النـدوة
آية اللّه العظمى
السيد محمد حسين فضل الله
النـــدوة
سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق
محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة
إعداد: عادل القاضي
الجزء الخامس عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
اهتمام (الندوة)بـ(المرأة)
متى بدأت العلاقة الفكرية والثقافية والتربوية بين سماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله – دام ظله – وبين المرأة؟
إذا لم تخنّي الذاكرة.. من حين انتقاله من النجف إلى بيروت.. فالمشروع الاجتماعي الذي كان يحمله سماحته في بواكير نهضته الثقافية لم يكن ذكورياً بحتا، كانت المرأةُ تشاطر الرجل في جني قطافه، وقد وضع في ذهنه باكراً أنّ الرحلة أطول من الألف ميل، وأن الخطوات الأولى الممهدة قائدة إلى الهدف الذي لم يكن بعيداً عن مرمى البصر أحياناً.
التقاها في المساجد التي عمرت بالجنسين من المتطلّعين إلى إسلام يخاطبهم بلغة العصر.. والتقاها في المنتديات الثقافية الجامعية والعامّة، ورحّب بأسئلتها في الندوات المفتوحة أو في اللقاءات الصحفية والمتلفزة، أو في ما يشغل بالها واهتمامها في اطروحاتها للدراسات العليا، أو فيما تنبري له من حوارات فكرية تخصّ شؤون المرأة المتشعبّة، كما حصل في كتاب (دنيا المرأة)، هذا فضلاً عن إفراده دراسات خاصّة عن المرأة كما في كتابه (تأملات إسلامية حول المرأة) و(مدخل لقراءة فقه المرأة الحقوقي) و(المرأة في دورها الرسالي).
حتى في مواسم الحج حينما يلتقي القوافل النسوية في مكة والمدينة ليفتح قلوبهنّ على ما يريد أن يفتح عقولهن له وعليه، يبقى موضوع المرأة الذي شغل المسلمين وغير المسلمين محطّ اهتمام سماحته، ولا أريد أن أصفه بالمدافع والنصير عن المرأة، وإنّما هو المسؤول الإسلاميّ عن التعريف بقيمة المرأة من جهة، وبالقيم التي تنتشلها من وهدة التخلف الذي القته بها قيمُ المادية الضحلة، والذكورية المتسلّطة، والأخرى المستوردة المأخوذة على عواهنها دون تهذيب أو تشذيب أو حتى إعادة ترتيب.
في (ندوة السبت) – كما في غيرها – كانت المرأة حاضرة منذ البدء.. كانت هناك قاعة مخصّصة للنساء ترتبط بالقاعة التي تجري فيها الندوة بقناة تلفازية، وكانت أسئلة المرأة – خاصة الفقهية والتربوية والاجتماعية – تشكلّ جانباً مهمّاً من جوانب الندوة، ودونكم مجلداتها فراجعوا.
ومن موارد العناية بالشؤون النسوية في (الندوة):
1. اغتنام فرص وذكريات الولادة والوفاة لأعظم عظيمتين عرفهما التأريخ الإسلامي بل والإنساني أيضاً: فاطمة الزهراء(ع) وزينب بنت فاطمة(ع) ليتركز الحديث في هذه المناسبات لا على خصائص المرأة القدوة فحسب، بل على مشاكل المرأة المعاصرة أيضاً.
2. توظيف مناسبة (عيد الأم) للحديث عن هذه المرأة التي ربّت أجيالاً من الصالحين، ووقفت وراء ومع رجال عظماء إن أشّر التأريخ بسبّابته لأحدهم قرن إشارته إليهنّ.
3. الاحتفاء بذكرى ولادة البتول العظيمة مريم بنت عمران(ع) في ذكرى ولادة ابنها السيد المسيح(ع) تعظيماً للعفّة، وإجلالاً للصلاح، وإكباراً للمرأة التي تجاهدُ في عبادتها من أن أجل أن تكون إنسانة الله.
4. التعاطي مع شؤون الأسرة المختلفة سواء في الحياة الزوجية، أو تربية الأولاد، أو المشاكل التي تتهددّ الأسر بين أحضان الوطن أو في منقلبات الغربة.
5. التأصيل ل(فقه المرأة) من خلال البحث المستند إلى الأدلة الشرعية في النظر إلى مسائل المرأة، سواء في استقلالية شخصيتها القانونية والشرعية، أو في حريتها بالعمل، أو في حقوقها التي أقرّها الإسلام وهدرها التخلّف وسنيّ البعد عن الإسلام، أو فيما يثار حولها من شبهات وإشكالات في شأن الستر الشرعي (الحجاب) أو العلاقة بين الجنسين، أو العنف ضد المرأة، وقد أشبع بعض العناوين بحثاً حتى صارت المرأة التي تتردّد على مجالس الندوة تحفظ له أقواله التي يصوغها على شكل شعارات حتى يسهل تداولها والتعاطي معها، كما في قوله لمن هو على أهبة الزواج: هذه زوجتك في الجسد وأختك في الله!
ولأن الحديث عن المرأة في الندوة واهتمام الاثنين ببعضهما البعض طويل وذو شجون لا تسعه مساحة هذه المقدمة، راعيت أن أفعل ما فعلته في المقدمة الخاصّة بشؤون الشباب، وهو أن أحصر الاهتمام بوصايا سماحته ونصائحه للمرأة بالإضافة إلى العناوين العريضة والبارزة في حياتها كمكانتها، وتعليمها، وعقلها وتدبيرها وحجابها، وعلاقتها بأسرتها، وعملها خارج البيت، وبالتالي تغيير الذهنية الاجتماعية حول المرأة، مع ضرورة إلفات النظر إلى أنّ نصائح السيد وتوجيهاته لم تنطلق من عقلية مكتبّية أو تجريدية محضة، وإنّما هي استيحاءات لواقع عاشه سماحته عن قرب قريب، وعايشه عن بعد قريب، وأعني به لقاءاته مع النسوة القادمات من المهاجر والمغتربات، أو ما كان يتحدث به إليهنّ في مواسم الحج، أو عبر التسجيلات المرئية والمسموعة اللائي كنّ يفتتحنّ بها مؤتمراتهنّ، أو ملتقياتهنّ الدورية أو السنوية.
أولاً: مع العظيمات:
1. مع الزهراء(ع):
كيف نحتفي بالزهراء(ع)؟
يجيب سماحته قائلاً: «إن حزنَ الزهراء(ع) كان حزنَ الرسالة، وإن وقفت من خلال القضية ومن خلال الإسلام، فإذا أردتم أن تحتفلوا بالزهراء فليكن احتفالكم بها احتفالاً بكل هذا الجو الرسالي المنفتح على كل حياتها.. الزهراء ليست دمعةً إنها موقف.. الزهراء ليست حزناً إنها الرسالة.. حتى ونحن نحزن عليها نفرح بها.. حتى ونحن نبكي عليها نبتسم لها.. الله أرادنا – أيها الأحبة – ونحن في حركة الرسالة أن نكون كما قال الشاعر (يغصُّ بالدمعِ وهو يبتسمُ)، الرسالةُ فيها فرحٌ وفيها حزنٌ.. الرسالة فيها راحةٌ وفيها تعبٌ، فلنكن مع كل عظمائنا رجالاً ونساءً من حيث كانوا مع الرسالة.. ذاتهم ذاتٌ رسالية، فلننطلق مع ذاتهم الرسالية لا ذاتهم الشخصية، وإن كانت الرسالة قد امتزجت بالذات أيضاً».([1])
ب) المسؤوليات الرسالية
وفي ذكرى الزهراء(ع) ينادي سماحته بالقيم الحيّة، فيقول: «لن تكونوا رساليين إذا حولّتم الرسالة إلى مهنة ولم تعيشوها رسالة وقضية، ولن نكون رساليين إذا لم نحب الناس الذين يعيشون كساحة لحركة رسالتنا «الجار ثم الدار» وهكذا نجد في حياة الزهراء الحركية إنها كانت بالرغم من كل أثقالها البيتية تتحسس مسؤولياتها الثقافية في التحدث إلى نساء المسلمين بكل ما يهم الإسلام أن يبلّغ إلى المرأة من تعاليم ومن وصايا. وهكذا كانت لها جلسات متعددة، حتى أنّ صاحب (دائرة المعارف الإسلامية) يروي أنها كانت لديها أوراق مما تلقيه على النساء فافتقدتها وقالت لخادمتها: «إبحثي لي عنها فإنها تعدل عندي حسناً وحسيناً» وإذا صحّت هذه الرواية فإنها تدلُّ على مدى الأهمية التي تعطيها الزهراء(ع) للمسألة العلمية.
وهكذا عاشت مسؤوليتها الحركية عندما اختلف المسلمون في تلك الفترة. وكانت أول امرأة تواجه القضايا التي اختلف فيها الناس بالمنطق، وبالموقف الصلب، وبالحوار، وبالدعوة إلى الحوار. لذلك فعندما ندرس شخصية الزهراء(ع) فإننا نجد أنها تمثل في كثير مما عاشته ومما انطلقت فيه ومما دخلت فيه ساحات المواقف الشرعية والكثير من أساليب العمل النسائي في عصرنا هذا.
لننطلق ولنأخذ من إيجابيات هذه المرأة العظيمة في حياتها الحركية كما نأخذ في أكثر من نموذج من نماذج النساء المسلمات حتى نستطيع أن نصل إلى مرحلة يتكامل فيها الرجال والنساء في المجتمع الإسلامي فلا تكون المرأة كمية مهملة على هامش الواقع الثقافي والسياسي والاجتماعي. والله يقول )وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ(. أولياء في التعاون وأولياء في النصرة وأولياء في التكامل )يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ((التوبة:71) وذلك هو درس الإسلام في ذكرى الزهراء(ع)»([2]).
ج) استعادة المثل الأعلى:
وفي النظرة إلى سيدة نساء العالمين على أنها القدوة والمثل الأعلى لكل النساء والرجال، يقول سماحته: «عندما نستعيد الزهراء فإننا نستعيد ذكرى المرأة التي جسّدت أعلى مثل للمرأة المسلمة في مواقعها كلّها.
من خلال ذلك كله نريد للمرأة كما للرجل أن يعيشوا روحانيتها ومسؤوليتها، وأن يعيشوا حركيتها، وأن تعرف المرأة من خلال فاطمة أولاً، ومن خلال زينب ثانياً أنّ لها دوراً في الصراع السياسي على أساس خط الإسلام، وهذا ما عبّر عنه القراّن الكريم: )وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ((التوبة:71)، فالمرأة إلى جانب الرجال، والمؤمنون إلى جانب المؤمنات يأمرون بالمعروف الذي ينطلق من خلال يد تتحدى، وكلمة تثور، ومن خلال قلب يرفض.. أمرٌ بالمعروف العقيدي، والًمعروف الشرعي، والمعروف السياسي، وأمرٌ بالمعروف الاجتماعي والحربي والسلمي، كما هو نهي عن المنكر في ذلك كله.
فإذا كان دور المؤمنين والمؤمنات هو التكامل والنصرة والمعونة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا كانت سعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حجم كل نشاط إنساني سلباً أو إيجاباً، فهل يمكن لنا أن نقول إنه لادور للمرأة في حركة الصراع؟
إن الأمومة عظيمة جداً، وهي قيمة إسلامية، والأبوة عظيمة جداً، وهي قيمة إسلامية، فمسؤولية المرأة في الأمومة لا بد أن تكون كاملة بحكم ما أرادها الله لها وجوباً أو استحباباً، وتبقى مسؤوليتهما كمؤمنين وكمسلمين أن يسيرا في خط الله ولا ينحرفا عنه )وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا(، في الدعوة وأمراً في الجهاد وأمراً في الحركة وأمراً في العلاقات )أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ((الأحزاب:36).
هكذا كانت فاطمة، وهكذا يجب أن يكون المؤمنون والمؤمنات وذلك هو معنى الذكرى»([3]).
د) سبل الاقتداء بها(ع):
وفي هذا المجال تطرح إحدى الأخوات السؤال التالي: هل يمكن أن تذكروا لنا أهم صفات الزهراء(ع) التي يمكن للنساء أن يقتدين بها؟
فيجيب سماحته: «لعل من أولى الصفات التي تتصل بالحياة العملية والعائلية للمرأة هي أن على الفتاة التي يعيش أبوها رسالةً في الحياة أن تعيش معه لتعطيه من روحها روحاً، ومن حنانها حناناً، ولتنفتح عليه. وأن تعيش مع أمها وأبيها إخلاص البنت في كل الطهر الذي تعيشه والعاطفة التي تغدقها كما كانت فاطمة(ع) تعيشها لأبيها عندما كانت مع أبيها بعد أن فقد زوجته، أمها (خديجة الكبرى) حتى إنّ النبي(ص) قال عنها أنها (أم أبيها) ويمكن الإقتداء بها في إخلاصها لبيت الزوجية واعتبار حركة المرأة في البيت رسالة لاتمثل نقصاً في شخصيتها أو في واقعها.
فلقد كانت الزهراء(ع) تقوم بأعباء وشؤون البيت من صنع الغذاء والرعاية، ولذلك كانت زوجة كأفضل ماتكون الزوجات، وكانت أماً كأتمّ ماتكون الأمهات. فلقد كانت تعيش البيت الرسالة ولم تكن لتعيش البيت مجرد روتين تقليدي كما تعيشه الزوجات أو الأمهات في البيت، وعلى المرأة المسلمة التي بدأت تكثر الكلمات حولها من أن البيت لايمثل إنسانية المرأة وما إلى ذلك، عليها أن تعتبر أن عطاءها في البيت في رعاية زوجها وأولادها يمثل حركة إنسانية في العطاء، ويمثل حركة من أجل إيجاد الجيل الصالح للمستقبل بحسب مايحبه الله ورسوله.
على المرأة أن تفكر بهذه الطريقة، ثم عليها أن تقتدي بالزهراء(ع) في حركتها في الواقع العام، فنحن نعرف أنّ وقتها في الأيام التي عاشتها بعد رسول الله(ص) كان موظفاً في الدفاع عن حق علي(ع) سواء في خطبتها في المسجد أو في حديثها مع النساء أو في حديثها مع رجالهن عندما جاءوا إليها، أو في حديثها مع المهاجرين والأنصار عندما كانت تطوف عليهم، كما تقول بعض الأخبار عن سيرتها.. كانت قضيتها أنها وقفت لتتحدث ولتخطب ولتحتج ولتثير الكثير من علامات الاستفهام، لذلك نقول إنها كانت تمثل المرأة التي تتحمل مسؤوليتها في كل قضايا الحق لا في كلام خفي تتحدث به ولكن بصوت قوي صارخ ينطلق بكل قوة وبكل صفاء وبكل إخلاص.
لذلك، علينا أن نعرف أن عظمة الزهراء(ع) إنها عاشت، منذ انتقال رسول الله(ص) إلى الرفيق الأعلى حتى جاءتها الوفاة، لهمّ الحق الذي تؤمن به، كانت تتحرك في نشاط دائم من أجل أن تركّز الحق كما يريد الله سبحانه وتعالى. ومن خلال هذا نعرف أن مسؤولية المرأة أن تواجه واقعها وأن لا تكون معزولة عن الواقع وأن لا تبتعد عن القضايا الحيوية إذا كانت تملك طاقة وقوة في الحركة وظروفاً مناسبة، فإن عليها أن تواجه حاجة الواقع إلى نشاط المرأة كما هي حاجة الواقع إلى نشاط الرجل لتأمر بالمعروف هنا ولتنهى عن المنكر هناك، ولتقف بوجه التحديات حيثما نشبت، غير أن المسلمين لم يعيشوا هذا المستوى من الخط القراني الذي يفتح للمرأة أبواب الحركة الإعتراضية وأبواب الحركة التوجيهية في المجتمع كما يفتحه للرجل، في حين يقول تعالى: )وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ((التوبة:71).
وكان للزهراء(ع) كما ينقل بعض كتّاب سيرتها حلقة ممتدة في نساء المهاجرين والأنصار، حيث كانت تلقي عليهم الدروس وكانت الزهراء(ع) كما تقول عنها عائشة (أم المؤمنين) «مارأيت أصدق منها إلاّ أباها».
وهكذا كانت الصادقة الأصدق، وكانت العابدة الأعبد، وكانت الإنسانة التي تفكر بالناس قبل أن تفكر بنفسها. وعلى المرأة والرجل أن يتحركا في هذا الخط لتكون فاطمة(ع) قدوة لهما في العطاء وفي الحركة وفي العلم وفي العبادة([4]).
وعندما نريد – أيّها الأحبّة – أن نثير ذكرى السيدة الزهراء(ع) سواء في مولدها أو في وفاتها فإنّ العبرة من هذا الدرس هي أن تتحرك المرأة المسلمة من أجل أن تكون المرأة التي ترتفع بروحانيتها إلى اللّه، وتعبد اللّه، وتعيش إنسانيتها بالتفكير في الآخرين قبل التفكير بنفسها، وتعيش ثقافة الإسلام وثقافة الواقع السياسي، وتتحرك بحسب ظروفها لتدخل الواقع الإسلامي الذي يواجه التحديات سواء كانت ثقافية لتقدم ثقافتها في وجه هذه التحديات، أو اجتماعية لتقدم خبرتها الاجتماعية في خط المواجهة، أو التحديات السياسية لتقدم وعيها وثقافتها السياسية في ذلك، فالمرأة إنسان كما هو الرجل.
وإذا كنّا نتحدّث عن ضرورة التزام المرأة بالمنهج الأخلاقي في سلوكها في الحياة فإنّ المنهج الأخلاقي ليس ضريبة على المرأة بل هو للمرأة وللرجل معاً، فقول النبي(ص) «إنّما بعثت لأتممّ مكارم الأخلاق»([5]) هو للمرأة وللرجل معاً، فإذا كانت المرأة مسؤولة عن العفّة فإنّ الرجل أيضاً مسؤول عن العفّة، وإذا كانت المرأة مسؤولة عن حفظ نفسها من الانحراف، فإنّ الرجل مسؤول عن حفظ نفسه من الانحراف، فليس هناك فرق في الجانب الأخلاقي لدى المرأة والرجل، لذلك نقول إنّ الإسلام الذي قدّم أم المؤمنين خديجة الكبرى (رض) لتدعم النبي(ص) في رسالته بكلّ ما عندها من قوّة، وقدّم السيدة الزهراء(ع) لتكون مع رسول اللّه(ص) ومع زوجها وابنيها في خطّ الإسلام، وقدّم لنا السيدة زينب(ع) بطلة كربلاء، ليقول لنا إنّ علينا أن نواجه التحديات الكبرى التي تأتينا من الرجال ومن النساء في خط الكفر والاستكبار لنقدّم الرجال والنساء في خطّ الإسلام([6])».
ه) يوم المرأة المسلمة:
في أحاديثه في (يوم المرأة العالمي) أو (يوم الأم) كان يركّز سماحته على يوم المرأة المسلمة ليذكّرها بقيمتها ودورها ومسؤوليتها.. حيث يقول في بعض هذه المناسبات:
«إذا كنّا نريد أن نجري على ما جرى عليه الناس من تقاليد بأن جعلوا لكل عنوان من العناوين الحيّة في الواقع الإنساني يوماً معيناً ك(يوم الأم) أو (يوم المرأة) أو (يوم العامل) فإن أفضل يوم نجعله عنواناً للمرأة المسلمة هو فاطمة الزهراء(ع) الإنسانة التي تمثل المثل والنموذج والقدوة للإنسان المسلم، لأنها كانت البنت كأفضل ماتكون البنات، وكانت الزوجة كأفضل ماتكون الزوجات، وكانت الأم كأفضل ماتكون الأمهات، وكانت المسلمة المسؤولة المتحركة في ثقافتها ومواقفها كأفضل ماتكون المسلمات، فهي تجمع كل هذه العناوين الإنسانية في المرأة وفي الإنسان المسلم، الأمر الذي يمكننا من التحرك من خلال ما اقترحه (الإمام الخميني) رحمه الله من اعتبار يوم مولد الزهراء(ع) في العشرين من شهر جمادى الثانية يوماً للمرأة في العالم، لأننا نعرف أن ما جرى عليه الناس في المناسبات التي ينطلق منها اليوم استمدّ عنوانه من خلال امرأة هنا أو عامل هناك، فيما نريد في (يوم المرأة) نموذجاً يمكن له أن يستجمع العناصر التي تمثل نشاط المرأة كلّه في حياتها الخاصة كبنت وزوجة وأمّ، وحياتها العامة كمسلمة عاملة منفتحة على قضايا الإنسان في الحياة.([7])
2. مع زينب(ع):
أ) لماذا الاحتفاء بذكرى السيدة زينب(ع)؟
عن هذا السؤال ونظائره، يقول سماحته: «في ذكرى السيدة زينب(ع) نريد أن تعيش المرأة في حياتنا بعدما أريد لها أن تكون على هامش الحياة، وأن لا تعيش الضعف في مواقفها ومواقعها وعقلها وروحها، وأن لا تبتعد عن المسؤولية وعن ساحة الصراع. إن زينب(ع) تقول للمرأة المسلمة: تعاليّ إليّ فقد انطلقت من خلال أميّ التي كانت القمّة في الموقف الحق، ومن خلال جدتي التي كانت المرأة التي أعطت رسول الله كلّها: عقلها وروحها وعاطفتها ومالها وجاهها وكل شيء حتى بقيت فقيرة معه.
أنا زينب التي أحمل تاريخ حركة المرأة في ساحة الصراع من أجل الحق في تاريخي كلّه.. أنا زينب التي أريد أن تنطلق مسيرة المرأة المسلمة من أجل أن تقف مع الحق في أصعب المواقف، وأن تتمرد على كل قساوة المأساة في مواقع الصبر، وأن تبقى مع الإسلام كله فكراً وكلمة وحركة وموقفا.. فهذا هو نداء زينب(ع) للمرأة المسلمة، وعلى المرأة المسلمة أن تستجيب لهذا النداء بأن لا تعتبر أن إسلامها يمثل تخلفها وأنه يعزلها عن الحياة وأنه يجعلها تعيش في زاوية مغلقة.
لقد كانت زينب(ع) في الساحة الواسعة من الجهاد والدماء تسيل أنهاراً من حولها.. وتبقى تفكر بهدف حركة هذه الدماء مع أن الآلام تعصف بكل روحها وقلبها، ولكنها كانت تعيش آلام الرسالة وآلام الإسلام، فلنأخذ من زينب(ع) هذا الألم الرساليّ الذي يمكن له أن يستوعب الألم الإنساني.. تلك هي زينب فلا تضعوها في مواقع الدموع فحسب، بل ضعوها في مواقع الجهاد والصراع بين الحق والباطل، فنحن نريد للمرأة المسلمة أن تكون زينب ولو بنسبة العشرة بالمئة أو العشرين بالمئة.
فتشبهوا إن لم تكون مثلهم إن التشبّه بالكرام فلاح»([8])
ب) ترسّم خطى السيدة زينب(ع)
«كيف يمكن للمرأة المسلمة أن تترسم خطط وخطى الحوراء زينب(ع) في بناء شخصيتها الإسلامية وأداء مسؤوليتها في الحياة الاجتماعية؟»
يجيب سماحته قائلاً: «أن تخرج المرأة المسلمة من كل هذه القوقعة التي حبست فيها ومن كل الزاوية التي حشرت فيها لتكون المرأة أمّاً كأعظم الأمهات كما كانت فاطمة وزينب(ع) ولتكن المرأة زوجة كأفضل الزوجات كما كانت فاطمة وزينب(ع) ولتكن مجاهدة كأفضل ما تكون المجاهدات كما كانت فاطمة وزينب(ع) ولتكن الداعية إلى الله والعاملة في سبيله كما كانت فاطمة وزينب(ع) في الشخصية الإسلامية التي لم تنحرف في قول ولا في عمل، يعطيان المرأة عندما تعيش حركة الصراع وحركة الجهاد وحركة الموقف وحركة التحدي وحركة المشاركة وفي كل ما ينطلق به المسلمون في حياتهم العامة والخاصة.. يعطيانها شرعية أن تخطب عندما يحتاج الإسلام إلى أن تخطب حتى في مجتمع الرجال، وأن تتحرك في ساحة الصراع حتى الدامية منها، عندما يفرض عليها الموقف ذلك، وقد كان رسول الله(ص) يخرج النساء معه في الحرب ليضمّدن الجرحى وليسقين العطشى وقبل ذلك وبعد ذلك قوله تعالى )وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ(([9]) وإذا كانت ثورة الحسين(ع) أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر فكم يتسع الأمر بالمعروف وكم يتسع النهي عن المنكر في ساحة الصراع، إن المؤمنين مدعوّون إلى أن يتكاملوا مع المؤمنات، والمؤمنات مدعوات أن يتكاملن مع المؤمنين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله.
وذلك - أيها الأحبة - هو درس زينب فإذا ذهبتم لزيارتها فلا تستغرقوا في ذاتها ولا تحدّقوا بالجسد الراقد في القبر، ولكن استغرقوا في كل هذا التاريخ، وفي كل هذه العبر والدروس، لتكن كلّ زيارة حركة ثقافية تعرفون فيها كيف انطلقت زينب بطلةً في كربلاء للإسلام كله، فذلك هو الذي يعطي للزيارة معنى، وذلك هو الذي يجعل من مراقد وأضرحة الأولياء مدارس تثقيفية تنطلق بنا إلى التاريخ لندعو التاريخ إلى زيارتنا ليزورنا من خلال تاريخهم أكثر مما نزورهم في ذلك التاريخ».([10])
ج) شرعية اشتراك المرأة في الحرب:
تسأل بعض الأخوات أو تتساءل: البعض يقول إن السيدة زينب(ع) قد خرجت إلى ساحة المعركة والبعض ينفي ذلك، ولكننّي أتساءل: لماذا أخرجها الإمام الحسين(ع) معه؟
فيردّ سماحته بالقول: «لماذا هذا الجدل؟ هل يحرم على المرأة أن تخرج إلى المعركة ؟ لقد كان النبي(ص) يخرج النساء معه ليداوين الجرحى ويسقين العطشى وهذا أمر ثابت في أحاديثنا الصحيحة، كما هو ثابت في أحاديث أهل السنّة، فالمرأة لها دور، نعم لا يجب عليها أن تقاتل، ولكن لو حصل نفير عام وكان هناك هجوم كامل فعند ذاك-يجب القتال حتى على الأطفال وفي الحالات العامّة فإن المرأة تشترك في الجهاد بالحجم الذي يمكن أن تقوم به، وفي حالات أخرى يمكن للمرأة إذا دخلت المعركة إرباك المعركة وتغيير ميزانها. لذلك فالمرأة تستطيع أن تخدم في المعركة كممرضة وكمساعدة لسقي العطشى وإطعام المجاهدين وغير ذلك من الأعمال الملائمة لها لأن الرجال يتفرغون لأعمالهم الجهادية.
إن الإسلام لم يمنع المرأة من أن تشارك في الواقع الاجتماعي.. صحيح أنها زوجة وأم لكن زوجيتها وأمومتها لا تمنعها من أن تشارك في مثل هذه الأعمال الجليلة، تماماً كما هو الأب، فالأبوّة لا تضيّق الحياة الزوجية بل لا تمنع الرجل من أداء التزاماته الجهادية. نعم هناك التزامات شرعية للمرأة في خط الحجاب، فإذا التزمت بالتزامات الشريعة وانطلقت من خلال أخلاقياتها فما هو الضير في ذلك؟!
إن الأخلاقية، أيها الأحبة، كما هي شرط في عمل المرأة هي شرط كذلك في عمل الرجل، فالله يريد للمرأة أن تكون عفيفة في جميع أحوالها، علماً أن العفّة للرجل وللمرأة على حد سواء والانحراف عند المرأة هو الانحراف عند الرجل )الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ(([11]). أما عندنا في الشرق فإن المرأة إذا أخطأت فإنها تقتل، وأما الرجل فيوكلون له محامياً يدافع عنه».([12])
د) الامتداد الزينبي:
ولئلا تُحصر أو تُحشر السيدة زينب(ع) في الأطر الضيّقة، دعا سماحته دائماً إلى حضورها في كلّ وقت، قائلاً: «علينا - أيها الأحبة - أن لا نحصر الزهراء(ع) في دائرة المأساة، بل علينا أن نطلق مسيرتها، كما كانت هذه السيرة في الهواء الطلق وفي الصحو المبدع، لتكون الإنسان التي توحي وتوجّه وتعطي في كل زمان ومكان. والزهراء عاشت في زينب(ع). فزينب(ع) بالرغم من أننا حصرناها في الدائرة البكائية، فإننا من خلال ما ندرسه من مسيرتها في كربلاء، وبالرغم من أن التاريخ لم يحدثنا عن سيرتها قبل كربلاء وعن سيرتها بعد كربلاء تفصيلاً، ولكنها كانت القائد في غياب القائد، وكانت الصابرة كأعمق وأرحب ما يكون الصبر، وكانت البطلة أمام المأساة، وهي القائلة: «اللّهم تقبّل منّا هذا القربان» فأي أخت تعيش هذه المأساة التي تمثلت في كل هذه الوحشية الأمويّة في حصد الأطفال والشيوخ والشباب وبعض النساء وهي لا تتوجه إلا إلى الله، وهي ترى أن المسألة ليست مصيبة شخصية في داخل الذات، وإنما هي جهاد في سبيل الله. وإذ تتمثل كل هؤلاء الصفوة الطيبة وإمامهم الحسين(ع)، لتعتبر أن أخاها قربان تُقدِّمه إلى الله تعالى من أجل الإسلام، ومن أجل إصلاح أمة جده، ولإبقاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خطاً للإنسان كله، وليكون الإنسان المسلم عزيزاً أمام كل التحديات، لأنّ الحسين(ع) أعطى هذا الشعار: «لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد»([13]) لنرفعه أمام التحديات الكبرى، أمام تحديات الطواغيت السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ليثبت الإنسان المسلم فيكون العزيز الذي لا ينتقص أحد من عزته، كما لا ينتقص أحد من دينه، كما قال الإمام الصادق(ع): «المؤمن أعزّ من الجبل، إن الجبل يستقلُّ منه بالمعاول والمؤمن لا يستقلُّ من دينه شيء»([14])، وقال في تفسيره قوله تعالى: )وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ(([15])، «إن الله فوَّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوِّض إليه أن يكون ذليلاً»([16]).. لست حراً أن تذل نفسك، وهذه القاعدة تنطلق من صلب الإسلام، والتي كان الحسين(ع) يلمّح إليها عندما قال: «ألا وأنَّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلّة وبين الذّلة وهيهات منّا الذّلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون»([17]) لأن الله يقول: )وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ(.
لقد عاشت زينب(ع) فكر الحسين(ع) كلّه وروحيته كلّها، ولهذا كانت الصابرة في كربلاء، بحيث لم يسمع منها حالة بكائية إلا في بعض القضايا التي كانت تريد أن تحتوي آلام الحسين(ع) في علي الأكبر(ع)، وما عدا ذلك كانت في أقسى الحالات الصامدة كصمود الحسين(ع)، وقد تجلّى ذلك في عدة مواقف، حيث استطاعت أن تقف بكل عنفوان وبكل شموخ أمام ابن زياد عندما قالت له: «إنما يفتضح الفاجر ويكذب الفاسق وهو غيرنا، ثكلتك أمك يا بن مرجانة»([18]) وعندما وقفت أمام أهل الكوفة وأنبَّتهم بكل عنفوان المرأة المسلمة البطلة القوية التي تنظر إلى كل هؤلاء الذين باعوا أنفسهم للشيطان، وعندما وقفت أمام يزيد وتحدثت معه بأسلوب من أروع الأساليب الذي مزجت فيه القوة بالعاطفة، وقالت له: «كد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا»([19]).
ولذلك فنحن نقول لكل النساء المسلمات إنّ عليهن أن ينطلقن من هذه الشجاعة البطولية لفاطمة الزهراء(ع) وللسيدة زينب(ع)، ونقول لكل أتباع أهل البيت(ع) ادرسوا الزهراء(ع) في حجم قضية المرأة في العالم، وادرسوا زينب(ع) في حجم قضية المرأة في العالم، فلا تحصروهما في دائرة المأساة، حتى لا تضيع الزهراء(ع) عن وجداننا الثقافي والروحي والسياسي، وتضيع زينب(ع) في غمرة ذلك.
أيها الأحبة، إننا نواجه مرحلة من أصعب المراحل في التاريخ الإسلامي كلّه، حيث برز الاستكبار كلّه إلى الاستضعاف كلّه، وبرز الكفر كله إلى الإسلام كلّه.. نحن بحاجة إليك يا سيدة النساء أن تشرفي علينا لتعطينا روحاً من روحك، وقوة من قوتك، وإخلاصاً من إخلاصك، وبطولة من حركتك. ونحن بحاجة إليك يا بطلة كربلاء.. إننا بحاجة إلى بطولات المرأة المسلمة، وأنت القدوة في البطولة، كما أنت القدوة في الوعي، وأنت القدوة في كل ما تنفتحين به على الله.
إن ذكرى الزهراء(ع) وذكرى الحوراء(ع) يمكن أن يكسبانا الشعور بالعنفوان، لأن عندنا امرأة عظيمة كفاطمة(ع) ليس هناك مثلها في العظمة، وعندنا امرأة عظيمة مثل ابنتها بطلة كربلاء».([20])
ثانياً: مقام المرأة
ثمة سؤال يتردّد على ألسنة البعض يتعلّق بقول أحد أئمتنا(ع) بأن «المرأة عزيزة عند أهلها ذليلة عند زوجها» بالإضافة لقول آخر معناه «إن الله لو أمر أحداً أن يسجد لغير الله لأمر المرأة أن تسجد لزوجها»([21]) فإلى أي مدى، أو أي درجة يجب على الزوجة أن تطيع وأن تخضع لزوجها دون أن يمس ذلك إنسانيتها ودينها؟
يجيب سماحته قائلاً: «إن هذه الأمور لم تطرح على أساس بيان الخط العريض للعلاقة الزوجية من الناحية الإلزامية الشرعية، فالناحية الشرعية هي: )وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ(([22]) وقلنا بأن الدرجة ليست ناطحة سحاب، فمثل هذه الأحاديث تمثل الجانب الأخلاقي للمسألة، أي أنّ المرأة عندما تعيش مع زوجها يجب أن لا تعيش العنفوان، بل تعيش وحدة الحال )هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ( ([23])، فليست الذلّة هنا مقابل العزة بحيث تسقط إنسانيتها وتسقط واقعها، المراد بالّذلة هو مثل )أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ( ([24]) أي أنها تتصرف بتواضع كما يتصرف الإنسان الذليل مع العزيز، فالذل يعني أن يكون تعاملها إنسانياً مع زوجها وأن تتعامل من خلال التواضع مع زوجها والتضحية من أجل الحياة الزوجية التي يحبها الله ويرضاها.
ذلك لأن الله عزوجل جعل الحياة الزوجية مبنية على الحقوق المتبادلة )وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً(([25])، فهي قائمة على المودة والرحمة، والمودةُ والرحمة ليس فيهما حواجز العنفوان. فعلى الرجل أن يتنازل لزوجته وعليها كذلك «خيركم خيركم لأهله»([26]) لأن النبي(ص) وهو سيد ولد اّدم وهو قدوتنا يخاطبه الله تعالى بقوله: )يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ(([27])، وحسب بعض التفاسير فإن النبي(ص) كان يحرّم على نفسه بعض ما يشتهيه من الطعام أو من الروائح الطيبة لأن زوجاته كنَ لا يتجاوبن معه في ذلك. فقال له الله لا تحرم نفسك من ذلك.
وعلى الزوج أن لا يشعر أمام زوجته كأنه السيد أمام العبد، أو يشعرها بأنها كمية مهملة، فالزوجة إنسان والزوج إنسان وعليهما أن يتعاملا من موقع المودة والرحمة بأن يعيش إنسانيتها ويحترم إنسانيتها، وأن تعيش إنسانيته وتحترم إنسانيته، فالله سبحانه يريد للزوجة أن تندمج مع زوجها وأن تحترمه لدرجة الخضوع لأجل أن تتوازن الحياة الزوجية وليس من جهة أن هذا الشيء مفروض عليها شرعاً.([28])
ونقرأ كلمة الإمام علي(ع): «قيمة كل امرئ ما يحسنه»([29])، لذلك لابد لنا أن نعلِّم فتياتنا ونساءنا كما نعلِّم شبابنا ورجالنا، لأن للمرأة دوراً في الأخذ بأسباب العلم، كما أن للرجل دوراً في الأخذ بأسباب العلم، لأنَّ المسألة هي أن عقل المرأة ليس بأقلّ من عقل الرجل، وذهنية المرأة ليست بأقل من ذهنية الرجل. فنحن عندما نواجه الواقع من خلال التجربة الإنسانية في العالم، فإنّنا نجد أن الكثيرات من النساء تفوّقن على الرجال وأصبحن مخترعات ومكتشفات في عالم الفضاء وفي عالم الطب، وما إلى ذلك، مع أن بعض الناس لا يزالون يتحدّثون عن شخصيّة المرأة في طاقاتها الإدراكيّة العقليّة وفي إمكاناتها التجريبيّة بطريقة سلبيّة، مما يوحي بأنّها إنسان أدنى درجة من الرجل، ليكون هو في الدرجة الأولى وهي في الدرجة الثانية، ولكنهم لا ينظرون إلى التجربة الواقعية الموجودة في العالم، في أنّ المرأة تستطيع أن تصل إلى المستوى الذي يجعلها تتفوق على الرجال. القضية ليست مجرد قضية تجريدية، نفكّر بها في الهواء، لكنّها قضيّة واقعيّة، حتى إننا رأينا كيف أن بعض النساء استطعن أن يحكمن بلاداً كبرى، وهنّ يتمتّعنَ بكثيرٍ من الطاقات.
نحن نقول إنّ التجربة التي عاشها الإنسان في كل مواقعه، وربّما عشنا بعضَها في المدارس المختلطة، قد نرى فيها أن درجات النساء ربما تعلو عن درجات الرجال. ولذلك نقول لا بد أن تأخذ نساؤنا بأسباب العلم، كما يأخذ رجالنا بأسباب العلم، وإذا كان البعض يتحدث عن الأخلاق في مسألة تحصيل العلم، فإن قضية الأخلاق هي قضية مشتركة بين الرجل والمرأة، فكما لا يجوز للرجل أن يتعلم أو يعمل في مجتمع غير أخلاقي، لا يجوز للمرأة أن تعمل أو تتعلم في مجتمع غير أخلاقي. إن القضية هي مسألة أن تتعلّم المرأة من حيث المبدأ، بقطع النظر عن الظروف المحيطة بها هنا وهناك، وقد جاء في الحديث: «طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم ومسلمة»([30])، فإن هذا الحديث يشير إلى أن العلم يصل إلى مستوى الفريضة على الرجال والنساء».([31])
ثالثاً: تعليم المرأة:
وسؤال آخر: «هناك رواية في الوسائل تتحدث عن المرأة قائلة: «لا تعلّموها القراءة والكتابة، وعلموها سورة النور»(*)، وأخرى تقول: «ذروها كالبلهاء»، ما هو تفسيركم لأمثال هذه الروايات؟
نحن نرفض هذه الروايات، لأنها مخالفة للقرآن الكريم، قال تعالى: )قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ(([32])، والمقصود ب(الذين) ليس فقط الرجال في هذا المعنى.. وعندنا أيضاً الحديث النبوي الشريف: «طلب العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم»، وفي رواية «ومسلمة»، بل إن كلمة (مسلم) يراد بها الأعمّ من الرجل ليشمل المرأة، يعني الذي أسلم، سواء كان امرأةً أو رجلاً، لأنّ الله سبحانه وتعالى أراد للمرأة وللرجل أن يأخذا بأسباب العلم. وإذا صح ما ورد في الحديث، فلماذا اهتم النبي(ص) بتعليم النساء، وما إلى ذلك.. ونحن مثلنا الأعلى السيدة فاطمة الزهراء(ع). لهذا فإن هذه الأحاديث الكثير منها ضعيف، وإذا صحت فإنها ربما تعالج بعض الأوضاع المحلية التي كانت في ذلك الوقت، أو يردُّ علمها إلى أهلها، لأنها تختلف عن المضمون القرآني في المفاهيم القرآنية التي تؤكد على العلم لكل إنسان».([33])
رابعاً: عقل المرأة:
هل إنّ اللّه خلق المرأة أقلّ عقلاً من الرجل؟ أو أن لها ذات العقل الذي للرجل، بمعنى القابلية للتفكير والنموّ والتطوّر والامتداد في المعرفة، والتعمّق فيها؟!
«هناك فكرة شائعة بين الناس، بأنَّ عقل المرأة أقلّ من عقل الرجل، حتى إنَّ بعضهم قلَّص النسبة، فاعتبر أن عقلها لا يبلغ النصف. وقد ورد التعبير ب«ناقصات الدين والعقل»([34]) في بعض المأثورات؛ إذ ورد هذا المعنى في الحديث النبوي عن رسول الله(ص) مخاطباً بعض النساء، ما مضمونه: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن، قلنَ: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلنَ: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟ قلن: نعم، قال: فذلك من نقصان دينها»([35]).
كما ورد في حديث عن أمير المؤمنين(ع) في (نهج البلاغة) عن النساء أنهنّ «نواقص العقول ونواقص الحظوظ ونواقص الدين»([36])، وعلَّل ذلك بأنَّ نقصان العقل يعرف من أنّ شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد، فشهادة المرأة نصف شهادة الرجَّل، وأمَّا أنهنّ نواقص الحظوظ، فإنّ حصة الرجل ضعف حصة الأنثى )فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ (([37]) وأما أنهن نواقص الدين، فقعودهن عن الصلاة والصوم أيام الحيض.
ونحن نريد أنْ ندرس ما ورد عن النبيّ(ص) وعن أمير المؤمنين(ع). والسؤال: هل ما ورد من التعليل يفيد أن المرأة تملك عقلاً أقلّ من عقل الرجل؟ أو أنه لا يفيد ذلك؟ عندما ندرس المسألة، وخاصةً تعليل مسألة نقصان عقلها بأنّ شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد، فإننا عندما نأتي إلى قوله تعالى: )أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى(([38]) الوارد في تعليل تعدد المرأة في مقام الشهادة، فإنّ ما نستفيده، هو أنّ الشهادة لابدَّ أنْ تكون شهادة عدل، سواء كان رجلاً أو امرأة، لأنّ الضلال يكون إما من جهة النسيان أو من جهة الغفلة، والشهادة مرتبطة بالحس وليست مرتبطة بالعقل: رأى أو لم يرَ؟ ويمكن أن ينسى، كما لو فرض أنه رأى شيئاً ونسي الموضوع، فشهد وغفل عنه. وهذا ليس له دخل بعقل الإنسان الرجل والمرأة. وقد تحدّث الله عن آدم(ع) أنه نسي )وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا(([39]) ويتحدّث أيضاً عن بعض الرجال قال: )قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (([40])، حتى إنّ بعضهم قال إن الإنسان إنما سمي إنساناً لنسيانه، كما يقول بعض الشعراء:
ما دعوهُ الإنســـانَ من أُنسهِ لكن دعوهُ الإنسانَ من نسيانهِ
فمسألة النسيان والغفلة هي حالة طبيعية تحدث للرجل والمرأة معاً، من خلال العناصر الموجودة في داخل الرجل والمرأة، التي قد تجعل الإنسان ينسى هنا وهناك، ويغفل هنا وهناك. إذاً، الآية القرآنية لم تتحدّث عن مسألة عقل المرأة، وإنما تحدّثت عنه احتياطاً للعدالة، لأنّ الشاهد يمثِّل عنصراً أساسياً في عالم الحكم، ولذلك لابدَّ أنْ يكون الشاهد عادلاً، ويشترط فيه أن يتحلَّى بقوة الضبط أو البصر.
وقد تحدّث بعض العلماء بأنّ المرأة أقلّ ضبطاً من الرجل، ولذلك كان من الضروري ضمّ امرأة أخرى، حتى إذا نسيت إحداهن ذكّرتها الأخرى، وهذا لا يعني نقصاناً في العقل، إذ إنّ ضم هذا العقل الناقص إلى العقل الناقص الآخر لا ينتج عقلاً كاملاً. ولذلك نقول: إذا نسيت إحداهما، فليس من الطبيعي أن تنسى الأخرى، ما يعطينا فكرة، أنّ مسألة تعدد المرأة في مقام الشهادة ليس منطلقاً من نقصان العقل، وإنما هو منطلق من احتياط للعدالة، فيمكن أن يكون الشاهد عادلاً وموثوقاً به، ولكن يمكن أنْ يشتبه أو ينسى، وبهذا يردّ على تفسير نقصان العقل بالنقص في الضبط. ومن المعروف أنّ المطلوب في البيّنة هو تعدّد الشاهد، فلا يقبل إلا شهادة عدلين، من خلال انضمام رجل عدلٍ آخر إليه، فإذا أردنا أنْ نستفيد أنّ التعدد في الشهادة دليل على نقص العقل، فذلك يقتضي أيضاً نقص عقل الرجل؛ لأنّ المطلوب في شهادة الرجل التعدّد أيضاً، وذلك ما لا يلتزم به أحد».
أمّا بالنسبة إلى نقصان الحظّ لجهة ما ورد في قوله تعالى:)فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ (([41])، فإنّ حقيقة المسألة هي ما ورد في أحاديث الأئمة(ع)، كما حديث في الإمام جعفر الصادق(ع) في كتاب (وسائل الشيعة) وغيره، إذ سُئل أحد أصحاب الإمام(ع) في مقام الاعتراض على التشريع، كما جاء في رواية الأصول، «قال: قال ابن أبي العوجاء: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً ويأخذ الرجل سهمين؟ قال: فذكر ذلك بعض أصحابنا لأبي عبد الله(ع)، فقال: إن المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة ـ أي الدية ـ وإنّما ذلك على الرجال، فلذلك جعل للمرأة سهماً واحداً وللرجل سهمين»([42]).
وفي رواية أخرى عن الإمام الرضا(ع): قال جواباً على بعض المسائل: «علّة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث، لأنّ المرأة إذا تزوّجت أخذت والرجل يعطي، فلذلك وفّر الله على الرجال، وعلّة أخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطى الأنثى، لأنّ الأنثى في عيال الذكر إن احتاجت وعليه أن يعولها وعليه نفقتها، وليس على المرأة أن تعول الرجل ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج، فوفّر على الرجال ذلك»([43]).
وقد ورد في حديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) جواباً عن سؤال: «لأيّ علّة صار الميراث للذكر مثل حظّ الأنثيين؟ قال: لما جعل الله لها من الصداق»([44]). وخلاصة الجواب عن السؤال، أنّ الله سبحانه وتعالى عندما أخذ من المرأة ذلك في هذه الحالة، حمَّل الرجل ما لم يحمّله للمرأة. فالمرأة ليس عليها مهر، وليس عليها نفقة، لا على نفسها ولا على زوجها، ولا على الأولاد، وليس عليها معقلة، أي الدية، إذ إن العاقلة تدفع الدية في مثل هذه الموارد، وهو ما يدفعه الرجال من الأقرباء فقط.
والمحصّلة، أنّ المرأة أكثر حصةً من الرجل. ويمكن التمثيل للأمر بما يلي: لو أنّ شخصاً مات وترك 3000$، فحصّة الذكر 2000، وحصّة الأنثى 1000، أخذتها وأودعتها في المصرف أو الخزانة، وقد تزوَّجت المرأة وأخذت مهراً علاوةً على ما عندها، فيما نقصت حصّة الرجل (2000) بسبب ما يتحمّله من الإنفاق، كونه يستأجر مسكناً ويعطي المرأة كل احتياجاتها، ثم إذا رزق الرجل أولاداً، فإنه يتحمّل النفقة، حتى في مسألة الإرضاع، إذا طلبت المرأة أجراً على الإرضاع، ولم تزد على ما تأخذه المرضعات أيضاً، فإنه يعطيها أجرة على ذلك، حتى في العمل المنـزلي في التشريع الإسلامي، إذا لم يكن هناك شرط في العقد يفرض عليها العمل المنـزلي، أو كانت متبرعة. إذاً من يكون أكثر حصة؟
ولذلك أقول دائماً من باب الطرافة، إنّ على الرجال أن يطالبوا بالمساواة مع النساء. فإذاً لا يوجد هناك نقصان حظ أيضاً.
عبادة المرأة ونقصان الدين:
أما قضية نقصان الدين بسبب قعودهن عن الصلاة والصيام، فإنه صحيح بمعنى أنّ ذلك يخسرهن شيئاً من الدين بترك العبادة في زمن الحيض، لكنه في حقيقته التزامٌ بأمرِ الله سبحانه وتعالى في ترك الصلاة والصيام، وهذا يدل على كمال الدين. ولذا نلاحظ كثيراً من النساء يتناولن ـ عندما يذهبن إلى الحج أو في شهر رمضان ـ حبوب منع الحمل التي تمنع الدورة الشهرية، حتى لا يضطررن إلى ترك الصوم، أو إلى ترك الصلاة أو إلى ترك الطواف، وما إلى ذلك، وقد يتحمَّلن الكثير من ذلك. وهذا التزام ديني، لولا أنّ الله نهاهنّ عن الصلاة والصوم في حالة الحيض لصلّين ولصمن.
لذلك نقول، إنّ التّعبير بالنقصان في ما ورد يردُّ علمه إلى أهله، أو يُقال إنه من التعابير التي تحكمها المرحلة، ويمكن أنْ تكون بعض التعابير موجودة في مجتمع ما نتيجة مناسبات معيّنة، وقد يكون لمجتمع آخر مناسبات أخرى. وربّما نستوحي من التعليلات المذكورة، أنّ النقصان كان من خلال الشكل أو الكمّ وليس من خلال المضمون الذي يلتقي مع طبيعة العقل أو الحظّ أو الدين، والله العالم.
التكليف المشترك والعقل المشترك:
ثم إنه لو كانت المرأة أقلَّ عقلاً من الرجل، لكان تكليف المرأة في ما كلَّف الله الناس به من واجبات ومحرّمات، أقلّ من تكليف الرجل، لأنّ المسؤولية تنطلق من خلال مقدار العقل الذي يملكه الإنسان، فإذا كان عقل المرأة أقلّ وفيه قصور، فإنه لا يمكن أنْ نحمّلِها مسؤولية عقل كامل، وإلاّ كان هذا ظلماً لها، ولذلك قال الله تعالى: )لا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا(([45])، إذ أنه من التكليف بغير المقدور، مع أننا نرى أنه لا فرق بين الرجال والنساء في كل الأمور الشرعية من واجبات ومحرّمات مشتركة، وينحصر الفرق في الأمور الخاصة بالنساء في عالم الحيض أو ما أشبه ذلك.
ولا يمكن أنْ يقال إنّ الدليل على نقصان عقولهنّ أن الرجل يتحمَّل المسؤولية في البيت والمرأة لا تتحمَّل ذلك، فإنَّ لذلك تفسيراً، وهو أنّ المرأة مبتلاة بالحمل والإرضاع والدورة الشهرية وما إلى ذلك، ما يجعل قدرتها الجسدية على القيام بمسؤولية البيت الزوحي أقلّ من قدرة الرجل في هذا العالم الذي يتصل بالجانب الجسدي، ولا يتصل بالجانب العقلي أو الجانب الآخر.
ولذلك، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يتحدّث عن المرأة والرجل على حدّ سواء في الجانب السلبي والإيجابي، فيقول تعالى: )الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ(([46])، )وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ الله(([47])، ولم يفرِّق بين الرَّجل والمرأة في خطِّ الانحراف عندما يأخذان به. وعندما نقرأ التعليمات الموجَّهة للرجل والمرأة، فإنها واحدة على حدٍّ سواء: ) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا(([48])، وفي عالم الأجر على العمل الصالح: )أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى(([49]). فكما أنّ الرجل يأخذ أجراً على عمله الصالح من الله، فإنّ المرأة كذلك، ولم يفرّق بينهما.
المرأة كمثل بشري:
وفي سورة (الأحزاب)، عندما تتحدّث عن النساء العاملات وعن الرجال، نجد أنّ الله تعالى بيّن الرجال والنساء في النتائج الإيجابية للعمل الصالح: )إنّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ الله كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ الله لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(([50])، فلو فرضنا أن المرأة أقلُّ من الرجل، فلا تتساوى معه في الأجر، وسيأتي في أحاديث الرسول(ص) وأحاديث الأئمة(ع)، أن الله يثيب الإنسان على قدر عقله، فلو كان عقل المرأة أقلّ، فلا تثاب مثل الرجل. ونلاحظ في جانب آخر، أن الله عندما ضرب مثلاً للمؤمنين ولغير المؤمنين، باعتبار أنّ المثل يتحدّث عن النموذج البشري الذي يجسِّد هذه الفكرة، سواء كانت فكرة سلبية أو إيجابية، نلاحظ أنه مثل للمؤمنين والمؤمنات، والكافرين والكافرات، من خلال نموذجين هنا وهناك، فقال عزّ وجلّ: )ضَرَبَ الله مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْن فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ الله شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلينَ(([51]). فضرب للكافرين والكافرات هذين النموذجين من الكافرات، ولم يفرّق بين الرجل والمرأة.
أما في الجانب الإيجابي، فقد قال الله سبحانه وتعالى:)وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(([52])، يعني قال: أيها المؤمنون والمؤمنات، هذا نموذج إيماني يملك القوة على أن يرفض الدنيا كلها في سبيل الله وفي سبيل الآخرة، فلتكن هذه المرأة قدوةً للرجال والنساء. فهذه المرأة ترفض كلَّ الثروة وكلَّ السلطان وكل النعيم، لأنها لا تريد أنْ تعيش مع إنسان كافر، حتى يرضى الله عنها ويدخلها الجنة، فأي عقل أعظم من هذا العقل! هذا العقل الذي ينطلق من دراسة السلبيات والإيجابيات، ومن دراسة الخسائر والأرباح،هذه المرأة التي لم تكتف بالتفكير، بل حوّلته إلى قرار يحكم كل حياتها.
قال تعالى:) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِه وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِين(([53]) في حديثه عن السيدة مريم(ع) التي كانت تمثِّل النموذج الأسمى والأعلى، ولذلك اصطفاها الله سبحانه وتعالى على نساء العالمين، وخاطبتها الملائكة: )يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ(([54]) وهكذا نلاحظ )كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا(([55]). هذه الإنسانة التي عاشت هذه التجربة التي هي من أقسى التجارب واستطاعت أن تصمد. فإن الله سبحانه وتعالى يدعو المؤمنين والمؤمنات إلى الاقتداء بها، لأنها كانت مثال العفّة والالتزام ومثال التصديق بكتاب الله سبحانه وتعالى، ومثال الخضوع لله، والخشوع له، والطاعة له بما تمثّله من القنوت لله.
وقد ذكرت في أحاديث سابقة ملكة (سبأ)، وقد كانت كافرة، وكان قومها يسجدون للشمس، كما عبّر عنها الهدهد الذي كان من جنود سليمان(ع)، وحسب تعابير هذه الأيام، كان يمثّل دور المخابرات لسليمان(ع)، وجاء الهدهد وقدَّم تقريره إلى سليمان عمّا شاهده، فقال له: )وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُم الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ(([56])، امرأة تعبد وقومها الشمس ويتبعون خطوات الشيطان في أمورهم كلّها، امرأة تملك مالاً كثيراً وجاهاً وإمكانات فوق العادة، ولها عرش عظيم تجلس عليه عندما تحكم بين الناس. وللقرآن طريقته الخاصة في عرض الحديث عن الكفر أو عن التمرّد على الله سبحانه وتعالى أو الشرك به، فهو يعلِّق على هذا الموضوع رافضاً له: )أَلا يَسْجُدُوا لله الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ* لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(([57]) يعني أن القرآن بطريقته الخاصة يمنع استقرار الأفكار السلبية في عقل الإنسان، وهذا أسلوب قرآني يتناول هذه المسألة في أكثر من جانب يدخل الله فيه الحديث عن طبيعة هذه الظاهرة السلبية هنا وهناك. ) قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ(([58])، أي إذهب حاملاً الكتاب إليهم كساعي بريد، ولا تقابل أحداً منهم وارمه حيث مجلسهم، فوصل الكتاب إليها وقرأته، فكيف كان ردّ فعلها؟ )قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ(([59])، فهي تستشيرهم وتتداول معهم في قضاياهم الصعبة، فقد شعرت أن الرجل الذي بعث هذا الكتاب هو شخص مميز )إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ألاّ تعلوا عليّ وأتوني مسلمين(([60]) يعني أنا أملك القوة ولن يستطيعوا مقاومة القوة التي أملكها، وأريد أن تأتوني مسلمين، طبعاً مسلمين لله سبحانه وتعالى أو خاضعين لسلطتي التي هي سلطة الحقّ والإيمان )قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُون(([61])، يعني تتحدّون على القرار، لأنكم عُلية القوم ونخبتهم. ويبدو أن الجماعة كانوا لا يفكرون بعقولهم، ولذلك فإنهم يعتبرون دورهم بالنسبة إلى الملكة والدولة دور ممارسة القوة للدفاع ضدّ المعتدين. لقد أرادتهم أن يحركوا عضلات عقولهم، فحركوا عضلات سواعدهم: )قَالُوا نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ(([62])، وعندما رأت أنه لا فائدة انطلقت في اتخاذ القرار )قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ(([63])، فهذا الشخص إما أن يكون ملكاً أو نبياً، فلو كان ملكاً فإنه يقبل الهدية، لأنه يعتبرها نوعاً من أنواع الصلح أو الخضوع، فيمكن أن نتفادى مشكلته بهذه الطريقة، وإذا كان نبياً، فإنه لا يريد أن يسيطر على بلادنا وملكنا، وإنما يريد أن يسيطر على تفكيرنا حتى نسلم إلى الله سبحانه وتعالى بدلاً من أن نعبد الشمس. )فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي الله خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ(([64])، لأنهم رفضوا هذا النوع من الطرح الذي قدّم إليهم بعد ذلك.
وفي النهاية، شعرت بأنّ التهديد جدّي، وجاءت وقومها إلى سليمان، وتكلمت معه، ودعاها إلى الله بعد أن بيّن لها خرافة السجود إلى الشمس، فقالت آخر الأمر )قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ(([65])، إذ بدأت تراجع حساباتها الفكرية وظلت على عنفوانها، فأسلمت مع سليمان نتيجة التفكر كما فكرت في بداية الأمر.
هذا النموذج يعطينا فكرة أنّ من النساء من هي أعقل من الرجال، لأنها أرادت من رجال قومها أن يشاركوها في الفكر وحل المشكلة الجديدة التي تتضمن التهديد والوعيد، فلم يعطوها فكراً، وإنما هي التي أعطت الفكر، وهي التي خططت، وهي التي انتهت أخيراً بالاقتناع بما طرحه سليمان(ع)، فإذا كانت المرأة بهذا الشكل من النقصان، فلماذا يقدِّم لنا الله سبحانه وتعالى هذا النموذج للمرأة التي تملك عقلاً أكثر من عقل الرجال؟ إنّنا من خلال ذلك، قد نستوحي أنّ ما درج عليه الفقه الإسلامي من أنّ المرأة لا تصلح للقيادة نتيجة حديث ضعيف السند عندنا عن النبي(ص) «لا يفلح قوم ملكتهم امرأة أو وليتهم امرأة»، هو محلّ تحفّظ.
مسألة القوامة:
وهناك دعوى أن القوامة للرجال على النساء تعطي الانطباع بنقصان عقل المرأة، وذلك قوله تعالى: )الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ(([66])، وربما يفهم بعض الناس من القوامة الرئاسة أو القيادة، حتى إنََّّ بعض المفسِّرين، وفي مقدمتهم العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي q صاحب (تفسير الميزان)، يعتبر أن قوامة الرجل على المرأة في كل شيء، لكننا في كتابنا (من وحي القرآن) ناقشناه، وقلنا إن هذه القوامة مختصة فقط في إطار الحياة الزوجية، والقوامة بمعنى الإدارة، أي الذي يتحمّل المسؤولية أولاً من الناحية الجسدية، أو من ناحية أن ظروف الرجل تجعله أقدر من المرأة على أنْ يتحمّل المسؤولية المالية للحياة الزوجية.
وثانياً: أنه هو الذي ينفق المال، وقلنا إنّه ليس هناك حالة يجب فيها على الرجل أن ينفق على المرأة بما هي امرأة سوى في حال الزواج، وأنّ ولاية النبي(ص) والأئمة(ع) على الناس كافة، بلا فرق بين الرجال والنساء، وكذلك ولاية الفقيه ـ بناءً على القول بولاية الفقيه ـ، والأب كذلك، فإنه وليٌّ على أولاده الذكور والإناث. ولذلك، فإنّ ولاية الرجل على المرأة بعنوان أنها امرأة لا وجود لها إلاّ بعنوان أنها زوجة، لأنه ينفق عليها، ولأنه يديرالبيت، ولذلك فإن القوامة ليست شاملة، كما يرى البعض، وإنما هي مختصَّة بالحياة الزوجية. وليس للرجل من ميّزة إلاّ الإنفاق وحقّ الطلاق، والله يقول: )وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ(([67]) يستوجب الإنفاق والطلاق، ما عدا ذلك، لا يلتزم الفقهاء بأن هناك شيئاً آخر يمثل هذه الدرجة من ناحية القيمة.
المرأة وحياة الرقة:
وقد يتمسك البعض بما ورد في القرآن من قوله تعالى: )أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ(([68]) أي أن المرأة تنشأ كونها تلبس الثياب الزاهية والحليّ بما يجعلها تميل إلى الزينة وما شاكلها، ولكن هذا لا يجعلها أقل من الرجل، لأنّ ذلك كما يظهر من الآية الكريمة، لا يرجع إلى طبيعة المرأة أو طبيعة منهج الإسلام، بل هو جوٌّ اجتماعي تقليدي جعل المرأة بهذه المثابة وبهذه الحالة.
ثم إنّ النقطة التي لابدَّ أن ندرسها نحن الآن عندما ندرس الواقع، هو أننا نجد أن المرأة في السابق بشكل عام، كانت خارج نطاق التعليم، بحيث كانت تعيش ككمية مهملة، كإنسان من الدرجة الثانية أو الثالثة، ولهذا نجد أنه عندما انطلقت المرأة بالعلم والتجربة وتحمّل المسؤولية، أصبحت أكثر نجاحاً وأكثر تأكيداً لذاتها. كذلك لاحظنا أن النساء أصبحن في مواقع رئاسة الدول وفي مواقع إدارة كثير من الأجهزة، رغم بعض الأخطاء التي قد ترتكبها. وهذا يعني أن المرأة تستطيع أن تتطوّر وأن تأخذ الأشياء بحجمها.
ولذا نقول إن التجربة الإنسانية في كل المجالات أعطت المرأة الظروف والفرص للتقدم والتطوّر معرفياً وإدارياً وما إلى ذلك.. وهذا يدل على أنّ المرأة كالرجل في قدرتها على التطوّر الفكري والإداري والقيادي، وقد تتفوق على الرجل في اختصاصه، وقد يتفوق الرجل عليها، وقد يتساويان. وخلاصة الفكرة، أنه لم يثبت عندنا لحدِّ الآن أن عقل المرأة أقلّ من عقل الرجل. أما قضية ضعف المرأة، فالله سبحانه وتعالى لم يتحدّث عن ضعفها، بل تحدّث عن ضعف الإنسان)وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا(([69])، والله سبحانه وتعالى أراد أيضاً للإنسان أنْ لا يستسلم لهذا الضعف، بل أن يحاول تقوية العناصر التي تخرجه من هذا الضعف. سواء كان رجلاً أو امرأة.([70])
خامساً: حجاب المرأة:
«يقول البعض إن حجاب المرأة هو رمز التخلّف وحاجز أمام تطورها وتقدمها، فما هو الدليل الشرعي على فرض الحجاب على المرأة في الإسلام؟»
يجيب سماحته قائلاً: «كما ذكرت لبعض الصحفيات أنّنا كلنا متفقون على الحجاب، ولكن نختلف حول عدد قطع الثياب، فلا أحد في العالم يؤمن بالتعري إلا بعض الشواذ كما هو حال نوادي العراة في الغرب. ثم ما هي علاقة الحجاب بالتخلف؟ فالمرأة قد تدخل الجامعة وهي محجبة وتصبح أستاذة في الجامعة أو تكون مسؤولة في الإدارة دون أن تتخلّى عن حجابها.. فما علاقة الحجاب بالتخلف العقلي؟ فالتخلف حالة سلبية تتصل بالذهنية والأفق الفكري ولا علاقة لها بالحجاب، ولدينا الآن الكثير من النساء المحجبات المتعلمات وبعضهن يعيش في الغرب، ولكن البعض يخافون من الحجاب بما هو التزام، ويريدون أن يبعدوا الإنسان المسلم والمرأة المسلمة عن التزامهما الديني. أما الأدلة الشرعية فهي واضحة في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: )وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى(([71])، وكذلك قوله تعالى: )وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ(([72])، وما أكثر الأحاديث عن النبي(ص) والأئمة(ع) في هذا المجال. والقدوة في ذلك سيدة نساء العالمين السيدة الزهراء(ع) وزينب(ع)، فهل كنّ متخلفات؟!»([73])
سادساً: العلاقة الأسريّة.. وعمل المرأة:
الخليّة الاجتماعية:
«تحدّثنا في ما مضى عن تدبير الإنسان نفسه، ونتحدث اليوم عن"تدبير الأسرة"؛ لأن الله سبحانه وتعالى أراد للمجتمع الإنساني أنْ يبدأ من خليّة اجتماعية يتكامل فيها الرجل والمرأة تكاملاً جسدياً وروحياً واجتماعياً، بحيث يتحوَّلان إلى خليّة تنتج الحياة في جانبها المادي، وتمتد في الحياة في إنتاج الإنسان روحياً وتربوياً وثقافياً.. ونحن عندما ندرس مسألة التدبير في الأسرة، فإننا نجد مسؤولية التدبير ـ حتى داخل المنزل ـ لا تنحصر بالمرأة، بخلاف ما يتصوَّره البعض من أنّ الإسلام حَبَس المرأة في داخل المنزل، وجعلها إنساناً معزولاً عن حركة الحياة، وأنّ دورها ينحصر في إنتاج الأولاد وتدبير المنزل في حاجاته الغذائية والتنظيفية، وما إلى ذلك مما تعارف الناس عليه. أما الرجل (الزوج) فيتصوَّرون أن لا مسؤولية عليه في داخل المنزل، ومسؤوليته فقط أن يهيئ للمنزل حاجاته من خلال ما يكتسبه في عمله.. وربما يتصور بعض الناس أنّ المسألة تنطلق من قاعدة تشريعية في الإسلام، وليس من قاعدة توافقية، أو قاعدة تنفتح على مسألة (أخلاقية) للطرفين فيما تمثله كلمتا (المودة) و (الرحمة).
لو أردنا أن ندرس المسألة دراسة موضوعيّة من الناحية الشرعية القانونية ـ كما هو القانون في موادّه التي يحدِّد فيها حقوق الناس مع بعضهم البعض ـ فإننا نرى من وحي التشريع الإسلامي، أن العقد الزوجي لم يحمِّل المرأة أية مسؤولية عن مجمل تدبير المنزل، بل نلاحظ أن التشريع أقرَّ بأنّ للمرأة أن تطلب أجراً عليه، فهي بالنسبة إلى الزوج عاملة كأي عامل آخر، لها أنْ تتبرَّع بعملها، ولها أنْ تطلب أجراً على عملها، ولعل أوضح نص في هذا المجال، هو ما تحدَّث به القرآن الكريم عن الأم المرضعة، وأنّ لها أن تطلب أجراً على رضاعها، مع أنّ الرضاع من أكثر الأشياء ارتباطاً وصلةً بالأمومة والتدبير الزوجي، وذلك هو قوله تعالى: )فإن أرضعنَ لَكُمْ فَآتوهُنَّ أُجورَهُنَّ وأْتَمِروا بَيْنَكُمْ بِمَعْروف(، وإذا أرادت امرأة أخرى أنْ ترضعه بأجر، فالأمّ مقدمة، إلاّ إذا طلبت أجراً يزيد عن أجر الأخرى. قال تعالى: )وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ(، بحيث فرض كلّ فريق على الآخر قيمةً مرتفعةً فلم يصل الأمر إلى توافق بينكم، أو أصرّت المرأة الأم على أجر مرتفع لا يقبل به الأب لزيادته عن الحدّ الطبيعيّ، )فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى(([74])، أي امرأة أجنبيّة غير والدته إذا رضيت بأجر معقول.
وأذكر أني قرأت قبل أكثر من 20 أو 25 سنة، خبراً في مجلة (آخر ساعة) المصرية، أنه عقد في الغرب مؤتمر يبحث في مسألة أن الزوجة في البيت الزوجي تستحقُّ الأجر على عملها أو لا؟ وكان المؤتمر ـ كأي مؤتمر ـ بين مثبت ونافٍ، وكان تعليقي في ذلك الوقت أنّ الإسلام احترم إنسانية المرأة واعتبر أن العقد الزوجي لا يُلزمها بذلك، فهي حرّة في أن تعمل أو لا تعمل كأيِّ شخص حرّ في أن يعمل أو لا يعمل، أو أن يتبرع بعمله أو أنْ يطلب أجراً عليه من الناحية القانونية، كما ذكرنا.
إنّ العقد الزوجي لا يفرض على المرأة من الناحية التشريعية إلاّ المسألة الجنسية، طبعاً في الحالات الطبيعية، أما في الحالات المرضية، أو في الحالات التي يمكن أن تواجه حرجاً أو ضرراً أو ما إلى ذلك، فتشملها الأدلة التي تنفي الحرج والضرر عن الإنسان.. ومن رأينا الفقهيّ أيضاً أن حق المرأة على الزوج ـ خلافاً لرأي المشهور من الفقهاء ـ كحق الزوج على المرأة في الجانب الجنسي؛ إذ يجب عليه أنْ يستجيب لحاجاتها في غير حرجٍ ولا ضرر، كما يجب عليها أنْ تستجيب لحاجته كذلك، حتى إنّ حرمة خروج المرأة من بيت زوجها بغير إذنه مختصّ بما إذا كان خروجاً تمرّدياً، أما الخروج الطبيعي لزيارة أهلها أو غيرهم، أو للتبضّع وغيره إذا لم يكن الزوج بحاجة إليها في الاستمتاع، فغير محرّم، وهو الموافق لرأي بعض الفقهاء، ومنهم السيد الخوئي في مسألة خروج المرأة من المنـزل.
مسؤولية البيت:
لذلك، فإنّ مسؤولية البيت ـ حتى الداخلية ـ تقع على الرجل وليست على المرأة. نعم، إذا اشترط الزوج على المرأة أنْ تقوم بأعمال المنزل، ففي هذه الحالة يجب عليها أنْ تقوم بتلك الأعمال كأيِّ إنسان يشترط على إنسان آخر عملاً ضمن العقد، وفقاً لما روي عن النبي(ص): «المؤمنون عند شروطهم إلاّ شرطاً حرّم حلالاً أو حلَّل حراماً»([75])، أو كما نقل التاريخ في مسألة اتّفاق الإمام علي(ع) والسيدة فاطمة الزهراء(ع) على مسألة التدبير المنزلي، فكان الإمام علي(ع) يستقي الماء للمنزل ويحتطب ويكنس البيت، وكانت السيدة فاطمة الزهراء(ع) تطحن وتعجن وتخبز، من دون أنْ يرى الإمام علي(ع) نزولاً في شخصه أو في موقعه إذا قام بكنس البيت، أو إذا قام باستقاء الماء أو بالاحتطاب للبيت بنفسه.
يقول النبيّ(ص) ـ في ما روي عنه ـ: «لا يخدم العيال إلاّ صدّيق أو شهيد» ممن يشهد على الناس، «أو رجل يريد الله به خير الدنيا والآخرة»([76]). وفي مجمل تعامل الرجل مع عائلته يقول(ص): «اتقوا الله في الضعيفين، اليتيم والمرأة، فإن خياركم خياركم لأهله»، وفي حديث آخر: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»([77])، وفي حديث شريف آخر: «من حسن برّه بأهله زاد الله في عمره» ([78]).
فالمرأة في الإسلام ـ من الناحية القانونية ـ ليست ربة بيت، ولكن ذكر في القرآن الكريم قولُه تعالى: )وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً((الروم:21)، فالعلاقة الزوجية لا يحكمها القانون، وإن كان القانون موضوعاً من أجل الحالات الاستثنائيّة التي يُراد من خلالها للرجل والمرأة أن يقفا عند حدّ معين في التشريع القانوني في المشاكل التي تحدث بينهما، بل إنّ ما يحكم العلاقة الزوجيّة هي المودة والرحمة من الناحية الأخلاقية، ومن ناحية الإحساس بالاندماج بين الرجل والمرأة، لا الاندماج الجسدي فقط، ولكن الاندماج الإنساني، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: )هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ((البقرة187)، يعني أن علاقة الرجل بالمرأة، في عملية الاندماج والوحدة، كما هي علاقة اللباس بالجسد؛ فالمرأة تلبس الرجل، والرجل يلبس المرأة، حتّى كأنّه ليس هناك انفصالية في طبيعة حركتهما في الحياة، ما يفرض على المرأة ـ إنسانيّاً وأخلاقيّاً ـ أن تقوم بأعمال البيت طوعيّاً وتبرّعاً ومشاركةً في مسؤوليّات الأسرة؛ لأنّها الركن الأساس في الأسرة، إحساساً منها بالجهد الذي يبذله زوجها في الحصول على التمويل الذي يقوم بحاجات الأسرة، كما أنّ على الرجل ـ إنسانيّاً وأخلاقيّاً ـ أن يتجاوز الحدّ القانوني في الإنفاق، فيقدّم لزوجته المزيد من المال مما تحتاجه في كماليّاتها مما لا يجب عليه، إحساساً منه بالجهد الذي تبذله في رعاية الأسرة تبرّعاً.
عمل المرأة:
وقد نجد في التشريع الإسلامي، أنّ عدم إلزام المرأة بتدبير البيت ورعاية الأسرة من الناحية القانونية، واستحباب ذلك لها، إنما هو باعتبار أنّ قيامها بذلك يؤدّي إلى رضا الله، كما يوحي للزوج بقيمتها الروحيّة وإحسانها العملي إليه، ما يؤكّد العلاقة الزوجيّة بينهما، كما هو الحال في التصرّف الطوعي للزوج تجاهها بما لا يجب عليه، بحيث يتمثّل البيت كلّه معنى المودّة والرحمة التي تظلّله، فتخلق فيه معنى الحبّ والانفتاح بما ينعكس إيجاباً على الأسرة كلّها.
ونحن نلاحظ ـ في مسألة عمل المرأة إلى جانب عمل الرجل ـ أنّ هناك تطوّراً فرضته تطوّرات الحياة، سواء من خلال الحاجات الاقتصادية التي قد يحتاج فيها إلى التكامل بين المرأة والرجل في العمل حتى يغطِّيا تكاليف الأسرة، أو من جهة حاجة المرأة الاقتصادية عندما تطرأ عليها بعض الظروف السلبية، كأن تفقد أهلها، أو يموت زوجها، أو تُطلَّق منه، أو ما إلى ذلك، أو أنها تريد أن تشعر بإنسانيتها من خلال الإنتاج العلمي والعملي من حيث كونها متعلّمة ومثقّفة، أو لأنها صاحبة اختصاص، حتى إن هناك بعض الاختصاصات تفرض أن تكون هناك نساء يتخصَّصن فيها، كما في الطب النسائي وغيره، حيث لا يجوز للرجل في الحالات العادية من ناحية شرعيّة أن يقوم بمعالجة المرأة وما إلى ذلك، ولذلك فرض أن تكون في المجتمع طبقة من النساء عاملات، وهذا ليس جديداً عندنا، فالمرأة كانت تعمل سابقاً في الخياطة والفلاحة والتطريز، وكانت أمهاتنا يعملن بطريقة وأخرى، ولكن الحياة تطوَّرت وأصبحت ساحات العمل أوسع، والإسلام لم يحرِّم على المرأة أنْ تعمل، كما لم يحرّم على الرجل ذلك. وقد ذكرنا أكثر من مرة أنّه إذا كانت المسألة الأخلاقيّة تفرض على المرأة أن تعمل في ظروف أخلاقية ملائمة، فهذه الظروف الأخلاقية الملائمة أيضاً مفروضة على الرجل؛ لأن الأخلاق ليست ضريبةً مفروضةً على المرأة فقط، وإنما الأخلاق هي للإنسان كلّه، رجلاً كان أو امرأة، فكما لا يجوز للرجل أنْ يعمل في ظروف محرَّمة، فإنه لا يجوز للمرأة كذلك، فهما سواءٌ في كل ما فرضه الله سبحانه وتعالى من نظام أخلاقي هنا وهناك.
المرأة العاملة وتدبير المنزل:
هنا لا بد أن ينظّم واقع المنزل الزوجي بحسب ما تقتضيه الظروف الحاضرة، والظاهر أننا لم نصل حتى الآن إلى إيجاد نظام إنساني كهذا، فنحن نلاحظ الآن أنّ المرأة العاملة التي قد تعمل في مصنع أو في مزرعة أو في التعليم أو في الطب، أو في غير ذلك، تأتي بعد انتهاء الدوام وهي في أشدّ حالات الإجهاد، لتدبّر أمور الأولاد عندما يعودون من المدرسة، ولتهيئ الطعام، وتقوم بتنظيف البيت وغير ذلك، ولذلك تكون المسألة ـ بالنسبة إليها ـ جهداً فوق جهد، ومن خلال ذلك، قد تنتج مشكلة زوجيّة؛ لأنها لا تستطيع أن تتفرّغ لزوجها في حاجاته الخاصة، باعتبار أن هذا الجهد المضاعف لابد أنْ ينعكس سلباً على طاقتها النفسية والجسدية.
ولذلك فقد أصبحت مشكلة المرأة العاملة من المشاكل التي تحتاج إلى علاج، قد يكون بالتفاهم بين الزوجين في أنْ يقوم الزوج بالعمل كلّه، أو تختار المرأة عملاً لا يأخذ كل وقتها أو أكثر وقتها، أو أن يتقاسما المسؤولية كما تقاسمها الإمام علي(ع) والسيد الزهراء(ع)، حيث كان الإمام(ع) ـ كما ذكرنا ـ يحتطب ويستقي ويكنس البيت، وكانت السيدة الزهراء(ع) تطحن وتطبخ وتعجن وتخبز، بحيث نخرج من الذهنية المتخلّفة الموجودة لدينا، من أنه يُعاب على الرجل أن يعمل في البيت، حتى إن المرأة قد ترى عيباً عليها أنْ تمكِّن الرجل من العمل في البيت، بينما لا نرى لدى الأمم الأخرى مشكلةً في أن يقوم الرجل بالطبخ والتنظيف وما إلى ذلك.. هذا في الحالات التي لا يمكن أن يستخدما خادمةً تقوم عنهما بشؤون البيت بسبب تدنّي وضعهما الاقتصادي أو من خلال بعض الأوضاع الاجتماعية.
هذا النوع من التدبير الذي هو مسؤولية الرجل من الناحية التشريعية، كما هو مسؤولية المرأة من الناحية الواقعية، أو من الناحية الأخلاقية، فيما أراد الله سبحانه وتعالى للمرأة أن تعطي كل قلبها وجهدها وكل محبتها وإخلاصها لزوجها، كما أُريد للرجل أنْ يكون كذلك بالنسبة للمرأة. ولذلك، لا بد لنا من أنْ ندرس المشاكل الناجمة عن عمل المرأة دراسةً واقعيةً عمليةً، حتى نستطيع أن نجد حلاً؛ لأنّ الحل ليس ـ كما يتصوَّر البعض ـ أن لا تعمل المرأة، وإن كنا نعتقد أن على المرأة أن توازن بين عملها خارج البيت وبين رعايتها لأولادها وزوجها، وما إلى ذلك، وأن تدرس هي وزوجها المسألة الاقتصادية، وأنه هل يمكن لهما أنْ يعيشا في وضع مستقر اقتصادياً من دون عمل المرأة أو لا يمكن ذلك؟ لأن القضية قد تكون في حال الضرورة، فكيف يمكن أن نخفف من جهد المرأة، وكيف يتحمَّل الرجل بعض جهده، وما إلى ذلك، وهذه المشكلة تُبحث اليوم من قِبَل علماء الاجتماع وغيرهم، باعتبار أن تطوّر الحياة أعطانا بعض النتائج الإيجابية أو الحل لبعض المشاكل، ولكنَّه خلق لنا مشاكل أخرى أكثر تعقيداً من سابقاتها، والّتي لا بدّ أنْ نحلّها ونتفاداها. هذا من حيث الخط العام في الجانب التشريعي من جهة، والجانب الواقعي في مواجهة المشكلة من جهة أخرى.
التخطيط لبناء أسرة:
تبقى هنا نقطة أخرى، حيث إنّ مسألة التدبير المنزلي ليست تدبير الحاجات الغذائية والصحية والتنظيفية، وما إلى ذلك، بل هي علاقة الرجل بالمرأة باعتبار أنهما يمثلان الشخصين المسؤولين عن بناء الخلية الاجتماعية التي يبدآن بناءها من أجل أنْ تتوسع في أولادهما في المستقبل.
في البداية، هناك نقطة يتحمَّلها الرجل، وهي أنْ يختار لأولاده المستقبليين أمّهم، وقد ورد في بعض الأحاديث عن الإمام جعفر الصادق(ع): «إنّ من واجب الولد على الوالد اختياره لأمّه»([79])، بحيث تستطيع أن تربّي الولد ليكون إنساناً يعيش إنسانيته، وليكون عبداً مطيعاً لربه، وليكون عنصراً اجتماعياً يخدم المجتمع ولا يسيء إليه، حتى إنّ هناك بعض الأحاديث تقول: «اختاروا لنطفكم فإنّ الخال أحد الضجيعين»([80])، باعتبار أن المرأة قد تـأتي ـ كما في حديث آخر ـ بأولاد يشبهون أخوتها وأخواتها، فعليك أنْ تختار لولدك أمّه، بأنْ لا تختار المرأة ذات الأخلاق السيئة لمجرّد أنها صاحبة مال أو صاحبة جمال أو ما إلى ذلك، وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): «إيّاكم وخضراء الدِّمن، قالوا: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء»([81])، باعتبار تأثّرها بالبيئة الخبيثة التي عاشت فيها، بل أنْ تختار الإنسانة التي تصلح أن تكون أماً لأولادك، سواء في ما تعطيهم من وراثة أخلاقية مما تفرضه طبيعة قانون الوراثة أو غير ذلك.. حتى إنه رُوي ـ إذا صحَّت القصة ـ أن الإمام علي(ع) أراد أنْ يتزوَّج، فطلب من أخيه عقيل رحمه الله أن يختار له امرأة ولدتها الفرسان، بحيث يكون آباؤها وأجدادها من فرسان العرب الذين يتميَّزون بالشجاعة، لتنتقل هذه الخصوصية من الشجاعة لأولاده، وتنقل هذه القصّة في قضية أم البنين، أم العباس وأخوته(ع).
وقد ورد أيضاً في بعض الأحاديث: أنّ شخصاً سأل النبي(ص) قال له: من أتزوَّج؟ قال: «عليك بذات الدين»([82])، يعني الإنسانة التي تملك ديناً يقف بها عند حدود الله سبحانه وتعالى، وينعكس على تصرفاتها الاجتماعية وعلاقتها بالإنسان الآخر، وأيضاً رعايتها لأولادها، بحيث ينشأ أولادها نشأة صالحة. وقد ورد عن الإمام علي(ع)، وهو يتحدث عن نفسه، ولكن بأسلوب الموعظة، فيقول: «ما سألتُ ربّي أولاداً، نضر الوجوه»، يعني جميلي الوجه، «ولا سألته ولداً حسن القامة، ولكن سألتُ ربّي أولاداً مطيعين للّه، وجِلين منه، حتى إذا نظرت إليه وهو مطيع لله قرّت عيني».
وهكذا نقول بالنسبة للمرأة التي يختارها الرجل لتكون أمّاً لأولاده، ونقولها بالنسبة إلى المرأة لتختار أباً لأولادها، وهذا مما ورد في الحديث المشهور: «إن جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»([83])، أنْ يُختار الإنسان الذي يملك الخلق الذي ينفتح به على الناس ويتحمل مسؤولياته عنهم، وفي كل ما يمكّنه من أنْ يكون أباً صالحاً لأولاده، وأنْ يكون له الدين الذي يمنعه من اضطهاد زوجته ومن الإساءة لمن حوله وما حوله، وما إلى ذلك..
وعلى هذا الأساس، نفهم أنّ تدبير الأسرة ـ في مسألة اختيار الأبوين ـ يسبق بناء الأسرة في عمليّة إدارتها، فعندما نريد أن نكوّن أسرة إسلامية صالحة، فإنّ على الرجل الذي يريد أن يكون زوجاً، أن يفكر في من تكون أماً لأولاده، وسيدة لبيته، وأن تفكر المرأة أيضاً في الزوج الذي تختاره ليكون أباً لأولادها، وسيداً لبيتها. هذا في المجتمعات التي تعطي الحرية للمرأة، ولكننا ـ وللأسف ـ لا نزال مجتمعاً جاهلياً، يحاول أن لا يعطي المرأة حريتها فيمن تختاره زوجاً لها، بل إنّ الأب هو الذي يزوّجها، والأخ هو الذي يزوّجها، والعشيرة هي التي تزوّجها، وما إلى ذلك.. وربما نجد في بعض المجتمعات أن هناك ضغطاً على الرجل أيضاً في أن يختار ابنة عمّه، أو يختار قريبته، أو ما إلى ذلك، بضغط من أمّه أو من أبيه. وهذه نقطة لا بد أن تُدرس لأجل التحضير لبناء أسرة.
فسخ العلاقة الزوجية:
والأمر كذلك بعد الزواج، وعندما تتألف الأسرة من الزوجين، حيثُ جعل الله سبحانه وتعالى هناك عناوين أخلاقية رائعة. قال تعالى: )وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ((النساء:19)، فلا تتعقّدوا لترتجلوا فسخ العلاقة الزوجية، بل فكروا بعقولكم، وادخلوا في الحسابات على مستوى المصلحة والمفسدة لا على مستوى المزاج، )فإنْ كَرِهْتُموهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا(، لأنّ الكثيرين من الناس عندما يعيشون بعض المشاكل في داخل الحياة الزوجية، فإنهم يبادرون إلى فسخ العلاقة، أو إلى غير ذلك من الأساليب غير الإنسانية بالنسبة إلى الزوجة، انطلاقاً من عصبيّة المزاج أو من الانفعالات النسبيّة أو الارتجال العاطفي، لا من خلال المصلحة أو المفسدة التي يرتبط بهما مستقبل الأسرة، ولا سيّما مع وجود طرف ثالث لا بدّ من ملاحظة أوضاعه الداخليّة والخارجيّة في أيّ قرار يتّصل بالأسرة، ثم قوله تعالى: )وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ((البقرة:228)، وبعض الرجال ـ كما كنا نقول على سبيل النكتة والطرافة ـ يعتبر الدرجة كعلوّ ناطحة سحاب، ولكنّ هذه الدرجة هي درجة الطلاق، حسب تفسير البعض. قد تنشأ هناك مشاكل فيما بينهما، ولكنّ الله تعالى يقول: )وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ الله بَيْنَهُمَا((النساء:35)، ولا نلجأ مباشرة إلى الطلاق، فيلجأ البعض إلى المشايخ، بحيث يطلّق بعضهم غيابياً، حتى نقل لي عن بعض المشايخ إنه طلق غيابياً طلاقاً ثالثاً لزوجين لهما ثلاثة عشر ولداً، ويمكن أن يكون هذا جائزاً، ولكنه جريمة من الناحية الإنسانيّة والأخلاقية العامة؛ لأنّ المفروض دراسة الأمر بأناة ومسؤوليّة ومراعاة لجميع الجوانب.
وهناك قوله تعالى: )فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ((البقرة:229)، فهو الذي يحكم الحالة الزوجية في المعاشرة بين الزوجين، أو عندما نريد أنْ ننهي الحياة الزوجيّة، ف )أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ(، أي أننا دخلنا بيت الزوجية بحب واتفاق، فيجب أن نفترق على حب ووفاق، حتى إنه سبحانه وتعالى يتحدث عن بعض الناس الذي يفرض على زوجته أن تبذل مهرها، قال تعالى: )وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا((النساء:20-21)، أي أنه يعبر عن العقد الزوجي أنه من قبيل الميثاق الغليظ، وأنه لا يجوز للإنسان أن يجبر زوجته على أنْ تتنازل عن حقها، ولكنَّ المشكلة أن البعض لا يفهم هذا الميثاق، فنجد حالات إيذاء كثيرة من الرجل لامرأته، بحيث إن بعض الناس قد يعتبر أن عقد الزواج يجيز له أن يضربها، أو أن يطردها من بيته، وأن يتعسَّف معها، وما إلى ذلك.. ويمكن أن نقرأ بعض النصوص في هذا الجانب السلبي والتي توحي بالجانب الإيجابي، في الحديث عن النبي(ص): «ما زال جبريل يوصيني بالمرأة حتى ظننت أنه لا ينبغي طلاقها إلاّ من فاحشة مبينة»([84]) يعني أن طلاقها جائز، ولكن يقول إنه عندما رأيت هذه الوصية المتلاحقة بالمرأة، فإني شعرت أن الطلاق لا يجوز إلاّ إذا ارتكبت فاحشة، أما في الحالات العادية التي تحدث فيها مشاكل وتعقيدات وما إلى ذلك، فلا ينبغي طلاقها.
وفي الجانب الآخر، ورد في الحديث: «جهاد المرأة حسن التبعّل»([85]) أي أن تكون المرأة زوجةً صالحةً تصبر على ما ترى من أذى زوجها، ولها الأجر الكبير على ذلك، حتى يمكن أن نحصّن الحياة الزوجية، من أن لا تخضع للانفعالات وللحالات النفسية الطارئة، لأنه لا يمكن ـ في الدنيا ـ أن يعيش اثنان، حتى الأب والأولاد، أو الجيران مع بعضهم البعض، أو الأخوة فيما بينهم، دونما مشاكل فيما بينهم، لأن الإثنينية قد تخلق حساسية معيّنة بين هذا وذاك، تبعاً لاختلاف المزاج وما إلى ذلك.
وعن النبي(ص) يقول: «ألا وإن الله عزَّ وجلّ ورسوله بريئان ممن أضر بامرأة حتى تختلع منه»، بحيث يستمر باضطهادها، ويضغط عليها حتى تقول له: أبذل لك مهري وأبذل لك كلَّ شيء لكي تخلعني. وفي حديث آخر ـ وهو موجَّه أيضاً لبعض الرجال الذين يعتبرون أن لهم الحق في ضرب زوجاتهم ـ يقول(ص): «إني لأتعجب ممن يضرب امرأته وهو بالضرب أولى منها»، ولتحقيق التوازن قال النبي(ص): «من كانت له امرأة تؤذيه، لم يقبل الله صلاتها ولا حسنة من عملها حتى تعينه وترضيه وإن صامت الدهر». ويكمل النبي(ص): «وعلى الرجل مثل ذلك الوزر والعذاب إذا كان لها مؤذياً ظالماً»([86]).
الاحترام المتبادل:
ولذلك لا بد من أن تنطلق الحياة الزوجيّة، على أساس الاحترام المتبادل؛ لأن المرأة ليست إنساناً من الدرجة الثانية، بل إنّ المرأة والرجل يحكمهما العقد الزوجي، ولا تحكمهما العادات والتقاليد، والعقد الزوجي يساوي في المسؤولية بين الرجل والمرأة في الحياة الزوجية، وإذا كانت الآية الكريمة تقول : )الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ((النساء:34)، فليس المراد بالقوامة السيطرة، بل إن ذلك يرجع إلى التدبير في المنزل وإدارته، ولأن هناك بعض الخصائص التي يتميز بها أكثر مما تتميز بها المرأة، ولكن ليس للرجل أنْ يضطهد المرأة، كما أنه ليس للمرأة أن تعصي زوجها أو تؤذيه في ما أمره الله سبحانه وتعالى. ولذلك فإننا عندما ندرس القرآن الكريم، في مسألة الحقوق والواجبات، وفي مسألة المنـزلة عند الله سبحانه وتعالى، فإنّ الله جلَّ وعلا ساوى بين المؤمنين والمؤمنات، قال تعالى: )وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ((التوبة:71)، ونقرأ في سورة (الأحزاب) في قوله تعالى: )إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ الله كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ الله لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا((الأحزاب:35)، بل إن الله سبحانه وتعالى لم يتحدث عن المؤمن إلاّ وتحدث عن المؤمنة، قال تعالى: )وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ((الأحزاب:36)، وقوله تعالى: )فَاسْتَجَابَ لَهُمْ ربُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى((آل عمران:195)([87]).
سابعاً: تغيير الذهنية حول المرأة:
أ) شرف العائلة
«هناك ذهنية موجودة في التاريخ ولا تزال بقاياها موجودة في الشرق، وإن كانت قد بدأت تتضاءل في الغرب، وهي ذهنية العقدة من ولادة الأنثى، بحيث نجد الرغبة موجودة عند الكثيرين منّا، حتى المتدينين أو المؤمنين، بإنجاب الذكور، خاصَّة الوليد الأول، وربما عاش بعضهم العقدة إذا وُلِدَت له بنت أو بنات، وقد كان الجاهليّون قبل الإسلام يعيشون ذهنية أنّ شرف العائلة مربوط بالأنثى، بحيث إذا أُسيء إلى الأنثى، ولا سيَّما في الأمر الذي يتصل بالعرض، فإنهم يعتبرون أن شرف العائلة قد سقط، ولذلك كانوا يئدون البنت، بمعنى أنّهم كانوا إذا رُزق أحدهم بنتاً دفنها وهي حيّة، وقد ندّد القرآن الكريم بهذه العادة، فقال تعالى: )وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ((التكوير:8)، والموؤدة هي التي يئدها والدها أو أخوها، ويئدها بمعنى يدفنها وهي حيَّة، )بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ((التكوير:9). ولا تزال هذه الذهنيّة معروفةً إلى الآن في كثير من البلدان العربية والإسلامية، وربما الشرقية عموماً، حيث نجد أن البنت أو المرأة إذا انحرفت ـ حتى إذا كان انحرافها تحت ضغطٍ أو اغتصاب ـ فإن العائلة تجتمع لتوكل بعض أفرادها، أخاها أو أباها، أو أيَّ أحد، بقتلها، وهناك بعض القوانين الموجودة في بعض البلدان العربية والإسلامية، لا تعاقب القاتل بجريمة القتل بالقتل، وإنما تعاقبه بعقوبة مخفَّفة تقديراً للظروف الاجتماعية الموجودة التي تحيط بهذا العمل أو بهذا البلد. وكان العرب في ذلك الوقت يئدون البنات، لأنه عندما كانت تقع الحرب بينهم، كان الطرف الغالب يسبي نساء الطرف المغلوب، ويؤدي هذا إلى أن يتزوّجوهن أو يمارسوا معهن علاقات غير شرعية، وهذا ما كان يلطّخ سمعة العائلة أو العشيرة أو القبيلة بالعار، ولذلك كانوا يقتلونها عندما تولد. وقد انتهت ظاهرة الوأد هذه بعد انتشار الدين الإسلامي، لكن المأساة تحولت إلى اتجاه آخر، حيث بدأ البعض بقتل النساء المتزّوجات أو غير المتزّوجات من دون دراسة الظروف التي حكمت على المرأة بأنها ـ مثلاً ـ زانية، وأن ذلك كان باختيارها أو بالإكراه، هذا من جهة».([88])
ب) التمييز بين الذكر والأنثى:
«من جهة ثانية، تعتبر بعض التقاليد والعادات الاجتماعية أنّ الولد الذكر هو الذي يمكن أنْ يقوم بالمسؤولية تجاه العائلة، فهو الذي يعمل، وهو الذي يتاجر، وعلى المرأة أو البنت أنْ تجلس في البيت، فتصير عبئاً على البيت؛ لأنّها مستهلِكة وليست منتجة، وقد انطلقت هذه الأفكار مع ما يشير إليه بعض المحلّلين النفسانيين إلى نقطة، وهي أنّ حركة التاريخ بشكل عام، إلا في بعض الاستثناءات، هو تاريخ الذكورة، وليس تاريخ الأنوثة، يعني أن الذكر هو الذي يشرِّع، وهو الذي يحكم، وهو الذي يصنع العادات والتقاليد، ولذلك أصبحت الذهنية تعتبر الأنثى إنساناً من الدرجة الثانية أو الثالثة أو حتى لا درجة لها نتيجة سيطرة الذكر على الأنثى في مدى التاريخ. ونحن نعرف أن التاريخ عندما يمتد آلاف السنين، فإنه يصنع ذهنية، وتبدو هذه الذهنية كما لو كانت طبيعية، بحيث يواجهها الإنسان كما يواجه الحالات الطبيعية الذاتية، حتّى إنّ بعض التقاليد والعادات ـ في بعض البلدان ـ تعتبر أنّه لا يجوز أنْ تُذكر المرأة باسمها، سواءٌ من قِبَل الأهل أو الزوج، مع أنّ النبي(ص) كان يذكر اسم فاطمة الزهراء(ع)، والقرآن تحدّث عن مريم بنت عمران(ع)، ونحن الآن نتكلم عن السيدة زينب(ع)، وما إلى ذلك، حتى إنّ بعض النساء سُئلت: ما هو اسمك، فأجابت: ليس لي اسم! لأني لا أنادى به حتى في البيت، لأنها تنادى بأم فلان، مع أنّ الاسم ليس فيه أية سلبية بالنسبة للإنسان، لأنه رمز لما يعرف الإنسان به.
وإذا أردنا أنْ نواجه القرآن الكريم وكيف يتحدث عن هذه الذهنية، نقرأ قوله تعالى: )وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى((النحل:58)، والله سبحانه وتعالى يتحدث عن ذلك الواقع، )ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ(، يكظم بمعنى يحبس غيظه، كأن في صدره غيظاً والظروف لا تساعده على أنْ يُظهره، )يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ((النحل:59)، كأنه فعل شيئاً معيباً، ويريد من القوم أنْ لا يكتشفوا هذا العيب، وهو أنه قد وُلِدَت له بنت، )أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ( أي يدع هذه الأنثى على ضعفٍٍ واحتقارٍ وما أشبه، )أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ( فيدفن الوليد في التراب، )أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ( وهو الحكم في التمييز بين الأنثى والذكر، واعتبار أنّ الإنسان عندما يرزق بأنثى، فهي مشكلة له وعيب، وما إلى ذلك. وعندما نريد أنْ نستخدم مصطلحاتنا الحديثة، نقول: إن هذا التمييز عنصري، لأنه من قبيل التمييز بين الأبيض والأسود، مثلاً، أو التمييز بين الشرقي والغربي، وما إلى ذلك، سواء كان في الألوان، أو في الجغرافيا، أو في أي مجال من مجالات تنوّع الناس؛ لأننا نعتبر أنّ تفضيل إنسان على إنسان لمجرّد هذه العناوين الخارجية التي يتّصف بها من دون الالتفات إلى القيمة الروحية والفكرية وما إلى ذلك، هو تمييز عنصريّ.
ولذلك نرى ما يتحدَّث به اليهود من أنّهم شعب الله المختار تمييزاً عنصرياً، وهم أيضاً في الدولة التي صنعوها ظلماً وعدواناً يميزون بين العربي الموجود أو المسلم أو المسيحي الموجود في كيانهم، نقول كذلك عندما يحصل التمييز بين الذكر والأنثى فهو تمييز عنصري، بل هو أسوأ من التمييز باللون أو بأي شيء آخر، ففي الحديث الشريف: «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى»، والله سبحانه وتعالى حدَّثنا عن المساواة في التنوَّع، ولم يجعل التنوع بين الناس ميّزة وفضيلة لهذا النوع على ذلك النوع، قال تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا((الحجرات:13)، فلم يفرِّق بين هذا الشعب وذاك الشعب، وهذه القبيلة وتلك القبيلة؛ لأنّ كلَّ الناس مخلوقون من ذكر وأنثى، والله سبحانه وتعالى إنما جعل تنوعاً هنا وهناك، بحيث جعل شعوباً متنوعة، وقبائل متنوعة، بحيث تتحرك هذه الأنواع كلٌّ في دائرتها، حتى تملك بعض الخصائص من العلم والخبرة والأمور الأخرى، حتى يتعارف الناس فيما بينهم، ويعطي كل شعب للشعب الآخر ما لديه من خصائص وتجارب، ولكن كل هذا لا يمثل القيمة، فالقيمة في قوله تعالى: )إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ(، فالله سبحانه وتعالى لا يريد أنْ يعتبر هذه الخصوصيات الخَلقيّة أساساً تمييزاً عنصرياً، فكيف بالنسبة للذكر والأنثى؟! الذكورة والأنوثة هي في كيان الإنسان، هي خلق الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الذكر يملك في داخل تكوينه العقلي وتكوينه الروحي وتكوينه الجسدي، ما جعله والأنثى يتشاطران بناء الحياة، وكذلك الأمر بالنسبة للأنثى. ولذلك فإنّ التمييز العنصري بالنسبة إلى الذكر والأنثى أخطر من ناحية القيمة الإنسانية من التمييز بين الأحمر والأصفر والأبيض والأسود، هذه هي الفكرة الإسلامية، ولذا قال تعالى: )أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(، يعني أن هذا الحكم حكم ظالم وحكم باطل وحكم سيئ، هذا بالنسبة إلى الكتاب العزيز». ([89])
ج) موقع البنت
«يمكن أنْ تضيء - ما ذكرناه - بعضُ النصوص الواردة عن الرسول(ص) وعن الأئمة من أهل البيت(ع)، الذين كلامهم هو كلام الرسول(ص). ففي الرواية: «أُتِي رجل» يعني أُتي به من قبل أهله، «وهو عند النبي(ص) فأخبر بمولود أصابه» أي زوجته كانت تلد فأخبر بالنتيجة، «فتغيّر وجه الرجل، فقال له النبي(ص): ما لك، فقال: خير» فلم يرد أن يدخل في التفاصيل مع النبي(ص)، «فقال له النبي(ص): قل، ما الذي حدث؟ قال: خرجت والمرأة تمخض» يعني في حالة ولادة، «فأُخبرت أنها ولدت جارية» يعني أنثى، «فقال له النبي(ص)، الأرض تقلها والسماء تظلها» مثل بقية الناس، «والله يرزقها» ورزقها ليس عليك، «وهي ريحانة تشمّها»([90]) دلالة على ما تحمله الأنثى لأبيها من حنان، ومن عاطفة قد لا توجد لدى الذكر..
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(ع): «عن رجل رآه متسخّطاً من جارية ولدت له» أيْ ساخطٌ وغَضْبان، فقال له الإمام(ع) ـ والأئمة(ع) عندهم أساليب متنوعة في جعل الإنسان يتحرك بالفكرة دون أنْ يشعر أنها على خلاف ما هو عليه ـ «قال: أرأيت لو أن الله تبارك وتعالى أوحى إليك أن أختار لك أو تختار لنفسك ما كنت تقول؟» أيْ عندما حملت زوجتك، لو أنّ الله تعالى أوحى لك: أيَّ شيء تحب؟ أنا أختار ما هي المصلحة أم أنت؟ «قال: كنت أقول يا ربي تختار لي.. قال: فإن الله قد اختار لك» فما دمت مستعداً لأن تقبل بخيرة الله تعالى لك أكثر من خيرتك لنفسك، فالله تعالى اختار لك، فارضَ بما اختاره الله تعالى لك. وكان الإمام الصادق(ع) يقول للشخص الذي يتعقّد من أنه (أبو البنات) ولم يأته أولاد: «هل أنت أفضل أم رسول الله(ص) أفضل؟» فإنه «كان رسول الله أبا البنات»([91]) وكان عنده ولد وهو إبراهيم، فاختاره الله سبحانه وتعالى.
وفي حديث آخر عن الرسول(ص): «لا تكرهوا البنات، فإنهنَّ المؤنسات الغاليات»، وفي حديث آخر عنه(ص): «من كانت له ابنة فأدَّبها وأحسن أدبها..» على الأخلاق والقيم الروحية والأخلاقية، «وعلّمها..» وهذه موجَّهة إلى الذين ينكرون على البنت أنْ تتعلَّم، ويعتبرون أن البنت للمطبخ ولحضانة الأولاد فقط «فأحسن تعليمها، فأوسع عليها من نِعم الله التي أسبغ عليها» فإن له جائزة كبيرة: «كانت له منعة وستراً من النار»([92])، فثوابه من الله سبحانه وتعالى على هذه الرعاية التأديبية والتعليمية والإحسانية لابنته أنْ يجعل هذا ستراً ومنعةً من النار.
وفي حديث آخر أيضاً عن الرسول(ص): «من ولدت له ابنة فلم يؤذها ولم يهنها، ولم يؤثر ولده عليها..» يعني من الذكور، ولم يفضل الابن الذكر عليها، نتيجة ذكورته، باعتبار أنه الولد المميز وهي في الدرجة الثانية أو الثالثة «أدخله الله بها الجنة»([93]). وهذا هو المعنى الإنساني الذي يريد الرسول(ص) للناس أنْ يعيشوه، بمعنى أن تتعامل مع ابنتك كإنسان كامل، يحتاج إلى الاحتضان والمحبة والرعاية والتدبير، تماماً كما هو الولد، وأن لا تؤثر ولدك على ابنتك، ولكننا ـ مع الأسف ـ لا نزال نعيش بحسب الواقع غير ذلك مما بينّاه».([94])
د) إيثار الذكور بالوصية:
«هناك ظاهرة أخرى موجودة في مجتمعاتنا، وذلك في مسألة (الوصية)؛ إذ نلاحظ الكثير من الأشخاص يحاول أن يوصي بأكثر تركته للأولاد الذكور، أما البنات، وهنَّ أكثر حاجةً عادةً من الذكور، ولا سيما إذا كنَّ لا يعملن، فإنه ينقص من حظهن، وكأنه يعتبر المال الذي عنده إذا أعطاه للأولاد فإنه يبقي مال العشيرة أو مال القبيلة أو ما إلى ذلك، لكن إذا أعطاه للبنات فإنه ينتقل لأصهرته، مع أننا لو درسنا القضية بعقل بارد، فإنك عندما تعطي ابنك الذكر ويتزوّج، فإنّ الزوجة التي تُعتبر غريبة هي التي تتنعم بهذا المال، وإذا رُزقت ابنتك بأولاد فهؤلاء أولاد ابنتك، وهم أولادك، فكيف لا تعتبرهم أولادك، مع أن النبي(ص) كانت ذرّيته من ابنته السيدة الزهراء(ع)، ابنته المميزة الطاهرة المطهرة، حيث كان يقول الرسول(ص): «إن هذين ابناي» وهو يشير إلى الحسن والحسين(ع).
لذلك، فإنّ تلك الذهنيات ذهنيات جاهلية، تجذَّرت وأصبحت من العادات والتقاليد التي قد يصعب على الكثير من الناس التخلّص منها، لكن يجب أن نعمل على ذلك، وهو أنّ البنت أصبحت تعمل كما يعمل الولد، ولذلك يمكن لبعض البنات أنْ تتملَّك من إنتاجها، ومن عملها أكثر مما يملك الولد، فقضية أن الولد هو المنتج وأن البنت ليست منتجة، هذه النظرة كانت في العصور السابقة، أما الآن فالأمر مختلف، غاية ما هناك أنه يمكن أن تكون هناك تحفّظات، وتساؤلات عندما تعمل البنت وكيف تحافظ على أخلاقها وعلى قيمها، ولكن هذا أيضاً ينطبق على الولد، كيف يحافظ على أخلاقه؟ وقد قلنا سابقاً إن الأخلاق ليست ضريبة مفروضة على المرأة فقط، بل هي مفروضة على الرجل والمرأة، على الإنسان كله، كما قال الرسول(ص): «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ومكارم الأخلاق تشمل الإنسان كله.([95])
ه) زواج المرأة:
«هناك حديث عن النبي(ص) يضيف فيه مسألة الزواج إلى مسألة تعليم الولد. وفي المسائل الفقهية لا يجب على الوالد أن يزوّج ولده، بل إن الواجب على الولد أنْ ينفق على الأب ما يحتاجه في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه، ولكن ورد في الحديث المرويّ عن رسول الله(ص): «حق الولد على والده يحسن اسمه ويعلمه الكتابة»()، وهذه وسيلة من وسائل التثقيف، لأن الكتابة هي التي تجعل الإنسان إلى جانب القراءة إنساناً ينفتح على وسائل المعرفة، فكما أن الإنسان يقرأ ما يقدم إليه إذا تعلّم القراءة، فإنه يكتب أيضاً ما يسمعه أو ما يقرأه في الكتب وما إلى ذلك.. «ويزوّجه إذا بلغ»، أيْ لا بد أنْ يزوّجه إذا بلغ، كواجبٍ يأخذ موقع الحقّ الذي يملكه الولد على والده. وهناك حديث لا يخلو من العنف العقابي في هذا المجال، فعن رسول الله(ص) مما روي عنه: «من بلغ ولده النكاح» يعني سن الزواج، «وعنده ما ينكحه» أيْ من المال الذي يزوّجه به، «فلم ينكحه» أيْ لم يزوّجه، «ثم أحدث» الولد «حدثاً»، كأنْ زَنَى ـ مثلاً ـ «فالإثم عليه»، أي على الأب؛ لأنه كان بإمكانه أن يعصمه من هذه المعصية التي تؤدي به إلى العلاقات غير الشرعية، وذلك بأنْ يهيّئ له وسائل العلاقة الشرعية.
ومن هنا نجد أنّ مسألتي التعليم والتزويج تشملان التهيئة التي يهيئ بها الأب ولده لأنْ يكون إنساناً يملك حركة الثقافة من خلال القراءة والكتابة، ولا يُراد من الكتابة والقراءة المعنى الساذج لهما، بل المراد أنْ يأخذ الولد بأسباب العلم في كلِّ مرحلة من المراحل تبعاً للأوضاع العامة المحيطة به في حاجات العلم، ونحن نعرف أنّ العلم يتطوّر في مناهجه، وفي مراحله، وفي كل موادّه. وربّما نستوحي من مسألة تعليمه، أنْ نشرف على تعليمه في المراحل الابتدائية والثانوية، وربما الجامعية، باعتبار أنّ قضية العلم ليست قضية جامدة، بل هي من القضايا المتحركة..
وقد نستوحي من بعض النصوص من الحديث أنْ «يزوّجه إذا بلغ»، أن المسألة لا تقتصر على الولد الذكر، بل تشتمل على الولد الأنثى، لأنه لا فرق بين الولد الذكر والولد الأنثى في مسألة الحاجة الجنسية؛ فالزواج إنما جُعِل من أجل تحصين الإنسان وإعفافه، والعفّة ليست مجّرد حالة نفسية تجريدية، بل هي مسألة ترتكز على تهيئة وسائل العفة، سواء للذكر أو للأنثى. وإذا كان المجتمع في تقاليده لا ينسجم مع سعي الأب لتزويج ابنته واختياره لها زوجاً مناسباً، فليس ذلك منطلقاً من خلال الشرع، وإنما هو من خلال التقاليد؛ إذ نقرأ في (السيرة النبوية الشريفة) ما يفيد أنّ للمرأة الحق في أنْ تطلب الزواج، فتطلب ذلك من أقاربها كالأب والأخ والعم، أو ممن يملُكُ أمر زواجها ويملك تهيئته، من دون أن يجد الناس ـ وخصوصاً في زمن النبي(ص) ـ في ذلك خروجاً عن المألوف أو الحياء أو ما إلى ذلك..
فقد جاء في السيرة النبوية الشريفة، أنّ النبي(ص) كان جالساً مع أصحابه، إذ جاءته امرأة، فقالت له: زوّجني يا رسول الله، فلم ينكر عليها هذا الطلب، ما يدلّ على أن المجتمع كان لا يخضع لتقاليد سلبية في مثل هذا الطلب، وهنا تذكر الرواية أنّ النبي(ص) قال لمن حوله: من لها؟ فقام رجل، وقال أنا، فسأله النبي(ص) عمّا يملك مما يقدّمه لها من مهر، ولا سيّما في القضايا العادية كالفراش وما إلى ذلك.. فقال الرجل: إني لا أملك شيئاً، فقال النبي(ص) حسب الرواية: «اجلس، فجلس، وقال النبي(ص): من لها؟ فلم يقم غير هذا الرجل، وفي المرة الثالثة لم يقم غير هذا الرجل، فقال له النبي(ص) بعدما شعر بحاجة هذه المرأة إلى الزواج، وبعدم تمكّن هذا الرجل من تقديم أي شيء مالي كمهر لزواجه بها، فسأله إن كان يحفظ شيئاً من القرآن، قال: بلى، قال له(ص): زوجتكها بما معك من القرآن، فتزوّجها».
ونحن عندما نقرأ هذه الرواية، فإننا نلاحظ أنها توحي بأن ليست هناك أي مشكلة شرعية أو أخلاقية في أنْ تطلب المرأة الزواج من أبيها أو من أخيها أو من أمها أو من أيّ إنسان آخر؛ لأنّ ذلك حق لها كونها تحتاج إلى الجانب الجنسي تماماً كما يحتاجه الرجل، أو تشعر بالفراغ في حياتها الخاصّة، أو ترغب في تكوين الأسرة وفي إنجاب الأولاد؛ وعلى الأب أنْ يعمل على أساس تهيئة الزواج لبناته، كما يعمل على تهيئة الزواج لأبنائه، وأنْ يدرس حاجاتهن، خصوصاً أنّ التقاليد قد تمنعُهُنَّ من أنْ يتحدّثنَ بما يردْنَه من ذلك، بل ربما نلاحظ أنَّ الآباء قد يسيئون إلى بناتهم إذا ما أفصحن عن حاجاتهنّ في هذا المجال، وقد يصل بهم الأمر إلى مَنْعهنَّ من الزواج، لأنّه يعتبر أنّ قضية الزواج هو حاجة الذكر فقط، مع أنّ المطلوب هو تحصين المرأة وتحصين الرجل معاً. وإذا كان الإسلام في القرآن وغيره يتحدث: )وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ((النور:33)، فإن هذا يمثّل الحالة التي قد لا يستطيع فيها الإنسان أن يعفّ نفسه بالزواج، فهو لا يمثل الخط العام على الصبر في هذا المقام، لأن الصبر لابد فيه من شروط تجعل الإنسان قادراً على التماسك وعلى التوازن.
وفي هذا الإطار، أحبّ أن أشير إلى مسألة في فتاوى الفقهاء ـ عموماً ـ وذلك في ما يتعلّق بحق الزوجة في الجنس؛ حيث حُدِّد بثلاث مرّات في السنة، في كل أربعة أشهر مرة، حتى إنهم يذكرون أنّه لا يُشترط في الممارسة احترام حاجات المرأة بالنسبة للجنس، فليس من المفروض على الرجل إشباع شهوتها بما يطفئ نار الغريزة، بل قد يكتفون بمسمّى المعاشرة الجنسيّة.. وإني أتساءل أنّه كيف يمكن تحصين المرأة وعفافها بهذه الفتاوى؟! في الوقت الذي نعرف فيه أنّ المسألة أشدّ عليها مما لو كانت لا تزال عزباء، والرجُل بذلك يطبّق القانون في ما يرونه بالطريقة الجامدة في فهم النص لا بروح التشريع، وقد تبدو المسألة أكثر شدّة فيما لو تزوّج الرجل امرأة ثانيةً، حيث يكون للأولى الحقّ في المبيت عندها من دون معاشرة أيضاً، لأنّ ذلك هو حقّ القسم عندهم.
وعلى هذا الأساس ـ ولغيره ـ نحن نُفتي بأنه يجبُ على الرّجل أن يستجيب للمرأة في حاجاتها كما يجب على المرأة أن تستجيب له في حاجاته، إذا لم يكن هناك حرج أو مانع صحي أو ما شاكل ذلك مما يجمّد الوجوب. وقد قال الله سبحانه وتعالى: )وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ((البقرة:228)، والبارز في علاقة المرأة والرجل هو الجانب الجنسي. وإننا من خلال دراستنا لما جاء في النصوص، نقرأ أن الزواج يُراد به إعفاف المرأة، حتى إنه ورد في بعض الأحاديث «من سعادة الرجل أن لا تطمث ابنته في بيته»([96]) يعني أن لا تحيض قبل زواجها، من باب المبالغة.
لذلك نحن نقول إنَّ على الأب أن يهيئ لابنته الزوج الصالح، كما يهيئ لولده الزوج الصالح، لأن كلمة الولد لا يبعد أن يراد بها الذكر والأنثى معاً، هذه نقطة قد تكون محلَّ جدل، ولكننا نستوحيها من الكتاب والسُنّة».([97])
هذا بعض ما أردنا أن نستعرضه في هذه المقدمة من حديث لسماحة السيد في شؤون المرأة وقضاياها، وهمومها ومشكلاتها، وهو جانب من ثقافة أو فقه المرأة، بل فقه الأسرة ككل، داعين القرّاء الأفاضل إلى مراجعة ما تحدّث به سماحته وكتبه في موارد أخرى عديدة، حتى تكتمل النظرة أو الرؤية الإسلامية للمرأة، والله نسأل أن يعيننا على أن نكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين.
عادل القاضي
ديربورن – أميركا
16 شعبان 1426 ه
20 أيلول 2005 م
ملاحظة جديرة بالتنويه!!
لا يخفى على القارئ الكريم أنّ إعداد (الندوة) في كتاب، يتطلّب إعادة النظر في المطالب والصياغات، وربما المزيد من إثراء الإجابة بما لم يسمح به وقت الندوة في حينه، وهذا ما يساهم به سماحته أيضاً في مراجعاته، فإذا وجد القارئ في بعض النصوص شيئاً من التعديل أو الحذف أو الإضافة مقارنة بالنصوص الواردة في كُتب الندوة سابقاً، فذلك مما هو دارجٌ متعارف ومما تقتضيه عملية الإعداد والمراجعة، لاسيما وأن صاحب الكلمة المنطوقة في منبر الندوة هو صاحب الكلمة المكتوبة في كتاب (الندوة).. لذلك اقتضى التنويه.
(المعدّ)
جدول إحصائي بمسائل الندوة
المحاضرات
|
30 محاضرة
|
المسائل القرآنية
|
95
|
المسائل العقيدية
|
34
|
المسائل الفكرية
|
56
|
المسائل التربوية
|
19
|
المسائل الفقهية
|
226
|
مجموع أسئلة ج15
|
430
|
عادل القاضي
دمشق 21 رمضان 1420هـ
ذكرى استشهاد الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)
المصادف 29/12/1999
باب
المحاضرات
المحاضرة الأولى 10 محرّم 1426 هـ 19/2/2005م
لماذا استعادة ذكرى مأساة عاشوراء؟
* إذا كنا من الذين يرفضون المأساة في التاريخ، ضد دعاة الحق، وضد الأبرياء، فإن ذلك يؤدي إلى أن تكون عقيدة رفض المأساة متجذّرة في وجداننا، وفي نظرتنا إلى كلِّ حركة الصّراع.*
استعادة عاشوراء.
مجتمع كربلاء.
شخصيتا الإمام الحسين(ع) وزينب(ع).
الاحتجاج الأبدي.
العاطفة الكربلائية.
دراسة واقع الأمة.
الإمامة رسالة.
زينب(ع) مثال المرأة المسلمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الموقف الشرعي من الشطرنج والنرد:
في أجواء (كربلاء)، لابدَّ لنا من أن نقف، ولو وقفة قصيرة، أمام هذا الحدث المأساوي والتاريخي، لنجيب على بعضِ الأسئلة التي يتداولها الكثيرون من الناس، سواء ممن ينتمون إلى أهل البيت(ع)، أو ممن لا ينتمون إليهم فكراً وخطاً ومذهبا.
استعادة عاشوراء:
هناك حديث يتكرَّر في كلِّ سنة: لماذا تستعيدون هذه الذكرى التي مضى عليها مئات السنين؟ وهل إنَّ الحياة، في كلِّ تطوّراتها المأساوية، وفي كلِّ حركاتها الإصلاحية، تخلو من مأساةٍ تستدرّ الدموع، أو من حركة توحي للناس ببعض ما تتضمّنه تلك الذكرى من خطوط فكرية أو إصلاحية؟ لماذا تستعيدون هذه الذكرى التي ربما تثير بعض الحساسيات في الواقع الإسلامي، وقد تنتج أحقاداً جديدة على أنقاض الأحقاد القديمة، في وقتٍ نحن بحاجة إلى أن ننـزع تلك الأحقاد من قلوبنا، خصوصاً وأن التحديات الكبرى التي تواجه الإسلام والمسلمين من جنود الكفر أو الاستكبار كبيرةٌ جدّاً، وهي تفرض علينا أن ننسى الماضي كلّه بتعقيداته كلّها أمام تحديات الحاضر؟ هذه أسئلة تدور في مجتمعاتنا كل عام.
مجتمع كربلاء:
أمَّا مسألة إثارة ذكرى مأساة كربلاء، فالذين عاشوا المأساة انتقلوا إلى رحمة الله، وكلّ الذين صنعوا المأساة صاروا في رحاب الآخرة، وليست إثارتها في الحاضر هي محاولةٌ للاقتصاص ممّن صنعوها، أو الانتصار لمن وقعت عليهم، وحلّت بهم، ولكنّ لعاشوراء تميّزها، وهي الذكرى التي قد لا نجد مأساةً مماثلة لها في تنوّعاتها. تميّزت عاشوراء؛ لأنّها ضمّت كلَّ نماذج الإنسان؛ فهناك الطفل الرضيع، وهناك الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، وهناك الشباب في تنوّعات أعمارهم، وهناك الشيوخ في سن السبعين والثمانين والتسعين، وهناك النساء في مختلف مميزاتهن، من حيث الوعي، ومن حيث الشجاعة، ومن حيث صلابة الموقف.
ولذلك، فإنَّنا نستطيع أن نقدِّم ـ من خلال إثارة ذكراها ـ لكلِّ مرحلة تاريخية شخصيةً من هذه الشخصيات، حيث يمكن أن تحدّث الأطفال عن أطفال (كربلاء)، وما تميَّزوا به من وعيٍ يتجاوزُ مرحلةَ الطّفولة. ويمكن أن تحدّث الشباب عن ثقافةٍ وصلابةٍ وحركية وإيمان يتجاوز العمر الذي هم كانوا فيه. ويمكن أن نقدّم ذلك للشّيوخ الذين يشعرون بأنهم وفّوا قسطهم للعلى، وأنهم ليسوا مسؤولين عن الدخول في ساحات الصراع، ولا سيّما إذا كان الصراع صراعاً حاداً في ساحة الحرب. ويمكن أن نقدّم النساء في تنوّعاتهن الفكرية والإيمانية والروحية، وشجاعة الموقف.
ولعلّ ما نشكو منه في هذا المجال، أنّ الذين كتبوا السيرة الحسينية لم ينقلوا إلينا إلا جانب المـأساة في مواقف النساء، وهن يبكين هنا، ويلطمن هناك؛ حتى إن إثارة المأساة أخذت الكثير من صورة السيدة زينب(ع)، مع أنّها كانت تمثّل الصلابة كلها، وهي التي كانت إلى جانب الحسين(ع) تدعمه، وتحاوره، وتعيش معه، وربما كانت تتشاور معه في سير المعركة، ولكن الذين يتحدثون عن السيرة جعلوها مجرد نائحة تبكي وتلطم، تماماً كما لو كانت امرأة قبلية، تبكي أهلها. ولعلّ أكثر ذلك يبرز في الشعر الشعبي، الذي ينطلق من ذهنيّة ناظميه، ما قد لا يعكس الروحيّة الرساليّة التي كانت تمثّلها السيّدة زينب(ع)، وغيرها من بطلات كربلاء.
شخصيتا الإمام الحسين(ع) وزينب(ع):
ثم إننا نجد في عاشوراء، شخصيّتين في موقع العنفوان والعظمة والروحانية، والعلم والحركة والانفتاح على الواقع والعمق الإنساني الثوري، والانفتاح المطلق على الله تعالى، فهناك الحسين(ع) الذي إذا حدّقت فيه، رأيت بعضاً من ملامح رسول الله(ص)، في ما عاشه في طفولته مع رسول الله(ص)، وتجد فيه بعضاً من ملامح فاطمة الزهراء(ع)، في ما عاشه في أحضانها من كلِّ انفتاحات القيم والروحانية والمسؤولية والشجاعة، وتجد فيه علياً(ع)، في كلِّ شموخ البطولة والشجاعة، وفي كلِّ ما يتمثل فيه من هذه الرحابة الفكرية والثقافية، التي امتلأ بها فكر علي(ع)، وتجد فيه كل هذه الأخلاقية الرائعة في انفتاح الحلم، والخلق العظيم، في ما عاشه مع الإمام الحسن(ع). وقد لا نجد شخصية في التاريخ، حملت كل هذه العناصر، وكل هذه الملامح. هناك ثوريون قُتِلوا أو استشهدوا، وهناك شخصيات حركية تحركت، ولكننا لن نقرأ في التاريخ بما في ذلك التاريخ الإسلامي بعد رسول الله(ص) وعلي(ع)، شخصية في مستوى شخصية الإمام الحسين(ع). لذلك، فإننا عندما نقدِّم الإمام الحسين(ع) في (كربلاء) بكلِّ هذه العناصر، فإننا نصنع مجداً للأمة في تاريخها الذي ينفتح على حاضرها، ويتحرك في صناعة مستقبلها. تجد هناك الحسين كوناً هائلاً في العلم، وفي الروحانية، وفي الثورة، وفي الأخلاق.
لذلك أقول: ربّما نكون قد ظلمنا الحسين(ع)؛ لأننا أخذنا من الحسين(ع) جانب المأساة، واستغرقنا في كلِّ جراحاته، وفي كلِّ آلامه، ونسينا الحسين(ع) الإمام، واقتصرنا على حسين الثورة. وشخصية الحسين الثائر، إنما هي من عمق إمامته، فإمامته أعطت للثورة شرعيتها؛ لأنَّ الثورة تحتاج إلى شرعية، في كلِّ انطلاقتها وخلفيّتها، وما إلى ذلك. إنَّنا نريد أن نأخذ الحسين(ع) كلَّه، بمواعظه، وبوصاياه، وبأخلاقيته، وبفقهه.
ثم نلتفت لنجد شخصيّة السيّدة زينب(ع)، هذه التي امتلأت علماً، وارتفعت روحانيةً، وعاشت شجاعة الموقف، في صبرها وصمودها، في تحديها لكلِّ هؤلاء الذين صنعوا المأساة؛ في الكوفة عندما خاطبت ابن زياد، وعندما خاطبت الجماهير، وفي الشام عندما خاطبت الطاغية يزيد. إننا قد لا نجد امرأةً في التاريخ الإسلامي، بعد الزهراء(ع)، في مستوى شخصية زينب(ع) في كل هذه العناصر.
لذلك، فإنّ ذكرى عاشوراء تمثّل ذكرى تنفتح على كلِّ عناصر الشخصية المتنوّعة التي يمكن أن تقدّم مدرسةً لكلّ الأجيال في تنوّعاتها البشرية، مما قد لا تجده في أية معركة أخرى. قد نجد هناك أناساً يسقطون في مأساةٍ هنا وهناك. وقد واجهنا الكثير من المآسي التي حدثت وتحدث في فلسطين، أو في العراق، أو في إيران، وما إلى ذلك، ولكننا لا نجد مثل هذه العناصر المتنوّعة في مواقفها وفي إيحاءاتها، وفي وعيها، وفي إسلاميتها، كما نجده في (كربلاء). هذا من الناحية العامة.
ولذلك، نحن بحاجة إلى كربلاء في كل جيل، لتصنع كربلاء جمهورها في كلِّ تنوعاته، ولتقدم النموذج الأمثل الذي يمكن أن يكون القدوة لكل الأجيال في المستقبل.
الاحتجاج الأبدي:
أمّا إثارة المأساة؛ بأن نبكي، وأن نحزن، فإنَّ المسألة لا تتصل بالبكاء على ما حدث في التاريخ، أو تتصل بالدموع الثورية ضد الذين صنعوا المأساة، لتنطلق الدموع الحارة لتحرق هؤلاء، ولكن من أجل أن نتفاعل مع هذه المأساة، لنحتّج عليها، حتى لو كانت في التاريخ، ولا علاقة لها بالحاضر إلا من خلال هذه العاطفة، التي تنفتح بنا على الذين عاشوا هذه المأساة، ولأننا إذا كنا من الذين يرفضون المأساة في التاريخ، ضد دعاة الحق، وضد الأبرياء، فإن ذلك يؤدي إلى أن تكون عقيدة رفض المأساة متجذّرة في وجداننا، وفي نظرتنا إلى كلِّ حركة الصّراع، من أجل أن يتجدَّد رفض المأساة في نفوسنا، في كلِّ مأساة الحاضر، وأن نمنع مأساة المستقبل. وعندما تقف موقف اللامبالاة أمام المأساة التاريخية، ولا سيّما إذا كانت شخصيات هذه المأساة، تمثل قيمة روحية إنسانية، فإنك قد تواجه اللامبالاة أمام مأساة الإنسان في الحاضر؛ لأنك عندما تجمّد قلبك عن الخفقات الروحية المتعاطفة مع الذين عاشوا المأساة، فإن ذلك يحجّر قلبك. ولكن إذا كان قلبك ينبض ويخفق بالعاطفة للمأساة في التاريخ، ولا سيما إذا كان هؤلاء يعيشون معك في انفعالاتك الروحية، فإنك بذلك تعيش الرفض لكلّ الذين يصنعون المأساة في الحاضر.
إنَّ الله تعالى قدّم لنا فرعون في القرآن الكريم، لا لنستغرق في شخصية فرعون التاريخية، ولكن لنأخذ هذا النّموذج نموذجاً لكلِّ الفراعنة، وقدّم لنا نبيّه موسى(ع) لنأخذ منه نموذجاً لكلّ الذين يسيرون في حركة الرسالات، وحركة النبوّات. قد يعيش إنسان كبير في التاريخ، وينطلق في غيابات الماضي، ولكنَّه يبقى نموذجاً وقدوةً. ولذلك قدّم لنا القرآن الكريم المنهج الذي من خلاله نتحرّك مع النبي محمّد(ص)، وهو منهج الاقتداء. قال تعالى: )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا((الأحزاب:21).
إن تذكّرنا لمأساة (كربلاء) يجعلنا نرفض مأساة الإنسان في فلسطين، ومأساة الإنسان في العراق، ومأساة الإنسان في كل بلد يسقط أحراره وأبرياؤه تحت تأثير الاستكبار العالمي. إن شعارات (كربلاء)، كقول الحسين(ع): «إلا وأن الدعي ابن الدعي، قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة»، أو قوله: «لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد»([98])، ليست شعارات المرحلة، بل هي شعارات للزّمن كلّه. وهي شعاراتٌ نعيش تجربتها أمام الاستكبار العالمي الذي يعمل على أن يُسقط كلَّ عنفواننا، وكلَّ حريتنا، وكلَّ استقلالنا، وكل عزَّتنا، وكلَّ كرامتنا.
العاطفة الكربلائية:
إذاً، لنتذكّر في عاشوراء، في مدى الزمن، كلَّ مستكبرٍ يريد أن نعطيه بأيدينا إعطاء الذّليل، ويريدنا أن نوقّع على شروطه، أو أن نتنازل عن كل ما يريده منا تحت عناوين مختلفة. لكن المسألة هي أن نعرف كيف نحرّك كربلاء، ولا نجعل كربلاء مناسبة يستغرق الإنسان فيها بالبكاء، وإن كان للبكاء دوره، على طريقة ذلك الشاعر الذي يقول:
تبكيك عيني لا لأجل مثوبة لكنما عيني لأجلك باكية
إنّ البكاء عاطفة إنسانية لا يملك الإنسان أن يمسكها عندما يواجه المأساة، ولكن دور كربلاء هو أن نصنع الوعي للأمَّة، وأن نعرف كيف نواجه مشاكلها، والتفاعل بالحزن والبكاء، إنّما هو وسيلة من وسائل تجذير ذلك الوعي وتلك القيم في نفوسنا.
دراسة واقع الأمة:
إنَّ الحسين(ع) عندما انطلق، درس كلَّ واقع الأمَّة، ودرس شخصية الحاكم، وذلك عندما تحدث مع أمير المدينة، ليقول له: «إنّا أهل النبوّة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي والتنزيل، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله»([99])، وقوله (مثلي) لا ينطلق من خلال خصوصية الحسين(ع)، بل إنّه يريد أن يقول: مثلي، أنا الذي ألتزم خطَّ الله ورسوله، أنا الذي ألتزم الإسلام، وأحمل مسؤولية الأمة، في استقامتها، وفي تحقيق كل أهدافها على أساس الرسالة. وكأن الحسين(ع) يقول للمسلمين: مثلكم في كلّ تاريخ، وفي كل حاضر، وفي كل مستقبل، لا يبايع حاكماً مثل يزيد، بل لا بدَّ أن يبايع حاكماً يحمل رسالة الإسلام، كالحسين(ع). لم يكن الحسين(ع) يتحدث شخصياً، بل كان يتحدث على أساس الصورة الرسالية للحاكم.
ثم نقرأ في كلمات الإمام الحسين(ع) عن بني أميَّة آنذاك: «واتخذوا مال الله دولاً». إنّه يتحدَّث عن الحاكم أو الحكام الذين يتداولون بأيديهم أموال الأمة، التي هي أموال الله تعالى التي جعل لها مصرفاً لكلِّ حاجات الأمَّة، ولم يرخّص لأحد أن يستغلّها، كما قال الإمام علي(ع): «لو كان المال لي لساويت بينهم، فكيف والمال مال الله؟!». ثم قال الحسين(ع): «وعباده خولاً»([100])، أي أنّهم استعبدوا الناس، في واقعة (الحرّة) إذ كانت التعليمات لوالي المدينة أن يسترقَّ أهلها، وأن يستعبدهم.
تلك كانت العقلية والذهنيّة التي يعيشها أولئك الطغاة والظالمون. ولذلك، فإن الواقع السياسي، والواقع الاجتماعي، والواقع الاقتصادي، وما إلى ذلك، مما كان في زمن الإمام الحسين(ع)، هو الذي دعاه(ع) إلى الثورة لأجل إصلاحه، ولا بد لنا أن ندرس كلّ ذلك، وأن نقارن بين ظروفنا في ما يشبه تلك الأوضاع، وظروف تلك المرحلة.
الإمامة رسالة:
نحن لا نستغرق في التّاريخ لنغيب عن الواقع، ولكنّنا نأخذ من التاريخ الفكرة والعبرة والدرس، خصوصاً أن هناك خصوصيّة في قيادة الحسين(ع) التي تختلف عن أية قيادة إصلاحية في التاريخ، وهي أن الحسين(ع) إمام، والإمامة امتداد لحركة النبوّة، فهو يحمل الرسالة، ويتحرّك من أجل تأصيلها وتأكيدها، وتصحيح ما حاول الآخرون أن يغيّروه فيها، والإمامة عندما تتحدث وتتحرك، فإنها لا تعيش في مرحلتها، وإنما تتحدث بالإسلام، وتطرح حركية الإسلام. ولذلك فإنَّ الإمامة تمتدُّ في امتداد الزمن. وهكذا، فنحن عندما نتذكر الإمام الحسين(ع)، فإنَّ الحسين(ع) ليس مجرَّد شخصية تاريخية، ولكنّه إمامنا، نأخذ من أحاديثه، ومن سيرته، ومن حركته، نأخذ منها شرعية كلّ ما نتحرك به بشكل مماثل.
أمّا ما يقولونه، من أن إثارة كربلاء تثير الحساسيات بين المسلمين، وتخلق المشاكل بين السُنّة والشيعة، ونحن في غنىً عن ذلك؛ لأننا في مرحلة تفرض على المسلمين أن يتّحدوا، وأن يتناسوا أحقاد التاريخ، فإننا نقول: إنَّ كربلاء في مضمونها هي إسلاميّة. فالحسين(ع) هو الشخصيَّة التي يلتقي عليها كلُّ المسلمين، فكلُّ المسلمين بكلِّ مذاهبهم، وكلّ تراثهم، وكلّ صحاحهم، يتحدّثون عن أن الحسن والحسين(ع) هما سيّدا شباب أهل الجنّة، وعن محبَّة الرّسول(ص) للحسين(ع)، وعن عناصر الشخصية الحسينية في قيمتها الروحية والأخلاقية. لذلك فإنَّ الحسين(ع) في الوجدان الإسلامي يمثِّل الشخصية التي تتركَّز عندها الوحدة الإسلامية؛ لأنَّ كلَّ المسلمين من سُنّة وشيعة، ينفتحون على الحسين(ع)، ويحبونه.
أما يزيد، فليس شخصيَّة سنيّة؛ فالسُنّة لا يعظّمون يزيد، ولا يحترمونه، ربما نجد بعضهم يحترم أباه، على أساس كونه صحابياً، أو خال المؤمنين ـ كما يقولون ـ، أو من كتّاب الوحي، مما لا يُثبت له قيمة، ولكن يزيد ليس شخصية سُنيّة إسلامية يتعصَّب لها المسلمون السُنّة. ولذلك فإنّنا عندما نستحضر كلَّ ما يتميّز به هذا الشخص من حقارة ووضاعة وفجور وتمرد على الله تعالى، فإننا نرى أنّ ذكره بهذه الطريقة لا يمثل مشكلة لدى المسلمين، سوى أن بعض الكتّاب بدأ يتحدث أخيراً بشكل إيجابي عن يزيد، ولكنه مجرد حديث لا يملك امتداداً في الواقع الإسلامي. لذلك، فإن إثارة كربلاء في مضمونها الإسلامي، وفي مضمونها الروحي والحركي، من خلال شخصية الإمام الحسين(ع)، لا تمثل مشكلة في العلاقات بين السُنّة والشيعة، ولا تمثل إساءة للوحدة الإسلامية.
زينب(ع) مثال المرأة المسلمة:
وفي الختام، لابدَّ أن نستفيد في تربيتنا للمرأة المسلمة من موقف السيدة زينب(ع)، هذه الإنسانة المثقفة، العالمة، والقوية، والشجاعة، والمتحدية، التي عاشت العاطفة، ولكن العاطفة لم تغلبها، حتى في كربلاء، عن القيام بمسؤوليتها، لأن زينب(ع) عاشت كل ما عاشه الحسين(ع)، عاشت روحانية أمها، وعاشت عظمة أبيها، وأخيها، ورافقت الإمام الحسين(ع)، ولذلك فإنَّ علينا ـ أيُّها الأحبّة ـ أن نفهم زينب(ع)، وأنا أزعم أننا لم نفهم زينب(ع). علينا أن نفهمها في فكرها، وفي ثقافتها، وفي حركتها، وأن ندرس خطبتها في مجلس يزيد، وكلماتها في مجلس ابن زياد، فلعلّنا نجد في زينب أمها فاطمة الزهراء(ع)، في دفاعها عن الحقّ في مسجد رسول الله(ص)، وفي وقوفها مع الشرعية، ومع الحسين(ع).
وبذلك، فإن (كربلاء) تمثل هذه الحركة المشرقة التي انطلقت من أجل تجديد الإسلام، من خلال هذا الدم الرسالي الحارّ. والسلام على الحسين(ع) وعلى علي بن الحسين(ع) وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين، سلاماً أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد من زيارتك. اللهمَّ ارزقنا في الدنيا زيارته، وفرّج فرجاً عاجلاً قريباً عن المؤمنين في العراق، الذين يعيشون جراحات الحسين(ع)، والذين يدعون في زيارتهم، وفي انطلاقتهم، من أجل أن يكون هناك عراق مسلم، حرٌّ، منفتح. اللهم اكشف هذه الغمة عن هذه الأمة.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثانية 17 محرّم 1426 ه - 26/2/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم(*)
الخُلق الإسلامي عنوان الشخصية
إذ درسنا الإسلام في مضمونه الفكري والعقيدي والشرعي فإننا نجد إنه يُختصر في حسن الخلق.
الخلق الإسلامي.
الخير المحض.
الإنسان شخصية اجتماعية.
حسن الأخلاق والقرب من النبي(ص).
دراسة طبائع الناس.
عنوان الشخصية.
مكارم الأخلاق.
الغاية من الأخلاق.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
تحدّثنا في وقت سابق عن الكلمة الواردة في وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم: «يا هشام: أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً»، وتناولنا بعض ما جاء في آيات الله من الحديث عن الأخلاق. وفي هذا اللقاء، نحاول أن نستشهد ببعض كلمات الرسول(ص)، والأئمة(ع) في مسألة الأخلاق.
الخلق الإسلامي:
في الحديث عن رسول الله(ص): «الإسلام حسنُ الخلق»، يبيِّن لنا هذا الحديث الشريف، أننا إذا درسنا الإسلام، في مضمونه الفكري والعقيدي والشرعي، أنّه يُختصر في حسن الخلق. كيف ذلك؟
إذا نظرنا إلى جانب العقيدة، فإننا نجد أنّ الإنسان الذي يلتزم العقيدة يؤدّي حقَّ الله، بالالتزام بتوحيده، ويؤدّي، بالإضافة إلى ذلك، حقّ الرسول بالالتزام برسولية الرسول ورسالته. وهكذا عندما يؤمن باليوم الآخر، فإنه يلتزم بخطّ المسؤولية؛ لأن الإيمان باليوم الآخر يؤكد المسؤولية في حسابات الإنسان للآخرة، وقد قال تعالى: )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه((الزلزلة:7-8). وكذلك عندما نريد أن ننفذ إلى العقيدة في خط الهدى، كما في الالتزام بالإمامة؛ فإن الالتزام بها التزامٌ بالامتداد الرسالي؛ لأنّ الإمامة والولاية، في ما نعتقد، تمثّل الامتداد الحركي للنبوة. وهكذا إذا نظرنا إلى جانب العدل في العقيدة، الذي يمتد من الله سبحانه وتعالى في صفاته كلّها، ويتحرك في حياة الناس في خطّ الالتزام.
وإذا انفتحنا على الشريعة الإسلامية، فإن الشريعة الإسلامية تلخّص منهج السلوك للإنسان؛ سلوكه في نفسه، وفي ما يأخذ به نفسه، وفي ما يحسن به إلى نفسه، وفي ما يربّي به نفسه، وسلوكه مع الناس الآخرين، ومع كلّ ما أودعه الله سبحانه في الحياة من كائنات سخّرها للإنسان في سبيل تحقيق إرادته فيها. ولهذا فإن الشريعة، في مناهجها كلّها، تمثل هذه المفردات الأخلاقية التي تتجاوز المعنى المحدود للأخلاق، الذي يُحصر عادةً ببعض المفردات الأخلاقيّة ذات الطابع الإحساني، من حسن الخلق بالكلمة، والمعاشرة وما إلى ذلك؛ فنحن عندما ندرس كل ما شرّعه الإسلام، من الحلال والحرام والواجب والمستحب والمكروه، فإننا نجد أنه يمثل خطاً عامّاً في السلوك، فيما يُراد تركيزه في شخصيّة الإنسان، من خصال وأخلاقيّات، وما يُراد تحقيقه من أهداف.
إذاً، معنى قوله(ص): «الإٍسلام حسن الخلق»، هو أن تحسن التزامك بالمنهج الأخلاقي الذي وضعه الإسلام، على مستوى العقيدة والشريعة والأخلاق العامّة وما إلى ذلك، فإنك بذلك تكون مسلماً.
الخير المحض:
وفي كلمة أخرى، عنه(ص)، يقول: «حسنُ الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة»([101])، بمعنى أنّك عندما تدرس الخير في الدنيا، في خطوطه وحركته ومنطلقاته كلّها، فإنك تجد أن حسن الخلق هو أن تبني نفسك على أساس الخلق الذي يمتد في سلوكك كلّها في الحياة الدنيا والآخرة؛ باعتبار أنه يمثل حساب المسؤولية في ما تحصل عليه في الآخرة من محبة الله ومن رضوانه، ومن ثوابه ونعيمه.
وعنه(ص) يقول: «ثلاث مَن لم تكن فيه فليس مني ولا من الله عز وجل»، وهذه الكلمة خطرة جداً في انتماء الإنسان إلى الله وإلى الرسول، وتستدعي أن يدرس كلٌّ منّا نفسه، ليرى هل أنّها تتّصف بهذه الصفات أوْ لا؟ «قيل: يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: حلمٌ يردُّ به جهل الجاهل»، أن تملك سعة الصدر، بحيث إذا أُسيء إليك من قبل الجاهلين، فإنك تستطيع أن تمتصّ هذه الإساءة لتجعلها كما لو لم تكن. وقد لاحظنا في الآية القرآنية حديث الله سبحانه عن المؤمنين )وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا((الفرقان:63)، وقوله تعالى: )خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ((الأعراف:199)، «وحسن خلق يعيش به في الناس»، بأن تكون لك الأخلاق المنفتحة التي تتحرك في حياتك الاجتماعية، سواء كانت في دائرة خاصة، كالدائرةٍ العائلية، أو في الدائرة العامة، في علاقتك بالناس في مواقع المجتمع كلّها. «وورع يحجزه عن معاصي الله»([102])، بأن تكون لديك مَلَكة الالتزام بطاعة الله سبحانه وتعالى، والبعد عن معصيته.
فحسن الخلق يعني أن تبنيَ نفسك على أن تكون لك الأخلاق السلوكية، التي تستطيع من خلالها أن تعيش مع الناس بالمستوى الذي تجتذب فيه الناس إليك، فتحسن إليهم، ولا تسيء إلى أحد منهم، وبذلك تكتسب محبّة الناس لك في ذلك كلّه.
الإنسان شخصية اجتماعية:
وفي حديث آخر عن الرسول(ص): «من حسّن خلقه بلّغه الله درجة الصائم القائم»([103])، ولا إشكال في أن للقيام بين يدي الله في الصلاة المرتبة العليا عند الله سبحانه وتعالى، بمقدار ما يمثل ذلك من إخلاصٍ وخشوعٍ بين يدي الله، ومن خضوع له في مظهر العبودية له سبحانه، ولا إشكال أيضاً أن للصيام، الذي هو جُنة من النار ومظهرٌ للتقوى، دوره في رضوان الله على الإنسان. فالإنسان الذي يملك حسن الخلق الذي يعيش به مع الناس، يعطيه الله درجة الصائم القائم، باعتبار أن الله يريد للإنسان أن يعيش مع الناس لينفتح عليهم، ولينفتحوا عليه.
وقد ذكرنا في أحاديث سابقة، أنّ الله لم يحدّثنا عن النبي(ص) ـ الذي هو أكرم الخلق عند الله ـ إلا بالخلق، ما يوحي بأن الله اصطفاه رسولاً على الناس من خلال هذه الطاقة العظيمة في أخلاقيته التي يعيش فيها مع الناس، بحيث يجتذب الناس إليه كشخص، ويجتذبهم إليه كرسول.
وهناك نقطة لا بدّ من أن نركز عليها، وهي أن الله أراد للإنسان أن يكون شخصية اجتماعية، ولم يُرد له في الحياة أن يكون إنساناً انعزالياً، أو أن يعيش فردياً؛ لأن الله حمّل كل إنسان رسالة، فالله حمّلنا الرسالة التي جاء بها الرسول(ص)، ولذلك قال الله تعالى: )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ((آل عمران104)، فالله حمَّل كل أمة بحسب حاجة الإنسانية إليها في حجمها الكمّي والكيفي، في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومن الطبيعي أن هذه المسؤوليات الثلاث، لابد للقيام بها من أن يعيش الإنسان في المجتمع، ليسع المجتمع بعقله، ويتسع قلبه للمجتمع من خلال ما يعيش معه في إحساسه وشعوره وعاطفته، وليسعه بحركته؛ بحيث تملك هذه الحركة الامتداد والرحابة في عناصر المجتمع كلّها، وفي خصوصياته كلّها. ولذلك فإن مسألة الأخلاق ليست مسألة تتصل بالجانب الذاتي للإنسان، ولكنها تتصل إلى جانب ذلك بالمسؤولية المنفتحة على رسالية الإنسان في ما كلفه الله سبحانه وتعالى من الرسالة.
حسن الأخلاق والقرب من النبي(ص)
ونقرأ أيضاً في حديث النبي(ص): «إن أحبّكم إليّ وأقربكم مني يوم القيامة مجلساً: أحسنكم خلقاً، وأشدكم تواضعاً»([104]). كيف نستوحي هذه المسألة؟
يمكن أن نستوحيها بالنحو التالي: إن الرسول(ص) يمثل القمّة في الجانب الأخلاقي، وكان الإنسان الأوحد في مستوى أخلاقيته، وفي درجة أخلاقيته، ويكفي في تصور ذلك، أن الله تعالى قال: )وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ((القلم:4)، وأن يصف الله خلق النبي بالعظمة، هي مسألة ليست عادية، فهناك فرق بين أن نصِف نحن النبي بأنه على خلق عظيم، وبين أن يصفه الله تعالى بذلك، فالله الذي خلقه، والمطّلع على عناصر شخصيته كلّها، هو الذي يقول: )وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(، بمعنى أن كل عناصر الخلق عند النبي في مستوى العظمة، كما أنّ العنصر الأصيل في شخصية النبي(ص) هو عنصر الخلق العظيم، فمن كان متصفاً بالخلق في الدرجة العليا، «أحسنكم خلقاً وأشدكم تواضعاً»، فهو قريب إلى رسول الله في أخلاقه، ومن استنّ برسول الله واقتدى به: )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً((الأحزاب:21)، فإنّ هذا القُرب الروحي والأخلاقي من رسول الله(ص)، يجعله قريباً إليه في موقعه، وفي درجته، في غير درجة النبوة وما اختصّه الله به. إن هذه الكلمة من رسول الله(ص)، تريد أن تقول للإنسان: كن الإنسان الأفضل في أخلاقه، تكن الإنسان الأقرب إليّ في مجلسي يوم القيامة، وأحبّ إليّ في ما أنفتح به في محبتي للناس الملتزمين المسؤولين.
كما نقرأ عن الرسول(ص): «ألا أنبئكم بخياركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أحاسنكم أخلاقاً»، الذين يبلغون الدرجة العليا في الأخلاق، «الموطؤون أكنافاً»، المتواضعون،«الذين يَألفون ويؤلفون»([105]) يعني الذين إذا عاشوا مع الناس، فإنهم يألفون الناس، باعتبار أنهم ينفتحون على الجانب الإيجابي في شخصياتهم، ولا يستغرقون في الجانب السلبي، ولذلك فإنهم ينظرون إلى ما لدى الناس من محاسن، ولا يستغرقون فيما لديهم من مساوئ.
دراسة طبائع الناس:
وإذا أردنا أن نركّز على هذه النقطة، نسأل: لماذا لا نألف الناس؟ لو نفذتَ إلى الناس بأجمعهم، لوجدت أنّه ليس هناك شخص شرير بنسبة 100%، حتى أنّك عندما تدرس شخصيّة أشد الناس إجراماً، فإنك تجد هناك بعض عناصر الخير في نفسه. إنّ كلّ إنسان ـ إلا من عصم الله ـ فيه الخير وفيه الشرّ. ولذلك على الذي يريد أن يعيش الحياة الاجتماعية مع الناس، أن يدرس الجانب الإيجابي بالإضافة إلى الجانب السلبي، بمعنى أن لا ننظر إلى الجانب المظلم من الصورة، بل ننظر، إلى جانب ذلك، إلى الجانب المشرق.
وقد ذكرنا مراراً الحديث المروي عن السيد المسيح(ع) مع الحواريين، عندما مرّوا على كلبٍ ميّتٍ قد أنتنت جيفته، وانتشرت رائحته الكريهة، فقال الحواريون: ما أشد نتن رائحته! فقال عيسى(ع): ما أشدّ بياض أسنانه! وكأنه يقول لهم: لماذا تنظرون إلى الجانب السلبي من الصورة، بل عليكم أن تنظروا إلى الجانب الإيجابي أيضاً، ولذلك علينا أن ننظر إلى ظاهرة الإنسان الذي قد يتمثل ببعض الصفات السيئة، أو المجتمع عندما يعيش بعض السلبيات، أن لا نستغرق في هذه السلبيات.
وعليه، فعند تقييم الأشخاص، لابد أن نقول: إن عند فلان صفات سيئة، لكن عنده صفات حسنة أيضاً، أو نقول: إن الأمّة مثلاً، توجد عندها سلبيات، سواءً في الجانب الاجتماعي، أو في الجانب السياسي، أو في الجانب الالتزامي الديني، لكن أيضاً يوجد هناك أناس (طيبون)، ويوجد أناس كذا، ويوجد أناس كذا.. لأننا إذا كنا نريد أن نستغرق ـ أيها الأحبة ـ في الجانب السلبي، سواءٌ في الأشخاص أو في المجتمع، فإننا نفقد الثقة بالخير، لأنّه يولّد لدينا انطباعاً أنه لا يوجد إنسان طيب؛ فلان ـ مثلاً ـ الذي نقول عنه إنه خيِّرٌ (ملتزم)، يعمل كذا، مجتمعنا الإسلامي ممزّق.. يوجد عندنا خونة أو عملاء، وما إلى ذلك... وهذا كلّه يجعلنا نفقد الثقة بالمجتمع، ويفقدنا الثقة بالخير، وبذلك نقع في قبضة اليأس، لأن كل شخص تلاحظ الجانب السيّىء في شخصيته، بعيداً عن الجانب الحسن، أو تلاحظ المجتمع في هذا الاتجاه الباعث على الإحباط، عند ذلك تقول ليس هناك فائدة منه، ولا فائدة من الإصلاح أو المواعظ، ولكن إذا وازنت بين الجانب الخيّر في الإنسان والجانب الشرير فيه، أو بين الجانب الإيجابي في الأمة... والجانب السلبي، عند ذلك يوحي إليك هذا أن من الممكن أن تقوِّي الجانب الإيجابي لتستعين به على تغيير الجانب السلبي، وأن تستفيد من الجوانب الخيّرة في الإنسان لتغليبها على الجوانب الشريرة، وحينها سوف ترى ما مقدار ما نملك من طاقة وإقبال على أن نتقدم في حركة الإصلاح.
عنوان الشخصية:
ونقرأ أيضاً، في هذا المجال، حديث الإمام علي(ع): «عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه»؛ يعني أنّ عنوان الصحيفة التي تقدّم في يوم القيامة: حسن الخلق، ثم تليها الأعمال الأخرى، ما يوحي بأن لحسن الخلق دوراً كبيراً في تأصيل شخصية الإنسان المؤمن في ما يحبه الله منه. ويقول الإمام جعفر الصادق(ع): «ما يقدم المؤمن على الله عز وجل بعمل بعد الفرائض أحب إلى الله تعالى من أن يسعَ الناس بخلقه»([106])، يعني أن تملك الخلق الذي يتسع لكل الناس في ذلك. وفي هذا المجال، أيضاً نقرأ الكلمة الرائدة التي وردت عن رسول الله(ص) وهي: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»([107]). هذه الكلمة تمثل منهج حركة الرسل كلّهم؛ فنبيّ الله عيسى(ع) قال: «جئت لأكمل الناموس»([108])، يعني أنّه لم يجئ ليهدم، ولذلك فقد صدّق وآمن بالتوراة التي أنزلها الله سبحانه على نبيّه موسى(ع)، والتزمها، وبشرّ بها، وجاء بالإنجيل من أجل أن يكمل الناموس، يعني الشريعة، ولكي يخفف عن الناس. وهذا ما أشار الله سبحانه وتعالى إليه في القرآن الكريم، حيث يقول ـ على لسان نبيّه عيسى(ع) مخاطباً بني إسرائيل ـ: )وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ((آل عمران:50). والنبي(ص) أيضاً جاء مكملاً، لأن الإسلام اعترف بكل الرسالات قال تعالى: )لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ((البقرة:285)، فالإسلام جاء مصدقاً لما بين يديه، وجاء النبي محمّد(ص) مكملاً لمكارم الأخلاق؛ لأن تطوّر الحاجات عند الناس بحسب تطور الأوضاع في الزمن، قد تخلق أوضاعاً جديدة، وقد تخلق حاجات اجتماعية وسياسية جديدة، ولذلك فإنها تحتاج إلى تشريعات جديدة.
ونستطيع أن نعرف من خلال هذا، أنّ النبي(ص) عندما جاء ليتمم مكارم الأخلاق، فلكي يعطي الإنسان، في عناصر شخصيته، الأصالة والكمال، بحيث إن الإنسان الذي يلتزم الشريعة الإسلامية، يحقق الكمال في مكارم الأخلاق، لأن كل مفردات الشريعة الإسلامية، في مناهجها الأخلاقية، ومناهجها الشرعية القانونية، تمثل خلاصة الأخلاق التي يتميز بها الإنسان، والتي يعيش معها عمق إنسانيته في علاقته بنفسه، وبربه، وبالناس من حوله.
مكارم الأخلاق:
وقد ورد في بعض أحاديث النبي(ص) وهو يفسر مكارم الأخلاق: «أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك»([109])، هذه الخصائص الثلاث التي تمثل أصالة الأخلاق في الإنسان، بحيث تنبع أخلاقية الإنسان من عمق الفطرة الإنسانية الأصيلة؛ أن لا تكون الأخلاق عملية تبادلية، تماماً كما هي عملية التعامل في السوق، فيكون التعامل على أساس أن تعطي من أعطاك، وأن تصل مَن وصلك، وأن تعفو عمن عفا عنك، وهي ليست أخلاقاً، وإنما هي عملية تبادلية، ومعاوضة، بينما الأخلاق الإسلامية التي تنبع من داخل شخصيتك الإنسانية، هي أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي بن الحسين (زين العابدين)(ع) في دعاء (مكارم الأخلاق)، وقد استوحى الإمام من كلمة النبي(ص) ما يتجاوز هذه المفردات، ليتسع إلى كل الأوضاع السلوكية مع الناس الآخرين، أو الأمور الإيجابية مع الناس السلبيين، عندما قال: «اللهم وسدّدني لأن أعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأن أشكر الحسنة، وأغضي عن السيئة». هذا السمو الذي يتسامى به الإنسان، بحيث لا يتحرك مع الناس الذين يواجهونه بالفعل القاسي، أو بالفعل السلبي بردة فعل، بل إنه إذا أراد أن يقوم بأية ردّة فعل، فإنه يقوم به برد فعل معاكس. وهذا ما نقرأه في القرآن الكريم في مسألة أن يدفع الإنسان السيئة بالحسنة، وأن يدرأ السيئة، بحيث يكون رد الفعل رداً معاكساً للفعل الذي قام به الآخر.
الغاية من الأخلاق:
أيها الأحبة: إن الإسلام يريد للإنسان أن يخرج من عنصر الغريزة إلى عنصر العقل والروح والسمو. وبعبارة أخرى: إنّ الإسلام يريد من الناس الذين يسيرون في خط الإيمان، أن يحوِّلوا حياتهم في الأرض إلى تجربةٍ للحياة في الجنة؛ لأن الله تعالى عندما يحدثنا عن أهل الجنة يقول: )وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ((الحجر:47)، فالإنسان في الجنة يحب الإنسان الآخر، ولا يحقد عليه ولا يعاديه ولا يبغضه، {إِخْوَانًا} يعيشون الأخوّة بكل ما تفرضه من مشاعر وأحاسيس وسلوك {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}، في حياة اجتماعية في الجنة، بحيث ينفتح أحدهم على الآخر بالمحبة التي يقدمها إليه. فلنحاول أن نجعل من الأرض جنةً مصغرة، ولا نجعل من الأرض جحيماً يحرق عقولنا، وقلوبنا، وحياتنا، قال تعالى: )وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ((التوبة:105).
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثالثة 24 محرّم 1426 ه - 5/3/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم
الأخلاق الرسالي
انطلقت الرسالات في حركة الرسل، لتقدِّم للعالم في كلِّ مرحلة من المراحل برنامجاً أخلاقياً حتى بلغ التكامل والتطوّر ذروته في رسالة الإسلام التي جاء بها محمّد(ص).
الخيـر الإنسانـي.
آثار حسن الخلق.
النوايا الحسنة.
أثر الخلق السيء.
الأخلاق الرسالية.
أخلاق المهاجرين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لقد أكَّد رسول الله محمّد(ص)، أن مكارم الأخلاق تمثِّل عمق الإسلام في امتداداته كلّها، وقد جاء على لسانه(ص) أنه بُعِثَ لإتمام هذه المكارم، بعد أن انطلقت الرسالات في حركة الرسل، لتقدِّم للعالم في كلِّ مرحلة من المراحل برنامجاً أخلاقياً. على أنّ حركة البرامج الأخلاقيّة تلك لم تمثّل حالة انقطاع بين الرسالات السابقة، بل كان كلّ برنامج يتكامل مع البرنامج الذي سبقه، ويتطور بحسب حاجة مرحلته، حتى بلغ التكامل والتطوّر ذروته في رسالة الإسلام التي جاء بها محمّد(ص)، والتي أكدَّ بها أنه جاء مصدقاً لما بين يديه، ومنفتحاً على الرسالات، ومعترفاً بكل الرسل، وجاء متمماً للمنهج الأخلاقي في مكارم الأخلاق، لأن الإسلام هو دين الحياة، فلا دين بعده، ولا نبيّ بعد النبي(ص).
الخيـر الإنسانـي:
وينقل الإمام علي(ع) ـ كما جاء في كتاب (إحياء علوم الدين) للغزالي ـ عن رسول الله(ص) قصةً حصلت له في حياته، حيث كان يؤكّد تقديره لمكارم الأخلاق حتى لو صدرت من كافر. يقول الإمام(ع) في افتتاح كلامه ـ حسب الرواية ـ: «عجباً لرجل مسلم يجيئه أخوه المسلم في حاجة، فلا يرى نفسه للخير أهلاً»؛ أي لا يستجيب لحاجة أخيه المسلم، التي تمثِّل الخير في معناها، لأنّ قضاء حاجة المسلم من قِبَل المؤمن تمثِّل قاعدة الخير الإنساني، فعندما لا يستجيب المؤمن لما يطلبه منه أخوه المؤمن، فإنه قد يرى نفسه أنه ليس أهلاً للخير؛ لأنه لو كان أهلاً للخير لبادر إلى قضاء حاجة المؤمن، باعتبار أنها مظهر من مظاهر الخير.
«فلو كان لا يرجو ثواباً ولا يخشى عقاباً، لقد كان ينبغي له أنْ يسارع إلى مكارم الأخلاق». ثمّة تأكيد هنا أنّ مكارم الأخلاق ممّا تُطلب لذاتها، أي حتى لو لم يحصل الإنسان من خلالها على مقابل ممّن يبذلها له. وقضاء حاجة المؤمن يمثّل مظهراً من مظاهر الالتزام بمكارم الأخلاق؛ «فإنها»؛ يعني مكارم الأخلاق، «تدل على سبيل النجاة»، وختم الإمام كلامه بهذا.
فقال له رجل: «أسمعته من رسول الله؟»؛ وكأنّه يسأل: هل هذا من عندك أو من عند رسول الله(ص)؟ فقال له الإمام(ع): «نعم، وما هو خير منه»، فقد سمعتُ منه هذا الخط الأخلاقي، وسمعت منه ما هو أكثر من ذلك، وهو ما يتمثّل في سلوك النبي(ص)، وفي تقديره للمبادرات الأخلاقية، بقطع النظر عمّا إذا كانت صادرة من مؤمن أو من غير مؤمن. وكأنّ رسول الله(ص) يريد أن يؤكد أن مكارم الأخلاق هي من عمق الأصالة في إنسانيته، وهي التي تهيىء له ذاته للأخذ بالإيمان وللانفتاح عليه.
«لما أُتي بسبايا طَيْء، وقفت جارية ـ وهي سفانة بنت حاتم الطائي المعروف بالكرم ـ في السبي، وقالت: يا محمد، أرأيت أن تخلي عني، ولا تشمت بي أحياء العرب، فإني بنت سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار»، أي كان يحمي الجار، والشخص الذي يستجير به، «ويفك العاني» ، أي كان يفكّ رقبة من كان بحاجة إلى المال، «ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضّيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم الطائي»، وكأنها كانت تريد أن تستشفع بخصال أبيها الأخلاقية، ليحررها رسول الله(ص) من السبي، فقال(ص): «يا جارية: هذه صفة المؤمنين حقّاً»؛ هذه الصفات التي جئت بها، هي ما أردت للمؤمنين أن يتصفوا بها، «لو كان أبوك مسلماً لترحَّمنا عليه، خلّوا عنها»، وأطلق سراحها كرامةً لهذه الأخلاق التي اتّصف بها أبوها، ولأنها في حديثها عن ذلك، كانت تؤمن بهذه الأخلاق، وكانت تعتبرها من الأخلاق التي يكبر فيها الإنسان التي يتّصف بها، «فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحبّ مكارم الأخلاق»، فهو كان يحب ما يحبه الله، وإن كان لم يوفق للإيمان بالله سبحانه وتعالى.
فقام أبو بردة، وهو شخص كان في مجلس النبي(ص) عندما تحدّث بهذا الحديث، فقال: «يا رسول الله: الله يحب مكارم الأخلاق؟»، فقال النبي(ص): «والذي نفسي بيده، لا يدخل الجنّة إلاّ حَسن الأخلاق». وهذه كلمة خطيرة فيما يمثّله الالتزام الإيماني؛ إذ تعني أن الجنة لا يدخلها إلاّ الإنسان الذي يملك حُسن الأخلاق في منهجه السلوكي. وتفسير ذلك، أنَّ الجنة هي دار الخير كله، وموقع رضوان الله تعالى، والقرب إلى الله تعالى، فلا بد أن يكون ساكنوها ممن يملكون إعطاء مجتمع الجنة هذا النوع من المنهج الأخلاقي.
آثار حسن الخلق:
وهذا ما نستفيده من القرآن الكريم، حيث يقول تعالى: )وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ((آل عمران:133-134)؛ إذ نلاحظ أنّ الصفات التفصيليّة التي أعطاها لأهل الجنّة، والتي أراد من المؤمنين أن يُسارعوا من خلالها إليها، هي صفات أخلاقيّة. فالجنّة إنّما تكون للشخص الذي لا يفجِّر غيظه عندما يغتاظ من أحد، والذي يعفو عمّن أساء إليه، ويحسن للناس، ضمن البرنامج الذي وضعه الإسلام لحركة الأخلاق في حياة الناس. ومن هنا، فإن قوله(ص): «لا يدخل الجنّة إلاّ حسن الخلق» مرتكز على ما ذكرناه، وأنّ الجنّة بطبيعتها تفترض حُسن خلق ساكنيها؛ لأنَّ سيئ الخلق إذا بقي في هذا الاتجاه أو في هذه السلوكية، فإنه يخرِّب الجنّة، ويخلق المشاكل لسكّانها.
وعن النبي(ص): «إن الله حفَّ الإسلام»، من جميع جوانبه، «بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال». وحسب الرواية، كان فيما يدعو به النبيّ(ص): «اللهم حسِّن خَلقي»، يعني صفاته الجسدية، في جمال الجسد، «وحسِّن خُلقي»، يعني حسِّن أخلاقي..
ونقرأ في الحديث أيضاً: «إن الخلق الحسن يميث الخطيئة، كما تميث الشمس الجليد»، يعني أن الإنسان الذي يملك الخلق الحسن، ينعكس هذا الخلق الحسن إيجابياً عليه، فيذيب الخطايا التي عاشها في حياته تماماً، ويزيلها تماماً، فكما تذيب الشمس الجليد بحرارتها، تؤدّي حرارة الأخلاق النتيجة نفسها بالنسبة إلى الخطايا.
النوايا الحسنة:
وفي الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) قال: «الخلق منيحة يمنحها الله عزّ وجلّ خلقه»؛ فهي من المنح، والهدايا، والأمور التي يودعها الله في خلقه؛ ولكن الخلق على قسمين: «فمنه سجيّة، ومنه نيّة»؛ أي: منه ما ينطلق بفعل عوامل الوراثة والفطرة، فيولد الإنسان وينشأ هادئ الطبع، ومنفتحاً على الآخرين، إنساناً مسالماً، لا يعنُف مع الآخرين، خلقه الرفق. والقسم الآخر، ما يقوم به الإنسان من خلال دوافعه في ما يتعلّمه، وفي ما يتربى عليه، بحيث تنطلق الأخلاق منه من خلال هذه النيّة الطيبة، والدافع الطيب. «فقلت ـ والكلام للراوي ـ: فأيتهما أفضل؟!»؛ هل الخلق الذي هو سجّية أفضل، أم الخلق الذي هو نيّة؟ قال: «صاحب السجية هو مجبول لا يستطيع غيره»؛ فالشخص الذي فُطِر على الأخلاق، انطلاقاً من وراثته ذلك في تكوينه، بفعل قانون الوراثة، أو من خلال ما أفاض به الله عليه لا يستطيع تغيير ما هو عليه، «وصاحب النيّة يصبر على الطاعة تصبّراً»؛ فهو الشخص الذي ينطلق بطاعة الله سبحانه وتعالى، وبالخلق الحسن معه، فيبذل جهده في ذلك، ويتحمّل الكثير من النتائج الصعبة السلبية في سبيل أن يصبر على ممارسة الأخلاق، «فهو أفضلهما»([110]).
من خلال ذلك، نستطيع أن نستنتج أنّ الفضل، كل الفضل، في أن يحاول الإنسان أن يربِّي نفسه على الأخلاق الحسنة؛ بالتعلم، والتدرب، وكل ما يؤكّد احترامه للإنسان الآخر، ومحبته لله سبحانه وتعالى، وهكذا تنطلق مسألة الخُلق الحسن. .
أثر الخلق السيء:
أما الخُلق السيئ، فقد ورد عن الرسول(ص): «الخُلق السيئ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل»([111])؛ فلو كان عندك عسل من أفضل أنواع العسل، ومزجت به الخل، فإنّ العسل يفسد، وبالقوّة نفسها، لو كنت تصوم وتصلي وتحج وتقوم بكل الطاعات ولكن خُلُقك سيئ، فإنَّ أهلك وأصحابك يشقون بأخلاقك، فالخلق السيئ الذي تتمتع به يفسد كل ما قمت به من الطاعة.
وقد ورد في الحديث عن الرسول(ص): «أبى الله لصاحب الخُلق السيئ بالتوبة»؛ لأن الإنسان الذي له خلق سيئ، من الصعب أن يتوب، «قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟»، وهذا السؤال ينطلق من استهجان هذا الأمر من قبل السائل؛ إذ ربما يلتفت صاحب الخلق السيّئ إلى نفسه، ويحاسبها على خطاياها، فيعزم على التوبة، فكيف يأبى الله له ذلك، وهو القائل: )قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا((الزمر:53)؟ «قال: لأنه إذا تاب من ذنب، وقع في ذنب أعظم منه»([112])؛ لأن الخلق السيئ يدفع الإنسان إلى المعصية، وإلى الخطيئة، في ما يقوم به من ممارسات ضد الآخرين. وإذا كان الخلق السيّئ يمثّل لديه حالة متجذّرة في شخصيّته، فمن الطبيعيّ أنّه إذا تاب اليوم، فإنّه سيقع في ذنبٍ جديد بعد توبته تلك، وهكذا حتى تكون حياته متنقّلة من معصية إلى أخرى، وذلك يبعده عن التوبة.
الأخلاق الرسالية: :
من خلال ذلك، نستطيع أن نؤكد أن على الإنسان أن يربّي نفسه على حسن الخلق مع كلّ الناس، من المسلمين وغير المسلمين؛ لأن الخلق الحسن إذا كان جزءاً من شخصيّة الإنسان، فإنّه ينطلق بشكل عفويّ، من دون تفرقة بين شخص وآخر، وقد قيل في بعض الروايات عن السيّد المسيح(ع) «كن كالشمس، تطلع على البرّ والفاجر». وبذلك يساهم الخلق الحسن في تنمية ثقة الناس بالإسلام، ويكون داعيةً إلى الإسلام؛ لأن الناس إذا رأوا المسلم كيف يتحرك بأخلاقيته مع الناس ـ كما قال الإمام علي(ع) ـ: «الناس منه في راحة، وبدنه منه في تعب»، فإن ذلك يجعلهم يشاهدون في المسلم إسلاماً متجسداً. وهذا ما أشار إليه الإمام جعفر الصادق(ع) في قوله: «كونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم» ، يعني إذا أردتم أن تدعوا الناس إلى الإسلام وإلى الإيمان، فلا تقتصروا على الدعوة إلى الإسلام بالأحاديث التي تتحدثون بها إليهم، ولكن «ليروا منكم الصدق والخير والورع، فإن ذلك داعية»([113])، فإذا رآكم الناس وأنتم صادقون معهم في الكلمة، وفي المعاملة، وفي الموقف، وأنّكم تفعلون الخير في حياتكم الاجتماعية كلّها، وإذا رأوا منكم الورع عن معاصي الله، بحيث تلتزمون الطاعة وتبتعدون عن المعصية، فإنهم يرون فيكم تجسيداً للإسلام، وصورة مشرقة له، ما قد يدعوهم إلى الدخول في الإسلام.
أخلاق المهاجرين:
إن الكثيرين منا، من الذين هاجروا إلى بلدان العالم، يتحركون انطلاقاً ممّا ورثوه من أخلاق سيئة في مجتمعاتهم، فنراهم يسيئون إلى الناس الذين يعيشون معهم في مغترباتهم؛ يسيئون إليهم بالابتعاد عن الصدق، والابتعاد عن الأمانة، وما إلى ذلك، فيعطونهم بذلك صورة سيئة عن الإسلام، ما يجعل الناس يبتعدون عن الإسلام عندما يرون كيف يمارس المسلمون أوضاعهم مع بعضهم البعض؛ كيف يتعامل الرجل مع المرأة، وكيف يتعامل القوي مع الضعيف، وكيف يتصرّف الناس في معاملاتهم المالية وغير المالية، على أساس الغش والخداع وما إلى ذلك... فعندما يرى الناس الآخرون ذلك، سوف يحملون صورة سيئة عن الإسلام، وهذا ما سمعناه عن كثير من الأوضاع. بينما لو كان المسلمون يلتزمون الخط الإسلامي الأخلاقي في تعاملهم مع بعضهم البعض، ومع الآخرين، فإن ذلك سوف يعطي صورة حسنة عن الإسلام، وسوف يؤدي إلى أن ننشئ مجتمعاً مسلماً يحترم فيه الناس بعضهم بعضاً، ويثقون ببعضهم البعض.
إن مشكلتنا في العالم الإسلامي أنه عالم لا يتربى فيه الإنسان على الصدق، وعلى الأمانة، وعلى المحبة، وعلى احترام الآخر والاعتراف به. ولذلك رأينا كيف أننا نتحرك بفعل العصبية السوداء التي تؤدي إلى مزيد من التقاتل، والتنازع، والتحاقد، وإسقاط المجتمع كله في كثير من القضايا العامة والخاصة، حتى إننا نلاحظ أن أغلب البيوت والعوائل تعيش الشقاء من خلال تعامل الآباء مع الأولاد، والأولاد مع الآباء والأمهات، وتعامل الأزواج مع الزوجات، وتعامل الزوجات مع الأزواج، ولذلك فإن بيوتنا تصنع جيلاً يعيش الكثير من العقد النفسية التي يمتصها من خلال ما يرثه من عقد الآباء والأمهات والأزواج والزوجات.
إن أمامنا تحديات كبيرة في موقعنا كمسلمين في العالم، وعلينا أن نتعلم كيف نثبت أمام التحديات، وكيف نواجه هذه التحديات، وهذا ما أراده الله تعالى لنا عندما حدد لنا الإنسان الرابح في الدنيا والآخرة، في قوله سبحانه: )وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ*إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ(. وماذا بعد؟ )وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ(، بأن يوصي بعضهم بعضاً بالحق؛ بالحق العقيدي، والحق الشرعي، والحق الأخلاقي والاجتماعي، )وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ((العصر:1-3)، أي أن يصبروا على خط الالتزام في ذلك كله.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الرابعة: 2 صفر 1426 ه - 12/3/2005م
وصية الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم
إنسانية الدعوة والداعية
إنّ على الإنسان الذي يملك أي طاقة في المجتمع، أن يتسلّم زمام المبادرة ليكون في الموقع الأعلى في ذلك المجتمع، لا من خلال ما يعيشه من ضخامة الشخصية، في إحساسه بالاستعلاء على الناس، بل ليكون في الموقع الأعلى في تلبية حاجات المجتمع.
الشخصية المنتجة.
الاستغناء عن الناس حرية.
الرفق الإنساني.
البعد الإنساني للدعوة.
الرفق في الحديث الشريف.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
نص
عنوان
الشخصية المنتجة :
من وصية الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) لهشام بن الحكم: «إن خالطت الناس، فإن استطعت أن لا تخالط أحداً من الناس إلاّ كانت يدك العليا عليه فافعل»([114]).
تؤكّد هذه الفقرة، من الوصيّة، أن على الإنسان، عندما يعيش مع الآخرين، مهما كان انتماؤهم، ومهما كانت أوضاعهم، أن يدرس هؤلاء الناس؛ ما هي حاجاتهم التي يريدون من الآخرين أن يقضوها لهم؟ وحاجات الناس من الناس تتنوّع؛ فقد تكون حاجاتٍ علمية، بحيث يعيش معك إنسانٌ ما ويخالطك ليستفيد من علمك، وقد تكون حاجات اقتصاديّة، فيخالطك ليستفيد من مالك، وربما تكون حاجاتٍ اجتماعيّة، فيخالطك ليستفيد من موقع أنّك شخصيّة اجتماعيّة تستطيع أن تكون وسيطاً بينه وبين مواقع القرار، أو مواقع القوة في المجتمع، لتحقق له ما يريد منهم في أموره العامة أو الخاصة، وقد تكون الحاجة دينيّة، فيخالطك كي يستفيد منك دينياً، من حيث هو شخص يريد أن يرفع من مستواه الديني، وهكذا. والقضيّة التي تركّز عليها هذه الكلمة، هي أنّ عليك أن تستجيب لكل من يحتاج إليك، لتحقّق حاجته، ولترفع من مستواه، من موقع كون يدك هي اليد العليا عليه. واليد العليا ـ بحسب المفهوم العام ـ هي اليد المعطية، واليد المبادرة، واليد الخادمة، وبذلك يكون مظهر علوّ يدك عليه أن تحسن إليه في كل حاجاته منك.
ومن خلال ذلك نقول: إنّ على الإنسان الذي يملك أي طاقة في المجتمع، أن يتسلّم زمام المبادرة ليكون في الموقع الأعلى في ذلك المجتمع، لا من خلال ما يعيشه من ضخامة الشخصية، في إحساسه بالاستعلاء على الناس، بل ليكون في الموقع الأعلى في تلبية حاجات المجتمع؛ لأن المعطي يمثّل موقعاً أعلى من المُعطى له في تواصل العطاء فيما بينهما؛ لأن الذي يحقِّق الحاجة، هو في الموقع المميز ممن يحصل على الحاجة.
الاستغناء عن الناس حرية:
وربما نستوحي هذه الفكرة من الكلمة المنسوبة إلى الإمام علي بن أبي طالب(ع): «أحسِن إلى من شئت تكن أميره»، يعني عندما تملك الإمكانات التي تستطيع فيها أن تحسن إلى الناس، في ما يحتاجونه، فإنك بذلك تكون في موقع الأمير، أي في الموقع المميز؛ لأن دور الأمير هو أن يخدم الناس، بأن يقضي حاجاتهم، وأن يلبّي طموحاتهم وتطلعاتهم كلّها. فالله تعالى يريد للإنسان أن يكون في الموقع الأعلى، يعني في الدرجة العليا التي يتطلع الناس إليه للحصول على ما يختزنُه من علم أو مال أو جاهٍ أو قوة مما يحتاجون إليه. وفي مقابل ذلك، يأتي قوله (ع): «احتج إلى من شئت تكن أسيره»؛ لأن الإنسان تستعبده حاجاته. وعلى هذا الأساس، نلاحظ أن الناس الذين يضطرون إلى السقوط تحت تأثير الأشخاص الذين يملكون مالاً أو يملكون جاهاً، أو يملكون قوةً، يستعبدون أنفسهم لهم؛ لا استعباد الإنسان نفسه للشخص، ولكنّه استعباد النفس للحاجة. لذلك، فإن الإنسان الذي يستطيع أن يحقق الاستغناء عن الناس، بأن يحرّك جهده في تحصيل حاجاته، هو الإنسان الذي يملك حريته، ولا يستطيع أحد أن يستعبده، وهذه مسألة إنسانية.
ولذلك، ورد عندنا: «القناعة كنـز لا يفنى»، و«القناعة مال لا ينفد». والقناعة: هي أن تحرِّك جهدك وطاقتك في الحصول على ما تحتاجه، بحيث إذا حصلت على شيءٍ، فإنك تكتفي به، ثم تطور جهدك في الحصول على حاجات أكثر، وفي مواقع أكثر. ولا تعني القناعة أن تتقبل واقعك وتستسلم له، أو تحدّ من طموحاتك في تطوير نفسك في كلّ مجالاتها، بل القناعة هي أن تعيش الرضى بما عندك، وتحاولَ أن تنظم حاجاتك في مستوى قدراتك، ثم تحاول أن تطور إمكاناتك من خلال تطوير حاجاتك، وهناك مثل شعبي يتداوله الناس: (على قدر بساطك مدّ رجليك)؛ أيْ: على قدر إمكاناتك حرّك حاجاتك، فلا مانع من أن تختصر حاجاتك، ريثما تلبي إمكاناتك هذه الحاجات.
وخلاصة تلك الفقرة من وصيّة الإمام الكاظم(ع) هي: كن المبادر في مسألة العطاء للناس، لتكون يدك التي تمدها إلى الناس بالإحسان والعطاء هي اليد العليا. وفي هذا توجيه للإنسان إلى أن يبادر لتفجير كل إمكاناته وطاقاته في خدمة حياة الناس وفي تلبية حاجاتهم.
الرفق الإنساني:
وهناك فقرة أخرى تقول: «يا هشام، عليك بالرفق، فإن الرفق يمن، والخرق شؤم». عنوان هذه الكلمة هو عنوان الرفق. والرفق ـ في اللغة ـ ضد العنف، وهو اللطف في مواجهة الأشياء، أو اللين في تحريك الأمور التي يعالجها الإنسان، والخرق هو ما يقابل ذلك، وهو التصرف الذي لا يحسن الإنسان فيه العمل، وربما يُعبر عن الخرق بالحمق، يعني أن يكون الإنسان أحمق بمعنى أنه يتصرف في الأمور من دون قاعدة يحدّد فيها الخطوط التي تحكم هذا الأمر هنا وهناك، بحيث قد يسيء وهو يريد أن يحسن.
وقد ذكر الإمام (ع) أنّ الرفق يُمن. وقضية اليمن تلتقي مع السعد والنجاح والبركة. وإذا أردنا أن ندرس الرفق، فإنه يمثل التصرف في كل الأمور بالطريقة التي تنطلق من التخطيط لهذا الأمر أو ذاك، بحيث يفكّر، قبل أن يدخل الأمر، في طبيعة الوسائل التي يُمكن تحريكها للوصول إلى الهدف. فإذا أردتَ مثلاً أن تدعو إنساناً إلى الالتزام بفكرةٍ، فإن هناك طريقتين: الأولى هي أن تلقي إليه الفكرة بشكل عنيف تصدم فكرته بقسوة، من دون أن تدرس ذهنيته، ومن دون أن تدرس الأسلوب الذي يمكن أن يؤثر إيجاباً في انفتاحه على هذه الفكرة، أو سلباً في انغلاقه عنها، والطريقة الثانية تنطلق من دراسة ظروف هذا الإنسان، وذلك بأن تعرف أن الإنسان هو عقل يفكر، فعليك أن تعرف عقله وكيف تدخل إليه، وأن الإنسان قلب ينبض، وينفتح على جانب الإحساس والشعور، فعليك أن تدرس قلبه، ما الذي يحبه؟ ما الذي يبغضه؟ ما الذي ينفتح عليه؟ ما الذي ينغلق عليه؟ وعليك أن تدرس طبيعة أخلاقه في قبول الآخر أو رفضه، وفي قبوله للحوار أو رفضه له، وما إلى ذلك. أي: أن تحاول أن تدخل إليه بلطف وبرفق، حتى تستطيع أن تجذبه إليك، وهذا على خلاف الذين ينطلقون إلى الآخرين ليصدموهم في ما يفكرون به، بأسلوب العنف، وأسلوب القسوة.
ولتقريب الفكرة من الناحية السلبية، يُنقل في هذا المجال حديث للإمام جعفر الصادق(ع)، ذكره لأصحابه، ما مضمونه: أن شخصاً ما أقنع شخصاً نصرانياً بأن يعتنق الإسلام، وأراد منه أن يقوم بما يفرضه الإسلام من التزامات عبادية، فقال له: سوف أمرُّ عليك في الصباح، ومرّ عليه، فحدثه عن صلاة الصبح، وعن نوافلها، وعن الأدعية التي لابد له أن يدعو بها، وهكذا استمر به الأمر إلى الظهر، ثم أيضاً أراد له أن يصلي الظهر ونوافلها، وامتد إلى العصر، ليصلي العصر ونوافلها، وهكذا إلى المغرب والعشاء، إلى صلاة الليل، وبعد أن انتصف الليل قال له: اذهب إلى بيتك وسأمرّ عليك في الصباح، وعندما مرّ عليه في الصباح، رفض أن يخرج معه، وقال له: إن هذا الدين يحتاج إلى شخص فارغ، وأنا رجل صاحب عيال، وصاحب حاجات، فلا يمكنني أن أسير معك. فهذا الشخص عندما كان نصرانياً، كان يقوم بأعمال بسيطة في ما تفرضه النصرانية من العبادة، وهذا الداعية لم يدرس ظروف هذا الشخص، ولم يدرس حاجاته، ولم يدرس التزاماته، ولذلك فإنه بأسلوبه أخرجه من الإسلام، وهو يريد أن يدخله فيه.
البعد الإنساني للدعوة:
وفي الجانب الإيجابيّ، ينقل لنا التاريخ قصة أخرى ـ وهذه كلها قضايا تجريبية ـ وهي أنّ شخصاً نصرانياً جاء إلى الإمام الصادق(ع)، ودخل في الإسلام على يديه وقال له: إن أمي لا تزال على دين النصرانية، وأنا أصبحت مسلماً، فكيف أتعامل معها، قال له: انظر إلى ما كنت تقوم به من خدمتها، فضاعفه. فمثلاً، إذا كنت تقدم إليها الطعام، الآن أطعمها بيدك، وهكذا، وإذا كنت تقدم لها الخدمات، مثلاً، بواسطة خادمة أو ما أشبه، فالآن عليك أن تخدمها بنفسك.
وهكذا؛ فإنّ الإسلام لا يعزل الإنسان عن أهله إذا كانوا غير مسلمين، والأخلاق الإسلامية هي أخلاقٌ منفتحة على الآخر؛ لأن القيمة الإسلامية هي قيمة مطلقة، فلا تقتصر في عطائها وإحسانها على المسلمين فقط، بل تمتدّ إلى المسلمين وغير المسلمين، وقد ورد: «لكلِّ كبد حرَّى أجر»([115])، وورد في كلمة الإمام علي (ع) في عهده لمالك الأشتر: «إن الناس صنفان: إما أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق». ولقد كانت عظمة رسول الله (ص)، وعظمة الأنبياء قبله، أنهم انفتحوا على الناس الذين لم يؤمنوا بدينهم وبرسالاتهم، انفتحوا عليهم بالأخلاق العالية، فاجتذبوهم بأخلاقهم إلى ما يدعون إليه...
وهكذا ذهب هذا النصراني الذي أسلم حديثاً، وبدأ يخدم أمّه خدمةً تتجاوز الخدمات التي كان يخدمها بها، ولفت هذا الوضع الجديد أمه، فقالت له: يا بني، إني أرى شيئاً جديداً، صحيح أنت ولد بارٌّ، ولكني أرى أن طريقتك في البرْ بي هي طريقة جيدة وحسنة، وقد تطوّرت عن السابق، ما الذي تغيّر فيك؟ قال لها: لقد دخلت في الإسلام، وقد أمرني إمام هذا الدين أن أعاملك بهذه الطريقة، مع بقائك على دينك، قالت: هل من أمرك بهذا نبي؟، قال: لا، ولكنه ابن نبي، قالت: هذه أخلاق الأنبياء. ثم قالت له: يا بني، أعرض عليّ دينك، وعرض عليها دينه، ودخلت في الإسلام، ثم ماتت بعد ذلك، وتولى المسلمون أمر تجهيزها ودفنها.
وإذا أردنا أن نحلّل الموقف، لوجدنا أن هذا الرجل لو أراد أن يقنع أمه بالإسلام، بعدما مضى عليها ستّون سنة أو سبعون سنة وهي على دين آخر، بحيث تجذّر دينها في وجدانها، فهل تراها يمكن أن تقبل منه؟ ولكن هذه الأخلاقية كانت بمثابة الصدمة الروحية التي استطاعت أن تهز كل وجدان هذه المرأة، وكل إحساسها وشعورها، وقد كان الرفق في الدعوة، واللطف الذي يحترم إنسانية الإنسان، هو الذي جذبها إلى الإسلام.
وهذا ما يجب علينا أن نتعلمه في كل دروس الحياة، بأن نحترم إنسانية الإنسان الآخر، وأن نحترم قناعاته الشخصية، في انتمائه الفكري، فلا نضطهده لانتمائه، بل نحاوره وندعوه من موقع الفكر الذي يحاور الفكر، وأن نعرف كيف ننفتح على انتمائه، لنقدّم له ما نملكه من انتماء، بالشكل الذي يتقبّل فيه انتماءنا، سواء كنا في مجال دعوة دينية أو أخلاقية أو سياسية أو اجتماعية.
ولذلك نجد أن الدعوة الإسلامية لا بدّ أن تتحرّك في إطار الحكمة، كما في قوله تعالى: )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ((النحل:125)، والحكمة ـ بحسب المعنى اللغوي ـ: هي وضع الشيء في موضعه، والكلمة المناسبة مع الشخص المناسب، والأسلوب المناسب مع الشخص المناسب، والمناخ المناسب مع الإنسان المناسب، والموعظة الحسنة: هي الموعظة التي تتحرك في القلب لتلينه ولتفتحه، ولتجتذبه، بحيث إنها تدخل في قلب الإنسان وفي إحساسه وشعوره، لتلينه وتفتح آفاقه. وفي اعتقادي أننا لو اتَّبعنا أسلوب الرفق هذا، لاستطعنا أن نتجاوز كثيراً من المشاكل العائلية، في علاقة الزوج بزوجته، وعلاقة الزوجة بزوجها، وعلاقة الأب بأبنائه، وعلاقة الأبناء بآبائهم وأمهاتهم؛ لأن المشكلة هي أننا لا ندرس ما يعيشه الآخرون، ولا ندرس عقل الآخرين، ولا ندرس قلوب الآخرين، ولا ندرس ما يميز أخلاقية الآخرين.
الرفق في الحديث الشريف:
كيف يطرح الإسلام مسألة الرفق؟
في الحديث النبوي الشريف: «إن الرفق لم يوضع على شيءٍ»، أيِّ شيء، سواءٌ كان هذا الشيء يتّصل بالآخرين، أو يتصل بالأشياء التي تعالجها في كل أمورك، «إلا زانه»، إلا زيَّنه، «ولا نزع عن شيءٍ إلا شانه»([116])، أي إلاّ عابه. والمعنى أنّك إذا تصرفت بطريقة بعيدة عن الرفق وعن اللطف، فإن ذلك يمثل حالة عيب في تصرفاتك.
وفي حديث آخر: «لو كان الرفق خلقاً يرى»، يعني أنّه لو أراد الله تعالى أن يمثل الرفق في صورة شخص، «ما كان مما خلق الله شيء أحسن منه»([117])، ولكانت صورته أجمل الصور وأحسنها.
وهكذا نقرأ في علاقات المتصاحبين؛ ونحن نتصاحب مع الناس الآخرين، فقد نتصاحب معهم في سفر، أو في مدرسة، أو في شركة، وقد نتصاحب في عمل سياسي، أو في البيت الزوجي، أو الأبوي، هنا كيف يتعامل الصاحب مع صاحبه لينال الفضل من الله سبحانه وتعالى؟ الحديث النبوي يقول: «ما اصطحب اثنان إلا كان أعظمهما أجراً وأحبهما إلى الله عز وجل أرفقهما بصاحبه»([118])، يعني الشخص الذي يلاحظ مشاعر صاحبه، ويراعي إحساسه وتطلعاته، والأوضاع المحيطة به. أن يعيش مع صاحبه وهو لا ينظر إلى ذاته، وإنما ينظر إلى الآخر، ما هي الأمور التي تريحه؟ ما هي الأمور التي تؤنسه؟ وفي الجانب الآخر: ما هي الأمور التي تتعبه أو تحزنه أو تكدّره، فإذا تعامل معه برفق، فإن الله يعطيه أجراً أكثر، ويعطيه محبةً أكثر.
وفي هذا المجال نقرأ أيضاً: «إذا أراد الله بأهل بيت خيراً»، والمقصود هو العائلة كلها، بحيث أراد الله تعالى أن يظلّل حياتهم الخير، «إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم باب رفق»، فيجعل الرفق هو طابع أخلاقياتهم، وحركة علاقاتهم ببعضهم البعض، فيرفق الزوج بزوجته، والزوجة بزوجها، والأب والأم بأولادهما، والأولاد بوالديهم، وهكذا.
وفي حديث آخر: «مَن أُعطي حظّه من الرفق أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة»، يعني أنّ الإنسان الذي يكون رفيقاً في أسلوب حياته، سواء في ما يريد أن يعالج به أموره، بحيث لا ينطلق في علاج أي أمرٍ من شؤونه، في أوضاعه وحركاته كلّها، أو في علاقته بالآخرين إلا بالرفق، فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه خير الدنيا والآخرة.
)وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ((المطففين:26). ويبقى هناك مجال للكلام في كل أحاديث النبي(ص)، والأئمة من أَهل البيت(ع)، في مسألة الرفق في كل امتداداته وخلفياته، وكل ما أراد الله له، مما يمثل الامتياز الإنساني.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الخامسة: 9 صفر 1426 ه - 19/3/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم
منهج الرفق والترفّق
البعض من الناس يتعاملون مع الآخرين من خلال عناصرهم الذاتية، فلا يدرسون عناصر الشخصية الأخرى التي يريدون أن يتعاملوا معها، ولذلك فإنهم يطلقون الكلمة، أو يطلقون الموقف انطلاقاً من ذاتياتهم، وبذلك ينتجون التوتر الذي تثيره كلماتهم، أو مواقفهم في الآخرين.
الرفق الإلهي.
ردّ العدوان.
الرفق من الإيمان.
مداراة الناس.
المداراة ليست نفاقاً.
أسلوب السبّ واللعن.
إيجابية الأسلوب الإسلامي.
أمثلة من الواقع الاجتماعي.
التطّرف في الدين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا نزال في الحديث عن (الرفق) كقيمة أخلاقية يعيشها الإنسان في رفقه بنفسه، وفي كل ما يريد أن يأخذ به من مسؤوليات في علاقته بنفسه، وفي علاقته بالناس الآخرين، وحتى في علاقته بالحيوان. ونتابع الأحاديث التي وردت في هذا الشأن عن رسول الله(ص)، وعن الأئمة من أهل البيت(ع)، في الأفق الذي ينفتح عليه الرفق، في حركة الإنسان في مواقعه كلّها، وفي مواقفه كلّها، وفي مفرداته كلّها.
الرفق الإلهي::
في الحديث عن الإمام الباقر(ع) أو الصادق(ع) يقول: «إنَّ الله تبارك وتعالى رفيق يحب الرفق»؛ فالرفق هو من صفات الله سبحانه وتعالى في علاقته بعباده، فالله ليس شأنه القدسي أن يقسو على عباده، أو يغلظ عليهم، في ما يريده لهم على مستوى تربيته لهم، وفي ما يوحي إليهم من البرنامج الأخلاقي الذي يريد لهم أن يأخذوا به، ليجعلوا حياتهم حياةً يسودها التوازن والسلامة.
كما أنّنا نطلّ من خلال الرفق على صفة الرحمة؛ باعتبار أن الرحمة تلتقي بالرفق في علاقة الإنسان بمن يرحمه، وعلاقة الله بعباده في رحمته لهم. وإذا كان الله يحب هذا المبدأ، فإنه يحب الذين يأخذون به ويتصفون به؛ لأنّ الله عندما يحب شيئاً، فإن ذلك يعني أنّ هذا الشيء يمثل القيمة الروحية التي ترتفع بالإنسان إلى الله تعالى، والتقرّب إليه تعالى إنّما يكون من خلال ما يحبّه، سواء في عمل الإنسان أو في صفاته.
«فمن رفقه بعباده تسليله أضغانهم، ومضادّتهم لهواهم وقلوبهم»([119])، فمن خلال توجيهات الله سبحانه للناس في وحيه وألطافه، يريد أن ينـزع من داخلهم كل الأحقاد والأضغان، لتصفو قلوبهم، ولتمتلئ بالمحبة بدلاً من امتلائها بالحقد والعداوة والبغضاء، فتقترب القلوب من بعضها البعض، بدلاً من أن يضادّ القلب القلب، أو يعاديه.
ردّ العدوان
وفي الحديث أيضاً عن رسول الله(ص) في خطابه لزوجته عائشة، في قصة ينقلها الحديث النبوي الشريف: «أن النبي(ص) كان جالساً ذات يوم وإلى جانبه زوجته، ومرّ يهودي، فأوحى أنه يريد أن يحيّي النبي(ص)، فقال له: السّام عليك»؛ يعني الموت عليك، ظناً منه أن النبي لم يلتفت إلى ذلك، ليجيبه النبي(ص) ـ هكذا كان يتخيّل اليهودي ـ وعليك السلام، فيذهب إلى أصحابه ليسخر من النبي، أني دعوت عليه فأجابني بالسلام، ولكن النبي ـ حسب الرواية ـ قال له: «وعليك»([120])؛ وسكت، على أساس قوله تعالى: )فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ((البقرة:194)، فهو دعا على النبي بهذه الكلمة، والنبي(ص) ردَّ عليه دعوته بمثلها، هنا التفتت زوج النبي عائشة إلى المسألة، فبدأت تسب اليهودي، وخاطبت اليهودي بخطاب قاسٍ، فقال النبي(ص): «يا عائشة، إن الفحش لو كان ممثلاً» يعني الكلام القاسي الفاحش، والمراد من الفاحش الذي يتجاوز الحد الطبيعي، أي لو أن الله تعالى يمثله في صورة إنسان «لكان مثال سوء»، أي لكان قبيح المنظر، «أما عرفت أني قلت له: وعليك»، وانتهت المسألة. ثم قال لها: «يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق»؛ ويحب من قام به، «ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»([121])، أي أن الإنسان لو وقف أمام مشكلة ولها حلاّن؛ حلّ بالعنف، وحلّ بالرفق واللطف واللّين، ولكن الإنسان اختار الرفق لحل المشكلة، سواء في عالم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو في ردّ العدوان، أو ما إلى ذلك، فإن الله يعطيه من الثواب ما لا يعطيه لو حلّ المشكلة بالعنف. وبعبارة أخرى: إنّ الله سبحانه وتعالى يريد حل المشكلة، ولكن بالرفق، لا بالعنف؛ لأن حلّها بالعنف ربما ينتج مشاكل أكثر مما نريد أن نتفاداه منها.
الرفق من الإيمان:
وفي حديث آخر، يربط الإمام الباقر(ع) الرفق بالإيمان، ويعتبر أنّ من عناصر الإيمان أن تكون رفيقاً في سلوكك مع الآخرين، بحيث تتصرف، سواء بالفعل أو برد الفعل، باللين واللطف، لا بالقسوة والعنف. يقول(ع): «من قُسِم له الرفق قُسم له الإيمان»([122])؛ يعني أن الرفق يدفع الإنسان إلى الإيمان، باعتبار أن الرفق كقيمة أخلاقية، يجعلك تدرس الأمور بطريقة عقلانية هادئة، بعيدة عن حالة التوتر والعصبية، لأنّ التفكير بالطريقة العقلانيّة الهادئة، سينسحب على مفردات تفكيرك كلّها، وبذلك تنفتح على الإيمان. كما أنّك إذا عشت هذه الأخلاقية التي يحبها الله تعالى، فإنك تلتقي بالله من أقرب طريق. وقد ورد في الحديث: «تخلّقوا بأخلاق الله»؛ وإذا كان من أخلاق الله الرفق، فإن ذلك يعني أن الله تعالى إذا قسم لك الرفق في أخلاقيتك، فإنه يقسم لك درجتك في الإيمان، بمعنى ترتفع درجتك بذلك.
وفي الرواية عن الإمام زين العابدين(ع) قوله: «كان آخر ما أوصى به الخضر موسى بن عمران: أن قال له ما رفق أحد بأحد في الدنيا إلاّ رفق الله عزَّ وجل به يوم القيامة»([123]). وهذه هي قيمة الرفق في الآخرة، فإذا كنت رفيقاً بالناس في الدنيا، رفيقاً بزوجك، سواء كنت رجلاً يرفق بزوجته، أو امرأة ترفق بزوجها، أو رفيقاً للناس الذين تعاشرهم ويعاشرونك، وتعاملهم ويعاملونك، أو رفيقاً بأولادك، في تربيتك لهم، وفي معاشرتك لهم، فإن الله تعالى يعتبر هذا الرفق الذي تتميز به في سلوكك في الحياة مع الآخرين، عملاً صالحاً يؤدي إلى أن يرفق الله بك يوم القيامة، فيعطيك من الثواب والأجر ما يجعلك قريباً إليه تعالى، وما يعظم أجرك عنده.
مداراة الناس:
وفي جانب آخر يلتقي الرفق بالمداراة، فالإنسان كائنٌ اجتماعيّ بالطبع؛ فهو يولد في داخل مجتمع أبيه وأمّه، فيعيش الحالة الاجتماعية في تلك الدائرة المحدودة، ثمّ تكبر العائلة، ويعيش مع أخوته، وهكذا تمتد الحياة الاجتماعية حسب طبيعة انفتاحه على المجتمع وضرورات علاقته به. ومن الطبيعي أن المجتمع يختلف في طباعه، ويختلف في أوضاعه وفي مواقفه ومواقعه، وهذا أمر نراه في كل الواقع الذي يعيشه الناس في حياتهم الاجتماعية، فهنا الناس الذين يعيشون الانفعال أمام كلمة هنا وكلمة هناك، وهناك أناس يعيشون العصبية في انتماءاتهم التي تختلف عن انتماءات الآخرين، وهناك أناس يواجهون الأمور من خلال تأثيراتها السلبية في أنفسهم، فكيف نتعامل مع الناس؟
البعض من الناس يتعاملون مع الآخرين من خلال عناصرهم الذاتية، فلا يدرسون عناصر الشخصية الأخرى التي يريدون أن يتعاملوا معها؛ لا يدرسون نقاط ضعفها أو نقاط قوتها، ولا انتماءاتها الشخصية، أو السياسية، أو المذهبية، أو الطائفية، أو ما إلى ذلك، ولذلك فإنهم يطلقون الكلمة، أو يطلقون الموقف انطلاقاً من ذاتياتهم، وبذلك ينتجون التوتر الذي تثيره كلماتهم، أو مواقفهم في الآخرين، بحيث يخلقون لأنفسهم مشاكل معهم.
والعنوان الاجتماعي الذي يدخل هنا كعنصر فاعل من عناصر التخفيف والحدّ من المشاكل الاجتماعية التي يُمكن أن تنشأ بفعل تنوّع الناس، هو عنوان (المداراة)، فنقرأ في الحديث النبوي الشريف: «إنا معاشر الأنبياء أمرنا بمداراة الناس كما أمرنا بإقامة الفرائض»([124])، كيف هو الاهتمام الديني بإقامة الفرائض، كالصلاة، والصوم، والحج، وما إلى ذلك ؟ إن مداراة الناس هي في المستوى نفسه من الأهمّية، والله سبحانه وتعالى كان إذا أرسل نبياً ـ حسب هذا الحديث ـ يأمره بمداراة الناس، كما يأمره بأداء الفرائض، وعندما يأمره بمداراة الناس، فإنه يأمره بأن يأمر الناس بالمداراة فيما بينهم، أي في علاقاتهم مع بعضهم البعض، تماماً كما يأمره بأن يطلب من الناس إقامة الفرائض.
وفي حديث آخر: «أعقل الناس أشدهم مداراةً للناس»([125])؛ باعتبار أن العقل يوحي إليك بأن تكون الإنسان الذي يعيش في المجتمع بحيث يربح صداقة المجتمع ومحبته. ومن الطبيعي أن الصداقة أو المحبّة لا تأتي إلاّ إذا راعيت مشاعر الناس وأحاسيسهم. وإذا ربح الإنسان محبّة الناس وصداقتهم، فإنه يحصل على الخير الكثير من ذلك، ويحصل على السلام الذي يفرضه هذا السلوك في علاقته بالآخرين. وقد ورد في الحديث الشريف أن الله تعالى أوحى إلى النبي موسى(ع): «دارِ خلقي»؛ فعندما تعيش مع خلقي، فعليك بمداراتهم.
المداراة ليست نفاقاً:
وقد يخيّل لبعض الناس أنّ المداراة نوع من النفاق؛ لأنّك عندما تداري الناس، فإنك لا تواجههم بالحقيقة، أو بالقضايا بشكل مباشر، ومعنى ذلك أنّك تضمر في نفسك شيئاً وتتحدث مع الناس بشيء آخر، وهذا من النفاق.
ولكنّنا نفهم أنّ المداراة هي أن تدرس عناصر شخصية الآخر؛ ما هو الشيء الذي يثيره؟ وما هو الشيء الذي يهدّئه؟ وما هو الشيء الذي يفتح عقله على عقلك، وقلبه على قلبك؟ وما هو الشيء الذي يغلق عقله عن عقلك، وقلبه عن قلبك؟ كيف تتصرف في إدارة أحاسيسه ومشاعره، حتى تستطيع أن تربح إحساسه وشعوره؟ هنا يبرز أسلوبان في التعاطي معه؛ فقد تقول له: أنت مخطئ، أو أنك لا تفهم واقع الأمور، هكذا، بشكل مباشر، وقد تقول له: هناك وجهة نظر أخرى، أو أنّ بعض الناس لا يرون ما ترى. إن المعنى واحد، فأنت تقول له ـ في كلا الأسلوبين ـ: إن رأيك خطأ، ولكن الأسلوب الأول يسيء إلى كرامته، بينما الأسلوب الآخر يدفعه إلى أنْ ينفتح على وجهة النظر الأخرى، ويمكن أنْ يتبناها بعد ذلك.
أسلوب السبّ واللعن:
وفي اختلافنا المذهبي، هناك أسلوب السبّ واللعن مع الآخرين، بسبب أنك تختزن في داخل نفسك العداوة والرفض للأشخاص الذين يقدّسهم الآخرون، فتظهر انفعالك بطريقة السب واللعن، أو ما إلى ذلك. وهناك أسلوب آخر، وهو أن تدخل معه في حديث موضوعيّ عاقل، لتعبّر له، بأسلوب هادئ، عن الأسباب التي لا تدفعك إلى التفاعل معه، أو الإيمان برأيه وقضيّته. وهذا الأسلوب نستوحيه من أمير المؤمنين(ع) في الجو الذي كان يعصف بالمسلمين آنذاك، وبشكل متوتر، وذلك في الحرب التي أثارها معاوية ضد أمير المؤمنين(ع) عندما تمرد على الشرعية الإسلاميّة المتمثّلة بالإمام(ع)، التي انطلقت من خلال مبايعة المهاجرين والأنصار له، عندما سمع الإمام(ع)، وهو في طريقه إلى (صفين)، جماعة من جيش العراق يسبون أهل الشام، فوقف فيهم خطيباً، وقال لهم: «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين»، ونستطيع أن نعمّم هذه المسألة إلى اللعن؛ لأنّ الإمام(ع) يتحدّث عن ردّ الفعل السلبي تجاه الآخر بالأسلوب الانفعالي، وإنّما كان السبّ مظهراً من مظاهره، ونحن نعرف أن هذا الأمر مشترك بين السبّ واللعن، ومن هنا لا يكون ثمّة فرق بينهما، علماً أنّ ابن أبي الحديد، في شرحه لنهج البلاغة، نقل عنه(ع) قوله: "كرهت لكم أن تكونوا لعّانين شتّامين".
وقد ورد الكثير من الأحاديث التي ذمّت هذا الأسلوب، واعتبرته من الأساليب التي لا ينبغي للمؤمن الأخذ بها؛ فعن رسول الله(ص) أنّه قال: «إنّي لم أُبعث لعّاناً، وإنّما بُعثتُ رحمةً»، وعنه(ص): «لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعّاناً»، وفي رواية أخرى عنه(ص): «لا ينبغي لصدّيق أن يكون لعّاناً»، وفي رواية رابعة عنه(ص): «لا يكون اللعّانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة»، وعنه(ص): «إن استطعتَ أن لا تلعن شيئاً فافعل».
أمّا الأسلوب الأفضل الذي ينبغي للمؤمن الأخذ به، فهو ما يوضحه الإمام عليّ(ع) بقوله: «ولكنّكم لو وصفتم أفعالهم، وذكرتم حالهم، لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر»؛ فالسب هو تعبير عن الانفعال الذي يختزنه الإنسان ضد الآخر الذي يختلف معه، ولكن عندما تستعملون أسلوب العقل، وتقولون إن معاوية ـ مثلاً ـ تمرّد على الشرعية الإسلامية، وإن أهل الشام الذين اتبعوه لم يأخذوا بأسباب الفكر والمعرفة في دراسة الأمور، وتذكرون كيف يتصرّفون، وما هي مواقفهم وأوضاعهم، ليعرفوا أن علياً على الحق، وأن معاوية على الباطل، لكان ذلك يمثل الأسلوب الصائب والحكيم، «وأبلغ في العذر»؛ أي إنكم بذلك تقدمون بهذه الطريقة العذر لمن يلومكم على هذه الحركة في الحرب، ممن يجهل أوضاعكم ولا يعرف الفرق بين هذا المعسكر وذاك المعسكر.
إيجابية الأسلوب الإسلامي:
ثم يرتفع الإمام ليؤكد الأسلوب الإسلامي الذي لا يجعل المسلم يعيش التدمير للمسلم الآخر، أو الحقد ضد المسلم الآخر، «وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به». هذا الأسلوب الذي يربط الإنسان المسلم بالمسلم الآخر، في ما يبتهل فيه الإنسان إلى الله تعالى أن يهيئ المناخ الذي يجمع المسلمين مع بعضهم البعض، ويفتح عقول الناس على الهدى، حتى يرجعوا عن الضلال. وهذه هي المداراة، من خلال أنّك تدرس طبيعة المشكلة بينك وبين الآخر، فلا تحرك العنف في مواجهة هذه المشكلة، وإنما تحرك اللين وتداري مشاعر هؤلاء وأحاسيسهم.
أمثلة من الواقع الاجتماعي:
وإذا دخلنا في علاقاتنا وحياتنا الاجتماعية، في تنوّعات دوائرها، كما في الحياة الزوجية، مثلاً؛ إذ نحن نعرف أن الطريقة التي ينشأ بها الزواج، لا تنطلق ـ غالباً ـ من دراسة الرجل للمرأة التي يريد أن يتزوجها، في علاقتها بأهلها، وفي طبيعة مشاعرها، وهكذا لا تعرف المرأة زوجها، وإنما القضية تنطلق من إعجاب أحدهما بالآخر، من ناحية الجمال، أو من ناحية الطمع بالمال، أو من نواحي أخرى في هذا المجال، ولذلك يدخل كل واحد منهما على الآخر كصندوق مغلق، وهنا لابد أن يداري أحدهما الآخر، يداري مشاعره، ويداري أحاسيسه، ويداري علاقاته.
وعلى سبيل المثال، أيضاً، نجد أنّ بعض الناس يطلب من زوجته أن تقاطع أهلها، وهو أمر يثقل نفس المرأة وكيانها؛ إذ من الصعب جداً أن يقاطع الإنسان أهله، حتى لو كان لديهم بعض السلبيّات. إنّ باستطاعة هذا الزوج أن يعالج المسألة بالطريقة التي يحفظ فيها علاقتها بأهلها، وفي الوقت نفسه، يحدّ من سلبيّات هذه العلاقة بطريقة وبأخرى. والعكس صحيح، فربما يسيء إليها أهله، فتطلب منه مقاطعة أهله، فتحدث المشاكل من خلال ذلك، أو أن الرجل في الحياة الزوجية يحب شيئاً، والمرأة تكره هذا الشيء، وقد يأتي الرجل فيفرض على الزوجة أن تحب ما يحب، وقد ورد في الحديث: «إن المؤمن يأكل بشهوة، أهله والمنافق يأكل أهله بشهوته»([126])؛ أنْ تفرض على أولادك، أو تفرض على زوجتك الأكل الذي تحبه أنت، لأنك في مركز قوة، وأنت الذي تأتيهم بالغذاء، فيضطرون إلى ذلك، وهذا الذي حدّثنا به الله سبحانه وتعالى، مشيراً إلى إنسانية النبي(ص) في قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ((التحريم:1)، فقد كان النبي يحب الطيب، وكان بعض الطيب لا ينسجم مع ما تحبه زوجاته، فيحرم نفسه منه، في هذا الموضع، وربما تتصل القضية أيضاً بالغذاء الذي يحبه وهنّ يكرهنه، أو بالعكس، فقد يكون كارهاً له وهن يحببنه، ولذلك كان يقول(ص): «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»([127]).
وهكذا في سائر دوائر الحياة الاجتماعية؛ فإنَّ على الإنسان أن يفكر في إحساس الآخر، وشعوره، في ذاتياته، وفي انتماءاته، وفي أوضاعه العامة والخاصة، بحيث إنك إذا أردت أن تتعامل معه، أو تعاشره، فإنك تمارس الأسلوب الذي لا يثقل مزاجه، ولا يثقل إحساسه، وهكذا في العلاقات الإنسانية، وحتى في القضايا التي تريد فيها أنْ تؤكد حقاً، أو تدفع باطلاً، لابد من أن تستخدم الأسلوب الذي يفتح قلب الإنسان الآخر، ويفتح عقله على ما تريد هدايته له، لا الأسلوب الذي يغلقهما عنه. وبذلك تكون المداراة عبارة عن الطريقة التي تعمل فيها مع الإنسان الآخر، بحيث تلاحظ مشاعره وأحاسيسه وأوضاعه، حتى لا تكسره، وحتى لا تثيره، وحتى لا تخلق في نفسه حالة التوتر، وهذه هي المداراة للناس الآخرين، لأننا لا نريد أن نصطدم معهم، بل نريد أن نجذبهم إلى ما نحن فيه، ولذلك عليك أن لا تعتبر الآخر عدواً تريد أن تقتله، ولكن اعتبره ضالاً تريد أن تهديه، أو مريضاً تحاول أن تشفيه.
التطّرف في الدين::
وفي مجال الرفق، نجد بعض الأحاديث التي تركّز على أن ترفق بنفسك في ممارستك لدينك؛ لأن بعض الناس قد يثقل نفسه بحيث يبغّض دينه إليها. عن رسول الله(ص): «إياكم والتعمّق في الدين»؛ بالطريقة التي تخرجون بها عن طبيعة الدين، في ما أراد الله سبحانه وتعالى للناس أن يأخذوا به. وليس معنى عدم التعمق أن لا تدرس الدين، أو أن تأخذ به بطريقة سطحية، بل أن تدرس الدين بالطريقة العقلية الوجدانية، التي لا تخرجه عن طبيعته الواقعية، في ما يريد الله تعالى للناس أن يأخذوا به. ونحن نلاحظ أن بعض الناس أدخلوا الفلسفة ـ مثلاً ـ في الدين، ولا سيما الفلسفات التي أخذوها من الحضارات السابقة غير الإسلامية، فأبعدوا الدين عن طبيعته، وأدخلوا ما ليس من الدين في الدين، وهذا ما أساء إلى كثير من حالات التطور الديني، يقول(ص): «إياكم والتعمق في الدين، فالله جعله سهلاً، فخذوا منه ما تطيقون»؛ يعني الشيء الذي هو في نطاق قدرتكم، لأن بعض الناس يجهد نفسه من الصباح إلى الليل، بحيث يعنف على نفسه، فيأتي بالنوافل، والمستحبات، وما إلى ذلك، بما يجعل نفسه تنفر منه، «فإن الله يحب ما دام من عمل صالح وإن كان يسيراً»؛ يعني كل شيء تتقرب به إلى الله من العمل الصالح، فإن الله يحبه حتى لو كان يسيراً، بحيث أنه لا يكون شديداً على النفس، ثم قال: «إن هذا الدين متين»؛ يعني قوي، محكم، «فأوغلوا فيه برفق»؛ فعندما تريد أن تدخل في الأمر المحكم بقوة فإنّه ينكسر. أما الشيء اللين، فإذا دخلت فيه، فإنه يتوسع، ويفسح لك في المجال لتدخل بسهولة. «فأوغلوا فيه برفق، ولا تكرّهوا عبادة الله إلى عباد الله»؛ فلا تجعلوا عباد الله يأخذون الدين بالنحو الذي قد يكون حرجاً عليهم، وقد يكون مشقةً لهم، وما إلى ذلك، بحيث يصبح الإنسان كارهاً للعبادة، فتكون «كالراكب المنبت»، المقطوع، الذي «لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»؛ يعني المسافر الذي يركب دابته، فيسير بها في الليل وفي النهار، ولا يدعها ترتاح، عند ذلك، تسقط الدابة في نصف الطريق، ولا يصل. والمقصود بالظهر هو ظهر الدابة. وفي الحديث: «إن للقلوب إقبالاًَ وإدباراً، فإذا أقبلت فتنفلونا، وإذا أدبرت فعليكم بالفريضة»([128]).
وقد ورد في حديث الإمام الصادق(ع): «اجتهدتُ في العبادة وأنا شاب، فقال لي أبي: يا بنيّ، دون ما أراك تصنع، فإنّ الله عزّ وجل إذا أحبّ عبداً رضي عنه باليسير»([129])، وفي رواية أخرى: «رآني أبي وأنا شاب في الطواف، أتصبب عرقاً، قال: يا بني: إن الله يرضى منك بأقل من ذلك، إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المنبت لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع». ولذا ورد في الحديث: «روّحوا القلوب ساعةً بعد ساعة»؛ وهذا معناه: أنه على الإنسان أن يعبد ربه، ولكن بالطريقة التي لا يثقل فيها على نفسه، بحيث تكره نفسه عبادة الله، وهذا ما يجب أن نعمل به عندما نريد أن ندفع أولادنا إلى الإتيان بالفرائض، يعني إذا أردنا أن نوقظ أحداً من النوم، أن لا نهزّه بعنف ليقوم إلى الصلاة؛ لأنّ ذلك قد يدفعه إلى أن يكره الصلاة من أساسها.
ومن مظاهر الرفق في تعاليم الإسلام، الرفق بالحيوان. ففي الحديث عن رسول الله(ص): «إن الله يحب الرفق ويعين عليه»؛ فإذا أردت أن تسير في أمورك بالرفق، فإنّ الله يساعدك، في الأمور الخيّرة، والأمور الطيبة، والأمور التي تتعلق بحياتك، «فإذا ركبتم الدواب العجف»، أي كبيرة السن، «فأنزلوها منازلها»؛ أي ضعوها في المنازل التي ترتاح فيها، «فإن كانت الأرض مجدبةً فانجوا عنها»؛ أي مشّوها، لأنها لا تنتفع بها، «وإن كانت مخصبة، فأنزلوها منازلها»([130])؛ أي دعوها تأكل.
وينقل عن الإمام زين العابدين(ع) بالنسبة إلى تعامله مع ناقته: «أنه كانت إذا امتنعت عليه، وكان السوط بيده، فإنه عندما يريد أن يهوي بالسوط عليها، يقول: آه لولا القصاص» كأني إذا ضربت هذه الناقة بالسوط، وربما كان امتناعها نتيجة وجع، أو أية حالة، فإن الله تعالى سوف يقتص مني يوم القيامة.
هذا هو السمو الإنساني الإسلامي، في أن الله سبحانه وتعالى يريد أن نرفق بالحيوان، حتى إنه ورد الأمر للإنسان بأن يحدّ السكّين إذا أراد ذبح الحيوان، وأن يُسرع في الذبح حتى لا يزيد من عذابه. هذا هو الإسلام الذي يريد من الإنسان أن يرفق بنفسه، ويرفق بالآخرين، ويرفق بالحيوان.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة السادسة: 16 صفر 1426 ه - 26/3/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم
مظهر الدنيا وجوهرها
ليس المراد من الحذر من الدنيا هو أن تتركها، ولكن أن تتعامل معها تعاملاً حذرا.. فلا تستسلم للدنيا استسلاماً مطلقاً، فلعلّك إذا استسلمت إليها ألقت بك في هاوية الهلاك.
الأخلاق بين الخسارة والربح.
قيمة الرفق.
تعميـم الإحسـان.
الانفتاح الأخلاقي.
معاملة الإخوان.
الدنيا: المظهر والجوهر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
في كلمة تُروى عن الإمام علي(ع)، يقول فيها: «ربما كان الرفق خرقاً، وربما كان الخرق رفقاً».
الأخلاق بين الخسارة والربح
تؤكد هذه الكلمة حقيقة مهمة، وهي أن القيم الأخلاقية الإسلامية قد تولّد مواقف استثنائية، بحيث تكون النتائج الحاصلة من استخدام هذا الأسلوب، أو هذه الكلمة، أو ذاك الموقف، هي عكس ما تفرضه بحسب طبيعتها، أو بحسب ما هو الغالب. وربما يشير إلى ذلك ما ورد في كلمة الإمام علي بن الحسين، زين العابدين(ع)، في رسالة الحقوق، وهو قوله: «وحق من اساءك أن تعفو عنه، وإن علمت أن العفو يضرّ انتصرتَ»([131]). ومعنى ذلك أنّ الأساس هو العفو، وذلك قوله تعالى: )وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى((البقرة:237)، وقوله عزّ وجل: )ادفع بالتي هي أحسن السيّئة((فصّلت:34)، وقوله تعالى: )ويدرأون بالحسنة السيّئة((القصص:54)؛ ولكن، ربّما يكون العفو عن المسيء أو عن المجرم سبباً ليمتد في جريمته وفي إساءته، فيتصوّر أنّك عندما تعفو عنه، إنما يكون ذلك نتيجة ضعف عندك بالنسبة إليه، وأنّ إساءته إليك تمثل موقف قوة، ولذلك فإنه يمتد في الإساءة، ليسيء إلى شخص آخر، أو ليسيء إليك مرة ثانية أو ثالثة، ففي هذه الحالة عليك أن تنتصر لنفسك، وأن تواجه إساءته بإساءة، حتى يكون ذلك تربية له، وتأديباً له؛ لأنه إذا امتدّ في الإساءة، فربّما يتضرر في المستقبل؛ إذ قد لا يملك من يسيء إليهم، غيرك، روحيّة الصبر والعفو، فيردّه رداً عنيفاً، وربما يشتدُّ عليه بما قد يسقطه، وقد يؤدي به إلى الهلاك.
قيمة الرفق:
فالرفق هو التعامل مع الآخرين باللين والمحبة. وقد لا يتفهّم بعض الناس هذه القيمة الأخلاقية، فيرى أن رفقك به منطلقٌ من حالة ضعف منك وقوة منه، فيمتدّ في الإساءة إليك. هنا، عليك أن تدرس الشخص الذي تريد أن ترفق به، فإذا رأيت أن الرفق يؤدي إلى نتائج سلبية، من حيث إنها تشجّعه على السوء، فعليك أن تخرق به، بأن تستخدم معه ما هو ضد الرفق، وهو الشدّة والقسوة، وما إلى ذلك، وذلك لكي تمنعه من أن يقوم بعمل سلبيٍ ضدّك أو ضدّ الآخرين. ولذلك، فقوله(ع) «ربما كان الرفق خرقاً» يعني أنّ الرفق قد يمثّل تصرفاً غير مقبول، من حيث إنه يشجّع من ترفَّق به على الشر، «وربما كان الخرق رفقاً»([132])؛ إذ قد تكون الشدة في معاملته بمثابة الرفق؛ لأنه يؤدب صاحبه.
وربما نستوحي ذلك من كلمة أخرى لأمير المؤمنين(ع)، وهي قوله: «إتّقِ شرّ من أحسنت إليه». وربّما وقع بعض الناس في مفهوم خاطئ لهذه الكلمة، ففهموا منها أن لا يُحسن الإنسان إلى أحدٍ؛ لأنّه قد يُقابل بالشرّ ممّن يُحسن إليه؛ ولكن الإمام لا يريد هذا المعنى، وهو أن يمتنع الناس عن الإحسان لمجرد احتمال صدور الشرّ منهم رداً على الإحسان، ولكن الإمام يقول لك: إذا أحسنتَ إلى شخصٍ فلا تستسلمْ له، بحيث تعتبر أن إحسانك إليه سوف يجعله شخصاً منفتحاً عليك، محباً لك، متحرّكاً بالخير معك، بل ضع في نفسك الحذر مما قد يأتيك من الشر من قِبَلِه، بفعل الذهنيّة التي يعيشها في نفسه، أو التعقيدات التي يختزنها في تقديره للأمور. وهذا ما يجعل بعض الناس، كلما أحسنت إليه أكثر، تعقّد من الإحسان، وكان ردّ فعله الإساءة إليك.
إن القيم الأخلاقية هي قيم نسبية وليست مطلقة. ولذلك، لا بدّ للإنسان من أن يدرس أين يضع هذه القيمة، وكيف هي طبيعة شخصيّة الإنسان الذي تستخدم معه هذا الأسلوب أو ذاك، حتى تحقّق نتائج الخير في ذلك، ولا تحصد الشرّ من خلاله.
ولعلّه يحسُن بنا العود لنؤكّد النتائج الإيجابيّة التي تعودُ على الإنسان الذي يتحرّك بالرفق، في دنياه وآخرته. ففي بعض الأحاديث: «إن الرفق»، أي التعامل باللين واللطف، «والبر»، وهو الخير الذي تقدّمه للآخرين، «وحسن الخلق، يعمّر الديار ويزيد في الرزق»، باعتبار أنه يجعلك محبوباً لدى الناس، ويجعل حركتك في التعامل معهم حركة تؤدي إلى الخير كلّه، وتؤدّي إلى أن ينفتح الناس عليك في تعاملهم معك، فيحسن رزقك من خلال ذلك.
تعميـم الإحسـان:
في فقرة أخرى من وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم: «يا هشام: قول الله تعالى: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان»، فإذا أحسنَ الآخرون إليك، فإنّ عليك أن تُحسن إليهم، وتقابل الإحسان بمثله، «جرت في المؤمن والكافر والبرّ والفاجر، من صُنع إليه معروف فعليه أن يكافئ به». فكل إنسان يخدمك، أو يقضي حاجتك، أو يساعدك، أو يدافع عنك، أو يعلمّك، أو يعطيك الخبرة في ما تحتاج إليه من الخبرة، وما إلى ذلك، فعليك أن تكافئه، بأن تردّ له الجميل بمثله. ثم يقول(ع): «وليست المكافأة أن تصنع كما صنع حتى ترى فضلك، فإن صنعت كما صنع، فله الفضل بالابتداء».
ولذلك، فإنّ عليك أن تزيد عليه. فإذا أعطاك عشرة، وأردت أن تكافئه، فعليك أن تعطيه أكثر من ذلك، وإذا قضى لك حاجة، فعليك أن تقضي له حاجتين، وما إلى ذلك؛ وإلاّ، فإنّك إذا كافيتَه بمثل ما أعطاك، فلا يحقّ لك أن تشعر بالفضل عليه؛ لأنّه يبقى، حينئذٍ، أفضل منك؛ لأنّه ابتدأك بالفضل، والبادئ في العطاء والمعروف أفضل من الذي يقابل بمثله أو بمقداره. أما إذا أعطيته أكثر مما أعطاك، وخدمته أكثر مما خدمك، وعلّمته أكثر مما علّمك، فإنك تتساوى معه، لأنه بدأك بالفضل وزدته أنت في الفضل.
والنقطة المهمّة التي يشير إليها الإمام في كلمته هذه، هي أنّه لا فرق في مسألة ردّ الإحسان بالإحسان، بين المؤمن والكافر، ولا بين البَرّ والفاجر. وكأنّه يقول: لا تنظر إلى طبيعة شخصيّة من يُحسن إليك، ولكن انظر إلى طبيعة إحسانه، فتكافئ الإحسان بالإحسان؛ لأنّ قوله تعالى: )هل جزاء الإحسان إلا الإحسان((الرحمن:60) مطلق؛ إذ لم يحدّد فيه نوعيّة الذي أحسن إليك، ليكون رد فعلك الإحسان إليه، فلم يقيّده بكفر ولا بإيمان، ولا ببرّ ولا بفجور.
الانفتاح الأخلاقي:
ومن هنا نستوحي، أنّ الأخلاق الإسلامية تدعو المسلمين إلى أن ينفتحوا بالإحسان على من أحسن إليهم، سواءٌ كنت لدى معلم في مدرسة، أو كنت لدى خبير يملك أن يعطيك الخبرة، أو لدى مدربٍ يدربك ليمنحك القوة على ما تحتاج إليه من القوة في عملك، سواء كان عملاً رياضياً أو عملاً دفاعياً أو عملاً اقتصاديّاً، أو ما إلى ذلك، بحيث تقابله بالإحسان، ولا تنظر إلى عدم إسلامه إذا لم يكن مسلماً، أو إلى عدم التزامه إذا لم يكن ملتزماً.
ومن خلال ذلك الإطلاق، نفهم أنّ (مسألة ردّ الإحسان بالإحسان)، لا تقتصر على المُحسن من البشر، بل إنّها تفيد أن على الإنسان أن يكون ردُّ فعله الإحسان إلى خالقه، وأن يستجيب لله في الإحسان إلى عباد الله، شكراً لله على إحسانه. وكأن الله يريد أن يقول للإنسان المؤمن: تعلّم من ربك الإحسان؛ فالله يحسن إليك من دون أن تستحقّ ذلك عليه، وعليك أنت أن تتخلّق بأخلاق الله، لتحسن إلى الناس الآخرين، وإن لم يكن لهم حق عليك.
ونحن نقرأ في القرآن الكريم )إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ((القصص:76-77). الشاهد هنا: أن الله أحسن إليك، فأعطاك من رزقه ما تفوّقت به على كل من حولك، فعليك أن تحسن إلى الناس الذين هم بحاجة إلى المال الذي أعطاكَ الله إياه، ومما أحسن الله إليك.
وربّما استوحى الإمام علي(ع) هذا المفهوم من الآية، فقال: «أحق الناس بالإحسان من أحسن الله إليه»، يعني أن يشكر الإنسان الله على إحسانه إليه، بأن يعطي الناس الذين يحتاجون إليه من الإحسان الذي رزقه الله إياه.
وفي هذا المجال، نقرأ أيضاً قوله تعالى: )وأحسنوا إن الله يحب المحسنين((البقرة:195)، وهذه الآية تتحرك في خطين: الخط الأول: أن يحسن الإنسان عمله لربّه، والخط الثاني: أن يحسن الإنسان علاقته بالناس الآخرين.
وفي مجال آخر، نجد أنّ الله سبحانه وتعالى ساوى بين العدل والإحسان، فكما أن الله يأمرنا بالعدل، بأن نعطي لكل ذي حقٍ حقه، ولا ننكر على أحد حقه، فالله يريدنا أيضاً أن نحسن إلى الناس مما كانوا بحاجة إلينا في الجوانب المادية، أو في الجوانب المعنوية. قال تعالى: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ((النحل:90).
وفي حديث الرسول(ص): «زينة العلم الإحسان»([133]). والمعنى: إذا رزقك الله علماً، أيَّ نوع من العلم الذي يحتاجه الناس، فإذا أردت أن تزيّن علمك وتجعله علماً منفتحاً على الجانب الإنساني من إنسانيتك، فعليك أن تكون العالم المحسن الذي يحسن إلى الناس، بأن يعطيهم من علمه، ويحسن إليهم بأن يعمل على رفع مستواهم في ما منحه الله من علم وخبرة.
ويقول الإمام علي(ع): «عليك بالإحسان إلى الناس؛ فإنه أفضل زراعة»؛ لأن الإنسان الذي يزرع الإحسان، فإن الله يجعله يحصد الإحسان في الدنيا الآخرة، «واربح بضاعة»؛ لأنك تتاجرُ مع الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى الناس. وفي حديث آخر يقول(ع): «نعم زاد المعاد الإحسان إلى العباد»، بمعنى أنّك إذا أردت أن تحمل زاداً إلى معادك وآخرتك، فإن ذلك يكون من خلال الإحسان إلى عباد الله.
ويقول(ع): «أفضل الإيمان الإحسان»، يعني أن على الإنسان الذي يعيش الإيمان في نفسه، أن يعتبر أن الإيمان، في عمقه وفي امتداده، وفي حيويته وأصالته، هو عندما يكون المؤمن محسناً للآخرين.
وفي حديث الرسول(ص): «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها»([134]). ولذلك، فإنّك عندما تعيش في المجتمع وتريد أن تحصل على محبة الناس فيه، فإن الله فطر الناس أفراداً وجماعات، على أن يحبوا الإنسان الذي يحسن إليهم، ويبغضوا الإنسان الذي أساء إليهم. فكن الإنسان الذي يحسن إلى الناس لتحصل على محبة الناس، ليعطيك ذلك الكثير من النتائج الإيجابية الطيبة، ولا تكن الإنسان الذي يسيء إلى الناس، لأن ذلك يؤدي بك إلى نتائج سلبية.
معاملة الإخوان:
وفي كلمة الإمام علي(ع)، يحدّد فيها كيفيّة معاتبة الإنسان لأخيه وكأن هناك طريقتين للعتاب: فهناك الطريقة التي تتحدّث فيها مع أخيك عمّا أساء به إليك، وقصّر فيه معك، وتوجّه اللوم إليه على ذلك. ولكن الإمام يوجّه إلى طريقة أخرى في العتاب، وهي أنه إذا أساء إليك أخوك، أو قام بما يوجب عتابه، فأرسلْ إليه هدية، أو حاول أن تقضي حاجته، أو أن تخدمه؛ لأن ذلك يمثّل أفضل أنواع العتاب؛ لأنه ينتظر منك، عندما أساء إليك، أن تعنّفه، أو أن تقاطعه، وما إلى ذلك، فإذا أحسنت إليه، بأي نوع من أنواع الإحسان، فإن ذلك سوف يشعره بالخطأ، وسوف يجد في ذلك عتاباً عملياً يدفعه إلى الاعتذار منك. يقول(ع): «عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردد شره»، إذا قام بالشرّ تجاهك، «بالإنعام عليه»([135])، بأن تنعم عليه، وتمنحه عطية من عطاياك.
وفي مسألة الإحسان، سواءٌ كان إحسان العمل مع الله، أو إحسان المعاشرة والعلاقة مع الناس، نقرأ قول الله تعالى: )والذين جاهدوا فينا(، جاهدوا أنفسهم في الله ليربوها على خط التقوى وخط الخير وخط الإحسان، )لنهدينَّهم سبلنا(، بأن نرشدهم، ونفتح عقولهم وقلوبهم على السبل التي تؤدي إلى الله، مما يحسن الإنسان فيه عمله، ويحسن الإنسان فيه نشاطه، )وإن الله لمع المحسنين((العنكبوت:69).
ونقرأ قوله تعالى: )إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون((النحل:128). وقد قرن الله سبحانه هنا بين التقوى والإحسان؛ لأن التقوى تمثل لوناً من إحسان الإنسان الذي يقدّمه أمام الله، فالله سبحانه وتعالى يقول لك: إذا أحسنت إلى نفسك في طاعة ربك، فإن الله يكون معك. وفي آية أخرى: )وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً للذين أحسنوا في هذه الدنيا(، أحسنوا عملهم ونشاطهم، حسنةٌ، )ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين((النحل:30).
وعلى ضوء هذا، فإن علينا أن نأخذ بالإحسان في معناه المنفتح على علاقتنا بالله، وعلى علاقتنا بالناس، وعلى علاقتنا بأنفسنا، وأن المطلوب من الإنسان أن يحسن إلى نفسه ليرفعها إلى مواقع القرب من الله، والحصول على رضوان الله وعلى نعيمه.
الدنيا: المظهر والجوهر:
وبالعودة إلى وصيّة الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم، يقول الإمام(ع) وهو يصف الدنيا: «يا هشام، إن مثل الدنيا مثل الحية؛ ما إليّن مسّها»؛ لأن جلد الحية، من أكثر الجلود نعومةً، بحيث تغري الإنسان بأن يلمسها، «وفي جوفها السم الناقع»، فإنّك إذا اقتربت منها فإنها تلقي السم في جسدك لتقتلك، «يحذرها الرجل العاقل، ويهوي إليها الصبي الجاهل»([136])، لأنّ الصبيان يغويهم منظرها، ولذلك يندفعون إليها، لأنهم لا يعرفون ما في جوفها من السم القاتل، ولكن ذوي العقول يحذرونها، ويبتعدون عنها، وإذا أرادوا أن يمسّوها، فإنهم يحاولون أن يستعملوا الوسائل التي تمنعها من أن تقتلهم بسمها. وفي هذا كناية عن أنّه لا بد للإنسان من أن يحذر الدنيا.
والمقصود من حذر الدنيا: هو أن لا يدرس الدنيا من خلال ظاهرها، ومن خلال زبارجها وزخارفها، بل أن يدرسها من حيث عمقها الذي ينفتح على الكثير مما قد يهلك الإنسان ويؤدي به إلى السقوط في أكثر من جانب. وليس المراد من الحذر من الدنيا هو أن تتركها، ولكن أن تتعامل معها تعاملاً حذراً، تدرس من خلاله إيجابياتها وسلبياتها، ونقاط ضعفها ونقاط قوتها، ما ينفع موقعك فيها، وما يسقط موقعك فيها، فلا تستسلم للدنيا استسلاماً مطلقاً، فلعلّك إذا استسلمت إليها ألقت بك في هاوية الهلاك.
ويقول(ع): «يا هشام، اصبر على طاعة الله»، وذلك أن الله كلّفك الكثير من المسؤوليات؛ في عباداتك، وفي معاملاتك، وفي مواقفك، وفي علاقاتك، حيث أراد الله لك أن تطيع أوامره في ما أمرك، «واصبر عن معاصي الله»([137])، فإذا وقفت أمام معاصي الله، وحرّكتك شهواتك ولذاتك للإقبال عليها، فعليك أن تصبر عن هذه المعاصي، وإذا لم تصبر عليها واندفعت إليها، فإن الله سوف يعاقبك على ارتكاب ما حرّمه عليك، كما يثيبك على القيام بما أمرك به.
«الدنيا فإنما هي ساعة، فما مضى منها فلا تجد له ألماً ولا سروراً»؛ لأنّ الإحساس بالزمن الماضي هو في حجم اللحظة. هبْ أنّ عمرك عشرون، أو ثلاثون، أو خمسون، أو سبعون! هل تحس إحساساً فعلياً الآن بكل ما مرّ عليك؟ الأمر لا يعدو أن يكون ذكريات مرّت على الإنسان، قد يتألّم لبعضها وقد يفرح للبعض الآخر، ولكنّك مع ذلك لا تحسّ بالعمر الذي حزنت فيه أو سررت. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في كثير من الآيات، فقال تعالى عندما خاطب ذلك الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، ثمّ أماته الله مائة عامٍ ثمّ بعثه: )قال كم لبثتَ، قال لبثتُ يوماً أو بعض يوم((البقرة:259).
ثمّ يتحدّث الإمام(ع) عن العمر الآتي، فيقول: «وما لم يأتِ منها فليس تعرفه»([138])، أما العمر القادم، سنة أو سنتان، أو عشر سنين، فإننا ننتظره وهذا مما لا نستطيع أن نجد له سروراً ولا حزناً، لأننا لا نعرف ما يأتي إلينا في المستقبل. «فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها»، وإذا صبرت على هذه الساعة التي أنت فيها، ودرست مسؤولياتك فيها، ودرست كل أهدافك وأوضاعك، «فكأنك اغتبطت»، يعني حصلت على الغبطة وعلى النتائج الطيبة الجيدة في ذلك كله. ويبقى الحديث في هذه الوصية.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة السابعة: 23 صفر 1426 ه - 2/4/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم
مساوئ الغرور والتكبّر
عليك أن تدرس دراسةً دقيقة ما تريد أن تروي ظمأك به، لأن الإنسان إنما يرتوي بالماء العذب، ولا يرتوي بالماء المالح، فإذا أقبل الإنسان على الماء من دون أن يدرس طبيعته، فربما ينتهي به الأمر إلى الهلاك.
غرور الدنيا.
سيئة الكبر.
جزاء المتكبرين.
الكبر رداء اللّه.
تحليل شخصية المتكبّر.
العبودية للّه تواضع.
التكبر في تصور الكاظم(ع).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
غرور الدنيا:
لا نزال مع وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم: «يا هشام، مَثَل الدنيا مثل ماء البحر، كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً، حتى يقتله»([139]).
إن هذا المثل يوحي بأنَّ على الإنسان ألاّ يستغرق في الدنيا استغراقاً مطلقاً، بحيث ينفتح على الدنيا في شهواتها ولذاتها وخطوطها كلّها، على أساس حاجته الشخصية. إن الإمام(ع) يريد أنْ يقول لهشام، ولكل من يسمع كلامه، عندما تعيش الظمأ في حاجاتك ـ باعتبار أن الحاجة تمثل حالة عطش لما تتضمنه من رغبات الإنسان ـ فإنّ عليك أن تدرس دراسةً دقيقة ما تريد أن تروي ظمأك به، لأن الإنسان إنما يرتوي بالماء العذب، ولا يرتوي بالماء المالح، فإذا أقبل الإنسان على الماء من دون أن يدرس طبيعته، فربما ينتهي به الأمر إلى الهلاك. وهكذا، يأتي الإنسان الظامئ إلى البحر ليشرب منه، باعتبار أن الظمأ يقوده إلى أي شئ مائع، فيكرع من ماء البحر، حتى ينتهي به الأمر إلى أنّ يقتله العطش؛ لأنه يبقى في حالة ازدياد في العطش من دون أي ارتواء.
لذلك فالإمام(ع) يريد أن يقول للإنسان: حاوِلْ أن تدرس كيف تروي عطشك في حاجاتك ورغباتك من الدنيا؛ فخذ منها ما يروي ظمأك، وهو ما ينفعك، ويحقق لك الريّ الروحي، والريّ الغذائي، والريّ الاجتماعي، والريّ القيمي، ولا تندفعْ إلى الدنيا لتكرع منها دون تمييزٍ بين الأمور وبين الوسائل.
سيئة الكبر:
ثم يبدأ الإمام(ع) في الحديث عن صفة من صفات الإنسان السلبية، وهي صفة الكِبر، فيقول(ع): «يا هشام، إيّاك والكِبر، فإنه لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة كبر»([140])؛ لأنَّ الجنة تمثِّل الساحة التي يتواضع فيها أهلها بعضهم لبعض، كما تحدث اللّه تعالى عنهم في قوله: )وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ((الحجر:47)، وفي إيحاءات قوله: )تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ((إبراهيم:23). وقد بيّنت بعضُ الأحاديث أنّ الكبر ينطلق من الحقد؛ فعندما يحقد الإنسان على الآخر ويحسده، فإنّ ذلك يؤدّي إلى أن يتكبّر عليه، منطلقاً بذلك من عقدة الذاتيّة تجاهه، فيعمل على أن يحطِّمه، وأنْ يدمّره، تماماً كما هي الحالة التي كان عليها إبليس الذي شعر بالاحتقار لآدم(ع).
ولذلك فإن اللّه سبحانه وتعالى عندما أمر الملائكة بالسجود لآدم(ع)، وكان إبليس يعيش في مناخ الملائكة، رفض السجود له، من خلال حالة التكبر والاستعلاء التي سببها ـ كما يزعم ـ أن أصله أرقى وأفضل من أصل آدم. قال تعالى: )قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ((الأعراف:12)، فالنار أقوى من الطين؛ لأنها تفني الطين وتحرقه، فكانت لحظة إبليس هي لحظة كبر. وامتد هذا الكبر عندما جمعه الله مع آدم وحواء في الجنة، ليعطي الله لآدم وحواء درساً في معنى إبليس؛ لأن الله تعالى أعدّ آدم وحواء للأرض، فيما تنفتح عليه من معنى المسؤوليّة.
وبقيت هذه العقدة في نفس إبليس، فحاول إغواء آدم وحواء، بأن يرفضا أمر اللّه؛ لأن الله سبحانه كان منعهما من أن يأكلا من الشجرة، وحاول إبليس أن ينفذ إلى آدم وحواء ليستغل بعض نقاط الضعف لديهما؛ إذ كانا يفتقدان التجربة؛ لأنهما لم يدخلا في أي تجربة من التجارب التي توحي إليهما بأن هناك من يغش، وأنّ هناك من يحقد، وأن هناك من يلعب على الكلمات، وأن هناك من يقسم باللّه كاذباً. وقد تحدّث الله سبحانه عن ذلك الدرس، وهو يحكي عن محاولات إبليس في الكيد لآدم وحواء، ليسقطهما من رضى الله سبحانه، بعد أن رأى مسألة السجود لآدم تطعن في كبريائه، وذلك هو قوله تعالى: )وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ* وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ((الأعراف:20-21).
وكان أن سقط آدم وحوّاء في التجربة. وهنا حاول العلماء أن يوجّهوا هذا السقوط، الذي كان معصيةً للأمر الإلهي، بأنّ الله لم يكلِّفهما تكليفاً تشريعياً، بل كلفهما تكليفاً إرشادياً إلى ما هو الأصلح لهما، من دون أن يستتبع الأمر عقاباً على مخالفته. وذلك في عمليّة تدريبية، يُراد من خلالها أن يُهيّأ آدم(ع) للحياة على الأرض، والدخول في عالم المسؤوليّة الفعليّة. ولعلّ أفضل تعبير عن تلك الفترة كان للمرحوم السيد الشهيد محمد باقر الصدر (رحمه الله)، بأنها فترة حضانة؛ وفترة الحضانة هي فترة تربية وما إلى ذلك، وليست فترة قانونية يترتب عليها العقاب.
فإبليس كان ينطلق من عقدة، لذلك أراد أن يسقطهما من خلال حقده، وذلك كما في قوله تعالى: )قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ* قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(؛ فإني أقف في منتصف الطريق، وأنصب حاجزاً، )ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(؛ يعني: أنّني سأغوي أولاده ليسقطوا في المعصية، حتى لا يدخلوا الجنة. فكانت مسألة إبليس هي مسألة هذا الكبرياء والحقد، فعاقبه الله سبحانه وتعالى بأن أخرجه من الجنة، لتكبّره، )قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ((الأعراف:14-18).
جزاء المتكبرين:
وقد ورد في بعض الآيات الكريمة أن جزاء المتكبّرين هو دخول النار. يقول اللّه تعالى: )فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ((النحل:29)، لأن اللّه تعالى يؤكد في كتابه أن الكافرين والمشركين ينطلقون من حالة تكبر على الحقيقة، بحيث إن هناك الكثير من الناس يدفعهم الكبر إلى أن ينكروا الحقيقة، فيصرّون على عبادتهم للأصنام وتمرّدهم على الأنبياء. قال تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي(، ممن يكفرون باللّه تعالى، أو يشركون به، فيعتبرون العبادة لا تتناسب مع ما يعيشونه من حالة الاستعلاء النفسي والاستكبار، أولئك )سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ((غافر:60).
وعلى هذا الأساس، يقول الإمام الكاظم(ع)، من خلال وصيّته لهشام، إنّ على الإنسان أن ينزع كل الكبر من نفسه، حتّى ولو كان في أعلى درجات العلم أو السلطة أو الجاه، أو ما إلى ذلك، فلا يسمح لهذا المستوى الذي يملكه ويتفوّق به على الآخرين، أن يخلق في داخل نفسه حالة انتفاخ ذاتي، بحيث يشعر بالعجب من نفسه، ما يدفعه إلى الإحساس بالاستعلاء على الآخرين، بل يحاول أن يقارن بين ما يملكه هو وما يملكه الآخرون، ممن قد يكونون في موقع أعلى من موقعه، أو ممّن يحملون خصائص لا يملكها.
ولذلك، فلا يستطيع أن يعتبر نفسه أفضل من جميع الناس في كلّ شيء، كما يقول الشاعر:
فقل لمن يدّعي في العلم فلسفة حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء
وفي بعض الكلمات الحكيمة: «انظر إلى من فوقك، ولا تنظر إلى من تحتك»؛ لأنك عندما تنظر إلى من فوقك تشعر بالتواضع، لأنك تدرك أنه يفوقك بكثير من الأشياء، ولا تنظر إلى من تحتك؛ لأنّ ذلك قد يشعرك بالتفوّق عليه، ما قد يدفعك إلى الشعور بالاستعلاء تجاهه.
الكبر رداء اللّه:
ويقول(ع): «الكِبر رداء اللّه»، وليس هناك كبير إلاّ اللّه سبحانه وتعالى، وهو الذي من شأنه أن يتكبّر؛ لأن التكبر بالنسبة إلى الله ينطلق من ذاتيّته تعالى، في أنه هو الأقوى والأعلم، وهو الذي يملك الحمد الذي لا حدّ له، والصفات التي لا حدَّ لها. «فمن نازعه رداءه»؛ يعني عاش التكبّر في نفسه، «أكبّه اللّه في النار على وجهه»([141]).
وفي كلمة للإمام علي(ع) يخاطب فيها بعض المتكبّرين: «أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبرين؟»([142]) إن اللّه يعاملك بما أنت فيه، فإذا كنت تعيش الكبرياء في نفسك تجاه الآخرين، فإن اللّه سوف يعاملك كما يعامل المتكبرين ممن اعتبر سيدهم إبليس. ويقول الإمام علي(ع) بأسلوب يريد به أن يصور للإنسان الجانب المادي من شخصيته، لينظر إلى ذلك، حتى يشعر بالضعة ليتوازن. يقول(ع): «عجبت لابن آدم أوّله نطفة»؛ وما هي قيمة النطفة؟! «وآخره جيفة» عندما يموت، «وهو قائم بينهما»؛ بين النطفة والجيفة، «وعاء للغائط»، عندما يأكل، فيجد الإنسان عندما يتأمّل في نفسه أنه وعاء للغائط، الذي يتحوّل غذاؤه إليه، «ثم يتكبّر!»([143]). وهذا ما يثير العجب. فهذا الجانب المادي، لو درسه الإنسان، في حقارته المادية، في البداية والنهاية، وفيما بينهما، لما تكبّر!
تحليل شخصية المتكبّر:
ولدى الإمام الصادق(ع) تحليل نفسي للمتكبّر، يعني كيف تفهم المتكبر؟ وهل أن التكبّر والتجبّر ينطلق من إحساس بالقوة، أو ينطلق من إحساس الضعف؟
يقول الإمام الصادق(ع): «ما من رجل»؛ أو امرأة؛ لأنّ الرجل هنا مثالٌ للإنسان «تكبّر أو تجبّر إلاّ لذلة وجدها في نفسه»([144])؛ يعني أن الإنسان المتكبر الذي يمشي مشية الخيلاء، ويستعرض عضلاته أمام الناس، ويتحدّث عن نفسه بالمدح والثناء، هذا الإنسان، لو نفذنا إلى داخل نفسه، لوجدنا أنّ عنده عقدة نقص، فهو يشعر في ذاته بأنه حقير، ويشعر بأنه ضعيف، وبأنه ذليل، فيحاول أن يستعرض نفسه أمام الآخرين، كما لو كان في موقع العظمة، أو في موقع القوة، أو في موقع العزة، تعويضاً أو هروباً ممّا يجده في نفسه من الحقارة والضعف والذلّة.
وقد ورد في الحديث تعدادٌ لأسباب التكبّر. «إن أسباب الكبر أربعة: العجب»؛ أي إعجاب الإنسان بنفسه، وجاء في حديثٍ: «إعجاب الإنسان بنفسه دليل على ضعف عقله»؛ لأنّ العقل يقول له لا بد لك من أن تقارن بين نقاط الضعف ونقاط القوة عندك، وأن لا تستغرق في نقاط القوة ما دام هناك إلى جانبها نقاط ضعف.
«والحقد»؛ الحقد ضد الآخر، لأن الإنسان عادة ما يحقد على الناس الآخرين، الذين يفضلونه، فيحاول أن يتكبر عليهم.
«والحسد»؛ يحسدهم على ما لديهم، قال تعالى: )أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ((النساء:54).
«والرياء»؛ وهو محاولة أن يري الناس أنه في موقع العظمة، وفي موقع الكبر، من دون أن يكون لهذا واقع في نفسه.
وفي كلمةٍ للإمام الحسن(ع)، يُدخل مسألة رفض الكبر في مسألة الإيمان، أي أنك إذا كنت مؤمناً باللّه تعالى، فإنّ إيمانك به يمنعك من أن تتكبر، يقول(ع)، في ما روي عنه: «لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعاظم»؛ لأنّ الذي يقف بين يدي اللّه، وهو يشعر بعظمته تعالى، فإنّه لا يجد نفسه شيئاً في هذا الموقع. «فإن رفعة الذين يعلمون عظمة اللّه أن يتواضعوا»؛ لأنك تشعر بالعبودية بين يدي اللّه تعالى، فتشعر بالضعة أمامه، وأنه هو الذي خلقك، والذي أعطاك كل تفاصيل وجودك، وأنه ما من نعمة إلاّ من الله سبحانه وتعالى: )وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَ((النحل:18).
فعندما تعيش كل هذه العظمة في ما خلقه الله سبحانه وتعالى من أسرار خلقه، وهذه النعمة في ما أفاض اللّه عليك، فإن عليك أن تتواضع هنا أمام اللّه سبحانه وتعالى، وتعتبر أن وجودك بكل تفاصيله، لا قيمة له إلا من خلال اللّه سبحانه وتعالى، وأنك لا تستقل بأي شيء في داخل ذاتك، في أية صفة؛ صفة خير، أو صفة علم، أو صفة جاه، أو ما إلى ذلك، )وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِن اللَّهِ((النحل:53)؛ لأنّ الله تعالى هو الذي أعطاك، والله هو الذي وهب لك ذلك كله، وأنك مجرد من كل شيء في ذاتياتك؛ وأن ما عندك إنما هو من الله سبحانه وتعالى.
«وعز الذين يعلمون ما جلال الله أن يذلوا له»([145]) عندما تعيش عزة الله تعالى، )فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعً((النساء:139)، فلا عزة لغيره، فعليك أن لا تشعر بالعزة الذاتية لنفسك، بل اعتبر أن العزة لله وحده، لأن القوة لله وحده، ولا عزة لغير اللّه، وأنك إذا أردت العزة، فعليك أن تستمدها من الله سبحانه وتعالى. وقد ورد في الحديث المنسوب إلى الإمام الحسن(ع): «من أراد عزاً بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذلِّ معصية الله إلى عز طاعته»([146])، فأنت تأخذ العزة من الله تعالى، ولا عزة لك في ذاتياتك، لأنه لا قوة لك في ذاتياتك...
العبودية للّه تواضع:
ويقول الإمام علي(ع) وهو يصوِّر لنا الصلاة، وقد شرّعها اللّه للإنسان لكي يتعلم التواضع، يقول: «فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك»؛ ليكتشف الإنسان بإيمانه التوحيد، فلا يشرك باللّه أحداً، «والصلاة تنـزيهاً عن الكِبر»([147])؛ لأن الإنسان عندما يقف في موقف العبودية للّه، ويركع، ويسجد، فإن ذلك يمثل وسيلة تدريبية للإنسان على التواضع أمام الله سبحانه وتعالى.
ويقول رسول الله(ص): «من يستكبر»، ويحاول أن يحصل في استكباره الحركي والعملي على تقدير الناس له، وعلى رفع مستواه عندهم «يضعه الله»([148])؛ لأنّ اللّه تعالى هو الذي يملك القلوب كلها؛ فهو مقلّب القلوب، يستبدله بذلك التكبر ضعةً وذلةً وسقوطاً واحتقاراً.
وفي حديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) يقول: «ما من عبدٍ إلا وفي رأسه حكمةٌ» قد أودعها الله سبحانه من خلال أصالة الفطرة التي تنفتح به على الحقيقة، ومن الطبيعي أن هذه الحكمة عندما تتطور وتنمو، فإنها تنتج اتّساعاً للعلم عند الإنسان، ويكبر عقله، وما إلى ذلك، ولكن هذه الحكمة لها حركية في واقع الإنسان، فلا تمتد به في ذاتياته. «ومَلَك يمسكها، فإذا تكبر قال له: اتضع، وضعك الله، فلا يزال أعظم الناس في نفسه، وأصغر الناس في أعين الناس»؛ يعني أنّ هذه الحكمة تتجمّد، ويندفع هذا الإنسان المتكبر في ما ينـزل قدره عند الناس، وإن كان يعتبر نفسه في نفسه عظيماً، «وإذا تواضع رفعه الله عز وجل، ثم قال له: انتعش، أنعشك الله، فلا يزال أصغر الناس في نفسه – من خلال تواضعه – وأرفع الناس في أعين الناس»([149]).
التكبّر في تصوّر الكاظم(ع):
وهكذا نلاحظ في ما جاء عن التكبر في تصور الإمام الكاظم(ع): «يا هشام أن الزرع ينبت في السهل، ولا ينبت في الصفا»، أي لا ينبت على الصخور، وهذا كناية عن أنّ التواضع يمثّل المجال الذي يستطيع أن ينمو به الإنسان في حياته الفرديّة والاجتماعيّة، حيث إن السهل يمثل حالة الانحدار التي تشبه حالة التواضع، ولا ينبت في الجبال الصخرية العالية في كيانها، الفارغة من مقوّمات النموّ والحياة، «فكذلك الحكمة»؛ التي تمثل العقل، وتمثل العلم، «تعمر في قلب المتواضع»؛ فينطلق فيه زرع الحكمة الذي ينفتح على العلم، «ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار، لأنَّ اللّه جعل التواضع آلة العقل»؛ فالعقل يقودك إلى التواضع، ويعلّمك التواضع، لأنه يريدك أن تكون واقعياً في معرفة ما تملكه من الفضائل، وما تملكه من النقائص، ما تملكه أنت وما يملكه الآخرون، فيدفعك العقل إلى التوازن، وأن لا تستغرق في ما تملكه، بل تشعر بأنّ هناك آفاقاً أخرى للعلم لم تكتشفها بعد، ومجالات رحبة للمعرفة لم تدخلها. «وجعل التكبر من آلة الجهل»؛ لأن الإنسان الجاهل هو الذي يعمى عن عناصر الضعف في نفسه، فيحسب نفسه عظيماً، في الوقت الذي يكون حقيراً، «ألم تعلم أن من شمخ إلى السقف برأسه شجّه»؛ يعني عندما يرفع أحد ما رأسه إلى السقف، فإن السقف يلطمه، «ومن خفض رأسه»، عندما يريد أن يمر من تحت الباب، «استظل تحته وأكنّه، وكذلك من لم يتواضع للّه، خفّضه الله، ومن تواضع للّه رفعه»([150]).
وهذا هو ـ أيها الأحبّة ـ ما ينبغي للإنسان أن يعيشه؛ أن يعرف قدر نفسه، وأن يوازنها، في نقاط ضعفها ونقاط قوتها، وأن يقارن بين نفسه وبين الآخرين.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثامنة: 1 ربيع الأول 1426 ه - 9/4/2005م
وصية الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم
كيفية محاسبة النفس (1)
معرفة النفس مسؤولية إيمانية تتخطّى ذاتية الإنسان لتكون وسيلة من وسائل الانفتاح على الله.
محاسبة النفس.
الكون الإنساني.
الرقابة المطلقة.
الإنسان جزء من الكون.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
محاسبة النفس:
لا يزال الكلام في وصيّة الإمام الكاظم(ع)، وبالتحديد في محاسبة النفس.
ومحاسبة النفس عنوان ينفتح على معرفة النفس في خصائصها وعناصرها الذاتية، سواء كانت مادية أو معنوية، كما ينفتح على ملاحقة النفس في حركتها كلّها في ما تتحمل مسؤوليته في الحياة، سواء ما يتصل بمسؤوليتها في تنمية خصائصها، أو مسؤوليتها عن الإنسان والحياة. وربما نستوحي من الحديث الشريف: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»([151])، أن مسألة معرفة النفس هي مسؤولية إيمانية، تتخطى ذاتية الإنسان لتكون وسيلة من وسائل الانفتاح على الله. فإننا عندما ندرس الإنسان في خصائصه كلّها، سواء الخصائص المادية التي ركبت منها أجهزته التي تنتظم بها حياته، أو ما تنفتح به ذاتُه على الآفاق التي تنتج الفكر والعاطفة والحركة، فإنه يكتشف عظمة الله في ذلك.
وقد يذكر بعض الناس مفردةً من ذلك، وهي أن الإنسان يملك في تكوينه الدماغي أرشيفاً في مساحة لا تتعدى السنـتمترات القليلة، بحيث يحتفظ في هذه المساحة الضيّقة بكل ما عاشه في حياته منذ طفولته حتى العمر الذي بلغه، في كل ما يتعلمه، وفي كل ما يتأمل فيه، وفي كل ما يجرّبه في حياته. ومن هنا، فإنك إذا ذكرت عنواناً من هذه العناوين، فإنك تستحضر، في مدى ساعات، كيف أودع الله ذلك في سنتمترات قليلة جداً؟!
الكون الإنساني:
وهكذا في عملية إنتاج الفكر، فالحواسّ تمدّ العقلَ بالمواد الخام، في ما يبصره الإنسان، وفي ما يسمعه، وفي ما يشمّه، أو يذوقه، أو يلمسه، ليرتّبها العقل وينظّمها وينتج منها فكراً للحياة وفكراً للإنسان الآخر.
وهكذا في سائر الأجهزة التي تنظّم حياة الإنسان، وتنفتح به على آفاق واسعة يعرف فيها الله، ويعرف فيها الكون كله، ويعرف فيها الحياة كلها. كيف تجمّع كل ذلك في هذا المخلوق؟! يُنسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) بيت من الشعر:
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
فالإنسان يمثّل كوناً، في امتداداته الروحية والفكرية والحركية، وفي كلِّ عناصره التي لا يزال العالم يدرسها، في ما تختزنه من الإيجابيات التي تحفظ الحياة، ومن السلبيات التي يمكن أن تُسقِط الحياة. ففي الطب مثلاً، ومع كل ما اكتشفه الإنسان من الداء والدواء، لا يزال العلماء يبحثون من أجل فهم هذا الجسد، في مسألة الداء وفي مسألة الدواء، ولا يزال الناس أو العلماء في حالة عجز في ما يظهر من السلبيات الصحية التي تطال هذا الجهاز من الجسم أو ذاك الجهاز من الجسم وما إلى ذلك. ولذلك فإن الإنسان يختصر الكون ويختصر حركة المعرفة.
ونحن عندما ندرس كلِّ العلوم الإنسانية، فإننا نجد أن الإنسان هو العنوان الكبير الذي تلتقي عليه كل العلوم الإنسانية، سواء الإنسان في بعده الذاتي أو في بعده الاجتماعي، ومن هنا نفهم الحديث: «من عرف نفسه عرف ربه»؛ لأنه يعرف عظمة الله من خلال هذا الوعي لنفسه.
وعلى ضوء هذا، لا بدّ للإنسان من أن يملك ثقافة المعرفة الإنسانية، بمعنى أن يكون له، بشكل عام، ثقافة الأجهزة التي تبني له حياته وتنظم له حركته، وأن تكون له ثقافة الجانب الإنتاجي للإنسان من خلال هذه الأجهزة، على أساس مصدري العلم، وهما التأمّل والتجربة. ولذلك فإنّ الإسلام يريد للإنسان أن يحدّق بنفسه باستمرار، فلا ينسى نفسه في معرفته لها، ولا ينساها في حسابات حركته في مسؤولياتها، في نقاط ضعفها ونقاط قوتها، في سلبياتها وإيجابياتها، وهذا ما يتمثله عنوان المحاسبة.
ونحن نقرأ على الدوام قوله تعالى: )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ(، مما يوحي للإنسان، على مستوى الأمر الإلهي والإرشاد، أنّ من الإيمان أن يتقي الله في ما قدمه في كل عمره للدار الآخرة، بحيث يقوم بعملية حسابية في كل ما قام به في الماضي، في كلّ تنوّعاته، وفي كلّ أوضاعه، في سلبيّاته وإيجابيّاته، في كل ما حمّله الله من مسؤولية، بحيث يرضى منه إذا قام بها، ويسخط عليه إذا لم يقم بها. إن هذه الفقرة تعتبر أن من التقوى المحاسبة. وأما المستقبل، فالآية تقول: {واتقوا الله}، في السنين القادمة التي تمثل مستقبلكم، وخطِّطوا لكل حركة ذلك المستقبل، وليكن مستقبلكم مستقبلاً يمثل مسؤولياتكم أمام الله، في ما أمركم الله به وفي ما نهاكم عنه. )إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ((الحشر:18)، فإن الله )يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ((غافر:19)، فأنت مكشوف لله في ماضيك وحاضرك ومستقبلك. ولذلك فإن عليك أن تختزن في نفسك أن الله سبحانه وتعالى يلاحقك في رقابته المطلقة، فالله يلاحق تفكيرك. ربما تتصور وأنت تفكر أنك تملك حرية ما تفكر فيه؛ إذ ليس هناك من يراقبك؛ لأن موقع الفكر صندوق مقفل لا يملك أحدٌ مفاتحه، ولكن الله وحده يعلم ما تخفي الصدور، وهو كناية عمّا يختزنه الإنسان من أسرار فكره.
الرقابة المطلقة:
قال تعالى: )مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ((المجادلة:7)، ويقول بعض الشعراء:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
أن يكون لديك الإحساس بالرقابة الإلهية المطلقة في كل مواقع حركة ذاتك في السر والعلن.
ثم تنطلق الآيات لتؤكد الربط بين نسيان الله ونسيان النفس. قال تعالى: )وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ((الحشر:19). إن نسيان الله يتمثل في أن تنسى معنى الربوبية المطلقة والألوهية الشاملة، وأن تنسى أنه هو الواحد الذي لا شريك له، والذي يفرض عليك أن توحّده في الألوهية، فلا إله غيره، وفي العبادة فلا معبود غيره، وفي الطاعة فلا طاعة لغيره. أن يكون الله كل شيء في وجدانك، تماماً، كما ينسب إلى الإمام علي(ع) أنه قال: «ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله خلفه»، يعني أنه عندما يتصور الكون كله، فإنه لا يستغرق في الكون في جانبه المادي، وإنما ينفتح على أن هذا الكون هو خلق الله، ويمثل في أسراره عظمة الله، ويمثل نعمة الله سبحانه وتعالى في عطائه وفي إنتاجه. أن يكون الله كل شيء عندك؛ فإنك إذا نسيت الله، واستغرقت في الجانب المادي من الكون الذي يبهرك بضخامته أو بزخارفه أو بامتداداته، فإنك تنسى مسؤوليتك في هذا الكون؛ لأنّه يجتذبك بماديته، فتفقد إحساسك بمسؤوليتك في هذا الكون؛ فأنت جزء من هذا الكون، ولست منفصلاً عنه، وذلك من خلال كلّ القوانين المودعة فيه، والتي تحكم حركته وحركة الإنسان.
ولذلك جعل الله الإنسان خليفة في الأرض، وأوكل إليه مسؤوليّة أن يدير الكون، وأعطاه القدرة على أن يكتشف أسرار هذا الكون، والطاقة التي يبدع من خلالها فيه. أما عندما ينسى الإنسان الله، فإنّ حياته تتحوّل إلى عبث، وإلى لهو ولعب؛ لأنّه يفقد القاعدة التي تنفتح على آفاق مسؤوليّتك في علاقته بالمصدر الأساس في وجوده وفي نظام حياته، من حيث الدقّة في كلّ خطوطها ومنطلقاتها والتزاماتها، ما يدخله في ظلام المتاهات؛ ولكنه إذا ذكر الله ذكر إنسانيته وذكر مسؤولية إنسانيته؛ كيف يغنيها، وكيف يغني الحياة من خلالها، تلك هي المسألة. وعلى ضوء هذا، فإنّ هناك ارتباطاً بالكون وذلك أن تعتبر نفسك جزءاً من الكون، وأن تتواصل معه وتتكامل معه، وتتحمّل مسؤوليتك من خلاله. وقد تحدّث القرآن الكريم أن الله سخر الكون للإنسان؛ سخر شمسه وقمره وأنهاره وبحاره، وكلّ ما فيه.
الإنسان جزء من الكون:
ولعل أفضل من اكتشف هذه الحقيقة، وهي اعتبار الإنسان جزءاً من النظام الكوني وليس منفصلاً عنه، هو الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، الذي جهله الناس، ولم يدركوا عمق شخصيّته وعطائه، وهو يقدِّم لنا ثقافة إنسانية منفتحة على كل ما يغني التجربة الإنسانية في كل عناصرها، من خلال أحاديثه ومن خلال أدعيته.
وبذلك كانت (الصحيفة السجادية) تمثل الدعاء الرسالي المثقف الذي يتنوع في تحليل كل ما يعيشه الإنسان في قضاياه في الحياة. في دعائه عند الصباح والمساء يقول(ع): «أصبحنا وأصبحت الأشياء كلها بجملتها لك؛ سماؤها وأرضها، وما بثثت في كل واحد منهما، ساكنُه ومتحرّكه، ومقيمه وشاخصه، وما علا في الهواء، وما كنّ تحت الثرى. أصبحنا في قبضتك، يحوينا ملكُك وسلطانك، وتضمنا مشيئتك، ونتصرف عن أمرك، ونتقلب في تدبيرك. ليس لنا من الأمر إلا ما قضيت، ولا من الخير إلا ما أعطيت».. إنه يتصوّر نفسه أنّه أصبح هو والسماء والأرض وكل ما فيهما من مخلوقات ومن ظواهر في قبضته وتحت سلطانه.. وهكذا يستشعر الإنسان في كل صباح وفي كل مساء، أنه جزء من الكون، وأنه يتحمل مسؤوليته في تدبيره بالوسائل التي منحه الله إياها وسلّطه من خلالها على كل ما يتحرك به الواقع.
لذلك، فإنّ على الإنسان دائماً أن يذكر ربه، والذكر هو كما نقرأ في أحاديث الأئمة من أهل البيت(ع)، وهم أساتذتنا في القرآن، وهم تلامذة القرآن. فقد ورد عن الإمام الصادق(ع) قوله: «وذكر الله على كل حال؛ ليس سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فقط، ولكن إذا ورد عليك شيء أمر الله به أخذت به، أو إذا ورد عليك شيء نهى الله عنه تركته»([152]). فالذكر المقصود هو ما يربطك بالواقع، أي إنك إذا واجهت أية حالة من الحالات التي لله فيها أمرٌ ولله فيها نهي، ذكرت الله، فأتمرتَ بأمره، وانتهيتَ بنهيه.
وقد أكد القرآن هذه النقطة وهو يتحدث عن المتقين. قال تعالى: )وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ((آل عمران:135). هذا هو الذكر العملي لله سبحانه وتعالى. ولذلك، فإن الله يريد من الإنسان أن يذكره في موقعه الربوبي، وفي عبوديته له، وفي كل ما تفرضه هذه العبودية. وليس معنى )أنساهم أنفسهم( أن الله سبحانه وتعالى يلقي النسيان عليهم، بل بمعنى أنّ الله يجعل الإنسان يفقد علاقته بالله وعبوديته له ومسؤوليته أمامه، فينتج ذلك نسيان نفسه. )أولئك هم الفاسقون( الذين يتجاوزون الحدود التي تفرض على الإنسان خط الاستقامة وخط التوازن في حياته.
ثم يبيِّن نتائج ذكر الله ونتائج التفكير بما قدَّمه الإنسان وما يؤخره: {لا يستوي أصحاب النار} الذين ابتعدوا عن الله، {وأصحاب الجنة} الذين عاشوا القرب من الله سبحانه، وحرّكوا كلّ ما عندهم في سبيله. )أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ((الحشر:20).
وفي آية أخرى يتحدَّث فيها عن المتقين، والمتقون ليسوا معصومين؛ فهم قد يخطئون، لأنهم بشر، قد يغفلون، وقد ينسون؛ ولكنَّ الفرق بين المتقين وبين غيرهم، أن المتقين إذا واجهتهم الغشاوة على عقولهم وأنفسهم، فإنها لا تستمر طويلاً. قال تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ((الأعراف:201)، فهم عندما تزحف الغفلة إليهم، أو تزحف إليهم الغشاوة الروحية والفكرية، فإنها لا تستمر ولا تستقر في نفوسهم، بل إنها تزول عنهم؛ لأنهم يتذكرون الله سبحانه وتعالى بمجرد أن ينفتحوا على الواقع الذي يعيشونه. وللكلام بقية في حديث آخر إن شاء الله.
ويبقى الحديث في هذه الوصية.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة التاسعة: 7 ربيع الأول 1426 ه - 16/4/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم
كيفية محاسبة النفس (2)
مع الأسف، فإن الكثيرين منّا قد يقطعون عمراً طويلاً من دون أن يفهموا أنفسهم؛ لأنهم يحدِّقون في الآخرين أكثر ممّا يحدِّقون في ذواتهم.
محاسبة النفس.
قيمة الحساب اليومي.
طريقة علي(ع) في محاسبة النفس.
نقد للواقع الشخصيّ.
الربط بين حساب النفس وحساب الله.
الميزان المعنويّ.
كيفية المحاسبة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
محاسبة النفس:
ذكرنا في ما سبق أنّ محاسبة النفس هي إحدى الوسائل الذاتية الواعية لفهم النفس. ومع الأسف، فإن الكثيرين منّا قد يقطعون عمراً طويلاً من دون أن يفهموا أنفسهم؛ لأنهم يحدِّقون في الآخرين أكثر ممّا يحدِّقون في ذواتهم. ومن هنا، فإنهم يتولّون حساب الآخرين من خلال ما يعرفونه من صفاتهم، ولا يتولون حساب أنفسهم؛ لأنهم لا يفهمونها حقّ فهمها.
ومن جهة أخرى، فإنّ محاسبة النفس تنفتح على مسألة تغيير النفس؛ لأن الله سبحانه وتعالى أكَّد أن الإنسان هو صانع التغيير، وأن تغيير الواقع الإنساني، في مجالاته المتنوّعة، يبدأ من تغيير الإنسان لنفسه. قال تعالى: )إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ((الرعد:11)، )ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ((الأنفال:53). وقد تحدَّث علماء الأخلاق، أن هناك مراتب لتغيير النفس؛ تبدأ أوّلاً بالمراقبة، حيث يراقب الإنسان نفسه في أفعالها وحركاتها، ثمّ تأتي المحاسبة التي تتعرّف من خلالها منطلقات نفسك وخطوطها وخلفيّات حركتها، لتدرس نقاط ضعفها وسلبيّاتها، ونقاط قوّتها وإيجابيّاتها.
وبعد ذلك، يأتي دور المحاكمة، التي تجلس فيها أمام نفسك، في موقع الحاكم الذي يوجِّه إليها الاتهام، ويقدِّم المعطيات التي تثبت الحكم عليها. وبعد أن يحكم عليها، تأتي المجاهدة، التي تتخذ فيها من نفسك خصماً وعدواً، تجاهده، لكي تقهر فيها جانب السوء، وجانب الضعف، وتعمل على تحويله إلى نقاط قوّة وإيجابيّة، كما يعمل على تطوير إيجابيّاته ونقاط قوّته إلى حال أفضل، حتى تكتمل لك نفسك في خط الصلاح، وفي خط القوة، وفي خط الاستقامة. وهذا ما نحاول أن نكتشفه من خلال هذه الوصية، ومن خلال الكلمات الواردة عن أهل البيت(ع).
قيمة الحساب اليومي:
«يا هشام، ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم»؛ بحيث يتابع كل أعماله وأقواله، في ما يصدر منه، في كلّ يوم، ليكتشف طبيعة السلبيات والإيجابيات، بحيث يلاحق الكلمات التي تصدر منه؛ هل هي كلمات خير أو شر؟ وفي المواقف التي يقفها، هل هي مواقف تنطلق من خط الصلاح، أو من خط الفساد؟ وهكذا، على مستوى العدل والظلم، وقضايا العلاقات مع الآخرين.
ولعلّ قيمة الحساب اليومي، هي أنّ الإنسان يستطيع أن يتعرف على نفسه بشكل سريع، ويستطيع ـ بالتالي ـ أن يعالجها بطريقة حاسمة وفعّالة؛ لأنّ الإنسان إذا أخّر الحساب إلى سنة مثلاً، فقد ينسى الكثير أمام كثرة ما يفعله ويقوله، وكثرة انشغالاته النفسية والاجتماعيّة وغيرها. وقد تتعقد هذه السلبيات في نفسه بالمستوى الذي لا يستطيع أن يعالجها؛ لأنّها قد تتحوّل إلى عقدة مستعصية، تماماً ككثير من الأمراض التي إذا اكتشفها الإنسان في بدايتها، أمكنه علاجها، ولكنه إذا اكتشفها بعد مدة طويلة، فإن المرض يتعمق، وينتشر بالدرجة التي لا يستطيع فيها التخلص من المرض، أو علاجه. وبذلك يكون الحساب ذا شقّين:
1ـ حساب قبل العمل، وهو يقع في مرحلة التخطيط للعمل، حيث يضع الإنسان الأسس والقواعد التي تجعل عمله جيّداً ومنتجاً ومسؤولاً.
2ـ حساب بعد العمل، وهو الذي تؤكّده الوصيّة؛ ليدرس الإنسان عمله؛ هل كان منتجاً ومسؤولاً؟ هل هو عمل خير أم عمل شرّ؟ فإن كان خيراً، قرر أن يستزيد منه، وإن كان شراً، استغفر الله منه وتركه، يقول(ع): «يا هشام، ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم، فإن عمل حسناً، استزاد الله، وإن عمل سيئاً، استغفر الله منه وتاب إليه»([153])؛ لأنه معصية للّه سبحانه وتعالى.
طريقة علي(ع) في محاسبة النفس:
وقد اهتمّ الإسلام كثيراً بمسألة محاسبة النفس. وفي هذا المجال، نجد كلماتٍ كثيرةً من أهل البيت(ع). فعن الإمام علي(ع): «حاسبوا أنفسكم بأعمالها»؛ يعني حاول أن تدخل مع نفسك في ما صدر عنها من أعمال، لتدرس طبيعة هذه الأعمال، ولتدرس منطلقاتها في داخل نفسك، من غرائزك، وشهواتك، وأطماعك، وما إلى ذلك، لتعالج ذلك كله. «وطالبوها بأداء المفروض عليها»؛ أي ادرسوا ما هي مسؤولياتكم التي حمّلكم الله إيّاها؟ وما هي الفرائض التي فرضها الله عليكم؟ واطلبوا من أنفسكم أن تقوم بهذه الفرائض، وأن تمارس هذه المسؤوليات، «والأخذ من فنائها لبقائها»؛ يعني أن تأخذ مما تمارسه، أو مما تنتجه في حياتك هذه التي سوف تتجه إلى الفناء، لتحصل على النتائج الإيجابية، وعلى الأرباح والمكاسب، من خلال عملك، لمرحلة البقاء، وهي مرحلة الآخرة.
وفي ذلك إشارة إلى أن على الإنسان، دائماً، عندما يقوم بأي عمل في حياته، أن ينفتح على الآخرة من خلال هذا العمل، بحيث تكون حساباته الأساسيّة هي: ماذا أحصّل من خلال هذا العمل من ثواب عند الله تعالى، ومن نعيم الجنة؟ من دون أن يكون ذلك مدعاةً للعزوف عن الدنيا، بمعنى تركها وإهمالها من حياته الفكريّة والعمليّة، وفي حاجاته الطبيعيّة.
وهذا ما نلاحظه في الآية الكريمة التي حدّثنا الله فيها عن قارون وقومه: )إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ((القصص:76-77)، بحيث تكون الآخرة هي العنوان الذي يضعه الإنسان أمامه في حركته في الدنيا، ليخضع له كل عمل يعمله، على أساس ما ورد من «أن الدنيا مزرعة الآخرة».
ويُتابع الإمام عليّ(ع) بقوله: «وتزوّدوا وتأهّبوا قبل أن تبعثوا»، وقد قال تعالى: )وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى((البقرة:197)، وتأهبوا للعرض على الله، وللوقوف بين يديه، للإجابة عن كل سؤال يوجّه إليكم في موقف الحساب، )يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ((النحل:111).
نقد للواقع الشخصيّ:
وفي حديث آخر للإمام علي(ع)، يقول: «قيِّدوا أنفسكم بالمحاسبة»؛ يعني: حاوِل أن تقيِّد نفسك، بأن تحيطها بكل القيود التي تمنعها من الانطلاق بعيداً في خط المعصية، وفي خط الانحراف. وحساب النفس قيدٌ لها؛ لأنه يؤدّي إلى أن تعرفوا نقاط ضعفها، وخطوط الانحراف في داخلها، وطبيعتها الأمّارة بالسوء، وعند ذلك تندفعون إليها لتمنعوها من أن تنحرف في ما تنطلق به مما تأمر به من السوء. «واملكوها بالمخالفة»؛ أي: أن تملك نفسك، وأن تكون سيدها، بحيث تكون القائد لنفسك فتقودها إلى ما فيه نجاتها، وإلى ما فيه سعادتها، ولا تجعلها تستعبدك، لتكون خاضعاً لغرائزها. وبذلك تكون مخالفتها هي مخالفة جانبها السيّئ الذي يقود إلى الهلاك، وليس المراد مخالفتها حتى في الطاعة.
وفي كلمة أخرى للإمام علي(ع)، موجهة إلى الناس الذين ينشغلون بحساب غيرهم، ولا ينشغلون بحساب أنفسهم، أولئك الذين يحدقون بالآخرين، في كل أوضاعهم، ولا سيما بعيوبهم، ولكنهم يظلّون غافلين عن أنفسهم، فيتركون أنفسهم تتأثر بما حولها من البيئات الفاسدة، أو من الأوضاع القلقة، أو من الغرائز الشريرة، من دون أن يجلس مع نفسه ليحاسبها. ومع الأسف، فإنّ هذا النمط موجود عندنا. فلو أن إنساناً جاء إليك، وقال لك: ما هي معلوماتك عن فلان؟ فإنك تجلس إليه على مدى ساعة أو أكثر، لتحدثه عن كل خصوصيات ذلك الإنسان، ولكن لو سألك: من أنت؟ ما هو منهجك في التفكير؟ ما هي انتماءاتك؟ ما هي نظريتك في الواقع السياسي، والاجتماعي؟ وما إلى ذلك .. فإنك تقف حائراً أمام الجواب؛ لأنك لا تعرف نفسك، لأنك تسير في المجتمع بقوة الاندفاع العفوي، من خلال الموجة التي تركبها، ومن خلال المؤثرات التي تتأثر بها. يقول الإمام(ع): «حاسِب نفسك لنفسك»؛ يعني لمصلحة نفسك، ونجاتها، «فإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك»([154])؛ فللناس الآخرين من يحاسبهم، وأنت لست مسؤولاً عنهم. إنّ مسؤوليّتك الأساسيّة نفسك، لا الآخرون، إلاّ إذا كان الأمر متصلاً بدورك في الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وممّا يرتبط بك ذاتيّاً في حساب المسؤوليّة الخاصّة، وما إلى ذلك.
وفي حديث عن رسول اللّه(ص) يقول فيه: «أكيس الكيِّسين»؛ أي أعقل العقلاء، «من حاسب نفسه»؛ لأنك إذا أخذت بأسباب العقل في ذاتك، فإنّه يفرض عليك أن تنقذ نفسك، وأن تصلحها، وأن تقودها نحو النجاة. أما الإنسان الذي يهمل نفسه، ولا يهتم بإصلاحها، وبتنميتها، فإنه يبتعد عن خط العقل، ويتحرك في خط الجهل؛ لأن الجاهل هو الذي يهلك نفسه، ويهملها، «وعمل لما بعد الموت»([155])؛ لأنّ ما بعد الموت يمثّل مصير الإنسان الأبدي، وذلك قوله تعالى: )وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ((العنكبوت:64)، أما الدار الدنيا، فإنها تمثل المرحلة التي يمر بها الإنسان مروراً عابراً ليواجه مصيره في الدار الآخرة.
«وأحمق الحمقى»؛ أي: أكثر الناس جهلاً وحمقاً، «من أتبَعَ نفسه هواه»؛ يعني أنّه استسلم لهوى النفس، ولم يحاول أن يخطط لنفسه، وأن يضع لها برنامجاً تتحرّك من خلاله في خطّ الهُدى والصلاح، «وتمنى» ـ مع ذلك ـ «على اللّه الأماني»([156])؛ بأن يدخل الجنة، وأن ينعم عليه، وما إلى ذلك؛ لأن الله لا يتقبّل العمل من الإنسان الذي لا يحرّك ساكناً في خطّ الاستقامة، في مقابل السير في الخط المنحرف. وذلك هو قوله تعالى، وهو يخاطب المسلمين، كما يخاطب أهل الكتاب: )لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا((النساء:123).
الربط بين حساب النفس وحساب الله:
وعن النبي(ص)، في الربط بين حساب الإنسان لنفسه وحساب اللّه تعالى له: «حاسِبوا أنفسكم قبل أنْ تحاسبوا»؛ لأنك سوف تقدم غداً على الحساب بين يدي الله سبحانه وتعالى، وحسابُه أدق الحساب؛ لأنّ الإنسان يواجه فيه (الكتاب) الذي هو صحيفة أعماله، وقد قال تعالى: )وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا((الكهف:49)، وقال تعالى: )اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا((الإسراء:14)، هذا أوّلاً.
وثانياً، من خلال مسألة شهادة الأعضاء عليه في ما مارسه من إحساساتها، حيث يشهد على الإنسان سمعُه، وبصرُه، وكلُّ جلده. قال تعالى: )وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ((فصلت:21-22)، وقوله تعالى: )الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ((ياسين:65)، وهكذا نقرأ بالنسبة للشاهدين اللذين يكتبان أعمال الإنسان: )عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ* مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ((ق:17-18). وحساب نفسك في الدنيا هو الذي يهوّن عليك حسابها في الآخرة؛ لأنّك تدرك جيّداً كلّ عناصر أوضاعك السلبيّة أو الإيجابيّة، مما تتحمّله من مسؤوليّات وتؤكّده من مواقف بين يدي الله.
«وزِنوها قبل أن توزنوا»؛ يعني حضّر حساباتك، لأنّه في يوم القيامة لا توجد محاماة، ولا شفعاء، كما يحدث في الدنيا، ومسألة الشفاعة، بيد الله سبحانه وتعالى، لا بيد الأنبياء والأئمة(ع)، )يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً((طه:109)، )وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ((الأنبياء:28)، فليست المسألة بالطريقة التي نتصور فيها أن الشفاعة في الآخرة كالشفاعة في الدنيا، تنطلق من خلال حسابات خاصة، أو ما أشبه ذلك. فحاول ـ أيها الإنسان ـ أن تدخل نفسك في ميزان عملك، لتعرف ما هو حجمك في حساب الأعمال؛ لأن قيمة الإنسان إنما هي بمقدار قيمة العمل، وحجمه عند اللّه سبحانه وتعالى، بمقدار حجم عمله.
الميزان المعنويّ:
ولذلك عليك دائماً أن تزن نفسك، في حساب الإيمان، وفي حساب القيمة، وفي حساب العمل، وما إلى ذلك. وكل ذلك لأن هناك ميزاناً يوزن به الإنسان، وهو ليس ميزاناً مادياً، بل هو ميزان معنوي، «وتجهّزوا للعرض الأكبر» على الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: )يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ((الانفطار:19)، لا بد لك عندما تُعرَض على اللّه سبحانه وتعالى أن تستعد لذلك كله.
ونقرأ للإمام علي(ع) قوله: «ما أحق الإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله شاغل»؛ بحيث يفرّغ نفسه بكلّه، وذلك بأن يعيش لها بعيداً عن كل الطوارئ والعوارض والحالات التي تحيط به. ماذا يصنع في هذه الساعة؟ «يحاسب فيها نفسه، فينظر في ما اكتسب لها وعليها»، يعني في ما حصل من أرباح، وفي ما انتهى إليه من خسائر في ليلها ونهارها.
وفي الحديث عن الإمام علي بن الحسين، زين العابدين(ع): «يابن آدم، إنك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همّك»؛ بحيث يكون لديك ما يعظك من داخل نفسك، وهو عقلك ووعيك وإيمانك، لينبّهوك على خط الخير، وخط الشر، في ما يصدر منك، «وما كانت المحاسبة من همّك»؛ بحيث تعيش همّ الحساب، لتعرف هل أنت متقدِّم في عملك وخطوط إيمانك، أو أنك متراجع في ذلك. وقد ورد في الحديث المأثور: «من لم يكن له من نفسه واعظ، لم تنفعه المواعظ»([157]).
وقد روي عن رسول اللّه(ص)، أنه قال: «لا يكون الرجل من المتقين»؛ والتقوى هي الدرجة الرفيعة التي جعل الله الجنة جزاء وثواب من يصل إليها، كما في قوله تعالى: )وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ((آل عمران:133)، فمن هم المتقون؟ أو ما هي ملامحهم وصفاتهم؟ «لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه»؛ يعني كيف يتحاسب الشريكان، عندما يريد كل منهما أن يعرف حصته وأرباحه، سواء، في داخل الشركة، أو عندما يراد إنهاء الشركة، فيحاسبان بعضهما بعضاً بأدق الحساب.
كذلك الإنسان، لابد له من أن يحاسب نفسه، في مسؤولياته التي حمّله الله تعالى إياها، في كل ما أمره اللّه به، وفي كل ما نهاه عنه، فلا بد من أن يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه؛ لأن التقوى تفرض ذلك؛ فالتقوى هي تعبير عن مراقبة الإنسان لنفسه، في موقفه من ربه، والذي يرى أن الله هو رقيب عليه، وأنه يتابع كل أعماله، وكل أقواله، وكل مواقفه، وكل علاقته، لأن لكل واحد من هذه حساباً، فلا بدّ أن يكون دقيقاً في ذلك. ثم يتابع الرسول(ص) كلامه، فيبيّن بعض المفردات التي ينبغي للإنسان أن يحاسب فيها نفسه، فيقول: «فَيَعْلَم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أمن حلٍّ ذلك أم من حرام؟».
كيفية المحاسبة
وهناك قول للإمام علي(ع) يبيِّن نماذج أخرى في المحاسبة، فيما هي المفردات التي لا بد للإنسان من أن يركز عليها، وأن يستحضرها في عملية الحساب. «سُئِلَ الإمام علي(ع) عن كيفية محاسبة النفس، قال: إذا أصبح ثم أمسى، رجع إلى نفسه، وقال: يا نفس، إن هذا يومٌ مضى عليك، لا يعود إليك أبداً»؛ لأن الزمن عندما يذهب، فإنه يتلاشى، ولا يعود للإنسان، «واللّه سائلك عنه»؛ عن هذا الزمن، وعن هذا اليوم، «فيما أفنيته»؛ لأن الإنسان عندما يستهلك يومه، فإنه يفنيه، باعتبار أن كل دقيقة تذوب في ممارسة الإنسان ليومه، «فما الذي عملتِ فيه»؛ في هذا اليوم، «أذكرت الله؟ أم حمدتيه؟»؛ هل كنت في حالة الذكر والحمد، أم في حالة الغفلة عن ذلك كلّه؟ «أقضيتِ حق أخٍ مؤمن؟»؛ وهنا نلاحظ كيف أن الإمام(ع) يهتم في إبراز النموذج للحساب بعلاقة الإنسان بأخيه المؤمن، في كل حقوق الإيمان التي جعلها اللّه للمؤمنين بعضهم على بعض، فيما تفرضه أخوّة الإيمان عليهم، «أنفّستِ عنه كربته؟»؛ هل رأيتِ مؤمناً، وهو مكروب من خلال ما يحيط به من مشاكل وآلام، فنفّست عنه كربته، وأدخلت عليه الفرح والراحة؟ «أحفظته بظهر الغيب في أهله وولده»؛ وإذا كان غائباً، وكان له أهل وولد، وكانوا بحاجة إلى رعاية وحفظ، هل حفظته في أهله وولده؟ «أحفظته بعد الموت في مخلفيه؟»؛ يعني لو فرضنا أنّه مات وترك أيتاماً، فهل حفظت هذا الإنسان فيمن خلفه من أولاد وأيتام؟ «أكففت عن غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك»؛ يعني هل امتنعت عن الغيبة؟ لأنّ الإنسان عندما يرى نفسه كبيراً، وعنده جاه، فإنه ينظر إلى الآخرين باحتقار، ويحاول دائماً أن يذكرهم بعيوبهم، لينتقصهم، «أأعنت مسلماً؟»؛ في ما أعطاكِ اللّه سبحانه وتعالى من مال، أو قوة، أو جاه، «ما الذي صنعت فيه؟» في هذا اليوم؟
ثم يتابع الإمام علي(ع): «فيذكر ما كان منه»، ويستعرض كل ما قام به، بحيث يفهرس أعماله كلّها، «فإن ذكر أنه جرى منه خير، حمد الله عزّ وجل، وكبّره على توفيقه، وإن ذكر معصية أو تقصيراً، استغفر اللّه عزّ وجل، وعزم على ترك معاودته».
كلّ ذلك يعني أن الحساب اليومي هو وسيلة من وسائل تغيير الواقع في سبيل المستقبل، إما بالاستزادة من الخير، وإما بالاستغفار من الشر. ولذلك يقول الإمام علي(ع): «ثمرة المحاسبة صلاح النفس»؛ وهنا يريد(ع) أن يؤكد نتائج المحاسبة، فإذا ما أدمن الإنسان محاسبة النفس، فإن ذلك يؤدي به إلى صلاح نفسه، باعتبار أنها الوسيلة لعملية التغيير.
وفي السياق نفسه، يقول الإمام الصادق(ع): «كان فيما وعظ به لقمان ابنه: إعلم إنك ستُسأل غداً إذا وقفت بين يدي الله عز وجلّ عن أربع: شبابك في ما أبليته، وعمرك في ما أفنيته، ومالك ممّا كسبته، وفي ما أنفقته، فتأهّب لذلك وأعدّ له جواباً»؛ لأنّ ذلك كلّه هو مسؤوليّتك في الحياة. وقد ورد عن الصادق(ع) أيضاً في قوله تعالى: )وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا((الإسراء:36)، «يسأل السمع عمّا سمع» هل سمعت؟ وكيف سمعت؟ «والبصر عما يطرف؟» يعني عما يرى، ويُسأل: هل رأيت؟ وكيف رأيت؟ «والفؤاد» أي: العقل، «عما عقد عليه». ولذلك، لابد للإنسان من أن يتابع سمعه، وبصره، وعقله، في ما استقبله، مما يتصل بهذه الحاسة الحسية، أو المعنوية، في ما يترتب عليها.
هذه هي الأجواء التي أرادنا اللّه سبحانه وتعالى، من خلال توجيهات الرسول(ص) وأهل بيته(ع)، أن نأخذ بها، من أجل أن يكون كل إنسان، واعياً لنفسه، وعاملاً على تغييرها بالمحاسبة والمحاكمة والمجاهدة.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة العاشرة: 14ربيع الأول 1426 ه - 23/4/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم
الإسلام دينُ العقل والحياة
لا نقول كما يقول النصارى، إن الإيمان فوق العقل، نحن نقول: إن العقل هو الذي يقود إلى الإيمان، وإن العقل هو الذي يؤكِّد الإيمان ويركّزه ويمنحه في داخله الوعي والقوة.
مثال الدنيا.
السير في خط الآخرة.
ليس الزهد ترك الدنيا.
العقل ضوء الروح.
العقل يقود إلى الله.
الإسلام دين العقل.
قبح تبدّل الأحوال من الإيجاب إلى السلب.
من يستحقّ الحياة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
مثال الدنيا:
يقول الإمام الكاظم(ع): «يا هشام، تمثلت الدنيا للمسيح في صورة امرأة زرقاء». وكلمة المرأة الزرقاء كانت بياناً للشؤم عند العرب، فقد كانوا يتشاءمون من زرقة العين، أو من قبح منظرها. «فقال لها: كم تزوّجت؟». والمراد من الزواج هنا معنى الاندماج الذي يتحقّق بين الزوجين، وهو كناية عن حالة اندماج الإنسان في الدنيا، واستسلامه لها في شهواتها وغرائزها وأوضاعها، «قالت: كثيراً»، فهم لا يُعدُّون ولا يحصَوْن، «قال: فكلٌ طلَّقكِ؟»، حيث إنه عندما يكون هناك أزواج بهذا العدد، وأنت امرأة واحدة، فلا بد أن يكون قد حصلت الفُرقة مع أزواجك. «قالت: لا، بل كلاً قتلت»، قتلتهم بما تقتل الدنيا به طلاّبها، والذين يتحركون في جنباتها، «قال: فويحٌ لأزواجك الباقين» الذين يقبلون عليك، ويندمجون في كل أوضاعك، ويستسلمون لكل خداعك، «كيف لا يعتبرون بالماضين»، ليعرفوا أنهم يسيرون في الاتجاه نفسه الذي سار فيه أولئك وقُتلوا بسببه.
يقول الشاعر:
هي الدنيا تقولُ بمن فيها حذارِ حذارِ من فتكي وبطشي
وإذا أردنا أن نحلّل هذا الحديث، فإنّنا نفهم أنه وارد على نحو الكناية، وكأنّ المسيح(ع) يريد أن يصوّر الدنيا بصورة المرأة، باعتبار أن المرأة هي التي تجتذب الرجال، كرمز للشهوة، وكرمز للغريزة، وأنّها ـ في ذلك ـ لن تدوم لأحد، ولكن يسير معها الإنسان وقتاً من الوقت ثم تصرعه، وتنتهي كل تلك الشهوات والغرائز.
والدنيا في المفهوم الإسلامي ليست مجرّد المرحلة الزمنيّة التي تسبق الآخرة، ليكون الإقبال عليها مضادّاً للآخرة، بل هي تتصل بالجانب العملي في حياة الإنسان، في ما ينتجه من السلوك ويعيشه من الانجذاب والاستغراق في الدنيا، في ما تمثّله شهواتها وغرائزها وأطماعها، مما لا يرتبط بمعنى القيمة الروحية والأخلاقية للإنسان. ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في حديث قوم موسى(ع) لقارون:) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا((القصص:77)، فالله وضعنا في هذه الدنيا لنضمن ما نعيش به، ولنؤدّي ما كلّفنا الله به من مسؤوليات، وما أرادنا أن نقوم به من أدوار، ونحن نعرف ـ من خلال القرآن الكريم في حديثه عن بدء الخليقة المتمثّلة في آدم(ع) ـ أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان للدنيا، وذلك هو معنى قوله تعالى: )وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً((البقرة:30)، فإنّ الأرض عنوانٌ للدنيا، وكان ذلك من أجل أن يعمّرها، ويقومَ بكل ما يحتاجه تطويرها، حتى يعيش الناس فيها بشكل طبيعي، في حاجاتهم كلّها، وفي أوضاعهم كلّها.
السير في خط الآخرة:
لذلك، فإن الإنسان عندما ينفتح على الدنيا في ميزان القيمة الروحية والأخلاقية، بحيث ينفع الناس بكل طاقته العقلية، وطاقته الروحية، وطاقته العملية، فإنّه يكون في خطّ الآخرة. وقد قال تعالى: )فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ((الرعد:17)، في إشارة منه إلى أنّ على الإنسان أن يتحرّك فيها في مواقع المسؤوليّة، في حركة النفع للناس. والدنيا في هدفيّة وجود الإنسان فيها، تمثّل العمل الصالح، وهذا ما عبّر عنه الله سبحانه وتعالى في قوله: )الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا((الكهف:46)، أي إنّ ما يقدمه الإنسان من عمل يبقى للحياة، ويرفع مستواها في خطّ رضى الله سبحانه وثوابه.
وفي حديث يروى أنه: «جاء شخص للإمام جعفر الصادق(ع) وقال له: إنا لنطلب الدنيا، ونحب أن نؤتاها»، وكأنّ هذا السائل يقول للإمام(ع): أنتم تقولون لنا اتركوا الدنيا، وازهدوا فيها، ونحن نطلب الدنيا، «قال له الإمام ـ حسب الرواية ـ تحبّ أن تصنع بها ماذا؟»، صحيح أنك تحب أن يكون لك مال، وأن يكون لك بنين، وأن يكون لك جاه، وهذا أمر فطري في الإنسان، أن يحصل على ما يريح له حياته في هذه الدنيا، «قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها، وأتصدق وأحجّ وأعتمر»، فأنا عندي حاجات تتعلق بحياتي الخاصة، وحاجات تتعلق بمسؤولياتي عن عيالي، وعن كل الناس الذين أتحمّل مسؤوليتهم، بحسب امتداد مسؤوليتي في الحياة، وأتصدق وأحج وأعتمر. فبماذا أجابه الإمام الصادق(ع)؟ «قال: ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة»([158])؛ لأن الآخرة ليس معناها أن تترك الدنيا، وإنما الآخرة هي أن تستعمل الدنيا في الطريق إلى الله، على قاعدة قوله تعالى: )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ((القصص:77)، أن تكون الآخرة هي الهدف الذي تتحرّك نحوه من خلال الدنيا، في ما يقربك إلى الله، في كل مسؤولياتك العامة والخاصة، التي تتعلق بك وبالحياة والناس.
ليس الزهد ترك الدنيا:
وعلى هذا الأساس، نفهم أن كل ما ورد من مسألة الزهد في الدنيا، ليس المراد به أن يترك الإنسان الدنيا، وينعزل عن كلّ ما فيها. وقد ورد عن الإمام الصادق(ع) أنّه سأله بعض أصحابه: ما الزهد في الدنيا؟ هل هو أن أترك الدنيا، أجوع وأظمأ وأعرى؟، قال(ع): «ويحك، حرامَها فتنكبه»([159])، أي أن تبتعد عنه وتتجنّبه، فالزهد هو أن تجتنب الحرام. وقد ورد في بعض الأحاديث: «ليس الزهد أن لا تملك الدنيا، بل أن لا تملكك الدنيا»، وأن لا تسيطر عليك، وأن لا تصادر قيمَك وأخلاقيتك ومبادئك، بحيث إذا وقفت بين الدنيا والآخرة، فضّلت الدنيا على الآخرة. وقد ورد: «ليس منا مَن ترك دنياه لآخرته، ومن ترك آخرته لدنياه»([160])؛ فالإسلام هو دين التوازن، وهذا يفرض التوازن بين حاجاتك التي تحيط بك، وبين مصيرك الذي تنطلق إليه..
العقل ضوء الروح:
ونقرأ في وصيّة الكاظم(ع): «يا هشام، إن ضوء الجسد في عينه، فإن كان البصر مضيئاً استضاء الجسد كله، وإن ضوء الروح العقل، فإذا كان العبد عاقلاً كان عالماً بربه، وإذا كان عالماً بربّه أبصر دينه، وإن كان جاهلاً بربه لم يقم له دين. وكما لا يقوم الجسد إلا بالنفس الحية، فكذلك لا يقوم الدين إلا بالنية الصادقة، ولا تثبت النية الصادقة إلا بالعقل». إنه(ع) يحاول أن يؤكِّد المسائل الأساسية في مسألة البصر والعمى، وفي مسألة الضوء والظلمة، فيعتبر أن بصر الجسد إنما هو في العين؛ لأن العين هي آلة الإبصار في الإنسان، وهي التي تعطي الجسد الضوء، وإذا كانت عين الإنسان عمياء، فإنَّ جسده يكون مظلماً؛ لأن الجسد يتحرك في ما يريد أن يبصر به طريقه، وفي ما يريد أن يحصل على حاجاته، وفي ما يريد أن يقوم بمسؤوليته، من خلال البصر الذي يضيء له الطريق. فاليد لا تستطيع أن تمسك الأشياء، أو تصنعها، أو تتحرك بها، إلا من خلال ما يدلها البصر ويساعدها على ذلك، وهكذا بالنسبة إلى الرِّجل عندما تريد أن تنطلق وتتحرك في هذا الطريق أو ذاك الطريق، فإن البصر هو الذي يضيء لها الطريق، ويجعلها مضيئة من خلال الضوء الذي يمنحها إياه. ولذلك فإن بصر الجسد في عينه، فإن كان البصر مضيئاً استضاء الجسد كله، لأن كل عضو من أعضاء الجسد يستطيع أن يتحرك بالدور الذي أراد الله له أن يتحرك به. وربما لأجل ذلك يقال عن الشخص الذي لا يملك حاسة البصر، إنه أعمى، ولا يقال: إن عينه عمياء، وكأن العمى يشمل الجسد كله؛ لأن الجسد يستضيء بالبصر، فإذا لم يكن له بصر، كان مظلماً، بمعنى أنّ حركته كانت في قلب الظلام، فلا يستطيع أن يصل إلى ما يريده من خلال ما للأعضاء من الدور.
«وإن ضوء الروح العقل»، والروح هي الطاقة التي تعطي الفكر، والطاقة هي التي تفتح للإنسان الآفاق الواسعة، في ما يملك فيه المعرفة والتصور والتصديق، وما إلى ذلك، والعقل هو العين التي إذا وجدت في داخل الروح، فإنها تقودها إلى كل ما يضيء للإنسان حياته، بالمعرفة وبالفكر، وما إلى ذلك، فالإنسان الذي لا يملك عقلاً، كالمجانين، أو الذي يعيش في غيبوبة مثلاً، أو الذي يفقد الحياة في دماغه، وما إلى ذلك، هم أناس لا يملكون أيّ حركة لمعرفة الفكر وإنتاجه، وقد تجد واحدهم يحدّق بك ولكنّه لا يبصرك؛ لأن البصر المادي إنما يعرف الأشياء من خلال البصر الداخلي، والجانب المادي في البصر، لا يمكن أن يحقق المعرفة إلا بمعونة الجانب الروحي في البصر، وهو العقل. فإذا لم يكن عندك عقل، فإنّك لا تقدر على أن تعرف المبصرات، ولا تستطيع أن تعرف المشمومات والمذوقات والملموسات، ولذا يقولون إن الدماغ الذي هو آلة العقل، هو الذي يحكم حركة الأعضاء كلّها، فإذا سكت الدماغ ومات، مات الإنسان.
العقل يقود إلى الله:
ويتابع(ع) فيقول: «فإذا كان العبد عاقلاً، كان عالماً بربه»؛ لأن العقل هو الذي يدلُّ الإنسان على الله سبحانه وتعالى، فنحن نكتشف الله بعقولنا، على أساس أن عظمة الخلق تدل على عظمة الخالق. وهكذا بالنسبة إلى كل مظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى ولطفه ورحمته، والإنسان الذي لا يملك عقلاً، لا يستطيع أن يحصل على المعرفة بالله سبحانه وتعالى، أما إذا كان يملك العقل، فإن العقل يقوده إلى معرفة الله. ولذلك أكد القرآن الكريم، أنّ الذين يكفرون بالله، والذين لا يؤمنون به، لهم قلوب لا يعقلون بها، ولا يفقهون بها، لأنهم جمّدوا عقولهم، وعندما جمدوا عقولهم ماتت حركة الحياة فيها، فلم يستطيعوا أن يبصروا بعقولهم الله سبحانه وتعالى في مواقع عظمته، وفي مواقع نعمته، قال تعالى: )فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ((الحج:46).. «فإذا كان العبد عاقلاً كان عالماً بربه، وإذا كان عالماً بربّه أبصر دينه»؛ لأن الإنسان إذا عرف الله، فإن معرفته بالله تقوده إلى معرفة الدين، وذلك عندما يعرف الله في حكمته، وأن الله لم يخلقنا عبثاً، وإنما خلقنا من أجل أن يصل بنا إلى ما يرتفع بأنفسنا إلى الدّرجات العليا، وليجعلنا نتحرك في خطِّ المسؤولية في ما أراده للإنسان من دور، فالعقل يقول لنا: إنه لا بد أن يرسل الله رسولين: الرسول الأول: هو العقل، والرسول الثاني: هو النبوة، «فالعقل هو رسول من داخل، والرسول هو عقل من خارج» كما ورد في بعض الكلمات المأثورة.
الإسلام دين العقل:
وبذلك نعي أن عظمة الإسلام هو أنه يريد لك أن تعرف ربك بالعقل، وأن تبصر دينك بالعقل، ليقودك العقل إلى ضرورة إرسال الأنبياء، وإلى معرفتهم من خلال ما يملكونه من دلائل وبراهين، وما إلى ذلك. ولذلك قلنا: إنّ الإسلام هو دين العقل، كما نقول عنه إنّه دين الفطرة. ولهذا فإننا لا نقول كما يقول النصارى، إن الإيمان فوق العقل، ولذلك فهم لا يستطيعون تفسير التثليث في عقيدتهم، من أنّ الأب والابن والروح القدس إله واحد، من ناحية البرهان والدليل العقلي. نحن نقول: إن العقل هو الذي يقود إلى الإيمان، وإن العقل هو الذي يؤكِّد الإيمان ويركّزه ويمنحه في داخله الوعي والقوة. ولعلّنا نستطيع القول: إن الإسلام إنما كان دين الحياة، وكان النبي (ص) خاتم الأنبياء، لأنّ الإسلام انطلق من خلال العقل ومن خلال العلم الذي هو نتيجة حركة العقل، وهذا أمر يحكم حركة الإنسان تجاه كلّ مفردات الحياة، ولا يمكن للحياة أن تتجاوزه. من الممكن أن يقال، إنّه في الأديان السابقة، كانت المعجزة وسيلة من وسائل إثبات النبوّة، وإن كنّا نرى أنّ المعجزة إنّما تأخذ بُعدها الإيمانيّ من خلال العقل أيضاً، ولكن الإسلام جاء بالمعجزة التي تعطي الإنسان عقلاً وهي القرآن، واستمر في الحياة ليكون خاتمة الأديان في الحياة، باعتبار أن تطور الحياة إنما هو من خلال العقل الإنساني، وإن امتداد الحياة إنما هي من خلال العلم الذي ينتجه العقل، سواء كان العقل التأملي أو العقل التجريـبي.
«وإذا كان جاهلاً بربه لم يقم له دين»؛ لأنه يتحرك من خلال العمى الفكري الذي لا يملك معه أيّ معرفة، ومنها المعرفة الدينية، «وكما لا يقوم الجسد إلا بالنفس الحية ـ التي تمنحه الحياة ـ فكذلك لا يقوم الدين إلا بالنية الصادقة»، أي لا يقوم إلا بهذا الوعي الداخلي الذي ينتج للإنسان الدوافع في عمله، باعتبار أن النية هي روح العمل، ولذلك ورد عندنا: «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئٍ ما نوى»([161])، وورد: «يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة»، لأن النية هي التي تحدد للعمل طريقه، ليهتدي إلى النتائج، «ولا تثبت النية الصادقة إلا بالعقل»([162]).
قبح تبدّل الأحوال من الإيجاب إلى السلب:
ويتابع الإمام وصيّته قائلاً: «يا هشام، ما أقبح الفقر بعد الغنى».
من الطبيعي أن الغنى يمثل بالنسبة للإنسان الحالة التي يملك فيها حاجاته، بينما الفقر هو الحالة التي لا يملك فيها تلبية حاجاته، ومن الطبيعي أن الغنى في ذاتياته، من حيث إنه يمثل واجدية الإنسان للأشياء التي تلبي حاجاته، يمثّل قيمةً للإنسان، ولا نتحدث هنا عن القيمة الروحية أو الأخلاقية؛ لأن الغنى في نفسه ليس قيمة روحية وأخلاقية، وإنما يكون قيمة روحية أو أخلاقية عندما يقوم الإنسان بتوظيف الغنى في الخير، وفي ما حمّله الله من مسؤوليات في الانفاق أو ما إلى ذلك، كما أن الفقر لا يمثل حالة سلبية أيضاً من الناحية الروحية والأخلاقية، بل إنه يمثّل الإيجاب والسلب بحسب ما يملكه الفقير من حالة الصبر، والرضى بقضاء الله، والصمود، وعدم السقوط أمام الذين يفرضون عليه الانحراف عن الخط.
إذاً، فالغنى يمثل حالة ذاتية إيجابية في حاجات الإنسان، والفقر يمثل حالة ذاتية سلبية في ذلك، ومن الطبيعي أن افتقار الإنسان بعد الغنى يمثل حالة يحس فيها بقبح الواقع الذي وصل إليه. «وأقبح الخطيئة بعد النسك»([163])، والنُسك قد يطلق على الحج، ولكنّ المراد به هنا العبادة، قال تعالى: )إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ((الأنعام:162)، فالنسك هو العبادة لله سبحانه وتعالى. والإمام(ع) يريد أن يبيّن أيضاً، أنّ الإنسان إذا كان ناسكاً متعبداً، منفتحاً على الله سبحانه وتعالى، ثم انقلب إلى الخطيئة وإلى المعصية، فهذا أمر قبيح في ميزان القيمة الروحية، «وأقبح من ذلك العابد لله ثم يترك عبادته»، الإنسان الذي آمن بالله، ووحّده في العبادة، وامتدّ في عبادته لله، ثم وسوس له الشيطان، وأخذه عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه، فمن الطبيعي أن هذا ينطلق من بعد الحرية إلى العبودية للشيطان، من خلال أنّه يحقق هدف الشيطان، وهو الذي عبّرت عنه الآية الكريمة:)قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ((الأعراف:14-17). وقد قال تعالى: )أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ((ياسين:60-61).
من يستحقّ الحياة:
ثم يواصل الإمام الكاظم(ع) وصيته، فيقول: «يا هشام، لا خير في العيش»، يعني في الحياة، «إلا لرجلين: لمستمعٍ واع»، يعني لشخص يسمع النصيحة، ويسمع الموعظة، ويسمع الهداية، ويعي معانيها، فيتحوّل الوعي إلى واقع يعيشه في حياته، «وعالم ناطق»([164])، عالم يتحسس مسؤوليته في هداية الناس وفي إرشادهم، وفي بذل علمه للناس، سواء طلب الناس منه ذلك، أو ابتدأ الناس بذلك. وإنّما كان الخير لهذين، لأن الله يحب الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، قال تعالى: )فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ((الزمر:17-18)، والله يحب الذين يعلّمون الناس ويرشدونهم إلى الهداية.
وهكذا نستمر في الحديث عن هذه الوصية الجامعة، وعظمة أئمتنا(ع)، أنهم حملوا الرسالة بعد الرسول، وأنهم كانوا يتحركون مع الناس، ليدرسوا المشاكل الروحية والأخلاقية والعملية، ليهدوا الناس إلى طريق الحق. وتلك هي مهمّة الذين يحملون رسالة الأنبياء والأئمة، ألاّ ينعزلوا عن الناس، وألاّ يتكبروا عليهم، بل أن يتحركوا معهم في كل حاجاتهم العقلية والروحية، وما إلى ذلك، قال تعالى: )أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ((يونس:35).
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الحادية عشرة: 21ربيع الأول 1426 ه - 30/4/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم
العقل مدار الحياة كلّها
العقل هو أفضل ما رزقه اللّه للإنسان، وما قسمه له. ذلك، أن العقل، في كيان الإنسان، يمثِّل القيادة التي تمنحه الوعي لكل ما حوله، ولكل ما ينطلق إليه، وما يأخذ به، وما يختاره، وما يقوم به من دور في الحياة
العقل أفضل الرزق.
نوم العاقل وسهر الجاهل.
العقل سلاح الأنبياء.
الحكمة دليلُها الصمت.
حذار من المستغلّين العلم للدنيا.
ملعونٌ من تكبّر.
الشهوات حجابٌ عن الله.
إيّاك والتكبّر بالعلم.
مجالسة أهل الدين شرف.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
ونبقى مع وصية الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) لهشام بن الحكم، هذه الوصية التي تطوف بالإنسان في عقله، وفي قلبه، وفي حياته كلّها، لتجعله الإنسان القادر على بلوغ درجة الكمال في الفكر، وفي العاطفة، وفي حركته في الحياة؛ إذ إنّ ما يريده الإسلام من التربية الإنسانية، هو أن يصوغ إنساناً يملك أنْ يُعطي الحياة الفكرية والروحية والعملية، ما يؤدي إلى القيام بكل مسؤولياته التي حمّله الله سبحانه وتعالى إياها، وأراد له أن يتقرب إليه بها.
العقل أفضل الرزق:
من بين هذه الوصايا، يقول الإمام(ع): «يا هشام، ما قسم بين العباد أفضل من العقل»؛ فاللّه سبحانه وتعالى قسَّم بين العباد أرزاقهم والكثير من أوضاعهم، في ما يملكون من درجات في واقع الحياة. ولكلٍّ من هذه الأقسام فضل في واقع الإنسان؛ ولكننا عندما ندخل في المقارنة بين كل ما رزقه اللّه للإنسان، وبين ما أعطاه من العقل، فإننا نجد أن العقل هو أفضل ما رزقه اللّه للإنسان، وما قسمه له. ذلك، أن العقل، في كيان الإنسان، يمثِّل القيادة التي تمنحه الوعي لكل ما حوله، ولكل ما ينطلق إليه، وما يأخذ به، وما يختاره، وما يقوم به من دور في الحياة؛ لأنَّ العقل هو الذي يعرّف الإنسان، من خلال الفكر والوعي، ما هو قبيح، وما هو حسن، وما هو ضار، وما هو نافع، وما هو الحقيقة، وما هو الباطل. وبذلك، يكون العقل هو الذي يمنهج للإنسان حياته، ويحقّق له البرنامج الذي يصل به إلى النتائج الإيجابية.
وإذا أردنا أن ندخل إلى بعض تفاصيل ذلك، فإنّنا نجد أن الإنسان إذا مُنح المال، فإنه لا يستطيع أن يدير ذلك المال إدارةً جيدة، إلا من خلال العقل الاقتصادي، الذي يعرّفه مواقع الربح ومواقع الخسارة. وهكذا عندما يريد أن ينطلق في أمر يتصل بحياته الصحية، فإن العقل هو الذي يقوده إلى اختيار النافع في مقابل الضار. وكذلك إذا أراد أن يحرّك ما أعطاه الله من القوة، فإن القوة قد تتحرك في أمرٍ يسقطه ويسقط حياته وأوضاعه، وذلك عندما تتحول إلى حالةٍ خرقاء، وإلى وسيلة من الوسائل التي تهلكه وتهلك الناس والحياة من حوله، بينما قد تكون القوة في الجانب الآخر نافعةً للإنسان، ومحققةً للمنافع. وذلك عندما يستعمل قوته في الخير لا في الشر، وفي البناء لا في الهدم. وهكذا بالنسبة إلى أوضاع الإنسان كلّها، فإن العقل هو الذي يخطط له لاتّباع الخطوط المستقيمة التي تؤدي به إلى النتائج الإيجابية، وتنقذه من النتائج السلبية.
نوم العاقل وسهر الجاهل:
ثم يقول الإمام الكاظم(ع) في هذه الوصية: «نوم العاقل أفضل من سهر الجاهل». وكأنّه(ع) يقول: لو أردنا أن نقارن بين نوم العاقل وبين سهر الجاهل، فإن نوم العاقل يؤدي إلى استعادة العقل لقوّته التي يستطيع من خلالها أن يقوم بكل مسؤولياته، في كل ما حُمّل من مسؤولية. ذلك أنّ الإنسان عندما يكون في حالة جهد وتعب، فإنَّ ذلك قد يمنعه من أداء مسؤولياته التي تحتاج إلى جسد مريح، وإلى فكرٍ هادئ، وإلى أوضاع ملائمة، ومن الطبيعي أن النوم يعين العاقل على إراحة عقله من خلال إراحة جسده، لأن (العقل السليم في الجسم السليم)؛ فإذا كان الجسم يعيش الآلام، ويعيش الجهد والتعب، فإن ذلك يجعل من الصعب على الإنسان أن ينطلق بعقله بشكل متوازن وسليم. أما الجاهل، فإنه عندما يسهر، فإن سهره يتضمّن الكثير مما يسيء إلى عقله وإلى جسده، وإلى كل أوضاعه، لأنه غالباً ما يواجه بالسهر العبث واللهو والغيبوبة عن الواقع. ولذلك فإن العاقل عندما ينام، فإنه يقوّي عقله، ويقوى من خلال تقويته لجسده، بينما نجد أنّ ما يمارسه الجاهل في سهره، يسقط عقله، إن كان له عقل، ويسقط أيضاً توازنه، في ما يمارسه من أساليب حياة.
العقل سلاح الأنبياء:
ثم يقول الإمام(ع): «وما بعث اللّه نبياً إلاّ عاقلاً»؛ فالنبي هو عقل الأمة. والله عندما يختار أنبياءه ويصطفيهم، فإنه يختار الأشخاص الذين يملكون العقل الذي يديرون به رسالتهم، ويديرون به الموقع القيادي الذي يقودون من خلاله الأمة، في تربيتها لنفسها، وفي توعيتها، والسير بها إلى ما يحقق لها النتائج الكبرى في الحياة، على مستوى الدنيا والآخرة. «حتى يكون عقله أفضل من جميع جهد المجتهدين»؛ فإذا أردنا أن ندخل في مقارنة بين عقل النبي وبين عبادة هؤلاء المجتهدين في العبادة، لرأينا أن عقله يمثل المرتبة العليا التي تفضل حركة المجتهدين في العبادة؛ لأن العقل هو الذي يقوِّم العبادة، وهو الذي يجعلها عبادة واعية ومنفتحة، ترتفع بالإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، وتجعله يواجه مسؤولياته في الحياة بالدرجة التي ينفع فيها الناس. «وما أدّى العبد فريضة من فرائض اللّه حتى عقل عنه». في هذه الفقرة، يريد الإمام(ع) أن يؤكد أن على الإنسان المكلف أن يملك معرفة اللّه تعالى، فيعقل عن اللّه أساس عبادته، باعتبار أن توحيد الله، يفرض عليه التوحيد في العبادة، فعندما يعبد الله، فلا بد أن تكون عبادته توحيدية، لا يشرك بها غيره، وينفتح من خلالها على آفاق اللّه سبحانه وتعالى، وعلى مواقع القرب منه.
الحكمة دليلُها الصمت:
وينقل الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) في وصيته عن رسول الله (ص)، فيقول:: «يا هشام، قال رسول الله(ص): إذا رأيتم المؤمن صموتاً» يعني كثير الصمت، «فادنوا منه».. اقتربوا منه، وعاشروه، والتصقوا به، «فإنه يلقي الحكمة. والمؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل». إن النبي(ص)، عندما يؤكِّد الصمت كصفة إيجابية متقدمة من صفات المؤمن، فإنه لا يقصد الصمت كقيمة في ذاته، بل يقصد الصمت باعتبار أنه يجعل الإنسان في مناخ التفكير؛ ليلتقط الحكمة ويكتشفها من خلال تفكيره، ويلقي هذه الحكمة إلى الناس؛ بينما الشخص الذي يكثر كلامه، فإنه قد يعيش الهذر في كلامه، والضجيج في أفكاره؛ لأنه لا يعطي نفسه فرصة للتفكير، بل يحاول أن يشغل نفسه، وأن يشغل الناس من حوله بكثرة كلامه، الذي قد لا يكون نافعاً في مضمونه، وفي كل ما يريد أن يحرك به وعي الناس. إن الإسلام عندما يؤكد الصمت، ويرفض كثرة الكلام، فإنه يوجّه الإنسان إلى أن يعطي نفسه فرصةً للتفكير؛ لأن التفكير إنما ينطلق من الإنسان في الأجواء الهادئة التي يعيش فيها هدوء عقله، وهدوء جسده، لينطلق إلى الآفاق الرحبة الواسعة، من أجل الوصول إلى النتائج الإيجابيّة في هذا المجال. لذلك علينا أن نعرف أن الصمت ليس قيمة إيجابية في ذاته، وأن الكلام ليس قيمة سلبية في ذاته، بل إن المسألة تتصل بما يؤدي إليه الصمت من هدوء العقل، وهدوء الذات، من جهة، وبما يؤدي إليه الكلام الكثير من اضطراب في العقل وفي الذات، في المقابل.
حذار من المستغلّين العلم للدنيا:
ويقول الإمام(ع): «يا هشام، أوحى الله إلى داود: قل لعبادي لا تجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا، فيصدهم عن ذكري، وعن طريق محبتي ومناجاتي، أولئك قطاع الطريق من عبادي، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة عبادتي ومناجاتي من قلوبهم». إن الإمام(ع) يحدّثنا عمّا أوحى اللّه تعالى به إلى داود(ع)، ونستطيع أن نستوحي من نقل الإمام(ع) عن داود، أن الإسلام يحتضن كل الرسالات، وكل ما جاء به الرسل، وهذا ما أكده القرآن الكريم )مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ(، )لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ(([165])، فالإسلام يريد للإنسان أن يستفيد من كل ما جاءت به الرسل، سواء في الكتب التي نزلت عليهم، كالتوراة والإنجيل والزبور، أو في ما أوحاه اللّه إليهم ـ وحياً إلهامياً أو وحياً سماوياً ـ من المواعظ والنصائح، وما إلى ذلك. وربما يتحدث بعض الأعلام عن الأحاديث القدسية، بأنها تمثل التراث الذي كان يوحي به اللّه سبحانه وتعالى إلى رسله ليبلغوه إلى الناس.
إن هذه الوصية في ما أوحى اللّه به إلى داود(ع)، تحذّر الناس من صنف معين من العلماء. فهناك الناس الذين يملكون العلم، وربما كان العلم علم الرسالة، ولكنّهم جعلوا الرسالة وسيلة من وسائل الحصول على الموقع الاجتماعي أو الديني، ليستغلوا الناس من خلال ذلك، ليعملوا على إثراء أنفسهم من خلال هذه المواقع، أو من خلال ما يقدّمونه إلى الناس من علم ليجتذبوهم، لأنهم مفتونون بحب الدنيا، فهم لا يفكرون بأداء الرسالة أو التحديات التي تواجهها، بل هم مشغولون في كل اهتماماتهم كيف يحصلون من المال أكثر، وكيف يغرفون من الشهوات أكثر، وكيف يضللون الناس بقيادتهم نحو المواقع المظلمة التي تلبي أهدافهم الدنيوية.
فإنّ على الناس أن يحذروا مثل هؤلاء العلماء الذين يضلّون الناس، من خلال أنهم يجعلون علمهم وسيلة من وسائل الحصول على الدنيا، بدلاً من أن يجعلوا علمهم وسيلة من وسائل القرب إلى الله سبحانه وتعالى. إن هذه الفقرة الموحى بها إلى داود(ع) تقول إن مثل أولئك العلماء هم قطّاع طريق عبادة الله، الذي يقفون في طريق الناس لكي يبعدوهم عن عبادته، وعن القرب منه سبحانه وتعالى، ويجعلونهم، بالتالي، ينطلقون في سُبُل الحصول على شهواتهم وأهوائهم ودنياهم بأية وسيلة، هؤلاء الذين يقول الله عنهم إنّه سيخرج حلاوة العبادة والمناجاة من قلوبهم، لأن حلاوة العبادة إنما تكون للذي يعرف اللّه أكثر، ويحب اللّه أكثر، ويخلص إلى اللّه أكثر. كما أن حلاوة المناجاة إنما تحصل للإنسان الذي يعيش، في كل أحاسيسه ومشاعره، المحبة للّه سبحانه وتعالى، ليناجيه مناجاة العاشق لمعشوقه.
ملعونٌ من تكبّر:
وفي وصية أخرى، يقول الإمام الكاظم(ع): «يا هشام، من تعظّم في نفسه، لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض»، وهو من يرى نفسه عظيماً من دون أن يملك عناصر العظمة، بل يعيش انتفاخ الشخصية من دون أن يكون هناك أي عنصر من العناصر التي تضخّم شخصيته، فهو يتعاظم في نفسه من دون عظمة، ولا ينظر إلى عظمة الله سبحانه وتعالى ليتواضع أمامه، وليعرف أن كل ما لديه من العناصر التي تمثل شيئاً من الصفات الجيدة هو من اللّه سبحانه وتعالى، ومن نعمه عليه، وأنّ عليه أن يشكر اللّه تعالى على ذلك، واللّه تعالى يقول: )وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِن اللَّهِ(([166]). إن الإنسان الذي يتعاظم في نفسه، ليشعر أنه أعظم من الآخرين، يعيش البعد من اللّه تعالى، وتأتيه اللعنات من ملائكة السماء والأرض، الذين ينظرون إليه، فيستحقرونه، ويرون أن تعاظمَه في نفسه لم يزده من الله إلا بُعداً؛ لأنّه تعاظم لا واقع له.
«ومن تكبّر على إخوانه واستطال عليهم»، بحيث يحسب نفسه في موقع الكبرياء الذي يوحي إليه باحتقار الآخرين، في نظرته إليهم وتعامله معهم، «فقد ضادّ اللّه»؛ لأن اللّه تعالى لا يحب المتكبّرين، ولأنه تعالى يريد للإنسان أن يتواضع في علاقته معه ومع الناس، «ومن ادعى ما ليس له فهو أعتى لغيره»؛ أي إنّ من أعطى لنفسه مرتبة لا يملكها، كالإنسان الذي يدّعي الاجتهاد وليس بمجتهد، أو يدعي القوة وليس بقوي، أو يدعي الموقع الكبير وهو ليس لهذا الموقع، فهو طاغٍ متجبر على غيره.
الشهوات حجابٌ عن الله:
ونقرأ في هذه الوصية، قول الإمام الكاظم(ع): «يا هشام، أوحى اللّه إلى داود، حذِّر وأنذر أصحابك» وأنت تعمل على توعيتهم وعلى تربيتهم، «عن حب الشهوات، فإن المعلقة قلوبهم بشهوات الدنيا قلوبهم محجوبة عني»، لأن الشهوات تطغى على الإنسان في كل أحاسيسه، وكل مشاعره، من حيثُ إنها تحرك غرائزه في اتجاه تغذيتها، لتكون كلَّ همه، وكل حركته في اتجاه الحصول عليها، وبذلك تغطي العقل، وإذا غطّت العقل فإن العقل لا ينفتح على الله، بل يكون محجوباً عنه سبحانه وتعالى، فلا يمكن له أن يعيش معه، أو أن يقرب إليه.
إيّاك والتكبّر بالعلم:
«يا هشام، إيّاك والكبر على أوليائي والاستطالة بعلمك». وهنا يعالج الإمام(ع) بعض الحالات التي قد تحصل في داخل الجماعة الملتزمة بالإسلام، أو الملتزمة بخط الأئمة من أهل البيت(ع) في خط الإسلام، فيعيش الإنسان الذي هو أكثر علماً الكبر على من هو أقل منه علماً، أو الإنسان الذي هو أكثر عبادة على الإنسان الذي ليس بهذا المستوى من العبادة، وما إلى ذلك؛ لأنّ الإنسان، إذا تعاظم في العلم، أحسّ بالتواضع أمام الله الذي وسع كلّ شيء علماً، وقد قال الله سبحانه وتعالى وهو يخاطب عباده: )وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً((الإسراء:85)، وإذا كان يخاطب نبيّه(ص): )وقل رب زدني علماً((طه:114)، فكيف بالإنسان العاديّ؟!
وهكذا في الشأن العبادي، فإنّ قيمة العبادة هي بمقدار ما تكون مقبولة عند الله سبحانه، وإذا كان الإنسان معجباً بنفسه وعباداته، فإنّ ذلك يفسدها، وقد ورد في دعاء مكارم الأخلاق: «ولا تفسد عبادتي بالعُجب».
والإمام الكاظم(ع) عندما يوصي هشاماً، وهو من تلاميذه وأصحابه، ومعروف بعلمه ومرتبته العليا من العلم، فإنه يتوجه إليه، ولكن لا على أساس الخصوصية، بل على أساس الخط الذي يريده لكل السائرين في خط أهل البيت(ع) الذي هو الخط الأصيل للإسلام، فيقول له: إياك والتكبر، وإياك والاستطالة بعلمك، بأن تعتبر نفسك أعلى منهم، (فيمقتك اللّه)، وإذا مقتك الله (فلا تنفعك بعد مقته دنياك ولا آخرتك)، لأن اللّه سبحانه وتعالى يمقت المتكبرين ويبغضهم، بحيث لا يبقى هناك قيمة لما يحصل عليه الإنسان في دنياه وحتى ما يحصل له في آخرته، لأنه لا يحصل على آخرة، ولا يحصل على رضا اللّه تعالى في الدنيا ولا في الآخرة. وقد ورد في بعض الأحاديث: «ماذا وجد من فقدك، وماذا فقد من وجدك»([167]).
«وكن في الدّنيا كساكن دار ليست له، إنّما ينتظر الرحيل»؛ فكيف أنك تسكن الدار المعارة لك، أو المسـتأجرة لك، وأنت تعرف بأنك ستفارقها إن عاجلاً أو آجلاً، فتصور الدنيا كذلك.
مجالسة أهل الدين شرف:
«يا هشام، مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة»؛ لأنّ أهل الدين هم الذين يملكون الالتزام الديني، ومعاشرتهم تجعل الإنسان يحصل على النتائج الكبرى من الناحية العلمية، والنتائج الإيجابية من ناحية القدوة، باعتبارهم يمثلون القدوة في الالتزام الديني. «ومشاورة العاقل الناصح»؛ الذي يملك العقل بالمستوى الذي يستطيع أن يعطي الرأي الصحيح ويملك النصيحة التي تنفتح على ما يصلح الناس وما يقودهم إلى الخير، «يمنٌ وبركة ورشد وتوفيق من اللّه؛ فإذا أشار عليك العاقل الناصح، فإياك والخلاف فإنّ في ذلك الغضب»([168])، لأنك إذا خالفته فإنك تخالف ما فيه صلاح لك، في الدنيا وفي الآخرة. وللحديث بقية إن شاء اللّه تعالى.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثانية عشرة: 21ربيع الأول 1426 ه - 30/4/2005م
وصية الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم
العقل مدار الحياة كلّها
العقل هو أفضل ما رزقه اللّه للإنسان، وما قسمه له. ذلك، أن العقل، في كيان الإنسان، يمثِّل القيادة التي تمنحه الوعي لكل ما حوله، ولكل ما ينطلق إليه، وما يأخذ به، وما يختاره، وما يقوم به من دور في الحياة
العقل أفضل الرزق.
نوم العاقل وسهر الجاهل.
العقل سلاح الأنبياء.
الحكمة دليلُها الصمت.
حذار من المستغلّين العلم للدنيا.
ملعونٌ من تكبّر.
الشهوات حجابٌ عن الله.
إيّاك والتكبّر بالعلم.
مجالسة أهل الدين شرف.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
ونبقى مع وصية الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) لهشام بن الحكم، هذه الوصية التي تطوف بالإنسان في عقله، وفي قلبه، وفي حياته كلّها، لتجعله الإنسان القادر على بلوغ درجة الكمال في الفكر، وفي العاطفة، وفي حركته في الحياة؛ إذ إنّ ما يريده الإسلام من التربية الإنسانية، هو أن يصوغ إنساناً يملك أنْ يُعطي الحياة الفكرية والروحية والعملية، ما يؤدي إلى القيام بكل مسؤولياته التي حمّله الله سبحانه وتعالى إياها، وأراد له أن يتقرب إليه بها.
العقل أفضل الرزق:
من بين هذه الوصايا، يقول الإمام(ع): «يا هشام، ما قسم بين العباد أفضل من العقل»؛ فاللّه سبحانه وتعالى قسَّم بين العباد أرزاقهم والكثير من أوضاعهم، في ما يملكون من درجات في واقع الحياة. ولكلٍّ من هذه الأقسام فضل في واقع الإنسان؛ ولكننا عندما ندخل في المقارنة بين كل ما رزقه اللّه للإنسان، وبين ما أعطاه من العقل، فإننا نجد أن العقل هو أفضل ما رزقه اللّه للإنسان، وما قسمه له. ذلك، أن العقل، في كيان الإنسان، يمثِّل القيادة التي تمنحه الوعي لكل ما حوله، ولكل ما ينطلق إليه، وما يأخذ به، وما يختاره، وما يقوم به من دور في الحياة؛ لأنَّ العقل هو الذي يعرّف الإنسان، من خلال الفكر والوعي، ما هو قبيح، وما هو حسن، وما هو ضار، وما هو نافع، وما هو الحقيقة، وما هو الباطل. وبذلك، يكون العقل هو الذي يمنهج للإنسان حياته، ويحقّق له البرنامج الذي يصل به إلى النتائج الإيجابية.
وإذا أردنا أن ندخل إلى بعض تفاصيل ذلك، فإنّنا نجد أن الإنسان إذا مُنح المال، فإنه لا يستطيع أن يدير ذلك المال إدارةً جيدة، إلا من خلال العقل الاقتصادي، الذي يعرّفه مواقع الربح ومواقع الخسارة. وهكذا عندما يريد أن ينطلق في أمر يتصل بحياته الصحية، فإن العقل هو الذي يقوده إلى اختيار النافع في مقابل الضار. وكذلك إذا أراد أن يحرّك ما أعطاه الله من القوة، فإن القوة قد تتحرك في أمرٍ يسقطه ويسقط حياته وأوضاعه، وذلك عندما تتحول إلى حالةٍ خرقاء، وإلى وسيلة من الوسائل التي تهلكه وتهلك الناس والحياة من حوله، بينما قد تكون القوة في الجانب الآخر نافعةً للإنسان، ومحققةً للمنافع. وذلك عندما يستعمل قوته في الخير لا في الشر، وفي البناء لا في الهدم. وهكذا بالنسبة إلى أوضاع الإنسان كلّها، فإن العقل هو الذي يخطط له لاتّباع الخطوط المستقيمة التي تؤدي به إلى النتائج الإيجابية، وتنقذه من النتائج السلبية.
نوم العاقل وسهر الجاهل:
ثم يقول الإمام الكاظم(ع) في هذه الوصية: «نوم العاقل أفضل من سهر الجاهل». وكأنّه(ع) يقول: لو أردنا أن نقارن بين نوم العاقل وبين سهر الجاهل، فإن نوم العاقل يؤدي إلى استعادة العقل لقوّته التي يستطيع من خلالها أن يقوم بكل مسؤولياته، في كل ما حُمّل من مسؤولية. ذلك أنّ الإنسان عندما يكون في حالة جهد وتعب، فإنَّ ذلك قد يمنعه من أداء مسؤولياته التي تحتاج إلى جسد مريح، وإلى فكرٍ هادئ، وإلى أوضاع ملائمة، ومن الطبيعي أن النوم يعين العاقل على إراحة عقله من خلال إراحة جسده، لأن (العقل السليم في الجسم السليم)؛ فإذا كان الجسم يعيش الآلام، ويعيش الجهد والتعب، فإن ذلك يجعل من الصعب على الإنسان أن ينطلق بعقله بشكل متوازن وسليم. أما الجاهل، فإنه عندما يسهر، فإن سهره يتضمّن الكثير مما يسيء إلى عقله وإلى جسده، وإلى كل أوضاعه، لأنه غالباً ما يواجه بالسهر العبث واللهو والغيبوبة عن الواقع. ولذلك فإن العاقل عندما ينام، فإنه يقوّي عقله، ويقوى من خلال تقويته لجسده، بينما نجد أنّ ما يمارسه الجاهل في سهره، يسقط عقله، إن كان له عقل، ويسقط أيضاً توازنه، في ما يمارسه من أساليب حياة.
العقل سلاح الأنبياء:
ثم يقول الإمام(ع): «وما بعث اللّه نبياً إلاّ عاقلاً»؛ فالنبي هو عقل الأمة. والله عندما يختار أنبياءه ويصطفيهم، فإنه يختار الأشخاص الذين يملكون العقل الذي يديرون به رسالتهم، ويديرون به الموقع القيادي الذي يقودون من خلاله الأمة، في تربيتها لنفسها، وفي توعيتها، والسير بها إلى ما يحقق لها النتائج الكبرى في الحياة، على مستوى الدنيا والآخرة. «حتى يكون عقله أفضل من جميع جهد المجتهدين»؛ فإذا أردنا أن ندخل في مقارنة بين عقل النبي وبين عبادة هؤلاء المجتهدين في العبادة، لرأينا أن عقله يمثل المرتبة العليا التي تفضل حركة المجتهدين في العبادة؛ لأن العقل هو الذي يقوِّم العبادة، وهو الذي يجعلها عبادة واعية ومنفتحة، ترتفع بالإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، وتجعله يواجه مسؤولياته في الحياة بالدرجة التي ينفع فيها الناس. «وما أدّى العبد فريضة من فرائض اللّه حتى عقل عنه». في هذه الفقرة، يريد الإمام(ع) أن يؤكد أن على الإنسان المكلف أن يملك معرفة اللّه تعالى، فيعقل عن اللّه أساس عبادته، باعتبار أن توحيد الله، يفرض عليه التوحيد في العبادة، فعندما يعبد الله، فلا بد أن تكون عبادته توحيدية، لا يشرك بها غيره، وينفتح من خلالها على آفاق اللّه سبحانه وتعالى، وعلى مواقع القرب منه.
الحكمة دليلُها الصمت:
وينقل الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) في وصيته عن رسول الله (ص)، فيقول:: «يا هشام، قال رسول الله(ص): إذا رأيتم المؤمن صموتاً» يعني كثير الصمت، «فادنوا منه».. اقتربوا منه، وعاشروه، والتصقوا به، «فإنه يلقي الحكمة. والمؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل». إن النبي(ص)، عندما يؤكِّد الصمت كصفة إيجابية متقدمة من صفات المؤمن، فإنه لا يقصد الصمت كقيمة في ذاته، بل يقصد الصمت باعتبار أنه يجعل الإنسان في مناخ التفكير؛ ليلتقط الحكمة ويكتشفها من خلال تفكيره، ويلقي هذه الحكمة إلى الناس؛ بينما الشخص الذي يكثر كلامه، فإنه قد يعيش الهذر في كلامه، والضجيج في أفكاره؛ لأنه لا يعطي نفسه فرصة للتفكير، بل يحاول أن يشغل نفسه، وأن يشغل الناس من حوله بكثرة كلامه، الذي قد لا يكون نافعاً في مضمونه، وفي كل ما يريد أن يحرك به وعي الناس. إن الإسلام عندما يؤكد الصمت، ويرفض كثرة الكلام، فإنه يوجّه الإنسان إلى أن يعطي نفسه فرصةً للتفكير؛ لأن التفكير إنما ينطلق من الإنسان في الأجواء الهادئة التي يعيش فيها هدوء عقله، وهدوء جسده، لينطلق إلى الآفاق الرحبة الواسعة، من أجل الوصول إلى النتائج الإيجابيّة في هذا المجال. لذلك علينا أن نعرف أن الصمت ليس قيمة إيجابية في ذاته، وأن الكلام ليس قيمة سلبية في ذاته، بل إن المسألة تتصل بما يؤدي إليه الصمت من هدوء العقل، وهدوء الذات، من جهة، وبما يؤدي إليه الكلام الكثير من اضطراب في العقل وفي الذات، في المقابل.
حذار من المستغلّين العلم للدنيا:
ويقول الإمام(ع): «يا هشام، أوحى الله إلى داود: قل لعبادي لا تجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا، فيصدهم عن ذكري، وعن طريق محبتي ومناجاتي، أولئك قطاع الطريق من عبادي، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة عبادتي ومناجاتي من قلوبهم». إن الإمام(ع) يحدّثنا عمّا أوحى اللّه تعالى به إلى داود(ع)، ونستطيع أن نستوحي من نقل الإمام(ع) عن داود، أن الإسلام يحتضن كل الرسالات، وكل ما جاء به الرسل، وهذا ما أكده القرآن الكريم )مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ(، )لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ((لبقرة:285)، فالإسلام يريد للإنسان أن يستفيد من كل ما جاءت به الرسل، سواء في الكتب التي نزلت عليهم، كالتوراة والإنجيل والزبور، أو في ما أوحاه اللّه إليهم ـ وحياً إلهامياً أو وحياً سماوياً ـ من المواعظ والنصائح، وما إلى ذلك. وربما يتحدث بعض الأعلام عن الأحاديث القدسية، بأنها تمثل التراث الذي كان يوحي به اللّه سبحانه وتعالى إلى رسله ليبلغوه إلى الناس.
إن هذه الوصية في ما أوحى اللّه به إلى داود(ع)، تحذّر الناس من صنف معين من العلماء. فهناك الناس الذين يملكون العلم، وربما كان العلم علم الرسالة، ولكنّهم جعلوا الرسالة وسيلة من وسائل الحصول على الموقع الاجتماعي أو الديني، ليستغلوا الناس من خلال ذلك، ليعملوا على إثراء أنفسهم من خلال هذه المواقع، أو من خلال ما يقدّمونه إلى الناس من علم ليجتذبوهم، لأنهم مفتونون بحب الدنيا، فهم لا يفكرون بأداء الرسالة أو التحديات التي تواجهها، بل هم مشغولون في كل اهتماماتهم كيف يحصلون من المال أكثر، وكيف يغرفون من الشهوات أكثر، وكيف يضللون الناس بقيادتهم نحو المواقع المظلمة التي تلبي أهدافهم الدنيوية.
فإنّ على الناس أن يحذروا مثل هؤلاء العلماء الذين يضلّون الناس، من خلال أنهم يجعلون علمهم وسيلة من وسائل الحصول على الدنيا، بدلاً من أن يجعلوا علمهم وسيلة من وسائل القرب إلى الله سبحانه وتعالى. إن هذه الفقرة الموحى بها إلى داود(ع) تقول إن مثل أولئك العلماء هم قطّاع طريق عبادة الله، الذي يقفون في طريق الناس لكي يبعدوهم عن عبادته، وعن القرب منه سبحانه وتعالى، ويجعلونهم، بالتالي، ينطلقون في سُبُل الحصول على شهواتهم وأهوائهم ودنياهم بأية وسيلة، هؤلاء الذين يقول الله عنهم إنّه سيخرج حلاوة العبادة والمناجاة من قلوبهم، لأن حلاوة العبادة إنما تكون للذي يعرف اللّه أكثر، ويحب اللّه أكثر، ويخلص إلى اللّه أكثر. كما أن حلاوة المناجاة إنما تحصل للإنسان الذي يعيش، في كل أحاسيسه ومشاعره، المحبة للّه سبحانه وتعالى، ليناجيه مناجاة العاشق لمعشوقه.
ملعونٌ من تكبّر:
وفي وصية أخرى، يقول الإمام الكاظم(ع): «يا هشام، من تعظّم في نفسه، لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض»، وهو من يرى نفسه عظيماً من دون أن يملك عناصر العظمة، بل يعيش انتفاخ الشخصية من دون أن يكون هناك أي عنصر من العناصر التي تضخّم شخصيته، فهو يتعاظم في نفسه من دون عظمة، ولا ينظر إلى عظمة الله سبحانه وتعالى ليتواضع أمامه، وليعرف أن كل ما لديه من العناصر التي تمثل شيئاً من الصفات الجيدة هو من اللّه سبحانه وتعالى، ومن نعمه عليه، وأنّ عليه أن يشكر اللّه تعالى على ذلك، واللّه تعالى يقول: )وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِن اللَّهِ((النحل:53). إن الإنسان الذي يتعاظم في نفسه، ليشعر أنه أعظم من الآخرين، يعيش البعد من اللّه تعالى، وتأتيه اللعنات من ملائكة السماء والأرض، الذين ينظرون إليه، فيستحقرونه، ويرون أن تعاظمَه في نفسه لم يزده من الله إلا بُعداً؛ لأنّه تعاظم لا واقع له.
«ومن تكبّر على إخوانه واستطال عليهم»، بحيث يحسب نفسه في موقع الكبرياء الذي يوحي إليه باحتقار الآخرين، في نظرته إليهم وتعامله معهم، «فقد ضادّ اللّه»؛ لأن اللّه تعالى لا يحب المتكبّرين، ولأنه تعالى يريد للإنسان أن يتواضع في علاقته معه ومع الناس، «ومن ادعى ما ليس له فهو أعتى لغيره»؛ أي إنّ من أعطى لنفسه مرتبة لا يملكها، كالإنسان الذي يدّعي الاجتهاد وليس بمجتهد، أو يدعي القوة وليس بقوي، أو يدعي الموقع الكبير وهو ليس لهذا الموقع، فهو طاغٍ متجبر على غيره.
الشهوات حجابٌ عن الله:
ونقرأ في هذه الوصية، قول الإمام الكاظم(ع): «يا هشام، أوحى اللّه إلى داود، حذِّر وأنذر أصحابك» وأنت تعمل على توعيتهم وعلى تربيتهم، «عن حب الشهوات، فإن المعلقة قلوبهم بشهوات الدنيا قلوبهم محجوبة عني»، لأن الشهوات تطغى على الإنسان في كل أحاسيسه، وكل مشاعره، من حيثُ إنها تحرك غرائزه في اتجاه تغذيتها، لتكون كلَّ همه، وكل حركته في اتجاه الحصول عليها، وبذلك تغطي العقل، وإذا غطّت العقل فإن العقل لا ينفتح على الله، بل يكون محجوباً عنه سبحانه وتعالى، فلا يمكن له أن يعيش معه، أو أن يقرب إليه.
إيّاك والتكبّر بالعلم:
«يا هشام، إيّاك والكبر على أوليائي والاستطالة بعلمك». وهنا يعالج الإمام(ع) بعض الحالات التي قد تحصل في داخل الجماعة الملتزمة بالإسلام، أو الملتزمة بخط الأئمة من أهل البيت(ع) في خط الإسلام، فيعيش الإنسان الذي هو أكثر علماً الكبر على من هو أقل منه علماً، أو الإنسان الذي هو أكثر عبادة على الإنسان الذي ليس بهذا المستوى من العبادة، وما إلى ذلك؛ لأنّ الإنسان، إذا تعاظم في العلم، أحسّ بالتواضع أمام الله الذي وسع كلّ شيء علماً، وقد قال الله سبحانه وتعالى وهو يخاطب عباده: )وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً((الإسراء:85)، وإذا كان يخاطب نبيّه(ص): )وقل رب زدني علماً((طه:114)، فكيف بالإنسان العاديّ؟!
وهكذا في الشأن العبادي، فإنّ قيمة العبادة هي بمقدار ما تكون مقبولة عند الله سبحانه، وإذا كان الإنسان معجباً بنفسه وعباداته، فإنّ ذلك يفسدها، وقد ورد في دعاء مكارم الأخلاق: «ولا تفسد عبادتي بالعُجب».
والإمام الكاظم(ع) عندما يوصي هشاماً، وهو من تلاميذه وأصحابه، ومعروف بعلمه ومرتبته العليا من العلم، فإنه يتوجه إليه، ولكن لا على أساس الخصوصية، بل على أساس الخط الذي يريده لكل السائرين في خط أهل البيت(ع) الذي هو الخط الأصيل للإسلام، فيقول له: إياك والتكبر، وإياك والاستطالة بعلمك، بأن تعتبر نفسك أعلى منهم، (فيمقتك اللّه)، وإذا مقتك الله (فلا تنفعك بعد مقته دنياك ولا آخرتك)، لأن اللّه سبحانه وتعالى يمقت المتكبرين ويبغضهم، بحيث لا يبقى هناك قيمة لما يحصل عليه الإنسان في دنياه وحتى ما يحصل له في آخرته، لأنه لا يحصل على آخرة، ولا يحصل على رضا اللّه تعالى في الدنيا ولا في الآخرة. وقد ورد في بعض الأحاديث: «ماذا وجد من فقدك، وماذا فقد من وجدك»([169]).
«وكن في الدّنيا كساكن دار ليست له، إنّما ينتظر الرحيل»؛ فكيف أنك تسكن الدار المعارة لك، أو المسـتأجرة لك، وأنت تعرف بأنك ستفارقها إن عاجلاً أو آجلاً، فتصور الدنيا كذلك.
مجالسة أهل الدين شرف:
«يا هشام، مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة»؛ لأنّ أهل الدين هم الذين يملكون الالتزام الديني، ومعاشرتهم تجعل الإنسان يحصل على النتائج الكبرى من الناحية العلمية، والنتائج الإيجابية من ناحية القدوة، باعتبارهم يمثلون القدوة في الالتزام الديني. «ومشاورة العاقل الناصح»؛ الذي يملك العقل بالمستوى الذي يستطيع أن يعطي الرأي الصحيح ويملك النصيحة التي تنفتح على ما يصلح الناس وما يقودهم إلى الخير، «يمنٌ وبركة ورشد وتوفيق من اللّه؛ فإذا أشار عليك العاقل الناصح، فإياك والخلاف فإنّ في ذلك الغضب»([170])، لأنك إذا خالفته فإنك تخالف ما فيه صلاح لك، في الدنيا وفي الآخرة. وللحديث بقية إن شاء اللّه تعالى.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثالثة عشرة: 7 ربيع الثاني 1426 ه - 14/5/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم
المنهج الإسلامي في معالجة الطمع
هذه الوصية التي توجّه الإنسان إلى خطورة الطمع المستغرق بما في أيدي الناس، تريد له أن يجاهد نفسه في مواجهة السلبيات المترتبة عليه، باعتباره مفتاح الذل، واختلاس العقل، وأخلاق (إتلاف) المروءات.
الاستغراق في الدنيا.
التفكير الغرائزي.
ظاهرة الطمع الإنساني.
الكمال النفسي.
الطمع مفتاح السيئات.
رغبـة الـذل.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
في ضوء رسالة الإمام الكاظم(ع) إلى هشام بن الحكم، أحد أبرز أصحابه، واصل سماحة آية اللّه العظمى السيد محمد حسين فضل اللّه(دام ظلّه) حديثه عن الدور التأسيسي للأئمة(ع) في إرساء المنهج التربوي، فكان هذا الحديث...
الاستغراق في الدنيا:
ونبقى مع الوصية الذهبية في عطائها العقلي والروحي والأخلاقي والعملي، إذ يقول الإمام(ع): «يا هشام: من أحب الدنيا ذهب خوف الآخرة من قلبه»، لأن من استغرق في الدنيا بكل مجامع قلبه مشدوداً إلى شهواتها، فمن الطبيعي أن ينسى الآخرة، فينأى عن الاستعداد لها، والخوف من مصيره فيها. وهكذا نعرف أن الذي يملك العلم ويزداد حباً للدنيا، لا يملك أن يكون قريباً من الله وأن يحصل على محبته، لأن العلم يفرض على العالم النظر إلى الدنيا نظرة واقعية، بحيث يقوم بمسؤولياته بالشكل الذي تكون فيه الدنيا مزرعةً للآخرة، كما جاء في قوله تعالى: )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ((القصص:77).
التفكير الغرائزي:
«يا هشام: إن العاقل اللبيب من ترك ما لا طاقة له، وأكثر الصواب في خلاف الهوى، ومن طال أمله ساء عمله»، لأن العقل يقود الإنسان إلى التفكير بسلامة المصير، فيتحرك في مشاريع الحياة بما يملك القدرة عليه، فلا يلجأ إلى ما لا طاقة له، لأنه سيسقط في الفراغ ويبذل جهداً ضائعاً قد يحطّم له قدرته الطبيعية. أما مسألة ارتباط الهوى بالخطأ الذي يجعل الصواب في مخالفته، فلأن الهوى لا ينطلق من حسابات فكرية للنوازع النفسية والرغبات الذاتية، بل ينطلق من المشاعر والأحاسيس السطحية التي ترتبط بالغرائز المنحطّة غالباً. أما انفتاح طول الأمل على إساءة العمل، فلأن ذلك يجعل الإنسان بعيداً عن دراسة الواقع المعاش في سلبياته، بل يمتد في الزمن ليخطىء اليوم على حساب إصلاح العمل في المستقبل، ولا سيما إذا كان الخطأ مرتبطاً بالمستقبل في قضية المصير الأبدي في الآخرة، في علاقة الإنسان بالله بشكل سلبي، مما يمثل الخسران المبين.
ولذلك فإن الفقرة التالية هي: «لو رأيت مسير الأجل لألهاك عن الأمل»، لأنّ محدودية عمر الإنسان في ما يعرفه من سنّة الحياة، وما يشاهده من الناس الذين ماتوا قبله ومعه، تؤدي به إلى أن يعيش واقعية الأمل بطريقة عقلانية، بحيث يحسب حساب الزمن في عمره على أساس الانتظار في كل لحظة لأجله، ولكن من دون أن يشل حياته بالمطلق، ليخطط لكل مسؤوليته بشكل متوازن مدروس.
ظاهرة الطمع الإنساني:
«يا هشام: إياك والطمع، وعليك باليأس مما في أيدي الناس، وأمت الطمع من المخلوقين، فإن الطمع مفتاح الذل، واختلاس العقل». الاختلاس هو الاختطاف بسرعة على غفلة، بخلاف الاستلاب الذي لا يُشترط فيه الغفلة، «وإخلاق المروءات، وتدنيس العِرض، والذهاب بالعلم، وعليك بالاعتصام بربك، والتوكل عليه، وجاهد نفسك لتردها عن هواها، فإنه واجب عليك كجهاد عدوك. قال هشام: فأي الأعداء أوجبهم مجاهدةً؟ قال: أقربهم إليك، وأعداهم لك، وأضرّهم بك، وأعظمهم لك عداوةً، وأخفاهم لك شخصاً مع دنوّه منك، ومن يحرّض أعداءك عليك، وهو إبليس الموكل بوسواس القلوب، فله فلتشدّ عداوتك، ولا يكوننّ أصبر على مجاهدتك لهلكتك منك على صبرك لمجاهدته، فإنه أضعف منك ركناً في قوّته، وأقل منك ضرراً في كثرة شرّه، إذا أنت اعتصمت بالله، فقد هُديتَ إلى صراط مستقيم»([171]).
إن هذه الوصية التي توجّه الإنسان إلى خطورة الطمع المستغرق بما في أيدي الناس، بحيث يفقد معه توازنه الإنساني، تريد له أن يجاهد نفسه في مواجهة السلبيات المترتبة عليه، باعتباره مفتاح الذل واختلاس العقل وإخلاق المروءات، أي إسقاطها من ذاتية الإنسان في سلوكه وتفكيره، وتدنيس العرض في إساءة إلى الكرامة بكل أنواعها، وإذهاب العلم الذي يغيب عن وعي الإنسان، فيفقد معناه ومضمونه ونتائجه في الاستفادة من مفرداته... وذلك باليأس ممّا في أيدي الناس، والأخذ بأسباب القوة، بالاعتصام بالله والتوكل عليه، وجهاد النفس بالانفتاح على عناصرها السلبية التي تسقطه، تماماً كما هو جهاد الأعداء الذي قد يكون أقل خطراً على النفس من عداوة النفس التي تحاربه من داخله.
وتندفع الوصية في هذه المسألة جواباً عن سؤال هشام في تحديد الأعداء الأخطر في دائرة المجاهدة، لتحدد للإنسان الأقرب والأعدى والأضر والأعظم عداوةً، والأخفى في الزوايا الخفية بالرغم من قربه إليه ، ودنوهم منه، وهو الشيطان الذي لابد من دراسة حبائله في الإضلال والإغواء، وبأن عليه الصبر على مواجهة ذلك منه، وأن يكون أصبر على هذه المواجهة أكثر من صبره على مواصلة هجومه عليه، ويبقى الاعتصام بالله قبل كل شيء وبعد كل شيء، فإنه هو الذي يقود إلى الصراط المستقيم.
الكمال النفسي:
ولا بد لنا من متابعة النصوص الواردة عن النبي(ص) وعن الأئمة من أهل البيت(ع) في الحديث عن الطمع وآثاره السيئة ونتائجه المدمرة، لوضع النقاط على الحروف، ولمزيد من الوضوح الذي يحدد الأمور بكل صراحة.
فعن رسول الله(ص): «بئس العبد عبد له طمع يقوده إلى طَبَع»([172])، ويقول(ص): «استعيذوا بالله من طمع يهدي إلى طمع، ومن طمع يهدي إلى غير مطمع، ومن طمع حيث لا مطمع»([173]).
وعن رسول الله(ص) أيضاً: «الطمع يُذهب الحكمة من قلوب العلماء»([174]).
إن هذه الكلمات تؤكّد تأصيل شخصية الإنسان في حسابات القيم الإنسانية الأخلاقية والروحية في الخطّة الإسلامية، في إيصاله إلى مستوى الكمال النفسي والحركي، في اتّزان الفكر والسلوك، وفي نظرته إلى موقعه في الحياة بما يتصل بذاته وبالآخرين، مما قد يسيء إلى مصداقيته في حساب المسؤولية.
ففي الكلمة الأولى، تنفتح الفكرة على الحكم السلبي على الشخص الذي يستولي عليه الطمع، فلا يكتفي بما يملكه من طاقته، وما يمكن له القيام به في ترتيب شؤونه وتلبية حاجاته وتطوير إمكاناته إلى المستوى الذي يستطيع معه الاعتماد على نفسه والاتكال عليها في ذاتياته وفي التعاون مع الآخرين، من موقع التكامل معهم لا الانسحاق أمامهم، بلحاظ ما لديهم مما قد يطمع فيه على حساب كرامته الإنسانية، ما يثير في نفسه العقدة الخانقة التي تترك تأثيراتها السلبية على وجوده العقلي والعملي، وربما كان هذا هو المقصود من كلمة (طَبَع)، حيث يتحول الطمع إلى حالة نفسيةٍ معقدةٍ في مستوى الأزمة الداخلية.
وهذا هو ما تشير إليه الكلمة الثانية التي تدخل في نتائج التطور الذي يجر إليه الطمع، فيتحوّل إلى عقدة داخلية، ثم إلى ما يقوده إلى ما لا واقع له، مما لا مطمع في خصائصه بما يأمله في حاجاته، وبالتالي إلى الفراغ في ما يريده في حركته نحو هذا الشيء حيث لا مطمع.
أما الكلمة الثالثة ـ وهي الأخطر ـ فتشير إلى تأثير الطمع على التوازن الفكري في سلوك الإنسان مع نفسه ومع الآخرين، بعيداً عن الحكمة في استقامة الفكر، وتقويم الواقع، وتأكيد التطلعات، وتخطيط الحاجات الخاصة والعامة، بما تمثله الحكمة من معنى وضع الشيء في موضعه على جميع المستويات. وإذا كان الله سبحانه يقول في كتابه المجيد: )وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا((البقرة:269)، فإننا نستوحي من ذلك أن من يفقد الحكمة يفقد خيراً كثيراً، وينال شراً كبيراً في تأثير ذلك على حالة التوازن الفكري والعملي. ولذلك، فإن من يؤتى الحكمة، يُسعد إنسانية الإنسان في وجوده الفاعل في مسؤوليته، في إدارة شؤونه الخاصّة والعامّة، الأمر الذي لا ينحصر في حركة السلوك، بل في حركة التفكير والتخطيط من أجل الاستقامة في الحياة.
أما كيف تذهب الحكمة من قلوب العلماء بسبب الطمع، فلأن مهمة العلماء هي أن يحرّكوا علومهم في تهذيب النفس وإيصالها إلى درجة الكمال الروحي والأخلاقي والعملي، من أجل تأصيل عناصر المسؤولية، في وجودها العام، فإذا استسلموا لأطماعهم، سقطوا في وهدة الوحول الغرائزية التي لا توحي إلا بالشهوات الصغيرة التي قد تحرق الواقع، وتغلب العقل، وتصادر التوازن الذي تمثله الحكمة المنفتحة على الصواب والسداد، ما يفرض على العلماء الذين يمثلون القيادة الفكرية، أن يرتفعوا من أطماعهم الذاتية إلى الاقتراب من رسالتهم الروحية والعلمية، لتكون قيادتهم في مصلحة الإنسان والحياة، لا في مصلحة الذات في عناصرها الضيّقة.
الطمع مفتاح السيئات:
وفي كلمةٍ أخرى مروية عن رسول الله(ص) يقول فيها: «إياك واستشعار الطمع، فإنه يشوب القلب شدة الحرص، ويختم على القلوب بطبائع حب الدنيا، وهو مفتاح كل سيئة، ورأس كل خطيئة، وسبب إحباط كل حسنة». فالحرص الذي يطبق على القلب الذي أراده الله موقعاً للقيمة، يؤدي إلى الاستغراق في حب الدنيا في صغائرها الشهوانية، وفي زواياها الضيقة، ويدفع ـ بالتالي ـ إلى الانفتاح على كل سيئة وكل خطيئة وإحباط كل حسنة، لأن الإنسان إذا ابتعد عن القيم الروحية المرتبطة بالله في حساب العبودية في خط المسؤولية، فإنه يصبح خاضعاً لكل الأمور السيئة التي تبتعد بالإنسان عن الله وتوقعه في حبائل الشيطان.
ونلتقي بالإمام علي(ع) في كلمته: «أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع»([175]) وقوله: «عند غرور الأطماع والآمال، تنخدع عقول الجهّال، وتُختبر ألباب الرجال». وقوله: «ضياع العقول في طلب الفضول». وهذا ما يلتقي بالكلمة المرويّة عن الرسول(ص) في إذهاب الطمع للحكمة، باعتبار أن العقل هو الذي يوحي بالحكمة في تمييزه بين الحسن والقبح في الأشياء كلها، فإذا فقد الإنسان عقله تحت إغراءات الطمع التي لا ترتكز على أساس ثابت، يجتذب البرق اللامع من غريزته، وهذا ما يؤدي إلى العواقب الوخيمة.
وفي بعض كلماته، يربط الإمام علي(ع) بين العبودية والطمع، فيقول(ع): «من أراد أن يعيش حُرّاً أيام حياته، لا يُسكن الطمع قلبه» وقوله: «الطمع رقٌّ مؤبّد»([176]) وقوله: «عبد المطامع مسترقٌّ لا يجد أبداً العتق». ونستوحي من ذلك، أن الإنسان يعيش الحرية إذا كان قراره نابعاً من إرادته الحرة بأنه يريد أو لا يريد، فإذا كان مشدوداً إلى أطماعه وتطلعه إلى ما في أيدي الآخرين، فإنه لا يملك إلا الخضوع لأطماعه وللناس الذين يملكونها، ولا يستطيع الوقوف مع التزاماته في مبادئه القيمة في ما يلتزمه من دين، أو ما يعيشه من أصالة إنسانية، وبذلك يتحول إلى رقٍّ لهذا الأطماع.
وفي كلمة أخرى له يربط بين الطمع والذلّ، يقول(ع): «ثمِرة الطمع ذلّ الدنيا وشقاء الآخرة»، ويقول: «الطامع في وثاق الذل»، وأيضاً: «من لم ينـزه نفسه عن دناءة المطامع فقد أذلّ نفسه»، وهو في الآخرة أذل وأخزى، ولعلّ هذا الذل الدنيوي والأخروي ينطلق من خضوع الإنسان المطلق لمن يملك موارد الطمع المادية، بحيث يتقبّل كل ما يريده منه حتى على مستوى الأمور التي تؤدي إلى معصية الله والابتعاد عن الصراط المستقيم الذي أراد للناس أن يسلكوه.
رغبـة الـذل:
وقد أكدت الرواية الواردة عن الإمام الحسن العسكري(ع) في قوله المروي عنه: «ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذلّه»([177])، الأمر الذي يوحي أن على الإنسان أن يدرس رغباته بما يؤصل إنسانيته، ويحفظ التزاماته، ويحقق له النتائج الإيجابية في مصيره في الدنيا والآخرة.
ومن الواضح ارتباط الورع بترك الطمع، لأنه يفرض على الإنسان الالتزام بأوامر الله ونواهيه، بعيداً عن رغباته الذاتية النابعة من حالته الغرائزية المنفتحة على الشهوات غير النظيفة، وهذا لا يلتقي بالطمع الذي يطلق العنان للإنسان ليرتكب كل المحرمات ويترك كل الواجبات.
ويبقى هناك طمع ممدوح إيجابي، وهو الطمع بالله الذي أشارت إليه الآية الكريمة: )تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ((السجدة:16)، وقوله تعالى: )وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ((المائدة:84)، وهذا ما ورد في دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع): «إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت، وإذا رأيت عفوك طمعت»، وقوله: «فإنما أسألك لقديم الرجاء فيك، وعظيم الطمع منك، الذي أوجبته على نفسك من الرأفة والرحمة»([178]).
إنّ مثل هذا الطمع هو الذي تؤكِّده عقيدة التوحيد في إرجاع كل الأمور إلى الله، وفي طلب العفو منه، لأنه إله العفو والرحمة واللطف والعناية والرعاية، وهذا ما ينبغي للتربية الإسلامية الإيمانية أن تخطط له، لأنه هو الذي يحرر الإنسان من أطماعه التي قد تؤدي إلى لون من ألوان الشرك الخطر الذي يجعله يتجه بحاجاته إلى الناس لا إلى الله. والحمد للّه ربِّ العالمين.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الرابعة عشرة: 14ربيع الثاني 1426 ه - 21/5/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم
جنودُ العقل
دور العقل هو أنه يفتح الإنسان على كل خطوط المعرفة، سواء كانت المعرفة تأملية أو تجريبية، لأن العقل هو الذي يوازن ذلك كله، وهو الذي يميز للإنسان الحسن من القبيح.
الكرامة الإلهية.
ساحة المسؤولية.
أصناف الناس.
جنود العقل.
ظلمـة الجهـل.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الكرامة الإلهية:
ونبقى مع وصية الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، والمروية عنه لتلميذه هشام بن الحكم: «يا هشام، من أكرمه الله بثلاث: فقه لطفٌ له، عقلٌ يكفيه مؤونة جهله، وغنىً يكفيه مخافة الفقر» ـ هذه الخصال الثلاث تمثل كرامة الله للإنسان، لأنها بحسب مضمونها الفكري والعملي، ترفع مستوى الإنسان، وتجعله في موقع الإنسانية الواعية المتحركة.
في البداية، الفقه المنفتح على اللطف، وكلمة الفقه يراد بها الفهم، الوعي، المعرفة التي تجعل الإنسان يعيش اللطف في إحساسه وفي إدراكه وانفتاحه على الحياة في كل عناصرها الحية، فالإنسان الذي يرزقه الله هذا الفهم هو الإنسان الواعي، وكلما كان الإنسان واعياً لما حوله ولمن حوله ولما يقبل عليه ولما يتحرك به، فإنه سوف يأخذ بالسداد في كل نتائجه وأحكامه وما إلى ذلك.
«عقلٌ يكفيه مؤونة جهله» أن يرزق الله الإنسان عقلاً يستطيع أن يفجر طاقاته في ما ينتجه من علم يضيء له حقائق الأشياء، ويبتعد به عن الجهل الذي يغرقه في الظلمات، ودور العقل هو أنه يفتح الإنسان على كل خطوط المعرفة، سواء كانت المعرفة تأملية أو تجريبية، لأن العقل هو الذي يوازن ذلك كله، وهو الذي يميز للإنسان الحسن من القبيح. «وغنىً يكفيه مخافة الفقر»، باعتبار أن الفقر يمثل مشكلة حيوية للإنسان، قد تذله، وقد تسقطه، وقد تخلق له الكثير من المشاكل، فإذا أكرمه الله بالغنى الذي يكفّ به ماء وجهه عن الناس لأنه يملك كل حاجاته، فإن من الطبيعي أن يحل ذلك له مشاكله بقدر ما تتعلق المسألة بالفقر أو الغنى.
ساحة المسؤولية:
«يا هشام، احذر هذه الدنيا واحذر أهلها»؛ احذر هذه الدنيا، لا تستغرق فيها، لا تدعها تجذبك إليها انجذاباً أعمى، لا تستسلم لها في كلِّ ما تثيره في نفسك من السقوط أمام شهواتها وإغراءاتها، لأن الإنسان العاقل يخطط في الدنيا لإنسانيته، ليفهم الدنيا على أنها ساحة المسؤولية وليست ساحة الانفلات والسقوط في الشهوات. لذلك فإن على الإنسان أن يحذر من الدنيا. والحذر من الدنيا ليس معناه أن ترفض الدنيا وأن تتركها وأن تهملها، لأنك موجود فيها، ولأنّها تمثِّل تجربتك التي أراد الله لك أن تمارسها في كل ما يلحظ حياتك، وفي كل ما يؤكد خط الاستقامة عندك. إحذرها، والحذر هو أن تنظر إلى سلبياتها، وعندما تريد أن تنفتح على إيجابياتها، لا تعتبر الدنيا إيجاباً كلها في ما توحي إليك به، ولا تعتبرها سلباً كلها في ما تريد أن تهملها وتخرجها من حسابك.
«واحذر أهلها»، لأن أهل الدنيا الذين ينتسبون إليها، ويخضعون لها، ويسقطون تحت إغراءاتها وشهواتها، هم ليسوا فريقاً واحداً، فالناس الذين يمكن لك أن تثق بهم بشكل مطلق ليسوا سواء، بل لا بد لك من أن تدرسهم؛ أن تدرسهم في ملكاتهم الأخلاقية وملكاتهم الروحية وسلوكياتهم السلبية أو الإيجابية. لا بد أن تدرس الناس الذين يعيشون في الدنيا؛ هل هم متأثرون سلبياً بما فيها، أو أنهم متأثرون إيجابياً؟ كيف هم؟! تعامل معهم على أساس الحذر من نقاط الضعف لحساب نقاط القوة.
أصناف الناس:
«فإن الناس فيها على أربعة أصناف: رجل متردٍ معانق لهواه». هناك قسم من الرجال وحتى من النساء سقط في التجربة، في التجربة الأخلاقية والتجربة العقلية والتجربة الروحية، لأنّه اتبع هواه الذي ليس له قاعدة يمكن أن يرتكز عليها. فالإنسان في أساس إنسانيته، ليس له قاعدة في هذا المجال، ولذلك، فهذا الإنسان يتحرك على طريقة ما يقوله الشاعر: إذا الريح مالت مال حيث تميل. ليس له قاعدة ثابتة يقف عليها ليركز خطّه، وليحدد طريقة، وليأخذ المناعة في نفسه ضد السقوط وضد الانحراف.
«رجلٌ متردٍ ـ ساقط تردّى في وحول هواه، ومعانق هواه، ومتعلّم متقرىء» يعني شخص متعلم يملك ثقافة، ولكنّه لا يملك أخلاق القرآن، ولا يملك روحية ما قرأه من العلم «كلما ازداد علماً ازداد كبراً» كلما ازداد علماً تنتفخ شخصيته، فهو يفكر بضخامتها أكثر مما عليه الناس في أحجامهم الشخصية، ويرى نفسه أنّه الأعلم والأفضل والأوعى، كما تجد ذلك في بعض الناس، «يستعلن بقراءته وعلمه» يعني يستعلي بقراءته «على من هو دونه» من الناس الأقل منه علماً والأقل منه قراءةً. فهذا عليك أن تحذره، لأنه إنسان لا يملك الاستقامة ولا يملك التوازن، وربما يؤدي بك إذا صحبته إلى أن تصاب بهذا المرض؛ مرض الكبرياء وانتفاخ الشخصية، فتسقط كما سقط.
«وعابد جاهل يستصغر من هو دونه في عبادته»، هذا الشخص الذي يعبد الله ليلاً ونهاراً في صلاته وفي صيامه وما إلى ذلك، ويأخذه العجب في نفسه على كثرة عبادته أو على نوعيّتها، «يحبُّ أن يعظَّم ويوقَّر»، فيقف أمام الناس ليطلب منهم أن يعظموه وأن يوقّروه، كما يعظمون العبَّاد الذين يعبدون الله سبحانه وتعالى، وهذا عليك أن تبتعد عنه، لأن عبادته هي عبادة رياء واستعلاء، وليست عبادة خالصة لله. إنها عبادة في الشكل، ولكنها تمثل وسيلة من وسائل تأكيد ذاته في المجتمع في المضمون.
«وذو بصيرة عالم عارف بطريق الحق»، رجل يملك البصيرة، ويملك العقل، ويملك الوعي والمعرفة، عارف بطريق الحق، يستطيع أن يميِّز بين الحق والباطل «يحب القيام به»، بالحق في كل حركته وكل شعاراته وكل دعوته، «فهو عاجز أو مغلوب»، إنّه يريد أن يعمل للحق ويدعو إليه، ولكن الظروف التي تحاصره وتحيط به تجعله عاجزاً في قدراته ومغلوباً في واقعه الاجتماعي من خلال القوى الغالبة النافذة التي تضغط عليه وتمنعه من القيام بمسؤولياته، «ولا يقدر على القيام بما يعرف، فهو محزون مغموم بذلك» يعني أنّه يعيش الحزن والغمّ في نفسه، كأيِّ إنسان يملك معرفة ولا يستطيع أن يطلقها في عقول الناس، ويملك تجربة ولا يستطيع أن يحركها في واقع الناس «فهو أمثل أهل زمانه وأوجههم عقلاً».
هذا الإنسان هو النموذج، وهو الشخص الذي يمثِّل أوجه الناس عقلاً وأكثرهم موقعاً باعتبار أنه يعيش في نفسه العقل والمعرفة، ويؤمن بالحق ويعمل له في كلِّ مجالاته.
هؤلاء الناس عليك أن تميِّز بينهم، لتعرف ما يملكه كل إنسان من العناصر السلبية كما في الأصناف السابقة، أو العناصر الإيجابية كما في القسم الأخير، وعليك أن تحذر هذه الأصناف بأن تدرسها. وهذه المسألة من المسائل التي أرادها الإسلام لكلّ المسلمين أن يكونوا عارفين بأهل زمانهم. يعني أن تكون لهم دراسة عميقة واسعة في الناس الذين يعيشون في زمانهم، من حيث ما يملكون من علم، وما يملكون من قدرة ومن قيم روحية وأخلاقية، فلا بد للإنسان أن تكون له ثقافة الواقع، بحيث يعيش مع الناس ويفهم كل واحد منهم، ليحدِّد على أساس ذلك علاقته بهم واقتدائه بهم سلباً أو إيجاباً من خلال ذلك كله.
جنود العقل:
«يا هشام، اعرف العقل وجنده والجهل وجنده، تكن من المهتدين»، عليك أن تعرف العقل كطاقة روحية خلقها الله في كيانك لتقوده في خط الفكر المتوازن، وفي خطِّ المعرفة المنفتحة، وفي خط التمييز بين الحسن والقبيح. اعرف العقل جيداً، ادرسه، ادرس ما فيه من نقاط ضعف ونقاط قوة، ادرسه وحاول تنميته بالتفكير، بالقراءة وبالتجربة، ادرسه دراسةً دقيقة، لأنك إذا فهمت عقلك فهمت نفسك وفهمت الواقع من حولك كله، وللعقل جنود يقودهم ويركزهم ويحركهم في الواقع.
«قال هشام: فقلت: لا نعرف إلا ما عرفتنا ـ ما هو العقل؟ من هم جنود العقل؟ ـ فقال الإمام: يا هشام: إن الله خلق العقل وهو أول خلق خلقه الله من الروحانيين»، لأن العقل ليس موجوداً مادياً كالموجودات المادية الأخرى، ولكنه طاقة روحية تنفتح على كل آفاق الروح، بما تمثله الروح من مسألة الفكر ومسألة الوعي ومسألة الانطلاق في رحاب الله وفي رحاب الكون كله، «عن يمين العرش من نوره»، وكلمة (العرش) قد لا يكون المقصود بها الجانب المادي في المكان، بل ربما تكون تعبيراً عن موقع سلطة الله سبحانه وتعالى، والله العالم. فالعقل هو الذي خلقه الله من نوره، ونور الله هو هذه الروح التي لا نستطيع أن نتمثلها تمثلاً مادياً، لأن نور الله يضيء ويشرق في كل ما استمدّه الإنسان منه، وما أفاض به سبحانه وتعالى عليه. وقد لاحظنا كيف أن الله سبحانه وتعالى يتحدث عن الوحي بكل خطوطه بأنه)قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ((المائدة:15)، وتحدث عن أن هذا الكتاب وهذا الوحي، الذي يضيء للناس ظلمات أفكارهم وأرواحهم وحياتهم، يخرج الناس من الظلمات إلى النور. وقد تحدث الله سبحانه وتعالى أيضاً عن هذا الوحي بأنّه روحٌ من أمر الله سبحانه وتعالى «فقال له أدبر فأدبر».
«ثم قال له أقبل فأقبل» فكأن الله سبحانه وتعالى أراد بعد أن خلقه، أن يظهره على أساس ما يختزنه من العناصر في إقباله وإدباره، تدليلاً على عناصر العظمة فيه، وذلك من قبيل أن يقول واحد دعني أرك في إقبالك وإدبارك، لأستجلي عناصر عظمتك وعناصر قوتك. «فقال الله عز وجل: خلقتك خلقاً عظيماً» خاطب العقل، وطبعاً بمعنى الكناية، أو بمعنى النطق مما لا علم لنا به، «وكرَّمتك على جميع خلقي»، فالعقل أكرم من كل الخلق، لأنه هو سر الكرامة في الخلق، وهو سر الوعي للإنسان، وهو سر إنسانية الإنسان، بالعقل يكون الإنسان إنساناً، باعتبار أنه هو الذي يقود الإنسان بكلِّه، في كل خطوطه التي ينطلق بها في الحياة.
ظلمـة الجهـل:
«ثم خلق الجهل من البحر الأجاج» يعني البحر المالح، «الظلماني...» الذي كله ظلمة وليس فيه نور، لأن الجهل ظلمة، فهو لا يوحي للإنسان بأية نقطة نور، بل يجعله يتخبّط في ما يتحرك به الجهل في إيحاءاته وفي خطوطه «ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جنداً» طبعاً هذا كله على نحو الكناية «فلما رأى الجهل ما كرّم الله به العقل وأعطاه، أضمر له العداوة»، لأنه اعتبر أن الله ميز العقل عنه ورفعه وكرّمه بينما أهمل الله سبحانه وتعالى الجهل واحتقره وأسقطه، «قال الجهل: يا ربي هذا خلق مثلي خلقته وكرمته وقويته وأنا ضده» لأنه يمثل النقيض أو الضد بالنسبة إليه، «ولا قوة لي به، أعطني من الجند مثل ما أعطيته»، أنا أريد خمسة وسبعين من الجنود مثل ما للعقل خمسة وسبعون منهم، حتى يكون هناك توازن في الحرب الدائرة بيني وبين العقل، فهو يستعين بجنوده وأنا استعين بجنودي.
«فقال تبارك وتعالى: نعم»، «فإن عصيتني بعد ذلك، أخرجتك وجندك من جواري ورحمتي، فقال: قد رضيت، فأعطاه الله خمسة وسبعين جنداً»([179]). ما هي جنود العقل؟ ما هي جنود الجهل؟ لقد عدد الإمام سلام الله عليه، في ما روي عنه من وصية، عدد الجنود هنا وهناك، وسوف نتابع ذلك كله إن شاء الله في وقت لاحق.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الخامسة عشرة: 21ربيع الثاني 1426 ه - 28/5/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم
قيمة الخير
الخير يمتد في مساحات الدنيا في كل ما ينفع الناس ويرضي الله وفي امتدادات الخير في كل ما يحقق للإنسان الحصول على نعيم الجنة في رضوان الله.
الخير من جنود العقل.
امتدادات الخير.
الحق والخير.
حصاد الخير.
قيمة الخير.
الخير وبناء الشخصية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
عنوان:
نص
الخير من جنود العقل:
لا نزال نتابع شرح وصية الإمام(ع) في حديثه عن العقل وجنوده، واليوم نتناول مفردة الخير في هذه الوصية، ما هو؟ وما هي آفاقه ودوره في الكتاب والسنّة؟
لم يفصِّل اللغويون الحديث كثيراً عن معنى الخير لوضوحه عندهم، حتى إن بعضهم ذكر أن الخير ضد الشرّ ـ كما في الصحاح ـ ويوجد في بعض نسخها: الخير ما يرغب فيه الكل، كالعقل والعدل والفضل والشيء النافع، وضدّه الشر. وجاء في (مفردات الراغب) و(البصائر) لصاحب القاموس، قيل: الخير ضربان: خير مطلق، وهو أن يكون مرغوباً فيه بكلِّ حال وعند كل أحد، كما وصف(ص) به الجنة فقال: «لا خير بخير بعده النار، ولا شرّ بشرّ بعده الجنة»، وخير وشرٌّ مقيّدان، وهو أن يكون خيراً لواحد شرّاً لآخر، كالمال الذي ربما يكون خيراً لزيد وشراً لعمرو، ولذلك وصفه الله تعالى بالأمرين، فقال في موضع: )إِنْ تَرَكَ خَيْرًا((البقرة:180)، وقال في موضع آخر: )أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ((المؤمنون:55-56)، وقوله تعالى: )إِنْ تَرَكَ خَيْرًا( أي مالاً... وقال بعض العلماء: إنما سمي المال هنا خيراً، تنبيهاً على معنى لطيف، وهو أن الذي يحسن الوصية به ما كان مجموعاً من المال من وجهٍ محمود، وعلى هذا قوله تعالى: )وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ((البقرة:273)، وقوله تعالى: )فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا((النور:33)، قيل: عنى به مالاً من جهتهم، وقيل: إن علمتم أن عتقهم يعود عليكم وعليهم بالنفع. وقوله تعالى: )لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ((فصلت:49) أي لا يفتر من طلب المال وما يصلح دنياه، وقال بعض العلماء: لا يقال للمال خير حتى يكون كثيراً ومن مكان طيب، كما روي أن علياً(ع) دخل على مولى له، فقال: «ألا أوصي يا أمير المؤمنين؟ قال لا، لأن الله تعالى قال: )إن ترك خيراً( وليس لك مال كثير». وعلى هذا أيضاً قوله تعالى: )فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًاً(، وقوله تعالى: )إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي((ص:32)، أي آثرت حبّ الخيل عن ذكر ربّي، وإنما نسمّي (الخيل) الخير لما فيها من المنافع. وهذا ما ذكره في تاج العروس.
امتدادات الخير:
ونستوحي من ذلك كله، أن كلمة الخير تتضمّن كل ما يعود نفعه إلى الناس فرداً أو جماعة، بحيث يحقِّق به أهدافه المادية والمعنوية والروحية، بما يرفع مستواه في كدّه الإنساني، وبما يحصل من خلاله على حاجاته، أو يرضي أوضاعه النفسية، أو ينفتح به على تطلعاته في قضايا الإنسان والحياة. إننا في الوقت الذي قد نجد الكلمة تطلق على المال، فإنّ ذلك لا يعني المال من حيث هو حالة مادية على مضمون الثروة، بل من خلال أنه يمثل الطاقة التي يمكن لصاحبها أن يسخّرها في حساب القيمة لإعانة الفئات المحرومة، كالأيتام والمساكين والمعاقين، أو لتأسيس المشاريع الخيرية التربوية والاقتصادية والاجتماعية، ليكون في موقع القيمة الروحية لا في موقع القيمة المادية. وفي ضوء ذلك، فإن الخير يمتد في مساحات الدنيا في كل ما ينفع الناس ويرضي الله وفي امتدادات الخير في كل ما يحقق للإنسان الحصول على نعيم الجنة في رضوان الله.
وهذا ما نلاحظه في الدعوة الإلهية القرآنية في فعل الخير والدعوة إليه، كما في قوله تعالى: )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُم الْمُفْلِحُونَ((آل عمران:104)، وكما في قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ((الحج:77)، فإننا نلاحظ أن في الآيتين تأكيداً على الدعوة إلى الخير الذي قد يختصر الإسلام كله في مفاهيمه الروحية والاجتماعية والعملية، لأن مفردات الإسلام كلها مما ينفع الناس ويرفع مستواهم، وذلك باعتباره مثلاً للحق الذي يبقى ويثبت في حياة الناس كلهم، فإنّ الحق هو اختصار كلمة الدين في عقيدته وشريعته ومفاهيمه.
الحق والخير:
وبذلك، لا بد أن يدخل الخير في مضمون الدعوة التي يراد للناس أن يأخذوا بها من خلال فعل إيمان والتزام، تماماً كما هي الدعوة للأخذ بالحق كله في جانبه العقلي والعملي، ليكون الخير ثقافة الإنسان وسلوكه في أموره كلها. كما لابد أن يدخل في التزام الإنسان كفعل من أفعاله التي يحرك بها كل أوضاعه في حاجاته ومواقفه، في ملاحظة للفقرة «وافعلوا الخير»، حيث جاءت بعد الأمر بالركوع والسجود وعبادة الله، للإيحاء بأن هذا الفعل يمثل قيمة روحية في السياق العام للآية.
ويؤكد الله في حديثه القرآني عن فعل الخير، أنه سوف يشكره ولا يكفره، وذلك قوله تعالى: )وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ((آل عمران:115)، )وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا((النساء:127)، وأنّه سيثيب الذي يمارسه تحت مسمع الله وبصره، وكما جاء في قوله تعالى: )وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ((البقرة:110)، وأن الخير الذي يقدمه الإنسان بين يدي عمله تقرباً إلى الله، فإنه سوف يجده ماثلاً أمامه في نتائجه الأخروية، وذلك قوله تعالى في هذا السياق: )يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا((آل عمران:30)، لأن الله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، بل يحتفظ به عنده ليجده الإنسان أمامه عند حاجته إليه في مصيره الأخروي، وهذا ما يفكر به الإنسان المؤمن في تطلعاته المصيرية عندما يفكر بالدنيا والآخرة، وذلك هو قوله تعالى: )وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ((الأعراف:169)، والخير أيضاً هو ما يرجع إلى الإنسان نفسه، حتى لو كان الإنفاق للآخرين: )وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ((البقرة:272)، هذا ما جاء في كتاب الله سبحانه.
حصاد الخير:
أما في السنّة الشريفة، فقد جاء في الحديث عن رسول الله(ص) في نتائج فعل الخير قال: «من يزرع خيراً يوشك أن يحصد خيراً»، لأن الحصاد الإنساني في عمله لابد أن يكون نتيجة مماثلة لطبيعة الزرع، فإذا كان الخير هو ما زرعه المؤمن، فمن الطبيعي إذا سلم الزرع أن يكون الحصاد خيراً. ويؤكد الحديث الآخر على ربط الخير بالعقل، قال: «إنما يدرك الخير كله بالعقل، ولا دين لمن لا عقل له»([180])، لأن العقل هو الذي يدرك حسن الأشياء وقبحها، ونتائجها الضارّة والنافعة على صعيد العناصر المادية أو المعنوية، ومن العقل أن يدرك الخير باعتباره القيمة الإنسانية المتوازنة المنتجة لما ينفع الناس ويمكث في الأرض، ليمنحها الكثير من الرضا، ولينتج فيها كل الينابيع التي تتحول إلى ريٍّ للظماء وخصب الغذاء.
وفي حديث له(ص): «من أعطي أربع خصال الدنيا فقد أعطي خير الدنيا والآخرة وفاز بحظه منهما: ورع يعصمه عن محارم الله»، يحقق له المصالح التي تبني له حياته في الدنيا كما تفتح له أبواب الرضوان الإلهي من خلال ابتعاده بذلك عما يغضب الله، «وحسن خلق يعيش به في الناس»، فذلك يجعله الإنسان الذي يتحمل مسؤولية الحياة الاجتماعية في توازناته الأخلاقية التي تدرس أفكار الناس ومشاعرهم وأحاسيسهم وقضاياهم، فيداري ذلك كله بالحكمة التي تضع الأشياء في مواضعها، وتسير بها في مسارها الطبيعي، وبذلك يحسن إليهم في معاشرته وتعامله معهم، ليحقق للمجتمع منافعه وسلامته، «وحلم يدفع به جهل الجاهل»، بما يمثِّله الحلم من سعة الصدر والأفق، فيمتصُّ به السلبيات الموجهة إليه من قبل الجاهل، فلا يضجره غضبٌ منه، بل يتعامل معه على أساس مراعاة عناصر جهله في انحرافه عن التوازن في حياته مع الناس، فقد يصلح أمره، وذلك بالطريقة السلمية التي تحل الأمور بالطريقة القويمة، «وزوجة صالحة تعينه على أمر الدنيا والآخرة»([181])، فإنها تمثل الرفيق الأمين لحياته، بحيث تتعاون معه على دراسة الأمور الداخلية والخارجية في الشؤون الذاتية والعائلية، وفي ذلك كله من خلال هذه الخصال، خير الدنيا والآخرة.
قيمة الخير:
وفي حديث الإمام علي(ع) في الدعوة إلى المبادرة لأعمال الخير، قال: «عليكم بأعمال الخير فتبادروها، ولا يكن غيركم أحق بها منكم»، لأنها هي التي تمثل القاعدة الإسلامية للمسلمين على جميع المستويات في عناصر القيمة الروحية والأخلاقية، لبناء الحياة على أسس سليمة، الأمر الذي يفرض على الناس المبادرة إليها، ليكونوا السبّاقين إلى القيام بها قبل أن يسبق الآخرون إليها، كأية حركة في اتجاه تأكيد القيمة في الذات وفي الحياة.
وفي حديث الإمام علي(ع) أيضاً: «جمع الخير كله في ثلاث خصال: النظر والسكوت والكلام، فكل نظر ليس فيه اعتبار فهو سهو»، لأن النظر في دوره، هو أن يستوحي من كل ما يراه وما يفكر فيه فكرة جديدة، وإلا كان نظراً ساذجاً على سبيل اللامبالاة، كما لو كان في حالة سهو وغياب عن الواقع، «وكل سكوت ليس فيه فكرة فهو غفلة»، لأن الصمت لا يمثل حالة سكوت عن النطق بشكل بارد، بل هو مناسبة لإعطاء الإنسان نفسه فرصة من الهدوء النفسي، بالابتعاد عن الضجيج الذي يعطل التفكير، لينتج الفكرة الصالحة التي يستطيع من خلالها أن يحقق للحياة من حوله فكرة الخير، فإذا ابتعد عن ذلك، فإنه يمارس حالة من الغفلة المطبقة التي تطبق على عقله وتمنعه من الإنتاج الفكري. «وكل كلام ليس فيه ذكر فهو لغط»، لأنه يتحول إلى لغوٍ من القول الذي لا يفيد أحداً، ولا يدفع ضرراً عن أحد. وهكذا أكّد الإمام النتيجة الإيجابية للجانب الآخر: «فطوبى لمن كان نظره عِبَراً، وسكوته فكراً، وكلامه ذكراً، وبكى على خطيئته، وأمن الناس شرّه»([182])، وهذا هو خير الدنيا والآخرة...
وعن الإمام محمد الباقر(ع): «أوصى الله إلى آدم: يا آدم، إني أجمع لك الخير كله في أربع كلمات، واحدة منهنّ لي، وواحدة لك، وواحدة فيما بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين الناس... أما التي لي، فتعبدني ولا تشرك بي شيئاً» وهذا هو سرّ التوحيد الذي يقوم على أساس العقيدة والربوبية المطلقة، والعبودية الإنسانية المطلقة التي تجعل الإنسان ينفتح على الله في العقيدة والطاعة والعبادة، فلا يرى غيره، ولا يخضع لغيره، ولا يستعين بسواه، وهي الخير كله، الذي يجمع للإنسان السرّ والحركة والحياة كلها بين يدي الله، «وأما التي لك، فأجزيك بعملك أحوج ما تكون إليه»، فإن الله لا يضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى، «وأما التي بيني وبينك، فعليك الدعاء وعليّ الإجابة»، )وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ((غافر:60)، )فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ((البقرة:186)، «وأما التي بينك وبين الناس، فترضى للناس ما ترضى لنفسك»([183]) وقد جاء في الحديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لها»، و«عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به»، وهذا هو الخير الشامل الذي يحيط بالإنسان من جميع جوانبه.
الخير وبناء الشخصية:
وجاء عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع): «رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عما في أيدي الناس»، لأن ذلك يجمع ثقة الإنسان بنفسه، في الأخذ بأسباب العزة النفسية التي تمنعه من إذلال نفسه، الذي يوحي به الطمع والسقوط تحت تأثير الحاجة إلى الآخرين، كما يجمع الثقة بالله الذي يرزق من يشاء، ويهيىء للإنسان الرزق، ويجعل له من أمره فرجاً ومخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب. وفي ضوء ذلك، يمتدُّ به الأمر إلى الاعتماد على تفجير طاقاته في حاجاته وشؤونه، فيكون الإنسان المنتج الذي يحقق الكثير لنفسه وللناس من جهده الذاتي.
وفي كلمة للإمام علي(ع) يحدد فيها الخير خلافاً لمن يظنُّ الخير في دائرة أخرى: «ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك، ويعظم حلمك، وأن تباهي الناس بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت استغفرت الله»([184]). إن المال والبنين قد يكونان من مظاهر الخير المادي للإنسان عند الناس، لأنهم ينظرون إلى النتائج الإيجابية التي تحصل لديه في انتفاعه بماله وولده على صعيد القوة والمنعة والحماية والسيطرة الفاعلة، ولكنها سرعان ما تفقد معناها عندما تصطدم ببعض الأمور على مستوى القيم الإنسانية، ولاسيّما عندما نضع الآخرة في الحساب، فنقرأ قوله تعالى: )الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً((الكهف:49).
وفي ضوء هذا، فإن البقاء هو للقيمة التي تمثِّل الإنسان من الداخل في عناصره الذاتية، فالعلم والحلم وعبادة الله، هي العناصر التي تدخل في تكوينه الذاتي، فالعلم هو الإنسان، لأنه ثمر مخزونه العقلي والعلمي، وهكذا الحلم الذي يمثل الخُلُق المنفتح على سعة الصدر، بما يمثله من التسامح والعفو وسعة الأفق، فهو المثل لخلق الإنسان، وهو جزء من ذاته، وهكذا الأمر بالنسبة إلى العبادة التي هي غاية الخضوع لله، ومظهر العبودية له أمام الربوبية المطلقة. وبذلك تكون هذه الأمور هي خير الإنسان.
أما المال، فهو عنصر لا علاقة له بالإنسان الذات، بل هو أمر خارجي قد يستخدمه في حاجاته ومنافعه وينفتح به على مسؤولياته. وهكذا بالنسبة إلى أولاده، فإنهم جزء منه ومنسوبون إليه، ولكنّهم ليسوا هو. ولذلك فإن عنوان الخير الذي يصدق عليهم لا يمثله في نفسه، بل هو خارج الذات. وفي ضوء ذلك، لابد أن يواجه الإنسان في ذلك حالة الإحسان بالحمد والشكر، وحالة الإساءة بالاستغفار.
وخلاصة الفكرة، أن الخير الذي هو أحد جنود العقل الذي دعا القرآن إليه، وأكّدته السنّة، هو مفهوم يتسع لحياة الإنسان كلها في قوله وفعله وموقفه وعلاقاته، ولذلك عليه أن يأخذ به ليحصل على نتائجه الحسنة الإيجابية. ونختم الحديث بكلمة للإمام الحسن بن علي(ع): «الخير الذي لا شرّ فيه، الشكر مع النّعمة، والصبر على النازلة»([185])، فإنهما القيمتان الكبيرتان اللتان ينال الإنسان بهما رضا الله، ورضوان من الله أكبر، والله الموفِّق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة السادسة عشرة: 28 ربيع الثاني 1426 ه - 4/6/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم
جنودُ الجهل: (الشرّ)
الجهل في كلِّ مفاعيله، يدفع الإنسان إلى أن ينحرف عن الخط الذي يرتفع به إلى الدرجات العليا من القيم الروحية والأخلاقية.
جنود الجهل.
معنى الشرّ.
الأدب في الثناء على الله.
مصادر الشر.
معيار الشرّ.
البخل شرّ.
دعاء الشرّ.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
عنوان:
نص
في وصيّته لهشام بن الحكم، يتحدث الإمام الكاظم(ع) حديثه عن جنود العقل وجنود الجهل. وقد تحدّثنا في ما سبق عن الخير، باعتبار كونه من جنود العقل. وفيما يلي، نتناول الحديث عن الشرّ، باعتباره من جنود الجهل.
جنود الجهل:
يقول الإمام(ع) في وصيّته لهشام بن الحكم، وهو يخبره عن جنود العقل وجنود الجهل: «فكان ممّا أعطى العقل من الخمسة والسبعين من الجند: الخير، وهو وزير العقل» وقد تحدثنا عنه في المرّة السابقة، «وجعل ضدّه الشر وهو وزير الجهل»، وذلك لأنّ الجهل في كلِّ مفاعيله، يدفع الإنسان إلى أن ينحرف عن الخط الذي يرتفع به إلى الدرجات العليا من القيم الروحية والأخلاقية، هذه القيم التي تختصرها القيمة الإنسانية، من حيث يريد الله للإنسان أن يعيش إنسانيته في ذاته، بكل ما تمثله الإنسانية من المعاني الحية الخيرة، وأن يعيش إنسانيته في إنسانية الناس، بمقدار ما ينفتح على مسؤوليته عن الناس بما ينفعهم. وقد أكّد الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز الفرق بين الحق والباطل، اللذين يمثّلان الخير والشرّ في نتائجهما الفكريّة والعمليّة، فقال تعالى: )فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً((الرعد:17)، أيّ يتبخَّر ولا يستقر في عمق الإنسان، )وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ( باعتبار أنه يتعمق ويتجذّر في الأرض، من حيث أنّه يدخل في صلب حاجاتهم، وفي تطلعاتهم، وفي كل ما يمكن أن يرفع مستواهم.
معنى الشرّ:
ولا بأس، في البداية، من أن نستنطق كلمات اللغويين في تفسيرهم للشر. فقد ورد في كتاب تاج العروس في شرح القاموس يقول: «الشر نقيض الخير». فكل ما في الخير من ايجابيات، فإن الشرّ يمثّل النقيض له، باعتبار أنه يختزن كل السلبيات. «وفي اللسان» ـ يعني في لسان العرب ـ «الشر السوء»، وهو كل سوء يتصل بالإنسان، سواء منه ما يسيء إلى حياته، أو ما يسيء إلى مصيره في الدنيا والآخرة، أو ما يسيء إلى الحياة كلها، وسواء تعلّق ذلك بالأحياء من الحيوان والإنسان والنبات، أو بغير الأحياء مما يحتويه الكون. وبعبارة أخرى، هو كل ما يندفع فيه الإنسان لينتج الخلل في النظام الذي يحكم الحياة بعيداً عمّا أراده الله له من التوازن. (وزاد في المصباح ـ بالإضافة إلى السوء ـ قال والفساد والظلم).
وقد تحدث الله سبحانه وتعالى عن دور الإنسان في تحريك الفساد في الحياة والكون، فقال في كتابه الكريم: )ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ((الروم:41)، إنه يتحدث عن الفساد الإنساني نتيجة ما يقوم به الإنسان من أعمال، فيحصل الخلل في توازن حياة الإنسان، في كل حاجاته وقضاياه وأموره؛ لأن كل إنسان يحصد ما يزرع، ويذوق ما يطعم. ولذلك فإن إنتاج الفساد من قبل الناس، يؤدي بهم إلى أن يتذوقوا نتائجه السلبية، من آلام وأحزان وبلاء، لعلّهم ـ إذا ذاقوه وتحمّلوه ـ يرجعون إلى رشدهم وصلاحهم؛ لأنهم يرون نتيجة أعمالهم سلبيةً في مصيرهم. أمّا الظلم فيمثل المظهر الوحشي للفساد؛ لأنه ينتج الإساءة إلى إنسانية الإنسان في حقوقه وفي كل أوضاعه.
ثم ذكر حديث الدعاء: «والخير كله بيديك والشر ليس إليك»، ونسبة الخير إلى الله من حيث إنّ الخير من لطف الله ورحمته، ونتيجةً لحكمته في الخلق. أمّا الشر فليس يُنسب إلى الله، «وأنه – يعني هذا الدعاء – نفى عنه تعالى الظلم والفساد، لأن أفعاله تعالى صادرة عن حكمة بالغة»، ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى هو الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء في مواضعها، وأنه سبحانه وتعالى لا يعبث في خلقه. قال تعالى: )أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ((المؤمنون:115). فالله عندما يخلق الخلق، فإنّما يخلقه عن غاية وهدف منذ بداية الخلق حتى نهايته. فالله سبحانه وتعالى عندما يخلق الإنسان، فإنه يخلقه ليؤدي خلافته عن الله، وليتحمّل المسؤولية في عمارة الحياة على الصورة التي يريدها الله في وحيه الذي أنزله على رسله. «والموجودات كلها ملكه، فهو يفعل في ملكه ما يشاء ـ ولا يشاء إلا ما كان حكمةً له ـ فلا يوجد في فعله ظلم ولا فساد».
وقد ورد في دعاء الإمام زين العابدين(ع) أنه قال: «وقد علمت أنه ليس في حكمك ظلم، ولا في نقمتك عجلة، وإنما يعجل من يخاف الفوت، وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علوّاً كبيراً»، فالله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يظلم أحداً؛ لأن الظلم مظهر ضعف، والله هو القوي الذي له القوة جميعاً، وله العزة جميعاً، ولا يوجد في فعله فساد؛ لأن الله قدّر الأشياء في كل توازناتها، فأحكم صنعها، ودرأ عنها أي خلل في داخلها وفي خارجها. قال تعالى: )إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِه قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا((الطلاق:3)، وورد أيضاً: )مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور((الملك:3)، وهكذا: )إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ((القمر:49). (وفي النهاية)، والمقصود نهاية ابن الأثير في تفسير الدعاء المذكور: (أي أنّ الشرّ لا يتقرب به إليك، ولا يبتغي به وجهك)، لأن ابتغاء وجه الله هو في ما يرضاه الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: )إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ((فاطر:10)، أي يصعد الخير إليه، (وإنما يصعد إليك الطيب من القول والعمل).
الأدب في الثناء على الله:
«وهذا الكلام» في هذا الدعاء «إرشاد إلى استعمال الأدب في الثناء على الله تعالى وتقديسه». أي إن الإنسان عندما يريد أن يخاطب الله وعندما يثني عليه، فأن عليه أن يختار الكلمات التي تتناسب مع عظمته سبحانه وتعالى «وأن تضاف إليه محاسن الأشياء دون مساوئها، وليس المقصود نفي شيء عن قدرته وإثباته لها»، يعني ليس معناها أن الله لا يقدر على الشر وإنّما يقدر على الخير، فكلّ شيء هو تحت قدرته، «فإن هذا الدعاء مندوب إليه. يقال: يا ربّ السماء والأرض، ولا يقال يا ربّ الكلاب والخنازير»([186])، نعم، إنّ الله سبحانه هو رب الكلاب والخنازير ورب كل الموجودات، ولكن مخاطبة الله بمثل هذا، تبتعد عن الأدب معه سبحانه وتعالى، بينما يا رب السماوات والأرض تقترب من الأدب إليه تعالى، وإن كان هو ربها، ومنه قوله تعالى:)وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى((الأعراف:180).
مصادر الشر:
ويقال أيضاً إن «الشر إبليس» لا من باب أنه هو شر في وجوده المادي، ولكن (لأنه الآمر بالسوء والفحشاء والمكروه). قال تعالى: )إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ((البقرة:169)، (والشر الحمّى)، باعتبار أنّها تمثّل حالة إيذاء للإنسان وخلل في صحته. (والشر الفقر)؛ لأنه يؤدي إلى الكثير من السلبيات في حياة الإنسان، فلا يستطيع تحقيق حاجاته. يقول صاحب النهاية: «والأشبه أن تكون هذه الإطلاقات الثلاثة من المجاز» باعتبار أنها ليست عبارة عن الشر، ولكنها تعتبر مفتاحاً للشر أو نتيجة أو سبباً له، هذا ما ذكره أهل اللغة.
معيار الشرّ:
ونأتي إلى القرآن الكريم الذي يبين ما هو معيار الخير والشر ... يقول الله سبحانه وتعالى: )كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ((البقرة:216)، لأن القتال يؤدي إلى إزهاق النفوس، والإنسان يحب الحياة بحسب طبيعتها، ولكن الله يقول إنكم ربما تكرهون بعض الأشياء نتيجة بعض الأحاسيس والمشاعر، ولكنكم لو درستم منافعها ودرستم فوائدها، لرأيتم فيها خيراً يتجاوز ما تكرهونه مما تظنونه شراً )وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(. إن هذه الآية تريد أن تقول للإنسان: عليك أن لا تعتبر معيار الخير والشر من خلال إحساسك وشعورك الذاتي؛ لأن الإحساس ينفتح أو ينطلق من خلال الجانب السطحي في الإنسان، فالإنسان يحسُّ بالألم أو بالحزن من خلال بعض العوامل التي تطرأ على جسده أو على بعض ما يتعلق به، ولكنه لو تعمق في دراسة هذه الأمور، من حيث المصالح والمفاسد، لرأى أنّ ما يعتبره الإنسان شراً قد يكون خيراً؛ لأن المصلحة فيه على مستوى الشخص وعلى مستوى الأمة، فلولا أن شرّع الله القتال، لما استطاع الإنسان الحفاظ على حياته من خلال مواجهته لمن يعتدي عليه، وهكذا فإنّ الأمّة إذا لم تأخذ بأسباب القتال، فإنها سوف تعاني الذلّ والخسران والهزيمة والسقوط، بينما يمثل القتال الدفاعي للذين يعتدون على الأمة الخير كله.
وهكذا قد يحب الإنسان شيئاً وهو شرّ له، كما في الإقدام على الكثير من الخطايا والمعاصي، ومن الدخول في بعض الأشياء التي ظاهرها حق وباطنها باطل، وظاهرها نافع وباطنها ضار. ولذا على الإنسان عندما يدرس الأمور في ما يحب وفي ما يكره، ألاّ يستغرق في الجانب السطحي من عملية الحب والكره، بل أن ينطلق في الجانب العميق فيما هي المصلحة وما هي المفسدة.
البخل شرّ:
وفي آية أخرى في البخل: )وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خيْراً لَهُمْ((آل عمران:180)، مما أراد الله لهم أن ينفقوه بحسب مسؤولياتهم في عمليّة الإنفاق، بحيث يحسبون أن البخل يبقي لهم أموالهم، فلا يصرفون منها شيئاً لمن أراد الله لهم أن يصرفوها فيها)بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ( تماماً كما يطوّق الإنسان بالأغلال في عنقه، باعتبار النتائج السلبية المترتّبة عليه مما يحيط بمصيره من كلّ جهة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أراد للإنفاق أن يكون خيراً للإنسان، باعتبار ما يترتب عليه من أمور الدنيا والآخرة.
وقد ورد في القرآن أيضاً: )وآتوهم من مال الله الذي آتاكم((النور:33)، )وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه((الحديد:7)، وقال تعالى: )فمنكم مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ((محمد:38)، فالإنسان، وإن اعتبر البخل خيراً له من الناحية المادية، ولكنه شر له من الناحيتين المعنوية والروحية، وبقدر ما يتصل بمصيره من نعيم الله ورضوانه، لأن الله سبحانه وتعالى أراد للإنسان أن يتحمل مسؤولية ما رزقه لينفقه على السائل والمحروم واليتيم وما إلى ذلك، فإذا لم يقم بمسؤوليته أمام الله، فإن الله سوف يطوّقه بذلك يوم القيامة بماله، كما هي الأغلال في الأعناق)وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( والله هو المالك لكل شيء في السماوات والأرض، وهو المالك لما ملكه للإنسان )وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ((آل عمران:180).
دعاء الشرّ:
وفي آية أخرى يقول الله تعالى: )وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ(، فالإنسان في كثير من الحالات، عندما يصل إلى حد الإحباط واليأس، فإنه قد يدعو بالشر وقد يدعو بالموت على نفسه وما إلى ذلك، تماماً كما يدعو بالخير )وكانَ الإنسَانُ عَجُولاً((الإسراء:11)، فالله لا يريد للإنسان أن يستعجل الأمور، بل عليه أن يتدبرها وأن يكون صبوراً عليها.
وفي حديث الإمام علي(ع) في بيان معيار الخير والشر، يقول: «ما خيرٌ بخير بعده النار، وما شرّ بشرّ بعده الجنّة»([187])، إن كل شيء تحصل عليه في حياتك وتعتبره خيراً، فإن كان يتحرك في معصية الله سبحانه وتعالى، فإنه يصبح عندئذٍ شراً إذا كانت النار نتيجته، لأن قضية الخير والشر هي قضية المصير، فما قيمة أن تحصل على لذاتك وشهواتك وأطماعك في الدنيا إذا كانت النتيجة أن تحرقك النار في الآخرة وتقع في مصائبها وسلبياتها؟! وفي مقابل ذلك، إذا صبرت صبر الأتقياء، وانفتحت على الله في ذلك وشكرته وحمدته، وهو الذي لا يحمد على مكروه سواه، وكانت الجنة بعد ذلك هي المصير، فإن هذا الشر ليس شراً، بل هو خير لك في نتائجه الإيجابية في الآخرة. «وكل نعيم دون الجنة محقور» فما قيمة نعم الدنيا الفانية التي يتقاتل الناس عليها ويتنافسون فيها، أمام نعيم الجنة الذي عبّر عنه الحديث: «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، وقال تعالى: )فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين(، «وكل بلاء دون النار عافية» لأن البلاء في الدنيا مهما كانت شدّته، فإنه بلاء فانٍ لا يستمر، بينما بلاء النار هو البلاء الخالد لمن استحقّها.
ثم يقول الإمام علي(ع): «ما خير خير لا ينال إلا بشر»([188]) يعني لا قيمة للخير إذا كانت الوسيلة التي تحصل بها عليه شراً، كما في الإنسان الذي يسرق المال ويتصدق به باعتبار أن الصدقة تمثل خيراً، بينما المعصية تمثّل الشرّ في نتيجته السيّئة، وهكذا في كثير من الأعمال التي يعصي الإنسان الله فيها من أجل أن يفعل خيراً هنا أو خيراً هناك، «ويسر لا ينال إلا بعسر»، لأنّ اليسر الذي تكون وسيلته العسر يمثل عسراً في طبيعته.
وعنه(ع) يقول: «إن الله سبحانه أنزل كتاباً هادياً ـ وهو القرآن الكريم ـ بيَّن فيه الخير والشر»، وأنذر الناس الذين يعملون الشر بالعذاب وبشر الناس الذين يعملون الخير بالثواب، )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه((الزلزلة:7-8)، «فخذوا نهج الخير تهتدوا ـ إلى محبّة الله ورضوانه ـ واصدفوا ـ أي أعرضوا ـ عن سمت الشر تقصدوا»([189])، أي تعتدلوا وتقفوا عند حدّ التوازن والاستقامة في خطّ الصلاح، وهذا هو معيار الشر. فإذا أخذ الإنسان بنهج الخير وأعرض عن نهج الشر، فهناك الهداية، ويكون السقوط والخسران في الأخذ بنهج الشر. وللكلام بقية إن شاء الله في ما يأتي من حديث.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة السابعة عشرة: 4جمادى الأولى 1426 ه - 11/6/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم
تجسيد الشرّ في عناوينه المختلفة
يمثّل الشّر مفهوماً ثقافياً أو واقعياً، وقد يتمثّل في الإنسان، بحيث يكون الإنسان تجسيداً له
تجسيد الشرّ.
بيع الآخرة بالدنيا .. شرّ.
الشرّ المطلق.
الظلم.. الشرّ الأعظم.
شر الغشّ.
شر عدم قبول العذر.
ومن الشرّ نكران النعمة.
شرّ السعاية.
ومن الشرّ الخيانة.
إعانة الظالم .. شرّ.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
عنوان:
نص
تجسيد الشرّ:
قد يمثّل الشّر مفهوماً ثقافياً أو واقعياً، وقد يتمثّل في الإنسان، بحيث يكون الإنسان تجسيداً له، كما قد يكون الإنسان ـ في الجانب الآخر ـ تجسيداً للخير، كما في الأنبياء والأئمة والأولياء.
وقد تحدّث الله سبحانه وتعالى عن ذلك في بعض الآيات، كما تحدّثت النصوص الواردة عن النبي محمّد(ص) وعن الأئمة من أهل بيته(ع)، حول هذا الموضوع.
قال تعالى: )إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الذينَ لا يَعْقِلُونَ((الأنفال:22). إن هذه الآية تتحدث عن المستوى الأعلى للإنسان في تمثّله بالشر، والأصمّ في الآية ليس الإنسان الذي يفقد سمعه، بل الذي لا ينتفع بسمعه، أو لا يقبِلُ على ما يُلقى إليه من فكر وموعظة وإصلاح وما إلى ذلك. وقد ورد هذا المعنى في أكثر من آية، فقال تعالى: )لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا((الأعراف:179). أمّا البُكْم، فهم هؤلاء الذين رزقهم الله سبحانه وتعالى لساناً ناطقاً يتمكّنون من خلاله أن يقوموا بمسؤولياتهم في التوعية والإرشاد والموعظة والنصيحة والتثقيف وما إلى ذلك، ولكنهم يهملون هذه الجوانب، فلا يقومون بمسؤوليتهم التي حملّهم الله إياها.
وعلى ضوء هذا، فإن الله اعتبرهم شرّ الدوابّ. وكلمة الدابّة تطلق على كلّ ما يدبّ على الأرض، سواء كان يدب على رجلين ـ ومنه الإنسان ـ أو على أربع، أو كان يزحف على الأرض. فالله يريد أن يقول للإنسان: إن ما رزقتك إياه وما أنعمت به عليك من هذه الطاقات، لا بدّ لك من أن تستخدمه في ما حمّلتك إياه من المسؤولية؛ ففي طاقة السمع، لا بدّ لك من أن تفتح سمعك على كل ما يغني عقلك، وعلى كل ما يوسّع علمك، وعلى كل ما تستوحيه في كل ما يدخل سمعك من الأصوات التي تنتشر في الكون.
فالسمع مسؤولية، لأنه يمثل النافذة التي تطل على العقل لتحمل إلى الإنسان كل ما يغنيه من حاجاته الثقافية، وكل ما ينفتح به على حاجاته العلمية. وهكذا، فإنّ الله إذا رزقك لساناً ناطقاً، فإن عليك أن تستفيد منه، بأن تحرّكه في إبلاغ الفكر الذي يريد الله لك أن تبلّغه، وفي الرسالة التي يريد لك الله أن تقوم بتعريف الناس بها، وبالنصح لله في خلقه، وبتحريك الموعظة التي تفتح قلب الإنسان على الله وعلى ما يصلح أمره.
لذا، )إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(، هؤلاء الذين جمَّدوا عقولهم، لأنهم لم يفتحوها على الفكر الذي يصنع الفكرة، وينتج الحقيقة، مع أنهم قادرون على ذلك.
وفي آية أُخرى، يقول تعالى: )إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ((الأنفال:55)، هؤلاء الكافرون، هم الذين يجسِّدون الشر في ذواتهم، لأنهم لم يأخذوا بوحي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي فطرة التوحيد، ولم ينفتحوا على الله سبحانه وتعالى بما رزقهم من وسائل معرفته في نطاق الألوهية والربوبية، وما إلى ذلك. فأي شر أعظم من أن لا يؤمن الإنسان بخالقه، ولا ينفتح على ربه، ولا يعبده، ولا يطيعه في كل حركة التوحيد في العقيدة والعبادة والطاعة.
بيع الآخرة بالدنيا .. شرّ:
ويقول رسول الله(ص) في ما روي عنه: «شرُّ الناس من باع آخرته بدنياه، وشرّ من ذلك من باع آخرته بدنيا غيره». فالدنيا، مهما اتسعت للإنسان في شهواتها وفي أطماعها، هي محدودة بحدود الأجل الذي يعيشه الإنسان، كما أنّ شهواتها ولذّاتها محدودة بما يختزنه منها، فلو درس الإنسان كل شهوات الدنيا، مما يأكل أو يشرب أو يستمتع استمتاعاً جنسياً، لرأى أن هذه الشهوات تعيش في حجم اللحظة، لأن الإنسان لا يحس بلذّة أيّ شهوة من الشهوات الحسية إلا عندما تتحرك في جسده.
ولذلك، فإن الشهوة واللذّة ليس لهما امتداد في إحساس الإنسان، كما هو الإنسان في الدنيا ليس له امتداد في معنى الخلود، بينما تمثّل الآخرة في شهواتها ولذاتها الأفق الواسع الذي تعبر عنه الآية الكريمة: )فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ((السجدة:17)، أو الحديث الذي يصوّر لذّة الجنّة: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»([190])، حيث يبقى هذا الإحساس مستمراً في ما يعيشه الإنسان في أيّة شهوة من شهوات الجنة أو الآخرة، أو أيِّ لذّة من لذّاتها. وعلى ضوء هذا، فأيّ شرّ أكثر من أنْ يبيع الإنسان آخرته بدنياه، وهو يبيع ما يبقى بما يفنى.
وهناك إنسان يعيش الشر بشكل أكثر خطورةً، وهو الإنسان الذي يبيع آخرته بدنيا غيره. فالإنسان الأول الذي يبيع آخرته بدنياه، ربما يفكر بأنه قد حصل على شيءٍ من الدنيا في مقابل ما باعه من آخرته، ولكن الذي يبيع آخرته بدنيا غيره، لم ينتفع من دنياه بشيء، ولم ينتفع من آخرته بشيء، ومثل هذا الإنسان يمثِّل في ما يفعله أعلى درجات الشر، لأنه يمثل السقوط كله والإحباط كله.
الشرّ المطلق:
في حديث عن الرسول(ص) يقول: «شرُّ الناس عند الله يوم القيامة الذين يُكرمون اتّقاء شرهم»([191])، وهم أولئك الذين لا ينال الناس منهم إلا الشر، لأنّهم يعيشون المزاج العقربي الذي يلسع كل من يلمسه، أو يعيشون العقدة تجاه الآخرين، سواء في ما يخاطبونهم به، أو في ما يؤذونهم به، أو في ما يواجهونهم من أساليب ووسائل تسقط كراماتهم وأوضاعهم، وتعمل على مصادرة أموالهم وأكلها بالباطل، وما إلى ذلك، وهم يملكون القوة التي يخافها الناس ويخشونها، ولذلك فقد يعطيهم بعض الناس شيئاً من الإكرام، لا لأنهم يستحقونه، ولكن اتّقاءً لشرّهم.
وقد ورد في سيرة النبي محمد(ص)، أنّه كان يتحدّث مع زوجته عائشة عن رجلٍ، وكان يقول: بئس الرجل أخو العشيرة، وفجأةً، جاء هذا الرجل إلى النبي(ص)، فأقبل عليه النبي، وعندما ذهب قالت له لقد كنت تقول بئس الرجل أخو العشيرة، ونراك احتضنته وأقبلت عليه، فكيف ذلك؟ قال: «إن شر الناس الذين يُكرمون اتقاء شرهم». وكأنّه يقول: أنا لم أكرمه لأنه يستحق الكرامة، ولكن هذا الرجل شرّير، فاتقيت شره بهذه المجاملة التي جاملته بها. فالنبي(ص) في حديثه هذا، يؤكد أن هذا هو شر الناس عند الله يوم القيامة، هذا الإنسان الذي لا يصدر منه للناس إلا الشر، بحيث يكرمه الناس خوفاً من شره أو اتّقاءً له.
هذا الحديث يريد أن يوجّه الناس إلى أنّ عليهم ألا يقابلوا الناس الآخرين بالشرّ، في أيِّ لون من ألوان الشرّ؛ لأن ذلك يؤدي إلى غضب الله وسخطه، وإلى إسقاط الله لهم يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وأنّ عليهم أن يجسّدوا الخير في علاقاتهم الاجتماعيّة، بحيث تتمثّل الإنسانيّة في احترامهم الآخرين في تصرّفاتهم العامّة كلّها.
الظلم.. الشرّ الأعظم
وفي حديث الإمام علي(ع): «إن شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلّ وضُلَّ به»([192])، هذا الحاكم الظالم الذي انطلق ظلمه في خطين: في خطّ الظلم الفكري والثقافي، بحيث أبعد الناس عن الحقّ وربطهم بالباطل، وأبعدهم عن الهدى وربطهم بالضلال، والخطّ الآخر هو سلوك هذا الحاكم في ظلم الناس، عندما يأكل أموالهم بالباطل، وعندما يضطهدهم في أمورهم ويواجههم بكل أنواع الظلم. هذا الحاكم الظالم الذي يُضل في توجيهاته ويضل في سلوكه، فإنه شر الناس عند الله يوم القيامة.
وفي هذا الصدد، يقول الإمام علي(ع): «شر الناس من يظلم الناس». إنّ العدل هو أن تعطي كلّ ذي حقّ حقّه، والظلم هو أن تمنعه حقّه، سواء كان بينه وبين الذي يظلمه علاقة خاصة، كالزوج والزوجة؛ فإنّ للزوجة حقّاً على الزوج، ولا بد أن يعطيها حقها، وللزوج حقّ على الزوجة، ولا بد أن تعطيه حقه، أو بالنسبة إلى كل الناس الذين يتبادلون الحقوق فيما بينهم، فإن لكل إنسان حقّاً على الآخر، وللآخر حقّ عليه، وعلى كل إنسان، إذا أراد أن يأخذ بأسباب العدل ولا يأخذ بأسباب الظلم، أن يعطي لكلِّ ذي حقّ حقّه، لأنه إذا منعه حقّه كان ظالماً، والظالم شرّ الناس.
شر الغشّ:
وفي حديث الإمام علي(ع): «شر الناس من يغش الناس». الغشّ من الأخلاق السلبية الخبيثة، وقد ورد على لسان النبي(ص): «من غشّنا فليس منا»، أو «من غش النّاس فليس بمسلم»، سواء كان الغش غشاً في المعاملات التي تدور بين الناس، كالبيع والشراء، أو كان الغش غشّاً في الرأي. وقد ورد في الحديث: «من استشاره أخوه المؤمن فلم ينصحه سلبه الله رأيه»، لأن من حق المؤمن على المؤمن أن ينصحه، بما يقوِّم أوضاعه، ويسدّد أفكاره، ويحفظ له أموره، حتى إن الله سبحانه وتعالى أباح للمؤمن أن ينصح المؤمن في مورد الغيبة، سواء كان ذلك في زواج يريد أن يعقده الرجل على المرأة، أو المرأة على الرجل، أو في أن يشارك شخصاً في ماله، أو أن يضع ولده في مدرسة معينة، أو عند معلم معين، أو ما أشبه ذلك من المواقف التي يقفها الناس، كما عندما يريدون أن يؤيّدوا شخصاً ويستشيرونك في تأييده، أو يريدون أن يرفضوا شخصاً ويستشيرونك في رفضه، ففي مثل هذه الحالة، يجوز لك أن تتكلم بعيوب هذا الشخص أو ذاك الشخص، أو بعيوب هذا الموقف أو ذاك الموقف، وإن كان غيبةً لشخص معيّن، لأن مصلحة نصح المؤمن أقوى من مفسدة الغيبة، ولذلك تتقدم عليه.
شر عدم قبول العذر:
وفي حديثٍ للإمام علي(ع) في مسألة التعامل بين الناس، يقول: «شر الناس من لا يقبل العذر». هناك أناس يخطئون معك، ثم بعد ذلك يراجعون أنفسهم ويشعرون بالخطأ، ويأتون إليك ليعتذروا منك، فعليك أن تقبل عذرهم، حتى ورد في بعض الأحاديث عن بعض الأئمة(ع): «إذا شتمك أحد عن يمينك ثم اعتذر إليك في يسارك فاقبل عذره». وتحليل هذه المسألة، أنّ الشخص الذي جاء ليعتذر منك هو إنسانٌ قد أذلّ نفسه أمامك، وأراق ماء وجهه، ولذلك فإن عليك أن تحترم بذله لماء وجهه، وتحترم إذلال نفسه لك، فإذا لم تحترمه بأن لم تقبل عذره، فإنك بذلك تكون شرّ الناس، لأنّ مؤمناً قد أذلّ نفسه أمامك، والمؤمن عزيزٌ عند الله، فإذا لم تقبل عذره، فإنك بذلك لا تحفظ عزّة أخيك المؤمن.
«ولا يقيل الذَّنب»، فلو أنّه أذنب معك وقال لك أقلني أقال الله عثرتك يوم القيامة، ولم تقله، فإنّ ذلك قد يمثّل شراً لا شر مثله، لماذا؟ لأنّك عندما تمتنع من ذلك، يعني أنّك تختزن الشرّ في نفسك في هذا المجال؛ ولو درست المسألة في الحالة التي تخطئ فيها أنت مع الناس، وتطلب منهم أن يسامحوك على أن يعذروك في ذنبك، فإنّك تأمل منهم أن يعذروك ويقيلوا عثرتك، وتلومهم إذا لم يستجيبوا لك في ذلك، فعليك أن تعامل الناس بما تحبّ أن يعاملوك به.
وفي هذا السياق، روي عن علي(ع): «شر الناس من لا يعفو عن الزلّة» من لا يعفو عن الزلّة التي تصدر من الآخرين تجاهه عندما يطلبون منه العفو. «ولا يستر العورة»، والعورة هنا كناية عن العيوب التي يكتشفها في الإنسان الآخر، فلا يستر عيب أخيه المؤمن؛ لأنّ ذلك يبتعد عن احترام الإنسان لأخيه الإنسان.
وعنه(ع): «شر الناس من كان متتبعاً لعيوب الناس، عمياً لمعايبه»، ذلك الإنسان الذي ينظر دائماً إلى عيوب الناس ولا ينظر إلى عيوبه، ولو نظر إلى عيوبه، لعرف أن عيوبه قد تكون أخطر من عيوب الناس، فيمنعه ذلك من التفتيش عن عيوبهم.
ومن الشرّ نكران النعمة:
وعن عليّ(ع): «شر الناس من لا يشكر النعمة ولا يرعى الحرمة». إن الله سبحانه وتعالى أراد للإنسان أن يشكره، قال تعالى: )لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ((إبراهيم:7)، وأراد له أن يشكر المنعم عليه من الناس، ولذا ورد عندنا: «من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق»؛ لأنّه لا يتفاعل مع القيمة الإنسانيّة في جانبها الروحي الذي ينطلق من المبدأ الذي يتأثّر فيه الإنسان بالنعمة من المنعم، في معنى الشكر، سواء كان ذلك لله أو لمخلوقاته، فإذا لم ينفتح على المخلوق الذي أنعم عليه، فإنّ معنى ذلك أنّه لا يتمثّل الشكر للنعمة في أخلاقه. وقد ورد قوله تعالى: )أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ((لقمان:14)، فمن لا يشكر النعمة، فإنّه يختزن الشرّ في نفسه. أمّا قوله(ع): «ولا يرعى الحرمة»، فيعني الذي لا يرعى حرمات الناس في كل أمورهم وقضاياهم.
شرّ السعاية:
وعنه(ع): «شر الناس من سعى بالإخوان»، وهو الإنسان الذي يسعى بإخوانه إلى الظالم ومن يؤذيهم، وإلى من يسقطهم ويدمر الكثير من أوضاعهم، فإن هذا يمثل عدواناً عليهم. وأي عدوان أعظم من أن تسلط الظالم على المؤمن ليقهره وليظلمه وليصادر ماله وما إلى ذلك؟! «ونسي الإحسان»؛ لأن الله يريد من الإنسان أن يذكر إحسان الآخرين له، وأن يجازي الإحسان بالإحسان، وذلك هو قوله سبحانه وتعالى: )هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ((الرحمن:60)، فالإنسان الذي ينسى الإحسان ولا يتذكره ولا يقابله بالإحسان، هو إنسان لا يختزن الخير في نفسه.
وفي كلام الإمام(ع) يقول: «شر الناس من لا يرجى خيره» يعني هذا الإنسان الذي يعيش مع الناس من دون أن ينفتح على الخير لهم في كل ألوان هذا الخير وأوضاعه، وفي كل ما يمكن أن يقدمه لهم منه. و«لا يؤمن شره»، وهو ذلك الإنسان الذي يعيش وفي داخل نفسه العقدة ضد الناس، بحيث يفكر أن يثير الشر في حياتهم بين وقت وآخر، فهو عندما يعيش مع الناس، فإنهم لا ينتفعون منه بشيء، لأنهم لا يرجون خيره، بل يخافون من ضرره؛ لأنه لا يؤمن شره في ذلك كله، وهذا من الناس الذين يعملون على إثارة الشر بين الناس في المجتمع، وعلى ألاّ يكونوا عنصر خير للمجتمع.
ومن الشرّ الخيانة:
ويقول الإمام علي(ع): «شر الناس من لا يعتقد الأمانة، ولا يجتنب الخيانة»، فالله أراد للناس أن يعيشوا الأمانة، سواء كانت هذه الأمانة في التزامات الناس بعضهم لبعض، سواء كانت التزامات مالية في ما يأتمن الناس بعضهم بعضاً على أموالهم، أو التزامات معنوية، أو التزامات وظيفية في الأعمال التي يلتزمها الناس عندما يقومون بوظيفة في محل أو في دائرة أو ما إلى ذلك، فإن كل التزام في هذه المواقع التي يأتمن فيها صاحب العمل العامل، فإنها تمثل أمانة الله سبحانه وتعالى عند العامل ليؤديها لصاحب العمل في هذا المقام، أو كانت الأمانة أمانة الزوجية، من قبل الزوجة للزوج، أو من قبل الزوج للزوجة، في ما يأتمن به أحدهما الآخر على التزاماته الزوجيّة، أو كانت الأمانة أمانة المسؤولية، وهي التي عناها الله سبحانه وتعالى في قوله: )إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا((الأحزاب:72)... فشر الناس من لا يعتقد الأمانة، ولا يحترم التزاماته، ولا يجتنب الخيانة، فيخون الناس في كل الالتزامات التي يلتزمها معهم، والله يقول: )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ((الأنفال:27)، كما أن الله سبحانه وتعالى لم يرد للإنسان أن يدافع عن الخائنين، فقال تعالى: )وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا((النساء:105).
إعانة الظالم .. شرّ:
وفي الحديث: «شرّ الناس من يعين على المظلوم»، يعني إذا رأى الإنسان مظلوماً يُظلم، وكانت له علاقة ما مع الظالم، فإنه يحاول أن يعين الظالم ويساعده على المظلوم. وأي شرّ أعظم من هذا الشر؟ وذلك أن يعين الظالم على الضعيف المظلوم. وفي الحديث أيضاً: «شرّ الناس من ادّرع اللؤم»، يعني من كان يعيش اللؤم في أخلاقه، ولا يعيش الأخلاقية الإسلامية الحسنة التي تمثل القيمة في محبته للناس ونظرته إليهم في كل ما يساعدهم في الحياة. «ونصر الظلوم»، أي نصر الظالم على الضعفاء الذين لا يملكون القوّة للانتصار على الظالم.
وتبقى هناك بعض الكلمات في مسألة شر الناس نأتي على ذكرها إن شاء الله في ما نستقبل من حديث.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثامنة عشرة: 11جمادى الأولى 1426 ه - 18/6/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم
شرّ الناس
عندما يتعمّق الشرّ في شخصية الإنسان، فإنه يتحوّل إلى خطر على المجتمع.
شرّ الشرّ إنتاج الشرّ.
سوء الظنّ جور.
شرّ الناس المتكبّر الزاهي.
شرّ الناس ناكر الجميل.
شرّ الناس.. الجواسيس.
شرّ الناس.. العالم الفاسد.
شرّ الناس العالم البخيل بعلمه.
شرّ الناس أصحاب الذاتية المفرطة.
شرّ الناس التاجر الخائن.
شرّ الناس الفحّاش.
شرّ الناس الحقود.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
شرّ الشرّ إنتاج الشرّ:
عندما يكون الشرّ مجرد عمل طارئ في حياة الإنسان، فقد يمثّل له مشكلةً من خلال تأثيراته السلبية في ما يعنيه، فلا يتعدّاه بآثاره؛ ولكن الشر عندما يتعمّق في شخصية الإنسان، بحيث يكون عنواناً له وطابعاً يحكم حياته، فإنه يتحوّل إلى خطر على المجتمع، باعتبار الشرير جزءاً من المجتمع، سواء أكان صغيراً أم كبيراً؛ فهو يعيش مع عياله، ويعيش مع جيرانه، ويعيش مع أصدقائه، ويعيش مع كل الذين يلتقيهم ويلتقونه، وبذلك قد يشمل تأثير شرّه كل هذه النماذج من الناس الذين يتأثرون به، في سلوكه وأوضاعه وأخلاقيّاته. فهو يحمل الشر كصفة لازمة له، مؤثرة في ما حوله، ومن هنا، أطلق عليه أنه «شر الناس». فعن علي(ع) قال: «شر الناس من يبتغي الغوائل للناس»؛ يعني الإنسان الذي يعيش بين الناس، ويبتغي لهم ما يؤذيهم ويضرهم، وما قد يسيء إلى حياتهم، لأنه يعيش العقدة تجاههم، فيكون تأثيره تأثيراً خبيثاً في حياتهم.
وعنه(ع) ـ في ما يُروى عنه ـ: «شر الناس من يخشى الناس في ربه، ولا يخشى ربه في الناس»؛ فهو الإنسان الذي يراقب الناس ويخشاهم ويخاف منهم، ولذلك فإنه قد يقدّم التنازلات في ما يأمره الله به أو ينهاه عنه، كما صوّر الله هذا المبدأ في قوله تعالى: )وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ((الأحزاب:37).
وفي كلمات الإمام علي(ع): «شر الناس من لا يثق بأحد لسوء ظنه، ولا يثق به أحد لسوء فعله»، فهو عندما يراقب أفعال الناس، وقد تكون أفعالهم أفعال خير، فإنّه لسوء ظنه بهم لا يحملهم على الخير، بل يحملهم على الشر، ولا يلتفت إلى قوله سبحانه وتعالى:)اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ((الحجرات:12)، ولا إلى الكلمة الرائدة الواردة عن الإمام علي(ع): «ضع أمر أخيك على أحسنه، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محتملاً».
سوء الظنّ جور:
إنَّ قضية سوء الظن بالناس قضية لا ترتكز على أساس العدل؛ لأن العدل يفرض أن لا تحكم على إنسان بالسوء إلاّ بعد أن يثبت لك ذلك. وهذا ما تؤكده القاعدة القانونية الحضارية: (المتهم بريء حتى تثبت إدانته)، فأنت لا تستطيع أن تحكم على أي إنسان بالسوء، إلاّ إذا ثبت لك صدور السوء منه بحجة قاطعة، وبالبيّنة الواضحة. ولذلك، فإن كلمة الإمام علي(ع) تعني أنّك لو افترضت أنّ ما فعله سوءٌ بنسبة 90%، وهناك احتمال10% أن هذا خير أو حسن، فعليك أن لا تقف مع الـا90%، حتى يثبت لك السوء. وهذا هو خط العدل بالنسبة للإنسان.
إنّ الإنسان الذي يسيء الظن بالناس ولا يحملهم على الخير، هو إنسان يعيش العقدة في نفسه، وقد جاء في بعض شعر المتنبي:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدَّق ما يعتاده من توهـم
يعني أنّ الإنسان السيّئ عندما يعمل الأعمال، فإنه يعملها انطلاقاً من بعض العناصر السيئة الموجودة في نفسه، حتى إنه عندما يعمل الخير، فإنه قد يعمله من خلال دواعي الشر، وإذا قام بعمل صالح، فإنه يقوم به رياءً، وما إلى ذلك. فهذا الإنسان نتيجةً لكل ما يختزنه في داخله من خلفيةٍ للأعمال التي يقوم بها، لا يصدّق أن أحداً يمكن أن يكون مخلصاً بعمله، لأنه لا يخلص بعمله، ولا يصدّق أن أحداً يمكن أن ينطلق من خلال الصلاح في عمله، لأنه لا ينطلق منه بالصلاح، فهو يحمل الناس على ما يعيشه في داخل ذاته من عناصر الشر التي تحكم كل أعماله.
إنّ الإنسان الذي يحمل في نفسه عناصر سوء الظنّ بالناس، من خلال سوء عمله في ذاته، لا ينفتح على المجتمع، باعتبار أن الإنسان المنفتح الذي يعيش مع الناس، ويتعامل معهم ويتعاملون معه، لا بد له أن يندمج في المجتمع، وأن يعيش التواصل والانسجام مع الآخرين، أما عندما يسيء الظن بكل إنسان؛ يسيء الظن بأهله في بيته، وبأولاده وبجيرانه، وبالناس الذين يتعامل معهم ويتعاملون معه، فإنه يتحول إلى إنسان شرير، لا يمكن أن يحقق أي تواصل طبيعي بينه وبينهم.
«ولا يثق به أحد لسوء فعله»، فإنه عندما يعيش مع الناس، فالناس لا يثقون به، ليس لأنهم يسيئون الظنّ به، ولكن لسوء فعله، لأنهم عندما يراقبونه، فإنهم يرون أنه الإنسان الذي يسيء في فعله من خلال طبيعة أعماله الذاتية، أو من خلال مواقفه التي قد يؤيد فيها هنا ويرفض هناك. ولعلّ في هذا التوافق بين سوء ظنّه بالناس وسوء فعله الذي يمنع الناس من الثقة به، ما يشير إلى الصلة بين الأمرين، كما ذكرنا في الحديث عن هذه الكلمة.
شرّ الناس المتكبّر الزاهي:
وفي كلمة أخرى للإمام علي(ع)، يقول: «شرّ الناس من يرى أنه خيّرهم»، هذا الإنسان الذي يعيش الكبرياء في نفسه، ويعيش الانتفاخ في شخصيته، بحيث لا يرى للناس خيراً، في كل ما يقومون به من الخير، ولا يرى في أفعالهم حسناً في ما يصدر عنهم من الحُسن، ويحاول دائماً أن يبرهن أنه الأفضل، وأنّه الأعلم، وأنّه الأكبر، وما إلى ذلك، بحيث لا يرى أحداً يساويه، ولا يرى أحداً خيراً منه، لأنه مستغرق في صفاته الذاتية، وهذا أمر يمثل الشر في هذا الإنسان، لأن الإنسان الخيِّر هو الذي يحاول أن يرى في ما يعمله الناس من الخير قيمةً للخير عندهم، وأن يقارن بين نفسه وبين الآخرين في ما يصدر منه أو يصدر منهم، وفي ما يتصف به أو يتصفون به، ليرى الخير في ما يعملون، وليجد بأن هناك من هو أفضل منه، وأن هناك من هو متميز عنه.
ولذلك ورد في الأحاديث والتعاليم الإسلاميّة، أن على الإنسان أن ينظر دائماً إلى من فوقه، ليعرف المسافة التي بينه وبينهم، ليتواضع للناس الذين يفضُلونه، ويتواضع حتى للناس الذين يساوونه. وأما إذا كان يرى نفسه هو الخيِّر، وهو الأفضل، فإن ذلك ينطلق غالباً من حالة كبرياء في نظرته للناس، تؤدّي به إلى احتقاره لهم، وإغفاله ما يتميّزون به من صفات الحُسن. ونحن نعتبر أن التكبّر هو من أكثر صفات الشر في الإنسان.
وورد في كلمة أخرى: «شرّ الناس الطويل الأمل، السيّئ العمل»، أي الإنسان الذي يعيش طول الأمل، فلا يشعر بطبيعة الحياة الدنيا، وأنها محدودة فانية، وأن أجله محدود، وأن أجله إذا جاء، فإنه لا يستطيع أن يقدّمه أو يؤخره، هذا الإنسان الطويل الأمل، يدفعه طول الأمل إلى أن ينسى الآخرة، وأن يأخذ حريته في كل عمل سيئ، لأنه لا ينتظر الموت، ولا ينتظر الآخرة، ولا ينتظر الحساب أمام اللّه تعالى. وقد ورد في الحديث النبوي الشريف: «إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: الهوى، وطول الأمل. أما الهوى، فيصد عن الحق، وأما طول الأمل، فينسي الآخرة»، وإذا نسي الإنسان الآخرة، أخذ كل حريته في كل ما يؤدي إلى خسارته المصير فيها، لأنه لا يترك محرماً إلا ويفعله، ولا يترك واجباً إلا ويتركه.
شرّ الناس ناكر الجميل:
وفي الحديث أيضاً: «شرّ الناس من كافأ على الجميل بالقبيح»، يعني الإنسان الذي إذا فعلت معه جميلاً، وأنعمت عليه، وأحسنت إليه، فإنه يكافئك بالقبيح، وهذا دليل على أن هذا الإنسان لا يعيش إنسانيته في إنسانية الآخر، ولا يشكر النعمة في هذا المجال، لأن الإنسان الخيّر الطيّب، هو الذي يجازي الإحسان بالإحسان، كما جاء في قوله تعالى: )هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاّ الإحْسَان((الرحمان:60)، وذلك ما نستوحيه من كلمة الإمام علي(ع) في قوله: «اتقّ شر من أحسنت إليه»، وهو يوحي لك أن لا تعتبر كل إنسان تحسن إليه أنه سوف يحسن إليك، بل قد تجد بعض الناس الذين كلما أحسنت إليهم أكثر، كلما تعقدوا منك أكثر، لأنهم لا يطيقون الإحسان من الآخر، بل يعتبرونه لوناً من ألوان التفضّل عليهم، ولذا فإنّ ذلك قد يتحوّل إلى عقدة في نفوسهم، ولذلك قد يجازون الإحسان بالإساءة في هذا المقام. ومعنى اتّقاء شرّه أن تحذر منه، لا أن تعتبر أن كل من تحسن إليه، فإنه سوف يقوم بالشر ضدك، بل أن لا تعتبر إحسانك إليه يؤمنُك من شرٍّ قد يقابلك به؛ لأنّ هناك من يكافئ على الجميل بالقبيح، فحاوِل أن تكون حذراً، ففي حال كان هذا الإنسان ممن يقابلون الإحسان بالشر، فإنّك تستطيع عندها أن تحمي نفسك منه.
وفي الحديث عن رسول الله (ص) يقول: «شرّ الناس فاسقٌ قرأ كتاب اللّه، وتفقّه في دين الله»، مثل الإنسان الذي يتعلم قراءة القرآن وتفسيره وعلومه، ويتفقّه في الدين، وبتعبير آخر، هو عالم يحمل علم القرآن، ويحمل علم الشريعة، «ثم بذل نفسه لفاجر»، كما هم وعّاظ السلاطين، هؤلاء الذين يعيشون في حاشية السلطان، ويفتون له بما يبرر له كل أعماله وكل أوضاعه الظالمة، فيعيشون معه.
«إذا نشط تفكّه بقراءته ومحادثته»، فيحدث بما لديه من علم في مجلس الفاجر، ليؤانسه ويملأ فراغ مجلسه؛ فهو شرّ الناس، لأنّه في الوقت الذي تفقه بالقرآن وبالشريعة، يريد أن يسلّي السلطان ويشغل مجلسه، ولا يريد أن يعرّفه حدود اللّه، كما أن السلطان أيضاً عندما يستمع إلى هذا الإنسان، فإنه يعرف أنه جاء إلى مجلسه وأصبح من حاشيته طمعاً في سلطانه، وطمعاً في أمواله، فلا يـتأثر بأحاديثه. فقوله(ص): «فيطبع اللّه على قلب القائل والمستمع»، على أساس أنّ الله ختم على قلب القائل، لأن قلبه لم ينفتح على الحق، وعلى الدعوة للحق، وكذلك على قلب المستمع، لأنه لم ينفتح على الموعظة والنصيحة.
شرّ الناس.. الجواسيس:
وعن النبي(ص) قال: «شرّ الناس المثلث، قيل: يا رسول الله وما المثلث؟» فهي كلمة غامضة، «قال: الذي يسعى بأخيه إلى السلطان»، يعني هذا الإنسان المخبر، الجاسوس، الذي يتوظّف من أجل أن يسعى بالناس بما يؤدّي إلى ظلمهم، وإلى سجنهم وقتلهم، أو ما إلى ذلك، سواءً كان ذلك دولياً أو إقليمياً أو محلياً، فذلك الإنسان يهلك نفسه، لأنه يعرِّض نفسه لعقاب اللّه تعالى. وقد ورد في بعض الأحاديث، أنه يؤتى للإنسان يوم القيامة بقارورة فيها دم، فيقال له هذا نصيبك من دم فلان، لأنه قتل وأنت شريك في دمه، فيقول: يا ربي لقد عشت كل حياتي ولم أشارك في دم أحد، فكيف يكون ذلك، إذ لم أحمل سيفاً أو سلاحاً ضد إنسان، فيقال له: لقد سمعت كلاماً من فلان، فنقلته إلى السلطان، فقتله، فكان هذا نصيبك من دمه، يعني ـ وكما نعبّر ـ كانت الرصاصة الأولى هي التقرير الذي قدمته إلى السلطان، والذي أدّى إلى قتله، «فيهلك نفسه» في عقاب اللّه تعالى «ويهلك أخاه» لأنه عرّضه للقتل أو السجن أو التعذيب، وما إلى ذلك، ويهلك السلطان لأنّه هيّأ له الظروف للظلم.
وعنه(ص): «من شرّ الناس عند اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة ذو الوجهين»، هذا الذي يعطيك وجهاً منفتحاً على المحبة والمودة والخير، ولكنه يخفي عنك وجهاً آخر بغيضاً، كله سوء، وكله شر. وقد ورد عندنا في الحديث الشريف: «بئس العبد عبد يكون ذا وجهين، وذا لسانين، يطري أخاه شاهداً، ويأكله غائِباً»([193]).
شرّ الناس.. العالم الفاسد:
وعن رسول الله(ص) لما سُئل عن شر الناس، قال: «العلماء إذا فسدوا». إن هؤلاء العلماء درسوا العلم في كل ما يحمله من قيم الخير والصلاح، وكل ما يربطهم باللّه سبحانه وتعالى ويحملهم المسؤولية، ولكنهم يتحولون، من خلال شهواتهم وأطماعهم، إلى الفساد في أخلاقهم، والفساد في سلوكهم، والفساد في كل ما يحدِّثون الناس به، فيكونون شراً على أنفسهم، وشراً على الناس، وشراً على الحياة، ولا سيما أن الناس قد يعتقدون بهم من خلال أوضاعهم الظاهرة، أنهم يمثلون الصلاح، ويمثلون الخير.
شرّ الناس العالم البخيل بعلمه
وقد ورد عن رسول الله(ص): «إنّ شرّ الناس عند الله عزّ وجلّ يوم القيامة عالم لا يُنتفع بعلمه»، ذلك العالم الذي درس سنين طويلة، وأصبح من الشخصيات التي تستطيع أن تقضي حاجات الناس من علمه، ولكنه عاش لنفسه، ولم يقم بتعليم الناس في ما علّمه اللّه تعالى وأرشده إليه، ولا سيما عندما يحتاج الناس إلى علمه، من خلال المشاكل التي تحيط بهم، ومن خلال البدع التي تتحداهم، ومن خلال خطوط الضلال التي تنتشر فيهم، وقد ورد في القرآن الكريم: )إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاعِنُونَ((البقرة:159). وقد ورد في الحديث الشريف: «إذا ظهرت البدع، فعلى العالم أن يظهر علمه، ومن لم يفعل، فعليه لعنة اللّه». وقد ورد عندنا أيضاً في الحديث: «أن الله ما أخذ على الجهّال أن يتعلموا، حتى أخذ على العلماء أن يعلّموا»([194])، ذلك لأنّ العلم هو أمانة اللّه تعالى عند الناس، ولا يكفي في العالم أن يجلس ويجيب على أسئلة الناس، بل لا بد له من أن يعرض نفسه عليهم، وقد ورد عندنا عن النبي(ص) وعن الأئمة(ع): أنهم كانوا إذا سألهم الناس أجابوهم، وإذا لم يسألوهم ابتدأوهم بالكلام.
وقد ورد أنّ أحد الناس روى عن أحد الأئمّة(ع): «رأيته في منى، والناس مجتمعون حوله، كأنه معلّم صبيان»، ونقرأ في سيرة الإمام الصادق(ع)، أنه كان في مكة والناس يطوفون في البيت، وكان يلتقي الزنادقة، ليحاورهم في مسألة الإيمان والكفر، وهكذا كان ديدن النبي(ص) والأئمة(ع). ولذلك عندما ينتشر الجهل أو الضلال في الناس، فعلى أهل العلم أن يقوموا ليعرضوا أنفسهم للناس، حتى يسألهم الناس عمّا لديهم من علامات استفهام، أو أن يحدِّثوا الناس بما يشعرون أنهم يحتاجونه، لأن ذلك هو الذي ينشر الهدى، وهو الذي ينشر الإسلام.
شرّ الناس أصحاب الذاتية المفرطة:
وفي حديث النبي(ص) في ما يروى لمعاذ: «ألا أنبئك بشرّ الناس؟ قال: بلى، قال: من أكل وحده»، أي الأناني، الذي لا يشعر بحاجة الناس إلى أن يشاركوه طعامه لحاجتهم لطعامه، «ومنع رفده»، منع عطاءه لمن يحتاج لعطائه من الفقراء، «وسافر وحده»، فقد كره للإنسان أن يسافر وحده، لأن الإنسان قد يعيش الكثير من المشاكل خلال سفره، «وضرب عبده»، أي ظلم عبده، أو الأجير الذي يعمل عنده، «ألا أنبئك بشرٍّ من هذا؟ من يبغض الناس ويبغضونه»، الذي ليس في قلبه أي محبة للناس، ونتيجة سلوكه معهم، فإن الناس لا يحبونه، بل يبغضونه، جزاء أعماله وأخلاقه، «ألا أنبئك بشر من هذا؟ من يُخشى شره»، أي الإنسان الذي يعيش والشر يتحرّك في كل حركته في الحياة، في علاقته مع الناس، وفي معاملاته كلّها، «ولا يرجى خيره»، لأنه لا يؤمن بالخير، ولا ينفتح عليه، ولا يشعر بمسؤولية عن تقديمه للناس، «ألا أنبئك بشر من هذا؟ من باع آخرته بدنيا غيره»، يعني الذي عصى الله سبحانه وتعالى لمنفعة الآخرين، كالذين يعصون اللّه تعالى في خدمتهم للظالمين، وفي خدمتهم للمنحرفين، فهؤلاء يخسرون آخرتهم، ولا ينتفعون بدنياهم، لأنهم قدموا هذه الخدمات للآخرين، «ألا أنبئك بشرٍّ من هذا؟ من أكل الدنيا بالدين»([195])، يعني الذين يتاجرون بأديانهم، فيعتبرون الدين دكاناً يتعيشون منه، ويشجعون الناس على أن يبيعوا الدين بالدنيا. وقد ورد في الحديث عن رسول اللّه (ص) أيضاً: «إنّ من أشر الناس منـزلة عند اللّه يوم القيامة، عبداً أذهب آخرته بدنيا غيره»([196]).
شرّ الناس التاجر الخائن:
وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع) يقول فيه: «إن شر الرجال التجار الخونة»، الذين يخونون الناس، فيغشونهم، والذين يقدمون لهم ما يضرهم، هؤلاء الذين يأكلون الأموال بالباطل، مثل التجار الآن الذين يبيعون الناس اللحوم الميتة أو اللحوم المجمدة التي يستوردونها من البلدان الأجنبية، فيقدمونها للناس على أساس أنها لحوم شرعية، ويكتبون عليها مثلاً (لحم حلال)، أو (مذبوح على الطريقة الإسلامية)، فيشتريها الناس على هذا الأساس، هؤلاء الناس هم أكثر الناس شرّاً، لأنهم يضرون الناس في ذلك.
شرّ الناس الفحّاش:
وفي حديث رسول اللّه(ص): «إنّ شرّ عباد الله من تكره مجالسته لفحشه»([197])، فاحش اللسان، والذي يتحدث بما يخدش الحياء، أو بما يسيء إلى كرامات الناس، وما إلى ذلك. وقد ورد في الحديث: «إنّ الله حرّم الجنّة على كلّ فحّاش بذيء اللسان، قليل الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له»([198]).
شرّ الناس الحقود:
وعن الرسول (ص) قال: «شرُّ الرِّجال من كان سريع الغضب، بطيء الرضا»، هذا الإنسان الذي يعيش مع الناس، فإذا رأى من الطرف الآخر أي شيء لا يعجبه، أسرع في غضبه، حتى وإن كان هذا الشيء لا يثير الغضب، وتحوّل بذلك إلى إنسان يسيء بغضبه إلى الناس، وهو «بطيء الرضا»، يعني إذا غضب، فإنه لا يرضى عن أحد إلا بعد وقت طويل، وقد لا يرضى عنهم. وللحديث بقية.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة التاسعة عشرة: 18جمادى الأولى 1426 ه - 25/6/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم
مفاتيح الشرّ
قضية أن تظلم الناس، هي أنّ هناك شروراً تتجاوز ذاتك إلى الآخرين.
تخريب المجتمع.
الباحثون عن معايب الأبرياء.
مصدر السوء.
مفتاح الشر.
مصنع الشر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
تخريب المجتمع
جاء في وصية الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، ذكرٌ لبعض الأحاديث التي تحدثت عن الشر. فقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): «ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: المشاؤون بالنميمة»، والنميمة هي أن ينقل الإنسان الحديث من شخص إلى آخر بما يعقّد علاقتهما ببعضهما البعض، أو بما يثير الفتنة بينهما. وقد ورد في القرآن الكريم الحديث عن بعض هؤلاء الناس، كما في قوله تعالى: )هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ((القلم:11)، وورد في الحديث: «لا يدخل الجنة نمّام». وربما يكون الخطر الكبير الناتج عن النميمة، عندما يفرق بين الأحبة، وهذا ما عبر عنه الرسول(ص) بقوله: «المشاؤون بالنميمة، المفرِّقون بين الأحبة»، وخصوصاً الذين يدخلون بين الزوج وزوجته ليفرقوا بينهما، ويخربوا هذا البيت أو ذاك، بحيث يؤدي إلى النتائج السيئة التي قد تصل إلى حد الطلاق وتشريد الأولاد وما إلى ذلك. وهكذا الذين يدخلون بين الأخوة لتدمير العلاقات بينهم، فهؤلاء كلّهم من شرار الناس؛ لأنهم ينطلقون من أجل إسقاط العلاقات الاجتماعية والإنسانية.
وقد تتمثل خطورة النميمة باختلاف طبيعة الموقع الذي تتحرك فيه، فهناك الفتنة بين شخصين، وهناك الفتنة بين عشيرتين، أو بين دولتين، ما قد يؤدّي إلى حرب هنا، وصراعٍ هناك. وهذا ما كان يحدث في كثير من مواقع التاريخ، حيث نجد الجواسيس أو العيون، الذين قد يتمثّلون في المخابرات، ويكون دورُهم أن ينقلوا الأحاديث الصادرة من شخص إلى جهة معينة من أجل إسقاطه، أو من أجل إيجاد فتنة، سواء كانت هذه الفتنة فتنة دينية، أو فتنة سياسية، أو فتنة اجتماعية، فهؤلاء شرار الخلق، باعتبار أنهم يدمّرون سلام المجتمع، ويمزّقون علاقاته، ما قد يؤدي بهم إلى الحرب وما ينجم عنها من تضييع الأموال وهتك الأعراض وقتل الأنفس. وقد ذُكر في تعداد الكبائر النميمة، والكبيرة ـ حسب المصطلح الفقهي المعروف بين الفقهاء ـ هي العمل الذي توعّد الله عليه دخول النار.
الباحثون عن معايب الأبرياء:
«الباغون للبُرآء العيب»، هؤلاء الذين يتطلَّبون للأبرياء المعايب، بحيث ينسبون إليهم ما ليس فيهم، حتى يسقطوا موقعهم ويدمّروا سمعتهم بين الناس. وفي هذه المسألة إثمان، الأول: هو أنهم يكذبون على الأبرياء، فينسبون إليهم ما ليس فيهم، والثاني: هو أنهم يدمّرون سمعتهم ويسقطون موقعهم الاجتماعي، وقد ورد في الحديث عن علي(ع): «ليس شيء بشر من الشر إلا عقابه»([199])؛ إذ إن عقاب الشر يمثِّل النتائج المدمرة التي ترتدّ على الشّرير. ويقول(ع): «فاعل الشر شرٌّ منه»؛ لأن الشر يمثل فعلاً صادراً من الإنسان، وهو يقتصر على الدور الذي يؤثر فيه هذا الفعل. أما فاعل الشر، فهو إنسان يختزن الشر في ذاته، بحيث تكون ذاته ذات الشر، وبذلك يكون أخطر من الشر.
وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): «خصلتان ليس فوقهما من البر شيء»، أي أنّ هاتين الخصلتين هما أعظم ما جعله الله من البر الذي يرفع درجة الإنسان إلى الله: «الإيمان بالله، والنفع لعباد الله»، فالإيمان بالله هو القمة في البر وفي الخير؛ لأن الإنسان الذي يؤمن بالله الواحد، والذي يؤدي به إيمانه إلى التزامه بعبادة الله وطاعته والإخلاص له، وإلى ارتباطه الوجدانيّ والروحيّ بالحقيقة المطلقة التي تجمع الكون كلّه بإله واحد، هذا الإنسان، يعيش في الآفاق العليا التي تجعله مرتبطاً بالله، وشاكراً له.
والخصلة الثانية: «النفع لعباد الله»، وهذا ممّا ليس فوقه برّ؛ لأن الله أراد للإنسان في الحياة، أن يعتبر أن كل طاقاته التي أودعها في شخصيّته، والتي رزقه إياها، لا بد له من أن يفجِّرها ويسخِّرها ويحركها ويعطيها لكل من يحتاجها من عباد الله سبحانه وتعالى، سواء كان ما لديه علماً يعلّمه للناس، أو مالاً يعطيه لهم، أو قوةً يقوّي بها الضعيف، أو ما إلى ذلك مما يمكن أن يتحقق به النفع لعباد الله في ما يحتاجونه منه. ولذلك فإن كل ما يملكه الإنسان من الطاقة ليست ملكه بالمطلق، بل هي له وللآخرين، وعندما نتحدث عن المجتمع، فإن المجتمع ليس شيئاً مجسّداً ومحدّداً، بل المجتمع هو أنت والآخرون، فطاقة المجتمع هي طاقة المجموع.
فعندما يكون لك علم، فإن علمك لك ولمن يحتاج إليه، وعندما يكون لك مال، فالمال لك ولغيرك مما فرض الله عليك إنفاقه، أو ممّا استحبّه لك، وقد قال تعالى: )وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ((الذاريات:19)، وقال تعالى: )وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ((الحديد:7)، فالله جعلكم وكلاء على المال الذي أعطاكم إياه، وقال: )وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ((النور:33). وهكذا بالنسبة للقوّة والعلم والخبرة وكل ما يُمكن أن يعطيه للإنسان. فلذلك يُعتبر النفع لعباد الله هو الخير الذي لا خير فوقه.
مصدر السوء:
«وخصلتان ليس فوقهما من الشر شيء؛ الشرك بالله»؛ لأن الشرك بالله يمثل التمرّد عليه والإساءة إلى مقامه، فمن حق الله أن توحده، ولذلك جعل الله الشرك ذنباً لا يمكن أن يغفره لأحد، قال تعالى: )إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ((النساء:48). أمّا الخصلة الثانية، فهي ما ذكره بقوله: «والضرّ لعباد الله» وهو أن تكون الإنسان الذي يضرّ الناس في كل ما يملك من وسائل الضرر، سواء كان ضرراً مادياً أو ضرراً معنوياً. والله لا يريد للإنسان أن يحرّك ما رزقه إياه في الإضرار بعباده، لأن ذلك يدمر الواقع الذي يعيشه الناس، ويؤدي إلى نتائج سلبية كبيرة في إسقاط الكثير من الأوضاع الإيجابية لهم في كل أمورهم الدينية والدنيوية. إنّها القيمة السلبيّة المدمّرة لهم التي تؤدّي إلى الإساءة إلى الإنسان كلّه وإلى الحياة كلّها.
وفي حديث الإمام علي(ع): «شر أخلاق النفوس الجور». والجور هو الظلم؛ لأن قضية أن تظلم الناس، هي أنّ هناك شروراً تتجاوز ذاتك إلى الآخرين، فأنت عندما تضرّ نفسك في إطار ذاتك، فأثره محدود بالنسبة إليك، أما أن تضر عباد الله، فإن ذلك يمثل امتداداً في الجانب السلبي للمجتمع؛ لأنك بذلك تؤدي إلى أن تسقط المجتمع في ما يحتاجه من منافع ومن كل القضايا التي تتصل به، في كل أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وما إلى ذلك.
وفي ذكره لأنواع الظلم، قال الإمام علي(ع): «الظلم ثلاثة: ظلم يغفر، وظلم لا يغفر، وظلم مطلوب لا يترك، أما الظلم الذي يغفر، فهو ظلم العبد نفسه عند بعض الهنات». يعني الصغائر التي تصدر من الإنسان، وهي المعاصي الصغيرة، «وأما الظلم الذي لا يغفر، فهو الشرك بالله»، وقد قال تعالى: )إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ(، وقد جاء في القرآن الكريم في وصيّة لقمان لولده: )يَابُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ((لقمان:13)؛ لأنه ظلم لله في حقه، في الإيمان بتوحيده.
«وأما الظلم المطلوب الذي لا يترك، فهو ظلم الناس بعضهم بعضاً»، وهذا الظلم لا يتركه الله لأنه حقّ الناس، ولا يغفره الله حتى يغفره صاحبه. ثم يقول الإمام(ع) في ما روي عنه: «القصاص هناك شديد». فإنك عندما تؤذي إنساناً أو تظلم إنساناً، فإن الله سوف يقتص منك لظلم ذاك الشخص، حيث يأتي المظلوم ويقول: يا عدل يا حكيم، احكم بيني وبين فلان فقد ظلمني، فالله سبحانه وتعالى يقتص من الظالم، تأكيداً للعدل في إرجاع الحقّ إلى صاحبه، يقول الإمام(ع): «القصاص هناك شديد، ليس هو جرحاً بالمدى»، بأن يقطع له جسمه بالسكاكين، «ولا ضرباً بالسياط» على اللحم الحي، «ولكنه ما يُستصغر ذلك معه»([200]).
مفتاح الشر
ما هي الأمور التي تفتح على الإنسان الكثير من الشرّ؟
يقول الإمام الصادق(ع): «الغضب مفتاح كلِّ شرّ»([201])، فإذا ترك الإنسان نفسه مع انفعالاته، وتعامل مع أي شيء يزعجه بطريقة الغضب، فإن الغضب يكون مفتاح كل شر، ويصوّر ذلك ما جاء من كلام الإمام الباقر(ع)، حيث يقول: «أي شيءٍ أشد من الغضب! إن المرء ليغضب فيقتل النفس المحترمة»([202])، وقد يؤدي به غضبه إلى أن ينتحر في بعض الحالات، أو يؤدِّي به إلى إثارة المشاكل في المجتمع، أو إلى أن يطلق زوجته وما إلى ذلك من الأمور، لأن العقل هو الذي يميز للإنسان الحسن والقبيح، أما إذا فقد الإنسان عقله، فإنه يأخذ حريته بما لا يملك معه أي توازنٍ في النظرة إلى الأشياء.
ولذلك ورد أنّ «من لم يملك غضبه لم يملك عقله»([203]). وفي هذا المجال، ورد في سيرة النبي محمّد(ص)، أنه جاءه شخص وقال له: أوصني يا رسول الله، فقال(ص): «انطلق ولا تغضب»([204])، وكأن الرجل استقلّ هذه الوصية، فكرر الطلب، وكرّر النبيّ القول: انطلق ولا تغضب. وطلب ثالثاً وكرر النبي الوصية، وذهب إلى بلده، فرأى التجربة أمامه، رأى عشيرته تقف في جانب والعشيرة الثانية تقف في جانب ثانٍ، وبدأت الحرب فيما بينهما، فتحرّك الرجل بشكل لا شعوري وثار غضبه، وحمل السلاح، واندفع ليحارب مع عشيرته، ولكن عقله عاد إليه، وفكّر في وصية رسول الله التي كانت لا تزال في وجدانه، ففكر في الطريقة التي يمكن من خلالها إيقاف القتال وحلّ المشكلة، فبادر إلى العمل، وذهب إلى العشيرة الثانية، يعرض عليها دفع دية كل قتيل وكل جريح وأن يتم التفاوض على إيقاف القتال، فرأوا أن هذا الرجل لا يتكلم من موقع ضعف، بل من موقع قوة، وأنه رجل صالح يريد أن يدرأ الشر ويوقف الفتنة، فقالوا له: لن تكون أكرم منا، ونحن نقول لكم أيضاً: كل ما سقط منكم من جراحة أو من قتل فهو في مالنا، وتفاهموا وسكن الغضب وحُلّت المشكلة.
إنَّ المسألة التي لا بد لنا من أن ندرسها في مسألة الغضب، هي النتائج السلبية التي تترتّب عليها، بحيث تدمّر حياة الإنسان وحياة من حوله. وقد ورد في بعض كلمات الشعراء أن الغضب يفضح الإنسان؛ إذ ربّما تكون هناك انطباعات تحملها في نفسك عن الناس، وأنت لا تتحدّث بها، باعتبار أنّ عقلك يمنعك من أن تتحدّث عمّا في نفسك ضدّهم، وفي الجانب الآخر يمكن أن تكون من الناس الذين قد تنطلق الكلمات الفاحشة منك إذا غضبت وفقدت توازنك، وفي تصوير هذا الأمر يقول الشاعر:
أغضِب صديقك تستطلِع سريرته
يعني إذا أردت أن تعرف ما يحمله صديقك في سريرته تجاهك، فأغضبه. ثم يقول: «للسر نافذتان؛ السِّكر والغضب»([205]) ثم يعطي المثل الذي يقول:
ما صرَّح الحوض عما في قرارته من راسب الطين إلا وهو مضطرب
فالحوض أو البركة التي يوجد في أسفلها تراب وأوساخ، فإنّك تشرب منها ماءً صافياً ما دام الماء هادئاً، لكن إذا اضطرب الماء، أخرج ما في عمق الحوض والبركة من التراب والأوساخ إلى الأعلى... وهكذا، ما دام الإنسان هادئاً وراكزاً وعاقلاً، فكل الأشياء السلبية والخبيثة الموجودة في أعماقه لا تظهر، ولكنه عندما يغضب، تثور كل الأشياء، فنرى بعض الناس وقورين مهذبين، ولكن إذا غضبوا، فربما يتكلمون بالكلام الفاحش البذيء الذي لا يتكلمه الإنسان الطيب.
وفي حديث الإمام الباقر(ع) يقول: «إن الله عز وجل جعل للشر أقفالاً، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب»، لأن الإنسان إذا شرب الخمر وأخذته السكرة، عند ذلك يستحلّ كل شيء، حتى ينقل أن شخصاً قال لآخر: أخيّرك بين أمور ثلاث؛ إما أن تشرب الخمر، أو تزني، أو تقتل، فاختار الشراب، وشرب الخمر ودارت في رأسه، فزنى وقتل، لأنه عندما شرب الخمر ذهب عقله، وعندما ذهب عقله، ذهب الميزان الذي به يزن الأمور بما يحقق له المصلحة ويدفع عنه المفسدة.
ثم قال: «والكذب شرّ من الشراب»([206]). لأن الشراب هو حالة تعيب الإنسان وتذهب عقله، وتؤدي به إلى بعض النتائج السلبية، لكن الكذب شر منه؛ لأنّه عندما يتحول إلى صفة للإنسان، فإنه يمتد إلى كل مواقع الحياة، كما قال الإمام الباقر(ع): «أي شيء أشد من الكذب؟ إن الكذاب إذا أفنى أحدوثةً مطَّها بأخرى»([207]). فالكذاب عنده مصنع للأكاذيب، وهو يكذب على أهل بيته، ويكذب على الناس الذين يتعامل معهم. يكذب في القضايا السياسية، وفي القضايا الاجتماعية، وغير ذلك، وبذلك يحوِّل المجتمع إلى نار تأكل الأخضر واليابس. وقد ورد في الحديث، أن الإنسان المؤمن عندما يكذب يفتقد صفة الإيمان، لأن الإيمان هو الالتزام بالحق، والكذب هو الالتزام بالباطل، ولا يجتمع التزام بالحق والباطل في آنٍ.
وهنا نذكر القصة التي حدثت لأحد الأشخاص مع النبي(ص)، أنه قال للنبي(ص): يا رسول الله، أنا أملك ثلاث خصال، (إني أشرب) و(إني أزني) و(إني أكذب)، وإذا أمرتني ألتزم بترك واحدة.. فقال(ص): (لا تكذب). ثمّ إنّ هذا الرجل جاء له مزاج شرب الخمر، ففكر في أني إذا شربت الخمر وأرسل النبي(ص) بطلبي وسألني: هل شربت الخمر؟ فماذا أقول؟ وقد أعطيت كلاماً للنبي بأنني لا أكذب، وإذا شربتُ سيترتب علي الحد الشرعي في ذلك، فترك شرب الخمر، وكذلك الزنى.
مصنع الشر:
ويقول الإمام علي(ع): «الخصال المنتجة للشر»، يعني الأعمال والصفات التي تنتج الشر: «الكذب» ـ وقد بيّناه ـ «والبخل»؛ لأن الإنسان الذي يبخل فإنه لا يؤدي حقوق الناس، ما قد يؤدي به ذلك إلى خيانة الأمانة، «والجور»، وهو الظلم الذي يؤدي بالإنسان إلى كثير من النتائج السلبية، وقد ذكرناه في ما سبق، «والجهل»، باعتبار أن الإنسان الجاهل يدفعه جهله إلى القيام بأعمال قد لا تنسجم مع القيم الإنسانية.
ففي الحديث عن رسول الله(ص): «شر الرواية رواية الكذب»، والرواية هي تعبيرٌ عن الحديث، أي أنّ شرّ الأحاديث أحاديث الكذب، لأنّه يجعل الناس يتصورون الأمور على خلاف واقعها، سواء كان الحديث يتصل بأمور الدين أو الدنيا... «وشر الأمور محدثاتها»، والمقصود من المحدثات، البدع التي يبتدعها الناس وينسبونها إلى الشريعة و إلى الله سبحانه وتعالى، وقد ورد في القرآن: )أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ((يونس:59).
«وشر العمى عمى القلب»؛ لأنّ المشكلة الحقيقية ليست في أن يعمى بصرك، وإن كان هذا شراً، لأنّه من الممكن أن تعوضه بما يحدثه الله في قلبك من وعي، فإن المعروف أن الله إذا سلب إنساناً حاسّة من حواسه، فإنه يعوّضه عنها بحاسة أخرى، ولذا نجد أن الكثير من المكفوفين يحرّكون ذكاءهم عن طريق أسماعهم، وعن طريق بصيرة قلوبهم، أما الإنسان الذي هو أعمى القلب، يعني أعمى العقل، والذي لا ينفتح بعقله على أي فكر، وعلى أية دراسة للأمور، فمن الطبيعي جداً أن هذا العمى يجعل الإنسان لا يعرف كيف يدبِّر أمره، وكيف يتحرك في حياته، وكيف ينظّم أموره، وقد ورد في القرآن: )فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ((الحج:46)، وفي القرآن: )قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى((طه:152-126).
ثمّ يقول(ص): «وشرُّ الندامة ندامة يوم القيامة»([208])، باعتبار أن الإنسان عندما يخسر في الدنيا، فإنه يمكن أن يعوّض عن خسارته في ربح آخر، ولكن الإنسان عندما يخسر مصيره يوم القيامة ويندم على خسارته، فإنّه لا يحصل على أي تعويض لها في ما يمكن أن يحققه الإنسان من ربح، وقد ورد في الحديث عن عليّ(ع)، وهو يتحدّث عن يوم القيامة: «اليوم عمل ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل»([209]).
«وشر الكسب كسب الربا»؛ لأن الله يقول: )يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ((البقرة:276)، يعني أن الله يمحقه ويزيله وينسفه نسفاً، «وشرُّ المأكل أكل مال اليتيم ظلماً»، لأن الله يقول: )إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا((النساء:10).
وقد ورد عن رسول الله(ص): «إن إبليس يخطب شياطينه، ويقول: عليكم باللحم والمسكر والنساء»، باعتبار أن هذه الأمور الثلاثة تؤدي بالناس إلى الضلال، «فإني لا أجد جماع الشر إلاّ فيها». يعني أنها تؤدي إلى الغواية والفجور، وإلى أكل المال بالباطل وما إلى ذلك.
وفي الحديث عن علي(ع): «جماع الشر في مقارنة قرين السوء»، لأن الإنسان عندما يقارن قرين السوء ويصاحبه، فإن هذا القرين يؤدي به إلى أن يعديه بالسوء الذي هو فيه، ولذا قال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
فالإنسان عادةً يتأثر بصديقة وبصاحبه. وقد حدثنا الله سبحانه وتعالى عن حوار الإنسان مع قرينه يوم القيامة: )قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ(. فليس لي شغل به، بل هو الذي كان ضالاً، والجواب يأتي من الله سبحانه: )قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ((ق:27:29). ولذلك، فإنّ على الإنسان أن يختار صاحبه وقرينه، ليكون قرين خير ينميه بالصفات الطيبة التي يمكن أن تبني له شخصيته، وترفع له أمره.
وفي الحديث: «جماع الشر في الاغترار بالمهل، والاتكال على العمل»، يعني يغتر بما يمهله الله في زمانه، ويغتر بالعمل، ويعتبر أن عمله سوف ينجيه، فيتكل عليه، ولا يتكل على غفران الله وعلى رحمته في ذلك، فإن هذا العمل يشجعه على أن يبتعد عن الله، وأن لا ينفتح عليه سبحانه وتعالى، وقد ورد عن رسول الله(ص) قوله: «لا يدّعي مدّعٍ، ولا يتمنّى متمنٍّ، أما إنّه لا ينجي إلا عمل مع رحمة». وللكلام بقية إن شاء الله.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة العشرون: 25جمادى الأولى 1426 ه - 2/7/2005م
وصية الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم
جهادُ النفس ووقاية اللسان
الشرّ ليس ثابتة حتمية، بل طبيعةٌ متحرّكة في أصل تكوين الإنسان في نظامه الغريزي الذي ينفتح على الخير كما ينفتح على الشر.
جهاد النفس.
التركيب الغرائزي.
الوقاية في اللسان.
إستقامة الأعضاء باستقامة اللسان.
سلامة الإنسان بحفظ اللسان.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
جهاد النفس:
في الحديث عن رسول الله(ع): «تكلّفوا فعل الخير، وجاهدوا نفوسكم عليه، فإن الشر مطبوع عليه الإنسان». وفي الحديث عن الإمام علي(ع): «الشر كامن في طبيعة كل أحد، فإن غلبه صاحبه بطن، وإن لم يغلبه ظهر». وفيما روي عنه(ع): «أكره نفسك على الفضائل، فإن الرذائل أنت مطبوع عليها».
تؤكّد هذه الكلمات، أن الشر مما طبع عليه الإنسان. وهذا عنوان لا بد لنا من أن نتفهّمه وأن نحلّله؛ لأننا نعرف من القرآن الكريم، أن الإنسان لا يختزن في داخله الشر كطبيعة واحدة حتمية، بل إنّ الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان الهداية للشر وللخير، وهو ما جاء في قوله سبحانه وتعالى: )وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ((البلد:10)، نجد الخير ونجد الشر، وفي قوله تعالى: )إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا((الإنسان:3). ثمّ إنّ الله سبحانه اعتبر الحرّية للإنسان في اختياره، فقال تعالى: )وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ((الكهف:29)، بمعنى أن الإنسان يملك حرية الاختيار بين الحق والباطل، فكيف يكون الإنسان مطبوعاً على الشر أو على الرذائل؟
إذا أردنا أن نجمع بين هذه النصوص القرآنية، وبين تلك النصوص الحديثية، فلا بد من أن نستوحي ذلك مما ورد في القرآن الكريم: )إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي((يوسف:53)، وكما في دعاء يوم (الثلاثاء): «وأعوذ به من شر نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي». فالإنسان عندما خلقه الله، خلق فيه قابلية الخير وقابلية الشر، بلحاظ أن الله ركب فيه الغرائز التي قد تنفتح على الشر وقد تنفتح على الخير، وأعطاه العقل الذي يميز فيه بين ما ينفع الإنسان وبين ما يضره، وألهمه من خلال ما يدركه من قضايا الحسن والقبح، ومن خلال ما أوحى به إليه من خلال رسله، أن الخير هو الذي ينفع الإنسان في الدنيا والآخرة، وأن الشر هو الذي يضرّه ضرراً دنيوياً أو أخروياً. فهناك إذاً صراع في تكوين الإنسان بين العقل والغريزة، بين الفطرة وبين ما يتراكم عليها مما يثير الغرائز التي هي داخلة في تكوين الإنسان، وتمثّل شرط وجوده؛ كغريزة حب الذات، وغريزة الجنس، وغريزة الطعام والشراب والنوم، وما إلى ذلك، وبهذه الغرائز يعيش الإنسان، ولولاها فإن الإنسان لا يستمرّ في الحياة.
التركيب الغرائزي:
لذلك، فإن الإنسان مطبوع على الرذائل، أو مطبوع على الشر، من حيث القابليّة التي قد تتحوّل بفعل عناصر الإثارة إلى حالة فعليّة، بلحاظ أن الغرائز كامنة في داخل الإنسان، وأنها قد تنفتح على الجانب السطحي من جسده، فتوحي إليه بالشر هنا وهناك، فقد توحي إليه بالشر في الطعام المحرم، أو الشراب المحرم، أو الشهوة المحرمة، أو حب الذات الذي قد يتحول إلى حالة استكبارية، أو إلى حالة عدوانية ضد الإنسان الآخر، وما إلى ذلك مما تثيره الغرائز في هذا المجال. فالشر كامن في الإنسان، من خلال طبيعة وجود هذه الغرائز التي قد يحوّلها المناخ المنحرف إلى الشر، وقد يحوّلها إلى رذيلةٍ وما إلى ذلك.
هناك آية في القرآن تتحدّث عن شهادة امرأة العزيز ببراءة يوسف، وأنها هي التي ظلمته، فقالت: )الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ((يوسف:51-53). ولكنّ الله نقل هذه الآية، ليؤكِّد أن امرأة العزيز كانت تتحدث عن نفسها، من حيث كونها الإنسان الذي تدفعه غريزته إلى الشر، ولكنه يرجع إلى الله )إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إن ربي غفور رحيم(، ولذلك استعيرت هذه العبارة في الدعاء المرويّ عن زين العابدين(ع) في يوم (الثلاثاء): «وأعوذ به من شر نفسي، إن النفس لأمارةٌ بالسوء إلا ما رحم ربي».
لذلك، فالأحاديث المروية عن رسول الله(ع) وعن أمير المؤمنين(ع)، تؤكِّد أن وجود الشرّ في ما يكمن في النفس، هو من الأساس التكويني للإنسان في طبيعة الغرائز التي يمكن أن تتّجه نحو الشر، ويمكن أن يتجه نحو الخير، مما يحله الله، ومما يريد للإنسان أن يسير عليه. ومع ذلك، فإن الأحاديث تؤكد أن الإنسان قادر على أن يضبطها، وأنها ليست من الأمور الطبيعية الحتمية التي لا يملك الإنسان أن يعالجها، ولا يمكن له أن يتحرك من أجل تقويمها، فهي ليست مثل عين الإنسان أو أذنه أو أي عضو تكويني آخر، بل هي قابلية في الإنسان، لا بد للإنسان من أن يعالجها حتى لا تتحوّل إلى حالة فعلية، بل عليه أن يحرِّك الجانب الخيِّر فيها بفعل وعي عقله وإدراك إيمانه، وذلك حيث يقول: «تكلفوا فعل الخير»، أي: عندما تريدون أن تندفعوا إلى العمل، فإن عليكم أن تعلموا أنّ هناك خيراً وشراً كامناً في داخل نفوسكم، فحاولوا أن تحركوا نفوسكم نحو الخير لتتكلّفوه.. «وجاهدوا نفوسكم عليه»، يعني عندما ينشأ في نفوسكم الصراع بين الخير والشر، فحاولوا أن تضغطوا على عناصر الشر فيها، وأن توجهوا غرائزكم في اتجاه الخير، لا في اتجاه الشر، «فإن الشر مطبوع عليه الإنسان»، ولكن ليس طبيعة ثابتة حتمية، بل طبيعةٌ متحرّكة في أصل تكوين الإنسان في نظامه الغريزي الذي ينفتح على الخير كما ينفتح على الشر.
وهكذا في كلمة الإمام علي(ع): «الشر كامن في طبيعة كل أحد، فإن غلبه صاحبه بطن»، يعني أنّه بقي في باطنه مجرد شيء كامن في الأعماق، لا حركة فيه، ولا فعلية له، «وإن لم يغلبه ظهر»([210]) أما إذا ترك الإنسان غريزته تتحرك في اتجاه الشر، فلا بد من أن يتحول الشر إلى حالة فعلية بعدما كان حالة باطنية.
وهكذا قوله: «أكره نفسك على الفضائل، فإن الرذائل أنت مطبوع عليها»([211])، باعتبار أن الفرق بين الرذائل والفضائل، هو أن الرذائل تتصل بالجانب الحسيّ للإنسان، بينما الفضائل تتصل بالجانب العقلي والجانب الروحي عنده، ولذلك، فإن الإنسان بطبيعته يتجه نحو الرذائل بحسب مشاعره وأحاسيسه التي تطفو على السطح. لذا لا بد للإنسان من أن يتكلَّف الفضائل وأن يدفع نفسه إليها.
وفي حديثٍ للإمام علي(ع) في الاتجاه نفسه: «النفس مجبولة على سوء الأدب» وذلك من خلال الطبيعة الذاتية للإنسان، من خلال الحساسيات السلبية الكامنة فيه، «والعبد مأمور بملازمة حسن الأدب» أي أن يتعلّم الأدب في ما يحسن للإنسان أن يقوم به، وأن يربّي نفسه على ذلك، «والنفس تجري بطبعها في ميدان المخالفة، والعبد يجهد بردِّها عن سوء المطالبة»، باعتبار أن الإنسان، بحسب العادة، مجبول على حب ما تمتنع عليه نفسه، فعندما يُمنع من شيء، فإن النفس تصبو إليه وتتطلع إليه. ولذلك، فإنّ المطلوب من العبد أن يجهد نفسه بأن يردّها عن سوء المطالبة بما ينتج عنه المخالفة، «فمتى أطلق عنانها» وأعطى النفس حريتها، «فهو شريك في فسادها»، لأن الإنسان لا بد له من أن يحكم نفسه، ولا بد له من أن يوجّهها ويقودها، فإذا امتنع عن دور القيادة لنفسه، في توجيهها إلى ما يصلحها، وتركها لما يفسدها، فإنَّ معنى ذلك أنه شاركها الجانب السلبي في نفسه، والذي يؤدّي إلى فسادها، «ومن أعان نفسه في هوى نفسه، فقد أشرك نفسه في قتل نفسه»؛ لأن الهوى قد يقود الإنسان إلى ما يهلكه وإلى ما يقتله.
الوقاية في اللسان:
وقد ورد في الأحاديث عن رسول الله(ع)، ولعل في هذا التعبير نوعاً من الغرابة، ولكنه ـ على كل حال ـ مرويّ في كتاب (مستدرك الوسائل)، يقول: «من وقي شر ثلاث فقد وقي الشرّ كلّه؛ لقلقه، وقبقبه، وذبذبه»، ف(لقلقه) هو لسانه، يعني بذلك حركة اللسان، وللسان شر وخير بحسب ما ينطق به، فمن وقي شره وانفتح على ما فيه من الخير، فقد وقي الشر.
(وقبقبه) بطنه، باعتبار أن البطن يشتهي أو يتطلع إلى كل ما يملؤه، فقد يكون حراماً وقد يكون حلالاً، والحرام شر، والحلال خير، فمن وقي شر بطنه وقيّ الشر، لأنه ما ملأ العبد وعاءً شراً من بطنه، سواء كانت تأثيرات البطن في الحلال أو الحرام، أو في المرض والصحة.
(وذبذبه)، أي فرجه، باعتبار أن الفرج هو الذي يقود الإنسان نحو الشهوات التي قد تكون شراً إذا كانت حراماً، وقد تكون خيراً إذا كانت حلالاً.
وقد ورد في الحديث عن مسألة اللسان في كلمة لرسول الله(ع) يقول: «إن كان الشر في شيء ففي اللسان»، لأن طبيعة اللسان هي أنها تعبر عن كل ما يفكر به الإنسان، وعن كل ما يتحرك به، وعن كل ما ينطلق به في علاقاته مع الناس في المستوى الفردي والاجتماعي، وفي كل المشاريع التي يخطط لها، سواء كانت مشاريع سلم أو مشاريع حرب، مشاريع خير أو مشاريع شر، فباللسان يغتاب الإنسان، ويسبّ، ويفتن، ويطلق الكلمات التي يأمر فيها بالقتل والجرح والحرب وما إلى ذلك.
وقد ورد في الحديث عن الإمام محمد الباقر(ع): «إن هذا اللسان مفتاح كل خير وشر». لأنّه يمكن للإنسان أن ينفتح بلسانه على ما تفيده الكلمات من مضمون الخير، ويمكن أن ينفتح به على ما في الكلمات من مضمون الشر، «فينبغي للمؤمن أن يختم على لسانه»، بمعنى أن يجعل قفلاً للسانه «كما يختم على ذهبه وفضّته»([212])، فكما تحافظ على ثروتك وتقفل عليها لكي لا يعبث بها اللصوص، عليك أن تختم على لسانك حتى لا ينفذ الشيطان إليه، فيفتح لك من خلاله باب الشر، ويغلق عنك باب الخير. وقد ورد عن الإمام علي(ع) أنه قال في نهج البلاغة: «لقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه»([213])، والمراد بالقلب غالباً العقل، وهو منطقة الوعي الداخلي.
إستقامة الأعضاء باستقامة اللسان:
واستقامة القلب بمعنى توازنه في طريقة إدراك الأشياء، وفي الإيحاء للإنسان باختيار الأشياء المستقيمة التي يمكن لها أن تجعل حياته في خط التوازن، لأن الإيمان يمثل القاعدة التي تنفتح بالإنسان على الله سبحانه وتعالى، وتربطه بالله وبكل ما يحبه ويرضاه. ولذلك، فإن الإيمان عندما يستقيم، فإن الإنسان يتحرك في خط العقل، لأن الله جعل العقل الحجة على الإنسان، وجعله الهادي له. وقد ورد في الحديث القدسي ـ مخاطباً العقل ـ: «إياك آمر وإياك أنهى، وبك أثيب وبك أعاقب»، فلا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه؛ لأن عقله إذا كان منحرفاً أو كان منطلقاً في خطِّ الانحراف، فمعنى ذلك أن إيمانه يكون منحرفاً؛ لأن الإيمان ينطلق من خلال العقل، «ولا يستقيم قلبه»، يعني لا يتوازن العقل في حركته في ما يريد للإنسان أن يتحرك فيه، «حتى يستقيم لسانه».
ثم يقول الإمام علي(ع) بعد نقل هذه الكلمة عن رسول الله(ع): «فمن استطاع منكم أن يلقى الله وهو نقي الراحة من دماء المسلمين وأموالهم»، يعني من استطاع أن يعيش مع الناس وقد سلموا من يده في ما يمكن أن يعتدي به عليهم، أو في ما يأخذه من أموالهم، «سليم اللسان من أعراضهم» لا يسبّهم، ولا يؤذيهم، ولا يوقع بينهم، ولا يتعرض لكراماتهم «فليفعل»، فهذا هو طريق السلامة للإنسان. وقد ورد في الحديث: «المسلم من سلم الناس من يده ولسانه»([214]).
وقد ورد عن لسان الرسول(ع): «إذا أصبح ابن آدم»، وهو تعبير وارد على نحو الكناية، وعلى نحو تقريب الفكرة «أصبحت الأعضاء كلها تستكفي اللسان»، يعني تطلب من اللسان أن يكفيها شره، «أي تقول: اتق الله فينا»، يعني أننا سنتعذب بسببك «فإنك إن استقمت» وكانت كلماتك في ما يرضي الله وفي مواقع طاعته، وفي خط الاستقامة، فنحن نستقيم، لأن الإنسان عندما يتكلم بالأمانة، عندئذٍ تكون اليد أمينة، وعندما يتكلم باحترام دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، فإن اليد عند ذلك تكون عفيفة غير عدوانية، بينما لو فرضنا أن اللسان تكلم بكلمات فيها العدوان، أو على خلاف العفة والسلامة للناس، فإن اليد تتحرك في هذا الاتجاه، «فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا»([215])، كذلك في كل المحرمات عندما يتكلم الإنسان بالمحرمات.
وإذا تكلَّم اللسان بالحلال في ما يتّصل أيضاً بأعضاء الإنسان، فإن الأعضاء تتجه أيضاً إلى الحلال في ذلك المقام. وقد ورد في كلام الإمام علي(ع): «لسان العاقل وراء قلبه، ولسان الجاهل مفتاح حتفه»([216]). إنّ العاقل لا يتحدث إلا بعد أن يوحي إليه عقله بما يتحدث به، فالعقل هو القيادة، واللسان جندي من جنود العقل، بينما عندما يتكلم الجاهل أو الأحمق، فإنه قد يتفوّه بكلام من دون أن يدرسه أو يحتاط به، ما يجعل الآخرين يشاركون في هلاكه وفي قتله. وعنه(ع) أيضاً: «لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه». أمّا لسان العاقل، فقد تقدّم الحديث عنه، وأما الأحمق، فهو الذي لا يملك العقل الذي يزن به الأمور، والذي يدرك به حسن الأشياء وقبحها، ولذلك، فإنه يتكلم الكلمة أولاً، ثم يفكر فيها بعد أن تعطيه النتائج السلبية.
سلامة الإنسان بحفظ اللسان:
وفي حديث الإمام علي(ع) في هذا الاتجاه أيضاً يقول: «إن لسان المؤمن من وراء قلبه» هنا يربط المسألة بقضية الإيمان والنفاق، لأن المؤمن ينطلق من خلال إيمانه على أساس أنه مسؤول عن كل أقواله وأفعاله، ولذلك، فإنه لا يتكلم بكلمة إلا بعد أن يستنطق إيمانه، ليرى أن هذه الكلمة، هل تنسجم مع خطه الإيماني أو لا تنسجم؟ وهل أنها تتحرك في خط الحسن أو في خط القبح؟ وهل هي مما يضره أو مما ينفعه؟ وهل هي مما يؤدي إلى النتائج السلبية في حياة الناس من حوله أو إلى النتائج الإيجابية؟ لذلك فالمؤمن يستنطق عقله إذا أراد أن يتكلم بما يوحي إليه به عقله، «وإن قلب المنافق»، وهو الذي لا يملك قاعدة فكرية للإيمان تحدد له ما يفعله وما يتركه، ولذلك، فإنه يتكلم على حسب هوى نفسه، «وإنه قلب المنافق من وراء لسانه»، باعتبار أن المنافق يتكلم بما يوحي به هوى نفسه ثم يفكر.
والإمام(ع) هنا لا يتركنا نضيع في غموض الكلمات، فكيف يكون اللسان وراء القلب للمؤمن؟ وكيف يكون القلب وراء اللسان للمنافق؟! مع أننا إذا أردنا أن نتكلم عن الجانب الحسي، فلسان المؤمن ولسان المنافق في مكان واحد، ولا يوجد فرق بينهما، لكن الإمام أراد أن يعبِّر عن خلفية المسألة من ناحية الكناية عن الفكرة، يقول: «لأنّ المؤمن، إذا أراد أن يتكلم بكلام، تدبّره في نفسه» يفكر ويعرضه على عقله، «فإن كان خيراً» قال له العقل هذا الكلام خير، وهو كلام يمكن أن تتحمل مسؤوليته، ويمكن أن يرضى الله عنه وأن يثيبك عليه «فإن كان خيراً أبداه» أظهره «وإن كان شراً واراه»، يعني إذا أوحى له العقل بأن هذا كلام شر، وأنك لا تستطيع أن تتحمل مسؤوليته، ولا تستطيع أن تقابل به ربك، فإنه يخفيه، «وإن المنافق يتكلم بما أتى على لسانه»([217]) يعني عندما تأتي الكلمة إلى اللسان من خلال شهوات نفسه، فإنه يتكلم وهو "لا يدري ماذا له وماذا عليه"، لأن الكلمة لا تنطلق من خلال الفكر، ولكنها تنطلق من خلال هوى النفس.
وقد ورد في الحديث عن الرسول(ع): «سلامة الإنسان في حفظ اللسان»، لأنَّ الإنسان إذا حفظ لسانه فإنّه يصون نفسه من كثير من العثرات التي تؤدي به إلى المهالك. وقد ورد أيضاً: «لا يسلم أحد من الذنوب حتى يخزن لسانه»، لأنه إذا خزن لسانه، فإنه يستطيع أن يوجهه إلى ما فيه سلامته في الدنيا والآخرة. وورد أيضاً عن الإمام علي(ع): «زلة اللسان تأتي على الإنسان»، وورد عنه: «المرء يعثر برجله فيبرأ»، لأن الإنسان عندما يعثر برجله يداويها فيبرأ، «ويعثر بلسانه فيقطع رأسه»، ربما يتكلم بكلمة تؤدي به إلى القتل.
وقد ورد في بعض كلام الشعراء:
يصاب الفتى من عثرةٍ بلسانه وليس يصاب المرء من عثرة الرِّجل
وقد ورد أيضاً في كلام الإمام علي(ع): «رب كلمة سلبت نعمة»([218])، لأن الكلمة ربما تتضمن شيئاً تدفع الآخرين إلى أن يعاقبوك أو يضروك أو يمنعوك مما تحتاجه. وقد ورد أيضاً عن لسان رسول الله(ع) أيضاً، وهذا وارد على نحو الكناية: «يعذب الله اللسان بعذاب لا يعذّب به شيئاً من الجوارح» من أعضاء الإنسان «فيقول اللسان ربي عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئاً، فيقال له: خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها» ولاسيما إذا كان الإنسان يملك موقعاً سلطوياً، بحيث يستطيع من خلاله أن يترك تأثيراً في ما يقول وفي ما يفعل على العالم كله، سلباً كان أو إيجاباً كما نلاحظ الآن في رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الأيام، «فيقال له: خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسفك بها الدم الحرام، وانتهب بها المال الحرام، وانتهك بها الفرج الحرام»([219]). وفي بعض الأحاديث عن الإمام زين العابدين(ع)، أنه في كلِّ يوم يسلِّم بعض الأعضاء على الآخر، مثلما يلتقي بعضنا ببعض، ويقول أحدنا للآخر صباح الخير، فيقول اللسان: «كيف أصبحتم؟ فيقولون: بخير إن تركتنا» اكفنا شرك ونحن بخير، لأن كل واحد منا له مسؤولية خاصة ينطلق بها. وعلى ضوء هذا، تأتي الكلمة المعروفة عن الإمام علي(ع) عن رسول الله(ع): «إن كان الشر في شيء ففي اللسان»([220]). وللكلام بقية..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الحادية والعشرون: 2جمادى الثاني1426 ه - 9/7/2005م
وصية الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم
كن خيراً لا شرّ معه
إذا طبعت نفسك على الشر، فإنّك بذلك تتحرك في الوجهة المعاكسة لدينك.
دفع الشر.
حركة الخير.
الشر من بلاءات الدنيا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
دفع الشر:
ورد عن عليّ(ع)، في موضوع الشر الذي هو من جنود الجهل ـ كما جاء في وصية الإمام موسى الكاظم(ع) لهشام بن الحكم ـ: «أخِّر الشر، فإنك إذا شئت تعجّلته». يبين الإمام(ع) في هذا الحديث، أنّه إذا خطر الشر في ذهنك، ودفعتك نفسك الأمَّارة بالسوء إلى أن تفعله، فحاول أن تجاهدها لتؤخّره؛ لأنك ربما تتحرك لتتعجّله، فتواجه مشاكله وسلبياته. ولذلك، فعليك، مهما أمكن، أن تؤخّر الشرّ. وربما كان المراد من تأخير الشر، هو كون ذلك وسيلة من وسائل عدم القيام به، بلحاظ أنّ تأخيره يفسح في المجال أمام العقل ليدرس نتائجه السلبيّة بهدوء، بعيداً عن ضغط الغريزة والانفعال.
ويقول الإمام محمد الباقر(ع): «كن خيراً لا شرّ معه»، أي حاول، في تربيتك لنفسك وبنائك لها، أن تصوغها على أساس الخير؛ بحيث يكون الخير في عقلك، فلا ينطلق فكرُك إلا بالخير، ويكون الخير في قلبك، فلا تنفتح عاطفتك إلا به، وهكذا في حركتك في كل ما تقوم به، وفي كل ما تفعله من مواقف، وفي كل ما تلتزمه من علاقات، فليكن ذلك كله خيراً في الموقف، وخيراً في العمل، وخيراً في العلاقات؛ لأن الخير يحبّه الله، ولأنّه يؤدّي بك إلى الحصول على رضوانه، ولأنّه ينقلك إلى الدار الآخرة لتحصل على نعيم الله في جنته. أما الشرّ، فإنه يؤدي بك إلى سخط الله وإلى غضبه، وإلى البعد عن مواقع رضاه.
»وكن ورقاً لا شوك معه، ولا تكن شوكاً لا ورق معه، وشرّاً لا خير معه». يشبّه الإمام(ع) حياة الإنسان بالورق وبالشوك، فالورق، سواء تمثّل بالورد أو بالخضرة أو في الشجر، ينفع الإنسان، ويمنحه الكثير من النتاج الطيب، أما الشوك، فإنه يجرح الإنسان عندما يمسّه، وعلى الإنسان أن يكون ورقاً لا شوك معه، وذلك بأن يكون عنصر نفع لا عنصر ضرر، تماماً كما هو الورق والشوك، وليس كمثل أناس كثيرين إذا درست سلوكهم مع الآخرين، فإنك تجدهم كمثل الشوك الذي إذا أصاب أحداً فإنه يجرحه ويؤذيه وما إلى ذلك.
وعن الإمام علي(ع) أنّه قال: «من أضمر الشر لغيره، فقد بدأ به نفسه». إذا كنت تضمر الشر لغيرك في ما تتعامل به معه، سواء في طبيعة العلاقة التي تنشئها، أو من خلال المعاملة التي تجريها، فإنّ ذلك يعني أنّك تبدأ بالشر نفسك؛ لأنك بذلك تجعلها موقعاً من مواقع الشر، وعنصراً من عناصره، وبذلك تضرّ نفسك بما تختزنه من أفكار الشر ومشاعره، وبما ينتجه الشر الذي تضمره للآخرين من نتائج سلبية على نفسك.
ويقول الإمام علي(ع): «إياك وملابسة الشر»، يعني إياك أن تجعل الشر طابعاً للشخصيّة، وخلقاً من أخلاقك، «فإنك تنيله نفسك قبل عدوك»؛ لأن الشر عندما يطبع نفسك بطابعه، فإنه بذلك يثير فيك كل المعاني الخبيثة والسيّئة، ما يجعلك إنساناً شريراً بالمستوى الذي تفقد فيه طهارتك ونقاءك وإنسانيتك، «وتهلك به دينك قبل إيصاله إلى غيرك»([221])؛ لأنك عندما تعيش الشر في نفسك، فإنك بذلك تسيء إلى استقامتك في دينك، لأنّ الدين خيرٌ لا شرّ فيه، فإذا طبعت نفسك على الشر، فإنّك بذلك تتحرك في الوجهة المعاكسة لدينك، فقد ورد عن رسول الله(ص) قوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها»([222])، وقوله: «اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها». وعلى ضوء هذا، فإن الدين يؤكّد المحبة للآخرين، ويطلب الخير لهم، فإذا انطلقت بالبغض بدلاً من المحبة، والقسوة بدلاً من الرحمة، والشر بدلاً من الخير، فقد فقدت دينك قبل أن توجه الضرر بالشر إلى غيرك، وبذلك تفقد سلامة مصيرك.
حركة الخير:
وفي الحديث عن علي(ع): «متّقي الشر كفاعل الخير»، أي أنّك إذا استطعت أن تتقي الشر من نفسك، وأن تطرده من أخلاقك، وأن تبتعد عنه في سلوكك، فإنك بذلك تجلب الخير إلى نفسك؛ لأنّ الخير يتحرك في خطين: خط إيجابي، وهو ما تفعله أنت مما أراد الله لك أن تفعله، وخط سلبي، وهو أن تبتعد عن الشر وأن لا تفعله، وأنت بمقدار ما تبتعد عن الشرّ، فإنّك تتقرّب إلى الخير.
وعن الإمام الحسين(ع): «مجالسة أهل الدناءة شر». أي أنّك عندما تريد أن تجالس الناس، فإنّ عليك أن لا تختار الإنسان من ذوي الأخلاق الدنيئة؛ لأن الإنسان يأخذ الأخلاق من جليسه، فإذا كان جليسه إنساناً ينفتح على الخير، فإنه يأخذ أخلاق الخير منه، وإذا كان ينفتح على الشر، فإنه يأخذ أخلاق الشر منه. ولذلك على الإنسان أن يعمل على أساس أن يختار جليسه إذا أراد أن يختار أخلاقه. قيل: قل لي من تعاشر، أقل لك من أنت.
وعن الإمام علي(ع) يقول: «ردُّوا الحجر من حيث جاء، فإنّ الشرّ لا يدفعه إلا الشر»، أي أنّه عندما يواجهك الآخرون بالشر، تماماً كمن يرمي الحجارة عليك، ولا سبيل لك إلى حماية نفسك من شرهم الذي يريدون أن يدمّروك به، فإنّ عليك أن تدافع عن نفسك؛ لأن دفاع الإنسان عن نفسه هو أمر تفرضه الفطرة وشرعة الله سبحانه وتعالى. وقد جاء في القرآن الكريم: )وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ((الشورى:39).
وقد ورد عن الإمام علي(ع) أيضاً: «الشر منطق وبيء». يُقال: وبيء إذا كثُر مرضُه، وقد يكون هنا كناية عن الخبيث، وعلى الإنسان أن يبتعد عن هذا المنطق الذي يمثّل أكثر من لونٍ من ألوان المرض النفسيّ الذي قد يمتدّ حتى يتحوّل إلى مرضٍ حياتيّ شامل. هذا كلّه في ما ورد في الأحاديث الشريفة عن النبي(ص) وعن الأئمة من أهل البيت(ع).
الشر من بلاءات الدنيا:
وفي القرآن، هناك العديد من الآيات التي تتحدّث عن الشر الذي يواجهه الإنسان في مصيره يوم القيامة، كما تتحدث عن الشر الذي يعيشه الإنسان في الحياة عندما يواجه البلاء الذي يمتحنه الله به، سواء من خلال الخير ومما ينفع حياته، أو من خلال الشرّ مما يسيء إليها.
قال تعالى: )كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ((الأنبياء:35) يبيّن الله للإنسان في هذه الآية، أن الموتَ نهاية كل إنسان، وأنّ الله لم يكتب الخلد لأحد، حتّى لأعزّ عباده، وهذا ما خاطب به رسوله(ص): )وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ((الأنبياء:34). فالله يريد أن يؤكّد للإنسان، أنه سوف يفارق هذه الحياة الدنيا عندما يأتيه أجله، ولكن ما بين بداية الحياة ونهايتها، هناك المدى الذي يبتلي فيه اللهُ الإنسان بما يطرأ عليه من طبيعة الحياة، من خلال ما أودعه فيها من سُنن وقوانين، فربما يواجه الإنسان الخسارة والربح، والمرض والصحة، والغنى والفقر، والألم واللذة، والنصر والهزيمة، فهذه من طبيعة الحياة، لأن الحياة ليست ورداً لا شوك فيه، وليست شوكاً لا ورد فيه، بل إن الحياة تختزن في حركتها الفرح والحزن؛ كما تختزن اللذة والألم بشكل طبيعيّ.
وهذا ما طبعت عليه الحياة، كما ورد في قوله تعالى:)لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ((الحديد:23)، يعني أنَّ الخسارة ـ وهي تعبير عمّا يفوت الإنسان ـ هي من طبيعة الحياة، وليست أمراً خارج نطاق الواقع الطبيعي للإنسان. ولذا، فعلى الإنسان إذا ما فاته شيءٌ وخسر ما خسره، أن لا يحزن على ما فاته؛ لأنّ الخسارة عندما تتحقّق أسبابها، تكون من طبيعة الحياة، وعندما يأتيه الربح والغنيمة، فإن عليه أن لا يفقد توازنه بالفرح، بل يتقبّل ذلك بشكل طبيعي؛ لأنه كما أن من طبيعة الحياة الليلُ والنهار، والشتاءُ والصيفُ، والخريف والربيع، فكذلك من طبيعة الحياة الخسارةُ والربح، فليست الحياة خسارة كلّها، وليست الحياة ربحاً كلّها، وهذا ما عبر عنه الإمام أمير المؤمنين(ع) في كتابه الذي أرسله إلى حبر الأمة عبد الله بن عباس، الذي قال: «ما انتفعت بكلام من كلامه كما انتفعت بهذا»([223])، يقول الإمام(ع) في كتابه: «أما بعد، فإن المرء ليفرَح بالشيء الذي لم يكن ليفوته»، فإذا جاء له ولد، فإنّ مجيء الولد يكون من خلال توفّر أسبابه، وإذا حصل على ربح، فإنّ حصول الربح إنّما هو بحصول أسبابه، فعندما تحدث أسباب الشيء، فإن من الطبيعي أن يحصل هذا الشيء.
«ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه»، فإنه إذا لم تتوفر أسباب الربح، فمن الطبيعي أن تصير الخسارة، وإذا لم تتوفر أسباب النصر، فمن الطبيعي أن تكون هناك هزيمة، وإذا لم تتوفر أسباب مجيء الولد، فلا يأتي الولد، وإذا لم تتوفّر أسباب استمرارية الحياة، فمن الطبيعي أن يموت الإنسان. إذاً لماذا يحزن الإنسان على الشيء الذي لم يكن ليصيبه وأسبابه لم تتحقق في الحياة؟
«فلا يكن أفضل ما نلت في دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل وإحياء حق»([224])، فلا يكن هدفك أن تحصل على اللذة أو أن تشفي غيظك، بل ليكن هدفك رسالتك، وما حمَّلك الله من مسؤولية، بأن تطفئ الباطل عندما يشتعل في الحياة، وأن تُحيي الحق عندما يريد الآخرون أن يميتوه. ولذلك فقول الله: )وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً(، أي نبتليكم في ما يحدث لكم من أوضاع سلبيّة أو إيجابيّة. والابتلاء هنا ليس عقوبةً، بل هو مسألة امتحان واختبار، وهذا هو معناه في القرآن، الذي يؤكّد أنّ حركة الواقع، تمثّل اختبار قدرة الإنسان في توجيه إرادته، بما يُظهر عناصر شخصيّته، في مواقفه الخاصّة والعامّة، في أبعادها الإيجابيّة المنسجمة مع الحقّ، أو السلبيّة في ابتعادها عنه، ما يجعل من تنوّع الأوضاع المحيطة بالإنسان، تنوّعاً في اكتشاف الواقع الداخلي، في حركة الذات في التعامل مع الأشياء والأحداث.
وقد يكون الغنى بلاءً للإنسان، ليرى الله إذا كان هذا الإنسان سيشكره على ما أعطاه من مال، وهل يحرّك غناه في طاعة الله أم في معصيته؟! وقد يكون الفقر بلاءً، ليرى الله هل يصبر هذا الإنسان على الفقر، أم أنّه يبيع دينه ليحصل على المال من الآخرين؟ وهكذا في كل مجالات الحياة؛ من المرض والصحة، والربح والخسارة، والسقوط والارتفاع... فالله يقول: )وَنَبْلُوكُمْ( يعني أن الحياة التي تعيشونها حياة فيها شر يصيبكم، وفيها خير يحصل لكم، والله يختبركم ويمتحنكم ويبتليكم بهذا الشر وذاك الخير، فاعرفوا كيف تواجهون مسؤولياتكم في ذلك كلّه؛ لأنكم سوف تقفون بين يدي الله )وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ((الأنبياء:35)، لتقدّموا حساب أعمالكم في مسؤوليّاتكم أمامه.
أهل الشر:
ونقرأ عن تهديد الله للذين يكفرون به ويبتعدون عن خطّ الرسالات، فيما يصيبهم من الشرّ في الآخرة، وهو دخول النار: )قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ(. والخطاب هنا لأهل الكتاب، باعتبار أن الإسلام ابتلي في بداية الهجرة بأهل الكتاب، وهم اليهود في المدينة؛ لأن الابتلاء بالنصارى كان متأخّراً، حيث يخاطبهم: هل تنقمون منا لأننا آمنا بالله كما آمنتم أنتم برسالة النبي موسى، )وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا( من القرآن )وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ((المائدة:59)؛ لأن أكثركم يتجاوزون الحدود التي يريد الله للإنسان أن يقف عندها في عقيدته وشريعته، )قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ(، ويقصد بالمثوبة الجزاء، من باب التعبير عن الشيء بعكسه، زيادةً في التهكّم، أيْ هل أنبئكم بشرّ من هذه الصفة عند الله، وهي صفة الفسق؟ )مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ( أيْ أبعده عن مواقع رحمته، )وَغَضِبَ عَلَيْهِ(؛ لأنه انحرف عن الخطِّ المستقيم، )وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ( الذين مسخهم الله بمعصيتهم، )وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ(، والطاغوت هو كلّ شخصٍ متمرّد على الله، أو كلّ شريعة غير شريعة الله، أو كلّ اتجاه في غير الخطّ المستقيم الذي يرضاه الله، )أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا( لأن مكانهم هو النار )وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ((المائدة:60)، لأنهم يتحركون في السبيل المنحرف، لا في السبيل المستقيم.
ويقول تعالى: )قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ( على المستويين العقيدي والشرعي، )فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدًّا( أي يمهله في الحياة )حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ(، وهي القيامة التي يواجهون فيه قضيّة المصير الأسود،)فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا((مريم:75)، سيعرفون مصيرهم السيئ الذي يواجهون به عذاب الله في النار)وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى( من المؤمنين والمتقين، )وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا((مريم76)، هذا هو الذي يواجهه أولئك الناس.
ويحدّثنا الله عن بعض الناس من الكافرين الذين كانوا يتحدّون النبي(ص)، إذ كانوا يقولون: )وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً(؛ إذ كانوا يعترضون على النبي(ص)، فيقولون: لماذا لم ينـزل الله القرآن كتاباً كاملاً فيما بين الدفتين؟! لماذا ينـزّله آياتٍ آياتٍ؟! وما هي الحكمة في ذلك؟ إذ لو كان القرآن من الله لنـزّله جملة واحدة. وكأنّهم يريدون أن يقولوا، إنّه عندما يتلو النبي القرآن آيات متفرقة، فمعنى ذلك أن القرآن من صنعه، كما يفعل أي شخص في ما يصدر عنه من كلمات يحتاج إليها في أغراضه المتنوّعة، أو أنّ هناك من يعلّمه ذلك بشكل تدريجيّ، )كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ((الفرقان:32)، لأنك تواجه الموقف بتجارب صعبة، في الحرب، وفي السلم، وفي كثير من المشاكل التي تواجهك، ويريد الله سبحانه وتعالى أن يثبّت فؤادك، ويقوّي موقفك وموقف المؤمنين معك، كما ورد في آية أخرى: )لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا((النحل:102)، حتى يعيش القرآن مع المؤمنين في تجاربهم وفي كل حياتهم.
وهذا ما كان النبي يفعله عندما كان يواجه مشكلة مستعصية، والمسلمون يسألونه ما هو الحل، فكان يقول لهم كما ورد في السيرة: «أنتظر أمر ربي»، حتّى إنّه قد يمضي يوم أو يومان أو أكثر قبل أن ينـزل عليه الوحي )ورتلناه ترتيلاً * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ(، في كل ما يثيرونه أمامك من شبهات )إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا((الفرقان:32-33) بما يرد شبهاتهم، وبما يسكت كل اعتراضاتهم، )الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا(، وأيّ مكان أكثر شراً من جهنم )وَأَضَلُّ سَبِيلا((الفرقان:34)، وأي طريق أكثر ضلالاً من طريق الكفر والضلال.
ونقرأ في القرآن أيضاً: )هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ( هؤلاء الذين يأخذون بالطغيان على الرسالات وعلى الناس،)جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ(، هؤلاء مصيرهم جهنّم، التي هي بئس المصير. فكيف هي أجواؤها كما يقول الله؟: )فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ(، والحميم هو الماء الذي يغلي والذي يسقونه، )وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ( يعني يتوزَّعون أزواجاً في جهنم، وذلك عندما يدخل هؤلاء في جهنّم أفواجاً أفواجاً،)هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ(، فينطلق الحوار بينهم فيما بينهم، )قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا( قدمتم لنا هذا المصير )فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ((ص:55-61)، بحيث إن كلاً منهم يحمِّل الآخر مسؤولية هذا المصير الذي وصل إليه.
وتبقى بعض الآيات التي يمكن أن نتحدث فيها إن شاء الله في الأسبوع القادم..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثانية والعشرون: 9جمادى الثاني1426 ه - 16/7/2005م
وصية الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم
الشرّ الخارجيّ والداخليّ
كنا نقول لمن يحاول أن ينتقد التفسير الديني للتاريخ إنكم لم تفهموا الدين، فقانون السببية هو القانون الذي يخضع له كل النظام الكوني والنظام الإنساني.
مكرمة العطاء.
غرور الدنيا.
قانون السببيّة.
الشر الداخلي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
مكرمة العطاء:
تحدَّثنا في وقت سابق، عن بعض إيحاءات وصية الإمام موسى الكاظم(ع) لهشام بن الحكم، في تعداده لجنود العقل وجنود الجهل، حيث ذكر أن من جنود الجهل الشر. وقد تحدثنا طويلاً عن الشر في الدنيا والآخرة. وعندما يتحدث القرآن عن الشر في الآخرة، فإنه يتحدث عن نار جهنم وما يؤدي إليها، من غضب الله وسخطه، باعتبار أنها تمثل مفاعيل هذا الغضب والسخط. ونقرأ في آيات الله سبحانه وتعالى، حديثاً عن مكرمة لأهل البيت(ع)، ويتحدث سبحانه في السياق نفسه عن الشر المستطير الذي يخافه المؤمنون ويطيعون الله لتفاديه والابتعاد عنه، وهذا ما جاء في قوله تعالى: )وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا* إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا*فَوَقَاهُمْ اللَّه( ـ وهنا الشاهد ـ )شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا*وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا((الإنسان:8-12).
هذه الآيات كانت لتأكيد مكرمة العطاء الذي انطلق في موقع مادي، ولكن من خلال انفتاح روحي. وتذكُر كتب السيرة، في تفسير هذه الآية، أنّ علياً وفاطمة(ع) نذرا لله أن يصوما ثلاثة أيام شكراً لله على شفاء الحسن والحسين(ع)، وفي اليوم الأوّل الذي جلسا فيه للإفطار، جاء مسكين، ثم جاء يتيم، ثم أسير في اليوم الثالث، وانطلقا ليمنحا هؤلاء واحداً بعد واحد إفطارهما. هذه التضحية العطائية ينطبق عليها قوله تعالى: )وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ((الحشر:9)، التضحية التي انطلقت من خلال روحية لا تفتش عن البدل المادي، ولكنها ترتفع إلى الله، لتعتبر أن حب الله هو الأساس في ما يقدمانه من عطاء )إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا(، هذا العطاء الذي يتحوّل إلى عبادة، فكما أن الإنسان يصلي ويصوم قربةً إلى الله، فالإنسان هنا يتحرّك بالعطاء للمسكين ولليتيم وللأسير قربةً إلى الله؛ وكما أراد الله لنا أن نتقرّب إليه بعبادة الصلاة والصيام والحجّ، وأراد لنا أيضاً أن نتقرّب إليه بعبادة العطاء، ولهذا ربط الله سبحانه وتعالى بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
فأهل البيت(ع)، في الخطِّ الإسلامي الأصيل الذي عاشوه، وفي رسالتهم التي يؤكّدون فيها الإسلام، ويريدون أن يبلّغوها للناس بعد الرسول(ص)، لا يريدون من الناس أي بدل لعطائهم، سواء كان هذا البدل بدلاً مادياً أو معنوياً، في كل ما يبحث فيه الناس عن البدل المعنوي، كالسعي للحصول على الجاه من خلال عطائهم، وإنما يريدون بعطائهم أن يحصلوا على محبة الله ورضوانه وثوابه، وأن يتفادوا الموقف الصعب في ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس لربّ العالمين. وهنا يتحدَّث القرآن عن ردّ فعل الله سبحانه على هذه الروح التي ابتهلوا بها إلى الله في عطائهم، وانفتحوا بها عليه سبحانه وتعالى، وعبدوه من خلالها بذلك العطاء: )فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ(، حيث انطلقوا في ذلك اليوم؛ يوم يقوم الناس للحساب بين يدي الله سبحانه، )وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا(، أعطاهم الله في مقابل عطائهم في الدنيا، رضوانه ومحبته ورحمته ونعيمه )وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا(.
ويؤكد الله لكل الناس ـ من خلال إيحاءات هذه القصة ـ أن على الإنسان المؤمن أن يتحرك في خط رضوان الله بالصبر، كما ورد في حديث الإمام الباقر(ع): «كل أعمال البر بالصبر يرحمك الله»([225]).
غرور الدنيا:
وذكرت كلمة (الشر) أيضاً في القرآن الكريم، في الحديث عن الذين عاشوا في الدنيا وكانوا في خط الانحراف، وخط الضلال، أو في خط الكفر، وكانوا يعيشون في مجتمع يختلط فيه المؤمنون والكافرون، والأشرار والأخيار، وكان هؤلاء من المترفين الذين غرّتهم الحياة الدنيا، ومن الذين استكبروا من خلال ما رزقهم الله من مال أو من جاه، فكانوا ينظرون إلى المؤمنين نظرةً استعلائية، ويعتبرون المؤمنين المتقين من أشرار الأمة؛ لأن مقياس الخير عندهم هو الأخذ بالخط الذي ينتهجونه في حياتهم، أما من يطيع الله ورسوله، ومن يفضل الآخرة على الدنيا، فهم من الأشرار، انطلاقاً من الخلل في ميزان الخير والشر. وعندما دخل هؤلاء نار جهنم، وبحثوا عن أولئك الذين كانوا يعتبرونهم من الأشرار، لم يروهم أمامهم، واستغربوا ذلك )وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنْ الأَشْرَارِ(، هؤلاء الذين كنّا نعدهم من الأشرار، ونقول إن الله لن يرضى عنهم وما إلى ذلك )أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا(، كنا نهزأ بهم، ونسخر من عباداتهم، ومن التزاماتهم في خط العفّة، والصدق، والأمانة، وما إلى ذلك، وكنّا نقول إنّهم لا يعرفون كيف يحيَوْنَ الحياة، ولا يعرفون كيف ينتهزون الفرص التي وضعت أمامهم، )أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الأَبْصَارُ(، وكأنّهم شكّوا في أنفسهم، فاعتبروا أنّهم موجودون في مكان لم نرهم فيه )إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ((ص:62-64)، وذلك عندما يرمي بعضهم المسؤولية على البعض الآخر، في ما وصلوا إليه.
ثم ننطلق مع القرآن الكريم، فنراه يتحدّث عن الإنسان في حالته السطحية التي ينطلق فيها ليرتبط بالأحاسيس والمشاعر التي تواجهه عندما يواجه الآلام والمصائب والشرور المادية في حياته، فنقرأ في قوله تعالى عن بعض هذه النماذج: )وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً((الإسراء:11). هناك أناس، عندما تأتيهم الآلام والمشاكل والمصائب، فإنهم يستعجلون الشر؛ فقد يدعون على أنفسهم بالموت أو بالدمار، تماماً كما يدعون بالخير لأنفسهم عندما يقبل عليهم الخير؛ لأنهم لا يدرسون طبيعة الحياة التي يمكن أن تأتي بالشر في موقع، وأن تأتي بالخير في موقع آخر، فلا يصبرون، ويستعجلون الشر كما يستعجلون الخير.
وهذا ما كانت عليه الشعوب التي عايشها الأنبياء، حيث كان الأنبياء يهدّدونهم بعذاب الله إن أصرّوا على الكفر والانحراف، وكانت تلك الشعوب تطلب من الأنبياء أن ينزل الله عليهم العذاب.)وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً(، وفي هذا إيحاء للإنسان، أن عليه أن لا يستعجل أمره في الحياة، بل عليه أن يدرس الأمور دراسةً دقيقةً، يفهم فيها طبيعة الحياة، في أحداثها وفي كل أوضاعها، وقد قال الله سبحانه وتعالى: )خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُورِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ((الأنبياء:37). وهذه العجلة تمثِّل غريزةً من غرائز الإنسان، وهي تنطلق من الإحساس السطحي الذي يخضع فيه الإنسان لإحساسه عندما يرتبط بالأشياء ارتباطاً سطحياً، ولا يتعمّق في دراستها بالمستوى الذي يفهم معه طبيعتها، ولا يعي أن حلّ المشكلة قد يحتاج إلى زمن، وقد يحتاج إلى آليات من هنا وهناك، وأن عليه أن ينتظر تغيّر الأجواء التي تحيط بكل ما يريد أن يصل إليه. والله عندما أعطى الإنسان حالته الإحساسية التي تطفو على السطح، أعطاه معها طاقته العقلية، ومنحه القدرة على الانفتاح على عمق الأمور.
قانون السببيّة:
ولذلك، فإن على الإنسان أن لا يستعجل الخير قبل توفّر أسبابه، كما عليه أن لا يستعجل الشر قبل توفّر أسبابه، بل يدرس المسبّبات من خلال أسبابها الطبيعية؛ فإن الله جعل لكل ظاهرة ـ سواء كانت ظاهرة كونية أو ظاهرة إنسانية ـ سبباً وقانوناً، وذلك هو قوله تعالى: )إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ((القمر:49)، وقوله: )قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا((الطلاق:3). ولذلك كنا نقول لمن يحاول أن ينتقد التفسير الديني للتاريخ، والتفسير الديني لأوضاع الحياة ولظواهر الكون، ولمن يتهم من خلال ذلك الدينَ بأنّه لا يفسّر الحياة، في كل ظواهرها الطبيعية أو ظواهرها الإنسانية، بتفسير طبيعي، بحيث يرجع كل ظاهرة إلى القانون الذي تخضع له، كنا نقول لهم، إنكم لم تفهموا الدين، فقانون السببية هو القانون الذي يخضع له كل النظام الكوني والنظام الإنساني، وهذا لا يمنع من أن نفسر ـ مثلاً ـ كل ما حدث في الطبيعة، من نزول الأمطار، وتعاقب الفصول، وشروق الشمس وغروبها، وطلوع القمر وأفوله، وثورة الفيضانات، والزلازل، والبراكين، وما إلى ذلك، لا يمنع من أن نفسرها تفسيراً طبيعياً، ولكن نقول إن الله هو مسبِّب الأسباب.
إذاً، ليس معنى أن نفسِّر الأمور بأسبابها الطبيعية، أنّنا أصبحنا غير مؤمنين؛ لأنَّ التفسير الطبيعي يربط المسبب بالسبب، ثم يربط السببيّة بالله، والله هو الذي جعل لكل شيء سبباً، وهو الذي جعل لكل شيء قدراً، ونظّم له كل القوانين في خلقه. وعلى هذا الأساس، انطلقت المسألة في تفصيل الحياة الإنسانية.
ونقرأ، في القرآن الكريم أيضاً، عن طبيعة الإنسان، قوله تعالى: )وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ((الإسراء:83) فنسي الله، ونسي مسؤوليّته في ما أنعم الله به عليه، وقال ـ كما في حال قارون عندما قيل له: )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إنّما أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي((القصص:77-78)، وكأنّه يقول: ليس لله دخل في ذلك. وهكذا انتفخت شخصيته من خلال ما أعطاه الله من مال، وكانت نهايته أن خسف الله به وبداره الأرض. ونعود إلى الآية، حيث تقول: )وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ(، فاستكبر وطغى، ولم يتحمّل مسؤوليّته في نعم الله عليه )وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا(، ولكن إذا تغيرت الدنيا معه، وفَقَدَ المالَ الذي عنده، والجاهَ الذي يحيط به، لم يتحمل ذلك، بل أصيب باليأس؛ لأنّه استغرق في ذات النعمة، من دون أن ينفتح على من أنعم بها عليه، فعندما فقدها، أحسّ أنّه فقد كلّ كيانه وكلّ حياته.
ونقرأ في القرآن الكريم: )لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ((فصِّلت:49) فهو يطلب أن يأتيه الخير من كل مكان )وإن مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ( من رحمة الله سبحانه وتعالى.
وفي موضع آخر، يقول تعالى: )إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(، يعيش الفزع، ويعيش الحرص، ويعيش الحيرة )إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا( أي لا ينفق من ذلك الخير، في ما حمّله الله مسؤوليّته، )إِلا الْمُصَلِّينَ((المعارج:19-22).
الشر الداخلي:
وهناك سورتان تحدثتا عن مسألة الاستعاذة بالله من الشرّ، وهما المعوذتان ـ سورة الناس وسورة الفلق ـ وكان رسول الله(ص) يعوذ الحسنين(ع) بهما. وعلى الهامش، نذكر أنّ هناك جدلاً بين الصحابة، في أن المعوَّذتين هل هما من القرآن، فكان ابن مسعود لا يرى أنهما من القرآن، ولكن المسلمين في كل مراحل تاريخهم، كانوا يعتبرونهما من القرآن، ولذلك وضعوهما في المصحف، تماماً كما وضعوا السور الأخرى، وفي هذا دلالة قويّة على أنّهما من القرآن الكريم بلا إشكال.
تتميّز سورة النّاس، بالاستعاذة بالله من الشرّ الداخلي الذي يحصل للإنسان، من خلال طبيعة الجانب المنحرف الذي يختزنه في فكره ومشاعره وأحاسيسه، من خلال الوسواس الذي يتنوّع في مصدره، بين بشر يأتي ويهمس في أذن الإنسان، أو يوحي إليه ببعض الإيحاءات المنحرفة، وبين جنّ يوسوس للإنسان بطريقة غير طبيعية؛ بحيث ترهق هذه العوامل الداخلية حياة الإنسان النفسية التي قد تترك تأثيراتها السلبية على حياته العملية؛ لأن حركتنا في الخارج، سواء في حياتنا الفردية، أو في حياتنا العامة، تنطلق من الحالة الداخلية، التي تتنوّع فيها أفكار الإنسان وأحاسيسه ومشاعره. على أنّ تأثيرات تلك العوامل الداخليّة، تنطلق لتتحرّك في عمله أو في قوله أو في علاقته بالآخرين، ما قد يدمِّر واقعه، أو يؤدي به إلى القلق والحيرة أو الضياع، وقد يقوده ذلك إلى الارتباك والاهتزاز في خطواته العملية في الحياة، فيحتاج، بفعل الخوف والذعر من النتائج القاسية الصعبة التي لا يستطيع الخلاص منها، إلى ما يسكّن قلقه.
والوسوسة، قد تتحرك في الحياة الاجتماعية، وقد تتحرّك في الحياة السياسية، وقد تتحرّك في العبادة. فنحن نجد البعض ممّن يعيش الوسوسة في الوضوء، فيقف أمام الماء ويبقى ساعة حتّى يحرز وضوءه، أو في الطهارة والنجاسة، أو في صلاته، فتجد الواحد منهم يعيد صلاته، أو شيئاً منها، بشكل مَرَضي. وهناك وسوسة صحية، بحيث يخاف الإنسان من الميكروبات عندما يصافحه أحد، أو عندما يقبّله أحد وما إلى ذلك. وهناك بعض الناس ممّن تكون عنده وسوسة في حياته العائلية، فتراه يسارع إلى اتهام زوجته بالسوء، أو اتهام الناس من حوله بالشرّ. وفي هذا المجال، ورد عن الإمام جعفر الصادق(ع)، لمّا ذُكر عنده رجل مبتلى بالوضوء والصلاة، وادّعي أنّه رجل عاقل، قال(ع): «وأيّ عقل له وهو يطيع الشيطان؟! فقال له الراوي: وكيف يطيع الشيطان؟، فقال(ع): سَلْهُ، هذا الذي يأتيه من أيّ شيء هو؟ فإنّه يقول لك: من عمل الشيطان»([226]). ولذلك أفتى العلماء، بأن أية وسوسه في الطهارة والنجاسة والوضوء والصلاة وما إلى ذلك، لا اعتبار بها، وأن من واجب الوسواسي أن لا يعتني بذلك.
وعلى أساس ما قدّمناه، من أنّ حركة الوسواس الداخليّ تؤثّر على حركة الخارج، ربط الله سبحانه وتعالى مسألة تغيير الواقع بتغيير الداخل، فقال تعالى: )إنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ((الرعد:11)، وقال تعالى: )ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ((الأنفال:53)، فأنت لا تستطيع أن تغيّر واقعك، إذا لم تغيّر الأفكار والمشاعر والأحاسيس السلبية التي فرضت هذا الواقع.
وعلى كلّ حال، فإنّ الله جعل سورة الناس من أجل الاستعاذة به من خلالها، من كلّ ذلك، فقال تعالى: )قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ((سورة الناس). وقد جاءت صفاتُ الله ـ وهي الربّ والملك والإله ـ مضافة إلى الناس، كي يوحي للإنسان بأنَّ الله قادر على أن ينقذه من ذلك، فهو الذي يملك تدبير أمورهم، ويملك ذواتهم ووجودهم، ويستعبدهم من موقع الألوهية المهيمنة على الأمر كله، فما قيمة الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس أمام ذلك؟!
أمّا كيف نفهم الوسوسة التي تعتبر حالة إحساس وشعور وفكر لها تأثيراتها في هذا الجانب، وكيف يترك هذا الوسواس تأثير وسوسته تتفاعل في داخل الإنسان، سواء كان من الجنّ الذين لا نستطيع أن نتعرفهم بشكل مباشر، أو من الناس الذين لا يشعر الإنسان بحركة وسوستهم في داخله بحسب طبيعة الاندماج الاجتماعي، فهناك تفصيل سوف نأتي عليه في حديث قادم إن شاء الله.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثالثة والعشرون: 7 ربيع الثاني 1426 ه - 14/5/2005م
وصية الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم
المنهج الإسلامي في معالجة الطمع
هذه الوصية التي توجّه الإنسان إلى خطورة الطمع المستغرق بما في أيدي الناس، تريد له أن يجاهد نفسه في مواجهة السلبيات المترتبة عليه، باعتباره مفتاح الذل، واختلاس العقل، وأخلاق (إتلاف) المروءات.
الاستغراق في الدنيا.
التفكير الغرائزي.
ظاهرة الطمع الإنساني.
الكمال النفسي.
الطمع مفتاح السيئات.
رغبـة الـذل.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
في ضوء رسالة الإمام الكاظم(ع) إلى هشام بن الحكم، أحد أبرز أصحابه، واصل سماحة آية اللّه العظمى السيد محمد حسين فضل اللّه(دام ظلّه) حديثه عن الدور التأسيسي للأئمة(ع) في إرساء المنهج التربوي، فكان هذا الحديث...
الاستغراق في الدنيا:
ونبقى مع الوصية الذهبية في عطائها العقلي والروحي والأخلاقي والعملي، إذ يقول الإمام(ع): «يا هشام: من أحب الدنيا ذهب خوف الآخرة من قلبه»، لأن من استغرق في الدنيا بكل مجامع قلبه مشدوداً إلى شهواتها، فمن الطبيعي أن ينسى الآخرة، فينأى عن الاستعداد لها، والخوف من مصيره فيها. وهكذا نعرف أن الذي يملك العلم ويزداد حباً للدنيا، لا يملك أن يكون قريباً من الله وأن يحصل على محبته، لأن العلم يفرض على العالم النظر إلى الدنيا نظرة واقعية، بحيث يقوم بمسؤولياته بالشكل الذي تكون فيه الدنيا مزرعةً للآخرة، كما جاء في قوله تعالى: )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ((القصص:77).
التفكير الغرائزي:
«يا هشام: إن العاقل اللبيب من ترك ما لا طاقة له، وأكثر الصواب في خلاف الهوى، ومن طال أمله ساء عمله»، لأن العقل يقود الإنسان إلى التفكير بسلامة المصير، فيتحرك في مشاريع الحياة بما يملك القدرة عليه، فلا يلجأ إلى ما لا طاقة له، لأنه سيسقط في الفراغ ويبذل جهداً ضائعاً قد يحطّم له قدرته الطبيعية. أما مسألة ارتباط الهوى بالخطأ الذي يجعل الصواب في مخالفته، فلأن الهوى لا ينطلق من حسابات فكرية للنوازع النفسية والرغبات الذاتية، بل ينطلق من المشاعر والأحاسيس السطحية التي ترتبط بالغرائز المنحطّة غالباً. أما انفتاح طول الأمل على إساءة العمل، فلأن ذلك يجعل الإنسان بعيداً عن دراسة الواقع المعاش في سلبياته، بل يمتد في الزمن ليخطىء اليوم على حساب إصلاح العمل في المستقبل، ولا سيما إذا كان الخطأ مرتبطاً بالمستقبل في قضية المصير الأبدي في الآخرة، في علاقة الإنسان بالله بشكل سلبي، مما يمثل الخسران المبين.
ولذلك فإن الفقرة التالية هي: «لو رأيت مسير الأجل لألهاك عن الأمل»، لأنّ محدودية عمر الإنسان في ما يعرفه من سنّة الحياة، وما يشاهده من الناس الذين ماتوا قبله ومعه، تؤدي به إلى أن يعيش واقعية الأمل بطريقة عقلانية، بحيث يحسب حساب الزمن في عمره على أساس الانتظار في كل لحظة لأجله، ولكن من دون أن يشل حياته بالمطلق، ليخطط لكل مسؤوليته بشكل متوازن مدروس.
ظاهرة الطمع الإنساني:
«يا هشام: إياك والطمع، وعليك باليأس مما في أيدي الناس، وأمت الطمع من المخلوقين، فإن الطمع مفتاح الذل، واختلاس العقل». الاختلاس هو الاختطاف بسرعة على غفلة، بخلاف الاستلاب الذي لا يُشترط فيه الغفلة، «وإخلاق المروءات، وتدنيس العِرض، والذهاب بالعلم، وعليك بالاعتصام بربك، والتوكل عليه، وجاهد نفسك لتردها عن هواها، فإنه واجب عليك كجهاد عدوك. قال هشام: فأي الأعداء أوجبهم مجاهدةً؟ قال: أقربهم إليك، وأعداهم لك، وأضرّهم بك، وأعظمهم لك عداوةً، وأخفاهم لك شخصاً مع دنوّه منك، ومن يحرّض أعداءك عليك، وهو إبليس الموكل بوسواس القلوب، فله فلتشدّ عداوتك، ولا يكوننّ أصبر على مجاهدتك لهلكتك منك على صبرك لمجاهدته، فإنه أضعف منك ركناً في قوّته، وأقل منك ضرراً في كثرة شرّه، إذا أنت اعتصمت بالله، فقد هُديتَ إلى صراط مستقيم»([227]).
إن هذه الوصية التي توجّه الإنسان إلى خطورة الطمع المستغرق بما في أيدي الناس، بحيث يفقد معه توازنه الإنساني، تريد له أن يجاهد نفسه في مواجهة السلبيات المترتبة عليه، باعتباره مفتاح الذل واختلاس العقل وإخلاق المروءات، أي إسقاطها من ذاتية الإنسان في سلوكه وتفكيره، وتدنيس العرض في إساءة إلى الكرامة بكل أنواعها، وإذهاب العلم الذي يغيب عن وعي الإنسان، فيفقد معناه ومضمونه ونتائجه في الاستفادة من مفرداته... وذلك باليأس ممّا في أيدي الناس، والأخذ بأسباب القوة، بالاعتصام بالله والتوكل عليه، وجهاد النفس بالانفتاح على عناصرها السلبية التي تسقطه، تماماً كما هو جهاد الأعداء الذي قد يكون أقل خطراً على النفس من عداوة النفس التي تحاربه من داخله.
وتندفع الوصية في هذه المسألة جواباً عن سؤال هشام في تحديد الأعداء الأخطر في دائرة المجاهدة، لتحدد للإنسان الأقرب والأعدى والأضر والأعظم عداوةً، والأخفى في الزوايا الخفية بالرغم من قربه إليه ، ودنوهم منه، وهو الشيطان الذي لابد من دراسة حبائله في الإضلال والإغواء، وبأن عليه الصبر على مواجهة ذلك منه، وأن يكون أصبر على هذه المواجهة أكثر من صبره على مواصلة هجومه عليه، ويبقى الاعتصام بالله قبل كل شيء وبعد كل شيء، فإنه هو الذي يقود إلى الصراط المستقيم.
الكمال النفسي:
ولا بد لنا من متابعة النصوص الواردة عن النبي(ص) وعن الأئمة من أهل البيت(ع) في الحديث عن الطمع وآثاره السيئة ونتائجه المدمرة، لوضع النقاط على الحروف، ولمزيد من الوضوح الذي يحدد الأمور بكل صراحة.
فعن رسول الله(ص): «بئس العبد عبد له طمع يقوده إلى طَبَع»([228])، ويقول(ص): «استعيذوا بالله من طمع يهدي إلى طمع، ومن طمع يهدي إلى غير مطمع، ومن طمع حيث لا مطمع»([229]).
وعن رسول الله(ص) أيضاً: «الطمع يُذهب الحكمة من قلوب العلماء»([230]).
إن هذه الكلمات تؤكّد تأصيل شخصية الإنسان في حسابات القيم الإنسانية الأخلاقية والروحية في الخطّة الإسلامية، في إيصاله إلى مستوى الكمال النفسي والحركي، في اتّزان الفكر والسلوك، وفي نظرته إلى موقعه في الحياة بما يتصل بذاته وبالآخرين، مما قد يسيء إلى مصداقيته في حساب المسؤولية.
ففي الكلمة الأولى، تنفتح الفكرة على الحكم السلبي على الشخص الذي يستولي عليه الطمع، فلا يكتفي بما يملكه من طاقته، وما يمكن له القيام به في ترتيب شؤونه وتلبية حاجاته وتطوير إمكاناته إلى المستوى الذي يستطيع معه الاعتماد على نفسه والاتكال عليها في ذاتياته وفي التعاون مع الآخرين، من موقع التكامل معهم لا الانسحاق أمامهم، بلحاظ ما لديهم مما قد يطمع فيه على حساب كرامته الإنسانية، ما يثير في نفسه العقدة الخانقة التي تترك تأثيراتها السلبية على وجوده العقلي والعملي، وربما كان هذا هو المقصود من كلمة (طَبَع)، حيث يتحول الطمع إلى حالة نفسيةٍ معقدةٍ في مستوى الأزمة الداخلية.
وهذا هو ما تشير إليه الكلمة الثانية التي تدخل في نتائج التطور الذي يجر إليه الطمع، فيتحوّل إلى عقدة داخلية، ثم إلى ما يقوده إلى ما لا واقع له، مما لا مطمع في خصائصه بما يأمله في حاجاته، وبالتالي إلى الفراغ في ما يريده في حركته نحو هذا الشيء حيث لا مطمع.
أما الكلمة الثالثة ـ وهي الأخطر ـ فتشير إلى تأثير الطمع على التوازن الفكري في سلوك الإنسان مع نفسه ومع الآخرين، بعيداً عن الحكمة في استقامة الفكر، وتقويم الواقع، وتأكيد التطلعات، وتخطيط الحاجات الخاصة والعامة، بما تمثله الحكمة من معنى وضع الشيء في موضعه على جميع المستويات. وإذا كان الله سبحانه يقول في كتابه المجيد: )وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا((البقرة:269)، فإننا نستوحي من ذلك أن من يفقد الحكمة يفقد خيراً كثيراً، وينال شراً كبيراً في تأثير ذلك على حالة التوازن الفكري والعملي. ولذلك، فإن من يؤتى الحكمة، يُسعد إنسانية الإنسان في وجوده الفاعل في مسؤوليته، في إدارة شؤونه الخاصّة والعامّة، الأمر الذي لا ينحصر في حركة السلوك، بل في حركة التفكير والتخطيط من أجل الاستقامة في الحياة.
أما كيف تذهب الحكمة من قلوب العلماء بسبب الطمع، فلأن مهمة العلماء هي أن يحرّكوا علومهم في تهذيب النفس وإيصالها إلى درجة الكمال الروحي والأخلاقي والعملي، من أجل تأصيل عناصر المسؤولية، في وجودها العام، فإذا استسلموا لأطماعهم، سقطوا في وهدة الوحول الغرائزية التي لا توحي إلا بالشهوات الصغيرة التي قد تحرق الواقع، وتغلب العقل، وتصادر التوازن الذي تمثله الحكمة المنفتحة على الصواب والسداد، ما يفرض على العلماء الذين يمثلون القيادة الفكرية، أن يرتفعوا من أطماعهم الذاتية إلى الاقتراب من رسالتهم الروحية والعلمية، لتكون قيادتهم في مصلحة الإنسان والحياة، لا في مصلحة الذات في عناصرها الضيّقة.
الطمع مفتاح السيئات:
وفي كلمةٍ أخرى مروية عن رسول الله(ص) يقول فيها: «إياك واستشعار الطمع، فإنه يشوب القلب شدة الحرص، ويختم على القلوب بطبائع حب الدنيا، وهو مفتاح كل سيئة، ورأس كل خطيئة، وسبب إحباط كل حسنة». فالحرص الذي يطبق على القلب الذي أراده الله موقعاً للقيمة، يؤدي إلى الاستغراق في حب الدنيا في صغائرها الشهوانية، وفي زواياها الضيقة، ويدفع ـ بالتالي ـ إلى الانفتاح على كل سيئة وكل خطيئة وإحباط كل حسنة، لأن الإنسان إذا ابتعد عن القيم الروحية المرتبطة بالله في حساب العبودية في خط المسؤولية، فإنه يصبح خاضعاً لكل الأمور السيئة التي تبتعد بالإنسان عن الله وتوقعه في حبائل الشيطان.
ونلتقي بالإمام علي(ع) في كلمته: «أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع»([231]) وقوله: «عند غرور الأطماع والآمال، تنخدع عقول الجهّال، وتُختبر ألباب الرجال». وقوله: «ضياع العقول في طلب الفضول». وهذا ما يلتقي بالكلمة المرويّة عن الرسول(ص) في إذهاب الطمع للحكمة، باعتبار أن العقل هو الذي يوحي بالحكمة في تمييزه بين الحسن والقبح في الأشياء كلها، فإذا فقد الإنسان عقله تحت إغراءات الطمع التي لا ترتكز على أساس ثابت، يجتذب البرق اللامع من غريزته، وهذا ما يؤدي إلى العواقب الوخيمة.
وفي بعض كلماته، يربط الإمام علي(ع) بين العبودية والطمع، فيقول(ع): «من أراد أن يعيش حُرّاً أيام حياته، لا يُسكن الطمع قلبه» وقوله: «الطمع رقٌّ مؤبّد»([232]) وقوله: «عبد المطامع مسترقٌّ لا يجد أبداً العتق». ونستوحي من ذلك، أن الإنسان يعيش الحرية إذا كان قراره نابعاً من إرادته الحرة بأنه يريد أو لا يريد، فإذا كان مشدوداً إلى أطماعه وتطلعه إلى ما في أيدي الآخرين، فإنه لا يملك إلا الخضوع لأطماعه وللناس الذين يملكونها، ولا يستطيع الوقوف مع التزاماته في مبادئه القيمة في ما يلتزمه من دين، أو ما يعيشه من أصالة إنسانية، وبذلك يتحول إلى رقٍّ لهذا الأطماع.
وفي كلمة أخرى له يربط بين الطمع والذلّ، يقول(ع): «ثمِرة الطمع ذلّ الدنيا وشقاء الآخرة»، ويقول: «الطامع في وثاق الذل»، وأيضاً: «من لم ينـزه نفسه عن دناءة المطامع فقد أذلّ نفسه»، وهو في الآخرة أذل وأخزى، ولعلّ هذا الذل الدنيوي والأخروي ينطلق من خضوع الإنسان المطلق لمن يملك موارد الطمع المادية، بحيث يتقبّل كل ما يريده منه حتى على مستوى الأمور التي تؤدي إلى معصية الله والابتعاد عن الصراط المستقيم الذي أراد للناس أن يسلكوه.
رغبـة الـذل:
وقد أكدت الرواية الواردة عن الإمام الحسن العسكري(ع) في قوله المروي عنه: «ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذلّه»([233])، الأمر الذي يوحي أن على الإنسان أن يدرس رغباته بما يؤصل إنسانيته، ويحفظ التزاماته، ويحقق له النتائج الإيجابية في مصيره في الدنيا والآخرة.
ومن الواضح ارتباط الورع بترك الطمع، لأنه يفرض على الإنسان الالتزام بأوامر الله ونواهيه، بعيداً عن رغباته الذاتية النابعة من حالته الغرائزية المنفتحة على الشهوات غير النظيفة، وهذا لا يلتقي بالطمع الذي يطلق العنان للإنسان ليرتكب كل المحرمات ويترك كل الواجبات.
ويبقى هناك طمع ممدوح إيجابي، وهو الطمع بالله الذي أشارت إليه الآية الكريمة: )تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ((السجدة:16)، وقوله تعالى: )وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ((المائدة:84)، وهذا ما ورد في دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع): «إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت، وإذا رأيت عفوك طمعت»، وقوله: «فإنما أسألك لقديم الرجاء فيك، وعظيم الطمع منك، الذي أوجبته على نفسك من الرأفة والرحمة»([234]).
إنّ مثل هذا الطمع هو الذي تؤكِّده عقيدة التوحيد في إرجاع كل الأمور إلى الله، وفي طلب العفو منه، لأنه إله العفو والرحمة واللطف والعناية والرعاية، وهذا ما ينبغي للتربية الإسلامية الإيمانية أن تخطط له، لأنه هو الذي يحرر الإنسان من أطماعه التي قد تؤدي إلى لون من ألوان الشرك الخطر الذي يجعله يتجه بحاجاته إلى الناس لا إلى الله. والحمد للّه ربِّ العالمين.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الرابعة والعشرون: 23جمادى الثاني1426ه - 30/7/2005م
وصية الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم
مواجهة الشرّ بقوّة مطلقة
أُريد لسورة (الفلق) أن تجعل الإنسان يشعر بالأمن من كل الطوارئ الخارجية التي يمكن أن تضغط عليه، وأن تأخذ بأسباب الشر في حياته. فهي تعلِّمه أن يستعيذ ويستجير بربِّ الفلق، اللّه سبحانه وتعالى الذي يستطيع أن يفلق الأمن من قلب الخوف.
الطمأنينة الإيمانية.
الانفتاح على الله.
تفسير السورة.
القوة المطلقة.
حقيقة السحر.
السحر حالة تخيلية.
ما هو شرّ الحاسد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الطمأنينة الإيمانية:
ما نزال نتابع حديثنا عن الشر، ونلتقي بسورة (الفلق)، هذه السورة التي أراد اللّه سبحانه وتعالى من خلالها للإنسان، عندما يواجه المخاوف والتهاويل التي تحيط بالواقع الإنساني، مما يثير في نفسه الإحساس بالخطورة، كالزلازل، والبراكين، والفيضانات، والحروب والأمراض، أو بعض المخلوقات التي قد تتحرّك بالشر تجاهه، حيث لا يملك القوة التي يستطيع من خلالها أن يدافع بها عن نفسه، ولا سيما في الأوضاع الكونية التي تخرج عن قدرته، وعن إرادته، فإن اللّه سبحانه وتعالى أراد للإنسان أن يرجع إلى إيمانه باللجوء إلى ربِّه الذي له القوّة جميعاً، وهو المهيمن على الأمر كله، فلا يملك أحد في الكون أية قدرة أمام قدرته، فيعيش في أجواء هذا الإيمان، ليملأ به نفسه، وليستعين بقوة اللّه تعالى على كل قوة، وليستجير به تعالى، حتى لا يسقط، ولا ييأس أمام كل تهاويل الخوف.
ومن هنا، جاءت هذه السورة لتؤمّنه من ذلك كله، ليشعر بالتماسك والثبات، فإذا ما أراد أن يواجه أيَّ شيء من مخلوقاته تعالى، فإنه يندفع إليه بروح الثقة؛ لأنه يشعر أن اللّه سبحانه وتعالى معه، تماماً كما حدَّثنا سبحانه عن رسوله(ص) في ليلة الهجرة، حيث قال: )إذ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا((التوبة:40)، فهو(ص) يواجه قوماً يلاحقونه، ويريدون أنْ يقتلوه، ووصلوا إلى الغار، ولم يكن بينه وبينهم إلاّ خطوات، بحيث لو تقدموا قليلاً لأمسكوه، ولكنه كان يعيش الطمأنينة والسكينة، فأيّده سبحانه بالملائكة الذين أحاطوا بتلك المنطقة، )وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(.
الانفتاح على الله:
وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه الروح التي تمتلئ بالقوة من خلال انفتاحها على اللّه سبحانه وتعالى، وذلك عندما تحدّث عن المؤمنين الذين كانوا مع رسول اللّه(ص): )الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ(، سيقتلونكم، وسيسيطرون عليكم، )فَاخْشَوْهُمْ(، خافوا منهم، ولكن كانت قد امتلأت قلوبهم بالإحساس بقوة اللّه تعالى، فأحسّوا بالأمن من خلال ثقتهم بأنّه تعالى سوف ينصرهم، وسوف يمنحهم قوةً روحية، إضافةً إلى قوتهم الجسدية، وقارنوا بين قوة اللّه سبحانه وتعالى وقوة الناس، )فَزَادَهُمْ إِيمَانًا(، عندما رأوا أن اللّه تعالى له القوة جميعاً، وأنَّ هؤلاء الناس لا يملكون القوة إلاّ من خلال ما يعطيهم سبحانه من قوة، )وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(، فلا حاجة بنا إلى أحد.
وما دمنا في طريق اللّه، وفي خط الجهاد في سبيل اللّه، ومن أجل نصرة دينه، فلن يخذلنا سبحانه، )فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(.. عاشوا رضوان الله تعالى وفضله عليهم. )إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ(، بكلّ ما يُسقط الإنسان، ويمنعه من أن يحرِّك قوته، ومن أن يقوّي إرادته، ومن أن يصلِّب موقفه، ليهتز ويمتثل للشيطان، )فَلا تَخَافُوهُمْ(؛ لأنَّ أولياء الشيطان ينفتحون عليه ولا ينفتحون على اللّه تعالى، ولذلك فهم يبقون في حالة الاهتزاز، لأنهم يعرفون أنه لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، )وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين((آل عمران:173-175)، لأني أنا ربكم القهّار الذي له الملك كله، وله الأمر كله. وبذلك يساهم الإيمان في ملء النفس بالقوة والثقة.
تفسير السورة:
)قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(. (الفلق) هو الشق، فلق الشيء: شقّه، والغالب إطلاقه على الصبح، لأنه هو الذي يفلق الظلام ويشقّه. وهكذا أُريد لسورة (الفلق) أن تجعل الإنسان يشعر بالأمن من كل الطوارئ الخارجية التي يمكن أن تضغط عليه، وأن تأخذ بأسباب الشر في حياته. فهي تعلِّمه أن يستعيذ ويستجير بربِّ الفلق، بهذا الربّ العظيم، الذي يفلق الظلام ويشقّه بقدرته، ليخرج النور من قلبه. فاللّه سبحانه وتعالى عندما جعل الليل أسود، أطلق الفجر من خلال ما يختزنه من نور، ليشقّ قلب الظلام. فأن يستعيذ الإنسان بربّ الفلق، وبهذه القدرة الإلهية التي تجعل الكون مضيئاً ومشرقاً من قلب الظلام، معنى ذلك أن اللّه سبحانه وتعالى يستطيع أن يفلق الأمن من قلب الخوف.
)مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(، من المخلوقات الجامدة، والنامية، والحيّة، وما إلى ذلك، التي يمكن أن تعرض للإنسان بالسوء، )وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ(، و(الغاسق) هو الليل، و(وقب) معناه دخل وسيطر. والمعنى، أنّه عندما يقبل الليل، ويمتدّ فيه الكثير من مواقع الخوف، من الحيوانات المفترسة، ومن الناس الذين يكمنون له في الظلام، أو من الحشرات التي يمكن أن تضرّ به، ومن كل الحواجز، والمهاوي، التي يمكن أن يقع فيها، )وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(. والنفث هو الإخراج، ولذا نقول نفثات الصدر، أن ينفث الإنسان ما في صدره، أي يخرجه، والمقصود بالنفّاثات الساحرات اللاتي يخدعن الناس.
)وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ(، أي: أستجير بالله من شر الحاسد الذي يبغي على الناس من خلال حسده؛ هذا الحسد الذي يمثل عقدة مستحكمة في النفس، بحيث تتحرّك من موقع الروح الضيقة المختنقة. والحاسد هو الذي يتمنى زوال النعمة عن غيره، وأن تنتقل هذه النعمة إليه، في مقابل الغابط الذي يريد بقاء النعمة للمغبوط، مع طلبه من اللّه أن يعطيه مثلها.
إنّ هذه السورة تقول للإنسان أن لا يخشى الشر من كل ما حوله، ومن كل من حوله؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى، الذي يستجير به، هو ربّ الكون كله، وهو المهيمن على كل مخلوق، فلا يملك أن يسيء أحدٌ إليه إذا لم يرد له ذلك.
القوة المطلقة:
وهنا ندخل في كل آية من آيات هذه السورة المباركة، حتى يعيش الإنسان آفاقها، وإيحاءاتها، ليقرأها قراءة وعي، وتفكّر، وتدبّر، وحتى يختزن في نفسه كل ما يراد له إثارته من مشاعر الأمن والطمأنينة.
)قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(، أي الصباح الذي يفلق الظلام ويشقه، فينفذ النور إلى داخله، ليخترق الحاجز الذي يحجز الكون عن النور، في نوع من تخييل الصورة الظاهرة.
وفي هذا المعنى، تنطلق الاستعاذة من وحي القدرة الإلهية، يعني هذه الظاهرة الكونية؛ ظاهرة نفاذ النّور في قلب الظلام الذي يقوم به الله سبحانه، انطلاقاً من القانون الذي فرضه لهذه الظاهرة، حيث إنه يولج النهار في الليل، يدخل النهار في الليل. وهذا هو وحي القدرة الإلهية التي تفلق الظلام ليتحول الكون إلى نور. وبذلك، كما أن اللّه تعالى يفلق الظلام ليدخل فيه النور، فإنه يفلق كل مواقع الشر، لتحوِّل الإنسان إلى مواقع الخير، مما يثيره في النفس من الانفتاح، كما يحدث للنور أن يثير الانفتاح في الكون.
وهناك رأي آخر في التفسير، يقول إن المراد بالفلق، هو كل ما يفطر عنه بالخلق والإيجاد، فهو يخلق كلَّ شيء، ويوجد كل شيء من قلب العدم، فكما قلنا إنه يُوجِد النور من قلب الظلام، فإنه يُخرِج الوجود من قلب العدم.
وقيل إنّ )رَبِّ الْفَلَقِ(، هو بئر في جهنم، ولكن هذا تفسير خلاف الظاهر.
)مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(. كيف يتصور الإنسان ما خلقه اللّه تعالى، حتى يستعيذ به من شر هذه المخلوقات المتحركة في الكون، من الإنس، والجن، والحيوان، وغيرهم، مما يمكن أن يُحدث للإنسان شراً في بدنه، وفي ماله، وفي عرضه، وفي أهله، فيعقِّد له نفسه، وذلك عندما يدخل الخوف في نفسه، من خلال كل تهاويل المخلوقات التي يمكن أن تنتج الشر للإنسان، فيمنعه من الانطلاق في الحركة في خط المسؤولية؛ لأن الخوف والقلق هما من العوامل المؤثرة سلباً في عمق تصوّر الكائن الإنساني وحركته، لأنهما ـ الخوف والقلق ـ قد يتحولان إلى ما يشبه حالة الشلل عن التفكير، ما قد يجعله يتجمّد عن العمل، ويبتعد عن التوحيد والثبات.
)وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ(، أي أن يستعيذ الإنسان من شر الليل الذي يدخل الكون بظلامه، ويطبق عليه، وذلك لأن طبيعة الظلام تترك للذين يريدون أن يقوموا بالشر في حياة الناس الحرية في حركتهم، لأن الظلام يغطي حركة كل شخص يحاول أن يعتدي على الآخرين، وبذلك يمنح الظلام هؤلاء الفرصة للقيام بالأعمال العدوانيّة، كما إنه يضعف لدى الآخرين إمكانات الدفاع، لصعوبة كشف حركة المعتدي.
ولذلك، يستعيذ الإنسان باللّه تعالى من الليل، بمعنى أنّه يستجير به من العناصر التي تثير الخوف في نفسه، مما قد يحدث له، فيفقد الإحساس بالأمن، ويتحول إلى خائف مذعور من كل شبح يتخيله أو يمر أمامه من بعيد أو قريب، ومن كل زاوية يمكن أن يكمن فيها عدوه، ومن كل طريق يمكن أن يختفي فيه قاطع طريق أو قاتل، ممن يجعلون الليل ستاراً لتنفيذ مخططاتهم.
وهكذا، ينطلق الإيمان بربِّ الفلق القادر القاهر فوق عباده، ليزرع الشعور بالحماية والأمن في نفس الإنسان من كل ذلك.
)وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(، ما المقصود من النفاثات في العقد؟
التفسير الظاهري الذي يلتقي عليه المفسرون، هو النساء الساحرات، اللاتي ينفخن في العقد على المسحور، يعني من قبيل شد وربط ما يربطنه من خيوط ونحوها، وينفخن في العقد لتأكيد السحر.
حقيقة السحر
والسؤال هنا: هل أن للسحر حقيقة؟ وهل يملك الساحر أن يؤثّر في المسحور، فيترك تأثيراته السلبية على عقله أو جسده، أو على علاقاته؟
ربما يستدلّ البعض على حقيقة السحر بما ورد في قوله تعالى: )وَلكنَّ الشَيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ(، ثمّ يقول تعالى: )فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ((البقرة:102).
ولكن القرآن يتابع ذلك، فيتحدث بقوله: )وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ(، يعني هم لا يملكون الضرر، إلاّ إذا أراد الله تعالى بحكمته أن يوقع الضرر في هذا الإنسان الذي يوجَّه إليه السحر، من دون أن تكون لهم قدرة الضرر الذاتية في هذا المجال.
وقد أكَّد اللّه سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، وهو يحدثنا عن موسى(ع) عندما واجهه السحرة: )فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى* قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى* وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى((طه:67-69)، وهذه قاعدة كلية، وهي أن الساحر لا يفلح في إثارة السّحر في أي مكان، ولا يمكن أن يترك أي تأثير في ما يفعله.
وقال تعالى في موضعٍ آخر، وهو يحكي حقيقة سحر السحرة: )فَلَمّا أَلقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ واسْتَرْهَبُوهُم((الأعراف:116). وفي موضعٍ ثالث، يحدّثنا اللّه سبحانه وتعالى أن حبالهم وعصيّهم لم تتحرك بحركة حقيقية، بل كان ذلك محضُ خيال. قال تعالى: )فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى((طه:66).
السحر حالة تخيلية:
ولذلك نقول إنّ هذه الآية الكريمة تبين أنّ النفث في العقد، والذي يعتبر مظهراً من مظاهر السحر، لا يمثل حقيقة تأثيرية في الإنسان الآخر، بحيث تُوجد الشر الذي يستعيذ الإنسان منه باللّه سبحانه وتعالى، بل إنها تمثل حالة تخيّلية، بحيث تصبح حالة نفسية تؤثر في النفس وفي التصورات، وتترك تأثيراتها في المشاعر، بمعنى أن الساحر يحاول أن يدخل في نفس المسحور بطريقة إيحائية، لا بطريقة حقيقية تغير الواقع في داخله، أي بطريقة الإيحاء الذاتي أو ما يشبه ذلك.
ويرى بعض المفسِّرين، أن المقصود بالآية هو تلك الأمور التي يقوم بها بعض ممّن يعتبرهم الناس من السحرة، وقد تكون هذه التصرفات من ألاعيب الشعوذة، فيما يلعب به الكثيرون من النساء والرجال على البسطاء من الناس من الأشخاص المثقلين بأحلامهم وآلامهم ومشاكلهم، بحيث يبحثون لها عن بعض الأجواء الغيبية الغامضة التي لا يجدون لها أي حل، فيخيّل للإنسان أنهم يملكون الغيب الذي يمكنهم من خلاله أن يحلّوا مشاكلهم، فيلجأون إلى مثل هؤلاء المشعوذين الذين يقومون ببعض التهاويل للتأثير في أذهان الناس، من ادّعاء تسخير الجان، أو معرفة بعض أسرار الغيب، أو السيطرة على بعض الأوضاع، أو الوسائل المتحركة لبعض الأوضاع الضاغطة على إرادة الناس. ويرى هؤلاء المفسّرون، أن الشر لا يكون حاصلاً من خلال النفث في العقد، بل من خلال الأجواء التي يثيرها ذلك في الوعي الداخلي للإنسان، بحيث يترك آثاره من خلال الإيحاءات الخفية التي يتقنها هؤلاء بوسائلهم الخاصة. ولذلك، فإن الكثير من الناس الآن يعتقدون بالكتابة، ويذهبون إلى بعض الأشخاص الذين يكتبون، حتى يحببوا شخصاً بشخص، أو حتى يبغّضوا شخصاً بشخص، أو ما إلى ذلك من الأمور.
وقد جاء في (مجمع البيان) للطبرسي، ما يؤكّد هذه الفكرة، ويوضحها بشكل آخر، حيث قال الطبرسي: "إنما أمر بالتعوّذ من شر السحرة، لإيهامهم أنهم يُمْرِضون ويُصِحُّون، ويفعلون شيئاً من النفع والضرر، والخير والشر، وعامة الناس يصدّقونهم، فيعظم بذلك الضرر في الدين..."
وقد ذكروا معنى آخر للنفاثات في العقد، وهو ما نقله أيضاً (مجمع البيان) عن أبي مسلم قال: "النفاثات هن النساء اللاتي يملن آراء الرجال ـ يعني يخدعنهم ـ ويصرفنهم عن مرادهم، ويردونهم إلى آرائهن، لأن العزم والرأي يعبر عنهما بالعقد، فعبِّر عن حلها بالنفث، فإن العادة جرت أن من حل عقدة نفث فيها..." ولكن هذا ليس ظاهراً من الآية.
فإذاً لا نستطيع أن نستفيد من قوله: )وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ( أنّ السحر يمثّل حقيقةً؛ لأن السحر لا حقيقة له في الإسلام، وإنما هو حالة تخيلية أو إيحائية، وما إلى ذلك.
ما هو شرّ الحاسد؟
)وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ(، ما المراد من شر الحاسد؟
الظاهر من خلال ما نقرأه من الأحاديث، أن المراد من شر الحاسد، شرّه الخارجي، لأن العقدة التي توجد في نفس الحاسد من المحسود، قد تدفعه إلى أن يبغي عليه، وذلك من خلال الحالة العدوانية التي تعيش في داخل شخصية الحاسد، فيحوّله إلى إنسان عدواني، يعمل على إيقاع الشر بالمحسود والبغي عليه، بحيث يحاول الحاسد التخطيط من أجل إيقاع الشر فيه، كما ورد في الحديث الشريف: ((إذا حسدت فلا تَبْغِ))، أي إذا حسدت، فلا تحاول أن تعتدي على من تحسده، نتيجةً لحالة الحسد.
وقد ورد عندنا في تصوير شخصية الحاسد، ما يؤكد هذه النتائج السلبية التي قد تحصل من سلوك الحاسد ضد المحسود. ففي الحديث عن النبي(ص): ((ألا إنه قد دبَّ إليكم داء الأمم من قبلكم، وهو الحسد؛ ليس بحالق الشعر، لكنه حالق الدين))([235]). فالحسد يحلق لك دينك، ويبغض لك دينك. وقد ورد أيضاً عنه(ص): ((الحاسد لا يشفيه إلاّ زوال النعمة))، لأن الحاسد رجل مريض، لا يشفى إلاّ إذا زالت النعمة عن المحسود، ولهذا يعمل على زوالها، وقد ورد عنه(ص): ((قال اللّه لموسى بن عمران، يا ابن عمران، لا تحسدن الناس على ما آتيتهم من فضلي، ولا تمدن عينيك إلى ذلك، ولا تتبعه نفسك، فإن الحاسد ساخط لنعمي))([236])، لأنه يقول: كيف أن اللّه أعطى هذا الإنسان ولم يعطني مثلاً ((صادّ لقسمي الذي قسمت بين عبادي)).
ويتحدث الإمام علي(ع) عن الحالة النفسية لدى الحاسد، فيقول: ((ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد؛ نفس دائم، وقلب هائم، وحزن لازم))، لأنه ما دامت هذه النعمة موجودة لدى المحسود، فإنه يحاول أن يتحرك بطريقة سلبية. وفي كلمة أخرى للإمام علي(ع): ((الحاسد يظهر ودّه في أقواله، ويخفي بغضه في أفعاله، فله اسم صديق، وصفة عدوّ)). ويقول الإمام الباقر(ع) عن الحاسد: ((إنَّ الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب))، لأنه يتحوّل إلى إنسان عدواني ضد المحسود. هذه هي الفكرة الواقعية للحسد.
وقيل إنَّ الشر ينطلق من نفس الحاسد في التأثيرات التي تتفاعل في شخصية المحسود، أي أنّ عين الحاسد عندما تنطلق للتأثير على المحسود، فإن العين تترك تأثيرها عليه من خلال الإشارات التي تنطلق من الحاسد، فيما يمكن أن يكون لها قوة خفية تؤثر في حياة الإنسان المحسود بطريقة مثيرة غير مفهومة من ناحية المقاييس المادية المعروفة للناس. فلدى الحاسد نوع من أنواع التأثيرات التي تصرع المحسود، إما بزوال النعمة عنه، أو بتأثيرها السلبي عليه.
وهناك أمر شائع بين الناس، ألا وهو قول إنّ (عين الحاسد تفلق الصخر)، وهذا الكلام ليس واقعياً. ونحن نقول ـ على سبيل الطرفة ـ إنه لدينا الآن بوش وشارون، وغيرهما من الطغاة، فلماذا لا نسلِّط عليهم عدداً من الحاسدين، حتى يهلكوهم، أو نجلب الحاسدين إلى الجيش حتى يسلطوا عيونهم على الأعداء، فتكون سهاماً وقنابل!
وعلى كلٍّ، فإن اللّه سبحانه وتعالى أراد لنا أن نعوذ به من شر الحاسد إذا حسد، من خلال حالته العدوانية التي توجه إلى المحسود من أجل أن تُسقط نعمته، وقد تسقط إنسانيته.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الخامسة والعشرون: 1 رجب 1426ه - 16/8/2005م
وصية الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم
الفرق بين الإسلام والإيمان عليك
الإسلام عنوان يدخل به الإنسان في مجتمع المسلمين، في علاقاتهم والتزاماتهم، فله ما لهم، وعليه ما عليهم، وبالإيمان ينطلق ليجسّد الإسلام في حياته والتزاماته الفكريّة والعمليّة.
ضرورة تحديد المفاهيم.
الإيمان أساس الحقّ.
بين الإسلام والإيمان.
من هم الأعراب؟
من هو المؤمن؟
إسلام العمل.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
وصلنا في شرح وصية الإمام موسى الكاظم(ع) لهشام بن الحكم، إلى جنود العقل والجهل، وقد تحدّثنا مفصّلاً عن الخير باعتباره من جنود العقل، وعن الشر باعتباره من جنود الجهل.
ضرورة تحديد المفاهيم:
وفي هذا اللقاء نتحدّث عن جنديين؛ جنديّ للعقـل، وهو الإيمان، وجنديّ للجهل، وهو الكفر، وذلك من خلال النصوص القرآنيّة، وما ورد عن النبيّ محمّد(ص) وأهل بيته(ع).
ولعل لهذا البحث أهمية كبرى في واقعنا الإسلامي المعاصر الذي اختلط فيه الرأي بالنسبة إلى مفهومي الإيمان والكفر أمام حركة التكفير، التي جعلت المسلمين يدخلون في نفق مظلم لا يعرفون آخره، بسبب ضبابية المفاهيم التي ساهم في تشكيلها الصراع العنيف، والتحدّيات المتنوّعة التي تجري على المسرح العالمي.
وقد دعونا في كثير من الندوات واللقاءات والمؤتمرات، ومنذ فترة طويلة، إلى ضرورة أن يتوفّر المسلمون الواعون على إعادة النظر في قضاياهم الفكرية والثقافية الحيويّة، من موقع أصالتهم الفكرية المرتكزة على القرآن والسنّة، وذلك قبل أن ينبري الآخرون ليبحثوها أو يتناولوها من مواقعهم الفكريّة، فيفرضوا عليها فهمهم، ويحرّكوا الواقع كلّه على أساسها.
الإيمان أساس الحقّ:
عن علي(ع)، في حديثه عن الإيمان في الأفق الواسع: «الإيمان أصل الحق»، والحق هو الله. قال تعالى: )ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ((لقمان:30). والحق هو ما يصدر عن الله سبحانه وتعالى من وحيه في كل رسالاته. ولذلك، فإنّ الإنسان عندما ينفتح على الحقّ، ويعيه، ويلتزم به، فيكون الإيمان هو أصل الحقّ في نفسه؛ لأنّه يمثل الوعي الذي يختزن الحق في داخله.
«والحق سبيل الهدى»؛ لأن الحق يمثل خط الله في كل ما أوحى به، وخطّ الله يمثّل خط الهـدى، ونحن نقرأ في القرآن الكريم، في مقام المقارنة بين الله والآخرين: )أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ((يونس:35).
«وسيفه جامع الحلية». من عادات صناعة السيوف، أن يُجعل لكلّ سيف حلية. وهنا يستعير الإمام هذا المعنى لسيف الحقّ والإيمان، فيعتبر أنّه هو الذي يجمع كل الحلى التي تتحلى بها السيوف، كنايةً عن القيم التي يتميّز بها، والتي تركّز حركة الصراع في مواجهة الباطل.
«قديم العدّة» أي هو الذي يملك من العـدة التي يستطيع الإنسان أن يحضرها عندما يدخل ساحة الصراع. «والدنيا مضمارُه»، لأن قضية الحق والباطل هي قضية موقف الإنسان وموقعه وحركته في ساحة الصراع في الدنيا. وهكذا قضية الإيمان والكفر.
وفي كلمة أخرى له(ع): «بالإيمان يُستدل على الصالحات»؛ لأن الصالحات هي نتيجة الإيمان. ولذلك، عندما يعيش الإنسان إيمانه، فإن إيمانه يوحي بكلِّ ما يختزنه الإيمان من النتائج الفكرية والعملية، وهي ما يصلح الإنسان، وما يريده الله، وما يأمر به من الصالحات. «وبالصالحات يُستدل على الإيمان»([237])؛ لأننا إذا رأينا الإنسان يسير في خط العمل الصالح، فإننا نستطيع أن نعرف أنّه مؤمن، وبذلك نستدلّ على الإيمان بالعمل الصالح. ونلاحظ أنّ القرآن الكريم، لم يتحدث عن الإيمان إلا وقَرَنه بالصالحات، فقال تعالى: )وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ((سورة العصر)، )فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ((الأنبياء:94)، وغيرها كثير.
«وبالإيمان يُعمر العلم»؛ لأن الإنسان إذا كان مؤمناً، دفعه إيمانه إلى أن يتعرف حقيقة الأشياء؛ لأنّ الكون وما فيه، يمثّل آثار الله تعالى، في خلقه وإبداعه وعظمته، وخصوصاً أن معرفة الله سبحانه وتعالى، إنما تنطلق من معرفة الإنسان للكون، لأن الله يُعرَف بخلقه، فخلقه دليل عليه، وذلك عندما تنفـذ إلى أسرار خلقه التي توحي إلينا بالعظمة. وكذلك، فإنّ الإيمان بالله، يفرض علينا أن نتعرّف مواقع نعمه، وأنّه كما قال الله: )وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ((النحل:53)، فـإذا عرفنا أننا نخضع في وجودنا وحياتنا لحركة النعمة في هذا الوجود، فإننا نعرف بذلك ارتباط وجودنا بالله في خط الاستمرار، كارتباط وجودنا به في خط البداية.
بين الإسلام والإيمان
هل كل مسلمٍ مؤمنٌ، أم أنّ الإسلام قد يفترق عن الإيمان؟
إن القرآن يحدّد لنا ذلك. )قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ((الحجرات:14).
لا بدّ ـ في فهم هذه الآية ـ من أن نعرف أنّ انطلاقة الإسلام في خط الـدعوة النبوية الشريفة، كانت تستهدف جمع الناس على الإسلام، ولو حول العنوان العام له، وإخراجهم ـ ولو رسمياً وشكليّاً ـ من مجتمع الشرك لإدخالهم في مجتمع الإسلام، فكان النبي(ص) ـ فيما عرف من سيرته ـ يقبل الناس الذين يدخلون في الإسلام رغبةً عندما بدأ الإسلام يغنم في حروبه، أو رهبة عندما كان الإسلام يمتد بالقوة، بحيث كانوا يخافون من سطوته، من خلال التوازن الذي حقّقه في قوّته في موازاة قوّة الشرك، أو من خلال تغلّبه عليها، فكان الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، سواء بفعل الرغبة أو بفعل الرهبة، وكان النبي(ص) يقبل منهم ذلك، ولذلك أطلق قوله: «من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله» ـ مجرّد الكلمة ـ «حُقن بها ماله ودمه وعرضه»؛ لأن النبي(ص) كان يقوم بعملية تحضيرية ليعيش الناس المناخ الإسلامي، مناخ الصلاة، مناخ الصوم ومناخ الحج، والمناخات الوعظية والإرشادية، وأجواء القرآن، لتترك تأثيرها على هؤلاء، حتى تتعمق هذه المناخات في داخل نفوسهم ليستقر الإسلام فيها؛ لأنّ المسألة هي أنهم ما داموا في مجتمع الشرك، فإنّهم سيكونون خاضعين لكلِّ قيم الشرك، ولكلِّ أفكاره وأوضاعه ومناخاته.
ولذلك، أنزل الله على رسوله قبل أن ينتشر الإسلام: )وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ((التوبة:6)، يعني: إن جاء مستجيراً بك، وأنت في حالة حرب مع المشركين، فأجره. لماذا؟ )حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ(؛ لأن هذا الإنسان لم يسمع كلام الله في مكّة، ذلك أنّ المشركين كانوا في مكة يمنعون الناس من أن يسمعوا كلام الله، وكانوا يقولون: )لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ((فصّلت:26)، وذلك عندما كان النبي(ص) يقرأ القرآن ويتلوه، وكان البعض يخشع له، حـتى من كبار قريش، لذلك قال بعضهم لبعض أن يثيروا اللغو عندما يتلو النبي(ص) القرآن، وأن يتحدثوا، وأن يصيحوا، حتى لا ينفتح أحد على معاني القرآن ليخشع ويخضع ويؤمن بذلك.
حتى إن النبي(ص) ـ بأمر من الله ـ فرض من الزكاة سهماً للمؤلَّفة قلوبهم، وهم الذين دخلوا في الإسلام رغبةً أو رهبةً، فأراد الإسلام أن يساعدهم مالياً من الزكاة ليجذبهم إلى الإسلام، ليشعروا بالأمن من خلال هذا الربح الذي يربحونه، فيمتدّوا بالإسلام في مستقبل أمرهم.
من هم الأعراب؟
لذلك، فإنّ الله يقول: )قَالَتْ الأَعْرَابُ( وليس المقصود بالأعراب العرب، بل يُراد بهم الذين لا يملكون الثقافة الإسلامية، ولذا ورد عندنا: «من لم يتفقه في الدين فهو أعرابي»، حتى لو كان فارسياً أو تركياً أو من أي قومية أخرى. وقد حرّم الإسلام الهجرة إلى بلاد الكفر إذا لم يستطع الإنسان أن يحفظ دينه فيها، وعبّر عن هذا الحكم الشرعي بحرمة التعرب بعد الهجرة، لأن الإنسان عندما يكون في المجتمع الإسلامي، وهو ما يعبر عنه بمجتمع الهجرة، فإنه يستطيع أن يتثقّف ويتفقّه، ولكنه إذا انطلق إلى مجتمع الكفر والشرك الذي لا يجد فيه محضناً من محاضن الثقافة الإسلامية أو الالتزام الإسلامي، فإنه سوف ينسى ثقافته الإسلامية، وسوف يبتعـد عنها، فيتحول إلى أعرابي.
)قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا(. ما هو الفرق؟
الإسلام هو الاستسلام، أن يسلم أمره لله، كما قال تعالى لإبراهيم(ع): )إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ((البقرة:131). فهؤلاء عندما دخلوا الإسلام بالنطق بالشهادتين، وانفتحوا على موقعهم في المجتمع الإسلامي، أسلموا أمرهم للمجتمع الإسلامي وللدولة الإسلامية، فأعلنوا الالتزام بقانون الإسلام من دون أن يقتنعوا به، فهم لم يقتنعوا بالتوحيد، ولا بالنبوة، ولا باليوم الآخر، ولا بأن القرآن هو وحي من الله سبحانه وتعالى، ولم يقتنعوا بخط الالتزام بالإسلام، ولكنهم أسلموا أمرهم، فلم يعترضوا على أيّ قانون إسلامي، ولا على أي مفهوم إسلامي، ولكن المسألة لا تتعدّى النطق، وهو نطق من دون اقتناع، أو هي ممارسة عملية من دون اتّزان.
)وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ(؛ لأن الإيمان هو الذي ينطلق فيه الإسلام في منطقة الوعي الداخلي، بحيث يكون عقلك مسلماً، فلا يفكر إلا فيما هو الحق الذي يؤكده الإسلام في العقيدة، وأن يكون قلبك مسلماً، وذلك بأن ينفتح قلبك على العاطفة الإسلامية. وقد ورد في الحديث عن الإمام محمد الباقر(ع): «إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحب أهل طاعة الله، ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته، فليس فيك خير والله يُبغضك، والمرء مع من أحب»([238])، وقال الإمام جعفر الصادق(ع): «وهل الدين إلا الحب؟!»، ففي هذه الكلمة، يؤكِّد الإمام (ع) أن قضية أن تكون مؤمناً، هو أن تنفتح بالعمق على المؤمنين، وذلك بأن تشعر بأن قواعد فكرك هي قواعد فكرهم، وأنّ خطّك هو خطهم، وتنأى عن العصاة لله، باعتبار أن خطّك يختلف عن خطّهم، وفكرك يختلف عن فكرهم.
من هو المؤمن؟
ولا بدّ هنا من الإشارة إلى نقطة، وهي تتعلّق بما ورد في أحاديث بعض أئمة أهل البيت(ع)، من التعبير عن السائر في خط الولاية بالمؤمن، ما قد يوحي بأن من لا يعتقد بولاية أمير المؤمنين(ع) بعد رسول الله ليس مؤمناً، وأن ما ورد في القرآن بالحديث عن المؤمنين لا يشملهم. وقد يتجاوز البعض ذلك، بحيث لا يرى أن هناك أخوّة بيننا وبين المسلمين المنتمين إلى المذاهب الأخرى، بدعوة أن المقصود بالمؤمنين في قوله تعالى: )إنّمَا المُؤْمِنُونَ أخْوَة((الحجرات:10)، هم الشيعة. وربما يرى بعضهم أنه لا مانع من اغتياب غير الشيعي؛ لأنّ الله يقول:)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا((الحجرات:12)، فإنّ المؤمنين ـ كما يرى هؤلاء ـ هم الشيعة.
ولكننا ـ وفاقاً لرأي السيد الخوئي رحمه الله ـ نرى أن كلمة المؤمن الواردة في القرآن، يُراد منها كلّ مسلم اعتقد بالإسلام ودخل الإيمان في قلبه، وهو الإيمان بالتوحيد وبالنبوة وبالملائكة والرسل واليوم الآخر. وعلى هذا الأساس، نحن نفتي بعدم جواز غيبة المسلمين من غير الشيعة، ونعتبر أنّنا أخوة مع كل المسلمين، إلا إذا خرجوا عن الأخوّة بقتالٍ أو غيره .
إسلام العمل:
ويؤكّد هذا المعنى للإيمان، وأنّه ينطلق من منطقة الوعـي الداخلي؛ الوعي العقلي والشعوري والحركي، ما ورد عن الإمام علي(ع) في روايته عن رسول الله(ص): «قال: قال لي رسول الله(ص): يا علي اكتب، فقلت: ما أكتب؟ قال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم: الإيمان ما وقر في القلوب، وصدّقته الأعمال»([239])، أي هو عقيدة في القلب، وهو حركة في العمل والمراد من القلوب العقول، قال تعالى: )لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا((الأعراف:179)، والفقه محلّه العقل والوجدان، وليس القلب بمعنى العضلة التي تضخّ الدم في الجسم. «والإسلام ما جرى على اللسان» وهو قول الشخص: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، «وحلَّت به المناكحة»؛ فإنّ كلّ من نطق بالشهادتين، يجوز لنا أن نزوّجه، حتى إذا لم يكن على مذهبنا، بشرط أن لا يكون ناصبياً. وكما في الحديث عن الإمام الباقر(ع): «الإيمان ما كان في القلب والإسلام ما عليه التناكح»، أي قضية العلاقات الزوجية "والتوارث"، فالمسلم يرث المسلم، والكافر لا يرث المسلم، «وحقنت به الدماء»([240])، وذلك ما روي عن النبيّ(ص) من قوله: «من قال لا إلـه إلا الله محمد رسول الله، حقن بها ماله ودمه وعرضه».
ثمّ يقول(ع): «والإيمان يشرك الإسلام»؛ باعتبار أنه ينطلق من القلب، ويُنطق به في اللسان، فهو يشارك الإسلام من خلال أنه يلتقي معه في النطق، ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ يختلف عن الإسلام كمصطلح، من خلال أن الإسلام لا يستقر في القلب، بينما الإيمان يستقر فيه، «والإسلام لا يشرك الإيمان». وفي هذا المجال، يقول الإمام الباقر أيضاً: «الإيمان إقرار وعمل»، يعني: ليس الإيمان مجرد إقرار باللسان، بل لا بد من أن يصدّقه العمل، بما فيه العمل الفكريّ، بمعنى الالتزام الفكري. «والإسلام إقرار بلا عمل»([241])، وهو النطق بالشهادتين.
يقول الإمام الصادق(ع)، وقد سأله أحد أصحابه، وهو أبو بصير، عن الإيمان: «الإيمان بالله أن لا يُعصى» بمعنى أن ذلك من نتائج الإيمان، لأن الإنسان إذا آمن بالله، فإنه يعرف أن الإيمان بالله يفرض عليه الإقرار بعبوديته له، والعبودية تفرض عليه أن يطيعه في ما أمر به وفي ما نهى عنه. «قلت: فما الإسلام؟ قال(ع): من نسك نسكنا، وذبح ذبيحتنا» يعني أن يلتزم بهذه الالتزامات الظاهرية الفقهية للإسلام.
وعن الإمام الصادق أيضاً: «إن الإيمان ما وقر في القلوب، والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء»([242]).
وعنه(ع): «ديـن الله اسمه الإسلام، وهو دين الله قبل أن تكونوا حيث كنتم»؛ لأن الإسلام موجود منذ أن انطلق الأنبياء السابقون، كما قال تعالى: )مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ((الحج:78)، )وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ((الأنعام:132)، )قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ((الأنعام:162-163)، )إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ((آل عمران:19)، يعني أن كل دين بعث الله به رسولاً من رسله، كـان عنوانه الإسلام، لأن الدين يعني الإسلام القلبي والوجهي، فكان الإسلام دين إبراهيم(ع) في زمنه، وكان الإسلام دين موسى(ع) في زمنه، وكان الإسلامُ دين عيسى(ع) في زمنه، وفي زمن النبي(ص)، كان الإسلام هو دينه الذي جمع عناصر الأديان كلها. «وبعد أن تكونوا، فمن أقر بدين الله فهو مسلم، ومن عمل بما أمر الله به عز وجل فهو مؤمن»([243]).
والخلاصة، أنّ الفرق بين الإسلام والإيمان، هو أنّ الإسلام عنوان يدخل به الإنسان في مجتمع المسلمين، في علاقاتهم والتزاماتهم، فله ما لهم، وعليه ما عليهم، وبالإيمان ينطلق ليجسّد الإسلام في حياته والتزاماته الفكريّة والعمليّة. وللحديث بقية إن شاء الله.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة السادسة والعشرون: 8 رجب 1426ه - 23/8/2005م
وصية الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم
أصل الإيمان وجوهره وحصانته
العقل هو الذي يركّز الإيمان في كيان الإنسان، بلحاظ العناصر التي يمكن لها أن تؤصل شخصيته، وتنفتح به على الله، وتقوده إلى الأخذ بأسباب حركة المسؤولية، فيما يمنحه خيراً ويدفع عنه شراً.
أصل الإيمان.
جوهر الإيمان.
حصانة الإيمان.
شعار السَّلام.
حقيقة الإيمان.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
تحدّثنا في وقتٍ سابق حول الإيمان باعتبار أنه من جنود العقل، لأن العقل هو الذي يركّز الإيمان في كيان الإنسان، بلحاظ العناصر التي يمكن لها أن تؤصّل شخصيته، وتنفتح به على الله، وتقوده إلى الأخذ بأسباب حركة المسؤولية، فيما يمنحه خيراً ويدفع عنه شراً، وفيما يجعل وجوده وجوداً فاعلاً منتجاً لنفسه وللناس؛ لأن الله يريد للإنسان أن يتكامل في حركته في الحياة ليكون عنصراً خيِّراً فاعلاً منتجاً نافعاً لنفسه وللناس في دنياه وآخرته.
أصل الإيمان:
ونحاول هنا أن نتابع مسألة الإيمان في كتاب الله تعالى وسنة رسوله(ص) وكلمات الأئمة من أهل البيت(ع).
فمن كلمات الإمام علي(ع): «الإيمان شجرةٌ أصلها اليقين»، لأن الإيمان الذي يمثِّل انتماء الإنسان خط العبادة والتوحيد، لابد من أن ينطلق من المعرفة اليقينية؛ لأنه لا معنى للإيمان مع الشك. ومن الطبيعي أن يسبق اليقين الإيمان أو ينتجه، إذا كان منطلقاً من المعرفة الثقافية لكل عناصر الإيمان؛ فيعرف الإنسان ربه في مواقع ربوبيته، من خلال معرفته بأسرار عظمته وفيوضات نعمته، فيدفعه ذلك إلى أن يؤمن به، ويتحوّل هذا الإيمان إلى حركة عبادة وحركة طاعة، كما ينطلق ليتعرّف العناصر الإيمانيّة التي تتمثّل في النبوّة وما يتفرّع عنها، وفي كلّ ما بلّغه النبيّ(ص) من وحي الله للناس، وبكل ما يقبل عليه الإنسان في اليوم الآخر.
«وفرعها التُقى»؛ لأن الإنسان إذا حصل لديه اليقين بالله الذي ينتج الإيمان، فمن الطبيعي أن ينتج التقى، وهو الالتزام بعبادة الله وحده وبطاعته وحده، فإنّ ذلك هو الذي يتفرع عن هذه الشجرة.
«ونورها الحياء»؛ لأن الحياء عندما ينطلق الإيمان في مواقعه، فإنه يمثل النور الذي يستنير به الناس.
«وثمرها السخاء»، لأنّ الإنسان إذا آمن بالله، وآمن بأن الله هو الذي يرزقه، عليه أن ينفق مما يرزقه الله، كما قال تعالى: )آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ((الحديد:7).
وعن الإمام علي (ع): «أصل الإيمان حُسن التسليم لأمر الله»، لأنّ الإيمان يمثِّل الاعتقاد بأن الله هو سر الوجود، وهو سر الحياة، وهو سر الإنسان في كل مفاصل حياته، ومن الطبيعي أن يسلم أمره لله، وأن يثق بأنه سبحانه وتعالى هو الذي يرعاه ويحميه، ويحرّك له حياته كلّها، فيعيش الثقة المطلقة به سبحانه وتعالى، وبذلك لا بد من أن يسلم أمره، في حياته وأوضاعه كلّها، لله.
جوهر الإيمان:
وعن رسول الله (ص): «ليس الإيمان بالتحليّ ولا بالتمنيّ»، فالإيمان ليس مجرّد شكلٍ يزيِّن الإنسان، أو مجرد حالة نفسية تعيش على سطح ذاته ومشاعره، وليس هو مجرد تمنيات تضيع في الهواء، «ولكن الإيمان ما خلص في القلب»، وذلك بأن يكون الإيمان عنصراً ثقافياً نفسياً روحياً في أعماق القلب، بما يمثّله القلب من معنى منطقة الوعي الداخلي الذي يمتزج فيه العقل بالإحساس والشعور، «وصدَّقه الأعمال»([244])، فإن الإيمان ليس مجرد نبضة في القلب، ولا مجرّد فكرة في العقل، ولكن الإيمان حركة في العمل؛ لأنه لا معنى لأن تكون مؤمناً بالله وأنت تعصيه، ولا تلتزم بأوامره ونواهيه، كما قال ذلك الشاعر:
تعصي الإلهَ وأنت تظهر حبَّه هذا لعمركَ في الفعال بديعُ
لو كان حبُّك صادقاً لأطعتهُ إن المحبَّ لمن يحـبُّ مطيعُ
وعن رسول الله(ص) في هذا المعنى، وبشيء من التفصيل: «الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان»، أن تشهد الشهادتين وتعلن إيمانك: )فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ((آل عمران:64)، )وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ((الزمر:12)، )إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ((البقرة/131)، «وعمل بالأركان»، أي الأعضاء، وذلك في ما أمر الله به الإنسان من خلال وحيه، بأن يتحَّول كل جسده ليعمل بما أمر الله به، ويترك ما نهى عنه، سواء في جانب العبادة، أو في الجوانب الأخرى.
وقد ورد عن رسول الله(ص) أيضاً بتعبير آخر في ما روي عنه: «الإيمان قولٌ مقول»، أي كلمة يقولها الإنسان، «وعمل معمول»، عمل يعمله الإنسان، «وعرفان العقول»، أن تكون العقول منفتحة على المعرفة بكل عناصر الإيمان.
وعن رسول الله(ص) أيضاً: «الإيمان بالقلب واللسان، والهجرة بالنفس والمال». يتحدّث هنا عن المهاجرين الذين كلِّفوا بالهجرة من بلاد الشِّرك إلى بلاد الإسلام. «والهجرة بالنفس»، بأن يتحرك الإنسان في مقام الهجرة من الشرك إلى الإيمان، ومن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، ومن المعصية إلى الطاعة، «والهجرة بالمال»([245])، بأن يبذل ماله في السبيل الذي أراد الله له أن ينفقه.
ويقرب من هذا المعنى، ما ورد عن الإمام علي(ع): «الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان». وكذلك ما ورد عن الإمام الرضا(ع)؛ لأن كلامهم واحد في معناه، وإن اختلف في مبناه أو في شكله: «الإيمان عقد بالقلب»، أن تعقد قلبك وتلزمه بمعاني الإيمان، «ولفظ باللسان، وعمل بالجوارح»([246]).
حصانة الإيمان:
وفي الحديث عن آثار الإيمان، يُروى عن رسول الله(ص) أنّه قال: «الإيمان عفيف عن المحارم». من آثار الإيمان، خوف الإنسان من ربه، وحبه له، وإخلاصه له، وهذا ما يشكّل الأساس لابتعاده عن ارتكاب ما حرَّم الله، فيكون بذلك عفيفاً عن المحارم، «عفيفٌ عن المطامع»([247])، لأن الإنسان المؤمن هو الذي يتميز بالقناعة، لأن المطامع ربما تسير به إلى الكثير مما حرمه الله، ومما لا يرضاه سبحانه وتعالى.
وعن رسول الله(ص): «الإيمان؛ الصبر والسماحة»؛ إذ أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يصبر على بلائه، وأن يصبر على طاعته، وأن يصبر عن معصيته، كما أراد سبحانه للمؤمن أن يواجه بلاء الدنيا ومشاكلها بالصبر، كما في قوله تعالى ـ على لسان لقمان لابنه ـ: )وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ((لقمان:17)، وقوله عزّ وجلّ: )وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ((البقرة:155-157)، وفي آية أخرى: )لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ((آل عمران:186). وقد ورد في الحديث، أنّ «الصبر من الإيمان كمنـزلة الرأس من الجسد، فكما لا خير في جسد لا رأس معه، لا خير في إيمان لا صبر معه»؛ لأن ما كلَّف الله به الإنسان، ربما يكلّفه جهداً كبيراً ومشقّة، وكذلك تمرداً على شهواته وغرائزه، فإذا كان الإنسان مؤمناً، فلا بد من أن يصبر، كما جاء عن الإمام الباقر(ع): «كل أعمال البر بالصبر يرحمك الله».
والإيمان يمثل السماحة؛ فالإنسان الذي يعيش السماحة في علاقته بالناس، وينفتح عليهم، ويعيش معهم بالخير والمحبة، ويسامح ويعفو عمّن أساء إليه، يمثل أرقى حالة إيمانية.
وفي كلمة ثالثة للرسول(ص) يقول: «الإيمان نصفان: نصف في الصبر، ونصف في الشكر»، فالإنسان إذا كان مؤمناً، فإن الإيمان يفرض عليه أن يصبر على كل المسؤوليات التي حمّله الله إياها، سواء في عباداته، أو في معاملاته، أو في المحرمات أو الواجبات، وإذا كان مؤمناً، فإنه يشكر الله سبحانه وتعالى على ما أنعم عليه.
ونظير هذا المعنى، ما ورد عن الإمام علي(ع)، تلميذ رسول الله: «الإيمان صبر في البلاء، وشكر في الرخاء».
وعن الإمام علي(ع): «الإيمان إخلاص العمل». فمن خصائص الإيمان، أن يوحّد الإنسان ربّه في الطاعة، فلا يُشرك غيره بعبادته، وبذلك، فإنّ الإيمان لا ينسجم مع الرياء والسُّمعة، وغيرهما من العناصر السلبية في قيمة العمل، سواء في ميزان التوحيد الخالص لله، أو في ما جعله الله ميزاناً في ما رُوي من الحديث القدسيّ القائل: (أنا خير شريك، من عمل لي ولغيري جعلتُه لغيري). وقد قال الله سبحانه وتعالى عن الذين يراؤون: )فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ*الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ*وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ((الماعون: 4-7) الذين يصلّون ويصومون ويعبدون الله ليراهم الناس ويمدحوهم على ذلك.
وعنه(ع): «رأس الإيمان الصدق»([248])، لأن الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يكون صادقاً في كل أموره. وقد تحدث الله سبحانه عن السائرين في خط الإيمان: )وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ((الزمر:33)، فلا يكون الصدقُ مجرّد شعارٍ يرفعه، بل يمثّل قناعةً نفسيّة راسخة في النفس، لا يتحدّث الإنسان من خلالها إلا بالصدقِ الذي يؤمن به ويصدّقه.
ونقل عن الإمام الصادق(ع) أنّ «من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحق وإن ضرك، على الباطل وإن نفعك»([249]). فإذا كان الموقف موقف إعلانٍ للحق وتبليغه بما تفرضه عليك مسؤوليتك في ذلك، فإنّك إذا كنت مؤمناً، فعليك أن تقول الحق، لأن الإيمان يعني الارتباط بالحق، وأن تؤثره على النفع الذي قد يحصل لك من خلال الباطل؛ لأن الإنسان المؤمن لا يتحرك من خلال النفع الشخصي أو من خلال الضرر الشخصي، وإنما ينطلق من خلال مبادئه، ومن خلال التزاماته، ومن خلال مسؤولياته. إن الإيمان عبارة عن الارتباط بالحق في مواقع الحق كلّها، والرفض للباطل في مواقع الباطل كلّها، وقد قال تعالى: )وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا((الإسراء81).
شعار السَّلام:
وعن رسول الله(ص): «ثلاث من الإيمان»، لأنّ الإيمان هو الذي يحدد لك مسارك، فيحسّن لك الحسن، ويحرك طاقاتك في اتجاه الخصال الخيِّرة: «الإنفاق في الإقتار»، بأن تنفق وأنت تعيش الضيق في ما تملكه من مال، على قاعدة قوله تعالى: )وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ((الحشر:9)؛ إذ إنّ الإيمان يحدّثك عن قيمة الإنفاق في ما يحبه الله من ذلك، ويقول لك: أنفق من مالك حتى لو كنت في ضيق من رزقك، ولكن بمقدار ما تستطيع. أن تكون لديك روح الإنفاق في سبيل الله، وابتغاء وجهه، لأنّ ذلك يمثل الإخلاص لله.
«وبذل السلام للعالم»([250])، وهذه الكلمة يمكن أن تفسر بمعنى تحية السلام؛ التي شرّعها الإسلام، لتكون عبارة عن إعلان للشخص الذي تلتقيه، بأن علاقتك به هي علاقة سلام، وليست علاقة بغض أو عداوة. ومن هنا، رأينا أن الله سبحانه وتعالى جعل للسلام أجراً كبيراً، وذلك كما ورد عن لسان الإمام الحسين(ع): «السلام سبعون حسنة؛ تسع وستون للمبتدئ، وواحدة للراد، وإن أحسن فعشر»([251]). كما جعل الله السلام تحية أهل الجنة، فقال تعالى: )وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ((يونس:10)، وكذلك جعلها تحية الملائكة، وذلك هو قوله تعالى: )جَنَّات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ* سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ((الرعد:23-24)، فإنّ الملائكة عندما يدخلون على هذه الأسرة المسلمة التي كانت أسرة صالحة في الدنيا، وقد أعطاها الله موقع الكرامة في الآخرة، يبادرون أفرادها بالسلام.
وتحيّة السلام هي تحية الإسلام التي ينبغي للمسلمين أن يأخذوا بها، خصوصاً أنّ هذه التحيّة أصبحت أشبه بالهوية للإنسان المسلم. ولذلك نجد أن غير المسلمين من أتباع الديانات الأخرى، لا يطلقون السلام في تحيتهم للآخرين، وإنما يختارون تحية أخرى، مع كونها من أفضل الكلمات إنسانية في معانيها النفسية والاجتماعية؛ لأنهم يعتبرون أن كلمة السلام توحي بأن الذي أطلقها هو إنسان مسلم، وهم لا يريدون أن يظهروا أنفسهم بمظهر من يلتزم بالإسلام.
«والإنصاف من نفسك»، إنصاف الناس من نفسك، يعني أنه إذا كان لإنسان عليك حق، فعليك أن تعترف به له، وإذا كان لإنسان عليك مال، فعليك أن تعترف به، كي لا تلجئ الناس الذين لهم عليك حق إلى أن يرفعوا أمورهم إلى القضاء، وأن يقيموا الدعوى عليك لتحصيل حقوقهم، أو إلى أن يأتوا بالشهود، وما إلى ذلك. فإذا كنت تؤمن بالحق من خلال الإيمان الذي يعيش في شخصيتك، فإن من ذلك أن تنصف الناس من نفسك.
وعن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: «أتى رجل رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله، إني جئتك أبايعك على الإسلام» أي: أنا أريد أن أكون مسلماً، «فقال له رسول الله: أبايعك على أن تقتل أباك؟»؛ لأنّ الإسلام هو أن تسلم أمرك لله كلّه، حتى في ما لا ينسجم مع عاطفتك وإحساسك، ومع انتمائك الشعوري والنسبي. والمعنى العام لقول النبيّ(ص)، أنّه لو كان أبوك كافراً وأمرتك بقتله، فهل أنت مستعدٌّ أن تقتله؟ «قال: نعم»؛ لأن الإسلام يعني أني أسلمت أمري لله، ومن خلال كونك رسول الله، فإني أسلمت أمري إليك في طاعة الله، «فقال له رسول الله (ص): إنَّا والله لا نأمركم بقتل آبائكم، ولكن الآن علمت منك حقيقة الإيمان»، بمعنى أن تكون مستعداً لفعل كل ما أمرك الله به، وترك كل ما نهاك الله عنه، «وأنك لن تتخذ من دون الله وليجة»([252])، أي أنّك لن تسير في أي موقع من المواقع على خلاف ما أمر الله.
حقيقة الإيمان:
وعن الصادق(ع): «لقي رسول الله يوماً حارثة» ـ وهو اسم شخص ـ «فقال له: كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت يا رسول الله مؤمناً حقاً» من المؤمنين الذين يلتزمون الإيمان بكل عمق وبكل دقة، «قال(ص): إن لكل إيمان حقيقة»، أي أنّ للإيمان جذوراً والتزامات، «فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا»، فالدنيا لا تمثل لي خياراً، بحيث تحرفني عن مسؤولياتي الشرعية، فإذا وقفت بين الدنيا، في كل شهواتها ورغباتها وأطماعها، وبين المسؤوليات الشرعية التي كلفني الله بها، فأنا أترك الدنيا وألتزم بمسؤولياتي، «وأسهرت ليلي» في عبادة الله، «وأظمأت نهاري»([253]) في الصوم قربةً إلى الله تعالى. وبمعنى آخر، أنا ألتزم بكل ما أراد الله لي أن ألتزمه.
وعن الإمام الباقر(ع)، «بينا رسول الله في بعض أسفاره، إذ لقيه ركب» ـ قافلة من الناس ـ «فقالوا: السلام عليك يا رسول الله، فقال(ص): ما أنتم؟» ما هي صفتكم؟ ما هو انتماؤكم؟ «قالوا نحن مؤمنون، قال: فما حقيقة إيمانكم؟ قالوا: الرضا بقضاء الله»، فكل ما قضى الله به علينا نعيش الرضا به، «والتسليم لأمر الله»، فكل ما يوقعه الله علينا من أمره نسلِّم به، «والتفويض إلى الله تعالى»، على قاعدة قوله تعالى: )وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ((غافر:44)، فنحن نفوّض كل أمورنا إلى الله، وتفويض الأمر إلى الله، هو السير في طاعته، والتحرك في خطّه المستقيم في كل أمور الإنسان ـ «فقال(ص): علماء حكماء»؛ فإن الذين يفكِّرون بهذه الطريقة، ووصل إيمانهم إلى هذه الدرجة، هم حكماء، والحكمة هي وضع الشيء في مواضعه، وإدراك عمق الأمور «كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء»؛ لأن من يصل بالحكمة إلى هذه الدرجة، يكاد يكون من الحكمة نبياً، «فإن كنتم صادقين، فلا تبنوا ما لا تسكنون»، أي أن تأخذوا من الدنيا حاجاتكم، وأن لا تتجاوزوها إلى ما ليس لكم حاجة فيه، «ولا تجمعوا ما لا تأكلون»، كما ورد في الدعاء المأثور: "اللهم اجعل رزق آل محمدٍ الكفاف"، «واتقوا الله الذي إليه ترجعون»([254])، وذلك بأن تحسبوا حساب الله في أعمالكم كلّها، وفي أموركم كلّها.
وتبقى هناك بعض الكلمات التي سوف نتابعها إن شاء الله في ما يأتي من حديث.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة السابعة والعشرون: 15 رجب 1426ه - 30/8/2005م
وصية الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم
حقيقة الإيمان
ارتباط الإنسان بالله سبحانه وتعالى وقربه منه، هو الأساس في ارتباطه بالوجود كلّه.
القانون الكوني.
قانون القضاء والقدر.
حقيقة الإيمان.
صدق الإيمان.
الصدق العملّي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
القانون الكوني:
ما زال الحديث في وصيّة الإمام الكاظم(ع)، وتحديداً عن الإيمان، باعتباره واحداً من جنود العقل. يروي الإمام(ع) عن رسول اللّه(ص) قوله: «إن لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه»([255]). يؤكّد هذا الحديث، أن مسألة الإيمان ـ عموماً ـ ترتكز على أساس التسليم بالقضاء والقدر، حيث إن اللّه سبحانه وتعالى ركّز الوجود كله، سواء في النظام الإنساني في حركة الحياة، في الأوضاع العامة والخاصة، أو في النظام الكوني، ركّزه على أساس أن يكون خاضعاً للسُنّن الكونيّة التي أبدعها الله سبحانه. وسُنّةُ الله هي تقديره للأمور، والتي تتمثل بالقوانين الطبيعيّة التي تحكم مسيرة الوجود. وهذا ما ذكره سبحانه وتعالى في قوله تعالى: )إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ((القمر:49)، وقوله تعالى: )قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا((الطلاق:3). والقدر هو كناية عن القانون الذي يحكم الظاهرتين الكونية والإنسانية. وقد تحدث اللّه سبحانه وتعالى عن سُنّته بقوله تعالى: )فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً((فاطر:43).
وعلى ضوء هذا، كنا نقول ـ في فلسفة القضاء والقدر ـ إن الإسلام لا يلغي قانون السببيّة، بل يؤكّده، وإنّ المسألة الإيمانية لا تختصر حركة الكون كله، أو حركة السنن التاريخية في الإنسان، بأن تقول إن هذا الأمر حصل بإرادة اللّه تعالى المباشرة، بل أن تفسر الأمور الكونية والإنسانية، من قبيل نزول الأمطار، وحدوث الفيضانات، والزلازل والبراكين، وشروق الشمس وغروبها، وتنوّع الفصول، وطبيعة النبات، وطبيعة قانون التناسل الإنساني والحيواني، كل ذلك تفسيراً علمياً وتفسيراً طبيعياً.
ولذلك نقول: لو جلس المؤمن والملحد أمام المختبر وأمام التجربة، فإنهما يتفقان في تفسير الظاهرة، فهما عندما يريدان أن يدرسا أي وضع معيّن، أو أية ظاهرة كونية، فإن هذا يفسّرها بحسب القانون الطبيعي، وذاك يفسرها بحسب القانون الطبيعي فيها، ولكن الفرق بين الملحد والمؤمن، هو أن الملحد يقف أمام الظاهرة عند السبب المباشر، ولا يتحدث عما وراءه، أما المؤمن، فيعتبر أن سبب هذه الظاهرة هو اللّه سبحانه وتعالى، واللّه هو الذي أعطى السبب سببيّته؛ لأن اللّه تعالى هو وراء كل شيء، ولأنه مسبب الأسباب. وبتعبير آخر: الفرق بين الملحد والمؤمن في دراستهما للظاهرة الكونية، أو الإنسانية، في قضايا النصر والهزيمة، وقضايا التخلف والتقدم، والحرب والسلم، وما إلى ذلك، إنما هو في المرحلة الأخيرة؛ فالملحد قد يفسّر الظاهرة بأسبابها المباشرة، بينما المؤمن يعتقد أن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي خلق سببية السبب، فهو مسبّب الأسباب، وهو مكوّن الأكوان، وهو الذي خلق القوانين والسنن في الكون، )فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ((الروم:30). ولذلك كانت الكلمة المرويّة عن الرسول(ص) تشير إلى الآية الكريمة: )مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ((الحديد:22-23)، والتي تؤكد أن كل شيء تحقَّق سببُه لا بد من أن يحصل، وكل شيء لم يتحقق سببه لن يحصل، ولذلك، فإن على الإنسان أن لا يحزن على ما فاته؛ لأن الشيء إذا لم يتوفر له السبب فلن يحصل. وهكذا، بالنسبة إلى الشيء إذا وجد سببه، فسوف يحصل حتماً. ونتيجة ذلك، أنّ على الإنسان أن يتقبّل الخسارة بشكل طبيعي، باعتبارها تنطلق من طبيعة الأشياء، كما عليه أن يتقبّل الربح أيضاً بشكل طبيعي. وقد عبّرنا مراراً عن ذلك بطريقة مبسّطة، فنقول إنه عندما يطلع النهار، فإننا لا نعمل له مهرجاناً، لأن من الطبيعي أن يأتي النهار، وعندما يأتي الليل، فإننا لا نقيم للنهار حفلاً تأبينياً؛ لأن من الطبيعي أن الشمس عندما تغيب عن الأفق، فإن الليل يأتي في هذا المقام، كما أنّها عندما تظهر في الأفق، فإنَّ النهار يجيء. وقد عبّر الإمام علي(ع) عن ذلك في كتابه لابن عباس، الذي قال فيه إني لم أستفد من كلام له كما استفدت من هذا الكلام، وهو ما ذكره الشريف الرضي في (نهج البلاغة): «أما بعد، فإن المرء ليفرح بالشيء الذي لم يكن ليفوته»، لأن أسبابه متحققة، «ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه»، لأن أسبابه غير متحققة، «فلا يكن أفضل ما نلت من دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ»، وذلك عندما يحصل الإنسان على لذّة، فيفرح، أو عندما يشفي غيظه، فيشعر بالراحة، «ولكن إطفاء باطل وإحياء حق، وليكن سرورك بما قدّمت، وأسفك على ما خلفت، وهمّك فيما بعد الموت».
قانون القضاء والقدر:
وعلى ضوء هذا، نفهم أن القضاء والقدر على قسمين:
القسم الأوّل: ما لا يَدَ للإنسان فيه، كأنْ يولد الإنسان من أب معيّن أو من أم معينة، أو أن يولد بقانون وراثة معيّن، أو أن يموت بسكتة قلبية، أو بحوادث وطوارئ لا دخل له فيها، أو ما أشبه ذلك.
القسم الثاني: ما جُعِل اختيارُه في يَدِ الإنسان. فمن القضاء والقدر أن يمرض الإنسان لأنه أكل ما يوجب له المرض مثلاً، أو أن يموت، لأنه عرَّض نفسه لما يؤدي به إلى الموت. ومن القضاء والقدر، أن ينتصر قائد أو شعب، ذلك لأنه أخذ بأسباب النصر وقوانينه، أو أن ينهزم، لأنه ترك قوانين النصر، وهذا كما حدث في معركة (أُحد)، فإن المسلمين انتصروا في بداية المعركة، وذلك عندما أخذوا بأسباب النصر، ولكنهم عندما تمرّدوا على تعليمات الرسول(ص) في حفظ المواقع، انهزموا بعد ذلك.
وعلى هذا الأساس، فإننا نستطيع أن نؤكد أنّه من الممكن أن يكون قضاؤنا وقدرنا في يدنا، وهذا ما ذكره اللّه سبحانه وتعالى بقوله:)ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ((الروم:41)، )إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ((الرعد:11)، )وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ((النحل:112)، فهم الذين جلبوا لأنفسهم ذلك، والله تعالى ربط بين السبب والمسبِّب. والخلاصة، أنّ علامة الإيمان هي أن تؤمن بأن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي قضى وقدّر الأمور بأسبابها، وأنّ ما أخطأك لا يصيبك؛ لأن اللّه تعالى قدّر ذلك، وما أصابك لم يكن ليخطئك؛ لأنّ الله قدّر ذلك أيضاً.
حقيقة الإيمان:
وعلى ضوء ذلك، فإن الإنسان المؤمن، يعتبر أن ارتباطه باللّه سبحانه وتعالى، وقربه منه سبحانه، هو الأساس في ارتباطه بالوجود كله، وبالناس كلهم، فلا يكون رضاه وغضبه في علاقته بالناس، من خلال حالات دنيوية، بل من خلال غضب اللّه ورضاه، لأن ذلك هو الذي يجعل الإنسان في حقيقة إيمانه، مرتبطاً باللّه كما لم يرتبط بأي شيء آخر. وهذا ما ورد في الحديث المروي عن رسول اللّه(ص): «لا يحق العبد حقيقة الإيمان...»، إن هناك إيمان سطحي، وهو إيمان في الشكل، وهناك الإيمان العميق الذي يسيطر على جذور الوعي عند الإنسان، سواء كان في عقله أو في شعوره وأحاسيسه، «.. حتى يغضب للّه ويرضى للّه»، بحيث يكون اللّه تعالى هو الأساس في غضبه وفي رضاه، «فإذا فعل ذلك فقد استحقّ حقيقة الإيمان». ويعالج الإمام الصادق(ع) هذه الفكرة بأسلوب آخر، حيث يقول(ع): «لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان، حتى يحب أبعد الخلق منه في اللّه، ويبغض أقرب الخلق منه في اللّه». معنى ذلك، أن تكون علاقته باللّه، في عمق وجدانه، هي الأساس في علاقته بالناس؛ فمن أحبَّ اللّه سبحانه وتعالى وأرضاه، كان حبيباً له، حتى لو كان أبعد الناس عنه، ومن أبغض الله سبحانه وتعالى وأغضبه، كان بغيضاً له حتى لو كان أقرب الناس إليه.
وقد ورد ما هو قريب من هذا المعنى، في كلام الإمام علي(ع)، في قضية القرب من رسول اللّه(ص) والبعد عنه، حيث يقول: «إن وليّ محمد من أطاع اللّه وإن بعدت لحمته، وإن عدو محمد من عصى اللّه وإن قربت قرابته»، ثم قرأ قوله تعالى: )إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ((آل عمران/68)، فعظمة النبي(ص) كانت تتمثل في أن أقرب الناس إليه، كانوا أبعد الناس عنه، لأنهم كانوا بعيدين عن اللّه تعالى، كما هو شأن عمّه أبي لهب، وأن أقرب الناس إليه، كانوا أقرب الناس إلى اللّه، كما هو شأن سلمان الفارسي، وهذا ما عبّر عنه أبو فراس الحمداني بقوله:
كانت مودّة سلمان لهم رحما ولم يكن بين نوح وابنه رحم
ويقول الإمام الباقر(ع): «لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال»، وهي مرتبطة بالجانب الولائي أيضاً، «حتى يكون الموت أحب إليه من الحياة، والفقر أحب إليه من الغنى، والمرض أحب إليه من الصحة. قلنا، ومن يكون كذلك؟!»؛ إذ لا يوجد شخص يحب الموت أكثر من الحياة، والفقر أكثر من الغنى، والمرض أكثر من الصحة، فهذا نموذج من الناس قد لا يكون له وجود، قال: «كلكم»، ثم قال: «أيما أحب إلى أحدكم؛ يموت في حبّنا، أو يعيش في بغضنا؟ فقلت: نموت والله في حبكم»، إذا كنت تريد منّا أن نؤكّد حق الولاية وحق الارتباط بكم، فإنكم أئمة الحق وأئمة الهدى، وأنتم الأقرب إلى اللّه سبحانه وتعالى، قال: «وكذلك الفقر والغنى والمرض والصحة، قلت: إي والله». وإذا أردنا أن نعبر عن هذه الفكرة تعبيراً عاماً، فذلك أن يكون الموت مع الحق أحبّ إلى الإنسان من الحياة مع الباطل، والفقر مع الاستقامة في خط اللّه تعالى أحب إليه من الغنى في الانحراف عن خطه تعالى، والمرض في طاعة اللّه أحب إليه من الصحة في معصيته. الثقة باللّه:
صدق الإيمان:
ثم نأتي إلى مظهر آخر من مظاهر حقيقة الإيمان، فنقرأ عن الإمام علي(ع): «لا يصدق إيمان عبد حتى يكون بما في يد اللّه سبحانه أوثق منه بما في يده». هنا يعالج الإمام(ع) مسألةً إنسانية حياتية، وذلك أن الإنسان عادةً ما يعتبر أنه إذا كان يملك مالاً بالمستوى الذي يؤمّن له مستقبله ومستقبل عياله وأولاده، فإنه يشعر بالثقة بالحياة، والاطمئنان، والسكينة النفسية، وليس هذا شيئاً سيئاً؛ ولكنّ عمق الإيمان هو في أن يفكر الإنسان بأن الرزق هو في يد اللّه سبحانه وتعالى، فاللّه تعالى هو الذي يرزق، وهو الذي ينظّم شؤون الحياة، وهو الذي يحفظ الوجود، )وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ((الذاريات:22)، فاللّه سبحانه وتعالى هو الذي يقدّر لنا أرزاقنا، فإذا كنت مؤمناً، فعليك أنْ تثق بما في يد اللّه سبحانه وتعالى أكثر مما تثق بما في يدك، لأن ما عند اللّه تعالى مضمون، بينما ما في يدك، ليس مضموناً، فربما تأتي المصائب والبلايا والكوارث عليك، فتفقد ما عندك من مال، )مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ((النحل:96). ويقول الإمام الصادق(ع): «اعلموا أنه لن يؤمن عبد من عبيد الله، حتى يرضى عن اللّه فيما صنع اللّه إليه، وصنع به، على ما أحبَّ وكره»([256])، وذلك أن يكون الإنسان في قمّة استسلامه للّه سبحانه وتعالى، بحيث يرضى بكل ما ينـزله اللّه تعالى به، وما يصنعه به وله. وهذا هو معنى الإسلام، وقد تحدّث الله عن ذلك في حديثه عن إبراهيم(ع)، حيث يقول تعالى: )إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ((البقرة:131). والإسلام لربِّ العالمين، هو أن ترضى بكل ما صنعه اللّه بك، وبكل ما صنعه اللّه تعالى لك، لأن اللّه تعالى هو المهيمن على الأمر كله، وهو الرحيم بعباده والمالك لهم.
وعن الإمام الصادق(ع) في جانب آخر من مظاهر إيمان المؤمن: «لا تكون مؤمناً حتى تكون خائفاً راجياً»، أي أن تكون في خطِّ التوازن بين الخوف من اللّه تعالى، وبين الرجاء للّه سبحانه وتعالى، «ولا تكون خائفاً راجياً، حتى تكون عاملاً لما تخاف وترجو»، أما الفقرة الأولى، فربما تتمثل في الحديث المعروف: «خف اللّه خوفاً لو أتيت القيامة ببرّ الثقلين خفت إن يعذّبك، وارجُ اللّه رجاءً لو وافيت القيامة بإثم الثقلين رجوت أن يغفر لك»([257])، وقد ورد: «ما من مؤمن إلا وفي قلبه نور خيفة ونور رجاء»([258])، فإن خوفك من اللّه يبعدك عن المعصية، وإن رجاءك للّه يبعدك عن اليأس، ويدفعك إلى أن تواصل عملك. هذا في مسألة التوازن بين الخوف والرجاء على المستوى النفسي والوجداني؛ لأن الخوف المطلق يجعلك تيأس من رحمة اللّه تعالى، والرجاء المطلق يجعلك تتجرأ على معصية اللّه تعالى.
أما الفقرة الثانية، فتؤكّد أن الخوف ليس مجرد حالة شعورية نفسية، وكذلك الرجاء، بل هما حالتان في حركة النفس، تعملان على أن تتحولا إلى خطّ عملي. وهذا أمرٌ إنساني عام؛ لأننا إذا كنا نخاف من خطر، فإن خوفنا منه يتمثّل في الابتعاد عنه، وإذا كنا نطمع أو نرجو من فرصة من الفرص، فإننا نقبل عليها. وقد رُوي عن الإمام الصادق(ع) أنّه قيل له: «قوم يعملون بالمعاصي، ويقولون نرجو، فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم الموت. فقال: هؤلاء قوم يترجّحون في الأمانيّ. كذبوا، ليسوا براجين، من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه»([259]). ومن مظاهر الإيمان أيضاً، ذلك الرباط الوجداني الذي يربط المؤمنين بعضهم ببعض: «لا يؤمن عبدٌ حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير». وهذا الحديث المروي يقول للناس، إن المؤمن عندما يؤمن باللّه تعالى، فإنه يتمنى الخير لكل عباد اللّه، لأن اللّه تعالى هو الخير كله، ويريد للإنسان المؤمن أن يكون منفتحاً على الخير لكلِّ الناس، حتى يجتذبهم إلى الإيمان من خلال هذه الروح الخيِّرة التي تربط علاقته بهم.
ويقول الإمام الصادق(ع): «لا يكون المؤمن مؤمناً أبداً» ـ وهنا نلاحظ التأكيد على نفي الإيمان بقوله «أبداً» ـ «حتى يكون لأخيه مثل الجسد»، بحيث يتقمص جسد أخيه تماماً كما لو كان هو، «إذا ضرب عليه عرق واحد تداعت له سائر عروقه»، يعني أن يكون كالجسد إذا اشتكى منه بعض عروقه، فإن العروق الأخرى تشاركه الألم والسهر.
الصدق العملّي:
وعن رسول اللّه(ص): «إن الرجل لا يكون مؤمناً حتى يكون قلبه مع لسانه سواء، ويكون لسانه مع قلبه سواء»، فلا يكون باطنه شيئاً ولسانه شيئاً آخر، بل أن يعبّر لسانه بصدق عمّا يختزنه باطنه، بحيث يكون ما يفكر فيه الإنسان على نحو الحقيقة، وما يشعر به ويحسه، هو الذي يخرج على فلتات لسانه، «ولا يخالف قوله عمله»، لأن اللّه تعالى يقول: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ((الصف:2-3). ويبقى للحديث عن الإيمان، في ما ورد عن النبي(ص) وأهل بيته(ع)، الكثير الكثير. ونحبّ هنا أن نؤكّد، من خلال هذه الرحلة مع كلام اللّه تعالى، ومع كلام الرسول(ص) والأئمة(ع)، أن ولايتنا للرسول(ص) وأهل بيته(ع)، التي تنطلق في خط الإيمان باللّه تعالى، تفرض علينا أن ننفتح على كل ما قالوه، وعلى كل ما فعلوه، وأن تكون كلماتهم هي النور الذي نستضيء به، وأن تكون سيرتهم هي القدوة التي نقتدي بها، لكن أغلبنا، مع الأسف، لا يعرف شيئاً ـ في مقام العمل ـ عن فكر النبي(ص) وأهل البيت(ع)، وعن وصاياهم وتعليماتهم.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثامنة والعشرون: 22 رجب 1426ه - 6/9/2005م
وصية الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم
الإيمان في وجدان المؤمن
وحركة الواقع
الإيمان هو حركة في وجود الإنسان، تؤكد له مسؤوليته عن كل ما يعيشه في حياته الفردية، وفي حياته العامة، باعتبار أنه عبد لله في كل أقواله وأفعاله وعلاقاته.
عنوان
الإيمان العملي.
الإيمان والكبرياء.
تركيز التوحيد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا نزال نتابع الحديث عن الإيمان، في طبيعته وخطوطه، في وجدان المؤمن، وفي حركته في الواقع.
الإيمان العملي:
ففي كلمةٍ للإمام علي(ع): «لو كان الإيمان كلاماً، لم ينـزل فيه صومٌ ولا صلاة، ولا حلال ولا حرام»؛ لأنّ الإيمان يمثّل توحيد الله، والالتزام برسالة رسول الله(ص)، وهذا ما يفرض التوحيد في الاعتقاد، فلا شريك لله في الألوهية، والتوحيد في العبادة، فلا عبادة لغير الله، والتوحيد في الطاعة، فلا طاعة إلا لله. وأمّا الشهادة للنبي بالرسالة، فإنها تختزن الالتزام بكل مفاهيم الرسالة، وكل خطوطها وشرائعها. ومن الطبيعي أن كلّ ذلك يختزن العمل، وأنّه لا معنى للعبادة أو الطاعة أو الالتزام بالرسالة من دون أن يتجسد ذلك في الواقع. وفي هذا المجال، يقول الإمام الصادق(ع): «ملعون ملعون من قال: الإيمان قولٌ بلا عمل»([260])؛ فهذا المنطق يعني أن الإيمان هو عملية جوّانية تدخل في ما يعيشه الإنسان في عقله ومشاعره وأحاسيسه، ولكنّه لا يتحرّك على صعيد الواقع العملي في حياة الإنسان، بينما الإيمان هو حركة في وجود الإنسان، تؤكد له مسؤوليته عن كل ما يعيشه في حياته الفردية، وفي حياته العامة، باعتبار أنه عبد لله في كل أقواله وأفعاله وعلاقاته. ولذلك، فإن الذي يقول بتلك المقولة، ويجرّد القول عن العمل، فإنه يبتعد عن الله سبحانه وتعالى في ما ركّزه من الأمور، والبعد عن الله هو معنى اللعن.
وفي الكافي عن الصادق(ع): «الإيمان عمل كلّه، والقول بعضُ ذلك العمل، بفرض من الله بيّنه في كتابه»([261]). فالقول هو عمل يختزنه الإنسان في عقله ومشاعره وأحاسيسه، ويمتدّ لينطلق في عمله، فالقول بعض العمل، باعتبار ما يمثّله من المفاهيم التي تؤكّد الالتزام العقدي للإيمان في الوجدان. ويقول الإمام الصادق(ع) ـ في ما روي عنه ـ: «لو أن العباد وصفوا الحقّ وعملوا به ولم تعقد قلوبهم على أنّه الحق، ما انتفعوا»([262]). إنّ هذا القول يرمي إلى أنه لا يكفي أن يصف الإنسان الحق ويعمل به، بل لا بدّ له من أن يجسّد الحقّ على أساس أنّه العقيدة، وأنّه الخط الذي يحكم الإنسان.
الإيمان والكبرياء:
وفي هذا المجال، نقرأ عن الإمام الكاظم(ع)، أنّه سُئل عن الكبائر، هل تُخرِج من الإيمان؟ «قال: نعم، وما دون الكبائر»، أي ما هو أقلّ من الكبائر من المعاصي, واستشهد الإمام(ع) بقول رسول الله(ص): «قال رسول الله(ص): لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن»([263])، فإذا زنى، فَقَد روح الإيمان، وهكذا بالنسبة للسرقة؛ باعتبار أن الامتناع عن الزنى، والامتناع عن السرقة، من حقائق الالتزام بالإيمان. وعن الإمام الباقر(ع)، وقد سُئِل عن قول رسول الله(ص): «إذا زنى الرّجل فارقه روح الإيمان»([264]). كيف نفهم فقدانه لروح الإيمان؟ فالزنا مرتبط بالجسد، والإيمان مرتبط بالعقل والشعور والإحساس، فكيف يمكن أن تطرد هذه الممارسة الجسدية هذا الإحساس أو الشعور أو الفكر الذي يختزنه العقل أو منطقة الوعي الداخلي؟ «قال: هو قوله عز وجل: )وأيدهم بروح منه( ذلك الذي يفارقه»([265])، لأن الله يمنح المؤمن شيئاً من الروح الذي يشمل كل كيانه، ويبقى في جذوره النفسية ما دام في خط طاعة الله، فإذا انفصل عن طاعة الله، فقد هذه الروح الطاهرة.
وعن زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله(ع) ـ وهي كنية الإمام جعفر الصادق(ع) ـ:أرأيت قول النبي: «لا يزني الزاني وهو مؤمن؟!»، قال: «حتى ينـزع عنه روح الإيمان»، قلت: «ينـزع عنه روح الإيمان؟ فحدثني عن روح الإيمان»، وكأنه يقول للإمام الصادق(ع): هذا مفهوم لا نملك معرفته؛ إذ نحن نفهم الإيمان، أما روح الإيمان، فإننا لا نفهمه، «قال: هو شيء. ثم قال: احذر أن تفهمه» أي أنني أقرّبه لك بطريقها تحسّها في داخل نفس، «أما رأيت الإنسان يهمّ بالشيء، فيعرض بنفسه الشيء يزجره عن ذلك وينهاه؟»، فإن الإنسان في كثير من الحالات، يحاول أن يقوم بشيءٍ ما، فيجد أن هناك دافعاً داخلياً أو تأثيراً داخلياً يقول له لا تفعل، «قلت: نعم، قال: هو ذاك»([266])، فإن روح الإيمان، عندما يكون مستقراً في النفس، فإنه يزجرك عن الزنى، وينهاك عنه، وعن غيره من الكبائر ، فإذا لم تجد عندما تقدم على الزنى ما ينهاك عنه، وما يزجرك عنه، فمعنى ذلك أنك فقدت هذا الروح الذي يزجرك وينهاك.
وانظر أسلوب الأئمّة(ع) في تبسيط المفاهيم للناس في ما يتصوّرونه من خلال تجربتهم. وهذا ما ينبغي أن يستفيد منه كل الوعّاظ والدعاة إلى الله، ذلك أنهم إذا أرادوا أن يجيبوا عن أي مفهوم من المفاهيم الغامضة لدى الناس، فعليهم أن ينفذوا إلى وجدان الناس، وإلى ما يعيشونه من تجارب في حياتهم، ليربطوا ذلك بالمفهوم، حتّى يتمثله الناس بوضوح في وجدانهم من خلال ما عايشوه من تجاربهم. وعن الإمام الصادق(ع)، وقد سأله جماعة عن الإيمان، قال: «قال رسول الله(ص): لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن» إذ كان الإمام يتحدث بحديث رسول الله(ص) في مجتمع أصحابه، فجعل بعضهم ينظر إلى بعض، ما هذا الكلام ؟ كيف يخرج الإنسان من الإيمان بارتكابه هذه المعاصي؟ نحن نعرف أن الإنسان يخرج من الإيمان إذا أنكر التوحيد أو إذا أنكر الرسالة، أمّا أن يخرج من الإيمان إذا فعل ما نهاه الله عنه، فهذا لا علاقة له بالإيمان، لأن تصورنا أن الإيمان فكرة لا يبطلها ذلك العمل، «فقال له عمر بن ذر: بم نسميهم؟ قال: بما سماهم الله وبأعمالهم» من دون تعقيد في الاصطلاح، «قال الله عزّ وجل: )والسّارق والسّارقة(، وقال: )والزانية والزاني(».
وهناك حديث عن رسول الله(ص)، يفيد أن الله لا يحجب التوبة عن هؤلاء، فيقول(ص): «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السّارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضةٌ بعد»، يعني أن الله سبحانه وتعالى عندما يسلبه روح الإيمان بما عمله، فإنه تعالى يرجع إليه هذه الروح من خلال التوبة، لأن التوبة تمثل الندم على ما مضى، والعزم على أن لا يعود إلى معصية الله، فيرجع إليه روح الإيمان؛ لأنَّ التوبة تعمِّق في نفسه الالتزام بما أمر الله به وبما نهى عنه. وفي (كنـز العمال) عن علقمة بن قيس، قال: رأيت علياً على منبر الكوفة وهو يقول: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، فقلت: يا أمير المؤمنين: من زنى فقد كفر!؟»، أي إنّه عندما يفقد الإيمان فليس وراء الإيمان إلا الكفر، فهل يكون كافراً عندما يزني؟ «فقال علي(ع): إنّ رسول الله كان يأمرنا أن نبهم أحاديث الرُّخص»، يعني أن لا نعطي الناس الحرية في الرخص، «لا يزني الزاني وهو مؤمن أن ذلك الزنا له حلال»، يعني أنّ ذلك الذي يعتقد بأن الزنا حلال، فقد كذَّب رسول الله، لأنّ حرمة الزّنا من ضروريات الدين، على أساس قوله تعالى: )وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا((الإسراء:32)، «فإن آمن بأنه له حلال، فقد كفر»، لأنه إنكارٌ لما جاء عن رسول الله بالبداهة وبالضرورة مما جاء به القرآن.
تركيز التوحيد:
ونقرأ في حديث رسول الله(ص) مما لا يفهم إلا في ضوء الأحاديث المفسرة التي تقدمت، فيقول(ص): «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة»؛ فإنّ ظاهر هذا الحديث أنه لو مات العبد، وقد قال هذا القول، فإنه يستحق الجنة «وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر»([267])، إذ كان أبو ذر معترضاً، وعنه(ص): «من قال لا إله إلا الله لم تضره معها خطيئة كما لو أشرك بالله لم تنفعه معها حسنة»([268])، وعنه أيضاً(ص): «لا يخرج المؤمن من إيمانه ذنب، كما لا يخرج الكافر من كفره إحسان».
هذه الأحاديث ظاهرها أنه يكفي الإيمان القولي الذي ينطلق من إيمان داخلي، ولكن جاء عن رسول الله(ص) أيضاً ما يوضح هذه الفكرة، إذ قال لجابر الأنصاري: «اذهب فنادِ في الناس، أنه من شهد أن لا إله إلا الله موقناً أو مخلصاً فله الجنة»، لأن المسألة ـ في دعوة الأنبياء كلهم ـ كانت تأكيد التوحيد في مقابل الشرك، ومن الطبيعي جداً أن قضية اليقين بالتوحيد، يفتح الطريق إلى الإيمان بالرسالة؛ لأن الله عندما يخلق الخلق، لا يمكن أن يتركهم عبثاً؛ لأنه لم يخلقهم عبثاً، وذلك هو قوله تعالى: )أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ((المؤمنون:115)، فلا بدّ من أن ينظِّم لهم أمورهم كلّها. فاليقين بوحدانية الله والإخلاص له، يفرضان على الإنسان أن يعيش معنى العبودية لله، لأن الله لا معبود غيره، ولا إله غيره، ولا طاعة لغيره، فعندما يؤمن بالتوحيد في العقيدة، والتوحيد في العبادة، والتوحيد في الطاعة، فإن معنى ذلك أنّه لا بدّ من أن يتحرك في هذا الخط، ولا بدّ أن يجسّده في عمله، وفي حياته.
وعنه(ص): «إن الله عهد إليّ أن لا يأتيني أحد من أمتي بلا إله إلا الله لا يخلط بها شيئاً» – أي صافيةً، ليس فيها أيّ شرك، في العبادة أو في الطاعة - «إلاّ وجبت له الجنة. قالوا يا رسول الله، وما الذي يخلط بلا إله إلا الله؟ قال: حرصاً على الدنيا، وجمعاً لها ومنعاً لها»، وذلك بأن يقول: "لا إله إلا الله"، وتكون حريصاً على الدنيا، بحيث تكون الدنيا له أفضل من الآخرة، «يقولون قول الأنبياء، ويعملون عمل الجبابرة»([269])، هؤلاء الذين يقولون لا إله إلا الله، وهو قول الأنبياء، ولكنّهم في سلوكهم العملي يقبلون على الدنيا، وينسون الآخرة، هؤلاء عملهم كعمل الجبابرة؛ لأنّ الجبابرة يقبلون على الدنيا ويعتبرونها الأساس في علاقاتهم.
وعنه(ص): «من شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة. قيل: وما إخلاصها؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله»([270])، يعنى أن تضيء هذه الكلمة له الطريق، فإذا انطلق إلى محارم الله، أشرقت كلمة التوحيد في داخل حياته لتمنعه عن هذه المحارم. وعنه(ص): «لا إله إلا الله تمنع العباد من سخط الله، ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم»([271])، يعني أنها تمنعهم من سخط الله، وتمنحهم رضوانه، بشرط أن لا يؤثروا صفقة الدنيا على صفقة الدين، بل بأن يروا أن الدين هو الأساس في كل ما يأمرهم به وفي كل ما ينهاهم عنه.
وعنه(ص): «لا تزال (لا إله إلا الله) تحجب غضب الرب عن الناس، ما لم يبالوا ما ذهب من دينهم إذا صلحت لهم دنياهم»([272])، فلا إله إلاّ الله، تحجب الإنسان عن غضب الله، إلا إذا أصبح كل اهتمامه، أن تصلح دنياه ولو على حساب ذهاب دينه، لأن ذلك يعني أن الدّين لا يمثّل شيئاً حيوياً بالنسبة له. وفي كلمة أخرى: «لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها حتى يستخفّ بها صاحبها، والاستخفاف بحقّها، أن يظهر العمل بالمعاصي»، حيث تنتشر المعاصي والمنكرات، «فلا ينكروه ولا يغيّروه»([273])؛ إذ ليس عندهم من مشكلة لأن تمتلئ الحياة بالمنكر، ولذلك يمرون عليها مروراً عابراً من دون أن ينكروا المنكر في أنفسهم، ومن دون أن يتحركوا لتغييره في الواقع. هذا بعض ما جاء عن رسول الله(ص) وعن أئمة أهل البيت(ع)، وهم الهداة الذين يهدوننا إلى الله سبحانه وتعالى في كل أمور ديننا ودنيانا.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة التاسعة والعشرون: 29 رجب 1426ه - 13/9/2005م
وصية الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم
إخلاص الإيمان وعلاماته
الإيمان فكرة في العقل، ونبضة في الواقع وله علامات وخصائص.
الإخلاص للإيمان.
الاعتدال في حركة الإنسان.
علامة الإيمان.
كمال الإيمان.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا نزال نتحدَّث عن وصية الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) لتلميذه هشام بن الحكم، هذه الوصية التي تمثِّل الفكر الإسلامي، في كل قواعده، وكل آفاقه، وكل امتداداته. وبتعبير آخر، إنها تمثل موسوعة كبيرة تمنحنا الكثير من الثقافة الإسلامية.
الإخلاص للإيمان:
من عناوين هذه الوصية، جنود العقل وجنود الجهل، ومن هؤلاء الجنود الإيمان والكفر. ونتناول الآن موضوع الإيمان في حديث السيد المسيح(ع): «نقّوا القمح وطيّبوه، وأدقّوا طحنه، تجدوا طعمه، ويهنئكم أكله». فإذا أردت أن تنتج من القمح خبزاً شهياً، فإنه لا بد لك من أن تقوم بتنقية القمح مما يمكن أن يكون فيه من زوان، ومن ثم عليك أن تطيّبه ثم تطحنه، وبذلك تستطيع أن تهنأ بنتائج هذه العملية، وتأكل أكلاً شهياً.
ويكمل السيد المسيح(ع): «كذلك فأخلصوا الإيمان وأكملوه، تجدوا حلاوته، وينفعكم غُبّه»؛ لأن الإيمان ربما يبدأ في وجدان الإنسان مجرد حالة شعورية يكتسبها من خلال تراثه، أو من خلال بيئته، ولكنه يبقى في سطح ذاته، ولذلك لا بد للإنسان من أن يعطي الإيمان جرعةً من العقل، وجرعةً من العاطفة، ما يجعله ناضجاً في وعيه الداخلي، ومنفتحاً على حركته في الخارج. فإذا تعمّق الإيمان في العقل، وجد الإنسان حلاوته، وإذا نبض في القلب، وجد لذته، وإذا تحرَّك في الواقع وجد خيره. ويقول الإمام الصادق(ع): «ثلاثة أشياء لا ترى كاملة في واحدٍ قط»؛ إذ يحصل بعض الناس على واحدة منها، أو اثنتين، ولكن من الصعب جداً أن تجتمع كلّها في شخص واحد، وهي: «الإيمان، والعقل، والاجتهاد»([274])؛ لأن كل واحد من هذه العناوين الثلاثة يحتاج إلى جهد كبير، وربما كان بعضها يكمل الآخر، ويعمّقه، ويفتح للإنسان آفاقاً كبيرة لا تتوفر إلا للأوحدي بين الناس.
الاعتدال في حركة الإنسان:
أشرنا في ما سبق، إلى أنّ الإيمان يبدأ فكرةً في العقل، ونبضةً في القلب، وحركةً في الواقع؛ ولكن هناك بعض العناصر التي لا بدّ من أن تدخل في تفاصيل الإيمان، مما يركز نظرة الإنسان إلى الأمور، ويجعله مستقيماً ومتوازناً في علاقاته مع الناس، من خلال توازن المشاعر، فلا يطغى عليه الشعور بطريقة ينحرف فيها عن القصد. فعن رسول اللّه(ص) قال: «ثلاث خصال من كنّ فيه استكمل خصال الإيمان: الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل»([275])، فالناس الذين نرضى عنهم أو نحبهم يتميزون ببعض الصفات التي لها حدود خاصة، ولكن قد يطغى الشعور بالرضى والمحبة على الإنسان، بحيث يضيف إلى الإنسان الذي يرضى عنه صفاتٍ ليست موجودة فيه، وقد يحب هذا الإنسان حباً يصل إلى مرتبة الغلو، وقد يقوِّمه تقويماً لا يملك عناصره. وهذا ما نلاحظه في عالم الالتزام بالأشخاص، سواء كانوا في مواقع دينيّة أو سياسية أو اجتماعيّة، أو ما إلى ذلك، فإننا نرفعهم إلى الدرجات العليا التي لا يملكونها، تحت تأثير الحبّ والرضى والالتزام. فقد يملك من نحبّه ونرضى عنه ونلتزمه20% من الصفات الحميدة والإيجابيّة، فنرفعها ـ في تقييمه ـ إلى100%. وبذلك يتحرك التعصب للأشخاص. فالنبي(ص) يقول للإنسان: إنك إذا كنت كامل الإيمان، ولا نقص في إيمانك، فعليك إذا رضيت عن شخص وأحببته، وارتبطت به، أنْ لا يدخلك رضاك في إثم، ولا في باطل، أي أن لا تمدحه بما لا يستحق، وأن لا تصفه بصفات لا واقع لها، لأن ذلك يمثل إثماً، باعتبار أنه يأخذ طريق مخالفة الواقع، ويأخذ طريق الباطل؛ لأنّ ما تصفه به ليس حقاً. ولذلك، يجب أن نزن كل إنسان بميزانه، سواء كان على مستوى العلماء، أو على مستوى القيادات السياسية والاجتماعية وما إلى ذلك؛ وعلى الإنسان أن يعطي كل شخص قدره، وأن لا يرتفع به فوق ما هو عليه؛ لأنّ ذلك يسيء إلى الواقع عندما يغش الناس، بأن يقدِّم هؤلاء إليهم على أنهم يمثلون مواقع الكمال ومواقع القيادة، وهم ليسوا كذلك. وبذلك تسقط قيمة الحقيقة، ويختلّ توازن النظرة إلى الناس الذين قد يملكون مواقع التأثير الفكريّ والعمليّ في الواقع، في تكبير الصورة للأشخاص. والأمر الآخر الذي يستكمل به الإنسان عناصر إيمانه، كما يقول رسول الله(ص): «وإذا غضب، لم يخرجه غضبه من الحق»، فإذا غضبت على شخص وعاديته، أو اختلفت معه، فإن عليك أن لا تنسب إليه ما ليس فيه، وأن لا تدفعك عصبيتك وغضبك وحقدك، نتيجة هذه العلاقات المتشنجة، إلى أن تسلبه ما له من صفات طيبة. ونحن نقرأ في هذا المجال قوله تعالى: )وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى( (المائدة:8)، فإذا كانت هناك عداوة بينكم وبين قوم، فلا تحملنّكم العداوة على أن تظلموا هذا الإنسان، بأن تنتزعوا عنه ما يملك من صفات طيبة، أو أن تنسبوا إليه صفات شريرة ليست موجودة فيه.
ونقرأ ـ أيضاً ـ ما استوحاه الإمام علي بن الحسين(ع)، زين العابدين، من قوله تعالى: )وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى(([276])، وقوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ(([277])، «اللهم وارزقني التحفظ من الخطايا، والاحتراس من الزلل، في حال الرضى والغضب، حتى أكون بما يرد عليَّ منهما بمنـزلة سواء، عاملاً بطاعتك، مؤثراً لرضاك على ما سواهما في الأولياء والأعداء»، وهنا محل الشاهد «حتى يأمن عدوي من ظلمي وجوري» أن أكون متوازناً في رضاي وفي غضبي، بحيث لو سُئل عدوي عن موقفي منه، فإنه يقول: صحيح أن هناك عداوة بيني وبين فلان، ولكن فلاناً مؤمن مسلم، يخاف اللّه، فلا يمكن أن يظلمني أو يجور عليّ، لأن العداوة لا تبرر للإنسان أن يغمط العدو حقه، أو أن يظلمه في حقه «وييأس وليّي» أي صديقي وقريبـي «من ميلي وانحطاط هواي»، فلو فرضنا أن الناس قالوا لصديقي وقريبـي: ما دام بينك وبين فلان صداقة أو قرابة، فحاوِل أن تستغل ذلك لتأخذ منه ما لا تستحق، فإنه يرفض ذلك، ويقول، لا يمكن أن يتحقق ذلك، لأنّ فلاناً متدين، وهو لا يدخل الصداقة والقرابة في مواقفه، ولا يمكن أن يميل معي بالباطل، ولا يمكن أن يتبع هواه في حالة انحطاط. وهذا هو الخط الإسلامي، وهذا هو خط أهل البيتi.
والنقطة الثالثة التي يركز عليها النبي(ص) في استكمال الإيمان هي: «وإذا قدر لم يتعاط ما ليس بحق». فربما تكون عاجزاً عن أن تظلم الناس، فلا تظلمهم نتيجة عجزك، ولكن الظروف إذا هيّأت لك القدرة على أن تظلم، وأن تأكل أموال الناس بالباطل، وأن تتعاطى معهم بغير ما يرضي اللّه تعالى، فإن علامة إيمانك أن تكون في حال القدرة والعجز على حد سواء، فلا تستعمل قدرتك في اضطهاد الناس، وفيما لا يرضي اللّه تعالى.
علامة الإيمان:
وعن رسول اللّه(ص) قال: «ثلاثة من كنّ فيه يستكمل إيمانه: رجل»، وعندما يقال رجل، فإنه يُراد به الإنسان، بما يشمل الرجال والنساء معاً؛ لأن اللّه تعالى أراد الإيمان الكامل للمرأة وللرجل، وأراد للإسلام أن يتحرك في خط الإنسان كله، )وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ((التوبة:71): «رجل لا يخاف في اللّه لومة لائم»، أي أنّه عندما يأمره اللّه سبحانه وتعالى بهذا، أو ينهاه عن ذاك، أو عندما يريد له أن يقف موقفاً مؤيداً هنا، ورافضاً هناك، في أية قضية من القضايا السياسية، أو في القضايا الاجتماعية، أو في القضايا الأمنية، وما إلى ذلك، فإنه يلتفت إلى ما يرضي اللّه تعالى، ولا يلتفت إلى الناس الذين يطلبون منه أن لا يتخذ هذا الموقف نتيجة بعض السلبيات التي قد تتصل ببعض الأوضاع هنا والعلاقات هناك، أو أن يطلب منه ألا يرفض هذا، مع أنه يستحق الرفض. إن ذلك الإنسان الذي استكمل إيمانه، يقف ليراقب رضى اللّه في ذلك، على أساس قوله سبحانه وتعالى: )وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ((الكهف:29).
ونقرأ، في هذا الاتجاه أيضاً، أنّ من الناس الذين يظلّهم اللّه بظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله، «رجل لم يقدّم رِجْلاً، ولم يؤخّر أخرى، حتى يعلم أن في ذلك للّه رضى»، فعندما يريد الإنسان أن يتخذ المواقف، أيّاً كانت، فإنّ عليه أن لا يدرس ما يقوله الناس، ومن الذي يرضى، ومن الذي يغضب، بل عليه أن يفكر في ما يرضي اللّه تعالى، وما يغضبه، على طريقة ذلك الشاعر الذي يقول:
فليتك تحلو والحيـاةُ مريـرةٌ وليتك ترضى والأنامُ غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خـرابُ
وهذا ما أكّده رسول اللّه(ص) عندما طارده المشركون في (الطائف) ورموه بالحجارة، إذ استند إلى شجرة، وقال: «إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي». والصفة الثانية التي يذكرها رسول الله(ص): «ولا يرائي بشيء من عمله»، فهو يعمل عمله للّه تعالى، ولا يعمله ليمدحه الناس عليه؛ لأنّ ذلك هو قاعدة الإخلاص لله في العمل، بحيث يأتي به قربةً إلى الله وطلباً لرضاه، بعيداً عن رضى الناس.
أمّا الصفة الثالثة، فهي ما بيّنه(ص) بقوله: «وإذا عرض عليه أمران، أحدهما للدنيا، والآخر للآخرة، اختار أمر الآخرة على الدنيا»([278])، كما لو خيّره الناس في أمر فيه مصلحة له في دنياه، وأمر فيه مصلحة له في الآخرة، فإنه يختار أمر الآخرة على أمر الدنيا؛ لأن الإنسان المؤمن، الكامل الإيمان، هو الذي يجعل الدنيا مزرعةً للآخرة، وهذا المعنى هو ما عبَّر عنه اللّه سبحانه وتعالى في حديث أصحاب قارون لقارون: )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إلَيْكَ((القصص:77)، لكون الآخرة هي الهدف الذي لا بد للإنسان من أن يبتغيه؛ لأنّها دار البقاء التي يتمثّل فيها مصيره النهائيّ.
كمال الإيمان:
وفي حديث للإمام زين العابدين(ع): «أربعٌ من كنَّ فيه كَمُلَ إسلامه، ومحقت ذنوبه، ولقي ربه عز وجلّ وهو عنه راضٍ»، وهذه جائزةٌ ليس كمثلها جائزة، بحيث يعطيه الله تعالى الشهادة بكمال إسلامه، ويمحو عنه ذنوبه، ويرضى عنه، ونحن نقرأ قوله تعالى في القرآن الكريم، أنّ رضوان الله هو أعلى من نعيم الجنة، قال تعالى: )وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ((التوبة:72).
ما هي هذه الصفات الأربع؟ الأولى: «من وفى للّه عزّ وجلّ بما يجعل على نفسه للناس»، يعني الذي يعاهد الناس على أمر، ثم يفي لهم بما عاهدهم عليه. وقد قال تعالى: )وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤولاً((الإسراء/34)،)وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا((النحل:91).
الثانية: «وصدق لسانه مع الناس»، وذلك بأن يتحدث مع الناس بما هو واقع، وما هو حق، فلا يكذب؛ لأن الكذب ينافي أصل الإيمان. وقد ذكرنا سابقاً ما ورد من أحاديث عن رسول اللّه(ص)، أنه «لا يكذب الكاذب وهو مؤمن»؛ لأن الكذب يصادم الإيمان ويتناقض معه.
الثالثة: «واستحيا من كل قبيح عند اللّه وعند الناس»، أن يتميّز بالحياء والبعد عن كل قبائح الأمور.
الرابعة: «وحسَّن خلقه مع أهله»، يعني أن يعيش مع أهله ليعطيهم من كل كيانه حسن الأخلاق. وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»؛ لأن النبي(ص) كان في الدرجة العليا في مشاعره، وفي ملاحظته لأهله، حتى إن اللّه سبحانه وتعالى أراد أن يخفّف عنه، لأنه كان يمنع نفسه مما يلتذ به، ومما يحلو له، لأن أهله كانوا لا يلتذّون بما يلتذّ به، ولا يحلو لهم ما كان يحلو له، فقال تعالى مخاطباً إيّاه: )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ((التحريم:1)، يعني: لِمَ تمنع نفسك مما جعله الله حلالاً لك، وليس المقصود أن يجعله حراماً تشريعاً، )تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ(، من حيث مراعاتك لمشاعرهنّ وما يشتهينه في مزاجهنّ أو لا يشتهينه.
وفي حديث آخر لرسول اللّه(ص) في رجل سأله، كيف يكمل إيمانه؟ قال: «حسِّن خلقك يكمل إيمانك»([279])، لأن الإنسان إذا حسَّن خلقه مع الناس، فإنه لا يأتي منه للناس إلاّ الخير. وفي حديث الإمام علي(ع): «أكملكم إيماناً أحسنكم خلقاً»، فحُسن الأخلاق هو الأساس. ولذلك لم يوصف النبي(ص) في كل مواقع الكمال إلا بالخلق الحسن، وذلك هو قوله تعالى: )وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ((القلم:4)، )لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ((التوبة:128).
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثلاثون: 6 شعبان 1426ه - 20/9/2005م
وصية الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم
منهج الإيمان
الإيمان منهج يتّصل بكل قيم الإسلام، في العقيدة والشريعة، وفي قيم الروح ومنهج الأخلاق.
منهج الإيمان.
الحلم من ركائز الإيمان.
علامات الإيمان.
موقع العزم.
حياة المؤمن.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
منهج الإيمان
تحدّثنا في ما سبق، عن أنّ الإيمان ليس مجرد مفهوم بسيط يمثل نبضة في القلب، وخفقةً في الإحساس، أو مجرد فكرة سريعة في العقل؛ ولكنّه منهج يتّصل بكل قيم الإسلام، في العقيدة والشريعة، وفي قيم الروح ومنهج الأخلاق. ولذلك، فإنّ الإيمان يكمل كلما كملت ثقافة الإنسان وروحيته وأخلاقيته وحركيته ومسؤوليته عن الحياة كلها وعن الإنسان كله. وهذا ما نستوحيه ونتمثّله في ما ورد من آياتٍ وأحاديث عن الرسول(ص) والصفوة الطيّبة من أهل بيته(ع). ففي الحديث عن الإمام الصادق(ع): «ثلاث من كنّ فيه كمُل إيمانه: العقل، والحلم، والعلم». ونحن نلاحظ أنّ لهذه العناوين الثلاثة تأثيراً عميقاً في بناء الشخصية الإنسانية؛ فالعقل هو هذه الطاقة التي تمثّل كوناً واسعاً في أفق الفكر؛ لأن العقل ينتج الفكر في كل ما يتوجّه إليه الإنسان، وفي ما يتحرّك به من وسائل، سواء اتّصل هذا الفكر بجانب المعرفة بالله، أو المعرفة بالنظام الكوني، أو بالنظام الإنساني، أو بالقيم الإنسانية بعامّة، باعتبار أن العقل هو الذي يرشد الإنسان إلى الحسن والقبح، وإلى الضرر والنفع، وهو الذي يضيء للإنسان طريقه في ما يحمله من فكر، وما يتحرك به من خط، وما ينفتح عليه من القيم، وما يخطّط له في علاقاته العامة في الحياة. أمّا الحلم، فهو الرحابة في الخُلق، بحيث يبتعد بالإنسان عن رد الفعل ضد الذين يسيئون إليه، أو ضدّ ما يواجهه من أمور تزعجه.
الحلم من ركائز الإيمان:
وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذا الحلم من ركائز التقوى؛ فقد ورد قوله تعالى: )وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ(، وكظم الغيظ هو أن يحبس الإنسان غيظه عندما يغيظه الآخرون، فلا يفجّره بواسطة رد فعل يقابل فيه العنف بالعنف، والغيظ بالغيظ )وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ(، الذين لا يكتفون بأن يحبسوا غيظهم في نفوسهم، بل يعفون عمن أغاظهم، )وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ((آل عمران:133-134) الذين يحسنون إلى من أساء إليهم. وفي أثر الحلم على ارتفاع الإنسان في مواقع المسؤوليّة العليا في الحياة، ورد عن علي(ع) في بعض كلماته القصار: (آلة الرئاسة سعة الصدر)، أن لا يضيق صدرك بأيِّ شيءٍ سلبيّ يواجهك في حياتك، سواء من خلال أوضاع الحياة التي تضيق بك، أو من خلال الناس الذين يغضبونك، فإنّ ذلك قد يحقّق لك الكثير من السيطرة على السلبيات الصادرة من الآخرين ضدّك، لتستوعبهم، ولتعالج الأمور معهم بالطريقة التي تصل بك إلى النتيجة الإيجابيّة في حلّ المشكلة الصعبة. وفي كلمة أخرى، يوجّه الإمام(ع) الإنسان صاحب الصدر الضيق، الذي يغضب عندما يُستغضب، ويدعوه إلى أن يتطبّع بالحلم إذا لم يكن من طبعه الحلم، وكأنّه يقول: حاول أن تمثّل دور الحليم. يقول(ع): «إنّ لم تكن حليماً فتحلَّم؛ فإنه قلَّ من تشبَّه بقومٍ إلا أوشك أن يكون منهم». تشبَّه بالحلماء في ممارستك لمواقفك، في مواجهة الذين يغيظونك ويغضبونك؛ لأن هذه الممارسة التطبّعية، قد تتحوّل عندك إلى طبع في نهاية المطاف؛ لأن الطبع على قسمين: طبع يمثّل حالة في عمق الذات، مما يرثه الإنسان في استعدادته، وطبع ينطلق من خلال الممارسة والتمرين والترويض. وصحيح أنّه يقال إنّ الطبع يغلب التطبّع، وإن كان الطبع سلبياً، لكن الإنسان عندما يطبِّع نفسه، فربما يحصل على طبيعة ثانية.
أمّا الخصلة الثالثة المكمّلة للإيمان، فهي العلم. والوجه في ذلك، أنّ العلم، في سعته وعمقه وانفتاحه، هو الذي يضبط حركتك في مختلف مجالات الحياة، وهو الذي يجعلك تأخذ بأسباب التطوّر والتقدّم، على أساس ما يضيئه لك من الأفكار التي أنتجها العلماء، أو من التجارب التي مارسها الحكماء، وما إلى ذلك. فإذا اجتمع للإنسان عقل واع وعلم غزير، فإن ذلك يعطي إيمانه كمالاً وقوة وعمقاً وسعةً وانفتاحاً، بحيث يستطيع أن يتحول إلى شخص يتجسد الإيمان في كيانه كلّها، فكراً، وصدراً رحباً، وعلماً وثقافة. كمال الدين وعن الإمام زين العابدين(ع): «المعرفة بكمال دين المسلم»، أيْ إذا أردت أن تعرف أن هذا المسلم، هل هو كامل في دينه، فحاول أن تدرس سلوكه، وذلك بأن ترصد فيه الخصال الآتية: الخصلة الأولى: «تركه الكلام فيما لا يعنيه»، وذلك بأن يتكلّم في ما يتّصل بحاجاته، وفي ما يرتبط بمسؤوليّاته، وفي ما يتحرّك في أوضاعه؛ لأن المؤمن هو الذي يتكلم الكلام النافع له والنافع للناس، وهو الذي يحسب حساب عمله حتى لا تكثر خطاياه، كما وردت الإشارة إليه في بعض الأحاديث. فالكلام الذي لا يرتبط بأوضاعه العامّة والخاصّة، ولا ينفع الناس في عملية الدعوة والنصح والإرشاد، والكلام الذي يتدخّل في شؤونهم في ما لا يرتاحون إليه، وما إلى ذلك، هو كلام يدخل في باب اللغو، والله أراد للإنسان أن يعرض عن اللغو: )وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ((المؤمنون:3). الخصلة الثانية، ما ذكره الإمام(ع) بقوله: «وقلّة المراء»، أي قلة الجدل، بمعنى أن على الإنسان أن لا يجادل إلا في ما يتصل بمسؤولياته، في الدعوة إلى الرسالة، وفي إيضاح الحقيقة، والعمل على إزهاق الباطل، وما إلى ذلك، أما أن يجادل في كل شيء مما لا غنى له به، ومما لا علاقة له بالمسؤوليات الدينية والحياتية والاجتماعية، فإنّ ذلك يمثّل جدلاً عقيماً ربما يؤدي إلى نتائج سليية.
الثالثة: «وحلمه» وقد تحدّثنا عنه. الرابعة: «وصبره»، فإن المعرفة بكمال دين المسلم هو صبره؛ لأن الصبر هو الذي يعمّق للإنسان حركته في الطاعة، وهو الذي يعمّق له حركته في الابتعاد عن المعصية، في ما يواجه غرائزه وشهواته ونفسه الأمّارة بالسوء، وهو الذي يركّز موقفه تجاه المصائب والشدائد، فلا تحرفه عن الاستقامة في دينه. وقد ورد أنّ الصبر من عزم الأمور، والله سبحانه وتعالى بشّر الصابرين، وإنّما كان ذلك منه تعالى، لأن نتائج الصبر هي التي تساهم في رفع مستوى الإنسان ورضوان الله عليه في الدنيا والآخرة.
الخامسة: «وحسن خلقه»؛ لأن حسن الخلق هو الذي يدل على الروحية الإيمانية التي تنفتح على الناس، لتجتذبهم إليها وإلى ما تفكّر به، لأنّ أوّل طريقٍ إلى عقل الإنسان قلبه، وحسن الخلق هو الذي يجذب الناس إلى فكر الإنسان، وإلى رسالته، وإلى حياته، ويعينه على توعيتهم، وإرشادهم وما إلى ذلك. ونقرأ عن الإمام الصادق(ع) في ما يكمل به الإيمان: «لا يستكمل عبدٌ حقيقة الإيمان حتى تكون فيه خصال ثلاث: الفقه في الدين»([280]) أي فهم الدين، ويشمل ذلك مواقع الدين وخطوطه كلّها؛ في العقيدة، أو الشريعة، أو في المنهج الديني للقيم الروحية والأخلاقية، وما إلى ذلك، فإذا تفقّه الإنسان في دينه، أمكنه أن يعمِّق إيمانه؛ لأن الإيمان يمثل وعي الإنسان لكل ما يفرضه من المعرفة بالله وبالإسلام. «وحسن التقدير في المعيشة»، فالإنسان المؤمن ليس مسرفاً؛ لأن الله لا يحب المسرفين، وليس مبذراً؛ لأن المبذرين هم إخوان الشياطين، ولأن الله سبحانه وتعالى أراد للإنسان أن يتحرك في ماله بما ينسجم مع القيم التي أرادها أن تتركّز في حياته الفردية والاجتماعية؛ لأن المال بالنسبة للإنسان يمثل وظيفة ولا يمثل حالة ذاتية مزاجية يستهتر بها في مواقعه، بل عليه أن يعمل دائماً على أساس أن يصرف ماله في ما ينتفع به لنفسه ولعياله وللناس من حوله، ممن يدخلون في مسؤولياته العامة والخاصة.
وفي هذه النقطة، ورد عن لسان الإمام جعفر الصادق(ع) وهو يصف المؤمن: «المؤمن حسن المعونة»، فهو الإنسان الذي يعين غيره، «خفيف المؤونة» لا يثقل على غيره بما يفرضه عليهم من أوضاعه، «جيّد التدبير لأمر معيشته»، فهو يعرف كيف يدبر معيشته بالطريقة التي يحرك فيها إمكاناته في حساب حاجاته، «لا يلدغ من جحر مرتين»، ينتفع من التجربة، فإذا فشل في تجربةٍ ما فإنه لا يكررها. أمّا الخصلة الثالثة، فهي قوله: «والصبر على الرزايا»؛ لأن الله أراد للمؤمن أن يصبر على البلاء، وقد قال تعالى: )وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ((البقرة:155-157)، وتلك مرتبة عالية للصابرين، ذلك أن الله يصلي عليهم كما يصلي على رسوله، وأن الله يرحمهم ويحكم لهم بأنهم سائرون في خط الهداية.
علامات الإيمان:
ونقرأ في حديث رسول الله(ص): «لا يستكمل العبد الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال: الإنفاق في الإقتار»([281])، فينفق مع ضيق حالته من الناحية المادّية، وذلك من خلال قوله تعالى: )وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ((الحشر:9)، هؤلاء الذين عندما ينفقون هذا الإنفاق، فإنهم يعيشون التضحية والإيثار؛ إيثار الآخرين على أنفسهم، وهذا ما يمثل الروحية الإنسانية العالية. «والإنصاف من نفسه»، فإذا كان للنّاس حقٌّ عليك، فإنّ عليك أن لا تحوجهم إلى أن يتوسلوا لتحصيل حقوقهم بالادّعاء عليك، وبالمخاصمة لك، بل أن تنصفهم من نفسك، وذلك بأن تعترف بما لهم عليك من حقّ، وتشهد على نفسك للآخرين، وقد ورد في ذلك قوله تعالى: )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ((النساء:135). «وبذل السلام»، وذلك بأن تبذل السلام للعالم، وهذا ربما يتمثل في أن تحيي كل من تلقاه وتبدأه بالسلام، وقد كانت تلك صفة رسول الله(ص)، حيث كان يبدأ الآخرين بالسلام قبل أن يبدأه به أحد. هذا، وللسلام معنى روحيّ ينطلق فيه المسلم مع كل من يلتقيه، ليقول له إني مسالم لك، لن أعتدي عليك، ولن أحاربك، ولن أضرك، ولن أغشَّك؛ لأن هذه الأمور هي التي تنطلق من معنى السلام. وربما لأجل ذلك، جعل الله سبحانه وتعالى السلام تحية المسلمين، حتى تكون بداية حركيّة لقائهم بالآخرين منطلقة من كونهم يمثلون السلام في كل ما يحملونه للعالم. وفي القرآن الكريم، نجد أنّ الله جعل السلام تحية أهل الجنة، فقال تعالى: )وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ((يونس:10)، وعندما يدخلون الجنة: )جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ((الرعد:23-24)؛ لأن الجنة هي دار السلام، ليس فيها حرب، وليس فيها حقد، ولا عداوة، ولا بغضاء. وكذلك، فإن التحية التي تتناسب مع الروحية الإيمانية لأهل الجنة هي السلام.
ونقرأ عن رسول الله(ص): «لا يستكمل العبد الإيمان حتى يحسّن خلقه»([282])، لأن الخلق الحسن ينطلق من حالة الصفاء الروحيّ التي يحاول الإنسان من خلالها أن يجسّد كلّ القيم الأخلاقيّة الإنسانيّة؛ مع نفسه، ومع الناس من حوله، فلا يحسّون بأنّه ثقيل عليهم في أخلاقه، بل تنطلق أخلاقه الحسنة لتكون داعيةً لهم إلى ما عنده من الصفاء، وما يعيشه من الإيمان. وقد مدح القرآن الكريم النبيّ(ص) على حُسن خلقه، وقال تعالى: )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ((آل عمران:159). وقد ورد أنّ حسن الخلق قد يبلغ بالإنسان درجة الصائم القائم، وورد أيضاً أن حسن الخلق يذيب الخطيئة كما تذيب الشمس الجليد. «ولا يشفي غيظه»، بل يكظم غيظه، وقد تقدّم الحديث في ذلك. «وأن يودّ للناس ما يودّ لنفسه»، أن تحب للناس ما تحب لنفسك. وهذا هو الحديث المعروف عن رسول الله(ص): «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها»، فكأنّ النبي(ص) يقول لك: كن أنت الآخر وتقمص شخصيته، فما تريده لنفسك فأرده للآخرين. وهذا ما يجعل المؤمنين يندمجون ببعضهم البعض، ويكونون بذلك مجتمعاً متماسكاً.
وقد جاء هذا المعنى على لسان علي(ع)، فقد روي عنه أنّه قال مخاطباً ابنه: «يا بني، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها». «فلقد دخل رجالٌ الجنة بغير أعمال، ولكن بالنصيحة لأهل الإسلام»؛ لأنهم نصحوا للمسلمين في تعاملهم معهم، وفي خدمتهم لهم، وفي كل مسؤولياتهم، فأدخلهم الله بسبب ذلك في جنته. ومن البديهيّ أنّ ذلك ثابت لهم مضافاً إلى كونهم مؤمنين، ملتزمين بما أمر الله به، وما نهى عنه. وعنه(ص): «لا يستكمل عبد الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وهذا يتضمن ما قرأناه في الحديث الآخر، «وحتى يخاف الله في مزاحه وجدّه»، بمعنى أن يخاف الله في كل الأمور؛ فإذا أراد أن يمازح إنساناً، فعليه أن لا يعصي الله في مزاحه، فلا يؤذي هذا الإنسان، ولا يظلمه، ولا يكذب عليه، وكذلك الأمر في جدّه. فقد يمزح بعض الناس مع الآخر، ولكن بما يؤذيه، كما هو المتعارف عند الناس من الكذب في أوّل نيسان مثلاً، وربما نجد بعض الناس قد يكلف الآخر في مزاحه جهداً، مثل أن يقول له: إن أباك قد جاء من السفر، أو ما أشبه ذلك، فيذهب هذا الإنسان إلى المكان ويخسر مالاً، أو يبذل جهداً ثم تنكشف المسألة بأن القضية قضية مزاح. فهذا الأمر لا يجوز شرعاً وإنسانيّاً؛ لأن الإنسان لا يجوز له أن يؤذي الآخرين بمزاحه، كما لا يجوز له أن يكذب في مزاحه.
وفي الحديث عن الإمام زين العابدين(ع) في وصيته لأولاده، يقول: «اتّقوا الكذب، الصغير منه والكبير، في كلّ جدٍّ وهزل، فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير»، فالإنسان الذي يسرق عشر ليرات ـ مثلاً ـ يسرق مليون ليرة؛ لأن المبدأ واحد، والإنسان الذي يجترئ على الكذبة الصغيرة يجترئ على الكذبة الكبيرة؛ لأن الله يبغض مبدأ الكذب بقطع النظر عن حجمه فيما إذا كان كبيراً أو صغيراً. وعن الإمام محمد الجواد(ع) أنه قال: «لن يستكمل العبد حقيقة الإيمان، حتى يؤثر دينه على شهوته»، بحيث إذا وقف الإنسان بين التزاماته الدينية والتزاماته الغريزية الشهوانية، ودعته نفسه إلى أن يمارس شهواته المحرمة، فإن الإنسان الكامل الإيمان هو الذي يعرف كيف يركز إرادته في خط الالتزام الديني في مواجهة نفسه الأمارة بالسوء التي تقوده إلى الأخذ بشهواته، «ولن يهلك» أي لن يُحكم عليه بالهلاك، في غضب الله وسخطه، «حتى يؤثر شهوته على دينه»، بحيث يُصبح ويُمسي وهو يتحرّك وراء شهوته، بعيداً عن التزاماته ومسؤوليّاته، في ما يمليه عليه دينه في هذا المجال.
موقع العزم
وعن رسول الله(ص): «لا يكون المؤمن مؤمناً، ولا يستكمل الإيمان، حتى يكون فيه ثلاث خصال: اقتباس العلم»([283])، أن يطلب العلم في كل مواقعه، وفي كل موارده، وفي حالاته كلها، من أجل أن يبني نفسه بناءً علمياً؛ لأن الإنسان إذا بنى نفسه بناءً علمياً، فإن ذلك يجعل منه إنساناً نافعاً لنفسه، ونافعاً للحياة، ونافعاً للناس من حوله. «والصبر على المصائب» وليس الصبر حالة ضعف، ولكنّه يمثل القوّة، كلّ القوّة؛ بحيث يضبط الإنسان من خلاله نقاط الضعف في نفسه، ويضبط أوضاعه الداخلية. وقد ورد في ذلك قوله تعالى: )وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ((لقمان:17)، وقوله تعالى: )لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ((آل عمران:186). «وترفّق في المعاش»، وهو الذي عبر عنه الإمام الصادق(ع)، في ما تحدثنا عنه، وهو أن يكون الإنسان حسن التقدير في معيشته، فيرفق في معاشه، حتى يعرف كيف يديره، ويدير به أوضاعه. والإمام علي(ع) يقول: «لا يكمل إيمان عبد حتى يحب من أحبه الله سبحانه، ويبغض من أبغضه الله سبحانه»، يعني أن تكون علاقتك بالناس منطلقةً من علاقتك بالله، فأنت إذا أحببت الله، فإنّ هذا الحب يجب أن يتحرك في وجدانك، بحيث ينعكس إيجاباً على حبك للآخرين، فتحب من أحبه الله سبحانه وتعالى. وقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيت(ع): «إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإذا كان قلبك يحبّ أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته، فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب»([284])، فالإنسان يحشر مع الذين يحبهم في الدنيا، فإذا كانوا ممن يحبهم الله، فيحشر معهم في رضوان الله، وإن كانوا ممن يبغضهم الله، فإنه يحشر معهم في سخط الله وغضبه
حياة المؤمن:
ونقرأ عن الإمام علي(ع): «لا يكمل إيمان المؤمن حتى يعدَّ الرخاء فتنةً والبلاء نعمةً»([285])، يعني إذا جاءه الرخاء، في المال، أو الجاه، أو الصحة، أو ما إلى ذلك، فلا يطغيه ذلك، ولا يجعله يشعر بضخامة الشخصية، ولا يكفر بالنعمة، بل يعتبر الرخاء فتنة، وهي بمعنى الامتحان، أي أن الله يمتحنك بما يعطيك من الرخاء، لينظر هل تشكر فتوجّه الرخاء في ما يرضى الله، أو تكفر فتوجه الرخاء في ما لا يرضيه سبحانه وتعالى. ونحن نعرف أنّ الرخاء ـ بطبيعته ـ يهيّئ الإنسان إلى الاستسلام للأمور المادّية، فقد يشعر من خلال ذلك بالغنى والاكتفاء، وتلك هي أولى منطلقات الطغيان الذي قد يدفعه إلى الكفر بنعم الله، كما قال قارون لقومه وهم يعظونه ليشكر ما أولاه الله: )إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي((القصص:78)، وقد قال تعالى: )كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى((العلق:6-7). إنّ القيمة السلبيّة في ذلك، هي أن يرى الرخاء امتيازاً له دون سائر الناس، على هدي ما جاء في قوله تعالى: )فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي((الفجر:15-16). وإذا كان الرّخاء يمثّل فتنةً بالنسبة لهؤلاء، فإنّ البلاء يمثّل نعمةً بالنسبة إليهم؛ لأنّه يمثّل حالة استثارة لعناصر الإيمان، في ما يؤصّله الامتحان من عناصر الخير، وفي ما يهيّئه من الأجواء التي تقرّب العبد إلى الله، وهذا ما يجعل الإنسان يتوازن أمام البلاء، فإذا صبر في البلاء، فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه بذلك أجر الصابرين
وعن رسول الله(ص): «لا يكمل لعبد الإيمان بالله حتى يكون فيه خمس خصال: التوكل على الله»؛ لأنّ التوكّل ينطلق من حالة الثقة بالله التي يعيشها العباد في روحيّتهم، وقد مدح الله تعالى المؤمنين بقوله: )وعلى ربِّهم يتوكلون(. والتوكل على الله هو أن تستعمل كل ما لديك من الأسباب، ثم بعد ذلك تترك الأمر لله مما يمكن أن تخافه في المستقبل. وهناك فرق بين التوكّل على الله وبين الاتكالية؛ فالاتكالية هي أن لا تعمل في ما تملك أسبابه، وإنما تواجه القضية على أساس اللامبالاة.
وقد ورد عندنا أن شخصاً قال للنبي عليه الصلاة والسلام: إني تركت ناقتي في البيداء وتوكلت على الله، وجئت ولم أجدها، قال له(ص): «اعقلها وتوكل»، أي اربطها بالأرض، واعمل كل ما تستطيع لحمايتها، ومن ثم توكل على الله. وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق(ع) وهو يقدِّم لنا نموذج المتوكلين، أنّ المتوكلين هم الزارعون، يعني بهم الفلاحون، حيث لا يقف الفلاح أمام الأرض ليقول: أتوكل على الله، لتنتج حنطة أو تنتج عنباً أو ما إلى ذلك، بل يقوم بكل ما تحتاجه الزراعة في رعاية الأرض وفي سقيها وفي تنقيتها وما إلى ذلك، ثم عندما يواجه المستقبل يقول: أتوكَّل على الله في ما يمكن أن يأتي من مشاكل قد تؤدي إلى فساد الزرع وما إلى ذلك. والخصال الأخرى كما جاء في حديث الرسول(ص): «والتفويض إلى الله»، أي أن تفوِّض أمرك إلى الله في كل أمورك، لأن الله سبحانه وتعالى عند حسن ظن عبده المؤمن. «والتسليم لأمر الله» في كل أموره، وفي كل ما يحدث له. «والرضا بقضاء الله»، في ما يحدث للإنسان من قضاء الله وقدره، مما لا يملك الإنسان الاختيار فيه، كالكوارث الطبيعية المتصلة بالقانون العام في النظام الكوني. «والصبر على بلاء الله»، والله يقول: )إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ((الزمر:10). «إنّه من أحبَّ في الله، وأبغض في الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان». وعن رسول الله(ص): «لا يكمل المؤمن إيمانه حتى يحتوي على مئة وثلاث خصال؛ فعل وعمل ونية وباطن وظاهر»([286])، أي ما يجمع هذه العناوين. وعن الإمام الصادق(ع): «لا يكمل إيمان العبد حتى يكون فيه أربع خصال: يحسن خلقه»، وقد تحدثنا عن ذلك، «ويستخف نفسه»، يعني لا يستعظم نفسه، بل يحاول أن يدرس نقاط الضعف في داخل نفسه، كما يدرس نقاط قوّتها، «ويمسك الفضل من قوله»، أي لا يتحدث بما لا يحتاجه، وبما لا يعنيه من قول، «ويخرج الفضل من ماله» ، مما أراد الله له أن يخرجه، حيث قال تعالى: )وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ((الذاريات:19). وللحديث بقيّة إن شاء الله تعالى.
والحمد للّه ربّ العالمين.
باب
المسائل
الفصل الأول
المسائل القرآنية
العفو عن الحقوق:
س: قال تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ}(التغابن/14)، فهل العفو مطلق أم أنه في بعض الحالات دون بعض؟
ج: ربما يُفسِّر هذه الآية الكريمة ما جاء في رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين(ع)، زين العابدين، قال: ((وأما حقَّ من ساءك))؛ من أساء إليك، ((فأن تعفو عنه، فإن رأيت أن العفو عنه يضرّه))؛ يزيده سوءاً، ويزيده تمرداً، ((انتصرت)). فالعفو يمثل هذه الروح التي لا تتعقَّد من الإساءة، وإنما تخفّف منها، في كلِّ معطياتها، ولكن لابد من دراسة تأثيراتها على المسيء، أو على المجتمع من الناحية السلبية.
فطرة الله:
س: يصرّح القرآن الكريم بأنَّ الله تعالى أودع الدين في قرارة الإنسان وأعماقه، كما في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله}(الروم/30)، فإذا كان الدّين فطرياً، فلماذا يخرج بعض الناس منه، وينحرفون؟
ج: قد يفسِّر هذا، الحديث الوارد عن النبي(ص): ((كلُّ مولود يولد على الفطرة، إلا أن أبويه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجسانه)). فالفطرة مغروسة في أعماق الإنسان، ولكنَّ التراكمات التربوية، والظروف المنحرفة، التي تحيط بالإنسان، تحجب الوجدان الإنساني عن الانفتاح على هذه الفطرة. أضرب لكم مثلاً شعبياً، هناك الكثير من الينابيع الموجودة في الأرض، والتي تتميّز بالماء الصافي، ولكن قد ينطلق الناس ليضعوا فوق هذه الينابيع الأوساخ والأحجار وما إلى ذلك، بحيث تحجب الينبوع عن الناس، فلا يستفيد الناس منها شيئاً، حتى نزيل كلَّ هذا الركام وكل هذه الأوساخ عن النبع، لنأخذ منه الماء الصافي. ولذلك نحن عندما نجد إنساناً منحرفاً عن الدين، علينا أن نعرف كيف نزيل كلَّ هذا الركام الذي يحجب الفطرة عن الوجدان الإنساني، وذلك برفق، كما قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(النحل/125).
آية التطهير:
س: هل قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب/33)، هو في تطهير أهل البيت(ع)، بمعنى عصمتهم عن المحرمات وارتكاب المنكرات؟
ج: أن يذهب عنهم الرّجس ويطهّرهم طهارة الفكر، لأن الفكر الباطل قذارة، كما هي طهارة الجسد من المحرّمات، لا طهارة الجسد من النّجاسات، وإن كان البعض يغالي، حيث يقول إنَّ دم الإمام طاهر، وبوله طاهر، وغائطه طاهر، وما إلى ذلك... كلا، الإمام كباقي الناس من هذه الناحية، فالإمام والنبي يغتسلون من الجنابة، وكانوا يطهّرون أجسادهم من كلِّ هذه الأمور. الطهارة هي طهارة الفكر، من الخطأ، ومن الباطل، وطهارة السلوك من المعصية.
ولاية المؤمن:
س: قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[التّوبة:71]، كيف تتجسّد ولاية المؤمن لأخيه المؤمن عمليّاً؟
ج: ينطلق هذا التجسّد من الإحساس بالأخوّة، بكلّ ما تفرضه الأخوّة من مشاعر وأحاسيس ومعاشرة وما إلى ذلك، وهكذا أيضاً، أن ينصر المؤمن المؤمن فيما له من حقّ، لأنّ الولاية تعني المحبّة، وتعني النّصرة، وتعني التعاون. ولعلّ أوضح صورةٍ للولاية هي ما ورد عن رسول الله(ص): «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها». كن أنت أخاك، وذلك بأن تعيشه كما لو كان نفسك، بحيث تحسّ بما يحسّ، وتنفتح بما ينفتح عليه، تشاركه آلامه وفرحه وسروره، وتنصره وتعينه، وتساعده ولا تخذله، وما إلى ذلك.
الإيمان المطلق:
س: ما وجه التعارض بين قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:62]، والآية الكريمة في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}[آل عمران:19]؟ وهل إنّ المطلوب هو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصّالح؟ وهل هذا كافٍ لرضا الله تعالى عن كلِّ منتحلي هذه الملل؟
ج: إنّ الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصّالح هو الإسلام. فما معنى الإسلام؟ قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة:131]، هو أن تسلم كلّ أمرك لله، أن لا تكون لك كلمة خارج كلمته، وأن لا تكون لك إرادة خارج إرادته، أن تعمل صالحاً؛ والعمل الصّالح يتّسع لكلّ ما أمرك الله به، أن تلتزم بكلّ ما أمرك الله به، وتبتعد عن كلّ ما نهاك عنه. والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بأنّ عليك أن تعمل في الدّنيا من أجل أن تحصل على رضا الله في الآخرة، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:77]، فكلمة الإسلام لا يراد بها المعنى الإصلاحيّ، كما قال الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم(ع): {ملّة أبيكم إبراهيم، هو سمّاكم المسلمين من قبل}، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:162]. فقوله: {من آمن بالله}، لأنّ الإيمان بالله يقتضي الإيمان برسله، والإيمان بشرائعه ورسالاته، وهذا هو الإيمان بالله، وأيضاً العمل الصَّالح، فهو الالتزام بكلّ ما أمر الله به وما نهى عنه {واليوم الآخر} هو العمل من أجل رضا الله سبحانه وتعالى ليحصل الإنسان على رضوان الله في اليوم الآخر.
تفسير (قَدَمَ صِدْقٍ):
س: ما المقصود بقوله: (قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في قوله تعالى: {وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (يونس: 2)؟
ج: باعتبار أنهم من المؤمنين والصالحين، فاللّه سبحانه وتعالى يعطيهم أجرهم الذي وعدهم به، والذي يمثل صدق وعد الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، ومعنى أن لهم قدم صدق، أي أن لهم موقعاً متقدِّماً وخطوةً حسنةً عند ربهم.
سعة الرزق وضيقه:
س: يقول اللّه سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يحتسب} (الطلاق:2-3)، وجاء في الحديث الشريف: ((كلما ازداد العبد إيماناً ازداد ضيّقاً في معيشته))، ما صيغة التوافق بين الآية الكريمة والحديث الشريف؟
ج: ربما كانت الآية الكريمة في مورد تأكيد عدم القنوط واليأس من رحمة الله، وأن على الإنسان إذا اتقى ربه، أن يثق بأن اللّه سبحانه وتعالى سوف يجعل له المخرج حيث لا مخرج، وسوف يرزقه الرزق الذي لا يحتسبه، ولا ينتظره، وهذه واردة في مقام الثقة بالله تعالى، وأن الله سبحانه وتعالى يلطف بالأتقياء من عباده، فيفرِّج عنهم في ما يواجهونه من البلاء، سواء ما يتعلّق بالرزق، أو ما إلى ذلك.
أما الحديث الشريف، فإنه قد ينظر إلى مسألة أن على المؤمن أن يصبر عند نزول البلاء، لأن الإنسان كلما زاد إيماناً، فإن عليه أن يتحمل مسؤولية هذا الإيمان فيما يواجهه من التحديات، سواء في حرمانه من شهواته ولذاته، أو في مواجهته أعداء الإيمان، فربما تضيق عليه معيشته، ولكن ليس معنى ذلك أن ييأس من رحمة ربّه.
قيمة الانتماء العشائري:
س: في قصة (شعيب) ورد في القرآن الكريم، قوله تعالى: [وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ* قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنْ الله وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ](هود/91-92)، هل يدل ذلك على عدم قيمة الانتساب القبلي والعشائري؟
ج: هذا يدل على أنهم لم يلاحظوا ارتباط شعيب بالله تعالى، باعتباره رسولاً من الله مما يدعوهم إليه، ولذلك قالوا له: إننا نحترم عشيرتك، ولذلك أجابهم في قوله تعالى: [أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنْ الله]، يعني هل انتسابي إلى عشيرتي يمثل قيمة كبرى أكثر من قيمة ارتباطي بالله تعالى؟
حياة الأبرار في الجنة:
س: قال الله في كتابه العزيز: [إنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورً] (الإنسان/5)، ما تفسير هذه الآية؟ وفي مَن نزلت؟
ج: الكافور هو الشراب الطيب الرائحة، وربما فسرها بعضهم بخمرة الآخرة، التي ليس فيها العناصر السلبية الموجودة في خمر الدنيا، وأنه طيب الرائحة، ولم تنـزل هذه الآية الكريمة في شخص معيّن، وإنما أرادت أن تبيّن ما أُعدَّ للمؤمنين من نعيم أخرويّ.
تفسير كلمة أحد
س : ما معنى كلمة: (أحد) في قوله تعالى: ) قل هو الله أحد(؟ «وما الفرق بينها وبين كلمة (الواحد)»؟
ج : قد يقال الفرق بين (الأحد) و(الواحد): أن (أحد): هو الفرد الذي لا يقبل العدد، أي لا نقدر أن نقول: أحد، اثنان، بينما نقول: واحد، اثنان. والله سبحانه وتعالى: هو الأحد، ولذلك لا ثاني له. وهو الأحد الذي لا يقبل عدداً آخر.
نجاسة المشركين:
س : قال تعالى: [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا] (التوبة:28)، وقال سبحانه وتعالى: [إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ] (المائدة:90). ما الفرق بين النجس والرجس؟ وما المقصود بالطهارة في قوله تعالى: [وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] (البقرة:125)؟
ج : النجس هو القذر، سواء كان قذراً معنوياً أو قذراً مادياً. والرجس هو الخبيث، سواء كان معنوياً أو مادياً. والنجس في الآية الكريمة الأولى، يعني المشركين، وقد عبر عنهم الله أنهم نجس، باعتبار أنّ فكر الشرك هو فكر نجاسة، وقد بينَّا في أبحاثنا الفقهية، أنها لا تدل على نجاسة أجسادهم، لأن الفتوى عندنا أن كل إنسان طاهر، سواء كان مسلماً أو كافراً.
أما الرجس في الآية الثانية، فيعني الخمر والميسر والأنصاب، لأن فيها خباثة، باعتبار خبث ما تنتجه، وإلا فليس الميسر ولا آلات القمار أو الأنصاب من النجاسات.
والمقصود من الطهارة، في الآية الثالثة، أي طهّره من الأصنام ومن الشرك، وليس المراد الطهارة في الماء، أو ما أشبه ذلك.
زمان الخلق:
س : قال تعالى: [هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ] (الحديد:4)؛ لماذا حُدِّد خلق السموات والأرض في ستة أيام؟ ولم يكن في خمسة أيام مثلاً؟ وما معنى (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)؟
ج : لو كان ذلك في خمسة أيام، فإنك ربّما تقول لماذا خمسة أيام، وليست أربعة؟ قال تعالى: [لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] (الأنبياء:23)؛ فهذه أمور تتصل بحكمة الله سبحانه وتعالى، [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] (يس:82)، ولكن بحكمته أراد أن يخلق السموات والأرض بطريقة تدريجية، لحكمة عنده، وليس لعجز في قدرته.
دخول الكفار إلى النار:
س : قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ] (الأعراف:40)، ما المقصود من (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)؟
ج : كأنه يريد أن يقول: إنه لا يمكن لهم أن يدخلوا. ولذلك شبّه رغبتهم في الدخول إلى الجنة، بإنسان يريد أن يدخل الجمل في ثقب إبرة، فهل يمكن هذا؟ هو محال. وكذلك هؤلاء الذين كذّبوا بآيات الله تعالى، لا يمكن أن يدخلوا الجنة، وفرضية دخول الجمل في سم الخياط، هي من باب الاستحالة.
صلاة الليل:
س : قال الرسول(ص): ((ما زال جبرائيل يوصيني بقيام الليل حتى ظننت أن خيار أمتي لن يناموا))، أين هذا المعنى في آيات سورة السجدة؟
ج : أراد النبي(ص) في هذا الحديث أن يبيّن قيمة صلاة الليل، والاهتمام الإلهي بهذه الصلاة، حيث أراد أن يوصي النبي بها أمته، بشكل يبالغ في ذلك، كما لو كان يريد أن يقول لهم لا تناموا، وصلوا صلاة الليل.
التسمية على الذبيحة:
س : قال تعالى: [فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ] (الأنعام:118)، ما المقصود بها؟
ج : بالنسبة إلى الذبيحة، فإنه لا يجوز أن نأكل أية ذبيحة، إلاّ إذا ذكر اسم الله عليها.
كتّاب الوحي:
س : هل إن الإمام علي(ع) هو كاتب الوحي لرسول اللّه (ص)؟ وهل جمع القرآن الكريم؟ وما هو قرآن فاطمة؟ ولماذا جمع القرآن في زمن عثمان وسُمي بقرآن عثمان؟
ج : كان الإمام علي(ع) يكتب الوحي لرسول اللّه(ص)، ويُقال إن هناك أشخاصاً كانوا يكتبونه. وجمع القرآن الكريم في زمن الرسول(ص)، لكنه ما جمع في كتابٍ واحد، بل جمع في ترتيب السور، وترتيب الآيات الكريمة، كما ورد في بعض الروايات.
أما بالنسبة لما تسمّيه: "قرآن فاطمة"، فليس لفاطمة أي قرآن، إلا القرآن الذي أنزله اللّه تعالى على رسوله، بل الصحيح هو مصحف فاطمة، وكلمة مصحف، ليس معناها القرآن، بل هي من الصحف التي تعطي معنى الكتاب، وهو كتاب كانت تكتب فيه فاطمة(ع) بعض الأمور، وهناك بعض الروايات تقول فيه وصية فاطمة، وبعض الروايات تقول فيه بعض الأحكام، وأخرى تقول كان يحدِّثها ملك ويسليها، وكان علي يكتب ذلك، فهناك عدة روايات، لكنها ليست قرآناً على أية حال.
أما جمع القرآن في زمن عثمان، فلاختلاف اللهجات العربية، فقد أشار على المسلمين، وهو رئيس السلطة يومذاك، فجمعوا القرآن في كتاب واحد، في نسخة واحدة بلغة قريش.
تخويف الشيطان:
س : قال تعالى: [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ] (آل عمران:175)، كيف يخوّف الشيطان أولياءه وهم يعملون معه؟
ج : يعني بأن يوسوس لهم، ويوحي لهم بعناصر الخوف التي قد تسقطهم في بعض المواقع، خصوصاً عندما يغفلون عن اللّه سبحانه وتعالى. وقد ورد ذلك في سياق حديث الله سبحانه عن ]الذينَ قالَ لَهُمُ الناسُ إنَّ الناسَ قَدْ جَمَعوا لَكُم فاخشَوهُمْ فزادَهم إيماناً وقالوا حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلْ* فَانقلبوا بنِعمَةٍ مِنَ اللهِ وفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُم سُوءٌ واتّبعوا رِضْوانَ اللهِ واللهُ ذو فضلٍ عَظِيم[ (آل عمران:173-174)، ما يوحي بأنّ عمل الشيطان قد يتمّ من طريق الجنّ وقد يتمّ من طريق الإنس. كما قال تعالى: ]... الذي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ الناس* مِنَ الجِنَّةِ والناس[. ما يوحي بأنّ عمل الشيطان قد يتم من طريق الجنّ وقد يتم من طريق الإنس
تمزيق الأمم:
س : قال تعالى في سورة (سبأ): [فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ] (الآية:19)، ما المثل الذي اشتهر حول قوم سبأ؟
ج : المثل هو: (تفرّق أيادي سبأ)، حيث لم يبق من تلك الحياة الفارهة التي عاشوها إلا ما يتحدّث به الناس على ألسنتهم، مما يختزنونه في ذكرياتهم.
بين القضاء والبداء
س: قال تعالى: {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (غافر:68)، ما المراد بالقضاء؟ وهل يتفق مع البداء؟
ج: القضاء ـ هنا ـ هو الإرادة، ممّا يحقّقه من الخلق والإيجاد. يعني: إذا أراد شيئاً، من خلال حكمته، ومن خلال علمه، فإنه لا يحتاج إلى مقدمات، ولا يحتاج إلى معاونة أو مساعدة، بل إن إرادته تساوي وجود ما أراده. ولا يتفق القضاء مع البداء؛ لأن مسألة البداء ـ أساساً ـ أوجبت إشكالاً ليس بمراد للشيعة؛ لأن البداء ـ بحسب ظاهر الكلمة ـ يعني الحالة التي يفكر فيها بشيء أو يعزم فيها بشيء ثم يبدو له، فيغير ذلك، وهذا أمر مستحيل على اللّه سبحانه وتعالى؛ لأنه يلزم الجهل بالنسبة إلى اللّه سبحانه وتعالى، يعني أنّ الله يحب أن يقضي بشيء، ثم بعد ذلك، يقضي بخلافه.
لذلك، فإنّ الذين يتهمون الشيعة بالانحراف العقيدي، ينطلقون من كلمة البداء، بالرغم من تفسير العلماء لما يقصدونه منها تفسيراً للأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت(ع). أمّا الذي يُمكن إثباته في حقّ الله تعالى، فهو الإبداء، بمعنى أنّه يُظهر ويُبرز أمراً ثم يُظهر غيره لمصلحة تتعلّق بذلك، من دون أن يكون ذلك نتيجة جهلٍ أو قصور في تقدير الأمور. مثلما كان يقال إنه في زمن الإمام الصادق(ع)، كان الشيعة يعتقدون إن الإمام هو إسماعيل، لأنه هو أكبر أولاد الإمام الصادق(ع)، ثم مات إسماعيل في زمن الإمام الصادق(ع)، وكانت الإمامة للإمام الكاظم(ع)، فكان يقال بدا لله في أمره، وهكذا بالنسبة للإمام الحسن العسكري، بالنسبة إلى أخيه محمد، فالمراد من البداء: الإبداء، وليس البداء بمعناه اللفظي.
أيّ الأسماء عُلّم آدم؟
س: قال تعالى: [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] (البقرة:31)، لماذا لم يقل تعالى: (ثم عرضها)؟ ولماذا قال (هؤلاء) وكلها إشارات للعاقل؟
ج: ورد في رواية الإمام الصادق(ع)، أن هذه الأسماء هي الأسماء التي تمثل كل ما خلقه اللّه في الأرض، مما كلف اللّه آدم(ع) إدارته وتنميته وتطويره، لأن اللّه تعالى جعله خليفةً في الأرض، وذلك يشمل من لا عقل له ومن له العقل، ومن الممكن استعمال الضمير (هم) في الجمع المكوّن من عاقلٍ وغير عاقل، بل قد يستعمل في جمع غير عاقل، كما قال تعالى: {رأيتهم لي ساجدين} [يوسف:4]، والمقصود الشمس والقمر والكواكب. وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع) في ما علّمه الله لآدم(ع)، قال: ((الأرضين والجبال والشعاب والأودية، ثمّ نظر ـ أي الإمام(ع) ـ إلى بساطٍ تحته، فقال: وهذا البساط ممّا علّمه))، ما يوحي بأنّ التعليم كان لكلّ ما يحتاجه في الكون، من خلال الدور الذي هيّأه الله سبحانه له.
صيغة الجمع مع إرادة المفرد:
س: قال تعالى: [إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ] (المائدة:55)؟ يقول البعض إن هذه الآية نزلت وبلا خلاف في حق الإمام علي(ع)، ولكن لماذا وردت في صيغة الجمع؟
ج: لأنّ الآية تمثّل المبدأ. وبعبارة أخرى: إن هذه الآية تتحدث عن هذه القضية الروحية الأخلاقية في الإخلاص للّه تعالى، في موقع تأكيد الولاية، وعندما نزلت هذه الآية كما جاء في رواية السُنّة والشيعة، في ما قام به الإمام علي(ع) من التصدّق بالخاتم عند ركوعه، فإنها تؤكد أن الإمام يملك الولاية، باعتبار أنها تتحدث عن أن الولي هو الذي يكون من هذا الفريق، وقد يكون هذا الفريق ـ بلحاظ الآية ـ منحصراً في فرد، ولا مانع من التحدُّث بصيغة الجمع عن فريق من الناس، قد لا يكون متعدداً ولكنه يؤكد القيمة.
أمّيـة النبـيّ:
س: قال تعالى: [وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ] (العنكبوت:48)، هل تدل هذه الآية على أن النبي(ص) لم يعرف القراءة والكتابة قبل البعثة؟
ج: نعم، والدليل قوله تعالى: [إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ]، يعني أنّك لو كنت تعرف القراءة والكتابة، وعرف الناس منك ذلك، باعتبار أنك عشت معهم قبل النبوّة أربعين سنة، لقالوا إنك قد قرأت الكتب السماوية وقد كتبتها، فهذه الرسالة التي جئت بها ليست وحياً من اللّه، ولكنها ثقافة مما قرأته ومما كتبته. بينما عندما يعرفك الناس وأنت لم تقرأ كتاباً طيلة هذه المدة، ولم تكتب أيضاً كتاباً، أو تنقله، فيعرف الناس أنّ هذه الرسالة تشتمل على علم ليس مسبوقاً، وليس موجوداً في محيطك الذي عشت فيه طيلة هذه المدة، ولاسيّما أنّها تشتمل على أنباء الغيب، كما قال الله سبحانه: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك} [يوسف:102]، فيعرفون أنك نبي من قبل اللّه سبحانه وتعالى، ولست مجرد إنسان مثقف يأتي بما أخذه من ثقافته.
هل الأمّية نقصٌ للنبيّ؟
س: وهل القول إنّ الرسول أميّ ينقص من كماله؟
ج: إن الأمّية لا تنقص من كمال النبيّ(ص)؛ لأن الأمية إنما تنقص من كمال الإنسان، باعتبار سببيّتها للجهل، أما إذا كانت الأمية تنفتح على علم واسع عميق يتصل بعالم الغيب وبعالم الشهود، ويعطي الناس برنامجاً دقيقاً في مسألة العقيدة والشريعة والحياة، فإن الأمية تكون مصدر كمال لا مصدر نقص، لأن هذا الأمي هو الذي جاء بما يغني الثقافة الإنسانية في مدى الزمان. على أنّ هذه الأمور لا بدّ أن يُنظر إليها من خلال حكمة الله سبحانه، فيما أراد أن يركّزه في حركة النبوّة في الناس، مما قد يتطلّب توفّر بعض الصفات، أو عدم توفّر البعض الآخر، لمصلحة الرسالة ككل، مع حفظ حاجات الرسالة في الرسول بطريقة وبأخرى.
متطلّبات الدعوة إلى الإسلام:
س: ما هي الطريقة المثلى لدعوة الناس إلى مذهب أهل البيت(ع) وتعريفهم به؟
ج: أن يكون الداعية مثقفاً بمذهب أهل البيت(ع)، وذلك بأن يكون مثقّفاً بالإسلام كله، لينطلق من خلال الخطوط الإسلامية الثقافية لتأكيد هذا المذهب، لأن الذين يلتزمون مذهب أهل البيت(ع)، إنما يلتزمونه من خلال الكتاب والسُنّة الشريفة، ومن خلال ما أخذوه من الأئمة(ع) الذين يتحدثون بحديث رسول اللّه(ص)، ولا يتحدثون حديثاً ذاتياً. ثم لا بد للداعية من أن يكون مثقّفاً ببعض القضايا التي حكم بها العقل في تأكيد شخصية الإنسان الذي يكمل عقيدته بالولاية.
وقد قيل للخليل بن أحمد الفراهيدي العالم النحوي اللغوي المعروف: قيل له: لم فضّلت علياً على غيره؟ قال: (احتياج الكل إليه، واستغناؤه عن الكل، دليل أنه إمام الكل)، بحيث إن الرجل درس كل حياة الإمام علي(ع)، فرأى أن الإمام(ع) قد احتاجه كل المسلمين، وكانوا يلجأون إليه عندما تتحداهم الشعوب الأخرى في أسئلة لم يكن للمسلمين عهد بها، من أجل أن يعطيهم الجواب عن ذلك، ولذلك قال الخليفة عمر: (لولا علي لهلك عمر)، وقال: (ما كنت لمعضلة ليس لها أبو الحسن). والإنسان الذي يملك هذه الثقافة، لا بد له أن يملك الأسلوب الذي يدير الحوار فيه مع الآخرين؛ لأن بعض الناس قد يملكون الثقافة، ولكنهم لا يملكون كيفية تحريكها لتدخل إلى عقول الناس وإلى وجدانهم. كما أنّ عليه أن يبتعد عن كلّ التراكمات المنحرفة، مما قد تختلط فيه الخرافة بالحقيقة، والغلوّ بالاعتدال.
سؤال المؤمنين:
س: يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة:101)؟
ج: بعض الناس يسألون عما لا يعنيهم، من قبيل السؤال عن أشياء خفيّة لا يتحمّل طبيعتها، أو من قبيل السؤال عن الأمور التي لا تدخل في مسؤوليّاته، وربما لو سأل عنها لواجه أموراً سيّئة تعقّد حياته.
عرض الأمانة على الإنسان:
س: يقول المولى تبارك وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} (الأحزاب:72)، هل المقصود بالإنسان آدم(ع)؟
ج: المقصود هنا هو نوع الإنسان، وهذا وارد على سبيل عرض الفكرة، بحيث إنَّ الله تعالى يريد أن يبيّن أنَّ الأمانة ـ وهي المسؤوليّة ـ حين عرضها على السموات والأرض والجبال رفضن تحمّلها لثقلها، أمَّا الإنسان الذي أنعم عليه بالطاقات والقدرات والإمكانات، والذي ميّزه بالعقل، فقد حمل هذه المسؤوليّة.
طلب المغفرة بالحكمة:
س: جاء في القرآن على لسان نبيّ الله عيسى(ع): {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة:118)؟ لماذا اقترن طلب المغفرة بعزّة الله وحكمته، ولم يقترن بمغفرة الله ورحمته؟
ج: الله تعالى هو المسيطر والأمور بيده، فإن عذّبهم فإنَّهم عباده الذين يستحقّون العذاب، وإن غفر فإنَّه العزيز الذي لا يُغلب، وهو مالك كلِّ شيء، يتلطّف سبحانه بالمغفرة من خلال أنَّه تعالى صاحب القوّة المتين ولا يفرض أحدٌ ذلك عليه، وهو العزيز في استقلاله عن خلقه، والحكيم الذي يغفر، لأنَّ الحكمة في المغفرة.
نسبة السيئات إلى النفس:
س: قال الله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (النساء:79) وفي سورة البقرة: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ} (البقرة:155) لقد أُشكِلَت عليّ هاتان الآيتان في ما يختصُّ بالسيئة؟
ج: الآية الأولى تتحدّث عن الجانب الفعلي، أي ما أصابك من سيئة، من خلال سوء اختيارك، ومن خلال تهيئة الظروف التي تؤدي إلى النتائج السيئة {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:41)، أما بالنسبة للآية الثانية، فإنَّ الله تعالى لا يُنـزل البلاء من دون مناسبة، حيث يقول سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل:112).
فالبلاء ناتجٌ من جرّاء فعل الإنسان من خلال سوء عمله وسوء اختياره.
معنى "الـرّحمـن"؟
س: ما معنى الرحمن؟
ج: الرحمن مبالغة في الرحمة، وكذلك الرحيم، والرحمة الإلهية ليست حالة عاطفيّة أو وجدانية، كما هو الأمر عند الإنسان بالمعنى الذي يمكن اعتبار ذلك خالياً من أيّة حكمة أو هدف، ولذلك فإنَّ الله رحمن رحيم، وفي الوقت نفسه هو حكيم، فلا تكون رحمته منفصلة عن الحكمة، وقد تعرّضنا لبيان المراد من اللفظة في كتابنا (من وحي القرآن).
الإيمان بالله واسم الرحمن:
س: وكيف يسهم اسم الرحمن الذي هو من أسماء الله الحسنى في زيادة الإيمان بالله سبحانه؟
ج: قد يكون ذلك من خلال التعلّق القلبي بالله الرحمن الرحيم، وهذا عادة موجبٌ لزيادة الإيمان وترسيخ الاعتقاد، ولا سيّما أنَّ الله أحبَّ لعباده أن يتقرّبوا إليه وأن يزدادوا إيماناً من خلال الاستغفار والإنابة، لأنَّ الله يمثّل منتهى الرحمة بالنسبة للإنسان المخطئ والنادم على ما قدّم بين يدي الله، حتى ورد أنَّ الله يحب الشاب التائب، بل حبّب إلى الذين أسرفوا في المعاصي والانحرافات ألاَّ يصلوا إلى اليأس، فقال سبحانه: }قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ{ (الزمر:53)، وهو سبحانه يغفر الذنوب جميعاً إلاَّ أن يُشرَك به.
السياق القرآني:
س: ما هو المعيار والمناط لأخذ السياقات القرآنية، مع العلم أن الترتيب الموجود بين أيدينا ليس بحسب النـزول، فما هو رأيكم في هذا؟
ج: إن مسألة السياق في القرآن أو في غيره، هي مسألة القرينة التي تفسر الكلمات بحسب ما يراد من معناها، أو تكون قرينة على إرادة خلاف الظاهر، ولذلك كل سياق يتصل بالكلام فإنه حجة من باب حجية الظهور، ولكن هناك بعض الآيات القرآنية نزلت منفردة، كآية التطهير، وآية إكمال الدين وإتمام النعمة، بحيث لم تنـزل في السياق العام للآيات هنا وهناك، إنما وضعت فيه للمناسبة، فما كان من هذا القبيل لا بد أن ندرسه وحده بعيداً عن مسألة علاقة السياق بما حوله أو بما يحيط به.
أما قضية أن الترتيب لم يكن على أسباب النـزول، فإنّ الآيات لم تنـزل بشكل منهجي، بمعنى أنها انطلقت لتعالج موضوعاً واحداً، وإنما نزلت على أساس حاجة المسلمين إلى آية هنا وآية هناك، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} (الفرقان:32) لأن القرآن كان هو كتاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، وكان يرافق المسلمين في حربهم، وسلمهم، ومجتمعاتهم، وأوضاعهم، وخلافاتهم، ولذلك فإن المسألة لا تتصل بالترتيب المنهجي لأسباب النـزول، ولكنها تتصل بالحاجات العامة في قضية حاجة الحركة الإسلامية والدعوة الإسلامية للقرآن في آياته المتنوعة.
معنى (أفاء):
س: ما تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (الحشر:6)؟
ج: يعني ما أعطاه الله لرسوله في الحروب التي خاضها وغنمها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
الاستئذان لدخول البيوت
س: عندما قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور:27)، فلو سمح رجل لرجل آخر بالدخول لمنـزله وأعطاه المفتاح، ولكن الزوجة لم توافق بإدخال الرجل، فما قولكم؟ فهل يصح أن يدخل المنـزل أو لا يدخل؟
ج: هناك جانبان في هذه المسألة؛ هناك الجانب الشرعي، وهو أنه إذا كان الزوج هو الذي يملك المنـزل وهو صاحبه، فيجوز للإنسان أن يدخل منـزله إذا أذن له في دخوله، والجانب الثاني أن الزوجة إذا لم تكن صاحبة المنـزل، فلا بد للإنسان الذي يريد أن يدخل أن يدرس ما قد يترتب على دخوله من المشاكل بين الزوج وزوجته، فيمتنع حيث يرى أن دخوله يشكل تعقيداً لحياة الآخرين.
معنى السكينة
س: يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم:21). هل السكينة هي الحب؟
ج: السكينة هي الطمأنينة التي يسكن فيها كل واحد إلى الآخر، فيطمئن ويشعر بالهدوء النفسي. والمودة هي المحبة، بما تمثل من عاطفة في علاقة الزوجين بحيث يشعر كل واحد منهما بأن الآخر هو جزؤه المكمِّل له، فيبنيان معاً وجوداً روحياً وشعورياً في عملية تناغم وانسجام في الأحاسيس والتطلعات التي يتعدى فيها الجوانب المادية إلى السكن الروحي الذي يعزِّز العلاقة ويمتّنها للوصول معاً إلى الهناء والاستقرار والسعادة. أمّا الرحمة في العلاقات الزوجية، فهي أن يقدِّر كل من الرجل والمرأة ظروف الآخر ، فيرحم نقاط الضعف عنده، ويتجاوز هفواته، ليعيشا معاً روحية التنازل التي لا تعني الانهزام بقدر ما تصوّب وتشير إلى الأخطاء بكل المحبة لإرشاده إلى ما هو أحسن وأفضل.
تحريم النبي(ص) ما أحلّ له:
س: جاء في الآية الأولى من سورة التحريم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} (التحريم:1). ما الشيء الذي حرَّمه الرسول على نفسه؟
ج: نزلت هذه الآية الكريمة لتتحدث عن بعض خصوصيات النبي(ص)، ولتبرز العنوان الكبير لأخلاقياته العالية التي كان يمارسها في حياته الزوجية، بما يوضح رفقه بمن حوله…والنبي(ص)، كما تتحدث هذه الآية، كان يشتهي شيئاً من الطيب أو شيئاً من أنواع الطعام، ولكن بعض زوجاته كنّ لا يرغبن في ما يشتهيه(ص)، فمنع نفسه عما يحب لحساب راحتهن، عملاً بما يقوله(ص): "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يخفّف عنه ويطلب لنفسه ما تشتهيه في ما أحلّ الله سبحانه.
الطاعة العمياء:
س: يقول سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (التوبة:31)، ولكن من المعلوم أن أهل الكتاب يعبدون الله، فكيف نفسِّر ذلك؟
ج: ليس المقصود هنا عبادة المخلوق للخالق، ولكنَّ القوم نفّذوا أوامر الأحبار بغير ما أمر الله ونهوهم عما لم ينه عنه الله، أطاعوهم طاعةً عمياء، وهم يعرفون أنهم ليسوا بمستوى الثقة فكأنهم عبدوهم في كل ما هو بعيد عمّا أمر الله به ونهى عنه، وفي الحديث: "من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان ينطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان". وهكذا تحوّل الاحترام والتقديس في نفوس أتباع الأحبار والرهبان بحيث جعلوهم في مستوى الألوهية، وهم يعيشون التمرد على أوامر الله ونواهيه، وكم من جماعة يبيعون ضمائرهم ويتخذون الدين وسيلة للمحافظة على مواقعهم، وهناك من يطيعهم في معصية الله، كأنهم يقدمون لهم فروض العبادة.
الظـن:
س: يقول سبحانه وتعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} (النجم:28)، فما هو تفسيركم لهذه الآية؟
ج: الظنون هي عبارة عن هواجس تتشكّل في نفس الإنسان وتترسّخ، وهي لا تحمل شيئاً من الصحة، لأن الظن ليس مرتكزاً على أساس، ولا يحمل شيئاً من دليل، وهو محكوم للأحاسيس المبنية على الخيالات والمؤثرات الذاتية التي لا تعرف طريقاً إلى القناعة، بل إنه مجرّد هواجس وتمنيات تترك آثارها السلبية الكبيرة على مجمل القناعات والرؤى.
تحذير الله ورحمته
س: ما هو المقصود من قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ} (آل عمران: 28)، وكيف يمكن أن تكون هذه الآية سائرةً في خطٍ واحد مع قوله تعالى {إنه هو الغفور الرحيم}؟
ج: هناك فرق بين الآيتين، فإن هذه الفقرة من الآية: {ويحذّركم الله نفسه} وردت في قوله تعالى: {لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}، إن هذه الآية تؤكد مسألة أن لا يأمن الإنسان عقاب الله ومكره إذا أنذره الله بالعقاب {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (الأعراف:99)، لذلك نقول إن الآية متعرضة لقضية أخرى، وهي أن على الإنسان أن يحذر غضب اللّه ونقمته. {وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ}، يعني أن لا تتجرأوا عليه ولا تنحرفوا عن خطه المستقيم. ولذلك، حتى لو أردتم أن تتقوا من الظالمين، فإن عليكم أن تدققوا في ذلك، لأن الإنسان ربما يأخذ بالتقية في غير موردها وفي غير ما رخّص الله فيها، وربّما يعيش اللامبالاة أ مام نواهي الله استسهالاً للمعصية والتمرّد على الله، وانسجاماً مع شهواته، من دون أن يحذر مما يصيبه من سخط الله وعذابه. أما قوله: {إنه هو الغفور الرحيم}، فإنّه سبحانه يتحدث عن أنّه يغفر الذنوب لمن يشاء ويرحم عباده، فيما قد يقع فيه الإنسان من خطايا فيتوب منها، ويرجع إلى الله طالباً غفرانه. وبعبارة أخرى: الآية الأولى تتحدث عن الذي يتجرأ على الله ويحاربه في مواقع رضاه، بينما تتحدّث الآية الثانية عن مواقع عفوه بحسب حكمته.
هداية المجاهدين
س: يقول سبحانه في كتابه الكريم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العكنبوت:69)، فما هو الجهاد المقصود من هذه الآية الكريمة؟
ج: المقصود كل جهاد شرعه الله، ولا سيما جهاد النفس الذي ينطلق فيه من خلال تربية الإنسان لنفسه بالمستوى الذي يجعل نفسه في مواقع طاعة الله وفي مواقع رضاه. وهكذا إذا كان الجهاد العسكري فرضاً على الإنسان في جهاد أعداء الله سبحانه وتعالى، فهو جهاد في الله سبحانه وتعالى ونصرة له ولدينه وللمسلمين. فإذا أخذ الإنسان به، فإنّ الله سوف يهديه ويرشده إلى السبل التي تؤدّي إليه وتنفتح به عليه.
ستر الوجه في القرآن
س: هناك من يدّعي أن قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} (الأحزاب:59)، "دليل وجوب ستر المرأة لوجهها. كيف نرد على ذلك؟ وما هو المراد من الآية؟
ج: هذه الآية وردت خطاباً لنساء النبيّ وبناته ونساء المؤمنين، ليُدنين عليهنّ من جلابيبهنّ. والجلباب ثوبٌ تشتمل به المرأة، فيغطّي جميع بدنها، أو الخمار الذي به رأسها. والمطلوب هو إسدال الجلباب على البدن وتقريبه منه، كناية عن الستر {ذلك أدنى أن يُعرفنَ فلا يؤذيْن}. وقد فسّره البعض بأنّ ذلك أقرب إلى أن يُعرفن بالعفّة والصلاح والستر والحجاب، فيحترمهنّ أهل الفسق، فلا يتعرّضون لهنّ كما يتعرّضون لغيرهنّ من النساء غير العفيفات. وربّما كان المعنى أن يُعرفن أنّهن مسلمات حرائر، ولسنَ من الإماء، أو من الكتابيّات اللاتي لا يتقيّدن بما تتقيّد به المسلمات من السلوك المتّزن القائم على العفّة والإيمان. وقد يكون المعنى أن يكون ذلك زيّاً معيّناً يتميّزن به عن غيرهنّ من غير المسلمات.
فهذه الآية واردة في حالة معيّنة، وليست واردة في مقام بيان الستر بالكامل ليُستنتج منها وجوب ستر المرأة لوجهها بشكل عام. وقد يخطر في البال، أن حكمة هذا التشريع لم تنطلق من عمق المصلحة الكامنة في علاقة هذا الزيّ بالأخلاق، بل انطلقت من مراعاة حالة طارئة في مجتمع المدينة الذي كان يخضع لسلوك بعض الشباب العابث الذي لا يحترم النساء، فيراودُهنّ عن أنفسهنّ بتخيّل أنّهنّ من العابثات، باعتبار أنّ الزيّ واحد لا تختلف فيه إحداهنّ عن الأخرى، فكان من اللازم أن يُفرض للمؤمنات من نساء النبيّ وبناته ونساء المؤمنين زيّ إسلاميّ يتميّزن به عن الأخريات من الكتابيّات والإماء، ما يوحي بأنّه تشريع ظرفيّ محلّي. وعلى هذا، فلا تكون الآية من آيات الحجاب المُلزم، فلا بدّ أن يُلتمس الدليل من غيرها. وقد جاء في تفسير القمّي أن سبب نزول هذه الآية، أنّ النساء كنّ يخرجن من المسجد ويصلّين خلف رسول الله، فإذا كان الليل وخرجنَ إلى صلاة المغرب والعشاء والآخرة، يقعد الشباب لهنّ في طريقهنّ، فيؤذونهنّ ويتعرّضون لهنّ.
القسم بالزمان في القرآن
س: ما هو تفسير قوله تعالى: {والعصر} (العصر:1)، {والفجر} (الفجر:1).... وما علة القسم بهذه الأوقات؟
ج: لقد ورد في بعض الأحاديث: ((إن الله يقسم بخلقه ما يشاء وليس لخلقه أن يقسموا إلا به))، والله يقسم بكل مخلوقاته ليوجِّه الناس إلى ما تشتمل عليه من أسرار ومن عظمة في خلق الله سبحانه وتعالى.
العهود والمواثيق:
س: عن الإمام علي(ع): ((إن العهود قلائد في الأعناق إلى يوم القيامة، فمن وصلها وصله اللّه، ومن نقضها خذله اللّه، ومن استخفّ بها خاصمته إلى الذي أكدها وأخذ خلقه بحفظها))، والسؤال: فما هو تفسيركم لهذا الحديث؟
ج: إن اللّه سبحانه وتعالى تحدث عن العهد إذ قال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤولاً} (الإسراء:34)، وقد ورد عندنا كثير من الآيات التي تتحدث بسلبية عن الذين ينقضون عهد الله بعد ميثاقه، والإمام(ع) يريد أن يؤكد هذا المعنى، لأنه تعالى يريد للإنسان أن يحفظ عهده، سواء كان العهد عهداً للّه، كمن عاهد الله في بعض أموره، أو عهداً للناس، لأنّ اللّه أراد لكل إنسان أن يفي بعهده للآخر، وهو التزام منه للّه سبحانه وتعالى في ذلك كله.
ذكورية الأعراف:
س: يقول اللّه سبحانه وتعالى: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} (الأعراف:46)، فهل الرجال وحدهم، الموجودون في هذا الموقف؟
ج: طبعاً المقصود من الرجال الجماعات، إذ قد يكون فيهم نساء، وقد يكون ذكر الرجال من باب التغليب.
آداب القضاء:
س: ما تفسير قوله تعالى في سورة(ص): {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ* قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (23-24)؟
ج: في تفسير ما وقع، أنه جاء ملكان إلى النبي داود(ع) أو رجلان، وقد اشتكى أحدهما على أخيه، قال: أنا لي نعجة، وله تسع وتسعون، وطلب مني أن يأخذ هذه النعجة، وشدد عليّ في خطابه، فأجابه داود(ع): {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}، فقد استعجل في الحكم عليه في ذلك، مع أن المفروض أن يسمع للطرف الثاني في هذا المجال، {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}، أي اختبرناه.
وفي هذا المجال، هناك بعض التفاسير التي تقول إن داود(ع) لم يخطئ في أصل الحكم، وعلى الرغم من أن حكمه لم يكن حاسماً، إلا أنّه كان ثمّة ملاحظة على الأسلوب، إذ كان المفروض أن يسمع من الطرف الآخر. وليس في ذلك منافاة للعصمة المعتبرة في الأنبياء. وربّما كانت المسألة جارية على نحو التدريب للنبيّ داود(ع) في مسألة الحُكم، خصوصاً مع ما ورد من أنّ الشخصين كانا من الملائكة لا من البشر، ما يوحي بأنّ المسألة ليست ذات بُعد واقعي، والله العالم.
القنوط من الرحمة:
س: ما سبب نزول الآية الكريمة: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53)؟
ج: ليس من الضروري أن تكون الآية قد نزلت في واقعة خاصة. وعلى كلّ حال، فالمهمّ أنها تنهى الإنسان عن أن ييأس من رحمة اللّه سبحانه وتعالى، وأن عليه أن يبقى آملاً بالغفران، وهي تتوجه إلى الذين تجاوزوا الحد في المعصية، أن لا يقنطوا من رحمة اللّه سبحانه وتعالى، وأن اللّه يغفر لهم الذنوب جميعاً، ما عدا الشرك.
خشية الناس:
س: ((شر الناس من يخشى الناس في ربه، ولا يخشى اللّه في الناس)). في سياق هذه الفكرة، استشهدتم بالآية الكريمة: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} (الأحزاب:37)؟
ج: الآية لا تعني أن النبي(ص) كان كذلك، بل أردنا أن نبيّن الفكرة ذاتها في هذا المقام من ناحية الأسلوب. وقد نزلت هذه الآية لتحدّثنا عن زواج النبي بابنة عمه زينب بنت جحش، التي كان قد تزوجها مولاه زيد، وكان النبي(ص) قد تبناه، ولذلك كان النبي يخشى من أن يتكلم الناس بسوء، وأن يقولوا إنه طلق زوجة زيد وتزوجها بعد ذلك، ولذلك فإنّ خشية النبي(ص) لا تعني أنه يخشى الناس، بمعنى أنه يذعن لرغباتهم على نحو يعصي معه أوامر اللّه تعالى، فيقول اللّه سبحانه وتعالى له في هذه القضية إن عليك أن لا تخشى الناس في هذا الأمر الذي يتّصل بالتبليغ الشرعي، لأنه(ص) هو الذي أراد منه أن يتزوج هذه المرأة، لأجل تشريع معيّن، ليبيّن للناس أنه إذا تبنى الإنسان شخصاً ما، فإن التبنّي لا يجعله ابناً، ولذلك يجوز له أن يتزوج من زوجته عندما يطلقها، والإنسان لا يجوز له أن يتزوج زوجة ابنه عندما يطلقها، ولذا قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًاً} (الأحزاب:37).
جدال اليهود:
س: ما هي قصة البقرة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (البقرة:67)، وهل هي مرتبطة بقوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} (الآية:72)؟
ج: يقال في تفسير هذه الآيات، إن هناك شخصاً قتل في زمن موسى(ع)، ولم يعرف قاتله، وحدث خلاف على أثر ذلك، فأراد موسى(ع) أن يحلّ المشكلة، فطلب منهم أن يذبحوا بقرةً، واختلفوا مع موسى(ع) في نوع البقرة، وأجابهم آخر الأمر أن عليهم بعد أن يذبحوها أن يضربوا الميت ببعضها، فيحيى الميت ويتحدث عن اسم قاتله {فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى} (البقرة:73). هذه هي القصة المرويّة في التعليق على مسألة البقرة، والله العالم.
تسبيح النبي يونس(ع):
س: في قصة النبي يونس(ع)، جاء: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ*لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (الصافات:143-144) هل هذا يعني أنه لو لم يكن من المسبحين لبقي على قيد الحياة؟
ج: الله يقول (للبث)، يعني لبقي في بطن الحوت، ولم يبين لنا طبيعة البقاء، والله العالم.
توسع الكون:
س: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات:47)، هل يعني قوله تعالى أن الكون دائماً في حالة توسّع مستمر؟
ج: هناك بعض التفسيرات من خلال الآراء العلمية تقول إن الكون يتوسع دائماً بقدرة الله سبحانه وتعالى.
معنى (كن فيكون):
س: قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس:82). بعض الروايات تقول إن اللّه تعالى قدَّر المقادير قبل أن يخلقها بآلاف السنين، فهل إن اللّه سبحانه وتعالى قال قديماً كن، والآن فيكون، أم أن هناك أموراً يقدرها اللّه تعالى في لحظتها؟
ج: أولاً: إنها ليست قولاً، ولكن هذا كناية عن إرادة اللّه، أي أنه إذا أراد شيئاً تحقق، ولكن ليس معنى ذلك أن الله تعالى إذا أراد شيئاً تحقق في اللحظة، بل هو بحسب برنامج الوجود لهذا الشيء، إذ أراد اللّه أن يخلق الأرض والسماوات في ستة أيام مثلاً، والله تعالى أراد أن يكون لدينا أولاد، وقدر ولادة الولد بتسعة أشهر، فلا تتخلف إرادته عن مراده، ولكن مراده يختلف بحسب تقديره للبرنامج الذي يريد وجوده لهذا أو ذاك. فلذلك، ليس معنى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أنه إذا أراد شيئاً، فإنه يوجد في اللحظة، بل يوجد في الزمن الذي أراده الله ، وإذا أراده بعد ألف سنة، فعند ذلك يوجد بعد ألف سنة، واللّه العالم.
مواجهة النبي(ص):
س: ما تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} (القلم:51)؟
ج: هناك تفسيرات ثلاث لقوله تعالى: {لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ}. فإمّا أنهم كانوا ينظرون إليك نظر الذي يريد أن يصرعك ببصره، في ما كانوا يعتقدونه، من أنّ العين تقتل الذي تصيبه، أو أنّهم يحدّقون بك تحديقة الحقد الذي يشتعل في عيونهم، حتّى يخيّل إليهم أنّهم سيحرقونك به، أو أنّهم ينظرون إليك كما ينظر الإنسان إلى المجنون في حالة نفسيّة توحي بالخوف منه، والاستعداد للانقضاض عليه إذا بدرت منه أيّة حركة. أمّا اتّهامه بالجنون، فربّما يكون ناشئاً من استغرابهم لمضمون القرآن في خروجه عن المألوف في تفكيرهم، أو لمجرّد اتّهامه بالجنون بهدف إقامة حاجز نفسيّ بينه وبين الناس، والله العالم.
انشقاق السماء:
س: قال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} (الانشقاق:1)، هل يرى الإنسان الذي يعيش في آخر الزمان هذه الأمور التي ذكرها اللّه تعالى؟
ج: إن اللّه تعالى يتحدث عن آخر الزمان، وعن تغير الكون وانفتاح الآخرة، بهذه الظواهر الكونية التي يتغير فيها نظام السماء ونظام الأرض، ومن الطبيعي جداً أن هذه الأمور تكون بادية للعيان آنذاك، عندما يكون الناس في حال الحياة.
قوامة الرجال:
س: قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء:34)، ما حدود القوامة بالنسبة للرجال؟
ج: القوامة هي مسألة الإدارة في البيت الزوجي، أي أن الرجل مسؤول عن البيت الزوجي، ولذا فإن اللّه يقول: {وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}، لأن الرجل هو من يتحمل مسؤولية المهر، ويتحمل مسؤولية النفقة على الزوجة وعلى الأولاد وإدارة شؤون البيت الزوجي. وهذه القوامة أيضاً محصورة في الحياة الزوجية، لأن الجانب الذي يكون فيه الرجل قوّاماً على المرأة بصفته رجلاً، هي الحالة الزوجية، خلافاً لما ذكره العلامة الطباطبائي في تفسير (الميزان)، من أن قوامة الرجل على المرأة عامة في كلّ مجالات الحياة الاجتماعية. فمثلاً الأب قوّام على أولاده، ولكن ليس بصفة كونه رجلاً، والنبي قوَّام على الناس كلهم، الذكور والأناث، والفقيه ـ بناءً على القول بعمومها ـ قوّام على الأمة من ذكور وإناث.
والحالة الوحيدة التي يكون الرجل بصفة كونه رجلاً قوّاماً على النساء، هي في ظرف الزوجية، خصوصاً مع ذكر مسألة الإنفاق، إلى جانب الظروف التي تجعل الرجل أقدر على رعاية الحياة الزوجية، من خلال طبيعة ظروفه العامة في مقابل المرأة التي تعيش حالة الحمل وقضية الإرضاع وما إلى ذلك. ولهذا يقول الفقهاء إن الرجل ليس له حق على المرأة إلا في جانبين: جانب العلاقة الجنسية، وجانب عدم الخروج من بيته إلاّ بإذنه، ونحن ـ وفاقاً لسيدنا الأستاذ الخوئي ـ نقيّد عدم جواز الخروج بكونه الخروج التمرّدي، أي في حالة النشوز، وأما الخروج الذي ليس تمردياً، كما لو كان الزوج موجوداً في دائرة عمله أو مسافراً، فإنه يجوز لها أن تخرج من بيتها من دون أن تستأذنه.
كما أنّ هناك نقطة أخرى بالنسبة للعلاقة الزوجية، حيث يقول الفقهاء إن للمرأة الحق في العلاقة الجنسية كل أربعة أشهر، وهذا أمر لا نوافق عليه، باعتبار أن اللّه جعل الزواج تحصيناً للمرأة وتحصيناً للرجل. ولذلك، نحن نقول، كما يجب على المرأة أن تستجيب للرجل في العلاقة الزوجية، يجب على الرجل أن يستجيب للمرأة أيضاً، لأن اللّه يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة:228). {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}، وهي درجة الطلاق، وأما ما عدا ذلك فلا.
نسبة السيئات إلى الإنسان:
س: يقول اللّه تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (النساء:79)؟
ج: لأن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي هيأ للإنسان كل ما يؤدي به إلى الخير، فإذا اختار الإنسان الخير، فهذا الخير إنما انطلقت وسائله من اللّه سبحانه وتعالى، وأما السيئة، فإن اللّه تعالى نهى الإنسان عما يؤذيه ويضره، فإذا فعل ما يضره ويؤذيه، فقد ظلم نفسه، ولذلك يقول اللّه تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل:118).
آل إبراهيم:
س: يقول الباري عزَّ وجلّ في كتابه الكريم: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}، (النساء:54)، من هم آل إبراهيم؟ وما هو نوع الملك الذي أعطي لهم؟
ج: آل إبراهيم هم الذين تناسلوا من إبراهيم(ع)، والذين أعطاهم اللّه تعالى الإيمان، وأعطاهم النبوة، وأعطاهم الحكمة، ومنهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب(ع)، ومنهم نبيّنا محمد(ص). وربما يكون ذلك هو النبوة التي تجعلهم في الموقع المميز بين الناس، واللّه العالم.
أمنيـة النبـي:
س: نرجو تبيان معنى قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (الحج:52)؟
ج: هناك عدّة تفاسير حول هذه الآية، فالبعض يفسِّرها بأنه من الممكن جداً أن يخطر في نفس النبي بعض الخطورات التي ربما تتحرك في خط أمنياته، في الوسائل التي قد يعتمدها في جذب المشركين إلى الإسلام، مما لم يأمره اللّه تعالى به، ولكن هذه ـ كما يفسرون ـ هي من الخطورات الطارئة التي لا تستقرّ في نفسه، فينسخ اللّه ما يلقي الشيطان، ولا تترك بالتالي أيّ تأثير فيه، والله العالم.
خلافة الإنسان:
س: قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة:30). يستدل البعض على الولاية التكوينية من خلال هذه الآية، بحيث إن اللّه يدير الأمور الكونية من خلال خليفته؟
ج: المستدل بهذه الطريقة لا يفهم القرآن جيداً، لأن هذه الآية غاية ما تقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، بمعنى أنّي أعطيه العلم الذي يدير به شؤون الناس وحركتهم في الحياة، من خلال النظام الذي أراد الله لعباده أن يأخذوا به، مما يُصلح أمرهم ويبعدهم عن الفساد، لا بمعنى أنه يدير به الكون، وهذا ما وضّحته الآيات التالية، حينما أمر الملائكة أن ينبئوه بالأسماء، فلم يستطيعوا، وقالوا: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا} (البقرة:32).
والولاية التكوينية معناها أن اللّه سبحانه وتعالى يدير الكون من خلال الأنبياء والأئمة، أي أنهم هم الذين يحيون ويميتون ويرزقون، وما إلى ذلك، وهذا شيء على خلاف عقيدتنا، لأن اللّه تعالى حدثنا في القرآن أنه ولي الأمر كله، ولم يعط لأحد من الأنبياء أي دور في مسألة تنظيم الكون. نعم، أعطاهم دور التبليغ والهداية، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا*وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (الأحزاب:45-46)، ولم يعطهم دور التصرف في الكون، بمعنى إدارته. وقد قال النبي(ص) للناس، كما جاء في القرآن الكريم: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} (هود:31)، وأيضاً قال: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (الأحقاف:9)، إلى قوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:188). والآية: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، تعني الإنسان وليس الأنبياء، بمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى يقول للملائكة إن هناك خلقاً جديداً سوف يكون في الأرض، وسوف يتحرك ويعمر الأرض وما إلى ذلك، وليس معناها أن هذا الخليفة هو الذي يدير الكون.
تكرار قصَّة موسى في القرآن
س: تتكرّر قصة موسى(ع) في القرآن الكريم، فما السبب في رأي سماحتكم؟!
ج: لعل قصة موسى(ع) تملك تنوعاً وغنى في التجربة أكثر مما هي عليه حياة غيره من الأنبياء، فمثلاً، عندما ندرس ولادته(ع)، نجد أنّه ولد في بيئة كان فرعون يذبح أبناءها ويستحيي نساءها، أي يترك نساءها، إذ كانوا يقتلون كل ولد يولد في بني إسرائيل. وكما تنقل بعض قصص الأنبياء، أن فرعون رأى في منامه أن هلاكه سوف يكون على شخص من بني إسرائيل، ولذا أراد أن يقطع كل نسلٍ لهم، فعندما حملت أم موسى بموسى، خافت على ولدها، فألهمها الله أن تلقيه في اليم ـ في النهر ـ أن أتركيه في زورق والماء يجرفه إلى الساحل {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} (طه:39).
وهكذا ألقته في اليم ـ النهر ـ وسار الزورق إلى أن وصل أمام قصر فرعون. وتوحي الآية، بأن فرعون كان مع زوجته جالسين على ضفة النهر، وإذ بزورق فيه ولد، وموسى كانت عليه ملامح بني إسرائيل، لأنه كان أسمر، بينما كان قوم فرعون بيضاً، فغضب فرعون وتشنّج لأن الطفل من بني إسرائيل، ولكن المرأة الصالحة قالت له فلنأخذه {لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} (القصص:9)، إما أن يصير خادماً عندنا أو نتبناه.
وهكذا كان. وانتهت هذه المرحلة، وسلم موسى، وألقى الله حبّه في قلب فرعون وفي قلب امرأته. وحينما دعيت المراضع إلى رضاعته، لأنه كان في اليوم الأول من الولادة، جعله الله سبحانه وتعالى لا يقبل أية واحدة منهنّ {وحرَّمنا عليه المراضع من قبل}. هنا انتشر الأمر، فجاءت أخته: {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ* فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (القصص/12-13). ونشأ موسى(ع) كما ينشأ أي واحد من بني إسرائيل. ولكن كما يبدو، فإنّ موسى(ع) كان رجلاً قويَّ الجسد، فصادف مشكلةً، إذ رأى شخصاً من شيعته وآخر من عدوه يتصارعان {فَوَكَزَهُ مُوسَى} (الآية:15)، أي ضربه ضربةً، {فقضى عليه}، وما كان يريد أن يقتله، بل كان يريد أن يدافع عن ذاك الرجل من شيعته. وفي اليوم الثاني، رأى صاحبه مع شخص آخر، فقال له: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ} (الآية:19). ثم إنه أتاه شخص وقال له: {إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك إنّي لك من الناصحين* فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} (القصص:20-21). وهذه مرحلة ثانية من حياته، فأصبح مطارداً، لأن عقوبة القتل القتل، خصوصاً أنه كان من بني إسرائيل، والذي قتله كان من آل فرعون.
فخرج موسى وحده، فذهب إلى ماء مدين، وكان في حالة رجوع إلى الله، ثم التقى ببنتي شعيب، وقد جاءتا من أجل أن تسقيا أغنامهما، ولكن الرجال غلبوا على الماء، فتبرع لهما موسى(ع) بالسقاية، وهو يقول: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (الآية:24). ثمّ دعاه شعيب من خلال ابنته: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ ليجزيك أجر ما سقيت لنا} (الآية:25)، إنه يريد أن يعطيك أجرك، وتزوّج موسى(ع) بنت شعيب، وبقي هناك ثماني سنين أو عشر سنين. وبينما هو في طريق خروجه، أنزل الله عليه الرسالة، حيث خرج ليأتي بقبس من نار، فرأى القبس نوراً. والله سبحانه وتعالى اصطفاه في تلك البرية، ومكّنه من المعجزات، كما في قضية العصا واليد البيضاء.
ومرَّت الأيام، وانطلق موسى(ع)، وقد كلّفه الله بأن يذهب إلى فرعون {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (طه:24). ولكن موسى لم يكن يملك التجربة في هذه المهمّة الصعبة، فأصابه الضعف البشري، فطلب من الله سبحانه وتعالى معه يرسل إلى هارون، ثم قال له: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي*كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا* وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا* إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} (طه:29–35). ثم نادى موسى ربه: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} (الشعراء:14)، لأني قتلت شخصاً منهم، {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه:46). ودخلا على فرعون، فاحتقرهما، ولكن عندما ألقى العصا ورآها فرعون وشاهد اليد البيضاء، شعر بأن هذا ساحر كبير جداً، ولم يكن في فكره أنه نبي، ثم انتهى الأمر إلى أن جمع السحرة، وانتصر موسى(ع) على فرعون والسحرة، وسجد السحرة لله سبحانه وتعالى.
وبعد ذلك أيضاً، بدأ الصراع بين موسى(ع) وفرعون، وفي نهاية المطاف، أراد الله منه أن يخرج من مصر، وشق له البحر، وتبعه فرعون فغرق. وبدأت مشكلته مع بني إسرائيل بعد هذا العذاب وهذه الدعوة الإيمانية، فطلبوا منه أن يجعل لهم إلهاً، عندما وصلوا إلى قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (الأعراف:138)، خاصة وقد جعل لهم السامري عجلاً له خوار {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}[طه:88]، وعندما رجع موسى، وجد نفسه أمام مشكلة، ثم أرادهم أن يدخلوا بيت المقدس، ولكنهم لم يدخلوا معه، وغير ذلك من التفاصيل.
فحركة النبي موسى(ع) حركة متنوعة الأبعاد، والقرآن ليس كتاب قصة حتى يذكر قصة واحدة، بل هو كتاب هداية، يأخذ من كل قصة ما يرتبط بالجانب الذي يحتاجه الوعظ والإرشاد والنصيحة والعبرة وما إلى ذلك، وهذا النوع من الحياة المتحركة الصاخبة والمتنوعة، غير موجود لا عند نوح ولا عند إبراهيم ولا عند عيسى، بل هذا ما يختص به موسى(ع)، ولذلك أراد الله سبحانه أن يخاطب اليهود، وأن يركِّز لهم أن القرآن هو مصدِّق الذي بين يديه من التوراة.
المشاهد القرآنية
س: يدّعي البعض بأن القرآن الكريم وكل الآيات القرآنية مجرّد أمرٍ تمثيلي وليس حقيقة، ويضربون مثالاً على ذلك، الحديث عن الجنة والنار؟
ج: الذي يدّعي دعوى، يجب أن يكون لديه دليل عليها، بل إن الله يتحدث عن الجنة والنار بشيء حسي، فعندما يتحدث عن الجنة يقول: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (فصلت:31)، ويقول: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (الحجر:47)، وكذلك الحديث عن الحور العين، والولدان المخلدين، فهذا ظاهره أنه شيء حسي، كذلك النار {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} (النساء:56)، وهو شيء حسيّ. ثم نقول: هذا الشيء الحسي، هل هو ممكن أو مستحيل؟ فكيف نقول إن هذا الأمر تمثيلي أو غير تمثيليّ دون أن نملك الدّليل على ذلك؟! يقول الشاعر:
والدعاوى إن لم يقيموا عليها بيّنـات أصحابهـا أدعيـاء
{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:111). وعليه فإن ظاهر القرآن أنها أمور حسية واقعية وليست تمثيلية، فمن ادّعى أنها تمثيلية فعليه أن يقيم الدليل على ذلك.
الإنفاق والتهلكة
س: قال الله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:159). فهل النفقة في سبيل الله بكثرة تؤدي إلى الهلاك؟
ج: يعني هي مفسدة، أي لا تنفقوا كلّ ما عندكم من المال لتبقوا من دون ما يحقّق لكم حاجاتكم في طعامكم وشرابكم وأموركم الحيويّة، مما يؤدّي إلى الهلاك.
الروح في القرآن
س: قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (الإسراء/85)، ما معنى الروح في القرآن الكريم؟ وهل إن الله أجاب عن هذا السؤال بقوله "من أمر ربي"؟!
ج: قول الله تعالى: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، يعني أن الروح هي من الأمور التي لم يرد الله للإنسان أن يعرفها، أو لأن الإنسان لا يستطيع أن يتصورها. وربما يفسر بعض المفسرين الروح، بأنها ليست الروح الكامنة في الجسد الحي، بل المراد بها ملك عظيم من الملائكة، وكأن الله أراد أن يبقي هذا الأمر غيباً من غيبه، والله العالم.
العلاقات الإنسانية
س: ما تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} (الرعد:21)؟
ج: يعني بهم هؤلاء الناس الذين يلتزمون ما أمر الله به من صلة الأرحام وصلة المؤمنين، ويخشون ربهم، فلا يعصونه، بل يطيعونه، ويخافون من المعاصي، لأن المعاصي تجعل حسابهم في دائرة السوء على ما يقبلون عليه.
ظهر القرآن وباطنه
س: ما حقيقة أن للقرآن الكريم ظهراً وبطناً؟
ج: هذا كلام مشهور بين العلماء والمفسرين؛ ولكننا نتساءل عن معنى أن للقرآن بطناً، حتى إن بعضهم قال إن للقرآن سبعين بطناً، وهل المراد أن لكل آية في القرآن سبعين معنى!! ونحن نعرف أن القرآن هو كتاب عربي مبين، والكلمة العربية لها معنى واحد، وربما تتعدد المعاني بما يسمى المشترك، ولكنّ اللفظ المشترك لا يمكن أن يستعمل في معنى من معانيه، إلا بقرينة تحدّد المراد من اللفظ، ويقولون لا يمكن أن يُراد من اللفظ المشترك كلّ المعاني، أو أكثر من معنىً، في استعمال واحد. إذاً، ليس هناك أي وجه معقول للقول بوجود بطونٍ للقرآن بمعنى تعدد معانيه، يعني أنّ له معنى ظاهرياً وله معانٍ أخرى في بطونه، فإن هذا ليس مقبولاً عندما ندرس طبيعة قواعد اللغة العربية.
ربما يقال إن المراد من بطون القرآن آفاق القرآن، بمعنى أن القرآن عندما يعالج فكرة، فإن هذه الفكرة تتسع في آفاقها للكثير من ألوان العمق الفكري وما إلى ذلك، وهذا يمكن أن يكون معقولاً؛ إذ الإنسان في كثير من الحالات، قد يفسر القرآن بتفسير ثم يبدو له تفسير آخر، أو ربما يعالج المفسّر فكرة التوحيد في القرآن بطريقة فلسفية معقّدة، ويمكن أن يعالجها بطريقة وجدانية. وبتعبير آخر: من المُمكن أن يتحرّك اللفظ القرآني في آفاق المعنى الواحد مع تعدّد وجوهه التي ينفتح فيها على عالم من العمق ومن المفردات المتحركة، وإلا، فالقرآن له معنى واحد، ولذا نحن لا نؤمن بما يذكرونه من أن للقرآن ظهراً وبطناً.
تحديد أشخاص ذكروا في القرآن
س: نرجو أن توضحوا لنا من هو ذو الكفل، وذو القرنين؟
ج: المشهور أنّ ذا الكفل من الأنبياء، وإن كان بعضُهم يعتقد أنّه من الصالحين. أما ذو القرنين، فإنه ذكر في القرآن دون تحديد اسمه، فيما ركز على بعض صفاته ودوره، وقد أُعطي القوة واستطاع أن يحمي هؤلاء الناس من يأجوج ومأجوج.
منهج تفسير القرآن:
س: ما هو أفضل أسلوب لتفسير القرآن؟
ج: يوجد أكثر من أسلوب لتفسير القرآن، فمن الأساليب، تفسير القرآن بالقرآن؛ بحيث يفسّر القرآن بعضه بعضاً. ومنها التفسير بالمأثور، ولكنّ هذا النوع يواجه مشكلة أسانيد الروايات من جهة، ومشكلة انسجام مضمون الرواية مع مضمون الآية من جهة ثانية. ولعلّ من أفضل الأساليب، هو الاستيحاء القرآني، لأن القرآن قد يعالج مسألة، ولكنه يوحي بالكثير من الآفاق التي تنطلق منها. وقد ورد في الحديث عن الإمام محمد الباقر(ع): ((لو أن القرآن نزل في قوم وقف عندهم لمات القرآن)).
فمثلاً: يتحدّث القرآن عن موسى(ع)، وعن فرعون وقومه، وعن بني إسرائيل، ويتحدث عن إبراهيم(ع)، وعن نوح(ع)، وعن السيد المسيح(ع)، وعن النبي محمد(ص)، وهؤلاء طواهُم التاريخ، فإذا كان القرآن يعالج هؤلاء بشخصياتهم، فمعنى ذلك أن القرآن تحوّل إلى كتاب تأريخ، ((ولكن القرآن يجري مجرى الليل والنهار والشمس والقمر))، بمعنى أنّك عندما تقرأ قصةً، فإنّ بإمكانك أن تستوحيها في كلِّ ما تنفتح عليه إلى مدى الحياة. فمن خلال قصة فرعون ـ مثلاً ـ تستطيع أن تستعرض كل الفراعنة، ومن خلال قصة هامان، تستعرض كل الوزراء الشريرين، وتستعرض مع بني إسرائيل كل النقاط السلبية التي تعيشها الشعوب في ما يشبه الإرباك الذي كان يعيشه بنو إسرائيل مع موسى(ع). لذلك، فاستيحاء القرآن هو الأسلوب الأفضل لفهم القرآن في الأفق الواسع الذي يريد القرآن للناس أن يبلغوه.
ونحن نقرأ في الحديث عن الإمام الباقر(ع) في استيحاء قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة:32)، بمعنى أنّه من أنقذ إنساناً من الموت، فكأنما أحيى الناس جميعاً. فالآية تحدّثت عن الحياة المادية، لكن الإمام(ع) أراد أن يستوحي من الحياة المادية الحياة المعنوية، فقال(ع): ((تأويلها الأعظم من نقلها من ضلال إلى هدى)). وفي مثال آخر، في قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا* فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا} (عبس:24–28). تتحدّث هذه الآيات عن الطعام الذي يصنع مما يزرعه الإنسان، ولكن الإمام(ع) قال في شرح (إلى طعامه): ((علمه الذي يأخذه ممّن يأخذه)). استوحى الطعام الروحي والطعام الفكري من الطعام المادي. وهكذا، فالتفسير القرآني هو التفسير الإيحائي. ولذلك، نحن حاولنا أن نتبع هذا الأسلوب في تفسيرنا "من وحي القرآن".
ونشير إلى أنّ المفسّر يحتاج إلى أن يمتلك ثقافة اللغة العربية، بمعنى تنوعات الأسلوب التعبيري لاستعمالاتها، لأن اللغة العربية قد تنطلق في المسألة التعبيرية بطريقة الحقيقة وقد تنطلق بطريقة المجاز والاستعارة والكناية، خصوصاً أن القرآن يمثل القمة في البلاغة العربية، فلا يمكن لإنسان أن يفسر القرآن إلا إذا كان مثقفاً بالثقافة الأدبية وثقافة اللغة العربية بشكل جيد.
كفر الكتابي:
س: قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (المائدة:72)، فهل يجوز التزوج من نسائهم؟
ج: هم كافرون في تفاصيل العقيدة، بمعنى أنّهم لم يكفروا بالله، وإنّما كفروا في إعطاء المسيح صفة الحلول، بحيث أن الله يتجسد في السيد المسيح، ولذا يقولون باسم الأب والابن وروح القدس إلَهاً واحداً. ولكن الإسلام أجاز للمسلمين أن يتزوجوا من أهل الكتاب، وذلك في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (المائدة:5).
وقد ورد في بعض أحاديث الأئمة من أهل البيت(ع) في قضية الذبيحة، أن الكتابي إذا ذبح الذبيحة وذكر عليها اسم الله فيجوز أكلها، وهذا رأي لبعض العلماء، وإن لم يكن مشهوراً. وحينما سئل بأنّهم يذكرون عليها اسم المسيح، قال(ع): ((إنما يريدون بالمسيح الله)). يعني ليس المسيح بصفته البشرية، ولكنهم يعتقدون أن الله تجسد في السيد المسيح. هذه هي عقيدتهم. وكذلك في نظرية الفداء، التي تقول إنّ السيد المسيح تجسَّد الله فيه ليتحمل آلام البشرية. وهذه عقيدة معقدة في هذا المقام.
وعلى كل حال، فإنّ الإسلام احتضن كل الرسالات، ولذا قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} (آل عمران:64)، يعني أنّ الإسلام اعترف بأنهم يؤمنون بالتوحيد، ولكن على طريقتهم الخاصة {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}. إن قضية الزواج من أهل الكتاب مما اختلف فيه علماؤنا، ورأينا هو رأي السيد الخوئي، ورأي السيد محسن الحكيم وغيرهما، أنه لا مانع من التزوج من اليهوديات والنصرانيات حتى لو بقين على دينهن، وبعض العلماء يقولون إنّ الزواج بالكتابية يجوز إذا كان مؤقتاً، أما إذا كان دائماً فلا يجوز. فهذه مسألة اجتهادية.
كفر الأعراب:
س: يقول الله تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة:97). لماذا هم أكثر كفراً من غيرهم، ولماذا يقول الله إنهم أولى من غيرهم ألا يعلموا شريعته؟!.
ج: ليس المراد بكلمة الأعراب العرب، بل المراد من الأعرابي هو الذي لم يتفقّه في دينه، يعني أنه لا يملك ثقافة في المعرفة الدينية، ومن الطبيعي أن الذي لا يملك ثقافة في المعرفة الدينية، ينطبق عليه وصف {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا}، وبعض الآيات تتحدث عن بعض الأعراب الذين يؤمنون بالله سبحانه وتعالى.
أصل الأديان:
س: قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران:19)، فهل معنى ذلك أن الدين المسيحي لا يقبل عند الله؟
ج: المراد من الإسلام هو المعنى العام الذي يشمل كل الأديان، وذلك هو ما أبداه بشكل رسمي ـ إذا صح التعبير ـ النبي إبراهيم(ع): {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ* وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (البقرة:131-132)، وتحدث القرآن في آية أخرى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ} (الحج:78). والمقصود من الإسلام، أن يسلم الإنسان كل ذاته لله سبحانه وتعالى، بمعنى أن يطيع الله في كل ما أمره، وفي كل ما نهاه؛ ففي زمن إبراهيم(ع)، كان الإسلام على شريعة إبراهيم، وفي زمن موسى(ع)، كان الإسلام على شريعة موسى، وفي زمن عيسى(ع) على شريعة عيسى، وفي زمن النبي محمد(ص) كان الإسلام هو هذا. فكل دين كان مجسداً لمعنى الإسلام، لأنّ الله هو الذي أراد للناس أن ينتموا إليه وأن يلتزموه. وهذا ما عبرت عنه الآية الكريمة {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام:162-163). فالدين المسيحي ـ الذي نزل على عيسى(ع) ـ هو دين الإسلام في مرحلته، والدين الموسوي هو دين الإسلام في مرحلته، وديننا هو دين الإسلام في مرحلته إلى نهاية الحياة
التحديد الزمني للأيام:
س: قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (السجدة:4)، فهل مقدار تلك الأيام كمقدار اليوم في الدنيا؟
ج: هذا أمر لم يبيّنه اللّه سبحانه وتعالى، فالأيام – عندنا – ترتبط بقضية الشمس والليل والنهار، أما هناك، فاللّه يقول: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (السجدة:5)، وهو مما لم يحدِّثنا اللّه عن تفاصيله.
صيغ الحديث في القرآن:
س: لماذا يتكلم سبحانه وتعالى بصيغة الجمع في بعض آيات القرآن، ويتكلم في آيات أخرى بصيغة المفرد؟
ج: لأن العظيم في اللغة العربية يمكن أن يتكلم بصيغة الجمع: (إنّا، نحن). قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق:16)، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (الكوثر:1)، وما إلى ذلك، ويمكن أن يتحدث بصيغة الوحدة.
الرجع والصدع:
س: ماذا يعني (الرجع) و(الصدع) في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ* وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} (الطارق:11-12)؟
ج: (الرجع) هو المطر، لأنه يجيء ويتكرر، والمعنى يعم كل ظاهرة سماوية متكررة بادية الحس أو العيان، و(الصدع) فُسِّر بالنبات، لأنّ الصدع هو الشق، والمراد به النبات عندما تنشقُّ الأرض به.
تعليم الإنسان:
س: ما معنى قوله تعالى: {واتقوا الله} {ويعلمكم الله}، ما هي كيفية هذا التعليم؟ هل بوحيٍ أو بإلهام أو بطريقةٍ أخرى، أو بالمباشرة من خلال الأخذ بالشريعة، أو غير ذلك؟
ج: هناك وسائل لتعليم الله للإنسان، فهناك الفطرة التي فطر الله الناس عليها وهي: التوحيد، التي توحي للإنسان بكلِّ ما يقربه إلى الله، يعني الإيمان بالله الواحد، وبكل عناصر الخير الفطرية التي أودعها الله في عمق الإنسان، ويمكن أن يكون التعليم من خلال الرسل، والتعليم قد يكون من خلال العقل أيضاً، لأن العقل هو حجة الله على الإنسان أيضاً، كما قد يكون التعليم من خلال رسالة الرسل الذين جاؤوا بما يكمل للعقل وعيه مما لا يدركه العقل في ذلك كله. أو من خلال ما يهدي الله تعالى به الإنسان إلى سبله.
قوانين الطبيعة:
س: ما تفسير قوله تعالى: { ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله وينـزل من السماء من جبال فيها من بردٍ فيصيب به من يشاء} (النور/43)؟
ج: في هذه الآية، يتحدّث الله تعالى عن حركية السحاب، حيث إن الله سبحانه وتعالى يطلقه بقدرته، بحسب القوانين التي أودعها في حركة الكون، ثم يؤلف بينه، وتتجمع السحب، ثم تتكاثف، ويركب بعضها فوق بعض، حتى يكون السحاب كالجبال، فينـزل الله سبحانه، بقوانينه التي أودعها، من البرد، فيصيب بها من يشاء. ولعلّ الإنسان لا يتصوّر أن السحاب كالجبال إذا نظر إليها من الأرض، كما هو حال من ينظر إليها من الطائرة مثلاً.
الرزق الحسن:
س: ما هو تفسير الآية الكريمة : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعقلون} (النحل/67).
ج: يريد الله سبحانه وتعالى أن يبين ما يمكن استخلاصه من هذه الثمرات، والتي يمكن للإنسان أن يستخدمها للخير، ويمكن أن يستخدمها للشر، ولذا قال تعالى: {سكراً}، وهو هذا الذي يمثل الجانب السلبي في استثمار الأعناب، أو استثمار النخيل، ويتمثل الجانب الإيجابي، عندما قال تعالى: {ورزقاً حسناً}. فالمراد هو بيان خصائص الأشياء، وأنّه يُمكن استعماله للخير والشر، وليس في مقام بيان تشريع جعله سكراً.
أهل الذكر:
س: يقول الله تعالى: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (النحل/43). يفسِّر بعض العلماء (أهل الذكر) بأنهم الأئمة(ع)، علماً أن الآية ظاهرة في الأحياء من أهل الذكر، بقرينة الأمر بالسؤال، فكيف يفسرونه بالأئمة(ع)؟
ج: عندما أُنزِت الآية، لم يكن الأئمة موجودين بإمامتهم، وقد كان المقصود بهم آنذاك هم أهل الكتاب، الذين يملكون ثقافة الكتاب، ممن يمكن أن يحتجَّ الله عليهم بما يعرفونه. ولكن الآية أساساً واردة في مقام بيان قاعدة عامة: أن علينا أن نسأل في كل أُمور ديننا أهل الذكر، ممن يملكون الثقافة الدينية، ومن الطبيعي أن الآية، وإن كانت نزلت بأهل الكتاب، لأنهم كانوا هم أهل الذكر، ولكنها تتحرك في موقع القاعدة، وقد ورد عندنا: أن الآية عندما تنـزل في قوم، فإنها لا تجمد فيهم وإلا مات القرآن، بل هي تجري مجرى الليل والنهار والشمس والقمر، وكلمة{ فاسألوا أهل الذكر}، كما قلنا في زمن الأنبياء يسألون الأنبياء، وفي زمن الأئمة يسألون الأئمة، والسؤال هو كناية عن التعلّم. و ليس المراد من السؤال معناه الحرفي، بل يعني ارجعوا إلى أهل الذكر في ما يملكونه من ثقافة الذكر.
المحاسبة على النوايا:
س: يقول الله تعالى: { لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} (البقرة/284)، هل يفهم من هذه الآية الكريمة أننا محاسبون عما نضمره من نوايا، وإن لم تترجم إلى أفعال أو أقوال؟
ج: إن الله لا يحاسب الإنسان على ما يضمره من دون أن يحوّل هذا الشيء المضمر إلى عمل، أو إلى قول، ولكن المقصود هو أنّ الإنسان قد يقوم بأعمال، أو ينطلق من أقوال، قد تحتمل الخير والشر، وربما تكون شراً، ولكنه يظهرها على أنها خير مثلاً، ولكنّ الله تعالى { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} (غافر/19)، لذلك {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم} (المجادلة/7)، ومعنى ذلك أن الله يطّلع على خفايا الأعمال، ويعلم ما يضمره الإنسان، وما ينطلق به، كأنه من الدوافع التي تدفعكم إلى العمل، وليس المراد بها {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}. ويحاسبكم به الله، فيما يتحرك من عمل على أساس ما تضمرونه مما يعطي للعمل عنوانه، سواءً كان شراً كان أم خيراً.
الجـنّ والإنـس
س : قال تعالى: )وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذيْن أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين( (فصلت/29). الجن عالم مستتر غير مرئي، أما الإنس فلماذا يجهله الكافر؟ ألم يكن معه في الدنيا؟
ج: أما الجن فهو مستتر ولكن له قدرة على الوسوسة. وهذا ما نقرأه من أن )شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً( [الأنعام:112]، ونقرأ في سورة الناس )قل أعوذ برب الناس* ملك الناس* إله الناس* من شر الوسواس الخناس* الذي يوسوس في صدور الناس* من الجنة والناس(. أما كيف يجهل الكافر الإنس وهو معه، فإنه يجهله، بمعنى أنّه يجهل وسائله التي يستخدمها لإضلاله، أو يجهله من جهة طغيان الغفلة على عقله ووجدانه، أو يجهله من خلال ما يغريه به الكافر مما يلتقي بأطماعه وشهواته ولذاته، ومن خلال ظهوره بمظهر المؤمن الناصح المشفق. والحديث هنا في الآية ـ أي حديث الكافرين ـ هو طلب لإحضارهما يوم القيامة لمشاركتهم العذاب الذي يذوقونه نتيجة إضلالهما إياهم.
السبع المثاني
س : )ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم( [الحجر:87]، ما المقصود مِن السبع المثاني؟
ج : قيل إن المراد بها سورة الفاتحة. وهذا هو المرويّ عن النبيّ محمد (ص) والأئمّة من أهل البيت(ع). وذكر المفسّرون أن المراد بها السبع الطوال: سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس، أو الأنفال مع التوبة. أمّا المثاني، فقد ذكر المفسّرون بأنّها مشتقّة من التثنية، أو الثنيّ، بمعنى التكرير أو الإعادة، وذلك لتكرّر المعاني في آيات القرآن، أو لتثنية قراءة الحمد في الصلاة، أو لأنّها تجمع بين الربوبيّة والعبوديّة، أو لغير ذلك من المعاني المستوحاة من طبيعة الكلمة على أساس هذا الاشتقاق.
لغة القرآن
س : نحن نعلم أن محمداً(ص) هو خاتم الأنبياء، وقد أتى لينشر الدين الإسلامي لكل العالم، فلماذا القرآن الكريم أتى تحديداً باللغة العربية؟
ج : أولاً، إن الله يقول إنه لم يرسل رسولاً إلا بلسان قومه، حتى يتحدث معهم، ويقنعهم ؛ لأن الرسول لا بد من أن ينطلق من المجتمع الذي ينتمي إليه، وهو لا يملك أن ينطلق في كل العالم، بحسب طبيعة الأمور. ولذلك لا بد له أن يركز القاعدة الرسالية من خلال مجتمعه، ويبني القاعدة التي تمثّل المنطلق الذي ينطلق من خلاله إلى العالم، وهذا هو ما فعله رسول الله (ص). ثم لو فرضنا أنه لم يرسل باللغة العربية. فبأي لغة سيرسل إلى الناس؟ فهناك آلاف اللغات موجودة في العالم، فهل يرسل بكل اللغات؟ من الطبيعي أنه ينطلق من قاعدة العرب، لينطلق المبلّغون والدعاة إلى الله بلغات أخرى، لينفتحوا على شعوب أخرى.
وهذا ما لاحظناه عندما انطلقت الفتوحات، وعندما انطلق المسلمون إلى العالم، فقد ذكر المؤرخون أن الإسلام لم ينتشر في العالم بالسيف، وإنما انتشر من خلال العلماء المسلمين الذين سافروا إلى بلدان لم يدخلها الفتح الإسلامي، أو من خلال العمال المسلمين الذين انطلقوا وبشروا بالإسلام هنا وهناك، والقضية لا تقتصر على الإسلام، بل تشمل حتى المسيحية واليهودية وما إلى ذلك.
وخلاصة الفكرة، أنّ الله أراد لرسالاته العامّة للناس أن تنتشر بطريقة طبيعيّة، بحيث تنطلق من القاعدة الجماهيريّة في موقع الرسول، لتمتدّ من خلال مجتمع الرسالة الأوّل إلى صنع مجتمعات جديدة لم يبلغها الرسول في عمره وإمكاناته الحركيّة المحدودة في طبيعة البشر والوسائل المتاحة، ولكن يبلغها الدعاة من قِبله.
ورود النـار
س : ما هو تفسير الآية )وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً( [مريم:71-72]؟
ج : هناك تفسيران؛ التفسير الأوّل، أن المراد من قوله ((واردها)) الذي يمرّ عليها، وذلك أن طريق الجنة يمر بالنار، فكأن الجميع يمر على النار عندئذٍ. وهناك تفسير آخر، وهو أنهم يدخلون فيها، ربّما لأنّ هناك بعض السيّئات التي يحاسَبون أو يعذّبون عليها، ولكن المؤمنين لا يستقرون فيها، بينما الكافرون هم الذين يستقرون فيها، وقد عبر عنهم بالظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر وبالشرك؛ والله العالم.
تجسيم الأعمال:
س: يُفسر قوله تعالى: { إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً} [الإنسان:5] بما ينسجم مع نظرية تجّسم الأعمال، فما معنى تجسيم الأعمال؟ وما هو رأيكم في هذا التفسير؟
ج: مشكلة بعض الناس الذي يرون تجسم الأعمال ـ ومنهم العلماء ـ أنهم لا يطبقون ما درسوه في باب البلاغة من: الحقيقة، والمجاز، والاستعارة، والكناية، وما إلى ذلك، فيحملون كل لفظ على المعنى المادي الحسّي. فمثلاً، في قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} [الزلزلة:7-8]، يقولون إنّ الإنسان يرى نفس الخير في صورةٍ جميلة، ويرى نفس الشر في صورةٍ قبيحة، وإذا أردنا أن نمثّل المسألة، فكأنّ الذي يعمل السوءَ أو المعاصي يَرى عقارب وأفاعي، وما إلى ذلك، والذي يعمل الخير، يراه أشياء مفرحة، تمثّل تجسيدات لأعماله هنا وهناك. ولكنّنا نفهم أنّه ليس المراد أنّه يرى العمل بصفته المادية، بل يرى نتائج عمله، في تجربته في الواقع، من خلال المشاكل والآلام التي تصيبه، والله تعالى يقول: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون} [الروم:41]، فليس المراد بالذوق، الذوق في فمه وعبر لسانه، وإنما يعني أنه يرى نتيجة عمله. وكذلك الآية الكريمة في السؤال في قوله تعالى: {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً} [الإنسان:5] فهذه تتحدث عن حياة الأبرار في الجنة، وليس نعيم الجنّة نعيماً روحياً، بل هناك نعيم روحي ونعيم مادي، كما عندما يتحدث الله تعالى عن الحور العين، ويتحدث عن الطعام وعن الشراب، وكذا.
فنحن نقول: لا دليل على صحة ما ذهب إليه جمعٌ من العلماء الذين نحترم علمهم، من القول بتجسم الأعمال، وإنما هي مسألة انطلقوا فيها من بعض الأبحاث الفلسفية التي لا تتفق مع القرآن الذي هو قمّة البلاغة، ونحن نعرف أن الكناية أبلغ من التصريح، وأن الاستعارة تعتبر من أساليب البلاغة العامة، فليس كل لفظٍ نحمله على الحقيقة، بل ربما نجد أن استعمال الناس للمجاز في اللغة العربية أوسع من استعمال الحقيقة.
ظلم آدم وحوّاء:
س: ما المقصود بالظلم في قوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} [البقرة:35]؟
ج: يعني ـ والله العالم ـ الظالمين لأنفسهم؛ لأنهما عندما قربا من الشجرة وأكلا منها، فقدا الجنة، ومن الطبيعي أن فقدان الإنسان الجنة في تلك المرحلة هو من الظلم. وليس معنى ذلك أنّ الظلم يعني المعصية المولويّة، بل قد يُطلق الظلم على المعصية الإرشاديّة، كما بيّنا مراراً، من أنّ نهي الله سبحانه لآدم من القرب من الشجرة كان إرشاديّاً، إلاّ أنّه سبَّب في خسران الجنّة، وليس نهياً مولويّاً ينطلق العقاب في نتائجه.
الذين لا يعلمون:
س: يقول اللّه تعالى: }ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون{، فهل سبب هذا قلّة عدد المؤمنين وكثرة عدد الجاهلين؟
ج: المقصود أنَّ أكثر الناس يرتبطون بالسطح من الأمور، والإنسان بحسب طبيعته يرتبط بالجوانب الحسيّة من خلال ارتباطه بحاجاته ولذّاته، أكثر من ارتباطه بالجوانب المعنويّة. ولذا، فإنَّ بعض الناس لا يفكّرون تفكيراً عميقاً، وغير مستعدّين لأن يبذلوا جهداً للتعلّم، فلو أجرينا إحصاءً ما، لوجدنا كثيرين منهم لا يحملون همَّ ثقافة الدين، وبالتالي لا يحاورون ولا يناقشون، ويبقون في خانة (الذين لا يعلمون)، ولا يكلّفون أنفسهم عناء أن يعلموا.
الحور العين:
س: نرى أنَّ القرآن الكريم ركّز على الحور العين، وأنهنَّ من نصيب الشهداء، فلماذا لم يركّز على الشهيدات؟
ج: يقول تبارك وتعالى: {لكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون} (فصّلت:31) للرجال والنساء المؤمنين والمؤمنات، الشهداء والشهيدات على السواء. هذا أولاً، وثانياً لم يذكر القرآن الشهيدات، لأنّه وربما بحسب طبيعة المجتمع آنذاك، قد يكون من غير المألوف الحديث عن الجانب الجنسي في رغبة المرأة بالجنس، لكنَّ اللّه تعالى تحدّث عن هذا الموضوع بأسلوب الكناية: {لكم فيها ما تشتهي أنفسُكم}، والكلام موجّه للرجال والنساء، ولذلك لا يوجد إنسان في الجنّة يعيش الحرمان، حيث "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
الكرسـيّ:
س: يقول تعالى: {وسع كرسيّهُ السّموات والأرض} (البقرة:255). ما المقصود بكلمة (كرسيّ)؟
ج: الظاهر أنَّ الكرسيّ هو كناية عن موقع السلطة، ومعنى {وسع كرسيُّه السموات والأرض}، أي وسعت سلطته وسيطرته وربوبيّته السموات والأرض.
من الإعجاز العلمي في القرآن
س: ما تفسير هذه الآية الكريمة: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكُلٌ في فلك يسبحون} (يس:40)، ما هو الإعجاز القرآني والعلمي في ذلك؟
ج: إن الله يريد أن يبين أن النظام الكوني قائم على وضع كل ظاهرة كونية في مدارها الطبيعي، فلا تقترب من مدار الظاهرة الكونية الأخرى، فللشمس مدارها، وللقمر مداره، وهكذا بالنسبة إلى الليل {ولا الليل سابق النهار}، فالليل يأتي في موقعه بعد النهار، فلا يسبقه، يعني كلٌ في دائرة معينة. وهذا ما أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله: { إنّا كل شيء خلقناه بقدر} (القمر:49)، {قد جعل الله لكل شيءٍ قدراً} (الطّلاق:3).
الاستعاذة من التقي
س: {إني أعود بالرحمن منك إن كنت تقياً}. كيف يستعان بالله ممّن كان تقياً، وإن كان شخصاً فمن هو؟
ج: هناك بعض الروايات مفسِرة للآية تقول إن شخصاً اسمه تقي هو المقصود، لكن هذا قد لا يكون واضحاً، بل قد يعني أنها – كما هو الظاهر – تقول له إذا كنت تخاف الله، فعليك أن تحفظني، يعني إن كنت تقياً وكنت ممن يخاف الله، فإنني أعوذ بالله سبحانه وتعالى منك ألا يطغى عليك الشيطان ويخرجك عن تقواك، والله العالم.
الجماعات والفرق
س: ورد في القرآن الكريم: {من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً} (الروم:32). من هم الذين فرّقوا دينهم؟
ج: كل الناس الذين يثيرون الخلافات في داخل الدين، فيحاول كل واحد منهم أن يتخذ لنفسه خطاً يختلف عن الخطوط الأساسية للدين، من خلال بعض ما يعيشه في نفسه من البغي بغير الحق، أو من شهواته أو أطماعه أو ضلاله أو ما إلى ذلك. فالقرآن يتحدث عن الظاهرة: {الذين فرّقوا دينهم}، فالله ينـزل الدين واحداً، لكن الناس يدخلون في هذا الدين ليفرّقوه، بحيث يختار كل واحد منهم مذهباً معيناً أو خطأً معيّناً لنفسه.
الإسلام والعبودية
س: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران:19)، ولكن لماذا لم يقضِ الإسلام على العبودية، أي أن كل سيد كان في خدمته (غلام أو عبد) يملكه ولا يعتقه إلا إذا أراد ذلك، فلو أردت أن تدافع عن دينك مع الكتابيين، لا تجد جواباً لذلك، أي كقولهم إن دينكم دين العبودية، علماً أن النبي(ص) والأئمة(ع) كان لديهم عبيد؟.
ج: العبودية في الجاهلية كانت موجودة وبطرق متنوعة، فقد كان بعض الناس يبيع نفسه، أو يبيع ولده، وكانت هناك عبودية عن طريق الحروب، بحيث كان المحاربون يسترقّون الأسرى في هذا المجال. كان هذا نظاماً عاماً سائداً، ولكنّ الإسلام عمد إلى إغلاق كل نوافذ العبودية، ما عدا عبودية الحرب، باعتبار المعاملة بالمثل. ثم بعد ذلك فتح الإسلام باب التحرير، كما في عتق رقبة، فإن الإنسان إذا أفطر متعمداً ـ مثلاً ـ فإنّ كفّارة ذلك أن يعتق عبداً، كواحد من خيارات عدّة، وأمثال ذلك كثير، وجوباً أو استحباباً. وهذا ما يدلُّ على أن الحل الإسلامي للعبودية كان حلاً واقعياً، ولذلك فإننا لم نحتج في المجتمعات الإسلامية إلى ثورة لتحرير العبيد. وعندما كانت قضية العبيد تتصل بمفاصل النظام الاجتماعي، كان من الصعب جداً إلغاؤها بجرة قلم واحدة، ولذلك لم يلغها الإسلام إلغاءً دفعياً، ولكن القرآن وضع الحلول لهذه المشكلة، ونجح في ذلك.
القسم بالنجوم
س: يقول الله سبحانه وتعالى:{فلا أقسم بمواقع النجوم} (الواقعة:75). هل يعني ذلك نفي القسم؟
ج: يعني لا أحتاج إلى أن أقسم بهذا، وبعضهم يقول (لا) هنا تأتي منفصلة، أي: ألا أقسم بمواقع النجوم.
قوامة الرجال على النساء
س: أرجو تفسير الآية: {الرّجال قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} (النساء34)؟
ج: هذه القوامة ليست الدكتاتورية والاستبداد والاستعلاء، بل هي الإدارة في الحياة الزوجية، وهي مختصة بالواقع الزوجي، قال تعالى: {الرجال قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم}، والحالة الوحيدة التي يجب على الرجل أن ينفق فيها على المرأة، هي في البيت الزوجي، بعنوان كونه رجلاً وبعنوان كونها امرأةً، وإلا، ففي حالات أخرى، قد يجب على المرأة أن تنفق على الرجل، كما في الأم التي تنفق على أولادها إذا كانت غنية وكان الأولاد فقراء، وما إلى ذلك. أمّا قوله تعالى: {بما فضل الله بعضهم على بعض}، فذلك لأن من الصعب على المرأة أن تكون هي التي تدير البيت وترعاه؛ لأنها مبتلاة بالحمل وبالدورة الشهرية وبالولادة والحضانة وما إلى ذلك.
المغضوب عليهم والضالّون
س: ما معنى الآية الكريمة: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} (الفاتحة/7)؟
ج: المقصود بالمغضوب عليهم كل من عرفوا الحق وجحدوه، فغضب الله عليهم. والمقصود بالضالّين الذين لم يعرفوا الحق من الباطل مع قيام الحجة عليهم بذلك، فلم يأخذوا بأسباب المعرفة، فيما هو التمييز بين الحقّ والباطل.
المحكمة والمتشابهة
س: في قوله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات}. ما هي الآيات المحكمة والمتشابهة؟
ج: الآيات المحكمة هي التي تدل على المعنى دلالةً واضحة لا يمكن أن يتطرّق الشكّ إلى دلالتها ولو على نحو الاحتمال، والمتشابهة هي التي قد تُحمل على خلاف ظاهرها بالرجوع إلى المُحكمات. مثلاً، قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص:88)، {فأينما تولوا فثم وجه الله} (البقرة:115)، {بل يداه مبسوطتان} (المائدة:64)، {يد الله فوق أيديهم}، هذه الآيات دلالتها الأوّليّة الظاهرة هي أنّ الله له يدان وله وجه، لأن كلمة اليد ظاهرة في التجسيم، ولكن عندما نقرأ قوله تعالى المُحكم: {ليس كمثله شيء} (الشورى:11)، نفهم أنّ المقصود باليد العطاء، أو القوّة، وبالوجه الذات. {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان} (المائدة:64)، فإن اليد تستعمل في العطاء، مثلما تقول فلان له يد عليّ، كما أنها تُستعمل دلالةً على القوة {يد الله فوق أيديهم} (الفتح:10)، كذلك الوجه، فهو يستعمل في ذات الشيء {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص:88) يعني إلا ذاته، وهكذا {أينما تولوا فثم وجه الله} ذات الله. فالآية المتشابهة هي التي يمكن حملها على خلاف ظاهرها، ولكن الآيات المحكمة هي نصٌّ في معناها، بحيث لا يمكن حملها على خلاف الظاهر، مجازاً أو استعارة، وهي التي تفسّر الآيات المتشابهة.
النفس اللوامة
س: هل تكون هذه الروح هي المقصودة بالقرآن الكريم بالنفس اللوامة، أم هي إحدى درجات روح القدس؟
ج: الظاهر من بعض التفسيرات أنه الشيء الذي يوجد في داخل الإنسان، فيزجره وينهاه، وربما تكون النفس اللوامة مظهراً لهذه الروح.
رأس الخطايا
س: ما حقيقة أن (الكذب رأس كل خطيئة)؟
ج: باعتبار أنَّ الكذب يمثل ما ليس بواقع، ويقلب الصورة، ويُغير الواقع. ويقال إنه جاء شخص إلى النبي(ص)، فقال له: عندي ثلاث خصال؛ أشرب الخمر، وأقتل النفس التي حرم الله، وأكذب، وأريد أن أتخلَّص من ذلك، فقال له النبي: لا تكذب، فأخذ الرجل يفكر، أني إذا شربت الخمر وسألني النبي، هل شربت الخمر؟ فإذا قلت: لم أشرب كذبت، وإذا قلت: إني شربت، فيطبّق عليَّ الحد، وعندما أريد أن أقتل، فالشيء نفسه، فترك هذه الأمور، وجاء إلى النبي(ص) فقال له: إنك عندما قلت لي: لا تكذب، فقد منعتني من كل شيء، فالكذب هو رأس الآثام، لأنه يتدخل في تشويه صورة الواقع، فيؤثر تأثيراً سلبياً على المجتمع، وفي الوقت نفسه، يؤثر تأثيراً سلبياً على سلوك الإنسان في الحياة .
الفصل الثاني
المسائل العقائدية
التقليد في العقائد:
* هل للمكلّف عدم الرجوع مطلقاً إلى من يقلده في الأمور العقائدية، وعليه البحث والتنقيب عن الأصل العقائدي الذي يكون منجّزاً ومعذّراً له أمام الله سبحانه وتعالى؟
- لا تقليد في العقائد، فالتقليد إنما هو في الأحكام الشرعية، ولذلك فإن المرجع والفقيه ليس مرجعاً في العقائد، لأن بعض المراجع ليسوا مختصين بالعقائد، فالعقائد لابد للإنسان أن يؤمن بها بنفسه، سواء كان الإيمان إيماناً إجمالياً، أو إيماناً تفصيلياً.
الاستعانة بغير الله:
* هل الاستعانة بالأئمة(ع) شرك بالله؟ وما رأيكم في من يدرسون ذلك تحت اسم (أنا مدرّس للمذهب الشيعي)؟.
- إذا كنا نعتقد أن الأئمة(ع) هم الذين يملكون مقادير الأمور، وهم الذين يملكون الرزق، والحياة، والموت، فهذا شرك بالله تعالى. أما إذا كنا نتوسل بهم ونستشفع بهم؛ لأن الله تعالى أعطى الشفاعة لبعض أنبيائه وأوليائه، وقد قال تعالى: )ولا يشفعُون إلا لمن ارتضى((الأنبياء:28)، )وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ((سبأ:23)، والشفاعة هنا بأن نطلب من الله تعالى أن يقضي حاجاتنا ببركتهم، ويكرمنا بإكرامهم، فهذا الاعتقاد لا إشكال فيه، وجائز، ولا شرك فيه. أما إذا جاء من يطلب يا علي ـ مثلاً ـ ارزقني، يا علي اقض حاجتي، يا علي أعطني ولداً، يا علي كذا، فهذا شرك بالله تعالى، وهو خلاف المنهج الذي ركّزه أهل البيت(ع) في حركة التوحيد، على مستوى الشكل والمضمون معاً، من قبيل ما ورد في حديث الإمام جعفر الصادق(ع) عندما سأله شخص في قوله تعالى: )وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ((يوسف:106)، يعني أن كثيراً من الناس هم مؤمنون، لكن عندهم شرك، ولكن كيف هذا؟ قال: أن تقول ـ في مضمون الحديث ـ: لولا فلان لهلكت – مثلاً – لولا الطبيب الفلاني لمتّ، أو لكنت ميتاً، لولا فلان الذي أعطاني لدمرّت حياتي، لولا أن فلاناً أنقذني من أعدائي لهلكت، قال له: إذاً كيف نقول؟ أي نحن بحاجة إلى أن نعبّر عما قام به الناس معنا في قضاء حاجاتنا، وفي هذه الأمور، قال: أن تقول: لولا أن مَنّ الله عليَّ بك لـهلكت؛ بأن ترجع كل الأمور إلى الله، فالله هو الذي ألهمه الدواء الذي أعطاك إياه، وألهمه الجراحة مثلاً، أو العلاج الذي شفيت منه، وهكذا. قال تعالى: )فَلا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَدًا(([287]).
الخلاصة أنّ النبي(ص) والأنبياء(ع) والأئمة(ع)، عظمتهم أنّهم )عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ(([288])، وهم قد ركّزوا لنا، في كلّ ما أثر من أقوالهم وأدعيتهم، منهجاً رائعاً في التوحيد الخالص الذي يجعل الإنسان ينفتح على الله سبحانه من دون حواجز، وبذلك كانوا الواسطة في الهداية بين الله وبين عباده. لذلك فإن هذه الأفكار التي راجت عند بعض الناس، من أن الله تعالى جعل الدنيا بيد الأنبياء والأئمة(ع)، بما يسمى ب(الولاية التكوينية)، وغير ذلك، وأنهم هم الذين ينـزلون المطر، وهم الذين يجعلون الشمس تشرق، وهم الذين كذا، فإنه شرك.
الانتماء الحسيني النبوي:
* قال النبي(ص): «حسين مني وأنا من حسين»، سمعت محاضرات حول هذا الحديث الشريف، وسمعنا توجيهات كثيرة، ولكن لم أقتنع كثيراً بها، فما معنى هذا الحديث الشريف في رأيكم؟
- أمّا قوله(ص): «حسين مني»، فالمراد منه واضح، سواءٌ حملنا ذلك على الجانب النسبي، أو حملناه على الجانب الفكري، لأن الحسين(ع) كان يعيش رسول الله(ص). وأمّا قوله: «وأنا من حسين»، فمن الواضح أيضاً أنّه ليس هناك معنىً للبعضية المادّية؛ لأن الحسين(ع) هو ابن بنت رسول الله(ص)، وليس رسول الله منه، فلذلك الكلمة بحسب ظاهرها قد لا يكون لها معنىً. ولكن يمكن تأويلها بالقول إنّ المراد إما من خلال هذا النوع من التفاعل بين الحسين(ع) وبين جده حتى كأنهما صارا واحداً، في الملكات، وفي الروحية، فكأنّه منه. فالحسين من رسول الله(ص)، ورسول الله(ص) منه، باعتبار أنهما تحولا شخصاً واحداً، وعناصر واحدة في الملكات الروحية والأخلاقية، أو أن المراد ـ كما فسره البعض ـ أن النبي(ص) يمثّل الرسالة، وهو تجسيد الرسالة، والحسين(ع) قام وضحّى من أجل هذه الرسالة. فالنبي أسّس، والحسين(ع) استطاع أن يجدد هذه الرسالة، فقد يكون المقصود هو هذا المعنى، والله العالم.
وحدة المسلمين... متى؟
* نرى في هذه الأيام أنّ أمة الكفر اتّحدت ضد الإسلام، فمتى يكون اتحاد دفتي الأمة الإسلامية لمواجهة الكفر؟ إنّا نرى أنكم تدعون، وفي كل مناسبة، إلى الوحدة، ولا نرى استجابة فعلية من الطرف الآخر؟ فهل ترون في الأفق القريب أو البعيد ممن يستجيب لهذه الدعوة، وتكون كلمة المسلمين واحدة؟
- قد تحدثنا بمناسبة هذا المؤتمر الذي عقد بين الأمريكيين والأوربيين ـ بين ضفتي الأطلسي ـ، وقلت إنهم يريدون أن يتوحدوا أو يقتربوا، أو يحلوا مشاكلهم؟! وتساءلت متى نعمل نحن على أساس أن تتوحد ضفتا المسلمين ـ السنة والشيعة ـ في هذا المجال، يعني نحن ننطلق من خلال مفاهيم القرآن، وفي الدعوة نقتدي برسول الله(ص) في ما قال الله تعالى له: )وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ((الكهف:29)، ولذلك نحن نطلق الفكرة، ونتابعها، وندعو إليها، وهناك بعض المناخ الوحدوي الذي بدأ يعيشه المسلمون بطريقة وبأخرى، ولكن هذه القرون التي عاشها المسلمون والتراكمات التاريخية، والتخلف، والجهل، والعصبية، تحتاج إلى وقت طويل لتغيير نتائجها، وكذلك نحتاج إلى وقت طويل لإبعاد الفتنة التي يثيرها الآخرون عن واقعنا الإسلامي، وعلينا أن نصبر.
باب للموحدين في الجنة:
* إن للموحدين باباً للجنة - حسب ما تنقل الروايات الإسلامية ـ وإبليس من الموحدين الذين لم يجعلوا مع الله إلهاً آخر، فلم لا يدخل الجنة كونه موحداً؟
- يمكن أن نجيب عن هذه المسألة بما ذكره الإمام الرضا(ع) في ما روي عنه وهو في طريقه إلى (طوس)، فعندما وصل، جاءه الرواة الذين يكتبون الحديث، وقالوا له: حدِّثنا يابن رسول الله، فذكر لهم هذا الحديث الذي قيل عنه إنـه من سلسلة الذهب: «حدّثني أبي موسى بن جعفر(ع) قال: حدّثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي محمد بن علي، حدثني أبي علي بن الحسين، حدثني أبي الحسين بن علي، حدثني أبي علي، حدّثني رسول الله عن جبرئيل عن الله: كلمة لا إله إلاّ الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي، وكتبها القوم ـ حسب الرواية ـ ثم قال بشرطها وشروطها». فصحيح أنّ إبليس وحّد الله في العقيدة، ولكنه لم يوحّده في العبادة، ولا في الطاعة، والتوحيد توحيد في العقيدة، وذلك بأن تؤمن بأن الله وحده لا شريك له، وتوحيدٌ في العبادة، بأن لا تعبد غيره، وتوحيدٌ في الطاعة، بأن لا تطيع غيره، وإبليس أطاع هوى نفسه.
تـردّد اللّـه:
* في الحديث القدسي: «وما تردّدت في شيء كترددي في المؤمن يكره الموت وأكره مساءته». ما المقصود بتردّد الله؟
- الله سبحانه وتعالى لا يتردد، قال تعالى: )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ((ياسين:82)، والتردد هو الحيرة، وهو الذي ينطلق من الجهل بالأشياء، والله فوق كل ذلك. نعم، هناك نقطة، وهي أنّ الأحاديث القدسية لعلها مترجمة عمّا ورد في بعض رسالات الأنبياء السابقين، والله لا يريد أن يقول أني أتردد في هذه المسألة، لكن يريد أن يقول: أنا أحب المؤمن، ولكن عُبِّر عنها بهذه الطريقة.
مشاهدات النبيّ في المعراج:
* ما مدى صحّة ما رآه النبي محمد(ص) عندما عرج إلى السماء، وكيف نفسر ذلك منطقياً؟
- إن هناك أحاديث كثيرة في عالم المعراج، ولكننا نؤمن بأن اللّه عرج بنبيه(ص) إلى السماء، وقد رأى أشياء كثيرة، ولا مانع من الالتزام بصحة بعض ما ينقل في الروايات، بشرط أن تكون تلك الروايات مشتملة على عناصر الوثاقة؛ لأن ذلك العالم هو عالم ينفتح على الغيب، وهو يختلف عن عالم الدنيا.
حول رؤية الأعمال:
* ما معنى قول الإمام علي(ع): «أعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم»؟
- يبيّن هذا القول أن ما يعمله الإنسان في الدنيا، يكون أمامه في الآخرة، لا بمعنى تجسيم الأعمال، بل بمعنى النتائج التي يحصل الإنسان عليها من خلال عمله، والله تعالى يقول: )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه((الزلزلة:7-8)، )اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا((الإسراء:14).
حول نسبة الاتحاد للمعصوم:
* قال المعصوم(ع) في الله: نحن هو، وهو نحن، هل هذا الكلام صحيح؟
- هذا لم يقله معصوم، ولكن يقوله الشيطان؛ لأن الأئمة(ع) يشعرون بأنهم عباد اللّه. ونحن نقرأ في دعاء (كميل) الذي رواه عن الإمام عليّ(ع): «وأنا عبدك الضعيف الحقير المسكين المستكين»، وهكذا نقرأ في أدعية النبي(ص) والأئمة(ع)، وهذا الكلام لا يجوز لنا أن ننسبه إلى الأئمة(ع)، وهو شرك، وهم أئمة التوحيد
الولاء والخصومة لأهل البيت(ع):
* يعتقد البعض أن المعيار في الولاء لأهل البيت(ع) هو التعقب والافتراء على الآخرين من الطوائف الأخرى؟
- هذا ليس ولاءً، بل هذا معركة، وحقد، وعداوة، وبغضاء. الولاء هو أن تنفتح على أهل البيت(ع) لتلتزم ولايتهم بالتزام الخط المستقيم الذي يؤصلونه، يعني إذا أردت أن تعرف نفسك فانظر قلبك، فإن كان قلبك يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله ففيك خير والله يحبك، وإن كان قلبك يوالي أعداء الله ويعادي أولياء الله فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب. الولاء مسألة تتصل بالعقل وتتصل بالقلب وتتصل بالإقتداء وبالسلوك.
أفضلية النبي(ص):
* أرسل الله الرسل وعلّمهم الكتاب والحكمة ليعلموها للناس، وفضّل محمداً وأمته زيادةً على ذلك. ما هي الزيادة مع الشواهد؟
- كل ما في القرآن هو زيادة، لأن القرآن جمع كل رسالات الأنبياء(ع)، وركز على الكثير من المفاهيم ومن التشريعات مما لم يكن للناس قبل ذلك عهد به.
أجـر الله:
* عن الإمام الباقر(ع) "إذا كان المؤمن غنياً رحيماً وصولاً له معروف إلى أصحابه أعطاه، الله أجر ما ينفق في البر أجره مرتين ضعفين"، ما هو مستند الإمام بذلك من القرآن؟
- إنّ القرآن يتحدث عن مسألة مضاعفة الأجر )مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا((الأنعام:160) )مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ((البقرة:261)، فالله يضاعف عمل الإنسان المؤمن المخلص في إيمانه، السائر على خط رضى الله، أضعافاً كثيرة.
الغضب الشخصيّ والنبوّة:
* عند وقوفه(ص) على مقتل الحمزة، قال: "لئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن، لأمثلنّ بثلاثين رجلاً منهم". فمتى تستنّ الأمة بهذا القول؟
- أنا أشك في ما ينقل عن النبي(ص) من هذا النص، لأن النبي(ص) هو الذي يجسِّد رضا الله، ويجسد الوقوف عند حدوده سبحانه وتعالى، وهو القائل: "إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور"، وهو الذي عفا عن قريش حين تمكن في فتح مكة.
هل الأمراض عقوبة؟
* هل الأمراض هي ابتلاء أم هي عقوبة دنيوية؟
- هي ابتلاء وليست عقوبةً، لأن الأمراض هي من طبيعة سنّة الله في الحياة، أي أن الإنسان يمرض إذا ابتعد عن الأخذ بأسباب الصحة في هذا المجال. ولذلك فهي ليست عقوبة، وهي بلاء للإنسان، ولذلك عليه أن يصبر، ويحاول أن يحصل على الشفاء منه في هذا المجال.
خلق الشّـر:
* تقولون إن الشر ليس من الله تعالى، فهو خارج عن نطاق خلق الله؟
- الله قادر على كلِّ شيء، فهو قادر على خلق الخير وخلق الشر، ولكن الله لا يخلق الشر، بمعنى أنه ما يكون شراً فهو بعيد عن موقع رضاه.
ردّ القضاء:
* جاء في الحديث عن الإمام علي(ع): (الدعاء يرد القضاء ولو أبرم إبراماً)، ولكن الله إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون، فكيف نفسّر ذلك؟
- ليس معنى ذلك أنه بعد أن يبرم الله القضاء يرفعه؛ لأنّ الله لا تختلف إرادته، بل لأنّ الله سبحانه وتعالى يعرف بعلمه أن فلاناً في ظروف معينة سيمرض، أو أنه سيبتلى ببلاء، ولكن هذا الشخص سوف يدعوه، فالله يرفع ذلك. يرفع ذلك يعني أنّه يمنعه من أن يتحقق، لأن الله سبحانه وتعالى يعلم المستقبل كما يعلم الحاضر، وهو يعرف أن فلاناً سوف يدعوه. أما قضية (أُبرم إبراماً)، فلعلّه بمعنى أن ظروفه كانت مهيأة، والله العالم.
قراءة الفاتحة:
* لماذا يقرأون سورة الفاتحة على الميت؟!
- هذا من باب قراءة القرآن، إذ يستحب أن يقرأ القرآن ويهدى ثوابه إلى الميت، وللفاتحة فضلها الكبير في القرآن الكريم.
قراءة القرآن وتخفيف الذنوب:
* هل قراءة القرآن وعمل الخيرات لها أثر على تخفيف الذنوب عن الميت؟
- هذه هدية من الإنسان إلى الميّت، والله سبحانه وتعالى أكرم منا، فنحن عندما نقدم هدية للميت، فالله سبحانه وتعالى يقبل هذه الهدية.
فاعل الخير وفاعل الشر:
* قال الإمام علي(ع): "فاعل الخير خير منه، وفاعل الشر شر منه"، ما معنى هذا الحديث الشريف؟
الخير مجرد عمل، والإنسان هو الذي يضفي على العمل معناه، والحديث معناه أن الإنسان الذي يفعل الخير هو إنسان يعيش الخير في ذاته وفي نفسه... كما أن ذاك أيضاً (فاعل الشر شر منه)، باعتبار أن هذا الإنسان يختزن الشر في ذاته.
السلوك الصوفي:
* ما هو المأخذ على السلوك الصوفي، وعلى بعض تعبيراته؟
- الواقع أن التصوف يمثل اتجاهات مختلفة. وبعض التصوف تحوّل إلى عادات وتقاليد، بحيث أصبح فيه ما يُشبه اللعب واللهو، كالذين يديرون أعناقهم ويهزجون، أو بعض الخطوط التي يتحرك فيها التصوف. نعم، هناك تصوّفٌ حقّ، وهو التصوف الذي يمثل الانفتاح على الله، ومعرفته وعبادته، وهذا ما جاء به القرآن والسنة وأحاديث الأئمة من أهل البيت(ع) وأدعيتهم. أما التصوّف الذي أخذ به الكثير من الناس، فإنه ليس على خط الاستقامة، وربما كان من بين العادات والتقاليد التي لا تنسجم مع طبيعة الفكرة الروحية أو العرفانية.
أصول الدين:
* هل تعتبر الإمامة أصلاً من أصول الدين؟ وما هي الأصول الأصيلة للدين التي ينبغي الاعتقاد بها؟ وما هي امتداداتها؟
- المراد بأصل الدين ما يكون الإنسان به مؤمناً مسلماً، وبإنكاره يكون كافراً. وعليه، فإذا اعتبرنا الإمامة من أصول الإسلام، فينبغي أن نُخرج كل المسلمين ـ من غير الشيعة الإثني عشريّة ـ من الدين؛ لأنهم لا يؤمنون بالإمامة، مع أنه لا إشكال عندنا في أن السنة بمذاهبهم لا يؤمنون بها، وحتى بعض الشيعة لا يؤمنون بكل الأئمة مثل الزيدية والإسماعيلية والواقفية. لذلك فإن المقصود عندنا بأصول الدين، ما يكون به الإنسان مسلماً وبإنكار واحدة منها يكون كافراً، وهي ثلاثة ذكرها الله في القرآن: التوحيد، النبوة، المعاد، فمن أنكر التوحيد فهو كافر، ومن أنكر النبوة فهو كافر، ومن أنكر اليوم الآخر فهو كافر.
أما الإمامة، فهي من حقائق الدين ومن أصول المذهب، والذي لا يقر بالإمامة، فهو ليس شيعياً، يعني ليس سائراً في خط أهل البيت(ع). فعندما نقول المقصود من أصول الدين حقائق الدين، فأصول الدين عندئذٍ تتجاوز المئات؛ لأن كل حقيقة من حقائقه هي أصل، يعني نؤمن بالتوحيد، وبالنبوة، ونبوة كل الأنبياء، والقرآن، وما إلى ذلك من الحقائق الكثيرة في هذا المقام، أمّا إذا أردنا من أصول الدين ما به يكون الإنسان مسلماً، وبإنكار واحدة منها يكون كافراً، فهي: التوحيد، والنبوّة، والمعاد.
جنود الإمام المهدي(عج):
* هل عدة أنصار المهدي(عج) من الأحياء أم من الأموات الذين يبعثهم الله لنصرته؟ وهل هم الولاة في عهده وقادة جنده؟
- المهم أن نكون نحن من جند الإمام المهدي(عج)، وذلك بأن نعدّ أنفسنا لنكون من أنصاره ومن جنده، كما ورد في الدعاء: «اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»، أي أن كل واحد منا يربي نفسه على أساس أن يكون مشروع قائد إسلامي، ومشروع داعية إسلامي، وفي ذلك الوقت، هناك من يكون من أنصاره، وهناك من يكون من أعدائه. المهم أن لا نكون من أعدائه، لأن بعض الناس في كثير من الحالات يعمل عمل المعادين للإمام، لأن الرواية المعروفة عنه أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، فإذا كنت مثلاً تظلم زوجتك، أو تظلم جارك، أو تظلم الإنسان الذي تتعامل معه، أو إذا كنت في موقع سلطة وتظلم الناس، فتكون من أعداء الإمام، وتكون من الأشخاص الذين يحاربهم عند ظهوره، لأنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وأنت تتحرّك في خط الظلم.
لذلك على الإنسان أن يربي نفسه، وأن يتخلَّق بأخلاق الخط الذي يتحرك الإمام(ع) من أجل أن يركزه في العالم، لأن الإمام يعمل على أساس خط العدل العالمي، فأنت إذا كنت تنصر الظالمين وتساعدهم وتؤيدهم، فكيف تكون من أتباعه وشيعته؟ المهم عندما نسأل علينا أن نسأل ما هي مسؤولياتنا؟ وما هي تكاليفنا؟ وكيف يكون انتظارنا له انتظاراً إيجابياً؟ وكيف نربي أنفسنا على أن نكون من أنصاره وجنوده؟ حتى لا نطلب أن يعجّل الله فرجه ويسهّل مخرجه، ونكون كما في المثل: (قلوبهم معك وسيوفهم عليك)!! نعوذ بالله من ذلك.
غيبة الإمام المهدي(عج):
* تقولون إن غيبة الإمام المهدي(عج) غيبٌ من غيب اللّه تعالى، وهذا الغيب يحتاج إلى دليل من الكتاب والسنّة، والحال أن رسول اللّه(ص) لم يبشِّر بغيبته، بل بشّر بظهوره، فكيف بي إن كنت من مذهب غير مذهبكم أن اقتنع بمثل هذا الدليل؟
- إذا كان بشّر بظهوره،، فإنَّ الظهور إنما ينطلق من خلال الغيبة، هذا جانب. والجانب الآخر، هو أننا عندما نقرأ: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»، فلا بد أن يكون في كل زمن يمتد فيه الكتاب شخص من العترة يمتدّ مع الزمن، وليس هو إلاّ الإمام(عج)، هذا بالإضافة إلى ما وردنا من الأحاديث المتواترة الكثيرة من أئمة أهل البيت(ع)، الذين يحدّثون عن رسول اللّه(ص) ولا يحدثون عن أنفسهم في ذلك كله.
خلود الفاسق في النار:
* إذا مات المسلم، وهو فاسق، مرتكب للكبائر، فهل يخلَّد في النار، أم تدركه رحمة الله في نهاية الأمر؟
- في القرآن ما يدل على أنه من الممكن أن يخلد المؤمن في النار، كما في قوله تعالى: )ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا((النساء:93)، فلو فرضنا أن شخصاً مؤمناً قتل شخصاً متعمداً، فالله يقول إنّ هذا هو استحقاقه، ولكن قد تدركه رحمة اللّه بلحاظ إيمانه، )إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ((النساء:116).
ومشكلتنا هي أننا نأخذ بالأحاديث أكثر مما نأخذ بالقرآن، فاللّه تعالى يقول: )لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا((النساء:123)، والقرآن تحدث أنه )وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه((الزلزلة:8)، والله جعل لكل معصية عقوبةً في النار، وما إلى ذلك، ولهذا فاستحقاق بعض العقوبات هي ثابتة بحسب النص القرآني الذي )لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنـزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ((فصلت:42)، ولكن اللّه تعالى وسعت رحمته كل شيء، )قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ((الزمر:53)، فقد تدركه الرحمة، وهذا لا ينفي الاستحقاق للعقوبة.
خلق المجنون:
* إذا كان المجنون الإطباقي غير مكلَّف بأحكام الشريعة، من خلال أن الإنسان مخلوق للعبادة ولإعمار الأرض، فما الفائدة، إذاً، من خلق مثل هذا المخلوق؟
- إذا كان لا فائدة له في إعمار الأرض وما إلى ذلك، فقد يكون له فوائد أخرى. ثم إن اللّه سبحانه وتعالى عندما يعطي الخلقة لعباده، فإنه ينطلق من خلال حكمته التي تعطي المسألة من أجل النوع، لا من أجل كل شخص بشخصه، وإلاّ فيمكن أن نقول إن الشخص الذي خلقه اللّه تعالى سوياً صالحاً، ثم عرض له عارض أيضاً، كأن يصبح مشلولاً، لماذا خلقه اللّه؟ فالله هو الحكيم الذي لا حدّ لحكمته، وهو العالم بكل ما يفعله، )لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ((الأنبياء:23).
إمامة الإمام المهدي(عج):
* كيف نفسر إمامة الإمام المهدي(عج) الذي لا يمارس إمامته ويمكث في غيبته؟
- إمامته تتحرك من خلال أن الله أعدّه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. وأما كيف تتحرّك إمامته وهو غائب، فهو إمام من قِبَل الله، أعده الله لنهاية العالم، ولكن في الوقت نفسه، فإنّ وجود العلماء المسلمين المثقفين المبلغين الواعين الذين يملكون معرفة الكتاب والسنة وما جاء عن الأئمة من أهل البيت(ع)، يمكن أن يملأ بعض الفراغ، وهم يعيشون روحية إمامة الإمام الحجة(عج).
زيارة السيدة زنيب(ع):
* هل توجد روايات تحث على زيارة السيدة زينب(ع) كما تحث على زيارة الإمام الحسين والأئمة(ع)، لأننا نسمع من البعض أن زيارة السيدة زينب نوع من العبث؟
- ليست هناك روايات في ذلك، ولكن السيدة زينب هي من أهل البيت(ع)، الذين تتمثل فيهم الطهارة كلّها، والاستقامة في القول والعمل، والقيام بالمسؤولية في مواقع التقرّب إلى الله طلباً لرضاه. والسيدة زينب(ع) تمثّل القمّة والبطولة والإخلاص لله ولرسوله ولأخيها الحسين وللإسلام. ولذلك، فإننا لا نحتاج في زيارة أيٍّ من أهل البيت إلى أن نحسب حساب الحسنات من منطلق تعبّدي؛ لأن محبتنا لهم(ع) تستوجب أن نزور السيدة زينب(ع)، أينما كان قبرها، لنتعلم منها؛ فليست الزيارة مجرد أن تمسك بقفص الضريح، أو أن تقرأ بعض الكلمات من دون معرفة مداليلها، بل حق الزيارة أن تكون زيارة ثقافية، أن تتذكر السيدة زينب(ع) في طاعتها لله، وفي جهادها في سبيل الله، وفي مواجهتها الظالمين، وفي رعايتها للحسين(ع)؛ نزورها لكي نتعلم منها ومن سيرتها. أما من يقول إن الزيارة عبث، فنقول إن هذا الكلام هو عبث؛ لأن الزيارة إنما هي تأكيد لالتزامنا بأئمة أهل البيت(ع) وبالصالحين منهم، ولنتأسّى بهم، ولنتعرف سيرتهم، لنـزداد محبة لهم في ذلك.
العصمة الشاملة:
* هل تشمل العصمة حتى الأخطاء غير المتعمّدة، مثل عزل قيس بن سعد عن ولاية مصر، وتعيين محمد بن أبي بكر مثلاً؟
- أوّلاً، نحن نعتقد أنّ الإمام بمقتضى العصمة لا يخطئ في نظرته إلى الأمور، ولذلك نقول إنّ ذلك يمثّل الصواب. وثانياً: إنّ هذه القضايا من الأمور التي لا يُنظر فيها من جانب واحد، فلا بدّ للحُكم عليها من دراستها من مختلف جوانبها، حتى يتعرّف الإنسان عمق المصلحة، على مستوى الحاضر أحياناً، وعلى مستوى المستقبل أحياناً أخرى.
حياة البرزح:
* في حياة البرزخ، هل الروح وحدها تتعذب؟ أم الروح والجسد كلاهما؟ وهل يشعر الإنسان بمرور الوقت؟
- لم يبيِّن اللّه تعالى لنا تفاصيل الأمور ثم، دعونا نسأل عن الأشياء التي هي من تكليفنا، وإن شاء اللّه عندما نصل إلى هناك لن نتعذب، وتنالنا رحمة الله، وينعم علينا سبحانه بفضله ورضوانه.
رحمة اللّه وعذابه:
* أين تقع رحمة الله الواسعة مقابل عذابه الشديد؟
- إن اللّه سبحانه وتعالى كما نقرأ في دعاء (الافتتاح)، رحيم في مواقع رحمته، وشديد العذاب في مواقع العذاب: «وأيقنت أنك أرحم الراحمين في موقع العفو والرحمة، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة، وأعظم المتجبرين في موضع الكبرياء والعظمة»، فاللّه تعالى يرحم برحمته من يستحق الرحمة، ومن تكون الرحمة له حكمة من اللّه، وكذلك بالنسبة إلى العذاب، )لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ((الأنبياء:23)، )وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ((الأعراف:156). فاللّه سبحانه وتعالى يرحم، حتى بعض من يستحق العذاب، وذلك قوله: )إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ((النساء:116). فعذاب اللّه ورحمته ليس في أيدينا، ولذلك قال تعالى في كتابه: )قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ((الإسراء:100)، فلو جعل اللّه الرحمة في أيدي الناس، لما رحم أحد أحداً، لأن الناس تبخل حتى بالرحمة.
العصمة والاختيار:
* علمنا أنكم تقولون إن العصمة هي حتمية، أليس في ذلك ما ينافي الاختيار؟
- يعني أن الله أدخل العصمة فيهم، ولكن دون أن ينافي ذلك الاختيار. وما كنّا نطرحه في حتميّة العصمة، هو ردّ إشكال قد يُطرح على عقيدة الشيعة، من أن النبي أو الإمام معصوم منذ ولادته، فإذا كنا نقول بذلك، كما يقول مشهور العلماء، فلا إشكال في أن العصمة لم تنطلق من حالة تربية، وإنما انطلقت من خصوصية في الذات، ولكنها لا تبتعد عن الاختيار.
حياة الآخرة:
* إذا كان الموت هو انتقال من حياة فيها الشقاء والحرمان، إلى حياة فيها السرور والخلود، فلماذا البكاء والمآتم على الأموات؟
- البكاء يمثِّل عاطفة تتصل بعلاقة بين الإنسان بقريبه، وبينه أو بصديقه، أو بقيادته، باعتبار هذه الإلفة التي بين الإنسان وبين من يرتبط به ارتباطاً عاطفياً، فيحزن لفراقه، ويدفعه ذلك إلى التعبير عن حُزنه بالبكاء.
الروح والنفس:
* هل هناك فرق بين الروح والنفس؟
- الظاهر في استعمال القرآن، أن كلمة (النفس) هي الذات، يعني قوله تعالى: )كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ((آل عمران:185)، والذي يذوق الموت هي الذات الإنسانية، أما الروح، فهي الطاقة التي تعطي هذا الجسد الحياة بحسب المصطلح القرآني.
نسيان الأنبياء:
* قلتم في تفسيركم القيِّم (من وحي القرآن)، إن نسيان الأنبياء في الأمور الحياتية الصغيرة جائز، فهل توافقون بذلك أستاذكم السيد الخوئي على أن نسيان الأنبياء يكون في غير مواقع التبليغ؟
- في تفسيري (من وحي القرآن)، قلت إن دور النبي ـ وهذا دليل للعصمة ـ أنه يُخرِج الناس من الظلمات إلى النور، فلا بد من أن يكون النبي نوراً كله؛ نوراً في عقله، ونوراً في قلبه، ونوراً في كل حياته، وما إلى ذلك. ولذلك ليس هذا الرأي كما يقول أستاذنا الخوئي، من بناء دليل العصمة على حكم العقل، إذ بمقتضاه ليس هناك ما يمنع من نسيان الأنبياء للأمور الصغيرة.
الفصل الثالث
المسائل الفكرية
توثيق روايات كربلاء:
* روايات كربلاء ينقلها حميد بن مسلم وأمثاله، وهو في صفِّ الأعداء، فكيف نأخذ بتلك الروايات؟
- ليس من الضروريّ أن نأخذ بكلِّ ما قيل، وربما بعض ما ينقله حميد بن مسلم، أو بعض الذين حضروا الواقعة، هو ذو مضمون قد ترى فيه ملامح الصدق، ونحن نعرف أنه دخلت على حادثة كربلاء الكثير من الأكاذيب والأحاديث الموضوعة التي يستخدمها بعض القرّاء لأجل إثارة النّاس وإثارة الدموع، وما إلى ذلك، وقد نقل المرحوم السيد محسن الأمين، في كتابه (التنـزيه لأهل الشبيه)، أنَّ هناك بعض الروايات التي تقرأ وتتداول الآن في المجالس التي تتحدَّث عن مصرع الإمام علي(ع)، أو عن الإمام الحسين(ع)، وضعت كلافتات على سطوح النجف، حتى تثير الناس، ونذكر منها شاهداً على ذلك أن بعض اللاّفتات ذكر أنّ من يقرأ هذه السورة، أو تلك السورة، مثلاً، شيّعه سبعون ألف ملك، أو مثلاً يعطيه الله مليون حورية، وما إلى ذلك، قالوا له:ألم تسمع قول رسول الله(ص):«من كذب عليّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار»؟ قال:نعم، ولكني رأيت الناس قد أعرضت عن القرآن، والتزمت بالسُنّة وبالأقاصيص، فأردت أن أرغّب الناس في قراءة القرآن. هذا أولاً، وثانياً:أنا كذبت له لا عليه، يعني لحسابه، وذلك ليهتم الناس بقراءة القرآن، الذي جاء به رسول الله(ص). وهكذا يكذب بعض الناس للحسين(ع)، حتى يبكوا الناس، وكذا، ولكن هذا يغيّر الصورة المشرقة لأحداث كربلاء.
وعد الجنة:
* ما رأيكم في صحة الرواية التاريخية التي تُروى عن الرسول(ص)، وهي أنه(ص) ضمن لمن يبارز (عمرو بن ودّ) الجنة، فلم يتقدّم غير علي(ع)، خاصة إذا ما علمنا أن كبار الصحابة(رض) كانوا يسمعون هذا القول، كأبي ذر، وسلمان وعمّار، وغيرهم، ومع ذلك، فإنهم لم يتقدموا، والآن نرى الكثير ممن يقدمون على العمليات الاستشهادية رغم أن أحداً لم يضمن لهم الجنة؟
- الظاهر أن هذه الرواية صحيحة، وأنها كانت دعوة للمسلمين لكي يردوا على عمرو استعراضه، الذي وصل إلى حدّ التحدي للمسلمين، لأنه كان يدعو المسلمين إلى أن يبارزه واحد منهم، وربما ورد في بعض الأحاديث، أن عمراً كان يقول:الذي يقتل منكم في الجنة، وأنا مستعد أن أبعثكم إلى الجنة، وكان(ص) ـ كما ورد في الرواية ـ يقول:«من لعمرو وقد ضمنت له على الله الجنة؟».
أما تقاعس المسلمين، وفيهم الكبار، عن الاندفاع والاستجابة لتحدي عمرو، فذلك لأنّ عمراً كان من أبطال العرب، فقد كان قائداً لجيش المشركين، ولذلك كانوا يخافونه، والخوف أمر طبيعي في الإنسان. وربما كان الكثير من المسلمين، أو الأكثرية منهم، لا يجدون في أنفسهم القدرة على مواجهة عمرو؛ لأن المسألة لم تكن مجرد مسألة عمليّة استشهادية، أو أنه يذهب ويقتل، كلا، لأنه لا بد للذي يبرز إلى شخص في مستوى (عمرو بن ودّ) أن يكون في مستوى الشجاعة النفسية، وفي مستوى الخبرة العسكرية، والقدرة على المواجهة، وربما كان المسلمون آنذاك غير مستعدين لذلك.
أما علي بن أبي طالب(ع)، فإنه رجل باع نفسه لله، هذا أولاً. وثانياً: هو الرجل الذي عاش التجربة العسكرية في قتال الأعداء، لأنه روي في السيرة والتي تحدثت عن دور الإمام(ع) في معاركه، أن قتلى بدر من المشركين، كان نصفهم ممن قتلهم علي(ع)، والنصف الآخر قتلهم بقية المسلمين. فلعلي(ع) ومنذ صغره، القلب الصخري القوي، الذي لا يخاف، بل كان كما قال الله تعالى عنه في ليلة (الهجرة):)وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله وَالله رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ((البقرة:207). ثم كان موقفه في معركة (أحد) التي هرب فيها المسلمون عن رسول الله(ص) في المستوى الأعلى، وبقي علي(ع) ثابتاً معه.
ولذلك كان علي(ع) وبكل وعي، وبكل قوة، مستعداً لأن يبرز لعمرو. ونلاحظ عند بروزه أن النبي(ص) رفع يديه مبتهلاً إلى الله تعالى:)رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ((الأنبياء:89)، ومع أن المسلمين كانوا مع النبي(ص)، لكنه(ص) كان يقول إذا قُتل علي، فإنه سيبقى وحده، لما يمثّله علي(ع) من النصرة والمعونة والحماية.
وعندما انطلق علي(ع) إلى عمرو، قال له عمرو: إن أباك كان صديقاً لي، وأنا أكره أن أقتلك، ولكن علياً(ع) قال له:وأنا أحب أن أقتلك، فالحالة ليست عاطفية، بل رسالية، ثم قال له علي(ع) ـ حسب الرواية ـ إنك تقول إنّك لا تبارز أحداً إلا أن يطرح عليك ثلاثة أشياء، وتختار منها واحدة، قال له:نعم، لا مشكلة في ذلك، اطرح الأشياء، قال له:قل:(أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله)، قال:دعْ عنك هذا، قال:أن ترجع بهذا الجيش من حيث أتيت، قال له:إذاً تتحدث نساء قريش، أني جئت بهذا الجيش ثم رجعت دون قتال، وهذا غير ممكن، قال:إذاً إنزل إلى القتال، قال:ما دعاني أحد من العرب قبلك، فكيف تدعوني، ولا زلت في سن الشباب.
وكنّا نتحدث عن الأخلاق، فعظمة أخلاق علي(ع) أنه عندما صرع عمرو، وجلس على صدره، قال له المسلمون:يا علي احتز رأسه، لأن الرجل غدار، وعلي لا يجيبهم، بعد ذلك، احتز رأسه، «قيل له:لماذا لم تبادر، وكنا نخاف أن يغدر بك، قال:عندما صرعته، سبّني، فثارت أعصابي، فخفت إن أنا قتلته، أن أقتله ثأراً لنفسي، فبقيت حتى هدأت أعصابي، فقتلته قربة إلى الله». هذه هي عظمة علي(ع) في أخلاقيته الروحية، وفي إخلاصه لله تعالى، لأنه كما قال عنه الرسول(ص):«يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله»، ولذلك قال النبي(ص):«ضربة علي يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين»؛ لأنّها هي التي أنقذت الإسلام والمسلمين؛ لأنّ عمراً لو انتصر لسقط الإسلام كلّه، بينما مثّل انتصار عليّ(ع) هزيمة الشرك كلّه. ومشكلتنا أننا لا نفهم علياً، ولا نفهم فكره، ولا نفهم روحانيته، ولا نفهم أفقه الواسع، ولا نفهم علاقته بالله تعالى.
قيم عاشوراء:
* هل تكفي فترة العشرة أيام من محرَّم والمجالس الحسينية المقامة فيها، لزرع قيم وأخلاق الثورة الحسينية في نفوس أبنائنا وشبابنا، أم أن هناك تكليفاً أكبر وأعمق من إحياء هذه المجالس في هذه الفترة؟
- إنّ الأئمة(ع) هم الذين أطلقوا العنوان الكبير لهذه المجال «أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا»؛ أي «حدِّثوا الناس بمحاسن كلامنا، فإنهم إذا عرفوا محاسن كلامنا، أحبونا واتّبعونا»؛ هذه هي المسألة. ولذلك لابد من إثارة المسألة الحسينية وإيحاءاتها في التوجيه الإسلامي، وفي مسألة الإصلاح في الأمَّة الإسلامية، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر على مدى الزمن.
النهضة الشاملة:
* هل ترون معنا أنه لابد من نهضة فكرية وأخلاقية شاملة، وخصوصاً حيال الهجمة الشرسة على المسلمين عموماً، وعلى الشيعة خصوصاً؟
- إنني كنت ولا زلت أقول:لابد لنا في حوزاتنا، ومع مثقّفينا ومفكّرينا وشبابنا، من أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وفكرية، من أجل أن نجسِّد الحقيقة الإسلامية، والحقيقة الأصيلة في خطِّ الأئمة من أهل البيت(ع)...
تكريس الحسين(ع):
* لماذا أكّد الرسول(ص) على الحسين(ع) من دون غيره من أهل البيت(ع)؟
- لقد أكَّد عليه وعلى أخيه، كّما أكَّد على أهل البيت(ع):علي وفاطمة والحسن والحسين، وربما لما كان يتطلّع إليه من مستقبل حركة الإمام الحسين(ع) في تجديد الإسلام بالطريقة الحركية.
البطولات الإنسانية:
* كيف تفسِّر المواقف البطولية والجهادية خارج الدائرة الشيعية، إسلامية أو غير إسلامية، للذين لا يملكون أو يرتبطون بعاشوراء، ألا يعني ذلك أن الإسلام يملك من النماذج المتعددة ومن ضمنها عاشوراء ما يستطيع بها أن يجدد وينتج أفواجاً من الشهداء؟
- نحن لا نقول إن عاشوراء وحدها هي التي يمكن أن تجدِّد الإسلام، وأن تؤسس حركته، لأنَّ عاشوراء إنما تجدِّد حركية الإسلام من جهة عمقها الإسلامي، فإذا كان هناك عمق إسلامي آخر يحمل المواصفات نفسها، فيمكن أن يجدِّد الإسلام أيضاً، فالإسلام هو الذي صنع شخصيَّة عاشوراء، وهو الذي يصنع الشخصيات الأخرى، وإن كانت عاشوراء ـ كما ذكرنا ـ تتميَّز بمواصفاتٍ أخرى قد لا نجدها في مواقع أخرى.
تعلّم المظلومية:
* قال غاندي:(تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً، فأنتصر)؛ كيف يفسَّر هذا القول؟
- ربما كان مقصوده:كيف أكون مظلوماً، فلا أخضع، يعني كيف أكون مظلوماً بمعنى أني لا أتحرك في موقع العنف ضدّ الآخر، وإنما أتحرك بكلِّ هذه السماحة والروحانية في موقف اللاعنف، لأنَّ الرجل كان يؤمن باللاعنف، فأنتصر كما انتصر الحسين(ع) في مدى التاريخ من خلال ظلامته، التي لم يخضع فيها، ولكنَّه واجهها بالطّريقة الإنسانيّة.
غياب البرنامج الإسلامي:
* علماؤنا الإسلاميّون منذ أمد بعيد يدعون إلى حكومة إسلامية، ويجدّون كل الجد من أجل ذلك، وفي الوقت نفسه، هم لا يملكون البرنامج العام لقيام دولة إسلامية في وسط هذا العالم، والسؤال:لم لا يقدّمون ذلك البرنامج أولاً، ومن ثم يدعون إلى قيام الحكومة الإسلامية، ليجّنبوا بذلك الشعوب الإسلامية ويلات التجارب المرة؟ وهل ترى أن علماءنا الإسلاميين مقصّرون من هذه الجهة أكثر من الشعوب الإسلامية بصورة عامة؟
- ربما ألتقي مع السائل في التقصير؛ لأننا عندما ندرس في حوزاتنا، أو في الكثير من مواقعنا، فإننا لا نجد هناك دراسة تربط الطلاب بمشروع الحركة الإسلامية. إنهم يعلّمون مفردات الفروع الفقهية والقواعد الأصولية، ولا يعلّمون برنامج الحكومة الإسلامية، وشروط تحريك الذهنية الإسلامية العامة. ولذلك، فإننا في محاضراتنا ومواعظنا وإرشاداتنا، لا نجد هناك برنامجاً تثقيفياً للأمّة في مسألة الدولة الإسلامية. إننا نلاحظ ـ وقد عالجنا ذلك في محاضرات عاشوراء في بيروت هذه السنة ـ أنهم يحاولون إثارة الشبهات حول الدولة الإسلامية، وهذا ما يدور الآن في العراق، عندما يتحدَّث السياسيون في العراق عن الدستور العراقي، بين من يقول إنَّ علينا أن نجعل الإسلام هو المصدر الوحيد للدستور، ومن يقول أن يكون أحد المصادر للدستور، ونجد هناك جدلاً وخلافاً وارتباكاً حتى في نطاق الحوزات، لأن ما يثيره المستكبرون والكافرون ضد الحكومة الإسلامية كبير وخطير، بحيث لا نجد هناك مواجهة عامَّة للجانب الفكري والثقافي والسياسي من ذلك، لأن الاستكبار لا يريد إسلاماً يحكم، ولهذا فإنهم يواجهون الجمهورية الإسلامية في إيران، لأنَّ الحكومة هناك إسلامية، لا من جهة الأخطاء التي يقعون فيها، ولكن من جهة أنهم لا يريدون دولة تحكم باسم الإسلام، وهذا ما ينبغي أن ينفتح عليه علماء المسلمين والمثقّفون المسلمون.
شبهات استشراقية:
* لماذا تزوَّج الرسول(ص) من عائشة رغم الفرق الكبير في العمر؟ حيث إن عائشة كانت صغيرة في السنّ؟ وهذا ما جعل الموضوع موضع انتقاد من المستشرقين وأعداء الدين؟
- أوَّلاً:لماذا يكون الفارق في السن مانعاً من الزواج أو من إنسانية الزواج؟ لماذا ذلك؟ المهم أن يكون هناك انسجام بين الزوجين، في كلِّ العلاقات الزوجية.
وثانياً:إنَّ المسألة كانت في عرف ذلك الزمن، طبيعية، لا ينتقدها أحد. وثالثاً:نحن الآن نقرأ في ما هو موجود في الغرب، أن هناك أشخاصاً في الثمانين يأخذون بنت العشرين، وخصوصاً بين الممثلات والمغنين وما إلى ذلك، ولا يستنكر أحد. إن مسألة الزواج هي مسألة انسجام بين الزوجين، بحيث لا تشعر الزوجة بمشكلة، ولا يشعر الزوج بمشكلة، وقد نجد هناك زوجين من عمر واحد، ولا ينسجمان، ونجد هناك زوجين في عمر متقدم ولا ينسجمان... أليس عندنا الآن أزواج ـ ويحدث بشكل طبيعي ـ بأعمار متباعدة نسبياً، وفي الغرب موجود أيضاً، امرأة عمرها 20 سنة تتزوج من رجل عمره 40 سنة أو 30 سنة، وترى أن هناك انسجاماً وسعادة، وما إلى ذلك، ولكنهم يحاولون أن يتحدثوا عن أي شيء، يمكن أن يثيروه ضد شخصية النبي(ص) من دون دراسة موضوعية للمسألة.
التشابه في الأديان:
* التشابه بين الأديان المختلفة، هل هو في العقائد فقط، أم في العقائد والفقه معاً؟
- هناك تشابه في العقائد مع اختلاف في التفاصيل، وهناك أيضاً أديان تملك فقهاً كاليهودية، لأن التوراة لا تشتمل على منهج فقهي وأحكام فقهية، وهناك اتفاق بين الإسلام وبين ما في التوراة في بعض الأحكام المشتركة، ولذلك تحدَّث الإسلام عن التوراة في الجانب الشرعي بإيجابية.
الدين والسياسة:
* الدين والسياسة، هل هما شيء واحد، أم الدين شيء، والسياسة شيء آخر؟
- الدين هو قلب السياسة، والسياسة في قلب الدين، لأن السياسة هي عبارة عن الخط الذي يمثل تدبير أمور الناس ورعايتهم، وإبعادهم عن الانحراف، وانطلاقهم في خط الاستقامة، حتى نبيّن القاعدة الإسلامية في هذا المجال، قال تعالى:)لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ((الحديد:25)، يعني كل الرسالات، كل الرسل، وكل الكتب، جاءت من أجل أن يأخذ الناس بالعدل، ولا يمكن أن يكون هناك عدل بدون سياسة؛ عدل الحاكم، وعدل القانون، وعدل الناس بعضهم مع بعض، والسياسة هي هذه. فلذلك نقول:إن الدين قائم على العدل، ولا عدل بدون السياسة. وإذا كان بعض الناس يفهمون السياسة أنها لعبٌ على الحبال، وسياسة اللف والدوران، فهذا ممّا لا يوافق عليه الإسلام. إنّ السياسة الحقة، التي يريدها الله سبحانه، هي السياسة التي تكفل للناس أمنهم وعدلهم وحقوقهم.
المرجعية ومتطلبات الناس:
* هل ترون أنَّ الحاجز الموجود بين المرجعية المقدسة في النجف الأشرف وبين الشباب العراقي قد تحطم، وإن لم يتحطم، فما هي المبادرات لجعل الالتقاء بين المرجعية والناس في العراق متواظباً؟
- من الطبيعي أن المرجعية مسؤولة عن أن تكون في موقع النيابة عن الإمامة، وعندما ندرس حياة الأئمة(ع)، فإننا نرى أن الأئمة(ع) كانوا يعيشون مع الناس في كل طبقاتهم، وكانوا يعلِّمونهم في كل ما يحتاجون إليه، وكانوا ينفتحون عليهم بشكل لا يشعرون بأي حاجز بينهم وبين الأئمة، حتى أن البعض يقول عن الإمام الصادق(ع) أو الباقر(ع):«آتيه بمنى والناس مجتمعون حوله كأنه معلّم صبيان»، يعني أنه يقعد مع الناس، والناس تأتي إليه، ولا تخاف من أي سؤال، حتى في طريقتهم عند مخاطبته، والإمام الصادق(ع) كان يجلس في البيت الحرام، والناس يطوفون بالكعبة، وهو يستقبل الزنادقة، ليناقشهم في أمور العقيدة، وأمور الإسلام، حتى قال بعضهم:«ما رأيت أحداً يستحق اسم الإنسانية إلا هذا الرجل»؛ وبعضهم الآخر يقول عنه:«ما رأيت شخصاً يتروح ـ عبارة عن روح ـ إذا شاء، ويتجسد إذا شاء غير الإمام الصادق». فكان الصادق(ع) يفتح قلبه لكل الناس. وأنا أعتقد أن هذا هو مسؤولية المرجعية؛ أن تعيش مع الناس، وتفسح لهم في المجال ليسألوها، وأن تعلمهم، وأن تبادرهم، بحيث إذا سألوها، تجيب، وإذا لم يسألوها تبتدئهم، خصوصاً في هذا الظرف، الذي اختلفت فيه التيارات المعادية للإسلام وتطورت، بحيث أصبح ضرورياً أن تنـزل المرجعية إلى الشارع.
القيادة والتقليد:
* هل يمكن فصل القيادة عن التقليد، وهل يتوفر في مرجعيتكم القيادة الميدانية التفعيلية في الواقع الحالي المتأزم؟
- يمكن الفصل بينهما؛ باعتبار أن التقليد يمثل إعطاء الفتوى للناس الذين هم بحاجة إليها، والقيادة تمثل الواقع الحركي الذي يقود فيه القائد الناس في قضاياهم السياسية والاجتماعية، وما إلى ذلك، ولهذا يمكن أن تفصل بين القيادة المتميزة بمواصفات القائد، وبين التقليد.
أما بالنسبة لي، فأنا لا أدّعي شخصية القائد، ولكني منذ ما يقارب الخمسين سنة، وأنا أعيش مع الناس في الواقع، سواء في الجانب السياسي، أو في الجانب الثقافي والفكري والاجتماعي، ولذلك فإنني أحاول أن أتابع كل أحداث العالم التي تتصل بالمسلمين، في كل حدثٍ بمقدار ما نستطيع، لنواجه الموقف بكلّ حركيّة مسؤولة.
دور المعممين:
* أرى العشرات من المعممين، لا يتطرقون إلى السياسة، ولا يهمهم الواقع الحالي، خاصة وأننا نعيش في وضع صعب، فما هو رأيكم في ذلك؟
- نحن نقول:إذا كانوا لا يملكون اختصاصاً في السياسة، فعليهم أن يكونوا في مستوى الاختصاص في الثقافة، لتثقيف الناس، ويجب أن تكون عندهم ثقافة العصر، وثقافة الواقع، وأن يعرف أحدهم كيف يفكر العصر، وكيف يفكر الشباب، وكيف يجيبون على علامات الاستفهام للجيل القادم.
الفكر الإسلامي في العالم:
* نحن لا نكاد نرى مفكرين يكتبون بالإنجليزية أو الفرنسية، أو غيرهما من اللغات، سوى لبعض الكتاب الذين يعدون على الأصابع، مثل محمد أركون، وإدوار سعيد. لماذا لا تتفق سماحتكم مع مجموعة من المترجمين المتخصصين كي يترجموا أفكاركم الإسلامية؟
- الواقع أنّ القضية لا تقتصر على هؤلاء، فهناك الكثير من المفكرين الإسلاميين، كما في مصر وإيران، ترجمت أبحاثهم، كما أن بعض كتبنا أصبحت الآن تترجم إلى اللغة الإنجليزية، واللغة الفرنسية، ونحاول الاستزادة من ذلك.
الكفر والأخلاق الحسنة:
* ماذا تقولون في كافرَيْن أو كتابيَّـيْن يتحلّى أحدهما بمكارم الأخلاق والآخر برذائلها، ولم يكن صاحب الأخلاق ذا عمر طويل، حتى يعوض في الدنيا، فماذا ترون أن يكون على الأرجح في الآخرة؛ هل تشفع الأخلاق الحسنة لصاحبها، أم كلاهما في النار ؟
- يقول تعالى:)فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ((الأنبياء:94)، يعني أنّ الإيمان هو الأساس، ولذلك قرأنا في الحديث المروي عن الرسول(ص) عندما قال لابنة حاتم الطائي:«هذه أخلاق المؤمنين، ولو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه».
تنقية التشيع:
* ما رأيكم في أن يتم تشكيل لجنة من السادة المراجع لتنقية المذهب الشيعي من الشوائب التي علقت به دون قصد على مر الزمان، وتقديمه للناس كما أراده الأئمة(ع)؟
- هناك علماء انطلقوا في هذا المجال، ولكن حاربتهم الغوغاء ولا تزال تحاربهم. وهذه القضيّة تحتاج إلى علماء منفتحين، واثقين، يملكون أصالة العلم، ويناقشون كل ما ورد إلينا، مما فيه الحقائق وفيه الخرافات.
التشريع الدائم:
* هل في الإسلام تشريع؟ وكيف نوفق بين هذا وبين الإقرار بأن النص الديني جاء في بيئة مدته قصيرة حضارياً ومعرفياً؟ بمعنى ألا يمكن فهم الإسلام بأنه حالة وجدانية وأخلاقية فحسب؟
- عندما نؤمن بالإسلام، ونؤمن بأنّه لم يخضع للبيئة، أي أنّ النبيّ (ص) لم يأت، كما يقول البعض، بالإسلام كنتاج لبيئته، فيكون هو الذي صنع القرآن، وهو الذي خطط للشريعة، وأن النبي بشر، تأثر ببيئته التي عاش فيها، وأخذ مفاهيمها وأخلاقها، وما إلى ذلك. كلا، فهذا خلاف خط الإسلام وفكره وعقيدته، وإنما موقف ودور النبي كما قال الله تعالى عن لسان نبيه (ص):«إن أتبع إلاّ ما يوحى إليّ»، يعني هم حاولوا حيث قالوا:)إئت بقرآن غير هذا أو بدّله((يونس:15)، (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي)، فالقرآن هو وحي الله، ووحي الله لا يخضع لحالة اجتماعية، سواء من خلال الفقر، أو من خلال الجهل، وما إلى ذلك.
الشكل والمضمون عند المسلم:
* تطرح إحدى الشخصيات العلمائية أن المسلم الحضاري ـ في هذا العصر ـ يكفي أن يكون فكره إسلامياً وسلوكه إسلامياً، ومظهره حضارياً معاصراً، وليس من الضروري التركيز على الصلاة والصيام.. ما رأيكم بهذا القول؟
- ما هي الحضارة؟ الحضارة، هي حركة السلوك، في قضية انفتاحك على عقيدتك، ومن خلال ما تمتلك من مفاهيم. وإذا استعرضنا مبادئ الإسلام في هذا المجال، نجد أنّنا عندما نؤمن على أساسٍ إسلامي حضاريٍ، نؤمن بالله، وبوحدانية الله سبحانه وتعالى، وهذا يحدّد لنا كيف تكون علاقتنا بالله؛ أن نوحِّده في ربوبيته، وأن نوحده في عبادته، وأن نوحده في طاعته، وأن نتحرك في الحياة على أساسٍ مراقبته لنا في كل أمورنا. الحضارة هي الالتزام بما يؤمن به الإنسان. لذلك نقول:الصلاة والصيام، وسائر العبادات، هي جزء من الحضارية الإسلامية، لأن الجانب الروحي هو الجانب الأساسي في الإسلام. ولذلك، كيف يمكن أن يكون الإنسان إسلامياً فكرياً، وإسلامياً روحياً وحضارياً ولا يصلي ولا يصوم؟ كلا، الصلاة والصيام والحج وما إلى ذلك، هي جزء من المفهوم الحضاري الإسلامي القائم على أساس القاعدة الإيمانية التي تجعل الإنسان حضارياً في علاقته مع ربه، ومن خلال علاقته مع ربه، وفي علاقته بنفسه، وعلاقته بالإنسان الآخر، وعلاقته بالحياة.
الإيمان العفوي:
* في عهد النبي (ص)، كان الإيمان سهلاً وقوياً في القلوب، أمّا في عصرنا هذا، فإن الطابع الغالب الضعف في الإيمان وصعوبة الحفاظ عليه، فما تفسير ذلك؟
- لا أعتقد أنّ الإيمان تعقّد. ربما كان ذلك في بعض الأبحاث الفلسفية، أو بعض الشبهات التي أثيرت، وربما خلقت وضعاً علمياً بحاجة إلى تحليل وإلى مواجهة، ولكن الإيمان لا يزال في بساطته، قال تعالى:)قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ((الإخلاص:1-4)، لذلك نحن نعتبر أن العقيدة التوحيدية الإسلامية الإيمانية ليس فيها أي تعقيد. والإنسان كان يملك البساطة في التصور، ولكن ربما استجدّت حاجات جديدة في الحياة وفي الجوانب التشريعية، والجوانب القانونية والسياسية، وهذه بدورها أوجدت وضعاً علمياً يحتاج الإنسان إلى بحثه، لكن على مستوى التفاصيل، وليس على مستوى حقائق الإيمان.
سنّة الخلفاء الراشدين:
* ما مدى صحة الحديث النبوي:«عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي»؟
- هذا الحديث غير صحيح، وقد فصَّل الإمام علي(ع) هذه المسألة عندما جاءه ـ بعد وفاة عمر بن الخطاب ـ عبد الرحمن بن عوف، على أساس أن (عمر بن الخطاب) جعل الخلافة (شورى)، … ويختار واحداً من هؤلاء الشورى، بحجّة أن رسول الله مات وهو عنهم راضٍ، فجاء (عبد الرحمن بن عوف) إلى الإمام علي(ع)، وقال له:أبايعك أم تبايعني على أساس كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين، قال له الإمام:أما على أساس كتاب الله، فصحيح، وأما على أساس سنة رسوله فصحيح أيضاً، لكن على سيرة الشيخين؟! إنّني أنطلق في ذلك من خلال رأيي، وبحسب ما أفهم أنا من كتاب الله وسنة رسوله. فإذا كان الشيخان سارا على كتاب الله وسنة رسوله، فليس شرطاً جديداً، وإذا كانا لم يسيرا على سنة الله ورسوله، فكيف يمكن أن أتبع سيرتهم المخالفة ـ لو فرضنا كانت مخالفة ـ كلا، أن تبايعني على أساس كتاب الله وسنة رسوله، واجتهاد رأيي، حسب ما أفهم أنا، أما سنة الخلفاء الراشدين، فعلى أيِّ أساس؟ الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نطيعه، ونطيع رسوله، في هذا المقام، كما في قوله تعالى:)وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا((الحشر:7)، )فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ((النساء:59)، ولم يقل:إلى سيرة الشيخين، إلى جانب الله والرسول.
الزواج في الإسلام:
* يؤكد الرسول(ص) وأهل البيت(ع) في أحاديثهم موضوع صفات الزوجة الصالحة، وأن المؤمن يجب أن يتزوج من المرأة ذات المنبت الطيب، مثل:«إياكم وخضراء الدمن»، «عليك بذات الدين تربت يداك»، «اختاروا لنطفكم فإن العرق دساس»، وأحاديث أخرى كثيرة، والسؤال:هل ذكرت كتب السير جواباً لزواج الإمام الحسن(ع) من جعدة بنت الأشعث، وهو يعلم من هي عائلة الأشعث، وما هي غاية هذا الزواج؟
- أولاً:هذه الصفات الواردة في بعض الأحاديث تؤكّد أن لا يقدم الإنسان على الزواج بالمرأة الحسناء في منبت السوء، لمجرد جمالها، بل عليه أن يدرسها، لأنه ربما قد تكون بعض النساء من عائلة سيئة، ولكنها تكون أفضل من عائلتها. إنّ معنى الحديث أن لا تعتبروا الجمال هو الأساس، ولكن اعتبروا الصفات الأخرى الطيبة، سواء التي تنطلق من خلال البيئة التي تربت فيها، إذا كانت بيئة طيبة وتعرف كيف تربي أولادها، أو من خلال جوانب أخرى.
أما زواج الإمام الحسن(ع) بجعدة، فقد تكون بحسب طبيعتها إنساناً جيداً، ولكن معاوية أغراها وخدعها، ألا يوجد عندنا كثير من النساء اللواتي كنّ طيبات، ولكن يأتي من يغريهنّ ويخدعهنّ فينحرفن، وهذا موجود حتى عند الرجال. وعلى كلّ حال، فالإمام أعرفّ منّا بالظروف التي تزوّج فيها بتلك المرأة.
الإسلام بين الشكل والمضمون:
* نرى في البلاد الغربية إسلام من دون مسلمين، وفي البلاد الإسلامية مسلمين من دون إسلام، بماذا نعلل ذلك؟
- نعلل ذلك بالتربية، فالغربيون ـ عموماً ـ لديهم نوع من التربية القانونية والاجتماعية، التي تجعلهم يلتزمون ببعض الأخلاقيات، وبعض السلوكيات، التي قد تلتقي مع القيم الإسلامية، ولكن من دون عمق أو قاعدة، في أصالة القيمة؛ ولذلك فإنّها قد تهتزّ أمام بعض الهزّات أو الطوارئ الداخليّة أو الخارجيّة، بينما نجد أنّ المسلمين ـ عموماً ـ ينطلقون في التزامهم الإسلامي بشكل تقليدي، بحيث إنهم لا ينفتحون على القيم الإسلامية والقيم الروحية، ولذلك يُقال عن بعض المستشرقين إنه عندما جاء إلى البلاد الإسلامية ودرس حالة المسلمين بعد أن كان قد درس الإسلام، قال:الإسلام شيء، والمسلمون شيء آخر. ولذا خاطب الله تعالى بعض الذين ينتسبون إلى الإيمان:)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ((الصف:2-3).
قساوة المسلمين:
* من خلال حديثكم عن الرفق المدعم بالأدلة، نجد أن المسلمين أكثر من غيرهم يحملون القساوة، والغلظة، والتكفير، وفكرة القتل ضد بعضهم البعض، وضدّ غيرهم من البشر، من أين أتت هذه التربية؟ مع أننا نجد أن بني البشر من غير المسلمين أكثر رحمةً ورفقاً، خصوصاً مع بعضهم البعض؟
- لعلّ ذلك ناشئ من خلال التربية القائمة على العصبيات، والقائمة على تكفير المسلمين بعضهم لبعض، والقائمة على اعتبار القسوة والغلظة هما الأسلوب الأمثل والأسرع في التربية والتنشئة.
دور المرجعية في العالم الإسلامي
* كيف تقرأ دور المرجعية الدينية في الواقع الإسلامي، مع تداعيات الواقع السياسي والثقافي في جميع بلدان العالم؟
- عندما ندرس المرجعية الدينية والإسلامية، فهناك صفتان للمرجعية:تارةً تكون المرجعية مرجعيةً فتوائية، بحيث يكون دور المرجع هو دور المفتي الذي يملك علم الفقه، ويستطيع أن يفتي للناس بما يتصل بمسؤولياتهم الشرعية، في ما أنزله الله؛ في ما حرمه، أو استحبّه، أو أباحه، أو كرهه، وما إلى ذلك، فهذا يكون مرجعاً في الفتيا، لا علاقة له بكل واقع العالم. وتارة تكون المرجعية شاملة، بحيث يكون المرجع مرجعاً إسلامياً، ويتمثل الناس مرجعيته أن يرجعوا إليه في كل قضاياهم، سواءٌ في القضايا الفتوائية، أو في القضايا السياسية، لأنَّ العالم الإسلامي الآن يعيش الزلازل والاهتزازات والتعقيدات، والناس تريد أن تعرف ما هو تكليفها؟ وما هي المسؤوليات في السير مع هذا المحور الدولي، أو مع ذاك المحور الإقليمي؟ مع قضايا الاحتلال، أو قضايا المقاومة؟ فهذا العالم يتحرك في هذا العصر في إثارة الكثير من علامات الاستفهام حول الإسلام، حيث تطرح شبهات حول الإسلام، كما يحدث الآن في أمريكا وفي أوروبا، وغيرهما، من أن الإسلام يشجّع الإرهاب وغير ذلك؟ ما هي نظرة الإسلام في الديمقراطية؟ ما هي نظرة الإسلام الاقتصادية؟ ونظرته إلى القضايا الاجتماعية؟ لذلك نحن نقول:إن الرجوع إلى المرجعية هو أن نرجع حسب ما كان يرجع فيه الناس إلى النبي(ص) والأئمة(ع)، حيث كانوا يجيبون عن أي سؤال، كانوا يجلسون مع الناس، يجيبون الصغير والكبير عن أسئلتهم، وإذا لم يسألهم الناس، بدأوهم.
لذلك نحن نعتقد أنّ المرجعية الإسلامية إذا أريد لها أن تكون مرجعية شمولية، فلا بد لها أن تملك الثقافة العامة التي تستطيع أن تجيب الأجيال الإسلامية عن علامات الاستفهام، سواءٌ كانت سياسية أو اجتماعية أو أمنية وما إلى ذلك.
من مقالات ابن سينا:
* قرأت في كتاب لابن سينا كلمتين، وبقي مضمونهما غامضاً عليّ، نرجو منكم توضيح الكلمتين، وهما:الكلمة الأولى:«من تعوّد أن يصدّق بغير دليل، فقد انخلع عن الفطرة الإنسانية»، الثانية هي:«كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان، ما لم يذدك عنه قائم البرهان»؟
- الكلمة الأولى:تعني أن على الإنسان أن لا يؤمن بشيء، ولا يصدّق بشيء إلا إذا قام الدليل عنده، وقامت الحجة عنده على صدقه، وعلى كونه يلتقي مع الحقيقة، وإلا ابتعد عن الفطرة الإنسانية؛ لأن الفطرة الإنسانية تقول له:لا تؤمن إلا ببرهان وحجة، أي إلا إذا قام عندك البرهان، وقامت عندك الحجة على هذا أو ذاك.
أما الكلمة الثانية، فتعني أن لا ترفض كل شيءٍ تسمعه، وأن لا تصدّق كل شيءٍ تسمعه، ما دام ممكناً في ذاته ولم يثبت عندك أنه مستحيل. فمثلاً، لو قال لك شخص يوجد هناك جنّ، فقل:يمكن ذلك، أو ملائكة، فقل:يمكن، أو أنّ فلاناً صعد إلى القمر، وفلاناً صعد إلى المريخ، وفلان صعد إلى الزهرة، فقل:يمكن. نعم، هناك فرق بين الممكن وبين الواقع، هل إنه حصل هذا الشيء أو لا، فهذا يحتاج إلى دليل. فنحن لا نحكم باستحالة شيٍ أو بطلانه، إلا إذا قام البرهان على استحالته أو بطلانه، كما لا نحكم بصحة شيءٍ، إلا إذا قام الدليل على صحته.
المرأة في نهج البلاغة:
* كيف يمكن لنا أن نردّ على المعترضين على ما هو موجود في نهج البلاغة من كلام له(ع) مما يشعِر بشيءٍ من الذم للمرأة والتقليل من قدرها؟
- الواقع أن هناك مسألة مهمة، وهي:أن العلماء لا يعتبرون أن كل ما جاء في (نهج البلاغة) موثوق من حيث الصدور عن الإمام(ع). ولذا كتب كثير من العلماء في مصادر نهج البلاغة، فأرجعوا ما في نهج البلاغة إلى مصادره، كما درسوا ما فيه من المضامين، وربما طرحوا بعض الكلمات. ومن ذلك، مثلاً، كلمة:"المرأة شرّ كلها وشر ما فيها أنه لابد منها"؛ فهي لا تتناسب مع العقيدة الإسلامية؛ لأنّ المرأة ليست شراً كلها، وإلا فكيف يعاقبها الله تعالى؟! المرأة قد يصدر منها الخير، وقد يصدر منها الشر، كما أن الرجل قد يصدر منه الخير، وقد يصدر منه الشر.
وإذا كان البعض يقول:المرأة شر كلها، بمعنى أنها هي التي تثير الشهوات، فكذلك الرجل، ويمكن أن تكون أغلب النساء ممن يعمل الرجال على تضليلهن، هذا أوّلاً. وثانياً، ما هو معنى:(وشر ما فيها أنه لابد منها)، فهل معناه أنّ الشيء إذا كان ضرورة، فشرّه أنّه لا بدّ منه، فالعالم لا بد منه، وشر ما فيه أنه لابد منه، أو شر ما في القادة أنهم لابد منهم. هذا كلام لا يليق أن يصدر من الإمام(ع). وقد عثرنا على هذه الكلمة من بين كلمات (للمأمون) جاءت بطريقة أخرى، وقد نقلها صاحب (بهجة المجالس):(النساء شرار كلهن وشر ما فيهن أنه لابد منهن).
ولكننا لا نقول إن نهج البلاغة ـ كما يقول البعض ـ مما وضعه الشريف الرضي! في حين أن كثيراً من خطب نهج البلاغة موجود قبل أن يولد الشريف الرضي. ولذلك فإن نهج البلاغة اشتمل على مجموعة كبيرة من كلمات الإمام، ولكن لا يعتبر كل كلمة فيه حجة شرعية.
تأثير الأبوين على الولد
* ما هو تأثير أخلاق الأبوين على أخلاق الطفل وراثياً وتربوياً؟ ومن أين نشأ الاعتقاد العام لدى المجتمع بأن من ولد من أسرة طيبة يلزم أن يكون طيباً والعكس صحيح، بينما نرى أن هناك أخوة من أب واحد وأمّ واحدة تختلف أخلاقياتهم من النقيض إلى النقيض؟
- من الطبيعي أن يكون هناك نوع من التأثير، سواء كان من خلال قانون الوراثة، حيث يحمل الأولاد بعض الصفات النفسية إلى جانب الصفات العضوية من آبائهم أو أمّهاتهم، أو كان من خلال التربية التي لها دور كبير. ولكن، ليس معنى ذلك أنها تؤثر بنسبة 100%، بل بمعنى أنها تهيّئ الولد في مراحل نموه الأولى، أو ما بعد ذلك، للانفتاح على هذه الأخلاق بطريقة أو بأخرى، ولكن يبقى للبيئة والمجتمع والتربية التوجيهية هنا وهناك، والمدرسة والرفاق وما إلى ذلك، دورها في تشكيل شخصية الولد. وقد ورد في الحديث:«كل مولود يولد على الفطرة، إلا أن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» وخلاصة الفكرة، أنّ الإنسان كائن متحرّك في المؤثّرات التي تؤثّر في تكوينه في مرحلة الطفولة، لتمتدّ في الأجواء المتنوّعة في المراحل الأخرى، مما يتحوّل فيه الطيّب إلى خبيث، في التأثيرات السلبيّة، أو يتحوّل الخبيث إلى طيّب في التأثيرات الإيجابيّة، في البيت أو في المدرسة، أو في وسائل الإعلام الخيّرة أو الشرّيرة، أو في البيئة السليمة أو السقيمة.
تنظيم الأسرة والنسل:
* لماذا يعارض الإسلام مسألة تنظيم الأسرة؟ وإذا كان الرجل لا يستطيع إلا أن يربّي ولدين من ناحية تأمين المعيشة والعلم، أليس من المحرّم إنجاب ستة أو ثمانية أولاد، وتعيش العائلة بأكملها العوز والحرمان؟
- القول إنّ الإسلام ضدّ تنظيم الأسرة هو قول غير صحيح. نعم، الإسلام ضدّ الروحيّة التي يعيشها الإنسان أمام خوف الفقر؛ لأنّ الله يريد للإنسان أن يشعر بأنّ الله الذي خلقه تكفّل برزقه ورزق أولاده، وإن كان ذلك ضمن الوسائل الطبيعيّة التي أوجدها الله سبحانه في الكون. قال تعالى:)ولا تَقْتُلوا أوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرزُقُكُمْ وَإِيّاكُم((الإسراء:31)، والله سبحانه يقول أيضاً:)ومَنْ يتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب((الطلاق:2-3). فالمسألة هي أن لا يكون تقليله للنسل منطلقاً من عدم الثقة بالله. ونحن نرى بعض من اكتفى بإنجاب ولدين مثلاً، يعيش في ضيق، بينما من زاد عدد أولاده يعيش الاكتفاء، إن لم نقل إنّه يعيش مرفّهاً، والله سبحانه ينزل المعونة على قدر المؤونة، وهي مرتبطة بالثقة بالله، وبجهد الإنسان الذي يوفّر لنفسه الفرص التي من خلالها يستطيع الحصول على ما يكفي به نفسه وعائلته.
وبالنسبة لتحديد النسل، فإن الإسلام لا يعارض ذلك، بشرط عدم الإضرار بالجسد. والمحرّم في هذه المسألة هو الإجهاض، من أوّل يوم تنعقد فيه نطفة الجنين. والوسائل المسموح بها شرعاً كثيرة، منها ما يكون ضارّاً ومنها ما ليس كذلك، وهو يختلف باختلاف الأشخاص والحالات.
موقع الشهداء:
* ورد في الحديث عن النبي الأكرم(ص) بما يخص الشهداء، أن الله يغفر للشهيد كل ذنوبه إلا حقوق العباد، والسؤال:إذا لم يؤد الشهيد العبادات من صلاة وصيام وفروض، فهل يحاسب عليها أم لا؟ وإذا كان يحاسب فما هي آلية الحساب؟ وأين هو المكان الذي يمارس فيه ما عليه من عبادات؟
- إذا دل الدليل بأن الشهيد يغفر له كل ذنوبه بما فيها العبادات إلا حقوق الناس، فإننا نأخذ به. ولذلك، إذا فرضنا أنه كان للناس على الشهيد حقوق مالية أو حقوق معنوية، فهذا حق الناس، والله لا يتدخل فيه بالعفو عنه بشكل مباشر ذاتيّ، وغداً سيحاسب الشهيد ويحاسب كل إنسان على ما في ذمته من حقوق الناس المادية والمعنوية، ولكن الله برحمته ومغفرته يمكن أن يتدخل بطريقة أخرى، فيعطي أصحاب الحقوق عوضاً عن حقوقهم، وهذا ما نقرأه في دعاء يوم الاثنين.. «اللهم وأيما عبد من عبيدك، أو أمة من إمائك، كانت له قبلي مظلمة ظلمتها إياه في نفسه أو في عرضه أو في ماله أو في أهله وولده، أو غيبة اغتبته بها، أو تحامل عليه بميل أو هوى، أو أنفة أو حمية أو رياء أو عصبية، غائباً كان أو شاهداً، وحياً كان أو ميتاً، فقصرت يدي وضاق وسعي عن ردها إليه والتحلل منه، فأسألك يا من يملك الحاجات وهي مستجيبة لمشيئته، ومسرعة إلى إرادته، أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن ترضيه عني بما شئت، وتهب لي من عندك رحمة، إنه لا تنقصك المغفرة ولا تضرّك الموهبة يا أرحم الراحمين».. إذ يمكن للإنسان أن يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعطي أصحاب الحقوق ما يعوِّضهم عن حقوقهم ليسامحوه. مع ملاحظة مهمّة، وهي أنّ الإنسان لا يكلّف بقضاء ما عليه من عبادات ومسؤوليّات في الآخرة، مما أهمله في الدنيا.
مسؤولية الإنسان الشاملة:
* يقول الإمام علي(ع) إنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، كيف يمكن أن يكون الإنسان مسؤولاً أمام الحيوانات وأمام الأرض؟
- أما المسؤوليّة أمام الحيوانات، فإنه قد يعني عدم الإساءة إليها، إذ لا يجوز لنا أن نعذب الحيوانات. فالله أباح لنا ذبح الحيوانات لمصلحة معيّنة، ولكنّه طلب حدّ السكين وراهافها جيداً وإراحة الذبيحة بذلك، حتى لا تتعذّب، ومع ذلك لا يجوز له أن يحرق الحيوان، أو أن يعذّبه بشتى ألوان العذاب. فالمسؤوليّة عن الحيوان هي بأن لا يسيء إليه الإنسان في تعذيبه.
أمّا البقاع، فقد تكون ـ من جهة ـ باستصلاحها وإعمارها وعدم تركها للخراب، وقد تكون ـ من جهة أخرى ـ بالمحافظة عليها من العدوان والاحتلال، حتى تبقى حرّة.
البخل أخطر من الجُبن:
* ما معنى قول الإمام علي(ع) «البخل عار، والجبن منقصة»؟ وهل يعني ذلك أن البخل أكثر خطورةً من الجبن؟
- البخل عار؛ لأن القيمة الإنسانية هي العطاء، وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى:)وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ((محمد:38)، )وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ((الحشر:9). فالبخل هو ضد القيمة، وورد في قوله تعالى:)وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ((النور:33)، )وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ((الحديد:7). والجبن منقصة، لأنه ضد الشجاعة، ولا إشكال بأن الشجاعة كمال، حيث إنها تدل على قوة الإرادة، وقوة النفس، وقوة الموقف، ولا يعني ذلك أن البخل أكثر خطورةً من الجبن، لأن المنقصة عار أيضاً، كما أنّ العار منقصة أيضاً. ولعلّ التنوّع في التعبير بين الصفتين، يكمن في أنّ الملحوظ في الأولى هو تأثيرها في نظرة الناس إلى صاحبها، أمّا في الثانية، فالملحوظ فيها هو طبيعة السلبيّة في معناها، أي في معنى الذات.
النفس المطمئنّة:
* إن النفس لأمّارة بالسوء، فكيف تكون نفساً مطمئنة؟
- ربّما كان ذلك من خلال النفس اللوامة، قال تعالى:)وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ((القيامة:2)، يعني التي تلوم صاحبها، وتحاسبه، وتنبهه إلى السلبيات التي يمكن أن تكون في داخل ذاته. هي النفس التي تستعمل اللوم للإنسان من أجل أن تصلح أمره، فيحصل بدل القلق على الطمأنينة، وبدل الانحراف على الاستقامة.
محفّزات محاسبة النفس:
* مبدأ محاسبة النفس هو مبدأ إنساني راق جداً، فهو ليس إسلامياً، إنما ـ وكما ذكرتم - هو للإنسانية جمعاء، لما فيه من نتائج عملية سليمة، والسؤال:نرى الإنسان دائماً يتهرّب من هذه الجلسة الإنسانية مع نفسه، فما هي الأمور التي تشد الإنسان إلى هذه العملية الرائعة.
- أولاً:كل إنسان يجب أن تبلغ نفسه الدرجات الرفيعة في عالم الكمال، وهذا شيء إنساني وذاتي، ولذا نجد أنّ الناس ينطلقون ـ مثلاً ـ في التعلّم إلى درجات عالية، وينطلقون في كثير من المواقف، ليحصلوا على الكسب والربح؛ لأن الإنسان لا يقبل لنفسه أن يبقى في الدرجات السُفلى، بل طموحه أن يرتفع للدرجات العليا.
ثانياً:إن المسألة تتصل بمصير الإنسان عند الله تعالى، ورضوان الله تعالى عليه، والحصول على النعيم في الآخرة، وهذا، لا إشكال بأنه ينطلق من محاسبة النفس التي هي وسيلة لإصلاحها.
تفسير «في حلالكم حساب»:
* ما المقصود بقول النبي الأكرم (ص)«في حلالكم حساب، وفي حرامكم عقاب، وفي الشبهات عتاب»؟
- أي أنّ الحلال فيه حساب؛ لأنه قد تحدث هناك بعض التعقيدات الموجودة في الحلال. والحلال يشمل الواجبات، والمستحبات، والمباحات. أمّا العقاب في الحرام، فلأنه يمثل المعصية التي يعاقب الإنسان عليها. «وفي الشبهات عتاب»؛ لأن الشبهات فيها بعض الأمور التي تنفتح على الحرام، ولذا ورد في الحديث:«الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة».
حلّ خلاف زوجي:
* زوجتي ذهبت إلى أهلها، لخلاف بسيط وداخلي، واتصلت بها عدة مرات، فدعتني لنحلّ الخلاف عند والدتي، ولكن رأيي كان أن نحلّ الخلاف في بيت الحياة الزوجية، بحيث لا يطّلع أحدٌ على خلافاتنا، فما رأيكم في ذلك؟
- المفروض على زوجتك أن تقبل منك ذلك؛ لأن أسرار الحياة الزوجية ينبغي ألاّ يطلّع عليها أحد، ولكن إذا كانت هي في موقع عناد، فعليك أن تحاول إقناعها بواسطة بعض الأصدقاء المشتركين بينكما، بالحكمة والموعظة الحسنة.
هل كلّ فعل النبيّ سنّة؟
* نجد من خلال السيرة النبوية (الشريفة)، أن تصرفات النبي (ص) ليست كلها من نوع التشريع، بل هو في كثير من الأحيان يتصرف من حيث هو بشر من الناس يفكر ويدّبر كما يفكر غيره، فهل نحن ملزمون باتباعه في مثل هذه التصرفات؟
- السُنة هي قول المعصوم وفعله وتقريره. والقول قد يكون وجوباً، وقد يكون تحريماً، وقد يكون استحباباً، وقد يكون كراهة، وقد يكون إباحة، فنتبع كل ما قاله بحسب ما يدل عليه قوله. أمّا فعله، فتارة يكون المعصوم في مقام التعليم. فهذا يعني أنّه يريد أن يبيّن التشريع من خلال عمله، يعني انظروا إليّ ماذا أعمل أنا فاتبعوني في ذلك، وظاهر ذلك أنّه تشريع إلزامي، كما هو في ما نأخذه من أفعال الحج وما إلى ذلك. أمّا التقرير، فهو أن يرى (ص) شيئاً ويسكت عنه، ويقرر فعله، وهذا يدلّ على أنّه ليس بحرام، وقد يُستدلّ به أحياناً على الوجوب أو الحرمة بحسب القرائن المحيطة. وهذا أيضاً من السنة. وفعل النبي(ص) ـ كما يقول الأصوليون ـ أعم من أن يكون إلزاماً، كما أن تركه أعم من أن يكون انتهاءً. والفعل غاية ما يدل عليه كون الشيء مباحاً؛ لأنه لو كان محرماً لما فعله النبي(ص). الترك أيضاً يدل على أن الترك مباح أيضاً. فبالنسبة إلى فعل النبي(ص)، حتى من خلال بشريته، نفرض أنه كان ينام عند التعب، وكان يعجبه أن يأكل هذا الشيء، أو يأكل ذاك الشيء، ولا يعجبه أن يأكل من هذا الشيء أو ذاك، ليس معناه أن الذي كان يأكله النبي مستحب أكله، أو أنّ ما كان يعزف عنه النبي نقول إنه حرام أكله. كلا؛ نحن نقول إن النبي بشر، والبشر قد يعجبه شيءٌ من الطعام وقد لا يعجبه شيء آخر منه، قد يعجبه أن ينام في أول الليل، وقد يعجبه أن ينام في نصف الليل مثلاً. وهكذا، هذه الأمور التي تتعلق بالبشرية. كل ما نستفيد منه أنّ هذا أمر جائز، ولكننا لا نستطيع أن نقول:إن هذا واجب أو إن هذا حرام، أو إن هذا مستحب، أو إن هذا مكروه، أو ما أشبه ذلك. والله سبحانه وتعالى أرادنا أن نتّبع النبيّ(ص) في ما يبيّنه من الأمور الشرعيّة، أمّا ما يتّصل بالشؤون البشريّة التي يمارسها النبيّ من موقع بشريّته، فيبقى خاضعاً للإباحة العامّة، وليس من السنّة الشرعيّة، والله العالم.
الخط الفاصل بين الإصلاح والفتنة:
* ما هي الخطوط الفاصلة بين النهضة أو الإصلاح وبين الفتنة؟ كيف نميز أن هذا الموقف أو ذاك هو موقف ثوري إصلاحي وليس فتنة وخروجاً عن الجماعة؟
- لا بدّ من دراسة المضمون في الدرجة الأولى، إضافةً إلى الأسلوب، مقارناً بالواقع الموضوعي والظروف المحيطة بالحركة، والنتائج المترتّبة على ذلك كلّه. فتارة تكون الفكرة منسجمة مع ما قاله الله تعالى، ومع ما قاله الرسول(ص)، ومع ما يبعث على قوة المجتمع وسلامته وما إلى ذلك، ورفع مستواه، فهذا إصلاح. أما الفتنة، فهي عبارة عمّا يمزّق المجتمع، وما يحطُّ من مستواه، وما يؤدّي إلى التنازع، وإلى التقاتل، وما إلى ذلك، وقد قيل في تفسير الفتنة أنها:إما الموقف الذي لا يعرف فيه الحق من الباطل، أو الموقف الذي تنطلق فيه فئتان من الباطل.
أين الثقافة الإسلاميّة من التنمية؟
* ذكرتم في ندوة الثلاثاء (التي تقام في بيروت):أن التنمية في بلادنا تتطلّب ثقافة إسلامية للإنسان. لكن التنمية والتقدم حدث في بلدان غير إسلامية، أي بدون ثقافة إسلامية. فماذا تقولون؟
- ليس مقصودنا من الثقافة الإسلامية، الصلاة والصوم والحج... وإنما مقصودنا من الثقافة الإسلامية هو الأخذ بالأسس التي تصلح الإنسان وتجعله ينمي ما أعطاه الله سبحانه وتعالى من الثروات، في أن لا يهدرها، أن لا يسرف فيها، أن لا يعمل على تسخيرها في ما يضرّه، أو في ما يقتل الثروات الحية، وهذه مسألة يشترك فيها الإسلام وكلُّ الحضارات التي تنطلق من أساس الخير للإنسان.
أسس المنبر الحسيني:
* أريد أن أكون خطيباً لقراءة المجالس الحسينية، فبماذا تنصحونني كخطيب جديد؟ وإذا كانت زوجتي معارضة لذلك فبماذا تنصحونها؟.
- الخطابة الجيدة تكون، أولاً:بأن تكون مثقفاً بالإسلام، وثانياً:بأن تملك الثقافة الأدبية الجيدة، سواء في فهم الشعر الذي تقرأه، أو الأسلوب الذي تتحرك فيه مع الناس، وثالثاً بأن تكون أيضاً خبيراً بحقائق الثورة الحسينية، حتى لا تنقل للناس الخرافات التي ينقلها الكثير من قرّاء التعزية، والذين يعملون على تجهيل الناس لا على توعيتهم. ونقول لزوجتك ـ إذا كانت معارضة لذلك ـ:إذا كان زوجُكِ يملك المعطيات التي يمكن أن تجعل منه خطيباً ناجحاً يهدي إلى الله، فعليك أن لا تمنعيه من ذلك.
المقصود بـ(انتظار الفرج):
* ورد عن الرسول الأكرم (ص):«إن أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج». فماذا يترتب على هذا الانتظار من ثبات وأعمال؟ وما هو توجيهكم لهذه العبادة؟
- إذا كان الحديث صحيحاً، فالمقصود ب(انتظار الفرج) الإعداد، بمعنى أنّ على الإنسان أن يعدَّ نفسه ليكون من الأشخاص الذين يتحرّكون في هذا الخط، بحيث يهيئ نفسه ويعدها لذلك.
معنى (الحسين مصباح الهدى):
* ما معنى الحديث:«الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة»؟
- أمّا أنّ الحسين(ع) مصباح الهدى، فباعتبار أنه يضيء للناس بعلمه وبتضحيته وحركته طريق الهداية، فإذا أخذ الناس بما ينطلق به الإمام الحسين(ع) من كل ما يملكه من عمل الإمامة، وعلم الواقع، فإن الناس يهتدون به. وأمّا أنّه سفينة النجاة، فهو كناية عن أن الذي يركب سفينة الحسين(ع)، فإنه ينجو من الضلالة. وهذا ما نستوحيه أيضاً من الحديث النبوي الشريف:«مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق وهوى».
العمل في التبليغ الإسلامي:
* كيف نجمع بين المهنة والدعوة إلى الإسلام؟
- ليس هناك منافاة بينهما، فقد كان المسلمون يعملون في الزراعة وفي غير الزراعة، وكانوا ينطلقون للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، لأن الإنسان مهما كان لديه من الأشغال والمسؤوليات المادية، فإنه قادر على أن يفرّغ نفسه للدعوة إلى الله وللتبليغ، ونحن نعرف أن المسلمين الذين كانوا يهاجرون إلى بلدان العالم من أجل الرزق، كانوا يقومون بمهمة الدعوة والتبليغ في الناس، ولذلك يقولون إن الإسلام قد انتشر من خلال العمال المسلمين والتجار المسلمين، إضافة إلى العلماء المسلمين.
العاطفة والعقل:
* تقولون بضرورة الموازنة بين العاطفة والعقل عند دراستنا لحياة أهل البيت(ع)، فكيف نحقّق ذلك؟
- علينا أن نحقِّق ذلك، وأن نعرف أنّ أهل البيت(ع) هم النموذج الأكمل الذي يمثل العاطفة المتوازنة، كما يمثل العقل المنفتح، ولذلك ليس هناك إثنينية في شخصية أهل البيت، لأن الإنسان، سواء كان معصوماً أو غير معصوم، ليس متعدد الشخصية، بحيث يكون عنده شخصية عاطفية، وشخصية عقلية! لا، لأن الإنسان يمثِّل وحدة، فالعقل يزاوج العاطفة، والعاطفة تزاوج العقل، ونحن عندما ندرس أهل البيت(ع) في محبتنا لهم وإخلاصنا لهم، وتقديسنا لمقامهم، علينا أن نعمل على أساس أن لا ننفتح بعاطفتنا، بحيث نبتعد عن تراث أهل البيت(ع)، وعن منهجهم، وعن فكرهم، بل لابد أن نعيش معهم بالعقل من خلال ما تركوه لنا، وبالقلب من خلال ما ننفتح عليهم بالمحبة.
الكتابة وصفة الكمال:
* أليس معرفة بعض أصحاب النبي(ص) القراءة والكتابة وعدم معرفته فيها نقص، لأن هذا يدل على ثقافة يعرفها الصحابة ولا يعرفها النبي(ص)؟
- إن عدم معرفة النبي للكتابة والقراءة هو قمة الكمال، إذ لماذا القراءة والكتابة؟ لأجل المعرفة، لأن من لا يقرأ ولا يكتب، يفقد المعرفة ويعيش الجهل، ولكن النبي (ص) جاء بما عجز عنه أهل المعرفة في ما اشتمل عليه القرآن من الوحي المتنوع في كل خطوطه ومفرداته وفي جميع الجوانب. لذلك يؤكّد الله في الآية التي أنزلها على رسوله، أننا جعلناك لا تقرأ ولا تكتب حتى لا يرتاب المبطلون فيقولون إن ما قدمته من المعرفة الواسعة هو نتيجة حالة بشرية في القراءة والكتابة )وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ((العنكبوت:48)، لأنّه كان يمكنهم أن يقولوا إنّك لست رسولاً من الله، بل أنت كبقية المثقفين الذين قرأوا وكتبوا وقدموا لنا ما قرأوا وما كتبوا. إن الصحابة الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة، كانوا بحاجة إلى أن يتعلموا من النبي (ص)، حتى إن علياً(ع) الذي كان يكتب في بعض الحالات للنبي(ص)، قال:«علّمني رسول الله ألف باب من العلم فتح لي من كل باب ألف باب»، وقال عنه رسول الله(ص):«أنا مدينة العلم وعليٌ بابها، فمن أراد المدينة فليدخل من الباب»، ولذلك فهو الأعظم حتى لو لم يقرأ ولم يكتب.
الطريق إلى الجنة:
* سمعت كثيراً من الخطباء الكرام يرددون الحديث المبارك:«الجنة تحت أقدام الأمهات» فعلام يدلّ؟
- هذا ـ على تقدير صحّته ـ دليل على أن الأم في تضحيتها أو في ما تعانيه بحملها وولادتها وإرضاعها وحضانتها وما إلى ذلك، فإن اللّه يقدِّر لها هذه التضحية، بحيث يدخلها الجنة جزاء ذلك كله.
البر بالوالدين:
* ما مدى صحة القول:إن الفاسق، شارب الخمر، غير المصلي، البار بوالديه يدخل الجنة، ورجل آخر يصلّي ويصوم ويؤدي الفرائض، ولكنه غير بار بوالديه، فإنه يدخل النار؟
- هذا وارد في مقام المبالغة في أن عقوق الوالدين من الكبائر، وأن البر بالوالدين أمر يحبه اللّه تعالى. أما الإنسان الذي يشرب الخمر، ويعمل كل الكبائر، وبار بوالديه، ويدخل الجنة، فهذا وارد في مقام المبالغة، وليس مقصوداً حرفياً، إنما هو بيان أنه قد يدخل الجنة من هذه الجهة، ولكنه تمرد على اللّه من جهة أخرى.
الشباب والدين:
* من خلال خبرتكم وتجربتكم الدعوية والاحتكاك بالمجتمع طيلة السنين الطويلة، في رأيكم، كيف تلّخصون أسباب ابتعاد الشباب عن الدين؟
- من خلال ما واجهته في التجربة منذ خمسين سنة تقريباً، ألاحظ أولاً أن الشباب غـالباً لا يعيشون في الواقع الإسلامي، بسبب أنه ليس هناك شخصيات تعمل للدعوة الإسلامية وتملك الوعي والخبرة الإسلامية والثقافة، وتملك ـ إلى جانب ذلك ـ فهم عقول الشباب وفهم الواقع. فلا يكفي لكي تكون داعية لله أن تقرأ كتاباً، بل لا بد لك من أن تقرأ الواقع، وأن تقرأ الناس، أن تقرأ عصرك، أن تعرف كيف تنفذ إلى عقول الناس. وقد ورد عن النبي(ص) قوله:«إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم». فلا بد من أن تفهم عقلهم حتى تعرف كيف تخاطبهم، وأن تفهم نقاط القوّة والضعف عندهم، وتفهم تطلعاتهم، وحاجاتهم النفسية، وتحاول أن تصوغ أسلوبك من خلال ذلك. ونحن نفهم ذلك من قوله تعالى:)ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة((النحل:125)؛ فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه، ولا يُعرف ذلك إلا إذا عرفنا مواضع الأشياء، كما يقول علماء البلاغة، من أنّ بلاغة الكلام مطابقته لمقتضى الحال ومطابقته للواقع، ولكن ربما يعيش كثير من الناس الذين يقومون بالوعظ والإرشاد والتبليغ في عالم آخر، بحيث يقرأ كتباً مؤلفة من مئة سنة، ولا يعرف الواقع ولا يعرف كيف يفكر الشباب، هذا أولاً.
وثانياً:طبيعة المغريات التي تواجه الشباب، والمشاكل التي يعيشونها، والتحديات العامة التي تفرض نفسها على واقعهم في كل زمان ومكان.
مفهوم الحق:
* الحق في المعيار الإسلامي هو القرآن واتباع علي وأهل بيته(ع)، ولكن كيف يكون التعامل مع لفظ الحق في المفاهيم الأخرى عند بقية الثقافات، حيث لا يمكن الوصول معهم إلى تفاهم حضاري، إذ إنهم لو اتفقوا معنا لكانوا مسلمين؟
- كلمة الحق مفهوم عام، لكن علينا أن نعرف ماذا في داخله، فالحق في العقيدة يعني أنّه لا بد لنا من أن تكون عندنا ثقافة العقيدة، من خلال الحجج التي نحتج بها، والبراهين التي نبرهن بها. وهكذا في قضايا السياسة، وقضايا الاجتماع، وقضايا الواقع كلها، حتى ندخل في حوار مع الآخرين فنقنعهم، ونبرز لهم وجهة نظرنا، ويبرزون لنا وجهة نظرهم، ونتكلم في هذا المقام، وإلا فكلمة الحق مفهوم واسع، لا بد لنا من أن نعرف خطوطه الفكرية وخطوطه السياسية والاجتماعية في الثقافة والواقع، وما إلى ذلك.
الخطاب الإسلامي:
* هناك ارتباك في الخطاب السياسي اليوم، بسبب التناقض بين العمل الإرهابي أو التكفيري وبين النظرية الإسلامية الحقة. كيف يمكن أن نؤصِّل خطابنا الإسلامي والعمل الإسلامي في ظل هذه التحديات؟
- هذه المشكلة هي إهدي التحديات التي تواجه الإسلام من خلال أعداء الإسلام الذين يشوهون صورته. فيما يتعلق بمسألة الإرهاب وقضية العنف، علينا أن ننطلق لندرس الإسلام في كتاب الله وسنّة رسوله، من أجل أن نعرّف الناس كلهم، أن الإسلام لا يؤمن بالعنف، بل يؤمن بالرفق، وأن العنف إنما هو في مواجهة الذين يفرضون العنف على الإسلام، على أساس قوله تعالى:)وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ((البقرة:190)، وقد ورد في حديث النبي(ص):«إن الرفق ما وضع على شيء إلا زانه، وما رفع عن شيء إلا شانه، وإن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف». ولذلك، فإن قضية اتهام الإسلام بالإرهاب، هي مسألة سياسية تدخل في صراعنا مع الاستكبار العالمي، الذي يحاول أن يستغل ما يقوم به بعض المسلمين من أعمال تثير الجدل هنا وهناك، أو من أعمال تنطلق من خلال عدم فهم للإسلام، يحاولون أن يوظفوها للسيطرة على العالم الإسلامي.
ونحن نقول لهم، إذا كنتم تتحدثون عن المسلمين الذين يقومون ببعض الأعمال الإرهابية، أو بعض أعمال العنف، لتتهموا الإسلام بذلك، فما بالكم فيما تقومون به أنتم الغربيون. نحن نعرف أن هناك إحصاءات للجريمة في الغرب ليست موجودة في البلاد الإسلامية. ثم إنّ اليابانيين، ومعهم العالم، يحتفلون اليوم بذكرى جريمتي هيروشيما وناكازاكي اللّتين اقترفهما الجيش الأمريكي بحق المدنيين اليابانيين، ألا يُعدّ هذا الشيء إرهاباً؟! ألا يعتبر إرهاباً ما يقوم به الآن الأمريكيون في العراق، وفي أفغانستان، وفي كثير من البلدان التي يتحركون فيها مع الأنظمة التي تضطهد شعوبها؟!
لذلك، علينا أن نبين لهم أن الإسلام ليس كذلك، وأن نناقشهم، بأن نقول لهم:إذا كنتم تحكمون على الإسلام بالإرهاب، فنحن نحكم عليكم أيضاً بالإرهاب، وإلا كيف تفسرون الاستعمار للبلاد الإسلامية وما تقومون به أيضاً في هذه البلدان؟ وكيف تفسرون المافيات التي كانت موجودة في أوروبا وفي أمريكا؟
علينا أن لا نسقط أمام الاتهامات، بل علينا أن نعترف بأخطائنا، وندين الذين يبتعدون عن الخط الإسلامي الأصيل وقد يسيئون إلى صورة الإسلام. وعلينا أن نؤصل مفاهيمنا الإسلامية والعمل الإسلامي ونستمر في العمل في هذا الاتجاه.
في زمن النبي (ص)، كانت هناك تحديات، ولكن من نوع آخر تنسجم مع الزمن الذي كان النبي يعيش فيه، عندما قالوا عنه إنه ساحر، إنه كاهن، إنه كاذب، وهو الصادق الأمين:)قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً((الفرقان:5)، )إنما يعلِّمه بشر((النحل:103)، وأخيراً قالوا إنه مجنون واتهموه بعقله، حتى إن أبا لهب، كما تقول السيرة، كان يمشي وراء النبي(ص) وهو يقول:لا تصدقوا ابن أخي فإنه مجنون. ومع ذلك، فإن النبي(ص) واجه كل ذلك، واستمر الإسلام وسقط كل أولئك. ولذلك علينا أن نملك عنفواناً إسلامياً أصيلاً، وأن لا نضعف أمام الآخرين الذين يتهموننا، والذين يكذبون علينا وما إلى ذلك.
الفتح الإسلامي:
* سؤالي هو عن الفتح الإسلامي، فهل كان ما يسمى الفتح الإسلامي فتحاً أم احتلالاً؟
- كان فتحاً، لأنهم يريدون أن ينفتح الناس على الإسلام، ونحن لا نوافق على كل ما قامت به قيادات الفتح الإسلامي، ولكن مع ذلك، بإمكاننا القول إنّ الفتح الإسلامي قدّم حضارة للبلدان التي فتحوها، ولاسيما الأندلس. وهذا ما قاله أحد المفكرين، وهو جواهر لآل نهرو في كتابه (لمحات في تاريخ العالم)، قال:(إن الحضارة الإسلامية هي أم الحضارات في العالم).
ولذلك نعتبر أن الفتوحات لم تكن استعماراً. وهناك تعبير لأحد الكتاب الغربيين، وهو غوستاف لوبون، يقول:"لم يعرف التأرِيخ فاتحاً أرحم من العرب".
إخفاء قبر السيدة الزهراء(ع)
* ما هي الفكرة التي تستوحونها من إخفاء قبر الزهراء(ع)؟
- المعروف من الروايات أنها دفنت في بيتها، وعندما وسّع بنو أمية المسجد أدخلوا بيتها في المسجد. ولذلك، وعلى حسب هذه الروايات التي يلتزمها الكثير من العلماء، يكون قبرها في المسجد الآن. ولعل الحديث:«ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة»، يشير إلى ذلك. وهناك رواية تقول إنّ قبرها في البقيع.
أما السرّ في إخفاء قبرها، فهو من باب الاحتجاج على واقع الحكم القائم، فكان احتجاجها بعد وفاتها كاحتجاجها قبل وفاتها، إذ لم تُرد للقائمين على مقاليد الحكم أن يحضروا جنازتها، ولم تُرد لهم أن يزوروا قبرها، والله العالم.
استنكار جرائم التكفيريين:
* يقول البعض إنكم لم تستنكروا إلى الآن قتل الشيعة في العراق؟
- بعض الناس الكذب عندهم كما لو أنهم يشربون الماء، وبعضهم لا يحاول أن يبحث عن الحقيقة، ولا يقرأ، إذ إني لا أظن أن أحداً في العراق، أو في العالم، تحدّث عن التكفيريين كما تحدثت، من حيث برامجهم وطبيعة عملهم، ولم تخلُ خطبة جمعة، ولا حديث صحفي أو إذاعي من ذلك.
وحدة العراق
* ما رأيكم بمسودة الدستور العراقي الحالية؟
- أنا من الناس الذين يؤكّدون مسألة الوحدة للعراق، وذلك أن يبقى العراق موحّداً؛ لأنّ أي نوع من التقسيم الفدرالي وغير الفدرالي، سوف يربك الواقع العراقي. ليس الأمر كما يتصور البعض، أن الفدرالية، كردية وشيعية وسنية، ستجعل الشيعة يأخذون حقوقهم؛ لأن الفدرالية إنّما تكون نافعةً، عندما يكون البلد مقسّماً، فتأتي الفدرالية لتعطيه شيئاً من الوحدة. أمّا عندما يكون البلد موحّداً، فأي معنى للفدرالية؟ إن الفدرالية انطلقت في العراق ـ منذ أيام المعارضة ـ من قبل الأكراد؛ لأن الجميع كان ينوي جمع الكلمة، والأكراد جزء من هذه التركيبة، فتم استرضاؤهم بذلك.
ثم يجب أن لا ننسى، أن هذا الأمر لو تمّ، فقد يترك تأثيراً على المنطقة كلّها؛ لأنه إذا بدأ هذا النوع من التقسيم، فسوف يتمّ العمل على تقسيم سوريا، وتقسيم إيران، وتقسيم السعودية، وهذا سوف يخلق أكثر من إرباك، وهذا ما يفكّر فيه الأمريكيون والإسرائيليون. ونحن عندما نتكلم في السياسة، فعلينا أن نفهم القضية في إطارها العام، لا أن يفكّر كل شخص في بيته، وفي حدود مصلحته، بل لا بد من التفكير في حدود العراق وهويته الكبيرة وامتداداته الإقليميّة في المنطقة، وذلك أن تبقى هويته إسلامية، وتبقى هويته العربية؛ لأنه عضو مؤسس للجامعة العربية وفاعل فيها.
ذكرى مولد العباس(ع):
* في ذكرى مواليد الحسين والعباس وزين العابدين(ع)، ما هو الدرس الذي نستفيده من موقف العباس من أخيه الإمام الحسين(ع) في عاشوراء؟
- نحن نعرف أن العباس(ع) لم يكن مجرد بطل مقاتل، بل كان، كما يقول الإمام الصادق(ع):«كان عمنا العباس نافذ البصيرة، صلب الإيمان، أبلى بلاءً حسناً»، وهذا يدلنا على أن العباس(ع) كان يملك العلم، ويملك البصيرة الإيمانية الإسلامية التي تجعله ينفذ إلى حقائق الإسلام وحقائق الإيمان، ولذلك لم يتّبع الإمام الحسين(ع) ولم يضحِّ بنفسه على أساس القرابة، بل دفاعاً عن الدّين وعن القيادة الإسلامية الشرعية المتمثلة بالإمام الحسين(ع). وهذا ما ورد في الارتجاز الذي تمثّله، سواء كان له فعلاً، أو كان بلسان حاله، فإنه على كلّ حال يمثل روحية العباس(ع) في كربلاء عندما قطعت يمينه:
والله إن قطعتم يميني إني أحامي أبداً عن ديني
إنه يحامي عن الدين وعن الإسلام، لأن المعركة في كربلاء كانت معركةً بين الإسلام وبين قيم الكفر والانحراف عن خط الإسلام وما إلى ذلك. لذلك كان العباس واعياً لقيم المعركة ولطبيعتها:
وعن إمام صادق اليقين نجل النبي الطاهر الأمين
إنه يدافع عن القيادة الإسلامية الشرعية، ولم يدافع عن القرابة النسبية، وإن كانت هذه القرابة تمثل قيمة كبيرة في هذا المجال. فإذا أردنا أن نأخذ درساً في ذكرى مولد العباس(ع)، فعلينا أن نأخذ هذا الدرس، وذلك بأن نعيش نفاذ البصيرة في الإيمان، والصلابة في الموقف، والتضحية من أجل الإسلام في جميع مجالات الحياة، وأمام كل التحديات.
دراسة الفلسفة:
* كيف يمكن للطالب الحوزوي أن يستفيد من دراسته للفلسفة الإسلامية، ولاسيما الدعوة إلى الله؟
- أن يقرأ الفلسفة قراءة واعية، بحيث يستطيع أن يواجه في قراءته الشبهات التي توجه إلى الإسلام، سواء على مستوى العقيدة، أو على مستوى حركة المفاهيم.
الفصل الرابع
المسائل التربوية
ضريبة الأخلاق:
* إذا كنا نتحدث عن مكارم الأخلاق، فما هو الفرق أو الخط الفاصل بين أن يكون المؤمن مستَغَلاً بسبب مكارم الأخلاق، وبين تطبيقه الفعلي لهذه المكارم؟
- على المؤمن أن لا يترك أحداً يستغلّه ولو كان ذلك باسم مكارم الأخلاق، لأن الأخلاق لها برنامج، والأخلاق لا تمثل السذاجة، وعلى المؤمن أن لا يسمح لأحد أن يلعب عليه، وقد ورد عندنا في رسالة (الحقوق) للإمام زين العابدين(ع): ((وأما حق من ساءك، فأن تعفو عنه، فإن رأيت أن العفو يضره، انتصرت))، فالمؤمن لا يُستَغَل، وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع) في صفة المؤمن: ((المؤمن حسن المعونة، خفيف المؤونة، جيد التدبير لأمر معيشته، لا يلدغ من جحر مرتين))، لذلك أخلاقيتنا لا تسمح لنا بأن نجعل الآخرين يستغلوننا.
رضى الزوج:
* إذا كان الزوج على خلاف مع أهل زوجته، فهل يجوز للزوجة أن تصل رحمها من دون علم زوجها؟
- يجوز لها في الأوقات التي لا يحتاج فيها الزوج إلى حقّه الزوجيّ، لكن من الأفضل ولسلامة الحياة الزوجيّة، أن تحاول إرضاء زوجها بطريقة أو بأخرى.
الغيبــة:
* إنّني فتاة لا أستطيع لجمَ لساني، بحيث أتكلّم على الناس، ومن ثمَّ أستغفر اللَّه، بماذا تنصحونني؟
- على الإنسان أن يفكّر أنَّ الغيبة من الكبائر، وأنَّ مصير المغتاب الحساب العسير عند اللَّه، ولذا عليه أن يذكر ربَّه دوماً )ولا تكونوا كالذين نسوا اللَّه فأنساهم أنفسَهم((الحشر:19).
التقصيـر:
* هل يجب على الإنسان أن يعيش حالة القلق على نتائج عمله؟
- ينبغي على المؤمن دائماً أن يتهم نفسه بالتقصير ليقوم بالعمل الأحسن، وفي دعاء الإمام زين العابدين(ع): ((اللّهم لا ترفعني في الناس درجةً إلاَّ حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلاَّ أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها)).
كفالة اليتيم:
* كنت قد كفلت يتيماً، ولكن أوضاعي الماديّة تعثّرت وأنا معيل لأهلي، فما العمل؟
- ليس ضرورياً المبادرة من جديد، لأنَّه لا صدقة وذو رحم محتاج، وعندما يوسّع اللَّه عليك تعود إلى كفالة اليتيم.
الإساءة إلى الزوج:
* بسبب عصبيّتي، أرتكب دائماً معصية بحق زوجي، ولكنّي أندم وأستغفر الله على ذلك وأطلب المسامحة منه، فما رأيكم؟
- إذا كنتِ قد استغفرت اللَّه وسامحك زوجكِ فلا مشكلة، ولكن ينبغي للمؤمن ألاَّ يسيء حتى يعتذر، وفي الحديث: ((إنَّ اللّه فوّض إلى المؤمن أموره كلّها ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه)).
صديقتي محجّبة لا تصلّي:
* لي صديقة ترتدي الحجاب، لكنّها لا تصلّي، فهل أقاطعها؟
- عليكِ أن تنطلقي من التزامها بالحجاب من أجل نصحها، ولذا، فإنَّي لا أحبّذ المقاطعة، إلاَّ إذا كانت المقاطعة تؤدّي إلى التزامها، أمّا إذا كانت المقاطعة تسبّب بُعدها وانحرافها فلا يجوز ذلك.
صلة الرحم:
* جدّتي أمُّ والدي لم تتعرّف علينا منذ الصِغر، فما واجبنا تجاهها؟
- إذا لم تتعرّف عليكم، فعليكم أن تتعرّفوا عليها من باب وجوب صلة الرحم.
ضرب الأولاد:
* هل يجوز ضرب الأولاد عندما يخطئون؟
- لا يجوز الضرب إلاَّ عند استنفاد كلّ الوسائل، بحيث إنَّ الولد إذا لم يُضرَب الضرب التأديبـي يؤدّي به ذلك إلى الخطر، والضرب يكون بشرط عدم احمرار اليد، وعندها تجب الدية. والولد أمانة اللّه عندك، ولا يجوز لك أن تؤذيه، كما لا يجوز لك أن تؤذي ابن الجيران.
مواجهة العولمة:
* كيف يواجه المسلمون تحديّات العولمة؟
- بأن يعيشوا هويّتهم الإسلاميّة التي تنفتح بهم على وعي الواقع من حولهم، ليعرفوا كيف يستطيعون بناء مواقعهم على أساس علمي، وعلى أساس بناء القوّة لإرباك خطوات المستكبرين الذين يريدون من خلال طرح العولمة الاقتصادية والسياسيّة إضعاف المسلمين.
الوعد بالزواج:
* تعرّفت على فتاة مؤمنة بقصد الزواج، ولكنَّ أهلي رفضوا هذه الفتاة لأنَّها من عائلة غير مرغوب بها، حاولت مراراً إقناعهم ولكن عبثاً، فهل يجوز لي تركها بعد أن وعدتها بالزواج؟
- هذه الحجّة التي يحتجُّ بها الأهل ليس فيها شيءٌ من الدين، وليس فيها شيءٌ من العاطفة )وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى((الأنعام:164) وفي الحديث: ((عامل الناس بما تحبُّ أن يعاملوك به)). بعض الآباء معقّدون ومتعصّبون بحيث يدفعون أبناءهم ليعصوهم.
وهنا نقول للشاب: عليك أن تدرس الموضوع دراسة واقعيّة، لأنّه من الصعب جداً أن يتزوّج الشاب من دون رضا أهله، أو أن تتزوّج الفتاة من دون رضا أهلها، لأنَّ الزواج حالة استقرار وليست موقعاً للمشاكل. ثمّ إنَّ هناك أمراً آخر بالنسبة للشاب، وهو أنّه إذا تزوّج هذه الإنسانة من دون رضا أهله، فقد يظلمونها حتى ينفّسوا عن عقدتهم، لذلك ننصح بأن يلجأ إلى بعض أهل الخير لإقناع أهله في هذه المسألة حتى لا يقع في المشاكل.
غفران الذنوب الكبيرة:
* ارتكبت ذنوباً كثيرة وعصيتُ الرحمن، ولكنَّ الله هداني، فهل يغفر سبحانه ذنوبي الكثيرة ويرحمني؟
- يقول تعالى: )وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ((الشورى:25)، ويقول سبحانه: )قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ((الزّمر:53)، ويقول أيضاً: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا((التحريم:8). إذا كانت توبتك توبة حقيقيّة، بحيث ندمت على ما فعلت، وعزمت ألاَّ تعود مجدداً إلى ارتكاب الذنوب، وأدّيت للناس حقوقهم، وأعدت لكلِّ ذي حقٍّ حقّه، فإنَّ رحمة الله واسعة وسيتوب عليك، وفي الحديث: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)).
العزوف عن الزواج:
* ما رأيكم بالشبان الذين يُعرضون عن الزواج خوفاً من العوز؟
- للأسف إنَّ هؤلاء لا يعيشون الثقة بالله تعالى، ولا يعيشون الثقة بأنفسهم أيضاً، والله تعالى يقول: )وَأَنكِحُوا الاَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ((النور:32).
علينا أن نعرف أنَّ الله وحده هو الرزّاق، وهو سبحانه: "ينـزل المعونة على قدر المؤونة"، كما جاء في الحديث، لكنَّ البعض يرغب في أن يكون عالةً على غيره، ويريد أن يهرب من مسؤوليّاته في الحياة، فيبتعد عن الطموح لتأسيس أسرة، وهو كمن يجمّد طاقاته ويهدرها بلا طائل، لأنَّ الشباب طاقة حيّة تستوجب العمل والنشاط والكدّ في الحياة. فإذا ما وظّف الشاب حيويّته في العمل، فإنَّ أبواب الرزق ستنفتح أمامه، وسيمهّد ذلك الطريق لبناء مستقبله.
عدم التركيز في الصلاة:
* أنا فتاةٌ أعيش حالة نفسيّة صعبة، جعلتني غير قادرة على التركيز في صلاتي، وعدم الخشوع والروحانيّة، فبماذا تنصحونني؟
- على الأخت ألاَّ تستسلم لهذه الحالة النفسيّة الصعبة، بل تحاول أن تدرس سبب هذه الحالة، وإذا عرفت السبب، فباستطاعتها معالجتها، وإن باللجوء إلى أخت أخرى واعية أو الذهاب إلى الطبيب النفسي، مع الابتهال إلى الله سبحانه أن يساعدها للخروج من هذه الحالة.
الروحانية في الصلاة:
* ما هو السبيل لزيادة الروحانية في الصلاة اليوميّة؟
- أن يهيئ الإنسان نفسه بأنّه يقف بين يدي الله، ويثقّف نفسه بعظمته، فالإنسان عندما يشعر أنَّه يقف أمام العظيم، فإنَّه بطبيعة الحال سوف يشعر بالرهبة وبالهيبة وبالتضاؤل أمامه سبحانه. هذا أولاً، وثانياً، على الإنسان أن يتحسّس نِعَم الله )وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا((النحل:18)، ثم عليه أن يهيّئ الجوّ النفسي قبل الدخول في الصلاة، وهذا ما يعيشه في الأذان والإقامة اللتين تعتبران مدخلاً للصلاة، فيعيش الشهادة والوحدانية والإقرار بالنبوّة، وعندما يلفظ "حيّ على الصلاة"، يستشعر في داخله نداء الله بالإقبال والتوجّه إلى الصلاة تنفيذاً لأمره سبحانه، وعند كلمة (حيّ على الفلاح) يعيش معنى الفلاح والنجاح والاستقامة والتقوى وكلّ ما هو خيرٌ وعادل في هذه الصلاة المفروضة، وهكذا أيضاً في "حيّ على خير العمل" على اعتبار أنَّ الصلاة هي خير العمل، وهي المنجاة في الآخرة. وفوق كلّ ذلك، عندما يدخل في الصلاة، يرى نفسه أنَّه يقف بين يدي الله العظيم الكبير العزيز الجبّار المتكبّر، الرحمن الرحيم، ربِّ العالمين، مالك يوم الدين، وخصوصاً عندما يحاول أن يستوعب الكلمات التي يقولها في الصلاة، ويتدبّر الأفعال التي يفعلها في ركوعه وسجوده، ولا شكَّ في أنَّه سيحصل على التوجّه.
المحافظة على التقاليد الإسلامية:
* أعيش مع عائلتي في بلاد الغرب، ويصدف أن تطلب المدرسة من أولادي المشاركة في بعض المناسبات والخروج ليلاً وهم يحملون الشموع والفوانيس، فهل يجوز ذلك؟
- لا يحرم ذلك، ولكن لا بدّ من تنبيه الأولاد وإرشادهم من ناحية شرعية للتمسّك بمفاهيم الدين الإسلامي ومناسباته، وعدم الاستغراق والتأثر بعادات غير المسلمين.
الإحسان للوالدين:
* انتقلت إلى مذهب الإمامية، وهذا ما أغضب والدي، فهو على الدوام يشتمني ويشتم مذهبي الجديد، فهل أقاطعه؟
- قال تعالى: )وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا((لقمان:15)، فعليك التمسّك بما هداك الله إليه، وأن تستمر في العلاقة الحسنة مع أمّك وأبيك، ولو صدر منهما الإساءة إليك والنكران لما اعتنقته.
الاختـلاط:
* هل هناك إشكال في الانتساب إلى مدرسة صفوفها مختلطة؟
- لا حرمة عليك في الانتساب إلى هذه المدرسة، ولكن لا بدّ من التزام الضوابط الشرعية في العلاقة مع الجنس الآخر.
حقُّ المـرأة:
* ما هي بالضبط حقوق المرأة على الرجل؟
- لها عليه حق المعاشرة الجنسية والنفقة، وعليه أن يعاملها بالحسنى ويعاشرها بالمعروف.
الفصل الخامس
المسائل الفقهية
أولاً: المرجعية والتقليد
العدول بين المراجع:
* قلدت أحد المراجع الدينية، بدون قراءة رسالته، وذلك تبعاً لنصيحة أخوتي، وعندما نضجت وكبرت، رأيت أني أود أن أقلدكم، لأني وجدت في رسالتكم ما لم أجده عند غيركم، من محاكاة للعقل والعصر، ومن المواقف السياسية وغيرها، فهل يجوز لي تقليدكم؟
- رأينا أنه يجوز العدول من المرجع الحي إلى مرجع حي آخر.
تعرّف على علل الأحكام:
* إن علماء المسلمين، خصوصاً الشيعة، يرون جواز الاجتهاد في المسائل الفقهية، خصوصاً في استنباط الحكم الشرعي، فلماذا لا يجوّزون الاجتهاد في الوصول إلى علة الأحكام الشرعية، مع العلم أننا إذا علمنا العلة سهل الوصول إلى الحكم؟
- هناك أحاديث يمكن للإنسان أن يعتمدها في بيان علل الأحكام الشرعية، وهناك بعض الأحكام التي قد يمكن اكتشاف عللها الكامنة في مواقعها. ولكن هناك أحكام شرعية تعبدية لم يكشف لنا عن عللها.
طرق إثبات الاجتهاد:
* كيف يثبت اجتهاد المجتهد إذا لم يشهد له أهل الخبرة؟ هل هناك طريق آخر؛ لأن المعترضين يقولون فلان غير مجتهد، لأنه لم يدرس البحث الخارج للطلبة؟
- إذا لم يكن هناك شهود، فعليه أن يدرس الحركة العلمية لهذا المجتهد، فإذا حصل له الاطمئنان بذلك، فالاطمئنان حجة شرعية.
الاجتهاد في الكبائر:
* هل مسألة الكبائر خاضعة للاجتهاد من ناحية الحكم مثل السرقة، وهل يختلف حكمها من مجتهد لآخر؟ وإذا كان كذلك، هل عندكم كتاب مستقل عن أحكام الكبائر يمكن الرجوع إليه؟
- الكبائر هي المحرّمات الكبيرة. وهذه قد يختلف الفقهاء في تقويمها من خلال الأدلة التي تدل على هذه المعصية أو تلك. فبعضهم يقول إنّها التي توعّد الله من يرتكبها بدخول النار، وبعضهم يقول إنّها تلك التي توجب الحدّ، وبعضهم يقول إن كل المعاصي هي كبائر، لأن عليك أن لا تنظر إلى حجم المعصية، ولكن أن تنظر إلى من عصيت، فكل معصية لله هي كبيرة، لأنها تمثل تمرداً على اللّه، وليس عندنا كتاب خاص في هذا الموضوع، ولكنّه موجود في أبحاث الفقهاء.
التبعيض في التقليد:
* أنا من مقلّدي أحد الفقهاء، وسمعت أنكم تجوِّزون حلق اللحية، فهل أستطيع حلق اللحية استناداً إلى فتواكم؟
- لا دليل عندنا على حرمة حلق اللحية، كما أن السيد الخوئي لم يفتِ بالحرمة، ولكنه احتاط في ترك الحلق، أما إذا كان الإنسان مقلداً لفقيه، فإن كان هذا الفقيه يجوِّز التبعيض بينه وبين غيره، فله أن يأخذ بفتوانا، وإذا كان لا يجوِّز ذلك، فبحسب تقليده لا يجوز ذلك.
تحديد مفهوم الاجتهاد:
* هل أن مفهوم الاجتهاد واحد لدى الفقهاء، أم أنهم مختلفون في مفهومه؟
- ليسوا مختلفين في مفهوم الاجتهاد، فمفهوم الاجتهاد هو أن يبذل الإنسان جهده من خلال ما يملكه من ثقافة ومعرفة، ليستنبط الأحكام الشرعية إن كان الاجتهاد في دائرة استنباط الأحكام. ولكنهم قد يختلفون في وسائل الاجتهاد التي يمكن للناس أن يأخذوا بها.
عدم التقليد:
* ما هو حكم الشخص الذي لا يقلِّد أحداً من العلماء ؟
- إذا لم يكن الشخص مجتهداً، أو محتاطاً، فأي حجة له في صحة عمله؟! لأن رجوع الشخص إلى المجتهد الذي يقلده، من جهة أن يكون حجة على صحة عمله، باعتبار أنه لا يملك اختصاصاً في معرفة الأحكام الشرعية، فلابد أن يرجع إلى من له اختصاص، كما هو الإنسان الذي يذهب إلى الصيدلية ويشتري الدواء من دون استشارة الطبيب، فعلى أي أساس يريد أن يتناول الدواء بدون إرشاد الطبيب؟!
وهذه من الأمور الإنسانية، حيث إن كل من لا خبرة له في شيء، لابد من أن يرجع إلى من له الخبرة فيه، والتقليد ليس إلا رجوع إلى المجتهدين الذين يملكون الخبرة في معرفة الأحكام الشرعية.
من هو المحتاط؟
* من هو المحتاط؟
- المحتاط هو الذي يحاول إدراك الواقع على كل حال، فمثلاً: بعض العلماء يفتون بوجوب القصر، وبعضهم يفتون بوجوب التمام، فهو يحتاط بأن يجمع بين القصر والتمام، فإذا كان القصر واجباً، يكون قد أتى به، وإذا كان التمام واجباً، يكون قد أتى به أيضاً.
تقليد الميت ابتداءً:
* هل يجوز تقليد الميت ابتداءً ؟
- الأحوط وجوباً تركه.
التقليد في الأمور السياسية:
* هل على المقلد أن يطابق رأي العالِم في الأمور السياسية؟
- لا يجب، إلاّ إذا كانت تلك الأمور تتصل بالتكاليف الشرعية.
معنى الاجتهاد:
* ما هو معنى الاجتهاد؟
- الاجتهاد هو عبارة عن بذل الجهد من خلال ما يملكه الإنسان من ثقافة في استنباط الحكم الشرعي من أدلته. ومثله مثل الطب والهندسة والعلوم الأخرى، وهو استخراج الفكرة من خلال دراسة كلّ ما ترتكز عليه.
تقليد المرأة:
* هل أن المرأة المجتهدة يجوز تقليدها من قبل الرجل؟
- لا فرق بين المرأة والرجل في ذلك. أي إذا كانت المرأة مجتهدة، وتملك الخبرة العلمية والفقهية، فيجوز تقليدها كما يجوز تقليد الرجل؛ لأن التقليد إنما هو من باب رجوع الجاهل إلى العالم، وهذا لا فرق فيه بين المرأة وبين الرجل، لأننا نرجع إلى النساء في الطب وفي الهندسة، وفي كثير من العلوم، فالفقه علم كبقية العلوم، وقد تكون بعض النساء أفضل من بعض الرجال من الناحية العلمية.
شرطية الأعلمية:
* تفضلتم في جريدة (بينات) بأن الأعلمية ليست شرطاً في المرجعية، ولكن هذا الأمر يعارض الفطرة، لأن الإنسان بفطرته يميل إلى الأعلم، كالطبيب الأعلم والمهندس الأعلم... وقد حث الإمام الصادق(ع) في بعض الروايات على الأخذ من الأفقه؟
- أولاً: لو فرضنا أنّ الناس لا يأخذون إلا بالأعلم، لأغلق أغلب الأطباء والمهندسين عياداتهم ومكاتبهم، والناس إنّما يرجعون إلى صاحب الخبرة، في ما يعتقدون أنه صاحب خبرة فيه. فإنهم ـ عندئذٍ ـ لا يكتفون بالأعلم ـ إذا كان هناك أعلم ـ وإنما يطلبون لجنة من أطباء مع طبيب العائلة مثلاً، وخصوصاً أنّ عالم الفقه لا يطلب فيه إلاّ التعذير والتنجيز لإدراك الواقع.
ثانياً: عندما ندرس كلّ حالات الاختصاص في العالم، فإنّنا لا نجد هناك شخصاً أعلم بقول مطلق، فلكل ورد رائحة. ثم من يشهد بالأعلم؟ ومتى تكون الشهادة بالأعلمية؟ ذلك يكون عندما يكون الذي يشهد بالأعلمية مطّلعاً على كل أبحاث المجتهدين، ويدرسها، ويميّز أبحاث هذا عن ذاك. وفي واقع الحال، لا يوجد من يستطيع أن يطلع على كل الأبحاث. ولذا، فإن قصة الشهادة بالأعلمية غير دقيقة، وإذا حملناها على الصحة، نقول إنه عمل بالظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً.
ولذلك نرى أن سيرة العقلاء جارية على الأخذ بغير الأعلم حتى مع وجود الأعلم، ولا نجد هناك دليلاً يدل على مسألة وجوب تقليد الأعلم. أمّا الرواية التي يشير إليها السائل، فهي ليست واردة في الأخذ بالرأي، بل الأخذ بالرواية في مقام الصدور، وذلك في حال نقل شخصٌ رواية، بينما نقل شخصٌ آخر رواية أخرى، وليست واردة في مقام التقليد.
حجية خبر الواحد:
* يقول السيد المرتضى إن خبر الواحد ليس حجة، ولا يجوز العمل به، فهل خبر الواحد عندكم حجة؟
- خبر الواحد الذي هو موثوق نوعاً حجّة عند كل العقلاء. أمّا كلام السيّد المرتضى فيحمل على معنى آخر.
ثانياً: النجاسات والطهارات
الغسـل:
* هل يجب على المرأة الاغتسال في حال الاحتلام؟
- لا يجب الاغتسال، لأنَّ الاحتلام هو مع خروج المني، وإذ إنَّه لا منيّ للمرأة، فلا يجب عليها الغسل، وحتى الرجل في حال الاحتلام ومن دون خروج المني فلا غسل عليه.
صلاة المستحاضة:
* هل تستطيع المرأة في فترة الاستحاضة أن تؤدِّي صلاة النوافل من دون وضوء؟
- كلا، لا بدَّ لها أن تتوضأ لكلِّ صلاة، سواء في الصلوات الواجبة أو المستحبة.
عرق الجُنب:
* ما حكم صلاة من صلّى بعرق الجُنب الحرام؟
- عرق الجُنب من الحرام، سواء كانت حرمة أصلية أو بالعارض، طاهر تجوز الصلاة به.
أسماء الجلالة على المصوغات الذهبية:
* ما هو حكم المصوغات التي يكتب عليها لفظ الجلالة من حيث اللمس بلا وضوء، ومن حيث الدخول بها إلى أماكن غير محترمة، مثل دورات المياه؟
- أما في قضية لمس كلمة (الله)، فإنّه لا فرق بين أن تكون في المصوغات أو كانت حتى في الوشم الذي يوشم به الإنسان جسده، أو في الأوراق وما إلى ذلك؛ ولكن رأينا جواز المسّ فيما إذا لم يكن لفظ الجلالة جزءاً من آية قرآنية. أما الدخول بها إلى أماكن غير محترمة، فالبعض يذهب إلى عدم الجواز، باعتباره يمثّل هتكاً للحرمة، ولكننا لا نرى أنّه يمثّل هتكاً. وبعبارة أخرى، لمّا كان العنوان المحرّم هو هتك الحرمة، فإنّ هذا الأمر يخضع للعرف الاجتماعي، فإذا كان المجتمع لا يرى ذلك هتكاً، فلا يعتبر هذا محرّماً؛ لأن المحرّم هو هتك حرمة القرآن وهتك اسم الله وما إلى ذلك.
غسل المرأة:
* بعض الفقهاء يرى أن المرأة تحتلم، ولذلك يجب عليها الغسل، ولكن لا يجب إعلامها بذلك؟
- هذه القضية يرجع فيها إلى أهل الخبرة في الطب. ويجمع الأطباء على أن المرأة لا مني لها، وأن هذا الماء الذي يخرج منها عند المداعبة إنما هو لتسهيل العملية الجنسية، ولا غدة عند المرأة تخرج المني. ثم إذا فرضنا أنها تحتلم، فيكون تكليفها الشرعي هو الغسل، فعلى أي أساس لا نخبرها بذلك؟! مثلاً لو أتى إليك شاب في أول بلوغه وقال إني احتلمت، أفلا تخبره بوجوب الغسل عليه؟! هذا حكم شرعي! ولذلك نقول إن الروايات التي يظهر منها ذلك يرد علمها إلى أهلها؛ لأن هذه حقيقة علمية لا شك فيها، وهي أن المرأة لا منيّ لها.
جنابة المرأة
* باعتبار أن المرأة لا مني لها، ألا يكون السائل الذي يخرج منها بسبب الإثارة الجنسية، هو السبب في الحكم بجنابتها ووجوب الغسل عليها وإن لم يكن منياً؟
- عندنا أن المني هو الذي يوجب الغسل مضافاً إلى الجماع. والمرأة ليس لها غدة للمني. أمّا الماء الذي تفرزه حال العلاقة الجنسيّة، فهو لترطيب المكان، لكي يسهّل عمليّة الجماع، وليس لها أي دور، حتى في موضوع الشهوة. نعم، الشهوة تأتيها من خلال تقلصات تحصل عندها عند الإثارة، ولذا هو حسب ما سألنا الكثير من المختصين من الأطباء، قالوا إنّ الماء الذي يخرج أخيراً هو نفسه الذي يخرج أول المداعبة، فهو مثل المذي. غاية الأمر، أن الضغط والتقلصات تظهره، وإلا فلا علاقة له. ثم إن المني أساساً هو الحويمن، والمرأة عندها بويضة وليس لها حويمن، ولذا نقول لا يجب عليها الغسل إلا بالجماع. وهناك أيضاً بعض العلماء يقولون بقولنا.
طبخ العنب:
* هل ينجس الطعام إذا سقطت حبة عنب في القدر؟ وما هو حكم معقود العنب (المربى) المصنوع من العنب؟
- ليس ذلك صحيحاً، ولا مشكلة في معقود العنب (المربّى) أيضاً.
ثالثاً: الوضوء والصلاة
زوجي وسواسي:
* زوجي يعاني من الوسوسة في الوضوء والصلاة، فهو يعتني بالطهارة بشكل لا يخطر على بال، بما يأخذ الكثير من وقته ويتعبه نفسياً، أطلب مساعدتكم؟
- تكليفه الشرعي يقتضي عدم الاعتناء بهذه الوسوسة، وأن يهملها ولا يرتب الأثر على شكّه أبداً، فعليه كما يحرص على تحصيل الطهارة، أن يحرص على التزام هذا التكليف، وهو عدم الاعتناء بالوسوسة.
سجدة الشكر:
* بالنسبة إلى سجدة الشكر، هل تكون سجدةً واحدة أم أكثر؟
- تكون بعدد نعم الله سبحانه )وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوهَا((النحل:18)، وهي مستحبة في كل وقت.
النية في العبادات:
* كيف يكون مقصد النيّة بالنسبة لأمور الصلاة والصوم والخمس والصدقة والفاتحة للميت؟
- النية عبارة عن قصد فعل شيء لله سبحانه وتعالى، ولذلك لا يجب أكثر من ذلك، وإلاّ فهل تصلي أو تتصدَّق في حالة غياب الوعي؟ وهل يستطيع الشّخص أن يأكل أو يسافر من دون نية؟ فلا داعي لمثل هذه التعقيدات، حتى إن بعض علمائنا، وهو الشهيد الثاني، كان يقول بعدم وجوب اعتماد موضوع النية في الأبحاث الفقهية.
الشهادة الثالثة:
* ما حكم صلاتي خلف إمام ينطق بالشهادة الثالثة في الإقامة وأنا من مقلديكم؟
- نحن لا نحرّم ذلك، ولكننا نحتاط فيه، باعتبار أنه ورد عندنا حديث بأنه: «من دخل في الإقامة فقد دخل في الصلاة»، والصلاة لا يجوز أن تأتي بها أو (فيها) بكلام لم يرد النص فيه، لذا الصلاة ليست محرَّمة، وصلاتك ليست باطلة.
السجود على الورق:
* هل يجوز السجود على أوراق المأكول والملبوس، مثل أوراق شجرة الموز، وأوراق القطن والكتان وغيرها أم لا؟
- بالنسبة إلى أوراق الموز فهي ليست من المأكول. نعم، القطن والكتان وغيرها تعتبر من الملبوس، لكن الورق المأخوذ منها إذا استحال عن طبيعته فلا مانع من ذلك، يعني الكلام في ورق النبت مشكل، أما الورق الذي يصنع من هذا، وتحوّل إلى هوية أخرى وحقيقة أُخرى، فلا مشكلة.
كثير السفر:
* أنا أسافر أربع مرات في الشهر، أسافر يوم السبت، وأعود يوم الأربعاء من كل أسبوع، وعليه، فأنا كثير السفر، لكن ما حكم صلاتي في حال انقطاعي عن السفر لمدة شهر أو أقل أو أكثر بحسب فترات الدراسة. أي ما حكم الصلاة في السفر الأول بعد هذا الانقطاع؟
- إذا بقي الإنسان على حالة دوام السفر، وانقطع شهراً، لكن ابتدأ على نحو يعرف أنه سوف يستمر، فيصلي تماماً أيضاً.
صلاة الخرس في الصف الأول:
* إذا كان في الصف الأول من صلاة الجماعة واحد أو اثنان أو ثلاثة أشخاص (حرس)، فهل وجودهم يسبب فصلاً لما بعدهم؟
- إذا كان الخرس يؤدون الصلاة جماعة لكن بالإشارة، فإن وجودهم في الصف لا يكون فاصلاً.
الاستيقاظ لصلاة الفجر:
* هل يجب الاستيقاظ لصلاة الفجر؟وهل يعتبر الشخص الذي لم يستيقظ لهذه الصلاة تاركاً للصلاة؟
- لا يجب على المكلّف الاستيقاظ لصلاة الصبح، ولكن يستحب له ذلك، باعتبار أنه ثواب وأجر يحصل عليه الإنسان، وقد ورد في الحديث: «من غلب الله عليه فهو أولى بالعذر»، يعني إذا قهر النوم الإنسان، فالله يعذره في نومه هذا. ولا يعتبر الشخص الذي لم يستيقظ لهذه الصلاة تاركاً لها.
الحاجب في الوضوء:
* هل يوجد أيُّ إشكالٍ في الوضوء إذا كنت أضع على شعر رأسي مادة مثبتة له (ما يعرف بالجل)، قبل الوضوء؟
- إذا كان هذا لا يمنع من وصول الماء إلى الشعر عند المسح، فلا مشكلة.
صلاة المرأة عن الرجل الميت:
* هل يجوز أن تكلف فتاة بالصلاة عن الميت وذلك بالأجر، علماً أن الميت رجل؟
- لا مانع من أن تستأجر المرأة ـ إذا كانت تحسن الصلاة ـ عن الرجل، وينوب الرجل عن المرأة.
الحضور في صلاة الجمعة:
* أصلي في يوم الجمعة (صلاة الجمعة)، ولكنني أعاني من عدم فهم خطبة الجمعة، بسبب قلة فصاحة الإمام في اللّغة العربية، علماً أنني أستمع لخطبتكم على إذاعة البشائر، فهل يجوز لي عدم حضور الصلاة؟
- إذا كان الإمام لا يتصف بشروط إمام الجمعة والجماعة، ومنها صحة نطقه في قراءته، فإنه لا يجب على الإنسان حضور الجمعة.
صلاة في أرض مجهولة الملكية:
* ما هو حكم الصلاة في الأرض التي نجهل ملكية صاحبها؟
- لا يجوز الصلاة في هذا المكان إلاّ برضى صاحبه.
ترك القنوت في الصلاة
* ما هو حكم صلاة المرء لو ترك دعاء القنوت عامداً؟
- القنوت ليس واجباً. ولذلك لو تركه الإنسان عامداً، فليس هناك خلل في صلاته.
ترك التشهد:
* ما هو حكم شخص مرّت عليه خمس سنوات وهو يصلي الصلوات الرباعية بدون تشهد أوسط جهلاً منه بالحكم؟
- صلاته صحيحة وعليه أن يقضي التشهد الذي فاته.
العدالة المشترطة في الجماعة:
* ما معنى العدالة المشترطة في إمام الجماعة؟ وهل إن المأموم مطالب بأن يعرف أن الإمام لا يأتي بالمعاصي بشكل دقيق، أم أن حسن الظاهر يكفي لكي يأتمّ به؟
- حسن الظاهر هو الدليل على العدالة، باعتبار أن الناس إذا أرادت أنْ تحكم على إنسان، وكانت لا تعرف كل أسراره، وكل خفاياه، وكل أموره السرية، فيكتفى بالظاهر، فالناس يقولون: إنسان ظاهره جيد، لم نعرف منه إلا الخير في معاشرته للناس، وهذا ما عبّر عنه الحديث الشريف: «من عامل الناس، فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته ووجبت عدالته».
حكم الصلاة فرادى والجماعة قائمة:
* هناك رأي فقهي عند السيد محسن الحكيم رحمه الله، والسيد الخوئي رحمه الله، مفاده أنه لا تجوز الصلاة لشخص بصورة منفردة مع قيام جماعة في المكان نفسه، فهل المقصود من ذلك حرمة هذا الفعل، أم بطلان الصلاة؟ وما الدليل على ذلك؟
- في الصلاة فرادى، والجماعة قائمة نوع من أنواع الإيحاء لكل من يراك بأن هذا الإمام ليس محل ثقة، وأنه إمام فاسق، ولذا انفردتَ عنه، وهذا يمثّل هتكاً لحرمة الإمام، وهتك حرمته غير جائزة. فإن كنت لا تريد أن تصلي جماعة، فتستطيع أن تنتظر الإمام حتى ينتهي، أو تذهب إلى مسجد آخر.
السجود على السجّاد القطني:
* هل إن الصلاة على السجاد القطني باطلة، ولماذا؟
- نعم، لأن السجود لابد أن يكون على الأرض وما أنبتت، مما لا يستعمل للأكل ولا للّبس.
قضاء صلاة الخوف:
* هل إن صلاة الخوف تكون مجزئة، ولا تقضى؟
- في موارد الخوف، هي مجزئة، ولا يجب قضاؤها.
إمامة المرأة للجمعة:
* ما ردكم على بدعة إمامة المرأة لصلاة الجمعة المختلطة؟ وهل وصلت حقوق المرأة إلى التعدي على الشريعة الإسلامية بالتقرب إلى اللّه بمعصيته؟
- لا يجوز ذلك، لأن المرأة يجوز لها أن تؤم النساء، ولا يجوز لها أن تؤم الرجال بإجماع المسلمين، حسب التشريع الإسلامي.
حدّ مسح القدمين:
* قرأت في إحدى الرسائل العملية أن المسح على القدمين يبدأ من ما بين أطراف الأصابع إلى الكعبين، فهل هذا صحيح؟
- المقصود هو مسح المساحة الممتدّة من أطراف الأصابع إلى الكعبين، من ناحية الطول، أمّا من ناحية العرض، فيكفي المسمّى.
حكم الوضوء السريع:
* ما حكم الوضوء إذا كان بصورة مستعجلة وسريعة؟
- إذا كان الوضوء بشروطه المعتبرة، فلا مشكلة في ذلك.
الفعل الكثير المبطل للصلاة:
* ما المقصود بالفعل الكثير المبطل للصلاة؟ وما هو المقدار المبطل لها من الكلام؟.
- كما لو أن أحداً ما وهو في حال الصلاة، يحرّك يديه كثيراً، أو يأكل، أو يشرب، بحيث إن الناس إذا رأوه، قالوا إنه لا يصلّي، هذا الرجل منشغل بالأكل، أو بالشرب، أو يقوم بعمل كذا، هذا أمر عرفي.
حكم النكس في التيمّم:
* هل يجوز النكس في التيمم؟
- التيمّم على النحو المتعارف.
القضاء عن الميّت مع شغل الذمّة:
* هل تجوز الصلاة عن الميت بحيث أقضي ما عليه، مع العلم أن في ذمتي صلاة لنفسي؟
- يجوز ذلك.
حكم المسح على القدم الرطبة:
* بعد أن مسحت على قدمي في الوضوء، تذكرت أن هناك قطرات من الماء على قدمي ولم أزلها، فهل وضوئي صحيح شرعاً؟
- إذا كانت هناك منطقة في قدمك يابسة، بحيث يمكن أن يكون المسح عليها، فالوضوء صحيح.
صلاة القصر:
* مع تطوّر المواصلات ووسائل النقل، هل ترون ضرورة الصلاة قصراً؟
- ورد في الصلاة قصراً، أنها هدية اللّه، فلماذا نرفض هديته سبحانه؟
كثير السفر:
* ما هو تكليف كثير السفر في الصلاة، إذا سافر يوماً لغير العمل؟
- نحن نرى أنَّ كثير السفر إذا سافر سفراً طارئاً أو سافر في عمله، فحكمه التمام في الصلاة والصوم.
زوال عنوان الوقف:
* توجد في قريتنا أرضٌ موقوفة للمسجد، ولكنَّ الحكومة أسقطت الوقف وحوّلت الأرض إلى ملعب لكرة القدم، فهل يجوز ذلك؟
- لا يزول عنوان الوقف واقعاً بذلك، ويلزم تجنّب استعمال الأرض والانتفاع بها في غير ما وُقفت له. ويُمكن تفادي المحذور الشرعي باستئجارها من قبل القائمين على الملعب واللاعبين فيه لمصلحة المسجد.
حساب الصلوات المقضية:
* كيف أقضي الصلوات التي أهملتها منذ تكليفي الشرعي؟ وكيف لي أن أحسب عدد السنوات؟
- لا بدَّ من تقدير عدد السنوات الفائتة، ومع الشك، يمكن الاقتصار على المقدار المتيقّن في القضاء، ولا يجب قضاء الزائد المشكوك.
تذكر الخلل في الصلاة:
* بينما كنت أصلي فرض العشاء، تذكرت أنّي صلّيت المغرب أربع ركعات، كيف أصحّح صلاتي؟
- صلاة المغرب باطلة، وإذا كنت في العشاء ولم تصلْ إلى الركعة الرابعة عليك أن تعدل إلى المغرب، ولكن إذا كنت أنهيت العشاء، فإنَّك تعيد صلاة المغرب فقط.
تأخير الصلاة:
* من باب العبادة، أحاول في بعض الأحيان في وقت السفر تأخير الصلاة إلى وقت آخر، أو أختفي في جانب بعيد عن الناس، من باب القول: «رحم الله امرءاً جب الغيبة عن نفسه»، هل هذا جائز؟
- إذا كان اختفاؤك لا يؤدي إلى ترك الصلاة في وقتها فلا مشكلة، أما قضية أن تجب الغيبة عن نفسك لأنك صلّيت صلاة في آخر الوقت أو في مكان آخر، فهذا ليس محل الغيبة إذا كان الناس الآخرون يعيشون مسؤولية إيمانهم.
سجدتا السهو:
* متى تجب سجدتا السهو؟ وما هي كيفيتهما؟
- تجب عند الكلام سهواً في الصلاة بغير ذكر الله، وعند نسيان التشهد أو السجدة الواحدة، وعند زيادة القيام أو التسليم، وأما كيفية أدائهما، فإنّ المصلي ينوي وهو جالس بعد الصلاة الإتيان بهما قربة إلى الله تعالى، يسجد الأولى والثانية ويقول في سجوده : (بسم الله وبالله السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته) ثم يتشهّد ويسلّم.
الوضـوء:
* إذا أمسك الرجل بيد زوجته وهو على وضوء، فهل يبطل وضوؤه؟
- لا يبطل الوضوء بذلك، بل ولا بملامسة جسدها ومداعبتها، وإنما يبطل الوضوء فقط بخروج الغائط أو البول أو الريح أو حدوث النوم ونحوه مما يسبب غياب العقل، أو خروج دم الاستحاضة القليلة أو المتوسطة عند المرأة.
الوضوء قبل الصلاة:
* توضأت قبل الصلاة بساعتين، وبقيت على طهارة، فهل عليّ تجديد الوضوء عند دخول الوقت؟
- لا مانع، المهم أن يكون الإنسان على طهارة قبل الدخول في الصلاة، كونه توضأ بنية الكون على طهارة.
البسملـة:
* نعرف أنه إذا قرأنا سورة الضحى، علينا أن نقرأ سورة الانشراح، ولكن هل علينا قراءة البسملة مرتين؟
- الأحوط ذلك.
صلاة الآيات:
* نحن نعيش في اليابان، وأنتم تعرفون أنّ هذا البلد يتعرّض لهزّات كثيرة، منها ما نشعر بها ومنها ما تكون خفيفة، فهل يجب الإتيان بصلاة الآيات في كل الحالات؟
- نعم، لا بدّ من الإتيان بصلاة الآيات في جميع الصور المذكورة، ما دام أنّ الهزة حدثت فعلاً بنحو يشعر الإنسان بها عادةً.
احتساب أيام القضاء:
* فاتتني أيام صلاة وصيام، ولا أتذكر عددها، فكيف أقضي ما فاتني؟
- يمكن أن تقتصر في القضاء على القدر المتيقن.
تعدد الوطن:
* أسكن في بغداد، ولكنّني أذهب كل ليلة جمعة إلى كربلاء حيث دار شقيقي، فهل أصلي في كربلاء قصرا أم تماماً؟
- إذا كنت تسافر كل ليلة جمعة، بحيث يكون عدد السفرات أربع سفرات في الشهر، فأنت كثير السفر، وكثير السفر في رأينا يتمّ في صلاته، ولكن الدار الذي تبيت فيه ليس وطناً بالنسبة إليك، فأنت تتم من جهة عنوان كثير السفر، ومسكنك ووطنك الأساسي بغداد.
قضاء العبادات:
* إني من مقلّديكم ولم أصلِّ وأصم من عمر تسع سنوات، ولكن بادرت إلى الصلاة والصيام من عمر البلوغ، فما حكم السنين الماضية؟
- الأقرب عندنا أن البلوغ يتحقق بالحيض، ولكن الأحوط اعتباره من تسع سنوات، ولذا الاحتياط يقتضي القضاء.
الصلاة بدون إقامة:
* عند المبادرة إلى الصلاة، لم أقم الإقامة في الصلاة، فما حكم صلاتي بدون إقامة؟
- الإقامة مستحبة استحباباً مؤكداً، وليست واجبة، فالصلاة صحيحة إن شاء الله.
الصلاة بثياب شفَّافة:
* عند الصلاة، أرتدي ملابس قصيرة وفوقها شادر خفيف، وأكون وحدي في البيت، فهل يجوز الصلاة فيه أم لا؟
- إذا كان الشادر خفيفاً، بحيث يظهر منه بشرة الجسم، فالصلاة لا تصح في هذا المجال. وإذا كنت جاهلة، فالصلاة إن شاء الله صحيحة، لكن في المستقبل، عليك أن تلبسي اللباس الذي يستر الجسد، حتى لو لم يكن هناك أحد في البيت.
شروط إقامة صلاة الجمعة:
* أرجو أن تبين لنا شروط صلاة الجمعة، وأين تقام؟
- صلاة الجمعة تحتاج إلى عدد معيّن من المصلين، إضافة إلى ضرورة أن يكون الإمام عادلاً مستقيماً في دينه، وألا تقلُّ جماعتهم عن خمسة أشخاص؛ أحدهم الإمام، وأن لا تكون هناك جمعة أخرى إلا إذا كانت تبعد عن هذه الجمعة بمقدار خمسة كيلومترات ونصف تقريباً، أما إذا فرضنا أن هناك جمعتين، والمسافة بينهما أقل من ذلك، فإن الجمعة الأولى تصح والجمعة الثانية لا تصح.
السجود على الفحم:
* هل يجوز السجود على الفحم والرماد؟
- لا يجوز ذلك.
التيمّم بالغبار:
* أحد المكلفين الذين يقلِّدونكم، كان يتيمم بسجادة الصلاة التي يوجد فيها غبار، ولكنه بسيط. فما حكم الصلاة التي صلاها؟
- إذا فرضنا أن هذا الغبار لم يكن بالمقدار الذي يمثل تراباً يُعتدُّ به، فصلاته باطلة، لأنه لا صلاة إلا بطهور.
الشهادة الثالثة:
* هناك كلام كثير حول الشهادة الثالثة، ما هو رأيكم في ذلك؟
- الشهادة الثالثة حق، وهي من حقائق الإيمان، وعلي هو ولي الله، وأولاده أولياء الله، لكنّها ليست جزءاً من الأذان ولا من الإقامة، ولم يأتِ بها النبيّ(ص) ولا عليّ(ع)، ولا أيّ من الأئمّة (ع). ويقول الشيخ الصدوق ـ وهو من علمائنا الكبار ـ إنها من صنع الغُلاة والمفوضة لعنهم الله. ويقول الشهيد الثاني ـ صاحب الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ـ إنّها من حقائق الإيمان، لا من فصول الأذان.
معرفة الإمام في الجماعة:
* هل يجب على المأموم معرفة اسم إمام الجماعة الذي يصلّي خلفه؟
- لا يجب عليه، بل يكفي أن يعرف أنه إنسان عادل مستقيم في دينه.
الوعد بالصلاة:
* رأيت والدتي المتوفّاة في المنام، ووعدتها أن أصلّي لها ركعتين كل ليلة جمعة، فهل أنا ملزم بهذا الوعد؟
- أنت لست ملزماً بما تراه في منامك، ولكن لا بأس بأن تبر والدتك، وهي ميتة، بأن تصلي لها ركعتين، لأن الإنسان عليه أن يبر والديه حيين كانا أو ميتين، بما ينفعهما عند اللّه تعالى.
إمامة المرأة في الجماعة:
* هل يجوز أن تكون المرأة إماماً للرجال في الصلاة؟
- لا يجوز لها ذلك، ويجوز لها أن تكون إماماً للنساء.
الجفاف الروحي:
* كيف نقاوم الجفاف الروحي في حال الصلاة؟
- ذلك يبدأ بأن يهيّئ الإنسان نفسه للوقوف بين يدي ربّه سبحانه، بأن يتفكّر في عظمته، ويقوم بكلّ ما من شأنه أن يساعده على الخشوع، كالأذكار وسائر المستحبّات، ثم يحاول أن يتفكّر في معاني أفعاله وأقواله، ودلالاتهما، في الصلاة.
حضور المسافر صلاة الجمعة:
* هل يصلح للمسافر أن يقيم صلاة الجمعة؟
- لا تجب عليه، ولكنها تصح منه، وإذا أدّاها فإنها تجزىء عن الظهر.
الصلاة بحزام جلد:
* ما حكم الصلاة بحزام الجلد، مع العلم بأنه مصنوع في بلد غير ملتزم بالإسلام؟
- إذا كان يعلم بأنه غير مذكّى، فلا يجوز الصلاة فيه، لكن إذا كان يشك في ذلك، فرأينا أنه يجوز الصلاة فيه.
الوضوء لحمل المصحف:
* إذا وضعت المصحف داخل الكيس، ثم حملته، هل يجب الوضوء لحمله داخل الكيس؟
- لا، لا يجب ذلك، لأن الإنسان لا بد من أن يكون على طهارة عندما يمس الكلام الذي في المصحف، وهو معنى قوله تعالى: )لا يمسه إلا المطهرون((الواقعة:79)، أما عندما يحمله فليس هناك مشكلة.
رابعاً: الصيام والكفّارات
صيام بلا صلاة:
* ما رأيكم في أناس يصومون رمضان ولا يصلّون إلا في رمضان؟
- هؤلاء الناس عليهم أن يعرفوا أن «الصلاة هي عمود الدين، إن قبلت قبل ما سواها، وإن رُدّت ردّ ما سواها»، وأن يعرفوا أن الله أراد لنا أن نصوم لنتّقيه: )يا أيّها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون((البقرة:183). فمن لا يصلي خارج شهر رمضان، فمعنى ذلك أنه لم يحصل من صومه على شيء؛ لأنه لم يحصل على التقوى، وقد ورد عندنا: «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والسهر».
خامساً: الخمس والزكاة
رأس السنة:
* بعث أحد الأصدقاء مبلغاً لشخص ولم يسجِّل تاريخ استلامه، وصُرف المبلغ بعد رأس السنة التي استحَّق عندها الخمس، ولم يعرف هل المبلغ هدية أم هو قرض، فما حكم ذلك المال؟
- إذا كان المبلغ قرضاً فلا يجب فيه الخمس، أما إذا كان هدية فعليه الخمس.
تخميس الهدايا:
* هل على رأيكم أن الهدية تخمَّس إذا مرَّ عليها سنة؟ فإذا كان الجواب إيجابياً، فماذا نفعل إذا كانت عندنا منذ ثلاث سنوات؟
- على رأينا أنّ الهدية تُخمَّس، ولا يجب إلاّ خُمس واحد.
دفع زكاة الفطرة:
* يقال إنه لا يجوز دفع زكاة الفطرة مالاً، وإنما يجب دفعها طعاماً، لأنك إذا دفعتها مالاً فقد تصرف في طريق محرم، ويستشهدون بذلك على أن المسلمين في عصر الرسول (ص) كانوا يخرجون فطرتهم طعاماً من القمح وغيره، فهل هذا صحيح؟
- ليس من الضروري أنك عندما تعطيه مالاً فسوف يصرفه في المحرم، لذلك يجوز دفع القيمة إلى الفقير، والفقير يشتري الطعام. لكن الفقه اشترط أن تكون زكاة الفطرة من القوت، وهو الطعام الشائع عند الناس.
نقل زكاة الفطرة:
* في شهر رمضان الفائت ترتّبت عليّ زكاة فطرة، فوضعتها جانباً لإرسالها إلى مدينة أخرى، لكن حصل طارئ، ولم أسافر في العيد، والزكاة لا تزال موجودة، فهل يجوز إعطاؤها إلى عائلة من يتامى عراقيين في السيدة زينب(ع)؟ أرجو معرفة ذلك، علماً بأن اليتامى أشد فقراً من أولئك حسب علمي؟
- مقتضى الاحتياط أن لا تنقل زكاة الفطرة من البلد الذي أنت فيه إلى بلد آخر، بل أن تعطيه لفقراء البلد الذي تقيم فيه. ولذلك إذا كنت تقيم هنا، فيُمكنك أن تعطيه إلى الفقراء الأيتام أو الفقراء من غيرهم.
الخُمس والتقسيط:
* توجّب عليَّ الخمس، وفي الوقت عينه أريد شراء منـزل بغية الزواج، فهل يجوز لي تقسيط الخمس؟
- عليك أن تتصالح مع الحاكم الشرعي حتى يرخّص لك بذلك.
تخميس الإرث:
* ورثت والدتي مبلغاً من المال، فهل عليها تخميسه؟
- إذا كان المورِّث قد خمّس هذا المال فليس عليه خمس، أمّا إذا لم يكن قد خمّسه، فإنَّ الخمس متعلّق به.
مال الزواج:
* أنا أحرص على جمع المال لأجل الزواج حتى لا أقترض من البنك، فهل يجب الخمس في ذلك؟
- إذا بقي المال مدّخراً لديك لسنة أو أكثر، فإنه يجب تخميس هذا المال أو عند حلول رأس سنتك.
الخمس في أموال الصغار
* يعطى لصغارنا راتب لصرفه عليه، فهل يجب عله الخمس؟
- في رأينا أن ما يملكه الصغار لا يجب فيه الخمس.
الهبة تهرباً من الخمس:
* رأس سنتي الخمسية يوافق يوم غد، فهل يجوز لي أن أخرج قسماً من المال الذي يكفيني لمدة شهر، وأعطيه إلى زوجتي بعنوان الهبة، وتصبح هي التي تصرف المال خلال هذا الشهر، علماً أن رأس سنة زوجتي يختلف عن رأس سنتي؟
- تارة تكون هذه الهبة هبة حقيقية، بحيث إن زوجتك لما أعطيتها المال تقول لا أريد أن أصرفه في البيت، فلا توجد مشكلة، أما إذا كانت شكلية، فإن عليك أن تخمّس هذا المبلغ عندما يأتي رأس سنتك؛ لأنّه لا يزال على ملكك.
استلام الحق الشرعي:
* لو أن هاشميّاً راتبه الشهري يكفيه وعياله، ولكنّ عليه ديوناً مستحقة للآخرين، فهل يجوز له أن يأخذ الخمس بما يسدد به ديونه؟
- عندما يكون عليه ديون، وهو غير قادر من خلال إنتاجه أن يسددها، فيكون فقيراً بلحاظ حاجته لسداد دينه، وبذلك يجوز له أن يأخذ الخمس لسداده، والأحوط أن يكون ذلك بإذن الحاكم الشرعي.
مؤونة السنة:
* شخص لا يملك داراً للسكن ويسكن بالإيجار، ولكنه يجمع أموالاً لغرض شراء دار له، وقد يحتاج إلى عشر سنوات لجمع المبلغ اللازم، فهل يجب عليه أن يخمس المبالغ التي يجمعها لشراء الدار؟
- نعم، إذا مرت عليها سنة يجب عليه الخمس، لأن ما يستثنى إنما هو ما يصرفه للمؤونة، لا ما يجمعه، حتى لو كان لحاجة مستقبلية.
خمس أرض للسَّكن:
* هل إنّ قطعة الأرض المتروكة لعدم القدرة عل بناء دار سكن علـيها يجب عليها الخمس؟ علماً أن سعرها متغير بين فترة وأخرى؟
- إذا كان قد أعدها للبناء فلا خمس عليها، ولكنه إذا أعرض عن ذلك، فيجب أن يخمسها في الحال بحسب سعرها الحالي.
الدليل على دفع الخمس للهاشميين:
* هل يوجد عندنا دليل قطعي بأن يُدفع الخُمس إلى السيد؟
- الخمس فيه قسمان؛ قسمٌ سهم السادة الفقراء، وقسمٌ سهم الإمام. وسهم الإمام يعطى للفقراء والمشاريع الخيرية لغير السادة. وسهم السادة يعطى لفقراء السادة وليس لكل السادة.
سادساً: الحج والعمرة
أشهر الحج:
* ما هي أشهر الحج؟ هل هي اثنان أم ثلاثة؟ وهل يجوز التحلل من الإحرام إذا أدّى المسلم فريضة العمرة قبل فترة طويلة نسبياً من يوم الحج؟
- الأشهر هي: شوال، وذي القعدة وقسم من ذي الحجة. وبالنسبة للسؤال الثاني، فإن الحاجّ بعد انقضاء عمرة التمتع، يبقى في مكّة إلى حين الإحرام للحج.
العمرة عمّن لم يحج:
* توفي والدي، ولم يحج إلى بيت الله الحرام، فهل يجوز أداء العمرة قبل الحج عنه؟
- إذا لم يوص بالحج، ولم يكن لديه مال يحج به، فلم يكن مستطيعاً للحجّ في حياته، فلا يجب على ورثته ذلك، ولذلك لهم أن يعتمروا عنه، ولهم أن يحجوا عنه؛ فإن ذلك برّ به.
سابعاً: الزواج والطلاق
برود عاطفي:
* عقدت قراني على شاب أحبه وأحترمه، ولكني لا أشعر بانجذاب عاطفي أو جنسي تجاهه، فما هي نصيحتكم لي؟
- قد يكون ذلك طبيعياً في بداية حياتك الجنسية مع خطيبك، بل حتى عندما تعيشان في بيت واحد كزوجين، حيث من المحتمل أن يبدأ الأمر كذلك، ولذا لا بد من الصبر حتى يزول الخجل ويبدأ الانسجام من الناحية الجنسية ما دمت تحبين خطيبك، ومن المستحسن أن يكون لكما بعض الثقافة الجنسية.
تقتير الزوج:
* أنا متزوجة منذ ستة أشهر، ومشكلتي أن زوجي يضعني ومولودي المنتظر في المرتبة الثانية عندما يكون الأمر متعلقاً بأهله، فهو مستعد لأن يقدم لأهله كل شيء، وعندما أطلب منه شيئاً لبيتنا يغضب ويصرخ، فهل يجوز له ذلك؟
- يجب على الزوج أن ينفق على زوجته كل ما تحتاجه من مؤونة خاصة بها وبأولادها، ويشمل ذلك مؤونة الأكل والملبس والشراب والطبابة والزينة والخادمة إن كانت ضرورية، بمعنى أنّ على الرجل أن ينفق على زوجته كلّ ما تحتاجه بحسب ما يكون مناسباً لحالها وشأنها، ولا يجوز التخلف عن ذلك، ولا سيما مع القدرة، وإلا كان ديناً في ذمته (بالنسبة إلى خصوص نفقة الرجل) ولا يسقط بحال إلا برضى الزوجة نفسها.
طلب الطلاق:
* وجدت أن زوجي على علاقة مع امرأة غير مسلمة، ويدّعي أنه عقد عليها شرعياً، لا أستطيع تحمّل الأمر، فهل أستطيع أن أطلب الطلاق؟
- لا بدّ من التفاهم حول الطلاق، لأنه لا مجال للطلاق من دون رضاه ما دام أنه يؤدي الحقوق الزوجية كلها، والأفضل محاولة إرشاده والتعامل معه بالحسنى.
تحديد المولود:
* هل يجوز تحديد جنس المولود عند انقسام البويضة كما يجري في بعض الدول؟
- لا مانع من ذلك. )عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ((العلق:5). فإن الله قد هدانا لنكتشف بعض أسرار الخلق، فعندما ننطلق بما وهبه الله لنا من عقل وتجربة، فإن ذلك لا يعني إعجاز الله أو التعدي على سلطانه.
اشتراط النفقة على الزّوجة:
* لو اشترط الرجل على المرأة في الزواج أن تكون نفقتها عليها وقبلت، فهل يصح العقد؟
- نعم، العقد صحيح ولا علاقة للنفقة بصحة العقد، أما النفقة فإنها تسقط إذا أسقطت حقها فيها.
الزواج بامرأة لا دين لها:
* هل يجوز الزواج من امرأة مؤمنة بالله، ولكنها غير متبنية لأي دين؟
- الزواج: إمّا بالمسلمة أو بالكتابية، أما المؤمنة بالله ولكنها لا تلتزم بكتاب ولا بدين، فالأمر مشكل، والفتوى على عدم الجواز.
الطلاق في المحكمة:
* امرأة تزوّجت من شخص من خارج سوريا، وطلقها عن طريق المحكمة الشرعية، وحكم لها القاضي بالطلاق مع الحقوق المترتبة على الزوج من مؤخر ومصاريف وقضية الطلاق. وسافر الشخص إلى بلده ولم يدفع الحقوق المترتبة عليه كزوج، وذهبت إلى الكثير من العلماء الموجودين في المنطقة، وقالوا لها: أنت غير طالق إلا عن طريق الحاكم الشرعي. فما هو رأيكم؟
- تارةً يكون هذا الرجل ملتزماً المذهب السني، الذي يجيز هذا الطلاق، سواء عن طريق المحكمة أو الشخص عندما يطلقها هو أو يطلقها شخص آخر، فإذا كان زوجها سنياً فالطلاق صحيح، وتارة يكون هذا الرجل ملتزماً بالمذهب الشيعي، وقاطعها ولم ينفق عليها، فعليها أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي ليخيّره بين الطلاق والإنفاق، فإن امتنع منهما، طلقها الحاكم الشرعي.
شروط المخالعة:
* ذهبت أنا وزوجي إلى المحكمة الشرعية في دمشق، ورددنا صيغة المخالعة، أي الطلاق، ما هو تكليفي الشرعي في عدة الطلاق؟ وهل يجب عليّ تكرار الصيغة أمام الحاكم الشرعي مع العلم أني من مقلّديكم؟
- لا بد من أنْ يجري الطلاق، سواء كان خلعياً أو رجعياً، أمام شاهدين عدلين، مع الشروط الشرعية الأخرى، ولذلك فمجرد ما ذكر، إذا لم يكن واجداً للشروط الشرعية، لا يحقق الطلاق الشرعي.
انفصال الزوجين:
* أمي وأبي منفصلان، ولكن دون طلاق، لفترة سنتين ونصف تقريباً، والآن ينويان العودة إلى بعضهما بعضاً، فما هو الحكم الشرعي لأمي؟
- هذا التباعد والانفصال الجسدي أو البيتي لا يجعل المرأة طالقة من زوجها، ولذلك يمكن أن ترجع إلى زوجها من دون الحاجة إلى عقد جديد.
تنظيم النسل:
* ما هو حكم العمل الذي تقوم به المرأة من ربط صمام على عنق الرحم، يجعلها لا تحمل مرة أخرى، وخاصة أن لديها أربعة أولاد، ما هو الحكم في حالتين: برضا زوجها، أو بعدم رضا زوجها؟
- كل وسيلة منع حمل لا توجب العقم، بحيث يمكن رفعها عند الحاجة إليها، فهي جائزة، أما الوسيلة التي تؤدي إلى العقم التامّ والنهائي، فلا تجوز.
أما مسألة أن تتصرف المرأة بجسدها، فهو شأن المرأة نفسها. ولذلك لو فرضنا أنها أرادت أن تستعمل مانعاً للحمل، وذلك بعد أن تكون قد أنجبت ولدين أو أكثر ـ إذ ليس من حقّها أن تمتنع عن الإنجاب نهائيّاً، وذلك بسبب وجود شرط ضمني أنه لا بد من الحمل ـ وكان الأب مثلاً يريد عشرة أولاد، وهي لا تريد، فلا يجب عليها إطاعته، ولا يحرم عليها استعمال موانع الحمل في هذا المجال. إذاً في هذه المسـألة، لا علاقة للزوج بقضية موانع الحمل التي تأخذها المرأة، بشرط أن يكون هناك أولاد بالمقدار المتعارف عليه في هذه المسألة. ولا يجب أن تستجيب للزوج في حال طلب عدد كبير من الأولاد. أما إذا كانت الوسيلة تؤدي إلى العقم، أي لا تستطيع المرأة بعده الحمل، ولا يمكن إزالة هذا المانع، فلا يجوز وضع هذه الموانع حينئذٍ. أما إذا كان مؤقتاً، بحيث يمكن إزالته، فيجوز. وعلى الرجال والنساء أن يلتفتوا إلى نقطة، وهي أنه قد يقول أحدهم: أنا عندي أربعة أولاد، وهذا يكفي، ولكن ما هو الضمان أن أولادك يبقون لك؟ يمكن أن يكون هناك حادث سير، أو يمكن أن يحدث أي شيء يفقدك إياهم، فإذا كان مانع الحمل لا يؤدي إلى العقم، فلا يوجد مشكلة لديك، فهناك فرصة بعد ذلك أن يأتيك أولاد، فيجب ملاحظة هذه النقطة.
أحكام الحداد:
* توفي والدي قبل فترة وجيزة، وأمي تجاوزت الخمسين من العمر، وكما هو معروف ضمن ديننا الإسلامي، وجب عليها أن تعتدَّ بعدة المتوفى زوجها، وقد سمعت أنه يمنع عليها الخروج من المنـزل، وإن خرجت وجب عليها أن تستر وجهها كاملاً وكفيها والعودة إلى المنـزل قبل غروب الشمس، وأن تبتعد عن كل من هو مذكر، وهذا ما عرف عنه بالأعراف والتقاليد! لكنني عندما قرأت معظم رسالات المراجع (حفظهم الله)، لم أقرأ هذا الشيء. أتمنى منكم تبيان الأمر لنا، حتى نستنير ونعرف ما يتوجب على والدتي العمل به؟
- لا يحرم عليها الخروج. نعم يحرم عليها التزيّن، والتزوّج في أثناء العدة. أما ما جرت عليه التقاليد، فليس له أساس شرعي ثابت في مستوى الحرمة.
الزواج من بنتٍ زنى رجل بأمها
* رجل تزوج من فتاة مسلمة في أمريكا، وبعد الزواج تبيّن أنه كان له علاقة غير مشروعة بأمّها قبل أن يصبح متديناً، فهل يطلق؟ وماذا تنصحون؟
- في رأينا ـ وهذه مسألة مختلف فيها ـ أن الرجل إذا زنى بامرأة، يجوز له أن يتزوج ببنـتها، وإن كان الاحتياط لا بأس به في ترك الزواج.
المحرم في السفر:
* هل يجوز للمرأة السفر بدون إذن زوجها وبدون محرم؟ وهل يجوز تدخل أهل الزوجة بشأن الحياة الزوجية؟ وهل يجوز للزوجة التكلم بكل ما يحدث في بيت الزوجية حتى ولو كان لأقرب الناس لها؟
- لا يجوز لها السفر بدون إذن زوجها إذا كان زوجها يحتاجها من ناحية العلاقة الزوجية وما يتعلّق بها. ويجوز لها السفر بدون محرم إذا كانت تأمن على نفسها.
أما في ما يتعلق بتدخل أهل الزوجة، فلا يجوز لهم التدخل بما يفسد حياة الزوجين، وعلى الزوجة أن تستر زوجها، وتستر بيتها، بما تريد لزوجها أن يسترها، أو يستر بيتها.
منع الزوجة من إكمال دراستها:
* أثناء عقد الزواج، لم يكن هناك حديث عن إكمال الزوجة لدراستها بعد الزواج أو عدم إكمالها لها، هل يجوز للزوج الآن ـ بعد الزواج ـ أن يمنعها من ذلك رغم إصرارها وإلحاحها؟ وما هو الحل في رأيكم في حال كون كلا الزوجين متمسكاً برأيه؟
- إذا كانت تدرس قبل الزواج، وعرف من حالها ومن الوضع العام أنها مصرة على إكمال دراستها، فيصير هذا من قبيل الشرط الضمني الذي لم يعترض عليه الزوج حال العقد. والشروط الضمنيّة هي الشروط التي لا ينطق بها الزوجان، ولكنها تكون حاضرة أثناء العقد، بحيث يُستغنى عن ذكرها من خلال التفاهم عليها، من خلال الواقع الخارجي. إذا كان الأمر كذلك، بحيث عرفنا أن الزوجة عندما قبلت بالتوكيل في عقد زواجها، أو عندما أنشأت العقد، كأنه كانت تشترط ذلك، لأنها مصرة عليه، ولا تقبل الزواج من دونه، فليس للزوج أن يجبرها على الترك أو يمنعها، لأنه يجب الوفاء بالشرط الضمني، كما يجب الوفاء بالشرط المصرح به، (المؤمنون عند شروطهم). ونحن ننصح في مثل هذه الأمور، أن تحلّ المسألة من خلال التفاهم بين الزوجين، حتى لا تؤدّي الأمور إلى التنافر والمشاكل.
إطاعة الزوجة لوالدها في مكان السكن:
* هل يجب على الفتاة أن تطيع والدها أو زوجها، بعد عقد قرانها، فيما لو وقع اختلاف في الرأي بين والدها وزوجها، بخصوص مكان السكن؟
- البالغة الرشيدة كالبالغ الرشيد ترتفع عنهما الولاية، سواء تزوجت هذه البالغة الرشيدة أوْ لم تتزوّج. فلا ولاية للأب على البالغة الرشيدة، ولا على البالغ الرشيد. أمّا في مكان السكن، فالزوجة تتبع زوجها، إلا إذا اشترطت عليه مكاناً معيّناً. نعم، يستحب للولد سواء كان بنتاً أو ابناً إطاعة الوالدين، قال تعالى: )وبالوالدين إحساناً((البقرة:83)، لكن الطاعة بمعنى الإحسان، وليس بمعنى أن يكون الوالد مشرّعاً، أي يملك السلطة الشرعية عليها.
أخ من الرضاعة:
* هل أخ الرضاعة يكون أخاً لأخته التي أُرضعت معه فقط، أم يكون أخاً لجميع إخوتها؟
- يكون أخاً لكلّ أولاد المرضعة من الذكور والإناث، وما يحرم في الرضاع يحرم في النسب.
الزواج المؤقت:
* هل يجوز عقد زواج مؤقت على فتاة بكر؟
- لا نقول بحرمة ذلك، ولكن نرى أنَّ لذلك نتائجه السلبيّة التي ينبغي أن تُؤخذ بعين الاعتبار.
خاتم الزواج:
* هل يُعتبَر خاتم الزواج الذي تلبسه المرأة من الزينة؟
- لا مانع من لبسه وليس من الزينة.
ولاية البنت على نفسها:
* هل يجوز زواج المتعة ببنت بكر من غير إذن وليّها؟
- يجوز لها إذا كانت رشيدة ولم يكن مضرّاً بمستقبلها ضرراً معتدّاً به، وإن كان الأولى تجنّب ذلك، والحرص على استئذان الوليّ في الدائم والمنقطع.
العقد على زوجة منفصلة:
* أعيش في الغرب، فهل يجوز إجراء عقد مؤقت مع امرأة غير مسلمة متزوجة ولكن منفصلة عن زوجها؟
- لا يجوز إجراء العقد مع المتزوّجة ولو كان زوجها منفصلاً عنها حتى تطلق منه بحسب دينها، هذا إذا كانت متزوّجة بالزواج المدني من خلال اعتقادها بشرعيّته بحسب التزامها العقيدي، أمّا إذا كانت لا تعتقد شرعيّته، بل كان مجرّد زواج شكلي لأنَّها تؤمن بمسيحيّتها التي تشترط في شرعية الزواج أن يكون في الكنيسة على يد رجل دين، فيجوز الزواج بها، لأنَّه باطل عندها على الفرض؛ ولكن ينبغي الاحتياط في ترك ذلك أيضاً، لأكثر من عنوان شرعي واجتماعيّ، بل قد يكون محرّماً.
إنهاء مدّة العقد:
* إذا كان العقد المؤقَّت بين الشاب والفتاة لمدة سنة، ولكنهما أرادا إنهاء العلاقة، فكيف يتم ذلك شرعاً؟
- يمكن ذلك بأن يهب الزوج المدة المتبقية لزوجته، بأن يقول: وهبتك المدة المتبقية أو أبرأتك منها.
عقد الزواج وفق مذهب السنّة:
* هل يجوز لي أن أعقد زواجي على مذاهب أهل السنة رغم إني على مذهب الإمامية ولا يوجد أحد في الحي من أهل مذهب الإمامية؟
- لا فرق بين عقد الزواج عند أهل السنة وعند الإمامية. فكما هو عند أهل الإمامية يقول زوّجتك فلانة والآخر يقول قبلت مثلاً، أو الوكيل يقول زوجتك موكلتي والآخر يقول قبلت الزواج، فكذلك عند أهل السنة. ولذلك لا مشكلة لك في ذلك.
أطفال الأنابيب:
* أريد أن أخضع لعملية إنجاب طفل أنابيب عند طبيبة نسائية، فهل هناك أي إشكال شرعي؟
- لا إشكال في مفروض السؤال.
عدم اعتداد الزوجة:
* توفي زوجي لكنني لم ألتزم البيت، لأنني أعيش في أهوار العراق، ومتطلّبات العيش صعبة إضافةً إلى أنني كنت أجهل هذه المسألة، بعد فترة طويلة زرت مرقد الإمام علي(ع)، وسألت أحد المعمّمين، فقال لي ادفعي خمسة دنانير عنه وخمسة دنانير عنك، فأعطيته، فما هو العمل الشرعي لي الآن لإبراء ذمتي، وقد ناهزت الثمانين عاماً؟
- لا يجب عليك أن تدفعي لا خمسة دنانير عنه ولا خمسة دنانير عنك؛ لأن العدّة لا تعني عدم خروج الزوجة من البيت لأجل حاجاتها، بل إن العدة إنما هي ترك التزين وترك التجمل وما إلى ذلك في هذا المجال، وهذا الشيء الذي أعطيته لذلك الشيخ بقي في ذمته، إلا أن تسامحيه فيه، لأنه لا يجب عليك ذلك.
تأخير الزواج
* تقدم شاب لخطبة ابنتي، وهي في سن السابعة عشرة من عمرها، لكننا طلبنا من الشاب تأجيل الخطبة بعد إكمال تعليمها، وهو موافق على طلبنا، مع العلم بأن البنت موافقة على الارتباط به. ماذا يترتب من دور على الأب والأم من تأجيل هذا الموضوع؟
- على الأب والأم أن يرعيا رغبات البنت كما يرعيان مصلحتها، وهذه المسألة يكون فيها نوع من أنواع النصح والتداول في الأمر، حتى لا تشعر الفتاة بالإحباط.
طلاق المسيحية:
* تعرفّت إلى فتاة مسيحية تركت زوجها منذ عشر سنوات، طلبت منها أن تطلق زوجها لأتزوجها، ولكن الكنيسة لا تطلقها، فهل يجوز الزواج منها؟
- لا يجوز الزواج منها؛ لأنها امرأة ذات زوج.
الجهل بالعقد:
* إذا تزوّج اثنان بدون عقدٍ جهلاً بوجوب العقد، فما حكم أولادهما؟
- الزواج من دون عقدٍ باطل، ولكن إذا كانا يعتقدان أن ما أقدما عليه يُعتبر زواجاً شرعيّاً، فالأولاد شرعيّون؛ لأنّهم أولاد شبهة، وعليهما أن يجدّدا العقد بالطريقة الشرعيّة. أمّا إذا أقدما على العلاقة الجنسيّة وهما يعلمان عدم مشروعيّتها، فالأولاد أولاد زنا.
وجوب العدّة على المرأة:
* أنا متزوجة، ولم يقترب زوجي منّي منذ ثلاث سنوات، مع أننا نسكن في بيت واحد، ففي حالة طلاقي منه، هل تتوجب عليَّ العدة؟
- نعم، العدة هي واجب تعبدي في هذا المجال.
الزواج بغير الشريفة:
* هل يجوز أن يتزوج رجل من فتاة معروفة بأنها غير شريفة؟
- إذا تابت فيجوز، ولكنها إذا لم تتب، فلا يجوز الزواج بالمرأة المشهورة بالزنا على الأحوط، أي تلك التي تستعمل الزنا كتجارة. أما إذا كانت بالصدفة غير شريفة، ثم تابت، فلا مانع من ذلك.
إكراه على الطلاق:
* زوجة أقرضت زوجها مبلغاً من المال، وعندما طالبته بهذا المبلغ رفض أن يدفعه، فأقامت عليه دعوى، فحكم عليه بالسجن لمدة شهرين، وعندها عرض عليها دفع المبلغ لكي يخرج مـن سجنه، فرفضت إسقاط الدعوى إلا إذا طلقها، ما جعله يوكل شخصاً في طلاقها خلعاً، وبعد طلاق الوكيل لها وخروج الزوج من السجن، قال الزوج إنّه كان مكرهاً والطلاق باطل؟
- لا يجوز لها أن تبقي الدعوى بعد ما عرض عليها زوجها دفع المبلغ؛ لأنه ظلم. وأما قضية أن طلاقها كان إكراهاً، فهو أمر ممكن، والقضية تحتاج إلى مرافعة شرعية.
ثامناً: أموال وبنوك
تبييض الأموال:
* هل يحق للمسلم تبييض الأموال؟ وهل هو حرام أم حلال؟
- تبييض الأموال يشكِّل مساعدة لبائعي المخدرات غالباً، وذلك محرَّم شرعاً.
شراء مع الفائدة:
* في حالة شراء منـزل أو سيارة في أمريكا مثلاً، يقوم المصرف بالشراء ثم يقوم طالب المنـزل أو السيارة بتسديد الأقساط لمدة زمنية طويلة مع الفائدة المحددة، فهل يجوز من الناحية الشرعية عملية الشراء بتلك الطريقة؟
- إذا لم يكن هناك التزام من المسلم بالفائدة، فإنه لا إشكال.
حكم الجوائز في المبيعات:
* ما حكم الجوائز المعمول بها عند بعض معامل البسكويت مثلاً؟
- لا إشكال فيها.
أخذ المال من الولد:
* لدي دكان يعمل فيه ابني، ودخْل الدكّان كلّه معه، ولديّ أولاد آخرون، عليّ الصرف عليهم، ولكنه لا يعطني إلا القليل، وحتى هذا القليل يزعجني كثيراً حتى يعطيني إياه، لذلك فأنا أضطر لآخذ من جيبه لبقية الأولاد، فهل ذلك حرام أم لا؟ وما الكفارة إن كان حراماً؟
- تارة الدكان لك، وهو موظف عندك ـ مثلاً ـ أو متبرع، طبعاً ليس له أن يمنعك من إعطاء ما يترتب عليه، فهو له راتب ـ مثلاً ـ، أو له أجرة على عمله هذا، والباقي أنت تستحقه في هذا المجال، وعلى ضوء هذا، فإذا كان لا يعطيك حقك في ما تستحقه منه، عندئذٍ تستطيع أن تأخذ منه، لكن بمقدار ما لَكَ من حقٍ لا أكثر.
تسجيل الأملاك باسم الزوجة:
* رجل اشترى منـزلاً وسجله باسم زوجته، وهو ليس المنـزل الوحيد لهذا الرجل، ومات الرجل، ما حكم هذا المنـزل؛ هل يعتبر من حق الزوجة؟ أم يعتبر إرثاً للورثة الشرعيين؟ وهل يؤخذ بقول أحد الورثة: بأنه سمع من أبيه، بأنه اضطر لتسجيل المنـزل باسم الزوجة هروباً من الضريبة؟
- هذه دعوى، من حيث إن التسجيل هل كان لغرض التهرب من دفع الضريبة بحيث بقي المنـزل تحت ملك الزوج؟ عندئذٍ يكون المنـزل للورثة. أما إذا كان قاصداً إعطاءه إياها، فطبعاً يكون البيت لها. وهذه أمور تحتاج إلى مرافعة شرعية، من أجل إثبات ما هو الأساس في ذلك.
حرمان بعض الورثة:
* سجّل الوالد بيت العائلة الذي هو باسمه، باسم أحد أبنائه، والمُلك الثاني باسم الولد الثاني من الزوجة الثانية، وحرم الأولاد من الزوجة الأولى، ما هو الحكم في هذه المسألة؟
- ورد في الحديث: «الناس مسلَّطون على أموالهم»، فإذا كان تسجيله باسم الولد الأول تسجيلاً حقيقياً تمليكياً، وهكذا بالنسبة إلى الولد الثاني، ولم يبق لديه تركة، فهو يملك هذا وذاك ولا يملك الأولاد شيئاً، لأنه لم يبق عنده شيء في هذا المجال، ولكن ينبغي للأب أن لا يعقّد أولاده بأن يعطي بعضهم ويحرم بعضهم الآخر.
نفقة الزوجة:
* لدي زوجتان، الأولى تسكن أوروبا وهي تقبض أربعة رواتب، الأول: راتبها الشخصي، والثاني: راتب أولادها القاصرين والذين هم أولادي، والثالث: راتب قيمومتها على أولادي، والرابع: نصف راتبي، والآن تطالبني بنصف راتبي الآخر، على اعتبار أن نصف الراتب لا يكفي لنفقتها، وذلك متعسّر عليّ، فهل يحق لها المطالبة بذلك؟
- عليك النفقة، والمال الذي تقبضه الزوجة ليس منك، لأنّه مال الأولاد، ومال الأولاد للأولاد، وكذلك بالنسبة إلى راتبها الشخصي، فهو ملكها، وراتب قيمومتها على الأولاد، من قبل الدولة. لذلك نقول إن الزوج ليس له بتلك الرواتب شأن، وعليه أن ينفق عليهم، حتى لو كانت الدولة تعطيهم، ولكن في هذه القضايا من المفروض أن يحصل تفاهم بين الزوجين، وعلى الزوجة أن تقدر ظروف زوجها.
الولد وما يملك:
* الولد وما يملك للوالدين. هل هذا الحديث صحيح؟ وإذا كان الولد له زوجة وأولاد، فهل أيضاً تبقى الأموال للوالدين ولا يستحق الأولاد والزوجة أي شيء؟
- كلا، الولد ليس ملك الوالدين، هو إنسان مستقل، ولكنه ليس مستقلاً عنهم أخلاقياً، حيث قال النبي(ص) لشخص: «أنت ومالك لأبيك»؛ يعني أنت أتيت من خلالهما، ومثلما أعطاك والدك ماله، وصرف عليك منه، أنت عليك أن تلبي حاجاته. هذا من الجانب الأخلاقي، أما من الجانب القانوني، فإنه لا يجوز للأب أن يأخذ مال ولده، وفي حال كان الأب فقيراً، يجب على الولد أن ينفق عليه، وإذا لم ينفق عليه، يجوز له أن يأخذ من مال ولده، بما يؤدي النفقة، في هذا المجال.
المال من العمل الحرام:
* هل العمل الذي يقوم به الحلاّق النسائي أو الطبيب النسائي، وخاصة أطباء التناسلية، محرم، على أساس أنهم على احتكاك مع النساء، أم أن عملهم مبني على أساس النية؟
- الحلاق النسائي لا إشكال في أن عمله محرّم. أما الطبيب النسائي، فعندنا إذا كان الرجل أرفق بعلاجها من النساء، فيجوز أن تتطبّب لديه.
القرض بالفائدة:
* ما حكم القرض الذي يؤخذ من البنك من أجل شراء منـزل، والذي يستحق الفوائد؟
- لا يجوز الاستقراض من البنك بفائدة، بحيث يقصد الإنسان الفائدة في التزامه العقدي. لكن إذا لم يقصد الإنسان الفائدة في التزامه العقدي، بحيث إنه قصد نفس المال، ولم يقصد الفائدة على نحو الالتزام، وإن كان يعرف أنه يضطر إلى أن يدفعها، فإنه يجوز له ذلك.
تحديد السعر:
* اشتريت باوند ذهب على أساس أن العيار21، وعندما أردت بيعه عرضته على الصاغة، فمنهم من قال إنّ عياره أقل، ومنهم من قال هذا عيار21 بناءً على الفاتورة، فما رأيكم في حال بيعه، هل أخبر المشتري بما جرى أمْ أكتفي بالفاتورة؟
- عليك أن تخبره بالحقيقة، فإذا كان الذي باعك قد غشّك، فعليك أن لا تغش الإنسان الآخر.
استعارة الكهرباء:
* بمصطلح (الاستعارة) أجاز البعض سرقة الكهرباء، وذلك بأن يقول إني استعرت الكهرباء، ولست أسرقها، وبهذا المصطلح وبالكيفية السابقة عمل أهلي وجيراني، ولكني قرأت فتواكم بتحريم سرقة الكهرباء، فكان من الضروري معرفة ما هو حكم هذا المبدأ، ومعرفة حكم الوضوء والصلاة بالنسبة لأهلي طوال تلك المدة؟
- السرقة لها واقع، وليست كلمة، فعندما يقول أنا أستعير الكهرباء! تستعيرها ممن؟ ثم إن الاستعارة يجب أن تكون من المالك، وكيف تستعير أو تأخذ بدون علم الجهة المسؤولة غصباً وكرهاً. وعليه، فإن القضية ليست كلمة، ولكنها واقع، ولا يجوز للإنسان أن يسرق المال العام. وإذا كان بعض الناس يقول: هذا مال الحكومة، وبعض الفقهاء يقول لك هذا مال مجهول المالك، اذهب وخذه، ثم خمِّسه، فإنّنا نقول: مال الحكومة هو مال الناس، ليس مال رئيس الجمهورية، ولا مال رئيس الوزراء، هو مال الناس، والناس هم الذين يدفعون للحكومة الضرائب والرسوم، والحكومة تنشئ بها الخدمات.
ولذلك فإن هذا لا يجوز، لأنها سرقة لمال الناس، وهذه سرقة لمال اللّه، حتى لو قال بعض الناس لك: هذه الحكومة ظالمة، لماذا؟ لكن الناس ليسوا بظالمين. نعم، نحن لا نحاول أن نتعامل معهم في ما ظلموا. وهي سرقة كسرقة الأشياء والمال، ولا يجوز ذلك. أما إذا كان هؤلاء جاهلين، فربما يكون جهلهم عذراً، ولكن عليهم أن يمتنعوا من ذلك.
التأمين على الحياة:
* هل التأمين على الحياة جائز، خصوصاً إذا كان عن طريق استثمار المبلغ؟
- لا مانع من التأمين على الحياة؛ لأنه عقدٌ مستقل، ويجب الوفاء به، لكن بشرط ألا يكون مشتملاً على ما يحرم الوفاء به.
وقت الوفاء بمؤخّر الصداق:
* هل يعتبر مؤخرُ الصداق ديناً في ذمة الزوج للزوجة عليه الوفاء به، أم أنه غير ملزم بدفعه إلا في حالة الطلاق؟ وإذا كان العرف يقصد الحالة الثانية، فهل تُمضي الشريعة هذا العرف؟
- (المؤمنون عند شروطهم)، وقد يجعل الناس الأجل هو الطلاق أو الموت، والبعض قد يجعله حين الاستطاعة، وربّما يؤخّره بعضهم إلى عشر سنين مثلاً. فهذا أمر يتبع الشرط الذي يشترطه الزوجان في مؤخّر الصداق، ومؤخّر الصداق دين يجب الوفاء به حين استحقاقه بحسب الشرط.
حكم بيع الأعضاء:
* ما هو الحكم الشرعي في بيع الأعضاء لمن يحتاجها، ولا سيما أنّه شاعت في هذا الوقت ظاهرة بيع (الكلية)؟
- أولاً : لا يجوز التبرع بالأعضاء أو بيعها إذا كان ذلك يمثل خطراً على صاحب العضو، أو يؤدي إلى ضرر بالغ على صحته؛ لأن بعض الناس ربما إذا تبرع (بكليته) تتعرّض (الكلية الثانية) للخطر. هذه الأمور تحتاج إلى دراسة من جميع الجهات. وثانياً: أن لا تكون المسألة مسألة بيع وشراء، لأن (الكلية) لا ثمن لها، فهي ليست من الأمور التي تتداول في السوق.
وصيّة الجد لأحفاده:
* هل يجوز للجد أن يوصي بمقدار من الميراث لأحد أحفاده مع وجود أبناء وبنات وزوجة لهذا الجد؟
- نعم، الإنسان له أن يوصي بما أراد، ولكن لا تنفَّذ الوصية إلا بثلث ماله كحدّ أقصى.
الفائدة المصرفيّة:
* تقاضيت تعويض نهاية الخدمة، فهل يجوز لي وضع التعويض في بنك أجنبي وأخذ الفائدة عليه؟
- إذا وضع المال في البنك ولم يشترط على البنك نسبة الفائدة ووضعه من أجل حمايته من السرقة وما شاكل، وإن كان يعلم أنَّ البنك يعطيه فائدة، فلا مانع من أخذها.
المزاد العلني:
* إذا امتنع المدين عن سداد دينه، فإنَّ الحجز يجري على أملاكه وتُباع في المزاد العلني رغماً عن إرادته، فهل هذا البيع شرعي؟
- لا بدَّ من مراجعة الحاكم الشرعي لدراسة هذه المسألة.
حدود الربح:
* ما هو الحد المسموح به للربح في التجارة؟
- لا حدَّ لذلك على نحو اللزوم إلاَّ في حالات خاصّة، لكن مع كونه بخلاف المتعارف عليه في السوق، فللمشتري خيار الغبن مع جهله.
حكم استثمار الوقف:
* أستثمر مبنى هو وقف، وأدفع الإيجار للمتولّي، ولأنَّه صار قديماً أريد أن أهدمه وأجدّد البناء، وهذا يحتاج إلى عام، فهل لي أن أتوقّف عن دفع الإيجار طوال هذه المدّة، ثم أعاود الدفع بعد الانتهاء من البناء الجديد؟
- يمكن ذلك بالاتفاق مع متولّي الوقف، على اعتبار رجوع المصلحة للوقف في ذلك، واعتبار الفترة المعفاة من الإيجار محتسبة من ضمن ما يُصرف في البناء الجديد الذي سيعود إلى الوقف.
التصرف باللقطة:
* وجدت سواراً من الذهب وثلاث ساعات يدويّة. كيف أتصرّف بهذه الموجودات؟
- يجب التعريف عن هذه الموجودات في المكان الذي وُجدت فيه لمدة سنة، وإذا لم يُحتمل الوصول إلى المالك، يمكن عندئذ التصدّق بها عن مالكها أو تملّكها مع الضمان للمالك فيما لو ظهر بعد ذلك.
حكم اللقطة:
* وجدت مبلغ (500) ليرة سورية في أحد الشوارع العامة ملقاةً على الأرض في وسط الشارع، ولا طريق أمامي لمعرفة مالكها. ما هو المتوجب علي في هذه الحالة؟
- لك أن تتملّكها، والأحوط أن تتصدق بها عن صاحبها.
التعريف باللقطة:
* عند مروري في الشارع، عثرت على قلادة ذهبية ومضت عليها سنة كاملة وهي موجودة الآن عندي، فما حكمها؟
- لا يكفي أن تكون موجودة عندك في البيت، ولكن عليك أن تعرّف عنها لمدة سنة باعتبار أن لها علامة، بخلاف ما لو وجدتَ(500) ليرة سورية التي لا علامة لها كما في السؤال المتقدِّم. وعليك أن تعرّف عنها من جديد.
تقسيم الإرث وحرمان الحفيد:
* في مسألة المواريث، لماذا لا يلعب الاجتهاد دوراً في إعطاء ورثة الابن الحق في ميراث جدهم؟
- القرآن ركز الإرث للأولاد كطبقة أولى، ومع وجود الطبقة الأولى، لا يرث أولاد الأولاد معهم؛ لأنّهم طبقة ثانية، والاجتهاد لا يأتي في مقابل النص، يعني الأمر الذي نص الله عليه لا يمكن لمجتهدٍ أن يغيره ويبدله، وإلا فلو لو فرضنا أن شخصاً كان يعول أخاه مثلاً وتوفي، فهل يلزم أن يورث أخاه.
استئجارٌ مرتين:
* شخص مستأجر لبيت، هل يستطيع أن يؤجره بمبلغ مضاعف عمّا استأجره هو؟ وهل على المستأجر إعلام المؤجر أم لا يشترط ذلك؟!
- طبعاً، هنا في هذه الحالة، على الإنسان أن لا يؤجِّر البيت إلا برضى المالك الذي أجره إيّاه، بحيث يقول له إني أجَرتك أنت ولم أعطك فرصة لآن تؤجّر لأحد، وعليه عندما يريد أن يؤجره في هذه الحالة، أن لا يزيد عليه إلا بشروط معينة.
تحديد الأجرة:
* أعمل في تصليح الأجهزة الكهربائية، وقد لا يستغرق عملي أحياناً أكثر من خمس دقائق، فآخذ على ذلك أجرة مئتي ليرة سورية، فهل هذا حلال أم حرام؟
- الناس مسلَّطون على أموالهم وعلى أعمالهم، فما دام أن هذا العمل يستحق عليه مائتي ليرة سورية مثلاً، فلك أن تأخذ أجرته، لأن المهم هو التراضي، والقضية هي أن تتراضى مع الذي تعمل له، يعني أن المسألة ليست في وقت العمل، وإنما في طبيعة العمل.
تحديد الربح:
* هل هناك قاعدة فقهية اقتصادية تقول إن السلعة المحتكرة لا يحق الربح فيها بأكثر من نصف قيمة شرائها؟ وهل ينطبق هذا على أرباب المصانع التي تحتكر صناعة سلعة ما وتسوِّقها بأضعاف تكلفتها الإنتاجية، خصوصاً إذا كانت السلعة ضرورية كالدواء مثلاً. وهل براءة الاختراع تسمح للمخترع أن يضاعف ثمن اختراعه؟
- ليست هناك قاعدة فقهية تمنع الربح، أو تحدّده بنسبة معيّنة، وإنما القاعدة الفقهية تحرم الاحتكار، والاحتكار هو أن تحبس السلعة فلا تعرضها للناس، أو تطلب بها سعراً على خلاف المصلحة الاقتصادية العامة، بحيث يعجز الناس عن شرائها، وهذا في الضرورات التي يعيشها الناس في حاجاتهم العامة والخاصة.
أما قضية الربح، فهذه تختلف بحسب اختلاف الواقع الاقتصادي؛ ففي بعض الحالات، قد تكون هناك دولة إسلامية، وهناك قوانين لمسألة تنظيم الوضع الاقتصادي من حيث الربح وما إلى ذلك، وقد لا يكون ذلك. وفي المحصّلة، لا بدّ لصاحب المصنع أو صاحب براءة الاختراع من أن يخضع للنظام الاقتصادي الذي يحكم حاجات الناس ومصالحهم.
الاسم التجاري:
* أملك بضاعة ولها اسم تجاري، أي ماركة مسجلة لي، ولكنّ أحدهم استخدم هذه الماركة، فأقمت عليه دعوى، وتم الاتفاق بيني وبينه على التنازل عن الدعوى مقابل مبلغ معيّن كتعويض، ما رأيكم في مسألة قبضي لهذا المبلغ؟
- ما دام هذا المبلغ تم بالرضا بينك وبينه، فأخذه جائز. ونحن نعتبر أن الماركة المسجلة هي ملك كبقية الأملاك. ولذلك، فإن الصلح بينك وبينه على أساس دفع مبلغ معين جائز.
البيع بالتقسيط:
* أملك سيارةً وأريد أن أبيعها، فهل أستطيع أن أطلب قيمتها خمس مائة ألف ليرة سورية نقداً، أو خمس مائة وخمسين ألف ليرة سورية تقسيطاً؟
- إذا كان الاتفاق من الأساس على النقد بكذا، أو على التقسيط بكذا، فهذا لا يعتبر رباً، لكن إذا فرضنا أنّ الاتفاق تمّ على خمس مائة، ثمّ بعد ذلك فرضت عليه أن يدفع عن كلّ شهر تأخير كذا، فهذا رباً محرّم.
صرف الفوائد في دفع المظالم
* هل يجوز استخدام الفوائد المقبوضة من البنك في دفع المظالم؟
- لا يجوز للإنسان أن يأخذ الفوائد إذا اشترط ذلك، أما إذا وضع المال في البنك على أساس الوديعة، ولم يشترط أن يعطى مبلغاً ما، وإن كان يعرف أنهم سيعطونه، فيجوز له أخذ الفائدة؛ لأن حرمتها من جهة الشرط، وعندئذٍ، فإنه مع عدم الشرط، يجوز أن يتصرّف فيه كما يشاء.
التصرف بلقطة
* وجدت شيئاً في مكانٍ عملي، هل يجوز لي أخذه، علماً بأني تركته في مكانه عدة أيام ولم يأتِ صاحبه؟
- عليك أن تتحدث عنه، فربما يكون قد ضاع من صاحبه ولا يعرف. فإذا يئست من ذلك، فيمكنك أن تتصدّق به على نفسك إن كنت فقيراً، وإلاّ على غيرك من الفقراء.
تاسعاً: السلوك والمعاملات
مسؤولية الاغتصاب:
* فتاة اغتصبت، هل من إثم عليها؟ وما واجبنا تجاهها؟
- ليست مأثومة مع عدم رضاها واختيارها في ذلك، ويتحمل المغتصب الإثم والمسؤولية الجزائية والشرعية، ولا بدّ للمسؤولين والأفراد من تحصين المجتمع لمنع هذه الجرائم، ولحماية المجتمع والمرأة منها.
تناول الطعام مع غير المسلمين:
* أنا اعمل في مدرسة فيها العديد من أتباع الديانات الأخرى، وأحرج عندما يدعونني إلى الطعام، فما الحكم الشرعي في ذلك؟
- يجوز تلبية الدعوة والأكل معهم مع لزوم تجنب اللحوم، حيث يشترط إحراز التذكية أو أخذها من المسلم في الحكم عليها.
إذن الزوج:
* هل يجوز للمرأة المتزوّجة أن تجري عملية تجميل من دون إذن زوجها؟
- يجوز لها ذلك من هذه الجهة، وعليها مراعاة تكليفها الخاص في هذا الأمر من جهة كشف الجسد أو العورة أمام الطبيب الرجل ونحو ذلك.
العقاقير المنشطة:
* هل يجوز تناول العقاقير المنشطة التي تقوي العضلات من دون أن يكون لها داع طبي؟
- ليست محرمة ما لم تكن مضرة.
دية ضرب الطفل:
* هل دفع الدية للطفل من قبل أبيه عند ضربه تكون عندما يكبر أم يستطيع أن يدفعها حالاً واحتسابها من مستلزمات الحياة؟
- يمكن أن يدفعها الأب من مستلزمات حياته.
صرف الأولاد للعمل:
* متى يستطيع الأب تشغيل ابنه؟
- من المهم ملاحظة مصلحة الابن أولاً، وعدم تشغيله بمهام وأعمال لا تتناسب مع جسمه أو تربيته، لأنه لا ولاية للأب على ولده إلا بما يُصلح أمره، فلا يجوز للأب أن يعتبر ولده مثل قطع أثاث البيت يتصرَّف به كما يشاء، كما في ضربه، ومن الظريف أنه عندما يحاول أحدهم أن يخلِّصه منه، يقول له: لا تتدخل هذا ولدي فالله جعل الولاية للأب على ابنه بما يصلح أمره وينمي طاقته.
تربية القطة في المنـزل:
* أنا مقيم في إحدى الدول الأوربية، ولي أربعة أطفال، يلحّون عليَّ ويطلبون مني أن أجلب لهم (قطة) إلى البيت، فهل في هذا مشكلة (بخصوص شعر القطة)؟
- لا توجد مشكلة في تربية القطة، فهي حيوان أليف، ولكن عندنا أنه لا يجوز للإنسان أن يصلي في شعر أو وبر الحيوان الذي يحرم أكله، ـ ما لا يؤكل لحمه ـ لذلك إذا لم يدع الإنسان لوبر هذه القطة أن يصل إلى لباس الصلاة، فلا مشكلة من هذه الناحية.
ردّ العدوان:
* هل يحق لي ضرب من يدّعي قائلاً: (إن العمامة في هذا العصر هي مظهر من مظاهر التخلف)، وإن كان لا يحق لي فما حكمه؟ أو كيف أتعامل معه؟
- كلا، علينا أن نعظه ونناقشه في هذه المسألة، أما الضرب، فلا يجوز لمجرّد ذلك.
الحلف والشرك:
* رُوي عن النبي(ص) أنه قال: «من حلف بغير الله فقد جعل لله شريكاً»، نرجو منكم توضيح هذا الحديث ؟
- هذه المسألة من القضايا التي هي محلُّ خلاف بين الفقهاء، وأنّه هل يجوز الحلف بغير الله أو لا؟ وهناك الكثير من الآراء تقول لا يجوز الحلف بغير الله، لأن الحلف يأتي تعظيماً وتقديساً له، وهناك رأي آخر يقول إن الحلف بغير الله يأتي من باب الاعتزاز بهذه الأمور، كقول: وحياتك، أو حق ابني، أو بالكعبة، وبالقرآن، أي تعبيراً عن حبه واعتزازه بهم، بحيث أنه لا يمكن للإنسان أن يحلف بهم، ثم يحنث في حلفه بما يمثل إهانة لهم.
التسمية في الصيد بالبندقية:
* هل يشترط التسمية في صيد الطير بالبندقية، فيقول قبل إطلاق النار: (بسم الله)؟
- نعم، يشترط ذلك، قال تعالى: )وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ الله عَلَيْهِ((الأنعام:121).
تحريم المثلة:
* إذا كان لا يجوز المثلة ولو بالكلب العقور، فما هي عقوبة المفسد في الأرض، وهل التمثيل بالمفسد خارج عن هذا الحكم؟
- بيَّن الله تعالى عقوبة المفسد في الأرض، وأن الذي ورد في الآية الكريمة ليس تمثيلاً، قال تعالى: )إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ((المائدة:33)، والتمثيل يلحق الإنسان بعد أن يموت أو يُقتل، فيأتي بعد ذلك، أما في الآية الكريمة، فهي من الأحكام الشرعية التي جعلها الله من أجل ردع الذين يفسدون في الأرض، حتى لا يفسدوا في الأرض غيرهم. فالوارد في الآية ليس تمثيلاً، بل هو الحكم والعقوبة، خصوصاً وأنّ التمثيل ينطلق من حالة تشفٍّ، والمسألة هنا تنطلق من عمليّة ردع واعية للمجتمع. أما ذلك الوارد في الحديث الشريف: «إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور»، فذلك فيما لم ينص عليه.
الأذكار للحائض:
* هل يجوز للمرأة في فترة الحيض أن تتشهَّد وتسبِّح..؟ وإن أدركها الموت وهي حائض هل يمكنها نطق الشهادة مثلاً أو الدعاء أو غير ذلك من ذكر الله؟
- يجوز لها أن تتشهد وتسبِّح، وتقرأ القرآن، وتقرأ الدعاء، ويستحب لها أن تجلس على سجادتها في أوقات الصلاة لتذكر الله، ولها أن تنطق بالشهادة إن أدركها الموت وهي حائض، لأنه يحرم عليها الصلاة والصيام فقط، وكل شيء غير الصلاة هو جائز لها.
اليمين اللغو:
* أقسمت أمام صديقي أنّه إذا زرته، وقام بشراء الطعام والحلويات، فلن آكل في بيته شيئاً، وعندما زرته قدّم الطعام والحلويات، ولكنني لم ألتزم بما أقسمت به، ما الحكم؟
- هذا يمين لا قيمة له، لأن اليمين لابد أن يكون متعلقه راجحاً، أي في طاعة؛ لأنه إن أكرمك صديقك وقلت له: لا آكل، فهذا فيه إيذاء لصديقك، ولذا لا قيمة ليمينك ولا كفَّارة عليه.
البروتين الحلال والحرام
* نرجو منكم أن تبيّنوا الحكم في مادة البروتين المأخوذة من الخنـزير، ومادة البروتين المأخوذة من حيوان مأكول اللحم، مع العلم (أن المادة نفسها في الاثنين)، إلا أنّ كل واحدة مستخرجة من حيوان. لماذا تُحرم في حيوان دون الآخر، وهما يتكونان من تركيبة واحدة؟
- بالنسبة إلى الخنـزير يحرم أكل شحمه، ولحمه، وكل عناصره، إلا في صورة الاستحالة، وهي تبدّل اللحم أو الشحم إلى حقيقة نوعيّة أخرى، كما في الخشب يستحيل إلى رماد، مثلاً.
حكم اللّهو والترف:
* هل يجوز الأخذ بوسائل الترف، سواء في البيوت أو في الصالات العامة للمسلمين في ظل وجود الفقراء؟
- الأفضل للإنسان أن يتوازن في ما أعطاه اللّه سبحانه وتعالى، قال تعالى: )وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ((الذاريات:19)، فإذا أخرج الإنسان ما يجب عليه من حقوقه الشرعية للفقراء وللمحرومين مما أوجبه اللّه عليه، فعند ذلك يقول اللّه سبحانه وتعالى: )قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ((الأعراف:32). والأفضل للمسلم أن لا يكتفي بما يوجب عليه الإنفاق، بل ينفق في موارد المستحبات كذلك.
كفّارة القسم بغير اللّه:
* هل تجب الكفارة على القسم بغير اللّه سبحانه وتعالى؟
- لا تجب الكفارة على ذلك، وينبغي للإنسان أن يقسم باللّه فقط. وتحرِّم بعض النظريات الفقهية القسم بغير اللّه سبحانه وتعالى.
حكم الألفاظ البذيئة:
* بعض المؤمنين يستخدمون الألفاظ البذيئة في كلامهم، وفي ذلك انتهاك لحرمة المسلم وإعطاؤه نظرة سيئة أمام الآخرين، فهل المزاح في ذلك جائز؟
- لا يجوز المزاح بالألفاظ البذيئة. وقد قال تعالى: )وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَان((الحجرات:11). وقد ورد «إنّ الله حرّم الجنة على كل فاحش بذيء اللسان قليل الحياء لا يبالي ما قال ولا ما قيل له»، وورد «إن اللّه يبغض المتفحش البذيء اللسان».
الاستئذان للدخول على الغير:
* هل يجب على الأم أو الأب أو الأخ أو الأخت الاستئذان قبل الدخول إلى غرفتي، علماً أني أعيش معهم في المنـزل نفسه؟
- ينبغي أن يستأذنوا في الأوقات أو الحالات التي يتخفّف فيها الإنسان من أوضاعه العاديّة المحتشمة أو من ثيابه؛ لأن الإنسان قد يكون في حالةٍ ما في خلوته، لا يحب أن يراه أحد فيها.
عدم الالتزام بالعهد:
* رجل عاهد اللّه تعالى على عدم ارتكاب معصية معينة، ولكنه لم يستطع أن يلتزم بذلك، ماذا يترتب عليه من كفّارة؟
- عليه إطعام ستين مسكيناً أو صيام شهرين متتابعين.
حكم شراء الميتة للحيوانات:
* هل يجوز شراء اللحوم غير المذكاة لغرض تغذية الحيوانات؟
- يجوز للإنسان ذلك.
حكم أكل الكنغر:
* هل يجوز شرعاً أكل لحم الكنغر؟
- الظاهر أنه من الحيوانات التي لا يجوز أكلها.
النـذر:
* هل نستطيع تعديل النذر للّه قبل وقت تحقّقه ليصبح أكثر نفعاً؟
- إذا كان النذر راجحاً فلا يمكن تعديله، ولكن يمكن للأب أن يصرف الابن أو البنت عن النذر، أو الزوج بالنسبة لزوجته، وإذا كان النذر غير راجح فلا يجب الوفاء به.
استحباب العقيقة:
* كيف تُقام العقيقة؟
- هي مستحبة في اليوم السابع من عمر المولود، ولا بدَّ أن تكون من البقر أو الغنم أو الإبل، فتُذبح وتقطع دون كسر العظم، ويتخيّر بين توزيعها لحماً أو طبخها ودعوة المؤمنين إليها عشرة فما زاد، ويُكره أن يأكل منها الأب والأم وعيال الأب.
العمل في الآثار:
* ما حكم الذي يعمل في البحث عن الآثار، علماً أنَّه قد يضطر لنبش القبور؟ وهل أخذ الأجرة على ذلك جائز؟
- عمله في البحث عن الآثار جائز، ولكن يجب عليه تجنّب نبش القبور، إلاَّ مع الاندراس التام، والأجرة على عمله كباحث آثار جائزة.
العمل في شركة للخمر:
* هل يجوز العمل في شركة تعمل في بيع الخمور؟
- إذا كان عمله في مجال الخمور بيعاً ونقلاً ومحاسبة ونحو ذلك فهو محرّم.
التحادث مع الشباب:
* أتحادث مع شاب على الهاتف وأنا معجبة به، فهل يجوز ذلك؟
- المحادثة بين الجنسين عبر الهاتف أو عبر وسيلة أخرى، إذا كانت بعيدة عن أجواء الإثارة والوقوع في الحرام، فلا مانع منها، وإن كنا لا ننصح بالاستغراق في مثل هذه الأجواء، لأنَّ ذلك يؤدّي مع إدمانه إلى بعض النتائج السلبيّة، والتي قد لا تحمد عقباها.
حكم الهجرة إلى الغرب:
* أنا في ضائقة اقتصادية ونفسيّة صعبة، هل في الهجرة إلى الغرب إثم؟
- إذا كنت آمناً على بقائك على التزامك الديني، فيجوز أن تسافر بالشرط الذي ذُكر.
بيع غير المذكى:
* هل يجوز لي بيع اللحوم غير المذبوحة إسلامياً على غير المسلم كعامل وليس كمالك؟
- يجوز ذلك، يجوز بيعه لمن يستحلّه.
كفاية التسمية عند الأكل:
* هل يجوز بيع اللحوم غير المذبوحة إسلامياً للمسلم الذي أخبره بأن اللحم غير مذكى إسلامياً، فيصر على شرائه، ويقول إني اسمي عليه عند الأكل ويصبح حلالاً، وهو من الأخوة السنة؟
- إذا كان هذا يجوز في مذهبه، بحيث يستحل ذلك بالتسمية عند الأكل، فيجوز لنا أن نبيعه ذلك.
تأثير السحر:
* في مجتمعنا، يدور لغطٌ كبير عمّا يعرف بالكتابة. ما رأيكم في هذا الموضوع؟
- لم يثبت لنا حجية ذلك بالطريقة التي يفهمها الناس أو يتحدثون بها.
الاستحباب في الزي:
* لم يذكر العلماء بعض المستحبات في اللباس وغيره، مثل العمامة والنعل العربية، فهل الاستحباب خاص بهذه الموارد، أم هو إشارة إلى عناوين عامة، كحسن اللباس بحسب الزمان والمكان الذي يوجد فيه الإنسان؟
- العمامة والنعل العربية هذه كانت أزياء الناس الذين سبقونا بحسب تقاليدهم الاجتماعية، أما الآن، فليس هناك أساس لاستحباب ذلك في نفسه بعد تطوّر الأزياء وتطور اللباس.
فستان الخطوبة:
* ما رأيكم في ارتداء الفتاة فستان الخطوبة إذا لم يستر كامل الجسد؟
- إذا كان ذلك خاصاً في مجتمع النساء فلا مانع، وإلا فلا يجوز ظهور المرأة بحجاب غير تام أمام غير المحارم، وإن كان في وقت خطوبتها أو زفافها.
المأكولات البحرية:
* هل يجوز تناول سرطان البحر؟
- يحرم ذلك على الأحوط وجوباً، وكذلك كل حيوان بحري ليس له فلس.
الزينـة:
* هل يجوز للفتاة أن تضع وشماً لحواجبها باللون الأسود الفاتح؟
- إذا لم يكن ذلك من الزينة المثيرة عرفاً فلا بأس.
تزيّي المرأة بزيّ الرجل:
* هل يجوز للمرأة ارتداء السروال (البنطلون) الرجالي أو القميص وتضع فوقهما معطفاً (الجلباب) وتخرج بهما إلى السوق أو العمل؟
- لا يحرم ذلك، وليست هذه الألبسة مما تختص بالرجال فقط ويحرم لبسها على المرأة، وأما الحرام في ذلك، فهو تشبّه المرأة بالرجل أو العكس، بمعنى تذكّر الأنثى، وتأنّث الذكر، أما الألبسة المشتركة بين الرجال والنساء، فلا يحرم على أحد الجنسين ارتداؤها.
الاستخـارة:
* إذا استخار شخص بالقرآن على أن يقوم بعمل ما في الشهر القادم، وكانت الخيرة غير جيدة، فهل له أن يجدّد الاستخارة؟
- ننصح بالرجوع إلى دراسة المسألة والتشاور، فإذا عزمت فتوكّل على الله، وفي موارد الاستخارة، لا ينبغي المخالفة، وفي حال الإصرار لا نرى مبرراً للاستخارة.
اغتياب المسلم:
* ما حكم غيبة المسلم؟
- لا ينبغي ذلك في الحالات الطبيعية، والغيبة من القبائح الأخلاقية التي يجدر بالمسلم أن يتجنّبها، وقد قال رسول الله(ص): «إنما بعثت لأتمِّم لكم مكارم الأخلاق».
الوشـم:
* هل يجوز الوشم للرجل على الظهر؟
- ليس حراماً، بشرط ألا يكون بالشعارات الباطلة، والأفضل تجنبه على أي حال.
إفادات وهميـة:
* أقوم بإصدار إفادات عمل وهمية لبعض المعارف لتقديمها إلى إحدى السفارات الأجنبية بقصد الهجرة، فهل يجوز ذلك؟
- الكذب حرام، وهذا العمل ينطبق عليه هذا العنوان، وعلى المؤمن ألاّ يقع في ما ينال من حرمته.
تصوير السَّافرات:
* أعمل في استديو للتصوير، وأحياناً تأتي فتيات سافرات فهل يجوز لي تصويرهن؟
- إذا كنّ من اللاتي لا ينتهين إذا نهين، فيجوز النظر إليهن وتصويرهنّ من دون نظرة ريبة.
كفّارة اليمين:
* أقسمت يميناً ثلاث مرات على عدم فعل أمر ما وخالفت القسم، فهل أدفع الكفَّارة ثلاث مرات؟
- إذا كان القسم مرة واحدة: والله والله والله، فعليك دفع كفارة واحدة، أما إذا أقسمت على عدم الفعل ثلاث مرات في أوقات مختلفة، فعليك ثلاث كفارات.
الأفلام المدبلجة:
* بعض الأخوة والأخوات يتابعون الأفلام الأجنبية المدبلجة التي تحمل طابع الحب وما شاكل، فهل يجوز متابعة هذه الأفلام؟
- يجوز متابعة هذه الأفلام إذا لم تتضمن المظاهر الخلاعية التي تؤثر على روحيتهم، بحيث تميّع الأخلاق وتفسدها، ونحن نحبّذ متابعة البرامج والأفلام المفيدة.
التعامل مع حامل الخمر:
* مهنتي سائق تاكسي أو باص، وفي بعض الأحيان الزبون يحمل خمراً مع مواد تسوّقه، ومنعه من الركوب صعب ويشكّل إحراجاً، فهل يجب عليَّ ترك العمل؟
- لا يجب عليك منعه من الركوب، وليس هناك محرّم عليك في ذلك مادام هو الذي يحمل الخمر، ولا يجب عليك ترك العمل في ذلك.
مستحبات ليلة الدفن:
* ما هي الأعمال المستحبة لأول ليلة لدفن الميت؟
- منها صلاة الوحشة، فيمكن للإنسان أن يصلي صلاة ليلة الدفن المعروفة بصلاة الوحشة، ويقرأ القرآن عن روحه، ويتصدّق عنه.
أثر العرف:
* أنتم ممن تدعون للأخذ بالعرف في الحياة السائدة بين الناس، فإذا كان العرف مخالفاً للعقل، وكان من العادات والتقاليد السائدة، فما العمل حين ذاك؟
- أنا لا أدعو إلى الأخذ بعرف الناس في كل شيء. نحن نقول إن العرف إنما يؤخذ به في فهم الدليل الشرعي، إذا كان عرفاً عاماً يدخل في أصول المحاورة والفهم، ولا نعني به ما يألفه الناس في حياتهم من عادات وتقاليد.
صدم المارّة:
* سائق سيارة يمشي على طريق عام دولي بسرعة معقولة، فصدم صبياً يقطع الشارع، بدون انتباه، ما أدى إلى وفاة الصبي، فهل يتوجب على السائق دفع الدية؟
- في مفروض السؤال، يعتبر هذا من قتل الخطأ في هذا المقام، فإذا كان الصبي غير بالغ فعليه الدية، وأما إذا كان رجلاً بالغاً وخالف الأنظمة، فيمكن أن يقال إنه هو الذي أوقع نفسه في التهلكة. ولكنّ الاحتياط قد يقتضي دفع الدية إذا كان الشخص غافلاً وغير ملتفت إلى القوانين في مسألة السير.
قضاء المرأة:
* هل يجوز للمرأة أن تكون قاضية في الإسلام؟
- الرأي العام أنه لا يجوز لها ذلك، ولكن هناك بعض الأبحاث الفقهية التي بدأت ترسم علامات استفهام حول هذا المنع.
تخريب العلاقات الاجتماعية:
* أحد أقاربي يقوم من خلال تحركه داخل العائلة برمي الفتن والنميمة، ما يؤدي إلى مشاكل كبيرة داخل الأسرة الواحدة. كيف يمكنني أن أتعامل معه وأنا لا أستطيع أن أبتعد عنه؟
- عليك أن تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وتبين له النتائج السلبيه عند الله سبحانه وتعالى في مسألة النميمة، والنتائج التي قد تحدث في المجتمع جرّاء ذلك، والتي قد تنعكس شراً عليه في نهاية المطاف.
حلق اللحية:
* ما رأيكم في رجل حلق لحيته؟
- رأينا عدم حرمة حلق اللحية، وإن كان الأفضل أن يبقيها؛ لأنها من شعائر الإيمان.
ردّ السائلين:
* أنا عامل في محل تجاري، ويدخل عليَّ الكثير من المتسولين، وهم ليسوا من ذوي العاهات، فأحياناً أعطيهم وأحياناً لا أعطيهم، فهل علي إثم إن لم أعطهم؟
- ليس عليك إثم، وإن كنا نرى أن على الإنسان أن لا يرد سائلاً، لكن بعض الناس أصبحوا تجار تسول، ولذلك فقد يكون تشجيعهم لا يلتقي بصلاحهم، وعلى الإنسان أن يدرس حالة هؤلاء ويرى، هل إن حالتهم توحي بفقرهم وحاجتهم أم لا!!
قطع الرحم:
* لي أخ اختلفت معه، وقد مضت مدة ولم أكلّمه، فما حرمة قطيعتي لأخي؟
- أنت قاطع رحم في ذلك، وعليك أن تبادر إلى إصلاح أمرك معه، فإذا سبقته إلى الصلح، فإنك تسبقه إلى الجنة إن شاء الله.
ذكرى الأموات:
* هل يجب أن أحيي الذكرى السنوية للميت في كل سنة؟
- هذا ليس في تقاليدنا الإسلامية، وما ورد عندنا هو: (من عزّى بعد ثلاث فقد جدد المصيبة). لا توجد عندنا سبعة أيام ولا أربعون ولا سنوية، فإن هذه تقاليد جرى عليها الناس، وليس في الشريعة عين لها ولا أثر.
أيام العزاء:
* إذا توفى الميت، كم يوم يجب أن نقيم العزاء؟
- قلنا ثلاثة أيام، وهذا هو المتعارف عليه في العراق وفي كثير من البلدان.
تقبيل اليد:
* قال الإمام الصادق(ع): «إذا قبَّل رجل يد رجل آخر فكأنما يعبده». فهل يجوز تقبيل يد المرجع؟
- إذا صح هذا الحديث، فإنّ التقبيل تارةً يركز حالة خضوع ذاتي في ذاتيّة العبادة، وهذا أمر حرام، وتارة يقصد بالتقبيل المحبة، فكما يقبِّل شخص يد والده أو يد أُمه، فإنّه يقبِّل يد عالم الدين من جهة رمزيّته للدين، وهو لا يقبِّل ذات الشخص، وهذا يختلف حسب اختلاف قصد الذي يقبِّل هذه اليد.
تذكية اللحوم:
* أرجو إفتاءنا عن اللحم الهندي الذي يُباع في العراق ومكتوب عليه مذبوح على الطريقة الإسلامية، وكذلك الدجاج البرازيلي المسمى (ساديا)، هل هو حلال، مع العلم أنه يباع بشكل واسع، مع جهل الناس وعدم تمكنهم من التحقق من اللحم؟
- لا يجوز أن نأكل من اللحم إذا كان مستورداً من بلاد غير إسلامية، أو من مصادر غير إسلامية، ولم يكن هناك اطمئنان بتذكيته؛ لأن الكثير من الناس يكتب عبارة: (مذبوح على الطريقة الإسلامية)، أو (لحم حلال)، لكن من هو الذي يكتب؟ ومن هو الذي يذبح؟ لذلك لا يجوز أن نأكل منه إلا إذا توثقنا من ذلك بأهل الخبرة، وما أشبه ذلك. وأنا أذكر، أنّه في لبنان، كانت تأتي بعض هذه اللحوم، ويكتب عليها: (مذبوح على الطريقة الإسلامية)، حتى إنهم كتبوا هذه العبارة على لحم السمك، لأنه موجود عندهم ختم مكتوب عليه هذه العبارة.
حكم العقيقة:
* عندما يموت شخص ما عندنا، فإن أهل الميت يعملون له العقيقة، واعتقاداً منهم بأنّهم إذا لم يفعلوا فقد يأتي البلاء عليهم، ما رأيكم في ذلك؟
- العقيقة معروفة للحي وليس للميت، يعني إذا ولد لشخص ولدٌ يعمل له عقيقة، ويوزع لحمها على الفقراء، ولا يأكل منها هو. كذلك، إذا لم يعمل له أهله عقيقة، يستحب له أن يعمل لنفسه عقيقة، لأنها زكاة البدن كما يقال. أما للميت، فلم يرد عندنا أن يعقّ عنه.
الجهاد الدفاعي:
* ما هو الفرق في رأيكم بين الجهاد الدفاعي والجهاد الابتدائي؟ وأي الجهادين يحتاج إلى فتوى من المراجع؟
- الجهاد الابتدائي هو أن تتحرّك بالقوة لنشر الإسلام بين الناس، أما الجهاد الدفاعي، فهو الجهاد الذي تدافع به عن أرضك وعن أمتك وعن دينك وما إلى ذلك. وكلا الجهادين في الإطار العام الواسع يحتاج إلى فتوى المرجع الذي يملك الخبرة في شؤون الجهاد؛ لأن المرجع لا يجوز له أن يفتي بالجهاد، إلا بالرجوع إلى أهل الخبرة في الحرب والسلم في هذا المجال.
وهناك فرق بين الجهاد الدفاعي والدفاع الشخصي، فالدفاع الشخصي، وهو الدفاع عن النفس، حيث يواجه الإنسان خطر ما، لا يحتاج فيه الإنسان إلى إذن الفقيه.
المراهقة في الشرع:
* ما هو المعنى الشرعي للمراهقة؟
- ليس هناك معنى شرعي على نحو المصطلح، ولكن المراهقة هي مرحلة تحوّل في جسم الإنسان، وتمتاز بأنّها المرحلة التي تستيقظ فيها غرائز الإنسان بالمستوى الذي قد لا يملك فيه التوازن في حركة غرائزه أو فكره. وهذه المرحلة تحتاج من أولياء أمور المراهق إلى الكثير من الدقّة في التعامل، كي تمرّ من دون سلبيّات إذا أمكن.
ضرس من ذهب:
* هل يجوز للرجل أن يضع ضرساً مصنوعاً من الذهب، مكان سنه الذي قلعه؟
- يجوز له، ولكن بشرط أن لا يكون ظاهراً بما يوجب التزين، والأفضل أن يضعه من غير الذهب على كلّ حال.
حكم الحب:
* هل الحب في الشريعة الإسلامية حلال أم حرام؟ وهل يجوز أن يحب الشخص فتاةً؟
- الحب هو حالة نفسية في مشاعر الإنسان المنفتحة على إنسان آخر، من ناحية العاطفة. فالحب، كحالة شعورية نفسية، ليس محرماً، سواء أحبّ الإنسان فتاةً، أو أحب قريباً، أو صديقاً، وما إلى ذلك؛ ولكن المحذور هو في التصرف بما يحرم على الإنسان من بعض السلوكيات وبعض الأعمال بين المحب والحبيب. ولذلك، فإنه إذا كان الحب حالة نفسية لا يتبعها أي سلوك محرَّم، فلا مشكلة في ذلك.
معنى التذكية:
* هل احتمال التذكية يرادف عدم العلم بكونه ميتة؟
- لابد من إحراز التذكية لجواز الأكل. أما في الطهارة، فيكفي عدم العلم بأنه ميتة.
تعارض الوطنية مع مصلحة الإسلام:
* هل يمكن أن تتعارض الوطنية مع مصلحة الإسلام ؟
- من الممكن ذلك؛ لأن الخطوط في حركة الوطن، وفي قوانينه ونظامه، قد تختلف، من خلال التيارات التي تعمل على أن تنظّم للوطن نظامه، وما إلى ذلك، فهي تختلف بحسب اختلاف التيارات، أي التي تحكم الخطوط، والتي يمكن أن تخطط للوطن.
الوفاء بالنذر:
* نذرت ذبيحة لأمر ما على أن أذبحها قرب مقام الإمام الكاظم(ع)، ولكن لصعوبة الوضع الحالي، لا يمكنني ذلك، فهل يجوز أن أذبحها قرب مقام السيدة زينب(ع)؟
- إذا كان النذر شرعياً، فعليك أن توصي بذبحها قرب مقام الإمام الكاظم(ع) إذا لم تستطع أن تذهب إلى هناك.
إسقاط اليمين:
* لو أن شخصاً أقسم يميناً وقال له شخص آخر ألتمسك بالتماس الدين، فهل يسقط اليمين؟
- لا يُسقط ذلك وجوب الوفاء باليمين، ويجب عليه الالتزام به.
تسمية محلات التجارة بأسماء الأئمة(ع):
* لدي محل أبيع فيه مواد غذائية ومنظفات، هل من مانع إذا سميت المحل باسم محل المرتضى؟
- لا مانع من ذلك.
تربية الطيور:
* هل يوجد تحريم لتربية طيور الحمام أم هي مكروهة؟
- لا، ليس هناك تحريم، ولا كراهة.
مشروعية الاستخارة:
* ما هي مشروعية الاستخارة، ومتى يلجأ الإنسان إليها؟
- الاستخارة دعاء وابتهال إلى الله أن يعطيه ما فيه المصلحة؛ ولكن علينا أن لا نستهلك الاستخارة، فإن الله أراد للإنسان أن يفكر في الأمر، أو أن يستشير، فإذا وصل إلى نتيجة أقدم على الأمر، ولكن الاستخارة تكون إذا احتار الشخص بين الفعل والترك، فهنا يستخير الله سبحانه وتعالى في أن يختار إليه الخير، والله عند حُسن ظنّ عبده المؤمن.
الأناشيد الدينية
* هل يجوز الاستماع إلى الأناشيد الدينية المصحوبة بآلات موسيقية؟
- نعم، يجوز ذلك.
متى يحرم الرقص؟
* هل الرقص محرم في الشريعة الإسلامية؟
- الرقص إذا كان بمعنى تحريك البدن، فإنه ليس محرماً، بشرط أن يكون النساء وحدهن، والرجال وحدهم، وأن لا يكون خليعاً مثيراً للشهوات.
الإخبار عن الفاحشة:
* إذا علم رجل أو أكثر، أن رجلاً فعل فاحشة، فهل يجب عليهم إخبار القاضي، أم يتسترون عليه؟
- عليهم أن يستروه لدى القاضي، لكن عليهم أن ينصحوه ويعظوه ويرشدوه.
فائدة قراءة القرآن للميت:
* ما هي فائدة قراءة القرآن الكريم للميت ؟
- الفائدة هي في إهداء ثواب القراءة للميت؛ لأنّ في قراءة القرآن ثواباً، والقارئ يبعث هذا الثواب للميت كما ورد.
قداسة ظاهرية:
* كيف نتعامل مع مَن أُعطوا حالة من القدسية وهم لا يستحقونها؟ هل نتواصل معهم، فنصلّي خلفهم، ونزورهم، ونرفع ذكرهم...؟
- نحن نقول إن القداسة لا تكون إلاّ للأنبياء(ع) والأئمة(ع)، فلا مقدَّس إلاّ المعصوم؛ بمعنى الخضوع لما يقوله، باعتبار أنّ ما يقوله هو الحقيقة. نعم، علينا أن نحترم من يملك العلم، بمقدار ما يملك من العلم، ونحترم من يملك الأخلاق والقيم بمقدار ما يملك من ذلك. أما مسألة الصلاة وراء هؤلاء، فهذا أمر ينطلق من خلال طبيعة إحراز العدالة، وهي الاستقامة في الدين. وبعبارة أخرى، أن لا نرفع الناس أكثر من قدرهم، وإنما نعطي كل إنسان حقه، ونعطي كل إنسان موقعه.
المرأة وعم الزوج:
* هل يجوز للمرأة أن تجلس حاسرة الرأس أمام عم زوجها، أي أخ والد زوجها؟
- هو أجنبي عنها، وليس من محارمها، لأن المحرم عليها هو والد زوجها، أما أعمام زوجها، أو الأخوال، فهم أجانب، فلو فرض أن زوجها توفي، فيجوز لها التزوج من عمه، أو من خاله، وما إلى ذلك.
حكم ترك الوطن:
* هل من يترك وطنه لظرف ما يكون مأثوماً؟
- ليس ذلك بالضرورة، بل عليه أن يدرس مسؤوليته من ناحية ما يلزمه به اللّه سبحانه بذلك.
إحياء الشعائر الدينية:
* في حال كان إحياء الشعائر الدينية الإسلامية يشكّل خطراً على حياة المسلمين في ظروف خاصة لا يتوفر فيها الأمن، فهل نبقي على إحياء الشعائر بحشود كبيرة على الرغم من الخطر، أم أنه من الحكمة أن تتم بشكل أكثر تنظيماً؟
- إذا كان الخطر متحققاً، أو محتملاً احتمالاً كبيراً، فالحكم الشرعي هو أنه لا يجوز إيقاع النفس في التهلكة، هذا على المستوى الفردي. وأما على المستوى الجماعي، فإنه لا بد من التخطيط لهذه الزيارات وتحمّل المسؤولية فيها جماعاتٍ وفرادى.
صوت المرأة:
* أود أن أعرف، هل إن صوت المرأة عورة؟
- كيف يكون صوتها عورة، وقد خطبت الزهراء(ع) أمام الرجال، وخطبت زينب(ع) في مجلس ابن زياد ويزيد وأهل الكوفة؟! ولقد ورد قول الله تعالى: )فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض((الأحزاب:32)، والمقصود بذلك، أن لا تتكلّم المرأة بأسلوب فيه ترقيق وتليين وإثارة وإغراء. وقد كانت النساء يأتين إلى رسول الله(ص) ويسألنه، وكان النبي(ص) يخرج النساء معه في الحرب، فيسقينَ العطشى، ويداوين الجرحى، وما إلى ذلك، وكان الأئمة(ع) يستقبلون النساء، ويستمعون إلى حديثهنّ وأسئلتهنّ.
([4]) الندوة: ج2. ص409-411.
([5]) بحار الأنوار. ج16. ص210.
([8]) الندوة: ج4. ص138-139.
([10]) الندوة: ج2. ص 429-430.
([12]) الندوة: ج1. ص 463-464
([13]) بحار الأنوار. ج44. ص191. ح4. ب26.
([14]) التهذيب. ج6. ص179. ح16. ب22.
([16]) التهذيب. ج6. ص179. ح16. ب22.
([17]) بحار الأنوار. ج45. ص83. ح10. ب37.
([18]) نفسه. ص115. ح1. ب39.
([19]) بحار الأنوار. ج45. ص135.
([20]) الندوة: ج11. ص 153-155.
([21]) البحار: ج17. ص377. ح40.
([28]) الندوة: ج2 ص459-460.
([29]) نهج البلاغة. ك76. ص787.
([30]) البحار. ج67. ص25. ح2.
([31]) الندوة: ج13. ص267-268.
(*) ربما أراد السائل ((لا تعلّموهنّ سورة يوسف ولكنّ علّموهنّ سورة النور)). (المعدّ)
([33]) الندوة: ج13. ص525 – 526.
([34]) بحار الأنوار. ج103. ص259. ح11. ب5.
([35]) من لا يحضره الفقيه. ج3. ص391. ح4375. ب2.
([36]) من كلام علي(ع) بعد فراغه من حرب الجمل، في ذم النساء . ك79. ص140.
([42]) التهذيب. ج9. ص274. ح2. ب4.
([44])التهذيب. ج9. ص274. ح28.
([70]) الندوة: ج13. ص45-57
([73]) الندوة: ج12. ص510.
([75]) التهذيب. ج7. ص467. ح80.
([76]) البحار. ج104. ص132. ح1.
([77]) الفقيه. ج3. ص555. ح4908.
([78]) الكافي. ج8. ص219. ح269.
([79]) البحار. ج55. ص69. ح2.
([80]) الكافي. ج5. ص332. ح2.
([83]) الكافي. ج5. ص347. ح2.
([84]) البحار. ج33. ص125. ح5.
([85]) الكافي. ج5. ص9. ح1.
([86]) البحار. ج29. ص66. ح2.
([87]) الندوة: ج13. ص221 – 232.
([88]) الندوة: ج13. ص239.
([89]) الندوة: ج13. ص 240-241.
([90]) الكافي. ج6. ص5. ح6.
([91]) البحار. ج5. ص56. ح6.
([92]) البحار. ج5. ص100. ح11.
([94]) الندوة: ج13. ص242.
([95]) الندوة: ج13. ص 243 – 244.
([96]) الفقيه. ج5. ص59. ح2047.
([97]) الندوة: ج13. ص261-264.
([98]) بحار الأنوار: ج44. ص191. ح4.
([99]) الكافي: ج1. ص221. ح2.
([100]) البحار. ج18. ص126. ح36.
(*) هذه الأحاديث والمحاضرات هي استكمال لما ابتدأه سماحة السيد في الجزء (14) من (الندوة) فيما يخصّ الدور التأسيسي للأئمة(ع) في إرساء منهج العقل. (المعدّ)
([101]) البحار. ج8. ص119. ح7.
([102]) البحار. ج69. ص370. ح13.
([103]) الكافي. ج2. ص100. ح5.
([104]) البحار. ج71. ص385. ح26.
([105]) البحار. ج71. ص396. ح76.
([106]) الكافي. ج2. ص100. ح4.
([107]) البحار. ج15. ص296. ح12.
([109]) الكافي. ج2. ص107. ح1.
([110]) الكافي. ج2. ص101. ح11.
([111]) الكافي. ج2. ص321. ح1.
([112]) الكافي. ج2. ص321. ح2.
([113]) الكافي. ج2. ص77. ح9.
([114]) الكافي. ج2. ص101. ح14.
([115]) البحار. ج74. ص370. ح63.
([116]) الكافي. ج2. ص119. ح6.
([119]) الكافي. ج2. ص118. ح3.
([120]) نفسه. ج4. ص5. ح3.
([121]) الكافي. ج2. ص325. ح12.
([123]) البحار. ج13. ص294. ج8.
([124]) الكافي. ج1. ص23. ح15.
([125]) من لا يحضره الفقيه. ج4. ص395. ح5840.
([126]) الكافي. ج4. ص12. ح6.
([127]) من لا يحضره الفقيه. ج3. ص555. ح4908.
([128]) الكافي. ج3. ص454. ح16.
([129]) نفسه. ج2. ص87. ح5.
([130]) الكافي. ج2. ص120. ح12.
([131]) من لا يحضره الفقيه. ج2. ص625. ح3214.
([132]) نهج البلاغة. ص249. الوصايا.
([133]) من لا يحضره الفقيه. ج4. ص402. ح5868.
([134]) نفسه. ص381. ح5826.
([135]) نهج البلاغة. ص814. ك150.
([136]) الكافي. ج2. ص136. ح22.
([137]) الكافي. ج2. ص454. ح4.
([138]) الكافي. ج2. ص454. ح4.
([139]) الكافي. ج2. ص136. ح24.
([140]) الكافي. ج2. ص310. ح6.
([141]) الكافي. ج2. ص309. ح3.
([142]) نهج البلاغة. ص605. كتابه إلى زياد بن أبيه. ك21.
([143]) نفسه. ص887. ك443.
([144]) الكافي. ج2. ص312. ح17.
([145]) الكافي. ج8. ص390. ح586.
([146]) البحار. ج71. ص178. ح27.
([147]) نهج البلاغة. ص830. ك243.
([148]) الكافي. ج2. ص82. ح39.
([149]) الكافي. ج2. ص312. ح16.
([150]) البحار. ج1. ص153. ح30.
([151]) البحار. ج2. ص32. ح22.
([152]) الكافي. ج2. ص144. ح3.
([153]) الكافي. ج2. ص453. ح2.
([154]) نهج البلاغة. ص548. من كلام له(ع) عند تلاوته. ك221.
([155]) البحار. ج70. ص69. ح16.
([156]) البحار. ج92. ص250. ح48.
([157]) البحار. ج70. ص64. ح5.
([158]) الكافي. ج5. ص72. ح10.
([159]) الكافي. ج5. ص70. ح1.
([160]) البحار. ج61. ص67. ح52.
([161]) التهذيب. ج1. ص83. ح67.
([162]) الكافي. ج5. ص20.ج1.
([163]) الكافي. ج2. ص84. ح6.
([164]) الكافي. ج1. ص33. ح7.
([167]) البحار. ج98. ص226. ح3.
([168]) الكافي. ج2. ص84. ح6-9.
([169]) البحار. ج98. ص226. ح3.
([170]) الكافي. ج2. ص84. ح6-9.
([171]) الكافي. ج2. ص320. ح3.
([172]) الكافي. ج2. ص320. ح2.
([175]) نهج البلاغة. ص825. ك209.
([176]) نهج البلاغة. ص817. ك170.
([177]) الكافي. ج2. ص320. ح1.
([178]) البحار. ج15. ص325. ح14.
([179]) الكافي. ج1. ص21. ح14.
([180]) الكافي. ج2. ص458. ح19.
([181]) البحار. ج69. ص404. ح106.
([182]) من لا يحضره الفقيه. ج4. ص405. ح5876.
([183]) الكافي. ج1. ص344. ح1.
([184]) نهج البلاغة. ص790. ك89.
([185]) البحار. ج46. ص122. ح14.
([186]) الكافي. ج1. ص21. ح14.
([187]) نهج البلاغة. ص874. ك377.
([188]) نهج البلاغة. ص647. وصية 31.
([189]) نفسه. ص374. الخطبة 167.
([190]) التهذيب. ج6. ص22. ح7.
([191]) الكافي. ج2. ص326. ح2.
([192]) نهج البلاغة. ص 359. خ164.
([193]) البحار. ج64. ص256. ح13.
([194]) البحار. ج64. ص312. ح3.
([195]) الكافي. ج5. ص153. ح1.
([198]) البحار. ج35. ص45. ح4.
([199]) نهج البلاغة. ص263. خ113.
([200]) نهج البلاغة. ص394. ك176.
([201]) الكافي. ج2. ص303. ح3.
([203]) الكافي. ج2. ص305. ح13.
([205]) البحار. ج16. ص211. ح19.
([206]) الكافي. ج2. ص338. ح3.
([207]) البحار. ج16. ص209. ح17.
([208]) الكافي. ج8. ص82. ح39.
([209]) الكافي. ج8. ص58. ح21.
([210]) البحار. ج15. ص236. ح2.
([212]) الكافي. ج2. ص114. ح10.
([213]) نهج البلاغة. ص 392. خ176.
([214]) البحار. ج46. ص401. ح26.
([215]) نفسه. ج23. ص99. ح1.
([216]) نهج البلاغة. ص780. ك36.
([217]) نفسه. ص392. خ176.
([218]) نهج البلاغة. ص873. ك371.
([219]) الكافي. ج23. ص256. ح13.
([220]) البحار. ج11. ص193. ح7.
([221]) البحار. ج66. ص348. ح8.
([222]) الكافي. ج5. ص215. ح3.
([223]) نهج البلاغة. ص606. ك22.
([225]) الكافي. ج3. ص407. ح16.
([226]) الكافي. ج1. ص12. ح10.
([227]) الكافي. ج2. ص320. ح3.
([228]) الكافي. ج2. ص320. ح2.
([231]) نهج البلاغة. ص825. ك209.
([232]) نهج البلاغة. ص817. ك170.
([233]) الكافي. ج2. ص320. ح1.
([234]) البحار. ج15. ص325. ح14.
([235]) البحار. ج56. ص87. ح3.
([237]) نهج البلاغة. ص335. ك156.
([238]) الكافي. ج31. ص210. ح9.
([239]) البحار. ج73. ص256. ح5.
([240]) الكافي. ج2. ص25. ح1.
([243]) الكافي. ج2. ص38. ح4.
([244]) الكافي. ج2. ص34. ح1.
([245]) الكافي. ج2. ص39. ح7.
([246]) الكافي. ج2. ص27. ح1.
([247]) نفسه. ج8. ص101. ح72.
([248]) نهج البلاغة. الكلام القصار.
([249]) البحار. ج56. ص91. ح3.
([250]) الكافي. ج1. ص404. ح3.
([251]) البحار. ج76. ص11. ح46.
([252]) البحار. ج15. ص239. ح57.
([253]) الكافي. ج2. ص54. ح3.
([254]) الكافي. ج2. ص52. ح1.
([255]) الكافي. ج2. ص58.ح4.
([256]) الكافي. ج2. ص368. ح3.
([257]) البحار. ج15. ص409. ح32.
([258]) نفسه. ج17. ص196. ح2.
([259]) الكافي. ج2. ص68. ح5.
([260]) الكافي. ج2. ص292. ح12.
([261]) الكافي. ج2. ص34. ح1.
([262]) البحار. ج68. ص281. ح32.
([263]) الكافي. ج2. ص32. ح1.
([265]) الكافي. ج1. ص336. ح3.
([266]) نفسه. ج2. ص32. ح1.
([267]) الكافي. ج3. ص218. ح2.
([268]) البحار. ج77. ص295. ح2.
([269]) البحار. ج68. ص156. ح9.
([270]) الكافي. ج2. ص520. ح1.
([272]) الكافي. ج2. ص510. ح23.
([274]) الكافي. ج3. ص361. ح3.
([278]) البحار. ج56. ص125. ح5.
([279]) البحار. ج58. ص394. ح5.
([280]) البحار. ج66. ص400. ح5.
([281]) البحار. ج45. ص265. ح1.
([282]) البحار. ج33. ص254. ح2.
([283]) البحار. ج65. ص260.ح6.
([284]) البحار. ج11. ص33. ح4.
([285]) الأحاديث الواردة عن الإمام علي(ع) من نهج البلاغة. الكلمات القصار.
([286]) البحار. ج45. ص111. ح4.