدوة الروحية، وقد يمثِّل بعضها القوّة الاقتصادية، وقد يمثل بعضها القوة الجهادية، وقد يمثل بعضها القوة السياسية الرسمية.
فيقول الإمام علي(ع): ((وإنما الخاصة ليقسمون على خمس: العلماء، وهم الأدلاّء على الله))، هؤلاء الذين درسوا العلم، وامتدَّت في عقولهم خطوطه، وامتلأت ذواتهم بمطلبه، فعرفوا الله من خلال ما درسوه من طرق معرفة الله سبحانه وتعالى، ومن كل ما يمثّله الإيمان به، من علاقته بعباده وعلاقتهم به. هؤلاء الذين جعل الله سبحانه وتعالى دورهم أن يدلُّوا الناس عليه، سواء كان ذلك من خلال المعرفة بالذات الإلهية مما يمكن أن يعرفه الإنسان، أو في الجانب التوحيدي في الإيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى، أو في مواقع عظمته في أسرار خلقه، أو في مواقع نعمه في عطاياه في خلقه، فإنهم الأدلاء على الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ( )، وقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ( ).
((...والزهّاد، وهم الطريق إلى الله))، هؤلاء الذين عاشوا الدنيا وزهدوا فيها، وعرفوا معنى الزهادة، وليست الزهادة أن يمنعوا أنفسهم من الطعام والشراب، أو يلبسوا الخَلِق من الثياب، أو يسكنوا الخراب من البيوت، ولكن الزهادة هي أن لا تملكهم دنياهم، وأن لا يتنازلوا عن مبادئهم لحاجاتها، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي(ع) في (نهج البلاغة): ((جمع الله الزهد في كلمتين: لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ))( ). أيْ: تقبّل الدّنيا كما هي، لا يتعلَّقْ قلبك بالدنيا بحيث تستعبدك الدنيا في حاجاتها، فإذا جاءت الدنيا فتقبَّلها كشيء طبيعي، لا يطغيك ما حصلت عليه منها، ولا تشعر بالفرح الطاغي في نفسك لأنّك ملكتها، وإذا لم تأتك فلا تشعر بالحزن والسقوط واليأس، بل تقبلها كما هي. إن جاءت الدنيا، فإنها تأتي لأن أسبابها قد حصلت، وعندما لا تأتيك فلأن أسبابها لم تحصل. هل نقيم حفلة للصباح عندما تشرق الشمس، أم نتقبَّله كما هو؟! فإن الصباح يأتي عندما تطلع الشمس في أفقنا، وهل نقيم حفلة تأبينيّة للنهار عندما يأتي الليل؟.. فالليل والنّهار يأتي كلٌّ بسببه، وهكذا بالنسبة للربح والخسارة، فكلٌّ يأتي إذا توفرت أسبابه.
وقد عبّر عن ذلك أمير المؤمنين(ع)، ومن منّا يعرف أمير المؤمنين(ع)!! نحن نعرف بأنه ضرب (عمرو بن عبد ودّ العامري) وضرب (مرحب الخيبري)، الإمام الذي ضرب هذين الرجلين يقول: ((لأبقرنَّ الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته))( )، لأنه(ع) كان مع الحق، فلم يضرب الجسد المتمرد، وحسب، ولكنه كان يضرب الباطل المتمرد أيضاً. يقول الإمام علي(ع) في رسالته لابن عباس الذي قال عنها: ((ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله(ص) كانتفاعي بهذا الكلام، أما بعد فإن المرء ليفرح بالشيء الذي لم يكن ليفوته))، فإذا رزقت بولد مثلاً، فإنك تفرح وتقيم له حفلة، فالولد سوف ترزق به عندما تحصل أسباب مجيئه، ((ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه))، فتتألم إذا لم ترزق بولد، والمشكلة قد تكون في أنّك لا تنجب، أو تحزن إذا مات لك قريب، وإنّما مات لأنّ أجله قد جاء.
قيمة اللذة:
ثم يقول الإمام(ع): ((فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك)) في طموحاتك ((بلوغ لذة أو شفاء غيظ))( )، فعندما تسأل ما هي طموحاتك؟ تقول: أن أحقق لذّاتي، وأن أشفي غيظي، أليس بعض الناس هكذا؟! وإذا رجع كلّ منّا إلى نفسه، لوجد أنّ كلاًّ منّا مرّت في حياته مختلف اللذات؛ لذة أكل أو شرب أو جنس، ولكن كم يبلغ حجم الإحساس باللذّة من حيث الزمن؟ فعندما تأكل أكلة طيبة بكلّ شهيتك، فإحساسك بلذة الأكل يستمرّ ما دام لسانك يتذّوقها ويلوكها، فاللذة لحظة، لحظة إحساس بالحلاوة، مثل العسل، كما قال الحسين(ع): ((الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درَّت معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون))( )، كاللسان يدرّ طالما يكون العسل عليه، فتحس باللذة، وكذلك بالنسبة لحالات الغضب التي تصيب الإنسان، فعندما يغيظك أحد ما فتسبّه وتضربه، فتشعر بلذّة ذلك ولكن لوقت قصير جداً، ولذا فإن الإمام(ع) يتحدث عن المسألة من ناحية عنفوان الذات، فهو القائل(ع): ((ما لعليّ ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقى))( ). وكأنّه يقول: هل أبيع عمري وحياتي لأجل لذة أو نعيم لا يأتي حتى يذهب، فأنا لا بدَّ أن أجعل حياتي لما يبقى.
ولذا يقول الإمام(ع) في آخر الرسالة: ((فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل، أو إحياء حق))، فإنه هو الذي يبقى، ((وليكن سرورك بما قدّمت)) من عمل صالح، ((وأسفك على ما خلّفت)) من فرص ضائعة للعمل، ((وهمّك فيما بعد الموت))( ). فالإمام(ع) يركّز على أنّ الزهد ينطلق من حالة نفسية ترفض السقوط أمام حاجات الدنيا وشهواتها، فالإنسان قادرٌ على أن يكون زاهداً وهو يأكل أطيب الطعام أو يشرب أفضل الشراب أو يلبس أفخر الثياب، وذلك عندما يأكل ويشرب ويلبس من حلال، فإذا جاءته التجربة التي تريد أن تستغلّ كلّ ذلك ليقع في الحرام، فإنّه يترك كلَّ ذلك. وهناك كلمة أخرى في هذا الصدد تنسب للإمام علي(ع) أيضا وهي: ((ليس الزهد أن لا تملك الدنيا، بل أن لا تملكك الدنيا)) بأنْ لا تكون عبداً لها...
فالزهّاد يمثّلون الفئة التي تتحرك على أساس إعطاء القدوة الروحية، أيْ النموذج الإنساني الذي يعيش التجربة في جانب المال، وفي جانب المشتهيات، وفي جانب السلطة والوجاهة، ولكنّه يرفسها بقدمه إذا اصطدمت بمبادئه، أو إذا كان فيها معصية لله سبحانه وتعالى.
((.. والتجّار وهم أمناء الله)) لأن ما بيدهم من المال هو أمانة الله تعالى في أيديهم ليحرّكوه في حاجات الناس والمجتمع بالوسائل التي فرضها الله سبحانه وتعالى لهم، ((.. والغزاة وهم أنصار دين الله..)) المجاهدون الذين يجاهدون في سبيل الله تعالى، وهم هؤلاء الذين يمثّلون القوّة الجهادية، كما يمثّل التجار القوة الاقتصادية، ((.. والحكام وهم رعاة خلق الله)) هم الذين يمثِّلون الرعاية للناس، في كلِّ شؤونهم الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية والثقافية... إلى كل ما يحتاجه الناس من الدولة، ومن الحاكم الذي يهيمن على الواقع كله، ويمسك بيده مقادير الأمور من الناحية المادية. تلك هي ((الخاصة)) التي تمثل الواقع القيادي لتحقيق التوازن في المجتمع؛ التوازن الثقافي والروحي والجهادي والاقتصادي والسياسي، وما إلى ذلك...
الطريق إلى الانحدار:
((..فإذا كان العالِم طمَّاعاً وللمال جمّاعاً))، فلم يكن العالم يعيش رسالة العلم، ورسالة الدعوة، ورسالة الهداية والإرشاد، بل يجعل من موقعه في علمه وسيلةً لجمع المال، ووسيلةً لتحقيق أطماعه، سواء كانت أطماعاً مادّية أو معنويّة، ممن اعتبر العلم مهنة ودكاناً يتعيّش منه، ولم يعتبر العلم رسالةً يؤدّيها إلى الله تعالى وإلى الناس، في مسؤولياته عن بذل العلم للناس، وخصوصاً أولئك الذين يجمعون الحقوق الشرعية من الزكاة والخمس، ويستولون عليها من أجل تحقيق أطماعهم في الثروة، ليسدّوا بها حاجات الترف عندهم أو عند أولادهم وما إلى ذلك، وهو ما نجده على مستوى الظاهرة، ولا أتحدّث عن شموليّة في هذا المجال، فإن بعض الناس يسير في هذا الطريق؛ لأنها عنده أقرب طريق إلى الثروة ((فبمن يُستدلّ؟)) فمن الذي يدلّ الناس على الله تعالى، لأنّ العالم إذا كان يتحرك في طريق الشيطان، فإنه سوف يدل الناس على الشيطان، ولا يدلّهم على الله تعالى، لأن الذي يدل الناس على الله تعالى لا يعيش الطمع في موقعه، ولا يعتبر هدفه جمع المال من خلال موقعه العلمي.
((وإذا كان الزاهد راغباً، ولما في أيدي الناس طالباً))، بحيث أصبح يفكر في علاقاته وفي موقعه الروحي والزهدي، أو ما أشبه ذلك، وهو يمد عينه إلى ما في أيدي الناس من المال حتى يأخذه منهم، على أساس هذا الموقع الذي يحاول أن يظهر فيه للناس بشكليات زهادته، ((فبمن يُقتدى؟)).. تأتي إليه وتراه يصلي صلاة الليل، ويقرأ الأدعية دائماً، ويصوم الشهور، رجب وشعبان ورمضان، ولكن عندما يأتي المال، فإنه يزحف إليه وينسى صلاته وصومه.
((وإذا كان التاجر خائناً)) للناس، يسرقهم ويغشهم، ويطفف في المكيال والميزان، وما إلى ذلك، بحيث يخونهم في أموالهم، ((وللزكاة مانعاً))، ولا يعطي حق الله تعالى في ما فرضه عليه من حق، ((فبمن يُستوثق؟))، فهذا الشخص يفترض أنه أمين الله تعالى على ماله، وهو يخون مال الله تعالى، ويخون مال الناس، وبعض الناس يمكن أن يأتمن شخصاً ما، فإذا خانه ذلك الشخص، فيقول: خانني الأمين، ولكن الصحيح كما في المثل: (ما خانك الأمين، ولكنك ائتمنت الخائن)، فهذا ليس أميناً، ولكنك حسبته أميناً، وأعطيته نقودك ومالك، وتعاملت معه على أساس الأمانة.
((وإذا كان الغازي)) أي المجاهد، ((مرائياً)) يحمل السلاح ليستعرض عضلاته أمام الناس، حتى يوحي لهم بأنه مجاهد ومحارب وما إلى ذلك، ((وللكسب ناظراً))، يعني أنه دخل على خط الجهاد حتى يحصل على المال، وحتى يحصل على الغنائم من هنا وهناك، وما إلى ذلك، ((فبمن يذبُّ عن المسلمين؟))، أي يدافع عنهم.
ثم يأتي القسم الخامس: ((وإذا كان الحاكم ظالماً في الأحكام، جائراً، فبمن ينصر المظلوم على الظالم؟)) إذا كان الحاكم هو الظالم، فمن الذي نؤمله لكي ينصر المظلوم على الظالم؟!
ثم يقول الإمام علي(ع)، وهو يركِّز على الفساد: ((فوالله ما أتلف الناس إلا العلماء الطمّاعون))، لأنهم يقدمون إلى الناس علماً تالفاً فاسداً ويخدعونهم في استغلال موقعهم القيادي العلمي لتلبية أوضاعهم الذاتيّة وأطماعهم المادّية ونوازعهم الخبيثة.
((والزهّاد الراغبون))، الأشخاص الذين مظهرهم الزهد، ولكن واقعهم هو الرغبة في المال، والرغبة في الوجاهة، والرغبة في السلطة.
((والتجّار الخائنون))، الذين يخونون بلادهم، ويخونون اقتصاد الناس الذين يشرفون عليه، ويبيعون اقتصادهم للأجنبي على حساب شعوبهم، وعلى حساب الناس من حولهم.
((والغزاة المراؤون)) الذين يظهرون بمظهر المجاهدين، ولكنهم مراؤون.
((والحكَّام الجائرون)).
ثم يختم الإمام علي(ع) بالآية القرآنية: ((وسيعلم الذين ظلموا))، كل أولئك العلماء الطماعين، والتجار الخائنين، والزهاد الراغبين والغزاة المرئين، والحكام الجائرين، ((أي منقلب سينقلبون)).
هذا هو الذي يعالج فيه الإمام(ع) فساد الأمة من خلال فساد الخاصّة، وكما يقال في الشكوى من ذلك الوضع: إن الطعام إذا فسد فبم نصلحه؟ ويُجاب: نصلحه بالملح، فإذا فسد الملح فبم نصلح الملح؟.. والكثير من الناس هم ملح الأرض، فلنصلح الأرض بهذا الملح البشري الإنساني، ولكن عندما يفسد الإنسان الملح، فبم نصلح الأمور؟! هذا ما نحتاج أن نفهمه، ونحتاج أن نعالجه، ونحتاج أن نواجهه. وهذه هي الأسس التي يرتكز عليها صلاح المجتمع من خلال ما نواجهه من قاعدة (فساد المجتمع).
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الخامسة 6 جمادى الثانية 1425 ه - 24/7/200
الفساد الاجتماعي (4)
أثر التنوّع الاجتماعي في إعمار الكون
لو كان الناس على شكل واحد، لما استطعنا أن نبني الحياة في حاجاتها المتنوعة
تنوّع الطاقات
الرحمة الإلهية
قيمة الفوارق الفردية
تكامل الحياة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
تنوّع الطاقات:
من بين القضايا التي أكَّدها القرآن الكريم في مسألة الصلاح والفساد في النظام الإنساني، مسألة التنوّع في الطاقات. فالناس ليسوا طاقة واحدة، وليست هناك أيّة مساواة بين الناس، فيما يملكه أي فرد من الطاقة التي تمثّل حاجة الآخرين إليها، بل هناك تنوّع بين الناس على مستوى درجاتهم في جانب الوعي الفكري، فالناس يختلفون في مستوى وعي العقل في إدراكاته للأمور، وفي جانب الحركة العملية، فهناك التنوّع في الأعمال التي تمِّثل حاجات الناس.
حتى الحرب، عندما يفكر الناس في الحرب انطلاقاً من ضروراتهم، فإن من الطبيعي جداً أن يتنوَّع الأشخاص الذين يديرون الحرب في خبراتهم، إن كان من خلال جانب التخطيط العسكري في حركة المواجهة للعدوّ، أو في السياسة التي تحيط بالواقع الحربي، أو في الأسلحة التي يملك هذا خبرة فيها ويملك ذاك خبرة أخرى، أو ما إلى ذلك مما يتعلق بالرصد الأمني والنتائج الإيجابية التي قد تحصل من خلال الحرب عندما يربحونها، أو النتائج السلبية التي تحصل عندما يخسرونها. فلولا هذا التنوّع لما أمكن أن تحصل أي حرب، لأن الحرب ليست مجرد سلاح تجرّبه، ولكن الحرب تمثل حركة معقّدة في أكثر من مجال، يتبادل فيها الناس الخبرات، ويتكاملون من أجل أن يمثلوا هذه الهيكلية في كل مفرداتها...
وهكذا عندما ندرس المسألة العلميّة، فنحن نعرف أن الله سبحانه وتعالى أراد للناس أن يأخذوا بأسباب العلم في كلِّ ما يحتاجونه من خطوط العلم ممّا تتوقّف عليه أوضاعهم، ويستقيم به نظامهم. فلو كان الناس يمثّلون علماً واحداً، لما استطاعوا أن يصنعوا للحياة نظامها في المفردات التي تحتاجها. فالمفردات العلمية تمثّل هذا النوع من الوحدة التكاملية التي يتكامل فيها الناس كلٌّ بحسب خبرته، ما يوحِّد جهدهم في هذا البناء الإنساني للحياة، ولذلك تنوعت التخصصات العلمية وتطوّرت؛ لأن الناس كلما أخذوا بعلم انكشفت لهم حاجة جدية لتأسيس علم آخر، ولذلك رأيَنا أن الحاجات تتطوَّر، والحاجة ـ كما يقولون ـ أم الاختراع؛ لأن الحاجة تفرض عليك أن تبحث وتفكر وتنتج.. وهكذا عندما نواجه كل الأمور الحياتية، فنحن لا نستطيع أن نعمِّر الكون في كل أوضاع العمران، إلاّ بتنوّع الطاقات، سواء كان العمران بيتاً تريد أن تسكنه، أو قلعة تريد أن تحصّنها، أو جسراً تريد أن تبنيه، أو ما إلى ذلك من كل ما يحتاجه الإنسان في هذه المفردات الحياتية، إنها بحاجة إلى عدة تخصصات، وإلى عدة خبرات..
وهذا ما أكّده القرآن الكريم في قوله تعالى رداً على ما كان يثيره المشركون ضد محمد(ص) عندما أرسله الله تعالى بالرسالة، وكانوا يقولون ـ كما بيّن القرآن ذلك ـ: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ( )، إذ كانوا يشيرون إلى شخصية محترمة، تملك بعض المعرفة في المسألة الدينية، فكانوا يقولون: لماذا لا يرسل الله هذا الرجل العظيم الذي يملك موقعاً متقدماً عظيماً في المجتمع، ولماذا يستبدله بهذا الرجل اليتيم الذي لا يملك مالاً، ولا أي موقع اجتماعي متقدم؟! لأن المسألة عندهم في قضية الرسالة أنها تخضع للموقع الاجتماعي في ما يأخذ به الناس من تقويم الأشخاص، ولكن الله سبحانه وتعالى بحكمته هو الذي يحدد الشخص الذي يحمل الرسالة، من خلال ما يملكه من عقل، وما ينفتح به على الناس من محبة ورحمة، وما يملك من خصائص للشخصية التي يستطيع من خلالها أن ينفذ إلى عقول الناس وقلوبهم وحياتهم، ويجسِّد الرسالة في شخصه ليكون قرآناً متجسداً إلى جانب القرآن المقروء أو المسموع.
وهنا يعلّق الله سبحانه وتعالى على هذا الموضوع، فيقول تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ( )، إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يمنح الكون والإنسان الرحمة، سواء كانت متمثلة في هذه النِعَم التي يفيض بها على الناس، أو كانت في رسول يمنحه الله تعالى القيادة الروحية والرسالية والحركية والإنسانية التي تجمع في شخصيتها كل ما يملأ الحياة الإنسانية وعياً، ويجعلها تعيش الرحمة التي تفيض على عقول الناس وقلوبهم. قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ( )، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ( )، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ( ). فالله سبحانه وتعالى هو الذي يقسِّم الرحمة، فالكون رحمته، والإنسان مظهر رحمته، والنظام الذي أنزله من خلال وحيه؟ وأرسل به رسله هو خط رحمته، وقد جاء في الآية الكريمة قوله تعالى: قُلْ لَو أَنْتُم تَملِكُونَ خَزائِنَ رَحمَةِ ربّي إذاً لأَمْسَكْتُم خَشْيَةَ الإنفاق( ) في إيحاء دقيق للبخل الإنساني من خلال الذاتيّة التي يعيش فيها الإنسان في دائرة الضيق في العطاء في نظرتها إلى الآخر ومسؤوليتها عن حاجاته، الأمر الذي يمتنع فيه الإنسان عن تقسيم خزائن رحمة الله بعدالة وانفتاح لو أوكلها الله إليه ولاحتفظ بها لنفسه.
الرحمة الإلهية:
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ، إن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يملك الرحمة، وهو الذي يملك تقسيمها على كل ما تحتاجه الحياة، وعلى ما يحتاجه الإنسان في الحياة، وهو الذي يحرك الرحمة من خلال حكمته، فهو الذي يوزِّع الرزق، فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وهو الذي يوزّع المطر على الأرض هنا وهناك، وما إلى ذلك أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ليحدّدوا لله تعالى من الذي يرسله، ومن الذي لا يرسله. إن الأمر كله بيد الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ( ).
ثم يؤكد القرآن الكريم هذه السُنّة الكونية المنفتحة على النظام الإنساني في تنوّعاته، وعلى التقسيم الخيري والفكري في واقع الناس. نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا( )، فالله سبحانه وتعالى أعطى لكل نفس ما تحتاجه من الرزق، أياً كانت تلك النفس، سواء كانت تسكن في أعماق الأرض أو في أعالي السماء أو في سهول الأرض وما إلى ذلك، وذلك بحسب الحكمة في توزيع الحاجات، فقد يبسط الرزق هنا، وقد يقدره هناك، في نظام دقيق ليس فيه أيُّ خلل، وإذا كانت هناك بعض المعاناة في الرزق هنا وبعض المعاناة هناك، فإن هذه المعاناة تمثِّل جزءاً من حركة النظام، باعتبار أن هذا العالم هو عالم المحدود، فلا تحصل على شيء من السعة إلا وفي داخله شيء من الضيق، ولا تحصل على شيء من الراحة إلا وفي داخله شيء من التعب، وهذا لا يحتاج إلى كثير من الفلسفة ليكتشفه الإنسان، فلو درس الإنسان كل واقعه في كل ما يتحرك فيه، وكل ما يأكل وما يشرب وما يلبس وما يتعلم، فإنه لا يستطيع أن يحصل على الراحة إلاّ بالتعب، ولا يستطيع أن يربح شيئاً إلا ليخسر شيئاً آخر؛ قد يخسر صحته، وقد يخسر ماله، وقد يخسر من منامه، لأن عالمنا محدود، والله سبحانه وتعالى وحده هو المطلق.
وربما نستحضر المثل في توضيح الفكرة، فنحن الآن نجلس في هذه القاعة، وقبل أن تبنى هذه القاعة كان الهواء أكثر والنور أكثر، ولكن الحماية من الحر والبرد كانت أقلّ، يعني أنه لا يمكن أن يجتمع في ساحة مقفلة الهواء كله والنور كله، وفيها الحماية كلها؛ لأنك عندما تربح شيئاً فلا بد أن تخسر شيئاً آخر، وهذا شيء واقعي، وذلك أنْ تتعلّم أنك عندما تسهر الليالي، فإنك تخسر شيئاً من عينيك، وتخسر الكثير من راحتك، وما إلى ذلك، ولهذا فالحياة كلها هكذا. فلا يقولنّ أحدكم إننا نعيش هذه الدنيا، وفي الدنيا زلازل وبراكين وفيضانات ورياح عاصفة وكل ما يدخل في النظام الكوني، فإنك تربح من ذلك الكثير، وتخسر منه الكثير، ففي النتائج السلبية في هذه الظواهر الكونية المثيرة للمأساة في الخراب والدمار والموت، نتائج إيجابية في تأثيرها على ظواهر طبيعية أخرى مما يستفيد منه الناس في قضاياهم الحيوية.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذا التقسيم الفكري في قوله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. ومن الطريف جداً أن الإمام علي(ع) سأله شخص وهو يستبعد أن يحاسب الله تعالى الناس كلهم على صعيد واحد مع هذا العدد الهائل في الكثرة، والناس يعدّون بمئات المليارات منذ أن خلق الله تعالى الإنسان، إلى أن يرث الأرض ومن عليها، قال: ((كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم؟)) وكان جواب الإمام علي(ع) حاضراً: ((كما يرزقهم على كثرتهم))( ). انظر كيف أن الله سبحانه وتعالى يرزق الإنسان في كلِّ مواقعه، والحشرات والطيور، وما إلى ذلك.. في اللحظة نفسها، كذلك يحاسب الله تعالى الناس على كثرتهم، وأنتم تقيسون قدرة الله بقدرتكم، وتخضعون الله تعالى للزمن، وللطاقات التي تملكونها، والله سبحانه وتعالى هو الذي لا حدَّ لقدرته، ولا حدَّ لطاقته، وما إلى ذلك.
قيمة الفوارق الفردية:
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، فإننا عندما ندرس الناس، نجد أنهم ليسوا درجةً واحدة، فهناك من هم في المنطقة العليا، وهناك من هم في المنطقة السفلى، وليست المسألة هنا أن إيحاءات هذه الآية تتصل بالجانب الطبقي، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى رفع بعض الناس فوق بعض درجات، بحيث إنه جعل الناس طبقات في مستوى القيمة، أي هناك بعض الناس أرفع عند الله تعالى لأنهم يملكون مالاً، أو لأنهم يملكون خبرةً، أو لأنهم يملكون قوة، إذ المسألة ليست مسألة الدرجة في دائرة القيمة التي تميّز الأشخاص وتجعلهم في المواقع العالية عند الله سبحانه وتعالى، ولكن الدرجات هي التي تتنوَّع طاقات الناس فيها من خلال أن أحدهم أعلم من الآخر، فالذي يتميَّز بالعلم في موقع متقدّم هو أعلى درجةً من الذي لا يتميز بهذا المستوى، وهكذا من كان يملك الخبرة فإنه يعلو درجة على الذي لا يملك الخبرة، ومن يملك القوة يعلو على الذي لا يملك القوة، وهكذا في ما يملكه الناس من الطاقات التي يتميز بها فريق عن فريق آخر.
وهذا ما نستفيده من قوله تعالى في هذه الآية: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا، يعني ليسخّر بعضهم بعضاً، لأن من الطبيعي جداً أنك عندما تملك علماً لا أملكه، فإن من الطبيعي أن أسخّرك، فإذا كنت أملك مالاً وذاك يملك علماً، فأنا أسخّر منْ يملك العلم ليخدمني في حاجاتي الاقتصادية، كما هو يسخّرني من أجل الاستفادة منّي في حاجته الاقتصادية، بحيث إن الشخص الذي يريد أن يبني بيتاً، فإنه يستفيد من هذا التنوّع بين الذي يملك خبرة البناء، أو الذي يملك خبرة الهندسة، أو الذي يملك المال ويريد أن يبني بيتاً، ومن الطبيعي أن يسخّر هؤلاء ليقوموا بأعمالهم نتيجة هذا التنوع، فلو كان الناس كلهم بنّائين أو كلّهم لهم الخبرة نفسها، أو كان كلهم يملكون كميّة المال ذاتها، فلا أحد يستطيع أن يسخّر الآخر، إنما هو هذا التنوع، باعتبار أن تنوع الحاجات وتنوع الطاقات يجعل فريقاً يسخّر فريقاً آخر، وهذا هو ما ينظِّم الحياة، لأن الناس لو كانوا على شكل واحد، لما استطعنا أن نبني الحياة في حاجاتها المتنوعة، وهذا أمر نعرفه في حياتنا نحن، وهناك بيت شعر مشهور:
الناسُ للناسِ من بدوٍ ومن حضرٍ بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ
فالشخص الذي عنده أملاك واسعة، هو خادم للفلاّحين والبنّائين والعماّل، لأنه يقدم لهم ما يحتاجونه في حياتهم من مال، وهم خدم له باعتبار أنهم يهيئون له حاجاته. فلا يوجد في الدنيا شخص يعتبر سيداً بشكل مطلق، والآخر يكون عبداً بشكل مطلق. حتى الملك الذي هو أعلى سلطة في البلاد، هو خادم للناس، يقدم لهم ما يحتاجونه منه، وفي المقابل الناس في ما يحتاجه، وهذا هو الذي يركز عليه الله سبحانه وتعالى، بحيث إنه رفع بعض الناس على بعض درجات، حتى يسخّر بعضهم بعضاً في ما يملكه، وفي ما يحتاجه من الآخر، على أساس أن النظام الإنساني كما هو النظام الكوني، مبنيّ على التكامل في تنوّع الطاقات من خلال هذا التقسيم في خبرات المواقع الإنسانية في اختصاص كلّ شخص بطاقة يحتاجها الشخص الآخر في حركة مشاريعه في أبعادها المتنوعة، ولولا ذلك لهلك الناس ولخرب الكون، باعتبار أنّ المساواة بين الناس في ذلك يؤدّي إلى فقدان الفرصة في التوازن في بناء الحياة في حاجاتها المترابطة في الرباط العضوي النوعي، وقد ورد في حديث عن الإمام علي(ع): ((إن الناس إذا استووا هلكوا)).
تكامل الحياة:
لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا، يعني ليسخّر كل واحد من الناس في حاجاته، من يملك أمر تلبيتها، بحسب ما لديه من مال، أو من جهد، أو من موقع، وهذه سنّة طبيعية في الكون، فإن أحداً ليس مستغنياًَ عن أحد، وكل شخص مسخّر للآخر، بحيث تصبح الحاجة التي تفرض التسخير أمراً نسبياً لا مطلقاً، فكل واحد يحتاج الآخر من خلال نسبة معيّنة من الحاجة في هذا المجال. وعندما ندرس التجربة الإنسانية، نجد أنها أثبتت أنَّ تساوي الجميع على صعيد واحد ليس أمراً واقعياً، حتى في الجماد، وحتى في النبات، وحتى في الحيوان، فلا يوجد هناك تساوٍ، لكن هناك التنوع، وهناك التكامل في ذلك كله، وهذا هو واقع النظام الذي جعله الله سبحانه وتعالى في الحياة، وهو تنوع الناس من خلال تنوّع الخبرات والطاقات، والله سبحانه وتعالى يريدنا أن نقتنع بأن هذا هو واقع الحياة؛ أن الناس يحتاجون بعضهم بعضاً، وأن أحدهم يفضل الآخر بطاقاته، ولكن القيمة كلّ القيمة ليست في ما تملكه من مال، أو ما تملكه من طاقة، ولكن القيمة هي في علاقتك بالله سبحانه وتعالى. قال تعالى: وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، مما يتنافسون فيه ويتفاضلون، مما يجعلون له حدوداً فاصلة، وحواجز عازلة يعزل فيها بعضهم بعضاً، وقيماً زائفة، لأن كل ما في الدنيا لا يمثِّل قضية المصير، إلا من خلال علاقته بالله سبحانه وتعالى؛ والتي تمنح الإنسان القيمة كل القيمة، والرفعة كل الرفعة. قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ( ).
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة السادسة 13 جمادى الثانية 1425 ه - 31/7/2004م
الفساد الاجتماعي (5)
مبدأ توازن القوى
ليس هناك في العالم قوَّة مطلقة، بل هناك قوة تواجه قوة، وهذا النوع من التوازن في حركية القوة يمنع من الاجتياح المطلق الذي يمكن أن تقوم به القوة الكبرى.
توازن القوى
القوى العظمى الواحدة
انعدام القوة
مواجهة الفساد
قوة الحق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
توازن القوى:
في القرآن الكريم أكثر من فكرة تتصل بالواقع الإنساني، مما ركز الله سبحانه وتعالى فيه القانون الذي يصنع التوازن في أوضاع الناس. فمن الأمور التي أكَّدها القرآن الكريم، قول الله سبحانه وتعالى: وَلَوْلا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا( ). تؤكّد هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل الحياة في كل تطوّراتها وتنوّعاتها خاضعة لقوة واحدة، سواء على مستوى المجتمع الإنساني كله أو على مستوى موقع هنا وموقع هناك من مواقع المجتمع، فهناك تنوّع في مواقع القوّة، فإذا كانت هناك قوَّة في موقع، فهناك قوة أخرى توازنها أو تقترب منها في موقع آخر، وهكذا، بحيث لا يسمح لقوّة واحدة أن تجتاح العالم، حتى إنَّ القوى عندما تتعاظم في بعض المواقع، فإنها لا تكون وحدها في حركة القوة، بحيث يكون إلى جانبها قوىً قد تكون أقلّ عظمةً منها في ميزان الكثرة العددية أو في ميزان النوعية، ولكنها تمنعها من أن تأخذ حريتها في ما تريده من عمليات الفساد والتخريب والهدم، وما إلى ذلك.
ونحن عندما ندرس حركة العالم منذ خلقنا الله سبحانه وتعالى وحتى عصرنا هذا، فإننا نجد أنّ أي قويّ ـ مهما كانت قوّته ـ يختزن في داخله عناصر ضعف، وأيّ ضعيف يختزن في داخله مواقع قوة، وربما نجد في التجارب الإنسانية، أن الضعيف عندما يستعمل عنصر قوته في مواجهة عنصر الضعف لدى القويّ فإنه ينتصر عليه. ولذلك نجد أن القليل قد يغلب الكثير؛ فالله تعالى يقول: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله( ).
وهذا ما نلاحظه الآن في واقع القوة في العالم؛ فنحن نعرف مثلاً أن العالم في عصرنا هذا، كان يجمع قوتين كبيرتين، كان يعبّر عنهما بالقوتين العظميين، فيما يسمّى بالحرب الباردة بين الشرق والغرب، وهما الاتحاد السوفياتي والغرب بكل تحالفاته، فقد كانت هناك حالة من التوازن بين هاتين القوتين، فلم يستطع الشرق المتمثل بالاتحاد السوفيتي أن يهاجم الغرب، بما يملك من القوى النووية، ولم يستطع الغرب، مع أنه قد يملك قوة أكثر من قوة الشرق، أن يهاجم الاتحاد السوفياتي، ما أوجد نوعاً من التوازن العسكري، ولذا لم تحلّ المسألة بين الاتحاد السوفيتي وبين الغرب بالوسائل العسكرية، ولكن الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية، نفذ إلى الاتحاد السوفيتي في نقاط ضعفه الاقتصادية والمخابراتية، واستطاع أنْ يهزمه بهذه الأساليب الخفية، التي كانت تمثل نقاط الضعف لهذه الدولة العظمى، وبذلك سقط الاتحاد السوفياتي.
القوى العظمى الواحدة:
والآن، ربما نجد أنَّ العالم يتحدَّث عن الدولة العظمى الواحدة، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها أقوى دولة عسكرياً، وربما كانت أقوى دولة اقتصادياً من خلال امتداداتها المادية التجارية والصناعية والزراعية وغيرها، وربّما كانت أقوى أمنياً بما تملكه من المخابرات المركزية. ولكننا عندما ننفذ إلى داخل هذه الدولة، نجد أن هناك نقاط ضعف في داخلها، فهي تستطيع أن تستعمل القوة النووية كما استعملتها في اليابان، في هيروشيما وناكازاكي، ولكنها الآن لا تستطيع استخدامها بواقعيّة، لأنّ هناك توازناً في مسألة الردع النووي، بحيث إن السلاح النووي أصبح مجرد قوة للردع، لا قوة للتفجير أو للحرب الفعلية، مع ملاحظة أخرى، وهي أن أمريكا قد تستطيع أن تهجم على بلد هنا وبلد هناك فتحتلّه، ولكننا في الوقت نفسه، نلاحظ أن الذين يعارضون الإدارة السياسية الأمريكية، استطاعوا وهم لا يملكون أية قوة كبيرة بالمعنى العسكري ولا الاقتصادي ولا الأمني، أن يضربوا أقوى قوة في العالم، في مواقع القوة الأساسية في داخلها، كما في أحداث 11 أيلول.
ولسنا في مقام تقييم تلك الأحداث، وقد قلنا رأينا حول هذا الموضوع، لكن المسألة، هي أنّ هناك قوى عظمى كبيرة لم تستطع بمخابراتها وعساكرها وسياساتها واقتصادها، أن تحمي نفسها من مثل هذا العنف. وإذا كانت قد أعلنت حرباً على ما يسمى (الإرهاب) في العالم، فإن هذه الحرب لم تنجح كما يريدها الذين يخطّطون لها، وإنما خلقت هناك حرباً مضادة قد لا تتوازن فيها القوى، ولكنها أوجدت مأزقاً للقوة العظمى الوحيدة في العالم، هذا بالإضافة إلى أن هناك قوىً جديدة بدأت تنشأ، كالقوى الآسيوية، وخصوصاً (الصين)، وربما تتعاظم قوة (الهند) وتتطور قوة (اليابان)، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي الذي أصبح يضمُّ في عضويته 25 دولة، والذي يحاول أن يصنع لنفسه قوّة دفاعية لا تعتمد على الولايات المتحدة الأمريكية، وقوة اقتصادية لتتوازن في المستقبل مع الولايات المتّحدة الأمريكية.. وفي موازاة ذلك، نلاحظ أن القوى الاستكبارية، حتى الحلف الأطلسي، يواجه مأزقاً في (أفغانستان)، بالرغم من أن قوات الحلف الأطلسي دخلت بمختلف تنوّعاتها، وهكذا بالنسبة إلى العراق، وبالنسبة إلى مواجهة الاحتلال وما إلى ذلك...
انعدام القوة:
وعندما ندرس المسألة الفلسطينية، ونقارن بين ما يملكه اليهود من مواقع القوة وما يملكه الفلسطينيون، نجد أنّ اليهود يملكون القوة النووية على مستوى مائتي رأس نووي، ويملكون أقوى الطائرات والصواريخ والمدافع وأقوى الأسلحة الأمريكية، ولكن نلاحظ أنّ الانتفاضة، التي وقف رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي ليقول لليهود في بدايتها إنّه سوف ينهيها بمائة يوم، قد استمرّت، ووجدنا أنّ الفلسطينيين الذين لا يملكون أي سلاح متطوّر، وإنما يملكون أسلحة تقليدية ضعيفة ويعيشون حصاراً شاملاً في كل أمورهم، استطاعوا أن يدخلوا (إسرائيل) في مأزق في مدى أربع سنوات قابلة للاستمرار، ولم تستطع (إسرائيل) أن تسجِّل انتصارها على هذا الشعب، الذي لا يملك أي موقع من مواقع القوة إلاّ الإرادة والخلاص والصلابة في الحرية.
من خلال ذلك كله، نخرج بنتيجة، وهي أنه ليس هناك في العالم قوَّة مطلقة، بل هناك قوة تواجه قوة، وهذا النوع من التوازن في حركية القوة يمنع من الاجتياح المطلق الذي يمكن أن تقوم به القوة الكبرى؛ لأنه يضع أمامها الكثير من الحواجز التي تمنعها من القيام بكثير من الخطط من خلال طبيعة العلاقات المعقّدة بين الشعوب والدول، والتي تمنع أيَّ شعب من أن يسيطر بالمطلق على الشعب الآخر، أو أن تسيطر أية دولة على دولة أخرى بالمطلق.
لذلك نحن ننطلق من قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ.. لولا هذا النوع من أنواع التوازن الذي خلقه الله سبحانه وتعالى بحسب القانون الذي أودعه في الأرض، من توازن القوى، سواء كانت متساوية أو كانت مختلفة، لولا هذا، لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا، يعني لو فرضنا أن الله سبحانه وتعالى أعطى القوة المطلقة أو الضعف المطلق، لما بقي هناك أي مكان يعبد فيه الله تعالى من خلال القوى الكاسرة، التي لا تريد أن يُذكر اسم الله في موقع للعبادة.
ونلاحظ في هذا المجال أنَّ القرآن الكريم لم يذكر ال(مَسَاجِدُ) فقط، فذكر ال(صَوَامِعُ) وهي التي يُتعبَّدُ فيها لله تعالى من خلال الرهبان، والذين كانوا يعيشون في عزلة عن الناس، كما في الصوامع المبنيّة في رؤوس الجبال أو في الكهوف، (وَبِيَعٌ) والبيع جمع بيعة، وهي أماكن عبادة اليهود، وربما تطلق أيضاً على مواقع عبادة النصارى، و(صَلَوَاتٌ) في كلّ مواقع الصلوات التي يُعبد فيها الله سبحانه وتعالى، ومَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا، ما يوحي بأن القرآن الكريم يشير إلى اختلاف الناس في طبيعة أخذهم بالمفردات، مع اختلافهم في خطوط الانحراف والاستقامة، ولكنه أكّد أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يعبد ويذكر اسمه، ولا يمنح أحداً القوَّة التي تجتاح كلَّ موقع يذكر فيه اسمه، أيّاً كان هذا الموقع، بحيث إنه لابد أن يبقى اسم الله يذكر في الكون، ولابد أن تتحرك القوى لتحافظ على ذلك.
مواجهة الفساد:
وهناك نقطة نلاحظها في هذا التعبير: وَلَوْلا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ هنا الله سبحانه وتعالى تحدَّث عن (الدفع)، للإيحاء بأن مسألة الدفع تتخذ طابعاً وقائياً، وهي أن تدفع ما يخطِّط له الآخرون، مما يريدون فيه أن يهدّموا مواقعك العبادية، أو أيّ موقع من مواقعك، أو ما يتحركون به، أيْ هناك جانب وقائيّ ودفاعيّ، ولم يتحدث عن جانب عدوانيّ وهجوميّ،، ومعناه: أن المسلمين عندما ينطلقون في مواقع القوّة، فإنهم ينطلقون على أساس الجانب الدفاعي والجانب الوقائي، ولا ينطلقون من الجانب العدواني، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين( ). وعلى هذا الأساس تدخل هذه الآية الشريفة في مسألة (منع الفساد)، وهذا ما لابد لنا أن ندرسه وأن نلاحقه، لنعرف كيف نحرِّك مواقفنا في ساحات مواقعنا، حتى لا نسقط أمام القوة التي يملكها العدو لنستسلم له، بل نحاول أن نبحث عما يختزنه العدو من نقاط الضعف، وما نختزنه من نقاط قوة.
وبتعبير آخر: إنّ هذه الآية تقول للناس: أيها الناس، لا تستسلموا لمن يملك القوة، لأن الله سبحانه وتعالى لم يمنحه القوة المطلقة، لقد أعطاكم قوة فلا تهملوها، ولا تغفلوها، بل حاولوا أن تحركوها في مواجهة الضعف الذي عند العدو. إنّ هذا الإيحاء من الآية لابد أن نستفيد منه في حركتنا السياسية والأمنية وحتى الاقتصادية، لأن هذا الإيحاء يقول لك إن الله سبحانه وتعالى في تكوين الواقع الإنساني، لم يجعل القوة المطلقة لأحد، وربما يسقط بعض الضحايا أمام حركة قوة هنا، وربما يهزم بعض الناس هناك، ولكن ذلك ليس من الأمور الحتمية، التي يخضع لها الواقع كله في موازين القوى في الحياة.
ثم وبعد أن أكّد الله سبحانه وتعالى هذا القانون الذي يمنع الفساد، بيَّن أن الإنسان الذي يستعمل قوّته أو ينميّها ويصنعها، في عملية تحريك أو تصنيع لمواقع القوّة، فإنه إذا سخّر قوته في سبيل الله سبحانه وتعالى، فدافع عن القيم التي يرضاها الله تعالى، والتي يريد لهم أن يأخذوا بها، أو دافع عن المواقع التي يعبد فيها الله تعالى ويُذكر فيها اسمه، فإنه سبحانه وتعالى سوف يمنحه الإمداد، سواء كان بطريقة غيبية، أو بطريقة واقعية، بحيث يجعله قادراً على أن يحقق النصر بين وقت وآخر: وَلَيَنصُرَنَّ الله مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ( )، يعني أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يملك القوة جميعاً، فلا يقترب الضعف إليه، ولا يمكن لأحد أن يواجه قوته، و(عَزِيزٌ) بما يعطيه معنى العزة من إيحاء بالقوة التي لا تغلب، ولا تذلّ؛ لأن الذلّ ينطلق من حالة الضعف، والله تعالى قال: إِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا( )، أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا( )، فالله سبحانه وتعالى هو العزيز الذي يملك كل خطوط العزة، وكل مواقعها، والله تعالى هو القويّ الذي يملك خطوط القوة كلّها، ومواقعها كلّها.
قوة الحق:
ثم يبيِّن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة مَنْ هم الذين ينصرونه، ومن هم الذين إذا نصروا الله نصرهم:
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ( )، إن أعطيناهم القوّة والسيادة، وهيّأنا لهم كل ظروف المسؤولية، أَقَامُوا الصَّلاةَ عبدوا الله سبحانه وتعالى، وَآتَوْا الزَّكَاةَ، عاشوا العطاء في مسألة التكافل الاجتماعي بين الناس، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ من أجل إصلاح المجتمع في الخطِّ الإيجابي، وهو إقامة المعروف، وكل ما يرضى الله تعالى للحياة أن تحتضنه، وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، وهو كلّ ما يريد الله سبحانه للحياة أن تبتعد عنه. ثم يختم الله تعالى الآية الشريفة بقوله: وَلله عَاقِبَةُ الأُمُورِ، ليوحي لنا من خلال هذه، أن الله سبحانه وتعالى هو مالك الأمر كله، وهو المبدئ وهو المعيد، فمنه البداية، وبيده النهاية، وإليه المرجع في كل شيء، ففكّروا بالله تعالى في ما خلق لكم هذا الوجود الذي يمثل بداية الحياة، وانفتحوا عليه في النهاية..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة السابعة 20 جمادى الثانية 1425 ه - 7/8/2004م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (1)
دور الأئمة التأسيسي في إرساء منهج العقل
لابدّ للقائمين على شؤون الثقافة الإسلامية، سواء الفقهاء منهم أو المفكّرون، أن يقدِّموا الفكر الإسلامي للناس من خلال القاعدة التي يرتكز عليها الفكر الإسلامي وهي القرآن
التأسيس الثقافي
الإمام الكاظم(ع) ووصيّته لهشام
وسائل الهداية الإلهية
من العقل إلى الإيمان
تلازم العلم والإيمان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
تحدَّثنا في وقت سابق عن قيمة العقل في الإسلام من خلال الكتاب والسُنّة، سواء في حديث النبي محمد(ص) أو حديث الإمام علي(ع)، وفي هذا الحديث نلتقي بالإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) في وصيّة مميّزة خاطب بها هشام بن الحكم الذي كان يحظى باحترام الأئمّة(ع) له من خلال أنّه يمتلك الثقافة الواسعة في علم الكلام، والتي كانت تمكّنه من الدخول في الجدل العلمي العقلاني الموضوعي في الدفاع عن الخط الإسلامي الأصيل الذي يمثلّه الأئمة من أهل البيت(ع).
التأسيس الثقافي:
في هذه الوصية، نكتشف أسلوب الأئمة من أهل البيت(ع) في حركة المعرفة التي يقدمونها للناس، فهم لا يطلقون الفكرة بشكل ارتجالي أو بشكل بعيد عن القاعدة التي ترتكز عليها الفكرة، وإنما كانوا ـ كما نرى في هذه الوصية ـ يثقفون الناس بالفكرة من خلال تقديم الآيات القرآنية التي تفتح عقول الناس على المنهج القرآني في الاستدلال على حقائق العقيدة والحياة، ما نستوحي منه أنّه لابدّ للقائمين على شؤون الثقافة الإسلامية، سواء من الفقهاء أو من المتكلمين، أن يقدِّموا الفكر الإسلامي للناس من خلال القاعدة التي يرتكز عليها الفكر الإسلامي وهي القرآن؛ لأن القضية في المنهج الإسلامي للدعوة هي أنْ يملك المسلمون الثقافة العميقة الواسعة التي يمكن أن يتحول المسلم من خلالها إلى داعية للإسلام، وإلى محاوِرٍ للآخرين الذين يثيرون الشبهات.
إن المسألة التي لابد أنْ يعمل لها القائمون على شؤون الثقافة الإسلامية هي تثقيف الأمة كلٌّ بحسبه، وهذا ما نستوحيه من مسألة تدبّر القرآن التي أراد الله سبحانه وتعالى للأمّة أن تمارسها وهي تقرأ القرآن، فقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا( )، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا( )، أن تقرأ الأمة القرآن الكريم قراءة فكر وتدبّر حتى تتثقف بالقرآن. ولهذا فإنّ ما درج عليه الناس من إعطاء الفكرة أو الفتوى من دون تقديم الدليل والحجة والبرهان، ليس منسجماً مع المنهج القرآني الذي يرتكز على أنْ تأخذ الأمة بأسباب العلم، باعتبار أنّ العلم هو القيمة، وأن تتحرك في خط العقل باعتبار أن العقل هو الحجة.
وعندما ندرس طريقة الأئمة من أهل البيت(ع) في ما تركوه لنا من تراث، فإننا نجد أنهم وهم يعملون على تثقيف الأمة، كانوا لا يتعقّدون من سؤال، وقد ورد عندنا أنّ الإمام الباقر(ع) كان يطلب من أصحابه أنّه إذا حدّثهم بحديث، أن يسألوه عن أساسه في كتاب الله، ليعرّفهم كيف يستنتجون الفكرة من كتاب الله سبحانه وتعالى، ويشجعهم على أنْ يناقشوا العلماء، وأنْ يسألوهم في ما يملكون علمه، بما يملكون من طاقة التعلّم.
الإمام الكاظم(ع) ووصيّته لهشام:
عن هشام بن الحكم قال: ((قال لي أبو الحسن بن موسى بن جعفر(ع): يا هشام، إن الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ..)). إن الإمام الكاظم(ع) في ما نستوحيه من كلامه، يستوحي من هذه الآية الكريمة، أن الله سبحانه وتعالى أراد للناس أن يستمعوا إلى كل ما يُقدَّم إليهم من قول، سواء كان هذا القول قولاً يتمثّل في آيات الله تعالى في القرآن الكريم، أو يتمثّل في ما جاء عن النبي(ص) والأئمة من أهل البيت(ع)، الذين عاشوا كل عقل رسول الله(ص) وكل فكره وكل علمه، فهم ليسوا مجرّد رواة، ولكنهم عاشوا الإسلام كله على قاعدة الحق، أو أن يستمع الناس إلى كل من يملك علماً، في أي اختصاص من اختصاصات العلم، وفرق بين أن تسمع وأنْ تستمع؛ لأن مسألة السماع هي أن تزحف الكلمة من خلال قائلها إلى أذنك من دون اختيار، تماماً كالإنسان الذي يمر في الشارع أو يجلس في مجلس والناس يتحدثون، فلا يركّز فكره على الحديث، وإنما يمر به مرور الكرام. أما الاستماع، فهو أنْ تسمع عن إرادة، وأن توجّه عقلك إلى كلّ ما يدخل إلى سمعك، وأن تستمع إليه بأن توجّه ذاتك إلى ما يتحدث به الآخرون. فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ، بحيث يفكرون فيه، ويدرسونه، ويتعرفون فيه الخطأ والصواب، والحسن والأحسن، لينهجوا المنهج العلمي في ما استمعوه، ليختاروا الأحسن في الفكرة، والأحسن في الخطّة، والأحسن في حركة الواقع، وما إلى ذلك.
ولماذا يبشّر الله سبحانه وتعالى هؤلاء؟ لأن هؤلاء هم الذين يكتسبون العلم من خلال ما يستمعون إليه، وهم الذين يحوّلون ما يلتزمون به من حقائق العلم عندما يميّزون بين كلام وكلام، ليختاروا الكلام الأحسن والأفضل والأجدى والأنفع. هؤلاء هم الذين تقوم الحياة على أساس وجودهم، لأن المجتمع ـ أي مجتمع ـ عندما يكون مجتمعاً يفكّر ويقارن بين الأفكار، ويوازن بينها، ويختار الفكر الأحسن ليجسده في حياته، عندما يكون المجتمع كله في هذا الاتجاه، فإن من الطبيعي أن يكون مجتمعاً متقدّماً منفتحاً مثقفاً واعياً، لا يأخذ إلاّ بما يكون في المستوى الأعلى من المعرفة، والأفضل في الحياة. ولذلك كانت البشارة من الله سبحانه وتعالى لمثل هؤلاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أنْ يكون الإنسان الذي يختزن العلم في كلِّ عقله ووجدانه، ويريد للإنسان أنْ يحوّل العلم إلى حركة للحياة، قال تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ( )، وما ينفع الناس هو الذي يملك العناصر التي يمكن أنْ تعطي الحياة قوة وتميّزاً وحركة. ثم تتابع الآية الكريمة: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ الله عندما فتح عقولهم على الحقيقة، وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ أولو العقول.
وهذا هو الذي أراد الإمام(ع) الإيحاء به إلى هشام بن الحكم، ليقول له: اجعل عقلك في المستوى الذي يستطيع من خلاله أن ينتج الفكر الأفضل. وحرِّك حياتك في الاتجاه الذي تتبع فيه الفكر الأفضل، وهذه هي مسألة العقل؛ لأن قصّة العقل ليست في الفكر التجريدي الذي لا علاقة له بالحياة، كالكثيرين من الناس الذين يفكرون تجريدياً في أمور لا علاقة لها بالحياة العقيدية والعملية، وإنما تكون في مفردات ليس لها أي دور في تقدم الإنسان وتطوّره ونموّه، أي أن يكون العقل قائداً للحياة، ومن الطبيعي أن قيادة الحياة لا بد أن تكون بالفكر الذي يوجّه الحياة ويخدمها.
وسائل الهداية الإلهية:
((يا هشام: إنَّ الله تبارك وتعالى أكمل للنّاس الحجج بالعقول..))، وهنا أراد الإمام(ع) أن يبيّن في هذه الوصيَّة وسائل الهداية للإنسان، وكيف يقيم الله الحجة عليه، وما هي الآليّة التي أودعها الله تعالى في الإنسان لينتج منها ما يكون حجّةً له بين يدي الله سبحانه وتعالى. إنَّ الله تعالى خلق العقول للناس لتتحرّك، ولتصل إلى مواقع الحجَّة بين الإنسان وبين ربّه، والحجة بين الإنسان وبين الإنسان الآخر. فالعقل هو حجَّة الله سبحانه وتعالى على العباد، وهو حجَّة الله تعالى للعباد...
((.. ونصر النبيين بالبيان...)) وفي نسخة أخرى ((وأفضى إليهم بالبيان)). أمَّا النبيّون فدورهم هو أن يحملوا الرّسالة، وأن يبيّنوها للناس بكلِّ تفاصيلها. فالله تعالى يعلّمهم الكتاب والحكمة، بحيث يبيّن لهم أسرار الكتاب بكل معانيه وإيحاءاته، والحكمة بكل حركيّتها في عالم وعي الكتاب في الواقع؛ لأن الحكمة كما ورد في تعريفها: (وضع الشيء في موضعه)، ومن هنا فقد يُقال: إن الكتاب هو خط النظرية، وإن الحكمة هي خط التطبيق. فدور الأنبياء هو دور البيان، قال تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ( )، وقال تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى( )، وقال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ( )، وقال تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا الله وَكَفَى بِالله حَسِيبًا( )، وقال تعالى: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ( )، وإلى آخر ما يتحدَّث به القرآن الكريم عن البلاغة.
فالأنبياء عندما يبيّنون للناس حقائق الوحي، في كلِّ ما أراد الله سبحانه وتعالى للناس أن يفهموه وأن يعقلوه، وأن يعملوا على أساسه، فإن الأنبياء عندما يبيّنون ذلك للناس، ويدخل هذا البيان النبوي في عقولهم، وفي قلوبهم، فإنّ النبيين ينتصرون بذلك، لأنّ البيان يمثّل الوسيلة التي يريد الله للناس أن يأخذوا بها من أجل الوصول إلى حقائق العقيدة والشريعة والحياة، مما أفضى إليهم من وحي الرسالات في الكتب التي أنزلها على رسله، وفي الوصايا التي ألهمهم إيَّاها.
من العقل إلى الإيمان:
((.. ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة..))، أيّ أثبت لهم ربوبيّته في كل معاني الربوبيّة، في الخالقية والرازقيّة وما إلى ذلك.. وأثبت ذلك بالأدلّة، فالله سبحانه وتعالى عرّف الناس ربوبيّته بما قدّمه لهم من الأدلّة التي أراد للعقل أن يفكر فيها وينفتح عليها؛ لأنه تعالى تحدث في القرآن الكريم عن عناوين الأدلة في ما خلقه الله من الظواهر الكونية التي تدل على عظمته في خلقه، والتي تنفتح على كل أسرار الإبداع، وأراد للعقل أن يفكّر في ذلك، وهذا ما قدّم فيه الإمام موسى الكاظم(ع) الأمثلة والنماذج، في الأدلة التي قدّمها الله تعالى ليفكّر فيها الإنسان، فقال الإمام تالياً آيات الله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ الله مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( )))( ).
إنَّ هذه العناوين التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الكون كله، في نطاق النظام الكوني، وفي كلِّ هذه الظواهر الكونية، مما أراد الوصول إلى تعقُّلها من خلال دراسة أسرارها، ومعرفة ما تعطيه من النفع للناس، وما ركّب فيها من عناصر القدرة؛ هذه الظواهر على الإنسان أن يدرسها في عقله، فمن الطبيعي أن العقل عندما يريد دراسة كلِّ هذه الظواهر؛ عندما يتطلع إلى حركة الزمن وتنوّعه في اختلاف الليل والنهار، أو عندما يتطلع إلى السماوات بكل أفلاكها وعوالمها التي لا يزال الإنسان يزحف في جهله ليلتقي بأكثر من موقع للعلم ليتعرف عليها، وهكذا بالنسبة إلى الأرض في كل مواقع القدرة فيها، وبالنسبة إلى النظام الذي جعل الله تعالى فيه السفن تتحرك في البحر بما ينفع الناس، ونظام الأمطار التي تحيي الأرض بعد موتها، والسحاب المسخّر بين السماء والأرض... إنَّ العقل عندما يريد أن ينفتح على هذه الظواهر ويدرسها، فإن من الطبيعي أنّ هذا الانفتاح لن يكون مجرَّد نظرة تجريدية تأمّليّة، بل لابد أن يدرس المسألة على أساس التجربة لينفذ إلى التجربة التي هي مصدر من مصادر المعرفة، ليتعرّف طبيعة القوانين التي تحكم كلَّ هذه الظواهر الكونية، ليتعرّفها بالحسِّ تارةً في ما يكتشفه من أسرارها حسيّاً، أو من خلال طبيعة المعادلات التي يمكن له من خلالها أن يفهم أسرار هذه الظاهرة أو تلك.
تلازم العلم والإيمان:
أن الإيمان يمر بطريق العلم، خلافاً للذين يعتقدون أن الإنسان كلما ازداد علماً كلما ضعف إيمانه، وأن الإنسان كلما ازداد جهلاً قوي إيمانه. وعلى خلاف بعض الناس الذي يتحرّك ويتحدّث ويقول: إن إيماني هو إيمان العجائز، للتدليل على أن إيمان العجائز أكثر صفاءً. ولكن المسألة ليست كذلك، فإنه كلما ازداد الإنسان علماً كلما ازداد إيماناً؛ لأنه كلما ازداد علماً ازداد معرفةً بالله تعالى من خلال معرفته بأسرار عظمة الله سبحانه وتعالى في خلقه، وامتدادات نِعَم الله في حياته، وما إلى ذلك.. ولذلك فإنَّ الله سبحانه وتعالى ربط هذه الأمور وجعلها آيات وأدلة لقوم يعقلون ويعيشون حركية العقل في نظرتهم إلى الظواهر، وفي نفاذهم إلى أسرارها، بما يستحضر من مفردات العلم التي تعرّفه القوانين التي أودعها الله تعالى في الكون، ليعرف الإنسان من خلال ذلك أنَّ الكون لم يخلق عبثاً، فقد قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ( )، ولم ينطلق من الصدفة، بل إنه انطلق من خلال نظام دقيق يدلُّ على عظمة الله جلّ وعلا، كما يقول الشاعر:
وفي كل شيء له آية تدلُّ على أنه واحد
ويبقى لنا من الحديث الكثير في حديث الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع). ومن خلال ذلك، أحبُّ أن أشير إلى نقطة، وهي أن علينا أن نفهم أئمتنا(ع) من خلال ما تركوه لنا من تراث العلم، وألاّ نحجّمهم، لتكون مسألتنا معهم مجرد مسألة تتصل بالجانب الغيـبي، وإن كان هناك شيء من الغيب في بعض ما يأخذون به، أو في جانب المأساة. إن خطَّ الإمامة هو خطّ الإسلام الحضاري الذي نريد أن نقدمه للعالم لنقول له: إن الأئمة من أهل البيت(ع) جاءوا من أجل صنع الحضارة الروحية والعلمية للناس كافّةً في خط الإسلام الأصيل، وبذلك نستطيع أن نجعل ارتباطنا بالأئمة(ع) ارتباط فكر وعلم وروحانية، لنقرِّب الناس إليهم، ولنقرِّب عقولنا إليهم.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثامنة 27 جمادى الثانية 1425 ه - 14/8/2004م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (2)
إدراك العقل للخلق وأسرار الحياة
إذا أردت أن تعرف ربّك فافتح عقلك، واجعل عقلك ينظر بعين فكره، واجعله يكتشف الله تعالى من خلال ذلك كله، أما الذين لا يكتشفون الله تعالى، فـأولئك الذين لا يحرّكون عقولهم.
التدبير الإلهي
خلق الإنسان
سرّ الحياة
العقل العملي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
نبقى مع الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) فيما روي من وصيّته لهشام بن الحكم، والتي يستنطق فيها الكتاب والسُنّة في مسألة العقل، وكيف تحدّث القرآن الكريم عن العقل باعتباره الحجَّة التي جعلها الله سبحانه وتعالى بينه وبين عباده، كما أراد لعباده أن يجعلوه الحجة بينهم، خلافاً لكلِّ هؤلاء من المتقدّمين ومن المتأخّرين الذين ينكرون على العقل حجّيته، وينكرون على الناس الذين يرون العقل نوراً يضيء لهم العقيدة، ويفسِّر لهم منهج الحياة.
التدبير الإلهي:
يقول الإمام الكاظم(ع): ((يا هشام: قد جعل الله ذلك)) في ما بيّنه في الآية التي ذكرناها سابقاً ((دليلاً على معرفته بأنّ لهم مدبراً))، مما جعله الله من الظواهر الكونية التي أراد الله تعالى للناس أن يفكّروا فيها، وأنْ يتابعوا حقائقها، وأن يكتشفوا أسرارها، ليكون ذلك دليلاً على التدبير الإلهي للكون وللإنسان، بحيث يشعر الناس بأنهم لا يعيشون في عالمٍ لا نظام له، بل يعيشون في عالم يدبِّر الله تعالى فيه أمورهم، بما يحقِّق لهم الاستقرار والرخاء والانفتاح على خطوط الحياة، فقال يتابع الإمام(ع) وسخَّر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره.
إن الله سبحانه وتعالى يريد أنْ يقول في هذه الآية الكريمة ـ من خلال استيحاء الإمام الكاظم(ع) ـ: إن الله سبحانه وتعالى خلق نظاماً ينفتح على حاجاتكم وعلى منافعكم، ففي هذا النظام سرّ العظمة، وسرّ النعمة؛ فهو يحمل في داخله حقائق الوجود في كلِّ هذه الظواهر الكونية، وهو يمتدُّ في حياة الناس بما يحقِّق لهم المنافع، فالتسخير في قوله تعالى: وسخَّر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم يعني أنّه هيّأها لمنافعكم، ونلاحظ في هذا الجانب تكرار القرآن الكريم الحديث عن ظواهر اللّيل والنّهار والشّمس والقمر والنجوم، وذلك لأنَّ الله تعالى يريد لنا دائماً أن ننفتح على مواقع عظمته، ومواقع نعمته، من خلال ظواهر تتحرَّك معنا في مدى الزمن. والظواهر الكونية على قسمين: فهناك ظواهر كونية قد لا يملك الإنسان أن يكتشفها أو يطّلع عليها إلا بجهد، وهناك ظواهر كونية تسير مع الإنسان في مدى الزمن الذي يعيشه في يوميّاته.
فنحن نتابع اللّيل والنّهار، ونجد ما هي منافعنا في اللَّيل الذي جعله الله لباساً وراحةً للاسترخاء ولينالوا منه لذةً وشهوة، والنّهار الذي جعله الله تعالى معاشاً وحركةً ((ليتسبّبوا إلى رزقه طلباً لما فيه نيل العاجل من دنياهم، ودرك الآجل في أخراهم)) ـ كما ورد عن الإمام علي بن الحسين(ع) في دعائه في الصباح والمساء ـ، ثم نتابع حركة الليل والنهار، وكيف يولج الله سبحانه وتعالى الليل في النهار، وكيف يولج النهار في الليل، فيقصر الليل هنا لمصلحة النهار، ويقصر النهار هناك لمصلحة الليل، وقد يتوازنان في هذا المجال. فكيف امتدَّ هذا النظام من دون أن يختلف في مدى ملايين السنين؟
وهكذا بالنسبة إلى الشمس والقمر؛ فهما يعيشان معنا عندما تشرق الشمس فتصنع النهار، وفي الشمس الضياء والدفء والحياة، ولو لم تكن الشمس في هذا الكون فإنَّ الكون يتجمّد، ولو أنّ الشمس نزلت عن مستواها لما أمكن أن يكون هناك حياة ولاحترقت الأرض ومن فيها، وكذلك لو ابتعدت عن مستواها، وهكذا بالنسبة إلى القمر في تأثيراته على أكثر من وضع، وأهمّها حركة المياه والمدّ والجزر، بالإضافة إلى هذا النور البارد الذي يوحي بالكثير من البهجة والفرح والشعور بالاسترخاء، وما إلى ذلك...
والنجوم المنتشرة في الفضاء، والتي جعلها الله سبحانه وتعالى نقاط ضوء توحي للإنسان بطريقة شاعرية بأن الظلام لن يكون مطبقاً؛ فقد خلق الله سبحانه وتعالى هذه الكواكب التي هي عوالم شاسعة واسعة ممتدّة في الفضاء الكوني، والتي ربما تكون أكبر من أرضنا، ولكن في إطّلاعنا عليها وفي تمثّلنا لها، نشعر أن الله سبحانه وتعالى وزَّعها كنقاط نور في الفضاء، ليستوحي الإنسان من ذلك أن هذه النقاط تتجمَّع لتصنع الفجر بعد ذلك، حتى يشعر الإنسان بأنه ليس هناك ظلام مطبق، بل في كل ظلام أكثر من نقطة ضوء، وإذا كنّا نستوحي من هذه النجوم التي سخَّرها الله سبحانه وتعالى لنا باعتبارها جزءاً من كلِّ هذه الأكوان التي فيها أرضنا، فيمكن أن نستوحي في عالم المعنى إذا لم يكن هناك عالم المادة، عن ظلام الحياة في ما هو اليأس والأزمات في ظلام حياتنا العلمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، أنّه عندما تطبق الظُلمة فإنها لن تكون ظلمة شاملة، بل هناك نقاط ضوء ننفتح فيها على الله سبحانه وتعالى، لنرى أن الله تعالى يقول لنا: إن عليكم أن تنفتحوا على الأمل المنطلق من الله سبحانه وتعالى: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ( ).
أمّا قوله تعالى ((مسخّرات بأمره)) فيعني أنّها تسير وتتحرّك بأمر الله سبحانه، ونحن نعرف أن أمر الله سبحانه وتعالى لكلِّ هذه الظواهر في أن تمتدَّ وأنْ تصنع للحياة نظامها، ليس أمراً مباشراً، بمعنى أن الله تعالى يصدر الأوامر لليل والنهار والشمس والقمر والنجوم أن تنطلق في الكون، بل إنّه تعالى وضع لها في داخل النظام الكوني قوانين تحكم مسيرتها، ولكن بعين الله سبحانه وتعالى؛ لأن الكون كله خاضع لما قدّره الله تعالى. قال تعالى: قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا( ).
ثم يتابع الإمام(ع) قوله تعالى: ((.. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون..))، يعني أن الناس الذين يتابعون هذه الظواهر بالبحث والتفكير والاستيحاء بعقولهم من خلال الوسائل التي يستخدمها العقل، سواء كانت حسيّة أو معنوية تأملية، فإنها تدلُّ الإنسان على الله تعالى، وقوله: إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون يعني أنّك إذا أردت أن تعرف ربّك فافتح عقلك، واجعل عقلك ينظر بعين فكره، واجعله يكتشف الله تعالى من خلال ذلك كله. أما الذين لا يكتشفون الله تعالى، فهؤلاء هم الذين لا يحرّكون عقولهم.
خلق الإنسان:
ويتابع الإمام(ع) استشهاداته بما ورد في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ((...هو الّذي خلقكم من تراب))، حيث يريد الله تعالى أن يعرّفنا نفسه من خلال الاستغراق في طريقة حركة الوجود في الإنسان، أي كيف وجدنا؟ وهنا توجد نظريتان في مسألة (خلقنا من تراب).
هناك نظرية تقول: إن الإشارة بهذه الكلمة إلى خلق آدم(ع)، قال تعالى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ( ) فبدء الخلق كان من تراب، ثمّ نفخ الله فيه من روحه، فكان إنساناً، ثم بعد ذلك انطلق الإنسان في توالده وتكاثره وامتداده من نطفة.
وهناك نظرية أخرى تقول: إنّ الله سبحانه وتعالى خلقنا من تراب، لأن الله تعالى حين خلقنا فإنه خلقنا من النطفة، والنطفة تنطلق من الغذاء، والغذاء ينطلق من لحم أو من نبات، وهذا يمتد إلى التراب، فإننا عندما نأكل النباتات والخضروات، وما إلى ذلك، فإن هذه أصلها تراب، وهذا تفسير ثانٍ، والله العالم.
((..هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة))، وعلينا أن نفكِّر في هذه النطفة، وهي ليست ما يخرج من الإنسان بمجموعه، بل إن النطفة التي يولد منها الإنسان ـ حسب ما يراه أهل الخبرة، ولسنا منهم ـ هي جزء من ملايين الأجزاء في هذه النطفة التي تخرج من الإنسان، ـ وهذه النطفة تحمل من خلال قانون الوراثة ـ صفات الآباء والأجداد، ففي بعض الحالات قد تغلب صفات الأم، وفي حالات أخرى قد تغلب صفات الأب، وفي حالة ثالثة تغلب صفات الجد الثاني، وهكذا، وهذا مما اكتشفه العلماء من قانون الوراثة. ثم نلاحظ أنّ هذه النطفة لا تنتج إنساناً وحدها، ولكنها تنتج إنساناً عندما تلقّح البويضة، حيث يقول أهل الخبرة إن الكائن الحي، سواء كان إنساناً أو حيواناً، يُولد من خلية مكتملة تشتمل على (46) كروموزوماً، (23) منها من النطفة، و(23) أخرى من البويضة. فالنطفة وحدها لا تنتج إنساناً، والبويضة لا تنتج لوحدها إنساناً...
وقد قلنا عندما أُثير الجدل حول مسألة (الاستنساخ)، إنّ الاستنساخ لا يمثّل خلقاً، بحيث يتحوّل الإنسان إلى خالق، وإنما استهدى الذين اكتشفوا ذلك القانون الإلهي؛ لأن القانون الإلهي يفيد بأن الكائن الحيّ يولد من خلية حاوية على (46) كروموزوماً، وكلّ خليّة في جسم الإنسان تحتوي هذا العدد، وهم جاءوا بخلية ناضجة من الحيوان وأخذوا منها الخصائص الوراثيّة لجسم الإنسان والتي تشتمل عليها الكروموزومات، وفرَّغوا البويضة من الكروموزومات، ثمّ أدخلوا تلك الخصائص في هذه البويضة، فأصبحت البويضة معها خليّة ناضجة تبدأ معها رحلة الحياة.. وكل ما تغيّر هو الشكل فقط، ولذلك فإن قضية الاستنساخ لا تختلف عن (التلقيح الاصطناعي) إلاّ في الشكل؛ فالقانون الإلهي واحد، وهم لم يصنعوا قانوناً، فالخلق هو صنع الخالق.
على ضوء هذا كنّا نقول ـ خلافاً لأستاذنا السيِّد الخوئي رحمه الله ـ في الموقف من المسألة التي تشاع هذه الأيام، وهي أن يكون هناك زوجة لا تحمل، فيأتون ببويضة من امرأة ثانية، ويزرعونها في رحم هذه المرأة (أي الزوجة)، ويتمّ تلقيحها بنطفة الزوج فبعد تلقيحها، قد يحصل الحمل فابن من يكون الولد؟ المولود يكون ابن الزوج يقيناً؛ لأنه من نطفته، لكن هل هو ابن المرأة الحامل، أم هو ابن صاحبة البويضة؟ السيد الخوئي رحمه الله يقول: هو ابن الحامل، لأن قوله تعالى: إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ( ) يفيد ذلك، ولكننا نقول: إن هذا يسمى (حصراً إضافياً)؛ لأنه ردّ للذي يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، فيُقال ما هنَّ أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم، وإلاّ فنسبة الولد إلى البويضة وإلى النطفة على حدٍّ سواء. ولذلك نفتي، كما يفتي بعض علمائنا المعاصرين، بأن الولد ابن صاحبة البويضة وليس ابن الحامل. نعم، هناك مسألة أخرى، وهي مسألة التحريم، وهل إنَّ الولد يحرم على الحامل كما يحرم على صاحبة البويضة، من الممكن أن يستوحي أحد من أدلّة الرضاع أنها تصبح محرماً؛ لأن الرضاع إنما يوجب الحرمة، لأنّه ينبت اللحم ويشدُّ العظم، ولا إشكال في أنّ حملَ الأم للولد ينبت اللحم ويشدُّ العظم، وهذا بحث فقهي ليس مورده الآن، ولكن أحببنا أن نشير إلى هذا الموضوع.
فالإنسان عندما يدرس هذا العالم الموجود في النطفة، يعرف أن ذلك لم يوجد صدفةً، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى هو الذي أودع فيه ذلك، فجعل في النطفة سرّ النموّ، فعندما تلقّح البويضة بالنطفة، عند ذلك تنمو فتتحوّل إلى علقة، ثم إلى قطعة لحم، ثم بعد ذلك تصبح طفلاً. هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً( )، وعندما يصل الإنسان إلى دور الشباب، بحيث يأخذ القوة من خلال النمو الطبيعي الذي أودعه الله في الجسد، من خلال الأغذية وما إلى ذلك مما يحرك النموّ في جسد الإنسان ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وذلك عندما يصل الإنسان إلى الستين أو السبعين، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى ومنكم من يتوفى قبل أن يبلغ الشيخوخة، ومنكم من يمدُّ الله في عمره حسب ما حدَّده له من العمر، وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، أي استخدم عقلك في دراسة نشأة وجودك، وتطوّره في هذا الكون الإنساني الذي تنمو فيه بطريقة وأخرى.
سرّ الحياة:
وقد قال تعالى: وَمَا أَنزَلَ الله مِنْ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا( )، فمن الطبيعي أن حركة المطر تخضع لنظام كوني أودعه الله سبحانه وتعالى في الفضاء من خلال الكثير من التفاعلات والتعقيدات، وجعل أيضاً هذا المطر في قيمته أنه يحيي الأرض بعد موتها؛ لأنه هو الذي يعطي الأرض سرّ الحياة من خلال أنه أعدّها من أجل أن تستقبل البذرة، فيكون التفاعل بين البذرة وبين الأرض تماماً كما هو التفاعل بين النطفة والبويضة في هذا المجال. وربما يستوحي بعض الناس من قوله تعالى: فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا أن الأرض هي الأرض وما عليها من الحيوان والإنسان والنبات باعتبار أن الله تعالى جعل من الماء كلَّ شيء حيّ، وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ في حركة الرياح، سواءً كانت من خلال نظام حركة الرياح الذي قد يعطي ـ في بعض الحالات ـ الحياة أو قد يعطي الموت من خلال طبيعة النتائج القاسية التي يمكن أن تأتي من هنا أو هناك. آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ إذا فكّروا فيها وبحثوا، فإنهم يستطيعون أنْ يعرفوا بها الله سبحانه وتعالى.
ونقرأ أيضاً في وصيّة الإمام الكاظم(ع) استشهاده بقوله تعالى: واعلموا أنّ الله يحي الأرض بعد موتها قد بيّنا لكم الآيات لعلَّكم تعقلون( )، وفي هذا إشارة إلى أنَّ على الإنسان أن يستخدم عقله، لتكون كلُّ هذه الآيات في دراسته لها وسيلةً من وسائل تنمية عقله وتطويره، عندما يطّلع على حقائق الأشياء ويكتشف أسرارها بعمق. وهكذا نقرأ في وصيته(ع) أيضاً: وجَنّاتٌ مَنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ( ) هنا يتحدث عن النبات الذي يشتمل على بساتين، وفيها بساتين من أعناب، وزرع ونخيل، متشابه هنا وغير متشابه هناك، مع كونها تسقى بماء واحد، ومع كونها متشابهة، ولكنها في تكوّن بعض خصائصها مختلفة عن الخصائص الأخرى في الطعم والفائدة وما إلى ذلك ((ونفضِّل بعضها على بعض في الأُكل إنَّ في ذلك لآياتٍ لقوم يعقلون))، ويذكر قوله تعالى: ومِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفَاً وَطَمَعَاً، لأنه قد يأتي بالصواعق من خلال البرق، وقد يأتي المطر من خلال البرق، وَيُنَزِّلُ مَنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون( ). إنَّ الإمام الكاظم(ع) في وصيّته يريد أن يؤكّد في هذه الظواهر الكونية التي ترافق الإنسان، إمّا يوميّاً أو في حركة الفصول، أن يعرف الإنسان ربه من خلال ذلك، وعلى هذا الأساس نعرف أن العقل هو الوسيلة لمعرفة الله سبحانه وتعالى.
العقل العملي:
ثم يبدأ الإمام(ع) في الحديث عن مسألة (السلوك من خلال العقل العملي)، كيف أنَّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يقدّم للإنسان بعض الوصايا وبعض التعاليم التي يمكن لها أن تجعل العقل منفتحاً على ما يحقِّق للإنسان التوازن والاستقامة في نفسه وفي ما يعتقده، وفي علاقاته بالآخرين من الأقربين والأبعدين. ((قال: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ( )))، فالمحرَّمات تمثِّل خطوطاً لحركة الإنسان في الحياة، بحيث تجعل الإنسان الذي يبتعد عنها مستقيماً ومتوازناً في حياته، ألاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئَاً فالله تعالى فطرنا على التوحيد، وجعل التوحيد في عمق شخصية الإنسان، بحيث إنه إذا انفتح على الفطرة أدرك وحدانية الله سبحانه وتعالى. وبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً فعليك أيّها الإنسان أن لا تهمل الإحسان للوالدين، ونحن نعرف أن مسألة (الإحسان للوالدين) تتّصل بإحساس الإنسان لقيمة الرعاية الوالدية له في حياته، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة، قال تعالى: وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا( )، بحيث يستذكر الإنسان جهد والديه في كلِّ معاناتهم الوالدية، ليكون هذا الاستذكار وسيلةً لإحساسه بأنّ عليه أن يبذل جهداً في الإحسان إليهما، كما بذلا جهداً في الإحسان إليه، على أساس: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاّ الإِحْسَان( ). وقد ذكرنا أكثر من مرة أنَّ المطلوب في الإسلام ليس هو طاعة الوالدين؛ لأن الوالدين ربما لا يكونان في مستوى تقديم التعليمات أو الأوامر التي تصلح وضع الولد، وقد ينطلق الوالدان من حالة شخصية وذاتية، مثل: لا تتزوَّج فلانة، أو لا تتزوَّجي فلاناً، أو لا تتخصَّص في الآداب، أو احترف التجارة، أو عليك أن تكون كذا، وما إلى ذلك… وهنا لا يجب على الولد أن يطيع والديه، ولكن عليه أن يحسن إليهما، حتى إنه لو أمره والده بالإشراك بالله تعالى، فعليه أن يفعل كما في قوله تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا( ). فالمطلوب هو الإحسان إلى الوالدين، وليس الطاعة، وهذا هو الرأي الذي نفتي به ويفتي به أستاذنا الخوئي رحمه الله.
وِلا تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ وقد يكون قتل الولد في شكل مباشر أو في شكل غير مباشر؛ إذ من الممكن جداً أن يكون عند الإنسان أولاد كثيرون، ومع ذلك تحمل زوجته، فيجهض الولد، لأن أوضاعه المادية لا تتحمَّل، وربما تكون في شكل مباشر، فبعض الناس عندما يتعرض لمشكلة اقتصادية يقتل ولده الذي عنده، فالله تعالى يقول: لماذا تقتل ولدك إذا كنت فقيراً؟ فلست أنت الذي ترزقه، بل الله هو الذي يرزقه، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُم فكما أن الله تعالى هو الذي هيّأ لك أسباب الرزق عندما ولدت، كذلك الله تعالى يهيئ لهذا الولد أسباب الرزق. وهذا يعني أنه لا يجوز للإنسان أن يقتل الحياة تحت أي اعتبار، ولذلك لا يجوز للمرأة أن تجهض حملها حتى لو كان ذلك في اليوم الأول من الحمل، لأن بعض الناس يعتقدون أنه يجوز لهم الإجهاض إذا كان الحمل في أوله. نعم، إذا وصل الأمر إلى ضرر بالغ قريب من الخطر، أو بعد نفخ الروح إذا وصل إلى الخطر المحقّق، بحيث تموت هي أو الولد، فهنا توجد فتوى لبعض العلماء، ومنهم السيد الخوئي رحمه الله، ونحن نوافقه الرأي، بأنه يجوز الإجهاض. وهناك بعض الناس يقول أنا لا أستطيع أن أربّي أربعة أولاد، وهذا ولد جديد رزقنا به من دون قصد، ويصعب علينا تربيته، ويصعب علينا تعليمه، فهذا ليس عذراً، لأن هذه النطفة بدأت رحلة الحياة، ولا يجوز لنا بعد استقرارها في الرحم إسقاطها.
ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، سواءً كانت معلنة، أو غير معلنة، ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلاّ بالحق، فالحياة محترمة عند الله سبحانه وتعالى، إلاّ بالحقّ، مثل القصاص ومثل الدفاع عن النفس، ومثل حالة الجهاد، وما إلى ذلك، ذلكم وصَّاكم به لعلكم تعقلون( ).( )
ونفهم من هذا: أن هذه البرامج السلوكية التي أرادنا الله سبحانه وتعالى أن نأخذ بها، وأنْ نتجنَّب الجانب السلبي منها، تمثِّل حركة العقل في الجانب العملي من حياة الإنسان، أي العقل يقول لك: إذا ارتكبت المحرّمات، فإنك سوف تواجه الكثير من المفاسد ومن المضارّ، وعليك أن تمتنع عن ذلك، لأنَّ العقل الذي يميّز بين الحسن والقبيح يقول لك: إنَّ عدم ارتكاب ما حرَّم الله من أجل ما يترتب عليه من مفاسد ومضارّ، يمثل الخطّ الحسن، وأما ارتكابه فهو الخط القبيح، والعقل يقول لك: إنَّ عليك أن تأخذ بالحسن وتترك القبيح.
ونبقى مع الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) في حديث آخر.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة التاسعة 5 رجب 1425 ه - 21/8/2004م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (3)
الاستدلال العقيدي وارتباط العقل بالعلم
العقل هو الذي يؤصّل العقيدة، كما يمتدّ بالحياة ليركّز فيها للإنسان ما يحصّنه
الأسلوب الطبيعي
الترغيب الإلهي
دنيا اللعب ودنيا التقوى
العقل والعلم
الذين يجمّدون عقولهم
القلّة والكثرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الأسلوب الطبيعي:
لا نزال في الحديث حول الرواية المرويّة عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، في وصيّته لهشام بن الحكم، وتأكيده أنَّ الله سبحانه وتعالى استدلَّ في كتابه على العقيدة بما قدَّمه من الحجج للعقل، وأن على الإنسان أن يؤكّد عقيدته في أصولها من خلال العقل، ابتداء من وجود الله سبحانه وتعالى، مروراً بالنبوّة، وانتهاءً باليوم الآخر؛ لأنّ العقل هو الذي يؤصّل العقيدة، كما يمتدّ بالحياة ليركّز فيها للإنسان ما يحّصنه.
وبقي لنا مما ذكره الإمام الكاظم(ع) قوله تعالى: هَلْ لَكُمْ ممّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( ). فالله سبحانه وتعالى يريد أن يقرِّب للنَّاس فكرة التوحيد، من خلال ما يعيشونه في حياتهم الخاصة، في ما يلتزمونه مما يعتبرونه حقيقةً أو غير حقيقة، ولمّا كان الكثيرون ممن عاصروا النبي(ص) من قريش وغيرها على عقيدة الشرك بالله سبحانه من خلال عبادتهم للأصنام، فقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يوجّههم ـ من خلال الآية الكريمة ـ لأن يدخلوا في مقارنة بين مفهومهم لله في إيمانهم به، وبين الواقع الذي يتحرّكون فيه في حياتهم السّاذجة، لأنّ المشركين كانوا في زمن النبوّة الأوَّل لا ينكرون وجود الله، فكانوا يقولون في عبادتهم للأصنام: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى( )، فقد كانوا يعتقدون بوجود الله، ولذلك كانوا يكتبون في وثائقهم: (باسمك اللهم)، ولكنهم كانوا يعتقدون أنهم يتقرّبون إلى الله بعبادتهم للأصنام، وذلك حسب الخلفيات الخرافية التي ورثوها عن آبائهم بأنّ لتلك الأصنام أسراراً تجعلها في مواقع القرب من الله.
لذلك يوجّه الله سبحانه وتعالى سؤالاً للمشركين من خلال تلك الآية الكريمة، مفاده أنه هل يمكنهم أن يجعلوا لأنفسهم شركاء في ما رزقهم الله في ما لا علاقة لهم كلياً به، بل كان الرزق هو جهدهم الذي رزقهم الله إياه بالوسائل التي ينـزل فيها الرزق على عباده؟! تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ بحيث تعيشون الخوف منهم من خلال الهيمنة المتمثّلة فيهم في مواقع القوّة التي لا أساس لها في ذاتيّاتهم، وهذا أمر لا تقبله الفطرة الإنسانية، ولا يقبله المشركون على أنفسهم، فكيف يقارنون بين تلك الأصنام وبين الله سبحانه الذي خلق هذه الأصنام من خلال خلق كلّ العناصر الداخلة في صناعتها، وكيف يعتقدون أنّها في موقع الشركاء لله؟ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، فالله سبحانه يقدِّم الفكرة التي يتداولها الناس في أعرافهم الاجتماعية، وفي آفاقهم الفكرية، لينتقلوا منها إلى حقائق العقيدة. وبهذا يؤكد القرآن الكريم فكرة التوحيد بالأسلوب الطبيعي الذي يريد للإنسان أن يلتزم فكره من خلاله. ونفهم من ذلك أن الله سبحانه عندما يوضّح الآيات ويفصِّلها ويبيّنها للناس، فعليهم أن يستوحوها من خلال تسليط العقل بنوره عليها، لينقلهم من هذا النموذج من الأفكار الخاطئة إلى الفكرة الصحيحة عقلاً.
الترغيب الإلهي:
ثم ينطلق الإمام الكاظم(ع) مع هشام إلى جانب الوعظ من خلال استنطاق العقل، فيقول(ع): ((يا هشام، ثم وعظ الله أهل العقل ورغّبهم في الآخرة)) بالمقارنة بين الدنيا والآخرة، ((فقال: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ( ). فعلى الإنسان أن يدرس الحياة في طبيعتها، ليرى أن الناس بجميع أصنافهم حينما يتحركون فيها، يجدون أن هذه الدنيا تمثِّل المفردات التي تشغل الإنسان عن الحقيقة، ويجد في حركة الإنسان اللعب، واللعب يتنوّع، ومنه ما فيه فائدة أو هدف، واللعب لا يمثِّل امتداداً في معنى الاستمرار والخلود، بل هو يعبِّر عن لحظات يعيشها الإنسان، وعن حركات ينفتح عليها، ثم ينتهي هذا اللعب ويزول من خلال زوال العناصر التي تتمثّل في طبيعة هذه الأشياء التي لا دوام لها ولا امتداد، حيث تغيب في لحظات الزمن. ونحن نجد بعض التعابير التي يستخدمها الناس في حياتهم، كاللعبة السياسيّة والاقتصاديّة وغير ذلك، ما قد يشير إلى جوّ المحدوديّة وعدم الخلود بشكل وبآخر... وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، حيث يجعل الله سبحانه وتعالى في مقابل الحياة الدنيا في جوانبها المادية ومظاهرها اللغْوية اللّعِبِيّة، الدار الآخرة للذين يتقون.
وهنا تحاول هذه الآية أن تؤكّد أنّ على الإنسان حينما يعيش في هذه الدنيا ويريد الآخرة، فإنّ عليه أنْ يحاول التحرّك في التزاماته بما يرضي الله سبحانه وتعالى، على هدى الآية التي حدَّثنا عنها في خطاب قوم قارون لقارون بقولهم له: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ الله الدَّارَ الآخِرَةَ( )، أيْ اجعل الدار الآخرة هدفك وبرنامجك وأفقك في كل ما تتحرك به في الدنيا من مالٍ أو طاقة أو ما إلى ذلك.. وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. فالمراد من الحياة الدّنيا هو السلوك الذي نسلكه لإخضاع عمرنا للّعب واللّهو، الذي لا يؤدي إلى نتيجة توصلنا إلى الدار الآخرة في نتائجها، من رضوان الله سبحانه وتعالى ونعيم الجنة وما إلى ذلك...
دنيا اللعب ودنيا التقوى:
إنّ الدنيا على قسمين: 1ـ دنيا اللعب واللهو، حيث تموت وتزول هذه الصور اللاعبة واللاهية، 2ـ دنيا التقوى، وهي التي تبقى، وتجعل الدار الآخرة للإنسان بكلِّ ما تشتمل عليه من نعيم وخلود. أَفَلا تَعْقِلُونَ وذلك أن يحاول الإنسان تحكيم عقله في ما يبقى أو يفنى، ومن الطبيعي أنَّ العقل لابد أن يفضّل حياة التقوى على دنيا اللعب واللهو.
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وزينتها، والمتاع هو الشيء الذي يتمتَّع به الإنسان ثم يزول، وَمَا عِنْدَ الله خَيْرٌ وأبقى أَفَلا تَعْقِلُونَ فالعاقل هو الذي يرتبط بما هو أبقى. هذه هي الموعظة التي وعظ الله بها الناس وأراد لهم من خلالها أن يستعملوا عقولهم، والذين لا يعقلون هم الذين يتحركون من خلال نزواتهم وشهواتهم، ولا يتحركون من خلال عقولهم، فهم يتحسّسون الشهوة ويركضون إليها دون أنْ يفكّروا في نتائجها السلبية، بل يفكّرون في وقت اللّذة حتى لو كانت تلك اللّذة كالسمّ في العسل كما هو مثل قوم (لوط) الذين كانوا يأتون الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ( ) وكانوا يقطعون الطريق على الناس ليسلكوا هذا المسلك المشين، فعاقبهم الله. يقول الإمام الكاظم(ع) في ذلك: ((يا هشام، ثمّ خوّف الذين لا يعقلون عقابه، فقال تعالى: ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وبالليل أفلا تعقلون( )))، يعني يا أهل مكة، عندما تذهبون إلى الشام، ففي الطريق ـ هناك ـ ترون تلك القرية المفسدة التي دمَّرها الله وعاقب أهلها على فعلهم الشنيع، لتعتبروا وتحذروا عقوبة الله إذا فعلتم فعلتهم ((وقال: إِنَّا مُنـزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ( )))، بأي طريقة من الطرق ((وقال: وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( ))) ليتعرَّف الناس عليهم من آثارهم وليأخذوا العبرة مما حصل لأولئك الفسقة ليتجنّبوا الأعمال التي تؤدّي بهم إلى مثل تلك النتائج.
العقل والعلم:
ثم يتابع الإمام الكاظم(ع) مع هشام ـ حسب الرواية ـ قوله: ((يا هشام، إن العقل مع العلم))، لأنّ العقل يمثِّل الطاقة الحركية التي تستوحي العلم، سواء كان علماً من خلال حالة التأمل أو من خلال التجربة. فمن الطبيعي جداً أن العلم الذي يختزنه العقل سوف ينمّي ويكبّر طاقة العقل ويجعلها منتجةً أكثر، بحيث تفهم الحقائق بدرجة أكبر، لذلك فكلما ازداد الإنسان علماً ازداد عقلاً؛ لأنه يتحرك من خلال الطاقة الطبيعية للعقل، ومن خلال ما حصل عليه من العلم الذي انفتح عليه العقلاء الآخرون، وكما في الحديث الشريف: ((من شاور الرجال شاركها في عقولها))، أي أن يتنامى العقل في ما يملكه من علم هنا، وفي ما يملكه الآخرون من علم هناك.
الذين يجمّدون عقولهم:
((يا هشام، إن العقل مع العلم)) ولعلّ هذه الفكرة تُستفاد أيضاً من القرآن الكريم، ((فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ( )))، وكما نعرف أنّ ضرب الأمثال هو أسلوب موجود في كلِّ الحضارات ولدى كل الشعوب، فالإنسان عندما يريد تقديم فكرة ما، فإنه يحاول أنْ يقدّمها تارةً من خلال مناقشة تلك الفكرة وتوضيحها، أو من خلال مَثَلٍ ما مشابه لها، من خلال المحسوس، لينتقل منه إلى المعقول، فالمثل عن الحق والباطل كما في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ الله الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ( ). فهذا مثل للحق والباطل، فأعطى المسألة في نطاق المحسوس للإنسان ليستوحي منه المعقول؛ فالحق مثل الشجرة الطيبة أصله ثابت كأصلها، وهو يثمر بركةً للحياة كما تعطي الشجرة ثمارها، بينما مثل الباطل كالشجرة الخبيثة التي لا عمق لها في الأرض، لذلك فإنّ أيّة ريح يمكن أن تهزّها، بينما الشجرة الطيبة تقف بصلابة أمام الرياح. كذلك الحق والباطل، فالحق يمثل عمق الثبات في الحياة وعمق الحقيقة، بينما الباطل لا يمثل شيئاًفَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ( ).
وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ فإنَّ الإنسان العاقل هو الذي يستطيع الاستفادة من تلك الأمثال، سواء فيها كانت تلك الأمثال التي ضربها الله للإنسان، أو تلك الأمثال الشعبية المتداولة بين الناس، ليستوحي الإنسان الفكرة الإيجابية منها. ولذلك يحتاج العالمون أن يعقلوا الأمثال، ويفكروا فيها للاستفادة وللعبرة.
((يا هشام، ثم ذمّ الذين لا يعقلون)) من النَّاس الذين لا يملكون الوعي والثقافة والعقل، فلو حرّكوه لحصلوا من خلاله على حقائق الأشياء، ولكنَّها لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ( ). فمن بين نماذج الناس غير العاقلين هؤلاء الذين يقلِّدون آباءهم إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ( )، فيتّبعون آباءهم في ما اعتقدوه، ويقلّدونهم في ما اعتادوه من دون تفكير، فترى الكثير من الناس في العشائر القبلية يسيرون وفق سُنن ما لدى الآباء، ويقولون هذه عاداتنا وتقاليدنا، فالقرآن الكريم يذكرهم وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ الله( )، أي أتّبعوا كلَّ ما أنزله الله في كلِّ ما تمثّله العقيدة وحركة الشريعة وكلّ ما يرتفع بمستوى الإنسان في كل قضايا الحياة؛ لأنّه يمثّل الحقيقة الناصعة الصافية النازلة من وحي الله خالق الأشياء والعالم بكلّ خصائصها وعناصرها، والله تحدّث عن نفسه بقوله: ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبير( )، وعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُها إلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما في البَرِّ وَالبَحْرِ وما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُها ولا حبّةٍ في ظُلُماتِ الأَرْضِ ولا رَطبٍ ولاَ يابِسٍ إلا في كِتابٍ مُبين( )، فهو المصدر الأساس للحقيقة ولا مصدر غيره إلا من خلاله... قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا فهم يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم، أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ، فقد يكون آباؤهم قد عاشوا الأميّة في الفكر والعلم والقراءة والكتابة، وأميّة العادات والتقاليد، وهم لا يملكون الثقافة التي تميّز بين الحسن والقبيح، بل ربما يتحرَّكون بما يضرّهم ولا ينفعهم؛ لأنّهم لم يتعلّموا من مصادر العلم التي تنير لهم الفكر وتخطّط لهم الطريق المستقيم وتبلغ بهم الرشد ووسائل الهداية، فكيف يتّبعونهم بحسب ميزان العقل الذي لا يرضى لهم بذلك؟ فإن العاقل هو الذي يحاول أن يقتنع بما يمثِّل الحق أو يمثِّل الشيء النافع، ولا يرمي نفسه في ما قد يهلكه عاجلاً أو آجلاً.
((وقال: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً( )))، يعني مثلهم كمثل الذي لا يسمع إلاّ الضجيج، ((صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ))... فقد أغلقوا أسماعهم عن الحقيقة، وأغلقوا أفواههم عن الحق، وأغلقوا أعينهم عن الطريق الذي يؤدِّي بهم إلى النجاة، فهم لا يعقلون؛ لأنّ الإنسان العاقل هو الذي يستعين بتلك الحواس لتمكّنه من فهم الحقيقة، ومعرفة الأمور الصحيحة بما يسأل عنه الآخرين، أو بما ينظر إليه ويبصره بمعرفة ما في آفاق الكون. وقد كان بعض الناس يأتون إلى النبي(ص) ويستمعون إليه، ولكنهم لا يركّزون أسماعهم في ما يتكلم به النبي(ص)، وفي ما يعظهم ويوصيهم به، وقد خاطبه الله سبحانه: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ( ) لأنَّ الإنسان الذي يملك حاسَّة السمع دون أن يفتح سمعه للاستفادة مما يسمعه من الآخرين، فإنه لن يستفيد شيئاً، وقد عبّر عنهم الله في كتابه العزيز بقوله: وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا( )، لأنّ الذي يدخل آذانهم إنّما هو صوت الكلام من دون أن يميّزوا ذلك الكلام المسموع ويستفيدوا منه بما يمكن أن يزيدهم علماً وثقافة. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً( )، فالأنعام لا تعي ما حولها إلاّ من خلال الجانب الغريزي الذي أودعه الله إياها حينما خلقها، والذين يملكون العقل ولا يستفيدون منه هم أضلّ من الأنعام؛ لأنّها لا تملك من طاقة الفكر المتحرّك ما يملكونه.
ويتحدَّث الله سبحانه وتعالى عن مُلك اليهود حينما كان في المدينة كما ذكرت الآية: لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ( ) لأنهم كانوا جبناء كما هم اليوم يحتمون بالجدار العازل من الحجارة الفلسطينية أو من الاستشهاديّين الذي يفجّرون العدوّ بأجسادهم بكلّ شجاعة وقوّة الإرادة والموقف، يعني أن اليهود حينما يدخلون في حرب مع المسلمين، فإنهم لا يقاتلونهم وجهاً لوجه، بل يتخفّون وراء الجدران أو في قرى محصنة، كما هو الحال اليوم، باستعمالهم الأسلحة الحديثة من الطائرات والقنابل والمستوطنات، بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ فبالإضافة إلى جُبنهم، فإنهم يقاتلون بعضهم بعضاً، والبأس كناية عن الحرب، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، فإن قلوبهم وعقولهم مشتّتة، لا يجمعها جامع، حتى في ما يظهر من اتحادهم في الدين أو التجمع في مستوطنات، فإنه اتحاد شكلي، فكل منهم يسير في اتجاه مختلف عن اتجاه الآخر، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ فالعاقلون هم الذين يأخذون بأسباب القوة من الله سبحانه وتعالى ليدافعوا عن أنفسهم، والذين يأخذون بأسباب الوحدة والاتّحاد والانفتاح بعضهم على بعض من خلال وحدة الفكر والمصير.
القلّة والكثرة:
ثم يقول(ع) لهشام: ((وإنْ تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله قُلْ الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ( )، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله قُلْ الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ( )))، فالقرآن حينما تحدَّث عن الكثرة لم يقصد أنّ الكثرة تعادل الباطل، ولكنّه سبحانه وتعالى أراد أن يقول إنَّ الكثرة لا تمثِّل الحق دائماً، والكثير من الناس كما يقولون (حَشْرٌ مع الناس عيد) فنجد في حركة الناس في قضية الإيمان والكفر أن الكثرة مع الكفر والباطل وليست مع الحق. ولذلك لابد للإنسان لمعرفة الحقيقة أن يدرس المسألة بحسب عناصرها الفكرية، ليحكم بأنها تمثل الحق هنا أو تمثل الباطل هناك، فلا يعتمد على الكثرة أو الأغلبية، بل يعتمد على الدراسة الموضوعية العقلائية للأشياء التي يأخذها تارةً أو يتركها تارةً أخرى.
وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ( )، ويبيّن الله تعالى أن الذين يكونون في خطِّ الإيمان والشكر لله هم قلَّة من الناس، وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي الله( )، فكان مؤمن واحد من قوم فرعون يكتم إيمانه ويواجه الكثرة من الناس الضالين، وكذلك في قصة (لوط) أو (نوح) ويقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ( ) فالأكثرية كانوا ضد خط الإيمان، وكان المؤمنون ـ دائماً ـ هم الأقلية الصامدة بوجه الأكثرية المفسدة.
لذلك علينا أن لا نعتبر بالأكثرية، قال تعالى: وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ( )))( )، وكذلك فالقلة أو الكثرة لا يمكن الاعتبار بهما إلا بعد أن يدرس الإنسان الأمور في عناصرها الذاتية من الناحية الفكرية لمعرفة الحق من الباطل، وقد ورد عن الإمام علي(ع): ((لا يعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله))( ).
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة العاشرة 12 رجب 1425 ه - 28/8/2004م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (4)
العقلاء هم الطليعة الإنسانية
العقل هو الذي يقود الإنسان إلى أن ينفتح على الحياة بالطريقة التي تؤصّل إنسانيته، وتعطيه السلامة في الدنيا والآخرة.
الطليعة الإنسانية
الذاكرون المتذكرون
الدليل إلى الحق
التواضع للحق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا نزال مع وصيَّة الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم، كما رُويت في كتابي (تحف العقول) و(الكافي)، وقد تحدّثنا في ما سبق عن استنطاق الإمام الكاظم(ع) لآيات القرآن الكريم التي تؤكد حجية العقل، وأنَّ العقل هو المرجع للناس، وأنّ عليهم أن يستنطقوه في العقيدة، وفي كل حركة الحياة في المنهج وفي الوسائل والأهداف.
الطليعة الإنسانية:
يقول الإمام الكاظم(ع) مستعرضاً بعض الآيات التي تتحدث عن (أولي الألباب)، الذين هم أولو العقول، باعتبار أن (اللّب) يمثل خلاصة الشيء في عناصره الحقيقيّة، والعقل يمثل العمق في كل ما يتصل بالحياة، لذلك فإنَّ العقل هو الذي يقود الإنسان إلى أن ينفتح على الحياة بالطريقة التي تؤصِّل إنسانيته وتعطيه السلامة في الدنيا والآخرة، من خلال تخطيطه للحركة على أساس التوازن في علاقة الأشياء بعضها ببعض في تحقيق الأهداف الكبرى للإنسان.
فيقول الإمام(ع): ((يا هشام، إن الله ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر وحلاّهم بأحسن الحلية))، باعتبار أنهم يمثِّلون الطليعة الإنسانية ويمتلكون الطاقة لبناء الحياة على أسس سليمة، ((فقال: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُو الأَلْبَابِ( )))، بحيث تبدأ الآية بالحكمة التي وهبها الله للإنسان، والحكمة تمثّل خطّ التوازن، ومعناها وضع الشيء في موضعه، فلا ينحرف فيه أي جانب في طبيعة وجود الشيء. وإذا كان بعض المفسِّرين يفسر الحكمة بالعلم، أو بالقرآن، فإنه تفسير بما يعطي الحكمة كما سنقرأ في بعض الآيات، باعتبار أن القرآن يخطط للإنسان، فيجعله يعيش ثقافة الاستقامة. والحكمة هي الطاقة التي أودعها الله في الإنسان المؤمن التي تجعله يستنطق عقله، ليتحرّك في كلِّ أموره، سواء كانت خاصّة أو عامّة، في حياته الفردية أو الاجتماعية، في حالة التماسك وخط التوازن، فلا ينحرف يميناً ولا شمالاً، وإنما يسير على خطٍ مستقيم. وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُو الأَلْبَابِ، يعني أن الذين يملكون العقل هم الذين يبتعدون عن الغفلة والعمى؛ لأنّ العقل يضيء للإنسان طريقه، ويفتح للإنسان آفاقه.
الذاكرون المتذكرون:
وعلى ضوء ذلك، فإنَّ صاحب العقل لابد أن يكون إنساناً متذكراً لكل ما يحيط به ويتحمَّل مسؤوليته، ولكل ما يتحرك به في ساحة الصراع، لذلك لا بد لمن يملك العقل أن يكون ذاكراً دائماً، واعياً للأمور ومدركاً لطبيعة الأوضاع المحيطة بالحياة والإنسان، ولا يعيش الغفلة واللامبالاة، وعلى هذا فإن الغافلين هم الذين حجبوا عقولهم بما يحيط بهم من شهوات، ((وقال سبحانه وتعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُو الأَلْبَابِ( ))). فالقرآن الكريم يتحدّث عن الراسخين في العلم، وهم الذين ثبتوا وتمكنوا من العلم وتعمّقوا فيه، وانفتحوا على كل خطوطه ومفرداته، بحيث أصبحوا يملكون الوضوح في كل ما يمنحهم العلم من الوضوح في الواقع المحيط بهم، وهكذا استطاعوا من خلال هذا العلم الراسخ الذي تعمَّقوا فيه، أن يعرفوا من القرآن الكريم ما هو المُحكم والمتشابه، وأنْ يرجعوا المتشابه إلى المحكم، بحيث لا يشعرون بأيِّ اختلاف في القرآن من خلال متشابهاته التي قد يستغلّها الناس ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ( ).
يبقى أن نشير هنا ـ تعليقاً على قوله تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُو الأَلْبَابِـ إلى أنّ التذكّر في القرآن لا يقتصر على ما يقابل النسيان، بل إن مسألة التذكّر في القرآن تعطي معنى الوضوح والوعي للأشياء، وهي التي فقدها الغافلون في أمورهم، وما إلى ذلك.
واستشهد الإمام الكاظم(ع) لهشام بالآية الكريمة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ( )، حيث ينظر الإنسان إلى هذه الظواهر الكونية التي لابد للإنسان أن يبحث فيها بما يملك من وسائل عن أسرارها ومداراتها وأفلاكها وكل ما تختزنه، ثم يقول سبحانه إن هذه الآيات والظواهر الكونية تدلُّ على معرفة وجود الله، وتلك هي نظرة أولي الألباب الذين لا ينظرون إلى الكون نظرة سطحية ونظرة إلهاءٍ، وإنما يدرسون كل تلك الظواهر الكونية دراسةً ينفتح عليها العقل في حالة تأمُّل بقدرة الله سبحانه، ولما ينتهي إليه الفكر في حالة بحثٍ عمّا ينطلق فيه من التجربة، لأن المعرفة تنطلق من دائرتين، هما دائرة التجربة هنا ودائرة التأمّل هناك. وبتعبير آخر، يريد الله سبحانه وتعالى أن يبيّن بأن أولي العقول هم الذين يستطيعون أن يأخذوا من دراسة هذه الظواهر الكونية أساساً لمعرفة الله سبحانه في مواقع عظمته ونعمته، وأنّ الذين لا يعرفون عظمة الله وقدرته سبحانه فهم الذين لا يستعملون عقولهم ويفتقرون إلى التجربة التي تتحرك هنا وهناك، لتكتشف ما في عمق الظواهر الكونية من أسرار هنا وهناك.
((وقال: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ))( )، حيث يبيّن أن الفرق بين الإنسان المؤمن بما أنزله الله على رسوله من الوحي، وبين من لا يؤمن بذلك، أنّ الإنسان المؤمن بالحق هو البصير؛ لأنه يملك البصيرة بعقله والبصيرة بإحساسه وبتجربته التي يستطيع من خلالها أن يبصر حقائق الأمور التي تؤكّد له الحقيقة في ما أنزله الله من الوحي، من خلال دراسة عميقة للوحي تعرّفه أنه لا يمكن أن يكون هذا الوحي صادراً من بشر، بل هو صادر من الله.
أمّا الإنسان الذي لا يؤمن بما أنزله الله من الحق فهو أعمى؛ لأنه وإن كان يملك ما يستطيع فيه أن يبصر الأمور الخارجيّة من المحسوسات، ولكنه لا يملك ما يبصر به حقائق الأمور، كما تحدث الله سبحانه وتعالى عنه وعن أمثاله بقوله: وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا( )، لأنهم قد جمّدوا ما لديهم من البصر والبصيرة عن حركة الوعي والبحث. إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ لأنهم هم الذين يعيشون الوعي لحقائق الأشياء، ما يجعلهم ينفذون ببصيرتهم إلى حقائق الأشياء.
((وقال سبحانه وتعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ))( )، والقنوت هو الطاعة لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يُفرِّق بين الإنسان الذي لا يعيش الإيمان لله بل يعيش في الظلمات، ولا يبصر النور الإلهي، وبين الإنسان الذي يعيش الإيمان لله سبحانه وتعالى ويجسِّد هذا الإيمان عملياً بعبادة الله والخضوع والتسليم له، وذلك ما يوحي به السجود الذي يمثل غاية الخضوع لله، والقيام الذي يمثل حالة الإنسان للاستعداد لله والاستعداد للآخرة، وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ فينفتح على رحمة الله سبحانه وتعالى، لا كمن يتمرّد على الله وينسى ذكره ويبتعد عن عبادته والخضوع له ولا ينفتح على فيوضات الرحمة في مواقع القرب من الله.
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، فالمسألة في القرآن الكريم بالنسبة لقضية الانحراف والاستقامة هي قضية علمية، فالناس الذين يملكون العلم هم الذين ينطلقون بعلمهم إلى حقيقة الألوهية المطلقة وحقيقة المسؤولية التي لا بد للإنسان أن يتحمَّلها أمام الله سبحانه وتعالى في عبادته له وتوحيده وطاعته ومحبته سبحانه. أما الذين لا يعلمون، فإنهم يتخبّطون في الظلمات، باعتبار أنهم لا يبصرون النور الإلهي الذي يُشرِق في عقل الإنسان الملتزم بالإيمان والعلم الذي يضيء له الطريق الفكري والعملي إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ( ).
الدليل إلى الحق:
((وقال سبحانه وتعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ))( )، وهنا أيضاً يبيِّن الله سبحانه وتعالى أنَّ القرآن الذي أنزله على الناس لابد لهم أن يتدبّروا آياته ويعوها وينفتحوا من خلالها على كل الواقع الذي يعيشون فيه، وعلى كل المستقبل الذي يتطلّعون إليه، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا( )، وقال سبحانه وتعالى في آية أخرى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا( )، وما إلى ذلك من الآيات التي يريد الله سبحانه وتعالى للناس أنْ يحصلوا من خلال هذا القرآن المنـزل على العلم الذي أفاضه الله سبحانه وتعالى في آياته، ولذلك فإن دور القرآن الكريم هو تثقيف العقل في ما لم يستطع العقل أنْ يصل إليه، سواء كان ذلك من خلال عوالم الغيب التي يحدثنا القرآن عنها، أو من خلال الشرائع.
وعلى ضوء هذا، نفهم أنَّ على الإنسان المسلم أن يقرأ القرآن قراءة تفقّه وتدبّر، ليثقِّف عقله وإحساسه في كلِّ منطقة الوعي الداخلي، وأن يتحرّك القرآن في حياته.
((وقال وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدًى وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ( )))، وهذا ما يؤكد أيضاً أن التوراة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على النبي موسى(ع) إنما أنزلها ليهتدي الناس بها وليحصلوا من خلالها على الوعي، وكذلك الإنجيل ، وهذا ما يؤكّد أنّ كل كتب الله سبحانه وتعالى المنـزلة للناس هي من أجل تثقيفهم، وليتكامل العقل مع الوحي الإلهي الذي يعطي العقل ما لم يستطع الوصول إليه، وليحرّك العقل في ما أوكل إليه من الانفتاح على الحقائق التي يملك الوسائل إليها، كما إنه يدخل إلى وعي الإنسان ليميّز بين الحق والباطل، وبين الحسن والقبيح، وبين النافع والضار، وبين الخير والشر.
((وقال الله سبحانه وتعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ( )))، والتذكير هو عبارة عن الوسائل التي تعطي الإنسان الوعي في كل أموره لينتفع المؤمنون بها، ويكونوا في حالة وعي دائم تجاه مسؤولياتهم وواقعهم في الحياة، كما ينفتح على كلِّ جوانب المعرفة.
ثم يتابع الإمام موسى الكاظم(ع) في وصيته لهشام، قوله ((يا هشام، إن الله تعالى يقول في كتابه: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب والمراد ب(القلب) العقل))، لأن كلمة (القلب) تطلق على هذا العضو الذي يعطي الإنسان الطاقة لإدامة الحياة، كذلك القلب يمثل العقل كما في قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا( )، ومعنى القلوب هنا هو العقول، فالله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ( )، يعني أن الذي يملك العقل، يملك الذكرى التي تمثل حركة الوعي،أو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ يعني الواعي لما يسمع ليكون شهيداً عليه.
((وقال سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ))( )، حيث تعني كلمة (الحكمة) هنا الفهم والعقل، فالمراد من الحكمة أن يفهم الحكيم كلَّ ما يحيط به، وأن يتعقَّل أسرار الأشياء وخطوطها في الحياة، فالله سبحانه وتعالى لم يرسل لقمان نبيّاً، ولكنه أعطاه الوعي الذي يملكه الأنبياء، وهو وعي الفهم الذي يستطيع من خلاله أن يُفهِم الناس، وأعطاه العقل الذي يستطيع من خلاله أن يوجِّه الناس في كلِّ أمورهم، ونحن نستوحي من حديث لقمان لابنه ـ كما قصّه القرآن ـ أن على الأب الذي يملك المعرفة والتجربة الناضجة في الحياة أن لا يهمل تعليم ولده، بل أن يعظه ويعلّمه ويناقشه ويحاوره، ليحرِّك فكره، وليمنحه المعرفة بما يمتلك من معرفة كما يمنحه الغذاء وما إلى ذلك مما يستقيم به جسده، وأنْ يعيش الأب مسؤوليته مع أولاده بما يملكه من علم وتجربة، لإغناء فكر ولده وتنميته على أساس المعرفة والعلم.
التواضع للحق:
قال الإمام الكاظم(ع) لهشام: ((يا هشام، إنَّ لقمان قال لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس))، أي عندما تبحث عن الأشياء، سواءً كانت من الأمور التي استطعت أن تصل إليها من خلال التأمل أو التجربة، أو من خلال تجارب الآخرين وعلمهم، فعندما تنفتح على الحق وتقتنع به لأنه يمثِّل الحقيقة، فتواضع للحق واقبله حتى لو كان ذلك الحق على خلاف موروثاتك وتقاليدك من آبائك وأجدادك، وحتى لو كان خلاف البيئة التي تعيش بها فيها، لأن العقل الملازم للحق يفرض نفسه عليك كما تفرضه المحسوسات عليك، لأنك عندما ترى الشمس واضحةً في رابعة النهار، فلا تستطيع أن تنكرها. لذلك فعندما ترى الحق بكلِّ إشراقاته وخطوطه التي يقودك إليه العقل في الحياة، فعليك أن تخضع لذلك الحق، وأن لا تتكبَّر عليه كما يتكبَّر الذين ينكرونه رغم معرفتهم له على أساس العقدة الذاتية، أو كمن تأخذه العزة بالإثم، أو ما إلى ذلك، فالإنسان العاقل هو الذي يفكّر ليصل إلى الحق، فإذا وصل إلى الحق، ارتبط به ارتباط إيمان وحركة وعمل.
((وإنّ الكيّس لدى الحق يسير)). والكيِّس هو الإنسان العاقل الذي يفكِّر ويصل بالفكر إلى النتائج الحاسمة، وذلك يمثل أقرب الوسائل للمعرفة والإيمان. وتأتي الموعظة بقوله: ((يا بنيّ، إن الدنيا بحر عميق، قد غرق فيها عالم كثير)) في شهوات الدنيا وملذاتها، وبما يؤدي بهم إلى الهلاك؛ لأنهم لم ينفتحوا على جانب المسؤولية في الحياة والانفتاح من خلالها على الآخرة، ((فلتكن سفينتك يا بني هي تقوى الله))، فتقوى الله هي التي تمثِّل وسيلة النجاة للإنسان في الدنيا والآخرة؛ لأن تقوى الله هي أن تنفِّذ أوامره وتترك ما نهى عنه وتبتعد عن الفساد ((وحشوها الإيمان، وشراعها)) الذي يحركها ((التوكل))، بأنْ تنطلق في سفينة الحياة بالتوكل على الله في خط سيرك، و((قيمها العقل)) ويكون القيّم على السفينة هو العقل، ((ودليلها العلم)) لتعرف اتجاه السفينة، وما هي الخريطة التي ترسمها لتحدِّد خطوط السير في غمرات الحياة، ((وسكّانها الصبر))( )، والسكّان هو المقود الذي يقود السفينة، لأن عليك بالصبر حينما تواجه المخاطر في عباب البحر، وكذلك وأنت تمخر عباب مشاكل الحياة فلا تجزع، بل دع الأمور تسير بحكمتك ومعرفتك وصبرك، لتصل إلى الهدف بسلام.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الحادية عشرة 19 رجب 1425 ه - 4/9/2004م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (5)
العقل هو الدليل على الأشياء
مَهَمَّة العقل هي أنْ يدرك حقائق الأشياء وأسرارها، في ما يميِّز به عناصرها وطبائعها، وفي ما يدرك منها نفعها وضررها، وحُسنها وقبحها، ويعرف حقها من باطلها
الدليل على الأشياء
الثقة بالنفس
معرفة حقيقة النفس
الهدف من بعثة الأنبياء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الدليل على الأشياء:
لا نزال مع الوصية المنسوبة للإمام موسى الكاظم(ع) في ما أوصى به تلميذه هشام بن الحكم حول العقل في كلِّ آفاقه وامتداداته وفي كل نتائجه، وقد تحدثنا أكثر من مرة أن الله سبحانه وتعالى جعل العقل أساساًَ لحركية الإسلام في الإنسان، وفي كل ما يتحمّل مسؤوليته في الواقع، فقال الإمام الكاظم(ع): ((يا هشام، لكل شيء دليل))؛ فإذا أردنا أن نصل إلى كلّ الظواهر الكونية والإنسانية، في خصائصها وعناصرها، وربما في أصل وجودها، فلا بد لنا من دليل نعرفها من خلاله، وهذا أمر تقتضيه طبيعة حركة الحياة.
((ودليل العقل التفكّر)) والعقل في الإنسان يُعرف من خلال إنتاجه، لأنَّ مَهَمَّة العقل هي أنْ يدرك حقائق الأشياء وأسرارها، في ما يميِّز به عناصرها وطبائعها، وفي ما يدرك منها نفعها وضررها، وحُسنها وقبحها، ويعرف حقها من باطلها، فمن الطبيعي أنْ يكون التفكير هو الذي يدلُّ على أن هناك عقلاً، فعندما نريد أنْ نميِّز بين العقل وغيره، فإن العاقل ينتج فكراً بعقله، أما غير العاقل فإنه لا ينتج شيئاً...
((ودليل التفكّر الصمت))؛ لأن الإنسان الذي يطلق لسانه، ويشغل نفسه بالحديث مع الآخرين، في كلِّ الأمور، فإنه لا يستطيع أن يفكِّر، لأن التفكير يحتاج إلى حالة من الهدوء، ويحتاج إلى الانفتاح على كثير من الآفاق الواسعة، والنظر إلى ما حوله ومن حوله من الناس، مما يريد أن يطلق الفكر فيه. ومن الطبيعي أنَّ الصمت يمثِّل عنصراً حيوياً مهماً في تحصيل الفكر، فإذا أردت أن تفكِّر، فلا بد لك أن تعطي نفسك فرصةً للصمت الهادئ الذي ينطلق من حركة عقلك في استيحاء ما يريد أن يستوحيه، وفي دراسة ما يريد أنْ يدرسه.
((ولكلِّ شيء مطيّة، ومطيّة العاقل التواضع))، فهناك شيء لا بد للإنسان أن يركبه للوصول إلى أهدافه، فقد يكون بواسطة رجليه أو بواسطة آلة معيّنة، ومن الطبيعي أن الدابة (المطية) هي التي كانت تستعمل في ذلك الوقت حينما يريد الإنسان قطع المسافة للوصول إلى الهدف، أمّا مطيّة العاقل للوصول إلى أهدافه المعرفية فهي التواضع، باعتبار أنَّ الإنسان المتواضع يكون في حالةِ قبولٍ للحقّ؛ لأنّه لا يعيش التقديس لذاته، إنما يتقبّل الآخرين وينفتح عليهم ويراعي مواقعهم كما يريد منهم أن يراعوا موقعه، ويعترف بالفكر الآخر ويدرس مفرداته ويتأمّل فيه ويتحاور معه، كلّ ذلك قد يدفعه إلى الاقتناع بالفكر الآخر، في مقابل حالة التكبّر التي تجعل صاحبها يستعلي على الآخرين ويشعر بانتفاخ الشخصية. ولذلك نجد أنّ الله سبحانه وتعالى وصف الذين ينكرون الحقّ ويجحدونه بالمتكبّرين.. فالتكبّر والتواضع صفتان لا تقتصران، من حيث الإيجاب والسلب، على علاقة الإنسان بالإنسان في ذاتيّته، ولكنهما تتحرّكان في علاقة الإنسان بالإنسان في فكره وعقيدته وانتماءاته، ليكون الحوار هو الأساس الذي يحترم به الآخر فكر صاحبه، لينتهي الحوار إلى التفاهم، أو إلى الاقتناع بالفكر الواحد، والموقع الواحد. ولذلك فإنّ الذي لا يملك التواضع، ويأخذ بأسباب التكبّر، هو إنسان يسير نحو الجهل، ويتّجه إلى السرعة في اتخاذ القرار والإصرار على الوقوف مع هذا القرار حتى لو تبيَّن له خطأه.
ثم يقول الإمام الكاظم(ع): ((وكفى بك جهلاً أن تركب ما نهيت عنه))، وكأنّه يقول: إنّ الجهل ليس مجرَّد حالةٍ في التصوّر، ولكن الجهل هو حركة في السلوك والواقع؛ لأنَّ قيمة العلم ليست في تصوّراته، ولكن في انفتاح التصوّر على الواقع، ولقد تحدَّث القرآن الكريم، وتحدثت السنّة النبوية الشريفة، وتحدث الحكماء، عن أن قيمة العلم هو بمقدار ما ينفتح على العمل، فالعلم بلا عمل كالشجرة بلا ثمر، وأنّ الإسلام هو قناعة في القلب وعمل في الأركان. لذلك يركّز الإمام(ع) في هذه الوصية على أنّ مظاهر الجهل في أعلى درجاته أن ترتكب ما نهيت عنه؛ لأنّ ما نهيت عنه ينطلق من خلال المفسدة التي تترتَّب عليك في الأخذ به، فأيّ جهل أكبر من هذا الجهل الذي يجعلك تندفع إلى ما يضرك ويسقط حياتك ويتّجه بها نحو الهلاك!
الثقة بالنفس:
((يا هشام، لو كان في يدك جوزة وقال الناس: في يدك لؤلؤة، ما كان ينفعك وأنت تعلم أنها جوزة. ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس إنها جوزة، ما ضرّك وأنت تعلم أنها لؤلؤة.))، فالإمام(ع) يريد أن يؤكد بهذه الكلمة أن لا يستعير الإنسان ثقته بنفسه وبما يملك من خبرة في العمل ومعرفة من الناس، ليظلَّ غارقاً في ما يتحدث به الناس عنه، وهل يتحدثون عنه سلباً ليفقد ثقته بنفسه من خلال ما يثيرونه، لتكون معرفته بنفسه من خلال ما يُقال عنه فحسب لا من خلال معرفته بنفسه من موقع قناعاته.. فالإمام(ع) يقول: عليك أن تدرس الأمور بنفسك، وأن تدرس حقيقتها من دون أنْ تعيش انتفاخ الشخصية، ومن دون أن تنحرف بتصوراتك عن الخطوط المستقيمة التي يمكن أن توصلك إلى الحق. ادرس الأشياء في واقعها، وحاول أن تدرس نفسك في طاقاتها الفكرية وفي درجاتها العلمية والأخلاقية، وما إلى ذلك... فاعرف نفسك في نقاط ضعفها ونقاط قوَّتها، وفي سلبياتها وإيجابيّاتها، فإذا درست نفسك ورأيت أنَّك تعيش في نقطة ضعفٍ ما في نفسك، فعليك أن تحاول إصلاح ذلك بأن تحوِّل نقاط الضعف إلى نقاط قوة، فإذا لم تستطع ذلك، فعليك أن تعترف لنفسك أن مستواك في العلم وفي الحركة الاجتماعية والسياسية بالمستوى الذي هو عليه، وأنك ـ مثلاً ـ لا تملك شخصية قيادية أو حركيّة أو ما إلى ذلك، فتتعايش مع هذه الحالة حتى لو قال الناس عنك إنّك أنت القائد وأنت العالم والقوي والشجاع، وإنّك تملك ما لا يملكه أحد في المجتمع، فعليك أن تعيش لنفسك من خلال نفسك.
وقد ورد عن أمير المؤمنين(ع) قوله: ((لا يغرّنَّك سواد الناس عن نفسك، فإن الأمر يصل إليك دونهم))، أي أن لا يمدحوك بما ليس فيك، ولا يعظّموك بما لا تستحقّه؛ لأنك أنت ستحصد النتائج في النهاية، فالناس يتكلّمون بهذا الكلام عنك ويذهبون، وتبقى المسألة تتفاعل في نفسك، فتصل إلى نتائج سلبية بما لا تستحقّ، لأن الناس قالوا عنك كذا وكذا. وقد ورد عن علي بن أبي طالب(ع) أنه جاءه شخص ومدحه مديحاً كبيراً جدّاً، وكان يتزلَّف إليه باعتبار أنه(ع) في موقع القيادة والمسؤولية، فأجابه الإمام(ع): ((أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك)).
معرفة حقيقة النفس:
فالمهم أن يدرس الإنسان نفسه دراسةً دقيقة، بحيث يفهم كل خصائصها، في نقاط ضعفها وقوتها، وكما قال الإمام علي(ع): ((من عرف نفسه فقد عرف ربه))( )، وكان(ع) إذا سمع أحداً يمدحه يقول: ((اللهمَّ اجعلني خيراً مما يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون))( )، وهو(ع) في المستوى العالي من العصمة، وذلك تواضعاً لله سبحانه وتعالى. ونحن نفسِّر كل ما ورد من استغفار الأنبياء(ع) والأئمة(ع) أنه استغفار التواضع، وليس استغفار الاعتراف بالذنب. وهكذا نجد في دعاء (مكارم الأخلاق) أنَّ الإنسان يقول حينما يحصل له عز: ((اللهمَّ لا ترفعني في الناس درجةً، إلاّ حططتني عند نفسي مثلها ولا تُحدث لي عزّاً ظاهراً إلاّ أحدثت لي ذلَّة باطنة عند نفسي بقدرها))، أيْ اجعلني ـ يا ربّ ـ عندما يمدحني الناس لا أنسى نقاط الضعف الكامنة في نفسي، بل أحاول أن أدخل في عملية مقارنة بين ما يقولونه، وما يتعاملون به معي، وبين ما هو الواقع في نفسي من نقاط ضعفٍ وما إلى ذلك.
لذلك يقول الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم، إنه لو كان في يدك جوزة، وقال الناس إنها لؤلؤة ـ والجوزة كناية عن الشيء الذي لا قيمة له ـ وأنت تعلم أنهَّا جوزة، فما ينفعك قولهم، لأنك إذا ذهبت بها إلى سوق اللّؤلؤ، لما اشتراها منك أحد، ثم يقول(ع) له: لو كان في يدك لؤلؤة وأنت تعلم أنها لؤلؤة، فحتَّى لو قال الناس لك إنها جوزة، فما يضرّك ذلك، لأنّك عندما تذهب بها إلى السوق، فسيعطونها قيمتها الثمينة. وهكذا فأنت عندما تعرف ما تملكه نفسك، من مستوى العلم والخبرة والقيادة وما إلى ذلك، مما له علاقة بقيمة الإنسان العلمية والعملية، ويحاول الأعداء إنزال قيمتك، في ما يحاول الناس فيه إسقاط بعضهم بعضاً، وفي حسد الناس لبعضهم البعض لمن هم أكبر منهم في العلم والتقوى والقيادة وما إلى ذلك.. فإنهم لن يستطيعوا ذلك.
إن على الإنسان أن يدرس نفسه، وإذا علمت أن الناس قد عرفوا عنك سلبيات، فعليك أن تستفيد من النقد الموجَّه إليك... فكن واقعياً تصلحْ نفسك، وهذه من صفات العاقل. فالإمام(ع) بهذه الوصية يركِّز على صفات العاقل، وما هي أحكام العقل في حركة الإنسان في الواقع، ولا سيَّما نظرته لنفسه، لأنّ العاقل لا يخدع بما يقوله الناس عنه من مديح لا يستحقّه، كما لا يسقط حينما يتحدَّث الناس عنه بما لا يستحقّ من نعوت.
الهدف من بعثة الأنبياء:
وقال الإمام(ع) لهشام: ((يا هشام، ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله)) يعني ليوضحوا للنّاس أن الله سبحانه وتعالى لا يتَّصل بعباده بشكل مباشر، سواء ما تتّصف به ذاته من شؤون الغيب، أو من خلال ما يريده الله سبحانه وتعالى من عباده في اعتقاد توحيده وعبادته وطاعته، وبما يقتربون به من مواقع القرب منه، مما لا يدركه الناس، فالناس لم يطّلعوا ولن يطَّلعوا على ذات الله، أو على وحي الله، وعلى كلِّ شيء من خصائص الذات الإلهية، فدور الأنبياء والرسل(ع) أنهم ينقلون إلى الناس ما أعطاهم بعض غيبه، وهو سبحانه وتعالى لم يعط للأنبياء(ع) علم الغيب كلّه، بل أعطاهم بعض ما يحتاجونه من الغيب لنبوّتهم، ولذلك يقول النبي(ص) كما ورد في القرآن الكريم: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ الله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ( )، وهكذا نقرأ عن لسان النبي(ص): وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ( ).
فالله سبحانه وتعالى يعطي أنبياءه من الغيب والمعاجز ما يحتاجونه في رسالتهم. فالنبي إبراهيم(ع) لم تكن لديه المعجزة إلى أن ألقيَ في النار، فكانت عليه برداً وسلاماً بإذن الله سبحانه وتعالى، ولكنّ النبي إبراهيم(ع) كان يحاور الناس بالعقل، وأن المعجزة ليست هي أساس الإيمان، وإنما هي وكما يقول الإمام الهادي(ع) في كتاب (الكافي): تأتي في مقام التحدي للمجتمع الذي يتميز بالطبّ أو السحر أو غير ذلك، فالأنبياء(ع) أساساً إنما يتّبعون ما أوحي إليهم، فكان تعامل الناس معهم على طريقة لن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا( )، فكان جواب النبي(ع): قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاً( ). وأنزل الله الوحي على أنبيائه ليعرّفوا الناس مواقع قدرة الله سبحانه وتعالى وسلطانه، وليبلّغوهم شريعته، ليعملوا بما أمرهم وينتهوا بما نهاهم عنه... فالإمام الكاظم(ع) يقول لهشام ـ في ما روي عنه من الوصيّة ـ إن الله أرسل الأنبياء ليعقلوا الناس عن الله، لأنهم لا يملكون معرفة الله إلاّ من خلال الأنبياء، ليعرّفوا الناس بالله في كلِّ ما يرتبط به عباده في عالم المعرفة والمسؤولية. وحركيّة العقل في ذلك يأخذها العباد من الأنبياء الذين هم أكثر معرفةً بالله، ((فأحسنهم استجابة)) في ما يعتقدون في عالم العقيدة، وفي ما يتحركون به في عالم الشريعة؛ ((أحسنهم معرفة لله)) لأنهم أعلم بأمر الله. ((وأعلمهم بأمر الله أحسنهم)) فالإنسان العاقل هو الذي يحرّك كلَّ المعلومات لينتج العلم والمعرفة، ((وأعقلهم أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة)) لأنّ العقل هو الذي يقرِّب من الله، ويجعل درجته أعلى وأرفع، وكما ورد في الحديث الشريف: ((إن الله يثيب الإنسان بمقدار عقله))، وبمقدار ما يكون لديه الوعي لأمر الله، وبذلك ترتفع درجته.
ويقول الإمام الكاظم(ع) لهشام: ((يا هشام، ما من عبد إلا وملكٌ آخذ بناصيته، فلا يتواضع إلا رفعه الله))، أن يتواضع للحق الذي يقدَّم إليه. لأنّ التواضع هو الذي يرفع درجة الإنسان عند الله، ((ولا يتعاظم))، أي يتكبَّر ((إلاّ وضعه الله))( )؛ لأن التكبر لله وحده، فبالتواضع يكبر الإنسان، وبالتكبر يصغر الإنسان.
ثم يتحدث عن الحجة الظاهرة، وهم الرسل، وعن الحجة الباطنة، وهي العقل، وهذا ما سنتحدث عنه في الندوة القادمة إن شاء الله تعالى..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثانية عشرة 26 رجب 1425 ه - 11/9/2004م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (6)
العقل الباطن والعقل الظاهر
أراد الله سبحانه وتعالى لهذا التوازن الكوني المبني على أساس القوانين، أن يرافق التوازن الحركي الاختياري من خلال ما أوحاه سبحانه وتعالى للأنبياء.. ليلتقي التوازن في النظام الكوني بالتوازن في النظام الإنساني
حَمَلَةُ الرسالات
سلطان العقل
الملكات العقليّة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
ونبقى مع الإمام الكاظم(ع) في ما روي عنه من وصيته الجامعة لهشام بن الحكم. هذه الوصية التي تؤكد على العقل، وتحرّك مسألة العقل في كلِّ الحالات الفكرية والروحية والعملية، في تطلعات الإنسان في آفاق الرسالات السماوية وفي حركة الواقع...
حَمَلَةُ الرسالات:
يقول الإمام الكاظم(ع): ((يا هشام، إنّ لله على النَّاس حجتين؛ حجّة ظاهرة وحجّة باطنة، فأما الظاهرة فهم الرسل والأنبياء والأئمّة، وأما الباطنة فالعقول)). عندما ننطلق مع هذه الوصيّة، نلاحظ أن هذه الفقرة منها تتحدث عن الأنبياء والرسل(ع)، وأنهم حجَّة الله على الخلق، باعتبار أنهم يحملون كل ما يريد الله سبحانه وتعالى للخلق أنْ يعتقدوه ويمارسوه في كلِّ أوضاع الحياة بما ينظِّم دنياهم، بحيث يتحركون في حياتهم الفردية والاجتماعية في كلِّ خطوطها، وفي كل الآفاق التي ينفتحون عليها بما يحقّق التوازن، لأنَّ الله جلّ وعلا خلق الكون كلَّه على أساس القوانين التي أودعها فيه، وذلك قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ( )، وقوله: قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا( )، فأقام الله سبحانه وتعالى الكون على قاعدة التوازن، مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ( )، وقد أراد الله سبحانه وتعالى لهذا التوازن الكوني المبني على أساس القوانين، أن يرافق التوازن الحركي الاختياري من خلال ما أوحاه سبحانه وتعالى للإنسان على يد الرسل من كل المفاهيم التي أراد للناس أن يحملوها ويلتزموا بها، وينضبطوا في مواقعها، ليلتقي التوازن في النظام الكوني بالتوازن بالنظام الإنساني، حتى ترتكز الحياة كلُّها على أساس القاعدة. فمن الذي يحمل هذا الوحي؟
إن الذي يحمل هذا الوحي هم الأنبياء والرسل(ع) الذين أراد الله لهم أن يحملوا الوعي للناس… الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا الله وَكَفَى بِالله حَسِيبًا( ). وهكذا تمتدُّ المسيرةُ من الأنبياء والرسل(ع) إلى الأئمَّة ليكملوا حركة الرِّسالات، ولكن من دون أن يكلِّفهم الله برسالة على أساس الوحي، فقد قال النبي(ص) لعلي(ع): ((يا علي، أنت مني بمنـزلة هارون من موسى، إلاّ أنه لا نبيّ بعدي))( ). ثم إنّنا عندما ندرس الحجَّة الظاهرة، فإننا نعرف أن هؤلاء (الأنبياء والرسل) ليسوا مجرَّد نقَّالة تنقل الرسالة بطريقة حرفية، ولكنَّهم يعلّمون الرسالة ويثقّفون الناس في خطوطها النظرية والتطبيقية، قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ( )، فدور الرسول هو دور الذي يتلو القرآن ليبلِّغ الناس آياته المنـزّلة عليه من الله سبحانه وتعالى، ودوره أيضاً أن يزكيهم، أي أن ينمّي طاقاتهم الفكرية والروحية والحركية، لكي تنفتح وتتطوَّر من خلال المنهج الذي يعلّمهم إيَّاه ويقدّمه لهم، لينطلقوا بموجبه في عملية انفتاحٍ للروح واستقامةٍ في الحركة... يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا( ).
فدور الأنبياء أن يخرجوا الناس من الظّلمات إلى النور، ولذلك قلنا إنَّ أفضل دليلٍ على عصمة النبيّ هو ما يستوحى من القرآن؛ فدوره هو أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولا بدّ لمن له هذا الدور أن يكون كله نوراً؛ نوراً في عقله وقلبه وحركته وعمله، ولما كانت الإمامة امتداداً للنبوَّة، فإنها تحمل أيضاً هذا الهدف، وهو أن يخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، وأن يثقّفوا الناس بكلِّ ما لديهم من علم، وبما أودعه الله في عقولهم، وما يفيض من قلوبهم.
وقد ورد عن الإمام علي(ع) عن الرسول(ص)، أنه حينما كان يتعبّد الله في الغار، وكّل به عظيماً من ملائكته، يلقي إليه في كلِّ يوم علماً، فيفيضه من خلال تربيته بالوحي وبالإلهام، وهذا هو ما روي عن النبي(ص)، حيث قال: ((أدَّبني ربي فأحسن تأديبي))( ). فدور النبي لا يقتصر على أنّه تالٍ للقرآن وحسب، بل إنّ دوره أيضاً أن يزكّي الإنسان بكل جوانب شخصيته؛ في عقله وقلبه وحركته، وفي كل طاقاته في الحياة. إنّ دوره هو دور المعلم، يعلّمهم بكلامه وببشريته وبأخلاقه الكتابَ والحكمة، يعلّمهم أسرار الكتاب، وكل ما ينفتح عليه الكتاب من آفاق تجعل الإنسان يسمو ويتثقف بما أراد الله سبحانه وتعالى له في الحياة، والحكمة خطّ التطبيق، وهي وضع الأشياء في مواضعها، ولذلك يهتدي الناس على يدي النبي، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ فتنفتح بهم الرسالة على كلِّ مسؤولياتهم في الحياة، ولا سيّما أن الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان خليفةً له في الأرض، لأجل أن يعمِّرها بالصورة التي أرادها الله سبحانه وتعالى لها أن تكون، ومن الطبيعي أنَّ الأنبياء والرسل والأئمة(ع) يمثّلون القمَّة في موقع الخلافة التي أرادها الله سبحانه وتعالى للناس، وهذه هي الحجّة الظاهرة، وغداً عند الوقوف أمام الله سبحانه وتعالى نسمع السؤال من الملائكة: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ( ).
سلطان العقل:
أما الحجَّة الثانية، فهي الحجَّة الباطنة، وهي العقل، بحيث إن الله سبحانه وتعالى يحتجُّ على الإنسان بما يدركه عقله، ومسألة التوحيد من المسائل التي يدركها العقل، ولذلك فإنَّ الله يحاسبُ الناس، وإن لم تصلهم الرسالات، لأن ((كلّ مولود يولد على الفطرة، إلا أنَّ أبويه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه))( ). ومن ثمّ فإنّ حكم هؤلاء الناس الذين لم تصلهم رسالة الأنبياء أو الرسل، كما في المجاهل التي لم تصلها الدعوة، أنّ الله سبحانه يحاسبهم بموجب العقل، وليس بموجب اتباع الرسل والرسالات، لأنَّ الرسالات لم تصل إليهم، ولا يملكون أية وسيلة ليكتشفوا وجود هذه الرسالات السماوية هنا أو هناك، وإنما يحاسبهم بحسب الطاقة العقلية في قدراتهم وإدراكاتهم العقلية، لأن العقل حجة على الناس أودعه الله سبحانه وتعالى في عمق الإنسان، وأراد للإنسان أن ينفتح من خلال عقله أوَّلاً على معرفة الله سبحانه وتعالى، ومعرفة حقائق الأشياء المحيطة به، كما ورد في القول المأثور: ((العقل رسول من الداخل، كما أنّ الرسول عقل من خارج)). وعلى ضوء هذا، علينا أن نستنطق عقولنا لمعرفة حقائق الأشياء، لأنه سبحانه وتعالى سيحتجُّ علينا بعقولنا كما يحتجُّ علينا بالرسالات السماوية.
الملكات العقليّة:
ثم يتحدَّث الإمام موسى الكاظم(ع) عن الملكات التي يعيشها الإنسان بما يوحي إليه عقله، فيقول لهشام: ((يا هشام، إن العاقل لا يشغل الحلال شكره))، أي لا ينشغل عن ذكر الله وشكره عند النعمة، وهو الإنسان الذي يعيش ما أحلَّه الله ويندفع إليه، وقد أحلَّ الله سبحانه وتعالى الكثير من الطيبات للإنسان، وذلك كما في قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ( )، فالله سبحانه وتعالى أحلَّ لنا الطيبات، وهي كثيرة في الحياة، ولكن هناك بعض الناس الذين قد يستغرقون في الحلال، في كلِّ ما ينفتح على الإنسان من الملذَّات والشهوات، ويندفع في ذلك كله، حتى ينسى ربه، ويغفل عن أن كلَّ هذا الحلال هو من عند الله الذي لابد له أن يشكره عليه، ولكنَّ الإحساس بنعم الله سبحانه وتعالى في ما يأخذ به الإنسان من النعم والآلاء، يحتاج إلى وعيٍ، بحيث لا يستغرق في النعمة، ولكنه ينفتح على معناها، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوهَا( )، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ الله( ). لذلك فالعاقل هو الذي يدرك أن النعمة التي أصابته هي من الله سبحانه، وأنه سبحانه هو المنعم، لذا على الإنسان العاقل أن يبادر إلى شكر الله سبحانه على نعمه.
((ولا يغلب الحرام صبره))، وعندما يواجه العاقل ما يجذبه من الحرام، حسب الحاجات والشهوات، فإنه يظلُّ متماسكاً وصابراً، صامداً على حرمانه من الحرام. وقد ربط الإمام(ع) مسألة الشكر ومسألة الصبر عن الحرام بالعقل، لأن العقل عندما ينفتح بالإنسان على الحلال، في كلِّ ملّذاته وشهواته، فيقول له إنَّ شكر المنعم في ما أنعم عليك هو مما يقرّبك من الله سبحانه وتعالى، ويزيد من نعم الله عليك، كما في قوله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ( )، كما أن العقل يوعز للإنسان بالصبر على الحرمان الذي يحسُّ به في الامتناع عن الحرام؛ لأنه إذا لم يصبر عن الحرام، فسيتعرّض إلى غضب الله سبحانه وتعالى وعقابه، إضافةً إلى المفاسد الموجودة في الحرام، مما يكلّف الإنسان الكثير من السلبيّات في الدنيا والآخرة، فيقول الإمام(ع) إنَّ العاقل هو الذي لا ينسى الله وشكر النعمة، ولا يغلب الحرام صبره.
ويتابع الإمام(ع) قوله: ((يا هشام، من سلَّط ثلاثاً على ثلاث، فكأنما أعان هواه على هدم عقله)). فالمسألة أنَّ كل إنسان يختزن في حياته بفعل تكوينه الوجودي من جهة، وبفعل ما يحيط به من البيئة من جهة أخرى، يختزن العقل ويختزن الهوى، وهناك صراع بين العقل والهوى، لأن العقل ينطلق من خلال قاعدة الربح والخسارة، ويدرك مواقع النفع والضرر، والحسن والقبح، بينما الهوى ينطلق من خلال الغريزة الملتهبة التي تشدُّ الإنسان إلى الملذَّاتِ بدون حساب للنتائج السلبية، فيندفع الإنسان غير العاقل إلى ملذاته، كما تندفع الفراشة إلى النار لتحترق بها. لذلك يريد الإمام(ع) بقوله إن على الإنسان أن يضبط هواه، ولا يجعل هواه مانعاً لعقله من التفكير، فيمنع هواه عقله من أن يحفظ له كيانه وتوازنه في الحياة، فما هي هذه الأشياء الثلاث؟
أوَّلاً: ((من أظلم نور فكره بطول أمله))، أي الإنسان الذي يعيش طول الأمل، ونحن نعرف ما جاء في الآيات والأحاديث الشريفة من التحذير من طول الأمل، فقال(ص): ((إنَّ أخْوَفَ ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى، وطول الأمل. أما اتّباع الهوى فيصدُّ عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة)). فالإنسانُ عندما يطول أمله فإنّه ينسى الآخرة، وعندما ينسى الآخرة يستسلم لشهواته وهواه وملذّاته، فيحجبه ذلك عن الانفتاح من خلال عقله على الأشياء؛ لأن الهوى يحجب العقل لدرجة أنه لا يبصر فيها حقائق الأشياء.
وثانياً: ((ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه))، وهو الإنسان الذي يتكلَّم من دون أن يختزن كلامه حكمةً، فكلام غير العاقل هو كلام الفضول الذي لا يشتمل على حكمة ومعرفة، بل هو الكلام الذي لا يدخل في المسؤولية المعرفية هنا وهناك، ولذلك فإنَّ الإنسان الذي يشغل نفسه بفضول الكلام، من الطبيعي أن يمحو بذلك طرائف الحكمة، لأنه لم يتفرَّغ للتفكير حسب العلم والتجربة.
وثالثاً: ((وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه))( )، وذلك لأن الله أراد للإنسان أن يضيء لنفسه بنور العبرة، بحيث يشاهد الأشياء ليعتبر بها، ويأخذ منها درساً لما يمكن أن يدخل فيه، ولكنَّ الإنسان إذا شغل نفسه بالشهوات، فإنه لا ينفتح على ضوء العبرة التي يمكن أن يأخذ منها بما يعتبر به في الدنيا والآخرة، فكأنما أعان على هدم عقله، كذاك الذي يدمن المخدّرات ويشرب الخمر، فهو بذلك يجعل عقله في غيبوبة لا ينفتح فيها على مسؤوليّاته ودوره في المجتمع والحياة، وفي إنتاج الفكر الذي يهدي الإنسان إلى الطريق القويم، فمن هدم عقله أفسد دينه؛ لأنه لم ينفتح على ما يوحي به العقل من الالتزام الديني، ولا ينفتح على العقل في ما يقوده للتعرف على الضرر والنفع، أو الحسن والقبح، وما إلى ذلك.
وللكلام بقية في الوصيَّة في الندوة القادمة إن شاء الله تعالى..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثالثة عشرة 3 شعبان 1425 ه - 18/9/2004م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (7)
التقييم العقليّ للأعمال
لا بد للإنسان عندما يريد القيام بأيِّ عمل، أن يدرس عمله من خلال استنطاق عقله، ليسأل العقل: كيف يمكن له أن ينتج هذا العمل بشكل إيجابي
تطهير الأعمال
مفهوم العزلة
متى نحتاج إلى الوحدة؟
قوَّة العقل
معيار القيمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا نزال نتابع الوصية المرويّة عن الإمام موسى الكاظم(ع) لهشام بن الحكم، التي يتحدّث فيها عن حركة العقل في سلوك الإنسان، وكيف يوجّه الإنسان إلى ما فيه صلاحه، ويبعده عمّا فيه ضرره وفساده.
تطهير الأعمال:
يقول الإمام الكاظم(ع): ((يا هشام، كيف يزكو عند الله عملك، وأنت قد شغلت عقلك عن أمر ربّك، وأطعت هواك على غَلَبَة عقلك)). هذه الكلمة تحاول أن تثير مسألة (العمل الصادر عن الإنسان)، وأنه لا بدّ للإنسان من أن يطهِّر عمله من كلِّ ما يقذّره في طبيعة خلفيّاته، وفي طبيعة خطوطه، وأن ينمّيه ليكون عملاً منتجاً لذاته على مستوى علاقته بربّه، ما يؤدي إلى تحقيق الخير له في الدنيا والآخرة. ولذلك لا بد للإنسان عندما يريد القيام بأيِّ عمل، سواء كان هذا العمل عمل عبادة، أو كان عملاً يتّصل بالواقع الاجتماعي في علاقته بالناس، في قضاياهم الخاصة والعامة، وفي كل خطوطه التي يحرّكها في مشاريعه الاجتماعية والخيرية، وما إلى ذلك، لا بدَّ أن يدرس عمله من خلال استنطاق عقله، ليسأل العقل: كيف يمكن له أن ينتج هذا العمل، ليكون عملاً يتحرك في طور الإيجابية بالنسبة إليه، لا في طور السلبية؟
ومن الطبيعي أنّه عند استنطاق العقل، لابد من أن يكون العقل صافياً، ينطلق من أساسياته، بحيث لا تُشغله الشهوات، ولا تطبق عليه الغرائز، لأنَّ الإنسان إذا شغل بشهواته وبغرائزه، فإنه لا يستطيع أن ينفتح بعقله على حقائق الأشياء. فبدلاً من أنْ ينفتح على الله تعالى، فإنه ينفتح على الشيطان، لأن الشيطان هو الذي يشغل الإنسان بهواه وغرائزه وشهواته.
وعلى ضوء هذا، تأتي كلمة الإمام الكاظم(ع) ـ من خلال وصيّته لهشام ـ، لتردع الإنسان وتمنعه من أن يشغل نفسه بهواه وبشهواته؛ لأنه يفقد بذلك طهارة عمله، من خلال فقدانه لتركيز عقله، وحركة عقله. ونحن نعرف أن العمل يقدّر بقيمته وبخلفيّاته. ((إنما الأعمال بالنيّات، ولكل امرئ ما نوى))، فلا يُقاس العمل بشكله، بل بما ينفتح به الإنسان على النية، وعلى روح العمل؛ لأن لأي عمل جسماً وروحاً. وإذا فقد الإنسان حرية عقله في التخلص من كل ما يثقل العقل ويحجبه، فإنه لا يستطيع أن يقدِّم عملاً زكيّاً، طاهراً، منفتحاً على الله سبحانه وتعالى، وقريباً إليه. وهذا ما جاء في قوله(ع): ((يا هشام، كيف يزكو عند الله عملك))، أي يخلص عملك لله تعالى، وينفتح عليه ليكون عملاً خالصاً لله تعالى، يرضى عنه الله ويحبّه، ويرتفع بك إلى مواقع القرب من الله عز وجلّ ((وأنت شغلت عقلك عن أمر ربّك))، يعني شغلت نفسك عن الله سبحانه وتعالى، وعشت الغفلة عنه، وعن أوامره ونواهيه، وأطعت هوى نفسك الذي يأخذ بك يميناً وشمالاً، بعيداً عن خطِّ الاستقامة الذي يرتكز على الإخلاص لله سبحانه وتعالى. ((وأطعت هواك على غلبة عقلك))، أي جعلت هواك يغلب عقلك، وهذا هو سرّ السقوط؛ لأن سر النجاح والارتفاع هو أن يغلب العقل الهوى. قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى( )، فالقضيّة هي أنَّ الإنسان عندما يتحرك في أيِّ عمل يقف فيه بين الهوى والعقل، فلا بد له من أن يطرد الهوى، حتى لا يغلب عقلَه، فينحدر بالعقل إلى غير مصلحة الإنسان.
مفهوم العزلة:
ويقول الإمام(ع) في الوصية: ((يا هشام، الصّبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن الله تبارك وتعالى، اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب في ما عند ربّه)). وهنا يعالج الإمام(ع) ـ في هذه الفقرة ـ مسألة (العزلة)، ومسألة (الوحدة). ولابد لنا أن نتساءل أمام هذه المسألة: هل المطلوب من الإنسان في حياته أن يعتزل الناس وأن يعيش الوحدة، فيبتعد عن الواقع الاجتماعي، وعن كل ما يدخل فيه الناس، من قضايا الصراع؟ أم أن المطلوب من الإنسان أن يدخل المجتمع من الباب الواسع؟ لأن الإنسان مدني بالطبع؛ فقد دفع الله سبحانه وتعالى بالإنسان في إطار العائلة الصغيرة، ثم في إطار العائلة الكبيرة، ثم في إطار المجتمع، من حيث حاجته إلى العلاقات الاجتماعية، وحاجة الناس أيضاً إلى العلاقة به، باعتبار أن الله جلّ وعلا خلق المجتمع شعوباً وقبائل ليتعارفوا، والتعارف يفرض الدخول في حياة المجتمع، من خلال العلاقات التي تشدُّ المجتمعات بعضها إلى بعض، ليقدم كل إنسان خبرته التي يحتاج إليها إنسان آخر.
والواقع أن القضية ليست مع العزلة على طول الخطّ بشكل مطلق، وليست مع الاجتماع بشكل مطلق، بل إنّ للعزلة والوحدة موقعهما ودورهما وفائدتهما، كما أن للاجتماع دوره ومنفعته وحركيته.
متى نحتاج إلى الوحدة؟
إنّنا نحتاج إلى الوحدة، عندما نكون بحاجة إلى التأمّل، وإلى التفكير، وإلى الجلوس بين يدي الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ الإنسان بالوحدة يطلق عقله، ويستجمع فكره، ويعيش حالة الهدوء النفسي الذي يجعل الإنسان في حالة صفاء لأنْ يفكِّر بهدوء. ولذلك رأينا أن رسول الله(ص) عاش مدة ـ قبل أن يبعثه الله تعالى بالرسالة ـ يتأمل وحده في غار (حراء)، يفكِّر، ويتأمَّل، وينفتح على الله سبحانه وتعالى في مناجاته له، وفي حركة العبادة. وربما أراد الله عزَّ وجلّ له أن يعيش هذه الفترة من أجل أن يرتفع بروحه وبعقله إلى الله عزّ وجلّ، وإلى النظام الكوني الذي يعرّفه عظمة الله سبحانه وتعالى، وإلى الواقع الإنساني الذي يرشده إلى نعم الله سبحانه وتعالى.
لقد كانت تلك الفترة، ـ فترة الأربعين سنة السابقة على الرسالة ـ، فترة ثقافة روحية تأمّلية، وكانت فترة رياضة روحانية بين يدي الله سبحانه وتعالى. ولذلك فإنَّ للوحدة دورها في جعل الإنسان يعيش مع عناصر شخصيته: العقل، والقلب، والإحساس، والشعور، لإطلاق حواسه في ما يبصر، وفي ما يسمع، أو يشم، أو يذوق، ليأخذ من ذلك التجربة التي تملأه علماً، عندما تتكامل التجربة العلمية مع التأمل العقلي.
وهناك جانب للوحدة يتصل بعلاقة الإنسان مع الفئات السِيّئة في المجتمع؛ فهناك في المجتمع شخصيات شيطانية تخضع لوساوس الشيطان، وتتحرك في خطّه، وتعيش في نطاق الإقبال على الشهوات ويقظة الغرائز في الاتجاه الخاطئ، ومن الطبيعي أن العلاقة بهؤلاء الناس تُبعد الإنسان عن لحظات الصفاء، وعن الانفتاح على الله، وعن طاعته سبحانه، في ما أمر به ونهى عنه، وتجعله إنساناً خاضعاً للجو الاجتماعي الفاسد، وبذلك يفقد الإنسان صفاء روحه، وتضعف إرادته عن الخير، فيسقط.
الوحدة هنا تأتي ـ كما عالجتها هذه الفقرة من الوصية ـ لتبعد الإنسان عن هؤلاء الناس وعن كلِّ هذا المجتمع الفاسد، ليبتعد عن كلِّ هذا الجو الشيطاني الذي يبعده عن الله سبحانه وتعالى، ليحتفظ الإنسان بصفاء روحه، وليرتفع في تأملاته، وفي روحانيته، وفي وحدته وعزلته إلى الله سبحانه وتعالى، ويعيش هذه العلاقة مع الله تعالى، علاقة العبودية المطلقة، علاقة المحبة، علاقة الإحساس بالقوَّة بين يدي الله، التي يتحرر فيها من كل نوازع الضعف، وبذلك يكبر، وينمو، ويشعر ـ كما ورد في الوصية ـ بأن الله سبحانه وتعالى هو أُنسه في وحشته؛ لأن الإنسان الذي يمتلئ عقله بالله سبحانه وتعالى، ويمتلئ قلبه وحياته بمحبّته، هو إنسان لا يشعر بالوحدة، لأن الله سبحانه وتعالى يملأ كل حياته، فيشعر بأنه يعيش مع الله. ومن يعش مع الله تعالى، فأي قيمة للناس في ذاته، فهو لا يشعر بالوحشة، حتى عند غياب الناس عنه.
وهكذا عندما تكبر عائلته، وتكثر مسؤولياته، فإنه يشعر في حالة الأزمات بأنه عندما يعيش مع الله تعالى، فإنه يشعر بالغنى، كما خاطب الله سبحانه وتعالى رسوله في قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى( )، فالله تعالى هو المغني للإنسان. وهكذا يشعر الإنسان بأن الله سبحانه وتعالى هو مُعِزّه؛ عندما يشعر بأنّ الله هو مصدر العزَّة والقوة للإنسان، وقد ورد في الحديث الشريف: ((من أراد عزاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته))( ). فهذه هي فضائل الوحدة ونتائجها.
أما بالنسبة إلى الحياة الاجتماعية، فالله سبحانه وتعالى يحبُّ للإنسان أن يلتقي ويجتمع بالصالحين من عباده، وبالعلماء الذين يزيدونه علماً، وبالعقلاء الذين ينمّون له عقله، وبالناس الذين يتعاونون معه على البر والتقوى، فيتكامل معهم في كلِّ الخدمات التي تؤدي للإنسانية الكثير من النتائج التي تفتح لهم أبواب الحياة على الخير كله. وهكذا ينطلق الإنسان في هذه النماذج الاجتماعية الخيّرة والعاملة والعاقلة، والمنفتحة على الله تعالى، ليزداد إيماناً، وعقلاً، وعلماً، وما إلى ذلك. وقد ورد عن بعض الشعراء:
وحدةُ الإنسانِ خيرٌ من جليسِ السوءِ عندهَ
وجليسُ الخيرِ خيرٌ من جلوسِ المرءِ وحدهِ
لأن جليس الخير يعطيك من طاقة الخير خيراً.
ونفهم من ذلك، أنّ الوحدة ليست قيمة مطلقة، وليس الاختلاط بالناس قيمة سلبية، بل في هذا بعض الخير وبعض الشر، وفي ذاك بعض الخير وبعض الشر، فالقضية هي أنه لا بد للإنسان أن يدرس العزلة والاختلاط من خلال علاقتهما بتنمية ذاته، وتطوير عقله، وعلمه، وفكره، وعلاقته بربّه...
قوَّة العقل:
ويتابع الإمام الكاظم(ع) في وصيته: ((يا هشام، الصبر على الوحدة علامة قوّة العقل))؛ لأن الإنسان بحسب طبيعته قد يستوحش وحده، فيشعر بالحاجة إلى الاختلاط في المجتمع والاندماج فيه، لإرضاء هذه الحاجة المدنية في نفسه، فإن هذا الحرمان من الاختلاط يحتاج إلى الصبر، وهذا الصبر يدل على قوة العقل، لأنّ الإنسان لا يخضع لحاجاته الذاتية في هذا الموضوع، وإنما يخضع لما ينفعه في حركته، سواءً في الوحدة، أو في غيرها...
((فمن عقل عن الله تبارك وتعالى))، أي انفتح على المعرفة الصادرة من الله تعالى، في ما أوحى به لرسوله ولرسله، وفي ما أنزله في كتابه، وفي ما ألهم الإنسان في عقله، وعرف الله تعالى، ((اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها))، يعني المستسلمين للدنيا، ولا يعني بهم الذين يعيشون في الدنيا؛ بل هم الذين يسقطون أمام شهوات الدنيا، ويعتبرونها كلَّ شيء، وينسون الآخرة، ويعيشون مع الناس الراغبين من أهل الغنى، وأهل الثروة، وأهل الشهوة، وما إلى ذلك، من دون أن يذكروا الله تعالى.
((ورغب في ما عند ربّه)) من خلال تأمّلاته في وحدته، واكتشافه لمعرفة ربّه، ((وكان ـ أي الله ـ أنسه في الوحشة، وصاحبه عند الوحدة))، وذلك عندما يعيش الإنسان مع الله سبحانه وتعالى، فيشعر أنه هو الصاحب له. ولذا ورد في بعض الأحاديث: ((ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك؟!)) أي إنّ الشخص الذي يجدك ويعيش معك – يا ربّ - لا يفقد شيئاً، حتى لو لم يكن معه أي أحد في الدنيا كلها؛ لأنك أنت معه، فلا قيمة لكل من يفقده، لكن إذا لم تكن معه، فكل الدنيا لا تملأ نفسه وحياته.
((وغناه في العيلة))، أي في الفقر؛ لأنّه الرزّاق الذي يمنح عباده الصالحين من رزقه، فهو وليّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حاجة، ومنتهى كلّ رغبة. ((ومعزّه في غير عشيرة))؛ لأن العزّة لله جميعاً فالقرب إلى الله تعالى هو الذي يجعل الإنسان في أعلى درجات العزة.
((يا هشام، نصب الحقُّ لطاعة الله))، فالله أراد للإنسان أن ينفتح على الحق، والانفتاح على الحق، هو الانفتاح على الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ( ). ولذلك فإن الحق هو الذي يجمع للإنسان كل القيم، وكل الفضائل، وكل ما يقرّبه إلى الله سبحانه وتعالى، وما يقرِّبه من الخير كله، ومن نجاة نفسه، وبذلك إذا أدرك الإنسان الحق، فإن الحق يقول له: إن عليك أن تطيع الله تعالى، في كلِّ ما أمرك به، وفي كل ما نهاك عنه، فالحق نُصِبَ لهذا. ((ولا نجاة إلا بالطاعة))؛ لأن النجاة في الآخرة، إنما تنطلق من خلال رضوان الله تعالى، وثوابه، ورحمته، وحبّه للإنسان، وهذا لا يكون إلا بالطاعة. ((والطاعة بالعلم))، ومن الطبيعي أن لا يعرف الإنسان الجاهل خطوط الطاعة، ومواردها، ومفرداتها، بل لا بد للإنسان أن يعرف ذلك، وأن يعرف أوامر الله سبحانه وتعالى ليأتمر بها، ونواهيه لينتهي عنها، وليعرف قيمة الطاعة ونتائجها، في مقابل المعصية وسلبياتها. وهذا ممّا لا يُعرف تفاصيله إلا بالعلم.
((والعلم بالتعلّم، والتعلّم بالعقل يعتقد)) لأن الإنسان قد يحصل على العلم بالتأمل، ولكن الكثير من العلم، ولاسيّما العلم بما أوحى الله تعالى به لرسوله، مما أراد للناس أن يأخذوا به، فلا بد للإنسان أن يتعلَّمه، ويفتح عقله على ما تعلَّمه، ليفكِّر فيه، وليتأمّله، ليشتد بذلك؛ فإن التعلّم يشتد بالعقل، ((ولا علم إلاّ من عالم رباني))، يعني العالِم الذي انفتح على العلم بما أوحى الله تعالى به، وما يقود إلى المعرفة، ((ومعرفة العلم بالعقل))؛ لأن العقل هو الذي يجعل الإنسان يفكِّر، في ما تعلّمه من العالِم الرباني، ومن تجاربه، ليستطيع أن يركّز علمه في كلِّ شخصيّته، ليكون العالِم الذي يمتزج علمه بكل ذاته.
معيار القيمة:
((يا هشام، قليل العمل من العاقل مقبول مضاعف، وكثير من العمل من أهل الهوى والجهل مردود))( ). هنا يركّز الإمام(ع) على أن القيمة ليست بالكثرة ولكنها بالنوعية. فالعالِم عندما يقوم بالعمل، فإن هذا العمل يتحرّك في حياته، من خلال عناصر العلم التي اكتسبها وأدخلها في جسم العمل، فهو لا يعتمد على الشكل وعلى العدد، ولكنه يعتمد على النوعية. بينما الجاهل، عندما يعمل العمل، حتى ولو كان العمل في أعداد كثيرة، فإن عمله يعتبر مردوداً؛ لأنه يفقد المعنى الروحي للعمل، ويفقد معنى القيمة للعمل. وقد ورد في الحديث الشريف: ((ركعتان يصلّيهما العالم خيرٌ من عبادة سنة يصلّيهما العابد))( )، لأن العالم يقبل على هاتين الركعتين بكلِّ المعاني التي تنفتح به على الله سبحانه وتعالى، باعتبار معرفته بالله تعالى، في مواقع عظمته، وفي مواقع نعمته، وباعتبار الخشوع الذي يحصل عليه من خلال علمه. بينما العابد الجاهل يأتي بالعمل بكمّ كبير، ولكن من دون روح، وهذا مثل العمل الذي فيه روح، والعمل الذي لا روح فيه.
ويبقى الكلام في هذه الوصية، في ما يأتي من كلام، إن شاء الله تعالى.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الرابعة عشرة 10شعبان 1425 ه - 25/9/2004م
وصية الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم (8)
خيارات العقل
على الإنسان أنْ ينفتح على ما يرتفع به، وما يؤصِّل إنسانيته، وما يعمِّق إحساسه بالحقيقة، وما يقرّبه إلى الله سبحانه وتعالى، وعليه أن لا يرضى بالدون من الحكمة.. وهذه هي التجارة التي لا تبور
خيار الحكمة
التجارة الرابحة
خيارات العقلاء
ترك الفضول
خبرة الحياة
دراسة العواقب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا نزال في الحديث عن الوصيَّة المنسوبة إلى الإمام موسى الكاظم (ع)، التي أوصى بها هشام بن الحكم. وسنرى في هذا الفصل من الوصيَّة، حديثاً عن العقل، من حيث ما يوحي به إلى الإنسان في الانفتاح على الآخرة، في كلِّ أفكاره، وتطلّعاته، وأوضاعه السلوكية، من خلال المقارنة بين الآخرة والدنيا، وعلاقة العلم والمعرفة، في حياة الإنسان في الدنيا في شهواتها ولذَّاتها.
خيار الحكمة:
يقول الإمام الكاظم (ع): ((يا هشام، إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولم يرضَ بالدون من الحكمة مع الدنيا، فلذلك ربحت تجارته)). هنا يريد الإمام (ع) ـ من خلال هذه الوصية ـ أن يدخل في مقارنة من خلال حركة إيحاءات العقل، بين أن تكون إمكانات الدنيا عنده أكثر من إمكانيات الحكمة والمعرفة، وبين أنْ يحصل على الغنى من الحكمة، لأنَّ الحكمة تنطلق من المعرفة التي تقود إلى وعي الأشياء، وبالتالي تقود الإنسان إلى أن يضع الشيء في موضعه، وذلك هو الذي يحقق له النتائج الحسنة على صعيد الدنيا والآخرة، لأن الحكمة، لدى الحكيم، تدرس الأمور في العمق، لا في السطح، وتحاول أن تدفع الإنسان في كلِّ حاجاته، وتطلعاته، ومسؤولياته، إلى ما يحقق له النجاة في الدنيا والآخرة. هنا، في هذه الحالة، إذا وقف التفاضل، بين أنْ تكون له الحكمة في أعلى درجاتها؛ بحيث ينظر إلى كل مواقعها وخطوطها في حياته، ليضع الشيء في موضعه في عالم الآخرة، من خلال حركة المسؤوليات، ليكون له الغنى في الحكمة، وإنْ كان النقص في لذّات الدنيا وشهواتها، بحيث كانت إمكانات الحكمة عنده أكثر من إمكانات الدنيا، وبين أن تكون إمكانات الدنيا عنده أكثر من إمكانية الحكمة والمعرفة؛ بحيث يملك المال، ولا يملك الحكمة في إدارته، من حيث الحصول على مصادر المال، ومن حيث موارده، وتنفتح أمامه الشهوات واللذّات، ولا يملك الحكمة في اختيار لذّاته وشهواته، في علاقتها بحياته، في حاضره ومستقبله؛ إن العاقل عندما يدرس هذين الخيارين، فإنه يختار النقص في الدنيا على النقص في الحكمة. إن النقص في الدنيا لا يمثل كارثة في العناصر الحيوية في حياته؛ لأنه يكفيه من الدنيا ما يشبع جوعه، ويروي ظمأه، وما يحقّق به حاجاته، وكل ما يزيد عن ذلك، لن يملأ حياته، كما قال ذاك الشاعر:
ما كان منه زائداً عن قوتهِ فلْيعْلَمَنَّ بأنهُ ميراثُ
التجارة الرابحة:
فالإنسان عندما يحصل على القليل من الدنيا، في ما يلبي حاجاته الطبيعية والحيوية، ولكنه في مقابل ذلك يملك الحكمة التي تنظّم له حياته، وتخطّط له كل مسيرته، وكل حركته، فإنه لا بد أن يفضّل ذلك؛ لأن مسألة الحكمة تغني إنسانيته، وترتفع بكل عناصر الإنسانية التي تحلِّق به ليعرف الحقائق، وليسمو حتى يصل إلى مواقع القرب من الله تعالى.
ولذلك يقول (ع): ((فلذلك ربحت تجارتهم))، لأن التجارة ليست مجرد حركة في المال، ولكن التجارة حركة في القيمة، والتجارة حركة في المصير، والتجارة حركة في الانفتاح على مواقع النعيم والرضوان في الآخرة. وقد تحدّث الله سبحانه وتعالى في أكثر من آية، عن الذين خسروا تجارتهم، وعن الذين ربحوا تجارتهم، فقال تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجارَةٍ تُنْجيكُمْ مِنً عَذابٍ أَليم( )، وقال تعالى: أُولئِكَ الَّذينَ اشْتَرَوا الضَلالةَ بِالهُدى فَمَا رَبِحَتْ تِجارَتُهُم وَما كانُوا مُهتَدين( )، وما إلى ذلك من الآيات. وقد جاء في حديث الإمام علي (ع): ((لو كانت الدنيا من ذهب، والآخرة من خزف)) من حيث الجانب المادي، ((.. لاختار العاقل الخزف الباقي على الذهب الفاني))؛ لأنه ما قيمة ذهب تحصل عليه، ولكنه يذهب من يديك بعد ساعة. وهذه الثروة لن تبقى لك، بينما الخزف مهما كانت قيمته، فإنه يستمرّ معك ويبقى، ومن الطبيعي جداً أنك تستفيد منه أكثر من ذلك، وهذه فرضية. ثمّ يقول (ع): ((كيف والأمر على العكس من ذلك))( )؛ فإنّ الآخرة هي الذهب؛ لأنها تمثّل المصير النهائي في خلود الإنسان، سواء في جانب النعيم، أو في رضوان الله، كما قال تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنْ الله أَكْبَرُ( ).
خلاصة الفكرة، في هذه الفقرة من الوصيّة، هي أن على الإنسان أنْ ينفتح على ما يرتفع به، وما يؤصِّل إنسانيته، وما يعمِّق إحساسه بالحقيقة، وما يقرّبه إلى الله سبحانه وتعالى. وعليه أن لا يرضى بالدون من الحكمة، أمام الكثرة من الدنيا، بل أن يختار الدون من الدنيا، ليحصل على الارتفاع في مجال الحكمة، وهذه هي التجارة التي لا تبور. وتلك هي نتيجة ما يحكم به العقل في الجانب العملي، في خيار الإنسان بين الدنيا والآخرة، من خلال الحكمة التي تدفعه لاختيار الآخرة على الدنيا.
خيارات العقلاء:
ويتابع الإمام الكاظم (ع) في وصيته: ((يا هشام، إن العقلاء تركوا فضول الدنيا، فكيف الذنوب؟ وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض))، وهنا يتابع الإمام (ع) كيف يتحرّك العقلاء في حركتهم في الحياة، في ما يواجهونه من اللذّات الدنيوية، من خلال ما تفرضه عليهم عقولهم، فإذا أراد الإنسان أن يتحرَّك من منطق عقله، لا من منطق غريزته، فماذا يختار؟
هنا الإمام (ع) يؤكد أنّنا عندما ندرس الدنيا في حاجاتها، فإننا نرى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الضرورات التي لا يمكن للإنسان البقاء من دونها؛ لأنها تعتبر من العناصر التي تقوم عليها حياته، ويمتدُّ بها عمره. وهي من الواجبات التي لا بد للإنسان من أن يمارسها حفاظاً على حياته، وهذا ما تفرضه طبيعة إنسانيته في عالم الحياة.
القسم الثاني: اللذَّات المباحة والمحلَّلة، مثل أطايب المآكل، والمشارب، والملابس، والسكن، والجنس، وما إلى ذلك مما أحلّه الله سبحانه وتعالى من الطيّبات. قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( )، وقوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ( )، فهذه لذّاتٌ مباحة، وهي مما يمكن للإنسان أن يأخذ بها، ويأخذ بما أراد الله تعالى منه من تكاليف في مسؤولياته، في الإتيان بالواجبات، والاجتناب عن المحرَّمات. ولكن هذه الطيبات، أو هذه اللذّات لا تُسقِط الإنسان في المعصية، لأنها مباحة، ولا تمنع الإنسان من العمل للجنّة، وإن كانت ربّما تصيب الإنسان الذي ينشغل بها بشيء من الغفلة التي لا ينفتح معها على آفاق المعرفة، التي ترتفع به إلى الله سبحانه وتعالى، وإن كانت ـ مع ذلك ـ لا تبتعد به كلياً عن الله سبحانه وتعالى. هذه لذّات دنيوّية مباحة، لا تمنع الإنسان من الطاعة، ولكنّها تخفّف من العناصر الحيّة منها، وربما تهيّئ له بعض المناخات التي قد تقترب به من المعصية، وإنْ كان يمنع نفسه منها على طريقة الحديث الشريف: ((المحرَّمات حمى الله، فمن حام حول الحمى، أوشك أنْ يقع فيه))( )، أو الحديث الشريف: ((قف عند الشبهة، فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهَلَكَة))( ).
القسم الثالث: ما يؤثّر في النفس من ظلمة القلب، ويؤدي به إلى خسارة الآخرة، وذلك في ما حرّمه الله تعالى، مما يجعل الإنسان يغفل عن الله تعالى عندما يقدم على المحرّمات، وينغمس فيها، حتى يصل به الأمر إلى أن ينسى الله تعالى، ويستسلم للذّاته وشهواته، من دون أي ضوابط تضبطه في دائرة الحلال، وتمنعه من الدخول في دائرة الحرام. وقد ورد في الحديث الشريف: ((إذا أذنب الإنسان نكتت في قلبه نُكتة سوداء، فإذا تاب زالت تلك النكتة، فإذا عاد اتسعت تلك النكتة حتى تغلب على القلب، فينتكس، فيصبح أعلاه أسفله وأسفله أعلاه، فيرى الحقّ باطلاً والباطل حقّاً))( ). هذه تأثيرات المحرَّمات، وذلك أنّها تبعد الإنسان عن الله سبحانه وتعالى، وتجعله مستسلماً لوساوس الشيطان وخطواته.
ترك الفضول:
وعوداً إلى الفقرة التي كنّا في رحابها من الوصيّة، حيث يقول (ع): ((إن العقلاء تركوا فضول الدنيا، فكيف الذنوب؟)). يعني أن العاقل هو الذي يأخذ من الدنيا ضروراتها، وما يحتاج إلى ذلك في استمرار حياته. أمّا الفضول، فهو يعني الأشياء التي ليست ضرورية، وهي من الزوائد التي يمكن للإنسان أن يأتي بها، ويمكن له أن يتركها، كما أنّ فضول الكلام هو الكلام الذي ليس ضرورياً، مما يمكن أن يتكلّمه أو لا يتكلّمه، لأنه لا يمثِّل حاجةً حيويةً للإنسان.
والعاقل هو الذي يرتبط بالأشياء من خلال العناصر الحيوية التي تمِّثل نموَّ إنسانيّته، والاستقامة في خطِّ مسؤولّيته، وذلك بالانفتاح على مسؤوليته في الدنيا، في ما أوكل الله تعالى إليه من ذلك، وما ينفتح به على الله سبحانه وتعالى، ليكون في مواقع القرب منه. هكذا هو العاقل. فإذا كانت عند العاقل الحالة الروحية لأن يترك فضول الدنيا، وهي التي لا تسقطه، ولا تبتعد به عن الله تعالى، ولا يظلم من خلالها نفسه، ((فكيف بالذنوب؟))، التي تسقطه، وتدفع به إلى غضب الله تعالى وسخطه، وتؤدي به إلى النار.
ثم يضع الإمام (ع) قاعدة في هذا المجال، فيقول: ((وترك الدنيا من الفضل))، والمقصود تركها في شهواتها ولذّاتها، إذا كان ذلك من الأمور المباحة، ((وترك الذنوب من الفرض))، أيْ مما فرضه الله سبحانه وتعالى على الإنسان؛ لأن ارتكاب الذنوب، يمثّل الانحراف عن خطِّ الاستقامة الذي أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يسير عليه. قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى( ). وقد ركَّز الإمام (ع) على ما يتحرَّك به العقلاء في هذا الجانب، على أساس أنهم يختارون ما يرتفع بهم، ولا يختارون ما يحطّ من قيمتهم ومنـزلتهم.
خبرة الحياة:
ويتابع الإمام (ع)، فيقول: ((يا هشام، إن العاقل نظر إلى الدنيا وإلى أهلها))، فلا يمر العاقل على ما يحيط به من أوضاع الدنيا، ومن كلِّ خطوطها، أو من الناس الذين يمرون فيها مروراً هامشياً، ولا ينظر إلى ذلك نظر اللامبالي، دون أن يدرس الأشياء ويعقلها، ودون أن يتعامل معها في خطوط مسؤوليّاته، بل العاقل هو الذي يدعوه عقله إلى أنْ يتثقَّف بكلِّ شيء حوله، وأنْ يدرس كل شيء حوله، سواء مما يبصره، أو مما يسمعه، أو مما يشمّه، أو يذوقه، أو يلمسه، بحيث إنه عندما يلتقي بالكون كله، فإنّه يشعر أنّ لقاءه به لا بدّ أن يكون لقاء دراسة عميقة لكل أسراره، ولكل ما يختزنه من مفردات المعرفة التي تغني عقله، وتغني تجربته.
((فعلم أنها لا تنال إلاّ بالمشقة)). وهذه حقيقة بديهية حياتية. فلو درسنا كلَّ ما يعيشه الإنسان، وكلَّ ما يتطلَّع إليه من حاجاته، ومن طموحاته، وما إلى ذلك، نرى أنّه من الصعب أن ينال شيئاً دون مشقَّة. حتى في ولادته، فإنه عندما يخرج إلى الدنيا، فإنّه لا يخرج إليها إلاّ بمشقة. وهكذا في ما ينطلق الإنسان به ليحصل على العلم، أو ليحصل على المال، أو القوّة، أو العزّة، أو على ما يتغذَّى به، أو على ما يشربه، وما يلبسه، وما يسكنه، أو ما إلى ذلك، حتى اللذات التي يمارسها الإنسان، فإنه لا يستطيع أن يمارسها أو يحصل عليها إلاّ بمشقة. وهكذا في مجال العلاقات الإنسانية، فإن الإنسان عندما يريد أن يرتبط بإنسان، فإن للارتباطات الإنسانية شروطاً معيّنة، قد تثقل الإنسان هنا، وتثقل الإنسان هناك، وتمنعه من ممارسة حرّيته. ففي الزواج ـ مثلاً ـ، لا يمكن لرجل ولا لامرأة أن يدخلا في الزواج إلا بمشقَّة، لأن كل واحد منهما بعد أن كان حراً، فإنه يفقد بذلك حرّيته، بمقدار ما يقوم به من المسؤوليات تجاه الآخر.
((ونظر إلى الآخرة، فعلم أنها لا تنال إلاّ بالمشقَّة))؛ لأن الآخرة تحتاج إلى الجهد؛ جهد العبادة، وجهد الطاعة، ومما يجاهد الإنسان فيه نفسه، ومما يفقد فيه بعض حريته في ملذّاتها، وشهوات الدنيا، وغير ذلك..
إذاً، لو أردت الدنيا، فلابد أن تتعب، ولابد أن تبذل جهداً، ولو أردت الآخرة، فلابد لك أن تتعب، وأن تبذل جهداً، فالجهد أمر أساسي في كل حركتك في اتجاه الدنيا، وفي اتجاه الآخرة، فأيّهما تختار الجهد في سبيل الآخرة، أو الجهد في سبيل الدنيا؟
عندما يحاول العاقل أن يوازن، وأن يدرس الإيجابيات هنا، والسلبيات هناك، ويدرس المكاسب والخسائر، فإنّ النتيجة كما يقول الإمام (ع): ((فطلب بالمشقّة أبقاهما)). وهذا ما أكدّ عليه القرآن الكريم بقوله تعالى: وَمَا عِنْدَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى( )، وقوله تعالى: وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى( )، وقوله تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ( ).
دراسة العواقب:
فالعاقل عندما يدرس الأشياء، فإنَّه يدرسها بعواقبها ونتائِجِها، ولا يدرس الأشياء ببداياتها وأوّلياتها. عندما ننطلق مع الدّنيا، فقد يواجهنا في بداياتها ما يجعلنا نرغب فيها، ونخضع لها، ونرتاح إليها، ولكن النتائج قد تكون نتائج سلبية. وكذلك بالنسبة للآخرة، فربما تتعبنا الآخرة، ولكن النتائج في الأخير إيجابية. وقد جاء شاب إلى رسول الله(ص)، وقال له: ((يا رسول الله: أوصني، فقال له: هل أنت مستوصٍ إذا أنا أوصيتك؟ فقال: بلى ـ وكرر عليه القول ثلاثاً، ـ قال: إذا أنت هممت بأمر، فتدبَّر عاقبته، فإن يكُ رشداً فأمضه، وإن يكُ غيّاً، فانته عنه))( )، فالأمور بنهاياتها، وليست ببداياتها؛ لأن البداية قد تجعلك تجد ما بدأت به حلواً، ولكن ربما يحملك هذا الحلو، وهو يختزن السم في داخله، إلى المقابر.
((يا هشام، إن العقلاء زهدوا في الدنيا، ورغبوا في الآخرة، لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة، والآخرة طالبة مطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا، طلبته الآخرة فيأتيه الموت، فيفسد عليه دنياه وآخرته))، فالدنيا مطلوبة لأنّ الإنسان يندفع إليها، والدنيا تطلبه، بوسائلها الخاصة، ليستوفي رزقه، لأن نصيب الإنسان من الدنيا لا ينحصر بسعيه وكسبه، بل هو مقدّر مضمون، يصل إليه، سواء اختاره أو لم يختره؛ لأن الله تعالى يقول: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ( ).
((والآخرة طالبة مطلوبة))؛ فالإنسان الذي يطلب الآخرة تطلبه الدنيا، ليستوفي منها رزقه. وعندما يطلب الإنسان الدنيا، فإنّ الآخرة تطلبه، عندما يأتيه الموت. والإنسان إنما يستطيع الحصول على الآخرة إذا أراد الآخرة وانفتح عليها، من خلال الكدِّ والسعي في الأمور التي توصله إلى الآخرة، قال تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى( )، وأيضاً قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ( ).
ويتابع الإمام (ع)، فيقول: ((فمن كان مطلوبه الأخروي بوجه دون وجه، فكل منهما طالب حين كون الآخرة مطلوبة بوجه من الطلب))( )، فإذاً على الإنسان الذي ينطلق في هذا المجال، أن ينفتح على الآخرة، لأن رزقه من الدنيا سوف يأتيه، عندما تطلبه الدنيا، ليستوفي رزقه منها. أما الآخرة، فسوف تأتيه حتى لو طلب الدنيا، وذلك بالموت، فالموت هو الجسر الذي يسير بالإنسان إلى الآخرة، فإنه إذا طلب الإنسان الآخرة، حصل على الدنيا والآخرة، ولكن إذا طلب الدنيا وحدها، وأعرض عن الآخرة، فسوف تأتيه الآخرة، لتنتهي حياته بالموت، وعند ذلك تفسد عليه دنياه، وتفسد عليه آخرته.
ويبقى لنا الكثير من أحاديث هذه الوصية المهمة جداً التي تعطينا القاعدة التي يرتكز عليها الإنسان في حركة عقله، والتي تجمع له خير الدنيا والآخرة، وتنفتح به على العلم في كل ما يتوصل إليه، وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الخامسة عشرة 17شعبان 1425 ه - 2/10/2004م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (9)
العقل والقناعة
العقل هو الذي يدفع الإنسان إلى التفكير العميق الدقيق الذي يبيّن له المصالح والمفاسد، في ما يقبل عليه أو في ما يجتنبه
الغنى النفسي
القناعة والحسد
القناعة سلامة الدين
نتائج الجسد السلبية
وحي العقل
العاقل يخاف الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
من بين فقرات وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم، يقول: ((يا هشام، من أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين، فليتضرَّع إلى الله عزّ وجلَّ بأن يكمل عقله؛ فمن عقل قنع بما يكفيه، ومن قنع بما يكفيه استغنى، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يُدرك الغنى أبداً)).
الغنى النفسي:
في هذه الفقرة، أراد الإمام(ع) أن يؤكد حقيقة أساسية في كيان الإنسان، وهي كمال العقل. فإن الإنسان إذا كمل عقله، عرف كل النتائج السلبية في سلوكه النفسي أو العملي، وعرف النتائج الإيجابية لذلك كلّه؛ لأنَّ العقل هو الذي يدفع الإنسان إلى التفكير العميق الدقيق الذي يبيِّن له المصالح والمفاسد، في ما يقبل عليه، أو في ما يجتنبه. وقد طرح الإمام(ع) عدة عناوين:
العنوان الأوَّل: (الغنى بلا مال)، وهي كلمة قد تجلب الاستغراب؛ لأن المعروف أن الغنى يتضمَّن ملكية الإنسان للمال الكثير. والعنوان الآخر هو: (سلامة الصدر من الحسد)، باعتبار أنه يمثل مرضاً نفسياً يثقل صدر الإنسان، وقد يؤدي إلى أكثر من حالة سقوط في حركته في الواقع، في مواجهة الناس الذين يعيش معهم. والعنوان الثالث هو (السلّامة في الدّين)؛ فالإنسان الذي قد يبدأ منتمياً إلى الدين، إما بفعل الوراثة، أو الاقتناع، قد ينحرف بسبب بعض الحالات الطارئة، أو بعض الأوضاع التي تضغط عليه.
والإمام(ع) يربط كلَّ هذه العناوين بمسألة (القناعة)، والقناعة تعني أن يقتنع الإنسان بما يكفيه؛ بحيث يشعر بالغنى النفسي عندما يبلغ في حياته الكفاف، بمعنى أن ما يملكه يلبي حاجاته، ولا يزيد عنها. والسبب في كون ذلك يمثّل الغنى النفسي، أنَّ الإنسان عندما يفكِّر بأن يكون له ما يزيد عن كفايته، ويلهث للوصول إليه، فإنه سيبقى يشعر بالفقر الدائم؛ لأنه كلَّما انتقل من مرحلة تزيد عن كفايته إلى مرحلة أخرى، فإن نفسه تستمرَّ في طلب المرحلة الثالثة، والرابعة، والخامسة، وهكذا، وبذلك يظلُّ في حالة فقرٍ دائمٍ، من الناحية النفسية، ومن الناحية العملية.
القناعة والحسد:
وهكذا بالنسبة إلى الحسد، فالناس عندما يحسد بعضهم بعضاً، بحيث يتمنّى الحاسد منهم أن يزيل الله النعمة عن الآخرين ليعطيها له، فإنّ هذا الشعور ينطلق من حالة فقر نفسي؛ لأنّ الإنسان لو فكّر تفكيراً واقعياً عملياً في دراسته لما عنده، ولما عند الناس، لعرف أن الناس حصلوا على ما حصلوا عليه دونه، لأنه لم يبذل جهداً مثلهم، ولم يعش الظروف التي ساهمت في حصولهم على ذلك. ولو تأمّل في المسألة ودرس الواقع فيها لما فكّر بهذه الطريقة السلبية، بل انطلق للأخذ بالأسباب التي تجلب له الغنى، أو تحقّق له الاكتفاء، ليتساوى معهم أو ليتفوّق عليهم. بل إن هناك مسألةً إيمانيةً أساسيّةً، وهي أن هذا الإنسان قد حصل على ما حصل عليه من جهده، من جهة، ومن الألطاف الإلهية التي أفاضها الله عليه، من جهة أخرى، فهو حينما يتمنى زوال النعمة عن هذا الإنسان وانتقالها إليه، فإنه يتمرَّد بذلك على الله سبحانه وتعالى، فضلاً عن أنّه يتحرك في المسألة بطريقة غير واقعيّة؛ لأن الله سبحانه وتعالى حينما أعطى هذا الإنسان النعمة، فهو لا يريد زوالها عنه إلى شخص آخر، كما أنّ الله تعالى قادر على أن يعطي هذا وذاك.
وفي مقابل الحسد هناك الغبطة، وهي أن تطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعطيك مثلما أعطى هذا الإنسان، من دون أن يزيل نعمته عنه، فنقول، كما في الدعاء: ((اللهمَّ أعطني كما أعطيته، وارزقني كما رزقته، وأبلغني الدرجة التي أبلغتها إيّاه)). وعند ذلك، لا يعيش الإنسان العقدة ضدَّ الآخر، كما هو شأن الحسد الذي يجعل الإنسان يعيش العقدة ضد الإنسان الآخر، وقد يجعله يفكِّر في تدميره. حتى إنَّ هناك من يفسِّر قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ( )، بأن الحاسد عندما تتعاظم عنده العقدة ضد المحسود في نفسه، فإنه يحاول أن يقوم بالشر العملي ضد المحسود، ويؤيّده ما ورد في الحديث الشريف: ((إذا حسدت فلا تبغ))، يعني إذا حسدت فلا تعتدِ. وعلى أساس ذلك، فليس الحسد أن تنظر إليه بعينك لتدمّره من خلال النظرة، ولكن سلبية الحسد أنه يحوِّل الإنسان إلى أن يعيش في حالة عدوانية.
القناعة سلامة الدين:
وكذلك في مسألة (السلامة في الدين)؛ باعتبار أن الطمع يؤدي بالإنسان إلى الكثير من الوسائل المحرَّمة التي لا يرضاها الله سبحانه وتعالى. فقد يدفعه الطمع إلى أن يعتدي على أموال الناس، وإلى أن يرتكب الحرام للحصول على المال، خصوصاً وأنّ الكثيرين يستعجلون الغنى، فيحاولون أخذ المال الحرام قبل الحلال. ومن هنا كانت القناعة تمثّل الحالة النفسية الإيمانية التي تدفع بالإنسان إلى المحافظة على سلامة دينه.
وما دمنا نتحدثَّ عن القناعة، فلا بأس بأن نذكر كلمة الإمام علي(ع): ((كفى بالقناعة ملكاً))( )، فإن الإنسان الذي يقنع، يملك نفسه، ويعيش العفَّة، وكل ما يرتفع بذاته، وما إلى ذلك؛ لأنه لا يشعر بالحاجة إلى الآخرين، ولأن الإنسان الذي يعيش حالة الطمع لا يملك نفسه، بل يبقى يتطلَّع لما في أيدي الآخرين، وقد ورد أن الطامع يكون في وثاق الذلّ؛ لأنّ تطلّعه الدائم لما في أيدي الآخرين وما يعيشونه من أوضاع، يجعله في حالة خضوع دائم لكي يحصل على ما عندهم، سواء بقي هذا الخضوع في الإطار النفسي على مستوى الشعور، أو تحرّك الإنسان من خلاله عمليّاً ليمارس الخضوع في عملية استعطاء للآخرين. وفي حديث عنه(ع): ((من قنعت نفسه أعانته على النـزاهة والعفاف))، وهي في مقابل الطمع في المال الحرام، أو في مقابل الشهوة المحرّمة، أو في مقابل ما يُسقَط نزاهته. وقد ورد أيضاً: ((وَلاَ كَنْزَ أَغْنَى مِنَ الْقَنَاعَةِ))( )، والقناعة هي الاكتفاء في ما بين يديه، وما دامت كفاية الإنسان منفتحة من خلال ما يحصل عليه من جهده، فهو يملك مالاً متحرِّكاً مستمراً.
وفي حديث أيضاً عن الإمام علي(ع): ((طلبت الغنى فما وجدت إلاّ القناعة)) ؛ لأنَّ الإنسان الغني هو الذي يعيش الغنى الذاتي في إحساسه. ثم قال(ع): ((وعليكم بالقناعة تستغنوا))( )، وعن الإمام الباقر(ع)، قال: ((من قنع بما رزقه الله، فهو من أغنى الناس))( )، لأنه لا يشعر بالحاجة لأحد، بينما قد نلاحظ الكثير من الأغنياء الذين يشعرون بالطمع، يظلّون مع ما لديهم من مال يتطلّعون إلى ما في أيدي الناس الآخرين، ليكسبوه، وليأخذوه. وقد قال الإمام الحسين(ع): ((القنوع راحة الأبدان))( )، لأن الذي يقنع بما يكفيه، فهو في راحة تجنِّبه السقوط والانحناء للآخرين. وقال الإمام الرضا(ع): ((القناعة تجتمع إلى صيانة النفس))، من الذل والسقوط، بما يحطُّ من الإنسان، ((وعزّ القدر))، لأنّ الإنسان يبقى معها عزيز النفس، ((وطرح مؤنة الاستكثار))، أي أنه يوفّر على نفسه ما قد يتطلّبه الاستكثار من مؤونة يبذلها من نفسه أو كرامته، ((والتعبّد لأهل الدنيا))، حيث قد يدفعه الطمع إلى أن لا يعيش حرّيته أمام الآخرين؛ لأن الإنسان تستعبده حاجاته، وقد ورد في الأثر: ((استغنِ عمّن شئت تكن نظيره)). ثمّ يعطي الإمام النموذج في خطّ القناعة، فيقول: ((ولا يسلك طريق القناعة إلا رجلان: متعبّد يريد أجر الآخرة))، ولا يفكّر في الدنيا إلا من خلال الحاجات الطبيعية التي يحتاجها في حياته، ويكون حاله كما ورد في قوله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ الله الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ(القصص/77)، بأن تأخذ من الدنيا ما يكفيك، وإلا فالهدف هو أن تبتغي في ما أعطاك الله الدار الآخرة، ((أو كريم متنـزه عن لئام الناس))( )، وهو الذي يكرم نفسه من خلال التنـزّه عن لئام الناس الذين قد يفرضون عليه ما لا ينسجم مع قناعاته أو أوضاعه أو قيمه وأهدافه.
وهناك نقطةٌ تعالجُ التوازن بين اليسير من المعاش، واليسير من العمل، فيقول الإمام الصادق(ع): ((من رضي من الله باليسير من المعاش، رضي الله منه باليسير من العمل))( )، بمعنى أنَّ الله سبحانه وتعالى يعطيه أجر قناعته بما رزقه، فيرضى الله منه باليسير من العمل، باعتبار أنَّه رضي بما قسم الله له فيتضاعف عمله. وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع): ((اقنع بما قسمه الله لك ولا تنظر إلى غيرك ولا تتمنَّ ما لست بنائله))، والذي لم يحصل لك، لأنك لا تملك الوسائل التي يمكن استعمالها للحصول عليه، ((فمن قنع شبع، ومن لم يقنع لم يشبع))( )، وكان الإمام علي(ع) يقول: ((يابن آدم، إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك، فإن أيسر ما فيها يكفيك، وإن كنت تريد ما لا يكفيك، فإنَّ كلَّ ما في الدنيا لا يكفيك))( )؛ لأنّ غير القنوع لا يقف عند حالة واحدة، بل ينتقل من حالة إلى أخرى.
نتائج الحسد السلبية:
أما بالنسبة إلى الحسد، فيقول الإمام علي(ع): ((لله درُّ الحسد ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله))( )، لأن الحسود يعيش عقدة نفسية، تثير في نفسه العناصر السلبية، التي تجعله يعيش في همّ دائم، لا يستقرُّ معه على شيء، وكلَّما رأى نعمةً على الشخص المحسود، يشعر بأنه يتآكل في داخل نفسه ألماً وحزناً، ما يؤدي به إلى أزمات صحّية ونفسية قد تفتك به في نهاية المطاف. وعنه(ع): ((ثمرة الحسد شقاء الدنيا والآخرة))، فهو يشقى في الدنيا من خلال هذه الحالات النفسية، ويشقى في الآخرة من جهة نتائجها العملية، وورد أنّ ((الحاسد لا يشفيه إلاّ زوال نعمة المحسود))، وذلك هو الذي يشفي غيظه في هذا المجال، ((والحاسد يظهر الودّ في أقواله)) للمحسود، فهو يتكلَّم بالكلام الطيب، ((ويخفي بغضه)) فهو صديقٌ بكلامه، وعدوٌّ ((في أفعاله))، ويقول الإمام(ع): ((ما رأيْتُ ظالماً أشبه بمظلومٍ من الحاسد))، فالحاسد يظلم المحسود، وذلك من جهة ما يصدر منه ضد المحسود، سواء من ناحية الأحاسيس التي يكنّها له، أو في ما يصدر منه من أفعال تؤذيه، فهو ظالم، ولكن لو درست حاله لرأيته مظلوماً من حيث هو يظلم نفسه، ((نفس دائم، وقلب هائم، وحزن لازم))( )، وهكذا حتى لا يعيش الاستقرار النفسي أبداً.
والرسول(ص) يقول: ((قال الله عزّ جلّ لموسى بن عمران: لا تحسد الناس على ما آتيتهم من فضلي، ولا تمدنَّ عينيك إلى ذلك، ولا تتبعه نفسك، فإنّ الحاسد ساخط لنعمي، صادٌّ لقسمي الذي قسمت بين عبادي)). ونجد في كلام الإمام الصادق(ع) قوله: ((لا راحة لحسود))؛ لأنه يعيش همَّ ما يتحرَّك به المحسود من نعم الله سبحانه وتعالى. ويقول الإمام الباقر(ع): ((إنَّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النّار الحطب))، لأن من الإيمان الرضا بما قسم الله سبحانه وتعالى من النعم التي أفاضها على الآخرين، والإنسان الحاسد لا يرضى بقضاء الله، وبما أنعم به على الآخرين، وربما يتحرك الحسد لإيذاء المحسود بطريقةٍ أو بأخرى. وقد ورد عن الرسول(ص): ((ألا إنّه قد دبَّ إليكم داء الأمم من قبلكم، وهو الحسد، فهو ليس بحالق الشعر، لكن حالق الدين))، فكما أن الحلاقة لا تبقي من الشعر شيئاً، كذلك الحسد لا يبقي من الدين شيئاً.
وأخيراً، يفرِّق الإمام الصادق(ع) بين المؤمن والمنافق بقوله: ((إن المؤمن يغبط ولا يحسد))، لأن الغبطة هي أن تسأل الله بأن يعطيك ما أعطى المحسود، ويبقي له نعمته، ((والمنافق يحسد ولا يغبط))( )، باعتبار أنَّه يعيش العدوانيّة تجاه الناس، ولا يعيش الرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى، فكأنه يحسد ولا يبغض، فلذلك يقول الإمام الكاظم(ع): ((يا هشام، من أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين، فليتضرَّع إلى الله عزَّ وجلَّ في مسألة بأنْ يكمل عقله))، فدور العقل في تربية الإنسان أن يعيش القناعة والغبطة، لا الحسد، وأن يعيش السلامة في دينه. والإمام(ع) يربط هنا بين العقل والقناعة، من حيث إنّ العقل يوحي للإنسان بالقناعة، وفي القناعة يحصل الإنسان على الغنى بلا مال، وعلى سلامة الصدر من الحسد، وعلى سلامة الدين. ((فمن عقل قنع بما يكفيه))، لأن ما يزيد على ما يكفيه لا حاجة له فيه، ((ومن قنع بما يكفيه، فقد استغنى))، لأنه لا يحتاج بعد ذلك إلى مالٍ كثير، فيشعر بالاكتفاء الذاتي والغنى بما رزقه الله تعالى من مال، ((ومن لم يقنع بما يكفيه))، بل يظلُّ يتطلَّع إلى ما يزيد عن كفايته، من مرحلة إلى مرحلة، ((لم يدرك الغنى أبداً)) لأنه يبقى يعيش حالة الفقر.
وحي العقل:
وبهذا يركِّز الإمام(ع) على العقل، لأنه يتخلَّص من كلِّ السلبيات التي تتحوَّل إلى أخلاق خبيثة، في مقابل الإيجابيات التي تتحوّل إلى أخلاق طيِّبة حسنة، فيقول الإمام(ع): ((يا هشام، إن الله تحدَّث عن قوم صالحين أنّهم قالوا، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ( ) حين علموا أن القلوب تزيغ، وتعود إلى عماها ورداها))، يعني أنه قد تطرأ عليها بعض الشبهات والإشكالات، والأوضاع التي تتحدى إيمان الإنسان والتزامه واستقامته، بما يؤدي بالإنسان إلى أن يتحوّل من حالة الإشراق والبصيرة الداخلية إلى حالة التردّي في هذا المجال. وهذا ما يوحي بأنَّ على الإنسان العاقل أن يراقب نفسه، لأنَّ الإنسان ربما يبدأ مؤمناً، ولكن قد تنحرف به الأوضاع السلبية عن الطريق المستقيم، ـ والزيغ هو الانحراف عن الحق، والميل عنه إلى الباطل ـ، كلّ ذلك لكي يمنع كل الأوضاع السلبية التي تحيط به، والتي تعمل على إثارته بالشبهات والإشكالات، ما يؤدي إلى الاهتزاز في عقيدته، والابتعاد به عن حالة الالتزام والاستقامة في سلوكه. ولذلك فإنَّ الدعاء الذي ألهمنا الله إيَّاه، وعلّمنا إيَّاه في كتابه، ومن خلال رسله وأوليائه، يدعو به الإنسان عندما يشعر بالضعف والحاجة، ويشعر بأنَّ الله سبحانه وتعالى يمكن أن يحلَّ له مشكلته، وينقذه من ضعفه، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى قال لعباده: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ( ). لذلك، فهؤلاء عندما يشعرون بالاهتزازات التي ربما تبتعد بهم عن حالة الاستقامة إلى حالة الانحراف، فإنهم يدعون الله سبحانه وتعالى: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، لقد أنعمت علينا ـ يا ربّ ـ بالهدى الذي دلنا على معرفتنا بتوحيدك، وعلى كل صفاتك، ودلنا على عبادتك، وعلى رسلك، وعلى ما أوحيت إليهم، ولذلك فإننا نريد منك - يا ربّ - أن تجعلنا نسير في خط الهدى، فلا يعرض علينا الضلال، في أي موقع من المواقع، لأن الهدى هو نعمة من الله التي لا نعمة فوقها، ولذلك نقول: الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله( ).
العاقل يخاف الله:
ونقرأ في الفقرة الثالثة، قول الإمام(ع): ((إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله))، يعني لابد للإنسان من أنْ يحصل على معرفة الله بالمستوى الذي يشعر فيه بالخوف من الله سبحانه وتعالى، فيما إذا سار في طريق معصيته، وفيما عرّض فيه نفسه لغضبه وسخطه، فمن لم يعقل عن الله، ولم يعرفه كما ينبغي للإنسان أن يعرفه، في ما يتعلمه، وفي ما يفكر فيه ويستوحيه من آفاق معرفة الله، وإذا لم يستشعر عظمته، فإنّه لن يشعر بالخوف من الله تعالى؛ لأنّ الشعور بالخوف يتبع الشعور بالعظمة، وهذا ينشأ من المعرفة العميقة بالله سبحانه. ((ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفةٍ ثابتة))، لأنه لا يعيش هذه المعرفة العميقة التي تختزنها ذاته، في كلِّ تفكيره وشعوره، ((يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه))، وذلك إذا حصل الإنسان على المعرفة التي تضيء له الآفاق التي يلتقي فيها بالله سبحانه وتعالى، ((ولا يكون أحد كذلك))، يعني ممن يعيش الحقيقة في قلبه، وممن يقولها ببصره الباطني، ((إلاّ من كان قوله لِفعْلِهِ مصدقاً))، يعني الإنسان الذي لا يعيش الازدواجية بين قول يتضمَّن شيئاً وفعل يتضمَّن خلافه، ((وسرّه لعلانيته موافقاً))، بحيث يكون ظاهره كباطنه، ((لأنَّ الله تبارك اسمه لم يدلّ على الباطن الخفي من العقل إلاّ بظاهر منه))( )، لأنه لا نستطيع أن ندرك الباطن الخفي من العقل الذي يدل على وجود الله سبحانه وتعالى إلاّ بآثاره التي تظهر على جوارحه، سواءً في قوله، أو في أفعاله الحسنة، التي يطابق فيها القول الفعل، والظاهر الباطن، عند ذلك يكون الإنسان ذا شخصية واحدة، لا ازدواجية فيها. ولذلك يتكامل القول مع الفعل، والظاهر مع الباطن.
وللكلام بقية في هذه الوصية إن شاء الله تعالى..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة السادسة عشرة 24شعبان 1425 ه - 9/10/2004م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (10)
الكمال والرشد العقليّان
إنَّ مسألة العقل ليست من المسائل المتّصلة بالجانب التجريدي من الفكر، بل تتصل بالجانب العملي في إيحاءات العقل للإنسان، بما يصوغ له كيانه
عبادة العقل
كمال العقل
الخير خيار العاقل
الرشد العقلي
الكرم والعطاء
الهم العلمي
العزَّة المستعارة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا نزال مع وصيِّة الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم في مسألة العقل. وفي هذا المجال، يتابع الإمام(ع) نقلَ كلامِ الإمام علي(ع) حول مسألة العقل، باعتباره أفضل ما عُبدَ به الله تعالى، وفي تأثيره على شخصية الإنسان في نفسه، وفي علاقته بالآخرين؛ ما يوحي أنَّ مسألة العقل ليست من المسائل المتّصلة بالجانب التجريدي من الفكر، في مسألة الإمكان والاستحالة، وما إلى ذلك، بل تتصل بالجانب العملي في إيحاءات العقل للإنسان، بما يصوغ له كيانه على النهج الذي يمكن فيه أن يتحوّل، ـ هذا الإنسان ـ، إلى عنصر منفتح على الله سبحانه وتعالى، وعلى نفسه، وعلى الناس، في كلِّ أموره. فالعقل يؤكِّد سرّ الحقيقة، ويركّز منهج الحياة للإنسان.
عبادة العقل:
يقول الإمام الكاظم(ع)، ـ في ما رُوِيَ عنه من الوصيّة ـ: ((يا هشام، كان أمير المؤمنين(ع) يقول: ما من شيء عُبِد الله به أفضل من العقل)). والسبب في ذلك أنّ السير في طريق المعرفة بالله في كلِّ ما ينفتح به الإنسان على ذات الله في صفاته وفي مواقع عظمته، وفي امتدادات نعمه، يمثِّل عبادةً فكريةً، تسمو عن كلِّ عبادة؛ لأنَّ الإنسان كلَّما انطلق في آفاق المعرفة، كلّما انفتح على سرّ العبودية في نفسه، وعلى ربوبيّة الله المطلقة. وقد ورد في الحديث: ((تفكّر ساعة خير من عبادة سنة))، حيثُ اعتبر أن التفكير بالله سبحانه وتعالى، وفي كلِّ ما يتَّصل بصفاته وأفعاله، يمثِّل عبادةً أفضل من العبادة الجسدية؛ لأن عبادة التفكّر تجعل الإنسان يرتفع بإنسانيّته أكثر، وينفتح على الوعي لله تعالى أكثر. وعليه، فالعقل هو الوسيلة العبادية التي تفضُل على كل الوسائل. وبذلك فإن العقل يعيش العبادة الروحيّة في كلّ ذاته وحركته، بل إن العبادة الجسدية التي يعيشها الإنسان في صلاته، وفي صيامه، وفي حجّه، وما إلى ذلك، إنما هي نتيجةٌ لعبادة المعرفة. وعلى أساس ذلك، فالإنسان كلَّما عرف الله تعالى أكثر، كلّما خضع له أكثر، وعبده أكثر، وأطاعه أكثر. ومن هنا فقد اعتبر الإمام(ع) ـ حسب الرواية ـ أنَّ عبادة العقل هي أفضل العبادة، لأنها أساس العبادة، ومن هنا أيضاً نفهم ما جاء في الحديث المأثور: ((ركعتين يصلّيهما العالِم أفضل من ألف ركعة يصلّيهما العابد))؛ لأنّ العالِم يعبد الله تعالى، ـ عندما يمارس عبادته ـ، من خلال سعة علمه بالله، ومعرفته به سبحانه وتعالى، ما يجعل العبادة تتحرّك من خلال عُمق المعرفة؛ الأمر الذي يجعله ينفتح على الله تعالى أكثر، ويخشع له أكثر، وبذلك تختزن هاتان الركعتان المعنى العبادي أكثر من ألف ركعة يصليها العابد الذي لا يملك هذه المعرفة.
كمال العقل:
((وما تمّ عقل امرئٍ حتى يكون فيه خصال شتَّى))؛ وكأنّ الإمام(ع) يريد هنا أن يجيب على سؤال: كيف نستكشف العقل الكامل والتامّ لهذا الإنسان أو ذاك؟ وما هو مظهرُ كمال العقل؟ يقول(ع): ((الكفر والشرّ منه مأمونان))؛ لأنَّ الإنسان العاقل هو الذي يدرس مسألة وجود الله سبحانه وتعالى وتوحيده، بما يملك من حركة الفكر، ويبتعد عن مسألة الشرك التي لا تثبت أمام أيَّة حالة فكرية؛ لأنها أقرب ما تكون إلى الخرافة والسّخافة، وذلك لأن ما يتداوله الناس من عقائد الشرك ومظاهره، وكلّ ما يعتبرونه شريكاً لله سبحانه، سواءٌ على مستوى الألوهية، أو على مستوى العبادة، فإنه لا يمثِّل أي معنى يمكن أن يلامس سطحيّة التفكير فضلاً عن عمقه. على أنّه لو درس الإنسان مسألة الشرك، من خلال دراسته للكون كلّه، في سماواته وأراضيه وكائناته، فإنه يلتقي بالأدلة العقلية التي تعتبر الشرك مستحيلاً؛ لأن الإثنينية في الألوهية المطلقة لا بد أن تتحوَّل إلى اختلاف، لأن طبيعة الإثنينية تفرض الاختلاف، لأنه لو لم يكن هناك اختلاف أبداً لما كانت اثنينية بالمعنى المطلق للاثنينية، ولذلك لا بد من أن يختلفا، ولو اختلفا، فإن هذا يريد أمراً لا يملك الآخر أن يمنعه منه، بفعل قدرته المطلقة، وذاك يريد أمراً آخر لا يمكن أن يمنعه الآخر منه، وبذلك يختلُّ النظام العام للكون كله، سواء كان الكون كون السماوات أو الأرض، ولذلك قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا الله لَفَسَدَتَا( )، وقال: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ( )، إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا( )، مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ( )، وهذا النظام الدقيق الذي لا اختلال فيه ولا انحراف في أيّ جانب من جوانبه، هو ما نجده في الكون، حتى على مستوى الذرّة. وهكذا عندما نقرأ قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ( )، فالعاقل عندما يحرِّك عقله، فإنه لا يمكن أن ينتمي إلى الكفر.
الخير خيار العاقل:
وهكذا بالنّسبة إلى الشرّ، في كلِّ مظاهر الشرّ التي تتحرّك في حياة الإنسان ممّا يؤدي إلى الهلاك، أو إلى الاختلال في الواقع الإنساني وفي الواقع الكونيّ، فإن الإنسان العاقل عندما يستنطق عقله، فإن العقل يدفعه وينصحه، ويخطط له، أن يكون ممن يختار ما يصلح أمره، وما يصلح أمور الناس.
وعندما يندفع الإنسان بحركته نحو الشر، فإنه يرى أن الشر يؤدي إلى الهلاك، أو إلى الفساد، أو إلى الاختلال، وهو في الوقت نفسه يؤدي إلى إرباك حياته الذاتية، عندما يختار الشر في أفعاله الفردية الذاتية، وإلى إرباك علاقته بالناس عندما يختار الشر في أوضاع الناس.
الرشد العقلي:
((والرّشد والخير منه مأمون)). وفي الجانب المقابل، إنك عندما تدرس هذا العاقل، تجد أنّ العقل أوصله إلى مرتبة الرشد، والرشد هو الخطّ الذي يجعل الإنسان واعياً لكلِّ أفعاله، وأقواله، وعلاقاته، ومواقفه؛ لأنه لا يتحرك في أمر إلاّ إذا كان في الأمر صلاح له، بحيث ينتفع به، ويكسبه الكثير من المواقع على مستوى الدنيا والآخرة، فلا يخطئ في أقواله، ولا يتكلم بكلام السفهاء، ولا يخطئ في أفعاله، ولا يخطئ في علاقاته ومواقفه، بحيث يختار ذلك كله من موقع الرشد العقلي والروحي والشعوري، والحركي في حياته.
وهكذا، فإن العاقل هو الذي يختار الخير بدلاً من الشر، لأن الخير، في ما يحكم به العقل، وفي ما يقود إليه الإنسان في كلِّ أقواله وأفعاله يقوده إلى أن ينفتح على كل ما ينفعه ويرتفع به سواء كان في حركته نحو العلم، أو في حركته نحو الصلاح والإصلاح، أو في حركته نحو كلِّ القيم الروحية والأخلاقية، كالصدق والعفة، والأمانة، وما إلى ذلك. وهذا هو الذي قال عنه الله سبحانه وتعالى: وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ( )؛ لأن الخير له عمقٌ في وجود الإنسان في الخطِّ المستقيم، وله عمقٌ في كلِّ العناصر التي يصلح بها أمر الإنسان، فيرتفع به في الدنيا والآخرة.
فالإنسان العاقل هو الذي تأمل منه أن لا يتصرَّف أيَّ تصرف من تصرفات الغيّ، بل يبقى تصرّفه في الخطِّ المستقيم من الرّشد، وتأمل منه أن يأخذ بالخير كلِّه، فلا يقترب من الشر في قليل أو كثير. وبتعبير آخر، هو الإنسان الذي يأخذ بالجانب الإيجابي في الحياة، فيسمو عمّن حوله ويرتفع بنفسه في درجات العلوّ، ويحقّق للواقع النموّ والتطوّر، ويبتعد عن الجانب السلبي الذي يُرهق الحياة، وينحطّ بها نحو الأسفل، ويربك حركة الواقع في كلّ أوضاعه العامَّة والخاصَّة.
الكرم والعطاء:
((فضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف)). هنا يتعرض إلى نقطة الكرم والجود والعطاء الإنساني في مسؤولية الإنسان عمّن حوله، من خلال هذه السعة الإنسانية التي ينفتح بها على الآخرين؛ بحيث يعيش إنسانيته في إنسانية الإنسان الآخر، فيتألم لآلام الناس، ويتحسّس حاجاتهم، في جوعهم، وعطشهم، وعريهم، وما إلى ذلك مما يواجه الإنسان من آلام وأحزان ومشاكل، وما إلى ذلك مما يتّصل بحياته المادية، فإن هذا الإنسان يشعر بأنّ الرزق الذي بين يديه هو مال الله، الذي أعطاه الله إيّاه، وحمّله مسؤوليته، حيث يقول تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ( )، وحيث يقول: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ( )، لا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا( )، لا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا( )، ويعرف هذا الإنسان بأن الله سبحانه وتعالى أعطاه هذا المال، ليتحمَّل مسؤوليته تجاه الذين حمَّله الله مسؤوليتهم، من عيالة الفقراء، والمساكين، والغارمين، وفي سبيل الله، وما إلى ذلك، مما أراد الله له أن يبذله، ليعطيه أجره في الدنيا والآخرة، حيث يقول تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ( ). وقد بيَّن الله تعالى أنَّ البخل لا يرتدُّ فقط على الشخص الذي يمتنع الإنسان عن عطائه، بل يرتدّ على صاحبه أيضاً، قال تعالى: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ( ).
((فضل ماله مبذول))، يعني ما يفضل عنه من المال، فإنه يبذله، تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، وقياماً بالمسؤولية في ما حمّله الله من مسؤولية، ويعيش حالة العطاء، كما عاشها أهل البيت(ع)، كما هي الصورة التي نزل بها القرآن الكريم، فقال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقاهُمُ اللهُ شرّ ذلِكَ اليَوْمِ ولَقَّاهُم نَضْرَةً وَسُرورَاً( ).
((وفضل قوله مكفوف))، ومن صفات العاقل ـ أيضاً ـ أن العقل يقول له: إن الله أعطاك قوَّة النطق في لسانك لتلبي بها حاجاتك، سواء تلك المتّصلة بذاتك، أو المتعلّقة بالآخرين وبعلاقاتك معهم. فالله سبحانه وتعالى أعطاك هذه النعمة من أجل أن تتكَّلم بها مع الآخرين الكلام الذي حمّلك الله مسؤوليته، في أن ترشدهم إلى الخير، وتأمرهم بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، وتحرّك كلماتك في النصح والإرشاد، وقضاء حوائجهم والدفاع عنهم وعن الحق، وما إلى ذلك في كلِّ ما يحقق لك وللآخرين النتائج الإيجابية التي تخدم دنياك وآخرتك. أما ما عدا ذلك، مما لم يكن الكلام في حكمة، أو موعظة، أو حركة في حاجة من حاجاتك الشرعية وحاجات الناس، فإنه فضول، لا تحتاجه في حياتك، ولا يحتاجه الناس في حياتهم. فالعاقل هو الذي لا يبذل جهد الكلام وطاقته في اللّغو، بل في ما يمكن أن يحصل منه على نتيجة، تعود بالنفع عليه أو على الآخرين من حوله، في الدنيا والآخرة؛ لأنّ فضول القول جهد بلا طائل، وزيادة لا حاجة إليها.
((نصيبه من الدنيا قوت)) و(القوت) في أصل اللغة هو ما يقتات به الإنسان من الطعام أو الشراب، ولكنّه هنا تعبير عن الحاجة، لأن الإنسان لا يكفيه الطعام والشراب، بل يحتاج إلى أن يلبس ويشرب ويسكن. والعاقل هو الإنسان الذي يزهد في الدنيا، فلا يخطِّط فيها إلاّ على أساس حاجاته الطبيعية، سواء كانت حاجات مادّية أو معنويّة، في الجانب الفردي أو في الجانب المتَّصل بموقفه ومسؤوليّته الاجتماعية عن الآخرين. فالعقل يقول للإنسان: إنَّ الإنسان لا بدَّ له من أن يكون كلُّ هدفه الذاتي في الحياة هو الكفاف، وهو ما يلبي حاجاته، بحيث لا يحتاج إلى الآخرين، أما ما عدا ذلك فهو فاضل عن حاجاته، ولذلك فإنه يتعب نفسه بطلب ما لا يستفيد منه في أيّ شأن من شؤونه الحيوية، في الوقت الذي ينبغي عليه أن يصرف جهده وطاقته في الأمور الأكثر أهمّيةً على مستوى القضايا الكبرى المتّصلة بحقيقة وجوده ومصيره، والمرتبطة بمسؤوليّته مما أوكل الله إليه أمره في رعايته الناس والحياة.
الهمّ العلميّ:
((ولا يشبع من العلم دهره)). الإنسان العاقل هو الإنسان المتعلّم دائماً؛ لأن العلم لا نهاية له، ولا سيّما إذا انطلق في آفاق العلم حتى يتصل بالله سبحانه وتعالى، سواءً كان العلم الذي يحصل عليه من جانب التأمل والفكر، أو الذي يحصل عليه من خلال التجربة، فالعاقل يقول له عقله: إن العلم هو الذي يعظّم موقعك عند الله وعند الناس، قال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ( )، وفي آية أخرى: يَرْفَع اللهُ الذينَ آمنُوا مِنكُمْ والذينَ أُوتُوا العِلْمَ درجاتٍ( )، وفي الحديث: ((قيمة كل امرئ ما يحسنه)). فبالعلم يكبر عقلك، ويعظُم دورك، وتتأكّد مسؤوليّتُك، وبه تستطيع أن تحصل على خير الدنيا والآخرة. وقد جاء في القرآن الكريم، مما أراد الله لرسوله أن يتعلَّمه، وأراد للأمة أن تتعلَّمه من خلال خطابه للرسول، لأن الله يخاطب الأمة بما يخاطب الرسول، جاء: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا( )، ومعناه أن على الإنسان أن يظل في حركة تصاعدية، بحيث لا يحصل على مرتبة من العلم إلاّ ويحاول أن يتطوّر ويرتفع إلى مرتبةٍ أخرى. وقد ورد عندنا في الحديث: ((منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال)). إنَّ الإنسان إذا شعر أنه أصبح عالماً، بدأ جهله، باعتبار أن الإنسان كلَّما وصل إلى مرتبةٍ من العلم انفتح له جهله في الأمور الأخرى، في الآفاق الجديدة التي يطلّ عليها من خلال العلم الجديد.
وهكذا نجد أن العلماء الآن، سواء علماء الفقه والأصول، أو علماء الفلسفة، بل حتى العلماء الذين يعملون على الاكتشاف في علوم الطبيعة والحياة، نجد أنهم إذا وصلوا إلى مرحلة من الاكتشافات، فإنهم يتطلّعون من خلال اكتشافاتهم إلى آفاق جديدة، فينطلقون نحو تلك الآفاق حتى يستطيعوا أن يكتشفوا كلَّ المناطق الخفية، سواء في آفاق الفضاء، أو في أعماق الأرض، أو في حقول حياة الإنسان. لذلك على الإنسان أن يكون متعلّماً دائماً، بحيث يرتفع بعلمه بكلِّ طاقاته، لأن ذلك هو ما يرتفع به، وتتطوّر به الحياة، وهذا ما يأمر به العقل.
العزَّة المستعارة:
((الذلُّ أحبُّ إليه مع الله من العزِّ مع غيره)). هذه الفقرة تحاول أن تعالج فكرة أخلاقيّة روحيّة، وهي أنّه ربّما يتصوّر بعض الناس أنّ العزَّة إنّما تبلغ مداها من خلال الناس، ولذلك تراهم يحاولون أن يكتسبوا العزَّة بارتباطهم ببعض الأشخاص الذين يملكون النفوذ الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أو الأمني، وما إلى ذلك، ويسحقُون أنفسهم تحت تأثير قوة هؤلاء وسلطانهم ونفوذهم، ليحصلوا على شيء من العزَّة. وقد تناول القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا( )، فالله تعالى وحده العزيز الذي يملك العزَّة المطلقة؛ لأن العزَّة تنطلق من خلال القوَّة، وقد حدَّثنا الله تعالى في آية أخرى: أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا( )؛ لأنه وحده المالك للقوَّة المطلقة بذاته، لا حدّ لقوته، ولا حدّ لقدرته، ولذلك فإنَّ كلَّ عزّة في العالم مستمدّة من عزّته، وكلَّما قرب الإنسان من ربّه أكثر، كان عزيزاً أكثر، لأن قربه من الله تعالى يجعله، في منطق القوّة، عزيزاً بالنسبة إلى الناس، وهذا ما عبَّر عنه الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في دعائه إذا نظر إلى أصحاب الدنيا: ((واعصمني من أن أظنَّ بذي عدم خساسة، أو أظن بصاحب ثروةٍ فضلاً، فإن الشريف من شرفته طاعتك، والعزيز من أعزته عبادتك))، وفي الحديث عن الإمام الحسن(ع): ((من أراد عزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سُلطان، فلينتقل من ذُلّ معصية الله إلى عزّ طاعته))( )، لأن العزة إنما تكتسب من الله تعالى، ومن خلال العلاقة معه سبحانه، ومن خلال الحصول على رضاه الذي هو أعظم من نعيم الجنّة، وَرِضْوَانٌ مِنْ الله أَكْبَرُ( )، فكما أن القوة إنما تكتسب من الله تعالى، فالله هو مالك العزَّة، وهو مالك القوَّة، وقد قال تعالى: قُل اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ).
((والتواضع أحبُّ إليه من الشرف))، يعني الشرف الجماهيري، والشرف الاجتماعي، وهذا يعني أن الإنسان عليه أن يعيش التواضع في كلِّ سلوك حياته، باعتبار أن التواضع للآخرين يمثل معرفة الإنسان بنفسه، ومعرفته بغيره، ولذلك فإن الإنسان عندما يدرس نفسه، فإنه يعرف نقاط الضعف ونقاط القوة عنده، وعندما يدرس الآخرين، فإنه يعرف نقاط الضعف ونقاط القوة عندهم، وبذلك فإنه لا يحتقر الآخرين على أساس نقاط القوة عنده، بل يحترمهم من خلال نقاط القوة عندهم، مقارنةً بنقاط الضعف عنده. ولذلك فإنه يتواضع مع الآخرين، فلا يتكبَّر، لأن التكبُّر ينطلق من جهل الإنسان بنفسه، ما يجعله يرفع شأن نفسه أكثر من قابليتها ومقدارها، وهذا ما علَّمنا إيّاه الإمام زين العابدين(ع) في قوله: ((ولا ترفعني في الناس درجةً إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلةً باطنةً عند نفسي بقَدَرِهَا))، فهو يحاول أن يوازن نفسه بين ما يحصل عليه من الشرف، ومن المكانة الاجتماعية، ومن العزِّ الظاهر لدى الناس، ليقارنه بنقاط الضعف ونقاط الذلّة الموجودة في داخل نفسه، مع أنّه المعصوم، وما ذلك إلا ليعرف قَدَرَ نفسِه، فلا يترفّع بقدر نفسه إلى أكثر مما تستحقّ. فالعاقل لا يعيش الشرف بمعنى الكبرياء والخيلاء، ولكنه يعيش الواقعية في وعيه لنفسه وقدره.
((يستكثر قليل المعروف من غيره))، يعني إذا أعطاه غيره شيئاً، فإنه لا يستقلُّه، لأنه عندما يفكِّر بعقله، فإن عقله يقول له إن هذا الإنسان الذي أعطاك، ليس مسؤولاً أن يعطيك، بل إنه أحسن إليك بذلك؛ لأنّه وإن كان ما أعطاه لك قليلاً في قيمته أو في حجمه، إلا أنّه كبيرٌ في معنى الإحسان، ومعنى العطاء، فهو إذاً يشكر الآخرين على ما أعطوه، ويستكثر العطاء ولا يستقلُّه. وهذا ما نلاحظه من صفات الله سبحانه وتعالى: ((يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير، اقبل مني اليسير واعفُ عني الكثير))، وقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَالله يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ( )، يستكثر بمعنى يقدّر الإحسان، لأنَّ بعض النَّاس لا يقدّر ما تعطيه إيّاه، في الوقت الذي قد لا تملك أنت أكثر مما أعطيته، مما قد يزيد في قيمته المعنوية في معنى الإحسان عن القيمة المادّية التي قد تفوقه ممّا يعطيه إيّاه غيره في هذا المجال.
((ويستقلُّ كثير المعروف من نفسه))، فهو إذا أعطى، فإنه لا يشعر بأن عطاءه أمام حاجة هذا الإنسان كثير؛ لأنه ربما لا يسدّ حاجته، ولكن هذا جهده، وهذه إمكاناته، ولذلك فإنه يشعر بأنه أعطى القليل حتى لو كان كثيراً.
((يرى الناس كلّهم خيراً منه))، فهو دائماً ينظر إلى الجوانب الإيجابية عند الناس، خلافاً لمن يقول لك: أنا الأعلم، وأنا الأتقى، وأنا الأزهد. الإنسان العاقل ينظر دائماً إلى النواحي الإيجابية الموجودة عند الناس، مما قد لا يكون موجوداً عنده، فيراهم خيراً منه، ولو بحجم هذه الأمور التي يتميّزون بها عنه، ولا يتميَّز بها هو عنهم.
((وأنه شرُّهم في نفسه))، بلحاظ نقاط الضعف الموجودة في نفسه، وذلك تواضعاً في معنى القيمة الأخلاقيّة الإنسانيّة، في نظرة الإنسان إلى نفسه. ثمّ يختم الإمام علي(ع) كلّ ذلك بقوله: ((وهذا تمام الأمر))( ). وبذلك نفهم، من خلال كلام الإمام أمير المؤمنين(ع) الذي ينقله ـ حسب الرواية ـ الإمام الكاظم(ع) في وصيته لهشام، أنّ دور العقل هو أن ينفتح بالإنسان على جوانب الخير، وأن يجعل منه إنساناً مميّزاً يتحرك في الحياة، وفي الواقع، وينفتح على كل جوانب الحقيقة في حياته وحياة الناس. وللكلام بقية إن شاء الله تعالى.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثامنة عشرة 9 رمضان 1425 ه - 23/10/2004م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (11)
مرجعية العقل
العاقل لا يكتفي في ما تختزنه شخصيته من طاقة العقل، لكنه يشعر أنّ عليه أن يحرك هذه النعمة لاكتساب المعرفة الوسعة التي تتيح له أن يتعرف كلّ حاجات الناس
علامات العقل
موقع الصدارة
يوميات العاقل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآلهِ الطيبين الطاهرين، وصحبهِ الـمُنتجبين، وعلى جميع أنبياءِ الله الـمُرسلين.
ونبقى في الوصية المرويّة عن الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم، والتي تدور في مجملها حول موضوع العقل. يقول (ع): ((يا هشام، عن أمير المؤمنين (ع)، كان يقول: إن من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سُئل، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء، فهو أحمق)).
علامة العاقل:
إنَّ هذه الكلمات المرويّة عن أمير المؤمنين (ع) تؤكد على أن العاقل لا يكتفي في ما تختزنه شخصّيته من طاقة العقل، بأن يملك هذه الطاقة التي هي سرّ إنسانيّته، في ما أنعم الله به عليه، ولكنّه يشعر أنّ عليه أن يحرّك هذه النعم لاكتساب المعرفة الواسعة التي تتيح له أنْ يتعرّف كلَّ حاجات الناس، في ما يثيرونه من علامات الاستفهام، سواء كان ذلك في ما يتّصل بالجانب الثقافي، أو بالجانب العملي؛ بحيث يبلغ في ثقافته العلمية المستوى الذي يستطيع أن يجيب من خلاله عن كلِّ سؤال، وهذه هي الخصلة الأولى.
والخصلة الثّانية، هي أن ((ينطق إذا عجز القوم عن الكلام))؛ يعني أن يملك هذا العاقل العلم في درجاته العليا، بحيث يتفوَّق ما أمكنه على الناس الذين من حوله ممن يملكون موقعاً أو درجةً معيّنة من العلم، بحيث إذا توجَّه الناس إليهم بالسؤال، وعجزوا عن الإجابة لجأ النّاس حينها إلى العاقل، لأنه مَلَكَ من العلم الدرجة العليا، التي تجعله ينطق حيث يسكت الآخرون ويتحدث حيث يعجزون. وقد نُقِل أنّ بعض الأئمة (ع) كانوا يجلسون في المسجد، وكان العلماء أيضاً يجلسون في المسجد، فإذا جاء السائل، وعجز العلماء عن الإجابة على أسئلته، أو عن حلّ مشكلته، أشاروا عليه أن يسأل الإمام (ع)؛ لأنّه وحده الذي يملك الجواب عن سؤاله، لما يتميّز به عن غيره من العلم الغزير الواسع، ما يوحي بأنّ الأئمّة (ع) إنّما فرضوا أنفسهم على الناس في عصرهم من خلال علمهم الواسع، ومعرفتهم العميقة بالله وبالإسلام؛ حتّى كانت أولى الصفات التي ينقلها المؤرّخون عن واحدهم أنّه كان أعلم أهل زمانه.
والخصلة الثالثة: ((ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاحُ أهله))؛ أي أن يكون هذا العاقل، صاحب خبرةٍ واقعيَّة كبيرة، تجعل منه المستشار الذي يستشيره الناس في كلِّ أمورهم، سواء كانت أموراً خاصّةً أو عامّةً، وسواء كانت مما يتَّصل بالحياة اليومية العاديّة، أو بالحياة السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو الأمنية، وما إلى ذلك.
وخلاصة هذه الخصال الثّلاث: إنَّ على العاقل أنْ يكون الإنسان الذي يمتلئ عقله بالمعرفة بالمستوى الذي يرجع الناس إليه في كلِّ أمورهم، بحيث يجيب إذا سُئل، فلكلِّ سؤال جواب عنده، وينطق إذا عجز الآخرون عن إعطاء العلم، ويشير بالرأي إذا استشاره الآخرون في ما يحتاجونه إليه من رأي.
ومن الطبيعي أن ليس كلُّ العقلاء يملكون ذلك، ولكن ربما كانت كلمة الإمام علي (ع) ـ حول هذا الموضوع ـ توحي بأنه ينبغي للعاقل أن يكون كذلك، أن يحرّك عقله من أجل تحصيل المعرفة، بالمستوى الذي يصير فيه مرجعاً للناس في الإجابة عن أسئلتهم، وفي النطق بكلِّ ما يريدونه منه، وفي إعطاء المشورة الواقعية في ما يستشيرونه فيه.
ثم يقول الإمام (ع): ((فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء))، ولو واحدة، ((فهو أحمق))؛ فأيُّ حُمق أشدُّ وأكثر من أن توضع بين يدي إنسان كل الفرص لينمو علمياً، ليكون مرجعاً للناس في علمه وخبرته، ولكن الكسل يقعده عن الأخذ بأسباب ذلك! إذ العاقل هو الذي يأخذ من خلال عقله الضوء الذي يمتد بالمعرفة في كلِّ ما يحتاجه، أو ما يحتاجه الناس منه.
موقع الصدارة:
ثم يقول (ع): ((إنّ أمير المؤمنين (ع) قال: لا يجلس في صدر المجلس إلاّ رجل فيه هذه الخصال الثلاث)). إي إنّه إذا لم يكن الإنسان قادراً على الإجابة عندما يُسأل، ولا أن ينطق إذا عجز القوم، ولا يشير بالرأي الذي فيه الصلاح، فهذا الإنسان ليس له أن يجلس في صدر المجلس؛ لأن صدر المجلس هو للإنسان المميَّز، الذي يملك العلم والرأي، والنطق بالمستوى الذي ينطلق المجلس كله ليسأله، وليتحدث معه، وليرجع إليه. وعلى ضوء هذا، نستفيد أن العقل يفرض على الإنسان أن ينطلق في المعرفة بكلِّ أوضاعها، وبكلِّ مفرداتها.
ثم يحدّث الإمام الكاظم (ع) عن الإمام الحسن (ع): ((وقال الحسن بن علي (ع): إذا طلبتم الحوائج، فاطلبوها من أهلها))، أيْ من الأشخاص الذين يملكون تلبية هذه الحوائج بتنوّعاتها. فقد تكون الحوائج ثقافةً، وقد تكون في السياسة، وقد تكون متعلّقة بالواقع الاجتماعي، أو بالواقع الأمني، وما إلى ذلك، وحاجات الناس مختلفة في كلِّ ما يعيشونه من أمور حياتهم، فإذا أردت أن تطلب حاجة من شخص، فحاول أن تدرسه؛ هل هو أهلٌ أن تطلب منه حاجتك؟ وهل يملك تلبية هذه الحاجة بما يملك من قدرات فكرية وروحية وواقعية؟ وهل يملك الأخلاق التي تجعلُه يحترم طلباتك؟ ويحترم ما تبذله له من عزّة نفسك؟ ادرس الشخص الذي تطلب منه حاجتك، قبل أن تطلب حاجتك منه.
((إذا طلبتم الحوائج، فاطلبوها من أهلها، قيل: يا بن رسول الله ومَن أهلها؟ قال: الذين قصَّ الله في كتابه ذكرهم، فقال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ}{الزمر/9}))، يجيب الإمام ويفسر: ((هم أهل العقول))؛ يعني: اطلب حاجتك من العقلاء؛ لأن العقل يدعو الإنسان إلى الكمال، وإلى احترام الناس الآخرين، وبه يقضي الإنسان حوائج الآخرين، أو يُساعدهم في قضائها على الأقلّ.
وينقل عن الإمام علي بن الحسين(ع) قوله: ((مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح))؛ يعني: إذا أردت أن تجالس، فعليك أن تجالس أهل الصلاح، باعتبار أن الصالحين هم الذين انفتحوا على الله سبحانه وتعالى، وهم الذين واجهوا الحياة من موقع الصلاح، فأخذوا به، واجتنبوا الفساد في كلِّ ما يتحرّك في الحياة من شرور وآلام، وما إلى ذلك. فإذا أردت أن تجالس أحداً، فجالِسِ الصالحين؛ لأن ذلك يدعوك إلى الصلاح. وكما قال الشاعر:
صاحب أخا ثقة تحظى بصحبته فالطـبع مكتـسب من كل مصحوبِ
والريح آخذة ممـا تـمرُّ بـه نَتْـنَاً من النَتـْنِ أو طِيـبَاً مِنَ الطِيـبِ
لأن الإنسان عادة ما يتأثر بالناس الذين يجالسهم.
يوميّات العاقل:
((وآداب العلماء زيادة في العقل))؛ فعليك أن تتأدّب بآداب العلماء، وأن تعيش معهم، وأن تأخذ من علومهم وآدابهم؛ لأن كل ما تأخذه من علم العلماء، ومن آدابهم، يقوّي وعي عقلك للأشياء؛ فكما العقل ينتج العلم بالتأمّل، كذلك فإن العقل ينمو ويقوى بواسطة ما ينفتح عليه من العلم.
((وطاعة ولاة العدل تمام العزّ))؛ يعني إذا كنت في مجتمع، وكان أولياء الأمور هم أولياء العدل، أي الذين يملكون شرعية الحكم، من خلال ما وضعهم الله تعالى فيه من المراكز، فإن عليكَ أن تقترب منهم، وأن توثّق علاقتك بهم، وبذلك يعظم قدرك، وتحصل على العزِّ في طاعاتهم، لأنهم لا يأمرون الناس إلاّ بالعدل.
((واستثمار المال تمام المروّة))، والمروّة هي ـ بحسب المصطلح كما يقول اللغويون ـ الإنسانية، وهي ـ في تفسير آخر ـ الرجولة، ولذلك يقال إن فلاناً له مروّة، يعني أنه يملك الإنسانية في عناصرها وخصائصها، وكلّ امتداداتها في الحياة، وفي كل آفاقها، وهي تختصر في معناها عناصر الإنسانية في الإنسان، وعناصر الرجولة في الرجل. فمن المروءة التي توحي للإنسان بتنمية إنسانيته، وتقوية مواقعها، هو أن تستثمر المال الذي تملكه؛ لتقوّي بذلك مواقع إنسانيتك في تلبية حاجاتك، فلا تحتاج إلى أحَد، وتستخدمها في إعانة الناس من حولك.
ويقول الإمام (ع): ((وإرشاد المستشير قضاءٌ لحقِّ النعم))؛ فإذا استشارَك أحدٌ في أمر، كان لك ما تشير به عليه؛ لأنَّ الله تعالى رزقك رأياً تملك فيه أن تعطي الناس ما يحتاجونه في حلِّ مشاكلهم، وفي استقامة أمورهم، فإن ذلك قضاءٌ لحق النعم، لأن الرأي الذي تملكه والذي حصلت عليه من خلال عقلك، ومن خلال ما ألهمك الله إيّاه؛ تقضي به حق النعمة، وهي نعمة ما أعطاك الله سبحانه وتعالى من هذا الرأي.
وقد ورد في بعض الأحاديث: ((من استشاره أخوه، ولم ينصحه، سلبه الله رأيه)). وهذا ما يوحي به الحديث القائل: ((بالشكر تدوم النعم))، وقبله قوله تعالى: {لئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزيدَنَّكُمْ}{إبراهيم/7}، حيث إنّ شكرَ كلّ نعمة بحسبها، وقد ورد هذا المعنى عن الإمام الصادق(ع)، إذ يقول: ((إنّ الله لم يُنعم على عبدٍ نعمةً إلا وقد ألزمه فيها الحجّة من قِبَله. فمن منّ الله عليه فجعله قويّاً، فحجّته عليه القيام بما كلّفه واحتمال من هو دونه ممّن هو أضعف منه، ومنْ منّ عليه فجعله موسّعاً عليه، فحجته عليه ماله ثم تعاهده الفقراء بعد بنوافله، ومن منّ الله عليه فجعله شريفاً في قومه، جميلاً في صورته، فحجته عليه أن يحمد الله تعالى على ذلك، وأن لا يتطاول على غيره، فيمنع حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله)).
((وكف الأذى من كمال العقل))؛ لأنَّ الإنسان الذي يؤذي الناس، فإنّ أذاه للناس يرتدّ عليه، من خلال إثارة الكثير من المشاكل التي تكون ردّ فعل من قبل الناس على ما فعله، وهكذا. فإنّ الأذى الذي يثيره الإنسان، قد يجعله يعيش في حالة نفسيّة معقّدة. وقد يبتليه الله سبحانه وتعالى ببلاء أكبر مما أثاره بالنسبة للآخرين، ولذلك كان كفُّ الأذى من كمالِ العقل، لأنَّ العقل يقول لك: إذا كففت أذاك عن الناس، وعشت السلام والخير والمحبة لهم، فإن ذلك يرفع قدرك، ويحببك إليهم، وتستطيع من خلال ذلك أن تحصل على الكثير من الخير في حياتك. ((وفيه راحة البدن عاجلاً وآجلاً))؛ لأن الذي يكفُّ أذاه عن الناس، فإنَّه يرتاح في بدنه، لأنه لن يسيء إليه أحد من قريب أو من بعيد.
((يا هشام: إنَّ العاقل لا يحدّث من يخاف تكذيبه))؛ يعني إذا أردت أن تحدِّث الناس بشيء، فعليك أن تضمن سلامة الحديث، وقابلية الناس الذين تحدّثهم، أن لا يبادروا إلى تكذيبك، إما لأنهم يعيشون التخلّف، أو العناد، أو العصبية، كما قال الله تعالى: {خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}(البقرة/7)، فإذا عرفت أن بعض الناس الذين مهما تكلَّمت معهم، فهُم مستعدّون لأن يكذِّبوك، وأن يتمرّدوا عليك، وليسوا مستعدّين للدخول في حوار معك، فاتركهم، ولا تتحدث إليهم.
((ولا يسأل من يخاف منعه))؛ ولا يسأل أيضاً حوائجه من الإنسان الذي لا يضمن أنه سيعطيه ما سأله، بل إنّه يعرف مسبقاً، أو يخاف، أنّه إذا طلب الحاجة من هذا الإنسان، فإنه يمنعه، فلماذا يبذل هذا الجهد، ولماذا يُسقط نفسه عنده؟
((ولا يَعِدُ ما لا يقدر عليه))، فلا تعد إنساناً بشيء، إما بعطاء، أو بموعد، أو بمساعدة، وما إلى ذلك، إذا كنْتَ تعرف أنَّك لا تقدر عليه، فإذا أردت أن تَعِدَ النَّاس بشيء، سواءً كان هؤلاء الناس من أهلك، أو كانوا من الآخرين، فإن عليك أن لا تعد بما لا تقدر عليه، لأنك ستبرز أمامه كاذباً، أو مخلفاً للوعد.
((ولا يرجو ما يُعنف برجائه))، أي لا يرجو الشخص الذي يمكن أن يعنّفه، أو يصدمه.
((ولا يقدم على ما يخاف فوته بالعجز عنه))؛ فإذا كان الشيء ممّا تخاف فوته بسبب عجزك عنه، فلا تقدم عليه، سواء كان العجز ذاتيّاً أو من خلال الظروف المحيطة بك؛ لأنّك لا تستطيع أن تصل إليه.
هذا بعض ما جاء في هذه الوصية، وعلينا أن نتابع بعض الفقرات الأخرى، لنتعرّف العقل في مفهوم الإسلام، لنرتفع في العالم كله، من خلال الانفتاح على العقل كله، في كل مواقع الحياة، وفي كل مواقع الآخرة، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ}(المطففين/26).
والحمد لله ربِّ العالمين
المحاضرة الثامنة عشرة 9 رمضان 1425 ه - 23/10/2004م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (12)
الحياءُ من اللّه
على الإنسان أن يكون في كلِّ أعماله وأقواله وتصرّفاته، شاعراً بالحياء من الله سبحانه وتعالى
الشكر المتواصل
أنماط الاستحياء
الأخلاق لا تتجزأ
اللعن والسباب
حادثتان من سيرة علي(ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
من وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم، بعض ما يتصل بالموعظة، وفيها: ((يا هشام: رحم الله من استحيا من الله حق الحياء، فحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وذكر الموت والبلى)).
الشكر المتواصل:
من الأمور التي يركِّز عليها الإسلام، في أكثر من نصٍّ يتناول علاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى، أن يبقى الحياء لدى الإنسان، بحيث يتعامل مع الله سبحانه وتعالى في كلِّ سلوكه، تعامل مّنْ يستحي منه، نتيجة ما يقدّمه له من فيوضات وألطاف وخدمات، مما يفرض على الإنسان أن يكون في كلِّ أعماله وأقوله وتصرّفاته، شاعراً بالحياء من الله سبحانه وتعالى عند كل عمل سلبي، أو قول سلبي يريد أن يرتكبه، وأن يعيش التعامل معه من خلال الشعور بتقدير ما يقدّمه إليه، وشكـره على كلّ نعمه.
ولعلَّنا نلاحظ ـ في ما جاءت به الأدعية ـ كيف أن الإنسان، في اعترافاته بين يدي الله سبحانه وتعالى، يحاول أن يقرّع نفسه، باعتبار أنه في علاقته بالله سبحانه وتعالى يتحرّك من دون حياء؛ فنقرأ مثلاً في دعاء (أبي حمزة الثمالي): ((تتحبّب إلينا بالنِعم ونعارضك بالذنوب، خيرك إلينا نازل، وشرنا إليك صاعد، ولم يزل ولا يزال ملك كريم يأتيك عنّا بعمل قبيح، فلا يمنعك ذلك من أن تحوطنا بنعمك، أو تتفضَّل علينا بآلائك، فسبحانك ما أحلمك، وأعظمك، وأكرمك مبدئاً ومعيداً)). إنّ الإمام زين العابدين(ع)، في هذا الدعاء، يحاول أن يستحضر نِعم الله تعالى عليه، الذي يقول في محكم كتابه العزيز: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ الله( )، ويستحضر ردّ الفعل منه أمام هذه النعم.
فالله سبحانه وتعالى يفيض على الإنسان من نعمه، ولكن الإنسان يتحرك في رد فعل على هذه النِعم التي هي سر وجوده، وسر حياته، وسر أوضاعه كلّها، بالذنوب والمعاصي والشرور، وما إلى ذلك. وهذا ليس حالة طارئة في حياة الإنسان، ولكنها حالة يومية، تتحرّك في حجم الزمن كله، في عمر الإنسان كلّه.
ونقرأ في دعاء الافتتاح: ((اللهم إن عفوك عن ذنبي، وتجاوزك عن خطيئتي، وصفحك عن ظلمي، وسترك على قبيح عملي، وحلمك عن كثير جرمي، عندما كان من خطأي وعمدي، أطمعني في أنْ أسألك ما لا أستوجبه منك، الذي رزقتني من رحمتك، وأريتني من قدرتك، وعرّفتني من إجابتك، فصرتُ أدعوك آمناً، وأسألك مستأنساً، لا خائفاً ولا وجلاً)) بالرغم من كلِّ ذنوبي، ((مدلاً عليك)) حيث هو شعور العبد بالدالة على ربّه سبحانه، ((في ما قصدت فيه إليك، فإن أبطأ عني))، حيث طلبت منك ولم تجبني، ((عتبت بجهلي عليك))، لماذا يا ربي لم تجبني، ولم تعطني ما سألتك؟ ((ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور، فلم أر مولىً كريماً أصبر على عبد لئيم منك عليّ يا ربِّ، إنك تدعوني فأُولّي عنك، وتتحبّبُ إليَّ فأتبغّض إليك، وتتودَّد إليّ فلا أقبل منك، كأن لي التطوَّل عليك))، وكأني أنا المنعم، وأنا المتفضّل! ((فلم يمنعك ذلك من الرحمة لي والإحسان إليّ، والتفضّل عليّ بجودك وكرمك)).
تلك هي الحالات التي يصوِّر لنا فيها الدعاء تقصير الإنسان مع ربه، هذا الدعاء الذي هو مدرسة ثقافية تفصّل للإنسان كل مفردات العلاقة بالله سبحانه وتعالى، في مفاهيمها التي تجعله يعيش العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، ليؤكد رحمته ولطفه وعظمته بالنسبة إلى الإنسان. وهذا ما ينبغي لنا أن نعيشه، ولا سيّما في شهر رمضان، شهر الدعاء، وذلك بأن ندرس التراث الإسلامي في الدعاء، ممّا حفل به القرآن الكريم، وحفلت به السُنّة النبوية الشريفة في أدعية النبي(ص)، وحفلت به أدعية الأئمة(ع)، وفي مقدّمتها أدعية الإمام علي(ع)، وأدعية الإمام زين العابدين(ع)، التي تمِّثل مدرسة ثقافية وروحية وإسلامية متحركة، تجعل الإنسان يخرج من الدعاء وهو يعيش الإسلام كله، في مفرداته الروحية، والاجتماعية، السياسية، والنفسية، والحركية.
لذلك كان الحياء أمام الله سبحانه وتعالى من الأمور التي يؤكد عليها الإسلام؛ الحياء الذي يدفعه إلى أنْ يراقب الله سبحانه وتعالى في كلِّ ما يعمل، وهذا ما أكّدت عليه الوصية، إذ يقول(ع): ((رحم الله من استحيى من الله حقَّ الحياء)).
أنماط الاستحياء:
ثم يعطي(ع) نموذجاً، والنماذج التي يُمكن طرحُها كثيرة: ((فحفظ الرأس وما حوى)) من كلّ ما اشتمل عليه الرأس، من العينين والأذنين والفم واللّسان، بأن يحفظها مما حرّم عليها، بمعنى أن يدفعك حياؤك لله تعالى، أن لا تنظُر بعينك، وأن لا تسمع بأذنك، وأن لا تنطق بلسانك ما حرّم الله عليك. وإذا أردنا أن نتوسع في مسألة حفظ الرأس وما حوى، باعتبار أن الدماغ قاعدة الفكر الإنساني، وأساس الحياة الإنسانيّة برمّتها، فإننا نستطيع أن نقول إنّ المراد من حفظ الرأس وما حوى، أن يحفظ العقل أيضاً، على اعتبار أنّ مركزه المادي والحركي هو الرأس. وحفظُ العقل يكون من كلِّ ما لا يريد الله سبحانه وتعالى للعقل أن يتحرك فيه، كالتخطيط للشرّ، وكل ما لا يريد الله تعالى للإنسان أن يخوض فيه، مما يمكن أن يسقط حياة الناس الخاصة والعامة.
أمّا النّموذج الثاني في قضيَّة الاستحياء من الله سبحانه وتعالى، فهو قوله(ع): ((والبطن وما وعى))؛ والبطون تعي الطعام والشراب، وما أُلحق بهما ممّا تعيه البطون، كالمخدّرات مثلاً، وما شابه. والمقصود هنا هو ما يدخل في الجوف، وما يترك من تأثير سلبي في بعض المواقع، باعتبار أن الطعام والشراب يمثّلان ضرورات للإنسان في استمرار حياته. فقد يختار الإنسان طعاماً وشراباً حرّمه الله تعالى عليه، وقد يختار منهما ما أحلّه الله تعالى له، وقد يختار بعض ما يرهق عقله وروحه وجسمه، ويجعله يعيش بعيداً عن خطِّ التوازن، وهو المخدّرات، وما أشبهها في ذلك كله. هنا ـ أيضاً ـ لابد للإنسان أن يحفظ بطنه، فلا يُدخل إلى جوفه أيّاً ممّا حرّمه الله سبحانه وتعالى.
ومن الأمور التي أراد الإمام(ع) أن يؤكدها في مسألة الحياء من الله تعالى: أن لا يستسلم الإنسان للحياة، والاستسلام ـ هنا ـ بمعنى الاستغراق في الدنيا، في كلّ نشاطاته وأوضاعه وعلاقاته ومعاملاته، كما لو كانت خالدة، فلا ينفتح على الآخرة؛ إذ على الإنسان أن يستحيي من الله سبحانه وتعالى في ذلك؛ لأن استغراقه في الدنيا، واستسلامه لها، وإخلاده إلى الأرض، يبعده عن الآخرة، ويبعده عن القيام بالمسؤوليات التي فرضها الله تعالى عليه، من المسؤوليات العامة والخاصة. وذلك إنّما يكون من خلال ذكر الموت، وما بعد الموت من الحياة الآخرة، التي تمثل المصير النهائي الخالد للإنسان، والذي قد يؤدي به إلى النعيم، وقد يؤدي به إلى الجحيم، وقد ينفتح به على رضوان الله تعالى، وقد ينفتح به على سخط الله تعالى.
ثم يؤكِّد الإمام(ع) في هذه الوصية على حقيقة، وهي: ((وعلم أنَّ الجنة محفوفةٌ بالمكاره، والنار محفوفة بالشهوات)). إن على الإنسان أن يعرف أنّ الطريق إلى الجنة هو الحركة في خطِّ المسؤوليات التي فرضها الله تعالى عليه؛ فالله تعالى أوجب الكثير من الواجبات التي قد لا يقبل الإنسان عليها إلاّ إذا أكره نفسه عليها، لأنها تستلزم جهداً هنا، وحرماناً هناك، وما إلى ذلك، مما يعتبر من المكاره، التي يرفضها الإنسان بحسب طبيعته. أما النار، فهي محفوفة بالشهوات؛ لأن النار تتحرك في خط الأخذ بما حرّمه الله تعالى، وبما أبغضه.
وهذا ما يجعلنا نخْلُص إلى فكرةٍ، مفادها أنّ على الإنسان في ما يعيش فيه الحياء من الله تعالى، أن لا يرفض المسؤوليات التي فرضها الله عليه لأنه سوف يواجه حرماناً في التزامه بمسؤولياته، ولأنه سوف يتحرك بما تكرهه النفس التي هي أمَّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربي، بل عليه أن يتحمَّل كلَّ المكاره حتى يحصل على الجنة، وفي الجانب الآخر، أن يترك كل الشهوات حتى يتجنّب النار.
الأخلاق لا تتجزأ:
ثم يتابع الإمام(ع) في وصيته في ما يتعلَّق بعلاقة الإنسان بالآخرين، والنتائج الإيجابية التي يحصل الإنسان عليها من خلال ذلك: ((يا هشام: من كفّ نفسه عن أعراض الناس أقال الله عثرته يوم القيامة)) وكلمة (أعراض الناس) كناية عما يتَّصل بكرامات الناس، وكفّ الإنسان نفسه عن أعراض الناس، بأن لا يتحدث عنهم إلاّ بالخير، ولا يتحدث عنهم بالبهتان، أو السب، أو الشتم، وما إلى ذلك، مما أراد الله تعالى للمؤمن أن يعصم نفسه عنه، وممّا أراده منه بأن يحترم الناس الآخرين في مجتمعه، كما جاء في الحديث الشريف: ((عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به)).
وربّما يحسُن هنا التوقّف عند مسألة اختلف عليها الفقهاء، وهي تحريم بعض الأخلاق السيّئة، كالغيبة مثلاً، في مورد خاص، وعدم تحريمها في كلّ الموارد، ويحصُرون حرمتها في دائرة المذهب فقط، بمعنى أنّ من لا يجوز لك غيبته، إنّما هو الذي ينتمي إلى مذهبك، والمقصود به خطّ أهل البيت(ع)، أما سائر الناس، سواء كانوا مسلمين لا يلتزمون خطَّ الإمامة أو خط الموالاة، أو كانوا غير مسلمين، فلك الحرّية في أن تذكر عيوبهم المستورة، وأن تسبهم، وتلعنهم، وأن تسيء إليهم بالكلام، حتى إن البعض يرى جواز البهتان عليهم، بمعنى أن تنسب إليهم ما لم يفعلوه؛ فالمسألة الأخلاقية محصورة في الدائرة المذهبية فقط، أما المسألة الأخلاقية بالنسبة إلى الناس كافة، فلستَ ملزماً بأن تكون أخلاقياً.
ولكننا ـ في مقابل ذلك ـ نرى أنّ الأخلاق لا تتجزَّأ، ولذا، فإنّ عليك أن تكون أخلاقياً مع كلِّ الناس؛ لأنّ المسألة الأخلاقيّة في الإسلام تقوم على أن تكون الأخلاق جزءاً من شخصيّتك في البناء الذاتي لإنسانيّتك في عناصرها القيمية، تماماً كما هي الشمس التي تطلع على البرّ والفاجر، وكما هو الينبوع الذي يروي الأرض الخصبة والأرض الجديبة، دونما تفكير بوجود مقابل؛ وقد تتحوَّل الأمور إلى ما يشبه التبادل التجاري، فتزور فلاناً لأنّه زارك، وتصله لأنّه وصلك، وتعطيه لأنّه أعطاك؛ إذ إنّ ذلك يُصبح بمثابة العملية التجارية، لا الأخلاقيّة؛ لأنّ الأخلاق الإسلاميّة تقول لك، كما في الحديث الشريف: ((ألا أنبئكم بمكارم الأخلاق؛ أن تصل من قطعك، وتعفو عمّن ظلمك، وتعطي من حرمك))؛ فنجد أنه لم يفصل بين جماعة وأخرى، يعني كما يقول الإمام زين العابدين(ع) في دعاء (مكارم الأخلاق): ((وسدّدني لأن أعارض من غشَّني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافي من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأن أشكر الحسنة، وأغضي عن السيئة))، فهو يتحدث بشكل عام عن العلاقة مع الناس الآخرين، من دون تفصيل لمن تتوجّه إليه. والقرآن الكريم الذي يجعل للإنسان الحق في أن يقتص ممن اعتدي عليه، ولكن بعد ذلك يقول الله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى( )، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ( ).
اللعن والسباب:
فلذلك، نجد أن الأخلاق الإسلامية ليست موجّهة للآخرين، إنما هي من أجل صياغة شخصيَّة الإنسان المسلم، حيث يُراد له أن يكون إنسانيّاً عندما يعيش بين الناس ويتعامل معهم، وذلك بأن يشعر المجتمع بالسلام والراحة معه، وهذا ما نقرأه في بعض كلمات الإمام علي(ع) عندما يتحدَّث عن صفة المؤمن: ((الناس منه في راحة، وبدنه منه في تعب)). معناه أن يعيش الإنسان المسلم مع المسلم، ومع الكافر، مع أبناء مذهبه، ومع أبناء المذهب الآخر؛ بحيث يكون الناس مرتاحين معه، لا يشعرون بأيّ ثقلٍ أو أذىً من جهته. كما نلاحظ ـ في هذا المجال ـ أنّ الإسلام، في مسألة السبّ، يعتبر أنّ كلَّ فعل يستدعي ردَّ فعل، وذلك يعني أنّ في الأخلاق بعداً اجتماعياً، لا ذاتيّاً فقط، فالله تعالى يقول: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله فَيَسُبُّوا الله عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ( ). فعندما تعيش في مجتمع متعدد الاتجاهات، فيه المؤمن والكافر والمشرك، فالله تعالى يقول لك ـ بحسب الآية ـ: إنك إذا سببت مقدَّسات هؤلاء، فسوف يسبّون لك مقدّساتك، ويعلّل ذلك بقوله عزّ وجلّ: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ؛ أيْ لأن كل إنسان يرى نفسه أنه على حق، وأن مقدّساته هي المقدسات.
قد يقول البعض: إنّ السبّ غير اللعن من حيث المفهوم، حيث اللعن هو دعاء لله بالإبعاد لمن تلعنه. ولكنّنا نقول: إنّه وبالرغم من اختلاف اللعن والسبّ بحسب المفهوم، لكن النتائج السلبية التي يختزنها اللعن هي نفس النتائج السلبية التي يختزنها السبّ. فكما أنك إذا سببت مقدَّسات الآخرين، فإن الآخرين سوف يسبّون مقدّساتك، للعلّة التي ذكرها الله سبحانه بقوله: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ، فكذلك اللعن؛ فإذا لعنتَ ما يحترمه الآخرون ويقدّسونه، فإنهم قد يلعنون ما تحترمه وتقدسه. وبعبارة أخرى: إنّ العلة، وهي قوله تعالى: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ، وإن وردت في مسألة السبّ، ولكنَّ العلة أعمّ، ولذا فهي تعمّم الحكم لكلّ مورد وجدت فيه العلّة، وهذا ما قرّر في علم أصول الفقه، من أنّ العلّة تخصّص وتعمّم. كما أنّ ورود اللعن في القرآن الكريم لا يعني أنه ينافي ما ذكرناه، فإنّ الله سبحانه وتعالى لعن الخطّ والمبدأ السائرين فيه، والمورد هنا هو قداسة الشخص، أو الشيء، بعنوانه الذي يكون به مقدّساً لدى هذا الفريق أو ذاك.
وفي هذا المجال، نجدُ أنّ عليّاً(ع)، ومع أنّه كان في حربٍ مع معاوية، في صفّين، بسبب تمرّد الأخير على الخلافة الشرعيّة، وعبثه بأمن المسلمين ومقدّراتهم، ما كان يمكن أن يؤدّي إلى إسقاط الواقع الإسلامي برمّته، وبعد أن أغرقه الإمام بالرسائل الناصحة والمقنعة، وما إلى ذلك، وبقي في حالة تمرد وحالة عناد، وعبّأ جيشه، لأن الخلافة كانت هي ما يدور في خلده، وذهب الإمام(ع) لمقاتلتهم؛ ومع ذلك، نجد هناك حادثتين تشيران إلى الهدف الإسلاميّ الكبير الذي كان يسير عليه الإمام(ع)، وهو أن يكون جيشُه إسلاميّاً ورسالياً لا يفكّر فقط كيف يقتل الخصوم، بل يفكّر كيف يهديهم، يحمل همّ الرسالة، ولا يقاتل على أساس الحقد والبغضاء.
حادثتان من سيرة علي(ع):
الحادثة الأولى، هي ما يُنقل في نهج البلاغة، من أنّ القوم استبطأوا إذنه لهم بالقتال، وسمعهم يتساءلون عن السبب في ذلك، هل هو كراهية الموت، حيث إنّ الإمام تقدّم به العمر، والإنسان إذا شاب شبّ فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل، أو أنّ الإمام حصل عنده الشكّ في شرعيّة الحرب، فلذلك أبطأ في الإذن؟! فقال(ع) لهم: ((أما قولكم أكان ذلك كراهية الموت، فوالله ما أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ))؛ فأنا لا أزال ذاك الذي لا يبالي أَوَقع على الموت أو وقع الموت عليه؛ لأنه صاحب رسالة، وليس إنساناً يعيش لذاته ونفسه، وهذا ما نتعرف عليه من خلال ما روي أنه عندما كان رسول الله(ص) يخطب، ورآه علي(ع) يبكي، فقال له: ـ حسب الرواية ـ ((ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر))، فنحن لو نتصور القضية بأن شخصاً يخبرك أنّه بعد أيام ستفقد حياتك، فأي حالة نفسية ستكون فيها؟! فتقول الرواية أنه قال: ((يا رسول الله أفي سلامة من ديني؟)) فليست المشكلة أن أعيش أو أن أموت، ولكن عندما أقتل هل أقتل ودين سالم؟!، ((قال: بلى، قال: إذاً لا أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إليَّ))( ). ثمّ تابع خطبته(ع): ((وأما قولكم إن ذلك كان شكاً في أهل الشام، فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلاّ وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبُّ إليّ من أن أقاتلها على ضلالها وإن تبوء بآثامها))( )، فالحرب عندي وسيلة ضغط، لا غاية، فعندما أضغط عليهم فلعلّهم يفكرون بما أطرحه عليهم من الحق.
الحادثة الثانية، هي عندما سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام المتمثّل بهم جيش معاوية آنذاك، فوقف خطيباً وقال لهم: ((إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين)) ، فإن شيعتي ليست الشيعة التي تعتبر السبَّ هو الأسلوب الذي تواجه به خلافاتها مع الآخرين، بل هي الجماعة التي تأخذ بالخطّ الإسلامي الأصيل في أخلاقيّاته وقيمه الروحيّة والإنسانيّة. ((ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم))؛ يعني قلتم إنّ هؤلاء قوم تمرّدوا وأخلّوا بالنظام، وأرادوا أن يسقطوا الواقع الإسلامي، ((كان أصوب في القول وأبلغ في العذر))؛ لأنّ الناس عندما يسمعون منكم وصف أفعالهم وذكر حالهم، ممّا يمثّل الحجّة التي ترتكزون عليها في حربهم، فإنّه سيكون أبلغ في التماس الناس العذر لكم. ثمّ يعلّم الإمام(ع) أصحابه كيف ينبغي أن تكون الروحيّة التي ينطلقون بها تجاه الآخر: ((وقلتم مكان سبّكم إياهم، اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به)) ( )، أي أن لا تكون روحيّتكم في مواجهة المسلمين الآخرين، والذين يختلفون معكم في كثير من الخطوط الفكرية والعملية، أن لا تكون روحيّة الحقد، بل أن تكون الروحيّة التي تبحث عمَّا يمكن أن يجمع المسلمين، ويبصّرهم الحقيقة بالأساليب التي تدخل إلى عقول الآخرين.
فالإمام علي(ع) هو رائد الوحدة الإسلامية، وهو صاحب الحق، وإننا مؤمنون بحقه، لكنه كان يقول كلمته الخالدة: ((لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصة))( ). أي إذا كان الظلم عليّ خاصّة، فلا مشكلة، ولكن المهمّ أن لا يظلم الإسلام. ولكننا بحسب الواقع الموجود عندنا، سواء ما يحمله المسلمون السُنّة ضد الشيعة، أو ما يحمله المسلمون الشيعة ضد السنّة، نتحدث دائماً عمَّا يثيرهم ضدّنا، وهم يتحدثون عمّا قد يثيرنا ضدّهم، وتكون المسألة عندئذٍ فعلاً وردَّ فعل، وقد تصل المسألة إلى التكفير والتضليل، وتنتهي إلى القتال، وإلى سفك الدماء.
إنَّ الإسلام يريد للمسلم أن يكون أخلاقياً يحمل القيم الأخلاقية والإنسانية والروحية في شخصيته، أمام العالم كله، حتى يعرف الناس الإسلام من خلال أخلاق المسلمين، كما كان شأن رسول الله(ص)، بما حدَّثنا الله تعالى عنه في قوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ( )، وقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ( )، حتى إنّ أحد العناصر الأساسية في نجاح النبي(ص) في دعوته، هو أخلاقه؛ لأنَّ دور صاحب الرّسالة أن يجذب الناس إلى رسالته وقضيّته، ومن الطبيعي أنّه عندما يستخدم الأساليب الحادّة فإنّ الناس سوف يتغرّقون عنه. ونحن نقرأ في القرآن الكريم، أنّ على الإنسان أن يعمل لجعل الناس أصدقاءه، لا بمعنى أصدقائه الشخصيين، بل أن يكونوا أصدقاءه في القضية، وفي الرسالة، وفي الأمة؛ قال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ( )، يعني أيها المسلمون، حاولوا أن تتحرّكوا بالأسلوب الذي يجعلكم أصدقاء العالم.
وهنا كلمة للإمام علي(ع): ((أعجز الناس من عجز عن اكتساب الأخوان))( ). ثمّ إنّ الإمام(ع) يعلّمنا معنى الواقعيّة في العلاقات الاجتماعية، فيقول(ع): ((أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما))( )؛ أي لا تنسف كلَّ الجسور مع من تختلف معه، ولا تربط كل الجسور مع من تتفق معه، فاجعل لك جسراً تهرب منه عندما يتحول صديقك إلى عدو، واجعل جسراً حين يأتي إليك من يعاديك ويريد أن يكون صديقاً لك. وللوصية بقية، نأتي بها في ما يأتي إن شاء الله تعالى..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة التاسعة عشرة 16رمضان 1425 ه - 30/10/2004م
وصية الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم (13)
تحقيق الأمن الاجتماعي
إن المجتمع المسلم الذي أراد الإسلام أن يبنيه، هو المجتمع الذي يشعر الإنسان فيه بالأمن على كرامته في الواقع الاجتماعي، فيأمن من أن يذكره الناس بسوء، سواء في ما خفي من عيوبه، أو في ما نسبوه إليه زوراً وبهتاناً
الكفّ عن أعراض الناس
كفّ الغضب عن الناس
إمتلاك زمام النفس
الكفّ عن الكذب
المؤمن العاقل لا يكذب
قصة النبي(ص) مع الكذب
قصته(ص) مع زانٍ
قصته(ص) مع زاهد بالصلاة
إفهم عقلية الآخر أولاً
كفّ يدك عن الضرب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الكفّ عن أعراض الناس:
لقد تحدَّثنا في وقت سابق عن كلمة الإمام الكاظم (ع)، في وصيّته لهشام بن الحكم: ((يا هشام، من كفَّ نفسه عن أعراض الناس أقال الله عثرته يوم القيامة)). وذلك أن تكون الإنسان الذي يَسلم الناس من لسانه في كلِّ ما يتّصل بنقاط الضعف في حياتهم من عيوبهم وما إلى ذلك. وهذه مسألة يراد للإنسان المؤمن أن يتمثّلها، على أساس أن المجتمع المسلم الذي أراد الإسلام أن يبنيه، هو المجتمع الذي يشعر الإنسان فيه بالأمن على كرامته في الواقع الاجتماعي، فيأمن من أن يذكره الناس بسوء، سواء في ما خفي من عيوبه، أو في ما نسبوه إليه زوراً وبهتاناً. والجائزة التي يمنحها الله تعالى للإنسان الذي يكفُّ لسانه عن أعراض الناس، هو أن يقيل الله سبحانه وتعالى عثرته يوم القيامة. وإقالة العثرة كناية عن غفران الذنوب. وكأنَّ الله تعالى يريد أن يقول لك: إنك عندما تحفظ نفسك عن الإساءة لكرامات الناس، فإني أحفظ كرامتك يوم القيامة، فلا أعاقبك أمام الخلائق في يوم القيامة، وتلك جائزة عظيمة لابدَّ لنا من أن نتطلَّع إليها، بالضغط على ما نعيشه من هوى النفس في الإساءة إلى الآخرين.
كفّ الغضب عن الناس:
ثم يقول (ع): ((ومن كفَّ غضبه عن الناس، كفَّ الله عنه غضبه يوم القيامة))، وهذه مسألة ثانية مهمّة، وهي أن الإنسان عندما يعيش في المجتمع، سواء في مجتمعه العائلي الأبوي، أو في المجتمع الزوجي، زوجاً كان أو زوجةً، أو في المجتمعات الأخرى التي يعيش فيها النَّاس في قضاياهم ومعاملاتهم التجارية، أو الأمنية، أو ما إلى ذلك من الأمور، فمن الطبيعي للإنسان أن يواجه الكثير من القضايا التي لا يرتاح لها، أو التي تسيء إلى مشاعره، وغير ذلك، والتي تؤدّي إلى أن يغضب الإنسان. وقد يتمَّثل هذا الغضب في كلمةٍ حادّة يطلقها ضدَّ من غضب عليه، أو في سلوك عنيف تجاهه، وهذا ردُّ فعلٍ طبيعي تفرضه غريزة الغضب التي أودعها الله في الإنسان، والتي قد تتطوّر إلى أن يفقد عقله، ويفقد توازنه النفسي، كما ورد أنّ من لم يملك غضبه لم يملك عقله. ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يريد لك أن تكون الإنسان الذي يتّسع صدره لامتصاص الكلمة السلبية أو التصرّف السلبي. قال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ( ). وقد ورد في الحديث ((أنّ الغضب جمرة توقد في قلب ابن آدم))، لأنّ الإنسان عندما يغضب، فإنَّ الغضب يتمثَّل كما لو كانت هناك جمرة تلتهب، وتدفعه إلى أن يتحوّل إلى نار أخرى ضدَّ من غضب عليه.
وقد ورد في بعض الأحاديث: ((أن شخصاً جاء إلى رسول الله فقال له: يا رسول الله علّمني عظةً أتّعظ بها))، وكأن الرجل كان يعيش خارج المدينة المنوّرة، ((فقال: انطلق ولا تغضب)) ثم قال له ثانية وثالثة، والنبي(ص) يكرّر وصيّته: ((انطلق ولا تغضب))( )؛ لأنه يعلم أن هذه الخصلة تجمع الكثير من العناصر التي يمكن لها أن تحقق له النجاح الكبير، ويقال إن هذا الرجل وصل إلى بلده أو إلى منطقته، ورأى الحرب قد قامت بين عشيرته وعشيرة أخرى، فاندفع بغضب ووقف في الصف ليقاتل، ثم انتبه إلى كلمة رسول الله(ص)، فسكن غضبه، وجاء إلى العشيرة الثانية، وقال لهم: ما حصل لكم من جراحة أو قتل، فهو في مالي أنا أوفِكُمُوه، ولكنهم قالوا: لن تكون أكرم منا، نحن نقول لكم ذلك، وحصل الصلح.
إمتلاك زمام النفس:
ونقرأ في بعض الأحاديث، أنّ الرسول(ص) أراد أن يبيّن أن الإنسان القويّ هو الذي يملك نفسه ومشاعره؛ لأن قضية القوة ليست أن تستعمل عضلاتك في مواجهة الآخر، وهي من الأمور التي قد يسهل الحصول عليها بالممارسة التدريبية الجسدية، والتي تحتاج إلى نوع من الشجاعة النفسية، ولكن الشجاعة الكبرى هي أن تضغط على أعصابك، يعني أن تقف أنت ضد المشاعر الحادَّة في نفسك، بحيث تكون أنت العدوّ وأنت المحارب في الوقت نفسه. فيُقال إن رسول الله(ص) قال لأصحابه: ((ما الصرعة فيكم؟)) والصرع يعني القوي، ((قالوا: الشديد القويّ الذي لا يوضع جنبه))، يعني لا يمكن أن يصرع، ولا يمكن أن يتغلب عليه أحد، بل الذي يملك القوّة التي يستطيع من خلالها أن يتغلّب على الآخرين الذين يواجههم ويواجهونه، ((فقال: بل الصرعة حق الصرعة))؛ الحقيقي أي إنّ القويّ، ((رجل وكز الشيطان في قلبه، فاشتدّ غضبه))؛ يعني دخل الشيطان قلبه فالتهب بالحقد وبالغضب، ((وظهر دمه، ثمّ ذكر الله، فصرع بحلمه غضبه))( )؛ فالإنسان القوي الشديد هو الذي يسيطر على أعصابه، وعلى مشاعره، وأحاسيسه.
ويُنقَل عنه(ص) أنه رأى قوماً يدحون حجراً كبيراً، لكي يتبين لهم من هو الأقوى الذي يستطيع أن يدفع هذا الحجر الضخم، ((قال: ماذا تفعلون؟ قالوا: نختبر أشدّنا وأقوانا، قال(ص): أشدّكم من ملك نفسه عن الغضب، وأحملكم))؛ يعني أكثركم تحمّلاً وأكثركم حملاً للأشياء الضخمة ((من عفا بعد المقدرة))( ).
وفي الحديث عن زيد بن علي رحمه الله: ((أن الله تعالى أوحى إلى نبيّه داود (ع): إذا ذكرني عبدي حين يغضب ذكرته يوم القيامة في جميع خلقي، ولا أمحقُه فيمن أمحق))( )، فأنت عندما تكظم غيظك، وتكفّ غضبك، ولا تُنَفِّسُه ضدّ الآخرين، فإن ذلك يعني أن الله تعالى يكفّ غضبه عنك نتيجة ذنوبك وسيئاتك.
وعن رسول الله(ص) عندما سأله رجل: ((أحبُّ أن أكون آمناً من غضب الله وسخطه))، بحيث أشعر بالأمن، وأن الله تعالى لا يغضب عليّ ولا يعاقبني، ((قال: لا تغضب على أحد، تأمن غضب الله وسخطه)).
وفي كتاب الإمام علي (ع) إلى مالك الأشتر، عندما ولاّه مصر، ((املك حميَّة أنفك))؛ وكلمة (حمية الأنف) كناية عن إباء الضيم، وذلك لأنّ الأنف في أعلى الوجه، ويعبَّر بذلك عن الإنسان العزيز والكريم، ف(املك حميّة أنفك) يعني املك الحالة النفسية التي تحصل عندك عندما يساء إليك، فتندفع كما يندفع أبيُّ الضيم، في تأكيد عزّته وكرامته، ((وسَوْرَة حدّك))؛ و(سورة الحد) تعني الحدة التي تحصل لك، ((وسطوة يدك، وغربَ لسانك))؛ وغرب اللسان كناية عن حد السيف، في هذا المقام، ((واحترس من كل ذلك، بكفّ البادرة))؛ بحيث لا تدفع لسانك إلى أن يسب، أو يشتم، أو يلعن، ((وتأخير السطوة))، أيْ أخِرّ اندفاعك للسيطرة على الآخرين، ((وارفع بصرك إلى السماء عندما يحضرك منه، حتى يسكن قلبك فتملك الاختيار))؛ يعني فكِّر بالله تعالى، ولا تندفع، ولا تنطلق بردّ فعل مباشرةً، واذكر الله سبحانه في ذلك. ((ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد))، في كلِّ عملٍ تريد القيام به. وهذا يحتاج ألاّ تستغرق في واقعك وفي أهوائك، وأن لا تستغرق في ما حولك، وفي نقاط الضعف في نفسك ضد الآخرين، ولكن اذكر أنك ستقف غداً بين يدي ربك، واذكر المعاد، فبماذا تجيب الله تعالى غداً عندما يحاسبك على ذلك كله؟!
الكفّ عن الكذب:
ثم نقرأ في وصيَّة الإمام الكاظم (ع) يقول: ((يا هشام، إنَّ العاقل لا يكذب، وإن كان فيه هواه))؛ يعني وإن كان فيه هوى نفسه، لأن مسألة العقل هي مسألة الطاقة القدسية التي أودعها الله تعالى في الإنسان، وهذه الطاقة القدسية تضيء للإنسان الخطوط التي ترشده إلى السير فيها، وذلك أن يتوازن الإنسان في كلِّ حركة يريد أن يتحرك بها، وفي كل ردّ فعل يريد أن يتحرك فيه، وفي كل نتيجة يريد أن يستنتجها.
ولكن، لماذا لا يكذب العاقل؟
لأن العقل يقول له: كن مع الحقيقة في كلّ أمورك؛ فعندما تريد أن تركّز عقيدتك، فإنّ عليك أن تكون مع عقيدة الحق، وعندما تأخذ بالشريعة، فإنّ عليك أن تأخذ بشريعة الحقّ، وعندما تريد أن تنقل حديثاً عن شخص، أو خبراً، فعليك أن تنقل الواقع ـ كما هو ـ لا تزيد فيه ولا تنقص، وعندما تريد أن تُقوِّم شخصاً، فعليك أن تحدّد قيمته كما هو من دون زيادة أو نقصان، فلا تمدحه بأكثر من حقِّه، ولا بأقلّ من حقه، ولا تذمّ إنساناً بأكثر مما يتّصف به من العيوب. وقد قال رسول(ص) ـ وهو يحدد شخصية المؤمن ـ: ((إنما المؤمن الذي إذا رضي))، أي إذا أحبّ، ((لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل))؛ أي أنه إذا أحبّ شخصاً، ورضي عنه، فإن رضاه عنه لا يؤثّر على موقفه تجاه ما قد يفرضه عليه الرضا والحبّ من استسلام لحالات الإثم والباطل، سواء كان ذلك بأن يرفعه فوق ما يستحقّ، أو من خلال تأثير الانجذاب العاطفي في أن يأخذ موقفاً مؤيّداً للظلم هنا أو الانحراف هناك، وما إلى ذلك. ((وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق))؛ فعندما تختلف مع شخص، أو تكون بينك وبينه حالة عداوة ونفور، فإنّ ذلك لا يمنعك من أن تقول الحقّ، فيما قد تشتمل عليه نفسك من فضائل وميزات إيجابيّة، وعندما تذمّه لذلك، فإنّك تقف عند حدود الواقع، لا تتجاوزه إلى المبالغة والبهتان. وهذا المبدأ هو ما نقرأه في قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى( )، أي كن عادلاً حتى مع عدوّك، فلا تنسب إليه ما ليس فيه، ولا تزد على ذمّه مما هو فيه.
ويؤكِّد الإمام زين العابدين (ع) في دعائه هذه المسألة، وهي من أروع الأخلاق والقيم الإسلامية التي ركّزها في (الصحيفة السجادية)، وعلى الهامش، نحن ننصح المسلمين جميعاً بقراءة (الصحيفة السجادية)، لأنها تمثّل الأدعية الثقافية، وهي عبارة عن ثقافة روحية، واجتماعية، ونفسية، ودنيوية، وأخروية.
يقول زين العابدين (ع): ((وارزقني التحفّظ من الخطايا، والاحتراس من الزلل، في حال الرضا والغضب، حتى أكون بما يرد عليّ منهما بمنزلة سواء، عاملاً بطاعتك، مؤثراً لرضاك على ما سواهما، في الأولياء والأعداء، حتى يأمن عدوّي من ظلمي وجوري))؛ لأنّ عدوّي يعرف أنّ العداوة بيني وبينه لا تدفعني إلى ظلمه والجور عليه؛ لأني أنطلق في تصرّفاتي في خطّ الإيمان، ((وييأس وليّي من ميلي وانحطاط هواي))؛ بحيث يعرف صديقي أنّني أقول كلمة الحقّ ولو على حساب الصداقة، ويعلم أنّني لا أبيع ديني لحساب الصداقة في هذا المجال. فالعاقل هو الذي يحاول أن يرتبط بالواقع، ويرتبط بالحقيقة، ولا يزيد على الحقيقة شيئاً، ولا ينقص منها شيئاً مع أصدقائه ومع أعدائه.
المؤمن العاقل لا يكذب:
فالعاقل لا يمكن أن يكذب، خصوصاً أن للكذب نتيجتين: النتيجة الأولى: في الدنيا، لأنك إذا كذبت، فسيظهر ذلك، وسيسقط موقعك عند الناس، عندها يقولون: إن فلاناً يكذب في هذا الخبر، أو في تلك المسألة، وعند ذلك تفقد ثقة الناس بك، فلا يصدِّقك الناس بعد ذلك حتى لو تحدثت بالصدق، والنتيجة الثانية: هي عند الله تعالى في الآخرة، فالله سبحانه وتعالى اعتبر الكذب من الأمور التي تهزُّ إيمان الإنسان، ونقرأ في هذا المجال قوله تعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ( )، لأن المؤمن بآيات الله، وبما شرّعه سبحانه وتعالى وأّكده من التزام الإنسان بالحق وبالصدق، لا يفتري الكذب، ويتنكر لذلك كله.
وفي الرواية أنّ رسول الله(ص) سئل: ((أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم))، بحيث يمكن أن يكون لديه ضعف نفسي، فيخاف، وهذا لا ينافي الإيمان. نعم، قد يكون عيباً، ولكنه لا يصطدم بالإيمان، ((قيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم))؛ حيث إنّ البخل يمثِّل قيمة سلبية للإنسان لا تتناسب مع أخلاق المؤمن الذي لابد له من أن يكون كريماً، كما قال تعالى: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ( )، بل نجد أنّ الله تعالى يتحدث عن الذين يؤثرون على أنفسهم وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ( )، ((قيل له: أيكون المؤمن كذّاباً؟، قال: لا))، فما هو السبب؟ وكيف نفهم كلمة رسول الله(ص)؟ نفهمها على أساس أن الإيمان يمثِّل الارتباط بالحق، والارتباط بالصدق، فالله تعالى يتحدث: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ( )، فالإيمان إذاً هو عبارة عن التزام الإنسان بالصدق، والحقّ هو الصدق، فالإنسان الذي يلتزم بالكذب، فإنّه بذلك يضادّ الإيمان، لأن من يؤمن بالصدق لا يمكن أن يتحدث بالكذب، لأن الكذب ينافي الصدق، ولا يمكن أن يجتمع إيمان ولا إيمان في هذا المجال.
يقول الإمام علي (ع): ((جانبوا الكذب فإنه مجانب للإيمان))، أي مضادّ للإيمان، ومبتعد عنه، ((الصادق على شفا منجاة وكرامة))، يعني يقف على حافة النجاة، وهو الطريق الذي يؤدي به إلى النجاة والكرامة عند الله تعالى، ((والكاذب على شرف مهواة))، بحيث يهوي به إلى الأسفل، ((ومهانة))( ).
ويقول الإمام علي (ع): ((إن الله عزّ وجلّ جعل للشر أقفالاً وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب))؛ يعني أن الإنسان إذا فقد عقله، فقد الميزان الذي يقوده إلى ما ينفعه، ويجنّبه عمّا يضره، ((والكذب شرٌّ من الشراب))( )؛ لأن الشراب يجعل الإنسان يتصرّف بلا عقل، ولكن عندما يكذب الإنسان، وهو واعٍ لكلّ ما يصدر منه، فإنّه سيكون أشرّ من ذلك؛ لأنّ الذي يملك عقلاً ولكنّه يستعمله في طريق الشرّ، هو شرّ ممّن لا يملك عقلاً في حال القول أو الفعل، كما أنّه يترك تأثيره السلبي على التصوّر الخاطئ، أو الممارسة المنحرفة، من خلال نقل الصورة غير الصحيحة للناس.
قصة النبي(ص) مع الكذب:
من الطرائفِ المرويّة أنَّ رجلاً قال لرسول الله(ص): ((أنا أستسرّ، بخلال أربع: الزنا وشرب الخمر، والسرقة والكذب، فأيتهن شئت تركتها لك))، فأي واحدة من هذه الأربعة تأمرني بتركها فإني سوف ألتزم بذلك، ((قال: دع الكذب))، لا تكذب، ((فلما ولّى همَّ بالزنا)) لكنّه تركه ((وقال: يسألني، فإن جحدت، نقضت ما جعلت له))،أي أني كذّبت، ((وإن أقررت حددت))، لأن حدّ الزنا مئة جلدة. فترك الزنا. ((ثم همّ بالسرقة))، فتركه، لأنه إن جحد بها، فيكون قد كذب، وإذا أقرَّ أيضاً فتقطع يده، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنْ الله وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ( )، ((ثم همَّ بشِرب الخمر))، فتركه لأنه إما أن يكذب أو يقرّ ((ففكر في مثل ذلك، فرجع إليه فقال: قد أخذت عليّ السبيل كله))، يعني أنك سددت عليَّ الطريق؟، لأنك أوصلتني إلى طريق لا أستطيع أن أصل منه إلى الثلاث الأخرى، ((فقد تركتهن أجمع))، وهكذا كانت اللباقة من رسول الله(ص).
ومن خلال ذلك نعرف أنّ النبي(ص) كان يتنوّع في أسلوبه مع الناس، في مواجهة قضاياهم، ولا يجري على الطريقة الشائعة فيما بيننا، بحيث نحاول أن نعنُف مع الآخر بما قد لا يؤدّي إلى النتيجة المرجوّة في هدايته واستقامته، في الوقت الذي قد نستفيد من روحيّة ذلك الإنسان التي تدفعه للتنازل عن بعض ما يعيشه من سلبيّات، لتؤثّر على سلبيّاته الأخرى، حتى تدفعه إلى تركها جميعاً في نهاية المطاف.
قصته(ص) مع زانٍ:
يُنقل في سيرة النبي(ص) أنّ شابّاً جاءه طالباً منه أن يرخّص له في الزنا، فثار عليه أصحاب النبيّ(ص)، ولكنّ النبيّ سأله: هل لك أمّ؟ هل لك أخت؟. ثمّ سأله النبيّ(ص) أنّه هل يرضى بأن يزني الناس بأمّه أو أخته أو سائر قريباته، فأجابه بالنفي. وكان ذلك بمثابة الصدمة التي دفعته إلى أن يسحب طلبه، عندما واجه حقيقة الموقف في هذا المجال.
قصته(ص) مع زاهد بالصلاة:
فلنتعلَّم من رسول الله الذي قال له الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ( ) كيف نتعامل مع الآخرين، لأن هذه الآية موجَّهة لنا وليست للنبي(ص) فقط. وينقل أيضاً أنه جاء شخص آخر، وقال له: أنت كلفَّتنا بخمس صلوات في اليوم، وأنا لا أستطيع إلا أداء ركعتين، إسمح لي بركعتين، أنا مستعدٌ أن ألتزم بها، لأن خمس صلوات صعبة عليّ، وطبعاً استنكر الصحابة الذين كانوا حول النبي(ص) عليه ذلك، قال له النبي(ص): لا عليك، صلّ ركعتين، ولكن صلّهن بتوجّه وخشوع وخضوع، ذهب الشاب وبدأ يصلّي ركعتين متمثّلاً معانيهما، فعاش حلاوة الصلاة، وحلاوة الخشوع بين يدي الله تعالى، والركعتان صارتا أربعة، والأربعة صارت ثمانية، وجاء آخر الأمر إلى النبي(ص) ـ كما تقول الرواية ـ قال له: يا رسول الله أنت فتحت لي الباب. وأنا لم أكن أعرف قيمة الصلاة، فأنت عندما ربطتني بالصلاة بهاتين الركعتين، دفعني ذلك إلى أن آتي بكلِّ الفرائض.
إفهم عقلية الآخر أولاً:
ومن خلال هذا، علينا، أيُّها الأحبة، عندما نريد إرشاد إنسان، أن ندرس عقليته، لا أن نتكلَّم معه بحسب عقولنا. افهم عقل الإنسان، افهم ابنك، افهم زوجتك، افهم أخاك، افهم كلَّ الناس الذين حولك، ثم حاول أن تتحدث معهم من خلال عقولهم. وقد ورد في حديث النبي(ص): ((إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلِّم الناس على قدر عقولهم))( ). ولذلك نحن نقول لكلِّ المبلِّغين والعلماء والمصلحين: افهموا عقول الناس، فكثير من إخواننا يذهبون إلى الغرب وإلى أفريقيا وإلى كلّ الأماكن في العالم، ويتكلّمون مع الغربيّ بالعقلية التي يتكلم فيها أحدهم وهو في النجف، أو في الكوفة، أو في أيّ بلد من البلدان التي تفكّر بطريقة مختلفة، فتراه مثلاً يتكلم: كيف هي الأصول العشائرية والأصول القبلية، والأصول الريفية، وما إلى ذلك؟ في حين يجب عليك فهم عقل الغربي، وأن تتكلم معه كما لو كنت تتحدث معه بعقله، فكما إننا نريد مهندسين يهندسون الطريق لكي توصلنا إلى هذا البلد أو ذاك البلد من دون مشاكل، نريد جماعة يهندسون الطريق إلى عقول الناس. والله تعالى ركَّز لنا هذا فقال: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( )، وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( ) ووَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ( )، يعني استعمل الأسلوب الذي تحوّل به أعداءك إلى أصدقاء، وهذا يحتاج إلى صبر يضغط به الإنسان على أعصابه ليملك فكره في تصرّفاته وفي نفسه وفي الآخرين. ويقول الله تعالى بعد ذلك: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ( )، حظ عظيم من الثقافة ومن الوعي.
إذاً ننتهي من خلال هذه المسألة إلى أن العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه، يعني وإن كان هوى نفسك يدفعك إلى الكذب، لأن النتائج السلبية السيئة التي تحصل عليها من خلال الكذبة التي تكذبها في الدنيا والآخرة، ربما تؤثر في اختلال مصيرك في الدنيا وفي الآخرة.
كفّ يدك عن الضرب:
ونقرأ أيضاً قوله (ع): ((يا هشام، وجد في ذؤابة سيف رسول الله))، الذؤابة، حيث كانوا يضعون في السيف شيئاً تحفظ فيه الضروريات، ((إن أعتى الناس على الله))، يعني أكثرهم بغياً، وأكثرهم تجاوزاً عن الحق، وأكثرهم تكبّراً، ((مَنْ ضرب غير ضاربه))، كالإنسان الذي يضرب زوجته ـ مثلاً ـ بدون حق، أو يضرب ابنه بدون حق، أو يضرب أخاه، أو يضرب الإنسان الضعيف بدون حق، ((... وقتل غير قاتله))، يعني قتل الإنسان الذي لم يندفع إليك ليقتلك أو يعتدي عليك، فإذا قتلته، فأنت من أعتى الناس، ((ومن تولّى غير مواليه فهو كافر بما أنزل الله على نبيّه))، يعني من تولَّى وأخلص وانتمى إلى غير الجهة التي يجب أن ينتمي إليها بحكم علاقته بها على أساس الحق. وقد يُفسَّر من انتمى إلى غير مواليه، أي مَن انتسب إلى غير نسبه، كبعض الناس الذين ينسبون أنفسهم إلى رسول الله وهم ليسوا كذلك، أو كمن ينتسب إلى شخص معيَّن عن طريق التبنّي الموجود عند الكثير من الناس، وخصوصاً في الغرب، والله سبحانه وتعالى ألغى التبنّي فقال: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ( )، والدعيّ هو المتبنّي. وقد كان التبنّي شائعاً في الجاهليّة، حتى إن النبي(ص) كان قد تبنى زيد بن حارثة الذي تزوَّج من ابنة عمّة النبيّ، وهي (زينب بنت جحش)، ثم حدث خلاف بينها وبينه، فأمر الله سبحانه نبيّه أن يتزوّجها، مع أنّه لو كان التبنّي صحيحاً، لما جاز له(ص) ذلك؛ لأن زوجة الابن تحرم على أبيه حتى لو طلّقها. لكنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يلغي التبنّي بأسلوب صارخ لا يقبل التأويل، قال تعالى في ذلك: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً( )؛ لأنّه أراد للمسألة أن تتجاوز التشريع القانوني، إلى قضيّة تثير الجدل بين الناس، حتى تتعمّق وتتركّز في نفوس المجتمع.
((ومن أحدث حدثاً))، أي بدعة، سواء كانت بدعة على مستوى التشريع أو على مستوى العقيدة، أو بدعة على مستوى الواقع، ((أو آوى محدثاً))، يعني الشخص الذي يعتدي على الإسلام والمسلمين، ((لم يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفًا وَلا عدلاً))( )، يعني أن الله لم يقبل منه توبة، ولم يقبل منه فدية في هذا المجال. ويبقى هناك بقية من الحديث عن بقية الوصية.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة العشرون 25رمضان 1425 ه - 7/11/2004م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (14)
وسائل التقرّب إلى الله
أعلى الحالات الروحية التي يمكن أن يعيشها الإنسان في علاقة العقل والقلب، هي المعرفة بالله؛ لأن المعرفة بالله تعالى تطوف بالإنسان على الكون كلّه
المعرفة وسيلة للتقرّب إلى الله
القربة بالصلاة
القربة بالبرّ بالوالدين
القُربة في ترك الحسد
القربة في ترك العُجب
القربة في ترك الفخر
الاهتمام بالمستقبل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا نزال مع وصيَّة الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم؛ هذه الوصية التي تمثِّل وثيقةً فكريةً ثقافيةً اجتماعية، كما هي وثيقة روحية، تلامس القلب، وتنفتح على الحياة، على مستوى ما يفكِّر فيه الإنسان لنفسه في رحلته من الدنيا إلى الآخرة، أو في ما يعيشه الإنسان في علاقاته الإنسانية مع الآخرين.
يقول(ع): ((يا هشام، أفضل ما تقرّب به العبد إلى الله بعد المعرفة به: الصلاة، وبر الوالدين، وترك الحسد والعجب والفخر)).
المعرفة وسيلة للتقرّب إلى الله:
في البداية، اعتبر الإمام(ع) أن أعلى الحالات الروحية التي يمكن أن يعيشها الإنسان في علاقة العقل والقلب، هي المعرفة بالله؛ لأن المعرفة بالله تعالى تطوف بالإنسان على الكون كلّه، ذلك أنّك عندما تعرف الله تعالى في مواقع عظمته، فلا بدّ أن تقوم بجولة علمية على كلِّ أسرار العظمة في الخلق، لأنه هو الخالق، وإذا كنت تعرف أنّ الله هو المنعم، الجواد، الكريم، الرحمن الرحيم، فلا بدّ لك أن تطلّ على كل مواقع النعمة التي أفاضها الله تعالى على الإنسان وسائر المخلوقات. وقد جاء في الحديث الشريف: ((تخلّقوا بأخلاق الله))( )، أيْ أنّك عندما تذكر الله تعالى برحمته وجوده وكرمه وقوّته، وكل صفاته الحسنى، فإنّ عليك أن لا تذكرها في مقام الاستغراق الفكري في عظمة الله في صفاته فحسب، بل عليك أن تستوحي صفات الله لنفسك؛ فإذا كان الله هو الجواد الكريم، فعليك أن تستوحي كيف تكون كريماً، وإذا كان الله رحماناً رحيماً، فعليك أن تستوحي كيف تكون رحيماً، وإذا كان الله هو القوي، فعليك استيحاء معنى القوة في حياتك، وإذا كان الله سبحانه وتعالى هو العليم الذي لا حدّ لعلمه، فعليك أن تعمل على أن تأخذ بأسباب العلم بكلِّ ما تستطيعه مما يسهّل الله تعالى لك أمره. وهكذا عندما تكون عزيزاً، فعليك أن تأخذ بأسباب العزّة في كلِّ المجالات. فأنت عندما تذكر الله بصفاته، فإنَّ عليك أن تستوحي هذه الصفات، لتبلغ مستوىً من الكمال، لأننا لا نستطيع أن نبلغ صفات الله التي هي المطلق لأنه لا حد لها، ولكننا نستوحي ذلك لنأخذ منه ما يربّي لنا إنسانيتنا.
ومن هنا نعرف قيمة الأدعية التي تشتمل على صفات الله تعالى، مثل دعاء الجوشن الكبير، أو دعاء أبي حمزة الثمالي، أو غيرهما، فإنّنا نجد في كلّ مفرداتها الكثير من صفات الله سبحانه وتعالى، في تعامله مع عباده، وفي فيوضاته مع كل خلقه، وبهذا تمثل الأدعية وسيلةً لتنمية الروحيّة في كياننا، كما تمثل وسيلة ثقافية لنستوحي الله سبحانه وتعالى في ذلك كله. وهذه هي قيمة المعرفة. ولذلك ذُكرت المعرفة في أنها أفضلُ ما تقرب به العبد إلى ربه؛ لأنك كلما عرفت الله أكثر، انفتحت عليه أكثر، وعبدته أكثر، وأخلصت له أكثر، وأطعته أكثر، لأنه لا يمكن لإنسان يعرف ربه بما يستطيع من المعرفة، إلاّ ويخشع لعظمة ربه ويخضع لها.
القربة بالصلاة:
ثمّ تأتي الصلاة في الدرجة التالية للمعرفة. والصلاة تمثِّل العبادة التي يحلّق الإنسان من خلالها ليعرج بروحه إلى الله سبحانه وتعالى، باعتبار أنّ المصلّي يتكلم مع الله، ويخشع بين يديه، ويخضع له، ويناجيه، ويذكر آياته، حيث يشعر الإنسان هنا أنّه يرتبط بالله بشكل مباشر، من دون حواجز أو وسائط. وهذه هي العقيدة التوحيدية الخالصة الحقيقية، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أرادنا أن نخاطبه وأن نعبده بشكل مباشر، قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ( )، أو كما في قوله تعالى: وَأَنَّ المَساجِدَ لله فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدَاً( ). كذلك قوله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ( )، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي( ). نعم، ثمّة وسائط في الهداية، حيث جعل الله سبحانه الأنبياء والأولياء وسائط الهداية، الذين يهدوننا إلى الله من خلال ما أنزله من وحي عليهم، ومن خلال ما حملوه من خطوط هذا الوحي، وأكرمهم الله تعالى بالشفاعة، من خلال البرنامج الذي وضعه للشفاعة؛ إذ ليست الشفاعة عند الله سبحانه حالة شخصيّة تشبه شفاعة الناس لبعضهم البعض، بل تنطلق من خلال قوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى( )، وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ( )، ومعنى ذلك أن الله تعالى جعل للأنبياء وللأولياء برنامجاً للشفاعة لا يتعدّونه. وليس معناه أنّ الله حدّد لهم أسماء الذين تنالهم الشفاعة لتكون الشفاعة صورة شكليّة كما نسبه إلينا البعض تقويلاً لنا بما لا نقوله.
والصّلاة تربّي في الإنسان الشعور بعظمة الله سبحانه، ففي الأذان يُقال (الله أكبر) أربع مرّات في بدايته، واثنتين في نهايته، وفي الإقامة مرّتين في البداية ومرّة في النهاية، ثم تبدأ الصلاة بالتكبير، وبالتكبير ينتقل المصلّي من عمل إلى عمل آخر. ولعلّه من هنا تفترق الصلاة عن سائر العبادات؛ حيث إنّها لا تُترك بحال، فإذا لم يقدر الإنسان على الصلاة قائماً، صلّى جالساً، وإلا فمستلقياً، وإذا لم يقدر على تحريك أعضائه أومأ إلى الركوع والسجود، بينما نجد أنّ الصوم يُترك إذا لم يقدر عليه ليُقضى في وقت آخر، وكذلك الحجّ؛ لأنّ الصلاة مرتبطة بحركيّة التوحيد في حياة الإنسان اليوميّة، مما لا يُمكن للإنسان أن يعيش الغفلة عنه أبداً.
القربة بالبرّ بالوالدين:
((وبرّ الوالدين))، برّ الوالدين يرتبط بجانب العلاقة الإنسانية في عمقها، على أساس قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا( )، حيث تستحضر في نفسك كلَّ التربية التي قام بها الوالدان حتى أصبحت كبيراً، وأصبحت تعيش في كلِّ ما أنت فيه، فلا تشعر بالعنفوان أمام والديك. إنّ الله سبحانه يريد للإنسان المؤمن أن يكون عزيزاً، يعيش العنفوان من دون تكبّر، ولكن أمام والديك، كنْ ذليلاً، لا الذلّ الذي تُسقط فيه إنسانيتك، ولكن ذلّ الرحمة، بأن تستشعر السقوط أمامهما رحمةً بهما. ولذلك ارتبط برُّ الوالدين بعنوان الإحسان. قال تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وقال تعالى: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ( )؛ لأن الإحسان يجتذب منك إحساناً في مقابله. وعلى هذا الأساس، نستطيع أن نستوحي من ذلك أنّ على الإنسان أن يعيش البرّ لكلّ من أحسن إليه في التربية والمساعدة والإعانة، وما إلى ذلك.
القُربة في ترك الحسد:
((وترك الحسد)). وهذا أيضاً مما يتقرَّب به الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ الحسد ـ عندما ندرسه ـ فيه جانب عدواني، والحسد هو أن تتمنّى أن يزيل الله أيّ نعمة تجدها لدى غيرك. وهذا ينطلق من عقدةٍ نفسيّة ضدّ ما يملك الإنسان الآخر من فرص يمكن أن تنمّي شخصيّته، أو تسدّ حاجته، أو تؤكّد أصالته الإنسانية. وبالإضافة إلى ذلك، يستبطن الحسد الاعتراض على الله تعالى؛ لأنك عندما تتمنّى زوال النعمة عن غيرك، فكأنّك تقول: يا ربي، لماذا أعطيته؟ ولماذا لم تعطني أنا؟ مثل قول إبليس، عندما قال: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ( )، وقد انطلق في ذلك من جانب الحسد. وكأنّك تقول له إذا أردتَ أن تصحّح الأمر في ذلك، فلا بدّ أن تعطيني ما أعطيته وتسلب النّعمة عنه، وهذا ينافي عبودّيتك لله، وخضوعك له، واستسلامك له، ورضاك بقضائه وقدره.
ولذلك نجد أنّ الإسلام قد جعل الغبطة مقابلَ الحسد؛ بحيث تطلب من الله سبحانه أن يعطيك مثل ما عند الآخرين من دون أن يسلبهم ذلك. وهذا يشتمل على خاصّيتين: الأولى أنّ فيه جانباً إنسانيّاً؛ لأنك تدعو الله تعالى أن يبقي لهذا الإنسان نعمته، وفي الوقت نفسه، تطلب من الله، من خلال جوده وكرمه ورحمته، أن يعطيك كما أعطاه، والثانية: أنك تعيش عبوديتك أمام الله، فتطلب منه أن يرزقك كما رزق هذا الإنسان. وبذلك تكون الغبطة منسجمةً مع خطِّ العقيدة، سواء من خلال علاقتك بالإنسان الآخر أو من خلال علاقتك بالله سبحانه وتعالى.
على أنّ مسألة الحسد ليست كما يعتقد البعض من الناس، وهي أنّ هناك قوّة خفيّة في عين الحاسد، تصيب الآخرين بالضرر. ونحن نسأل الذين يعتقدون بمثل هذه المعتقدات: لماذا لا نجد ما يتحدّث عنه الناس من أمر الحسد إلا لدى البسطاء والفقراء من الناس، ولماذا لا يتوجّه ذلك النوع من الحسد إلى كلّ الذين يصنعون للإنسان مأساته، من الطغاة والجبابرة والظالمين؟
إنّ الحسد ـ في النظرة الإسلاميّة ـ ينطلق من خلال الحالة النفسية العدوانية التي تدفع نحو البغي والاعتداء على المحسود، لكي يسقط ذلك الإنسان بأيّ طريقة. ولذا ورد في الحديث: ((إذا حسدت فلا تبغ))( )، يعني، لا تعتدِ على مَن حسدته، لتعمل على إسقاط نفسه وشخصيّته بمختلف الوسائل. ولذلك، نحن نفسر قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ( )، أنّه ليس المقصود شرّ عين الحسود، وإنما من شرّه الذي يمكن أن يوجّهه للمحسود في العدوان عليه.
القربة في ترك العُجب:
((...والعجب)). كذلك، فإنّ من الأمور التي تقرّب من الله ترك إعجاب الإنسان بنفسه. وقد ورد في الحديث: ((إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله))( )، لأنّ الإعجاب هو تعاظم الإحساس بما لدى الإنسان من بعض الصفات، أو بعض الملكات، أو بعض الأعمال، وهذه المسألة تنشأُ من عدم وعي الإنسان لطبيعة العمل، لأنَّ العمل، أيَّ عمل، ولا سيّما العمل العبادي، يحتّم أن ينظر الإنسان دائماً إلى الجانب الإيجابي منه مقارَناً بالجانب السلبي. مثاله: عندما يكون لديك علم ، فلا تنتفخ شخصيتك من خلال علمك، ولكن، فكر بما لا تملك من العلم، وبعبارة أخرى: قارنْ بين ما تملك من العلم، وبين ما لا تملكه من العلم مما قد يملكه الآخرون. وهكذا عندما يكون لديك القوّة، فعليك أن تعرف أنك لم تأخذ القوّة بأسبابها، بل أخذت ببعضها، مما قد يملك الآخرون أكثر منها. وفي دعاء مكارم الأخلاق المرويّ عن الإمام زين العابدين(ع): ((وعّبدني لك ولا تفسد عبادتي بالعجب))، وقد ورد أيضاً: ((لا تخرج نفسك من حدِّ التقصير لعبادة الله))، بمعنى أنّك كلّما عبدت الله أكثر، تصوَّر نِعَمَ الله عليك أكثر، وتصوّر أنك مهما عبدت الله، فإنك لا تستطيع شكر نعمة واحدة من نعمه، وهذا المعنى نجده في الدعاء الذي رواه أبو حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين(ع)، حيث يقول: ((فأيّ جهلٍ يا ربّ لا يسعُه جودُك؟ أو أيّ زمان أطول من أناتك؟ وما قدر أعمالنا في جنب نعمك؟ وكيف نستكثر أعمالاً نقابل بها كرمك؟))( ). ثمّ إن العجب يعطّل عملية النموّ في الإنسان، لأنك عندما تعجب بعبادتك، وتقول: مَن مثلي في العبادة؟ أو تعجب بعلمك، وتقول: مَن مثلي في العلم؟ فإنك تجمد على الدرجة التي حصلت عليها، ولا تحاول أن ترتفع إلى درجة أعلى وأرفع منها، وهذا يعطّل عملية النمو، وعملية الارتفاع إلى الدرجات العليا التي تعلو على ما أنت عليه الآن.
القربة في ترك الفخر:
((والفخر))، إنّ قضيَّة الفخر تتأتَّى من خلال قضية العجب، ولكنها قد تمتد إلى فخر الإنسان بآبائه، وهذا ما نقرأه في دواوين الحماسة العربية، حيث إن أغلب الشعراء يتحدّثون عن الفخر بالأباء والأجداد، ينشدون بذلك محاسنهم وصفاتهم وما إلى ذلك، ولكن ماذا أنت، وكم أنتِ؟، .. أن لا تكون مشاعرك وأحاسيسك، مشاعر الإنسان الذي يفخر بما عنده، بل عليه أن يعمل على تنمية ما عنده، وأن ينظر في نقاط الضعف فيما عنده، وأن يقارن ما عنده بما لدى الآخرين، وقد ورد في دعاء مكارم الأخلاق: ((واعصمني من الفخر))، أي لا تجعلني أعيش الفخر بما أملكه من بعض الصفات، أو بما أقوم به من بعض الأعمال، بل اجعلني أتوازن في نظرتي لما عندي. ولعلَّنا نستوحي ذلك في معالجة هذه الحالات النفسيّة التي تمثِّل حالة الضَّعف في الإنسان: ((اللهمَّ لا ترفعني في الناس درجةً إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلّةً باطنة عند نفسي بقدرها))، فعلى الإنسان أن يحاول دائماً أن يقارن بين نقاط القوة عنده ونقاط الضعف، أن يقارن بين الداخل والخارج، حتى تتوازن شخصيته، وحتى تتوازن نفسه في ذلك.
الاهتمام بالمستقبل:
((يا هشام، أصلح أيَّامك الذي هو أمامك))، يعني عليك أن تهتم بالمستقبل، لأن الماضي، سواء كان ماضياً مشرقاً أو مظلماً، قد مضى وانتهى، لا علاقة له بك، ولا علاقة لك به، وعليك ـ من الناحية الدينية ـ أن تستغفر الله مما أذنبته في الماضي، وإذا كنت قد عملت خيراً فاشكر الله على ذلك، واطلب منه الزيادة من ذلك. وعندما تحاول أن تدرس أخطاء الماضي وسلبيّاته، فعليك أن تأخذ من الماضي درساً للحاضر وللمستقبل؛ لأنّ الهمّ الأساس لا بدّ أن يكون في ما يُصلح لك مستقبلك؛ لأنه هو الذي يمثِّل حركتك في مسألة المصير، لأن الماضي مات كزمنٍ، ومات كعملٍ، أما ما أنت فيه، فهو الأيام التي تستقبلها، لأنها هي التي يمكن لها أن تؤصل مصيرك في خطِّ الخير الذي تعمل له وتقبل عليه.
ثمّ يتابع(ع): ((فانظر أيّ يوم هو؟))، كيف يكون هذا اليوم بما تملأه من أعمال الخير وانطلاقات المعرفة، ((أعدَّ له الجواب))، لأنك ستسأل عمّا صنعته في هذا اليوم، ((فإنك موقوف ومسؤول)) أمام الله، كما قال تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ( )، ((وخذ موعظتك من الدهر وأهلِه))، أيْ ادرس التاريخ، وادرس كلَّ حركة الدهر، منذ أن بدأ الزمن وبدأ الناس يعيشون فيه، دراسة الإنسان الذي يعظه التاريخ، لا دراسة الإنسان الذي يلهو بالتاريخ، أو الذي يحاول أن يعيش التاريخ كمفردات لا تمنحه شيئاً من الوعي لما يريد أن يصنعه من تاريخ جديد. ((فإنّ الدهر))، في أيامه، ((طويلة قصيرة))، يعني أن أيامه طويلة في امتدادها، وقصيرة في ما تتضمنه أو في ما تتحرك فيه في عمرك الذي سوف ينتهي في مدىً معين. ((فاعمل كأنك ترى ثواب عملك))، كأنّك تنتظر جائزة بعد عملك مباشرة ((لتكون أطمع في ذلك))، حتى تتشجّع، ((واعقل عن الله))، يعني اعقل عن الله آياته ومواعظه ونصائحه، وما إلى ذلك، ((وانظر في تصرّف الدهر وأحواله))، أي انظر كيف تتقلب شؤون الدهر، كيف يكون خيراً في هذا اليوم، ويكون شراً في الغد، كيف تكون اليوم هزيمة، وغداً يكون انتصار، وما إلى ذلك، ((فإن ما هو آت في الدنيا كما ولىّ منها، فاعتبر بها))( )، يقول لك الإمام(ع): حاول أن تقيس الحاضر بالماضي، وتقيس المستقبل بالحاضر والماضي، باعتبار أن القانون الأساسي الذي وضعه الله سبحانه وتعالى لحركة الإنسان، قد تختلف مفرداته، ولكن خطوطه العامة لا تختلف، ولذلك قيل: إن التاريخ يعيد نفسه، التاريخ يختلف ـ بطبيعة الحال ـ في أشخاصه وفي بعض أوضاعه، ولكن القانون الإلهي الذي وضعه الله سبحانه وتعالى للسنن التاريخية للإنسان كما هي السنن الكونية للإنسان، لا يتغير.
ويبقى لنا أن نتحدث أيضاً عن بقية الوصية إن شاء الله.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الحادية والعشرون 7 شوال 1425 ه - 20/11/2004م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (15)
الاندماج بالولاية الإلهية
إنّ الولاية لله جميعاً، وعلى عباد الله أن يندمجوا بهذه الولاية الإلهية، بحيث لا يرون أمامهم إلاّ الله تعالى، ولا يتطلّعون إلاّ للحصول على محبته ورضوانه ورحمته ولطفه
الإقامة المؤقّتة
منابع العبودية
التحرّر من القيود
الصبر طريق الحرّية
ثمن النفوس
معالم الطريق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
ونبقى مع الوصية المرويَّة عن الإمام موسى الكاظم(ع) لهشام بن الحكم، والمتعددة الأغراض، والمنفتحة على أكثر من بُعد يتَّصل بموقف الإسلام من العقل، وبكلِّ الخطوط التي توجَّه العاقل إلى بعض العناوين المتصلة بالجانبين الروحي والاجتماعي، وربما تتّصل ـ في بعض المفردات ـ بالجانب السياسي.
ومن بين هذه الكلمات في الوصية، ما نقله الإمام الكاظم(ع) عن الإمام علي بن الحسين(ع)، كيف ينظر الإنسان المؤمن الذي يعرف الحق، والذي يتحرك ليكون من أولياء الله، إلى الدنيا؟ وماذا يأخذ منها؟
الإقامة المؤقّتة:
يقول الإمام الكاظم(ع): ((وقال الإمام علي بن الحسين(ع): "إن جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها، بحرها وبرّها، سهلها وجبلها، عند ولي من أولياء الله))، يعني ما طلعت عليه الشمس في نظر وليّ من أولياء الله، ((وأهل المعرفة بحق الله))، هؤلاء الذين عاشوا مع الله تعالى في عملية الانفتاح على ولايته، باعتبار أن الولاية لله جميعاً، وأنَّ على عباد الله أن يندمجوا بهذه الولاية الإلهية، بحيث لا يرون أمامهم إلاّ الله تعالى، ولا يتطلّعون إلاّ للحصول على محبته ورضوانه ورحمته ولطفه. هؤلاء الذين انطلقت ولايتهم لله سبحانه وتعالى ومن خلال معرفتهم بالحق، حتى أصبحوا من أوليائه، لأن الإنسان كلَّما عرف الحق أكثر، اقترب من الله تعالى أكثر، فإن كل هذه الدنيا: ((كفيء الظلال)). أي إن ذلك يشبه حالة الإنسان الذي يتفيّأ بالظل، فهو يبقى في الظل ليأخذ منه بعض الهدوء، أو بعض الانتعاش، حتى إذا جاءت الشمس ذهبت كل الظلال، وأصبح الإنسان في وضع جديد، كقول الشاعر: (والظل إن قاربته الشمس ينتقل). فأولياء الله ينظرون إلى الدنيا نظر الذي يعتبر أنّها لا تمثّل الموقع الذي يستسلم الإنسان له ويعتبره موقع الإقامة الدائمة، ولكنه يتفيأ ظلال الأشجار، أو ظلال الجدران، أو ما إلى ذلك، حتى إذا جاءته الشمس، فإنّه ينتقل إلى مواقع الشمس التي ينتهي عندها الظلّ، في إيحاء بأنّ الدنيا كفيء الظلال، كحالة طارئة، وأن الآخرة كالشمس في تعبيرها عن الحقيقة في أصالتها.
منابع العبودية:
ثم قال الإمام زين العابدين(ع)، وهو يوجّه الإنسان كيف يمكن أن يتعامل مع هذه الدنيا، ومع كلِّ ما طلعت عليه الشمس في نظرته إلى هذا العمر الذي يقضيه، وإلى كل ما في هذه الدنيا، في بحرها، وبرها، وسهلها، وجبلها، وكل ما أشرقت عليه الشمس، كيف ينظر إلى ما تشتمل عليه من شهوات ولذّات وحاجات، وما إلى ذلك، ((أَوَلا حرٌّ يدع هذه اللماظة لأهلها))، ويقصد بكلمة (اللماظة): الدنيا. وتعني ما يبقى في الفم من الطعام، فإنَّ كل واحد منّا عندما يأكل الطعام، فإنه يتبقّى في فمه بعض بقاياه. والإمام(ع) يصوِّر ما تيسَّر للإنسان من أمور الدنيا كمثل بقايا الطعام، باعتبار أن ما نتلذذ به، وما نشتهيه، وما نستمتع به، وما نسكن فيه، هو من بقايا ما تركه الأولون، من الآباء والأجداد، وقد أخذوا منه ما تيسَّر لهم، مما كانوا يعيشونه، ثم ذهبوا وتركوا هذه البقايا لنا، ونحن نترك هذه البقايا لأولادنا، وما إلى ذلك.
فالإمام(ع) يريد أن يقول إن هذه الدنيا ليس فيها دوام وثبات، بل كل جيل يأخذ من الدنيا ما تيسَّر له منها، ثم بعد ذلك يتركها لغيره، فانظروا إلى الدنيا بهذه النظرة. وهنا نلاحظ في كلمة الإمام الكاظم(ع) (أَوَلا حرٌّ)، أنّه يربط المسألة بمسألة الحرية؛ لأن مسألة أن تكون حراً هي أن لا يستعبدك شيء. والعبودية على قسمين: فربما يستعبدك شخص، وربما تستعبدك شهوة، أو تستعبدك لذة، أو تستعبدك عادة، أو تستعبدك حاجة، والناس تستعبدهم حاجاتهم. ولهذا ترى بعض الناس الذين تستعبدهم حاجة معينة، أو عادة معينة، عندما تدعوه إلى أن يترك هذه العادة، ويكفّ عن الاستجابة لها، يقول لك: لا أستطيع، كما هو شأن الناس الذين يدمنون التدخين، والناس الذين يدمنون المخدّرات، أو الذين يدمنون المسكرات، أو الذين يدمنون العادة السرية، فإنك عندما تحدِّث أحدهم وتنصحه بأن يترك هذه الأمور، لأنها محرّمة، أو لأنها مضرّة، وهي تسيء إلى صحته، أو إلى مكانته الاجتماعيّة، فإنه يرفض ذلك، وحجّته في أنّه لا يستطيع تركها والإقلاع عنها فهي عادة اعتادها. ومعنى ذلك أنّ تلك العادة أو الحاجة أقوى منه، وأنها تسيطر عليه، وهل من معنى للعبوديّة غير ذلك؟!
التحرّر من القيود:
لذلك، فإن المطلوب من الإنسان المؤمن أن يكون حرّاً أمام كل شيء في الدنيا، بمعنى أن كلّ شيء يواجهه فإنّه يستطيع أن يأخذ به، ويستطيع أن يتركه، بحيث يكون الإنسان حرّ الإرادة، أي أن يكون مسيطراً على كلِّ قراراته، وعلى كلِّ مشاعره، وعلى كلِّ أحاسيسه، بالمستوى الذي لا يستطيع أحد أن يضغط عليه.
ومن الحديث عن الحرية الداخلية والذاتية، ننتقل للحديث عن الحرية أمام الإنسان الذي يملك القوة ويملك النفوذ؛ لماذا يستعبد الناس أنفسهم للطغاة؟ ولماذا يستعبدون أنفسهم للأغنياء؟ لماذا يستعبد الرجل نفسه لامرأة؟ ولماذا تستعبد المرأة نفسها لتكون أمةً لرجل؟ لماذا هذا النوع من الإحساس بالعبودية للشخص الآخر؟
إنّك عندما تستعبد نفسك للغنيّ، فأنت تستعبد نفسك لماله، وللقويّ لقوّته، وللوجيه لجاهه، أو للشّهوة التي يستطيع تحقيقها لك. ومعنى ذلك أنّ حاجتك لهذا الإنسان هي التي جعلتك عبداً له، فأنت عبدٌ لما عنده. أمَّا إذا كنت حرّاً، ومستعدّاً لأن تتحرّر من كل هذه الحاجة، فأنت حرّ كأعمق ما تكون الحرّية؛ لأنَّ الحرية هي أن لا تضغط عليك حاجة، ولا تضغط عليك شهوة، ولا تضغط عليك عادة. ويذكر العلماء أنَّ من أسرار الصّيام التحرّر من عبودية العادة؛ لأن الإنسان، في أيّامه العادية خارج رمضان، يعتاد صباحاً أن يتناول فطوره، أو قهوته، أو ما أشبه ذلك، ثم في وقت الظهر يتناول غداءه، أو تدخينه إذا كان مدخّناً، فيأتي رمضان، فيقلب نظام حياته، فتتغير عادات الإنسان، وبدل أن يتناول الغداء والفطور، فإنه يفطر، ويتسحَّر. ولذلك يقولون إن هذا التدريب اليومي على تغيير العادة، يحرِّر الإنسان من عبودية العادة؛ لأنّه يغيّرها في الوقت، أو في الأمور الأخرى. وبذلك يكونُ الإنسانُ حراً من خلال أشياء أخرى؛ لأنّك إذا تدرَّبت على أنْ تحرِّر نفسك مما هو لصيقٌ بحياتك اليومية، فإن معنى ذلك أنك تستطيع أن تحرر نفسك من أيِّ شيء آخر. ولهذا أكّد الله سبحانه وتعالى، في حديثه عن الصيام، على التقوى؛ بمعنى أنّ الصيام يساهم في حصول الإنسان على ملكة التقوى. قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( )، باعتبار أن التَّقوى تعتمد على حرية الإرادة، وذلك يعني أنك تأخذ بأسباب التقوى، بأن تفعل ما أمرك الله به حتى لو كانت نفسك ترفض ذلك، وتترك ما نهاك الله عنه حتى لو كانت نفسك تريد ذلك. وهذا يحتاج إلى أن تكون حر الإرادة، وأن تقول لا، عندما تريد نفسك أن تُخضعك لما حرّمه الله تعالى، أو لما يضرّك، وأن تقول لنفسك: بلى، عندما تضغط عليك أن لا تفعل.
الصبر طريق الحرّية:
ونحن نقرأ في حديث الإمام الصادق(ع) في الربط بين الصبر وبين الحرية: ((إنّ الحرّ حرّ في جميع أحواله. إنْ نابته نائبة))، إذا جاءته مصيبة، وأرادت أن تنحرف به عن الطريق، لتغريه، ((صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب))، أطبقت عليه المصائب، سواء أكانت سياسية، أم اجتماعية، أم مالية، أم حياتية، ((لم تكسره، وإن أُسِر وقهر واستبدل باليسر عسراً))، يعني أن الحرية لا تأتي من الخارج لتكون مرسوماً يمنحُك إياه صاحب سلطة أو ثروة أو جاه، بل الحرية تأتي من الداخل، أي أن تكون حراً في داخل وجودك، وداخل ذاتك، وفي عمق إرادتك، لا تتنازل عن حقّك أو فكرك أو إيمانك وقناعاتك، مهما كانت الضغوطات.
ثم يعطي الإمام(ع) مثالاً يقول: ((كما كان من يوسف الصديق الأمين؛ لم يضرر حريته ما ناله من ظلمة الجبّ ووحشته))، وأُلقي في السجن، فصبر، ((فصيّر الله الجبار العاتي له عبداً بعد أن كان له مالكاً، فرحم به أمّة، وكذلك وطّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا)). فنلاحظ أن يوسف الصدّيق(ع) الذي ابتلاه الله سبحانه وتعالى، وما ناله من ظلمة الجب ووحشته، بقي صابراً، ولم ينقل عنه(ع) أنه بكى، أو سخط، وإنما عرف أن الظرف الذي هو فيه لا يملك فيه حرية الحركة، ولكن بقيت حريته في إيمانه بالله سبحانه وتعالى، وفي إرادته الحرّة الصلبة التي لم تسقط أمام الظروف الصعبة المحيطة به. وعندما اشتراه عزيز مصر، بقيت حريته معه.
وعندما همّت به امرأة العزيز، وأرادت منه أن يخضع لها، وأن يترك أخلاقياته وروحانيته، مستغلّة ملكيّتها له، صمد، وتقدّمت حريته، وهي حرية أن يقول: لا. وقال تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ( )، فعندما انطلقت غرائزه بشكل طبيعي، رفض غرائزه، قال تعالى: ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، أي لولا أن استيقظت العصمة داخل نفسه. لذلك بقيت حريته في الالتزام بالمنهج الأخلاقي الذي يؤمن به، والذي ربّاه أبوه يعقوب(ع) عليه.
وعندما جمعت له امرأة العزيز النسوة، وأرادت لهنَّ أن يسلِّطن كل غرائزهنّ عليه، صمد أمام ذلك كلِّه، وعندما رأى أن الضَّغط بدأ يشتدّ، استيقظت حريته، وانفتحت على عبوديته لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ( ). لذلك صمد أمام التجربة، واستعان بقوة الله سبحانه وتعالى، وفضّل السجن على كلِّ تلك الحياة الرغيدة، انطلاقاً من حرية إرادته في عمق إيمانه، التي يمارسها بعيداً عن الضغوط القاسية التي تهزّ الذات.
وعندما دعاه الملك ليستخلصه لنفسه، كما قال تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي( )، لم يخرج من السجن إلاّ بعد أن أظهر براءته، وقال لرسول الملك: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنّ إنّ ربِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ( )، وأراد أنْ لا يكون في الموقع الذي يتناول الناس فيه سمعته بطريقة أو أخرى، من خلال التجربة الصّعبة التي عاشها، وذلك ليؤكّد حرّيته، وليملك حرية عزّته وكرامته. لذا يريد الإمام السجَّاد(ع) أن يختصر كلَّ ما في الدنيا بقوله إنّ الإنسان يكون حراً إذا ترك هذه اللماظة، أي هذه البقايا التي تركها الآخرون لأهلها. وليس معنى ذلك أن تخرج من كلِّ حاجاتك في الدنيا، بل أن لا تستغرق في الدنيا استغراقاً يجعلك تعتبر الدنيا كلَّ طموحك وهمّك، وتعتبر الدنيا هي السعادة، بحيث تتنازل عن كل قيمك ومبادئك للحصول على دنيا هنا وهناك. أن تكون حراً أمام حاجاتك، أن تقبل منها ما يتناسب مع مبادئك، وأن تترك منها ما لا يتناسب مع ذلك.
ثمن النفوس:
ثم يتابع الإمام زين العابدين(ع)، في ما تنقله الوصيّة: ((فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنّة))؛ هل تريد أن تبيع نفسك؟ بم تبيعها؟ هل تبيعها بما تأخذه من إنسان يملك المال أو تستعبدها لإنسان يملك القوة؟ أو هل تبيعها لإنسان يملك الشهوة واللذة؟ كل هذا لا يغني ولا يبقى منه شيء؛ فالمال يفارقك، أو تفارقه، واللذة تفنى وتبلى، وكل ما تأخذه يبقى في الدنيا. لذلك هناك ثمن واحد فقط، وهو قوله تعالى: إِنَّ الله اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ( )، فالجنة هي الثمن الذي يمكن أن تجعله مقابل نفسك. وعليك أن تحاول أن تجعل الجنة هي الثمن الذي تدفع كل نفسك مقابله. ولعلَّ هذا هو ما تشير إليه الآية الكريمة التي نزلت في حق الإمام علي(ع) عند مبيته على فراش الرسول(ص) ليلة الهجرة: وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالعِباد( ). من يشري، أيْ من يبيع، والمقصود أنّه يبيع نفسه لله، ويشتريها لنفسه، ويشتري مصيره، ومستقبله، وسعادته؛ لأن علياً(ع) باع نفسه لله تعالى. ويروى أنه عندما طلب منه رسول الله أن يبيت في فراشه حتّى يغطّي انسحابه، قال له: ((يا رسول الله، أَوَتسْلم، قال: بلى، قال: إذاً اذهب راشداً مهدياً))؛ فالقضية عندي ـ كما هي إيحاءات كلمته(ع) ـ، هي الحفاظ على الإسلام ونيل مرضاة الله سبحانه وتعالى.
وقد جاء عن الإمام علي(ع) في وصيته للإمام الحسن(ع)، وهو يتحدث معه عمّا يبذله بعض الناس من أنفسهم ليحصلوا على بعض الدنايا: ((أكرِم نفسك عن كلِّ دنيئة))؛ والدنيئة هي الشيء الحقير الذي لا يتناسب مع موقعك، ومع نفسك، ((وإن ساقتك إلى الرغائب))، أي حتى لو ساقتك إلى ما ترغب فيه من شهواتك، ولذاتك، وأمانيك، وأحلامك، وما إلى ذلك.. ((فإنك لن تعتاض بما تبذله من نفسك عوضاً))؛ فلو حصلت على المال كله، فعليك أن تعتبر نفسك أثمن وأعزّ منه، لأنّ ذلك لا يمكن أن يكون عوض نفسك. وهذا ما يؤكّده هنا الإمام زين العابدين(ع) بقوله: ((فليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة، فلا تبيعوها بغيرها))؛ لا تبعها بمال أو جاه، أو شهوة، أو لذة، أو حاجة طارئة، ((فإنه من رضي من الله بالدنيا، فقد رضي بالخسيس)). وهذا نظير أولئك الذين يحدّثنا عنهم الله سبحانه وتعالى في الحجّ، في قوله تعالى: فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَالله سَرِيعُ الْحِسَابِ( )، فبعض الناس لا يعيش إلا همّ: ((اللهمَّ ارزقني ولداً))، ((أعطني زوجة))، وأعطني كذا.. ولا يلتفت إلى: ((اللهمَّ أعطني الجنة))، بحيث تكون الدّنيا كلَّ همّه، والدنيا مهما كانت كبيرة، فهي أمرٌ خسيس بالنسبة إلى مصيرك، وهو الجنّة؛ لأنك سوف تتركها لغيرك، وسوف يأخذها غيرك، ثمّ تأتي يوم القيامة، كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ( ).
معالم الطريق:
ويتابع الإمام الكاظم(ع) وصيته لهشام بن الحكم، ((يا هشام، إنَّ كلَّ الناس يبصر النجوم))؛ فهم ينظرون إليها، ويحدّقون بها، ولكن من الذي يهتدي بالنجوم؟ ومن الذي يستطيع أن يستخدمها كعلامات تدلّه على الطريق، حيث لا علامات أخرى يمكن أن يهتدي بها إلى الطريق، سواء كان في البر، أو في البحر، ((ولكن لا يهتدي بها إلا من يعرف مجاريها ومنازلها))؛ أي منازلها ومسارها، لأنها تنتقل من منـزل إلى آخر، ((وكذلك أنتم))؛ الذين تملكون الحكمة والعلم، ومن خلال ما تملكونه من علم، ومن الحكمة، ((تدرسون الحكمة، ولكن لا يهتدي بها منكم إلا من عمل بها))( )؛ بمعنى أنّه لا قيمة للعلم الذي تدرسه، حيث يبقى مجرّد نظريات في عقلك وفكرك، بل القيمة هي عندما تطبّق هذا العلم، لتعرف كيف توجّهه في مجريات حياتك، لتستدلَّ به على ما تفعله هنا، وما لا تفعله هناك. وإلا فلا فائدة من علم لا يتبَعُه العمل، لأن قيمة العلم أن يضيء لك حياتك وطريقك، ويعرِّفك ما يضرّك وما ينفعك، وما يحسن لك أن تفعله، وما يقبح لك أن تفعله.
وللكلام بقية إن شاء الله تعالى
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثانية والعشرون 15 شوال 1425 ه - 27/11/2004م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (16)
دروس من كلمات السيد المسيح(ع) (1)
على المسلمين أن ينفتحوا في ثقافاتهم، على الثقافات الرسالية التي أوحى بها الله تعالى للرسل، كصحف إبراهيم(ع)، وموسى(ع)، وعيسى(ع)، إلى جانب القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على رسوله محمّد(ص)
تواصل الرسالات
الوصول إلى ذروة السعادة
تذوقوا حلاوة الإيمان
استمتعوا بضوء السراج
عجّلوا بالتوبة
خفّفّوا من ديونكم
اجتنبوا محقّرات الذنوب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
تواصل الرسالات:
في نطاق وصيّة الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم، ينقل الإمام(ع) بعض كلمات السيد المسيح(ع) التي يخاطب بها الحواريين من أصحابه أو تلاميذه. ونأخذ من هذه اللفتة الإمامية فكرة، وهي أن أئمة أهل البيت(ع) كانوا لا يغفلون عمّا يصدر عن الأنبياء السابقين، بل حتى عن الذين يملكون الحكمة من غير الأنبياء. وهذا المنهج هو منهج قرآني؛ حيث نجد أنّ القرآن الكريم حدّثنا، في قصص الأنبياء(ع) وغيرهم، عمّا تكلموا به مع شعوبهم، وعمّا دار بينهم وبين أممهم من حوارات. كما حدّثنا القرآن عن حديث لقمان لابنه، ولقمان ليس نبياً، وحدّثنا أيضاً عن حديث العبد الصالح، ويُقال إنه الخضر، مع موسى(ع)، ولم يكن الخضر نبيّاً، إذا صحَّ أن العبد الصالح هو الخضر. ونستوحي من ذلك، أن على المسلمين أن ينفتحوا في ثقافاتهم، على كلِّ الثقافات الرسالية التي أوحى بها الله تعالى للرسل، كصحف إبراهيم(ع)، وموسى(ع)، وعيسى(ع)، إلى جانب القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على رسوله محمّد(ص)، وأن لا نغيب عن مثل هذه الثقافات، خصوصاً وأن الثقافة القرآنية جمعت كلّ الرسالات، وتحدّثت عن كلِّ الخطوط الرسالية، وعن شخصيات الرسل، ما يمكن أن نستوحي منه الكثير، في وسائل التربية وأساليبها.
فنحن عندما نقرأ ما تحدّث به إبراهيم(ع) مع قومه، في ما أثاره من علامات الاستفهام حول عبادة الكواكب والقمر والشمس، والذي انتهى من خلاله إلى عبادة الله الواحد، في الوقت الذي لم يكن إبراهيم عابداً لهذه المعبودات لدى قومه، ولكنه أسلوب في التربية والتوجيه، على طريقة طرح الأفكار التي يؤمن بها الآخرون ومناقشتها كما لو كانت أفكاره. كما نستطيع أن نستوحي من حوار إبراهيم(ع) مع أبيه، كيف يتعامل الإنسان مع أبيه إذا كان أبوه كافراً أو ضالاً، وكيف يتجاوز تأثيرات العاطفة عندما يريد أن يتحرّك مع أبيه في خطِّ الهداية والنصح والإرشاد. وهكذا في كلِّ حوارات الأنبياء(ع) وسلوكياتهم؛ لأنَّ ذلك كلّه يجعلنا نفهم الرسل أكثر، ونفهم الرسالات أكثر.
ومن المؤسف أنّ الدراسة الحوزويّة، في الغالب، لا تتضمّن برامج لدراسة الأديان؛ فلا نجد، مثلاً، دراسات عن الحنيفيّة الإبراهيميّة، أو خصائص الدين اليهودي، أو المسيحي، سواء في ما كان يدعو إليه موسى(ع) أو عيسى(ع)، أو في الانحرافات التي حدثت بعد ذلك، على مستوى تحريف التوراة أو الإنجيل. حتى بلغ الأمر بنا ـ في هذا الجمود الفكري ـ أن أصبحنا لا ندخل في برنامجنا مسألة الخلافات بين المسلمين، فالكثيرون من السُنّة لا يعرفون عن الشيعة شيئاً، إلاّ ما يُثار من أكاذيب وافتراءات، كما لا يعرف الكثيرون من الشيعة عن السُنّة شيئاً كذلك. إن مسألة مقارنة الأديان، ومقارنة المذاهب، كما هي مسألة مقارنة الإسلام مع التيارات العلمانية الأخرى، التي فرضت نفسها على الفكر الإنساني في العالم، إنَّ هذا كله يؤصِّل لنا ثقافتنا، ويمنحها إطلالةً على الثقافات الرسالية، أو على الثقافات المعاصرة، لنـزداد بذلك وعياً وعلماً، ولنتعرَّف كيف أن الله سبحانه وتعالى تحدَّث عن بعض التداخل بين المفاهيم الإسلامية، والمفاهيم الدينية غير الإسلامية، وكيف تحدَّث عن وحدة الرسل، وعن وحدة الرسالات، في قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ( )، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ( ).
إذاً، نحن ننطلق في الحديث عن هذه الوصية من خلال ما تحدث به الإمام الكاظم(ع) في وصيّته لهشام بن الحكم، عن كلام السيد المسيح(ع) الذي له أسلوب خاص، في بعض ما يريد أن يوجِّه به، أو يعظ به.
الوصول إلى ذروة السعادة:
يقول(ع): ((يا هشام: إنَّ المسيح(ع) قال للحواريين: يا عبيد السوء)). قد يبدو للوهلة الأولى أنّ قوله(ع): (يا عبيد السوء)، لا تتناسب مع الحواريين الذين كانوا يمثلون الفئة الطليعية المميّزة من تلاميذ السيد المسيح(ع)، كما ورد في القرآن الكريم، في نداء عيسى(ع) لهم: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الحَوَاريُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ( )؛ ولكن من الممكن جداً أن يتحدث عن بعض صفاتهم الإنسانية، في بُعدها الإنساني الذي يلتقي بنقاط الضعف لدى الإنسان، من حيث إنَّ الإنسان تستعبده غرائزه. ولذلك فإنه يحاول أن يوجِّههم إلى أن لا يخضعوا للسوء، ولا يسقطوا في عبوديّتهم له، باعتبار أنَّ السوء يمثِّل الشهوات واللذات، التي تستعبد الإنسان في حاجاته، لأنَّ حاجات الإنسان التي يستغرق فيها هي التي تستعبده.
((يهولكم طول النخلة وتذكرون شوكها))، وهو هذا الشوك الذي يحيط بالثمرة عادة، أو ينشأ على هامش الشجرة، ((ومؤونة مراقيها))؛ يعني شؤون الارتقاء إليها بسبب طولها، والصّعوبات التي تواجه الإنسان الذي يريد أن يصعد إلى النخلة في خطر السقوط من خلالها، ((وتنسون طيب ثمرها ومرافقتها ـ وهو نفعها ـ كذلك تذكرون مؤونة عمل الآخرة، فيطول عليكم أمده، وتنسون ما تفيضون إليه من نعيمها ونورها وثمرها)).
إن السيد المسيح(ع) في هذه الكلمة، يحاول أن يقدِّم للإنسان قاعدة، من خلال طبيعة الواقع المادي الذي يحيط بالإنسان في سلوكه العملي في الحياة، أمام بعض الأشياء المادية، لينتقل من ذلك إلى الأمور المعنوية. إنه يتحدّث عمّا يواجه الإنسان من إغفال الأمور الإيجابية أمام ما يواجهه من الأمور السلبية، ليقول له: اصبر على السلبيات لكي تحصل على الإيجابيات. فهنا قد ينظر الإنسان إلى طول النخلة، وصعوبة ارتقائها، وشوكها، فيمنعه ذلك من الاستفادة من ثمرها الحلو، الذي ينفعه في ما يعطيه من لذة الطعم، ومن منفعة الخصائص الموجودة في التمر. لذلك يقول له: حاوِل أن تحدِّق بالتمر الذي في أعلى النخلة، وكل منافعه وخصائصه المفيدة النافعة، وتحمَّل طول النّخلة من أجل الوصول إلى تلك اللّذة المادية، بحيث تخطِّط للصعود إليها بطريقة مدروسة توصلك إلى الهدف، ولا تؤدي إلى أيِّ أذى لك.
وكذلك الآخرة، فالإنسان ربما يواجه في العمل للآخرة الكثير مما يجهده، مما فرضه الله سبحانه وتعالى من العبادات، أو بالامتناع عمّا حرّمه عليه من اللّذات والشهوات؛ ولذلك فإنه يترك عمل الآخرة حتى لا يتعبه الإعداد لهذا العمل، ويحرمه من الحصول على لذّاته وشهواته، ولذلك ينسى أمام ذلك نعيم الآخرة ونورها وثمراتها، في ما يعيشه الإنسان في نعيم الجنة، في ظلّ رضوان الله تعالى. فكأن السيِّد المسيح(ع) يريد أن يقول: لا تفكِّر في بدايات الأمور وقساوتها، ولكن فكِّر في نهايات الأمور ونتائجها الطيّبة الجيّدة؛ لأنَّ الإنسان العاقل هو الذي يتحمَّل الجهد في سبيل الوصول إلى السعادة على مستوى الدنيا والآخرة.
فنحن نجد ـ من خلال المثل الذي طرحه السيِّد المسيح(ع) ـ أنّ الإنسان، في إدارة شؤونه في الحياة، يتحمَّل الصّعاب الكثيرة والكبيرة، ويتكبَّد الخسائر الجسيمة، في سبيل الوصول إلى الأرباح والمكاسب. وهذا ما نجده في طلب الإنسان للعلم، أو طلب الإنسان للمال، وطلب الإنسان للجاه، فإنَّ الإنسان يتحمّل المشقّات والأسفار والخسائر من أجل أن يبلغ ما يحقِّق طموحه، وما يرفع شأنه، وما يكسبه الكثير من أرباح الدنيا في نهاية المطاف.
تذوقوا حلاوة الإيمان:
والكلمة الثانية للسيِّد المسيح(ع): ((يا عبيد السوء: نقُّوا القمح وطيّبوه، وأدقوا طحنه تجدوا طعمه، ويهنئكم أكله))؛ أي إنَّ الإنسان عندما يحصل على القمح ويريد الانتفاع به، فلابد أنه يحصل عليه بوسائل معيّنة، فما هي الوسائل للانتفاع به؟ إن القمح عندما يبقى في شكله الذي خرج من السنبلة، فإنه لا يمنح الإنسان الكثير من اللذة ومن الانتفاع. في البداية، قد يختلط القمح بالتراب وبالأحجار الصغيرة، وقد يختلط القمح بالزؤان، لذلك فلا يمكن أن ننتجه للغذاء مع بقائه على هذا الخليط الذي يسيء إلى طبيعته، لذلك لابد لنا من أن ننقِّي القمح مما يشتمل عليه من العناصر الخارجة عن طبيعته، ثم لابد لنا من أنْ نطيّبه مما يعلق به من الأوساخ، ولابد أن ندقّه ونطحنه، حتى نتمكن من أن نخبزه، أو يمكن أن نحقّق منه الكثير من أنواع الأغذية، لنجد طعمه، ولنهنأ بأكله.
ما الذي يقابل هذا المثل؟ الذي يقابله، في كلمة السيد المسيح(ع)، هو الإيمان، بقوله: ((كذلك فأخلصوا الإيمان وأكملوه تجدوا حلاوته، وينفعكم غبّه))؛ أي نفعه ((وعاقبته)). فلا بد لكم من أن تخلصوا إيمانكم، أي أن تخلّصوا الإيمان من كل ما يشوّه طبيعته، وذلك من الشرك؛ لأنه ربما يختلط الشرك بالإيمان، وذلك عندما تتحرك خطوط الإيمان في تفاصيله لتلتقي ببعض الشرك في علاقات الإنسان، وفي بعض أوهامه، وما إلى ذلك. وأن تخلّصوه من الرياء، ومن النفاق، وما إلى ذلك. لابد لكم أن تخلّصوه لتهنأوا به، ولتجدوا حلاوة الإيمان، كما تجدون حلاوة القمح عندما تنقّونه من كل ما يسيء إليه، وأن تعرفوا كيف تصنعوه بالنّحو الذي يحقّق لكم النتائج الطيبة في ما يهنيكم أكله.
استمتعوا بضوء السراج:
والكلمة الثالثة للسيِّد المسيح(ع)، يقول: ((بحق أقول لكم: لو وجدتم سراجاً يتوقَّد بالقِطران))، لأنهم كانوا يضعون القطران في داخل السراج، ليعطي السراج طاقة الإضاءة، ((في ليلةٍ مظلمة لاستضأتم به، ولم يمنعكم منه ريح نتنة))؛ فإن كل الأسرجة التي عندنا، والتي نحاول أن نجعلها تضيء بواسطة القطران، أو النفط أو المازوت أو ما أشبه ذلك، نواجه في شأنها أمراً سلبياً، وهو الرائحة النتنة التي يثيرها هذا القطران، أو هذا المازوت، أو هذا النفط الذي يعطي الطاقة، ولكننا نواجه أمراً إيجابياً، وهو مسألة الإضاءة، فلا يمنعنا نتن الريح الذي يحصل من هذه المادة التي تعطي الطاقة للسراج ليضيء لا يمنعنا من الحصول على الاستضاءة ولكن، ما هو الرديف لذلك؟ ((كذلك ينبغي أن تأخذوا الحكمة ممن وجدتموها معه، ولا يمنعكم منه سوء رغبته فيها))؛ والحكمة قد نأخذها من جاهل أو مجنون أو ضالّ، ومن الممكن أن تطفو الحكمة على لسانه انطلاقاً من حالة طارئة تضع الحكمة على لسانه، أو من خلال تجربة عاشها، فأخذ منها نتيجةً تمثّل الحكمة، أو مما سمعه من عالم فحفظه، فعندما نسمع هذه الكلمة من جاهل، فعلينا أن نأخذها، ونحن نعرف المثل: (خذ الحكمة ولو من أفواه المجانين)، وهنا قد يتعقَّد الناس من أخذ الحكمة من شخص جاهلٍ أو من مجنون أو من ضالّ، فيهملونها ويتركونها انطلاقاً من هذه السلبية، ولكن السيد المسيح(ع) يقول: إن عليكم أن لا تنظروا إلى الشخص الذي تأخذون منه الحكمة، هل يلتزم بها أم لا يلتزم بها؟ هل يرغبها أم لا يرغب بها؟ لأن مشكلتكم ليست في الشخص نفسه، فلا علاقة لكم بالشخص في ذاته، ولكن علاقتكم بالحكمة في مضمونها، وفي نتائجها، ولهذا خذوا الحكمة منه، وإنْ كان في موقع السلبية في جهله، أو في جنونه، أو في ضلاله، أو ما إلى ذلك، تماماً كما تستضيئون بالسراج الذي يختزن في داخله القطران.
عجّلوا بالتوبة:
وهكذا يقول: ((يا عبيد الدّنيا: بحقٍّ أقول لكم، لا تدركون شرف الآخرة إلاّ بترك ما تحبّون، فلا تنظروا بالتّوبة غداً، فإنَّ دون غد يوماً وليلةً، وقضاء الله فيهما يغدو ويروح)). إنَّه يحدّثنا عن الآخرة، يتحدَّث مع المؤمنين الذين آمنوا به، وإن كانوا قد يسقطون في بعض سلبياتهم في الخطأ أو في الخطيئة، لأنهم يفكرون بالآخرة. يقول لهم: إنَّ مسألة التفكير بالآخرة من قِبَل المؤمن، ليحصل على شرف الآخرة من رضوان الله تعالى، ومن نعيم الجنة وما إلى ذلك، إن شرط الحصول على هذا الشرف، هو أن تتركوا ما تحبّونه من الدنيا، لأنه كما ورد: ((حفّت الدنيا بالمكاره، وحفّت النار بالشّهوات)). لذلك، عليكم ـ أيها المؤمنون ـ مهما أمكن، أن تتركوا ما تحبونه من الدنيا، فإذا أخطأتم فسارعوا بالتوبة، ولا تؤجّلوها إلى وقت آخر، لأنكم لا تعرفون ما الذي يأتيكم في الوقت الآخر، وربما لا يأتي الوقت الآخر، حيث قد يتدخل قضاء الله تعالى ليجعلكم تفارقون الحياة، أو يدفعكم إلى أن تنسوا التوبة في هذا المجال. لذلك إذا كنتم تريدون الآخرة، فعليكم أن تستعجلوا الحصول على شرفها، ولا تؤجِّلوا التوبة عن المعصية التي تحجزكم عن الآخرة، بل بادروا إليها، فإن الأيام تجيء وتذهب، وقد تفوتكم الفرصة، وقد يذهب الغد بما فيه، لأن قضاء الله وقدره يروح ويغدو، فقد لا تبلغ ما تريده من التّوبة.
خفّفّوا من ديونكم:
ثم يقول(ع): ((يا عبيد السّوء: بحقٍ أقول لكم: إنَّ من ليس عليه دين من الناس أروح وأقلّ هماً ممّن عليه الدّين، وإن أحسن القضاء. وكذلك من لم يعمل الخطيئة، أروح وأقلّ هماً ممن عمل الخطيئة، وإن أخلص التوبة وأناب)). يقول(ع): عندما يكون عليك دَيْن، قارن نفسك بمن لا يكون عليه دين. إن الإنسان الذي ليس عليه دين، يشعر بالراحة، ويفقد إحساسه بالهمّ، باعتبار أن ذمّته فارغة من كل ما يثقلها من مطالب الناس عليه. أما إذا كان عليكم دَينْ، فإنكم تشعرون بثقله، وبما ينتظركم من تعقيداته، في مطالبة الناس لكم به حتى لو كنتم تعزمون على وفائه وتحسنون قضاءه. ولكن المدين يبقى في همٍّ يُسهر ليله، ويتعب نهاره، من خلال ثقل الدَّين عليه.
ما الذي يقابل ذلك؟ إنّ الذي يقابل ذلك هو مسألة الخطيئة؛ فمن عمل الخطيئة، فإنه يشعر بثقلها على ذاته، وعلى مستقبله؛ لأنه عصى الله تعالى، ولأنه أغضبه وأسخطه، حتى لو كان ناوياً للتوبة والإنابة بالرجوع إليه، بينما الذي لم يعمل الخطيئة، فإنه يشعر بالراحة النفسية، وبالهدوء، لأن علاقته بالله سبحانه وتعالى، هي علاقة مفتوحة على طاعة الله وعلى محبته ورضوانه. ولذلك فإن السيد المسيح(ع) يقول: ادخلوا دائماً في مقارنة بين دَيْن الدنيا وبين دَيْن الآخرة، فإذا أثقلكم دين الدنيا، فلابد أن يثقلكم دين الآخرة، فحاوِلوا أن تتحرَّروا منه، وأن تزيلوا ثقله عن أنفسكم.
اجتنبوا محقّرات الذنوب:
ثم يقول السيِّد المسيح(ع): ((وإنَّ صغار الذنوب ومحقّراتها من مكائد إبليس، يحقّرها لكم، ويصغّرها في أعينكم، فتجتمع وتكثر فتحيط بكم))( ). هنا يعالج(ع)، في هذه الكلمة مسألة النظرة التي ينظر بها الناس إلى بعض مفردات الذنوب الصغيرة، التي لا تدخل في دائرة الكبائر التي توعَّد الله تعالى عليها بالنار، فكأنه يقول: لو لم يكن عليّ إلا هذه الذنوب التي تصدر من الإنسان، من كلمة صغيرة هنا، وعمل حقير هناك، ومن نظرة طارئة أو لمسة طائرة وما إلى ذلك، والتي يشعر معها الكثيرون أن لا شيء عليهم، لأنهم ينظرون إلى حجم كلّ مفردة منها على حدة، فإنّ ذلك إنّما هو من مكائد إبليس الذي يصغِّر الذنوب الصغيرة في أعينكم، ويوحي لكم بأنكم لم تفعلوا شيئاً، لتزدادوا منها، فلا تشعروا بما تقومون به منها في حجمه في نهاية المطاف، لأن صغائر الذنوب ومحقّراتها تجتمع فتكون كباراً.
وقد ورد في السيرة النبوية الشريفة أن رسول الله(ص) كان في سفر مع أصحابه في أرض جدباء، ليس فيها شجر وليس فيها زرع، وعندما استقرَّ بهم المقام في بعض مراحل السفر، قال لهم: اجمعوا لنا الحطب، وتلفّت المسلمون إلى هذه الصحراء، فلم يجدوا حطباً بالحجم الكبير الذي يجده الإنسان في الغابات أو في البساتين، أو ما إلى ذلك، ولكنهم أطاعوا رسول الله(ص) في ما أمرهم به، فذهبوا يميناً وشمالاً، وإذا بكل واحد منهم يأتي ويحمل معه حطبة هنا دفعها الهواء، وقشة هناك، وما إلى ذلك، ووضعوه أمام النبي(ص) وبدأوا يتساءلون: لماذا أمرنا بذلك؟ وما هي الغاية من ذلك؟ فعندما استقرَّ بهم المقام، قال لهم وقد نظروا إلى أن هذا الحطب الذي تجمّع وهو من صغار الحطب الذي ألقى به الهواء، قال لهم: هكذا تجتمع محقرات الذنوب، فتكون كباراً. وكأنّه يقول لهم: إنكم نظرتم إلى الصحراء، ولم تجدوا فيها الحطب الجذل، ولكنكم وجدتم عوداً هنا، وعوداً هناك، مما حقّرتموه، ولذلك قلتم ليس هناك حطب، ولكنكم عندما جمعتم هذه الأعواد، أصبح لديكم حطب يمكن أن تستدفئوا به، ويمكن أن تطبخوا عليه.
وما يريد الحديث التأكيد عليه، هو أن عليك أن لا تنظر إلى حجم معصيتك، ولكن انظر إلى من عصيت، والله لا يعصى، سواءً كان في المعصية الصغيرة أو الكبيرة، ومن المعلوم أيضاً ـ فقهياً ـ أنّ الإصرار على الصغيرة يحوّلها إلى كبيرة.
ونبقى مع وصايا السيد المسيح(ع)، وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثالثة والعشرون 23 شوال 1425 ه - 4/12/2004م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (17)
دروس من كلمات السيد المسيح(ع) (2)
لا تتبعوا العلماء لمجرد الزيّ العلمائي.. ولكن ارتبطوا بالعلماء الذين يتطابق قولهم مع فعلهم
علماء القول وعلماء الفعل
مساجد الله لله
قلب المؤمن
المواجهة الواعية
أكمل النقاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
علماء القول وعلماء الفعل:
من كلمات السيِّد المسيح(ع) التي نُقِلت في وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم، قوله(ع): ((بحقٍّ أقول لكم: إنَّ الناس في الحكمة رجلان: فرجل أتقنها بقوله وصدّقها بفعله، ورجل أتقنها بقوله وضيّعها بسوء فعله، فشتَّان بينهما. فطوبى للعلماء بالفعل، وويل للعلماء بالقول)).
إنَّ هذه الكلمة تتصل بأحوال العلماء الذين يملكون المعرفة في كلِّ جوانبها، سواء منها ما يتّصل بالالتزامات الدينية، في العقيدة، والشريعة، والأخلاق، والمنهج، أو ما يتَّصل بالخطوط الاجتماعيَّة في علاقات الناس بعضهم ببعض، وفي كلِّ ما يختلفون فيه أو يتّفقون فيه على مستوى الاتجاهات والتيارات، وما إلى ذلك، أو على المستوى السياسي، والذين يتحدّثون عن كلِّ خطوط هذه المعرفة بما ينفتح على الحق، في كل خطوطه، في ما يسوس أمور الناس، ويحقِّق لهم النتائج، ويؤكِّد خطَّ العدل، في ما ينبغي لهم أن يأخذوا به، ويفيضون فيه، أو في الاجتماع، في طبيعة العلاقات التي تربط المجتمع بعضه ببعض، بحيث إنَّ النَّاس عندما يستمعون إليهم، يتمثَّلون فيهم الحق، والعدل، والخير، وما إلى ذلك.. ولكنَّهم عندما يتابعون سلوكهم، يرون أنهم لا يلتزمون بخطوط الحق في العقيدة، أو في الشريعة، أو بخطوط الاستقامة في الأخلاق، أو بخطوط التوازن في المنهج، فيجدون هناك بوناً شاسعاً بين القول والفعل، بينما يلتفتون إلى فريق آخر من العلماء، فيجدون لديهم المعرفة الحقّة، والصدق في العمل، بحيث يطابق قولهم فعلهم.
وعلى ضوء هذا، فإن كلمة السيد المسيح(ع) تقول: ((فطوبى للعلماء بالفعل وويل للعلماء بالقول))؛ وكأنه يريد أن يوحي للناس أن عليكم أن لا تتبعوا العلماء لمجرد أنهم يتمثلون بزي العلماء، أو يضعون أنفسهم في مواقعهم، أو يتحدّثون بلغتهم، ولكن عليكم أن ترتبطوا بالعلماء الذين يتطابق قولهم مع فعلهم؛ لأنهم الأمناء على حلال الله وحرامه، وعلى الحقِّ، وعلى العدل.
مساجد اللّه للّه:
وفي كلمة أخرى، يقول السيِّد المسيح(ع): ((بحق أقول لكم، يا عبيد السوء، اتخذوا مساجد ربِّكم سجوناً لأجسادكم وجباهكم، واجعلوا قلوبكم بيوتاً للتقوى، ولا تجعلوا قلوبكم مأوى للشّهوات)).
إنَّه يحاول أن يعرّفنا دور المساجد في تنمية الروح الإيمانية للإنسان، وفي تقوية الروحانية في ذاته، من حيث أن المساجد لا تُتَّخذ مجرَّد ساحةٍ يجلس فيها الإنسان، بل لا بد لها أن تكون ساحة يتفاعل الإنسان في داخلها، بحيث يحبس نفسه فيها، لا حبس الجسد للجدران التي تضمّه، ولكن حبس الجسد للمعاني التي ينفتح عليها المسجد. فالمسجد هو بيت الله، والله سبحانه وتعالى أراد للمسجد أن يكون له وحده، لا يشاركه غيره فيه، قال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله فَلا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَدًا( )، ولذلك لا يمكن للمسجد أن يكون موقعاً للذين يستعلون في الأرض، أو للذين يتخذون المساجد موقعاً لتنمية شخصياتهم، وتقوية سلطانهم، وما إلى ذلك، وخصوصاً مما أصبح من التقاليد في الأزمنة الأخيرة، حيث أصبحت صور العلماء، أو صور الزعماء، أو شعارات الأحزاب تُعلّق في المساجد، أو تُتّخذ المساجد موقعاً للانتماء إلى هذا الحزب أو ذاك، أو إلى هذه الجماعة أو تلك. وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله؛ فلابد أن تكون لله وحده، لتوثيق علاقة الإنسان بالله، وتنمية روحانيته وإيمانه، وهذا ما قصده السيّد المسيح(ع) في قوله: ((اجعلوا مساجد ربكم سجوناً لأجسادكم وجباهكم))؛ بمعنى اسجن جسدك، فلا يعبد جسدُك إلاّ الله تعالى، ولا يتحرك جسدُك إلا بعبادة الله تعالى، واسجن جبهتك، فلا تسجد إلاّ لله سبحانه وتعالى.
هذا هو دور المسجد. وليس معنى السجن الذي يقصده(ع) هو أن تغلق المسجد على نفسك، بحيث تنفصل عن الحياة، بل أن تغلق عبادتك على ما يوحي به المسجد، باعتبار أنه بيت الله. وعليك أن تفكِّر أنّك إذا سجنت جسدك في بيت الله، فعليك أن تعرف أنه لا حرية لك في أن تحرك جسدك في بيت الشيطان، وإذا سجنت جبهتك في بيت الله من خلال سجودك له سبحانه وتعالى، فعليك أن لا تسجد لغير الله؛ لأن السجود لغير الله في معنى العبادة شرك. وقد تحدَّثنا أكثر من مرّة، أنَّ ما اعتاده بعض الناس من التواضع عندما يدخلون مقامات الأنبياء(ع) والأولياء(ع)، فيسجدون عندما يدخلون الباب، فإن هذا أمر غير جائز، لأن عليك أن تسجد لله سبحانه وتعالى وحده، حتى إن بعض المفسرين يقولون: إن سجود الملائكة لآدم(ع) ليس سجوداً لآدم(ع)، بل هو تحية لله في هذا الخلق، وهكذا كان سجود النبي يعقوب(ع) وزوجته وأولاده ليوسف(ع)، فإنه كان سجوداً لله سبحانه وتعالى، شكراً على ما أعطاهم سبحانه وتعالى من ألطافه، مع احتمال أن يكون العرف العام في تلك العصور اعتياد السجود نوعاً من التحيّة. لذلك فإن العادة التي اعتادها الكثير من الناس في أنه عندما يدخل إلى مقام الأئمة(ع)، أو أولاد الأئمة، فإنهم يسجدون عند الباب، أو غير ذلك من الممارسات، ففيه شيء من الشرك، وإن كان شركاً في المظهر إذا لم يكن شركاً في المعنى.
قلب المؤمن:
((واجعلوا قلوبكم بيوتاً للتّقوى))؛ لأن التقوى تبدأ من القلب، وكلمة (القلب) تشمل العقل، في ما يعطيه من فكر الحق، وتشمل القلب في ما يعطيه من محبة الحق، وبهذا المعنى يكون القلب بيتاً، وقلب المؤمن هو بيت الله، وقد ورد في الحديث القدسيّ: ((ما وسعتني أرضي ولا سمائي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن))؛ فقلب المؤمن هو عرش الله سبحانه وتعالى، لأنه لا عرش لله في المكان، ولكن عرش الله تعالى في قلوب أوليائه، الذين يعيشون ذاتياتهم، ويجدون أن القمة في معنى إنسانيتهم هو الله تعالى، فالله سبحانه وتعالى في قلب الإنسان المؤمن، وهو فوق كل شيء، ومع كل شيء، لأن المؤمن كما قال الإمام علي(ع) في ما روي عنه: ((ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله خلفه)). فالمؤمن يجد الله تعالى أمامه، وفي كلِّ شيء، ومع كل شيء، وخلف كلِّ شيء، أو كما قال(ع): ((ماذا وجد من فقدك، وماذا فقد من وجدك))، ومعنى أن يكون القلب بيتاً للتقوى، أن يكون بيتاً لله تعالى، وإذا كان بيتاً لله، فإن القلب يوحي لصاحبه بطاعة الله في أوامره ونواهيه، وبعظمة الله في أسرار عظمته، وبنعمة الله في امتدادات نعمته، بحيث لا ينبض قلبك إلا بمحبة الله وبولايته، ولا ينفتح عقلك إلاّ على مواقع عظمته، وعلى امتدادات نعمته.
((ولا تجعلوا قلوبكم مأوى للشّهوات))؛ لأنَّ القلب ربما يكون منفتحاً على ما لا يحبّه الله تعالى للإنسان من أحلام وشهوات ولذَّات ومطامع. لذلك، على الإنسان أن يفرغ قلبه من الاستغراق في الشهوات؛ لأن الشَّهوات تمثّل شرك الشيطان، ولا يمكن أن يجتمع توحيد الله مع شرك الشيطان في قلب إنسان واحد، كما يقول تعالى: مَا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ( )، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ( ).
المواجهة الواعية:
ثم يتحدّث السيّد المسيح(ع) عن موقف الإنسان من البلاء؛ حيث إنّ هناك من يواجه بلاء الدنيا، الذي هو من خصوصيات الدنيا، بتذمر، فالله لم يجعل الدنيا ـ في كل مواقعها، وفي كل حركتها، وفي كل أوضاعها ـ مفروشة بالورود، بل جعلها مزروعة بالأشواك والورود، وهي متوزّعة بين الأرض الخصبة والأرض الجديبة، بين الجوع والشبع، بين الظّمأ والريّ، وبين الحزن والفرح، وما إلى ذلك... حتى إن الله سبحانه وتعالى عندما أراد للإنسان أن يحصل على الورد، فإنه جعل الشوك في طريق الحصول عليه، كما قال ذلك الشاعر:
إنَّ الحياةَ لشوكٌ بينهُ زهَر فحطِّم الشوك حتى تبلغَ الزهرا
كما أن الإنسان لا يستطيع أن يحصل على العسل إلاّ من خلال تلقّي إبر النحل، كما قال ذلك الشاعر:
تريدينَ إدراكَ المعالي رخيصةً ولا بدَّ دونَ الشهدِ من إبرِ النحلِ
لذلك يقول(ع): إن على الإنسان أن يدرس الدنيا دراسة واقعية، فيتعامل معها من خلال سلبيات الواقع وإيجابياته، فعليه أن لا يجزع من البلاء إذا مسّه، ولا يسقط أمامه، سواء كان البلاء مصدراً للخوف، أو مصدراً للجوع أو الشّبع، أو ما إلى ذلك. إنّ على الإنسان أن لا يعتبر الدنيا كلَّ شيء عنده، بحيث يقيس مسألة السعادة والشَّقاء بمقياس حرمانه منها، أو حصوله عليها، بل أنَّ عليه أن يعرف كيف يصبر أمام البلاء بحيث لا يجزع، وقد بيّن ما هي صفات الجازع من الدنيا، وما هي صفات الصابر فيها، إذ يقول(ع): ((إن أجزعكم عند البلاء لأشدّكم حبّاً للدنيا))؛ لأنَّ الإنسان عندما يحبُّ الدّنيا حبّاً يستغرق معه في لذاتها وشهواتها، بحيث لا ينفتح إلاّ على الدنيا، فإنه إذا حرم منها، فإنه يسقط أمام هذا الحرمان؛ لأن لا شيء آخر يمكن أن يعوّضه، لا في واقعه في حالته تلك، ولا في أفكاره من خلال إيمانه الذي ينفتح به على الصبر والرضا بقضاء الله سبحانه، وادّخار ذلك لما يحصل عليه في الآخرة.
((وإنَّ أصبركم على البلاء، لأزهدكم في الدّنيا))؛ لأنَّ الإنسان الذي لا يعتبر الدّنيا كل همّه، فإنه عندما يحرم من شيء منها، لا يشعر بأن حرمانه هذا يمثل الشقاء الأكبر، أو المصيبة العظمى، بل يراه أمراً طبيعياً ينطلق من خلال خصوصيات الدنيا في بؤسها ونعيمها، وفي بلائها وعافيتها، في كلّ ما أودعه الله سبحانه فيها من السنن الكونيّة، في ما يتّصل بحركة الكون، أو السنن الإنسانيّة، في ما يتّصل بحركة الإنسان في الحياة.
ثم يقول(ع): ((يا عبيد السوء))؛ أي الذين يعيشون العبودية للسّوء الذي يسيطر على حياتهم، ((لا تكونوا شبيهاً بالحداء الخاطفة، ولا بالثعالب الخادعة، ولا بالذئاب الغادرة، ولا بالأسد العاتية، كما تفعل بالفرائس)). وهنا يريد السيد المسيح(ع) أن يدخل في مقارنة بين الحيوانات التي تجهز على فرائسها بوسائلها المتنوعة، وبين الناس الذين يعيشون ذهنية الحيوان وسلوكه في افتراس الإنسان الآخر، بالوسائل التي يتحرّك فيها هذا الحيوان أو ذاك… فيبدأ بالحديث عن الحداء الخاطفة، والحداء هي نوع من الطيور، ويقال إنها من أنواع الباز، وكذلك من الصقور والنسور، التي تنقض على الفرائس وهي في الجو، لتخطفها، وتأكلها بعد ذلك. ثم ينتقل إلى الحديث عن الثعالب الخادعة، التي تخادع فريستها عندما تهرب منها، وتحاول أن تحيط بها بطريقة وأخرى، والثعلب معروف بالحيلة والمكر. والفريق الثالث، وهو الذئاب الغادرة، التي تغدر بالإنسان، أو بالحيوان، وتستفيد من فرصة غفلته، أو ضعفه، أو ما إلى ذلك. ومن ثم ينتقل إلى الأسود العاتية، وهي التي تفترس الإنسان والحيوان، وتنقض عليهما، بكل عتوها وسلطتها، لتتخذهما طعاماً. فيقول(ع): لا تكونوا مثلهم، عندما تتعاملون مع من تعيشون من الناس، ولا تتشبهوا بهذه الحيوانات في ما يجمع سلوكيتها، وهو الافتراس؛ افتراس الآخر، وظلمه، وقتله، ((كذلك تفعلون بالناس، فريقاً تخطفون))؛ فقد يكون الخطف للقتل، وقد يكون الخطف من أجل الحصول على بعض ما لدى هؤلاء الناس. وقد كثر ـ في هذه الأيام ـ الخطف في العالم، وتنوّعت أساليبه وأهدافه، ((وفريقاً تخدعون))، فتحاولون أن تتخذوا أساليب المكر والخديعة، من أجل أن تجتذبوهم إلى مخطّطاتكم الشرّيرة، وأطماعكم السيّئة، ((وفريقاً تغدرون بهم))؛ وهذا ما نلاحظه في الكثير من الناس الذين يغدرون بأصدقائهم، وبأقربائهم، وبالضعفاء منهم، وما إلى ذلك.
أكمل النقاء:
يقول السيد المسيح(ع): ((بحق أقول لكم: لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحاً وباطنه فاسداً))؛ وهذه قاعدة عامة في كل الأجساد، فالمسيح(ع) يقول: إنكم في اهتماماتكم تهتمون كثيراً بظاهر الجسد؛ بصحته، وبزينته، وبكل ما يلفت أنظار الناس الآخرين الذين تجتذبهم صورة الجسد، ثم يخاطبهم: ((كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم، وقد فسدت قلوبكم))، وقلنا إنّ القلب قد يطلق على العقل، وقد يطلق على القلب، أي موطن الفكر والإحساس والشعور، أي كلّ المنطقة الداخليّة التي تمثّل وجدان الإنسان، ((وما يغني عنكم))؛ فماذا تستفيدون؟ ((أن تنقوا جلودكم))؛ أي أن تنظفوها من كل الأوساخ والأدران التي تعرض عليها، ((وقلوبكم دنسة)). ثم يعطي مثالاً على ذلك المنخل عند استخدامه ((لا تكونوا كالمنخل، يخرج منه الدّقيق الطيب)) يخرج منه كل هذا الشيء الطيب، ((ويمسك النخالة))؛ التي تبقى فوق، ((كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم)) والحكمة تخرج وهي طيّبة نقيّة، ((ويبقى الغلُّ في صدوركم))( )؛ تتكلَّم عن المحبة ويبقى الحقد في صدرك، وتتكلم عن النصيحة ويبقى الغش في صدرك، فلا تكونوا كذلك، بل ليكن ظاهركم وباطنكم سواء.
ويبقى الحديث عن كلمات السيد المسيح(ع) في هذه الوصية في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الخامسة والعشرون 2 ذو القعدة 1425 ه - 18/12/2004م
وصية الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم (19)
بناء الشخصية الإسلامية
فلسفة الكلام
بناء الشخصيّة الإسلاميّة
ضالّة المؤمن
خشية الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
فلسفة الكلام:
يقول الإمام الكاظم (ع): ((يا هشام، قلَّة المنطق حكم عظيم، فعليكم بالصمت، فإنه دعة حسنة، وقلّة وزر، وخفَّةٌ من الذنوب)). يتحدّث الإمام (ع) هنا عن قلّة المنطق، والمقصود به قلة الكلام. والكلام بالنسبة للإنسان يمثِّل الوسيلة التي يعبِّر فيها عمّا يحتاجه من النَّاس، وعمّا يريد أن يعلّمه أو يثيره من قضايا. وليس الكلام شهوةً، مما يشتهيه الإنسان ليستهلكه كما يستهلك الإنسان الطعام نتيجة إحساسه باللذة، من دون ضرورة، بل هو حاجة طبيعية للتعبير عن مقاصده في نفسه ومع الناس. ويبقى للإنسان عندما يقضي حاجته من الكلام، أن يفكِّر ويتأمل. أما الذين يستهلكون الكلام من دون ضوابط، أو من دون حاجة، بل يتكلّمون لأنهم يحبون أن يسمعوا أصواتهم للآخرين، من دون أن تكون أصواتهم مملوءة بالفكر أو بالعلم، أو بالحاجة التي تتصل بحياة الآخرين، فإنَّهم يواجهون هذا الأسلوب بالتعب والجهد؛ لأنهم يجهدون أنفسهم في ما لا يعنيهم، وفي ما لا حاجة لهم به، وربما ينحرف بهم الكلام عن هدفه أو عن خطّش الاستقامة، ما قد يؤدِّي إلى نتائج سلبية بالنسبة إلى أوضاعهم الاجتماعية. ولهذا يؤكد الإمام (ع) أنّ على الإنسان إذا استنفد حاجته من الكلام، أن يصمت، لأنه ليس للكلام أيَّ دور حينئذٍ، باعتبار أنَّ دوره هو التحرك في حاجة الإنسان بالتعبير عمّا يضمره. وفي الصمت، يعيش الإنسان الكثير من التأمّل الذي ربما يشرف به على معرفة الخطأ والصواب، وربما يقوده إلى معرفة العمق من القضايا أو الامتداد فيها.
((يا هشام، قلة المنطق حكم عظيم))؛ وكلمة (حكم عظيم) تدلُّ على مدى ما تمثّله قلّة الكلام من ارتفاع في موقع الإنسان، في حركة الطاقات التي يملكها، لأنه لا يستهلكها من دون فائدة، بل يحمي المجتمع من الكلام غير المفيد أو غير المتوازن، أو الكلام الضارّ الذي يدمّر الواقع بالفتنة. ((فعليكم بالصّمت، فإنه دعة حسنة))؛ والدّعة هي الراحة، ((وقلّة وزر وخفّة من الذنوب))؛ لأن الكلام من دون فائدة قد يوقع الإنسان في الكثير من الذنوب.
وقد ورد في الحديث أنّ من كثر كلامه كثر خطؤه. ((فحصّنوا باب الحلم))؛ يعني حاولوا أن تنفتحوا على مسألة سعة الصدر، بحيث لا يتحرك الإنسان من موقع ردّة الفعل عندما يسيء إليه شخص هنا وشخص هناك، بل يحاول أن يدرس أي فعل يسيء إليه ليتعرف عناصره، فيما يمكن أن يحصل من خلاله السلب تارة، والإيجاب تارة أخرى.
ولذلك يقول الإمام (ع) عنه: ((فإنه باب الصبر))؛ لأن من الطبيعي أن كل فعل عنيف يوجّهه الآخرون إليك، لا بد أن يثير أعصابك، ويفجّر غيظك، وربما يتحوّل ذلك إلى مشكلة تخوضها في تصرّفاتك. لذلك لا بدَّ من أن تضبط أعصابك، وأن تكتم غيظك، لتتصرّف من خلال دراسة الموضوع، بكلِّ إيجابيّاته وسلبيّاته، تصرفاً عقلانياً في ما تتكلم به، أو في ما لا تتكلَّم به. وهذا هو منهجُ الإسلام في الصّبر، كقيمةٍ أخلاقيّة إنسانيّة تحفظ للإنسان هدوء عقله، وتوازن عاطفته، وتنظيم حركته، بحيث لا يخطئ في قولٍ ولا فعلٍ، من خلال حالة انفعال أو ارتجال؛ لأنّه يدرس ذلك كلّه، من حيث إيجابيّاته وسلبيّاته، في حياته وحياة الآخرين.
بناء الشخصيّة الإسلاميّة:
((وإنَّ الله يبغض الضحاك من غير عجب)). يعني أن الضحك ليس مجرد حالة مزاجية يمكن للإنسان أن يستهلكها بشكل غير منضبط، وغير مدروس. فالضحك، بالنسبة للإنسان، كالبكاء بالنسبة إليه؛ فكما أنَّ الإنسان لا يبكي إلا لما يحزنه من مصيبة هنا، وصدمة هناك، وخسارة هنالك، فكذلك الضحك؛ فإنما هو تعبير أودعه الله تعالى في مزاج الإنسان، في حركة الغرائز التي تحفظ له توازن حياته، ليكون تعبيراً عن إعجاب الإنسان بشيء، أو سروره في شيء، أي إنه ينطلق من حالة واقعية في إحساس الإنسان بالأشياء التي تعجبه، أو تفرحه، أما أنْ تضحك من دون أيِّ سبب للضحك، فإن ذلك يمثل حالة غير عقلانية.
((والمشّاء إلى غير إرب)). وكأنّ الإمام (ع) يثير هنا مسألة، وهي أنّه لماذا خلق الله سبحانه وتعالى لك هذه القدرة على المشي؟ هل المسألة هي أن تنقل رجليك من مكان إلى آخر وتحرّكهما فقط بطريقة عبثية؟! أم أن مسألة المشي هي أن تحرك رجليك لحاجة إليك في ذلك، من خلال حاجتك إلى أنْ تنتقل من مكان إلى آخر، لتعرف من أين تبدأ وإلى أين تنتهي؟ أما أن تحرك رجليك وتمشي بهما في حالة مشي عشوائي في اللاّهدف وفي اللاّحاجة، فإنك بذلك تجهد نفسك من غير هدف، وتستهلك طاقتك من غير حاجة. وهذا أمرٌ يبغضه الله تعالى؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى يريدُ من الإنسان أنْ يستخدم كلَّ الأجهزة التي خلقها في جسده، من أجل أن يتّجه بها إلى حاجاته في سبيل تحقيقها.
أما الّذين يتحمَّلون مسؤولية الناس، ويلون أمرهم، سواء في القليل من أمورهم، أو في الكثير منها، فما هي واجباتهم في مسؤوليّاتهم؟ يقول الإمام(ع): ((ويجب على الوالي أن يكون كالرّاعي، لا يغفل عن رعيته))؛ أي أن يكون في حالة طوارئ، في ملاحظته لكلِّ ما تتحرَّك به الرعية، ولكلِّ ما يحيط بها، ولكلِّ ما يثقلها، ولكلِّ ما يحفُّ بها من أخطار، تماماً كما هو الراعي عندما يرعى غنمه، فلا يغفل عنه، وأن يكون الراعي بكُلِّه عيوناً تحدِّق في رعيّته، بكلِّ إحساسه، وشعوره، وعقله، وكل ما يملكه من أصول الرعاية، وأن يؤدّي مسؤوليته في رعايتهم كاملةً غير منقوصة، في جميع جوانب تلك المسؤوليّة، ((ولا يتكبّر عليهم))؛ أي لا يشعر بأنَّ موقع ولايته أو مسؤوليّته، يمثِّل حالة شرف، يتصوّر من خلالها أنّه في الدرجة العليا، لتكون رعيّته في الدرجة السفلى، فيستعلي عليهم. إن الموقع المتقدّم في المجتمع، في أيّ مجال كان، لا يمثِّل حالة تشريفية يستعلي بها الإنسان على الآخرين، بل يمثِّل حالة مسؤولية يشعر بها الإنسان بأن عليه خدمة الآخرين؛ فالإنسان المسؤول هو خادم الرعية، وليس سيدها.
((فاستحيوا من الله في سرائركم كما تستحيون من الناس في علانيتكم))؛ أي إنكم تستحيون من الناس عندما تظهر منكم بعض الأعمال التي يعيبونها عليكم، أو التي تمثِّل عاراً عليكم في نظرتهم إليكم، ولذلك فإنكم تستخفون حتى لا يرونكم في مظهر من مظاهر عيوبكم، أو مظهر العار الذي يتمثل في أوضاعكم، أو في كل ما أخفيتموه في سرائركم مما قد يظهر هنا أو هناك. إنكم لا تريدون أن تكونوا مكشوفين أمامهم بما يتمثل فيكم من العناصر السلبية، وأنتم مكشوفون أمام الله سبحانه وتعالى الذي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ( )، أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ( )، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى( )، عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ( ). لذلك، فإنّ عليكم أن تستحيوا من الله تعالى في ما تضمرونه من كلِّ الأسرار التي تثقل مسؤولياتكم، أو تثقل علاقاتكم بربّكم. وهذه هي الرقابة الإلهية التي تصنع للإنسان ما يسمّى الضمير الداخلي، الذي يحاسب الإنسان على كلِّ ما يصدر عنه من أفعال وأقوال، مما قد يسرّه أو يُظهره بما لا يرضى الله به في ما يتعلَّق بنفسه وبالنّاس.
ضالّة المؤمن:
ويتابع (ع): ((واعلموا أنّ الكلمة من الحكمة ضالة المؤمن))؛ أي إنَّ الإنسان المؤمن هو الإنسان الذي يطلب ما يبني العقل، وما يبني له علمه، وما يقوّي نقاط الضعف في حياته، وما يكمل له النّقائص. ولذلك فهو يتابع ذلك كلَّه باهتمام ولهفة، بوحي الحاجة إلى الكمال والنموّ الفكري والعملي، ولذلك فإنّه يستمع إلى كلِّ كلمةٍ فيها حكمة، وإلى كل كلمة فيها علم، ويبحث عنهما في كلِّ مكان. والمؤمن هو الذي يجعل تلك الحكمة التي تبني العقل، وتعظم العلم، وتكمل الأخلاق والقيم، ضالّته في كلّ حياته، سواءٌ كانت هذه الضالة تنطلق من شخص كبير أو صغير، من عاقل أو من غير عاقل؛ وعلى الإنسان أن يلتقطها في كلِّ مكان، حتى يستطيع أن يجعل حياته تجربة في الاستفادة من الآخرين، من كلِّ ما يملكون من علم، أو تجربة، أو قيمة، أو ما إلى ذلك.
إن الإمام (ع) يريد أن يقول هنا: إن الإسلام يدعو إلى العلم، كما في قوله سبحانه وتعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ( )، أو من خلال قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا( )؛ ولذلك، فإن على الإنسان أنْ يعمل على أساس أن يستفيد من الفرص التي يمكن له أن يحصل فيها على علم هنا وعلم هناك، وأن يلاحقه في كلِّ مواقعه، وأن يتواضع له في كلِّ مجالاته. ((فعليكم بالعلم قبل أن يرفع))؛ يعني قبل أن تفوتكم الفرصة في التعلّم، فحاولوا أن تقتنصوه، ((ورفعه غيبة عالمكم بين أظهركم))؛ عندما يغيب عنكم هذا الإنسان الذي يمكن أن تتعلّموا منه، أو هذا العلم الذي يرفع مستوى فهمكم للحياة وللحقيقة، ومعرفتكم بالله سبحانه.
وفي خطِّ العلم يقول الإمام (ع): ((يا هشام، تعلم من العلم ما جهلت))؛ وذلك بأن تحاول أن تدرس كل مواقع جهلك، من كل ما يفتح عقلك على دينك، وعلى دنياك، لتمتلئ بهذا العلم، في تلبية حاجاتك عندما ينفتح العلم على حاجاتك، وفي تقوية معرفتك بدينك عندما ينفتح العلم على خطوط دينك وتفاصيله، وعلى كل ما ينفع الناس. فلتكن حياتك حركة دائمة في طلب العلم، في أيِّ موقع من مواقع التعلّم، على هدى قوله تعالى وقل ربّ زدني علماً، بحيث يبقى الإنسان في حركة تصاعدية، وبحث متحرّك، عن كلِّ مواقع العلم التي قد يكتشفها في حاجاته الثقافية إلى الشمولية المعرفية. ((وعلِّم الجاهل مما علمت))؛ فلا تكن أنانياً في علمك، بحيث تتعلم وتحتفظ بالعلم لذاتك، فلا تعلِّم أحداً، كما هو عند بعض الناس الذين لا يريدون أن يشاركهم الآخرون علمهم. وربما يتحدّث البعض، عندما يملكون خبرةً يحتاجُها الناس، عن سرّ المهنة، فلا يعطيه لأحد؛ لأنه يخاف أن يشاركه أحد في هذه المهنة. ولكنّ العلم أمانة الله تعالى عند العالم، أيّ عالم كان، سواء كان عالماً في قضايا الدين، أو في قضايا الدنيا، ومن حجب علمه عن الناس الذين يحتاجونه، فإن الله سبحانه وتعالى قد يسلبه علمه؛ لأنه خان الأمانة في نفسه بالنسبة إلى مسؤوليته في تعليم غيره.
وقد ورد في حديث عن الإمام علي (ع): ((لم يأخذ الله على الجهَّال أن يتعلَّموا حتى أخذ على العلماء أن يعلّموا))؛ فمسؤولية الجاهل أن يتعلّم، ومسؤولية العالم أن يعلِّم. ويتابع الإمام الكاظم (ع)، فيقول: ((عظِّم العالم لعلمه، ودع منازعته))، يعني عظّم علمه، ولا تكن علاقتك به علاقة ذاتية تنطلق من ذاتياته، ولكن حاِول أن تعظّم علمه، وتعظّمه لتعظيم علمه، ولا تنازعه في ما تجهله، بل عليك أن تسأل العالم، وأنْ تستمع منه، أمّا أن تنازعه من خلال جهلك، فهذا أمر لا يمثل معنى إنسانياً ولا عقلانياً، ((وصغِّر الجاهل لجهله))؛ يعني انظر إليه من خلال جهله، وأعطه هذه المرتبة من إمكاناته في ما يعلمه أو في ما يعرفه، ((ولا تطرده))، أي لا تتركه، "ولكن قرّبه وعلّمه"، ولتكن لديك الرّحمة له، وذلك بأن تقربه إليك، لترفع مستواه في العلم.
((يا هشام: إن كل نعمة عجزت عن شكرها بمنزلة سيئة تؤاخذ بها)). يريد الإمام (ع) أن يقول هنا: إنَّ شكر النعمة هو مسؤولية كلّ من أعطاه الله سبحانه وتعالى تلك النعمة؛ باعتبار أن شكر النعم هو مما يستقلّ به العقل؛ لأنه يمثِّل معنى إنسانيتك في إحساسها بالعطاء منه سبحانه وتعالى، ومن كلِّ ما سهَّله تعالى لك من الناس الذين يمنحون العطاء بإلهامٍ منه، فإذا أنعم الله سبحانه وتعالى عليك بنعمةٍ وكنت قادراً على شكرها، ولكنَّك كسلت عن شكرها، فإن ذلك يتحوَّل إلى سيئة، لأن الله سبحانه وتعالى يحمّلك مسؤولية شكره ما أنعم عليك، وقد تركت مسؤوليّتك في ذلك.
خشية الله تعالى:
ثم يستشهد الإمام (ع) بكلمةٍ للإمام علي (ع) في الموعظة: ((قال أمير المؤمنين: إن لله عباداً كسرت قلوبهم خشية الله))؛ يعني أن هناك عباداً انفتحوا على الله تعالى، وعرفوه في مواقع عظمته، وفي امتدادات نعمته، فأدّى ذلك إلى تعظيمه في نفوسهم، وتحوّلت هذه العظمة إلى خشيةٍ منه سبحانه وتعالى، لأنَّ الإنسان عندما تتمثَّل العظمة في نفسه، تنطلق الخشية من العظيم والهيبة له في نفسه، ليقوم بمسؤوليته تجاه ذلك العظيم، في ما يتحمَّل من المسؤولية في علاقته به. ((فأسكتتهم عن النطق))؛ فعندما يقفون بين يدي الله تعالى، تأخذهم الهيبة له سبحانه وتعالى، من خلال هذه العظمة التي يعيشونها في نفوسهم، ((وإنهم لفصحاء عقلاء))؛ يعني ليست ليس كسر قلوبهم، أو إسكات نطقهم، عجزاً عن الكلام، أو عجزاً في العقل، ولكن العظمة عندما تسيطر عليهم، فإنها تجعلهم في موقع العاجز عن الكلام، والذي يعيش الخشية العميقة في قلبه. ((يستبقون إلى الله بالأعمال الزكيّة، ولا يستكثرون له الكثير، ولا يرضون له من أنفسهم بالقليل))، يعني أنهم يشعرون بحق الله تعالى عليهم، بالمستوى الذي يرون أنفسهم غير قائمين بحقّه تعالى مهما عملوا، ((يرون في أنفسهم أنهم أشرار))، يعني أنّهم مقصِّرون، ((وإنهم لأكياس وأبرار))( )، أي إنّهم ليسوا في الحقيقة أشراراً، ولكن تواضعهم لله سبحانه وتعالى وإحساسهم بالتقصير في حقه يجعلهم يتحسَّسون هذا الشعور في أنفسهم، وإن كانوا عقلاءً وأبراراً في طاعتهم لله سبحانه وتعالى.
ويبقى للكلام بقية...
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة السادسة والعشرون 9 ذو القعدة 1425 ه - 26/12/2004م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (20)
تلازم الإيمان والحياء
الحياء من الإيمان
الضمير الأخلاقي
حياء الحمق
حياء القوة
الحياء حاجز عن القبح
الحياء والخجل
تهذيب الخطاب الإنساني
شرّ الناس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الحياء من الإيمان:
إذا تأمّلنا ما ورد في مسألة الإيمان في تراثنا الإسلامي، سواء في القرآن الكريم، أو في حديث النبي(ص)، أو في أحاديث أهل بيته(ع)، فإنّنا لا نجد أنّه يمثّل مسألة تجريدية تعيش في داخل العقل والوجدان، أو أنه مجرَّد فكرة لا تتحرك في حياة الإنسان الخاصة والعامة؛ بل الإيمان هو حركة فكر يكتشف الحقيقة، ثم يتحرك في كل كيان الإنسان، ليؤكد خُلُقاً هنا وخُلُقاً هناك، وقاعدةً هنا وقاعدة هناك، بحيث يرتكز السلوك على أساس ثابت؛ وهذا ما نستوحيه في وصيّة الكاظم(ع) لهشام. يقول له: ((يا هشام: الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنّة)). فقد اعتبر الإيمان مصدر الحياء، واعتبر الحياء خُلقاً لا بدّ للإنسان أن يلتزم به، ويعيشه في ذاته، في مشاعره وأحاسيسه التي تتّصل بحركته في الحياة، مع الأشياء ومع الآخرين.
وتفسير ذلك، أنَّ مسألة الحياء تمثّل، في مضمونها المعنويّ، الحالة الوجدانية التي تجعل الإنسان يشعر، أمام بعض الأشياء، بالحاجة إلى أن لا يقوم بها؛ فيشعر بالسقوط النفسي، أو بالحرج النفسي من أن يتكلَّم بكلمة معينة، أو أن يقوم بعمل معين، وذلك في الأمور التي تمثِّل قبحاً، في ما يدركه من عناصر القبح، سواء في ما يفعل، أو في ما يترك.
فالإيمان في خطوطه الأخلاقية وخطوطه الشرعية، يوحي للإنسان بأن عليه ألاّ يقوم بالأعمال القبيحة، الخبيثة التي تجعله في حالة حرج أمام الله، وأمام الناس. فعلى سبيل المثال، يوحي الإيمان للإنسان، في تشريعاته، بأن الزّنى محرّم، وأن الشذوذ الجنسي المِثلي محرَّم، وأن شرب الخمر محرَّم، وما إلى ذلك من كل الأمور التي يُستقبحُ من الإنسان أن يفعلها أمام الله، بحيث يشعر بالحياء من الله سبحانه وتعالى، من حيث إنّ فعله للحرام يمثِّل تمرداً عليه، ونوعاً من أنواع الانحراف عن إرادته، ما يجعله يفقد رضاه عنه ومحبّته له، بلحاظ ارتكابه للقبيح الذي يُسقط موقعه ويسيء إلى كرامته في ذاته. وربما يشعر بالحياء أيضاً أمام الناس الذين يستنكرون ذلك منه، فيفقد احترامهم له، ويستحقّ بذلك المهانة عندهم.
الضمير الأخلاقي:
ولعلَّ قيمة هذا الحياء، أنّه عندما يتعاظم في النفس، فإنه يمنع الإنسان عن أن يفعل هذا القبيح أو ذاك. ولذلك، فإنه يخلق للإنسان ضميراً ضد هذا الشيء السلبي، أو ذاك الأمر القبيح؛ لأنَّ مسألة الضمير ليست شيئاً يخلقه الله في الإنسان كما يخلق الأجهزة التي أودعها في جسده، ولكن الضمير ينطلق من خلال التصوّرات والقناعات التي تتركّز في نفس الإنسان، ليعتبرها جزءاً من حياته والتزاماته، ولهذا فهو يحاسب نفسه إذا انحرف عن هذه الالتزامات، أو عن الخطّ الذي اتّخذه لنفسه.
إنّ الحياء الذي يعيشه الإنسان من فعل كلِّ قبيح أو قوله، يمثّل حالة ضميريّة تشرق في نفس الإنسان، وتجعله يتوازن، وتمنعه من أن يسقط أمام شهوات نفسه، أو أمام ما يريده الآخرون منه، ممّا يؤمِن بقبحه في منهجه الأخلاقي. ولذلك، فالحياء من الإيمان، باعتبار أنه يمثّل حركية الإيمان في نفس الإنسان، من حيث انحرافه عن الخطِّ الذي يحبّه ويرضاه، في قوله وعمله، في التزامه بالابتعاد عن كلّ القبائح والخبائث، والأخذ بما يؤدّي إلى محبّة الله ورضاه، أو إلى احترام الناس له في استقامته على النهج الذي يرتبط بالقيم الروحية والأخلاقية.
وقد تحدث التراث الإسلامي، في نصوص النبي(ص) وأهل بيته(ع)، عن الحياء كقيمة مميزة لا بدَّ للإنسان من أن يتّصف بها، ويربيّ نفسه عليها. وقد جاء في بعض الأحاديث، تقسيم الحياء إلى قسمين؛ فقد ورد عن الرسول محمّد(ص): ((الحياء حياءان: حياء عقل، وحياء حمق، فحياء العقل العلم، وحياء الحمق الجهل)).
فعندما يعيش الإنسان حالة الحياء في نفسه، فقد تنطلق هذه الحالة من عقله ومما ينتجه العقل من العلم، إمَّا من خلال التأمُّل، أو من خلال التجربة، بحيث يخاطبه العقل ليقول له هذا قبيح فاتركْه، وهذا حسنٌ فافعله، هذا أمرٌ لا يتناسب مع كرامتك، ومع احترامك لنفسك فاجتنبه، وهذا أمر يتناسب مع ذلك فأقدم عليه. فعندما يعيش الإنسان هذه الحالة العقليّة، فإنه يعيش الحياء من فعل ذلك أمام كلِّ مَن يلاحظه ويراقبه في تحرّكه، سواءٌ كانت المسألة تتصل بمراقبته لله، أو بمراقبته للمجتمع الإيماني الذي يؤمن بما يؤمنون به.
حياء الحمق:
أمّا حياء الحمق، فهو الحياء الذي ينطلق من استحياء الإنسان من فعل ما هو قبيح عند الناس وليس قبيحاً عند الله. وهذا ما قد يُبتلى به الكثيرون من الذين يعيشون في المجتمعات غير الإسلامية؛ فنحن نرى في بعض الحالات أنَّ المرأة المسلمة تشعر بالحياء من الحجاب في المجتمعات غير الإسلامية، حتى إنّها قد تشعر بذلك ـ مع الأسف ـ في بعض المجتمعات الإسلامية، لأنها تتصوَّر أن الناس ينفرون منها عندما ترتدي الحجاب. وهكذا، قد يترك الإنسان صلاته عندما يعيش في مجتمع لا يرى الصلاة أمراً حسناً، أو شيئاً يحترم الإنسان فيه نفسه. وربما يشرب بعض الناس الخمر عندما يكون مع رفاق أو أصدقاء يشربون الخمر على مائدة، فيستحيي أن يحرجهم إذا ما امتنع عن الشرب معهم. وهكذا، نجد أن هذا النوع من الحياء ينطلق من الامتناع عمّا يستقبحه الناس، وإن كان مما لا تستقبحه مبادؤه وإيمانه ودينه، وهو حياء ينطلق من الجهل؛ لأن العقل يقول للإنسان، افعل ما ينجّيك، واترك ما يهلكك، ولا تجامل أحداً في ما يلزمك الله بفعله أو تركه. لك الحرية في أن تترك بعض الأشياء التي تملك فيها الرخصة في الفعل والترك، ولكن، لا حرّية لك في الأشياء التي لا تملك فيها ذلك لأنها ملزِمة، فلا يجوز لك أن تتركها حياءً من النَّاس، أو تفعلها حياءً من الناس.
حياء القوة:
وفي مسألة تقسيم الحياء، ما جاء عن الإمام جعفر الصادق(ع)، حيث يقول: ((الحياء على وجهين: فمنه ضعف، ومنه قوة وإسلام وإيمان)). قد يكون الحياء ضعفاً، عندما تستحيي أن تقوم بمسؤوليَّاتك التي ألزمك الله بها، لأن المجتمع لا يرغب في ذلك، فالحياء هنا ناشئ من خوفك من انتقاد الناس لك ولومهم، نتيجة ضعف الشخصية، حيث تضعف أمام نظرات الناس إليك، أو أمام حديث الناس عنك، مع أن مبادؤك تفرض عليك أن تفعل ذلك حتى لو أنَّ الناس ينفرون من فعلك، أو تترك ذلك حتى لو أنهم ينفرون من تركك. أمّا الحياء الذي يمثّل القوة، فذلك عندما تقف أمام المجتمع الذي يريد منك أن تفعل أو لا تفعل، بينما مبادؤك لا تريد منك ذلك، فإنك تستحيي من فعل ذلك بين يدي ربِّك، أو في مجتمع المؤمنين، حتى لو أن الآخرين لم يقبلوا منك ذلك. إن هذا يؤكّد صلابة الإرادة، وقوَّة الموقف، وشدّة الالتزام؛ بحيث إنَّك تستحيي من الله سبحانه وتعالى، ولا تستحيي من الناس في ذلك كله؛ فهو حياء قوة، وحياء إسلام، وحياء إيمان. ولهذا، تمثِّل المسألة خطّين في طبيعة حركة هذا الحياء في ذاتك، في كلِّ ما تحرك به مسؤولياتك في الحياة.
وفي بعض النّصوص الواردة عن الرسول(ص)، يتحدث(ص) عن الإيجابيات التي يُمكن أن تتحقّق لدى الإنسان من خلال الحياء الإيجابي، وهو الذي ينطلق من تركك ما تفرض مبادئك أن تتركه، أو فعلك ما تفرض مبادؤك أن تفعله. يقول(ص): ((الحياء لا يأتي إلا بالخير))؛ لأنَّ الحياء هو الذي يؤكِّد لك العفّة، ويؤكِّد لك الالتزام. وبالمعنى نفسه حديثه(ص): ((الحياء خير كلُّه)). وفي حديث آخر، يقول(ص): ((إنّ الحياء من شرائع الإسلام))، والملحوظ هنا أنّه(ص)لم يعتبر الحياء مجرّد خلق خاص لا علاقة له بالمنهج الإسلامي، بل اعتبره من شرائع الإسلام التي تشكّل أسس الدين وعنوانه.
ثم نقرأ أيضاً: ((ما كان الفحش في شيءٍ إلا شانه))، أي عابه، ((ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه))، والحياء هو أن يتكلم الإنسان كلمة فحش قبيحة يستقبحها الدّين، ويستقبحها المجتمع من حوله. ونقرأ أيضاً في نص النبي(ص) يقول: ((إن الله يحب الحَيِيَّ المتعفف، ويبغض البذيء السائل الملحف. إن لكل دين خلقاً))، أي قاعدة من الأخلاق يرتكز عليها، ((وإن خلق الإسلام الحياء))( )، بحيث يجمع الله خلق الإسلام في الحياء؛ لأنَّ الإنسان الذي يستحيي من ربّه، والذي يستحيي من المؤمنين في ما يلتزمونه في خطوط الإيمان، من ترك كلِّ قبيح أراد الله لنا أن نتركه، أو من فعل كلِّ حسن أراد الله سبحانه أن نفعله، إنَّ هذا يجمع كلَّ ما يقوم به الإنسان في التزاماته، في فعل ما هو حسن وفي ترك ما هو قبيح.
الحياء حاجز عن القبح:
ونقرأ عن الإمام علي(ع): ((من كساهُ الحياء ثوبه، خفي على الناس عيبه))( )؛ لأن الإنسان الذي يستحي من فعل القبيح، فإنه سيكبت المشاعر أو الأحاسيس القبيحة التي قد يتحسّسها، ولكنه لا يظهرها للناس، فلا يتعرف الناس عيبه. وفي الاتّجاه نفسه نقرأ عنه(ع): ((إن الحياء يصدُّ عن فعل القبيح))، لأنه يمثل الحاجز الذي يحجز الإنسان عن أن يفعل ما يقبح عند الله وعند الناس. كما يؤكد الإمام علي(ع) أن العفة، سواء كانت عفة في المسائل الجنسية، أو العفة في المسؤوليات الأخرى، وسواء كانت مالية أو اجتماعية أو ما إلى ذلك، هي من نتائج الحياء. يقول(ع): ((سبب العفّة الحياء))؛ لأنَّ الإنسان ربما يرغب في أن يتجاوز حدود العفّة، سواءٌ في ما حرّمه الله عليه من شهواته، أو في ما حرَّمه الله عليه من أعماله وأقواله، فإنَّ الحياء هو الذي يمثِّل الحاجز الذي يحجزه عن أن يستسلم لنفسه الأمّارة بالسوء، والتي تدفعه إلى فعل هذا أو ترك ذاك، وفي كلمة أخرى يقول(ع): ((على قدر الحياء تكون العفّة)). فهناك إنسان يمكن أن يملك الحياء بأعلى درجاته، بحيث إنه يسيطر على كلِّ وجدانه وإحساسه وشعوره، وهناك إنسانٌ يعيش الحياء بدرجة معيّنة في مواقع معينة قد تتصل بالناس، ولكنها لا تتصل بالله، فيترك ما يستقبحه الناس، ويفعل ما يستقبحه الله.
يقول(ع): ((وعن رسول الله(ص) يقول:))، وقوله(ص) هذا يبيّن ما ينتجه الحياء من الصفات الأخلاقية، يقول: ((أما الحياء فيتشعب منه اللّين والرّأفة))؛ لأن الإنسان إذا كان حييّاً، فإنه لا يستعمل الغلظة والقسوة ضدَّ الآخرين، مما يقبح في المسألة الأخلاقية، ((والمراقبة لله في السرّ والعلانية، والسلامة واجتناب الشر، والبشاشة، والسماحة، والظفر، وحسن الثناء على المرء في الناس، فهذا ما أصاب العاقل بالحياء))؛ فإنّ الإنسان الذي يأخذ لنفسه بأسباب الحياء، يراقب نفسه حتى لا يقوم بعمل يُسقط موقعه عند ربّه، أو يعرّضه للخطر في أوضاعه، أو يتحرّك بأعمال الشرّ التي تبتعد به عن القيمة الأخلاقية في علاقته بالناس، ثم ينفتح على ما يحبّبه للنَّاس في بشاشة الوجه عند لقائه بالآخرين، وفي حالة السماح الروحي، والحصول على الظّفر في حركته المستقيمة ومحبّة النّاس وتقديرهم له. ((فطوبى لمن قَبِل نصيحة الله وخاف فضيحته)).
الحياء والخجل:
وهناك نوع من الحياء قد يمنع الإنسان من أن يتحرَّك في تدبير أموره وتأكيد مشاعره، بسبب حالة الضَّعف في نفسه، فيستحيي من أن يخطىء، ويخاف من أن يلومه الناس على هذا الفعل أو ذاك، بحيث يتحوَّل الحياء عنده إلى حالة شلل في الإرادة، لأنه لا يقدم على شيء إلا ويخاف من لوم الناس له، وفي قولٍ للإمام(ع): ((قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان))؛ لأنَّ الإنسان في كثيرٍ من الحالات التي يتهيَّب فيها المجتمع خوفاً من النتائج السلبيّة التي قد تحدث له، ولو على نحو الاحتمال، فمن الطبيعي أنه سوف يظل خائفاً من المجتمع، ولا يتقدّم في تنفيذ مشاريعه. ولعلَّ ما يوحي بذلك ما ورد في مسألة الهيبة، سواء الهيبة من اقتحام الأمور، أو الهيبة من مواجهة الناس، يقول الإمام علي(ع) ـ وهي من روائع كلامه ((إذا هبت أمراً فقع فيه))( )، أي لا تقف أمام الهيبة للشيء لتتردّد، هل أفعل أو لا أفعل، لأنك إنما تهاب الدخول في الشيء خوفاً من احتمال النتائج السلبية، ولكن ترددك وهيبتك قد توقعك في سلب أقوى من السلب الذي يمكن أن تقع فيه في ما لو دخلت في الشيء نفسه، وذلك من خلال الاحتمالات التي تضغط على نفسك، ما قد يحوّلك إلى إنسان مشلول الإرادة، معطّل التفكير بعيداً عن حسم الأمور في قضاياك العامة والخاصة. ((إذا هبت أمراً فقع فيه، فإنَّ شدّة توقّيه أعظم مما تخاف منه))، يعني هذه الحالة التي تتوقّى فيها الفعل، هي أعظم ممّا تخاف منه، من النتائج السلبية هنا وهناك.
تهذيب الخطاب الإنساني:
ونعود إلى وصيَّة الإمام الكاظم(ع)، حيث يقول: ((والبذاء من الجفاء، والجفاء في النَّار)). البذاء هو الفحش من الكلام، وهو ما يُستقبح التَّصريح به في مواجهتك للناس، وذلك أن تطلق الكلمات البذيئة الفاحشة إليهم، سواءٌ كانوا ممّن تعيش معهم في بيتك، أو ممّن تتحرّك معهم في المجتمع. والجفاء عبارة عن الغلظة والقسوة. ومعنى الحديث، أنَّ الإنسان الذي يخاطب الناس بالفحش والكلمات البذيئة، هو إنسان غليظ القلب، وغليظ اللّسان، وهو إنسان يعيش القسوة في حياته الاجتماعية.
وحول مسألة البذاء والفحش، يقول النبي(ص): ((إن الله حرّم الجنَّة على كلِّ فحّاش، بذيء، قليل الحياء)) لا يستحيي من الكلمات الفاحشة البذيئة، ((لا يبالي ما قال))، يطلق الكلمة ـ كلمة الفحش ـ من دون أن يلتفت إلى تأثيرها في الآخرين، ((ولا ما قيل له))، يعني من ردود الفعل التي قد تحدث من خلال إطلاقه لكلمة الفحش، فتجعل الآخرين يواجهونه بمثلها. أمّا قضيّة تحريم الجنّة عليه، فلأن الفحش في مخاطبة الناس تجعله يتجاوز الحدّ الشرعي في مواجهته لهم، وهو ما يؤذيهم ويضرّهم ويسقطهم، بما تتضمّنه الكلمات الفاحشة من المعنى الخبيث الذي يؤدّي إلى إسقاط كرامتهم. كما أنّ الجنة هي الموقع الذي يمثل الدرجة العليا في الطهارة أو النظافة في القلب واللّسان، فلا تتناسب مع هذا الأسلوب الفاحش في بذاءته.
وفي الحديث عن النبي(ص) في خطابه لزوجته عائشة: ((إن الفحش لو كان مثالاً))، لو مثّله الله سبحانه وتعالى في صورة بشر، ((لكان مثال سوء))، أي كان قبيح الصورة، مشوَّهاً؛ لأن الفحش في طبيعة مضمونه ومعناه يمثل السوء كله، والقبح كلّه، فلو صوّره الله بصورة بشر، لكان قبيحاً، وكان سيئاً.
شرّ الناس:
وفي حديث آخر: ((إنَّ من شرِّ عباد الله مَن تُكره مجالسته لفحشه))، لأنه يطلق كلمات البذاءة والفحش، كما لو أنّ أحداً يطلق العذرة على الناس، فهذا عذرته في لسانه. ويروى أن النبي(ص)، كان عند زوجته عائشة، فاستأذن عليه رجل، فعلّق النبي(ص) قبل أن يأذن له، قال: ((بئس الرجل أخو العشيرة))، يعني أنّ هذا الرجل من الناس السيئين، ثم دخل الرجل، فأكرمه رسول الله(ص)، وعندما خرج قالت له عائشة: كنت تقول: بئس الرجل أخو العشيرة، فلماذا رأيتك قد أكرمته؟ قال: ((شرُّ الناس يوم القيامة الذين يُكرَمون اتَّقاء شرّهم))، فقد يحدث أنّك لا تطيق بعض الناس، لأنه شرّير، شرّيرٌ في كلامه، أو في عمله، أو في علاقاته، وما إلى ذلك، وربما يستقبلهم الناس بالاحترام وبكلِّ الأساليب التكريمية اتقاءً لشرّهم.
ونقرأ أيضاً في حديث الإمام جعفر الصادق(ع): أنه كان له صاحب لا يفارقه أبداً، في الذهاب وفي المجيء، فسار مع صاحبه، وكان لصاحبه غلام سندي يعني مجوسي، فتباطأ الغلام، فاندفع مرافق الإمام(ع) يتكلم عنه بكلام يسيء إلى أمّه، فقال: ابن الفاعلة، يعني الزانية، وهنا توقف الإمام(ع) عندما سمع هذه الكلمة، قال له: قد كنت أظنُّ أن لك ديناً، فإذا ليس لك دين، قال: يا سيدي، إنه مجوسي، فأنا عندما أتهّم أمّه، إنما أتّهمها باعتبار أن هؤلاء الناس زواجهم باطل، قال(ع): ((أما علمت أنَّ لكلِّ قوم نكاحاً يحتجزون به عن الزنا))، أي يفرّقون بينه وبين الزنا؛ فلدى كل الأديان علاقات شرعية، وعلاقات غير شرعية، والإسلام أمضى كلَّ عقود الزواج التي يراها الآخرون شرعية، ولذلك لا يجوز أن يتزوج المسلم امرأة متزوجة، مجوسية، أو بوذية، أو يهودية، أو نصرانية. فكيف تتَّهم أمه بأنها زانية، والمفروض أن أمه تزوجت أباه بحسب دينهم الذي يؤمنون به، وزواجهم في هذا المجال صحيح، وهو ولد شرعي. ثم فارقه ولم يكلّمه أبداً.
وفي نص آخر، يقول الإمام الصادق(ع): ((من خاف الناس لسانه فهو في النار))، يعني حتى لو صلّى وصام، وحجّ، وزار، لأن الإسلام يعتبر السلوك الاجتماعي الذي يحترم فيه الإنسان الناس، فلا يسيء لهم بكلمة، ولا يمارس الشرّ معهم بفعل، بل يعيش كما قال الإمام علي(ع) عن المؤمن: ((الناس منه في راحة وبدنه منه في تعب))، ونقرأ في النصوص الإسلامية، ((المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه))( ).
هذا هو منهج أهل البيت(ع) لو أردنا أن نسير مع الإسلام الأصيل الذي يمثله أهل البيت(ع)، الذي يؤكّد إنسانية الإنسان في انفتاحه الإيجابي على إنسانية الآخر، بحيث يحفظ له كرامته واحترامه.
وللكلام بقيّة إن شاء الله...
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة السابعة والعشرون 13 ذو القعدة 1425 ه - 1/1/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (21)
اللسان مفتاحُ خير وشرّ
لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله تعالى الذي ينفتح بكم على المعرفة بالله تعالى وعلى الإخلاص له
المتكلّمون ثلاثة
اللسان مفتاح الخير
اللسان مفتاح الشر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
المتكلّمون ثلاثة:
ممّا جاء في وصية الإمام الكاظم(ع) لتلميذه هشام بن الحكم: ((يا هشام، المتكلّمون ثلاثة))؛ أي القادرون على التكلم، الذين يمكنهم أنْ يحدِّثوا الناس بما يعبِّر عن طريقتهم في التفكير، وعن أدائهم في المسؤولية، ((فرابح، وسالم، وشاجب. فأما الرّابح فالذاكر لله))؛ وهو الذي يستخدم قدرته على الكلام في ذكر الله سبحانه وتعالى. وذكر الله تعالى لا يقتصر على التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، وإن كان كلّ ذلك من ذكر الله، ولكن معنى ذكر الله، هو أنْ يذكر الله تعالى في مواقع عظمته، وفي مواقع نعمته، بحيث يكون كلامه منفتحاً على ما يحقِّق للناس ثقافة المعرفة بالله تعالى، فيذكرون الله في عقولهم ذكر العقل، ويذكرونه في قلوبهم ذكر الشعور والإحساس، ويتمثّلونه في وجدانهم العاطفي في حالة الشهود الحضوري، ويذكرونه في حركتهم، وفي جميع أوضاعهم، من خلال الخط الذي يحبّه الله تعالى ويرضاه، في ما يأخذ به الناس من أوامر الله تعالى ونواهيه، بحيث يكون كلام هذا الإنسان كلاماً للمعرفة الإلهية، وللموعظة الروحية، وللثقافة الدينية، حتى ينفتح على الله تعالى بإيمانه، وبعمله الصالح، وبتقواه. هذا هو المتكلم الرابح، لأنه يحصل على رضا الله تعالى، وعلى محبته وثوابه، ولذلك فإنه يحصل على الربح كله.
((وأما السّالم، فالسَّاكت))؛ وهو الشخص الذي يختار الصمت، عندما يمكن له أن يثير الباطل في كلماته، وأن يتحرك مع الشيطان في وساوسه وهواجسه، وعندما يحرِّك الفتنة، في ما توسوس له نفسه الأمَّارة بالسّوء، فهو الإنسان الذي قد يتحرك الباطل في وجدانه ليحدِّث به الناس، فيترك في الناس تأثيراته السلبية، التي تهدِّم أوضاعهم في وحدتهم، وفي كلِّ قضاياهم الحيوية المصيرية، أو أن يتحرَّك من أجل تقوية الظالمين، وخذلان العادلين، والسير مع أهل الباطل في تأكيد مواقعهم في الأرض، والبُعد عن أهل الحق من خلال إضعاف مواقعهم، ولكنَّ الإنسان إذا سكت واختار الصّمت على الكلام، فإنه يحصل على السّلامة، لأنه لا يطلق الكلام إلاّ لما يرضي الله سبحانه وتعالى، ولا يتحرك في كلماته إلاّ لما ينفع الناس. وقد اشتهر المثل القائل: (إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب)؛ وذلك حيث يؤدّي الكلام إلى النتائج السلبية في الدين والدنيا، بينما يكون السكوت منفتحاً على فكرٍ يفتح للإنسان آفاق المعرفة لله سبحانه وتعالى والإيمان به.
((أما الشّاجب، فالذي يخوض في الباطل))؛ فيما يخوض فيه الناس من كلمات الباطل، سواء كان الباطل باطلاً في العقيدة، أو في الشريعة، أو في السياسة، أو في الاجتماع، أو في العلاقات التي تتحدى كرامات الناس وأعراضهم، كالغيبة، والنميمة، وكلمات الفحش، والعداوة، والبغضاء، وما إلى ذلك.. وهؤلاء هم الذين أشارت إليهم الآية الكريمة في قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ الْمُجْرِمِينَ* مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ( )، أي كنا نتحرك في كل الوحل الذي يتحرّك فيه الآخرون؛ وحل الفتنة، ووحل الفحشاء، ووحل العداوة والبغضاء، وكنا نخوض مع الناس في ما يخوضون فيه، من دون أن نفكِّر في النتائج السلبية في ذلك كله، ومن دون أن نتأمّل في كلّ هذه المفردات التي يثيرونها في حياتهم الفردية والاجتماعية.
ثم تحدَّث الإمام الكاظم(ع) عمّا تناولناه في ما سبق، وذلك قوله: ((إن الله حرَّم الجنة على كل فاحش بذيء قليل الحياء لا يبالي ما قال ولا ما قيل له))، هذا الإنسان الذي يتمثَّل الباطل في كلماته، من خلال ما يمثّله من كلمات الفحش والبذاء، التي يُسقِط فيها كرامات الناس وأعراضهم في المجتمع.
اللسان مفتاح الخير:
ثم ينقل الإمام(ع) عن أبي ذر الغفاري رحمه الله. ونحن عندما نتحدَّث عن أبي ذر في استشهاد الأئمة(ع) بكلامه، فإننا نقف أمام هذا الإنسان الكبير في إيمانه، والكبير في تحدّياته، والكبير في معارضته لكلِّ ما يتمثل في المجتمع الإسلامي من الانحراف عن الخطِّ المستقيم، حتى ولو كان ذلك في مواجهة أعلى سلطة في الواقع الإسلامي، حتى نُفي إلى الشام، فلمّا ضاق به معاوية، من خلال حركة الدعوة التي انطلق بها في قرى الشام ـ حتى قيل إن التشيع لأهل البيت(ع) في هذه المنطقة، ولا سيما في جبل عامل، كان من نتائج حركة أبي ذر ـ نُفي إلى (الربذة)، ليعيش وحده في صحراء قاحلة. وقد جاء عن النبي(ص) الكلمة التي يرويها المسلمون جميعاً: ((ما أظلّت الخضراء، وما أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ))، دلالةً على عظيم الموقع الذي يحتلّه الصدق في نفس أبي ذرّ؛ فإن هذا الرجل كان يتكلم بالصدق كله، وبالحق كله، وكان يتحدّث مع الناس بالموعظة ليدلّهم على الخط المستقيم.
يقول رحمه الله في ما ينقله عنه الإمام الكاظم(ع): ((وكان أبو ذرّ رحمه الله يقول: يا مبتغي العلم))؛ يا طالب العلم، ((إنَّ هذا اللّسان مفتاح خير ومفتاح شرّ))؛ لأن اللسان هو الآلة التي تستخدمها من أجل أنْ تنقل بها ما تحمله من علم ومن فكر، وما تريد التعبير عنه للناس، سواء في ما يشتمل على الإيجاب أو السلب. فقد يكون مفتاح خير، عندما تحرّكه في الخير كلّه، سواء كان في مجالات المعرفة الدينية، أو المعرفة الروحية والأخلاقية والاجتماعية. وقد يكون مفتاح شر، عندما تثير به الفتنة، وتنفتح به على الباطل، وتُسقِط فيه الواقع الاجتماعي والسياسي، وما إلى ذلك. ((فاختم على لسانك))؛ أي أغلقه، ((كما تختم على ذهبك وورقك))؛ فحاول أن لا تسمح للسانك أن يتحرك بما يضيع دينك، أو بما يسقط مسؤوليتك، كما تفعل ذلك عندما تخشى على ذهبك أو فضتك من أنْ يُسرَق أو يضيع.
وفي مسألة حفظ اللّسان، ورد في تراثنا الكثير من الأحاديث. فعن رسول الله(ص): ((أمسك لسانك))؛ يعني: ليكنْ لديك السيطرة على اللسان، ((فإنها صدقة تصدَّق بها على نفسك))؛ فعندما تحفظ لسانك، وتمنعه من أنْ ينطلق بما يسيء إلى موقعك عند الله تعالى، فإن ذلك صدقة تتصدّق بها على نفسك؛ حيث إنّ الله تعالى، كما يمنحك الأجر والثواب عندما تتكلم بالخير، فإنه يمنحك الأجر والثواب عندما تمنع لسانك من كلمة الشر؛ لأن النتيجة واحدة، وهو أنك انطلقت بما ينفع الناس، سلباً أو إيجاباً. ثم قال رسول الله(ص): ((ولا يعرف عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه))؛ وهو(ص) يربط هنا بين الإيمان في عمقه وفي حقيقته، وبين اللّسان؛ لأن الإيمان بالله تعالى يفرض عليك أن تراقب الله سبحانه وتعالى في ما حمَّلك من مسؤوليتك في كلِّ الواقع الذي تعيشه، فالله هو الحق، قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هو الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ( )، وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ( )، والله سبحانه وتعالى لا يريد للإنسان أن ينطلق بالباطل، أو بما يضرّ الناس.
وعلى ضوء هذا، فإنَّ الإنسان الذي ينطلق بالباطل، أو ينطق باللّغو، هو إنسان لا يعيش في نفسه حقيقة الإيمان؛ لأن المؤمن هو الذي يرتبط بالحق، والله تعالى يتحدّث عن المؤمنين، فيقول: وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ( )، وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا( )، والمؤمن هو الذي يتكلم بما ينفع الناس، كما في قوله تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ( )، أمّا الذي يتحدَّث بما يضرّ الناس فهو ليس مؤمناً.
اللسان مفتاح الشر:
وقال رسول الله(ص) أيضاً: ((نجاة المؤمن في حفظ لسانه))؛ لأنَّ اللّسان قد يجعل الإنسان يسقط تحت تأثير ما يصدر منه، وقد ورد في بعض الأحاديث عن النبي(ص)، أنه جاء إليه رجل فقال: ((يا رسول الله أوصني، فقال: إحفظ لسانك))؛ وكأن هذا الرجل قلّل من أهمية هذه الوصية، فقال: ((يا رسول الله أوصني، فقال: احفظ لسانك))، فقال: ((يا رسول الله أوصني، فقال: احفظ لسانك. ثمّ قال(ص): ويحك، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم))؛ يعني أن ما يحصده اللّسان، في ما يتحرك فيه بالباطل وباللغو، أو بما يؤذي الناس ويضرّهم، هو الذي يعرِّضهم للعذاب في نار جهنم، فيكبّهم الله تعالى على مناخرهم ـ كنايةً عن الذلّ والهوان ـ في النَّار.
وقد ورد عن الإمام الصادق(ع)، قال: ((قال رسول الله(ص): يعذِّب الله اللسان بعذاب لا يعذّب به شيئاً من الجوارح))؛ من الأعضاء، ((فيقول)) اللسان، ـ وهذا وارد على نحو الكناية، أو أن الله تعالى يُنطقه حقيقةً ـ: ((يا ربِّ عذّبتني بعذاب لم تعذِّب به شيئاً، فيقال له: خرجت منك كلمة، فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسفك بها الدم الحرام، ونهب بها المال الحرام، وانتهك بها الفرج الحرام))؛ وهو العرض الحرام، ((وعزّتي وجلالي، لأعذّبنَّك بعذابٍ لا أعذِّب به شيئاً من جوارحك)). ونحن ندرك حجم ذلك في ما نراه من أوضاع الطّغاة الذين يقدمون على سفك الدماء، ونهب الأموال، وهتك الأعراض، فهم قد يطلقون كلمةً تجتاح ذلك كله، بحسب ما يملكون من السلطة في هذا أو ذاك، وقد تتطوَّر المسألة أو تتراجع، حسب ما يملكه هذا الطاغية، سواء كان طاغية كبيراً، أو صغيراً.
وهذا ما عشناه في تاريخنا من سيطرة الطغاة الذين أثاروا حروباً عالمية، أو حروباً إقليمية، على مستوى احتلال هذا البلد أو ذاك، وعلى مستوى مصادرة الثروات لهذا الشعب أو ذاك، وما إلى ذلك مما انطلقت فيه الكلمة للشخص الذي لا يعيش مسؤوليّة الكلمة، لأنه لا يعيش مسؤولية الواقع كله.
وقد ورد في بعض الأحاديث أنَّ شخصاً جاء إلى رسول الله(ص)، وقال له: ((دُلَّني على عمل إذا فعلته دخلت الجنَّة))؛ وفي روايةٍ أخرى: ((ألا أدلّك على أمر يدخلك الله به الجنة؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: أنل مما أنالك الله))؛ أي أعط مما أعطاك الله تعالى من المال، فإنَّ ذلك عمل تملك به الحق في دخول الجنة، ((قال: فإن كنت أحوج ممن أنيله؟))؛ ليس عندي مال، فهل يغلق عني باب الجنة إذا لم أملك مالاً أتصدَّق به على الفقراء؟ ((قال: فانصر المظلوم))، فإذا لم يكن لك المال، فأنت تملك القوة، سواءٌ كانت قوة في الجسد، أو قوة في السلاح، أو في العدد من الناس، أو في الجاه، انصر المظلوم، سواءً كان المظلوم شخصاً، أو جماعةً، أو شعباً، فإن ذلك إذا فعلته دخلت الجنة، ((قال: فإن كنت أضعف ممن أنصره))؛ فقد لا يكون عندي قوة، بكل مواقع القوة، فهل يغلق عني باب الجنة؟ ((قال: فاصنع للأخرق))؛ والأخرق هو الشخص الذي لا يملك فكراً يستطيع أن يدبّر به أموره، ويحلّ به مشاكله، وينظّم به حياته، فأعطه من خبرتك، وأعطه من علمك ومن فكرك، فإذا فعلت ذلك، كان هذا عملاً تدخل به الجنة، ((قال: فإن كنت أخرق ممن أصنع له))؛ لا أملك مالاً، ولا قوّةً، ولا علماً، ولا خبرةً، ((قال: فاصمت لسانك إلاّ من خير))( )؛ ـ وهذا محلُّ الشاهد ـ، وكأنّه(ص) يقول له: أما يسرُّك أن تكون لك خصلة من هذه تدخلك الجنة، فحفظ اللسان ـ من خلال هذا الحديث ـ، يؤدي بالإنسان إلى دخول الجنة.
ويقول الإمام الصادق(ع): ((كان المسيح(ع) يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله))؛ لا تكثروا الكلام في ذكر الناس هنا وهناك، في غير ما يصلح أمورهم وينفعهم، وينظِّم أوضاعهم، ولا تكثروا الكلام في غير ذكر الله تعالى الذي ينفتح بكم على المعرفة بالله تعالى وعلى الإخلاص له، ((فإن الذين يكثرون الكلام في غير ذكر الله قلوبهم قاسية))؛ لأنَّ ذكر الله سبحانه وتعالى يليِّن القلوب. قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ( )، لأنّ ذلك ينفتح بالإنسان على الله سبحانه وتعالى في كلِّ مواقع عظمته، وامتدادات نعمته، ((ولكن لا يعلمون))، لأنَّ البعد عن ذكر الله تعالى والانفتاح على غيره تعالى، يورث الغفلة، وإذا عاش الإنسان الغفلة، فإنه ينسى مسؤوليته كلها.
وهكذا، نقرأ في كلام الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، على طريق الكناية، يقول: ((إنّ لسان ابن آدم يشرف على جميع جوارحه كل صباح)) يسأل اليد، ويسأل الرجل، وكل أعضاء الجسم، كيف هي أحوالكم؟ ((فيقول: كيف أصبحتم؟ فيقولون: بخير إنْ تركتنا))؛ وكأنّهم يقولون: اكفنا شرك، فنكون بخير.
وقد ورد عن النبي(ص): ((من لم يحسب كلامه من عمله))؛ يعني لم يعتبر أن الكلام هو جزء من العمل، لأنه كما أن العمل في حركتك في الواقع فيه خير وشر، فالكلام أيضاً فيه خير وشر، ((كثرت خطاياه، وحضر عذابه)).
وعن الإمام الصادق(ع): ((في حكمة آل داود: على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه))؛ أي أن يكون واعياً للزمان الذي يعيش فيه، واعياً لثقافته، ولحاجاته، ولتطلّعاته، ولكلِّ ما يتصل بجوانبه السياسية والاجتماعية والأمنية، ((مقبلاً على شأنه)) يعني يهتم بشأنه في ما يتحمّله من المسؤوليات، ((حافظاً للسانه))( ).
ويبقى للكلام بقية إن شاء الله تعالى..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثامنة والعشرون 20 ذو القعدة 1425 ه - 8/1/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (22)
حقيقة الخوف والرجاء
العبادة تتمثل في انسجام الإنسان مع مسؤولياته التي حمّله الله إياها في نفسه، وفي علاقته بالحياة، وعلاقته مع الآخرين
الخوف والرّجاء
الله المنتقم
الرجاء الحقيقي
الإحساس بالغيب
الرّجاء الكاذب
بين مخافتين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الخوف والرّجاء:
من وصيّة الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم، يقول فيها: ((يا هشام: لا يكون الرجل مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو)).
هذه الوصية تنفتح على التصوّر الإيماني لله لدى الإنسان المؤمن فالله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالرّحمة، فهو الرحمن الرحيم، وهو الّذي وسعت رحمته كلَّ شيء، وهو الذي سبقت رحمته غضبه، وقد خطّط الله سبحانه وتعالى لرسله أن يكونوا مظهر الرحمة وقاعدتها، في ما تمثّله الرسالة، وفي ما يمثِّله أسلوبهم في حركة الدعوة، وفي التعليم والتثقيف، وما إلى ذلك، وقد قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين( )، فبما رحمة من الله لنت لهم( )، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم( ) فالرحمة هي من صفات الله التي يريد لعباده أن يتمثَّلوه من خلالها، ليشعروا بلطفه عليهم في علاقتهم به، بحيث يعيشون وهم يبتهلون إليه، ويتطلعون إليه ويدعونه في تحقيق كلِّ أحلامهم، ولتخفيف كلِّ آلامهم، ولحلِّ كلّ مشاكلهم، حتى يعيش الإنسان مع ربّه في مواقع الإحساس بقربه منه، وعدم بعده عنه.
وإلى جانب ذلك، هناك صفةٌ، في معنى خطِّ المسؤولية التي يحمّلها الله للإنسان؛ وهي أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وأراد له أن يعبده، كما خلق الجن وأراد له أن يقوم بهذا الدور، قال تعالى: وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدونِ( )، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم( )، والعبادة لله كما نفهمها، تتمثَّل في طاعة الإنسان لله في كلِّ ما أمره به أو نهاه عنه. فالعبادة في المعنى المصطلح المتمثَّلة بالصّلاة والصّوم والحجّ والدعاء، هي جزء من مفهوم العبادة العامة، وقد أخذت هذا الاسم باعتبار أنها تمثِّل الخضوع لله، والطاعة له، ولذلك ورد عندنا في الحديث الشريف: ((العبادة عشرة أجزاء...))، وفي رواية أخرى: ((العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال)). فالعبادة تتمثل في انسجام الإنسان مع مسؤولياته التي حمّله الله إياها في نفسه، وفي علاقته بالحياة، وعلاقته مع الآخرين، لأن الله جعل الإنسان خليفته في الأرض، قال تعالى: إني جاعلٌ في الأرض خليفة( )، والخلافة عن الله في الأرض هي أن يقوم الإنسان بعمارتها، سواءٌ كانت عمارةً مادية، أو عمارة روحية، أو عمارة قانونية، وما إلى ذلك مما يخطّ الله للإنسان طريقه في هذا أو ذاك الجانب. فإلى جانب الرّحمة، يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يعيش هذا الإحساس بالمسؤولية، وذلك من خلال ما تحدَّث الله عنه، من أنه شديد العقاب. وشدة العقاب تتحرَّك من خلال ما يريد الله للإنسان أن يصلح أمره، بحيث يتمثَّل الله سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم في معنى إشرافه عليه، وسيطرته وهيمنته على الأمر كلّه، وولايته له، بما يحقّقُ حكمة الله في خطّ المسؤولية للإنسان.
ولذلك، فإن الإنسان لا ينطلق في خط مسؤوليته من أجل أن يسقط أمام الله في عملية يأس، بل لأجل أن يتوازن في إحساسه بمعنى الألوهية في معنى الطّاعة، وفي معنى العبادة، وفي معنى الانسجام مع الله في مواقع رضاه وفي مواقع القرب منه. لذا، ليس هناك أيّ تنافٍ بين رحمته وبين عقابه.
ولعلّ ما جاء في دعاء الافتتاح يعبّر عن ذلك: ((وأيقنت أنك أنت أرحم الرّاحمين في موضع العفو والرحمة، وأشدّ المعاقبين في موضع النّكال والنّقمة))، فالله أراد للإنسان أن يؤكِّد حكمته، فيما أراد للحياة أن تحتضن حكمته في نظامها في الإنسان وفي الحيوان وفي الكون كلّه. ولذلك، فإنَّّ الإنسان عندما يتمرّد على ربِّه، ويواجهه بالحرب لما يريده من حكمة، وما إلى ذلك، فإنَّ الله يصلحه بوعيده بالعقاب، ليرتدع الإنسان، من خلال ما يعيشه من معنى الخوف المنطلق من الوعيد، عن الانحراف عن خط الله سبحانه وتعالى، وليرجع إلى ما يصلح أمره.
الله المنتقم:
إن تهديد الله للإنسان بالعقوبة إذا تمرّد وعصى، إنما هو تهديدٌ في صفاته العليا وأسمائه الحسنى، لا يختزن أيَّ حالة انتقام تنطلق من عقدة، أو من حالة مزاجية معينة، ولكنه ينطلق من خلال مصلحة الإنسان في أن يحكم بما يصلح أمره، وبما يريده الله منه ممّا يحفظ سلامة مصيره في الدنيا والآخرة. وقد الله سبحانه وتعالى ذلك في قوله: أفأمِنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون( )، أي أن لا تشعر بالأمن المطلق، بأنك تعبث وتتمرَّد وتفسد وتقوم بكلّ ما يسقط إرادة الله في الكون، مستسلماً إلى فكرة أنَّ الله غفور رحيم؛ لأن القضية تتصل باستقامة النظام الإنساني والنظام الكوني، وهذا مما لا ينسجم مع صلاح أمرك، وصلاح نفسك. في مقابل ذلك، يقول الله تعالى: ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون( ). فالإنسان يعيش الخوفٍ من مكر الله، والمقصود بمكر الله، هو التدبير بخفاء، فيما يمكن أن يحرّكه الله سبحانه وتعالى من إنزال البلاء والعقوبة به. وقد أطلق الله سبحانه مسألة العقاب على أساس أن الإنسان هو الذي يجذب عقوبته، كما يجذب ثوابه، قال تعالى: وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون( )، فهم ظلموا أنفسهم لأنهم انحرفوا عن الخط المستقيم، وقد قال تعالى: قل هل ننبّئكم بالأخسرين أعمالاً * الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً( )، وقال: إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة إن ذلك هو الخسران المبين( ).
وعلى هذا الأساس، فلا بدّ للإنسان، من أجل أن يتوازن في تصوّره لله، وفي علاقته به، وفي سلوكه في ما يتّصل بمسؤولّيته أمامه، أن يكون خائفاً من أن يعصي الله، أو أن يسيء إلى خطِّ الحكمة له، وأن يكون راجياً له أن يعفو عنه، إذا انسجم مع الخطِّ المستقيم بعد أن انحرف عنه، وأن يحقِّق له أحلامه ورغباته في ما يرضي الله سبحانه وتعالى. وهذا ما عبّر عنه الإمام الكاظم(ع) في قوله: » يا هشام، لا يكون الرجل مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً«. فهذه المسألة تتَّصل بالإيمان بالله، لأنَّ الإيمان بالله يفرض على الإنسان أن يتصوَّر الله سبحانه وتعالى بما يشدُّه إليه في موقع الرحمة، وأن يتصوَّر الله سبحانه وتعالى في ما يقف في مواجهة أوامره ونواهيه في موقع المسؤولية.
الرجاء الحقيقي:
ثم يقول الإمام(ع): ((ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو))؛ يعني أن قضية الخوف ليست مجرَّد حالة نفسية تدفعك إلى أن تعيش الخوف من الله في داخل ذاتك، وفي داخل مشاعرك وأحاسيسك، ولكنك في الوقت نفسه تعصيه في الصغير وفي الكبير، بل لا بدّ أن تعمل حتى لا تقع في ما تخاف منه. وأن تكون راجياً لله، بمعنى أن تعمل لما ترجو، فإذا كنت ترجوه أن يرضى عنك، فعليك أن تعمل لما يحقق رضوانه عليك، وأنت ترجوه من أجل أن تحصل على الجنة، وعليك أن تعمل ما يجعلك تحصل على الجنة.
وقد تحدَّث النبي(ص) والأئمة(ع) في أكثر من حديث عن مسألة الخوف والرجاء، باعتبارهما أساسيين للإيمان في حركة الإنسان في وجدانه، وحركته في مسؤوليته.
فعن الإمام الصادق(ع): ((قال أحد أصحاب الإمام الصادق(ع): قلت له: ما كان في وصية لقمان؟)) والله سبحانه آتى لقمان الحكمة، والحكمة تنفتح على كلِّ حقائق الإيمان بالله، في ما أراد للإنسان أن يلتزمه في وجدانه، وأن يتحرَّك به في عمله، ((قال: كان فيها الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيها، أنه قال لابنه)) وقد أشرنا في ما سبق أننا نستفيد من هذه التربية التي مارسها لقمان مع ابنه، حيث إنه كان يثقّفه بالحكمة في كل قواعدها الثقافية، وفي كلِّ خطوطها العملية، لأن علاقته بابنه لم تكن مجرد علاقة أبٍ بولده يحاول أن يحفظ له حياته، في ما يكفل له من معيشته، وفي ما يجنّبه من الأخطار التي تحيط به، بل إن الأبّوة تفرض على الأب أن يدخل إلى عقل ولده، ليثقّفه وليلقي إليه الحكمة في كل تصوراته، وأن يدخل في حياته ليعرّفه الخطوط المستقيمة من الخطوط المنحرفة. ((خف الله خيفة لو جئته ببرّ الثقلين لعذّبك))، يعني ليكن خوفك من الله، من القوة ومن العمق، بحيث إنك تعيش في حالة نفسية قلقة من أعمالك، في ما يقبله منها، أو لا يقبله، بحيث لو جئته بكلِّ الخير الذي يقوم به الجنّ والإنس ـ وهما المراد من الثّقلين ـ فإنَّك تشعر بأنَّ هذا الخير من الممكن أن لا يؤكّد حقَّ الله عليك، بحيث تخشى أن يكون فيه بعض الثغرات، التي يمكن أن لا يرضى الله سبحانه وتعالى بها، ((وارْجُ الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك))، أي، حقِّق التوازن في هذا الاتجاه أيضاً، بحيث إنك لو جئته وأنت مغسول بالذّنوب كلّها، تماماً كما لو كانت كلّ ذنوب الإنس والجن في حياتك، فَارْجُ منه الرحمة.
والمسألة كما توحي به هذه الوصية اللّقمانية، هي أن يكون لك التوازن في هذا المجال: خوف من الله، بحيث يمنعك من معصيته، ورجاء الله بحيث يمنعك من اليأس والسقوط أمام ذنوبك. كما قال أبو عبد الله ـ الإمام الصادق(ع) ـ: ((كان أبي يقول:))، يعني الإمام محمد الباقر(ع): ((إنه ليس من عبد مؤمن إلا في قلبه نوران، نور خيفة، ونور رجاء)). ونلاحظ، في الحديث، أنّه يعبّر عن الخوف والرجاء بأنّهما نوران؛ لأن النور هو الذي يشرِق في حياتك، سواءٌ كان إشراقه في عقلك وقلبك، أو في الواقع الذي تعيش فيه، هو الّذي يضيء لك الطّريق ويبعدك عن الوقوع في الظلمات. فعندما تخاف الله فهذا نور يبعدك عن ظلمات المعصية والذنوب، وعندما ترجو الله، فإنّه نورٌ يبعدك عن ظلمة اليأس والقنوط، وبهذا فأنت تعيش في إشراقة من خوفك من الله ومن رجائك لله، ((لو وُزن هذا لم يزد هذا على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا))، بحيث يكون هناك نوع من التوازن بين الخيفة والرجاء، حتى تظلَّ في خطِّ الانفتاح على الله، لتخلص له، ولتنفتح على مواقع القرب منه، في طاعتك وعبادتك له، ولتكون أيضاً في موقع البعد عن معصيته، وذلك من خلال تجسّد عظمته في موقع الهيبة لجلاله، ولرحمته ونعمته في موقع الرحمة.
الإحساس بالغيب:
وفي حديث آخر عن الإمام جعفر الصادق(ع) قال لصاحبه إسحق: ((يا إسحق: خَف الله كأنك تراه)). والله لا يرى بحسب العقيدة الإسلامية التي يتبنّاها منهج أهل البيت(ع) في ما يستوحونه من القرآن، ومن العقل والسُنّة أيضاً؛ لأن الله تعالى يقول: ليس كمثله شيء، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار( )، وبذلك تُفَسَّر الآيات التي تتحدث عن رؤية الله بقوله تعالى: وجاء ربك والملك صفاً صفاً( )، وقوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة( )، وهذا من باب ردّ المتشابه إلى المحكم، يعني هذا من المتشابه الذي يُرَدُّ إلى المحكم، وهو قوله تعالى: لا تدركه الأبصار. ولكنَّ مشكلة الكثير من النّاس، أنهم ينفتحون على الله في آفاق الغيب، فهم يعيشون مع الله على أساس أنه غيب لا يتحسّسونه، ولا يدركونه بإحساسهم المادي، والإنسان عادةً عندما لا يتمَّثل الشيء أمامه في مستوى الإحساس المادي، فإنه لا يعيش الانفتاح عليه، بما يملأ عمق إحساسه وشعوره، ولكن الله يريد من الإنسان ـ كما يقول الإمام جعفر الصادق(ع) ـ أن يعيش حالة الغيب كما لو كانت حالة الشهود، بحيث تتجسَّد معرفة الله في نفسه تماماً كما لو كان الله مظهراً حسياً يتحسَّسه بعينيه، أو بكلِّ جوارحه.
((خَفْ الله كأنك تراه))، وهذه دعوة إلى أن يتعمَّق الإنسان في معرفته بالله، بحيث يتمثّل الله في وجدانه وفي كل كيانه، كما لو كان شخصاً مرئياً أمامه، ((وإن كنت لا تراه))، كما هو الواقع، ((فإِنه يراك))، أي أنّ عليك أن تشعر بالرقابة الإلهية، إنه تعالى: يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور( )، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا( )، أن تشعر بالرقابة الإلهية التي تحسُّ بها عندما تفكّر، فإنّ الله يلاحق فكرك، ويراقبه، وعندما تحس وتشعر وتعيش العاطفة في نفسك، فإن الله يراقب ذلك ويلاحقه، تماماً كما لو كنت تتحرك في حال السرّ عن الناس، فإن عليك أن تشعر بأن الله سبحانه وتعالى يراقبك في ذلك، لأن الله لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، يسمع من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين، ويبصر من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين، ويسمع وساوس الصدور، ((فإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنّه لا يراك))، أي إذا أخذتك الغفلة، وانطلقت في ظلماتها، وأحْسست بأن الله لا يراقبك، أو أن الله لا يراك، وشعرت بالأمن عندما تكون وحدك، ((فقد كفرت))؛ لأن معنى أنه لا يراك، يعني أنك تنكر وجوده، لأن معنى الإلهية هي هذه الشمولية المطلقة في معرفته وفي مراقبته كل شيء، قال تعالى: ألا يعلم مَن خلق وهو اللطيف الخبير( )، ((وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين عليك))، يعني أنك استهنت به؛ فالإنسان عادةً في كثير من المعاصي التي يخْجَل منها، أو التي يخاف منها، يمتنع فيها عن المعصية عندما يرى طفلاً، أو عندما يرى إنساناً عادياً، ولكننا نبارز الله بالمعصية، مع علمنا أن الله يرانا، فيكون الله تعالى أهون الناظرين إلينا.
الرّجاء الكاذب:
وعن أبي عبد الله الإمام جعفر الصادق(ع) وقد قال له بعض أصحابه: ((قلت له: قوم يعملون بالمعاصي))، يعني يمارسون المعاصي بكلِّ جرأة وبشكل واسع، ((ويقولون نرجو))، الله أن يغفر لنا، ((فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت))، يعني يتابعون المعصية، ويتابعون الحديث عن رجائهم الله سبحانه وتعالى بالمغفرة، ((قال: هؤلاء قوم يترجّحون في الأماني))، ويعيشون بالأمنيات غير الواقعية، ويطلقون الكلمات بغير خطوطها في ما تتضمنه، وفي ما توحي به، ((كذبوا، ليسوا براجين، إِن مَن رجا شيئاً طلبه))، الإنسان الذي يحبُّ شيئاً، أو يرغب الحصول عليه، فإنّه يتحرَّك نحوه، فإذا كانوا يرجون رضوان الله، فإنَّ عليهم أن يطلبوا ذلك بالوسائل التي جعلها الله لذلك، ((ومن خاف شيئاً هرب منه))، فأنت عندما تواجه وحشاً، أو تواجه لغماً، أو تواجه خطراً، فإن معنى خوفك من ذلك، هو أن تبتعد عن المواقع التي يمكن أن يتوجَّه إليك منها هذا الخطر، أو يفترسك فيها هذا الوحش، وما إلى ذلك. فهؤلاء الذين يقولون نرجو ونخاف، كاذبون، لأن من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيءٍ هرب منه.
وعن حمزة بن حمران قال: ((سمعت أبا عبد الله ـ الإمام الصادق(ع) ـ يقول: إن مما حُفظ من خطب النبيّ(ص) أنه قال: أيُّها الناس: إنَّ لكم معالم))، والمعالم هي المواقع أو العلامات التي تدلّك على الطريق، والتي توجّهك إلى ما يصلح أمرك، وإلى ما يمنعك من الفساد؛ ((فانتهوا إلى معالمكم)) قفوا معها، وانتفعوا بها، وتحرّكوا من خلالها، حتى تحصلوا على ما تريدون بلوغه، فالإنسان، في المتاهات التي تحيط به، يحاول أن يبحث عن العلامات التي تدلّه على الطريق.
وكما كان العرب يستهدون بالنجوم: وعلامات وبالنجم هم يهتدون( )، فكذلك العلامات التي نصبها الرسل لكم، والتي أوحت بها عقولكم فيما ألهم الله العقول، تستهدون بها. ((وإن لكم نهاية))، فلكلِّ إنسان أجل في هذه الحياة، لا يمكن أن يتجاوزه، ((فانتهوا إلى نهايتكم))، يعني حاولوا أن تصلوا إلى النهاية التي تحدد لكم مصيركم.
بين مخافتين:
ثمّ يقول(ع): ((ألا إن المؤمن يعمل بين مخافتين))، فهو يعيش القلق دائماً؛ قلق المسؤولية، قلق الحرية في خطِّ قضية المصير، وخصوصاً تجاه الأمور التي لا يعرف نتائجها، ولا مداها، ((بين أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانعٌ فيه))، يعني هذا العمر الذي مضى على الإنسان، وخاض فيه مع الخائضين، وتحرك فيه مع المتحرّكين، وعاش معهم الجوانب السلبية والإيجابية، في نقاط الضعف ونقاط القوة، في مواقع الخير ومواقع الشر، لا يدري هل يغفر الله له ذلك، أو لا يغفر الله له ذلك، لأنه يغفر لمن يشاء ويعذب مَن يشاء، ((وبين أجلٍ قد بقي))، وهي بقية العمر التي يعيشها "لا يدري ما الله قاضٍ فيه"، كيف يكون هذا العمر؟ والباقي من عمرنا ماذا نفعل فيه؟ هل نتوفق فيه لعمل الخير؟ أو ننحرف فيه بعمل الشر؟ ماذا يقضي الله في هذا؟ هل يقضي الله سبحانه وتعالى لنا بالتوفيق لطاعته، أو يقضي لنا بأن نتحرك في معصيته من خلال سوء اختيارنا، ((فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه))، خذ من نفسك مما أودعه الله لك من هذه الطاقات التي يمكن أن تنتج الخير أو تنتج الشر، خذ من نفسك لنفسك حتى تعطي نفسك قاعدة النجاة، وقاعدة سلامة المصير، ((ومن دنياه لآخرته))، لأنَّ الدّنيا مزرعة الآخرة، وعلى الإنسان أن يزرع الخير في الدنيا، ليحصد الخير في الآخرة، ((وفي الشيبة قبل الكِبَر، وفي الحياة قبل الممات))، يعني أن ينتهز الإنسان الفرصة التي يستطيع من خلالها أن يحصل على النتائج الكبرى التي تصلح أمره وتسلّم مصيره عند ربّه، ((فوالذي نفس محمد بيده، ما بعد الدنيا مِن مستَعْتَب))، فليس هناك أيّ مجال للعذر والعتب، ((وما بعدها من دار إلاّ الجنة أو النار))( ). فارجوا الجنة من الله واعملوا لها، وخافوا النار واعملوا للابتعاد عنها.
ويبقى للكلام بقية إن شاء الله تعالى..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة التاسعة والعشرون 20 ذو الحجة 1425 ه - 29/1/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (23)
مواقع رضا اللّه في حياتنا
الإيمان.. أن يكون رضا الله تعالى هو الخط الذي يسير عليه المؤمن، والأفق الذي يتطلع إليه
الثقة بالله سبحانه وتعالى
رضا الله
مفتاح الشر
الغضب ساحة الشّيطان
الموسوم الإسلامي للقوّة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الثقة بالله سبحانه وتعالى:
يقول الإمام الكاظم(ع) في وصيّته لهشام بن الحكم: ((يا هشام، قال تعالى: وعزتي، وجلالي، وعظمتي، وقدرتي، وبهائي، وعُلُوّي في مكاني، لا يؤثر عبد هواي على هواه إلاّ جعلت الغنى في نفسه، وهمّه في آخرته، وكففت عنه ضيعته، وضمنت السموات والأرض رزقه، وكنت له من وراء تجارة كلِّ تاجر)). هذه الكلمات نسبها الإمام(ع) إلى الله سبحانه وتعالى ـ وهو الصادق الأمين ـ، وقد تكون من الأحاديث القدسية التي وردت عن الله تعالى بشكل غير مباشر، أو أن تكون قد وردت في صحف الأنبياء(ع)، كصحف إبراهيم وموسى(ع)، وغيرهما مما أوحى الله تعالى به إلى أنبيائه. إنّ هذه الفقرات تشير إلى معنى يتّصل بالإيمان، حيث يريد الله عزّ وجلّ للإنسان في تصوّراته الإيمانية، وفي ما يختزنه في نفسه، في كلِّ مواقع إرادته، ومناهج سلوكه، أن يحقّق ما يريده الله تعالى وما يحبّه، بحيث يفقد الإنسانُ نفسه أمام الله سبحانه وتعالى، فلا يكون لذاته، في عناصرها الشخصية، في ما يحبّه الإنسان ويهواه، أيُّ دور في ما يفعل، أو في ما يترك، بل هو في كلِّ أموره في الحياة، ينصر موقع رضا الله تعالى أي أن رضا الله هو الخط الذي يسير عليه، والأفق الذي يتطلّع إليه.
رضا الله:
إنَّ هذا المستوى من الإيمان يمثِّّل أعلى درجات الإيمان. وللإيمان درجات؛ فربما نجد إنساناً مؤمناً بالله في عقيدته وتصوّراته، ولكنه، في حركته في الحياة، قد يستجيب لهواه بنسبة معيّنة، وهذا ما يحصل لدى الذين يمارسون الخطيئة في بعض مواقعها أو مواردها. أمّا المؤمن الذي يبلغ أعلى درجات الإيمان، فهو لا يقدّم رجلاً ولا يؤخّر أخرى حتى يعلم أن ذلك لله رضا، فلا ينظر إلى ما تريده نفسه التي قد تكون أمّارة بالسوء، بل ينظر إلى ما يريده الله تعالى، فيجعل هواه في خطِّ ما عبَّر عنه الحديث بهوى الله، والمراد من هوى الله محبته ورضاه، وجزاء هذه المرتبة التي يحصل عليها، هو الغنى في نفسه، والغنى في معرفته لربه، وفي إيمانه بالله تعالى؛ أي أن يشعر أن الله هو الغني، ومنه الغنى، ومنه كل شيء، لأنه يملك الرزق كلَّه. ولذلك، فإنّ ارتباطه بالله سبحانه وتعالى يجعله لا يحسُّ بالفقر. وقد ورد ما يقرب من هذا المعنى في الدعاء المأثور: ((ما فقد من وجدك، وماذا وجد من فقدك)).
((وهمّه في آخرته))، إذ إنّ الإنسان إذا آمن بالله تعالى، فإنَّ الدنيا لا تعود تمثِّل عنده شيئاً؛ لأن الآخرة هي ما يتطلع إليه، ويطمح إليه، وبذلك يعيش الهم في الدنيا أنّه كيف يعمل لتكون له الدرجة العليا في الآخرة.
((وكففت عنه ضيعته)). المراد بالضيعة الضياع، أو الهلاك والتيه، أي جعلته يعرف طريقه، بحيث إنه لا يشعر بالضياع، ولا يعرف التيه، بل يعرف طريقه في ما يعطيه الله تعالى من وعي السير المستقيم.
((وضمنت السموات والأرض رزقه))؛ ومن المعلوم أن الإنسان يُرزق من خلال ما أودعه الله من مصادر الرزق، من المطر الذي ينزل على الأرض فيحييها، ومن خلال ما أعدّه الله في الأرض من موارد الرزق، وكأن الله يسهِّل ذلك، فتضمن له السماوات والأرض رزقه.
((وكنت له من وراء تجارة كلِّ تاجر))؛ بحيث يهيئ له أسباب الربح، ويشجّع الآخرين الذين يتاجرون في مواقع التجارة.
هذا هو الجوّ الذي توحي به هذه الفقرات. ومن الطبيعي أن الوصول إلى هذه الدرجة بحاجة إلى المزيد من الدراسة والتفكير والتطلّع إلى مواقع خلق الله تعالى، وفي أسرار العظمة التي تتمثّل فيها، ومواقع نعمة الله تعالى في امتداداتها في حياة الإنسان، الأمر الذي يحتاج إلى جهاد فكري، وجهاد روحي، وجهادٍ عمليّ.
مفتاح الشر:
ويتابع الإمام الكاظم(ع) وصيته، فيتعرّض إلى بعض الجوانب المتصلة بأخلاقية الإنسان، بسلوكه في نفسه ومع غيره، فيقول(ع): ((يا هشام، الغضب مفتاح كل شر)) ؛ المزاج الغضبي الانفعالي، الذي يثور في الإنسان عندما يواجه السلبيات التي لا تنسجم مع مزاجه، سواءٌ كان ذلك مما يعرض عليه في نفسه، أو مما يعرض عليه من خلال الآخرين الذين قد يسيئون إليه، أو يتصرَّفون معه تصرُّفاً لا ينسجم مع ما يحبّه ويرضاه، فيندفع الإنسان بسبب ذلك ليتصرَّف تصرُّفاً لا ينطلق من خلال دراسة للنّتائج السلبية أو الإيجابية في هذا المجال أو ذاك، بل ينطلق انطلاقاً عشوائياً من خلال ردّة الفعل، ولا يتصرّف من خلال التّخطيط للفعل الّذي يراد به أن يحقق ما فيه مصلحة الإنسان. بل ينطلق انطلاقاً عشوائياً من خلال ردّة الفعل، ولا يتصرّف من خلال التّخطيط للفعل الذي يراد به أن يحقق ما فيه مصلحة الإنسان. وقد ورد الكثير من الأحاديث الشريفة عن مسألة الغضب. فقد ورد عن النبي(ص): ((الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخلّ العسل)) ؛ فإن الإنسان عندما يغضب، فإنه يفسد إيمانه، لأنه لا يفكِّر إلا في ذاتياته، ولا ينطلق إلاّ من خلال نقاط الضعف المخزونة في داخل نفسه، فإذا غضب الإنسان فإنه يفقد عقله، وإذا فقد عقله فإنه يفقد إيمانه، لأنّ العقل هو الذي يحدِّد له السير في الأمور من خلال المبادئ التي يؤمن بها، والتي تؤدي به إلى النتائج الجيدة، في ما يتصل بحياته.
الغضب ساحة الشّيطان:
وفي حديث آخر أيضاً عن الإمام الباقر(ع)، يقول: ((إن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم)). ثم يعطي الإمام(ع) شاهداً على الطريقة التي يؤثر فيها الغضب على الإنسان من الناحية الجسدية، ((وإنّ أحدكم إذا غضب احمرَّت عيناه، وانتفخت أوداجه، ودخل الشيطان فيه))؛ والجمرة إذا دخلت في شيء، فإنها تترك تأثيراتها على ما دخلت فيه، من حيث الالتهاب الذي يصيب كلّ ذلك. وكأنّ الإمام(ع) يريد أن يقول: إنّ هذه الجمرة الداخلية الشعورية، هذه الجمرة الإحساسية، تلهب أحاسيس الإنسان، وتلهب مشاعره، فتنتفح أوداجه، وتحمرّ عيناه، ويكون ساحة مفتوحة للشيطان يدخل فيها، لأنّ الشيطان يدخل على الإنسان عندما يغفل عن حركة عقله، وعن حركة إيمانه.
ويقول الإمام علي(ع) في رسالته إلى الحارث الهمداني: ((واحذر الغضب، فإنه جند عظيم من جنود إبليس))؛ لأنَّ إبليس يدخل إلى الإنسان عندما يغيب عقله، ويفقد توازنه، وعندما يفقد أيضاً دراسته للحسن والقبيح من الأشياء. وفي حديث له(ع): ((إيّاك والغضب، فأوّله جنون، وآخره ندم))، لأن الجنون يمثِّل الواقع الداخلي للإنسان الذي يدفعه إلى أنْ يتصرف من دون تفكير، ومن دون أية حالة من حالات التوازن بين المنافع والمضارّ. ولذلك فعندما تهدأ أعصابه، وينظر إلى الجانب السلبي من تصرفاته، تراه يندم على ما فعله وما تكلّم به.
ويقول الإمام الصادق(ع): ((من لم يملك غضبه، لم يملك عقله))؛ لأن الإنسان ينفتح على العقل عندما يكون في حالة نفسية هادئة، يملك فيها الحسابات التي يحسب فيها حساب الربح والخسارة، وحساب الضرر والنفع، فإذا غضب الإنسان فقد هذا الهدوء، وفقد هذا التوازن، ومن الطبيعي أن يفقد عقله.
وقد ورد عن النبي(ص)، وهو يتحدَّث عن الّذي يحدِّد قوَّة الإنسان وشجاعته: ((ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب))؛ والصرعة كناية عن الإنسان الذي يندفع اندفاعاً أعمى، ويثار بطريقة وأخرى، وفي المقابل، فإن الإنسان الذي يملك نفسه عند الغضب، ويملك القوّة التي يستطيع أن يسيطر بها على نفسه هو الإنسان القويّ.
المفهوم الإسلامي للقوّة:
وعن النبي(ص) أنّه قال لأصحابه: ((ما الصّرعة فيكم؟))؛ والنبي(ص) يسأل أصحابه ليختبر كيف يفكّرون، وهذا منهج تربوي رائع، حيث إن القائد، سواءٌ كان نبياً أو مصلحاً أو عالماً، يحاول دائماً أن يكتشف كيف يفكر أصحابه والسائرون معه، فإذا اكتشف أن هناك خللاً في ما يفكرون فيه، وجّههم وقادهم إلى الصواب. وقد سأل النبي(ص) أصحابه: كيف تقيّمون الشّجاعة والقوّة عندكم؟ قالوا: ((الشّديد القويّ الذي لا يوضع جنبه))؛ يعني الذي لا يمكن لأحد أن يسيطر عليه، فقال(ص): ((بل الصرعة حق الصرعة))، أي أنه الرجل القويّ الشجاع، هو الذي يملك الإرادة، وقوة السيطرة على النفس، ((رجل وكز الشيطان في قلبه))؛ أي دخل الشيطان في قلبه ليثير فيه الانفعالات، ((واشتد غضبه وظهر دمه))، بحيث احمرَّ وجهه، ((ثم ذكر الله، فصرع بحلمه غضبه))؛ يعني الذي يسيطر على غضبه ويمنعه من أن يندفع به من دون تفكير أو تدبّر.
ذات يوم، مر النبي(ص) بقوم يرفعون حجراً كبيراً، وكلُّ واحد منهم يحاول رفعه، فقال لهم النبي(ص): ماذا تفعلون؟ والهدف من سؤاله هو إظهار المنهج الإسلامي العقلائي في أن لا يقوم الإنسان بعمل إلا إذا كان هذا العمل ينطلق من هدف يتصل بحياة الإنسان ومنافعه، فقال القوم: نريد أن نعرف أيُّنا أشدُّ قوّةً؟ فأراد النبي(ص) أن يوجِّههم بأنَّ قضية القوَّة ليست القوَّة الجسدية، وإن كانت مطلوبة، ولكنّها ليست هي القيمة الجوّهرّية الذاتية، لأن القوَّة الجسدية هي من الأمور المادّية التي يمكن للإنسان أنْ يصل إليها بالتدرّج، بواسطة الفنّ التدريبـي. ولذلك فإنها تمثِّل قيمةً جسديةً، ولا تمثل قيمةً إنسانيةً ترتفع بإنسانية الإنسان.
قال(ص): ((ألا أخبركم بأشدّكم وأقواكم)) قالوا: ((بلى، يا رسول الله))، فأراد(ص) أن يوجههم إلى القوة الروحية، التي تجعل الإنسان يمسك خطَّ التوازن في نفسه وفي نظرته للأشياء، قال(ص): ((أشدُّكم وأقواكم))، ((الّذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا في باطل))؛ أي أنّ الإنسان إذا أحب لا يزيد في حبّه عمّن يحب في المستوى الطبيعي، ((وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق)) وهو أيضاً الذي يسيطر على عاطفته السلبية، فنحن إذا سخطنا على شخص أو غضبنا منه، ننـزله إلى أسفل الدرجات، كما قال الشاعر:
وعيــن الــــرضــــا عـــن كلِّ عـــيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
فعندما نسخط على بعض النّاس وعندهم صفات جيّدة، فعلينا أن لا نغمط حقَّ هذا الإنسان في ما يتميَّز به من الصّفات، وهذا ما أكَّده القرآن الكريم، قال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى( )، فعلى الإنسان أن يعدل ويعطي كل ما يستحقّه في خطّ العدل، ولا يزيد عن ذلك بفعل العاطفة. وكذلك الأمر بالنسبة للعدوّ، قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى( )، فلا ينقص عدوّه ما يملكه من الصفات في ميزان القيمة العلميّة والروحية والأخلاقية.
((وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له بحقّ))؛ فإنَّ الإنسان، في كثير من الحالات، عندما يكون ضعيفاً، يبقى متوازناً مع النَّاس، ولكن إذا قدر، فقد يستعمل قدرته وقوّته ليسيطر على الشّخص الضعيف بما لا حقَّ له. الإنسان القويّ هو الذي يستطيع أن يحكم على نفسه، بحيث تبقى نفسه في توازنٍ في الجانب العاطفي، وفي الجانب العملي في حياته. قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ( )، وكظم الغيظ هو أن لا تفجِّر غيظك إذا حصل أي غضب من أيِّ شخص، فلا تتحرّك بردّة فعل، بل حاول أن تتمرد على غضبك لتحبسه حتى لا ينفجر وتتصرف تصرفاً غير مشروع، وغير عقلاني، أو ليس في مصلحتك. وفي الحديث عن النبي(ص) يقول: ((ما تجرّع عبدٌ جرعةً أفضل عند الله من جرعة غيظ كظمها له ابتغاء وجه الله))، فأن يكظم الإنسان غيظه لله تعالى، وقربةً لله تعالى، فإنه يقوّي الجانب العقلاني منه.
ويشير الإمام عليّ(ع) إلى أنَّ على الإنسان أن لا يشفي غيظه، ((متى أشفي غيظي؟ أحين أقدر؟ فيُقال لي لو عفوت، أو حين أعجز؟ فيقال لي لو صبرت))؛ فالإنسان عندما يقدر، فالعفو عند المقدرة من أفضل العفو، وإن عجز فعليه أن يصبر. ويقول(ع) في الجانب السلبي: ((من طلب شفا غيظه بغير حق، أذاقه الله هواناً بحقّ))؛ فلو أن أحداً تكلَّم معك كلمةً سّيئةً، فلا يجوز أن تضربه، فإنَّ الإسلام يقول لك من اعتدى عليك، اعتد عليه بمثل ما اعتدى عليك، أي كلمة بكلمة، أما أن تقابلها بضربة، أو قتل، فهذا شفاء بغير حق، فالله تعالى يجعل لك الهوان في الدنيا بالحق.
والمسيح(ع) عندما سأله الحواريون عن أيِّ الأشياء أشدّ وأخطر، قال(ع): ((أشدّ الأشياء هي غضب الله، وهذا ما لا تقوم له السموات والأرض)). فقالوا: وكيف نتقي غضب الله؟ قال(ع): ((لا تغضبوا))، فالغضب هو مفتاح كلِّ شر، وهو الذي يقود الإنسان إلى غضب الله تعالى، وقد ورد في حديث عن الإمام الباقر(ع): ((أي شيء أشد من الغضب؟ إن المرء ليغضب، فيقتل النفس المحترمة))( ).
وهناك نوعٌ من أنواعِ الغضبِ المحمود، وهو أن يغضب لله تعالى في الموارد التي يتحدى فيها الآخرون الله، ويتحدّون فيها الإسلام والمسلمين، فعلى الإنسان حينئذٍ أن يغضب، وذلك الغضب هو الغضب العقلاني الذي ينطلق من خلالِ خطّةٍ يحاول من خلالها الإنسان أن يسقط كلَّ الخطط التي يخطِّط لها الآخرون لإضعاف الإسلام. قال الإمام علي(ع): ((من أحدّ سنان الغضب لله، قوي على أشدّاء الباطل))( )، وهذا النّوع من الغضب الداخلي العقلائي، من إرادةٍ واعيةٍ وإيمان، يجعل من قوّتك تتضاعف، وعندها تستطيع أن تقهر أشدّاء الباطل، وللكلام بقية إن شاء الله تعالى...
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثلاثون 3 محرم 1426 ه - 6/2/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم (24)
تلازم الإيمان والأخلاق
من غير الطبيعي أن يؤمن الإنسان باللّه تعالى، ولا ينفتح على عباد اللّه بكل عناصر الإنسانية
الإيمان والخُلق
الرّبح والخسارة
حوار الجاهل
النّموذج الأخلاقي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الإيمان والخُلق:
ونبقى مع الوصيَّة الكاظمية لهشام بن الحكم، إذ يقول الإمام(ع): ((يا هشام، أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً)). إنّ هذا الربط بين كمال الإيمان وبين حسن الخُلق، يؤكد حقيقة إسلامية، وهي أنَّ الإسلام في بنائه للمجتمع، وفي علاقات المجتمع بعضه مع بعض، يؤكد على الجانب الإنساني للإنسان، في حياته الاجتماعية، وفي علاقته بالآخر، فمن غير الطبيعي أن يؤمن الإنسان بالله تعالى، ولا ينفتح على عباد الله بكل عناصر الإنسانية، وهذا ما أكدته الآيات القرآنية من جهة، والأحاديث النبوية الشريفة من جهة أخرى، كما أحاديث الأئمة(ع) التي هي امتداد لأحاديث النبي(ص).
ففي القرآن الكريم، نقرأ مظهر الأخلاق في عدّة آيات تتحدث عن طبيعة السلوك الإنساني، إذ يقول الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا( )، وقد ورد في تفسيرها: قولوا للناس أحسن ما تحبون أنْ يقال لكم، أي اختر الكلمة التي تحب أن تقال لك، فكأنها تعبّر عن المعنى الذي يقول: إذا أردت أن تتعامل مع الآخر، فانظر كيف تريد أن يتعامل الآخر معك، بحيث تفكر كما لو أنه أنت، وأنك أنت هو، في ما تحبه، وفي ما تكرهه، وهذا ما يعبر عنه الحديث النبوي الشريف: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها))؛ أي كن في مشاعرك وسلوكك مع الآخر، كما لو كان الآخر نفسك، وهذه الآية: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا تتحدَّث عن كلِّ الناس، سواء كان الناس مؤمنين، أو غير مؤمنين، وسواءً كانوا قريبين أو بعيدين، فهي تدخل في علاقة الإنسان بأبيه، وأمه، وبزوجته، وأولاده، وفي علاقته بجيرانه، وكل الناس الذين يتعامل معهم، ويتعاملون معه، أي أنه إذا أراد أن يطلق الكلمة للناس، في ما يتصل بهم، وبحاجته لهم، أو حاجاتهم إليه، فعليه أنْ يبحث عن الكلمة الحسنة التي تفتح القلوب، ولا تعقِّد الشعور.
ونقرأ أيضاً في قوله تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا( )، التي تدعو المؤمنين إلى أن يفتشوا ـ عندما يريدون إطلاق الكلمة ـ عن الكلمة الأحسن والأفضل، بحيث ينطلقون في دراستهم هذه من دراسة الآخر، ما الذي يثيره، وما الذي يعقّده، وما الذي يهدّئه، وما الذي يحبّبه إليك، ويحببك إليه؟ الكلمة الأحسن، التي لا تحمل أيَّة سلبية في علاقة الإنسان بالإنسان، بحيث يرتاح إليك الإنسان الذي تطلق الكلمة في خطابك معه. وتؤكِّد هذه الآية ـ أيضاً ـ نقطة أساسية تفلسف هذا الاتجاه الأخلاقي في ما يريده الله للناس، وهي أن الكلمة قد تخلق مشكلة إذا كانت تحمل في طبيعتها العناصر التي يمكن أن يستغلها الشيطان، سواء كان شيطان إنس، أو شيطان جن، وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ، يدخل بينهم ليثير المشاكل، وليعقّد الأمور.
ولذلك، فإنَّ هذا التّعليل لهذا السلوك الأخلاقي، ينطلق من المحافظة على المناخ الاجتماعي، بحيث تنطلق الكلمات لتفتح المجتمع بعضه على بعض، ولتمنع أيَّ استغلال سلبي له، فيما يمكن أن يستغلَّه الآخرون، أو أن تثيره بعض الأوهام هنا وهناك.
ونقرأ في هذا المجال قوله تعالى: لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ( )، فنحن نقرأ في هاتين الآيتين الأسلوب الإسلامي الذي لابدّ للإنسان المؤمن أن يستخدمه في طريقة حل المشاكل، وكيف يحل مشكلته مع الناس كافة، ولا سيّما الناس الذين يعادونه، أو الذين يتعقّدون منه، أو الّذين يختلف معهم ويختلفون معه؟ ما هي الطريقة التي تحلُّ فيها المشكلة؟ إنها الطريقة التي يمكن أن تزيل العقدة مع الآخر، أي أن تبحث المشكلة في عناصرها الإيجابية، فتدرس الكلمة التي تطلقها عندما تحاول حلَّ المشكلة، أو الأسلوب الذي تستخدمه، سواءٌ كان الأسلوب في أجواء الكلام، أو الأسلوب في أجواء العمل، إبحث عن العناصر الإيجابية التي تدرس المشكلة في واقع الإنسان الآخر، وأدرس الظروف المحيطة بالموضوع، والمناخ الذي يسيطر على الواقع، فإذا استكملت ذلك، فعليك أن تختار الدفع بالتي هي أحسن، يعني أن تدفع المشكلة بينك وبين الآخر بالطريقة الأحسن.
الرّبح والخسارة:
وقد تحدَّث الله تعالى عن الطريقة الأحسن في قوله: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ؛ يعني لتكن الطريقة التي تحلُّ بها المشكلة، وتدفع بها ضغط المشكلة عليك، الطريقة التي تحوّل فيها أعداءك الذين يحقدون عليك، والذين يواجهونك بالضغط والقسوة، إلى أصدقاء يحبّونك، فيصير من أوليائك ومن أحبائك بالانفتاح الذي يجعله يحبك، وينفتح عليك. وقد أكّد القرآن الكريم أنّ هذه الطريقة ليست طريقة سهلة، لأن الإنسان عادةً عندما يقابل عدوّه، وعندما يخاطبه، أو يتحرك معه، فإنه ينطلق من العقدة في داخل نفسه، ومن بعض العناصر السلبية التي يحملها ضدّ عدوّه، وهذه طبيعة إنسانية. لذلك أن تتحدث مع عدوك بمنتهى اللطف والرفق واللين، هو أمر قد يصعب على الإنسان أن يتحمَّله، فضلاً عن أن يمارسه، ولذلك فإنَّ الله تعالى بينّ لنا من خلال قوله: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... أن المسألة تحتاج إلى صبر، وتحتاج إلى أن تضغط على أعصابك، وعلى مشاعرك، وأن تدرس المسألة جيّداً، لتوازن بين حالة العداوة بينك وبين عدّوك، وحالة الصداقة بينك وبينه، وما ينتج عن ذلك من مشاعر، فالعداوة خسارة، والصداقة ربح، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وضغطوا على أعصابهم، وسيطروا على مشاعرهم، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، من الوعي الذي يوازن فيه الإنسان بين الحالة السابقة والحالة القادمة، وبين العداوة والصداقة. إنها تمثل الارتفاع بالإنسان إلى المستوى الأخلاقي الذي يستخدمه في حل مشاكله مع الآخرين، بقطع النظر عمّا يعيشه في ذاتياته السلبية.
حوار الجاهل:
ونقرأ أيضاً في مسألة العلاقة مع الآخرين، قوله تعالى: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ( )، أي أنّك تواجه الآخرين الذين قد يواجهونك بطريقة سلبية، وقد يشتمونك، وقد يؤذونك، وقد يعقّدون الوضع عليك، وقد يتّهمونك.. حاول أن تنتصر على مشاعرك، لتأخذ بالعفو عنهم، فقد يكون العفو عنهم وسيلةً من وسائل الضغط النفسي عليهم، ولا سيّما إذا عرفوا أنك تتصرّف من موقع قوّة، لا من موقع ضعف، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ؛ وتحدث معهم بالمعروف، بالكلمة الطيبة، وبالأسلوب الطيّب، وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ؛ الذين يواجهونك بأساليب يدفعها إليهم جهلهم بالحقائق وبالواقع، أو جهلهم بمعنى السفه وعدم الرشد، وأعرض عنهم، ولا تدخل معهم في جدال، لأن الجاهل ليس في مستوى الإنسان الذي يمكن أن تدخل معه في جدال هنا وهناك.
وقد رُوي أن الإمام علي بن الحسين، زين العابدين(ع)، مر عليه شخص فشتمه، فاستمر الإمام(ع) في السير، فكأنّ هذا الشخص الجاهل شعر أن الإمام(ع) لم يسمع شتيمته، فأراد أن يؤكِّد هذه الشتيمة، ليسمعها الإمام، وليثور عليه، أو ليدخل معه في نقاش، فاستوقف الإمام(ع) وقال له: إياك أعني، أي أنا أقصدك، فلا تعتبر أني شتمت شخصاً آخر، لكن الإمام(ع) وبكل برودة أعصاب، وبكل قلب مفتوح ورحابة صدر وإشفاق، قال: وعنك أُعرض.
وهكذا نقرأ في قوله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا( ). وهذه الآية الكريمة تعطي الفكرة التي تجعل الإنسان لا يتكبّر على الناس الآخرين، لا يثقل الأرض بضغط قدميه، ولا يؤذي النَّاس في طريقته في الاستعراض، أي لا يظهر انتفاخه الشخصي، وخيلاءه واستكباره بل يمشي كما يمشي الناس من دون أي حالة استعراضية، وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ بما يتحدَّاهم في كرامتهم وفي أوضاعهم، قَالُوا سَلامًا، أي لن ندخل معك في جدال عدواني أو في حالة معقّدة من الكلام أو من السلوك؛ بل يبقى الأسلوب أسلوب السلام الذي يُسقط رغبتك في الحرب والعدوان. وهذا هو المنهج الإسلامي في إعطاء السلام، كردّ فعلٍ لمن يريد لنا الدخول في الحرب من دون أساس.
النّموذج الأخلاقي:
وهكذا نجد أن القرآن الكريم عندما يؤكِّد المسألة الأخلاقية، فإنه يعطينا النموذج الأعظم في قضية الأخلاق التي يترفَّع بها الإنسان وذلك عندما قدّم لنا نموذج النبي(ص) في قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ( )، حيث إنَّ النبي(ص) يمثِّل الإنسان الذي يجمع كلَّ عناصر العظمة في أيِّ جانب من جوانب شخصيته، ومع ذلك، لم يتحدَّث عن أيِّ جانب منها، بل تحدَّث عن الخُلق، لأن للخُلق دوراً في معنى عمق الإنسانية التي يملكها الرسول(ص)، والتي أهَّلته لأنْ يكون الإنسان الذي اصطفاه الله ليبلِّغ الرسالة، لأن تبليغ الرسالة للناس الذين قد يعيشون القسوة في كلِّ مواقع حياتهم عناداً واستكباراً في مواجهة الحقيقة، هؤلاء يحتاجون إلى صدر رحب، ويحتاجون إلى عقلٍ منفتح، ويحتاجون إلى أسلوب يرعى نقاط ضعفهم النفسية، ويدفع بكلِّ عناصر الحقد الذي يحملونه ضدَّ الرسالة وضدّ الرسول. إنه بحاجة إلى كونٍ واسع عظيم من الأخلاق.
وهذا ما أكّده الله سبحانه وتعالى في بعض الآيات التفصيلية عن خلق النبي(ص)، فنحن نقرأ ـ مثلاً ـ قوله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ( ). إنَّ الله يحدّثهم عن أنَّ هذا الرسول الذي انطلق من أعماق مجتمعكم، ولم يأت من مجتمع آخر، أو من عالم آخر، كما يأتي الملك، إنّ هذا الرسول يحمل كل إنسانية الرسالة، وإنسانية الإنسان، ينفتح به على الإنسان الآخر. ولذلك، فإن الجانب الشعوري والإحساسي الذي يحمله هذا الرسول، يتمَّثل في أنه يعيش آلامكم، ويدرس كلَّ أوضاعكم، سواءٌ الأوضاع التي تواجهون فيها المشقة المادية، في الفقر والحرمان الذي يحيط بكم، أو من خلال الآلام الأخرى التي تعيشون فيها المشقة في آلامكم الجسدية، أو مشاكلكم النفسية، أو أوضاعكم الروحية، أو علاقاتكم الاجتماعية، أو ما إلى ذلك. إنه يتحسَّس كل هذا التعب المتنوّع الذي يعيش في داخلكم وفي ذاتكم، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ يعز عليه، ويشقّ عليه هذا العنت، وهو المشقّة والجهد والتعب الذي يصيب المجتمع، والذي يتحرك في حياة الأمَّة، فهو رسولٌ يعيش الجانب الشعوري والإحساسي، بحيث ينفذ إلى مشاعر الأمة ليتحسّسها في حالة ألم، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، فهو يحرص عليكم، أن لا تبقوا في حركة الجهالة والتخلّف، أو أن تدخلوا في المتاهات، وأن لا تعيشوا في قبضة الخرافة، وما إلى ذلك، يحرص عليكم من أجل أن يعدّكم لتكونوا الأمَّة التي يمكن لها أن ترتفع إلى مستوى الأمم الأخرى، لتحصل على النتائج الكبرى في هذا أو ذاك، بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، فهو يعيش الرأفة بالمؤمنين، ويعيش الرّحمة لهم، لأنَّ الله لم يرسله رحمةً فقط لمن اتّبعه، ولكن الله أرسله رحمةً للعالمين كلّهم، وذلك قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ( )، رحمةً في الفكر، ورحمةً في الروح، ورحمةً في الشريعة، ورحمةً في المنهج، ورحمةً في التّعامل مع الآخرين.
ونقرأ بعض مظاهر هذه الرحمة، في ما حدَّثنا الله تعالى به عن رسوله(ص)، في أنَّ النبي(ص) كان يتألمَّ على الذين لا ينفتحون على الإيمان، وكانت نفسه تذهب حسراتٍ عليهم، لا من خلال ما يصيبه من التنكّر له ولرسالته، بل رحمةً لهم؛ قال تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ( )، وهذا تعبير عن أن نفس النبي(ص) كانت تتقطَّع بالحسرة عليهم، وقال تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا( )، ولكن الله تعالى أنزل آيات تقول له: لقد أديت رسالتك، وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ( )، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ( ). إنَّ الله أراد له أن يخفِّف عنه هذا الضغط النفسي الذي انطلق من إنسانيته التي يبكي فيها قلبه على هؤلاء الذّين يضيعون في متاهات الكفر، ليخسروا أنفسهم في الدنيا وفي الآخرة، ونقرأ مظهر هذه الرّحمة في قوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ( )، فلو كنت فظَّ اللّسان، وغليظ القلب، لتركوك، لكن رقة قلبك ولين لسانك كانتا السبب في رسالتك الإنسانية، لأن الرسول وكل الذين يتحركون في خطّ رسالته، لا بد أن يكونوا مستوعبين للآخرين الذين يدعونهم إلى الإيمان، وأن يستوعبوهم في قلوبهم، وفي كلماتهم، لأن القضية هي أنَّ القلب المغلق على الناس، والقلب القاسي مع النّاس، لا يمكن أن يفتح قلوب الناس وعقولهم وقلوبهم، وكذلك الكلام القاسي لا يمكن أن يجذب الآخرين إليك.
هذه هي بعض الآيات القرآنية التي تؤكّد حسن الأخلاق، سواءٌ من خلال الخطوط التي رسمها القرآن، أو من خلال النموذج الأعظم والأكمل الذي قدَّمه لنا القرآن الكريم.
وللكلام بقية في ذلك إن شاء الله تعالى.
والحمد للّه ربّ العالمين.
باب المسائل
الفصل الأول
المسائل القرآنية
قُتِلَ الإِنْسَانُ:
* هناك آية كريمة في الكتاب المجيد تقول: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ( )، كيف يمكننا فهم هذا الكلمة (قُتِلَ) والمتكلم هو الخالق؟ وهل من الممكن تطبيق هذه الآية على العناصر التكفيرية المتخلّفة؟
- تُقال هذه الكلمة (قُتِلَ) في مقام إظهار السخط وعدم الرضا. أما المقصود ب(مَا أَكْفَرَهُ) فإن الكفر عندنا على قسمين: كفر نعمة، وكفر عقيدة، وربما يراد منها كفر النعمة، في ما أنعم الله تعالى عليه من وجوده، وغير ذلك، ما يفرض عليه أن يشكر ربّه بالشكر العملي، بالإيمان به، وبطاعته، وبالسير في خطِّ رضاه...
السؤال عن النعيم:
* قال تعالى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ( )، ما هي النعمة التي سنسأل عنها يوم القيامة؟
- الظاهر أن المقصود من النعيم هو ما أنعم الله سبحانه وتعالى به على الإنسان، في ما يريد الله سبحانه وتعالى له أن يشكره بمختلف وسائل الشكر، سواء بالشكر اللساني أو بالشكر الفكري أو العملي. فقد ورد في بعض الأحاديث "عن النعيم"، أن المقصود بها "عن الحق"، الذي أوحى الله تعالى به إليه.
ظلم آدم وحوّاء:
* قال تعالى: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ( )، الخطاب يتوجه إلى النبي آدم(ع) وحواء، فما تفسيركم للظلم، وقد ترتَّب على هذا الحكم الجزاء، بأن أنزلا إلى الأرض ليعيشا حياة الكبد؟
- المقصود من الظلم ظلم النفس، لأن الله سبحانه وتعالى قال لهما: إنْ أنتما لم تأكلا من الشجرة، فستبقيان في الجنة، لا تجوعان، ولا تعريان، وتأكلان كل شيء، وأما إذا أكلتما من الشجرة، فإنّكما ستخسران ذلك كلّه، وهذا ظلم للنفس.
الكشف عن الساق:
* يقول الله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ( )، ما تفسير هذه الآية؟
- تقال: (يكشف عن الساق)، إشارة إلى حالة الرعب، وحالة الهلع، فهو وراد مورد المثل عن اشتداد الأمر اشتداداً بالغاً، لأنهم كانوا يشمّرون عن ساقهم إذا اشتد الأمر للعمل أو الفرار.
حدود التبرّج:
* ماذا تقولون في امرأة محجّبة، لكنها تضع "المكياج" عندما تخرج إلى المجتمع؟ ونرجو منك تعقيباً بسيطاً على الآية الكريمة: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى( )؟
- على المرأة أن لا تخرج بزينتها الفاقعة المثيرة، ومنها حالة الخروج بالمكياج الذي يجلب الإثارة، وما إلى ذلك. نعم، في المجتمع النسائي، يمكن للمرأة أن تتبرّج، أما في المجتمع المختلط الذي يعيش فيه الرجال، فلا يجوز. وكذلك قوله تعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى، فإن المقصود بها هو إنما هو ظهور المرأة بكامل زينتها بطريقة المكياج، أو بالطريقة التي تكشف فيها عن مفاتنها كما يحدث الآن، مما يخلق حالة إثارة لدى الآخرين.
معنى الروح:
* يقول الله جلّ وعلا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي( )، فهل هذا يعني أن الروح ليست من ذات الله، بل لها عالمها في الكون مثل الجن؟
- الروح ليست من ذات الله، بالمعنى الذي يتصوَّره الناس، بأنها جزء من الله تعالى. قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ( )، فهنا الروح كناية عن القدرة في كلمة النفخ في الروح. وقد أجاب القرآن عن السؤال عن الروح بأنها من الأمور التي لا تستطيعون إدراكها، لأنها من الأمور الخفية التي لا تقع تحت تجربتكم، وهي أمر تعيشون نتائجه، ولكن لا تعرفون سرّه.
العصمة والاستعصام:
* ما هو الفرق بين عصمة النبي يوسف(ع) واستعصام النبي يوسف(ع)، هل الاستعصام بالنسبة للأنبياء(ع) درجات مختلفة؟
- الاستعصام هو حركية العصمة، بمعنى أنه يعيش العصمة ويمارسها، قال تعالى: وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ( )، يعني مارس العصمة في رفض هذه المراودة، وعدم الانجذاب إليها، فالاستعصام هو حركية العصمة في واقع المعصوم.
العرض على الكتاب الكريم:
* ورد عن أهل البيت(ع) قولهم: اعرضوا قولنا على كتاب الله وسنّة نبيّه، فإن خالفهما، فاضربوا به عرض الحائط، فأين كتب السنّة من طرقنا نحن الشيعة، هذا مع العلم أن الكتب الأربعة هي من أقوال الأئمة؟
- أولاً: بالنسبة إلى الكتب الأربعة، فإنها ليست أقوال الأئمة(ع) فقط، ففيها الكثير ـ كما في الكافي وغيره ـ من أقوال النبي(ص)، وهكذا يتحدث الأئمة(ع) عن كل ما يثبت بحجة، سواء كانت موجودة في كتب السنّة أو في غيرها، مما يثبت عن رسول الله(ص)، ولذلك فإنه يمكن أن نعرض ما ورد عن الأئمة(ع) على كتاب الله وعلى سنّة نبيّه التي وصلت إلينا بالحجة الشرعية القاطعة.
معنى (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ):
* كيف تأذن السماء لربها في قوله تعالى: وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ( )، وما معنى التكرار في قوله (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ)؟ وما المقصود بقوله تعالى (وَحُقَّتْ)؟
- هنا المقصود ـ والله العالم ـ بالإذن هو الخضوع، وعليه، فإن المقصود من أن السماء أذنت لربها، بمعنى أنها استجابت لربها، وخضعت له في ذلك. فقوله تعالى: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا) كناية عن الانقياد والخضوع لإرادته تعالى، وقوله (وَحُقَّتْ) أي أنها محقوقة لربها، وأنها في موقع هذا الانقياد.(*)
إظهار الدين:
* في قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ( )، فهل يعني ذلك أننا مقصّرون في تبليغ رسالة الإسلام إلى أنحاء العالم كافة؟ خاصّة وأننا نرى أن نسبة التبشير المسيحي أكثر من نسبة حركة التبليغ الإسلامي، فما رأيكم؟
- لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ هنا وارد في المرحلة التي عاشها النبي(ص)، حيث أسقط كل الاتجاهات التي كانت تواجه الإسلام، ولكن مع ذلك، فيها إيحاء أنه سوف يأتي الوقت الذي ينتشر فيه الإسلام، وهذا هو ما وُعدنا به. قال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ( )، وفيها الحديث عن آخر الزمان، وأنه يخرج فيه الإمام المهدي (عج) ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، ولا إشكال في أن المسلمين مقصّرون في الدعوة إلى الإسلام، حتى في بلاد المسلمين.
خلق الموت والحياة:
* في قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا( )، نرجو منكم بيان سبب تقديم خلق الموت على خلق الحياة، والمعروف أن الموت يعني العدم؟
- شيء طبيعي أن العدم سابق على الحياة، والله سبحانه وتعالى تحدث أيضاً عن الموتة الأولى، وهي الموتة التي تسبق الحياة، قال تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ( )، وهكذا قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ( ).
مقامات الناس:
* ما معنى قوله تعالى: وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ( )، وما معنى قوله تعالى: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ( )؟
- المقصود في الآية الأولى أن لكلٍّ موقعاً يقع فيه أو يعيشه، وقيل إنّه تعبير عن كلام جبريل(ع) أو هو وأعوانه من ملائكة الوحي على نحو الجملة الاعتراضية على ما يعطيه السياق، نظراً إلى قوله تعالى في سورة مريم: وما نتنـزّل إلاّ بأمر ربّك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك( )، وهي وما بعدها مسوقة لردّ قوله بألوهيّة الملائكة مما ينفي قول الكفار.
أما قوله: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ باب.. فالمقصود الإشارة إلى الجحيم وأبوابها، وأنها لا تضيق على الداخلين إليها، لأنّها تنفتح من خلال هذه الأبواب على أكثر من موقع، ولكل فريق منهم باب يدخل منه تبعاً لموقعه من العذاب والنار نوعاً وموقفاً.
مودَّة القربى:
* قال تعالى: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى( )، لو أن الآية الكريمة جاءت بهذه الصفة: قل لا أسألكم عليه أجراً إلا النصرة للقربى، فهل يكون تكليفنا تجاه أهل البيت(ع) أقلّ مما هو عليه؟
- في قوله تعالى: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى يعني أن النبي(ص) لم يرد أن يكون له أجر على الرسالة، وهذا ما أكّده القرآن الكريم في أكثر من آية، وفي قصّة أكثر من نبيّ، كما في قوله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الله، وقوله تعالى: وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على ربّ العالمين، ولكن أسألكم المودة في القربى، والمودة في القربى لا تمثل حالة عاطفية في نبضة القلب أو خفقة الإحساس والشعور كما نعرف الحب الساذج، بل يراد منها الالتزام بالقربى؛ لأن القربى ـ وهم فئة مخصوصة ـ هم الذين يمثلون الخط القيادي في الإسلام، في حملهم لرسالة النبي(ص) وإخلاصهم لها وتضحيتهم في سبيلها. وفي ضوء ذلك، فإنّ المودّة تختزن الولاية والنصرة والاتّباع.
الفئة الممسوخة:
* قال تعالى: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ( ) أي فئة من أتباع النبي موسى(ع) مسخها تعالى قردة؟ وكيف كان حال بقية المجموعات في اتباعها لأوامر النبي موسى(ع)؟
- ليس هناك تاريخ تفصيلي دقيق في هذه المسألة، ولكن القرآن الكريم تحدّث عن أن الله سبحانه وتعالى مسخ قوماً متمردين، فجعلهم قردة(*)، ولكن لم يكن شاملاً لكلّ الأمم. قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ( ).
معنى الأذقان:
* ما المقصود ب(الأذقان) في قوله تعالى: يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا( )؟
- الذقن معروف، وهو كناية عن سجود كل الوجه لله سبحانه وتعالى.
توبة المشرك:
* قال تعالى: إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ( )، فلو تاب المشرك بالله تعالى، فهل يقبل الله توبته؟
- هذا بشرط عدم التوبة، بمعنى إذا مات المشرك على شركه، فالله تعالى لا يغفر له، ولكن إذا مات غير مشرك، كأن مات على معصيته أو انحرافه، فقد يغفر الله له ذلك؛ لأن التوحيد هو الأساس في مسألة غفران الله سبحانه وتعالى للإنسان. أما إذا تاب المشرك فصار مسلماً ومات على إسلامه، فلا يكون مشركاً بعد ذلك، فقد يغفر الله له، وإلاّ فكلُّ المسلمين الذين كانوا في زمن النبي(ص)، ما عدا الإمام علي(ع)، كانوا مشركين ثم تابوا من الشرك، ولذلك يقال عن الإمام علي (كرم الله وجهه)؛ لأنه لم يسجد لصنم قطّ.
تفسير الخطفة:
* ما تفسير قوله تعالى: إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ( )؟
- يتحدث القرآن هنا عن ظاهرة كانت موجودة سابقاً، وهي أن الشياطين كانوا يرتفعون ـ ومنهم طبعاً شياطين الجنّ ـ إلى الطبقات العليا من السماء، ليستمعوا أخبار السماء، فالله سبحانه وتعالى منعهم من ذلك، لكن بعض الشياطين يأتون بسرعة، إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ وكان هناك شهاب يلاحقه فيحرقه، وعبارة: إلا من خطف الخطفة كناية عن السرعة. وربما جاءت الآيات بصدد إبطال العقيدة التي يعتقدها الناس في الجاهلية ومفادها أن الجن والشياطين يطّلعون على الغيب لانفتاحهم على أجوائه.
الأمر الإلهي:
* قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا( )، هنا الإرادة والأمر هما من الله سبحانه وتعالى، وهما سابقان على الفسوق، كما هو واضح، ثم يأتي التدمير في النهاية، كيف تشرحون لنا ذلك؟
- هذه الآية الكريمة ـ كغيرها من الآيات ـ تبيّن سنّة الله سبحانه وتعالى في الكون في كيفيّة إهلاكه للقرى. وقوله تعالى: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) يوجد لها تفسيران: أمرناهم يعني كلّفناهم، أمرناهم ونهيناهم فلم يتّبعوا أمرنا، وفسقوا فيها، يعني أن الله سبحانه وتعالى يقول: طريقة التدمير إنما هي من خلال الناس. قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ( )، أمّا إرادة الله بذلك، فلأنّه هو الذي ربط بين السبب والمسبّب، باعتبار أنّ الفسق في مفاعيله الواقعيّة هو سبب الهلاك للناس.
وهناك رأي آخر: وهو أنَّ إرادة الله تعالى الجارية في العالم ليست بشكل مباشر، يعني أن الله تعالى يريد أن يبيّن أن الكون كله بيده، ولكنه يتصرف بالكون في ما يتصل بعباده بالأسباب، ومن أسباب تدمير الحضارات وتدمير المجتمعات هو فسق المترفين في ذلك، وليس معنى ذلك أن الله تعالى يفرض بشكل مباشر ويأمرهم بأن يفسقوا فيها، والمعنى أمرناهم أن يصلحوا وأنْ يطيعوا، وأن يقوموا بما يفرضه الله تعالى عليهم، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، فتكون النتيجة هي الهلاك والدمار.
الإذن بالشفاعة:
* ما تفسير قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ( )؟
- الشفاعة لله سبحانه وتعالى، وليس هناك من يملك الشفاعة أمامه، وإنما هو الذي يعطي الشفاعة كرامةً لبعض عباده من الأنبياء والأولياء وما إلى ذلك، فالشفاعة إذاً بإذنه.
خطاب النبي(ص) إلى الأمّة:
* قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا( )، فهل هذه الآية الكريمة موجَّهة للرسول الأعظم(ص) فقط، أم هي شاملة لكل من يمارس دور التربية والإعداد والقيادة في الأمة والمجتمع؟ وما هو الدرس الأهم فيها؟
- هذا الدرس موجَّه إلى النبي(ص) بصفته رسولاً داعياً، لا بصفته الشخصية، بأن عليك أيها النبي أن تكون مع الفقراء المؤمنين الذين يأتون إليك، من أجل أن يتعلموا الرسالة، وكيف يطيعون الله تعالى، ولا تنفتح على الذين عاشوا الترف وعاشوا الغفلة وانحرفوا عن الخط. هذا الخطاب إذاً موجَّه إلى الرسول بصفته داعية، ولذلك فهي موجهة إلى كل داعية. وقد ورد عندنا أن الله سبحانه وتعالى يخاطب الأمة من خلال الرسول، ويأمرها من خلال الرسول، وقد ورد في حديث مرويّ عن الإمام الباقر(ع): ((إن القرآن نزل على طريقة إياك أعني واسمعي يا جارة"، يعني أنه موجه للنبي(ص)، ولكن المقصود به الأمة كلها))( ).
نفس اللّه:
* ورد في القرآن الكريم: وَيُحَذِّرُكُمْ الله نَفْسَهُ( )، وفي موضع آخر قوله تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ( )، والسؤال: كيف نحذر أمراً لا علم لنا به، ونحن دونه، وقاصرون عن معرفته؟
- لا ربط بين الآيتين، فالآية الثانية نقرأ فيها أنَّ الله سبحانه وتعالى عندما قال للنبي عيسى(ع): أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ الله فيقول له عيسى(ع): أنت تعلم ما في نفسي، ولا أعلم ما في نفسك، ويقول أيضاً: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ( ).
أما الآية الأولى، فهي في مقام تحذير في اتخاذ الكافرين أولياء، وفي الاستسلام لهم من دون المؤمنين. فالله تعالى يحذِّركم نفسه، لأنه يعاقبكم. قال تعالى: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( )، هذا في مقام تحذيرهم من معصية الله تعالى، ومن الانحراف عن خطِّه. ولا علاقة بين الآيتين.
الفردوس:
* ما هو معنى الفردوس؟
- المقصود بالفردوس هو الجنة، التي يعيش فيها الإنسان النعيم والرخاء وما إلى ذلك.
الإصلاح الرسالي:
* قال تعالى: إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ( )، ما هي حدود الإصلاح بالنسبة للرسالي، أي متى يتوقف عن دوره الرسالي؟
- إنَّ حدود الإصلاح بالنسبة للرسالي هو أنْ يبلِّغ رسالته كاملةً غير منقوصة، في ما أراد الله سبحانه وتعالى أن يبلّغه مما يملأ عقل الإنسان وقلبه وحياته، ومما يحرّك الواقع الذي يعيش فيه، ولذلك فالرسالي لا حدود لدوره، إنما يبقى منفتحاً بالرسالة على الناس، ويراقب كيف انطلقت الرسالة، وما هو الخلل في أداء الناس في مفرداتها، وما هي الحاجات المتجدّدة التي يحتاج إلى تلبيتها وإلى إصلاحها، وما إلى ذلك.. إن الرسالي ليس مجرد موظف له دوام خاص، بل إنه إنسان تمثل الرسالة كل حياته، وكل دوره، وتنفتح على كلِّ الساحات في حياته.
النفس الإنسانية:
* قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا( )، نرجو منكم تفسير كلمة (نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)؟
- الظاهر، والله أعلم، أنَّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يبيّن أن الإنسان ينطلق من عنصر واحد، فالرجل والمرأة يمثلان نفساً واحدة، متنوعة في الخصائص، ولذلك قال تعالى: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا، يعني هذه النفس الواحدة، والله تعالى بقدرته نوّع خصائصها في الرجل والمرأة، مع اتحاد في المعنى الإنساني، فالمرأة إنسان، كما هو الرجل إنسان، لا فرق بينهما في معنى الإنسانية، وإن كان هناك فرق في طبيعة الدور.
البيّنات والحديد:
* لقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ( )، نرجو منكم توضيح علاقة الحديد بما ورد في الآية؟
- من الممكن جداً أن يكون ذكر الحديد باعتبار ما يمثله الحديد من قوة يتحرك الناس بها من أجل مواجهة الذين يظلمون الناس بغير حق، لأن العدل هو أساس الرسالات، والعدل قد يحتاج إلى قوة في مواجهة الظالمين، وللحديد دور في ذلك، كما إنّ له أكثر من دور في صناعة الحاجات الإنسانية، مما يمثل مواقع القوة من جهة، وتنوّعات الانفتاح على حركة المسيرة للناس في أوضاعهم العامة في بناء الحاضر والمستقبل من جهة أخرى.
الأصدقاء يوم القيامة:
* نرجو منكم تفسير قوله تعالى: الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ( )؟
- يعني الأصدقاء الذين يعيشون الصداقة، لا على أساس التقوى، بل على أساس الشهوات والمغريات والماديات وما إلى ذلك، أولئك الذين لا يعيشون روحية العلاقة بالله سبحانه وتعالى، ولا يرتبط بعضهم ببعض على أساس الحب في الله، والبغض في الله؛ لأن العلاقات التي كانت موجودة في الدنيا تقطّعت، إذ في الآخرة ليست هناك أية علاقات من هذا النوع، ولهذا حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن الذين اتَّبَعوا وعن الذين اتُّبِعُوا، وحدَّثنا عن المستضعفين والمستكبرين، وما إلى ذلك ممن تبدّلت علاقاتهم الدنيوية من التواصل إلى تقاطع وتباغض بفعل ما يحمّل به بعضهم بعضاً من المسؤولية عمّا حلّ بهم من العذاب...
صوم الكلام:
* قال تعالى: فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا( ). هل الصوم في هذه الآية هو الامتناع عن الكلام، أم أنه الامتناع عن الكلام الزائد على الصوم؟
- يقول الله سبحانه وتعالى متحدثاً عن السيدة مريم(ع) بما أوحى إليها بعد ولادتها السيد المسيح(ع) في ظرف من أصعب الظروف وأشقّها على فتاة طاهرة عفيفة عذراء، كالسيدة مريم(ع)، التي لم تتزوَّج ولم ترتبط برجل في أيِّ حال، وهي تحمل ولداً، يقول سبحانه: فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا قولي بالإشارة إني أنا الآن صائمة عن الكلام، ولذا أنا لا أستطيع أن أجيبكم، لأني صائمة، مثلما تدعو أحداً ما إلى طعام فيقول لك: أنا صائم.
وفي تلك المرحلة، كانت الشريعة تشرِّع الصوم عن الكلام، إما بأن ينذر الإنسان ذلك، أو بأن يختاره، ففي شريعتهم أنه إذا نذر الإنسان أن يمتنع عن الكلام، فعليه أن يمتنع، وهذا ما وجه الله تعالى إليه النبي زكريا(ع)، عندما طلب من ربه أن يرزقه ولداً، قال تعالى: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا( )، أي بالإشارة، بحيث تصوم عن الكلام فالمسألة هي الصوم عن الكلام، وليس الصوم عن الكلام بالإضافة إلى الصوم الآخر، قال تعالى على لسان السيدة مريم(ع): إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا يعني صوماً عن الكلام، بقرينة قوله تعالى: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا.
رؤية اللّه:
* نفيتم سابقاً رؤية العبد لله تعالى يوم القيامة، باعتمادكم على قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ( )، فكيف ذلك وقد طلب قوم النبي موسى(ع) رؤية الله تعالى جهرةً، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون؟
- أوَّلاً: إن قضية رؤية الله تعالى هي من المطالب الكلامية، التي حدث الخلاف حولها بين علماء الشيعة الذين اتفقوا على أن الله لا يرى ، وبين الكثير من علماء السُنّة الذين قالوا إنّ الله تعالى يُرى يوم القيامة باعتبار قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ( )، وهكذا في عدة آيات، ولكننا بحسب الأدلة الموجودة عندنا، نرى أنه عندما يكون عندنا متشابه ومحكم، فلابد أن نردَّ المتشابه إلى المحكم، والمحكم قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ الذي يفسر الرؤية، وأنها ليست الرؤية الحسية، ولكنها الرؤية القلبية، أو رؤية عظمة الله تعالى، أو ما إلى ذلك. كما أن هناك أحاديث كثيرة تدل على أن الله تعالى لا يُرى.
ثانياً: بالنسبة إلى قضية قوم النبي موسى(ع)، فقوم موسى كانوا في مقام التحدي، ولم يكونوا في مقام الطلب العادي، قال تعالى على لسانهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى الله جَهْرَةً( )، وكان النبي موسى(ع) قد قرّب لهم فكرة التوحيد، وأنه رسول من قبل الله تعالى، وقد رأوا ذلك من خلال كل الآيات التي قدّمها النبي موسى(ع)، ابتداءً من العصا مروراً باليد البيضاء، ثم بعد ذلك في تسع آيات بيّنات، التي عاقب الله فيها فرعون وقومه، فلم يكونوا بعد محتاجين إلى دليل على رسالته؛ إذ لا حاجة لدليل على وجود الله، ولا دليل على نبوَّة النبي موسى(ع) بعد كلِّ ما قدّمه لهم.
ثم لو فرضنا أنهم قالوا ذلك، فهل معناه أنهم قالوا الحقيقة، وأن الله يُرى؟! كلا، ولذا أخذتهم الصاعقة، حتى إن النبي موسى(ع) عندما قال: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ( )، ربما كان في ذلك الوقت لم يعرّفه الله بأنه لا يُرى، إذ لم يكن النبي موسى(ع) داخلاً في تفاصيل الرسالة، والله سبحانه وتعالى يعلّم رسله بالتدريج، ولذلك قال الله تعالى له في بعض الأمور: اذهب وتعلّم من العبد الصالح، كما في قوله تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا( )، فالله تعالى قال: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي( )، يعني ربط المسألة بشيء مستحيل، وهو استقرار الجبل، لأن الله تعالى كما يقولون سلّط نوراً من نوره، فما استطاع الجبل أن يستقر، ونحن لا نعرف ما هي طبيعة هذا النور الذي جعل الجبل لا يثبت، قال تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، فقول قوم موسى(ع) وارد من باب التحدي، ثم هم ليسوا من أهل المعرفة حتى يُقال إنهم قالوا ذلك، ونبني على قولهم أنه لابد أن يُرى الله تعالى.
تفسير (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ):
* ما تفسيركم للآية الكريمة: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى( )؟
- يعني عليك أن لا تنظر إلى الرزق الذي رزقه الله تعالى للناس الآخرين. فبعض الناس عندما يرى الأغنياء والمترفين، ربما يأخذه الحسد أو الشعور باليأس والإحباط، وما إلى ذلك، فالله سبحانه وتعالى يقول للإنسان: هذا الذي أعطيناه من الرزق، وأنت لك رزقك الذي يعطيك الله إيّاه، بحسب حكمته ورحمته، والله تعالى يعطي الآخرين ليبتليهم، والفتنة هنا بمعنى نبتليهم ونختبرهم.
علم الملائكة بفساد الإنسان:
* قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ( )، إن الفساد وسفك الدماء من الصفات الآدمية والإنسانية، فكيف علمت الملائكة بأن آدم سيفسد في الأرض، وهو لم ينزل بعد إلى الأرض، أو لم يخلق بعد؟ هل هناك خلق كالإنسان اتَّصف بهذه الصفات، فأثار مخاوف الملائكة؟
- نحن أجبنا عن ذلك أكثر من مرة، فهناك جوابان:
الجواب الأول: أن يقال إن القرآن يختصر القصة، أي لا يدخل في التفاصيل، مثل قصة النبي نوح(ع)، قال تعالى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ( ). كيف حصل هذا؟ فالله سبحانه وتعالى اختصر كل هذه القصة العظيمة والحديث الكبير، وكذلك أيضاً عندما قال الله تعالى للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: ما هي صفاته؟ وما هو عمله؟ وما هو مستقبله؟ فالله تعالى أخبرهم، ومن ذلك إخباره لهم بأنه سوف يكون هناك فساد وتحدث حروب ومشاكل، فقالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ.
الجواب الثاني: من خلال بعض الروايات الواردة عن الأئمة من أهل البيت(ع): ((إن قبل آدمكم هذا ألف آدم، وأنتم في آخر الآدميين))، فكان الملائكة عارفين وشاهدين للخلق المشابه لخلق الإنسان.
المحاسبة على النيّات:
* في قوله تعالى: لا يُؤَاخِذُكُمْ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ( )، فهل يحاسب الله سبحانه وتعالى الإنسان على النيّات أم على الأقوال والأفعال؟ وهل يعتبر الحلف في البيع من اللغو؟
- إنّ الله سبحانه وتعالى لا يحاسب الإنسان على مجرد النيّة، ولكنه يحاسبه على عمله من خلال النيّة، لأن النية هي التي تعطي العمل عنوانه، فربما يتكلم أحد بكلمة، أو يقول قولاً، فإذا قاله بنية يكون خيراً، وإذا قاله بنية أخرى يكون شراً، بهذا قيل: ((إنما الأعمال بالنيّات، ولكل امرئ ما نوى)) يعني أن النية هي التي تجعل للعمل عنوانه، من الخير أو من الشر.
أما بالنسبة للحلف في البيع، فلا يعتبر من اللّغو، لأن اللغو هو الذي لا ينطلق من خلال قصد جدي، وإنما يجري الحلف على لسانه من دون قصد.
متاع المطلّقة:
* ما هو تفسير قوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ( )، هل تعني إمكانية العقد المنقطع للمطلّقات فقط؟
- المراد ب(المتاع) هو أن يعطي المطلّقة هدية ويحسن إليها، وما إلى ذلك، ولا ربط لهذه الآية بالعقد المنقطع.
صيغة الجمع في القرآن الكريم:
* لِمَ لَمْ تُجمَع كلمة (الأرض) في القرآن الكريم ؟
- كلمة (الأرض) أريد منها هذا العالم الذي يمثِّل كل هذه المواقع، كما هي كلمة (الإنسان)، وهي اسم يدل على معنى الجنس الذي يمتدّ معناه في كل امتداداتها الوجودية، بينما السماوات متعددة في مواقعها، التي قد نعرف منها شيئاً، وقد لا نعرف منها أشياء، ويمكن أن تجمع كلمة (الأرض) إلى (الأرضين)، إذا حاولنا أن ننوّع هذه الأرض، إلى أرض سهلة، وأرض حزنة، أو إلى طبقاتها في الأعماق وما إلى ذلك، لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يشير إلى الأرض بهذا التعبير الذي يعطي معنى المفرد أو معنى الجنس، لأننا نعيش في هذه الأرض، ويمكن لنا أن نمتد بها من خلال الوسائل التي نملكها مما هو متوفّر لدينا، بينما ليست المسألة كذلك في السماوات، والله العالم.
دوام السماوات والأرض:
* إذا كان انشقاق السماء واضطراب الأرض من الآيات التي ذكرها الله عزّ وجلَّ في مواضع عدّة من القرآن الكريم، وهي من زلزلة الساعة، فما تفسيركم للآية الكريمة: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ( )؟
* كأنَّ السائل يسأل ما معنى مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ؟ وهل إن السماوات والأرض تزول؟ كلا، إن هذا التعبير لا يدل على أن السماوات والأرض سوف تزول، بل إنّ هذه الآية الكريمة تقول: خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض، والسماوات والأرض تبقيان، ولذلك هم يبقون، وهذه كناية ـ والله العالم ـ عن خلود الإنسان في مدى الزمن، وقوله تعالى: مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ لبيان أنّ الإنسان يستمر مع السماوات والأرض، والسماوات والأرض تستمر بحسب ما قدّره الله تعالى لها. وعليه، ليس للآية الكريمة دلالة على أن السماوات والأرض تزول.
المنهج القرآني في العقائد:
* عندما نقرأ القرآن، نجد بساطة الدين، وعند قراءة حوار الأئمة(ع) مع أهل الجبر والتفويض، ووصف بداية الخلق نجد التعقيد، فهل الدين بساطة أم تعقيد ؟
- الدين في تصوّراته هو دين الفطرة، ولكن عندما ينطلق الآخرون ليثيروا بعض التعقيدات وبعض الشبهات التي جاء بها الملحدون والمشككون وما إلى ذلك، فمن الطبيعي أنها تحتاج إلى مناقشة وإلى ردّ من الأسلوب نفسه أو المنهج نفسه الذي جاء به هؤلاء.
تكرار القصّة في القرآن الكريم:
* تتكرّر في القرآن الكريم بعض القصص، فما هي الحكمة من ذلك ؟
- القرآن الكريم هو كتاب هداية وإرشاد، وهو ليس مجرَّد كتاب ينقل لنا التاريخ، حتى يُقال إن هذه القصَّة التاريخيّة ـ مثل قصة النبي موسى(ع) ـ ذكرها وقد فهمناها ولا ضرورة لتكرار الحديث عنها. فالمسألة أن القرآن الكريم متنوّع الأغراض، وبعض القصص مثل قصَّة النبي موسى(ع) فيها تنّوعات، بحيث نحتاج إلى أن نشير إليها بشكل مفصَّل عندما نريد أن نعالج هذه القضية، أو بشكل مختصر عندما نريد أن نعالج قضَّية أخرى، فالقصَّة بذاتها تشتمل على أبعاد متنوّعة يُحتاج إليها في أكثر من غرض قرآني، وبهذا ليس هناك تكرار بالمعنى الذي توحي به كلمة تكرار، وإنما المسألة هي أنَّ هذه القصة في بعض جوانبها توحي ببعض الأفكار التي يُحتاج تأكيدها وتكرارها وترتيبها وتركيبها في أكثر من موقع.
تأثير الصلاة في السلوك:
* قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ( )، ما مدى تأثير الطقوس الدينية والإسلامية في الفرد المسلم بلحاظ أننا نرى الكثير من المسلمين ممن يؤدي هذه الطقوس، ومع ذلك فإنها لا تؤثر في سلوكه كثيراً، أليس (الدين معاملة)؟ إذا ً ما فائدة هذه الطقوس إذا لم تؤدِّ دورها؟
- أولاً: مشكلة هؤلاء أنهم يؤدّون الصلاة كطقوس وكسلوكيات شكلية، فهم يقومون بالعمليات الصلاتية مثل العمليّات الرياضية، مجرد حركات جسدية جامدة ورتيبة وميتة، لا روح فيها ولا معنى، ولا بدَّ للإنسان عندما ينفتح على الصلاة أن يعرف أن الصلاة هي معراج روح المؤمن إلى الله تعالى. يعني أنت عندما تقف بين يدي ربك، فإن روحك تعرج إلى الله سبحانه وتعالى، لتكون قريبة منه، من موقع عظمته، ومن موقع نعمته، ومن موقع رحمته ورضوانه، وما إلى ذلك، بحيث تعيش مع الله تعالى. وقد شبَّهها رسول الله(ص) بعين ماء تكون على باب الإنسان، فإذا اغتسل منها خمس مرات في اليوم، فلا يبقى عليه شيء من الدنس والذنب.
وثانياً: عندما يريد أحد ما أنْ يصلّي، فلا بد أن يتدبَّر صلاته، فمثلاً نحن نقول إن المستحبَّات مقدّمات الصلاة من الأذان والإقامة، فأنت تكبِّر فيها الله تعالى، وتوحّده، وتشهد للرسول بالرسالة، وتدعو نفسك حيّ على الصلاة، وحيّ على الفلاح، يعني تخاطب نفسك، وتقول لها: تنبّه لنفسك من غفلتك، لا تذهب يميناً وشمالاً، أقبل بقلبك على الصلاة، أقبل بقلبك على الفلاح، فإن في الصلاة فلاحك، أقبِل على خير العمل، لأن الصلاة خير العمل، لأنها تقرِّبك إلى الله تعالى ولأنها تنفتح بك على الله تعالى، وعلى رحمته وعلى لطفه وغفرانه. ثم نأتي إلى الإقامة، فتكرر هذه المعاني، فهذه تهيئ لك جوَّ المقابلة مع الله سبحانه وتعالى، ثم أيضاً عندما يكبّر الإنسان ويقرأ الفاتحة، ويقرأ السورة الثانية، ويركع تواضعاً لله سبحانه وتعالى ويسبّحه، ويسجد تواضعاً لله ويسبّحه، ويستحضر كل المعاني إلى آخر الصلاة، فإنّ هذا الإنسان لا يمارس طقساً، ولكنه يمارس عبادة، وعبادة الله سبحانه وتعالى هي أن تشعر بالخضوع المطلق لله تعالى من خلال العبودية المطلقة أمام الربوبية المطلقة، وبهذا تصلح المعاملة، لأنك إذا عشت هذه الصلاة، وشعرت بالقرب من الله تعالى، فإن معنى ذلك هو أنك سوف تترك الحرام، وسوف تفعل الواجب، لأنك تريد رضى الله تعالى.
وثالثاً: وهذه يمكن أن لا يلتفت إليها أحد، وهي النيَّة، فعندما تنوي وتقول أصلي صلاة الصبح قربةً إلى الله تعالى، أي أنا أصلّيها لأكون قريباً من الله تعالى، قريباً بروحي، وبعقلي، وبعملي، فأنت عندما أعطيت الله عهداً أنك تقف بين يديه لتكون قريباً منه، فبعد انتهائك من الصلاة، تقول في نيّتك: أصلّي قربةً إلى الله تعالى، والكذب يُبعد عن الله تعالى، وكذلك الغشّ أو ما أشبه ذلك، لذلك فإن وعي الصلاة يجعلك تنتهي وتبتعد عن الفحشاء والمنكر، وأنا أمثّل مثالاً واحداً يقرّب المعنى، إنَّ الذي يدخل مدرسةً ما وهي معروفة، من خلال برامجها ومناهجها ومعلميها، بحيث إنها تعدُّ الأفضل بين المدارس، ولكنه لا يدرس ولا ينجز واجباته، بل يكتفي بأن يحضر الدروس، فهل نقول إن المدرسة سيئة، أم أنك أنت لم تدرس، فهذه هي المسألة، فالصلاة مدرسة، ولكن بعض الناس يدخلون المدرسة من دون أن يستفيدوا منها شيئاً، لأنهم لم يدرسوا فيها.
طريقة جمع القرآن الكريم:
* القرآن الكريم الموجود بين أيدي المسلمين، من الذي جمعه بهذا الأسلوب؟ نرجو منكم توضيح مسألة جمع القرآن الكريم ؟
- هناك روايات تقول إن القرآن الكريم جُمِع ـ أي رُتِّب ـ تحت نظر الرسول(ص)، حيث قيل إنه عندما كانت تنزل آية كريمة، فإنه(ص) كان يقول ضعوها في السورة التي يذكر فيها آل عمران مثلاً، لذا كان ترتيب القرآن الكريم بإشراف النبي(ص)، ولكن لم يجمع في مجلَّد واحد كما هو عليه الحال الآن، وإنما كان مفرَّقاً بما كانوا يكتبونه من القرآن، ولذلك يقال إنّه عندما حدثت واقعة (اليمامة) وقتل سبعون شخصاً من حفَّاظ القرآن، فإن أبا بكر طلب أن يأتي حفَّاظ القرآن الباقون، ويجمع ما كتبوه من آيات القرآن الكريم، ولكن لم توحَّد النسخ التي جمعت حتى زمن عثمان بن عفان، وكانت اللهجات مختلفة، وكان الإمام علي(ع) في ذلك الوقت مشرفاً على هذا الجمع والتوحّد، ولذلك قال الأئمة(ع) خذوا بهذا القرآن واعتبروا القرآن الكريم أساساً لعرض الروايات عليه: ((ما خالف كتاب الله فهو زخرف))، وهذا القرآن حسب عقيدتنا، ومن خلال علمائنا الأقدمين والمتأخرين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وليس فيه زيادة، وليس فيه نقصان.
عقوبة الربا:
* تحدَّث الله سبحانه وتعالى أن من يستمر في بالتعامل بالربا، فإنه سيدخل في حرب مع الله ورسوله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ الله وَرَسُولِهِ( )، هل يعتبر المتعامل بالربا مفسداً في الأرض، ويُعامل وفق الآية الكريمة: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ( ) ؟
- لا يعتبر مفسداً في الأرض، ولكنه يعتبر عاصياً؛ لأن المفسد في الأرض له أحكام خاصة وعنوان خاص.
جزئية البسملة:
* إذا قلنا إنَّ (بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هي جزء من السورة، لكن إذا قرأنا تاريخ القرآن الكريم، نجد أن أوَّل سورة نزلت هي سورة العلق ـ خمس آيات ـ بدون البسملة، فكيف يكون ذلك؟
- صحيح، لم تكن تنزل البسملة مع كل سورة، ولكن وردت هناك الكثير من الأحاديث فيها، كما أنه عندما كتب القرآن كتب مع البسملة في كل سورة عدا سورة (البراءة)، لأنها لم توضع البسملة فيها، فكان لا بد من السير على هذا، حيث يروى في العديد من الأحاديث عن الأئمة(ع) أنه لا بد من قراءة البسملة مع السورة وإن لم تنزل معها مباشرة.
نضج الشخصية:
* ماذا يعني بلوغ الأشدّ في قوله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ( )؟
- بلوغ الأشدّ هو بلوغ العقل والقوة الجسديّة، فينتقل الإنسان في فترة البلوغ من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ أو الاحتلام، وقد تشمل حالة البلوغ الأشدّ من مرحلة الشباب حتى سن الأربعين حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ( ).
معنى (الأَيَامَى):
* في قوله تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ( )، ما المقصود ب(الأَيَامَى)؟ وهل هن الجواري والخادمات في البيوت مثلاً ؟ ولماذا لم تشترط الآية في زواجهن أن يكنَّ صالحات بينما أوجبت أن يكون الأزواج من الصالحين، أفتونا مأجورين؟
- المقصود ب(الأَيَامَى) هنَّ النساء، والمعروف من خلال الآيات والأحاديث ما يفهم منها الزواج بالنساء الصالحات، كما ورد عن الرسول(ص) حينما سأله أحد الشباب بمن يتزوَّج فقال: ((عليك بذات الدين))، ولعلّ الظاهر هو أنّ كلمة الصالحين تشمل الرجال والنساء، وهو قوله تعالى: ((من عبادكم وإمائكم)).
ردُّ الاعتداء:
* ما هو تفسيركم للآية الكريمة: فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ( )، وهل يعني أن ردّ الاعتداء حق ؟
- يقول الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ( )، فهذه رخصة من الله سبحانه وتعالى في ردّ الاعتداء، ولكن أن لا يزيد عن حجم الاعتداء، ولذلك لا يجوز أن تقابل من شتمك بالضرب، أو تقابل من ضربك بيده، بأن تطلق الرصاص عليه، فيجب أن يكون ردُّ الاعتداء بالمستوى نفسه، أو وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.
وفي وصية الإمام أمير المؤمنين علي(ع) لأقربائه من بني عبد المطّلب حينما ضربه ابن ملجم قال: ((يا بني عبد المطلب، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قتل أمير المؤمنين قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلنّ بي إلا قاتلي، فانظروا إنْ أنا متّ من ضربتي هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثّلوا بالرجل، فإني سمعت رسول الله(ص) يقول: إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور)). فالإمام علي(ع) كان يهتمُّ بتطبيق الشريعة الإسلامية بالعدل، حتى لا يخطئ أحد من أهل بيته لطلب الثأر من ابن ملجم بطريقة وحشيّة، وهذا ما أراد أن يطبّقه علي(ع) على نفسه ليكون مثلاً لبقية المؤمنين.
عرش اللّه:
* ما معنى قوله تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ( ) ؟ وما معنى الاستعلاء وقد جاءت (كان) في الآية تامة وليست ناقصة؟
- عرش الله سبحانه هو سلطته، وربّما كانت الآية تشير إلى أنّ مُلك الله سبحانه كان يتمثّل في الماء، حيث لم يكن إلا الماء في المراحل الأولى لخلق السماوات والأرض، ولعلّ ما يوحي بذلك هو صدر الآية، حيث يقول تعالى: وهو الذي خلق السموات والأرض في ستّة أيام وكان عرشه على الماء، أو لأنّ الماء هو مصدر الأحياء، وذلك قوله تعالى: وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ( ) وأمّا نسبة (كان) إلى الله سبحانه، فإنها مجردة عن الزمن، فليس المقصود بها الماضي، لأنه سبحانه وتعالى لا يحدُّه زمان ولا مكان، فهو سبحانه يستوي في ذاته الماضي والحاضر والمستقبل. وأمّا كلمة ((على)) الدالة على العلوّ، فهي بلحاظ السلطة على الوجود المتمثّل بالماء.
الأمن القوميّ:
* قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ( )، فهل يشمل الأمن وفق مفهوم القرآن ما يسمى اليوم الأمن القومي؟
- المقصود بالآية: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍلم يشركوا بالله سبحانه وتعالى، لقوله تعالى في آية أخرى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ( )، فالموحّدون لهم الأمن، وهم الذين يوحِّدون الله سبحانه وتعالى في العقيدة والطاعة والإخلاص، ولم يشركوا به شيئاً، فأولئك لهم الطمأنينة من الله سبحانه وتعالى، وليس بمفهوم الأمن القومي أو الإقليمي، بل هو الأمن الإلهي الملكوتي.
معنى السفهاء:
* في الآية الكريمة: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا( )، هل المقصود بالسفهاء هم المبذّرون أم المجانين ؟
- المقصود بالسفهاء هم الذين لا يستطيعون إدارة الأموال بما يحفظ الحقوق ويبعدهم عن الخداع والسقوط تحت تأثير الخسارة، ولذلك فإن على وليّ السفيه أو الحاكم الشرعي أن يحجر على أموال السفيه ولا يسلّمها له وأن لا يتصرّف السفيه بماله إلاّ بإذن وليه أو الحاكم الشرعي.
ولاية الجائر:
* في قوله تعالى: لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ...( )، هل يتعارض ذلك مع القول: ((لابد للقوم من أمير بر أو فاجر))؟
- لا يوجد اختلاف في ذلك، فالآية تتحدّث عن أنه لا يجوز للمؤمنين أن يتَّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، كما ورد ذلك في أول الآية من هذه السور: بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا( ). أما القول بأنّه ((لابد للقوم من أمير بر أو فاجر))، فإنه كان في مقام رد الإمام علي(ع) على الخوارج الذين قالوا لا حكم إلاّ لله، وليس لك يا علي، فقال(ع): "((كلمة حق يراد بها باطل))، لأنه لا بد من أمير وإلاّ كان البديل الفتنة، وحتى لو حصل أن كان المؤمنون تحت ولاية كافر أو فاجر، فنحن نتعايش معه، ولكن لا نعترف بشرعيته، فلا ربط بين تلك الآية الكريمة، وذلك القول في تلك المسألة. وبعبارة أخرى، الآية تتحدَّث عمَّا يجب على المؤمنين فعله في عالم اختيار الولي والاعتراف بشرعيّته، والرواية تشير إلى طبيعة حركيّة إدارة الحكم بين الناس، حيث إنّ الله سبحانه لا يحكم بشكل مباشر، بل الناس هم الذين يحكمون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، بقطع النظر عن جانب الشرعيّة هنا وهناك.
معنى التأويل:
* ماذا ترون في مسألة التأويل في القرآن الكريم، فهل هو من باب ردّ الآية المتشابهة إلى الآية المحكمة، أم من باب أن القرآن يستنطق بعضه بعضاً؟
- أوَّلاً: التأويل هو حمل اللفظ على خلاف ظاهره، أو إرجاع الآية إلى مصادرها، والتأويل على ظاهره يحتاج إلى تحقيق، لأنَّ التفاهم العقلائي بين الناس هو أنهم يخاطبون بعضهم بعضاً، بحسب ما يدل عليه اللفظ ظاهرياً، فتفهم الكلمة من خلال ما وضع له اللفظ من المعنى، أو ما يتفاهم به الناس، ولذلك لا بد لحمل اللفظ على خلاف ظاهره من قرينة عقلاً، مثل كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ( )، أو الآية فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله( )، بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ( )، يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ( )، فعندما يكون لدينا القرينة العقلية القطعية بأن الله أحد صمد وليس جسداً، فلا يمكن أن يراد من كلمة (الوجه) كما هو في الأعضاء، فالمعروف من كلمة (الوجه) عقلائياً أنَّ المراد بها هو الذات، وكذلك تأويل الآية يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ كناية عن العطاء، وآية لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ( )، هي آية محكمة، فتفسَّر هذه بهذه من باب الاستعارة والكناية والمجاز، وكذلك ظاهر الآية الكريمة فَيُضِلُّ الله مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ( )، ظاهرها الجبر بأن الله هو الذي يضلّنا ويهدينا بشكل مباشر، ولكن معناها المقصود ـ من خلال القرينة ـ أن الإنسان إذا اختار الضلال، فإن الله سبحانه وتعالى يمهله ويتركه لنفسه، فإذا تُرِكَ الإنسان لنفسه فقد ضلَّ السبيل، فالله سبحانه وتعالى قد هدى الإنسان نحو الطريق المستقيم، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( ).
أما قضية القرآن الكريم، وأنّ فيه تبياناً لكل شيء حتى الكيمياء والفيزياء، فإنه غير صحيح، وإن أريد به ما يهتدون به فهو صحيح. فكل شيء يعرفه الناس في القرآن بطريقة الهداية، مع أننا لا ننكر أنّ فيه لمحات علمية، ولكن القرآن لم ينـزل خصيصاً لذلك.
محاولات نقض القرآن الكريم:
* نزل حديثاً إلى الأسواق الأوروبية كتاب اسمه (الفرقان الحق) في ردّ على القرآن الكريم ضمن الحملة التي يمارسها الغرب على الإسلام بعد أحداث 11 أيلول 2001، ويتألف الكتاب من 12 جزءاً، وقد صدر الجزء الأول منه، وهناك أربعة أجزاء تحت الطبع، فما هو رأيكم ؟
- لم نطّلع على مضمون الكتاب حتى نستطيع أن نعلِّق عليه، ولكننا نعرف أن هناك حملة قوية من أعداء الإسلام تحاول أن تضلّل المسلمين عن إسلامهم، وخصوصاً بعد أن لاحظ المبشّرون أن الكثير من المثقفين الغربيين بدأوا يعتنقون الدين الإسلامي الحنيف. وبالنسبة لمثل تلك الكتب المضلّلة، لا بد للمفكرين المسلمين أن يردوا عليها من خلال المراكز الثقافية الإسلامية هنا وهناك، أو من خلال وكلاء المراجع بعد الاطّلاع على مضمون تلك الكتب المضلّة، ليكون المسلمون في مستوى المسؤولية في الدفاع عن الإسلام العزيز هنا وهناك.
التوبة للجاهلين:
* ما المقصود بقوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا( ) وقد يعمل الذنوب من يعرف حرمتها، فهل يكون له توبة؟
- الآية بمعنى أنَّ التوبة تكون للذين لا يعملون السوء عن سوء نية وإصرار، لأنها لا تشمل من يعمل بسوء نية وإصرار، كما في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ( )، وقوله تعالى: وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، فإن التوبة للّذي تكون له سعة من عمره، وليس على طريقة فرعون الذي قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ( )، إذ قالها وهو على حافة الهلاك، فليس لتلك التوبة فائدة. ولعل هذا هو المراد من قوله تعالى: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ( ).
وصف الليل باللّباس:
* قال تعالى في كتابه: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا( )، ما معنى ذلك؟
- لأن اللباس يستر الإنسان، وكذلك ظلام الليل عندما يكون دامساً، فإنه يكون ساتراً عن العيون إذا أريد الهرب من العدّو، أو بياتاً له أو إخفاء ما لا يحب الاطلاع عليه من كثير من الأمور.
التأويل الباطني للقرآن:
* ما هو رأيكم حول المذاهب التي تدَّعي أن هناك تأويلاً باطنياً للقرآن الكريم؟
- يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا( )، فبحسب اللّغة العربية، فإن لهذا اللفظ معنى واحداًً، لا عشرين معنى، ولكن يمكن أن يفسَّر ذلك الكلام بتفسير آخر، ولكن ليس معناه أن للقرآن ظاهراً وباطناً، ولا عدّة بطون، حيث يمكن للإنسان المؤمن أن يستوحي من القرآن معاني كثيرة. ففي الآية الكريمة مثلاً: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا( )، وقد ورد عن الإمام الباقر(ع) في تفسيرها: أنها تعني نقل النفس من الضلال إلى الهدى، فهذا من باب الاستيحاء المعنوي، فالإحياء المعنوي أفضل من الإحياء المادّي، أو كما في الآية الكريمة: فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ( )، بأن الطعام قد يكون بالعمل والتقوى، وما إلى ذلك، كما في قوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى( ).
البيت الحرام:
* أرجو منكم تفسير قوله تعالى: جَعَلَ الله الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ( )، ولماذا سميت الكعبة بالبيت الحرام ؟
- لأن الله سبحانه وتعالى حرّم فيها القتال، وجعلها حرماً آمناً يأوي إليه الناس. وليس الكعبة وحدها، بل الكعبة وما حولها، حتى إن أهل الجاهلية كان الشخص منهم إذا رأى قاتل أبيه، فلا يأخذ بثأره في مكة، وإنما ينتظر خروجه من مكة. وأمّا قوله تعالى: قِيَامًا لِلنَّاسِ، فباعتبار أن الناس يقومون فيها لعبادة الله سبحانه وتعالى.
الحكمة من صوم زكريا(ع):
* لقد ذكر في سورة (مريم) في قوله تعالى: قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا( )، ما هي الحكمة في تلك الآية؟
- ربما كانت الحكمة في أن يشكر الله سبحانه وتعالى على ما أولاه عندما رزقه، ـ وهو وزوجته في سن الهرم ـ، ولداً، وهو يحيى(ع). وربما كان يطلب من الله تعالى شيئاً تطمئنُّ به نفسه، ويأخذ فيه الكرامة من ربّه.
أبوّة محمد(ص):
* قال تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا( )، فكيف يعتبر الحسن والحسين(ع) ابني رسول الله(ص)؟
- الأمران مختلفان. فالآية تشير إلى أن علاقتكم بالنبي(ص) هي علاقة الرسالة، وليست علاقة النسب، فهو(ص) ليس أبا أحد منكم، وَلَكِنْ رَسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ، يعني أن عليكم أن ترتبطوا بالنبي ارتباط الرسالة، لا ارتباط النسب، وهكذا في ارتباطنا بالأئمة(ع)، وارتباطنا بالأنبياء(ع)، من باب عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ( ). أمّا أنّ الحسنين ابنا رسول الله(ص)، فقد تكون المسألة واردة مورد إعلانه(ص) عن محبّته لهما كما يحبّ الإنسان ابنه، وهما ابنا ابنته فاطمة(ع).
دابّة الأرض:
* في قوله تعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ( )، ما هو المقصود من كلمة (الدابة)، هل هي من الحيوانات، أم هي من الإنسان؟
- البعض يقولون إن المقصود بها الإمام علي(ع). ولكن هذه الروايات تواجه كثيراً من علامات الاستفهام، هذا أولاً. وثانياً: إن التعبير عن الإمام علي(ع) بالدابّة هو تعبير غير مألوف، بل ربما غير جيد في هذا المقام، خصوصاً أن كلمة (الدابة) هي من الكلمات المعروفة لغوياً. وعلى كلِّ حال، فإنّ الله سبحانه وتعالى لم يبيِّن لنا خصوصيّاتها، وأنه يخرج لنا دابّة، قد تكون من غير خلق الإنسان أو الحيوان. وهذا أمر من غيب الله تعالى الذي لم يعرّفنا الله إياه، ولكن هذه (الدابة) هي مخلوق لله تعالى ينذر الناس، ويبيِّن لهم أن الكثيرين ممن عاشوا في هذه الدنيا من الأوّلين والآخرين، كانوا لا يؤمنون بآيات الله سبحانه وتعالى، وهذه من الأمور التي لم يوضحها الله سبحانه وتعالى في كتابه.
التمثيل بالكلب:
* ما هو المقصود من قوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ( )؟
- الكلب يلهث وينبح، سواء ركضت وراءه أو تركته. ومثل بعض الناس كمثل ذلك، والله يتحدّث عن هؤلاء، في قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ( )، يعني أن هذا الشخص لا يرتكز على قاعدة رصينة، بل يبقى على حالته في جميع الظروف، سواء أقمت عليه الحجة، أو لم تقمها عليه، والله العالم.
إيذاء الرسول(ص):
* قال تعالى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ الله وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ الله عَظِيمًا( )، ما سبب نزولها ؟
- يقال إنها نزلت في مواجهة بعض الأشخاص الذين قالوا إن محمداً(ص) سيموت، وسوف نتزوَّج أزواجه من بعده. فقد جاء في رواية السدّي، قال: بلغنا أنّ طلحة بن عبيد الله قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمّنا ويتزوّج نساءنا من بعدنا؟ لئن حدث به حدث، لنتزوّجنّ نساءه من بعده. وهذا النوع من الكلام لا تهذيب فيه، وذلك كان يؤذي رسول الله(ص). ثم إن الله سبحانه وتعالى حرّم على المسلمين أن يتزوَّجوا أزواج النبي(ص)، لما قد يترتّب على ذلك من مفاسد اجتماعية من خلال استغلال بعض الناس لذلك. ولذلك فإن النبي خيّرهن في هذا المجال، فإن أحببتُن أن تبقين معي، فهناك من الأمور التي تفرض عليكن، وإن كنتنَّ لا تحببن ذلك، وأردتن أن تعشن حياتكن بحرية، فإنّي أمنحكنّ الحرّية بالطلاق؛ لأني لا أريد الضغط عليكنّ بزواجكنّ بي. قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَه وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإنَّ اللهَ أعدَّ للمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً( ).
آيات اللّه:
* في قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى* إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى..( )، فما هو الرابط بين الليل والنهار، وبين الذكر والأنثى ؟
- إنَّ الله سبحانه وتعالى يبيِّن في هذه الآيات عظمة خلقه، ليفكّر الإنسان بالليل وما يختزنه من أسرار العظمة، التي يمكن أن تحصل للإنسان، حيث جعل الليل لباساً ليحصلوا على الراحة والمنام، ولينالوا به لذّةً وشهوةً، وكذلك بالنسبة إلى النهار الذي جعله مبصراً ومعاشاً، ليتسبّبوا فيه إلى أرزاقهم، وليسرحوا في الأرض، طلباً لما فيه نيل العاجل من دنياهم ودرك الآجل في أخراهم، وكذلك يتحدَّث سبحانه وتعالى عن خلق الذكر والأنثى باعتبار هذا التنوَّع في الخلق، حيث يشتمل على الكثير من أسرار العظمة، وأن الإنسان، ذكراً كان أو أنثى، يعيش النعمة في الليل والنهار، كما في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا( ).
تفسير المعقّبات:
* في قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ الله بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ( )، كيف لهذه المعقّبات أن تحفظ الإنسان من قضاء الله وقدره ؟
- هذه المعقّبات تحفظ الإنسان من الأشياء التي يمكن أن تنهي حياته، مما جعله الله سبحانه وتعالى سبباً لإنهاء الحياة، أو حصول البلاء. فكأنه سبحانه وتعالى يحفظ الإنسان بتلك المعقّبات. وليس معنى ذلك أن الله قضى الشيء وأراده، ثم تأتي تلك المعقّبات لتنسف ما أراده الله تعالى! كلا، ليس الأمر كذلك، لأن الله سبحانه وتعالى حينما خلق الكون، ركّزه على أساس قانون السببية، مما ينفتح على أن يكون هناك أشياء تهلك الإنسان من خلال طبيعتها بالنسبة، وقد ورد عن الإمام علي(ع): ((كفى بالأجل حارساً)).
ورثة الكتاب:
* في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ( )، ما هو المعيار أو الميزان الذي ينير قلب المكلّف في التمييز بين الأصناف الثلاثة من ورثة العلم ؟
* على الإنسان المثقَّف المسلم الواعي أن يدرس كل النماذج التي يصادفها في حياته، من خلال ما يحمله من فكر، وما يختزنه من قيم، وما يتحرّك نحوه من أهداف، ليميّز فيما بينها على أساس ذلك.
قطع الرحم:
* ما هو الشيء الذي أمر الله به أن يوصل في قوله تعالى: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَنْ يُوصَلَ( )؟
- المقصود كل ما يحافظ على الروابط الروحيّة والاجتماعية، مما يشدّ أواصر المجتمع، ويجعله في وحدة متماسكة بعيدة عن أي انقطاع وانفصام، ومنه صلة الرحم.
الأعمال مهراً في الزواج:
* في قوله تعالى عن قصة النبي موسى(ع) والنبي شعيب(ع): قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ( )، فهل يمكن تعميم ذلك بفتوى منكم لتسهيل زواج الشباب المسلم الفقير، بأن يكون بعض المهر المقدَّم أو المؤجَّل على شكل عمل لدى أهل البنت ؟
- المهم أن تقبل البنت بذلك، وليس المهم ما هي الفتوى من حيث التحديد الخاص. وقد جاء في النصوص الشرعية النهي عن غلاء المهور ليتيسّر الزواج، ((فشؤم المرأة غلاء مهرها))، كما يجري اليوم، حيث يصل المهر إلى مئات الليرات الذهبية وما إلى ذلك. فالمهمّ اقتناع البنت وأهلها، أن المهر هو ما تراضيا عليه من قليل أو كثير، كما ورد في الأحاديث الشريفة الواردة عن الأئمة(ع).
الاطّلاع على الأعمال:
* في قوله تعالى: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( )، في مقابلها قوله تعالى: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا الله( )، نرجو بيان المراد من الآية الأولى؟
- الإنسان عندما يعمل، فهناك أعمال باطنية خفيّة، وأعمال ظاهرة جلَّية. وفي هذه الصورة ـ والله العالم ـ يريد سبحانه وتعالى أن يبيِّن أنّ هناك أعمالاً لا يعرفها إلاّ الله تعالى، وأعمالاً أخرى تكون بمرأىً من الرسول ومسمعه، لأن الرسول هو الشاهد، باعتبار أن الله سبحانه وتعالى جعله شاهداً، كما في قوله تعالى: وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا( )، لأن الله تعالى جعل في كلِّ أمة شاهداً على الناس، قال تعالى: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا( )، و"المؤمنون" الذين يرونك، وإن كانت بعض الروايات تفسّر (المؤمنون) بالأئمة(ع)، وهو تفسير بالمصداق، وهم المصداق الأكمل له، لكن الظاهر منها الأعمّ من ذلك؛ كلّ ذلك كناية عن أن الله يحصي عليكم أعمالكم، وأن كل ما تعملونه، فإنه محفوظ في حساب أعمالكم، ولكن من دون حساب، ثم يأتي الحساب، وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
الظلم في قصة آدم(ع):
* قال تعالى: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ( )، أليس هذا طلب أو أمر من الله بعدم الاقتراب من هذه الشجرة؟ فكيف عصى آدم ربّه بالاقتراب منها؟
- هذا أمرٌ إرشاديّ، ونحن دائماً نقول ـ كما كان أيضاً الشّهيد السيّد محمّد باقر الصدر رحمه الله يقول ـ إنّ دور آدم وحوَّاء في الجنة هو دور حضانة، حيث إنّ الله سبحانه وتعالى خلق آدم وحوَّاء من دون تجربة، لأنهما في عالم الخلق لم يصطدما بشيء، ولم يدخلا في أيِّ تجربة، هذا أولاً. وثانياً: إنَّ الله خلق آدم للأرض، ولم يخلقه للجنة، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً( )، فهو من الأساس قد أُعدّ ليعيش في الأرض. وثالثاً: عندما تمرَّد إبليس على الله تعالى في امتناعه عن السجود له سبحانه تحيةً لآدم، وتعظيماً لهذا الخلق، ولهذا المخلوق، فإنه سبحانه تعالى أيضاً أخرجه من الجنَّة، حيث قال تعالى: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ( ).
فالمفروض في حكمة الله سبحانه أن ينزل آدم(ع) إلى الأرض، والمفروض أن ينـزل إبليس معه، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يدخل آدم في دورة تدريبية، فالنبي آدم(ع) إنسان طيِّب، لا يتصوَّر أنَّ هناك مخلوقاً يكذب، أو يقسم بالله تعالى كذباً، أو يغشّ، أو يخدع، فإذا لم تكن عنده هذه التجربة، فينـزل إلى الأرض، ويخدعه إبليس في موضع المسؤولية، والجنة ليست موضع المسؤولية، ولذلك فإن هذه الأوامر والنواهي يسمّيها العلماء بالأوامر الإرشادية، مثل أوامر الطبيب، عندما يقول لك: لا تشرب من هذا الشراب، ولا تأكل من هذا الطعام، ولا تعرِّض نفسك للهواء، فأنت تقول: أنا عصيت الطبيب وظلمت نفسي. فليس المقصود بقوله تعالى: فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ جانب المعصية في الظلم، التي يستحقُّ بها الإنسان العقاب، ولكنها معصية لأمر النصح، الأمر الإرشادي، لأن الله سبحانه وتعالى أراد لآدم(ع) أن يأخذ بهذه التجربة، فيدخل في هذه المسألة عندما وسوس إليه الشيطان، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ * فَدَلاّهُمَا بِغُرُورٍ( )، فقال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا( )، ليس عنده قوَّة، لأنه لم تكن عنده تجربة في هذا المقام. ولذلك نقول: لم يكن الموقع في الجنة لآدم وحواء موقع التكليف الذي يستتبع العقاب، ولكنه كان موضع التدريب، وموضع الحضانة، كما هي الحضانة للولد، والرعاية له، والتدريب على أن يفعل كذا، ولا يفعل كذا، وما إلى ذلك، والله العالم.
القلب في القرآن الكريم:
* قرأت في بعض الكتب أنّ الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن على قلب رسول الله(ص) في ليلة القدر، والسؤال: ما المقصود من كلمة (القلب)؟ وهل هو القلب المادي الموجود في الصدر أم القلب المعنوي؟ وما هو القلب المعنوي ؟
- المقصود من (القلب) في القرآن هو العقل، أو المنطقة الداخلية للإنسان، كما قال تعالى: لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ( )، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا( )، فالمراد من (القلب) في أكثر من تعبير قرآني هو العقل.
أمَّا قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ( )، فمختلف فيه، فبعضهم يقول إن الله سبحانه وتعالى أنزل أوَّل القرآن في ليلة القدر، ولم ينـزّل كل القرآن فيها، وسورة (القدر) التي فيها آية إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ هي من القرآن، والله يتحدث في سورة (القدر) عن الإنزال، بمعنى أنّ الإخبار لا بدّ أن يسبقه المُخبَر به. ثم إن كلمة (القرآن) قد يطلق على الآية، وقد يطلق على السورة، وقد يطلق على القرآن كله. والبعض يتحدّث عن الإنزال في ليلة القدر جملةً واحدة، وعن التنـزيل التدريجي، وقد تعرّض العلماء لذلك في أكثر من مجال.
الانتصار للأنبياء(ع):
* قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ( )، ما معنى هذه الآية، حيث إن الكثير من الأنبياء ماتوا وهو مظلومون؟
- يعني نصر الرسالة، بمعنى أن رسالتهم لن تموت، وستبقى حتى لو ماتوا، والله العالم.
خلق القرآن:
* ما معنى حديث الإمام الرضا(ع): ((القرآن ليس بمخلوق ولا خالق)) ؟
- ربما المقصود ليس بمخلوق من قبيل المخلوقات الأخرى، وإلا فمن المعلوم أن القرآن خلقه الله تعالى، حيث إنَّ الله خلق هذا الكلام، كما خلق الأشياء، ولكنه يختلف في سنخ خلقه عن سنخ الخلق الآخر، والله العالم.
الإكراه على العقيدة:
* إنَّ حكم المرتدّ عن فطرة هو القتل، أليس هذا الحكم يخالف قوله تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ( )، ولقد نفى الإسلام الإكراه في الدين في هذه الآية ؟
- هذا ليس إكراهاً في الدين، ولكنه حدُّ من حدود الله تعالى. ثم هناك نقطة يجب أن تُعرَف، وهي أن المرتدَّ عن فطرة يُطلب منه إيضاح سبب ارتداده، فإذا كان ارتدادٌ عن شبهة، فإن العلماء يعملون على إزالة هذه الشبهة، وعليه، فإنما يجري عليه الحدّ، لا لكي يسلم، بل لتمرّده على الحقيقة الإسلاميّة بعد قيام الحجّة عليه بشكل مقنع، الأمر الذي قد يسيء إلى النظام العام في الواقع الإسلاميّ كلّه، بما يبعث الشكّ في الدين نفسه. أما الإكراه في الدين، فالمقصود أن الله سبحانه وتعالى أقام الحجة على الناس، وقال: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ، أي لا مجال للإكراه بعد، لأن الإكراه إنما هو بالنسبة للشيء الذي لم تقتنع به، ولكن إذا كان الرشد قد تبيّن من الغيّ، فليس هناك إكراه، مثلما يقول لك أحد ما: إن الشمس طالعة، فتقول: لا ليست طالعة، فهذا لا يقال له إكراه، باعتبار وضوح الفكرة في هذا المجال. فالمرتدُّ عن فطرة هو إنسان عاش الإسلام، أو عاش جوّه ـ كما هو المفروض ـ أو أن الإسلام يقيم عليه الحجَّة، إذا لم تكن قد قامت عليه الحجة، فالمسألة أنّه إنما يقتل لإصراره على الإنكار، وذلك بعد استنفاد كل الوسائل التي تقيم عليه الحجة، لأن إنكاره يكون مخالفاًً لدائرة النظام العام للإسلام.
بيت العنكبوت:
* يقول سبحانه وتعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ( )، مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا( )، فما هو وجه الشبه بين بيت العنكبوت ومن لم يتخذ ولياً؟
- بيت العنكبوت يمثِّل هذه الخيوط الدقيقة التي من الممكن جداً أن تتمزَّق بمجرد أن ينفذ أيّ شيء إليها؛ فهي ضعيفة ليس لها قوَّة، وليس لها أيّ ثبات. كذلك الأولياء الذين يتّخذهم الإنسان من دون الله تعالى، فهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً، ولا يملكون للناس أيضاً نفعاً ولا ضراً.
كتمان الشهادة:
* قال سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ الله( )، فما هو المراد هنا من الشهادة التي كُتِمت ؟
- هذه الآية واردةٌ في سياقِ الحديث عن الأنبياء، والمقصود هو كتمان ما يعلمه من شؤون الرسل والرسالات؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى تشويه الحقيقة، وتزييف الواقع، وإيقاع النَّاس في الضلال، وهو من أبشع أنواع الظلم؛ لأنّه يسلب الإنسان حقّه في وعي الحقيقة الرسالية التي تتوقّف عليها استقامة الإنسان في حياته. وقد نستوحي منها، أنّ الشهادة هي أمانة الله للناس عند الشاهد، باعتبار أنّها تتّصل بالجانب الإيماني تارةً، والحقوقي أخرى، والمسؤوليّات المرتبطة بالتزاماته في الحياة بما يتعلّق بنفسه وبالآخرين على مستوى نتائج الدنيا والآخرة، وهذا ما عبّرت عنه الآية ولا تَكْتُمُوا الشهَادةَ ومَنْ يَكْتُمْها فَإنَّهُ آثمٌ قَلْبُه.
القول الثقيل:
* قال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً( )، ما هو المراد من (قَوْلاً ثَقِيلاً) في هذه الآية الشريفة ؟
- القول الثقيل هو تكليفه بالرسالة، والدعوة إلى الإسلام، والانطلاق إلى المجتمع، ليصدم مواقع الشرك بالتوحيد، وبكل ما يتصل به من الرسالة، والذي يحمّله الكثير من الجهد من خلاله.
السهو والبخل:
* يقول الله تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، ما هو المقصود من السهو في الصلاة؟ وما هو الرابط بين السهو ومنع الماعون ؟
- يعني أنهم لا يقومون بأصولها في الإخلاص سبحانه وتعالى، والسير حسب ما افترض الله فيها من الإخلاص، ومن التوجّه، وأن لا يكون الإنسان مرائياً، ولذا قال تعالى بعدها: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ، أي يصلُّون رياءً، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ( )، أي يمنعون المعونة للناس الآخرين، باعتبار أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
الفرق بين الوحي والقرآن الكريم:
* ما هو الفرق بين الوحي والقرآن الكريم ؟
- القرآن الكريم هو وحي الله، أوحاه الله تعالى إلى محمد(ص)، ويمكن أن يوحي له بغير القرآن.
هداية النفس والآخرين:
* كيف نوفِّق بين الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ( )، والآية الكريمة: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ( )؟
- لا تنافي بين الآيتين. فالآية الأولى تقول، إنك لن تحاسب على عمل الآخرين، بل تحاسب على عملك. فلو كنت إنساناً مهتدياً تقوم بكلِّ مسؤولياتك أمام الله سبحانه وتعالى، وكان أبوك، أو كان أخوك أو كان ولدك، أو قريبك، ضالاً، فإن ضلاله لا ينعكس سلباً على هداك، بحيث يضر هداك، لأن المسؤولية في الإسلام فردية، قال تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى( )؛ هذه واردة في مقام بيان أن الإنسان لا يتحمَّل مسؤولية خطيئة غيره، مهما كان غيره قريباً أو بعيداً.
أما الآية الأخرى، فهي تتحدَّث عن مسؤولّياتك تجاه الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ. ولذلك فإنّ عليك أن تدعو أقرباءك الذين هم على ضلال، إلى فعل الخير، فإذا لم يقبلوا منك، وبقوا على ضلالهم، فإن ذلك لا يضرك، ما دمت قمت بواجبك في هذا المجال.
البشرى بالعذاب:
* قال تعالى: بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا( )، وفي قوله تعالى: وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( )، كيف يستبشر المرء بالعذاب من الله تعالى؟
- هذا كلام فيه نوع من السخرية، لأن المنافقين الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، كانوا يتصوَّرون أنهم سوف يحصلون على ربح وعلى خير، فيقول لهم: هذه هي البشارة التي تنتظرونها من خلال سلوككم، وهي العذاب الأليم.
ضلال اليهود:
* قال تعالى: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ( )، قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا( )، لم عدّ بني إسرائيل أنهم ضلُّوا مع أنهم كفروا بالله وعبدوا صنماً؟
- ليس معناه أنهم عبدوا الصنم، أو أنه أراد لهم أن يعبدوه، لأنهم بقوا على إيمانهم بالله سبحانه وتعالى، وعلى انتظارهم النبي موسى(ع)، ولذا عندما جاء النبي موسى(ع) خضعوا بين يديه، وخشعوا، هذا بالرغم من أنّ الكفر هو قمّة الضلال، ما يجعل عنوان الضلال صادقاً عليهم، بالإضافة إلى عنوان الكفر.
الأنبياء بين الموت والخلود:
* قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ( )، ما تأويل هذه الآية وحقيقة بقاء الخضر(ع)، والعبد الصالح، والسامري، قبل النبي محمد(ص)، والإمام المهدي بعد الرسول الكريم(ص)؟
* هؤلاء سوف يموتون أيضاً، فإن الخضر(ع) ـ كما يقولون ـ شرب ماء الحياة، ولكنّه في نهاية الأمر سوف يموت، وكذلك الإمام المهدي (عج). قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ( )، والخلد الوارد في تلك الآية بمعنى عدم الموت أصلاً، فلا يوجد تنافٍ بين الأمرين.
العدل والزواج:
* قال تعالى في سورة (النساء): وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً( )،.فما هو الربط في هذه الآية بين القسط في اليتامى والزواج؟
- هناك عدّة وجوه ذكرها المفسّرون في تفسير ذلك. والأولى من هذه المعاني هو أنّ القوم كانوا يخافون الإثم في أموال اليتامى، أي أن لا يعدلوا فيها، ولا يخافون في النساء أن لا يعدلوا فيهنّ، فقيل لهم: كما خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى، فكذلك خافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهنّ، ولا تنكحوا منهنّ إلا من واحدة إلى الأربع، ولا تزيدوا على ذلك، وإن خفتم ألا تعدلوا أيضاً في الزيادة على الواحدة، فلا تنكحوا إلا واحدة، والله العالم.
صمت القرآن:
* إن القرآن الكريم هدىً للمتقين وهدىً للناس، فكيف يهدي القرآن بالرغم من أنه صامت غير ناطق(*)؟
- القرآن الكريم يهدي من يقرأه، باعتبار أن الإنسان إذا قرأ القرآن فإنه يجد فيه الهدى، وكلّ الهدى، لأنه يشتمل على الحق كل الحق، لا بمعنى أنه يهدي بوجوده، بل هو يهدي بمضمونه، وبمعانيه، وبمنهجه، وبأساليبه.
عقوبة جريمة القتل:
* كيف نوِّفق بين أنَّ الله يغفر الذنوب جميعاً إلا الشرك بالله، وبين أنَّ من قتل نفساً فجزاؤه نار جهنّم خالداً فيها؟
- ليس هناك تنافٍ بينهما، لأنَّ هذه تقول: جزاؤه جهنم خالداً فيها، أي أنه يستحقُّ العقوبة، لكنها لا تنفي أنّه يمكن أن يعفو الله تعالى بعد ذلك، من قبيل المجرم الذي يستحقُّ العقوبة من قبل القانون الذي يفرض عليه، ولكن من الممكن أن يصدر بحقه عفو، وهذا موجود عندنا حتى في الواقع المدني، أنه في يوم العيد، أو يوم كذا…، يتم العفو عن بعض الأشخاص، هنا أيضاً كذلك. فهناك فرق بين ما يستحقّه الإنسان على بعض المعاصي وبين جانب التنفيذ، فجانب التنفيذ شيء، وجانب الاستحقاق شيء آخر، كقوله تعالى: إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا( )، إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ( )، بمعنى أنَّ الله قد يعفو عن الإنسان الذي يستحقُّ العقوبة، فلا يوجد تنافٍ بين الاثنين.
ألفاظ غامضة:
* ما معنى قوله تعالى في سورة (الرحمن): مُدْهَامَّتَانِ( )، ذَوَاتَا أَفْنَانٍ( ) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ( )؟
- مدهامّتان: يعني ملتفّان، يعني الشجر يلتفّ بعضه على بعض. ذواتا أفنان: الأفنان: الأغصان. سنفرغ لكم أيّها الثقلان: الثقلان: هما الجنّ والإنس.
المرض النفسي:
* جاء في الآية الكريمة في سورة (البقرة): فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ الله مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ( ). نحن نعلم أن الباري تعالى هو محض الخير، فكيف يزيد المريض مرضاً، والمؤمَّل منه أن يساعد المريض في الخروج من مرضه؟ حبَّذا لو توضحون لنا ذلك؟
- المقصود في قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ باعتبار أنهم هم اختاروا ذلك، وهو الكفر أو النفاق، وقوله تعالى: فَزَادَهُمْ الله مَرَضًا، لأنهم عندما اختاروا المرض أصرَّوا عليه، والإصرار على الامتداد في المرض يزيد المرض بصورة طبيعية، فنسبة الزيادة إلى الله تعالى، ليس بمعنى أن الله وضع الزيادة في المرض بشكل مباشر، وإنما معناه أن القانون الذي خلقه الله سبحانه وتعالى في الإنسان، هو أنَّ الإنسان إذا أصرَّ على السيّئة وأصرَّ على التمرُّد والضلال، فإنَّ من الطبيعي أنه سوف يمتدُّ بالضلال بشكل طبيعي في هذا المجال، فنسبة زيادة المرض إلى الله تعالى، باعتبار أنَّ الله سبحانه هو الذي خلق القوانين في علاقة السبب بالمسبّب.
المؤمن في القرآن:
* ما المقصود من كلمة (مؤمن) في القرآن الكريم، هل هي بمعنى (المسلِم) أو (الإمامي)؟
- المقصود بها المسلم الذي اعتقد بالإسلام في قلبه، قال تعالى: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ( ).
معنى (سقر):
* قال تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، ما معنى كلمة (سَقَرَ)؟
- هذه الآية الكريمة وردت في سياق حوار بين المؤمنين وغير المؤمنين، وهو قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ، وهم المؤمنون الذين آمنوا بالله تعالى، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، قال تعالى:فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ الْمُجْرِمِينَ، وكلمة (سقر) هي وادٍ من أودية جهنّم. المعنى: لقد كنتم أصحابنا وجيراننا، وكنا نعيش معكم على صعيدٍ واحدٍ، فلماذا أنتم في هذا الوادي من جهنّم ونحن في الجنّة قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وكلمة (المصلين) لها معنيان، الأوَّل هو أننا لم نكن من المسلمين، لأن هوية الإنسان المسلم هي الصلاة، فالإنسان الذي لا يصلي لا يعيش سر إيمانه، لأن ((الصلاة عمود الدين، إنْ قبلت قُبِل ما سواها، وإن رُدَّت ردّ ما سواها))، وهناك معنى ثانٍ، وهو لم نكن نصلّي لربنا، لأننا كنا لا ننفتح على ربنا، ولا نتقيه، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وأيضاً لم نلتزم بأمر الله سبحانه وتعالى، في ما أمرنا به من إطعام المسكين، وفي ما فرضه من الفرائض المالية، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وكنا نتحرّك من دون أن تكون لنا قاعدة نرتكز عليها، بحيث نقف عندما يريدنا الله أن نقف، ونتحرك عندما يريدنا الله تعالى أن نتحرك، بل وكنَّا نخوض في المياه الموحلة القذرة التي كان يخوض فيها الناس، كنايةً عن أنّنا ننطلق مع الأحاديث والتيّارات والاتجاهات التي يخوض فيها الناس على طريقة (حَشْرٌ مع الناس عيد)، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، فلم نكن نؤمن بالآخرة، ولذا لم نستعدّ لها، إلى أن تقول الآية الكريمة: حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ( ).
موادّة الكافرين:
* قال تعالى: لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ( )، فما هي حدود هذه الولاية، إذا كان لها حدود؟
- أن تودّه، يعني أن تكون منفتحاً على هذا الإنسان بحيث تودّ عقله، وتودّ قلبه، وتودّ حياته السائرة في طريق معاداة الله سبحانه وتعالى، وهذا يعني أنك تعيش هذه الانحرافات التي يعيشها هذا الإنسان.
اختلاف التعبير القرآني:
* ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، وفي مسألة خلق الإنسان في بعض الأحيان، مصطلح(الصنع)، وفي بعض الأحيان مصطلح (الخلق). فما الفرق بينهما؟ وما معنى (الصنع) و (الخلق) في القرآن الكريم؟
- لا يوجد فرق، فكلمة (الخلق) وكلمة (الصنع)… كلّها كلمات يقارب بعضها بعضاً، فالله خلق الإنسان، وهو صنع الإنسان، ولذلك لا يوجد فرق بين المعنيين في ما يريده الله تعالى من إيجاد الإنسان أو إيجاد الكون كلّه.
التّرخيص القرآني:
* قال تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( )، يستند البعض على آخر الآية الكريمة، فيقول: إن الله تعالى أطلق الإفطار رخصةً منه ورحمة، وأخبر أنه لمن صام ولم يفطر فضيلة، فما رأيكم ؟
- أوَّلاً: بالنسبة إلى حكم الإفطار، فإنه جاء على نحو الإلزام، قال تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، يعني يجب عليه أن يفطر في مقابل قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ( )، يعني من كان حاضراً.
أما قوله تعالى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ فهناك تفسيران: الأوَّل: أنَّ الصيام خير لكم في مقام بيان إيجابية الصوم، والثاني: أن قوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ يعني بمشقة، مرتبط بما بعده، وليس تابعاً لما قبله. وربّما كان المراد منها ـ بقرينة السياق ـ أنّها خطاب للذين يُجهدهم القضاء، فتباح لهم الفدية، لإعلامهم بأنّ الفدية وإن كانت جائزة، إلا أنّ الصوم خير لهم إن كانوا يعلمون، لما فيه من النتائج الروحية والعملية.
آجال النَّاس:
* قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ( ). هل المقصود بالأجل الأوّل في الآية آجال الناس، والأجل الثاني موعد يوم القيامة؟
- قال بعضهم إن الأجل الذي قضاه الله هو الموت، وأما الأجل الذي عنده، فهو يوم البعث الذي لا يعلمه إلاّ الله تعالى، والذي لم يجعله حتى لرسوله، ولكن الأقرب أن الأجل المسمَّى هو المحدَّد في علمه الموجود في اللوح المحفوظ، والذي قضاه، هو العمر الطبيعي المحدَّد للإنسان والممتدّ بالشروط الموضوعية، من حيث الزمان والمكان، فإذا تحقَّقت له امتدَّ به العمر إلى النهاية، وإذا لم يتحقَّق له انقطع به العمر بانتفاء شروط الحياة.
القراءات السبع:
* هل القراءات السبع للقرآن الكريم الموجودة عند السُنّة معتبرة عندنا نحن الشيعة؟ وهل يجوز القراءة بها في الصلاة وغيرها؟
- هذه المسألة محلُّ نقاش في كون هذه القراءات السبع متواترة أم لا، بمعنى أنها قطعية، وأنها واردة من قبل النبي(ص)أم لا؟ ولذلك فإن البعض يناقش حجيتها.
علم النبي(ص) بالغيب:
* ما المراد من قوله تعالى: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ( )، هل المراد منها أن النبي لا يعلم الغيب، وإذا كان المراد كذلك، فكيف نعتقد أن النبي يعلم الغيب؟
- أساس العقيدة عندنا هو القرآن، والقرآن يقول: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ( ). فالله وحده الذي يعلم الغيب ويملك مفاتحه بذاته ولا يعلمه غيره. وقد يعطي الله سبحانه وتعالى النبي بعض المغيّبات، لا أن يجعله إنساناً عالماً بالغيب، حيث يوجد فرق، وقد جاء في القرآن على لسان النبي(ص): وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ الله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ، وقال تعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ( ) ، قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( )، فالنبي(ص) لا يعلم الغيب في ذاته، ولم يمنحه الله ملكة ذلك. نعم، قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا( )، يعني لا يطلع على غيبه أحداً إلا ما قد يمنحه معرفته من مفردات الغيب، ولا يعني أن يكون النبي عالماً بالغيب في ذاته، لأن العلم بالغيب يستقلُّ به الله سبحانه وتعالى، والقرآن هو أساس العقيدة. فهذه هي العقيدة الحقّة في خطّ التوحيد.
عرش اللّه:
* هل لعرش الله تعالى المذكور في القرآن الكريم وجود مادي، كما نسمّي الكعبة بيت الله، أم أن وجوده معنوي، أم يؤول ذكره في القرآن الكريم بتأويل آخر؟
- في العقيدة الإسلامية، الله سبحانه وتعالى ليس مادََََة، وليس جسداً، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ( )، وقال تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ( )، ولذلك أوّل العلماء ما ظهر ـ بدواً ـ من هذه الآيات من معنى التجسيد، وهذا ما جاء أيضاً في الأحاديث الشريفة. وما يظهر من بعض الآيات، كما في قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ( )، وقوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا( )، وقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ( )، وأيضاً: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ( )،و يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ( )، فهو على نحو الاستعارة، فاليد وسيلة للعطاء أو رمزٌ للقوة، كما في قوله تعالى: يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، و بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ( ) في مقام الردّ على اليهود الذين يقولون إنّ يد الله مغلولة، باعتبار اليد هي آلة العطاء، والوجه هو ذات الله، كما في قوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لأنه يعبِّر عن الذات بالوجه، كقوله أنا جئت بوجهك، ولا يراد منها قطعاً الجسد، بالإضافة إلى قوله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله( )، ليس بمعنى أن الله سبحانه وتعالى موجود جسداً في كل مكان، ولذا نقول إن آية (وسع كرسيه السموات والأرض)، ليست بمعنى أنّ الله تعالى عنده كرسي بمقدار السموات والأرض، بل باعتبار أن الكرسي مظهر لكرسي المملكة، وهي كناية عن الملك، وكناية عن السلطة، والله العالم.
الآية المحكمة:
* قال تعالى: إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ( )، هل هذه الآية الكريمة من المحكمات؟
- نعم، هي آية كريمة واضحة وظاهرة، وليس فيها أي لبس، ومعناها أن الشيء الذي لا يغفره الله تعالى هو الشرك به، أما غير الشرك به، فمن الممكن أن يعفو الله تعالى عن كل من عصاه. وقد بينّا مراراً أنّ العقوبات التي يتحدَّث عنها الله سبحانه وتعالى، أو يتحدث عنها النبي(ص) في سنّته، كما في قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا( )، فإنها تتحدَّث عن جانب الاستحقاق، بمعنى أنّ المادَّة القانونية التي تسجَّل عليه هي أنه يستحق الخلود في النار، ولكن ربما تدركه رحمة الله بعد ذلك، أي أن عالم الاستحقاق شيء، وعالم التنفيذ شيء آخر. وهذه الآية الكريمة واردة في عالم التنفيذ، لا في عالم الاستحقاق.
التعدّدية في القرآن:
* قال تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ( )، أشارت الآية الكريمة إلى التعدّدية في الرأي، والانفتاح على الرأي الآخر، وهذه القيم هي من صلب الإسلام، ولكن لماذا لا نرى هذه القيم في الخطاب الديني المعاصر؟
- الإسلام يعترف بالآخر، ولذا قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ( )، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( )، وركّز على الانفتاح كأساس للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فيدعو الإنسان إلى أن يستمع إلى الآخر، وأن ينفتح على ما عنده، ليجادله ويناقشه في ذلك. أمّا لماذا لا نرى هذه القيم في الخطاب الديني المعاصر؟ ففي الحقيقة، ليس هذا السؤال دقيقاً؛ فهناك البعض من المنفتحين الذين يعيشون الإسلام للحياة، وهم يطرحون هذه المفاهيم، وفي المقابل، تجد البعض الآخر من الناس لا يعيشون أصالة الإسلام، ولا واقعيته، ولا يعرفون كيف يقارنون بين نص وآخر، ومن الطبيعي أن لا يفهم هؤلاء القيم الإسلامية، في شموليتها، وتوازنها، من خلال المقارنة بين نصٍ وآخر، وبين مفهوم وآخر.
المناسبة بين الزواج والأيتام:
* قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ( )، كيف نربط بين هذه الآية، وما سبقها من جواز تعدّد الزوجات، مع سياق الآية عن أكل أموال اليتامى؟
- لعلّ الأقرب من التفاسير التي يذكرها المفسّرون في هذه الآية، هو أنّ الناس كانوا يخافون الإثم من التصرّف في أموال اليتامى، ولا يخافون في النساء أن لا يعدلوا فيهنّ، فنـزلت الآية لتقول لهم: كما تخافون أن لا تعدلوا في اليتامى، فكذلك عليكم أن تخافوا الإثم في النساء إذا لم تعدلوا فيهنّ، ولا تنكحوا منهنّ إلا من واحدة إلى أربع، ولا تزيدوا على ذلك. وإن خفتم أن لا تعدلوا أيضاً في الزيادة على الواحدة، فلا تنكحوا إلا ما لا تخافون الإثم معه، والله العالم.
التفسير الموضوعي:
* لماذا لا يأخذ أغلب المفسّرين، بل معظمهم، بمنهجية التفسير الموضوعي التي بدأ بواكيرها السيد الشهيد محمد باقر الصدر رحمه الله؟
- التفسير الموضوعي هو أن تجمع كلَّ الآيات التي عالجت موضوعاً ما، لتعالج هذا الموضوع في كلِّ مواقعه في القرآن الكريم، لتخرج منه الفكرة الإسلامية الكاملة حول هذا الموضوع أو ذاك. والواقع أن هناك مفسرين سابقين على السيد الشهيد. فنحن كنا نقرأ عن التوحيد للشيخ محمد عبده رحمه الله، وكذلك نقرأ ما كتبه عباس محمود العقاد في كتبه (المرأة في القرآن)، و (الإنسان في القرآن) وغيرهما، وقد كتبتُ في سنة 1380 هجرية كتاباً بعنوان (أسلوب الدعوة في القرآن)، وبعده (الحوار في القرآن)، وغيرهما. وهناك مفسِّرون كثيرون ممن اختاروا البحث في الموضوعات الإسلامية من خلال الآيات في القرآن الكريم. وهو منهج مهم جداً، ولكن، في الوقت نفسه، نحتاج إلى التفسير الذي يعتمد شرح الآيات؛ لأن هناك آيات كثيرة تتحرك في أكثر من جانب من الجوانب التي قد لا يجمعها موضوع معيّن. فنحن بحاجة إلى التفسير الموضوعي المنهجي، كما نحن بحاجة إلى تلك التفاسير الأخرى. ولعل الذين أخذوا بالتفاسير الموضوعية، اعتمدوا في ذلك على الثقافة التي حصلوا عليها من خلال التفاسير العادية.
التعبير بـ(لعلّ) في القرآن:
* يقول الله سبحانه وتعالى: وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( )، لماذا جاءت هنا كلمة (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، ألا يغفر الله تعالى بعد التوبة ؟
- هنا تأتي كلمة (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) في أكثر من مورد في القرآن الكريم، فقد تأتي لبيان النتيجة، ولكن التعبير بكلمة (لَعَلَّكُمْ) يجعل الإنسان يحتاط في التوبة؛ لأن من الممكن جداً أن يتوب الإنسان توبة قد لا تستكمل عناصرها في كثير من الجوانب. لذا فهو نوع من أنواع الاحتياط في سلامة التوبة، ونقائها وإخلاصها، ولذلك يبقى الإنسان بين الخوف والرجاء في هذا المجال، والله العالم.
معنى الحمد:
* هل الحمد في بداية سورة الفاتحة تعني تمام الكمال، وتمام النعمة، وتمام الرضا، وبالتالي هي تمام الهداية؟
- طبعاً، فالله سبحانه وتعالى هو الكمال كله، لأنه سبحانه وتعالى هو الكامل في ذاته، والعظيم في ذاته، ولذلك فإن كلمة (الحمد) عندما تنسب إلى الله سبحانه وتعالى، فإنها تعني مواقع الحمد كلّها في خطوطه كلّها، وفي مفرداته كلّها.
زمان إيمان لوط(ع):
* يلاحظ في سياق قصة النبي إبراهيم(ع)، أن النبي لوط(ع) آمن بعد نجاة إبراهيم(ع) من النار، فهل هذا الاستنتاج صحيح ؟
- ليس بالضرورة أن يكون الأمر كذلك؛ فالتعبير في قوله تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ( )، (آمن) بمعنى اتبعه، وسار معه في هجرته، وما إلى ذلك. ولعل المسألة ما بين النبي لوط(ع) وبين النبي إبراهيم(ع)، أن لوطاً(ع) هو نبي من خلال إبراهيم(ع)، يعني إذا كنا نريد أن نعبر بالتعابير الحزبية المعروفة، (فإن إبراهيم(ع) هو مسؤول لوط(ع))، مثلاً، ولذلك عندما جاءت الملائكة ليعذبوا قوم لوط، مرّوا على إبراهيم(ع)، وإلا لماذا لم يأتوا إلى لوط(ع) مباشرة؟ ويبدو أنّهم إنّما فعلوا ذلك، والله العالم، لأنهم أرادوا أن يستأذنوا إبراهيم(ع) في تعذيب قوم لوط(ع)، ولذلك نقرأ في قوله تعالى في الحديث عن إبراهيم(ع): يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ( )، أي أنه كان يجادل في مقاتلته؟ وكيف تقلبون القرية كلها وفيها لوط(ع) وفيها أولاده، قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ( ).
نزول الرسل بالرجس:
* قال تعالى: إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( . فهل الرسل هم الذين ينزلون الرجز من السماء، حيث لم يشر هنا إلى أن ذلك يتم بإذن الله تعالى؟ وما هي الآية البيّنة التي تركها الرسل ؟
- المراد من الرسل، الملائكة الذين يُنزلهم الله تعالى بالعذاب الذي يعذبون به هذه القرية أو تلك. وأما معنى الآية البيّنة، فذلك لأن الله تعالى عندما عذب قوم لوط، بقيت هذه الأرض على ما كانت عليه من العذاب، ولهذا كان الناس يمرون عليها ـ لأنها كانت في الطريق ـ ويرون الآية البيّنة في عذاب الله للقوم الذين كانوا يفسقون، والله العالم.
عموم الفتنة:
* قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً( )، بينما يقول عز وجلّ في آية أخرى ما معناه أنه ينجي المؤمنين من البلاء، فلماذا في الآية الأولى ستصيب الفتنة الظالمين والمؤمنين معاً، بينما في الآية الأخرى وعد المؤمنين بالنجاة ؟
- ثمّة فرق بين الآية الأولى والآية الثانية. أما الآية الأولى، فهي تقول إن هناك الكثير من الفتن التي تعيش في المجتمعات، وهي عندما تنزل، تشمل بحسب طبيعتها المجتمع كله، فمثلاً، عندما تحصل أمطار غزيرة وعاصفة، فإنها قد تصيب الإنسان المؤمن وغير المؤمن، لأنَّ طبيعة نزول المطر يقتضي ذلك. وعندما تحدث الفتنة في المجتمع، بحيث يتحرك من خلال الذين يعبثون به لتنتشر الفتنة بين الناس، ليقتل المجرم البريء، وعندما لا يعيش المجتمع حالة الاستقرار، فإن ذلك يشمل الذين ينطلقون بالفتنة، أو الذين يخضعون لأوضاعها، وهكذا الزلازل، والبراكين، والفيضانات، وما إلى ذلك، سواء كانت الفتنة فتنة طبيعية، أو كانت مسألة إنسانية.
إنّها الدعوة لأن يواجه المؤمنون المشاكل الفردية والاجتماعية الناشئة من بعض الانحرافات الفكرية والعملية التي تؤدي إلى نتائج سلبية في حركة الحياة، وذلك بالتعامل معها من موقع المسؤوليّة العامّة الواعية للقاعدة الاجتماعية التي تحكم مسيرة المجتمع في سلبياته وإيجابيّاته، فلا تقتصر في تأثيراتها على الناس الذين يقومون بها، بل تمتدّ إلى كل أفراد المجتمع؛ لأنَّ علاقات الناس ومصالحهم متشابكة. ولعل هذا هو ما عبر عنه الحديث: ((لتأمرُنّ بالمعروف، ولتنهُنّ عن المنكر، أو ليُسلّطنّ الله شراركم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم)).
أما بالنسبة إلى الآية الثانية فهي في مقام بيان أن الله عز وجل قد ينجي عباده من بعض البلاء، وليس معناه أن الله تعالى تكفّل بأن الإنسان المؤمن لا يمرض، وأنه لا يموت أيضاً. فهذه الآية تعالج جانب رحمة الله سبحانه وتعالى الذي اقتضت حكمته أن ينجي المؤمن من البلاء عندما يدعو المؤمن ربه. أما تلك الآية، فيريد الله تعالى أن يبيّن أنّ بعض الفتن قد تصيب المجتمع كلَّه، سواء كان المجتمع مؤمناً أو غير مؤمن.
عبوس النبي(ص):
* لقد فسَّرتم قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى( )، بأن العابس هو الرسول(ص)، فكيف يمكن ذلك، وقد وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه على خُلق عظيم؟ وإذا وصفه بهذه الصفة، فكيف عاتبه بعد ذلك؟
- لا بدّ لمعرفة وجه الآية الكريمة من أن يقرأ الإنسان السورة كلّها، في ما يتّصل بالآية، وخلاصة الجواب:
أوَّلاً: العبوس على قسمين، فهناك عبوس الاحتقار، وهناك عبوس المضايقة، فإذا جاءك ابنك مثلاً أو أخوك، أو زوجتك، وقطع عليك حديثك، ألا تتقلص عضلات وجهك طبيعياً؟ وهذا ليس احتقاراً، وإنما هو نوعٌ من المضايقة، لأنه قطع عليك كلامك.
ثانياً: إن الذي عبس النبي(ص) في وجهه، لأنه قطع عليه كلامه، هو أعمى لا يرى (ابن أمّ مكتوم)، ولذا يقول السيد المرتضى رحمه الله، إنَّ هذا لا يؤدي إلى إيذاء الشخص.
ثالثاً: إن (ابن أمّ مكتوم) هذا كان قريباً إلى النبي(ص)، بما نعبر عنه هذه الأيام أنّ بينها وحدة حال، لأنه كان يدخل على النبي(ص)، والنبي جالس مع زوجاته، حتى يروي الرواة أنه دخل على النبي(ص) وعنده بعض زوجاته، فقال: احتجبا، قالا: يا رسول الله: إنه أعمى، قال: أفعمياوان أنتما؟! وقد استخلفه النبي(ص) على المدينة، عندما غاب عنها مرةً.
وعلى كلّ حال، فالحديث شاهدٌ على أنَّ هناك علاقة فوق العادة بينهما، وكان النبي(ص) يقول عندما يأتي: أهلاً بمن عاتبني فيه ربي، ممّا ذكره صاحب (مجمع البيان)، وكان يكرمه، حتى يضيق ويحرج بإكرام النبي(ص)، فكان يقول له: والله لا يعاتبني فيك ربي أبداً، والنبي(ص) لم يخطئ، ولكنه دخل على النبي(ص)، والنبي(ص) مشغول ببعض رجالات قريش في قضية تتعلق بالإسلام والمسلمين، فقطع عليه كلامه، فكأنه يقول له: هذا ليس وقتك، لك أن تأتي في وقت آخر، فأنت دائماً معي.
قد يقول قائل: ولكن لماذا عاتبه الله؟ والجواب: لقد عاتبه الله تعالى ليس لخطأ ارتكبه، بل إنَّ القرآن نزل بصيغة (إياك أعني واسمعي يا جارة)، يعني حتى يقول للناس إن النبي(ص) قام بذلك انطلاقاً من رسالته، ولكن أنتم عندما تبتلون بهذه الأشياء، فربما تمارسون المسألة باتجاه آخر، لا ينطلق من همّ الإسلام، كما هو حال النبيّ(ص).
أما إن بعضهم يقول إن هذه متصلة ببعض الشخصيات الأخرى، فإن سياق القرآن لا يناسب هذا المعنى، لماذا؟ لأنه يقول تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى( )، وهذا الأعمى جاء إلى الذي يزكي، فمن الذي يزكي؟ التزكية من صفات النبي(ص) أيضاً، ومن المذكِّر؟ قال تعال: إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ( )، وقال تعالى: هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأُمِّيّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلو عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكّيهِمْ( ). وعليه، فإن هذا الإنسان جاء إلى النبي(ص) الذي هو مذكّر ومزكٍّ.
هذا أوَّلاً، وثانياً، إن الشخص الذي يدّعى أن الآيات نزلت بحقه، كان من زوار النبي(ص)، فكيف يوجه الخطاب إليه؟ ولذلك نحن عالجنا هذه القضية في تفسير (من وحي القرآن)، بأكثر من أربعة عشر وجهاً في هذا المجال، وهناك علماء كثيرون يرون ذلك، فهي ليست على خلاف الأخلاق.
الكلمات غير العربية في القرآن الكريم:
* لماذا نجد في القرآن الكريم بعض الكلمات غير عربية، مع أنه تعالى قال في كتابه الكريم: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ( )؟
- أن ينزل باللّغة العربية والكلام العربي، ليس معناه أنّه يجب أن تكون كل الكلمات فيه عربية، فنحن ـ مثلاً ـ ألسنا عرباً؟ ولكن عندما نريد أن نقول مثلاً إن القضية الفلانية لا يسمح بها البروتوكول، أو أن تقول اليوم شاهدت التلفزيون، أو سمعت الراديو، وهذه كلمات غير عربية، ولكن الكلام عربي، يعني عندما تكون هناك بعض الموضوعات التي عُرِّبت ـ كما يقول بعضهم ـ مثل ((سندس)) و((استبرق))، وما إلى ذلك، فهذه كلمات عُرِّبت، ولذلك في العالم كله، ليس هناك لغة خالصة من كلِّ مفردات لغة أخرى في هذا المجال. ولذا، أن يكون الكلام عربياً، أي أن يكون سياقه عربياً، وأن تكون طريقة الكلام عربية، وليس أن تكون كل كلمة حتى في ما يتحدث فيه عن بعض المعاني التي عرِّبت كلماتها، أن تكون كلها عربية، ولذلك نرى في اللغة الفارسية كلمات عربية، وهكذا...
معنى القول الثابت:
* قال تعالى: يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ( ). ما المقصود بالقول الثابت؟
- القول الثابت هو الحق الذي يؤمن به الناس، والذي يتحركون في خطه، أو بما أوحى الله به إلى رسله، والله العالم.
معنى الممتحنة:
* ما معنى كلمة (الممتحنة) في القرآن الكريم؟ وما المقصود بها ؟
- يتحدَّث الله سبحانه وتعالى عن المؤمنات المهاجرات، اللاتي جئن من مكة إلى النبي(ص)، فالله سبحانه وتعالى قال استقبلوا هؤلاء المهاجرات وامتحنوهن، هل أنهن جئن إلى المدينة من جهة أنَّ عندهن مشاكل شخصية، أو أنهنّ هاجرن فراراً بدينهن، باعتبار أن المشركين كانوا يضغطون عليهن ليرجعن إلى الشرك، فامتحنوهن، والمراد من الامتحان أنه هل هنَّ مؤمنات أو لا؟ قال تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ( ).
الحجَّة على البشر:
* ورد في الحديث النبوي الشريف: ((لا تخلو الأرض من حجة))، وهو يوافق قوله تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ( ). فكيف تكون الهداية والحجة على العباد مع غياب وتواري الحجة عن الأعين؟
- صحيح، لو فرضنا أن المقصود الحجّة الشأنية، يعني الحجة المتوارية، ولكن هناك الذين يحملون تراث الإسلام من العلماء الذين عرفوا الإسلام، وأحكموه، وتدبّروه، وتثقَّفوا به، وعرفوا أيضاً تراث النبي(ص) وأهل البيت(ع)، وعرفوا القرآن الكريم، فهؤلاء يمثِّلون الحجة عن الحجة، ما يجعل للحجّة امتداداً فعلياً في التراث الإسلامي الشامل الذي يتوارثه العلماء ويبلّغونه للناس، إضافة إلى الألطاف الخفية التي يفيضها الله من خلال الحجّة في موقعها الشرعي على الناس.
أثر السّياق في تفسير القرآن:
* هل سياق الآية دخيلٌ في تفسيرالقرآن؟ وما هو حدوده؟ ومتى يكون ذلك؟
- الآيات على قسمين: هناك آيات تنزل في سياق واحد، كما قيل عن سورة (المائدة) أنها نزلت كاملة، أو في بعض السور، وهنا لا إشكال في أن السياق هو جزء من الظهور، كما أن ظهور اللَّفظ، في معناه اللغوي أو العرفي يمثل تأكيداً للمعنى، كذلك السّياق أيضاً يمثِّل أساساً لظهور اللفظ في المعنى، بحيث يمكن أن يكون قرينةً على التصرّف في كلمةٍ أخرى.
ولكن هناك بعض الآيات التي نزلت مفصولة عن السياق الذي وضعت فيه، كما في قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا( )، فالمفسرون، إما كلهم أو جلّهم، يقولون: إن هذه الفقرة من الآية (33) الأحزاب نزلت وحدها، وذلك عندما التفّ النبي(ص) مع علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) في الكساء، ولذلك فإنّ هذه الآية خاصة بهؤلاء، ولا تشمل زوجات النبي(ص). وقد تحدث المفسِّرون والمتكلمون، أنّ هذه الفقرة وضعت في الآيات التي تتحدث عن أزواج النبي، لمناسبتها لذلك، لأن النبي(ص) كان في بعض الحالات في ترتيبه للقرآن، يقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها آل عمران، أو يذكر فيها كذا وكذا، إذا كانت الآية من هذا القبيل بحيث نزلت مفصولة عن السياق ووضعت في السياق لمناسبتها. ومن الطبيعي أن لا تكون مثل هذه الآيات في تلك الموارد ظاهرة في ما يتصل بطبيعة ما وضعت فيه. وخلاصة الفكرة، أنّ السياق يمثّل قرينة فنّية في تأصيل عملية الظهور، إلا في ما ثبت بالنص القطعي أو الموثوق في انفصاله التنـزيلي عن السّياق.
التّفسير الحداثوي:
* هل يجوز لنا أن نفسِّر القرآن الكريم وفق المنهج الغربي للتفسير؟
- ليس معناه أن نفسِّره بحسب المنهج الغربي للتفسير، كما حدث أن وقع به البعض أخيراً، من أولئك الذين يعتمدون التأويل، وإن كان على خلاف منهج اللّغة العربية في التأويل، حيث إن للّغة العربية قواعد، حتى في حمل اللفظ على خلاف ظاهره، في المجاز والاستعارة والكناية، ولذلك لا بدّ للتأويل من قرائن تصرف اللفظ عن ظاهره. فنحن نحاول أن نفهم القرآن بحسب قواعد المنهج للغة العربية، التي قد تكون قابلةً للمناقشة في ما قد نكتشفه من أخطاء المنهج في بعض مواردها. وبعد ذلك، ليست المسألة مسألة تصنيف التفسير إلى تفسير غربي وتفسير شرقي.
الخطاب بالاستقامة:
* قال الله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ( )، لمن وجّه الخطاب؟
- الخطاب موجّه إلى النبي(ص)، وموجّه إلى الآخرين، ولا مانع من ذلك، فليس معنى قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ، أنه لم يكن مستقيماً، فقوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ، يعني ابقَ على خط الاستقامة الذي أنت عليه الآن، وليستقم من تاب معك في الخط، ولا ينحرفوا عنه، خصوصاً مع ملاحظة قوله تعالى: ومن تاب معك؛ لأن التوبة تفرض على الإنسان السير في خطها، وهو خط الالتزام بما أمر الله به ونهى عنه، وهذا هو خط الاستقامة.
وصف اللّه بالذكورة:
* قال تعالى: هُوَ الله الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ( )، لماذا يوصف الله تعالى بالذكورة؟
- توجد كلمات مذكرة لفظاً، ولكنها ليست مذكرة معنىً. كما أن عندنا كلمات مؤنثة لفظاً، لكنها لست ذات تأنيث معنوي. فكلمة (الله) سبحانه وتعالى مذكّرة، ولكنّها مذكّرة تذكيراً لفظياً، لا تذكيراً معنوياً، بينما في قوله تعالى: والشمس وضحاها( ). فالشمس هي مؤنّثة، لكنها مؤنث لفظي، وليس مؤنثاً معنوياً، فهناك تأنيث لفظي وتأنيث معنوي، وهكذا يوجد تذكير لفظي وآخر معنوي، ونفس كلمة (الله) هي بطبيعتها، تعبّر عن هذا المعنى.
التعبير بصيغة المضارع:
* قال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ( )،يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ( )، لماذا الفعل يكون مضارعاً في هذه الآيات الثلاث؟
- المعنى في وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ، أي كأن خُلقهم هو هذا. وعليه، فإنّ المضارع كما يستعمل في الحاضر، يستعمل في المستقبل، ألا تقول: فلان يأكل؟ وفلان يشتري، وفلان يستمع؟ لأن المضارع يستعمل في الحال وفي الاستقبال.
القوَّة والعلم:
* يقول الله تعالى: إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ( )، فهل هناك إمكانية لتعليم الطلبة الحوزويين الرياضة مع الدين(تعليم الشريعة)؟ كرياضة الجودو أو الكاراتيه مثلاً؟
- لا توجد مشكلة في ذلك، وهو ليس حراماً، ولكنهم يحتاجون إلى أمور أخرى أكثر من ذلك، والإسلام يشجع على ذلك، والله سبحانه وتعالى يحب (المؤمن القوي).
أسف يعقوب على يوسف:
* قال تعالى: وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ( )، متى ابيضَّت عيناه؟ هل بعد غياب يوسف (وحده)؟ أم بعد غياب يوسف وبنيامين؟
- هذا علمٌ لا ينفع من علمه، ولا يضرُّ من جهله؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يتحدَّث عن طبيعة تأثير هذا الغياب، وبالتحديد غياب يوسف، لأنه قال: يا أسفي على يوسف، ولم يقل على بنيامين.
الترابط بين الحديد والعدل:
* قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ( )، ما المغزى من ذكر الحديد في آية واحدة مع الكتاب والميزان والقسط؟
- في الفقرة الأولى، يريد الله تعالى أن يبيِّن أنَّ أساس الرسالات في ما أنزله الله سبحانه وتعالى من كتبه، وأساس الميزان الذي أراد الله للناس أن يزنوا به أمورهم، في ميزان الحق والباطل، هو إقامة العدل بين الناس، لأنَّ العدل هو الذي يبني للحياة وللإنسان التوازن، في الأمور الفردية والاجتماعية كلّها، وفي الخطط والمشاريع والعلاقات كلّها، فالحياة تقوم على أساس العدل، ولذلك فكل الرسالات هي قائمة على العدل.
أما ذكر الحديد، فباعتبار أن العدل بحاجة إلى قوّة تُنفّذه في كثير من الحالات، ومن الطبيعي أن الحديد بما يختزن من القوّة في كل الصناعات التي يدخل فيها، يمنح العاملين على تصنيعه القوة والبأس الشديد، كما يمنحهم الكثير من المنافع التي يمكن أن يحصل عليها الناس. وفي مسألة العدل، فإنَّ الله أراد لكم أن تنتفعوا بالعدل في حركة الحياة بكلِّ مواقعها وجوانبها، كما أراد لكم أن تنتفعوا بما أنزله الله سبحانه وتعالى مما يمنحكم القوّة من جهة، ويمنحكم المنافع الأخرى التي تحصلون عليها من جهة أخرى، والله أعلم بحقائق آياته.
أوقات الصلاة في القرآن الكريم:
* قال تعالى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ( )، تفسَّر هذه الآية من قبل بعض المفسّرين، أن أوقات الصلاة ثلاثة هي: الصبح والمغرب والعشاء، دون الظهر والعصر، ما هو رأيكم في ذلك؟
- المقصود من طرفي النهار، الغدوة والعشية، والمراد من الطرف الأول الصبح، ومن الطرف الثاني الظهر والعصر، (وزلفاً من الليل) أي الساعات الأولى منه، وذلك لقربها من النهار، والمراد بها المغرب والعشاء. وربما أيضاً يوضح هذا المعنى ما ورد في الآية الكريمة الأخرى، قال تعالى: أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا( )، ودلوك الشمس هو الزوال.
معنى إمام مبين:
* قال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ( )، ما معنى كلمة (إِمَامٍ مُبِينٍ)؟
- المقصود هو كتاب الأعمال، لأن الله سبحانه وتعالى أحصى أعمال الإنسان في الكتاب الذي يقدّمه بين يديه، كما في قوله تعالى: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً( )، وفي آية أخرى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإمامِهِمْ( )، وإن أوردت بعض التفاسير أن المراد من الإمام هو الذي يأتمّون به، ولكن الأقرب هو كتاب الأعمال، والله العالم.
ذو القربى في القرآن الكريم:
* قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ( )، ما المقصود بذي القربى؟ وهل هم أهل بيت النبي(ص) المعصومون فقط، أم كل من ينتسب إلى ذرية الرسول(ص)؟ أم بنو هاشم؟ وهل لفظ (المساكين) شامل للفقراء أيضاً؟ وما الفرق بين المسكين والفقير؟
- الظاهر المراد هو مطلق ذوي القربى، وإن كانت بعض التفاسير خصّصتهم بأهل البيت(ع). أما بالنسبة إلى الشطر الثاني من السؤال، فالمسكين فقير، ولكنه أشدُّ حالاً من الفقير، كما ورد في بعض الروايات.
الخيانة بالغيب:
* قال تعالى: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ( )، هل هذا هو قول النبي يوسف(ع)؟ أم قول امرأة العزيز؟
- الظاهر أنه كلام امرأة العزيز، لأنها قالت كما تحدث القرآن: قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ( )، فاستعصم هو، وهذه شهادتي له، لأنه رجل عفيف، ورجل لم يقم بما يخالف العفة، وحتّى يعرف إني لم أخنه بالغيب، أي إنّني لم أتحدث عنه بما لم يفعله.
الطابع الذكوريّ في القرآن:
* ذُكر في القرآن الكريم جملةٌ من المرغّبات، ونجد أنها إما خاصة بالرجال كالحور العين، أو مشتركة بين الرجال والنساء كالأنهار والأشجار، ولكننا لا نجد مرغّبات خاصة بالنساء، لماذا؟
- الله سبحانه وتعالى تحدّث عن الجنة، ووعد أن كل الناس الذين فيها سيحصلون على ما يشتهون، قال تعالى: ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون * نزلاً من غفور رحيم( )، فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين( )، وقد ورد في الحديث أيضاً: ((فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)).
ربما كانت المسألة في إغفال ذكر المشتهيات الجنسية للنساء، هي أنَّ المجتمع الذي نزل القرآن فيه، ربّما كان مجتمعاً لا يرتاح للحديث عن الجانب الجنسي في رغبة النساء في الرجال. ولذلك، فإنّ الله سبحانه وتعالى بيّن ما تحصل عليه النساء، من خلال بيان الخط العام، لأنه ذكر أنه لن يشعر أي إنسان بأيّ حرمان في أي جانب من الجوانب، ومن الطبيعي أن المرأة تحس بالجانب الجنسي كما يحسُّ الرجل.
السؤال يوم القيامة:
* ما هو سبب التّناقض في تفسير كل من الآيتين الكريمتين، قال تعالى: ستُكتب شهادتهم ويسألون( )، وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون (الزخرف/44) وبين الآية التي تقول: ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون(القصص/78)، وأنهم سوف يعرفون بسيماهم؟.
- ليس هناك تناقض، لأن الآية الأولى تُبيّن أن كل ما عمله الإنسان فإنه يواجه فيه المسؤولية، بمعنى أنه يواجه نتائج المسؤولية، لأنه مسجَّل في كتاب الأعمال، وفي علم الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحدا( )، ولذلك فإنَّ هذه الآيات تبين أن كل ما قام به المجرمون مكشوف ومعروف عند الله سبحانه وتعالى، سواءًٌ في كتاب الأعمال، أو في علم الله سبحانه وتعالى، وأنهم يسئلون بمعنى المسؤولية.
أما تلك الآية الكريمة: ولا يُسئل عن ذنوبهم المجرمون وقوله تعالى كذلك: لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان( )، فإنّ المقصود منها أنه لا حاجة للسؤال؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعرف ذلك كله، وأن ذنوبهم وكذا أعمالهم حاضرة عنده، والله أعلم.
ملذّات الجنّة:
* يقول الله سبحانه وتعالى مبيّناً واقع المؤمنين في الجنّة: ولحم طيرٍ مما يشتهون( )، وهذا من نعم الله سبحانه وتعالى على المؤمنين وفضله عليهم، هل في الآخرة طيور سوف تُذْبح ليقدم لحمها؟
- ليس من الضروري أن نتكلَّف الحديث عن ذلك، وأنه كيف تتحقق التذكية وهل يسمّون على الذبيحة؟ الله تعالى يقول: ولحم طيرٍ مما يشتهون، وطبعاً سوف لا يأكلون نيئاً،والمهم أنّ عالم الآخرة غير عالم الدنيا، فهناك نعيم في الآخرة عظيم، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أما كيف هو ذلك؟ فلنتركْ الخوض في مثل هذه الأمور، فهي ليست من مسؤولياتنا، فهذا علم لا ينفع من علمه ولا يضرُّ من جهله، ونحن نؤمن بما ذكره الله سبحانه وتعالى، وإذا كان من نعم الله، فعلينا أن ندعو الله في أن يرزقنا نِعَمَهُ في الآخرة، كما ندعوه أن يرزقنا نعمه في الدنيا.
سقوط الطّهارة الترابية:
* ورد قوله سبحانه وتعالى في سورة النساء:وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله عفواً غفوراً( )، هل هذه الآية الكريمة دليلٌ على سقوط الطّهارة المائية، ثم سقوط الطهارة الترابية، بدليل: ((إن الله كان عفوّاً غفوراً))؟.
- كلا، الله سبحانه وتعالى أكّد الطهارة الترابية عند فقدان إمكانية الطهارة المائية، أما قوله تعالى: إن الله كان عفوّاً غفوراً، فلا يعني أنه عفوّ غفور عن الطّهارة، وإنما المقصود ب (عفوّ غفور) من قبيل التأكيد أنَّ عليكم أن تأملوا عفو الله وغفرانه في ما أخطأتم فيه، وليست إشارة إلى ما وكّل الله به الإنسان من الطهارة المائية عند إمكانها، أو الطهارة الترابية عند إمكانها.
وهل يرجو الظالم؟
* قال الله تعالى: ورحمتي وسعت كلَّ شيء( )، وقال تعالى: ولا تيأسوا من روح الله إنّه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون( )، إذاً كلُّ الظلمة يرجون رحمة الله، أليس هذا يخالف العدالة؟.
- لا، لا يخالف العدالة، لأنّ العدالة هي أن يعمل الإنسان خيراً، وتعطيه ثواب الخير، أما أن يعمل الإنسان شراً وتعفو عنه، فهو ليس ضدَّ العدالة، لأنّ العدالة تتحقق بصدق الوعد، ولا تتحقق بصدق الوعيد، قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( ). ومن الممكن أن الكثير من الناس، من أصحاب الأفق الضيّق، يريدون من الله أن يتصرف، تماماً، على حسب الإحساسات والمشاعر والعقد التي عندهم، فلان ضرَّني، كيف تشمله رحمة الله؟ أو كيف يغفر الله له؟ الله سبحانه وتعالى قدّر الحكمة والمصلحة، وهو أعرف بهما في أن يعفو عن بعض الناس الذين قاموا ببعض الانحرافات تجاه أنفسهم، وتجاه الناس، وقد يعوّض الله تعالى أيضاً المظلوم مما قام به الظالم.
ألا نقرأ في دعاء يوم (الاثنين) المنسوب إلى الإمام زين العابدين(ع): ((اللهم وأيّما عبد من عبيدك، أو أمَة من إِمائك، كانت له قِبلي مظلمة ظلمتها إياه، في نفسه أو في ماله أو في عرضه، أو في أهله وولده، أو غيبة اغتبته بها، أو تحامل عليه بميل أو هوى، أو أنفة أو حمية أو رياء أو عصبية، غائباً كان أو شاهداً، وحيّاً كان أو ميتاً، فقصرت يدي، وضاق وسعي عن ردّها إليه، والتحلّل منه، فأسألك يا من يملك الحاجات وهي مستجيبة لمشيئته، ومسرعة إلى إرادته، أن ترضيه عني بما شئت، وأن تهب لي من عندك رحمة، إنه لا تنقصك المغفرة ولا تضرّك الموهبة يا أرحم الرّاحمين)). فالله قد يعوِّض المظلوم ويعفو عن الظالم، وليست هناك مشكلة في ذلك، إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
أما الإنسان المعقّد، فالله تعالى يخاطبنا عنه، فيقول: قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق( )، لو جعل الله رحمته بيدكم، لما أعطيتم أحداً كليةً، باعتبار ضيق الأفق الذي تعيشونه، وضيق المعنى القيمي في نفوسكم.
الإيمان الزائف:
* ماذا تقولون للذين يمثلون مصداق هذه الآية المباركة: ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة( )؟
- نطلب منهم أن يفتحوا آفاقهم على الإيمان في أوسع مفاهيمه ومجالاته، وأن يلتفتوا إلى أنفسهم، حتى لا ينقلبوا على وجوههم بفعل الفتنة التي يمكن أن تنحرف بهم عن الخط المستقيم.
الأيام النحسة في القرآن:
* قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ( )، ما المقصود بالنحس؟
- ليس المقصود بالنحوسة، هذه النحوسة التي يتصوَّرها الناس في عالم التشاؤم الفكري والعملي، ولكنَّ المقصود بالنّحس هو اعتبار أنَّ تأثير هذه الريح الباردة العاصفة قد يشكِّل خطراً على الإنسان، ولذا فإنَّ المراد منها النّحوسة المادية وليس النحوسة المعنوية، والله العالم. وعليه، فلا يراد منها أنَّ هناك أياماً منحوسة كما هو معروف عند بعض الناس، وورد عندنا في الحديث: ((لا تعادوا الأيام فتعاديكم)). وقد جاء رجل يزور الإمام(ع) وقد عثر في طريقه، فقال ما أشأم هذا اليوم، فأجابه الإمام(ع): كيف تحكم على هذا اليوم بالشؤم وأنت لا حق لك فيه، لأنه لا ذنب له في ما حدث لك. ما يدل على أن الكلام بنحوسة الأيام هو من التطير، وقد نهى الله تعالى عن التطير.
المثليّة في الأمم:
* يقول الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ( ) ما المقصود بالمثلية؟
- ليس المقصود بالمثلية مثلية الشكل والأجهزة، بل مثلية المجتمعات، يعني كما أنتم تعيشون في مجتمعات يحكمها نظام واحد ولغة وعلاقات معينة، كذلك الحيوانات والطيور لها نظام خاص وطريقة للتفاهم والتوالد والتناسل والتربية.
الرحمن الرحيم:
* ترد (الرحمن الرحيم) متلازمة في البسملة وفي آيات أخرى، فإذا كانت الكلمتان مشتقّتين من الرحمة، فما الفرق بينهما؟
- كلمة (الرحمن) المراد بها وصف الله بالرحمة في ذاته، بينما الرحيم يلاحظ فيها الرحمة المتعلّقة بالآخرين، ولذلك لا يجوز القول الرحمن بعباده، بل الرحيم بعباده، وذلك يعني أن الرحيم صفته المتعلقة بعباده وبخلقه، والله العالم.
ولد اللّه:
* ما المقصود بهذه الآية قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ( )؟
- يعني إن كنتم تزعمون أنّ الله خلق ولداً في عالم الغيب أو في عالم الحسّ وتعبدونه كما تعبدون الله، لاعتقادكم بأنه ذو قدرة وسيطرة في سرّ الألوهية الكامنة في ذاته، يستمدّها من علاقة النبوّة التي تربطه بالله، فأنا أوَّل العابدين لهذا الولد، لأنَّ من الطبيعي أن يعبد الإنسان ابن الله من خلال عبادته لله، ولكن كيف تثبتون ذلك؟ وما هو دليلكم عليه؟ فإنني لا أجد لذلك أيَّ أثر من حجة أو دليل، ولذلك فإني أعبد الله وحده ولا أعبد غيره، لأنه لا شريك له لا في الألوهية ولا في العبادة من ولد أو غيره، سبحان ربِّ السموات والأرض وربِّ العرش عما يصفون له من الولد، والله العالم.
السلم مع الكيان الصهيوني
* قال تعالى:وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا( )، هل تنطبق هذه الآية على الصهاينة في هذا العصر، كما طبقت أيام الرسول(ص) مع اليهود ؟
- كلمة (السلم) من الكلمات التي تنفتح على كل العلاقات بين فريق وفريق آخر، وكما كان السّلم بين المشركين والمسلمين، لإنهاء حالة الحرب، فإنه يشمل كلَّ القضايا التي انطلقت الحرب منها، سواءٌ في المجالات التي تنتج الخطوط العدائية، أو كانت المسألة تتصل بالجانب الأمني أو الاقتصادي، أو السياسي أو الاجتماعي، لذلك عندما ندخل في حرب مع الآخرين، ولا يمكننا أن نصل إلى النتيجة التي نريدها في الحرب، أو لا نجد صلاحاً في استمرارها؛ فإننا ـ في هذا المجال ـ نحاول أن نكون مصداقاً لـ(وإن جنحوا للسلم)، على أساس الشروط التي تضمن لنا موقعنا وعزّتنا وكرامتنا، فلنا أن نقبل ذلك، لأن السلم قد يعطي الأمَّة الفرصة التي تخفِّف فيها من ضغوط الحرب على كلِّ قضاياها ومصالحها، أو أنها تمثِّل هدنةً يستريح فيها المسلمون قبل أن يندفعوا إلى معركة ثانية.
ربما كانت قضية السِّلم في زمن الرسول(ص) مبسَّطة وليست معقَّدة، أمّا قضية السلم في هذه المرحلة، في التداعيات أو التحديات التي تطال السياسة والاقتصاد والأمن، وما إلى ذلك، فقد تكون تعقيداتها كبيرةً جداً، ولذلك فإنَّ السِّلم المطروح لابدَّ أن يعالج كلَّ هذه التعقيدات، ليكون السلم في مصلحة الإسلام والمسلمين، بدلاً من أن يكون خديعةً من قبل العدوّ.
أمنية الرسول
* قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ( )، وهناك روايات تقول إنّ الرسول مدح آلهة المشركين عندما قال: (تلك الغرانيق العلى)، فنـزلت هذه الآية. نرجو توضيح ذلك؟
- هذه الرواية تقول: إن النبي(ص) كان يفكِّر بأن يجتذب المشركين إليه، فحاول أن يقدم في أسلوبه وكلماته ما يوحي بأنه يُعظِّم آلهتهم، وتنقل الرواية قوله: (تلك الغرانيق العلا، وإنَّ شفاعتهن لترتجى)، ولكن هذه الرواية ساقطة جملةً وتفصيلاً، لأنَّ النبي(ص) جاء بالتَّوحيد الذي يمثَّل رسالة الإسلام التي تتفرَّع منها وترتكز عليها عقائد الإسلام كلّها، لذلك فالتوحيد هو الأساس في الإسلام، في مقابل ما كان يتّخذه المشركون من عبادة الأصنام، فلا يمكن للنبي(ص) أن يسجِّل اعترافاً ولو طائراً ـ إن صح التعبير ـ بالنسبة إلى قضية الاعتراف بالأصنام، لأن هذا ينافي النبوَّة عينها، ونحن نقرأ في سورة الجحد (الكافرون) أن قريشاً جاءت إليه وقالت له: فلنتصالح: فنعبد إلهك عاماً وتعبد آلهتنا عاما، فأنزل الله تعالى: قل يا أيها الكافرون...، وكلَّ آيات القرآن تدلُّ على هذا المنطق التوحيدي الرافض لكل ما يطرحه عليه المشركون من تسويات.
ونقرأ ـ أيضاً ـ في آية أخرى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً( )، يعني إذا حاولت أن تجاملهم في العقيدة، وأن تفتري على الله ما لم ينـزل به الوحي إليك ولولا أن ثبَّتناك بالعصمة وبهذا الوعي الرسالي المنفتح لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً، فلولا أن ثبَّتك الله، فإنَّ الأساليب الضَّاغطة التي قدَّموها إليك، لو قُدِّمت لشخص آخر لم يثبته الله بالعصمة، لركن إليهم، لأنها من أقوى الأساليب الضاغطة، ولو فعلت ذلك ـ ولم يفعل النبي(ص) ذلك ـ: إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا( ). فأساساً هذهِ الآيات القرآنية مؤكّدةٌ لموقف النبي(ص) عندما جاءه عمُّه أبو طالب رحمه الله وطرح عليه إغراءات قريش: إن أراد المال فهذه أموالنا بين يديه، وإن أراد الزواج زوَّجناه أجمل نسائنا، وإن أراد الملك سوّدناه علينا، فقال له: ((والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه)). فإذا درسنا هذه الأمور، فهل نجد من الممكن أنّ يتنازل النبي(ص)؟!
إذاً هذه الآية: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشّيطان…، معناها أن النبي(ص) يتمنى، أي تأتيه خواطر لا تثبت في نفسه عن الوسائل والطرق التي يجذب فيها الآخرين، لذلك هو لم يتحدث بشيء، ولكن الله سبحانه وتعالى ينسخ ما يلقي الشيطان، فهذه الرواية غير صحيحة.
الفصل الثاني
المسائل العقيدية
أنواع العذاب بعد الحياة:
* هل هناك عذاب في القبر؟ وما هو؟ ولماذا يوجد عذابان؛ عذاب القبر ثم عذاب الآخرة؟
- قد يكون هناك عذاب من نوع آخر، وهناك حساب في القبر، وقد وردت الروايات في ذلك، ولكن لماذا نحن مستعجلون الآن؟ عندما نصل إلى هناك إن شاء الله لا نتعذب في ذلك الوقت، ولذلك فإنّ عليكم أن تسألوا عن الأشياء التي تتصل بمسؤولّياتكم، أما كيف يكون عذاب القبر؟ وكيف نتعذب؟ وهل منكر ونكير طويلان أم قصيران؟ ووجه كل منهما أبيض أم أسود؟ كل هذه الأمور ليست من شأننا، فوظيفتنا أن نطيع الله سبحانه وتعالى لنحصل على رضاه، وليدخلنا في نعيمه، وأن نبتعد عن معصية الله سبحانه وتعالى حتى لا ندخل ناره، ولا نعرّض أنفسنا لغضبه. لا بدّ للإنسان من أن يسأل عن الأشياء التي تتصل بمسؤوليته، أما أين تقع الجنة؟ وكم مساحتها؟ فهذا ليس من شغلنا.
الرجعة والمعاد:
* مبدأ الرجعة عند الشيعة موضع اختلاف مع بقية المذاهب، باعتبار أنها تتعارض مع مبدأ المعاد، فما هو رأيكم؟
- أولاً: ليس هناك أيُّ تعارض بين المعاد والرجعة، من حيث المبدأ، لأن الرجعة ـ بأيِّ تفصيل كانت ـ تعني أن الله تعالى يرجع بعض الناس إلى الدنيا ثم يموتون ويذهبون إلى الآخرة، وأيضاً يحشرون كما يحشر بقية الناس، فالرجعة لا تمثل إنكاراً للمعاد الذي هو بعث الناس في الآخرة. ثم إنّ مسألة الرجعة على المستوى التفصيلي هي من المسائل الغامضة عند الشيعة، والأحاديث مختلفة ومتعارضة. نعم، الأصل مبدأ الرجعة، لكن مسألة التفاصيل شيء آخر.
العرفان في الإسلام:
* إذا أراد الإنسان أن يكون عرفانياً، فهل يتبع القرآن والسُنّة وأهل البيت(ع)، أم أنه مع ذلك يجب أن يكون تحت توجيه أستاذ يدرّسه هذه المادة؟
- نحن نقول: العرفان هو عرفان القرآن الكريم، وعرفان النبي(ص)، وعرفان أهل البيت(ع)، وليس عرفان الفلسفة. نعم، لا بد للإنسان من أستاذ يدرّبه على جهاد النفس، ويعرّفه مفهوم الزهد وكيفيّته ومفهوم الجهاد من الناحية التطبيقية.
البلاء والابتلاء:
* ما الفرق بين البلاء والابتلاء؟
- الابتلاء قد يأتي به البلاء، ولا فرق بينهما، في هذا المقام، والبلاء قد ينتج عن الابتلاء، ولكن ليس من الضروري أن يكون الابتلاء عقوبةً دائماً، بل إن الله تعالى يمتحن عبده المؤمن في بعض الأوضاع التي يعيشها، وفي بعض التجارب التي يخوضها، وفي بعض الظروف التي تحيط به، وما إلى ذلك... فالإنسان منه الصابر ومنه الساقط أمام البلاء.
نتائج الأعمال:
* كيف نفرّق بين ما أصابنا من أمر ناتج من كسب يد وعقاب، وبين الابتلاء الذي يصيبنا للتمحيص وتربية الإرادة، أو لغفران الذنوب كما يقال؟
- توجد بعض الأشياء نحن السبب فيها. قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( )، وَضَرَبَ الله مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ( )، فالإنسان يعرف أن بعض الأعمال ينتج نتائج سلبية مما يكون هو نفسه السبب فيه، وهناك بعض الأعمال التي تنطلق من خلال الظروف المحيطة به ممّا لا علاقة له فيها.
رؤية الله يوم القيامة:
* ما تقولون في مسألة رؤية الله عزّ وجلّ يوم القيامة؟
- قال تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ( )، وقد قامت الأدلّة العقلية على أنّ الله ليس جسداً يتمثّل في الرؤية الحسّية كالجسد الماديّ للناس، ولذلك فيستحيل رؤيته، أمّا ما ورد في القرآن مما ينافي ذلك فهو مؤوّل.
قانون التوازن والجبرية:
* هل إن قانون توازن القوى هو قانون قهري جبري، أم أنه يخضع لواقع الإنسان في معطياته؟
- قانون توازن القوى هو قانون واقعي، فالله سبحانه وتعالى خلق الكون وخلق الناس، والناس بعضهم يأخذ بأسباب القوة بنسبة أخرى، وبعضهم يأخذ بأسبابها بنسبة أخرى، فهو أمر اختياري، ولكن هذا الأمر الاختياري يتحرك من خلال فطرة الإنسان الطبيعية، ومن خلال طبيعة حركة العلاقات وحركة الواقع.
أبدية قانون التوازن:
* هل إن قانون التوازن أبدي أم أنه معلّق بشرطه، وهو تحقق عبودية الله سبحانه وتعالى؟
- هو قانون أبدي، باعتباره مظهراً للنظام الكوني والإنسان مما قدّره الله في الكون والحياة.
الموت بالانتحار:
* هل الموت الذي يتم بواسطة الانتحار هو نفس الموت الذي كتبه الله سبحانه وتعالى لكل إنسان، أم لا؟
- نعم، لأن الله سبحانه وتعالى يعلم أن فلاناً سيموت باختياره بالانتحار، فالله سبحانه وتعالى عندما قدَّر الأشياء قدّرها بأسبابها، في ما يعلم من تحقق أسبابها، والله سبحانه وتعالى بحسب علمه أمور المستقبل ، يعرف أن فلاناً سيموت بنوبة قلبية، أو سيموت بواسطة مرض معيّن، وأيضاً يعرف أن فلاناً قد يموت برصاصة، أو قد يموت هو باختياره بقتل نفسه، والله جلّ وعلا ليس عنده علمان، وحتى عندما يُقال إنّ هناك أجلاً محتوماً وأجلاً مخروماً، فليس معنى ذلك أن الله تعالى قدّر لفلان عمراً، وفلان جاء فخرمه، وإنما الأجل المحتوم هو الأجل الطبيعي الذي ينطلق من خلال طبيعة الجسم الإنساني في عناصره الموجودة، سواء من حيث الأمراض الموجودة فيه أو ما شابه، والأجل المخروم هو عبارة عن الأجل الذي يتحرك الإنسان فيه من خلال اختياره في قتل نفسه، وما إلى ذلك...
طلب الحوائج من الأنبياء والأئمة(ع):
* في قضاء أو طلب الحوائج من الأئمة(ع): هناك من يطلب منهم قضاء الحاجة مباشرة كقولهم: أطلب الصحة والنجاح ... بينما الأدعية والزيارات الواردة عن أهل البيت(ع) هي أن تتوجه بهم إلى الله تعالى، أو بحقهم أن يقضي الحاجة الفلانية، أليس هناك اختلاف بين الصيغتين من الناحية الشرعية ؟
- الصحيح أن ندعو الله تعالى ولا ندعو غيره، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ( )، لكن باعتبار أن الله سبحانه وتعالى جعل لبعض أنبيائه وبعض أوليائه كرامة الشفاعة، فالإنسان ـ في هذا المجال ـ يطلب من الله تعالى أن يشفّعهم، أي أن يجعلهم ممن أكرمه بالشفاعة، ونحن نفضل بدل أن تقول: اشفع لي عند الله، أن تقول: اللهم شفّعنا بهم، لأن الله تعالى يملك أن يعطيهم الشفاعة، وهو الذي يملك أن يشفّعهم بنا. فيكون الخطاب لله وحده حتى في قبول الشفاعة، لأنّهم يملكون ما يملّكهم ولا يملكون ذلك من خلال ذواتهم بعيداً عنه.
أسماء الله:
* الغفور، التوّاب، والمحيي، المميت، الرزّاق، المنتقم، الباعث...، هل كانت أسماء الله الحسنى هذه ومثيلاتها من صفاته عزّ وجلّ منذ الأزل، أم أنه كتبها على نفسه يوم خلق البشرية جمعاء كما كتب على نفسه الرحمة، إذ لا يعقل أنه كان يتوب على الملائكة أو حتى ليغفر لها أو ينتقم منها وهي التي لا تعصي الله ما أمرها؟
- صفات الله سبحانه وتعالى ليس لها زمن معيّن؛ لأنها صفات تنطلق من طبيعة معنى الله سبحانه وتعالى، في كونه المهيمن على الأمر كله والخالق والقادر، وما إلى ذلك.. فليس لها زمن معيّن من أنه كتبها الله سبحانه وتعالى مثل ما يكتب الوحي، أو مثل ما يكتب التشريعات، أو مثل ما يكتب الأعمار، بل هي لصيقة بذاته سبحانه وتعالى.
حدود الإيمان:
* في موضوع الحداثة وتعدّد القراءات، ما هو الموقف المطلوب تجاه من يؤمن بمثل هذه الأمور ولكنّه ملتزمٌ بالأحكام الشرعية في الواجبات والمحرّمات ؟
- الحداثة لها معانٍ: فمرّةً يُقصد بالحداثة عدم الإيمان بالغيب بل بالحسّ، وعدم الإيمان إلا بالتجربة، وهذه الحداثة تختلف عن الإسلام في طبيعة الإيمان بالله تعالى وبالغيب، وأما إذا أريد من الحداثة تحكيم العقل في التفكير، سواء في الجانب التأملي، باعتبار أنّ التأمل أحد مصدري المعرفة، أو من خلال التجربة، فلا توجد مشكلة في الحداثة بهذا المعنى.
مصحف فاطمة(ع):
* ما هي حقيقة مصحف فاطمة(ع)؟ وماذا يحتوي ؟
- مصحف السيدة فاطمة(ع) اختلف فيه، ومن المتيقَّن به أن لا علاقة له بالقرآن الكريم من قريب أو بعيد، فهو ليس قرآناً، وليس فيه شيء زائد عمّا في القرآن الكريم، وتوجد روايات تقول: إن فيه وصية فاطمة الزهراء(ع)، وتوجد روايات أخرى تقول إنّ فيه بعض الأحكام الشرعية التي كانت السيدة فاطمة الزهراء(ع) تسمعها من رسول الله(ص)، وتوجد هناك روايات تقول إن جبريل كان يؤنسها ويحدثها، وإن هناك ملكاً يحدّثها، وكان الإمام علي(ع) يكتب ذلك، لكن على كل حال، ما يُقال إن الشيعة عندهم مصحف غير القرآن الكريم، هو كلام لا قيمة له، إضافة إلى أننا لو بحثنا في الدنيا كلّها، لما وجدنا شيئاً اسمه (مصحف فاطمة)، ولا يزالون يقولون أنتم عندكم (مصحف فاطمة)، وما إلى ذلك، ويقولونها على التلفاز، وفي الفضائيات، وفي الكتب، للتدليل على أن الشيعة يعتقدون بقرآن غير كتاب الله، لأن بعض الجماعة ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة.
التفكير العقلي ومستويات الناس:
* كلامكم حول استخدام العقل، هل هو موجَّه لجميع الناس؟ هناك من العلماء من يقول إن الخوض في هذه الأمور محصور على علماء الدين باعتبارهم أهل الاختصاص ؟
- هل أعطى الله تعالى العقل لعلماء الدين فقط؟ الله سبحانه وتعالى أعطى العقل لكلِّ الناس، وقد ورد في الحديث القدسي: ((عندما خلق الله العقل قال له أقبِل فأقبَل، ثم قال له أدبِر، ثم قال: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعز عليّ منك، إياك آمر وإياك أنهى، وبك أثيب وبك أعاقب))، لذلك نحن نقول: كلُّ إنسان لابد له أن يحرّك عقله. نعم، في بعض القضايا التي فيها جانب عمق وتحتاج إلى اختصاص، فقصرها على العلماء صحيح، لكن أصل العقل في حركته وفي إدراكه للحسن والقبيح، وفي إدراكه للأشياء التي تنفع الناس وكذا، ليس محصوراً بفئة معيّنة من الناس، فهناك الكثير من الناس لم يكونوا علماء دين، ومع ذلك اخترعوا واكتشفوا، ولم يدرسوا الفقه، ولم يدرسوا الفلسفة، وإنما بحثوا واكتشفوا ذلك من خلال عقل التجربة.
معنى غيبة الإمام المهدي(عج):
* هل غيبة الإمام المهدي(عج) كانت بعداً عن الواقع البشري، بمعنى أنه يأكل ويشرب، ويلتقي نوّابه، أم أنه غاب عن عالم الدنيا، بمعنى أن غيبته هي عروج على عالم ما وراء الطبيعة، فهل هو حاضر على الأرض؟ أم غائب عن الناس؟ أم هو غائب عن الأرض فضلاً عن الناس؟
- ما هي علاقتنا بهذا الموضوع؟ وما الذي يهمّنا في هذا الكلام؟ ماذا يأكل أو يشرب؟ أساساً إنّ غيبته غيب من غيب الله سبحانه وتعالى، وظهوره غيب من غيب الله سبحانه وتعالى، إنما نحن اعتقدنا بذلك باعتبار الأحاديث الواردة عن النبي(ص): ((يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)) وغيرها، والآن نسمع بعض الفضائيات أنه هل هو متزوّج؟ وهل عنده أولاد؟ وأين يسكن؟ وماذا يأكل أو يشرب؟ ما هذا الكلام؟ هذا كلام لا ينفع من علمه، ولا يضرُّ من جهله، ولسنا مكلَّفين بالإحاطة بهذه الأمور... نحن مكلَّفون بأن نعتقد به، لأن الصادق المصدّق أخبرنا بذلك، وما عدا ذلك فنحن ننتظره بأن نعمل من أجل الإسلام، فنحن مسلمون وعلينا تكاليف، والآن ننتظره ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، لكن يجب أن نعمل من أجل العدل في بيوتنا، وفي بلادنا، وفي السياسة، وفي الاقتصاد والاجتماع. هذا ما يجب علينا أن نهّيئه، وإلاّ عندما يضرب بعضنابعضاً، فأوَّل ما يقتل في وقت ظهوره هو نحن، فليس من شغلنا ومسؤولياتنا ما هي صورته؟ وما هي شؤونه الخاصة؟.. إنَّ تكليفنا هو أن نعتقد ذلك، لأنه ثبت لدينا ذلك بالطرق القطعية، ثم علينا أن نعمل بتكاليفنا.
قلّة أهل الجنة:
* كما نعرف أن الإنسان يولد على الفطرة، وأن الله سبحانه قد أرسل الأنبياء(ع) وعددهم 124 ألف نبي، ومع ذلك فإن القرآن يذكر أن الذين يدخلون الجنة هم: ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ( )، بينما يقول سبحانه وتعالى لجهنم: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ( )، فما هو السرّ في ذلك؟ وهل نوازع الشر أقوى؟
- قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ ربّما يتحدّث عن طبيعة الذين يستحقّون دخول الجنة، ولكن رحمة الله ومغفرته أوسع، إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ( )، كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ( )، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ( )، فالله سبحانه وتعالى يعطي الجنَّة بعفوه ولطفه للكثير من الناس، وإن مسألة دخول الجنة بيد الله سبحانه وتعالى، فهو يزكّي الأنفس، ولكن بعض الناس يقولون فلان يدخل الجنة، وفلان لا يدخل الجنة، قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ( )، فلا دخل لنا بفلان وفلان، هل يدخل الجنة أو لا، وخصوصاً في الاختلافات المذهبية.
تعميم الفكر الشيعي في الجامعات العالمية:
* من المؤكَّد أن التراث الشيعي يضاهي بقية الأديان، إنْ لم يزد عليها، فهل يمكن إنشاء كرسي علمي متخصص بالفقه الشيعي في إحدى الجامعات العالمية المرموقة والعريقة مثل جامعة هارفرد أو جامعة كامبردج في المملكة المتحدة؟
- نعم، علينا أن ندخل التشيّع إلى العالم، من خلال المجامع العلمية، كالجامعات وليس فقط من خلال الحوزات العلمية، بل لو سألنا حتى في الحوزات ماذا يفهم طلابنا عن علي بن أبي طالب(ع)؛ هل إنه فقط ضرب مرحباً وقدّه نصفين، وضرب عمرو بن ودّ العامري، وأنه(ع) قد ضربه ابن ملجم، ونذرف الدموع، ونقيم مأتم للعزاء، ولكن لا نعرف حقيقة أمير المؤمنين كمثل ذاك الذي يقول للإمام علي(ع)حينما قال للناس ((سلوني قبل أن تفقدوني)) فيسأله عن عدد شعرات رأسه!! إننا لا نملك ثقافة أهل البيت(ع)، ولو استطعنا تقديم تراث أهل البيت(ع) بالطريقة الحضارية، لاستطاع العالم أن يجد في تراثهم(ع) الكثير من حقائق الحياة ومن قضايا حقوق الإنسان وما شاكله.
تكاثر البشرية:
* ما هي صلة القرابة بين أبناء آدم(ع) (قابيل) و (هابيل) وزوجتيهما؟
- ما هو دخلنا في ذلك، فلكل زمان وأقوام حسابهم عند الله سبحانه وتعالى، فمثلاً حينما جاء النبي عيسى(ع) قال ـ على لسان القرآن الكريم ـ: ((ولأحلّ لكم بعض الذي حرِّم عليْكُم))، وقد ورد في الرواية عن أهل البيت(ع) في مسألة (قابيل) و (هابيل) وزواجهما، أنه كان يجوز الزواج بين الأخوة والأخوات، لقلّة النفوس، ولم يكن سوى الأخوة والأخوات، ولكن حينما تكاثر الناس حصل تحريم الزواج بين الأخوة والأخوات، ومثلاً كان الناس يصلّون إلى بيت المقدس في صدر الإسلام، ثم نزلت الآية الكريمة: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ( )، لذلك فالتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى يحلِّل ويحرِّم حسب الحكمة والمصلحة التي يقتضيها سبحانه وتعالى.
التعاطي مع المشكّكين:
* كيف يمكن التعامل مع من يطرح بعض الإشكالات حول وجود الجنة والنار، أو عن مكان تواجد الأنبياء(ع) في الشرق الأوسط فقط، فمثلاً الصينيون لم يتحدث تأريخهم المكتوب منذ أكثر من ألفي سنة عن وجود أنبياء عندهم ؟
- أولاً: إنَّ الإنكار بحاجة إلى دليل، فهل ذهب منكر الجنة والنار إلى مكانهما وأنكر وجودهما، وثانياً: قد يقول إنه يشكَّ بوجود الجنة والنار، فإذا كان مسلماً، فليس له الشك في ذلك، لأن الجنة والنار من علم الغيب، والإيمان بالغيب من المُسَلَّمات في القرآن الكريم، فإذا كان يؤمن بالقرآن الكريم فالله سبحانه يقول: ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ( ). وإذا لم يكن مسلماً، فعلينا أن نحاوره حول الإسلام والقرآن والسنّة؛ لأنّ الجنّة والنار مما جاءا به.
وأما الإشكالات حول وجود الأنبياء في الصين مثلاً، فتاريخ الصين لم يتحدث عن الأنبياء، ولكنه تحدث عن الحكماء وتعاليمهم، وقد يكونون مثل الأنبياء، ونحن ليس لدينا إحصائية علمية عن تواريخ وأماكن جميع الأنبياء حتى ننكر وجودهم في مكان ما وزمان ما.
زيارة السيدة زينب(ع):
* ما هي أصحُّ الروايات في مكان مرقد السيدة زينب(ع)؟
- علينا أن لا ندخل في جدل من هذا النوع، فحينما تقول في الزيارة (السلام عليك أيتها العقيلة زينب)، فحيثما كان مكانها، فهي عند الله تلك العقيلة التي حملت شعاع النهضة الحسينية من بعده، ونحن نعتقد أنه في زيارتنا لمرقد السيدة زينب(ع) في الشام أو لمقامها في مصر، فإننا نعيش المناخ الولائي لأهل البيت(ع)، وكذا بالنسبة لمقام رأس الحسين(ع)، سواءً كان في مصر أو في الشام أو في العراق، فلا نشجّع على مثل هذا الجدل؛ لأنّه لا يؤدّي إلى نتيجة إيجابيّة على صعيد الحالة الإسلامية الولائيّة.
العقل والغيبيّات:
* هل هناك مجال للعقل في فهم الأمور الغيبية؟
- لا مجال للعقل في تفهّم الغيب، لذلك فإن الوحي هو الذي يكمل للعقل خط المعرفة بما يتحدث عن الغيب. نعم، الإيمان بالغيب يمرّ من طريق العقل، ومن الغيب ما يصل إليه العقل ومنه ما لا يصل إليه؛ لأنّ العقل يتحرّك في نطاق ما يملكه من وسائل المعرفة، ولكنّ العقل ـ في تفكيره ـ يؤكّد إمكانيّة الغيب في حساب الإمكان والاستحالة للأشياء.
تطهير الروح:
* هل يجب تطهير روح الإنسان أوّلاً لينطلق العقل بعد ذلك ؟
- أوّلاً: العقل هو الذي يفتح للإنسان الخطَّ للإشراق على نفسه وروحه، قال تعالى: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ، فقضية الإشراق الروحي إنما ينطلق من طبيعة تفكير الإنسان في مسألة آفاق الروح، فالعقل هو الذي يوجّهها، ولكن هناك الكثير من الناس لا يتحركون وفق مفهوم العقل، بل وفق الشيطنة، فقد قال الإمام جعفر الصادق(ع) عن أفعال معاوية حينما سئل(ع) أنها هل كانت عقلاً؟ فقال(ع) عنها: إنها شيطنة. فالذين يستخدمون طاقاتهم الفكرية في السلبيات والإضرار بالمجتمع والأفراد يعيشون الشيطنة، وليس العقل؛ لأن العقل هو الذي يميّز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، ومن الطبيعي أن العقل يقودك إلى أن تطهّر نفسك، وما إلى ذلك.
حجيّة العقل:
* قلتم في إحدى محاضراتكم إن الله سبحانه وتعالى قد جعل العقل حجّةً، وإننا نعرف الله من خلال العقل، وكذلك أسرار الكون، فإذا كان العقل حجة، فلماذا بعض الناس، سواء في التاريخ القريب أو البعيد، لم يعرفوا الله؟
- حتى المشركون قبل الإسلام لم ينكروا وجود الله، فكانوا يقولون (باسمك اللهم)، وكانوا يقولون عن الأصنام: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى( )، فهم يعرفون الله، ولكنهم يعبدون الأصنام باعتبار أن لها أسراراً ولها علاقة بالله، وهم يتعبّدون لها لكي يجعلوها واسطة بينهم وبين الله بزعمهم، وقد اشتبه الوهَّابيون عندما اعتبروا من يزور القبور مثل المشركين لكي يتقربوا إلى الله زلفى ، لأننا نقول: إننا نزور قبور الأولياء الصالحين، لنستوحي من مكارمهم ومن سيرتهم، ما يقرّبنا من الله سبحانه وتعالى، وحتى لو طلبنا الشفاعة من الله بواسطتهم لقوله تعالى: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ( )، فإذن الله أساس في عالم الشفاعة. ولذلك فنحن نقول لكثير من إخواننا الذين يزورون مقام السيدة زينب(ع) مثلاً أو بقية المقامات، أن يحسنوا التعبير عن أحاسيسهم، فنرى البعض منهم عند وصوله يسجد أمام ذلك المقام، فيتصوَّر البعض أن ذلك السجود هو لصاحب ذلك المقام، بينما لا يجوز السجود إلاّ لله سبحانه وتعالى، مع أن هؤلاء المؤمنين لا يقومون بالسجود إلا من باب الاحترام.
أما مسألة ما ورد من سجود يعقوب ليوسف(ع)، كما في قوله تعالى: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا( )، فكان ذلك في وقت يعتبر السجود للشخص من باب التحية، كما يحصل اليوم عند بعض الأقوام، كما في اليابان، حينما تسلم عليه فإنه ينحني لك إلى حدِّ الركوع، وذلك من باب التحية، وليس من باب الخضوع للشخص، والكثير من الناس قد وصلت إليهم الدعوة إلى الله ولو بما توصلت إليه عقولهم بالفطرة، فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا( )، فالله يحاسبهم بما توصَّلت إليه عقولهم من معرفته سبحانه وتعالى.
اللّقاء بالإمام الحجة(عج):
* ما هو رأيكم بمئات الروايات التي يرويها علماء وغيرهم حول لقائهم بالإمام المهدي(عج) بعد قيامهم ببعض الأذكار والصلوات المعيَّنة والزيارات؟
- إن الإمام المهدي(عج) قد غاب هذه الغيبة الطويلة، ولم يجتمع بأحد، فلماذا يجتمع بفلان فقط، وهو إمامٌ لكلِّ الناس، ثم إنه لم يثبت بحجة مقنعة أن فلاناً رآه في مسجد كذا أو مكان كذا..
العصمة والشورى:
* هل هناك تعارض بين عصمة النبي(ص) ومبدأ الشورى، كما ورد في الآية الكريمة: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ( )؟
- لا يوجد تعارضٌ بين العصمة والشورى، كما نصَّت الآية الكريمة: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فقد حصل في معركة (بدر) أن أراد النبي(ص) أن يجمع المؤمنين للقتال في موقع، وأشار إليه بعض الصحابة أن يختاروا موقعاً أفضل للمعركة، وكذلك في معركة (الخندق)، فقد أشار سلمان على النبي(ص) بحفر الخندق. وربّما كان الهدف من ذلك كلّه تربية المسلمين على إعطاء الفكرة للقيادة في ما يتصوّرونه من المصلحة العامّة، وربّما تكون المسألة من باب تقديم الأولى في ما يقدّمه النبيّ(ص) من تنازلات من باب الخطأ في الرأي على تقدير صحّة الرواية، والله العالم.
التوبة وإسقاط الذنوب:
* إذا تاب الإنسان، فهل تسقط عنه ذنوبه ؟
- قال الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( )، وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ( )، ولكن بالنسبة للسرقة، لا بدَّ أن يعيد الأموال إلى أصحابها، وكذلك في الغيبة، لابد أن يستوهبه، وقد جاء في دعاء الإمام(ع): ((اللهم وأيما عبد من عبيدك أو أمة من إمائك، كانت له قبلي مظلمة ظلمته إيّاها في نفسه أو في عرضه، أو في ماله، أو في أهله وولده، أو غيبة اغتبته بها، أو تحامل عليه بميل أو هوى، أو أنفة أو حميّة أو رياء أو عصبية، غائباً كان أو شاهداً، حياً كان أو ميتاً، فقصرت يدي وضاق وسعي عن ردها إليه والتحلّل منه، فأسألك يا من يملك الحاجات وهي مستجيبة لمشيئته، ومسرعة إلى إرادته، أن ترضيه عني بما شئت)).
عقيدة العلماء:
* الكثير من علماء الطبيعة - وفق الإحصاءات الأخيرة لهيئة العلوم الأمريكية - لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، علماً أن بحوثهم تحتاج إلى إعمال العقل، وهم يمتلكون جوانب إنسانية، يفتقدها الكثير من المؤمنين بالله تعالى، فهل من تفسير لعدم إيمانهم؟
- ربما يكون عدم الإيمان بسبب الاستغراق في ما هم فيه من الأمور العلمية، بحيث لا يتفكّرون في خلفيّاتها، ولا يفكّرون في الأساس الذي ترتكز عليه. أما قضية التزامهم، فقد تكون من ناحية التربية، وربما تجد إنساناً يؤمن بالله تعالى، ولكنه لا ينسجم مع خط الإيمان، كما ورد في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ( )، فربما يكون إيمان بلا عمل، لأن الإيمان كما فُسِّر في الحديث الشريف: ((إقرار باللسان، واعتقاد في الجنان، وعمل بالأركان))، يعني بالأعضاء. لهذا فإنّ القضيَّة قد تكون أن هؤلاء تربّوا على الصدق، وعلى هذه الأشياء، وربما كان ثمّة شخص ما يؤمن بالله، وقد تربّى على الكذب، والغيبة، والنميمة، وغيرها. ينقل عن بعض علماء الطبيعة، وهو المرحوم (حسن كامل الصباح)، الذي كان عنده ما يقارب ال30 اختراعاً، وقد قتله اليهود، عندما رأوا أنه كان يراسل ـ في وقتها ـ الملك فيصل الأول، وأنه مستعدٌّ أن يأتي إلى الشرق، حتى يولّد الكهرباء من الطاقة الشمسية، باعتبار أن الشرق الغالب في مناخه هو الصحو، ولما اكتشف اليهود ذلك، قتلوه. هذا العالم كان يقول: (إن العلوم الطبيعية إذا رشفت رشفاً أبعدت عن الله تعالى، وإذا عبّت عبّاً، ـ يعني إذا عاشها الإنسان بكلِّ عمقها ـ قرَّبت من الله)، وكان يضع المصلاّة عنده في المختبر، وكان من المؤمنين.
القضاء والقدر:
* حينما سئل الإمام علي(ع) عن القضاء والقدر أجاب: ((طريق مظلم فلا تسلكوه، وبحر عميق فلا تلجوه، وسر الله فلا تتكلَّفوه))، ماذا يريد الإمام(ع) أن يقول في هذا الحديث؟
- الإمام(ع) يقول: إن مسألة القضاء والقدر ترجع إلى الأسرار التي أودعها الله سبحانه وتعالى في تدبيره للكون، وقد تكون من غيب الله سبحانه وتعالى الذي لا يستطيع أن يصل الإنسان إليه، في كلّ عناصره وطبيعته.
قانون المعجزة:
* علمنا أن لكل عصر معجزة، فما هي معجزة هذا العصر ؟
- من قال إن لكلِّ عصر معجزة؟ الكون هو معجزة الله سبحانه وتعالى، والإنسان هو معجزة الله سبحانه وتعالى، وكل ما في الكون هو معجزة الله سبحانه وتعالى، ولكن ليس من الضروري أن الله سبحانه وتعالى يعطي المعجزة لعبد من عباده؛ لأن المعجزة، أساساً، ليست مجرّد ظاهرة عادية، ولكنها كانت تأتي للأنبياء(ع) في مقام ردّ التحدي، من أجل تركيز رسالاتهم ونبوّاتهم، ولذا نجد أنْ ليس لكل الأنبياء معاجز، فالأنبياء موسى(ع) وعيسى(ع) ومحمد(ص) كانت عندهم معاجز، ولكن نوحاً(ع) ليس عنده معجزة، والطوفان ليس معجزة، بل أمر الله وعقابه لهم، وإبراهيم(ع) ليس عنده معجزة، إلا هذه النار عندما أرادوا به كيداً فجعلهم الله الأسفلين.
انحصار الإمامة في أولاد الحسين(ع):
* ما هو الدليل على أن الإمامة محصورة في أولاد الإمام الحسين(ع)؟
- هو ما وردنا من آثار عن الأئمة(ع)، باعتبار أن كل إمام ينص على إمامة الآخر، وهناك رواية تقول إن هناك صحيفة فيها أسماء الأئمة(ع).
حصر الإمامة في أولاد الكاظم(ع):
* ما هو الدليل على أن الإمامة محصورة في أولاد الإمام موسى الكاظم(ع)، مع العلم أن للإمام جعفر الصادق(ع) عدة أولاد؟
- هو ما نص عليه الإمام الصادق(ع) بإمامة ولده الإمام الكاظم(ع).
السرداب في سامراء:
* ما هي حقيقة وجود السرداب في (سامرّاء) قرب مرقد الإمام علي الهادي(ع)؟ وما مدى صحة كون ذلك السرداب مكاناً لغيبة الإمام المهدي(عج) ؟
- السرداب هو بيت الإمامين الهادي والعسكري(ع)، كما هو الحال في بقية السراديب، وربّما ارتفعت الأرض من حوله حتى أصبح البيت يشبه السرداب. أمّا قضية أن الإمام الحجة(عج) قد غاب في السرداب، كما نسب إلى الشيعة ذلك بغير حق، فهذا غير صحيح، فإنه(عج) غاب بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى، وهذا من غيب الله سبحانه وتعالى، والكلام السلبي عن السرداب مما ينسب إلى الشيعة من قبل الآخرين، فهو من أجل إيجاد حالات سلبية في معتقدات الشيعة بهذا الخصوص.
وجود الإمام المهدي(عج):
* تفضَّلتم ردّاً على سؤالٍ حول ولادة الإمام المهدي(عج) ووجوده، أنه ثابت لديكم بالأدلّة القطعية، فوضّحوا لنا كيف ذلك؟
- باعتبار الأحاديث الكثيرة الواردة عن النبي(ص)، وعن الأئمة(ع)، والتي تنطق بأن الإمام المهدي(عج) هو حقيقة ثابتة. أما قضية ولادته فهي محل تسالم بين علمائنا بشكلٍ متواتر.
حبُّ آل محمَّد(ص):
* قال رسول الله(ص): ((ألا من مات على حبِّ آلِ محمّد مات شهيداً))، ولقد استفاد بعض الناس من هذا الحديث، أنه يكفيهم حبُّ آل محمد(ص) أن يكونوا مؤمنين من دون أن يؤدّوا الواجبات الدينية، فيكف نصحَّح هذه الأفكار الخاطئة ؟
- يقول الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا( )، وهناك حديث عن الإمام الصادق(ع): ((جاء شخص وقال له: رُوي عنك أنك قلت: إذا عرفت فاصنع ما شئت))، وكلمة العارف هي مصطلح الموالي لأهل البيت(ع)، ((قال(ع): نعم قلتها، قال: وإن زنا وإن سرق؟ قال الإمام(ع): ما أنصفتمونا، أن كُلِّفْنا بالعمل ووضع عنكم!))، يعني نحن أئمتكم يقول لنا الله سبحانه وتعالى: لا تزنوا، ولا تسرقوا، وصلّوا، وصوموا، ويكلِّفنا ويحاسبنا، وأنتم لأنكم تحبوننا فقط أو توالوننا، وضع عنكم العمل؟!. ((قال: إذاً كيف قلت؟ قال: إذا عرفت فاصنع ما شئت من قليل الخير وكثيره)). والحديث عن الإمام الباقر(ع) الموجود في (الكافي): ((أفيكفي من ينتحل التشيع أن يقول: أحبُّ عليّاً وأتولاه، ثم لا يكون فعَّالاً، فرسول الله خيرٌ من علي، أفحسب الرجل أن يتولى رسول الله ثم لا يعمل بسنته، ثم قال: من كان ولياً لله فهو لنا ولي، ومن كان عدوا لله فهو لنا عدو، والله ما تنال ولايتنا إلا بالورع)). فالولاية تعني السير على الخط وليس مجرد أن أحداً ما يحبُّ وكفى، لأن الأئمة(ع) لهم برنامج خاص بهم، وهو كما قالوا: ((من كان ولياً لله فهو لنا ولي، ومن كان عدوٌّ لله فهو لنا عدوّ)).
سند حديث الكساء:
* هل حديث الكساء صحيح سنداً ؟
- حديث (الكساء) هو من المتواترات عندنا، ولكن خبر حديث الكساء الموجود في (مفاتيح الجنان) سنده غير صحيح، نظير أشياء كثيرة فيه سندها غير صحيح. أما أصل حديث الكساء، وهو أن النبي(ص) جمع أهل بيته(ع) تحت الكساء، ونزلت عليهم الآية في قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا( )، وقال لأم سلمة: إنك على خير، ولكنك لست من أهل البيت، فهو حديث صحيح، يرويه السُنّة والشيعة، ولكن الحديث الذي يتداول قراءته بعض الناس مما هو مرويٌّ في (مفاتيح الجنان) ليس صحيح السند.
خروج الحسين(ع) من مكة:
* يتردَّد كثيراً بأن الإمام الحسين(ع) إنما خرج من مكة لكي لا تهتك حرمتها بقتله فيها، وكأنه كان مخيَّراً بين الخروج حفاظاً على حرمة الكعبة، أو عدم الخروج منها، ولكن الروايات تؤكد أنّ مصرعه مؤكد في كربلاء، وهذا ما ورد عن الرسول(ص)، حيث يكون هذا من ضمن المخطط الإلهي المرسوم، فيكف نوفق بين الرأيين ؟
- ليس من الضروري أن تكون الرواية الأولى صحيحة، لأنّ الإمام الحسين(ع) يعتبر أن تكليفه هو أنْ يذهب ليستجيب لدعوة المؤمنين الذين أرسلوا إليه الرسائل، أنْ أقدِم علينا، وعلى أساس أن يقودهم، وما إلى ذلك، ولعلَّ بني أميَّة كانوا يعملون على اغتياله في مكة، فيعطّلون عليه تلك الخطة، والأحاديث كثيرة في هذا المجال، وإن كان بعضها يحتاج إلى مزيد من التنقية في السند، وفي البحث على مستوى الدلالة.
زواج الحسن(ع) من ناصبية:
* ما السبب في زواج الإمام الحسن(ع) من جعدة بنت الأشعث وقد كان أبوها من الخوارج وهي من عائلة معروفة بمناصبتها العداء لأهل البيت(ع)؟
- أولاً: إن الإمام الحسن(ع) هو أعلم بتكليفه، وثانياً: إنه في ذلك الوقت لم تكن مثل هذه الحدّة الموجودة حالياً، وثالثاً: وهذه أشدّ من تلك، إنّ الإمام علي بن الحسين(ع) تزوَّج خارجية، ولم تكن الفواصل الموجودة عندنا التي تعبأت بهذه الحدة موجودة آنذاك، فقد كان المسلم يتعامل مع المسلم، حتى لو كان يختلف معه في الرأي أو يختلف معه في شيء آخر، وإنّما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه في وقتنا بفعل التراكمات التاريخيّة السلبيّة الحادّة.
وضع اليد على الرأس عند ذكر القائم(عج):
* عندما يمر ذكر الإمام المهدي(عج) يضع المؤمنون أيديهم على رؤوسهم وينكسونها، فما العلّة في ذلك؟ ولماذا لا يفعل ذلك عندما يذكر الرسول(ص) أو أحد الأئمة المعصومين(ع) ؟
- لم يرد هذا الأمر عن الأئمة(ع)، وهو من التقاليد باعتبار أنه إيحاء بالاحترام.
ضبط مولدي الحسنين(ع) تاريخياً:
* ونحن نعيش ذكرى مولد الإمام المجتبى الحسن(ع)، يرد للذهن إشكال بسيط يجب ملاحظته وهو: أن مولد الإمام الحسن(ع) في 15 رمضان، ومولد الإمام الحسين(ع) في 3 شعبان، أي إن الفرق هو 11 شهراً، في حين أن فترة حمل السيدة الزهراء(ع) بالإمام الحسين(ع) هي 6 أشهر، وتقول الروايات إنها علقت بحمل الحسين بعد ولادة الحسن مباشرة، فكيف يكون هذا الاختلاف في التواريخ؟
- إذا ثبت أنها ستة أشهر، فمعناه أنه قد لا تكون الرواية الثانية صحيحة، فيجب أن نقارن بين الروايات الواردة في هذا المجال لكي نخلص منها إلى رأي نقتنع به في هذا المجال أو ذاك.
الإنسان خالقاً:
* إن علماء الطبّ وصلوا إلى أن جعلوا الإنسان يولد في أنبوب، والسبب هو أنهم عرفوا كيف يهيئوا الظروف لهذه العملية، وكما نعلم أن آدم(ع) خلق من تراب، فلو فرضنا أن الإنسان توصَّل إلى معرفة كيفية خلق الإنسان من التراب، فهل نستطيع أن نقول: إن الإنسان استطاع خلق الإنسان؟
- كلا. قال تعالى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ( )، فمثلاً قضية النبي عيسى(ع) ما هي؟ قال تعالى: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله( )، فالنبي عيسى(ع) لا يعطي للطير روحاً، ولكنّ الله سبحانه يضع فيه من روحه، فأنت قد تخلق جسماً، ولكن من أين تأتي بنفخة من روح الله؟ فالله سبحانه وتعالى هو الذي أودع القانون في النطفة لكي تتطوّر إلى إنسان، وما قد يتوصّل إليه الإنسان ـ كما في الاستنساخ ـ، لا يعتبر خلقاً، لأن الخلق هو خلق القانون، وإنّما هو استفادة من القانون الإلهي للخلق بطريقة غير مألوفة.
العقل في حياتنا:
* في غمار حديثنا عن العقل… ألا ترون أن العاقل مُحارَب في أغلب أوساطنا ومجتمعاتنا، أيكون ذلك لأن أغلبنا يسيرون بعكس التيار العقلي وذلك لصعوبة سلوكه، أم لأن أغلبنا ـ مع الاعتذار للتعبير ـ من المجانين؟
- ليس من الضروري أن يكون الشخص مجنوناً، فهو عاقل ولكنه لا يعمل بعقله. المسألة في منطق العقل هي أن تصبر، وأن تعرف كيف توجِّه حركتك في مجتمع لا يحترم عقلك، وكيف تستطيع أن تنفذ بعقلك بألف وسيلة ووسيلة، حتى تستطيع أن تبعدهم عن هذه الذهنية.
الاحتياج إلى حجّة:
* الرواية: ((لولا الحجَّة لسقطت الأرض بأهلها)). هل هذه الرواية صحيحة أم لا؟
- لا يراد من هذه الرواية المعنى الظاهر، فليس معناه أن الأرض تسقط تكويناً، بل سقوط الأرض باعتبار أن الحجّة هو الذي يفيض على الناس الهداية، ويفيض على الناس الرسالة والخير، وإذا عُدمت الرسالة وعُدِمَ التوجيه، فمن الطبيعي أن تسقط الأرض سقوطاً معنوياً.
حرمة الكعبة تاريخياً:
* كيف نفسِّر صون حرمة بيت الله (الكعبة الشريفة) قبل الإسلام وإهلاك من أرادها بسوء من أصحاب الفيل، وانتهاك حرمتها من قبل مَن ادَّعى الإسلام أكثر من مرة، حتى انتُزع الحجر الأسود على يد القرامطة؟
- لقد أراد أبرهة أن يهِّدم الكعبة وأن يقضي عليها تماماً، أي أن لا تبقى (كعبة) كليةً، بحيث ينهي فكرتها، وينهي المقدس تماماً، لأن عنده كعبة ثانية بناها هو، وأراد للناس أن تذهب إليها. أما بالنسبة إلى الشطر الثاني من السؤال، فهذا جزء من المشاكل التي عاشها المسلمون فيما بينهم، ولكن ذلك لم يسقط هذا المقدَّس، ولم يكن الهدف من ذلك إسقاط المقدَّس، وإسقاط هذه الشعيرة، أو إسقاط هذا البيت، ولذلك عادت الكعبة كما كانت. إذاً هناك فرقٌ في الجوِّ والهدف من هدم الكعبة هنا وهناك.
ما بين الجنَّة والنار:
* هل هنالك منطقة بين الجنَّة والنَّار، وإذا كانت هي الأعراف، كما هو شائع، فلماذا لم يأتِ في القرآن الكريم ذكرٌ لأهل هذه المنطقة، وما يلقونه فيها. حبَّذا لو وضَّحتم لنا ذلك؟
- القرآن الكريم ليس كتاب جغرافية، ليبيّن من هم الذين يسكنون هنا ومن هم الذين يسكنون هناك، أمّا كلمة الأعراف في قوله تعالى: وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاَّ بِسِيمَاهُمْ( ). فقد اختُلِف في معناها نحن الآن نقتصر على ما ذكره القرآن من ذلك، مما فسره المفسرون، ثم هذه ليست من تكاليفنا نحن، وعندما نصل إن شاء الله، نرى حينها أين أهل الأعراف وأين كذا، ذاك علم لا ينفع من علمه ولا يضرُّ من جهله.
إشاعة الحديث عن الكرامات:
* تطالعنا بعض الفضائيّات على من تجري على يديه كرامات وبعض الخوارق مثل (ضرب الشيش)، وذلك بعد أن يمارسوا رياضةً روحيةً معينة، فما رأي سماحتكم بهذه الظاهرة؟
- هذا لعب بهلواني، وقضية (ضرب الشيش) وما أشبه ذلك، هي من القضايا التي تحصل من خلال تدريب معين، وليس فيها أيُّ جانب روحي ـ حسب أهل الخبرة في ذلك ـ.
معنى حديث نبوي:
* بالنّسبة إلى الحديث النبوي الشريف: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً))، قد يزعم الآخرون أنّ المراد من المسجد هو محل الصلاة، وليس مكان السجود، فما هو ردّكم على ذلك؟
- إنما سمي المسجد مسجداً لأن الناس تسجد عليه، في مقابل قوله: (مسجداً وطهوراً) يعني أنه يتطهَّر به، ويسجد عليه، وهو كلّ ما يصدق عليه الأرض. (جعلت لي الأرض) وليس مكاناً معيناً في الأرض، وكما يجوز لي السجود على كل أرض، يجوز لي التطهّر (التيمم) من كلِّ أرض. كما إنّ الروايات الواردة عن أهل البيت(ع) تؤكّد أنّ المقصود بالحديث هو ذلك.
المعجزة والكرامة:
* ما هو الفرق بين المعجزة والكرامة؟
- المعجزة هي الفعل الخارق للعادة، وهي تأتي في مقام التحدي، مثل معجزة الله في النبي إبراهيم(ع)، قال تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ( )، ومعجزة النبي موسى(ع) باليد البيضاء والعصا، ومعجزة عيسى(ع) إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وما إلى ذلك مما ذكره القرآن الكريم، ومعجزة القرآن الكريم بالنسبة للنبي محمد(ص). لذلك فالمعجزة تأتي في مقام التحدي، أما الكرامة، فقد تأتي من حكمة الله تعالى في مقام إكرام أنبيائه وأوليائه.
الأئمة(ع) كلهم محمّدون:
* قال رسول الله(ص): ((أولنا محمد وأوسطنا محمد وآخرنا محمد وكلنا محمد))، ما معنى هذا الحديث، وهل كل الأئمة(ع) متساوون من جميع الجهات أم لا؟
- هذا الحديث ليس صحيحاً.
سند دعاء الافتتاح:
* هل دعاء الافتتاح صحيح السند أم لا؟
- نقله جعفر بن محمَّد العمري، ولم يروه عن أحد الأئمّة(ع)، كما يذكر السيد ابن طاووس في (الإقبال).
الحوار في منهج أهل البيت(ع):
* ما هي الطريقة المثلى للحوار مع الآخرين في نهج أهل البيت(ع)، حتى يكون الحوار مثمراً، علماً أن هناك الكثير من العقبات التي وضعها علماء المسلمين الآخرين، لكي تسيطر على عقول الكثير من الناس؟
- قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( )، وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( )، وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( )، وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ( ). الأسلوب الإنساني هو الأسلوب الذي يطرح الفكرة ويستمع إلى فكرة الآخر، ويجادل بالكلمة الأحسن، والأسلوب الأحسن، والجدل الأحسن.
أمر النبي إبراهيم(ع) بالقبيح:
* إذا كان الله عزَّ وجل لا يأمر بالقبيح، فكيف أمر النبي إبراهيم(ع) بقتل ابنه إسماعيل(ع)؟
- من قال إنه أمر بقتله؟! قال تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ الله مِنْ الصَّابِرِينَ( )، يعني أقوم بمقدّمات الذبح، ولكنّه تصوَّر أن الله أمره بقتله، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنّ كلّ ما يأمر به الله سبحانه وتعالى حسن، قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ( )، ولذلك أمر العبد الصالح بقتل الغلام، واعترض عليه النبي موسى(ع)، لأنه كان يربط الأمور بالظاهر، والعبد الصالح كان يربطها بالباطن، ولذا قال له في قوله تعالى: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي( )، إن الله أمرني في ذلك وليس من أمري في شيء. فكل ما يأمر به الله تعالى فهو حكمة، وهو الحسن، حتى لو لم نعلم سرّه. وبالإضافة إلى ذلك، فإنَّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يظهر إخلاص النبي إبراهيم(ع) وإخلاص إسماعيل(ع) بهذه التجربة. وذلك كما قال تعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ( )، فالله تعالى أخفى سر ذلك عن إبراهيم(ع) حتى يظهر إخلاصه، واستعداد إسماعيل(ع) لأن يقدم نفسه. فالله سبحانه وتعالى لم يأمر إبراهيم(ع) ـ بحسب واقع الأمر ـ بذبحه، ولكنه أمره بإجراء مقدّمات الذبح، بقرينة قوله تعالى: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا.
فعل الذنوب التي لا تخلّد في النار:
* إذا اجتنب الإنسان الذنوب التي تخلّد في النار، وفعل ما دون ذلك من الذنوب عالماً عامداً بما يفعل، وذلك بقوله إن دخلت النار فلا أخلّد فيها، فهل يخلَّد في هذه الحالة؟
- أوَّلاً: يجب أن لا يعيش الإنسان المؤمن هذه الذهنية، لأن المؤمن يعمل على أساس أن يجنِّب نفسه من النار. وثانياً: إن عندنا حديثاً يقول: ((لا تستصغرنّ سيئة فلربما أدخلتك النار، ولا تستصغرن حسنة فلربما أدخلتك الجنة))، وهذا هو الذي ذكرناه، وهو أن الإنسان الذي يتجرّأ على معصية الله تعالى في الصغائر، فإن هناك مرضاً في قلبه، ونقصاً في إيمانه. نعم، على الإنسان عندما لا يتعمَّد المعصية أن يتوب منها بعد ذلك، أو ما إلى ذلك، وعليه أن يأمل برحمة ربه، قال تعالى: إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ( ). ثالثاً: إن قضية الخلود في النار هي واردة على نحو الاستحقاق، ولكن قد يكون أحد ما مستحقاً للخلود في النار، والله يعفو عنه.
خلود مرتكب الكبيرة في النار:
* إذا خرج الإنسان من الدنيا، وهو فاعل الكبيرة عامداً مصرّاً، ولم تدركه الرحمة الإلهية، فهل يخلد في النار؟ وهل حديث (الصغيرة مع الإصرار تصبح كبيرة) مقطوع بصحته ؟
- لماذا تغلق رحمة الله تعالى على الإنسان؟ قال تعالى: إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ومن الممكن أن تدركه الرحمة، والله سبحانه وتعالى يتحدّث عن الإنسان في قوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ( )، ولذلك تجد البعض منا يبدأ بتقسيم الجنّة والنار، فيقول: فلان يجب أن يدخل النار! وفلان يجب أن يدخل الجنة! وفلان كذا وكذا، مع أن هذا أمر بيد الله سبحانه وتعالى، وما كان لله تعالى يجب أن لا نتدخل فيه. نعم، يمكن أن نقول، إن كل من يفعل ما يستحق به عقوبة الله، فهو مستحقٌّ لها، أما هل أن الله سبحانه وتعالى يعفو أو ينفذ؟ فهذا أمر بيد الله، وعلينا أن لا نتدخل في أمره تعالى. ونحن غالباً ما نتدخل في عمل الله تعالى، بفعل أحقادنا وعصبيّاتنا ونوازعنا الذاتية. فالذين نبغضهم ونعاديهم نحكم عليهم بدخول النار، ولا تجد أحداً منا مستعدّاً لأن يعترف بأنّ فلاناً يمكن أن يدخل الجنة، حتى لو أن الله تعالى قال: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ( )، ورحمة الله سبحانه وتعالى سبقت غضبه.
لماذا سجن النبي يوسف(ع)؟
* هل كان دخول النبي يوسف(ع) إلى السجن عقاباً له من العزيز، أم أنه استجابة للدعاء الذي دعاه يوسف(ع)، أم أنه تمويه من العزيز؟
- كلا، بل إن امرأة العزيز هي التي دفعت به إلى السجن، كما جاء بنص القرآن الكريم، قال تعالى: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَاً مِنَ الصَّاغِرِينَ( )، واتفقوا بعد ذلك فيما بينهم حتى ينفّذوا تهديد امرأة العزيز، وهذا نص قرآني.
خلق حوَّاء:
* هل هناك أصلٌ معتبر في فكرنا الإسلامي يشير إلى أن حوّاء كانت سبباً في خروج آدم من الجنة، وأنها مخلوقة من ضلع آدم، أم أنَّ هذه من الإسرائيليات التي دخلت في بعض مصادر الأخبار عندنا ؟
- القرآن لم يتحدَّث عن دور حوَّاء في ذلك، بل تحدث عن دور الاثنين معاً، قال تعالى: فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا( )، وفَأَزَلَّهُمَا الشَيطَان( ). نعم، الخطاب كان لآدم(ع)، ولكن الله سبحانه وتعالى أشركه في الخطاب مع زوجه، وليس لحوّاء أي دخل في ذلك. والمشكلة هي خديعة إبليس لآدم وحوّاء معاً، قال تعالى:فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ( )، فالشَّيطان خدعهما معاً.
أما ما يقال من أن حوّاء خلقت من ضلع آدم، أي أن الله خلق آدم كاملاً ثم أخذ منه قليلاً، وهو الضلع، وخلق منه حواء، فهذا كلام غير صحيح، قال تعالى: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ( ) أي هذا البشر، فإذا سوّيته وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ( )، أما ما جاء في قوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا( )، فذلك يعني أنها نفس واحدة، أي من جنس واحد، وليس هناك شيئان.
الاستحقاق والعفو:
* قلتم إن عند الله تعالى بالنسبة للعقاب في الآخرة مقام الاستحقاق ومقام التنفيذ، فنرجو أن تبيّنوا لنا ما عقوبة الخارج من الدنيا، وهو فاعل للكبيرة عامداً دون أن يتوب، فهل يستحق الخلود في مقام الاستحقاق أم لا؟ وهل الإصرار على الصغيرة تعتبر كبيرة ؟
- قال تعالى: إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ( )، أي إنّه حتى لو لم يتب، فلماذا تستبعدون هذه المسألة عن رحمة الله تعالى ؟! فقد قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ( ). نعم، فاعل الكبيرة يستحقُّ دخول النار، حسب ما ورد في الآثار، كما في قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا( )، ولكن قد تدركه رحمة الله سبحانه وتعالى في الآخرة، ولأنه تعالى يقول: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، ولكن بعض الناس، حتى لو أراد الله سبحانه وتعالى أن يرحم شخصاً، فإنهم لا يرضون. وقد بيّن الله سبحانه وتعالى هذه الروحيّة السلبيّة بقوله: قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ( )، أي لو أن الله تعالى جعل مفاتيح الجنة بيدكم، لما أدخلتم أحداً إلى الجنة.
وأنا أتذكّر أن أحد العلماء من إخواننا المسلمين الوحدويين من أهل السنة، ذهب إلى الحجاز لأداء مناسك الحج، واجتمع بأحد العلماء الكبار هناك، قال له مستهجناً: لا يدخل الجنة إلا جماعتكم؟ قال له: نعم، قال له: الله تعالى خلق جنة عرضها السموات والأرض، ويدخلها فقط إلا هذا العدد القليل من الناس، كلّ هذه الملايين لا تدخل الجنة؟!
لذلك، نحن نقول: ينبغي أن لا نشغل أنفسنا بعمل الله تعالى، بل نشغل أنفسنا بعملنا. صحيح أن الذي يقوم بأعمال مثل القتل له جزاء كذا، والذي يزني له جزاء آخر، فنقول إنّ هذا حرام ويستحقُّ العذاب، ولكن ماذا يفعل الله تعالى؟ فهذا ليس من شُغلنا، والله سبحانه وتعالى لم يجعل الجنة بأيدينا، ولا النار كذلك، حتى نتفرغ لأن نقسم الجنة والنار على الناس. علينا أن نلتزم بما أراد الله تعالى أن نعرفه، ونترك عالم الآخرة له وحده سبحانه وتعالى.
الإمامة في القرآن:
* تعتبر الإمامة من مسائل العقيدة، شأنها شأن الإيمان بالله تعالى ورسله والملائكة، فلماذا لم تأت في القرآن الكريم واضحة وضوح المعتقدات المتقدمة ؟
- هناك فرق بين العقيدة التي يكون الالتزام بها شرطاً في الإسلام، بمعنى أن من لم يؤمن بها فهو كافر، وبين العقيدة التي تكون أساساً من أسس الحق، وخطاً من خطوط الهداية، فمن لم يلتزم بها فهو في خط الضلال، ولكنه يبقى مسلماً. ولذلك نحكم على المسلمين الذين لا يلتزمون بالإمامة كما نلتزمها، بأنهم مسلمون، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، فالقرآن الكريم أكّد الجوانب التي يكون بها الإنسان مسلماً، وبإنكار أحدها يكون كافراً، وهي: التوحيد، والنبوة، والمعاد، وهو الإيمان باليوم الآخر. أما البقية، فهي من حقائق الإيمان، ولكنها ليست من أصوله التي يكون فيها الإنسان مسلماً، وبإنكارها يكون كافراً. على أنه ذكر في القرآن الكريم قوله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ( )، وقد نزلت في الإمام علي(ع). وكذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ( )، وقد جمع(ص) المسلمين في يوم (الغدير) وقال: ((من كنت مولاه فهذا علي مولاه))، وقد ذكر أكثر المفسرين أنها نزلت في يوم (الغدير).
تحديد عصرنا من عالم الظهور:
* في أي عصر من عصور الإمام نحن؟ وما هي الملامح التي لاحت وتلوح في الأفق بالنسبة لقضية الإمام المهدي(عج)؟
- هذا غيب من غيب الله تعالى، لم يعط الله هذا الغيب لأحد، ولذلك فإن علينا أن نؤمن بذلك، لأن الحجّة قامت بذلك. أما غيبته، فهي غيب من غيب الله تعالى، وظهوره غيب من غيب الله تعالى، وتكليفنا أن نسير في الخط الذي دعا إليه النبي(ص) والأئمة(ع) من أهل بيته، حتى إذا حدث موعد الحق، كنا سائرين في الخط نفسه.
معنى النبي الأمي:
* النبي الأمي، هل هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، أم أنه الأمي أي غير اليهودي، أم أنّ ذلك نسبة إلى أم القرى مكة، أم لجهله أسباب الحضارة؟
- كلمة (الأمي) لعلَّه أريد منها ما انتسب إلى أم القرى، أو غير اليهودي، أو غير اليهودي من العرب، قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ( )، ولكن عدم معرفة النبي(ص)، أو عدم أخذه بالقراءة والكتابة نستفيدها من آية أخرى، وهي قوله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ( )، يعني أن الله تعالى يقول للنبي(ص) إننا بعثناك وقد كنتَ لا تقرأ ولا تكتب، وقد عاش الناس معك أربعين سنة، ولم يروك تقوم بذلك، لأنهم إذا رأوا هذا الدين المتكامل الذي يشتمل على عمق المعرفة كلّها، وامتداداتها كلّها، وتنوعاتها كلّها، عرفوا من ذلك أن رسالتك من قِبَلِ الله تعالى، وأنك لم تأخذ ثقافتك مما قرأت ومما كتبت وسمعت.
دور الإمامة:
* قال أحد علماء المسلمين: (إن مهمَّة النبوّة أن تصون النص الإلهي، ومهمة الإمامة أن تصون النص الإنساني بالاستقامة على كلمة التوحيد)، ما النصُّ الإنساني؟ وهل الاستقامة على كلمة التوحيد سوى النص الإلهي؟
- دور النبي أن يدعو إلى الإسلام، وأن يبلّغ كلمة الإسلام، وأن يحفظ النص الإسلامي والقرآني، وهذه هي أيضاً مهمّة الأئمة(ع)، في أنهم يحفظون النص القرآني، ويحفظون الشريعة عندما يتحرك بعض الناس من أجل أن يسير بها في خط الانحراف.
نبوءة هارون(ع) ومعجزته:
* هل كان هاورن نبياً أم رسولاً؟ وما هي معجزته؟
- الله سبحانه وتعالى تحدث عن أن هارون من الأنبياء، أما ما هي معجزته؟ فليس من الضروري أن يكون لكلِّ نبي معجزة، فليس ثمّة دليل على ذلك، ومن كانت لهم معاجز من الأنبياء، فهي معاجز في مقام التحدي، من قبيل النبي موسى(ع)، والنبي عيسى(ع). ولم يكن للنبيّ لوط(ع) معجزة، وكذلك النبي شعيب(ع) ، حتى إنّه لم يكن للنبي إبراهيم(ع) معجزة، بالمعنى المعهود للمعجزة لدى الأنبياء، ولكن الله سبحانه وتعالى قال: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ( )، وقد كان ذلك لإنقاذه من النار. والفكرة التي نؤكّدها، هي أن المعجزة ليست من خصائص النبوّة، بحيث يكون من الضروري أن يكون لكل نبي معجزة، بل المعجزة تأتي في حالات التحدي.
حب الحسين وخذلانه؟
* نقرأ في الكتب التاريخية أنَّ أهل الكوفة كانوا يحبون الحسين(ع)، فإذا كانوا يحبونه فعلاً، فكيف قاتلوه؟ كما أودّ أن أستوضح منكم كيف يمكن أن نحيي ذكرى عاشوراء، حتى تكون عاشوراء ثورية وفكرية ورسالية، كما يريدها الأئمة(ع)؟
- أما بالنسبة لأهل الكوفة، فإنَّهم كانوا يحبُّون الحسين(ع) عاطفياً، ولكنَّهم كانوا يحّبون شهواتهم وأموالهم ومطامعهم أكثر مما يحبّون الحسين(ع)، مثلاً نحن الآن نحب الله، فلماذا نعصي الله؟! كما يقول الشاعر:
تعصي الإلهَ وأنتَ تُظهر ُ حبّهُ هذا لعمرُك في الفعال بديعُ
لو كان حبّك صادقاً لأطعتَهُ إنَّ المـحبَّ لـمن يحبَّ مطيعُ
لذلك كانت المحبة ساذجة، ولم تكن منطلقة من أصالة العقيدة، ومن عمق الإيمان، بل من خلال ما يرونه من عناصر الشخصية الحسينية التي لا يملك من يلتقي بها إلا أن يحبها، ولكنه حب ساذج وسطحي لا يثبت أمام الأطماع التي يحاول الآخرون أن يغروهم بها، هذا أولاً.
وثانياً: بالنسبة إلى كيفية إحياء عاشوراء، يجب أن يكون الإحياء إسلامياً بما في الإسلام من حالة الثورة، وذلك بأن تُجعل عاشوراء صورةً لشعارات الإمام الحسين(ع)، أي أن نثقِّف النّاس من خلال عاشوراء بشعارات الحسين(ع)، كما لو كان الحسين(ع) موجوداً، مثلاً الآن نوجِّه الخطبة التي خطبها الإمام الحسين(ع) في مكة: ((أيُّها الناس، إنَّ رسول الله(ص) قال: من رأى منكم سلطاناً جائرا،ً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً عهده، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بقول ولا بفعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا عبادة الرحمن، وأحلوا حرام الله، وحرّموا حلاله، واستأثروا بالفيء، وعطّلوا الحدود، وأنا أحق من غيرَّ))، يعني الثورة على السلطان الجائر، والعمل على تغيير الواقع الإسلامي الذي يحكمه السلطان الجائر المستحلّ لحرم الله، الناكث عهده، يعني أن تحمل لنا عاشوراء ثقافة القيادة، من هو القائد الذي لابد أن نتبعه؟ وإذا كانت القيادة فاسدة وبعيدة عن الإسلام، فعلينا أن لا نؤيدها، بل علينا أن نغيرها.
ثم يجب علينا أن نعيش في عاشوراء شخصية الحسين(ع)، وروحانيته المتجسدة في دعائه في يوم عرفة، وأن نحمل أيضاً كلماته، بينما نحن ليس عندنا من ثقافتنا بالحسين(ع) إلاّ كربلاء، أين هي مواعظه وكلماته التي يركّز فيها على المفاهيم الإسلامية؟ يوجد هناك تراث كبير جداً للحسين(ع)، ولكنّنا استغرقنا في المأساة، واعتبرنا الحسين(ع) مجرد منطلق للبكاء، ولو اكتفينا بالبكاء لكان ذلك جيداً، ولكن بعض الناس ارتدّت السيوف إلى رؤوسهم، وارتدّت أيضاً سياطهم إلى ظهورهم، في تعذيب الذات، وإن كان بعض الناس لا يرتاح لما أقوله، أو لما كان يقوله السيد محسن الأمين رحمه الله في انطلاقته الأولى، ولكننا وإن أصدرنا فتوى بتحريم هذه الأعمال، فإننا نؤكد أن نحزن الحزن الرسالي، وأن تكون الأعمال معبّرة عن ذلك الحزن في هذا المجال، فلقد كان هذا هو سلوك أهل البيت(ع)، حيث إنهم أرادوا لنا أن نقيم المجالس من أجل أن تكون المجالس حركةً لتثقيف الناس بالخطِّ الإسلامي الأصيل الذي يمثله أهل البيت(ع): ((أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا. قيل: كيف نحيي أمركم؟ قال: بأن تُحدّثوا الناس بمحاسن كلامنا، فإنَّ الناس إذا عرفوا محاسن كلامنا أحبّونا))، وهذا الحبُّ لأهل البيت(ع) ليس مجرَّد خفقةٍ شعور ونبضة قلب، وإنما هو حبّ العقيدة، وحبّ المنهج، وحبّ الإسلام، كما ورد عن الإمام زين العابدين(ع): ((أحبّونا حبّ الإسلام)).
قضية الحسين(ع) والإسلام:
* كيف يمكن أن تصبح قضية استشهاد الحسين(ع) قضية إسلامية وليست مذهبية؟
- لأن كل طروحات الإمام الحسين(ع) كانت إسلامية، يعني عندما يقول: ((إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرجت في طلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة أبي وجدي، فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ أصبر حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين))؛ ((لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد، ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ، قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلّة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ذلك، ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وجيوب طهرت، من أن نؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام)). هذا كله مفاهيم إسلامية، وهي كلمات يريد أن يعبر عنها الإمام الحسين(ع) في برنامجه الاجتماعي، وكذلك الإصلاح في أمَّة جدّه. فلذلك نقول: إن عاشوراء إسلامية، وليست مذهبيةً بالمعنى الذاتي العدواني المتعصّب، ونحن نعرف أن المسلمين السنّة لا يقدّسون يزيد وابن زياد، وهما لا يمثّلان السُنّة في هذا المقام، ولو أن بعض أبناء السُنة يحاول أن يبرئ يزيد، ولكن الجوَّ العام ليس كذلك. ولذلك علينا عندما نطرح عاشوراء إسلامية، أن نطرح شعارات الحسين(ع)، وقبل شعارات الحسين(ع) نطرح شخصية الإمام الحسين(ع)، لأن لا إشكال في أن كل المسلمين ـ سُنّةً وشيعةً ـ يقدّرون الإمام الحسين(ع) ويقدّسونه، ويروون عن الرسول(ص) أحاديث كثيرة في هذا المجال: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة))، ((أحبّ الله من أحبّ حسيناً))، ((حسين مني وأنا من حسين))، وهي أحاديث يرويها السنّة، وموجودة في كتبهم، كما نرويها نحن. أي أن نقدم الحسين(ع) في الصورة الإسلامية، وأن نجعل كل احتفالات عاشوراء احتفالات إسلامية ثقافية ننفتح فيها على الإسلام والمسلمين وعلى الوحدة الإسلامية في مواجهة التحديات التي تتحدى المسلمين من خلال المستكبرين.
الفصل الثالث
المسائل الفكرية
العلاقة مع الآخر:
* هل تعتبر الحكومات والشعوب الكافرة في حياتنا المعاصرة دولاً في حالة حرب مع المسلمين، ويحق للمسلمين مع توفر الأمان أن لا يلتزموا معهم بأية مواثيق كأفراد وحكومات، خصوصاً تلك الدول التي تحمل الغالبية الساحقة من شعبها كرهاً وعداءً للإسلام والمسلمين؟
- إذا كان السائل يقصد ما يفعله بعض الناس في المغتربات وغيرها من التعدي على أموال الناس أو سرقة الأموال وما إلى ذلك من الأمور في عالم المعاملات، فهو لا يجوز؛ لأن الإنسان عندما يأخذ (الفيزا) أو يطلب اللجوء، فإن معناه أن هناك عقداً وميثاقاً بينه وبين هذه الدولة، وعليه أن يحافظ على نظامها العام في غير ما يؤدّي إلى الابتعاد عن التزامه الديني، وكذلك هناك ميثاق بينه وبين هذه الدولة، والإنسان عليه أن يفي بعهده وميثاقه، سواء مع الكافرين أو مع المسلمين، والله تعالى يقول: لا يَنْهَاكُمْ الله عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( )، فالناس الذين يستقبلونكم ويمنحونكم حقّ اللجوء، ويؤمّنون لكم الأمن وما إلى ذلك، فمن الطبيعي أن لا تخونوا هذا العهد الذي بينكم وبينهم.
العقدة في السلوك الإنساني:
* نرجو التوسع في شرح مصطلح (العقدة) التي ربما تتحكم في تصرفاتنا دون أن ندري، وهل من أسبابها شدة الكبت وكظم الغيظ؟
- العقد النفسية تختلف حسب اختلاف أسبابها، وربما تكون أسباب العقدة النفسية التربية التي يعيشها الإنسان في بيته، أو في بيئته، أو الصدمات التي تحصل في حياته، أو الكبت أو الضغوط الاجتماعية أو غيرها، أو الفقر الذي يعيشه الإنسان، أو المرض، أو ما إلى ذلك. لذلك لابد لنا أن نعالج أيّة عقدة نفسية بوسائل العلاج النفسي، أو غير النفسي إذا كانت تتصل بحالة بدنية حسيّة.
توجيهات للعراقيين:
* ما هي توجيهاتكم لأبنائكم في العراق؟ وما هو رأيكم بالتفجيرات التي تنال المدنيين؟
- إن العراق يمر الآن ببلاء من أشدّ أنواع البلاء، ولذلك على العراقيين أمام هذه المشكلات والصدمات والتفجيرات والمتاهات التي يتحرك فيها الواقع السياسي والاقتصادي والأمني، أن يصبروا، وأن يكون كل مواطن خفيراً يحرس الناس من كل هؤلاء المجرمين الذين يفجّرون السيارات بطريقة وبأخرى، أو يطلقون الصواريخ، سواء كانوا من المحتلين أو من غيرهم...
القيادة العلمائية:
* إنَّ العلماء يمثّلون قيادة الأمة، وعليهم قيادتها وحلّ مشاكلها. ما هو الموقف تجاه العلماء المحتجبين عن الناس والذين لا يوجهونهم، ولا يتحاورون معهم، كما هو حاصل في العراق، الذي يعاني من مشاكل لا تعدّ ولا تحصى؟
- في الحديث: ((إن الله تعالى لم يفرض على الجهال أن يتعلموا حتى فرض على العلماء أن يعلّموا))، وقد ورد في الحديث أنه: ((إذا ظهرت البدع، فعلى العالم أن يظهر علمه، فمن لم يفعل، فعليه لعنة الله)) ولكن قد يكون لبعض العلماء بعض الأعذار في ظروفهم الخاصة هنا وهناك، ولهذا فعلينا أن لا نستعجل الحكم السلبي على الجميع.
المرجعية المؤسسة:
* هل مرجعية المؤسسة التي تدعون إليها هي تطبيق للفكر الإخباري الشيعي؟
- لا علاقة بينهما، فالمرجعية المؤسسة معناها أن يكون هناك تنظيم للمرجعية، بمعنى أن المرجع ينتخبه علماء الأمة، وليس مجرَّد أن يقدم نفسه هو، وهو يرأس هذه المؤسّسة التي تشتمل على أجهزة تنظيم حركة المرجعية في العالم، بحيث تكون هناك أجهزة سياسية، وأجهزة ثقافية، وأجهزة اجتماعية، وأجهزة تنفتح على كل ما تحتاجه المرجعية في قيادتها للواقع الإسلامي، وأن لا تكون شخصاً، وإنما مؤسسة، تماماً كما هي المؤسسة، وربما يتمَّثل الموضوع بالفاتيكان، مع الاختلاف بيننا وبينهم في أكثر من جانب، ف(البابا) يمثل الرئيس الأعلى للكاثوليك في العالم، ولكن الفاتيكان ـ هذه المرجعية ـ لها دوائر واسعة، حتى إن (البابا) إذا أراد أن يلتقي بشخص تُقدَّم له دراسة عن هذا الشخص، وإذا أراد أن يزور بلداً ما تقدَّم له دراسة عما في هذا البلد من تنوّعات دينية، وتنوعات سياسية، وما إلى ذلك.. ثم إذا فرضنا توفي (البابا)، يبدأ (البابا) الجديد من خلال ما انتهى به (البابا) القديم.
نحن الآن بحسب الواقع، عندما يموت المرجع، فإن كلّ ما عنده من رسائل ومن علاقات ومن أوضاع يرثها أولاده، أين الآن تراث السيد أبي الحسن الأصفهاني رحمه الله، أو تراث السيد محسن الحكيم رحمه الله؟ إذ إن المرجع الجديد – عندنا بحسب وضع المرجعية الشخصية – يبدأ من حيث بدأ الأول وليس من حيث انتهى، بينما المرجعية المؤسسة هي أن تكون كل الأشياء التي قام بها المرجع الأول موجودة ضمن دراسات وفي منهجية معينة، وما إلى ذلك.. ولكن هذا يحتاج إلى إيمان الناس بهذا المنهج، حتى يمكن أن نخرج المرجعية من الجانب الشخصي إلى الجانب المؤسّسي.
التخصّص والإبداع:
* ما من شكّ في أن التخصص يقود إلى الإبداع، ولكن الملاحظ أن الكثير من العلماء يخوضون في كلِّ المسائل، كالاقتصاد والاجتماع والفلسفة، فضلاً عن علوم القرآن، والحديث، والفقه، وغيرها، ما هي نصيحتكم في هذا المجال؟
- المفروض في عالم الدين أن لا يتحدث بما لا يملك معرفته، ولذلك فإن من لا يملك معرفة بالاقتصاد في الإسلام، فمن الطبيعي أنه لا يستطيع التحدّث عن الجانب الاقتصادي في الإسلام من خلال علم الاقتصاد... قد يحتاج العالم الديني المنفتح على عملية الرسالة في العالم، إلى أن يأخذ من كل علم ـ مما يتّصل بالإسلام ـ ممّا يحتاجه في بعض الأمور الإسلامية، ولكن ليس له أن يتحدث بطريقة المتخصصين إذا لم يكن له تخصّص في هذا أو ذاك.
تقديس رجل الدين:
* ألا ترون أننا في مجتمعاتنا نقدّس رجل الدين بسبب عمامة فوق رأسه، دون النظر إلى الحقيقة الموجودة داخل هذا الرأس، أو دون النظر إلى القيمة الموجودة داخل ذاته وعقليته وتفكيره، ونحترمه فقط لأنه عالم دين، بغضّ النظر عن أخطائه وسلبياته؟
- هذا خطأ، فعالم الدين ـ أساساً ـ لا يختلف عن الناس الآخرين، فلا هو نبي ولا هو وصي، هو إنسان يملك ثقافة الفقه، مثل المهندس الذي يملك ثقافة الهندسة، والطبيب الذي يملك ثقافة الطب، كذلك فالمفروض أن يملك العالم الديني ثقافة الفقه والأصول أو ثقافة الإسلام بشكل عام، لذلك ليس من الطبيعي أن نحترم إنساناً أو نتّبعه لمجرَّد شكله، يمكن أن نحترم الزيّ باعتبار أن فيه جانباً رمزياً، ولكن علينا أن لا نتبع إنساناً حتى نعرف أنه في مستوى الثقة العلمية، وفي مستوى الثقة الروحية، وما إلى ذلك.. لأن هذا الزي قد كثر لابسوه من الجهلة، ومن الذين لا يملكون أية ثقافة، وبهذا أصبح بعضهم يقدم للناس جهلاً ولا يقدِّم لهم علماً.
الصحيفة السجّادية والواقع التاريخي:
* هل يمكننا اعتبار الصحيفة السجادية مرآة واضحة للحوادث التي جرت على أهل بيت محمد(ص)، وهل هذه الأدعية هي التي كانت تنبع من عواطف أنصار الحسين(ع)؟
- الصحيفة السجادية ثقافة مستقلّة عن ذلك، فليس لها دخل في قضية المآسي التي حصلت، أو ما عاشه أنصار الحسين(ع) من مآسي ومشاكل، إنما تمثل ثقافة روحية إسلامية منفتحة بالإنسان على الله سبحانه وتعالى، وعلى الإنسان، وعلى الحياة.
الطابع الحسيني في حياتنا:
* لماذا يطغى الطابع الحسيني على أغلب الحركات الشيعية السياسية على الرغم من تنوّع الأساليب التي اعتمدها الأئمة(ع) في التعامل مع الحياة السياسية وظروفها؟ لماذا لا نستفيد من هذا التنوّع في تثبيت المذهب سياسياً ودينياً في مجتمعاتنا الملونة طائفياً؟
- هذا الحكم المطلق غير صحيح، لأنه توجد عندنا حركات إسلامية تملك عقلانية وتملك تخطيطاً، وتملك فكراً. نعم، توجد حركات إسلامية ليست كذلك، أما أن نقول ليس عندنا تنوّع في دراسة الأمور والظروف، فهذا غير صحيح، فعندما ندرس الحركات الإسلامية، نجد أن هناك تنوّعاً في المناهج والتفكير.
الإسلام والعروبة:
* هل هناك تعارض بين الدين الإسلامي والقوميّة العربيّة ؟
- خلق الله سبحانه وتعالى أنواعاً شتى، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ( )، فالشعب، أو القبيلة، أو القومية، إنما هي تجمّع من الناس يشتركون في عادات وتقاليد ولغة واحدة، وما إلى ذلك.. فالتنوّع الإنساني والقبلي هو حالة إنسانية، والإسلام هو الصورة لذلك الإطار، فالعروبة هي حالة لغوية، والقرآن هو حالة فكرية، وقد نزل القرآن الكريم باللغة العربية، فلا تعارض بين الإسلام والعروبة، ولكنَّ المشكلة هي عندما تدخل الماركسية على العروبة، أو العصبية القومية، كما يقال (العرب فوق الجميع)، فهذا كلام ليس من الإسلام، لأن الحديث النبوي الشريف يقول: ((لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى))، وكما قال الإمام زين العابدين(ع): ((إن العصبية التي يأثم عليها صاحبُها أن يرى الإنسان شرار قومه أفضل من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن أن يعين قومه على الظلم))، فالمشكلة أنّه إذا تعارضت القومية ـ سواءً كانت قومية عربية أو تركية أو فارسية، وغيرها ـ مع الإسلام،ٍ فإن القومية تتأخر ويتقدم الدين.
يوم السجين:
* في ذكرى استشهاد الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) في السنة الماضية، دعوتم أن يكون يوم تلك الذكرى يوم الأسير والسجين المسلم، فما هي الدلالات التي تنصحون بها الذين فقدوا أهليهم في سجون الظالمين؟
- نستذكر موقف الإمام الكاظم(ع) وهو سجين، حيث كان يعيش مع الله بقوله: ((اللهمَّ إني كنت قد سألتك أن تفرِّغني لعبادتك وقد فعلت فلك الحمد))، فبهذا الصبر العظيم في سجن الإمام فليتّعظ السجناء المظلومون ويصبروا، ولا يتخلّوا عن مبادئهم ونشاطهم في داخل السجن، فقد كان الإمام(ع) يجيب عن رسائل شيعته وهو في السجن. وكما صبر السجناء ليكون صبرهم على طريقة (هوّن ما نزل بين أنه بعين الله) فليصبر ذووهم فهو بعين الله أيضاً.
التبليغ الإسلامي:
- أنا شاب أفريقي تعرّفت عليكم هنا في سورية، لماذا لا نرى لكم نشاطاً في القارة الأفريقية؟ وإن كان هناك نشاط فهو نشاط متواضع، إلى درجة أننا لا نعرفكم ولا نسمع عنكم ؟ هل نحن في هذه القارة الفقيرة والطيبة على هامش اهتماماتكم واهتمامات المرجعية التي تهتم غالباً بالجالية العربية هناك فقط؟ الناس هناك طيبون إلى درجة أن قبيلة كاملة كانت تتنصَّر بسبب مساعدة طبية بسيطة، وابتسامة جميلة من الداعية المسيحي. لماذا هذا التقصير منكم، علماً أن نسبة المسلمين تصل في بعض الدول إلى 98% من عدد السكان، لماذا لا نقتدي برسول الله(ص) الذي أرسل الدعاة والمبلّغين إلى هناك، وأولى هذه الساحة لرعايته ومباركته؟
- لنا عدة نشاطات في أفريقيا، سواء في نيجيريا، أو في سيراليون، وأبيدجان، وغينيا، وأماكن كثيرة. ولكن أفريقيا واسعة، والإمكانات محدودة في هذا المجال. وإننا نهتم بأفريقيا، ونتابع المشاكل التي تحيط بها، والحروب التي تثيرها أمريكا من خلال الصراع بينها وبين أوروبا في هذا المجال. لذلك نحن ـ بحسب إمكاناتنا ـ نعمل على هذا الأساس، ولعلَّ السائل يعرف أننا نستقبل طلاباً أفريقيين في الحوزة في لبنان، وطلاباً هنا – في دمشق - من أجل إعدادهم ليقوموا بمهمة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى هناك.
التنظير للهزيمة:
* نحن العرب نفلسف دائماً هزيمتنا ونتحدَّث عنها وكأنها نصر، ونتحدث عن نصر أعدائنا وكأنه هزيمة، ولو كان نصرنا هذا وهزيمتهم هذه في ساحة الكلمات فقط، فهل هو هروب من هذا الواقع الأسود إلى التبريرات والتفسيرات والحجج؟ وما هو الحل الأمثل في رأيكم؟
- نعم، نحن ننقد هذا الواقع الذي لا يحاول أن يدرس نقاط الضعف الموجودة في الأمة، سواء كانت أمة عربية أو إسلامية، والتي تساهم في الهزيمة، ولا ندرس ـ أيضاً ـ نقاط القوة عند الأعداء. ونحن دائماً كنا نقول معادلةً، وطالما كرّرناها: إن في الضعيف عناصر قوة، وفي القوي عناصر ضعف، فعلينا أن نحارب العدو في عناصر ضعفه بعناصر قوّتنا، بدلاً من أن نحارب القويّ في عناصر قوّته بعناصر ضعفنا. وعلينا الاعتراف بنقاط ضعفنا التي تقود إلى الهزيمة التي يفرضها العدوّ علينا من خلال ذلك، فنعمل على تحويل الضعف إلى القوّة لتتحوّل الهزيمة إلى انتصار حقيقيّ.
أسلوب الحوار:
* كثيراً ما نعاني في الحوار مع من يخالفنا في المنهج لتعصّبهم الشديد والتزامهم بالروايات دون تحريك العقل، فما هو تكليفنا الشرعي عند ذلك؟
- تكليفنا هو أن نبقى نتحدث. ويجب الأخذ بعين الاعتبار أن تكون لنا ثقافة ما نعتقده وما نؤمن به، وأن تكون لنا ثقافة ما يراه الآخرون، ويقال في الحديث المنسوب إلى الإمام الكاظم(ع): ((وجدت علم الناس قد اجتمع في أربع: الأول أن تعرف ربك، الثاني أن تعرف ما صنع بك، الثالث أن تعرف ما أراد منك، الرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك))، بحيث تعرف الأشياء السلبية التي من الممكن أن يسيطر عليك فيها الآخرون من الضالّين، إضافةً إلى الأشياء التي تؤكد لك دينك. أمّا الموقف من هؤلاء، فقد يكون في اكتشاف الثغرات التي تفتح لنا الطريق إلى عقولهم، لتحطيم الحواجز التي تحول بيننا وبين إثارة الحوار معهم. وقد يكون في الإعراض عنه، عندما نصل معهم إلى الطريق المسدود من خلال التعقيدات العصبيّة.
تمييز الطبقات:
* يتهم رجال الدين والعلماء بأنَّ عندهم تمييزاً عنصرياً بارتداء العمامة السوداء والبيضاء، فكيف يرى سماحتكم ذلك ؟
- إذا كان هذا معناه التمييز، فيوجد من الناس من يلبس بنطالاً، ومن يلبس ثوباً طويلاً، فهل هذا تفريق بين الناس؟ يوجد الآن من الناس من يلبس برنيطة، والآخر مكشوف الرأس. هذا مجرّد اصطلاح اجتماعي. فالهاشميّ يلبس العمّة السوداء، فهل من ميزة للسواد؟ في حين قد تكون المسألة على العكس، حيث قد تكون الميزة للبياض، بحسب ما يراه الناس. المهم إن هذا مجرد اصطلاح درج عليه الناس، وإلا فإن النبي(ص) كان يلبس عمامة حمراء ساعة، وساعة أخرى عمامة بيضاء، وأخرى خضراء، وهذا لا يمثل شيئاً في القيمة حتى يقال إن فيه شيئاً عنصرياً في هذا المجال. والناس تختلف في أزيائها، فالأفريقيون لهم أزياء، والغربيون لهم أزياء، والهنود لهم أزياء، فهل هذا تمييز عنصري؟ أعِد ثقافتك في معنى التمييز العنصري.
ومن العلم جهل:
* ما معنى قـول الحديث الشريف عن المعصوم(ع): ((إن من البيان لسحراً وإن من العلم جهلاً))؟
- إذا صحَّ هذا الحديث، فالمقصود هو العلم غير النافع، والذي لا يؤدي إلى نتائج عملية، سواءً في معرفة الحقيقة، أو في ما يرفع الإنسان. فالحديث يتّجه في هذا الاتجاه. وإن هناك من البيان لسحراً في بلاغته، وإشراقة أسلوبه وكلماته ومعانيه، وإن من العلم جهلاً، وهذا هو العلم غير النافع، أو الذي يضرّ، أو العلم الذي لا يستتبع عملاً أيضاً.
طبيعة المرجعية:
* المرجعية الشيعية، هل هي وراثة، أم منصب، أم استحقاق، أم فيض من الله تعالى؟
- المرجعية الشيعية هي حالة بشرية إنسانية، لأن المرجع هو إنسان تثقَّف بالفقه والأصول، وبما يحتاجه الإنسان في قيادته للأمة، كل بحسبه، وأخذ نفسه بالتقوى، فليست فيضاً من الله تعالى، أو استحقاقاً، أو منصباً ذاتياً، مثل الإمامة والنبوَّة، وإنما هي حالة بشرية إنسانية، تنطلق من ثقافة إنسانية في أمور الشرع على الخطِّ الإسلامي الإمامي، وتنطلق من خلال التربية الدينية التي أخذ بها على نفسه.
نظام المرجعيّة:
* وهل المرجعيّة الشيعيّة بيوتات أم نظام مؤسساتي؟
- ليست بيوتات، وربما كانت البيوتات تتوارث المرجعية، ولكن ليس معناه أن الولد يصبح وريث أبيه بدون وجه استحقاق وجدارة، فيصبح مرجعاً، بل معناه أن الشخص المرجع قد يربّي ابنه على الثقافة التي تحوّله إلى مجتهد، وإلى شخص يملك العناصر الحقيقية للمرجعية.
أصالة الإسلام:
* في البلد الذي أعيش فيه، هناك تيارات ومصطلحات إسلامية مثل: الإسلام الديمقراطي، والإسلام الليبرالي، وما إلى ذلك، فما هو السبب في ظهور تلك التيارات، وما نصيحتكم بذلك؟
- هذه المصطلحات لا تنسجم مع طبيعة الإسلام، مثلما يقال مسيحي شيعي، أو ماروني مسلم، فالليبراليَّة تمثّل خطاً فكريّاً يختلف عن التشريعات الإسلامية، كذلك الديمقراطية ربما تلتقي مع مفهوم الشورى في الإسلام، ولكنها تختلف في أساسها عن الدين الإسلامي الذي فيه ثوابت ليس للناس دخل فيها، وإنما شرَّعها الله سبحانه وتعالى. فالإسلام شيء، وتلك المصطلحات الغربية شيء آخر.
شهر الله والمسّ بحرمته:
* نعرف رمضان باسم (شهر اللّه)، ما هو تكليفنا تجاه ما نراه من مسٍّ بحرمة هذا الشهر، حتى أصبح شهر الشيطان، من خلال الانتشار الهائل لحفلات الغناء والرقص والمواد التلفزيونية الموجّهة التي تبعد الناس عن جو رمضان المميز وعن جو المسجد؟ وتضعهم في جو عابق بالفسق والفجور بطريقة إعلامية مركَّزة؟
- هذا شهرهم، وليس (شهر الله)، شهر الرحمة، والمغفرة، وشهر القرآن، وشهر الصبر والطاعة واجتناب المحرّمات والمنكرات.
محور العمل الإسلامي:
* يطرح البعض أن رجل الدين يجب أن يكون هو المحور في العمل الإسلامي، ما رأيكم في ذلك؟ وهل هناك قاعدة إسلامية تجيز ذلك؟
- إن رجل الدين إنما يكون محوراً للعمل الإسلامي إذا كان يملك المعرفة الفكرية، والفقهية والحركية والسياسية، التي تؤِّهله لأن يكون فيها محوراً للعمل الإسلامي، ولكن ليس في الإسلام كهنوتية، فهل يكتفى بالأشخاص الذين عندهم علم فقه وأصول فقط ليكونوا ولاة الأمة؟ كلا، عندنا أشخاص مثقّفون، ومفكّرون، لا يطلق عليهم، بحسب المصطلح، أنهم رجال دين، أو علماء دين، ولكنهم يملكون ثقافة إسلامية عامة، وثقافة حركية، وثقافة الواقع، وبعضهم أعرف بأهل زمانه.
نعم، نقول يجب أن يكون هناك تكامل بين طلائع الأمة، بين من لديه معرفة فقهية، وآخر عنده معرفة إسلامية ثقافية فكرية، وثالث عنده معرفة سياسية، وعلى الأمة أن تتكامل في هذا المجال.
القناعة الاقتصادية:
* ألا ترون أن الجانب الاقتصادي المادي من حياة الإنسان المسلم له أهمية بالغة - ومن خلال الطرق المشروعة والسليمة طبعاً - بينما نرى جلّ المسلمين مقتنعين فقط بالكفاف كما يقولون، وأنهم لا يريدون سوى حاجتهم فقط، ألا ترون أن هذه النظرية والطريقة تؤدي إلى الضعف في القوة الاقتصادية للمسلمين وبالتالي للأمة والدين الإسلامي ؟
- ثمّة فرقٌ بين أن تقنع نفسك بالكفاف، وبين الحقيقة التي تقول إنّ الأمة تحتاج إلى أن يكون عندها الماكينة لإنشاء مصنع ما، أو ثروة صناعيّة، تدخلها في ساحة الصراع الاقتصادي، حتى تتعزّز قدراتها. ولذا نحن عندما نريد أن نتحدث عن بعض الأمور، كقضية الزهد، هذه الحالة النفسية، نقول: ((ليس الزهد أن لا تملك الدنيا، ولكن أن لا تملكك الدنيا))، ولذا ماذا قال أصحاب قارون له: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ الله الدَّارَ الآخِرَةَ( )، يعني أن تكون أهدافك في الحياة الدنيا أهدافاً غير شيطانية، بل أهدافاً إنسانية وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا، يعني حاول أن تأخذ نصيبك بحسب حاجاتك. أما إذا كنت تفكر بذاتك، فلا يوجد شيء فوق الحاجة، مثلما قال الشريف الرضي:
ما كانَ منهُ زائداً عن قوتهِ فليعلمنّ بأنهُ ميراثُ
فهو ليس لك بحسب طبيعة حركة الحياة؛ لأنه زائد عن حاجتك، وهكذا عندما تفكر في المال ذاتياً. أما أن تفكر في المال من أجل تقوية مواقع أمَّتك، ومن أجل أن تعزِّز مصادر الثروة للأمة التي تكون قوية، وبها تستغني عن الأمم الأخرى، فهذا شيء آخر.
الاستفادة من التجارب:
* في غمار حديثنا عن العاقل، نتذكر القول المأثور: ((لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين))، أليس لنا أن نستثني جلّ العرب والمسلمين من هذه الصفة، فقد لدغنا من جحر (الدخلاء) مراراً وتكراراً، من انسياق في فتنتهم، وتقليد ساذج غبي لكلِّ شطحاتهم وصرعاتهم، حبَّذا لو أجبتمونا بموضوعية؟
- المؤمن عاقل، وإنما صار مؤمناً بعقله، ووعيه، ودراسته للأمور التي تنطلق أيضاً مما يوحي به العقل. والمؤمن ينفتح بتجربته، فإذا دخل في تجربة فاشلة، أو تجربة يتضرر منها، فإنه لا يكرِّر هذه التجربة، وقد ورد: ((من العقل حفظ التجارب))، وفي كلمة للإمام علي(ع): ((خير ما جرَّبت ما وعظك))، أي إن أفضل تجاربك هي التي تعظك وترشدك، وتعرّفك كيف تتحرَّك في حياتك لتتفادى التجربة الفاشلة، وتأخذ التجربة الناجحة، ونحن نعرف أنّ الناس، سواءٌ كانوا من العرب أو من المسلمين، لا إشكال أنّهم واجهوا الكثير من التجارب الفاشلة مع المستكبرين، ومع الدخلاء، ومع الحكومات الظالمة، ولكنّهم كرّروا تجربتهم في السير معهم، وفي اللحاق بهم، وفي تأييدهم، فوقعوا في نتائج سلبية تماماً كالنتائج السابقة.
شهر الفكر:
* لماذا لا نجعل رمضان شهراً للفكر، نعمّره بأنواع الدروس والنشاطات الفكرية، حتى نصل إلى مجتمع يعبد الله ويحبّه عن علمٍ ووعيٍ، لا عن بساطة وعاطفة؟
- إننا نشجِّع على ذلك، فنحن نحاول إيجاد ندوات ثقافية، وعظية، وفكرية، يمكن أن تبيّن الأسس التي ترتكز عليها التشريعات الإسلامية، سواء بالنسبة إلى العبادات، أو غير العبادات. ثم نحن عندما ندرس الأدعية في القرآن، في شهر رمضان، نرى أنّها حجّة ثقافية، تعطي الإنسان أسس الثقافة الإسلامية في العقيدة، وفي الشريعة، وفي المنهج، وفي كل حركة الأنبياء في التاريخ. وهكذا عندما ندرس الأدعية الواردة عن النبيّ(ص) وأهل البيت(ع)، خصوصاً أدعية الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، فهي عبارة عن مدرسة ثقافية. ولكن علينا أن لا نقرأ الدعاء بدون وعي، وبدون تأمّل، فمثلاً عندما نقرأ دعاء الإمام زين العابدين(ع) إذا دخل الشهر، نراه يجمع كلَّ أسرار الصيام، سواء الصيام الأخلاقي، أو الصيام الثقافي، أو الصيام السياسي، إلى جانب الصيام المادي.
المرجعية ومواكبة العصر:
* لماذا تبتعد مرجعيّاتنا الدينية عن مواكبة التطوّر العلمي في عصرنا هذا؟ هل هو نقص في اطّلاعهم العلمي، أم تقيد بحرفية النص؟
- كلا، هناك بعض المراجع منفتحون على العصر، ولا أعتقد أنهم يبتعدون عن الشرعية، لحفظ اجتهادهم، ولكن الاجتهادات تختلف في هذا المجال، كما تختلف الإمكانات حسب اختلاف ظروفهم.
الإعلام الإسلامي:
* ألا ترون أن: (الإسلام يفتقر إلى الإعلام)؟ وهل تكفي إذاعة واحدة أو نشرات مكتوبة (محدودة الانتشار) في هذا الخضمّ الهائل من الإعلام الموظَّف والموجَّه، والذي يروّج الفكرة التي يريد، للحصول على الهدف الذي يريد؟
- صحيح، لكن أغنياء المسلمين والقائمين على شؤونهم، لا يهتمون بالمسألة الإعلامية الإسلاميّة الإيمانيّة. نحن تحدثنا مع كثير من الناس، بأن ينشئوا فضائية إسلامية منفتحة، وهي أفضل من عشرين مسجداً، أو عشرين حسينية، لكن الناس مستعدّون لدفع الملايين في بناء الحسينيات أو المساجد الزائدة عن الحاجة، لكنهم غير مستعدّين لدفع هذه الملايين أو غيرها في إنشاء محطة فضائية.
الدعوة إلى الوحدة الإسلامية:
* لماذا لا تدعون إلى الوحدة بين المراجع والعلماء وبين السنّة والشيعة في العراق، لأننا نعاني من بعض الإشاعات والنفاق والعياذ بالله؟
- نحن نتحدَّث دائماً عن الوحدة، وأوَّل شيء ندعو إليه هو الوحدة بين الشيعة، لأن مشكلتنا هي أن الشيعة ليس عندهم وحدة، ونحن ندعو إلى أن يتكاملوا في الوحدة في كلّ أصنافهم وأوضاعهم وقضاياهم، ثم الوحدة بين الشيعة والسنّة في التأكيد على الوحدة الإسلامية الشاملة التي تمنحهم العزَّة والقوّة والوعي والكرامة. وأنا أذكر أني كنت أتحدّث بالوحدة الإسلامية منذ أكثر من خمسين سنة، وذلك في سنة 1952، حيث إنني ألقيت قصيدة في رثاء المرحوم السيد محسن الأمين رحمه الله دعوت فيها إلى الوحدة الإسلامية، ولا نزال نتحرّك في هذا الإطار، فلا توجد خطبة جمعة، أو حديث مع فضائية أو أحاديث صحفية، إلا وأتحدث عن الوحدة، سواء في دوائرنا الصغيرة أو دوائرنا الكبيرة. ونحن نقول: إن الوحدة الإسلامية لا تعني أن على الشيعي أن يصبح سنياً أو أن على السني أن يصبح شيعياً، بل أن نلتقي على ما اتفقنا عليه، ونتحاور في ما اختلفنا فيه، قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ( ).
تطوير المنبر الحسيني:
* لقد أصبحت المجالس الحسينية مكاناً لسرد الأساطير حول عاشوراء، وكأن المهم هو البكاء فقط بقطع النظر عن الوسيلة !؟ ما هو دور العامّة والخاصّة في هذا المجال؟.
- اختاروا الخطيب الذي يجعل عقولكم تفكّر، ويتحدَّث على أساس العلم؛ لأن المشكلة أن الكثيرين من الناس أصبحوا يريدون الخطيب الذي يحدّثهم بالأطياف والأحلام، والخرافات، ويريدون صاحب الصوت الجميل من دون أن يدقّقوا في علمه وموازينه. فليس المطلوب في إثارة ذكرى عاشوراء أن يبكي الناس على لحن القصيدة وصوت القارئ فقط، بل أن يكون ذلك منضمّاً إلى عمق الفكر الإسلامي الّذي وجدت عاشوراء من أجل تركيزه في حياة الأمّة، وإلى حقيقة القضيّة وواقعها بعيداً عن الخرافات والأوهام التي تسيء إلى القضيّة بشكل وبآخر.
إنّ الإمام الحسين(ع) كان يقول: ((إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر))، والأئمة(ع) كانوا يقولون: ((أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا. قيل لهم: كيف هو إحياء أمركم؟ قال: أن يعلّم الناس علومنا ويحدّثهم بمحاسن كلامنا، فإن الناس إذا عرفوا محاسن كلامنا، أحبونا واتبعونا))، بينما نحن لا زلنا نفسر (أحيوا أمرنا)، أي تطبروا، واضربوا الزنجيل، أو امشوا على النار، أو ازحفوا على خدودكم، أو ما أشبه ذلك، مما يعني أنّنا حوَّلنا قضية الإمام الحسين(ع) إلى تقاليد تدل على التخلف الذي نعيشه واعتبرنا ذلك مقدّساً!
تدنّي المستوى الثقافي الإسلامي:
ٍ* بماذا تفسِّرون ضعف الإنتاج الثقافي عند طائفة الشيعة، خاصّةً إذا ما لاحظنا قلّة الإصدارات الفكرية المعاصرة وتكرار الموضوعات التي تداولتها الأقلام الإسلامية منذ أكثر من ألف سنة؟ وكيف السبيل إلى معالجة هذه الظاهرة السيئة؟ وما هي مبادراتكم في سبيل مواجهة هذه الظاهرة؟ مع العلم بأني أقدِّر عالياً إنتاجِكم الثقافي؟
- الواقع أن القضية ليست بهذه الشمولية، ونحن عندما ندرس الإنتاج الثقافي عند المسلمين الشيعة، فإننا نجد أن هناك طليعة ثقافية شبابية أخذت بأسباب الثقافة المعاصرة مقارنةً بالثقافة الإسلامية، وبدأت عمليّة الإنتاج الثقافي بطريقة وبأخرى، ولكن المشكلة هي أنَّ المسلمين الشيعة غرقوا في التحدّيات والمشاكل السياسية والأمنية، بما شغلهم عن ذلك، ونرجو من الله أن يخفِّف عنهم ذلك، حتى ينطلق شبابنا ليتحركوا في عملية النموّ الثقافي الذي يمكن لهم أن يواكبوا فيه حركة العصر الثقافية بالطريقة التي يستطيعون فيها أن يؤصّلوا الثقافة الإسلامية، بما يمكن أن يفتح العالم المعاصر على الإسلام كله.
لماذا الحزن على الشهداء؟
* الشهادة (الموت في سبيل الله)، في النظرية الإسلامية من أعلى الدرجات التي يرغب كلُّ مؤمن أن يصل إليها. فلِمَ أمرنا الأئمّة الأطهار(ع) أن نحزن ونبكي للشهداء؟ هل في هذا الحزن والبكاء فلسفة لم ندركها؟
- رحم الله السيد الخميني رحمه الله، فلقد جاء له شخص وقال له: ادع لي بالشهادة، قال: لماذا؟ أنا أدعو لك بالنصر، ففي قوله تعالى: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ( )، النصر أو الشهادة. ليس من واجبنا أن نفكر بأن نموت، بل أن نفكر بأن ننتصر، ونحصل على الفتح ونحصل على التقدم وإسقاط الأعداء. أما قضية أمر الأئمة(ع) لنا بالحزن، فذلك فقط في ذكرى عاشوراء، التي ليست هي مجرّد حالة شهادة كحالة مأساوية، بل الشهادة كحالة رسالية، حيث يقول الإمام الحسين(ع): ((خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر))، إن رسالة كربلاء هي: ((والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد، ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلة))، هذه هي كربلاء. فالحزن هنا يمثل حالة تفاعل مع كربلاء، باعتبار أنها أكَّدت المأساة التي صنعها أعداء الله، ولكن في خطِّ الشهادة، وفي خطِّ العزة، وفي خطِّ الكرامة، وما إلى ذلك، فليس المقصود الحزن للحزن، والبكاء للبكاء، ولكن قضية المأساة التي تختلط بخطوط الرسالة التي يبذل أصحابها حتَّى أنفسهم في سبيلها.
الإمام علي(ع) والمرأة:
* ما سبب وصف الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) للمرأة بأنها ضلع أعوج، وقوله: ((إنّ المرأة شر لا بد منه)). حبذا لو فسَّرتم لنا ذلك بموضوعية؟
- أوّلاً: نحن نشكُّ في نسبة هذه الكلمات التي تنسب للإمام علي(ع)، لأن المرأة ليست ضلعاً أعوج، وحكاية أن المرأة خلقت من ضلع الرجل وكذا، ليست ثابتة عندنا، وثانياً: إنَّ كلمة: ((المرأة شرٌّ كلّها وشرُّ ما فيها أنه لابدَّ منها))، نحن ناقشناها في كتبنا، وقلنا هذه ليست للإمام علي(ع) أصلاً، وإن نهج البلاغة لا يعتبر كله من الحديث الصحيح الذي نأخذ به، فبعضه مرسل، وبعضه روايته صحيحة، وبعضه موثق. على أنّ هذه الكلمات لا معنى لها؛ لأنّها إن كانت شرّاً كلّها فلماذا يعاقبها الله سبحانه؟ وما ذنبها ما دام الله ـ حسب الفرض ـ قد خلقها لا تستطيع إلا على الشر. ثمّ ما معنى قوله: ((شر ما فيها أنه لا بد منها))، فإن كان المقصود هو أنّه لا بدّ منها للتناسل، فالرجل أيضاً لا بد منه في ذلك؛ لأن الإنسان يُخلق من رجل وامرأة. ولذا نحن نقول إنّها كلمة لا معنى لها. وقد رأيتُ هذه الكلمة في كتاب (بهجة المجالس)، تنسب للمأمون بأنّ ((النساء شر كلهن وشر ما فيهن أنه لا بد منهنّ)).
ضرورة العمل الفكري:
* لماذا لا نرى لكم مراكز دراسات كما لبعض المراجع العظام؟
- نحن نعمل على إنشاء مركز متخصّص للدراسات، يحاول أن يدرس الكثير من القضايا الثقافية الإسلامية، ويشرف عليه جماعة من أصحاب الشهادات الجامعية، والله الموفّق.
العمل للإسلام وللحزبيّة:
* هل العمل الإسلامي محصور بالأحزاب كما نرى على أرض الواقع، أم أنّ على دعاة الإسلام الانفتاح على كلِّ الناس؟
- كلا، ليس العمل الإسلامّي محصوراً بالأحزاب، بل هناك عدة وسائل للعمل الإسلامي، وفي الأثر: ((إن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق)).
الأساليب الناجعة في الحياة:
* سمعت قولاً لأحد الناس مفاده أن الشيعة لم يفلحوا إلا في تحويل الصديق إلى عدوّ، فهل هذه المقولة صحيحة؟
- إذا كنا نقول على طريقة الإمام علي(ع): ((ما ترك لي الحقُّ من صديق))، فهذه المعاني صحيحة، لأن كل أصحاب الحق عندما يواجهون أهل الباطل وهم أكثرية، فمن الطبيعي أن لا يكون لهم صديق، أو أن يقلّ أصدقاؤهم، لكن القضية ليست واقعية بهذا الشكل الذي ذكره السؤال؛ فالشيعة لهم أعداء، ولهم أصدقاء، كما الآخرون.
الإمام علي(ع) وظاهرة التّكفير:
* البعض يعيب على أمير المؤمنين(ع) أنه ـ بحسب قولهم ـ دخل في معمعة التكفير والقتل التي حدثت عقب وفاة رسول الله(ص)، حيث قتل الخوارج وهم مشهورون بالعبادة وأغلبهم من حفظة القرآن الكريم، وبدون شك يقرّون جميعاً بالشهادتين، ورسول الله(ص) يقول: ((من قال لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، فقد عصم مني ماله ودمه))، فكيف نرد على مثل هذا الكلام؟
- الواقع أن هؤلاء لا يفهمون المسألة في أبعادها الإسلامية وفي واقعها التاريخي وظروفها الشرعية، فعندما انطلق الإمام(ع) بالخلافة، رأى كل الألغام مزروعة في طريقه، سواء تلك التي زرعت في الفترة التي سبقت تولّيه الخلافة، أو في عهده عند تسلّمه الخلافة في بيعة المسلمين له. والإمام علي(ع) هو الخليفة الحق حتى لو لم يبايعه الناس، بدليل الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ( )، والأحاديث المشهورة عن النبي(ص): ((أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي))، وقوله(ص) في حديث الغدير: ((من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه)). لكن الإمام عندما بويع بالخلافة، بدأ يخطِّط للدولة الإسلامية الحضارية، وهو خير من يخطِّط لها، فأول ما ابتلي به الإمام كان خروج طلحة والزبير، وهما من الصحابة، والزبير ابن عمته، وطلبا منه بعد أن بايعاه: ((يا عليّ أشركنا في الحكم))، فقال الإمام لهما: عليكما المشورة، أما الخلافة فليس لكما شأن بها؛ لأنّكما لا تملكان شرعيّتها، وأنا لا أملك منحكما إيّاها، وحاول أن يقنعهم، ولكنهما أصرّا على موقفهما، واصطحبا، معهما زوجة الرسول(ص) السيدة عائشة، وذهبوا إلى البصرة لإثارة النَّاس ضد علي(ع)، وبذلك اختل نظام الدولة. وأرادوا أن يحكموا البصرة، في الوقت الذي أخذ الإمام الكوفة مركزاً لها، وعندما ذهب إلى البصرة وجمع الناس، حاورهم، وخاطبهم، وحتى إنه بعث أحد الأشخاص ليعرض القرآن عليهم، إلاّ أنهم قتلوه، عند ذلك رأى الإمام أن يقاتلهم، لا على أساس اختلاف الرأي، وإنما على أساس حفظ الأمن العام للمسلمين، وحفظ نظام الدولة الإسلامية التي أرادا أن يقسِّماها لمصلحتهما الشخصية. فقتال طلحة والزبير كان قتالاً لحفظ الأمن في الواقع الإسلامي، وحفظ وحدة الأمة الإسلامية. وبعد ذلك قام عليه معاوية بعنوان الأخذ بثأر عثمان، والإمام ليس له دخل في مقتل عثمان، لأن الإمام(ع) دافع عن عثمان، وترك ولديه يدافعان عنه، ولو قرأنا في (نهج البلاغة) الرسائل التي أرسلها الإمام(ع) إلى معاوية، والتي تشتمل كل الأساليب الرائعة والقيم الإسلامية، لرأينا أن الإمام ما كان في موقع حرب، إنما كان هدفه الحفاظ على الدولة الإسلامية. ومن ثم دارت الدوائر، وقام معاوية بالحرب، ولجأ إلى التحكيم، وثارت بعد ذلك اللعبة، فأراد الإمام(ع) أن يرسل ابن عباس، لكنَّ الضغط الذي مارسه الخوارج ضده أجبره أن يرسل أبا موسى الأشعري، الإنسان البسيط والمعقَّد من الإمام أيضاً، حتى تغلب عليه عمر بن العاص، فقالوا: لا حكم إلا لله، كيف تحكم، أنت أشركت يا علي! فتركهم الإمام وبعث ابن عباس ليحاورهم، وبقي يعطيهم أعطياتهم ومعاشاتهم، مثل بقية المسلمين. ومع ذلك، لم يقاتلهم الإمام(ع) لأنهم عارضوه، بل لأنهم بدأوا يقطعون طريق المسلمين، فقتلوا خبّاباً وزوجته، ولأن الإمام هو الحاكم الشرعي، فكان لابد له أن يحاربهم، وأن يقيم النظام، دفاعاً عن النظام الإسلامي، وأمن المسلمين، ولكن بعض الناس لا يفهمون هذه الأمور بعمقها، ويأخذون بالعناوين الساذجة السطحية.
المسميات المذهبية:
* يقترح بعض المفكرين الإسلاميين إزالة المسمّيات والعناوين المذهبية، كخطوة في طريق الوحدة الإسلامية، وقد وُجِّه هذا الاقتراح لكل الحركات الإسلامية، فهل يفيد ذلك حقاً؟
- إن الله سبحانه وتعالى أرادنا أن نكون مسلمين، والتشيّع لابد أن نأخذه من خلال خط الإسلام، والتسنّن كذلك لا بد أن يؤخذ من خلال خط الإسلام. ولذا أقول: يجب على كل واحد منا أن يقول: أنا مسلم شيعي، وليس أنا شيعي، أو أنا مسلم سُنّي، وليس أنا سُنّي، أي أن لا يعتبر التسنن والتشيع كدينين مختلفين. إنّ علينا أن نركّز خطوطنا على أساس الإسلام، ثم نبيّن الخط الذي نفهمه في وجهة نظر الإسلام، فالتسنن هو وجهة نظر في فهم الإسلام، والتشيع كذلك وجهة نظر في فهم الإسلام، في ما يتفق فيه المسلمون، أو في ما يختلفون فيه، ولكلٍّ قناعاته، ولكلٍّ رأيه. لكن المسألة هي في التعقيدات التاريخية التي عاشها المسلمون، والتي تحتاج إلى الكثير من الخطوات العملية ومن المناهج الأخلاقية التي يمكن أن تقرّب بين المسلمين.
كتب الحديث الصحاح:
* لماذا لا توجد كتب تنقل الصحيح من الأحاديث والروايات عن النبي(ص) وعن الأئمة(ع)، وتعد صحاحاً خاصة بالشيعة؟ خاصة وأنه يشهد لكم بأنكم من رواد التصحيح والتجديد، وتميزون بين الغث والسمين من الروايات، فيا حبذا لو تشيرون إلى هذه المسألة؟
- هناك بعض الأخوة الفضلاء كتبوا (صحيح الكافي)، ولكن هناك خلافاً أساسيّاً في تحديد قواعد الحديث ومقاييسه، في تمييز ما هو الصحيح وغير الصحيح، مما يخضع لاختلاف المجتهدين. ولذا، لا يُمكن الحديث عن صحاح بشكل قاطع، بل يُمكن الحديث عن صحيح عند هذا أو ذاك، بحسب تنوّع الاجتهادات في المقام.
الخطاب الديني:
* انقسام الخطاب الديني المعاصر إلى قسمين: خطابٌ ديني اتَّسم بالديناميكية والمرونة والانفتاح على الآخر، وآخر اتسم بالتعصّب والتطرّف، ما هو السبيل إلى خطاب ديني موحَّد؟
- يجب أن نناقش النَّاس الذين يستخدمون الخطاب المتطرف، والخطاب المغلق، وليس معنى ذلك أن نعتقد أنّه يُمكن بسحر الساحر أن يتحوّل الخطاب المتطرّف إلى خطاب معتدل، بل يجب أن يكون هناك حوارٌ بين الخطاب الديني المعتدل والخطاب الديني المتطرف، فيقنع المعتدلون المتطرفين من خلال الحجة والبرهان والجدال بالتي هي أحسن إضافةً إلى تهيئة كثير من الوسائل والظروف التي تكفل مناخاً لهذا التغيير.
حدود الحرية في الإسلام:
* ما هو تعريف الحرية في الإسلام؟ وما هي حدودها؟ وهل الحرية تختلف من مكان إلى آخر؟ وكيف تمارس الحرية في ظل التعددية ؟
- الأول: حرية إنسانيتك، أي أن لا تكون عبداً لغيرك، وهذا ما جاء في كلمة الإمام علي(ع): ((لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً))، أي كن الحر في نفسك، وأيضاً في كلمة الإمام الصادق(ع): ((إن الحر حر في جميع أحواله، فإن أنابته نائبة صبر لها، وإن تداكت عليه المصائب، لم تكسره، ولم تقهره وإن استعبد أو أسر))، فهو يؤكّد أن يعيش الإنسان حريته في داخل ذاته، من خلال إرادة الحرية في إرادته.
الثاني: حرية الفكر، فالله سبحانه وتعالى لم يقيّد الإنسان في طريقة تفكيره، لأن الله تعالى خلق العقل حراً، وقال له فكّر في كل شيء؛ في السماء، في الأرض، في توحيده، سبحانه في الرسالة، ولكن تحمّل مسؤوليتك الفكرية، بأن تنطلق ـ وأنت تمارس حرية فكرك ـ من العناصر التي تؤصِّل الفكر وتحرّكه، على أساس المنهج الذي يعطي الفكرة في خطِّ الاستقامة، لا في خطِّ الفوضى وخط الانحراف.
أما إعلان الفكر، فهذا لا بد أن يخضع لطبيعة المسؤولية في السلبيات والإيجابيات، على مستوى سلامة الواقع وسلامة الإنسان، وما إلى ذلك.
تطبيق الإسلام:
* الإسلام نظرية عمرها أكثر من 1400 سنة، ولم يستطع أحد تطبيق هذه النظرية باستثناء الرسول(ص) والإمام علي(ع)، فهل من المعقول التمسك بنظرية لم يستطع الإنسان خلال هذه المدة الطويلة تطبيقها؟
- من قال إنها لم تُطبَّق؟! لقد كان الإسلام الدين الذي حكم العالم الإسلامي في مدى القرون الماضية، على صعيد العقيدة والثقافة والتشريع، فلم يكن للمسلمين قانون غيره. وليس معنى تطبيق النظرية أنّه يجب أن يكون بنسبة 100%. وهذا هو حال كلّ النظريات في العالم؛ فالذي يطبَّق منها 40% أو 50%؛ لأن الله تعالى لم ينزل الإسلام بالمعجزة، بل بحسب طبيعة تطبيق الناس له، فلا يوجد هناك في العالم، سواءٌ في الأديان التي أنزلها الله تعالى، أو من خلال القوانين الوضعية، نظرية طُبِّقت 100%، بل إذا كنا نريد أن نطبِّق نظرية ونحكم عليها، فإننا ندرس هذه النظرية، من حيث إنها هل تلبي حاجاتنا، أو لا تلبيها؟ هل تحل مشاكلنا أو لا تحلّها؟ هذا هو المقياس، وليس المقياس أنها طبِّقت أو لا تطبَّق، ومن الممكن أن يكون هناك بعض النظريات التي تسعد البشرية، ولكن بعض الظروف قد لا تسمح بتطبيقها، لذلك فإنّ هذا المقياس الذي يذكره السائل، ليس هو مقياس الحكم على صحة النظرية وعدم صحتها، أو واقعية النظرية أو عدم واقعيتها.
اختيار الإنسان والعقوبة:
* إذا خُيِّر الإنسان، واختار ما هو مخالفٌ لإرادة الله تعالى، فإنه يلاقي ناره وعذابه، فما معنى الاختيار الذي تتحدَّثون عنه ؟
- معنى الاختيار هو في قوله تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا( )، فمثلاً، الآن، أنتم عندما أتيتم إلى هذه القاعة، فإنكم أتيتم باختياركم، وهذا يعني أنّه يمكن لك أن تأتي ويمكن أن لا تأتي، فإذا جئت فباختيارك، وإذا لم تأت فهو باختيارك أيضاً، فالله سبحانه وتعالى لم يضغط على الإنسان على سبيل القهر، بل يفرض عليه أمراً ليُنفّذه باختياره، إدراكاً للنتائج المترتّبة عليه في رضوان الله وثوابه، قال تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ( )، فالله تعالى هدى الإنسان وقال له، يوجد هنا طريق للخير، وآخر للشر، فإذا مشيت بطريق الشر، أعذّبك، وإذا مشيت في طريق الخير، أثيبك، فالإنسان هو الذي يختار السير في طريق الخير أو الشرّ. فالاختيار يعني أن الله سبحانه وتعالى لم يضغط على الإنسان في ما يقوم به، بل ترك اختياره لنفسه.
حروب النبي(ص):
* هل حروب النبي(ص) كانت بصدد الدّفاع عن النفس والإسلام، أم كانت حروب فتوحات وحروب صراعات على السلطة والنفوذ ؟
- عندما ندرس حروب النبي(ص)، نجد أنها كانت حروباً دفاعية، أو حروباً وقائية، ولم تكن حروباً هجومية عدوانية، أو حروب دعوة للإسلام، للضغط على الآخرين في التزامهم به.
الأصولية الدينية:
* نرجو منكم أن توضحوا لنا الفرق بين الأصولية عند اليهود، والأصولية عند المسلمين ؟
- الأصولية لها مصطلحان. هناك مصطلح أن الأصولية هي الأسس التي تمثل أصول العقيدة، وأصول الشريعة، سواء عند اليهود في ما أنزله الله تعالى على النبي موسى(ع) من التوراة، أو عند النصارى في ما أنزله الله من الإنجيل، أو عند المسلمين في ما أنزله الله تعالى من القرآن الكريم.
وهناك أصولية مصطلحة عند الغربيين، والمراد بها ـ عندما تطلق على بعض الناس، أعني الأصوليين ـ الذين يعتبرون أن العنف هو الأساس في عملية التغيير، وأنهم يتحركون في خطِّ العنف، ولا يتحركون في خط الرفق، وأنهم يؤمنون بإلغاء الآخر، ولا يعترفون به، وهذا أمر لا يقول به المسلمون. فالمسلمون يعترفون بالآخر، قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ( )، وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( )، وهم يأخذون بالرفق في موارده، وهكذا نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( )، وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ إدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ( ).
تأثير الجنّ على الإنسان:
* الجنّ مذكور في القرآن الكريم، والسحر أيضاً مذكور في القرآن، فهل يستطيع الجنّ أن يدخل إلى الإنسان ويتحكم به عن طريق تسخيره بواسطة السحر؟
- لم يظهر من القرآن الكريم أن الجن يتلبّسون بالإنسان، وأنّهم يؤذونه وما إلى ذلك، وحتى بالنسبة للسحر، فهو موجود، ولكنه ينطلق من حالة وهم، ولا ينطلق من حالة حقيقة، يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى( )، وذكر الله سبحانه وتعالى في تجربة النبي موسى(ع) مع السحرة: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ( ).
أخلاق الله:
* جاء في الحديث الشريف: ((تخلَّقوا بأخلاق الله))، فما المقصود (بأخلاق الله)؟ هل هي الأخلاق التي أمر الله باتّباعها من خلال الإسلام، أم أنَّ هناك أخلاقاً أعمّ من تلك التي تحدّث بها الإسلام؟
- كلا، إنّ الأخلاق التي وصف بها نفسه: الرحمن، الرحيم، القويّ، المنعم، الحكيم، العليم، اللطيف، الكريم، الحميد... كل هذه الصفات التي يتّصف بها الله سبحانه وتعالى بأعلى مواقعها، مما لا نبلغ مداه، ولكن الله يريد لنا أن نتّصف بها من حيث المبدأ، ومن حيث قدرة الإنسان على ذلك.
التجلّي للجبل:
* طلب النبي موسى(ع) أن يرى الله، كما تقول الآية: {فلّما تجلى ربه للجبل جعله دكّاً}،كيف يتجلى الله لللجبل؟ وما هو نوع الكلام الذي دار بينهما؟ وهل هو بلغة البشر؟
- ورد في الأحاديث أنَّ الله تعالى سلّط نوره على الجبل، فلم يتمالك الجبل أن يثبت أمام نوره، فكأنّه أراد أن يقول للنبيّ موسى(ع): إنَّ الجبل لم يتحمَّل هذا النور الذي سلّطته عليه، فكيف تتحمَّل رؤية الله سبحانه وتعالى لو كان الله يُرى، والله سبحانه وتعالى لم يعلِمنا بنوع الكلام الذي دار بينه وبين موسى(ع)، وعندنا قوله تعالى: وكلّم الله موسى تكليماً( )، وحدَّثنا عن بعض ما كلّمه، ولكن كيف ذلك؟ هذا سر الله تعالى.
عرض الأحاديث على العقل:
* هناك رواية عن أحد أئمّة أهل البيت(ع) جاء فيها: ((إذا جاءكم حديث عنا فاعرضوه على القرآن والسنّة النبوية، فإذا خالفهما فاضربوا به عرض الحائط))، ما معنى هذا الحديث؟ وهل هناك حديث لأحد الأئمة(ع) يشابهه أو حديث آخر يقول: ((اعرضوه على العقل، فإذا لم يوافقه فاضربوا به عرض الحائط أو لا تأخذوا به))؟.
- المقصود هو الحديث الذي يتحدّثون به في الخطّ الإسلامي، الذي يتمثَّل بكتاب الله وسنّة نبيه، ومن الطبيعي أنّ المقصود به هو الحديث الذي يعارض العقل، بحيث يكون من قبيل الحديث عن الجمع بين المتناقضين، أو الجمع بين الضدّين، أو الحديث عن الشيء المستحيل، وهذا مما لا يقبله الإنسان بحسب طبيعته.
رواية الإسرائيليات:
* ما رأيكم في الحديث المرويّ عند المسلمين الشيعة والسنّة عن النبي(ص): ((حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج))؟ ما درجة صحته عند الشيعة والسنّة؟ وما معناه عندنا نحن الإمامية؟.
- طبعاً، حديث: ((حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج))، بلحاظ ما ذُكر في القرآن، وما صحَّ من السنّة في ذلك، وليس بما تحدّثوا به كذباً كان أو صدقاً، أو بحسب الخيالات الإسرائيلية، وربما يكون المقصود الحديث عن بني إسرائيل، باعتبار انحرافهم عن الخطّ، من خلال ما أوحى الله به إلى رسوله في القرآن، وما ألهمه لرسوله في السنَّة.
خلق الناقصين:
* من الشّبهات التي توجَّه للعدل الإلهي هي: لماذا يُخلق إنسانٌ ناقص الخلقة، كالمجنون والمنغولي.. الخ؟ فما ذنب هذا المخلوق قياساً بغيره؟
- أوَّلاً: العدالة هي أن تعطي كلَّ إنسان حقه، ولا حقّ لأحد من المخلوقين على الله سبحانه وتعالى، والله تعالى وحده له الحق. قال الله تعالى: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد * إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز( ).
وثانياً: إن الله تعالى عندما يخلق شخصاً ناقص الخلقة، مكفوفاً أو أصمَّ أو بعاهة معيّنة، فالله لم يخلقه بشكل مباشر، وإنما أودع في خلق الإنسان قوانين معينة، فيها سلبيات وفيها إيجابيات، والسلبيات ليس معناها سلبيات مطلقة، فهناك الكثير من العميان الذين أودع الله في قلوبهم نوراً وذكاءً تفوَّقوا به على المبصرين. فالمسألة أنه عندما يكون هناك شخص ما عقيماً، بينما يرزق آخرون بأولاد، فهذه أمور تنطلق من القوانين التي أودعها الله في الإنسان، منها قانون الوراثة، وربما يولد أحد ما منغولياً من جهة بعض الأغذية التي تتغذَّى بها الأم، أو من خلال جوانب وراثية، وإلاّ إذا أراد الله أن يلغي الجانب الوراثي، يخسر الإنسان أكثر مما يخسر من خلال هذه الحوادث التي تأتي، وبعض الناس يقول: لماذا لا يخلق الله سبحانه الكون مثله، أي أن يكون الكون مطلقاً، فهذا غير ممكن، لأنَّ المادة لا تقبل المطلق، فعالم المادّة هو عالم المحدود، والمحدود فيه سلب وفيه إيجاب.
الدعاء في الزيارة:
* ورد المقطع التّالي في زيارة (أمير المؤمنين(ع)): ((اللهمَّ إن قلوب المخبتين إليك والهة .. الخ)). هل هو داخل في مضمون الزيارة أم الدعاء؟ وإذا كان داخلاً في الدعاء، فما علة وجوده بين مقطعين لزيارة الإمام علي أمير المؤمنين(ع) في الزيارة نفسها؟
- طبعاً هذا داخل في مضمون الدعاء، لأن رواية زيارة (أمين الله) مرويّة عن الإمام زين العابدين(ع)، وهو عندما استكمل زيارة جده الإمام(ع) بدأ يدعو، ولذا يستحبُّ للإنسان بعد الزيارة أن يدعو الله سبحانه وتعالى.
التفاوت الاجتماعي:
* يقول الإمام الصادق(ع) وهو يتحدث عن العبادة وأجزائها: ((فلا تُسقط من هو دونك فيسقطك الذي فوقك وفوق كلِّ ذي علم عليم)). ما هو الجانب التربوي والاجتماعي الذي تستفيدونه من هذا الكلام الشريف؟
- يعني إذا رأيت نفسك أعلى من شخص، واعتبرت أن علوّك درجة عليه يجعل لك الحق في أن تسقطه، وأن تحتقره، وأن تذلّه، فإن الله يعاقبك على ذلك، هذا عندما تتصل القضية بالله. وأنت عندما تسير في هذا الخط، فمعناه أن هذا سيصبح برنامجاً في المجتمع، فإذا كنت تسقط مَن فوقك، وتعتبره برنامجاً اجتماعياً، فسيسقطك الآخرون بما يأخذونه من هذا الخُلُق
هل الاختلاف رحمة؟
* ما معنى الحديث الشريف: ((اختلاف أمتي رحمة))؟
- ربما فُسِّر اختلافهم بالتجارة في ذهابهم ومجيئهم، أو اختلافهم في طلب العلم، وما شاكل ذلك...
الظالم والفاجر:
* أرجو توضيح صفات كلٍّ من الفاجر والظالم الذي يجب أن نعامله بغلظة؟
- الفاجر هو الذي يتعدَّى على المحرَّمات، سواءٌ كانت من قبيل الجوانب المتصلة بالعرض، أو المتّصلة بسرقة الأموال. أما الظالم، فهو الذي يظلم الناس في حقوقهم. وعلينا أن نعمل على إسقاط فجورهم وظلمهم، ولكن بالحكمة.
السّحر وتأثيره:
* ما هو السحر؟ وما هو مدى تأثيره على الإنسان؟
- نحن نقرأ في القرآن الكريم أنَّ السحر ليس واقعياً، وإنما هو عملية تخييل، وليس عملية تغيير الواقع، أو أن يترك تأثيراته بشكل واقعي، فنحن في القرآن الكريم قوله تعالى: قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ( )، ونقرأ كذلك قوله تعالى لموسى(ع): وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى( )، وقال تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ الله( ).
حدود الغضب:
* الغضب لله تعالى غضب محبوب، ما هي مواقعه؟ وما هو السبيل إلى التصرف تجاه الآخر؟ هل يصل إلى القتل، أم حدوده الكلمة الطيبة؟
- حالات الغضب لله لابد أن تدرس كلّ حالة على حدة، فهناك أناس ينطلقون من أجل احتلال البلاد والعباد، فيقتلون الناس، كما يحدث الآن في العراق من تفجير أماكن العبادة، وتفجير الناس الأبرياء بالسيارات وما إلى ذلك... فذلك يشكّل خطراً كبيراً على الإسلام والمسلمين، ولابد لنا أن نواجههم بالعنف، أمَّا بعض الناس الذي قد يتكلَّمون أو يتحرَّكون عن جهل، فيتمرَّدون على الحقائق، فإنّ علينا أنْ ندرس ما هي خلفيات هذه المواقف، أو هذه الأوضاع. وكلٌّ حسب حالته، فإن كان عنيفاً بالعنف، وإن كان رفيقاً بالرفق، كما في القرآن الكريم، قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( )، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، يعني أن تدرس هذا الإنسان من خلال ما هي المشكلة التي انطلق منها في موقعه السلبي ضد الله وضد دينه، وما إلى ذلك...
الحجاب والأخلاق:
* إني أحاول أن لا أعصي الله تعالى في كلِّ حياتي العملية، وزوجتي رفضت أن ترتدي اللباس الإسلامي، أي الحجاب، وهي مقتنعة بأن الأخلاق والعفة كافية لأنْ يرضى الله عنها. أرجو توضيح نوع المعصية التي نعصي الله بها كلانا؟
- لا إشكال في أنَّ الحجاب واجب، والله تعالى يقول: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا( )، وقوله تعالى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ( )، وغيرهما من الآيات، إضافة إلى ما ورد على لسان النبي(ص) والأئمة(ع)، فالحجاب أساساً واجبٌ كالواجبات الأخرى، وعلينا أن نطيع الله تعالى في ذلك، وقد وضع الله تعالى ضوابط لعفّة المرأة، وأمرها أن تتحجَّب وأن لا تخرج بزينتها، باعتبار أن الزينة قد تقود الآخرين إلى ما يخالف العفة وما إلى ذلك..
اتّهام يوسف(ع) بالسّرقة:
* ما قصد أبناء يعقوب(ع) في قولهم ليوسف: قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ( )؟
- اتهموا يوسف(ع) في طفولته بأنه سرق دجاجة من دون حق، لذا قال لهم: قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا، بحيث ردّ عليهم.
الفصل الرابع
المسائل التربوية
العلاقة بين الآباء والأبناء:
* أبناؤنا يرفضوننا ولا يستمعون إلينا، على الرغم من اعتماد كلِّ الأساليب المقنعة معهم، وذلك بحجة أنهم مخلوقون لزمان غير زماننا، ولا يقرأون ما هو مفيد ولا يسمعون كذلك، فما العمل على الرغم من كل الوسائل والمحاولات؟
- علينا أن نفهم أبناءنا، وأن نعرف كيف نخاطبهم، وأن ننفذ إلى داخل عقولهم، وأن نحاورهم في ما يعتقدونه من أفكارهم الخاطئة، ولا نفرض عليهم ذلك.
حدود سلطة الأب:
* أب يمنع ابنته من قراءة القرآن الكريم، أو الدخول في حوزة لتعلم قراءة القرآن وحفظه، ما هو الموقف تجاهه؟
- لا يجب عليها طاعته في ذلك.
مزاج الأمّ وأثره على الأبناء:
* إنَّ زوجتي تؤدّي الصلاة المفروضة، إلاّ أنها عصبية المزاج، وخاصة مع أولادها، حتى إنها في بعض المرات تسمعهم أقسى الكلمات البذيئة، وكنت أخبرها بأنها إذا بقيت على هذه المعاملة معهم سوف ينفرون منها عندما يكبرون، وكانت تسخر من ذلك، أما الآن، فقد حصل ذلك، وأصبحوا يردون عليها، ويؤنبونها، مع أنهم الآن يؤدون الصلاة، فماذا أفعل؟
- علينا أن نفهمها أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأن هذا الأسلوب الذي تتبعه مع أولادها قد يكون من المنكر، ولكن علينا أيضاً أن نعظ أولادنا بأن هذه القسوة التي قد تكون ناشئة من خطأ في تصور الأم من أن القسوة قد تكون مفيدة لهم، لأن بعض الناس قد يفهم التربية بهذه الطريقة، ونقول لهم كما في قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا( ).
معاملة الزوجة:
* أعامل زوجتي معاملةً حسنةً، وتطيعني في المقابل، فأكرمها، من باب الاحترام، وآخذ برأيها إن كان حسناً، ويلومني أهلي على ذلك، قائلين إني أعطيها الفرصة للهيمنة عليّ، وفرض رأيها عليّ، أرشدونا؟!
- بعض النَّاس يفهم أنَّ المرأة تمثِّل صفراً على الشمال، وكأنها ليست إنساناً كما هو إنسان، هذا الرجل السائل رجل يتحرك في الخطِّ الإسلامي الأصيل جداً، يقول الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ( )، والنبي(ص) يقول: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))، حتى إنَّ النبي(ص) كان إذا أراد أن يسافر، يستشير نساءه في من تذهب معه، ويجري القرعة في بعض الحالات محافظة على إحساسهن وشعورهن، لأنه عندما تخرج القرعة لواحدة، من دون أن يكون النبي(ص) صاحب السلطة في الاختيار، فإن ذلك مما لا يوجب الخدش في إحساسهن، وذلك أن القرعة هي التي حدّدت ذلك، وليس أن النبي(ص) فضَّل بعضهن على البعض الآخر ثم ليس عيباً أن يحترم الرجل زوجته وأن يحترمها ويستشيرها ثم يدرس رأيها، كما إن عليها أن لا تستسلم له في رأيه، فكما الرجل يفكر، فإن المرأة أيضاً تفكر، وعند الكثير من النساء ثقافة وعقل ووعي أكثر من الرجل، والمهم أن تكون الحياة الزوجية قائمة على الاحترام المتبادل، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا( )، يعني لتجدوا السكينة والطمأنينة. فالحياة الزوجية قائمة على المودة المشتركة وعلى الرحمة، وأن يرحم كل واحد منهم الآخر، بأن يستمع إليه وأن يستشيره، وأن يتقبل فكره، وما إلى ذلك.
العلاقة بين القرعة والتطيّر:
* ما الفرق بين القرعة والتطيّر؟
- لا علاقة بينهما. فالقرعة هي أن الإنسان إذا تحيّر في شيء مشكل، فإنه يلتمس طريقاً للخروج من ذلك، وقد ورد: ((القرعة لكل أمر مشكل))، أو لكل أمر مشتبه به، فيقرع الإنسان، فيضع أوراقاً، ثم يخرجها، فما تخرج به يؤخذ به القرعة. أما التطيّر فهو التشاؤم، كما كان عند العرب قديماً عند رؤية الغراب عند السفر، فسمِّي التطيّر، لأنهم كانوا يتشاءمون بالطير، فيرجع المسافر لأنه يرى أن هذا السفر سفر شؤم.
الوفاء الزوجي:
* لقد تكلّمتم عن الوفاء في بيت الزوجية في محاضرة سابقة، وعن أهميته وضرورته، فهل يعتبر الزواج الثاني والثالث، مما ينافي عنصر الوفاء للزوجة الأولى، سواء كان في الزواج الدائم أو المنقطع؟
- هذه أمور تتحدّد بحسب الاتفاقات بين الزوج والزوجة، فعندما تفرض الزوجة على الزوج بحسب تفاهمها معه أن لا يتزوَّج عليها، فيكون الزواج بثانية خيانة للوعد الذي بينه وبين الأولى، وللاتفاق الموجود بينه وبينها في هذا المجال. ولكن بقطع النظر عن وجود هذا الاتفاق، فهذا ليس خيانة بالمعنى الشرعي، لأنه جائز شرعاً، ولكنه بالمعنى العرفي والمعنى الاجتماعي قد يعتبر خيانة من خلال الإحساس الإنساني السلبي للزوجة في تعامل الزوج معها.
أنا كنت أقول من باب الطرفة والمزاح لا أكثر، إنه لو فرضنا أن الله سبحانه وتعالى رخَّص للمرأة أن تتزوَّج أكثر من زوج، فماذا يفعل الزوج؟ عامل الناس كما تحب أن يعاملوك.
مقاطعة البنت المتمرّدة:
* نحن عائلة ملتزمة، تعيش في إحدى دول الغرب، فاجأتنا إحدى بناتنا بخلع الحجاب، وترك البيت بحماية القانون هناك، عمرها 19 سنة، وقد أثَّر ذلك على سمعة العائلة فما موقفنا منها؟ هل نقاطعها أم نتواصل معها؟ رغم أن التواصل يضرُّ بالآخرين، والحوار صعب معها، وجّهونا وأرشدونا؟
- هذا جزء من ضريبة السكن في الغرب؛ لأن للغرب قوانين معيّنة في حرّية البنت بالنسبة إلى ما تختاره لنفسها مع عدم إعطاء أي حرية للأب في الضغط، وما إلى ذلك. وعلى الإنسان المؤمن إذا عرف أن أولاده سوف يضلّون، أن يرجع إلى بلاد المسلمين في هذا المجال، لأنه يتحمَّل المسؤولية، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ( ). نعم، إذا فرضنا أن هناك ضرورات، فلا بدَّ له من أن يدبّر أموره بالطريقة التي يمكن فيها التخلص من النتائج السلبية في هذا المجال. ونحن لا نؤيد المقاطعة، لأنها إذا عصت الله في هذا الجانب فتبقى الصلة معها من أجل أنّ تبقى تصلّي، وتصوم، وتلتزم ببعض الالتزامات كالعفّة وغير ذلك.
الغشّ في المعاملة:
* كثيراً ما نسمع في الأوساط الشعبية والشيعية خصوصاً القول التالي: (ما يغشك إلاّ ابن جماعتك، وقد يكون هذا القول أحياناً نتيجة لإحدى المعاملات الفاشلة بين شخصين، هذه الفكرة السوداء قد أصبحت منتشرة لدى الكثيرين، ماذا تقولون لكلا الطرفين، البائع والمشتري، أو العامل وصاحب العمل، أو غيرهم، ألسنا أخوة في الدين؟
- هذا الكلام غير صحيح، فلو فرضنا أن 10% من جماعتنا قد غشّونا، هناك 90% لم تغشّنا، فلم نعمِّم ذلك على الجميع؟! نحن لدنيا تجربة 5 أو 6 أو 10 أشخاص، فلماذا نصدر الحكم على كل الناس؟ هذا لا يجوز، ثم نحن نلاحظ أن الآخرين في العالم مستمرون في غشّنا، فتراهم يغشّوننا في كل شيء، يغشّوننا في سياستنا، وفي اقتصادنا، وفي أمننا، وما إلى ذلك...، لهذا علينا أن لا نحمل فكرة سلبية عن جماعتنا، لأنه كما يوجد عندنا أناس غشاشون، يوجد عندنا أناس مخلصون، فلا يجوز أن نطلق أحكاماً شمولية. فنحن نقول عن الشخص الغشاش إنه غشّاش. أما الآخرون فلا يجوز لنا شرعاً أن نحكم عليهم.
إهمال الأولاد:
* ما رأيكم في والد يترك بناته لمدة خمس سنوات مع أخوة وحوش، ويسافر إلى بلد آخر، مع العلم أن والدتهنّ غير مطلّقة؟
- هذا إنسان غير ملتزم بحدود الله سبحانه وتعالى، لأنه مسؤول عن رعاية بناته، ومسؤول عن الإنفاق عليهن، ومسؤول عن معاشرة زوجته بالمعروف، وعن الإنفاق عليها وما إلى ذلك.
المبالغة في الزواج:
* أبي رجل صائم ومصلٍّ وأيضاً حاج والحمد لله، ولكنه متزوج من ثلاث نساء ولديه رابعة طلَّقها، ولديه من كل واحدة منهن ثلاثة أبناء ومن الأولى تسعة أبناء، أعمارهم في الثلاثينات والعشرينات، ويريد أن يتزوج مرة أخرى، مع العلم أن لا أحد من أبنائه متزوّج، فما رأيكم في هذا الأمر؟
- ربما يقول هذا الرجل إنّ عمله حلال من باب حلّية (مثنى وثلاث ورباع)، ويمكن له أن يتزوَّج الرابعة، لكن على الإنسان أن يعرف أن هناك حدوداً أخلاقية وإنسانية، ومن طبيعة الأمور أن الرجل إذا كان عنده حاجات، فلا إشكال في أنّ طبيعة الزواج من ثلاث يمثل اكتفاء الحاجة، ولذلك عليه أن يدرس حاجة أولاده، وحاجة بناته للزواج، فيهتم بذلك، حتى يعيش معنى الإسلام في هذا المعنى، فالصلاة والصيام تجعل الإنسان مسؤولاً ومنفتحاً على مسوؤلياته العائلية والاجتماعية والإنسانية.
البر بالآباء:
* إذا كانت رعاية الأبناء مسؤولية على الآباء عليهم تحمّلها، لأنهم هم الذين أنجبوهم، وكان عليهم رفع ثقل ما بعد ذلك، فلماذا يُؤمر الأبناء ببر والديهم، ويُجعل ذلك بعد الإيمان بالله عزّ وجلّ؟
- من الطبيعي أن يتحمَّل الآباء مسؤولية تربية أبنائهم، سواء التربية الجسدية أو التربية الإيمانية والروحية، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا( )، وقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا( )، وما إلى ذلك، فإنّ هذه مسؤولية يتحمّلها الآباء والأمّهات، باعتبار أن الله تعالى جعل هذا الولد وديعةً وأمانةً عندهم من أجل أن يؤهّلوه ليكون إنساناً سوياً صالحاً. أما بالنسبة إلى الأبناء، فالله تعالى أراد لهم أن يبرُّوا آباءهم اعترافاً بالجميل، ولذلك ركز الله على كلمة (الإحسان) ولم يركِّز على مسألة (الطاعة)، قال تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، باعتبار أن الإنسان الذي يعيش معنى إنسانيته لابد أن يقوم بالإحسان إلى من أحسن إليه، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى أراد أن يذكِّر الأبناء بما عاناه الآباء، قال تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا( )، بحيث يشعر الإنسان كيف كان صغيراً، وكيف ربّياه، وكيف عانيا الكثير في هذا المجال، فعلى الآباء مسؤولية معيّنة، وعلى الأبناء مسؤولية أخرى.
المبالغة في الألقاب:
* ألا تعتقدون أن المراجع يبالغون في أسمائهم بعنوان مطوّل، بينما رسول الله(ص) يعرف باسمه فقط، وكذلك الأنبياء والأئمة(ع)؟
- الواقع أن هذه الألقاب أصبحت من التقاليد، من قبيل: (آية الله) أو (آية الله العظمى) أو (الإمام)، والمشكلة أننا في الشرق مولعون بالألقاب، حتى إن الإنسان يحاول دائماً أن يمشي على عربة من الألقاب، وهذه لم يبتدعها المراجع، وإنما انطلقت من خلال علاقاتنا بالشعوب الأخرى. فمثلاً ترى في بعض الكتب القديمة: طائف الحرمين الشريفين، زائر النجف وكربلاء، بحيث يشعر الإنسان أنّه يجب عليه أن يأتي بلقب أياً كان هذا اللقب. ولكننا نقول إنّ الإنسان إذا لم يخدمه اسمه، فلن تخدمه عشرات الألقاب، لأن الإنسان الممتلئ بمجرد أن يذكر اسمه تذكر كل المعاني التي يعيشها هذا الاسم في علمه وفي تقواه وفي خدماته وما إلى ذلك. إنّ هذه الألقاب انطلقت من خلال التقاليد ومن خلال التقاء تراثنا ـ في العالم العربي ـ بالحضارات الأخرى، وبالشعوب الأخرى.
طبيعة البشر في علاقة الجنسين:
* في الحديث الشريف: ((ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما)). ألا ترون أن هذا الحديث يؤكّد قطعاً حتمية دخول الشيطان في أي علاقة، كانت بين رجل وامرأة في خلوة ما، بينما لا نجد ذلك في كثير من الأحيان، فإلى أي حد من الحدود يجب الأخذ بهذا الحديث؟
- هذا الحديث لا يبيّن الحتمية، بل إنه يريد أن يبيّن طبيعة العلاقة بين الجنسين، إذ إن المرأة قد تخلق مناخاً تستيقظ فيه الغريزة، وربما لا يوجد هذا المناخ، ومعنى (إلا كان الشيطان) يعني أن الشيطان يوسوس لهما، فالشيطان ربما يدخل إليهما، فيثير ذلك، لكن ربما يكون عندهما مناعة جيدة ضد الشيطان، وضد تسويلاته. فهي ليست واردة على سبيل الحتمية، ولكنها واردة على سبيل التذكير بطبيعة المناخ الذي يمكن أن يثار في علاقة الرجل بالمرأة خصوصاً مع الخلوة، حتى إن بعض علماء الاجتماع يقول إنه لا يمكن أن تكون هناك صداقة بريئة بين الرجل والمرأة، لأنه لمجرد أن تتطور الصداقة وتصل إلى جوّ من الحميمية، فإن الغريزة سوف تتدخل في هذا الموضوع.
التربية الأخلاقية:
* ينسب إلى الإمام علي(ع) قوله:
وكلُّ جراحةٍ فلها دواءٌ وسوءُ الخلقِ ليسَ له دواءُ
فكيف لا يكون هناك دواء لسوء الخلق؟
- لو صحّت نسبة ذلك الشعر إلى الإمام عليّ(ع)، فيعني ذلك أنه ما دام الإنسان سيّئ الخُلُق، فهو يربك نفسه والمجتمع، ومن الصعب التعامل معه، لأن الإنسان حين يغضب، قد يقتل النفس المحترمة، ومن لا يملك نفسه عند الغضب فهو لا يملك عقله.
طلاق الزوجة لعدم الإنجاب:
* ما هو الحكم الشرعي لمن يطلِّق زوجته بسبب عدم الإنجاب؟
- في حالة حصول الطلاق بالتراضي أو بفعل الظروف الضاغطة فإنه جائز، فالله سبحانه يقول: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ( )، ولكن قد يكون المانع من عدم الإنجاب هو الرجل، وليس المرأة، وقد لا يكون الرجل مستعدّاً ـ بحسب ذهنيّته ـ لمراجعة الطبيب للفحص، وربما نجد بعضهم إذا كانت زوجته تلد البنات، فإنه قد يغضب عليها ويهجرها أو يطلّقها، فهذا لا يجوز؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ( )، فهذه مسألة علمية معروفة، ويحسن أن يكون الإنصاف هو سيّد الموقف، وهو الذي يحكم علاقات الأزواج، فلا يحصل الطلاق إلا لوضع دقيق، وقد قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً الأزواج بما يتّصل بمشاعرهم تجاه الزوجات: فإن كَرِهْتُموهُنَّ فَعَسى أنْ تَكْرَهوا شَيْئاً ويَجعَل اللهُ فيهِ خيراً كثيراً( )، وذكر الخير الكثير كإشارة منه تعالى إلى أنّ على الزوج التفكير طويلاً وعميقاً في طبيعة المسألة في الواقع.
تفسير الكوابيس الليلية:
* هل تعتبر بعض كوابيس المنام المزعجة من قبيل عامل نفسي أم من جهة التفكير، أم من قبيل وساوس الشيطان؟
- قد يكون من هذا وذاك، فالمنام ليس حجّةً، وقد يكون أضغاث أحلام، وقد ينطلق المنام من حالة نفسية وما إلى ذلك.
مواجهة عدم الالتزام بالحجاب
* ما هو الحل في مواجهة عدم التزام بعض النساء بالحجاب في المجتمع الإسلامي؟
- قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( )، فكما نرى بعض نساء المسلمين لا يتحجّبن، كذلك نرى بعض المسلمين يغتابون الناس، ويعملون المحرّم، فهذه معصية وتلك معصية في عدم الحجاب، فمثلاً قد تكون امرأة محجبة، ولكنها تفتن بين النساء، وتفرق بين المرء وزوجه، فهل نعتبرها مؤمنة متدينة، ونعتبر غير المحجبة خارجة عن الإسلام، فهذه معصية وتلك معصية، ولذلك لا بد من الإقناع والتعليم والتوجيه الصحيح.
مراجعة العلاقات الزوجية:
* إذا كان هناك زوجان يحبّان بعضهما بعضاً، ولكن الظروف المحيطة بهما تجبرهما على الطلاق، فهل يستمر في إجراءات الطلاق، أم يفتحا صفحة جديدة للاستمرار في العلاقة الزوجية؟
- ورد في الحديث أن ((أبغض الحلال عند الله هو الطلاق))، فإذا كان الزوجان منسجمين مع بعضهما البعض، والمرأة لم تقصِّر في حقِّ زوجها، فلا موجب للطلاق، وعلى الزوجين أن يصبرا على بعضهما البعض، والله سبحانه يقول: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ( ).
حياة العالم:
* ما هو القصد من كلام أمير المؤمنين علي(ع): ((العالم حي وإن كان ميتاً، والجاهل ميت وإن كان حياً))؟
- القصد أن العالم حي بعمله وإن مات، (فالعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة)، باعتبار أنهم أحياء بعلومهم وبما أعطوه، بينما الجاهل لا يتحرك فكرياً وعقلياً، فهو كالميت.
آثار العلم:
* نرجو توضيح كلام الإمام علي(ع) لكميل: ((العلم يقوي الرجل للمرور على الصراط، والمال يمنعه، والعلم يرافق الإنسان بعد الموت بينما المال يبقى))؟
- في حال كون ذلك الكلام منسوباً للإمام علي(ع) صحيحاً، فإن معناه أن العلم ينفتح بالإنسان على الحقائق، ليعرف الله سبحانه وتعالى، ويعرف الآخرة التي يقف فيها الإنسان بين الجنة والنار، بحيث يدفعه العلم إلى اختيار طريق الجنة، وبذلك فإنه يسهِّل مروره على الصراط يوم تزلُّ الأقدام، والمال يمنعه لأن المال يشغله عن المعرفة، ويشغله عن الالتزام الديني، وإذا استغرق الإنسان في المال، فإنه يؤخِّره عن المرور على الصراط في خطِّ النجاة، والعلم يرافق الإنسان بعد مماته من خلال نتائجه في خطّ العقيدة والعمل لينفعه يوم الحشر، أما المال فإنه يبقى للورثة.
ذمُّ كثرة النوم:
* نقرأ في بعض الأحاديث عن النبي(ص) وأهل البيت(ع) التحذير من كثرة النوم، وأنه يجعل صاحبه فقيراً يوم القيامة، فكم ساعة تكفي للنوم؟
- ذلك التحذير كناية عن كثرة الاستغراق في النوم، بحيث يشغله عن مسؤولياته في الحياة، وفي تنمية مواهبه.
بر الوالدين:
* ما هي أحسن الأعمال ثواباً لتحقيق بر الوالدين بعد مماتهما؟
- ورد في الحديث الشريف وجوب البر للوالدين حيّين كانا أو ميتين، وفي حال موتهما يمكن برّهما بدفع الصدقات عن روحيهما وبقراءة القرآن الكريم وقضاء ما فاتهما من حقوق أو صلاة أو صيام أو حج أو ما إلى ذلك.
تدخل الوالدين في زواج الولد:
* رجل وزوجته تخاصما لمدّة دامت سنة ونصف السنة، وهو يحاول أن يمنحها فرصةً ثانيةً عسى أن يكون في الإصلاح بينهما خير، ولكنّ أمّه وأخوته يرفضون ذلك رفضاً تاماً؟
- لا ولاية للأم ولا للأخوة عليه، فإذا كان مقتنعاً بأن زوجته هي الزوجة الصالحة التي يستطيع أن يعيش معها بسلام، وأن يربي أولاده تربية صالحة معها، فعليه أن يبقى معها، وإذا كان عندها بعض الأخطاء، فعليه أن يصلحها. نحن نقول: إذا اقتنع بزوجته، فليس عليه أن يطيع أمه، أو يطيع أخوته، حتّى لو غضبوا منه، خصوصاً إذا كان في ذلك ظلم للزوجة، ((لا يطاع الله من حيث يعصى)).
توصية للشباب:
* بماذا تنصح الشباب المسلمين، بشكل عام، والشباب الحوزويّين بشكل خاص؟
- إنَّ على المسلمين أن يعيشوا الإسلام فكراً، فلا يأخذوا أيَّ فكر غير فكر الإسلام، ممّا يختلف مع الإسلام من التيّارات التي تتحرك من هنا وهناك، ولا سيّما التيارات العلمانية، وأن لا يتحركوا أيضاً في كلِّ مواقعهم العملية إلا بما يؤكّده الإسلام في شريعته، مما يجب على الإنسان أن يفعله أو يتركه. وعلى الإنسان أن يخلص للإسلام، ليدعو إلى الله سبحانه وتعالى من ضلَّ عن طريق الله تعالى، وليدافع عن الإسلام دفاعاً ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، وحتى أمنياً.
أما الحوزويون، فعليهم أن يكونوا في مستوى الرسالة التي تمثِّلها الحوزة، في أن يكونوا كما ورد في دعاء الافتتاح: ((اللهمَّ إنَّا نرغب إليك في دولة كريمة، تُعزُّ بها الإسلام وأهله، وتُذِلُّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك))، فعلى الطالب الحوزوي أن يعيش رساليّة الدعوة وروحيّتها، وأن لا تكون حوزويته دكاناً يعيش منه، بل أن تكون رسالة ينطلق إليها، وأن يعمل على أساس أن يهيئ نفسه في علمه وفي خبراته، وفي كل ما يتحرك به في تقواه، وأن يهيّىء نفسه ليكون مشروع الإنسان القائد، بحيث إذا خلت الساحة من القائد، يكون هو البديل.
أصدقاء السوء:
* كيف أتعامل مع أصدقائي الذين يقولون لي إنهم مسلمون لكنهم حقيقة الأمر يملكون صفات سيئة جداً، كالكذب والكبر، والعجب والبخل؟
- عليك أن تأمرهم بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، ما أمكنك ذلك.
دور الدّعاء في الحياة:
- ما هو دور الدعاء في البناء الأخلاقي والروحي للمسلم؟ وأيّهما أفضل: قراءة القرآن أم الدعاء؟ وهل يجوز تكرار الآية أو الآيات؟
* الدّعاء فيه جانبان؛ الأوّل أنك تتحدث مع الله وتبتهل إليه وتُشهده على إخلاص العبودية له، ما يجعلك تتقرب إليه وتعيش في قربه كأيِّ إنسان تعيش معه وبقربه، وتشعر مع ذلك بحاجتك إلى الله من خلال فقرك المطلق أمامه. والجانب الثاني، أن معاني الأدعية، وخصوصاً الأدعية القرآنية، وأدعية النبي(ص)، وأدعية الأنبياء، وأدعية الأئمة(ع) هي مدرسة ثقافية واجتماعية وأخلاقية وسياسية ونفسية. وعلينا عندما نقرأ الدعاء أن نشعر بأننا ندخل مدرسة الدعاء، فمثلاً، عندما يتحدّث أن الله سبحانه وتعالى عن موسى(ع) أثناء هربه من فرعون، وهو يقول: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ( ) يعني يريد أن يقول إنني يا ربّ لا زلت أعيش الفقر في غناك. والإنسان عندما يظهر فقره وحاجته إلى الله وقت الشدة، فكأنما يستمدُّ من الله الغنى والقوّة. وعندما التقى مع شعيب(ع)، دعا ربه دعاءً سياسياً، ولابد لكل السياسيين أن يتمَعّنوا في هذا الدعاء: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ( )، بمعنى، أنّك يا ربّ أنعمت عليّ وأعطيتني الراحة والطمأنينة والاستقرار، وسأشكرك على نعمك هذه، وبأنني لن أكون ناصراً لأيِّ مجرم من خلال ظلمه للإنسان، لأنَّ الإنسان يجب أن يعطي عهداً لله بالشكر على نعمه بطريقة الوقوف أمام كلِّ الظالمين والمجرمين.
وهناك دعاءٌ للإمام زين العابدين(ع) يقرأ في ليلة (عرفة) والجمعة، وربما هو موجود في دعاء يوم الأضحى في (الصحيفة السجادية)، يقول فيه: ((وقد علمت أن ليس في حكمك ظلم، ولا في نقمتك عجلة، وإنما يعجل من يخاف الفوت)) بمعنى أن الذي يستعجل إنما يستعجل لأنه يفوته هذا أو ذاك. فيحاول اللحاق به، ((ويحتاج إلى الظلم الضعيف))، لأنَّ القويَّ لا يظلمُ، والظالم عندما يظلمك فإنما يخاف منك، لأنه يعيش ضعفاً أمامك، فيحاول أن يظلمك حتى يتفادى ما لديك من قوّة.
وهذه هي فكرة أساسية نستنبطها من خلال هذه الأدعية التي تكرّس هذه المفاهيم، وهي تشير إلى الظواهر الاجتماعية والسياسية فضلاً عن الأطر العقيدية والمعرفة الإلهية. وكلمات الأئمة(ع) هذه بعضها من بعض، فالإمام الباقر(ع) هو تلميذ أبيه الإمام زين العابدين(ع)، وعندما يتحدث عن الناس الذين يستعرضون عضلاتهم وينتفخون ويمشون مشية الخيلاء، يقول(ع): ((ما من امرئ يتيه ـ والتيه يعني الخيلاء ـ إلا لذلّةٍ يجدها في نفسه))، فمن يستكبر ويستعرض عضلاته ويتمايل ويتخايل أمام الناس، فذلك يمثِّل تغطيةً لعقدةِ نقص موجودة، لذلك نقول لكم ـ أيُّها الأحبة ـ إذا أردتم أن تفهموا أهل البيت(ع)، فعليكم أن تدرسوا تراثهم وتتعمّقوا فيه، وأن لا يقتصر حبّكم لهم على الدمعة، وإن كانت حالة إنسانية طبيعية، لأنّهم ليسوا فقط دمعة، بل هم بسمة الفرح في ثغر الرسالة، فعلينا أن ندرسهم، وكما يقول الإمام(ع): ((حدِّثوا الناس بمحاسن كلامنا)). فالدعاء مدرسة روحية وعقلية ثقافية واجتماعية وسياسية في بعض الحالات. وعلينا أن نعيش الدعاء بوعي ككتاب نقرأه من الأوَّل والآخر، فبالدعاء نشعر كأننا نخاطب الله. ولذا قلت لكثير من الناس، عندما تحس بالتعب والانكسار تكلَّم بذلك مع الله بلا أية مشكلة وبدون رسميات، فعليك أن تعيش الدعاء مع الله في أيِّ مكان، لأنك تدعو الله وهو القريب إليك، وهو سبحانه يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بي لعلّهم يرشدون( ) فالله سبحانه حنون عطوف رحيم ولا حواجز بيننا وبينه.
وأما قصَّة الأفضل؛ هل هو قراءة القرآن أو الدعاء، فإن الأفضل أن نقرأ القرآن ونفهمه، وأن ندعو بدعاء القرآن وغيره، فالقرآن يعطينا روح الرسالة وفكر الرسالة ويعرّفنا الله، ونقرأ الدعاء حتى نعيش مع الله. أما بالنسبة لترديد آية أو آيات معينة عدَّة مرات وما يسمى بالختومات، فإذا كانت الآية معبِّرة، فلا مانع من تكرارها، على أن لا يكون التكرار مجرَّد لقلقة لسان، بل نفهمها ونعيش معناها في تكرارها على طريقة (هو المسك ما كرّرته يتضوّع).
الضغط الاجتماعي:
- أنا شاب أواجه في حياتي عدداً من الفراعنة، في البيت، وفي العمل وما شابه، كيف أتعامل معهم؟
* كما تعامل معهم النبي موسى(ع)، قال تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى( )، يعني ما دمت لا تملك القوة التي تستطيع أن تواجههم فيها، وترفع طغيانهم عنك، حاول أن تجتذبهم بالكلمة اللينة الطيبة، كما أوصى الله موسى(ع) وهارون(ع) بذلك.
الحجاب والأخلاق:
- امرأة طيبة السريرة تصلّي وتصوم، ولكنّها تعيش في بيئة لا تتعاطى مع الحجاب كواجب، فهل احتمال التزامها بالحجاب وارد في رأيكم؟
* ما دامت المسألة مسألة جهل، وعدم تربية على الخطِّ الشرعي، وكانت طيبّة السريرة، فعلينا أن نحاول الاستفادة من هذه السريرة الطيبة بتوعيتها وتثقيفها بأن الحجاب فريضةٌ إسلامية.
المطالبة بالحقِّ الشخصيّ:
- إلى أيِّ حدٍّ يمكن للإنسان السكوت والتغاضي عن حقّه الشخصي مع من يظلمه، خصوصاً أنّه كلّما أكّد له أنّه لا يريد ظلمه، ازداد تسلطاً ويحسب السّكوتّ وعدم الردّ، ضعفاً، فما المخرج من هذه النوعية؟
* الله سبحانه وتعالى حلّ هذه المشكلة، في قوله تعالى: فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ( )، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى( )، وقال تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ( )، يعني أن الله تعالى أعطى الإنسان الحقَّ في أخذ حقه من ظالمه، ولكن ترك له مجال العفو، إذا رأى في العفو مصلحة له، فما ورد في رسالة (الحقوق) للإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) الذي قال: ((وأما حق من ساءك، فأن تعفو عنه، فإن رأيت العفو عنه يضرّه))؛ أي يزيده عناداً وظلماً، ((انتصرت لنفسك)).
الفصل الخامس
المسائل الفقهية
أولاً: المرجعية والتقليد ثانياً: النجاسات والطهارات
ثالثاً: الوضوء والصلاة رابعاً: الصيام والكفّارات
خامساً: الخمس والزكاة سادساً: الحج والعمرة
سابعاً: الزواج والطلاق ثامناً: أموال وبنوك
تاسعاً: السلوك والمعاملات
أولاً: المرجعية والتقليد:
حدود التقليد:
* أقلِّد فقيهاً، وأصلّي خلف آخر، وأقرأ لفقيه ثالث، فهل في ذلك مشكلة؟
- إذا كنت تقلِّد فقيهاً، فعليك أن تعمل بفتاواه، ولا مانع من أن تصلّي وراء فقيه آخر إذا كان عادلاً، وتقرأ لفقيه آخر كتبه في الجوانب الأخرى، أما في الجانب الفقهي، فعليك أن تأخذ بفتوى الفقيه الذي تقلِّده، إلاّ إذا رخَّصك في أن تقلد مع تقليده فقيهاً آخر.
تقليد الأزواج:
* أنا أقلّدكم وخطيبي يقلّد مرجعاً آخر، فهل يتبع أحدنا الآخر، أم يبقى كل واحد على مقلّده؟
- التقليد ينطلق من خلال القناعة بالمقلَّد، ولذلك فإنّ هذه القضايا لا علاقة للزوجية فيها. نعم، إذا اقتنع زوجك بمقلدك، فيمكن له أن يعدل إليه، وإذا اقتنعت أنت كذلك يمكنك العدول؛ فإن الزوجية بمجرّدها لا تفرض الاتحاد في مسألة التقليد.
التبعيض في حلق اللحية:
* أنا شاب أقلِّد أحد المراجع، وهو يرى أن حلق اللحية مع إبقاء الذقن احتياط وجوبي، فهل إن الرجوع إليكم أمر مبرئ للذمة في هذا الأمر؟
- الجواب على حسب رأي مقلدك، فإذا فرضنا أن مقلدك يحتاط احتياطاً وجوبياً، ولا يفتي بحرمة حلق اللحية، فيجوز لك أن ترجع إلى مجتهد آخر يفتي بجواز حلق اللحية، وهذا ما نفتي به وإن كنَّا لا ننصح به.
سلطات الحاكم الشرعي:
* نرجو منكم توضيح مفهوم (الحاكم الشرعي)؛ هل هو كل مرجع تقليد أم يجب أن يكون مبسوط اليد في الدولة لتنفيذ حدود الله تعالى بدلاً من التحكيم في الأمور حسب القوانين الوضعية؟ وهل يمكن أن يكون هناك رابطة بين المراجع مثل نقابة الأطباء والمهندسين؟
- الحاكم الشرعي على قسمين: تارة يكون على مستوى الأمور الحسبية، وهي الأمور التي تتعلق ببعض قضايا الأيتام، أو بعض قضايا الأوقاف التي لا ولي لها، وأموال الغائب، وما إلى ذلك مما يسمى بالأمور الحسبية، فإنه يرجع فيها للمجتهد العادل، ولا يُشترط الرجوع إلى المرجع.
أما بالنسبة إلى إقامة الحدود، فلابد من أن يكون المجتهد العادل صاحب سلطة واقعية وعملية، بحيث يملك إقامة الحدود ويملك إدارة النظام العام للناس.
التقليد في الموضوعات:
* التقليد مختصر بالفتاوى المتعلّقة بالأحكام، فهل للمكلّف أن يخالف مرجع التقليد في الموضوعات؟ يرجى منك توضيح هذه المسألة؟
- هذا صحيح، حتى إن السيّد الخوئي رحمه الله لا يرى أن حكم الحاكم في الموضوعات واجب الاتّباع، ولذا فإن السيد الخوئي رحمه الله كان لا يرى أن حكم الحاكم في الهلال نافذ، ولذا يقول: لو فرضنا أنّ أحداً مالم يطمئنّ وكان قد حكم السيد الخوئي بالهلال، كما لو رأى ذاك أن الشهود الذين اعتمد عليهم السيد الخوئي غير عدول مثلاً، فالسيد الخوئي يقول له: لا يجوز لك أن تفطر. نعم، إذا اطمأننت لحكم الحاكم فلك ذلك. فالتقليد إنما هو بالأحكام وليس في الموضوعات، إلا الموضوعات الاجتهادية.
الإرث حسب التقليد:
* إذا كان رأيكم أن ترث الزوجة الأرض من زوجها، فإذا كانت الزوجة تقلدكم، وزوجها المتوفى يقلِّد السيد الخوئي رحمه الله الذي لا يورّث الزوجة الأرض من زوجها، فما العمل عندها؟
- نحن ليس عندنا فتوى حاسمة في هذه المسألة، فرأينا وجوب المصالحة بين الورثة والزوجة، وأما الزوج فإنه انتقل إلى رحمة الله تعالى، والتكليف ليس تكليفه في هذا الموضوع، بل هو تكليف الورثة مع الزوجة، وأنا أرى الاحتياط الوجوبي في لزوم المصالحة بينهم في هذه المسألة.
الموضوعات التي لا يٌقلَّد فيها:
* ما هي الموضوعات التي يجوز للمقلِّد مخالفة مقلَّده فيها غير رؤية الهلال؟
- كل الأمور التي لا تتعلق باستنباط الأحكام الشرعية.
الإفتاء في السياسة:
* هل يجب على المجتهد أو المرجع الإفتاء في الأمور السياسية الدائرة على الساحة؟
- إذا كانت هذه الأمور تتصل بالتكاليف الشرعية للناس، فلا بدّ له أن يفتي بها، كأي تكليف شرعي آخر. أما إذا كانت غير متصلة بتكاليف الناس، بل هي موضوعات خارجية، فلا يجب عليه ذلك. ونحن نقول: إن مسؤوليّات المرجعية في هذه الأيام اختلفت عنها في السابق، وذلك لأن الناس تريد أن تسأل المرجع عن كل شيء، ولذلك فإنّ المرجع يجب أن يكون عنده انفتاح على العالم كله.
مراحل البلوغ:
* ما هي مراحل البلوغ؟
- هي معروفة، فبالنسبة للذّكر هي الاحتلام، وأيضاً أن يبلغ عمره 15 سنة هجرية قمرية، ونبات الشعر على العانة، وبالنسبة إلى الأنثى، فالمشهور بلوغها تسع سنين هجرية قمرية، وهو الأحوط.
دور العقل في الاستنباط:
* ما هو دور العقل في تحصيل الأحكام الفقهية؟
- يذكر الفقهاء أن العقل هو أحد الأدلة التي يمكن من خلالها إدراك المصلحة أو المفسدة التي هي ملاك الحكم الشرعي، فيكتشف الحكم الشرعي من خلال ذلك.
اشتراط الأعلمية:
* يوجد في الساحة الإسلامية الشيعية العديد من المراجع للتقليد، فهل يشترط تقليد الأعلم؟ وما هي شروط الأعلمية؟ وهل يشترط دفع الحقوق الشرعية للمجتهد المقلَّد، أم لوكيله الشرعي، أم لأيّ مرجع آخر؟
- لا يشترط الأعلمية في التقليد، فالأدلة مطلقة: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ( )، وبناء العقلاء وسيرتهم على الرجوع إلى غير الأعلم في مختلف العلوم مع وجود الأعلم، ولا يوجد في العالم من هو الأعلم بشكل مطلق، سواء في مجال الطب أو الهندسة أو غيرها، وقضية الأعلمية غير واقعية أوَّلاً، وثانياً لا يستطيع أحد أن يشهد لفلان الأعلمية، فيوجد ما شاء الله من المجتهدين، في قم والنجف وكربلاء ولبنان، فكل الذين يشهدون بالأعلمية يبنون على الظن، لأنّهم لم يطّلعوا على الجميع في هذا المجال، وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا( )، وبالنسبة للحقوق الشرعية، فيجوز دفعها للمرجع المقلَّد، أو وكيله احتياطاً.
فاعلية المرجعية:
* هل يمكن للمرجعية الشيعية أن تساهم من خلال وكلائها في أنحاء العالم في تقديم الحلول الإسلامية لمختلف النـزاعات والمشاكل، مثل مشكلة تقرير مصير الشيشان أو كشمير ودارفور وغيرها، بدلاً من اللجوء إلى مرجعية ما يسمى مجلس الأمن الدولي المهيمن؟
- غالباً ما يكون وكلاء المراجع في العالم مهتمين بعالم الفتاوى والحقوق الشرعية ولا يتدخّلون في السياسة، كما هو واقع أغلب المراجع.
البقاء على تقليد الميت:
* هل يجوز البقاء على تقليد الميت؟
- نعم، يجوز ذلك.
الشهرة العلمية:
* ألا تكون الشهرة العلمية جابرة للقياس فتجعله حجّةً أسوةً بالظنون الأخرى ؟
- نحن نقول: إن القياس، أساساً، باطل، وثبت عندنا عدم حجّيته، من خلال دراستنا لأسس الحجية في مصادر الاجتهاد، وكذلك من خلال ما ورد عن الأئمة(ع) في ذلك، فلا قيمة لأيّة شهرة في تأكيد حجّيته.
الجهاد الدفاعي:
* هل يحتاج الجهاد الدفاعي إلى إذن الفقيه الجامع ؟
- الجهاد الدفاعي يحتاج إلى قيادة حكيمة، خبيرة، مسؤولة؛ لأن الجهاد لا يمكن أن يترك للناس بشكل فوضوي، ولا بد أن يكون أيضاً له خطَّة مبرمجة تدرس الجوانب السياسية، أو الاقتصادية، أو الأمنية. وعليه، فإنّ الجهاد ليس مجرد إطلاق رصاصة تجاه العدو، لأنه ربما بعض الناس يتحركون في الجهاد باسم الجهاد ولكنهم يسيئون إلى ما يجاهدون باسمه.
الفتوى بالجهاد:
* متى يفتي الفقيه الذي يؤمن بالولاية الخاصة بالجهاد، وهل له ذلك ؟
- هذا يحتاج إلى بحث تفصيلي، ثم إن الجهاد لا يسير بالحماس، بل يحتاج إلى تهيئة ماذا نملك من القوة، وماذا نملك من الوضع السياسي، وماذا نملك من الأوضاع المحيطة بنا. وهذا ليس سهلاً. ففتوى الجهاد تكون صعبة جداً، فالجهاد من الأمور المعقَّدة جداً، ولا سيما في هذا العصر.
الحيل الشرعية:
* ما هي الضابطة في مسألة الحيل الشرعية؟
- لا بدّ أن تُدرس كل واحدة بحسبها، فبعضها يرتكز على قاعدة، وبعضها الآخر لا يرتكز على قاعدة.
بلوغ البنت:
* أنا فتاة أبلغ من العمر 12 سنة، ولحد الآن لم أبلغ، فهل تكون التكاليف بالنسبة إليّ من ناحية الصلاة والصوم، من سن التكليف، أي تسع سنوات، أم أنه من البلوغ، وإذا كان من سن التكليف، أي تسع سنوات، فهل يجب عليَّ قضاء ما فاتني بالنسبة للصلاة والصوم ؟
- البلوغ عندنا في التاسعة على الأحوط.
التقليد وتفرقة الناس:
* لقد أصبحت قضية التقليد كقضية المذاهب أو الأديان، والنّاس في تقليدهم المراجع المختلفة يرفضون بعضهم بعضاً فما هو الحل لهذه المشكلة؟ وما هو دور طلاب الحوزة في ذلك؟
- ربما صار الاختلاف في التقليد أكثر من الاختلاف في المذاهب، وهذا يدلّ على أن عقولنا لا زالت متخلّفة وموحلة. فبينما نجد أنّ العلماء يفتون بجواز زواج السنيّ من الشيعية، والسنية من الشيعي، لكنه في كثير من البلدان لا يسمح لامرأة تقلِّد مرجعاً معيّناً أن تبقى على تقليدها إذا كان زوجها يقلّد مرجعاً آخر. هذه تسمى عصبية، وليست ديناً، وقد استبدلنا الدين بالعصبية، وكل يوم نخلق لنا عصبية جديدة، فصار عندنا عصبية حزبية، وأخرى طائفية، وأخرى مذهبية، والآن مرجعية، والله العالم ماذا نخبّئ للزمن من عصبيات جديدة ننتجها من وحي التخلّف.
تقليد الميت ابتداءً:
* ما هو رأيكم في تقليد السيد الشهيد الصدر الثاني رحمه الله ابتداءً وعدولاً، وهل تجوّزون البقاء على تقليده مطلقاً؟ وهل هناك دليل شرعي أو عقلي على بطلان القول بجواز تقليد الميت ابتداءً؟
- نحن نقول لا يجوز تقليد الميت ابتداءً على الأحوط وجوباً، ومن كان مقلِّداً له، يجوز له البقاء على تقليده، ما دام مقتنعاً بتقليده الأول. وهناك أدلّة يذكرها الفقهاء على بطلان القول بجواز تقليد الميت ابتداءً.
الاحتياط في الفتوى والفتوى بالاحتياط:
* ما هو الفرق بين الاحتياط بالفتوى والفتوى بالاحتياط.؟
- الفتوى بالاحتياط: كما لو كان لدى الإنسان إناءان، ويعرف أن أحدهما نجس، ولكنه لا يعرف أيُّهما النجس أو الطاهر، هنا فتوى الاحتياط باجتناب كلا الإناءين. أما الاحتياط في الفتوى: فهو أن الحكم الشرعي عند المجتهد قد لا يكون واضحاً، فيحتاط، فيقول: الأحوط كذا، حتى يصل الإنسان إلى الواقع في عمله على كلّ حال؛ لأن المجتهد لم يتَّضح له الحكم الشرعي بواقعه.
ولاية الفقيه:
* في إحدى المجلات القديمة، قرأت قولكم في ولاية الفقيه، وأنك لا تلتقي معها بالمطلق، فأريد أن أستفهم منكم حول هذا الشيء؟
- ليس لدينا أي دليل ـ حسب رأينا ـ ورأي كثير من العلماء، كالسيد الخوئي رحمه الله والشيخ الأنصاري رحمه الله، من كتاب الله أو السنة على الولاية المطلقة للفقيه، وأما الأدلة التي استدلوا بها فهي ليست تامة. ولكن نقول إنه يمكن أن نلتزم بولاية الفقيه في البلد الذي يتوقَّف فيه حفظ نظام البلد على ولاية الفقيه، أما إذا أمكن حفظ نظام البلد إسلامياً على غير ولاية الفقيه، فلا تجب، وهذا الرأي هو رأي كثير من العلماء، ومنهم السيد البروجردي رحمه الله.
غاية طالب العلم:
* ما هو الإثم الذي يترتَّب على الطالب الحوزوي الذي يكون هدفه جمع المال والثروة أو الجاه أو السلطة؟
- لن يوفِّقه الله تعالى إلى ذلك، لأن من طلب العلم ليستأكل به سلبه الله ذلك. وقد يهتدي ـ في نهاية الأمر ـ إلى الإخلاص، كما ورد من كلمات بعض الأعلام: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله.
مؤهّلات الفقيه:
* لماذا يكثر الجدل والكلام حول القدرات العلمية للمجتهد في مجال الفقه والأصول، مع إغفال وإهمال جوانب مهمّة، كالمعرفة القرآنية والخبرة الاجتماعية والجانب الحركي؟ وما هو الأصلح من الخطين الذي ينسجم مع دور النبوّة والإمامة، على افتراض أن المجتهدين نوّاب الإمام؟ نرجو توضيحكم وإرشادكم؟
- طبعاً نحن نعتقد أنه من الضروري جداً دراسة المجتهدين من خلال حاجة الرسالة إليهم في كل عصر، ولذلك لا يكفي في المجتهد أن يكون عنده اجتهاد في الفقه والأصول، بل لابد أن يكون عنده ثقافة قرآنية، ولابد أن يكون عارفاً بأهل زمانه، ومنفتحاً على المجتمع، وعلى علامات الاستفهام التي تثيرها الأجيال الجديدة، ولذلك نقول إنّ الطريقة السابقة في التقويم ربما كانت تنسجم مع تلك المرحلة، أما الآن فالمرحلة تحتاج إلى مؤهَّلات أخرى.
ثانياً: النجاسات والطهارات:
طهارة الخمر:
* ما هو الدليل النقلي بأن الخمر طاهر؟
- ما هو الدليل بأنه نجس؟ نحن عندنا أحاديث عن الأئمة(ع) أنّه وقع بعض من الخمر على الثوب، فسُئل الإمام(ع): هل أغسل ثوبي؟ قال(ع): إنّ الثوب لا يسكر. ووردت عدة أحاديث عن الأئمة(ع) في طهارة الخمر، وهي مرجّحة عندنا على أخبار النجاسة في هذا المجال.
دخول المشرك إلى المسجد:
* قد أفتيتم بطهارة المشرك، فهل يجوز له أن يدخل المسجد؟
- أفتينا بطهارة المشرك، لأننا نرى طهارة كلِّ إنسان، ولا دليل على نجاسة الإنسان، أما قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ( )، فلا يراد بها نجاسة الجسد، وإنما المراد بها نجاسة العقيدة، ونجاسة الفكر. أما دخول المسجد فله حكم آخر، ورأينا أنّه يجوز.
وضوء المعوّق:
* يوجد شخص معوّق (زارع مفاصل حديد)، قيل له من قبل البعض إنه عند مسح القدمين عند الوضوء يجب أن يتم ذلك بواسطة شخص آخر، وهو يرى حرجاً بسبب ارتباط زوجته بعدة أمور، فهل يستطيع أن يعوِّض عن ذلك بمسح الركبتين؟
- إذا كان لا يستطيع المسح، وكان حرجاً عليه أن يكلف أي شخص آخر، فإن عليه أن يضيف إلى غسل الوجه واليدين التيمم احتياطاً.
غسل الجبيرة:
* ما هو عمل من عليه جبيرة ويغتسل غسل الجنابة، هل يضم الوضوء إلى الغسل عند الصلاة؟ وهل عليه الإعادة فيما بعد؟
- كلا، فإذا اغتسل وكانت الجبيرة على أعضائه، بحسب شروط الغسل مع الجبيرة، فغسله صحيح، ولا يحتاج إلى ضم الوضوء.
المسكر في الطعام:
* بالنسبة إلى الخمر والكحول، ما هي المادة العضوية أو الكيميائية التي بسببها يصبح هذا الشراب محرَّماً؟ وهل إذا أضفنا هذه المادة العضوية إلى أي شراب أو طعام آخر، يصبح بالنتيجة محرماً أيضاً؟
- الخمر محرّم من جهة إسكاره. يبقى أنه إذا أضفنا هذه المادة إلى بعض الأشياء، فتارة تكون الإضافة بنسبة كبيرة، وتارة تكون بسيطة جداً، بحيث إن الكحول المضافة تصير مستهلكة لا وجود لها، ولا تأثير لها كلية، فإنه لا يحرم شرابها، وإلا فيحرم الشراب.
حكم الأجبان الأجنبية:
* ما هو رأيكم في الأجبان الأجنبية، لأن بعضها حسب تقرير صدر عن أحد المؤتمرات الإسلامية تدخل فيه مادة (دهن الخنزير) ؟
- إذا عرفنا أنه دخلت في الأجبان مادة (دهن الخنزير)، فلا يجوز أكلها، أما إذا شككنا في ذلك، فنرجع إلى أصل الحليّة: (كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه، فتدعه).
من أحكام المستحاضة:
* هل تستطيع المستحاضة الوضوء في الخطبة الثانية من صلاة الجمعة والانتظار لمدة ربع ساعة للاستماع إلى خطبة الجمعة، أم عليها الصلاة فوراً بعد الوضوء؟
- المستحاضة لا تجب عليها صلاة الجمعة؛ لأن المرأة لا تجب عليها صلاة الجمعة، ولكن يجوز لها الاستماع للخطبة والصلاة، ويجوز لها الوضوء ثانية للصلاة وتجزي عن الظهر.
حكم مادة الكافيين:
* ما هو حكم مادة الكافيين في المشروبات الغازية ؟
- مادة الكافيين ليست من المسكرات.
اكتشاف الدم بعد الصلاة.
* ما هو حكم صلاة من اكتشف وجود دم يابس بسيط على يده، بعد الفراغ من صلاة الجماعة؟ وهل تبطل صلاة من يصلّون خلفه ؟
- إذا كان ذلك الدم بحجم الدرهم فلا تبطل الصلاة، ولا تبطل صلاة الذين يصلّون خلفه، كما لو لم يكن عالماً بالدم وعلم بعد الفراغ من الصلاة، فالصلاة صحيحة. نعم، إذا كان المقصود وجود الدم قبل الوضوء في مواضع الوضوء، بحيث تتنجّس اليد بسببه، فالصلاة باطلة، حيث يكون الوضوء باطلاً، ومع ذلك لا تبطل صلاة من هم خلفه لعدم علمهم بالأمر.
طهارة الإنسان:
* هل الكافر نجس أم طاهر؟
- كل إنسان يعتبر طاهراً، سواءً كان بوذياً أو ذمياً أو مشركاً، ولا دليل من كتاب أو سنّة على النجاسة، وأما الآية التي تقول: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا( )، فالمقصود أنهم المشركون بالفكر وليس بالجسد.
الماء المختلط بالوضوء:
* في الوضوء، هل يجب غلق الصنبور قبل غسل اليد اليسرى حتى لا يختلط ماء الوضوء بغيره؟
- يمكن غلقه بإصبعين والمسح بالأصابع الثلاثة الأخرى.
حلوى مشكوك بها:
* أرسل لنا صديق من أستراليا بعض الحلوى، وزوجي يقول إنّه لا يجوز أكلها لاحتمال أن يكون فيها من شحم الخنـزير؟
- إن مجرد الاحتمال لا قيمة له طالما أنّنا لا نعلم بوجود الدهن المشار إليه في السؤال، فكل شيء يعتبر حلالاً حتى تعلم أنه حرام.
حكم صلاة المرأة:
* ما حكم صلاة المرأة التي يستمر معها الدم لعدة أشهر ؟
- إذا كان خروج الدم وقت أيام العادة الشهرية، فإنه يعتبر حيضاً، أما إذا استمر لفترة أطول من أيّام العادة، فيعتبر دم استحاضة في الزائد عن أيام العادة، وما إلى ذلك من الشروط المذكورة في باب الحيض.
حكم الرطوبة:
* هل الرطوبة التي تخرج بعد الخرطات التسع طاهرة أثناء الوضــوء والصلاة أم أنها طاهرة دائماً ؟
- هي طاهرة، لأن الخرطات التسع إنما هي لأجل أن الإنسان إذا شك أن الخارج هل هو بول أم أنه ماء عادي أو رطوبة عادية، فيحكم بأنها رطوبة، سواء في أثناء الصلاة أو غيرها.
رؤية الدم ليلاً:
* كانت الدورة الشهرية في شهر رمضان السابق، تأتي في الليل بعد المغرب وتختفي في النهار، وذلك بعد الأيّام الثلاثة الأولى، فهل يتوجَّب عليّ إعادة الأيام التي صمتها أم لا؟
- إذا كانت تأتي في الليل وتختفي في النهار، فتعتبر الدم الذي رأته من أيام الحيض، ولذلك فلتر طبيعة الدم إذا تمت الدورة حسب العدد، إذا كانت الدورة وقتية عددية، لتعرف هل هي بصفات دم الحيض قبل تمام العشرة فيكون حيضاً، أو بصفات دم الاستحاضة ليكون استحاضة.
تنجيس الماء القليل:
* هل ينجس الماء بالمتنجّس، خصوصاً إذا كان الماء قليلاً، وغيّر أوصافه بالمتنجس؟
- إذا كان متنجّساً ثانياً، فرأيُنا أنه لا ينجس، فإن المهم أن لا يتغيّر بالنجاسة، ولا أن يتغير بالمتنجّس.
التطهير مع ذهاب النجاسة:
* ثوب تنجَّس وسها صاحبه عن غسله، وبعد مدة قصيرة تذكَّر أنه يجب عليه غسله، ولكنه لم يجد أيَّ أثر للنجاسة، فهل يجب مع ذلك تطهيره.؟
- إذا كان يعرف أنَّ الثوب تنجَّس والنجاسة ما زالت موجودة، غاية الأمر يمكن أنه ذهب لون النجاسة، أو ذهبت رائحتها، فيحب عليه أن يغسله.
كفَّارة ناسي الجنابة:
* عليّ كفارة شهرين وصمت شهري رجب وشعبان، وبقيت على الجنابة لأذان الصبح، واغتسلت فوراً، فهل عليَّ شيء؟
- ليس عليك شيء.
حلّية اللحوم المستوردة:
* اللحوم المستوردة من الدول الغربية ومكتوب عليها (مذبوح على الطريقة الإسلامية)، هل نعتمد على ما كتب عليها لنحكم بحليتها؟
- هذه لا يعتمد عليها، حيث إنها قد تكون للدعاية، لأنه لابد أن يكون الشخص الذي تشتري منه رجلاً مطّلعاً ومأموناً في هذا المجال. أنا أذكر أنّ جماعةً جلبوا معهم سمكاً، وقد وضعوه في صناديق كرتونية، وختموا عليها (مذبوح على الطريقة الإسلامية) لأجل الترويج للبضاعة، من دون رعاية للجانب الشرعي في هذا المجال. بعض الناس من هذا القبيل، ولا يجوز للإنسان أن يأكل منه إلا بعد الاطمئنان بتذكيته.
بخار النجس:
* ما رأيكم في البخار المتصاعد من الماء المتنجّس، وإذا لمس هذا البخار شيئاً، فهل يتنجّس؟
- الماء إذا تحوّل إلى بخار، فالبخار طاهر، ولا ينجس شيئاًَ، حتى ولو كان البخار من البول.
المنظّفات الحديثة:
* رغم أن العلم تقدَّم وابتكر موادّ تنظيف تزيل كل الأوساخ والجراثيم، فما هو سبب تمسك بعض المسلمين بعود الآراك وما شابهها؟
- قرأت بحثاً لمستشرق ألماني، وهو طبيب مختص، يقول بحثت حول استعمال المسلمين السواك، فقمت بتحليل مكوّناته، فرأيت أنه يعطي فائدة البنسلين. وعلى كلِّ حال، لم يوجب الله تعالى على الإنسان أن يستاك بعود الآراك، والملحوظ فيه جانب التنظيف، فإذا كان يستطيع الإنسان أن ينظف أسنانه بطريقة أخرى، فلا بأس، فهو ليس واجباً.
أرض متّصلة بماء كثير:
* أرض عليها ماء بارتفاع 2/1 سم تقريباً، وعليها قطعة نجسة، لكنها في الوقت نفسه متصلة بالماء الكرّ، من خلال ماء الصنبور. فما حكم هذا الماء الموجود على الأرض من حيث الطهارة والنجاسة إذا انتقل إلى الثوب وهو في هذه الصورة؟
- الماء طاهر، إذا لم يتغير بالنجاسة، لاعتصامه بالماء الكثير.
قراءة القرآن في الحاسوب:
* ماذا تقولون في قراءة القرآن دون وضوء على شاشة الحاسوب، أو الخليوي؟
- يجوز له أن يقرأ القرآن، وإن لم يكن على وضوء، ولكن الأكمل له أن يتوضَّأ.
تطهير الرضيع:
* في تطهير الطفل الرضيع، هل يكفي غسل واحد، أم يشترط التعدد؟
- بالنسبة إلى الطفل الرضيع الذي لم يأكل، يكفي غسلة واحدة.
شرب الفقاع:
* شرب الفقاع بدون كحول هل هو حرام أم لا ؟
- إذا لم يكن في شراب الشعير كحول كلّيةً، فليس حراماً.
تطهير مخلّفات الفأرة على البطاطا:
* لو تركت الفأرة مخلّفاتها على حبات البطاطا، فكيف يتم تطهير البطاطا فيما لو جفّت فضلاتها وبقيت ملتصقة عليها؟ أو لم نكن نعلم بأنها تركت فضلاتها عليها رغم علمنا بوجود الفأر وتحركه فوق البطاطا؟
- يمكن تطهيرها برفع مخلّفاتها بواسطة السكين أو أي شيء آخر، وتطهير المكان، والمهم أن نطهّرها من ذلك، بأيّ طريقة نحرز فيها حصول الطهارة وذهاب النجاسة.
نجاسة الكحول:
* هل الكحول الطبية نجسة في رأيكم ؟ وما هو الدليل على ذلك؟
- الكحول الطبية طاهرة بجميع أشكالها، وإن كانت مستخلصة من الخمر، لأننا نرى طهارة الخمر، وإن كانت محرّمة. وذلك الحكم بالطهارة موافق لرأي بعض الفقهاء، كصاحب المدارك، والمقدَّس الأردبيلي.
قضاء غسل الجمعة:
* إلى أيِّ وقت يمكن قضاء غسل الجمعة؟ وهل قضاء الغسل يجزي عن الوضوء؟
- يمكن قضاؤه حتى صباح السبت كما ورد، وقضاؤه يجزي عن الوضوء.
ثالثاً: الوضوء والصلاة:
الصلاة في الحرب:
* بالنسبة إلى الصلاة في المعركة، كان المسلمون قديماً يصلّون في صفوف، بحيث يقوم الجنود في الصفوف الاولى بالصلاة يحرسهم الجنود في الصفوف الثانية، ثم تصلي الصفوف الثانية يحرسهم من في الصفوف الأولى، ومع تطوّر المعارك في يومنا هذا، هل يجوز الصلاة - مثلاً - داخل الدبابة، أو فوقها، في أي اتجاه بسبب حساسية الموقف؟
- هذه صلاة الخوف التي كانت في تلك العهود تخضع في طريقتها لطبيعة حركة الحرب، بحيث يمكن أن يقف جماعة ليصلّوا وأولئك يحرسون هؤلاء المصلين. أما الآن، ومع تطور أساليب الحروب والمعدات، كالطائرات والدبابات وغيرهما، فيصلي الإنسان بحسب قدرته، ولو بالإيماء في بعض الحالات، لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فيمكن أنْ يصلّي الإنسان في الدبابة، بأنْ يوجِّه نفسه اتجاه القبلة، بطريقة وأخرى، بحسب ما يستطيع.
الالتزام بأوامر الطبيب:
* أمرني الطبيب المختص بأن أصلّي على الكرسي، بسبب حالة ظهري الصحية، فهل من الواجب شرعاً التقيد بكلامه؟ مع أني في بعض الأحيان أصلّي بدون سجود بسبب الآلام؟
- على الإنسان أن يصلي بحسب مقدرته. قال تعالى: لا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا( )، فإذا كان عنده عارض في ظهره بحيث تؤذيه الصلاة قياماً، فيصلي على الكرسي، فينحني للركوع، ويضع أمامه شيئاً يسجد عليه، أو يركع ويسجد بالإيماء إذا لم يستطع.
الصلاة بالإيماء للضرورة:
* شخص لا يمكن أن يصلّي في محل عمله، لأن ذلك يعرّضه للعقوبة والمساءلة، فهل يجوز أن يصلّي بالإيماء والإشارة؟
- لابد له أن يبحث عن عمل لا يضطر فيه إلى الصلاة بهذه الطريقة.
الإخفات في البسملة:
* في صلاة الجماعة لا يجهر إخواننا السُنّة بالبسملة عند قراءة سورة القرآن الكريم؟
- هم لا يعتبرون البسملة جزءاً من السورة، بينما علماؤنا تبعاً لأئمة أهل البيت(ع) الذين يتبعون النبي(ص) في ما يفتون به، يعتبرون أن البسملة جزء من السورة.
تشخيص الوظيفة في القصر والتمام:
* من يعمل لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر خارج مدينته، ثم يصبح عمله داخل مدينته، فما حكم الصلاة في فترة الثلاثة أو أربعة أشهر؟
- إذا كان العمل لثلاثة أشهر أو أربعة أشهر في مدينة أخرى دائماً بحيث ينوي الإقامة، فيصلّي تماماً إذا كان نوى الإقامة عشرة أيام، وكذلك إذا كان في كلِّ سنة يذهب لثلاثة أو أربعة أشهر، فيصلي تماماً أيضاً. أما إذا كان ذلك من باب الصدفة، يعني يقيم أربعة أشهر ولكنه يبقى متردداً على مدينته بين وقت وآخر، بحيث لا يكون عنده نية إقامة عشرة أيام، فعليه أن يصلي قصراً.
الالتفات حال الأذان:
* هل يجوز للرجال والنساء الالتفات والتحرك في الأذان؟
- في الأذان يجوز الالتفات، ولكن ورد في الإقامة أن على الإنسان أن لا يلتفت.
إمام الجماعة:
* في حال اجتمع عدَّة أشخاص في وقت إحدى الصلوات، فهل يجوز أن يصلَّوا جماعة، بأن يؤمهم أحدهم وهم جميعهم لا يحققون شروط الإمامة؟
- كلا، فلكي يصلوا جماعة لا بد أن يكون إمام الجماعة عدلاً في دينه. نعم، لهم أن يصلّوا بعضهم مع بعض على نحو المتابعة، وليس على نحو الائتمام.
صلاة الأولاد:
* ما هو الواجب علينا تجاه أبنائنا إذا كانوا يؤخرون الصلاة باستمرار، ودائماً يقولون إنّ الصلاة لنا، علماًً بأن أعمارهم تتراوح ما بين العاشرة والثانية عشرة؟
- لا تعقّدوا أولادكم، وحاولوا معهم باللطف والكلمة الطيبة والأسلوب الطيب الذي يجعل الولد ينفتح على الصلاة برغبة ولا يتعقّد منها.
القضاء عن الأح :
* كان لي أخ في سجون صدام، وقد استشهد، وعندما دخل السجن كان عمره 23 سنة، وعندها لم يكن يصلي، أو يصوم، وبقي في السجن ثلاث سنوات، ونحن نريد أن نؤدّي عنه الصلاة والصيام، فكم سنة نحسب له؟
- تصلّون عنه ما فاته، فإذا كان قد دخل السجن في الثالثة والعشرين من عمره، فإنه إذا كان قد بلغ بسن 13 أو 15، تصلّون عشر سنوات أو أكثر من حين البلوغ، ثم تضاف إليها ثلاث سنوات في سجنه، وربما بدأ الصلاة في السجن.
صلاة الإمام والمأموم على الكرسي:
* هل يجوز للإمام أن يصلّي وهو على كرسي، لأن حكمه هو هذا، والمأموم يصلي وهو على كرسي أيضاً؟ وكيف إذا كانت زوجة الإمام حكمها أيضاً الصلاة وهي على كرسي؟
- يجوز إذا كانا متساويين في العذر، بمعنى أن الإمام معذور في صلاته على الكرسي والمأموم معذور كذلك، أما إذا كان الإمام معذوراً والمأموم غير معذور، فمحل إشكال.
تحديد الإقامة:
* أنا أسكن في البحرين، وأملك حصاناً يشارك في سباقات الخيل، وأضطرّ لقطع مسافة شرعيّة أسبوعياً للإشراف عليه، مع مراعاة أنه خلال هذه المسافة يوجد انقطاع سكني خفيف، فهل يجب عليّ أن أقصِّر أو أن أفطر في شهر رمضان؟
- إذا كنت تذهب أسبوعياً خارج المسافة بشكل مستمر، ففي رأينا أن صلاتك على التمام وصومك أيضاً.
تأثير الجروح على الصلاة:
* أشكو من جروح خفيفة في الركبة، أو ما يسمى (الصدفية)، وأحياناً أرى نقط دم صغيرة مكان الجرح، فهل هذا يبطل الوضوء والصلاة؟ ولو رأيت ذلك في المسجد أثناء الصلاة، فهل عليّ أن أقطع الصلاة وأخرج من المسجد؟
- إذا فرضنا أن هذا الدم مستمر فلا يبطل الوضوء، لأن الوضوء له أعضاء معينة، وخروج الدم من الجسد من غير أعضاء الوضوء لا يبطل الوضوء، كما أنّ الدم إذا كان كثيراً وكان خروجه مستمراً فلا يمنع من الصلاة، وأما بالنسبة للمسجد، فإذا رأى أن هذا الدم يسيل وينجس المسجد، فعليه في هذه الحالة أن يخرج من المسجد، حتى لو كان في حال الصلاة.
فوات صلاة الصبح:
* هل يأثم الشخص الذي تفوته صلاة الفجر دائماً، وهل يكون قضاؤها قبل صلاة الظهر أم بعدها؟
- إذا كانت تفوته بسبب غلبة النوم عليه، فهنا لا إثم عليه، ففي الحديث الشريف: ((ما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر))، ويمكن أن يقضيها قبل صلاة الظهر أو بعدها.
الغسلة الثالثة:
* سمعت أحد الخطباء يرشد الناس في الوضوء، ويقول إن غسل الوجه واليدين مرتين كل واحدة، والثالثة حرام، فهل هذا صحيح؟
- ورد عندنا في الأحاديث أن الغسلة الثالثة بدعة، ولا يجوز للإنسان أن يغسل وجهه أو يديه ثلاث مرات، ولكن رأينا أنه لو كان جاهلاً بذلك فوضوؤه صحيح.
شروط إمام الجمعة:
* قال تعالى: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ( ). نود منك بيان شروط إمام الجماعة للصلاة، وهل يشترط أن يكون وكيلاً للمرجع؟ وهل يجوز له أن يحصل على وكالتين لمرجعين مختلفين في التقليد؟
- في قوله تعالى: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ليس المراد بها إمام الجماعة، وإنما المراد منها الإمام الذي يتولى قيادة الناس والسلطة عليهم وهدايتهم، كالأنبياء والأئمّة وما إلى ذلك.. وأما إمام الجماعة، فلابد أن يكون عدلاً في دينه، أي أن يكون مستقيماً في دينه، ويمكن أن يكون عنده وكالة أو لا يكون، فليس من الضروري أن يكون لإمام الجماعة وكالة، فمجرد إمامته للجماعة لا تعني أنه يجب أن يكون وكيلاً عن المرجع. وحتى الإنسان غير المعمّم إذا كان رجلاً مؤمناً وعادلاً يجوز للناس أن يقتدوا به، في هذا المجال، ويمكن أن يكون عنده وكالة، لأن عالم الوكالة هو عالم القيام بالأمور الحسبية وقبض الحقوق الشرعية فقط.
الصلاة بين التمام والقصر:
* لي عم متزوج بامرأتين، واحدة في (حمص) والثانية في (دمشق)، والموجودة في (حمص) زوجها مالك للبيت ويبقى عندها حوالي عشرة أيام، أما الثانية فالبيت ملك لها، ويبقى عندها من ثلاثة إلى خمسة أيام، بالاتفاق بينهما، فهل عليه أن يصلّي عندها تماماً أم قصراً؟
- إذا كان يعتبر أن المكانين وطن له، ودائماً هو بين (دمشق) و (حمص)، وكان ناوياً على الاستمرار بهذا الشكل، فيصلِّي تماماً في المكانين.
تحديد الإقامة بالساعات:
* هل يجب على المسافر أن يحسب لإقامته المدة أقل أو أكثر من 240 ساعة؟ أو يكفي أن يحسب بالأيام إن كانت المدة أقل أو أكثر من 240 ساعة؟
- المراد بنيّة الإقامة عشرة أيام، عشرة نهارات وتسع ليالٍ إذا كانت النيّة عند طلوع الفجر أو قبله من أوقات الليل، أمّا إذا كانت النية بعد الفجر من أوقات النهار، فإنّه يحتسبها أحد عشر نهاراً ملفّقاً وعشر ليالٍ، فمن نوى الإقامة عند ظهر يوم الإثنين مثلاً، فإنّ عليه أن يبقى إلى ظهر الخميس الثاني لتكمل إقامة العشرة أيام عنده، وعلى هذا القياس.
التحاق المأموم في الرّكعات الأخيرة:
* إذا اتّصلت مع جماعة المصلين في الركعة الثالثة أو الرابعة، والإمام كان قد تلا التسبيحات بدلاً من الحمد، فكيف تصحُّ الركعة الثالثة أو الرابعة لي، والمفروض أن يتحمّل الإمام عني القراءة، وهو لم يقرأ الفاتحة؟
- الإمام لا يتحمل القراءة في الركعة الثالثة والرابعة، وعلى المأموم أن يقرأ الفاتحة والسورة.
تشخيص عدالة الإمام:
* دخل رجل إلى مكان قد انعقدت فيه صلاة الجماعة، وهو لا يعرف الإمام من ناحية العدالة، فهل يعتبر عقد الجماعة دليلاً على عدالة الإمام؟
- إذا حصل عنده الاطمئنان من خلال صلاة هؤلاء الناس وراء هذا الشخص بأن هذا الرجل عادل، فلا مشكلة في هذا المقام.
البيع يوم الجمعة:
* هل البيع والشراء يوم الجمعة في وقت الصلاة يجوز أم لا؟ وإذا باع أو اشترى فهل يرتكب ذنباً؟
- حسب الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( ) فلو عطّله البيع عن حضور صلاة الجمعة وعن أداء صلاة الجماعة، ففي مثل هذه الحالة يكون مأثوماً إذا فضّل البيع ولم يحضر صلاة الجمعة، قال تعالى: قُلْ مَا عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنْ اللهوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَالله خَيْرُ الرَّازِقِينَ( ).
زمان قضاء الفوائت:
* متى تصبح صلاة المغرب والعشاء قضاءً؟
- توجد أحاديث أنه في نصف الليل، ولكن إذا كانت لدى الإنسان ظروف معيّنة، بحيث لم يستطع أن يؤدّيهما قبل منتصف الليل، فيأتي بهما بعد منتصف الليل بداعي الأمر المتوجه إليه.
السجود على التربة:
* ما هو الدليل على الصلاة على التربة؟ ومن أين جاءت فكرتها، وبعض المراجع يبطل الصلاة بدونها؟
- الدليل واضح، قال رسول الله(ص): ((جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً))، والتربة هي الأرض، فهي تراب، ولكنه يُصنع بهذه الطريقة. نعم، إصرار الكثير من الشيعة إلاّ أن يسجد على التربة، قد يوحي بما لا يلتزمون به، فالتربة تراب ليس لها قداسة بما هي تراب. أما التربة الحسينية، التي تؤخذ من قلب الضريح، فإنه يوجد أدلة دلت على الاستشفاء بها. فالتربة ليست مقدَّسة في ذاتها، ولذلك نسجد على الورق، ونسجد على الخشب، وعلى العشب، وعلى كل ما لا يستعمل للأكل والشرب، وعليه، من أين يأتي الخلاف بين السُنّة والشيعة وبين الشيعة والشيعة؟ هذه قضية بسيطة، ولكن علينا أن نفهمها، فالتربة مجرَّد تراب كبقية التراب، وعندما نسجد عليها ليس معناه أننا نعبد التّربة، ولذلك نحن نقول إنه يوجد أناس في كربلاء وغيرها، يرسم على التربة قبة الإمام أو رسوماً أخرى، أو يكتب (محمد، علي، فاطمة، حسن، حسين)، هذا كله خطأ، ويوجب الظن عند الآخرين ويحمل على محامل معينة، ويقولون عنّا إننا نعبد التربة. كلا، التربة مجرد تراب، تراب لا أكثر، وبدون أسماء أو رسوم وبدون أيِّ شيء، لكن الظاهر أنها دخلت في عالم الاستهلاك، ولذلك فإن بعض الناس عندما يذهب إلى الحرم المكي، ولا يوجد هناك سجَّاد أو أي شيء، والصخر الموجود فيه صخر أصلي، ويجوز الصلاة عليه، ولكنه يصر ويجلب معه تربته إلى هناك، ويؤذي بذلك نفسه، فهل يجوز ذلك؟ ويمكن أن يكون هذا الصخر أفضل من التربة التي يصلّي عليها، ولكن بعض الناس طريقتهم أو عدم فهمهم للمسألة هو الذي يجعلهم يقعون في هكذا أخطاء.
كيفية صلاة النوافل:
* هل يجوز صلاة النوافل قائماً أو جالساً أو معاً ؟
- يجوز للإنسان أنْ يصلّيها جالساً، لكن على أساس أن تكون الركعة من قيام ركعتين من جلوس.
أحكام التجويد في الصلاة:
* ما حكم التجويد في الصلاة الواجبة، مثل القلقلة والإدغام والإقلاب؟
- يكفي القراءة العادية كما يقرأ الناس.
تغيير نيّة الصلاة:
* ما هو حكم من يبدِّل نية الصلاة يوم الجمعة من صلاة الجمعة إلى صلاة الظهر وبالعكس في الركعة الثانية ؟
- تعتبر الصلاة صحيحة.
عدَّة الطلاق:
* ما هي عدة الطلاق للزوجة التي يختلف موعد حيضها كل حين ؟
- هي ثلاثة أطهار قد تطول وقد تقصر.
قضاء الزوجة عن زوجها:
* هل يصحُّ أن تقضي الزوجة الصلاة عن زوجها المتوفَّى، وهي لا تعلم أن تلك الصلاة من مهمة الابن الأكبر للقضاء عمَّا فات أباه من الصلاة؟
- حتى لو كان قضاء الصلاة عن الأب من مسؤولية الابن الأكبر، فإنّه يجوز أن يتبرع بها غيره كالزوجة مثلاً، وتسقط في هذه الحالة عن الابن الأكبر.
الصلاة في المسجد المكي والمدني:
* هل يمكن الاختيار بين الصلاة قصراً أو تماماً في الحرم المكي والمدني ؟ وهل يجوز التبعيض في تقليد مرجع آخر في هذه المسألة ؟
- الأحوط وجوباً تعيّن القصر إذا لم ينوِ المكلّف الإقامة عشرة أيّام في تلك المناطق، ويمكن الرجوع في تلك المسألة إلى غيرنا.
صلاة في أرض مجهولة الملكية:
* ما هو حكم الصلاة في الأرض التي نجهل ملكية صاحبها؟
- لا يجوز الصلاة في هذا المكان إلاّ برضى صاحبه، ولكن إذا قامت القرينة العامّة على الرخصة في ذلك، كما في الأراضي الواسعة، فيجوز الصلاة فيها.
ترديد الدعاء مع الإمام:
* هل يجوز ترديد الدعاء مع إمام الجماعة بصوت عالٍ؟
- يكره رفع الصوت للمأموم في صلاة الجماعة، عدا حالة القنوت، فإنه لا بأس به.
معيار كثرة السفر:
* في حالة السفر مرة أو مرتين في الشهر خارج المسافة الشرعية للعمل، فهل يعتبر هذا كثرة سفر؟
- لا بد أن يكون أكثر من هذا المقدار.
رفع المأموم صوته في الصلاة:
* يقوم البعض في صلاة الجماعة بدور مكبِّر الصوت مع أنه من المصلّين، ويرفع صوته عالياً في التكبير أو في حالات الصلاة الأخرى في الركوع والسجود، فما حكم ذلك؟
- الأساس في صلاة الجماعة إذا قيل قد قامت الصلاة، فعلى الجميع القيام والتكبير مرة واحدة، وبصوت خافت، ويكره للمأموم في صلاة الجماعة أن يرفع صوته، سواء في الركوع أو السجود، وما إلى ذلك، لئلا يربك بقية المصلين. وإذا كان المقصود هو تنبيه المصلّين إلى مفاصل الصلاة، فلا بأس بذلك إذا لم يكن صوته عالياً بما يشبه الصراخ.
الأذان الثاني:
* ماذا يقصد بالأذان الثاني ؟
- يقصد به الأذان لصلاة الجمعة.
قراءة الفاتحة في الركعتين الأخيرتين:
* هل يجوز في الركعتين الأخيرتين أن يقرأ المصلِّي في الأولى الفاتحة، وفي الثانية التسبيحات الثلاث؟
- نعم، هو مخيّر، سواء كان يقرأ في واحدة الفاتحة وفي الثانية التسبيحات، أو كان يقرأ التسبيحات فيهما معاً، أو الفاتحة فيهما معاً.
الصلاة في السفر جماعة:
* ما حكم صلاة الجماعة عند السفر، هل تكون تماماً أم قصراً؟
- الإنسان إذا كان مسافراً، فعليه أن يقصّر عندما يصلي جماعة خلف الإمام، فعندما يصير إمام الجماعة ـ الذي يصلّي تماماً ـ في الركعة الثانية، ويتشهد، فإنّ المسافر يسلّم بعد التشهّد إن كان يصلّي الصلاة المقصورة.
استحباب الأذان:
* هل الأذان واجب على المصلّي أم مستحبّ؟
- هو مستحبّ.
حكم خروج الدم في الصلاة:
* ما هو حكم خروج الدم من الأنف أثناء الصلاة الواجبة، وبمقدار قليل، وقد سقط في موقع من مواقع السجود؟
- إذا خرج الدم من الأنف، فإنه تارة يكون كثيراً بحيث ينجس الثياب، أو ينجّس موضع السجود، فعلى المصلي أن يقطع صلاته، أما إذا كان قليلاً جداً، وينجس موضع السجود، ولكن يوجد هناك موضع ثان طاهر من الممكن أن يسجد عليه، فلا شيء عليه.
تحقيق الإقامة:
* ما حكم من نوى الإقامة عشرة أيام في أطراف المدينة الكبرى، بحيث ينتقل إلى المدينة كل يوم، ثمّ يعود، والمسافة تزيد على 20 كم، فما هو حكم صلاته وصيامه؟
- المدينة الواحدة تعتبر مكاناً واحداً، فليس فيها سفر، حتى ولو قطع المسافة في داخلها.
الإعراض عن الوطن:
* تركت مدينتي الأصلية منذ أكثر من عشر سنين، ولم أرجع إليها إلا لغرض الزيارة، وليس هناك، بحسب الواقع، فرصة قريبة للرجوع مرة أخرى، ما حكم صلاتي في حال ذهابي إلى مدينتي لزيارة أهلي فيها ؟
- إذا كنت قد أعرضت إعراضاً كاملاً عن السكن في مدينتك، فتكون مدينتك السابقة كبقية المدن بالنسبة إليك، تصلِّي فيها قصراً إذا ذهبت إليها، هذا إذا كان إعراضاً كاملاً، بحيث أصبحت ساكناً في مدينة أخرى، ولم تعد لك أي فرصة وأي عزم على الرجوع إلى مدينتك، فعليك أن تقصّر، إلا إذا نويت الإقامة عشرة أيام.
ثواب صلاة الليل:
* الذي يقضي صلاة الصبح في وقت الليل، هل يثاب ثواب صلاة الليل ؟
- كلا، كل شيء بحسابه، فصلاة القضاء شيء، وصلاة الليل شيء آخر.
مستحبّات الخسوف:
* سنشهد في يوم الخميس كسوفاً للقمر، ما هي الأعمال والأمور المستحب عملها في هذه المناسبة؟
- على الإنسان أن يصلِّي صلاة الخسوف وأن يدعو الله به بما أحب أن يدعو به من أموره العامة أو الخاصة. ونلاحظ هنا ضرورة التوقّف عند هذه الظاهرة الكونيّة التي لا تحدث إلاّ في منتصف الشهر القمري، وأخذها بعين الاعتبار، سواء في تحديد الشهور أو على مستوى الاستنباط، في مسألة تحديد بدايات الشهور القمرية من خلال الرؤية وغيرها.
الوطن الثاني:
* عندي بيتٌ وزوجة في بلد وأتردَّد بين بلدي وذلك البلد، فهل يعتبر هذا البلد وطناً ثانياً لي؟
- نعم، إذا كنت تقضي وقتك بين بلدك وبين محل إقامتك.
الملك والوطن:
* هل مجرَّد ملك بيت في منطقة ما يعتبر وطناً للإنسان حتى لو انتقل إلى بلد آخر وسكن فيه؟
- مجرد ملك البيت من دون سكنى واستيطان، لا يجعله وطناً.
معيار الوطن:
* سكنْتُ في بلد أوربي وأحمل جنسيته، وأحصل على راتب تقاعدي منه، وأسكن الآن في سوريا. ما هو واجبي من ناحية الصلاة والصيام إذا سافرت إلى ذلك البلد الأوروبي؟
- إذا أعرضت عن ذلك البلد، وأصبحت كلُّ إقامتك هنا، وتذهب مجرد زيارة حتى تقبض الراتب التقاعدي، فلا بدّ أن تصلِّي هناك قصراً، وإذا لم يكن كذلك، وأردت أن تعيش حياتك دائماً بين البلد الأوروبي وبين بلدك، فصلاتك تمام هنا وهناك.
الصّلاة خلف المذموم:
* هل يجوز الصّلاة خلف شخص يقال عنه إنه يقوم ببعض المحرّمات؟ وإذا كان لا يجوز، فما حكم الصلوات السابقة خلفه؟
- إذا كان لديك اطمئنان بأنه يعمل المحرَّمات، فلا عدالة له، ولا بد في إمام الجماعة من العدالة.
هجر المساجد:
* ما هو رأيكم في ترك العديد من الرجال الصلاة في المساجد، بحيث يُعدّون متهاونين في ذلك؟ وما هو الحكم بالنسبة لترك أداء صلاة الجمعة؟
- الذين يتركون الصلاة في المساجد يحرمون أنفسهم من نعم ذلك، ولا سيّما الذي يكون جار المسجد، فقد ورد في الحديث: ((لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد))، أما بالنسبة إلى صلاة (الجمعة)، فالله سبحانه وتعالى لم يهتمّ بأيّةِ صلاة كما اهتمَّ بها، وهي الصَّلاة الوحيدة التي أكَّدها تأكيداً كبيراً، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا الله كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، ثم إن الله سبحانه وتعالى يذم بعض الناس الذين يتركونها طلباً للّهو أو للمال، قال تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنْ اللهوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَالله خَيْرُ الرَّازِقِينَ( ). ثم ورد عندنا أن شخصاً جاء إلى رسول الله(ص)، وقال له: أنا أحبُّ الحج، ولكني لا أستطيع، قال(ص): ((عليك بصلاة الجمعة، فإنها حج المساكين))، وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر(ع): ((أنه من ترك ثلاث جمع من غير عذر، كان ممن طبع الله على قلبه))، يعني بالنفاق، لكن لو أن الله سبحانه وتعالى يقول إنّ من يصلّي بالمسجد له 10 دولارات، فهل عندنا مساجد تكفي بعد هذا؟! لكن الحسنات لا نسعى إليها، وصلاة الجمعة فيها فضلٌ كبير كما هي صلاة الجماعة، فقد ورد في الحديث الشريف: ((إذا زادت الجماعة على العشرة لا يحصي ثوابها إلاّ الله)).
كثير السفر:
* أرجو منكم توضيح مسألة السفر في رمضان، ومتى أكون كثير السفر؟ وهل هناك عدد معيَّن لابد من تجاوزه بعدد السفرات خلال الشهر؟
- أن يكون الإنسان مستمراً على السفر؛ بحيث يكون ديدنه أن يسافر أربع سفرات في الشهر على الأقلّ، بحيث يكون مستمرّاً في هذه الحال، أي أن يكون دائم السفر.
الصلاة الإبراهيمية:
* في الصَّلاة، هل نستطيع أن نقول قبل التسليم الصلاة الإبراهيمية، أم أن هذا مبطل للصلاة؟ وهل هذا الكلام ورد في أئمة أهل البيت(ع)؟
- علينا أن نقرأ ما ورد به النص الصلاتي.
صحة الوضوء بالماء في إناء مغصوب:
* هل يصحُّ الغسل أو الوضوء بماء يأتي من إناء مغصوب؟
- الغسل، أو الوضوء، صحيح؛ لأن الماء لا يكون مغصوباً بذلك.
السجود على غير التربة:
* هل يصح السجود على غير التربة؟
- يصح السجود على كل الأرض، ففي الحديث الشريف: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً))؛ وليس للتربة خصوصية، لأنها تراب، مثل أي تراب آخر. ولكن الناس اعتادوا أن يجلبوا هذه التربة من كربلاء، وبعضهم يجلبها من مدينة (مشهد) حيث صار هناك مصنع للتُرَب. فليست المسألة تشريعاً خاصاً للسجود. ولذلك يجوز للإنسان أن يسجد على الأرض، وما أنبتت مما لا يستعمل لأكل أو للبس. نعم، ورد استحباب الصلاة على التربة الحسينية التي تؤخذ من تراب الضريح الحسيني.
معنى الصّلاة على النبي(ص):
* ما معنى صلاة الله على النبي؟ وهل يجوز أن نصلِّي على أحد من آل محمد(ص)؟
- الصلاة من الله في قوله تعالى: إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا( )، فالصلاة على النبي هي رفع الدرجة، وبالنسبة للآخرين هي الرحمة والمغفرة، والله سبحانه وتعالى لم يقصر الصلاة على النبي(ص) فقط، بل إنه تعالى يقول عن الصابرين: وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ( )، فالله تعالى يصلي على الصابرين كما يصلي على النبي(ص). وهناك آية ثانية، فقد قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ( )، ولكن صلاة الله سبحانه وتعالى على النبي(ص) تختلف عن صلاته على المؤمنين الآخرين.
قول (الحمد لله) بعد الفاتحة:
* ما هو حكم قول: ((الحمد لله ربِّ العالمين)) في الصّلاة بعد الفاتحة؟
- ورد عندنا أنه مستحبٌّ للإنسان أن يقول ذلك.
حكم المسلوس إماماً للجماعة:
* ما هو حكم المسلوس إذا كان إمام جماعة، فهل يحق له ذلك؟
- إذا كان السلس يأتيه وهو في الصلاة فإنه محلّ إشكال.
السّجود على التربة غير المكتملة:
* هل يجوز السّجود على التربة المكسورة؟ وعلى التربة التي تصبح سوداء من كثرة السجود عليها؟
- التربة المكسورة تراب، وإذا كان بعض الناس يعتقد بأن التربة مقدَّسة، فإن هذا غير صحيح؛ لأن التربة يأخذونها من طين، وهذا الطين نطأه بأقدامنا. ولذلك نقول: إن التربة ليس لها أية قداسة في معنى القداسة، وإنّما هي مجرّد تراب طاهر يُتّخذ للسجود عليه. أما التربة الحسينية التي تؤخذ من أعماق القبر، فإن لها أحكاماً أخرى.
وكذلك التربة السوداء هي تراب، وقد أصبحت كذلك، نتيجة العرق وتجمّعه عليها، ولكنّه لا يجعل منه طبقة تحجب عن السجود.
التفات المصلّي إلى اليمين واليسار:
* لو التفت المصلّي بوجهه لا ببدنه نحو الشرق أو الغرب، فهل عليه شيء؟
- ليس عليه شيء، لأنَّ المفروض أنّ ما يمنع هو الالتفات بكلِّ جسده.
الوسوسة في الصلاة:
* أنا شاب أعاني من الوسوسة وشرود الذهن في الصلاة، ودائماً تتكرر لي هذه الحالة، حتى التزمت بصلاة الجماعة، ولا زال الوسواس وشرود الذهن يأتيني في أكثر الأحيان، فما هو حكم الشرع في ذلك؟ وهل الصلاة باطلة أم لا ؟
- على الإنسان أن لا يعتني بالوسوسة، وعندنا: ((لا شك لكثير الشك)). وحكم الوسواس أن لا يعمل بوسواسه، وذلك لأنه كما في الحديث يقول: ((لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة، فإنه)) أي الشيطان ((معتاد لما عُوِّد)).
السجود على ما لا يصحُّ السجود عليه:
* كثيراً ما أضطر إلى البقاء خارج المنزل طوال النّهار، وذلك بسبب دراستي الجامعية، وكثيراً ما أتأخر عن أداء فريضة الصلاة بسبب حرج شخصي من استعمال تربة أو ورقة للسجود، فهل أستطيع السجود على السجاد هناك؟ علماً أنني كثيراً ما أتأخر عن أداء الفريضة هناك لدرجة أنها تفوتني أحياناً، وأضطر للقضاء بسبب هذه المسألة، فما هو رأيكم؟
- يمكنك أن تسجد على أيِّ شيء يجوز السجود عليه، وليس من الضروري أن يكون ورقة. ثم، لماذا هذا النوع من الحرج والخوف من وضع ورقة؟ فمن الممكن أن يضعها الشخص بشكل طبيعي، وعليك أن تعمل على أن تأتي بالصلاة في وقتها.
الاكتفاء بالتسبيحة الواحدة:
* هل يصح الاكتفاء بتسبيحة واحدة في الركعة الثالثة والرابعة، أم أن الواجب ثلاث تسبيحات أو أكثر من ذلك؟
- يجوز ذلك، ولكن الأفضل ثلاث تسبيحات.
رفع اليدين في التشهّد:
* في آخر التشهّد، إذا رفع المصلّي يديه عندما يقول: وتقبَّل شفاعته في أمّته، فهل في التشهّد حينئذ إشكال؟
- كلا، لا إشكال في التشهّد.
تأخير الصلاة:
* أنا أتأخَّر في أغلب الأحيان عن أوقات الصلاة بسبب العمل، فهل تنطبق عليَّ الآية الكريمة: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ( )؟
- الذي يسهو عن صلاته هو الّذي لا يحافظ على شروطها وأجزائها وأوقاتها، أما إذا كان الإنسان مضطراً إلى التأخّر عن وقت الصلاة، فهو معذور في ذلك، ولا بدّ له ـ على كل حال ـ من الصلاة في الوقت بأيِّ طريقة ممكنة.
رابعاً: الصيام والكفّارات:
عدم وفاء بالنذر:
* نذرت صيام ثلاثة أيام متتالية لأمر معيّن، فحصل هذا الأمر، وبدأت بصيام اليوم الأوَّل، ولكنه لم ينته هذا اليوم حتى أصبت بصداع وإرهاق شديد، نتيجة الحر الشديد، كوني أماً لثلاثة أطفال ومرضِعة، فهل يمكنني أن أفي بالنذر في شهر شعبان بدلاً من هذه الأيام الشديدة الحر؟
- إذا لم تعيّني صيام هذه الأيام في وقت معيّن، فيمكن أنْ تصوميها في الأيام التي يكون فيها الجو بارداً، والنهار قصيراً، فلا مشكلة في ذلك.
القضاء عن الميت:
* توفيت والدتي، وبقي عليها صوم لبعض الوقت، تمَّ تقديره من قبلنا مع جهلنا لأسباب عدم الصوم، لأننا كنا صغاراً، وأما البعض الآخر، فكان بسبب المرض، فهل ندفع عنها الفدية؟ أم نكلّف شخصاً بالصوم عنها مقابل مبلغ معين؟
- إذا كان عدم الصوم من جهة المرض المستمر من رمضان إلى رمضان، فليس عليها إلا الفدية. أما إذا كانت متمكنة من الصوم ولكنها أخّرته فلا بد من القضاء.
تحديد الغروب:
* أرجو أن توضحّوا رأيكم في مسألة وقت حلول المغرب، فقد كان معي بعض الشباب يفطرون مع الغروب مباشرةً، باعتبار تقليدهم لكم كما يقولون؟
- رأيي، كما هو الرأي العلمي للسيّد الخوئي رحمه الله وعلماء آخرين، أن الغروب يتحقَّق بمجرد سقوط القرص، يعني بمجرد غياب قرص الشمس، ولا يجب انتظار الحمرة المشرقية، سواء في الصلاة أو في الإفطار. نعم، إذا أحب الإنسان أن يحتاط وينتظر إلى ذهاب الحمرة المشرقية فهو حسن.
مقلدوكم وتحديد بداية الشهر:
* أنا أقلدكم، كنت أعيش في الخارج، والآن رجعت إلى العراق، فما هو حكم العيد؟ هل أتبعكم أم أتبع ما يشيع في البلد؟
- هذه مسألة ليست تابعة للتقليد، فإذا كان هناك حاكم شرعي، وحكم بالعيد، وحصل لك الاطمئنان به فلا مشكلة في ذلك إذا كان منسجماً مع المبنى الذي تتبّعه في ثبوت الشهر.
قضاء الفائت:
* عندما كنت في التاسعة من عمري، لجهلي بالتعاليم الإسلامية، لم أصم ولم أصلّي، وحالياً أريد أن أبرىء ذمتي، فكم الواجب علي دفعه، وهل أعتبر متعمّدة بالإفطار أم جاهلة بالحكم؟ وكم المبلغ لليوم الواحد؟ ولمن أدفع هذه الكفارة أو الفدية؟
- إذا كانت الأخت جاهلة بالحكم، يعني لم يوجّهها أحد، وكانت تتصوَّر أن في هذه السن لا يجب عليها الصيام، وكانت تعتقد أنّه يجوز لها الإفطار فيه، فليس عليها إلا القضاء. أما بالنسبة إلى الصلاة فلا كفَّارة فيها، بل القضاء فقط.
عدم الصيام بسبب المرض:
* أنا مريضة بمرض السكّري، والصوم في رمضان يضرّني، ولذلك لم أصم من رمضان إلا أياماً معدودة، ولم أقدر أن أقضيها، فما هو حكمي؟
- الإنسان إذا أفطر لمرض، ولم يستطع قضاءه بين الرمضانين، فيدفع فدية، والفدية عن كل يوم ثلاثة أرباع الكيلو من الخبز أو الحنطة، أو ما إلى ذلك...
الإفطار على محرَّم:
* ما حكم صيام من صام نهاراً من شهر رمضان، وحين جاء وقت الإفطار، أفطر على محرم، كالخمر مثلاً؟
- صيامه صحيح، ولكنه ارتكب كبيرة بشربه الخمر.
قضاء المريض الصوم:
* هل تقضي المريضة ما فاتها من الصوم لمدة خمس سنوات مع أنها دفعت الفدية ؟
- لا يجب عليها القضاء إذا استمرَّ مرضها فيما بين الرمضانين من كلّ عام.
تحديد قضاء الواجبات:
* في الذمّة صيام عدة أيام بدون معرفة عددها، فهل يبنى في القضاء عما فات من الصيام على المدة الأقل أم الأكثر؟
- يبنى على المدة الأقل.
الصيام قضاءً في السفر:
* المعروف بين الفقهاء ،وكذلك عندكم، أنه في حالة السفر يجوز الصلاة قضاءً تماماً وقصراً، فهل يجوز قضاء الصيام أيضاً في حالة السفر كما هو في الصلاة؟
- لا يجوز قضاء الصوم الواجب في السفر، لأنه لا يجوز الصوم فيه، إلا إذا نذر صوم الاستحباب في السفر، فإنه يجوز أداء الصوم المستحبّ وقضاؤه.
الصوم في السويد:
* في السويد لا تتلاءم أوقات الليل والنهار مع الأوقات التي يجب فيها أن يصوم الشخص في رمضان في بلادنا، وأكثر أوقات هذا البلد هو الليل، أما النهار، فمدته قصيرة جداً، فما حكم صيام الشخص الذي يعيش في هذا البلد؟
- لو فرضنا أن النهار هناك ساعتان، فصم ساعتين، فعليك بالصيام بحسب الأوقات. ونحن قد يطول النهار ـ عندنا ـ مرة، ويطول الليل مرة أخرى. ففي كلّ وقت نمارس عباداتنا بحسب ذلك الوقت، وهم أيضاً كذلك، فإذا صار النهار أربع ساعات، فصم أربع ساعات، وهكذا..
الإفطار لمتاعب صحية:
* كنت صائمةً وقد تعبت في ذلك اليوم جداً، ففطرت، فهل عليّ كفارة ؟
- إذا كانت الأخت تخاف الضرر من استمرار الصوم، فلا كفَّارة عليها، بل عليها القضاء فقط.
نصائح للصائمين:
* بمناسبة قرب شهر رمضان، نرجو من سماحكتم التوجيهات المطلوبة للمجتمع للحفاظ على معاني ودلالات شهر الصيام؟
- شهر رمضان، كما يعِّبر عنه الإمام زين العابدين(ع)، هو شهر الإسلام، لأن الإنسان يجدِّد فيه إسلامه ويقويه ويحرّكه باتجاه الالتزام بكلِّ ما أمر الله به ونهى عنه، وليس الصيام أن يترك الإنسان طعامه وشرابه فقط، بل هو أن يترك كل محرَّم، لأن الصوم عن الطعام والشراب من الفجر إلى المغرب، هو صومٌ صغير، وهو مقدمةٌ لصومٍ كبيرٍ أراد الله لنا من خلاله أن نترك المحرَّمات في كلِّ العمر، بما في ذلك الغيبة، والنميمة، والزنا، وغيرها.
ونحن نقرأ في الحديث: ((رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش، وربَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلاّ التعب والسهر))، ونقرأ أيضاً في كلمة الإمام علي(ع) حينما سئل عن عيد الفطر قال: ((إنه عيد لمن قبل الله صيامه وقيامه، وكلُّ يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد)). فإذاً علينا أن لا نعصي الله في عمرنا كلّه، وليس فقط في شهر رمضان، ليكون عمرنا كله عيداً، نفرح فيه بطاعة الله، والبعد عن معاصيه، ونسأل الله أن يدخل علينا هذا الشهر المبارك بالخير والبركة والمغفرة والعفو والرحمة والنصر للمسلمين جميعاً.
الحساب الفلكي:
* يقول الحديث الشريف: ((صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته، وإذا غمَّ عليكم فأتموا)). كيف نوفِّق بين الحديث الشريف، وبين فتواكم في الحساب الفلكي؟ وأين نضع ((إذا غم ..))؟
- الرؤية ليست مطلوبة لذاتها، بل هي مطلوبة كوسيلة من وسائل العلم بوجود الشيء، وهو ما يعبّر الفقهاء عنه بالرؤية الطريقية، أي الطريق إلى العلم بدخول الشهر، وأعطيكم مثلاً شعبياً، إذا قال لك شخص إذا رأيت فلاناً في منطقة السيدة زينب(ع) فأخبرني، ولم تره، وإنما هاتفك، فهل تخبره أم لا؟ فإذا كانت الرؤية لها موضوعية، فيقتضي أن لا تخبره، فيقول لك: لماذا لم تخبرني، فتقول له: أنت قلت لي إذا رأيت فلاناً، وأنا لم أره، ولكن هو هاتفني، عندها يسخر منك، لأن معنى إذا رأيته، أي إذا علمت وجوده، وهنا أيضاً، فقد خلق الله تعالى الشهور، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ الله اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ( )، فكان تقسيم الشهور قبل أن يكون هناك ناظرٌ وراءٍ. ونحن نقول، كما هو رأي السيد أبو القاسم الخوئي (رحمه الله)، إن القضية مربوطة بالنظام الكوني، إذ ينتهي الشهر عندما يدخل القمر في المحاق، ويبدأ الشهر عندما يخرج القمر منه. ولذلك نحن نعتبر أنَّ علم الفلك هو الأساس في تحديد الشهور، خصوصاً في هذه الأيام التي كثرت فيها العوامل التي قد تجعلك تشاهد 20 قمراً في الفضاء، فإذا حدَّدنا ولادة القمر، وحدَّدنا المقدار الزمني الذي يكتسبه من الضوء، بحيث يكون قابلاً للرؤية، فعند ذلك نعلم بوجوده في الأفق، ونحكم على أساس ذلك بدخول الشهر.
أمَّا قوله ((إذا غمَّ عليكم..))، فهو لجهة أنه ليس عندهم وسائل في ذلك الوقت يستطيعون أن يتعَّرفوا فيه انتهاء الشهر، أما التنجيم فلم يكن علماً، بخلاف علم الفلك، حيث إن معطياتهم دقيقة، كما هو الحال في إخبارهم عن ظواهر الخسوف والكسوف قبل عشرات السنين، وتحديد ولادة الهلال من هذا الباب.
مشكلة الهلال:
* لست أوَّل من يتساءل، ولكن ألم يأن لهذه الاختلافات في هلال شهر رمضان أن تنتهي ويكون لها حل قطعي؟
- بيّنَّا أكثر من مرة أن هناك خطين في مسألة رؤية الهلال، أي في مسألة بدايات الشهور:
هناك خط يجري عليه أغلب المسلمين من السُنّة والشيعة في اجتهاداتهم الفقهية، وهي الاعتماد على الرؤية البصرية، حتى إن بعضهم لا يأخذ برؤية المناظير المكبرة، (التليسكوب)، وهناك من علمائنا من يفتي بذلك، فيرون أن الرؤية البصرية هي الأساس، للحديث المعروف: ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته))، أي لا تفطر حتى تراه، و لا تصم حتى تراه.
وهناك خطٌّ آخر، أو رأي آخر، وهذا ما تحدَّث عنه السيد الخوئي رحمه الله في أبحاثه الفقهية، ويقول هذا الرأي: إن قضية بداية الشهور هي جزء من النظام الكوني للزمن، يعني أنّ الله تعالى خلق الشهور، قبل أن يكون هناك مستهلّون، وقبل أن يخلق الناس، قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ الله اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ....( )، فالمسألة ليست مرتبطة بالناس الذين يرون الهلال في بداية الشهور ونهايتها. ونحن نعلم أن الزمن مستمر تماماً ولا حواجز فيه، إذاً كيف نفصل الشهور؟ فبم يكون هذا الشهر شهراً، وبم يكون ذاك الشهر شهراً؟
يقولون: إذا دخل القمر في المحاق، يعني أصبحت الجهة المظلمة من القمر مقابلة للأرض، حيث لا يُرى بعد ذلك، عند ذلك ينتهي الشهر، ما دام القمر يبدي لنا وجهه المظلم، ولا أحد يراه، ثم إذا تطوَّرت دورته وأخذ يبدو جزأه المضيء للأرض، بدأ الشهر الثاني، وتسمّى هذه الحالة بولادة الهلال. فالقضية مربوطة بحركة القمر كلية، وليس لنا دخل فيها، سواء كنا موجودين أو لم نكن.
أمَّا كيف نفسِّر مسألة: ((صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته))، فإننا نفسرها كما فسّرها السيد الخوئي رحمه الله، بأن الرؤية وسيلة من وسائل المعرفة، يعني ليس للرؤية موضوعية. وأنا أضرب لكم مثلاً من حياتنا اليوميّة، فإنه إذا قال لك شخص: إذا رأيت فلاناً فأخبرني، وأنت لم تره، ولكنّه هاتفك، ألا تخبره بوجوده؟! وذلك لأنّ معنى "إذا رأيته"، إذا عرفت بأنه موجود في البلد أو لا، فالرؤية وسيلة للمعرفة، يعني لو أنكم عرفتم أن الهلال موجود في السماء بواسطة الرؤية، فاحكموا ببداية الشهر، ورتّبوا عليه الأثر.
ولذلك نحن نقول إن الذي يوحّد المسلمين، هو مسألة الاعتماد على الحسابات الفلكية الدقيقة، التي وصلت إلى مستوى 1+1=2، ونحن أساساً ومنذ قرابة عشر سنوات، نفتي بالهلال قبل أن يأتي يومه، ولذلك، فإننا في هذه السنة قلنا إن الجمعة هو أول أيام شهر رمضان، قبل أن يأتي رمضان بأسبوع، والآن نقول إنّ العيد سوف يكون يوم الأحد.
ومع ذلك، فإنّه، ـ بناءً على مبنى الرؤية، وعدم اعتبار الفلك ـ، هناك ما يقارب الخمسين شاهداً في البحرين، والمنطقة الشرقية من السعودية، وفي لبنان، ادّعوا الرؤية. ولكنّ البعض لم يأخذ بالشهادة، ملاحظةً لحسابات الفلك، وهم يأخذون بالسلب دون الإيجاب.
حرمة شهر رمضان:
* إن أدعياء التشيّع لأهل البيت(ع) يستخدمون بعض الرخص والفتاوى لبعض المراجع لأغراضهم في هذا الشهر، فيتجاهرون بالإفطار، بحجة تقليد أحد المراجع، أو بحجة أنهم في حالة سفر، دون أي مراعاة للناس بمثل هذه الأمور، فما الحل في رأيكم ؟
- نحن نقول، كما قال تعالى: بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ( )، فعلى الإنسان ـ في هذا المجال ـ أن يلتزم بحدود الله في هذا الشهر، هذا أولاً. وثانياً: أن لا ينتهك حرمة الشهر حتى لو وجد هناك رخصة في بعض الفتاوى إذا كانت توجب هتكاً لحرمة الشهر.
الإفطار لمرضى السكّري:
* ابنتي مصابة بداء السكري منذ خمس سنوات، وهي تفطر في شهر رمضان، كما طلب الطبيب، فهل يجب عليّ دفع شيء من أجل ذلك؟
- لا يوجد ـ هنا ـ إلا الفدية، فإنها إذا لم تستطع خلال العام أن تقضي، فالفدية ثلاثة أرباع الكيلو من الحنطة أو الطحين أو الخبز، وتدفع للفقراء.
نيّة الصوم:
* ما هو حكم المسافر ليلاً في شهر رمضان وينوي الإقامة في بلد يصل إليه قبل الفجر أو قبل الزوال مع البقاء على نية الصيام، ولم يأت بمفطر في السفر، فهل يكمل صيامه، أم يفطر ثم يقضي ؟
- إذا كان ناوياً للإقامة 10 أيام، فهنا عليه أن يتمّ صومه، أمّا إذا لم يكن ناوياً، فيعتبر بحكم المفطر، حتى لو لم يتناول مفطراً.
تحقيق الغروب:
* أعيش مع عائلتي وهم سُنّة، ويكون وقت إفطارهم قبلي بدقائق، وهذا يشكِّل إحراجاً بينهم، ما العمل الحكيم لكي أتلافى هذا الخلاف مما يدعو إلى التفرقة ؟
- يمكنك أن تفطر معهم، فرأيُنا ـ كما هو رأي علماء آخرين ـ أن الغروب يتحقق بمجرد سقوط قرص الشمس، ولذلك فإن الإنسان يجوز له أن يصلّي المغرب عند سقوط قرص الشمس، ويفطر عند سقوط قرص الشمس.
قضاء الصوم:
* ولدي شاب لم يكن ملتزماً ولديه 3 سنوات تقريباً من قضاء صيام شهر رمضان، فكيف يقضي صيامه، هل يجب عليه أن يقضي مع الكفّارة أم يقضي بدونها ؟
- عليه أن يقضي مع الكفَّارة، لأنه أفطر متعمّداً.
رمس الصائم رأسه في الماء:
* في اليوم الأول من شهر رمضان رمست رأسي كاملاً في الماء، هل هذا مبطل للصوم، وهل يترتب على ذلك مبطلات الصوم الأخرى، كالأكل والشرب؟
- هذه مسألة مختلف فيها، فكثير من العلماء يرون أن الارتماس مفطر، ولكن هناك من العلماء من يرى أن الارتماس محرّم، ولكنه ليس مفطراً، ورأينا أنّه لا يفطر به الصائم.
الصوم في السفر:
* إذا بقي خمسة أيام من شهر رمضان، وكان الشخص مسافراً ونوى الإقامة عشرة أيام، فهل يصح منه الصوم؟
- إذا نوى عشرة أيّام فيجب عليه الصوم، وليس من الضروريّ أن ينوي العشرة في شهر رمضان.
إجبار الزوجة على الإفطار:
* إذا أجبر الزوج زوجته على الجماع في شهر رمضان، فما حكم ذلك؟
- عليه أن يدفع كفَّارتها وكفَّارته، إذا كان صائماً.
الإفطار إلى الليل:
* أنتم أفتيتم بجواز الإفطار عند نزول أو سقوط قرص الشمس، بينما الآية الكريمة تقول: أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ( )، فما رأيكم؟
- هذا صحيح، ولكن ما هو الليل؟ عندما تذهب الشمس يدخل اليل، نحن نعتبر أن النهار ينطلق من شروق الشمس إلى غروبها، فبمجرد أن تغرب الشمس يبدأ الليل، لماذا تعتبر أن الليل يبدأ عندما يكون هناك ظلام دامس؟ النهار يتميَّز بوجود الشمس في الأفق، والليل يتمَّيز بعدم وجود الشمس في الأفق، ((يولج كل واحد منهما في صاحبه، ويولج صاحبه فيه))، وهذا الرأي ليس رأينا فقط، بل هو رأي أغلب العلماء، لكنهم يختارون الاحتياط في ذلك.
وحدة الأفق أم تعدده:
* في خصوص ثبوت الهلال، تفتون بجواز الإفطار إذا ما ثبتت رؤية الهلال في بلد يشترك مع البلد الذي فيه المكلَّف بجزءٍ من الليل، والسؤال: هل يشترط في ثبوت الرؤية في البلد الآخر أن يكون من مصدر شيعي أم لا بأس إن كان من مصدر إخواننا أهل السنّة؟
- كلا، ليس شرطاً كونه شيعياً، بل يكفي أن يكون شخصاً موثوقاً، وليس ثبوت الرؤية الفعليّة، بل اليقين أو الاطمئنان بإمكانية الرؤية كافٍ. ومن الطبيعي أن الفلكيين الآن أصبح كلامهم يبعث على الثقة، لأن لا مصلحة لهم في الكذب.
السفر إلى الوطن:
* أريد السفر إلى بلدي لمدة يوم واحد، فهل يحقُّ لي الإفطار؟
- إذا كنت خرجت قبل الظهر ووصلت قبل الظهر إلى بلدك، ولم تتناول المفطر أثناء السفر، فيمكن لك، بل يجب عليك، أن تتمَّ صومك عندما تصل إلى بلدك بنية تجديد النية، وإذا خرجت بعد الظهر فلا مشكلة. نعم، إذا خرجت قبل الظهر ووصلت إلى بلدك بعد الظهر فعليك أن تفطر.
صيام ستة أيام من شوّال:
* هل صيام ستة أيام من شوال بعد عيد الفطر من الأمور المستحبة الثابتة عندنا؟
- وردت عندنا بعض الروايات في ذلك.
الإفطار دون تثبت:
* عندما أعلنت بعض الدول أن يوم السبت هو أوَّل أيام العيد، أفطرت ظناً مني بأنهم لابد وأنهم رأوا الهلال، لذلك يحرم الصوم عند ذلك، وأقنعت بعض أهلي بالإفطار، ثم علمت أن الحسابات الفلكية تشير إلى أن يوم الأحد هو أوَّل أيام العيد، فكيف أكفِّر عن إفطاري ذلك اليوم وإفطار أهلي؟
- إذا كنت معتقداً أنه يوم السبت، بحيث لا تحتمل الخطأ، فليس عليك إلاّ القضاء، وأما إذا كنت تحتمل الخطأ، فعليك الكفَّارة مع القضاء.
حكم الصّيام مع رؤية الدم:
* بعد أن اغتسلت من الدورة الشهرية، رأيت آثاراً من الدم بعد عدة أيام، ثم تكرر ذلك بعد عدة أيام أخرى، ثم تكرر ذلك للمرة الثالثة، فما هو حكم صيامي في الأيام التي رأيت فيها آثاراً للدم؟ وما هو حكم صيامي إذا كان سبب رؤية الدم مرض في الجسم، وليس سببه الدورة الشهرية؟
- الصيام صحيح، وهذا من الاستحاضة. وإذا لم يكن سبب رؤية الدم هو الدورة الشهرية، أو كان الدم الخارج من الرحم، نتيجة جرح وما أشبه ذلك، فليس عليها شيء حتى أعمال المستحاضة.
الصوم في السفر:
* جئت من الخارج، وذهبت إلى العمرة من سورية، وأنا صائم، فهل يحسب لي الصوم؟ أم أقضي بدلاً عنه؟ علماً أن المدة التي صمت فيها كانت أسبوعاً، حيث بقيت صائماً هنا وأنا في العمرة؟
- عليك أن تقضي صومك، لأنه لا صوم في السفر.
الصّلاة خلف إمام مع عدم الاطمئنان:
* إذا لم أطمئن لإمام الجماعة، وعدم صلاتي خلفه تشكِّل إحراجاً لي، فهل أصلّي وأعيد؟
- عليك أن تصلِّي متابعةً، ولا تقصد الجماعة إذا كان في ذلك أيّ إحراج.
التقليد في إثبات رؤية الهلال:
* إذا ثبت لديكم هلال رمضان، ولم يثبت في إحدى الدول، فما حكم مقلّديكم في هذه الدولة؟
- على المقلّدين أن يرجعوا إلى فتوى مُقلَّدهِم في ذلك.
تمامية شهر رمضان:
* هل يكون رمضان دائماً 30 يوماً ومن (باب إكمال عدة) ؟
- كلا، ليس كذلك، فيمكن أن يكون ناقصاً، كبقية الشهور ويمكن أن يكون تاماً.
خامساً: الخمس والزكاة:
البيع للخمس:
* لديَّ بعض الممتلكات، ولكنها لا تدرُّ إلا بما يساوي المحافظة على استمرارها، ولا أملك داراً للسكن، وأريد إعطاء الحقوق الشرعية من الخمس الذي بذمتي، فهل أبيع بعضها لأسدد الحقوق، علماً بأني لا أملك سيولة لذلك؟
- إذا كنت قادراً ـ من دون حرج كبير ـ على أن تبيع بعضها فيجب، وإلا فيمكن أن تقسّط الحقوق الشرعية بأن تدفعها على دفعات متتالية.
الخمس في أموال الطفل:
* لديَّ طفلان تُهدى لهما أموال، فأجمعها في صندوق التوفير، هل يجب الخمس على هذه الأموال بعد مرور السنة؟
- رأينا أنه لا يجب الخمس في أموال الطفل، لأنه ليس مكَّلفاً. نعم، إذا مرّ على المال الحول وجب تخميسه بعد بلوغه.
ازدواجية الضريبة:
* في النظام الضريبي الوضعي، لا يوجد ازدواج ضريبي، بمعنى أن وعاء الضريبة القانوني لا تفرض على المورد مرتين، لكن يحدث ذلك في النظام الضريبي الإسلامي، إذا جاز التعبير، كالزكاة والخمس على أنعام - مثلاً - فكيف يمكن التخلص من هذه الازدواجية، لأن لها أضراراً اقتصادية كبيرة؟
- هذه ليست ازدواجية؛ لأن المال لا يخمّس مرتين، ولا يزكَّى مرتين. لكن إذا انتقل من نصاب إلى نصاب آخر، صار هناك شيء آخر عليه ضريبة، وليس نفس الشيء الذي فرضت عليه الضريبة أوَّلاً. وإنما تفرض الضريبة على النصاب الثاني، أو إذا كانت هناك زيادة، يعني إذا كان أحد يملك ألف دولار، وخمّسها فصارت 800 دولار، وعندما أتى رأس السنة كان عنده 1000دولار، فلا يخمّس ال800 دولار، بل يخمّس ال200 فقط.
رأس السنة الخمسية:
* أنا لديَّ خمس، وأتت رأس السنة الخمسية، ورأس المال مليون، ومطلوب مني رد مظالم بقيمة 25000 ودين للناس بقيمة 25000 أيضاً، فهل أخرج ردَّ المظالم من الخمس أم لا؟ والدَّين للناس هل أخرجه من رأس المال أم من الخمس؟
- ردُّ المظالم منفصل عن الخمس، وعليك أن تخرج الخمس من مالك. أما قضية الدين، فعليك أن تدرسها، فالأمر فيها مختلف، فبعض الدين يستثنى، وبعض الدين لا يستثنى.
الخمس في أرض مشتراة بقرض:
* مقلِّد للسيد الخوئي رحمه الله اقترض لشراء أرض، وبعد شراء الأرض مرّ عليها عام، فهل يجب تخميس الأرض، علماً بأنه ما زال يدفع القسط للبنك؟ وإذا بدأ في بناء الأرض ومرّ عام ولم يكمل البناء، فهل في ما بناه خمس أيضاً؟
- إذا كانت الأرض مشتراة بواسطة القرض، فما دامت الأرض خاضعة للقرض، ولم يوفَّ القرض، فليس فيها خمس، ولكن إذا وفّي القرض، ثم بدأ بالبناء ومر عليها عام، ولم يسكن، فعلى رأي السيد الخوئي رحمه الله يجب فيها الخمس.
الخمس في أموال لإشادة بيت:
* ما حكم من يجمع مالاً لبناء مسكن له، ليخفّف على نفسه مبلغ القرض الذي سوف يأخذه حين بناء المسكن، هل يجب الخمس في المال المجمع أو الموفر للبناء؟
- إذا لم يصرف الإنسان المال النقدي الذي جمعه وربحه أثناء السنة في مؤونته، فعليه الخمس.
الخمس والديون:
* هل صحيح أن الرجل الذي في ذمّته ديون، لا يجوز له إخراج الخمس ممّا يزيد عن حاجته من أغراض المنزل أو الملبس والشيء الذي لا قيمة له تذكر؟
- كلا، قد يجب الخمس مع وجود دين عليه، كما لو كانت ديوناً سابقة، من سنين سابقة، فيجب عليه في هذه الحالة إخراج الخمس. أما إذا كانت الديون من ديون السنة ولمؤونته، في ما عند ذلك يستثني الدين من آخر السنة ويخمِّس الباقي.
تحليل الخمس:
* ما هو رأيكم في ما ورد من روايات عن أهل البيت(ع) وذكر في كتاب (وسائل الشيعة) من تحليل أهل البيت(ع) للخمس لشيعتهم ؟
- بحث العلماء ذلك وقالوا إنه ليس المراد من التحليل هو إلغاء الخمس، وإنما المراد من التحليل باعتبار أن حق أهل البيت(ع) كان في السبايا وغير ذلك، فالأئمة(ع) أحلّوهم لتطيب مناكحهم، والمسألة من المسائل العلمية التي أثارها العلماء.
دليل الخمس:
* ما رأيكم في الخمس، هل له دليل صحيح ؟
- دليله قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِالله وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( )، بالإضافة إلى الأحاديث الواردة عن النبي(ص) والأئمة من أهل البيت(ع) مما بحثه الفقهاء.
الخمس في الديون:
* شخص مدين ديوناً كثيرة، وهو يجمع من مورده القليل ليفي دينه، وقد مرّ حول كامل على جمعه لإيفاء الدين، فهل يترتب عليه الخمس؟
- إذا كان الدَّين من هذه السنة فلا يجب عليه تخميسه، وأما إذا كان من سنين سابقة، فلابد أن يخمّسه.
تخميس زيادة القيمة:
* اشتريت أسهماً قبل عدة شهور، وقد ارتفعت قيمة الأسهم فيما بعد، فهل يجب تخميس المبلغ الأصلـي عند شراء الأسهم زائداً تخميس قيمة الارتفاع الحاصل في سعر الأسهم عند حلول رأس السنة؟
- نعم، تخمّس بحسب قيمة الأسهم الحالية، لأنها أصبحت مالاً، فعليك حساب قيمة هذه الأسهم بعد الارتفاع، وتخميسها في نهاية السنة.
تخميس الراتب الشخصي:
* هل يتمُّ تخميسُ راتب اللّجوء الممنوح للمسلمين في دول الغرب ؟
- إذا كان الشخص يصرف ذلك الراتب خلال السنة على شؤونه وشؤون عائلته، فلا يجب الخمس عليه، أما إذا كان يبقى منه في نهاية السنة، فيجب تخميسه.
الخمس في الهدايا:
* هل يجب الخمس في الهدايا من الملابس وغيرها؟
- إذا لم يستعملها الإنسان طوال السنة فعليها الخمس، وإذا استهلكها خلال السنة فلا يجب الخمس فيها.
خمس المال:
* شخص يخمِّس أمواله عند كل رأس سنة، وقد جاءه خلال السنة، وقبل حلول رأس السنة، مبلغ من المال، فهل يخمِّس هذا المال الجديد بنفس رأس السنة الاعتيادية، أم بعد حلول السنة عليه ؟
- يجب تخميس المبلغ عند حلول السنة عليه.
دفع الخمس للفقيه:
* هل هناك دليل من السنَّة النبوية الشريفة أو سيرة أهل البيت(ع) في كيفية توزيع الحقوق الشرعية (الخمس) لمستحقيها ؟
- المرجعية تحتاج إلى ميزانية لتصريف أمورها، وأغلب الفقهاء يعتبرونها على أساس الاحتياط وليس الفتوى.
عدم دفع الخمس:
* قبل الزواج لم أكن أعرف شيئاً عن التقليد وما حكمه، وعن الخمس أيضاً، وحتى الآن لم أخمّس قرشاً واحداً في حياتي، مع العلم أنني قد حججت مرتين سابقاً، وقد اشتريت منزلاً وعليّ ديون بمبلغ 500 ألف ليرة سورية، فما هو حكمي من حيث الخمس؟
- على الأخ أو الأخت مراجعة المكتب ليحسب حسابه، فيرى إن كان يجب عليه الخمس أو لا، وكيف، وما هو مقداره؟.
الخمس في راتب الحوزة:
* أنا طالب حوزة، هل يجب عليَّ الخمس إذا جمعت رواتبي لأنها من الخمس؟
- إذا بقيت عندك مدة سنة كاملة عليك أن تخمّسها.
دفع الخمس لعوائل الشهداء في العراق:
* هل يحقُّ للعراقيين دفع الخمس لعوائل الشهداء، خصوصاً وأن الأغلب منهم فقراء؟
- نحن رخَّصنا بنصف الخمس، وبالخصوص لعوائل الشهداء والأيتام. ولكن يعطى سهم السادة للسادة الفقراء، وسهم الإمام لغير السادة من الفقراء.
الخمس في شراء البيت:
* إني مقيم في سوريا منذ 6 سنوات (متغرب)، ولا يوجد عندي لا في بلدي ولا هنا مسكن، وأجمع الأموال لشراء بيت، فهل الخمس واجب عليّ؟
- إذا مرّت عليك سنة ولم تدفعه أقساطاً مثلاً، فعليك أن تخمِّس المال.
إعطاء الخمس للفقراء:
* هل يجوز إعطاء الخمس للمحتاجين من الأقرباء؟
- يجوز ذلك، والأحوط الاستجازة من الحاكم الشرعي.
إنفاق زكاة الفطرة:
* هل يجوز للفقير أن ينفق زكاة الفطرة على غير شراء المواد الغذائية مثلاً، كما في شراء الدواء أو دفع الإيجار؟
- نعم، يجوز ذلك.
التساهل في الخمس:
* وجب عليّ خمس منذ عشر سنوات، وأنا لم أخمّس، والآن، هل أخمّس عشر سنوات أم سنة واحدة؟
- تخمس المال الذي تعلَّق به الخمس.
خمس القرض للسكن:
* ما هو حكم شخص غير مستقر مالياً، ويملك بيتاً بقرض من الشركة التي يعمل فيها، وقد سدد جزءاً من القرض، فهل عليه الخمس؟
- لا يجب الخمس في حالة القرض لشراء البيت، أما بالنسبة لبقية الأموال التي قد يتعلق بها الخمس، فلا بدّ من دراسة تفاصيلها لمعرفة حكم الخمس فيها.
المصالحة على الخمس:
* نريد الذهاب بعد أيام قليلة إلى الحج، ولم نخمّس طيلة حياتنا، فكيف يكون خمس المصالحة مع الإمام أو المرجع؟ وهل يمكن تقسيط هذا الخمس على شكل دفعات بعد الحج؟
- المصالحة تكون في حال جهل الإنسان بالمبلغ الذي عليه من الخمس. والمصالحة ليست مسامحة. نعم، يمكن التقسيط إذا لم يكن قادراً على دفع الخمس دفعةً واحدة.
حساب الأثاث المنزلي في الخمس:
* هل الأثاث المنزلي الضروري، والسيارة الضرورية للعائلة، وذهب الزوجة، عليه خمس أم لا؟
- بالنسبة إلى الأثاث، إذا اشتراه الإنسان أثناء السنة، فليس عليه شيء. وكذلك السيارة الخاصة، وكذلك المجوهرات التي تملكها الزوجة، إذا كان من مهرها، أو كانت تلبسه في حاجاتها، فهو من المؤونة.
سادساً: الحج والعمرة:
حج الأنبياء(ع):
* هل كان الأنبياء(ع) يحجون إلى بيت الله الحرام، قبل النبي إبراهيم(ع)؟
- هناك بعض الأحاديث التي تقول إن الله تعالى كلّف بالحج إلى هذه البقعة حيث لم يكن هناك بيت للّه، ويستوحى من نص القرآن الكريم أن النبي إبراهيم(ع) هو الذي بنى البيت، وهو الذي أمره الله سبحانه وتعالى أن يدعو الناس للحج.
تاريخ الهدي والأضاحي:
* بالنسبة إلى الهدي، هل كان الأنبياء(ع) يضحّون أيضاً؟ أم أن تشريع الهدي كان بعد رؤية النبي إبراهيم(ع) بذبح ولده النبي إسماعيل(ع)؟
- هذه التفاصيل تاريخياً غير موجودة عندنا بشكل دقيق وموثوق.
نيابة الأخت في الحج:
* متوفى أوصى بحجة لأخته خاصة، وهي مريضة، ولا تقوى على أداء الحج، فهل عليها تنفيذ الوصية؟
- إذا كانت مستطيعة للحج مالياً، وليست مستطيعة بدنياً، فعليها أن تستأجر أحداً يحج عنها.
آثار الحجّ:
* هل الذهاب إلى الحج يسقط الذنوب السابقة بعد التوبة إلى الله تعالى بنية صادقة؟
- يقال إذا خرج الإنسان إلى الحج، على طاعةٍ وتوبةٍ وندم، يقال له: استأنف العمل، وقد ورد في الحديث عندنا: ((إن التائب من الذنب كمن لا ذنب له))، وقد قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ( ).
الحجّ أولى أم الصدقة:
* جمعت بعض المال للذهاب إلى الحج، وسمعت من بعض الأصدقاء أن هناك أرملة ولديها أطفال، فهل أذهب إلى الحج، أم أعطي المال لهذه الأرملة ؟
- إذا كانت الأخت مستطيعةً للحج، فيتعيَّن عليها الحج، ويجب عليها. نعم، إذا كانت حجَّت سابقاً، وتريد أن تحجَّ حجّاً مستحبّاً، فالأفضل أن تعطي المال للأرملة من أن تحج مرة ثانية حجّاً مستحبّاً.
نيابة الشيعي في الحج عن السني:
* هل يجوز للشيعي أن يحج نيابةً عن السني؟
- نعم، يجوز ذلك.
طواف النساء للسني:
* امرأة شيعية متزوّجة من سنّي، وأثناء فريضة الحج طلبت منه أن يطوف طواف النساء، فرفض رفضاً قاطعاً، ولم يطف، ماذا تفعل هذه المرأة؟
- هذا هو تكليفه، ويجوز لها أن تبقى معه، وليس عليها شيء.
صبي مميّز ترك طواف النساء:
* صبي مميز أدَّى مناسك العمرة، ولم يطف طواف النساء، فهل تحرم عليه امرأته إذا تزوَّج بعد سنوات؟
- عليه أن يكلِّف أحداً أن يطوف عنه طواف النساء، لأنه يترتب عليه الأثر في حرمة الزواج إذا بقي.
ترك طواف النساء:
* ما حكم الرجل الذي لم يأت بطواف النساء؟ هل تحرم عليه زوجته؟ وإذا لم تحرم، ما هي الحدود التي يجب أن يعاشرها فيها؟ وإذا دخل بها، هل تجب عليه الكفَّارة؟
- لا تحرم عليه، بمعنى أنها تخرج عن الزوجية، ولكنه يحرم الاستمتاع بها، باعتبار أنه بقي محرماً من حيث النساء.
استطاعة الحج:
* بنت ورثت من أبيها أملاكاً، فهل يجب عليها أداء مناسك الحج بفرض أنها حصلت على الاستطاعة المطلوبة؟ وهل يجوز لزوجها الإنفاق من هذا المال لعياله؟
- نعم يجب عليها الحج من هذا المال حتى لو لم يقبل زوجها، وهو ملكها، وليس لزوجها التصرف به بغير إذنها.
هل تغني العمرة عن الحج؟
* أستطيع العمرة ولا أستطيع الحج، فهل تغني العمرة عن الحج ؟
- لا تغني عنه. نعم، قد تجب العمرة المفردة على من كان من أهل مكّة وما حولها، أي من حاضري المسجد الحرام. أمّا من هو خارج تلك المساحة، أي ما يزيد عن حوالي 88 كلم عن مكّة، فلا تجب عليه العمرة إذا لم يستطع لها وللحجّ معاً؛ لأن فرضه التمتّع.
عدم القدرة على الذهاب إلى منى:
* من لم يستطع الذهاب إلى منى ثالث يوم العيد، فهل عليه كفَّارة؟
- الواجب ابتداءً هو المبيت في منى ليلتي 11و 12، فإذا فرضنا أنه امتنع عن المبيت في إحداهما، وكان معذوراً، فليس عليه شيء. أما إذا لم يكن معذوراً، فعليه أن يدفع كفّارة شاة (عن كلِّ ليلة) لترك المبيت بمنى. أمّا المبيت ليلة 13، فليست واجبة إلا في حالات استثنائيّة.
تزاحم الحجّ مع إجراء عملية جراحية:
* إني متزوّجة منذ 15 سنة، وليس لديّ أولاد، وأريد أن أُجري عملية إنجاب، وأنوي الذهاب إلى الحج، فهل أجري العملية، أم يجب عليّ الذهاب إلى الحجّ؟
- إذا كنت مستطيعة، فيجب عليك الذهاب إلى الحج.
توسيع جدار الجمرات:
* ما رأيكم بما قامت به هيئة الحج ببناء حائط محل عمود رمي الجمرات؟ وما هو حكم الرمي على هذا الجدار؟ وما هي كيفية الرمي في هذه الحالة؟
- قلنا إنه يجوز ذلك، فلقد لاحظنا الموضوع، ورأينا أن العمود لم يكن موجوداً في زمن النبي(ص)، وهذا العمود نصب حتى يعرفه الناس كعلامة على جمرة العقبة، لأن بعض الناس كانوا لا يعرفون مكانها، فيرمون في مكان ثان، والرمي يكون في مجمع الحصى، وليس الرمي على العمود. نعم توجد هناك شبهة ويجب أن تدرس، لأنّه يقال إنّ بعضاً من هذا المكان نتيجةً للتوسعة قد يكون أصبح خارج جمرة العقبة، لأن العقبة تنتهي عند أول جزء، ولذلك يجب أن يعرف مكان جمرة العقبة في هذه المنطقة كيف يكون إذا صح ذلك.
العمرة نيابة عن أشخاص:
* أنوي القيام بزيارة للعمرة، إن شاء الله تعالى، ولي أصدقاء وأحبّه، أرغب بأداء عمرة بدلاً عنهم، هل يجوز أن تكون هذه العمرة لمجموعة من الأشخاص مرة واحدة، أم لكل فرد عمرة؟
- إذا كانت العمرة مستحبَّة، فيجوز له أن ينوب عن هؤلاء الأشخاص بأجمعهم، ولكن إذا كان قادراً على أن يأتي لكلِّ فرد عمرة، فهو أفضل.
سابعاً: الزواج والطلاق:
مشروعّية الزواج المؤقّت مع الدائم:
* أنا متزوّج من امرأة زواجاً منقطعاً في مدينتي التي توجد فيها زوجتي بالزواج الدائم، فهل يجوز ذلك؟
- ليس محرَّماً.
حدود المعاشرة:
* هل يجوز معاشرة الزوجة أثناء فترة الحيض، بغير المحرم من ذلك؟
- بالنسبة إلى المعاشرة الكاملة (الجماع) فإنها لا تجوز؛ لأن الله سبحانه وتعالى نهانا عن أن نقرب النساء في المحيض، قال تعالى: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ( )، ولكن في غير العلاقة الجنسية الكاملة، فيجوز للإنسان أن يستمتع بزوجته.
زواج المسلمة من غير المسلم:
* فتاة غير مسلمة أسلمت من دون علم أهلها، واستمرت كذلك أربع سنوات، ولكن أهلها أجبروها على الزواج من شخص من دينها السابق، فما الحكم من زواجها؟
- هذا الزواج باطل؛ لأن المسلمة لا يجوز لها أن تتزوج من غير المسلم، وعليها أن تتدبّر أمرها بطريقتها الخاصة.
صلاة الزوج جماعةّ:
* من أجل نشر الوعي الديني في بيتي، أقوم بالصلاة المفروضة جماعةً، وتقف زوجتي خلفي، ويكون موضع سجودها مساوياً لقدمي على الجهة اليمنى مني، فهل هذا الوضع صحيح؟
- هذا الوضع صحيح ولا إشكال فيه.
الإجهاض بسبب عارض:
* أرجو أن تبيّن لنا حكم المرأة التي أجرت عملية إجهاض منذ عدة أشهر، وقد قال الأطباء إنه لا يجوز الحمل الثاني إلا بعد ستة أشهر، خوفاً من تشوّه الجنين، والآن المرأة حامل في الشهر الثاني، وهي في حالة وهن شديدة وفي حالة نفسية صعبة، فهل يجوز إجراء عملية إجهاض، علماً بأن الحمل لم يتجاوز ال 50 يوماً لحد الآن؟
- لا يجوز ذلك، إلا إذا وصل الضعف والوضع النفسي إلى حالة من الحرج لا تحتمل بحسب طبيعة الوضع الصحّي.
اشتراط الأزواج:
* باعتبار أن العقد شريعة المتعاقدين، فهل يجوز للرجل أو المرأة أن يشترط أحدهما على الآخر في عقد الزواج عدم الزواج مرةً أخرى؛ أي أن تقول المرأة في العقد بشرط أن لا تتزوَّج معي امرأة اخرى لا في حياتي ولا بعد مماتي، أو أن يشترط الرجل على المرأة أن لا تتزوَّج من غيره إذا طلقها أو توفي؟
- لها أن تقول له أن لا يتزوّج في حياتها، أما حال وفاتها أو طلاقها، فليس للشرط أثر، ويجوز للمرأة أن تشترط على الرجل، وإن كان بعض العلماء يخالف في ذلك.
طلاق المرأة:
* أنا امرأة مطلقة، والدورة الشهرية لديَّ كل خمسة أشهر، بدون أي سبب وبشكل طبيعي، فما حكم الطلاق في هذه الحالة؟
- في هذه الحالة هناك رأيان: يقول إن على المرأة أن تنتظر حتى يمرّ عليها ثلاثة أطهار، وهناك رأي آخر يقول إن المرأة التي تكون بهذا الشكل، تعتدّ ثلاثة أشهر، والاحتياط طريق النجاة في هذا المجال.
حكم المرأة المعلّقة:
* ما هو حكم المرأة المعلَّقة التي تركها زوجها لعدة سنوات ويرفض تطليقها رغم زواجه من امرأة أخرى، فهل يصح طلاقها من قبل الحاكم الشرعي؟
- في حالة امتناعه عن النفقة والقيام بحقوقها الشرعية، لها أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي ليُخيِّر زوجها بين الطلاق أو القيام بحقوقها، فإذا امتنع عن ذلك، طلّقها الحاكم الشرعي.
الزواج بعد الحرام:
* امرأة حملت سفاحاً من رجل ثم عقد عليها وتزوَّجها، فما هو حكم هذا الزواج؟ وما هو حكم الولد؟
- العقد صحيح، ولكن يبقى الولد ابن زنا؛ لأنه مولود بطريقة غير شرعية.
الزواج بالكتابية:
* هل يجوز الزواج من كتابية زواجاً دائماً مع بقائها على دينها وبقاء الزوج على دينه؟ وما حكم الأطفال منهما؟
- لا ننصح بذلك الزواج؛ لأنه قد يخلق مشاكل عائلية للزوجين وللأطفال.
الجمع بين الأختين:
* قرأت في كتب الفقه: لا يجوز للرجل أن يتزوَّج بالأختين في آن واحد، إذا كان ذلك، فكيف تزوَّج عثمان ابنتي رسول الله(ص) ؟
- تزوَّج بعد أن ماتت إحداهما، لأنه لا يجوز الجمع بين الأختين، وليس الزواج بهما، فقد قال تعالى في آيات التحريم: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ( )، يعني أن يتزوج الأختين معاً، فهذا لا يجوز، وأما إذا طلّق واحدة، فيجوز له أن يتزوَّج الثانية، بعد انتهاء العدة، أو إذا كان الطلاق طلاقاً بائناً، أو إذا ماتت إحداهما. وعلى كلّ حال، فالآية نفسها أبقت على الزيجات التي كانت تجمع بين الأختين في الجاهليّة، ولذا عقّب تعالى بقوله: إلاّ مَا قَدْ سَلَفَ.
استخارة للزواج:
* أنا أعيش في الخارج ولديَّ ثلاث بنات، ويتقدم لهن شباب لخطبتهن، ولكني لا أعلم أن هذا الشاب هل هو أهل لها أم لا، فأضطر إلى أن أستخير الله بذلك؟ هل هذا صحيح أم فيه إشكال؟ لأن بعض الأشخاص يرى أنّه لا استخارة في الزواج؟
- في الزواج لابد من دراسة الشخص، فقد جاء في الحديث الشريف: ((إن جاءكم من ترضون خلقه ودينه، فزوّجوه))، فلا بد من أن تدرس الإنسان في مجتمعه؛ هل هو إنسان صاحب دين، صاحب أخلاق، يحترم المرأة ويمكن للبنت أن تسعد معه أم لا؟ لابد للإنسان أولاً أن يدرس الشخص، ويستشير الناس الذين يعرفونه، لأن الخيرة ليست بديلاً عن التفكير، وليست بديلة عن الاستشارة، الخيرة عندما يكون الإنسان في حالة تردّد وشك 50% لأمر ما، و50% لأمر ما في مقابله، بحيث لا يوجد عندك طريقة للمعرفة، فعند ذلك يأتي وقت الخيرة.
زواج المسلمة بالكافر:
* هل صحيح أن زواج المسلمة من كافر يعتبر زنا، وأولادهما غير شرعيين ؟ وماذا إن اعتنق الرجل الإسلام بعد فترة من الزواج، ما هو حكم أولادهما قبل اعتناقه الدين الإسلامي؟
- نعم، لا يجوز زواج المسلمة من غير المسلم، هذا بإجماع المسلمين. نعم، إذا اعتنق الإسلام قبل الزواج، واعتبر نفسه من المسلمين، ولم يكن إسلامه مجرَّد كلام فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم.
زواج السني والشيعية:
* لو عقد رجل سُنّي على امرأة شيعية بدون شاهدين، فهل يعتبر هذا العقد صحيحاً؟ وإذا لم يكن صحيحاً، فما هو حكم الأولاد ؟ وهل للمرأة عدّة إذا علمت أن العقد باطل ؟
- هو صحيح عند المرأة الشيعية، لأنه لا يُشتَرط في العقد على المذهب الشيعي شاهدان، بينما يعتبر العقد باطلاً على المذهب السُنّي، لأنّ وجود الشاهدين شرط لديهم على صحّة العقد، ولكن يعتبر العقد صحيحاً في هذا المجال، والأولاد شرعيون؛ لأنّه مطابق للواقع عندنا. فإذا اقتنع السنّي بالرأي الفقهي الشيعي كان له السير عليه.
سلطان الأب على البنت:
* لي صديق على خلاف شخصي مع والد زوجتي، دعاني إلى بيته أنا وزوجتي، ولكن والد زوجتي أصرَّ أن لا تذهب معي زوجتي حتى لو أدّى الأمر إلى الطلاق، فما هو الحكم الشرعي في ذلك ؟
- لا سلطة له عليّك ولا على ابنته، فالمرأة البالغة الرّشيدة إذا تزوَّجت، ليس لأبيها أو أمها أو أخوتها سلطة عليها.
حدود طاعة الزوج:
* ما هي الحدود الشرعية لطاعة الزوجة زوجها ؟
- أن تجيبه لحاجاته الاستمتاعية، ولا تخرج من بيته بدون إذنه، إذا كان ذلك يتنافى مع حقه في الاستمتاع وما إلى ذلك.
صيغة الزواج:
* رجل شيعي وامرأة سنية عقدا قرانهما على يد كاتب في المحكمة الشرعية، فهل هذا العقد صحيح من وجهة نظرنا نحن الشيعة؟
- لا فرق بين الشيعة والسُنّة في صيغة العقد، ولا يلزم سوى إبراز الاعتبار النفساني، وتوجّه إرادة الإنسان إلى العقد، وإنشاء علاقة الزوجية.
الطلاق في المحاكم المدنية:
* هل طلاق القانون (الدولة) يعتبر شرعياً؟ وما هي الشروط التي تتوجّب على المرأة المطلقة (طلاق القانون)؟ وهل يتحمَّل المحامي ذنب هذا العمل؟
- للطلاق شروط شرعية، فإذا تمت هذه الشروط في طلاق القانون، بحيث كان هناك شاهدان عادلان، وكانت المرأة في طهرلم يواقعها فيه، فعند ذلك، يكون الطلاق صحيحاً، أما إذا لم تكن الشروط موجودة، فالطلاق باطل، وتبقى المرأة زوجة للشخص، ويبقى عليه أن ينفق عليها، وأن يقوم بحقوقها الشرعية.
زواج المعوَّقين:
* نحن من البصرة، وفي قريتنا أكثر من 350 شخصاً تعرض لتعذيب من قبل الطاغية صدام عن طريق قطع صيوان الأذن، وعندما يتقدم هؤلاء للزواج يردُّون بأنهم معوَّقون! فهل يجوز ذلك شرعاً؟ ثم ماذا يفعلون؟
- كلا، المفروض من هؤلاء الناس أن يعملوا على مساعدتهم، ما داموا قادرين على الزواج بطريقة أو بأخرى، والرفض لمجرد التشويه، إذا كان الإنسان قادراً على الزواج، يعتبر قسوةً من المجتمع.
منع الزوجة من زيارة أهلها:
* ما حكم من يمنع زوجته من رؤية أبويها وأخوتها؟
- هذا إنسان لا يعيش معنى المعاشرة بالمعروف. ما رأيه لو أن زوجته ـ وكانت أخت الرجال كما يقال ـ منعته من أن يرى أباه أو أمه، فكيف يكون شعوره؟ ففي الحديث: ((عامل الناس بما تحبّ أن يعاملوك به)).
رغبة المرأة في الطلاق:
* شابٌّ خطبَ فتاةً وأجرى العقد دون دفع المهر، وثبَّت ذلك في المحكمة الشرعية، وبعد فترة قصيرة، رأت الفتاة أنها لا تستطيع العيش معه، فطلبت الطلاق، ولكنه رفض، وطلب منها مبلغاً من المال، وقد وقع الطلاق في المحكمة، فما العمل؟
- لا بد أن يدرس أمرها في المحاكم الشرعية.
عدم دفع المهر في الزواج المؤقّت:
* إذا عقد شاب وفتاة عقداً مؤقتاً، ولم يعط الفتاة مهرها، هل يعدُّ العقد باطلاً؟
- إذا ذكر المهر في العقد فيبقى المهر ديناً في ذمته، ولا يبطل العقد في ذلك.
حق الزوجة على الزوج:
* إذا كانت الزوجة مريضة، وبحاجة إلى عملية جراحية، والزوج لديه المبلغ لتغطية، ولكنه يمتنع عن دفع مبلغ العملية، بحجة أن المبلغ كبير جداً، فهل هو آثم؟
- نعم، هذا من نفقة الزوجة التي على الزوج، مثل الطعام، ومثل الشراب، وأيضاً الدواء والعملية الجراحية.
تأخير زواج البنت:
* لو رأى وليّ البنت أنّ ابنته لا تصلح للزواج، وأراد أن يبقيها في البيت، فهل يتحمّل الإثم، من جرّاء تأخير زواجها؟
- الأمر ليس له، وإنما الأمر لمن يتزوّجها، هل يراها تصلح للزواج أم لا؟ لأنه ليس هو الذي يريد أن يتزوَّج بها، وإنما الشخص الذي يطلب يد ابنته للزواج، وهو الذي يحكم بأنها تصلح أم لا، فلا يجوز له أن يمنع ابنته من الزواج.
الاشتراط على الزوج:
* هل تستطيع المرأة أن تشترط على زوجها في عقد الزواج شروطاً، مثل أن لا يتزوَّج عليها، وأن تكون عصمة الطلاق في يدها، أو إذا طلّقها ولم يوجد شهود، هل يتحقق الطلاق؟
- يجوز ذلك. أما شرط أن تكون عصمة الطلاق في يدها، فهذا الشرط غير صحيح عندنا؛ لأنه شرط مخالف لكتاب الله تعالى، لكن لها أن تكون وكيلةً عنه في طلاق نفسها، فإنه يجوز ذلك، لأن الطلاق بيده، وهي وكيلة عنه. وإذا طلَّقها ولم يوجد شهود لم يقع الطلاق، لأنّ من شروط صحّة الطلاق عندنا أن يكون أمام شاهدين عادلين، والله تعالى يقول: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ( ).
شروط الزواج:
* هناك فتاة أعجبتني فكرياً، وهي تحقق شروط الزواج كما في حديث الرسول(ص): ((تنكح الفتاة لأربع: لمالها، وجمالها وحسبها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك))، لكني لا أحس بأي ميل شعوري أو عاطفي نحوها، فهل يكفي الميل الفكري وحده كي أرتبط بها؟
- ليس معنى الحديث أنه لا بد للشخص الذي يريد الزواج أن يأخذ الفتاة المتدينة حتى ولو كانت مشوهة وقبيحة، ولا تعرف إدارة البيت، بل معناه أنه ليكن الدين أساساً في اختيارك، إلى جانب الاختيارات الأخرى، كما في الحديث الشريف: ((إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه))،أي من ترضون خلقه ودينه إضافة إلى أشياء أخرى يطلبها الزوج في الزوجة، أو تطلبها الزوجة في الزوج، فهذا في مقام بيان قيمة الخلق والدين في الحياة الزوجية.
الجهل بسبق زواج امرأة:
* لو عقد الرجل على امرأةٍ وتزوَّج ثم تبين له أن لها زوجاً، فهل عليه إشكال شرعي؟ وماذا يفعل؟
- إذا كان قد تزوجها وهو لا يعرف أنها متزوجة، فليس عليه إثم، ولكن عليه أن ينفصل عنها مباشرة، من دون طلاق.
التمتع بالمشهورة:
* هل يجوز التمتع بالمشهورة بالزنا ؟
- رأينا هو ترك ذلك على الأحوط وجوباً.
من هي الأم؟
* من هي والدة الطفل؟ الأم التي يأخذون منها البويضة ويزرعونها في رحم أخرى؟ أم صاحبة الرحم؟ وهل يرثهما؟ ونرجو منكم أن تفيدونا من خلال القرآن الكريم إن أمكن؟
- هناك رأيان: رأي السيّد الخوئي رحمه الله الذي يرى أن الأم هي الحامل، وذلك من جهة قوله تعالى: إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ( )، فالأم هي الوالدة، وهي الحامل، أي التي تلد هذا الطفل، ويرثها، وصاحب النطفة هو الأب. ولكنّنا نرى أن الحصر هنا إضافي وليس حقيقياً، أي ليست أمّه زوجته التي ظاهرها. وعليه، فنحن نلتزم رأياً، ويلتزمه بعض العلماء المعاصرين، وهو أن صاحبة البويضة هي الأم، باعتبار أن الولد يتكون من البويضة ومن النطفة، ونسبة البويضة إلى الولد كنسبة النطفة إلى الوالد، يعني أن الولد ينشأ من خلية منقسمة 23 كرموسوماً من النطفة و23 كرموسوماً من البويضة، ولذلك فالذي يتدخَّل في تكوين الولد هما النطفة والبويضة، وإنما الحامل وعاءٌ في هذا المجال.
مدة الرضاعة:
* هل يجوز تجاوز مدة الرضاعة عن حولين؟ أي إذا تعذّرت المرضع عن إفطام الطفل بأعذار كثيرة، أو بتعبير آخر أصرت على إرضاعه فما حكم الرضاعة الزائدة؟
- يجوز أن ترضع الأم طفلها بعد الحولين، وليس ذلك محرماً.
زواج المسلم من غير المسلمة:
* هل يجوز زواج المسلم بامرأة من دين آخر، من دون أن تغيّر دينها؟
- نعم، يجوز إذا كانت كتابية. قال تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ( ).
أثر العلاقة المحرَّمة على الزواج:
* رجل كانت له علاقة غير شرعية مع آخر، ثم عقد على أخته، فهل هناك فتوى لبقاء الزواج هذا، أم لا بدَّ من فسخه ؟
- إذا كان الملوط به صغيراً، وكان الآخر بالغاً، فلا يجوز له، على الأحوط وجوباً، الزواج بأخته، والزواج على هذا الأساس باطل.
المخالعة من دون اقتناع:
* اتخذت أنا وزوجتي قراراً بالمخالعة الرضائية، دون أن تقتنع بهذا القرار، فما حكم هذا القرار؟
- إذا كان مقصود الشخص من المخالعة هو طلاق الخلع، فالطلاق الخلعي يشترط فيه كراهة الزوجة له، وأن لا تطيق العيش معه، وأن تقول له: لا أنفذ لك أمراً، لا أعطيك حقاً، ولا تأتي المخالعة في الحالة الرضائية، نعم، يُمكن أن تكون المخالعة بمعنى الطلاق، أي أن يتّفق هو وزوجته على الطلاق، وهذا أمرٌ يخصّهما معاً، ولكنّه يُعتبر ـ عندئذٍ ـ طلاقاً في شروطه وآثاره الشرعيّة، وليس خلعاً.
إلغاء الخطوبة بسبب مرض الأقارب:
* تقدَّمت لخطوبة فتاة، وقبل أن تتم الخطوبة علمت أن أباها وأمها مريضان بمرض الصرع، فقمت بإلغاء الخطوبة بعد أن سألت طبيباً اختصاصياً، حيث قال لي إنه قد تكون أسباب هذا المرض وراثية، مع أن الفتاة سليمة معافاة، فهل من ذنب أو إثم يقع عليّ نتيجة فسخي للخطوبة لهذا السبب، حيث إني خفت أن يظهر المرض في الأولاد، إن رزقنا الله تعالى بهم؟
- ليس هناك إثم، لأنك حر في أن تفسخ أو لا؛ ولكن، عليك أن تحاول، عندما تريد أن تفسخ، أن تحفظ لهذه الفتاة إنسانيتها بالطريقة التي لا تشعر فيها هذه الفتاة بالسقوط النفسي.
الزواج الثاني بموافقة الأهل:
* أريد أن أتزوَّج بموافقة زوجتي، فهل يجوز الزواج مع عدم أخذ الموافقة من أهلها أو أهلي، علماً أن زوجتي لديها ثلاث بنات وترفض الإنجاب، فما هو رأيكم؟
- أهل الزوج وأهل الزوجة لا علاقة لهم بالموضوع. وإذا رضيت الزوجة بذلك، فهذا يحلّ مشكلتك من الناحية الواقعيّة. وعلى كلّ حال، فينبغي عليك أن تدرس المسألة بما لا يخلق لك مشاكل في المستقبل.
اشتراط عدم الزواج في الطلاق:
* امرأة طلبت من زوجها الطلاق، فقال لها: أطلقك شرط أن لا تتزوّجي فلاناً من الناس، فهل هذا الشرط صحيح؟ وإذا تزوّجت ذلك الشخص، فهل عليها إثم؟
- إذا قبلت ف((المؤمنون عند شروطهم))، ولكن ليس له الحق في أن يشترط عليها ذلك، باعتبار أنه طلاق صحيح. غاية ما هناك أنَّ عليها إذا التزمت بذلك أن تفي بالالتزام به.
إسقاط الجنين:
* زوجة أحدهم مريضة بالسكّري وهي حامل، وقال الأطباء إنّ الجنين سيؤثر على حياتها، وإنّه سيكون مشوّهاً، فهل يحق لها إِجهاضه؟
- إذا كان يؤثِّر على حياتها، فيجوز الإجهاض بشكل قطعي أو شبه قطعي. أما إذا كان لمجرَّد التشويه، فلا يجوز الإجهاض، وإلا فيلزم من هذا القول أن نقتل كل المشوَّهين في العالم.
عملية الربط للرجال:
* هل يجوز إجراء عملية الربط بالنسبة للرجل، علماً بأن أهل الخبرة لا يقطعون بعودة الأمور إلى ما كانت عليه بعد إرجاعها بعملية أخرى؟
- نحن عندنا إشكال في التعقيم الذي يقطع أصل النسل في هذا الموضوع، وهذا محلُّ احتياط وجوبي على الأقل إذا لم يكن محل فتوى بالحرمة، سواء بالنسبة للرجال أو النساء، ولكن إذا كان الأطباء يقولون إنه يمكن عودة النسل بعد ذلك، فلا مشكلة في هذا المقام.
ثامناً: أموال وبنوك:
المقاصّة في الحقوق:
* شخص استدان مني بعض المال، وسلَّمني أمانةً لأوصلها إلى جماعة، هذا الشخص لم يعد لي المال، فصادرت أمانته، فهل من مشكلة في ذلك، علماً أن قيمة المال لا تساوي الأمانة؟
- إذا كان متمرداً ومعانداً، فيجوز لك أن تأخذ المال بدون إذنه، لكن إذا أعطاك هذا المال لتوصله إلى جماعة، فلا يجوز أن تأخذه، بل لابد أن توصله إلى الجماعة الذين أرسل إليهم المال.
التصرّف في الإرث عدواناً:
* توفّي والدنا وترك لنا إرثاً مع وكالة بالتصرف لأخينا الأكبر، ووجود زوجة أبينا، ولكنّ أخانا استولى على الإرث، وحرمنا منه ومن الاستفادة من حقوقه، ثمّ عرض علينا نصف الإرث للبيع، اشتريت أنا هذا النصف من مالي الخاص، وقمت بتوزيعه على الورثة، ونحن تسعة مع زوجة أبينا، واستفدت أنا بحصة واحدة من تسع حصص، ووزعت الحصص بالتساوي، وذلك إكراماً لوالدي، وقطعاً للفتنة بين أخينا الأكبر والآخرين، هل كنت مخطئاً بالتوزيع وهو من مالي الخاص، وهل كان في تصرفي إشكال؟
- إذا كان الجميع قد تراضوا بما قسمت عليهم، فلست مخطئاً في ذلك، وأخوك غاصب وسارق، فهو سارق للإرث وسارق للمال، الذي أخذه منك عوضاً عن الإرث.
أراض مغصوبة:
* وُزِعت قسائم سكنية وحصل بعض المؤمنين على بعضٍ منها، وبعد التأكد من موقعها، قال لهم أحد كبار السن إنه سمع من أجداده أنها مغصوبة وهاجر أصحابها إلى العراق، ولا يمكن التعرف عليهم والمصالحة معهم، فما هو حكم الشرع في هذه المسألة: إذا كانت مغصوبة؟ أو مشتبه بها أنها مغصوبة؟
- إذا عُرِف أنها مغصوبة، فلابدَّ من البحث عن أصحابها، والتسامح منهم، وإذا لم نستطع أن نعرف أصحابها، فهذا يكون من مالٍ مجهول المالك، والمال المجهول المالك لابد أن يُرجع فيه إلى الحاكم الشرعي.
إسهام المسلم في بناء كنيسة:
* ما رأيكم في مسلم يأمر ببناء كنيسة أو يتبرع لهذا الشيء أو يخصص مبلغاً لترميمها وتصليحها أو شيئاً من أرض أو عقار لتغطية مصاريفها؟
- الأصل في المسلم أن يساعد في ما يطاع الله تعالى فيه كما يريد الله أن يطاع.
الوفاء بحقوق الآخرين:
* شخص كان عمره (12 سنة)، وكان كلما يدخل إلى محل بقالية يسرق بعض البسكويت وأكياس البطاطا، وما شابه، وعندما بلغ عاد إلى رشده، وقرر التوبة لله عزّ وجل، فكان يدخل إلى المحل الذي سرق منه، وكان يضع مالاً بدون انتباه صاحب المحل، ويقول له بعد ذلك انظر هناك مال، فيأخذه صاحب المحل، فهل يكون هذا الشخص قد وفى ذمته أمام الله تعالى، بعد أن أعاد الأموال إلى أصحابها؟
- نعم، إذا فرضنا أنّ المال الذي وضعه كان بمقدار ما أخذه، يكون قد برئت ذمته من المال.
تحصيل المساعدات في أوروبّا:
* يلجأ بعض المسلمين الذين يتلقّون مساعدات في الدول الأوروبية إلى الانفصال عن زوجاتهم أمام الدولة فقط لزيادة تلك المساعدات، فما حكم تلك الزيادة؟
- كلّه حرام، فعندما يسجَّل الإنسان طلاقاً لزوجته، فإنه لا يجوز له ولزوجته أخذ مساعدات. أولاً: لأن الناس يرون أنه باق في العيش مع زوجته، فكيف وهو مسلم يعيش مع امرأة أجنبية عنه في البيت كما يعيش الزوج مع زوجته، وثانياً: لأنه على خلاف التعاقد، فهو عندما دخل بواسطة تأشيرة الدخول أو بعنوان اللجوء، فمعنى ذلك أنّ هناك عقداً بينه وبين الدولة أن يحافظ على القانون العام، خصوصاً في مثل تلك الأمور، ولذلك فهو حرام من الجهتين.
التصدّق دون تحقّق:
* هل من الأفضل أن أقدم الصدقة لكل من يمد يده بدون تحقّق؟
- نحن نرى أن الله سبحانه وتعالى يفضِّل الفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، الذين يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ(البقرة/273)، فالأفضل أن يعطي الإنسان صدقة للذي يحرز حاجته، وإن كان يجوز له أن يعطي من لا يحرز حاجته.
العجز عن تلبية حاجات الفقراء:
* نستغرب كيف أن مكاتب المراجع (حفظهم الله) لم تتمكن من القضاء على ظاهرة الفقراء في السيدة زينب(ع)، فما الحل الصحيح لعلاج هذه الظاهرة؟
- الواقع أنه لا يمكن القضاء على هذه الظاهرة؛ لأنه يوجد بعض الناس يمارسون التسوّل كنوع من التجارة، لنا في ذلك تجربة في لبنان، فلقد كان يأتي هؤلاء السائلون ويجلسون على درج المسجد، فقلنا لهم: نحن مستعدون أن نجعل لكم معاشاً شهرياً وتتركوا التسوّل، فلم يقبلوا بذلك، حيث يوجد بعض الناس مهما أعطيته فإنه لا يوافق، لأن التسوّل أربح له وعلى كلّ حال، فالإمكانات الموجودة لدى المراجع لا تستطيع أن تسد هذه الحاجة بشكل جذري.
الوفاء بالنذر:
* لي أخ متزوّج منذ أكثر من 19 عاماً ولم تحمل زوجته، ونذر مبلغاً من المال لمبرات الأيتام في حال حملت زوجته، ومنذ عامين تقريباً حملت وأسقطت في الشهر الخامس وإلى الآن لم تحمل مجدداً، فهل يجب عليه وفاء النذر؟ مع العلم أنه مدين بأكثر من 100 ألف ل.س وهل يجوز الوفاء على أقساط؟
- إن النذر يتبع قصد الناذر، فإذا كان قد نذر أن تحمل زوجته، في مقابل كونها عقيماً، فيجب أن يفي بالنذر، وأما إذا نذر أن تحمل زوجته ويرزق بولد من خلال هذا الحمل، فلا يجب عليه الوفاء بالنذر، فإذا فرضنا كان النذر من النوع الأول فيجوز له التقسيط.
التبرّع بأموال الفائدة:
* محكوم عليّ بمبلغ كبير قدره 350 ألف ل.س، بسبب حادث مروريّ دون أن أؤذي أحداً وأنا لا أملك شيئاً، ويريد أحد الأشخاص أن يدفعه لي من أموال الفائدة له كمتطوّع يريد مساعدتي، فما حكم الشرع بذلك ؟
- إذا كانت هذه الفائدة بدون شرط، فلا توجد مشكلة، وأما إذا كانت بشرط فهي محرّمة، وإذا كان لا يعرف أصحابها، ولا يقدر أن يرجع لهم، فيمكن أن يتصدَّق عليك بهذه، فتصبح مثل مال (مجهول المالك).
أخذ الأجرة على تعليم الدين:
* هل يجوز للعالم طلب الأجرة على العلم من الناس إذا علَّمهم أحكام دين الله؟
- المستأكل بعلمه مذموم، ولاسيّما في ما يجب عليه من تعليم الناس مما هو محل الابتلاء، ولكن قد يطلب البعض الأجرة لحاجتهم المعاشية.
الخدمة في شركة:
* إذا كان خمسة أشخاص قد اشتركوا في مزرعة وقام أحدهم بجمع الحصص من الشركاء لأجل الإنتاج الزراعي، ولكنَّ شخصاً من غير الشركاء تبرع بخدمة مادية لتلك المزرعة إكراماً لأحد الشركاء الذي جمع الأموال المطلوبة من بقية الشركاء، فهل عليه أن يعيد إليهم أموالهم، أم يعتبر عمل المتبرع خاصاً له؟
- عليه أن يعيد إليهم أموالهم؛ لأنّ الإنتاج الزراعي لا حاجة به إلى هذه الأموال، لذلك لا يستحقّ الشخص المذكور الاحتفاظ بها لنفسه.
التصرُّف بأموال الأولاد:
* هل يحق للأب أن يأخذ من مال ولده الطفل للإنفاق عليه؟
- إذا كان الابن غنياً، فيجوز للأب أن ينفق عليه من ماله، أي مال الابن.
حقّ الاختراع:
* هل يجوز استغلال ابتكار شركة ما أو شخص ما لصناعة المادة نفسها؟
- لا يجوز ذلك؛ لأنها حقوق خاصة بتلك الشركة أو ذلك الشخص.
فوائد القروض في الغرب:
* ما هو الحكم الشرعي للفائدة المدفوعة عن القروض في البلدان الغربية لشراء بيت أو سيارة، وهل جوازها مرتبط بالحاجة الفعلية للاقتراض؟
- لا يجوز إلا أن يقصد القرض فقط، وأن لا يقصد الحصول على الفائدة من خلال التزامه بالعقد، بل يعقد في قلبه على أن يدفع الفائدة المطلوبة حسب القانون، فلا مشكلة في ذلك.
تغيير الوقف:
* شخص اشترى شيئاً وقفاً لجامع معيّن، فهل يجوز له أن يوقفه لجامع آخر غير الذي نوى عليه الوقف أول مرة؟ وهل يجوز إخراج الشيء الموقوف للمسجد إلى مسجد آخر، بعلم الواقف وبنية الوقف؟
- ما دام ذلك المال أو الشيء لا يزال في عهدته قبل وقفه لذلك الجامع، فهو حر؛ لأن مجرد النيّة لا تلزمه بذلك. ولكن إذا وقفه على مسجد معيّن، فلا يجوز له أن يخرجه إلى مسجد آخر، لأنه بالوقف يصبح لا علاقة له بذلك الواقف نهائياً، وليس له أن يتصرف فيه.
تقسيم الإرث:
* ملك إرث، قمت بترميمه، وبناء مشيدات عليه، والآن أريد تقسيمه على الورثة، فهل تعتبر قيمة البناء حسب الأسعار القديمة أم حسب الوقت الحالي؟
- أنت حرّ في أن تعطي مالك لمن تشاء، إذا كان نصيبك من الإرث، سواء حسب القيمة القديمة أو الجديدة، وسواء بالبيع أو الهدية أو الهبة، أو غير ذلك.
بناء البيوت في الأراضي الخالية:
* كثير من العراقيين عند عودتهم إلى العراق ليس لهم بيوت يسكنون فيها، ما يضطرهم للبناء على بعض الأراضي التابعة للدولة، فما هو الحكم الشرعي لذلك؟
- إذا كانت الأراضي مباحة أو ميتة، فمن أحيا أرضاً ميتة فهي له، ولكن الأفضل أن يتمَّ ذلك بالاتفاق مع الدولة بحسب التخطيط العمراني للمدن في هذا المجال.
التصرّف بالوقف:
* في يوم الخميس أخذت من ضريح السيدة زينب(ع) ثلاثة كتب كي أقرأها في العراق، فهل لي أن آخذها أم لا ؟
- لا يجوز إخراجها من ضريح السيدة زينب(ع)؛ لأن الظاهر أن الذين وضعوها أوقفوها، ولا يجوز أن يخرج الوقف من مكانه.
التأخّر في تسليم الثمن:
* اشترينا أرضاً وكتبنا العقد، وحدَّدنا موعد التسليم للمبلغ الذي طلبه البائع، ولكن تأخَّرنا في موعد التسليم لأسباب صحية، وعندما وصلنا بعد الموعد، طلب البائع زيادةً فوق ثمن الأرض بسبب تأخّرنا عن الموعد، فهل يحق له ذلك شرعاً؟
- لا يحق له شرعاً أن يطلب الزيادة، ولكن له الحق في فسخ العقد، لأن له الخيار للتأخر في دفع المبلغ، ولكن إذا لم يفسخ العقد وطلب البائع الزيادة، فهذا لا يجوز لأنه ربا.
حكم مال السحت:
* ما هي أحكام مال السحت؟ هل يجوز التعامل به إذا كان هناك حرج للمتعاملين؟
- مال السحت يعني المال الحرام، ولا يجوز التعامل به، فإذا عرف صاحبه فلا بد أن يعطى لصاحبه، وإذا لم يعرف صاحبه يرجع به إلى الحاكم الشرعي باعتبار أنه مال مجهول المالك.
الغبن في الشراء:
* شخص أراد أن يشتري بيتاً ب(2) مليون ليرة، وليس لديه خبرة في الشراء، فكلف شخصاً آخر أكثر خبرةً، فاشتراه له ب(1.5) مليون ليرة، وقال له: إني اشتريته لك بمليون وسبعمائة وخمسين ألف ليرة، فهل الزيادة حلال أم حرام؟
- الزيادة حرام، وعليه أن لا يأخذ منه إلا مقدار ما دفعه.
غصب الأرض:
*كنت أملك قطعة أرض، وعند عودتي إلى العراق، وجدت شخصاً قد أشاد عليها بناءً وقد سكن فيه، فأبرزت له الوثائق الخاصّة بملكيتي للأرض، فأحال الأمر إلى الحكومة الحالية، ما هو حكمي تجاهه؟
- أرضك تبقى لك، وبناؤه غير شرعي، وعليك أن تدرس الأمر بينك وبينه بالتي هي أحسن، خصوصاً إذا كان غافلاً عن الحكم الشرعي في ذلك.
الأموال المختلطة بالحرام:
* ماذا تقولون في الأموال المخلوطة من حلال وحرام وصاحبها يريد التخلص من هذه المشكلة؟
- لا بد أولاً أن يعرف أن هذا الحرام هل يُعرف صاحبه أم لا؟ فإذا عرفه فعليه أن يردّه إلى صاحبه، وإذا كان صاحبه مجهولاً، فيكونّ حكمه حكم مجهول المالك. أما المال الذي اختلط فيه حلال وحرام، ولم يعرف صاحبه حتى يتصافى معه، من دون أن يعرف كمية الحلال والحرام، فتطهيره بإخراج الخمس منه.
الأرض المشاع:
* قطعة أرض ملكيتها مشتركة بين عدّة أشخاص، ولم يتم فرزها، ويصعب تقسيمها بين الشركاء، وقام أحد الشركاء ببناء دار له، فهل يجوز لي ذلك أيضاً، خاصة وأني أحد الشركاء في الأرض وفي حاجة إلى دار سكن؟
- الأرض المشاعة بين الشركاء والورثة لا يجوز التصرف بها شرعاً إلاّ بموافقة جميع الشركاء والورثة.
سرقة الكهرباء:
* هل استعمال الكهرباء من دون عدَّاد حرام؟ وأنا مستأجر فماذا أفعل؟
- سرقة الكهرباء حرام. وليس ثمّة فرق بين أن تسرق الدولة، أو تسرق من الشركة، أو أن تسرق من إنسان آخر.
إرث البنت:
* إذا مات الأب وعنده بنت واحدة، فهل الإرث يصل كله إلى البنت؟ وما هو رأي الفقهاء في ذلك؟
- رأي الفقهاء الشيعة أن البنت ترث المال كله، نصفه بالفرض، قال تعالى: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ( )، ونصفه بالقرابة، قال تعالى: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله( ).
إبراء الذمَّة من عبث الطفولة:
* أخذت بعض الأشياء من محلّ في طفولتي، وصاحب المحلّ توفي منذ مدة طويلة، ومن المحرج جداً طلب السماح من ورثته، أو دفع قيمة ما أخذته من أبيهم، فهل يحق لي التصدّق به عنه، أو دفع المبلغ من باب ردِّ مظالم؟
- يمكن أن ترسله إليهم عن طريق البريد، من دون أن تذكر اسمك أو أي شيء يدل عليك.
التصرّف بالأمانة:
* تصرَّفت بأمانة أودعها صديقي وهي (سهم إمام)، وذلك لحاجتي لها، على أن أدفعها في أول راتب لي آخذه من عملي، هل آثم على ذلك؟
- عليك أن تؤدّي الأمانة إلى أهلها. وفي هذه الحالة، عليك أن تستغفر الله وأن تؤديها إلى أهلها.
إرجاع الموهوب:
* زوجي اشترى قطعة أرض ووهبها لي، فهل يجوز له المطالبة بها، مع العلم أني ابنة عمه؟
- هبة الرحم لازمة، ولا يجوز له أن يطالبك بإرجاعها.
القمار في ألعاب الكمبيوتر:
* هل يجوز المضاربة في ألعاب الكمبيوتر، على أساس أن الذي يخسر اللعبة هو الذي يدفع أجور استعمال الكمبيوتر لصاحب المحل؟
- لا يجوز ذلك، لأنه يعتبر من القمار، لأنَّ القمار هو أن يكون الذي يكسب اللعبة رابحاً، ولا فرق في ذلك بين دفع المال مباشرة للرابح أو لصاحب الكمبيوتر.
الاقتراض من بنوك الرّبا:
* أنا أعيش في أستراليا وأريد أن أملك بيتاً، وذلك بأن أقترض مبلغاً من البنك، فهل يجوز ذلك؟ وهل يجوز اقتراض ما يزيد عليه، من أجل العمل؟ أرجو منكم بيان ذلك؟
- أساساً القرض الربوي لا يجوز، سواءٌ كان من بنك يملكه كافرون أو من بنك يملكه مسلمون. ولكن هناك طريقة تدخل في الوسائل الشرعية التبريريّة، وهي أن الإنسان عندما يوقّع على هذا القرض، فلا يوقعه بعنوان (الفائدة المشروطة)، بل يوقّعه بعنوان أخذ القرض فقط، وإن كان يعرف أنهم سيأخذون منه الفائدة، بمعنى أنّه لا يلتزمها في العقد القرضي. فإذا استطاع الإنسان أن يحقّق هذا القصد بشكل جدّي، فيمكن أن يكون هذا وجهاً للتحليل.
إرجاع هدية:
* زوجتي أهدتني مبلغاً من المال كي أعمل به، وقد خسرته، فهل لها الحق أن تطالبني به؟
- كلا، إذا كان هديةً وتلفت هذه الهدية، فليس لها المطالبة، نعم، إذا كان قرضاً، عليك أن ترجعه إليها.
تملك الخنزير:
* هل يجوز بيع وشراء لحم الخنزير لمستحلّيه؟ وما هو حكمه وحكم التجارة فيه؟
- يجوز البيع والشراء للعمَّال، وأما التجّار فلا يجوز لهم شراؤه وبيعه.
وفاء النذر بتوزيعه للفقراء:
* لقد نذرت مبلغاً من المال إلى حضرة مقام السيّدة زينب(ع)، فهل أضعه داخل الضريح الشريف، أم أوزعه على الفقراء والمحتاجين؟
- يجوز توزيعه على الفقراء عن روح السيدة زينب(ع).
أخذ الفوائد لحساب الفقراء:
* لو أخذت الفائدة من المصرف بعنوان صرفها على الفقراء حصراً، فهل يجوز ذلك؟
- إذا لم يشترط الإنسان الفائدة، بل كان المصرف يعطيها من خلال برنامجه، من دون أن يشترط الإنسان هذا الأمر، فلا مانع من ذلك.
التصرّف بأموال الوقف:
* أتولّى وقف جدي الخيريّ في العراق، وقد تجمَّعت لديَّ مبالغ من بدلات إيجار الوقف، وأنا بصدد الشروع في ترميم وإضافة بناء عليه بعد أن تتجمع مبالغ أخرى لعدم كفاية المال الموجود الآن لمثل هذه الأعمال، فهل يجوز لي التصرّف بجزء منه كقرض حسن بسبب حاجتي في الوقت الحاضر إلى المال، على أن أعيده عندما يتيسّر المال كاملاً، علماً أن المال مجمّد في الخزانة مؤقتاً؟
- يخشى على الإنسان من ذلك، فربما استقرض المال وحدث له حادث، أو استقرضه ووسوس له الشيطان، فالأصل أن لا يحرِّك مال الوقف، ولكن الإنسان إذا كانت لديه ضمانات رسمية أو غير رسمية، فقد يكون عنده الآن حاجة، وقد تزداد حاجته أكثر غداً، فلا يقدر على الوفاء، فالضمانات المالية والضمانات الأخرى الرسمية، لا تجعله يضيع مع الورثة، ولذلك فالأفضل أن لا يستقرض الإنسان من مال الوقف.
تاسعاً: السلوك والمعاملات:
ترك الطاعات:
* أعرف صديقاً لي يدخّن ولا يصوم رمضان ولا يصلّي، رغم أنني أنصحه دائماً. ما موقف الشرع تجاهه؟ هل هو كافر؟ أم ملحد؟ أم فاسق؟ وكيف يمكنني أن أتعامل معه ضمن الأمور الشرعية؟
- هو فاسق إذا كان عدم صلاته وصومه ناتجين عن عصيان لا عن إنكار لوجوب الصوم والصلاة، وعليك أن تتعامل معه بالحكمة والموعظة الحسنة.
النطق بالشهادتين:
* إحدى النساء كانت في أسرة بوذية، وكانت تعبد الأصنام، ولكن أباها كان مسلماً لكنه غير ملتزم، هل يجب عليها أن تنطق الشهادتين عندما تريد أن تسلم؟
- إذا اعتقدت بالإسلام، فعليها أن تنطق بالشهادتين، ولو بلغتها إذا لم تكن لغتها عربية.
تشخيص الملابس الشرعية:
* هل هناك معيار شرعي معين لملابس الرجل، البنطال وغيره؟
- المهم أن لا يكون في لباسه أي نوع من أنواع الإثارة.
انتشار الأغاني:
* في ظلِّ هذا الانتشار الواسع للأغاني والطرب في الفضائيات وفي الأماكن العامة وأماكن العمل وما إلى ذلك، هل يحرم سماع الأغاني عن عمد، على أنها لا تؤدي إلى حرام بأي شكل من الأشكال، بل على العكس من ذلك، فإنها بالنسبة لي مهدئ للنفس، فهل يجوز لي سماعها؟
- المحرّم محرّم، سواء في الفضائيات أو غيرها، ولا يجوز لك سماعها عمداً.
ترك العمل لسبب سياسي:
* كنت قد درست وعملت في بريطانيا لمدة طويلة، وكنت عضواً في هيئة السياحة البريطانية، ودليلاً تجارياً لمائة وعشرين ألف شركة بريطانية مختلفة، كان مدخولي المادي جيّداًجّداً، ولكن بعد أن قام (بوش) وحليفه (بلير) بشن العدوان على أفغانستان والعراق، قطعت علاقتي وعملي معهم، فهل أنا مأثوم في قطع رزقي والعيش في هذه الضائقة المادية؟
- لست مأثوماً؛ لأنك حرّ في ذلك، ولكن لم يكن مناسباً أن تقطع عملك بهذه الطريقة، لأن طريقة الاحتجاج على الحكام ليست بهذا النحو، لأنك تعمل مع الناس، وكثير من الناس قد لا يوافقون على سياسة هذا الحاكم أو ذلك الحاكم.
اضطرار النظر إلى العورة:
* أنا امرأة مغتربة في بلاد السويد، وأنا عربية مسلمة، اضطرتني الحاجة للعمل في أحد دور العجزة، وكبار السن، وأحياناً يتم تحميم هؤلاء الكبار والعجزة، ما يكشف عن عوراتهم للعيان، فما هو حكم ذلك؟
- أمّا بالنسبة للمسنّ، فيمكن الإنسان عندما يضطر إلى ذلك، أن يلبس الكفوف التي تحجب، وأما بالنسبة للنظر، فعلى السائلة أن تمتنع من النظر إلى العورة مهما أمكن، وذلك في مفروض السؤال، وهو حالة الاضطرار، أمّا إذا أمكنها أن تجد عملاً آخر، فلا بدّ لها من ذلك.
القربة في المباحات:
* في نية القربة إلى الله تعالى في الأفعال والأمور المباحة، هل يجب أن نبرّر كيف تكون للّه تعالى، أم يكفي فقط لفظ القربة للّه تعالى؟
- النية ليست شيئاً معقّداً، فنيّة القربة هي التقرب إلى اللّه بما لا يبغضه، ولذلك يكفي للإنسان أن يكون قاصداً للفعل من خلال محبته للّه سبحانه وتعالى وتقربه إليه وما إلى ذلــك.
صلاحيات الحاكم المنتخب:
* ما هي حدود صلاحيّات الحاكم الصالح المنتخب في تطبيق الشريعة، فإذا حدث أمر مخالف للشريعة في دولة إسلامية تطبق أو لا زالت تطبق القانون الوضعي، فهل يقف ضده ويمنعه حتى يتجنب الحساب يوم القيامة على أساس ((كلم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))؟
- هذه المسألة يجب أن تدرس بحسب الظروف المحيطة بالحاكم، وفي بعض الحالات، فإنّ بعض الحكّام يؤمن بالشريعة، ولكن دائرة التنفيذ عنده بحسب الظروف الموضوعية ضيقة، وربما يأمل بأنه يمكن بالتدرج تطبيق الأحكام، وعليه أن يلاحظ الأولويّات والأهمية في هذا المجال. نعم، إذا كان قادراً على أن يطبق الحكم الشرعي بطريقة معقولة، فيجب عليه ذلك، ولكن إذا فرضنا أنه لم يكن قادراً على ذلك، وكانت هناك أولويات وأهم ومهم، عند ذلك لا بد أن يلاحظ ذلك كله.
تبديل النذر:
* لديَّ نذر (عجل) اشترطت ذبحه أمام مقام الإمام علي(ع)، ونظراً لكوني خارج العراق، وبسبب ظروف العراق الحالية، فهل سماحتكم يأذن لنا بذبحه في مكان آخر، أو توزيع المبلغ على الفقراء، نرجو رأيكم؟
- النذر تارةً يكون شرعياً، وتارة غير شرعي. فإذا كان شرعياً، بمعنى أنّك قلت: ((لله عليّ نذر)) إذا تحقق الأمر الفلاني، فإني أذبح أمام مقام الإمام علي(ع)، فيجب عليك الوفاء به، ولو بواسطة غيرك، بحيث تعطي نقوداً لبعض الناس الموجودين في النجف ليشتروا لك الذبيحة ويذبحوها. أما إذا لم تقل: ((لله عليّ نذر)) ولم يكن النذر شرعياً، ففي هذه الحالة، لك الحرية في أن تعطي مبلغها للفقراء أو لغيرهم، أو تذبحه في هذا المكان وتوزّعه على الفقراء.
ترك النوافل:
* هل من إشكالية شرعية في الانقطاع عن صلاة الليل بين فترة وأخرى حسب الظروف اليومية للشخص؟
- كلا، إن صلاة الليل مستحبة وليست واجبة.
الرضاع من الجدَّة:
* إذا رضع الولد من الجدة، فهل تصبح الأم أو الأب أخوة في الرضاعة؟ وهل يحرم بذلك الاقتران ببنات الأخوال وبنات العمومة باعتبارهن بنات الأخوة من الرضاعة؟
- المشهور بين العلماء أنّه لا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن، يعني لا يجوز لأبي الرضيع ـ إذا الجدة أرضعت الولد ـ أن يتزوج بنت الجدة، يعني بنت صاحب اللبن، فهنا تحرم زوجته عليه، كما تحرم أخواتها عليه، أما بنات الأخوال والأعمام، فلا تحرم، ورأينا يخالف رأي المشهور، فنرى أنه لا تحصل الحرمة بذلك.
آلة الصيد:
* كنت مقلداً للسيد الخوئي رحمه الله وأنا اقلّدكم الآن. والسؤال: إن السيد الخوئي رحمه الله يرى بأن الصيد بالبندقية المسماة (الخرطوش) أو الصجمة فيه إشكال، وأنتم ترون حلّية ذلك، فما هو الموقف الشرعي لي في هذه الحالة؟
- يجوز لك أن تأكل من الصيد بهذه الطريقة، لأنه حتى لو فرضنا أن السيد الخوئي رحمه الله عنده احتياط، فيجوز أن ترجع إلى غيره في ذلك.
الدفن في تابوت:
* ما رأيكم في من يموت من المسلمين في بلاد الغرب، فيدفن في التابوت، فهل يجوز فتح التابوت ووضع التراب تحت خده الأيمن، ثم يغلق التابوت ويدفن الميت؟
- كلا، لأن المسألة ليست وضع التراب تحت خده، وإنما المهم أن يدفن بمعنى أن يوضع داخل الأرض، وهناك فرق بين المدفونين في هذه التوابيت، فمرة يوضع الميت في التابوت ويوضع التابوت في غرفة، ولا يدفن، ومرة يوضع التابوت داخل الأرض، بحيث ندفن التابوت، ونهيل فوقه التراب، فهذا دفن صحيح، ولا إشكال فيه.
كتابة الآيات في الصحف:
* هل هناك إشكالية في كتابة بعض الآيات القرآنية في الصحف والمجلات الثقافية، مع العلم إنّ هذه الصحف والمجلات تُرمى في سلة المهملات، والبعض الآخر يجعلها سفرة للأكل رغم ما تحمله من أسماء الله تعالى وأسماء الأولياء؟
- طبعاً يجوز كتابتها في الصحف والمجلات، لأن الصحف والمجلات هي وسائل للمعرفة، وربما تحتاج لمعرفة بعض الأشياء فتذكر هذه الآيات. نعم، الناس الذين تقع بين أيديهم هذه الصحف عليهم أن يحافظوا على قداسة هذه الآيات، فلا يعرّضوها للإهانة وللتهتيك.
بيع كتب السحر:
* يلاحظ بيع بعض المكتبات كتب السحر، ما تعليقكم على ذلك؟
- السحر باطل، وممارسته من المعاصي، قال تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى( )، فكل هذه الكتب يراد بها تخريب عقول الناس، ولذلك ينبغي أن لا يبيعها أحد، وأن لا يشتريها أحد.
طيب النساء:
* هناك حديث يقول: ((طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه، وطيب الرجال ما خفي لونه وظهر ريحه))، هل يفهم من هذا الحديث جواز بيع المكياج للنساء بعنوان (ما ظهر لونه)؟
- يقيناً لا يراد به المكياج، فالتبرج حرام، قال تعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ( )، أمّا البيع فهو جائزٌ على كلّ حال؛ لأنّ استخدامه لا ينحصر بالحرام.
الأفضل بين النوافل وقراءة القرآن:
* ما هو الأفضل؛ نوافل العشاءين أم قراءة القرآن الكريم ؟
- يأتي بنوافل العشاءين وقراءة القرآن الكريم، ولماذا هذا العجز إلى هذا الحدّ؟!
الكذب في المزاح:
* هل يجوز الكذب على شخص من باب المزاح؟
- تارةً يكذب بحيث يوحي بأن ذاك الشخص يتحرك في ما كذب فيه، وتارة يكون الأمر مختلفاً، بحيث يعرف ذاك الشخص أن الكلام من باب المزاح، يعني أنه يكذب كذبة لا يقصد منها معنى، فلا مانع من ذلك، أما إذا كان الأمر مثل (كذبة نيسان)، بحيث لا يعرف الشخص أنّ هناك مزحة، ويتأثر بهذه الكذبة، فإنه لا يجوز، وورد في حديث عن الإمام زين العابدين(ع): ((اتَّقوا الكذب الصغير منه والكبير في هزل أو جدّ، فإن المرء إذا اجترأ على الصغير اجترأ على الكبير)).
المستحبات والواجب:
* ما المقصود بالحديث: ((المستحبّات حمى للواجبات))؟
- أي أن الإنسان عندما يأتي بالمستحبات، تكون عنده روحانية تجعله ينفتح على الواجبات، ويتشجَّع على الإتيان بها أكثر.
النظر إلى صورة غير المحارم:
* هل يجوز للزوج الاطّلاع على صور أخوات زوجته وهن من دون حجاب، وبأعمار 11-12 سنة، وهن الآن فوق الأربعين سنة ؟
- إذا لم يلزم من ذلك هتكٌ للحرمة بحسب الواقع الاجتماعي، فيجوز، والأفضل أن لا يفعل ذلك.
وضع الكحل للمرأة:
* هل يجوز للمرأة أن تضع الكحل على عينيها؟
- إذا لم يحصل بذلك إثارة الأجنبي وإلفات نظره، فلا إشكال في الكحل للمرأة، ولكن لا يجوز أن يكون بالنحو الذي يصدق عليه التبرّج.
الاختلاط بالنساء:
* في حالة العمل في بلاد الغرب قد يضطرُّ بعض المغتربين إلى الاختلاط ببعض النساء من أجل وعظهن، حيث إن الالتقاء بهن في مكان عام قد يسيء إلى سمعتهن أو سمعته بين معارفهن أو معارفه ؟
- يحرم الاختلاء بالنساء من غير ذوي محارم بما قد يترتَّب عليه المفسدة، حيث ورد: ((ما اجتمع رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)).
قتل الحشرات بالنار:
* هل يجوز قتل الحشرات أو الحيوانات، سواء الضارَّة أو غيرها بالنار؟
- إذا لم تكن هناك وسيلة أخرى فلا يحرم ذلك، ولكن الأفضل أن لا تقتل الحشرات أو الحيوانات بطريقة الحرق بالنار.
آثار الرضاع:
* ما هو حكم أخ الفتاة بالرضاعة بالنسبة لأخواتها من الأب والأم؟
- إذا كان هذا الأخ بالرضاعة قد رضع من نفس الأم المرضعة لبقية الأخوات، فكلهنَّ بمثابة أخوات له، أما إذا كانت الفتاة قد رضعت لوحدها من أم الفتى (الأخ بالرضاعة)، فإن الأخوات الأخريات يعتبرن أجنبيات بالنسبة لذلك الأخ بالرضاعة.
حكم من يكفر باللّه:
* ما حكم الذي يكفر بالله بالنسبة لزوجته وغير ذلك من الحكم الشرعي؟
- إذا كان في حالة غضب أو فقدان وعي، فلا يترتَّب عليه حكم شرعي بالنسبة لزوجته، ولكن إذا كان مستمراً بالكفر جهراً، فعليها طلب التفريق.
التخفّف من الحجاب:
* هل يجوز التخفّف من لبس الحجاب للمرأة في البيت في حالة كثرة الضيوف والزيارات، وفي حالة كون ذلك الحجاب في البيت يعيق عن القيام بشؤون البيت والأطفال ويشّوش على العلاقة الزوجية؟
- لا يجوز التخفّف من لبس الحجاب أمام الضيوف، ولكن على الزوج أن لا يتسبَّب بالحرج لزوجته، وأن يلزم الضيوف بالتقيّد بحرمة البيت.
الكتابة على الأكفان بالتربة الحسينية:
* ما حكم من يكتب على الأكفان بالتربة الحسينية ؟
- يجوز ذلك من حيث المبدأ.
حكم الإضراب عن الطعام:
* هل هناك ما يؤيِّد مفهوم الإضراب عن الطعام للمعتقلين في سجون العدو ؟
- رأينا أنه يجوز الإضراب عن الطعام، بشرط أن لا يؤدي إلى التهلكة.
الذبح الآلي للحيوان:
* للتطوّر الحاصل في تربية الدواجن، تقوم بعض المزارع بذبح كميات كبيرة من الدجاج بصورة مكيانيكية، فهل يجوز أكل هذا الدجاج؟ وهل يعتبر ضمن الشروط الشرعية للذبح؟
- إذا قطعت الأوداج الأربعة مع التسمية بذكر الله، فيجوز ذلك.
حلّ الخصومة بالصلح:
* متخاصمان يريد أحدهما الصلح بينما يرفضه الآخر، فهل يأثم الطرف الأول؟
- كلا، لا إثم عليه، لأنه أدَّى ما عليه من طلب الصلح.
صلة الرحم:
* ما هو الحكم الشرعي المترتّب على عدم الصلة أو الزيارة لبعض الأرحام، إذا كان تلك الزيارة تؤدي إلى زيادة المشاكل؟
- يمكن الرجوع إلى الصلة التي لا تؤدي إلى زيادة في المشاكل، وتجنب كل صلة تؤدي إلى زيادتها.
حكم تجميل الوجه:
* ما هو حكم إجراء عمليّة تجميل للوجه أو الأنف لإصلاح عيب ما؟
- يجوز ذلك، إذا لم يتسبَّب بضرر، ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) مع مراعاة الجوانب الشرعية الأخرى.
تناول المنشّطات:
* هل يجوز تناول المنشطات في المسابقات الرياضية؟
- لا يحرم ذلك في نفسه، كعملٍ يتَّصل بخيار الإنسان في نفسه لنفسه، ولكن لا يجوز ذلك في المسابقات الرياضية التي تمثل حالة تعاقدية بين المتسابقين، على أساس الالتزام بشروط معينة في العقد، بحيث تكون الرياضة حركة للجسم الطبيعي الرياضي في قوته الذاتية التي لا يضيف إليها أي عنصر آخر يجعل حركته قوية بشكل غير طبيعي، كالمنشطات الخاصة، وذلك لدليل ((المؤمنون عند شروطهم))، والظاهر احترام الالتزامات الصريحة والضمنية.
كيفيّة مقاطعة الاحتلال:
* أفتيتم سماحتكم بمقاطعة قوات الاحتلال الأجنبي في العراق، ولكن هناك الكثير من الخدمات كالماء والكهرباء والاتصالات لا يمكن توفيرها خارج نطاق الاحتلال؟
- الفتوى بمقاطعة الاحتلال تعني عدم مساعدة الاحتلال بالترجمة مثلاً، أو بنقل الوقود والغذاء لهم، ونحو ذلك مما يقوّي الاحتلال في احتلاله وتدبير أوضاعه، أما إذا كان الأمر متعلّقاً بالخدمات العامة، مثل توفير المولّدات الكهربائية أو مضخات المياه فلا مانع.
إطاعة أوامر الوالدين:
* هل يجب إطاعة أحد الوالدين أو كلاهما في الطلب من ابنهما تطليق زوجته ؟
- لا يجب ذلك، وقد لا يجوز ذلك، لأنه ليس من حق الأم أو الأب على الابن تطليق زوجته، أو على البنت تطليقها من زوجها، كما لا يجب إطاعتهما في حال رغب الولد مثلاً في الدخول إلى كليّة معيّنة بينما كانت رغبتهما أن يدخل إلى كليّة أخرى، فلا يجب إطاعتهما في ذلك، بلحاظ كونه مضرّاً به أو على خلاف مصلحته، ولكن وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا( ).
آثار الابتكار:
* هل يأثم المبتكر العالم إذا توفي واستُغِلَّ ابتكارُه وعلمُه في إيذاء البشرية وبغير الهدف السلمي الذي اخترعه لأجله ؟
- كلا، لا يأثم ذلك العالِم، فإن مثله مثل الذي يصنع السكين، فقد تستغلّ في الذبح الحلال، وقد تستغل لقتل الناس.
قراءة القرآن بالألحان:
* هل يجوز قراءة القرآن بألحان ؟
- لا يجوز للمقرئ أن ينفتح على التلحين أكثر من التدبّر في آيات القرآن الكريم.
دخول غير المسلم المسجد:
* هل يجوز لغير المسلم دخول المسجد لسماع محاضرة مثلاً؟
- يجوز ذلك، فقد كان الكفَّار يدخلون مسجد النبي(ص) ويسلمون عنده. وقد استقبل نصارى نجران في مسجده ورخّص لهم في إقامة صلاتهم داخله.
استحباب النذر:
* هل النذر عمل مستحبّ؟
- لم يثبت استحباب النذر إلاّ في حالة ظرف يمكن الرجوع فيه إلى الله، كما في حالة وجود مشكلة للإنسان، فينذر لله في حال حلّ المشكلة، وعند تحقّقه يجب الوفاء عليه.
حكم الصلاة على النبي(ص):
* عندما نسمع اسم النبي محمد(ص) أو الصلاة عليه، فهل تجب الصلاة عليه؟
- لا يجب ذلك، ولكنه مستحّب، وهو وفاء للنبي(ص) وتعظيم له.
نية القربة:
* هل نية القربة تعني التقرب إلى رحمة الله أم إلى ذاته؟
- نحن نتقرَّب إليه في حال العبادة، والتقرّب إلى الله لا يعني القرب المكاني، بل القرب بالعمل والروح والطاعة للحصول على رضاه سبحانه وتعالى.
طريقة الدفن بالبناء:
* في بعض دول الاتحاد السوفيتي السابق، يقوم الناس بدفن الميت بوضعه على مكان مرتفع، ويقومون بتغطيته بالحجارة، بسبب رطوبة الأرض، وعدم تمكنهم من حفر القبور، هل هذه الطريقة صحيحة أم لا ؟
- المهم أن يدفن في أعماق الأرض، فإذا صارت الحجارة التي غطي بها جزءاً من الأرض، والميت صار في أعماق هذه الحجارة، وارتفعت الحجارة بهذه الأرض، تعتبر دفناً في داخل الأرض، فلا يوجد مشكلة في ذلك عندئذٍ.
الكتب السماوية:
* لِمَ لا يجوز الأخذ بكتب الله السماوية غير القرآن الكريم، خاصّةً كتب المسيحيّة واليهوديّة، أليست هذه كتب الله، ونحن لله موحّدون؟
- تعرَّضت هذه الكتب للتحريف، ولذلك لم تبقَ على سلامتها، ولكن لا مانع من أن نقرأها؛ لأنها، ـ في الأصل ـ، كتب الله سبحانه وتعالى، وقد لا يكون كلّ ما فيها محرّفاً.
رأي في الحجاب:
* قرأت في كتاب (الحجاب) للشهيد مطهَّري، أن على المرأة المسلمة أن تتحجَّب أمام المرأة الأجنبية، ويقصد المرأة الأوروبية، ويعتبره واجباً شرعياً، بحجة أنها تنقل لإخوانها ما تراه من جمال المرأة المسلمة وزينتها، فهل هذا صحيح؟ لأنها إن صحَّت الفتوى هذه فإنها تسبب مشكلة لنا نحن المقيمات في أوروبا، وبالذات في علاقتنا مع الأجنبيات اللاتي نتواصل معهن؟
- رأينا أن المرأة لا يجب عليها أن تتحجَّب عن المرأة، سواء كانت مسلمة أو كانت كافرة، وقد كان نساء النبي(ص) لا يتحجّبن من قريباتهن المشركات.
الحكمة من الحجاب:
* حكمة الحجاب هي أن المرأة بالحجاب تصون وتحمي نفسها من المشاكل التي تواجهها في المجتمع، مثل التحرش من قبل الرجال، وما إلى ذلك، وعليها أن تخرج كإنسانة، لا كأنثى، هذا صحيح، ولكن إذا كانت هذه المرأة في بلد أوربي متطوّر، ولا يهتمون بما تلبس المرأة، وكيفما خرجت، فلا ينظرون إليها نظرة سيئة، ولكن إذا تحجبت، فسوف تواجه مشاكل عديدة، مثل منع تشغيلها في المجال الذي تريده، لأنهم يشكّون بأن تكون إرهابية، فهل تستطيع المرأة أن تضع حجاب الرأس فقط في مكان شغلها مع ستر بقية جسمها؟
- لا أعتقد أنّ القضية بهذا الشكل، ثم لا يجوز للمرأة أن تترك حجابها لكي تشتغل مثلاً، إذا أمكنها أن تتحجَّب بطريقة أخرى، فلا يوجد مانع من الجمع بين الأمرين: العمل والحجاب. وفي كثير من الحالات لا يكتفون بأن تكشف رأسها، بل يريدون أن تكشف صدرها، فما هو رأيكم؟! فهل تكشف صدرها؟! أو أن تخرج بلباس الموضة؟! نحن علينا أن لا نكون ضعفاء أمام الآخرين. ولذا عندما صارت أحداث 11 أيلول جاءتني أسئلة كثيرة من كثير من النساء والرجال، في أمريكا وغيرها، وقلت لهم: عليكم أن تكونوا أقوياء، ولذا الآن النساء المحجّبات يعشن بشكل جيد، وحتى إنه إذا منعت المرأة المسلمة من الحجاب في فرنسا، في المدارس الرسمية الفرنسية، لكنه في مدارس أخرى لا توجد مشكلة، وهذا موجود حتى عندنا، هنا في بعض المناطق الإسلامية، حيث لا يسمحون لها أن تعمل مثلاً، فيجب علينا أن نصبر على ذلك.
أمّا أنّهم في أوروبا لا يلتفتون إلى المرأة، ولا ينظرون إليها نظرة سيّئة، فهو غير صحيح؛ إذ إنّ هناك، في الغرب، إحصاءات مرتفعة لحالات الاغتصاب، مع أن الحرية موجودة هناك، ومع ذلك نلاحظ أنهم يتحدثون عن التحرش الجنسي الذي قد يحدث من قبل المدير بسكرتيراته، ومن قبل الموظفين بعضهم ببعض. نعم، المرأة إذا خرجت كإنسانة ومحتشمة، فإنّ النظرة إليها قد لا تكون نظرة اشتهاء؟
أب يشرب الخمر:
* إذا كان الأب مسلماً لكنه اعتاد على شرب الخمر في المنزل يومياً، فكيف تتعامل زوجته وأولاده معه، مع العلم أنه طيب القلب؟
- هذا الأب ليس طيب القلب، فلو كان كذلك، لما أساء إلى نفسه، لأنه بشربه الخمر يسيء إلى صحته أولاً، ويزيل عقله ثانياً، ويسيء إلى عائلته ثالثا، ويسيء إلى علاقته بالله سبحانه وتعالى رابعاً، وعليهم أن يشعروه بأنه يفعل أمراً غير مقبول عندهم.
الجلوس في الطرقات:
* على ضوء الحديث الوارد: ((إيّاكم والجلوس في الطرقات))، هل يعتبر جلوس الناس في المطاعم التي تستغل الأرصفة للاستقبال محرماًـ أم أن الشوارع والأرصفة ملك للعامّة يمكن لأيّ كان استخدامها؟
- إنَّ الطرقات لم تجعل للجلوس، ولا أن تكون فيها دواوين، بل إنّها وضعت حتى يسير عليها الناس. وأما الذين يفتحون المطاعم أو المقاهي في الأرصفة، فهم غاصبون، والغصب حرام، وذلك لأنّ الطرقات فتحت لتسير عليها السيارات، والأرصفة ليمشي عليها الناس، فهذا حق الناس، ولذلك يحرم على الإنسان أن يستغلَّ الأرصفة لتوسيع محله، أو أن يبني فيه مطعماً أو مقهى، أو ما شابه ذلك.
وجوب الحجاب:
* كيف يمكن إثبات وجوب الحجاب ؟
- القرآن الكريم أمرنا بذلك، قال تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ...( ). وقد وردت الأحاديث لتؤكّد ذلك في السنّة الشريفة.
رفض الزوجة الحجاب:
* ما هو الحلّ إذا رفضت الزوجة الحجاب ؟
- ليس هناك ربط بين الحجاب والزوجية، ولكن على الإنسان أن لا يتزوَّج إلاّ بالمحجّبة، أو التي يستطيع إقناعها بالحجاب. وعدم الحجاب يعتبر معصية، والإصرار عليها من الكبائر.
الكلام حالة الغضب:
* قد تسيطر حالة العصبية على الإنسان ويتفوَّه بكلام بذيء لأحد الوالدين عن غير قصد، فهل هذا حرام ؟
- يعتبر ذلك من العقوق، وعليه أن يستغفر الله ويسترضي والديه من ذلك.
ضرب الطفل:
* عندي ولد عمره 4 سنوات، مشاغب جداً، وكثير الحركة، ويلعب ببعض حاجات البيت، وأحياناً أضربه من أجل التأديب، فهل هذا الضرب جائز في هذا العمر ؟ أرجو نصيحتكم ؟
- هل استنفدت كلَّ الوسائل؟ علينا أن لا نعتبر الضرب الوسيلة الأولى والأخيرة للتأديب، بل علينا أن نفهم أولادنا، ونفهم نقاط ضعفهم، وما يحّبون، وما يرغبون، ثم بعد ذلك يكون من قبيل (آخر الدواء الكيّ)، وليسَ ضرب التشفّي، ولكنّه ضرب التأديب الذي يرصد حاجات الطفل في ذاته لما يُصلح حياته في المستقبل، على المستوى النفسي والاجتماعي وما إلى ذلك.
الغش في الدوائر الرسمية:
* هل يترتب على السكوت عن الغش والخداع والكذب للذين يغشون في الدوائر الرسمية في بلدان اللجوء أي حكم شرعي ؟
- لا يجوز الغش لأي أحد. وقد ورد النهي عن الغشّ في كلّ الأمور كمظهر لإسلام المسلم.
ارتداء المرأة البنطال:
* ما هو حكم ارتداء المرأة البنطال من دون العباءة؟ أرجو أن يكون الجواب مفصَّلاً لحساسية الموضوع ؟
- بالنسبة إلى الحجاب، لابدَّ أن تخرج المرأة بلباس محتشم، وأن تخرج إنسانة لا أنثى، فإذا لم يكن لبس البنطال مثيراً بحسب العرف العام، كما لو كان عريضاً ويتدلى عليه قميص عريض بحيث لا تتجسَّم المرأة، فلا يوجد مشكلة شرعيّة في ارتدائه. أما إذا كان مثيراً، مثل اللائي يلبسن البنطال الضيق الذي يجسِّد أعضاء المرأة، فلا يجوز ارتداؤه.
الكذب لحلِّ المشاكل:
* هل يجوز الكذب لحلِّ مشكلة؟
- إذا كان الكذب لإصلاح ذات البين، فإنه لا مانع من ذلك، أو للتخلص من ظالم يريد أن يقتله، أو يسجنه، وما إلى ذلك، فيجوز، حتى ورد عندنا: ((احلف بالله كذباً ونجَِّ أخاك من القتل))، إذا كان نجاة المؤمن من القتل يتوقف على الكذب.
التحاكم أمام المحاكم غير الشرعية:
* إذا كان الشخص لا يخضع للحكم الشرعي في المرافعات الحقوقية، فهل يحق لي أن أنقل المرافعة إلى المحاكم غير الشرعية للحصول على حقي؟
- إذا توقَّف تحصيل الحق الثابت للإنسان على أن يرفع أمره إلى المحاكم غير الشرعية، فيجوز ذلك.
العمل مع الاحتلال:
* هناك جدل في العراق حول العمل مع الاحتلال في المجال الأمني والعسكري والترجمة وغيرها… كما في المساهمة والعمل في بناء القواعد العسكرية؟ أرجو البيان والتوضيح.
- نحن أصدرنا فتوى تقول إن العمل مع الاحتلال في الخدمات الإنسانية للشعب العراقي جائزة، أما كل ما يقوّي الاحتلال فلا يجوز.
حكم الهزل:
* تعرَّضت إلى سخافات ما يسمى ب(الكاميرا الخفية)، مع أني مريض بالضغط، وأُرهبت حينها، فهل يجوز ذلك شرعاً في سبيل إضحاك بعض الناس على حساب البعض الآخر؟
- لا يجوز ذلك بهدف السخرية والاستهزاء بالناس، بأي طريقة من الطرق، وهذه الأساليب محرَّمة شرعاً، وربما تصل إلى الكبائر.
الاقتصاص من ربِّ العمل:
* أعمل في مكان، ولي في ذمة صاحب العمل، مبلغ من المال لا يعطيني إياه منذ مدة طويلة، فهل يجوز لي أخذ المال من الدخل من دون علمه؟ وإذا أخذته، وبعد مدة أعطاني إياه، فما العمل؟
- لا نفضّل لك أن تأخذ من دون أن يعلم، ولا سيّما إذا كنت تأمل أن يعطيك إيّاه بعد ذلك. وعلى كلٍ، فلو فعلت ذلك، وأعطاك المبلغ فيما بعد، فإنّ عليك أن ترجع ما أخذته بطريقة وبأخرى.
حكم صور محجّبة بدون حجاب:
* أختي محجّبة حديثاً، ولها صور معروضة في بطاقة وهي غير محجّبة، فما حكم ذلك عندما يراها جميع الناس؟
- لا مشكلة في ذلك.
لعب الورق بالحاسوب:
* ماذا تقولون في اللعب بألعاب الحاسوب، كلعب الورق الموجود فيه؟
- نحن نرى أن اللّعب بالأوراق، سواء في الحاسوب، أو بالورق المعروف، إذا كان للتسلية ولم يكن هناك ربح، فهو حلال. نعم، على الإنسان أن لا يضيعِّ وقته في الاستغراق فيها، ليشغله ذلك عن واجباته ومسؤولياته الدينية والعملية والعائلية.
الوصيّة والإيصاء:
* ما الفرق بين الوصيّة والإيصاء؟
- ربما يراد منها معنى واحد، والوصيّة تفيد نفس المضمون الموصى به، والإيصاء يفيد معنى صدور مضمون الموصى به من الشخص.
دراسة القانون:
* هل يجوز تعلّم ودراسة القانون الوضعي (المحاماة)؟ وهل يجوز أيضاً العمل في القضاء؟
- بالنسبة إلى ممارسة المحاماة لا مانع من ذلك، إذا كان يدافع عن الحق، لا عن الباطل، وكذلك القضاء إذا كان يقضي بما حكم الله سبحانه وتعالى.
الاعتداء على أصنام الأديان الأخرى:
* يقول علماؤنا إنه لا يجوز للمسلم أن يكسر أصنام الأديان الأخرى، كالبوذية، ألا يخالف هذا أمر الرسول(ص) الذي أمر المسلمين أن يكسروا الأصنام عند فتح مكة؟
- هذه النقطة أثيرت في مسألة تهديم نظام طالبان في أفغانستان لتماثيل بوذا. وهذه التماثيل تارةً تُعبد من دون الله ولها جماعة، وما إلى ذلك، فعند ذلك يجوز كسرها لمنع عبادتها، وتارةً لا تعبد، حيث أصبحت أشياء تاريخية، من قبيل الأمور في المتاحف وما إلى ذلك، حينذاك لا يجب كسرها، خصوصاً إذا أدَّى إلى بعض العناوين السلبية على الواقع الإسلامي في العالم، عند ذلك يصير هناك عنوانٌ ثانويّ يمنع من ذلك.
أصالة عدم التذكية:
* قرأت في كتاب (الفقه): أنه لا يجوز أكل اللّحم مشكوك التذكية، ويوجد عندنا حديثٌ يقول: ((كلُّ شيء لك حلالٌ، حتى تعلم أنه حرام))، والسؤال: لماذا لا يجوز أكل اللحم المشكوك التذكية، مع أن المشكوك لا تعلم حرمته ؟
- لأن هناك أصلاً شرعيّاً، وهو أصالة عدم التذكية، ومعناه: إذا شككنا في أنَّ هذا الحيوان ذكّي أو لا، فنحكم بأنّه غير مذكّى. وهذا الأصل يقوم على أساس أنّ العنوان المبيح للأكل هو "التذكية"، وذلك قوله تعالى: إلاّ ما ذَكَّيْتُم( ). وعندئذٍ نقول: لم يكن هذا الحيوان مذكّى سابقاً، ونشكّ: هل عرضت عليه التذكية أو لا؟ فنستصحب عدم التذكية المعلوم للحال المشكوك، فيثبت موضوع الحرمة، وأنّه ليس مذكّى.
نبات منشط:
* هناك نبتة معيّنة يؤدّي تناولها إلى إحساس بالنشاط الذهني والبدني بشكل فوق العادة، وقد تؤدي أيضاً إلى بعض الأرق في الليل عند محاولة النوم، وإلى بعض الضعف في الشهية، ما هو حكم تناولها؟
- يجوز تناولها من حيث المبدأ، لكن إذا أوجبت ضرراً، فلا يجوز.
أسرار الناس:
* هناك أخبار وروايات في كتب التَّاريخ تتحدث عن أسرار الناس، وبعضها تتحدث عن عيوبهم ومساوئهم، ما هو المسوّغ الشرعي لنقلها، خصوصاً وأن ذكر هذه المعلومات لم يكن في مقام الشهادة، وأصحابها لم يكونوا متجاهرين بها؟
- إذا كانت هذه غيبة للناس، حتى الأموات، فلا يجوز ذلك.
السجود لغير الله تعالى:
* إن السجود لغير الله تعالى لا يجوز وهو محرّم، ولكن ألا تعتقدون أن هناك بعض الممارسات تتعدَّى السجود في تعظيم بعض الأولياء والصالحين، مثل أهل البيت(ع) والصحابة، سواء من الشيعة أو من السنة، ما رأيكم بهذه الممارسات دون ذكرها؟
- إن كل تقليد أو كل سلوك لا يكون بحسب طبيعته التوحيدية إلاّ لله تعالى، لا يجوز لنا أن نقدِّمه للعبد.
حرمة التدخين:
* يفتي أكثر العلماء بحلية التدخين، وأنه أحد المفطرات، ولكنكم أفتيتم بعكس ذلك، نرجو توضيح الأسباب ؟
- أنا أفتي بحرمة التدخين، لأن عقلاء العالم كلّهم يقولون إن التدخين مضرّ، والله يقول: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا( ) يعني كلّ ما كان ضرره أكثر من نفعه، فهو حرام، وقد أجمع أهل الخبرة، بأنَّ التدخين مسؤولٌ عن سرطان الفم والرئة والحنجرة، وربما الكبد، يعني أنه مميت، فلا يجوز للإنسان أن يعرِّض نفسه للخطر، والله تعالى يقول: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ( ) ولو اطلعنا على الإحصاءات الغربية في قضية الذين يموتون من التدخين، لرأيناها إحصاءات مهولة، ولذلك منعوا في الغرب التدخين في الأماكن العامة، حتى إنهم منعوا التدخين على شاطئ البحر لأنه يلوِّث البيئة، فإذا ثبت أن التدخين يمثل خطراً على الجسم وبنسبة كبيرة. ولكنه، مع ذلك، ليس مفطراً، وإن كان حراماً، لأنه ليس أكلاً ولا شرباً، تماماً كالدخان الذي تتعرض إليه ممّا يتصاعد من المداخن أو السيّارات أو من تحضير الطعام، وما إلى ذلك. ونحن نرى أن الدخان حرام، وتتضاعف حرمته في شهر رمضان لضرره على الجسد أولاً ، ولأن فيه هتكاً لحرمة الشهر ثانياً، ويأثم متناوله بذلك، ولكن لا يفطر. ونحن نقول إنّ كلَّ ضرر للجسد حرام، ولذلك حرَّمنا ضرب الرأس بالسيف، واللطم الذي يضر بالجسد، أما اللطم الهادئ الذي يوحي بالحزن فلا مشكلة فيه، ولكن اللطم العنيف لا يجوز، والله سبحانه وتعالى لم يسلِّطك على جسدك لتضرّ به.
تأديب الأخوة:
* أنا شاب في السادسة عشر من العمر، وأنا أكبر الأولاد عند أهلي، ألا يحق لي معاقبة أخوتي إذا أخطأوا؟
- لست ولياً عليهم. الأب هو الولي فقط. ولذلك، فلا يجوز لك ذلك، إلا إذا استأذنت أباك وكان التأديب ـ أيضاً ـ من دون ضرر بالغ.
حلق اللحية:
* نرجو التوضيح في مسألة حلق اللحية، وهل صحيح أن الذي يحلق لحيته هو فاسق ولا تقبل شهادته ؟
- رأينا حلية حلق اللحية بشكل طبيعي، وإن كان الأفضل والأحوط استحباباً إبقاؤها لأنها من شعائر الإيمان، ولذلك فالذي يحلقها، بناءً على ذلك، ليس فاسقاً.
الشك تجاه الآخرين:
* أنا شابٌّ ملتزم، ولكن هناك رجل دين أشكُّ في مدى صدقه، فما الذي يتوجَّب عليّ عمله، كي لا أظلم هذا الرجل؟
- إذا كنت غير مطمئن إلى عدالته، فعليك أن لا تصلّي خلفه، ولكن أيضاً عليك إذا لم يثبت لديك الجانب الآخر، وهو الانحراف، أن لا تذكره بسوء.
الإصرار على الصّغائر:
* هل الحديث القائل إنّ الإصرار على الصغيرة يصبح كبيرة، حديث مقطوع بصحته ؟
- هذا أمر طبيعي؛ باعتبار أن الإصرار على الصغيرة معناه الإصرار على ما فيه غضب الله سبحانه وتعالى وسخطه، وأي كبيرة أعظم من ذلك، أن يصرَّ الإنسان لسنة أو سنتين على صغيرة، فهذا يؤدِّي إلى أن تصبح كبيرة، من خلال دلالتها على التمرّد على الله، على الرّغم من علمه بأن ذلك موضع غضبه تعالى. وهذا الحديث مشهور.
حلّ الخصومة بالصلح:
* متخاصمان يريد أحدهما الصلح بينما يرفضه الآخر، فهل يأثم الطرف الأول؟
- كلا، لا إثم عليه، لأنه أدَّى ما عليه من طلب الصلح، فقد أدَّى واجبه.
حكم الوشم على البدن:
* هل الوشم على اليد حرام؟ ولماذا؟
- ليس حراماً، لكنه تخلّف. لماذا يجعل الشخص جسمه معرضاً للصور؟! فإذا كان أحد مثلاً يقول إني أرسم كلمة (علي)، فليرسمها في قلبه وفي عمله من خلال ما يمثّله عليّ(ع) في هذا المجال، ولا يرسمها على بدنه. وإذا كان يريد أن يرسم شيئاً آخر، فربما يكون حراماً، كما لو كان فيه تشجيع على الحرام، كرسم صور الفنانين والفنانات. وعلى كلّ حال، فالوشم ليس حراماً من حيث المبدأ.
قاعدة التّسامح في أدلّة السنن:
* هل لقاعدة (التسامح في أدلة السنن) حدود؟ وإذا كان لها حدود فما هي هذه الحدود؟
- هي قاعدة لا أساس لها في ميزان الحجّية؛ إذ ليس معنى ذلك أنَّ الأدلة الضعيفة تكون حجّةً كما تفيده قاعدة (التسامح في أدلة السنن)، وإنما ورد عندنا: ((من بلغه عن رسول الله ثواب على عمل، فعمله، كان له ذلك، وإن كان رسول الله لم يقله)) يعني أنّ الإنسان الذي يسمع أن هذا العمل له ثواب فيعمله رجاء الثواب، فإن الله يثيبه على انقياده في احتمال الطاعة، وليس معناه أنه يجعل الرواية حجة في هذا المقام.
إجبار الزوج زوجته على خلع الحجاب:
* امرأة تعيش مع زوجها في إحدى الدول الغربية، وهي ملتزمة بالحجاب، وقد قام زوجها بإجبارها على ترك الحجاب بالقوّة، وهي الآن تسأل: ما هو الحكم الشرعي تجاهها؟ هل هي مسؤولة أم زوجها؟ هل تُطَلَّق وهي أم لطفلين؟ وإذا بقيت مع زوجها على هذا الحال، فهل يجوز لها أن تحج بيت الله الحرام، وبعد رجوعها من الحج تبقى بدون حجاب؟
- المسؤوليّة عليها وعلى زوجها أيضاً، وعليها أن تتمرّد عليه في ذلك. نعم، إذا وصلت إلى حالة الحرج الشديد، فيمكن أن تخدعه، بأن تلبس (باروكة) شعراً مستعاراً، علماً أنّنا لا نجوّزه في الحالات الاختيارية، بل في الحالات الاضطراريّة الّتي يدور الأمر فيها بين أن تكشف المرأة شعرها الأصلي الذي لا يجوز كشفه، وبين أن تكشف هذا الشعر المستعار الذي يستر الشعر الأصلي. وقد قال تعالى: فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ( ). وإذا استطاعت الحج، فلا فرق، لأن الحج واجب على المرأة، سواء كانت سافرة أو محجَّبة.
دراسة القوانين الوضعية:
* في رسالتكم العملية المختصرة (أحكام الشريعة)، ذكرتم أنه ليس هناك مانع شرعي في دراسة الحقوق وفق القوانين الوضعية، وأنه لا مانع من العمل بمهنة المحاماة ضمن بعض القيود والشروط التي ذكرتموها. فهل يجوز تعلم هذه القوانين؟ والاحتجاج بها أمام المحاكم الشرعية؟
- يجوز تعلّم كل علم، حتى علم الكفر، فإنه يجوز للإنسان أن يتعلمه حتى يستطيع أن يرد على الكفرة. وإذا توقف إنقاذ إنسان ما أو إعطاؤه حقه ممن يأخذه، على استخدام القانون الوضعي في ذلك، والمفروض أن هذا الإنسان الذي تدافع عنه يستحق ذلك شرعاً، فيجوز أن يحتج الإنسان بهذه القوانين الوضعية في المحاكم.
العمل بالمحرَّم اضطراراً:
* ظروف العراق القاسية، فرضت علينا اللّجوء إلى أمريكا، وأنا الوحيد الذي أعمل للعائلة، لم أجد عملاً إلا في المخازن الكبيرة التي تبيع كل شيء حتى الخمور، اضطررت أن أعمل فيها، حاولت الرجوع مع عائلتي إلى العراق، فلم أستطع، أتيت إلى سوريا، فلم أجد عملاً بتاتاً، حاولت السفر إلى إيران فلم أحصل على سمة دخول، تركت العمل في المخزن مراراً وتكراراً، ولكني لم أجد عملاً بديلاً عنه، فهل عملي الاضطراري في هذا المخزن فيه إشكال؟ وإذا كان فيه إشكال، فماذا أعمل؟
- الإنسان إذا كان بهذا الشكل من الاضطرار، فعمله في غير الخمر جائز، لأنه عمل في الأشياء الأخرى المباحة، أما في الخمر فطبعاً غير جائز، لكن مع الاضطرار يجوز، ولكن عليه أن يقتصر على مقدار الضرورة.
تعليم البنات الرياضة العنيفة:
* لي أخت عمرها 6 سنوات تماماً، وأودّ تعليمها رياضة الكاراتيه، فهل هذا يؤثر على أنوثتها؟ وما الحكم في ذلك؟
- لا توجد مشكلة في ذلك، بل ربما تحتاج المرأة في هذه الأيام، ونتيجة لاحتمال تعرّضهنّ للاعتداء بسبب ضعفهن، إلى أن تتعلم ذلك لكي تستطيع الدفاع عن نفسها؛ بل ربما كانت الحاجة لديها في ذلك أكثر من حاجة الرجال، ولكن مع الالتزام بالحدود الشرعية بطبيعة الحال.
آداب اجتماعية:
* هل من السنة النبوية الشريفة القيام (وقوفاً) إذا دخل عالم ما أو أي شخص إلى المجلس؟
- كلا، لم يُنصّ على ذلك، ولكن المسألة تتبع تقاليد الاحترام في المجتمع، فربما يكون من احترام هذا الشخص المميَّز بأن يقوم الناس له، وربما نجد في بعض المجتمعات من لا يعتبرون القيام احتراماً، أو ترك القيام إهانة، وهذا يتبع كل مجتمع في عاداته وتقاليده.
مخالفة العهد:
* شخص عاهد الله عهداً ، ثم لم يلتزم به، فهل تجب عليه الكفَّارة؟
- نعم، تجب عليه الكفَّارة، إما بإطعام 60 مسكيناً، أو بصيام شهرين متتابعين.
الحدود الشرعية بين الرجل والمرأة:
* هل يجوز لطالب العلوم الدينية أن يقيم علاقات صداقة وأخوّة مع فتيات مسلمات ملتزمات، وضمن الضوابط والحدود الشرعية؟
- هو ليس محرّماً في ذاته. ولكن كيف يمكن للشاب والفتاة أي يحفظا الحدود الشرعية؟ ومعلوم أن الشيطان يدخل في ذلك كله. ولا نريد أن نستدل على الجانب الشرعي بذلك، ولكن يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ
وهذا ممّا نخشاه ونحذّر منه في ذلك.
الذبح الآلي للحيوان:
* للتطوّر الحاصل في تربية الدواجن، تقوم بعض المزارع بذبح كميات كبيرة من الدجاج بصورة مكيانيكية، فهل يؤكل هذا الدجاج؟ وهل يعتبر ضمن الشروط الشرعية للذبح؟
- إذا قطعت الأوداج الأربعة مع التسمية بذكر الله، فيجوز ذلك.
البر بالوالدين:
* البر بالوالدين واجب، ولكن قد يرتكب الوالدان خطأ بحق أبنائهم بتوجيه كلام جارح لهم أو تأديبهم أمام الآخرين، فما نصيحتكم في ذلك؟
- النصيحة هي أن يحسنوا الحديث مع أبنائهم وأن يتفهّموا تفكيرهم الذي قد يكون هو تفكير الآباء عندما كانوا في نفس تلك السنّ.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
* فتاة تبلع من العمر 13 سنة، كيف لها أن تُطبِّق الأمر بالمعروف تجاه من هو أكبر منها سناً؟
- لعلّ من الواقعيّ أن تطبقي ذلك ممن هم في مثل سنّك أو أصغر منك. وما لم يكن فيه احتمال التأثير، فلا يجب عليك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه.
الموضة الشبابية:
* نحن في القطيف والخليج بشكل عام، ازدادت عندنا مظاهر التشبه بالغرب، من قصات الشعر، واللباس القريب من لباس النساء، فهل هذا يظل تحت دائرة العرف أم هو حلال؟
- هذا يتبع العرف العام بطبيعة الحال، ولكن الأفضل للإنسان أن يحترم هويته، وأن لا يبتعد عنها في اللّباس وغيرها، ونلاحظ أن الغربيين لا يتشبهون بنا أو بما نقوم به.
الحجاب من زوج الأخت:
* أخت زوجتي ترفض الحجاب مني، من باب أنني محرّم عليها، ما دامت زوجتي على قيد الحياة، أو متزوّجة بي، علماً أن هذه الحالة منتشرة في معظم الدول الإسلامية من العراق إلى المغرب، فهل لهذه الظاهرة أساس شرعي، وهل يجوّز بعض العلماء هذه الظاهرة؟
- ربما يكون في اعتقادهم أن أخت الزوجة لا يجوز للزوج أن يتزوَّجها باعتبار أنها من المحارم. والمسألة ليست كذلك؛ لأن المحرّم هو الجمع بين الأختين، ولذلك لو فرضنا أنه طلَّق زوجته مثلاً، فيجوز له أن يتزوَّج أختها بعد انتهاء العدة، وهي ليست من المحارم. قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ( ).
السمك المستورد:
* هل يجوز أكل السمك الذي يأتي من بلاد الكّفار، إذا كان له فِلْس؟
- نعم، إذا كان له فلس، أي قشر، يجوز أكله، لأن طريقة الصيد ـ حسب ما هو المعروف في تلك البلدان ـ هي طريقة شرعية.
الصّيد بالبندقية:
* هل يشترط في الصّيد بالبندقية قبل إطلاق النّار على الطائر قول كلمة: (بسم الله)؟
- نعم، قال تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه( ) فكلوا مما ذكر اسم الله عليه( )، سواء بطريقة الذبح أو بطريقة الصيد.
مشاهدة برامج غير أخلاقية:
* ما حكم مشاهدة بعض البرامج الثقافية التي تناقش مواضيع مثل أغاني تثير الشذوذ الجنسي، علماً أنها تعرض الأغاني في البرنامج؟
- لا يجوز الاستماع إلى الأغاني المثيرة للغريزة الجنسية.
برامج مخلّة بالأخلاق:
* هل يجوز للمرأة مشاهدة فيلم فيه لقطات مخلّة بالآداب، من رقص أو غيره؟
- إذا كانت مخلّة بالآداب وتوجب فقدان المناعة الأخلاقية، فلا يجوز ذلك.
خواتم عليها أسماء الأئمة(ع):
* هل نستطيع أن نلبس خواتم مكتوب عليها أسماء المعصومين في كلِّ الأحوال؟
- يجوز ذلك، لكن إذا كان المكتوب عليها من أسماء الله، فطبعاً يحتاج الإنسان اللامس لها أن يكون على وضوء.
مأكولات البحر:
* هل يجوز أكل الكائن البحري الذي يسمى أم الروبيان، وسرطان البحر، والجري، وما إلى ذلك؟
- رأينا على الأحوط وجوباً عدم جواز أكل كلِّ سمك لا فلس له، يعني لا قشر له.
استماع التواشيح الدينية:
* هل يجوز سماع التواشيح الدينية والأناشيد الإسلامية المشبعة بآلات الموسيقى، كما هو سائد الآن؟
- يجوز ذلك، لأننا نرى أنه إذا كان مضمون النشيد، أو مضمون الأغنية حقاً، فيجوز ذلك.