آية اللّه العظمى
السيد محمد حسين فضل الله
النـــدوة
سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق
محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة
إعداد
عادل القاضي
الجزء الثامن عشر
P
الـمقدمة
الحوار.. في (ندوة الحوار)
تزداد الحاجة إلى الحوار كلّما استعيض عنه بغيره من أدوات العنف اليدوي (السلاح) أو وسائل العنف اللساني (الجدال)، باعتباره البديل الأصلح، والأساس في تجسيد الهوّة بين مُختَلِفَينْ، ولأنّ الأدوات المستعاضة طارئة ودخيلة وتعقّد المشاكل بدلاً من أنّ تحلّها، وهي آخر الدواء إن كانت دواءً فعلاً.
السؤال الكبير الذي كان يطرح في الندوة دائماً: لماذا يُعطّل العقل كمحرّض على الحوار، ومساهم قوي في إنجاحه والوصول به إلى مشارف الحقيقة؟ لماذا يستبدل بما هو شرّ، أو بما هو عقيم ولا يفضي إلاّ إلى المزيد من الجروح الجسدية والنفسية؟ لماذا هيمنة الغرائز والانفعالات فيما هناك ما هو قادر على تهدئة الأجواء، والالتقاء على الكلمة السواء، وحقن الدماء؟!
يوم كتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله ـ دام ظلّه ـ (الحوار في القرآن) كانت الحرب الأهلية اللبنانية في أوج اشتعالها، وفيما كان الفرقاء المختصمون يلجأون إلى السلاح للاحتكام إليه في الفصل بين العصبيات الطائفية والسياسية، لجأ سماحته إلى (الحوار) محتكماً إليه في فضّ المنازعات وتسوية الخلافات.
قد تكون الدعوة إلى الحوار العقلانيّ الهادئ إبان أجواء الاصطخاب، وارتفاع درجة حرارة السعار العنفي، والمناوشات العصبية الحادّة، كصرخة في وادٍ سحيق يبتلعها الوادي ولا تلامس غيرة منغمس في الصخب، ومنهمك في العنف، ومستغرق في العصبيّة:
رُبَّ وامعتصماهُ! انطلقت ملئَ أفواهِ الصبايا اليُتَّمِ
لامستْ أسماعَهم لكنّها.. لم تلامِس نخوة المُعتصمِ
لكنّ سماحة السيد وإن استحضر هذه الحقيقة المرّة يومذاك إلاّ أن ثمة حقيقة أجلى وأبلغ وأشدّ وقعاً كانت ماثلة في عقله وضميره ونفسه أيضاً، وهي أنّ الحوار هو الحلّ وهو المآل، وأنّ المتصارعين ـ طال الأمدُ بصراعهم الدامي أم قصُر ـ لابدّ آيلون إلى طاولة المفاوضات ومائدة الحوار، ذلك أنّ كلَّ الحروب تبدأ عنفاً صارماً وصارخاً ومؤذياً ثم تنتهي إلى الحوار الذي كان يمكن أن يكون صمام الأمان فيما لو أخذت الحوارات شكلها الصحيح ومسارها الصحيح وغايتها المرجوّة، ولقلّصت الكثير من الحروب بين الفئات والجماعات وبين الأمم والشعوب. وحتى مع نشوبها فإن ما لم نستطع تسويته في الحرب يمكن أن نسوّيه بالمفاوضات، وإن ما عجزت الأيدي المتشنّجة عن تحقيقه، فإنّ العقل البارد أو الهادئ قادرٌ على إنجازه، أو كحد أدنى، على تبريره وإزالة التشنّجات المحتقنة عنه.
لم يكن (الحوار في القرآن) استراحة محارب، أو سياحة فكرية هادئة في أجواء ملتهبة، كان الحوار الشغل الشاغل لا لأنه آتٍ بعد الحرب لا محالة، بل لأنّه لابد أن يكون قبلها لينزع صاعقها، وحتى لا نضطر إلى الوصول إلى حافتها أو الوقوع في براثنها أو قل محرقتها.
في (الحوار في القرآن) أجاب سماحته إجابات محدّدة وواضحة عن ماهيّة الحوار وأهميته في حياتنا، وما هي شروطه وعناصره، وكيف السبيل إلى اجتناء نتائجه المثمرة ولو بعد حين، كان من بين ما قاله هناك: ((إن الحوار يساهم في تبريد الأجواء النفسية لدى المتحاورين))، أي إننا إذا استطعنا كمحاورين أن نبرّد الأجواء الساخنة، أمكن جداً أن لا نصل إلى مرحلة التصعيد الخطير واعلان الحرب على الآخر، فربَّ لقاءٍ صريح، وتفاهم متبادل، وتقدير للوضع متسالم عليه، ونقاش جادّ، يزيح شبح حرب ضروس كانت طبولُها قبيل جلسة الحوار تُقرع، وإذا بها بعده تخبو وتهجع(*).
هذا في أجواء الالتهاب والاحتقان النازع إلى العنف، وأمّا في مناخات السلام فالحوار ـ كما هو رأي سماحته ـ يخلق حركة فكرية في الساحة تنطلق من بعض الأحكام التجريدية لتتحول في مرحلة لاحقة إلى عملية عقلية موضوعية بعيدة عن الانفعال، وبذلك يمكن لنا أن نكون المجتمع العقلاني في مواجهة قضايا العقيدة والسياسة والاجتماع.
غير أنّ الأهمّ في المسألة هو (إرادة الحوار) وليس فقط الإقرار بجدواه، والا فالذين ينطلقون من موقع الفكرة المضادة، والذين يستخدمون العنف وصولاً إلى أهدافهم، كما في العراق وغيره، هم الذين يبتعدون عن استعمال أدوات المعرفة والتفكير والدخول في حوار، ظنّاً منهم أنّ قوة السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة، والقذائف والعبوات والرصاص، فيما هي الخلافاتُ بين الأخوة، أقدر وأقصر السبل لتسويتها، وتلك هي الذهنية القبلية التي لا تعني إلا شيئاً واحداً وهو مصادرة الآخر وإلغاؤه ونفيه، وليس مجرد اضطهاده فكرياً أو عدم الاعتراف به وتكفيره، بل إزالته من الوجود أيضاً، إنّها ذهنية إلغائية خطيرة.
من هنا تأتي مقولة سماحته: (الحوار لمن يريد الحوار) فالكثير ممّا نسمعه ونشاهده ونطالعه من حوارات أو برامج حوارية تُبثّ بكم هائل على الفضائيات العربية ليس حواراً.. هو (حوار طرشان).. هو (جدل عقيم) هو (استعراض عضلات كلاميّة) هو (جعجعة بلا طحين) وهو صراخ يصدّع رأس المشاهد أو المستمع بدلاً من أن يرفع له صداعه، فقد جلس إلى الشاشة وهو يشتكيه بنسبة، وإذا به ينهضُ بعد المشاهدة وقد استحال صداعهُ دواراً!!
الحوار ـ الحوار هو الذي رسمته ريشةُ القرآن الكريم بالنظرية وبالموقف، هو الذي يمثل (العقل المفتوح) و(الصدر الرحب) و(التفكير الموضوعي) و(الموقف الواقعي).. هو السبيل لتأكيد إنسانيتنا واحترام عبوديتنا لله تعالى، وبالتالي فموضوع الحوار مرتبط ـ مضموناً ـ بالتكوين الداخلي للشخصية الإسلامية المنطلقة من فتح قلوب الناس وعقولهم على دين الهدى وشريعة الحقّ، والعاملة على ربط حياتهم بخط الالتزام بالرسالة، لا فرق في ذلك بين دين ودين، طالما أنّ دعوة الأنبياء i كلهم واحدة مدارها أن نعبد الله الذي لا إله إلا هو ولا نشرك به أحداً.
حوارٌ هذه غايته يسمو بسموّها، نعم، دونه مصاعب ومتاعب، ومن قال إن الأشياء الثمينة تُقدّم أو تُستحصل بالثمن البخس.. ألم يقل (أبو فراس الحمداني) ((ومن يخطب الحسناء لا يُغله المهرُ))؟! ولذلك على ضوء هذه المنطلقات، كان يسعى سماحة السيد ويطالب بحوار يتجسّد في الإنسان المحاور الذي يعرف كيف يصل إلى عقل الآخر بأقرب طريق وأفضل أسلوب، وأن تسود روحية الحوار الموحية بالانفتاح الرحب على كلّ ما في الحياة من قضايا ومشاكل من خلال اعتماد العناصر الخمسة التالية:
1. شخصية المحاور الذي يدير عملية الحوار
2. شخصية الطرف الآخر
3. خلق الجو الهادئ للتفكير المستقل
4. معرفة المتحاورين الفكرة موضوع الحوار
5. أسلوب الحوار
هنا تواجهنا مشكلة: الحوار ومنطق القوّة، فكثير من الحوارات الدائرة لا تتوافر على الشروط السالفة الذكر، ولذلك لا زال الجدال هو المهيمن، ولا تزال أصوات المفرقعات والمتفجرات واطلاق النار أعلى من صوت المحادثات والحوارات والنقاشات. يقف الحوار أمام القوة ـ كما وقف الأنبياء i ليعلم القوّة أنها لا تستطيع أن تبني الحياة التي يصنعها إلاّ من خلال الحوار، لأنّ القوة ـ والتعليل لسماحة السيد ـ التي تفقد ذلك سوف تدمّر نفسها في نهاية المطاف لأنّها لا تجد أمامها إلا الحجارة التي ترجم الحجارة، والرصاصة التي تقابلُ الرصاصة!!
فالحوار في منظوره ـ وهو منظور قرآني مستوحى ـ يعطي القوّة المضمون الذي تتحرك من خلاله، والهدف الذي تسعى إليه، والروح التي تعيش فيها.
من ذلك نفهـم أنّ الحوار مؤيّـد ومسانـد للقوة وليس في الضدّ من القوّة ـ على أن القوّة هنا لا تعني العنف ـ فالدخول في حوار لا يرمز بحال إلى موقف الضعف(*). وإنّما هناك عقل ومنطق يريد أن يحاور عقلاً ومنطقاً، وحجة تريد أن تقارع حجّة، فليس بالسلاح وحده يقدر الإنسان أن يدافع عن حقّه، إنّ سكّين (قابيل) استطاعت أن تُنهي المشهد بفاجعة.. بمنظر دموي مُريع لصالح نزعة قابيل التدميرية ـ الإلغائية، لكنّها لم تقدّم شيئاً على صعيد العقل الذي أراد (هابيل) أن يتحرك من خلاله بالحجّة والمنطق والبرهان.. سكّينه لا تملك إلاّ التصفية.. وليس لها ما تحاجج به الخصم من الناحية العقلية.
تأسيساً على هذا، يرى سماحة السيد أن أحد أسباب انكماش آفاق الحوار ـ في بعض فترات التأريخ الإسلامي ـ هو ما يسميه بـ(عصور التخلّف) التي تضيق فيها نفوس المسلمين عن الحوار ممّا يقدّم أو يرسم صورة الإسلام الذي لا يسمح لوجهات النظر الأخرى أن تعبّر عن نفسها في حضوره، بل ويتحوّل في نظر الآخر المطالب والساعي إلى الحوار إلى (إرهاب فكري).
تجربة سماحة السيد الحوارية الطويلة التي ناهزت النصف قرن تمخّضت عن جملة من المبادئ والثوابت الحوارية المهمّة التي صاغها سماحتهُ كشعارات لا ليتغنّى بها في المحاضرات والندوات، بل اعطاها أُفقها ووهجها ومداها الحيويّ والحركيّ في نتاجاته الفكرية وحواراته الميدانية أو الإعلامية حتى عدّهُ البعض (رجل الحوار) الداعي بالحكمة والموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن.
سماحتهُ يرى أن:
ـ (لا مقدسات في الحوار)
ـ (لا محرّمات في الحوار)
ـ (ليس هناك أشخاص ممنوعون من الحوار)
ـ (لا أحد يملك الحقيقة كاملة.. الجميع في رحلة البحث عنها)
ـ (ليس هناك سؤال تافه، ولا سؤال محرج، الحقيقةُ بنتُ الحوار)
ـ (الحوار لمن يريد الحوار)
ـ (الكلمةُ السواء) قاعدة إرتكازية للحوار ليس بين المسلمين وبين أهل الكتاب فقط، بل بين المسلمين أنفسهم أيضاً)
ـ (لا إيمان في عمق الفكر وامتداده بدون حوار)
ـ (من لا يعيش الحوار في داخله ليس مؤهلاً لأن يكون إنسان الحوار مع الآخر).
ـ (المهمّة الحوارية تكمنُ في الوصول إلى وحدة الإنسان في قناعاته والتزاماته الذاتية)
ـ (الحوار الذي هو لعب ٌبالإلفاظ أو قفز على المشاعر، وتسجيل النقاط على الآخر هو (الجدال بالباطل).
ـ (قيمة المنهج الإسلامي للحوار أن يبتعد ابتعاداً كلّياً عن الذاتية في المضمون الفكري. إن المنهج الحواري المعروف في العالم يختصر في هذه الكلمة: ((رأييّ صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب))، وأمّا المنهج القرآني فيتلخّص في الآية الكريمة: )وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ( (1).
ـ (لابدّ من حماية حرية المحاور من الإتهام ومن الاساءة، فالحوار يرتكز على الحرية الفكرية).
ـ (المحاور هو الذي يمتلك (روحية الحوار) و(ثقافته) و(مصداقيته) و(حركيته) وان تكون عنده (إرادة الحوار).
وللأمانة التأريخية فقد كان سماحته سبّاقاً إلى طرح فكرة الحوار بين الأديان حتى من قبل أن يطرح الدكتور محمد خاتمي فكرة الحوار بين الحضارات، ففي كتابه (في آفاق الحوار الإسلامي المسيحي) الصادر في 1414هـ ـ 1994م ورد في الصفحة (453) ما نصّه: ((إنّي حينما أطلقتُ فكرة الحوار (الإسلامي ـ المسيحي) لم أطلقها من خلال خصوصيات الواقع اللبناني في الجانب الإيجابي أو السلبي، وإنّما أطلقتها كداعية إسلامي على مستوى العالم))!
في (ندوة السبت) حرص سماحتهُ على أن يولي مسألة الحوار اهتماماً خاصاً ولائقاً بها، فلم يكتف بأن تحدّث عن منهج الحوار وأسلوبه، وإنما كان يستلّ من سيرة الأئمة i أسلوبهم في الحوار مع معارضيهم أو مع من يختلفون معهم في الفكر والعقيدة بما أرسوا معه ومن خلاله أسس التحاور الإيجابي مع الآخر:
(أنظر: حوار الإمام علي t مع معارضيه في مسألة التحكيم. الندوة. ج9. ص265).
(أنظر: أسلوب الإمام الصادق t في محاورة الملحدين، وفي اشرافه على حوارات تلامذته ومريديه وتأهيله لهم، وتوجيههم في اختيار أفضل سبل الحوار الناجح. الندوة. ج8. ص41. ص53. ص63).
(أنظر: كيف يمكن أن نكون المحاورين من خلال مدرسة الإمام الحسين t في محاورة أعدائه. الندوة. ج2. ص39).
(أنظر: الإمام الرضا t الشخصية الحوارية. ج3. ص73).
وللحقّ فإن مقدمة كتابه (في آفاق الحوار الإسلامي ـ المسيحي) تعدّ من أنضج ما كُتب في مبادئ وأسس وشروط وعناصر وأهداف الحوار في الإسلام، بل يفوق في أهميته ما ورد في مقدمة كتابه الخاص بـ (الحوار في القرآن) وإن كانت كلتا المقدمتين بعضهما يكمل البعض الآخر.
والله المولى الحق نسأل أن يرزقنا أن نكون من المحاورين كما هي أصولُ الحوار في القرآن وفي السنّة وفي منهج الأئمة i ليشرق الحق وتسطع الحقائق في حياتنا، وأن يتقبّل هذا المجهود المبارك من سماحة السيد ـ دام ظلّه ـ وأن يشملنا باللطف والقبول، إنّه سميعٌ مجيب.
عادل القاضي
ديربورن ـ أميركا
1 رجب 1428 هـ
16 تموز 2007م
جدول إحصائي بـمسائل الندوة ج18
الـمحاضرات |
30 محاضرة |
الـمسائل القرآنية |
104 |
الـمسائل العقيدية |
55 |
الـمسائل الفكرية |
50 |
الـمسائل الفقهية |
325 |
مجموع الـمسائل |
534 |
باب
الـمحاضرات
|
||||||||
|
||||||||
![]() |
||||||||
|
بسم الله الرحمـٰـن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
لقد جاء في حديث الإمام جعفر الصادقt، في تفصيله وجوه الكفر، أنّ من هذه الوجوه كفر البراءة، وهو تعبير عن موقف البراءة من قبل المؤمنين ضد الكفر وأهله، بحيث يكفر المسلمون بكل التزاماتهم العقيديّة، في أصول العقيدة، لتأكيد الخط الفاصل بين الكفر والإيمان، حتى في الجانب الشعوري المنفتح على الحالة العاطفيّة التي تجعل العلاقة تتّجه إلى عملية اندماج نفسي بين الفريقين، بحيث يرى المؤمن أنّ هناك حاجزاً عقليّاً وشعوريّاً يفصل بين المؤمنين والكافرين؛ لأنّ التزام المؤمن بإيمانه لا مجال معه لأيّ اختراق للانحراف، من خلال بعض مفردات الكفر، أو أيّة حالة من حالات التساهل التي تُقدَّم فيها التنازلات؛ لأنّ ذلك هو الذي يجسّد الإخلاص الإيمانيّ في العقل والقلب والحركة والحياة، بالانفتاح على الله بكلّ ذاته، فلا يملك الشيطان سبيلاً للنفاذ إليها بأضاليله ووساوسه.
وهذا هو الذي عبّر عنه القرآن الكريم في عدّة نماذج إنسانيّة، وفي مقدّمتها شخصيّة النبيّ إبراهيمt، في موقفه من أبيه الذي كان وعَدَه بالاستغفار له في قوله الذي حكاه الله تعالى: )سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا((1)، ولكنّه عدل عن ذلك، وأعلن البراءة منه، لأنّه تجاوز الجانب العاطفي في مسألة القرابة أمام العلاقة الأصيلة بالله، فكانت علاقته بالله هي الحاكمة على كلّ علاقته بالآخرين، حتى بأقرب الناس إليه. وهذا ما حدّثنا به القرآن الكريم في قوله تعالى: )وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ((2)، وفي قوله تعالى الذي حكى فيه إعلان إبراهيمt البراءة من أبيه ومن قومه بسبب ما يعبدونه من الأوثان: )وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ((3).
وتتابعت المواقف في أكثر من نصٍّ قرآنيّ ممّا يوحي به الله إلى رسوله، كما في قوله تعالى: )وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ((4)، وقوله تعالى: )فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ((5)، وقوله تعالى: )أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ((6).
ويحدّثنا سبحانه عن النبيّ هود في حديثِه إلى قومه: )قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ( (7).
ولعلّ أوضح نصٍّ قرآنيّ في الرفض الحاسم للكفر، هو ما جاء في سوة (الكافرون)، حيث يقول تعالى: )قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ((8). حيث نجد في هذه السورة لوناً من ألوان تأكيد الموقف الحاسم في المسألة العقيدية التي تأخذ عنوان العبادة الذي يختزن في داخله كلّ خطوط الالتزام الفكري والعملي؛ فهناك عبادة الله التي تعني الإيمان به على أساس أنّه الخالق القويّ القادر القاهر الحكيم المدبّر المنعم الرحمـٰن الرحيم والإله الواحد الذي لا إله غيره، والخضوع له خضوعاً مطلقاً في كلّ ما يأمر به أو ينهي عنه، ورفض الخضوع لغيره إلا فيما يتّصل بالخضوع له، والسير على المنهج الذي أراد من الناس أن ينهجوه من خلال رسالاته التي أوحى بها إلى رسله.
وهناك عبادة الأوثان التي تعني ـ لدى الكافرين ـ الإيمان بالأسرار المقدّسة الخفيّة الكامنة في داخلها، كما يدّعون، ما يجعل لها قيمة روحيّة عندهم ترتفع بها إلى درجة الحظوة عند الله، بحيث تقرّب المتعبّدين إليه، وتشفع لهم عنده. وبهذا تتحوّل هذه الأصنام إلى شركاء لله في العبادة، كما يخضع الواقع الإنساني إلى لونٍ من المفاهيم والعلاقات والأوضاع المتحرّكة في القيمة المادّية المتمثّلة في الذهنيّة الوثنية المرتبطة بالحسّ كأساس للإيمان وللقناعات، ممّا تتعقّد معه مسألة الإيمان بالغيب والنبوّات واليوم الآخر.
وهكذا نجد أنّ الكفر والإيمان منهجان متضادّان لا يلتقيان عند قاعدة واحدة، ولا يتحرّكان في صعيد واحد، كما ويتباعدان عن بعضهما البعض ابتعاد الوثنيّة المادّية عن التوحيدية الإلهيّة الروحيّة، في الفكر والشعور والحركة والمنطلق والموقف. فالإنسان الذي يعبد الله هو الذي يتطلّع إلى خالق الكون كلّه، الذي يسبّح كلّ شيء بحمده ـ )وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ((9)، كما ورد في القرآن الكريم ـ والذي يتحرّك الخلق كلّه في نعمه وتدبيره، ليكون وجوده الواعي تجسيداً لطاعته، وحركةً من أجل الحصول على رضاه. فهو الإنسان المسؤول أمام الله في كلّ شيء، ما يجعله يدقّق في الصغير والكبير؛ ليتعرّف مواقع طاعة الله ومعصيته فيهما؛ لأنّه يراقب مسألة المصير عندما يقوم الناس لربّ العالمين ليحاسبهم على عملهم من خير أو شرّ. وهو الإنسان الذي ينطلق في علاقاته بالناس من خلال الصلة التي تربطهم بالله، ليوالي من والى الله، وليعادي من عاداه. ولذا فإنّه لا ينطلق من الدوافع الذاتيّة، بل من المواقف الإيمانيّة المنفتحة على الناس من خلال الله ربّ العالمين. وهكذا تختصر الحياة كلّها لديه كلمةٌ واحدة هي الإيمان بالله والاستقامة على خطّه المستقيم.
أمّا الإنسان الذي يعبد الأوثان، فهو الذي يبقى خاضعاً للزوايا الضيّقة التي تتمحور حول هذا الحجر أو ذاك، في ما لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ولا حياةً ولا موتاً، ولذلك فإنّه لا يملك رحابة الأفق، وروحانيّة الروح، وحيوية الفكر، بل يبقى مشدوداً إلى التقاليد، بعيداً عمّا إذا كانت نافعة أو ضارّة، أو حقّاً أو باطلاً. فليست الحقيقة هي التي تشدّه إلى الإيمان، بل هو التاريخ الميّت في تاريخ الآباء والأجداد، وهو الإنسان الجامد الذي لا يريد أن يتحرّك فكره بالحوار، ليغيّر قناعاته الخاطئة من خلال ذلك. كما أنّ علاقاته وأوضاعه خاضعة لمطامعه وشهواته وأنانيّاته، لا للمصلحة الإنسانيّة العليا، ولا للقيمة الروحيّة الكبيرة. وبذلك كان إنسان الهوى الذي يتّخذ إلهه هواه، وإنسان العبث واللعب واللهو الذي يرى الحياة فرصةً لذلك كلّه، ثمّ تنفجر كمثل الفقّاعة التي لا تترك وراءها شيئاً، ولا تستقبل أمامها أيّ شيء.
وعلى ضوء ذلك، لا بدّ للإنسان من أن يقف أمام الفواصل الحقيقيّة بين هذا الخطّ وذاك، ليبني مواقفه على أساس الانتماء المحدّد في كلّ معطياته وإيحاءاته ومسؤوليّاته وعلاقاته، فلا يخلط بين هذا وذلك فيما لا يجوز فيه الخلط؛ لأنّ هناك تبايناً كبيراً بينهما في جميع تلك المواقع، فكيف يشرك بالله من يوحّده؟! وكيف يوحّده من يشرك به؟! وكيف يؤمن بالغيب من كانت عقيدته قائمة على إنكاره؟! أو ينكر الغيب من كانت عقيدته قائمةً على الإيمان به؟! فلا مجال للتسويات في المبادئ، ولا مجال للتبادل من ناحية التوزيع على أساس التفاصيل. وهذا ما أرادت السورة أن تؤكّده ردّاً على العروض التوفيقيّة التي تجمع بين المتضادّين، وتساوي بين المتباينين، وتقضي بالتالي أنّه لا بدّ للفريقين، المسلم والمشرك، من أن يتنازل أحدهما عن موقفه ليلتقي بالآخر؛ لأنّ الشرك لا يلتقي بالوحدانيّة، ولأنّ الكفر لا يلتقي بالإيمان.
)قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ( بالله أو بوحدانيّته، من خلال المنهج الذي تسيرون عليه، والالتزام الذي تلتزمونه في حياتكم على خطّ العبادة في العقل والروح والشعور والحركة والموقف، قل لهم، إذا دعوك إلى عبادة آلهتهم التي هي أحجار لا تضرّ ولا تنفع، ولا تنطق ولا تسمع، ولا تحسّ ولا تتحرّك، مما لا معنى له في وعي الإنسان الذي يحترم عقله ويلتزم إنسانيّته، وإذا حاولوا أن يخدعوك بالتلويح لك بأنّهم سيعبدون الله في مقابل عبادتك للصنم، قل لهم كلمة الرفض الحاسم الذي لا يوافق على التسويات في خطّ العقيدة؛ لأنّهم لو آمنوا بالله لوحّدوه في العبادة، ولكنّهم يريدون أن يحصلوا من طروحاتهم هذه على شرعيّة أصنامهم ولو بمقدار لحظة، ليُسقطوا دعوتك من خلال اعترافك بآلهتهم، إذا قدّمت لهم فروض العبادة، وحركات الخضوع في وقت معيّن، مهما كان هذا الوقت، لأنّك لن تستطيع بعد ذلك أن تهاجم آلهتهم أو ترفضها أو ترجمها بالحجارة أو تكسرها وتدعو الناس إلى الابتعاد عنها.
وبذلك تلغي رسالتك القائمة على التوحيد الذي لا يعترف بالشرك، بل جاء رفضاً للشرك كلّه. قل لهم: )يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ( الذين يكفرون بالله أو بتوحيده، )لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(؛ لأنّ الله قد أرسلني لأرفض الذي تعبدونه، ولأدعو الناس إلى أن يرفضوه، فكيف تدعونني إلى أن أعبده؟! )وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(؛ لأن الذين عاشوا الوثنية في عقولهم ومشاعرهم وحياتهم، كيف يقتنعون بعبادة الله الواحد؟! في الوقت الذي كانوا يتحرّكون ضدّ الرسول الذي جاء بالتوحيد في العقيدة وفي العبادة.
)وَلا أَنَا عَابِدٌ ما عَبَدتُّمْ(، وهذا تأكيد للرفض الأوّل بصيغة الجملة الاسميةّ الدالّة على ثبات الصفة واستمرارها. )وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(؛ لأنّكم ـ في موقفكم ضدّي ـ تمثّلون الرفض كلّه، فكيف تريدونني أن أقبل منكم ذلك؟!
إنّ المسألة الحاسمة هي أنّ هناك عبادتين تختلفان في طبيعتهما، وفي منطلقاتهما، وفي حركتهما في الواقع الإنسانيّ؛ وأنّ هناك دينين يختلفان في قاعدتهما، وفي شريعتهما، وفي طريقة العبادة فيهما، وفي مضمون الألوهيّة عندهما وفي نظامهما الأخلاقي، وقد أخذتم بدين الشرك وارتضيتموه عن قناعة أو عن تقليد أو عن طمع واستكبار، أمّا أنا فقد أخذت بدين التوحيد الذي هو دين الإسلام من موقع القناعة اليقينية والإيمان الحاسم؛ ولكنّ الكلمة الأخيرة هي الكلمة الفاصلة التي تمنع اللقاء إلا على أساس وحدة الدين والانتماء: )لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(، فإذا كنتم لا تريدون الالتزام بديني فابتعدوا عنّي؛ لأنّي لن أترك ديني الذي أخلصت به لله في كلّ ما يريده ويرضاه. وعلى المعنى الثاني، وهو إرادة الجزاء من كلمة الدين، فيكون المراد: لكم جزاؤكم على عبادتكم، وهو النار، ولي جزائي على عبادتي، وهو الجنّة.
إنّ هذه السورة تمثّل المنهج الذي يجب أن يتَّبعه المسلمون في مواجهة العروض التي تقدّم إليهم في ساحة الصراع من أجل إنهاء القطيعة، وإيجاد قاعدةٍ للصلح، مما قد يتعارف الناس على الوصول إليه بالتسويات العملية على أساس المناصفة، وذلك بأن يتنازل هذا الفريق عن بعض مواقعه والتزاماته لمصلحة الفريق الآخر الذي يتنازل عمّا لديه بالنسبة نفسها، ليلتقيا في نصف الطريق لمطالب كلّ منهما. ولعلّ هذا ما قدّمه المشركون للنبيّ w في ما جاءت به رواية سبب النزول ـ على تقدير صحّتها ـ بأن يعبد النبيّ w الأوثان سنةً، ليعبد المشركون الله سنةً، ليتساويا في الاعتراف المتبادل في وقتٍ خاص.
وقد يكون المطروح في عروض الصلح، هو المطالبة بتجربة الموقف الذي يقف فيه أحدهما من قِبَل الآخر ليعيش آفاقه، وليدخل في تجربته، فلعلّه يقتنع به ليتّخذ الموقف على أساس الفكرة الواحدة.
إنّ السورة تطرح الرفض لهذه العروض من ناحية المبدأ؛ لأنّ المسألة تتعلّق بالخطّ الأساسي للدين، وهي مسألة عبادة الله التي تمثّل خطّ التوحيد ومنهجه في العقيدة والحياة، في مقابل مسألة عبادة الأوثان التي تمثّل خطّ الشرك ومنهجه فيهما، ما يعني التنازل عن أساس الالتزام العقيدي؛ والإسلام إنّما جاء لمحاربة الوثنية بالعقيدة التوحيدية، فكيف يُمكن الاعتراف بها من ناحية المبدأ، فيما يعنيه ذلك من الابتعاد عن الجدّية في الدعوة إلى وحدانيّة الله؟!
ولعلّنا نستطيع التحرّك بعيداً في هذا الموضوع، وذلك في القضايا العامّة، من سياسية واجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة، لنميّز في طروحات الوفاق في هذه الأمور، بين القضايا الكبرى المرتبطة بالخطّ المستقيم وبالمصير النهائي، وبين القضايا الصغرى المرتبطة بالخطوط التفصيليّة المتحرّكة في دائرة الأوضاع والمراحل المتغيّرة، فلا نقدّم التنازل عن القضايا الأولى، إلا في ما يتعلّق بالأسلوب ممّا يدخل في دائرة المرونة العمليّة، بينما ندرس بعض التنازلات في القضايا الأخرى في ما لا يمسّ الجوهر.
وتلك هي دائرة الواقعيّة التي يُمكن أن يتحرّك فيها الإسلاميّون أمام الطروحات التي تقدّم إليهم لإنهاء النزاع، أو لإيجاد موقف مشترك مع الآخرين في بعض المراحل السياسية في ما يُطلب فيه تجميد الصراع في وقتٍ معيّن مع بعض الجهات، أو إيجاد حالة من الوفاق السياسي أمام بعض الشعارات، أو ما إلى ذلك مما قد يفيد الحركة الإسلامية في مواقعها السياسية أو الجهادية، ولا يضرّ مرتكزاتها ومسلّماتها السياسية.
ولعلّ من الضروريّ للإسلاميين أن يدقّقوا في الساحة التي يُمكن لهم أن يقدّموا فيها التنازلات للآخرين في القضايا الصغيرة التفصيليّة؛ فقد لا يكون الظرفُ ملائماً لذلك؛ لأنّ الانعكاس الذي يتركه على القاعدة الشعبيّة قد يكون سلبيّاً، ما قد يؤدّي إلى إضعاف المعنويّات السياسيّة من دون ثمنٍ كبيرٍ يحصلون عليه في مقابل ذلك، وقد تكون بعض المواقع في دائرة المكان غير ملائمة لذلك، بينما تكون المواقف في دائرة أخرى وفي أمكنة أخرى ملائمة جدّاً.
إنّ ما نريد تأكيده، هو أن تكون الحسابات دقيقة، بحيث لا تخضع للحالات العاطفيّة أو الانفعاليّة، حتى لا يكون الخطأ كبيراً ومميتاً في نتائجه السلبيّة.
وعلى ضوء ذلك، فإنّ على العاملين في حقل التربية الإسلاميّة أو الدعوة الإسلاميّة، أن يضعوا هذه السورة في البرامج التربويّة التي يدرسها الجيل المسلم، ليحفظوها ويفهموها ويلتزموا مضمونها الحيّ في أفكارهم وأخلاقهم، لتكون التنشئة التربويّة مرتكزةً على قاعدة الإصرار على الالتزام بالخطّ المستقيم، وعدم الانحراف عنه لقاء أيّ عرضٍ للتنازل من أيّة جهة كانت، ولتكون الدعوة الإسلاميّة متحرّكةً في خطّ الثوابت العقيديّة والمصيريّة بكلّ استقامة وثبات. والحمد لله ربّ العالمين.
|
||||||||
|
||||||||
![]() |
||||||||
|
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
قال الله تعالى: )لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ((1).
ليس الكفر ـ في مفهوم القرآن ـ أن تنكر وجود الله ورسله كمبدأ فحسب، بل قد يتحقق بالانحراف في التصوّر، كمن يؤمن بوجود الله، ولكنه يتصوّره بصورة متجسدة في حالة بشرية، أو في شخصية معينة، لأن الصورة التي في ذهنه ليست هي الله في معنى ذاته، بل هي غيره، فيكون الإيمان بها إيماناً بغير الله حقيقةً.
وفي ضوء ذلك، كانت أبحاث العقيدة تؤكّد صفات الله كمنطلق للتوحيد الخالص، وناقشت الغلاة الذين يعتقدون بربوبية بعض البشر، كمن يعتقد بربوبية الإمام عليt بطريقة التجلّي لله به أو بطريقة أخرى، واعتبرتهم كفرةً تماماً كمن يعتقد بألوهية الأصنام، ولكنها تحفّظت على المجسّمة الذين يعتقدون أن الله جسمٌ كبقية الأجسام، أو أنه جسم ولكن ليس كالأجسام، ويفلسفون القضية ليصلوا من خلال ذلك إلى أنّ مثل هذا الاتجاه في تصور الله كجسم مادي يشبه الكفر، بل هو الكفر بعينه.
وعلى هذا الأساس، أطلق القرآن على النصارى الذين قالوا )إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ"(2) صفة الكفّار مهما كانت الأساليب التي اتّبعوها في صياغة هذه العقيدة وتفسيرها، من أن المسيح هو الله من خلال تجسده به، كما نراه في تعبير بعض النصارى في قولهم: (ربنا يسوع المسيح) من خلال عقيدة التجسّد.
ثم ناقشهم ببساطة الفكر وعفويّته؛ فإذا كان المسيح هو الله، فكيف عجز عن الدفاع عن نفسه، مع أن طبيعة الألوهية في معناها الكلي، تفرض أن يكون لديه القوة المطلقة التي لا يعجزها شيء، ولم يستطع المسيح دفع الموت عن نفسه وعن أمه، على فرض أنه مات ـ كما يعتقد النصارى ـ وبذلك لم يعد هناك أي فرق بينه وبين كل من في الأرض الذين يموتون بإرادة الله من دون أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم، مهما كانت وسائل الدفاع التي يملكونها، وليس ذلك إلا انطلاقاً من الحقيقة التي تؤكد أن لله ملك السماوات والأرض وما بينهما، فكلُّ ما فيهما ومن فيهما ملك لله، فكيف يمكنهم أن يدافعوا عن أنفسهم في قدر الله وقضائه؟! فهو الذي يخلق ما يشاء ويتصرف في خلقه بما يشاء من خلال القدرة المطلقة على كل شيء مهما كان كبيراً وعظيماً.
)لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ(، فالله لا يمكن أن يتجسّد في أيّ بشر مهما كانت صفته، لأن المطلق لا يمكن أن يتجسّد في المحدود، ولأن المعنوي لا يدخل في الموجود المادي، لأنه مخلوق لله خاضعٌ لما يخضع له أي مخلوق في نقاط ضعفه، ما يمتنع عليه في ذاته أن يتصف بصفات الألوهية، فضلاً عن أن يكون هو الله، مهما كانت الصورة التي صوَّرنا بها هذه الوحدة بين الله والمسيح التي تحولت إلى عقيدة شاملة للنصارى في تعبيراتهم الحالية، مثل قولهم: (ربنا يسوع المسيح الذي ذاق الموت ثم قام من القبر) في عقيدة معقّدة.
وقد التزموا بالتثليث الذي لا يعتبره البعض من مفكِّريهم شيئاً مادياً متعدداً بالمعنى العددي المنفصل، وهذا ما لم يقم عليه دليل إلا بما قد يتصوَّرونه في تفسيرهم للإنجيل، ويؤكد البعض منهم أنّ مسألة الجمع بين التوحيد والتثليث ليست مسألة عقل يؤكد الفكرة في معادلته بالدليل العقلي، بل هي مسألة إيمان فوق مستوى العقل مما يعيشه الإنسان في روحه ووجدانه.
ولما كانت هذه العقيدة بعيدةً عن معنى الله في وحدانية ذاته، بحيث لا تقبل التجسّد والتماثل في أيّ مخلوق أو أيّ بشر، اعتبرها القرآن كفراً وجحوداً بالحقيقة الإلهية في السرّ الإلهي، تماماً كما لو كانت المسألة مسألة اعتقاد بإله غير الله، لأن للتصور دوره في تأصيل فكرة الله في وجدان المؤمن.
وإذا كان من غير الممكن تصور الله في ذاته، لأنه من عالم الغيب الذي لا يصل إليه الإنسان في تصوراته الفكرية، فإن ذلك لا يعني الامتناع عن مناقشة التفاصيل العقيدية التي لا تلتقي بالقناعات العقلية التي ترجع إلى الوجدان الإنساني في تصوراته للأشياء، لأن هناك فرقاً بين وعي الحقيقة الإلهية في جوهرها الذاتي، وإهمال الحديث عن كل الصفات التي لا تتناسب معها، فارتفاع مضمون الإيمان عن العقل لا يعني ابتعاداً في خصوصياته الفكرية عن الدليل العقلي في جانب السلب والإيجاب.
وربما كان في الحديث عن انتماء المسيح إلى مريم بعض الإشارة إلى أن هذه البنوّة والأمومة تعني خضوعه لما يخضع له المخلوق من مرحلة الجنينية في الحمل ومرحلة الولادة وما يستتبع ذلك من حاجة إلى النموّ واستقراره في محيط صغير وهو الرحم وتعرّضه للتحوّلات التي ينتقل بها من حالٍ إلى حال، وللحاجات الجسدية الطبيعية كالغذاء ونحوه مما لا يتناسب مع معنى الألوهية، فكيف نلتقي مع القول بأنه هو الله )قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً(، ويمنعه في إرادته التي لا تنفك عن حصول المراد )إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ(، فهل يملك هذا الإنسان الموصوف بالألوهية في اتحاد الله به وتجسّده في ذاته، أن يدفع الهلاك عن نفسه وعن أمه؟ )وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً(، فهل يستطيعون منع الله من إهلاكهم؟ فكيف يمكن ادّعاء الألوهية لبشر لا يقدر على الدفاع عن نفسه وعن أقرب الناس إليه، في الوقت الذي لا يختلف عن أيّ بشر مسخّر ومغلوب على أمره لا يملك من أمره شيئاً إلا ما ملَّكه الله خالقه.
)وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا(، فهو ـ وحده ـ الذي له السلطة المطلقة على الكون كله، من موقع أنه المالك له بجميع موجوداته النامية والحية والجامدة، والمدبّر لها والمحيط بجميع شؤونها والمهيمن على الأمر كله )يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ(، بإرادته التي لا يعجزها شيء، فقد خلق آدم من طين من دون أب وأم، وبقدرته خلق عيسى من أمّ دون أب، ما يدلّ على شمولية قدرته وتنوّع إرادته )وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ((3)، فهو القادر على خلق من أراد وكيف أراد، وهو القادر على الإهلاك في أية حالة ولأي مخلوق، لأن قدرته لا حدّ لها، فهي القدرة المطلقة على كل شيء، وهو الله وحده لا شريك له في أمره وقدرته.
وقد تحدّث القرآن عن هذا التصوّر الخاطىء لله في حديث السيد المسيح الذي رفض هذه الفكرة ووجّه الناس إلى العقيدة التوحيدية في ربوبية الإله الواحد وعبادته، رافضاً فكرة التثليث في العقيدة، وهذا ما جاء في قوله تعالى: )لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ((4).
فقد أكدت هذه الآية المسألة في بعدها التوحيدي، حيث أعلن المسيح أن الله هو ربّه وربّ الناس جميعاً، ومن كان الإله متجسداً فيه لا يكون له رب. ويؤكّد الفكرة بالحديث عن مصير المشركين الذين قد يلتقي شركهم بمثل هذه العقيدة الخاطئة في بعض أنحاء هذا التصور، فقد يتمثّل إشراكهم تارةً في عبادة غير الله مع الاعتراف بمغايرته له إلى جانب عبادة الله من أجل أن يقربهم إلى الله زلفى، وأخرى في عبادة غير الله مع الاعتراف بأنه الله، لأن النتيجة فيهما واحدة، وهي عبادة غير الله في الحقيقة، فقد حرّم الله الجنّة على أصحاب هذه العقيدة وجعل مسكنهم النار، لما يمثله ذلك من إساءة لعظمة الله، )إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ((5).
ويقال إن البعض كانوا يعتقدون بألوهية السيد المسيح وأمه كإلهين إلى جانب الله، وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة في سورة المائدة: )وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ( (6).
ويذكر بعض علماء النصارى، أنه ليس هناك فيهم من يتبنّى هذه العقيدة، وأن التثليث يمثّل تعدداً معنوياً لا مادياً. وعلى أيّ حال، فإنّ فكرة التثليث لا تمثل فكراً حقيقياً مرتكزاً على الحجّة والبرهان، بل هي فكر منحرف في عالم الواقع وفي عالم التصور في بُعديّه المادي والمعنوي، وهو ما يجعل الملتزمين بهذا الفكر معنيين باكتشاف الضعف الفكري بالمزيد من التأمل والتدبر والوعي الكامل لعقيدة التوحيد الخاضعة للبرهان العقلي وللإيمان الروحي، كما جاء في قوله تعالى: )وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ(، ويرجعوا إلى الفكر الحقّ، )لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (7)، إلاّ إذا تابوا، فعندها يتوب الله عليهم، )أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ(، لأن الانحراف في العقيدة أشدّ خطراً من الانحراف في العمل، وبذلك تفتح لهم أبواب الأمل بالمغفرة والرحمة من الله )وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( (8)، يغفر لعباده انحرافهم الفكري والعملي إذا رجعوا عن هذا الانحراف، وذلك من موقع رحمته التي وسعت كل شيء.
ثم تنطلق التوعية لإبعاد هذه الفكرة عن التصوّر، بالحديث عن الطبيعة البشرية في حاجاتها المادية في شخصية السيد المسيح وأمه مريمu، ما يبعدهما عن موقع الألوهية، ليقتصر دور المسيح على الرسولية في خط الرسالة، أما أمّه، فإن موقعها هو موقع الصدِّيقين، لأنها صديقة في إيمانها بالله وصدقها معه وتصديقها به، وهذا هو قوله تعالى: )مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ(، فهو رسول الله الذي أرسله إلى عباده بعد فترة من خلوّ الساحة من الرسل، ليتجدّد به خط الرسالات وحركة الرسل، )وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ(، صدَّقت الله بإيمانها وأخلصت له في العبادة والموقف، وواجهت كل التحديات بروح المؤمنة الصادقة التقية. فلم يكن في عيسى أيّ مظهر من مظاهر الألوهية أو أيّ سرّ من أسرارها، بل كانت آيات الله الظاهرة على يديه، مثلها مثل الآيات التي ظهرت على أيدي الرسل الذين سبقوه، من دون فرقٍ إلا في الشكل، تبعاً للظروف التي تتنوّع من خلالها المعجزة، ولم يكن في أمّه أي سرّ من أسرار القداسة الغيبيّة التي توحي بعبادتها من قبل الناس، بل كانت قداستها الروحية تتمثّل بإخلاصها لله وصدقها في إيمانها به كأية مؤمنة تقية أخرى، ولكن بدرجة أكبر وقيمة أعلى، لأن الله اصطفاها على نساء العالمين.
)كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ( كما يأكله بقية البشر في نوعيته وطريقته، فليس هناك أكل إلهي أو طريقة إلهية في الأكل، وذلك هو دليل المادية والحاجة والفاقة المنافية للألوهية، فكيف يؤلّهون مَن هذا شأنه )انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ( (9)، يتبعون الإفك ويكذبون من دون شعور بالمسؤولية في خط العقيدة والعمل.
ويستمر التساؤل ليؤكّد الصورة، وليعمّق الإحساس بالعبث فيما يمارسونه من شؤون الفكر )قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا( (10)، فماذا يملك عيسىt من مقوّمات القوة الذاتية التي يستطيع من خلالها أن يمنحكم النفع أو يدفع عنكم الضرر؟ إنه لا يملك شيئاً من ذلك في ذاته، بل هو بشر كبقية البشر في قدراته الطبيعية، وليس له شيء أكثر من ذلك، إلا فيما أجراه الله على يديه من آياته مما أراده الله من مواجهة الرسالة للتحدي، من أجل إخضاع الكفر والكافرين بطريقة المعجزة، ولكنها شأن من الشؤون التي لا تملك امتداداً ولا عمقاً في شخصيته، فلها وقتها المعيّن، وحدودها الخاصة، ويتحرك ـ بعد ذلك ـ الإنسان في عيسىt بقدرته المحدودة التي لا تملك نفعاً ولا ضراً لنفسها ولا لأحد، فكيف تسيرون في هذا الاتجاه، وكيف تأمنون على أنفسكم المسؤولية غداً أمام الله الذي يسمع ما تقولون ويعلم ما تضمرون، والله هو السميع العليم.
وفي ختام المطاف، إن الإسلام يؤكد العقيدة التوحيدية بعيداً عن أي تعقيد وأي انحراف وأي خلل، بل هي الصفاء الروحي والفكري والشعوري بكل بساطة الروح، وهذا ما عبّرت عنه سورة الإخلاص: )قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ( (11). والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
في إطار حديثه عن الكفر وقضاياه، يتعرّض سماحة آية الله العظمى لموضوع مهمّ من المباحث المتعلّقة بالكفر، وهو هل إنّ الكفر يوجب القطيعة بين المؤمنين وبين الكافرين، بحيث لا يكون هناك مجالٌ للعلاقات الإنسانيّة، أو للتحالفات السياسية، أو للتوحّد الاجتماعي في إطار العيش المشترك، وما إلى ذلك، أو أنّ المانع هو الحرابة، أي نصب الكافرين العداء للمسلمين؟ هذا ما يعالج سماحته قسماً منه في هذه المحاضرة، وهذا نصّها:
هل البراءة من الكفر والكافرين، في نطاق الرفض السلبي لفكر الكافر، يقود إلى المقاطعة الإنسانية على صعيد العلاقات الخاصة والعامة، ولاسيما في المجتمعات المختلطة التي يعيش فيها المسلمون والكافرون، أو أن هناك انفتاحاً اجتماعياً واقعياً في حركة المصالح المتبادلة، وفي نطاق التعايش المشترك؟
إن القرآن الكريم يؤكّد الانفتاح مع الجماعات الكافرة المسالمة التي لم يصدر منها أية حالة قتالية على صعيد الاختلاف في الدين، أو أية حالة عدوانية على أساس التهجير القسري من البلدان التي يستوطنها المسلمون، أو أية حالة تحالفية مع أعداء الإسلام في تخطيطهم لإخراج المسلمين من ديارهم، وذلك بالتعامل بالبرّ معهم، بما توحي به كلمة (البرّ) من أعمال الخير المنفتحة على مصالحهم الحيوية ومشاعرهم النفسية، وبالعدل معهم في حفظ حقوقهم؛ بأن يعطى كل واحد من هؤلاء الكافرين المسالمين ما يملكه لدى المسلمين من حقوق خاصّة وعامّة؛ ما يوحي بأن الإسلام لا يتنكر من الناحية الإنسانية الاجتماعية من موقع العقدة لصفة الكفر في الكافر إذا كان مسالماً في علاقته بالمسلمين، وهذا هو ما جاء في قوله تعالى: )لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ((1).
وفي ضوء ذلك، فإن الإسلام لا يفرض على المسلمين العزلة في علاقتهم بالمجتمعات المتنوعة دينياً، بل ربما نستوحي من كلمة (لا ينهاكم) الرخصة في إيجاد علاقات اقتصادية وأمنية في مواقع الخطر المشترك الذي قد يصدر من أعداء الوطن في كل مواقعه وبكل مواطنيه، وربما تمتد المسألة إلى العلاقات السياسية على مستوى قضايا الداخل في الأوضاع المحلية، أو على مستوى قضايا الخارج على صعيد المواثيق والمعاهدات بين الشعوب أو الدول من خلال المصالح المشتركة، وخصوصاً في هذه الظروف التي تطورت فيها الأنظمة والدول، وتحرّكت قوانينها في نطاق التحالفات الدولية، وفي تشريع القوانين التي تسمح بلجوء الشعوب التي تتعرض للظلم من قِبَل حكامها، ومنها الشعوب الإسلامية أو تلك التي لا تتوفر لها فرصة العيش الكريم من خلال فقدان فرص العمل المنتج، كما هو الحال بالنسبة إلى كثير من المسلمين، تسمح بلجوء هؤلاء إلى بلدان غير إسلامية تهيِّىء لهم ما يحتاجون إليه ممّا لا يستطيعون تأمينه في بلادهم. وربما تمسّ الحاجة في بعض المسلمين إلى الدراسة في بلاد الغرب أو الشرق، فيذهبون إليها طلباً للعلم لدراسة الاختصاصات والاطّلاع على الثقافات والعلوم التي لا تتوفر لهم في بلادهم.
وفي مثل هذه الحالات، لا بد للمسلمين المتواجدين في تلك البلدان، أن يحافظوا على الأمن والنظام في تلك الدول، فلا يعملوا على اختراق النظام بشكل سلبي والإساءة إليه بطريقة عدوانية أو بحالة إرهابية؛ لأنّ هناك عهداً من كل مسلم قادم إلى هذا البلد أو ذاك، بالالتزام بقوانين تلك البلاد، فيما لا يتنافى مع التزاماته الإسلامية، لأن الله يأمر المسلمين بالوفاء بالعقود والعهود، من دون فرق بين ما إذا كان بين المسلمين بعضهم مع بعض، أو بينهم وبين الكافرين. هذا هو المنهج الإسلامي في العلاقة مع غير المسلمين المسالمين.
أما غير المسالمين من الذين يقاتلون المسلمين على أساس ديني، أو يخرجونهم من ديارهم، أو يساعدون الأعداء على إخراجهم منها بطريقة عدوانية على أساس تحالفات معادية، فإن الإسلام يطلب من المسلمين أن لا تكون علاقتهم بهم علاقة موالاة ومودة وصداقة، لأن تولّيهم يمثل ظلماً للنفس وللإسلام والمسلمين من خلال النتائج السلبية التي قد تترتب على ذلك، وهذا ما جاء في قوله تعالى: )إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ((2).
ونستوحي من هاتين الآيتين، أنّ من الممكن الانفتاح بشكل موضوعي على غير المسلمين على مستوى العلاقات الدولية، أو على صعيد العلاقات الحركية السياسية، أو في دائرة الأوضاع الاقتصادية، فإن الله لا ينهى عن البرّ بهم والعدل معهم. وليست المسألة في إيحاءاتها الفكرية مجرد حالة إنسانية خيرية، بل هي ـ إلى جانب ذلك ـ حركة عملية في هذا الاتجاه، لأن أجواء الآيتين، مع ملاحظة الآيات السابقة، تؤكد في مسألة المقاطعة ورفض الموالاة، أن يكون هناك حالة عدوانية من قِبَل هؤلاء، لا أن تكون المقاطعة لمجرّد الخلاف الديني، وهو ما يفسح في المجال لعلاقات إنسانية سياسية واقتصادية إيجابية، فكلمة (البرّ) قد تتسع للكثير من النشاطات العامة، كما أن كلمة (العدل) قد تتحدث عن التوازن في الموقف والعلاقات.
لذا نؤكد ضرورة التركيز على الاستيحاءات القرآنية في مسألة المفاهيم، من خلال طبيعة الآفاق التي تطل منها الآية، والأفكار العامة التي تثيرها، والإشارات الروحية التي تلتقي بها في حركة المفاهيم...
وقد أثار الفقهاء أحاديث متنوعة فيما يتصل بالآية الأولى، حيث تحدثوا عن أن الصدقة تجوز من المسلم على الذمي من أهل الكتاب، بل قال أبو حنيفة إنه تجوز عليه الفطرة والكفّارات، واتفقوا على جواز الوصية له بالمال، والوقف عليه، لأن الله لم ينهنا عن البرّ به، وهذه الأمور هي من بعض مفردات البرّ.
وقد نستطيع أن نضيف إلى ذلك الكافر المسالم، حتى لو لم يكن من أهل الكتاب، لاسيما إذا لاحظنا أن من الممكن أن تكون الآية شاملة، إن لم تكن مختصة بحسب مورد النـزول بأهل مكة المشركين الذين لم يشاركوا الطغاة في القتال أو في المساعدة على إخراج المسلمين، ولا بد من التأمل في ذلك.
وإذا كنا قد تحدثنا عن مسألة الانفتاح على غير المسلمين المسالمين في العلاقات الدولية أو الحركية السياسية، فإننا نستطيع الإشارة من خلال ذلك إلى دراسة العلاقات مع الدول الكبرى أو الصغرى التي تتحرك ضد مصالح المسلمين السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية بطريقة عدوانية، لأن القضية ليست قضية القتال في الدين والمساعدة على التشريد كخصوصيتين ذاتيتين، بل كنموذجين للعداوة التي تمثل المبدأ الذي يدور مداره الموقف الودّي أو الموقف المضاد.
وقد يفرض علينا البحث أن نشير إلى أن المقاطعة للفئات العدوانية تتحرك في نطاق العناوين الأولية في الحالة الطبيعية للعلاقات العامة، ولكن قد تطرأ بعض الظروف الضاغطة التي قد يضطر فيها المسلمون إلى إيجاد علاقات معينة مع الدول المعادية من أجل المصلحة الإسلامية العامة العليا، التي قد تنعكس عليها المقاطعة انعكاساً سلبياً أكثر مما تنعكس على تلك الدول، الأمر الذي قد يفرض على أولي الأمر أن يواجهوا المسألة بالطريقة الإيجابية مع بعض التحفّظات التي تقتضيها السلامة العامة للإسلام والمسلمين.
وقد نستفيد ذلك من أن النهي في الآية الثانية قد تعلق بالموالاة التي تمثل الانفتاح الروحي والمودة العملية في علاقة المسلمين بالفئات المعادية، ولا تشمل الأوضاع المرتبطة بالمصالح الحيوية التي تتصل بالواقع الإسلامي العام، من ناحية استيراد البضائع والآلات وقطع الغيار للأسلحة والطائرات والأجهزة العلمية الفنية، فإن ذلك لا ينطلق في دائرة الموالاة، بل في دائرة الحاجات الضرورية أو الاستهلاكية، مما تتوقف عليه حياة المسلمين أو تطورهم العلمي والاقتصادي والأمني. وهذا باب واسع ينفتح فيه للمسلمين الكثير من الأمور والقضايا العامة والخاصة.
وهنا يطرأ سؤال: كيف نفسّر الآيات التي تتعلق بالدعوة إلى قتال الكافرين، فهل الأساس هو الكفر، أم الحرابة؟
في دراستنا للآيات القرآنية التي دلّت على تشريع القتال، نجد أنها تؤكد القتال الدفاعي في مواجهة العدوان، ما يوحي بأن مسألة الكفر بمجرَّده ليس هو السبب في الدعوة إلى القتال، فنقرأ قوله تعالى: )وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ((3). فنحن نستفيد منها أن الدعوة إلى القتال والترخيص به موجهة ضد الذين يعتدون على المسلمين بالقتال، مع النهي عن الاعتداء على الآخرين الذين لا يتحركون بالعدوان، لأن الله يرفض قبول المعتدين في علاقات الناس بعضهم ببعض.
ونقرأ أيضاً قوله تعالى: )أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ((4). فالقضية في الآية هي مواجهة هؤلاء الذين اعتدوا على الإسلام والمسلمين بتخطيطهم لإخراج الرسول من بلده، ونقضوا العهد بينهم وبين المسلمين، وبدأوا العدوان عليهم منذ بداية انطلاق الإسلام، ما يوحي بالجانب الدفاعي في اتجاه، والجانب الوقائي في اتجاه آخر، الأمر الذي أدّى إلى إنهاء المعاهدة بينهم وبين المسلمين، واستعار الحرب من جديد بينهم، لأنّهم )لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ((5).
ويقول تعالى: )وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ((6)، والظاهر أن كلمة (كما) هي للتعليل، أي لأنهم يقاتلونكم كافة.
ويقول تعالى أيضاً: )وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ((7)، فقد عالجت الآية الطريقة العدوانية التي كان يمارسها المشركون في الضغط على الضعفاء من المسلمين بمختلف وسائل الضغط، لفتنتهم عن دينهم، وإجبارهم على أن يقولوا كلمة الكفر ويخضعوا لتقاليد الشرك في عبادة الأصنام، حتى سقط بعض الشهداء من جرّاء ذلك، كياسر وزوجته سميّة تحت التعذيب...
وفي قوله تعالى: ) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ((8). نلاحظ أن الإذن للمسلمين بالقتال كان في الأساس يهدف إلى تخلّص المسلمين من ظلامتهم التي مارسها المشركون ضدهم، وذلك بإخراجهم من ديارهم بغير حق، ما اضطرهم إلى الهجرة لأنهم قالوا )ربنا الله(، تعبيراً عن التوحيد الخالص ورفضاً للشرك بالموقف... ما يوحي بأن المسألة تخضع للجانب الدفاعي من جهة، والوقائي من جهة أخرى، وهذا خط إنساني حضاري يملكه كل إنسان مظلوم للدفاع عن نفسه ضد الذين يظلمونه، وكذلك للتخفّف من ظلامته.
) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا((9).
في هذه الآيات، دعوة إلى القتال في سبيل الله، وهذه الكلمة تتضمن الدفاع عن الخط الإسلامي ضد الذين يحاربونه ويعتدون عليه، وعن القضايا الإنسانية في إقامة العدل وإنهاء الظلم ونصرة الحق وإزهاق الباطل، ما يرتفع بإنسانية الإنسان، ويؤدي بمسيرته إلى المزيد من التوازن الروحي والعملي... ثم تنفتح الآية الثانية على الدفاع عن المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة في حماية أنفسهم من المستكبرين الذين يظلمونهم ويمنعونهم من الاستقرار في قريتهم بفعل أهلها الظالمين، ما يجعلهم يستغيثون الله بأن يهيِّىء لهم سبيل الخروج منها إلى قرية يشعرون فيها بالحرية والكرامة في نطاق العدالة الإنسانية، ويتطلعون إلى الولي الذي يقودهم إلى مواقع السلامة وإلى النصير الذي ينصرهم من الظالمين.
وتأتي الآية الثالثة لتؤكِّد أن قتال المؤمنين إنّما هو قتالٌ في سبيل الله الذي يريد الله للناس أن يسيروا عليه، وأن يرفضوا القتال في سبيل الطاغوت الذي يتحرك من أجل دعم الطغيان... بينما نجد الكافرين الذين كفروا بالله ورسله، وتنكّروا للحقوق الإنسانية في حياة المستضعفين، يقاتلون في سبيل الطاغوت الذي ينحرف بالواقع عن خط الاستقامة الإيمانية الروحية الإنسانية، ويتحرك في خط الشيطان، وفي خدمة أوليائه الذين ينبغي للمؤمنين أن يقاتلوهم، لأن كيد الشيطان لا يملك القوة، بل هو في موقع الضعف.
وهكذا نجد أنّ هذه الآيات تحدثت عن شرعية القتال بعيداً عن أية حالة عدوانية ضد الكافرين المسالمين، لتكون القضيّة قضية ردّ العدوان عن النفس وعن القضية وعن المستضعفين، ما يجعل من القتال خدمة للإنسان والحياة.
أما الآيات التي قد يحتج بها على أنّ الكفر المتمثّل بالشرك هو المبرّر للقتال، فقد ذكروا من بينها قوله تعالى: )فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ((10).
وقوله تعالى: )قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ((11).
وفي الروايات، ما روي عن النبيw، أنّ أهل الطائف نصبوا منجنيقاً، خرّبوا به حصون بني النضير وخيبر، وهدّموا به دورهم. وما ورد في خبر حفص ابن غياث، كتب بعض أخوان أبي أن أسأل أبا عبد اللهt عن مدينة من مدائن أهل الحرب: هل يجوز أن يرسل عليهم الماء أو تحرق بالنار، أو ترمى بالمنجنيق حتى يقتلوا وفيهم النساء والشيخ الكبير والأسارى من المسلمين والتجار؟ فقال: ((يفعل ذلك ولا يمسك عنهم بهؤلاء ولا دية عليهم للمسلمين ولا كفارة)).
وما رواه أبو داود والترمذي من حديث سمرة بن جندب عن النبيw قال: ((اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم))(12)، أي صغارهم.
وما رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك، أن رجلاً جاء فقال لرسول اللهw بعد أن دخل مكة يوم الفتح: ابن حنظل متعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتله، قلت: كان رسول الله أهدر دماء ستة رجال وأربع نسوة.
أما الذين أهدر رسول الله دماءهم فهم: عكرمة بن أبي جهل، ووهب بن الأسود، وعبد الله بن أسعد بن سرح، ومقيس بن صبابة الليثي، والجويرث بن تفيد، وعبد الله بن هلال، وهند بنت عتبة، وسارة مولاة عمرو بن هشام، وفزتنا وقريبة. هذا أهم ما استدل به أصحاب هذا المذهب من الفريقين من السنة والشيعة.
وقد رأى أصحاب هذا المذهب، أن الآيتين الأولى والثانية دلّتا على أن ملاك وجوب قتل الكافرين هو الكفر لا الحرابة، بدليل أنه جعل غاية هذا الحكم في الآية الأولى الإيمان والتوبة، والخضوع والجزية في الآية الثانية.
وعندما أشكل عليهم ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول، دفعوه بقولهم إن هاتين الآيتين من أواخر ما نزل من القرآن، فهما ناسختان لكل ما قد عارض من قبل. وأما ما استفادوه من الأحاديث، فهو أن أمر رسول اللهw بقتل شيوخ المشركين، ما كان ليكون لو أنّ علة الجهاد هي الحرابة، لأن الشيوخ لا يتأتى منهم المبادرة بالعدوان، وكذلك الأمر فيمن أمرw بقتلهم بعد أن أهدر دمهم، فلا محالة إذاً أن ملاك الحكم هنا أيضاً هو الكفر لا الحرابة، حسب رأيهم.
وللكلام بقية إن شاء الله تعالى.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
بعد هذا الاستعراض لحجج الطرفين، لا بد من التوقّف بشيء من المناقشة لحجج الطرف الثاني كتمهيدٍ لإبداء وجهة نظرنا في الموضوع.
أوّل ما يمكننا ملاحظته بالنسبة إلى هذا المذهب، أي المذهب الذي يرى أنّ علة قتال الكافرين في الإسلام هي الكفر لا الحرابة، هو أنّ عمدة استدلاله آيتان من كتاب الله تعالى، هما الآية الخامسة، والآية التاسعة والعشرون من سورة التوبة. والآية الخامسة هي قوله عز وجل: )فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ((1).
ومن الواضح أن القارىء إذا أوقف نفسه عند منطوق هذه الآية، بمعزل عن سياقها الذي وردت فيه، سواء بما جاء قبلها، أو بما ورد بعدها، لن يستنتج إلا ما استنتجه أصحاب هذا المذهب، من أن علة القتال في الإسلام هي الكفر لا الحرابة. لكن إذا ما أخذنا الآيات التي تليها بعين الاعتبار، وهي قوله عز وجل: )وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ((2).
فالتأمل في هذه الآيات الثلاث، يظهر أنه نقيض ما ذهب إليه أصحاب المذهب الثاني، وذلك من خلال الآتي:
أولاً: في أمره تعالى بإجارة المشرك إذا ما طلب ذلك حتى يسمع كلام الله، وبإبلاغه مأمنه بعد أن يسمع، فلو كان الباعث على القتال هو الكفر، فإذا كان جائزاً إجارته حتى يسمع كلام الله تعالى، فأي معنى يبقى في إبلاغه مأمنه ما دام بقي على كفره متلبساً به؟! وبكلام آخر، ألا يستوجب بقاؤه على كفره قتله في الحال عند من يقول بأن الباعث على القتال هو الكفر؟ وبالتالي ما الدافع لإبلاغه مأمنه، أو ما السبب الكامن وراء ذلك؟
في الحقيقة، لا يمكن فهم السبب، إلا بأن هذا المشرك عندما يطلب الإجارة ليسمع كلام الله تعالى، إنما ينـزع عن نفسه صفة الحربي ليتلبس صفة الإنسان المسالم، ليدخل في أمان المسلمين، بحيث يبقى على هذه الحال طيلة مدة الإجارة إلى حين بلوغه مأمنه، ما يسقط وجوب قتاله وبالتالي قتله، فهو لم يدخل ديار المسلمين محارباً، وإنما مستطلعاً، وما دامت هذه صفته أو حاله، فلا موجب لقتاله بالمقتضى الأخلاقي وبمقتضى مبدأ المعاملة بالمثل.
ثانياً: لنتأمل في الاستثناء الوارد في قوله تعالى: )إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ(، فلو كان الكفر بحدّ ذاته موجباً للقتال، فكيف يمكن أن نسوّغ معاهدة مَن أمرنا الله تعالى بقتالهم؟ ولا يستقيم هنا الردّ بأن هذه المعاهدات إنما كانت قبل نزول ما يسمّى بآية السيف، لأنه بموجب هذا القول، من المفروض حينئذ أن تكون هذه الآية بمثابة إلغاء لهذه المعاهدات، كما لا يستقيم معها القول بأن الله تعالى إنما أمرنا بالاستمرار ببرّ المشركين الذين لم يقاتلونا في الدين ولم يقاتلونا بأي عدوان.
إن مقتضى ذلك أن يسري النسخ إلى المعاهدات التي بين المسلمين والمشركين في ظلّ ذلك الحكم المنسوخ، ذلك لأن الخطاب الإلهي يأمرنا صراحةً بأن نستقيم في برّنا للمشركين ما استقاموا في برّهم لنا، وهذا الأمر يأتي مباشرةً بعد آية السيف، ما يعني أن الحكم باستمرار شرعية هذه المعاهدة، إنما هو بمقتضى الخطاب الجديد وليس بمقتضى الحكم السابق.
ثالثاً: لنتأمل أيضاً في بيان العلة التي أظهرها الله تعالى لاستنكاره لأن يكون للمشركين عهد عنده تعالى وعند رسولهw، وذلك في قوله تعالى: )كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ((3). فهؤلاء إنما لا عهد لهم، لأن هذه هي حالهم، أي أنهم ما إن يشعروا بالتفوق والغلبة، حتى يضحّوا بكل العهود والذمم التي أخذوا على أنفسهم الالتزام بها ابتداءً وما ذلك، إلا لنفاقهم وعنادهم، حيث تكذب ألسنتهم ما في قلوبهم، وتكذب قلوبهم ما تبديه ألسنتهم.
وما نريد قوله هنا، إن هذا البيان ما كان ليضيف شيئاً أو ليقول شيئاً جديداً لو كان سبب استنكار قيام العهد بين المسلمين والمشركين، هو الكفر بحدّ ذاته، إذ سيكون الأمر عندها سيّان بكلام واضح؛ فإذا كان الكفر هو علة القتال والقطيعة، فسيكون الأمر سيّان بعدها، سواء كان هؤلاء أمناء على العهد أو مضيعين وخائنين له، وبالتالي لا معنى لهذا البيان الذي أتت به الآية، ولا يغدو عندها إلا حشواً لا مبرّر له.
ويبقى هنا ملاحظة أخيرة لا بد من إيرادها، وهي أن هذه الشواهد التي أتينا بها، إنما وردت مباشرة عقب الآية التي كانت عمدة استدلالهم على ما ذهبوا إليه، وهذه الآيات الثلاث، وإن جاءت في الترتيب بعد الآية الخامسة، إلا أنه لم يقل أحد إنّها سابقة لها في النزول حتى يصح القول معها بأن مدلولها منسوخ بما دلّت عليه الآية الخامسة.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: )قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِاليَوْمِ الآَخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ((5). فليس بأحسن حظاً من استدلالهم السابق، ذلك لإمكان تقييده من وجوه عدّة أبرزها:
أولاً: لقد جعل الله تعالى غاية القتال، كما هو بيّن من نصّ الآية، هو الدخول في نظام الجزية والخضوع له. ونظام الجزية ـ كما هو معروف ـ لا يستوجب السؤال عن الديانة السابقة والالتحاق بديانة الإسلام، هذا الالتحاق يصبح الشرط الأساسي لوقف القتال لو كان الباعث عليه هو الكفر بحدّ ذاته، في حين نرى أن الآية قيّدت القتال بالخضوع لنظام الجزية فقط، وهذا النظام لا يقوم مقام الإسلام كما هو واضح، وبالتالي إذا كان الإسلام ليس شرطاً، فهذا يعني أن الكفر ليس هو الباعث على القتال.
بيد أن نظام الجزية، وإن لم ينهِ مشكلة الكفر، فإنه بالتأكيد قد أنهى مشكلة أخرى هي مشكلة الحرابة، ما دام القتال في تصور الفقهاء يدور مدار هذين الباعثين، الكفر أو الحرابة. فبموجب هذا النظام، ارتفعت مشكلة الحرابة ليحل السلم وينتشر. هذا في جانب، وفي جانب آخر، فإن الآية لم تأمر بالقتل، وإنما أمرت بالقتال، وثمة فارق كبير في الدلالة اللغوية بين الاثنين، وبيان ذلك أن كلمة (قاتل) على وزن فاعل تدل على المشاركة، وبالتالي هي تستلزم وجود طرفين يتشاركان فعلاً واحداً وهو القتال في فرضنا الحالي، بل أكثر من ذلك، إن هذا اللفظ لا ينطبق إلا تعبيراً عن مقاومةٍ لبادئ سبق إلى قصد القتل، فالمقـاوم للبـادئ هـو الذي يسمـى مقاتـلاً، أمـا البادئ فهو أبعد من أن يسمّى ـ عرفاً ـ مقاتلاً، بل هو في الاستخدام الشائع والمتداول معتدٍ وقاتل ولا يمكن تسميته مقاتلاً. من هنا، فالمقاتلة بما هي من أفعال المشاركة، إنما تقوم مع فرض تصور معتدٍ أو قاتل ينهض للتصدي له مقاتل، وإلا لما كان هناك معنى للمشاركة.
بكلام وجيز، يقول الواحد منَّا: قتلت فلاناً إذا ما بدأ بالقتل، ويقول: قاتلته إذا ما قاوم سعيه إلى قتله، أو إذا ما سابقه الآخر إلى ذلك، أي إلى القتل كي لا ينال منه، فالباعث لقتالهم هنا هو درء العدوان ورد القتل وإحباط الخطط الخاصة بذلك، وصولاً إلى إعادة فرض الهدوء والسلام عن طريق نظام خاص، هو نظام الجزية. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإنه يمكن استفادة ذلك من الواقع الخارجي المتمثّل في المواقف المضادة للدعوة أو المعادية لها، مما كان يتحرك به هؤلاء في مواجهة الإسلام ووقوفهم في وجهه بالمستوى الذي كان يؤدي إلى تحرك المسلمين لقتالهم، لتكون الآية واردةً في ردّ العدوان أو ردّ الصد عن سبيل الله أو منع المسلمين من حرية الدعوة إلى الإسلام.
ونلاحظ أن الصفات التي وصفت بها الآية هذه الفئة من أهل الكتاب، لا تنطبق على النصارى واليهود الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويلتزمون بما جاء به الإنجيل والتوراة من أحكام، ما يوحي بأن هؤلاء ليسوا هم الذين خاطبهم القرآن بعنوان أهل الكتاب ودعاهم إلى كلمة سواء، الأمر الذي قد نستفيد منه بأنهم فريق من المشركين الذين أخذوا هذه الصفة من دون حق، كما يقال عن نصارى تغلب.
هذا كله في نقاش أدلة الكتاب التي استند إليها القائلون بأنّ علة الجهاد والقتال في الإسلام هي الكفر لا الحرابة.
فلننتقل الآن إلى نقاش أدلتهم التي اعتمدوا عليها من الحديث.
أولاً: حديث: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله))(6). وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، وهو مروي أيضاً عن طريق الشيخين مرفوعاً إلى ابن عمر، إلا أنه يمكن مناقشته من وجهتين:
الأول: من جهة أن إسناده ضعيف وغريب، ويكفي أن نذكر في هذا المقام أن أحمد بن حنبل لم يروه في مسنده، وهو المعروف عنه توسعه وتساهله في رواية الصحيح وغيره من الأخبار.
كما أن الحافظ بن حجر ذكر أن من العلماء من استبعد صحته، مستدلاً بأن ابن عمر لو كان عنده علم بهذا الحديث، لما ترك أباه ينازع أبا بكر في قتال مانعي الزكاة.
وبكلام آخر، إن المصادر السنّية تكاد تتفق على ضعف هذا الحديث، ولاسيما لجهة غرابة سنده، ولولا أن الشيخين عندهم اتفقا على صحته لكان أسقط. وفي مطلق الأحوال حتى لو تمّ التسليم بصحة سنده، فإن دلالته قابلة للنقاش، ومن الواضح أن موضع الإشكال والشبهة في هذا الحديث هو عدم تبيّن الفارق الدقيق بين كلمة (أقتل) و(أقاتل)، كما أشرنا إلى ذلك، إذ لو أن الحديث ورد في هذه الصيغة مثلاً: ((أُمِرْتُ أن أقتل الناس...)) لكان مشكلاً حقاً، وذلك لتناقضه مع الكثير من الآيات والأحاديث التي تتحدّث عن عدم القسر والإكراه، لكن استخدام كلمة (أقاتل) هي على وزن (فاعل) من الأوزان التي تفيد المشاركة، وهي لا تصدق إلا تعبيراً على مقاومة البادئ الذي سبق إلى النصر والقتل، فالمقاوم للمعتدي هو الذي يسمّى مقاتلاً، بينما المعتدي ليس قاتلاً.
وفي ضوء هذا التوضيح، يصبح حمل دلالة هذا الحديث على أن علة الجهاد القتالي في الإسلام هي الكفر ساقطة، إذ يصبح في الإمكان صياغة مضمونه وفق الآتي: أمرت أن أدفع أي اعتداء أو عدوان على دعوتي الناس إلى الالتزام بوحدانية الله تعالى، وإذا لم يتحقق دفع العدوان هذا إلا بقتال المعتدي والمعادي والمتربصين، فلا محيص منه، لأن ذلك تكليف إلهي... هذا مع ملاحظة مهمة، وهي أن حروب النبيw كانت بأجمعها دفاعية ووقائية وليست عدوانية، بل إنها كانت ـ في بعض مواقعها ـ وسيلة ضغط من جهته لإيجاد فرصة للحوار للدخول في معاهدة مع المسالمين كما أشرنا إلى ذلك من قبل، هذا إلى جانب أن النبيw كان يقبل الإسلام الرسمي ممن يعلن الشهادتين، حتى لو لم يقم الصلاة ويؤدّ الزكاة، بل كان يكتفي بالمساءلة الشكلية بعيداً عن الإيمان العميق، ما يجعل القضية مرتبطة بحل المسألة لا بحالة الإكراه على العقيدة.
ثانياً: حديث ((اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم))(7). يمكن معارضة هذا الحديث من جملة أوجه، أبرزها التالي:
أولاً: إن كلمة شيخ في اللغة ليست حكراً على من تقطعت عنه أسباب القوة، فلم يعد يتأتى منه قتال أو دفاع، بل إن المعنى اللغوي لهذه الكلمة أعم من ذلك بكثير.
ففي لسان العرب: الشيخ هو الذي استبانت فيه السنّ وظهر عليه الشيب. وأكثر اللغويين يقولون إنّ الرجل يسمّى شيخاً إذا استكمل الخمسين من العمر.
ويظهر مما تقدم، أن كلمة شيخ ليست موقوفة على من ذهبت قوته وبان ضعفه، وإنما يراد منها الإشارة إلى وضع خاص يقتضي الاحترام والتقدير والتبجيل، وما يرجح هذا المعنى هو نفس ما ذكره صاحب اللسان، حيث قال: وشيّخته: دعوته شيخاً للتبجيل.
من هنا، يبدو جلياً أن معنى كلمة الشيخ هي بلوغ مرحلة النضج والكمال العقلي من العمر، ومن الواضح أن ليس لهذا علاقة بمظاهر القوة والضعف، إذ إن التبجيل والاحترام اللازمين للشيخ، هما مظهر هذين الكمالين فيه، لا لاعتبار آخر... هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن الحديث بُني على نوع من التقابل الحادّ بين (الشيخ) و(الشرخ) على حدّ تعبير الحديث. والشرخ هو الصغير الذي دون سنّ القتال والكيد له.
وهذا التقابل يعني ضمناً أن دائرة الشرخ باتت تشمل كل ما عندهم في مرحلة (الشرخ) أي باتت تشمل الشاب أيضاً، وهذا دليل إضافي على أن المراد من كلمة (شيخ) ليس فقط هو من تقادم به السنّ وذهبت عنه القوة وبان فيه الضعف، وإنما المراد به كل من هو قادر على القتال والقتل والعدوان، إما بالكيد والحيلة والمخادعة وفنون المكر، وإما بالسلاح وسواه.
ثانياً: يمكن معارضة هذا الحديث بالأحاديث الأخرى التي تنهى عن قتل الشيوخ والأطفال والنساء، إلخ... كما في قولهw عن أبي عبد اللهt، أنه إذا أراد أن يبعث سريّة دعاهم، إلى أن قال: ((ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة))(8). ففي هذا الحديث وسواه من الأحاديث التي سبق ذكرها، نهيٌ صريح عن قتلهم، وليس تقييد رسول اللهw لكلمة الشيخ بالفاني، إلا ما يؤكد المعنى الذي ذكرناه لكلمة (الشيخ) عندما تأتي مطلقة من هذا القيد.
والدليل على ذلك، هو أن الفقهاء عرّفوا الشيخ الفاني، بأنه الذي لا رأي له ولا قتال، وكان المراد بوصف الفناء هنا هو الإشارة إلى زوال القدرات العقلية والجسدية، هذا الزوال الذي هو من علامات أفول العمر، ولذلك استعير وصف الفناء للإشارة إليه، وهو وصف دقيق كما هو واضح وبيِّن.
وفي هذا الإطار، نكاد لا نجد خلافاً، فإن الشيخ الفاني الآنف لا يجوز قتله، بل قد يظهر من التذكرة والمنتهى، الإجماع عليه، لإطلاق النهي عن قتله فيما ذكرناه من نصوص.
نعم، لو زال وصف الفاني، لتبدّل الحكم من عدم الجواز إلى الجواز، وذلك لكون لازم هذا الزوال أن يكون عندها ذا رأي وقتال، حتى لو كان ذا رأي وبلا قدرة على القتال، كما في المنتهى، لأن دريد بن الصمّة قُتل يوم خيبر وكان له مائة وخمسون سنة، وكان له معرفة بالحرب، وكان المشركون يحملونه معهم في قفص حديد ليعرِّفهم كيفية القتل، فقتله المسلمون، ولم ينكر عليهم النبيw ذلك، والموقف نفسه نجده أيضاً في التذكرة، قال: الشيخ من المحاربين إن كان ذا رأي وقتال جاز قتله إجماعاً، وكذا إن كان فيه قتال ولا رأي له أو كان له رأي ولا قتال فيه، لأن دريد بن الصمّة قتل يوم خيبر، والأصح يوم حنين.
والخلاصة: إن للشيخ أربعة وجوه أو جنبات؛ ثلاثة منها تتفق في الحكم، وهو جواز القتل، والرابعة تخالف وهي عدم جوازه. أما الثلاثة التي يجوز فيها قتله، فهي إما أن يكون ذا رأي وقتال، أو قتال ولا رأي، أو رأي ولا قتال. وهكذا يظهر لنا أن الباعث في الإسلام هو تحقق الحرابة بأحد وجوهها وليس الكفر. وأما الوجه الذي لا يجوز فيه قتله، فهو أن يكون فانياً لا رأي له ولا قتال.
من هنا نخلص إلى القول إن الجهاد مشروع في نطاق شروطه الشرعية، ولذا، فإننا لا نستطيع اعتباره أصلاً يحتاج تركه إلى الرخصة، بل ربما يبدو لنا أن الأصل في علاقات المسلمين بغيرهم هو السلم في الظروف التي يمكن للمسلم أن يحقق من خلاله النتائج المطلوبة للإسلام والمسلمين، فإذا انقلب السلم إلى موقف ضعف أو حالة خطر على الإسلام والمسلمين كانت الحرب هي السبيل المشروع لمواجهة حاجات الموقف ومشاكله. ويؤيّد ذلك آيات قرآنيّة وردت في موضوع القتال، وهذا ما سنعرض له في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
وصلنا في الحلقة الماضية إلى أنّ الجهاد مشروع في حدودٍ شرعيّة خاصّة، وليس هناك من دليل على اعتبار الجهاد أصلاً من الأصول، وقاعدةً في إدارة العلاقة مع الآخرين، بحيث يحتاج المسلم إلى الرخصة لترك الجهاد، بل إنّ الأصل في علاقات المسلمين بغيرهم هي المسالمة والمهادنة والتعايُش.
ويؤيّد هذه النتيجة التي توصلنا إليها الآيات القرآنية الكريمة التي جاء في بعضها كلمة )أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا((1)، وفي بعضها الآخر: )وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا((2) وغيرها، حيث جاءت هذه الآيات لتبرّر تشريع الجهاد، والأسلوب المعلّل الذي يفلسف تشريعه بالحالات الطبيعية التي تفرضه وتبرّره، ما يجعل القضية تبحث عن وجود الحالة المبررة بدلاً من العكس.
ولعلّ هذا ما توحي به، إلى جانب ذلك، الآيات التي تدعو إلى السلم عندما يخلد الآخرون إلى نداء الإسلام أو يطلبونه ابتداءً، كما في قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ((3). وقوله تعالى: )وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ((4)، ونستوحي ذلك من الآية الكريمة: )لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ((5). وقوله تعالى: )فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا((6).
أما الاستدلال لذلك بالمطلقات، فنحسب أنه لا يخضع للحسابات الدقيقة، لأن الأسلوب يطرح القضية في إطار معين، كما في الآية التي تطلق الأمر بعد انسلاخ الأشهر الحُرُم، فإنها تتحدث عن المشركين الذين نكثوا العهد ولم يحفظوه، وترشد المسلمين إلى التوقف عن القتال في الأشهر الحرم لتطلق لهم الحرية في معاودته بعد انقضائها، فهي واردة في قتال يجد مبرراته في واقع الحرب المعلنة آنذاك بين الإسلام والشرك.
أما الآية: )وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً((7)، فهي توجِّه المسلمين إلى كيفية القتال وشموله. وأما آية قتال أهل الكتاب، فإنها واردة في أصل التشريع لا في تفاصيله، فلا مانع من أن يترك القرآن بيان التفاصيل إلى آيات أخرى أو أحاديث نبوية، كما هي طريقة التشريع الإسلامي في إطلاق الفكرة أولاً لتقرّ المبدأ، ثم يأتي الدخول في التفاصيل من خلال الكتاب والسنة.
ولعلّ الخطأ الذي يقع فيه كثير من الباحثين والفقهاء والمفسرين، أنهم ينظرون إلى كل آية بمفردها، ويعتمدون في صرف ظواهرها على أخبار غير موثوقة، ويتحدثون عن نسخ بعضها ببعض فيما لا مجال فيه للنسخ، لاختلاف الموضوع، ولجهة استناده إلى أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا ظناً ما يجعل الإنسان يفقد الجوّ القرآني المتكامل في التشريع فيما يقرأه من آيات، لأنه يضيع عن المعنى الأصيل أمام هذا الركام الهائل من الوجوه أو الأحاديث.
إن قيمة القرآن الكريم في القضايا التي يثيرها، هي في هذا التناسق الرائع الذي يمثّل وحدة القضايا في كل التفاصيل التي تثيرها الآيات، لتكون كل واحدة منها جزءاً من كل، لا قطعة منفردة قد تلتقي بالأخرى وقد لا تلتقي، ولن نستطيع فهم القرآن إلا على هذا الأساس، وبهذه الروح التي أرادنا القرآن أن نتدبر فيها آياته وأحكامه.
ولعلّ من الطريف أن نجد بعض الفقهاء الكبار يستدلون على وجوب ابتداء الكفار بالحرب بسيرة النبيw والتابعين، التي تدل على شدة المواظبة والحثّ عليه، حتى تكرر ذلك منهw وهو في النـزع، وخصوصاً في إنفاذ جيش أسامة بن زيد. وإننا نسجّل على هذا الاستدلال ملاحظة أساسية، وهي أن السيرة لا تدلّ عل وجوب الابتداء بالجهاد، كحكم شرعي أصيل، بل كل ما تدل عليه، مشروعية الجهاد ضمن الظروف الموضوعية التي كانت موجودة في ذلك العهد، وهذا مما لا شكّ فيه، لأن حديثنا ليس في المبدأ، بل في التفاصيل.
إن كل ما نريده في هذا الحديث، هو إبداء التحفّظات حول الفكرة التي يدعو إليها جمهور فقهاء المسلمين من اعتبار الحرب أصلاً في الشريعة الإسلامية، بحيث يحتاج السلم إلى مبرّر، فربما كانت الفكرة الأكثر قرباً إلى الإسلام، هي اعتبار السلم أصلاً لتكون الحرب قضيّة طارئة تخضع لمبرراتها، ولهذا نرجع إليه كلما زالت المبررات، أو ربما كانت قضية السلم والحرب خاضعة لمصلحة الإسلام والمسلمين، فليس أحدهما أصلاً ليكون الآخر أمراً طارئاً، بل كل منهما أصلٌ في إطاره، وضرورة في موقعه، تماماً كأي أسلوبين يختلف موضوعهما ومجالهما في الحياة، فلكلٍّ موضعه الذي يستقل به ولا يشاركه فيه شيء آخر.
وعلى ضوء ذلك كله، نجد أن من الحقّ لنا أن نرفض الفكرة التي حاول بعض المستشرقين أن يحاربوا بها الإسلام، عندما تحدّثوا عن الروح الحربية التي تحكم القائمين على شؤون الإسلام، من خلال شريعة الجهاد التي تعمل على إشعال نار الحروب الدائمة في العالم، فلا تخمد حرب في مكان إلا لتشتعل في مكان آخر، ولا تهدأ جبهة في جانب إلا لتبرز جبهة أخرى في جانب آخر، ما لا يسمح للعالم أن يستقر أو يخلد إلى طمأنينة أو استقرار.
إننا نستطيع أن نقرّر من خلال حديثنا هذا، أن الإسلام لا يختلف عن أية عقيدة أخرى في أخذه بعين الاعتبار للعوامل الإقليمية والقومية، بل تمتد في مجرى الحياة الإنسانية لتشمل العالم كله من موقع المسؤولية الشاملة التي ترتبط بحياة الإنسان، بعيداً عن روح الغلبة والسيطرة والقهر والاستعلاء، فهي تخضع في حربها وسلمها للخطة العامة الشاملة التي تتحرك في مصلحة الإنسان في أسلوبيّ النظرية والتطبيق، فقد تتطلب المصلحة العامة أن يكون الأسلوب السلمي سبيل العقيدة في الدخول في حياة الناس، وقد يكون العنف هو الأسلوب الأمثل في ذلك كله.
فللقائمين على التخطيط لحركة العقيدة أن يأخذوا بهذا أو ذاك من دون خوف أو حرج، وعليهم أن ينفّذوا ما يأخذونه وما يختارونه على أساس أمانة الحركة وأمانة العمل في جميع الحالات. وربما كانت قصة سيادة الإسلام التي تفرض معالجة كثير من المواقف بأسلوب القوة والعنف، منطلقة من هذا الخط الواسع الشامل الذي تتحرك فيه الدعوة في الطريق الصحيح المستقيم.
هذا هو حال الكافر في الدنيا في علاقتنا كمسلمين به، في الفرق بين ما إذا كان مسالماً أو محارباً، أما في الآخرة، فقد أعدّ الله للكافرين ناراً وقودها الناس والحجارة، كما جاء في قوله تعالى: )فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ((8). وقوله تعالى: )وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ((9). وقوله تعالى: )وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًاً( (10). ) وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً((11). )أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ((12). )قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرِينَ((13). ) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالا وَسَعِيراً((14). إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن التزام الكافرين بالكفر هو الأساس في عقابهم في الآخرة.
وقد نكون بحاجة إلى أن ندرس السبب الموضوعي في ذلك، فنلاحظ أن الله قد أقام الحجة على الناس في قضية الإيمان، ولاسيما التوحيد، بما لا يبقى لأي إنسان حجة على الكفر والإنكار، بل تصبح المسألة لدى المنكرين من ملحدين أو مشركين خاضعةً للعناد والغفلة لدى الملتزمين بالإلحاد، أو للجهل والخضوع لتقليد الآباء لدى المشركين الذين عبّر الله عنهم بأنهم قوم لا يعلمون، من دون أن يكون للجهل المتخلف أي أساس للعذر، لأنهم لم يفتحوا عقولهم التي منحهم الله إياها على دراسة الأمور المرتبطة بعناصر التوحيد في الإيمان.
وقد تحدّث القرآن الكريم عن مسألة الحجّة والبرهان والدليل كأسباب معرفية لتحصيل العلم الذي يؤدي إلى الإيمان بالله وتوحيده ورسله واليوم الآخر، كما جاء في قوله تعالى: )تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ((15). وقوله تعالى: )أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ((16). وقوله تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًاً * فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًاً((17). وقوله تعالى: )أَإِلَـٰﻪٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ((18). وقوله تعالى: )وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ((19). وقوله تعالى: )رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ((20). وقوله تعالى: )لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ((21).
وقوله تعالى: )أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ((22).
وقوله تعالى: )أَمْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ((23). وقوله تعالى: )أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ((24). وقوله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ((25). وقوله تعالى: )قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ((26).
إلى غير ذلك من الآيات التي تفتح للإنسان عقله وتقوده إلى الأخذ بأسباب العلم في الانفتاح على عناصر الإيمان، بما يحقق له الحجة والبرهان على ما يلتزمه ويعتقده، ويدعوه إلى المقارنة بين الشركاء الذين يعبدهم ويدعوهم كآلهة من دون الله في طبيعة وجودهم الخالي من كل قوة وكل ميزة وكل عنصر من عناصر الحياة والفعالية، وبين الله الخالق القادر المهيمن على الأمر كله، المبدع للوجود كله، بما فيه وجود هؤلاء الشركاء، ويطلب منهم التطلع إلى السماوات بكل أفلاكها، والأرض بكل امتداداتها وأقطارها، وما أودعه الله من سنن كونية وقوانين طبيعية تمنح الإنسان كل شروط التقدم والنمو والتطور والحياة إذا عرف كيف يتفهم قوانينها وأسرارها الدقيقة.
وقد جاء بعض ذلك في قوله تعالى: )إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ((27).
وهكذا نجد أن هذه الآية تستثير في الناس عقولهم، ليصلوا إلى حقيقة الإيمان بشكل دقيق، موضوعي وعلمي، من خلال التفكير بالظواهر الكونية الثابتة والمتحركة. ونقرأ في قوله تعالى: )الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ((28). فإننا نلاحظ في وحي هذه الآية، أن التفكير في خلق السماوات والأرض بعقل مستقل وبحواس منفتحة لتعرّف أسرارها، يجعل الإنسان يدرك أن وراء كل ظاهرة سراً، وأنّ في داخلها قانوناً يحرك وجودها في الاتجاه الصحيح، فيقوده ذلك إلى الإيمان بالله في الانفتاح على توحيده، والمعرفة بمواقع عظمته، فيخشع بين يديه، ويتحرك في خط طاعته ويستجير به من عذابه.
ونقرأ في هذا الاتجاه قوله تعالى: ) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ((29)، ليوجه الإنسان إلى إدراك طبيعة السرّ في اختلاف الألسن والألوان، من خلال دراسة العناصر الطبيعية التي أودعها الله في خلقه.
وخلاصة الفكرة، أن الله يعاقب الكفار على كفرهم، لأنه قد أقام الحجة عليهم في مسألة الإيمان، ولم يترك لهم أي مبرّر أو أي عذر في الانحراف عنه، سواء كان ذلك بسبب جهلهم وتخلّفهم الذاتي، أو بسبب تقليدهم للآباء الذين لا يعقلون شيئاً ولا يعلمون ولا يهتدون، لأن العاقل لا يجوز له أن يقلِّد مَن لا حجّة في الالتزام برأيه، لأنه لا يرتكز على أية قاعدة علمية أو عقلية.
وفي ضوء ذلك، فإن الكفر يمثّل مشكلة لأصحابه وللحياة وللناس، لأنهم يبتعدون عن القضايا الحيوية والمصيرية في النظام الذي وضعه الله للإنسان وللحياة، وتلك جريمة كبيرة تستحق أكثر العقاب، ولاسيما أن المسألة مرتبطة بالله الخالق، الذي هو ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة، حيث عاش هؤلاء في ساحات نعمته وفيوضات رحمته، لأنه الربّ الكريم الذي يعطي من سأله وآمن به تحنناً منه ورحمة، ويفيض نعمه على الجاحدين به والبعيدين عنه تفضلاً منه وكرماً.
هذا كله من حيث الاستحقاق من الناحية القانونية، ولكن الله حدّثنا أن مسألة التنفيذ قد تختلف بين كافر وكافر، فقد أكّد أنه لا يغفر أن يُشرَك به، لأن مسألة الشرك لا ترتبط بالإساءة والتمرّد على الله، بل تسيء إلى الإنسان نفسه وإلى الحياة كلها، لأنها تجمد في الإنسان عقله، وتنـزع منه روحه، وتعطّل له حركته الإنسانية، وأية إنسانية هي في أن يعبد الإنسان حجراً أصمّ لا روح فيه ولا حياة، ولا يحمل أيّ سرّ يقترب به من بعض مواقع القرب من الله، ما يبطل الحجّة التي قدّمها المشركون في عبادتهم للأصنام، وذلك هو قوله تعالى: )مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى((30)، ولاسيما أن هذه الأحجار الصمّاء هي من مصنوعات هؤلاء الذين أقبلوا على عبادتها جهلاً وتخلّفاً وخضوعاً لعقلية الآباء والأجداد، وهذا ما أجابوا به النبي إبراهيم في سؤاله لهم عن السبب في عبادتهم للأصنام )قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ((31)، أما غير المشركين، سواء كانوا من أهل الكتاب، أو من غيرهم ممّن يؤمنون بالله ويوحدونه، ولكنهم لا يؤمنون برسله أو باليوم الآخر، فربما يغفر الله لهم انحرافهم في التفاصيل العقيدية، وذلك هو قوله تعالى: )إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ((32).
وفي ضوء ذلك، فالأمر بيد الله بحسب حكمته ورحمته في الغفران لمن يشاء ممن يؤمن بالله من حيث المبدأ ولا يشرك به غيره، وهذا ما يواجهه الناس يوم القيامة، يوم لا تملك نفس لنفسِ شيئاً والأمر يومئذٍ لله. وقد جاء في قوله تعالى: )لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ((33). فلنرجع الأمر إلى الله، فهو الذي يملك أمر الناس في يوم المصير.
وفي ضوء ذلك، على الناس أن لا يصدروا الأحكام على الآخرين بأن مصيرهم إلى النار إذا كانوا يختلفون معهم في المذهب أو الدين، لأن عليهم أن يعرفوا أن القاعدة في أي انحراف ينفتح على الكفر في تفاصيل العقيدة، يعرّض الشخص لعذاب الله بعد إقامة الحجة عليه، ولكن قد تشمله رحمة الله وغفرانه بحسب الآية إذا لم يكن من المشركين.والحمد لله ربّ العالمين.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
ما هي أوجه التوحيد في المنظور الإسلامي؟
هل هي قضيّة تتّصل بالجانب العقلي النظري الذي يرصُد الدليل العقليّ على الوحدانيّة ونفي الشريك لله تعالى؟ أو أنّ قضيّة التوحيد تتجاوز العقل، لتمتدّ إلى الذات، وتختلط بالوجدان، وتنعكس على السلوك والعمل؟
يُمكن لنا أن نشير إلى عدّة مجالات للتوحيد:
أوّلاً - التوحيد في العقيدة والعبادة:
لا إشكال في أنّ مسألة توحيد الله على مستوى العقيدة تتصل بالجانب العقلي، من خلال ما يقدّمه العقلُ للإنسان من الحجة الفكرية والبرهان القوي والدليل الواضح على نفي الشريك عن الله، سواءٌ ممّا لفتَ إليه القُرآن الكريم، كما في قوله تعالى: )لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا((1)، وقوله تعالى: )مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ((2)، أو في ما تحدّث به عُلماء الكلام من استحالة أن يكون لله شريك. وهذا ما يفرض على المؤمن الإيمان بالتوحيد، ورفض كلّ ما اتّخذه الناس ـ من المشركين ـ من شركاء لله، مما كان البعض يصنعه من الأوثان، أو مما يلتزمه من ربوبيّة الشخص الذي يملك القوة أو المال أو السلطة أو غير ذلك.
ثمّ إنّ هذه المسألة التي ارتكزت على إدراك العقل، لا بدّ من أن تتحرّك لتتجذّر في الذات، وبذلك فإنّها تنفتح على القلب الذي يحتضنها، لتكون إيماناً ينبض به القلب في الجانب الشعوري من الشخصية الإنسانية.
وممّا يدخل في الجانب العقيدي لمسألة التوحيد، ما كان يعتقده المشركون في زمن النبيّw، أو بعضُهم، من أنّ للأصنام أسراراً غيبيّة، وأنّها قريبة من الله تعالى، ولذلك فإنّ عبادتها تمثّل تقرّباً إليه عزّ وجلّ، كما جاءت حكاية لسانهم في قوله تعالى: )مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى((3). وهذا ما قد يدخل، في وجهٍ آخر، في الشرك في العبادة، الذي ربما يلتقي مع التوحيد على المستوى العقيدي وقد لا يلتقي.
وربما يمتدّ هذا الاتجاه وصولاً إلى حال من الاستغراق في الشخصيات المقدّسة، التي تملك بعض مواقع القرب من الله، فيعتقدون أنّ لها القدرة في التصرف في النظام الكوني أو تغييره، مما يتصوّرون أنه كان بإذن الله، وقد منحهم الله تلك القدرة تكريماً لهم، مما يصطلح عليه البعض، بالولاية التكوينية. وربّما يُفلسف هؤلاء أو بعضُهم بعضَ حالات الإعجاز أو الكرامات التي أتى بها الأنبياء والأولياء، فيعتبرون أنّ المعجزة أو الكرامة تنطلق من قُدُراتهم الذاتيّة بشكل مباشر، وإن لم تكن مستقلّة عن إرادة الله تعالى وقدرته، ولا يعتبرون أنّ الله سُبحانه يُجري المعجزة أو الكرامة بقُدرته على أيديهم.
وفي مقابل ذلك، قد يجد بعض المفكرين من المتكلّمين في هذه التصورات لوناً من ألوان الشرك الخفي وليس الشرك المباشر؛ باعتبار أن هـذه التصـوّرات ـ حسب نظرتهم ـ تنافي العقيدة التوحيدية بأن الله هو وراء كل شيء، وأنّه هو الذي أعطى الأنبياء والأولياء وجودهم ومنحهم حركة القدرة في بعض مواقع الإعجاز؛ فهو الذي حرّك القوة في عصا موسى وفي يده البيضاء، وهو الذي أعطى الحياة للميت والشفاء للأبرص والأكمه، وألقى بعض علم الغيب في نفوس بعض الأولياء...
وهناك جانب آخر يتصل من قريب أو من بعيد بهذا النوع من العقيدة، وهو الاعتقاد بأن الأولياء والأنبياء وسائط الفيض وأولياء النعم، من خلال فكرةٍ مفادُها أنّ الله لا يفيض النعم على عباده بشكل مباشر، بل إن هؤلاء المقرّبين إليه هم الذين ينطلق الفيض على العباد من خلالهم، فهم الوسائط بين الله وبين الناس، في الرزق والعافية والحياة ونحو ذلك، الأمر الذي جعل البعض يتوجّهون إليهم بشكل مباشر ليرزقوهم وليمنحوهم الشفاء. وفي ضوء ذلك، فإنهم يقومون بتأويل بعض آيات القرآن التي تتحدث عن إفاضة الله النعمة على عباده، وعن الرزق الذي ينـزله عليهم، وعن العافية التي يسبغها عليهم، وعن الهداية التي يلقيها في عقولهم، والتي ظاهرها أن لا توسّط لأحد فيها بينه وبين عباده، بل يتحقّق الفيض الإلهي في كل الأمور بالوسائل الطبيعية التي أودعها في الحياة بشكل مباشر، فلا دخل لأحد من عباده، مهما كانوا قريبين منه، في عملية الإفاضة. وهكذا حاولوا أن يخضعوا القرآن الكريم، في ظواهره البيّنة الواضحة، لبعض التعقيدات الفلسفية التي أثاروها في تفكيرهم الفلسفي التجريدي.
أما الذين يناقشون هذا الخط الفكري البعيد عن صفاء العقيدة التوحيدية، فيقولون بأن الله منح أولياءه من الأنبياء والأئمة الشفاعة في المهمّات التي يتطلبها العباد، فيكرمهم الله بالاستجابة لطلباتهم في رعاية بعض الحاجات لعباده، ما يجعل دور هؤلاء الأولياء دور المتوسلين بالله الداعين إليه من خلال الموقع الذي منحهم إياه.
وربما نجد بعض المذاهب التي تنكر الشفاعة، وترى فيها نوعاً من الشرك الظاهر، على أساس بعض الشبهات التي لا تثبت أمام النقد، ولاسيما من خلال وضوح الآيات القرآنية التي تثبت الشفاعة بالطريقة التي تبتعد بها عن المزاج الذاتي وعن حالة العبادة للأولياء، بل من خلال البرنامج الذي وضعه الله لهم فيمن يشفعون له، كما جاء في قوله تعالى: )ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون( (الأنبياء:28)، وقوله تعالى: )مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ((4)، حيث دلّت النصوص الصحيحة بأن شفاعتهم كانت بإذن الله لهم بذلك، رحمةً بالمذنبين من عباده، وتكريماً لأوليائه في قربهم له بالطاعة.
وهناك لون آخر من التوحيد، الذي يتحرّك في عمق إيمان المؤمن، وهو التوحيد الشعوري المتمثّل في توحيد الحبّ لله. فالمؤمن لا بد من أن يحب الله أكثر من حبّه لنفسه ومن حبّه لغيره، ولكلّ ما يتّصل بشؤون حياته وعلاقته بالآخرين وبالحياة كلها. وهذا ما نتمثّله في قوله تعالى: )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ((5). فالله هو الأحبّ للمؤمنين من كل أحد، مهما بلغ شأنه وامتدّت قوته وعظمت أوضاعه.
وجاء في قوله تعالى: )قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ((6). فالمطلوب هو الذوبان في الله، بحيث يكون الله في الحسّ الشعوري أكثر عمقاً في مشاعر الإنسان، فلا ينبض قلبه إلا بحبّه، بحيث يشمل الحب القلب كله، الأمر الذي يصغر أمامه حبّ الأب والابن والأخ والزوج والعشيرة، فلا يرتفعون إلى موقعه. كما تمتدّ المسألة إلى كل ما يتنافس الناس فيه ويحبونه ويرغبون فيه من الأموال التي يملكونها، والتجارة التي يعملون على إنجاحها ويخشون كسادها، والمساكن التي يرضونها ويستقرّون فيها، فلا قيمة لها أمام الحبّ لله الذي يصغر عنده كل حبّ، ما يجعل الإنسان خاضعاً للرسول وللجهاد في سبيل الله بما قد يؤدي إلى تعريض نفسه للهلكة من أجل محبة الله.
وفي موقع آخر، نجد الدعاء يتمثّل في تصوير هذا العمق للحب لله، فقد جاء في دعاء الإمام الحسينt: ((وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتى لم يحبّوا سواك... ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك، لقد خاب من رضي دونك بدلاً))(7). وفي دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدينt قال: ((إلهي لو قرنتني بالأصفاد، ومنعتني سيبك من بين الأشهاد، ودللت على فضائحي عيون العباد، وأمرتَ بي إلى النار، وحُلت بيني وبين الأبرار، ما قطعت رجائي منك، ولا صرفتُ وجه تأميلي بالعفو عنك، ولا خرج حبك عن قلبي. أنا لا أنسى أياديك عندي وسترك عليَّ في دار الدنيا))(8). وفي دعاء الإمام الصادقt: ((أنا من حبّك جائع لا أشبع، أنا من حبّك ظمآن لا أُروى، واشوقاه إلى من يراني ولا أراه))(9).
وجاء في بعض الأدعية: ((وكيف تعذبني وحبّك في قلبي)). وفي بعضها الآخر: ((ولئن أدخلتني النار لأخبرنّ أهل النار بحبي لك)). وفي دعاء الإمام عليّt: ((واجعل لساني بذكرك لهجاً، وقلبي بحبّك متيّماً)). وكذلك عندما يصوّرt عمق الحبّ الذي يعيشه في قلبه، بحيث لا تكون المشكلة في افتراض دخول النار بقدر ما تكون في الابتعاد عن الله سبحانه، وذلك حين يقول: ((فهبني يا إلهي وسيّدي ومولاي وربّي، صبرتُ على عذابك فكيف أصبر على فراقك؟! وهبني صبرتُ على حرّ نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك؟!))(10).
إنّ هذه الأدعية التي تنطلق من أعماق الروح التي يملأها الحبّ لله، تنفتح بالإنسان المؤمن إلى أن يعيش مع الله كمثل العاشق الولهان الذي يذوب في حبّ معشوقه. وقد جاء عن رسول اللهw: ((أحبّوا الله من كلّ قلوبكم))(11). وجاء عنهw في دعائه: ((اللهمّ اجعل حبّك أحبّ الأشياء إليَّ، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك)). وجاء عن الإمام زين العابدينt: ((اللهم إني أسألك أن تملأ قلبي حباً لك، وخشيةً منك، وتصديقاً لك، وإيماناً بك، وفرقاً منك، وشوقاً إليك))(12).
وقد نجد في بعض النصوص، أن على المؤمن أن يحبّ الله أكثر من محبته لنفسه. فقد جاء عن رسول اللهw: ((من آثر محبة الله على محبة نفسه، كفاه الله مؤنة الناس))(13). وجاء عن الإمام جعفر الصادقt: ((لا يمحض رجل الإيمان بالله حتى يكون الله أحبّ إليه من نفسه وأبيه وأمه وولده وأهله وماله ومن الناس كلهم))(14).
ونلاحظ في بعض النصوص الواردة عن بعض أئمة أهل البيتi، تأكيد الجانب الشعوري، بحيث يتحول الإيمان في كيان المؤمن إلى حالة عاطفية سلبية وإيجابية، وهذا ما جاء في حديث الإمام الباقرt، قال: ((الإيمان حبّ وبغض))(15). وقال في حديث آخر: ((الدين هو الحبّ، والحب هو الدين))(16). وجاء عن الإمام جعفر الصادقt لما سئل عن الحبّ والبغض، أمن الإيمان هو؟ قال: ((وهل الإيمان إلا الحب والبغض))(17). وفي حديث آخر عنه قال: ((هل الدين إلا الحب، إن الله يقول: )قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ((18))).
إنّ هذه الكلمات تؤكد أن الإيمان لا بد من أن يتحوّل إلى إحساس عاطفي وحالة شعورية تنفذ إلى منطقة الإحساس والشعور، بحيث يتحول الفكر العقيدي إلى نبضة في القلب، وخفقة في الشعور، فيكون الإيمان بالله حالة حبّ لله، والكفر بالطاغوت حالة بغض له بما يمثله من الشيطان وأوليائه.
وإذا أردنا أن نحلّل مسألة حبّ الله لدى المؤمن، فإننا نلاحظ أن حبّ الإنسان للآخرين ينطلق من الصفات التي يتمتع بها المحبوب، مما يحبه الإنسان ويعظّمه ويحترمه. فقد يحبّ الإنسان شخصاً لجماله، أو لعلمه، أو لقوته، أو لجوده، وكرمه، أو لرحمته، أو لحلمه، أو لغير ذلك من صفات القوة. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن الإنسان يحب الشخص الذي يفيض عليه رحمته ونعمته، ويقدم إليه حاجاته ويرعى شؤونه.
وفي ضوء ذلك، فإن الإنسان المؤمن الذي يؤمن بوجود الله يحبُّ الله، ويكون أشدّ حبّاً له؛ لأن صفاته ـ تعالى ـ تمتدّ في المطلق؛ فهو الخالق الذي يخلق كل شيء، والعالم الذي لا حدّ لعلمه، والقوي القادر الذي لا حدود لقوته وقدرته، فإن )الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا((19)، وهو الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، والحليم الذي يحلم عن عباده المذنبين، فلا يؤاخذهم بذنوبهم، بل يغفرها لهم، وهو الجميل الذي لا جمال فوق جماله، الذي خلق الجمال كله وأبدع كل جميل، وله الصفات الجمالية والجلالية التي لا يدانيه موجود فيها وفي مستواها... فلا بد من أن يحبه الإنسان بكل شعوره وكل كيانه من خلال صفاته العليا وأسمائه الحسنى.
ثم إن الله هو الذي أعطى الإنسان وجوده وحياته، فهو الخالق الذي خلق الوجود كله، وهو المنعم الذي أفاض على الإنسان كل نعمه، فما )وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ((20)، )وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا((21)، وهو الذي وعد الإنسان برحمته ومغفرته ورضوانه في خط طاعته، فلا بد له من أن يتوحّد في حبّه، فلا يحب أحداً كحبّه لربه، لأنه الذي لا شبيه له ولا نظير، وليس كمثله شيء في كل معاني ذاته وامتدادات عظمته.
ويبقى السؤال: كيف نحبّ الله؟ وما هي الطريقة التي نعبّر بها عن حبّنا له؟ ثم كيف نحصل على محبة الله لنا ليكون الحبّ متبادلاً بيننا وبينه، فنحب الله ويحبنا؟ هذا ما نتحدّث عنه في الحلقة المقبلة إن شاء الله تعالى، والحمد لله ربّ العالمين.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
ما هي الطريقة التي نعبّر بها عن حبّنا لله تعالى؟ ثم كيف نحصل على محبته لنا؛ ليكون الحبّ متبادلاً بيننا وبينه، فنحبّه ويحبّنا؟
قال رسول اللهw كما جاء في القرآن الكريم: )قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ((1). تدلّ هذه الآية على أن المؤمن لا بد من أن يعبّر عن محبّته لله، بالإيمان برسوله، واتّباع رسالته في إطاعته، والالتزام بأوامره ونواهيه، وبما يبلّغه عن الله في وحيه، لأن ذلك هو المظهر الحي للحبّ العملي الذي يملأ الكيان كله، وهذا ما يؤدِّي إلى محبة الله له، لأنّه سبحانه يحب المؤمنين الصادقين المحسنين المتقين، الذين أخلصوا لله ورسوله، فأحبهم الله لذلك. وقالw في جوابه لرجل قال له: أحبّ أن أكون من أحباء الله، قالw: ((أحبّ ما أحبّ الله ورسوله، وأبغض ما أبغض الله ورسوله)).
وقد جاء في الحديث عن السيد المسيحt، لما سُئِل عن عمل واحد يورث محبة الله، قال: ((أبغضوا الدنيا يحببكم الله)). والمقصود هنا أن لا يستغرق الإنسان في حبّ الدنيا، بحيث تُنسيه مسؤوليّاته التي حمّله الله إيّاها، بل أن ينظر إليها على حقيقتها، وهي أنّها تشكّل موطناً للطاعة، فلا يجعلها مرتعاً للمعصية، وأنّها موقع لحركة المسؤوليّة، فلا يجعلها واقعاً للهو والعبث والباطل.
وجاء عن رسول الله محمدw قال: ((من أكثر ذكر الموت أحبّه الله))، فإن ذكر الموت يوحي للإنسان بفناء الدنيا واستقبال الآخرة، ما يجعله يواجه مسؤولياته في الالتزام بطاعة الله سبحانه.
وقال الإمام جعفر الصادقt: ((طلبت حبّ الله عز وجل فوجدته في بغض أهل المعاصي)). والمقصود به بغض أعمالهم في معصية الله في تمردهم على ربهم وإصرارهم على ذلك، لأن بغض الأشخاص يرتكز على بغض أعمالهم التي تسيء إلى إيمانهم بالله.
ومن خلال ذلك، يتّضح أن مظهر محبة الله في نفس المؤمن، هو اتّباع النبي محمدw في رسالته التي بلّغها عن الله مما يريد لعباده أن يأخذوا به ويلتزموه ويتّبعوه في امتثال أوامره واجتناب معاصيه، وأن ذلك هو الذي يؤدي إلى الحصول على محبة الله ورضاه عنه.
تحدّث القرآن الكريم عن أكثر من عنوان في ميزان القيمة الروحية والعملية لنماذج النّاس الذين يحصلون على محبة الله.
قال تعالى: )وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ((2)، والمقصود بهذا النموذج الإنساني الإيماني أولئك الذين يحسنون العمل لله، بأداء كل شروطه، وتحقيق كل مفاهيمه، وتجسيد كل قيمه، وكذلك بالإحسان إلى الناس في القيام بحقوقهم ومساعدتهم وإعانتهم في حاجاتهم الخاصة والعامة.
وقد تحدّث الله عن خطاب قوم قارون له: )وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ((3)، حيثُ كانوا ينصحونه بأن يحرّك ما أنعم الله به عليه من كنوز الأرض في خطّ الإحسان لنفسه، فلا يظلمها بالتكبّر والتجبّر، وفي خطِّ الإحسان للناس، فيتحمّل مسؤوليّته في مساعدتهم من ماله. والله تعالى يقول: )وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آَتَاكُمْ((4)، )وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ((5).
أمّا جزاء هؤلاء الذين أحسنوا في علاقتهم بالله وبالناس وبالحياة، فليس إلا الإحسان يتبعه الفضل من الله تعالى في الزيادة على ذلك، فقال تعالى: )هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ((6)، وقال تعالى: )لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ((7)، إلى غير ذلك من الآيات.
قال الله تعالى: )إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ((8)، فقد أراد الله من عباده الخاطئين، أن يتراجعوا عن خطأهم، وأن يصلحوا أمرهم ليعودوا إليه، وليحصلوا على القرب منه من خلال مواقع رضاه، وتعهّد لهم أن يقبل توبتهم ويعفو عنهم ويغفر لهم ذنوبهم، كما جاء في قوله تعالى: )فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ((9). وقوله تعالى: )وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ((10). وقوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ((11)، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على سعة ساحة التوبة؛ لأنها توحي بأن الإنسان التائب يختزن في نفسه الخشية من الله على ما أسلف من الذنوب، ويرجو رحمته، ويحب العودة إليه للسير في خط العبودية له، نادماً على ما فعل في الماضي، وعازماً على تغيير ماضيه السيِّىء إلى ما يحبّبه إلى الله، كما ورد أن الله يحب العبد المُفتن التواب، فيمحو له كل ذنوبه، ويخرج بالتوبة كيوم ولدته أمه، ((فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له)).
قال الله تعالى: )إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ((12).
المتطهّرون هم أولئك الذين يتحركون في خط طهارة الجسد، ممّا فرضه الله من واجبات الطهارة الجسدية التي تنفتح على طهارةٍ روحيةٍ معنوية في معنى القربة إلى الله، كما جاء في قوله تعالى: )مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ((13)، بالإضافة إلى الطهارة من النجاسات الخبثية القذرة للجسد وللثوب، ولكل ما يرتبط بحياة الإنسان الخاصة في أرضه ومنـزله.
ومن جانب آخر، فإن الله يوجّه الإنسان إلى الطهارة الروحية من خلال العطاء المتمثّل بالصدقات التي يدفعها المؤمن زكاةً في بعض مواردها، وصدقات وفرائض مالية أخرى، وذلك هو قوله تعالى: )خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا((14)، باعتبار أن الصدقة، بما يتمثل فيها من روحية العطاء، تطهّر النفس من قذارة البخل، ومن الذاتية المنغلقة عن الإنسان، في حاجاتها الخانقة، وفي أمورها الحياتية الخاصة.
ويتحدّث القرآن عن اليهود والمنافقين الذين لا يملكون الطهارة في قلوبهم، لأنهم لا يحملون فيها الإخلاص والنصيحة والالتزام بالحقِّ، بل كانوا يضمرون النفاق والخداع للمؤمنين وللحياة كلها، وذلك هو قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ((15). فإنّ هذه الآية توحي بأنّ الله يريد للإنسان طهارة القلب، بالانفتاح العقيدي والفكري على الحق وأهله، والالتزام بالإخلاص له في كل الأمور.
إن الإسلام يؤكّد الطهارة الداخلية للإنسان، من خلال طهارة العقل في إدراكه للحقّ، وطهارة الشعور في انفتاحه على النية الخالصة للإنسان كله، بعيداً عن رذالة الحقد والبغضاء، وطهارة الحركة التي لا تنطلق إلا من أجل العدل والخير والحياة. ولذلك وقف الإسلام موقفاً سلبياً من الذين يضمرون الكفر ويظهرون الإيمان، وهم أهل النفاق، أو الذين يختزنون في قلوبهم نية الشرّ للناس ويخططون لتدمير السلام في واقع الإنسان كله.
ومن الذين يحبّهم الله المتقون، كما جاء في قوله تعالى: )بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ((16). وإذا دقّقنا في مسألة التقوى كعنوان إسلامي روحي عملي، فإننا نستطيع أن نختصرها بكلمة واحدة، وهي الالتزام بالإسلام كله في عباداته وأخلاقياته ومفاهيمه الحركية، في التزامات الإنسان المؤمن الخاصة والعامة. وربما نستوحي ذلك من الكلمة المأثورة: ((أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك))(17)، بحيث يمثّل الخضوع الكامل لله في أوامره ونواهيه، تجسيداً للعبودية في الانفتاح على توحيد الله في ربوبيته المطلقة للإنسان كله وللوجود كله، فيكون الله ـ في موقعه هذا ـ معه، كما جاء في قوله تعالى: )وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ((18). وقوله تعالى: )إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ((19). وهذه مرتبة عظيمة ينالها المؤمن في التزامه بالتقوى.
وقد جاء في بعض الآيات، أن الله أعدّ الجنّة للمتقين الذين يستحقونها عن جدارة من خلال قربهم إلى الله، وهذا ما جاء في قوله تعالى: ) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ((20). ونلاحظ هنا الحديث عن المتقين بأنهم ينفقون في السرّاء والضرّاء على ذوي الحاجات من الفقراء والمستضعفين، وأنهم يعيشون الهدوء النفسي الشعوري، فلا يفجّرون غيظهم فيمن يغيظهم، بل يحبسون غيظهم في صدورهم، ثم يزيلونه منها ليعفوا عن الذين أساؤوا إليهم ويحسنون إليهم.
ثم تتحدّث هذه الآيات عن أن الخطيئة الصادرة منهم، والتي يظلمون بها أنفسهم، لا تتحول إلى حالة مستقرة في حركة الذات، بل يتجاوزونها، فيتوبون منها ويستغفرون الله مما أسلفوه من الخطيئة، ولا يصرّون عليها فيما يستقبلون من حياتهم، لأن وعيهم لإيحاءات التقوى الكامنة في شخصيتهم، يوحي إليهم بالرجوع إلى الله في يقظة روحية رائعة، كما جاء في قوله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ((21)؛ لأن الله في معنى الإيمان به، يشرق في عقولهم، فلا يترك فيها أية ظلمة، بل تنفتح أبصارهم الداخلية على الضوء المنطلق من إشراقة الله، فيزيل كل غشاوة عن الذات.
ونقرأ في آية أخرى، بأنّ إصلاح ذات البين هو من مظاهر التقوى في الحياة الاجتماعية للمؤمنين، وذلك في قوله تعالى: )فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ((22)، ما يوحي بأنّ إصلاح ذات البين يمثّل في حركة المؤمنين مظهراً للتقوى الاجتماعية، وهكذا تتمثّل التقوى في القول السديد الذي ينفتح على الحق والإصلاح والعدل والخير وما ينفع الناس، مما يريد الله للناس أن يأخذوا به، لأن للكلام دوراً كبيراً في توازن البلاد والعباد في حركة واقع الإنسان في الحياة، وذلك هو قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا((23).
ويبقى التفاضل بالتقوى هو الذي يمنح الإنسان الكرامة عند الله سبحانه، كما جاء في قوله تعالى: )إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ((24)، فالأتقى في إيمانه وسلوكه هو الأكرم عند الله، لأنه الذي بلغ الغاية في الوصول إلى أفضل الوسائل في الحصول على رضوان الله، بحيث لا يترك شيئاً يحبّه الله إلا فعله، ولا يفعل شيئاً مما يكرهه الله ممّا حرّمه عليه. وتنطلق الآيات لتثير في نفس المؤمن التقي التحرك نحو محاسبة نفسه على أساس دراسة المصير النهائي الذي يقبل عليه في الآخرة.
وفي ضوء ذلك، نجد أن الصبر هو القيمة الأخلاقية الإنسانية التي تساعد كل القيم، لأن الكثير منها يحتاج إلى المزيد من الجهد، فيأتي الصبر ليدعم حركة الإنسان في تحقيقها، وبذلك يتوقف الالتزام بالطاعة والبعد عن المعصية والجهاد في سبيل الله والتماسك عند البلاء، على الصبر، وهذا ما جاء في حديث الإمام محمد الباقرt، قال لبعض أصحابه: ((كل أعمال البرّ بالصبر يرحمك الله))(25)، ولعلّ هذا هو الذي جعل ثواب الصبر فوق كل عمل خير، فلم يجعل الله له حداً محدوداً، كما في قوله تعالى: )إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ((26). وجاء في القرآن الكريم الحديث عن قيمة الصبر على البلاء بقوله تعالى: )وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ((27). فنحن نلاحظ أن الله يمنح الصابر صلواته ورحمته، ويعتبر الصابرين من المهتدين الذين أخذوا بحقائق الهدى في الفكر والروح والحركة في الانفتاح على الله، وتلك مرتبة عالية لقيمة الصبر لدى الصابرين.
وربما كان من الضروري أن تدخل مسألة التربية على الصبر في التخطيط التربوي للواقع الإسلامي؛ لأن التحديات الصعبة الداخلية والخارجية تواجه المسلمين، ولاسيّما في خطة الاستكبار العالمي في السيطرة على مقدرات العالم الإسلامي ومصادرة ثرواته ومواقعه الاستراتيجية وأسواقه الاستهلاكية، ليتحوّل المسلمون إلى هامش تفصيلي من هوامشه الضيقة، ما يفرض على المتحركين في خط الأزمة المتنوعة والتحديات الكبيرة، المزيد من الصبر الذي يمنح الموقف الثبات في المواجهة والانتصار في الأهداف.
ومن الذين يحبهم الله ـ حسب ما جاء في القرآن الكريم ـ المتوكِّلون: )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ((28).
إننا نلاحظ في هذه الآية، أن الله يوجّه النبي محمداًw، ويوجّه الأمة من خلال خطابه له، إلى أن يبدأ في التحرّك نحو القضية التي يعالجها في الواقع من موقع القيادة، وفقاً لمبدأ الشورى الذي يتمثّل في استنطاق أصحابه من أهل الخبرة في الموضوع الذي يريد إعطاء الرأي فيه، ليتعرف وجوه الرأي المتنوّع الذي قد تتنوّع فيه وجهات النظر في حركة السلب والإيجاب، ليكون الاختيار للموقف منطلقاً من دراسة معمّقة واسعة، ولاسيما فيما يتصل بقضايا الناس، حتى ينطلق في مسؤولياته في عملية تفاعل بين القيادة والقاعدة؛ فتكون النتيجة أن يتحقق العزم للقائد في إصدار الأمر في التخطيط العملي للمستقبل، متوكلاً على الله فيما يمكن أن يواجهه القرار من عقبات وصعوبات غير محسوبة أو غير منتظرة، باعتبار أن على القيادة أن تستجمع كل العناصر، التي تجعل من القرار موقفاً قوياً صالحاً لحلّ المشكلة وتحقيق الهدف مما يملك الإنسان أمره، ليترك الأمر فيما لا يملكه إلى الله، ما توحي به كلمة التوكل على الله في الابتهال إليه، بأن يحمي الموقف من كل ما يعطل المسيرة، بما يحمله الغيب من أوضاع سلبية خاضعة لقدرة الله في صرف ذلك عن الموقف.
ومن خلال هذا العرض، نستوحي أن التوكل إنّما يكون بالعمل على تحضير كل الأسباب الواقعة تحت قدرة الإنسان، بما يساهم في تحقيق الهدف، ثم يُرجع الأمر إلى الله فيما يختزنه الغيب من المعوّقات التي قد تقف في طريق الهدف لتمنع من تحقيقه.
وفي ضوء ذلك، يتحوّل التوكل على الله إلى موقف إيماني واسع عميق منفتح على قدرة الله على كل مواقع الكون، يبتهل فيه المؤمن إلى الله ليصرف عنه كل ما يعطل مشروعه الخاص والعام، لأنه الكافي من كل شيء ولا يكفي منه شيء، ولذلك كان حبّ الله له من خلال أخذه بأسباب الإخلاص في إيمانه بالله والرجوع إليه في كل شيء.
وقد ورد الحديث عن الإمام عليt: ((التوكّل التبرّي من الحول والقوة وانتظار ما يأتي به القدر))(29). وفي حديث عنه: ((حسبك من توكلك أن لا ترى لرزقك مجرياً إلا الله سبحانه))(30). وعن الإمام جعفر الصادقt لما سُئِل عن حدّ التوكّل: ((أن لا تخاف مع الله شيئاً))، وقد جاء في قوله تعالى: )وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ((31).
وهكذا ينفتح التوكل على الله على الالتزام بأنّ الله هو سرّ كل شيء في حياة الإنسان، ما يعمّق في كيانه الثقة بأنه سبحانه مصدر القوة في حالات الضعف؛ لأن القوة لله جميعاً، فهو الذي يمنحها للإنسان في أموره كلها، بعد أن يستجمع في مشاريعه كل إمكانات القدرة في الأسباب التي يملكها.
وبهذا يفترق التوكل عن التواكل والاتكالية التي يبتعد بها الإنسان عن تحريك قدرته مما يملكه من الوسائل في تحقيق ما يستهدفه من قضايا وأمور ومشاريع. وقد تحدثت النصوص عن ذلك، فقد جاء في الحديث عن رسول اللهw لرجل قال له: أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: (اعقلها وتوكل). وعن الإمام جعفر الصادقt: ((لا تدع طلب الرزق من حلّه، فإنه عون لك على دينك، واعقل راحلتك وتوكل))(32). وقد ورد عن رسول اللهw لقوم رآهم لا يزرعون، ((قال: ما أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: لا بل أنتم المتكلون)).
وعن الإمام عليt لقوم أصحّاء جالسين في المسجد، قال: ((من أنتم؟، قالوا: نحن المتوكلون، قالt: بل أنتم المتأكلة، فإن كنتم متوكلين فما بلغ بكم توكلكم؟، قالوا: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، قالt: هكذا يفعل الكلاب عندنا، قالوا: فما نفعل؟ قال: كما نفعل، قالوا: كيف نفعل؟ قالt: إذا وجدنا بذلنا، وإذا فقدنا شكرنا))(33). وجاء عن الإمام جعفر الصادقt في قوله تعالى: )وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ( (الزارعون). وهذا هو أبلغ تعبير واقعي عن التوكل، فإن الزارعين يقومون في زراعتهم بكل الأسباب التي تؤدّي إلى أن يحصل الزرع، فإذا فرغوا من ذلك كله، ولم يبقَ هناك لديهم شيء يفعلونه، وخافوا من الطوارىء المستقبلية الخفية التي يختزنها غيب المستقبل، أوكلوا الأمر إلى الله، وتوكلوا عليه ليصرف ذلك عنهم، فهم يواجهون الأمور في تجربتهم بأسباب الواقع، ويعتمدون على الله فيما وراء ذلك بإرجاع الأمر إليه مما يملك أمره والقدرة عليه.
وعن الإمام جعفر الصادقt: ((إنّ قوماً من أصحاب رسول اللهw لما نزلت: )وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ((34)، أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة، وقالوا قد كفينا، فبلغ ذلك النبيw فأرسل إليهم، فقال: ما حملكم على ما صنعتم؟ قالوا: يا رسول الله، تكفّل لنا بأرزاقنا، فأقبلنا على العبادة، فقال: إنه من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب))(35).
وهكذا نجد أن محبة الله للمتوكلين عليه، ترتكز على رجوعهم إليه في كل أمورهم، ثقةً به وبقدرته، وتسليماً له في الرجوع إليه في مهماتهم، ما يوحي بالتحرك إلى مواقع القرب منه في قلوبهم وأقوالهم وأفعالهم، فلا يتحركون إلا إليه، ولا ينفتحون إلا عليه، وهذا هو ما يدعو إليه النبيw في رسالته.
وللحديث تتمة إن شاء الله تعالى...
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
متابعةً لما تحدثنا عنه في الأسبوع الماضي، وتحديداً في ذكر من يحبّهم الله، نكمل الحديث عن صنف آخر من هؤلاء، وهم:
فمن الذين يحبهم الله (المقسطون)، وهم العادلون في كل أمورهم؛ مع أنفسهم ومع الله ومع الناس، وهذا ما جاء في قوله تعالى: )وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ((1). والقسط هو النصيب بالعدل، وقد أكّد الله في القرآن، أن الرسالات التي جاء بها الأنبياء ونزلت بها الكتب ووضع فيها الميزان؛ انطلقت من خلال القسط في حركة الإنسان في الواقع، وذلك هو قوله تعالى: )لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ((2)؛ ما يوحي بأن القاعدة التي انطلقت منها الرسالات، والدعوة التي جاء بها الرسل، هي العدل بكل ألوانه للناس كافة. وقد أكد سبحانه ذلك في التعامل مع غير المسلمين من المسالمين في قوله تعالى: )لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ((3).
وقد جاء القسط بمعنى الشهادة، وذلك هو قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ((4)، كما أنه سبحانه لم يفرِّق في العدل بين العدوّ والصديق، وذلك قوله تعالى: )وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ((5)، لأنه لا بد من أن تكون الشهادة لله بعيداً عن العوامل الأخرى في علاقة الإنسان بالآخرين، وذلك هو قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا((6).
وأراد الله للناس أن يقيموا الوزن بالقسط فلا يبخسوا الناس أشياءهم، وذلك قوله تعالى: )وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا المِيزَانَ((7)، )وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ بِالقِسْطِ((8). وهكذا يريد الله القسط في كل أمور الناس، وذلك بتوفيتهم حقوقهم حتى في الإصلاح بينهم، وذلك قوله تعالى: )وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ((9).
وفي ذلك كله، يؤكِّد الله محبَّته للذين يأمرون بالقسط الذي أمر عباده به، وأعلن لهم أنه هو الله القوي القادر المهيمن على الأمر كله القائم بالقسط، وهو قوله تعالى: )شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ((10). فالله سبحانه لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم. وهكذا نتمثل القيام بالقسط الذي يحبه الله لعباده فيحبهم لأجله، لأنهم يمتثلون أمره في ذلك كله، ويحبون ما أحبه، ويتحركون به في حياتهم كلها في القول والعمل.
ومن الذين يحبهم الله، المقاتلون في سبيله في موقف واحد يشد فيه بعضهم أزر بعض، بما يؤكد موقف القوة في موقع الوحدة، وذلك قوله تعالى: )إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ((11)، لأن هذه الصورة هي التي تعبر عن وحدتهم في خط المواجهة للأعداء، ما يحقق لهم أكثر من فرصة للنصر من خلال التواصل والتكامل فيما بينهم. هذا ما جاء في القُرآن الكريم عن الذين يحبّهم الله تعالى.
وقد ورد في السنّة الشريفة، في أحاديث النبيّw وأهل بيتهi، ذكر عناصر أخرى ممّن يحبّهم الله تعالى.
1 - فقد جاء عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام: ((إن الله يحب كل قلب حزين ويحب كل عبد شكور))(12)، وذلك فيما يمثله حزن القلب من الإحساس بالذنب، وبالخوف من المصير والخشوع لله، وفيما يمثله الشكر من اعترافٍ بنعم الله.
2 - وجاء عن رسول اللهw: ((إن الله يحبُّ الحييّ الحليم العفيف المتعفف))(13)؛ لأنّ الحياء يمنع الإنسان من اقتحام مواقع المعاصي والرذائل. أمّا الحلم، فإنّه يحقّق للإنسان التوازن في حركته، ويحقّق له السكينة في تفكيره، حتى لا يُقدم عند حالات الغضب على انحراف أو طيش أو معصية. أمّا العفّة، فإنّها تعكس وعي الإنسان لمواقع شهواته ورغباته في حياته، فلا يمدّ عينيه إلى ما ليس له بحقّ، في أيّ جانب من جوانب تلك الشهوات والرغبات.
3 - وورد عن رسول اللهw: ((ثلاثة يحبهم الله عز وجل: رجل قام من الليل يتلو كتاب الله، ورجل تصدّق صدقة بيمينه يخفيها عن شماله، ورجل كان في سريّة فانهزم أصحابه فاستقبل العدو))(14)، بما يُظهره ذلك من إيمانٍ صادقٍ يُحاول أن يستضيء بكتاب الله، ليكون منهاج حياته، وبما تُبديه صدقة السرّ من إخلاصٍ لله، وكذلك بما تعكسه شجاعته من تفانٍ وتضحيةٍ في سبيل الله عزّ وجل.
1 - وردت النصوص المأثورة عن أحب الناس إلى الله، فقد جاء عن رسول اللهw: ((إن أحبكم إلى الله أكثركم ذكراً له، وأكرمكم عند الله عز وجل أتقاكم له))(15). وذكر الله ليس حالةً في اللسان فقط، وإنّما هو ما يعكس حالةَ حضور الله تعالى في وجدان المؤمن، فيذكر الله عند كلّ حرامٍ يدعوه ليبتعد عنه، وعند كلّ طاعةٍ تدعوه، فيقبل عليها. وبذلك، يكون الذكر مقدّمة للتقوى التي تمثّل أعلى درجات الحضور لله لدى الإنسان، فلا يقدّم رجلاً ولا يؤخّر أخرى حتى يعلم أنّ في ذلك لله رضى.
2 - وفي حديث آخر عن النبيّw لما سئل عن أحب الناس إلى الله قال: ((أنفع الناس للناس))(16). وفي حديث عنهw: ((الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من نفع عياله لله، وأدخل على أهل بيت سروراً))(17). وعن الإمام الصادقt، قال الله عز وجل: ((الخلق عيالي، فأحبهم إليَّ ألطفهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم))(18). ونفهم ذلك على أساس أنّ النفع للناس، في حاجاتهم المتنوّعة، يعكس قمّة الإنسانيّة التي أرادها الله تعالى أن تتحرّك صافيةً من كلّ ذاتيّة أو أنانيّة أو شعورٍ بالاستعلاء، وبذلك يقترب الإنسان أكثر إلى معاني عبوديّته لله تعالى.
3 - وعن الإمام عليt: ((إن من أحبّ عباد الله إليه، عبداً أعانه الله على نفسه، فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه))(19).
4 - وجاء عن رسول اللهw: ((أحب المؤمنين إلى الله، من نصّب نفسه في طاعة الله ونصح لأمّة نبيِّه، وتفكّر في عيوبه، وأبصر وعقِل وعمل))(20)؛ لأنّ الله تعالى يريد للإنسان أن يكون وجوده وجود الفاعل ضمن أمّته، فينصح لها في مواقع الزلل التي يراها، ولا يعيش حالة اللامبالاة، كما لا ينعزل عن الحياة ليكون همّه نفسه. وممّن يحبهم الله ذاك الذي ينشغل بعيوبه عن تتبّع عورات الناس وعيوبهم، ليحاسب نفسه، ويُصلح أمره، ويحرّك عقله، ويوجّه عمله من خلال ذلك، ليتحرّك بها نحو مواقع كمالها.
وإلى جانب الأشخاص الذين هم أحب الخلق إلى الله، هناك الأعمال التي يحبها الله ويريد للناس أن يقوموا لها، فقد جاء عن رسول اللهw: ((ثلاثة يحبها الله: قلّة الكلام، وقلة المنام، وقلة الطعام. وثلاثة يبغضها الله: كثرة الكلام، وكثرة المنام، وكثرة الطعام))(21). وفي حديث آخر عنهw: ((ثلاثة يحبها الله سبحانه: القيام بحقّه، والتواضع لخلقه، والإحسان إلى عباده))(22).
أما أحبُّ الأعمال إلى الله، فقد جاء عن الإمام محمد الباقرt: ((سُئل رسول اللهw: أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: اتّباع سرور المسلم، قيل: يا رسول الله: وما اتّباع سرور المسلم؟ قال: شبع جوعته، وتنفيس كربته، وقضاء دينه))(23). وجاء عن الإمام محمد الباقرt: ((ما عبد الله بشيء أحب إلى الله عز وجل من إدخال السرور على المؤمن))(24). وجاء عن رسول اللهw، قال الله عز وجل ـ في الحديث القدسي ـ ((ما تقرّب إلي عبدٌ بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه))(25)، وجاء عن الإمام عليt: ((أحبّ الأعمال إلى الله عز وجل في الأرض الدعاء))(26).
من لا يحبّهم الله:
وإذا كان هؤلاء الذين يحبهم الله، فإن هناك من لا يحبهم الله، كما تحدث الله عنهم، ومنهم المعتدون، وذلك هو قوله تعالى: )وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ((27)، فالله لا يريد للإنسان أن يمارس العدوان، وهو سبحانه، لم يرخِّص له في قتال الآخرين إلا في حالة الدفاع عن النفس أو عن القضايا الكبرى لمساعدة المستضعفين، وفي حالة الوقاية الاحتياطية من عدوان الآخرين.
ومن الذين لا يحبهم الله، الظالمون الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، وذلك هو قوله تعالى: )وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ((28)، لأنّ الله أقام الحياة على أساس العدل للناس كافة، فليس لأي إنسان أن يعتدي على حقوق الناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وحرياتهم المشروعة.
والله لا يحب الذين يختالون ويستعرضون أوضاعهم بأسلوب الفخر على الناس )إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا((29)، لأن الله يحب المتواضعين الذين لا يمشون في الأرض مرحاً، بل يسيرون في الأرض بشكل طبيعي لا يثير أي سلبية إنسانية. ولا يريد للإنسان أن يأخذ بالفخر في استعلائه وتطاوله على الآخرين، لأن ذلك قد يتحول إلى سلوك عدواني نفسي وعملي.
والله لا يحب الخائنين، كما جاء في قوله تعالى: )وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا((30)، لأن الله يريد للإنسان أن يكون صادقاً مخلصاً منفتحاً على الحق وأهله، فلا يأخذ بأسباب الخيانة التي قد تسيء إلى الآخرين في الحكم عليهم بغير الحق، وفي التعامل معهم بطريقة غير إنسانية بعيدة عن العدل.
)وَاللهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ((31)، لأن الله لا يحب الفساد، ويرفض للناس أن يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ويوجههم إلى أن لا يبغوا في الأرض الفساد.
)إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ((32)، لأن الله يريد للإنسان الاعتدال والتوازن في نفسه وفي ماله وفي كل سلوكياته.
والله لا يحب المستكبرين، كما جاء في قوله تعالى: )لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرِينَ((33)، لأن المستكبرين يتكبرون على الناس بغير الحق، فيتحول استكبارهم إلى عملية ظلم وقهر واحتلال ومصادرة لقضايا الناس وإذلالهم. وهو سبحانه لا يحب الفرحين الذين يفرحون بطراً واستعراضاً بما يعبّر عن الحالة النفسية الاستعلائية. والله لا يحب الكافرين الذين يجحدون وجوده وتوحيده ورسله ورسالته واليوم الآخر.
ولا يحب الله الجهر بالسوء فيما يتحدث به الإنسان عن الآخرين، وهذا ما جاء في قوله تعالى: )لا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ((34)، لأن الله يريد للناس أن يحفظوا كرامات بعضهم بعضاً، فيسترون على الناس عيوبهم، ويتغاضون عن سلبياتهم، في عملية محبة وخير وانفتاح. ولكنّه تعالى جَعَل للمظلومين الحق في أن يعبّروا عن ظلامتهم ليعبّروا عنها بهذه الطريقة.
وفي نهاية المطاف، لا بد للناس من أن يكونوا مع الله فيما يحب وفيمن يحب، ليحصلوا على حبه ورضوانه )وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ((35).
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
تتمةً لما سبق من حديث عن الحبِّ بين العبد وربّه، نواصل تغطية جوانب منه، ولعل من أهم الجوانب، هو حبّ الله تعالى لعباده...
لقد وردت النصوص عن رسول اللهw وعن الإمام عليt، حول ما يجعل الله يحبّ عبده، وذلك في أكثر من مضمون ثقافي روحي، توحي مفرداته بالوثوق بصحته؛ لانسجامه مع الخطوط العامة في الكتاب والسنة.
من ذلك ما روي عن رسـول اللهw، بما جاءت به الرواية عن موسىt ـ مناجياً ربه ـ: ((يا ربّ، وددتُ أن أعلـم من تحـب من عبـادك فأحبّـه. فقـال ـ سبحانه ـ: إذا رأيت عبدي يكثر ذكري، فأنا أذنت له في ذلك وأنا أحبّه، وإذا رأيت عبدي لا يذكرني، فأنا حجبته عن ذلك وأنا أبغضته))(1).
ونستوحي من هذه الرواية، قيمة ذكر الله لدى الإنسان، في دلالته على امتلاء ذاته بالله، بحيث يأنس بذكره، في روحيّته المنفتحة على علاقته به ومحبته له، فلا يغيب عن عقله وقلبه، وعمق وعيه.
أما إذن الله للمؤمن في ذلك، فهو توفيقه له عندما يطّلع سبحانه على إيمانه، ويرى منه صدق العبودية له والعشق لذاته المقدّسة، بحيث ينطلق الذكر من قاعدة الاختيار الذي يلتقي باللطف الإلهي. أما الإنسان الذي لا يذكر الله، لغفلته عن مواقع عظمته، وامتدادات نعمه، وفيوضات رحمته، وقدسية ربوبيته، وانفتاح عبوديته له، فإنه يواجه في داخل كيانه ظلمات الحجب الكثيفة عن ذكر ربّه، ويبتعد عن القرب إليه، ويتجلى ذلك في سقوط روحي وعقلي وشعوري عن عمق الحب الإلهي، ما يجعل علاقته بالله في غربة عن معنى الإيمان، فيستحق البغض من الله.
وفي الحديث عن الإمام عليt: ((إذا أحبّ الله عبداً ألهمه حُسن العبادة))(2)؛ لأنّ محبّة الله له، لا تنطلق إلا من خلال علمه تعالى بما يختزنه هذا الإنسان من صفاء الإيمان وعمق العقيدة وروحية الذات؛ الأمر الذي يفيض عليه من فيوضات المعرفة به، والوعي لجوانب العظمة الربوبية في ذاته المقدسة، فتنفتح له كل آفاق العبادة من خلال معنى العبودية لربّه، فتتحرك العبادة إيماناً في عقله، وروحاً في قلبه، وحركةً في جسده، في ركوعه وسجوده وابتهاله ودعائه ومناجاته، والعمل بكل ما يؤدي إلى الحصول على مواقع القرب منه. وهذا هو الذي توحي به كلمة الإلهام لحسن العبادة.
وفي حديث آخر عنه: ((إذا أحبّ الله عبداً ألهمه الصدق))(3)، هذه القيمة الأخلاقية هي التي أرادها الله لأنبيائه والصالحين من عباده؛ لأنها تربط الناس بالحقيقة من دون زيادة أو نقصان، وتؤكّد سلامة موقف الإنسان في صدق النية والحركة والعلاقة، بحيث لا يلتقي بالكذب في القول والفعل، مما يدمر التصوّر وحركة الواقع. ولذلك فإنّ محبة الله للإنسان تجعله في رزقٍ قيميّ أخلاقي وحركيّ ينفتح فيه على الله في صدق العبودية، والالتزام بكل ما يعبّر عنه في شهادة الإيمان، وفي عهده لله وللناس.
وفي حديثٍ آخر عنهt: ((إذا أحبّ الله عبداً حبّب إليه الأمانة))(4)؛ لأنها الصفة الحسنة التي يريدها الله من عباده، ويحبّ أن تتمثّل فيهم، باعتبارها تنبع من عمق الصدق في نفس الإنسان، سواء كانت الأمانة أمانة النفس أو المال أو العرض أو أيّة مسؤولية يتحمّلها، فيكون توفيقه إليها كرامة من الله له مما يكرم به سبحانه عباده في عملية الالتزام بالأعمال التي يحبُّها من خلقه.
وفي رواية أخرى عنه: ((إذا أحب الله عبداً زيّنه بالسكينة والحلم))(5)، لأن الله ينـزل سكينته على المؤمنين كما أنزلها على رسوله، فيحصلون من خلال ذلك على النفس المطمئنة في الهدوء النفسي الذي يوحي بالطمأنينة. وهكذا يريد الله لأحبائه أن يتحلّوا بالحلم وسعة الصدر وكظم الغيظ والعفو عن الناس والإحسان إليهم، لأن الله حليم يحب الحلماء ويوفّقهم للأخذ بأسبابه. وقد قال تعالى في محكم كتابه: ) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ((6).
وفي حديث آخر عنه: ((إذا أحبّ الله عبداً ألهمه رشده ووفّقه لطاعته))(7)، لأن الإنسان الرشيد يواجه الأمور، في صغائرها وكبائرها، بالرشد الفكري الذي يعرف كيف يدرس الأمور ليتعرّف صالحها من فاسدها، ومفيدها من ضارّها، وينطلق في الحياة من خلال الاتّزان العقلي، ويتحرّك فيها في خطّ الاستقامة الحركية، ويبتعد عن الغيّ في أموره كلها، وبذلك يتحرك نحو الطاعة لله باعتبارها السبيل الرشيد للحصول على سلامة المصير في الآخرة. ومن أحبّه الله تعالى، فإنّه يفيض نعمته عليه بكلّ ذلك.
وفي حديث آخر عنه: ((إذا أحبّ الله عبداً وعظه بالعبر))(8)، لأن الله يحب للإنسان أن يعتبر بما مضى لما بقي، وذلك من خلال دراسة الأمور في إيحاءاتها العملية مما يستفيده فيما يستقبل من أوضاعه وأموره، فلا يغفل دروس التاريخ لنفسه وللآخرين، ولا يهمل التخطيط للمستقبل من خلال ما واجهه في تجاربه وتجارب الآخرين من العبر الموحية بكل خير، فينفتح عمّا يرى فيه صلاح أمره، ويبتعد عن كل ما يؤدّي إلى فساد حياته. وهذا مما يحبه الله للمؤمن من عباده، لأن ذلك هو أقرب الوسائل للنجاح والفلاح.
وفي حديث آخر عنه: ((إذا أحبّ الله عبداً، بغّض إليه المال، وقصّر منه الآمال))(9)، ولعلّ المقصود هو عدم الاستغراق في حبّ المال، بحيث يكون كل شيء في حياته، حتى إنه يتنازل بسبب ذلك عن بعض مسؤولياته الشرعية إذا حالت بينه وبين الحصول على المال. وفي ضوء ذلك، يتولّد في نفسه، من خلال هذا الحبّ الإلهي الذي يبادل فيه المؤمن ربه حباً بحب، فيبغض المال الذي يبتعد به عن الله، ويجلب له سخطه ويعرضه لعقوبته، ويفقد معه حبّه.
إن الإنسان إذا أحبّ الله في عقله وقلبه، وانفتح على سرّ عظمته المطلقة، فإنه يرتبط به ويذوب في طاعته، فيكون رضوان الله فوق رضا نفسه ورضا الناس من حوله، وينظر إلى الدنيا على أنها مزرعة الآخرة، وأنها الساحة التي يتحرك فيها للقيام بمسؤولياته أمام الله، ليحصل على القرب منه، وليفوز بالثواب العظيم الذي يمنحه الله للمتقين من عباده الذين وعدهم بالجنة وبإدخالهم في مواقع رحمته.
وبذلك لا يخضع للدنيا في شهواتها ولذاتها في مقابل شهوات الجنة ولذاتها، التي ورد أنّ فيها ((ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر))، )فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ((10). وهذا ما جاء به الحديث عن رسول اللهw: ((حبّ الدنيا وحبّ الله لا يجتمعان في قلبٍ أبداً))(11). وعن الإمام عليt: ((كيف يدّعي حبّ الله من سكن قلبه حبّ الدنيا))(12)، وجاء في حديث آخر عنه: ((كما أن الشمس والليل لا يجتمعان، كذلك حبّ الله وحب الدنيا لا يجتمعان))(13).
ومن الواضح أن المراد من إخراج حبّ الدنيا من قلب المؤمن، هو ما تشتمل عليه من المحرمات التي نهى الله عنها، والاستغراق في شهواتها وأطماعها غير الشرعية، وليس المراد ترك الدنيا في حاجاتها الطبيعية للإنسان، مما أراد الله له أن يأخذ به في استمرار حياته واستقرارها. وقد ورد عن الإمام جعفر الصادقt، أن شخصاً سأله، فقال: إنّا لنحبّ الدنيا ونرغب أن نؤتاها، فقال له الإمامt: ((تصنع بها ماذا؟ قال: أعود بها على نفسي وعيالي وأصل بها وأتصدق بها وأحجّ وأعتمر))(14)، فقال الإمامt: ((ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة))(15). ولعلّ ذلك ما يوحيه قوله تعالى: )وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ((16).
أما تقصير الأمل، فإنه يجعل الإنسان في حالة تفكير في الموت من جهة محدودية أجله، فلا يمتد بالأمل بما يؤدي به إلى الغفلة عن الله، وبالتالي عن الاستعداد للقائه في الآخرة، وهذا ما جاء به الحديث عن عليّt: ((ألا إنّ أخوف ما أخاف عليكم خصلتان؛ اتّباع الهوى وطول الأمل، أما اتّباع الهوى فيصدّ عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة))(17).
ومن الواضح أن نسيان الآخرة يؤدي بالإنسان إلى إهمال فروض الطاعة لله، والتجرؤ على معصيته، ونسيان موقعه منه، وفي ذلك كله الخسارة لمصيره عند الله، بينما ينفتح قصر الأمل على الإحساس الدقيق بالمسؤولية والاستعداد للآخرة ليلقى الله عز وجل في يوم القيامة وهو عنه راضٍ، فتفيض عليه الرحمة الإلهية إفاضة الوعي الإيماني الذي يبقى فيه قريباً من مواقع القرب إلى الله، ومن فيوضات محبته له.
وفي حديث آخر عن عليt: ((إذا أحبّ الله عبداً رزقه قلباً سليماً وخُلُقاً قويماً))(18)، فإن الله الذي يقلّب القلوب بإرادته، ويفتحها بلطفه، إذا رأى من عبده الخير في ذاته، والحق في حركته، هداه إلى الصراط المستقيم الذي يرتفع بمشاعره وأحاسيسه إلى الحب للناس في خط الهداية إليهم، والاهتمام بأمورهم، فلا ينعقد على البغض والحقد والعداوة، ولا يخفق بالشر للآخرين، ولا يدخل ذلك في فكره. وهذا ما أراده الله للإنسان الذي يقف بين يديه يوم القيامة كما في قوله تعالى: )يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ((19)، فإذا اطّلع الله على سلامة قلب المؤمن، فإنه يزيده سلامةً وانفتاحاً، وهكذا يفيض الله عليه بالطاقة الروحية والألطاف الإلهية والهداية العقلية والاستقامة العملية، ما يحقق له الانسجام في الخط الأخلاقي الذي ينطلق من أخلاقيته في نفسه ومع ربه ومع الناس كافة، ومع الحياة كلها، لأن حبّه لله الذي يلتقي مع حب الله له، هو الذي يشرق في ذاته، فيبتعد عن كل ظلمة تحجب عنه الحق والخير والإيمان.
وهكذا نجد من ثمرات حب الله للمؤمن، من خلال حبّ المؤمن له، أنّه يرزقه الهداية الروحية والغنى السلوكي والانفتاح على تحويل ذاته إلى ذات غنية بالخير، سائرة في طريق الحق، عاملة بالصلاح والإصلاح، وهذا هو الرزق الروحي المعنوي الذي يلتقي ـ في رحمة الله ـ بالرزق المادي، لأن الله هو الذي يفيض على عباده بكل نعم الوجود في بُعديّه الروحي والمادي.
وهكذا تتفاعل المسألة بين العبد المؤمن وربه، حباً من العبد باتّباع أوامر الله ونواهيه وامتداداً في طاعته، وحباً من الله بالألطاف الإلهية التي تحقق للمؤمن كل خير وتخلّصه من كل شر، وتقوده إلى سلامة الدارين.
جاء عن الإمام عليt: ((من أراد منكم أن يعلم كيف منـزلته عند الله، فلينظر كيف منـزلة الله منه عند الذنوب، كذلك تكون منـزلته عند الله تبارك وتعالى))(20). وفي حديث آخر عنه: ((من أحبّ أن يعلم كيف منـزلته عند الله، فلينظر كيف منـزلة الله عنده، فإنَّ كل من خُيِّر له أمران: أمر الدنيا وأمر الآخرة، فاختار أمر الآخرة على الدنيا، فذلك الذي يحب الله، ومن اختار أمر الدنيا، فذلك الذي لا منـزلة لله عنده))(21).
إن القضية التي يعالجها الإمام عليt هي أنّ البرهان على منـزلة الله عند الإنسان يأخذ بالحسبان رضوان الله، في اختياره لأي عمل من أعماله، وأي قولٍ من أقواله، وأي موقف من مواقفه، وأية علاقة من علاقاته، فإذا كان اختياره في أمر ما يلتقي مع رضا الله، حتى لو كان على خلاف مزاجه أو مصلحته أو على خلاف رضا الناس القريبين منه من حوله، بحيث كان أمر الله قبل أمره، كان ذلك دليلاً على منـزلة الله عنده بالدرجة العليا التي لا يرى فيها غير الله في نفسه، أما إذا كان اختياره تابعاً لرضا الناس أو لشهوته أو لمصالح دنياه التي لا تلتقي مع خط الآخرة، بعيداً عن رضا الله في ذلك، كان ذلك دليلاً على أن أمر الله لا يرقى إلى موقع المحبة عنده، أو إلى سر العبودية في ذاته.
وفي ضوء ذلك، فإنّ الله يمنح العبد منـزلته في درجته لديه، لأن الله يرفع عباده إليه بقدر ما يطلع على ما في عقولهم وقلوبهم وحياتهم من محبةٍ له، وطاعةٍ له في حركتهم العامة والخاصة في الواقع. وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة: )قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ((22)، فيما توحيه من أن محبة الله للإنسان تابعة لمحبة الإنسان لله، في عملية مبادلة حبٍ بحب، ودلالةٍ بدلالة. وهذا ما عبّر عنه الإمام جعفر الصادقt، قال: ((من أراد أن يعرف كيف منـزلته عند الله، فليعرف كيف منـزلة الله عنده، فإن الله ينـزل العبد مثل ما ينـزل العبد لله من نفسه))(23). فعلاقة الله بعباده ليست علاقة ذاتية، ولاسيما أنّ العباد متساوون عند الله في خلقه.
ولذلك فإن أي عبد يبلغ المنـزلة العليا عند الله، بقدر إخلاصه له وتقواه في طاعته، وهذا ما جاء في قوله تعالى: )إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ((24). وهو ما يوحي بالمنـزلة الكبرى للإنسان عنده، من خلال خطوط التقوى البالغة أعلى الدرجات في الطاعة. وقد جاء عن رسول اللهw قال: ((قال الله: ما تحبّب إليَّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه، وإنه ليتحبّب إليّ بالنافلة حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، إذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته))(25). إن هذا الحديث يحوّل الإنسان المؤمن التقي إلى ربّانيّ في كل كيانه، يتحرك بلطف الله ورحمته ورضوانه، ليشمله الله بكل مواقع الحبّ عنده.
إنّ مسؤولية الإنسان المؤمن في محبّته لله، أن يعمل على أن يحبّب الله إلى عباده، وذلك بالأساليب المتنوعة التي تثقف الناس بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، في مواقع عظمته وامتداد نعمه، بحيث يشعر العباد بأن الله سبحانه هو الذي تحبّب إليهم بخلقه ورعايته ورحمته ولطفه، حتى يحبوه حبّ الإنسان لربّه الذي هو وليّ كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كلّ رغبة، والكافي من كل شيء، والرحمـٰن الرحيم الذي وسعت رحمته غضبه، وأفاض كل ألطافه عليهم، ليجتمع لهم الإيمان العقيدي بتوحيده، والحب القلبي لذاته القدسية، في آفاق ربوبيته المطلقة التي لا حدّ لها في زمان ولا في مكان.
وهذا ما جاء الحديث به عن رسول اللهw: ((قال الله عز وجل لداودt: أحبّني وحبِّبني إلى خلقي، قال: يا ربّ: نعم، أنا أحبّك، فكيف أحبِّبُك إلى خلقك؟ قال: اذكر أياديَّ عندهم، فإنّك إذا ذكرت لهم ذلك أحبّوني))(26). وفي الحديث عن الإمام محمد الباقرt: ((أوحى الله تعالى إلى موسىt: أحبّني وحبّبني إلى خلقي، قال: موسىt: يا ربّ، إنّك لتعلم أنه ليس أحدٌ أحبّ إليَّ منك، فكيف لي بقلوب العباد؟ فأوحى الله إليه: فذكّرهم نعمتي وآلائي، فإنهم لا يذكرون مني إلا خيراً))(27).
إن هذا هو أحد أساليب الدعوة إلى الله في مسألة انفتاح الناس عليه وارتباطهم به ومحبتهم له، فإن معرفة الناس بنعم الله عليهم في كل أمورهم، في حياتهم العامة والخاصة، يجعلهم يشعرون بالارتباط الوثيق به في وجودهم، ويتعرفون أنه يجسِّد في أياديه كل شيء في الواقع الذي يعيشونه، منذ بداية خلقهم إلى نهاية حياتهم، فإن القلوب مجبولة على حبّ من أحسن إليها، فكيف إذا كان المحسن في موقع الله في رعايته لعباده؟!
وربما يبرز هنا سؤال: ما هي حاجة الله إلى محبة خلقه له، وهو الغني المطلق عن عباده بذاته، وهم الفقراء إليه؟
والجواب، أن القضية لا تتصل بحاجة الله، بل تتصل بحاجة الخلق إلى ربهم، تماماً كما هي المسألة في معرفتهم به التي حثّهم عليها، لأنهم إذا أحبوا الله، أطاعوه وانفتحوا عليه، وإذا عرفوه، خضعوا له وعبدوه، وهذا مما يرجع بالخير عليهم في صلاح أمرهم، من خلال المصالح التي تحصل لهم بالطاعة، والمفاسد التي يبتعدون عنها بالبعد عن المعصية.
ومن مظاهر محبة الإنسان لله، أن يكون الله في سرّ الإيمان به هو الأساس في مسألة الحب للناس والبغض لهم، بحيث تكون مشاعره تابعةً لعلاقة الآخرين بالله سلباً وإيجاباً، فيكون الحب للمؤمن من خلال إيمانه بالله وعلاقته به وولايته له، ويكون البغض لأعداء الله من خلال عداوتهم لله وسخط الله عليهم. وفي هذا دلالة على أن الله هو الذي يحكم ارتباطات الإنسان بعيداً عن النوازع الذاتية والعناصر الشخصية، فإذا عرف الله من عبده أنه يحب الآخرين من خلال قربهم إليه، ويبغضهم من خلال بعدهم عنه، عرف منه صدق الإيمان به والمحبة له، وبالتالي يكون مجرداً من العوامل الذاتية التي تلتقي بمصالحه الخاصة وشهواته الجامحة.
وهذا ما ورد عن رسول اللهw: ((أفضل الأعمال الحبّ في الله والبغض في الله))(28). وفي حديث آخر عنه: ((ما تحابّ اثنان في الله إلا كان أفضلهما أشدّهما حباً لصاحبه))(29). وفي حديث آخر عنه: ((حقّت محبّتي للمتحابّين فيَّ، وحقّت محبتي للمتواصلين فيَّ))(30). وتتعاظم المسألة في حديث آخر عنهw: ((الحب في الله فريضة، والبغض في الله فريضة))(31)، حيث اعتبرها من الفرائض النفسية التي لا بد للمؤمن من أن يخضع لها في عقله وشعوره، لأنها هي التي تدل على عمق الإيمان بالله والمحبة له، بحيث لا ينفتح على شيء أو أي شخص إلا من خلال علاقته بالله.
وجاء عن الإمام محمد الباقرt: ((إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً، فانظر إلى قلبك، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله، ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبّك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله، ويحبّ أهل معصيته، فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحبّ))(32). وفي هذا دلالة على أن التوافق في الحب والبغض، هو الذي يجمع الناس في يوم القيامة، لما يعبر عنه الحبّ والبغض من الالتقاء في الموقف الذي يتحول إلى الالتقاء في المصير.
وجاء عن الإمام جعفر الصادقt في الجانب السلبي من المسألة، قال: ((كل من لم يحب على الدين، ولم يبغض على الدين، فلا دين له))(33)، لأن هذه السلبية في النظرة إلى التزامات الآخرين سلباً أو إيجاباً، تدل على سلبية التزامه بدينه. وفي الحديث عن رسول اللهw لبعض أصحابه: ((يا عبد الله، أحبّ في الله، وأبغض في الله، ووالِ في الله، وعادِ في الله، فإنه لا تُنال ولاية الله إلا بذلك، ولا يجد رجلٌ طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصيامه، حتى يكون كذلك، وقد صارت مؤاخاة الناس في يومكم هذا أكثرها في الدنيا، عليها يتوادّون، وعليها يتباغضون))(34).
وفي حديث عن الإمام عليt: ((أحبب في الله من يجاهدك على صلاح دين، ويكسبنّك حسن يقين))(35). فإن هذا الإنسان هو الذي يرتبط بك من أجل الله ليصلح لك دينك، وليقوّي يقينك، ليقرِّبك إلى الله، ما يفرض عليك أن تحبه في الله ولله، لأنه يسير بك في الطريق إلى الله.
وفي نهاية المطاف، نلتقي بحديث للإمام زين العابدينt لما قال له رجل: ((إني لأحبّك في الله حباً شديداً، فنكّس الإمامt رأسه ثم قال: اللهم إني أعوذ بك أن أُحبّ فيك وأنت لي مبغض، ثم قال له: أحبّك للذي تحبني فيه))(36). والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
هناك مسألة تتحرك في أحاديث النبيw والأئمة من أهل بيتهi، كما تنفتح على بعض الخطوط الفكرية في القرآن الكريم، وهي مسألة علاقة الأخلاق السلبية بقضايا الانحراف العقيدي، باعتبار أن النظام الأخلاقي الذي يخضع له الإنسان، هو الذي يؤثر في تكوينه الداخلي، وفي خياراته على مستوى الانتماء وعلى مستوى الحركة، فقد تمنع بعض الأخلاقيات الإنسان من الإيمان وتدفعه إلى الكُفر، فنحن نقرأ مثلاً في القرآن الكريم قوله تعالى: )أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ((1).
فمن هو هذا الذي يُكذب بالدين؟ ما هي صفته؟ يقول القرآن الكريم إنّه الذي يدعُّ اليتيم، يعني الذي يعنُف مع اليتيم ويقهره، غير مبالٍ لغضب الله سبحانه وتعالى، فلا ينفتح عليه سبحانه فيما ينفتح عليه المؤمنون من طلب رحمته ولُطفه والعمل على الحصول على رضاه، ولا ينفتح على يوم الدين، وهو يوم الجزاء، كما أن قلبه الممتلىء بالقسوة وغير المنفتح على الرحمة، يدفعه إلى أن لا يستجيب لما يُحبّه الله ويرضاه، من مساعدة المسكين في إطعامه إذا كان جائعاً، وفي كل حاجاته الجسدية وغير الجسدية، لأن هذه القسوة القلبية لا تنفتح على الرحمة الإنسانية التي يرحم فيها إنسان إنساناً.
ونقرأ في آية أخُرى في هذا الاتجاه: )كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ اليَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ المُجْرِمِينَ((2)، فعندما يطلُّ أصحاب اليمين على النار ويشاهدون المجرمين الذين كانوا يعيشون فيما بينهم، كجيران وكأقرباء وكأصدقاء، يتساءلون ويوجهون إليهم السؤال: ) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ـ وصقر هي وادٍ من وديان النار ـ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ(، لم نكن من المصلين، كنا ننكر الصلاة، لأننا كنّا ننكر الأساس الذي ترتكز عليه، وهو الإيمان بالله وباليوم الآخر. )وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ(، كُنا لا ننفتح على المأساة التي يعيشها المساكين في جوعهم وعطشهم وعُريهم وفي كل حاجاتهم التي يفقدون معها الفرصة في العيش الكريم، )وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِينَ(، لم تكن لنا قاعدة نرتكز عليها، ولم يكن لدينا أساس نثبت عليه، كنا إذا أخذ الناس يميناً أخذنا يميناً، وإذا أخذ الناس شمالاً أخذنا شمالاً، كنا نخوض مع الخائضين في كل الوحول التي تتصل بالجانب الأخلاقي في إيذاء الناس وفي إثارة العنف ضدهم، )وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ((3)، وهذا هو الأساس، أنهم كانوا يكذبون باليوم الآخر.
وبذلك، فإنهم أخذوا حريتهم في الانحرافات التي انحرفوا بها عن خط الاستقامة في العقيدة، فتحرّكوا كما لو لم يكن هناك حساب، ولم يكن ثواب ولا عقاب، إلى أن أتاهم اليقين، )حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ(، وهنا يؤكّد الله سبحانه وتعالى: )فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ((4)، لأن الشفاعة إنما تكون للذين يلتزمون العقيدة الحقة ويخافون الله، وقد يرتكبون بعض الأخطاء في علاقاتهم وأقوالهم وأفعالهم، أما الذين لا يأخذون من الدين بأية قاعدة، فهؤلاء بعيدون عن رحمة الله، فما تنفعهم شفاعة الشافعين، لأن المشكلة هي أنهم تمردوا على الله وانحرفوا عنه، والشفاعة لا تُنال إلا لمن ارتضى الله الشفاعة له.
ونقرأ في بعض الآيات، عندما يتحدث الله عن هؤلاء الذين فرقوا دينهم، وتفرقوا عن الأنبياء وعن الدُعاة إلى الله، يقول: )وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ((5)، هؤلاء الذين يعيشون أخلاق البغي، والبغاة هم الذين يمارسون العدوان على الناس وعدم الانفتاح على حُرماتهم، ولذلك فإن العلم لا ينفعهم، بل قد يؤدي إلى انتفاخ شخصيتهم، بحيث يقفون ليثيروا الفرقة في الأمة، ليختاروا الخط الذي يختلف عن خطها، مبتعدين بذلك عن الخط المستقيم.
وهذا ما يدل على أن الالتزام العقيدي يرتبط بالالتزام الأخلاقي، وأن الانحراف عن النظام الأخلاقي يؤدي إلى الانحراف عن الخط العقيدي. وسيأتي في أحاديث الأئمة من أهل البيتi، وقبل ذلك في أحاديث الرسولw، ما يمنحنا الحديث عن المفردات التي تُعتبر من أصول الكفر وأركانه، مما لاحظناه في عناوين أئمة أهل البيت، وهو العنوان الذي غطّاه الكُليني صاحب الكافي بمساحة مهمة في كتابه الكافي، في الحديث عن أصول الكفر وأركانه.
هذا عنوان ثقافي تناولته بعض الأحاديث التي وردت عن رسول اللهw، وعن الأئمة من أهل البيتi، لتحرّكه في الجانب الأخلاقي، من خلال بعض العناوين الأخلاقية السلبية التي قد تترك تأثيرها السلبي على الانفتاح الإيماني في الأصول العقيدية وأركانها، لأنها تغلق نوافذ العقل على الحقيقة، لتفتح الذات على الغريزة في إيحاءاتها المنغلقة على الجانب المادي من الحياة، الذي يبتعد به الإنسان عن إنسانيته التي هي سر الانفتاح على الله، في الوقت الذي يريد الله للإنسان أن يسمو بالقيم الروحية التي تؤكِّد مواقع القرب منه، من خلال قرب الإنسان من المسؤولية في التزاماته تجاه الله ورسوله.
ورد عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله، جعفر الصادقt: ((أصول الكفر ثلاثة: الحرص، والاستكبار، والحسد، فأماَّ الحرص، فإن آدم حين نهي عن الشجرة، حمله الحرص على الأكل منها، وأما الاستكبار، فإبليس حيث أمر بالسجود لآدم فأبى، وأما الحسد، فإبنا آدم حيث قتل أحدهما صاحبه))(6).
وقد نفهم من هذا الحديث أنّ اعتبار هذه الأمور من أصول الكفر، هو باعتبار أنها ـ في مورد الحرص ـ تربط الإنسان بالذات في حاجاتها وشهواتها، الأمر الذي يقوده إلى حالة الانحطاط الروحي، فينسى موقعه من الله، في غفلة العقل ويقظة الغريزة. وهذا ما حدث للنبيّ آدم وزوجته حوّاء اللذين نهاهما الله عن الأكل من الشجرة الخاصّة، وأباح لهما الأكل من كل أشجار الجنة، فوسوس لهما الشيطان، مثيراً في إحساسهما الذاتي الرغبة في الأكل من الشجرة، من خلال التطلّع نحو الخلود أو أن يصبحا من الملائكة، فنسيا التحذير الإلهي، ووقعا في التجربة الصعبة التي أبعدتهما عن الجنّة. وقد جاء ذلك في قوله تعالى: )وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا((7)؛ لأن الحرص ـ بحسب تعبير الرواية ـ جعله يتجاوز العهد الإيماني ويضعف أمام رغبته.
وإذا كان الله سبحانه قد شمل آدم وزوجه برحمته، فلأنّ المسألة لم تكن تكليفاً ترتكز العصمة على امتثاله، بل كانت بمثابة دورة تدريبية، وقضية إرشادية، لوضعهما في المستقبل مع إبليس، فأعطاهما الله اللطف من مغفرته ورحمته. ولكن القضية تختلف مع الناس العاديين الذين يتحكّم الحرص في كيانهم، فيستغرقون في شهواتهم ولذاتهم وأطماعهم، بحيث يغفلون عن الإيمان بالله وعن مسؤوليتهم أمامه، فيقتربون من الكفر الشعوري الذي يتحرّك فيه الإنسان كما لو لم يكن الله موجوداً، فيسقط فيما يشبه خصائص الكفر في السلوك الأخلاقي السلبي.
وأما الاستكبار، فإنه يمثل استغراق الإنسان في داخل ذاته، من خلال بعض العناصر التي تصيبه بحالة انتفاخ داخلي، وضخامة في الشخصية بشكل مرضي، بحيث يغفل عن العناصر الكامنة في الآخرين ممّا قد تتفوق على العنصر الذي يتميّز به. وهذا ما وقع فيه إبليس الذي رفض ما أمره الله به من السجود لآدم، انطلاقاً من ذاتية الكبرياء التي عاشها في ذاته استكباراً على آدم، لأن الله خلقه من نار وخلق آدم من تراب، فاعتبر ناريّته تمثّل موقع القوة أمام ترابيّة آدم؛ لأن النار تفني التراب، ولم يلتفت إلى الخصائص التي يتميّز بها التراب، فيما يحمله من إيجابيات في بناء الحياة من أكثر من جهة، فأوقعه ذلك في التمرّد على الله وعصيانه لأمره، ما أسقطه من رحمته، وأخرجه من جنته، وأجرى عليه اللعنة إلى يوم الدين، فاقترب بذلك من موقع الكفر في سلوكه المتحرّك مع بني آدم لإبعادهم عن الإيمان بالله وعن طاعته وعن السير في الطريق إلى جنته.
ولعل من خصائص الاستكبار، إنكار الحق والوقوف ضدّه، من خلال تصوّر المستكبر أن خضوعه للرأي المغاير الذي يؤمن به الآخر من الحق، في عالم العقيدة والإيمان، وفي كل قضايا الحياة التي تتنوع فيها الآراء، سوف يضعف موقعه، ويقلّل من قيمته، ويوحي إلى الآخر بالتفوّق على المستوى الفكري، الأمر الذي يسقط كبرياءه. ولعل الكثير من الكافرين والمعاندين وقعوا في انحرافهم الفكري والإيماني من خلال حالة الكبرياء التي تمنعهم من الخضوع للحق وأهله، ومن التنازل عما يلتزمونه من الباطل.
وقد يتحرك الاستكبار ليتحوّل إلى حالة احتقار للناس الضعفاء والفقراء الذين لا يملكون عناصر القوة الجسدية أو الجمالية أو المالية، ما يؤدِّي بالمستكبر إلى اضطهادهم ومصادرة حقوقهم وإسقاط أوضاعهم. وقد يمتد ذلك إلى الأوضاع العامة في حياة الأمم والشعوب من المستضعفين الذين يواجههم المستكبرون في استكبارهم؛ في خنق حرياتهم، وإضعاف اقتصادهم، وإرباك سياساتهم، والسيطرة على أمنهم، يجعل هؤلاء المستكبرين يقتربون من الكفر في ذهنياتهم وأخلاقياتهم؛ لأنهم لا يراقبون الله في تعاليمه التي أرادت العزّة والكرامة للمستضعفين، ومنعت من الإساءة إليهم وحذّرت من ذلك، وتوعّدت من يقوم بذلك بالعذاب الشديد في الآخرة، لأن الظلم للضعفاء هو حركة في خط الكفر العملي في أوسع نطاقه.
وأما الحسد، فإنه يتطوّر في نفس الحاسد، ليتحول إلى شخص عدواني ضد المحسود، بحيث يتحرّك الحقد الأسود في نفسه كلما رأى امتداد الخير وتعاظُم النعمة فيمن يحسده، فيتطوّر الوضع النفسي عنده ليصل إلى درجة الاعتداء على حياته، بالتدمير الجسدي أو المعنوي لشخصيّته ليسقطه من أعين الناس، كما حدث لقابيل بن آدم الذي قرب قرباناً فلم يتقبّل منه، بينما قرب أخوه هابيل قرباناً فتقبل الله منه قربانه، فنشأت في نفس قابيل العقدة تجاه أخيه، فحسده على ذلك، من دون أن يكون لأخيه أيّ دخل في رفض قربانه، فهدّده بالقتل باعتباره تعبيراً عن الحقد العدواني في نفسه، ولم يراقب الله في ذلك، ما جعله يتحوّل إلى وحش مفترس، فقتل أخاه الذي كان مسالماً له، وعرّفه بأنه لن يبادر إلى قتله حتى في حالة الدفاع عن النفس، انطلاقاً من الذات الوديعة والروح الرضيّة المتسامحة المسالمة، من خلال الخلق الإيماني الذي يتميّز به في رفض العنف ضد أخيه.
وقد حكى القرآن الكريم هذه الحادثة: )وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآَخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ((8). وهكذا رأينا كيف تطوّر الحسد في نفس قابيل بالمستوى الذي عاش معه أخلاقية الكفر في عدوانيته، من خلال غفلته عن الله وعن الإيمان به.
وقد جاء التأكيد عن تأثير الحسد في غيبوبة الإيمان عن ذات الإنسان في أكثر من حديث، من ذلك ما جاء عن رسول اللهw: ((ألا إنه قد دبّ إليكم داء الأمم من قبلكم؛ وهو الحسد. ليس بحالق الشعر، ولكنه حالق الدين))(9). وعنهw: ((إياكم والحسد، فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب))(10). وعن الإمام محمد الباقرt: ((إن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب))(11). وعن الإمام جعفر الصادقt: ((يقول إبليس لجنوده: ألقوا بينهم الحسد والبغي، فإنهما يعدلان عند الله الشرك))(12). وعنهt: ((إياكم أن يحسد بعضكم بعضاً، فإن الكفر أصله الحسد))(13). وللحديث بقية إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
كنا نتحدث عن أصول الكفر وأركانه، أي عن الخطوط الأخلاقية المنحرفة التي ربما تؤدي إلى الكفر أو ما يقرب من الكفر بطريقة وبأخرى، وهذا فيما وردت فيه الأحاديث عن النبيw وعن الأئمة من أهل بيتهi. وقد ذكرنا فيما سبق، أن مسألة العقيدة، سواء كانت في خط الاستقامة أو في خط الانحراف، قد تنطلق من خلال الصفات النفسية للإنسان التي تترك تأثيرها سلباً أو إيجاباً على التزاماته الفكرية والعملية.
ونبدأ في هذا اللقاء، بحديث ورد عن الإمام جعفر الصادقt، قال: قال النبيw: ((أركان الكفر أربعة: الرغبة، والرهبة، والسخط، والغضب))(1)، أي أن هذه العناصر الأربعة إذا تحكمت بالإنسان، فإنها قد تقوده إلى الأخذ بأسباب الكفر.
أما مسألة الرغبة، فربما يراد بها الرغبة في الدنيا، بحيث يستغرق الإنسان في شهواتها ولذاتها وأطماعها، فينسيه ذلك ذكر ربه، فينحرف عن خط الإيمان، وعن التفكير في الآخرة من خلال حرصه على الدنيا واتباع الشهوات. لأنّ هذا النوع من الاستغراق في الدنيا، بكل حاجاتها وأطماعها، قد يدفع الإنسان إلى أن يطلب الدنيا من خلال الخطوط السلبية في الحياة، فيتبع الكفار أو يتبع الكفر، حتى يحصل في مقابل ذلك على الإغراءات التي يقدمها له الآخرون في هذا المجال، لأنه عندما تعني له الدنيا كل شيء في حياته، فيهون عنده أن يحصل عليها ولو على حساب إيمانه وعقيدته وعلاقته بربه.
أما الرهبة، فقد يكون المراد بها الخوف من فوات الدنيا واعتباراتها ومواقعها، بما يمنعه من متابعة الحق الذي قد يكلّفه الكثير من الجهد، لأن الحق قد يُتعب الإنسان، وقد يؤدي في بعض الحالات إلى خسارة مطامعه وشهواته، ورفض الأمور المحببة إلى نفسه أو المفروضة عليه ممن يملكون القدرة على تعزيز أوضاعه، كما هو شأن الناس الذين قد يرتبطون بالسلطات الكافرة أو السلطات الضالّة أو المنحرفة، ممّن يملكون المال ويملكون القوة أو المراكز الوظيفية وما إلى ذلك، بحيث يخاف، إذا التزم بالحق، أن يواجه بإبعاد هؤلاء له عما يحبه ويرضاه، فيدفعه هذا الخوف إلى الكفر أو إلى ما يقرب منه.
وهذا ما نراه في الكثيرين من الذين يتبعون الكافرين في كفرهم، ويرفضون السير مع المؤمنين في خط إيمانهم، ابتغاء العزة عند الكافرين، وخوفاً من فقدان ما يمنحونهم إياه، متناسين أن العزة لله جميعاً، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم: )بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا((2)، هؤلاء يتبعون الكافرين ويفضّلونهم على المؤمنين، فيساعدونهم ويحاربون في جيوشهم، حتى يحصلوا على المواقع المتقدمة التي قد يرون فيها مظهر العزة. ولكن الله يرد عليهم، ويقول لهم إن العزة لله جميعاً، فالله هو الذي يُعز من يشاء، ويُذل من يشاء، لأن الخير كله بيده، كما ورد في الآية الكريمة: )قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ((3).
وربما نستوحي ذلك أيضاً من قوله تعالى، وهو يتحدث عن المستضعفين: )إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ( لماذا كفرتم؟ لماذا تركتم خط الإيمان؟ )قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً(، أي كنا نعيش تحت رحمة المستكبرين، فاتَّبعنا المستكبرين الذين قادونا إلى خط الكفر في هذا المجال، )قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا(. كلا، لقد كانت لديكم فرصة، فإذا كان المستكبرون يضغطون عليكم بالطريقة التي تشلّ إرادتكم وتمنعكم من التفكير السليم، ومن الأخذ بالخط المستقيم، فلقد كان بإمكانكم أن تتخففوا من ضغوطهم، وذلك بأن تهاجروا إلى بلادٍ أخرى تملكون فيها الحرية؛ حرية الإرادة وحرية الموقف وحرية الإيمان )فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ((4)، باعتبار أنهم كانوا يملكون الفرصة لأن يتخففوا من ضغط المستكبرين. فهذه الآية تُركِّز على أن هؤلاء الناس كانوا قد كفروا واتبعوا المستكبرين، من ناحية الخوف ومن ناحية الرهبة التي قادتهم إلى الكفر.
وربما أريد من الرهبة في كلام النبيw، الخوف من القيام بالمسؤوليات الجهادية التي تُعرِّض المجاهد للموت، فتأخذهم الرهبة من التحرّك نحو الجهاد في خط المواجهة للكافرين والمستكبرين الذين يعتدون على المؤمنين والمسلمين، فتدفعهم الرهبة من الموت إلى أن يبتعدوا عن المسؤولية الجهادية. أو أنّ المراد بها الرهبة بمعنى الخوف من الفقر إذا سار في الخط المضادّ للأغنياء من المترفين، حيث إن المترفين كانوا يسيطرون ـ في ما قصّه الله علينا من سيرة الأنبياء ومواجهة المترفين من الناس للأنبياء ـ على مقدّرات الحياة، أو لأنهم يخافون من دعوات الأنبياء أن تضغط على امتيازاتهم وعلى أوضاعهم التي تمنحهم الزعامة على الفقراء الذين يشعرون بالحاجة إليهم. ولذلك فإن بعض الناس يتّبعون المترفين والأغنياء وأصحاب الثروة، خوفاً من فقدانهم بعض المساعدات التي يمنحونهم إياها، فيكفرون حيث يريد المترفون منهم أن يكفروا.
أما السخط، وهو العنصر الثالث من أركان الكفر، فقد يراد به السخط لقضاء الله وقدره؛ لأن الإنسان عندما يجري عليه قضاء الله وقدره، فإنّ عليه، إن كان مؤمناً، أن يعيش الرضى بقضاء الله، والرضى بقدره سبحانه وتعالى، لأن الإنسان المؤمن بالله، لابد من أن يتقبل كل ما يعيشه في الحياة مما يقضي به الله ويقدِّره؛ لأن الله لا يقضي إلا بالخير للإنسان، ولا يقدِّر إلا ما يريد له أن يحصل من خلاله على الخير، ولذلك فإنّ عدم الرضى به وانقباض النفس من أحكامه وممّا قسم الله له، يجعله يتمرّد على قضاء الله وقدره، ويرفض ما قسم الله له. وبذلك تكون علاقته بالله أشبه بعلاقة الكافر به والمنكر له؛ لأن علاقة المؤمن بالله، تفرض عليه أن يرضى بكل ما قسمه له وبكل ما قدره له.
وأما الغضب، فإنه يذهب بعقل الإنسان، ويحوّله إلى شخصٍ غير متوازن في التفكير والسلوك، بحيث يتصرّف تصرّف الشخص الذي لا يملك الخطّ المستقيم في ضوابط المسؤوليات الإيمانية في مواقفه تجاه الآخرين؛ لأن من لم يملك غضبه، لم يملك عقله؛ ويتصرّف عندئذٍ بوحي الغريزة التي ليست لها أية ضوابط في تقدير ما تقدّره للإنسان في حياته العامة والخاصة. وبذلك فقد يدفعه الغضب إلى الكفر. كما نجد بعض الناس الذين قد يقودهم الغضب إلى النطق بكلمة الكفر. وربما تجد بعض الناس يسبّ الدين، وقد يسبّ الله سبحانه، ويتفوّه بكلامٍ قد لا يكون قاصداً له، والغضب هو الذي يقوده إلى ذلك.
فهذه العناصر الأربعة (عنصر الرغبة، والرهبة، والسخط، والغضب)، تعتبر من خلال حديث النبيw من أركان الكفر؛ لأن الإنسان إذا لم يكن متوازناً في الرغبة، ومتوازناً في الرهبة، ومتوازناً في الرضى والسخط، ومتوازناً في الغضب، فقد ينحرف به ذلك عن الخط المستقيم، فيبتعد عن خط الإيمان ويقترب إلى خط الكفر.
وعن الإمام جعفر الصادقt قال: ((قال رسول اللهw: إن أول ما عُصي الله عز وجل به ست ـ وهي الأشياء التي إذا عاشت في نفس الإنسان، فإنها تقوده إلى عصيان الله سبحانه وتعالى، وهي عدة ألوان من الحب الذي يعيش في داخل الإنسان وفي كيانه، وهذه الأمور الستّة هي: ـ حب الدنيا، وحب الرئاسة، وحب الطعام، وحب النوم، وحب الراحة، وحب النساء))(5).
وعندما نريد أن ندرس هذه الألوان من الحب، نجد أنها تمثل الاستغراق في الجـانب المادي، الذي يحجب الإنسان عن الآخرة وما يجب عليه الاستعداد لها.
أما حبّ الرئاسة، فإنه يؤدّي به إلى أن يستخدم كل الوسائل غير الشرعية للوصول إلى الموقع الرئاسي. وهذا ما نلاحظه في كثير من الناس الذين يملكون طموحاً رئاسياً، في أي موقع من المواقع؛ سواء كانت من المواقع الرسمية السلطوية، أو من المواقع الاجتماعية أو غيرها، وربما من المواقع الدينية في بعض الحالات، فإذا ما تملّك حبّ الرئاسة الإنسان فإنه يستغرق فيه، حتى يكون مستعدّاً إلى أن يفعل أيّ شيء، وإلى أن يلتزم أيّ شيء، وإلى أن يسير مع أيّ جهة يُمكن أن تعطيه بعضاً من هذه الرئاسة، سواء كانت رئاسة صغيرة أو رئاسة كبيرة، حتى إنه قد يبيع دينه بدنيا غيره. ولذلك فإنه عندما يسيطر هذا الحب على الإنسان، يُفقِده خط التوازن في خط الاستقامـة وفي التفكير السليم، وفي التصرف السليـم، وبذلك يقتـرب ـ في بعض حالات هذا الحب ـ من الكفر أو مما يقرب منه.
وقد حدّثنا التاريخ عن كثير من هذه النماذج؛ حيثُ انقلب بعض هؤلاء على دينهم، وفعلوا الأفاعيل من أجل الحصول على منصبٍ أو موقعٍ رئاسيّ. وليس بعيداً عنّا ما ورد في السيرة الحسينيّة من أمر عمر بن سعد، الذي كان يمنّي نفسه بملك الريّ، فدفعه ذلك إلى أن يكون قائداً للجيش الذي جاء لحرب الحسينt.
وأما حب الطعام، فيقود الإنسان إلى تناول الأطعمة المحرّمة، لأنّه عندما يحب الطعام ويستغرق في حبه، فإن شهواته لهذا لنوع أو ذاك، يدفعه إلى أن ينفتح على الأطعمة المحرّمة وعلى الشراب المحرم. وهذا ما نلاحظه في بعض الناس الذين قد تسمع منهم أنهم يلتزمون بالإسلام، ولكنهم يأكلون الميتة ويأكلون لحم الخنزير وما إلى ذلك، باعتبار أن شهواتهم تضغط عليهم، فيخضعون لها، ويعصون الله سبحانه وتعالى فيما يأكلون، فيقودهم إلى تناول الأطعمة المحرمة المشتهاة والخضوع لمن يهيئ له أطايب الطعام في سبيل تقديم بعض التنازلات من التزاماته الشرعية مما يفرضه عليه الدين.
وأما حب النوم والاستغراق فيه، فإنّه يمنعه من الاستيقاظ للطاعة، كما هو شأن البعض الذين لا يُعدّ نفسه للاستيقاظ لصلاة الصبح، أو لبعض الطاعات التي تفرضها عليه أوامر الله، فيستسلم للنوم، ولا يقوم بالواجبات الشرعية في حركته في الحياة، مما يحتاج فيه إلى اليقظة في أكثر من وقت.
وأما حب الراحة، فيؤدي به إلى الامتناع عن بذل الجهد فيما تفرضه عليه مسؤولياته الدينية والتزاماته الشرعية، مما قد يوقعه في التعب. وهناك بعض الناس مَن إذا أردت منه أن يقوم ببعض المسؤوليات التي قد تكلفه جهداً، فإنه قد يمتنع، ويحاول أن يعتذر عن ذلك بأنّ جسده لا يساعده، وأنّه يحتاج إلى الراحة، وما إلى ذلك من أعذارٍ لا تعدو أن تكون ـ في غالب الأحيان ـ تبريراتٍ يستطيع الإنسان معها أن يجاهد نفسه، ويُقدم على العمل.
وأما حبّ النساء، فيقوده إلى سلوك طريق الشهوات المحرَّمة، كالزنا ونحوه، ويبتعد به عن حالة العفة الأخلاقية التي يحبها الله، فينسى ربه، وينحرف عن دينه.
فهذه الألوان من الحبّ، تربط الإنسان بغريزته العمياء التي تقوده إلى عصيان الله، عندما ينحرف به خط السير الغريزي الشهواني عن الخط المستقيم. ولذلك يجب على الإنسان في مسألة الحب أن يوازن حبّه، وأن لا يترك حبّ أي شيء من الأشياء يتملّكه، بل إن عليه أن يعقلن حبّه، وأن يُدخل مسؤولياته في عمق حبّه؛ ليكون حبّه حبّاً متوازناً لا يسيء إلى دينه، ولا يسيء إلى مسؤولياته، ولا يسيء إلى كل قضاياه في الحياة؛ لأن الحبّ يُعمي ويُصِمُّ، ولأن الحبّ عندما يتملك الإنسان، فقد يقوده بغير اختيار إلى الانحراف عن الخط المستقيم.
وننتقل من خلال هذا الحديث النبوي إلى حديث آخر، يشير إلى أبغض الأعمال إلى الله، وقد جاءت الرواية فيه عن الإمام جعفر الصادقt، كما يرويها صاحب (الكافي): قال: ((إن رجلاً من خثعم جاء إلى النبيw، فقال: أي الأعمال أبغض إلى الله عز وجل؟ فقال: الشرك بالله، )إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ((6)، )إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ((7)، لأن أساس الدين هو التوحيد، فإذا أخذ الإنسان بأسباب الشرك، فإنه يقطع كل العلاقات مع الله سبحانه وتعالى ويظلمه سبحانه في حقه. قال: ثم ماذا؟ قال: قطيعة الرحم، قال: ثم ماذا؟ قال: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف))(8)، أن تأمر بالسرقة وتأمر بالزنا وتأمر بالغيبة والنميمة وتأمر بالظلم وما إلى ذلك وتنهى عن الصلاة والصوم والزكاة وما إلى ذلك.
والملاحظ في هذا التسلسل في الأمور التي هي أبغض الأعمال إلى الله، أنها تمثّل التدرج من الجانب العقيدي إلى الجانب العملي في علاقة الإنسان بأرحامه، ثم إلى الجانب العام في حركة الإنسان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي فرضه الله على كل مسلم ومسلمة. وهذا يدلّنا على خطورة النظرة الإسلامية إلى مفاعيل هذه الأعمال السلبية ونتائجها السيئة على مستوى علاقتها بالموقف من وصايا الله وتعاليمه. فالشرك بالله يقف في القمة مما يبغضه الله سبحانه وتعالى من العمل الذهني والاعتقادي للإنسان الداخلي، لأنّه يجعل الإنسان يتمرّد على التوحيد الذي هو أساس الدين كلّه، في امتداد الرسالات الإلهية، ما يعني أن الالتزام به يمثل النهج الذي يدمّر الإنسان في تصوّراته الفكرية العقيدية والتزاماته العملية؛ لأن الشرك ليس مجرّد عقيدة تعيش في داخل الإنسان، ولكنه منهج يمتدّ إلى علاقته بكل هؤلاء الذين يعتبرهم شركاء لله، سواء كانوا من الأوثان الحجرية، أو من الأوثان البشرية في كل الأجواء وفي كل النتائج السلبية التي تتحرك بذلك، وتضيِّق له أفقه، وتغلق عنه عقله، فضلاً عن التخلّف الروحي الذي يربط الإنسان بالأوثان الحجرية أو الأوثان البشرية التي لا تملك أي سرٍ من أسرار الألوهية المطلقة والربوبية المقدسة.
أضف إلى ذلك، أن الشرك بالله لا يؤدي إلى الإضرار بالله؛ لأن الله هو الغني المطلق عن عباده في كل تصوراتهم وأعمالهم، (إذ لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرّه معصية من عصاه)، بل يؤدي إلى الإضرار بالإنسان، لتأثيره على حياته النفسية الداخلية؛ لأن الجانب الفكري والجانب العقيدي للإنسان، يتأثّران بهذا السلوك وهذه الذهنية؛ ذلك أن الشرك يقوده إلى منهج يشتمل على كثير من الأوضاع السيئة، على خلاف ما إذا كان الجانب الداخلي للإنسان إيجابياً، فإنه يقوده إلى منهج يؤدي إلى كثير من النتائج الحسنة في هذا المجال. ولذلك، أطلق الله سبحانه في القرآن الكريم الموقف بقوله: )إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء((9)؛ فإنّ الله قد يغفر لأيّ شخص في كل ما يعصيه وكل ما ينحرف به. ويبقى هناك انحرافٌ واحد، وهو انحراف الشرك، فهذا هو الذي لا يغفره الله، وإن كان يمكن أن يغفر من خلال رحمته ومن خلال حكمته لأي شخص بحسب ما يراه الله سبحانه وتعالى من ذلك.
أما قطيعة الرحم، فهي العنصر الثاني من أبغض الأعمال إلى الله، لأنها المعصية الكبيرة التي تخالف ما أراده الله للخلية الإنسانية الأولى من تواصل وترابط، وهي علاقة الإنسان بأقربائه؛ بأبيه وأمه، بأخوانه وأخواته، بأعمامه وأخواله، وما إلى ذلك من طبقات القرابة. إذ أراد الله لها أن يرتبط بعضها ببعض، كي تخلق خلية اجتماعية أولى تنفتح على العلاقات الحميمة التي يمكن أن تحقق الكثير من النتائج الطيبة في علاقة الإنسان بالإنسان، ويمكن أن تمثّل دورة تدريبية لعلاقات أخرى قد تتجاوز الرحم إلى غيرها من العلاقات الاجتماعية أو ما إلى ذلك، والتي تمتدّ في تجربتها الأولى إلى العلاقات الاجتماعية المتحرّكة في الواقع الإنساني العام. وقد ندَّد الله بقطيعة الرحم، وذلك قوله تعالى: )وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ((10).
أما تأثير قطيعة الرحم على الجانب الإيماني واقتراب قاطع الرحم من الكفر، فباعتبار أن هذا الإنسان يتنكّر لكل العلاقات التي توحي بضرورة التواصل مع رحمه، لتتحوّل المسألة عنده إلى تقاطع من خلال حالة نفسية حاقدة وحشية. فهذا الحقد النفسي الذي يختزنه قاطع الرحم، يدل على البعد عن الله سبحانه وتعالى فيما يوصي به من رعاية الجوانب العاطفية الإنسانية في علاقة الأرحام بعضها ببعض، لأنها تمثل الدورة التدريبية الأولى في التواصل الإنساني الذي ينتقل من خلية اجتماعية إلى خلية اجتماعية أخرى، فإذا انطلق الإنسان بالقطيعة هنا، فربما يكون هذا خطاً للقطيعة في الجوانب الأخرى، أي قطيعة مع المؤمنين، وقطيعة مع الناس الذين بينه وبينهم صداقة أو ما إلى ذلك.
أما الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، فيمثل العمل الذي يصدُّ به فاعله الناس عن سبيل الله، فيبغيها عوجاً، ويتحرك في خط الكفر في أمره بالمنكر الذي نهى الله عنه، وفي نهيه عن المعروف الذي أراد الله الأخذ به. فهو يقف ضد حركة الأنبياء؛ لأن الله أراد للأنبياء أن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر، ولأن الله سبحانه وتعالى اعتبر هذا خطاً للأمة كلها، فقال تعالى: )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ((11).
ولذلك، فإن الإنسان الذي يختار الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، هو الإنسان الذي يقف ضد حركة الأنبياء وحركة الرسالات. وهذا ما يتمثّل به الكفر في خط الدعوة إلى البعد عن الشريعة، وهذا ما نلاحظه في الكثيرين الذين يتنكّرون لتطبيق الشريعة الإسلامية، وينهون الناس عن تطبيقها، ويدعون إلى التمرد على الله سبحانه وتعالى، كما لو لم يكن لديهم أية علاقة بالإيمان؛ ما يجعل عملهم هذا من أصول الكفر وأركانه بشكل واضح جلي. وتبقى بقية الأمور إلى حديث آخر إن شاء الله.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
تحدثنا فيما سبق عن عنوان «أصول الكفر وأركانه»، الذي يوحي من خلال مضمونه الأخلاقي، كما ورد في حديث النبيw والأئمة من أهل البيتi، بأنها هي التي تُحدد للإنسان خطوط التزاماته الفكرية والعقائدية والسلوكية، لذلك لابد لنا من أن ندرس في كل إنسانٍ يتحرك، إيجاباً أو سلباً، جانبه العقيدي الانتمائي، وأن ندرس الخلفيات الأخلاقية فيما تنطبع عليه عناصر شخصيته. ولعلنا نستوحي ذلك كله من الحديث النبوي الشريف: ((إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق))(1)، والذي اعتبر أن الإسلام كله يمثل كياناً أخلاقياً تتحدد فيه حركة الإنسان، سواءً في حركة عقله أو في حركة عاطفته أو في حركة ممارساته في الحياة. وقد تحدثنا بعض الحديث عن هذه المفردات.
ومن هذه الأحاديث، ما ورد عن الإمام جعفر الصادقt قال: ((قال رسول اللهw: ثلاثٌ من كُنَّ فيه كان منافقاً، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم))، لأن الصلاة تمثل العبادة التي يدخل فيها الإنسان المدرسة الأخلاقية، التي توحي له كيف ينفتح وكيف يبتعد عن الفحشاء وعن المنكر، وبالتالي كيف يحقق التزامه كإنسانٍ يعيش إنسانيته في إنسانية الإنسان الآخر، فيكون الإنسان المنفتح على كل خيرٍ، والمبتعد عن كل شر. وإذا تحدثنا عن الصيام، فإنّ الله جعل الصوم وسيلة من وسائل تحصيل التقوى للإنسان، بحيث يعيش عند ممارسته الصوم، في حالة محاسبةٍ داخلية ترصد كل الانحرافات التي يمكن أن تدعوه نفسه الأمارة بالسوء إليها، فتأتي روحية الصوم لتمنعه من ذلك.
وهكذا ينطلق في انتمائه إلى الإسلام، ليكون الإنسان الذي يعيش مع الناس، ليسلم الناس من يده ولسانه، وليأتمنوه على حياتهم، وليهجر السيئات. فالإسلام ليس مجرد كلمتين أو مجرد حالة ثقافية فكرية، بل هو كيانٌ يحرك الإنسان في كل جوانب حياته، ليكون الإنسان منطلقاً فيما يريده الله له من الجانب العملي.
وأولى العلامات التي تدلّ على النّفاق: (مَنْ إذا أئتمن خان). وإذا كان المعروف في الأمانة أنها أمانة المال، عندما يكون المطلوب حفظها وصيانتها للآخرين ممّن يودعونها عندنا، فإننا نستوحي من خلال التراث الإسلامي، أن الأمانة تمثل كل المسؤولية التي يتحملها الإنسان في انتمائه الإسلامي الأخلاقي، فيكون أميناً على نفسه، فلا يظلم نفسه، ويكون أميناً على التزامه بربه بربوبية الله، فلا يعصي الله سبحانه وتعالى ولا يُشرك به شيئاً، ويكون أميناً على رسول الله، فلا ينحرف عن سنّته وعن رسالته، ويكون أميناً على الناس في كل المسؤوليات التي يتحملها، وقد ورد في تفسير قوله تعالى: )إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا((2)، أنّ الأمانة هي المسؤولية، وكأنَّ الله ـ على طريقة الكناية ـ قال لهذه الظواهر الضخمة في الكون، وهي السماوات والأرض والجبال، هل تتحملين مسؤولية إدارة النظام الذي فرضته على وجودكِ؟ فقالت: يا رب، تكفَّل أنت بتحريكِ النظام في كل ما تريده لوجودنا من أن يترك تأثيره في النظام الكوني، لأننا لا نستطيع أن نتحمل مسؤولية كبرى ربما ننحرف عنها، فننال غضبك وسخطك، أما الإنسان، فقد استعدَّ لحمل الأمانة، ولكنه ظلم نفسه وجهل قيمتها، )إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا(، لا على نحو الشمول، وإنما على نحو الظاهرة.
((وإذا حدَّث كذب)) وهو الذي يخرج عن الخطِّ المستقيم بأن يكذب في حديثه، باعتبار أنه يشوِّه صورة الحقيقة وصورة الواقع، ويوقع الناس في الانحرافات التي تنشأ من ذلك.
((وإذا وعد أخلف))، فهو يعد الناس، إما بأن يلتقي بهم لتسوية بعض الأمور بينه وبينهم، أو بأن يعطيهم شيئاً، أو بأن يقضي لهم حاجة وما إلى ذلك، فيخلف في وعده. ثم يقول الإمام t وهو يريد أن يؤكد أنّ هذه المفاهيم يُبغضها الله ويُبغض من التزم بها. يقولt: ((إن الله عز وجل قال في كتابه: )إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ((3)، وقال: )أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ((4))).
وقال: )وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا((5). فأما الخيانة، فقد وردت في نصوصٍ أخرى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ((6). وخيانة الله والرسول تتمثل بترك السير على المنهج الذي وضعه الله وبلَّغه الرسول في سلوك الإنسان في الحياة، وخيانة أمانات الناس، سواء في المسؤوليات الصغيرة أو الكبيرة التي يؤتمن عليها الإنسان في علاقاته الخاصة والعامة بالناس.
وقد ورد عن رسول اللهw: ((ليس منا من خان الأمانة))(7)، فالإنسان الخائن للأمانة يخرجه النبيw من دائرة المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية. وفي حديث آخر عن رسول اللهw: ((ليس منا من خان مسلماً في أهله وماله))(8). ويقول: الإمام عليt: ((جانبوا الخيانة))، أي اجتنبوها وابتعدوا عنها ((فإنها مجانبة الإسلام))(9)، فالإسلام في جانب والخيانة في جانب آخر.
ويقول (سلام الله عليه): ((رأس النفاق الخيانة))(10)، لأن الإنسان الذي يخون كل مسؤولياته مع الله ومع الرسول ومع الناس، هو إنسان منفتح على الكفر، لأنه ينطلق من خلال عدم الالتزام بالخط الإيماني التوحيدي الذي يفرض على الإنسان أن يوحّد الله في الربوبية والعبادة والطاعة. وقد ورد أيضاً عن الإمام علي (عليه السلام): ((شر الناس من لا يعتقد الأمانة، ولا يجتنب الخيانة))(11).
أما بالنسبة إلى الكذب، فقد ورد في أكثر من حديث، أنه لا يجتمع مع الإيمان، لأن الإنسان المؤمن يرتبط بالحقيقة وينفتح على الحق ويلتزمه، بينما الكاذب هو الذي يبتعد عن الحقيقة ولا يلتزمها في حياته.
وبالنسبة إلى قضية صدق الوعد، فإنه يقال إن الإخلاف بالوعد على قسمين، تارةً تعد إنساناً بشيء، ولكن الظروف تمنعك من أن تفي له بذلك، مع أنك تحاول بكل الوسائل أن تفي له، وتارةً يكون الإخلاف بالوعد بالتهرب منه، فهو لا يضغط عليك في شيء، ولكنك تعده لتتهرّب منه، وتنوي في نفسك أن لا تفي له بذلك. وقد ورد في تفسير هذه الحالة المنحرفة، عن رسول اللهw: ((ليس الخُلف أن يعد الرجل ومن نيته أن يفي، ولكن الخُلف أن يعد الرجل ومن نيته أن لا يفي)).
ويقول الإمامt وهو ينصح الإنسان في قضية الوعد: ((لا تعِدنَّ عِدةً لا تثق من نفسك بإنجازها))(12). تارةً أنت تعرف أنك قادر على أن تُنجز هذا الشيء، فلا بأس في أن تعد في هذا المقام، ولكن إذا عرفت أنك لا تستطيع أن تنجز هذا الشيء، فعليك أن تمتنع عن هذا الوعد حتى لا تكون كاذباً في وعدك. وفي حديث آخر عن داود الصائغ في هذا: قلت لأبي عبد الله جعفر الصادقt، ((رجلٌ على هذا الأمر))، أي الاعتقاد بالإمامة والتشيع، ((إن حدّث كذب، وإن وعد أخلف، وإن اؤتمن خان، ما منـزلته؟ قال: هي أدنى المنازل من الكفر وليس بكافر))، هو ليس بكافر، لأنّ عقيدته على الإيمان، ولكن عمله هذا يعتبر أقرب شيء إلى الكفر، لأنّ هذه الخصال بعيدة عن أخلاقية الإنسان المسلم، وقريبة من أخلاقية الشخص الكافر، لأنّ للكفر خطاً معيناً في سلوك الإنسان، كما أنّ للإيمان خطاً معيناً في سلوكه، فما يريده الإيمان من الإنسان، هو أن يطيع الله سبحانه وتعالى بما أمره به من حفظ الأمانة ومن الصدق ومن الوفاء بالوعد أو بالعهد، وأما الكفر، فيقول له إنّك لست مسؤولاً، لأنّ الكفر ـ بطبيعته ـ لا يفرض عليه أية قيود أخلاقية، ما يؤدي إلى النتائج السلبية في حياة الإنسان، كما يحمل الدلالة على أن الكاذب بعيد عن الإيمان، لأن الإيمان يربط الإنسان بالحقيقة، بينما يمثل الكذب إنكاره، ولذلك ورد: ((لا يكذب الكاذب وهو مؤمن))، لأنّ الإنسان الذي يكون في حالة الكذب، إنّما يعطي للواقع صورة سلبية عن حقيقته، ما يجعله يفقد الإيمان، لأنه يفقد معناه ويفقد سره ويفقد التزامه بين يدي الله سبحانه تعالى.
أما الإخلال بالوعد، فإنه يمثل في مضمونه الكذب على الموعود من جهة، لأنه يعده وينوي أن لا يفي له بوعده، فيؤثر ذلك على أوضاعه الخاصة والعامة التي قد تصيبها الخسارة في العمل والضياع في الوقت، لأن الشخص الذي تعده بأن تأتي إليه في وقت معين، فينتظرك، وربما يعطِّل بعض أعماله الضرورية لأجل ذلك، فإنّ إخلافك بالوعد معه قد يعطل كثيراً من مصالحه ومن أعماله، بينما يمثل الصدق في الوعد حالة الاحترام للإنسان الموعود في رعاية قضاياه المرتبطة بالوعد في التزاماته الخاصة.
وفي ضوء ذلك، يقترب الإنسان الذي يأخذ بخط الخيانة والكذب من خط الكفر العملي، كما ورد في حديث رسول اللهw والإمام الصادقt، لأن الكفر قد يكون كفراً في العقيدة، وقد يكون كفراً في العمل، لأنهما معاً يمثلان الانحراف عن الخط المستقيم في الالتزام بخط الإيمان بالله سبحانه وتعالى وإطاعته فيما يأمر به وفيما ينهى عنه.
وعن السكوني عن أبي عبد اللهt، قال: قال رسول اللهw، قال: ((من علامات الشقاء، جمود العين))، أن لا تدمع العين أمام أية حالة عاطفية روحية للإنسان، وأن لا يبكي الإنسان من خشية الله، أو خوفاً من ذنوبه، أو على المآسي التي تُصيب الناس من خلال الظالمين والمستكبرين وما إلى ذلك. ((وقسوة القلب))، أن لا ينبض قلبك بالرحمة ولا بالخير للإنسان كله، بل يكون قلبك قاسياً لا تثيره أية حالة من حالات الوحشية التي يمارسها الإنسان ضد الإنسان المستضعف الآخر. ((وشدة الحرص في طلب الدنيا))، بحيث يستغرق الإنسان في الدنيا ويحرص عليها كما لو أنه لا يرى غيرها، ولا ينفتح على المبادئ التي تفرض عليه أن يميز في علاقته في الدنيا بين ما يجلب له الخير وما يجلب له الشر.
((والإصرار على الذنب))، فلا يستغفر الله سبحانه من ذنوبه، ولا يعيش حالة الندم على ما قدّم لنفسه من أعمال قد تؤدّي به إلى سوء العذاب وبئس المصير. وقد ورد أن الإصرار على الصغيرة من الكبائر.
إننا نستوحي من هذا الحديث، أنّ هذا الإنسان لا يعيش إيمانه في إحساسه بعبوديته لله والخوف من عقابه، والبعد عن محبته، وحيث لا تسيل دموعه عند وقوفه أمام ربه، والله سبحانه وتعالى لا يعذب عيناً بكت من خشيته، لأن العين عندما تدمع من خشية الله، فإنها تغسل للإنسان قلبه، وتطهر له شعوره، وتنفتح به على ربه، بحيث يعيشُ مع الخوف في كنف ربّه، ويعيش المحبة له مع هذه العلاقة الحميمة التي تمثلها عاطفته الطاهرة فيما تنطلق به دموعه الحارة من خشية الله ومن محبته سبحانه وتعالى.
أما قسوة القلب، فإنها تمثل انغلاقه عن كل معاني الرحمة الإنسانية التي تتصل بكل أعمال الخير للناس المحرومين، كما أنها تجعله لا ينفتح على الخشوع لله، والخضوع الروحي الداخلي لربوبيته، والإحساس بالحاجة إلى التضرع إليه، ما يجعله أقرب ما يكون إلى الكفر الروحي والانحراف الشعوري. وهذا هو الذي نلاحظه الآن في كثير من الحالات الوحشية التي يمارسها الكثير من الناس الذين يقومون بقتل الأطفال وقتل النساء وقتل الشيوخ وقتل المدنيين الذين ليس لديهم أي ذنب، حيث يقوم هؤلاء الوحوش بافتراس الإنسان بكل وحشيةٍ، من دون أن تطرف لهم عين أو يخفق لهم قلب، وليس ذلك إلا من جهة قسوة القلب التي جعلتهم يتحجَّرون ويبتعدون عن حالة الإنسانية ليكونوا مجرد أحجار تتحرك، لا إنساناً ينفعل وينفتح وينبض برحمة للإنسان الآخر.
أما شدة الحرص في طلب الدنيا، فهو الاستغراق الذي يجعل الإنسان يطلب الدنيا بأية وسيلة، من دون أن يدرس شرعية الوسائل التي يستخدمها للحصول على الدنيا، وقد ورد في بعض الأحاديث عن الإمام الباقرt، قوله: ((مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز، كلما ازدادت على نفسها لفاً، كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غماً))(13)، بحيث يخنقها آخر الأمر فتموت.
وكذلك الإنسان الذي يستغرق في طلب الدنيا، بحيث إنه لا يبقى له عقل يفكر فيه، ولا يبقى له روح تنفتح عليه، ولا يبقى له أي شعور إنساني، فإنَّ هذا الإنسان تلتفُّ عليه الدنيا حتى تهلكه غماً، لأنه لا يستطيع أن يحصل على أي شيء يمكن أن يفتح عقله وروحه وحياته على معاني الخير. ويقول الصادقt: ((ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذله))(14)، لأن الإنسان الذي يحرص على الدنيا حرصاً يستغرق فيه كل حياته، فإنه سوف يذل نفسه لدى الآخرين من أجل الحصول على الدنيا فيما يطمع به مما يمكن أن يحصل عليه منهم.
كما أن شدة الحرص في طلب الدنيا تؤدي إلى الإخلاد إلى الأرض، وهو الذي تحدث الله سبحانه وتعالى فيه عن بعض الناس، فقال تعالى: )وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ(، بحيث إنه ارتبط بالأرض حتى صار جزءاً منها، حتى تحجَّر فيما تتحجر به الأرض )وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ((15)، بالمعنى المادي، والبعد عن الأعمال التي تقرِّب إلى الله، وتنفتح على النجاة في الدار الآخرة، لأنه لا يرتفع بفكره إلى المعاني الروحية، وإلى الدرجات العالية التي يمكن أن يبلغها عندما يأخذ بالقيم الروحية والأخلاقية، لأن هذا الحرص قد يدفعه إلى السير في طريق المعاصي وارتكاب الحرام وترك الواجبات والتخلِّي عن مسؤولياته العامة والخاصة في هذا المجال.
أما الإصرار على الذنب، فإنه يدل على التمرد المستمر على الله سبحانه وتعالى، لأن الإنسان الذي يذنب ثم يتوب، فإنه بذلك يحافظ له على علاقة مع الله، ولكن الإنسان الذي يُذنب ثم يُذنب ثم يُذنب ويصر على الذنوب، فهو يعرف أن الله سبحانه تعالى، يبغضه ويسخط عليه، وهذا يدل على التمرد المستمر على الله، فلا يخاف محرماً في أقواله وأفعاله ومواقفه. كما أن الشخص الذي يُصر على ذنوبه ولا يهمه أرضي الله عنه أم سخط عليه، فهو على طريقة الكفر في الجانب العملي من سلوكه، وإن لم يكن كافراً عقيدياً، كما ورد في حديث الإمام الصادقt.
وفي الحديث عن أبي جعفر محمد الباقرt، قال: ((خطب رسول اللهw في الناس فقال: ألا أخبركم بشراركم؟))، لأن المجتمع فيه شرار وفيه خيّرون، ((قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الذي يمنع رفده))، أي يمنع عطاءه، حيث رزقه الله سبحانه وتعالى مالاً يحتاج الناس إليه، وكلّفه أن ينفق من ماله على السائل والمحروم، ولكنه يحتفظ بالمال لنفسه ويبخل به على الآخرين، ((ويضرب عبده))، حيث كان هناك عبيد وإماء، وكان هناك أناس يملكون الناس مما لم يعد قائماً في عالمنا اليوم، لأن الإسلام في طريقته العملية التنظيمية، استطاع أن يحارب العبودية، ويدفع بالوسائل التي تحرِّر الناس، حتى لم يبق في العالم الإسلامي أيُ عبدٍ وأيُ أمةٍ من دون القيام بثورة لتحرير العبيد. وعلى كل حال، عندما نقرأ (ويضرب عبده)، نستوحي من كلمة العبد أن المراد بها كل إنسان يخضع، بحسب موقعه، لهذا الشخص، كما هو شأن العمال في المصانع أو في الوظائف ممن يخضعون للشخص المسؤول عن العمل أو المصنع أو المزرعة، ذلك الشخص الذي قد يضغط عليهم مستغلاً حاجتهم إليه، وقد يضربهم بدون حق، وقد يطردهم من دون حق وما إلى ذلك.
((ويتزوّد وحده))، فلا يحب أن يأكل إلا لوحده، لأنه لا يريد لأحد أن يشاركه طعامه. وربما يعيش حالة نفسية، بحيث إنه يبتعد عن الناس حتى لا ينظروا إليه وهو يأكل، لئلا يطلبوا منه أن يشاركوه في طعامه. ((فظنّوا أن الله لم يخلق خلقاً هو شرٌ من هذا))، ولكن النبيw يقول بعد ذلك: ((ألا أخبركم بمن هو شرٌ من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الذي لا يُرجى خيره، ولا يؤمن شرُّه))، أي الإنسان الذي لا يعيش القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية، فذلك عندما يعيش في المجتمع، فإنه لا يفكر في الخير لأي إنسان، سواء كان قريباً أو بعيداً، ولكنه في الوقت نفسه لا يؤمن شره على الناس، لأنه يملك طبعاً عقربياً يؤذي الناس كما تلسع العقرب، لأن طبيعته هي طبيعة شريرة وسيئة. ((فظنوا أن الله لم يخلق خلقاً هو شر من هذا)).
((ثم قال: ألا أخبركم بمن هو شرٌ من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: المتفحش اللعَّان))، هذا الذي يتكلم بكلمات الفحش ضد الناس الآخرين، سواء مع زوجته أو مع أولاده أو مع جيرانه أو مع عماله أو مع كل الناس الذين يعيشون معه، بحيث لا تصدر منه أية كلمة مهذبة في هذا المجال، بل يستخدم الكلمات الفاحشة التي قد تخدش للإنسان حياءه، وقد تُسقط له كرامته، ((الذي إذا ذُكر عنده المؤمنون لعنهم، وإذا ذكروه لعنوه))(16)، لأنهم يعرفون أنه رجل لا يتمتَّع بأية أخلاق، ولا يتمتع بأية سمة إنسانية في حياته.
ونلاحظ في هذه النماذج، أنها تقترب من أخلاق الكفر في أصله السلوكي، وتبتعد عن أخلاق الإسلام في قاعدته الإنسانية، فقد أراد الإسلام للمؤمن المسلم أن يساعد ذوي الحاجة إليه في عطائه، من خلال التبرع أو الحق الشرعي المفروض، ولذلك تحدث الإسلام عن الزكاة إلى جانب الصلاة، وتحدث عن الذين ينفقون ممّا رزقهم الله سبحانه وتعالى: )وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ((18)، إذ إن الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان وكيلاً على المال الذي رزقه إياه، وأراد منه أن ينفقه باعتبار كونه وكيلاً يجب عليه أن يدفع من خلال موكله لمن أراد موكّله، وهو الله، أن يدفع لهم.
وقوله تعالى: )وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آَتَاكُمْ((19)، لأن المال ليس مال الإنسان، وإنما هو مال الله الذي آتاه للإنسان، وأراد منه أن ينفق من هذا المال بعد أن يسدّ حاجاته. فالإنسان الذي يمتنع عن العطاء، والذي يلتزم البخل فلا ينفق ممّا رزقه الله، هو إنسان لا يعيش روحية الإيمان وروحية الإسلام، وكما أراد الله له أن يبتعد عن ظلم العبد الخاضع لسلطته الذي لا يملك الدفاع عن نفسه، كما عبّر تعالى: )عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ((20)، وهي مسألة قد زالت في زماننا هذا، أراد له أيضاً أن يبتعد أيضاً عن كل من كان تحت سلطته ومسؤوليته من العمال والموظفين الضعفاء الذين يرزحون تحت تأثير الحاجة إليه، بحيث يسيء إليهم جسدياً أو معنوياً من خلال نفسيّته المعقّدة. أما الذي لا يشارك الآخرين في طعامهم، فإنه يتميز بالشح والبخل الذي ذم الله صاحبه.
وننتقل من ذلك إلى نماذج أخرى مما ذكره النبيw، فمنهم الذي لا يُرجى خيره، لأنه لا يؤمن بفعل الخير، لأن الخير ليس صفة أو قيمة يلتزمها في أخلاقيته في الحياة، وليس ممّن ينفتح في سلوكه العملي على الآخرين، ولا يؤمن شره، لأنه يعيش الشر في أخلاقه، ما يجعل الآخرين يخشون منه لما يخطط لهم من أضرار ووقيعة بهم. وهذا ما نشاهده في المآسي التي تتحرك مع اليهود في فلسطين ضد الفلسطينيين، ومع المسلمين في العراق، من الوحوش المفترسة التي لا يُرجى منها الخير ولا يؤمن منها الشر. وهناك النموذج الذي لا يتحفظ من إطلاق كلمات الفحش ضد الآخرين ويمارس اللعنة تجاههم في حديثه معهم، لأنه لا يحترم الناس من حوله، بل يعمل على احتقارهم، الأمر الذي يؤدي إلى أن يلعنه الناس من المؤمنين كردِ فعلٍ لقيامه بتوجيه اللعن لهم.
وفي الحديث عن أبي عبد اللهtقال، ((قال رسول اللهw لهم: ألا أُخبركم بأبعدكم مني شبهاً؟))، إذ إن الله سبحانه وتعالى أراد من المسلمين أن يشبهوا رسول الله، بأن يقتدوا به ويتأسوا بأخلاقه وبكل حياته الروحية والسلوكية، )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا((21)، ((قالوا بلى يا رسول الله، قال: الفاحش المتفحِّش البذيء)) بذيء اللسان الذي يتحرك لسانه دائماً بما يُستحى منه ويُخجل منه، ((البخيل)) الذي يبخل بما آتاه الله من فضله، ((المختال)) الذي يعيش الخُيلاء والكبرياء، ((الحقود)) الذي يحمل الحقد في نفسه، ((الحسود)) الذي يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ((القاسي القلب البعيد من كل خير يرجى))، فلا يفكر في الخير لأحد، ((غير المأمون من كل شرٍ يُتقى))(22)، فلا يؤمن شره من أحد.
وقد اعتبر رسول الله هذا النموذج بأنه الأبعد منه شبهاً، بمعنى أنّه أبعد الناس عن الإسلام، لأن رسول الله يمثل في سيرته الإسلام في أعلى مظاهره، وفي أقرب مواقعه، فكان النبيw ينهى عن الفحش والبذاءة، ويدعو إلى التهذيب والكلام الطيب، ويحب الكريم، ويبغض المتكبر المعجب بنفسه، لأنه يريد للإنسان أن يكون متواضعاً في أخلاقيته، في علاقته بالناس كلهم، وكان يدعو إلى المحبة بدلاً من الحقد، لأن المؤمن لا يحقد على الآخرين، بل ينبض قلبه بالمحبة لهم، وإلى الغبطة في مقابل الحسد، فهو لا يتمنى زوال نعمة الله عن شخص، بل يطلب من الله أن يعطيه مثل ما أعطاه، لأن الله سبحانه وتعالى واسعٌ كريم، وكانw يدعو إلى رقة القلب ضد قسوته، وإلى الأخذ بأسباب الخير للناس وللحياة، والبعد عن الشر للناس كافة.
وقد كان النبيw هو التجسيد للإسلام، وقد ورد أنه كان قرآناً يتحرك، إذ كان الناس يسمعون من النبيw آيات الله في القرآن، ويتطلعون إليه فيرون القرآن ممثلاً في كل سلوكه وفي كل أقواله وأفعاله. وقد سُئلت إحدى زوجاته عن أخلاق رسول الله كيف هي؟ قالت: ((كان خُلُقُه القرآن))، بحيث إذا رأيت أخلاق رسول اللهw، فكأنك تنظر إلى القرآن مجسداً في أخلاقه، وفي كل ما قاله القرآن، وفي كل ما خطط له. فقضية أنه أبعد الناس عن رسول الله، أي أبعد الناس عن الإسلام.
وهذه المفاهيم تتحرك في النظام الأخلاقي للإسلام كأصول ومبادئ، بينما تكون مضاداتها في دائرة أخلاق الكفر. ويبقى للمسألة أحاديث أخرى تمثل أصول الكفر وأركانه. والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
تحدّثنا فيما سبق عن النظام الأخلاقي في الإسلام الذي قد يمثّل الانحراف عنه انفتاحاً سلبياً للإنسان على خطوط الكفر، باعتبار أنّ مسألة العقيدة، كفراً كانت أو إيماناً، تنطلق من البناء الداخلي للإنسان، لأنه يترك تأثيره على جانب الجدية في مسألة المسؤولية الفكرية التي تتصل بالعقيدة، ولاسيما إذا كانت العقيدة ترتبط بقضايا المصير. وفي ضوء ذلك، جاءت الأحاديث عن رسول اللهw وعن أئمة أهل البيتi في ما يتّصل بالسلوك الاجتماعي للإنسان في الأمور التي قد تؤدي إلى نتائج مضرّة بالناس مما يقوم به الإنسان في بعض أوضاعه.
ففي الحديث عن الإمام جعفر الصادقt، قال: ((قال رسول اللهw: ثلاثٌ ملعونات، ملعونٌ من فعلهن))، واللعن، في المفهوم الإسلامي، يمثّل البُعد عن الله، ((المتغوط في ظلِ النُزّال))، ونحن نعرف أنّ من الواجبات في التشريع الإسلامي حفظ النظام العام. ومن حفظ النظام النظافة العامة، فلا يجوز للإنسان أن يساهم بقذارة الأماكن العامة، مثل أماكن استطراق الناس، أو أماكن استظلالهم أو أماكن استراحتهم في الطرقات، بأن يضع فيها قذارته مما يمنع الناس من استخدامها لحاجاتهم في الاستظلال أو في الاسترواح وما إلى ذلك، فضلاً عمّا ينجم عن ذلك من آثارٍ صحية قد يثيرها الغائط، كانتشار الميكروبات التي قد تؤدّي إلى الأمراض بطريقة أو بأخرى، وما تنتجه من روائح نتنة تُسيء إلى تنفس المواطنين.
((والمانع الماء المنتاب)) الشخص الثاني الملعون، هو الذي يمنع الناس من الاستفادة من الماء، من قبيل المنع عن الينابيع التي يحتاجها الناس للاستسقاء، سواء للاستقاء من أجل الشرب، أو الاستقاء كما هو متعارف للزراعة، أو لغير ذلك من حاجات الناس إليها.. وكذلك بالنسبة إلى الأنهار الصغيرة وما إلى ذلك، إذ نجد أن بعض الناس يمنعون الاستقاء من الأنهار الصغيرة، لأنهم يريدون أن يستغلّوها في زراعتهم أو لحاجاتهم، وربما نجد بعض (الشركات) تحتكر ماء الشرب وتتاجر به، وربما يمنعون الناس عن حاجاتهم الاستهلاكية.
هذا كله يخالف النظام العام، لأن الله جعل الناس شركاء في المياه التي فجّرها ينابيع في الأرض، أو جعلها أنهاراً تجري هنا وهناك. ويمكن أن نستوحي من ذلك أيضاً، وإن لم يكن اللفظ شاملاً له، أنّ ذلك يشمل ما يوضع في البحار من الأشياء التي تمنع الاستفادة من البحر، والتي يمكن أن تقتل الثروة السمكية، مثل بعض السفن التي تُطلق النفط بطريقة أو بأخرى، أو تُثير بعض السموم أو ما أشبه ذلك، فإن هذا كله مخالفٌ للنظام العام، لأن النظام العام يعتبر أن المياه التي خلقها الله في الأرض، والتي أنزلها بواسطة المطر، هي من الثروات العامة للناس كافة، فلا يجوز لإنسان أن يستغلها بمعزل عن الآخرين، وقد ورد في الحديث: ((الناس شركاء في ثلاث)) وذكر منها الماء.
والملعون الثالث هو ((والسادّ الطريق المعربة))(1)، وهو الإنسان الذي يسد الطريق الواضحة المفتوحة، لأن الطريق المفتوحة هي الطريق التي تمثل حاجة الناس للاستطراق، فلا يجوز لإنسان ـ مهما كان ـ أن يعطل الطريق أو يسدّها أو يمنع الناس من الاستطراق فيها، كما هو حال بعض الناس الذين يعملون على إحراق الدواليب، إما في مظاهرة أو ما أشبه ذلك، حتى يمنعوا الناس من المرور عليها، مع ما يثيره ذلك من دخان يؤثر على صحة الناس، ولما ينتج عنه من تلوّث للبيئة. ولذلك كنا قد أصدرنا منذ زمن بعيد في لبنان فتوى بتحريم ذلك.
نعم، في بعض الحالات التي قد تمسّ مسألة أمن الناس، وذلك عندما تكون هناك بعض الخطط الأمنية التي يحتاجها الناس في حفظ أمنهم، وفي مواجهة الذين يخنقون أوضاعهم، فقد تُسدُّ الطرق، وقد يمنع الناس من السير فيها، إلى حدّ يكون أشبه بمنع التجول، ولكن هذه تجوز في حال وجود ضرورات أمنية من أجل حفظ حياة الناس وحفظ أمنهم وحفظ أوضاعهم بشكلٍ محدودٍ جداً.
أو قد يُحتاج أحياناً إلى سدّ الطريق لبعض الوقت في العبادات العامّة، كصلاة الجمعة مثلاً، فإنّ ذلك يعدّ استثناءً من ذلك، ولاسيّما أنّه يتّصل بالشأن العام، ولا يعود إلى منفعة شخصيّة.
أو قد تكون هناك عناوين ثانويّة تحكم الواقع، كما لو كانت هناك ثورةٌ على الواقع الجائر، ويتطلّب الأمر إغلاق بعض الطُرق، كجزء من عمليّة تحقيق التغيير؛ ولكنّ هذا أيضاً يخضع للعنوان الثانويّ الذي لا بدّ من دراسته بدقّة في هذا المجال.
وكما أن إغلاق الطريق يوجب اللعن، فإن إصلاح الطريق يوجب للإنسان القرب من الله؛ فقد روي ((أن عيسىt مرّ بقبرٍ وهو يعذّب، ثمّ مرّ به في عامٍ فوجده لا يُعذّب، فقال الحواريّون: يا روح الله، مررنا بهذا القبر عام أوّل وهو يعذّب، ومررنا به الآن وهو لا يعذّب! فقالt: إنّه كان له ولد صغير فبلغ العام، فأصلح طريقاً، وآوى يتيماً، فغفر الله لأبيه بما كان منه))(2).
فهذه الأمور تمثل مواقع يحتاجها الناس، والإساءة في ذلك يؤدّي إلى أن ينطبق عليها عنوان السلوك الملعون. وهذا ما يرفضه الخط الإسلامي الأخلاقي الذي يؤكد أهمية حفظ النظام العام في ضرورات الناس، وفي قضاياهم الحيوية وأوضاعهم الضرورية.
ويدخل في حفظ النظام العام الكثير من القضايا النظامية، مثل قوانين السير التي يجب الالتزام بها، وإن كان البعض يصرّ على التهاون فيها، بحجّة أنّ اتّباع قوانينها غير واجب. والعلماء يفتون بحرمة ذلك، باعتباره يُسيء إلى النظام العام الذي يحفظ للناس حياتهم وأموالهم وأمورهم كلّها.
وكل شؤون النظام العام، سواء النظام الاقتصادي الذي يمثل توازن الحياة المالية للناس، في غير ما يشرّع لإضرار الناس، أو بالنسبة إلى النظام الاجتماعي أو النظام المالي أو ما أشبه ذلك، فإنه يجب الالتزام به. وكل ما يضر بالنظام العام، فهو حرام، كما لو كان يسيء إلى البيئة، كما في مخالفات بعض الصيادين، حيث نجد بعضهم يصطادون في أوقات تناسل الطيور وتوالدها مثلاً، أو يصطادون بعض الحيوانات التي تهدّد كثرة الاصطياد وجودها؛ فإن هذه المخالفات قد تكون محرَّمة، باعتبار أنها فعل مخالف للنظام العام، وما إلى ذلك من الأمور. وهذا مما ورد فيه الحديث عن رسول اللهw في بعض هذه النماذج التي ذكرناها، باعتبار كونها مخالفة للنظام العام.
ولذلك نستفيد ممّا تقدّم، أنّ كل ما يخالف النظام العام الذي أُريد له أن يحفظ حياة الناس ويحفظ كل أوضاعهم وكل أمورهم، لابد للناس من الالتزام به، ولا يجوز لهم مخالفته.
في حديثٍ آخر عن الإمام محمد الباقرt قال، قال رسول اللهw: ((خمسة لعنتُهم وكل نبيٍ يُجاب))، أي ممن لا بد من أن يجيبه قومه، أو ممن أجاب الله دعوته، كما ينقل عن (المجلسي) في تفسير قوله: ((كلُ نبيٍ مُجاب)):
((الزائد في كتاب الله))لأن كتاب الله هو الذي أنزله الله سبحانه وتعالى نوراً وهدىً للناس، ولم يرخِّص لأحدٍ في أن يعبث به زيادة أو نقصاناً، حتى إن الله أنزل آيةً خاطب فيها نبيّه، وإن كان النبي لا يُخاطب بذلك؛ لأنه لا يفعل ذلك من خلال عصمته ومعرفته، لأنه مؤتمن على كتاب الله وعلى وحي الله، ولكن ورد في بعض الأحاديث عن الأئمة من أهل البيتi، أن القرآن نزل على طريقة (إياك أعني واسمعي يا جارة)، بمعنى أن الله يخاطب الناس في بعض الأمور المهمة من خلال خطابه للنبيw، ليعرِّفهم أهمية هذا الأمر، ويفيد هذا أنه لو فعل النبيw ذلك لعاقبه الله، فكيف لو فعلتموه أنتم؟ فقد ورد في قوله تعالى: )وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ((3)، ما يدل على أن العبث بالقرآن على أساس الزيادة هو أمرٌ يرفضه الله سبحانه وتعالى. وهكذا نجد أن المشركين كانوا يطلبون من النبي أن يبدّل بعض آيات القرآن، وكان النبي يقول لهم: ما لكم ولي أن أبدله، لأن القرآن هو وحي الله سبحانه وتعالى، وليس كلاماً مني كي أُبدله كما يبدل الإنسان أي كلام صادر منه.
((والتارك لسنتي))؛ لأن الله أمرنا الأخذ بسنّة رسول اللهw: )وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا((4)، )قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ((5)، )مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ((6). وفي ضوء ذلك، نواجه موقف الذين يقولون (حسبنا كتاب الله) و(أننا نأخذ بما جاء في القرآن ونترك غيره)؛ على اعتبار أن القرآن هو المصدر المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، ونترك كل الأحاديث المروية عن النبيw، والتي قد تكون محل تأملٍ أو محل شكٍ وما إلى ذلك.
ونردّ على هؤلاء، إن الأخذ بكتاب الله يقتضي الأخذ بسنَّة رسوله؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمـرنا في كتابه أن نتبع الرسول، وأن نطيعه في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه؛ حتى إن الله جعل سيرة الرسولw شريعةً للناس ليأخذوا بها: )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا((7)، ونحن نعرف أن النبيw كان يمثّل القرآن الناطق ويجسّده، بحيث كان الناس يسمعون الآية من لسانه ويجدونها مجسّدة في سلوكه.
((والمكذِّب بقدر الله)) أي بقدر الله في الكون، لأن الله سبحانه وتعالى قدّر كل شيء تقديراً، وهو القائل: )إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ((8)، )قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا((9)، وهو الذي قدّر للناس حياتهم وأعمارهم وأرزاقهم وكل نظام حياتهم، وأراد لهم أن يأخذوا بذلك، وجعل لهم الحرية والإرادة في الاختيار )لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ((10)، فعلى الإنسان أن يخضع لقضاء الله وقدره، وعليه أن لا يكذب بقدر الله؛ لأن التكذيب بقدره هو تكذيب له.
((والمستحل من عترتي ما حرَّم الله))؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ((إني تاركٌ فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض))(11)؛ فإن الله سبحانه وتعالى أراد لنا ـ من خلال رسول الله ـ أن نلتزم العترة وأن نحترمهم، وأن لا نستحلّ منهم ما حرَّم الله، كما حدث ذلك في الواقع الإسلامي من خلال اضطهاد العترة، ومن خلال إبعادهم عن حقهم، ومن خلال المأساة التي لحقت بهم في قتلهم واضطهادهم وما إلى ذلك.
((والمستأثر بالفيء والمستحلّ له)). والفيء كناية عن أموال الأمة، ويقصد به من يستأثر بأموال الأمة ويستحلها ويسرقها ويصرفها في غير ما أمر الله سبحانه وتعالى. ونحن نعرف أن مصطلح الفيء هو ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حربٍ ولا جهـاد، وأن المقصود من الاستثئار به الانفراد به وعدم تسليمه إلى من جعله الله له خاصّة، فلا يصرفه في مصارفه التي حدّدها الله سبحانه.
إن هذه الخصال تمثل العناوين التي لا علاقة لأصحابها بالإسلام؛ ففي الخصلة الأولى، وهي ((الزائد في كتاب الله))، يقترب الإنسان في أخلاقه من أصول الكفر وأركانه، وهي تشتمل على الكذب على الله بزيادة أمور في كتابه، وقد أكّد سبحانه خطورة هذه المسألة كما ذكرنا.
وفي الخصلة الثانية، وهي ((التارك لسنة رسول اللهw))، نجد أنها تمثل انحرافاً عن الالتزام برسالة الرسول التي لابدَّ لكل مؤمن من أن يعترف بها وأن يشهد بها وأن يطبِّقها على نفسه، وفي ذلك الكفر كل الكفر، لأن الإسلام يرتكز على الإيمان بالرسالة والسير على خطها الأصيل.
أمّا الخصلة الثالثة، وهي ((المكذّب بقدر الله))، فلأنّ قضاء الله وقدره هما من أسس العقيدة الإسلامية، والتكذيب بهما يجعل صاحبه يقترب من خط الكفر العقيدي.
أما الخصلة الرابعة، وهي ((المستحلّ من عترتي ما حرّم الله))، فهؤلاء هم أهل بيته الذين تحدّث عنهم أنهم أحد الثقلين، كما في قوله: ((إني تارك فيكم))، وفي قوله: ((أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلى عنها غرق وهلك))(12). وقد جاء في كتاب الله: )قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى((13)، لأن المقصود بالقربى هم أهل بيته، الأمر الذي يجعل استحلال ما حرم الله فيهم انحرافاً عن خط رسول الله وعن وصيته للأمة.
أما في الخصلة الخامسة، وهي ((المستحلّ للفيء والمستأثر به))، فهو الشخص الذي يسرق أموال الأمة ويحتفظ بها لنفسه ويمنعها من أهلها الذين يستحقونها، فذلك يجعل هذا الإنسان متمرداً على الله ورسوله وشريعته ودينه.
وفي خاتمة المطاف، نستوحي من كلِّ هذه الأحاديث، أن أصول الكفر وأركانه ترتكز على الرفض للالتزام الشرعي الأخلاقي الذي جاء به الإسلام، ما يُهيئ المناخ النفسي للشخص للاقتراب من الكفر؛ لأن الإسلام ليس مجرد كلمةٍ أو فكرة تعيش في الذهن، بل هي كيان يحمل كلاً من المعنى العقيدي والعبادي والأخلاقي والروحي والاجتماعي والامتداد التشريعي في الحياة كلها، في جوانبها الاقتصادية والسياسية والأمنية، ولذلك فإن كل من يترك جانباً من هذا الكيان الثقافي والشرعي والحركي، لا يعتبر مسلماً كاملاً في إسلامه، كما ورد: )أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ((14)، بل هو شخص يقترب من الكفر بقدر ابتعاده عن الكيان الإسلامي. هذه هي بعض الأمور التي أكد النبي وأهل بيته أنها تمثل أصول الكفر وأركانه.
وهناك أمور أُخرى قد تقترب من هذه الأمور في ما تؤدي إليه، ومنها العصبية، وهي التي لم يتحدث النبيw وأهل بيتهt عن أيِّ مسألة أخلاقية كما تحدّثوا عنها. في البداية، نلتقي بالحديث القرآني عن هذه العصبية في قوله تعالى: )إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا((15). وحمية الجاهلية، بحسب اللغة، من (الحمى، وهي عبارة عن الحرارة المتولدة من الأشياء المحمية، كالنار والشمس)، وبتعبير آخر، هي الحالة الحارة التي تنطلق من خلال هذه العاطفة الحادة للبقاء على ما ورثوه من آبائهم، من خلال تقاليدهم وعاداتهم وعقائدهم. ولذلك عُبر عن القوة الغضبية بذلك؛ لأنها إذا ثارت في الإنسان، جعلته يثور ويحمى، قيل: حميْتُ على فلان أي قضيت عليه.
وهذه الحميَّة، أي حمية الجاهلية، كانت تنطلق أساساً من الانفعال الذي يعيش في نفوس أهل الجاهلية، والذي يجعلهم يعيشون الحالة الغضبية عندما يُدعون إلى ما يخالف عقائدهم التي ورثوها عن آبائهم، ويمنعهم من أن يفكروا في الأمور بطريقة عقلانية منتظمة.
ونحن نستوحي موقفهم هذا من إنكارهم لنبيناw عندما كان يدعوهم إلى التوحيد وإلى رفض الأصنام وإلى الالتزام بالرسالة التي أوحى الله بها إليه، وكانوا يقولون: )إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ((16)، وكان يجيبهم: )قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ((17)، )أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ((18).
وهكذا كان كل أقوام الأنبياء يبادرون الأنبياء بذلك، حتى إنهم قالوا لإبراهيم عندما سألهم عن الأسس التي ارتكزوا عليها في عبادتهم للأصنام: )قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ((19). وهذه هي الجاهلية التي تبتعد عن حالة الهدوء العقلي والاتزان النفسي، التي إذا واجهت أية قضية من القضايا، فكّرت فيها بعيداً عن العنصر الذاتي الذي يعيشه الإنسان في داخله؛ ولكنّهم ابتعدوا عن ذلك؛ وواجهوا كل دعوة مضادّة بطريقة انفعالية حادة، تحارب كل فكر جديد، وكل رسالةٍ جديدة.
أما بالنسبة إلى المؤمنين، فهم الذين لزموا كلمة التقوى، وكلمة التقوى توحي بأنهم يراقبون الله سبحانه وتعالى في كل ما يلتزمونه، وفي كل ما ينتمون إليه، وفي كل ما يتحاورون فيه مع الآخرين، في فكرٍ هنا وفكر هناك؛ لأنهم يريدون من خلال إيمانهم بالله، الارتباط بالحق والالتزام بالحقيقة، سواء فيما يفكّرون فيه ذاتياً، أو فيما يتعلمونه من الآخرين، أو فيما يستوحونه من خلال رسالات الأنبياء في هذا أو ذاك، قال تعالى: )هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ((20)، أي أنزل الهدوء النفسي والطمأنينة النفسية على المؤمنين، بحيث ينطلق المؤمن عندما يعيش مع الآخرين ويفكر معهم، في ما يختلف فيه مع الآخرين أو في ما يتفق معهم، من خلال عقلٍ هادىء، ومن خلال نفسٍ مطمئنة، ومن خلال التوازن والاتزان في التفكير هنا وهناك. وهكذا نجد أن المؤمن لا يغضب ولا ينفعل، وإنما يواجه أُموره بطريقة هادئةٍ.
هذا هو الخط العام الذي توحي به هذه الآية، وهناك تفاصيل كثيرة حول مسألة العصيبة وحول إيحاءات هذه الآية، سنتحدث عنها إن شاء الله فيما يأتي من حديث. والحمد لله ربّ العالمين.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
تناولنا في ما سبق العصبية، باعتبار أنها تمثل الأساس في مسألة الكُفر الذي يجعل الكثير من الناس، كما في الجاهليات المتحرّكة في مدى الزمن، يتعصّبون لآبائهم وعشائرهم أو لأحزابهم أو لطوائفهم وفئويّاتهم، فتدفعهم العصبية إلى أن يلتزموا ما يتعصّب له الآباء والأجداد وما إلى ذلك، من دون تفكير أو وعي، بل بفعل الحالة النفسية التي تدفعهم إلى ذلك، والحالة الغضبية التي توجَّه إلى من يريد لهم أن يأخذوا باتجاه غير اتّجاه العصبيّة.
وقد تحدثنا في ما سبق أن الله سبحانه وتعالى عبَّر عن هذه العصبية الجاهلية بقوله تعالى: )إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ((1). والحميَّة هي حالة نفسية تخلق في نفس الإنسان القوة الغضبية التي يندفع من خلالها إلى ما تثيره مشاعره وأحاسيسه وانتماءاته، من دون وعيٍ ومن دون تفكير. ومن هنا، فمسألة العصبيّة تنطلق من خلال اللافكر واللاوعي واللادراسة.
والله سبحانه وتعالى أراد للإنسان، عندما خلق له عقلاً، أن يفكّر بعقله، وعندما خلق له إرادة أن يحرّك إرادته في الطريق الصواب، وأن يدرس الأمور دراسةً هادئةً موضوعية تعمل على ملاحقة كل علامة استفهام قد تثيرها هذه الفرضية هنا وتلك الفرضية هناك، لتكتشف لها الأجوبة.
ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى أكّد اتّباع منهج العقل الهادئ، من خلال الدراسة العميقة الواعية في المشاعر الهادئة والأحاسيس المطمئنة. ولذلك قابل الله سبحانه وتعالى حميّة الجاهلية بالمنهج الذي أراد لرسوله وللمؤمنين أن يأخذوا به، ممّا عناه بقوله عزّ وجلّ: )فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى((2).
والسكينة هي الحالة الروحيّة والنفسية والعقليّة التي تتمثّل بالاطمئنان، وبالهدوء النفسي الذي يجعله يفكر في الأمور بطريقة عقلانيةٍ موضوعيةٍ، فتجعله يعيش هدوء العقل وهدوء القلب وهدوء الإحساس والشعور. وعندما أنزل الله سكينته، فإنه لم يُنزلها على الرسول وحده، بل أفاضها على المؤمنين الذين هم معه، باعتبار أن المسألة تنطلق من خلال الخط الإسلامي العقيدي الذي يلتزم به الإنسان بالوحدانيّة والرسالة؛ لأن الالتزام بالوحدانية، بكل إيحاءاتها وبكل معانيها، يجعل الإنسان يفكّر في اتّجاه الخط الإيماني بالله، ولأن الالتزام بالرسالة يجعل الإنسان ملتزماً بكلِ مواقع الرسالة وبكل مفرداتها وبكل امتداداتها وخطوطها. فقد ألْزمهم كلمة التَّقوى، وهي الكلمة التي تنفتح على الإسلام كلّه وعلى الإيمان كلّهِ.
ونحن نقرأ في تاريخ سيرة النبيw، أن الحميّة دفعت أحد كبار القوم إلى الإيمان والدخول في الإسلام، وهو حمزة بن عبد المطلب(رض). وفي الرواية عن الإمام عليّ بن الحسينt: ((لم يدخل الجنة حمية غير حمية حمزة بن عبد المطلب، وذلك حين أسلم، غضباً للنبي في حديث السلا الذي أُلقي على النبي صلى الله عليه وآلهِ))(3). والسلا: الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أُمه ملفوفاً فيه.
وفي قضية إسلام حمزة بن عبد المطلب هناك روايتان: رواية تفيد أن حمزة ابن عبد المطلب أُخبر، كما ورد في الرواية عن الإمام زين العابدين سلام الله عليه، بأنه أُلقي على النبيw ـ وهو يصلي ـ سلا الجزور، فغضب حمزة للنبيw غضباً عائلياً، باعتبار أنه ابن أخيه؛ ولذلك فقد أعلن من خلال ذلك إسلامه واندفع إلى المشركين ليواجههم بكل قوة وبكل تأنيبٍ واندفاع.
وهناك رواية أخرى تفسّر موقف حمزة بن عبد المطلب، وهذه الرواية كما ذكرها ابن هشام، أن أبا جهل مرّ برسول اللهw، عند الصفا، فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره، فلم يكلمهw، وامرأة تسمعُ ذلك، ثم انصرف عنه، فعمد إلى نادي من قريش عند الكعبة، فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحاً قوسه، راجعاً من قنصٍ له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك، لم يمر على نادٍ من قريش إلا وقف وسلّم وتحدث معهم، وكان أعزّ فتىً في قريش ـ أي كان معروفاً بالقوة والشجاعة وبالعزة والثأر لكرامته ـ وأشد شكيمة، فلما مرّ بالمولاة ـ تلك المرأة التي سمعت أبا جهل وهو ينال من رسول اللهw ـ وقد رجع رسول الله إلى بيته، قالت له: يا أبا عمارة، (وهذه كنية حمزة) لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد أن آنفاً من أبي الحكم بن هشام، وجده ها هنا جالساً فآذاه وسبّه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمدw، فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى ولم يقف على أحدٍ مُعِدّاً لأبي جهل إذا لقيه أن يُوقع به، فلما دخل المسجد، نظر إليه جالساً في القوم ـ أي إلى أبي جهل ـ فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجةً منكرة، ثم قال: أتشتمه وأنا على دينه، أقـل كما يقول، فَرُدَّ ذلك عليّ إن استطعت؟ ـ أيْ: رد عليّ هذا الموقف ـ فقامت رجال من بني مخزوم ـ وهم عشيرة أبي جهل ـ إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله قد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً. وتم حمزة على إسلامه وعلى ما تابع عليه رسول اللهw من قوله، فلما أسلم حمزة، عرفت قريش أن رسول اللهw قد عزّ وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.
وفي هذا المجال، يلاحظ أن هذه الحمية العائلية قد دفعت بحمزة إلى أن يُسلم، وإلى أن يُعلن إسلامه تقويةً لموقف النبي، وثأراً للنبي، ثم حسُن إسلامه بعد ذلك، وكان سيد الشهداء في وقعة أُحد كما هو معروف.
ونستفيد من ذلك، أن مسألة الحمية إنما تُرفض إسلامياً إذا كانت حميّة جاهلية، وهي الحمية التي تكون من غير مضمونٍ يرتكز على الحق وينفتح عليه. ولذلك يقول الإمام زين العابدينt إنه لم تدخل أية حمية الجنة إلا حمية حمزة بن عبد المطلب، لأن حميته استطاعت أن تهديه إلى الإسلام، وأن تجعله يقف مع النبيw لينصره على المشركين. وهكذا كان.
ونقرأ في مسألة العصبية قول الله عزّ وجلّ عن بعض الناس: )وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا((4)، هؤلاء الذين يملكون القوة المستعلية، سواء كانت قوة السلطة أو قوة المال، أو أي نوع آخر من أنواع القوة، ما يجعل الآخرين يندفعون للالتفاف حول من يملك مثل هذه السلطة، رغبةً في الحصول على موقع قوة أو موقع عزّة، فيدفعهم ذلك إلى التعامل معهم كما يتعاملون مع الآلهة، ويطيعونهم كما يطيع الإنسان الإله، ويخضعون لهم كما يخضع الإنسان للإله. فهم ينفتحون عليهم في موقع ما يدعونه لهم من الألوهية انطلاقاً من حالة القوة التي يملكون مواقعها.
وهذا نوعٌ من أنواع العصبية الذي قد لا نعيشه في مرحلتنا هذه على أساس ادعاء الألوهية لمن يملك القوة؛ قوّة السلطة أو المال أو الحزبيّة أو ما إلى ذلك؛ إلا أننا نلاحظ أن بعض الناس يتعاملون معهم كما يتعامل الإنسان مع الإله؛ لأنهم يطيعونهم ويعصون الله، ويحاربون لدعمهم، ويخذلون خطّ الله سبحانه وتعالى، وتتحوّل طريقتهم في خضوعهم لهم إلى ما يشبه العبادة، وينطلقون في الالتزام بأوامرهم ونواهيهم على أساس الطاعة. وقد تعرّض الله سبحانه وتعالى لواقع هؤلاء الذين يُوالون الكافرين من دون المؤمنين ابتغاء العزّة الاجتماعيّة أو السياسية أو الاقتصاديّة وما إلى ذلك، فقال تعالى: ) بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًاً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًاً((5)؛ فإذا كانوا يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين من أجل أن يحصلوا على العزة، فالعزة هي لله سبحانه وتعالى، ولا عزة لغيره، بل إنّ عزة غيره مستمدةٌ من عزته؛ لأن العزة لله جميعاً، فهو الذي يُعز من يشاء ويُذلُ من يشاء.
وهذا اللون من العصبيّة نلاحظه في الكثير من الناس الذين يتعصبون لمراكز القوة، سواء كانوا في مواقعهم الخاصة أو في المواقع الأخرى. ولعل هذا المعنى شائعٌ في كثير من المناطق البدائية والمتخلّفة التي يملك فيها شخصٌ واحد الكثير من الناس، يتحركون حيث يريد لهم أن يتحركوا، ويسكنون حيث يريد لهم أن يسكنوا. وهذا نوع من العصبية ينطلق في ذهنية هؤلاء، بحيث إنه لو أراد أحدٌ أن ينال من هؤلاء الآلهة أو أن ينتقدهم أو يحاسبهم، فإنهم يتحرّكون من أجل نصرتهم ومساعدتهم بطريقة متعصّبة وبطريقة غاضبة، لأنهم لا يطيقون أي نقطة ضعف توجه إليهم.
ومن العصبية ما قصّه الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عن بعض الناس الذين يتعصّبون للمال أو للجاه، ويحتقرون الذين لا يملكون المال ولا يملكون الجاه. وهذا ما كان يواجه به المترفون الأنبياء، عندما كانوا يرون أن الضعفاء الذين وجدوا في رسالة الأنبياء ما يمنحهم العزة والكرامة والإنسانية، هم الذين يتّبعون الأنبياء، فكان هؤلاء المترفون يقفون ضدّ الأنبياء، بحجّة أن أتباعهم ليسوا من أهل الثروة ولا من أهل السلطة ولا من أهل الجاه: )قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ المُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ((6)، وكأنّه يقول: إنني لا أنظر إلى الناس من خلال ما هم عليه من مواقع القوة، سواء كانت قوة مال أو جاه أو سلطة أو ما إلى ذلك، وإنما أنظر إليهم من خلال ما ينفتحون به على خطّ الإيمان، ويتحرّكون به في خط الرسالة؛ ولذلك لا يمكنني أن أطرد هؤلاء من حولي؛ لأن رسالتي لا تعني أن أجمع الناس من حولي من دون قضية ومن دون مضمون، بل إن دوري هو أن أُنذرهم فيما يقبلون عليه إذا انحرفوا عن طريق الله سبحانه وتعالى.
ونقرأ أيضاً عن نوع من العصبية، عصبية الإنسان لنفسه، وذلك عندما يشعر بمواقع القوة في داخل ذاته أو فيما يحيط به، ونموذج هؤلاء هو فرعون، قال تعالى: )وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ((7)، أيّ موقعٍ للقوة أنا فيه، حيث أُسيطر على كل مصر وعلى كل ما يمكن أن تنتجه مما يتحرّك في حاجات الناس، ويلتفت إلى موسىt ليقول: )أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ(، هذا الذي ينتمي إلى طبقة اجتماعيّة متدنّية، ولا يملك أيّ ثروة، ولا سلطة، ولا أيّ موقع من مواقع القوّة، )وَلا يَكَادُ يُبِينُ((8)؛ إذ يقال بأن موسىt كان عنده حبسة في لسانه، ولذلك طلب من الله عندما أراد أن يرسله إلى فرعون، أن يرسل معه هارون )وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ((9).
ويُتابع فرعون حديثه عن موسىt: )فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ((10)، حتى يبين مركز القوة في شخصيته )فَاسْتَخَفَّ( فرعون )قَوْمَهُ(، بهذا المنطق، )فَأَطَاعُوهُ(، وتعصبوا له وألّهوه وعبدوه، )إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ((11). هذا الإنسان تضخّمت شخصيته عند نفسه من خلال الخارج لا من خلال الداخل؛ فهو لم يتحدّث عمّا يملك من علم ومن خبرة، وإنما تحدّث عما يملك من ثروات، وأراد للناس أن يقارنوا بينه وبين موسىt، باعتبار أن موسى لا يملك مثل ما يملك من المال. وقد استطاع من خلال ذلك، أن يقدّم لقومه هذا المنطق المتخلّف الذي لا ينظر إلى الإنسان من خلال ما يملك من طاقات ومن قيم ومن قوى ذاتية، بل من خلال الخارج؛ ولذلك أطاعوه عندما قال لهم: )أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى((12).
وهذه المسألة قد نجدها في كثير من الشخصيات؛ على المستوى العالمي أو على المستوى الإقليمي أو المحلي؛ عندما تتضخم شخصياتهم، فيتحولون إلى حالة انتفاخية تجعل واحدهم ينظر إلى أنه أعلى من الناس، وأن الناس في درجة أسفل منه؛ ولذلك فإنه يريد للناس أن يتعصبوا له وأن يهتفوا ويصفّقوا له، من دون أن يكون له أية ميزة على غيره من علم وقيمة وأخلاق وما إلى ذلك.
هذه هي العصبية للعشيرة، والعصبية للذات، والعصبية للمال، والعصبية للسلطة وما إلى ذلك، وهي عصبيات يرفضها الإسلام جملة وتفصيلاً؛ لأنه يريد للإنسان، في كل اندفاعاته؛ سواء كانت اندفاعات عقلية، أو اندفاعات شعورية، أو اندفاعات إحساسية، أن ينطلق من خلال مضمون فكري وقيمة روحية وأخلاقية، تجعل منه إنساناً يعيش إنسانيته في إنسانية الناس من حوله.
وقد ورد عن رسول اللهw، والأئمة من أهل البيتi أكثر من حديثٍ في مسألة العصبية.
فعن رسول اللهw: ((ليس منا من دعا إلى عصبية))؛ أي ليس من المسلمين من دعا إلى عصبية لأيةِ جهة لا تستحق مواقع القيادة، ولا تملك مواقع القيمة، ولا ينطلق من قاعدة فكرية أو روحية أو أخلاقية تجعل من هذا الإنسان أو من هذا التجمّع تجمّعاً منفتحاً على القيم الإنسانية. وإن المشكلة في قضية العصبية، هي أنه لا يُنظر فيها إلى المضمون؛ هل هو حقٌ أو هو باطل، بل يُنظر فيها إلى مجرد هذا التجمّع المادي. فالعصبية للعشيرة تنظر إلى أعداد العشيرة ولا تنظر إلى ما تؤمن به العشيرة وإلى ما تتحرك به، ليعرف، هل إن هذه العشيرة تسير في الخط المستقيم أو في الخط المنحرف؟
ويُتابع الحديث: ((وليس منا من قاتل على عصبية))، من اندفع في القتال إلى جانب شخصٍ أو عشيرة أو حزب على أساس التعصب له، لا على أساس القيم التي تبرر له القتال من حيث القضية العادلة التي يقاتل من أجلها.
((وليس منا من مات على عصبية))(13)، فالإنسان الذي يموت على أساس الالتزام بالعصبية قبل موته، يموت على غير الإسلام؛ لأنّ الإنسان لا بدّ له من أن يختم حياته كما أراد الإسلام له من القيمة التي تنفتح به على رضوان الله، لا على سخطه.
ونقرأ عن الإمام عليt، من كتابه للأشتر: ((املك حمية أنفك))، والأنف يمثل مظهر العنفوان في هذا المقام، حيث يشمخ الإنسان بأنفه ليتحرك في خط الحمية والقوة الغضبية، ((وسورةَ حدِّك))، أي هذا الاندفاع الذي يمثل حالة الغضب، ((وسطوة يدك))، فلا تتحرّك في ظُلم أحد، ((وذرب لسانك))(14)، فلا تشتم أحداً أو تهينه أو تشي ببريء.
وقد ورد في الحديث ـ عن أبي عبد الله الصادقt ـ أنه قال: ((إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم، وكان في علم الله أنه ليس منهم، فاستخرج ما في نفسه بالحمية والغضب، فقال: خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ))(15). فهذه العصبية لأصله والعصبية لنفسه، هي التي أظهرته بأنه ليس من الملائكة، لأن الملائكة هم المخلوقات التي تعبد الله وتتواضع له وتأتمر بأمره سبحانه وتعالى وتنتهي بنهيه، )لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ((16).
ونقرأ أيضاً عن أبي عبد اللهt: ((أنه قال: قال رسول اللهw، من تعصَّب أو تُعصِّب له))، أي شجّع الناس على العصبية له، ((فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه))(17)، وذلك كناية عن أنه لم يعُد مؤمناً؛ لأن الإيمان يقود الإنسان إلى أن يتحرك في تفكيره وفي سلوكه و في علاقاته وفي معاملاته، على أساسِ أمر الله ونهيه؛ ولذلك لا يندفع مع الناس الآخرين اندفاعاً ذاتياً، بل يتعامل في كل حياته من خلال الخط المستقيم الذي أراد الله للمؤمن أن يسير عليه.
فإذا كان الإنسان متعصباً لشخص، بقطع النظر عن طبيعة ما يملك هذا الشخص من تقويم الشخصية، أو إذا دعا إلى أن يتعصّب الآخرون له، في الوقت الذي لا يملك الأساس الذي يجعل الناس تنفتح من خلاله عليه، أو كان يدعو إلى أن يتعصب الناس له من دون أن يقدم لهم الفكرة الصادقة الصالحة التي يلتزمونها من خلاله، فإن معنى ذلك أن هذا الإنسان يخرج من خط الإيمان لينطلق في خط العصبية.
وقال رسول اللهw: ((من كان في قلبه حبة خردل من عصبية، بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية))(18)، إذ لابد للإنسان من أن يزيل من نفسه ومن عقله ومن قلبه أيّة عصبية، مهما كان مقدار هذه العصبية قليلاً؛ لأن الله يريد للإنسان أن ينفتح عليه وعلى رسوله وأن لا يسقط تحت تأثير أي إنسانٍ آخر لا يملك ما يريد الله له أن يملكه من السير في الخط المستقيم. وأعراب الجاهلية هم سكان البوادي الذين يبعدون عن حواضر الإسلام الكبرى، بحيث لا يستطيعون أن يتلقوا ثقافة الإسلام، ولا يعرفون حدود ما أمر الله سبحانه به؛ ولذلك فهم ضعاف الإيمان، بعيدون عن الاتصاف بالورع والتقوى والالتزام. فكلمة (أعرابي) يُراد بها الإنسان الجاهل الذي لا يملك أية معرفة.
ونقرأ في هذا المجال، في قضية العصبية، عن الإمام جعفر الصادقt قوله: ((من تعصّب عصّبه الله عزّ وجل بعصابة من نار))(19).
ونقرأ عن الإمام عليt في ذم إبليس قوله: ((فافتخر على آدم بخلقه، وتعصّب عليه بأصله، فعدّو الله إمام المتعصبين))(20)، أي من كان متعصباً حزبياً أو طائفياً أو عشائرياً أو شخصياً، فإمامه إبليس ((وسَلَفُ المستكبرين)) أي أنه سلفهم في التاريخ، وهم الذين يتبعونه وينتسبون إليه، ((الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبروت، وادّرع لباس التعزّز، وخلع قناع التذلل)). وقال الإمام عنه أيضاً: ((اعترته الحمية، وغلبت عليه الشقوة، وتعزّز بخلقة النار، واستوهن خلقة الصلصال))(21).
وهكذا نفهم من خلال ذلك، أن العصبية ليست من الإسلام، وأن من يأخذ بالعصبية هو إنسانٌ لا ينفتح على الإسلام ولا يتمسك منه بشيء.
وهنا كلامٌ للإمام علي بن الحسين زين العابدينt في تحديد العصبية، يبيِّن فيه كيف يكون الإنسان متعصّباً، يقولt: ((العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم))(22). إن المسألة ـ بحسب هذا الحديث ـ هي أن يختلّ ميزان التفاضل عندك، بحيث ترى أن الشرير من قومك هو أفضل من الخيِّر لدى القوم الآخرين.
((وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه))؛ لأن الإنسان مفطور على أن يحب أهله ويحب عشيرته؛ هذا الحب الساذج الذي ينفتح فيه الإنسان من خلال القرابة ومن خلال الإلفة؛ ((ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم))(23)، بحيث إذا ظلم قومك الآخرين، تقف معهم لتساعدهم على ظلم الآخرين. وكأنه يقول: لك أن تحب قومك، ولكن إذا وصلت إلى المدى الذي يجعلك هذا الحبّ أن تفقد مبادئ العدالة ومبادئ القيمة، فعند ذلك تكون متعصباً، أمّا إذا اقتصرت على الحب الساذج، فأنت لست متعصباً. هذه هي خلاصة الفكرة.
وهناك كلامٌ للإمام عليt يتحدث فيه عما كان عليه القوم في زمانه من العصبية، ويتحدث أنه إذا كان لابد من العصبية، فهناك طروحات أخلاقية روحية جديدة، سنتحدث عنها فيما يأتي إن شاء الله.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
لا نزال نتحدّث عن العصبية كخطٍّ يرفضه الإسلام، ويربطه بالجاهليّة، من خلال تعبيره عنها بحميّة الجاهلية، والتي إذا تحرّكت في وجدان الأمة وتجذّرت في سلوكياتها، فإنها تؤدّي إلى نتائج سلبية على كل الواقع الإسلامي، كما استطاعت أن تحرّك السلبيات في علاقة المسلمين بعضهم ببعض، في الاختلافات المذهبية، بين السنة والشيعة، بحيث تحوّلت لدى كل فريقٍ إلى حقدٍ داخلي انفتح على حالةٍ من التدمير على مستوى العلاقات، وربما وصلت إلى أن يبغي فريق على فريق، أو يظلم فريق فريقاً أو يكفّر فريق هنا فريقاً هناك. وقد تمتدّ المسألة إلى أن يرفض البعض الأكل من ذبائح البعض الآخر، أو يحرّم الزواج منه وما إلى ذلك.
ولم تقتصر المسألة على العصبية المذهبية في داخل الواقع الإسلامي، بل إنها امتدت إلى الواقع الديني بشكلٍ عام؛ فخلقت بين المسلمين وبين أهل الكتاب الكثير من الأوضاع النفسية الحاقدة جعلت كل فريق يسعى إلى مصادرة الفريق الآخر، وتحولت أحياناً إلى سلوكٍ عدواني يأخذ بالكثير من الوسائل والأساليب غير الإنسانية.
وامتدّت العصبية في داخل كل مذهب، بحيث إن الخلافات في هذا المذهب أو ذاك، قد وصلت إلى حدٍ يتعصّب فيه هذا الفريق ضد الفريق الآخر. ولعلّنا نلاحظ بعض الحالات الاجتماعية، التي نرى فيها أن شخصاً يُقلّد مرجعاً ليس مستعداً لأن يتزوج امرأة تقلد مرجعاً آخر، كما هو الأمر لدى بعض المذاهب الإسلامية السنيّة؛ إذ إن الأحناف لا يُجيزون التزوّج من الشوافع.
وقد تمتدّ القضية إلى المسألة السياسية؛ عندما تتنوع الأحزاب في الواقع العربي أو في الواقع الإسلامي، أو في الواقع الإنساني في الشرق كلّه، فنلاحظ أن العصبية الحزبية قد تتطوّر سلبياً إلى حالاتٍ عدوانية، سواء كان في المناسبات السياسية كالانتخابات، أو في غير من المناسبات ذلك.
لذلك، فإن العصبية تمثّل حالةً جاهليةً يتحرّك فيها الناس من خلال الذهنية الجاهلية التي لا تنظرُ في خلافاتها مع الآخر إلى الجانب القيمي أو الجانب المضموني، بل تنظر إلى الجانب الذاتي في مقابل الذات الأخرى، وإلى التجمع البشري في مقابل تجمعٍ بشريٍ آخر. وهذا ما جعل التراث الإسلامي يؤكّد أن العصبية في النار.
وقد عاش الإمام عليt هذا النوع من سلبية الحركة العصبية في أيام خلافته؛ ما دفعه إلى أن يعالج هذه المسألة بطريقة وبأخرى. فقد ذُكِر في شروح (نهج البلاغة) أن ظاهرةً وجدت في الكوفة في آخر أيّام خلافة الإمامt، حيثُ كانت الكوفة مجمعاً لقبائل عربية مختلفة، وكان بعض شباب قبيلة يذهب إلى المحلّة التي يجتمع فيها رجال قبيلة أخرى، ثم ينادي بشكلٍ استفزازي باسم قبيلته رافعاً الصوت، تماماً كما لو كان يفتخر بقبيلته ويظهر الاعتزاز بها في مواجهة القبيلة الأخرى، وذلك من خلال عصبيّته لقبيلته التي تحوّلت إلى عصبية ضد القبيلة الأخرى.
وكان هذا الأسلوب الاستفزازي يثير شباب القبيلة الأخرى، فكانوا يعملون على مواجهته وعلى الإيقاع به ثأراً لعصبيتهم القبلية، فيعود إلى قبيلته صارخاً بأن شباب تلك القبيلة ضربوه وواجهوه بالعنف وهدّدوه بالسيف، فتأتي قبيلته لتهجم على القبيلة الأخرى ثأراً لصاحبهم من دون أن يسألوا كيف نشأت المشكلة، ومن هو الذي أساء وتحدّى. وهكذا تنشأ الفتنة بين القبيلتين، انطلاقاً من هذه العصبية الاستفزازية التي وجدت فعلها في هؤلاء الشباب، وردّ فعلها في الشباب الآخرين.
يقال إنّ هذه الحادثة استثارت الإمام عليّاً t، فأراد أن يعالجها بطريقته الرساليّة، حيثُ كان يحاول في قيادته للمسلمين، الانفتاح على أية قضية سلبية في الواقع الإسلامي، ليمنح المسلمين الثقافة الإسلامية النقية التي تحرّك في نفوسهم القيم الأخلاقية المنفتحة على القيم الإنسانية والقيم الروحية، وليعرّفهم النتائج السلبية المهلكة في ما يأخذون به من العصبية التي لا تحمل أي مضمونٍ إنسانيٍ، بل إنها تنطلق في بعض الحالات من اللامضمون، أو من المضمون العدواني الذي يعتدي به فريق على فريقٍ آخر.
وقد لفت الإمام عليّt الذين يعيشون هذه العصبية النفسية التي قد تدفعهم إلى التنفيس عمّا في نفوسهم تجاه ما يلتزمون به ويتعصّبون له، لفتهم إلى أن يعطوا عصبيّتهم السلوكية مضموناً روحياً وثقافياً وإنسانياً، بحيث يتحرّكون من خلال خطٍ فكري، لا من خلال فِعل عاطفيٍ.
ثم تناول الإمام (سلام الله عليه)، وهو يوجّههم، الحديث عن تاريخ مّن سبقهم من المجتمعات ممّن أخذوا بالعصبية، فتحوّلت عندهم إلى عدوان، منطلقاً من أن للعصبية شرورها ونتائجها السلبية في حياة الناس.
نقرأ في جزءٍ من خطبته الطويلة المسمّاة (القاصعة):
((الله الله في عاجل البغي)). إنه يُطلق الاستغاثة تجاه البغي الذي يعاجل الناس به بعضهم بعضاً، والبغيُ يمثّل الاعتداء على الناس من دون حق. ((وآجلِ وخامة الظُلم))، أيْ النتائج التي تترتّب على الظلم في حياة الناس، باعتبار أن له وباله وسوء عاقبته، سواء ضد المظلوم، أو حتى ضد الظالم في ما يمكن أن يطاله من ردود الفعل، وضدّ المجتمع كله، ((وسوء عاقبة الكِبر))، هذه الحالة السلبية التي تتضخّم فيها شخصية الإنسان من خلال عصبيته لنفسه، بحيث يرى نفسه فوق الآخرين، ويتصرّف معهم على هذا الأساس، في حالة احتقارٍ لهم، منطلقاً ممّا يتصوّره لنفسه في أنّه يملك بعض الميزات التي لا يمتلكونها.
((فإنها مصيدة إبليس العظمى))، أي هذه هي الآلات التي يملكها إبليس عندما يريد أن يثير الفتن في حياة الناس، ((ومكيدته الكبرى)) التي يكيد فيها لهم، من خلالِ المستكبرين من جهة، والظالمين من جهة أخرى، والباغين من جهة ثالثة، ما يجعل المجتمع يعيش أوضاعاً صعبة، ويحوّله إلى مجتمعٍ ممزقٍ متناثر متباعدٍ تسود حالة العداوة بين أفراده، ((التي تُساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة))، أي التي تتحرّك في قلوب الرجال بما تزرعه فيها من الحقد ومن المشاعر المعادية، تماماً كما هي السموم القاتلة التي إذا تناولها الإنسان فإنها تقتله. هكذا هي المشاعر السامّة المعادية الحاقدة في تأثيرها الاجتماعي والنفسي على الناس.
((فما تُكدي أبداً))، الكدية ـ في اللغة ـ الأرض الصلبة، وأكدى الحافر: إذا بلغ الكدية فلا يُمكنه أن يحفر، ويُقال: حفر فأكدى، إذا بلغ إلى الصلب. والمقصود بقول الإمام t أنها لا تُردّ عن تأثيرها في الإنسان، ((ولا تشوي أحداً))، أيْ لا تُخطئ المقتل، والشوى ـ في اللغة ـ اليدان والرجلان من الآدميّين، وكلّ ما ليس مقتلاً. يُقال: أشواه الرامي: أصاب شواه، أي الأطراف، لا مقتله. ((لا عالماً لعلمه، ولا مقلاً في طمره)) أي في فقره؛ فهي تصيب الكل، فإذا أخذ بها العالم فإن علمه لا ينفعه، وإذا أخذ بها الفقير فإنه سوف يسقط أمامها.
ثم يحاول الإمام (سلام الله عليه) أن يوحي إلى الناس أن معالجة هذه الأمور، أي البغي والظلم والكبِر، قد وضع الله لها وسيلة عملية واقعية فيما شرعه من العبادات؛ فللصلاة دورها الأخلاقي الذي يمهّد للنفس الإنسانية السير في طريق التقوى، وللصيام دوره العلاجي فيما يمكن أن يعالج به الأوضاع النفسية القلقة للإنسان، وللزكاة دورها فيما يمكن أن يفتح حياة الإنسان على الآخرين من الفقراء والمساكين؛ وبذلك فإنه يخلق في روحية هذا الإنسان الكثير من القيم الأخلاقية في ما يتحرّك به، من تشجيعه على العطاء، والإحساس بحاجات الناس.
يقول (سلام الله عليه): ((وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات، والزكوات، ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات)). وهنا نلاحظ إشارته إلى أن الله يحرس الإنسان ويحيطه بحراسة روحية أخلاقية من خلال الوسائل العملية المتمثلة بالصلاة وبالصيام وبالزكاة. ((تسكيناً لأطرافهم)) ففي الصلاة، يقف الإنسان بين يدي الله في حالة استقرار وطمأنينة، وأطرافه هادئة وساكنة لا تتحرّك ولا تعبث، ومن خلال سكون الأطراف في الصلاة، يحصل على الروح الهادئة التي تنعكس إيجاباً على سلوكه في المجالات الأخرى.
((وتخشيعاً لأبصارهم)) فعندما يقف الإنسان في حالة خشوعٍ في صلاته، وعندما يتحسّس موقفه الخاضع بين يدي الله سبحانه وتعالى، يخشع بصره كما لو كان يرى الله أمامه، لأنه إذا لم ير الله ببصره، فإنه يراه ببصيرته وقلبه. ((وتذليلاً لنفوسهم))، وذلك من خلال حالة الركوع وحالة السجود التي تمثِّل حالة التذلّل للإنسان أمام الله سبحانه. ((وتخفيضاً لقلوبهم))، أي أنه يبعد عن قلوبهم القسوة في حياتهم.
((وإذهاباً للخيلاء عنهم))، لأنّ الصلاة تمثل حالة التواضع لله سبحانه وتعالى في موقف الإنسان بين يديه.
ثم يُبيّن الإمام كيف يحصل الإنسان من خلال الصلاة على التذلل وعلى الخشوع، فيقول: ((لما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضُعاً))، وذلك عندما يسجد الإنسان على التراب، فيعفّر جبهته التي هي مظهر العزة ومظهر العنفوان، وذلك تواضعاً لله تعالى، ((والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغراً))، عندما يضع الإنسان جبهته ويديه على الأرض في أثناء السجود، تصاغراً أمام عظمة الله سبحانه.
((ولحوق البطون بالمتون من الصيام تذلّلاً)). أما بالنسبة إلى الصيام، فإن الإنسان عندما يصوم، فإنّه يعيش الجوع حتى كأن بطنه تلتصق بظهره. ((مع ما في الزكاة من صرف ثمرات الأرض وغير ذلك إلى أهل المسكنة والفقر))، ما يجعل الإنسان الغنيّ يُحسّ مع الفقراء والمساكين، ولا يستغرق في أنانيّة غناه، بل يتواضع لهم، ويخفض لهم جناحه انطلاقاً من الأخوّة الإيمانيّة أو الإنسانيّة.
والإمام (سلام الله عليه) يؤكّد في هذا الحديث، دور هذه العبادات في عملية التهذيب النفسي الأخلاقي، في جعل الإنسان يعيش التواضع والتذلّل والروح الإنسانية تجاه الآخرين، في ما ينفتح به على الله سبحانه وتعالى من هذه الوسائل.
ثم يقول: ((انظروا إلى ما في هذه الأفعال من قمع نواجم الفخر))، أي أن هذه الأفعال من صلاة وزكاة وصيام، تقمع الإنسان الذي يعيش حالات الفخر وحالات العنفوان، ((وقدع طوالع الكِبر))، أي أنّ هذه الأمور تجعل الإنسان لا ينفتح على ما يفرضه الكبر من شموخٍ بأنفه واحتقار للآخرين.
ثم يعالج الإمام مسألة العصبية، ويتحدث عن عناصرها لدى الآخرين، حيث قد يتصوّر بعض الناس أنّ لها مبرراً، في ما يتوهمونه أو في ما يخدعون به من قبل بعض الناس الذين يغشّونهم ويستغلون بعض أوضاعهم السلبية في ذلك. يقولt: ((ولقد نظرت، فما وجدت أحداً من العالمين يتعصّب لشيء من الأشياء إلا عن علة))، إذ إنّ بعض الناس يتعصب للنسب؛ لأنه يتصل بنسبٍ عريق، وبعضهم يتعصّب للمال، وبعضهم الآخر يتعصّب للقوة، وآخرون يتعصّبون للموقع الاجتماعي أو السياسي، أو ما إلى ذلك من الأمور. والإمامt يقول إننا عندما ندرس القضايا العصبية عند الناس، نجد أنها تنطلق من بعض العناصر التي قد يرى الناس فيها مظهراً من مظاهر القوة التي تميّزهم عن الآخرين، ((تحتمل تمويه الجهلاء))، أي أنّ العصبيّة إنّما تنشأ عن سبب يمكن أن يموّه على الجهلاء ويخدعهم في ذلك، ليوحي إليهم بأنّ ما يملكونه من هذه الإيجابيات يسمح لهم بأن يتعصّبوا لأنفسهم أو بأن يتعصّب الآخرون لهم.
((أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم))، أي تتصل بعقول السفهاء. فأنا أفهم منشأ العصبيات الموجودة عند الناس الآخرين من خلال ما يزعمونه من علل أو حجج؛ أما أنتم، فإنني لا أفهم ما هي القاعدة التي تنطلقون منها في عصبيّتكم، ((فإنّكم تتعصّبون لأمر لا يُعرف له سبب ولا علة))، فعندما يذهب أحد من قبيلةٍ ما، ليس بينها وبين القبيلة الأخرى مشكلة، وينادي باسم قبيلته، ويستفزّ القبيلة الأخرى تعصّباً لقبيلته، فما هي القضية التي يحاول أن يقتنع بها ويثيرها في هذا الاستفزاز وفي هذا المظهر من مظاهر العصبية ضد القبيلة الأخرى؟ ليس هناك شيء في هذا المقام؛ لأن القبيلتين لا تتحرّكان على أساس التفاضل فيما بينهما ولا على أساس التغالب. ولذلك، فإن الذي يحاول أن يتمظهر بعصبيّته ضد القبيلة الأخرى، فإنه ينطلق من فراغ.
ويقولt: ((أما إبليس، فتعصب على آدم لأصله))، فإبليس ـ كما ذكر الإمام (سلام الله عليه) ـ هو إمام المتعصبين، باعتبار أنه تعصّب لنفسه ضد آدم، لأنه خُلق من نار بينما آدم خُلق من تراب، والنار أقوى من التراب ((وطعن عليه في خلقته، فقال: أنا ناريّ وأنت طيني))، فقد قارن إبليس بين الأصل الذي خلق منه آدم، والأصل الذي خلق منه هو، فرأى أنّ النار تُفني التراب، وأنها أقوى منه. وهذا منطق غير صحيح، ولكنه يمكن أن يموّه به على الجهلاء وأن يُخدع به السفهاء.
((وأما الأغنياء من مترفة الأمم))، هؤلاء المترفون الذين يملكون المال ((فتعصّبوا لآثار مواقع النعم)) لما عندهم من مواقع النعم فيما يملكون من أموال نقدية وعقارات وما إلى ذلك ((فقالوا: )نَحْنُ أكْثَرُ أمْوَالاً وَأوْلادَاً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ((1)))(2)، فاعتبروا كثرة الأموال وكثرة الأولاد هذه تمنحهم قوةً ليست موجودة لدى الآخرين، لأنّ الآخرين يمثّلون القلّة من الأموال وفي الأولاد، بينما هم يمثلون الكثرة في ذلك كلّه.
وعلى هذا الأساس، لا بد للإنسان العاقل، من أن يُخضع أيّ سلوك من سلوكياته لقاعدةٍ تصلح أن تكون سبباً لعصبيته. يقولt: ((فإن كان لابد من العصبية))، وكأن الإمام يريد أن يقول إنّه ليس للعصبية قاعدة مقبولة، ونحن نرفض العصبية؛ لأنّها تنطلق من حالة غضبية تلتهب فيها مشاعر الإنسان وحواسه بالمستوى الذي يحول فيه العناصر التي يملكها إلى حركة عدوانية ضد الآخر، من دون أن يفكر في النتائج السلبية التي تسبّبها، ونحن نؤمن بالموضوعية والعقلانية، ونؤمن بأن على الإنسان، عندما يدرس العناصر المتمثّلة في شخصيته، والعناصر المتمثلة في شخصية الناس الآخرين، أن يدرس الأمور دراسة موضوعية ودراسة عقلانية، ليعطي لكل ذي حقّ حقّه، ويعرف أساس التفاضل بينه وبين الآخرين، وأن وجود عنصر من العناصر الممِيزة له لا يمنع من جود عناصر أخرى عند الآخر؛ لأن الإنسان لا يملك كل العناصر الإيجابية، بل يملك قسماً منها ويملك الآخر قسماً آخر؛ ما لا يجعل إنساناً يفضل إنساناً آخر بالمطلق، ولكن بطريقة نسبية.
لكن إذا كان لا بدّ من العصبيّة لشيء، فهناك جوانب أخلاقية وجوانب قلبية وجوانب إنسانية، وجوانب تتصل بالخط الإسلامي الذي يرتكز على قاعدة التقوى، فالتزموا هذه الخلال والصفات. وإذا دخلتم في معترك الصراع بين هذه القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية، ورأيتم الآخرين يحاولون بكل ما لديهم من طاقة أن يرفضوها وأن يسقطوها، ففي هذه الحال، لا بأس بأن تتعصّبوا لما لديكم. لأنّ عصبيتكم تكون عندئذٍ ذات مضمون؛ لأن هذا المضمون يرتفع بإنسانية الإنسان، ويمكن أن يحقّق للمجتمع الكثير من النتائج الإيجابية في سلامته وفي كل أوضاعه.
((فإن كان لابد من العصبية))، وهذا التعبير يختزن في داخله رفض العصبية، لكن إذا قلتم بأنها قد تتحول إلى حالة اضطرارية ولابد منها، فأنا أُعطيكم مضمون العصبية، ((فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المُجداء))، مُجداء جمع ماجد، وهم أهل الشرف وأهل الحسب، كما هو المصطلح اللغوي، ((والنجداء)) الشجعان ((من بيوتات العرب)) وقبائلها، ((ويعاسيب القبائل))، اليعسوب هو أمير النحل، فاستُعير كلمة اليعسوب لأمير القبيلة وأمير المجتمع، ((بالأخلاق الرغيبة)) التي يرغب فيها الإنسان الذي يريد أن يرتفع بنفسه، ((والأحلام العظيمة))، الأحلام يُراد بها العقول، ((والأخطار الجليلة))، وهي الأشياء التي لها شأن ولها قيمة، ((والآثار المحمودة))(3). وللحديث في شرح كلام عليّt تتمّة في لقاء آخر. والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
لا نزال نتابع الحديث عن العصبية؛ ذلك العنوان السلبي الذي يؤدّي إلى تدمير المجتمعات؛ لأنه ينطلق من الغريزة ولا ينفتح على العقل، وعندما يتعصّب الإنسان لتاريخه القبلي العشائري، فإنّ ذلك يؤدّي إلى حال من الجمود الفكري، لأنّه يبقى يتحرك في أفكاره وفي عاداته وتقاليده في الدائرة التي عاشها الأقدمون من عشيرته وقبيلته، ولا يسمح بفعل هذه العاطفة الغريزية أن يناقش ما كانوا عليه، أو يسمح لأحدٍ أن يناقش ذلك، وهكذا إذا تعصب الإنسانُ لشخصٍ فعاش في دائرةِ ذاته، أو تعصّب لحزبٍ فاستغرق في عناصره وخصوصياته، فإنه يبقى مع ما تعصب له في بداية الطريق، ولا يتحرك خطوةً واحدةً إلى الإمام؛ لأن ما تعصّب له يفرض عليه أن يخضع له، وأن تكون كلُّ مواقفه خاضعةً لما يتحرك به.
وهذا هو الذي أدّى إلى الكثير من التراجعات في العالم العربي والإسلامي؛ لأن الجو العام في ما يعيشه الناس في حالات الصراع المفتوح على أكثر من موقع من مواقع العصبية، يجعل الذين يعيشون في داخل هذا الصراع، لا يحاولون أن يفكروا في طبيعة العناصر التي تحكم هذا الفريق من فرقاء الصراع أو ذاك الفريق.
وهذا ما نلاحظه في جمود الاتجاهات العقيدية في الأديان وفي المذاهب، فنحن نجد مثلاً في ما نعيشه من العصبية بين السنّة والشيعة، أن السنّة ـ عموماً ـ لا يحاولون أن يتفهموا الحقائق التي يلتزم بها الشيعة، وإنما يحاولون أن يلتقطوا بعض السلبيات التي قد لا ينفتح عليها الشيعة، أو بعض الأخطاء التي يقعون فيها، أو بعض الأوضاع التقليدية التي استحدثها بعض الناس المتخلفين هنا وهناك.
وكذلك نجد أن عموم الشيعة ليسوا مستعدّين لأن يتفهموا ما عند السُنّة في طبيعة الخطوط الفكرية والخطوط العقيدية، بل يحاول هذا الفريق أن يركّز على ما عند الفريق الآخر من سلبيات مع إغفال ما عنده من إيجابيات، كما هو الحال في ما يفعله الفريق الآخر. وقد امتدّت هذه المسألة إلى مختلف أوضاع المجتمع في اتجاهاته الاجتماعية والسياسية.
ولعل السرّ في تخلّف مجتمعاتنا العربية والإسلامية، أنّهم جمدوا على ما وصل إليهم، وشُغلوا بحالة الصراع الغريزي في التعصب لما يلتزمونه هنا أو هناك، عن أن يفكروا في الآفاق الواسعة والتطوّرات التي حدثت والتحدّيات التي تواجههم.
فنحن نلاحظ في هذه الأيّام، أنّه عندما طُرحت مسألة الفتنة بين السنّة والشيعة على مستوى العالم الإسلامي، استغرق الناس عامّة في مفردات هذا الصراع، وانطلقوا يتحدثون عن مفردات التاريخ، مع أن الأرض تهتز تحت أقدامهم. وإننا، في الوقت الذي نؤكد فيه أن ما يختلف عليه السنّة والشيعة لا يخلو من أُسس وركائز قد تقع موضعاً للجدلِ العلمي، ولكن هل أن مشكلتنا الآن هي ما عاشه أجدادنا وآباؤنا في الماضي؟ هل هذه هي مشكلتنا التي نتنازع عليها ونختلف حولها ويضلّل بعضنا بعضاً ويكفّر بعضنا بعضاً بسببها.
ونحن نعرف كيف أن الاستكبار العالمي يحاول أن يجتاح كل شيء فينا، فيجتاح أوضاعنا السياسية وأوضاعنا الثقافية وأوضاعنا الاقتصادية؛ حتى إن هُناك، في الغرب، من يتحدّث عن أن علينا أن نمزّق نصف القرآن؛ لأننا لا نوافق عليه، ويتحدث هذا أو ذاك بطريقة سيّئة عن النبيw؛ حتى قال بعض المسؤولين في هولندا إنه لو كان محمدw موجوداً لطردناه من البلد.
إنّ هذه التحدّيات لا تجعلنا نشعر بالخطورة التي تجتاح كل العالم العربي والإسلامي، لتجعله هامشاً من هوامش المستكبرين في العالم، فتجدنا مشغولين ببعضنا بعضاً، فالسُني يكفّر الشيعي، والشيعي يكفّر السُني، وفتاوى التكفير والتضليل تطلق هنا وهناك، ونحن نختبىء تماماً كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال كي لا ترى الصياد، ولكنّ الصيّاد يصوّب كل سلاحه نحوها.
هذه كلها بفعل العصبية العمياء المظلمة التي تحبس الناس في زنازين أوضاعهم الذاتية والتاريخية والفئوية وما إلى ذلك.
ولذلك وقف الإمام عليt ليؤنب الناس الذين يعيشون معه، الذين تحرّكوا بفعل العصبية التي لا تنطلق حتى من القواعد التي يتحرك فيها عامّة المتعصبين، عندما يحاول هذا الفريق أن يُرجع عصبيته إلى سببٍ هنا أو سببٍ هُناك؛ فهي عندهم عصبية غرائزية تتحرك بفعل القوة الغضبية التي تؤدّي إلى حالة الحميَّة الجاهلية التي تجعل الإنسان يلتهب من دون أن يعرف كيف ولماذا وإلى أين.
وقد تناولنا بعضاً من خطبته في ما سبق.
ثم إن الإمامt يبيِّن بعض مفردات هذه العصبيّات. ويشير إلى مضامين العصبيات الإيجابية، فيقول: ((فتعصبوا لخلال الحمد))(1)، وهي مكارم الأخـلاق. ومكارم الأخلاق تمثّل العنوان الإسلاميَّ الكبير الذي عبّر عنه رسول اللهw بقوله: ((إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق))، فالنبيw جاء في خاتمة الرُسُل والرسالات ليضع الخاتمة لكلِ حركة تاريخ النظام الأخلاقي الذي بدأ به الأنبياء منذ عهد إبراهيمt؛ بحيث كان كل نبيٍ يعطي عناوين جديدة حسب حاجة مجتمعه، حتّى وصلت النبوّة إلى رسول اللهw، فأكمل كل مكارم الأخلاق، ودفع الناس إلى أن يعيشوا النظام الأخلاقي الذي يشمل كل حياتهم الفردية والاجتماعية، في كل المجالات الأمنية والاقتصادية والسياسية وما إلى ذلك.
وعن الإمام الصادقt، يقول: ((المكارم عشر، فإن استطعت أن تكون فيك فلتكن؛ فإنها تكون في الرجل ولا تكون في وُلده))؛ لأنهم قد لا ينفتحون على الأخلاق الإيجابية التي انفتح عليها والدهم، ((وتكون في ولده ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في الحر، قيل: وما هنّ؟ قال: صدق الناس، وصدق اللسان، وأداء الأمانة)) ، وقد ورد عندنا في أكثر من حديث، الحثّ على أداء الأمانة إلى البر وإلى الفاجر، أي ليس لك أن تسأل من يأتمنك عن طبيعته، هل هو إنسانٌ مؤمن أو إنسانٌ كافر، هل هو إنسانٌ طيب أو إنسانٌ خبيث؛ لأن قبولك للأمانة يفرض عليك أن تؤدّيها إلى صاحبها. والله تعالى يقول: )إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا( (2).
وقد ورد عندنا: ((لا دين لمن لا أمانة له، وإن صام وصلى))... ((وصلة الرحم))، وهي مما أمر الله به أن يوصل، ((وإقراء الضيف))؛ وهي استقبال الضيوف وإكرامهم عندما يأتون، وقد أكّد الله سبحانه وتعالى هذه العادة التي كانت موجودة في التاريخ العربي، وقد ذكر بعض الشعراء وهو المقنّع الكندي:
وإني لعبدُ الضيفِ ما دام نازلاً وما قيمةُ لي في غيرها تشبه العبدا!
بحيث أنه يعظّم ضيفه ويكون معه مثل العبد أمام سيده.
((وإطعام السائل))؛ الذي قال الله تعالى فيه: )وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ((3)؛ فالإنسان السائل الذي يبذل ماء وجهه لك، ويرى أن حاجته عندك، عليك أن تعمل على إطعامه وعلى قضاء حاجته.
((والمكافأة على الصنائع))؛ فإذا صنع لك إنسانٌ جميلاً، فعليك أن تُكافئه على ذلك. وقد قال تعالى: )هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ ( (الرحمن:60).
و((التذمم للجار))، أن تدخل جارك في عهدك، أي أن تحافظ عليه. ((والتذمّم للصاحب)) أي للصديق.
((ورأسُهن الحياء))(4) أن تستحي مما يُستقبح في حياة الناس من قولٍ أو فعل.
وفي الحديث أنّ رجلاً جاء إلى الإمام الصادقt، ((فقال: يا بن رسول الله، أخبرني عن مكارم الأخلاق))، وهذا الحديث ورد أيضاً عن رسول اللهw.
((فقال: العفو عمّن ظلمك، وصلة من قطعك، وإعطاء من حرمك)). وإذا أردنا أن نعطي عنواناً لهذه المفردات الأخلاقية الثلاث، فإننا نستطيع أن نقول إنّ الإمام الصادقt يقول: إن الأخلاق في الإسلام ليست تجارية، بمعنى أني أعطيك إذا أعطيتني، وأعفو عنك إن عفوت عني، وأصلك إذا وصلتني؛ بل إنني أعطيك وإن حرمتني، وأعفو عنك حتى لو ظلمتني، وأصلك حتى لو قطعتني.
وهذا ما عبّر عنه الإمام علي بن الحسين زين العابدينt في دعائه في مكارم الأخلاق عندما قال: ((وسددني لأن أعارض من غشني بالنُصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافي من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حُسن الذِكر، وأن أشكر الحسنة وأغضي عن السيئة))(5). فالأخلاق لا تتحرك في سوق الربح والخسارة على المستوى المادي، ولكنها تنطلق من عمق إحساسك بالمعنى الأخلاقي في علاقتك بالناس؛ بأن تعيش العطاء من قلبك لهم، حتى لو لم يبادلوك عطاءً بعطاء.
ثم يقولُ الإمام الصادقt: ((وقول الحق ولو على نفسك))(6)، فإذا دُعيت لتشهد، فلا تشهد إلا بالحقّ، ولو كان الحقّ عليك، وقد قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ((7).
وعن الصادقt أنه قال: ((عليكم بمكارم الأخلاق؛ فإن الله عزّ وجل يحبّها، وإياكم ومذامّ الأفعال؛ فإن الله عز وجل يبغضها، وعليكم بتلاوة القرآن... وعليكم بحسن الخُلق، فإنّه يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم. وعليكم بحسن الجوار؛ فإن الله عز وجل أمر بذلك، وعليكم بالسواك؛ فإنه مطهرةٌ وسُنةٌ حسنة))(8)؛ إذ لم يكن لديهم مثل ما هو موجود الآن من الأساليب السائدة لتطهير الفم، فالسواك يومذاك كان هو المستخدم.
وقد كنت قرأت كلام بعض الألمان، يتحدث فيه عن السواك فيقول: حلّلت السواك، فرأيت أنّه يشتمل على عناصر ضد الالتهاب وعناصر طبية أخرى، ولذاك فهمت لماذا يُصرُّ المسلمون عليه.
((وعليكم بفرائض الله فأدوها، وعليكم بمحارم الله فاجتنبوها))(9). هذا كلّه بالنسبة إلى مكارم الأخلاق.
فالإمام عليّt يقول: إذا أردتم أن تتعصّبوا لشيء، وتدافعوا عنه بقوة دفاع الملتزم والداعية، فانطلقوا إلى مكارم الأخلاق ومكارم الخصال ومحامدها.
والنقطة التي أكّدها الإمامt هي ((الحفظ للجوار))(10)، أي أن تعيش مع جارك لترعاه وتحسن إليه وتعمل على أن تجلب له ما يحقّق له الاستقرار والطمأنينة والنفع في ما يحتاجه. فقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق: ((حُسن الجوار يُعمر الديار، وينمي الأعمار))(11)، بحيث إذا أحسن الإنسان جوار من جاوره، فإن الله سبحانه وتعالى يفيض عليه في الدنيا قبل الآخرة ويزيد في عمره.
وفي الحديث عن الصادقt، عن آبائه، عن عليّt، عن رسول اللهw في حديث المناهي، متحدثاً في الجانب السلبي في مسألة العلاقة بالجار، ((قال: من آذى جاره حرَّم الله عليه الجنّة ومأواه جهنم وبئس المصير، ومن ضيّع جاره فليس منا، وما زال جبرائيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه))(12)، بحيث إنّ الله سبحانه وتعالى أراد للإنسان أن يعمّق العلاقة بجاره، وأن تكون، في عمقها، قريبةً من العلاقة النسبيّة التي تستوجب الإرث بين أفرادها.
أحد الأعلام علَّق على هذه الأحاديث قائلاً: ليس حُسن الجوار كفّ الأذى فقط، بل تحمّل الأذى منه أيضاً. ومن جملة حُسن الجوار، ابتداؤه بالسلام، وعيادته في المرض، وتعزيته في المصيبة، وتهنئته في الفرح، والصفح عن زلاته، وعدم التطلع على عوراته، وترك مضايقته فيما يحتاج إليه من وضع جذوعه على جدارك، وتسلط ميزابه على دارك.
وهناك عنوان آخر ذكره الإمام عليt كقيمة من القيم التي ينبغي أن يتعصَّب لها الإنسان، وهي ((الوفاء بالذمام))(13)، والذمام كناية عن العهد، أي أن تُدخله في ذمتك وفي عهدك، وذلك بأن تحميه. وعن النوفلي، عن السكوني، عن الإمام الصادقt: ((قلت له: ما معنى قول النبيw: المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم؟ قال: لو أن جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين، فأشرف رجل من المشركين فقال: أعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم وأناظره، فأعطاه أدناهم الأمان))، أيّ أقلّهم رتبةً في الجيش، وهو ممّن ليس له القيادة، ((وجب على أفضلهم الوفاء به))(14).
وفي الحديث عن عليّt: ((من ائتمن رجلاً على دمه))، بحيث إن أحداً قال له: آمني، فآمنه، ((ثم خاس به)) أي غدر به، ((فأنا من القاتل بريء وإن كان المقتول في النار))(15).
ومن العناوين التي ذكرها الإمام عليّt في خطبته، في ما ينبغي أن يتعصّب الإنسان له: ((والطاعةُ للبر))، والبرّ عبارة عن اسم جامع للخيرات، كما قال تعالى: )لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ((16). وقد يُراد منه البارّ، قال تعالى: )وَلَيْسَ البِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى( (17). وعلى هذا، فالمقصود بالطاعة للبر، أي الطاعة للأبرار المتقين؛ لأن الأبرار المتقين لا يأمرون إلا بالخير وبالتقوى، فتكون طاعتهم طاعة للخير وطاعة للتقوى.
ومن الأمور التي ذكرها الإمام عليt: ((والمعصية للكبر))، أي إذا انتفخت نفسك وتضخمت، وأرادت لك أن تعيش الكبرياء ضد الآخرين، في أن تنطلق في حياتك على أساس التكبّر، فإنّ عليك أن تعصي هذه الحالة النفسية التي تنطلق من خلال إحساسك بالانتفاخ الذاتي في شخصيتك، كما هو حال المستكبرين. ونحن نعرف أن الله سبحانه وتعالى أخرج إبليس من الجنّة بسبب عصيانه وتكبّره، ولذلك قال له: )فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا((18)، باعتبار أنه تكبّر على آدم بعنصره، ومن الطبيعي أن الإنسان المتكبر هو الإنسان الذي يحاول أن يضخم عناصر الشخصية الموجودة لديه، ويحقّر عناصر الشخصية الموجودة لدى الآخرين.
فعلى الإنسان أن يعمل على مخالفة حال التكبر عندما تنشأ في نفسه. وقد تحصل هذه الحالة للإنسان عندما ينجح في بعض الأمور ويسقط الآخرون في ما نجح فيه؛ فكأنه يعيش حالة انتفاخية في هذا المقام، فيشعر بنفسه بأنه أعلى من الآخرين وأقوى منهم.
فالإمامt يقول إن هذه الحالة التي ينبغي للإنسان أن يلتزم بها وأن يدعو إليها في مواجهة حالة التكبر التي تكون عند الإنسان، هي:
((والأخذ بالفضل))، يمكن أن يراد به الأخذ بالعمل الصالح؛ لأن العمل الصالح يشتمل على الفضل الذي يفضل الأعمال الأخرى. وعلى أي حال، فمعنى الأخذ بالفضل أي المواظبة عليه، وبهذا فُسر قوله تعالى: )وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ((19). وقيل إن الفضل هنا بمعنى التفضل، أي يؤتي كل ذي إفضال على غيره، بمال أو كلام أو عمل، جزاء إفضاله. وربما يقال: يؤتي كل ذي عمل صالح ـ وهو مصداق من مصاديق الفضل ـ ثوابه عند الله ودرجته في الجنة.
وعن أبي حمزه الثمالي عن علي بن الحسينt، ((أنه قال: إذا كان يوم القيامة، جمع الله تبارك وتعالى الأولين والآخرين في صعيدٍ واحد، ثم ينادي منادٍ أين أهل الفضل؟ قال: فيقوم عنق من الناس (جماعة) فتلقّاهم الملائكة، فيقولون: وما كان فضلكم؟ فيقولون: كنا نصل من قطعنا، ونعطي من حرمنا، ونعفوا عمن ظلمنا، قال: فيقال لهم: صدقتم، ادخلوا الجنة)).
((والكفُّ عن البغي))، والبغي هو عبارة عن العدوان الذي يمثّل كل أساليب الظلم، سواءً العدوان على النفس أو على العرض أو على المال أو على الحرية أو على كل ما يملكه الناس في حياتهم العامة والخاصة، ومنه الاستطالة على الناس والعدول عن الحق. قال الإمام الصادقt: ((قال رسول اللهw: إن أعجل الشر عقوبة البغي))(20)، أي أنّ أسرع شيء يُعاقب عليه صاحبُه هو البغي.
وعن السكوني عن أبي عبد اللهt، ((قال: يقول إبليس لجنوده: ألقوا بينهم ـ بين الناس من المؤمنين ـ الحسد والبغي، فإنهما يعدلان عند الله الشرك))(21)، بمعنى أنّهما يعدلانه في الإخراج من الدين، وفي التعرض لعقوبة الله سبحانه وتعالى.
((والإعظام للقتل))، وهي من الأمور التي نبّه عليها الإمام؛ فعلى الناس أن تستعظم القتل بغير حق، بحيث تعتبره عملاً عظيم الخطر وعظيم السوء. والمراد به قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق؛ فإنه من أكبر الكبائر ومن أعظم الذنوب. قال الله: )وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا((22). وعن سعيد الأزرق عن الصادق t في رجل قتل رجلاً مؤمناً، قال: يقال له: ((مُت أيّ ميتة)) عندما يموت ((إن شئت يهودياً وإن شئت نصرانياً وإن شئت مجوسياً))(23) باعتبار أن القتل يعادل الكفر. )وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا((24).
((والإنصاف للخلق))؛ أن تُنْصِفَ الناس من نفسك؛ بحيث إذا كان لهم عليك حقٌ، أن تؤدّي لهم حقوقهم من دون حاجة إلى أن يرفعوا عليك دعوى، أو أن يجلبوك إلى القاضي.
((وتؤمن بما للناس من حقوق)). وقد رُوي في الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله قال، قال رسول اللهw قال: ((سيد الأعمال إنصاف الناس من نفسك ومواساة الأخ في المال، وذكر الله على كل حال))(25).
وعن أبي حمزه الثمالي عن علي بن الحسين قال: ((كان رسول اللهw يقول في خطبته: طوبى لمن طاب خُلُقه، وطَهُرت سجيته، وصلُحت سريرته، وحسُنت علانيته، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، وأنصف الناس من نفسه))(26). وهذا كناية عن أن الله سبحانه وتعالى سوف يعطيه الدرجة العليا في الجنة.
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبt في كلامٍ له: ((ألا إنه من يُنصف الناس من نفسه، لم يزده الله إلا عزاً))(27). وعن الصادقt: ((قال: ثلاثةٌ هم أقرب الخلق إلى الله عز وجل يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب؛ رجلٌ لم تدعهُ قدرته في حال غضبه إلى أن يحيف على من تحت يده)) أي أنه لا يظلم الإنسان الضعيف الذي عنده، ((ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة، ورجلٌ قال الحق فيما له وفيما عليه))(28)، وهو الإنصاف في الناس.
((والكظم للغيظ)) أن تكظم غيظك؛ بمعنى أنك إذا تعرّضت للغيظ من قِبل الآخرين، وأغضبك الآخرون وكظمت غيظك؛ فقد جعلك الله من الكاظمين للغيظ الذين يستحقّون الجنة، )وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ((29). وعن الصادقt: ((من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ـ أي أنه كان قادراً على أن يرد الغيظ بمثله ـ ملأ الله قلبه يوم القيامة رضاه))(30). وعن أبي جعفر، محمد الباقرt، قال: ((من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه، حشا الله قلبه أمناً وإيماناً يوم القيامة))(31).
وفي نهاية المطاف، يقول الإمام عليّt: ((واجتناب الفساد في الأرض))، وذلك أن تكون من الناس الذين يتحرّكون في خط الإصلاح؛ إصلاح الواقع للناس، سواء كان واقعاً سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو أمنياً أو ثقافياً أو ما إلى ذلك، وأن تدعو الناس إلى عبادة الله ولا تدعوهم إلى عبادة غير الله، وأن لا تأكل أموال الناس بالباطل بغير حق، وأن لا تقتل النفس التي حرّم الله سبحانه وتعالى إلا بالحقّ، وأن لا تعمل بالمعاصي، وأن لا تُثير الفتنة التي تمزق المجتمع، وأن لا تعاون الظالمين، وأن لا تقهر المستضعفين، وأن لا تقطع الطريق الآمنة للناس. وبهذا فُسّر قوله تعالى: )تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ((32). وهذا أيضاً ما نقرأه في قوله تعالى بالنسبة إلى قوم موسى t عندما قالوا لقارون: )لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ((33).
وهكذا ختم الإمام عليt كلامه. ومن الطبيعي أنّهt لم يستعرض كل خلال الحمد، وإنما ذكر هذه كنماذج لما ينبغي للإنسان أن يقوم به، وأن يدعو له، ليتحرّك بقوة في سبيل تأكيده في حياة الناس، حتى يمكن أن يحقّق للحياة العامة الاطمئنان والسلامة والانفتاح على ما يرفع مستوى الناس.
ولحديث الإمام t تتمّة، والحمد لله ربّ العالمين.
|
||||||
![]() |
||||||
|
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
تناولنا فيما سبق حديث الإمام عليّt عن العصبية وآثارها المدمّرة على الأفراد والجماعات. وقد أثار الإمامt الكثير من العناوين التي تُبعد الناس عن هذا المرض الأخلاقي الخبيث، وتربطهم بالقيم الإنسانية التي إذا التزمها الناس، فإنها ترتفع بهم إلى كل مواقع التقدّم، وإلى كل مجالات النمو والانفتاح على مواقع القوة في العالم.
وفي حديثنا هذا، نسير مع الإمام عليt في دعوته إلى أن ندرس تاريخ الأمم، في كل نقاط ضعفهم وقوتهم، فيما قاموا به من تجارب سلبية أسقطت أوضاعهم، أو تجارب إيجابية رفعت مستواهم؛ لأن الإمامt يوجّه الناس إلى أن يدرسوا الفكرة في خطوطها النظريّة والعملية، ثم يُتابعوها في تأثيراتها في ساحة التجارب؛ لأن التجربة في قيمتها العلمية تُثبت واقعية الفكرة، فالتجربة السلبية لفكرة سلبية، تُثبت أن هذه الفكرة إذا انطلقت في واقع، فإنها تؤدّي إلى نتائج سيّئة في حياة الإنسان، وإذا كانت التجربة منفتحة على فكرة إيجابية، فإنها تؤكّد واقعية هذه الفكرة ودورها في التأثيرات الطيّبة على حياة الإنسان.
ونحن نعرف أن أصول المعرفة في الإسلام تنطلق في دائرتين:
1 - دائرة التأمل، وذلك عندما تُطرح الفكرة، فيحاول الإنسان أن يحرّك عقله ليتأمل في عناصرها، ليلحظ ما يُمكن للفكرة أن تمثّله من حقيقة واقعية. وهذا ما درج عليه الفلاسفة في التاريخ.
2 - دائرة التجربة، حيث جاء الإسلام ليركز المعرفة على خطّ التجربة. وقد ورد عن الإمام عليt: ((التجربة عقلٌ مستحدث)).
فالتجربة تمثّل، في حركيّتها وامتداداتها، المعرفة العقلية التي تتحرّك في الواقع. وقد ورد في حديث الإمام علي t وهو يدعو الناس إلى الاستفادة من التجربة: ((خيرُ ما جرّبتَ ما وَعَظَك))(1).
الخط الأول هو تجربتك في ممارساتك الخاصة؛ فأنت تجرب الحُلو والمُر، والخبيث والطيّب، والخير والشر؛ لتكتشف ما في داخل هذه المفردات من العناصر الجيّدة أو العناصر غير الجيدة؛ لتأخذ منها علماً يحدّد لك طبيعة ما عايشتَه من هذا الجانب أو ذاك.
الخطّ الثاني: تجارب الآخرين، عندما ينطلق التاريخ كلّه في مدى الزمن؛ لينقل إليك تجارب الآخرين في حياتهم الخاصة وفي حياتهم العامة، فهناك الذين واجهوا الأنبياء، وتمرّدوا عليهم ووقفوا ضد حركتهم في المجتمع، وأثاروا المنازعات والخلافات والفِتن التي تنطلق من القيم السلبية، وفي مقدّمها العصبية.
وفي مقابل ذلك، هناك الذين وقفوا معهم، وقدّموا تجربة الوحدة والإلفة والاجتماع والتواصل والتكامل، التي إذا أخذت بها هذه الأمة أو تلك، فإنها تسيرُ في الخط الذي يمكن أن يصنع الخير والسلام، ويخطط لصنع الحضارة، ممّا يمكن له أن يطوّر حركة العلم أو حركة الانفتاح والوعي وما إلى ذلك.
ونحن نعرف أن ذلك كلّه كان من خلال الوحي القرآني الذي حدّثنا عن قصص الماضين ممّن عارضوا الأنبياء واضطهدوهم، وممّن آمنوا بهم وساعدوهم، في حديثه عن النتائج الطيبة وغير الطيبة لهذه التجارب. وهذا ما نقرأه في قوله تعالى: )لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ((2). والعبرة تمثّل الثقافة التي يأخذها الإنسان من التجربة وفقاً لدراسة طبيعتها ونتائجها.
ونقرأ في أكثر من آية دعوةً للإنسان لأن يقرأ آثار الماضين ويدرس كيف تمرّدوا، وكيف سقطوا، وكيف أنزل الله بهم العذاب انطلاقاً من تمرّدهم على الله وعلى رُسله. فقال تعالى: )قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ((3)، وقال تعالى: )فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا...((4)، )أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ((5)، وغيرها من الآيات.
ولذلك، فإن الإمام علياًt في خطبته، يدفع بنا إلى أن نستنطق التاريخ في دراسة تجاربه، فيقول: ((واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المَثُلات))، والمراد من كلمة مثُلات العقوبات التي تنزل بالناس نتيجة انحرافهم عن الخط المستقيم ((بسوء الأفعال)) التي مارسوها، ((وذميم الأعمال»، التي تؤدّي إلى نتائج غير جيّدة، ((فتذكّروا))، وأنتم تسترجعون الماضي وتحاولون أن تنفتحوا على كل آثاره وأوضاعه، ((في الخير والشرّ أحوالهم))، أي ادرسوا مواقع الخير عندهم وما هي نتائجها، ومواقع الشر عندهم وما هي آثارها، ولا تمرّوا على سيَر التاريخ مرور الكرام، بل توقّفوا عندها وقفة الإنسان الذي يُحاول استخلاص الأفكار السليمة التي تقوده إلى الاعتبار بما يحقّق له الخير في حياته. ((واحذروا أن تكونوا أمثالهم))، بحيث تسيرون على هديهم، وتأخذون بصيغتهم، فتقعون في ما وقعوا فيه، وتعانون مما عانوا منه. ((فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم، فالزموا كل أمرٍ لزمت العزّة به شأنهم)). وهنا يُشير الإمامt إلى عناصر الخير وعناصر النجاح، وكيف استطاعوا أن يأخذوا بأسباب العزة التي ترتكز على قاعدة القوة؛ لأنه لا عزة من دون قوة، سواء كانت هذه القوة قوة روحية أو قوة جسدية أو قوة الموقف التي تمنع الآخرين من أن يعتدوا عليك أو أن يسقطوك.
((وزاحت الأعداء له عنهم))، أي أبعدت، فحاولوا أن تتعرّفوا ما أبعد الأعداء عنهم؛ لأن الأعداء رأوهم وهم يأخذون بأسباب القوة وأسباب العزة والكرامة، ((ومُدَّت العافية فيه عليهم))، أي انطلقت العافية من البلاء، والعافية من الاعتداء، بما أخذوا به من أسباب العزّة. ((وانقادت النعمة له معهم))؛ لأنهم عندما يتواصلون ويتكاملون ويقوّي بعضهم البعض الآخر ويتعاونون، فمن الطبيعي أن تتوافر لهم كل أسباب النعمة؛ لأن النعمة تنطلق من خلال تحرك كل الطاقات في عملية النمو، وفي عملية الاستثمار، وفي عملية الحصول على المكاسب وعلى الأرباح التي يحتاجها الإنسان هنا وهناك. ((ووصلت الكرامة عليه حبلهم))، أي انطلقت كرامة الله سبحانه وتعالى، فأفاضت رحمته عليهم، وبذلك وصل الله حبلهم بحبله.
((من الاجتناب للفرقة، واللزوم للإلفة))(6)، وكلّ ذلك لأنهم اجتنبوا الفرقة التي تمزّق مجتمعهم وتسقط وحدتهم؛ والفرقة تؤدّي إلى أن يقف كل فريق في مواجهة الفريق الآخر، ويحاول أن يتحرّك بطريقة عدوانية أو بطريقةٍ غير جيّدة ضد الطرف الآخر؛ فإذا حصل ذلك، فإن الأعداء سوف يستغلّون ذلك ليسقطوا المجتمع من خلاله. فهؤلاء اجتنبوا الفرقة، ولزموا ما يربط بعضهم ببعض، ويفتح قلوب بعضهم على بعض.
وهذا ما نستوحيه في قوله تعالى: )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا(، بحيث يصل كل فريق من الجماعة حبله بحبل الآخرين، من خلال وحدة الحبل، وهو الإسلام، كما فُسّر في حديث، وهو القُرآن كما فُسّر في حديث آخر. وأيّاً كان، فهو الخط الذي يربط الناس بالله سبحانه وتعالى، )وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً( قبل أن تدخلوا في الإسلام، وقبل أن يجمعكم رسول الله على الإيمان بالله، لتنفتحوا على كل القيم الروحية والتقوى العملية.
وهذه الآية نزلت في الأوس والخزرج، وهما القبيلتان الأساسيّتان اللتان تمثّلان مجتمع الأنصار في المدينة المنوّرة، عندما أُريد لهم من قِبل بعض اليهود أن يرجعوا إلى تاريخ العصبيات ليثيروا حساسياتهم، وليدفعوا بالمجتمع إلى النـزاع، وربما إلى التقاتل، )فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ((7)، والمقصود بالقلوب في القرآن هي العقول، وربّما تمتدّ إلى كل المنطقة الداخلية للإنسان، من المشاعر ومن الأحاسيس والانفعالات، فإن القلوب إذا تآلفت انفتحت على بعضها البعض، واستطاعت أن تصل إلى الوحدة على مستوى الخط وعلى مستوى النتائج.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذه الإلفة بين المؤمنين من خلال لُطفه ورحمته. وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: )لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ((8). وقد قال تعالى له في آيةٍ أخرى: )إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ((9)؛ لأنك لا تملك قلوب الناس، وإنّما تملك الأساليب التي يمكن أن تفتح القلوب عليها، ليتحرّك كل فريق من خلال مفردات هذا الانفتاح ليلتقي بالفريق الآخر. فالمال لا يمكن أن يؤلّف بين قلبين وبين عقلين وبين اتجاهين، بل إنما يحلّ مشكلةً هنا ومشكلةً هناك، ويلبي طمعاً هنا وطمعاً هناك، )وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ(؛ لأن الله هو مالكُ القلوب، وهو مقلب القلوب.
((والتحاضّ عليها والتواصي بها))؛ إذ لا يكفي أن لا تتفرّقوا أو أن تتآلفوا، بل لا بدّ من أن يحمل كل واحدٍ منكم رسالة الرفض للفرقة، والدعوة إلى الإلفة. فالمطلوب أن تحضّوا على الإلفة وأن تتواصوا بها. وهذا ما أراده الله سبحانه وتعالى لنا وبيّنه في سورة العصر عندما قال: )وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ((10)، فلا يكفي الإيمان بالحق، بل لابد لك من أن تدعو إلى الحق. والحقّ هو كلّ ما يرتفع بالناس ليقرّبهم إلى الله سبحانه وتعالى، ويقرّبهم إلى مصالحهم.
ولذلك، لا بدّ لنا، من خلال إيحاء هذه المفردات، أن ننفتح على كلّ القيم؛ فلا يكفي أن ترتبط بالقيم، بل لا بدّ لك، أن تحضّ عليها وأن توصي الآخرين بها؛ لأن الإسلام يريد من كل مسلمٍ أن يأخذ بخط الدعوة إلى التقوى، إلى جانب الالتزام بخط التقوى نفسه، وقد قال تعالى: )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ((11).
ثمّ ينتقل الإمامt إلى بيان الجوانب السلبية، فيقول: ((واجتنَبوا كل أمر كسر فقرتهم))، والمقصود بالفقرة هي فقرة الظهر، وهي كناية عن كسر ما يمثّل العماد الذي يقوم عليه المجتمع، نظير الظهر الذي يُكسر ويؤدي بالإنسان إلى أن لا يملك الاستقامة في مشيه وفي حركته. ((وأوهن منَّتهم))، والمنة هنا يراد بها القوة، أي أوهن قوتهم، ((من تضاغن القلوب))، حيث يحمل كل قلب الضغينة على الآخر. ومن الطبيعي أن الضغينة تختزن الحقد والعداوة، وبالتالي فإنها تؤدي إلى سقوط المجتمع في ذلك كله. ((وتشاحن الصدور))، بأن تتحرك الصدور، التي هي كناية عما يختزنه الإنسان من المشاعر والأحاسيس، في الحقد بين إنسان وإنسان، ((وتدابر النفوس))، وهو كناية عن الإعراض عن الآخر، بحيث يولي كلٌّ منهم للآخر ظهره، بحيث يذهب كل واحد في اتجاهٍ غير الاتجاه الذي يذهب به الإنسان الآخر، ويقف الموقف الذي يُضادّ موقف الآخر، من دون نظرٍ إلى ما يجمع بينهما في هذا المجال. ((وتخاذل الأيدي)) بحيث لا تنطلق اليد من أجل أن تعاون الواحدة الأخرى، وذلك عندما يتعرّض للاعتداء من قبل الناس الذين يعتدون عليه.
ثم يقولt بعد أن يركّز المفردات الإيجابية والمفردات السلبية: ((وتدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم))؛ لأنه كانت هناك مجتمعات إيمانية عاشت في التاريخ وآمنت بالأنبياء وتحرّكت في خط الاستقامة، ((كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء)) أي في حال التعرّض للمشاكل ومواجهة العقبات والشدائد في حياتهم، بسبب ضغط الحياة عليهم، أو بسبب عدوان الآخرين عليهم. ونحن نعرف أن البلاء يمحّص الإنسان؛ لأن الله يختبر الإنسان عندما ينزل عليه البلاء ليرى هل يقف بتوازن أو يسقط أمام البلاء. ((ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباءً))، أي أنهم كانوا يعيشون ثقل المسؤوليات وثقل المشاكل وثقل الأحمال بشكلٍ يتميّزون به عمن حولهم، ((وأجهد العباد بلاءً))، أي كانوا في أيّ بلاء يحلّ بهم، يواجهون الجهد والمشقة والتعب بما لم يبلغه الآخرون من العباد.
((وأضيق أهل الدنيا حالاً))، أي من خلال الضيق المالي أو الضيق الأمني أو الضيق الصحي أو ما أشبه ذلك؛ ((اتخذتهم الفراعنة عبيداً فساموهم سوء العذاب)). وهذا هو حال المؤمنين في زمن موسىt، حيث استعبدهم فرعون واضطهدهم، وكان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم؛ وقد قال تعالى: )وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ العَذَابِ المُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ المُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ * وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ((12)؛ وقال تعالى: )إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ((13).
((وجرّعوهم المرار))، أي جرّعوهم المُرّ، وهو كناية عن المشقّة والجهد والبلاء، ((فلم تبرح الحال بهم في ذُل الهلكة وقهر الغلبة))، أي كانوا يواجهون الموت والهلاك، وكانوا يعانون من غلبة فرعون بسُلطانه عليهم، ((لا يجدون حيلةً في امتناع)) عمّا يُفرض عليهم، ((ولا سبيلاً إلى دفاع)) لما يوجّه نحوهم، ((حتى إذا رأى الله جد الصبر منهم على الأذى في محبته))، فكان صبرهم لله تعالى، فلم يسقطوا أو يجزعوا، ((والاحتمال للمكروه من خوفه))، فقد كانوا يخافون الله؛ ولذلك لم يعترفوا بربوبية فرعون، وساروا مع موسىt، ((جعل لهم من مضائق البلاء فرجاً))، وقد قال تعالى: )وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا((14)، ((فأبدلهم العز مكان الذُل، والأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكاً حكاماً، وأئمة أعلاماً)) عندما أغرق الله فرعون. ((وبلغت الكرامة من الله لهم ما لم تبلغ الآمال إليه بهم))(15)، ما لم يكونوا يتصوّرون أنّهم يحصلون عليه، وما لم يكونوا يأملونه في أمنياتهم.
وتبقى للخطبة بعض جوانبها في هذا الاتجاه. والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
كُنا نُتابع الإمام أمير المؤمنينt، في خطبته التي كان يستهدف فيها إثارة الوعي نحو الوحدة بين المسلمين، ويحذّر من كل حركةٍ للفرقة، ويدعو المسلمين، في زمانه وفي امتدادات الأزمنة، إلى أن يدرسوا التاريخ؛ تاريخ الأمم التي توحّدت فرفعها الله، وتفرَّقت فخفضها الله. وعليٌt عندما يتحدّث عن الخطوط العامّة للأمّة في ما يرفع مستواها، لا يتحدث عن مرحلته خاصةً، بل عن الأمةِ كلّها في الزمنِ كله؛ لأن علياًt كان إمام الحقيقة التي لا يختلفُ فيها زمنٌ عن زمن؛ فهي تفرض نفسها في نتائجها الإيجابية على الزمنِ كله، وعلى الإنسانِ كله.
ويتابع الإمام حديثه فيقول: ((فانظروا كيف كانوا حيثُ كانت الأمْلاء مجتمعة)). والأملاء جمع ملأ، والمراد بها الجماعات من الناس، أي كيف كانت هذه الجماعات تلتقي مع بعضها البعض على القضايا المشتركة، والتي تترك تأثيراتها الإيجابية عليهم جميعاً.
((والأهواء متّفقة))؛ فلم يكن أحدٌ من هذه الجماعة يملك هوىً ذاتياً يمكن أن ينطلق من خلالِ حالةٍ غريزية أو حالة شهوانية أو حالة ذاتية، بل كان هوى الفرد هو هوى الجماعة؛ ولذلك كان هوى كل شخصٍ يلتقي بهوى الشخص الآخر؛ لأنه يشعر أن كل ما يتمنّاه الشخص يدخل في حساب ما يمكن أن يبني المجتمع الذي تناله بركاته. ((والقلوب معتدلة))؛ فليس هناك قلبٌ يميل إلى جهة الشرّ أو إلى ما يؤدي إلى نتائج سيئة على المجتمع، أو إلى أي موقعٍ يضرّ بالمجتمع ويبعد عن خط الاستقامة.
((والأيدي مترادفة))، أي كانت الأيدي تتلاقى مع بعضها البعض، ويعاون بعضها بعضاً. ولذلك كان ذلك المجتمع يحقّق النتائج الكبيرة نتيجة لتلاقي الجهود نحو الهدف الواحد، حيثُ لا تستطيع اليد الواحدة أن تحقّق ذلك كلّه. ((والسيوف متناصرة)) في مواجهة الأعداء والتحدّيات؛ فليس هناك سيفٌ يخذل أُمته ويخذل المجتمع ويوجَّه إلى الداخل.
((والبصائر نافذة))، البصائر جمع بصيرة، وهي تمثّل ما يختزنه الإنسان من الوعي الذي ينفتح على الرأي الصائب وعلى الفكر الناضج.
((والعزائم واحدة))؛ بحيث ينطلق المجتمع كلّه من خلال إرادة الانتصار والتقدم، وعزيمة الانطلاق إلى القضايا الكبرى.
ثم يشرح الإمامt طبيعة هذا النوع من علاقات هذا المجتمع ببعضه البعض في ما يؤدِّي إلى وحدته وما ينتج عن ذلك،فيقول:
((ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين؟)) أي اقرأوا تاريخهم؛ فهم كانوا الأرباب، بمعنى السادات، ولا يقصد الآلهة. قال تعالى في حكاية قول يوسفt: )قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ((1) أي ارجع إلى سيّدك. فالإمامt يقول إنهم كانوا سادات، وكانت لهم السلطة من خلال هذه الوحدة التي تجمعهم، ((وملوكاً على رقاب العالمين))، فاستطاعوا، من خلال هذه القوّة الاجتماعية، أن يملكوا المواقع المتنوّعة في حياة الناس، فقبلهم الناس أن يملكوا أمرهم، وأن يسيطروا عليهم، وأن ينظّموا لهم حياتهم.
ولكن كيف صارت أحوالهم؟ وكيف تغيّرت الصورة؟ وكيف انقلبت الأحوال؟
((فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم حين وقعت الفرقة))، وأصبح كل واحد يعيش أوضاعه الخاصة وبشكلٍ منفصلٍ عن الآخر، فغفلوا بذلك عن القضايا الكُبرى، فانفرط عقدهم.
((وتشتّتت الألفة))، فتمزقت الإلفة الروحية التي يألف فيها أحدهم الآخر وينفتح بالحب عليه، ((واختلفت الكلمة والأفئدة)) فأصبح لكل فريقٍ كلمةٌ مختلفة عما ينطلق به الفريقُ الآخر، بحيث تعددت الاتجاهات؛ وانطلقت القلوب لتنفصل عن بعضها البعض؛ فلا ينفتح قلبٌ على قلب، بل ربما تنفتح القلوب على الحقد والعداوة والبغضاء، ((وتشعّبوا مختلفين))، فأصبحوا شعوباً مختلفة؛ فكل منهم يمثّل موقعاً مستقلاً عن الموقع الآخر، تماماً كما لو لم تكن هناك علاقة فيما بينهم، ((وتفرَّقوا متحازبين))، فأصبحوا كما قال تعالى: )كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ((2).
((قد خلع الله عنهم لباس كرامته)). فعندما صاروا إلى هذا الواقع وانحدروا فيه، خلع الله عنهم لباس كرامته؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى أجرى الأمور، في ما يُكرم به الناس أو في ما يُذلهم به، من خلال ما يمارسون من أفعال ومن أخلاق ومن علاقات، ونحن نقرأ ـ في هذا المجال ـ قوله تعالى: )إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ((3)، )ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ((4)، )ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ((5)؛ فإن الله لم يخلع عنهم لباس كرامته بشكلٍ مباشر، ولكن من خلال ما عاشوه في طريقة إدارتهم للواقع.
((وسلبهم غضارة نعمته)). الغضارة هي السعة، فكانوا في سِعة النعمةَ وازدهارها، فسُلبوها، فأصبحوا في ضيقٍ منها، ((وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين))، وتحول هذا الواقع إلى أن يكون درساً وعبرةً لمن يريد الاعتبار في التاريخ للأمم الآتية؛ حتى إذا درسوا أسباب هذا الانحدار بعد ذلك الارتفاع، استطاعوا أن يرتّبوا أوضاعهم وأمورهم بما لا يصل إلى ما وصل أولئك إليه.
ثم ينطلق الإمامt ليتحدث عن الواقع العربي، فيقول: ((فاعتبروا بحال وُلْدِ إسماعيل، وبني إسحاق، وبني إسرائيل، عليهم السلام))، هؤلاء الذين اختلفت أوضاعهم وأمورهم بحسب طبيعة سلوكهم العملي، فيقولt: ((فما أشد اعتدال الأحوال))، بمعنى تناسبها، فلو أردنا أن ندرس أحوالهم وندرس أحوالكم، لرأينا هناك تناسباً وتشابهاً بين أحوالكم في هذا الاهتزاز الذي تعيشون فيه وأحوالهم، ((وأقرب اشتباه الأمثال)) أي تشابه الأمثال؛ فإنّ التاريخ يعيد نفسه، فالأقربون في الحاضر يشبهون في خصائصهم وصفاتهم من كان قبلهم في الماضي.
((تأملوا أمرهم))، وهنا يعودُ الإمامt ليدعوهم إلى دراسة واقع العرب، ودراسة واقع اليهود، فلا تقرأوا التاريخ قراءة ساذجة كما يقرأ الإنسان ما يثير في نفسه الملهاة، ولكن اقرأوه وادرسوه دراسة علمية عميقة، تحاولون من خلالها أن تأخذوا السُنن التي تحكم المجتمعات في عالم ارتفاعها وهبوطها، وفي عالم حريتها وعبوديتها، ((في حال تشتتهم))، عندما تفرّقوا عشائر وقبائل، كل قبيلة تستقلّ بنفسها عن القبيلة الأخرى، وكل عشيرة تحارب أو تتعصّب ضد العشيرة الأخرى.
((وتفرقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم)). حيث كان العرب في الجزيرة آنذاك يخضعون للفرس والروم، وكان الفرس والروم يتجاذبون السيطرة على الواقع العربي، وربما كانوا اليهود أيضاً يخضعون للقياصرة والأكاسرة في مواقعهم التي يعيشون فيها، ((يحتازونهم))، أي يبعدونهم ((عن ريف الآفاق)) أي الأراضي الخصبة؛ باعتبار أن الريف هو موضع الخصب فيه، ((وبحر العراق)) الذي يشتمل على دجلة والفرات، حيث الماء الذي يحتاجه الناس في زراعتهم وريّهم.
((وخُضرةِ الدُنيا)) وهي المناطق الخضراء، ((إلى منابت الشيح)) أي حيث ينبت الشوك، ((ومهافي الريح)) أي المواضع التي تهب فيها الرياح، ((ونكد المعاش))، أي شدته وعسرته، ونحن نعرف كيف كان العرب يعيشون في شظفٍ من العيش، ((فتركوهم عالةً)) على غيرهم ((مساكين إخوان دَبَر)). الدبر هو القُرحة التي تكون في ظهر الدابة، ((ووبر)) وهو شعر الجمال، أي تركوهم رُعاةً، ليست عندهم من وسائل الإنتاج ما يطوّرون فيه حالتهم الاقتصاديّة إلى حالٍ أفضل.
((أذلّ الأمم داراً))؛ لأنهم لا يملكون في هذه الدار ما يحقّق لهم العزة والكرامة من خلالِ ما يملكون من قوة، ((وأجدبهم قراراً)) ليس لهم قرار في أرضهم يمكن أن يحقّق لهم النمو والخصب.
((لا يأوون إلى جناح دعوةٍ يعتصمون بها))، أي ليست لهم قضية، وافتقروا إلى أدنى المقوّمات الفكرية والعلميّة، فلم يكن لديهم خبرات منفتحة على أسرار الكون والواقع، وليس لهم دعوة إلى الحق بحيث يأوون إليها ويعتصمون بها لنصرة الإنسان الذي يدعو إلى الحق، ((ولا إلى ظلِ أُلفة يعتمدون على عزّها))، فهم لا يعيشون هذه الإلفة الروحية التي تفتح قلب إنسانٍ على قلب الإنسان الآخر، وتدفع هذا الإنسان إلى أن يعاون الإنسان الآخر وأن يساعده وأن يتواصل معه، ((فالأحوال مضطربة)) ليست مستقيمة، ((والأيدي مختلفة))، فكل يدٍ تتحرّك مستقلّة عن اليد الأخرى حتى في مواقع التحدّي.
((والكثرة متفرّقة))، فالكثرة التي تنطلق من أعدادٍ ضخمة لا تجتمع في مركز تحصل من خلاله على قاعدة للقوة الكُبرى، ((في بلاءٍ أزل)) والمقصود به الشدة، أي البلاء الشديد، ((وأطباق جهل! من بناتٍ موؤّدة))، حيث كانوا يعيشون هذا الجهل عندما يئِدون بناتهم ويدفنونهنّ أحياءً، وهو ما تحدث عنه القرآن: )وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ((6)، وكانوا يئدون البنات خوفاً من أن يكبرن ويأخذهن الأعداء عندما تقع الحرب، فيكون ذلك عاراً عليهم.
((وأصنامٍ معبودة))، حيث اتّجهوا إلى عبادة الأصنام التي يصنعونها أحجاراً أو غير أحجارٍ، ((وأرحامٍ مقطوعة))، فلا يتواصلون في إطار الرحم، بل يقطع كل واحدٍ منهم رحمه. ((وغاراتٍ مشنونة)) التي تحصل ضد بعضهم البعض في حرب القبائل مع بعضها البعض.
هكذا كانوا، ولكن كيف تبدّلت المسألة من هذا الواقع السلبي إلى واقع الإيجاب في الحياة العربية؟
((فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم))، هل كان من خلال إدراكهم للقيم التي يحملونها، أم أن هناك وضعاً جديداً ووحياً فريداً أنزله الله على تلك المنطقة؟ ((حين بعث إليهم رسولاً، فعقد بملته طاعتهم))، فدعاهم إلى الله وإلى طاعته وإلى ما يرفع مستواهم الروحي والعقلي والأخلاقي والاجتماعي، ((وجمع على دعوته أُلفتهم))، أي جعلهم متآلفين من خلال التزامهم بخط الدعوة؛ وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ((7). فقد انطلقت حملة التأليف بين القلوب من خلالِ دعوة النبيw، وذلك عندما بعث الله رسوله ودعاهم إلى طاعة الله ورفع مستواهم العقلي والروحي والفكري والاجتماعي.
((كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها))، تلك النعمة التي أفاضها الله عليهم من خلال رسوله في رسالته، وحققَ لهم بها الكرامة في الواقع الذي يعيشون فيه بين الأمم. «وأسالت لهم جداول نعيمها» أي استطاعت أن تجعل النعيم الذي بدأوا يتقلبون فيه كالجداول التي تسقي الناس وترويهم من الظمأ، ((والتفّت الملة بهم في عوائد بركتها))، أي جمعت هذه الملل ملّة واحدة، وهي ملّة الإسلام، وجعلتهم جميعاً في بركاتها، كما يقال التفّ الحبل بالحطب إذا جمعه. ((فأصبحوا في نعمتها غرقين))، نعمة هذه الدعوة، وهذه الملة، ونعمة هذا الدين، بحيث استولت على كلّ حياتهم، ((وعن خُضرة عيشها فكهين))، أي راضين طيّبة نفوسهم؛ ((قد تربّعت الأمور بهم)). تربعت أي أقامت؛ لأن الإنسان حين يتربع فإنه يشعر بالاستقلال، فقد استقرّت بهم ((في ظل سلطان قاهر))، أصبحوا أصحاب قوةٍ وسلطة، ((وآوتهم الحال إلى كنف عزّ غالب))، وقد قال تعالى: )وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ((8)، وأصبحوا عزيزين بين الأمم بعد أن كانت الذلّة تحيط بهم، ((وتعطّفت الأمور عليهم في ذرى ملك ثابت))، أي ملك الإسلام، وقد امتدت الحضارة الإسلامية إلى العالم حتى وصلت إلى حدود الهند وفرنسا والصين، وانتشرت الدعوة الإسلامية في العالم كله بطريقةٍ وبأخرى.
((فهم حكام على العالمين، وملوكٌ في أطراف الأرضين، يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم))، ممّن كانوا يخضعون لهم، ((ويمضون الأحكام في من كان يمضيها فيهم))؛ لأنّ سُلطانهم جعلهم في موقع القوّة التي يستطيعون من خلالها أن يطبّقوا أحكامه على الناس، في الوقت الذي كان من سبقهم يطبّق أحكامه عليهم؛ لأنّهم كانوا يمثّلون السلطة دونهم، ((لا تُغمز لهم قناة)). القناة عبارة عن الرمح، وغمز الرمح هو جسُّه باليد لينظر هل يحتاج إلى التقويم والتعديل فيفعل بها ذلك، وهو كناية عن أنّ أحداً لا يستطيع أن يغلبهم أو يكسر شوكتهم، ((ولا تقرع لهم صفاة))، والمقصود الحجر الصلد، وقرعها صدمها لتكسر.
وبعد أن يعطي الإمامt هذه الفكرة، وكيف كان العرب قبل الإسلام، وما صاروا إليه في الإسلام، يتوجّه إلى المجتمع الذي كان يعاني منه الكثير. ((ألا وإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة))، فأصبحتم في حركة التمرّد، ((وثلمتم حصن الله المضروب عليكم))، وهو حصن الإسلام وحصن الوحدة وحصن الاستقامة، ((بأحكام الجاهلية))، حيث رجعتم إلى جاهليّاتكم من خلال عصبياتكم التي سيطرت عليكم، فأعادتكم إلى هذا التمزّق، لأنّكم تركتم حبل الله الذي أراد الله لكم أن تعتصموا به لتحصلوا على النتائج الكبرى في العزة والكرامة والنعمة التي ينعمها الله عليكم.
((فإن الله سبحانه قد امتن على جماعة هذه الأمة في ما عقد بينهم من حبل هذه الألفة))، فقال لرسوله: )وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ((9)، ((التي ينتقلون في ظلها، ويأوون إلى كنفها، بنعمة)) وهي نعمة الإسلام، ((لا يعرف أحدٌ من المخلوقين لها قيمة؛ لأنها أرجحُ من كل ثمن، وأجلّ))، أيْ أعظم ((من كل خطر))؛ لأنها تضمن سعادة الدنيا والآخرة، وقد قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ((10).
((واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعراباً))، فبعد أن كنتم عالمين بالإسلام، وتنفتحون على المعرفة الإسلامية فيما أخذتم من العلم من رسول اللهw ومن كتاب الله، تركتم ذلك كله، وتحولتم إلى أعراب. والمراد بأعراب الجاهلية هؤلاء الذين ينطقون بالشهادتين ولكنهم لا يتعمّقون في العقيدة الإسلامية والثقافة الإسلامية، وهو قول الله سبحانه وتعالى: )قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ((11). ((وبعد الموالاةِ أحزاباً)) أي بعد أن كنتم تعيشون المحبة فيما بينكم ويوالي بعضكم بعضاً، تركتم هذه المحبة والمودة وتوزّعتم، فكان كل فريقٍ منكم حزباً يواجه الطرف الآخر بالعداوة والبغضاء.
((ما تتعلّقون من الإسلام إلا باسمه))؛ لأنكم لا تعيشون الإسلام فكراً ولا عملاً، ولا تعيشونه على مستوى العلاقات، ((ولا تعرفون من الإيمان إلا رسمه))، ورسمه هو شكله وصورته، ((تقولون النار ولا العار))، أي إذا وقفتم بين نار جهنم وبين عار الدنيا، فإنّكم تفضّلون نار جهنم على عار الدنيا، في ما تأخذون به من الأحكام، أو الأوضاع؛ ((كأنكم تريدون أن تُكفئوا الإسلام على وجهه))؛ لأن الإسلام يريد من المسلمين أن ينفتحوا عليه في كل ما يتمثّل فيه من كتاب الله وسنة نبيه، وأنتم تريدون أن تقلبوا الإسلام رأساً على عقب، ((انتهاكاً لحريمه))؛ وحريم الإسلام هي كلّ حدوده التي أراد الله للإنسان أن لا يتعدّاها.
((ونقضاً لميثاقه الذي وضعه الله لكم حرماً في أرضه))، باعتبار أن الله سبحانه وتعالى أنزل عليكم هذا الميثاق، وهو ميثاق الأخوّة الدينية، وقد قال تعالى: )إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ((12)؛ فعندما تركتم ذلك، جعل الله هذا الميثاق حرماً في أرضه؛ لأنه يحرم دم أحدكم على الآخر، ومال أحدكم على الآخر، وعرض أحدكم على الآخر، ((وأمناً بين خلقه))؛ لأن ((المسلم من سـلم الناس من يده ولسانه))، ولأن ((المؤمن من ائتمنه الناس على أموالهم وأعراضهم)).
((وإنكم إذا لجأتم إلى غيره))، أي إذا تركتم الإسلام إلى غيره من الملل والنحل، ((حاربكم أهل الكفر))، وعندما يحاربونكم وأنتم تعيشون كلّ هذا الواقع الممزّق الذي يواجه فيه المسلم بالمسلم الآخر بشكلٍ معادٍ، ((ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم، إلا المقارعة بالسيف حتى يحكم الله بينكم))؛ لأنّ الهيبة تسقط من جانبكم، والبركة تُنـزع من بين أظهركم.
ثم يقولt: ((وإن عندكم الأمثال من بأس الله وقوارعه، وأيامه، ووقائعه؛ فلا تستبطئوا وعيده))، أي لا تستهينوا بوعيد الله وتهديده ((جهلاً بأخذه))، أي بأخذ الله وانتقامه، ((وتهاوناً ببطشه، ويأساً من بأسه؛ فإن الله سبحانه وتعالى لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك التناهي)) عن المنكر الذي يجدونه في واقع الناس، ((ألا وقد قطعتم قيد الإسلام، وعطّلتم حدوده، وأمتّم أحكامه))(13).
هذا ما تحدث به أمير المؤمنينt. ولو درسنا كل ما عرضه وتناوله، لرأينا أن الواقع الذي نعيش فيه الآن يشبه ذاك الواقع.
فنحن نلاحظ أن التمزق بين المسلمين الذي جعلهم دولاً مختلفة، وشعوباً متباغضة، وفرقاً متناحرة، وأحزاباً مختلفة، أسقط كل قوتهم وكل كرامتهم وعزتهم، وأصبح الغرب يسيطر عليهم ويصادر كل أوضاعهم، مستفيداً مما لديه من وسائل وقوّة.
المسلمون ـ اليوم ـ يعدّون ما يقارب المليار والنصف من الأشخاص، ولكنهم كما قال رسول اللهw في كلمته المعروفة: ((يوشك الأمم أن تتداعى عليهم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل: أومن قلة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاءِ السيل))، كما هو الزبد الذي يكون فوق السيل لا غنى فيه، كما قال تعالى: )فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ((14).
وهكذا رأينا كيف أن الغربَ، بكل عدوانه وطغيانه واستكباره، أصبح يسيطر على الواقع الإسلامي كلّه، ويصادر ثرواته، ويجعل سياسته على هامش سياسته وأمنه. والطامة الكبرى، أن اليهود الذين كانوا كما قال الله سبحانه وتعالى عنهم: )بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى( (15)، توحّدوا على المسلمين، واستطاعوا أن يسيطروا على فلسطين كلّها، وأن يهدّدوا العالم العربي والإسلامي من خلال تحالفهم الاستراتيجي مع أمريكا ومع الغرب كلّه، حتى لم يستطع أغلب العالم العربي في دوله أن يقف في مواجهتهم، وأن يحرر أرض فلسطين من طغيانهم ومن احتلالهم.
وهكذا نجد أيضاً في الواقع الإسلامي، كيف أن الغرب بدأ يحتل البلاد الإسلامية تحت أكثر من عنوان، وتحت أكثر من حجّة، وهذا ما تمثّل في احتلال العراق وأفغانستان. وهكذا يتمثل في الضغط المباشر وغير المباشر على كل العالم الإسلامي وكل الـعالم العربي.
ونحن نلاحظ أن هناك منظمة للمؤتمر الإسلامي تشمل الدول الإسلامية كـلّها، ولكنها لا تملك أمرها، ولا تملك أن تحقّق أية قوة في ذلك؛ لأنهم تركوا الخط الإسلامي المتمثّل بالوحدة الإسلامية التي تجمع المسلمين، والتي إن أخذوا بها، حصلوا على القوة وعاشوا بعزّة وكرامة، واستعادوا من خلالها قيادة الإسلام للعالم.
وإذا كان الإمام عليt قد تحدّث عن العصبية، في ما أشرنا إليه سابقاً، فإنَّ ما نحن فيه من هذا الحديث هو تفصيل لما تقدم، لأن من أهم أسباب هذه الفرقة والتمزق، العصبية البغيضة التي تأخذ بالمجتمع أحزاباً وفرقاً، والتي تجعله يسقط متهاوياً أمام هذه المحنة.
تلك هي المشكلة التي نعيشها، وعلينا أن ننفتـح على هذه الدروس التي طرحها أمير المؤمنين سلام الله عليه، فلعلنا نصل إلى المواقع التي يريدنا الله أن نصل إليها في الحرية والعزة والكرامة. والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
لا يزال حديثنا حول العنوان الذي تناول بعض مفرداته الأئمة من أهل البيتi، وهو ((أصول الكفر وأركانه))(1). وهذا العنوان ينطلق من بعض المفردات الأخلاقية السلبية التي يمكن أن تهيّئ الجوّ النفسي أو العملي للاقتراب من الكفر.
قد لا يصل الإنسان من خلال هذه المفردات إلى درجة الكفر؛ ولكنّه قد يعيش في مشاعره وأحاسيسه وسلوكياته ما يجعله يقترب منها. وليس النظام الأخلاقي الإسلامي مجرّد نظامٍ يتّصل بالجانب السلوكي للإنسان، بل هو نظام ينفتح على الجانب النفسي والشعوري وإدارة العلاقات الاجتماعية من خلال النظرة إلى المجتمع في عملية التعامل والعلاقة.
من بين الأخلاق السلبية التي عالجها الإسلام، الرِّياء. وهذا العنوان يتمثّل في الإنسان الذي يختلف ظاهره عن باطنه، حيثُ يضمر في داخله شيئاً سلبياً، ولكنه يحاول أن يتمظهر بشيء إيجابي يغطّي هذا الجانب السلبي؛ ليحقّق نتائج مهمة ينال من خلالها الثقة الدينية أو الثقة الاجتماعية أو السياسية، أو ما إلى ذلك، ما يجعله في موقع يؤهّله الإمساك ببعض المراكز القيادية، وذلك عندما يُتقن التعامل مع الظاهر بالدقّة التي يخفي فيها الباطن.
ولعلّ أظهر مثال في هذا الجانب، يتمثل في المنافقين الذين قال تعالى عنهم: )إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ((2)، ليسوا كاذبين في اعترافهم بالرسالة بألسنتهم، بل في مدلول كلمة الشهادة؛ لأن الشهادة تعبّر عما في النفس الذي ينطلق في ما يظهر من الكلام؛ فالمنافقون يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، كما قال تعالى: )وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ((3).
وقد تحدّث القرآن كثيراً عن المنافقين باعتبارهم المظهر الخطر على الواقع الإسلامي؛ بل هو أخطر من الكفر الظاهر؛ لأن الكفر الظاهر يقدّم نفسه إلى المجتمع المسلم بكل صراحة، فيعرف المجتمع المسلم الطبيعة التي تتمثّل في هذا الكافر؛ ولذلك يعزلونه ـ من حيثُ كُفره ـ عن مجتمعهم؛ انطلاقاً من أنه يختلف في عقيدته عن عقيدتهم؛ ولذا فهو لا يعيش في صميم المجتمع الإسلامي.
أما المنافق الذي يحاول أن يتخفّى خلف ستار من الإيمان الظاهري؛ فإنه قد يتمكّن من التسلّل إلى قلب المجتمع المسلم للاطلاع على كل الثغرات الموجودة فيه، وعلى كل نقاط الضعف الكامنة في كيانه، فيُفسح له ذلك مجال الكيد والدسّ والتخريب، بالأساليب الملتوية التي قد لا ينتبه المسلمون إليها، حيثُ يعتبرونه رجلاً مؤمناً مسلماً له وجهة نظر، يختلف في اجتهاداته عن الآخرين في المجتمع الإسلامي، أو أنهم يرون في المشاريع التي يطرحها مشاريع إصلاحية، كما قال تعالى: )وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ((4).
وهكذا نجد أنهم يتحركون كجزءٍ من المجتمع، فلا يشعر أبناء هذا المجتمع بالحاجة إلى الحذر منهم. وبتعبير آخر: إن الإنسان لا يحذر عادةً ممن هو من ضمن العائلة أو ممّن يكون من أفراد المجتمع أو الأمة، فيهيّئ لهم ذلك الفرصة الذهبية لإرباك المجتمع الإسلامي في العمق، بالفتنة والانحراف والإفساد باسم الإصلاح. ولذلك نلاحظ خطورة هذا النوع من الرياء العقيدي على سلامة المجتمع المسلم.
وقد تحدث الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء بشكل سلبي، ولكنه مع ذلك فتح لهم باب التوبة. قال تعالى: )إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ((5)، أي أنّهم يعملون عمل المخادع الذي يُظهر لك ما يوحي بأنه في مستوى الثقة؛ لتثق به، فتستسلم له، أو تمنحه ما يريد على أساس الثقة به. (وهو خادعهم) ومع أنّ الله سبحانه لا يخدع، ولكنه يجري معهم مجرى الخداع، أي يفسح لهم في المجال ولا يعاجلهم بالفضيحة، )وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَلِيلا((*)؛ فإنَّ هؤلاء الذين يتحرّكون في خطّ الخداع، عندما يقومون إلى الصلاة أمام الناس، فإنهم لا يقومون كما يقوم المؤمن، بالحيوية والإخلاص والنشاط، ولا يذكرون الله إلاّ قليلاً، باعتبار أنّ الذكر عندهم لا يمثل قيمةً كما هو الحال عند المؤمن الذي يقضي حياته في ذكر الله سبحانه وتعالى، في كل مناسبة؛ لأنه يرجع إلى الله سبحانه وتعالى في كل أموره.
وقد ورد في التعليق على قضية )وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَلِيلاً( ما روي في الحديث عن رسول اللهw أنّه قال: ((تلك صلاة المنافق يجلس، يرقب الشمس؛ حتى إذا كانت بين قرني الشيطان))، أي قرُبت من الغروب، ((قام فنقر أربعاً)) أيْ صلاّها بسرعةٍ، كما ينقر الطير الحبّ حينما يأكل، ((لا يذكر الله فيها إلا قليلاً))(6) ؛ لأنّ سرعة الصلاة تنافي الطمأنينة والخشوع اللذين هما أساس الذكر الحقيقيّ الذي يتفاعل فيه الإنسان مع الصلاة، في أقوالها وأفعالها، في رحلةٍ روحيّة يطوف فيها وجدانه في كلّ المعاني الروحيّة التي تنفتح عليها الصلاة.
ونقرأ في التعليق على كلمة )وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَلِيلاً(، ما رُوي عن أمير المؤمنينt، عن ذكر الله عز وجل في السر: ((من ذكر الله عز وجل في السر فقد ذكر الله كثيراً. إن المنافقين كانوا يذكرون الله علانيةً ولا يذكرونه في السر؛ فقال الله عزّ وجلّ: )يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَلِيلا())(7)؛ لأنّ الإنسان الذي يذكر الله في السرّ، هو إنسانٌ يعيش الله سبحانه وتعالى في قلبه، ويمتلئ به وجدانه؛ وهذا الذكر مهما كان قليلاً في العدد، فإنّه يعكس عمق الإيمان بالله، وقوّة حضوره في حياتهم؛ وهذا الذكر يمثّل أعلى أنواع الذكر.
إن هناك فرقاً بين المسلم والمنافق، بين المؤمن والمنافق، فالمؤمن عندما يعيش الله في عقله من خلال إيمانه بالله الواحد، ويعيش الله في قلبه من خلال محبته لله، ويعيش الله في حياته من خلال مراقبته لله وخوفه منه، فإنّه يعيش ذكرى الله في كل حركة من حركاته، وفي كل سكنةٍ من سكناته، وفي كل علاقة من علاقاته؛ فهو يبدأ باسم الله في كل عملٍ من أعماله؛ انطلاقاً من إحساسه بأنّ الله وراء كل ما يتحرّك به الإنسان، وأن الله هو المهيمن على ذلك كلّه. ولذلك فإن المؤمن يذكر الله في السرّ كما في العلانية، ولا يبغي إلا وجهه في ذلك كله.
أمّا المنافقون فليسوا كذلك، بل هم يذكرون الله في عملية استعراضية أمام المؤمنين؛ ليخدعوهم، وليظهروا أمامهم أنهم مؤمنون مثلهم، وأنّهم يحبّون الله كما يحبونه، ويخافون الله كما يخافونه؛ ولذلك فإنهم يذكرون الله في العلن؛ أما إذا خلوا إلى أنفسهم أو إلى جماعتهم، فإنهم لا يذكرون الله لأنهم لا يؤمنون به.
وقد ورد في القرآن الكريم في سورة النساء: )إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ((8)؛ لأن الله فتح أمامهم باب التوبة؛ إذ لو أن المنافق فكَّر وعاش الانفتاح على الحقيقة وعلى توحيد الله سبحانه وتعالى وعلى الإيمان برسالة الله وتاب وأصلح، فإن الله يتوب عليه.
وهكذا يؤكد القرآن الكريم في أكثر من آية، أنَّ معنى أنْ تكون مسلماً أن تكون مؤمناً، وذلك بأن تخلص لله في الاعتقاد بوحدانيته؛ فتوحّده، ولا تحسّ بوجود أية قوة إلا قوته، وأنّه هو الخالق، وهو الرازق، وهو المنعم، وهو القوي، وهو الذي يعطي الناس كل شيء، وهو الذي يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء، وأن تخلص له في العبادة فلا تشرك بعبادة الله غيره، وأن تخلص لله في الطاعة، فلا تطيع إلا ما أمر الله به، وتنتهي عمّا نهى الله عنه؛ لأن المؤمن هو الذي يعيش الإخلاص لله سبحانه وتعالى، بحيث إنّه سبحانه يملك عليه عقله وقلبه ومشاعره وأحاسيسه وحركته وإرادته في كل شيء في الحياة، بحيث يعيش الله في كيانه كلّه وفي ذاته كلها.
وهذا هو الذي ركّز عليه القرآن وجعله فاصلاً بين المؤمن والكافر، فالمطلوب من المؤمن أن يُخلص دينه لله، فلا يوزّع دينه بين الله وبين الناس؛ ليتحرك على أساس أن يرضى الله عنه وأن يرضى الناس عنه؛ فيتحرّك في جانبٍ لينظّم علاقته بالله، فيصلّي ويصوم، ويتحرّك في جانبٍ آخر بعيداً عمّا يريده الله؛ لأنّ ذلك هو مجال رضى الناس عنه. وفي هذا نقرأ قوله تعالى: )إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ(، وهذا موجّه إلى الرسولw، ومن خلاله إلى الأمة؛ لأن الله يخاطب الأمة من خلال الرسول، )فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ((9)، الدين الذي يعيش في عقلك، والذي ينبض في قلبك، والذي يتحرّك في حياتك؛ ليكون لله وحده، وليس لغيره، وأن تنفتح على الله من خلاله ولا تنفتح على غيره، وأن تطلب رضا الله من خلال التزامك به ولا تطلب رضى غيره.
وهكذا يوجّه الخطاب إلى النبيّw، ومن خلاله إلينا: )قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ((10)؛ وكأنه يقول: إنَّ الله سبحانه وتعالى عندما أوحى إلي، وعندما صاغ شخصيتي، وعندما ألهمني، فإنه أراد لي جعل الأساس في جذور شخصيّتي وحركة حياتي، أن أعبد الله مخلصاً له ديني، وأن هذا الأمر لم يكن مجرّد أمرٍ ألقاه الله عليه، ولكنه عاش في حياته في تنفيذ دقيق لما أمره الله به.
وقال تعالى: )قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ((11)، وفي آية أخرى: )وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ((12)؛ فإنّكم عندما تريدون أن تنفتحوا على الله في كل حاجاتكم وفي كل آلامكم وأحلامكم، فإن عليكم، وأنتم تدعون الله في ذلك كلّه وتبتهلون إليه، أن تدعوا الله في حالة إخلاص من خلال الدين الذي تلتزمونه عقيدةً وعاطفةً وشعوراً وحركةً في الحياة. والحمد لله ربِّ العالمين.
|
||||||||
|
||||||||
![]() |
||||||||
|
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
تحدّثنا في ما مضى، عن الرياء، باعتبار أنه يمثّل وسيلة من الوسائل التي تقرّب الإنسان من الكفر، وقلنا إن النفاق هو من أظهر مصاديق الرياء؛ لأن المنافق يُبطن الكفر ويُظهر الإسلام مراءاةً للناس.
وقد ورد الحديث في مسألة الرياء عن النبيw، وعن الأئمة من أهل البيتi، ما يبيّن خطورة هذا المفهوم على مصير الإنسان المسلم؛ ففي الحديث عن رسول اللهw: ((ويلٌ للذين يجتلبون الدنيا بالدين))(1)، أي يحاولون أن يحصلوا على مكاسب الدنيا بإظهار أنفسهم كأُناسٍ متدينين في عباداتهم ومعاملاتهم، ليثق الناسُ بهم، وليتبعوهم ويأتمنوهم وليرفعوا درجاتهم في المجتمع، ((يلبسون للناس جلود الضأن))، أي جلود الشياه (الخراف)؛ التي تمثِّل الوداعة والسلامة، ((من لين ألسنتهم))، أي عندما تسمعهم وهم يتحدثون بالكلام اللين واللسان، الطيب فإنك تحسبهم يمثّلون هذا الإنسان الذي يتميز بإنسانيته في علاقته بالناس.
((كلامهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوب الذِّئاب))؛ لأنهم لا يحملون للناس في نواياهم إلا كل خبيث، ولا يخطِّطون لهم إلاّ كل ما يؤدي إلى الإضرار بهم، فهم يريدون أن يحصلوا على المكاسب مما يمكن أن يمنحهم الناس من ذلك. وبعبارة أخرى، فإنّهم لا يتعاملون مع الناس بالطيبةِ أو بكل ما ينفتحون به على حياتهم بالخير. ((يقول الله تعالى: أبي يغترون؟))(2)، إنّهم يغترون بي، فيظهرون في ظاهرهم بغير ما أعلمه من باطنهم من أجل أن أرضى عنهم؟! وكيف يمكن أن أرضى عنهم وأنا أعلم ما تُخفي الصدور، وأعرف أنهم لا ينطلقون معي بأي قربى وبأي خير؟!
وفي حديث آخر عن رسول اللهw: ((أبغض العباد إلى الله تعالى، من كان ثوباه خيراًً من عمله)) ، والثوبان كناية عن ظاهره الذي يختلف فيه عن باطنه وسريرته. ويفسّر النبيّw ذلك فيقول: ((أن تكون ثيابه ثياب الأنبياء، وعمله عمل الجبارين))(3)، بحيث يظهر بمظهر الصلاح والتقوى والمحبة والرحمة للناس، وغيرها من أخلاق الأنبياء؛ ولكنه عندما يدخل في حياتهم، وتسنح له الفرصة، فإنه يتحرّك كما لو كان جبّاراً في تعامله معهم، فيعلو عليهم، ويظلمهم، ويسيء إلى أوضاعهم.
ولعلَّ ما يمثّل هذه الصورة التي بيّنها رسول اللهw، ما جاء في قوله تعالى: )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ(، بحيث يعترض على من يُطالبه بالتقوى لأنّه ـ بزعمه ـ سيّد التقوى والمتّقين، )فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادُ((4).
وفي حديث آخر للرسولw: ((أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة، من يرى الناس أن فيه خيراً، ولا خير فيه))(5)، بحيث يظهر الخير في تعامله مع الناس، ولكنه في الواقع لا يختزن الخير في شخصيته، بل يختزن الشر الذي يخطّط من خلاله للإضرار بالناس، من أجل الوصول إلى مقاصده الخبيثة في حياتهم؛ ليحصل على ما يريد من أرباح ومكاسب.
وعن الإمام عليّt، وهو يتحدّث عن بعض هذه النماذج، يقول: ((ومنهم ـ أي من الناس ـ من يطلب الدنيا بعمل الآخرة)) ، بحيث يتحرّك مع الناس بالرياء، فهو يقوم بأداء الصلاة أمام الناس بشكلٍ خاشعٍ خاضعٍ، أو يأتي بالمستحبات، أو يذهب في كل سنةٍ إلى الحج أو إلى العمرة، أو يقوم بأعمال الخير؛ حتى يقول الناس عنه إنه رجلٌ تقيٌ صالحٌ، وإنه من أهل الخير، وما إلى ذلك؛ ليرتفع بموقعه بينهم، ولتكبر منـزلته؛ فيستطيع أن يحصل على ما يخطط له من المكاسب الدنيوية. ((ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا))، مع أن التوجيه الإسلامي أن يستخدم الإنسان الدنيا من أجل الآخرة.
وهذا هو ما جاء في قوله تعالى، في حديث قوم قارون لقارون عندما قالوا له: )إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ((6)، والشاهد: )وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ(، فأنت عندما تملك ما تملكه من الدنيا، فإنّ عليك أن تسخّر عمل الدنيا للآخرة؛ لتتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما يتقرب به المؤمنون من تحريك كل ما يملكون وما يعملون في سبيل رضاه والقربِ منه.
((قد طامن من شخصه)) أي صار هو في وضع الهادئ المستكين، ((وقارب من خطوه)) ليست خطواته واسعة، وهي كناية عن القصد في المشي، الذي هو مشي المؤمنين، كما ورد في قوله تعالى: )وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ((7)، ((وشمّر من ثوبه)). بعضهم فسّر )وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ((8) أي فقصّر، حتى لا تُصيبها النجاسات. ولعلّ المقصود هنا، كأنه يشمّر ثيابه استعداداً للصلاة واستعداداً لعمل الخير. ((وزخرف من نفسه للأمانة))، أي حاول أن يعطي الناس الانطباع أنه شخص أمين يمكن أن يأتمنوه على أموالهم، ((واتخذ ستر الله ذريعةً إلى المعصية)) (9)، أي جعل ستر الله عليه وسيلة من وسائل الإتيان بالمعاصي، وكأنه واثق بأن الناس لا يطّلعون على هذه المعاصي، وبذلك لا يكشفون زيف ظاهره في ما يظهر به من علامات التقوى وعلامات الأمانة وما إلى ذلك.
ويخاطب الإمام محمد الباقرt المرائين، فيقول: ((يا ذوي الهيئة المعجبة، والهيم المعطنة)). الهيم: الإبل العطشى، ((ما لي أرى أجسامكم عامرةً، وقلوبكم دامرة))؛ فإنّ أحداً لو نظر إلى أجسامكم، لرأى أنّها عامرةٌ بالعبادة وفعل الخير، ولكنّه لو اطّلع على قلوبكم لرآها دامرةً، أي هالكة لا خير فيها. ثمّ يلتفت الإمامt إلى عاقبتهم، ويقول لهم: ((أما والله لو عاينتم ما أنتم ملاقوه» عند الله سبحانه وتعالى، ((وما أنتم إليه صائرون، لقلتم: )يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ((10)))(11)؛ لأن الله سبحانه وتعالى سوف يكشف ألاعيبكم يوم القيامة، وسوف يحاسبكم على هذا الفرق بين الباطن المليء بالشر والفارغ من الخير، والظاهر الذي يظهر بمظهر الخير وكل القيم الروحية.
وفي حديث الإمام الصادقt في قول الله عز وجل: )فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا((12)؛ فمن هو الذي يُشرك بعبادة ربه أحداً غيره؟ يقولt: ((الرجل يعمل شيئاً من الثواب))، أي من أعمال الخير التي يستحق بها الثواب، ((لا يطلب به وجه الله))، أي لا يعمل عمل الخير تقرباً إلى الله تعالى، ((إنما يطلب)) بهذا العمل ((تزكية الناس، يشتهي أن يسمع به الناس، فهذا الذي أشرك بعبادة ربه))(13)؛ لأنه قام بالعمل الذي ينبغي التقرّب به إلى الله، ليتقرب به إلى الناس، فهو يقصد ثواب الناس ولا يقصد ثواب الله، وهو يتعبّد لهم؛ لأنه ينظر إلى عيونهم كيف تلتمع إعجاباً إذا رأته في أعماله، وإلى كلماتهم كيف تنطلق مادحةً عندما يتحدّثون عنه. فهذا الشرك شركُ رياء. نعم، هو ليس مشركاً كالمشركين الذين يعبدون الأصنام، ولكنه مشركٌ شرك رياء؛ لأنه يأتي بما يُتقرب به إلى الله ليتقرب به إلى الناس؛ ليراه الناس على خيرٍ، فيظنون به الخير ويمدحونه على هذا الأساس، ويرفعون درجته عندهم في هذا الاتجاه.
وعن الإمام الباقرt: سُئل رسول اللهw عن تفسير قول الله: )فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا(، فقال: ((من صلى مراءاةً للناس، فهو مشرك))، فهذا إشراك العبادة، وليس إشراك العقيدة؛ لأن هذا الإنسان الذي صلى ليراه الناس، فكأنه يعبد الناس كما يعبد الله. العبادة ما هي؟ العبادة هي الخضوع والإخلاص لله، أي نحن نعبد الله ونخضع له؛ لنحصل على محبّته ورضوانه ورحمته ولطفه، فنحن عندما نعبد مراءاةً للناس، فنحن نريد أن نحصل على محبة الناس وعلى المنزلةِ عندهم وعلى المكاسب التي يمنحوننا إياها، وهذا شركٌ بالعبادة.
وعن الإمام الصادقt، لما سأله العلاء بن فضيل عن تفسير هذه الآية: )فَمَن كَانَ يَرْجُو...(، قال: ((من صلى أو صام أو أعتق أو حج يريد محمدة الناس فقد اشترك في عمله، وهو مشرك مغفور))(14)؛ بمعنى أنّ الله يغفر له هذا العمل عندما يتوب منه، ولا يعتبر كشرك العقيدة الذي ورد فيه قوله تعالى: )إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ((15).
نحن نقرأ أيضاً عن رسول اللهw، وقد رآه شداد بن أوس يبكي، فسأله عما يبكيه، فقال النبيw: ((إني تخوّفت على أمتي الشرك»، كأن النبيw يقول له: لقد كانت كل دعوتي التوحيد؛ التوحيد في الألوهية، والتوحيد في العبادة، والتوحيد في الطاعة، فربما نجحت من خلال دعوتي، ومن خلال ما بذلته من جهد، وما تحملته من أذى، في أن أجعل أمتي توحد الله في العقيدة وتترك عبادة الأصنام، فلا تشرك بالله شيئاً، ولكني أخاف عليهم شركاً آخر: ((أما إنهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً، ولكنّهم يراؤون بأعمالهم)) (16). وكأنّهw يقول: الشرك الذي أخافه على أمتي، هو أن ينطلقوا في أعمال العبادة، وفي أعمال الخير، ليراهم الناس يفعلون ذلك، فيحصلون على محبة الناس وعلى رفع منزلتهم عندهم، ولكنّهم في الوقت نفسه، لا يعمّقون ارتباطهم بالله تعالى.
وهذا ما سينعكس عليهم سلباً في مجمل حياتهم؛ لأنّ الذي يبحث عن رضى الناس في ما يعمل، سوف يتحوّل الناس عنده إلى ميزانٍ يزن الأمور والمواقف من خلالهم؛ فإذا مالوا يميناً مال معهم، وإذا أيّدوا زايد عليهم في التأييد، وإذا رفضوا أنكر معهم، وما إلى ذلك من الأمور التي يفقد معها الإنسان الثبات على الخطّ المستقيم الذي أراده الله ـ في حكمته ورحمته ـ أن يكون هو الذي يحكم حركة الإنسان المؤمن، في وضوح الهدف وارتباطه بالمُنطلق.
وفي الحديث عن رسول اللهw: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال الرياء))(17)؛ فهو شرك، لأنّ العبادة لا تكون معه خالصة لله، بل إنّ المرائي كمن يعبد الناس. وهو شرك أصغر؛ لأنّه قد يغفره الله، كما ورد في الحديث سابقاً، في مقابل الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله كما توعّد في كتابه العزيز.
وفي الحديث عن الصادقt: ((كل رياءٍ شرك، إنه من عمِل للناس كان ثوابه على الناس))(18)، فالله يقول له يوم القيامة: لقد عملت لغيري، فاذهب وخذ جزاءك من غيري إن كان غيري يستطيع أن يعطيك ذلك.
ويقول الإمام عليt: ((اعلموا أن يسير الرياء شرك))(19).
ويقول رسول اللهw في رسالة إلى أبي ذرq: ((يا أبا ذر، اتّقِ الله ولا تُرِ الناس أنك تخشى الله، فيكرموك وقلبك فاجر))(20) ، أي بأن يكون ظاهرك ظاهر الإنسان الخيِّر الطيّب التقي، ولكن قلبك مملوء بالفجور الذي ينفتح على معصية الله، وعلى تخطيط الشر للناس، وعلى البغضاء لأهل الخير.
وفي الحديث عن رسول اللهw: ((يا بن مسعود، إياك أن تُظهر من نفسك الخشوع والتواضع للآدميين، وأنت فيما بينك وبين ربك مُصر على المعاصي والذنوب، يقول الله تعالى: )يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ((21)))(22)، مثل بعض الناس الذي عندما يصلّي أمام الناس، تراه يصلي بكل خشوع، وربما يبكي في صلاته، وعندما يعاشرهم، يعاشرهم بكل تواضع؛ حتى يقولوا عنه إنه رجلٌ خاشعٌ في صلاته، وإنهٌ رجلٌ متواضع؛ لترتفع درجته عندهم، ولكنه في الوقت نفسه عندما يتحرّك بينه وبين نفسه في السرّ بعيداً عنهم، فإنه لا يملك الخشوع في صلاته، ولا يملك التواضع مع أهله ومع أرحامه وما إلى ذلك. ولكن إذا كنت تخفي ما في نفسك عن الناس، فكيف تخفيه عن الله سبحانه وتعالى الذي )يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُُ(، وسوف تقف بين يدي الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم حتى وساوس الصدور.
ومن دعاءٍ للإمام عليّt: ((اللهمّ إني أعوذ بك من أن تحسن في لامعة العيون علانيتي))، تلك العيون التي تنظر إليّ وتطّلع على أعمالي وأوضاعي، فتلمع بالثقة والمحبة لما يرونه بما أُعلنه أمامهم من الخير ـ ((وتقبح في ما أُبطن لك سريرتي))، فأنت ـ يا ربّ ـ تطّلع على سريرتي في ما أُضمره، وفي ما أنويه وأُفكر به وأُخطط له، فتجد أنّ كلّ ما في داخل سريرتي قبيح لا يتناسب مع الخير الذي أظهر به للناس، ((محافظاً على رئاء الناس من نفسي بجميع ما أنت مطلع عليه مني؛ فأُبدي للناس حُسن ظاهري، وأُفضي إليك)) عندما أجلس بين يديك، وعندما أكون في حالة السر التي لا يطلع عليها غيرك ((بسوء عملي، تقرباً إلى عبادك، وتباعداً من مرضاتك)).
والإمام عندما يدعو بهذا الدعاء، فهو لا يقصد نفسه؛ وهذا هو حال الإمامt في كلّ أدعيته التي يستغفر الله فيها من ذنوبه، كما في دعاء كميل: ((اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم. اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النِقم. اللهم اغفر لي الذنوب التي تغيّر النعم. اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء...))، حيث إنّ الإمام يريد أن يوجّه الناس كيف يخاطبون الله سبحانه وتعالى بطريقة الدعاء، باعتبار أن الدعاء هو أسلوب من أساليب الثقافة الإسلامية في تربية الإنسان لنفسه.
فكأنَّ الإمامt عندما يتحدّث، لا يتحدّث بصفته الذاتية، وإنما يتحدّث بصفة الإنسان الذي قد يحدث منه مثل هذا، فيُذنب أمام الله، ويعصيه، فيعلّمهt كيف يستغفر الله سبحانه وتعالى، وكيف يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يغير حاله في الداخل إلى أحسنِ حال؛ فلا يكون ظاهره خيراً من باطنه، بل لابد له من أن يستوي ظاهره وباطنه في الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وفي الخير الذي يتحرّك فيه وفي عبادته، بحيث يتحرّك في الاتجاه الذي يُرضي الله في كل أموره وفي كل أعماله.
وقد ورد عن الإمام عليt: ((المرائي ظاهرُه جميل))؛ لأنّ ما يظهر منه للناس هو كلّ خير وحسن، ((وباطنُه عليل))، أي باطنه مملوء بالأمراض الروحية والأخلاقية وما إلى ذلك.
ويقول الإمام الباقرt: ((من كان ظاهره أرجح من باطنه خفّ ميزانه))(23)؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى الشكل، بل ينظر إلى المضمون، وإلى مقدار ما يشتمل عليه من القيمة الروحيّة التي أراد الله للإنسان أن يتمثّلها في عباداته، أو من القيمة الأخلاقيّة في ما أراد الله للإنسان أن يعيشه في علاقاته وتعامله مع الآخرين. ولذلك، فإنّ الذي لا يكون عمله في الخارج نابعاً من داخله الذي يرتبط بالله تعالى، لن يكون ممّن يثقّل عمله ميزانه.
نفهم من كلّ ذلك، أنّ الله سبحانه وتعالى يريد للناس أن يخلصوا له، فيكون عملهم كما تحدّث الله عنه في سورة الإنسان عن أهل البيتi، عندما ضحّوا بإفطارهم للمسكين واليتيم والأسير: )وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ(، والمقصود إمّا حب الله سبحانه وتعالى، وإمّا حبّ الطعام مع حاجتهم إليه، )مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا((24)، أي أن يتحرّك الإنسان في كل أعمال الخير التي يحبها الله سبحانه وتعالى لوجه الله.
وهذا ما أراد الإسلام من الناس أن يربّوا أنفسهم عليه، وهو أن يتحركوا في عبادتهم بقصد القربة إلى الله؛ فالصلاة لا تصحّ إلا إذا أتى الإنسانُ بها بقصد القُربة، والصوم لا يصح إلا بذلك، والحجّ والعمرة كذلك. وعندما يريد الإنسان من الله الثواب على أي عملٍ من أعماله، فإنّ عليه أن يقصد القربة إلى الله في عمل الخير، وإن لم يكن قصد القربة شرطاً في غير العبادات. فالله سبحانه وتعالى يريد أن يربي الإنسان من خلال العبادة أن تكون أعماله قربةً إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإنسان إذا قام بالعمل قربة إلى الله، فإنه يعطي الله عهداً من خلال هذه النية، بأنّي يا رب أصلي لأتقرب إليك، ومعنى ذلك: أنا أعطيك عهداً بأن أقوم بالعمل لأكون قريباً منك، ولأكون في مواقع القرب عندك.
وهذا يعطي الإنسان نوعاً من الإيحاء بأن لا يقوم بأي عمل من الأعمال التي تبعده عن الله سبحانه وتعالى. كما أنّنا نستوحي من تشريع الصلوات الخمس، أنّ الله أراد للإنسان أن يعيش الإخلاص له من الفجر ـ عندما يصلّي الصبح ـ إلى الزوال، بحيث تكون كلّ أعماله مقرّبة إلى الله، من حيثُ تنهاه الصلاة عن الفحشاء والمنكر، وتأمره بكلّ ما يقربه من الله تعالى، ثمّ يعيش هذا الإخلاص من الزوال إلى العصر، ثمّ من العصر إلى المغرب، ومنه إلى العشاء، حتى يكون كل يومه تقرّباً إلى الله سبحانه وتعالى، من أجل أن يتربّى في وجدانه على أساس أن يكون عمله قربة إلى الله سبحانه وتعالى.
وقد تحدث القرآن الكريم عن بعض النماذج المرائين في أكثر من آية، وهذا ما نتحدث عنه إن شاء الله في درسٍ قادم. والحمد لله ربّ العالمين.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
لا نزال في الحديث حول الرياء، وفي لقائنا هذا نحاول أن نرصد الآيات التي تعرّضت لهذه الخصلة القبيحة التي يرفضها الإسلام في نظامه الإيماني والأخلاقي، وذلك في عدة موارد.
قال تعالى في سورة الماعون: )أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ((1) أي الذين يقومون بالرّياء في صلاتهم. وقد ورد التفسير بذلك عن الإمام عليt. والمراؤن بصلاتهم هم أولئك الذين يقومون بالصلاة أمام الناس ليراهم الناس، فينظروا إليهم؛ ليعتبروا أنهم يتحرّكون في خطّ الإيمان ويمدحونهم على ذلك.
وهناك تفصيل أشمل من هذا التفسير، وهو يرتكز على اعتبار أنّ الصلاة هنا هي أبرز مصاديق العبادة؛ وإلا فإنّ الرياء لا يختصّ بذلك، بل إنّ الآية تشير إلى شخصيّة المرائين الذين لا يعيشون في داخلهم سرّ الانفتاح على الله، بالإخلاص إليه وطلب رضاه، بل يعيشون حياتهم في كل عملٍ من أعمال الخير التي يحبها الله ويرضاها، والتي هي من خصوصيات الأخلاق الإسلامية، ليمدحهم الناس على ذلك، وليكون لهم سُمعة طيّبة بين الناس يستطيعون من خلالها أن يحصلوا على بعض ما يريدونه من خلال ذلك. ولذلك فقد فسّر قوله تعالى: )الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ( في بعض التفاسير، بالذين يُصلّون أو يعملون الخير أو يتحرّكون في اتجاه الأعمال العامة ليراهم الناس، وهم يفعلون ذلك لا ليرضى الله عنهم؛ لأنّهم لا يعيشون عمق المعنى الروحي أو العبادي للعمل الصالح، بل يتحرّكون على سطحه.
وهذا المعنى ينطلق من خلال أن القاعدة الإٍسلامية في كل عمل من الأعمال، تجعل عمق العمل وسرّه وعنوانه تابعاً للنية؛ فقد ورد في الحديث الشريف عن النبيw: ((إنما الأعمالُ بالنيات ولكلِ امرئ ما نوى)). ويتابع النبيw كما يُروى عنه: ((فمن غزا)) ـ وهو يُشير إلى وجهٍ من وُجوه الجهاد ـ ((ابتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على الله عز وجل، ومن غزا يريدُ عرضَ الدنيا أو نوى عقالاً))، فأراد من غزوته أن يحصل على الغنائم عند الانتصار، ولم يقصد وجه الله في ذلك، ((لم يكن له إلا ما نوى)).
وهذه هي المسألة التي تركز أساس العمل في الإسلام في ميزان القيمة؛ باعتبار أن الإسلام يرى أنّ خارج الإنسان تابعٌ لداخله؛ فعندما يكون الداخل عميقاً منفتحاً على الله، يكون ما يصدر من الخارج تابعاً له، وعندما يكون الداخل ذاتياً يعيش فيه الإنسان شهواته ومطامعه، فمن الطبيعي أن يكون الخارج كذلك.
وهناك آية أخرى تتحدّث عن الرياء في الصلاة، تقول: )إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ((2)، أي يصلّون ليراهم الناس؛ فهم يفكّرون في أن تنفتح صلاتهم على عيون الناس وعلى مشاعرهم وأحاسيسهم؛ ليحصلوا على الثقةِ لديهم من خلالِ ما يحمله الناس من الثقةِ للمصلّين، خصوصاً إذا كانوا يعملون على أن تكون صلاتهم في مظهر الخشوع والخضوع لله سبحانه وتعالى، والتعبير بـ)يُخَادِعُونَ اللّهَ( يُقصد به أنّهم يعملون عمل المخادع، وإلا فالله لا يُخدع.
ولذا، فإنّ الله يخدعهم؛ لأنه يُظهر أسرارهم، )وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ(، أي قاموا متثاقلين لا ينطلقون من روحيةٍ عميقةٍ في داخل أنفسهم، )وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً(؛ لأن المنافقين لا يعيشون روحيةَ الصلاة في اللقاء بالله؛ لأنهم لا يؤمنون به أساساً، والمنافقون المقصودون بالآية، هم الذين كانوا في زمن النبيw، وهم الذين يبطنون الكفر ويُظهرون الإيمان.
ولذلك، فإنهم لا ينطلقون بصلاتهم من داخل الذات المؤمنة بالعمل، فلا يتحركون بعزيمة ولا نشاط، كما هم المصلّون الذين إذا انطلقوا في صلاتهم يشعرون بالحيوية والنشاط والسعادة؛ باعتبار أنهم يتحدثون مع الله ويبتهلون إليه ويسألونه في قضاء حوائجهم؛ لأنّ الصلاة معراج روح المؤمن إلى الله. وطبيعة الحال، أنّ أولئك المنافقين يُقبلون على الصلاة كُسالى، متثاقلين؛ لأنّ الصلاة لم تتحوّل عندهم إلى حالةٍ متجذّرة من الارتباط بالله، ما يدفعهم إلى أن يُقبلوا على لقائه بكلّ نشاط وحيويّة.
ثم يتابع القرآن الكريم وصف هؤلاء المنافقين فيقول: )مذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَىٰ هَؤُلاء وَلاَ إِلَىٰ هَؤُلاء((3)، يعني أنهم يواجهون المسألة كما يواجهها الإنسان المذبذب الحائر المتردد الذي لا ينطلق إلى هذا الجانب ولا إلى ذاك الجانب، بل يظل في حالة التردد؛ لأنهم لا رسالة عندهم ولا قضية، بل هم يختزنون نقاط الضعف الذاتي الذي يحاولون من خلاله أن يحصلوا على بعض المكاسب الجزئية هنا وهناك، ولذلك فهم يعيشون في حالة من التردد والتذبذب، فلا هم مع المؤمنين حقاً، ولا هم يقفون إلى جانب الكفار ظاهراً.
ويُمكن أن يُفهم من هذا التعبير، كما يقول البعض، أنهم كشيء معلّق في الهواء، يتحرك في مكانه من دون أي هدف أو اتجاه، وإنّما يحركهم الهواء من أي صوب، وذلك كنايةً عن الضلال الذي تركهم الله لأنفسهم فيه، فلا سبيل لهم إلى غيره.
ويُروى عن النبيw في شرح مسألة تذبذب المنافقين، أنّه قال: ((مثل المؤمن والمنافق والكافر، كمثل رهطٍ ثلاثة، وقعوا إلى نهر، فوقع المؤمن فقطع، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد أن يصل إلى المؤمن ناداه الكافر أن هلمّ إليّ، فإنّي أخشى عليك، وناداه المؤمن أن هلمّ إلي؛ فإنّ عندي وعندي، يحظى له ما عنده))، أي يُحصي له ما عنده من الوسائل التي تُنجيه من الغرق، ((فما زال المنافق يتردّد بينهما))، أي بين المؤمن والكافر؛ هل يأتي هذا أو ذاك، ((حتى أتى عليه أذىً فغرّقه، وإن المنافق لم يزل في شكّ وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك)). والمنافق الذي يعيش الانتماء إلى مجتمع المؤمنين في الظاهر، ولكنه يعيش في نفسه الكُفر، يظلّ مشدوداً إلى ما تدعوه إليه نفسه الكافرة لينسجم مع خطّ الكُفر، بينما يدعوه مجتمع الإيمان لأن يتحرّك في خطّ الإيمان، وفي النهاية، لا يحقّق الانتماء لأيّ منهما؛ فيخسر نفسه ومصيره.
وهناك آية أخرى تتحدّث عن الرياء في سياق آيات الإنفاق الواردة في سورة البقرة. قال تعالى: )مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ((4)، فهي تدعو إلى الإنفاق في سبيل الله طلباً لثوابه سبحانه وتعالى، في ما يمنحهم من الحسنات ويضاعف لهم من ذلك كله. ثم تعالج المسألة الجانب السلبي لبعض الناس الذين يتصدّقون، ولكنهم في الوقت نفسه يُتبعون صدقاتهم بالمن والأذى، فترى واحدهم يدفع الصدقة للفقراء ثم يمنّ على الفقراء أنه أعطاهم، ويحاول أن يشهر ذلك بين الناس؛ ليُبيّن فضله على هذا الفقير وما إلى ذلك. فهو، في الوقت الذي أعطاهم ما يسدّ حاجاتهم، عمل ـ بالمنّ ـ على تدمير نفسيّاتهم من خلال إشعارهم بالذلّ.
يقول تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ((5)؛ أي الذي لا ينفق المال على أساس إيمانهِ الذي يأمره بالإنفاق لوجه الله؛ لأنّه عمل يحبه الله ويرضاه ويتقرب به إليه، بل إنه ينفق أمواله حتى يراه الناس؛ ليحصل على المكاسب المادّية والوجاهة الاجتماعية؛ ليصل إلى الكثير من مطالبه الدنيوية، كما نجده في الكثيرين؛ ولاسيما في الوسط السياسي الذي يعمل فيه بعض السياسيّين على كسب أصوات الناس، في الانتخابات، من خلال الظهور بمظهر الذين يهتمّون بالفقراء والمساكين؛ فهو يعطي فقراء هذا البلد أو مساكينهم، لا قربةً إلى الله، بل ليراه الناس أنه رجل محسن كريم، فينتخبوه في ما يريد أن يحصل على ما يحصل عليه. وهذا كما يكون في الوسط السياسي، قد يكون في الوسط الاجتماعي، كما هو شأن الذين يترشّحون لمناصب في الجمعيّات، خيريّة كانت أو غير ذلك، وقد يكون في الوسط التجاري، حيث يعمد بعض الناس إلى ذلك من أجل أن يثق الناس بأعمالهم التجارية، فيبذلون لهم أموالهم، أو يُقبلون على ما ينتجونه من بضائع وسلع وما إلى ذلك.
وهذا معروف عندنا في الشرق. وربما نجد هذه المسألة حتى في البلدان الغربية المتحضرة التي يتقدم فيها اليهود ليكونوا مع المرشح الذي يعطونه الكثير من أموالهم لتغطية أعماله الانتخابية. المهم هذه حالة موجودة في الواقع الإنساني، سواء في الشرق أو في الغرب، وإن كان في أساليب متعددة ومختلفة.
)وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ(؛ لأن الإنسان الذي ينفق أمواله على أساس الحصول على بعض المكاسب من خلال ذلك في الوسط الاجتماعي أو السياسي، ولا ينفق على أساس الحصول على رضوان الله وثوابه في الدنيا والآخرة، هو إنسانٌ لا يعيش الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأنه لا ينفتح على الله سبحانه وتعالى ولا يحسب حسابه، كما أنه لا ينفتح على اليوم الآخر الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ((7).
كيف قدّم القرآن الكريم هذا الفريق بأسلوب ضرب المثل؟
قال تعالى: )فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ((8). الصفوان هو الحجر الأملس، الصخر الأملس الذي ليس له عمقٌ من التراب )عَلَيْهِ تُرَابٌ(، أي جئنا بتراب ووضعناه على هذه الطبقة الصخرية، )فَأَصَابَهُ وَابِلٌ(، أي أتاه مطر شديد، )فَتَرَكَهُ صَلْدًا(؛ أي ظهرت قشرته الملساء، بعد أن أغرى الزرّاع ليزرعوا عليه، فزرعوا فنما قليلاً، لأنّ هذا النوع من الحجارة ليس له عمق لتضرب به جذور النبات، )لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا(، فهؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، أو الذين يُتبعون ما أنفقوا مناً أو أذىً، ينطلقون في هذه الصورة البهيجة التي إذا نظر الناس إليها، رأوا فيها ما يبهج الإنسان وما تشرق به العيون وما إلى ذلك، ولكن عندما يأتي حساب الله سبحانه وتعالى، وعندما تأتي النتائج عند الله، يجدون هناك أي شيءٍ؛ لأنّهم لم يركّزوا أعمالهم على أساس العمق الذي يعيش الإيمان بالله. )وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ (؛ لأن هؤلاء لم ينطلقوا من قاعدة الإيمان، وإنما كانوا يعيشون حالة الكفر؛ ولذلك لم ينفتحوا على الله في كل الجهد الذي بذلوه، وفي كل العمل الذي عملوه. هذا مثل.
)وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ((9)، ليرضى الله عنهم وليمنحهم ثواب ذلك في الدنيا والآخر )وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ(، فهم ينطلقون من القاعدة الإيمانية التي تعيش في عمق أنفسهم، فتدفعهم إلى أن يقوموا بعمل الخير هنا وهناك، )كَمَثَلِ جَنَّةٍ( أي بستان، )بِرَبْوَةٍ( وهي عبارة عن تراب متجمّع يسمح بنفاذ الماء فيه إلى الأعماق، )أَصَابَهَا وَابِلٌ(، فإنّ المطر عندما أصاب هذه الأرض اهتزّت بالحياة، ونمت فيها صنوف النباتات، )فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِِ(؛ لأن المطر يزيدها نمواً وامتداداً؛ )فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ(، والطل هو المطر الخفيف الذي ينزل على هذا البستان الذي هو في أعلى الربوة. وعلى كلّ حالٍ، فسيبقى البُستانُ مثمراً، )وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(؛ لأنّه المطّلع على أعمالكم، والخبير بسرائركم ونيّاتكم.
وهناك آية أخرى في سورة النساء تقول: )وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِاليَوْمِ الآَخِرِ((10)، هؤلاء هم قرناء الشيطان؛ لأن الشيطان هو الذي خدعهم، وهو الذي زيّن لهم أن ينفقوا ما أعطاهم الله من المال في سبيل الحصول على نتائج مادية ودنيوية بعيداً عن رضوان الله سبحانه وتعالى. هؤلاء هم قرناء الشيطان، باعتبار أن الرياء يمثل أسلوباً من أساليب الشيطان في إضلال الإنسان، ووسيلةً من وسائل خداعه، )وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا(.
قال تعالى: )وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ((11)، أي يخطّطون لها ويعملون لها سرّاً وعلانيةً )لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ( أي يذهب ويفنى ولا يبقى منه شيء. هذه الآية فُسِّرت بالمرائين الذين تذهب كل خططهم وتبور، أي تفنى ولا يبقى لهم منها شيء.
ونقرأ في (سورة الأنفال) عن بعض الناس الذين يتحركون في حربهم وسلمهم على أساس الرياء، لا على أساس الرسالة، ولا على أساس القضية. قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا(، ثبات المجاهدين المقاتلين الأشداء الذين لا ينهزمون ولا يتراجعون في المعركة الرسالية، )وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ((12). وأنتم في المعركة، لا بد من أن تذكروا الله وتطلبوا منه أن ينصركم على أعدائكم.
)وَلا تَنَازَعُوا(، أي تختلفوا فيما بينكم )فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ((13)؛ لأن النزاع والخلاف يجعل المقاتلين في المعركة يبتعدون عن كل الوسائل التي يمكن أن توحِّد الجهود ممّا يساهم في تحقيق النصر؛ لأن النزاع يجعل كل فريق يرى رأياً في المعركة ينفصل عن الفريق الآخر؛ وبذلك تذهب قوة هؤلاء وتندثر، كما تذهب قوة الرياح العاصفة عندما يفتح لهذه الرياح منافذ متعددة من اتجاهات مختلفة، فتفقد قوتها، بينما إذا بقيت الرياح العاصفة منطلقةً في اتّجاه واحد، من دون أن تتوزّع في هذا الجانب أو ذاك، فإنها تستطيع أن تهدم ما يقف في طريقها.
)وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابرينَ(؛ فهو يبيِّن أن قضية الرّبح في أيّ معركة، سواء كانت معركة عسكرية ـ وهي محلّ الشاهد في هذه الآيات ـ أو معركة سياسية أو معركة اقتصاديّة، أو ما إلى ذلك، يتطلّب أن تظلّ القوّة في اتجاه واحد، أي لا بدّ للمقاتلين من أن يكونوا متماسكين وأن يكونوا موحّدين؛ حتى إذا اندفعوا إلى العدو، اندفعوا من خلالِ ما يملكون من قوة ضد قوة العدو ليهزموه، أما إذا ذهب كل فريق إلى ما يراه، فمن الطبيعي أن الخطة سوف تسقط في هذا المجال، أو أنّ القوة سوف تضعف، وأن العدو سوف ينتصر.
)وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ((14)، يشير الله سبحانه وتعالى في هذه الآية، كما يذكر المفسرون، إلى المشركين عندما انطلق المسلمون يعرضون للقافلة التي كان يقودها أبو سفيان، وهي تحمل كل أموال قريش وكل تجارتهم التي جاء بها من الشام، هنا أحس أبو سفيان بأن المسلمين يستهدفونه اقتصادياً من أجل إضعاف قوة قريش؛ لأن قوة قريش كانت في تجارتها، وكانت في أموالها.
ولذلك، فإن هذه الخطة الأولية كانت تريد إضعاف قوة قريش وإسقاطها بالتعرّض لهذه القافلة، حتى يربحها المسلمون، وبذلك تضعف القوة الاقتصادية لقريش. وقد أرسل أبو سفيان إلى مكة ينذر المشركين، بأن القافلة في خطر، وأن من الممكن أن يأخذها المسلمون؛ فعندما وصل هذا الإنذار إلى المشركين استعدوا للقتال، وكل منهم لديه حصة أو سهم فيها؛ ثم استطاع أبو سفيان أن ينحرف عن الطريق الطبيعي وينجو بالقافلة، فأرسل إليهم أنه لا حاجة إلى الحرب؛ لأن القافلة قد نجت، ولكن أبا جهل لم يوافق على ذلك، بل قال: ((حتى نقدم بَدْرَاً فنشرب بها الخمور وتعزف علينا القيان))، أي النساء المغنيات اللاتي كن يعزفن في أماكن النصر أو أماكن اللهو أو الطرب وما إلى ذلك. ((ونُطعم بها من حضرنا من العرب))، فيأتوننا ويرون أننا نمثل القوة وليس المسلمون هم من يمثّلونها.
فهذا كان بطرهم ورئاؤهم الناس، فجاءوا ليشربوا الخمر، فشربوا كأس المنايا، وجاءوا لتعزف لهم القيان، فناحت عليهم النوائح. فالله يقول للمسلمين أن إذا تنازعتم فستصيرون مثل هؤلاء الناس، وكانت هذه الآية موجهة إلى بعض المسلمين في أُحد، والذين لم يلتزموا بخطة النبيw عندما أراد لهم أن يعسكروا في منطقة يمكن أن تشكل ثغرة ينفذ منها المشركون.
هذه هي الآيات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن في حديثه عن الرياء، وعن نماذج المرائين في شتى مواقعهم وأنواعهم. وهذا ما لابد لنا من أن نواجهه ونتّعظ به؛ لنعرف أن الله يبغض الرِّياء، سواء كان هذا الرِّياء في العبادة أو في الإنفاق أو في حركة الحرب أو في أي موقع من المواقع؛ لأن الله يريد للإنسان أن يخلص له وأن تكون حالته النفسية والشعورية في الداخل مطابقةً للخارج، فلا تكون هناك ازدواجية بين الداخل والخارج... ولينطلق المؤمنون في إخلاص لله سبحانه وتعالى، يعيشونه في قلوبهم وفي عقولهم وفي سلوكهم في الحياة.
والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
لا نزال نتابع الحديث عن الرياء، وهو العمل الذي يصدر من الإنسان ليراه الناس على صورةٍ حسنة، سواء في المسألة الدينية أو المسألة الاجتماعية أو المسألة السياسية، للحصول على موقع ديني أو سياسي أو اجتماعي.
وقد اهتمّ النظام الأخلاقي الإسلامي في الكتاب والسنة، من خلال ما ورد عن رسول اللهw، وعن الأئمة من أهل البيتi بتصوير النتائج السلبية على مستوى الدين والدنيا للمرائي. ونحن في دراستنا للأحاديث الكثيرة، نجد أن مسألة الرياء قد تصل إلى درجة من الخطورة قد تمسّ مسألة خلوص التوحيد.
ونحن نعرف أن قضية التوحيد هي أساس الرسالات؛ فقد جاء كل نبي ليطرح على أمته: )اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلهٍ غَيْرُهُ((1). وكانت قمة الدعوة التوحيدية هي دعوة الإسلام؛ لأن الرسولw اصطدم في بداية دعوته بجمهورٍ كبيرٍ من المشركين، الذين كان الشرك يتمثّل لديهم بعبادة الأصنام الممتدّة في أكثر من موقع جغرافي، ولاسيما في مكة مركز الكعبة، التي كانت الأصنام تحيط بها من كل جانب، في الوقت الذي كان المشركون يحجّون إلى الكعبة، امتداداً لما كان عليه الحج من زمن إبراهيمt الذي يَعتبر القرشيون أنهم ينتسبون إليه؛ باعتبار أنهم من أولاد إسماعيل.
وقد كانت لقريش سيطرة اقتصادية وثقافية وسياسية في شبه الجزيرة العربية. ولذلك كانت دعوة النبيw إلى التوحيد في مواجهة الشرك، من أكثر الدعوات صعوبةً وقساوةً؛ باعتبار أنها كانت تخاطب مجتمعاً ممتدّاً في شبه الجزيرة العربية، بكل تنوعاته القبلية والعشائرية، وكان الذين يسيطرون على ذلك ويحرسون عقيدة الأصنام وموقعها هم الذين يُعدّون أكابر المنطقة، والذين يمثلون حاجة المنطقة، سواء في رحلتي الشتاء والصيف، أو في الموقع الثقافي المتمثّل بسوق عكاظ، أو في الموقع الديني في سيطرته على الدعوة. ولذلك نجد أن القرآن الكريم قد عالج مسألة التوحيد بطريقةٍ لاحقت كل خطوط الشرك، سواء كان الشركُ شرك عقيدة لدى الذين يرون أن الآلهة متعدّدة، أو شرك عبادة؛ كالذين يعبدون الأصنام ويقولون: )مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللهِ زُلْفَى((2)، أو شرك الطاعة من خلالِ خضوع الناس للذين يفرضون عليهم بعض التشريعات وبعض العادات والتقاليد.
ومن الطبيعي أن القاعدة التوحيدية ترتكز على أساس انفتاح المؤمن على الله وعدم الانفتاح على غيره، كما قال تعالى: )وَأنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أحَداً((3)؛ ولذلك فإن التوحيد الخالص يعني أنك عندما تتوجه إلى الله لا تتوجه إلى أحد غيره؛ حتى إن التزامنا بالأنبياء إنّما هو من حيثُ ارتباطهم بالله، وكونهم المقرّبين لديه، وأنّهم لا يعصونه ما أمرهم.
ومن هنا اهتمّ القرآن الكريم بمسألة الرياء؛ لأن الرياء يمكن أن تختصره بكلمة، وهي أن المرائي يعبد الناس ولا يعبد الله؛ فيكون باطنه باطن شرك وظاهره ظاهر إيمان.
ونحاول في هذا اللقاء أن نُتابع النصوص الواردة عن النبيw وعن الأئمة من أهل البيتi، في بعض خصوصياتِ الرياء؛ لتتّضح الصورة في كل هذه الإيضاحات النبوية والإمامية.
فنقرأ في حديث الإمام الصادقt فيما رواه أحد أصحابه عنه، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر الصادقt يقول: ((اجعلوا أمركم هذا لله))(4). كان هذا خطاباً للشيعة، يطلب إليهم أن يحرّكوا خطّ الإمامة الذي هو امتدادٌ حركي لخط النبوة؛ ليكون لله، في خلوص العقيدة، وفي امتداد الإيمان، وفي الانفتاح على الرسالة من خلال رسول الله؛ باعتبار أنه عبدُ الله ورسوله، والانفتاح على الإمامة منذ عليٍt؛ باعتبار أنه ولي الله الذي حمل رسالة رسول الله، وعاش كل حياته لله؛ لأنه باع نفسه لله، ممّا بيّنته الآية الكريمة: )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ((5)، حيث ذكر المفسّرون أنّ هذه الآية نزلت في الإمام عليt، في مبيته على فراش النبي ليلة الهجرة، و((يشري نفسه)) بمعنى يبيع نفسه لله سبحانه وتعالى.
وهكذا كانت حياته كلها لله؛ حتى إنه كان يقول للناس في زمن خلافته: ((ليس أمري وأمركم واحداً؛ إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم))(6)، ولذلك فإن الالتزام بإمامة عليt، هو التزامٌ بالإسلام كُلّه وبالحق كُلّه، والتزامٌ بالتوحيد الإلهي وبطاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته. وهكذا هو الالتزام بالأئمة من أهل البيتi.
((ولا تجعلوه للناس))؛ أي لا تجعلوا التشيّع حركةً تتقرّبون بها إلى الناس، أو تنفتحون فيها على مصالحكم التي تطلبون تحقيقها لديهم؛ فتُدخلون فيها ما لا يرضاه الله تعالى، سواء كان ذلك فيما يرغبه بعض الناس من الغلوّ أو من الخرافة أو من التخلّف؛ ((فإنه ما كان لله فهو لله)) ـ يصعد لله سبحانه وتعالى ـ ((وما كان للناس فلا يصعد لله))(7)؛ فيبقى مع الناس؛ لأنّ الله لا يقبل إلا ما كان خالصاً له. فكأنه يقول: كونوا موحدين لله، ولا تُدخلوا في التشيع أي عُنصرٍ ينافي توحيد الله سبحانه وتعالى.
وعن الصَّادقt قال، قال النبيw: «إن الملك» ـ في إشارة إلى الملكيْن اللذين هما ) عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ((8)، حيث يُحصي على الإنسان أعماله؛ ((ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به؛ فإذا صعد بحسناته يقول الله عز وجل: إجعلوها في سجين ـ سجين هو وادٍ في جهنم ـ إنه ليس إياي أرادَ بها))(9)، فذلك قد عمِل الحسناتِ للناس، ووجّه نيته ودوافعه وإخلاصه لهم؛ ليمتدحوه على ذلك، وليرفعوا منزلته عندهم، ولم يأتِ بهذا العمل ليتقرب به إليَّ؛ فهي حسناتٌ في الشكل، ولكنها سيئاتٌ في العمق والمضمون.
وعن الصَّادقt: ((قال الله عز وجل)) ـ وهنا ينقل كلاماً مباشراً عن الله ممّا ليس قُرآناً، بل هو أحاديث قدسيّة ممّا أنزله الله على أنبيائه في الماضي، سواء بالنسبة إلى ما تضمنته الكتب، من التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وزبور داود، أو ما كان يُنزله بشكل مباشر على الأنبياء. ((أنا خيرُ شريك))، فلا شريك مثلي، ((من أشرك معي غيري)) أي عمل لي ولغيري شراكةً ((في عملٍ)) عمِله ((لم أقبله إلا ما كان لي خالصاً))(10)؛ والله هو الواحد الأحد الصمد الذي )لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُوَاً أَحَدٌ((11).
وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصادقt، يتحدث فيه عن النتائج التي يجنيها المرائي في الدنيا، في ما يتطلبه من انتشار أمره، وتلك التي يجنيها المخلص فيما يتطلبه في امتداد عمله قبل الآخرة: ((ما من عبدٍ يسرُّ خيراً))، بحيث تكون نيته نية الخير ((إلا لم تذهب الأيام حتى يُظهر الله له خيراً))، أي أنّ هذا الخير الذي اختزنه هذا العبد في داخل ذاته ولم يطَّلع عليه أحد، فإن الله يُظهره ويُبيّنه للناس، ((وما من عبدٍ يُسِرُّ شراً إلا لم تذهب الأيام حتى يُظهر الله له شراً))(12) فيفضحه؛ لأن ما يختزنه الإنسان في سرّه لا بدّ وأن يظهر على فلتات لسانه، وعلى حركاته وفي سلوكه، فالله سبحانه وتعالى يهيئ الظروف التي تُظهر ما أسرَّه الإنسان المؤمن للناس، فيظهر لهم الخير الذي اختزنه في ذاته، وما أسره غير المؤمن أيضاً في نفسه فيظهر لهم شراً.
وعن الصادقt في هذا الاتجاه أيضاً، ولكنه يبين حجم ما يُظهره الله: ((من أراد الله عز وجل بالقليل من عمله)) ـ بحيث تكون أعماله أعمالاً تقتصر على الفرائض وعلى بعض المستحبات، أي ليس عنده الكثير من العمل، ((أظهر الله له أكثر مما أراد)). بحيث إذا كان يؤدّي أعماله بنسبة عشرين في المائة، فإنّ الله يضخمها وينميها، بحيث تصبح خمسين في المائة في نظر الناس، ((ومن أراد الناس بالكثير من عمله))، يعمل أعمالاً كثيرة جداً في حياته، ((في تعبٍ من بدنه، وسهرٍ من ليله))، بحيث يسهر الليالي ويجهد نفسه لذلك، ((أبى الله إلا أن يقلّله في عين من سمعه))(13)؛ لأن المسألة عند الله ليست في الكمية ولكن في النوعية، أي أن تنطلق الأعمال من عمق التقوى المنفتحة على الله في الإخلاص له وفي الالتزام بتوحيده.
وفي الحديث عن الإمام الصادقt قال: قال رسول اللهw: وهو يتحدث عن المستقبل الذي يحيق بالأمّة الإسلامية، في حال خبثت سرائر عناصرها، حيث يحذر الناس مما يُقبلون عليه، ويُبعدهم عن صفاء الإسلام وعن خلوص التوحيد، قال رسول اللهw: ((سيأتي على الناس زمانٌ تخبُث فيه سرائرهم)) أي أنّك إذا اطّلعت على سرائرهم ودوافعهم ونواياهم، وجدت فيها الخبث؛ فلا تشعر بطيبة السرائر وصفائها وإخلاصها، ((وتحسن فيه علانيتهم))، حيث إنّك إذا اطّلعت على مظاهرهم، في ما يقومون به من أعمال، لرأيت فيها مظهراً حسناً، ففيها العبادة والطاعة والخير.
وبعبارة أخرى، يريد النبيّw أن يقول، إنّ هؤلاء يعيشون في ازدواجيّة بين ما يُعلنونه للناس وما يضمرونه في سرائرهم. ولكن، لماذا ذلك؟
((طمعاً في الدنيا))؛ حيثُ يريدون أن يتقرّبوا إلى الناس بما يظهر من أعمالهم وأقوالهم ومواقفهم، ((لا يريدون به ما عند ربهم))، فليست هذه المظاهر الخارجية التي توحي بالخير وبالتقوى وبالطاعة لأجل الحصول على رضى الله تعالى، أو طمعاً في ثوابه وجنّته. وحال هؤلاء أنّه ((يكون دينهم رياءً))، فهم مشدودون إلى عيون الناس كي تلتفت إلى ما يصدر منهم، وإلى مواقع الناس؛ التي تحملهم إلى الدرجات العليا في الواقع الاجتماعي أو السياسي أو الديني. ((لا يخالطهم خوف)) من الله، بل يعيشون هذه الطمأنينة الجامدة التي لا روح فيها، والتي تلتقي باللامبالاة أمام قضيّة المصير؛ حيث لا يمكن للإنسان أن يحصل على الطمأنينة وهو يعرف أن له ربّاً سوف يقف بين يديه، )يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ((14)، )يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ((15).
((يعمّهم الله بعقاب))، من خلال ما يصيبهم في حياتهم من ألوان البلاء والمصائب والمحن، ((فيدعونه))، على أثر ذلك ((دعاء الغريق))؛ فحالتهم، في الدعاء، هي حالة الغريق الذي يواجه الموت، ولا يجد إلا الله تعالى، فيدعو دعاء المُضطر، ((فلا يستجيب لهم))(16)؛ لأنهم لم يريدوا وجه الله في أعمالهم.
وهناك حديث عن الإمام الباقرt، يقول: ((الإبقاء على العمل أشد من العمل))(17)، أي أنَّك عندما تقوم بعملٍ ما، فإنّ عليك أن تحفظ له موقعه حتى لا يتبدل، فإذا كان العمل عمل خير فحافظ عليه حتى لا يتبدل إلى عمل شر.
قال السامع لكلام الإمام الباقرt: ((وما الإبقاء على العمل؟ قال: يصلُ الرجُل بِصِلة يُعطي الفقير، وينُفق نفقةً لله وحده لا شريك له))، أي أنّه يتصدَّق قربةً إلى الله تعالى، ويُنفق في سبيل الله سبحانه وتعالى، لا يقصد أحداً إلا الله، ((فكُتِبت له سراً))، أن هذه صدقة السر، لأنه أنفق وتصدّق ووصل الفقراء والمساكين في حالة السِر، ((ثم يذكرها))، فيقول للناس: أنا تصدقت على فُلان، أنا وصلت رحمي بكذا وكذا، أنا أنفقت في سبيل الله كذا وكذا...، ((فتمحى فتكتب له علانية، ثم يذكرها))، يظل يُرددها في أي مجلس يجلسه، أنا عملت كذا وأنا وصلت كذا أنا تصدَّقت أنا أنفقت... وهكذا، ((فتُمحى وتُكتب له رياءً))(18)، بحيث يتحوّل هذا العمل الذي بدأ قربةً إلى الله تعالى رياءً، من خلال هذا الحديث المتكرِّر أمامهم عمّا قام به، ليحصل من خلالهم على محبتهم ومدحهم ومنزلته عندهم.
وفي حديث عن الإمام جعفر الصادقt، قال: قال أمير المؤمنينt، ((اخشوا الله خشيةً ليست بتعذير))، أي خشيةً لا تقصير فيها، بل خشيةً حقيقيّة تنطلق من الأعماق، ((واعملوا لله))، ليكن عملكم خالصاً له ((في غير رياء))، لا ليراكم الناس ولتحصلوا على محبتهم ومدحهم، ((ولا سُمعة)) حتى يتسامع الناسُ بكم، ((فإنه من عمِل لغير الله وكله الله إلى عمله))(19) ولم يشمله بالرحمة والقبول.
هناك حديث عن رسول اللهw، يقول، مما روي عنه: ((إن أول الناس يُقضى يوم القيامةِ عليه، رجلٌ استُشهد)) في معركة من معارك الإسلام، ((فأُتي به، فعرّفه نعمه)) أي أنّك قد أنعم الله عليك بكذا وكذا، ((فعرفها قال: فما عملت فيها؟))؛ فالله سبحانه يمنح نعمه لعبادة، ويريد أن يستعملوا كلّ نعمةٍ في ما يحبّ ويرضى، وفي ما يوافق أمره، وما يُوافق نهيه، ((قال: قاتلت فيك)) أي في سبيل الله، ولوجه الله ((حتى استشهدت))، وأيُّ عملٍ أعظم من الشهادة، فهذه الشهادة كانت شُكراً لك على ما أنعمت عليَّ به، ((قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليُقال جريء))، أي أنّك انطلقت في القتال لتثبت بطولتك وشجاعتك في مقابل من يتّهمك بأنك جبان وأنك لست بطلاً، ((فقد قيل ذلك))، فحصل الثواب، قالوا بطل، قاتل قتال الأبطال. ((ثم أُمر به فُسحب على وجهه حتى أُلقي في النار)).
وعلى سبيل المثال، يُروى أنّ شخصاً واسمه (قزمان) قد شهد معركة أحد، ((وقاتل قتالاً شديداً، فقتل ستّة أو سبعة، فأصابته الجراح، فقيل للنبيw إنّ قزمان قد أصابته الجراح، فهو شهيد، فقال: بل من أهل النار. فجاؤوا إلى قزمان، فقالوا: هنيئاً لك أبا الغيداق الشهادة، فقال: بمَ تُبشّرونني، والله ما قاتلنا إلا على الأحساب، قالوا: بشّرناك بالجنّة، قال: حبّة والله من حرمل، إنّا والله ما قاتلنا على جنّة ولا على نار، إنّما قاتلنا على أحسابنا، ثمّ أخرج سهماً من كنانته، فجعل يتوجّأ به نفسه، فلمّا أبطأ عليه المشقص، أخذ السيف، فاتّكأ عليه، حتى خرج من ظهره، فذكر ذلك للنبيw، فقال: هو من أهل النار)).
فهو لم يقاتل هؤلاء الذين يقاتلون رسول الله، مخلصاً لله في نصرته لرسوله والمؤمنين، بل قاتل على أساس الحميّة القبليّة.
عن رسول اللهw: أن ((علامة المُرائي أربعة: يحرص في العمل لله إذا كان عنده أحد))، أي ينشط في العمل ولا يتقاعس عنه إذا كان الناس يرونه، ((ويكسل إذا كان وحده))؛ فهو يصلّي صلاة الكسول، ويتقاعس عن أوّل وقتها، ((ويحرص في كلّ أمره على المحمدة))، فيحب أن يحمده الناس على كلّ عمل، ((ويُحسن سمته (مظهره) بجهده)).
ويقرب من هذا ما ورد عن الإمام عليّt حيث يقول: ((للمرائي أربع علامات، يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيدُ العمل إذا أُثني عليه (إذا مُدح)، ويُنقص منه إذا لم يُثنَ عليه)).
وعنه أيضاًt في وصف المؤمن: ((لا يعمل شيئاً من الخير رياءً، ولا يتركه حياءً))(20)، فالمؤمن إذا عمل الخير يعمله لله، لا للناس، بل ينطلق بالخير، سواء كان الناس ينفتحون عليه أو لا ينفتحون.
وعن رسول اللهw: ((أن الله حرّم الجنة على كُل مُراءٍ))؛ باعتبار أن أعمال هذا الإنسان لا يكون لها وزن وقيمة، فتُجعل هباءً منثوراً، كما أنّ الرياء يمثّل حالةً من الشرك الخفي، وقد ذُكر في الحديث أنّ الله لا يقبل أن يُشرك به في العمل، فلو أشرك به جعله لغيره.
وفي ختام المطاف، هناك حالة من الحالات التي ربما تشغل بال كل إنسان، هل هي رياء أو لا؟ وذلك أنّ الإنسان قد يقوم للصلاة لله، قاصداً وجهه الكريم، ويُصادف أن يطّلع عليه الناس على تلك الحالة من الخشوع والتذلّل بين يدي الله، فيُسرّ الإنسان بأن يراه الناس على حالة من الخير، فهل هذا من الرّياء؟
في الإجابة عن ذلك، ورد في الحديث عن زُرارة عن الباقرt، قال: ((سألته عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه إنسانٌ فيسره ذلك، قال: لا بأس، ما من أحدٍ إلا وهو يحب أن يظهر له في الناس الخير. إذا لم يكن صنع ذلك لذلك))(21)؛ إذ المهم أن لا يكون قد صنع الخير ليراه الناس، ولكن بالصدفة رآه الناس، فهذا لا يُعتبر رياءً. والحمدُ لله ربِّ العالمين.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
لا نزال نتكلم حول موضوع الرِّياء، وهو العمل الذي يمارسه الإنسان من أجل أن يراه النَّاس، ليحصل على مدحهم وتقديرهم والامتيازات التي يأملها منهم؛ باعتبار ما يتمثل في عملية الرياء من عناصر الثقة التي يمكن أن تحصل له عند الناس. ونتناول في ما يلي أقسام الرياء:
قد يحصل الرِّياء في العبادات؛ في الصَّلاة والصوم والحج والعمرة، وفي غير ذلك؛ فيصلّي الإنسان ليراه الناس، لا ليتقرّب إلى الله بها ويحصل من خلالها على ثوابه، أو يصوم كذلك، أو يحجّ ليُقال عنه: حاجٌّ، وما إلى ذلك. وهنا حالات:
الحالة الأولى: أن يكون الدافع إلى العمل ونيّته هو الرياء فقط، بحيث لولا الرياء لما قام بالعمل البتّة.
وليس من إشكال في أن هذا العمل حرام مُطلقاً، وصاحبه مبغوضٌ لله سبحانه وتعالى. والرياء في العبادة مبطلٌ لها؛ لأن (الأعمال بالنيّات)، والمرائي في العبادة لم يقصد امتثال أمر الله تعالى، وإنما قصد بها إدراك مالٍ يحصل عليه من الناس، أو جاه يناله منهم، أو أي غرضٍ آخر من الأغراض؛ فهو ليس من الذين يأتون بالعبادة امتثالاً لأمر الله. وعلى ضوء هذا، فهو لا يخرج من عهدة التكليف؛ لأن التكليف الشرعي في العبادة إنّما يسقط عن المكلّف إذا امتثله بحسب ما أُمر به، وقد أُمر أن يأتي به بقصد امتثال أمره تعالى، وقُربةً إليه، ولم يحصل ذلك منه؛ لأنّه قصد بصلاته غير هذا.
وعلى هذا الأساس، فيكون هذا الإنسان عاصياً بعبادته، آثماً بعمله، كما دلَّت عليه الآيات والأخبار؛ حتى إنّ بعض العلماء قالوا إن حال المرائي أسوأ من حال من ترك العبادة رأساً؛ باعتبار أنّه جمع بين الاستهزاء بالله؛ لأنّ وقوفه بين يدي الله غيرَ قاصدٍ لامتثال أمره، وكأنه يخدع الله بصلاته؛ وبين تلبيس أمره على الناس، حيث يقوم بعملٍ فيه الكثير من الحيلة ومن المكر، بحيث يخيّل إليهم أنه مُطيعٌ لله وأنه من أهل الدين، وهو ليس كذلك.
الحالة الثانية: أن يصلِّي ـ مثلاً ـ قُربةً إلى الله، قاصداً به الحصول على الثواب، ولكن هذا القصد، قصد ضعيف ومرجوح، لا يدفعه إلى العمل بشكلٍ قوي، بحيث لو كان خالياً عن قصد الرياء، لم تصلح نيّة القُربة وقصد الثواب على العمل لدفعه نحوه.
وحال هذا النَّوع حال الأول؛ لأن القصد القوي الذي دفعه إلى العمل هو الرياء، ولم تكن القُربة والثواب هما اللذان دفعاه إلى العمل، بحيث لم يكن عمله مصداقاً للطاعة لله عزّ وجلّ.
الحالة الثالثة: أن يكون قصد القُربة والثّواب مساوياً لقصد الرياء، بحيث لو كان كل واحدٍ خالياً عن الآخر لم يبعثه على العمل، وهو انطلق من خلال قصدين، أي أنّه لو لم يقصد الرياء لم يصلِّ، ولو لم يقصد القُربة أيضاً لم يصلِّ.
ولا إشكال في أنَّ هذا مفسدٌ للعمل أيضاً؛ لأنّ العبادة في هذه الحال تكون مصداقاً للشرك بالله، لأنّ المصلّي لم ينطلق من خلال إرادة الطاعة، وإنّما انطلق من خلال إرادتها وإرادة الناس. وفي هذا يصدق الحديث القُدسي: ((أنا خير شريك؛ من عمل لي ولغيري جعلته لغيري))(1).
الحالة الرَّابعة: أن يقصد القربةَ في صلاته، من حيثُ يعلم ذلك المصلّي أنّ من شروط الصلاة قصد القربة، ولولا ذلك لم يصلِّ؛ ولكن رافق هذا القصد قصدُ الرياء أيضاً، ولكن هذا القصد لم يكن قوياً ولا راجحاً، بل كان قصداً ضعيفاً. فهو يصلّي قُربةً إلى الله، ولكن إذا شاهده الناس، فإنّ نشاطه يقوى، وهو يحبّ أن يطّلع الناس عليه في صلاته هذه التي قصد بها التقرّب إلى الله، فيحصل على الحظوة لديهم. لكنّ هذا القصد للناس لو لم يكن موجوداً لما ترك العمل؛ بل هو يصلي على كل حال.
في هذه الصورة، اختلفت نظرة العلماء؛ فبعض العلماء قال إن هذا لا يُحبط أصل العمل، بل هو عمل صحيح وتبرأ ذمته به؛ ولكنّ الذي يحصل من مرافقة الرياء لقصد التقرّب، نقصان الثواب عمّا لو كانت نيته خالصةً لله في قصد القُربة، وذلك بحسب حجم الرياء في العمل.
ولكنّ علماء آخرين قالوا إننا لو درسنا ظواهر الأخبار، فقد نستفيد من ذلك بطلان أصل العمل؛ باعتبار أنه يصدق عليه أنه عمل رياء، ويصدق على هذا الرجل أنّه مراءٍ، كما مرّ الحديث القُدسي الذي قدّمناه: ((أنا خيرُ شريك؛ من عمل لي ولغيري جعلته لغيري))، بحيثُ يُفهم منه أنّه لا بدّ من أن تكون الأعمال خالصةً لله تعالى، فلو كانت شركةً بين الله وغيره، مهما كان حجم الشراكة، فإنّها لا تكون لله، بل لغيره، فتبطل.
على أنّه يُمكن استفادة ذلك من قول الإمام عليّt في بيان صفة المرائي: ((ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده ـ نظير ما تحدّث الله به عن المنافقين في قوله تعالى: )وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ((2)، ـ ويُحبُّ أن يُحمد في كلِّ أموره))(3)، حيث يدلّ ذلك على أنّه يصدق على من توفّرت فيه هذه الصفات أنّه مراءٍ، فيبطل عمله.
لكن في الإمكان أن يُفرّق في ذلك بين حالتين: الأولى أن يرجع قصده وحبُّه اطلاع الناس عليه إلى أن تتحقّق منزلة له في قلوبهم؛ ليتوسَّل بها إلى نيلِ غرضٍ من الأغراض الدنيوية، فهذا يصدق عليه أنه مُراءٍ، فيلحقه حُكمه. والثانية أن يكون سروره وقصده من اطلاع الناس لأحد المقاصد الصحيحة، فهو يأنس أن يراه الناس على خير، ولكن لم يكن قصده من صلاته ذلك، فهذا طبعاً لا بأس به، وقد تقدّم منّا الإشارة في ما سبق إلى بعض الأحاديث التي تنفي البأس عن ذلك. وهو ما يندرج في إطار الحالة الخامسة التالية.
الحالة الخامسة: أن يُصلِّي قُربةً إلى الله، ولكن الناس يمرّون عليه ويرونه على حالة جيدة، فيسرّه ذلك؛ لأنهم قد رأوه على حالة جيدة من دون أن يكون قصده ذلك، فهذا لا مشكلة فيه. أي أنّ قصده في الأساس كان إخفاء الطاعة، والإخلاص لله. ولكن اتّفق اطّلاع الناس عليه صدفةً. فيسرّه مثلاً أنّ الله تعالى أبقى معصيته على الستر، وأظهر طاعته لهم، فيكون فرحه بجميل نظر الله وفضله عليه، لا بمدح الناس والحصول على علوّ المنزلة في قلوبهم، وقد قال الله تعالى في هذا المجال: )قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا((4).
ويدلّ على ذلك أن رجلاً قال لرسول اللهw: ((إني أُسرُّ العمل))، فأُصلي في مكانٍ لا يراني فيه أحد، ((لا أُحبُّ أن يطّلع عليه أحد، فيطّلع عليه فيسرُّني)) أن الناس قد اطلعوا عليَّ وأنا أُطيع الله، ((قال)) النبيw في جوابه: ((لك أجران: أجر السِرّ))؛ لأنك قصدت طاعة الله في السر، ((وأجر العلانية))؛ لأنّك أحببت أن يظهر الخير للناس. وفي رواية، أنه سُئل الإمام محمد الباقرt ((عن الرَّجل يعمل الشَّيء من الخير، فيراه إنسان فيسرّه ذلك، قال: لا بأس؛ ما من أحدٍ إلاّ وهو يُحب أن يظهر الله له في الناس الخير إذا لم يكن صنع ذلك لذلك))(5)، أي هو لم يصنع الخير ليراه الناس، ولكنَّه صنعه قُربةً إلى الله، ولأنه يؤمن بالخير، ولكن الله أظهر الناسَ عليه.
إذاً، نفهمُ من هذين الخبرين عن رسول اللهw وعن الإمام الباقرt، أنه لا يُعدُّ من الرياء أن يفرح الإنسان باطّلاع الناس عليه وهو يعمل الخير قُربةً إلى الله سبحانه وتعالى، ولا مانع من أن يُسرَّ بذلك؛ لأنه لم يعمل ذلك ليعظّمه الناس.
وهكذا نلاحظ أنَّ بعض الناس قد يعصي الله؛ لأنَّ الإنسان ليس معصوماً عن الخطأ والزلل، ولكنّه يحاول أن يكتم المعصية ويتألّم إذا اطّلع النَّاس عليها، ولكن قد يصادف أن يطّلع النّاس على هذه المعصية.
وليس من إشكال هنا في رجحان الكتمان، وإن كان الأساس في الإخلاص أن يستوي السرُّ والعلانية. ولذلك ينقل صاحب جامع السعادات عن بعض الأكابر قوله: ((عليك بعمل العلانية، وهو إذا ما ظهر لم تستحِ منه)). وعن بعضهم: (ما عملتُ عملاً أُبالي أن يطَّلع الناسُ عليه، إلا إتياني أهلي والبول والغائط)). فالإنسان الذي يحاول أن يكتم المعاصي حتى لا يؤدِّي ذلك إلى هتك حرمته عند الناس، ونزول قيمته عندهم، هذا لا يعتبر رياءً، بل هو من الأمور الراجحة؛ لأن الله يريد للإنسان أن يستر على نفسه.
ولذلك كان من الأمور المرجوحة أن لا يفضح الإنسان نفسهُ عند الآخرين، حتى لو كان ذلك اعترافاً أمام العالِم العابد؛ لأنه ما دام أن الله ستر عليك، فعليك أن تستر على نفسك. ومن هنا لا يوجد لدينا ما عند بعض المسيحيّين، من مسألة الاعتراف أمام الكاهن لكي يطهّره من ذنوبه، على أساس الاعتقاد أنّه وكيل عن الله سبحانه وتعالى، بل التوبة عندنا لا يُحتاجُ فيها إلى أن يأتي الإنسان إلى العالِم أو إلى المرجِع أو إلى أيِّ شخصية مقرّبة إلى الله ليعترِف لها، بل يقف بين يدي الله مباشرة ويعترف له سبحانه وتعالى، ويقول: يا رب، إني تائب، فإذا رأى الله صدق العزم منه على التوبة، فإنّه يتوب عليه؛ لأنه ليس بين الله وبين أحدٍ من خلقه حاجز، وقد قال تعالى: )قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ((6).
وقال تعالى: )وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ((7)؛ ففي الإسلام لا تحتاج التوبة إلى وسيط. حتى موضوع الشفاعة والتوسل؛ ليست وساطة، بل هي ترتكز على أنّ الله أراد أن يكرّم أنبياءه وأولياءه بأن يشفِّعهم في أهل المعاصي، وقد يشفعون وقد لا يشفعون. وقد غالى بعضُهم حتى اعتبر أنّنا لا نستطيع أن نطلب من الله بشكل مباشر، وإنّما نطلب من الواسطة بيننا وبين الله، وهم الأنبياء والأولياء، مع أنّ الله تعالى يقول: )وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ((8)، )وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ((9)، والله تعالى يقول: )وَلا يَشْفَعُونَ إلاّ لِمَنِ ارْتَضَى((10)، )وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ((11). ويبقى للحديث تتمّة إن شاء الله تعالى، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
تحدّثنا فيما سبق حول مسألة الرِّياء، وقد بلغ بنا الحديث إلى مسألة كتمان الإنسان ما يصدر منه من المعاصي من حيثُ لا يريد للناسِ أن يطّلعوا عليه، وأنّه قد يُعتبر هذا رياءً؛ لأنّ هذا يوحي بأنّ الرجل يريد أن يحملَ الناسُ عنه انطباعاً بأنه إنسانٌ لا يرتكِبُ المعصية ولا يأتي بالقبيح؛ ما يجعل هذا الإلحاح في كتمان نقائصه وعيوبه وخطاياه، رياءً.
ولكنّنا لا نرى المسألة تتحرّك بشكل مطلق في إطار الرياء، بل إنّ المسألة تختلف باختلاف الحالات.
الحالة الأولى: أنْ يكون الدَّافع إلى كتمان الإنسان نقاط الضعف الخفية في حياته، سواء كانت هذه من المعاصي أو من العيوب أو من القبائح أو غير ذلك، هو المحافظة على ستر الله عليه؛ باعتبار أنّ ستر الله عليه في الدنيا دليل على ستره عليه في الآخرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يمنحه بذلك لطفه ورحمته. وهذا لا يُعدّ رياءً؛ بل هو من الأمور الراجحة.
الحالة الثانية: أن يكون هذا الكتمان ناشئاً من كون ظهور المعاصي من أي شخص يعصي الله في السر يوجب ذمّ الناس له؛ لأن الناس يذمّون كل من يرتكب القبيح أو كل من يعصي الله سبحانه وتعالى، ومن الطبيعي أنَّ الفطرة الإنسانية لدى كل إنسان ترفض ذمّ الناس له، ولذلك نجد أنَّ أيَّ إنسانٍ يواجهه النَّاس بالذمّ عندما يطّلعون على نقائصه ومعايبه ومعاصيه، فإنه يتألمَّ من ذلك، ويعيش الهمّ النفسي الذي يُمكن أن يترك تأثيره على مجمل حياته، فيُشغله ذلك عن طاعة الله، وعن القيام بمسؤوليّاته في الحياة. فهو يكتم ما فعله في السرّ من أجل أن يتفادى ذمَّ الناس له، لا من أجل أن يظهر أمامهم أنّه إنسان صالح ليس لديه أية نقطة ضعف، فمثل هذا لا يُعَدُّ رياءً.
نعم، لا إشكال في أنّ الحالة العُليا في الإخلاص، هي أن يستوي لدى الإنسان المدح والذمّ؛ ولكنّ ذلك فوق الحالة الإنسانية العادية الطبيعية، وهو قليل ونادرٌ؛ لأنّ أكثر الطباع تتألم بالذم.
الحالة الثالثة: أن يكون الدافع إلى كتمان معايبه ونقائصه أنّه لا يريد للناس أن تشهد عليه بذلك في الدنيا؛ باعتبار أن الناس إذا عرفوا منه السوء وعرفوا منه المعصية، قد يتحوّلون إلى شهودٍ يوم القيامة، وهو لا يريد للناس أن يقفوا غداً أمام الله ليشهدوا عليه بالسوء، فيكتم سرّه لهذا. أو أنه إنما يكتم سرّه، لأنه يعيش في مجتمع متديّن وفاضل فإذا عرف الناس منه أنه يعصي الله في هذا الجانب أو في ذلك الجانب، أو عرف الناس فيه نقطة ضعفٍ، فقد يقصدونه بسوء أو بشرٍ؛ فلا يريد أن يوقع نفسه بما يمكن أن يُتوجَّه إليه من الشرّ ومن السوء. وليس هذا من الرياء.
الحالة الرَّابعة: قد تكون المسألة أنّ شخصاً يهمّه أمر الناس الآخرين؛ فهو يخشى أنّه لو ظهر سرّه، في العيب أو المعصية أو النقيصة، فقد يُبتلى المؤمنون بذمّه، وقد يكون هذا البلاء موجباً لغضب الله عليهم؛ لأن الله لا يريد للمؤمن أن يذمّ مؤمناً؛ فهو يريد في رفضه إظهار سره، أن لا يُبتلى المؤمنون بذمّه. وهذه الحالة خارجة عن مسألة الرياء.
الحالة الخامسة: قد تكون أنّه إذا ظهر أمام الناس بأنه يعصي الله في شرب الخمر، مثلاً، فهو شخصية اجتماعية أو شخصية دينية وممن يقتدي الناس به، فهو يكتمُ أمره حتى لا يقتدي الناس به في هذا المجال، فيقول لك: إذا كنت أنا مبتلى بهذه المعصية، فلا أريد للناس الآخرين أن يُبتلوا بما ابتليت به في اقتدائهم بي، باعتبار أن الناس يقتدون في السلب والإيجاب بالشخصيات الاجتماعية أو الشخصيات الدينية. وعلى العكس من ذلك؛ فكما أنّ كتمان المعصية وعدم إظهارها لأجل أن لا يقتدي الناس به، كذلك إظهار الطاعة لأجل أن يقتدي الناسُ به، هو أمرٌ محبوب لله سبحانه وتعالى.
الحالة السَّادسة: أنّه شخصٌ يحبٌّ أن يعيش في المجتمع ويرغب في أن يحبَّه الناس، ولكن ليس من أجل الوصول بحبّهم إلى الأغراض الدنيوية، بل ليستدلّ بها على محبة الله تعالى باعتبار أن من أحبّه الله سبحانه وتعالى، جعله محبوباً في قلوبِ الناس. وهذا أيضاً من الأمور التي يكون فيها كتمان السر أو كتمان المعصية أمراً محبوباً؛ لأنه لا ينطلق من حالة رياء، وإنما ينطلق من دوافع إنسانية راجحة في حياة الإنسان في ما يريده لنفسه مما يتصل بالله سبحانه وتعالى.
الحالة السابعة: أنه يكتم قبائحه ومعاصيه ونقاط الضعف حياءً. فكل إنسان بحسب طبيعته يستحيي من ظهور ما يختزنه في حياته الشخصية الخفية من قبائح أو من نقاط ضعف. ومن الطبيعي أن الحياء من فضائل الأخلاق، كما ورد في كثير من الأحاديث، قال رسول اللهw: ((الحياء خيرٌ كلّه))، وقال الصادقt: ((الحياء شعبة من الإيمان))، وقال النبيw: ((إنَّ الله تعالى يحبُّ الحييّ الحليم)). أمّا الذي لا يستحيي ممّا يظهر منه من المعاصي، فقد جمع إلى الفسق التهتّك والوقاحة؛ فهو أسوأ حالاً من الذي يعصي ويستر فسقه.
وربما يشتبه الحياء بالرّياء في بعض الحالات، فيدَّعي من يُرائي بأنه يستحيي، وأنّ إخفاء السّيئات أو تحسينه العبادة إنما هو لأجل الحياءِ من الناس دون الرياء، أي أنّه يحاول أن يغطي الرِّياء بالحياء.
ولكن من الممكن التفريق بين الحياء والرياء؛ فإنَّ الحياء خُلُقٌ ينبعث من الطبع الكريم الذي يختزن القيمة الأخلاقية الروحية، ومن الممكن أن يدفع نحو الرياء، كما أنّه من الممكن أن يدفع نحو الإخلاص.
ويُضرب لذلك مثلٌ، شخص يطلب من صديقه قرضاً. فتارة يردّه (يمنعه) من دون أن يتعلّل بعُذر، فهذا خلاف الحياء. وأخرى يُعطيه بمجرّد نفور نفسه من استشعار قبح ردّه، ولكن دون رغبة في الثواب ولا خوفاً من ذمّه أو حبّاً بمدحه، وثالثةً يتعذّر عليه الردّ بسبب الحياء، وكان ما في نفسه من البخل مانعاً من الإعطاء، فحدث في نفسه خاطر الرياء؛ ليحصل على مدحٍ بالسّخاء، فمزج الحياء بالرِّياء، وكان الرياء هو المحرّك له. فلا إشكال في أنّ هذا من مصاديق الرياء.
ولذلك نقول: إنّ على الإنسان أن يعرف كيف يستطيع أن يفصل الحياء عن الرياء؛ بأن يدرس الدوافع النفسية في ما يقوم به من أعمالٍ عنوانها الخير، ولكن قد يختفي في داخلها الشر النفسي في أنه يريد أن يتقرَّب إلى الناس بذلك ليمدحوه.
ينقسم الرياء إلى رياءٍ في الأصول، ورياءٍ في الفروع:
أمَّا الرياء في العقيدة، أو أصول الدين، فهو على درجات:
الأول الرياء بأصل الإيمان، أي هو يظهر الإيمان ليعتقد الناس فيه أنه مؤمن، ولكنه يُبطن الكفر في داخل نفسه. وهذا أغلظ أنواع الرياء، وصاحبه مخلّد في النار؛ لأنه كافرٌ في العمق فيما يخفيه في داخل نفسه، وهو الذي يُظهر كلمتي الشهادة وباطنه مشحونٌ بالتكذيب، فيرائي بظاهر الإسلام.
وهذا هو الذي ذكره الله تعالى في كتابه في مواضع شتَّى، كقوله عزَّ وجلَّ: )إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ((1)، فهم كاذبون من خلال ما يعتقدونه في أنفسهم؛ لأنّ الشَّهادة هي مطابقة الكلام لما في القلب، وقولهم )قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ( هو قولٌ كاذب؛ لأن كلامهم لا يطابق ما يعتقدونه في قلوبهم.
وقال تعالى: )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ((2). هذا مثال الذي يقدّم نفسه أمام الناس، سواء في المسألة الدينية أو في المسألة الاجتماعية أو في المسألة السياسية، على أنّه الإنسان المصلح، وأنه الداعية للإسلام، وأنه الذي يريد أن يحقّق سلامة المجتمع ووحدته؛ حتى يرغب الناس في تأييده وفي الالتزام بخطّه؛ ليجعلوه ولياً عليهم، ولكنه يُخفي في نفسه الخطَّة الخبيثة التي تعيش في داخل ذاته، من أنه يخطط ليفسد في الأرض ويهلك مقدّرات البلاد والعباد. وكم عندنا في الواقع السياسي مثل هؤلاء المرائين، وكم هم في الواقع الديني!
قال تعالى: )وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ((3)، فهو هنا يتحدَّث عن اليهود الَّذين إذا رأوا المسلمين أظهروا لهم الإيمان، ولكنّهم إذا خلوا بأنفسهم، امتازوا غضباً من خلال العداوة التي يعيشونها في أنفسهم.
وقال تعالى ـ عن المنافقين: )إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَلِيلا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ ـ أي لا إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين ـ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً((4).
وهكذا تتعدَّد في القرآن الآيات الكريمة التي تتحدَّث عن هؤلاء الذين يراؤن في العقيدة؛ فيظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ويظهرون الإصلاح في الدين ويبطنون الفساد فيه.
وهذا مما ابتُلي به الإسلام في أوَّل انطلاقته، ولاسيّما في المدينة؛ إذ كثر النفاق في الدين؛ فكانوا يجحدون الجنة والنار والدار الآخرة، ميلاً إلى قول الملحدين وما إلى ذلك.
ونحن نعتقد أنّ هناك الكثير من الناس الذين يظهرون الإسلام ولكنهم ينكرون ضرورات الدين، كإنكار الصَّـلاة أو الصّوم أو الحجّ، أو إنكار بعض المحرّمات وما إلى ذلك؛ وهذا نوعٌ من الرِّياء في العقيدة، حيثُ يُظهر الإنسان الإسلام، والتزامه بعقيدته، بينما يُنكر ما يستلزم إنكار خصوصيّات العقيدة، من تكذيب النبيّ الذي لا ينطق إلا صادقاً.
الثاني: الرّياء بأصول العبادات مع التَّصديق بأصل الدين.
فهم مسلمون يشهدون بالشَّهادتين، ويؤمنون بالعبادات، ولكنّهم يُراؤن في الممارسة. كما لو كان لبعضهم مالٌ، يخرج زكاته، لا لأنّه يريد امتثال أمر الله، بل لكي يعطي الناس انطباعاً أنّه ممّن يخرجون الزَّكاة. أو كمن يدخل وقت الصلاة، وهو بين الناس، ومن عادته ترك الصلاة في أوّل وقتها، فينطلق إلى الصلاة، ليأخذ الناس عنه أنّه ممّن يحافظون عليها. أو يكون ممّن يحضرون الجمعة أو الجماعة، ولولا خوف الناس وخوف المذمَّة لما حضرها، أو أن يأتي بالنوافل، ولولا الناس ما أتى بها، أو يصل رحمه أو يبرّ والديه، لكن لا عن رغبة، إنّما خوفاً من النَّاس أن يعيبوا عليه، أو طمعاً في مدحهم.
فمثل هؤلاء ليسوا مرائين بأصل الإيمان، ولكنّهم يُراؤون في أساسيَّاته، كالعبادة وسائر الواجبات.
هذا نوعٌ من أنواع الرياء. وهناك نوعٌ آخر، وهو الرياء بأوصاف العبادات، وهذا مما نتحدث عنه في وقت لاحق إن شاء الله. والحمد لله ربِّ العالمين.
|
||||||
|
||||||
![]() |
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
كُنا نتكلَّم حول الرِّياء، وهو أن يفعل الإنسان الفعل، سواء كان عبادةً أو عملاً خيرياً، من أجلِ أن يراهُ الناس؛ ليحصل على بعض الامتيازات.
وقد بيَّنا في ما سبق، كيف أنّ هذا السلوك يمثِّل حالة سلبية في علاقة الإنسان بالله؛ لأنه لا يقصد الله في العمل الذي يقوم به والّذي يكون في شكله وظاهره خيراً، كما أنه يمثل خداعاً وغشاً للناس؛ لأنه يعطي فكرةً غير صحيحة عن الرجل المُرائي، بأن يُظهر له صورةً حسنةً في الوقت الذي يكون واقعه في السرِّ يمثِّل صورةً سيئة.
وفي هذا اللّقاء، نتناول الحديث عن دوافع المُرائي ومقاصده، ولماذا يحاول أن يظهر للناس بغير صورته الحقيقية، ولماذا يحاول أن يُظهر نفسه بمظهر الإنسان الذي يلتزم بالقيم الروحية والأخلاقية في الواقع الاجتماعي بين الناس، ولكنه في الواقع لا يلتزمها في داخل ذاته وفي سلوكه الذاتي.
يذكر علماء الأخلاق عدداً من الدَّوافع التي تحرّك المُرائي بالرِّياء في عباداته وأفعاله أمام النَّاس.
فهناك دافع إدراك مال أو جاه أو غرضٍ من الأغراض الدنيويّة. وهذا ما قد يتمثّل في عدّة أمور، منها:
أن يكون مقصوده أن تحصل له من خلال الرياء الظروف المُلائمة التي يتمكّن فيها من المعصية، كالإنسان الذي يُرائي بعبادته ويُظهر التقوى والورع، وهو دائماً في المساجد، وإذا تابعته فإنك تراه يُكثر النوافل والصلوات المستحبَّة، كصلاة أول الشهر، وصيام يومي الإثنين والخميس، وإذا عاشرتَه، رأيت أنّه لا يأكل إلا الحلال، ويجتنب الأشياء التي فيها شُبهة. ولكن هذا الإنسان في قراره ليس كذلك، فهو ليس تقياً دائماً، وليس إنساناً ورِعاً، ولا مُقبلاً على ما يزيد على الفرائض من النوافل ومن المستحبات الأخرى، فلماذا يفعل ذلك كلَّه، بحيث يراه النَّاس في هذه الصورة التي تجعلهم يثقون به؟
الدافع في ذلك، هو أنّ ذلك يمثِّل الطَّريقة التي يُعرف من خلالها بالأمانة، فيودع النَّاس عنده أموالهم؛ لأنَّ الناس عادةً إذا أرادوا أن يودعوا أموالهم، فإنهم يودعونها عند الإنسان التقيّ الورِع الذي يوحي بالثّقة والأمانة. فهو يحاول أن يظهر بهذا المظهر حتّى يثقوا به، وعندئذٍ يتاح له المجال ليتلاعب بأموال الناس، فيحتال على هذا، أو يسرق ذاك، أو يخونُ ثالثاً في أمانته، وما إلى ذلك.
وربَّما يكون القصد من ذلك هو أن يُولّى القضاء، أو شؤون الأوقاف، أو ولاية الأيتام، أو أن يُعتمد في الوصاية على شؤون الوصايا؛ لأنّ اتّصافه بتلك الصفات، من التقوى والورع أمام الناس، تشجّع من بيدهم قرار تعيين القضاة أو الولاة أن يعهدوا إليه بذلك، أو تدفع الناس الذين يُريدون وصيّاً على تنفيذ وصاياهم بعد الموت إلى اتّخاذه وصيّاً؛ فإذا تمكّن من أموال الناس، أو حصل على السلطة التي يستطيع من خلالها أن يفرض إرادته عليهم، انطلق ليستولي على الحقوق والأموال، وإلى تبديل الوصيّة عن واقعها.
ونحن نرى في واقعنا بعض الأوصياء ممن يستأجرون للصَّلاة عن الميّت، ولكنّهم يخونون الوصيّة، فلا يصلّون عنه، ويستأثرون بمال الإجارة تلك، أو الذين ينطلقون في الوكالة عن المرجع في صرف الحقوق الشرعية على الفقراء والمساكين، نجدهم يأكلون الزكاة والخمس ومال الأيتام.
بعض الناس قد يظهر بمظهر التصوّف والخشوع، فهو يحفظ شيئاً من كلام الحكمة ليُطلقه على الناس، أو ينطلق بكلام الوعظ والإرشاد والتذكير بالآخرة، ولكنّه ـ في نفسه ـ رجلٌ فاجرٌ فاسق، حتى تثق به بعض النساء، فتأتي إليه ليعظها، أو يأتي هو إلى بيتها لتأخذ عنده درساً، أو تستشيره في حلّ مشكلةٍ وقعت بها، فيستغلّ ثقتها ليخدعها عن دينها ويُمارس معها الفجور، أو ليستغلّ ثقة الغلمان أو بعض الرجال به، حتى يُمارس اللواط وما إلى ذلك.
ونحبّ هنا أن ننبّه إلى ما اعتادته بعض النساء، عندما تقع في أزمة نفسية أو مشكلة زوجية وما إلى ذلك، فإنّهنّ يذهبن إلى الشيخ الفلاني، ليقرأ لهنّ الطالع، أو يفتح لهنّ الكتاب، أو يحضّر الأرواح أو الجنّ، وما إلى ذلك من صنوف الشعوذة، وينطلق هذا ليستغلّ ثقتها ووضعها، لينـزلق لسانها بشيء من أسرارها من دون أن تشعر، ثمّ يحاول أن يوحي لها بأنّه يعرف أسرارها وخفاياها، ويستغلّ ذلك للوصول إلى أهدافه المحرّمة.
وبعض النَّاس يذهبون إلى بعض المناسبات الدينية، كمجالس العزاء مثلاً، ولا يكون مقصوده الاستماع إلى المجلس، بل لكي يظهر بأنَّه رجل محبّ لأهل البيت i، فتُتاح له الفرصة لأن يطّلع على بعض أسرار النساء، ليصل من خلال ذلك إلى أغراضه المحرّمة أو المشبوهة.
وهؤلاء المراؤن هم أبغضُ المُرائين إلى الله؛ لأنَّ هناك رياءً يقتصر ضرره على المرائي، كالذي يصلِّي رياءً، فإنّه يضرّ نفسه؛ لأنّه يُحبط عمله بذلك. ولكنّ هذا النوع من الرياء يتّخذه المرائي سُلّماً إلى معصية الله، وآلةً ومتجراً وبضاعةً لهم في فسقهم هذا.
وهناك دافع إخفاء الجريمة؛ إذ إنّ بعض الناس، يُحاولون أن يظهروا بمظهر الخير والتقوى والكمال والورع، لينفوا عنهم ما يمكن أن يتهموا به من الجرائم.
وهناك دافع الزواج؛ وذلك حين يُرائي الشخص لكي يظهر بالمظهر الذي يجعله موضع قبول من يخطب منهم؛ إذ إنّ بعض الناس لا يرضى أن يزوّج ابنته إلا للإنسان المؤمن الورع، فيأتي هذا ليتقرّب من المرأة، ويُظهر لها الأخلاق الفاضلة، والقيم الرساليّة، والورع والتقوى، فتقبل بالزواج به أو يقبل أهلها به. وبعد أن يتمكّن من الزواج، يظهر على حقيقته، فتقع المشاكل.
وهذا ما يفرض علينا أن ندقّق كثيراً في من نُزوّجه بناتنا، أو في من نطلب لأبنائنا، فلا نكتفي بما يظهر لنا، بل نُحاول أن نستخدم كلّ الأساليب التي تضيء لنا الجوانب الخفيّة من الصورة؛ ليتّضح لنا هل إنَّ داخله موافقٌ لمظهره، أو إنّ مظهره خير وداخله شرّ، أو إنّ ظاهره الأخلاق، وهو في نفسه سيّئ الخلق حادّ الطبع والمزاج.
وقد أكّد رسول اللهw العناصر التي ينبغي أن تتوفّر في الزوج، حيث قال: ((إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه))(1). ولذا ينبغي على الأهل أن لا يكتفوا بالعناوين التي يرونها في من يتقدّم لخطبة ابنتهم، ككونه طالب علمٍ دينيّ مثلاً، أو كونه ابن فلان العالم، أو ما إلى ذلك.
كما ينبغي لنا أن ننبّه هنا إلى ما يلجأ إليه الناس من الاستخارة على الزوج أو الزوجة، من دون أن تُدرس أخلاق هذا الزوج أو هذه الزوجة، أو العناصر التي تتوافق مع رغبة هذا أو هذه. وقد بيَّنا مراراً أنَّ الاستخارة ليست بديلاً عن العقل والشورى، وإنّما يلجأ إليها الإنسان في ما قد يخفى عليه ممّا لا سبيل إلى دراسته أو ممّا لم تفد الاستشارة فيه. وهناك الدافع الاجتماعي، حيثُ يحاول الإنسان من خلال الرياء أن يوحي للناس بأنّه من طبقة اجتماعيّة معيّنة؛ فيتحدّث بطريقة موزونة منمّقة، ويمشي مشية الوقار، ويلبس اللباس الذي يلبسه الخواصُّ والنخب من الناس.
وقد يجلس أحدهم في مجلس الثقافة أو العلم أو الجِدّ، فيمزح أو يضحك، بما يوحي بالخفّة في هذا المجال، فيُبادر إلى الاستغفار، قائلاً: أستغفر الله، موحياً بأنّه ليس مزّاحاً، وأنّ ما حدث منه مجرّد شيء طارئ، فيأخذ الناس عنه فكرةً أنّه يلتفت إلى نفسه، وأنّه يراقبها في حركاتها وسكناتها.
في نهاية المطاف، هُناك نص يُنقل عن السيِّد المسيح عيسى بن مريمt، وهو يخاطب هؤلاء الناس الذي يظهرون بغير ما يبطنون، وخصوصاً علماء السوء الذين يقدّمون أنفسهم في المجتمع على أساس أنهم من العلماء، وأنهم الطليعة التي ترشد الناس وتعظهم وتذكّرهم وتريد منهم أن يقتدوا بها. يقولt: ((يا عُلماء السوء، تصومون وتصلّون وتتصدّقون ولا تفعلون ما تؤمرون))، أي لا تطبِّقون الأوامر التي يأمركم بها الله سبحانه وتعالى فيما حمَّلكم إيّاه من مسؤوليات في حياتكم العامة والخاصة، ((وتدرسون ما لا تعلمون! فيا سوء ما تحكمون))؛ لأن حكمكم لا ينطلق من خلال الحق وإنما ينطلق من خلال الباطل، ((تتوبون بالقول وبالأماني))، أي عندما تعيشون مع الناس، تظهرون التوبة أو تتمنّونها من دون أن تتحرّكوا نحوها.
((وتعملون بالهوى))؛ فإنّكم بعد أن تُظهروا التوبة للنَّاس، تعملون بما تهواه أنفسكم ممّا يتحرّك في خطّ المعصية والخطيئة، ((وما يغني عنكم أن تُنقّوا جلودكم وقلوبكم دَنِسة))، فبعض الناس يحاول أن ينظّف جسده كلَّ يوم، ولكنك عندما تتطلّع على قلبه، ترى قلبه مدنِّساً، كما يقول أبو العلاء المعري:
ثوبـي محـتــاجٌ إلـى غاســلٍ وليــت قلـبـي مثلـه بالنـقــاء
وليس يفيد الإنسان أن ينقّي ظاهره وباطنه متّسخ؛ لأنّه لن يحصل في نفسه على الشّعور بالنَّظافة والطّهارة في هذا المجال.
ثمّ يتابعُ السيِّد المسيح ـ في ما روي عنه ـ فيقول: ((بحقٍ أقول لكم: لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدَّقيق الطيِّب)) أي الطحين، ((وتبقى فيه النُخالة. كذلك أنتم تُخرجون الحِكم من أفواهكم))، فحين تتكلَّمون تتكلمون بالموعظة وبالحكمة، لكن في الوقت نفسه ((يُبقى الغلّ في صدوركم))، تتكلمون بالمحبة وبالرحمة، ولكن قلوبكم مملوءةٌ حقداً وغلاً وبغضاءً وعداوةً وما إلى ذلك. ((يا عبيدَ الدُّنيا، كيف يُدرك الآخرة من لا تنقضي من الدُنيا شهوته، ولا تنقطع منها رغبته؟!))، هذا الذي يستغرق في الدنيا، في كلّ شهواتها، لا يترك منها شهوة، ولا يهمّه أن تكون حلالاً أو حراماً، والله يريد من الإنسان أن يأخذ من الدنيا حاجاته، على أن تكون من حلال، ولكنه يستخدم الدنيا من أجل الآخرة، كقوله تعالى: )وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ((2).
ثمّ يقولt: ((بحقٍّ أقول لكم: إنَّ قلوبكم تبكي من أعمالكم))، لأنَّ قلوبكم هي المكان الذي ينبغي أن يُشرق فيها الله، ويريد الله لها أن تنفتح على الخير، ولكن عندما تنفتح قلوبكم على أعمالكم فإنها تبكي؛ لأنها ترى أنَّ أعمالكم هي الأعمال الخبيثة التي لا يرضى الله سبحانه وتعالى عنها. ((جعلتم الدنيا تحت ألسنتكم والعمل تحت أقدامكم))، أي أنتم تتكلَّمون بألسنتكم بما يخدع الناس، فألسنتكم ألسنة طيبة، ولكنكم لا تخلصون لأعمالكم، ولا تلتزمون بها في الخطّ الذي يريده الله.
((بحقٍّ أقول لكم: أفسدتم آخرتكم بصلاح دنياكم))، فأنتم أصلحتم دنياكم بما حصلتم عليه من مال ومن جاه، ولكنكم عندما قصّرتم فيما حمّلكم الله من المسؤوليات أفسدتم الآخرة، ((فصلاح الدُّنيا أحبُّ إليكم من صلاح الآخرة، فأيُّ ناسٍ أخسّ منكم لو تعلمون!))؛ فإنَّكم نزلتم بأنفسِكُم إلى أحطِّ المدارك، وعطّلتم عقولكم التي ينبغي أن تدلَّكم على الله، وتجعلكم تتحرّكون في خطّ الوعي للآخرة، وقضيّة المصير.
((ويلكم! حتى متى تصفون الطريق للمدلجين، وتقيمون في محلّة المتحيّرين))، أي إذا سألكم أحد: من أين الطريق تدلّونه على الطريق، ولكنكم أنتم في حياتكم الخاصّة تبقون في حيرة لا تعرفون الطريق إلى الحق أو الطريق إلى الهدى، ((كأنكم تدعون أهل الدنيا ليتركوها لكم. مهلاً مهلاً، ويلكم، ماذا يُغني عن البيت المُظلم أن يوضع السراج فوق ظهره وجوفه وحشٌ مظلم))، فإنّ مثلكم مثل الذي يضع النور على سطح البيت، والبيت مُظلم لا نور فيه، فأنتم تحاولون أن تُضيئوا على الناس ولكنَّ قلوبكم مُظلمة؛ لأنّها لا تتحرّك في خطّ النور الذي يريده الله. ((كذلك لا يُغني عنكم نورُ العِلم بأفواهكم))، تتعلّمون وتدرسون، وتتكلّمون بالعلم بأفواهكم، ((وأجوافكم منه وحشة معطلة))، فأفواهكم منيرة بالعلم، ولكن واقعكم هو واقع مظلم.
((يا عبيد الدنيا! توشك الدنيا بأن تقلعكم عن أصولكم فتلقيكم على وجوهكم، ثم تكبّكم على مناخركم، ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم)) عندما تواجهون الآخرة، ((يدفعكم العلم من خلفكم، ثم يسلّمكم إلى الملك الديَّان حُفاةً عراةً فُرادى، فيوقفكم على سوآتكم))، أي عيوبكم، ((ثم يخزيكم بسوء أعمالكم))(3).
هذه هي بعضُ الكلمات المنسوبة إلى السيِّد المسيح، والتي أردنا من خلالها أن نعرف الصَّادق من غير الصّادق؛ حتى نستطيع أن نفهم من هو أكثر وعظاً، ومن هو أحسن علماً، ومن هو أشدُّ قبولاً من الناس، ومن هو أكثر عملاً وأكثر إخلاصاً. والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
في ما يعيشه الإنسان في حياته، نوعان من الصحَّة، وفي مقابلهما نوعان من المرض.
1- صحّة الجسد، وهي تتمثَّل في أنّ كلَّ أجهزة الإنسان تتحرّكُ بشكلٍ طبيعيٍ، بحسب القوانين التي أودعها الله فيها، حيث لكلٍّ من الدماغ والعينين والأذنين واليدين والرجلين والمعدة والقلب... لكلِّ واحدٍ من هذه الأعضاء دورٌ معين حدّد الله له فيه خطوطه بكل حركته في إدارة الجسد في الحياة الإنسانية. وفي مقابل هذه الصحّة الجسدية، هناك مرضٌ جسدي يتمثّل بانحراف كلِّ جهازٍ من أجهزة الجسد عن وظيفته في مسارها الطبيعي، وعن القوانين التي أودعها الله فيه.
2- صحّةُ الداخل الإنساني، فللإنسان عقلٌ يُنتج الفكر والثقافة، ويدرك حُسن الأشياء وقبحها، وهناك القلب الذي ينبض في داخل الإنسان بالمشاعر والأحاسيس، وهُناك في وعي الإنسان تطلّعاتٌ وأهدافٌ تتحرّك في ما ينفتح به الإنسان على تخطيط حياتِهِ. وصحّة العقل تنطلق من انسجامه مع خطوط الفكر الموضوعي الذي يدرس الأمور بشكلٍ متوازنٍ دقيق؛ ليضع كُل مسألةٍ في موقعها الطبيعي، وليصل إلى النتائج التي يراها صحيحةً، لكي يبني عليها الإنسان حركته، إقداماً أو إحجاماً أو تحفّظاً. وصحّة القلب هي أن تنبض مشاعره وأحاسيسه في الخطّ المتوازن الذي ينفتح على الخير بكلِّ ما له من معنى. أما المرض الداخلي، فهو انحراف العقل عن مساره الطبيعي، بحيث يختلط لدى الإنسان الحقّ بالباطل، فلا ينفتح على الحق في إدراكاته، وإنما ينغلق على الباطل. وربما يتمثّل المرض القلبي بتمازج الخير والشر في مشاعر الإنسان وأحاسيسه. وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذا المرض الداخلي الذي يصيب الإنسان، والذي عانى النبي w، في دعوته إلى الإسلام وفي حركته لتركيز الواقع، من الذين أصيبوا به، ولاسيما في المدينة، وذلك عندما التقى بالمنافقين الذين شكّلوا مجتمعاً منحرفاً متحركاً في سبيل إرباك الدعوة الإسلامية وحركة بناء الدولة. هؤلاء الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، كما قال الله سبحانه وتعالى: )وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ((1).
وقد اعتبر الله سبحانه وتعالى النفاق من الأمراض الداخليَّة المستعصية التي تعرض على القلب، ويراد به في القرآن منطقة الوعي الداخلي، التي يمتزج فيها الفكر بالإحساس وبالشعور وغيرها من حركة النَّفس، والتي تُعرض على العقل، فتنفتح بالإنسان على المتاهات في ما يفكِّر فيه وفي ما يخطِّط له. فإذا نفذت إلى قلوب هؤلاء، فإنك تكتشف حالةً مرضية؛ فالعقل لا يفكّر بشكلٍ سليم، والقلبُ لا ينبض بشكل متوازن، والوعيُ لا ينفتح على مطالع النور؛ بل يعـــيش في كهوف الظلام: )فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ((2)؛ لأنَّ الصحّة الداخلية النفسية للإنسان لابدَّ من أن تنطلق من خلالِ حركة العقل في ما يدركه، فالإنسان عندما ينفتح بعقله على أيَّة فكرة وعلى أية عقيدة من العقائد، فإن من الطَّبيعي أنه إذا اقتنع بهذه الفكرة ورأى أنّها حقّ، فإنه يلتزمها ويوجِّه حياتهُ كلَّها في اتجاهها، وهكذا إذا أراد أن ينتمي إلى أيِّ عقيدة أو أية فكرةٍ، فإنه لا ينتمي إليها إلا إذا اقتنع بها واعتبرها حقيقةً من حقائق العقيدة، أو حقيقةً من حقائق الثَّقافة، فالانتماء عنده لابدّ من أن يرتكز على قاعدةٍ تنطلق من الفكرة التي يؤمن بها العقل من خلال إدراكه للحقّ.
وعلى ضوء هذا، فإنَّ الصحة النفسية والداخليَّة تتمثَّل في المؤمنين، لأنهم حرّكوا عقولهم فأدركوا من خلالها الإيمان بالله، فانفتحوا على التوحيد في ألوهيته، وامتدّوا من خلال التوحيد إلى وحدانيته في العبادة وفي الطاعة؛ وبذلك كان سلوكهم في الخارج مطابقاً لاقتناعهم والتزامهم الفكري والعقيدي في الداخل؛ فليست هناك ازدواجية؛ فهم يؤمنون بوحدانية الله ويلتزمونها في حياتهم، فالوحدانية متداخلة في العقل وفي الواقع. وهذا ما يجعل مسألة الانتماء مطابقةً لمسألة الاقتناع الفكري.
أمّا المنافق، فإنّه بحسب سلوكه العمليّ، يُظهر الانتماء إلى الإسلام، وينخرطُ في الأوضاع العامّة التي يتحرّك فيها المسلمون في المجتمع الإسلامي؛ ولكنّه، في الواقع الخفيّ من حياته، عندما يجتمع مع النَّاس الذين يلتقي معهم بالأفكار المنحرفة، فإنَّه يظُهر انتماءه إلى الكُفر. فهذه الحالة تمثّل حالةً مرضية؛ لأن هناك ازدواجية بين ما هو العقل في ما يفكّر، وبين ما هو السلوك في ما يتحرك فيه الإنسان، فليست هناك وحدة في الداخل الإنساني. ونحن نعرف أنّ الصحّة الداخلية تفرض أن تكون أجهزة الوعي والفكر والسلوك متطابقة بعضها مع بعض، وتتحرّك في انسجامٍ كامل، لا يُفرض على جهازٍ منها حركةً تناقض ما تتطلّبه الأجهزة الأخرى.
ولذلك، ركَّز الله سبحانه وتعالى على هؤلاء الذين يمثِّل رياؤهم أخطر أنواع الرِّياء، وهو الرياء في أُصول العقيدة؛ لأنهم يُبطنون الكفر ويُظهرون الإيمان، وقد تحدّث الله عنهم في أكثر من آية، منتقداً سلوكهم المنحرف الذي يوجّهونه ضدّ المؤمنين، فيقول تعالى: )إِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ(، بمعنى أنّ هؤلاء المسلمين مخدوعون في التزامهم الديني؛ ولكنّه سبحانه وتعالى يؤكد في المقابل أنَّ هؤلاء هم من المؤمنين الذين يتوكَّلون عليه ويُرجعون كلَّ أمورهم إليه ويلتزمون الخطِّ المستقيم بإيمانهم به وفي حركتهم في خطِّ الإيمان: )وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ((3).
ويُحدِّثنا الله سبحانه وتعالى عن أولئك الناس الذين ابتلوا بمرض القلوب، فعندما كانت تنـزل سورة على النبيّw، ممّا كان يوحي به الله سبحانه وتعالى إلى رسوله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليوجِّههم إلى الأخذ بأسباب الخير والحقِّ والعدل، حتى ينطلق الناس في الخطِّ التوحيدي على أساسٍ من العمق الروحي والعمق الفكري والامتداد الإيماني، فكيف كانوا يتصرّفون؟
فيقول تعالى: )وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا(، أي من هو الذي استفاد من هذه السورة؟ ومن الذي أعطته هذه السورة وعياً جديداً في مسألة الإيمان؟! إنهم يتساءلون تساؤل الإنسان الساخر لا تساؤل الإنسان المؤمن الجدّي؛ لأنّهم لو كانوا جدّيين في المسألة، لاستغرقوا في كلِّ آيات هذه السورة، وتفهّموا كلَّ معانيها، وانفتحوا على كلِّ آفاقها، والتزموا بكلِّ ما فيها من مواعظ ومن حكم ومما يقود الناس إلى الخيرِ كلّه وإلى الحق كُلِّه. )فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ((4) هؤلاء الذين كانوا يحاولون أن يستمعوا إلى النبي w عندما ينـزل الوحيُ عليه، ليلتقطوا كلَّ آية، وليتفهَّموا ما فيها من معانٍ ومن أحكام، ليهتدوا بذلك، وليقتربوا من الله سبحانه وتعالى في ما يريده لهم من زيادة في الإيمان ومن انفتاح واعٍ على توحيده. )وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ( وهم المنافقون، هؤلاء الذين لا يؤمنون بالوحي ولا يؤمنون بالقرآن؛ لأنهم يحملون العُقدة في نفوسهم تجاه كلِّ سورةٍ يتلوها النبي w على الناس من حوله ليوجّههم إلى ما تشتمل عليه من العلم والحكمةِ والخيرِ، أمّا هؤلاء )فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ(؛ لأنّ عقدتهم التي يعيشونها في أنفسهم تجاه المؤمنين، سوف تزداد كلّما ازداد هؤلاء إيماناً، )وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ((5)؛ لأنّهم كانوا يعيشون الكفر في نفوسهم وقلوبهم وأفكارهم. ويحدِّثنا الله عن مرضى القلوب الَّذين عاشوا مع النبيّ w في وقعة الأحزاب: )هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا((6)، بحيث كانوا يحاولون أن يخذِّلوا المجتمع في هذه الأزمة القاسية التي حدثت للمسلمين، عندما انطلقت الأحزاب لمهاجمة المدينة بهدف تدميرها واستئصال الإسلام كله والمسلمين كلهم، ولذلك عندما عاش هؤلاء هذا النوع من الزلزال الأمني، انطلق هؤلاء المنافقون للتشكيك في ما وعد الله به المسلمين، وفي ما وعد به الرسولُ المسلمين. وقد تحدّث القُرآن الكريم عن الذين في قلوبهم مرضٌ، فمنهم أولئك الذين يتعاملون مع النساء من خلال الريبة، أو من خلال الفكرة المنحرفة المنفتحة على الشهوة.
قال تعالى: ـ في خطابه لنساء النبي ـ: )يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ( أي تحدَّثْنَ بشكلٍ طبيعي مع الناس الذين تحتجن إلى الحديث معهم، ولا ترقِّقنَ أصواتكن أو كلماتكنّ، بحيث يستثير ذلك حالةَ الشهوة لدى هؤلاء؛ لأنّ من الناس من لا يفكّر إلا من خلال خلفيّة الشهوة لديه: )فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ((7).
وقد حدّثنا الله عن هؤلاء المنافقين، بأنّه سبحانه لن يخفي نفاقهم، بل سوف يخرجه من خلال ما يتمثّل في ذلك من الحقد: )أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ((8).
من خلال ذلك كلّه، نعرف أنَّ هناك أمراضاً نفسية وأمراضاً روحية يمكن أن تصيب الإنسان في حياته، وقد تتمثَّل في النفاق الذي يختلف فيه جانب الظاهر عن جانب الباطن؛ وهذا هو أبرز مواقع الرياء، وهو أخطرها، كما بيّنَّاه في أحاديثنا السابقة؛ لأنّه رياءٌ في العقيدة، وليس مجرد رياء في العمل. ولذا نقول إنَّ هذه الأمراض، سواء كانت أمراضاً جسديةً أو أمراضاً داخلية، لا بدّ للإنسان من أن يعمل على علاجها؛ لأنه إذا لم يعالج الأمراض الجسدية، فربّما تؤدّي إلى إنهاء حياته؛ ويجب على الإنسان إنقاذ حياته من التهلكة. وكذلك، فإنّه إذا كان مبتلىً بمرضٍ داخليٍ، فإنّه يجب عليه أن يعالجهُ؛ لأن الأمراض الداخلية، ولا سيّما التي تتّصل بالعقيدة أو بعلاقة الإنسان بالله، أو الّتي تتصل بالواقع العملي الذي يعيشه الإنسان في مجتمعه؛ إنّ مثل هذه الأمراض ربّما تؤدّي إلى غضب الله وسخطه، وإلى فقدان صفاء الإيمان، وإلى أن ينال في الآخرة عذاب الله، كما رأينا ذلك في الرياء، في ما قدّمناه من حديثٍ، لأنّ ما يتحرّك به الإنسان من رياء في الجانب الاجتماعي أو في الجانب السياسي، فإنه قد يتركُ تأثيره على المجتمع، فيسيء إلى نفسه وإلى المجتمع؛ فلا بد له من أن يعالجه معالجةً روحية، بحيث يدرك بأنه لابد في كل ما يتحرك به، سواء كان تحرّكاً عبادياً، أو في عملية الإصلاح الاجتماعي، أو في عملية الإنقاذ السياسي أو ما إلى ذلك، لا بدّ من أن يدرك بأن عليه أن لا يعيش الازدواجية بين ما يؤمن به وبين ما يتحرّك فيه، وأنّ عليه أن لا يخدع الناس في أن يُظهر لهم أنّه على خير ولكنه في الواقع يختزن الشر.
إنّ علينا أنّ نعالج الأمراض الداخلية كما نعالج الأمراض الجسدية؛ لأنّ الأمراض الجسدية قد تؤدي بالإنسان إلى موت الجسد، أما الأمراض الداخلية، فتؤدّي بالإنسان إلى موت الروح وموت الإيمان؛ وهذا من أخطر أنواع الموت الذي قد يصيب الإنسان. وسوف نتحدث إن شاء الله عن مسألة علاج الرياء باعتباره مرضاً خبيثاً يُبعد الإنسان عن الله ويُبعده عن الحياةِ كلّها. الحمدُ لله ربِّ العالمين.
|
|||||
|
|||||
![]() |
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
يمثّل الرياء مرضاً روحيّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً للمُرائي وللناس الذين ترتبط حركته بقضاياه ومصالحهم، ما قد ينعكس سلباً على أوضاعهم العامّة والخاصّة، كما قد يترك تأثيره المدمّر على المرائي نفسه، في إحباط أعماله، فضلاً عن أنّه من أسباب المقت عند الله، وأنّه ـ كما جاء في النصوص الدينية الكثيرة ـ من كبائر المهلكات، ممّا تحدّثنا عنه سابقاً.
ولذلك، فإنَّ على الإنسان المؤمن الذي يلتفت في مستقبل أمره إلى النتائج المميتة المدمّرة لهذا المرض، أن يتوفّر على علاجه، بالوسائل الروحيّة التي يدركها عقله الذي يوحي إليه بقبح الأعمال وحسنها، وبالوسائل العمليّة في التعامل مع الجذور الأخلاقيّة السلبيّة والسلوكيّة الملتوية؛ حتى يقتلعها من ذاته، ويزيلها من فكره، ويبعدها عن مشاعره، ويبتعد بها عن تطلّعاته وأهدافه، ليتفادى الموت الروحي والاجتماعي والسياسي الناتج من ذلك.
ولعلّ الدراسة الدقيقة لمسألة الرياء، تؤكّد أنّ أصل الرياء قد تكمن في حبّ المنزلة والجاه الذي يدفع المُرائي إلى بعض السلوكيّات التي تحبّبه إلى الناس، بعيداً عمّا يؤمن به أو يضمره في نفسه، ليتقرّب إليهم بما يرفع منزلته عندهم على خلاف مبادئه، وليتحوّل إلى موقع من مواقع الجاه الاجتماعي والسياسي الذي يحصل عليه من خلال السير في خطّ الباطل على حساب خطّ الحقّ.
وقد يرتكز ذلك كلّه على اللّذّة التي يشعر بها من خلال حمد الناس له، أو التخلّص من الألم الذي يمكن أن يحسّ به عند انكشاف حقيقة إيمانه والتزامه غير الجدي، ممّا كان يحاول أن يخفيه باللجوء إلى الرياء الذي يوحي بأنّه من العبّاد أو الصالحين، في الوقت الذي لا يعيش هذا المستوى من العبادة والصلاح.
وربّما يكون الهدف من ذلك كلّه الطمع في ما في أيدي الناس، للحصول على مالٍ يتطلّبه، أو شهوةٍ يريدها، أو حاجاتٍ يسعى إليها.
وباختصار؛ هناك أربعة أصول للرياء:
1ـ الحصول على الموقع الاجتماعي أو السياسي، مما يعبّر عنه بالمنـزلة والجاه.
2 ـ الشعور باللذّة الناشئة من الحصول على مدح الناس.
3 ـ التخلُّص من الألم الذي يحسّ به عند انكشاف حقيقة إيمانه والتزامه.
4 ـ الحصول على مكسبٍ مادّي، من مالٍ أو شهوةٍ.
والمشكلة، في كلِّ ذلك، تنبع من عمق الذَّات، في كيفيّة نظرته إلى علاقة الناس بهذه الأهداف التي يستهدف الحصول عليها عبر الرياء، وما هو موقع الله سبحانه وتعالى من كلّ ذلك.
وبتعبير آخر: يُعاني المرائي من خلل في تحديد الأسباب الحقيقيّة الكامنة وراء تحقيق الحاجات والمصالح، ومدى ثباتها في الحياة؛ ولذلك، ينبغي عليه أن يُعالج هذه النقطة بالذات، لا على المستوى الفكري الذي يدرك من خلاله حقيقة الأمور فحسب، بل على مستوى الإحساس العميق بالحضور الإلهيّ في ذلك كلّه.
وفي ضوء ذلك، يحتاج المُرائي، في سبيل علاج حالة الرِّياء عنده، إلى التعمّق في الحقائق الإيمانيّة التي تتمثّل في جُملة من الأمور ذات العلاقة بأصل الرِّياء:
أوّلاً: أنّ الله سبحانه هو الذي يملك قلوب الناس، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه. ولذلك نجد كثيراً من الناس الذين يلجأون إلى الرياء لكسب قلوب الناس إلى جانبهم، لا يحصلون على ما يريدون، أو يحصلون عليه في إطارٍ محدود، قد لا يملك عناصر الاستمرار في المستقبل، ولا سيّما أنّ الناس ترتبط عادةً بعناصر الصفاء والإخلاص، وتنفر من أيّ حالة يعيش فيها الإنسان أمامهم التكاذب الذي يوحي في الظاهر بخلاف ما يبطن، ما يصعب على الإنسان أن يحافظ عليه في كلّ الظروف والأحوال. ولذا ورد في الحديث: ((المرء مخبوءٌ تحت لسانه))(1)، وعن عليّt: ((ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه))(2).
إنّ الجُهد الكبير الذي يبذله المرائي عندما يأخذ بأصول الخير ومصادره وموارده، وعندما يقوم بعباداته بالطريقة التي تحقّق له الثقة عند الناس، ليحصل على محمدةٍ أو ليهرب من مذمّة لديهم، هذا الجهد الذي يبذله في خارج ذاته، لن يجديه شيئاً في الحصول على مقاصده الريائيّة؛ لأنّ الواقع الذي يتمثّل فيه لا بدّ من أن يظهر للناس بين وقتٍ وآخر؛ لأنّ الطبع يغلب التطبّع، ولأنّ ما يخفيه، في ما يتكلّفه اليوم، قد ينكشف بفعل الأوضاع الطارئة في حركته الطبيعية غداً، فيذهب جهده ضياعاً وهباءً منثوراً؛ لأنّ الناس سوف يكتشفون فيه شخصيّة المرائي المزيّف الذي يُحاول خديعتهم بمظهره الكاذب عن جوهره الخبيث.
إنّ وعي هذه المسألة يجعل الإنسان لا يثق كثيراً بالحصول على النتائج التي يتوخّاها من الرياء؛ لأنّ المسألة ليست بالبساطة التي يتصوّرها، كما أنّه قد يخدع بعض الناس، ولكنّه لا يستطيع أن يخدع كلّ الناس.
ثانياً: أنّ الله سبحانه هو الذي يضع الإنسان أو يرفعه، بوسائله الخفيّة الغيبيّة حيث يهيّئ الظروف الموضوعيّة لعدم حصول أسباب الرفعة عندما يسعى الإنسان إليها، أو لحصول أسباب الاتّضاع عندما يهرب الإنسان منها. وقد ورد في الدعاء المأثور عن الإمام عليّ بن الحسين، زين العابدينt: ((إلهي، إن وضعتني، فمن ذا الذي يرفعني، وإن رفعتني فمن ذا الذي يضعني))، لأن الإنسان لا يملك أن يخطّط للارتفاع بين الناس إذا كان الله يريد أن ينـزل قدره من خلال ما يعرفه من نقاط ضعفه التي هي موضع سخطه؛ الأمر الذي يفرض عليه، إذا كان يتطلّب الواقعيّة في أوضاعه والجدّية في الوصول إلى ما يريده، أن يعرف أنّ الناس لا يملكون له ضرّاً ولا نفعاً إلا ما شاء الله، فيرتبط بالله من خلال رجوعه إليه في قضاء حوائجه، وتحقيق أهدافه، من خلال ما يهيّئه من وسائل، في سننه التي يخضع لها الإنسان والحياة، ويأخذ بما شرّعه له من وسائل وأعمال يجاهد بها نفسه، ليستوي لديه الظاهر والباطن في علاقته بالله، في الإخلاص له، والانقطاع إليه، ليكون الله كلّ شيء عنده، ولا يكون للناس شيء في حسابات الجاه، وفي ارتفاع المنـزلة.
ثالثاً: التدبّر العميق بالمواقف الواقعيّة التي توحي بطبيعة النتائج المغايرة لما يستهدفه الإنسان من خلال ريائه. وقد حفل القرآن الكريم بالكثير من هذه النماذج، في ما قصّه علينا من أحوال الأمم السابقة، أو من الأحوال التي عاصرها المسلمون، ممّا نزل القرآن فيه، والتي يبيّن فيها عمق الحقائق الإيمانيّة التي ينبغي للمؤمن أن يعيها في إدارة شؤونه في الحياة.
من ذلك قوله تعالى وهو يحكي حال المنافقين: )بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًاً٭ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًاً((3). فقد أكّدت هاتان الآيتان أنّ هؤلاء الذين يتّبعون الكافرين، ويبتعدون عن المؤمنين، طلباً للحصول على الجاه الاجتماعي أو السياسي المتمثّل في عنوان العزّة، هم مخطئون في تصوّرهم لذلك؛ لأنّ الله تعالى هو وحده الذي يملك العزّة، في كلّ مواقعها وامتداداتها ومجالاتها، ولا يملكها غيره، بل إنّ عزّة كلّ عزيز مستمدّة من الله؛ فهو الذي يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء.
ومن ذلك ما تحدّث به الله عن النتائج الكُبرى في علاقة الإنسان بالزعامات أو الوجاهات التي يرتبط بها للاستفادة من زعامتهم أو وجاهتهم في الدنيا: )إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ((4).
رابعاً: أن يعمّق لديه الشعور بأنّ القيمة التي يحصل عليها في الآخرة تحدّدها القيمة التي يكتسبها العمل بمعزل عن جميع الناس؛ لأنّ الإنسان يُحاسَب على أعماله وحده؛ وكما قال تعالى: )وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدًا((5).
وعلى الإنسان أن يتأمّل كثيراً في ما ذكرناه سابقاً من الأحاديث التي بيّنت على أنّ ميزان قبول الأعمال عند الله ليس في شكلها ومظهرها، وإنّما في مضمونها وجوهرها الذي ينفتح على الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وأنّ العبد لو أشرك بالله في عمله، فإنّ عمله لا يصل إلى الله، بمعنى أنّ الله لا يعطيه القيمة التي تنفعه في الآخرة، ومن ذلك ما ورد في الحديث القدسي: ((أنا خير شريك، من عمل لي ولغيري تركته لغيري))(6).
خامساً: أن يؤكّد حضور الآخرة في وجدانه، وأنّها خير من الدنيا، وأنّ ما يبقى هو الذي يُراد به الآخرة لا الدنيا، كما قال تعالى: )مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ((7)، وقال عن العلاقات الإنسانية التي تستمرّ في يوم القيامة: )الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا المُتَّقِينَ((8)، وأنّ الله سوف يُعطي المخلصين المتقرّبين إليه ما يُرضيهم من النعيم والثواب.
سادساً: أنّ كلّ ما كان يحاوله في حياته الدنيا، من إخفاء حالاته الداخليّة، سوف ينكشف في الآخرة إن لم ينكشف في الدنيا، وسوف يفتضح هناك أمام الخلائق كلّها، وسوف يحصل على مذمّة الله فيها، لما يسرّه في خفاياه من حالة التمرّد عليه والإشراك به، ما يؤدّي إلى إحباط عمله، نتيجة فراغه من الإخلاص التوحيدي، وبعده عن مواقع القرب إلى الله، وما يتعرّض له من العقوبة على ما أسلف فيه من خلط الطاعة بالمعصية، وفقدان عباداته لشروط الإخلاص؛ وبذلك يخسر الدنيا والآخرة.
إنّ ما نريد تأكيده، هو أنّ على الإنسان أن يقوّي حضور الله في نفسه، وأن يهتمّ بالآخرة باعتبارها تمثّل قضيّة المصير الذي يرتبط به الإنسان من خلال الإخلاص في علاقته بالله، وأن يُحارب كلّ الأوهام الشيطانيّة ليطردها من داخل نفسه؛ تلك الأوهام التي تزيّن له القبيح فيراه حسناً، وتفتح له أبواب الدنيا في شهواتها وأطماعها، وتغلق عليه أبواب الآخرة في نعيمها وثوابها ورضوان الله فيها، ليُزيل من عمق ذاته كلّ ما يؤدّي به إلى الخسران المبين، فيرمي بمشاعره الساذجة، وينطلق بأحاسيسه الخبيثة التي تدفعه إلى أن يطلب رضى المخلوقين بسخط الخالق، وإلى أن يُشرك بعبادة ربّه من لا يستغني عن فضله.
وقد ورد في دعاء الإمام عليّ بن الحسينt: ((اللهُمّ إنّي أخلصت بانقطاعي إليك، وأقبلتُ بكلّي عليك، وصرفتُ وجهي عمّن يحتاج إلى رفدك، وقلبتُ مسألتي عمّن لم يستغنِ عن فضلك، ورأيتُ أنّ طلب المحتاج إلى المحتاج سفهٌ من رأيه، وضلّة من عقله؛ فكم قد رأيت ـ يا إلهي ـ من أناسٍ طلبوا العزّ بغيرك فذلّوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتّضعوا؛ فصحّ بمعاينة أمثالهم حازم وفّقه اعتباره، وأرشده إلى طريق صوابه اختياره. فأنت ـ يا مولاي ـ دون كلّ مسؤول موضع مسألتي، ودون كلّ مطلوبٍ إليه وليّ حاجتي، وأنت المخصوص قبل كلّ مدعوٍ بدعوتي؛ لا يشركك أحد في رجائي، ولا يتّفق أحدٌ معك في دعائي، ولا ينظمه وإيّاك ندائي...)).
ومن دعائهt إذا نظر إلى أصحاب الدنيا، من الأغنياء والوجهاء والزعماء: ((اللهمّ صلِّ على محمّد وآله، وطيِّب بقضائك نفسي، ووسّع بمواقع حكمك صدري، وهب لي الثقة لأقرّ معها بأنّ قضاءك لم يجرِ إلا بالخيرة، واجعل شكري ما زويت عنّي أوفر من شكري إيّاك على ما خوّلتني، واعصمني من أن أظنّ بذي عدمٍ خساسة، أو أظنّ بصاحب ثروةٍ فضلاً؛ فإنّ الشريف من شرّفته طاعتك، والعزيز من أعزّته عبادتك)).
فإنّ كلّ هذه الأدعية تنطلق لتنمّي في الإنسان الإحساس بحضور الله، وتربّي فيه الحالة التي يستطيع من خلالها أن يميّز بين الثابت وغير الثابت، وبين الحقيقة والوهم. ولذلك، فإنّ الدعاء يمثّل أحد أهمّ موارد الزاد الروحي والأخلاقي والعبادي والتربوي الذي يُساهم في تحصيل الاستقامة في التصوّر الإيمانيّ، وفي الالتزام بخطوط الإخلاص في العبادة والعمل.
إنّ علاج الرياء يحتاج إلى الجهاد النفسي الذي يقف فيه المؤمن أمام النفس الأمّارة بالسوء، ليخلّصها من نقاط الضعف التي تسقطها في الهلاك، وليفتح لها آفاق الإيمان بالله التي توحي للإنسان بالتوحيد الخالص، الذي يجعل الإنسان كلّه لله، بأفكاره وأعماله وأقواله ومعاملاته وعلاقاته ومشاعره وأحاسيسه؛ ليحصل على رضاه )يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ((9)، فيتخلّص من ذلك من مقت الله الذي ينادى به الكافرون يوم القيامة، وذلك قوله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ((10)؛ لأنّهم يشعرون في تلك اللَّحظة بأنّهم وضعوا أنفسهم في موضع السقوط الروحي والفكري والعملي والضياع المصيري.
وخلاصة الفكرة التي أردنا بيانها، أنّ الرياء يمثّل ـ في بعده النفسي ـ مرضاً نفسيّاً يؤدّي في بعض الحالات إلى احتقار الإنسان نفسه، كما يمثّل ـ في بعده العملي ـ المعصية الكبيرة التي تؤدّي إلى غضب الله وسخطه، لتكون مرضاً مميتاً على مستوى قضايا المصير.
إنّ على المؤمن أن يفكّر دائماً في الحصول على الصحّة الروحية والنفسية والعملية؛ بالتفكير في الأخذ بالعلاج النافع لهذه الأمراض، ليحصل على النجاة من الهلاك في الدنيا والآخرة، وذلك بالجهاد الأكبر الذي يحوّل المؤمن من شخصٍ بعيدٍ عن الله، إلى شخصٍ قريب منه. والحمد لله ربّ العالمين.
|
||||||
|
||||||
![]() |
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
الدَّائرة الأولى: الأساس العقيديّ الذي يرتكز عليه الالتزام الفكريّ في الانتماء العقيدي، ويتّصل بالتَّوحيد وجذوره وامتداداته، وبالرسالة وحركيّتها في اتباع الرسول وبالإيمان باليوم الآخر؛ فمن توفّرت له هذه الالتزامات كان مسلماً مؤمناً، ومن أنكر بعضها أو كلّها كان كافراً.
الدائرة الثانية: الالتزام العملي في علاقة الإنسان بالمؤمنين الآخرين، من حيثُ الإحساس بالتواصل الروحي والنفسي والحركي الذي يشدّه إليهم في عمليّة عضويّة تشبه حالة الاندماج في المشاعر والأحاسيس القلبيّة، بحيث يصل معهم إلى مرحلة الشعور بالوحدة التي تتمثّل في الإيمان المشترك، في عناصره الأصيلة، الذي يتجسدّ في وحدة الارتباط الإنسانيّ، وهذا ما يعبّر عنه الحديث المأثور: ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر))(1)، حيثُ يوحي بأنّ المسلمين يمثّلون وحدةً جسديّة كيانيّة، يتفاعل أعضاؤها بكلّ الأوضاع السلبيّة؛ فلا ينفصل فيها جزءٌ في همومه وأحاسيسه عن الجزء الآخر.
وهكذا نستوحي الحديث الشَّريف: ((لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها))، في دلالته على أن يكون المؤمن في انفتاحه على كلّ ما يتّصل بالمؤمن الآخر كما لو كان هو نفسه، بحيث تكون إيجابيّاته الذاتيّة، وسلبيّاته النفسيّة، وتطلّعاته الروحيّة واحدةً في كلّ عناصر شخصيّته الشعوريّة والعمليّة.
إنّ هذين الحديثين يدلاّن على أنّ الإيمان يتّصل بالجانبين الشعوري والعملي، بحيث يتمثّل الإيمان في جانب الإيجاب، والكفر في جانب السلب، في حركة الشخصيّة لدى الإنسان المسلم؛ الأمر الذي يوحي بأنّ الإيمان والكفر ليسا مجرّد حالةٍ عقيديّة ثقافيّة، بل هما ـ إلى جانب ذلك ـ حالةٌ حركيّة عمليّة، كما ورد أنّ الإيمان عقيدة وعمل، وذلك في ما روي عن الإمام عليّ t عن رسول الله w: ((الإيمان إقرار باللسان، ومعرفة بالقلب، وعمل بالأركان))(2)، وهو الذي يفسّر التعبير عن بعض الممارسات الأخلاقيّة السلبيّة بأنّها من أصول الكفر وأركانه.
وفي ضوء ذلك، نلتقي بما ورد في الحديث عن رسول الله w، في رواية إسحاق بن عمّار، قال: ((سمعتُ أبا عبد الله ـ جعفر الصادق ـ t يقول: قال رسول الله w: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تذمّوا المسلمين، ولا تتّبعوا عوراتهم؛ فإنّه من تتبّع عوراتهم تتبّع الله عورته، ومن تتبّع الله عورته يفضحه ولو في بيته))(3)؛ فإنّنا نلاحظ هنا أنّ السلوك العدوانيّ الذي يمارسه بعض المسلمين ضدّ مسلمين آخرين؛ بملاحقة عيوبهم، والتجسّس على عوراتهم، يمثّل انحرافاً عن خطِّ الإيمان القلبي؛ لأنّه ليس من أخلاق المؤمن الذي يملأ الإيمان عقله وقلبه، أن يلاحق المسلمين بالطريقة التي تُسقط مكانتهم وتجعل المجتمع ينظر إليهم باحتقار، من خلال أساليب الذمّ التي يوجّهها إليهم. ويتحرّك الحديث بالتهديد القويّ بعقاب الله في افتضاح أمورهم بما يكشفه سبحانه من عوراتهم الخفيّة، التي تتمثّل في حياتهم الخاصّة، كردّ فعلٍ على ما يمارسونه في تتبّع عورات المسلمين، وإلصاق كلّ الصفات المذمومة بهم. وبذلك فإنّهم يواجهون الفضيحة في الدنيا قبل الفضيحة في الآخرة، جزاءً على هذه الجريمة الأخلاقيّة في المجتمع الإسلامي، والتي مارسوها بحقّ المستورين من المسلمين.
ونستوحي من ذلك كلّه، أنّ هذا السلوك ينفتح ـ في إيحاءاته ـ على الكفر الأخلاقيّ، وقد يهيّئ الأجواء، من خلال مناخاته النفسيّة، للكفر العقيدي الذي قد يفرض نفسه على الإنسان كنتيجة للفراغ الروحي الذي يملأ ذاته.
وثمّة رواية أخرى، عن الإمامين محمّد الباقر وجعفر الصادق t: ((أقرب ما يكون العبد إلى الكفر، أن يؤاخي الرجل على الدين، فيحصي عليه عثراته وزلاّته ليعنّفه بها يوماً ما))(4)؛ فإنّنا نستوحي منها حديثاً عن هذه المؤاخاة الظاهريّة التي ينفتح فيها المسلم على المسلم؛ ليوحي إليه بالصداقة والأمانة من جانبه، ولكنّه في داخل سرّه يخفي الخيانة التي تتمثّل في استغلال حال انفتاح هذا المؤمن عليه وعدم إخفاء عيوبه وأسراره عنه، ثقةً منه به وبكتمانه، أو بالتعامل معه في شكلٍ طبيعيّ من دون حذر، فيحاول هذا الخائن للأخوَّة والصداقة أن يسجّل عليه كلّ ما يطّلع عليه من عيوبه وزلاّته؛ حتى إذا استكمل ذلك، قطع علاقته به، لبعض الأسباب الخفيّة أو الطارئة، ليهدّده بالفضيحة من خلال ما عرفه عنه؛ ليحصل على بعض الأمور التي قد يتطلّبها منه من دون حقّ.
إنّ هذه الخلفيّة الخيانية تدلّ على نفسيّة عدوانيّة ضدّ المؤمنين، في تخطيط هذا الرجل الخياني المنافق، لتدميرهم وللتشهير بهم وللإيقاع بهم؛ من خلال استغلاله للمعلومات الخاصَّة بهم (عيوبهم) بهدف ابتزازهم؛ الأمر الذي يتنافى مع القاعدة الإيمانيّة الأخلاقيّة التي تؤكّد عمق الأخوّة بين المؤمنين، التي تتحرّك في إصلاح أمورهم، وحماية أوضاعهم، وحفظ مكانتهم، والانفتاح على كلّ قضايا الخير في العلاقة بهم.
وتلك هي خطوط أخلاق الكافرين، التي تتمثّل في خروج أصحابها عن قاعدة المجتمع المسلم، الذي يعتبر المسلمين أسرةً واحدة، وجسداً واحداً. وبذلك ينفصل انفصالاً كلّياً عن أصول الإيمان وأركانه، ويقترب من أصول الكفر وأركانه.
وقد نجد في أصول الكفر وأركانه، ما جاء في الرواية عن الإمام جعفر الصادق t: ((من روى على مؤمن روايةً يريد بها شينه وهدم مروءته، ليسقط من أعين الناس، أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان))(5).
إنّ هذا الحديث يؤكّد أنّ الإنسان الذي يخطّط لإسقاط المسلمين المؤمنين، بإثارة الحديث عنهم بإظهار عيوبهم الخفيّة التي يطّلع عليها بالصدفة أو بوسائله الخاصّة، وبهدم إنسانيّتهم المنفتحة على عناصر الخير في شخصيّة الإنسان، بأن يتحدّث عنهم بشكل سلبيّ ضدّ مواقع القيمة الأخلاقية الرفيعة، لإسقاطهم من أعين الناس، بما يؤدّي إلى احتقارهم وطردهم من المجتمع... إنّ هذا الإنسان يخرج من محبّة الله ونصرته؛ لأنّه يسيء إلى أوليائه، ويضمر العداوة لهم، ويتحرّك من أجل إذلالهم في الواقع الاجتماعي، في الوقت الذي يعرف الله من هؤلاء المؤمنين أنّهم وإن كانوا لا يملكون العصمة، فإنّهم يأخذون بأسباب الطاعة، ويبتعدون عن مواقع المعصية التي إذا مارسوها فإنّهم يبادرون إلى التوبة منها، وخصوصاً أنّ الله جعل للمؤمن حرمة كبيرة عنده، وأراد من الناس أن يحفظوها، كرامةً للمؤمن في الالتزام بالإيمان وخطوطه العمليّة.
ثمّ إنّ الله يخرج هذا الإنسان من محبّته ونصرته، عقوبةً له على انحرافه عمّا يفرضه عليه الإيمان، من السَّير في المنهج الأخلاقي في علاقته بالمؤمنين، ويكله إلى الشيطان الذي اختار تسويله وجعله يخالف أمر ربّه.
أمّا عدم قبول الشيطان له، فلأنّه كما يقول صاحب مرآة العقول ـ ليس غرضه من إضلال بني آدم كثرة الأتباع والمحبّين، بل مقصوده إهلاكهم وجعلهم مستوجبين للعذاب؛ للعداوة القديمة بينه وبين أبيهم؛ فإذا حصل غرضه منهم تركهم، وشمت بهم، ولا يعينهم في شيء، لا في الدنيا، كما قال تعالى: )كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ((6)، ولا في الآخرة، كما قال تعالى ـ حكاية عن الشيطان ـ: )فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ((7). وهكذا نجد أنّ دخول هذا الشخص في ولاية الشيطان يقترب به من خطّ الكفر. وربّما كان عدم قبول الشيطان لأنّه لا يكتفي منه بذلك؛ بل يريده أن يخرج من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر.
إنَّ أخلاقيَّة الإسلام في الالتزام بالقيم الروحيَّة الإنسانيَّة، هي التي ترتفع بالإنسان إلى الإيمان بالله، بينما يمثّل الانحراف عنها النزول إلى حالة الانحطاط التي تبتعد به عن الله، وعن مواقع القرب منه، وتجعله قريباً إلى مناخات الكفر الذي يفرّغ الداخل الإنساني من عناصر الحقّ والخير والإيمان.
وقد ورد في رواية الإمام جعفر الصَّادق t عن رسول الله w أنّه قال: ((ألا إنّ في التباغض الحالقة؛ لا أعني حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين))(8). وقد جاء عنه w: ((دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: البغضاء، وهي الحالقة))(9).
إنّ دلالة هذا الحديث تؤكّد أنّ على المسلمين أن لا يتحرّكوا في علاقتهم ببعضهم البعض بالبغضاء الّتي يمكن أن يشعر بها المسلم تجاه أخيه المسلم كنتيجة لبعض الأوضاع السلبيّة المعقّدة؛ لأنّ من أخلاق الإسلام أن يحبّ المؤمن أخاه، انطلاقاً من الأخوّة الإيمانيّة التي ينفتح فيها القلب على القلب بالمحبّة الخالصة؛ حتى إنّ الله خاطب المؤمنين بعد قوله تعالى: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ(، بقوله: )فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ((10)، ما يوحي بأنّ بعض التعقيدات الشخصية التي قد تحدث بين الأخوة، لا بدّ من أن يبادر المؤمنون إلى التدخّل بينهم لحلّها؛ لتبقى العلاقة الإيجابيّة قائمة بين المؤمنين من دون أن تتأثّر بذلك.
ويؤكِّد الحديث خطورة التَّباغض بين المسلمين، في التعبير عنه بأنّه يمثّل الحالة التي تستأصل الدين، تماماً كما تستأصل الموسى الشعر؛ لأنّ هذه العقدة النفسيّة قد تدفع الإنسان إلى القيام ببعض الأعمال التي تقود إلى الانحراف عن الخطّ الإسلامي المستقيم، وعن القاعدة الإيمانيّة في مخالفة التعليمات الأخلاقيّة الروحيّة، ممّا يقترب به من خطوط الكفر في أصوله العمليّة.
وقد بيّن الله تعالى أنّ الغلّ الذي يحمله المسلم لأخيه ليس من أخلاقيّات الجنّة؛ قال تعالى: )وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ((11)، ما يوحي بأنّ على المؤمن أن لا يعيش هذا الخلق السلبي في الدُّنيا، حتى يستطيع أن ينسجم في الجنّة التي لا تتقبّل هذا النوع من الحقد والبغضاء.
وفي حديثٍ آخر عن رسول الله w: ((من أرضى سلطاناً بسخط الله خرج من دين الله))(12). وفيه تأكيد قويّ أنَّ الالتزام بالدِّين، والدخول في أصوله الحيّة يفرض على الإنسان أن يحافظ على رضوان الله في كلّ أموره، وأن يراقبه في كلّ أقواله وأفعاله، سواء كان ذلك في خصوصيّاته الذاتيّة، أو في علاقاته بالآخرين ممّن ترتبط مصالحه بأوضاعهم، وبالخصوص عندما يملكون السلطة التي تهيمن على شؤون الناس في أمورهم العامّة؛ فقد يتطلّبون القيام ببعض المهمّات التي ينهى الله عنها، ولا يرضى بها، فيبادر البعض إلى محاولة إرضاء هذا السلطان أو ذاك، بتنفيذ ما يطلبه منه، من دون أن يراعي التزاماته الدينية في إطاعة الله في أوامره ونواهيه؛ وبذلك يقف في موقع الموازنة بين سخط الله وسخط السلطان الظالم، فيشتري سخط الخالق برضى المخلوق؛ الأمر الذي يدلّ على أنّه ليس لله تعالى أيّ قيمة في حسابه الإيماني؛ ما يخرجه عن دين الله في مضمونه الروحي وخطّه الشرعي.
وهذا هو الذي يمثّل الميزان الدقيق بين الإيمان الذي يتطلّع فيه الإنسان إلى الحصول على مواقع القرب من الله، وبين الكفر الذي لا يحسب فيه حساب الله في رضوانه، ليكون الله أهون الناظرين إليه، وأخفّ المطّلعين عليه، وليكون أشدَّ خوفاً من عبده. وهذا هو أساس الكفر العمليّ.
وفي حديثٍ آخر عن الإمام محمَّد الباقر t: ((لا دين لمن دان بطاعة من عصى الله، ولا دين لمن دان بفرية باطل على الله، ولا دين لمن دان بجحود شيءٍ من آيات الله))(13).
إنّ هذه الكلمات الحاسمة التي توازن في الخطوط الدقيقة بين الدين واللاّدين، تتناول أكثر من عنوان يخرج به الإنسان عن الدين.
ففي الفقرة الأولى، يُعالج مسألة الخضوع العمليّ، على مستوى الالتزام الداخلي في مشاعره، والخارجي في حركته، للأشخاص الذين يدينون بمعصية الله، فيطيعهم في ذلك طاعةً عمياء، بعيداً عمّا يفرضه عليه الدين من العمل بطاعة الله؛ وبذلك يخرج من الدائرة الدينيّة في خطّ العمل.
وفي الفقرة الثانية، يتحدّث عن الذين يدينون بالباطل الذي يثيره أهل الباطل، في الأكاذيب والافتراءات على الله، في شرائعه وأحكامه؛ الأمر الذي يخرجهم من الإيمان؛ لأنّ الإيمان لا يجتمع مع الكذب، فكيف مع الافتراء على الله الذي يمثّل عدواناً عليه، وتمرّداً على الحقّ الذي شرّعه وأوحى به!؟ وقد قال تعالى: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ((14)، وقال تعالى: )فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ((15).
وفي الفقرة الثالثة، يتناول التديّن بإنكار بعض آيات الله في كتابه، ليلتزم بما ينافيها ويضادّها في الجوانب الفكرية، وفي الحقائق الدينية، ما يؤدّي إلى تكذيب الله بتكذيب وحيه، وهذا من أوضح مصاديق الكفر.
وخلاصة الحديث في هذه العناوين، أنّ مسألة الإيمان تمثّل العمق الفكري والشعوري والأخلاقي والعملي، ممّا يجب على المؤمن الالتزام بها، تديّناً وحركةً؛ لأنّ الانتماء الديني يفرض عليه ذلك؛ فمن ابتعد عن كلّ هذه الحقائق في التزامه، كان قريباً من الكفر، تبعاً للمسافة الفاصلة بينه وبين حقائق الإيمان. والحمد لله ربِّ العالمين.
|
|||||
|
|||||
![]() |
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
لعلّ من أخطر المشاكل التي تواجه المسلمين، في مذاهبهم المتنوّعة، ولا سيما في المفردات التفصيليّة التي يؤمن بها بعضٌ ويرفضها بعضٌ، هي مشكلة التكفير التي يحكم بها أهل مذهبٍ على أهل مذهب آخر نتيجة إيمانهم ببعض المفردات الّتي يرونها لأنّها مرتبطةً بالإسلام عقيدةً، بحيث يكفّرون منكرها، كما هو الحال في إنكاره التوحيد والنبوّة واليوم الآخر. وربّما ينطلق هذا الحكم بالتكفير من خلال الاختلاف في الالتزام بمضمون حديثٍ موثّق عند البعض وغير موثّق عند البعض الآخر، أو بتفسير آيةٍ بمعنىً لا يتّفق فيه أهل مذهب مع تفسيرٍ لها عند أهل مذهبٍ آخر، فيرون أنّ إنكار المضمون هناك تكذيبٌ للرَّسول ورفضٌ لرسالته، وهو موجبٌ للكفر، كما يرون أنّ رفض تفسيرهم للآية الَّذي يمثّل الحقّ عندهم، يدلّ على تكذيب القرآن في بعض آياته.
وقد تتمثَّل المسألة في وجهة نظر البعض حول صحابيّ هنا أو صحابيّ هناك، في موقفٍ سلبيّ منه، أو في إساءة إليه، فينافي ذلك ما ورد في الكتاب والسنّة حول قدسيّة الصحابة، ما قد يوحي بأنّ الذي يقف موقفاً سلبيّاً من بعضهم يقف موقفاً سلبيّاً من كتاب الله وسنّة نبيّه؛ ما يؤدّي إلى خطّ من خطوط الكفر.
وقد تمتدّ مسألة التّكفير إلى الحديث عن الجنّة والنار، في استحقاق هذا الفريق للعذاب في النار، وذاك الفريق للنّعيم في الجنّة، في شكلٍ حاسمٍ؛ حتّى إنّ هناك رفضاً لأيّة إمكانيّة لرحمة الله وغفرانه للجهة التي يختلف معها هذا الفريق السلبي في نظرته للآخر.
وقد يتطوّر الأمر، في خطورة الموقف، إلى استحلال أهل هذا المذهب لدماء أهل المذهب الآخر وأموالهم وأعراضهم، من خلال استحلال ما يتّصل بالكافر أو المرتدّ من ذلك. ولعلّ هذا الواقع التّكفيري هو أحد أبرز أسباب الأوضاع التاريخية المدمّرة للواقع الإسلاميّ، إذ كان المسلمون، في مناخ الفتن المذهبيّة، يقتل بعضُهم بعضاً، ويُصادر بعضهم أموال بعض، ويهتك بعضهم أعراض بعض، من خلال الفتاوى الصادرة من بعض علماء هذا المذهب أو ذاك، بحيث يشعر أتباعهم بأنّهم يتقرّبون إلى الله بذلك كما يتقرّبون إليه بقتال الكفّار ونهب أموالهم وهتك أعراضهم.
وقد ترك هذا الاتجاه السلبيّ الخطير تأثيره على الأمّة الإسلاميّة، فامتنع الحوار الموضوعي بينهم فيما دعا إليه تعالى: )فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ((1)، وابتعدت المجتمعات الإسلامية عن الاتصال والترابط بين أفرادها، وتحرّكت الفتاوى لتحرّم ذبيحة هذا المسلم على المسلم الآخر، وزواج هذه المسلمة من مذهبٍ من مسلمٍ من مذهبٍ آخر، ولتمنع صلاة مسلمٍ شيعي خلف مسلمٍ سنّي أو العكس.
وهكذا تطوّرت الأحداث التقسيمية والأوضاع التكفيريّة التي دخلت في النسيج الثقافي الكلامي والعقيدي، وتحرّكت الفتن المذهبيّة بين وقتٍ وآخر، لتخلق حالاً من التمزّق في واقع المسلمين سمح لأعداء الإسلام، في الشرق والغرب، وأجهزة المخابرات الدوليّة من التدخل في شؤونهم لإثارة المشاكل السياسية والاجتماعية، من خلال المشاكل المذهبيّة، بالمستوى الذي تطوّر، في بعض المراحل والأماكن، إلى حربٍ أهليّة تتغذّى من فتنة طائفيّة مذهبيّة هنا، أو خلاف فكري وثقافي هناك؛ الأمر الذي أدّى إلى إضعاف الأمّة الإسلاميّة في العالم، وسقوطها أمام الدول الاستكباريّة والمجتمعات الكافرة، وابتعدت الدعوة إلى الوحدة الإسلاميّة، على الرغم من منظّمات التقريب بين المذاهب الإسلاميّة والمؤتمرات الدّاعية إلى الوحدة الإسلاميّة، وذلك من خلال محاولة بعض المتعصّبين إثارة مفردةٍ سلبيّة هنا، ومفردة سلبيّة هناك، في عمليّة للتعقيد ضدّ الوفاق الإسلامي ـ الإسلامي.
وما زالت المشاكل تتفاعل في الأمَّة كلِّها، فلم تعد لدينا أمّة إسلاميّة موحّدة التطلّعات والأهداف، بل أصبح العالم الإسلامي مِزَقاً متناثرة، يتناهشها الآخرون بأنيابهم، لخدمة مصالحهم الاقتصاديّة والسياسية والأمنية والاستراتيجية؛ باعتبار الإسلام بالنّسبة إليهم هو العدوّ الذي لا بدّ من محاربته والتخطيط لتدميره في كلّ مواقعه.
ونحن ـ هنا ـ نحاول معالجة هذا الموضوع، من خلال نظرة بعض الشخصيّات الشيعيّة في زمن الأئمّةi إلى من لا يعتقدون بالإمامة، واعتبارهم من الكافرين، وردّ الأئمّة على ذلك، على أن نتناول نظرة المذاهب الأخرى إلى هذا الموضوع في المرّات القادمة.
من ذلك، ما جاء في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن هاشم صاحب البريد، قال: ((كنت أنا ومحمّد بن مسلم وأبو الخطّاب مجتمعين، فقال لنا أبو الخطّاب: ما تقولون فيمن لم يعرف هذا الأمر؟ ـ أي أمر الإمامة ـ
فقلت: من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر.
فقال أبو الخطّاب: ليس بكافرٍ حتّى تقوم عليه الحجّة؛ فإذا قامت عليه الحجّة فلم يعرف فهو كافر.
فقال له محمّد بن مسلم: سبحان الله، ما له إذا لم يعرف ولم يجحد، يكفر؟! ليس بكافرٍ إذا لم يجحد.
قال: فلمّا حججت دخلت على أبي عبد الله فأخبرته بذلك.
فقال: إنّك قد حضرت وغابا، ولكنّ موعدكم الليلة الجمرة الوسطى بمنى.
فلمّا كانت الليلة، اجتمعنا عنده وأبو الخطّاب ومحمد بن مسلم، فتناول وسادةً فوضعها في صدره، ثمّ قال لنا: ما تقولون في خَدَمِكم ونسائكم وأهليكم؟ أليس يشهدون أنّ محمداً رسول الله؟
قلت: بلى.
قال: أليس يصلّون ويصومون ويحجّون؟
قلت: بلى.
قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟
قلت: لا.
قال: فما هم عندكم؟
قُلتُ: من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر.
قال: سبحان الله، أما رأيت أهل الطريق وأهل المياه؟
قلت: بلى.
قال: أليس يصلّون ويصومون ويحجّون؟ أليس يشهدون أنّ لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله؟
قلت: بلى.
قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟
قلت: لا.
قال: فما هم عندكم؟
قلت: من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر.
قال: سبحان الله، أما رأيت الكعبة والطواف وأهل اليمن وتعلّقهم بأستار الكعبة؟
قلت: بلى.
قال: أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله ويصلّون ويصومون ويحجّون؟
قلت: بلى.
قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟
قلت: لا.
قال: فما تقولون فيهم؟
قلت: من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر.
قال: سبحان الله، هذا قول الخوارج، ثمّ قال: إن شئتم أخبرتكم.
فقلت أنا: لا.
قال: أما إنّه شرّ عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منّا.
قال: فظننت أنّه: إنّه يديرنا على قول محمّد بن مسلم))(2).
إنّ هذا الحديث يدلّ على أنّ هؤلاء الأشخاص، وهم من أصحاب الإمام جعفر الصادقt، كانوا يعتقدون بكفر الذين لا يعتقدون بالإمامة، غير أنّ أحدهم، وهو محمّد بن مسلم، كان يرى أنّ الكافر هو الذي جحد الإمامة بعد أن قامت عليه الحجّة؛ أمّا الذي لم يعرفها ولم يجحد فليس بكافر؛ فلمّا التقوا بالإمام جعفر الصادقt، وأعلنوا رأيهم في ذلك، بادرهم الإمامt بأنّ الإسلام يتمثّل في الإقرار بالشهادتين، فمن أقرّ بهما كان مسلماً، ولا سيّما إذا كان ملتزماً بالصلاة والصوم والحجّ، حتى لو لم يعتقد بالإمامة، وقدّم لهم أمثلةً على ذلك، من خدمهم ونسائهم وأهليهم وأهل الطريق والمياه والطائفين بالكعبة وأهل اليمن والمعلّقين بأستارها، وهم يقرّون بالشهادتين، وأنكر عليهم هذا الاعتقاد بكفر المسلمين، وقال لهم إنّ هذا الرأي الذي يرتأونه هو قول الخوارج الذين كانوا يكفّرون المسلمين؛ لمخالفتهم لهم فيما اعتقدوه والتزموه، ثمّ وجّههم إلى ضرورة أن يأخذوا موازين العقيدة الإسلاميّة في اعتبار الناس، مسلمين أو كافرين، ممّا يسمعونه من أئمّة أهل البيتi، وأن لا يستقلّوا في ذلك برأيهم بعيداً عن تعاليمهم الفكريّة.
أمّا قول الراوي بأنّه يظنّ أنّه يديرها على قول محمّد بن مسلم، فهو غير صحيح؛ لأنّ ما سمعوه منهt اعتبار الإقرار بالشهادتين والالتزام بالإسلام، هو الأساس في صحّة الانتساب إلى الإسلام؛ لأنّ الإمامة ليست من الأصول التي من آمن بها كان مسلماً ومن لم يؤمن بها كان كافراً، بل إنّ جحودها مع قيام الحجّة عليه يؤدّي إلى انتسابه إلى الضلال. إنَّ هذا الحديث يؤكّد تأكيداً جازماً أنّ ميزان الإسلام هو الإقرار بالتَّوحيد والنبوّة، فلا يجوز الحكم بكفر المسلم الذي يقرّ بهما ولا يقرّ ببعض الحقائق الثابتة، إلا إذا أدّى ذلك إلى إنكار تصديق النبوَّة، من خلال إنكار الضروري أو ما قامت عليه الحجّة ممّا لا يحكم بالكُفر فيه إلا إذا التفت إلى لوازمه من تكذيب الرسول.
الحديث الثاني: روى عليّ بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن رجل، عن زرارة، عن أبي جعفرt، ((قال: قلت له: ما تقول في مناكحة الناس))، ومقصوده الذين يختلفون معه في أمر الإمامة، ((فإنّي قد بلغت ما تراه وما تزوّجت قطّ.
فقال: وما يمنعك من ذلك؟
فقلت: ما يمنعني إلا أنّني أخشى أن لا يكون يحلّ لي مناكحتهم، فما تأمرني؟
قال: كيف تصنع وأنت شاب؟ أتصبر؟
قلت: أتّخذ الجواري.
قال: فهات الآن، فبمَ تستحلّ الجواري؟ أخبرني.
قلت: إنّ الأمة ليست بمنـزلة الحرّة، إن رابتني بشيء بعتُها أو اعتزلتها.
قال: فحدّثني بمَ تستحلّها؟
قال: فلم يكن عندي جواب.
قلت له: جعلت فداك، أخبرني ما ترى أتزوّج؟
قال: ما أبالي أن تفعل.
قلت: أرأيت قولك ـ ما أبالي أن تفعل ـ فإنّ ذلك على وجهين: تقول: لست أبالي أن تأثم من غير أن آمرك، فما تأمرني أن أفعل ذلك عن أمرك.
قال: فإنّ رسول الله قد تزوّج، وكان من امرأة نوح وامرأة لوط ما قصّ الله عزّ وجلّ، وقد قال الله تعالى: )ضَرَبَ اللهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا((3).
فقلت: إنّ رسول الله لست في ذلك مثل منـزلته، إنّما هي تحت يديه وهي مقرّة بحكمه مظهرةٌ دينه.
فقال لي: ما ترى من الخيانة في قول الله عزّ وجلّ: )فَخَانَتَاهُمَا(، أما والله ما عنى بذلك إلا (الفاحشة) ـ وهي الشقاق والمخالفة وليس الزنا ـ وقد زوّج رسول الله فلاناً ـ يعني عثمان بن عفّان ـ.
قلت: أصلحك الله، فما تأمرني أنطلق فأتزوّج بأمرك؟
فقال: إن كنت فاعلاً فعليك بالبلهاء من النساء.
قلت: وما البلهاء؟
قال: ذوات الخدور العفائف.
ـ وقال الجوهري: رجل أبله، وهو الذي غلبت عليه سلامة الصدر، وامرأة بلهاء ـ
فقلت: من هي على دين سالم بن أبي حفصة؟
قال: لا.
فقلت: من هي على دين ربيعة الرأي؟
قال: ولكن العواتق اللواتي لا ينصبن كفراً ولا يعرفن ما تعرفون.
قلت: وهل تعدو أن تكون مؤمنة أو كافرة؟
فقال: تصوم وتصلّي وتتّقي الله ولا تدري ما أمركم.
فقلت: قد قال الله عزّ وجل: )هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ((4)، لا والله، لا يكون أحد من الناس ليس بمؤمن ولا كافر.
قال: فقال أبو جعفرt: قول الله أصدق من قولك، أرأيت قول الله عزّ وجلّ: )خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ((5)، فلِمَ قال: )عَسَى(؟
فقلت: ما هم إلاّ مؤمنين أو كافرين.
قال: فقال: ما تقول في قول الله عزّ وجلّ: )إِلا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً((6) إلى الإيمان.
فقلت: ما هم إلا مؤمنين أو كافرين.
فقال: والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين، ثمّ أقبل عليّ، فقال: ما تقول في أصحاب الأعراف.
فقلت: ما هم إلا مؤمنين أو كافرين، إن دخلوا الجنّة فهم مؤمنون، وإن دخلوا النّار فهم كافرون.
فقال: والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين، ولو كانوا مؤمنين لدخلوا الجنّة كما دخلها المؤمنون، ولو كانوا كافرين لدخلوا النار كما دخلها الكافرون، ولكنّهم قوم قد استوت حسناتهم وسيّئاتهم فقصرت بهم الأعمال، وإنّهم لكما قال الله عزّ وجلّ.
فقلت: أمن أهل الجنّة هم أم من أهل النار؟
قال: اتركهم حيث تركهم الله.
قلت: أفترجئهم؟
قال: نعم، أرجئهم كما أرجأهم الله، إن شاء أدخلهم الجنّة برحمته، وإن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم ولم يظلمهم.
فقلت: هل يدخل الجنّة كافر؟
قال: لا.
قلت: فهل يدخل النار إلا كافر؟
قال: لا، إلا أن يشاء الله. يا زرارة، إنّني أقول ما شاء الله، وأنت لا تقول: ما شاء الله، أما إنّك إن كبرت رجعت وتحلّلت منك عقدك))(7).
إن هذا الحوار الطويل بين زرارة والإمام محمّد الباقرt، يوحي بأنَّ زرارة ـ في مطلع شبابه ـ وهو الملتزم بالانتماء إلى خطّ الإمامة، كان يرى أنّه لا يجوز التزوّج من المخالفين من أهل السنّة؛ لأنّهم كافرون، فبادره الإمامt بالسؤال عمّا يصنع في حاجته إلى الزواج، وهو شاب، فأجابه بأنّه يتخذ الجواري التي يشتريها من سوق العبيد والإماء، فيقضي معهن حاجته الجنسيّة، فاعترض عليه الإمامt على استحلاله لهنّ وهنّ كافرات، فإذا كان المخالفون كافرين، فكيف لا يستحلّ التزوّج من نسائهم، تماماً كالجواري، فلم يكن عنده جواب.
وعندما كرّر زرارةُ السؤال على الإمامt فيمن يحلّ له الزواج منهن، تحدّث إليه الإمام عن زواج نوح ولوطt بامرأتيهما، وعن زواج رسول الله بامرأتين أثارتا الإزعاج والشقاق في حياته معهما، وأنّ النبيّ w زوّج شخصيّة كبيرة من المخالفين ممّن لا يلتزم زرارة الالتزام بها. وهنا انفتح زرارة على السؤال الحاسم عمّن يتزوّج، فأجابه بالعواتق من الشابّات ذوات الخدور العفائف.
ثمّ وجّهه الإمام إلى اختيار المرأة الشابّة التي لا تضمر كفراً، وإن كانت لا تلتزم خطّ الإمامة. واستغرب زرارة هذا التوجيه؛ لأنّه يعتقد كفر المخالفين، فتساءل معترضاً: وهل تعدو إلا أن تكون مؤمنة أو كافرة، فإذا لم تكن مؤمنةً لأنّها لا تلتزم بالإيمان بخطِّ أهل البيتi، فلا بدّ من أن تكون كافرة، فكيف يحلّ له الزواج بهنّ؟! فكان جواب الإمامt على طريق الاستفهام الإنكاري: أليست تصوم وتصلّي وتتقي الله، ولكنّها لا تعرف خطّ الولاية، فهي على خطّ الإسلام وليست على خطّ الكفر، فيحل الزواج منها كما يحل الزواج من أيّ مسلمة. وهنا عاد زرارة إلى الاعتراض مستدلاً بقوله تعالى: )هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ((8)، حيث يُفهم من الآية، بحسب زرارة، أنّه لا يكون أحد من الناس ليس مؤمناً ولا كافراً، فلا واسطة بينهما، ليكون بعض الناس مسلماً غير مؤمن ولا كافر، فهذا ممّا يخالف قوله تعالى في تقسيم الناس إلى قسمين لا ثالث لهما.
ولكنّ الإمامt ردّ بأنّهم مصداق لقول تعالى: )خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ(، ما يوحي بأنّهم ـ من خلال رحمة الله ـ في معرض الحصول على التوبة. ويبقى زرارة في إصراره على قوله، فيردّ عليه الإمام بقول الله تعالى: )إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ...(، وقد عقّب الله هذه الآية بقول: )فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً((9). ويبقى زرارة مصرّاً على رأيه: ما هم إلا مؤمنين أو كافرين.
ويواجهه الإمام بالسؤال عن وجهة نظره في أصحاب الأعراف الذين تحدّث الله عنهم في القرآن، حيث قال تعالى: )وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ((10)، ويترك الإمام الباقرt الأمر إلى الله الذي قد يشاء برحمته وغفرانه أن يدخلهم الجنّة، ويعنّف زرارة في أنّ عليه أن يترك الأمر إلى مشيئة الله كما علّق الإمام الأمر على ذلك، ويريد له ـ في نهاية المطاف ـ أن يستزيد من العلم في مستقبل أمره، ليرجع إلى خطّ التوازن والاستقامة، ويتحلّل من العقد الّتي تحكّمت في شخصيّته تجاه المسلمين الآخرين.
ونلاحظ أنّ مقصود الإمام الباقرt بالإيمان، هو الالتزام بخطّ أهل البيتi، وليس الإسلام في مقابل الكفر؛ لأنّه أكد إسلام السائرين في هذا الخطّ، ولكنّهم انحرفوا عن خطّ الإيمان الذي يفرض على المؤمن الالتزام بالحق وأهله. وهكذا نجد أنّ الإمامين الباقر والصادقo يؤكّدان اتّصاف المخالفين بالإسلام، وإجراء أحكام الإسلام عليهم، من احترام دمائهم وأموالهم وأعراضهم والزواج منهم وتزويجهم، مع تحفّظات في الزواج ببعض النساء اللاتي يلتزمن خطّاً مذهبيّاً منحرفاً قد يؤدّي إلى انحراف الزوج، على مستوى النصيحة لا على مستوى الإلزام، إلا إذا خاف على نفسه الوقوع في الانحراف. إشاعة الحوار: وهناك ملاحظة مهمّة، وهي أنَّ هذا الحوار العنيف بين الأئمّة وأصحابهم، يوحي بالأسلوب الثقافي الذي يفسح في المجال لهم لمناقشتهم فيما يصدرون من أحكام، من دون أن يشعروا بأنّ ذلك يسيء إلى التزامهم بمقام الإمامة، كما أنّ الإمام لا يحسّ بالضيق من اعتراضهم؛ لأنّ هدفه هو أن يعلّمهم كيف يفكّرون، وكيف يحاورون، وكيف يصحِّحون معلوماتهم، في الاهتداء بهدي الأئمّةi فيما يسمعونه منهم أخيراً. وهذا ما يجب أن يهتدي بهديه كلّ الملتزمين بخطِّ أهل البيتi، مهما علا مستواهم الثقافي والفكري أو الاجتماعي أو الديني، حتى المرجعيّات الدينية، بأن يتحرّكوا في خطّ رحابة الفكر وسعة الصدر في المناقشات والاعتراضات التي يثيرها المؤمنون وغير المؤمنين معهم، من دون أن يشعروا بالضيق؛ لأنّ الحوار الموضوعي المرتكز على اجتهاد الرأي، خطأً كان أو صواباً، لا يسيء إلى الاحترام؛ بل يؤكّده؛ لأنّه يتحرّك في إدارة الحوار لاكتشاف الحقيقة من خلال الانفتاح على كلّ مفرداتها وجوانبها. وهذا هو المنهج القرآني في عملية الحوار الذي يرتفع بالفكر إلى أعلى مواقعه.
وربّما يتحدّث البعض عن النقاش في سند الروايتين؛ لأنّ هناك مجهولاً في الرواية الأولى، وإرسالاً في الرواية الثانية.
ونجيب عن ذلك بجوابين:
الأوّل: ما اختاره أستاذنا المحقّق آية الله الخوئيq في وثاقة الروايات الواردة في تفسير عليّ بن إبراهيم.
الثاني: المبنى الذي نراه في قبول الخبر والقائم على الوثوق بالرواية، لا الوثوق بالراوي.
وقد يكون من عناصر الوثوق بالرواية، أنّ دراسة مضمونها توحي بامتناع أو استبعاد الكذب في الراوي؛ لأنّه لا غرض له في ذلك، وخصوصاً إذا كانت الرواية موافقة للقرآن في مفهومه الفكري الذي يؤكّد أنَّ الإسلام يتمثّل في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر من دون إضافة شيء آخر، وأنَّ الكفر يتحقّق في إنكار التوحيد والرسالة والرسول واليوم الآخر. ومن الطبيعي أنَّ العقلاء عندما يرون أيّ حديثٍ موافقاً للقرآن فإنّهم يوثّقونه، ويأخذون به؛ لأن الأخذ به هو التزامٌ بالقرآن لا بالحديث وحده. هذا، مع ملاحظةٍ قد تصلح مؤيّداً للوثاقة، وهي أنَّ مضمون الخبر مخالفٌ للسّياق الذي يبدو أنّه كان آخذاً مجاله لدى أصحاب الأئمَّة، ممّا يوحي به الجدل بين أصحابهم في الرواية الأولى، أو ممّا يلوح من الخلفية التي ينطلق فيها زرارة في فكرةٍ تبدو متحكّمة به، ومع ذلك يأتي مضمون الرواية مخالفاً لما عليه هذا السياق، ما يُبعّد دواعي الكذب بالنسبة إلى أصحاب الأئمّةi، فيُمكن إضافة هذا إلى ما ذكرناه آنفاً، ما يعزّز الوثوق بالرواية، والله العالم. والحمد لله ربّ العالمين.
|
||||||||
|
||||||||
![]() |
||||||||
|
بسم الله الرحمـٰن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
تناولنا فيما سبق الحديث حول الذهنيَّة التي كان ينطلق بها بعض أصحاب الأئمّةi تجاه الآخرين ممّن يختلفون معهم في بعض مسائل العقيدة أو الشريعة، وكيف كان الأئمّةi يجيبونهم، وفق المنهج الإسلامي القرآني الذي يعيد المسألة إلى المرتكزات العقيدية الإيمانيّة التي تشكّل الأساس الفاصل بين الإسلام والكفر، وهي التوحيد والنبوّة والمعاد، معتبرين ما اختلف فيه المسلمون، في مدرستي الإمامة والخلافة، اختلافاً ضمن الدائرة الإسلاميّة الواسعة، وليس اختلافاً بين كفرٍ هنا وإسلامٍ هناك. وفي رواية رواها الكافي، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن زرارة:
((قال: دخلت أنا وحمران (بن أعين)، أو أنا وبكير، على أبي جعفر محمّد الباقرt، قال: قلت له: إنّنا نمدّ المطمار.
قال: وما المطمار؟
قلت: الترّ ـ وجاء في القاموس: الترّ الأصل والخيط يقدّر به البناء ـ فمن وافقنا من علويّ وغيره تولَّيناه، ومن خالفنا، من علويّ أو غيره برئنا منه.
فقال لي: يا زرارة، قول الله أصدق من قولك، فأين الذين قال الله عزّ وجلّ: )إِلا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً((1) أين المرجوْن لأمر الله؟ أين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً؟ أين أصحاب الأعراف؟ أين المؤلّفة قلوبهم؟ وزاد حمّاد في الحديث - عن زرارة - قال: فارتفع صوت أبي جعفر وصوتي، حتى كان يسمعه من على باب الدار. وزاد فيه جميل، عن زرارة: فلمّا كثر الكلام بيني وبينه، قال لي: يا زرارة، حقّاً على الله أن لا يدخل الضلاّل الجنّة)).
إنَّنا نلاحظُ في هذا الحديث - إلى جانب ما تضمّنته الأحاديث السابقة في نظرة بعض أصحاب الأئمّة إلى المخالفين، من إبعادهم عن رحمة الله، ومن الالتزام بالبراءة منهم، ومن رفض الفكرة في إدخال هؤلاء الجنّة - أنَّ زرارة يؤكّد هذه النظرة السلبيّة، فلا يدخل الجنّة - في نظره - إلا من صحّت عقائده، وهم الفرقة المحقّة من الإماميَّة، وأنَّ الإمام الباقرt أظهر له خطأ ذلك؛ لأنّ الله تعالى تحدّث عن بعض الناس الذين تنالهم رحمة الله ممّن لا يعتقدون بما تعتقده الإماميّة؛ لأنّ الحجّة لم تقم عندهم على الحقّ، أو لأنّهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً، أو لأنّهم من المرجين لأمر الله، أو من أهل الأعراف ممّن جاء القرآن بالحديث عنهم بإمكان أن يدخلوا الجنّة من خلال رحمة الله التي وسعت كلّ شيء. ويبدو أنّ زرارة - حسب الزيادة المضافة على الرواية - لم يقتنع بذلك، فاعترض على الإمامt حتى ارتفع صوته في الجدل، كما ارتفع صوت الإمام في الردّ عليه. وإنّنا نشكّ في صحّة ما ذكر في ذيل الرواية، من أنّ الإمام الباقرt قال له: ((حقّاً على الله أن لا يدخل الضلاّل الجنّة))(2)؛ لأنّ ذلك منافٍ لما قرّره الإمام في الاستشهاد بقول الله، فلا يُمكن أن يؤدّي الجدل بينه وبين زرارة إلى الاقتناع بما أثاره معه، ولا سيّما أنّ هناك آية واضحة الدلالة على أنّ الله قد يغفر لكل الناس، ما عدا المشركين، وهو قوله تعالى: )إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ((3). وربّما كان المنطق الذي يلتزم به زرارة وأمثاله، هو الذي أشار إليه الله في كتابه: )قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ((4).
ونلاحظُ من جانبٍ آخر، الأسلوب الرائع لأئمّة أهل البيتi، ومنهم الإمام الباقرt، في انفتاحهم على المناقشة مع أصحابهم، بالحجّة والدليل القرآني؛ لإثبات ما يقعون فيه من الخطأ الفكري، وتوجيههم بأنّ عليهم الرّجوع إلى القرآن، في تفاصيله في مواقع رحمة الله وغفرانه، وأن لا يعتمدون فيه على آرائهم الخاصّة في تقويم الأفكار. ومن جهة أخرى، نلاحظ في هذه الرواية كيف اتّسع صدر الإمام الباقرt لارتفاع صوت زرارة في الجدل بينه وبينه، وكيف تجرّأ على الإمام في ذلك. ويعلّل البعض ما حدث، أنّ ذلك كان منه في بدوِ أمره، قبل كمال معرفته، وكان هذا من طبعه وسجيّته، ولم يمكنه ضبط نفسه، ولم يكن ذلك لشكّه وقلّة اعتنائه. وإنّنا نرى أنّ أخلاقيّة الأئمّة من أهل البيتi هي الأخلاقيّة العالية التي جاء بها الإسلام، في الانفتاح على الناس بالصدر الرحب، حتى في حالة الخروج عن الأدب في الخطاب أو في المناظرة، على هدي جدّهم النبيّ محمّدw الذي كان رحمةً للناس، في رقّة قلبه ولين لسانه، حتى وصفه الله بالخلق العظيم في قوله تعالى: )وَإِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ((5).
الشِّرك بين المعنى وخطوط المفهوم وثمّة موضوع آخر، يتحرَّك في هذا الاتجاه، وهو أنّه قد يكون لبعض الكلمات ظهور في معنى، ولكن ربّما تستعمل هذه الكلمات في معنىً آخر، بلحاظ بعض الجوانب التي قد تلتقي بها ولو من بعيد؛ تأكيداً أنّ الله يريد من الإنسان أن يؤمن بالحقيقة في جذورها الفكرية، فلا يبتعد عن خطوطها في التزاماته العقيدية أو الثقافيّة. ومن هذه الكلمات، كلمة (الشرك)، التي تمثّل - في دلالتها - الالتزام بإله غير الله، على نحو العقيدة بتعدّد الآلهة، كما ورد في قوله تعالى حكايةً عن الكفّار: )أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ((6)، أو على نحو العبادة، كما ورد في قوله تعالى: )مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ((7). وقد يُطلق الشرك على اتّباع غير الله في الطاعة، بإطاعتهم فيما يأمرونهم به أو ينهونهم عنه خلافاً لأمر الله ونهيه، كما ورد عن الإمام جعفر الصادقt في تفسير قوله تعالى: )وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ((8)، قال: ((شرك طاعة وليس شرك عبادة))(9)؛ وذلك لأنّهم أطاعوا الشيطان في المعاصي التي يرتكبونها، فأشركوا بالله في طاعته، ولم يشركوا به في عبادته. وفي حديثٍ آخر عن الصَّادقt في تفسير الآية ـ: ((يطيع الشيطان من حيث لا يعلم فيُشرك))(10). وربّما جاء في بعض أحاديث الإمام الصادقt - في تفسيرها - أنّه قول الرجل: ((لولا فلان لهلكت، ولولا فلان لما أصبت كذا وكذا، ولولا فلان لضاع عيالي؛ ألا ترى أنه قد جعل لله شريكاً في ملكه، يرزقه ويدفع عنه. فنقول: لولا أن الله منّ عليّ بفلان لهلكت، قال: نعم، لا بأس بهذا))(11).
ولا تنافي بين هذه التَّفاسير؛ لأنَّها مصداقٌ للانحراف الذي يصيب المؤمن في طاعته لغير الله، أو في إرجاع ما يحصل له من قبل النَّاس، من إنقاذهم له من بعض البلاء أو المشاكل، إلى النَّاس لا إلى الله، في الوقت الذي يفرض عليه الإيمان أن يرجع الأمور كلّها إلى الله، وأن يؤمن بأنّ الله هو السبب في تهيئة الأسباب لقضاء حوائجه وحلّ مشاكله. وقد ورد عن الإمام الباقرt - في رواية بريد العجلي عنه - قال: سألته عمّا يكون به العبد مشركاً. قال: ((من قال للنَّواة إنّها حصاة وللحصاة إنّها نواة))(12). وقد فسّره الشيخ البهائيq، قال: ((لعلّ مراده من اعتقد شيئاً من الدين ولو لم يكن كذلك في الواقع، فهو أدنى الشِّرك، ولو كان مثل اعتقاد أن النواة حصاة وأنَّ الحصاة نواة ثمّ دان به)). وفي قوله: (ثمّ دان به) إشارةٌ إلى أنَّه إنَّما يكون مشركاً إذا دان به، أي عبد الله به واعتقده وأظهر أنّه من عند الله؛ لأنّه التزم فيما اجتهد به، أو فيما قلّد به غيره ممّا يخالف الحقيقة التي أوحى بها الله، فكأنّه أشرك بالله في التزامه بما قرّره.
وقد جاء عن الإمام جعفر الصادقt - في رواية أبي العبّاس - عن أدنى ما يكون به العبد مشركاً، قال: من ابتدع رأياً فأحبّ عليه وأبغض عليه. والمقصود به الرأي المبتدع الذي ليس له مستند شرعي، بل كان مخالفاً للدين؛ فإنّ موقفه هذا قد يرتبط بالشرك، ولو من بعيد؛ لأنّه اتّخذ مع الربّ عزّ وجلّ ربّاً آخر، وهو نفسه وهواه، أو غيرهما ممّن اتَّبعه من الناس فيما رآه، وإن لم يشعر به، سواء كان ذلك الرأي متعلّقاً بالأصول أو بالفروع، فأحبّ عليه من تابعه، وأبغض عليه من خالفه. ولا يشمل الأمر هذا الشخص الذي اجتهد في فهم الكتاب والسنّة، فبذل كلّ جهد في التدقيق والتحقيق في فهم النص، وأخطأ في فهمه واجتهاده، مع أنّه من أهل الاجتهاد؛ لأنّه لم يتّبع رأياً على خلاف الحقّ، بل أخطأ في فهم مصدر الحقّ الذي يؤمن به، ولو انكشف له لم يخالفه. وربّما يطلق الشرك على رفض التّسليم لحكم الله، فيما خلق وفيما شرَّع، ولحكم الرسول فيما بلّغ وقضى، فإنّ مثل هذا يكون قريباً من الشِّرك.
وهذا ما ورد به الحديث عن الإمام جعفر الصَّادقt - في رواية عبد الله ابن يحيى الكاهلي - قال: قال أبو عبد اللهi: ((لو أنّ قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصَّلاة، وآتوا الزكاة، وحجّوا البيت، وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه رسول الله: ألا صنع خلاف الّذي صنع، أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مشركين، ثمّ تلا هذه الآية: )فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا((13)، ثمّ قال أبو عبد الله: فعليكم بالتسليم))(14). ونلاحظ في هذا الحديث، أنّ اعتراض هؤلاء الناس على ما صنعه الله أو صنعه النبيّ، منافٍ لإيمانهم بحكمة الله في خلقه، أو لعلمه بحقائق المصالح التي تتمثّل في فعله، ما يؤدّي به إلى تفضيل رؤيتهم على تقدير الله. وهكذا يتمثَّل الانحراف بعدم التزامهم بقضاء النبيّ فيما اختلفوا فيه ممّا تحاكموا به إليه؛ لأنّه يدلّ على التشكيك بعدالته، أو بعصمته، بينما يفرض عليهم الإيمان بالله وبرسوله التسليم المطلق بأنّه يمثّل الحقّ والصَّلاح في كلّ ما فعلاه.
وفي هذا النَّوع من الاعتراض على الله ورسوله، لونٌ من ألوان الشِّرك؛ لأنّه يوحي بأنَّهم يلتزمون برؤيتهم عن الله وعن رسوله.
وقد تحدَّث الإمام الصَّادقt عن عمق معنى عبادة الله بإخلاص، وعبادة الإنسان للناس، بما يجعل العبادة متمثّلة بالطّاعة؛ فقد روى أبو بصير، قال: ((سألت أبا عبد اللهt عن قول الله عزَّ وجلّ: )اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ((15)، فقال: والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً، وحرّموا عليهم حلالاً، فعبدوهم من حيث لا يشعرون))(16).
وفي رواية ابن أبي عمير، عن رجل، عن أبي عبد اللهt، قال: ((من أطاع رجلاً في معصية الله فقد عبده))(17).
وجاء في رواية الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم، قال: ((أتيت رسول الله وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي، إطرح هذا الوثن من عنقك، قال: فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ من سورة براءة هذه الآية: )اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ( حتى فرغ منها، فقلت له: إنّا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه، ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه، قال: قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم))(18).
إنّ هذه الأحاديث توسّع معنى العبادة في عالم التطبيق إلى الالتزام بالقوانين العمليّة في سلوك الإنسان، في نفسه وأهله وماله والنَّاس من حوله، على صعيد العلاقات العامّة والخاصّة، إذا أطلقها بعض المنتسبين إلى الدِّين، أو غيرهم، فحلّلوا حرام الله، وحرّموا حلاله، فخضعوا لهم في ذلك، وأطاعوهم طاعةً عمياء، من دون أن تكون لهم أيّة حجّة على ذلك؛ الأمر الذي يجعلهم في موقع العبادة لهم؛ لأنّ معناها - على مستوى المفهوم - هو الخضوع والتذلّل والطاعة والانقياد المطلق، بحيث يمثّل الانسحاق والذوبان في المعبود، في الالتزام بقداسته.
ولعلّنا نستوحي من ذلك، أنّ الله جعل اتّباع الهوى وطاعة الشيطان عبادةً لهما، فقال سبحانه: )أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ((19)، وقال تعالى: )أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ((20).
وإذا كان اتّباع الغير بغير أمر الله عبادةً له، فقد نلاحظ أنّ الكثير من الناس مقيمون على عبادة غير الله، وهو النفس والشيطان وأهل المعصية والكفر ممّن يدفعون الناس إلى الخضوع لهم في أمورهم القانونية والتشريعية والاتباع الأعمى لأوامرهم ونواهيهم، وذلك من خلال بعض الضغوط النفسيّة أو المالية أو السلطوية التي تفرض عليهم الخضوع. وهذا هو مصدر الشرك الخفي الذي لا يلتفت إليه المؤمنون، ولكنّهم يقعون فيه. وهناك موضوع يتّصل بالوسوسة النفسيّة، التي قد يخيّل فيها للإنسان أنّه قد كفر بربّه أو أشرك به، وهو حديث النفس في الخواطر التي تعرض للإنسان المؤمن، في التَّشكيك بالله، أو في عدله، أو في النبيّ ورسالته، فيشعر بالضِّيق والإحباط والخوف من أن يكون ذلك دليلاً على زوال إيمانه، الذي لا يزال مرتبطاً به على مستوى العقيدة والعمل.
وقد وردت بعض الروايات في معالجة هذا الجانب، عن النبيّw وعن أئمّة أهل البيتi. فقد روي عن الإمام محمد الباقرt أنّه قال: ((إنّ رجلاً أتى رسول الله w فقال: يا رسول الله، إنّي نافقت، فقال: والله ما نافقت، ولو نافقت ما أتيتني تعلمني.ما الذي رابك؟ أظنّ العدوّ الحاضر أتاك، فقال لك: من خلقك؟ فقلت: الله خلقني، فقال لك: من خلق الله؟ قال: إي والذي بعثك بالحقّ لكان كذا، فقال: إنّ الشيطان أتاكم من قِبَل الأعمال فلم يقوَ عليكم، فأتاكم من هذا الوجه لكي يستزلّكم؛ فإذا كان كذلك، فليذكر الله وحده))(21).
وقد جاء الحديث بهذا المضمون - مع بعض الاختلاف - عن الإمام جعفر الصَّادقt - في رواية محمّد بن مسلم - عنهt أنّه قال: ((جاء رجل إلى النبيّ w فقال: يا رسول الله، لقد هلكت. فقال له: أتاك الخبيث، فقال لك: من خلقك؟ فقلت: الله، فقال لك: الله من خلقه؟ فقال: إي والذي بعثك بالحقّ لكان كذا، فقال رسول الله: ذلك والله محض الإيمان))(22).
وقد جاء عن الإمام الصادقt - في تفسير قول النبيّ w - إنّما عنى بقوله ((والله محض الإيمان))، خوفه أن يكون قد هلك حيث عرض له ذلك في قلبه. وجاء في رواية عليّ بن مهزيار، قال: «كتب رجل إلى أبي جعفر - محمّد الجواد - يشكو إليه لمماً يخطر على باله، فأجابه في بعض كلامه: إنّ الله عزّ وجلّ إن شاء ثبّتك، فلا يجعل لإبليس عليك طريقاً.
قد شكا قوم إلى النبيّw لمماً يعرض لهم لأن تهوي بهم الريح أو يقطَّعوا أحبُّ إليهم من أن يتكلّموا به، فقال رسول اللهw: ((أتجدون ذلك؟ قالوا: نعم، فقال: والذي نفسي بيده، إنّ ذلك لصريح الإيمان؛ فإذا وجدتموه فقولوا: آمنّا بالله ورسوله، ولا حول ولا قوّة إلا بالله))(23).
مواجهة وساوس الشّيطان إنّنا نلاحظ في دراستنا لهذه الروايات المتشابهة في المضمون، سواء في ما يتعلق بالمشكلة الخاصّة للأشخاص، أو في الإيجابيّة الّتي اعتمدها النبيّw لمواجهتها، أنَّ هؤلاء خافوا من أن يكونوا فقدوا الإيمان وسقطوا في الكفر، في الخطرة الشيطانيّة التي خطرت لهم، لأنّ التفكير في السؤال عن خلق الله يوحي بأنّ الله مخلوق كبقيّة الموجودات الحيّة، ما ينتج العقيدة السلبيّة بأنّه لا يمكن أن يكون إلهاً؛ لأنّهم تعلّموا من الكتاب والسنّة أنّه )لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ((24)، ولم يكن لديهم أيّة ثقافة فلسفيّة تطلّ بهم على الجواب الفلسفي، بأنّ المخلوقيّة ليست ملازمةً لصفة الموجود، بل لصفة الممكن، فلا تنطبق على الله الواجب الوجود الذي تتوقّف فرضيّة كل الوجود الممكن الطبيعيّ على فرضيّة وجوده، فلا بدّ من أن يكون غير مخلوق؛ لأنّ أيّ موجود مسبوق بالعدم لا بدّ من أن يكون وجوده خاضعاً لإرادة موجود آخر، ما يفرض أن تنتهي سلسلة الأسباب إلى خالق أزليّ الذات، على قاعدة أنّ ما بالعرض لا بدّ من أن ينتهي إلى ما بالذات. وقد كان ردّ النبيّ w على هذه الصدمة الروحيّة الداخليّة، أنّ ما حدث لهم من الخوف على إيمانهم، هو محض الإيمان وصريحه، وأنّ هذه الوسوسة الفكريّة ناشئة من وسوسة الشيطان الذي لم يستطع السيطرة عليهم من خلال إغرائه لهم بترك أعمالهم العباديّة، وبالانحراف عن الشريعة في خطّها السلوكي، فحاول الدخول عليهم من هذا الباب؛ الأمر الذي يفرض عليهم أن يصدموا الشيطان، بالإصرار على التزامهم بالإيمان بالله وحده والتصديق برسوله. وربّما نستوحي هذا المناخ الَّذي يعيشه المؤمنون في هذه الوسوسة الشيطانية، التي لا تترك أثراً في عمق الشخصيّة الإسلاميّة، ولا تهزّ إيمانها، ما ورد في قوله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ((25).
وقد ورد في بعض الأحاديث المرويّة عن النبيّ محمّد w، في العفو عن حديث النفس بالأمور السَّلبيّة المنافية للعقيدة، قال: ((إنّ الله عفا عن أمّتي ما تحدّثت به أنفسهم، ما لم يتكلّموا أو يفعلوا))(26)، وقد ورد في حديث الرفع المشهور، أنّ من جملة الأمور التي رفعها الله عن الأمّة ((الوسوسة في الخلق))، وهو التفكّر في الخلق بما لا ينسجم مع معنى الإيمان. وقد ورد في هذا المجال، عن محمّد بن حمران، قال: ((سألتُ أبا عبد اللهt عن الوسوسة وإن كثرت، فقال: لا شيء فيها. تقول: لا إله إلا الله)). وعن جميل بن درّاج عن أبي عبد الله الصَّادقt، قال: ((قلت له إنّه يقع في قلبي أمر عظيم، فقال: قل: لا إله إلا الله. قال جميل: فكلّما وقع في قلبي شيء قلت: لا إله إلا الله، فيذهب عنّي))(27).
وقد تحدث لبعض المؤمنين بعض الوساوس والخطرات التي تمثّل الإساءة إلى جلال الله في مواقع عظمته، وتحقير ذاته، وتوجيه الإهانة إليه بشكل جنوني لا شعوريّ، فيعيشون الخوف على دينهم من ذلك، ويخيّل إليهم أنّهم فقدوا الإيمان، وأنّ الله سوف يحاسبهم على ذلك ويعاقبهم عليه. ولكنّ عليهم، عندما يحدث ذلك، وعلى هدي الإيحاء النبويّ لأولئك المؤمينن الذين هرعوا إليه لتأكيد إيمانهم، أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم، وأن يؤكّدوا التزامهم بالإيمان بالله ورسوله، بإظهار ذلك، ومتابعة أعمالهم الخالصة لله، تمرّداً على الشيطان. وقد ينفعهم في علاج هذا المرض الوسواسي النفسي قراءة سورة الناس، من حيثُ إنّها تمثّل الابتهال إلى الله الذي هو )مَلِكِ النَّاسِ((28) و)إِلَـٰهِ النَّاسِ((29)، بأن يُعيذ عبده اللاجئ إليه من الشيطان، بلطفه ورحمته وعنايته.
والحمد لله ربّ العالمين..
باب
المسائل
r ما معنى قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ((1)؟ هل تعني عدم الاهتمام بالناس وعدم النهوض بالمسؤولية كما يقول البعض، أم ماذا؟
m هذه الآية تريد أن تقول للإنسان إن ضلال غيرك لا يضرك عندما تكون مهتدياً، و)عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ( أي حاولوا أن تتعرفوا مسؤولياتكم... وعليك بنفسك، أي ينبغي لك أن تسعى لإنقاذها من النار، وأن تقربها من الجنة، وأن تدفعها إلى أن تعيش مسؤولياتها أمام الله، ومن مسؤولياتنا أن ندعو الناس إلى الحق، وأن نهديهم إلى الله. فالآية واردة في مقام أنك عندما تقوم بمسؤوليتك ولا يتقبل الناس ذلك، أو عندما تعيش في موقع لا تستطيع فيه تحريك مسؤوليتك ويضلّ من يضلّ من أقربائك ومن أصدقائك ومن الناس الآخرين، فسوف لن تسأل عنهم إلا بقدر مسؤوليتك عنهم، وإنما ستسأل عن نفسك.
وهي أشبه إلى حد ما بقوله تعالى: )وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى((2). أي أن كل إنسان يتحمل مسؤوليته، وهذا لا يعني التخلّي عن المسؤولية تجاه الناس، )لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ(. يعني أنكم لا تتحملون مسؤولية ضلال الآخرين ولا تعاقبون على ضلالهم مهما كانت درجة القرابة، ولكن بشرط أن لا تكونوا مسؤولين عن ضلالهم، بأن تقصّروا في هدايتهم ودعوتهم إلى الحق.
r جاء في كتاب (كيف تكسب الأصدقاء) الذي يبحث في فن العلاقات الإنسانية، أن الإنسان يكره توجيه الأوامر إليه، وإنما يمكن أن يقبلها إذا كانت بصيغ أخرى، كأن تكون على شكل أسئلة، بينما في القرآن، نجد في وصية لقمان: )يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ((3). فكيف تقيِّمون المنهج الأخلاقي الغربي؟
m إن النفس الإنسانية تعيش على أساس تلقي الأوامر، لكن من الذي يأمر؟ وكيف هو أسلوب الأمر؟ إن الله تعالى عندما يأمرنا وهو خالقنا، فإننا لا نشعر بمشكلة من خلال هذا الأمر، لأنه سبحانه هو الذي خلقنا، وهو الذي يعرف ما يصلحنا وما يفسدنا، وهو الذي يرغِّبنا بأننا إذا أطعنا هذه الأوامر فإنه يعطينا رضوانه ويدخلنا جنته، وهكذا الحال إذا تلقيت الأوامر، ممن تجد أن من شأنه أن يطلق لك الأوامر كنبي أو كإمام أو كقائد وما إلى ذلك.
ولكن متى نرفض الأوامر؟ نرفضها عندما تنطلق من إنسان بطريقة تضطهد كرامتنا ويسيء بها إلى نفسيتنا. وعندما ندرس وصايا الأنبياء، فإننا نجدها تفيض بالإنسانية، ولاسيما عندما يتحدث النبيw بصفته ناصحاً مشفقاً يخاف على قومه )أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ((4). حتى إنّ الله سبحانه وتعالى وهو يأمرنا فإنه يتحدث إلينا بكل حنان )وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ((5). )وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ـ قريب لأحلامكم ولآمالكم ولمشاكلكم ـ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ((6).
r قال الله سبحانه وتعالى: )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ((7) ما هو تفسير كلمة (ترى)، وغير ذلك مما ورد من الآيات القرآنية على وزنها، مثل قوله تعالى: )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ((8)؟
m ليس المراد هنا الرؤية البصرية، ولكن المراد هو الرؤية العلمية، يعني ألم تعلم وتعي ذلك.
r في قوله تعالى في سورة (التوبة): )بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الكَافِرِينَ((9)، فما هي دلالات هذه الآية؟
m وردت الآية عندما أنهى النبيw العهود المعقودة بين المسلمين والمشركين، وترك لهم مدة أربعة شهور، وذلك لإعطائهم مهلة للتفكير في الأمر في ما يريدون أن يختاروه من الإيمان بالإسلام، أو البقاء على الشرك، لتبدأ بعد ذلك عملية إخراجهم من المنطقة، ولم يكن ليعالج هذه المسألة بالقوة، بل أبقى لهم الأمن وحرية الحركة في أي مكان يذهبون إليه، وإن كانوا قد واجهوا الإسلام بالحروب والمنازعات.
r ما معنى قوله تعالى: )وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ((10)؟
m الآية الكريمة واردة في مقام تحذير الناس الذين يستهينون بأوامر اللّه ونواهيه، ويعتبرون أن اللّه سيعفو عنهم ويغفر لهم، فالآية تقول إنّ عليكم أن تحذروا اللّه سبحانه وتعالى. وقد ورد في (دعاء الافتتاح): ((وأيقنت أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة))، ويقول اللّه سبحانه وتعالى: )يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ((11). لذلك، فإن على الإنسان أن يحذر من اللّه، لأنه لا يضمن أن يغفر له إذا عصاه.
r ورد: )قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ((12) ثم قوله تعالى: )قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا((13)، ثم قوله سبحانه: )وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ((14)، فلماذا تكرر الأمر بالخروج والهبوط؟ وما المقصود بالهبوط؟
m عبّرت الآية الكريمة عن النـزول بالهبوط، باعتبار أن الجنة تمثل موقع العلو الشأني وليس بمعنى العلوّ المكاني، لأن الإنسان عندما ينزل من مرتبة عالية إلى مرتبة أسفل منها، يعتبر ذلك هبوطاً. وقد يراد به الهبوط المادي، بأن تكون الجنة في موقع العلو المكاني. ثم إننا لا نعرف جغرافية الجنة لنعرف موقعها ونحدّد بشكل أكثر دقةً معنى الهبوط المذكور. ثم إنه لم يتكرر الإخراج والأمر بالخروج والهبوط، وإنما هو أمر بخروج واحد، تكرر الحديث عنه في القرآن الكريم بصيغ متعددة.
r بعد خروج إبليس من الجنة، كيف تم الوسواس لآدم وحواء كما يشير إلى ذلك القرآن: )وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ((15)؟
m عندما غضب اللّه على إبليس، بقي إبليس يتردد على الجنة وإن لم يكن مقيماً فيها، لأن إقامته فيها انتهت، وذلك من غيب اللّه سبحانه وتعالى، الذي لم يتعرَّض له القرآن الكريم، ولا نعرف تفاصيله.
r الآية التي تتحدى البلغاء والجن والإنس هي قوله تعالى: )قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآَنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًاً((16)، فهل تتحداهم هذه الآية ليأتوا ببلاغة القرآن، أو أن يأتوا بكتاب ببلاغة القرآن أو بالمعاني المتضمنة لها الآيات؟
m الظاهر أن المسألة هي التحدي من ناحية البلاغة )فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ((17) أو مثل)إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ((18) ومثل )قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ((19)، ومن الممكن أن يكون المنظور هو المضامين، لأن في القرآن أسراراً ومعاني وتشريعات، ولذلك يكون قوله تعالى: )قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ( في مقام التعجيز على المستويين الشكلي والمضموني معاً. فمن الممكن أن تجمع الآيات المشار إليها، سواء كانت سورة أو عشر سور، الجانب البلاغي والجانب العلمي أو التشريعي وما إلى ذلك.
r في الآية: )وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًاً((20)، حاول بعض المعادين للإسلام الإيحاء بأنَّ الولدان المخلدين إشارة إلى إباحة الإسلام الشذوذ الجنسي. ما المقصود بالولدان المخلَّدين؟ ولماذا استخدم القرآن الكريم هذا التعبير؟
m لا ريب في أن ذلك (والعياذ بالله) غير مراد، فإن ما هو لاستمتاع الرجل الحور العين، أما الولدان المخلدون فهم لخدمة أهل الجنة، وقد ورد في الدعاء في شهر رمضان: ((ومن الولدان المخلدين كأنهم لؤلؤ مكنون فأخدمنا))، والله تعالى أعلم بما خلق.
r يقول الله تعالى: )وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ((21). فكيف يكون السجود كرهاً، والله يقول في آية أخرى: )فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ((22)، علماً بأن بعض الناس لا يسجدون؟
m الآية ليست مختصّة بالناس، بل هي تتحدث ـ والله العالم ـ عن كلّ ما في السموات والأرض، وإذا كانت (من) في الآية للعاقل، فإنها قد تشمل غير العاقل أيضاً للتغليب. ولعلّ المراد من السجود هنا الخضوع لله، الذي يخضع له من في السماوات والأرض، إمّا اختياراً وإما كرهاً، لأن الجميع خاضعون للنظام الذي وضعه الله سبحانه وتعالى في الكون للإنسان وللحيوان وللنبات ولكل المخلوقات، فكلّها تسجد لله سبحانه وتعالى، لا سجود الجبهة، ولكن سجود الوجود، فالوجود كلّه والموجودات كلّها تسجد لله من خلال خضوعها لإرادته في سننه في النظام الكوني والنظام الإنساني.
r الآية القرآنية تقول: )وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ((23)، لكننا نلاحظ رغم ذلك، أنّ آلاف البشر يموتون جوعاً بسبب الاستغلال، ونجد ملايين العاطلين عن العمل في كثير من الدول، فأرجو إيضاح معنى هذه الآية؟
m إن الله سبحانه وتعالى قدّر للناس رزقاً )اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ((24).
والله سبحانه وتعالى نظّم الكون على أساس أن تكون بعض الأراضي خصيبة وبعضها جدبة، وبعض الأوضاع الاقتصادية مرفّهة رخيّة، وبعضها ضاغطة وخانقة. فلذلك يموت من يموت ويحيا من يحيا بحسب التنظيم الإلهي. فقوله تعالى: )وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ(. هو بحسب ما فرضه الله في رزقكم الذي قد يكون واسعاً وقد يكون ضيقاً.
r يقول تعالى: )لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ((25). هل إنّ عائشة أم المؤمنين وماريا القبطية اتهمتا بالفاحشة؟
m عندما أثيرت مسألة الفاحشة، وتحدّث المؤمنون بها، نهاهم الله عن أن يتحدثوا عن ذلك.
r جاء في القرآن المجيد قوله تعالى: )تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ((26). ما هو معنى الآية؟ هل نستطيع اعتبار هذا النص إشارةً إلى ضرورة صنع حاضرنا وعدم الاكتفاء بالتاريخ؟
m الآية الكريمة تتحدث عن مسؤولية كلّ جيل بمعزل عن الجيل الآخر أو الأجيال التي سبقته، فكل أمّة سابقة تتحمل مسؤوليتها، ولذلك فإنكم تتحملون مسؤوليتكم، ولستم مسؤولين عمّا قام به الآخرون من قبلكم بما كسبوه من خير أو شر، فلا تشغلوا أنفسكم بالنـزاع والصراع بالنسبة إلى التاريخ الذي سبقكم، ولا يتخذ أحدكم موقفاً لصالح هذا الفريق أو ذاك، إلاّ إذا كان ذلك الموقف يتصل بالخطّ الأصيل لما تؤمنون به، وعند ذلك ستكون المسألة مسألة الخطّ الذي تمثله الرسالة، لا ما يمثله الصراع بين الناس في ذاته.
إنّ الآية تؤكد لكم ـ أيّها المسلمون وأيّها الناس ـ مسؤوليتكم في حاضركم، سواء في الواقع الثقافي في ما يملأ عقولكم من أفعال، أو في الواقع الإيماني في ما تلتزمونه في خطّ الإيمان، وفي واقعكم العملي، أو في كلّ أبعاد العمل وامتداداته وآفاقه، لأنكم سوف تحاسبون على ما كسبتم وعلى ما التزمتم به وعلى ما تحركتم على أساسه، )تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ( من خير ومن شرّ، ولا علاقة لكم بما كسبت، فلو كان خيراً فهم الذين يحصلون على نتائج هذا الخير )فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ((27). ولو كان شراً فهم الذين يتحملون نتائج شرّهم )وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ((28). فأنت لا تتحمل نتائج أعمال آبائك وأجدادك الإيجابية منها أو السلبية )وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ( فأنتم الآن تخوضون التجربة التي أمامكم والمسؤولية تنتظركم، فحاولوا أن تكونوا في مستوى المسؤولية )وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(.
إنّ الآية تريد أن تحدّد لكلّ جيل مسؤوليته عن مرحلته، لتقول له لا علاقة للآخرين بمسؤوليتك، بل لكلّ جيل مسؤوليته عن مرحلته، فمن الممكن أن تتخذ موقفاً إيجابياً من واقع تاريخي للتوعية، أو لتعتذر به، أو تأخذ موقفاً سلبياً منه، لكنه ـ على أية حال ـ ليس مسؤوليتك.
r قال الله تعالى: )إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا((29). فما المقصود من قوله (كتاباً موقوتاً)؟
m الظاهر ـ والله العالم ـ أنّها موقّتة بأوقاتها المعروفة، والكتاب هو الوجوب والفرض، فـ(كتب عليكم) تعني فرض عليكم فرض وجوب.
r قال تعالى: )وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ((30). ما تفسير هذه الآية؟
m لقد فسّرت هذه الآية، أكثر من مرة، بأن الله يريد للإنسان أن يكون مؤمناً موحداً لله في المضمون وفي الشكل، لا أن يكون مشركاً، وقد ورد في تفسيرها، أن مظهر الشرك هو أن تقول لإنسان خدمك أو أنقذ حياتك: لولا أنت لهلكت، ولولا فلان لتحطّمت حياتي، فأنت تنسب النتائج التي حصلت لك في إنقاذ حياتك وفي استقامة أمورك إلى شخص وتعزل الله عن الموضوع، وكأنك جعلته شريكاً لله ولو في الشكل، قال: إذاً كيف نقول؟ قال: ((قل لولا أن منّ الله عليّ بك لكان كذا وكذا)). يعني أنه لا بدّ من أن تكون مؤمناً قلباً وقالباً حتى في طريقة التعبير، فلا يكون تعبيرك موحياً بأنك تجعل أحداً مع الله في خير أصابك، فالكل وراء الله، والله قبل كلّ شيء وبعده، ولذا فنحن نقول في التشهد: ((وأشهد أن محمداً عبده ورسوله))، والله تعالى يقول: )وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا((31).
r يقول الله تبارك وتعالى: )وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ((32)، ويقول: )وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا((33)، ويقول: )وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ((34)، فهل ظواهر هذه الآيات توحي بالجبرية؟
m أين الجبرية في ذلك؟ إن الجبرية تعني أن لا تفعل شيئاً بإرادتك، بل إن الله عز وجل هو الذي يفعل، فأما قوله: )وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(، أي ما يشاء الله في الإطار التنظيمي، وليس معناها أن يتدخل في إرادتك للمعصية عندما تعصي، أو في إرادتك للطاعة عندما تطيع، فمشيئة الله هي إرادته، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد الأشياء بأسبابها، ومن أسباب الأشياء اختيار الإنسان، فالاختيار هو جزء من السبب. وأما قوله تعالى: )وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا(، فالله هنا يبيّن أنه نظّم الكون وجعل لكلّ دابة رزقها ومستقرها، ولكن جعل للرزق أسباباً بيد الإنسان أو بيد الحيوان، فيما ألهم به الإنسان والحيوان من وسائل طلب الرزق، ولذلك نراه يقول: )فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ((35)، أي أنه هيّأ الأسباب وطلب من الإنسان أن يسعى لكسب رزقه المهيّأ هنا وهناك.
وأما قوله: )وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ(، فقضية الموت والحياة لا جبرية فيها في المسألة المطروحة في قضايا الجبر والاختيار، بل هي مرتبطة بمصير الإنسان، هي في يد الله وعلمه، ولا دخل للإنسان فيها، ولكن وبأسبابها أيضاً، فالله يميت الإنسان إما بذبحة قلبية أو برصاصة أو بأي سبب من أسباب الموت، وربما تكون بيد الإنسان الذي يلقي بيده إلى التهلكة، وهي كثيرة، لكن الله الذي خلق الكون يعلم كل ما يحدث للإنسان في ولادته وفي وفاته وما بينهما.
r هل الآية الكريمة: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ((36)، تقصد أخوّة القربى أم أخوّة الدين؟ ومن هو أقرب إلى الله سبحانه وتعالى في الأخوّة؛ أخوّة النسب أم أخوّة الدين؟
m المقصود بالأخوَّة أخوّة الإيمان، بقرينة قوله: (المؤمنون)، بمعنى أنّ الله جعل المؤمن أخ المؤمن، وفي الحديث عن عليt: ((ربّ أخ لك لم تلده أمّك))، وأخوّة الدين عراها أوثق: ((أوثق عرى الإيمان الحبّ في الله والبغض في الله))، ولأنها تنفع في الدارين، دار الدنيا ودار الآخرة، ولأنّها عماد المجتمع الإسلامي الذي يحمل الرسالة متآزراً ومتآخياً ومؤتلفاً، لذا لم تكن المؤاخاة في صدر الرسالة بين المهاجرين والأنصار، مؤاخاة بين عرب وعرب، أو بين قريش والأوس والخزرج، أو بين أبناء مكة وأبناء المدينة، بل كانت أعمق من ذلك بكثير؛ لقد كانت أخوّة في الله تقوم على الارتباط به ولا تنفصم إلاّ بالخروج من ربقة الإيمان.
r قال تعالى: )لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ((37). لقد كان اليهود وما زالوا أشد عداوة للمسلمين، ولكن هل النصارى اليوم هم أقرب مودة للذين آمنوا؟
m الآية لا تتحدث عن العلاقة بيننا وبين المسيحيين بالمطلق، فالله عز وجل يقول: )ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ(، فإذا تحوّلوا إلى مستكبرين، فمن الطبيعي أن يكون حكمهم حكم المستكبرين الآخرين.
r ما معنى قوله تعالى: )أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا((38)؟
m الزبد: ما يطفو فوق الماء، وتتمّة الآية: )وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ(، وهو ما يظهر عند الاشتعال، كما في صناعة الذهب والحليّ أو اتخاذ الأواني والآلات المصنوعة من الحديد والمعادن، فيظهر شيء مثل الزبد عند صهر الذهب بالنار، )كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً(، وقد شبّه الباطل بالزبد، الزبد الذي يكون فوق الماء لأنه لا استقرار له ولا بقاء، بل يرمى خارجاً. أما ما ينفع الناس فهو نفس الماء الذي يمكُث في الأرض ويُخزَّن في جوفها، وهذا هو مثل الحق؛ فالباطل قد يطفو ويظهر، ولكنه يذهب مثل الزبد، أمّا الحق فيتعمق لأنه في مصلحة الإنسان(*).
r إذا كان الوحي مختصاً بالأنبياء، فكيف أوحى الله إلى أم موسى: )وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ((39)؟
m قد يكون الوحيُ - هُنا - من قبيل الإلهام، بمعنى أن الله ألهمها ذلك ودلّها على ما تفعله من خلال الإحساس الداخلي في ذلك كله. ولو فرضنا أن الوحي كان بطريقة معينة، فإن وحي الأنبياء هو وحي الرسالة، أما الوحي هنا فإنّه مرتبطٌ بمسألة خاصة.
r قال تعالى: )وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ((40)، لو تكرَّمتم بتوضيح موارد الزكاة ومصاريفها في القرآن؟
m لم يتحدث القرآن بشيء من التفصيل عن ذلك، وتفصيله في الروايات، حيث ثبتت الزكاة في ما ورد من الغلات وفي الأنعام وفي النقدين الذهب والفضة المسكوكين، ويختلف الفقهاء في وجوبها في العملات الورقية، ونحن ممن يرى أن الأحوط وجوباً إخراج الزكاة في العملة الورقية.
r قال تعالى: )وَرَفَعْنَا فَوْقَكمْ الطُّورَ((41)، هل الرفع حقيقي أم مجازي، ولاسيما لجبل مثل الطور؟
m أي حيث انتصب فوقكم، حتى خُيِّل إليكم أنه سوف يقع فوق رؤوسكم تخويفاً وإرهاباً.
r نرى أن بعض الروايات تتكلّم عن التفاؤل بالقرآن، فهل التفاؤل هو الاستخارة ذاتها؟ وما مدى صحّة التفاؤل بالقرآن؟
m هناك بعض الروايات التي تتحدث عن ذلك، لكن القرآن ليس كتاباً للاستخارة، وليس كتاباً للتفاؤل، وإن كان من الممكن للإنسان أن يستخير ويتفاءل به، وذلك ليس محرماً، لكن علينا أن ننطلق في القرآن باعتباره نوراً، وباعتبار كونه كتاباً يخرج الناس من الظلمات إلى النور، لنفهمه ونتدبّره ونعقله ونعمل به.
r يقول تعالى: )فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ((42). فهل نفهم من ذلك أن فرض الجهاد في سبيل الله يسقط عن الأمة بأجمعها أم لا؟
m لا ليس ذلك: فقوله تعالى: )وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ((43)، معناه أننا نحتاج إلى أناس يجاهدون ويتفقَّهون في الدين لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، تماماً مثل احتياجنا للمهندسين في الحرب والمخططين لها والخبراء بالأسلحة وما إلى ذلك. فالله يقول من خلال هذه الآية، إنّه كما تحتاج الأمة إلى من يعدّ نفسه لقتال أعدائها بالسلاح، تحتاج كذلك إلى من يعدّ نفسه ليقاتل أعداء الدين بالكلمة والتفقّه والوعي.
r الآية الكريمة: )مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ((44). هل لهذه الآية علاقة بالقضاء والقدر؟
m إن لهذه الآية علاقة بعلم الله سبحانه وتعالى، فهو يعلم ما يفعله الناس وما يحدث لهم في المستقبل، ولكن ذلك لا ينافي الاختيار مما جعله الله تحت إرادة الناس، لأن الله يعلم الأشياء بأسبابها، فهو يعلم أنك تموت بالسبب الفلاني، ويعلم أنك تنتصر من جهة الأخذ بأسباب النصر، وأنك تنهزم من خلال الأخذ بأسباب الهزيمة. ولذلك فإن علم الله بالأشياء قبل وجودها، لا يلغي علاقة الأشياء بأسباب الاختيار، فالله يعلم أنها ستحصل باعتبار أنه مطَّلع على المستقبل فيرى حصولها، ولكن من خلال أسبابها، ولذا فإنّ علم الله بالأشياء لا يلغي الرجوع إلى سبب الأشياء.
r ماذا يريد الله سبحانه وتعالى من المثل في سورة الرعد: )كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ((45)؟
m مثله مثل العطشان الذي يريد أن يشرب، فيبسط كفّيه إلى الماء، لعلّ الماء يقفز إلى كفيه ثم يرتفع إلى فمه، وهذا أمرٌ لا يتحقّق في الواقع، وكذلك هو حال المشرك بالله سبحانه وتعالى، فهو لا يقوم بالوسائل التي ترفع الفكرة التوحيدية إلى عقله من أجل أن يهتدي بها، والله العالم.
r جاء في كتاب الله: )أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا((46)، ما معنى إنقاص أطراف الأرض؟
m بعض المفسِّرين فسّر الآية تفسيراً طبيعياً، وهو أن الله سبحانه وتعالى يُنقص حجم الأرض في مدى الزمن، وبعضهم فسّرها تفسيراً معنوياً، وهو موت العلماء، باعتبار أنّهم يمثّلون الامتداد الفكري والعلمي والروحي للأرض، فإذا مات العالم ثلم ثلمة لا يسدّها إلا عالم مثله.
r ورد في فاتحة سورة البقرة: )الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ((47)، وورد في صفات المتقين، أنّهم )وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(، فلماذا ذكر الكل ثم الجزء؟
m إنهم يؤمنون بالغيب، ومن إيمانهم بالغيب إيمانهم بالآخرة، فقد وصل إيمانهم إلى حدّ اليقين الذي هو أعلى درجات الإيمان، والإيمان هو نوع من أنواع اليقين، فمتى يؤمن الإنسان؟ عندما يتيقن ويتأكد من الفكرة، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: )وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ((48)، ليبيّن أن مسؤولية الإنسان بالإيمان بالآخرة منطلقة من إيمانه بالغيب، وربما يمثل الإيمان بالآخرة أصلاً من أصول الدين في العقيدة الإسلامية، فمن جحد الآخرة كان كافراً، بينما قد لا تكون بعض مفردات الغيب الأخرى بهذه المثابة، وهذا هو الذي جعل الآية تنص عليها لخصوصيتها العقيدية، ولم تنص على غيرها، والله العالم.
r يقول الله تبارك وتعالى: )قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ((49). ما هي الحكمة الإلهية من قوله: )كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى( ونحن نعلم أن القرآن أنزل بعد نبي الله عيسىt؟
m لعل ذلك باعتبار أن رسالة نبي الله موسىt تشكل مفصلاً أساسياً في الرسالات الإلهية والرسل المبعوثين، لأن التوراة هي الكتاب الذي يشتمل على الشريعة، ولذلك كان النصارى مكلفين بالعمل به، بينما لم يتضمن الإنجيل ذلك.
r هل يجوز التوسل والدعاء إلى الأئمةi بقصد أنهم الوسيلة إلى الله؟ وإذا كانت الإجابة سلبية، فما هو رأيكم في هذه الآية: )وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ...((50)؟
m لا بد من أن يكون الدعاء لله سبحانه وحده، وهذا هو الأدب المأثور عن الأئمة عليهم السلام، وأما الآية، فالمقصود بها الوسائل التي تدل على الله، والأئمةi هم الهداة إلى الله، من حيث هم العلماء بالله وبدينه ورسالته، فلا يستفاد منها توجيه الدعاء إليهم لا إلى الله سبحانه وعلا.
r قوله تعالى: )مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ((51). ألا يدل ذلك على أن الكفار مكلفون بالفروع؟
m هذا يُبحث في الأبحاث الفقهية. وعلى أية حال، فالمراد من قوله: )قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(، لم نكن من أهل الصلاة. وهذا كناية عن أنهم لم يكونوا من المسلمين، بقرينة قوله: )وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ((52). وقد بحثنا مسألة تكليف الكفَّار بالفروع، وقلنا إنه لا دليل على تكليفهم بها، ولكن الله قد يتحدث عن الكفار بأن كفرهم يمنعهم من أن يأخذوا بالنظام الأخلاقي الذي يتمايز به العقلاء، والذي ينفتح على القيم الروحية، بقطع النظر عما إذا كانوا مكلفين بها أو ليسوا مكلفين بها.
r يقول الله تعالى: )وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً((53)، ولكن قد يكون هناك كفّار يتحركون في دائرة فطرتهم الإنسانية في تعاملهم مع الحياة، فكيف نقرأ هذه الآية؟
m يقول الله تعالى: )إلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً((54)، أي شرط قبول العمل وشرط الثواب على العمل، أن يكون العمل الصالح منطلقاً من الإيمان. وقال تعالى: )وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ((55)، فالإيمان هو القاعدة التي يتقبَّل من خلالها العمل الصالح.
r قال تعالى: )فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ((56). ألا يدل هذا على الخدش في العصمة؟
m لا يدل على ذلك؛ لأن هذا الرجل كان من أعداء المستضعفين، وعدواً لموسىt، ومن جماعة فرعون، وكان ممن يستعين بهم فرعون لظلم المستضعفين من بني إسرائيل. وإذا كان موسىt قد اعتبر أن هذا من عمل الشيطان، فلا يعني أن فيه معصية لله، وإنما باعتباره يخلق له المشاكل، أي أن ذلك الشخص الذي استغاثه كان رجلاً يخلق له المشاكل، فيقوده إلى شيء قد يكون مشروعاً، ولكنه لا مصلحة له فيه من خلال ذلك، وكان هذا قبل أن يبعث الله موسى عليه السلام بالنبوة.
r من يعصي أمراً إرشادياً هل يكون من الظالمين، كما قال تعالى عن آدمt وحوّاء: )وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ((57)؟
m المعروف أن النهي الذي وجهه الله سبحانه وتعالى إلى آدم وحواء هو نهي إرشادي، كنهي الطبيب للمريض في أن يمتنع عن أكل من هنا وأكل من هناك، فهو من قبيل النصيحة في هذا المقام، وأما قوله سبحانه وتعالى: )فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(، فالظلم هنا لا يعني الظلم الذي هو قيمة سلبية منحرفة ويشكل معصيةً لله، بل يعني ظلم النفس؛ ودليله قوله تعالى حكايةً عنهما: )قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا((58)، فليس الظلم هنا ظلم المعصية، ولكنه ظلم النفس، باعتبار أن ذلك جعل آدم يخرج من الجنة هو وزوجته.
r ما معنى قوله تعالى: )كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ((59)؟
m أي أن الله تعالى هو الذي يقدِّر الأمور للناس، ففي كل يوم له تقدير، وفي كل يوم له حكمٌ وقضاءٌ وقدر، والله في سيطرته على الكون، وفي تنظيمه له، يقدّر الأمور كل يوم، وذلك حسب حاجتها إلى التقدير: )إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ((60)، )قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا((61).
r يقول الله تعالى: )اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا((62)، ويقول: )الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ((63) ويقول أيضاً: )يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ((64)، فما الفرق بين التوفي في الحالات الثلاثة؟
m التوفي هو بلوغ الحدّ، وعندما نقول إنّ فلاناً توفي، فبمعنى أنه بلغ الحد الذي قضاه الله له، وإنما سمي الموت وفاةً باعتبار أنه يمثل الحد الذي أراد الله للإنسان أن يعيشه في حياته. وقوله: )تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ(، أي يموتون بواسطة دور الملائكة في إماتتهم، وقوله: )يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ(، تدل على أن الله سبحانه وتعالى قد يتوفى الإنسان بواسطة الملائكة وبواسطة ملك الموت. وقد يتوفاه الله سبحانه وتعالى من دون أن يكون هناك واسطة من الملائكة أو من ملك الموت.
r قال تعالى: )وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ((65). ما هي مصاديق الإثم والعدوان؟
m مصاديق الإثم المعاصي كلها، والعدوان يمثل كل حالة اعتداء على الناس في حقوقهم وفي كراماتهم وأموالهم وأهلهم وأنفسهم... فالله رفض الاعتداء، وقد كرّر في القرآن قوله تعالى: )وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ((66).
r )قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ((67). ما معنى الفلق؟
m (الفلق) في اللغة هو الفرق الواسع. ويُفسَّر بالفجر الذي يفلق الليل فينطلق فيه النور ويتوسع بعد ذلك(*).
r )وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ((68)، ما المقصود بكلمة ويل؟
m (ويل) كلمة تمثل إنذاراً لما قد يصيب الإنسان من نتائج سيئة في حياته، فهي عنصر تهديد في هذا المقام، وربما جاء في بعض الأحاديث أن (ويل) تمثل منطقة في جهنم. أما الهمزة واللمزة، فإنها تتمثل في الذين يلمزون الناس ويعيبونهم في هذا المقام ويغتابونهم. وقيل الهمزة الذي يعيبك بظهر الغيب، واللمزة الذي يعيبك في وجهك، وقيل غير ذلك.
r ما المقصود بالصلاة الوسطى الواردة في الآية؟
m هناك عدة تفسيرات، بعضهم يقول إنها صلاة الصبح؛ لأنها تتوسط بين الليل والنهار، وهناك قول إنها صلاة الظهر، لأنها تتوسط بين العصر والصبح مثلاً، وهناك من يقول إنها صلاة الجمعة، وهناك من يقول إنّها صلاة العصر، وهناك من يقول إنّ الله أخفاها كما أخفى ليلة القدر، ليهتم الناس بكل الصلوات. والله العالم.
r قال تعالى: )قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى((69). ما معنى القربى، هل المراد منها فاطمة الزهراء، أم جميع أهل البيتi؟
m لا تختص بفاطمة الزهراءu، بل تشملُ أهل البيت الذين قال الله عنهم: )إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً((70).
r هل الخلود في الجنة أو النار يعني البقاء في إحداهما إلى ما لا نهاية؟
m إن الله سبحانه وتعالى في بعض الآيات يقول: )خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ((71)، ولذلك، فإن مسألة الخلود قد تكون إلى ما لا نهاية. ولكن ربما تكون المسألة نسبية. ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يتحدث عن بعض أصحاب النار )لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً((72)، ونحن لا نعرف هل السماوات والأرض تمتدّان إلى ما لا نهاية أو أنّ لهما حدوداً. وعلينا أن نعرف أن فكرة الخلود هي من غيب الله الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه. ولذلك ينبغي على المؤمنين أن يعملوا للجنة، وأن تكون الجنة طموحهم يعملون للوصول إليه.
r قوله تعالى: )وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًاً((73). هل المسكين أو اليتيم أو الأسير ينبغي أن يكون من أهل المدينة؟
m لم يحدّد القُرآن هذه المسألة، بل أطلقها. والمسألة في واقعها حدثت في قصة تصدّق علي والزهراءo على المسكين واليتيم والأسير. نعم، لقد حصلت هذه المسألة في المدينة؛ ولكنها تمتد إلى كل من يحتاج إلى الإطعام، سواء كان من أهل المدينة أو من غيرها، لأن القرآن إذا نزل في قوم فإنّه لا يختص فيهم، بل يمتد إلى كل من يتحقق العنوان فيه. كما أنّ روحيّة العطاء التي تحرّك من خلالها أهل البيتi في الإطعام، لم تكن تميّز بين هذا وذاك. على أنّه لا معنى لكون الأسير من أهل المدينة؛ لأنّ كونه أسيراً ينافي ذلك، كما هو واضح.
r ذكرتم قوله تعالى: )لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا((74). هل الضمير عائدٌ إلى الرسول، أم أنه عائدٌ إلى الرسول وأبي بكر؟
m النبي كان يخاطب أبا بكر الذي كان معه في رحلة الهجرة، وكان أبو بكر يشعر بالخوف والحزن، والنبي كان يريد أن يقول له إننا نسير في طريق تحت رعاية الله سبحانه وتعالى، وتحت حمايته، فالله هو الذي يرعانا، والله هو الذي يحفظنا، والله هو الذي يحمينا؛ فلماذا تحزن مع هذه الحقيقة، وهي أن الله معنا؟!
r الآية الكريمة: )يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ((75)، والمرأة لا يوجد لها ماء حسب قولكم، فكيف تفسرون الآية؟
m حسب تفسيرات بعض العلماء المحقّقين، أن هذا لا يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة، بل يخرج من صلب الرجل وترائبه، ولذلك فلا يتأتى الإشكال في أنه كيف يمكن أن تخرج النطفة من ترائب المرأة وصلب الرجل، لأنّ المرأة لا تملك منياً حسب أحدث النظريات المتفق عليها بين الخبراء في العالم.
r قال الله سبحانه وتعالى: )أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ((76). لماذا يدعو القرآن الكريم إلى التدبر في خلق الإبل؟
m لأن العناصر الموجودة في الإبل هي من العناصر التي إذا عرفها الإنسان من خلال أهل الخبرة في ذلك، عرف الله سبحانه وتعالى وعظمته في هذا المجال، وعلى الإنسان أن يقرأ الكتب التي تعالج خصائص الحيوان ليعرف عظمة الإبل، وكيف أنها استطاعت أن تسهِّل حياة الناس الذين يعيشون في الصحراء، وتؤدي إلى نتائج إيجابية على كل حياتهم(*).
r )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ والمنافقين((77). ما مفهوم هذه الآية، على الرغم من أنه ثبت من خلال التاريخ أن النبي ما جاهد المنافقين بالسيف؟
m أن يجاهدهم بكل وسائل الجهاد، وطبعاً بالنسبة إلى الكفار، أن يجاهدهم بالحالة الدفاعية، فالله تعالى يقول: )وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ((78)، أما بالنسبة إلى المنافقين فجهادهم بأن يفضح أمرهم، وأن يبعد المسلمين عن الاستسلام لهم والانفتاح عليهم، لأن الجهاد يتنوّع بحسب وسائله وأساليبه.
r )فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ((79). هل تتم المتعة في غير زواج؟
m المتعة زواج، لأن فيها عقداً، وفيها شروطاً، وفيها عدّة، إذا حدث دخول.
r ما المقصود في القرآن الكريم، من قوله تعالى: )وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ((80)؟
m المروي أن المقصود من أم الكتاب هو سورة الفاتحة؛ لأنها تجمع في عناصرها كل ما ينطلق به القرآن في عناوين العقيدة الإسلامية من التوحيد ومن الربوبية المطلقة، وما إلى ذلك من خطوط أراد الله للإنسان أن ينفتح عليها.
r قال تعالى: )وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ((81). أولاً ما هو سبب غضبه؟
m ينقل في سيرته، ولا نضمن دقة ما ينقل، أنه مكث في قومه سنين كثيرة، ولم يستجيبوا له، فخرج من بينهم على أساس أنّ العذاب سيحلّ بهم، وكان هناك رجلٌ صالح مؤمن بينهم، فقال لهم: إذا خرج يونس فإن الله ينزل العذاب عليكم، لأنه دعا الله أن ينزل العذاب عليهم، كما كانت سنَّة الله في أمم الأنبياء، فخرجوا وفرقوا بين الشاة وفصيلها (ابنها)، وبين الأم وابنها، وما إلى ذلك، وضجّوا إلى الله، فتاب الله عليهم؛ فخرج يونس مغاضباً؛ مع أننا نشكّك في هذه الرواية، لجهة أنها قد لا تتناسب مع أخلاقية نبي من الأنبياء الذي لا يمكن أن يغضب؛ لأن القوم قد رجعوا إلى الله، وهذا هو ما يريده. وعلى كلٍ، فالظاهر أن هناك حالة جعلته يخرج مغاضباً )فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ( أي لا نضيِّق عليه، لا أن نقدر من القدرة، كما في قوله: )فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ((82) أي فضيق عليه رزقه.
r هل هناك دليل من القرآن أو السنّة على دفع الخمس والزكاة إلى المرجع أو المجتهد؟
m ليس هناك دليل حرفي في هذا المجال، ولكن الفقهاء يقولون إن قضية الخمس والزكاة والضرائب العامة في الإسلام، لا يمكن أن تعطى للناس بشكل متفرّق؛ لأن ذلك يمثل الفوضى، والناسُ ربما لا يدركون مصارفها، ولذلك فإن الاحتياط يقتضي أن يعطى لولي الأمر إن كان هناك ولي أمر. ولذلك كان الإمامt يجمع الزكاة من الناس، باعتبار أن أمرها يرجع إلى ولي الأمر. وإذا قلنا إن المجتهدين والمراجع هم نواب الإمام، فيمكن أن يقال بأن الأمر يرجع إليهم.
r هل يوجد قيود أو شروط لتعدّد الزوجات؟
m الشرط هو العدل في العطاء والقسمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: )فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً((83)، وقال تعالى ـ في الميل القلبي ـ: )وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ((84)، فتكون لا هي مزوّجة ولا هي مطلَّقة، وذلك عندما يهجر الإنسان زوجته لرغبته بالزوجة الأخرى؛ فهذا أمر يمثّل الميل كل الميل الذي يجعل الزوجة معلقة. وقد نهى الله عن ذلك؛ لأن هذا أيضاً على خلاف العدل الذي أمرنا الله به في مسألة تعدد الزوجات.
r قال الله تعالى مخاطباً نوحاًt حول ابنه: )قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ((85). هل قوله تعالى: (أعظك) معناه التحذير من الجهالة، أي أحذرك من أن تكون من الجاهلين، أو هي بمعنى النصيحة؟
m تلقّى نوحٌt وعداً من الله في قوله: )إلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ((86)، وربما أحسّ نوحt أن الله سينقذ أهله، وعندما رأى ابنه قد غرق، استغرب الموضوع؛ لأن الله وعده، ولذا قال: )رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ((87)، فأنت وعدتني أن تنجي أهلي، وهذا من أهلي ولم تنجه )إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ(؛ لأنّ الله قال: )مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ( أي إني أنجي من أهلك المؤمنين الذين هم أهلك في رسالتك، وليس المراد أهلَكَ من الناحية النسبية. )أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ(، يعني أنه عليك أن لا تسألني هذا السؤال؛ لأنّ المسألة تتحرّك في الخطّ الرسالي الذي لا يعطي اعتباراً للنسب عندما يصطدم بحركة الرسالة.
r ذكر القرآن الكريم اسم آزر على أنه أبو النبي إبراهيمt، فهل هو والده النسبي أم هو مربيه؟
m الظاهر من القرآن أنه والده، والقرآن يأتي بلفظ الأب، )يَا أَبَتِ((88) وقوله: )وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ((89)، ولذلك كرَّر القرآن استعمال لفظ الأب. وفي هذا دلالة على أنّ آزر هو أبو إبراهيم؛ إذ ليس ثمّة ما يبرّر تكرار ذلك ويريد به عمّه. كما في قوله: )يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ((90)، )إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ((91)، كما أنه ليس هناك من دليلٍ ثابتٍ على ضرورة أن يكون آباء الأنبياء مؤمنين موحّدين. ولا يصح الاستدلال بقوله تعالى: )وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ((92)، بدعوى أن النبيw كان يتقلّب في الساجدين، بمعنى أن أجداده كلهم من الساجدين، والظاهر أنّ معنى )وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(، أي أنك تسجد مع الساجدين؛ لأنه تعالى يقول قبل ذلك: )الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ((93) للصلاة وللعبادة ويرى تقلبك مع الساجدين. علماً أنّه ليس هناك أي نقصٍ في أن يكون بعض آباء النبيّ من الكافرين، خصوصاً أنّ ليس هناك من يلتزم بأن تكون أمّهات الأنبياء وجدّاتهم من المؤمنين، فما هو الفرق بين الأب والأم؟
r يقول تعالى: )قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ((94). من هم هؤلاء الناس؟
m لقد حاول القرشيون أن يتحدّوا النبيw؛ لأن النبي عندما عرض عليهم القرآن، طلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله، أو بعشر سورٍ مثله؛ ولذلك فإنهم أرادوا في مقام العبث أن يبدّل هذا القرآن؛ فكان الجواب: )قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي(؛ لأن هذا القرآن ليس من عندي، وليس من صناعتي ومن تأليفي، وإنما هو من الله سبحانه وتعالى، ولذلك أنا لا أستطيع أن أغيّر فيه حرفاً بزيادة أو بنقصان، ولا أستطيع أن أبدله إلى شيءٍ آخر. ولذا فإن الله سبحانه وتعالى أكّد أن النبي لم يكن يعرف القرآن قبل بعثه، )مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ((95)، وقد قال تعالى: )وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل * لأخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ * فَمَا مِنكُم منْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ((96).
r يقول سبحانه وتعالى: )إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا((97) وفي آية أخرى يقول سبحانه: )إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء((98)، ألا يوجد تناقض بين الآيتين؟
m ليس هناك تناقض؛ لأن المقصود من الذنوب التي يغفرها الله جميعاً هي الذنوب العملية، وهي ما يعصي الإنسان الله بها، ٍسواء أكانت ذنوباً صغيرة أم كبيرة؛ فالله سبحانه وتعالى برحمته ومغفرته وكونه الخالق والمالك، يشمل برحمته ومغفرته هؤلاء العاصين. ولكن لا يبعد أن يكون المقصود من الآية غفران الذنوب في الجانب السلوكي والجانب العملي. أما قوله: )لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ(، فهذا يتعلّق بالجانب العقيدي؛ باعتبار أن الله سبحانه رفض أن يشرك به في الوحدانية التي أرسل بها كل الأنبياء، )وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا((99)، فلا تناقض بينهما؛ لأن الآية الأولى تتحدّث عن جانب، والآية الثانية تتحدث عن جانب آخر، والله العالم.
r ما معنى قوله تعالى: )وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ((100)؟
m هذه الآية تبيّن أن تشريع القصاص يمنح المجتمع الحياة؛ بمعنى أنه يمنع المجرمين من الإجرام ومن قتل الناس؛ لأن المجرم يعرف أنه إذا قتل شخصاً عمداً من دون حق، فإن الإسلام يُبيح لوليّ الذنب أن يقتصّ منه. فالمقصود إذاً أن القصاص يخطّط لامتداد الحياة في المجتمع؛ لأن المجرمين إذا كانوا يرون أنّ جريمتهم لا تقابل بالقصاص، فمن الطبيعي أن يمتدوا في إجرامهم.
وعلى هذا كنا نقول ـ في مواجهة القوانين التي تمنع الإعدام للقاتل؛ على أساس أن الإعدام يمثل جريمة إلى جانب جريمة، فالقاتل قتل نفساً ونحن قتلنا نفساً ـ بأنّنا عندما نقتل المُجرم، فإن قتله يكون في مقابل الحياة التي منعها بالقتل. ونحن نعلم أن هذا التشريع الموجود في الغرب، وربما يمتد إلى بعض دول الشرق، قد جعل الجريمة تتحرك بشكلٍ كبير جداً. ولعلّنا عندما ندرس حال الجريمة في أكثر ولايات أمريكا التي منعت الإعدام للقاتل، سوف نرى أنّها تكبر في هذه الولايات بشكل أو بآخر؛ باعتبار أن المجرم يرى أنه سوف يُسجن السجن المؤبد، وربما تتخذ بحقّه بعض الإجراءات التي تجعله كأنه يخرج من سجنه.
r ما هو تفسير قوله تعالى: )وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ((101)؟
m قيل إنّ المقصود هو بيان أنّكم بدلاً من أن تشكروا الله على نعمه، تجعلون شكر هذا الرزق هو أنّكم تكذّبون بالقرآن. وقيل إنّ المقصود، أنّ استفادتكم من القرآن هي تكذيبكم به فقط. وقيل إنّ المقصود أن الإنسان يتوسّل بالكذب إلى ما يحصل عليه من الرزق.
r ما المقصود بقوله تعالى: )لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ((102)، هل هي طهارة الحدث أو الخبث؟
m هناك تفسير، أن المقصود هو المطهّرون من الحدث، سواء كان الحدث الأصغر أو الأكبر؛ فلا يجوز لأي إنسان أن يمس القرآن إلا إذا كان طاهراً مما يوجب الغُسل أو طاهراً مما يوجب الوضوء. ولكن هناك تفسيرٌ يقولون عنه إنه تفسيرٌ باطني، بأنّه لا يمسّ معانيه إلا هؤلاء، فيكون المعنى أنّه لا يفسره إلا المطهرون، الذين أعطاهم الله سبحانه وتعالى طهارة العصمة أو طهارة الحق في تفسيرهم.
r ما معنى الآية الكريمة الآتية: )وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ((103). فما هو ذلك البرهان؟ وهل إن يوسف وقع في المحظور ولكن الله تداركه؟
m هناك عدة تفسيرات بعضها يقول: لقد همّت به وهمّ بضربها، أي همّت به لأجل أن يقبل مراودتها عن نفسه، ولكنه همّ بضربها. وهذا خلاف الظاهر. وهناك تفاسير تفيد أنه لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها، ولكن هذا التفسير كأنه محل إشكال لغوي؛ لأنّه لا يصحّ أن يُقصد ذلك من قوله: وهمّ بها لولا، بل لا بدّ من أن يصدّر الكلام بـ «لولا»، فيقول: لولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها. فلا يصحّ أن تقول فُلان جاءني لولا أن منعه فلان، بل تقول لولا أن منعه فلان لجاءني.
ولذلك، فإنّ تفسيرنا للمسألة، أنه بالنسبة إلى يوسفt، فإنّ البرهان هو عصمته وأخلاقيته، أي عندما احتضنته هذه المرأة كشاب، تحرّكت غريزته على النحو الذي تتحرّك بطن الجائع عندما يرى الطعام أمامه، أو العطشان عندما يرى الماء، ولكن برهان ربه أيقظ عصمته وأخلاقيته؛ لأنه من عباد الله المخلصين. وهذا الذي رأيناه في تفسيرنا ويراه علماء سابقون، كالسيد المرتضى والشيخ الطوسي وآخرين، ولا يرونه منافياً للعصمة في المقام.
r قوله تعالى: )عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى((104). ما المقصود من هذه الآية؟ ومن المخاطَب؟
m هذا موجّه إلى النبيw. بعض الناس يقولون: كيف يكون النبي معصوماً ويعبس في وجه الأعمى؟ وكيف تحدّث الله سبحانه وتعالى معه بهذه الطريقة؟ هناك رواية تقول إنّ الذي عبس وتولى هو عثمان بن عفان، لكن هذا على خلاف جوّ الآية؛ لأنّ الأعمى لم يجئ إلى عثمان، وإنما جاء إلى النبيw.
وثانياً: قوله: )وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى((105)، هذا مخاطب به الشخص الذي من رسالته التزكية، وهذا هو دور النبيw الذي هو )وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ((106). إذاً كيف نفسّر القضية؟ نفسرها عندما ندرس شخصية هذا الأعمى، من هو؟ هذا الأعمى هو ابن أم مكتوم، وكان مقرّباً إلى النبيw، حتى إنه كان يدخل إليه، والنبيw مع زوجاته، فيروى ـ وهي رواية يرويها السنة والشيعة ـ أنه عندما دخل على النبي وعنده زوجتان، قال لهما: احتجبا، فقالا له: يا رسول الله إنه أعمى، فقال: أعمياوان أنتما؟! وربّما كان ذلك باعتبار أنّ الناس لم يكن لديهم لباس داخلي، فقد يجلس وتطّلع المرأة على عورته عن طريق الخطأ وما إلى ذلك.
وقد كان النبيw يستخلفه على المدينة عندما يسافر في بعض الحالات. ومعنى ذلك أنّ علاقة ابن مكتوم بالنبيw هي علاقة نسميها نحن ((وحدة حال))، ولربّما دخل على النبيw والنبي مشغولٌ ببعض الوجهاء الذين كان يحل معهم مشكلة أو يُقنعهم بالإسلام، فدخل وحشر نفسه، ولا يدري ما المسألة؛ لأنّه أعمى، فسأل النبيّ ـ ربما ـ سؤالاً عن حكم شرعي بسيط، فعبس النبيw عبوس الانقباض لا عبوس الاحتقار. كما لو كنت مشغولاً بحديث، فيأتي ابنك أو أخوك أو صاحبك ويتدخّل ويقطع عليك الحديث، ألا تتضايق فتعبس، ولكن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا العتاب، على حسب ما يقول الإمام الباقرt أن القرآن نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة، يعني أن النبيw عندما انطلق، فإنه انطلق بإخلاص في هذا المقام، ولكن الناس إذا عاشوا مثل هذه التجربة، فقد لا ينطلقون بإخلاص كما انطلق النبيw، وقد أراد الله أن يعلّم الناس من خلاله. وقد ورد أن ابن أم مكتوم كان عندما يدخل على النبي يقول له النبيّw: ((مرحباً بمن عاتبني فيه ربي)). لعل هذا هو تفسير المسألة التي لا تمنع من سمو أخلاقية النبيw، لأن ذلك لا ينافي الأخلاق. والله العالم.
r الآية الكريمة: )إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنثَى((107)، ما هو تفسير هذه الآية؟ وما هو وجه الارتباط بين الإيمان بالآخرة وتسمية الملائكة؟
m يتحدّث الله سبحانه عن حالة كانت لدى المشركين، الذين كانوا يفضلون الذكور على الإناث، حيث قال تعالى: )وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ((108)، فكانوا عندما يتحدّثون عن الملائكة، يقولون عنهم إنهم بنات الله، بحيث ينسبون إلى الله البنات وينسبون إلى أنفسهم البنين، وقد ورد في الآية: )أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ((109). كانوا في هذا المجال يعتبرون الملائكة إناثاً، ولذا يقول الله: )أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ( أنهم لم يلتقوا بالملائكة ولم يحضروا خلقها حتى يحكموا بأنهم إناث، فهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، فهم لا ينطلقون في مسألة الحساب، لأن الله سوف يحاسبهم على كل ما يعتقدونه من دون أساس، وكل ما ينطلقون به في مسألة نسبة البنات إلى الله ونسبة البنين إليهم.
r ما المقصود من قوله تعالى: )إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ((110)؟
m المقصود بالفتنة الاختبار، والله سبحانه يقول في آيةٍ أخرى: )ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ((111)، أي لا يختبرون ولا يُبتلون بالبلاء الذي يُظهر الصادق من الكاذب )وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ((112)، فقوله: )إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ( أي اختبارك وابتلاؤك الذي يضل به بعض الناس ويهتدي به بعضهم، فمن يهتدي ينفتح على البلاء ويتعامل معه تعاون المؤمن الذي يصبر عليه، أما الآخرون، فيضلون به لأنهم يواجهون المسألة بطريقة خالية من فهم حكمة الله ومن فهم حقيقة الإيمان.
r ما الحكمة من تكرار قوله تعالى في سورة الكافرون )وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ( بعد أن تقدمت في صدر السورة؟
m يقال إنّ هذا رد على ما عرضه الكافرون المشركون على النبيw عندما قالوا نعبدُ إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة، والله أراد أن يؤكد رفض ذلك، يعني أن هذا العرض الذي عرضتموه هو عرضٌ لا ينطلق من التزامكم بأنكم مستعدون لعبادة الله سبحانه وتعالى، كما أن النبي لا يمكن أن يعبد ما تعبدون؛ لأن النبي جاء بالتوحيد، وكان دينه هو دين التوحيد؛ فلو فرضنا أنه عبد ما عبدتم سنة أو أقل من سنة، فمعنى ذلك أنه انحرف عن خط التوحيد، وهذا لا يمكن أن يقوم به، لأنّ دينكم هو دين الشرك وديننا هو دين التوحيد. فهذا التكرار إنما هو لتأكيد المسألة ورفض ما عرضوه على النبي w.
r قوله تعالى: )إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ((113)، هل جُعل الجبلان شعائر أم أنّ هناك معنىً آخر؟!
m الشعيرة هي قضية الطواف، أي أن هذه الصفا والمروة اللتين تعبَّد الله سبحانه وتعالى عباده بالطواف بهما، لا جُناح على المؤمن أن يطوَّف بهما، لأنّ الأصنام كانت موجودة عليهما، فتحرّج المسلمون من أن يطوفوا بهما، باعتبار وجود الأصنام، فأنزل الله له بأنّ هذا من شعائر الله، أي مما أراد الله لعباده أن يعبدوه بهذه الطريقة في الطواف بالصفا والمروة؛ فلذلك لا يقصد المسلمون الأصنام، إنما يقصدون الله سبحانه وتعالى بالتزامهم بهذه الشعيرة من شعائره.
r ما هو رأيكم بالنسبة إلى تفسير القرآن بحسب المنهج الصوفي العرفاني؟
m نحن نرفض ذلك؛ لأنّ الله سبحانه أنزل القرآن عربيّاً واضحاً مفصّلة آياته، ولم يُنزل رموزاً لا يفهمها الناس. ولذلك نرى أنّ تفسير القرآن بالطريقة الرمزية الصوفية العرفانية هو تفسيرٌ مخالفٌ لما انطلق به القرآن من كونه نوراً وهداية للناس.
r قال تعالى: )فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ((114). البعض يقول إنّ معنى ساهون، إنهم ساهون عن ذكر آل محمد. ما علاقة هذا بذاك؟
m الله سبحانه وتعالى يقول: )عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ(، يعني ساهون عن الصلاة التي أمرهم الله بأن يتوجهوا إليه بها وأن يعبدوه من خلالها، وهم إما ساهون عن أوقاتها، بحيث لا يصلونها في أوقاتها، أو ساهون عن أجزائها وشرائطها، أو ساهون عن الخشوع لله سبحانه وتعالى والخضوع له. وأمّا ما يذكره السؤال، فهو من الموضوعات التي لا علاقة لها بالقرآن، ولا أساس لها من قريب أو بعيد.
r قال الله تعالى: )إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا((115) من هم الآخرون؟
m إنّ الله سبحانه وتعالى يخاطب الناس الذين يتحرّكون في خطّ الضلال والتمرّد والطغيان، وربما الكفر. وكأنّه يقول: أنتم لستم آخر الناس، ولذلك فإنكم إذا توليتم وأعرضتم عن القيام بمسؤوليّاتكم، فإن الله سبحانه وتعالى سوف يخلق أُناساً آخرين لا يكونون مثلكم. وقد قال تعالى في آية أخرى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ((116)، وفي آية أخرى يقول: )وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ((117).
r )اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ((118). ما تفسير هذه الآية؟ وهل تنطبق على النبي محمدw؟ وما علاقته بها؟
m تريد الآية أن تبين أن الدنيا لا تمثل رأس المال الأساس؛ لأنها مجرد أشياء طارئة من اللعب واللهو والزينة والتفاخر في الأموال والأولاد، وهكذا. فهي ليست واردة في موقع معين. فالنبيw لم يكن يلعب ولم يكن يلهو، وإنما كان يتعبد إلى الله منذ طفولته وفي شبابه وكهولته، وهو في كل ذلك كان يدعو إلى الله، ويتحرّك بمسؤوليّاته في الحياة.
r ما المقصود من قوله تعالى: )أَنَّى يُؤْفَكُونَ((119)؟
m أي يُصرفون عن الحق.
r في سورة الواقعة: )وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً((120)، ما المراد بذلك؟
m أي أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، والسابقون السابقون.
r قوله تعالى: )… وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ((121). ما معنى هذه الآية؟
m هذا في ما لو فرضنا أن أحداً ما تزوّج امرأة وعندها بنت، وكان قد دخل بأمها، فهذه الربيبة، أي بنت الزوجة المدخول بها، تصبح من محارمه، ولا يجوز له أن يدخل بها، حتى لو طلّق أمها فيما بعد. أما إذا تزوَّج بأمها ولم يدخل بها، وطلَّقها قبل أن يدخل بها، فلا مانع من أن يتزوج ابنتها بعد ذلك.
r قوله تعالى: )… وَمَن وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ((122). ما معنى ذلك؟
m أي يسقط عمله، لأن أساس العمل هو الإيمان، فالله سبحانه وتعالى يقول: )إنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ((123)، )فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ((124). فأساس قبول العمل وبقاؤه هو الإيمان، فإذا كفر الإنسان فلا يكون له عمل.
r قال تعالى في سورة الفرقان: )وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ((125)؛ مَنْ هؤلاء الذين قالوا )سُبْحَانَكَ(؟
m بعض الناس ممّن يؤمنون بالله ويعبدونه ويدعون إلى التوحيد، يعبدون الملائكة أو الجنّ أو الإنس، فالله يأتي بكلّ هؤلاء الذين اعتبروهم شركاء له، ويخاطبهم: )أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ(، فيأتي جوابهم: لا، نحن نعبدك يا ربّ ونؤمن بك ولا يمكن أن نُضِلّ عبادِك. وقد ورد نظير ذلك في حديث الله مع نبيِّه عيسىt: )أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الغُيُوبِ((126)، فالله ـ في مقام إقامة الحجَّة على النَّاس الذين عبدوهم من دون الله ـ يوجّه السؤال إلى هؤلاء، ليُنكروا ذلك.
r قال تعالى في سورة (الإسراء): )أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ(. ما المقصود بالوسيلة؟ وهل هي بالمعنى نفسه لكلمة الوسيلة الواردة في الدعاء بعد الأذان: اللهمَّ ربَّ هذه الدعوة التامة... آت محمّداً الوسيلة...؟
m الوسيلة هي كلُّ ما يقرّب الإنسان إلى الله، سواء كان عملاً أو كان نبياً أو ولياً، بحيث يقدّمه بين يديه إلى الله سبحانه وتعالى، باعتبار أنه وسيلة الهدى ووسيلة الخير ووسيلة الإيمان.
r سور العزائم هي تلك السور التي يجب السجود في بعض آياتها، فلماذا لا يجوز قراءتها في الصلاة؟
m لأنه إذا قرأ الإنسان في الصلاة ما فيه آية السجدة، فإنّه يجب عليه أن يسجد عند قراءتها، ولا يجوز للإنسان أن يسجد سجوداً آخر غير السجود الصلاتي. ونحن نرى جواز قراءتها، ويؤخّر السجود إلى آخرها.
r نرجو أن تبيّنوا لنا المقصود من الآيتين: )نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ((127)، وقوله تعالى: )فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ((128). ألا يوجد تناقض بين الآيتين؟
m ليس هناك تناقضٌ؛ )نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لكُمْ(، الظاهر أن المراد من الحرث هو ما يُنتج الثمر، ومن الطبيعي أنّ المقصود به هو مواقعة المرأة في المكان الذي يأتي منه الولد. أمّا قوله تعالى: )فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ( فهو أمر للناس بأن يأتوا النساء من حيث القُبُل لا من حيثُ الدُبُر. وهذا الذي يُستدل به على عدم جواز وطء المرأة في الدُبُر، سواء كان على نحو الفتوى أو على نحو الاحتياط الوجوبي.
r ما هو تفسير قوله تعالى في سورة الفاتحة: )غيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ((129)؟
m بعض التَّفاسير تقول: المغضوبِ عليهم هم اليهود، والضالّون هم النَّصارى؛ ولكن هذا ليس مخصوصاً بجماعةٍ معيَّنة، فالمقصود بقوله تعالى: )اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ( وهم من أطاعوا الله واهتدوا بالحق وساروا عليه والتزموه، )غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ( هم الذين عرفوا الحقّ وجحدوه، )وَلا الضَّالِّينَ( الذين لم يعرفوا الحق والباطل، فكانوا تائهين في هذا المجال. وقد يكون هؤلاء مصاديق للآية هنا وهناك، ولا يجعل ذلك الآية مختصّةً بهم، والله العالم.
r قال تعالى: )وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًاً((130). فماذا يقصد بقوله: )فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ(؟
m هذه الآية في مقام الإلزام بالتَّقصير، وليست في مقام بيان الرُّخصة، بحيث يكون الإنسان بموجبها مخيّراً بين القصر والإتمام. وهذا نظير قوله تعالى: )إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ((131)، حيثُ إنَّ السَّعي بينهما واجب، ولكنَّ نفي الجناح إنّما هو بالنسبة إلى ما كان المسلمون يعتقدونه في أنفسهم من حرمة السعي بينهما بسبب وجود الأصنام عندهما.
r قال تعالى: )وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ((132). هل المقصود هنا الذين يصنعون الأصنام؟
m المقصود من: )وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ( أولئك الذين يشركون به، أو يعبدون غيره، وأمّا قوله تعالى: )لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ(، فقد يكون المقصود به الإشارة إلى ما يدعون إليه من دون الله، من الأصنام وغيرها.
r ما تفسير قوله تعالى: )وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ((133)؟
m المراد بالإسلام هو إسلام الأمرِ لله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: )إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ((134)، )قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ((135). فالإسلام هو أن تُسلم أمرك لله، فتعتقد بالحقّ، وتنفتح عليه، وتسير في طريقه، فتأتمر بما أمرك الله به، وتنتهي عمّا نهاك الله عنه. وإسلام كلِّ مرحلة بحسبها؛ فالإسلام في زمن إبراهيم أن نتَّبع شريعة إبراهيم، والإسلام في زمن موسى أن نتَّبع شريعة موسى، وفي زمن عيسى أن نتَّبع شريعة عيسى، وفي زمن محمدw أن نتَّبع شريعة محمدٍw. ولذا نقول إنّ الإسلام يشمل كلّ الرسالات، ولكن من لا يؤمـن بالرسالة التي تأتي بعد ذلك وإن آمن بالرسالة الأولى، فهو ليس بمسلم؛ لأنه مكلّف بأن يُسلم بالرسالة التالية بعد ذلك.
r ما المقصود من قوله تعالى: )فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ((136)؟
m أي عندما أراد الله أن يعاقب هؤلاء القوم، زلزل الأرض بهم، وألقى عليهم حجارةً من طينٍ تنزل عليهم بشكلٍ مصفوف متتابع.
r كثيراً ما نقرأ في القرآن كلمتي المبذّرين والمسرفين، فما الفارق بينهما؟
m المبذِّر هو الذي ينفق ماله في غير حاجاته، والمسرف هو الذي يصرف مالاً من دون حساب أو توازن، أي يصرف فوق حاجاته.
r يقول تعالى: ) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًاً((137) ما المراد من هذه الآية الشريفة؟
m هذه الآية تفيد أن الإنسان إذا أراد أن يدخل في أيِّ مشروعٍ وفي أي موقع من المواقع، فإنّ عليه أن يدخله عندما يعرف أنه يمثل الصدق ويمثل الحق، وعندما يخرج أيضاً يكون مخرجه في خطِّ الصدق. أي على الإنسان أن يعيش الصدق فيما يدخل فيه وفيما يخرج منه، بحيث يكون كل سلوكه منطلقاً من قاعدة الصدقِ في دخوله وفي خروجه.
r قال تعالى: )كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ((138). الآية المباركة تتحدث في بدايتها عن وحدة الأمة، وفي نهايتها تتحدَّث عن الاختلاف؛ فما تفسيركم لذلك؟
m عندما خلق الله النَّاس، خلقهم أُمةً واحدة، أي ليس هناك أي نوعٍ من أنواع الاختلاف في ما يتحرَّكون به في الجوانب الفكرية، فقد كانوا يعيشون السذاجة الطبيعية التي تتحرّك على أساس الفطرة، وعلى أساس بساطة وسائل العيش والتطلّعات؛ حتى إذا تعقّدت الحياة في ما بين البشر، وظهرت الاختلافات نتيجة تطوّر الحياة الاجتماعية، ظهرت الحاجة إلى النظام الذي يشكّل ميزاناً لتلك الاختلافات والتناقضات، فأرسل الله الأنبياء مبشّرين ومنذرين لينظّموا لهم حياتهم، من خلال الكتاب الذي يشتمل على الموازين التي إذا اتّبعوها اتّجهوا في خطّ الوحدة، وابتعدوا عن أسباب الاختلاف والفرقة.
r ما معنى قوله تعالى: ) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًاً((139)؟
m (زُرقاً) أي عُمي العيون. وقال بعضهم إنّه كناية عمّن جسده قاتم اللون بسبب الألم والضيق.
r يقول الله تعالى في القرآن الكريم: )وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًاً((140). ما تفسير هذه الآية؟
m هذه الآية تبيِّن أن الإنسان عندما يعطيه الله مالاً، فإنّ عليه أن لا يجعل يده مغلولة، بحيث لا يعطي منه شيئاً، لأنّ الإنسان عندما يجعل يده مغلولةً إلى عنقه، أي يربطها برقبته، فمعناه أنه لا يمكن أن يعطي أيّ شيء، أي لا يمكن أن يحرك يده، هذا كناية عن عدم تحريك يده في العطاء، )وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ( بمعنى أن لا تعطي كل مالك، فتقعد ملوماً محسوراً، فلا مال لك لتقضي حاجاتك، بل حاول أن تُعطي شيئاً وأن تُبقي لنفسك شيئاً. وبعبارة أخرى: إنّ على الإنسان أن يعيش التوازن في إنفاق المال وإبقائه، كما قال تعالى في آيةٍ أخرى: ) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًاً((141).
r في قوله تعالى: )وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى((142)، ما هو مغزى قول الله من سؤاله، أوليس هو عالماً بالعصا التي بيمين موسى؟
m إنَّ الله لم يسأله ليتعرَّف ما في يده، فالله يعلم ماذا في يده، ولكنَّه سبحانه أراد أن يبدأ الحديث مع موسى بهذه الطَّريقة، أو لكي يوجّه إليها نفس موسى، بحيث يُعاين موسى حالتها الجامدة، حتى يعي عمق المعجزة في تحوّلها إلى ثعبان بعد أن يُؤمر بإلقائها.
r ما معنى قوله: )إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ((143)؟
m المرصاد هو الموقع الذي ينتظر فيه الإنسان الشخص الآخر، فالله سبحانه وتعالى يقول: إنّه سبحانه ينتظر الكافرين والمجرمين ليعاقبهم على ما قاموا به من أعمال.
r ما معنى قوله تعالى: )في كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ((144)؟
m الحديث في الآية عن القُرآن الكريم، وقيل في تفسير الكتاب إنّه اللوح المحفوظ، وقد قال تعالى في آية أخرى: )بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوحٍ مَحْفُوظٍ((145)، وربّما يُقصد به الكتاب.
والمكنون يقصد به المحفوظ غايةَ الحفظ من الله تعالى. أمّا قوله: )لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ( فحمله بعضهم على النهي، بمعنى أنّ الذي يمسّ كلماته هو الطاهر من الحدث، وفسّره بعضهم بأنّهم الملائكة الذين يأخذونه من اللوح المحفوظ، في مقابل اتّهام المشركين للنبيّ بأنّه أخذه عن الشياطين.
r قال تعالى: )قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ((146)، هل هذه الآية نزلت بحقِّ الأعراب أو الأكراد، وكما ورد عن ابن كثير، هل تطال الناس في زمن ظهور الحجة القائم؟
m هذه الآية نزلت في حقّ الذين كانوا في زمن النبيw، والأكراد لا يُسمَّوْن بالأعراب. ثم إنّ الآية تخاطب الذين تخلّفوا عن رسول اللهw، فما علاقة ذلك بزمن ظهور الحجّة القائم؟!
r يقول الله تعالى: )يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ((147). السؤال: ألا ينفي قوله تعالى هذا ما يقال عن حساب الإنسان فور دخوله القبر (ضغطة القبر)؟
m لا علاقة لهذه بتلك؛ فهذه الآية تبيّن كيف يواجه الإنسان مصيره في يوم القيامة؛ فإذا كان ممّن عمل خيراً، فإن الله سبحانه وتعالى يريه نتائج عمل الخير، وإذا كان عمل شراً فإن الله يريه نتائج عمل الشر. وأية علاقة بين هذا وضغطة القبر؟! فهذه أمور يعيشها الإنسان قبل أن تقوم القيامة.
r قال الله تعالى: )حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ((148) )فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ((149). السؤال: كثيراً ما يُلاحظ في آيات القرآن، عند وصف الجنة وما فيها من الحور العين وأمثال ذلك، بأن تسميتهم تكون بصيغة التأنيث؛ وكأنّ الجنة وضعت للرجال! فهل هذا صحيح؟!
m إن هذه الآية تتحدث عما يحدث في الجنة من نعيم ومن لذّات، وقد ورد في آية أخرى: )وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ((150)، أي أنّ الله يبين أنّ كُل إنسان، سواء كان رجلاً أو امرأةً، يحصل على ما يشتهي. ثمّ إنّ الله سبحانه وتعالى يتحدّث عن أنّ الإنسان يعيش مع أزواجه، فقال تعالى: )هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئونَ((151)، وقال تعالى: )جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ((152). أمّا عدم تناول القرآن الحديث عن شهوات النساء، فلأنّه لم يكن مألوفاً الحديث عن ذلك في زمان نزول القرآن(*)، ولذا تناول القرآن المسألة في الجوّ العام. وقد جاء في الحديث: ((فيها ما لا عين رأت ولا أُذُن سمعت ولا خطر على قلبِ بشر))(153).
r الآية الكريمة تقول: )اسْجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ((154)، هل المقصود من آدم هو النبي آدمt أم الإنسان بشكل عام؟ ولماذا لم يذكر اسم حواء في الآية؟
m عندما تحدث الله عن أمره سبحانه وتعالى بالسجود لآدم، إنما تحدث عنه باعتبار أنّ آدم يمثّل رمزاً للإنسان الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، وحوّاء هي في ضمن هذه الرمزيّة، ولكنّ الإنسان الأوّل خلقاً كان آدم، ولذا كان الأمر بالسجود له.
r ما معنى قوله تعالى: )فَوَيْلٌ للْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ((155)؟
m السهو عن الصلاة قد يُفسَّر بعدم إتيانها في أوقاتها، أو عدم التدقيق في شروطها وأجزائها، أو ربّما يكون المراد الغفلة عن الخشوع والخضوع والإخلاص.
r قيل إنّ آية )إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ((156) نزلت في إسلام أبي طالب، فما رأيكم في ذلك؟
m هذه الرواية التي وردت في أسباب النـزول، غير صحيحة، وأبو طالب كان من أعظم المسلمين، كان هو الذي حفظ النبي w، ولكن بطريقة حكيمة عمل من خلالها على إخفاء إيمانه على طريقة مؤمن آل فرعون، ليحفظ النبيّ، حتى ينظروا إليه نظرة الإنسان الحيادي. ولذا كان يحمل مطالب قريش للنبي w، وقد ورد في بعض أشعار أبي طالب:
ولقـد علمت أن ديـن محمـدٍ مـن خيـر أديـان البريـة دِينـاً
وهكذا، فالرّاوية الّتي يروونها من أنّ النبيّw طلب من أبي طالب عندما كان يحتضر، أن يشهد الشهادتين، هي نفسها دليل على كذبها؛ لأنّه عاش مع النبي w وسمع منه، وحتى إنه عندما كان النبيّ يصلّي وإلى جانبه عليt وخديجة وراءه، التفت أبو طالب إلى ابنه جعفر، وقال له: يا بني، صِلْ جناح ابن عمّك، أي صلِّ إلى الجانب الآخر بموازاة أخيك عليّ t. وربّما كان السبب في مثل هذه الرّوايات، هو إيجاد شيء يقارَن فيه معاوية بعليّ t، ليظهروا المسألة بأنّ أبا سفيان والد معاوية أسلم، بينما أصرّ أبو طالب والد عليّt على كفره حتى مات كافراً.
r قال تعالى: )وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ((157). عندما وضع أخوة يوسف أخاهم في البئر، وجاءوا إلى أبيهم يبكون وادّعوا أنّ الذئب قد أكله ولطّخوا قميصه بدم شاة، كيف عرف يعقوب أن القصة التي ذكرها أبناؤه كانت ملفقة؟
m الظاهر أن الله سبحانه وتعالى ألهمه وأوحى إليه بذلك وأمره بالصبر. ولذلك هو عندما تحدث مع أولاده، أعطاهم فكرة أنه يشكّ في أمرهم.
r قال تعالى: )قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ((158)، ما هو الشيء الذي سرق من قبل؟
m كانوا يتّهمون يوسف بأنه سرق دجاجةً أو ما أشبه ذلك مما لم يكن حقيقياً، وإنّما حسداً له وبغياً عليه، وعندما قالوا ليوسف ذلك، بيّن لهم أنهم كاذبون في هذه التهمة.
r قال تعالى: )إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ((159). كيف يُشبّه الله الشجرة برؤوس الشياطين ونحن لم نرى الشيطان؟
m ليس هذا هو المقصود، وإنّما هي من باب الاستعارة باعتبار أن رؤوس الشياطين هي رؤوس مخيفة ورؤوس خبيثة وما إلى ذلك.
r قال تعالى: )وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالبَيِّنَاتِ((160)، هل هو يوسف بن يعقوب؟ وما هي تلك البينات؟
m الظاهر أنّ المقصود هو يوسف النبيّ الذي جاء بالحقّ الذي أراد الله أن يحرّكه في الناس ويبلّغه لهم.
r قال تعالى: )وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ((161) هل يفهم من هذه الآية أنَّ الولاية لا تقتصر على ولاية الأئمة؟
m الولاية هنا هي ولاية المحبة وولاية النصرة، فالمؤمنون ينصرون بعضهم بعضاً، ويحبون بعضهم بعضاً... ويعاونون بعضهم بعضاً.
r ما تفسير الآية: )وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ((162)؟
m يعني أن كل ما تريدونه هو مما قدّره الله سبحانه وتعالى عندما خلقكم وعلم أنكم سوف تأتون بذلك، لكن باختياركم وإرادتكم.
r يقول الله تعالى )وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ((163) ما المقصود بالمثلية؟
m ليس المقصود بالمثلية مثلية الشَّكل والأجهزة، بل مثلية المجتمعات، يعني كما أنتم تعيشون في مجتمعات يحكمها نظام واحد ولغة وعلاقات معينة، كذلك الحيوانات والطيور لها وضع ونظام خاص وطريقة للتفاهم والتوالد والتناسل والتربية.
r ما معنى كلمة (الفسوق)؟ وما هي علامات الفاسق كما ورد في القرآن الكريم؟
m الفسق في اللغة هو الخروج عن الطاعة، ولذلك يُطلق الفسق على الكفر، لأن الفسق هو تجاوز الحد المعقول )أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ((164) وربما أريد من كلمة (الفسق) المعصية والانحراف عن خط الطاعة.
r بعض الناس يعيش هموم النحس والتشاؤم، فمثلاً قد يتشاءم إذا شاهد شخصاً في الصباح، فيحتمل أنّه سبب نحس يومه، فماذا تقولون لأمثال هؤلاء؟
m أقول له: إذا تطيّرت فامض، وكفّارة الطيرة التوكل، فعليك أن تتوكل على الله، أمّا أن تعتبر أنّ شخصاً ما نحس، فهذا أمر ليس له أساس في الدين، وليس له أساس في الدنيا، بل هو مرض، حتى إنّ المتشائم قد يصل به الوسواس إلى حدّ يقلب الحسن عنده قبيحاً. ويذكر في هذا المجال، أنّ ابن الرومي الشاعر المعروف كان من المتشائمين، وكان أصحابه يعرفون هذا الشيء عنه، فخرجوا ذات يوم إلى بستان، فأرسلوا إليه شابّاً يطلب منه القدوم، وكان اسمه يبعث على التفاؤل يقال له حسن، وعندما استقبله سأله: ما اسمك؟ قال حسن، فقال: إذا قدّمنا النون في حسن تصبح نحساً، فأُغلق الباب في وجهه، فبعثوا له شخصاً اسمه إقبال، فقلب الكلمة فأصبحت لا بقاء، وتشاءم ابن الرومي من هذا الاسم أيضاً، وهذا هو حال بعض النّاس عندما يعيش التشاؤم، فلربمّا يتحوّل عنده إلى عقدة مرضية، بحيث لا يرى شيئاً حسناً، فيسقط أو يتجمّد أمام كل الحالات التي يمكن أن تدفعه للعمل.
r يذكر في بعض الكتب الإسلامية أن عقيدتنا مبسّطة، ولكننا نجد العكس من خلال واقعنا، ومن خلال بعض الفرق الإسلامية؟
m العقيدة الإسلامية غير معقّدة، ففي عقيدة التوحيد مثلاً، عندنا هذا البيان الإلهي الواضح الصريح: )قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ((1). وهي عقيدة مبسّطة، يمكن للإنسان أن يتفهمها بشكل خال من التعقيد ومن التكلّف.
r هل التوفيق من رب العالمين دليل على سلامة دين الإنسان ودنياه، خصوصاً من شخص يطلب رضا الله؟ وهل الرؤيا الصادقة والجيدة دليل أيضاً على سلامة دين الإنسان ودنياه وأنه يسير على الطريق الصحيح؟
m على الإنسان المؤمن أن يؤمّل ذلك مع بقائه على الحالة ما بين الخوف والرجاء ومراقبة النفس ومحاسبتها والمواظبة على أعمال البر والخير.
r ما رأي سماحتكم بالموسوعة الشاملة لتفسير الأحلام طبقاً للقرآن والسنة وروايات أهل البيتi، من تفسير الإمام جعفر الصادقt، ومحمد ابن سيرين، وعبد الغني النابلسي، ومحمد باقر المجسلي، ومحسن آل عصفور، وحسين النوري الطبرسي، ومحمد تقي التستري؟
m المشكلة أنه ليس هناك أيّة قاعدة ثابتة لتفسير الأحلام، والله العالم.
r أعتقد أن نداء: يا رسول الله، أو: يا عليّ، مدد لا بأس به طالما أنّ الإنسان لا يطلب المساعدة المباشرة منهم، ولكن إذا كان القيام بذلك من أجل التوسط أو الشفاعة وغير ذلك فإنّه يصبح شركاً، فهل هذا صحيح أم لا؟
m ليس ذلك من الشرك إذا لم يكن بقصد الدعاء لأحد من دون الله تعالى، بل كان بقصد الاستشفاع، ولكن مع ذلك، لا نرجِّح هذا الأسلوب الذي يوحي بالاعتماد على غير الله تعالى، فإن منهج الرسول وأهل بيته i هو حصر الخطاب في الدعاء بالله تعالى وحده.
r هل إنّ الله موجود معنا وفي كل مكان، هو بذاته أم بعلمه؟
m وجود الله ليس بتحييز، ونحن لا ندرك كنه الذات الإلهية، لكن ما أخبرنا به تعالى أنه موجود معنا أينما كنا: )وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ((2)، فهو المحيط بكل الوجود، وهو الذي )وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ((3) ولا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما.
r هناك شخص مسلم يحمّل الخالق سبب تعاسته، ويقول: وصلتُ إلى اليأس من روح الله. فما هي نصيحتكم له؟
m يقول تعالى: )وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا القَوْمُ الكَافِرُونَ((4)، فاليأس من روح الله من الكبائر، وهذا الإنسان يبدو أنه لا يفهم الله سبحانه وتعالى ولا يفهم معنى الخلق ولا الحياة كليةً، ولذا عليه أن يعيد حساباته في معرفته بالله، ومعرفته بسنن الله في الكون، ومعرفته بالأمل الذي ينبغي للإنسان أن يعيشه مع الله.
r يطرح بعض المسلمين أن الطواف في الحج حول الكعبة هو تعبير عن التفاف الناس حول الإمام عليّt. ما رأيكم في ذلك؟
m الطواف حول الكعبة كان قبل وجود الإمامt، لذلك فإنّ هذا الكلام لا معنى له، والاعتقاد به شرك؛ لأن الطواف حول الكعبة هو طواف لبيت الله، وهو طواف رمزي، يعني أن يعيش الإنسان كل حياته متواجداً في ساحات الله سبحانه وتعالى التي تمثل طاعة الله في كل شيء.
r كيف نفسِّر صون حرمة بيت الله (الكعبة الشريفة) قبل الإسلام وإهلاك من أرادها بسوء من أصحاب الفيل، وانتهاك حرمتها من قبل مَن ادَّعى الإسلام أكثر من مرة، حتى انتُزع الحجر الأسود على يد القرامطة؟
m لقد أراد أبرهة أن يهدِّم الكعبة وأن يقضي عليها تماماً، وإزالة فكرتها المقدّسة نهائياً، وحرف القبائل العربية إلى كنيسة بناها في بلاد اليمن، وأراد للناس أن تذهب إليها. أما بالنسبة إلى الشطر الثاني من السؤال، فهذا جزء من المشاكل التي عاشها المسلمون فيما بينهم، ولكن ذلك لم يسقط هذا المقدَّس، ولم يكن الهدف من ذلك إسقاط المقدَّس، وإسقاط هذه الشعيرة، أو إسقاط هذا البيت، ولذلك عادت الكعبة كما كانت. إذاً هناك فرقٌ في الجوِّ والهدف من هدم الكعبة هنا وهناك.
r هل يعرف الأنبياء والأئمة الغيب؟
m إن الله سبحانه وتعالى يتحدث في القرآن الكريم أنه لا يعلم الغيب إلا هو. وقد ورد على لسان نبيهw: )وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ((5)، ولكن الله قد يعطي بعض أنبيائه بعض غيبه مما يحتاجون إليه في رسالتهم، وهذا ما تحدث به الله في كثير من الآيات، كما في قوله: )ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ((6).
r ما صحة خطبة البيان ونسبتها إلى الإمام عليt؟
m هذه خطبة مكذوبة على الإمام، ويجب إهمالها، بل حتّى تمزيقها؛ لأنها لا تتناسب مع الإمام عليt، ولأن فيها ما لا يتناسب مع العقيدة التوحيدية.
r هل هناك شركٌ ظاهر وشركٌ باطن؟
m الشرك الظاهر هو شرك العبادة. أما الشرك الباطن، فقد ورد في بعض الروايات أنّ الرياء هو من الشرك الخفي. وهناك موارد أخرى(*).
r نعرف أن المعصومين هم الأئمة، فما الفرق بين عصمة الإمام وعصمة الأنبياء؟
m العصمة واحدة، وتعني أن الإنسان الذي أفاض الله عليه عصمته، لا يخطئ في عقل، ولا يخطئ في قول، ولا يخطئ في فعل. وهذا أمرٌ كان يلتقي عليه الأنبياء والأئمةi؛ لأن الله أراد للأنبياء أن يخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، فلا بد من أن يكونوا نوراً كلهم، وهكذا كانت الإمامة امتداداً للنبوة في هذا الجانب، فلا بد من أن يكون الأئمة نوراً كلهم. أما طبيعة المستوى، فهذا أمرٌ يعلمه الله.
r ما فائدة الدعاء إذا نزل القدر؟
m إن الدعاء هو من القدر، فالله يقدِّر الأمور بأسبابها، وهناك أسباب مادية وأسباب روحية، يعني أن الله يرزق الإنسان إذا دعاه، وينصره إذا دعاه، وهكذا.
r ذكرتم في خطبة الجمعة، أن العصاة يظلمون ربهم، فهل هذا صحيح؟ وأين هذا الكلام من قوله سبحانه وتعالى: )وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ((7)، وكلام الإمام عليt: ((إن الله خلق الخلق حين خلقهم غنياً عن طاعتهم، آمناً من معصيتهم، لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرّه معصية من عصاه))؟
m لنعرف أولاً ما المقصود بالظلم؟ فالإمام عليt يحدد من هو الظالم، فيقول: ((للظالم من الرجال ـ ومن النساء أيضاً ـ ثلاث علامات: يظلم من فوقه بالمعصية، ومن دونه بالغلبة، ويظاهر القوم الظلمة)).
فنحن عندما نظلم ربّنا، فإننا نظلم حقّه، لأن من حقّ الله علينا أن نوحّده ولا نشرك به شيئاً، وأن نطيعه ولا نعصيه، فعندما نعصيه أو نشرك به نكون قد ظلمناه، لأن الظلم هو أن تسلب المظلوم حقه عليك، وليس من الضروري أن ينال ذلك منه من حيث ميزان القوة والضعف، فقد يظلم الضعيف القوي بالتمرد على ما له من حق، كما قد يظلم القوي الضعيف بقوته الغالبة، وآية ذلك في القرآن، قول لقمان لابنه: )يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ((8).
فالمقصود بظلم الله ليس الظلم بالغلبة، وأما قوله تعالى: )وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ((9)، فالله يريد هنا بالظلم الضرر، ولكن الظلم الذي جاء في القرآن وفي كلام الإمام عليt هو ظلم الحقّ، وهو قول الإمامt: ((يظلم من فوقه بالمعصية)).
r من صفات الله (الضارّ)، فكيف يكون الله ضاراً؟
m المقصود بـ(الضارّ)، هو أن الضرر بيده سبحانه، ولا يخرج عن قدرته، فالنفع والضرر وكل شيء تحت قدرته.
r هل الشر من مخلوقات الله جل وعلا؟ وإذا كان الجواب نعم، فلم خلق الله الشر وهو عز وجل لا يكون مصدراً للشر، كما يؤيد هذا المعنى القران الكريم، وإذا لم يخلق الله الشر فكيف نؤول قوله تعالى: )قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ((10)؟
m الله سبحانه وتعالى خلق الكون بكل سننه وقوانينه ونظمه، وهو على هذا النحو خير للإنسان، إلا أن طبيعة المادة المحدودة تفترض وجود سلبيات، لأنه ليس هناك خير بنسبة مائة بالمائة، بل ينضم إلى ذلك سلبيات سمّاها الإنسان الشر، لأنها مضرة له من زاوية معينة، ولكن هذا المسمّى شراً قد يكون خيراً من جهة أخرى، ولذلك يقول علماء العقيدة ان الشر لا وجود له بنحو مطلق، بل وجوده نسبي، أي أنه يعتبر شراً إذا نُظر إليه من زاوية معينة، في الوقت الذي قد يكون خيراً من زاوية أخرى.
r ما معنى إحباط العمل؟
m يعني إسقاط العمل كما لو لم يكن موجوداً. وقد ورد أن الكفر يحبط العمل، بحيث لو فرضنا أن الإنسان قام بأعمال خير كبيرة، ولكنه كفر بالله أو أشرك به، فإن الكفر يحبط عمله، فيكون كما لو أنه لم يعمل أي عمل في هذا المجال. وأما السيئات فإنها لا تحبط الحسنات، بل إن الله سبحانه وتعالى يجازي الإنسان بعمله، )فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ((11)، وأما الحسنات فقد تُذهِب السيئات؛ لأن الله سبحانه وتعالى برحمته يعطي القائم بالحسنات أجراً مضاعفاً، )مَن جَاء بالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا((12)، وقال تعالى: )إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السيِّئَاتِ((13).(*)
r كيف يكون المؤمن متوكِّلاً على الله؟
m أن يشعر الإنسان المؤمن بأن الله سبحانه وتعالى هو كل شيء في الوجود، وأن الله هو المهيمن على الأمر كله، وأن الله هو الذي يملك للإنسان العزة والكرامة والحرية والرزق والحياة، كما أنّ بيده منع كلّ ذلك. وإذا أراد أن يكون مصداقاً للتوكل العملي، فإنّ عليه أن يقوم بكل الأسباب التي يمكن أن تحقّق للعمل شروطه؛ ثم عندما يخاف من مفاجآت المستقبل في المشاكل التي قد تصيب عمله، فإنه يرجع الأمر إلى الله سبحانه وتعالى ليحميه في ما لا يستطيع أن يضمنه لنفسه. وقد ورد عن الإمام الصادقt: ((المتوكّلون هم الزرّاعون)). وتفسير ذلك، أنّ الفلاَّح عندما يريد أن يزرع فإنه يقوم بكل شروط الزراعة؛ حتى إذا استكمل ذلك كله وخاف من مفاجآت المستقبل في ما قد يصيب الزرع من أمراض أو رياح أو ما أشبه ذلك، توكل على الله، وكأنه يقول لله: هذا ما أستطيع، فأتوكل عليك في ما لا أستطيع.
r ما هو الدليل القرآني على أن من دخل النار سيخرج منها بعد مدة حسابه؟
m ليس هناك وضوح وصراحة، ولكن هناك آيةً تقول: )لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا((14)، ومعنى ذلك مدة معينة بحسب حاله. البعض يقول الحقبة تساوي سبعين عاماً، وما إلى ذلك. وقد يستوحي المرءُ من هذه الآية، أنّه عندما تنتهي هذه الأحقاب، وهي مدة الحكم عليه، فإنّ الله سبحانه وتعالى يخرجه من النار. وربما تدلّ بعض الأحاديث على وجود أحكام محددة في من يعذبون بالنار، والله العالم.
r من هو الشيطان؛ هل هو قوة الشر التي تعيش داخل الإنسان؟ وكيف يوسوس للإنسان؟
m الشيطان ـ حسب ما حدثنا الله سبحانه وتعالى ـ هو مخلوق حيٌ يملك الفكر والإرادة والقدرة على التخطيط، وقد جعل الله له وسيلةً للدخول إلى مشاعر الإنسان وإحساساته، وربما حتى طريقته في التفكير، ليحرك له غرائزه بالوسائل الغيبية التي لا نعرف طريقها. وقد حدثنا الله أن هناك جنوداً للشيطان يسخّرهم في إذلال الناس، ولكننا لا نعرف ذلك بشكل حسيٍ.
r ما هي حدود العصمة التي إذا اعتقد بها المسلم أصبح إمامياً؟
m القول بعصمة الأئمة، يعني أن الأئمة لا يخطئون في فكر ولا في قول ولا في عمل، ولا يمارسون أي عمل منحرف عن طاعة الله سبحانه وتعالى. وهذا من خصوصيات الإمامية. وقد حصلت بعض الخلافات الكلامية لدى القدماء في سعة العصمة وفي بعض خصوصياتها.
r ماذا يعني قوله عليه السلام: ((اتّق شرَّ من أحسنت إليه))؟
m معناه أن لا تستسلم لمن أحسنت إليه؛ لأن بعض الناس يقول إن فلاناً ليس من المعقول أن يضرني، أو أن يسيء إليَّ؛ لأني خدمته وأعطيته، ولأنني قدمت له الكثير من الخير. ولكنّ هناك بعض الذين تحسن إليهم قد يتعقدون من الإحسان إليهم، فيسيئون إليك من حيث لا تشعر. لذلك، (اتّقِ) أي كن حذراً، ولا تستسلم لمن أحسنت إليه، فلعله يسيء إليك من حيث لا تشعر عندما تكون مستسلماً له.
إن هذا الحديث ليس معناه أن لا تحسن إلى أحد، كما قد يفهمه البعض، بل يعني أن تكون حذراً ممّن قد تسول له نفسه أو يوسوس له الشيطان في الإساءة إليك، انطلاقاً من بعض الناس الذين يتعقدون من الإحسان كما يتعقدون من الإساءة، والله العالم.
r قرأنا في بعض كتب الإمام الشهيد الصدر الثاني، بأنّ هناك علامات لظهور الإمام المهديr، وقسمها إلى قسمين، حتمية وغير حتمية، ما المقصود بالعلامات الحتمية؟
m العلامات الحتمية هي العلامات التي تكون عند ظهوره، وهذا أمرٌ لا نستطيع أن نعرفه الآن، بل يتحدّد عند ظهوره. وعلى أية حال، فإننا نقول إن قضية غيبة الإمام المهدي r هي من غيب الله، وظهوره من غيب الله، ولذا فإننا لا نملك أية معرفة في الخصوصيات التي تمثل علامات الظهور، إلا عندما يأذن الله له بالظهور، وعندما يأذن الله له بالظهور، فإن الله سبحانه تعالى يطلق الحجة للناس، بحيث لا يشك أحدٌ في ذلك أبداً.
r هل هناك علاقة بين التقوى والتقية؟
m التقوى هي أن تطيع الله سبحانه وتعالى خوفاً منه، ومحبةً له، ورغبةً في ثوابه، وخوفاً من عقابه. وأما التقية، فهي عبارة عن إظهار بعض ما لا تعتقده من أجل الحفاظ على النفس أو الحفاظ على الأمة.
r ما الفرق بين الجن والشيطان؟
m الشيطان هو من الجن، كما يقول الله تعالى: )فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ((15)، وله أولياء وله جنود من الجن، كما أن له جنوداً من الإنس.
r هل الملعون هو المطرود من رحمة الله سبحانه وتعالى؟
m نعم، الملعون هو المطرود من رحمة الله، والبعيد عنه سبحانه وتعالى.
r ما المقصود من أن وجود الله أزلي؟
m أي أن الله سبحانه وتعالى لم يكن عدماً فوجد، بل كان هو الوجود كله الذي لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم.
r قال الإمام جعفر الصادقt: ((ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني))(16). ما المقصود من هذا؟
m نحن لا نؤمن بالبداء بالمعنى المعروف لغوياً، وهو أن الله كان له رأي، ثم تبدل رأيه إلى شيء آخر؛ لأن هذا يستلزم الجهل بالله سبحانه وتعالى؛ ولكن المراد من البداء، كما ورد عن أهل البيتi هو الإبداء، أي كان الناس يرون أن إسماعيل هو الإمام من بعد الإمام الصادق، لأن المعروف أن الابن الأكبر هو الذي يلي أباه في الإمامة، فكان الناس يعتقدون أنّ إسماعيل هو الإمام، فلما قُبض إسماعيل في حياة أبيه، كأنّ الله أظهر أنه ليس الإمام.
r جاء في القرآن الكريم آية في سورة البقرة: )وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ((17). هل يمكن أن يكون هناك قتلٌ للأنبياء بحقّ؟
m أراد الله أن يبين أن لا حقّ لهم فيما كانوا يمارسونه؛ لأنه لا يجوز قتل الأنبياء. وهذه الجملة لا مفهوم لها ـ كما هو المصطلح الأصولي ـ بحيث تدلّ على أنّ هناك قتلاً للأنبياء بالحقّ.
r )واعلموا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ((18). )الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً((19). والسؤال: ما المقصود من أنّ أموالكم وأولادكم فتنة في الآية الأولى؟
m أي محل اختبار، والمراد من الفتنة هي ما يفتتن به الإنسان، أي ما يختبر به. ويقول الله تعالى: )الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ((20) أي أن لا يبتلوا ولا يختبر إيمانهم، )وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذبينَ((21). المقصود، أن الإنسان عندما يُرزق أموالاً، فإن ذلك يمثل اختباراً له، فهل أنّه يعمل في أمواله بما أراد الله منه، في أن يصرفها بالحلال، وفي أن يُخرج منها حقوق الله سبحانه وتعالى، وفي أن لا يحرم من يحتاجها؟ وهكذا بالنسبة إلى أولاده؛ في أن يربيهم على الخير والصلاح وعلى طاعة الله سبحانه وتعالى؟
أما الآية الثانية، فإنها تقول: إن الأولاد ليسوا القيمة التي يتقرب بها الإنسان إلى الله، وأن الله هو الذي يرزقك مالك ويرزقك أولادك، ولذلك فأنت لا تستحق فيما يرزقك الله من مالك وولدك أجراً عند الله سبحانه وتعالى، أما الباقيات الصالحات، فهي أعمالك الصالحة، وهي التي تقربك من الله سبحانه وتعالى، وتمنحك الثواب منه.
r هل يُحاسَب الإنسان على قدر ما يعرف عن القرآن أو الفقه أو غير ذلك؟
m من الطبيعي أن الله يحاسب الناس على ما آتاهم وعلى ما عرّفهم، فإن العالم الذي يملك المعرفة الواسعة يُحاسب من خلال حجم هذه المعرفة، أمّا لو كان هناك إنسان جاهل لا يبلغ هذا العلم، فإنه يُحاسب على مقدار ما لديه من العلم. ولكن الله سبحانه وتعالى لا يعذر الإنسان الجاهل المقصر، فالإنسان الذي يملك أن يتحرك بعلامات الاستفهام التي تطوف في ذهنه ليسأل ويقرأ ويفكر، هو إنسان غير معذور إذا انحرف عن الخط نتيجة جهله. وقد ورد في تفسير قوله تعالى: )قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ((22)، أنه ((يؤتى بالإنسان يوم القيامة، فيقال له: هلاّ عملت؟ فيقول: ما علمت، فيقال له: هلاّ تعلّمت؟))، فإن كل إنسان انطلق في الحياة كان جاهلاً، وإنما استطاع أن يحصل على مواقع العلم من خلال أخذه بأساليب العلم.
r ما رأيكم في حديث الفرقة الناجية، وخصوصاً أنه أصبح مرجعاً في التكفير لدى طائفتين؟
m لم يثبت بتوثيق سندي. وعلى كل حال، لا إشكال في أن الحق واحد، وأن من يلتزم الحق ينجو، وأن من لا يلتزم الحق ـ وهو يعلمه ـ فهو هالك. ولكن علينا أن نعرف حقيقة في هذا المقام، وهي أن الله يقول: )إنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ((23)، فقد يستحق الإنسان عقاب الله وقد يستحق غضبه، وقد يستحق دخول النار؛ ولكن قد يُدركه العفو. فهناك جانب الاستحقاق وهناك جانب التنفيذ.
r المعروف في قصة تلويث النبي بسلا الجزور أن ناصره كان عمه أبو طالب...؟
m هناك عدّة روايات في هذا المجال. وقد نُقلت عن الإمام زين العابدينt، أنّ إسلام حمزة كان على أثر ذلك. وقد ورد ذلك بالنسبة إلى أبي طالب q.
r بمقتضى آية التطهير، فإن فاطمة الزهراءu طاهرة مطهرة، بعض مقلدي سماحتكم يقولون إنّ فاطمة الزهراء مثل النساء الباقيات من حيث التكوين، فما ردّكم على ذلك؟
m صحيح أن الزهراء مثل النساء، كما أن النبي مثل بقية الرجال، ولكن هل الزهراء أفضل أم النبي؟ النبي أفضل، وعظمة الزهراء أنها بضعة النبي. الله يقـول عن النبي: )قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُـمْ يُوحَى إِلَيَّ((24)، الفـرق بيني وبينكم ـ كنبيّ ـ أنه أنا يوحى إليّ ولا يوحى إليكم. والزهراء u هي امرأة كبقية النساء في تكوينها الجسدي، ولكنها سيدة نساء العالمين، وهي سيدة نساء أهل الجنة، وهي قبل ذلك المعصومة بآية التطهير. هي كبقية النساء من ناحية التكوين الجسدي، وإلا لو فرضنا أن الزهراء لم يكن تكوينها كتكوين بقية النساء، فكيف يمكن لها أن تحمل؟ إذ إنّ الحمل له شروط تتعلق بنفس جانب الدم وما إلى ذلك في هذا المقام.
لذلك نحن نقول إنّ عظمة أهل البيتi أنهم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، في عصمتهم وفي طهارتهم الروحية والأخلاقية والإنسانية، أمّا ما عدا ذلك، فهو غير دقيق وغير ثابت. حتى إن بعض الناس، للأسف، يقولون بطهارة بول الأئمة وغائطهم، وحتى بالنسبة إلى الجنابة والمني. ولكنّ معنى التطهير في الآية ليس بهذا المعنى، فقد كان الأئمةi يغتسلون من الجنابة، وكانوا يطهرون أجسادهم إذا تنجّست بالبول والغائط كبقية الناس الآخرين لأنهم بشر كبقية البشر في التكوين الجسدي.
r ما المقصود من الآية الكريمة: )ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى((25)؟
m هذا كناية عن الموقع الذي هو غاية في القرب. ومن الطبيعي جداً أن الله ليس موجوداً في مكان معين ليقال إنه كان قريباً من المكان الذي يجلس فيه الله، ولكن ذلك باعتبار أن هذه المنطقة هي من المناطق التي قد تعتبر في الموقع الأعلى.
r قال تعالى: )أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ( ما هو مصداق المؤمن المخاطب في الكتاب الكريم؟ وهل هو منحصر بين من يعتقد بالأئمة الإثني عشر فلا يتعدّاه أو ينطلق إلى غيرهم؟
m السيد الأستاذ أبو القاسم الخوئي ذكر في بعض مؤلفاته كما في كتاب (دروس في فقه الشيعة) أن المراد من المؤمنين في القرآن هم المسلمون، وهم الذين اعتقدوا بالإسلام؛ ولذلك لا يُراد منهم الموالين للأئمة الإثني عشر فقط وإن كانت الولاية هي من الإسلام، بمعنى أنّ من لا يوالي لا يخرج عن الإسلام.
r لدى الشيعة مبدأ اشتهروا به وهو البداء، كيف نستطيع التمييز بينه وبين النسخ في الأحكام؟ وهل ورد في الشريعة الإسلامية نسخ حقيقي؟
m البداء بمعناه اللغوي مستحيل على الله، لأن البداء بهذا المعنى هو أن يكون رأي معيّن ثم يتغيّر إلى رأي آخر؛ فالله لا يتغير علمه ويستحيل عليه ذلك؛ لأنّ ذلك يستلزم الجهل. ولذا قالوا إنّ المراد من البداء هو الإبداء، أي بمعنى أن الله سبحانه وتعالى قد يُبدي شيئاً يعتقده الناس بلحاظ بعض الظروف، ولكنه بعد ذلك يُبدي شيئاً آخر، والحقيقة واحدة. أما قضية هل هناك نسخ في القرآن أم لا؟ فهذه المسألة خلافية؛ فالبعض قد يقول بالنسخ، والبعض الآخر ينفيه، وهناك أنواعٌ للنسخ، بعضُها يستلزم القول بالتحريف.
r تتداول الأوساط العلمية فكرة وجود كائن شبيه بالإنسان قبل ملايين السنين، فكيف تنسجم هذه الفكرة مع التصور الإسلامي الذي يقول إن أول إنسان هو آدم؟ ثم ألا يتبعنا ذلك إلى آفاق جديدة حول تاريخ الإنسانية؟
m أولاً، إن هذه الأبحاث التي يتحدث بها العلماء، لا تنطلق من معلومات قطعية مئة بالمئة، وإنما تنطلق من بعض البحث العلمي الذي يمكن أن يقع فيه الخطأ والصواب؛ لأنّه في مستوى النظريّة التي تعتقد بتفسير معيّن لبعض الظواهر. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، بعض الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيتi تقول: ((إن قبل آدمكم هذا ألف ألف آدم، وأنتم آخر الآدميين))، ويذهب بعض المفسرين لقوله تعالى: )وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ((26)، حيث يثور السؤال: من أين عرف الملائكة ذلك، والحال أنّ آدم كان أوّل الخلق؟ فيذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الملائكة واجهوا مخلوقات عاشت في الأرض وتحولت إلى مخلوقاتٍ تفسد فيها وتسفك الدماء، في مقابل نظريّة تقول بأنّهم عرفوا لأنّ الله عرّفهم.
r ما المراد بالنفس اللوّامة؟
m أي النفس التي تحاسب صاحبها وتلومه على الأخطاء وعلى المعاصي التي يقوم بها في حياته أمام الله سبحانه وتعالى.
r ما الفرق بين الكافر والمشرك؟
m الكافر هو أعمّ من المشرك، والكافر هو الذي ينكر وجود الله بكليته، أما المشرك فهو الذي يُشرك بعبادة الله غيره، كما هو بالنسبة إلى قريش، وكذلك بالنسبة إلى المشركين في مكة، حيث كانوا يعتقدون بالله، ولكنّهم كانوا يعبدون الأصنام تقرّباً إلى الله، كما يزعمون، وذلك هو قوله تعالى: )مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللهِ زُلْفَى((27).
r إذا كان إبليس من النار، فكيف يكون مصيره النار؟
m مثلنا نحن، فنحن خلقنا من الأرض ومن التراب، ألا نختنق بالتراب؟ ألا نُعذَّب بالتراب؟ فلنفرض أنّ تكوين إبليس من النار، فيمكن أن تحرقه النار في المقام.
r جاء في الحديث: ((إن الله لا تنفعه طاعةُ من أطاعه، ولا تضره معصية من عصاه))، وجاء في قوله تعالى: )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ((28). إذاً ما هي الفائدة التي يحققها الله سبحانه من عبادتنا له؟
m إنّ الله تعالى ليس بحاجة إلى عبادة الناس، وإنما فرض عبادته عليهم لما لذلك من فائدة لهم، أي أن الله خلقهم وهيأهم لأن يعيشوا في الحياة على أساس عبادته التي تمنحهم السعادة والخير، وتمنحهم التوازن والانضباط.
r تقولون إنه ليس من الضروري أن يكون أهل الأنبياء أو أصلابهم موحدين، ويمكن أن يكونوا كُفاراً، فإن كان كذلك، فما صحة الحديث المروي عن الرسول: إننا تناقلنا من صُلبٍ إلى آخر إلى أن وُضِعنا في صُلب عبد المطلب؟
m لماذا لا يمكن ذلك؟ الوارد عن الإمام الباقرt هو أن آباء الأنبياء كانوا من نكاحٍ غير سفاح، أما أن يكونوا موحدين، فهذا لا دليل ثابت عليه. نعم، بعضهم يحاول أن يستدلّ بقوله تعالى: )الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ((29)، أنك تتقلب من ساجدٍ إلى ساجد؛ لكن الظاهر أن الآية تتحدّث حين تقوم للصلاة، وتقلّبك مع الساجدين الذين يسجدون لله سبحانه وتعالى. ويقول بعض العلماء إنّ آباء الأنبياء لابد من أن يكونوا موحدين، ولكن لا يقولون إن من الممكن أن يكون أمهات الأنبياء موحدات، فما هو الفرق؟ خصوصاً أنّ القرآن كرّر ـ في حوار إبراهيم ـ الحديث عن آزر بوصفه أباه، وأمّا كونه عمّه، فهو خلاف الظاهر.
r لماذا عذابُ الله شديدٌ إلى هذا الحدّ، والله كتب على نفسه الرحمة؟
m شدة عذابِ الله بقدر شدّة معصية الإنسان له. وإذا أردنا أن نفهم ذلك، فلنُفكّر في ما أنعم الله به علينا، قال تعالى: )وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ((30)، )وإن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا((31)، فالإنسانُ غارقٌ في نعمة الله في كلّ حياته، مثلما نقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي: ((تتحبَّبُ إلينا بالنِعم ونُعارِضُك بالذنوب، خيرك إلينا نازل وشرَّنا إليك صاعد، ولم يزل ولا يزال ملكٌ كريم يأتيك عنَّا في كلِ يومٍ بعملٍ قبيح، فلا يمنعك ذلك من أن تحوطنا بنعمك، وتتفضل علينا بآلائك، فسبحانك ما أحلمك وأعظمك وأكرمك مبدئاً ومعيداً)).
ولذلك، فإنَّ معصية الله تعالى تمثّل حالةً قصوى من نكران الجميل، ولذا روي أنّ على الإنسان أن لا ينظر إلى حجم المعصية ولكن أن ينظر إلى من عصى، وقيل أيضاً إنّه ليس هناك صغائر وكبائر؛ لأنّ النظر إلى المعصية من جهة كونها معصيةً لله تجعلها كلّها كبائر. فأنت عندما تعصي الله فإنّك تعصي ربّك وخالقك ورازقك ومن تستمدّ منه كلّ وجودك وحياتك. هذا جانب. والجانب الثاني: أن الله فتح للمذنبين الذين يستحقون العقاب باب المغفرة، ورحمته وسعت كل شيء، ونحن ندعو: ((يا من سبقت رحمته غضبه))، والله تعالى يقول: )إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ((32)، فهنا حالتان: حالة الاستحقاق وحالة التنفيذ، أي أنّ الإنسان قد يستحقّ هذا العذاب الشديد العاصي، ولكن الله قد يدركه برحمته في مقام التنفيذ.
r ما المقصود بقول الإمام الرِّضاt: ((أنا من شرطها وشروطها))؟
m يُنقل أنَّ الإمامt لما كان في طريقه إلى طوس، جاءه الرواة وقالوا: حدثنا يا بن رسولِ الله، فحدّثهم بالحديث الذي يُقال عن سنده إنّه سلسلة الذهب، قال: حدثني أبي موسى بن جعفر، قال حدثني أبي جعفر بن محمد، قال حدثني أبي محمد بن علي، قال حدثني أبي علي بن الحسين، قال حدثني أبي عليٌ ابن أبي طالب، قال حدثني رسولُ الله، قال حدثني جبرائيل عن الله سبحانه وتعالى، أنه قال: ((كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي)). ثم أطلَّ برأسه على الناس ـ بحسب بعض الروايات ـ وقال: ((بشرطها وشروطها وأنا من شروطها))، وشرطها هو العمل لله سبحانه وتعالى، قال: )إِلا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ((33)، وقال تعالى: ) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًاً((34)، أما قوله: ((وأنا من شروطها))، فباعتبار أنّ الإمامة تمثّل الاستمراريّة الحركيّة للنبوّة من خلال العلم الذي جعله رسول الله لدى الأئمّةi.
r هل اليأس من رحمة الله، نوع من أنواع الكفر؟
m قال تعالى: )وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا القَوْمُ الكَافِرُونَ((35). والسبب أنَّ اليأس من روح الله يختزن في داخله أن الله غير قادر على أن يغيّر الحال إلى غيرها، وكأنّه يعتقد أنّه يستحيل على الله أن يحلّ مشكلته، أو يفرّج كربه. فهذا كُفرٌ بقدرة الله سبحانه وتعالى. ولاسيَّما أنَّ الله سبحانه وتعالى هو الرَّحمن الرَّحيم، وهو الَّذي وسعت رحمته كلَّ شيء. وعلى الإنسان المؤمن أن لا ييأس من رحمة الله سبحانه وتعالى.
r هل خلق الله سبحانه وتعالى للجنِّ نبياً مثلنا؟ وهل صحيح أن هناك جنّاً كافراً مُسلطاً مع الشيطان لكي يؤذي الإنسان؟
m نحن نعرف أنّ الله سبحانه وتعالى كلّف الجن، ونقرأ في سورة الجنّ أنّ من الجن من آمن بالنبيw؛ ولكن لم يثبت أن الله أرسل للجن أنبياء. ولكن ربما كانت هناك طريقة لأن يأخذ الجن بالشرائع التي جاء بها الأنبياء البشر. أما أن الله سلَّط الجن على الإنسان ليتلبّسه ويؤذيه، فلم يثبت عندنا ذلك.
r في حديث الرسول للإمام علي: ((أنا مدينة العلم وعليٌ بابُها)). فهل في الإمكان أن يعلّم الإمام الملائكة، ومنهم جبرائيل، علوماً لا يعرفونها؟
m لا، فالملائكة، علّمهم الله ما يحتاجون إليه في الوظائف التي وظَّفهم الله لها، والنبيw علَّم علياً ما يريد للناس أن يتعلَّموه في هذا المجال.
r ما معنى هذا القول: (المؤمن ممتحن)..؟
m يعني المؤمن مبتلى، أي باعتبار أن التزام الإنسان بالإيمان قـد يجعله يواجـه المشاكل الكثيرة عندما يصبر على الأذى، وعلى المصائب، وإذا ما أراد أن يؤكِّد إيمانه أمام الشبهات أو أمام التحديات التي قد تواجهه في الحياة.
r إذا كان التقليد في العقائد غير صحيح، فما حكم أكثر المسلمين في هذه الأيام، علماً أنهم أخذوا دينهم ومذهبهم من الأهل والمجتمع المحيط بهم، لا من تفكرٍ وتدبرٍ، خصوصاً مسألة المذاهب؟
m العلماء يقولون إنّه لا بدَّ لكل إنسانٍ من أن يجتهد في الالتزام بالعقـيدة؛ ولكـن إذا فرضنا أنْ قلّد الإنسان وكان تقليده موافقاً للحق فيكون معذوراً، أما إذا قلد ولم يكن تقليده موافقاً للحق فلا يكون معذوراً.
r هل الإنسان للإنسان قرين؟
m هناك اعتقاد شائع أنّ لكلّ شخصٍ قريناً من الجن، وهذه كلّها خرافات. ولكنّ القرين هو الإنسان الذي يظل مع الإنسان في حياته، فكأنه من الأصدقاء. وقد أشار القرآن إلى ذلك في قوله تعالى: ) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً ـ أي صديقاً ـ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً((36)، )قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ((37)، فالقرين هو الرفيق والصديق الذي يُضلّ الإنسان في حياته.
r قال الإمام عليt: ((يا من دلَّ على ذاته بذاته))، كيف يمكن الاستدلال بهذا، والذات القدسية غيبٌ بالنسبة إلينا؟
m المقصود أن الله سبحانه وتعالى هو الذي دلنا على ذاته بما قدّم إلينا من أسرار خلقه، فليس هناك شيءٌ أجنبيٌّ دلّ على الله سبحانه وتعالى، بل إنّ أسرار الخلق من هذه المخلوقات، في السَّماء والأرض وما فيهنّ، الّتي هي صنعة الله، هي الّتي تدلّنا عليه، وليس المعنى أن نفس الذات كذات تدل على نفسها، بل من خلال ما يصدر منها من عجائب العظمة ومن أسرارها.
r هل إنَّ شخصيَّة عبد اللّه بن سبأ وهميَّة أم حقيقيَّة؟
m من خلال التَّحليل التاريخي، فإن الدور الذي نُسب إلى عبد اللّه بن سبأ يدل على أنّ اسمه صُنع لإثارة الكثير من التعقيدات في تفسير ما حدث للعالم الإسلامي، لأنه ليس له أيُّ موقع تاريخي فاعل كما أكّده عدد كبير من الباحثين، وكما هو رأي طه حسين في كتابه (الفتنة الكبرى)، وهناك تحقيق للعلامة السيد مرتضى العسكري ينتهي إلى أنه شخصية أسطورية.
r إذا كان الشيطان مخلوقاً من النار فكيف يُحرق بنار جهنم؟
m الإنسان المخلوق من التراب يتأذّى – أيضاً - عندما يُضرب بالتراب، فليكن الشيطان على هذا النحو، مع أن أصل الخلق لا دخل له بما يؤول إليه بعد ذلك، ثم إنَّ ذلك مما يرجع إلى قدرة اللّه سبحانه وتعالى.
r ثمة رؤية خاصة يقدمها الإسلام عن الإنسان، حبذا لو توضحون لنا ملامح هذه الرؤية؟
m يُمثّل الإنسان في المفهوم الإسلامي، سيد الكون الذي أراد الله سبحانه وتعالى له أن يقود حركة الكون من خلال ما أودعه فيه من طاقات ومن قوى يمكن أن تتيح له القيام بهذه المهمة الكبيرة. ونستطيع أن نستوحي ذلك من خلال الحوار الذي دار بين الله تعالى وبين ملائكته في خلق آدم، حيث قال الله سبحانه وتعالى: )إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً((1). وعرّفهم بأنه قد علّمه من العلم ما لا يعملون. ثم نلاحظ تقدير الإنسان حين أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة بالسجود له، ما يوحي بعظمة خلقه وبالقيمة الكبيرة التي يمثلها الإنسان فيما هو خَلْقُ الله سبحانه وتعالى.
وهكذا نستطيع أن نتعرّف ذلك من خلال إبعاد إبليس عن مواقع رحمة الله عندما رفض السجود لهذا الإنسان، وفي الإيحاء الإلهي للإنسان بأن بقاء إبليس كعنصر لإثارة الشرّ معه في الحياة الدنيا التي يعيشها الإنسان في هذا الكوكب، لا تمثل عنصر إسقاط له، ولكنها تمثل عنصر ثقة بأنه قادرٌ على أن يخوض معركة الاختيار، وقادر على أن يخوض معركة قيادة نفسه من موقع إرادته، ليستطيع أن يقود الحياة من موقع الإرادة الحرة القائمة على تأكيد الموقع القوي في قضية الصراع بين الخير والشر.
وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: )إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ((2)، فالإنسان هو عنصر قادر على أن يواجه رمز الشر بكل ما عنده من وسائل ضاغطة على كل العناصر الداخلية للإنسان، بحيث يستطيع أن يهزم الشر من خلال قدرته على تحريك قوى الخير في ساحة الصراع.
إننا عندما ندرس ذلك كله، ندرك الاهتمام الكبير بالإنسان من خلال إرسال الله سبحانه رُسلاً من أجل أن يخططوا له في الاتجاه الذي يمكّنه من إدارة حياته وإدارة مسؤوليته بشكل كبير.
إننا نعتقد أن القيمة التي جعلها الإسلام للإنسان، لا ترقى إليها قيمة في النظرة العامة لموقع الإنسان في الكون، والنظرة العامة لموقع الإنسان عند الله سبحانه وتعالى، هي أنّ الإنسان اعتُبر مسؤولاً عن نفسه، في الوقت الذي لم يعتبر الملائكة فيه مسؤولين عن أنفسهم، ولم يعتبر الكون مسؤولاً عن نفسه. وحده الإنسان هو الذي حمل مسؤولية نفسه، عندما أراد الله له أن يحمل هذه المسؤولية من خلال استنفار طاقاته، وإن لم تدر المسألة مدار حوار.
هكذا نرى أنّ فكرة الجنة وفكرة النار إنما تمثلان الفكرة التي تقع في نطاق مسؤولية الإنسان الذي يتحمل مسؤولية انحرافه، فيخضع للنتائج السلبية في ذلك، ويحمل النتائج الإيجابية لاستقامته، فيحصل على الثواب من خلال ذلك.
وهكذا نجد أن النظرية الإسلامية للإنسان، تجعل الإنسان يمثل العنصر والمخلوق الذي جُعلت الحياة كلها تتحرك في مداره، كما جُعِلت الآخرة كلها تتحرّك في مداره. فالحياة للإنسان، والجنة للإنسان، والملائكة يحملون رسالة الله للإنسان ويستقبلونه. والكون مسخّر له، كالشمس والقمر، وهكذا كل القوانين الكونية مسخّرة للإنسان، معنى ذلك أن الإسلام ينظر إلى الإنسان على أساس أنه ـ من خلال رعاية الله له ـ هو مركز الكون والعنصر الذي يدور الكون في دائرته.
وعلى هذا الأساس، فإننا لا نجد في كل المواقع الحضارية أية فرضية حضارية، إذا صحّ التعبير، يمكن أن تعطي الإنسان هذا المفهوم الشامل الكامل.
r ما رأيكم في القول إنّ الإسلام ليس ديمقراطياً؟ وهل يعتبر تصرف الإمام عليt الذي كان يعطي الخوارج من بيت مال المسلمين ولا يحرمهم منه، ديمقراطياً، مع أنهم كانوا يمثلون قطب المعارضة الرئيسي في ذلك الوقت؟
m الإسلام هو دين العدل والمساواة، ونحن لا نرغب في أن يسمى الإسلام ديمقراطياً، فعلينا أن نكون مسلمين وإسلاميين حتى في مصطلحاتنا التي نتداولها، ولذا نقول إن الإسلام كان ولا يزال يساوي بين الناس، ولا يفرّق من ناحية الحقوق بين موال ومعارض، ما دام المعارض لم يتحول إلى عنصر فساد وإفساد في الأرض، كما لا يفرق في ذلك أيضاً من ناحية الواجبات، ولذلك قلنا إنه دين العدل والمساواة، سواء قال الآخرون عن ذلك إنه من الديمقراطية، أو إنه ليس منها في شيء، لأن هذه الكلمة قد تستبطن في ما تحمله من الدلالات والمعاني، ما لا يوافق عليه الإسلام، وهو أن أساس الشرعية هو الأكثرية، حتى لو كانت على غير حق، فلو صوتت ضد الإسلام لم يكن الإسلام شرعياً بحسب الديمقراطية.
r لماذا نجد الكثير من المؤمنين ومن أتباع أئمة أهل البيتi لم يتغيروا ولم يعيشوا في واقعهم وحركتهم تعاليم الإسلام وسيرة رموزه؟ فما هو السرّ في هذه المسافة بين الإيمان والواقع؟ وكيف يمكن لهؤلاء أن يقرّبوا هذه المسافة بين إيمانهم وواقعهم؟
m هؤلاء التزموا الرموز في موقع الذات لا في موقع الرسالة، وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقرt كما في الكافي: ((أيحسب الرجل أن يقول أحبّ علياً وأتولاّه ثم لا يكون فعّالاً، فلو قال إنّي أحبّ رسول الله، ورسول الله خير من علي، ثمّ لا يعمل بعمله ولا يتّبع سنّته، ما نفعه حبّه إياه شيئاً... من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، والله ما تنال ولايتنا إلا بالورع والعمل)). فبالورع تقرب المسافة بيننا وبينهم.
r الإسلاميون اليوم يرفعون شعارات مشابهة لما يرفعه غيرهم، الوطنية والديمقراطية وما إلى ذلك، ولم نعد نسمع ما عهدناه في فترة السبعينات والثمانينات بطرح الإسلام بكلِّ مفاهيمه بكل ثقة، فهل هذا تراجع منهم؟
m إنهم يقولون ـ ولا نضمن صحَّة ما يقولون ـ بأنهم يعملون على أساس التكتيك، وذلك من خلال ضغط الظروف الموضوعية التي تمنعهم من طرح شعاراتهم الإسلامية بشكلٍ واضح، ولذلك فهم ـ كما يقولون ـ يبقون مع الاستراتيجية؛ فهم عندما يدعون إلى الديمقراطية، يدعون إليها على أساس أنّها تمهّد لهم الطريق لاختيار الإسلام. ولكننا نرى أن علينا أن نبقى مع الإسلام حتى لو رفضه العالم...
r ما المغزى من مناسك العمرة أو الحج، مثل الطواف كحركة دائرية حول الكعبة المشرَّفة، والملاحظ أن الكثير من المسلمين يحجّون من دون فهم هذا المغزى؟
m الطواف فيه إيحاء، أولاً: هذا البيت هو بيت الله )إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا((3)، فالله تعبَّدنا بالطواف بالبيت، ومعناه الرمزيّ أن عليك أن تطوف في كل حياتك، في المواقع التي تمثل مواقع أمر الله ونهيه، لأن الذي يطوف بالكعبة لا يطوف ببيوت الظالمين، ولا يطوف ببيوت المستكبرين، ولا يطوف ببيوت الفاسقين، بل يطوف بالبيوت التي )أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ((4).
وأما السعي فكذلك... فأنت تسعى، لأن الله سبحانه وتعالى أمرك بذلك: )إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا((5). أنت تبدأ السعي فتقول: أسعى بين الصفا والمروة قربةً إلى الله، وامتثالاً لأمره، وهو يعطيك إيحاءً بأن كل سعيك في الحياة عندما ترجع إلى بلدك، لا بد من أن يكون في مواقع رضا الله، ولا بد من أن يكون من خلال امتثال أمر الله، فلا تسعى مع الظالمين، ولا تسعى في قضية ظلم أو معصية أو ما إلى ذلك. أما أن المسلمين يقومون بحجِّهم من دون فهم، فهذا صحيح، وعلى الذين يقومون بالتوجيه الإسلامي ممن يرافقون الحملات، أن يعرّفوهم أسرار الحج، وكيف يمكن أن يحجوا كما يريد الله لهم أن يحجوا. وقد ورد في بعض الأحاديث: ((ما يعبأ بمن يؤمّ هذا البيت ـ بمن قصد هذا البيت ـ إذا لم يكن فيه خصال ثلاث: ورعٌ يحجزه عن معاصي الله، وحلم ـ سعة صدر ـ يملك به غضبه، وحسن الصحابة لمن صحبه)).
r كيف يمكن للمؤمن أن يجعل الإسلام فكراً وعقيدةً وخُلقاً من أول أولوياته؟
m بأن يدرس الإسلام جيداً، وأن يمارسه في عباداته وفي أفعاله وفي دعائه وفي تفكيره، وأن يملأ عقله وقلبه وحياته بالإسلام، هذا الذي يمكن أن ينمي للإنسان إسلامه، فيكون الإسلام في كل كيانه، تماماً كما ينمي الإنسان جسده في ما يعطيه من القوة؛ لأنّ الإسلام هو عنصر القوّة في المجالين الفكري والشعوري وفي الحياة كلّها.
r ما هو دور الشعائر الحسينية في الزمن الراهن وفي المستقبل؟
m إن دور الشعائر الحسينية في الراهن والمستقبل، هو الدور نفسه الذي كان في الماضي، وإن كان اللازم التطوير في الوسائل والأساليب التي تعمم من الفائدة المترتبة على مثل هذه الشعائر، والدور المطلوب هو كون هذه المجالس والشعائر مدرسة إسلامية نقّالة تعلّم الأجيال الإسلام الحقيقي والدور الصحيح للدين في حياة الشعوب.
r قال رسول اللهw: ((الحسن والحسين إمامان إن قاما أو قعدا)). فماذا يقصد النبيw بالقيام والقعود؟ وهل إنّ المقصود بالقيام والقعود هو الثورة والهدنة؟ وهل هناك علاقة بين تلك الثورة وتلك الهدنة؟
m الظاهر من الرواية، أنّ قضية إمامتهمi لا تأخذ شرعيّتها من حركتهم، فهم يملكون الشرعية من الله، وبذلك فإنّهما يسيران على منهج الله، لأنّ الله عندما اختارهما للإمامة، فلأنّه يعرف أنّهما يعيشان الإمامة فكراً وروحاً وحركةً وجهاداً، وأنّهما ينفتحان على خط الإسلام بالقعود إن كانت مصلحة الإسلام هي في القعود، وبالقيام إن كانت مصلحة الإسلام في القيام، وكلاهما قاما وكلاهما قعدا تبعاً للمرحلة.
فالإمام الحسينt قعد طيلة تلك المدة السابقة على ثورته، وكان مع أخيه الحسنt، ووقّع الصلح معه، وكان يدافع عن موقف الإمام الحسنt، أما الحسنt فكان قبل أن تدور الدوائر ثائراً، وقد انطلق ودفع بالجيوش لمحاربة معاوية، ولكن الأمور سارت بغير الاتجاه الصحيح. ولذلك كان الحسنt قائماً ثائراً، وكان قاعداً مصالحاً، تبعاً للمرحلة في ما هي المصلحة الإسلامية.
وكان الحسينt قائماً وقاعداً أيضاً تبعاً للمصلحة الإسلامية. ولذلك عاش الحسنt روح الثورة مع الحسينt عندما وقف في مواجهة معاوية، وعاش الحسينt مع الحسنt عندما وقف معه في مسألة الصلح. وخلاصة القول، إنّ الإسلام هو العنوان الكبير للقيام هنا وللقعود هناك، وهذا المعنى ينبغي أن نفهمه جيداً، وهو أنّ الثورية ليست في الاندفاع والانفعال، فقد تكون ثائراً وأنت هادئ، لأنك تخطّط وتنتظر استراتيجيتك في النهايات، وقد تكون ثائراً في البداية ولكنك لست ثائراً في معنى الاستراتيجية، في حين أنّ بعض الناس ينظرون إلى التكتيك فقط، فيما كان الحسنt والحسينt ينظران إلى الاستراتيجية، وإذا كان بعض الناس ينظرون إلى الحاضر فقط، فقد كانا o يرصدان المستقبل أيضاً. ولذا ينبغي أن نكون المستقبليين.
r الحريات الموجودة في الغرب وبلاد الكفر تخالف الإسلام بشكل عام، ولكنها عملياً تخدم الإنسانية، فهي خير للإنسان، ولكنها شر بلحاظ الإسلام، أليس كذلك؟
m هي شرّ للإنسان، فالأساس ـ كما ذكرنا ـ في الخير والشر ليس هو ظاهر الأمور، فليس كل ما يفرح الناس هو خير، فقد يكون ذلك خمراً أو مخدرات أو بعض الموبقات، فهل يعتبر هذا خيراً؟
فالمعيار إذاً هو أن نعرف الخير والشر في العمق لا في السطح، أي ما هي المصلحة الحقيقية أو المفسدة الحقيقية للإنسان في هذا أو ذاك، ولا بد من أن يكون الإنسان محيطاً بالأمر من جوانبه كلها، فبعض الأمور قد تكون المصلحة في جانب منها والمفسدة في جانب آخر، فإذا غلبت المفسدة على المصلحة كان الأمر شراً، وإذا غلبت المصلحة على المفسدة كان خيراً.
r كيف تفسّرون حالة اليأس والإحباط التي تصيب شريحة واسعة من الجماهير عندما تفقد قائدها؟
m هذا التصور خاطىء، فالقائد يبرز من بين ظهراني الأمة، فالأمة التي تنتج هذا القائد بإمكانها أن تنتج قائداً آخر )وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ((6). فالرسول يموت، ولكن الرسالة تبقى، وهي قادرة على الدوام صناعة قيادات للأمة، لكننا عندما نعيش الجانب العاطفي مع القائد، ننسى الذين هم مشروع قيادة في المجتمع، فالقائد لم يصبح قائداً إلا بعد أن يكون قد حرّك طاقاته في خدمة القضية التي يضحّي من أجلها واكتشفته الجماهير فالتفّت حوله، ويمكن أن نكتشف قيادات أخرى أيضاً، فالأمة ليست عقيمة. لذلك علينا أن نحترم القيادات، ولكن بشرط أن لا نتعبّد لها ونحوّلها إلى أصنام، وأن لا نكون كبعض الشعراء، إذا مات العالم أو القائد قالوا مات الإسلام.
إن الإسلام لا يموت، فقد مات النبيw ولم يمت الإسلام، وقد مات الأئمةi وبقي الإسلام، وقد مات كبار العلماء وبقي الإسلام، فلا ينبغي أن نعيش المبالغة والصنمية إزاء قادتنا، فمشكلتنا أننا نعطي لقياداتنا أحياناً أكبر من حجمهم ونكبّرهم في خيالاتنا، فإذا أحببنا قائداً، سواء كان دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً، فإننا لا نقبل أن يُنقد ناسين أنه ليس بمعصوم.
ونؤكد القول إنّ علينا أن لا نعبد قياداتنا، بل أن نحترمهم، ومن احترامنا لهم أن ننقد فكرهم وندرسه بتجرّد، فقد نكتشف فيه خطأً وقد نكتشف فيه صواباً، فنحن في بعض الأحيان نشبه قوم موسىt بعد أن حرّرهم من عبادة فرعون، ولكن ما إن رأوا قوماً يعكفون على عبادة أصنام لهم حتى طالبوا موسى بإله كإلههم، تماماً كالطفل الذي يرى لعبة بيد طفل آخر فيطالب أباه بشراء لعبة مماثلة )قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ((7).
فإذا مات القائد ترحّمنا عليه واحترمنا فكره، بأن ندرس فكره ونعتمد الصواب فيه ونترك الخطأ، ثم نلتفت إلى القيادة الجديدة، فالقائد السابق قد رحل ولم يبق إلا فكره وتجربته، وعلينا أن نصنع في رحيله قيادة جديدة.
r مواسم الزيارة مواسم جماهيرية ملفتة للنظر، ولكننا مع الأسف الشديد، لا نجد أيّ استثمار إيجابي لمواسم الزيارات هذه، فهل من حلّ لهذه المشكلة؟
m إننا نفكر في أن يفهم الناس معنى الزيارة، وأن الزيارة ليست مجرد حضور جسدي ينفتح على كلمات لا يعيش الإنسان معانيها في معنى الشخص الذي نزوره، لأنّ ذلك يصبح قضية تقليد ليس له أي روح سوى معنى العاطفة. ولقد تعلمنا في زيارة الحسينt، أن نقول عندما نقف أمامه: ((أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وعبدت الله مخلصاً حتى أتاك اليقين)). وعلينا، عندما نقول ذلك، أن نستوحي حياته كلّها، ونستحضر سيرته ومواقفه، بحيث تكون الزيارة منطلقاً لتذكير النفس والانفتاح على داخل هذه الشخصية العظيمة، حتى نستوحيها من خلال زيارتنا لها. وهكذا عندما نزور رسول اللهw، أو نزور أمير المؤمنينt، فإن علينا أن تكون زيارتنا لهما زيارة تذكِّرنا بكل حركة الرسول w ودعوته إلى الإسلام في مواجهة التحديات، وبكل حركة الإمام عليt في جهاده وفي إغنائه الإسلام بفكره وحركته ومنهجه.
وهكذا عندما نأتي إلى السيدة زينبu لنـزورها، فإنَّ المسألة ليست في أن نبكيها فقط، فزينبu كانت الصابرة الصامدة في كربلاء، والصابرة الصامدة المتحدية في الكوفة، والصابرة الصامدة المتحدية في الشام، وعلينا عندما نقف أمام مرقدها، أن نستحضر قولها: ((أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله))، وأن نستحضر قولها: ((فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لن تمحو ذكرنا، ولن تميت وحينا))، لنقف مع زينب القويّة، من أجل أن تتعلم نساؤنا كيف يكنّ القويات أمام الظلم والقهر والتحدي، وألاّ يكون استحضارنا لها على أساس أنها الباكية المنهارة، التي تبكي هنا وتبكي هناك، وإن كان بكاؤها ينطلق من عمق المأساة التي لم يشهد التاريخ مثلها، لكنها أرادت أن تعلّم النساء، أن من الممكن للمرأة الرسالية أن تحبس دموعها، وأن تكبت صرختها عندما تواجه التحدي الذي يفرضه الظلم عليها، لتكون المتحدية لكل ذلك الظلم.
r يرى بعض الباحثين أنّ الإسلام بحاجة إلى حركة إصلاح ديني، كتلك التي حدثت في أوروبا في القرن السادس. في رأيكم، هل إنّ الإصلاح يتناول النص أم تفسير النص؟
m النص يمثل الحقيقة، ولكن المسألة هي في فهم النص، لأنّ بعض الناس قد يفهمون النصوص الإسلامية، سواء كانت نصوصاً قرآنية، أو نصوصاً من السنّة، قد يفهمونها فهماً سيئاً، ولذلك لا بد من إصلاح الفهم للنص، وإصلاح السلوك العام الذي يتحرك به الناس، والذي قد يمثِّل الأخذ بالخرافة أو الغلو أو ما أشبه ذلك.
r ما مصدر السيرة الحسينية التي تعود إلى أكثر من ألف وثلاثمئة عام؟ وإلى أي مدى طاولها التحريف، ولاسيما أنه كان لكم موقف في هذا المجال من خلال عبارتكم: (نستنزف دموع الناس بالكلمة الصادقة والكاذبة)؟
m لعل أوثق المصادر التي تحدثت عن السيرة الحسينية، هو ما جاء في تاريخ هذه السيرة في الوسط الشيعي في كتاب (اللهوف في قتلى الطفوف) للسيد ابن طاووس، حيث يمكن أن نجد توازناً معقولاً في عرض الواقعة، التي انطلقت في بدايتها من عمق الحزن المأساوي الذي تحوّل إلى عنصر أساسي في وعي الكثيرين من الأجيال التي عاشت الذكرى في التاريخ. ومن الطبيعي أن هذا الحزن يحتاج إلى الكثير من عناصر الإثارة التي يمكن أن تفتح المشاعر على أكثر من قصة تجتذب الأنظار.
وهكذا رأينا أن الذين يثيرون العزاء، بدأوا يتسابقون ويتنافسون في أساليب الإثارة، ومن الطبيعي أن يهيّئ ذلك الجو لوضع الكثير من الأحاديث والقصص، وهذا ما أدركه المرحوم السيد محسن الأمين في ما كتبه حول ركام الأساليب والخرافات التي وضعت في السيرة، فكتب (المجالس السنية) ليقدمها إلى قراء التعزية، من خلال الروايات المعقولة كما يراها هو... كما أن الشهيد المطهري أثار في كتابه (الملحمة الحسينية) الكثير من علامات الاستفهام حول الكثير من الروايات.
إننا نعتقد أن عرض السيرة الآن أصبح يصطدم بالكثير من القصص والأجواء التي يمكن أن تثير علامات الاستفهام. ولعل حجة الكثيرين ممن يرفضون الدخول في النقد العلمي الموضوعي لمثل هذه القصص، ولا سيما أن الدخول في مثل هذا النقاش قد يستثير ردات الفعل الشعبية، باعتبار أن الكثير من هذه المفاهيم دخل في عمق الحس الشعبي.
لكننا لا نوافق هؤلاء، ونجد ضرورة نقد نص السيرة الحسينية كنقد نص السيرة النبوية الشريفة بشكل علمي موضوعي، لنحصل على سيرة واقعية أو قريبة من الواقع، لأن التاريخ، وإن ابتعد عنا، فقد دخل في وجداننا الثقافي وإحساسنا الديني وحركتنا السياسية. ومن الطبيعي أنه عندما نقدم صوراً غير واقعية على أنها تمثل الشرعية باعتبارها تنسب إلى الإمام الحسينt، فإن ذلك سوف يدخل حتى في حركتنا الثورية، في ما هو شرعي وما هو غير شرعي.
r ما هي الحرية الفكرية في نظرك؟ وأين وصلت الحرية الفكرية في بلادنا؟ وهل أتاح العالم فعلاً حريةً للفكر؟ وما هي مميزات عصرنا فيما يتعلق بها؟
m الحرية الفكرية، هي أنه يمكن للإنسان أن يفكر فيما يشاء وكيفما يشاء، إلا إذا كان ذلك يسيء إلى المجتمع والأمة، وشرط أن يكون تفكيره واعياً وساعياً إلى طلب الحقائق قدر المستطاع. ويختلف الحال في ذلك من بلد إلى آخر، ولكن على المستوى الفردي، قد تكون الحرية متاحة في شكل لا يحد منها شيء عندنا، ومن هنا تبرز بين الحين والآخر بعض الدعوات التي تعبر عن انحراف الإنسان على المستوى الفكري لينعكس ذلك على المستوى العملي والوظيفي.
إن العلم قد يقدم للإنسان الأرضية الصالحة للانطلاق في حركة الفكر إلى أقصى مداها، بل لابد للعقل من أن يتحرر من كل القيود التي تمنعه من الانطلاق في رحابة العلم الذي يؤدي بالإنسان إلى استكشاف جميع ما حوله من قوانين أودعها الله في هذا الكون ليستفيد منها في حركة بناء الحياة... ومن الملاحظ في هذا المجال، أن العصر الراهن، يتميز بحرية ظاهرية واسعة للانطلاق الفكريّ، ولكن الواقع قد يختلف كثيراً عن مثل ذلك، لأن كثيراً من القيود التي تفرض هنا وهناك، تجعل من الانطلاقة محدودة أو مقيّدة، ولاسيّما في ظل الهيمنة والتوجيه الإعلامي الحاد الذي تسيطر عليه الدول الاستعمارية الكبرى.
r نرجو أن تبيِّن لنا الآثار الإيجابية لظاهرة الحزن، وما هي مبررات فلسفة الحزن فيما يرتبط بعاشوراء؟
m الحزن يمثّل عاطفة إنسانية، فالإنسان يحزن إذا فقد عزيزاً، سواء كان قريباً أو كان صديقاً، ويحزن الإنسان ـ أيضاً ـ إذا ابتلي بخسارة معينة أو بمرض معين أو ما إلى ذلك. فالحزن هو عاطفة إنسانية غريزية طبيعية تحدث لكل إنسان، حتى إننا ربما نقول: إن هذه العاطفة موجودة حتى في الحيوانات، فإننا نجد الحيوانات تحزن عندما يصيبها بعض ما يصيب الإنسان من فقد ولدٍ أو ما أشبه ذلك.
أمّا الحزن الذي يتمثّل في عاشوراء، فهو حزن الإنسان الذي يتفاعل مع قضايا المأساة، سواء كانت هذه المأساة في التاريخ، أو كانت في الواقع، والإنسان الذي لا يحزن لمآسي التاريخ، هو إنسان قاسي القلب، لا يمكن أن يحزن للمآسي التي تصيب الناس في حياته، مما يحصل لهم من مجازر وحشية ومن ظلم الإنسان للإنسان. وهناك خصوصية أخرى للحزن العاشورائي، وهي أننا نحب الإمام الحسينt؛ لأنه إمام المسلمين، ولأنه الطليعة الإيمانية التي أحبها الله ورسوله. ولذلك فإننا عندما نحزن على الحسينt وعلى الصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه، فلنعبر من خلال ذلك عن إخلاصنا له وارتباطنا به؛ لأن ذلك يؤدّي إلى الارتباط بالقضايا التي أثارها وبالخطوط الإيمانية والإصلاحية التي حركها.
r في ظل الظروف التي تعيشها الأمة، ما هو واجب المسلمين والشباب؟ وما هو واجب علماء الدين؟
m علينا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، فعن رسول اللهw: ((من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان...)). هذا هو واجبنا، وذلك أن لا نكون حياديين بين الحق والباطل، وبين العدل والظلم، وبين الاستكبار والاستضعاف، كلٌ بحسب قدرته، وكلٌ بحسب إمكاناته.
r ما هو الحد الأدنى الذي يقوم به الإنسان حتى لا يعتبر قاطعاً للرحم، وهل قطع الرحم يجعل عمل الإنسان غير مقبول؟
m إنّ الله ذم قاطع الرحم فقال: )وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ((8)، ولذلك نقول إن قطيعة الرحم تختلف باختلاف ظروف الإنسان، وتختلف بحسب أوضاعه بالنسبة إلى علاقاته بأرحامه. وعلى أية حال، المهم أن لا تكون حالته النفسية حالة القطيعة لرحمه التي لا يعيش فيها الإنسان مشاعر القربى مع أرحامه، ولا يلتزم بما ينفتح به معهم على الخير.
r هل يجوز للمسلم أن يتبنّى موقفاً ليبرالياً في الحياة؟
m لا يكون المسلم ليبرالياً، لأن الليبرالية تمثل منهجاً في الحياة على مستوى القضايا القانونية والقضايا السياسية والقضايا الاقتصادية والأمنية يختلف عن المنهج الإسلامي. لذلك عليه أن يدرس كل موقف ليبرالي ليقارنه بالمواقف الإسلامية في هذا المجال، ليرى هل تنسجم هذه المواقف مع الإسلام ليلتزم بها أو لا تنسجم مع الإسلام.
r قد يستغرق البعض في اللجوء إلى التقية بحيث يصبح كاذباً مع نفسه ومع غيره؟
m ورد في الحديث عن الإمام الصادقt حول التقيّة، أن لا تؤدّي إلى استفساد في الدين، لأن التقية وسيلة تكون في حال الاضطرار وفي حال الخوف على النفس أو الخوف على الأمة. ولذلك على الإنسان أن يكون حكيماً في دراسة الموارد التي تشرع فيها التقية، والموارد التي لا تشرع فيها، بحيث تُفسد على الإنسان دينه وحياته وما إلى ذلك.
r روي عن رسول اللهw قال: ((شرار أمتي عزّابها))، وأنا رجل أعزب، وكلما عزمت على الزواج فشل السعي وجاءت النتائج عكسية، حتى ألفت ذلك، فهل ينطبق عليَّ الحديث؟
m ليس معنى ذلك أن العزوبة تمثِّل شراً للإنسان في ذاته، ولكن هي كذلك عندما تكون حالة اختيارية للإنسان، لأن بعض الناس يستطيع أن يتزوج ولكنه لا يتزوج، فقد توقعه العزوبة في بعض المعاصي وبعض الانحرافات الأخلاقية في هذا المجال، وعلى الإنسان أن لا ييأس، والله تعالى يقول: )وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا القَوْمُ الكَافِرُونَ((9).
r هل تتطلب الأمة الإسلامية بمختلف دولها إصلاحاً أم تغييراً؟ وكيف يكون المسلم حسينياً في هذه المرحلة؟
m من الطبيعي أن الأمة الإسلامية تتطلب تغييراً بإصلاح ما فسد فيها وتقويم ما انحرف منها، سواء على مستوى سلامة المفاهيم، أو على مستوى سلامة العمل، وسلامة السلوك، وسلامة المواقف، وسلامة العلاقات والمعاملات. أما كيف يكون الإنسان المسلم حسينياً، فذلك عندما يلتزم الإسلام كله الذي أراد الإمام الحسينt للناس أن يلتزموه، سواء على مستوى الواقع السياسي في الالتزام بالحاكم الشرعي العادل، أو من خلال الأخذ بالمعروف والترك للمنكر.
r ما هي حكمة ذكرى استشهاد الإمام الحسينt؟ وهل كان الأئمةi يقومون بتعظيم هذه الذكرى؟
m إن حكمة ذكرى شهادة الإمام الحسينt، هي أن نحمل رسالة الإمام الحسينt في كل ما قاله وفي كل ما فعله وفي كل ما دعا إليه، ولاسيما قوله: ((إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر))، وموقفه في رفض السلطة غير الشرعية التي أُريد لها أن تكون الشرعية الواقعية عندهم، ولم تكن شرعية إسلامية، وذلك عندما أرادوا منه أن ينزل على حكم يزيد بن معاوية، إذ قال لهم: ((لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أُقر لكم إقرار العبيد))، ((ألا وإن الدعيَّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام)). أن نلتزم كل شعارات الإمام الحسينt وكل خطواته الرسالية؛ لأن الحسينt كان إمام الإسلام بكل ما للإسلام من معنى. فعلينا أن ننطلق من خلال إمامة الإمام الحسينt، في كل ما تمثله الإمامة من القيادة الإسلامية ومن الالتزام الإسلامي ومن الخط الإسلامي. وقد كان الأئمةt يعقدون المجالس للتذكير بمأساة الإمام الحسينt، وهم الذين أسسوا المجالس الحسينية.
r كثيراً ما نسمع منكم نقداً للخطباء الحسينيين، وهذا النقد ربما يكون في محلّه، لكن السؤال: هل لكم أن ترشدونا إلى البديل الصالح؟ ما هي ملامح الخطيب الصالح في نظركم؟
m نحن عشنا مع خطباء مثقّفين ثقافةً واسعة، عشنا في النجف مع المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي، الرجل الذي يملك ثقافة أدبية وتاريخية كبيرة، حيث يشعر الإنسان وهو في مجلسه بأنه في مدرسة، وكذلك كان هناك بعض الخطباء مثل الشيخ محمد علي جسام، وكان هناك فيما بعد المرحوم السيد جواد شُبر والمرحوم جواد القسام، والقمة في هذا الموضوع، كانت مع المرحوم الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله. فهؤلاء يمثلون النموذج للمنبر الحسيني الذي ينطلق ليكون مدرسةً ثقافية منفتحة على كلِ تراث أهل البيتi، بما يبعده عن التخلف وعن الغلو وعن الخرافات. ولا بدّ من أن يكون الخطيب الحسيني على درجة عالية من الثقافة الإسلامية والوعي، حتى يستطيع أن يقدّم الإسلام كما أراده أهل البيتi وحتى لا يسيء إليه من موقع الجهل تارةً أو التخلّف أخرى.
r أنا فتاة في العشرين من عمري، أحب أن أسلك طرق العرفان، نريد منكم أن توجهوني نحو الطريق الصحيح، وأن تشرحوا لي كيفية العمل، والمراجع التي يجب الاعتماد عليها؟
m العرفان هو عرفان القرآن، أي ما تحدث به القرآن في معرفة الله وفي محبته وفي توحيده وعبادته، وفي مجاهدة النفس، وما إلى ذلك، وما جاء عن النبيw وعن أئمة أهل البيتi هذا هو العرفان الصحيح، وأما عرفان الفلسفة فقد يكون فيه بعض الإيجابيات، ولكن فيه سلبيات قد تقود إلى الانحراف.
r ينبغي أن يحمل قلب المؤمن الحب لأولياء الله والبغض لأعدائه، بينما نلاحظ أنّ قلب رسول اللهw، كان يحمل كل الحب والرحمة حتى للمنافقين والمشركين الذين آذوه، فكيف نفسّر ذلك؟
m كان يحمل الحب لهم، بمعنى أنه يحبّ لهم الهداية ويحب لهم الرشاد وأن ينفتحوا على الله سبحانه وتعالى، وليس معنى ذلك أنه يتعاطف معهم ويعتبر أن شركهم وكفرهم لا يمثل أية سلبية في هذا المجال.
r أليس اختلاف وجهات النظر شيء طبيعي، ولكن الأمر غير الطبيعي هو اختلاف القلوب؟
m هذا صحيح. لذلك نقول إن اختلاف الأفكار يمكن أن يحلّ من خلال الحوار، ولكن اختلاف القلوب، ولاسيما إذا كان القلب يختزن الحقد ضد القلب الآخر، يؤدّي إلى التنافر، وهذا أمر لا يريده الله سبحانه وتعالى.
r ورد في الحديث: ((خالفوا النساء؛ ففي خلافهن بركة)). ما المراد من ذلك؟
m هذه الأحاديث تتنافى مع أسس الخط الإسلامي والفكر الإسلامي؛ لأنه ليس كل النساء منحرفات؛ إذ لو فرضنا أن المرأة طلبت من زوجها وهو لا يصلي، أن يصلي، فهل يخالفها في أن لا يصلي. ولو أنّ النساء المؤمنات وعظن أزواجهن، فهل يجب على الرجال أن يخالفوهنّ؟ وعليه، فإنه لا يقصد منه ذلك، وهو كما روي في الحديث المعروف: ((شاوروهن وخالفوهن))، أي عوّدوهن على المخالفة، فهي دعوة إلى الرجل لئلا يستسلم للمرأة بحيث يطيعها في كل شيء، ولذلك ورد: ((لا تطيعوهن في المعروف كي لا يطمعن في منكر))، وهو كناية عن عدم الاستسلام لهنّ، وذلك باعتبار ارتباط الرجل وعلاقته بالمرأة، إذ ربما تستغل المرأة ذلك وتؤثر سلباً على الرجل.
r هناك من يقول بأن الجنّة التي كان فيها آدم، كانت على الكرة الأرضية. ما مدى صحة هذا الكلام؟
m وهل نحن مجبورون بأن نشغل أنفسنا ونبذل جهودنا بدراسة جغرافية الجنة؟ المهم أن نحصل على الجنة؛ فجغرافيتها بيد الله، سواء كانت جغرافيتها في الأرض أو في السماء. والمهم أن الله حدّثنا عن الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلماذا نشغل أنفسنا بجغرافية الجنة وأين هي؟ في الأرض أو لا؟ في الشرق أم في الغرب؟ فهذا علم لا ينفع من علِمه، ولا يضرّ من جهله.
r أنا مسلم، وأتعرض للظلم بسبب قوميتي، فماذا أفعل؟
m في الإسلام ((لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى))، وقال الله تعالى: )إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ((10). فالعنصرية ليست من الإسلام، وكذلك العصبية، والإنسان لا يؤخذ في الإسلام بقوميته أو بعنصريته، بل يؤخذ بعمله. والله أنزل إبليس من الجنة لأنه كان عنصرياً، )قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ((11)؛ فالإنسان الذي يُضادُّ إنساناً مؤمناً لأن عنصره يختلف عن قوميته هو في خط إبليس.
r هل كان لخديجة أولاد من غير النبيw؟
m لم يُذكر لخديجة أولاد، والظاهر أن أولاد النبي كلّهم، كانوا من خديجة، وهنّ بنات، وقد تحدّث الله عن تعدّدهن، )قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ((12).
r ورد عنهم i أنّ الأرض لا تخلو من حجة. كيف يتلاءم ذلك مع فكرة غيبة الإمام المهدي؟
m جعل الله سبحانه وظيفة هذه الحجة أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً. أما مسألة الحجة فيما يحتاجه الناس من شرائع الإسلام، فالكتاب بين أيديهم وهو الحجّة، وكذلك ما جاء عن النبيw وعن أئمة أهل البيتi يكفي الناس في ذلك. وقد ورد عن الإمام الحجةr فيما روي عنه: ((وأما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)).
r كيف يكون السُني أو الشيعي أقرب إلى الإسلام؟
m بأن يعمل بكتاب الله وسنة نبيه فيما صحّ عن رسول اللهw. ونحن نعتقد أن الولاية هي مما صحّ عن النبيw ومما جاء به القرآن: )إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ((13). وقال تعالى: )إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا((14)، وغير ذلك من أحاديث رسول اللهw؛ ولكن ذلك لا يُخرج السنّة عن الإسلام؛ فهم مسلمون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، ونحن نختلف معهم في هذا الجانب ونتّفق معهم في جوانب أخرى فقهية وغير فقهية.
r إذا كان الإنسان يريد أن يقوم بعمل جيد ونافع، ولكنه خشي أن يدخل في قلبه شعور بالرياء، فهل يقوم بهذا العمل أم يدعه تجنباً للرياء؟
m الرياء أمرٌ اختياري، وليس أمراً مفروضاً على الإنسان، فالإنسان عندما يبدأ العمل متقرباً به إلى الله سبحانه وتعالى ومؤمناً بالخير، فإنه يكون من العمل الذي يحبه الله ويقربه إليه. نعم، هناك حالة من الحالات التي يكون فيها الإنسان في العمل متقرّباً إلى الله، فينظر إليه الناس فيسرّه ذلك، فهذا ليس من الرياء.
وعلى كل حال، فالإنسان الذي يريد أن يعمل الخير عليه أن يجند نفسه، ويلتفت إلى علاقته بالله سبحانه وتعالى وما يريده الله منه من الإخلاص، لكي يحصل على الثواب من قبل الله، ويتقرّب بالعمل إليه.
r ما هو التكليف عندما أسمع الافتراءات على الشيعة وأنا أعلم الرد عليها، هل يجب الرد أم السكوت مراعاةً للواقع الإسلامي؟
m المهم أن لا يكون الردُّ عنيفاً، لأنّ الردّ العنيف لا يمكن أن يُقنع الطرف الثاني، بل قد يثير المشاكل معه. وإنّما يجب على الإنسان أن يردّ على المنكر إذا احتمل تقبّل الطرف الآخر له واقتناعه به. أمّا إذا عرف أنّ الطرف الثاني ليس مستعداً لأن يقتنع على كل حال، وإنما هو يتكلم من خلال حالة حقد ولا يريد أن يعرف الحقيقة، فلا يجب على الإنسان في هذه الحال أن يدخل في حوارٍ فكري مع الآخر، بل ربّما يحتاج إلى نوعٍ من الصدمات الفكريّة والنفسيّة والوجدانيّة التي تزيل الجليد وتخفّف الحقد أوّلاً، ثمّ بعد ذلك يتمّ الحديث من الجانب الفكريّ.
r ما هي أفضل السبل في مواجهة الحركات التكفيرية التي أخذت تنتشر بشكل كبير في مجتمعاتنا العربية؟
m إذا استطعنا أن نقنعهم بخطئهم في ما يعتقدونه من قضية الكفر والإيمان وتكفير المسلمين، وفي ما يستحلّونه من دماء المسلمين، وأنّ مجرد الكفر ليس كافياً في قتل الإنسان، بل إنه يكون كذلك في حالة الحرب حتى بالنسبة إلى غير المسلمين، حيث يقول الله: )لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ((15)، إذا استطعنا فعلينا أن نقوم بذلك.
r كيف نفرّق بين قول النبيw: ((الفقر فخري))، وبين قول الإمام عليt: ((لو كان الفقر رجلاً لقتلته))؟
m إذا صحّ الحديث عن النبيw، فيكون المغزى أنّه أراد أن يبين أن هذا الفقر الذي أعيشه وأصبر عليه، هو مدعاة للفخر، حتى قيل إن النبيw كان فقيراً في مكة، وأنه كان يشد حجر المجاعة على بطنه عندما كان المسلمون يحفرون الخندق في وقعة الأحزاب. أما ما يذكره الإمام عليt، فهو يذكر النتائج السلبية التي يمكن أن تترتب على الفقر والمشاكل الاجتماعية التي يمكن أن تحدث.
وقد ورد في حديث أبي ذر (رض): ((إذا ذهب الفقر إلى بلدٍ، قال الكفر خذني معك)). فالإمامt كان بصدد شرح المفاسد العامة المترتبة على الفقر، وخصوصاً عندما يفلسف مسألة الجوع ومسألة الفقر: ((ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني))، أي أن الأغنياء عندما يمنعون الفقراء من حقوقهم التي ألزمهم الله بها، فإنهم هم الذين يتسببون في جوع الفقراء؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعطى الفقراء من أموال الأغنياء ما يكفيهم، ولو علم أنه لا يكفيهم لزادهم، كما ورد في الحديث.
وبعبارة أخرى: نفهم من ذلك، أن الإسلام لا يريد من الإنسان أن يعيش الفقر بإرادته؛ بل أراد له أن يحقق لنفسه الكفاف والقوة التي يحرّكها في خط طاعة الله تعالى، وأراد له إذا أصابه الفقر أن لا يخرجه الفقر عن الحق، بل عليه أن يصبر، والله العالم.
r شاب يؤدّي تركه الزواج إلى ارتكاب المحرّم، ولكن الظروف التي تحيط به لا تساعده على الزواج، سواء كان دائماً أو مؤقتاً، ما هي نصيحتكم؟
m ما نصح الله به: )وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا((16)، ويحاول أن يسعى بجهده إلى إيجاد عمل أو إيجاد فرصة حلال للتنفيس عن طاقاته في هذا المجال.
r ما مدى صحة الحديث: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً))؟
m كان هذا قولاً معروفاً عند الجاهليين، على الطريقة العشائرية، أن الإنسان عليه أن ينصر أخاه أو ابن عشيرته، سواء كان ظالماً أو مظلوماً، وقد نُقل أن النبيw قاله، فسأله رجل فقال: ((يا رسول الله، هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تأخذ فوق يديه))، أي تمنعه عن الظلم فتنصره على نفسه وعلى شيطانه، فإن في ذلك نُصرةً له.
r لماذا لا يقبل فقهاء الشيعة الإمامية عرض أو تمثيل صورة الأئمةt في الأعمال التلفزيونية؟ وما هو حكم الصور الموجودة للأئمة؟
m لم يصدر من علماء الشيعة تحريم نشر صور الأئمةi من حيث المبدأ. نعم السنّة يحرّمون نشر صور الأنبياء أو صور الصحابة، لأنهم يعتبرون أن في هذا هتكاً لحرمتهم، وفقهاء الشيعة الإمامية يقرّون أنه إذا كان في ذلك هتك لحرمتهم فلا يجوز، وأنا لا أشجع على هذه الصور التي تُعرض للأئمةi، لأنها لا تعكس جانباً فنياً يمكن أن يعكس الجانب الروحي من شخصياتهم، أما لو توفّرت العناصر التي تعكس شخصيتهم الرسالية الروحية والأخلاقية، فإنه ليس هناك ما يشكّل أساساً للتحريم.
r عن أمير المؤمنينt: ((لا عقل كحُسن التدبير)). السؤال: ما هو حُسن التدبير؟
m التدبير هو عبارة عن كيفية إدارة الإنسان حياته وأموره، وكيف يحرك أمواله ويحرك ظروفه، بحيث يتصرف في الأمور بحكمة، فلا يُتلف ماله ولا يبذّره ولا يتحرّك في الأشياء التي تُسقط موقعه وتُسقط حياته.
r هل يُعتبر حديثُ النفس أثناء الصلاة، شركاً في العبادة؟
m لا يُحاسب الإنسان على ما يتحدّث به في نفسه ولا يُعاقب عليه، ولكن على الإنسان أن يحاول أن يركز في صلاته على أفعال الصلاة وعلى أقوالها وعلى الالتفات إلى موقفه بين يدي الله سبحانه وتعالى.
r هل أصل وجوب إقامة الحكومة الشَّرعيَّة ثابت بالضرورة الدينية في جميع الأزمنة ومن ضمنها عصر الغيبة؟ ومتى يجب السعي لإقامة الحكومة الشرعيّة في عصر الغيبة ومتى لا يجب؟ ومن يشخّص ذلك؟ وعلى من يكون هذا السعي إذا كان إقامتها واجباً؟
m لا ريب في وجوب العمل لإشادة صرح العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحفظ الكيان الإسلامي، وهي أمور لا تتمُّ بدون تصدّي المؤمنين للحكم بين الناس وفقاً للشريعة المطهَّرة، وهي تجب دائماً حيث يمكن إقامتها لجهة توافر القدرة على الإقامة، والقدرة على الاستمرار والالتفاف الشعبي حول القيادة الجامعة للشروط، سواء في عصر الحضور أو عصر الغيبة.
r سمعت من البعض أن الإسلام مشروع دعوة وليس مشروع دولة، ما تعليقكم على ذلك؟
m ما هي الدولة؟ الإسلام ارتكز على أساس العدل، )لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ((17)، فالله أنزل الرسالات من أجل العدل، فهل يكون هناك عدلٌ في الحكم أو في الشريعة أو في حركة الحياة أو في علاقات الناس بعضهم ببعض، من دون دولة؟!
r هل العقل جزءٌ من الروح أم جزءٌ من الجسد، وهل يموت العقل عندما يموت الإنسان؟
m العقل هو أحد الطاقات الموجودة في الإنسان الحيّ، والروح هي عبارة عن هذه الطاقة التي تبعث الحياة في الإنسان، ومن الطبيعي أنَّ الإنسان إذا مات، مات كل شيءٍ فيه.
r ما هو تفسيركم لقول الله تعالى: )خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ((18)؟
m أي حاول أن لا تأخذ الأمور بالشدّة، بل خذها بالوسط، وبما يسهّل الأمور على الناس، كخط عملي للتعامل معهم في أجواء الدعوة، لأن مسألة الرسول أو الداعية ليست مسألة مزاج يبحث عن منفذٍ للتنفيس،. بل هي مدخل إلى فكر الآخرين. وأْمر بالمعروف بين الناس، بأن تُرشدهم إلى حميد الأفعال، ومكارم الأخلاق. والآية خطاب للنبي w، ولكنَّه منهجٌ للدعاة والمسلمين عامة.
r ما هو رأيكم في التكفيريين الذي يقطعون بأنّهم على الحق فيما يعتقدون ويفعلون؟
m هم أُناسٌ لا يفهمون الإسلام ولا يعرفون حقائقه؛ ولذلك فإنهم لا يميزون بين الكفر والإيمان، كما أنهم في ما يتحركون به، من استحلالهم دماء المسلمين الّذين يختلفون معهم في بعض التفكير، وإنّما يتحرّكون خلافاً لقول رسول الله w: ((المسلم على المسلم حرام دمه وماله عرضه))، وقبل ذلك قول الله: )وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالحَقِّ((19).
r دولة الإنسان التي تطمحون لتأسيسها، هل هي دولة الجمهورية الإسلامية؟
m دولة الإنسان هي الدولة التي ينطلق فيها الفكر والتشريع والحكم ليؤكد إنسانية الإنسان على حسب ما أوحى الله لرسوله ممّا أنزله عليه في القرآن الكريم. ونحن قد طرحنا سابقاً فكرة دولة الإنسان في لبنان، حيثُ لا يملك طرح الجمهوريّة الإسلامية أيّة واقعيّة، في إشارة إلى أنّ هناك قيماً إنسانيّة تمثّل المشتركات بين الأديان أيضاً، فلو التقى عليها اللبنانيّون لحلّوا كثيراً من مشاكلهم، ولاحترم فيها بعضهم إنسانيّة بعضٍ، ولتحرّكوا بعيداً عن الفساد والإفساد.
r هل هناك تعارض بين قومية الإنسان وبين إسلامه إذا لم يكن عربياً؟
m نحن نقول إن القومية هي حالة إنسانية، فمثلاً نقول إن هناك عرباً يعيشون عروبتهم من خلال لغتهم ومن خلال تاريخهم وتقاليدهم، وهناك فُرسٌ أيضاً يعيشون لغتهم وتاريخهم، وهكذا بالنسبة إلى التُرك وسائر القوميّات. فنحن لا ننكر تنوّع القوميات؛ ولكنّنا ننكر على الناس تحويلهم القوميات إلى إيديولوجيات تتنافى مع الإسلام. وقد كُنّا نقول: إنّ القوميّة تمثّل إطاراً إنسانيّاً، ومُشكلتنا ليست مع الإطار، ولكن في الصورة التي تُجعل في داخله، والتي قد تكون الماركسيّة أو الوجوديّة أو ما إلى ذلك ممّا يصطدم بالإسلام.
r لماذا عجز العلماء الذين لا يؤمنون بنظرية ولاية الفقيه عن استنباط نظرية حكم كمشروع بديل عن ولاية الفقيه؟
m من قال إن العلماء عجزوا عن ذلك؟! في الخمسينات كان المرحوم محمد باقر الصدر يرى نظريّة الشورى في ذلك الوقت، وإن ناقش ذلك فيما بعد. ونحن نرى أنّ نظرية الحكم في الإسلام هي نظريّة الشورى، بالشروط الإسلامية للشورى. أمّا نظريّة ولاية الفقيه، فنرى أنّ للفقيه ولاية إذا توقّف حفظ النظام عليها.
r إذا دعا الإنسان صادقاً، فلماذا لا يُستجاب دعاؤه أحياناً؟ وهل يكون الدعاء هو بحسب النية؟
m ربّما تحول بعض المعاصي بين الإنسان ودعائه. وقد ورد في الحديث أنّ عابداً في بني إسرائيل دعا ربّه مدّةً أن يرزقه ولداً، ولم يُستجب له، فأصبح في حالة استغاثة، أنه هل أنا بعيد عنك فلا تستجيب لي أو غير قريب فلا تسمعني، فجاءه هاتف في المنام، فقال إنك دعوت الله بلسانٍ بذيء، وقلبٍ غير تقي، ونية غير صادقة، فأقلعْ عن بذائك في لسانك، وليتقِ الله قلبك، يُستجب، فاستجاب الله دعاءه بعد ذلك. هذا أولاً.
وثانياً: ربما لا يكون هناك مصلحة للداعي في استجابة الدعاء، فلا يستجيب الله دعاءه.
وثالثاً: ربّما يحتاج ما يدعو به إلى وقتٍ معين؛ لأنّ بعض الأمور لا تتحقّق ـ في طبيعتها ـ إلا بأمدٍ محدّد، كما لو دعا الله أن يحقق له شيئاً من دون أسباب، فهو أشبه بمن دعا أن يرزقه الله ولداً في شهرٍ، والولد لا يكون بأقلّ من تسعة أشهر عادةً.
r ما هي سن التكليف للفتاة؟
m هناك رأيان، فهناك من يقول بإكمال التاسعة من العمر، وهو الموافق للاحتياط، وهناك من يقول ببلوغ سن البلوغ الطبيعي وهو الحيض.
r العالم اليوم يشهد قفزةً نوعيةً في النواحي العلمية والثقافية والتقدم التكنولوجي نسبةً إلى السابق، إذاً المجتمع يحتاج إلى قوانين وتشريعات جديدة لا تزال تتزايد كل يوم تبعاً لذلك، وما جاء من نصوص عن النبيw يبقى محدوداً في هذا المجال، ولا يتناول الحوادث الطارئة؟
m نحن نعتقد أن الإسلام جاء بعناوين وقواعد عامة من الممكن أن تنفتح على أي تطور يتحرك به الإنسان في الجوانب المادية أو الجوانب الحقوقية وما إلى ذلك. ولذلك نحن نرى أن الشريعة الإسلامية من خلال اجتهاد المجتهدين، استطاعت أن تستوعب كل تطور وكل تجدّد وكل تقدم، بحيث بات الناس لا يشعرون بوجود أي فراغ في حياتهم أمام التزاماتهم الشرعية في هذا المقام، باعتبار أن الفقهاء استطاعوا أن يُركّزوا من خلال القواعد المنفتحة الواسعة، الكثير من المفردات التي يعيشها الإنسان. ولذلك فإننا عندما ندرس الإسلام، في كل حركة الفقه الإسلامي، نجد أنه ليس هناك أي فراغ، وليس هناك أي مشكلة للإنسان أمام التطور الحياتـي. لذلـك نجـد أنّ الكثير من الغربيين المثقفين الذين دخلوا في الإسلام، انفتحوا عليه؛ لأنهم رأوا أن الإسلام يكفل لهم الحياة السعيدة المنفتحة على كل قضاياهم وعلى كل الواقع الذي يتحركون فيه.
r هل إنّ التبعيض في المسائل الشرعية يحتاج إلى إذن من مرجع التقليد، علماً أنني أقلّد السيد الخوئي ولا أريد تغيير تقليدي، ولكنني بحاجة إلى التبعيض، لأنّي أعيش في إحدى الدول الغربية؟
m يمكنك أن تبقى على تقليد السيد الخوئي بفتوى الحيّ، أي يجب أن ترى الشخص الذي ترجع إليه في بقائك على التقليد، فإذا كان هذا الشخص يجوّز التبعيض، فيجوز لك أن تلتزم رأيه، وإذا لم يجوّز لك التبعيض فلا، ونحن نجيز التبعيض.
r بعض الناس يبلغ مرحلة متقدمة من العمر ولا يقلد مرجعاً محدداً، وعند سؤاله يقول، أنا ما زلت أبحث عن الأعلم؟
m يقال له ما الدليل على صحة أعمالك؟ فالتقليد إنما هو من أجل أن يحرز الإنسان أن أعماله مطابقة لما أراده الله سبحانه وتعالى، وهو إذا لم يكن مجتهداً، فلا بد من أن يرجع إلى مجتهدين في هذا المجال. ونحن نقول إنه لا دليل على وجوب تقليد الأعلم.
r هل يحتاج التبعيض في المسائل الشرعية إلى إذن من مرجع التقليد، علماً أنني أقلّد مرجعاً متوفياً ولا أريد تغيير تقليدي، ولكنني بحاجة إلى التبعيض، لأنّي أعيش في إحدى الدول الغربية؟
m يمكنك أن تبقى على تقليد مرجعك بفتوى الحيّ، أي يجب أن ترى الشخص الذي ترجع إليه في بقائك على التقليد، فإذا كان هذا الشخص يجوّز التبعيض، فيجوز لك أن تلتزم رأيه، وإذا لم يجوّز لك التبعيض فلا، ونحن نجيز التبعيض.
r ما هو رأي الإسلام في مبدأ القياس؟
m ورد عندنا أنّ السنَّة إذا قيست مُحق الدين، وليس من مذهبنا القياس.
r إني من مقلِّديكم، ما هو رأيكم في التبعيض، وحصراً في مسألة التّدخين؟
m التبعيض عندنا في التقليد إنما هو في حال الحرج. أمّا في مسألة التّدخين، فصحيح أن بعض الفقهاء يفتي بحلّيّتها، ولكنّهم لو درسوا الأضرار التي تحصل من خلال السجائر، لرأوا أنه إلقاء للنّفس في التهلكة؛ لأن السجائر ـ حسب قول أهل الخبرة في العالم كله ـ تؤدّي إلى أمراض مميتة، كسرطان الفم وسرطان الحنجرة وسرطان الرئة وما إلى ذلك.
ولذلك نجد الآن العالم يتّجه إلى تحريم التدخين في الأماكن العامة وفي الدوائر، لما يترتب على ذلك من الأضرار. فلو اطّلع الفقهاء على الأضرار المميتة للتدخين لأفتوا بحرمته؛ لأنه لا يمكن لعالم أن يفتي بأنَّ إلقاء النفس في التهلكة حلال.
r هل يمكن اعتبار الجلد المدبوغ طاهراً؟
m لا يطهر جلد الميتة بالدباغة.
r ما هو حكم الرطوبة اللزجة قبل الانتهاء من الخرطات التسعة؟ هل توجب الغسل إن كانت من إفرازات البروستات وبلا شهوة؟
m إذا كان الإنسان يعرف أنها من المني قطعاً، فعليه أن يغتسل، أما إذا كان يشك في ذلك، فلا اعتبار للشك.
r هل يجوز للأم الصلاة بثيابها المشكوك بطهارتها ولديها أطفال صغار؟
m ورد عندنا (كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنّه نجس)، فلها أن تصلي في تلك الثياب.
r هل يجوز للمرأة أن تبقي ضفيرة شعرها عندما تريد الغُسل الواجب؟ وهل يجب أن يبلغ الماء كل شعرها؟
m نعم، الأحوط ذلك.
r هل يجوز للمرأة أن ترضع ابنها وهي على جنابة بسبب الجماع مع زوجها؟
m يجوز لها ذلك.
r ربّة منـزل تمسح الممسحة وتبللها بالماء الموجود في السطل، فما حكم أرضية البيت، هل هي طاهرة أم نجسة؟
m إذا كانت الممسحة طاهرة والماء طاهراً، فيحكم بطهارة الأرض ما لم تتعرض للتنجيس بنجاسة أخرى من النجاسات المعروفة.
r أصبت أثناء القصف، وفقدت ساقي اليسرى (فوق الركبة)، وأضع طرفاً اصطناعياً، ولا أستطيع خلعه ولبسه بسهولة، وهناك خطر جسدي إذا ما لبسته وخلعته بنفسي، حتى الصلاة اليومية أقوم بها دون خلعه، نظراً إلى المضرة الجسدية التي ستواجهني أثناء اللبس والخلع. أريد أن آخذ برأيكم في مسألة حج بيت الله الحرام، فهل باستطاعتي الحج مع وجود الطرف، مع التأكيد مجدداً بأنني لا أستطيع خلعه ولبسه وحيدة دون مساعدة أحد، مع الملاحظة إلى أن ارتفاع درجة الحرارة يؤثر جداً على الركبة ما فوق الطرف (دمامل وما أشبه)؟
m لا يضر وجود طرف اصطناعي في الصلاة أو الحج، ما لم يكن مصنوعاً من النجس أو المتنجس، فعندئذٍ لا بد من تبديله أو تطهيره، وإذا لم يمكن ذلك ـ أي التبديل أو التطهير ـ فلا بد في حال الصلاة من خلعه، (إلا إذا كان ذلك يسبب حرجاً وضرراً) وحكم الحج حكم الصلاة فيما يشترط فيه الطهارة ، وفي غير ذلك لا يضر وجود الطرف مطلقاً.
r ما حكم مسِّ اسم الجلالة (الله) إذا كان مكتوباً على شاشة ضوئية كشاشة الهاتف ونحوها؟
m لا حرمة في ذلك، لعدم كونه مباشراً على مادة الأحرف.
r ما حكم تربية القطط في المنـزل؟
m ذلك جائز مع الالتفات إلى عدم جواز الصلاة مع أجزائها كالشعر، لأنه أجزاء ما لا يؤكل لحمه.
r إذا كان الذئب غير نجس، فما هو حكم المتولّد من كلب ذكر وذئب أنثى؟
m إذا عُدَّ كلباً بحسب صفات الكلب وخصائصه، فهو نجس وإلا فلا.
r من المعروف أن المرأة تطهر عند إتمام حيضة واحدة، ولا تنجب إذا لم يلامسها الرجل، لماذا يحتاط العلماء بحيضتين، هل هو لوجود روايات أو لدليل آخر؟
m عدّة المرأة المتمتع بها حيضتان على الأحوط وجوباً، وعدة المرأة المطلقة ثلاثة أطهار، وهذه الاختلافات ناشئة من نصوص شرعية، وليست من احتياطات الفقهاء.
r ما حكم دخول الأماكن المقدسة (العتبات) إذا كانت المرأة حائضاً؟
m هناك احتياط بالنسبة إلى دخول الحائض إلى مقامات الأئمة. أما بنات الأئمة وأولاد الأئمة وما إلى ذلك، فلا مانع من دخولهنّ إذا لم يكن المقام مسجداً.
r هل يجوز الصلاة بعد الاستحمام وبعد نية الغسل لأجل الصلاة؟
m يجوز ذلك في غسل الجنابة أو الحيض والاستحاضة الكثيرة والنفاس، وفي كل غسل ثبت استحبابه كالجمعة والعيدين.
r إذا صلى المصلي بالجوارب النجسة، أو الطاقية النجسة، ولم يكونا من أجزاء الميتة ، فما حكم صلاته؟
m تصح صلاته في الفرض المذكور.
r إذا تنجس قسم من فرش المنـزل بالبول، وصُبَّ عليه ماء قليل بحيث استولى الماء محل المتنجس، ثم نُشِّف بالفوطة جيداً، وتكرر العملية ثلاث مرات، فهل يطهر المحل؟ وإذا لم يطهر بالماء القليل، فهل يطهر بالماء الكر بالطريقة ذاتها؟
m إذا استولى الماء وأزيل ولو بمساعدة، طهر بالشكل المذكور.
r في الغُسل الترتيبي للمرأة، لا يمكن أن يستوعب الماء الشعر كاملاً لأنه طويل، فهل يصح الغسل؟
m المهم أنه لابد من الغسل فيما يكون داخل الرأس، أي الرأس نفسه.
r استيقظت على جنابة، وكان الجو بارداً، ولم يتبقّ لطلوع الشمس وقت طويل، فتيمّمت وصلّيت، فهل عليّ قضاء؟ وهل يجب عليّ أن أغتسل لصلاة الظهر، أم أنّ التيمم يسقط الغسل عن المجنب؟
m إذا كنت تخاف الضرر من الغسل فصلاتك صحيحة، والتيمم لا يسقط الغسل عن المجنب، بل يجب عليه الغسل، فالتيمم يسقط الغسل ما دام الغسل ضرورياً أو حرجياً، فإذا ارتفع الضرر فإنه يجب الغسل.
r إذا صلى الإمام وهو جنب ولا يعلم، فما هو حكم صلاته؟ وهل يجب إخبار المأمومين أم لا؟
m طبعاً الصلاة باطلة، لأنه (لا صلاة إلا بطهور). وإذا كان المأمومون لا يعلمون فصلاتهم صحيحة.
r هل المشرك طاهر أم نجس؟
m رأينا طهارة كل إنسان، وأما قوله تعالى: )إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ((1)، فالمراد نجاسة الفكر ونجاسة الشعور.
r هل يجوز للمرأة تطويل أظافرها بناءً على رغبة زوجها وصبغها بطريقة لا تتعارض مع الوضوء والصلاة؟
m إذا استطاعت أن توصل الماء إلى ما تحت هذه الأظافر، في الوضوء أو في الغسل، فلا مشكلة من هذه الجهة.
r إذا كان الإنسان فقد الطهورين، فماذا يفعل؟
m رأينا أن عليه أن يصلي من دون طهور، أي من دون وضوء ومن دون تيمم، وتقبل صلاته.
r هل يجوز أخذ الأجرة على تغسيل الميت؟
m يجوز مع عدم كونه واجباً عينياً عليه.
r إذا رأينا الحيوان الجلاّل قد وصل إلى الموت، فقمنا بتذكيته، فهل يجوز أكله؟
m إذا كان حيوان جلالاً، ولم يستبرئ، فلا يجوز أكله بحسب مفروض السؤال.
r إذا سقط كلبٌ في ماء كميّته أكثر من الكُر، فماذا نفعل؟
m إذا كان الماء كراً ولم يتغير الماء برائحة الكلب أو لون نجاسته أو طعمه إذا مات، يبقى طاهراً.
r شخص نزل ضيفاً عند أشخاص لمدة يوم واحد، وعند استيقاظه، وجد نفسه محتلماً، ومن الحرج الشديد لم يتطهّر وصلى أمامهم كالعادة، وحين عودته إلى المنـزل، تطهّر وقضى صلاته، فهل يأثم؟
m إذا كان لا يستطيع ذلك، وكان الحرج شديداً، فعليه أن يتيمّم؛ وإلاّ فصلاته باطلة مع قدرته على التيمّم ولم يفعل.
r هل يستطيع المُجنب عند غسل الجنابة أن يغتسل بعد أن يستحم؟
m نعم، يجوز أن يستحمّ أولاً وينظف الجسم، ثم يغتسل غسل الجنابة.
r أحياناً بعد حلاقة الذقن، تحصل شقوق صغيرة تخرج الدماء منها، فهل يجوز الصلاة مع هذه الدماء، أم يجب الانتظار إلى أن تتوقف؟
m يجب تطهيرها قبل الوضوء، فإن كان يتوقع انقطاع الدم ضمن وقت الصلاة فيجب الانتظار.
r في بعض الأحيان، عندما أحك جلدة رأسي، تظهر القشرة بلون أحمر أي (لون الدم) ولكنها جامدة، فهل هي نجسة أم طاهرة؟
m لا تعتبر جلدة الرأس نجسة بعد فرض كون القشرة التي بها الدم كانت جامدة.
r إذا كان الرجل جُنُباً ولامس شيئاً من الثياب أو المناشف، فهل تصبح الثياب أو المناشف متنجّسة؟
m لا ينجس من الجُنب إلا مكان المني جنابة، وكذلك الحائض أيضاً لا ينجس من بدنها إلا محل الدم في المقام. وأمّا الفكرة الموجودة عند بعض الناس، أنّ الجنب إذا لمس شيئاً رطباً فإنّ هذا الشيء يتنجّس، وكذلك بالنسبة إلى الحائض، فهذا كله غير صحيح.
r ما هي كيفية غُسل الجنابة؟
m أن تغسل أولاً رأسك ورقبتك، ثم تغسل سائر جسدك. ولا يجب الترتيب بين الأيمن والأيسر، بل يكفي للإنسان أن يغسل رأسه ورقبته ويغسل جسده كلّه. نعم، قد يستحبُّ للإنسان أن يغسل الجانب الأيمن أولاً ثم الجانب الأيسر.
r قبل موعد الدورة الشهرية، ترى المرأة الدم بشكلٍ خفيف، فما هو حكمه؟
m إذا كان في اليوم الأوَّل والثاني تعتبره من الدورة، ويكون هذا من قبيل تقدم الدورة.
r هل يجوز تذكية الثعلب بالرمي بالنار، ولاسيما بعد التسمية؟
m لا يجوز أكل الثعلب مطلقاً، وإذا رمى وسمّى فتتحقّق التذكية بالنسة إلى الطّهارة. نعم، لا يجوز الصلاة في جلده أو أيّ شيء من أجزائه؛ لأنّه لا يجوز الصلاة في أجزاء ما لا يحلّ أكله من الحيوان.
r الإنسان المؤمن في الدنيا طاهرٌ، ولكنه عندما يموت يعتبر نجساً، لماذا؟
m هذا حكم شرعي، باعتبار أن الميتة نجسة، سواءٌ كانت ميتة الإنسان أو ميتة الحيوان، ولكن الإنسان يمكن أن يطهر بأن يغسّل غُسل الميت.
r ماذا على المرأة إذا حاضت داخل المسجد الحرام؟
m عليها أن تخرج من المسجد الحرام مباشرةً، وإذا أمكنها أن تتيمّم وتخرج، وإذا لم تتمكَّن، تخرج مباشرةً ولا تبقى في المسجد الحرام.
r أنا طالب في أحد المعاهد الدينية، ويجرون لنا امتحان قرآن (حفظ) ما يقارب نصف جزء، والذين يُجرون الامتحان هم من غير حفظةِ القُرآن، هل هناك إشكال أو حرمة؟
m لا، ليس هناك إشكال أو حُرمة، وعلى الإنسان أن يتقيد بنظام المدرسة.
r ما معنى قول رسول w: ((النظرة الأولى لك، والثانية عليك))؟
m أي أنّ النظرة الأولى تُعتبر نظرةً عابرة، لأنها لا تحمل أيّ مشكلة، بينما النظرة الثانية التي تنطلق من الشهوة، فإنها تُعتبر حراماً.
r هل تعتبرون التورية كذباً؟ وإذا لم تكن كذباً فما حكمها عندكم؟
m نحن نتحفَّظ ونستشكل في مسألة التورية، إلا إذا كان الإنسان في حالة حرج، بحيث يضطر من خلال حالة الحرج إلى ممارستها.
r ما الحكم الواقع على من شاهد أفلاماً خلاعية متعمّداً وأثارت غريزته، ثم ندم على ذلك وتوقف عن مشاهدتها، فهل يعتبر مأثوماً؟ وماذا يفعل للتكفير عن ذلك؟
m عليه الاستغفار وترك العودة إلى ذلك، سواء في التلفاز أو غيره، وليس عليه كفارة.
r هل يجب على القاضي أن يتحقَّق من شهادة الشهود ليطمئن لها؟
m لا بدّ من إحراز عدالة الشهود، إمّا على نحو العلم أو على نحو الاطمئنان، والذي هو علم عرفاً، كما أنّه لا بد من التدقيق في مضمون الشهادة.
r ما رأيكم في تأجير الأرحام؟ وما حكم صاحبة الرَّحم المؤجرة؟
m المبدأ أن الرَّحم ليس ممّا يؤجَّر، كأن تحمل امرأةٌ مثلاً ابن امرأةٍ أخرى. هذا ليس وارداً وليس مشروعاً. نعم، هناك جدل فقهي حول أخذ البويضة؛ أنّه هل يجوز أن تؤخذ البويضة من رحم امرأة لتزرع في رحم امرأة أخرى، فتتلقح بنطفة الزوج؟ هناك جدل في مشروعية هذا أو ذاك. وعلى تقدير المشروعية، فهذا الولد الذي ينشأ، ثمّة جدل آخر بالنسبة إليه؛ هل هو ابن صاحبة البويضة كما هو رأينا، أو أنّ الأم هي الحامل، كما هو رأي السيّد الخوئي q.
r ما الحكم إذا كفر أحدهم، لا سمح الله، وكيف يكفِّر عن الذنب؟
m إذا كان في حالة غضب، فعليه أن يستغفر الله من ذلك.
r ما حكم التبرع بالكلية؟ وهل يمكن أن يكون واجباً إذا توقف عليه إنقاذ حياة إنسان، أو إذا كان المريض يحتاج بشكل دوري إلى دفع مبالغ باهظة للقيام بغسيل الكلية وهو يعيش حالة من الفقر؟
m يجوز ذلك من حيث المبدأ، ما لم يكن هناك خطرٌ أو ضرر بالغ على حياة المتبرّع.
r هل يجوز الجلوس في المقاهي والمطاعم التي فيها الغناء وأغلب الرواد لا يلتزمون بالحجاب وخصوصاً النساء؟
m على الإنسان أن يبتعد عن المجالات التي يُعصى الله فيها؛ فقد ورد أنّ الإنسان إذا عاش في المجتمع الذي يُعصى الله فيه، فإذا أنزل الله العقاب، فإن العقاب يشملُه ويشملهم، ولذا الأفضل أن لا يجعل الإنسان نفسه ضمن المجتمعات التي يُعصى الله فيها، إلاّ أن يكون مضطراً.
r هل نكتفي بجواب المسلم التركي بأن لحمه حلال أم يجب أن نتحقق من ذلك؟
m يكفي ذلك في جواز الأكل منه، إلاّ إذا كان متأكّداً أنّه كاذب.
r هل حلق اللّحية مُفسِدُ للعدالة؟
m رأينا هو حلية حلق اللحية، بينما رأي السيد الخوئي (رحمه الله) في حرمة حلق اللحية من باب الاحتياط الوجوبي. فإذا كان اعتماد المقلد على فتوى من يقول بالحلّية، فلا بأس بذلك، أما إذا اعتقد بحرمة حلق اللحية حسب تقليده، فتعتبر مفسدةً للعدالة إذا حلق اللحية.
r إذا أخطأت المرأة وكان زوجها لا يحاسبها إن علم بخطئها، فهل يجوز لأخ الفتاة محاسبتها أو إعلام زوجها بخطئها؟
m في هذه المسألة يجب أن يدرس الإنسان هذا الخطأ بجدّية، ويطّلع على حيثياته كاملاً، فإذا كان يشكل خطراً كبيراً فإنه لا يجوز له، خصوصاً إذا أوجب الفتنة أو أدى إلى قتل المرأة وما إلى ذلك.
r أنا لا أشكَّ في وجوب تغطية القدمين للفتاة عند الخروج، فما هو الدليل على ذلك؟
m رأيي هو جواز إظهار القدمين، ولكن الأفضل عدمه.
r غُسل الجمعة واجب أم مستحب؟
m إنّه مستحب ويُغني عن الوضوء.
r أستخدم بعد الحلاقة مادة ملطفة للبشرة (after shave)، وفي أثناء الوضوء عند غسلي للوجه أشم رائحة الملطف المذكور، فما حكم هذا الماء، هل يعتبر مضافاً أم لا؟
m لا يعتبر ماءً مضافاً، ولا داعي للوسوسة في ذلك.
r قد يقع أثناء الوضوء بعض قطرات الماء على القدم والرأس، فهل تعدّ مبطلة للوضوء إذا مسحنا فوقها؟ وما حدود الرطوبة المسموح بها في هذا المجال؟
m إذا وقعت نقطة ماء على الرأس، فلا تشمل الرأس كلّه، ولا الرجل كلّها، ولذلك فلا مشكلة في هذه الناحية، إذ يمكنك المسح على الأجزاء اليابسة، وأما الرطوبة المسموح بها، فهي الرطوبة التي لا تنتقل إلى اليد أو التي تكون أقل من الماء الذي يأتي فوقها.
r صديق لي يسرق الكهرباء، فما هو حكم الوضوء في الماء المسخن بواسطة الكهرباء المسروقة؟
m الوضوء صحيح، ولكنه مأثوم بسرقة الكهرباء.
r هل من الواجب في الوضوء مسح باطن اليد للتخليل بين الأصابع؟
m المُهم أن يصل الماء إلى يده من المرفق إلى أطراف الأصابع، وإنّما يُلجأ إلى التخليل حيث لا يطمئنّ الإنسان من وصول الماء إلى ما بين الأصابع.
r بالنسبة إلى وضع الجل على الشعر، هل يستطيع الذي يضعه أن يمسح؟
m لا يعتبر حاجباً في المقام.
r هل يجوز في الوضوء أن يضع الإنسان يده في بركة الماء ليغسلها بطريقة الرمس؟
m يجوز ذلك.
r المشهور أنه لا يجوز أن يتقدم المأموم على الإمام في الأفعال، ولكن هل يجوز أن يتقدّم عليه في التسليم باعتبار خروجه من الصلاة؟
m يجوز له ذلك، بمعنى أنه يفرغ من الصلاة قبل الإمام فينفرد، والانفراد في آخر الصلاة جائز.
r هل تجوز إقامة الصلاة عند بدء الأذان مباشرةً أم الانتظار إلى ما بعد الانتهاء منه؟
m يمكن الصلاة بمجرد دخول الوقت، وإذا كان المؤذن موثوقاً، فإنك تستطيع أداءها من حين دخوله في الأذان.
r أودُّ أن أعرف بالتفصيل كيفية الصلاة في الطائرة إذا كان يتعذر عليّ القيام من الكرسي؟
m إن كنت تعلم بقاء وقت الصلاة إلى حين هبوط الطائرة، فيُمكنك الانتظار إلى حين هبوطها والصلاة بشكل طبيعي؛ وإلا فإن كان يُمكنك أن تذهب إلى فسحةٍ في الطائرة لتصلّي بشكل طبيعي بعد سؤال ربّان الطائرة عن القبلة، وإلاّ أمكنك الصلاة من جلوس، والإتيان من الأعمال بحسب ما تقدر عليه، فإن كنت قادراً على تكبيرة الإحرام والقراءة من قيام فقط، فتأتي بها من قيام، والباقي من جلوس، وهكذا.
r هل يجوز لمن يصلي أو لمن يؤذن أن يصلي على النبي w قياساً على رد السلام في أثناء الصلاة، أو كما عند أخوتنا أهل السنة بسجودهم سجدة التلاوة في أثناء الصلاة أيضاً؟
m يجوز حال الأذان أن يصلي على النبيw وآلهi حين الشهادة له بالنبوة، وأما حال الصلاة، فهو مستحب بعد ذكر كل ركوع وسجود، وواجب في التشهد، وأما سجدة التلاوة، فلا تصح أثناء الصلاة إلا إيماءً بالرأس دون ذكر شيء.
r كنت على مذهب آخر، هل أعيد صلاتي السابقة أم أنها مجزية؟
m لا تجب عليك إعادة صلاتك.
r ما هي الصلاة الإبراهيمية؟ وكيف تؤدّى؟
m اللهم صلّ وسلّم وبارك وترحّم وتحنّن على محمد وعلى آل محمد، كما صلّيت وسلّمت وباركتَ وترحمتَ وتحنّنت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين.
r سائق باص يندرج تنقّله تحت عنوان كثير السفر، أحياناً يستقر في بلده عشر أيام وأحياناً أخرى لا يستقر، وقد يكون كثير السفر موسمياً، فهل يسلب منه عنوان كثير السفر؟
r بعض الناس يقولون إنّه إذا بقي في بلده أكثر من عشرة أيام فإنّه لا بد من أن يقصّر في السفرة الأولى، ولكننا لا نشترط ذلك. وإذا كان سفره موسمياً فقط، فإنه يتم في الموسم.
r هل العودة من السفر إلى مكان العمل تعتبر قاطعاً للسفر، مع العلم أن مكان العمل يبتعد عن وطني مسافة 15 كيلومتراً، وهل تحسب المسافة للسفر اعتباراً من مكان العمل؟
m ليس ذلك قاطعاً بمعنى حساب المسافة التي تنقطع عنده كما في الوطن، ولكن لو فرضنا أن مكان العمل هو المكان نفسه الذي يقيم فيه الإنسان، فإن عليه أن يتم صلاته، تماماً كما هو المرور بالوطن.
r ما هو رأيكم في الإقامة، هل هي واجبة أم مستحبة؟
m ليست واجبة، ولكن هناك احتياط في الإتيان بها.
r لو كان حكم الصلاة على الآل وارداً، فلماذا اقتصرت الآية القرآنية على النبيw فقط )إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا((2) ؟
m تارة نقول إنه واجب، وتارة نقول إن الأمر ورد في السنّة، ففي القرآن وردت الصلاة على النبيw كما وردت الصلاة على المؤمنين أيضاً )هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ( (3) وأيضاً على الصابرين )وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ((4)، فالصلاة هي على المؤمنين والطائعين والمتقين، لكن وردنا أيضاً حديث عن النبيw يقول: ((لا تصلُّوا عليَّ الصلاة البتراء))، أي لا تصلُّوا عليَّ من دون أن تصلوا على آلي، ونحن نعرف أنه في الصلاة الإبراهيمية التي يقول بها السنة والشيعة، ورد ذكر الآل: ((اللهم صلِّ على محمد وآله كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين)). هذه الصلاة الإبراهيمية معروفة عند كل المسلمين، وقد أُكد فيها الصلاة على الآل، ونحن نعرف أنه )وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا((5)، فالنبيw أمرنا بذلك. صحيح أنها لم ترد في القرآن بشكل مباشر، لكنها وردت في السنّة بشكل مباشر، وهذا مما يرويه السنة والشيعة.
r بعض الأحيان أسهو بالتشهد الأوسط وأتلفظ بجزءٍ من السلام وأنتبه قبل تكملة السلام فأقوم لإكمال الصلاة، أرجو من سماحتكم بيان الحكم في هذه المسألة مع بيان كيفية سجود سجدتي السهو؟
m يجب عليك أن تسجد سجدتي السهو، وكيفية ذلك: بعد الانتهاء من الصلاة ينوي السجود للسهو قربةً إلى الله، ثم يسجد السجدة الأولى ويقول فيها: (بسم الله وبالله والسلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، ثم يجلس، ثم يسجد سجدة ثانية مثل الأولى، ثم يجلس ويتشهد ويسلم، ويستحب له التكبير قبل البدء بهما.
r مريضة تُعالج كيماوياً وفي ذمّتها صلاة، فتصلّي صلاة القضاء من جلوس، فهل تصح وتُقبل؟
m نعم، إذا كانت الأخت غير قادرة على الصلاة من وقوف، ولن تتمكّن من الصلاة وقوفاً فيما بعد، فيجوز لها أن تصلي من جلوس.
r ما هي واجبات الابن الأكبر تجاه والده المتوفى، وهو يعلم أن في ذمته صلاةً لم يؤدها في صغره؟
m إذا كان أبوه لا يعتبر متعمداً لترك الصلاة في حياته، كأنْ كان يترك بعض الصلوات، فيجب على الابن الأكبر أن يقضيها عن والده.
r في حال الإقامة في مكة المكرمة أربعة عشر يوماً، ما هو حكم الصلاة؟
m إذا كان الإنسان مقيماً في مكة، بحيث لا يخرج منها إلى المسافة الشرعيّة، فيصلي تماماً.
r ما حكم صلاة المسافرة إذا خرجت من منطقتها وقد حان وقت صلاة الظهرين، ولكن لم يكن بالإمكان الصلاة حتى الوصول إلى البلدة التي سافرت إليها ومع وجود وقتٍ كافٍ؟
m هنا في هذه الصورة تصلي بحسب تكليفها في بلد الوصول، فإذا كانت وظيفتها هناك القصر، فعليها أن تصلّي قصراً، وإن كانت التمام فعلت تكليفها. أمّا إذا لم تصلِّ حتّى خرج الوقت، فعليها أن تقضي بحسب تكليفها حين خروج وقت الصلاة.
r أشك في عدد الركعات أثناء الصلاة... وبعض الأحيان أصلي ثلاث ركعات، وبعض الأحيان خمس... فكيف تكون سجدة السهو، حيث إني لا أعرف كيفية القيام بها وأحكامها؟
m كثير الشك لا يعتني بشكه، ومع العلم بالزيادة في الركعات تبطل الصلاة، ومع النقصان إن لم يتدارك أيضاً تبطل، وللشك علاج في بعض موارده، كالشك بين الثلاث والأربع أو الاثنين والثلاث بعد السجدتين، أو الثلاث والخمس أثناء القيام، وذلك مفصل في الرسالة العملية. وسجود السهو يؤتى به في مورد الكلام ساهياً وفي مورد نقصان التشهد أو السجدة الواحدة، وللقيام الزائد أو التسليم الزائد، وبناءً عليه، يجب سجود السهو للشك بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين. وللشك بين الخمس والست وهو قائم. وسجود السهو عبارة عن سجدتين مع تشهد وتسليم يقول في سجوده: بسم الله وبالله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
r هل يجوز في صلوات النافلة أن نقرأ الفاتحة فقط؟
m يجوز ذلك.
m حسب بعض الفتاوى، وربما المشهور، أنه يمكن للمسافر أن يتم صلاته عند الحائر، أي عند الإمام الحسينt، فهل يصدق ذلك على المسافر إلى بيت الله الحرام؟
m بعض العلماء الذين يقولون بهذا، يعتبرون أن موارد التخيير أربعة، منها البيت الحرام.
r رجل يملك بيتاً في بعض البلاد، وسكن فيه مدة من الزمن، وأحياناً يسافر إلى وطنه ويرجع إليه، فما هو حكم صلاته وصيامه؟ وهل يحتاج إلى أن يجدّد نيّة الإقامة؟
m إذا كانت إقامته موزّعة بين بلده وبين هذا البيت، بحيث أصبح هذا بحكم الوطن بالنسبة إليه، فإنه يصلّي تماماّ. أمّا إذا كان مجرد مكان يستقر فيه مؤقتاً حتى لا ينزل في الفندق، ولم يتخذه سكناً ولا مستقراً، ولا يكون تردّده عليه بشكل كبير بحيث يصدق عليه حكم الوطن، فيصلّي قصراً، إلا إذا نوى الإقامة.
r قلتم في ندوة سابقة، إن على المرء إذا تاب أن يقضي ما فاته من صلاة وصيام، فكيف لرجل تجاوز الخمسين أن يقضي كل هذا الكم الهائل من الصلوات وأيام الصيام؟
m يقول الإمام الباقرt: ((كل أعمال البر بالصبر يرحمك الله)). والله تعالى يقول: )إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ((6). هذا صعب، ولكن الأصعب أن لا يقضي الإنسان ما يجب عليه قضاؤه.
r هل يجوز في الصلاة المستحبة أن أقرأ أجزاء من القرآن؟
m يجوز لك ذلك في الصلاة المستحبة، بل يجوز أن يكتفى بقراءة الفاتحة.
r البعض منا يقلب الحروف القمرية والشمسية في لفظ بعض الآيات القرآنية، فهل يضر ذلك بالصلاة؟
m نعم، يضر ذلك بالصلاة، فعلى الإنسان المصلّي أن يراعي الأمور المعتبرة في اللغة العربية.
r هل يجوز القنوت في الركعة الثانية في صلاة الجمعة لمرة واحدة فقط؟
m القنوت مستحب في صلاة الجمعة وفي غيرها، ولكن إذا أتى بالقنوتين فذلك أكمل.
r هل تعتبر الإقامة عندكم جزءاً من الصلاة؟
m لم يثبت عندي أنها جزء من الصلاة، ولكن يحتمل ذلك من جهة بعض الروايات مما جعلنا نحتمل ذلك احتمالاً قوياً جداً، لأن الإقامة لا بدّ فيها من الطهارة وهي الوضوء، أما الأذان، فلا تجب فيه الطهارة. ويجوز الالتفات في الأذان بينما لا يجوز الالتفات في الإقامة، وتجوز الفاصلة بين الأذان وبين الصلاة، ولكن لا يجوز أن تكون هناك فاصلة بين الإقامة والصلاة. وهناك حديث نناقش في سنده: (إذا دخل في الإقامة فقد دخل في الصلاة)، وهو موجود في الوسائل. ولذلك نقول إنّ الأحوط أن لا ندخل في الإقامة أي شيء لا يجوز إدخاله في الصلاة، وهذا ما جعلنا لا نذكر الشهادة الثالثة في الإقامة، مع أننا نقولها في أذان صلواتنا، وإن كانت ليست أصلاً لا في الأذان ولا في الإقامة بإجماع العلماء تقريباً، لاحتمال أن تكون الإقامة جزءاً من الصلاة، فلا يجوز أن تدخل فيها شيئاً من باب الاحتياط.
r ما هي أحكام الصلاة للمريض، هل عليه القضاء لاحقاً، أم عليه الصلاة حتى في هذه الحالة؟
m لا تسقط الصلاة عن المريض، ولكن يصلّي بحسب استطاعته من القيام أو الجلوس أو الاضطجاع، مع الإتيان بالطهارة المائية أو الترابية، بحسب إمكانه وظرف مرضه.
r هناك أختٌ في التاسعة عشر، من عمرها، بكماء وصماء، لا تعرف القراءة ولا الكتابة إلا الكلمات البسيطة فقط، نريد أن نحفظها ما تقوله في الصلاة، ولكنها لا تستطيع أن تحفظ، والآن هي تؤدي حركات الصلاة حيث تركع وتسجد فقط من دون أن تقول شيئاً، فهل يجب عليها الصلاة؟ وهل صلاتها صحيحة الآن؟
m يُكتفى منها بذلك ويجزيها.
r نرى بعض المصلين يصلّون قصراً خلفكم، لكنهم لا يكملون الصلاة بركعتين قربةً إلى الله أو قضاءً عمّا في الذمّة، وقد يصل العدد إلى صف كامل، أما في هذا قطع لصلاة الجماعة لمن يصلّي خلفهم؟
m من أراد أن يصلي قصراً، فعليه أن يقف في الصفوف الخلفية، حتى لا يسيء إلى نظام الجماعة بالنسبة إلى الآخرين.
r أعيش في إحدى الدول الأوروبية، ويتعارض وقت صلاة الجمعة مع دوامي في المدرسة، ولا أستطيع الاستئذان في كلّ أسبوع، فهل صلاة الجمعة واجبة في هذه الحالة؟
m إذا كان هناك مانع يمنع من حضور صلاة الجمعة، وكان في حضورها حرج عليك، فلا تكلّف بصلاة الجمعة.
r هل يجب على إمام الجماعة أن يكون ملمّاً بعلم التجويد؟
m ليس من الضروري ذلك، بل يكفي أن يقرأ قراءةً صحيحةً.
r إنني من الناس الذين ينامون كثيراً، فربما أنام عشر ساعات في اليوم أو أكثر، ولكنّي أؤدي الواجبات المفروضة عليّ، فهل يحاسبني الله على ذلك النوم وأنا أحتاج إليه؟
m ما غلب الله عليه فهو الأولى بالعذر حتى لو فاتتك الصلاة، ولكن ما دام النوم لا يجعلك تفقد صلاتك فلا مشكلة.
r هل يجوز للمصلّي في البيت أن يدخل في الصلاة والمؤذن يؤذّن؟
m بمجرد أن يبدأ الأذان يجوز له أن يبدأ بالصلاة. والمهم هو دخول الوقت.
r ما هو حكم الصلاة بالحذاء؟
m إذا كان الحذاء طاهراً، وكان من جلدٍ مذكّى، ولم يمنع من السجود، بحيث لا يمنع الإبهام من أن يلامس الأرض، فلا مانع من ذلك.
r هل القنوت واجب في صلاة الجمعة؟
m القنوت ليس واجباً حتى في صلاة الجمعة.
r أنا معلِّمة، عندما أُصلي مع بناتي أُعلِّمهن ستر جميع أماكن العورة، لكن عندما يصلّين يظهر منهنّ شعر أو جزء من اليد. ماذا تفعل البنت في هذه الحال، هل تكمل الصلاة أو تعيدها؟
m إذا كان هذا الذي ظهر منها، سواء كان من الشعر أو اليد غير اختياري، فتستر ما ظهر وتكمل صلاتها.
r في ذمتي صلاة قضاء سنة كاملة، هل يجب الترتيب بين الصلوات الماضية؟ وهل يجوز لي أن أصليّ صلاة المغرب قبل صلاة الظهر؟
m يجوز للإنسان أن يصلّي صلاة المغرب قبل صلاة الظهر، المهم أن لا يصلّي العصر قبل الظهر، أو العشاء قبل المغرب.
r ما حكم من صلّى المغرب أربع ركعات ثم انتبه قبل الفراغ من الصلاة أو بعده؟
m إذا انتبه قبل أن يتجاوز الركعة الثالثة فيكمل صلاته، أما إذا انتبه بعد ذلك فعليه أن يُعيد صلاته.
r مجموعة من المصلين كانوا يصلون لفترة طويلة جماعةً دون قراءة أي شيء. ما هو حكم صلواتهم الماضية؟
m صلاتهم صحيحة إن شاء الله، وعليهم أن ينسجموا مع الخطوط الشرعية بعد ذلك.
r هل يجوز للمأموم أن يجهر بصوته على الإمام في صلاة الجماعة؟
m يُكره للمأموم أن يجهر بصوته، فلا بد له من أن يخفت صوته في السجود وفي الركوع وفي غير ذلك.
r لي زوج لا يلتزم بالصلاة، رغم أنه إنسان مؤمن وملتزم بكل ما يريد الله. ما هو موقفي منه؟
m عليكِ أن تعظيه وترشديه، وأن تقولي له إن الله سبحانه وتعالى تحدث عن أهل النار: )كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ((7). فالصلاة عمود الدين، إن قُبلت قُبل ما سواها، وإن رُدت رُد ما سواها. وهذا الزوج قاطعٌ للعلاقات الدبلوماسية مع الله سبحانه وتعالى. ومعنى ذلك أنّه إنسان مستعد لأن يبني علاقات طيّبة مع الناس لكنه ليس مستعدّاً لعلاقات طيّبة مع الله؛ مع أنّ الله هو الذي أنعم عليه بكل وجوده وبكل ما أعطاه، وعلى الإنسان أن يشكر المنعم في ذلك كله. فهو إنسان لا يشكر المنعم، ولذلك هو إنسانٌ لا يعيش المعنى الأخلاقي الذي يربط الإنسان بربه.
r كثيراً ما نسمع في صلاة الجماعة وبعد انتهاء الإمام من قراءة سورة الفاتحة، قول المؤمنين: الحمد لله، فهل يعتبر ذلك إضافة في الصلاة مثل قول: آمين؟
m مستحب أن يقول المصلي (الحمد لله رب العالمين) عندما ينتهي الإمام من قوله (ولا الضالين)، وكلمة (آمين) لم ترد من ناحية التشريع، ولكن لو قصد الإنسان بها الدعاء، أي اللهم استجب، فالإتيان بها لا على أساس أنها مستحبة في ذاتها جائز. ويذهب إلى هذا الرأي السيد الخوئي رحمه الله.
r أنا أسكن بقرب جامع تقام فيه صلاة الجمعة، فهل يجب علي الحضور أم لا؟
m نعم، يجب على المؤمن أن يحضر صلاة الجمعة إذا أقيمت بشروطها.
r هل يجوز أن يضع الإنسان عطراً على جسمه ثم يصلّي، خصوصاً أن العطر فيه بعض أنواع الكحول؟
m يجوز له ذلك، والكحول طاهرة عندنا وإن كانت شرعاً محرمة.
r ما هو حدّ الترخّص للمدن الكبيرة، ومن أين يفطر المسافر أو يقصر في المدن الكبيرة؛ من بيته أو من نقطة لا يرى الجدران منها ولا يسمع الأذان؟
m آخر بيوت المدينة ومحلاتها هو نقطة انطلاق المسافر، منها يحسب المسافة بدايةً ونهايةً، ولا فرق في ذلك بين المدن الكبيرة والقرية الصغيرة، أما حد الترخص، فيقدَّر بحوالي كيلومتر عن آخر بيوت البلد ومحلاتها.
r إحدى الأخوات لم تكن تفهم معنى القراءة الإخفاتية، فظنت أنها مجرد تصور لها في قلبها، والآن أصبحت تفهم المسألة بالشكل الصحيح، فهل يجب عليها قضاء ما جهلت وصلّته خطأً في بعض الحالات؟
m لا يجب عليها القضاء ما دامت جاهلةً جهل قصور، وصلاتها صحيحة إن شاء الله، وعليها أن تُصلح صلاتها فيما تستقبل.
r إن حبوب منع الحمل الشهرية تسبب لي حيضاً كل أسبوعين، فما هو حكم الصلاة في هذه الفترات، باعتبار أن هذا الحيض ليس طبيعياً كالدورة الشهرية؟
m لا بدّ لاعتبار الدم الثاني حيضاً، من أن يفصل بينه وبين الدم الأوّل أقل الطهر، وهو عشرة أيّام، وعندئذٍ، فإن كان الدم الثاني موافقاً لأيّام عادتها اعتبرته حيضاً، وإذا لم يوافق أيّام العادة، وكان موافقاً لصفات الحيض، فكذلك، وإلا اعتبر استحاضة.
إذا جاء الحيض مثلاً مدة أسبوع، وكان الفاصل بينه وبين الحيضة الطبيعية أقل من عشرة أيام، فهذا استحاضة، أما إذا كان هذا الحيض كل أسبوعين، بحيث يمتد إلى خمسة عشر يوماً في المقام، فتأخذ المرأة مقدار عادتها والباقي يُعتبر استحاضةً.
r عندما تكون المرأة في فترة الحمل ولا تستطيع السجود، لضيق في التنفّس يحصل لها، فهل تستطيع وضع شيء يرفع التربة من موضع سجودها حتى يتم السجود؟
m لا ترفع التربة، بل إما أنها تجعل مثلاً طاولة وتسجد عليها، أو تسجد بالإيماء إلى موقع السجود، فإذا استطاعت أن تركع ركعت، وتومئ للسجود، وإذا لم تستطع الركوع أيضاً، انحنت قليلاً للركوع، وأكثر منه للسجود.
r لي طفلٌ عمره سنتان ونصف، كثير الحركة، بحيث إنه يأخذ التربة من أمامي أثناء الصلاة، فما العمل؟
m العمل أنك عندما تعرف أن ابنك يفعل ذلك، فعليك أن تحتاط لنفسك في ذلك، كأن تمسك التربة بيدك، وتضعها حين تسجد، وهكذا.
r هل يصحُّ أن أُصلِّي على الحشيش باعتبار أن استقرار الجبهة لا يتحقّق عليه؟
m في الإمكان أن يستقرّ رأسه على الحشيش؛ ولذا فليس هناك ما يمنع من السجود عليه من هذه الجهة.
r هل يستحبُّ الإشارة بالإصبع عند قول «وحده لا شريك له» أثناء التشهد في الصلاة؟
m لا، ليس مستحباً.
r هل يجوز في الصلاة المستحبة أن أقرأ أجزاء من القرآن؟
m يجوز لك ذلك في الصَّلاة المستحبة، بل يجوز أن يكتفى بقراءة الفاتحة.
r مسجدٌ تُقام فيه صلاة الجماعة للرّجال، يتكوَّن من طابقين، مع إمكان رؤية الإمام من الطّابق الثّاني، فهل يوجد إشكال في صلاة من يصلّي في الطّابق الثّاني؟ وهل يعد الارتفاع فاصلاً عرفاً بالنسبة إلى الرجال؟
m إذا فرضنا أنّ الطّابقين كانا بمثابة مكان واحد بالنّسبة إلى المسجد، فلا مانع من انعقاد الجماعة في الطابقين، بحيث يكون الإمام في الطابق الأوّل، والمصلّون خلفه في الطابق الثّاني؛ سواء صلّى الرجال في الطابق الأعلى أو النساء. نعم، لا بدّ من أن تتأخّر النساء عن الرجال إذا كان الرجال يصلّون خلف الإمام. أمّا لو كانوا جميعاً رجالاً، فلا مانع من صلاتهم في الطابقين خلف الإمام.
r ما حكم من شكَّ في تحقُّق المسافة المشروطة لصحَّة الجمعة؟
m إذا لم يُحرز تحقّق المسافة وصلّى الجمعة فصلاته محلُّ إشكال.
r أنا فتاة أبلغ من العمر 12 سنة في الصف الخامس الابتدائي، أدرس كثيراً، أدرس في وقت الصلاة وبعد فترة أُصلِّي، هل هذا جائز؟
m ما دام الوقت باقياً فيجوز لكِ ذلك، وأما إذا كانت الدراسة تأخذ الوقت كله، بحيث تحول الصلاة صلاةً خارج الوقت فلا يجوز. وعلى كلّ حال، فالأفضل أن يصلّي الإنسان في أوّل الوقت ما أمكنه ذلك.
r هل يعتبر الحبر حاجباً في الوضوء؟ وهل ما يسمّى القلم الجافّ له الحكم نفسه؟
m لا يعتبر الحبر حاجباً في الوضوء.
r أعرف أن خروج الريح مبطل للصلاة، ولكن حين أتوجه للوضوء في بعض الأحيان، أشعر أنه يحدث خروج للريح، ولكن ليس بالصورة المعتادة، ولا أستطيع أن أتأكد، هل خرج الريح أم لا، فما الحكم؟
m مع الشك بخروج الريح، يُبنى على عدمه وعلى صحة الوضوء.
r منذ فترة، وأثناء وضوئي، وتحديداً عند غسل الوجه، كنت أتعمَّد أن لا أغسل وجهي من منبت الشعر بل من تحت المنبت بقليل، وذلك حتى لا يتصل ماء مسح الشعر بماء غسل الوجه ، فهل يعتبر الوضوء باطلاً، وبالتالي ما حكم الصلاة؟
m إذا كنت لا تغسلين تمام الوجه فوضوؤك باطل، ويجب إعادة الصلاة التي صلَّيتها بهكذا وضوء.
r ما حكم صلاة من أنهى صلاته واكتشف بعد الصلاة وجود مانع للوضوء، كبقعه حبر على يده؟
m لا يمنع ذلك الوضوء، ومع اكتشاف المانع والشك بتقدمه على الوضوء أو لا، يحكم بصحة الصلاة.
r أحبُّ زوجي كثيراً ولكنه لا يصلِّي، ولا أستطيع الابتعاد عنه، وهو يقول إنه يصلي مع أني لم أره قطّ، وأنا متأكدة أنه لا يفعل، أرشدوني... ماذا أفعل؟
m حاولي إرشاده وموعظته ولا إثم عليك في ذلك.
r أجرت زوجتي عملية في عيونها، والطبيب منعها من أن تغسل وجهها أو تُحني رأسها إلى الأسفل، ما هو حكم الصلاة فيه هذه الحالة؟
m حكمها هو التيمّم، أمّا بالنسبة إلى الصلاة، فتومئ إيماءً بالمقدار الذي لا يضرّ بها، وذلك بأن تخفض رأسها للرّكوع بمقدار معيّن، وأكثر منه بقليل للسجود.
r هل يجوز ذكر البسملة قبل التسبيحات الأربع في الركعة الثالثة؟
m لا، ليست مشروعة أن يسمي قبل التسبيحات، المشروع أن يسمي قبل قراءة الفاتحة والسورة.
r هل يجوز للمأموم أن يقول (كذلك الله ربي) بعد سورة التوحيد ما دام الإمام لم يقل؟
m نعم يجوز له ذلك؛ لأن ذلك من الذكر الذي يجوز للمأموم أن يأتي به.
r هل يجوز أن يصلِّي الإنسان صلاةً كاملةً، وهو مسافر من إيران إلى سوريا، وقد نوى أن يقيم خمسة أيَّام؟
m لا يجوز له ذلك، بل لابد له من أن يصلي قصراً.
r ما حكم الوضوء من غير تعيين الصَّلاة لأيِّ وقت؟
m يجوز للإنسان أن يتوضَّأ ليكون على طهارةٍ في وقت الصلاة أو في غير وقت الصلاة.
r كيف يكون السجود في الفضاء الخارجي؟ وكيف يكون اتجاه القبلة؟ وهل تصبح الصلاة في الفضاء مجرَّد دعاء؟
m الإنسان الذي لا يستطيع أن يسجد على الأرض، وحتى في حالة الصلاة من الناحية المرضية، يسجد بالإيماء. واتجاه القبلة يكون إلى الأرض.
r ما حكم صلاة الذي يشكُّ في السجدتين الأخيرتين من الصلاة؟ وما هي كيفية قضاء السجدة المنسية؟
m إذا شكّ فيبني على الأقلّ، أمّا قضاء السجدة المنسية، فتكون بعد أن يسلّم وقبل أن يقوم بأيِّ شيءٍ من منافيات الصلاة.
r إذا صلَّى الشَّخصُ صلاة الفجر قضاءً مع المغرب، هل يجب عليه الجهر؟
m عليه أن يصلّيها كما فاتته، فما دام قد فاتته صلاة الفجر التي يجب أداؤها جهراً، فلا بد من أن يقضيها جهراً.
r شخص يصلي نيابةً عن والده وهو لا يصلي، ما رأيكم في هذه الصلاة؟
m إذا كان المقصود أنّ أباه لا يصلّي كليّاً، ففي رأينا أنّه لا يجب على الولد الأكبر أن يصلّي عنه، وأمّا إذا كان المقصود أنّ الشّخص الذي يصلّي نيابةً عن والده لا يصلّي عن نفسه، فصلاته التي يصلّيها بشروطها عن والده صحيحة، ولكنّ عليه أن يُراجع حساباته في قضيّة إيمانه والتزامه.
r أثناء صلاتي، يقوم ابني الصغير بأخذ التربة، فأضطر أن أضع إبهامي بدل التربة، هل هذا يجزئ؟
m هذا لا يُجزىء، بل على الإنسان أن يضع شيئاً يسجد عليه مما يصحُّ السجودُ عليه.
r مسافرٌ كان ينوي أن يمكث في مكان سفره خمسة، أيام فصلى قصراً، وبعد انتهاء الخمسة أيام قرر أن يضيف عليها خمسة أيام أخرى، فكيف يصلي؟
m يصلّيها قصراً في المقام؛ لأن صلاة التمام إنما هو إذا كان من أول مجيئه يقصد إقامة عشرة أيام.
r هل الرُّكوع فيه حدٌّ معيَّن بالنسبة إلى المرأة، خصوصاً إذا كان بوجود رجال؟
m لا، تركع بالطريقة الطبيعية، سواء كان هناك رجال أو لم يكن هناك رجال.
r هل صحيح أنه إذا سمعت المرأة بوجود صلاة الجماعة، ولم تصلّها معهم، تحمل إثماً كبيراً؟ وهل نية صلاة الجماعة كالصلاة العادية؟ وكيف يؤدّيها؟
m ليس صحيحاً أنّها تأثم؛ لأنَّ صلاة الجماعة ليست واجبة لا على المرأة ولا على الرجل. وأمّا النَّية، فالإنسان ينوي في نفسه أن يصلِّي مأموماً، أي أن يصلِّي جماعةً وراء هذا الإنسان الذي يأتمّ به، ويتقيّد بأصول صلاة الجماعة في أنه لا يقرأ السورة الفاتحة والسورة؛ لأن إمام الجماعة هو الذي يتحمّلها عن المصلّين خلفه، ويأتي المأموم ببقية الأفعال والأذكار.
r هل تصحُّ الصلاة إذا قمنا بها ولم ينتهِ المؤذّن من الأذان؟
m تصحّ بمجرَّد أن يدخل الوقت، سواء أذَّن المؤذن أو لم يؤذن.
r المصاب بنوبات صرع، إذا أتته نوبة الصّرع، واستمرّت حتى انتهى وقت الصّلاة، فهل يجب عليه أداء الصّلاة أو قضاؤها؟
m مثل هذا لا يجب عليه الأداء إذا كان غير قادرٍ في حال نوبات الصرع؛ وإذا كانت حالة الصرع لا تؤدّي إلى إغمائه فيجب عليه القضاء.
r ما حكم من لا يستطيع تأدية الصلاة أثناء العمل لضررٍ أو حرجٍ يتعرّض له بسبب أدائها؟
m لا يجوز للإنسان أن يعمل عملاً يضطرّ فيه إلى ترك الصلاة، وعليه أن يتجاوز الحَرَج ويتحمّل الضرر في هذا المجال إذا أراد البقاء في عمله.
r أحياناً أجدني أكملت سورتي الفاتحة والتوحيد في موضع السبحانيات للركعة الثالثة أو الرابعة، فأكتفي بهما بديلاً وأكبِّر وأركع، فهل هذا صحيح؟ وهل يستوجب سجود السهو؟
m يصحّ ذلك، ولا موجب لسجدتي السهو.
r هل إن استمراري في الصّلاة عمّا في ذمّتي يجعلها بحكم الواجبة لوقتها مع كل فرض؟
m القضاء واجب موسع، بمعنى أنّه لا وقت مخصَّص له، بل ما دام العمر، شرط ألاّ يؤدّي التأخير إلى الإهمال.
r ما حكم التكبيرات الثلاث بعد التسليم؟ وهل تركها يفسد الصلاة أم لا؟
m هي مستحبة وليست واجبة.
r هل تشترط العدالة في إمام الجماعة؟ وما هي حدودها؟
m نعم، يشترط ذلك، وقد ورد تحديد العدالة في الرواية: ((من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدَّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته))، مع الالتزام بالأحكام الشـرعيَّة الأخرى.
r هل يجوز ترديد الدعاء مع إمام الجماعة بصوت عالٍ؟
m يكره رفع الصوت للمأموم في صلاة الجماعة، عدا حالة القنوت، فإنه لا بأس به.
r في الأيام المستحب فيها الصيام، هل يفطر الصائم إذا شرب الماء بشكل غير متعمد؟
m إذا تناول الصائم المفطر نسياناً، سواء كان صيامه مستحباً أو صياماً واجباً، فصيامه صحيح.
r هل يلزم الجاهل بقضاء عبادته قبل أن يقلّد أحداً من المراجع، كما في إفطار الصوم عمداً في شهر رمضان؟
m عليه أن يكفِّر وأن يقضي.
r من يشكو الفتق في المعدة، هل يجوز له الصوم مع لزوم أخذ الدواء عليه؟
m إذا كان يمكنه أن يأخذ دواءه في الليل، بحيث لا يقع في مشكلةٍ صحّية خلال النهار، فيجب عليه الصوم. وأمّا إذا كان لا بدّ من أن يأخذه نهاراً، فلا يجب عليه الصوم؛ لأن الامتناع عن الدواء يمثل ضرراً عليه.
r رجلٌ طلب من زوجته المعاشرة نهار شهر رمضان ولم تستطع ممانعته، لما هو معروفٌ في مجتمعنا من سيطرة الرجل على المرأة، هل تُعدُّ هذه المرأة مُكرهة أم لا؟
m إذا كانت تستطيع التخلّص منه فيجب عليها ذلك، أما إذا كان أكرهها إكراهاً ضاغطاً، فتكون مكرهة ويتحمّل هو كفَّارتها وكفَّارته.
r هل يجب الخمس في الأقساط التي تدفع للتأمين على الحياة في حالة استرداده؟
m الأقساط تملّك لشركة التأمين، وعندما تعطيك شركة التأمين، فإنّها لا تعطيك نفس الأقساط، بل تعطيك ما أمّنت عليه إذا كان له وقت معين، وهذا يشبه الأرباح التي ستربحها إذا مرّت عليها سنة، فيجب الخمس فيها.
r طوال فترة حياتي، وبسبب محدودية الراتب، لم أقم بدفع (الخمس)، لأن راتبي لا يكفي لسدّ حاجاتي الضرورية، والآن أنا متقاعد، ولي راتب شهري لا يكفي، ما يضطرني إلى سحب مبلغ من تعويضي، وهذا المبلغ في تناقص مستمر، وأفيدكم أنني اشتريت قطعة أرض من التعويض ولكن لي شريك فيها، فهل يتوجب عليّ الخمس؟
m ليس عليك الخمس ما لم يفضل شيء من أرباحك عن مؤنة سنتك. وبالنسبة إلى الأرض، إن لم تكن معدّةً للبناء عليها للسكن المحتاج إليه، ففيها الخمس عند نهاية الحول بالنسبة إلى حصتك منها.
r ما رأيكم في الزكاة، هل هي واجبة في الأموال النقدية أم لا؟ وإذا كانت واجبة فلم لا تدفع وهي منصوص عليها في الكتاب والسنّة؟
m رأينا على الأحوط وجوباً أنه لا بد من دفعها في الأموال النقدية.
r إذا اشتريت شقةً قبل مضي السنة الخمسية، فهل يتوجب علي أن أدفع خُمس مبلغ الشقة؟
m إذا كانت الشقة حاضرة لك واشتريتها من أرباح السنة فليس عليك شيء.
r ما هو الفرق بين الأموال التي تجب فيها الزكاة وتلك الأموال التي يجب فيها الخمس؟
m الأعيان الزكوية هي الغلات الأربع والأنعام والنقدان الذهب والفضة بشروط خاصة، والأحوط وجوباً إخراجها من الأموال الورقية أيضاً، أما الخمس، فهو نسبة العشرين بالمائة من الأرباح التي تفضل عن مؤونة السنة وأشياء أخرى كالمعدن وغيره.
r على فرض أني أخرجت الخمس في اليوم المقرَّر فيه إخراج الخمس، وبعد هذا الإخراج بساعة أو ساعتين من اليوم نفسه، حصلت على مبلغ بطريقة ما، فهل يجب عليَّ تخميس هذا المبلغ الذي حصلت عليه أم لا يشمله الخمس؟
m بعد حلول يوم رأس سنتك، لا يجب تخميس المبالغ المستجدة، لأنها من أرباح السنة الجديدة.
r عندي مبلغ من المال في أحد البنوك خارج بلدي، ومنذ سنتين، لم أتمكن من سحب هذا المبلغ لظروف خارجة عن إرادتي، فهل يعتبر هذا المبلغ في هذه الحال داخلاً في حد الخُمس؟
m إذا مرت على المال سنة فيجب عليك أن تخمّسه.
r هل يعتبر من المعصية إن كان المكلف يصرف أموال الخمس والزكاة بنفسه دون الرجوع إلى المرجع؟
m إذا قلنا إنّ هناك احتياطاً وجوبياً، فقد لا تبرأ ذمته على مستوى الاحتياط الوجوبي.
r شخصٌ أخذ مالاً ديناً لشراء سيارة، وكان عنده سوبر ماركت، فمضت سنة على المال الذي في المحلّ ولم يخمّسه، فهل يتوجب عليه الخمس وعليه دين ثمن السيارة، مع العلم أن السيارة عنده وهي ضرورية له؟
m عليه أن يحسب ماله في تلك السنة، فإذا فرضنا أنّ الدَّين الذي كان عليه هو دين تلك السنة وليس دين سنين سابقة، وكان بمقدار الربح، فلا خمس فيه، وإذا كان أقل من الربح فيخمّس الزائد.
r أنا موظَّف في القطاع العام، وتقوم الدولة بأخذ ضريبة دخل على المعاش والكهرباء والماء، فهل يجب عليَّ الخُمس وأنا أدفع كل هذه الضرائب؟
m طبعاً، لا نستطيع أن نعتبر ضريبة الدولة مقابل الخمس، فإذا فضل من راتبك شيء في آخر السنة، أو مما حصلت عليه، فيجب تخميسه ولا يسقط بضريبة الدولة.
r عندي مبلغ من المال أجمعه من سنين عديدة لكي أشتري بيتاً، وإلى الآن لم أشترِ البيت. فكلما أجمع مبلغاً يرتفع سعر الدار، فهل عليَّ الخُمس؟
m لو كُنت تدفع ثمن البيت أقساطاً، وجمعتَ لكل سنةٍ قسطها مثلاً، فهنا ليس عليك خمس، وإنّما يتوجّب الخمس عليك إذا ادّخرته لمدّة سنة.
r يوجد معي مبلغ من المال منذ ثلاث سنوات بدافع أن يتحسّن سعره، ولكن سعره لم يتحسَّن، والآن أريد أن أتخلص من المسؤولية الشرعية، فماذا أفعل؟
m عليك أن تخمّس هذا المال.
r أدَّخر راتبي لأكثر من سنتين، لأتمكن من شراء منزل لأتزوّج، هل يجب علي تخميس المال؟
m يجب تخميس المال إذا مرَّت عليه سنة.
r عندي مبلغ نيابة حج من السنة الماضية، ولم أذهب إلى الحجّ، فهل يخمَّس؟
m من الطّبيعي أنّ عليه الخمس؛ باعتبار أنّه عندما استئجرت عليه، فقد أصبح هذا المبلغ ملكك ومن مكاسبك، فإذا مرّت عليه السنة فعليك أن تخمّسه.
r رجلٌ تاجرٌ اختلطت أمواله الحلال بالحرام في التجارة لمدة طويلة، والآن أراد أن يصفِّي المال، فماذا يفعل؟
m المال الحلال المختلط بالحرام إذا لم يعرف صاحبه أو مقداره فطريقة تطهيره هو تخميسه.
r الطواف حول الكعبة عكس اتجاه عقرب الساعة، فلماذا لم يكن بالاتجاه الآخر؟
m لقد تعبّدنا اللّه بذلك.
r ما حكم الاستظلال داخل مكّة نهاراً بالنسبة إلى الحجّاج أو المعتمرين؟
m في كلّ مكان ينـزل فيه المحرم، يجوز له أن يستظلّ. نعم، ليس له في المسافة التي ينتقل فيهما من موقع إلى موقع أن يستظلّ.
r والدي متوفى ووالدتي على قيد الحياة، فهل يإمكاني الحجّ عنهما وأنا أصغر إخواني؟
m لك أن تحجّ عن والدك، ولكن إذا كانت والدتك قادرة على الحج فعليها أن تحجّ بنفسها. نعم، إذا لم تكن قادرة على الحجّ جسدياً، ولكنها قادرة مالياً، فعليها أن تستنيب.
r رجل تجاوز الخمسين ولم يصلّ قطّ، ولم نشعر بميول دينية لديه من قبل، وهو الآن يستعد لأداء فريضة الحج، فهل يصحّ حجّه؟
m إذا تاب فإنّ الله يقبل حجّه، وعليه أن يقضي صلاته بعد ذلك.
r تقولون في كتابكم (مناسك الحج) إن من عنده أموالاً مغتصبة لا يجب عليه الحج، ولو حجّ فله أن يستقرض لشراء ثوبي الإحرام والهدي ليكون الحج مقبولاً، فكيف يكون ذلك؟
m أولاً: إن النقل غير دقيق، فنحن نقول إن الإنسان الذي لديه أموال مغصوبة لا يجوز له أن يحج بها، ومن الطبيعي أن يحرم عليه الحج إذا لم يكن مستطيعاً من جهة ثانية، لكن لو فرضنا أنه مستطيع وحج بالأموال المغصوبة فهو مأثوم، ولكن حجه صحيح، لأنه لم يصرف الأموال في نفس الحج، أي إذا كان ثوبا الإحرام غير مغصوبين، فتارة يحج بالمغصوب، أي أنه يلبس المغصوب فهذا لا يجوز، أما إذا كان عنده مال مغصوب ودفع أجرة الطائرة أو أجرة المنـزل، فهذا لا يفسد حجه، فالذي يفسد الحج هو ثوب الإحرام إذا كان مغصوباً، فالحكم الوضعي ـ كما يقال ـ شيء، والحكم التكليفي شيء آخر.
r زوجي مقبل لأداء فريضة الحج لأول مرة، فهل عليه الحلق أم التقصير يجزي، مع العلم أن الحلق يسبب له إحراجاً في العمل؟
m في رأينا هو مخيّر بين الحلق والتقصير، والحلق أحوط وأفضل.
r من أي سن يحرم على الصبيان أو البنات أن يدخلوا مكة المكرمة إلاّ محرمين؟
m حرمة دخول مكّة من دون إحرام تختصّ بالبالغين، ولكن يستحب لولي غير البالغ إذا لم يكن مميزاً أن يُحرم به، بأن يلبسه ثوبي الإحرام ويلقّنه التلبية مع القدرة عليها، أو يلبّي عنه مع عدم القدرة، وأمّا المميز، فإنّه يقوم بذلك بنفسه.
r ما هي النية التي تعقدها المرأة التي تحج للمرّة الثانية بعد شكها في صحة الحجة الأولى؟
m تنوي الإتيان بأعمال العمرة والحج بدون قصد الوجوب والاستحباب، بل تقتصر على قصد التقرب إليه تعالى. فمثلاً تنوي الإحرام للعمرة هكذا: أحرم لعمرة التمتّع قربةً إلى الله تعالى. وفي نية الوقوف في عرفة تنوي هكذا: أقف في عرفات لحج التمتّع قربةً إلى الله تعالى، وهكذا.
r هل يجب على من تجاوز الميقات سهواً أو جهلاً وتذكر أو علم قبل أن يحرم، الرجوع إلى الميقات لأجل الإحرام؟ أم يجزيه الإحرام في المكان الذي هو فيه؟
m يجب عليه الرجوع للإحرام من الميقات مع الاستطاعة، وإلا فيحرم من مكانه إن كان خارج الحرم، أمّا إذا كان داخله، وكان باستطاعته الخروج، فإنَّ عليه أن يخرج ويحرم، وإلاّ فيحرم من مكانه ويصحّ عمله.
r هل رأيكم الجديد بصحة الوقوف بعرفة هو الإجزاء حتى في صورة العلم بالمخالفة القطعية، وأن اليوم المحدد ليس يوم الوقوف فعلاً؟
m نعم، الوقوف بعرفة في التاريخ الذي تعلنه الجهة المسؤولة عن شؤون الحج مجزئ ومبرئ للذمة حتى في حال العلم بالمخالفة.
r إذا لم يصلٍّ الحاج ركعتي الطواف خلف مقام إبراهيمt جهلاً أو نسياناً، فما حكم طوافه؟
m عليه أن يأتي بهما حين التذكر ولو في بلده، ويصحّ طوافه.
r نظراً للزحام الكثيف في الطواف، ونظراً للإحراجات الشرعية التي تقع فيها المرأة، من التدافع مع الرجال الأجانب وغيره، هل يتعين عليها الطواف خارج مقام إبراهيم، أم تبقى مخيّرة في ذلك؟
m يجوز الطواف خارج مقام إبراهيم في كل الظروف، وقد يجب في مفروض السؤال.
r لماذا سمي طواف النساء بهذا الاسم؟
m لأنّه لا يحلّ الجماع للمحرم، ولا غيره من الأفعال الجنسية، رجلاً كان أو امرأةً إلاّ بعد الإتيان به، وقد كُنّي عن ذلك بالنساء لأسباب بلاغية.
r هل تجب الموالاة بين الطواف والسعي؟
m لا تجب الموالاة بينهما، ولكن لا يجوز أن يؤخّر السعي إلى اليوم التالي.
r ما هو الحكم عند الشك في عدد أشواط السعي؟
m الشك في عدد أشواط السعي موجب لبطلانه، إلا أن يكون على المروة ويشك في أنه في السابع أو الثامن، فيبني على أنه في السابع ويصحّ سعيه.
r هل يصح رمي الجمار الثلاثة من الطابق العلوي؟
m يصحّ ذلك.
r حاج رمى في اليوم الحادي عشر الجمرة الصغرى ثم الكبرى ثم الوسطى، وفي اليوم الثاني عشر رمى بالترتيب الصحيح، وفي اليوم الثالث عشر تذكر بأن اليوم الحادي عشر كان رميه خطأً، فما هو حكمه؟
m عليه أن يعيد الرمي عن ذلك اليوم بما يحقّق الطريقة الصحيحة، أي يعيد الرمي على الوسطى ثم الكبرى.
r شخص رمى الجمرة الوسطى بأكثر من سبع حصيات، وأتمّ الأعمال إلى اليوم الثالث عشر، فما هو حكمه؟
m لا يضرّه ذلك.
r ما حكم المكلّف الذي شك في صحّة حجّه بعد مرور أكثر من عام على ذلك؟
m الشك بعد الفراغ من العمل لا يُعتنى به، ولاسيّما بعد مرور أكثر من عام.
r نحن نسمع دائماً أن الإنسان عندما يؤدي فريضة الحج يعفو الله عنه ويمحو ذنوبه، ما عدا حقّ أخيه الإنسان، فهل هذا صحيح؟ وهل يسامحه الله بالواجبات الدينية التي قصّر بها، وما الذي يغفره الله للإنسان عند الحج؟
m غفران الذنوب لا يعفي الإنسان من أداء الحقوق، سواء تجاه ربه أو تجاه الناس، فعليه أن يقضي ما فاته مما يمكن قضاؤه.
r قيل إن الحج عرفة، فهل ما سواها من أفعال الحج دونها؟
m لأنه لا بد للإنسان من أن يقف في عرفة كركن من أركان الحج.
r هل كانت وقفة عرفة يوم السبت، أم كانت بعد ذلك؟
m كانت يوم السبت بحسب الثبوت الشرعي؛ ولكن من الناحية الشرعية، هناك رأي نتبنّاه وآخرين، أنّ الموقف بحسب إعلان السلطات هناك مجزٍ حتى لو كان مخالفاً للواقع.
r ما حكم المرأة التي يهجرها زوجها سنةً كاملة؟ هل تحلّ له بالرجوع إليه تلقائياً؟
ج : لا تبين المرأة من زوجها إلاّ بالطلاق، أماّ بالهجران فلا تبين.
r هل يجوز السفر للعمل والابتعاد عن الزوجة لمدة طويلة، أربعة أشهر مثلاً أو أكثر؟
ج : لا بد له من أن يتفق مع زوجته على ذلك.
r هل يمكنك إعطائي حديثاً متواتراً يثبت فكرة الزّواج المؤقّت؟
m شرعية المتعة هي مما نص عليها القرآن الكريم: )فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً((8). وأجمع المسلمون على شرعيتها زمن الرسول(ص)، وقد مارسها المسلمون، وإنما اختلفوا في نسخها أو تحريمها بعد ذلك، والشيعة بقول واحد على عدم النسخ والتحريم لأنّه لا يحق لأحد تحريم ما أحلّ الله ورسوله، ولا دليل على النسخ بتاتاً.
r هل يجوز زواج المتعة من رجل على غير مذهبي؟ وهل يجوز للفتاة الراشدة التزوّج من دون إذن أهلها؟
m لا بدَّ لصحة التزوّج متعةً من المخالف، أن يكون معتقداً بشرعية ذلك الزواج، لأنه إذا لم يكن معتقداً بشرعيته، فلا يكون جاداً في العقد، بل يكون مخادعاً للمرأة.
ويجوز للفتاة البكر الرشيدة أن تستقل عن وليها في تدبير أمورها كافةً، ومن ذلك أن تجري عقد زواجها الدائم أو المنقطع دون الرجوع إلى وليها لأخذ موافقته، لكنه رغم صحة عقد زواجها ونفوذه، فإن الأجدر بها مراجعة وليها وأخذ إذنه في ذلك، مراعاةً للأعراف الاجتماعية النافعة، لما فيها من حماية للفتاة وضمان لمستقبلها.
وفي هذا الصدد، فإننا ننصح الفتاة في عقد الزواج المنقطع (زواج المتعة)، أن تشترط على الشاب عدم الدخول بها، وأن تقصر مدة العقد كي تبقى قادرةً على التحرر من الزواج في أقصر مدة.
هذا، والرشد هو كون الفتاة على درجة من الوعي والمعرفة بقضايا الناس، تجعلها قادرةً على اختيار الأفضل لها، ولذا فهو لا يتحدد بعمر معين، لكن الفتاة لا تكون كذلك ـ غالباً ـ إلاّ بعد تجاوزها سن السادسة عشرة.
r امرأة مسيحية اطلعت على الإسلام واقتنعت به، وأرادت أن تدخل فيه، إلا أن هناك صعوبة في صميم الإسلام، وهو أن عليها أن تنفصل عن زوجها، وهذا أمر صعب بالنسبة إليها ولحياتها الزوجية. فما هو الحل؟
m عليها أن تسلم إذا اقتنعت بالإسلام، أما بقاؤها مع زوجها فهو معصية، وهو علاقة غير شرعية في هذا المقام، وعليها أن تكون ذكية في معالجتها.
r هل ليلة ثالث أيام العيد مناسبة للزواج؟
m كل الليالي مناسبة للزواج.
r هل يمكن إسقاط حق الزوج بالحضانة بعد السنتين ضمن عقد لازم تشترط فيه الزوجة إسقاط حق الحضانة عن الزّوج، كأن تنشئ الزوجة الإيجاب بأن تقول للزوج: بعتك هذا القلم بمبلغ دولار بشرط أن تسقط حقك بالحضانة إذا عدت إلى لعب القمار، ويقول الزوج: قبلت؟
m يجوز ذلك.
r ماذا يعني أن تكون العصمة في يد المرأة؟ هل يعني ذلك أن الرجل يفقد حقّّه في تطليق المرأة، أم أنّ الحق حينها يعود إلى كليهما؟ الرجاء التوضيح؟
m يكون الحق لكليهما، ولكن لا من خلال جعل العصمة بيدها، فإن ذلك لا يصح شرعاً، بل من خلال اشتراطها وكالةً عن الزوج لنفسها في عقد الزواج ـ مثلاً ـ بطلاق نفسها.
r فُقد زوجي في العراق قبل ثلاث سنوات، وأجرينا بحثاً عنه ولم نجده، هل يمكن لي الزواج؟ وهل أعتدّ أم لا؟
m لا بد من التأكد من وفاته بطريقة أو بأخرى، فإذا حصلت هناك حجة على وفاته، فتعتدّ المرأة من حين بلوغها الخبر، ولها أن تتزوج بعد ذلك.
r هل يجوز الزواج من امرأة أجنبية زواجاً منقطعاً، علماً بأنّها لا تعرف اللغة العربية، وأنها غير مسلمة؟
m الزواج المؤقّت ليس كلمة تقولها المرأة، بل يجب أن تقصد الزوجة معنى الزواج المؤقّت لكي تصبح العلاقة شرعية، والغالب من هؤلاء أنهم لا ينفتحون على الزواج المؤقت، ولكن إذا فرضنا أنه أفهمها معنى الزواج المؤقت واقتنعت به، فيجوز العقد بينه وبينها بلغتها، لأنه لا يُشترط في صحة العقد أن يكون بالعربية، إضافةً إلى اشتراط كون المرأة كتابية.
r فيما يتعلّق بمهر الزواج، ما المقصود بالغائب؟ وهل له أجل؟ ونحن كمسلمين أليس من المفروض أن نحدّد المهر بالدينار والدرهم الإسلامي؟
m الغائب هو المهر المؤجّل، وهذا إمّا أن يكون أقرب الأجلين، أو عند الطلب، أو بعشر سنين أو أكثر أو أقل، أي حسب اتفاق الزوجين. وأما المهر بالدرهم والدينار الإسلامي، فقد كانت هذه هي العملة المتداولة في الماضي، أمّا اليوم، فالعملة هي العملة التي نتداول بها. وليس هناك نصّ يقول إنّه يجب أن يحدّد المهر بالدينار والدرهم الإسلامي.
r هل يجوز للحاكم الشرعي تطليق المرأة المفقود زوجها؟
m على الرأي المشهور لا، ولكن عندنا رأي ـ وهو أيضاً رأي المرحوم الشيخ حسين الحلي من علماء النجف الكبار ـ أنه يجوز ذلك.
r فُقد رجل متزوج لأكثر من سنتين، ولا يعرف له أي أثر، فما حكم زوجته؟
m لا بدّ من انتظار أربع سنوات يفحص عنه خلالها، فإذا لم يعثر عليه، ولم يكن هناك من ينفق عليها، فللحاكم الشرعي أن يطلّقها.
r امرأة ثبت لمن حولها خيانتها لزوجها، وقد تم نصحها إلا أنها لم ترتدع. هل يبلغ الزوج بذلك أم لا؟
m قذف المحصنات يحتاج إلى حجّة شرعية في هذا المجال. ولذلك فإن القاذف للمحصنة إذا لم يكن لديه حجّة، وهم أربعة عدول، فإنه يُجلد حدّ القذف. ولذلك عليهم أن يسلكوا السبل التي يمكن أن تردعها بطريقة أو بأخرى.
r شخص له علاقة غير شرعية بامرأة، ولكنه قد تزوج بها بعد مرور خمسة أشهر من الحمل، فهل يصح هذا الزواج؟ وماذا لو تاب؟
m المشهور لدى الفقهاء، أن من زنى بذات بعل حرُمت عليه مؤبداً على المشهور بين الفقهاء، ورأينا هو جواز التزويج بها. أما إذا كانت هذه الزانية غير متزوجة وزنى بها، فيجوز له بعد ذلك العقد عليها. أمّا الولد فهو ابن زنى، والزواج لا يجعله ولداً شرعيّاً. وعلى كلّ حال، فرأينا هو جواز الإلحاق بنسب الأب، وأنّ ما يُمنع منه هو الإرث خاصّة.
r أنا زوجة رجل فُقد منذ ثلاث سنوات ونصف في العراق، هل يكفي عند إتمام أربع سنوات الزواج بعدها مباشرة دون إجراء عملية طلاق؟
m يجوز إجراء الطلاق بعد الفحص واليأس عنه وعليها العدة.
r هل يصحّ الطلاق من رجل طلّق زوجته في ساعة غضب؟
m للطلاق شروط، أولاً أن يكون الإنسان مالكاً لعقله ولإرادته، وثانياً أن تكون المرأة في طهر لم يواقعها فيه الزوج، وثالثاً أن يكون هناك شاهدان عدلان، فإذا لم يتحقق أي واحدٍ من هذه الشروط، فالطلاق باطل.
r إذا عقد شاب على فتاة بالغة راشدة عقداً مؤقتاً، ومن ثم أراد أن يعقد عليها عقداً دائماً على الرغم من أن المدة لم تنته؟
m عليه في هذه الحال أن يهبها المدة، فإذا وهبها المدة أمكنه أن يعقد عليها عقداً دائماً.
r هل النظر إلى النسب مطلوب عند الزواج أم لا؟
m المطلوب اختيار الزوجة وفق المعايير الأخلاقية، ((إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه))، سواء بالنسبة إلى الزوج أو الزوجة. فعلى الإنسان أن ينظر إلى الزوجة من خلال أخلاقها ودينها وكل ما يتطلبه الإنسان في المرأة التي يعاشرها، ليعيش السكينة في حياته من خلال المودة والرحمة. هذا هو الأساس، ثمّ يُمكن له أن يريد نسباً معيّناً، أو غير ذلك من الصفات؛ ولكن لا يكون ذلك على حساب الدين والأخلاق؛ لأنّ هذين هما أساس توازن حياة العائلة.
r امرأة خانت زوجها فقط من خلال الإنترنت، أي تكلمت مع رجل. ما موقفي أنا بعدما عرفت ذلك من خلال قراءتي لرسائلها؟ هل أقطع علاقتي بها، مع العلم بأنها ملتزمة ومحجبة، وتسألني دائماً عن الأحكام الشرعية؟
m هذا يمثل حالةً غير أخلاقية، ولكن لا يمثل خيانة زوجية بالمعنى المعروف للخيانة الزوجية؛ ولذلك فإننا ننصح هذا الرجل، بأنّها ما دامت هي محجبة وملتزمة بالصلاة وتسأل عن الأحكام الشرعية، أن يعظها ويرشدها ويهديها إلى سواء السبيل، وأن يبصّرها بخطورة ما هي فيه في هذا الاتجاه الذي قد ينطلق من بعض نقاط الضعف؛ لأن بعض النساء ربما تعيش نقاط الضعف من خلال زوجها، فتتطلب نقاط القوة من الآخرين، وخصوصاً إذا كان الآخرون هم الذين يحاولون إغراءها وإيجاد العلاقات معها.
r هل الزواج واجبٌ في الإسلام؟ وهل يرتكب الإنسان حراماً إذا لم يتزوج؟!
m نعم، الزواج واجبٌ عليه، إذا كان تركه للزواج يؤدّي به إلى ارتكاب المعصية، من قبيل الزنا، أو يؤدي إلى الانحراف عن الخط الإسلامي في العفة، مثل الذين يمارسون الاستمناء (العادة السرية).
r هل تزويج الأولاد واجبٌ على الوالدين؟
m ليس واجباً، ولكن على الآباء أن يعملوا على تحصين أولادهم بالزواج.
r تقدَّم لي شخص طالباً الزواج، ولكنّه اشترط عليَّ خلع الحجاب، فما الحكم في ذلك؟
m لا يجوز لك خلع الحجاب، وعليك أن تشترطي أنت عليه البقاء على الحجاب وأن تحافظي على التزامك الديني.
r هل يجوز لرجل التمتع من امرأة مسيحية بدون إذن زوجته المسلمة؟
m هناك خلاف، ورأينا أنه يجوز ذلك؛ ولكن بشرط أن تفهم هذه المسيحية معنى الزواج المؤقّت، وتقتنع به، وتنشئ العقد على أساس مضمونه، وأنّ العلاقة هي علاقة زواج.
r إمرأة متزوجة، وقد اعتقل زوجها لأسباب سياسية، وحكم عليه بالسجن لأكثر من عشر سنوات، وقد طلب أهلها منه أن يطلقها فلم يقبل، وهي لا تريد أن يطلقها، فلجأ أهلها رغماً عنه وعنها إلى محكمة شرعية تابعة للدولة وطلقوها منه عن طريق تلك المحكمة، والآن يريدون إجبارها على الزواج؟
m هذا الطلاق باطل جملة وتفصيلاً. ولذا لا يجوز لها أن تتزوج شخصاً آخر، لأن المزوَّجة لا تُزوج.
r إذا قام الزوج بضرب زوجته واضطهدها، هل تستطيع الرد عليه بالمثل؟ وهل تستطيع أن ترفع أمرها إلى الشرطة؟
m إذا كانت في مقام الدفاع عن نفسها، بحيث لا تستطيع أن تدافع عن نفسها إلا برد الفعل، فيجوز لها أن تشتكي عند من ينصفها منه. ولكن الأفضل لها أن تعالج الأمور بالحسنى.
r ما رأيكم بالزواج بابن الزنى؟
m ورد عن الإمام الصادقt، أنّ ابن الزنا يُستعمل؛ فإن عمل خيراً جُزي خيراً، وإن عمل شراً جُزي شراً، ولا مانع من أن يزوَّج؛ لأنه لا ذنب له في ذلك. والزواج صحيح ولا مشكلة شرعية في ذلك.
r إمرأة متزوجة بعقد مؤقت لمدة عشر سنوات، بعد خمس سنوات قرّرا الانفصال، ولم يتم الطلاق بطريقة الشريعة، فما الحكم؟
m لا طلاق بالنسبة إلى الزواج المؤقت، بل يهبها المدة. أي يكفي لانفصالهما ولإنهاء الزواج بينهما أن يهبها المدة؛ لأن المدة كانت حقاً له، فإذا وهبها إيّاها انفصلت عنه تلقائياً. فإذا كان هناك دخول فعليها العدة، وهي حيضتان، وإذا لم يكن هناك دخول فلا عدة لها. وتستطيع أن تتزوج بمجرّد وهبها المدّة.
r أنا امرأة مطلقة وأعيش مع أولادي، لم أتزوج عندما عرض علي أهلي الزواج، ولكني تزوجت من رجل أرمل دون علمهم، وكان الزواج عن طريق الهاتف. فما هو حكم هذا الزواج، من ناحية سريته، ومن ناحية كونه عن طريق الهاتف، أي ما يتعلق بالأقوال التي تُقال أثناء عقده؟
m الزواج صحيح في مفروض السؤال؛ لأنّه لا يجب على الثيّب أن تستشير أباها في زواجها، كما أن الزواج على الهاتف حين تقول له: زوجتك نفسي بمهر قدره كذا، ويقول: قبلتُ الزواج، فهو صحيح. ولكن نحن ننصح أيضاً أن يرتكز الزواج على أساس تأمن فيه المرأة على نفسها وعلى حياتها في هذا المجال، حتى لا تُخدع.
r هل ترون أنه من أواصر الوحدة بين المذاهب الإسلامية موضوع التزاوج، وخصوصاً بين أتباع أهل البيت وأهل السُنة؟
m لا مانع منه؛ لأن المسلم كفؤ المسلم، ولعلَّ التزاوج بين المسلمين يُقوِّي العلاقات بينهم، ويُذهب هذه الحالة من البغضاء ومن العداوة، والمهمّ أن يكون الزواج إطاراً يستطيع الإنسان أن يحافظ فيه على التزامه بما يعتقد به.
r أعمل في محل تجاري، وقد تـمّ الاتفاق بيني وبين المحلات بأن آخذ 10% على كلّ زبون أبعثه لهم، ومن بينهم شخص صاحب خلق إسلامي كريم، فهل هذه النسبة حرام أم حلال؟
m هذه جعالة وهي حلال، فإذا فرضنا كان هناك اتفاق مع المحل التجاري يقضي بأن تبعث لهم زبائن وتأخذ نسبة معينة، فهذا عمل تستحقّ عليه أجراً.
r امرأة متزوجة ولها أبناء، في بعض الأحيان تحتاج إلى بعض الأموال لتصرفها في شؤونها وشؤون الأبناء، فتأخذ ما تحتاجه من الأموال من جيب زوجها من دون علمه بذلك، علماً بأنّها لو طلبت منه الأموال مباشرة فإنه لا يعطيها، وإن أعطاها فذلك بعد فترة من الوقت أو بعد الإلحاح الكثير من الزوجة. ما هو حكم الأموال التي تأخذها الزوجة من جيب زوجها في هذه الحالة ؟ وإذا كان لا يجوز ذلك، فما هو الحل في نظر سماحتكم؟
m لا يجوز لها ذلك إلا في ما يتعلق بالنفقة الواجبة على الزوج، بحيث يكون الزوج قادراً ولا يقوم بما يجب عليه من ذلك بخلاً أو لأي سبب آخر، فإنه يجوز للزوجة أخذ مقدار ما تقوم بالإنفاق على نفسها عندئذ.
r اشتريت محلاً كان يُباع فيه هدايا وسيديات للأغاني، والآن أبيع فيه هدايا فقط، ولكن يُطلب من عندي سيديات أغانٍ بشكلٍ كبير، فهل يجوز لي بيع مثل هذه السيديات؟
m لا، بل عليك أن تبيع سيديات محللة ولا تبيع سيديات محرمة.
r امرأة باعت حصتها في إرث أبيها إلى أقاربها، ولكنها لم تقبض الثمن، ثم فسخت عقد البيع وما زال المشترون يماطلون في الدفع. فما العمل؟ خصوصاً أنها لا تستطيع أن تشتكي في المحاكم وهم لا يستمعون إلى رأي الحاكم الشرعي؟
m إذا فرضنا أنهم لم يعطوها المال فلها أن تفسخ العقد، والحصة ترجع إليها، وهم مأثومون في هذا المجال في عدم دفع المال إليها سابقاً، ومأثومون في السيطرة على هذه الحصة.
r هل يجوز استنقاذ حق معلوم لعائلة أيتام أخذها منهم شخصٌ بطريق الحيلة؟
m طبعاً، إذا كنا نعتقد بأن هذا الحق موجودٌ عند شخص معين وهو يمتنع عن دفعه ويغتصبه، فيجوز أخذه للأيتام، ولكن بإذن الحاكم الشرعي.
r ما رأي الإسلام في مسألة البيع بالأقساط؟
m لا مانع من ذلك إذا فرضنا أنّ الثمن كان معلوماً في هذه الحالة.
r هل يجوز دفع الصدقة للسيد إذا كان فقيراً؟
m إذا كانت الصدقة مستحبة فذلك جائز.
r هل استرزاقي من خلال الإنترنت، أو من عقود التأمينات والعمل في البنك، حلال أم حرام؟
m لا مانع من العمل في مجال الإنترنت، مع تجنب مشاهدة الصور الإباحية. ولا مانع أيضاً من العمل في مجال عقود التأمين. أما في البنوك، فلا يجوز العمل في مجالات الإقراض الربوي وحساباته وخدماته، ولكن يجوز في سائر مجالات العمل الأخرى، كالحراسة والضيافة والنظافة والصيانة وإدارة شؤون الموظفين ونحو ذلك.
r اشتريت قطعة أرض من الدولة، وبعد تشييد بيت عليها، علمت أنها مصادرة من شخص، فهل يجوز لي السكن في البيت الذي أنشأته عليها؟
m إذا كانت الأرض مغصوبة، فلا يجوز لك السكن فيها.
r ركبت ذات مرة في سيارة للأجرة، ودفعت (100) ليرة إلى الراكب الموجود أمامي ليوصل الأجرة إلى السائق، وانتظرت استرجاع الباقي، لكن بعد نـزول الركاب قال السائق إنه لم يتلق أي قطعة نقود من فئة (100) ليرة، فطلبت منه أن يقسم، فرفض وطلب مني أن أقسم فأقسمت، وأعاد لي (95) ليرة، وهو يؤكد أنه يدفعها من حسابه الخاص، وبعد أن أخذتها، خفت أن أكون قد أكلت من رزقه، فهل إن الـ(95) ليرة حلال لي، علماً أنه يمكن أن يكون أحد الركاب قد أخذها؟
m ما دام لم يثبت أنه أخذها فليست حلالاً لك، وأنت لا يمين لك عليه في هذا المقام، حتى لو حلفت أنك دفعتها، فقد لا يكون استلمها. فلذلك إما أن تعرف هذا الشخص وترجع له الـ(95) ليرة، أو تتصدّق بها عنه إذا كنت لا تعرفه، لأن ذلك المال يصبح مجهول المالك.
r كنت أعمل في كيّ الملابس وغسلها، وقد ترك عندي شخص ملابسه، وبعد فترة عرفت أنه سافر إلى بلده، مع العلم أنني لا أعرف عنوانه، فماذا أفعل بالملابس؟
m إذا لم تتمكن من الوصول إليه أو إيصال ملابسه إليه، فإنّها تصبح من مال مجهول المالك، فترجع فيها إلى الحاكم الشرعي ليتصدّق بها عن صاحبها.
r توضع في بعض المحلات لافتة مكتوب عليها: المباع لا يردُّ ولا يبدَّل، فهل هذا ملزم؟ وهل ذلك مسقط لخيار المدّة أو العيب أو غيرهما؟
m هذه اللافتة بمثابة الشرط في ضمن العقد بإسقاط الخيارات، ما يجعل البيع لازماً لا خيار فيه، ولكن هذا مخصوص بصورة اطّلاع المشتري على اللافتة وقراءته لها، لأنَّ من الممكن أن يكون هناك من لم ينتبه إليها أو ممن لا يعرف القراءة.
r تعرض بعض المحلاّت بعض السلع التي تصادرها الجمارك، فهل يجوز شراؤها؟
m لا يجوز شراؤها ـ من حيث المبدأ ـ لعدم إحراز رضا مالكها أو تنازله عنها بالإعراض، فإذا كان صاحبها معروفاً، أو أمكن التعرّف إليه، وأجاز ذلك، أو أحرز إعراضه عنها، جاز، أمّا إذا كان صاحبها مجهولاً، فيكون حكمها حكم مجهول المالك الذي يرجع فيه إلى الحاكم الشرعي.
r هل يجوز للوسيط (الدلاّل) بين البائع والمشتري، أن يبيع البضاعة للمشتري بأغلى من ثمنها الذي يحدّده البائع (صاحب البضاعة) ويكون الربح له؟
m لا يجوز له ذلك، لأنَّ دوره هو دور الوكيل الذي لا بُدَّ من أن يتقيّد بتعليمات الموكل، فإذا باع بالثمن الأغلى ورضي المالك، كانت الزيادة للمالك، وليس له منه شيء إلاَّ بالمقدار الذي فرضه المالك له من جعالةٍ على القيام بالبيع.
r في بلدنا جمعيات حسينية، وظيفتها الأساسية هي تنظيم مواكب العزاء، إلى جانب وظائف أخرى تقوم بها، مثل إقامة الندوات والمحاضرات وطباعة الملصقات الثقافية، كما تقوم أيضاً بجباية الأموال من الناس بعنوان رئيسي، وهو إقامة المواكب العزائية، والسؤال: هل يجوز صرف هذه الأموال في وظائف الجمعية؟
m إذا كان الصرف على أساس إقامة مواكب العزاء، وفهم الممولون ذلك، بحيث يدفعون المال بشكلٍ خاص للمواكب، فلا يجوز أن تصرف في غير هذا المورد، لأن الوقوف على حسب ما يقفها أهلها، والصدقات أيضاً على حسب ما يدفعها أهلها. ولذلك من الأفضل أن يجري الحديث عن هذه الأمور، بحيث يعطى لها عنوان عام، فإذا كان الناس يدفعون المال من خلال معرفتهم بالجمعية وأعمالها، فلا مانع.
r هناك من يحتاجون إلى كلمة حول خطورة أكل مال الغير بغير الحق، وأخصّ بالذكر الميراث، هذا مع العلم أن الفاعلين هم من المصلين، ما السبيل إلى إبعادهم عن أفعالهم هذه؟
m يقول الله سبحانه وتعالى: )وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ((9). وقال: )إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًاً((10). فعلى كلّ من يأكل أموال شخص بغير حقّ، إذا دعته قوته وسطوته إلى أن يفعل ذلك، أن يفكّر في موقفه أمام الله عندما يقوم الناس لربّ العالمين، ويطالب أصحاب الحقوق بحقوقهم، فماذا سيجيب حينها؟
وقد ورد في الحديث، أنه عندما تقوم القيامة، يأتي شخص وأعماله مثل الجبال لكثرتها وضخامتها، حتى يغبطه الناس على ذلك، ويأتي أصحاب الحقوق فيقال: خذوا من حسناته وأعطوها لهؤلاء، فيعطونهم منها، فإذا انتهت يقول الملائكة: لقد فنيت حسناته، والمطالبون بحقوقهم كثر، فيقال: أضيفوا من سيئاتهم إلى سيّئاته!! فليتذكر الإنسان أنّ ماله، كما يقول الشاعر:
مـا كـان فاضــلاً عـن قـوتــه فليعـلـمــنّ بأنّـــه مـيـــراث
فأنت تشقى به والوارث يهنأ به.
r وسيط بين طرفين (البائع والمشتري) استطاع أن يشتري للطرف الثاني بضاعة محددة الثمن بأرخص من ثمنها، فهل يحقّ له أخذ الفرق؟
m إذا استطاع أن يشتري بضاعة محددة الثمن بأرخص من ثمنها، بأن راعاه البائع في السعر وكان وكيلاً عن أحدهما، فلا يجوز له أن يأخذ الفرق.
r مزارعو منطقتنا يقومون بوضع الزيت على ثمرة التين غير الناضجة لتسريع نضوجها، وهذه العملية قد تنعكس سلباً على الثمرة شكلاً وطعماً، فما هو الحكم الشرعي فيما لو بيعت لأهل المنطقة المطّلعين على الأمر؟ ولأهل المناطق الأخرى الذين لا يعرفون ذلك؟ وما الحكم بالنسبة إلى تجار المنطقة الذين ينقلونها؟
m إذا كانوا مطلعين واشتروها فلا غش، أما أهالي المناطق الأخرى الذين اشتروا التين، وكانوا لا يعرفون أنّ هذا يمثل غشاً، وإنّما اشتروا الثمرة على أساس أنها ناضجة نضوجاً طبيعياً، فهو غشٌّ، والغشُّ حرام، ولا يجوز بيعها للتجار أيضاً.
r هل يجوز وضع النقود في البنوك الحكومية، مثل (بنك الإسكان) أو (البنك العربي) للحماية من الضياع، علماً أن هذه البنوك تقدم الفائدة؟
m إذا كان ذلك لغرض الحفظ لا لغرض ربوي فيجوز.
r كنت أستقطع من أموال زوجي مقداراً بدون إذنه، وتجمّعت كمية منه، فهل أُرجعها له وأعلمه بها؟
m يجب إرجاعها له أو التسامح منه في ذلك؛ لأنه لا يجوز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها من دون رضاه وبدون إذنه.
r أُعطي إلى ضحايا الإرهاب في العراق مبالغ نقدية، قدرها مليون دينار عراقي لكل من فقد أحداً من أبنائه، فهل ترث الزوجة غير المدخول بها من هذا المال مع وجود والديه على قيد الحياة؟.
m الزوجة غير المدخول بها إذا توفي زوجها، فإنها تستحق نصف المهر وتستحق الإرث أيضاً.
r جمعت من المؤمنين تبرعات للأعمال الخيرية، فاستخدمتها لأغراضي الشخصية مضطراً ومجبراً ولحاجتي إليها، والآن أريد أن أرجع هذه الأموال، ولكن لا أدري كم أخذت منها، فماذا أفعل وما هو واجبي؟
m عليك أن تستغفر الله على ما فعلت، لأن الناس ائتمنوك على ما يريدون أن يتقربوا به إلى الله، ومن الطبيعي أنهم لم يقصدوك إلا من خلال أنك تريد أن تقوم بعمل خيري وأنك تعمل ذلك في سبيل الله، لأن الذي يدفع التبرعات عادةً لا يقصد شيئاً آخر، وإن كان يمكن أن تكون بعض مجالات الإنفاق في سبيل الله. وعلى أية حال، فلا بد أن تبرىء ذمتك بعد أن تستغفر ربك، فإذا أردت براءة الذمة بما هو واجب عليك، فيمكن أن تكتفي بالأقل، ولكن إذا أردت الاحتياط فعليك أن تدفع الأكثر.
r هناك فندق يبيع في مطعمه الخمر ولحم الخنزير، فما هو حكم العمل في هذا الفندق كموظف استقبال أو في إدارة التوظيف أو موظف أمن وما إلى ذلك، علماً بأن راتب هذه الوظائف من دخل سكن النزلاء ومن بيع الخمر، كما أن بعض هذه الوظائف لا تباشر فيها المحرمات أو المساعدة المباشرة عليها؟
m إذا لم يكن المورد من موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم تكن الوظيفة محرمة، ولا يعلم المال الذي يتقاضاه هل هو ثمن الخمر أو لحم الخنزير، فيجوز للإنسان أن يتوظف في هذا الفندق، ويمكنه أن يحكم بحلية هذا المال.
r والدتي توفيت منذ فترة قصيرة وعليها نذور كثيرة، وأنا غير متأكد ممّا إذا كان النذر بصفة شرعية. فهل نحن ملزمون بأن نوفي هذه النذور؟
m لا، ليست ملزمة للورثة إلا إذا أوصت بذلك، وعرفتم أنها ملزمة شرعاً بوفاء هذا النذر.
r ما حكم الفائدة من البنوك غير الإسلامية؟
m لا فرق في حرمة الربا بين البنوك الإسلامية والبنوك غير الإسلامية، وسواء كان البنك مشتركاً أو غير مشترك.
r لدي شقة أخذتها سرقفلية من الذي كان يسكن قبلي فيها بعلم من المالك، وبعد فترة باع المالك العمارة كلها إلى شخصٍ، وهذا الشخص لم يتفاوض مع المؤجرين الذين عندهم اتفاق مسبق مع المالك، هل يحق لي أن أطالبه بقيمة الشقة الحالية؟
m يحق لك ذلك؛ لأنه باتفاقك مع المالك، وأخذ السرقفلية منك، أصبحت ذا حق في الشقة، فهذا الحق يبقى في الشقة حتى بالنسبة إلى المالك الجديد.
r هل يجوز لي أن أفتتح صالة ألعاب كمبيوتر للأطفال؟
m لا مانع من ذلك، بشرط ألا تتحوّل إلى أسلوب المقامرة، وأن لا يُجعل فيها ما يُفسد أخلاقهم.
r منذ أسبوع اشتغلت في مهنة بيع الملابس، فلا أدري ما هو حد الربح الشرعي الذي أضيفه على البضاعة عندما أشتريها؟
m لم يحدد الشارع أي مبلغ أو نسبة معيّنة في مسألة الربح؛ بل جعله حراً. ولكن يستحب للمؤمن أن يكتفي بالربح المتعارف عليه عندما يبيع المؤمنين.
r هل يمكن إعطاء الرشوة إلى بعض الأشخاص لغرض الحصول على وظيفة، علماً أن الأمر متوقّف على دفع (الرشوة)، ولا يمكننا الحصول على الوظائف إلا بهذه الطريقة، أو أن تكون من المنتمين إلى أحزاب معيّنة، والتي لا نعرف ماهيتها، ما أدى بنا إلى الجلوس في البيوت، علماً أننا من أهل الكفاءة في مجال هذه الوظيفة؟
m مع كون الشخص كفوءاً ومؤهلاً للوظيفة، فلا يحرم عليه أن يبذل مالاً للحصول عليها لكن يحرم على الآخذ للمال أخذه وتعليق الموافقة عليه.
r ما حكم شراء أسهم شركات الفنادق التي تمتلك كازينوهات وتبيع الخمور؟
m حيث إن في الخدمات التي تقدمها الفنادق ما هو حلال وما هو حرام، فلا مانع من شراء أسهمها رغم اشتمالها على ما هو حرام.
r شخص اشترى قطعة أرض، وبعد فترة قيل إنها مغصوبة، وهو لا يعلم هل هي مغصوبة حقاً أم لا، فما هو الحكم الشرعي؟
m مع شرائها ممن له يد عليها أو ملكية قانونية وعدم وجود دليل على عكس ذلك أو على غصبيتها، فلا إشكال، وإن كان مع وجود الاشتباه يحسن الاحتياط.
r إذا علمنا أن شخصاً لديه بضاعة مسروقة، وسعرها أرخص من سعرها الاعتيادي، هل يجوز لنا شراء هذه البضاعة أو لا؟
m لا يجوز ذلك.
r هل يجب على الأولاد سداد ديون والدهم، علماً أنه لا يصغي إلى نصائح عائلته، وهو يقوم دائماً بمشاريع ويغرقهم بالديون؟
m لا يجب عليهم ذلك مع عدم قدرتهم، خصوصاً مع كون الوالد بالوضع المذكور.
r رجلٌ أعطاه أخوه مالاً كهبةٍ ليشتري به شيئاً كلّف بشرائه، واشترى بهذا المال قطعة أرضٍ، ثم طالب الأخ الرجل بالمال الذي أعطاه إيّاه، فهل يعيد إليه المال أم يعطيه الأرض؟
m عليه أن يعيد إليه المال، علماً أن الأرض قد زادت قيمتها. أي هو لما تصرف في المال كان قد ضمنه، فعليه أن يعيد إليه المال وليس الأرض.
r ما حكم الشراء من محل بني على أرض يقال إنها مغصوبة، مع العلم أنّ صاحب المحل مستأجر من صاحب البناء؟
m الشراء بحد ذاته ليس محرماً، ولكن يحرم استعمال المغصوب والتصرف فيه مع العلم بالغصب، ولا يكفي الشك في ذلك.
r هل يجوز اقتناء الأرانب من أجل المتاجرة بها؟
m نعم يجوز ذلك.
r لديِّ مكتب سفريات، وتوجد عندنا أمانات أغلبها ملابس وبطانيات وأدوات مطبخ جميعها مستعملة، وكانت في عهدة موظفين في المكتب، وجميعهم سافروا إلى أماكن مختلفة ولم يبلّغونا عن أصحابها، علماً أن أغلب هذه الأمانات قد مر عليها أكثر من سنتين ولم يراجع أحد بشأنها؟
m إذا يئس الإنسان من معرفة أصحابها فيتصدق بها على الفقراء.
r اشترينا أرضاً وهي عبارة عن حصص وصية الأخ الكبير، والورثة يرفضون الالتزام بالوصية، ما الحل؟
m الوصيَّة تجعل الموصى به مشاعاً بين كلِّ الأخوة الذين تشملهم الوصية، وليس لأحد أن يستقل بحصته إلا برضا الآخرين.
r ما هو حكم أوراق اليانصيب؟
m نحن نرى أن أوراق اليانصيب حلال، وأن الربح حلال منها؛ وهناك بعض العلماء لا يوافقوننا على ذلك.
r أنا شابٌ من مقلديكم، أنوي العمل في أحد المصارف، وكما تعلمون، هذه المصارف ربوية، هل يجوز لي العمل فيها أم لا؟
m إذا كان الشُغل في المعاملات الربوية فلا يجوز، أما إذا كان في البنك شُغل آخر فيجوز.
r هل الرواتب الجارية من قِبل الدول الأوربية حلال أم حرام؟
m هي حلالٌ في المقام إذا كان الإنسان يأخذها على حسب التزاماته بالنظام والتزاماته بالقانون.
r عزمت على سفر، وأريد استخارة الله في سفري، فأرجو توضيح كيفية الاستخارة، وهل الاستخارة تكون قبل العزم على الأمر أم بعده؟
m الاستخارة بعد الدراسة والاستشارة، فإذا وصلت بعد الدراسة والاستشارة إلى حيرة نسبتها 50% هنا و50% هناك، عند ذلك يمكن لك أن تستخير )وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ((11).
r إذا كان الوقود أو الحطب المستعمل في الطبخ مسروقاً أو مغصوباً، فما هو حكم الطعام المطبوخ من حيث جواز أكله؟
m لا مانع من ذلك، فالطعام ملك الشخص، وإذا كانت الحرارة التي أنضجت الطعام انطلقت من حطب مسروق، فإن السارق هو الذي يتحمل المسؤولية في ذلك، ولا دخل للطبخ فيه.
r تقولون دائماً إنكم تجوِّزون حلق اللحية، ولكنكم لا تحبذون ذلك، فلو حلق أحد مقلديكم لحيته، فهل يرتكب في ذلك مخالفة شرعية من باب ولايتكم عليه أم ماذا؟
m هناك فرق بين أن أحكم بحرمة ذلك، وبين أن أحكم باستحباب تركه، فنحن نقول يجوز حلق اللحية ولا يأثم حالقها ممن يقلدنا، ولكن نقول إن من الأفضل بقاءها، فمعنى أنني لا أحب ذلك من جهة أنه يستحب إبقاؤها.
r نحن في دولة أجنبية، ولا نأكل اللحوم إلا ما نقوم بذبحه بأيدينا، ولكن يحصل أن نخاف من هيجان الحيوان أحياناً، فيقوم صاحب المزرعة بإطلاق النار على رأس الحيوان ثم نقوم بتذكيته، علماً بأن الروح تكون باقية فيه، فهل هذا جائز؟
m إذا فرضنا أن هذه الطلقة كانت قاتلة يصبح ميتة. ولكن إذا كانت تخدره مثل بعض الرصاص الذي يخدر الحيوان، أو يفقده الإحساس فلا مشكلة، لأنه يجوز التذكية إذا كان الحيوان حياً وإن كان فاقد الإحساس.
r ما هو حكم حجب قدمي المرأة؟
m لا يجب تغطية القدم للمرأة، وإن كان ذلك أحوط استحباباً.
r أحد الأقارب أقام حفلةً بمناسبة زواج ابنه، وقد دعانا لحضور هذه الحفلة، إلا أنني لم أذهب، لأن فيها أغاني وأجواء سفور، ما أدى بهذا القريب إلى مقاطعتي، فما هـي نصيحتكم لي بهذا الأمر؟
m لا يحرم عليكم الذهاب إلى بيت العريس للمباركة، وإن كانت زوجته غير محجبة.
r هل ينعقد القسم بوضع اليد على القرآن الكريم والقول: وحقّ هذا القرآن لم أفعل هذا الأمر؟
m إذا كان فعل وأقسم بالقرآن، فهذا كذب وفيه إساءة للقرآن، ولكن القسم المعتدّ به هو القسم بالله سبحانه وتعالى، ولا حاجة لوضع اليد على القرآن.
r ما حكم التبرج وحفّ الحواجب؟
m الله يصف التبرج ويقول: )وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ((12)، وهي أن تخرج المرأة بكامل زينتها، أما حفّ الحواجب بشكل طبيعي، بحيث لا يخلق أي عنصر من الإثارة، فلا مانع منه.
r كيف تكون الاستخارة بالقران الكريم؟ وما هي الدوافع التي تجعل الإنسان يستخير بالقرآن؟
m بينّا أكثر من مرة، أن الله أعطانا عقلاً، وعلينا أن نستشير عقولنا؛ والله سبحانه وتعالى أرادنا أن ندرس الأمور دراسة وافية بالوسائل التي نملكها، كما أرادنا أن نستشير أهل الخبرة: )وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ((13)، وقد طلب من النبيw، وهو المعصوم، أن يستشيرهم، حيث قال تعالى: )وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ((14). والخيرة تكون عندما يستنفد الإنسان تفكيره دون أن يصل إلى نتيجة، ويكون ذلك بعد استنفاد كل الوسائل التي تؤدي به إلى معرفة الواقع فيما يُبتلى به، وبعد استشارة الرجال أو النساء من أهل الخبرة دون أن يصل إلى نتيجة، عند ذلك يُرجع أمره إلى الله سبحانه وتعالى.
والاستخارة أساسها دعاء يقول فيه مثلاً: اللهم إني أستخيرك برحمتك خيرةً في عافية... يا من يعلم اهدِ من لا يعلم. فلذلك هي نوع من الدعاء، وقد ورد في دعائها: ((اللهم إني أستخيرك لعلمك بعاقبة الأمور، وأستشيرك بحسن ظني بك في المأمول والمحذور، اللهم إن كان هذا الأمر مما قد نيطت بالبركة أعجازه وبواديه، وحفَّت بالكرامة أيامه ولياليه، فخِر لي اللهم فيه خيرةً تردُّ شموسه ذلولاً، وتقعص أيامه سروراً، اللهم إما أمرٌ فآتمر، وإما نهيٌ فأنتهي. اللهم إني أستخيرك برحمتك خيرة في عافية)).
r هل يجوز في تحفيظ الأولاد آيات السجود الواجبة عدم السجود كلما تكرّرت؟ وإذا كان لا يجوز، فما هي الوسيلة في تحفيظهم هذه الآيات؟
m إذا استمع إليها المكلّف فعليه أن يسجد، أما السؤال الثاني، فإنه يمكن تحفظيهم عن طريق (المسجلة).
r إذا أفشى لك شخص بسر، وأكّد أن لا تقوله لأحد، فهل يجوز أن أقوله لشخص أثق به؟
m إذا ائتمنك شخص على سر، فلا يجوز لك إذاعته والإفشاء به لأي أحد ولو كان ممن تثق بهم، فإن السر أمانة لا يجوز خيانتها، ويتوجب في ذلك الاستغفار، وإصلاح الأمر فيما لو كان مما يترتب عليه ضرر أو مفسدة.
r ما حكم الآباء الذين يمارسون القسوة في تأديب أبنائهم كالضرب مثلاً، ما يؤثر على شخصية الأولاد ونفسياتهم مدى الحياة؟
m هو ظلم وظلم الضعيف لا يجوز، بل هو أفظع الظلم، فالطفل جعله اللّه أمانةً، ولذلك فإن الآباء الذين يضربون أولادهم تنفيساً عن عقدة أو جهل عندهم هم ظالمون، والطفل، حتى المراهق، قد لا يستطيع أن يرد، ولكنه يشتكي إلى اللّه ويدعو على من ظلمه، والواجب على كل إنسان أن يخلِّص الطفل من الظلم الذي يمكن أن يطاله، وحتى لو كان الظلم صادراً من الأب، ولكننا وللأسف نرى البعض يعارض من يدافع عن الطفل بحجة أنه ابنه، فالأب الواعي هو الذي يعيش الرحمة في قلبه.
r أنجبت ولداً في شهر رمضان، وسمعت أن من يولد في شهر رمضان يجب ذبح عقيقة عنه، أريد أن أعرف هل العقيقة تجب في كل الأشهر أو في شهر رمضان فقط؟ وما هي شروط العقيقة ؟
m لا يجب ذلك ولا خصوصية للولادة في شهر رمضان، فالعقيقة مستحبة عن المولود مطلقاً، فتذبح عنه شاة وتوزع لحماً أو تطهى ويُدعى عليها المؤمنون.
r اكتشفت إصابة أحد الأصدقاء بمرض خبيث... أرجو توضيح الموقف الديني من إخباره بالأمر، علماً بأن ذلك سيؤدي إلى نتائج نفسيه سلبية؟
m لا يجب عليك إخباره بذلك، والأعمار بيد الله، فكم من سليم قضى قبل المريض، وكم من مريض استعصى عليه المرض ثم عافاه الله.
r إن القانون يقوم على أساس الحجّة والبرهان والدلالة الظاهرة، وعلى أساس ذلك، يصدر القاضي حكمه على الشخص الذي أدانته الأدلة، حتى إذا كان في الحقيقة على حق وحكمه على باطل. والسؤال هنا: هل يجوز للمحامي أن يستلم دعوى تظهر له من خلال الأدلة أن موكله على باطل، ولكنه يستطيع بالتحايل على القانون أن يخرجه من هذه الورطة؟
m لا يجوز له ذلك إذا كان هذا الإنسان مجرماً، أما إذا كان بريئاً، فلا يجوز له أن يجرّمه، إذ لا بد للمحامي من أن يحكم بالحق.
r ما حكم من أجهضت جنيناً؟ وكم تبلغ الدية؟ وهل يعتبر دفع الدية تكفيراً لهذا الذنب؟ وهل يوجد بديل عن دفع الدية؟
m الدية تختلف بحسب عمر الجنين، ولكل عمر ديته الخاصة. ولكن هذا لا يرفع الذنب، بل على المرأة أن تستغفر الله سبحانه وتعالى إذا كانت قد قامت بعملية الإجهاض، وعليها ـ أيضاً ـ دفع الدية…
r لقد أقسمت على نفسي أن لا أعمل معصيةً وقد فعلت، فما هي كفّارة اليمين؟
m هي كفّارة مخالفة اليمين: إطعام عشرة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام.
r هل يجوز للمرأة ارتداء الملابس والمسكوكات الذهبية الحاوية على صور الإنسان والحيوان أثناء الصلاة، علماً أنها تحت الثياب؟
m يجوز، ولكن يكره ذلك.
r أحضر بعض الدروس الحوزوية بدافع مادّي، وللحصول على راتب الحوزة، فهل يحقّ لي أن آخذ الراتب كطالب؟ وهل بمقدوري أن آخذ راتب متزوج وأنا أعزب؟
m إذا لم تكن طالباً متفرّغاً فلا يجوز ذلك، وأما راتب المتزوج لغير المتزوج، فلا يجوز أيضاً.
r هل يعتبر الوشم لإكمال جزءٍ ناقص في الوجه، مثل الحاجب، حرام؟ وما هي كفّارة ذلك إن كان حراماً؟ وهل يبطل الحج بمثل هذا الوشم؟
m الوشم ليس حراماً. ولكن على الإنسان أن يختار الوشم التي لا يمثّل حالة تخلّف، ولا يمثّل تشجيعاً لبعض مظاهر الباطل. ولا كفّارة عليه، ولا يبطل الحج لذلك.
r هناك أخت مسلمة ارتدّ أخوها وتنصّر، فهل يجوز لها أن تظهر أمامه بدون حجاب أو تصافحه؟
m الكفر لا يخرجه من أن يكون محرماً عليها، لأننا لو فرضنا أن عند الإنسان إخوة كفرة، أو كان أبوه كافراً، أو أن أبا المرأة وأخاها كانا كافرين، فإنهما يبقيان من المحارم، ولا يخرجان عن المحرمية بذلك.
r امرأة حامل في الشهر الرابع، وبعد إجراء الفحوصات، تبين أن دماغ الجنين خارج رأسه، فهل يجوز إسقاطه في هذا الشهر أم تستمر في الحمل؟
m إذا فرضنا أن ذلك يمثل خطراً على الأم الحامل فإنه يجوز، أما إذا لم يمثل خطراً فعليها أن تصبر حتى يتجلى لها الأمر.
r بعض من لم يرزقوا ذكوراً يلجأون إلى مراكز التلقيح الذي يعمل على إعطاء حقنٍ لتفجير البويضة عند المرأة لتتغلب الحيامن الذكرية السريعة في الحركة، وذلك للحصول على الذكر دون الأنثى، فهل يُعد ذلك نوعاً من أنواع الوأد أو إخلال التوازن؟
m لا يعتبر ذلك إخـلالاً بالتـوازن، ولكـن لابـد من أن تقوم بذلك طبيبة ما دام يستلزم ذلك كشف العورة.
r جاء في الحديث: ((من جدَّد قبراً أو مثَّل مثالاً فقد خرج من الإسلام)) فما تفسير هذا الحديث؟
m من تفسيرات (من جدّد قبراً)، أي دفن فيه شخصاً آخر مع بقاء الميت السابق، (أو مثّل مثالاً) يعني هذا التجسيم، وإن كان محل نقاش فقهي، نظراً إلى مجمل الأدلّة الواردة في هذا المقام.
r ما هو حكم الاختلاط؟
m الاختلاط ليس محرَّماً ما لم يؤدِّ إلى تجاوز الحدود الشرعية وارتكاب المحرم من إثارة الشهوات واللمس والنظر المثير بين الجنسين، والأفضل الاقتصار فيه على مورد الحاجة.
r صديقي في أكثر من قضية وحاجة لم يراعِ مصالحي، بل هو دائماً يراعي مصالحه الخاصة، وقد شاع بين الناس أنه يسيء إلى حاجات الناس، فهل إذا تركت التعامل معه أكون آثماً؟
m إذا كان ذلك صحيحاً، فإنك لو تعاملت معه تكون آثماً في حق نفسك. لأنّه كما جاء: «ما خانك الأمين، ولكنك ائتمنت الخائن»، ولأنك تعرفه خائناً في حاجات الناس، وفيما يؤتمن عليه، فعليك أن لا تتعامل معه.
r كيف يتم بر الوالدة بعد وفاتها؟
m أن تتصدق عنها، وأن تقرأ القرآن وتهدي ثوابه إلى روحها، وأن تقضي عنها ما فاتها من العبادات.
r هل لعبة الدومنو حرام أم حلال؟
m قلنا إن كل اللعب بآلات القمار أو غير آلات القمار للتسلية من دون ربح أو خسارة هو أمر محلَّل. وهناك بعض العلماء الذين يلتقون معنا في هذا الرأي. ولكن نحن ننصح دائما بأن لا يستغرق الإنسان في ألعاب التسلية، بحيث يفقد التزامه بمسؤولياته العائلية أو مسؤولياته الإسلامية أو مسؤولياته الحياتية.
r ما هي التورية؟ وما رأيكم في مَن يستخدمها باستمرار؟
m التورية هي أن يتكلّم الإنسان بكلامٍ يفهم منه السامع شيئاً بينما يقصد المتكلّم خلافه، كما لو سألك شخصٌ: هل فلان موجود؟ فتقول له: ليس موجوداً، وتقصد أنّه غير موجود بجانبك مثلاً. فالسامع يفهم أنّه غير موجود في الدار، وأنت لا تقصد هذا المعنى. ونحن نرفض التورية التي تؤدّي إلى الخداع والغشّ، وإلى أن يفهم الناس الآخرون الأمور على خلاف الواقع. ولكن عندما يكون هناك حالة إحراج، فيمكن للإنسان أن يلجأ إلى التورية للتخفّف بها من إحراجه.
r من هو العرّاف؟ وما الذي يترتب على من يصدقه؟
m العرَّاف هو الذي يُخبر بالغيب، ولكن الله لم يُعط علم الغيب حتى للأنبياء، إلا ما أعلمهم به الله، فالله هو عالم الغيب: )فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ((15) وهو أعطى الرسول بعض غيبه، ولم يعطه كل غيبه، وقد قال تعالى لرسوله: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ((16). ولكن الله كان يختص نبيه ببعض غيبه. وقد سُئل عليt عندما حدّث ببعض الغيب، هل هذا عِلمُ غيب؟ قال: لا، ولكنه علمٌ من ذي علم، يعني أنه علّمني رسول الله ألف بابٍ من العلم فُتح لي من كل بابٍ ألف باب.
ولذلك ينبغي أن لا نصدق مثل هؤلاء العرَّافين، خصوصاً أولئك الذين يظهرون على بعض الفضائيات، وبعض الناس أُخِذوا بهم، وباتوا يتعاملون معهم على أنّهم يعلمون الغيب. وهذا كله خرافةٌ بخرافة، وعلى الناس أن يحترموا عقولهم؛ لأن مثل هؤلاء الناس لم يعطهم الله غيبه.
r ما هو حكم ذبح العقيقة؟ وما صحة ما ورد من دفن العظام؟
m العقيقة مستحبة وليست واجبة. وربّما يكون في ذلك احترام للجانب الروحي الذي تمثّله، من حيثُ جعلها ـ في الدعاء ـ وقايةً للمولود لحمها بلحمه، وعظمها بعظمه، ودمها بدمه، وشعرها بشعره.
r أنا طبيب أكشف على كثير من النساء، أرجو من سماحتكم توضيح الحكم؟
m تحرم المصافحة، لما ورد في السنة الشريفة، ففي موثق سماعة: ((لا يحل للرجل أن يصافح المرأة إلا امرأة يحرم عليه أن يتزوجها)). وفي حديث المناهي: ((من صافح امرأة تحرم عليه، فقد باء بغضب من الله عز وجل)).
أما بالنسبة إلى كشف الطبيب، فمع اضطراره للمس المرأة التي يعالجها، فهو جائز، ولكن لا بد من الاقتصار على موضع الاضطرار، فإن أمكن العلاج مع لبس القفازات تعيَّن ذلك، وإن اقتضى العلاج كشف موضعٍ ما، فلا يجوز التعدي إلى أوسع منه، وإن لم يكن ضرورة للنظر فيجب اجتنابه، وهكذا.
r يقوم بعض المرشحين في الانتخابات النيابية في بلدنا بدفع مبلغ مالي للناخب في مقابل التصويت له، في ما يعرف ببيع الصوت الانتخابي، فهل يجوز للمرشح أن يغري الناخبين بهذه الطريقة؟ وهل يجوز للناخب أن يأخذ هذا المال في مقابل التصويت للمرشّح؟ ولو فرضنا الجواز بالعنوان الأولي، أفلا يحرم ذلك من باب امتهان المؤمن أو مخالفة القوانين والنظام العام أو غيرهما من العناوين الثانوية؟
m لا يجوز للمرشح القيام بذلك، كما لا يجوز للناخب بيع صوته، ولا بد من أن تكون العملية الانتخابية، سواء من المرشح أو من الناخب، وفق المعايير السليمة والأخلاقية.
r ما هو حكم تقبيل يد الهاشمي؟
m إذا قصد به الإنسان تكريم رسول الله فلا بأس به، وإلا فإنه لا يوجد لدينا نص خاص بأن تقبَّل يد الهاشمي.
r ما حكم بيع القباقب (سرطان البحر) للمسلمين وغير المسلمين؟ وهل أكله حلال؟
m يجوز بيعه، ولكن يحرم أكله على الأحوط وجوباً.
r هل يجوز الانحناء في مثل ألعاب القتال ، فأستاذي جعل ذلك إلزامياً للتعبير عن الاحترام؟
m يجوز ذلك.
r ما حكم رقص الرجل أمام الرجل، والمرأة أمام المرأة، والرجل أمام المرأة، والعكس كذلك؟
m يجوز رقص الرجل أمام الرجل، والمرأة أمام المرأة إذا لم يكن الرقص خليعاً، ولا يجوز للمرأة أن ترقص أمام الرجل الأجنبي.
r ما هو رأي سماحة السيد في ((منع الآخرين من منفعة مباحة وقانونية))؟ هل هو موجب لضمان المانع أم لا؟
m المشهور عدم الضمان واقتصار المسألة على الإثم، ولكننا لا نستبعد الضمان، باعتبار أنه قد يكون ملحقاً بالتلف المالي الموجب للضمان.
r هل يجوز بيع اللباس غير الشرعي الشبيه بلباس الفنانات الغربيات في الشوارع؟
m يجوز بيعه للمرأة، والتاجر ليس مسؤولاً عن أنها تظهر به أمام الأجنبيّ؛ لأنه يمكن لها أن تلبسه في البيت أمام زوجها وأمام محارمها. وبعبارة أخرى: يُمكن الانتفاع بهذا الثوب في أمرٍ مُباح، فبيعه جائزٌ، وإنّما يتحمّل الذي يشتريه مسؤوليّة استخدامه.
r هل يجوز في أثناء الأكل على المائدة، أن تُعطي المرأة لقمةً من الطعام إلى صديق زوجها؟
m لابد للإنسان من أن يلاحظ مشاعر الزوج؛ لأن هذا قد يؤدي إلى الشكّ، وقد يؤدي إلى فقدان الثقة وما إلى ذلك. كما لا بدّ للمرأة من أن تلاحظ مشاعرها؛ لأنّ هذا الجوّ قد يكسر كثيراً من الحواجز النفسيّة التي قد تهيّئ الجوّ للحرام في ما بعد؛ فإنّ الإنسان ليس جامداً أمام غرائزه التي قد تثور في لحظةٍ وتنحرف به إلى ما لا تُحمد عقباه. ونحن ننصح في هذا المجال أن لا يتمّ تناول مثل هذه الأمور من خلال الحُكم الشرعي المجرّد؛ بل لا بدّ من الاحتياط في مثل هذه الأمور، حتى لا يتحرك الإنسان على شفير الهاوية، بل عليه أن يأخذ لنفسه ما يسمح له بأن يتماسك عندما يطرأ طارئ.
r امرأة حامل لشهرين، قامت بإسقاط حملها عمداً من دون موافقة الطبيب، ما حكم ذلك؟
m هذه إنسانة عصت الله سبحانه وتعالى، وعليها دفع الدية، وأن تستغفر الله لعلّه يتوب عليها في ذلك.
r ما حكم لبس حلقة الزواج الذهبية بالنسبة إلى الرجل؟ وهل لبسها في الصلاة مبطل لها؟
m لا يجوز ذلك. وأما لبسها في الصلاة، فهو حرام في ذاته، وحرام في الصلاة، ومُبطلٌ للصلاة إذا كان عن عمدٍ.
r ما هي الحدود الشرعية التي يجب على المخطوبين أن يقفا عندها في مرحلة التعارف فيما بينهم؟ وماذا عن تبادلهما أحاديث فيها شيءٌ من الغزل؟
m مجرد الخطبة التي لا عقد فيها يجعل المخطوبين كالأجانب، عليهما أن يتصرفا كأجنبي مع أجنبي؛ وعليهما إذا أرادا الحديث أن لا يتحدثا بما يثير الشهوة وما إلى ذلك.
r ما هو الغناء المحلل وما هو الغناء المحرم؟ وكيف يمكن لنا أن نميز بينهما؟
m الغناء المحلل هو الغناء الذي يشتمل مضمونه على الحق، أي في كل ما يمثله من الحق؛ بحيث إنّ الإنسان الذي يستمع إلى الغناء يشعر بتأثير الغناء على إيمانه وعلى التزامه بالحق. أما الغناء المحرّم، فهو الغناء الذي يسيء إلى الجانب الأخلاقي، والذي يتحرك بالباطل، والذي يثير الشهوات وما إلى ذلك.
ونستطيع أن نميز بينهما بهذا الطريق؛ أي إذا ميزنا بين الحق والباطل، وإذا ميزنا بين الخط الأخلاقي والخط المنحرف، فنستطيع أن نميز بين الغناء المحرَّم والغناء المحلل.
r فتاة تعيش مع عائلة غير متوازنة، وتجبرها عائلتها على العمل في الملاهي، وليس لديها أي خيار آخر. فما الحكم؟
m عليها أن تمتنع عن ذلك، وأن تلجأ إلى من يؤتمن من المؤمنين ليحلَّ لها هذه المشكلة.
r إلى أي مدى يصل حق المرأة الشرعي في ردع الزوج إذا اعتقدت أنه يفعل ما لا يرضي الله؟
m عليها أن تعظه بالحكمة والموعظة الحسنة، مع بعض الضغوط التي يمكن أن يرتدع من خلالها.
r لدينا شركة في البلد تقوم بتجميع المخلفات الورقية ثمّ إعادة تدويرها في تصنيع أشياء ورقية أخرى، علماً بأن هذه المخلفات قد تحتوي على كتب أو جرائد يومية فيها أسماء الجلالة وآيات قرآنية، ونحن نودّ التعامل مع هذه الشركة بإعطائها مثل هذه المخلّفات، فهل يجوز لنا ذلك؟
m يجوز ذلك، ومهما كان ما سيصنعونه بذلك الورق، فلا يصدق عليه أنه هتك لما تشتمل عليه من آيات وألفاظ جلالة.
r أود أن أعرف إذا كان من المسموح زرع شعر اصطناعي لتقوية شعر المرأة الطبيعي؟
m يجوز ذلك.
r ما هو الميزان في لباس الشهرة؟
m هو اللباس غير المتعارف بما يشكل هتكاً لصاحبه.
r هل يجوز أن يأخذ الإنسان من عمله شيئاً دون علم أصحاب العمل، حتى لو كانوا يرمونه في القمامة؟
m يجوز ذلك إذا كانوا معرضين عن ذلك الشيء، أو كانوا يرضون بأخذه، وإلا لا يجوز.
r ما حكم الفحش في القول مع الناس؟
m يحرم الفحش من القول.
r لو قام أحدهم باتخاذ عهد على نفسه أمام الله ونقضه لمرّات كثيرة لا يعلم عددها تحديداً، فما هو الحكم في هذه الحال؟
m إذا كان العهد منسوباً لله، بأن قال: (عهداً لله عليّ)، أو (لله عليّ عهد)، فلا بد من دفع كفارة مخالفة العهد، ولا فرق بين القليل والكثير مع لزوم الاستغفار، إذا كان العهد قد لُوحظ فيه فترة محدّدة، وأما إذا كان الملحوظ الدوام، وأنه مطلقاً لن يفعل ما عاهد الله على تركه مثلاً، فلا بد من تعدّد الكفارة كلما خالف.
r لقد ذكرتم في (فقه الشريعة) أنه إذا توقّف أمر الوالدين بالمعروف من قِبل الولد على الإغلاظ في القول أو الضرب أو الحبس، جاز، أو وجب القيام به؟
m ليس ذلك في مطلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل المسألة أنّه إذا فرضنا أن الأب كان يرتكب الكبائر، كشرب الخمر، أو الزنى، أو السرقة، أو الظلم للناس، وكانت الطريقة الوحيدة لردعه عن ذلك بنسبة مئة في المئة، هي أن يضربه، فهنا يدور الأمر بين أن يدخل النار وبين أن يضربه، ففي هذه الحالة يجوز ضربه. وقد جاء عن الإمام جعفر الصادقt أنّه قال: ((جاء رجل إلى رسول اللهw فقال: إن أمّي لا تدفع يد لامس، قال: احبسها، قال: قد فعلت، قال: فامنع من يدخل عليها، قال: قد فعلت، قال: قيّدها؛ فإنّك لا تبرّها بشيء أفضل من أن تمنعها عن محارم الله)).
وللأسف، اتّخذ بعض الناس من هذه الفتوى أساساً للتشهير. وقد نقرّب الفكرة لنقول: لو فرضنا أنّ أبا أحدٍ أراد أن يطلق الرصاص على نفسه، فهل نقول له: لا يجوز لك أن تمنعه بالعنف لو توقّف عليه، مع أننا نقول: )وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا((17).
وعلى كلّ حال، فليست المسألة شاملة لكل حالات المنكر والمعروف، بل هي مختصّة بما يكون من أسباب دخول النار، كما أشرنا.
r ما هي حدود طاعة الحاكم أو السلطان؟
m إذا كان الحاكمُ عادلاً، فطاعته إنما هي فيما يأمر من العدل، وبما يحفظ النظام العام. أما إذا كان جائراً، فلا طاعةَ له إلا فيما يتوقف عليه حفظ النظام.
r هُناك من يُسقط الآخرين، لأنه يعتبرهم مُرائين، فكيف لي أن أتعامل معه وأنا أيضاً لا أملك الدليل على نقائه؟
m عليك أن تأمره بالمعروف وأن تُرشده وتنصحه بأن لا يعمل بظنه في هذا المجال.
r إذا عمد الإنسان إلى إظهار التعبد والتقوى أمام الناس بحجة تشجيعهم على الالتزام، فهل يكون هذا رياءً؟
m إذا كان عمله لا من أجل أن يمدحه الناس، ولا من أجل أن يحصل على المنزلة من قِبلهم، بل ليشجعهم ليقتدوا به، فهذا إخلاص وليس رياءً. ولكن على الإنسان أن يكون حذراً؛ لأن الشيطان قد يدخل في نيّة العبد من حيث لا يحتسب.
r ما هي حدود الكذب على الزوجة، إلا في مقام الإصلاح؟
m لا يجوز الكذب لا على الزوجة ولا على الزوج ولا على الأب ولا على الابن. الكذب حرام على كل الناس. نعم، إذا كان هناك من يريد أن يصلح بين اثنين، فيجوز له أن يكذب، كأنْ يقول له: فلان قد مدحك إذا كان من أجل الإصلاح، أو من أجل إنقاذ المؤمن من القتل أو ما إلى ذلك.
r هل يجوز للمرأة أن تلبس لباساً غير شرعي، يؤدّي إلى أن ينظر إليها الرجل؟
m يجوز لها أن تلبس لباساً غير شرعي في البيت أمام زوجها وأمام محارمها أو في مجتمعات النساء، ولكن لا يجوز لها أن تظهر باللباس غير الشرعي أمام الرجال غير المحارم.
r هل يجوز للمرء التبوّل وقوفاً مع التطهّر والتأكد من عدم النجاسة؟
m يجوزُ ذلك ولكنّه مكروه، وربّما يكون وجه الكراهة أن البول وقوفاً يؤدّي إلى التنجيس.
r ما حكم الأسماك التي ليس لها قشر وما هو الدليل؟
m إذا لم يكن لها قشر، فالأحوط وجوباً ترك أكلها، ودليل ذلك ما ورد في بعض الأحاديث عن بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام في النهي عن ذلك.
r ماذا نفعل بالمنشورات الأسبوعية مثل (بينات) و(فكر وثقافة) بعد الانتهاء منها، لاسيما أنها تحتوي على أسماء الله الحسنى؟
m يمكن أن يحتفظ بها فيجمعها ويجلدها لتصبح كتاباً، أما حرقها فلا يجوز، نعم يُمكن استخدام الآلات التالفة الحديثة.
r أنا سيدة متدينة ولا أحب الطرب ولا التلفزيون، ولكن زوجي يحب الطرب والغناء، مع العلم أنه يصوم ويصلي وأخلاقه جيدة جداً، ماذا أعمل وهو يرفع صوت التلفزيون في البيت؟
m عليكِ أن لا توجّهي تفكيركِ لما يصدر من التلفزيون من المحرَّمات، فالسماع ليس محرَّماً وإنما الاستماع هو المحرَّم، وهو السماع بقصد وباختيار. وعليك في مطلق الأحوال أن تحاولي أن تلفتي انتباهه إلى المحرّم ليجتنبه، من باب النهي عن المنكر.
r أنا طبيبة أسنان أعمل في مستوصف خيري يخدم الناس الفقراء، ونداوي الرجال، هل يوجد مانع شرعي من ذلك، مع أنني ألبس القفّاز؟. وفي حال أصبح لديَّ عيادة خاصة، هل يجوز لي معالجة الرجال؟
m إذا كانت الأخت تلبس قفّازاً عندما تداوي أسنان الرجل، فلا مانع من ذلك.
r نحن نقرأ في المسائل الشرعيَّة، أنّه يُستحب الدعاء عند رؤية الهلال. فما علاقة الدعاء بالهلال؟ وهل من أدعية عند رؤية الشمس؟
m هذا باعتبار أن الهلال يمثل بداية الشهر، وعندما يكون بداية الشهر، فكأن الإنسان يدعو الله أن يجعله شهر خير وشهر بركة وما إلى ذلك. وهذا ليس جارياً في مسألة رؤية الشمس. وعلى كلّ حالٍ، يمكن للإنسان أن يدعو متى شاء؛ فإنّ الدعاء صلةٌ بين العبد وخالقه(*).
r هل ثَبُتَ الاستحباب في لبس الخاتم الفضّيّ أو العقيق الأحمر؟
m وردت هناك بعض الروايات في ذلك، فالإنسان يأتي بها من باب رجاء الثواب في هذا المجال، إذا لم تثبت صحّتها.
r هل يجوز الذهاب إلى المطاعم التي تبيع الخمر مع عدم طلبها أو وجودها على الطاولة؟
m لا يجوز ذلك إلا مع الضّرورة، وذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
r أودُّ أن أعرف إذا كان من المسموح زرع شعر اصطناعي لتقوية شعر المرأة الطبيعي؟
m يجوز ذلك.
r هل أستطيع أن ألبس خاتماً من الذَّهب الأبيض أو البلاتين؟
m لا مانع من لبس البلاتين، أمَّا الذَّهب الأبيض فلا يجوز لبسه إذا كان من فصيلة الذَّهب حقيقةً.
r ما حكم صباغة الشعر (شعر الرأس) بالنسبة إلى الرجل؟
m لا بأس بذلك إذا لم يكن موجباً لهتك حرمة الرجل، أو كان من قبيل تشبه الرجال بالنساء. ولذلك لا مانع من أن يخفي الرجل شيب رأسه.
r هل يجوز أكل الخل الذي يستعمل في صنع السَّلطة، مع العلم أنّ هذا الخل يحتوي على الكحول وهو مصنوع في فرنسا؟
m الخل حلال، لكن ما اشتمل على الكحول بمقدار معتدّ به فهو محرم.
r ما حكم شراء وشرب المشروبات التي تحتوي مواد تؤدي إلى الإدمان عليها بعد فترة (مثل مشروبات الطاقة)؟
m لا يحرم ذلك ما دام الشراب ليس محرّماً بذاته.
r ما مدى صحة ما يقال بأنّ المجوس من أهل الكتاب؟ وهل تنطبق على من بقي منهم إلى الآن الأحكام التي يتميَّز بها أهل الكتاب عن غيرهم؟
m هناك بعض الروايات التي تقول إن المجوس كان لهم نبي وكان لهم كتاب، ولذلك فإن هناك من العلماء من يُلحق المجوس بأهل الكتاب في الأحكام التي تنطبق على أهل الكتاب.
الفهرس
[ الـمقدمة ]
الحوار في (ندوة الحوار)..... 5
جدول إحصائي بـمسائل الندوة
ج18...................... 15
[ المحاضرات ]
المحاضرة الأولى:
البراءة من الكفر............ 19
البراءة من الكفر......... 21
سـورة (الكافـرون) والبـراءة
الحاسمة................ 22
الإيمان والكفر لا يلتقيان. 23
إيحاءات السورة في مفرداتها 25
السورة في خط المنهج.... 26
الواقعية في العمل الإسلامي 27
المحاضرة الثانية:
تأصيل مفهوم (الله) في وجدان
المؤمن..................... 29
الكفر العقيدي........... 31
المطلق والمحدود........ 32
فكرة التثليث والوحدانية... 34
التوعية على الطبيعة البشرية
للسيد المسيح t.......... 36
المحاضرة الثالثة:
هل يوجب الكفر القطيعة
بين المؤمنين والكافرين....... 39
العلاقات الإنسانية مع
الكافرين................ 41
الإسلام يرفض العزلة عن
الآخرين................. 42
الحرابة سبب القطيعة.... 43
إطلالة على آراء الفقهاء. 44
الموقف من المحاربين ضمن
العناوين الثانويّة......... 44
تشريع القتال في ضوء آيات
القرآن الكريم............. 45
الدفاع عن الخط الإسلامية 47
قتال الكافرين في الروايات 48
المحاضرة الرابعة:
الكفر ليس باعثاً على القتال
الأصل في علاقات المسلمين
بغيرهم هو السلم............. 51
الدلالة القرآنية........... 53
الدخول في نظام الجزية.. 56
دلالة الروايات........... 57
من هو الشيخ؟.......... 59
المحاضرة الخامسة:
السلم أصل والحرب قضية طارئة
مشروعية الجهاد............ 63
مبررات مشروعية الجهاد. 65
مناقشة الاستدلال بإطلاقات
الأدلّة................... 66
خطأ منهجي............ 66
إنفاذ جيش أسامة........ 67
رفض استنتاجات المستشرقين 68
الكافر في الآخرة........ 69
الحجّة والبرهان.......... 70
التفكير في خلق السماوات
والأرض................ 71
العقاب بسبب إقامة الحجّة 72
بين الاستحقاق والتنفيذ... 73
المحاضرة السادسة:
وجوه التوحيد................ 75
وجوه التوحيد............ 77
أولاً: التوحيد في العقيدة
والعبادة................. 77
الولاية التكوينيّة.......... 78
الأولياء والوساطة في الفيض 79
ثانياً: التوحيد الشعوري... 80
العشق الإيماني.......... 82
تحليل حبّ المؤمن لله.... 83
المحاضرة السابعة:
كيف نـحب الله.............. 85
كيف نحبّ الله؟......... 87
مَن هم الذين يحبّهم الله؟ 88
المُحسنون............... 88
التوّابون................. 89
المتطهّرون.............. 90
المتّقون................. 91
المتوكّلون............... 94
المحاضرة الثامنة:
أحباب الله.................. 99
المُقسِطُون.............. 101
المقاتلون صفّاً واحداً..... 103
أحباب الله في السنّة الشريفة.... 103
أحبّ الناس إلى الله...... 104
الأعمال التي يحبّها الله.. 105
المعتدون................ 106
الظالمون............... 107
المختالون............... 107
الخائن الأثيم............ 107
المفسدون............... 107
المسرفون............... 108
المستكبرون............. 108
المجاهر بالسوء......... 108
المحاضرة التاسعة:
آثار الحب الإلهي........... 109
آثار الحب الإلهي....... 111
الإكثار من ذكر الله...... 111
حُسن العبادة............ 112
الصدق والأمانة......... 112
السكينة والحلم........... 113
الرشد والتوفيق للطاعة... 113
الاتِّعاظ بالعبر........... 114
بغض المال وقصر الأمل 114
القلب السليم والخُلُق القويم 116
منـزلة المؤمن عند الله تعالى 117
تحبيب الله إلى خلقه..... 119
الحبّ والبغض في الله... 120
المحاضرة العاشرة:
علاقة الأخلاق السلبية بالانحراف
العقيدي.................... 123
النظام الأخلاقي......... 125
أسباب دخول المجرمين النار 126
أخلاقية الباغي.......... 127
أصول الكفر وأركانه..... 127
الكفر بين الحرص والاستكبار
والحسد ................ 128
المحاضرة الحادية عشرة:
أصول الكفر وأركانه......... 133
الحرص الدنيوي......... 135
الأجواء الانهزامية........ 137
الاضطراب السلوكي..... 138
ألوان الحب............. 139
دائرة المحظورات القيمية.. 141
قطيعة الرحم............ 143
الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر.................. 144
المحاضرة الثانية عشرة:
علامات الكفر والنفاق....... 145
الكيان الأخلاقي للإسلام. 147
علامـات المنافـق........ 148
علامات تقرّب من الكفر. 152
شدة الحرص الدنيويّ..... 153
شرارُ الناس............. 155
تحليل النماذج السابقة.... 156
الأبعد شبهاً بالرسولw... 157
المحاضرة الثالثة عشرة:
الانـحراف عن النظام الأخلاقي الإسلامي يعني: الاقتراب من خطوط الكفر 161
الملعونات الثلاث........ 163
سدّ الطريق وتعطيلها..... 164
حفظ النظام العام........ 165
الزيادة في كتاب الله..... 166
الأخذ بالسنّة النبوّية...... 167
الإيمان بالقدر........... 168
حرمة عترة النبيw....... 168
المحافظة على مقدّرات الأمّة 169
العصبية تؤدّي إلى الكفر. 170
المحاضرة الرابعة عشرة:
العصبية في مجتمعاتنا...... 173
عصبية الجاهلية......... 175
حميّة حمزة بن عبد المطّلب 176
اتخاذ الأرباب عصبيّة.... 178
العصبية للمال والذات.... 179
لا إيمان لمتعصّب....... 180
عقلنة الاندفاعات الإنسانية 181
ملامح العصبية......... 185
المحاضرة الخامسة عشرة:
معالجة الإمام علي t لمشكلة
العصبية.................... 187
العصبية سلوك ينبذه الإسلام 189
العصبية في المجتمع المسلم 190
الخطبة القاصعة......... 191
مناشئ العصبية......... 194
التعصُّب للحق ......... 196
المحاضرة السادسة عشرة:
العصبية وآثارها الاجتماعية.. 199
العصبية تدمّر المجتمعات 201
الفتنةُ الطائفية........... 202
التعصّب لمكارم الأخلاق. 203
تصنيفُ المكارم......... 205
حفظ الجوار............. 206
الوفاء بالعهد............ 207
الطاعة للأبرار.......... 208
عصيان التكبّر.......... 208
الأخذ بصالح الأعمال... 209
عدم الاعتداء............ 210
استعظام القتل........... 210
إنصاف الناس.......... 211
كظم الغيظ.............. 212
اجتناب الفساد........... 212
المحاضرة السابعة عشرة:
قيمة دراسة تاريخ الأمم...... 215
دراسة تجارب الأمم...... 217
وللتجربة خطّان.......... 218
القرآن والاستفادة من
التجارب................ 218
استنطاق التأريخ......... 219
منهاج الوحدة والاتحاد ... 221
المحاضرة الثامنة عشرة:
عوامل الاتحاد والانكسار..... 225
ملامح الاتحاد........... 227
عوامل الانكسار......... 228
الهزيمة الفكرية والنفسية.. 231
نحو النهوض الحضاري.. 232
حركة التمرد............. 234
محنة الحاضر.......... 236
المحاضرة التاسعة عشرة:
أصول الكفر وأركانه......... 239
الرياء العقيدي........... 241
الذكر الاستعراضي....... 243
المحاضرة العشرون:
أثر الرياء في صياغة شخصية
الإنسان.................... 247
خطورة الرياء............ 249
دلالة المظهر الخارجي... 250
المراؤون: أجسام عامرة وقلوب
دامرة................... 252
المُرائي مشرك........... 253
العمل لوجه الله ......... 257
المحاضرة الحادية والعشرون:
نماذج المرائين في القرآن..... 259
الرياء في الصلاة........ 261
التذبذب................. 263
الرياء في الانفاق........ 264
إبطال الصدقات بالمنّ والأذى 265
مقارنة قرآنية بين النموذجين 266
جهد المرائين هباءٌ زائل... 267
المحاضرة الثانية والعشرون:
الرياء نسف للقاعدة
التوحيدية................... 271
خطورة الرياء على التوحيد 273
صفاء التشيّع مسؤولية... 275
العمل لله لا يقبل الشرك.. 276
السرّ يظهر ولو بعد حين. 277
خبث السريرة وحسن العلانية.... 278
المحافظة على العمل
بالاخلاص.............. 279
عاقبة المقاتل رياءً....... 280
علامات المرائي......... 281
ما ليس من الرياء....... 281
المحاضرة الثالثة والعشرون:
مفسدات العمل.............. 283
الرياء في العبادات....... 285
كتمان المعصية......... 289
المحاضرة الرابعة والعشرون:
دواعي كتمان المعاصي...... 291
دواعي كتمان المعاصي.. 293
الفرق بين الحياء والرياء.. 295
أقسام الرياء............. 296
المحاضرة الخامسة والعشرون:
دوافع المرائي ومقاصده...... 299
دوافع الرّياء ومقاصده.... 301
الطريق إلى المعصية..... 303
من تراث السيد المسيحt.. 305
المحاضرة السادسة والعشرون:
مرض القلب وصحته........ 309
مرض القلب............ 311
مرض النفاق............ 312
الرياء العقيدي........... 313
العلاج الروحي ......... 316
المحاضرة السابعة والعشرون:
مرض الرياء وعلاجه........ 317
مرض الرياء............ 319
أصل الرّياء............. 319
التعمّق في الحقائق الإيمانيّة 320
الله الخافض الرافع....... 321
تدبّر النتائج............. 322
قيمة العمل.............. 323
حضور الآخرة في الوجدان 323
محاربة الأوهام الشَّيطانية. 324
علاج الرّياء بالجهاد النفسيّ 325
المحاضرة الثامنة والعشرون:
أصول الكفر والإيمان....... 327
في أصول الكفر والإيمان
دائرتان................. 329
مظاهر السُّلوك العدواني.. 330
الخسارة المزدوجة........ 332
التّباغض يستأصل الدّين 333
المحاضرة التاسعة والعشرون:
مشكلة التكفير.............. 337
مشكلة التكفير........... 339
استحلال دم المسلم...... 340
فكر الخوارج............ 341
سعة الدين.............. 344
سند الروايتين............ 350
المحاضرة الثلاثون:
الذهنية التكفيرية............. 353
الذهنيَّة التَّكفيرية وتقويم الأئمةi
للمفاهيم................. 355
أسلوب الأئمة i في الحوار 357
مفهوم الشرك............ 357
العبادة الشَّاملة........... 360
محض الإيمان.......... 362
[باب المسائل]
الفصل الأول: المسائل القرآنية
المسؤولية الشخصية..... 371
قبول الأوامر وكراهيتها... 371
معنى الرؤية............ 372
السياحة أربعة أشهر..... 373
الحذر من اللّه........... 373
هبوط إبليس............. 374
الوسوسة لآدم وحواء..... 374
تحديّ الجنّ والإنس...... 375
الولدان المخلّدون........ 375
الخضوع الشامل......... 376
الرزق والفقر............ 376
الحديث بالفاحشة........ 377
قيمة التاريخ ومسؤوليات
الحاضر................ 377
الكتاب الموقوت......... 379
امتدادات الشرك......... 379
الجبر في القرآن......... 379
أخوّة الإيمان............ 381
العلاقة مع النصارى .... 381
سيل الأودية............ 382
الإيحاء الإلهي ......... 382
الزكاة في القرآن......... 383
رفع الطور.............. 383
التفاؤل بالقرآن.......... 383
وجوب التعلّم والجهاد..... 384
المصائب والقضاء والقدر 384
كباسط كفَّيه إلى الماء.... 385
إنقاص الأرض من أطرافها 385
يقين بالغيب............. 385
ترتيب نزول القرآن....... 386
الوسيلة إلى الله.......... 386
تكليف الكفّار بالفروع.... 387
أعمال الكفّار............ 387
العصمة في القرآن....... 388
عصيان الأمر الإرشادي. 388
تقدير الله............... 389
معنى التوفّي............ 389
التعاون على الإثم....... 390
معنى الفلق............. 390
معنى الويل............. 390
الصلاة الوسطى......... 391
المودة في القربى........ 391
الخلود في النار ....... 391
من فضائل أهل البيتi... 392
نزول آية............... 392
خلق الإنسان............ 392
التأمل في خلق الإبل.... 393
جهاد المنافقين والكفار... 393
تشريع المتعة ........... 394
معنى أمّ الكتاب......... 394
غضب النبي يونسt..... 394
دليل على دفع الخمس
للمرجع................. 395
شروط تعدد الزوجات.... 395
تحذير الأنبياء........... 396
آزر في القرآن........... 397
الموقف القريشي من القرآن 397
الأعمال التي يغفرها الله.. 398
القصاص حياة.......... 399
رزق الكذب............. 399
معنى (المطهّرون)....... 400
البرهان المانع من همّ يوسف 400
المخاطَب بـ(عبس) ..... 401
تسمية الملائكة بأسماء الإناث 402
فتنة الله................. 403
تكرار (ولا أنتم عابدون ما
أعبد)................... 403
شعيرتا الصفا والمروة.... 404
التفسير الصوفي العرفاني 404
معنى (ساهون)......... 405
استبدال الناس بآخرين ... 405
الدنيا لعب ولهو......... 406
معنى يؤفكون........... 406
الأزواج الثلاثة.......... 406
معنى الربيبة في القرآن... 406
الكفر يحبط العمل....... 407
عبادة غير الله.......... 407
الوسيلة إلى الله.......... 408
سور العزائم ............ 408
العلاقة بين الرّجل وزوجته 408
المغضوب عليهم........ 409
وجوب قصر الصلاة.... 409
الدعاء لعبادة غير الله.... 410
الدين الإسلام........... 410
العقاب المادي........... 411
التبذير والإسراف........ 411
منهاج عمل المسلم ..... 411
وحدة الأمة واختلافها.... 412
صفات المجرمين يوم القيامة 412
التوازن في الإنفاق....... 412
التساؤل من موسىt...... 413
نهاية الكافر............. 413
الكتاب المكنون.......... 414
المخلَّفون في القتال...... 414
يوم القيامة والبرزخ....... 414
موقع النساء في الجنّة... 415
السجود لآدم............ 416
توعّد المصلّين........... 416
إسلام أبي طالب........ 417
علم يعقوبt بمكيدة أبنائه 417
اعتذار إخوة يوسفt .... 418
أمثال القرآن الكريم....... 418
بيّنات يوسفt........... 418
ولاية المؤمنين........... 419
مشيئة الإنسان ومشيئة الله 419
المثلية في الأمم......... 419
الفسوق في القرآن....... 419
الفصل الثاني: المسائل العقيدية
وجوه نحسة............. 423
التعقيد في العقائد........ 423
التوفيق وسلامة الدين.... 424
كتب تفسير الأحلام...... 424
نداء الأئمّة والشرك...... 424
ماهية وجود الله......... 425
سبب التعاسة............ 425
حقيقة الطواف........... 425
حرمة الكعبة تاريخياً..... 426
الاطلاع على الغيب..... 426
خطبة البيان............ 426
الشرك الباطني ......... 427
عصمة الأنبياء والأئمةt.. 427
الدعاء والقدر........... 427
المعصيـة ظلم لله........ 428
الخالق الضارّ .......... 429
خلق الشر.............. 429
إحباط العمل ........... 429
التوكل على الله......... 430
الخروج من النار........ 430
طبيعة الشيطان.......... 431
الاعتقاد بالعصمة....... 431
حذر المحسن........... 431
علامات الظهور......... 432
التقوى والتقية............ 432
الجن والشيطان.......... 432
الطرد من رحمته تعالى... 433
وجود الله الأزلي......... 433
البداء في العقيدة........ 433
قتل الأنبياء بغير حق.... 434
فتنة الدنيا............... 434
الحساب والمعرفة........ 435
حديث الفرقة الناجية..... 435
دور أبي طالب t........ 436
منزلة السيدة الزهراء u... 436
إسراء النبيw .......... 437
مصداق المؤمن ........ 437
البداء .................. 438
أصل الخليقة............ 438
النفس اللوّامة............ 439
الكافر والمشرك......... 439
تعذيب إبليس بالنار...... 439
الفائدة من عبادة الله..... 440
حول إيمان آباء النبيّ ... 440
شدَّة عذاب الله ورحمته... 441
كلمة التَّوحيد............ 441
اليأس والكفر............ 442
أنبياء الجنّ............. 443
علم الإمام عليt......... 443
المؤمن ممتحن.......... 443
التقليد في العقائد........ 443
قرين الإنسان ........... 444
كيف دلَّ الله على ذاته؟.. 444
شخصية عبد اللّه بن سبأ 444
حرق الشيطان........... 445
الفصل الثالث: المسائل الفكرية
المفهوم الإسلامي للإنسان 449
الإسلام دين العدل والمساواة 450
المسافة بين الإيمان والواقع 451
شعارات الإسلاميين...... 451
مغزى الحجّ والعمرة ..... 452
أولويات الإسلام ........ 453
دور الشعائر الحسينية.... 453
الإمامة مصدر الشريعة.. 454
خيـر الحريـّات وشرّها..... 455
تحليل حالة الإحباط .... 455
استثمار مواسم الزيارة.... 456
الإصلاح الديني ........ 457
السيرة الحسينية والتحريف. 458
حدود الحرية الفكرية .... 459
ظاهرة الحزن............ 460
واجبات الأمة........... 461
قطع الرحم وقبول العمل.. 461
تبنّي الليبرالية!........... 461
التقية كمنهج حياتي...... 462
شرار الأمة.............. 462
المسلم الحسيني.......... 463
الحكمة من إحياء عاشوراء 463
ملامح الخطيب الحسيني. 464
منهج العرفان............ 464
الحب لله والبغض له..... 465
اختلاف وجهات النظر... 465
مخالفة النساء........... 465
جنّة الأرض............. 466
الظلم بسبب الانتماء..... 466
أولاد خديجة (رض)...... 467
غيبة الإمام وغياب الحجّة 467
الأقرب إلى الإسلام ..... 467
ترك العمل خوفَ الرياء . 468
التكـليــف فــي مـواجـهــة
الافتراءات.............. 468
طرق مواجهة التكفيريّين.. 469
الفقر بين الفخر والقتل... 469
عدم التمكّن من الزواج مع
الحاجة................. 470
نصر الظالم والمظلوم.... 470
تجسيد الأئمة في الأفلام. 470
حسن التدبير............ 471
حديث النفس وشرك العبادة 471
الحكومة في عصر الغيبة 471
المشروع الإسلامي....... 472
حقيقة العقل ............ 472
المنهج الدعوي.......... 472
الأفكار الضالَّة.......... 473
ملامح دولة الإنسان..... 473
القومية والانتماء الإسلامي 474
البديل عن ولاية الفقيه... 474
استجابة الدعاء.......... 474
الفصل الرابع: المسائل الفقهية
أولاً المرجعية والتقليد......... 479
سن تكليف الفتاة........ 479
التجديد الفقهي........... 479
الإذن بالتقليد............ 480
العمل مع عدم التقليد.... 480
الإذن بالتقليد............ 480
حكم القياس............. 481
التبعيض لغرض التدخين. 481
ثانياً النجاسات والطهارات.... 482
حكم دباغة الجلود....... 482
حكم الرطوبة بعد الاستبراء 482
صلاة بثياب مشكوكة الطهارة 482
فتح الضفيرة عند الغسل.. 482
الرضاعة حال الجنابة ... 482
مسح أرضيّة البيت بالممسحة 483
عبادات معوّق .......... 483
مسُّ اسم الجلالة على الشاشة 483
تربية القطط في المنـزل... 484
حكم المتولد من كلب وذئب 484
احتياطات الفقهاء........ 484
دخول الحائض إلى العتبات
المقدسة ................ 484
الغسل لداعي الصلاة.... 484
نجاسة لباس المصلي.... 485
كيفية التطهير........... 485
غسل الشعر الطويل..... 485
الخوف من ضرر الغسل. 485
الصلاة بجنابة.......... 486
طهارة المشرك........... 486
إطالة الأظافر........... 486
فاقد الطهورين........... 486
الأجرة على تغسيل الميت 486
أكل الحيوان الجلاّل...... 487
طهارة الماء الكر........ 487
عدم الاغتسال للحرج.... 487
التنظيف بعد الغسل الواجب 487
خروج الدم بعد الحلاقة... 487
الدم الجامد على قشرة الرأس 488
حُكم ما يمسّه الجُنُب..... 488
كيفية غسل الجنابة...... 488
تقدُّم الدورة الشهرية....... 488
تذكية الثعلب بالرمي..... 489
نجاسة الميت............ 489
مفاجأة الحيض داخل المسجد
الحرام ................. 489
التقيّد بنظام الامتحان.... 489
حدود النظر الحرام....... 490
التورية والكذب........... 490
حكم مشاهدة الأفلام الخلاعية 490
عدالة الشهود............ 490
تأجير الأرحام........... 490
كفَّارة الكفر.............. 491
التبرع بالكلية............ 491
ارتياد المقاهي العامة..... 491
اللحم الحلال............ 491
حلق اللّحية والعدالة...... 492
الإعلان عن خطأ الغير.. 492
إظهار القدمين.......... 492
ثالثاً الوضوء والصلاة....... 493
استحباب غسل الجمعة... 493
ملطّفات البشرة والوضوء. 493
فـي الوضــوء............ 493
حكم الوضوء............ 493
مسح باطن اليد في الوضوء 494
تأثير الجل على الوضوء. 494
الوضوء بالغطس........ 494
انفراد المأموم في التسليم. 494
الصلاة عند الأذان...... 494
الصلاة في الطائرة....... 495
الصلاة على النبيّ في الأذان 495
إعادة صلاة............ 495
الصلاة الإبراهيمية....... 495
كثير السفر............. 496
قاطع السفر............. 496
الإقـامـة................. 496
الصلاة على آل النبيi... 496
السهو في الصلاة ...... 497
الصلاة من جلوس....... 498
القضاء عن الوالد........ 498
الصلاة في مكة ........ 498
القصر والتمام........... 498
الشك في الركعات ...... 499
الاقتصار على الفاتحة في
النافلة.................. 499
موارد التخيير............ 499
إقامة موزّعة............ 500
قضاء الصلاة والصيام... 500
قراءة القرآن في الصلاة.. 500
الحروف القمرية والشمسية 501
قنوت صلاة الجمعة..... 501
الإقامة في الصلاة...... 501
صلاة المريض.......... 502
صلاة الأبكم............ 502
نظام صلاة الجماعة..... 502
التزاحم بين المدرسة والجمعة.... 502
الإمام والتجويد.......... 503
غلبة النوم.............. 503
الصلاة عند الأذان...... 503
الصلاة بالحذاء.......... 503
القنوت في صلاة الجمعة 503
الستر في الصلاة........ 504
الترتيب في صلاة القضاء 504
تجاوز الرّكعات في الصّلاة 504
الصلاة جماعةً دون قراءة 504
الجهر في صلاة الجماعة 505
الموقف من تارك الصلاة 505
التحميد بعد قراءة الفاتحة. 505
حضور صلاة الجمعة... 506
وضع العطر في الصلاة. 506
حدّ الترخّص............ 506
فهـم خاطـئ للإخـفـات فـي
القراءة.................. 506
حيض كل أسبوعين...... 507
تعذّر السجود بسبب الحمل 507
فقدان ما يصحُّ السجود عليه 507
الصلاة على الأرض..... 508
الإشارة بالإصبع عند التشهد 508
قراءة القرآن في الصلاة.. 508
صلاة الجماعة في الطَّابق الثاني 508
الشكُّ في شرطية المسافة. 509
تأخير الصلاة........... 509
حكم الحبر.............. 509
الشكُّ بخروج الريح....... 509
حدود غسل الوجه....... 510
حكم الصلاة بعد اكتشاف الحبر 510
زوجي لا يصلِّي......... 510
أحكام المريض ......... 510
البسملة قبل التّسبيحات... 511
مطلق الذِّكر في الصَّلاة.. 511
الصَّلاة تماماً في السَّفر.. 511
الوضوء للطَّهارة......... 511
السجود في الفضاء الخارجي 511
الشكُّ في السجدتين الأخيرتين 512
الجهر في صلاة القضاء. 512
صلاة النائب عن المنوب 512
فقدان ما يصحُّ السجود عليه 512
قصد الإقامة............ 513
حدّ الركوع............... 513
صلاة الجماعة على النساء 513
الصَّلاة قبل انتهاء الأذان 513
صلاة المصاب بالصرع.. 514
تأدية الصلاة في العمل.. 514
الفاتحة بدل السبحانيات.. 514
صلاة القضاء.......... 514
التكبيرات بعد التسليم..... 514
العدالة في إمام الجماعة.. 515
ترديد الدعاء مع الإمام... 515
رابعاً الصيام والكفّارات....... 516
تناول المفطر نسياناً..... 516
قضاء عبادة الجاهل..... 516
عدم الصيام لمرض...... 516
إكراه الزَّوجة على الإفطار 516
خامساً الخمس والزكاة....... 517
أقساط التأمين على الحياة 517
الخمس لأوّل مرّة........ 517
زكاة الأموال النقدية...... 517
مؤونة السنة............. 518
الفرق بين الزكاة والخمس. 518
كسبٌ بعد الخمس....... 518
تخميس المال المودع في البنك 518
تصرّف المكلف بالخمس. 519
تخميس الأموال.......... 519
الخُمس مع الضرائب .... 519
خُمـس المـال المدّخـر لشـراء
منزل................... 519
خمس المال المدَّخر..... 520
الادّخار لشراء منزل...... 520
تخميس المال للنيابة..... 520
تطهير المال............ 520
سادساً الحج والعمرة......... 521
الطواف في الاتّجاه المعاكس 521
في الاستظلال.......... 521
الحجّ عن الوالدين........ 521
صحة الحج لتارك الصلاة 521
حج غاصب المال....... 521
التقصير لحج الصرورة... 522
أحكام دخول الحرم....... 522
نيـة الحـج............... 522
تجاوز الميقات.......... 523
صحة الوقوف بعرفة..... 523
نسيان ركعتي الطواف.... 523
الطواف خارج مقام إبراهيم 523
طواف النساء .......... 524
الموالاة بين الطواف والسعي 524
الشك في عدد الأشواط... 524
رمي الجمار ............ 524
الخطأ في ترتيب الرمي... 524
رمي حصيات إضافية .. 525
الشك في صحة الحج.... 525
الحقوق وغفران الذنوب .. 525
الحج عرفة؟............. 525
الوقوف بعرفة مع عامة
المسلمين................ 526
سابعاً الزواج والطلاق....... 527
هجران الزوجة لمدة سنة.. 527
الابتعاد عن الزوجة لمدة
طويلة.................. 527
دليل الزواج المؤقّت...... 527
زواج المتعة من المذهب
المخالف................ 527
انفصال المسيحية التي أسلمت
عن زوجها.............. 528
أيام مناسبة للزواج....... 528
إسقاط حق الحضانة .... 529
العصمة بيد الزوجة...... 529
حكم زوجة المفقود....... 529
الزواج من أجنبية ....... 529
المهر المؤجل........... 530
تطليق الحاكم الشرعي.... 530
غياب الزوج لسنتين...... 530
الخيانة الزوجية.......... 531
الزواج بعد علاقة غيرشرعية.... 531
زوجة مفقود............. 531
طلاق الغاضب......... 531
تغيير صفة عقد الزواج.. 532
النسب في الزواج........ 532
خيانة الزوج............. 532
وجوب الزواج........... 533
تزويج الأبناء............ 533
زواج بشرط خلع الحجاب 533
الزواج من مسيحية...... 533
طلاق المحكمة.......... 534
الشكوى ضد الزوج....... 534
الزواج من ابن الزنا...... 534
انتهاء عقد المتعة........ 534
حكم الزواج السرّي....... 535
التّزاوج بين أهل المذاهب. 535
ثامناً أموال وبنوك........... 536
نسبة أرباح على إرسال
الزبائن.................. 536
أخذ المال من الزوج بدون
علمه................... 536
بيـع المحـل.............. 536
فسخ العقد واستحقاقه ... 537
استنقاذ الحقوق ......... 537
البيع بالتقسيط........... 537
دفع الصدقة للسيد....... 537
العمل في مجال الإنترنت. 538
بيت على أرض مصادرة. 538
الشك في دفع أجرة...... 538
سافر وترك ملابسه...... 539
شروط البيع............. 539
شراء البضائع المصادرة.. 539
صلاحيات الوسيط....... 539
الصرف في موارد البر... 540
خطورة أكل الميراث...... 540
استيفاء الفرق........... 541
تسريع انضاج الثمار بالزيت 541
حفظ المال بالبنوك...... 542
التصرف بأموال الزوج... 542
هبات للضحايا.......... 542
التصرّف بالأمانات...... 543
العمل في فندق يبيع الخمر 543
نذور الميت............. 543
حكـم الفائـدة مـن بنـك غيـر
إسلامي................. 544
شراء سرقفلية............ 544
افتتاح صالة ألعاب...... 544
تحديد الربح............. 544
حكم الرشوة............. 545
حكم شراء أسهم في الفنادق 545
شراء الأرض المغصوبة . 545
شراء بضاعة مسروقة.... 545
سداد الديون عن الأب... 546
إعادة الأموال........... 546
شراء من محل على أرض
مغصوبة................ 546
اقتناء الأرانب........... 546
مقتنيات لا يُعرف أصحابها 546
اختلاف الورثة حول الوصيَّة 547
أوراق اليانصيب......... 547
العمل في المصارف الربوية 547
قبض الرواتب في البلاد
الأجنبية................ 547
تاسعاً السلوك والمعاملات.... 548
استخارة العزم على السفر. 548
الحطب المسروق للطبخ.. 548
اللحية بين الحرمة واستحباب
الترك................... 548
التذكية بعد إطلاق النار.. 549
تغطية قدمي المرأة ...... 549
حضور أفراح فيها سفور. 549
القسم بوضع اليد علىالقرآن 549
حكم التبرّج.............. 550
الاستخارة بالقرآن........ 550
تحفيظ آيات السجود للأطفال 551
إفشاء السر............. 551
استعمال القسوة مع الأبناء 551
استحباب العقيقة......... 552
إخبار المريض بمرضه .. 552
تحايل المحامي على القانون 552
حكم الإجهاض.......... 552
كفَّارة الحنث باليمين..... 553
المسكوكات المصوّرة..... 553
دخول الحوزة بدافع مادي. 553
حكم التجميل............ 553
الكافر المحرم........... 554
إسقاط الجنين........... 554
تلقيح لإنجاب الذّكور..... 554
تجديد القبور............ 554
حكم الاختلاط........... 555
مقاطعة صديق.......... 555
برّ الوالدة بعد الوفاة...... 555
حكم لعبة الدومنو........ 555
حكم التورية............. 556
من هو العرّاف.......... 556
حكم العقيقة............. 557
حكــم كشـف الطبيـب علـى
النساء.................. 557
شراء أصوات الناخبين .. 557
تقبيل يد الهاشمي........ 558
حكم أكل سرطان البحر.. 558
حكــم الانحنــاء في الألـعـاب
الرياضية................ 558
حكم الرقص............. 558
منع الآخرين من منفعة مباحة 559
بيع ملابس غير شرعية.. 559
أجواء اختلاط........... 559
إسقاط الجنين........... 560
لبس الرجل الذهب....... 560
الحدود الشرعية بين الخطيبين 560
الغناء المحلل........... 560
الإكراه على العمل المنحرف 561
ردع الزوج عن المنكر.... 561
إتلاف المخلفات الورقية.. 561
زراعة الشعر............ 561
لباس الشهرة............. 562
الاستفادة من مهملات العمل 562
فحش القول............. 562
نقض العهد............. 562
أمر الوالدين بالمعروف عنفاً 562
حدود طاعة الحاكم...... 563
التعامل مع من يسقط المرائين 564
إظهار العمل للتشجيع عليه 564
حدود الكذب على الزوجة. 564
اللباس غير الشرعي..... 564
التبوّل وقوفاً............ 565
السّمك الّذي ليس له قشر 565
التعامل مع أسماء الله.... 565
سماع الأغاني........... 565
تطبيب المرأة الرجال..... 566
الدّعاء عند رؤية الهلال.. 566
استحباب التختُّم بالعقيق.. 566
حكم الذَّهاب إلى مطاعم تبيع
الخمور................. 567
زرع شعر اصطناعي.... 567
لبس خاتم من الذهب الأبيض 567
حكم صباغة الشَّعر للرَّجل 567
تناول الخلّ في الطعام... 567
شرب وشراء مشروبات الطاقة 568
حكم المجوس........... 568
الفهرس..................... 569
(*) شهدت مرحلة الستينيات والسبعينات من القرن المنصرم حالات عديدة من الاحتراب الكلامي والإعلامي العنيف عبر الإذاعات المضادة التي كانت تهاجم هذا البلد ويهاجمها بمثلها أو باقذع منها، لتصل الأمور إلى درجة من التوتر المنذر بالحرب لمجرد اتهامات وافتراءات واتهامات مضادة، يطلقها هذا الطرف أو ذاك من دون اللجوء إلى قنوات الحوار التي كان يمكن أن تصفّي الكثير من الغبار المثار، بل تحول دون اثارة نقع (غبار) معركة قادمة أو محتملة.
(*) نحن نستثني حالات التفاوض الإستسلامي الخانع الذليل التي جرت وتجري بين الصهاينة وبين الحكام العرب، أو تلك التي جرت في (خيمة صفوان) بين القوات المتعددة الجنسيات كمنتصر وبين ممثلي نظام مهزوم ومنكسر.. هذه وأمثالها ليست حوارات.. هذه مفاوضات الغالب هو الذي يُملي شروطه فيها على المغلوب، أو الذي يستشعر القوّة في مواجهة المهزوز المهزوم.
(1) سبأ: 24.
(1) مريم: 47.
(2) التوبة:114.
(3) الزخرف:26.
(4) يونس:41.
(5) الشعراء:216.
(6) هود:35.
(7) هود:54.
(8) الكافرون: 1-6.
(9) الإسراء:44.
(1) المائدة:17.
(2) المائدة:17.
(3) المائدة:17.
(4) المائدة:72.
(5) لقمان:13.
(6) المائدة:116-117.
(7) المائدة:73.
(8) المائدة:74.
(9) المائدة:75.
(10) المائدة:76.
(11) التوحيد: 1-4.
(1) الممتحنة:8.
(2) الممتحنة:9.
(3) البقرة:190.
(4) التوبة:13.
(5) التوبة:10.
(6) التوبة:36.
(7) الأنفال:39.
(8) الحج:39-40.
(9) النساء:74-76.
(10) التوبة:5.
(11) التوبة:29.
(12) سنن الترمذي. 1509.
(1) التوبة:5.
(2) التوبة:6-8.
(3) التوبة:8.
(5) التوبة:29.
(6) أخرجه البخاري (3/ 206 و12/232-234 و 13/206) ومسلم (1/38) وأبو داود (1/243) والنسائي (2/162) والترمذي (2/100 طبع بولاق) وأحمد (1/19-35-47-48 و 2/423 و528).
(7) سنن الترمذي 1509. ومسند أحمد 19286. صحيح البخاري 6540.
(8) سنن ابي داوود 2247. صحيح البخاري 1761.
(1) الحج:39.
(2) البقرة:190.
(3) البقرة:208.
(4) الأنفال:61.
(5) الممتحنة:8-9.
(6) النساء:90.
(7) التوبة:36.
(8) البقرة:24.
(9) البقرة:90.
(10) النساء:37.
(11) الإسراء:8.
(12) العنكبوت:68.
(13) لزمر:71.
(14) الإنسان:4.
(15) البقرة:111.
(16) الأنبياء:24.
(17) النساء:174-175.
(18) النمل:64.
(19) القصص:75.
(20) النساء:165.
(21) الحديد:25.
(22) إبراهيم:9-11.
(23) الرعد:16.
(24) الأعراف:191.
(25) الحج:73.
(26) يونس:34.
(27) البقرة:164.
(28) آل عمران:191.
(29) الروم:22.
(30) الزمر:3.
(31) الشعراء:74.
(32) النساء: 48.
(33) غافر:16.
(1) الأنبياء:22.
(2) المؤمنون:91.
(3) الزّمر:3.
(4) البقرة:255.
(5) البقرة:165.
(6) التوبة:24.
(7) الاقبال : ص 349 دعاء الامام الحسين (ع) يوم عرفة.
(8) دعاء ابي حمزة الثمالي.
(9) ميزان الحكمة : ج 2 ص 213.
(10) دعاء كميل.
(11) ابن هشام، السيرة، ج2ص348.
(12) دعاء ابي حمزة الثمالي..
(13) كنز العمال 43127.
(14) البحار: ج70 . ص25. ح 25.
(15) تحف العقول: 295.
(16) نور الثقلين: ج5 .ص285 . ح49.
(17) ميزان الحكمة. ب658. ح3096.
(18) آل عمران. 31.
(19) البقرة:165.
(20) النحل:53.
(21) إبراهيم:34.
(1) آل عمران:31.
(2) البقرة:195.
(3) القصص:77.
(4) النور:33.
(5) الذاريات:19.
(6) الرحمن:60.
(7) يونس:26.
(8) البقرة:222.
(9) المائدة:39.
(10) الشورى:25.
(11) التحريم:8.
(12) البقرة:222.
(13) المائدة:6.
(14) التوبة:103.
(15) المائدة:41.
(16) آل عمران:76.
(17) سفينة البحار. ج2. ص678.
(18) البقرة:194.
(19) النحل:128.
(20) آل عمران:133-136.
(21) الأعراف:201.
(22) الأنفال:1.
(23) الأحزاب:70.
(24) الحجرات:13.
(25) وسائل الشيعة. ج3. ص463.
(26) الزّمر:10.
(27) البقرة:155-157.
(28) آل عمران:159.
(29) غرر الحكم. 3849.
(30) غرر الحكم. 9182.
(31) آل عمران:122.
(32) وسائل الشيعة. ج17. ص34. ح21912.
(33) المستدرك. ج2. ص289.
(34) الطلاق:2-3.
(35) الفروع. ج1. ص351.
(1) المائدة:42.
(2) الحديد:25.
(3) الممتحنة:8.
(4) النساء:135.
(5) المائدة:8.
(6) النساء:135.
(7) الرحمن:9.
(8) هود:85.
(9) الحجرات:9.
(10) آل عمران:18.
(11) الصف:4.
(12) وسائل الشيعة. ج16. ص310. ح21626.
(13) نفسه. ج15. ص266. ح3.
(14) كنز العمال. ح43256.
(15) مكارم الأخلاق. ج2. ص375. ح2661.
(16) تأريخ اليعقوبي ، ج 2 ، ص 105.
(17) مكارم الأخلاق : ج2. ص100. ح2288.
(18) أصول الكافي. ج2. ص119.
(19) نهج البلاغة. خ38.
(20) بحار الأنوار. ج75. ص328.
(21) تنبيه الخواطر. ج2. ص213.
(22) تنبيه الخواطر. ج2. ص121.
(23) قرب الاسناد. ص145. ح522.
(24) أصول الكافي. ج2. باب إدخال السرور على المؤمن.
(25) صحيح البخاري. 6502.
(26) بحار الأنوار. ج55. ص38.
(27) البقرة:190.
(28) آل عمران:57.
(29) النساء:36.
(30) النساء:107.
(31) المائدة:64.
(32) الأنعام:141.
(33) النحل:23.
(34) النساء:148.
(35) المطففين:26.
(1) كنز العمال. 1870.
(2) غرر الحكم. 4032.
(3) غرر الحكم. 4101.
(4) نفسه. 4073.
(5) نفسه. 4099.
(6) آل عمران: 133-134.
(7) غرر الحكم. 4177.
(8) نفسه. 4112.
(9) غرر الحكم. 1820.
(10) السجدة: 17.
(11) تنبيه الخواطر : ج2. ص122.
(12) غرر الحكم : 7002.
(13) نفسه. 7219.
(14) وسائل الشيعة. ج12. ح2.
(15) نفسه. ح3.
(16) القصص:77.
(17) وسائل الشيعة. ج 2. ص 421.
(18) غرر الحكم. 4893.
(19) الشعراء:88-89.
(20) بحار الانوار. ج70 . ح18.
(21) جامع الأخبار. ص 505. ح 1398.
(22) آل عمران:31.
(23) بحار الأنوار. ج71. ص156.
(24) الحجرات:13.
(25) بحار الأنوار. ج70. ص14.
(26) بحار الأنوار. ج70. ص22.
(27) نفسه. ص35.
(28) بحار الأنوار. ج72. ص368.
(29) كنز العمال. 24648.
(30) بحار الأنوار. ج72. ص67.
(31) الدعوات. 28/50.
(32) المحاسن. ج1. ص410. ح935.
(33) أصول الكافي. ج2. ص127.
(34) علل الشرائع. 140/1.
(35) غرر الحكم. 2002.
(36) بلاغة الإمام علي بن الحسين. ص228. ح177.
(1) الماعون:1-3.
(2) المدثر: 38 – 41.
(3) المدثر: 46.
(4) المدثر:38-48.
(5) الشورى:14.
(6) آمالي الصدوق. ص 251.
(7) طه:115.
(8) المائدة:27-30.
(9) بحار الأنوار. ج82. ص36.
(10) نفسه. ج12. ص85.
(11) بحار الأنوار. ج12. ص11.
(12) أصول الكافي. ج2. ص327.
(13) معرفة النفس. ص163.
(1) التحف. 207.
(2) النساء:138-139.
(3) آل عمران:26.
(4) النساء:97.
(5) بحار الأنوار. ج9. ص57.
(6) لقمان:13.
(7) النساء:48.
(8) أصول الكافي. ج2. ص290.
(9) النساء:48.
(10) الرعد:25.
(11) آل عمران:104.
(1) الأخلاق. 24.
(2) الأحزاب:72.
(3) الأنفال:58.
(4) النور:7.
(5) مريم:54.
(6) الأنفال:27.
(7) البحار. ج75. ص172. ح13.
(8) الاختصاص. 248.
(9) تصنيف غرر الحكم. ص460.
(10) غرر الحكم. 2652.
(11) غرر الحكم. 5734.
(12) نفسه. 10276.
(13) الكافي. ج2. ص134.
(14) الكافي. باب الطمع.
(15) الأعراف:175-176.
(16) وسائل الشيعة. ج15. ص341. ح20690.
(18) الحديد:7.
(19) النور:33.
(20) النحل:75.
(21) الأحزاب:21.
(22) وسائل الشيعة. ج15. ص341. ح20691.
(1) الكافي. ج2. ص292.
(2) البحار. ج14. ص268. ح6.
(3) الحاقة:44-47.
(4) الحشر:7.
(5) آل عمران:31.
(6) النساء:80.
(7) الأحزاب:21.
(8) القمر:49.
(9) الطلاق:3.
(10) الأنفال:42.
(11) السقيفة. ص188. وممن نقله ورواه: مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، وابن حجر في صواعقه، والقندوزي في ينابيع المودة، والحافظ الطبري في ذخائر العقبى، والترمذي وإبن ماجه والطبراني والثعلبي وغيرهم.
(12) البحار. ج23. ص158.
(13) الشورى:23.
(14) البقرة: 85.
(15) الفتح:26.
(16) الزخرف:22.
(17) الزخرف:24.
(18) البقرة:170.
(19) الشعراء:74.
(20) الفتح:4.
(1) الفتح:26.
(2) الفتح:26.
(3) وسائل الشيعة. ج15. ص372.
(4) مريم:81.
(5) النساء:138-139.
(6) الشعراء:111-115.
(7) الزخرف:51.
(8) الزخرف:52.
(9) القصص:34.
(10) الزخرف:53
(11) الزّخرف:54.
(12) النازعات:24.
(13) سنن ابي داوود. 4456.
(14) النهج.444.
(15) بحار الأنوار. ج60. ص58.
(16) الأنبياء:27.
(17) وسائل الشيعة. ج11. ص298.
(18) الكافي. ج2. ص308.
(19) الوافي. ج3. ص149.
(20) البحار. ج87. ص15.
(21) البحار. ج74. ص89.
(22) البحار. ج70. ص288.
(23) ميزان الحكمة. ج2. ص1024.
(1) سبأ: 35.
(2) بحار الأنوار. ج14. ص197.
(3) نهج البلاغة. الخطبة 192 القاصعة.
(1) غرر الحكم. 2627.
(2) النساء:58.
(3) المعارج:24-25.
(4) الخصال. ص431.
(5) الصحيفة السجادية. دعاء مكارم الأخلاق. ص103.
(6) وسائل الشيعة، ج11، ص156، الباب6، ح6.
(7) النساء:135.
(8) أمالي الصدوق. ص216.
(9) بحار الأنوار. ج89. ص197.
(10) غرر الحكم. 2627.
(11) وسائل الشيعة. ج12. ح15845.
(12) وسائل الشيعة. ج8. ص488.
(13) غرر الحكم. 5295.
(14) وسائل الشيعة. ج29. ص75.
(15) نفسه. ج15. ص87.
(16) البقرة:177.
(17) البقرة:189.
(18) الأعراف:13.
(19) هود:3.
(20) وسائل الشيعة. ج6. ص85.
(21) الكافي. ج2. ح2.
(22) النساء:93.
(23) الكافي. ج7. ص273.
(24) الإسراء:33.
(25) وسائل الشيعة. ج15. ص272.
(26) الكافي. ج2. ص144.
(27) نفسه. ص130.
(28) وسائل الشيعة. ج15. ص301.
(29) آل عمران:133-134.
(30) وسائل الشيعة. ج8. ص524.
(31) الكافي. ج2. ص110.
(32) القصص:83.
(33) القصص:76-77.
(1) غرر الحكم. 3709.
(2) يوسف:111.
(3) الأنعام:11.
(4) الحج:45-46.
(5) الروم:9.
(6) نهج البلاغة. ص466. خ192.
(7) آل عمران:103.
(8) الأنفال:63.
(9) الغاشية:21-22.
(10) العصر:3.
(11) آل عمران:104.
(12) الدخان:30-33.
(13) القصص:4.
(14) الطلاق:2.
(15) نهج البلاغة. ص466-467. خ192.
(1) يوسف:50.
(2) المؤمنون:53.
(3) الرعد:11.
(4) الأنفال:53.
(5) الروم:41.
(6) التكوير:8-9.
(7) آل عمران:103.
(8) المنافقون:8.
(9) الأنفال:63.
(10) الأنفال:24.
(11) الحجرات:14.
(12) الحجرات:10.
(13) نهج البلاغة. خ192.
(14) الرعد:17.
(15) الحشر:14.
(1) أصول الكافي. ج2. ص290.
(2) المنافقون:1.
(3) البقرة:14.
(4) البقرة:11-12.
(5) النساء:142.
(*) النساء: 142.
(6) سسن الترمذي. 148.
(7) وسائل الشيعة. ج7. ص155.
(8) النساء:145-146.
(9) الزّمر:2.
(10) الزمر:11.
(11) الزمر:14-15.
(12) الأعراف:29.
(1) بحار الأنوار. ج97. ص83.
(2) سنن الترمذي. 2328.
(3) كنز العمال. 7483.
(4) البقرة:204-206.
(5) البحار. ج87. ص98.
(6) القصص:76-77.
(7) لقمان:19.
(8) المدّثر:4.
(9) نهج البلاغة. خ32.
(10) الأنعام:27.
(11) البحار. ج75. ص15.
(12) الكهف:110.
(13) البحار. ج69. ص55.
(14) البرهان. ج2. ص495.
(15) النساء:48.
(16) البحار. ج97. ص176.
(17) مسند أحمد. 23119.
(18) البحار. ج69. ص303.
(19) نهج البلاغة. خ85.
(20) البحار. ج74.
(21) غافر:19.
(22) البحار. ج75.
(23) وسائل الشيعة. ج1. ص70.
(24) الإنسان:8-9.
(1) الماعون: 1ـ 6.
(2) النساء:142.
(3) النساء:143.
(4) البقرة:261.
(5) البقرة:264.
(7) الزلزلة:7-8.
(8) البقرة:264.
(9) البقرة:265.
(10) النساء:38.
(11) فاطر:10.
(12) الأنفال:45.
(13) الأنفال:46.
(14) الأنفال:47.
(1) الأعراف:59.
(2) الزمر:3.
(3) الجن:18.
(4) البحار. ج65.
(5) البقرة:207.
(6) نهج البلاغة. ك136.
(7) البحار. ج65.
(8) ق:17-18.
(9) وسائل الشيعة. ج1. ص61.
(10) نفسه. ص62.
(11) الإخلاص:3-4.
(12) وسائل الشيعة. ج10. ص203.
(13) الكافي. ج2. ص285.
(14) الشعراء:88-89.
(15) الانفطار:19.
(16) الوافي. ج3. ص147.
(17) الكافي. ج2. ح16.
(18) البحار. ج88.
(19) الكافي. ج2. ص288.
(20) البحار. ج75.
(21) وسائل الشيعة. ج1. ص75.
(1) وسائل الشيعة. ج1. ص72.
(2) النساء:142.
(3) وسائل الشيعة. ج1. ص73.
(4) يونس:58.
(5) وسائل الشيعة. ج1. ص74.
(6) الزُّمر:53.
(7) الشورى:25.
(8) البقرة:186.
(9) غافر:60.
(10) أنبياء:28.
(11) سبأ:23.
(1) المنافقون:1.
(2) البقرة:204-205.
(3) آل عمران:119.
(4) النساء:142- 143.
(1) بحار الأنوار. ج72. ص58.
(2) القصص:77.
(3) جامع السعادات. ج2. فصل الرياء. مصحح عن (أحياء العلوم) 3/281.
(1) البقرة: 14.
(2) البقرة: 10.
(3) الأنفال: 49.
(4) التوبة: 124.
(5) التّوبة:125.
(6) الأحزاب: 11- 12.
(7) الأحزاب:32.
(8) محمد: 29.
(1) الخصال. 420.
(2) جواهر البحار.
(3) النساء:138- 139.
(4) البقرة:166-167.
(5) مريم:95.
(6) الوسائل. ج1. ص72.
(7) النحل:96.
(8) الزخرف:67.
(9) شعراء:88- 89.
(10) غافر:10.
(1) الكافي. ج6. ص386.
(2) البحار. ج66.
(3) الكافي. ج2. ص320.
(4) أصول الكافي. ج2. ص354.
(5) الكافي. ج2. ص358.
(6) الحشر : 16.
(7) إبراهيم : 22.
(8) الكافي. ج2. ص346.
(9) عيون الاخبار ج 1 ص 313.
(10) الحجرات:10.
(11) الحجر : 47.
(12) الوسائل. ج11. ص421.
(13) الوسائل. ج16. ص152.
(14) الأنعام:21.
(15) الأعراف: 37.
(1) النساء: 59.
(2) الكافي. ج2. ص401-402.
(3) التحريم: 10.
(4) التغابن:2.
(5) التّوبة: 102.
(6) النساء: 98.
(7) الكافي. ج2. ص402-404.
(8) التغابن: 2.
(9) النساء: 99.
(10) الأعراف: 46.
(1) النساء: 98.
(2) الكافي. ج2. ص383.
(3) النساء: 48.
(4) الإسراء: 100.
(5) القلم: 4.
(6) ص: 5.
(7) الزمر: 3.
(8) يوسف: 106.
(9) الكافي. ج2. ص397.
(10) نفسه.
(11) عدة الداعي. ص70.
(12) الكافي. ج2. ص397.
(13) النساء: 65.
(14) المحاسن: ج 1، ح 371، ص423.
(15) التوبة: 31.
(16) المحاسن.
(17) صحيح مسلم : 3/1469.
(18) الدر المنثور : 4/174.
(19) الفرقان: 43.
(20) يس: 60.
(21) الكافي. ج2. ص426.
(22) نفسه. ص420.
(23) الكافي. ج2. ص425.
(24) الشورى: 11.
(25) الأعراف: 201.
(26) البحار. ج58.
(27) الكافي. ج2. ص425.
(28) الناس: 2.
(29) الناس: 3.
(1) المائدة: 105.
(2) الأنعام:164.
(3) لقمان: 17.
(4) الأعراف:59.
(5) غافر:60.
(6) البقرة:186.
(7) الفيل: 1.
(8) الفجر. 6.
(9) التوبة:1-2.
(10) آل عمران:28.
(11) الانفطار:6.
(12) الاعراف: 13.
(13) الاعراف: 18.
(14) البقرة:36.
(15) البقرة:35-36.
(16) الإسراء:88.
(17) البقرة:23.
(18) الكوثر:1.
(19) الإخلاص:1.
(20) الإنسان:19.
(21) الرعد:15.
(22) الكهف:29.
(23) الذاريات:22.
(24) العنكبوت:62.
(25) النور:12.
(26) البقرة:134.
(27) الزلزلة:7.
(28) الزلزلة:8.
(29) النساء:103.
(30) يوسف:106.
(31) الجنّ:18.
(32) التكوير:29.
(33) هود:6.
(34) لقمان:34.
(35) الملك:15.
(36) الحجرات:10.
(37) المائدة:82.
(38) الرعد:17.
(*) في تفسير (من وحي القرآن): )فسالت أودية بقدرها( ((فامتلأت مساحات الأودية بالماء في العمق والامتداد)) ج13. ص39. وفي تأويلها أن ما ينزله الله تعالى من ذكر أو كتاب لا يتلقاه الناس على درجة واحدة، بل كلّ يستوعبه بحسب وعيه وإيمانه، والله العالم. (المعدّ)
(39) القصص:7.
(40) المؤمنون:4.
(41) البقرة:63.
(42) التوبة:122.
(43) التوبة:122.
(44) الحديد:22.
(45) الرعد:14.
(46) الرعد:41.
(47) البقرة:3.
(48) البقرة:4.
(49) الأحقاف: 30.
(50) المائدة:35.
(51) المدّثر:42-43.
(52) المدثر: 46.
(53) الفرقان:23.
(54) الفرقان:70.
(55) العصر: 1-3.
(56) القصص:15.
(57) البقرة:35.
(58) الأعراف:23.
(59) الرحمن:29.
(60) القمر:49.
(61) الطلاق:3.
(62) الزمر:42.
(63) النحل:32.
(64) السجدة:11.
(65) المائدة:2.
(66) البقرة:190.
(67) الفلق:1.
(*) في تفسير (من وحي القرآن) ج24. ص492. يقول سماحة السيد: ((وقيل: إنّ المراد بالفلق هو كلٌّ ما يُفطر عنه بالخلق والإيجاد، لأنّ الإيجاد يمثل لوناً من ألوان شقّ العدم، فكأنّ الموجود كامن فيه، فينطلق الإيجاد ليُخرجه منه، وقيل: هو جبّ (بئر) في جهنم، وهو خلاف الظاهر)). (المعد)
(68) الهمزة:1.
(69) الشورى:23.
(70) الأحزاب:33.
(71) هود:107.
(72) النبأ:23.
(73) الإنسان:8.
(74) التوبة:40.
(75) الطارق:7.
(76) الغاشية:17.
(*) في (المعجم الطبيعي للقرآن الكريم) مادة (إبل).. إنها خلق عجيب وتركيبها غريب، فإنّها في غاية القوّة والشدّة، وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف، وتؤكل وينتفع بوبرها ويُشرب لبنها. ونبّهوا بذلك لأن العرب غالب دابتهم كانت الإبل.
وفصيلة الإبل تتميز بوجود إصبعين في كل قدم، وبالقوائم الطويلة والعنق الطويل، وبالرأس الصغير والأذنين الصغيرتين، وبوجود سنام واحد أو سنامين أو بعدم وجود سنام، وهي ثلاثة أجناس وستّة أنواع.. يستطيع (الجمل) خزن أكثر من أربعة غالونات من الماء في كرشه ليصبر على العطش نحو اسبوع، ويعمّر مدة (40-50) سنة، وله أهداب كثيفة وآذان مُشعرة، ومناخر سهلة الانغلاق، كل ذلك لحفظ العيون والاذان والانوف من رمال عواصف الصحاري، ويأكل أي نبات صحراوي شائك أو غير شائك، ويشرب الماء المعذب والمالح..ص 25-26
هذه بعض خصائص الجمل أو (الإبل) أفهل رأيت لماذا دعا الله تعالى إلى التأمّل في خلقه؟ (المعدّ).
(77) التوبة:73.
(78) البقرة:190.
(79) النساء:24.
(80) الرعد:39.
(81) الأنبياء:87.
(82) الفجر:16.
(83) النساء:3.
(84) النساء:129.
(85) هود:46.
(86) هود:40.
(87) هود:45.
(88) مريم:44.
(89) التوبة:114.
(90) مريم:44.
(91) مريم:43.
(92) الشعراء:219.
(93) الشعراء:218.
(94) يونس:15.
(95) الشورى:52.
(96) الحاقة:44-47.
(97) الزمر:53.
(98) النساء:48.
(99) النساء:36.
(100) البقرة:179.
(101) الواقعة:82.
(102) الواقعة:79.
(103) يوسف:24.
(104) عبس:1-2.
(105) عبس:3.
(106) آل عمران:164.
(107) النجم:27.
(108) النحل:58-59.
(109) الطور:39.
(110) الأعراف:155.
(111) العنكبوت:1-2.
(112) العنكبوت:3.
(113) البقرة:158.
(114) الماعون:4-5.
(115) النساء:133.
(116) المائدة:54.
(117) محمد:38.
(118) الحديد:20.
(119) المائدة:75.
(120) الواقعة:7.
(121) النساء:23.
(122) المائدة:5.
(123) العصر:2-3.
(124) الأنبياء:94.
(125) الفرقان:17- 18.
(126) المائدة:116.
(127) البقرة:223.
(128) البقرة:222.
(129) الفاتحة:7.
(130) النساء:101.
(131) البقرة:158.
(132) النحل:20-21.
(133) آل عمران:85.
(134) البقرة:131.
(135) الأنعام:162-163.
(136) هود:82.
(137) الإسراء:80.
(138) البقرة: 213.
(139) طه: 102.
(140) الإسراء: 29.
(141) الفرقان: 67.
(142) طه: 17.
(143) الفجر: 14.
(144) الواقعة: 78 -79.
(145) البروج: 21-21.
(146) الفتح:16.
(147) الزلزلة:6-8.
(148) الرحمن:72.
(149) الرحمن: 56.
(150) فصلت:31- 32.
(151) يس:56.
(152) الرعد:23.
(*) وربما كان ذلك من أساليب الأدب القرآني في حديثه عن العلاقة الخاصّة الحميمة، فلا يشير إلى جانبها الأنثوي الا بلغة مغلّفة محتشمة، مما قد لا يكون له علاقة بزمن النصّ، خاصة وإن الله تعالى تحدث في أكثر من موضع عن أنه ليس ثمة تمييز في حقوق الرجال والنساء في الجنّة والله العالم. (المعدّ)
(153) البحار. ج68.
(154) البقرة:34.
(155) ماعون:4- 5.
(156) القصص: 56.
(157) يوسف : 18.
(158) يوسف : 77.
(159) الصافات: 64- 65.
(160) غافر : 34.
(161) التوبة : 71.
(162) التكوير : 29.
(163) الأنعام: 38.
(164) السجدة: 18.
(1) الإخلاص: 1 ـ 4.
(2) الحديد:4.
(3) البقرة:55.
(4) يوسف:87.
(5) الأعراف: 188.
(6) آل عمران:44.
(*) الشرك الباطن أو (الخفيّ) وهو الرياء أو العمل يراد به غير الله وصف في أحاديث وروايات كثيرة بأنه أخفى من دبيب النمل. فعن عباس بن زيد عن أبي عبد الله t، قال: قلتُ إنّ هؤلاء العوامّ يزعمون أنّ الشرك أخفى من دبيب النمل في الليلة الظلماء على المسح الأسود؟ فقال: ((لا يكون العبدُ مشركاً حتى يصلّي لغير الله، أو يذبح لغير الله، أو يدعو لغير الله عزّ وجل)) البحار. ج72. ص96.
(7) البقرة:57.
(8) لقمان:13.
(9) البقرة:57.
(10) الفلق:1-2.
(11) الزلزلة:7-8.
(12) الأنعام:160.
(13) هود: 114.
(*) الحبط أو احباط الأعمال ورد في القرآن الكريم مسبباً عن واحد من الأمور التالية: 1. الكفر 2. الشرك 3. الارتداد 4. النفاق 5. قتل الأنبياء 6. تجاوز الأدب مع النبي w. (المعدّ).
(14) النبأ:23.
(15) الكهف:50.
(16) تصحيح الاعتقاد من مصنّفات الشيخ المفيد: 5/66.
(17) البقرة:61.
(18) الأنفال:28.
(19) الكهف:46.
(20) العنكبوت:1-2.
(21) العنكبوت:3.
(22) الأنعام:149.
(23) النساء:48.
(24) الكهف:110.
(25) النجم:8-9.
(26) البقرة:30.
(27) الزمر:3.
(28) الذاريات:56.
(29) الشعراء:218-219.
(30) النحل:53.
(31) إبراهيم:34.
(32) النساء:48.
(33) العصر: 3.
(34) النساء:123.
(35) يوسف:87.
(36) الفرقان:27-29.
(37) ق:27.
(1) البقرة:30.
(2) الحجر:42.
(3) آل عمران:96.
(4) النور:36.
(5) البقرة:158.
(6) آل عمران:144.
(7) الأعراف:138.
(8) الرعد:25.
(9) يوسف:87.
(10) الحجرات:13.
(11) الأعراف:12.
(12) الأحزاب:59.
(13) المائدة:55.
(14) الأحزاب:33.
(15) الممتحنة:8.
(16) النور:33.
(17) الحديد:25.
(18) الأعراف:199.
(19) الإسراء: 33.
(1) التوبة:28.
(2) الأحزاب:56.
(3) الأحزاب:43.
(4) البقرة:155 ـ 157.
(5) الحشر:7.
(6) الزمر:10.
(7) المدثر:38-43.
(8) النساء:24.
(9) البقرة:188.
(10) النساء:10.
(11) آل عمران:159.
(12) الأحزاب:33.
(13) الشورى:38.
(14) آل عمران:159.
(15) الجن:26 - 27.
(16) الأنعام:50.
(17) البقرة:83.
(*) هناك دعاء للإمام زين العابدين t في (الصحيفة السجادية) يدعو فيه في مطلع نهار جديد الذي هو على كلّ إنسان شهيد بما يعمله من خير وشرّ، ولذلك يسأل الإمام الله تعالى أن يجعله أيمن يوم يمرّ به، وكما أفاد سماحتهُ فالوقت للدعاء مفتوح في آناء الليل وأطراف النهار، وتخصيص أوقات خاصّة مزيدٌ من لطف الله بعباده وترغيب منه بالدعاء والتقرب إليه (المعد).