النـدوة
     آية اللّه العظمى
السيد محمد حسين فضل الله


النـــدوة
سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق
محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة


إعداد:
عادل القاضي

الجزء التاسع عشر












بسم الله الرحمن الرحيم











الـمقدمة

إعادة قراءة التأريخ الإسلاميّ

لا تعتبر الدراستان اللتان جاءتا في كتاب (قضايانا على ضوء الإسلام) لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله ـ دام ظلّه ـ تحت عنوان (دراسات إسلامية) والأخرى المعنونة (مع الذكريات الإسلاميّة) دراستين منفصلتين وإن فصل بينهما فصلٌ آخر بعنوان (مشاكل إسلامية) فالدراستان متتامتان يكمّل بعضهما البعض الآخر، ذلك أن الذكريات الإسلامية هي ـ بنحو ما ـ تأريخ أيضاً من جهة التقائها معه في أنها من الماضي وأنّ فيها العبرة أيضاً وبذلك فهي ليست أجنبية عليه أو منبتّة عنه.
ولو قُيّض لسماحته أو من ينوب عنه في إعادة منهجة الكتاب المذكور(*) لقدّم فصل (مشاكل إسلامية) على دراسات إسلامية أو أخّره إلى ما بعد الذكريات الإسلامية لأنّ سماحته تحدّث في (دراسات إسلامية) عن قصة المبعث النبوي وحياة الأئمة من أهل البيت i فيما ناقش في الذكريات الإسلامية ذكرى المولد النبوي وذكرى المولد العلوي ومولد الزهراء u ولا يرى المتابع أو الباحث ضرورة منهجية لهذا الفصل نظراً لتداخل الدراستين، كما سبق الإلماح، خاصةً وأن الأولى تتحدث عن المنهج وأن الثانية تتناول تطبيقاته.
ولو أتيحت دراسة فكر السيد فضل الله دراسة شاملة لكان من الأجدى والأوفق أن يندرج الفصل السابع من كتابه (خطوات على طريق الإسلام) وهو بمثابة بحث أو دراسة في حركة التأريخ الإسلامي ضمن الفصلين السابقين اللذين يُعدّان مع هذا الفصل حلقات تنتظم في دراسة تأريخية واحدة أو موحّدة، فسماحته هنا يدرس الإجابة عن أسئلة من قبيل: كيف نواجه التأريخ الديني وكيف نستفيد منه؟ وضرورة الابتعاد عن الأسلوب التقريري الجامد في دراسة التأريخ، ودراستنا للتأريخ الرسالي من خلال اعتباره تأريخاً للرسالة الممتدة، وإلى ما هناك من بحوث وأسئلة مندرجة في هذا الفصل تمتّ للحركية التأريخية بصلة وثقى بما في ذلك دروس الدعوة في حياة الأنبياء وفي طليعتهم النبي محمد w.
قبل خمسين عاماً وتحت عنوان (منهج الدراسات الإسلامية بين السند والمتن تناول سماحة السيد محمد حسين فضل الله مشكلة التشويش التأريخي واختلاف المؤرّخين وربّما تناقضاتهم أيضاً، ليلتفت ـ ويلفت النظر بالضمن ـ إلى أن المنهج الذي اعتمده الأقدمون في معالجة هذه المشكلة وصولاً إلى معرفة الحقيقة هو اشتراطهم في (المُحدّث) و(الرواية) شرطين أساسين:
أ. صحة الحديث سنداً (من حيث سلسلة رواته).
ب. صحتهُ متناً «من حيث صحة النصّ على ضوء قواعد الجرح والتعديل والتصديق والكذب، والترجيح والإسقاط، أو التوقف فيما لا نملك ترجيحه أو إسقاطه».
وبالاستناد إلى علمي (الرجال) و(الدراية) تحت تنقية الكثير من الأحاديث والروايات من الدسّ والتزوير والتحريف، جرت عملية تطهير واسعة النطاق للرواة الذين أثبتت بعض الدراسات التحقيقية أنهم مُختَلقون (كعبد الله بن سبأ) الشخصية الروائية المخترعة من قبل وضّاع كذاب اسمه (سيف بن عمر التميمي).
وبالمقارنة مع المنهج الحديث المُهمِل أو الغافل لناحية السند، المصوّب نظره وكامل عنايته على تحقيق النصّ، وتحليله زماناً ومكاناً وجوانب نفسية واجتماعية وملابسات أخرى، والذي يرى سماحته فيه أنه تمكّن من إزاحة الستار عن الكثير من الحقائق المغمورة. إلاّ أن فضل الله يفضّل منهج الأقدمين في هذا المضمار ويعتبره المنهج المختار لا في إطار غربلة الرواة والروايات فحسب، بل في محاكمة التأريخ والمؤرّخين أيضاً.
يقول سماحته في موقف الحسم بين الاتجاهين:
«وفي اعتقادنا أنّ منهج الأقدمين ـ من حيث المبدأ ـ هو المنهج المفضّل في دراستنا التي نريد أن نجري عليها، ونعني بكلمة (من حيث المبدأ) طبيعة المنهج من الناحية العامّة، وهي رعاية السند والمتن، حسب تعبير القدامى»(1). غير أنه وهو يحسم خياره لا يدير ظهره للأساليب الحديثة في التحقيق والتدقيق والنقد والمحاكمة، شريطة انسجامه مع الروح والمقاييس الإسلامية للأشياء، ذلك أن المنهج الحديث ـ من وجهة نظر سماحته ـ لن يستطيع أن يجنّبنا مشكلة الوقوع في براثن الرواة والمؤرّخين الذين يكثر فيهم الكذّابون والوضاعون«مادام بإمكان الكاذب أن يصوغ قصّة أو حديثه بأسلوب يتناسب وطبيعة المجتمع والظروف التي يريد للقصّة أو الحديث أن يعيش فيها»(2)(*).
تأسيساً على ذلك يرى سماحته في دعوته لدراسة تأريخنا بوعي أن للتأريخ دوراً حيوياً في نموّ وتطوّر أيّة أمّة تريد أن تتقدّم وتنطلق في الركب الحضاري الصاعد، كونه ـ والاستخلاص لسماحته ـ يجنّبها كثيراً من المزالق والمخاطر والأخطاء بما يقدّمه من دروس عملية إيجابية وسلبية كثيرة.
ولأجل أن تكون قراءة التأريخ ودراسته على هدي من وعي وعمق ومعرفة يضع سماحته عدداً من الضوابط والمُحدّدات التي لابد أن يرتكن إليها من يريد محاكمة التأريخ محاكمة عادلة، ومن ذلك:
1. أن نتخلّى ـ أولاً وقبل كلّ شيء ـ عن الهالة القدسيّة التي نحاول أن نحيط بها التأريخ الإسلامي على الرغم من كلّ ما فيه من انحرافات وأخطاء، ذلك الأسلوب التقديسي أو التكريسي أسلوبٌ يؤدّي إلى تقديس الأخطاء.
يقول سماحته:
«إنّ تأريخنا ـ ككلّ تأريخ ـ كان حصيلة أدوار مختلفة من حياة الأمّة بين ارتفاع وانخفاض، فهو الصورة التي تنعكس عليها الحياة بما فيها من ارتباكات، فإذا أردنا أن نفهمه على أساس واقعي، فيجب علينا تعريته عن كلّ لون من ألوان الخيال والدعاية والزهو، وملاحظته كمادّة خام لدراسة عملية واقعية عميقة»(1).
2. إن الكثير من القضايا والملابسات التي حدثت في الصدر الأول للإسلام خلقت الكثير من المؤرّخين والمرتزقة الذين كانوا يعيشون على موائد الملوك ليهبوا لهم ـ في مقابل هباتهم الماديّة ـ مآثر وفضائل وأحاديث وصوراً جذّابة حسب الحاجة السياسية والشخصية والظرفيّة، وعلى مقدار البذل والعطاء المتوقعين، ولذلك وقع التناقض والانقسام إزاء الوقائع التأريخية نظراً لرؤية كلّ فريق الواقعة من زاوية النظر الذي ينظر بها أو إليها، أو من خلال النظر إليها بمنظار المؤرّخ الذي نقلها دون التيقّظ الحذر لماورائيات هذا النقل من هوى وتزلّف وتحريف ورفع وتخفيض.
3. خطأ اعتبار الباحثين ـ لاسيما المستشرقين منهم ـ تصرّفات الجماعات التي تدين بالإسلام، ممثلة لوجهة النظر الإسلامية، لكون هؤلاء ليسوا إلاّ أناساً كبقية الناس، لهم أخلاقهم الخاصّة، ولهم طباعهم وأذواقهم المعيّنة، ولهم أخطاؤهم البشرية كونهم بشراً، فلا يصحّ ـ والحال هذه ـ اعتبار أيّ تصرّف من تصرفات المسلمين ـ مسؤولين كانوا أو غير مسؤولين ـ مرتبطاً بالإسلام إلاّ بعد مقارنته بالمفاهيم والمبادئ الإسلامية لنعلم مدى موافقته لها، ذلك أن مبادئ الإسلام ومفاهيمه هي المقياس الصحيح الذي نقيس به تصرفات المسلمين، لا العكس، كما يؤكّد ذلك سماحته.
في 19 جمادى الآخرة 1419 هـ الموافق لـ 10/10/1998 تحدّث سماحة السيد فضل الله من منبر (ندوة السبت) التي تعقد في (حوزة المرتضى) بدمشق عن (منهجية قراءة التأريخ وفهمه) وفي محاضرته تلك أضاف نقاطاً أخرى لاستجلاء حقائق التأريخ واستيعابه نستخلصها هنا كنقاط استكمالية لتلك التي سلف ذكرها!
4. يلزم لقارئ التأريخ ودراسته أن لا تتحكم العاطفة في حركة بحثه التأريخي، فنحن عندما ندرس الكثير من نصوص التأريخ إنما ندرسها بوحي من مشاعرنا لا على أساس عقولنا، ولذلك أصبحت الذهنية المسْبَقَة والموقف المسبق هو الذي يحكم ويهيمن على مثل هذه الدراسات، يقول سماحته:
«فإذا كان النص لا يتفق مع ما توارثوه أو ما استمعوا له فإنهم يحاولون أن يؤوّلوا النص ويبعدوه عن ظاهره، وعن سياقه، ولذلك أصبحت عملية استظهار النصوص خاضعة للذهنيات المسْبَقَة التي نحملها، فأصبحنا نفرض الكثير من الأفكار المسْبَقَة على القرآن ليكون القرآن صورة لما نفكّر فيه لا أن يكون ما نفكّر فيه صورة للقرآن، وهكذا بالنسبة إلى المسائل التأريخية التي تتصل ببعض الخطوط الفكرية والثقافية والعقيدية، فإنّ بعضنا قد يختار من التأريخ ما يناسبه ويرفض من التأريخ ما لا يناسبه، أو أنّه يحاول أن يرتّب التأريخ على حسب مزاجه لا أن يجعل مزاجه الفكري خاضعاً للنتائج العملية في التأريخ»(1).
على ضوء ذلك، دعا سماحته إلى قراءة التأريخ بذهنية موضوعية خالية من الأفكار المسْبَقَة، فما يقوله العقل القطعيّ هو الحجة لا ما تقوله التصوّرات، حيث إنّ الذهنية الموضوعية ـ على حدّ تعبير سماحته ـ لا تنتج حساسيات ولا مشاكل بين المسلمين لأنّها ذهنية تخاطب في الإنسان عقله لا غريزته.
ومن هنا فإنّنا لا نستطيع أن نلغي التأريخ، فالتأريخ موجود، ولا نستطيع أن نرمي كتب التأريخ في البحر، لكننا ـ والرأي لسماحته ـ إذا أهملناها في موقع معين فلا يعني أنها لا تفرض نفسها علينا في مواقع أخرى، لذلك لابدّ أن تكون لنا (شجاعة) دراسة التأريخ بالطريقة (الموضوعية العقلانيّة)(1).
5. يفترض بكلّ باحث أو دارس للتأريخ والإسلامي منه بصفة خاصّة أن يفهم التأريخ ضمن سياقاته وبحسب أساليب مرحلته ودراسة الظروف المحيطة بالنصّ التأريخي، فسماحته مثلاً عندما يتناول خطبة الزهراء u في حضرة الخليفة الأول يتحدث عن إنكار الخليفة لحقها في فدك نتيجة لحديث رواه ولم تقتنع به الزهراء u محتجّة بالقرآن في ردّها ولذلك، والاستنتاج لسماحته: «عندما انتهت من خطابها ـ وكانت تخاطب الخليفة والمهاجرين والأنصار ـ لم يقف شخص ليقول لها: كيف تتجرأين بهذا الكلام»(2). ويخلص من هذه الحادثة التأريخية إلى القول: لذلك علينا أن نعرف أنّ تلك المرحلة لم تكن مرحلة حديث غريزي ينطلق بالأحاسيس وبالمشاعر، بل كان حديثاً ينطلق من قوة الحقّ ومن الحجة في إثبات الحق، وهذا هو أسلوب القرآن في منهجه في الحوار.
إنه لا يرى أن القضية التأريخية بين الزهراء u وبين الخليفة الأول مسألة صراع بين شخصين، بل صراع بين موقفين، فصاحب الموقف الذي يرى الحقّ له يتكلّم على أساس أنه لا يخاطب شخصاً ولكن يخاطب موقفاً، ويخاطب رأياً، ويخاطب اتجاهاً لأنّه في الحقّ لا مجال للمجاملة، بل المجاملة هنا خيانة، وأن الاعتبارات الاجتماعية حينئذ لا تسقط الاعتبارات الموضوعيّة العملية، لذلك كانوا يتكلّمون بكلّ صراحة الحق الذي يعتقدونه(3).
وعلى ضوء هذا، فإذا استطعنا ـ وكما يستخلص سماحته ـ أن نصل إلى هذا المستوى من فهم التأريخ بحسب أساليب مرحلته، فإننا نستطيع أن ننتهي إلى نتائج حاسمة، أو نستطيع أن نتفاهم على أساس أن نقرأ المسألة كفكر يواجه فكراً.
6. وفي 26/8/1995 وفي ثالث محاضرة من محاضرات الندوة أجاب سماحة السيد على سؤال طرحه هو نفسه: (كيف نفهم التأريخ؟!) فقال: علينا أن لا نستغرق في التأريخ استغراق الإنسان الذي يغوص في التأريخ بحيث ينسى الحاضر، لذلك فإن الله تعالى من خلال كل آيات القرآن يريد أن يقول لنا إن دوركم في التأريخ عندما تقرأونه أو تسمعونه، هو دور الاعتبار (العبرة) ودور الإنسان الذي يدخل المدرسة ليتعلّم فيها، وليطبّق ما تعلّم عندما يخرج إلى ساحة العمل، ولعل أبلغ تعبير عن ذلك ما جاء في قوله تعالى:
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾(1).
فالإنسان العاقل ـ في رأي سماحته ـ هو الذي يقرأ التأريخ لا ليغيب في تفاصيله، ولكن ليأخذ العبرة والدروس عندما يريد أن يصنع تأريخاً جديداً، والقاعدة الإسلامية في معنى التأريخ وموقف الإسلام منه هي قوله سبحانه وتعالى:
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(2).
إنهم صنعوا تأريخهم في اتجاه القوة أو الضعف، ولكم أن تصنعوا تأريخكم وتأريخ أمتكم في خط رسالتكم، وأن تتحملوا مسؤولية صنع التأريخ(3).
7. وفي أكثر من سؤال(*) عن المنهج المناسب لقراءة التاريخ المليء بالإشكالات، يؤكّد سماحته، علاوة على مسألة توثيق التأريخ ودراسة المؤرّخ هل هو موثوق أو متعصّب أو (توثيق الصدور من خلال المضمون)، على ضرورة معرفة ما إذا كان الحدث قد حدث في التأريخ أو لم يحدث؟ وهل صحيح أن القوم الذي يحدّثنا عنهم المؤرّخ قاموا بما قاموا به أو لم يقوموا به، وهذه نقطة سابقة على تقديس التأريخ أو رفضه أو لعنه، لما ثبت أن الكثير من حوادث التأريخ التي يرويها (الطبري) وغيره عن (ابن سبأ) كانت منقولة عن (سيف بن عمر) الذي مرّت الإشارة إليه، وانطلاقاً من ذلك فعلينا أن ندرس التأريخ كما ندرس أيّة مادة قابلة للخطأ أو الصواب.
8.الإفـادة مـن التـأريــخ لا تعنـي الانشـداد إلى الماضي ـ فالماضي ـ حسبما يرى سماحة السيد ـ عندما يكون رسالة الله فهو ليس ماضياً إنما هو حقيقة، لأن هناك أشياء في التأريخ لا يمكن أن يلغيها أو يحاصرها التأريخ لأنها لم تنطلق من التأريخ وإنّما من عمق الحقيقة، فالصدق لا عمر له، والأمانة لا عمر لها، والإيمان لا عمر له، فهي الحقيقة وحسب، وفي التأريخ تراث لا يمكن للماضي أن يؤطّره بإطاره لأنّه يمثل الحقيقة التي لا زمن لها، والقرآن ليس تراثاً إنّما هو كلام الله تعالى الذي هو تماماً كالكون ينطلق بالإنسان، فلا ماضي ولا حاضر ولا مستقبل إنّه الحقيقة التي تفرض نفسها على الزمن كلّه، وما ثبُتَ من السُنّة يمثّل الحقيقة أيضاً، وما عدا ذلك فهو قابل للنقد والمحاكمة والجدل والرفض والقبول.
بل، حتى السيرة النبويّة ـ كما يرى سماحته ـ هي ليست (سيرة ابن هشام) أو (السيرة الحلبيّة)، بل هي سيرته التي يذكرها القرآن الكريم الذي تابع حركة الرسالة منذ نشوئها وحتى إكمال الدين وإتمام النعمة، فالقرآن هو المصدر المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه الذي نفهم السيرة النبويّة من خلاله فهماً نقياً خالياً من أية أهواء ذاتية تتلاعب بالنص وإن اختلف فهمه في دلالاته.
وكنموذج تطبيقي عملي لإعادة قراءة التأريخ ونقده، تناول سماحة السيد في 18 ذي الحجة 1420هـ المصادف 25/3/2000هـ وبمناسبة عيد الغدير هذه الواقعة التأريخية من خلال دراسة تحليلية نقدية للتأريخ بعيداً عن كل تهاويل القداسة التي انطلقت من خلال التراكمات التأريخيةللأشخاص الذين تولوا الخلافة بعد رسول الله (ص)، فلقد اعتمد على نصّ للإمام علي t في (الخطبة الشقشقية) وهي ليست شهادةَ شاهد خارج عن الحدث أو الواقعة، بل إفادة طرف أساس فيها، وناقش الواقعة من خلال الظروف التي طرحت الخلافة بعد النبي w لا كمفهوم إسلامي بل على أساس عشائري، إذ لم تكن المسألة تتعلّق بالمقياس المعتمد لاختيار الشخصية التي تتحمّل المسؤولية القيادية للأمة، يقول سماحته:
«ففي دراستنا للأطروحات التي قُدّمت في تلك المرحلة لا نجد طرحاً ثقافياً منهجياً إسلامياً بالمستوى الذي نشعر فيه بوجود وعي الخلافة في الخطوط الإسلامية الأصيلة، فكأنّ المسألة هي أن النبي w مات وعلينا أن نأتي بشخص للقيادة كيفما كان، ولعلّ هذه الـ(كيفما كان) هي التي حكمت التأريخ الإسلاميّ كلّه، لأنّ القضية ليست قضية منهج يفرض الشخص لكنها قضية شخص يفرض المنهج. ولذلك قال الإمام علي t: «فيالله والشورى متى اعترضَ الريبُ فيّ مع الأوّلِ منهم حتى صرتُ أقرنَ إلى هذه النظائر»(*). فما هي يا ترى ـ والتساؤلات لسماحته ـ المميزات التي تميّز هؤلاء الأشخاص؟ وما هو عملهم؟ وما هي ثقافتهم؟ وما هو جهادهم؟ وما هو قربهم الفكري والروحي من رسول الله w؟! فعندما ندرس المسألة من الناحية العملية الموضوعية فعند ذلك نجد صدق ما كان يقوله علي t أين أنا وأين هم؟
إضافة إلى ذلك فإنّه يستند إلى قرائن ودلائل أخرى ممهدة للواقعة، فيقول: وقد سمع الناس جميعاً آنذاك رسول الله w يهيئ لعلي t هذا الموقع الذي يعرفه كما لم يعرفه أحد: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها»(1). «علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار»(2). «من كنت مولاه فهذا علي مولاه»(1). «يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»(2). والله تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾(3). والله تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾(4). ويقول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾(5). ولذلك كان علي t يتألم لا لنفسه بل للإسلام... وهو الوحيد، من بين كلّ الصحابة الذي استطاع أن يترك للمسلمين في مدى الزمن ثروة ثقافية تتسع للإسلام كلّه، وللإنسان كلّه، والحركة والحياة كلّها(6).
وفي مقالته (محاولة جديدة لدراسة التأريخ الإسلامي)(7) وفي البداية المطلوبة لذلك يقول سماحته: «علينا أن نقرأ تأريخنا من جديد قراءة واعية، تحاول أن تدرسه وتفلسفه وتتعرف على جذوره الأصيلة، ومعطياته الخصبة». وأمّا في تجاوز السطح والنفاذ إلى العمق فإنّ سماحته يضع لائحة بالأسئلة التي يمكن أن يطرحها الدارس للتأريخ الإسلامي لكلّ حركة ثورية أو إصلاحية عاشتها الأمّة الإسلامية وذلك من حيث: هل هي إسلامية أو غير إسلامية؟ وماذا عن الجو التي نشأت فيه ونمت في أرضه، من حيث هل هو ديني ينبع من واقع العقيدة الدينية، أو دنيوي ينطلق من المنافع والأطماع الذاتية العامّة والخاصّة؟ وعن المؤثرات الداخلية والخارجية التي شاركت في نموّها وتطوّرها، من حيث ارتباطها بالواقع الداخلي والخارجي لحياة المسلمين وعدمه؟ وعن نوعية النتائج التي حصلت من هذه الحركة أو تلك، من حيث اتصالها بالمفاهيم والقيم الإسلامية وابتعادها عنها؟ وأخيراً عن مواطن النجاح ومواطن الإخفاق من حيث تمثّل عناصر القوّة التي دفعت إلى النجاح، ومعرفة عناصر الضعف التي أدت إلى الفشل والإخفاق، كسبيل من سبل استفادتنا منها، ومدى إمكانية هذه الفائدة وعلاقتها بالمشاكل الآنية التي نعيشها، وارتباطها من قريب أو بعيد»(1).
كلّ ذلك خشية أن يقع القارئ للتأريخ ضحية الاستدراج أو الاستغفال أو التجهيل والتضليل.
وفي حين ينتقد سماحته الاتجاهات النظرية في دراسة التأريخ واختلاف التيارات الفكرية في ذلك، سواء تلك التي تُخضع التاريخ للعامل الاقتصادي، أو تلك التي تجعل من التاريخ الإسلامي مرحلة من مراحل تأريخ أمّة معينة، يرى أن الاتجاه الثالث الذي يفسّر التأريخ من خلال دور الإسلام فيه ليس له منهج محدّد ولا خطّ واضح، فلا يزال التأريخ الإسلامي ـ باستثناء تجارب رائدة هنا وهناك ـ يُقرأ في صورة حوادث معينة متعاقبة، أمّا صورة المسلمين الذين ترتبط حياتهم بالإسلام فنادراً ما نلمحها في هذا التأريخ، وبالتالي فإنّ مهمّة الباحث المسلم تتحدّث في ربط التأريخ بالإسلام الذي غيّر الشعوب التي دانت به على الرغم من أنّ هذا التغيير لم يكن كلّياً بالقدر الذي يجنّب تلك الشعوب الانحراف عن مبادئ الإسلام وتعاليمه ويجعل من حياتها تجسيداً حيّاً للإسلام مما يلزم دراسة التأريخ الإسلامي ـ حسب تعبير سماحة السيد ـ من حيث هو تجربة عملية للإسلام، وامتحان لقدرة مفاهيمه وتعاليمه على أن تعيش في حياة الناس وتؤثر فيهم، وملاحظة عوامل الضعف في هذه التجربة من حيث نشوؤها داخل هذه المفاهيم ـ كما يدّعي الأعداء ـ أو عن الظروف التي أحاطت بالتجربة الزمنيّة منها والاجتماعية، أو عن الوعي القلق لواقع هذه المفاهيم وحقيقتها الأصلية.
هدف هذه المحاولة التي أطلقها سماحته منذ ما يقرب من خمسين عاماً هو إثارة وعي القارئ للتأريخ بحركة الدين في هذا التأريخ: بحركة مفاهيمه، بحيوية روحه، بأصالة حلوله، بمراحل نجاحه وإخفاقه، فهي محاولة لفهم هذا التأريخ الإسلامي من حيث هو تجربة عملية للدين، يقول سماحته في فوائد هذا المنهج الذي يسمّيه تواضعاً بالمحاولة: «حفظ هذا التأريخ من الفهم المزوّر، والمنهج الخاطئ الذي وقع فيه الكثيرون من القارئين والدارسين، والابتعاد به عن طبيعة (السرد الحرفي) إلى الطريقة التي تجعل منه (معنى) يتحرك في داخل حياتنا ليحرّك الحياة من حولنا»(1).
وفي محاولة رائدة وناقدة للتأريخ الإسلامي نقداً عملياً أو لطريقة كتابته يقف سماحته في بواكير الصحوة الإسلامية ليناقش المؤرخين في قصّة المبعث باعتبارها ذات صلة بمولد العقيدة وانطلاق الرسالة، وبداية مجد الإنسان، فالمشهد المضطرب الذي يرويه السيوطي في (الدر المنثور) والبخاري ومسلم وابن جرير وابن الأنباري في (المصاحف) وابن مردويه والبيهقي عن عائشة في قصة عرض النبي w على النصراني ورقة بن نوفل ليرى رأيه فيما رآه النبي w وسمعه من الوحي لأوّل مرة، يناقش سماحته ذلك مناقشة علمية موضوعية تدحض هذه الرواية المخلّة بشخصية النبي w التي لا تستند إلى أساس ولا تصمد إزاء نقد، وبعد مناقشة مستفيضة يتساءل سماحته: «الواقع أننا لا نعقل أن يبعث الله النبي w وهو أفضل أنبيائه بأفضل رسالاته ثم يحوجهُ إلى أن يُثبت نبوّته لنفسه، لا للآخرين بواسطة خديجة أو ورقة من دون أن يظهر له البرهان الواضح من قبله تعالى شأنه»(1). كما ناقش بنفس الموضوعية روايات تأريخية أخرى شق بطن النبي w وختم النبوّة وروايات المبعث الأخرى.
بناءً على ذلك كلّه فقد دعا سماحته إلى تنقية التراث(2) الإسلامي من الطفيليات التي نشأت في أحضان الدس والتحريف، وإلى التشدّد في محاكمة هذا التراث في كلّ ناحية من نواحيه ووضع مقاييس لهذه التنقية تتمثل في أن يكون المأثور متفقاً والضرورة العقلية، وأن يتفق والمحتوى القطعي لكتاب الله وسنّة نبيه محمد w أو لا يختلف معه على الأقل، وأن يكون الراوي موثوقاً به ومأموناً من الخيانة والكذب، وأن لا يكون له معارض يكافؤه في شروط الصحّة ويصادمه في محتواه ومضمونه، وأن يكون له أثر شرعي، فهذه هي الشروط التي لابدّ من توفرها في الخبر ليكون مقبولاً.
وتكتمل ملامح الصورة في دراسات سماحته لذكرياتنا الإسلامية من حيث تطبيقه لهذه الشروط وتلك الضوابط في تمثل دروس تلك الذكريات إن من حيث (المعالجة الإيجابية) للمشاكل التي نعيشها، أو من حيث (التعاطي الرسالي) بتحويل العقيدة إلى رسالة في ضمير الإنسان المسلم، أي تحويلها إلى قوة فاعلة في داخل الإنسان لتحرّك الحياة من حوله في عملية تجديد وبناء.
وبعد، فهذه جولة سريعة وقصيرة مع بعض الأفكار والآراء التي طرحها سماحته في إطار وعيه الحر للتأريخ الإسلامي والتي جسّدها ـ كما ألمحت ـ في محاضراته التي درس فيها مناسباتنا وذكرياتنا الإسلامية، وخاصة في ذكرى المولد النبوي والبعثة وحوادث السيرة ومعارك المسلمين وذكريات مواليد ووفيات الأئمة من أهل البيت i التي تقدّم للقارئ تطبيقاً عملياً لنظريّته أو نظرته للتأريخ نقداً وفهماً وغربلة وإفادة من دروسه وعبره.
والله تعالى أسأل أن ينفع بعلم سماحة السيد أبناء العصر الذين تاهوا بين من استغرق في التأريخ ونسي الجغرافيا، وبين من انصهر في الجغرافيا وألقى كتب التاريخ في البحر، وأن يتقبّل منا هذا النزر اليسير بأحسن القبول إنه محطّ حسن الظنّ به وموئل الإجابة لمن سأله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عادل القاضي
ربيع الأول 1429 هـ
آذار 2008 م


جدول إحصائي بـمسائل الندوة ج19

الـمحاضرات    30 محاضرة
الـمسائل القرآنية    116
الـمسائل العقيدية    85
الـمسائل الفكرية    28
المسائل التربوية    5
الـمسائل الفقهية    271
مجموع الـمسائل    505





















باب
الـمحاضرات





 























    البراءة من الكفر
    تأملات في الاستدلال
    الشورى في سيرة النبي w
    الشورى من عناوين المجتمع الإسلاميّ
    الشورى خطٌّ للسّلامة






















بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
البراءة من الكفر:
يقول تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(1).
تحدّث الله سبحانه في هذه الآية عن الأسلوب العملي القيادي للرسولw في علاقته الحركيّة بأصحابه وبالأمّة من خلال ذلك، وأنّ هذا الأسلوب ينبغي أن يقوم على مبدأ المشاورة في الأمور التي تمسّ حياتهم وحياة الإسلام، في حركته في الدعوة، وفي السلم والحرب، وفي كلّ خطوط الواقع في شكلٍ عام، فيما يريد أن يقوم به من عمل، أو يقرّره من قرار، أو يخطّط له من وسائل وأهداف، في موقعه القيادي الذي يرتبط به المصير العام للأمّة كلّها، ليحقّق من خلال ذلك أمرين تربويّين في حركة العاملين في الحياة:
الأوَّل: التَّخطيط للسلوك الفردي والاجتماعي، على أساس الابتعاد عن الاستبداد بالرأي في اتّخاذ المواقف الحاسمة والقرارات المصيريّة، وتأكيد أن يرجع الإنسان إلى فكر الآخرين الذين يملكون الفكر السديد السليم، فيحاورهم ويناقشهم ويستشيرهم في كلّ خطوة من خطوات العمل، ثمّ يرجع إلى فكره ليقارن بين الآراء، ويدرس كلّ واحدٍ منها بمفرده، بهدوء وموضوعيّة، لينتهي إلى النتيجة الأخيرة بطريقة فكريّة سليمة، فيعمل على أساسها بقوّة وثبات.
الثاني: إعداد الأمّة التي تمثّل القاعدة الواسعة لتفكّر مع القيادة في كلّ ما تريد القيادة أن تقوم به من خطط ومشاريع؛ لتعرف ـ من موقع الفكر ـ كيف يكون التحرّك، وأين تقع الوسيلة من خطّ الهدف، فتتابع القرارات من بدايتها بوعيٍ وتأمّل وتركيز، وتتدرّب ـ بذلك ـ على ممارسة الدور القيادي، من أجل أن تعدّ نفسها لاستلام القيادة في حالات الفراغ بكفاءة وقدرة على تخطيط المواقف واتّخاذ القرارات، وتتعلّم أيضاً كيف تراقب خطوات القيادة غير المعصومة، أو ترصد قراراتها، لئلاّ تنحرف أو تغفل أو تخون، فتكون بالمرصاد لها من بداية الطريق، قبل أن تتعقّد المشكلة، ويستفحل الأمر في نهايته. وبذلك، يصعب على القيادات المنحرفة التي قد تفرض نفسها على الساحة في المستقبل، أن تمارس حرّيتها في التلاعب بمقدّرات الأمّة، واللعب بعواطفها ومشاعرها بالكلمات المبهمة؛ لأنّ الأمّة قد أعدّت لترصد الحكم في عمليّة محاكمة ومناقشة، على أساس تحصيل القناعة من قاعدة الحجّة والبرهان المتمثّلة بحركة الحوار الفكري.وتلك هي عظمـة التربيـة الإسلاميّـة، التي توحي للقادة ـ وإن كانوا في مستوى رسول اللهw الذي لا يحتاج إلى فكر أحد؛ لتسديد الله له بالفكر الصائب والخطّ المستقيم ـ أن يبحثوا عن القاعدة الشعبية التي تفكّر وتقتنع، لتطيع من خلال فهمها ووعيها لما يحصل، لا عن القاعدة التي تطيع من دون فهم ووعي، وذلك كوسيلة مُثلى من وسائل التحضير العملي لقيادات المستقبل من بين أفراد الأمّة.
تأملات في الاستدلال:
وقد أثار الكثير من المفكّرين الإسلاميّين في حديثهم عن هذه الفقرة من الآية موضوع الشورى كأساس للحكم الإسلامي وعلاقتها بشرعيّة هذا الحكم أو عدم شرعيّته؛ فرأوا في هذه الآية قاعدة التشريع التي توحي إلى الرّسول وإلى الأمّة من خلاله أن يعتمد الشورى كأساس للقضايا العامّة، ليكون ذلك دستوراً عمليّاً شاملاً، حتى في الحالات التي لا تحتاج فيها القيادة إلى ذلك، كما في حالة وجود القائد المعصوم. ولكنّنا لا نستطيع أن نوافق على إخضاع الآية لهذه الفكرة؛ لأنّنا لا نلمح فيها مثل هذا الجوّ؛ فقد وردت في الحديث عن السلوك العملي للرسول w مع المسلمين، كوجهٍ للصورة الإنسانيّة الإسلاميّة التي تتمثّل فيها إنسانيّة الرسالة وواقعيّتها، فيما يعيشه الرسول w مع أصحابه من الرحمة في رقّة القلب ولين الكلمة، وفيما يريد له أن يعيشه معهم من العفو عنهم والاستغفار لهم إذا أخطأوا، ومن استشارتهم في الأمر كأسلوب من أساليب تأكيد اهتمامه بهم وتقديره لهم، وإعدادهم ـ من خلال ذلك ـ للمستقبل، ليعتادوا على التفكير في الأمور. ولم تتحدّث الآية عمّا تفرضه الاستشارة من مسؤوليّات على المستشير إذا لم يقتنع بالرَّأي المشار به، كما هو المفروض في ما تقتضيه فكرة الشُّورى، من اعتبارها قاعدةً لشرعية الحكم في الدولة الإسلاميّة، من حيث الإلزام للأمّة بما ينتج عنها من قرارات، وما تستتبعه من التزامات. بل ربّما نستوحي من الفقرة التالية في قوله تعالى: ﴿فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾ أنَّ الاستشارة لا تلزم المستشير بشيء، بل إنّ المسألة تعود إلى المستشير واقتناعه بما أشير عليه به أو عدم اقتناعه بذلك.
ويؤكّد هذا المعنى، بعض الأحاديث الواردة في هذا المجال. فقد جاء في بعضها: «لمّا نزلت﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾، قال رسول اللهw: أما إنّ الله ورسوله لغنيّان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمةً لأمّتي؛ فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يُعدم غيّاً». وجاء عن عليّ بن مهزيار، قال: «كتب إليّ أبو جعفر ـ الإمام محمّد الجوادt ـ أن سل فلاناً أن يشير عليّ، ويتخيّر لنفسه، فهو يعلم ما يجوز في بلده، وكيف يعامل السلاطين؛ فإنّ المشورة مباركة. قال الله تعالى لنبيّه في محكم كتابه: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾، فإن كان ما يقوله مما يجوز كنت أصوّب رأيه، وإن كان غير ذلك رجوت أن أضعه على الطريق الواضح إن شاء الله». وجاء عن الإمام علي بن موسى الرضاt أنّه قال لبعض أصحابه: «إنّ رسول اللهw كان يستشير أصحابه، ثمّ يعزم على ما يريد». وقد روي أنّهw شاور أصحابه يوم بدر في الذهاب إلى المعركة، فقالوا: «يا رسول الله، لو استعرضت بنا البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾(1) ـ ولكن نقول: اذهب فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون».
الشورى في سيرة النبي w:
وكان الرسولw في تربيته للنَّاس على الشورى، يحضّ على التمييز، في كلّ مورد يريدون أن يدلوا فيه برأيهم، في مسائل الحرب والسلم، بين ما هو تكليف إلهيّ شرعي، وبين ما هو تدبير بشريّ صادر عن شخص النبيّ، ليشيروا عليه بآرائهم فيما لو كان رأيه رأياً خاصّاً. وهذا ما رواه كتّاب السيرة يوم بدر، فقد نزل النبيّw في موقع هنـاك، وكـان أدنى ماءٍ من بدرٍ ـ كما يقولون ـ، فقال الحبّاب بن المنذر: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزله الله ليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخّر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال الرسولw: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، ليس هذا بمنـزل، فانهض الناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننـزله ثم نغور ما وراءه...، فقال له النبيّw: لقد أشرت بالرأي، وعمل برأيه.وربّما كان النبيّw يستشير أصحابه حول أمر ما، ويدعوهم إلى المناقشة فيه، ليفكّروا في الرأي البديل، فيدرّبهم بذلك على التفكير في الأمور، ويوجّه القيادات من بعد ذلك إلى الاستماع إلى آراء القاعدة الشعبية حول القرارات الّتي ينبغي أن تتّخذها القيادة، من أجل تسديد الرأي، وتعميق العلاقة بين القيادة والقاعدة، على أساس المسؤوليّة المشتركة في التقرير والتنفيذ، مع الحفاظ على الموقع القيادي للقيادة؛ لأنّ مسألة الشورى تتحرّك في المرحلة التي تسبق القرار الحاسم في الموقف أو في المعركة.ولا بدّ لنا من التدقيق في الروايات التي تتحدّث عن مشاورة رسول اللهw للمسلمين، من حيث توثيق رواتها ودراسة مضمونها؛ لأنّ بعض هذه الروايات قد تسيء إلى صورة وعي النبيّw للرسالة وإلى إنسانيّته في نظرته إلى الناس؛ كما جاء في روايةٍ، أنّ النبيّw شاور أصحابه في يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين، فقال له أبو بكر: إنّا لم نجئ لقتال أحد، وإنّما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال. فنحن نلاحظ أنّ هذه الرواية توحي بأنّ أبا بكر كان أكثر وعياً للمهمّة التي جاء المسلمون لتنفيذها من رسول اللهw، في الوقت الذي نعرف أنّ النبيّw هو الذي قادهم على أساس القيام بالعمرة لا على أساس القتال؛ ولذلك لم يجئ مقاتلاً في حال استعداد شامل للقتال؛ لأنّه كان يهيّئ الظروف والأسباب لفتح مكّة. ثمّ كيف يفكّر رسول اللهw في الإجهاز على الذراري، في الوقت الذي لم يبدأ القتال مع المشركين المعاندين؟! وكيف يُمكن أن نقدّم صورة النبيّ الإنسان وهو يفكّر في قتل النساء والأطفال الصغار قبل الدخول في حرب، في الوقت الذي يقدّمه القرآن الكريم والسنّة في أبهى صورة إنسانيّة، في كلّ أقواله وأفعاله؟! وهذا يفرض علينا أن ندرس شخصيّة الرواة الذين رووا هذه الرواية قبل الأخذ بها، وأن ندقّق في مفرداتها التي لا تتناسب مع صورة النبيّ الحقيقية الرساليّة، في إنسانيّته وأخلاقيّته وحكمته وعدالته في النظر إلى الأشياء من موقع المسؤوليّة العملية مع الناس.
الشورى من عناوين المجتمع الإسلاميّ:
وإذا كنّا قد لاحظنا ـ في فهمنا للآية ـ أنّها لا تطرح الشورى كقاعدةٍ ملزمةٍ في حركة القيادة، فإنّنا نحاول أن نؤكّد أنّ المسألة تتجاوز أخلاقيّة النبيّw في صفته الإنسانيّة، إلى موقعه في صفته القيادية، سواء من حيث سلوك القائد مع القاعدة، أو من حيث مسؤوليّته تعرّف آراء الناس الآخرين في حركة القضايا المتّصلة بالمسيرة الإسلاميّة؛ لأنّ الإسلام يرفض استبداد القائد في حركته العامّة من الناحية الأخلاقيّة أو السياسية. ولهذا فإنّ الأمر بالمشاورة للناس في هذه الآية، ينطلق من الخطّ العام، بعيداً عمّا إذا كان النبيّ محتاجاً إلى ذلك في الواقع الخارجي أو غير محتاج؛ ما يعني أنّ على القائد أن ينفتح على شعبه من خلال الشورى، ليكون حكمه منسجماً مع الخطّ الإسلامي العام في هذه القضيّة الحيويّة المهمّة، وفي غيرها من القضايا في حياة الناس؛ لأنّ المسألة لا تتصل بالجانب الذاتي في شخصيّته، بل بالجانب العام في حكمه. ولا تقتصرُ مسألة الشُّورى على الدائرة القياديّة، بل تمتدّ إلى الواقع العام للناس؛ لأنّها من المسائل الحيّة التي تكفل لهم المزيد من الانفتاح على بعضهم البعض، في موقع الفكر المشترك في كلّ قضاياهم، كما تمنع الكثير من الزَّلل الذي يقع فيه المستبدّون من خلال استبدادهم في إدارة أمورهم. ولذلك اعتبرها الإسلام عنواناً من عناوين المجتمع الإسلامي، ثمَّ قال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾، فإنَّ المؤمن ينطلق في حياته من موقع العزم المرتكز على الفكر الذاتي والاستشارة للآخرين، لدراسة كلِّ الجوانب المحيطة بالموضوع، حتى إذا استكمل كلَّ الأسباب الموضوعية للقرار، أعطى الموقف قوّة الإلزام من إرادته، وتحرّك نحو الهدف متوكّلاً على الله، غير خائف من الطوارئ التي تعيش في أجواء الغيب المجهول؛ لأنّ الثقة بالله تدفع الإنسان إلى الثقة بالموقف؛ فإن الله قد تكفَّل لعبده المتوكّل عليه أن يكفيه ما أهمّه ممّا لم يحتسبه من أوضاع إذا أعدّ كلّ ما يحتسبه من أسباب ومؤثّرات. وذلك هو معنى التوكّل، فيما يجمعه من واقعيَّة النَّظرة إلى السَّاحة، وغيبيَّة الاستسلام للمستقبل المجهول بالاعتماد على الله... ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾؛ لأنّهم ينطلقون من سنّته الحكيمة إلى الكون...
الآية الثانية التي تتحدّث عن الشورى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾(1)؛ أي أنّ أحداً منهم لا يستبدّ برأيه، بل يعتبر التشاور مع الآخرين منهجاً عمليّاً حكيماً للوصول إلى الحقيقة في ما يصلح أمره وأمور الحياة من حوله. ولا يستبدّ الحاكم ـ بخاصّة ـ بقراره الذي يتّصل بأوضاع الآخرين، في حكمه لهم أو عليهم، وفي تدبيره أمورهم في مسؤوليّته عنهم، بل يعمل على الرجوع إلى أهل الرأي والخبرة والأمانة من ذوي الاختصاص في الموضوع الذي يصدر حكمه فيه، مما لا يملك علمه فيه؛ ليستمع إلى آرائهم في كلّ أمر من الأمور العامّة، ليزداد بصيرةً في ذلك؛ ما يجعل من احتمال الخطأ لديه احتمالاً بعيداً، ثمّ يكون الرأي له.
الشورى خطٌّ للسّلامة:
والشورى هي خطّ إسلاميّ يشمل كلّ مواقع الساحة الفكريّة والعملية في المجتمع الإسلامي، بحيث يكون أمر المسلمين خاضعاً لهذا المبدأ الّذي يفتح أمامهم آفاقاً واسعة لتعرّف المصلحة والمفسدة، من خلال الآراء المتنوّعة التي تقدّمها حركة الصراع بين الأفكار وتصادم العقول والتلاقح بينها. وقد ورد في بعض الكلمات: «من شاور الرجال شاركها في عقولها»(2)؛ باعتبار أنّ المستشير يضمّ عقولهم إلى عقله، ليكون لديه أكثر من عقل يفكّر في المسألة، فيمنحه كلّ واحد منها وجهة نظر قد تتميّز عن وجهة نظره، ليوازن بينها، فيختار الرأي الأصوب والأفضل والأقوم. ويمكننا الاستيحاء من ذلك، أنّه لا بدّ من الاهتداء بهذا المنهج في كلّ مواقع المسؤولية.
وقد كثُرَت الأحاديث عن النبيّw، وعن أئمَّة أهل البيتi الذين انطلقوا في علمهم من رسول الله، من أن الاستبداد بالرأي يمثّل دخولاً في الهلكة، أو أنَّ المشاورة طريق إلى الرشد؛ ما يوحي بأنّ الشورى تمثّل خطّ السلامة في حركة المجتمع الإسلامي، على مستوى القيادة والقاعدة.وفي ضوء ذلك، نستفيد من هذا المنهج، أنّ وجوب طاعة أولياء الأمر لا يمنع من تأكيد التزامهم بالشّورى في إصدار قراراتهم، بل قد يمثِّل استبداد غير المعصوم من أولي الأمر في رأيه انحرافاً عن الموقع الشرعي الذي يقف فيه، ويكون كافياً لعزله عندما يتّخذ قراراته بغير علم، إذا لم يكن من أهل الخبرة في موضوع القرار، أو إذا لم تكن خبرته كافية للوصول إلى وضوح الرؤية فيه.وربّما كان للمتأمِّل في النصّ القرآني، أن يستوحي من الآية، أنَّ الشُّورى هي القاعدة في كلّ أمر من أمور المسلمين، إلا إذا ثبت التعيين من دليل خاص؛ لأنّ كلمة ﴿وَأَمْرُهُمْ﴾، وإن لم يكن لها عموم أو إطلاق، فيما قد يُناقش فيه البعض، إلا أنّ ظهورها في العنوان الذي يمثّل الوضع الإسلامي من ناحية المبدأ، قد يوحي بالعموم من هذه الجهة؛ والله العالم.والحمد لله رب العالمين.










    التأسيس للرشد
    قيمة الشورى
    تزاوج العقول
    الشّورى: حدود ومعايير
    من يخافون الله
    العاقل
    أصحاب التَّجارب
    العدوّ العاقل لا الصديق الجاهل
    الاستشارة على خلاف الرَّغبة
    حدود أربعة للمشورة
    اعتبار المشورة مسؤولية























التأسيس للرشد:
يؤكِّد المنهج التربوي الإسلامي في مسألة الوصول إلى الحقيقة، من خلال الفكر التأمّلي أو التجربة الواقعيّة، أنّه لا بدّ من استنفاد كلّ الوسائل التي تؤدّي إلى القرب من الصواب والبُعد عن الخطأ؛ وذلك بالامتناع عن الاستبداد بالرأي، في حركة الثقافة المنفتحة على القضايا التي يُراد تعرّف طبيعتها وتحديد عناصرها.
وهذا ما ركّز عليه الله سبحانه في القرآن الكريم، من خلال تأكيده مبدأً عاماً يشمل كلّ الخطوط الفكريّة والعمليّة، وهو مبدأ «الشورى». والشّورى تمثّل المشاركة بين الذين يملكون الخبرة العلميّة والتجريبيّة، التي يستطيعون من خلالها اكتشاف الأسرار الكامنة في أعماق الأمور، ولا سيّما إذا كانت متعدّدة الجوانب ومتنوّعة الاتجاهات، لأنّ الإنسان إذا كان وحده، فقد يكتشف جانباً منها ويغفل عن الجوانب الأخرى، أو قد ينفتح على اتجاه معيّن في خطّ التفكير، بينما ينفتح آخر على اتجاه آخر لم يلتفت إليه الأوّل.
قيمة الشورى:
وقد تحدّثت النُّصوص الدينية عن قيمة الشورى ودورها في تصويب الفكر، وإيصال الإنسان إلى جوهر الحقيقة من دون الوقوع في الخطأ، أو بالتقليل من الخطأ الذي قد يقع فيه المستبدّ في تفكيره الفرديّ.
فقد وردت الرّواية عن رسول الله w أنّه قال: «الحزم أن تستشير ذا الرأي وتطيع أمره»(1). ونستوحي من هذا الحديث، أنّه إذا كان المستشار موثوقاً في أصالة معرفته وخبرته، فعلى المستشير أن يخضع لرأيه؛ باعتبار أنّه يملك إشراقة الحقيقة في رأيه، ما يوجِبُ الاطمئنان إليه والثقة به، بحيث يجد نفسه معذوراً في الأخذ برأيه، أو في اتّباعه.
وفي روايةٍ أخرى عنه w: «ما من رجلٍ يُشاور أحداً إلا هُدي إلى الرشد»(2)؛ لأنّ الاستشارة تمنح الإنسان الانفتاح على الرأي الآخر، وتترك له المجال للتداول مع المستشار حول رأيه ورأي الآخر؛ الأمر الذي يزيل الغموض عن الموضوع، ويضيء جوانبه، بما يؤدّي إلى الرشد في الرأي وفي الموقف.
وفي حديثٍ آخر عنه w: «لا مظاهرة أوثق من المشاورة»(3)؛ فإنّها تمنح الموقف الكثير من الدقّة في تعرّف الموضوع، من خلال تنوّع الآراء في اكتشاف الواقع.
أمّا الإمام عليّ أمير المؤمنينt، فقد تحدّث عن (الشورى) في أكثر من نصٍّ روي عنه، فقال: «بعثني رسول الله على اليمن، فقال لي وهو يوصيني: يا عليّ، ما حار من استخار، ولا ندم من استشار»(4). وهذه الوصيّة تمثّل المنهج الذي أراد الرسول w لعليّt أن يأخذ به فيما يواجهه من المشاكل التي تتطلّب منه الإحاطة بالجوانب المتعلّقة بتلك المشاكل، فيرجع عند الحيرة إلى أخذ الخيرة من آراء الآخرين، إضافةً إلى تفكيره الذاتي؛ ليصل إلى النتائج الإيجابيّة التي تنقذه من الحيرة؛ لأنّها تحدّد له اتّجاه الموضوع.
وهكذا تنطلق الاستشارة لتضمّ إلى الرأي الشخصي رأي الآخرين الذين يملكون المعرفة، فيقدّمون معرفتهم وخبرتهم من خلال الدراسة والتجربة، لينيروا القضيّة بالضوء الذي يكشف الحقيقة من أقرب طريق.
وهذا ما نستوحيه من كلمة أخرى للإمام عليّt: «من شاور ذوي العقول استضاء بأنوار العقول»(1) ؛ لأنّ ضمّ عقول الآخرين إلى عقله، يفتح له الأفق الواسع للتوصّل إلى حلّ التعقيدات الفكريّة التي تواجهه.
وتلتقي هذه الكلمة بكلمة أخرى لهt: «المشورة تجلب لك صواب غيرك»(2)؛ فإذا كان الإنسان الآخر يملك الصواب في رأيه، فإنّه يقدّم لك ذلك لتصل إلى الصواب في موقفك من خلاله.
وفي كلمةٍ أخرى عنه: «الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه»(3)؛ فإنّ الانفتاح ـ من خلال الاستشارة ـ على الرَّأي الآخر، قد يمنحه الهداية إلى الحقّ الذي قد يغيب عنه في ذاتيّة رأيه؛ أمّا إذا استبدّ برأيه، واستغنى عن رأي الآخرين، فإنّه قد يخاطر بموقفه؛ لأنّه بذلك ينظر إلى الموضوع من زاوية محدودة لا تهديه إلى الصواب.
تزاوج العقول:
وفي هذا المجال، هناك حديث عن الإمام الحسن بن عليt: «ما تشاور قوم إلاّ هدوا إلى رشدهم»(4)؛ لأنّ كلّ واحد قد يملك جانباً من الحقيقة في المسألة نفسها، حيث تؤدّي الشورى إلى استجماع العناصر الحيّة التي تلتقي عندها أسرار الواقع في خطّ الحق.
وجاء عن الإمام عليّt، في توجيهه الإنسان الذي يريد عقد العزم على قضيّة معيّنة في شؤونه العامَّة والخاصَّة، أو الّذي يحاول التقدّم إلى موقع آخر، قوله، فيما روي عنه: «شاور قبل أن تعزم» لتجتمع عندك عناصر المسألة، وتنفتح لك آفاق الموضوع، من خلال آراء العقلاء، ممّن يملكون العقل والخبرة، لتأخذ بالرّأي من موقع قوّة، فتعزم عزم الواثق بالنتائج الإيجابيّة «وفكّر قبل أن تُقدم»(1)؛ لأنّ على الإنسان أن لا يتحرّك قبل أن يعرف اتّجاه الطريق؛ الأمر الذي يفرض عليه التّفكير في بداياته ونهاياته، وفي عواقبه السلبيّة والإيجابيّة، ليتفادى المزالق ويتجنَّب الأخطار.
وفي حديثٍ آخر عنهt: «إذا أنكرت من عقلك شيئاً، فاقتدِ برأي عاقلٍ يزيل ما أنكرته». قد يفكّر الإنسان، وقد يواجه في تفكيره بعض الإشكالات أو الشبهات التي تجعله يعيش الإرباك في الوصول إلى النتيجة الحاسمة ولا يملك حلاًّ لذلك، فيعمد إلى العاقل الذي يملك قوّة العقل وسلامته، ليزيل عنه الشُّبهة، وليحلّ له الإشكال، ليفتح له أفق الرَّأي الصَّائب، في شكلٍ واضحٍ لا لَبْسَ فيه.
وقد أكّد الإمام عليّt، أنَّ العاقل لا يمكن له الاستبداد برأيه؛ لأنّ ذلك يحصره في دائرة ضيّقة لا تنفتح به على الأفق الواسع، فقال: «حقٌّ على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء، ويضمّ إلى علمه علوم الحكماء»(2)؛ لأنّ ذلك هو الذي يوسّع للإنسان آفاق عقله، ويمنحه الامتداد في العلم، من خلال علوم أهل الحكمة.
ويقولt: «لا يستغني العاقلُ عن المشاورة»(3)، إذ يرى أنّ المشاورة هي من شروط الالتزام العقلي؛ لأنّها هي التي تغنيه وتنمّيه وتمنحه التطلّع إلى الآفاق الرَّحبة، في الفكر والعلم والخبرة...
كما أن حديث الإمام جعفر الصَّادقt: «لن يهلك امرؤ عن مشورة»(1)، يوحي بأنّ المشورة تمثّل خطّ السلامة للمستشير؛ لأنّ الرأي الآخر في استشارة الفرد، أو الآراء الأخرى في استشارة الجماعة، يمنع من الوقوع في كثير من المزالق الناشئة من الاستبداد، ويحمي من الأخطار؛ لأنّ المشورة تسدّد المستشير من الوقوع في الخطأ، وتدفعه إلى الأخذ بالصواب، ما يؤدّي إلى البعد عن كلّ ما يوجب الهلاك، أو يقترب من السّقوط.
وقد جاء في الرِّواية عن الإمام عليّ الرِّضاt، في حديثه عن أبيه الإمام موسى الكاظمt لمّا ذُكر عنده، قال: «كان عقله لا تُوازى به العقول، وربّما شاور الأسود من سودانه، فقيل له: تشاور مثل هذا؟ فقال: إنّ الله تبارك وتعالى ربّما فتح على لسانه»(2). وهذا الكلام من الإمام الكاظمt يوجّهنا إلى أن لا نستصغر أحداً ولا نحتقره، مهما كان موقعه؛ لأنّ الله قد يلهم هذا الإنسان الذي لا يملك مقاماً كبيراً في المجتمع، ولكنّه قد يكون قريباً إلى الله بروحه وعقله، فيلقي على لسانه الحقيقة التي قد تغيب عمّن هو أعلى منه شأناً وأكبر منه مقاماً؛ لأنّ فيوضات الله على عباده لا تخضع لما يخضع له الناس من موازين في الواقع.
وجاء أيضاً في الحديث عن الإمام عليّt: «إنّما حُضَّ على المشاورة لأنّ رأي المشير صِرف، ورأي المستشير مشوبٌ بالهوى»(3)؛ لأنّ المستشير قد ينطلق رأيه من مزاجه الذاتي ومشاعره الخاصة التي لا تلتقي بالحكمة في العمق، ولا تنفتح على الخطّ الدقيق للفكر، بينما ينطلق المشير من إحساسه بالمسؤوليّة في ترشيد المشير إلى ما هو الحقّ، من خلال معاناته الفكريّة ودقّته العقليّة، ما يوصله إلى الصواب في حساب النتائج على المستوى الإيجابيّ.
وقد ورد عن الإمام عليt: «قلت: يا رسول الله، إن عرض لي أمر لم يُنـزل فيه قضاء في أمره ولا سنّة، كيف تأمرني؟ قال: تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين، ولا تقضي فيه برأيٍ خاصّة». ونستوحي من ذلك، أنّ على الإنسان أن لا يستبدّ برأيه في إعطاء الموقف، بل لا بدّ له من دراسة المسألة مع الناس الذين يملكون الفهم والخبرة، ويخافون الله في إعطاء الرَّأي الصائب الذي يصل بالمستشير إلى الحقّ ويهديه إلى طريق النَّجاة، ليصدر القرار عن معرفة دقيقة شاملة بعيدة عن مواقع الخطأ.
الشّورى: حدود ومعايير
ورد في الأحاديث صفات من ينبغي للإنسان أن يشاورهم، وحجم تلك المشورة وطبيعتها، كما ورد فيها التحذير أيضاً من مشاورة بعض الناس، ممن لا يملكون القدرة على إعطاء المشورة في بُعدها الإيجابي الذي يطلبه المستشير. ونثير ذلك ضمن العناوين التالية:
من يخافون الله:
جاء في الرّواية عن الإمام عليّt: «شاور في حديثك الذين يخافون الله»(1)، وفي رواية أخرى عنه ـ في هذا المعنى ـ: «شاور في أمورك الذين يخشون الله تُرشد»(2). وربّما كان السَّبب في اختيار المشير من هؤلاء، أنّهم يتحرّكون من موقع المسؤوليّة في التفكير بالأمر والإحاطة بكلّ جوانبه، بحيث ينطلق الرَّأي من قاعدة العلم المنفتح على العمق في البحث عن الحقيقة، وعن الشموليّة في تتبّع الوجوه، حتى لا يخطئوا في إعطاء المشورة بما يوقع المستشير في الهلاك، خوفاً من الله في ذلك؛ لأنَّهم يعتبرون الرأي الذي يملكونه ويطلبه الناس منهم، أمانة الله عندهم، في ترشيد الموقف للناس، من خلال الأخذ بكلّ ما يؤدّي إلى الرُّشد ويقود إلى النجاة.
العاقل:
وجاء في الحديث عن رسول الله w: «استرشدوا العاقل ولا تعصوه فتندموا»(1)، وفي حديثٍ آخر عنه w: «مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق من الله؛ فإذا أشار عليك النَّاصح العاقل فإيّاك والخلاف؛ فإنّ في ذلك العطب»(2). إنّنا نفهم من هاتين الكلمتين، أنّ العاقل عندما يشير بالرأي، فإنّه ينطلق برأيه من خلال قدراته العقلية على الإحاطة بكلِّ جوانب الموضوع، بحيث يتابع كلّ الاحتمالات ويأخذ بكلّ الوجوه، ليصل من خلال المعادلة العقليّة في التفكير، والانفتاح على التجربة، إلى الحقيقة التي تنقذ المستشير من حيرته، وتضيء له جوانب القضيّة، إضافةً إلى ما يعرفه المستشير من شخصيّة المستشار من التزام بالنصح في رأيه، ممّا ينبغي أن يلتزمه في خطّ المشورة، ليتوازن الموقف عنده. بينما يؤدِّي الابتعاد عن العاقل ومخالفته إلى الندم، من خلال ما يمكن أن يفوّته على نفسه من مزالق ومشاكل.
وهناك حديث للإمام عليّt يؤكد هذه المسألة، يقول فيه: «شاور ذوي العقول تأمن الزَّلل والندم»(3)، وفي حديث آخر: «من شاور ذوي الألباب دُلّ على الصواب»(4).
أصحاب التَّجارب:
وكان الإمام عليّt يؤكّد استشارة الذين يملكون التجربة الواسعة في حياتهم؛ لأنّ التجربة تمنح صاحبها الفكرة الناضجة المنطلقة من الواقع، بحيث يكون ذلك دليلاً على صحّتها، بينما يختلف الحال في الفكرة الناشئة من التأمّل المجرّد، وهذا ما روي عنهt: «أفضل من شاورتَ ذو التجارب»(1).
وفي حديث آخر عنهt: «خير من شاورت ذوو النهى والعلم وأولو التجارب والحزم»(2)؛ لأنّهم يملكون القوّة في الموقف، والعمق في الرأي، والواقعيّة في النظر إلى الأشياء.
العدوّ العاقل لا الصديق الجاهل:
ومن الطريف، ما ورد عن الإمام عليّt، من استشارة العدوّ، ليطّلع الإنسان على سرّه في عمق عداوته؛ لأنّه سوف يعطي الرأي المضادّ الذي يريد من خلاله إيقاع المستشير في حالة السقوط والهلاك أو إرباك أوضاعه ـ بفعل عداوته ـ، كوسيلة من وسائل اختبار حجم هذه العداوة. قالt: «استشر أعداءك تعرفْ من رأيهم مقدار عداوتهم ومواضع مقاصدهم»(3)، ولكنّه ـ من جانب آخر ـ يُرشد الإنسان إلى استشارة العدوّ العاقل الذي لا يخون من استشاره، رعايةً لموقع عقله الذي قد يرشده إلى أن يحصل على الثقة من الآخرين، وأن لا يستشير الصديق الجاهل الذي يدفعه جهله إلى الرأي الخاطئ، وذلك قوله: «استشر عدوّك العاقل، واحذر رأي صديقك الجاهل»(4)؛ لأن العدوّ العاقل إذا عرفت منه الجدّ في المشورة، فإنّه يقدّم إليك الرأي الصائب؛ أمّا الصديق الجاهل، فإنّ جهله يمنعه من اكتشاف الصواب في الرأي؛ فيعطي الرأي الخطأ، وهو يتصوّر أنّه الصَّواب.
الاستشارة على خلاف الرَّغبة:
ويعالج الإمام محمّد الباقرt المسألة من جانب آخر، في قوله: «اتّبع من يبكيك وهو لك ناصح، ولا تتّبع من يضحكك وهو لك غاشّ»(1)؛ فعليك أن تتّبع النصيحة من الناصح حتى لو كانت على خلاف رغبتك، أو كانت مؤذية لك؛ لأنّ فيها الخير والمصلحة لك من موقع الخلوص في النصيحة، بينما تمثّل المشورة من الشَّخص الذي يمارس الغشّ في الرّأي وفي الأسلوب مشكلة لك، حتى لو كانت تنسجم مع رغبتك الذاتيّة.
حدود أربعة للمشورة:
وفي حديث الإمام جعفر الصادقt، عن حدود المشورة: «إنّ المشورة لا تكون إلا بحدودها الأربعة... فأوّلها أن يكون الذي تشاوره عاقلاً، والثانية أن يكون حرّاً متديّناً، والثالثة أن يكون صديقاً مؤاخياً، والرابعة أن تطلعه على سرّك فيكون علمه به كعلمك، ثمّ يسرّ ذلك ويكتمه»(2).
هذه أمور تضع المشورة في موقعها الملائم للمصلحة والصواب؛ فإذا كان المشير عاقلاً، فإنّ عقله يقدم النصيحة المدروسة المنطلقة من موقع التفكير العقلي الناضج. وإذا كان متديّناً، فإنّ دينه يدفعه إلى الإخلاص في تقديم النصيحة الخالصة التي تؤدّي بالمستشير إلى النجاة، ويمنعه من الغشّ في الرأي الذي يقدّمه للآخر. وإذا كان صديقاً مؤاخياً، كانت صداقته وأخوّته محرّكة له في التعمّق في التفكير الذي يفتح أبواب الخير ويغلق أبواب الشر، لأنّ الأخ لا يخذل أخاه ولا يغشّه، ولأنّ الصّديق لا يخون صديقه فيما يأتمنه من النصح له. وإذا كان كتوماً للسرّ، فإنّه لا يفضح الأمر موضوع الاستشارة، إذا كان مشكلة تواجه المستشير أو فضحية تهدده في كل أوضاعه، فيعتبر السرَّ سرَّه، فلا يظهره للناس لأنّه يعتبره أمانةً عنده، لأن أمانة السرّ لدى الأمناء كأمانة المال.
اعتبار المشورة مسؤولية:
وقد ورد في الحديث عن رسول الله w، أنّ الصواب في المشورة هو صدقة يتصدّق بها المرء على أخيه: «تصدّقوا على أخيكم بعلمٍ يرشده، ورأيٍ يسدّده»(1).
وعن الإمام عليّ بن الحسين، زين العابدينt: «إرشاد المستشير قضاءٌ لحقّ النعمة»(2)؛ فهي ـ حسب هذا الحديث ـ تمثّل لوناً من ألوان أداء شكر النعمة، وقضاءً لحق الله في ذلك.
وفي حديث آخر عنهt قال: «حق المستشير إن علمت له رأياً أشرت عليه، وإن لم تعلم أرشدته إلى من يعلم»(3).
وفي حديث الإمام جعفر الصادقt: «اعلم أنّ ضارب عليّt بالسيف وقاتله، لو ائتمنني واستنصحني واستشارني، ثم قبلت ذلك منه، لأدّيت إليه الأمانة»(4). هذا كلّه هو حال المشير الناصح مع المستشير.
أمّا الذين يعيشون العقدة النفسية السلبيّة تجاه الآخرين، فيستغلّون استشارتهم لهم ليقدّموا إليهم الرأي الخاطئ، لإيقاعهم في الإشكال الذي قد يؤدّي بهم إلى السقوط والهلاك، فإنّ الأحاديث تذمّهم وتبرأ منهم، فقد جاء عن رسول اللهw: «من غشّ المسلمين في مشورة فقد برئت منه»(1)؛ لأنّ النصيحة حقّ للمسلم على المسلم، وهي من أساس الدين، فقد ورد عنه w: «الدين النصيحة، قيل: لمن؟ قال: لله ولرسوله وللمؤمنين»(2)، وفي حديث آخر عنه w: «من استشاره أخوه المؤمن فلم يمحضه النصيحة سلبه الله رأيه»؛ لأنّ الله منح الإنسان نعمة الرأي وسلامة الفكر، ليتحمَّل مسؤوليّته في تقديمه للناس الذين يحتاجون إليه في تدبير أمورهم، مما يتمثّل فيه الشُّكر لنعمة الله، فإذا حرّكه في اتّجاه سلبيّ ضدّ مصلحة المؤمنين، فإنّ الله يعاقبه بسلبه منه.
وجاء عن الإمام عليّt: «خيانة المستسلم والمستشير من أفظع الأمور وأعظم الشرور، وموجب عذاب السعير»(3)؛ لأنّ الخيانة في مثل هذه الحال تؤدّي إلى الفساد، وتقود إلى الوقوع في الهلاك على الصعيد الخاص والعام.
وفي حديث آخر عنهt: «ظلم المستشير ظلم وخيانة»(4)؛ لأنّ من حقه على المشير النصح له؛ فإذا خانه وغشّه فإنّه يظلمه حقّه ويخونه في إنسانيّته وأخوّته. والحمد لله ربّ العالمين.































    إدارة الجدال
    الجدال بالتّركيز على مواقع اللّقاء
    الجدال بالتي هي أحسن
    المناخ التصالحي























تناولنا في العددين السّابقين الحديث عن الشورى التي أكّدها القرآن والأحاديث النبوية وأحاديث أئمّة أهل البيت i؛ وأكّدنا من خلال هذه الأحاديث، أنّ الشورى تساعد على الوصول إلى الحقيقة بشكل أقرب ممّا لو كان هناك استبداد بالرّأي؛ لأنّ الشورى تمثّل مشاركةً بين عقل المستشير وعقول الآخرين، من خلال ضمّ عقلهم إلى عقله، وتجربتهم إلى تجربته، فيكون وضوح الصورة عنده أكثر توكيداً، والعلاج لأيّ مشكلة أكثر نفعاً.
إذ إنّ هناك فرقاً بين أن ينطلق عقلٌ واحد ليعالج فكرةً، وبين أن تنطلق عدّة عقول؛ لأن العقل الواحد قد ينظر إِلى القضية من جانبٍ محدود، بينما العقول المتعدّدة قد تنظر إِلى القضية من خلال جوانب مختلفة؛ الأمر الذي يجعل الوصول إِلى الحقيقة أقرب. ولذلك، فإنّ الله سبحانه وتعالى أمر رسوله، وهو المعصوم الذي ينفتح على الحقيقةِ من موقع النور؛ لأن النبي هو نورٌ كُلّه؛ نورٌ في عقله وفي قلبه وفي حياته، ومع ذلك أمره تعالى بقوله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ في الأمْرِ﴾(1)، كما قال تعالى عن المجتمع المسلم كُلّه: ﴿وأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾(2).
حديثنا ـ هنا ـ في عنوانٍ قد لا تنطبق عليه كلمة الشورى، ولكنه يلتقي بالشورى من خلال النتائج، وهو عنوان الجدال. والجدال هو عبارة عن أن يطرح الإنسان فكرةً ويعارضها الآخر، كما هي المسألة في حال الاختلاف في الآراء. وهذا ما عاشه الأنبياء i عندما كانوا يدعون أُممهم إِلى ما يحملونه من رسالة، وما يخطّطون له من فكر، فكان الأنبياء i يطرحون الفكرة وكان خصومهم يجادلونهم في ذلك.
إدارة الجدال:
وقد جاءت الإشارة إليه في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(1).
إنّنا نلاحظ أنّ هذه الآية ترسم منهج الدعوة إلى سبيل الله، باتّباع الحكمة التي تعبّر عن دراسة الفكرة بدقّة وشموليّة وعمق، وتحريك الأسلوب في طرحها، بدراسة الذهنيّة التي يملكها الإنسان الآخر الذي يُراد اجتذابه إلى الفكرة، في العناصر التي تفتح عقله وقلبه وحياته على ما يُراد له الاقتناع به، وبالموعظة الحسنة التي تعالج التعقيدات الكامنة في شخصيّته، وتليّن عوامل القسوة والتمرّد في نفسه، بما يتناسب مع كلمة الوعظ الّتي يشعر معها الإنسان بالسكينة والطمأنينة في إيحاءات المضمون؛ فإذا تمّ للداعية ذلك، واستطاع إيصال الفكرة إلى الشخص الآخر، انطلق ليواجه الأفكار المضادّة التي يحملها الآخر، من فكرٍ غير منسجمٍ مع فكره، وعقيدة مختلفة عن عقيدته، ممّا يمكن أن يدفعه إلى الردّ على الدّعوة بطريقة سلبيّة، وذلك بأن يدرس عناصر الرفض وأساليب الردّ، ليواجهها بما يناقشه من المفردات المثيرة، في أجواء النقاش، بالأسلوب الأحسن الذي لا يعنف ولا يتشدّد ولا يسيء، بل يواجه الموقف بالطريقة العلمية الموضوعية التي تدرس الأمور بما يدفع إلى التفكير الهادئ، من حيث الشكل في أسلوب الخطاب، ومن حيث المضمون في عمق الفكرة؛ لأنّ ذلك هو الذي يؤدّي إلى اقتناع الإنسان الآخر الذي يتطلّع إلى الحقيقة ولا يقف موقف العناد للحقّ.
وتنطلق الآية لتؤكّد أنّ مسألة الدعوة، في عناصرها الثلاث ـ الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن ـ، تمثّل التجربة الثقافية في المحاولة الجادّة لإقناع الناس، وإسقاط التزاماتهم الفكريّة الضالّة، من خلال جهد الداعية.
أمّا النتائج الإيجابية أو السلبية المترتّبة على هذه التجربة، فهي لا تخضع لأسلوب الداعية في عرض الفكرة، بل تخضع لعوامل متنوّعة في التزام الآخرين بالضلال أو بالهُدى، ممّا يعلم الله سرّه فيما يطّلع عليه من خلفيّات الأشخاص في عناصر الرفض والقبول، مما لا يتحمّل الداعية مسؤوليّته، لأنّه يقع خارج قدرته، إلا في طريقة الدعوة.
إنّنا نلاحظ في عنوان الجدال بالتي هي أحسن، لوناً من ألوان الشورى التي يُبادر إليها الداعية، وذلك من خلال الإشادة بالأفكار التي يطرحها، والأساليب التي يثيرها، والمناخ الذي يصنعه، تماماً كما لو كان في موقع المشير إلى الآخر باتّباع ما يدعوه إليه، لأنّه يمثّل الحقّ، ويحقّق المصلحة، ويؤدّي إلى السلامة، وذلك من خلال الروح الإنسانيّة الإيمانيّة التي توحي بها كلمة «التي هي أحسن»، التي تتجاوز الاحتضان الفكري من الخارج إلى الداخل، تماماً كما هي حال المشير عندما يقدّم للمستشير النصيحة بإخلاص؛ فإنّ الجوّ إذا لم يكن جوّ طلب الاستشارة من قبل الآخر، فإنّ خطّة المشير قد توحي بمثل ذلك من الناحية الشعوريّة التي تتمثّل في الموقف والأسلوب.
وهذا هو الخطّ العام الذي وضعه الإسلام من خلال القرآن الكريم في حركة الدعوة إلى سبيل الله، ما يجعل الفريقين يواجهان الفكر المتنوّع بطريقة حواريّة تختزن الحركة الثقافيّة التي قد تبدأ في دائرة الرفض من جانب، لتنتهي من خلال حكمة المبادر بالدعوة، إلى القبول من جانب الآخر.
الجدال بالتّركيز على مواقع اللّقاء:
ونقرأ في آية أخرى مثل هذا الاتجاه في الأخذ بأسلوب الجدال بالتي هي أحسن؛ وذلك في الجدال مع أهل الكتاب الذين اعتبرهم القرآن منحرفين عن خطّ الاستقامة في العقيدة التوحيدية، في الاعتقاد بأنّ المسيح هو الله باعتبار تجسيده فيه، أو بأنّه ابن الله، أو بأنّ الله ثالث ثلاثة، أو بأنّ اليهود قتلوا السيّد المسيح t وصلبوه، أو بنظريّة الفداء، أو غير ذلك؛ أو في اعتقاد اليهود بأنّ عزيراً ابن الله، أو ببعض المفاهيم الخاطئة، أو السلوكيّات المنحرفة، وما إلى ذلك... فكانت الخطّة هي الدخول مع هؤلاء، من اليهود والنصارى، في جدالٍ فكريّ حول هذه الأخطاء في تفاصيل العقيدة، فكانت هذه الآية: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(1).
فنحن نلاحظ في هذه الآية التأكيد أنّ الدعوة إلى الجدال بالتي هي أحسن مختصّة بالذين يعيشون في روحيّتهم الإيمانيّة، وفي ثقافتهم العقليّة، وفي تفكيرهم العلمي، الانفتاح على الجدال الثقافي للوصول إلى الحقيقة المشتركة. أمّا الظالمون الذي يتحرّكون بالروح العدوانيّة التي تضطهد الآخرين من المخالفين لهم في العقيدة أو في الاتجاه أو في حركة الواقع، فلا جدال معهم؛ لأنّهم لا ينفتحون على الحوار، بل يلتزمون القوّة العدوانيّة التي تصادر الآخر وتخطّط لإسقاطه، وتمتنع عن الانفتاح على وجود فكر آخر غير فكرها، ولا تعترف بالآخر؛ فهؤلاء لا فائدة من إثارة الجدل معهم.
الجدال بالتي هي أحسن:
أمَّا أسلوب الجدال بالَّتي هي أحسن، فيكون من خلال تقديم الدُّعاة المسلمين الفكرة إلى الآخرين، بإثارة مواقع اللّقاء معهم في بعض الجوانب؛ وذلك بأن يبدأ الداعية بإعلان الإيمان بالقرآن الذي أنزله الله على المسلمين، من خلال الوحي به لنبيّ الله، ثمّ الإيمان بالتوراة التي أنزلها الله على موسى t، المشتملة على الحقّ والهدى ممّا أراد الله للناس أن يؤمنوا به ويتمثّلوه، ثمّ الإيمان بالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى t ليكون كتاباً يرتفع بالروح، ويتحرّك بالحقّ والعدل والهداية للناس؛ ليكون هذا الإيمان قاعدةً للحوار بيننا وبينهم، مما جاءت به التوراة والإنجيل، بما قد يجد فيه المسلمون بعض إثباتات الحقّ الذي يلتزمونه.
والمسألة الأخرى في مواقع اللّقاء الّتي على الدّاعية أن يركّز عليها في جداله مع أهل الكتاب، هي وحدانية الله التي يؤمن بها هؤلاء، كما يؤمن بها المسلمون؛ لأن الاختلاف لم يحصل في التوحيد الإلهي كمبدأ، بل في التفاصيل، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾(1). فنحن نلاحظ أنّ هذه الآية أكّدت أنَّ الإيمان بتوحيد الله في العقيدة والعبادة، ورفض الالتزام بشريك لله، هو مما يلتقي عليه المسلمون وأهل الكتاب؛ لأن الاختلاف بينهم هو في التفاصيل، وليس في هذه العقيدة كمبدأ. ولذلك لم يعتبر القرآن الكريم أهل الكتاب من المشركين، بل اعتبرهم فريقاً آخر من الكافرين؛ وذلك هو قوله تعالى ـ في سورة البيّنة ـ: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾(2)، فقد كفروا ببعض تفاصيل التوحيد وبالرسول ورسالته، ولكنّهم آمنوا بالله الواحد.
وتتابع الآية في الإشارة إلى مواقع اللقاء، في رفض أن يكون الإنسان ربّاً للإنسان، بل إن الجميع متساوون في عبادتهم لله الواحد، ولا يملك أحد منهم موقع الربوبيّة، مهما ملك من القوّة بتنوّعاتها.
 
المناخ التصالحي:
إنّنا نجد في أسلوب الجدل هذا مع أهل الكتاب، انفتاحاً على مواقع الاختلاف، من خلال الإشارة إلى مواقع الوفاق، ما يخلق مناخاً إنسانيّاً تصالحيّاً، يشعر معه الإنسان الآخر من أهل الكتاب، بأنّ الداعية المسلم لا يعيش العقدة المستعصية تجاهه، بل يحاول أن يثير معه القضايا التي يختلف فيها معه، ليبدأ الجدال الثقافي العقيدي بروح رساليّة تؤمن بالله الواحد، وبما أنزله من كتاب، وذلك من أجل إعطاء المسألة بعدها الروحي إلى جانب البعد العلمي، والانفتاح الموضوعي العلمي إلى جانب الانفتاح التبشيري؛ ما قد يوحي إلى الآخر بأنّه يتحدّث معه كناصح له من عمق الشعور الإنسانيّ، تماماً كما لو كان مشيراً إلى الحقّ الذي يريد له الإيمان به، بالطريقة التي لا يعنف معها ضدّه.
إنّه دور المشير الذي يحوّل ـ بأسلوبه الحكيم ـ المخالف إلى ما يشبه المستشير، ويفسح له في المجال للتفكير المشترك الذي يعرض فيه كلّ فريق للفريق الآخر وجهة نظره بكلّ موضوعية وحياد، من دون عنف أو قسوة أو تحقير.
وهذا ما ينبغي للدعاة المسلمين أن يأخذوا به، في أسلوبهم في الدعوة، وفي الجدال، في اختيار الأحسن في الكلمة والأسلوب والفكرة؛ لأنّ ذلك هو أقرب الوسائل لأن نفتح قلوب الآخرين، على الحقّ.
وللحديث بقيّة تأتي إن شاء الله...  والحمد لله رب العالمين.



























    التفكير بصوت مسموع
    الجدال العدواني
    الجدل الجاهل
    صورة قرآنيّة للحوار بين نموذجين
    إشراق الإيمان























التفكير بصوت مسموع:
كُنا نتحدث في بداية هذه المحاضرات عن الشورى، وهي أن يبادر إنسانٌ إِلى نُصح آخر، وتقديم المشورة له في بعض القضايا التي تهمّه وترتبط بأوضاعه العامة والخاصة، وقد انتهى بنا الحديث إلى أن هناك عنواناً آخر قد يقترب من الشورى، وهو عنوان الجدل، عندما ينطلق الإنسان ليقدِّم فكره إِلى الناس الآخرين ليهديهم إِلى الحق وإلى الله من خلال هذه الفِكرة، وهذا ما جرى عليه الأنبياء والأولياء عندما كانوا يُبلِّغون رسالاتهم إِلى الناس في عملية نُصحٍ ومشورة، تماماً كما لو كانوا يُشيرون عليهم باتباعِ هذا الخطّ الذي هو خطُ الهُدى، وقد ركّز الله سبحانه وتعالى على أن يكون أسلوب الدّعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن...
حتى إنه أمرنا بأن نجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن، لنبحث معهم القضايا على أساس مواقع اللقاء التي تنفتح بعد ذلك على مواقع الخلاف، ليجري الحوار بيننا وبينهم حولها. وقد تحدثنا كثيراً في المحاضرات السابقة حول هذا الموضوع.
والفكرة الإسلامية أساساً تنطلق من أن الناس عندما يختلفون في القضايا، وعندما يتحيّرون في الأمور، فإنَّ من مسؤوليتهم عن أنفسهم وعما يحقق لهم من المصالح الكُبرى في حياتهم، أن يتحدثوا مع بعضهم البعض ويتشاوروا حول هذه الأمور، لأن حديث الإثنين أو الثلاثة يمكن أن يصل بالإنسان إِلى ما هو المصلحة وإلى ما هو الحقيقة في هذا المجال، بينما إذا كان الإنسان يحدِّث نفسه ولا يتحدَّث مع غيره، فقد يُخطئ وقد لا يلتفت إلى الخطأ. وهذا النوع من الحديث المشترك بين إنسانٍ وآخر، يُطلق عليه في بعض المصطلحات الغربية عنوان التفكير بصوتٍ مسموع، لأن الإنسان عندما يفكر لا يتكلم، ولكن عندما يفكر مع الآخر، فإن الوسيلة للتفكير مع الآخر هي أن يتحدث كلٌّ منهما، ليكون حديثهما حديث الفكر المشترك.
والإسلام يريد لنا أن يكون حوارنا وجدالنا مع بعضنا البعض منطلقاً من الرغبة في الوصول إِلى الحقيقة واكتشاف المصلحة، ويريد للإنسان عندما يفكِّر مع الآخر، أو عندما يحاوره أو يجادله، أن تكون نيته نيةً إصلاحية بعيدة عن النية العدوانية، لأن بعض الناس ربما يجادلونك ليقمعوك، أو ليسقطوك، أو يجادلونك جدالاً عدوانياً، وهذا ما نتحدث عنه في هذا اللّقاء.
الجدال العدواني:
ويحدّثنا القرآن عن فريقٍ من النَّاس ممّن يمارسون الجدال مع الآخرين بطريقة عدوانيّة، بحيث يتحرّكون من خلال عناصر الإثارة لا العقل. وهذا هو قوله تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً﴾(1)؛ فهؤلاء يستهدفون الحقّ بمحاولة إثارة أفكار الباطل التي لا ترتكز على أيّة حقيقة فكريّة، أو أيّة موضوعية عقليّة، من أجل أن يدحضوا الحقّ بأساليب السخرية والاستهزاء، مما لا يملك الداعية المسلم أيّة فرصة للدخول معهم في قضايا الفكر، وفي امتدادات الحقّ؛ لأنّهم لا ينفتحون بأسماعهم على ما يسمعون، ولا بأبصارهم على ما يقرأون؛ الأمر الذي يجعل الجدال معهم جهداً ضائعاً لا يحقّق أيّة نتيجة إيجابيّة لمصلحة الوصول إلى الحقيقة بأسلوب الحوار.
إنّ المنهج القرآنيَّ لا يمنع الذي يؤمنون بالباطل من أن يدخلوا في تجربة الجدال ضدّ الحقّ، ولكنّه يريدُ منهم أن يحترموا طبيعة الجدال، بالالتزام بعناصره الفكريّة، وثقافته الموضوعية؛ ليكون الحوار فكرةً تواجه فكرةً، ودليلاً يعارض دليلاً، وبرهاناً يدحض برهاناً، من أجل الوصول إلى قاعدة مشتركة في الموضوع الذي يقع محلاًّ للاختلاف.
إنّ هُناك الكثير من الاتجاهات والأفكار الموجودة اليوم في العالم، فكيف نستطيع أن نواجهها؟ وما هو الأسلوب الّذي ينبغي أن نتبعه معهم؟! أنمنعهم ولا نسمح لهم بأن يدخلوا معنا في حوار وفي جدال، أم لا نعطيهم الحرية في هذا المجال.
إنّ القرآن الكريم هو كتاب الحِوار، وقد أعطى المشركين أن يقدِّموا كلَّ ما عندهم، ونقل لنا ما كانوا يثيرونه ضدّ الرّسولw والأنبياء، وهذه هي عظمة القرآن الكريم، فمن أين عرفنا أنهم كانوا يقولون عن الأنبياء مثلاً بأنهم مجانين؟! ومن الذي خلَّد لنا القول بأنهم كانوا يقولون للنبي w عن القرآن ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾(1)، ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾(2)؟! ومن أين عرفنا أيضاً أنهم كانوا يقولون عن النبي إنه شاعر وإنّه ساحر، من الذي خلَّد لنا هذه الأشياء؟ إنّه القرآن، وقد خلّدها لنا لنعرف كيف واجه النبي هذا المجتمع الذي كان يُطلق هذه الأفكار التي لم تكن أفكاراً علمية ولا موضوعية ولا ثقافية، وكان النبي يردُّ عليها، وكذلك القرآن.
لذلك، فإنّ موقفنا اليوم مع أهل الباطل هو موقف القرآن، نستمع إليهم ونرد عليهم ونناقشهم، ونحاول أن ندخل في جدال معهم، ولكن بشرط أن يكونوا موضوعيين أي لا يتحركوا على أساس عنصر الإثارة أو عنصر السخرية أو الاستهزاء.
الجدل الجاهل:
ويتحدّث القرآن عن نموذج من الناس ممّن يأخذون بأسباب الجدل من دون أن يملكوا ثقافة الموضوع الذي يجادلون فيه، بل إنّهم يتحرّكون من مواقع الجهل الذي يسيطر على ذهنيّاتهم التي لا تحمل أيّ نوع من أنواع العلم. وهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ﴾(2)؛ فهؤلاء الذين لا يؤمنون بتوحيد الله ورسالاته، ولا يلتزمون بعبادته وطاعته، لا ينطلقون في جدالهم مع الرساليّين من الأنبياء وغيرهم، من أيّة وسيلة لدراسة المسألة في معطياتها الفكريّة، فهم لا يملكون الهدى الذي يضيء لهم طريق الحقّ، ولا ينفتحون على العلم الذي يثبّت لهم الحقائق، ولا يرجعون في مصادرهم الثقافيّة إلى كتاب مشتمل على وسائل الإنارة للقضايا المثارة في حركة الجدل، ولكنّهم يتّبعون في التزاماتهم الجدليّة وسلوكيّاتهم المضادّة، الشياطين المتمرّدين على الله، المتحرّكين في اتّجاه الباطل.
إنّ أمثال هؤلاء، لا يتطلّبون الحصول على قاعدة المعرفة التي تفتح لهم أبواب التفكير الذي يلتقي مع الآخر الذي يلتزم الإيمان، ليستمعوا إلى وجهة نظره في عمليّة بحثٍ ومناقشة، أو في عملية إشارة واستشارة؛ لأنّهم أغلقوا عقولهم عن الحركة الفكريّة، تماماً كالأشخاص الذين يملكون عقولاً لا يفكّرون بها، وآذاناً لا يسمعون بها، وأعيناً لا يُبصرون بها، بل هم في موقع الجمود الثقافي والروحي والحركي، لا يتقدّمون إلى الأمام خطوةً واحدة للتعرّف إلى آفاق الفكر الآخر، أو الموقف الآخر.
ومن الطَّبيعي أنّ مثل هؤلاء لا يلتقون مع النَّاصحين في موقع الشورى التي يطرح فيها الإنسان وجهة نظره، ليستمع إلى وجهة نظر الآخر الذي قد يفتح له نافذةً على الخطأ في تفكيره، والصَّواب في تفكير الآخر.
صورة قرآنيّة للحوار بين نموذجين:
وفي نهاية المطاف، ننقل نموذجاً للحوار ممّا جاء به القرآن، بين شخص لا يخضع للالتزام بالإيمان بالله في نظرته إلى الأمور، انطلاقاً من استغراقه في المال الذي يملكه، والّذي يخيّل إليه من خلاله أنّه يقف في المرتبة العليا من القيمة، وأنّ الله سوف يرفع درجته عنده بسبب موقعه المالي، وبين شخصٍ لا يملك المزيد من المال، ولكنّه يملك الوعي والانفتاح على الله في إيمانه وثقته. وهذا ما جاء في سورة الكهف في قوله تعالى:﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً﴾(1)؛ فإنّنا نلاحظ أن هذا الرجل قد استغرق في جنّته التي تمثّل رصيداً ماليّاً كبيراً منتجاً، يدرّ عليه المال في ثمراتها الزراعيّة، حتى إنّه تصوّر ـ في استغراقه الأعمى ـ أنّ هذه الجنّة الدنيويّة خالدة لا فناء لها. ثمّ تطوّر الأمر في خياله، في تصوّر جاهل، بأنّ الدنيا سوف تبقى في خطّ الخلود، ليخلد فيها، فلا تنتهي عندها حياته.
ثمّ استدرك الأمر في احتمالات قيام الساعة التي يتحدّث بها المؤمنون، فاعتبر أنّ ما أكرمه الله به من المنـزلة الماليّة الرفيعة في الدنيا، سوف يحصل على خير منها في الآخرة، لأنّ الكرامة في الدنيا تجتذب الكرامة في الآخرة.
إشراق الإيمان:
ولكنّ صاحبه المؤمن الذي كان يحاول هدايته وتقديم النصيحة له، تحدّث له عن الإيمان بالله الذي يشرق في عقل الإنسان وروحه، من خلال تفكير الإنسان في خلق الله له من التراب، وفي تطوّر الخلق الذي وصل به إلى حالة الرجولة، ليجعله ذلك يفكّر في هذه الحقيقة الإيمانيّة التّوحيدية، في الإيمان بالله الواحد الّذي لا شريك له ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً منَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً﴾(1).
ثمّ بدأ بأسلوب الوعظ، بأنّ عليه أن ينظر إلى جنّته بأنّها نعمة من الله عليه، وأنّ كلّ ما تشتمل عليه، في أشجارها وثمراتها، لم ينطلق من قوّته الذاتية ومعرفته الشخصيّة، بل من خلال قوّة الله الذي منح كلّ شيء قوّته ونموّه وإنتاجه. أمّا احتقارك لي بأنّني الأقلّ منك مالاً وولداً، فإنّي أختلف عنك بأنّني أملك الثقة بالله الذي هدى الإنسان وأغدق نعمه عليه وعلى الكون كلّه؛ ما يجعلني أفكّر بأنّ الله سوف يمنحني خيراً من جنّتك، بلطفه ورحمته. وربّما ينـزل البلاء عليك في إبادة جنّتك.
وهكذا انتهى المشهدُ الحواريّ، بإحاطة عذاب الله بثمر هذا الغنيّ المستعلي، وبإحساسه بالوحدة، فلا ناصر له من هؤلاء الذين كانوا يتزلّفون إليه، فرجع إلى نصيحة صاحبه الفقير الذي تحدّث معه حديث الناصح المشفق، واتّخذ من علاقته به دور المستشير له، بأن يفكّر بواقعيّة في طبيعة الأمور، ليصل إلى الإيمان بتوحيد الله الذي هو سرّ الوجود، وخلف كلّ شيء، ووليّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، وأنّ ما يحصل عليه الإنسان من متاع الدنيا، هو لطف من ألطافه، ونعمة من نعمه؛ الأمر الذي يفرض عليه الانفتاح عليه، والرجوع إليه في كلّ أموره.
وهكذا يصوّر لنا القرآن الحوار بين فريقين من الناس، في أسلوب متنوّع، قد يعنف في حالة، ويرقّ في أخرى، ليكون المناخ السائد بينهما هو الوصول إلى الحقيقة، في أسلوب الشورى الهادئ، والجدل الذي يلتقي مع الشورى في التفكير المشترك، بالأسلوب الذي يبتعد عن العنف والقوّة، لينتهي إلى الانفتاح على النتائج الحاسمة الهادئة في الوصول إلى الإيمان. والحمد لله رب العالمين.







































    شعيب النبي
    ملامح الدعوة النبوية


































من بين الأمور التي تحدث عنها القرآن الكريم، أمور تتصل بسيرة الأنبياء الذين أرسلهم الله ليبلغوا الناس رسالاته وليخرجوهم من الظُلُماتِ إلى النور.
فقد عاش الأنبياء مع أُممهم في جدل متنوع وحِوار لا يخلو من العُنف من قِبل الناس الذين أُرسل إليهم هؤلاء الأنبياء، لذلك، لابد لنا من أن ندرس دائماً هذا النوع من حوار الأنبياء مع أُممهم، لنتعرف شخصية النبي وأسلوبه وطريقته في أداءِ رسالته وصبره على ما يُلاقيه. ومن هؤلاء الأنبياء، النبي شُعيب الذي تحدث الله عنه في أكثر من سورة، كما في سورة هود، والأعراف، والشعراء، وفي غيرها أيضاً من السور وإن بشكل مختصر.
شعيب النبي:
ربما يُذكر أن (شُعيباً) هو صاحب موسى t الذي التقت ابنتاه موسى عندما جاء هارباً من فرعون ووصل إلى مدين وأسند ظهره إِلى شجرة من التعب، وكان قريباً من ماء مدين، ورأى امرأتين لا تملكانِ سقي دوابّهما أو ما يريدانه من الماء، فسألهما وقد أخذته الرقة عليهما: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾(1). وهزته هذه المأساة وسقى لهما، ورجع إِلى مكانه وقال: ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾(2)، وفجأةً جاءته إحدى المرأتين وقد أرسلها شعيب إليه، ﴿قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾، وسار معهما وجلس مع شُعيب وأعطاهُ الأمان، ﴿قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(1)، لأن فرعون لم يصل مُلكه إِلى مدين، وتحدثت البنتان عن أمانة موسى وعن عفّته، وكأنهما كانتا معجبتين به، فبادره شُعيب وقال له: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾، تعمل عندي في خدمتي ثماني سنين، ﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ﴾(2) ولك أن تكتفي بثماني سنين. وهكذا تزوج من إحدى ابنتي شُعيب. ثم سار والتقى بالرسالة في مسيرته.
والظاهر أن شُعيباً صاحب موسى، هو النبي الذي أُرسل إِلى مدين، ولكن بعض المؤرخين يُشكك في ذلك، لأنه يرى أن نبوة شُعيب كانت قبل موسى، إذ كان قريباً من إبراهيم، لأنه تحدث مع قومه عن قوم لوط وقال لهم: ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ﴾(3)، وهُناك فاصل زمني كبير بين إبراهيم ولوط وموسىt، لأن الله يقول: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى﴾(4). ولكننا لا نستبعد أن يكون شُعيب هذا هو صاحب موسى، ولكن نبوة شُعيب انتهت، وانتهت معها مسؤوليته عندما عذّب الله قومه، وقيل إنه كان أعمى، فلا يبعد أن يكون قد بلغ من العمر ما يجعله يمتد إلى المرحلة التي التقى فيها بموسىt.
وفي دراستنا لشُعيب في منطقه وموقعه، نقرأ في سورة الأعراف قوله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾، فنعرف من ذلك أن شُعيباً كان من أهل مدين ومن عشائرها، فكانت دعوته هناك، وكان أهل مدين يعبدون الأصنام، ولذلك كانت دعوته الأولى إِلى التوحيد، ﴿قال يا قوم اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَه غَيْرُه﴾(5)، ثم إنّه عالج بعض الانحرافات الاقتصادية التي كانوا يمارسونها عندما كانوا ينقصون في المكيال والميزان، عندما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ أي يأخذون حقهم كاملاً غير منقوص ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾(1) إذا كانوا يريدون أن يبيعوا الناس، فإنهم يُنقصون المكيال والميزان.
فهو أراد أن يُصلح هذا الواقع المنحرف الظالم للناس، ولذلك قال تعالى: ﴿وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ﴾، فالله وسّع عليكم في المال، وأنتم لا تحتاجون إِلى هذه الوسيلة من أجل أن تُضخموا ثرواتكم، في الوقت الذي تظلمون الناس الفقراء الذين يشترون منكم، ثم حذّرهم: ﴿وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾. ثم يحذّرهم ويؤكد هذا المعنى: ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ أي بالعدل، ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾ فلا تُنقصوا أي إنسان حقّه ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، أي لا تفسدوا في الأرض، لأن هذا الفساد الاقتصادي يمكن أن يؤدي إلى نتائج سلبية على مستوى حياة الناس العامة في هذا المقام.
﴿بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي ما يبقى لكم من الله وما تحصلون عليه من ثوابه خيرٌ لكم من المال الذي تأخذونه بغير حله، ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾ أنا مجرد رسول داعية إلى الحقّ بينكم. ولكنهم ردوا عليه رداً عنيفاً ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء﴾، هل إنّ صلاتك هذه هي التي توجّهك وتأمرك بأن نترك عبادة الآباء والأجداد وأن تقيدنا في طريقتنا في التصرف في أموالنا؟!
﴿إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾، إنك إنسان ـ كما عرفناك ـ طيب وواسع الصدر ورشيد، فكيف تمارس مثل هذا؟ ولكنه أجابهم بطريقة رسالية: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ﴾، فأنا رسولٌ من الله من خلال الحُجة التي أعطاني الله إياها، وقد اصطفاني الله لأهديكم سبيل الرشاد، ﴿وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً﴾ وهو النبوة، ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ فلن أسير وفق ما تريدونني أن أسير عليه ممّا أرفضه منكم، ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ ما استطعت﴾، هذا هو هدفي، وليس عندي أيّ طمع في مال أو في جاه ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾.
وبعد أن قابل عنفهم بالرِّفق، حذّرهم قائلاً: ﴿وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي﴾ عندما تواجهونني بالشقاق والنزاع والعنف، ﴿أَن يُصِيبَكُم مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ﴾. اقرأوا تاريخ الأنبياء، لتعرفوا كيف عذّب الله أقوامهم عندما تمرّدوا عليهم، وأنا أحذّركم من أن يصيبكم مثل ما أصابهم، ﴿وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ﴾ من هذا الشِرك الذي أنتم عليه، ﴿ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾. ولكن الجماعة لم ينفتحوا على هذا المنطق الإنساني الروحي الناصح، ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً ممّا تَقُولُ﴾، إننا لا نفهم عليك، فأنت تتحدث بلغة لا نفهمها، لأن المفردات التي تأتي بها لا نعرفها، لا في تراثنا من خلال آبائنا، ولا من خلال ما تعلمناه الآن.
وهذا يذكّرنا بالموقف الذي واجه به فريق من الناس الإمام الحُسينt، عندما كان يعظهم في كربلاء، فكان يقول له الشُمر أو غيره: (ما ندري ما تقول يابن فاطمة). والواقع أنهم كانوا يفهمون عليه، ولكن إذا قالوا إنهم فهموا عليه، فإنّ عليهم أن يناقشوا وأن يتحدثوا إليه ويجيبوه عن كل ما تحدث به، وهم لا يريدون ذلك.
ويتابع قوم شعيب: ﴿وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً﴾ ليس لك قوة على إنجاح مشروعك، ولكن عندك عشيرة ﴿وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾، ونحن لا نريد أن نتورط مع عشيرتك، فلو رجمناك، فمعنى ذلك أننا سندخل في حربٍ مع عشيرتك، والظاهر أن عشيرته كانت قوية وكانوا يحذرون من أن يدخلوا معها في نزاع.
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً﴾، جعلتم الله وراء ظهوركم، ﴿إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾. ثم عزم وقال: ﴿وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إني عاملٌ﴾، خذوا حريتكم واعملوا على حسب خطتكم وأوضاعكم، ولكنّي مستمر في رسالتي وفي دعوتي وفي موقفي، وكل تهديد من قِبَلكم لن يضعفني، وكلّ احتقار منكم لن يسقطني فـ ﴿سوف تعلمون مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ* وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾(1). ومما تقدم نفهم أن شُعيباً كان شخصيةً قويةً في صلابة موقفه، فالقوم هدّدوه وحاولوا أن يُضعفوا منطقه ويُضعفوا موقعه، ولكنه ظل في الموقع الذي يتحدّى ويقبل التحدي في هذا المجال، ولهذا بقي صامداً إلى أن جاءهم العذاب.
ملامح الدعوة النبوية:
هذه نظرة عامة إلى مسألة شعيب، ولكن هناك مسألة لابد لنا من أن نستفيد منها فيما يتعلّق ببعض التفاصيل الأخرى في النتائج التي أخذها شُعيب. إذ نلاحظ في حواره مع قومه، أنه استطاع أن يجلب إلى دعوته الجماعات الفقيرة المستضعفة منهم، هؤلاء الجماعات هم جماعات الأنبياء، ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾(2).
وهذا ما واجهه النبيw أيضاً، عندما طلبت منه قريش أن يطرد المستضعفين والفقراء، لأنهم لا يتناسبون مع مجتمع الأغنياء ومجتمع الوجهاء، ولكن النبيw فيما أرشده الله وعلّمه، رفض هذه الدعوة وقربهم إليه. ومن الآيات التي أشارت إلى ذلك، قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾(1).
والأساس الذي يجعل المستضعفين والفقراء يؤمنون بالرسالة، هو أن الرسالة جاءت من أجل أن تحترم إنسانيتهم، ومن أجل أن تحل مشاكلهم، وأن توجههم إلى الآفاق التي يمكن لهم من خلالها أن يحصلوا على العيش الكريم والحياة الكريمة، ولذلك استطاع شعيبt أن يجلب إلى دعوته الجماعات الفقيرة المستضعفة من قومه، ليواجه الجماعات الغنية المستكبرة والمستغلة، وربما كان انفتاحه على الفقراء ومواجهته للمستكبرين منطلقاً من طبيعة الدعوة التي دعا إليها والمفاهيم التي بشّر بها، فالتطفيف نوعٌ من أنواع الاستغلال الاقتصادي الذي يمارسه الأغنياء المستكبرون، الذين يعيشون مشاعر الأنانية الذاتية في سلوكهم، ما يدفعهم إلى ممارسة الاستغلال عند الشراء، فيأخذون الزيادة لأنفسهم، وعند البيع يستغلون حاجة الآخرين إليهم لينقصوا من حقهم ما يشاؤون.
إن هذا الجدل الحواري بين شعيب وقومه، يمثل لوناً من ألوان الشخصية المثيرة التي تنفتح على النصيحة للمنحرفين، كما عبر عن منهجه ودعوته بقوله: ﴿وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾(2)، فهو لا يريد أن يدخل معهم في جدال، بل يريد أن يقدّم لهم النصح، ويريد أن يدلّهم على الطريق الذي ينبغي لهم أن يسيروا عليه، في عملية تحذيرية من النتائج السلبية المترتبة على سلوكهم. ولكنهم رفضوا هذا المنطق الإنساني، ودخلوا معه في جدلٍ عقيم عدواني، كما لو كان شخصاً يحاول الاعتداء على امتيازاتهم الاستغلالية، كالكثيرين من الناس الذين يقابلون الناصح لهم بأسلوبٍ عدواني رافض للنصيحة، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم في سورة الأعراف في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾، باعتبار أن هذا السلوك هو نموذج من نماذج الفساد، ما يدل على أن هؤلاء القوم يخططون للفساد في الأرض ولا يخططون للإصلاح، ﴿ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾(1).
ثم يحدثنا أنّهم كانوا يقطعون الطريق على الناس المؤمنين ليصدوهم عن الإيمان والاستقامة: ﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ* وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ﴾ انقسم المجتمع على الرسالة، منهم من آمن بالرسالة ومنهم من لم يؤمن بها ﴿فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين﴾(2) فإذا كنتم غير مستعدين لأن تتفاهموا معنا فنحن ننتظر حكم الله بيننا وبينكم.
إن القضايا التي طرحها النبي شُعيب تُعطينا الفكرة الواضحة عن مميزات قومه السلوكية، فقد دعاهم إلى عبادة الله وحده، وإلى رفض الشرك بعبادة غيره، والحجة كانت واضحة في تأكيد هذه الحقيقة، لأن مسألة التوحيد في العقيدة والعبادة تمثل القاعدة الأساس التي توجههم إِلى السير في خط القيم الإنسانية في الالتزام بوحي الله وتنفيذ تعاليمه، بما يبعدهم عن الانحراف السلوكي الذي يدفعهم إِلى الظلم واستغلال الناس.
وقد أطلق النبي شعيب التحذير من عملية استغلال الناس، والذي يتمثل بالفساد الاقتصادي في الأرض، بعد أن أراد الله أن يعيش الناس فيها حالة الصلاح والإصلاح كي تستقيم الحياة العامة، فيما ينفتح به الناس من دون فساد وإفساد، ثم أثار معهم سلوكهم العدواني في الصد عن سبيل الله بمختلف الوسائل في كل طريق يقعدون فيه، فيهددون المؤمنين الضعفاء من أجل أن يحرفوهم عن الطريق المستقيم إلى الطريق المعوج.
ويبقى للحديث صلة نرجو أن نأخذ به في الأسبوع القادم إن شاء الله، والحمد لله ربّ العالمين.
































    رفع مستوى الحوار
    حدود الحرية
    الموقف الثابت



































تقدّم الحديث عن حوار النبي شُعيبt مـع قومـه، باعتبـار أنّ النبيّ ـ أي نبيٍ كان ـ ينطلق في دعوته على أساس أن ينصحَ قومه ـ والنصيحة تُرادف المشورة ـ لكي يأخذوا بما يحقّق لهم الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.
ولعل الحديث عن قصص الأنبياء في القرآن الكريم، يهدف إلى تعريف كل الدُعاة إلى الله أسلوب الأنبياء في الدعوة؛ لأنّ دعوة الأنبياء واحدة؛ باعتبار أن الله أرسلهم من أجل الدعوة إلى توحيده، ورفض الوثنية والصنمية.
وقد لاحظنا في حديث القرآن الكريم عن مسيرة الأنبياء، من خلال ما قاموا به وما واجهوه في مسألة التحدّي وردّ التحدّي، وفي مواجهة كل الضغوط التي كان الطُغاة من قومهم يضغطون عليهم بها بمختلف الأساليب وبكل وسائل التهديد؛ لاحظنا أنّ الله سبحانه وتعالى يقدّم مسيرة الأنبياء هذه إلى رسول اللهw ليثبّت بها فؤاده، بحيث إنّ الله يجمع لرسوله كل مسيرة الأنبياء من قبله، وكل تفاصيل حركتهم في خطّ الدعوة وخطّ المواجهة وخطّ الصبر والتحدّي وردّ التحدّي؛ ليستفيدw من كل هذه التجربة الرسالية الطويلة للأنبياء، وليأخذ من قوّة الأنبياء في مواقفهم قوّةً لموقفه، ومن صبرهم وسيلةً لصبره.
رفع مستوى الحوار:
أما في قصة النبي شعيبt، فإنّه لم يرد الدخول مع قومه في مواجهة الصراع القائم من خلال إثارة العصبية العائلية لدى رهطه وعشيرته في لعبة العصبيّات التي تتحرّك خارج الفكرة وداخل النوازع الذاتية الضيّقة والأحقاد الخانقة، ليقفوا معه على أساس ذلك، وإنّما حاول أن يثير فيهم فكرة الانطلاق بالصراع في خطوات سلميّة، ليأخذ الفكر مجاله الطبيعي الهادئ بين المؤمنين وغير المؤمنين، إلى أن يحكم الله ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾(1)؛ لأنّ للصراع الفكري فائدته العمليّة الثقافيّة لدى جميع الأطراف، وهو يهيّئ لهم كثيراً من الفرص الجديدة للقاء على أرض مشتركة.
فماذا كان ردّ قومه؟
﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا﴾، فنحن لا طاقة لنا على تحمّل ما انطلقت به، ممّا يمثّل الرفض لفكر الآباء والأجداد، ولا نقبل بأن يتحرّك أي إنسان في قريتنا ليخرجنا من عقائدنا وليسفّه عبادتنا، وليوجهنا إلى الوجهة التي لا نرتضيها، والتي تختلف عمّا كان عليه آباؤنا، ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾، بحيث ترجع ومن معك مواطنين كبقية المواطنين، تلتزمون الملّة التي كنتم عليها وترجعون إليها، لِيرجع السلام الفكري إِلى القرية كلها، فلا يكون هناك فكرٌ آخر غير الفكر الذي ورثناه عن آبائنا، ولا يكون هناك دينٌ آخر غير الدين الذي اخترناه من خلال أجدادنا.
﴿قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِين* قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا﴾. عندها توجه شُعيب إِلى الله، وابتعد عن قومه غير مبالٍ بمنطقهم ولا لتهديداتهم وإغراءاتهم، مقدّماً حسابه أمام ربّه قائلاً: إنّني قد أدّيتُ الرسالة ودعوتُ هؤلاء القوم، ولم يقبلوا ما دعوتهم إليه، ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ* وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إنَّكُمْ إذاً لَّخَاسِرُونَ﴾(1)؛ فقد استعملوا منطق التحذير لإبعاد الناس عن رسالة شعيب، على أساس أن اتباع شُعيب يؤدي بهم إلى الخسران، والناس لا تحب أن تخسر.
وهذه الآيات تشير إلى أنّ القوم لم يدخلوا مع شعيب في حوارٍ، ولم ينفتحوا على روح النصيحة النبويّة، بل أطلقوا التهديد باستعمال القوّة ضدّه وضدّ المؤمنين معه، إذا لم يتراجعوا عن هذه الدعوة التوحيدية الإصلاحيّة ويعودوا إلى العقيدة الشركيّة الإفساديّة. وكان ردّ فعل النبيّ شعيبt رفض التهديد، وتأكيد مسألة الالتزام بالرسالة، وعدم التراجع عن الدعوة مهما كانت الضغوط والتهديدات كبيرة؛ لأنّ القضيّة ليست قضيّة مزاجٍ شخصيّ أو حالة طارئة، بل هي قضيّة الحقّ والباطل التي يرتبط بها موضوع المصير في الدنيا والآخرة. فإذا كان الإنسان عالماً بأنّه يتخبّط في الظلمات التي تؤدّي به إلى الهلاك، واستطاع النجاة من ذلك بطريقة خاصّة، فكيف يعقل أن يعود إليها، إذا كان يملك بعضاً من حسّ أو عقل؟! ولذا فإنّ الموضوع لا يقبل المساومة من قريب أو من بعيد.
ورفض شعيب كلّ ما أثاروه من التهديد بالقوّة، من دون أن يتعقّد أو ينهار، وتحرّك بروح رساليّة تطلب من الله ـ في ضراعةٍ وابتهال ـ أن يفتح بينه وبين قومه بالحقّ؛ إنّه خير الفاتحين.
وهنا يُطرح سؤال؛ هل إنّ شعيباً عندما قال له قومه: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾، فهل كان، قبل أن يبعثه الله بالرسالة، ملتزماً بملتهم؟ وهل كان يوافق على ما كانوا يسيرون عليه من التطفيف في المكيال والميزان؟ وكيف يتناسب ذلك مع اختياره للنبوة - اختيار الله له للنبوة - التي لا بدّ للنبي معها من أن يكون منفتحاً على الإيمان بالله، وعلى توحيده قبل أن يرسله الله؛ ليكون في موقع القابلية للاصطفاء؟
والجواب هو أنّ شعيباً كان يتحدث بلسان الملتزمين معه؛ فهوt لم يكن ملتزماً بالوثنية، ولكنّ قومه الذين معه كانوا ملتزمين بها، وعندما جاءتهم رسالة شُعيبٍ آمنوا بها وتركوا الوثنية. وشعيب، ككلّ الأنبياء، كان مؤمناً قبل أن يبعثه الله بالرسالة؛ لأن الله لا يبعث أحداً بالرسالة في الحالات التي يلتزم فيها خط الوثنية؛ لأنّه لن يكون قابلاً لتحمّل أعباء الرسالة ومضمونها الفكري والروحي والعملي بالنحو الذي يتمكّن معه من إخراج الناس من الظلمات إلى النور كما أراد الله تعالى.
حدود الحرية:
ويتحدّث القرآن الكريم في موقع آخر عن بعض التفاصيل التي أثارها قومه ضدّه في قوله تعالى: ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ * وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ * قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ* قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾(1).
لقد أثاروا الحديث عن صلاته التي تمثّل روحانيّة العبادة في خشوعه أمام الله، في عمليّة احتقارٍ لها، ووفق منطق ساخرٍ بأنّها هي التي توحي إليه بما يتحرّك به في خط الدعوة إلى الله، ومن تحديدٍ لحرّيتهم في التصرّف في أموالهم، مستغربين منه هذا الانحطاط الفكري، في الوقت الذي كانوا يعتبرونه موصوفاً بالحلم والرشد في خطّ التوازن في المنطق، لأنّهم كانوا يرون قدسيّةً لما كان يعبده آباؤهم من الأوثان، ممّا لا يمكن التنازل عنه؛ باعتبار أنّ ذلك يسيء إلى انتمائهم لهم، كما أنّهم كانوا يعتقدون اعتقاداً خاطئاً بأنّهم يملكون حرّية التصرّف المطلق فيما يملكه الإنسان من مال، فليس لأيّ تشريعٍ أن يقترب من هذه الحرّية بأيّ نوعٍ من أنواع التضييق والتقييد؛ لأنّ المسألة الأخلاقيّة لا علاقة لها بالخطّ الاقتصادي الذي يفرض على صاحبه الحصول على الربح من أيّ موقع كان.
هذا هو المنهج في الخط الرأسمالي الذي يعتبر أنّ الاقتصاد شيء والأخلاق شيءٌ آخر؛ لهذا هم يجيزون لأنفسهم أن يحرّكوا الاقتصاد في كل ما يدمّر الحياة ويدمّر الإنسان ويفسد البلاد والعباد. وهذا ما نلاحظه في أيامنا، كيف أنّ الدول المستكبرة تصرف الأموال الطائلة في إنتاج الأسلحة المدمرة التي تدمر حياة الإنسان، سواء الأسلحة النووية أو الأسلحة الأخرى، وهم غير مستعدّين للعمل على ملاحظة سلامة الأرض؛ وهذا ما لاحظناه أيضاً في الجدل القائم بين الولايات المتّحدة الأمريكية وعدد من الدول حول ظاهرة الاحتباس الحراري، حيث لا توافق واشنطن على توقيع اتفاقيّة تحدّ من خطر الاحتباس الحراري الذي يهدّد الإنسان كلّه.
وقد كان شعيب منسجماً مع القاعدة الإلهيّة التي لا تعترف بالحرّية إلا بالمقدار الذي يحقّق للإنسان مصلحته العامّة، وللحياة توازنها الدقيق؛ ولذا كان التشريع يسعى إلى تحقيق هذا التوازن عندما يقيّد أو يطلق أو يعطي الحرّية في ما يحلّل أو يحرّم.
وقد كان التطفيف نوعاً من الاستغلال الخبيث، والتعدّي على حقوق الناس، وسرقة أموالهم، ما يسبّب إخلالاً بالتوازن الذي تريد الأديان إقامته في حياة الناس لجهة العدالة في التعامل الذي يجعل المتعاملين متساوين في الأخذ والعطاء. وعلى هذا الأساس جاء تحريمه منعاً للفساد في الأرض.
الموقف الثابت:
وقد تحدّث شعيب إلى قومه بقوّة النبوّة المؤمنة بالحجّة اليقينيّة التي أوحى الله بها إليه، في تأكيد موقعه الرسالي ولطفه الواسع، وأكّد لهم التزامه الصلب بالرسالة التي أنزلها الله عليه، ورفضه لما يأخذون به من أسباب الفساد على أساس أنّه يريد الإصلاح حسب إمكاناته العمليّة، واثقاً بتوفيق الله له في مهمته. وقد حذّرهم من عذاب الله الذي أصاب الأمم السابقة التي كذّبت الأنبياء، وطلب منهم العودة إلى الله والتوبة من شركهم وتمرّدهم على الله.
أما ردّ فعلهم، فكان الادّعاء بأنّهم لا يفهمون منطقه في بعده الروحي والثقافي، لذلك فهم لا يملكون الدخول معه في أيّ نقاشٍ أو جدالٍ، أو تهديده بالقتل لولا قوّة عشيرته، لأنّه لا يملك في ذاته أيّ قوّة ذاتيّة يخافون من سطوتها... لقد أغلقوا باب الحوار.
وكان منطق شعيب في الردّ عليهم، أنّ قوّة الله هي أعظم وأعزّ من قوّة عشيرته، فعليهم أن يخافوا منه، لأنّ القوّة لله جميعاً. وإذا كانوا قد رفضوا الاستجابة لله في خطّ الرسالة، وجعلوه وراء ظهورهم، فإنّ ذلك لن يضعف من موقفه، بل سوف يتابع عمله، وسوف يرون كيف يأتيهم العذاب الذي يخزيهم.
وجاءهم العذاب، كما في قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾(1).
وهكذا توقّف عن دعوتهم بعد هذا الجهد الكبير الذي بذله في إبلاغهم الرسالة والنصيحة لهم ممّا لم يستجيبوا له في ذلك كلّه، لأنّهم لم يحرّكوا عقولهم في الاستماع إليه والحوار معه.
إنّه ـ مع كلّ عمقه الإنسانيّ ـ لم يأسف عليهم بعد إنزال العذاب بهم، لأنّهم لم يكونوا يستحقّون الأسف والحزن بعد تمرّدهم على الله في العقيدة والعمل، وقد كانوا ضدّ إرادة الحياة التي هي من إرادة الله، ولأنهم لم يخلصوا لأنفسهم ولا للناس بعد أن رفضوا الإخلاص لله.
وهكذا رأينا في هذه القصّة، كيف كان شعيب النبيّ الناصح الذي يشير على قومه بما يحقّق لهم النجاة، ويسير بهم في خطّ الصلاح والإصلاح، فلم يستجيبوا له. وتلك هي نهاية كلّ من يرفض الاسترشاد بالناصحين الذين يملكون الحقيقة، ويعبّرون عنها بمختلف الوسائل التي تخاطب العقل والوجدان. والحمد لله ربّ العالمين.






































    شورى النصيحة
    مشكلة الخيانة
    مسألة الزواج بغير المسلمات
    التحدي الداخلي































شورى النصيحة:
حديثنا في هذا اللقاء هو عن النبي نوحt في حواره مع قومه؛ وقد أشرنا فيما سبق إلى أن حوار الأنبياء مع قومهم هو حوار النصيحة التي تلتقي بالشورى، ولذلك فإنّ ما تحدّث به القرآن، وما تحدّثت به السنّة عن الشورى، يشمل هذا النوع من الحوار الذي كان يديره الأنبياء مع قومهم، لأنهم كانوا يشيرون عليهم بالنصح، وبما يقرّبهم إلى الله، وبما يحقّق لهم السعادة ويبعدهم عن المفاسد التي قد تلحق بهم نتيجة إصرارهم على عقائدهم وتقاليدهم الوثنية الباطلة.
ونوحt شخصية مميّزة في عالم الأنبياء، فهو أوّلاً الأب الثاني للبشرية، لأنّ آدم هو الأب الأول، وهو الذي تحدّث الله سبحانه وتعالى عنه في قوله: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ﴾(1). وهكذا أراد الله له عندما قدّر الطوفان، أن يجعل في السفينة من كلٍ زوجين اثنين من الحيوانات، لأنّ الطوفان كان يمثّل انعدام كل الأحياء في تلك المرحلة، وإلا ما كانت الحاجة إلى أن يأتي ومعه من كل زوجين اثنين؟!
وهناك نقطةٌ أخرى، وهي أنه لم يبلغ نبيٌ من العمر ما بلغه نوحt؛ فقد قال تعالى: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَاماً﴾(2)، ونستوحي من هذه الآية أنّه تجاوز تلك المدّة، لأنّ هذه المدّة كانت مع قومه، أما بعد مجيء الطوفان، فلم يتحدث الله لنا عن المدة التي قضاها بعد أن رست السفينة على الجودي، لأن من الممكن أن حياة نوحٍ قد استمرّت بعد ذلك مع المؤمنين معه من دون أيّ تعقيدات أو مشاكل، وربّما أنهى الله سبحانه وظيفته الرسالية بعد هذه التجربة الطويلة، وعاش طويلاً بعد الطوفان.
ثمّ إنّ الله سبحانه وتعالى تحدّث عن نوح بطريقةٍ دلّلت على أنّ موقعه هو في الدرجات العليا عند الله، فقال تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ في الآخِرِينَ* سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾، ونحن نعرف أن الله عندما يُطلق السلام على أحد أنبيائه بهذه الطريقة، فإنّه(1) يكون في المرتبة القريبة منه سبحانه وتعالى.
وتذكر كتب السيرة أن نوحاً هو أول نبي فتح باب التشريع، لأن الأنبياء منذ آدم، لم يأتوا بشريعة، لأنّ مهمتهم كانت الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى في العقيدة والعبادة، ورفض الوثنية، وربّما لم تكن هناك تعقيدات في الأجيال التي سبقت نوحاًt، بحيثُ كانت تحتاج إلى شريعة، بل كانت المسألة هي الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى ورفض الوثنية السائدة.
ويتحدّث أيضاً المفسّرون بأنّ نوحاًt هو أوّل من خاطب الناس بالعقل، ويمكننا أن نعرف ذلك عندما ندرس حواره مع قومه، وكيف كان يقدّم لهم الحجّة، ويطلب منهم أن يناقشوه وأن يقيموا البرهان على ما يعتقدونه، ولكنّ القوم كانوا لا يأخذون بأسباب العقل، بل كانوا يواجهونه بالسخرية تارةً، وبالقوة والتهديد أُخرى.
ونستطيع أن نعتبر النبيَّ نوحاًt هو النبي الذي ينتهي إليه دين التوحيد في العالم؛ فهو أوّل من أطلق الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى في العالم، لأنّه لم يكن هناك أنبياء ـ بالمعنى الحركي ـ قبله، سوى ما يُقال عن إدريسt.
مشكلة الخيانة:
وعندما ندرس حياته الخاصّة، فإنّنا نجد هناك مشكلتين كانتا تواجهان النبي نوحاًt في حياته العائلية.
المشكلة الأولى: خيانة زوجته له، وتتمثّل هذه المشكلة في أنّه تزوّج امرأةً من قومه كانت تلتزمُ الكفر، ولم تنفتح على رسالته التوحيديّة، بل يلوح من القُرآن الكريم أنّها كانت خائنةً له، ويقال ـ في هذا المجال ـ إنّها كانت تنقل إلى قومها من الكافرين بعض الأسرار التي كانت تحيط بحركة نوحٍ الرسالية، لتُعرّفهم بالأشخاص الذين آمنوا به، وكيف تحدّث معهم، وما هي توجّهاته وتطلّعاته. وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْن فَخَانَتَاهُمَا﴾، وليس المراد من الخيانة هنا الخيانة في العرض، بل كانت خيانة في الدين وفي الحقّ.
وقد ذكر المفسّرون أن الخيانة والنفاق يمثّلان معنىً واحداً، ولكن الخيانة تنطلق في مواجهة الأمانة، بينما ينطلق النفاق في مواجهة الإيمان. ﴿فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئَاً﴾(1)، بمعنى أن تكون المرأة زوجَ النبيّ ولا تكونُ مخلصةً لرسالته، فإن ذلك لا ينفعها ولا يجعلها قريبةً من رضوان الله ومن ثوابه، بل إنّها تُحاسب كما يُحاسب أي إنسانٍ آخر على كُفره وعلى معصيته، لأنه ـ كما ورد في الحديث ـ «ليس بين الله وبين أحد قرابة»(2)، ونحن نعرف أن الإسلام لم يجعل القيمة لأيّ شخصٍ لمجرّد انتسابه إلى نبيٍ، أو إلى أية شخصيةٍ من الأولياء والأئمّة، أو لوجود علاقةٍ سببيّة، بالزواج أو المصاهرة في ذلك.
وقد ورد في القرآن الكريم ما يشكّل قاعدةً في هذا المجال، وذلك قوله تعالى: ﴿ليْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾(1)، فلا يقولَنَّ أحدٌ أنا مسلم أو أنا نصرانيّ أو أنا يهوديّ، وأنّ الله سبحانه سوف يدخلني الجنة. إنّ هذه ليست سوى أمنيات لا واقع لها، لأنّ الله يحاسب الإنسان على ما يقوم به من عمل. وفي حديث الإمام عليّt: «إنّ أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به، ثمّ تلا:﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُـوا﴾(2). ثمّ قال: إنّ وليّ محمّد من أطاع الله وإن بعُدت لُحمته ـ أي نسبُه ـ وإنّ عدوّ محمّد من عصى الله وإن قرُبت قرابته»(3).
وقد ورد في الحديث عن رسول الله في نهاية حياته الشريفة، أنّه قال: «يا صفيّة بنت عبد المطّلب، يا عمّة رسول الله، ويا فاطمة بنت محمّد، اعملا، فإنّي لا أغني عنكما من الله شيئاً»(4).
ولذلك فالله يقول عن امرأتيْ نوح ولوط: ﴿فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾(5).
وقد يُتساءل: كيف تزوّج نوحt، وهو النبيّ الذي جاء برسالة التوحيد، من امرأةٍ لا تؤمن بالتوحيد، بل كانت تتبع الوثنية، ومن الطبيعي أن الإنسان المؤمن إذا كان في موقع الرسالة، فإنه لا يتزوّج إلا من تلتزم رسالته، وتؤمن بها وتنفتح على الخطّ المستقيم فيها؟
والجواب عن ذلك له وجهان:
الأوّل: أنّ نوحاًt في مرحلة زواجه لم يكن قد بُعث بالرسالة، ولم يكن يحمل الرسالة، ولم يكن في قومه أناس مؤمنون، وقد كان بحاجة إلى التزوّج، فتزوّج هذه المرأة التي بقيت متّبعةً لقومها ولم تتبع زوجها، بل كانت تتآمر عليه كما أشار القرآن الكريم، كما كانت امرأة لوط تتجسّس على زوجها لحساب قومها عندما كان يأتي إليه ضيوف حِسان الوجوه، فتدعو قومها إِلى أن يأتوا ويضغطوا على لوط من أجل ممارسة الشذوذ الجنسي المذكّر معهم، وهو اللواط.
الثاني: أنّ هناك بعض الظروف التي قد تحيط بالنبيّ تفرض عليه زيجاتٍ معيّنة، وهذه الظُروف قد تتعلّق بالجانب الشخصي عند النبي، في حاجاته الشخصيّة، أو قد تتّصل بالرسالة أو ببعض الجوانب الإنسانيّة؛ كما نلاحظ ذلك في الظُروف التي أحاطت بزيجات رسول الله محمّدw. ولذلك ليس هناك مشكلة في أن يتزوج الرسول من امرأة لا تنسجم مع الخطّ الرسالي الذي يتحرّك فيه.
مسألة الزواج بغير المسلمات:
وهنا نتعرّض لمسألة يُبتلى بها كثير من المؤمنين الذين يُهاجرون إلى الغرب، أو إلى البلاد غير الإسلاميّة، ويتزوّجون من غير المسلمات، اعتماداً على الفتـاوى المجيـزةللـزواج من الكتابيّـات، في الوقـت الـذي لا يجـوز ـ بإجماع المسلمين ـ الزواج من الكافرة غير الكتابيّة، كما لا يجوز زواج المسلمة من غير المسلم كذلك.
إنّنا نلاحظ في هذا المجال، أن الزواج من غير المسلمات ربّما يؤدّي إِلى نتائج سلبية على مستوى تربية الأولاد، لأنّ بعض النساء غير المسلمات يُربّين أولادهنّ المسلمين على أساس الالتزام بالمسيحيّة، ولاسيّما إذا كان الأب مشغولاً في عمله؛ فلا ينشأ الولد نشأةً إسلاميّةً، ويبتعد عن دين أبيه.
وأخطر ما في الزيجات التي تحصل في الغرب، أنّ القانون هناك يجعل حقّ حضانة الأولاد للأم، وليس للأب، من دون تحديد سنّ معيّنة؛ فإذا طلّق الرجل زوجته، فإنّ الزوجة هي التي تحتضن الأولاد حتّى يبلغوا السنّ القانونيّة، وربّما يُسمح للأب بأن يرى أولاده أو لا يُسمح له بذلك، بحسب التعقيدات القضائيّة التي يُمكن أن تنشأ من خلال دعوى الأم ـ مثلاً ـ أنّ الأب يسيء إلى أولاده، وتطلب حماية القانون في ذلك.
وما نحبّ أن نؤكّده في هذا المجال، أنّ الحياة الزوجية ترتكز على أساس التفاهم بين الرجل والمرأة، فعلى الرجل أن يختار امرأة تنسجم عقيدتها مع عقيدته، ومشاعرها مع مشاعره، والتزاماتها مع التزاماته، ونحن نقرأ قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ أي لتحصلوا على السكينة والطمأنينة ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(1)، وقد ورد عن النبيw: «إذا جاءكم من ترضون خلُقه ودينه فزوِّجوه، إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»(2).
ويروى أنّ رجلاً جاء إلى النبيّwيستأمره في النكاح، فقال له رسول اللهw: «إنكح، وعليك بذات الدين تربت يداك»(3). وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادقt: «إذا تزوّج الرجل المرأة لجمالها أو مالها وُكِّلَ إلى ذلك، وإذا تزوّجها لدينها، رزقه الله الجمال والمال»(4).
لذلك، فنحن نستوحي من قصة زواج النبي نوح t، أنه كان زواجاً اضطرارياً، لذلك على من يريد الزواج، أن يتزوّج بذات الدين ممن تلتزم الدين عقيدةً وعملاً في كل المجالات، والتي تُخلص لحياتها الزوجية ولأولادها.
التحدي الداخلي:
وهذه القصة التي يذكرها القرآن الكريم، تسلّط الضوء على ابن النبي نوحt الذي ربّته أمّه على أن يلتزم خطّ أخواله، لا خطّ أبيه؛ ولذلك لم يكن من المؤمنين، ولم يعش في الجوّ الإيماني الذي عاش به المؤمنون القلائل الذين آمنوا بنوحٍt. وأيضاً يروي لنا القُرآن الكريم طرفاً من حوار نوحٍ مع ولده عندما بدأ الطوفان في قوله تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِل﴾(1). ذكر في (مجمع البيان) أنّه كان «في قطعة من الأرض غير القطعة التي كان نوحٌ فيها حين ناداه. وقيل: معناه: أنه كان في ناحيةٍ من دين أبيه، بحيث إنه اعتزل دين أبيه، وكان نوحٌ يظنّ أنّه مسلمٌ، فلذلك دعاه.﴿يَا بُنَيَّ ارْكَب معَنَا﴾ في السفينة ﴿وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ﴾ لأنّهم سوف يغرقون جميعاً ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾ ولن أركب في السفينة، لأنّني لم ألتزم خطّك، وأنا لا أخافُ من الغرق، لأنّ الجبال أمامي ﴿قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أمْرِ اللهِ إلاّ مَنْ رَحِمَ﴾ لأنّ الطوفان سوف يرتفع إلى أعالي الجبال ويغمرها ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ﴾ وقطع حديثهما ـ ﴿فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾.
وتذكر الآيات اللاحقة نداء نوح لله سبحانه، والذي انطلق من عاطفته الأبويّة، وكأنّه خُيّل إليه أنّ ولده سوف ينجو معه، لأنّ اللهَ كان قد قال له: ﴿حَتّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَن﴾(2)، لذا جاء في الآيات اللاحقة: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ﴾ فقد وعدتني أن تنجي أهلي. ونوحٌt لم يكن في مقام الاعتراض على الله، ولكنّه في مقام الاستفهام عن تفسير ذلك ﴿وَأنْتَ أحْكَمُ الْحَاكِمِينَ* قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك﴾ لأنّ أهلك هم المؤمنون برسالتك، وهم التابعون لك، والموحّدون لله، والذين يعملون الصالحات التي أمر الله بها، أمّا ولدك فلم يكن موحداً، ولم يكن ممّن يعمل الصالحات، ولم يكن مؤمناً بك في خطّ الرسالة، بل كان كأخواله وأمّه، ينكر رسالتك ويبتعد عنك ﴿إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح﴾(1).
وهذه الفقرة تعطينا فكرةً، وهي أنّه بسبب انتشار الأحزاب والاتجاهات القائمة على الإلحاد ومضادّة الدين، ممّا لا يجوز الانتماء إليه ولو على أساسٍ سياسيّ، قد يكون للإنسان المؤمن أولاد يكفرون بالله ويتمرّدون عليه ويحاربونه ويعصونه ويحاربون المؤمنين والمسلمين ويستحلّون دماءهم، فعليه أن يعتبر أنّ هذا ليس ابناً له بالمعنى الإيماني والإسلامي، وإنما هو شخصٌ ينتسب إليه. لكن تبقى العاطفة الإنسانيّة التي ينبغي أن تتحرّك في الاتجاه الذي يُحاول أن يجتذب هذا الولد إلى الإسلام والاستقامة.
ويبقى هناك سؤال، وهو كيف يطلب نوحٌt من الله أن ينجي ابنه، وقد أشار إليه أنْ ليس كلّ أهله سينجون من خلال قوله: ﴿إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ﴾؟
يرى بعضُ المفسّرين أنّ نوحاًt كان لا يعلم كفر ولده، لأنّ ولده كان يُبطن الكفر ولا يظهره لأبيه. ويرى البعض الآخر أنّه كان يعرف بكفره، وهو ما يمكن أن نستوحيه من موقفه المتمرّد على أبيه، وعدم ركوبه السفينة مع المؤمنين، حيث كان يقول له: ﴿ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾، ما يشير إلى أنّ نوحاًt كان يعتبره مع الكافرين، وإنّما كان يطلب منه أن يركب، فينتقل من الكُفر إلى الإيمان.
ولذلك نحن نتصوّر أنّ نوحاً لم يلتفت إِلى قوله: ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾. كما أنّ الظاهر من نداء نوحٍ، حيث يقول: ﴿إنَّ ابْنِي مِنْ أهْلِي وَإنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ﴾، أنّه في مقام تطبيق وعد الله حين قال له: ﴿وَأهْلَكَ﴾ على ابنه. وهذا التوجيه أقوى من القول بأنّه كان لا يعلم بأنّ ولده يُبطن الكُفر، لأنّ هذا يصلح مبرّراً لحوار نوحٍ مع ابنه، ولا يبرّر نداءه لربّه في سبب عدم إنجاء ابنه.
وعلى كلّ حال، فليس هناك مانع عقليّ من أن لا يلتفت نوحٌt إلى القيد الذي ذكره الله له بالنسبة إلى أهله، كما أنّ هذه المسألة لا تتنافى مع عصمة النبيّw، ولاسيّما أنّ هذا ليس في مقام التبليغ حتّى يُشكل بأنّ العقل يؤكّد العصمة في التبليغ.
ثم إن الله سبحانه وتعالى يتوجّه إلى نبيّه نوحٍ t بأسلوبٍ يشبه التهديد، ولكنّه ليس تهديداً، لأن نوحاً من الصالحين والمحسنين، ومن أنبياء الله: ﴿فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي لا تطلب مني شيئاً لا تعرف الحكمة فيما قضيته فيه. ﴿إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾(1)، فتنفتح على الجانب العاطفي من شخصيتك في علاقتك بولدك، لأن الذين ينطلقون بالعاطفة هم الجاهلون، وأنت من أهل العلم ومن دُعاة العلم.
وهنا أدرك نوحٌ طبيعة المسألة ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾، فلم أكن في موقف المعترض، بل في موقف المستفهم: ﴿وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾(2). وهكذا انفتح الله على نوح ورفع درجته وكرّمه. والحمد لله رب العالمين.


























    الإنذار الإلهي
    معالم نبويّة
    نتائج الالتزام
    التجربة المريرة
    العناد المطلق































الإنذار الإلهي:
لا يزال الحديث عن نبيّ الله نوحt الذي يتميّز عن غيره من الأنبياء ببعض الخصائص، التي تحدّث عنها الله تعالى في كتابه الكريم،كما تحدّث عن بعض تفاصيل تجربته مع قومه في السورة التي سمّيت باسمه، وهو ما نحاول التعرّض له بشيء من التفصيل في ما يلي.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: ﴿إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(1). لقد كانت مهمّته أن يحذّرهم من عذابِ الله سبحانه وتعالى إذا استمروا على وثنيّتهم وإنكارهم للتوحيد، وعلى تمرّدهم على الرسالة أو الرسالات بشكلٍ عام؛ باعتبار أن تاريخ المجتمعات التي سبقت نوحاًt، كان تاريخاً وثنياً لا تعيش مجتمعاته الإيمان بالله الواحد، بل كانت تؤمن بالأصنام التي ورثوها عن آبائهم أو التي صنعوها بأنفسهم كما سيأتي في آخر السورة.
وكان الخطاب الإلهيّ لنوحt بأن يكون خطابه لقومه تحذيرياً وإنذارياً، باعتبار أنّ مسألة الإنذار في منطق الرسالات السماوية يلتقي بالفطرة الإنسانية، فالإنسان ـ بحسب فطرته ـ يحذر مما يخيفه ويؤدّي به إِلى العذاب والهلاك؛ لأنّ الإنسان بحسب تركيبته النفسية، يحب الخير لنفسه ولا يقبل الشر لها، مهما كانت الظروف. ولذلك أرادت الرسالات ـ في ما أوحى الله به إلى رسله وكلّف أنبياءه تبليغه ـ أن تمثّل الصدمة لمشاعرهم وأحاسيسهم، ولما يشعرون به من الأمان، والاسترخاء في كل أوضاعهم.
ولذلك كان العنوان الكبير الذي أوحى به الله سبحانه وتعالى إلى نوحt، أن يبدأ حديثه مع قومه بالقول: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذيرٌ مُّبِينٌ﴾(1)، فأنا من موقع اهتمامي بسلامتكم، وحرصي على مستقبلكم، أنذركم لتفكّروا في مضمون هذا الإنذار؛ فهذا الإنذار هو إنذار إلهي وليس إنذاراً شخصياً حتى تستهينوا به باعتبار أني شخص مثلكم لا أملك قوّة أكثر مما تملكون، ولكنّني أنذركم من عقاب الله سبحانه وتعالى الذي ينـزله على الجاحدين بربوبيته وتوحيده، والمنحرفين عن عبادته، بعد قيام الحجّة الواضحة التي لا غموض فيها ولا ضعف في دليلها.
معالم نبويّة:
ثم طرح عليهم ثلاثة عناوين رساليّة:
العنوان الأوّل:﴿أن اعْبُدُوا اللهَ﴾(2)، فهو يدعوهم إلى أن يتركوا عبادة الأوثان، لأنّ الأوثان لا تمثّل أي معنىً يجعلها في مواقع العبادة، وليس فيها أي سرّ إلهيٍ يجعلها ترتفع إِلى مستوى الألوهية، أو إِلى مستوى القرب من الألوهية بحسب عقيدة المشركين ممّا بيّنه قوله تعالى: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾(3). فهو يدعوهم إلى العبادة الخالصة لله، بما تمثّله العبادة من الخضوع المطلق له، بحيث يكونون بكل وجودهم العملي، خاضعين له، ممتثلين لإرادته، وأن يعيشوا معنى العبودية في عقولهم وقلوبهم وفي كل حياتهم، بحيث يختزنون في أنفسهم معنى الألوهية والربوبية، لأن ذلك يؤكد معنى التوحيد في العبادة، والذي ينطلق من التوحيد في الربوبية.
العنوان الثاني:﴿وَاتَّقُوهُ﴾(1)؛ والتقوى في مضمونها الفكري والعملي، هي عبارة عن الحالة العقلية العملية الشعورية التي تراقب الله كحقيقة تفرض نفسها على الجانب العقلي للإنسان، فيعيش في عقله عظمة الله التي تتحوّل إلى أداة للمراقبة الذاتية، باعتبار أن ذلك يكون أساساً للمراقبة المسؤولة التي تقود إلى السلوك المستقيم، أو باعتبار ما تثيره من حالة شعورية إنسانية تزحف إلى وجدانِ الإنسان، فتهزّ فيه الإحساس بالخوف الشعوري من عقاب الله، حتّى يتحوّل ذلك إلى موقفٍ للطاعة في حركته بالاتجاه العملي.
العنوان الثالث:﴿وَأَطِيعُونِ﴾، ولكن ليس من موقع العلاقة الذاتية به، فتكون المسألة من قبيل إطاعة الإنسان لإنسانٍ آخر يحترمه أو يعظّمه، بل أن يطيعوه باعتبار أنّه الرسول القائد الذي يقود خطاهم في الخطّ المستقيم، في ما يمكن أن يبلّغه من الأوامر والنواهي التي أراد الله له أن يبلّغها، على أساس قوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه﴾(2)؛ لأنّ الرسول لا ينطق من خلال ذاتيّاته، ولكنّه ينطق من خلال وحي الله له وتكليفه له؛ وبذلك فإن الدعوة الثالثة هي أن يطيعوه في ما يوحي الله به إليه، وفي ما يحمّلهم الله من المسؤوليّات، وفي ما يدرّبهم عليه من وسائل الطاعة.
وهذه الدعوة، بعناوينها الثلاثة، هي دعوة كلّ نبيّ، فالأنبياء جميعاً يدعون أممهم إلى عبادة الله الواحد التي تختزن التوحيد في الربوبية، وإلى التقوى، وإلى طاعة الرسول في الالتزام بالأوامر والنواهي التي يبلّغهم إياها من خلال وحي الله له.
نتائج الالتزام:
ثمّ يبيّن لهم نوحt نتائج التزامهم بما دعاهم إليه بقوله تعالى: ﴿يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾(1)، فالله لم يُغلق على الناس باب المغفرة، ولم يبعد أي إنسان عن مواقع القرب إليه، حتّى لو كان كافراً ثمّ تراجع عن كفره إلى خط الإيمان، لأن الإيمان في خطّ العمل، يهيِّىء للغفران الإلهي الذي يناله المؤمنون بالله والعاملون في خطّ طاعته، فلا يبقى للماضي الأسود أيّ تأثيرٍ على مصيرهم المستقبلي في رحمة الله.
ومن هنا، كانت القاعدة الإسلامية للذين كانوا كفرة ومشركين ومارسوا الكثير من الأعمال التي يبغضها الله، بأنّ «الإسْلامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَه»، فلا يحاسَب الإنسانُ بعد أن ينتقل من الكفر إلى الإسلام على ما أسلف من المعاصي والسيئات، ﴿وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، فهو لا يُلغي وجودكم، بل يمهلكم إلى الأجل الطبيعي الذي جعله الله سبحانه وتعالى للإنسان، ﴿إنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُون﴾؛ لأن الله فرض للإنسان أجلاً مسمى. وربما يحصل هناك الهلاك قبل الأجل المسمّى الذي يمثّل العمر الذي فرضه الله سبحانه وتعالى في طبيعة الوجود الإنساني، والمتعلّق بقابلية الجسد للحياة لمدّة معينة.
وقد ورد أنّ هناك نوعين من الأجل: الأجل المحتوم، والأجل المخروم، وهو الأجل الذي يأتي معه الموت من خلال بعض الأحداث التي تحدث للإنسان، بحيث تكون طبيعة الجسد قابلة لأن يعيش الإنسان عمراً أطول، ولكنّ هذا الحادث الذي قد يتمثّل بالقيام ببعض الأعمال السيّئة التي ورد أنّها تقصّر العمر، كقطيعة الرحم، تؤدّي إلى انخرام هذا الأجل.
هذه هي العناوين التي بلّغها نوح لقومه وأراد لهم أن يطبّقوها، لأن نوحاً، كأنبياء الله الآخرين، عندما كانوا يبلّغون الناس، كانوا يحاولون إقناعهم بالحجّة والبرهان الذي يدخل إلى العقل وينفتح على القلب.
التجربة المريرة:
ثم تبدأ السورة بعد ذلك، في التقرير الذي قدّمه نوحt إلى ربّه، في تجربته المريرة الطويلة معهم، والتي عاش معها الآلام النفسية تجاه مواقفهم: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً﴾(1)، فلم تشغلني مشاغل النهار ولا الليل عن الدعوة إليك، لأنني أعتبر مسألة الرسالة مسألة حيوية تفرض على الرسول أن يبلّغها ويحرّكها في حياة الناس لحظةً بلحظة، من خلال مراقبته للأوضاع التي يعيشونها، في نقاط ضعفهم وقوّتهم، ليستفيد من أية حالةٍ عميقة أو طارئة في استجابتهم أو في عدم استجابتهم، في سبيل الوصول إلى قناعات الناس الفكرية والروحية التي تتغيّر وتتبدّل تبعاً لما يحيط بها من أوضاع، ولما تحفل به حياتهم من متغيّرات، لأن الإنسان قد يكون مؤمناً صباحاً ويمسي كافراً أو العكس، فالله سبحانه وتعالى خلقه شخصيةً متحرِّكةً، تتأثّر بالكلمة وبالحركة، وقد تتأثّر باللمسة، وقد تتأثّر بالبلاء، وقد تتأثّر بالرخاء.
لذلك، كان من مهمّة الداعية أن يلاحق أوضاع الناس، وأن يتعرّف لماذا قبلوا أو رفضوا، أو لماذا قبل البعض ورفض البعض الآخر، وهل إن أسلوبه في إبلاغهم كان هو الأسلوب الأفضل الذي يُدخل الفكرة إلى عقولهم، أو أنّ هناك قصوراً في الأسلوب. وهكذا، لا بدّ للرسول أو الداعية من أن يعيش حال ملاحقة دائمة ورصدٍ دقيق لحركة الناس اليومية، فلعل ذلك الإصرار الصادر من نوحt على التبليغ ليلاً ونهاراً يحقّق شيئاً من التقدم في قناعاتهم. وقد شاع في هذا المجال المثل المعروف: «من طرق الباب ولجَّ ولج»، لأنّ الإلحاح في طرق الباب لا بدّ من أن يؤدّي إلى فتحه في نهاية المطاف.
العناد المطلق:
ولكن قوم نوح كانوا بعيدين عن ذلك، لأنهم قرّروا الرفض الحاسم للرسالة والرسول، فأغلقوا آذانهم عن السماع، وعقولهم عن التفكير، وألسنتهم عن الحوار، وهذا ما عبَّر عنه نوح: ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَاراً﴾(1)، فبالرغم من دعوتي المستمرة لهم ليلاً ونهاراً، إلاّ أنّهم لم يقتربوا مني ولا من رسالتي.
ونحن هنا نريد أن نفهم لماذا كان كلّ هذا الفرار، وهذا الهروب من دعوة نوحt؟
ربّما يفسّر موقفهم بأنّهم كانوا يخافون من أن تدخل رسالته في عقولهم، فيضطرون إِلى الإيمانِ بها؛ وذلك لأنّ الحجّة البالغة تفرض نفسها على التفكير، وتأخذ بمجامع الشعور والوجدان، فلا يصمد الإنسان إذا سمعها إلا أن يصدّق بها، في الوقت الذي يُبعده عدم الاستماع إليه عن السقوط تحت تأثير قوّة الفكرة وحلاوة الأسلوب.
وربّما كان الفرار كنايةً عن الابتعاد عنه، بحيث لا يجتمعون حوله، ولا يريدون أن يسمعوا منه، على طريقة ما كان يصنعه مشركو قريش مع النبيw، ممّا قصّه القرآن في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لهَذَا الْقُرْآن وَالْغَوْا فيه لعلّكم تَغْلِبُونَ﴾(2)، فعندما كان النبيw يأتي ليبلِّغهم القرآن، كان الواحد منهم يوصي الآخرين بأن لا يستمعوا لهذا القرآن وأن يغلقوا آذانهم عنه، وأن يرفعوا أصواتهم حتى لا يسمعوا شيئاً منه، وأن يلغوا فيه. فربّما كان هؤلاء لا يريدون أن يواجهوا نوحاًt بالطريقة الإنسانية التي تلتقي مع الإنسان الآخر الذي يملك فكراً ويملك دعوة.
﴿وَإنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ﴾(1)، أي للأخذ بالرسالة والإيمان بها، ﴿جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ﴾، حتى لا يسمعوا دعوتي ولا يؤمنوا برسالتي ولا بما أقدّمه لهم من حجج وبراهين، ﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ أي غطّوا وجوههم بثيابهم، ليتفادوا رؤية الرسول الذي يمثّل الخطر القادم على أفكارهم، وعلى كل الواقع الذي يحرسونه، ﴿وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً﴾، باعتبار أن الكثير من حالات الكفر والإصرار على الرأي المضاد، ينطلق من الاستكبار الذي يمنع الإنسان من أن يخضع للحق.
وقد لا يكون الكثير من حالات الكفر ناشئاً من وجود شبهةٍ عند الكافر، أو نتيجة اعتقاده بفكرة مضادة، بل قد يكون ذلك من خلال حال الكبرياء التي تعيش في كيانه، فيرفض أن يتخلى عن تفكيره لشخصٍ آخر، لأنه يعتبر ذلك تنازلاً. وقد قال تعالى في آية أخرى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أنْفُسُهُمْ ظُلْمَاً وَعُلُوّاً﴾(2)، بحيث كانوا مقتنعين بما يقدّم إليهم من الآيات والدلائل والبراهين، ولكنّهم كفروا وجحدوا انطلاقاً من التعقيدات التي يعيشونها، من خلال ظلمهم واستكبارهم وعتوّهم.
فقد كان قوم نوحٍ يعيشون الاستكبار في أنفسهم الذي يمنعهم من الاستجابة لدعوة نوحt، ولاسيّما أنّ هؤلاء كانوا يعيّرون نوحاًt بأتباعه الضعفاء الذين لا يملكون مالاً ولا موقعاً اجتماعيّاً، في الوقت الذي يملك هؤلاء المستكبرون الغنى والموقع، وهذا ما يوحي به قوله تعالى: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلا الَّذِينَ هُمْ أرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾(1)؛ لأن الحالة النفسية قد تترك تأثيراتها الضاغطة على واقع الناس الفكري والعملي، باعتبار أن الإنسان يخضع في نشاطاته الداخلية والخارجية للعوامل النفسية المعاصرة.
﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً﴾(2)، فقد وقفت في الساحات، وأطلقت دعوتي، وبيّنت رسالتي أمام الناس، وأقمت البراهين والحجج. ﴿ثُمَّ إنِّي أعْلَنْتُ لَهُمْ﴾(3)، بالطريقة العلنية التي تملك الوضوح في الحياة العامة ﴿وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً﴾، لأنّ بعضهم ربّما يتعقّد من الحضور في المواقع العلنيّة مع الناس، ويعتبر أنّ موقعه يفرض الحديث معه في شكلٍ خاص.
وللحديث تتمّة إنشاء الله، والحمد لله ربّ العالمين.
































    الاستغفار منهج حياة
    الاستغفار في الإسلام
    الاستغفار منهج للبناء
    توقير الخالق
































لا يزال الحديث يتمحور حول التقرير الذي قدّمه نوحt إلى الله تعالى. وكنّا قد بينَّا كيف استعملt مع قومه كلّ الأساليب الممكنة والمتنوّعة، التي تنفتح على اختلاف عناصر التأثّر لدى هذا الإنسان أو ذاك، فدعا الناس جهراً وسرّاً، جماعاتٍ ووحداناً، ليلاً ونهاراً...
الاستغفار منهج حياة:
ومن الأساليب التي اتّبعهاt مع قومه، دعوته لهم إلى الاستغفار كنهج في طريق الإيمان الصحيح، ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفرُوا رَبَّكُمْ﴾، فهوt يدعوهم إلى أن يتراجعوا عن الشرك الذي يمثِّل خطيئةً من أكبر الخطايا، لأنه يتناول أساس الإيمان الذي يرتكز على التوحيد؛ توحيد الله في الربوبية، وفي العبادة، وفي الطاعة، ولذلك عندما اختاروا عبادة الأوثان وأخذوا بالشرك، واجهوا غضب الله سبحانه وتعالى، وعرّضوا أنفسهم لعقابه، فدعاهم نوحt إلى أن يتراجعوا عن هذه الخطيئة الكبرى بالاستغفار، باعتبار أنّ طلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى يمثِّل الانتقال من الشرك إلى الإيمان والتوحيد، والتوبة إلى الله من كل ما أسلفوه من الخطايا والذنوب.
﴿إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً﴾(1) ، ولأنّ الله هو الرحمن الرحيم الغفّار، فقد يمنح عباده الفرصة للرجوع إليه، ويدعوهم إلى الاستجابة له والرجوع إلى الحقّ الذي يكفل لهم رحمة الله وغفرانه ورضوانه؛ لأن الاستغفار ليس مسألة كلمة يتلفّظ بها الإنسان، بل هي مسألة موقف ثابت وحاسم ومنهج يشمل الحياة كلّها. فبين الشرك والتوحيد مسافةٌ واسعةٌ تتّسع لكل أفكار الإنسان وأفعاله وأقواله؛ فللمشركين طريقتهم في التفكير وفي العمل وفي القول، وللموحّدين طريقتهم التي تختلف عن أولئك؛ فالموحدون لا يرون إلا الله، بينما المشركون يحدّقون في أوثانهم وأصنامهم بالطريقة التي تتحجّر فيها عقولهم، فلا يجدون في خطّ شركهم أيّ قيمة روحية أو إنسانية أو أخلاقية، لأنّ هذه الأوثان لا تمثّل شيئاً ولا تدرك شيئاً. أما الله الواحد، فهو الذي يمثّل الروح كل الروح، والقيمة كل القيمة، والنجاح كل النجاح.
إذاً، فالمقصود في قول نوحt﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً﴾ هو الاستغفار من الذنب الذي يؤدّي إلى الكفر أو الشرك وما يتفرّع منهما على صعيد الأعمال التي تبتعد بالإنسان عن مواقع رضا الله. والاستغفار يمثّل وسيلة من الوسائل التي يتحرّر فيها الإنسان من الخطيئة، بحيث يُزيل الخطيئة من كل حياته، وينفتح على الله سبحانه وتعالى في الاعتراف بالذنب والابتهال إليه في أن يمحو عنه كل ذنوبه.
الاستغفار في الإسلام:
وقد تحدّث القرآن الكريم عن الاستغفار ونتائجه الإيجابية في أكثر من آية، منها قوله تعالى: ﴿وَالَّذينَ إذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ﴾(1)، أياً كانت الفاحشة، وأياً كان ظُلمُ النفس، سواء كان في الجانب العقيدي؛ في الكفر أو الشرك، أو في الجانب العملي؛ بالمعصية العملية فيما يقوم به الإنسان من قول أو فعل أو في علاقة مع الآخرين، ﴿ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ﴾، أي أنّهم يشعرون بأنهم أساؤوا إِلى الله وتمردوا عليه وعرّضوا أنفسهم لعقابه، ما يدفعهم إلى الاستغفار، ﴿وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ﴾. وقد ورد في آية أخرى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَاً إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(1). وهذه الآية تؤكّد أنّ الإنسان إذا استغفر ربّه فإنّ الله سيغفر له، ﴿وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(2)، في حال كانت المعصية بالنسبة إليهم حالة طارئة، ولم تكن حالة متجذّرة في الوجدان والعقل والإحساس والشعور.
ولكن ما هو جزاؤهم من هذا الاستغفار؟ ﴿أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾(3).
وفي آية أُخرى يقول الله تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾(4)، فالله سبحانه وتعالى يتقبّل الاستغفار من عبده التائب إليه، والنادم على ما فرّط في جنبه، وليس الأمر كما قد يُتصوّر، أنّ الله سبحانه ينتظر العبد ليعصي حتّى يأخذه بالعذاب، بل إنّ رحمته وسعت كلّ شيء، وسبقت غضبَه، وهو الحليم الذي يُمهل عباده، ويفتح لهم السبل ليعودوا إليه، وهو الحنّان الذي يفيض حناناً ورأفةً على عباده.
وفي الحديث عن رسول اللهw أنّه قال: «خير الدعاء الاستغفار»، أي إذا أردت أن تدعو ربّك وتتقرّب إليه، فاستغفره من كل ذنوبك، لأن الاستغفار يمحو كلّ ذنوبك، فيُزيل الحواجز التي تفصل بينك وبين الله سبحانه. وقد ورد في دعاء السحر المرويّ عن الإمام زين العابدينt: «وأنّك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الأعمال دونك».
وفي حديث آخر يقولw: «خير العبادة الاستغفار»، لأنّ العبادة هي غاية الخضوع التي تحقّق القُرب من الله تعالى، فإذا كانت ذنوبك تشدّك إلى الأرض، فعليك أن تتخفّف منها، وأن تحرّر نفسك من كل ما علق بها من الخطايا، وأن ترتفع بروحك إِلى الله سبحانه وتعالى؛ لتطلب منه المغفرة والرحمة.
وفي حديث آخر عن رسول اللهw يقول: «أكثروا من الاستغفار، فإنّ الله لم يعلِّمكم الاستغفار إلا وهو يريد أن يغفر لكم»(1)؛ فإنّ الله برحمته الواسعة قد فتح لعباده باب التوبة، وأراد لهم أن يستغفروه بنيّة مخلصة، تندم على ما أسلفت، وتعزم على ترك الذنوب، ووعدهم بأن يغفر لهم. وربّما كان الحثّ على الإكثار من الاستغفار، ليؤكّد العبد صدق نيّته أمام الله، لأنّ غفران الذنوب مشروط بذلك.
وفي حديثٍ آخر عن رسول اللهw: «من أكثر الاستغفار جعل الله له من كلِ همٍّ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً»(2)، لأنّ العبد إذا تقرّب من الله، تلقّاه الله بلطف عنايته التي تفيض عليه سلاماً وسعةً في الحياة.
وعن الإمام عليt أنّه قال: «الاستغفار يمحو الأوزار»(3)، والوزر هو الحمل الثقيل، وقد شبّه الذنب بالوزر لأنّه يشكّل ثقلاً على وجدان المؤمن وإيمانه، أو من خلال النتائج التي تترتّب على ارتكاب الذنب في الآخرة، وقالt أيضاً: «من أُعطي الاستغفار لم يُحرم المغفرة»(4)؛ لأنّ الله ربط بين مغفرته والاستغفار.
الاستغفار منهج للبناء:
وقد ربط القرآن الكريم ـ وورد في ذلك كثير من الأحاديث ـ بين الاستغفار واستمرار النعم، وبين عدم الاستغفار وزوال النعم، أو نزول العذاب.
قال تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾(1)، فالله سبحانه يربط استمرار نعمه على الإنسان بتحقيق الاستغفار الذي يؤدّي إلى التغيير نحو الأحسن في الحياة، وإلا فإنّ عذاب الله سبحانه قد يكون عقاباً بسبب الاستمرار في المعصية والابتعاد عنه تعالى.
وقد ورد عن النبيw في هذا المجال أيضاً: «من أنعم الله عليه بنعمةٍ فليحمد الله تعالى، ومن استبطأ الرزق فليستغفر الله، ومن أحزنه أمرٌ فليقل: لا حول ولا قوة إلا بالله»(2). وقد نفهم هذا الحديث من خلال الآيات والأحاديث التي ربطت بين استمرار النعم وبين شكرها من خلال أداء حقّ الله تعالى فيها، كما في قوله تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾(3).
وقد ربط نوحt في دعوته بين الاستغفار، الذي ينطلق من الإيمان، وبين زيادة النِّعم عليهم من قِبَل الله تعالى في الدنيا قبل الآخرة، فقال لهم: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً﴾(4)، لأنّ الله سبحانه وتعالى إذا رضي عنكم، فإنه يرحمكم ويفيض نعمه عليكم مما تحتاجونه في حياتكم. والمقصود بقوله: ﴿مِّدْرَاراً﴾ المطر الغزير من السحاب المرتفع، ولعلّ في هذا دلالةً على قيمة ما يحصلون عليه من الزرع وكل الذي يحتاجونه في حياتهم وحياة أنعامهم، وهو ما تشير إليه الآيات اللاحقة.
﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾(1)، من الذي أعطاكم كل هذه الأموال التي تتنعَّمون بها؟ ومن الذي سهّل لكم الوسائل التي تمكّنكم من أن تجنوا المال؛ من خلال ما أعطاكم من عقل يدلّكم على مواضع الرزق، ومن جوارح تستعينون بها لتحصيل هذا الرزق، ومن موارد تستخرجونها، ومن تجارب تحرِّكونها في ذلك...
ومن الذي رزقكم أولادكم؟ من الذي جعل في النطفة سرّ الخلق وسرّ النّمو وسرّ الحياة؟ إنّ الله هو مصدر الرزق الذي تحصلون عليه، وهو مصدر الخلق فيما تحصلون عليه من بنين وحفدة... ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ﴾ وهي البساتين التي أعطاكم الله القدرة على زراعتها واستثمارها لتحصلوا منها على الفواكه والثّمار، ممّا تحتاجونه لحياتكم وحياة حيواناتكم، ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً﴾، من خلال الينابيع التي اختزنها الله سبحانه وتعالى في أعماق الأرض من خلال المطر.
وهكذا كانت دعوةُ نوحٍ لقومه بالاستغفار، تمهيداً لبناء علاقة صحيحة لهم مع الله، بعدما ابتعدوا عنه من خلال استغراقهم بالأوثان التي صنعوها بأيديهم، لأنّهم كانوا غافلين عن توحيد الله، وأنّه وليّ كل نعمة وصاحب كل حسنة، وأنه ما من نعمة إلا منه سبحانه وتعالى، فإنهم كانوا يواجهون النعم التي يفيضها الله عليهم مواجهةً غير واعية.
لذلك فإنّ الربط بين الاستغفار وبين النعم، ناشئ من أنّ الإيمان الخالص يجعل الإنسان موضع رحمة الله فيما ينـزله عليه من ألطافه وفيوضاته، كما أنّ الانحراف عن طاعة الله قد يجعل القضية في دائرة البلاء الذي يقلّل من نعم الله سبحانه وتعالى، ويؤدّي إلى فساد الواقع في حياة الإنسان. ولذلك فإنّ نوحاًt ربّما كان يريد أن يثير في نفوس قومه قيمة العلاقة بالله والإيمان به وآثار هذه العلاقة، وذلك في حياتهم العامة على مستوى تلبية النعم التي يحتاجونها من الدنيا، بحيث لا تكون المسألة لديهم أنّهم يحصلون من خلال إيمانهم على نعيم الآخرة فحسب، بل يحصلون أيضاً على نعيم الدنيا إلى جانبها.
وربّما كان الأساس في ذلك، هو الإيحاء لهؤلاء الناس الكافرين بأنّ الله وحده هو المهيمن على الكون كلّه فيما يشتمل عليه من الظواهر المتصلة بالحياة الإنسانية، ليرتبطوا به من موقع النعمة كما يرتبطون به من موقع العظمة. وهذا ما أشار القرآن إليه بالربط بين الإيمان العملي الحركي الذي يعبر عنه بالتقوى، وبين النعم التي يفيضها الله على الناس، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْض﴾(1). وهكذا نقرأ: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيم* وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾(2). وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾(3). أمّا في الجانب السلبي، فيتحدّث الله عن النتائج السلبية التي يعيشها الناس من خلال أعمالهم وذلك كقوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(4)، بمعنى أنّ الفساد الذي يواجهه الناس في حياتهم، إنّما هو نتيجة للأعمال السيّئة التي يمارسونها، والطريقة التي يتحرّكون من خلالها في التعامل مع النعم التي أنعم الله بها عليهم.
توقير الخالق:
ثم يتابع النبي نوحt دعوته إلى التفكّر في عظمة الله سبحانه: ﴿مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾(1)، أي لماذا لا تلتزمون مواقع عظمة الله سبحانه وتعالى، في ما يفرضه عليكم من توقير لمقامه، بالإيمان به والالتزام بأوامره ونواهيه، ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾(2)، ربّما يراد بذلك بيان التدرّج في وجود الإنسان، كما قال تعالى: ﴿فَإنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ترابٍ ثمّ من نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ في الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً﴾(3). وربّما يكون المقصود بالأطوار الأنواع، أيّ التنوّع الإنساني من ناحية طبيعة اللون أو العرق أو اللسان، أو من جهة طبيعة الطاقات التي تختلف بين إنسان وآخر، أو بين فئة وأخرى.
ثمّ يلفتهم نوحt ليفكّروا في خلق السماوات والأرض، فيقول: ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً﴾(4)، أي بعضها فوق بعض، أو أنّ المراد بذلك التماثل، ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً﴾، وهو الضوء الهادئ في الليل، ﴿وَجَعَل الشَّمْسَ سِرَاجاً﴾(5) تضيء الأجرام، وتمنح الأرض إشراقة النهار، وتمدّها بالحرارة. وإنّما عبّر عن القمر بأنّه نور، وعن الشمس بأنّها سراج، ليشير بذلك إلى أنّ القمر لا يختزن النور في ذاته، وإنّما يستمدّه من الشمس، بينما الشمس تُنتج الضياء كما يُنتجه السراج، فهي بذلك تشكّل المصدر له، والله العالم.
﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً﴾(1)، وهنا يرد تفسيران: الأوّل، أنّ الآية تشير إلى خلق آدم، كما يذكره قوله تعالى: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ﴾(2)، حيث خلقه الله تعالى من الأرض بشكلٍ مُباشر، والناس كلّهم من آدم، وآدم من تراب، فكأنّهم أُنبِتوا من الأرض بشكل غير مباشر.
والتفسير الثاني، أنّ الإنسان يولد من النطفة، والنطفة تتكوّن من الغذاء، والغذاء الذي يأكله الإنسان مستخرج من الأرض بشكل مباشر، أو من خلال الحيوان الذي يأكل النبات فيأكله الإنسان...
﴿ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً﴾(3)، في يوم القيامة، حيث يبعث الله الخلائق أجمعين، ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً﴾(4)، ترتاحون إليه، وتنامون عليه وما إلى ذلك ﴿لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً﴾(5)، أي طرقات ﴿فجَاجاً﴾ أي واسعةً.
وهكذا نجد أنّ نوحاًt كان يحاول أن يستثير في قومه عناصر التفكير في أنفسهم وما حولهم، ممّا يُمكن أن ينفتح بهم على آفاق الإيمان، فلا ينظروا إلى آيات الله في الكون نظر الذي لا يعقل شيئاً ممّا يرى، ولا يبحث عن أسرار ما يُشاهد، وأسرار القوانين التي يتحرّك من خلالها الكون كلّه.
وقد كان من وظيفة هذه الآيات، أن توجّه الإنسان إلى السير في خط التفكير في أسرار الكون وفي نظامه. وإذا كان الأقدمون لم يستطيعوا أن يكتشفوا هذه الأسرار وهذه القوانين، فقد جاء المتأخرون واكتشفوا، من خلال البحث والتفكير والتجربة، الكثير من أسرار الكون من خلال القوانين التي أودعها الله سبحانه وتعالى.
وفي نهاية المطاف، يقدّم نوحt شكواه إِلى ربّه، في ردود الفعل التي واجهها من قومه؛ وهذا ما نتحدث عنه في المحاضرة القادمة إن شاء الله تعالى. والحمد لله رب العالمين.





































    الكرب النفسي
    الانفتاح المطلق على الله
    معوّقات النجاح
    الاتباع اللاواعي































لا نزال نتحدث عن التقرير الذي رفعه النبي نوحt إِلى ربّه، بعد أن استنفدt جهده في الدعوة في مدى ألف سنة إلا خمسين عاماً، وجرّب كلّ الوسائل التي حاول من خلالها أن ينفذ إلى عقولهم وقلوبهم وحياتهم، ولكنّه لم يؤمن معه إلا قليل من قومه.
وفي نهاية هذا التقرير، يرفع نوحt شكواه إلى الله.
الكرب النفسي:
﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي﴾(1)، فقد بذلت الجهد الذي لم يبذله أحدٌ في أيّ دعوة من الدعوات الإصلاحية التغييرية التي يراد بها إصلاح أمور الناس وإبعادهم عن الخطّ الذي يمثّل الضلال ودعوتهم إلى التوحيد. وقد نستوحي من هذه الكلمة شعوره بالمرارة والألم ممّا يعيشه كل إنسانٍ يبذل كلّ جهده، بكلّ إخلاصٍ ومحبّةٍ، للناس؛ لأنّه ينطلق معهم من خلال حالةٍ إنسانيةٍ تراقِب ما يتحرّكون به في خطّ الانحراف الذي يسيء إِلى حياتهم، ويدمّر مصيرهم في الدنيا والآخرة.
إنّ هذه الكلمة تمثّل الشكوى إِلى الله سبحانه وتعالى، لأنه كان يأمل أن يستجيب الكثير من الناس لدعوته، ولاسيما أنّ دوره كان دور الناصح المرشد.
وقد حدّثنا الله سبحانه ـ في أكثر من آية ـ أنّ رسول الله محمّداًw كان يعيش الألم بسبب عدم إيمان الناس بدعوته، فخاطبه الله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾(1)، ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾(2).
وفي بعض الآيات، نقرأ وصفاً للحالة النفسية التي كان يعيشها نوحt ومعه أهله المؤمنون، فقد كان يعيش الكرب النفسي الذي يسيطر على مشاعره وأحاسيسه، لأنّه عاش هذا الزمن الطويل الذي استنفد فيه كلّ وسائل الهداية والإرشاد والنُّصح لقومه، وكان كلّما دخل عليهم في موقعٍ للهداية، دخلوا عليه في عملية حصار واضطهادٍ لمن اتّبعه، وطردٍ للذين يتحدّث إليهم حديث الإيمان؛ حتّى إنّهم ـ وهذه من أشدِّ الحالات التي سبّبت له كرباً ـ اقتحموا عليه بيته، فأضلّوا زوجته وولده، ففقدهما في حركة الإيمان، وكان نتيجة ذلك أنّه عاش في بيت منقسم على نفسه؛ فمن أولاده من كانوا مؤمنين ـ كما يذكر بعض المؤرّخين ـ أمّا ولده فقد كان من الكافرين، وقد قصّ علينا القرآن قصّة كفره وغرقه.
وقال تعالى وهو يُشير إلى حالة الكرب التي يعيشها نوحt: ﴿وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾(3)، فلم يكن كرباً عادياً، بل كان كرباً عظيماً، لأنّهم أحاطوا به من كل جانب، وكانوا يحاصرونه في كل مواقعه وفي كل أوضاعه.
وفي آية أخرى، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾(4)، ولعلّ المراد بأهله هم المؤمنون معه، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾(1).
ولم يكن النبي نوح t بدعاً من الأنبياء الذين يواجهون أقوامهم بالدعوة فيواجهونهم بالطغيان، فقد حدّثنا القرآن الكريم عن تهديدهم لنوحt: ﴿قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾(2)، أي لنرجمنّك، وربّما كان هذا كناية عن القتل. فلذلك كان يطلب في دعائه النصر من الله، لأنه لا يملك أي وسيلة للانتصار عليهم، كما جاء في قول نوح: ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُون * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(3)، فطلب النجاة في آخر الآية، يوحي بأن المسألة قد بلغت درجة الخطر، لأنّ أولئك الطُغاة قد ضاقوا به وبالمؤمنين ذرعاً، وأرادوا أن يتخلّصوا منهم، وربّما كان قرارهم للتخلّص منهم هو قتلهم، حتى فقد نوحٌt كلّ طاقة شخصية على النجاة منهم، فلم يعد له وللمؤمنين إلا الرجوع إلى الله، للانتصار عليهم بطريقة غيبية.
ونقرأ في آيةٍ أخرى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ﴾(4)، أي لم أعد أملك ما يمكنني من التغلّب عليهم، لأنّه كان يواجههم بالمنطق، وكانوا يواجهونه بالقوة والسخرية والاستهزاء والطغيان، ولذلك عندما شعر بضعف الوسائل التي بين يديه أمام ما يملكون من قوّة، وأمام تعاظُم حركة الخذلان من قبلهم تجاه دعوته، طلب النصر من الله، ودعا بما دعا به.
الانفتاح المطلق على الله:
وقد أراد الله للمؤمنين أن يرجعوا إليه حتّى لا يقعوا في اليأس عندما يقارنون بين ما عندهم من وسائل مادّية، وبين ما عند الآخرين من القوّة والإمكانات، لأنّ الإنسان عندما يرتبط بالقضايا المادّية ويُحاصر من جميع الجهات، فإنّه يفقد الأمل؛ ولكن إذا انفتح على الله سبحانه وتعالى الذي هو الرحمن الرحيم وهو على كل شيءٍ قدير، فإنّ له كلّ أبواب الأمل ستنفتح له. وهذا ما حدّثنا عنه الله تعالى في قصّة يعقوب عندما قال لوُلده: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾(1)، وهذا ما عبر عنه إبراهيمt: ﴿قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ﴾(2)؛ ولذلك ربط الله التقوى، بما تعنيه من الارتباط به واللجوء إليه، باللطف الذي يشمل به عباده، بما يهيّئه لهم من المخرج حيث لا مخرج، ومن الرزق حيث تُسدّ كلّ أبواب الرزق حسبَ الوسائل المادّية، قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾(3).
أمّا مسألة الدعاء بالنصر أو بإهلاك الأقوام الكافرة والمنحرفة، فقد أراد الله للمؤمنين، من رُسُله وأوليائه، أن يرجعوا إليه عند وصولهم إلى مرحلة الضغط البشري الطبيعي، لا ثأراً لأنفسهم، بل حمايةً لرسالاتهم، لأنّ الأنبياء والأولياء لا ينطلقون في حركة الدعوة من جانب ذاتيّ، بل من خلال محاولتهم ربط الناس بالله، وتوجيههم إلى ما فيه مصلحتهم في الدنيا والآخرة.
ونلمح هذا الجانب في ما نقل عن ردّ فعل النبيّ محمّدw على إيذاءات المشركين له، حيث كان يقول: «اللهُمَّ اغْفِر لقَومي إنّهم لا يعلمون»؛ ليوحي بأنّ المسألة عنده هي أنّ قومه لم يأخذوا بأسباب الهداية، وأنّهم انطلقوا ليقطعوا الطريق على ما فيه نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم. نعم، قد تمتزج المسألة الرساليّة عند النبيّ بالذات حتّى تُصبح الرسالة شيئاً ذاتيّاً، ولذلك نجد أنّ الله تعالى خفّف عن نبيّه مستوى الألم النفسي الذي يصيبه جرّاء تكذيب قومه له، فخاطبه تعالى بقوله: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾(1)، وقال تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ﴾(2).
معوّقات النجاح:
ويستمرّ نوح t في تقريره لربّه، فيتحدّث عن السبب الذي جعل الأكثرية الساحقة من قومه يتنكّرون له ولا يطيعونه ولا يؤمنون به، وهو اتّباعهم للأغنياء من الناس، بسبب ما يملكونه من ثروات ضخمة تمنحهم القوّة الاقتصادية التي تتحوّل في تلك المجتمعات إِلى قوّة اجتماعية، وربّما إِلى قوّة سياسية، كما يحدث في الكثير من المجتمعات اليوم، حيث ينطلق الأغنياء، سواء كانوا أفراداً، أو من خلال الشركات الاقتصادية الكبرى، من شركات بترول أو سلاح أو ما إلى ذلك، ليقودوا العمليّة الانتخابيّة لوصول هذا المرشّح إلى رئاسة هذه الدولة، أو إلى الوزارة أو إلى النيابة، سواء في الشرق أو في الغرب، وإن اختلفت طبيعة الحركة والوسائل بينهما.
وربّما ينطلق ذلك من القوّة الاجتماعية، من خلال كثرة الأولاد، أو كثرة الأتباع، ممّا كان يُعدّ في كثير من المجتمعات السابقة مصدر قوّة للآباء أو المتبوعين، الذي يحصلون من خلالها على الهيبة والموقع الاجتماعيّ المميّز.
وهكذا تبدأ عملية الاستغلال، في الإيحاء بأن هؤلاء يملكون ميزان القوّة الذي يفرض موقعه على الضعفاء، فيسقطون أمامه خوفاً وهلعاً، من أجل المحافظة على حياتهم وأوضاعهم العامة والخاصة، أو من جهة استغلال حاجات الناس إليهم من الفقراء الذين لا يملكون موارد العيش الكريم، فيأملون الحصول على ما يريدونه منهم، فيكونون أتباعاً لهم؛ يأتمرون بأمرهم، ويقاتلون من أجلهم، ويحاصرون خصومهم من دون أن يفكّروا في أنّ هذه القوة المالية والبشرية لا تمثّل قيمةً معنويةً لهؤلاء الأشخاص، ولا نجاحاً في إنسانيّتهم، وأنّ النّاس ـ لو أرادوا ـ قادرون، بقوّتهم العددية وبخبراتهم المتنوّعة، على الخلاص من سيطرتهم وإضعاف قوتهم.
وقد عبّر نوحٌt عن كلّ ذلك في ما قصّه الله تعالى، حيث يقول: ﴿وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَاراً﴾(1)، أي أنّهم اتّبعوا الذين يملكون المال ويملكون القوة في الأولاد؛ فإنّ المال، مهما كثُر، لا يرتفع بصاحبه إلى مستوى النجاح في المعنى الإنساني، وفي نظرة الاحترام الذاتي إليه من قبل الناس، وخصوصاً عندما يقف الذين يستخدمون أموالهم وأولادهم في التمرّد على الله، والطغيان على الناس. وقد تنقلب الأمور عليهم، بحيث يخسرون كل موازين القوّة، فيرفضهم الناس المظلومون، ويعلنون البراءة منهم في دار الآخرة، كما في دار الدنيا.
الاتباع اللاواعي:
وقد حدّثنا الله تعالى عمّا تؤول إليه علاقة التابعين بالمتبوعين في الآخرة، فقال تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾ فلم تبقَ بينهم أيُّ علاقة ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ﴾عندما واجهوا الموقف في الآخرة ورأوا المتبوعين يتبرّأون منهم، ويحمّلونهم مسؤولية ضلالهم ولا يتحملون عنهم المسؤولية ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ لو أن الله يرجعنا إلى الدنيا ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾(1).
ويقول تعالى في موضع آخر: ﴿وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً﴾ التابعون المستضعفون، والمتبوعون المستكبرون ﴿فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً﴾ كنّا جماعتكم، نؤيّدكم، وندافع عنكم، وكنّا نأتمر بأوامركم وننفّذ كل خططكم ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ﴾ فنحن كنا ضالين، وأنتم أصبحتم ضالين بضلالنا ﴿سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ﴾(2).
ولعلّنا نستوحي من ذلك، أنّ هذا الاتّباع من قِبَل الضعفاء للمستكبرين، ناتجٌ من استغلال المستكبرين من الأغنياء والأقوياء، لحاجات الضعفاء، سواء من خلال أوضاعهم المالية أو من خلال مخاوفهم الخاصّة.
وقد تحدث الله عن منطق المترفين، وهم الأغنياء من أصحاب الثروات، فأكّد أنّ المترفين هم الذين يقفون في مواجهة الأنبياء، ويعطّلون على الأنبياء حركتهم ورسالتهم. قال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي أعطيناهم المال الكثير والثروات الضخمة ﴿مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ﴾ فهو لا يتميّز عنكم بشيء، ولا ينفعكم مادّياً بشيء، بينما نحن ننفعكم بأموالنا ومواقعنا وما إلى ذلك ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ﴾(1).
هذا هو منطق المترفين في محاولة استغلال الحالة الثقافية الساذجة الموجودة لدى المستضعفين من الناس، فهم يحاولون دعوة النبي لقومه بالمنطق السطحي الذي يؤكد بشريته ويعتبر دعوته أمراً مستغرباً، وكذلك مسألة البعث بعد الموت، من دون أن يقدّموا لهم أي حجّة على رفضهم ذلك، لأن الناس من حولهم لا يملكون فكراً يناقشون به الأمور بدقّة وعمق، أو أن يسألوا عن المانع من أن يرسل الله رسولاً من البشر؟! وأيّ استحالة في قدرة الله أن يبعث الناس بعد الموت إِلى حياة أخرى؟! ولكنّ هؤلاء المترفين يمارسون الرفض للرسالة، لأنهم يخافون من فقدان امتيازاتهم في اتباع الناس لهم الذي يجعلهم في مركز القوة، لأن النبي سوف يرتفع بالمستوى الفكري للناس، ما يجعلهم يرفضون كل الذين يستغلّونهم ويسيطرون على مقدّراتهم وحاجاتهم المادية وأوضاعهم الحياتية.
ونُتابع مع نوحٍ تقريره في ما يأتي من حديث، والحمد لله ربّ العالمين


























    مكرالأعداء
    استثارةالعاطفةالمقدّسة
    تحريكالضلالفيحياةالناس
    الدعاءبالإبادةالشاملة
    استغفارنوحt





























مكر الأعداء:
ويتابع نوحt تقريره لله تعالى، في تصوير المخطّطات التي كان قومه يتحرّكون فيها لإسقاط هذه الدعوة الرسالية التغييرية الجديدة، التي تتحدّى أوضاعهم والتزاماتهم الوثنية، حيث انطلقوا ليتآمروا ضدّه جسدياً ومعنوياً، بعد أن ضاقوا به ذرعاً في صموده واستمراره في مواجهتهم بالدعوة إلى الإيمان بالله، وذلك فيما تحدّث به عن هذا الواقع المضادّ له، وهو ما جاء في قوله: ﴿وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً﴾(1)، أي مكراً عظيماً. والمكر هو محاولة التدبير خفيةً لإيجاد المخرج في موضوعٍ ما، وهذا ما يعبّر عن استخدامهم للوسائل الخفية من أجل إسقاط موقف نوحt وموقعه، وإثارة الناس ضدّه بطريقة سرّية لا يشعر بها؛ لتبدو الأوضاع المثيرة كما لو كانت حالةً طبيعية تنطلق من خلال رفض الجماهير له وللمؤمنين به، لا من خلال تخطيط المترفين لها؛ الأمر الذي يجعل الثلّة المؤمنة تشعر بحال الخطر على مصالح الجمهور وقضاياهم العامة والخاصة.
وقد نستوحي من إطلاق كلمة (كبّاراً) التي تدل على المبالغة في المكر العظيم، أن عملية التخطيط هذه كانت تشمل كل ألوان الضغط على نوحt والتابعين له من أجل إعادتهم إلى الشرك، أو لإبعادهم عن الالتزام بالتوحيد دعوةً وحركةً، وذلك بإرباك أوضاعهم الحياتية، ومحاصرة حاجاتهم الضرورية إلى مستوى التجويع والحرمان، وصولاً إلى القتل والتشريد. وربّما كان ذلك هو السبب في دعاء نوح لربّه: ﴿أنّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾(1)؛ لأن المسألة قد وصلت إلى درجة غلبة المستكبرين الساحقة على مواقفه الرسالية، بحيث لا يملك ـ معها ـ أيّ قوة مادّية لمواجهتهم.
استثارة العاطفة المقدّسة:
وكان من أسلوبهم الماكر، أنّهم حاولوا استغلال مشاعر الناس وعواطفهم تجاه أوثانهم التي ورثوها عن آبائهم، والتي يقدّسونها ويلتزمون بعبادتها، وتصوير القضية كما لو كانت هذه الآلهة (المدّعاة) تواجه الخطر الداهم من نوح وأتباعه في حركتهم لإسقاطها وإبعادها عن مواقع القداسة لديهم، بحيث دخلت المسألة في نطاق الجوانب العاطفية للناس في علاقتهم بها، تماماً كما لو كانت هناك حرب عدوانية ضدّها، ليندفع الناس في حالة دفاعية عنها ضدّ نوح ومن معه من المؤمنين، باعتبارها من المقدّسات الدينية العبادية المتجذّرة في عالم الشعور والإحساس.
وهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾ التي تعبدونها طلباً للحصول على حاجاتكم منها، ﴿وَلا تَذَرُنَّ وَدَّاً وَلا سُوَاعَاً ولا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا﴾(2)، وهي أكبر أصنامهم، وقد قيل إنّها انتقلت من قوم نوحٍ إلى العرب، وأُشكل على ذلك بأنّ الدنيا خربت بعد الطوفان، فكيف انتقلت إليهم؟!
وربّما نستوحي من خلال ذكر هذه الآلهة بالأسماء، أنّهم كانوا يحاولون أن يستثيروا في أتباع نوحt الحالة الوثنية، من خلال استثارة تاريخهم العبادي الذي ارتبط بهذه الأصنام، التي ربّما كانت تملأ على الواقع آنذاك كلّ كيانه وحركته.
وهكذا رأينا كيف وقف الناس كلّهم ضد نوحt وأتباعه، باعتبارهم يعملون على الإساءة إلى مقدّساتهم والدعوة إلى رفض عبادتها...
وكان أسلوبهم في إثارة العاطفة الشعبية الساذجة، يستهدف الوقوف ضدّ الأسلوب التأمّلي الموضوعي الهادىء المتوازن الذي حاول نوحt أن يوجّه الناس إليه، مما كان يطرحه عليهم، لينطلقوا في أوضاعهم الفكرية والعملية في محاكمة عقلية واعية، من أجل تصحيح اتّجاه الخطّ المنحرف في حياتهم، وتقويم العادات المعوجّة في تاريخهم مما ورثوه عن آبائهم، كما هي قضية الرسالات الإلهية التي تحثّ الناس على التفكير بعقولهم، ليتحمّلوا مسؤوليّتهم عمّا يفكرون فيه ويعملون له، بعيداً عن تقليد الآخرين الضالّين في أفكارهم الضالة، لأن المسؤولية في دائرة الإيمان فردية، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاّ مَا سَعَى* وَأنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌوِزْرَ أُخْرَى﴾(2)، فلا يتحمّل الإنسان وزر عمل غيره، ولا ما ينتج عن هذا العمل من الخطأ والخطيئة، إلا إذا كان العمل صادراً منه. ولم تكن لنوح مشكلة مع هؤلاء المترفين من الرؤساء، إلاّ لأنهم وقفوا حجر عثرة في طريق الدعوة إلى الله.
تحريك الضلال في حياة الناس:
﴿وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً﴾، من خلال أساليبهم المتنوّعة ووسائلهم المثيرة للناس الخادعة لعقولهم، حتى إنّهم أغلقوا عقولهم وعطّلوها عن التفكير في أية دعوة أخرى، وجمّدوا أفكارهم بحيث تحجّرت لديهم أوهامهم الموروثة، وأبعدوها ـ بسبب ذلك ـ عن الانفتاح على أسباب الهدى الذي جاءهم به النبي نوحt، فظلموا أنفسهم بالضلال، وظلموا الآخرين الذين اتّبعوهم وخضعوا لهم من دون حجّة ولا برهان.
ولذلك دعا نوحt عليهم بقوله: ﴿وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاّضَلالاً﴾(1)؛ لأنهم أهملوا الأخذ بأسباب الهدى بعد أن قامت الحجّة عليهم بها، ورفضوا الانفتاح على الله، واستمرّوا في ضلالهم بغياً وعناداً بسوء اختيارهم. وبذلك كان دعاء نوحt على الظالمين بالضلال، دعاء مجازاة الضلال الاختياري بالضلال الصادر من الله على أساس علاقة المسبَّب بالسبب، وليس المقصود به الضلال الابتدائي الذي ينزله الله عليهم ابتداءً، فهو دعاء أن يجازيهم الله بكفرهم وفسقهم الذي اختاروا معه الضلال الذي يؤدّي بهم إلى السقوط في دائرة الهلاك.
وهكذا أطبقت عليهم خطاياهم، وأطبق الطوفان عليهم من خلال ذلك، وكانت عاقبة أمرهم الدخول في النار التي لم يجدوا أنصاراً يخرجونهم منها وينقذونهم من عذابها، وذلك قوله تعالى: ﴿ممَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارَاً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أنْصَارَاً﴾(2)؛ لأنّه ليس هناك في الخلق كلّه من يملك القوّة التي تنصر الظالمين والضالين من عذاب الله الذي له القوّة جميعاً، وهو المهيمن على الأمر كلّه.
الدعاء بالإبادة الشاملة:
وقد ختم نوحt تقريره بالدعاء على هؤلاء الناس الذين التزموا الضلال كلّه، وتحرّكوا بكلّ عدوانية في سبيل الضغط على كل دعاة الهدى والإيمان، وذلك بالإبادة الكاملة الشاملة، لأن بقاء أيّ جماعة منهم في إصرارهم على الكفر وعبادة الأوثان، سوف يؤدّي إلى إضلال الناس، لأنهم اعتبروا الضلال الكافر هو القضية الأساس في حركتهم في الحياة، بحيث لن يسمحوا لأحدٍ بالسير في خط الإيمان بالله، لأنهم يرون في ذلك هزيمةً ثقافيةً واجتماعيةً لهم، حتى إنّ إضلالهم سيمتدّ إلى الأجيال الجديدة، فإذا ما رزق أحدهم أولاداً، فإنهم يبادرون في تربيتهم إلى تلقينهم الكفر وتدريبهم على عبادة الأوثان، فيجرّونهم إلى دائرة الكفر. وقد أكد الله هذا الاتجاه في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً﴾ والديّار نازل الدار ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاّ فَاجِرَاً كَفَّارَاً﴾(1).
وهكذا استجاب الله دعاء نوحt، فكان العذاب الإلهي عذاباً استئصالياً من خلال الطوفان الذي أغرق الجميع إلا الذين حملهم نوحt في سفينته من أتباعه المؤمنين، فلم يبقَ من الكافرين أحد، حتى امرأة نوح وولده الكافر.
ونستوحي من دعاء نوحt، أن طلبه لم يكن ثأراً لنفسه تجاه ما قاموا به من اضطهاده واضطهاد المؤمنين معه، ولا انتقاماً من حصارهم له، لأنّ الأنبياء لا يحقدون على أحد، حتّى الذين يتمرّدون عليهم، بل يطلبون لهم الهداية من الله عندما يكون هناك أمل في هدايتهم، لكنه كان إخلاصاً لله، ليبقى في الأرض عباد مخلصون يعبدونه ويوحّدونه.
فالنبي نوحt لم يكن يعيش العقدة الذاتية التي يمكن أن يعيشها الناس في رفض الآخرين لهم ولأفكارهم، ولكنّه كان يستشعر الخطر على الأجيال المقبلة الطالعة من أولادهم، بما يملكه آباؤهم والمترفون من رؤسائهم من وسائل الضغط، من خلال امتيازاتهم القائمة على الكثرة العددية والقوة المالية، ما يجعل الناس مشدودين إليهم في حاجاتهم من جهة، أو خوفاً من سطوتهم من جهةٍ أخرى، فيخضعون لهم في انتماءاتهم، لأنهم يتولون تنشئة أولادهم على الكفر والفجور، ويمنعون المصلحين من إرشادهم إلى الطريق المستقيم. وينقل أن الرجل من قوم نوح كان ينطلق بابنه إلى نوحt ويقول له: «احذر هذا ـ مشيراً إلى نوح ـ فإنه كذاب، وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير على كفره وينشأ الصغير عليه».
وقد يتساءل البعض: كيف عرف نوحt أنهم لن يؤمنوا به أبداً، وأنهم سوف يضلّون الناس في المستقبل ولا يلدون إلا فاجراً وكفَّاراً؟
وقد يجاب عن التساؤل، بأنّه عرف ذلك من خلال الوحي الإلهي، وذلك فيما جاء به قوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ﴾(1)، وربّما كان من خلال تجربته الطويلة مع قومه، ودراسته لأوضاعهم العامة، ومعرفته بذهنيتهم الضيقة التي لا تنفتح على الفكر الآخر، ولا تستجيب لأية دعوة أخرى. هذا، إضافةً إلى طريقتهم في تربية أولادهم على العصبية لأوثانهم، بحيث يسيطرون على تفكيرهم، ولا يسمحون لهم بالاستماع إلى دعوة الحقّ، في عملية حصار شامل لا تنفذ إليها أيّ حالة من الحرّية والانفتاح.
أما الفرق بين الفاجر والكافر، فالفاجر يتّصل فجوره بالجانب العملي في السلوك، أما الكافر، فإن كفره يتصل بالجانب الفكري في العقيدة.
استغفار نوحt :
وينتهي الأمر بنوحٍt إلى الاستغفار، فيقول: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات﴾(2)، فهو يستغفر لوالديه بعد استغفاره لنفسه. وطلب المغفرة للوالدين هو من التعاليم الدينية في ميزان القيمة الإنسانية التي تنطلق من الرحمة لهم والاعتراف بإحسانهما إليه من خلال الجهد الذي يبذلانه في تربيته، بالرغم من الصعوبات القاسية الشديدة التي تمرّ بهما، ولاسيما والدته التي ﴿حَمَلَتْهُ كُرْهَاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهَاً﴾(1)؛ ما يفرض على الولد شكرهما، كما هو شكره لله، ﴿أَنِاشْكُرْلِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾(2).
ثم يستغفر نوحt لمن دخل بيته قاصداً له، معلناً إيمانه، ومتحدّياً المجتمع الكافر، في مظهر القوة والإخلاص لله ولرسوله، والتمرّد على القيم الشريرة والضغوط العنيفة، التزاماً بقناعاته الفكرية، واستشعاراً بالإيمان الحقيقي.
وبعد ذلك، يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، تقديراً منه لهذه الطليعة الإيمانية التي التزمت الإيمان بالرغم من كل الضغوط الهائلة والإغراءات الكثيرة.
﴿وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارَاً﴾(3)، أي هلاكاً، لأنهم اختاروا لأنفسهم هذا المصير الأسود باختيارهم الكفر والشرك في عبادتهم للأوثان تمرداً على الله في توحيده.
ويبقى السؤال: كيف نفسّر استغفار نوح لنفسه، وهو النبيّ المعصوم الذي أخلص لربّه في الدعوة إليه والالتزام بربوبيته في توحيده، عملاً وقولاً، وعصم نفسه عن الخطايا، لأن الاستغفار ـ حسب مفهومه ـ لا يكون إلا من ذنب؟
وقد أجاب العلماء عن ذلك في كل موارد استغفار الأنبياء والأئمة بعدة أجوبة، فقال بعضهم: إن حسنات الأبرار سيئات المقربين؛ باعتبار أنّ درجة القرب من الله تجعل كل ما يصدر من الأبرار بمثابة السيئات في مدلولها الإيماني، حتى لو كانت من نوع الحسنات التي يتقرّب بها الأبرار. وقال بعضهم: إن اشتغال الأنبياء والأولياء بأعمالهم العادية، كالأكل والشرب والنوم وقضاء الحاجات الطبيعية والغرائز المحلّلة والحاجات العائلية، قد تمثّل ذنباً لا بدّ من الاستغفار منه؛ لأنهم قد يفكرون في أنّ إخلاصهم لله يلزمهم الاستغراق في الذكر والعبادة لله بما يملأ كل أوقاتهم ويستوعب كل أشغالهم. وربما كان الاستغفار منطلقاً من ترك الأولى الذي لا يمثل ذنباً؛ فقد تكون هناك بعض الأوضاع المحيطة بنوح تفرض عليه تقديم المهمّ على الأهم، أو الذي لا أولوية له على الأولى.
وقد يقال إنّهم يستغفرون الله باسم الإنسان، ولاسيّما من الذنوب التي لا يمكن صدورها إلا من المجرمين المتمرّدين على الله، فكأنّهم يستغفرون بإنسانيتهم للناس من الخطايا الصادرة منهم بأنواعهم المختلفة، لا من خلال ذواتهم.
ولكننا قد نتحفّظ على ذلك كله، لأنه لا يجيب عن السؤال بشكل دقيق ينسجم مع المعنى الحرفي لكلمة الاستغفار؛ فاعتبار حسنات الأبرار سيّئات المقربين، لا دليل عليه ولا معنى له، لأنّنا نلاحظ أنّ حديث القرآن عن الأنبياء جارٍ على الوضع الطبيعي في وصفهم بالإيمان وبالصلاح والإخلاص الروحي والعملي الذي تفرضه التزاماتهم الرسالية وعصمتهم العملية. وقد مدحهم الله على قيامهم بذلك، ولم تكن لديهم أيّ فريضة خارجة عن حالتهم الرسالية.
وهكذا الأمر في الحديث عن أنّ أشغالهم الحياتية التي تعتبر ـ في نظرهم ـ ذنوباً لا بد من الاستغفار منها، فإن ذلك لا يشغلهم عن ذكر الله، ولم تفرض النبوة عليهم مثل هذه الدقّة وهذه الدرجة غير العادية في الالتزام المطلق الذي يضيق عليهم علاقتهم الخالصة بالله.
أما استغفارهم باسم الإنسان، فقد ينطبق على بعض الأدعية، ولكنه لا يتناسب مع استغراقهم في الدعاء بالمستوى الذي يدفعهم إلى البكاء، كما لو كانت هذه المفردات الدعائية حالةً شخصية تتحرّك من خلال المشاعر العميقة الوجدانية في عالم الإحساس والشعور الصادر من الداعي، والله العالم.
ولعلّ الأقرب، هو أن هذه الكلمة تحوّلت إلى معنى يختزن الخضوع لله والاستغراق في التذلّل له والعبودية في علاقتهم به؛ فهم يتحدّثون مع الله كما يتحدث العبد مع سيده، في التحبّب إليه والذوبان فيه وطلب الحصول على رضاه. وقد روي أن النبي محمدw كان يستغفر الله في اليوم سبعين مرة لا من ذنب. والحمد لله ربّ العالمين.









































    ذهنيّةقومنوح
    المانع الأول: منشأفكرةالتنافيبينالنبوّةوالبشريّة
    المانعالثاني:الزهوالطبقي
    المانعالثالث:السلطةوالزعامة
    الاتهامبالجنون
    الجنونفيمواجهةالرسالات



























في قصّة نوحٍt مع قومه، يبرز سؤالان:
الأوّل: لماذا كان قوم نوح يفكّرون في مواجهة دعوته؟
والثاني: كيف كانوا يتعاملون معه؟
ذهنيّة قوم نوح:
ثمّة موانع أبرزها القرآن الكريم ـ فيما عبّر به قوم نوحٍ ـ في سبب رفضهم اتّباع نوحt في دعوته.
المانع الأوّل: التنافي بين البشريّة والنبوّة
أمّا لماذا كانوا يفكّرون في المواجهة، فذلك لأنهم كانوا ـ كأكثر الجماعات التي بعثت إليها الرسل ـ يتصوّرون أنّ النبوّة موقع غيبـي؛ باعتبارها رسالةً من الله الذي ربّما كانوا يؤمنون به وبالملائكة. ولذلك فقد كان من الغريب ـ في تفكيرهم ـ أن يكون النبيّ بشراً، ولا يتميز عن البشر الآخرين في حاجاتهم الطبيعية المادية الجسدية من طعام وشراب وغرائز خاصة، بل قد يكون بعض البشر متميّزاً عنه بما يملك من القوّة الجسدية أو المالية أو الاجتماعية أو من القدرات الأخرى، وخصوصاً أنّ نوحاًt لم يقدّم لهم، حسب نصوص القرآن، أيّ دلائل إعجازية تؤكّد خلفياته المنفتحة على الغيب، بل كان يتصرّف معهم بشكل طبيعي.
وفي ضوء ذلك، رأوا أنّه ليس من شأن البشر ـ ومنهم نوحٌt ـ أن يحصلوا على هذا الموقع الغيبـي في حمل الرسالة من الله، وكانوا يقولون له: أنت مثلنا وكواحد منا في انتسابك إلى أبيك الذي نعرفه، وأمك التي كانت من بناتنا ونسائنا، فكيف تدّعي أنّك رسول الله، وأنّك تحمل إلينا رسالته، طالباً منّا أن نصدّقك في إنذارك وفي تعليماتك، وأن نرفض عبادة الأوثان التي نعبدها؛ باعتبار أنّ هذه الأوثان تختزن، في نظرهم، بعض الأسرار التي ترفعها إلى مواقع القرب من الله، على طريقة المشركين من قريش الذين كانوا يبرّرون عبادتهم للأصنام بأنّها تقرّبهم إلى الله، وذلك هو قوله تعالى: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾(1)، في الحظوة والمنـزلة عنده؟
منشأ فكرة التنافي بين النبوّة والبشريّة:
وربما يطرح هنا سؤال، وهو من أين جاءتهم هذه العقيدة السلبية في التنافي بين البشرية والنبوة؟
قد يجاب عن ذلك، بأنّهم كانوا يعتقدون أنّ الرسالة الإلهية منطلقة من السماء، في الموقع الذي (يسكن) فيه الله مع ملائكته، فلا علاقة لها بالأرض التي يعيش فيها الناس ويتماثلون ـ مع بعضهم البعض ـ فيها، فكيف تلتقي الأرض بالسماء؟! وكيف تتمثّل الروح بالمادّة؟! فلا يمكن أن ينـزل الله رسالته على البشر، بل لا بدّ من أن يكلّف الملائكة بذلك. وهذا ما كان يتحدث به قوم نوحt، كما جاء في قوله تعالى: ﴿مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ﴾(2)، وقوله في آية أخرى: ﴿قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾(3).
ولكنّ الله يناقش هذه الفكرة، بأنّ الرسول لا بدّ من أن يكون من صنف المجتمع الذي أرسل إليه، ليخاطبهم بطريقتهم، وليتعامل معهم بذهنيّتهم، وليكون القدوة لهم في سيرته باعتبار واقعية القدوة التي تتيح لهم إمكانية التمثّل به، فلو كان الملائكة يعيشون في الأرض، فلا بدّ من أن يكون الرسول المرسل إليهم ملكاً مثلهم. وهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً﴾(1).
وهكذا كان الرسل يؤكّدون رسالتهم، بالانطلاق من أنّ الأمر في إرسال الرسل راجعٌ إلى الله الذي يصطفي من البشر رسلاً حسب حكمته، لأنّه يرى فيهم القابلية لتبليغ الرسالة، وإصلاح الناس، من خلال أساليبهم ووسائلهم المتناسبة مع عقلية البشر وطريقتهم في التفكير وسلوكهم في الواقع العملي. قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾(2).
وخلاصة الفكرة، أنّ هؤلاء القوم لم يكونوا يملكون حجّةً عقليةً على دعوى التنافي بين البشرية والنبوة، بل ارتكزوا على أوهام ساذجة لا تنطلق من دراسة دقيقة، لأنّهم إذا كانوا يؤمنون بالله، فلا بدّ لهم من أن يؤمنوا بأنّه يملك عملية الاصطفاء والاختيار من خلال حكمته، وأنه لا يحقّ لهم إصدار أي حكم سلبي على مشيئته في اختيار الرسول أو غير ذلك.
المانع الثاني: الزهو الطبقي
وحول طريقة تفكيرهم أيضاً، نلتقي بما تحدّث الله به عنهم في قوله تعالى: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾(3)، فهم يتابعون اعتراضاتهم على أتباعه، لأنهم لا يمثّلون النخبة الاجتماعية المتقدّمة التي تملك النفوذ والامتداد في الواقع العام في الدرجات العليا، كما لا يتميّزون بالخبرة والعقل في عملية التقويم في امتيازات الأشخاص.
إلا أنّ هؤلاء، وإن كانوا ـ في تقديرهم ـ من أسافل الناس لأنهم لا يملكون المال، إلاّ أنّهم يملكون الوعي المنفتح على أيّ فكر يُطرح عليهم، ليقبلوا به أو يرفضوه من موقع مسؤوليّتهم في عملية الانتماء على أساس الحرية في التفكير. قد لا يملكون السلطة القاهرة المستعلية، ولكنّهم يملكون القيم الإنسانية فيما يرفع مستوى الإنسان في المعاني الروحية والالتزامات الأخلاقية والمؤثّرات الحركية، في النفاذ إلى أعماق الناس في مشاعرهم الطاهرة وأحاسيسهم الواعية، وقد لا يكون الميزان المادي في الشرف الاجتماعي من حيث الموقع الشعبي في خضوع الناس للمترفين في المجتمع، ولكنّهم ينفتحون على شرف الإنسانية التي يختزنونها في داخل وجوداتهم الحيّة التي ترتفع بالعلم والعقل والخبرة والقوة الأخلاقية مما لا يملكه الكبار من المترفين من القوم.
وهذه هي نقطة الضعف التي يعتبرونها أساس امتناعهم عن اتّباع نوحt، لأنّ النخبة، التي تمثّل طليعة المجتمع، لم تكن ضمن الجماعة المؤمنة به، فإيمان النخبة به فيما لو حصل، قد يشكّل سبباً في انسجامهم معه، واتباعهم لرسالته في منطقهمالاستعراضي، وذلك لما للنخبة ـفياعتبارهم ـ من عمق في الفكر، وامتدادٍ في حساب العقل والقوّة والمستوى الاجتماعي، ولكن المحيطين بنوحt كانوا من الجماعة المرذولة المحتقرة التي تمثّل الطبقة السفلى في المجتمع، من جهة الذهنية والامتيازات والثروة الاقتصادية، فهم من الفقراء والمساكين، ولم يكن إيمان هؤلاء ـ في نظرهم ـ عن تأمّل أو تفكير، بل كان انفعالياً سطحياً سريعاً، لرغبة في الحصول على موقع، أو لضعف في الفكر. وهذا هو الذي تمثّله كلمة ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾، أي قبل التأمّل، وهو الرأي الذي يبدو للذهن لأول مرة، كخاطرة سريعة طارئة، فكأنّهم ـ في اتهامهم ـ اتّبعوا نوحاً في أول الرأي الذي أثاره أمامهم من خلال أسلوبه العاطفي في اجتذاب مشاعرهم الساذجة من دون نظر ولا تدبير.
إنّه المفهوم الخاطئ في تقويم الأشخاص، باعتبار مستواهم الاجتماعي والاقتصادي أساساً للتقدير، بدلاً من المستوى الروحي والفكري، كما أنّ هناك انحرافاً في تحديد القاعدة التي يرتكز عليها الإيمان، فإنّ الأساس فيه هو التفكير في طبيعة مضمون الدعوة الموجّهة إلى الناس، والحكم على ما تشتمل عليه من عناصر الخطأ والصواب، لا التطلّع إلى طبيعة الأشخاص الذين يؤمنون بتلك الدعوة. فالعقيدة ـفيموقعالانتماءـ لا بدّ من أن تخضع للمعاناة الفكرية الذاتيّة، لا للتقليد والمحاكاة للآخرين.
المانع الثالث: السلطة والزعامة
﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا منْ فَضْلٍ﴾(1). هذا هو الأمر الثالث الذي يرونه مانعاً من اتّباع الرسول، فهم يرون الإيمان بالرسالة امتيازاً اجتماعياً يقدّمه المؤمنون للداعية أو للرسول، ليتبوّأ مركز القيادة للمجتمع، فلا بدّ من أن يكون له بعض التميّز في المستوى الاجتماعي، لجهة امتلاك الجاه أو المال أو القوّة أو غير ذلك، ليقبل الناس على الخضوع له من موقع القيمة الطبقية التي يتمتّع بها، بينما لا يمتلك نوحٌ والمؤمنون معه شيئاً من تلك الامتيازات والفضائل، بحيث تصلح أساساً لاتّباعهم له ولالتزامهم بقيادته الرسالية...
﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾(2)، لأنكم لا تملكون قاعدة صدق تتأسس على مستوى اجتماعي أو موقع مالي أو غير ذلك، لأنّ المستضعفين ـ أمثالكم ـ قد يتوصّلون إلى أطماعهم في المواقع المتميّزة بواسطة الدعوات الكاذبة التي تجتذب الجماهير وتثير مشاعرهم وعواطفهم. لذلك، ليست دعوتكم سوى وسيلة من وسائل الحصول على النفوذ الذي لا تملكونه، بل تحاولون الحصول عليه بالإيمان الذي تعلنون أنكم تعتقدونه وتلتزمون به على أساس أنه الحقيقة القاطعة، وبالتالي فإننا لا نجد لديكم أي برهان واضح على ما تدعون إليه من موقع النبوة.
وربّما كان تبريرهم لرفض الدعوة مرتكزاً على الظنّ لا على اليقين، ما يوحي بأنّهم لا ينطلقون من حجّة على نسبة الكذب إليهم، بل ينطلقون من حالة احتمال ذاتي، من خلال الأجواء التي أثاروها في خط المواجهة، مما لا يمثل أيّ موقف يبعث على احترام الحكم.
الاتهام بالجنون:
ويتصاعد التحدّي باتّهامه بالجنون: ﴿إنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾(1)، لأن الّذي يدَّعي هذا الادعاء غير المعقول في الإيمان بالله الواحد، وفي رفض عبادة الأصنام التي ورثوها عن آبائهم الأولين، لا بد من أن يكون به مسّ من الجنون وغيبوبة في العقل، لأنه يتحدّى العقيدة السائدة بين الناس، ولاسيما العقلاء منهم الذين يتحرّكون في التزاماتهم وممارساتهم ومواقفهم وعباداتهم عن دراسة وتفكير من موقع الحسابات العقلية، كما أنه لا يدرس الواقع الذي يأخذ به الناس كلّهم في عقيدتهم وسلوكهم، ويزعم لنفسه الاتصال بإله بشكل مباشر أو غير مباشر.
إنّ هذا كلّه لا يصدر عن شخص يملك عقلاً، في حسابات الأفكار في مواقع الخطأ والصواب، ولا توازناً في طروحاته الاجتماعية التي تجعل الناس يرفضونه ويسقطون احترامهم له، فلا يردعه ذلك عن دعوته اللاّعقلانية، ﴿فَتَرَبَّصُوا بِهِ﴾، أي أمهلوه واصبروا عليه حتى ينكشف أمره ﴿حَتّى حِينٍ﴾، فقد يرجع إلى منطق العقل، ويتخلّص من هذا الجنون المطبق، وتابعوا الضغوط عليه بمختلف الوسائل، وأصرّوا على مواقفكم والتزاماتكم التقليدية وأوضاعكم العبادية، فإذا بقي على جنونه وانحرافه، كان لكم أن تصادروا حياته وتقتلوه، لأنّه أراد أن يبدّل دينكم وينشر في الأرض الفساد.
إنّه الموقف المرتبك المتخبّط الذي يلتزمونه، فيدفعهم إلى البحث عن كلمةٍ، أيّ كلمة، لمواجهة دعوة الرسول، لتكون نتيجة هذا الموقف أنّهم يرفضون الرسالة لبشرٍ، ويرضون الربوبية للحجر، وينكرون المبدأ في هويّة صاحب الرسالة، ثم يحكمون عليه ـ في اتهام حاقد ـ بالجنون دون أيّ دليل على ذلك، فهم لم يروا في شخصيّته أيّ خلل في رأي أو سلوك، ولكنّه المأزق الذي يعيشه أصحاب الكفر والضلال، فيبحثون عما يؤكّد به ضلالهم، حتى بالباطل.
الجنون في مواجهة الرسالات:
وتلك هي قصة الناس في كل زمان ومكان، في تنكّرهم للحقّ، وإصرارهم على العناد دون إعمال الفكر والوجدان. وقد بدأت مسألة اتّهام الرسول بالجنون مع نوح كما جاء في قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾(1)، وامتدّت إلى كلّ الرسل، كما جاء في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾(2)، أيضاً واجه المشركون النبي محمداًw بتلك الكلمة، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾(3)، وقوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾(4)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾(5).
وقد جاء الردّ عليهم في القرآن بعدّة آيات، منها قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾(2)؛ فنحن نقرأ في هذه الآية، أن الله أراد للنبي محمدw أن يواجه الموقف المعادي الذي وقفه المشركون، في نسبة الجنون إليه، بأن يدعوهم إلى التفكير كلٌّ منهم بشكلٍ ذاتي، بعيداً عن عناصر الإثارة الجماعية، ممّا يبتعد معها الإنسان عن حيادية التفكير، ويجعلهم يتحرّكون في الأمور بطريقة انفعالية بعيداً عن هدوء العقل، وذلك بأن يفكر الإنسان في نفسه تفكيراً ذاتياً هادئاً، أو بالدراسة الموضوعية مع غيره، ليصل إلى النتيجة الحاسمة، وهي سقوط هذه التّهمة، وذلك بالتعرّف إلى عناصر شخصية النبيw، ليعرفوا أنه مرسل من خلال كلامه وحواراته وممارساته التي تتمثّل فيها عناصر العقل والأخلاق في أسمى مراتبها، وبذلك يعرفون أنّه مرسل إليهم من الله لينذرهم عذاب يوم القيامة في حال إصرارهم على الشرك والانحراف عن الخطّ المستقيم.
وهكذا كانت هذه التهمة العدوانية تعبيراً عن هروبهم من منطق الحقّ الذي يحاصرهم ويتحدّاهم فيما تدعوهم إليه الرسالة ويتحرك به العقل، لأنّهم ـ في دراستنا لأسلوبهم القلق في مواجهتهم للرسول والرسالة ـ لا يملكون الردّ العقلاني، ولا يريدون أن يحرّكوا القضية من خلال العقل كما يفعلون في أمورهم العادية في حياتهم الخاصة أو العامة، ليدخلوا معه في حوار جدّي موضوعي حول مضمون الدعوة، في المبادئ الإيمانية والعملية التي يطرحها، والمفاهيم التي يطلقها، والشريعة التي يبلّغها، والبراهين الّتي يؤكّدها.ويبقى للعقل الرسالي الذي يدعو القرآن إلى الأخذ به، أن يفرض نفسه على كل هؤلاء، ليتساقط الكافرون أمام تعقيداتهم النفسية من خلال عجزهم عن الردّ، أو فشلهم في إسقاط الرسول وإبعاد الناس عنه ومنعهم من الاستماع إليه، حذراً من اقتناعهم برسالته وإيمانهم بأفكاره. وتلك هي قيمة الإسلام في خطِّ المواجهة للعدوان في واقع الكافرين والمشركين؛ إنه يخاطبهم بالعقل حتى لو كانوا ممّن لا يعقلون. والحمد لله ربّ العالمين.












































    المواجهةبالمثل
    السخريةفيمسيرةالأنبياء
    السخريةمنأتباعالأنبياء
    سخريةالمنافقينمنالمؤمنين
    الردّالإلهيعلىاستهزاءالمنافقين
    الانحرافالذهنيلدىالكافرين






















المواجهة بالمثل:
لقد كانوا يواجهون أعمال نوحt ومواقفه بأسلوب بعيد عن الاحترام، فلم تكن معاملتهم له معاملة إنسانية تتميّز بالاحترام، كصاحب دعوة تفرض عليهم التفكير فيها ومناقشته في مفرداتها ومبادئها، ولم تكن طلباتهم منه واقتراحاتهم عليه طبيعية، بل كانت أقرب إلى طريقة الفرض القهري. وربما كانوا يتّهمونه بأنه ينطلق في دعوته من الرغبة في الزعامة عليهم، أو الحصول على أموالهم، أو ادّعائه الأشياء الغيبية للسيطرة على خزائن الأرض، من دون أن يصدر منه أيّ حديث عن ذلك، سرّاً وعلناً.
وكانوا يستخدمون ضدّه أسلوب السخرية الذي يوحي بالاحتقار لشخصه، تماماً كما هي السخرية بالإنسان العابث الذي يقوم ببعض الأعمال التي تدفع إلى الهزء به والضحك عليه وإضحاك الناس من حوله، وهذا ما نحاول الحديث عنه في عدة نقاط:
1 - السخرية من قيامه بصنع السفينة، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ...﴾(1)، فكانوا يسخرون منه وهو مستمر في صناعته بجدّ واجتهاد في الليل والنهار، وكان عمله موضع استغراب؛ لأن المنطقة التي كان يعيش فيها فلاة لا وجود للماء فيها أو في المواقع القريبة منها، وهو ما كان يوحي إليهم بأنّ عمله هذا هو حالة من حالات العبث أو مظهر من مظاهر ضعف العقل. لذلك كان موضع سخرية قومه، ﴿وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ من قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ﴾، بما يحملونه في أنفسهم تجاهه من عقد خبيثة تجعلهم يعملون على تدمير شخصيته، والحكم على الأشياء بطريقة سطحية لا تنفذ إلى أعماق الأمور.
فلو فكروا بطريقة موضوعية، لدرسوا تاريخ حياته الذي يكشف لهم عن قوة فكره وسلامة عقله، ولسألوه عن سرّ عمله الغامض في الظاهر، باعتباره صادراً عن شخص يملك العقل الكامل والذهنية المتوازنة؛ ليتمكّنوا ـ بعد استجماع كل عناصر الموضوع ـ من إصدار الحكم عليه، وذلك بعد الاستماع إلى إجاباته في خلفيات هذا العمل؛ فهل هو مكلف من قِبَل جماعة من الناس في صناعة الفلك ممن قد يكونون بحاجة إليها في منطقة أخرى، أو أنه ينتظر هطول الأمطار بشكل واسع يغرق المنطقة بالمياه؟ إلى غير ذلك من الاحتمالات المعقولة التي تخضع للمناقشة والجدال معه، ولكنهم لم يفعلوا ذلك ولم يسألوه، بل بادروا إلى السخرية منه، لرغبتهم في تحطيمه.
ومن الواضح أن مثل هذا الأسلوب قد يترك تأثيره السلبي على الشخص، ويدمّر ثقته بنفسه، ويحطّم وضعه الاجتماعي، من خلال ما يوحي به إلى الناس من أنّه من الأشخاص الذين يثيرون السخرية لا الاحترام؛ ولكنّ الله أراد أن ينقذ نوحاً t من المؤثّرات النفسية الذاتية السلبية، ومن الإذلال الاجتماعي، فأوحى إليه بالطريقة التي تجعله في موقع الهجوم عليهم، ليواجه الاحتقار الصادر من قِبَلهم باحتقاره الصارخ لهم، كوسيلة من وسائل الإيحاء بأنّه يقف في موقع القوّة لا في موقع الضعف، وفي حالة التحدّي في مقابل تحدّيهم له، وذلك بأن يردّ الأسلوب بمثله، لأن الفكر إنما يكون لمن يحترمون الفكر، والحوار ينشأ مع من يريدون الحوار ويؤمنون بفاعليته في قضيّة الوصول إلى الحقيقة.
أما الذين يستخدمون العنف النفسي، ويريدون التحطيم والتدمير عن قصد وتصميم شرّير، فلا بدّ من مواجهتهم بأسلوبهم، والردّ عليهم بوسائلهم، لأنّ ذلك هو الذي تقتضيه الحكمة في مواجهة الموقف بما يتطابق مع مقتضى الحال. وهكذا أراد الله له أن يقول فيما ألهمه من وحي الحكمة: ﴿قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾، فذلك هو ردّ الفعل على موقفهم السلبي منه، ولكنه يختلف في دوافعه عما انطلقوا فيه؛ فإذا كانت سخريتهم ناشئة من عقدة استكبارية، أو من جهل بطبيعة العمل الذي يقوم به، فإنّه يسخر منهم من موقع اطّلاعه على النهاية السيّئة المهلكة التي سينتهون إليها، تماماً كالأشخاص الذين يلقون بأنفسهم إلى التهلكة من دون أن يعرفوا نتائج عملهم الخطير.
﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾(1)، من دون أن تشعروا وتفكّروا أو تواجهوا ذلك بجديّة ومسؤولية، فإن من يعبث بما يمثّل قضية المصير عنده، أدعى للسخرية ممّا تسخرون منه في عملي هذا، لأن مقدار العبث فيما عندكم، أشدّ من العبث الذي تتصوّرونه في صنع السفينة التي لا تعرفون طبيعة الحاجة إليها، فستكتشفون أن صناعتها أمر جديّ كل الجديّة، لا مجال فيه لأي عبث أو جهل أو ما يشبه ذلك، فهو مما يتّصل بمصيركم النهائي الذي سوف تواجهونه في المستقبل الأسود في ظلام الإرادة الشاملة، وستعرفون أن قضية السفينة تتصل بهذا المصير، لا بشيء آخر، وهذا ما يجعل سخريتي منكم منطلقةً من الحقيقة النهائية في وجودكم كله.
وهذا هو الأسلوب الذي نستوحيه في مقام الدعوة إلى الله، عندما يعترضنا الكافرون بأسلوب السخرية، لتمييع الجو المحيط بالدعوة، وتعريضه للضحك والعبث، بهدف إسقاط الدعوة والدعاة، ولاسيما إذا وقف الداعية للدفاع عن الفكر بأسلوب جدي، واستخدم في ذلك أدلة علمية، فإنّ الجو الضاحك العابث يحوّل ذلك إلى مادّة للسخرية، ليحطموا وقار العلم الذي يمثله الفكر بأدوات الجهل، ما يجعل من الموقف الجادّ موقفاً خاسراً على أكثر من صعيد.
ولذلك، فإنّ الموقف الحكيم يقتضي مواجهة أساليبهم الساخرة بسخريةٍ واستهزاء، لإحداث صدمةٍ قويةٍ عند المستهزئين تُسقط موقفهم وتهزم أساليبهم، فيتراجعون وينهزمون، في حين يقف الداعية موقف المنتصر المتماسك الذي لم يسمح للعبث أن يحطّم موقع الجدّ من فكره، ولم يدع للضعف أن يقترب من شخصيته، لينعكس ذلك على موقع الرسالة الثابتة في ساحة الحق.
السخرية في مسيرة الأنبياء:
ولم يكن نوح tبدعاً من الأنبياء في سخرية قومه منه، بل كانت مسيرة الأنبياء تواجه السخرية والاستهزاء من خلال حالة الاحتقار الإنساني التي يمارسها أقوامهم عليهم، لجهة نظرتهم إلى دعواهم بالنبوة من قِبَل الله، استصغاراً لمواقعهم الاجتماعية في مجتمعاتهم، وللمضمون الرسالي الذي جاؤوا به وبلّغوهم إياه، ولم يخلُ نبيّ من ذلك في مدى الزمن، وهذا ما تحدّث به القرآن الكريم في عدة آيات، فمنها قوله تعالى: ﴿يَاحَسْرَةًعَلَىالْعِبَادِمَايَأْتِيهِممِّنرَّسُولٍإِلاَّكَانُوابِهِيَسْتَهْزِؤُون﴾(1). وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدِاسْتُهْزِئَبِرُسُلٍمِّنقَبْلِكَفَحَاقَبِالَّذِينَسَخِرُواْمِنْهُممَّاكَانُواْبِهِيَسْتَهْزِئُونَ﴾(2). وتوحي هذه الآية، أن أسلوب السخرية مهما امتدّ وتنوّع، فإن الله سينـزل بكل هؤلاء العقوبة التي تحوّل سخريتهم إلى مصير أسود يلاقونه في الدنيا والآخرة، وبئس المصير.
وقد أصاب النبي محمداًw ما أصاب الأنبياء قبله من الاستهزاء، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَإِذَارَأَوْكَإِنيَتَّخِذُونَكَإِلاَّهُزُواًأَهَذَاالَّذِيبَعَثَاللَّهُرَسُولاً﴾(1)، من خلال ما يطلقه المستكبرون من إشارات السخرية تجاه من هم دونهم في الموقع الطبقي، بحيث يعملون على استخراج مواقع الهزء مما يمكن أن يكون مثاراً لذلك، ومما لا يكون كذلك، لأن المسألة عندهم ليست مسألة واقعية الهزء في شخصيته، بل هي مسألة إثارة الجو الساخر في أجواء الساحة العامة، ليساهم ذلك في إسقاطه، ويتمثّل ذلك في الفقرة الأخيرة من الآية، ﴿أَهَذَاالَّذِيبَعَثَاللَّهُرَسُولاً﴾، في إشارة ساخرة توحي باستبعاد ذلك، لتقول للناس: هل من المعقول أن يكون هذا الفقير اليتيم الذي لا يملك موقعاً اجتماعياً في الدرجة العليا من المجتمع رسولاً لله؟ ولماذا لا يكون غيره من أصحاب النفوذ المادي والمعنوي في حياة الناس ممن تتناسب الرسالة مع درجته، ليكون ذلك أساساً لنفوذ الرسالة في قناعات الناس الذين يأبون الخضوع في أفكارهم إلا للذين يقدّمون لهم الخضوع في أوضاعهم العامة من خلال امتيازاتهم الطبقية؟!
كما أنهم أخذوا يشيرون إليه بطريقة تدعو الآخرين إلى الاستغراب والهزء والضحك من هذا الداعية الذي يدّعي في هذه الدعوة ويثيرها أمام الناس، وكأنهم يريدون للناس أن يفهموا أن مجرد النظرة إليه كافية للاستهزاء به، من دون ضرورة للدخول في التفاصيل، لأن طبيعة النظرة الساذجة توحي بالفكرة.
وهناك آية مماثلة لهذا المضمون، وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذَارَآكَالَّذِينَكَفَرُواإِنيَتَّخِذُونَكَإِلاَّهُزُواًأَهَذَاالَّذِييَذْكُرُآلِهَتَكُمْوَهُمبِذِكْرِالرَّحْمَنِهُمْكَافِرُونَ﴾(2)، لأن مقاييسهم ليست الكفاءات العلمية والملكات الروحية والعقلية التي يملكها الإنسان للحصول على احترامهم الذاتي والاجتماعي، بل هي الامتيازات المالية والطبقية، أو أمثال ذلك مما يتصل بالأمور الخارجة عن الذات، أو مما يستعيره الإنسان من نسبه أو ماله أو موقعه الاجتماعي. وبذلك كانوا ينظرون إلى الرسول نظرة سخرية واستهزاء، لأن دعواه النبوّة تحتاج إلى مركز كبير ورفيع في المستوى الاجتماعي، وهذا ـ في نظرهم ـ لا يتناسب مع فقره ويُتمه وفقدانه للمقومات الطبقية المرموقة في عرفهم العام، فهم يشيرون إليه باستهانةٍ وتحقير: مَن هذا الذي يذكر آلهتكم ويهاجمها ويعمل على إبعاد الناس عنها وعن عبادتها، في الوقت الذي لا يملك أي موقع يسمح له بذلك؟! ﴿وَهُمبِذِكْرِالرَّحْمَنِهُمْكَافِرُونَ﴾، لأنهم لا يؤمنون بتوحيد الله وبعظمة رسالاته، ولذلك، فهم يتنكرون لرسله، ويستصغرون قدرهم، ولا يفهمون طبيعة العلاقة بين الرسالة والرسول، فيما يفرضه المعنى الروحي للنبي، بعيداً عن المعاني المادية للإنسان وللمجتمع. وفي ضوء ذلك، يتعجبون من جرأة هذا الشخص العادي على مقام الآلهة العظيمة التي يعبدونها ويتلمّسون حاجاتهم عندها.
السخرية من أتباع الأنبياء:
ولم تقتصر الفئات المضادة للأنبياء على السخرية من أصحاب الرسالات، بل إنها امتدّت إلى أتباعهم ممن آمن بهم وبرسالاتهم، وذلك من أجل إسقاط مواقعهم الاجتماعية من جهة، وتدمير أوضاعهم النفسية من جهةٍ أخرى، ومحاولة تحطيم ثقتهم بأنفسهم، باعتبار أن هذا الأسلوب الاحتقاري قد يثير فيهم الإحساس بأنهم منبوذون من المجتمع، فيمنعهم ذلك من الانطلاق بقوة في خط الدعوة، لأن الناس قد لا يستمعون إليهم بفعل تلك الأساليب، باعتبار أنهم قد يأخذون الانطباع بانفصالهم عن مواقع الثقة في المجتمع.
ونقرأ في بعض الآيات القرآنية نماذج من الحديث عن هذه الظاهرة، كما جاء في قوله تعالى: ﴿زُيِّنَلِلَّذِينَكَفَرُواْالْحَيَاةُالدُّنْيَاوَيَسْخَرُونَمِنَالَّذِينَآمَنُواْوَالَّذِينَاتَّقَواْفَوْقَهُمْيَوْمَالْقِيَامَةِوَاللَّهُيَرْزُقُمَنيَشَاءبِغَيْرِحِسَابٍ﴾(1). ونستوحي من هذه الآية، أن الكافرين يواجهون الحياة الدنيا بالطغيان المادي، من خلال الاستغراق في شهواتها ورغباتها وطيباتها، بالمستوى الذي يشعرون معه بأنهم يملكون الأمر كله، وبذلك تمتلىء قلوبهم بالكِبر والشعور بالفوقية تجاه غيرهم من الذين يعيشون الحياة بشكل متواضع من خلال قيمها ومبادئها وارتباطها بالله، ويتحول هذا الشعور إلى سخرية من المؤمنين، ولاسيما الفقراء منهم، فيما يقولون ويفعلون، أو في ما يواجههم من متاعب وتضحيات لحساب إيمانهم، وفيما يقدمونه من جهد كبير في سبيل الله.
سخرية المنافقين من المؤمنين:
وجاء في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَيَلْمِزُونَالْمُطَّوِّعِينَمِنَالْمُؤْمِنِينَفِيالصَّدَقَاتِوَالَّذِينَلاَيَجِدُونَإِلاَّجُهْدَهُمْفَيَسْخَرُونَمِنْهُمْسَخِرَاللَّهُمِنْهُمْوَلَهُمْعَذَابٌأَلِيمٌ﴾(2). وهذه هي سيرة المنافقين الذين كانوا يعيبون على المتطوعين بالعطاء، ولاسيما الذين يملكون المال الكثير، على أساس التقرب إلى الله بالصدقة، فيتهمونهم بالرياء وبالرغبة في الحصول على الموقع الاجتماعي عندهم، كما يعيبون على الفقراء المعسرين الذين لا يجدون سعةً في المال، بل كل ما عندهم هو جهدهم الذي يقدمونه في سبيل الله، ﴿فَيَسْخَرُونَمِنْهُمْ﴾، احتقاراً لفقرهم، ولتقبّلهم الصدقة التي يبذلها الأغنياء لهم، ما يجعلهم ينظرون إليهم على أنهم في الموقع الأسفل من المجتمع.
﴿سَخِرَاللَّهُمِنْهُمْ﴾، لأنهـم يحسبـون أنفسهـم في موقـع القوة، وهم ـ في الواقع ـ في موقع الضعف، بحيث يخيّل إليهم أنهم يمثلون الذكاء، ولكنهم يمثلون الغباء الفكري والعملي، لأنهم لا يبلغون ما يريدونه من كل ذلك، فيضيع جهدهم هباءً، ما يدعو إلى السخرية، فهم لا يملكون إلا الكلمات الساخرة والحركات العابثة، مما هو بعيد عن المستوى الإنساني في حساب القيمة الإنسانية التي يرتفع بها الناس إلى الدرجات العليا، فلو رجعوا إلى أنفسهم، وحدّقوا في داخلها، لرأوا كيف يتمثلون الانحطاط في ذواتهم، وكيف يعيشون أسرى أنانياتهم، فلا يحملون أي قيمة، فيما القيمة الكبرى تتمثّل بأهل العطاء الذين يعيشون حالة التقرب إلى الله وإخلاصهم له، حين يمدّون العون إلى أخوتهم الفقراء، فيما هؤلاء لا يشعرون بالذلّ في تقبّل العطاء الصادر من المؤمنين الآخرين الذين يتحمّلون مسؤولية إيمانهم في تعزيز رابطة الأخوة الإيمانية، والمشاركة الأخلاقية. ﴿وَلَهُمْعَذَابٌأَلِيمٌ﴾، في يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، جزاء سخريتهم بالمؤمنين، وتمردهم على الله ورسوله.
الردّ الإلهي على استهزاء المنافقين:
وفي آية أخرى، يكشف القرآن عن وسائل المنافقين في الكيد للإسلام والمسلمين، وذلك عندما ينطلقون بأسلوب الاستهزاء الذي يحاولون من خلاله الإساءة إلى الواقع الإسلامي بطريقة نفسية، تهزم الروح القوية التي تنطلق بها المسيرة في خط المواجهة في طريق المستقبل، ولكنهم يحاولون أن يحققوا ذلك بطريقة خفية لا تكشف نفاقهم، ليتمكّنوا من اللعب بحريةٍ في داخل المجتمع ليعيثوا فيه فساداً، بحيث لا يشعر بهم أحد. وكانت تجاربهم السابقة تملأ قلوبهم بالخوف من فضح أمرهم، فيما يمكن أن ينزل به القرآن في أيّ وقت، ليحدّث المسلمين عن خفاياهم وأساليبهم الشيطانية في الكيد للإسلام والمسلمين.
لذلك، فهم يعملون ما يعملون بروح قلقة حذرة، وبذهنيةٍ خائفة مرتبكة، وذلك هو شأن المنافقين في كل زمان ومكان، فيما يريدون أن يحصلوا عليه من الثقة بهم مع الحفاظ على مكاسبهم في اتجاه خطّ التآمر والكيد، والآية التي عالجت هذه المسألة هي قوله تعالى: ﴿يَحْذَرُالْمُنَافِقُونَأَنتُنَزَّلَعَلَيْهِمْسُورَةٌتُنَبِّئُهُمْبِمَافِيقُلُوبِهِم﴾(1) من النوايا الخبيثة السيئة التي تفضحهم فيما يريدون أن يفعلوا أو يتركوا في اتجاه الهدم والإضلال، ﴿قُلِاسْتَهْزِئُوا﴾ ما امتدّ بكم المجال من أساليب السخرية والاستهزاء بالإسلام والمسلمين، فسيكشف الله لنا ذلك كله، لنواجهه بالأساليب المناسبة التي تبطل مفعوله وتعطّل نتائجه.
﴿إِنَّاللَّهَمُخْرِجٌمَّاتَحْذَرُونَ﴾ من خلال ما يظهره ويكشفه للناس ﴿وَلَئِنسَأَلْتَهُمْلَيَقُولُنَّإِنَّمَاكُنَّانَخُوضُوَنَلْعَبُ﴾(2)، ولكن هذا عذر أقبح من ذنب، فهل يمكن أن تكون قضية الرسالة والوحي والرسول والجهاد في سبيل الله، من القضايا التي يخوض الناس فيها كما يخوضون في أحاديث الباطل، أو أن يتلاعب بها اللاعبون، أو كما لو كانت شيئاً من الهزل الذي لا يمثل قيمة حقيقية في حياة الناس؟! إنه العذر الذي يؤكد حقيقة الجريمة، بسبب ما يمثله من روحية سلبية ضد الله والرسول ﴿قُلْأَبِاللَّهِوَآيَاتِهِوَرَسُولِهِكُنتُمْتَسْتَهْزِئُونَ﴾، من خلال ما يمثله الخوض واللعب من عدم احترام واستهزاء بطريقة غير مباشرة.
الانحراف الذهني لدى الكافرين:
ونقرأ، في نهاية المطاف، الآيات التي تصوّر طريقة المجرمين في السخرية من المؤمنين: ﴿إِنَّالَّذِينَأَجْرَمُوا﴾ وهؤلاء هم الكفار الذين جسدوا جريمة الكفر في عقولهم وانتماءاتهم، وعاشوا مسؤولية الدعوة إليه، والوقوف ضد كل دعوة للإيمان بالله، فكانت الجريمة مزدوجةً من خلال ما عاشوه في أنفسهم، وما اعتدوا به على غيرهم في إقامة الحواجز بينهم وبين الإيمان، أو في منع المؤمنين من حرية الحركة في الانتماء والدعوة، والعمل على اضطهادهم بمختلف الوسائل التي يملكونها في ذلك الاتجاه، ومنها أنهم ﴿كَانُواْمِنَالَّذِينَآمَنُوايَضْحَكُونَ﴾(1) فإذا رأوا ما عليه المؤمنون من الضعف، لأنهم لا يملكون السلاح الذي يدافعون به عن أنفسهم، أو القوة الاجتماعية التي تمنع الآخرين من العدوان عليهم، وإذا نظروا إلى الجديّة في مواقفهم، والترفّع عن مواجهة السفهاء بالسفه، اتخذوا ذلك مادّةً للسخرية والفكاهة، ﴿وَإِذَامَرُّواْبِهِمْيَتَغَامَزُونَ* وَإِذَاانقَلَبُواْإِلَىأَهْلِهِمُانقَلَبُواْفَكِهِينَ﴾(2) سواء بالكلمات الضاحكة، أو بالتصرفات العابثة التي تنالهم بالأذى، أو بغير ذلك مما يضحكون منه، فيواجههم المؤمنون بالصبر الواعي الذي لا يسقط تحت ضغوط الحاضر، بل يتطلع إلى انفتاحات المستقبل.
﴿وَإِذَارَأَوْهُمْقَالُواإِنَّهَؤُلاءلَضَالُّونَ﴾ لأنهم يرون من خلال ذهنيتهم المنحرفة، أن الكفر يمثل خط الهدى، وأن الإيمان يمثّل خط الضلال، من دون وعي فكري أو روحي للخط الأصيل للاستقامة، فيخيّل إليهم أنهم على حق، وأن المؤمنين على باطل، فينسبون الضلال إلى المؤمنين ﴿وَمَاأُرْسِلُواعَلَيْهِمْحَافِظِينَ﴾(3)، بمعنى من الذي أعطى هؤلاء المجرمين صلاحية إصدار الأحكام على المؤمنين؟ وماذا يملكون من الحقّ الذي يبرّر لهم هذه النظرات؟ ومن هم في التقويم الإنساني ليجعلوا من أنفسهم قيّمين على الناس وعلى المؤمنين بالذات؟
إنّ الآية تسخر منهم، لأنهم يتدخلون فيما ليس من شأنهم، وينسبون إلى أنفسهم موقعاً لا يملكونه ولا يليقون به، وهذا ما يجعلهم لا يعرفون قدرهم، ولا يقفون عند حدّهم. فماذا كانت النهاية؟ ﴿فَالْيَوْمَ﴾ يوم القيامة الذي يقف فيه كل إنسان في موقعه الطبيعي، فيما يستحقه من ثواب أو عقاب، وهو يوم العدل الذي يأخذ فيه المظلوم حقه من ظالمه ﴿الَّذِينَآمَنُواْمِنَالْكُفَّارِيَضْحَكُونَ﴾ لأنهم استغرقوا في العاجلة وتركوا الآجلة، فها هم محجوبون عن ربهم، محترقون بنار الجحيم، خاضعون لكل أساليب الإهانة والتأنيب، فأية سخرية أكثر لذعاً من هذه السخرية التي قد لا يحتاج الناس إلى إثارتها لتثير الضحك! ولكن الواقع يشير إلى نفسه في عملية ضحك على المصير ﴿عَلَىالأَرَائِكِيَنظُرُونَ* هَلْثُوِّبَالْكُفَّارُمَاكَانُوايَفْعَلُونَ﴾(1)، فهل هناك إلا اللهب المتصاعد، والأجساد المحترقة التي تتصاعد منها رائحة الشواء، فأيّة سخرية مريرة يواجهونها في كلمة الثواب؟ وأيّ ثواب؟ والحمد لله ربّ العالمين.



























    كيفتعاملقومنوحمعه؟
    ردّنوحtعلىمطالبقومه
    علاقةالنبيبأتباعه
    التزامالدعاةبخطالدعوة
    التحذيرمنالاستجابةللمستكبرينالمترفين































كيف تعامل قوم نوح معه؟
يشير تعالى في كتابه الكريم إلى بعض الطروحات التي قدّمها قوم نوحٍ إليه، كنوعٍ من الذرائع التي تمنعهم من تلبية دعوته لهم إلى الإيمان بالله الواحد، وردّه عليهم بالقول: ﴿وَمَا أنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أرَاكُمْ قَوْمَاً تَجْهَلُونَ* وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إنْ طَرَدْتُهُمْ أفَلا تَذَكََّرُونَ﴾(1)، وفي آية أخرى: ﴿وَمَا أنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ* إنْ أنا إلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾(2).
فلقد طرحوا عليه أن يطرد الذين آمنوا به وأحاطوا بموقعه، لأنهم لا يمثِّلون في التقويم الاجتماعي إلاّ الأراذل من الناس، ما يمنع وجهاء القوم من أن يفكّروا في اللقاء معه والجلوس إليه، فضلاً عن اتّباعه؛ لأن ذلك لا يتناسب مع المكانة التي يملكونها، بل إنه قد يصيب موقعهم بالضعف والسقوط... وكأنهم يقولون له: إنك إذا طردتهم، فقد نفكّر في إدارة الحوار معك فيما تدعوننا إليه، لنقبله أو لنرفضه، باعتبار أنّ الحوار معك إذا كان بعيداً عن هؤلاء، فإنه قد يمنحنا الفرصة التي تتناسب مع مكانتنا الكبيرة.
ولكن نوحاًt رفض الاستجابة لما طرحوه عليه من استبعاد هؤلاء المؤمنين عن ساحة الرسالة في الحياة، وربما اكتشف أنّ طلبهم هذا في إبعاد الناس عنه هو لإضعاف دعوته الرسالية، ليبقى بينهم وحيداً لا يملك أحداً يؤيّده أو يدافع عنه، وقد يمنع الناس الآخرين من التفكير في اتباعه، لأنهم يرونه ضعيفاً أمام كبار قومه، ولأنّه تخلى عن أصحابه المؤمنين به، في الوقت الذي لم يؤكّدوا له أنهم سوف يؤمنون به ويتبعونه في رسالته، بل كانت المسألة عندهم هي خديعته والإيحاء بسذاجته التي تتقبّل ما يُعرض عليه من التراجع عن موقعه الرسالي وعن جمهوره الإيماني، كخطةٍ لإسقاطه في المجتمع كله، فلا يبقى له أي تأثير في الناس.
ردّ نوحt على مطالب قومه:
وقد أكد لهم نوحٌ، بوعيه العقلي وتفكيره الحركي، أنّه لا يملك هؤلاء المؤمنين به، وأنّ تبعيّتهم له لم تكن تبعيةً شخصيةً، بل كانت إيماناً بالله وبرسوله وبرسالته، ما يجعلهم يشاركونه في مسؤولية الرسالة أمام الله الذي يملك أمرهم كما يملك أمره. ولذلك كان قوله إني لا أملك أمرهم، كما لا أملك تقويم ما في نفوسهم وصدق إيمانهم وجدية انتمائهم من خلال الأسس التي ترتكزون عليها في حكمكم على الأنبياء والأشخاص، أو من خلال الاتّهامات التي تثيرونها ضد مواقعهم التي تحتقرونها، كما أنّكم لا تملكون صلاحية الحكم عليهم أو محاسبتهم على اختياراتهم التي لا ترتضونها، فسوف يلاقون الله الذي آمنوا به ليواجهوا النتائج الحاسمة لموقفهم، فهو العالِم بخفايا الناس بما تختزنه نفوسهم من صدق الإيمان وجدّية المواقف، وهو ـ وحده ـ وليّ الحساب ومالك الحكم.
وقد بيّن لهم أنّ المشكلة تكمن في طريقتهم في الطرح الذي يطرحونه، وفي أسلوبهم في التقويم والحكم على الواقع في مسألة التكريم والاحترام، ما يدل على جهلهم بالله وبرعايته لعباده المؤمنين، كما يتمثّل هذا الجهل بدعوتهم إلى اضطهاد إنسانيّة هؤلاء المؤمنين في التزامهم بما يقتنعون به من الإيمان بالله، باعتبار أن للإنسان الحرية في اختيار عقيدته، وأن المخالفين له لا بد لهم من أن يحاوروه في ذلك، لا أن يطلبوا منه طردهم من ساحة الذين آمنوا برسالته، فإنّ هذا السلوك يدلّ على التخلّف الجاهل.
ثمّ يتابع النبي نوحt تبيان موقفه ومسؤوليته أمام الله إذا استجاب لطلباتهم، لأن الله سبحانه لا يبيح له ذلك، بل يحرّمه عليه، حتى إنه يؤدي إلى غضبه منه وسخطه عليه وعقابه له في يوم القيامة، باعتبار أن هؤلاء من أولياء الله وأحبّائه، وأنّ الله يريد للنبي أن يقرّبهم إليه من خلال قربهم من الله: ﴿وَيَا قَوْمِ مَن يَنْصُرُنِي مِنَ الله إنْ طَرَدْتُهُمْ﴾(1)، فهم عباد الله الذين آمنوا برسالته وجاهدوا في سبيله، وتحمَّلوا أشدّ الأذى في سبيل هذا الانتماء، فاستطاعوا الحصول، من خلال جهادهم المرير، على محبّة الله ورضاه، كمظهر من مظاهر القرب منه، فكيف أطردهم وهم أحباء الله وأولياؤه؟! وهل تنصرونني من الله إن أنا طردتهم تحت تأثير إلحاحكم عليّ في ذلك؟! إنّ الله سوف يعاقبني على هذا الموقف، لأنّه لا يرضى من رسله ومن كل الناس الإساءة إلى عباده المؤمنين، بل يريد لهم أن يقوموا بنصرتهم ورعايتهم وحمايتهم من كل عدوّ حاقد ﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾، وتعرفون مواقع الأمور في مواردها ومصادرها ونتائجها الإيجابية والسلبية.
ويؤكّد النبي نوحt هذا الموقف في سورة الشعراء في قوله تعالى: ﴿وَمَا أنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ* إنْ أنَا إلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾، محدّداً علاقته بالناس من خلال صفة النبوة التي لا تدخل في إطار السيطرة عليهم التي قد تتمثّل في إبعادهم وطردهم من ساحته، ولاسيما مع اتّباعهم له وإيمانهم برسالته، فليس له أية صفة سوى صفة النذير الذي يرشد الناس ويقرّبهم من الله، ويبعدهم عن مواقع غضبه وسخطه، وعن النار التي أعدّها للكافرين، فإنّ الله لم يمنحه السيطرة عليهم، بل أراد منه الإرفاق بهم والإحسان إليهم، على هدى قوله تعالى: ﴿فذكِّر إنَّمَا أنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾(2)، وقوله: ﴿فمَا أرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظَاً﴾(3).
علاقة النبي بأتباعه:
ونلاحظ أنّ هذه البادرة النبوية التي تتحرك من خلال المسؤولية الإلهية في العلاقة بين النبي وأتباعه من المؤمنين، لم تقتصر على نوحt والمؤمنين معه، بل امتدت إلى الأنبياء من بعده، فيما كانوا يعانونه من قومهم الكافرين في مجتمعهم، ولاسيّما من الوجهاء والمترفين، الذين كانوا يأخذون عليهم اتباع الفقراء لهم، باعتبار أنهم يمثلون الطبقة السفلى في الحسابات الطبقية التي لا تتناسب مع علاقتهم بالأنبياء، ومن خلال ما يمثله هؤلاء من مستوى اجتماعي، فيمنعهم ذلك من قبول الدعوة، كحجّة يقدّمونها إلى النبي تبريراً لابتعادهم عنه وعدم إيمانهم به، وربما لم يكن ذلك مبرراً حقيقياً عندهم، بل هو مجرد وسيلةٍ من وسائل إبعادهم عنه، ليبقى وحيداً في موقعه، كما أشرنا إليه سابقاً.
وقد تحدّث القرآن الكريم عن وصية الله لرسوله محمدw في كيفية التعامل مع المؤمنين به، ممّن أخلصوا دينهم لله، وأفاضوا في عبوديتهم له بالدعاء الخالص، ورفض المتمرّدين على الله من الذين استسلموا للحياة الدنيا واتّبعوا أهواءهم وتجاوزوا الحدود المعقولة لهم في أوضاعهم. وهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾(1)، وهو كناية عن التزام الموقف الرسالي للمؤمنين الضعفاء الذين آمنوا بالله وبالرسول من موقع اليقين، واتّبعوا النبيّ من موقع الإخلاص، وانفتحوا على الله سبحانه من خلال وعيهم لحقيقة العبودية في وجودهم، أمام الألوهية في ذات الله، فابتهلوا إليه في حالات الخشوع، ودعوه في موقف الخضوع، فهم يمثّلون القوّة الحقيقية للإسلام في حركته، لأنّهم يعيشون فكره بعمق وروحانية وصفاء، ويتحرّكون في خطّه بإخلاص، ويواجهون التحدّيات في ساحة الصراع بقوّة.
وهؤلاء هم الامتداد الرسالي في حركة الحاضر والمستقبل، لأن الرسالة لا تمثّل ـ في وعيهم ـ الفرصة السانحة للحصول على الامتيازات الاجتماعية أو المنافع الشخصية، بل تمثّل الانطلاقة الواسعة نحو المسؤولية القائمة على أساس التضحية بكل شيء في سبيل الله، من أجل خدمة الإنسان والحياة، فيما يريده الله للعاملين أن يحقّقوه من ذلك.
التزام الدعاة بخط الدعوة:
وهكذا يريد الله من رسوله، ومن كلِّ داعيةٍ، أن يحبس نفسه مع هؤلاء، وأن يقرّبهم إليه، وأن يعيش معهم، وأن يصبر على مشاكلهم، ويتحمّل سلبياتهم، لأنّهم يعيشون مع الله في حياتهم، وهذا يتمثَّل بانقطاعهم إلى الله، ودعائهم له في الصباح والمساء، ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾، في أسلوب يعبّر عن إرادتهم لله وحده في كل وجهتهم في الحياة، في التزامهم الفكري والشعوري والعملي، أو في اتجاههم للحصول على رضا الله ومحبّته، فهم في التزامهم وعملهم لا يلتفتون إلى غيره، بل يتوجّهون إليه وحده، فالله هو غاية الغايات في حياتهم، فمنه تتحرّك بداية الحياة في كل خطواتهم، وإليه ينتهي كل هدف وأمر.
وهذا هو الخطّ الذي يريد الله للدعاة أن يلتزموه في اختيار المجتمع الذي يكونون جزءاً منه، أو يلتزمون حركته، أو يتعاطفون معه؛ إنّه المجتمع الذي يُخلص أفراده لله في الفكر والروح والممارسة، لأنه هو الذي يعطي لهم النموّ الروحي من خلال الأجواء الروحية، ويحقّق لهم الشعور بالثقة والثبات في الموقف، من خلال القوّة التي يعيشها المؤمنون ويمارسونها في داخله، وبذلك يكون المجتمع الإسلامي قوّةً لهم، كما يكونون قوةً له من خلال ما يعطونه من فكر أو يثيرونه في داخله من مشاعر وأجواء وقضايا.
﴿وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، أي لا تصرف عينيك عنهم، فتتركهم وتتّجه إلى مواقع الغنى والثروة والجاه والأجواء اللاهية العابثة التي تنادي الإنسان ليلهوَ ويعبث ويستمتع ويتزيّن، ويستسلم للشهوات، ويستريح للمواقع الطبقية التي يعيشها مجتمع الامتيازات الذي يتفاضل فيه الناس بالمال والجاه والنسب ونحو ذلك؛ فإنّ الاتجاه إلى هذا المجتمع والاستسلام له، يمثل لوناً من ألوان البعد عن روح الرسالة، والانحراف عن خطّ الله، ويؤدّي ـ في النهاية ـ إلى احتقار المجتمع الفقير المؤمن والنفور منه، الأمر الذي يساهم في إضعاف الروح الرسالية لدى الرساليين، من خلال الإقبال على الأجواء اللاهية المثيرة التي تربط الإنسان بالجانب المنحرف من الحياة، على أساس القيم المنحرفة التي يلتزمها مجتمع اللهو والعبث.
﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾(1)، وهم الذين استسلموا للغفلة في حركة وجدانهم الفكري والروحي، فلم ينفتحوا على الله من موقع الفكر والروح، ولم يصغوا بأسماع قلوبهم إلى آيات الله، ولم يلتفتوا إلى مواقع قدرته وأسرار عظمته، وعاشوا أجواء اللامبالاة أمام كل دعوات الحقّ والإيمان، واستراحوا لما اعتادوه من أوضاع وعادات وتقاليد منحرفة، ولما حملوه من أفكار ومشاعر، فلم يقبلوا بأيّ تغيير أو تبديل في مواقفهم.
وهذا هو المراد من إغفال الله لقلوبهم عن ذكره، وليس المقصود أن الله يريد لهم ذلك عن طريق الجبر الذي لا يملكون معه الاختيار، بل المراد حصوله من خلال قانون السببية الذي يجعل الغفلة نتيجةً حتميةً للسلوك اللاهي المتمرّد على كل دعوةٍ للفكر والحوار، تماماً كما في نسبة الأفعال الإنسانية إلى الله، باعتبار أن حركة السببية في حياتهم التي تربط النتيجة بالمقدّمات، هي التي أودعها الله في كيانهم، ولكنّ حركة الأسباب الفعلية بيد الإنسان. فالحتمية إنما هي في طبيعة السببية، لا في حركة السبب.
التحذير من الاستجابة للمستكبرين المترفين:
فالله سبحانه يقول: لا تطع ـ يا محمّد ـ هؤلاء الغافلين عن ذكر الله الذين تقودهم غفلتهم إلى الاستغراق في المعاصي والاستسلام للانحراف، ولا تُقبل على أيّ واحد منهم، لأنّه ـ بسلوكه ـ يبتعد عن الله ويقترب من الشيطان، ﴿واتَّبَعَ هَوَاهُ﴾، فلم ينطلق في حياته من قاعدةٍ ثابتةٍ علميةٍ تحكم تصرّفاته وأوضاعه وانتماءاته، بل انطلق ذات اليمين وذات الشمال، تبعاً لهواه الذي يتغيّر حسب تغيّر الظروف والأوضاع، ﴿وَكَانَ أمْرُهُ فُرُطَاً﴾، متجاوزاً لحدود الحقّ في أفكاره وأقواله وأفعاله، ومنحرفاً عن الصراط المستقيم؛ فإن إطاعة الله والانسجام مع الإيمان بربوبيته، تعني الالتزام بخطّ الاستقامة الذي يمثّله، لأنّ التفاصيل الجزئية تتبع القاعدة الكلية في ميزان الاستقامة والانحراف.
وقد ذكر المفسّرون ـ في سبب نزول هذه الآية ـ أن عيينة الفزاري ـ أحد رؤوس المشركين ـ أتى النبيw، فرأى عنده جماعة من فقراء أصحابه، فيهم سلمان الفارسي، وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خوص ـ من ورق النخل ـ فقال عيينة لرسول الله: أما يؤذيك ريح هؤلاء، ونحن سادات مضر وأشرافها؛ فإن أسلمنا أسلم الناس، وما يمنعنا من اتّباعك إلاّ هؤلاء، فنحّهم عنك حتى نتبّعك، واجعل لهم مجلساً ولنا مجلساً، فنزلت الآية.
ونقرأ هذا المضمون في الآيات التالية: ﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَاَ مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ* وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ* وَإذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًَا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(1).
أيضاً وردت بعض الروايات التي تشير إلى طلب بعض المشركين من النبي w طرد الفقراء المؤمنين المنفتحين بعبادتهم الخالصة على الله، الذين يوحّدونه ويتّجهون إليه ولا يلتفتون إلى غيره، وقد دعا الله سبحانه نبيّه إلى تقريبهم منه والتزامه بهم، ورفضه كل الطلبات السلبية من المشركين المترفين الذين لا يملكون أية قيمة إنسانية في تقويم الإنسان واحترامه في العناصر الروحية والملكات الأخلاقية والجدية في مسألة الوعي الفكري للرسالة بعيداً عن القيمة المادية المنحطّة، التي دفعت هؤلاء المشركين إلى دعوة النبي لطرد المؤمنين من حوله ليقتربوا منه.
وقد بيّن الله للنبي محمدw أنّه لا علاقة له بهم في واقع المسؤولية العملية بشكل شخصي، بل إنّ دوره معهم هو دور الرسول المبلِّغ الذي ينتهي بإرشادهم إلى الإيمان، وبذلك تنتهي مهمّته الرسالية معهم، ليواجهوا استقلالهم وحريتهم في مسؤولياتهم العملية. ولم يجعل الله له سلطة عليهم ليطردهم، وليس ذلك من شأن الأنبياء، فلو فعل ذلك ـ ولن يفعله ـ فيكون ظالماً لهم...
ويتابع الله الحديث في النظرة السلبية التي ينظر بها هؤلاء المترفون إلى هؤلاء المؤمنين الفقراء، فقد كانوا يقولون: هل من المعقول أن يكون هؤلاء ممن جعل الله لهم الدرجة العليا ومنّ عليهم من بيننا؟ ولكنّ الله يردّ عليهم بأنه هو الذي يملك منح الدرجات العليا للمؤمنين به، الشاكرين له، فهو الذي يشكر لهم شكرهم، ويثيبهم على معرفتهم به وقربهم إليه.
ثم يلتفت سبحانه وتعالى إلى نبيّه، فيوحي إليه بالعمل على تكريمهم وإحاطتهم بكل ألوان الرعاية والمحبة والرحمة، فإذا جاؤوا إليه، فعليه أن يبدأهم بتحية إسلامية مليئة بالحنان والاحتضان الروحي، والإيحاء بمعنى السلام الذي يعيشه المؤمن في علاقته بالمؤمن الآخر ونظرته إليه، ليشعروا بالأمن معه على كرامتهم وعلى أنفسهم، ثم يحدّثهم عن رحمة الله بعباده المؤمنين، وأنه يغفر لهم ذنوبهم إذا أذنبوا، ويتجاوز عن أخطائهم إذا أخطـأوا عندما يتوبون ويتراجعون عن ذلك ويصلحون أوضاعهـم بالسير ـ من جديد ـ على الصراط المستقيم، فإن الله غفور رحيم يغفر الذنب برحمته للتائبين، فلا يبقى للذنب أثر في حياتهم.
وهكذا نجد الخطّ الإيماني الأصيل الذي تلتقي عنده النبوّات في تعزيز المؤمنين وتكريمهم، ورفض كل الذين ينظرون إليهم نظرة احتقار وإهانة لفقرهم أو لوضاعتهم الاجتماعية، لأن الإيمان فوق كل قيمة مادّية وكل موقع اجتماعي، لأنه يجعل المؤمنين مرتبطين بالله، ويرتفع بهم إلى مواقع القرب منه.
وفي ضوء ذلك، يؤكّد الله سبحانه طلبه من الأنبياء تقوية أهل الإيمان في مقابل أهل الكفر والشرك، وأن يعملوا على إضعاف المشركين وجعلهم في الدرك الأسفل من القيمة. والحمد لله رب العالمين.


























    الرسولبشر
    الأنبياءوعلمالغيب
    مناقشةالمنهجالحديثي























الرسول بشر:
كان النبي نوحt، ـ كبقية الأنبياء ـ يقدِّم نفسه إلى قومه كبشر لا يملك في طاقته إلا ما يملكه البشر من الطاقات، فليس موقعه إلا موقع الرسول الذي يتلقّى الوحي من الله مما يفيضه عليه من العلم في خطوط رسالته، وليس له في تكوينه الوجودي أيّ هوية ملائكية ترتفع به عن هوية البشر، ولا يملك من الثروات أيّ ثروة غيبية شاملة، بما تمثّله كلمة خزائن الله في امتداد ملك الله في الكون وشموليّته، بل إنه كبقية الناس بالنسبة إلى حاجاته المادية التي يحصل عليها من خلال جهده، وهو لا يعلم الغيب الذي يغيب في مفرداته عن الحسّ، بحيث يستطيع أن يحدّثهم عن غيب الأشياء المستورة التي لا وسيلة للعلم بها، بل إن المسألة هي أن الله قد يعلّمه بعض شؤون الغيب في قضايا خاصة دون أن يجعله عالماً بالغيب في ذاته.
وقد أمر الله سبحانه نبيّه محمداًw أن يخاطب قومه بما خاطب به نوح قومه، وذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ لا أقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لكم إِنِّي مَلَكٌ إنْ أتَّبِعُ إلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ﴾(1).
وقد تحدّث القرآن الكريم، عن إعلان النبي بشريّته لقومه، وذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ﴾(2). وقوله تعالى: ﴿وَقَالُواْلَننُّؤْمِنَلَكَحَتَّىتَفْجُرَلَنَامِنَالأَرْضِيَنبُوعاً* أَوْتَكُونَلَكَجَنَّةٌمِّننَّخِيلٍوَعِنَبٍفَتُفَجِّرَالأَنْهَارَخِلالَهَاتَفْجِيراً* أَوْتُسْقِطَالسَّمَاءكَمَازَعَمْتَعَلَيْنَاكِسَفاًأَوْتَأْتِيَبِاللَّهِوَالْمَلائِكَةِقَبِيلاً* أَوْيَكُونَلَكَبَيْتٌمِّنزُخْرُفٍأَوْتَرْقَىفِيالسَّمَاءوَلَننُّؤْمِنَلِرُقِيِّكَحَتَّىتُنَزِّلَعَلَيْنَاكِتَاباًنَّقْرَؤُهُقُلْسُبْحَانَرَبِّيهَلْكُنتُإِلاَّبَشَراًرَّسُولاً﴾(1).
وتحدّث القرآن الكريم أيضاً عن الرسل فيما كانوا يقولونه لأقوامهم: ﴿قَالَتْلَهُمْرُسُلُهُمْإِننَّحْنُإِلاَّبَشَرٌمِثْلُكُمْوَلَكِنَّاللَّهَيَمُنُّعَلَىمَنيَشَاءُمِنْعِبَادِهِوَمَاكَانَلَنَاأَننَأْتِيَكُمْبِسُلْطَانٍإِلاَّبِإِذْنِاللَّهِ﴾(2).
فقد كانت مشكلة الرسل مع أقوامهم، أنّ هؤلاء الأقوام كانوا يرفضون بشرية الرسول، انطلاقاً من ذهنيّة تحسب أنّ غيبيّة الله تقتضي أن لا يبعث الله رسولاً إلا خارقاً في طاقاته وقدراته، بحيث يملك السلطة عليهم في ما يملك أن يحرّكه في ظواهر الكون. وهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَمَامَنَعَالنَّاسَأَنيُؤْمِنُواْإِذْجَاءَهُمُالْهُدَىإِلاَّأَنقَالُواْأَبَعَثَاللَّهُبَشَراًرَّسُولاً﴾(3). ولكنّ الله سبحانه يؤكّد في القرآن، أنّ النبي الرسول لا بدّ من أن يكون من نوع المرسل إليهم، حتى تلتقي أساليبه بأساليبهم، ولغته بلغتهم، وذهنيّتهبذهنيّتهم، وذلك قوله تعالى: ﴿قُللَّوْكَانَفِيالأَرْضِمَلائِكَةٌيَمْشُونَمُطْمَئِنِّينَلَنَزَّلْنَاعَلَيْهِممِّنَالسَّمَاءمَلَكاًرَّسُولاً﴾(4).
لذلك تحرّك النبي في تأكيد بشريته التي تنطلق في حاجاتها الخاصة من الحالة البشرية في نقاط الضعف والقوة، معترفاً بها في تواضع إنساني، مبيّناً دوره الذي ينفتح على الرسالة التي دعاهم إلى أن يناقشوها مناقشةً فكرية، إذا كان لهم سبيل إلى ذلك، لتكون المواجهة بينه وبينهم مواجهةً جدّيةً في حركية الصراع في وجهات النظر، بدلاً من أن يكون ردّ الفعل عندهم هروباً من الدراسة الموضوعية لطروحاته.
وهكذا برز أمام قومه كإنسان لا يملك من المال إلا بما يقترب من تلبية حاجاته الخاصة، بعيداً عن الثروة الهائلة لما تختزنه الأرض في خزائنها، فهو لا يتكلم في هذين الموضوعين في خطابه الرسالي، فلا يدّعي الملائكية، ولا ملكية خزائن الأرض.
الأنبياء وعلم الغيب:
أما علم الغيب، فإنّ النبي يبادر إلى نفيه المطلق عن نفسه، لأنّ ذلك ليس من شؤون الرسول، ولا من خصوصية الرسالة، بل إن مسؤوليته هي إبلاغ الوحي الإلهي في قضايا العقيدة التوحيدية، وفي مسؤولية الإنسان في الحياة، في سلوكياته العامة والخاصة، في المفاهيم الروحية والأخلاقية والاجتماعية المرتبطة بنظام الواقع الذي يراد للناس أن يحافظوا عليه ويتحرّكوا فيه.
وقد أفاض القرآن الكريم في اختصاص الله بعلم الغيب وعدم مشاركة غيره له في ذلك، فقد جاء في قوله تعالى: ﴿وَعِندَهُمَفَاتِحُالْغَيْبِلاَيَعْلَمُهَاإِلاَّهُوَ﴾(1). وقوله فيما وجّه نبيه أن يقوله للناس: ﴿فَقُلْإِنَّمَاالْغَيْبُلِلَّهِ﴾(2). وقوله تعالى: ﴿عَالِمُالْغَيْبِفَلايُظْهِرُعَلَىغَيْبِهِأَحَداً﴾(3). وقوله: ﴿إِنَّكَأَنتَعَلاَّمُالْغُيُوبِ﴾(4)، وقوله تعالى في أكثر من آية: ﴿عَالِمُالْغَيْبِوَالشَّهَادَةِ﴾(5)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّاللَّهَعَالِمُغَيْبِالسَّمَاوَاتِوَالأَرْضِإِنَّهُعَلِيمٌبِذَاتِالصُّدُورِ﴾(1). إلى غير ذلك من الآيات التي تؤكد أن الله لم يمنح أحداً من عباده ذاتية العلم بالغيب، بحيث يستطيع أن يملك مفاتح الغيب ذاتياً.
وبعبارة أخرى: إنّ لسان هذه الآيات يُشير إلى أنّ إرادة الله سبحانه لم تأذنفيأنيكونللأنبياءعلمالغيب،بالنحوالذيينفتحون عليه بشكل ذاتيّ، ولكن الله قد يطلع بعض أنبيائه على بعض المعلومات الغيبية، كجزء من الوحيالذيتحّدث به عن الأنبياء ورسالاتهم وعن بعض القضايا التاريخية، كماجاء في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَمِنْأَنبَاءالْغَيْبِنُوحِيهِإِلَيْكَوَمَاكُنتَلَدَيْهِمْإِذْيُلْقُونأَقْلامَهُمْأَيُّهُمْيَكْفُلُمَرْيَمَوَمَاكُنتَلَدَيْهِمْإِذْيَخْتَصِمُونَ﴾(2) ـ في كفالتهم للسيدة مريم ـ وقوله تعالى في سورة هود: ﴿تِلْكَمِنْأَنبَاءالْغَيْبِنُوحِيهَاإِلَيْكَمَاكُنتَتَعْلَمُهَاأَنتَوَلاَقَوْمُكَمِنقَبْلِهَذَافَاصْبِرْإِنَّالْعَاقِبَةَلِلْمُتَّقِينَ﴾(3). وقوله تعالى في سورة يوسف: ﴿ذَلِكَمِنْأَنبَاءالْغَيْبِنُوحِيهِإِلَيْكَوَمَاكُنتَلَدَيْهِمْإِذْأَجْمَعُواْأَمْرَهُمْوَهُمْيَمْكُرُونَ﴾(4).
ويتحدث القرآن الكريم في آيات أخرى عن تأكيد النبي محمدw لقومه أنه لا يعلم الغيب في جزئيات الأمور وكلياتها، وذلك في قوله تعالى: ﴿قُللاَّأَمْلِكُلِنَفْسِينَفْعًاوَلاَضَرًّاإِلاَّمَاشَاءاللَّهُوَلَوْكُنتُأَعْلَمُالْغَيْبَلاَسْتَكْثَرْتُمِنَالْخَيْرِوَمَامَسَّنِيَالسُّوءُإِنْأَنَاْإِلاَّنَذِيرٌوَبَشِيرٌلِّقَوْمٍيُؤْمِنُونَ﴾(5)، فإنّ هذه الآية توحي بأنّ النبي قد يواجه الكثير من الأوضاع السلبية في حياته الخاصة، حتى إنّه لا يعرف مواقع الخير في القضايا الخفية في أموره، كما في الجانب الصحّي أو في الأوضاع العامة.
كما أنها تنفي ما يذهب إليه البعض، من أنّ الله منحه، كما منح الأنبياء والأئمة الولاية التكوينية، التي يملك فيها حقّ التصرّف في تدبير الكون، وفي أمور الناس في كل قضاياهم العامة والخاصة المتّصلة بحياتهم وفي وجودهم التكويني المتحرّك. وأن المسألة ـ في طبيعتها ـ هي أن الله كلّفه بالقيام بالمسؤولية الرسالية في الدعوة، ليكون بشيراً بالجنة وبرضوان الله، ونذيراً بالنار وبغضب الله، إضافةً إلى الجانب الحركي في خطّ المواجهة في حالة الصراع بينه وبين القوى المضادّة له.
وتلتقي هذه الآية بالآية التاسعة من سورة الأحقاف، في تأكيد المضمون الإنساني الطبيعي في شخصية الرسول والرسل من قبله، وذلك في قوله تعالى: ﴿قُلْمَاكُنتُبِدْعًامِّنْالرُّسُلِوَمَاأَدْرِيمَايُفْعَلُبِيوَلابِكُمْإِنْأَتَّبِعُإِلاَّمَايُوحَىإِلَيَّوَمَاأَنَاإِلاَّنَذِيرٌمُّبِينٌ﴾(1)؛ فإن هذه الآية توحي بأن الله لم يطلع محمداًw، ولا الرسل الذين سبقوه، على ما يحدث له من الأوضاع المرتبطة بشخصه أو بقومه، لأن ذلك ليس مما منحه الله علمه، بل إن دوره الرسالي هو اتّباعه ما يوحى إليه وما يقوم به بصفة أنه النذير المبين للناس كافة، فيما ينتظرهم من عذاب الله إذا لم يلتزموا الإيمان بالله عقيدةً وشريعةً في سلوكهم في الحياة.
وقد تحدث الله عن عيسىt فيما كان يحدّث به قومه من أمور الغيب، مما علَّمه الله وأطلعه عليه، وذلك قوله تعالى على لسان عيسى: ﴿وَأُنَبِّئُكُمبِمَاتَأْكُلُونَوَمَاتَدَّخِرُونَفِيبُيُوتِكُمْ﴾(2)، وهو ما يدخل في باب إطلاعه على الغيب الخاص، ممّا ينفتح على حاجة الرسالة في ذلك الوقت في تأكيد نفسها لدى الناس، ولا يتحرّك في الإطار العام.
كما أن الله أطلع رسوله على غلبة الروم على الفرس في قوله تعالى: ﴿الم* غُلِبَتِالرُّومُ* فِيأَدْنَىالأَرْضِوَهُممِّنبَعْدِغَلَبِهِمْسَيَغْلِبُونَ* فِيبِضْعِسِنِينَ﴾(1). ولكن هذا لا يوحي بأنّ الرسول يملك قدرةً ذاتية في معرفة علم الغيب، بل إنّ الله يمنحه علم الغيب في بعض القضايا الخاصة التي لا يملك علمها.
مناقشة المنهج الحديثي:
وقد حاول بعض أعلام المفسِّرين، استناداً إلى بعض الروايات الكثيرة التي لم يدقّقوا في أسانيدها من حيث الوثاقة، أن ينسبوا إلى الأنبياء والأولياء أنهم لا يعلمون أسرار الغيب كلها، ولكنهم إذا شاؤوا ذلك أعلمهم الله تعالى بها، وأن الآيات والروايات التي تقول إنهم لا يعلمون الغيب، هي إشارة إلى عدم المعرفة الفعلية، أما التي تقول إنهم يعلمون، فتشير إلى إمكان معرفتهم بها.
ومن الطريف أنّ بعضهم استدلّ على أن الله منحهم علم الغيب، لأن مهمتهم لم تحدّد بمكان وزمان خاص، لأن نبوة الأنبياء من أولي العزم، وإمامة الأئمة من أهل البيتi، عالمية وخالدة، فكيف يمكن لمن يملك هذه المهمة ألا يعلم شيئاً سوى ما يحيط به وبزمانه، فلا بد له لتطبيق الأحكام الإلهية، التي يلبي من خلالها احتياجات البشر في كل زمان ومكان، من الاطلاع على قسم من أسرار الغيب.
وربما يذكر في هذا الموضوع (آصف بن برخيا) الذي أحضر عرش بلقيس ملكة سبأ، حيث يقول الله تعالى: ﴿قَالَالَّذِيعِندَهُعِلْمٌمِّنَالْكِتَابِأَنَاآتِيكَبِهِقَبْلَأَنيَرْتَدَّإِلَيْكَطَرْفُكَفَلَمَّارَآهُمُسْتَقِرّاًعِندَهُقَالَهَذَامِنفَضْلِرَبِّي﴾(2)، في الوقت الذي نقرأ في آية أخرى: ﴿كَفَىبِاللَّهِشَهِيداًبَيْنِيوَبَيْنَكُمْوَمَنْعِندَهُعِلْمُالْكِتَابِ﴾(1) المفسّرة بأنه الإمام علي بن أبي طالبt في روايات كثيرة، ما يوحي بأن ما يملكه (آصف) علم جزئي، وما يملكه عليt علم كلي، هذا إضافةً إلى قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَاعَلَيْكَالْكِتَابَتِبْيَاناً﴾(2). فمن الواضح أن من يعلم بأسرار الكتاب لا بد من أن يكون مطلعاً على أسرار الغيب بأمر الله.
إننا نلاحظ على هذا الاستدلال، أن هذه الروايات مخالفة لظاهر القرآن الذي يدل على أن الله لم يمنح رسله وأولياءه القدرة الخاصة على العلم بأسرار الغيب، وإن كان ذلك ممكناً في ذاته، وأن حياة الأنبياء والأئمة لا تدل على أنهم يملكون ذلك، وخصوصاً من خلال الآيتين اللتين تفيدان بأنّ النبي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وأنه لا يدري ما يُفعل به وبقومه، ما يوحي بأنهم كانوا يمارسون حياتهم كما يمارسها الناس العاديون في قدراتهم الخاصة، لذلك كانوا يواجهون الكثير من الأخطار التي كانت تهدّد حياتهم.
أما الحديث بأنّ الله لم يسمح لهم بمعرفة ما يحفظ لهم حياتهم، الأمر الذي يجعلهم يشربون السمّ، أو يذهبون إلى مواقع الخطر والهلاك، فهو أمر لا يوافق عليه العقل السليم.
وأما الحديث عن المهمة الكبرى للأنبياء والأئمةi لجهة عالمية الرسالة، فإنّه لا يدل على أنّ ذلك متوقف على العلم بأسرار الغيب، لأن الرسالة التي يتحمّلون مسؤولياتها تشريعاً وتنفيذاً، هي رسالة الإنذار والتبشير والإضاءة المعرفية في وحي الله الذي أنزله على الرسل وأراد لهم ولأوصيائهم أن يبلغوه للناس، وليست هناك أسرار غيبية تتصل بمهمتهم في القيام بدورهم الرسالي؛ وهذا ما تؤكّده سير التاريخ التي لا يظهر منها أنّ حركة التغيير الرسالي تمّت بأساليب غيبيّة، ولا أنّ حركة الصراع قد أديرت بعيداً عن الظروف الموضوعيّة التي كانت تكفل النصر تارة، وتؤدّي إلى الهزيمة أخرى، وتتحرّك ضمن التخطيط البشري الذي ينطلق ليُنتج الخطّة على أساس ما يستفيده من العلم وما يتراكم لديه من خبرة. وحتّى إن تدخّل الغيب، كما في معركة بدر، إنّما هو عاملٌ مساعدٌ لسدّ نقاط الضعف البشريّة، في حين أكّد الله تعالى، أنّه لم يكن إلا بُشرى للمؤمنين ولطمأنة القلوب، قال تعالى: ﴿وَمَاجَعَلَهُاللَّهُإِلاَّبُشْرَىلَكُمْوَلِتَطْمَئِنَّقُلُوبُكُمبِهِوَمَاالنَّصْرُإِلاَّمِنْعِندِاللَّهِالْعَزِيزِالْحَكِيمِ﴾(1).
أما قضية (آصف بن برخيا)، فإذا كانت قدراته منطلقةً من علمه ببعض الكتاب، فماذا نقول عن العفريت من الجنّ الذي تختلف قدرته عن (آصف) بحساب الزمن، فمن أين جاءته هذه القدرة؟ إننا نرى أنها قدرة خاصة منحها الله لهذا وذاك من خلال حكمته، وليس من الضروري أن تكون منطلقةً من أن لديه علماً من الكتاب.
أما الروايات التي تتحدث عن أن المقصود بمن عنده علم الكتاب هو الإمام عليt، فهي محلّ تأمل، لأن الآية مكية، وقد كان الإمامt في بداية شبابه، ولم يكن موقعه عند المشركين أو الكافرين بالمستوى الذي يجعل النبيw يقدّمه كشهيد على نبوته الرسالية من الله؛ الأمر الذي لا ينسجم مع طبيعة الموضوع، بل ربما كان المقصود بهذا هم علماء اليهود الذين كانوا محلّ ثقة المشركين باعتبارهم أهل الكتاب الأوّل، ولم يكونوا معقّدين من رسالة النبي محمدw عندما كان في مكة، بل كانوا يستعينون به على الذين كفروا، وإنما وقفوا ضده عندما هاجر إلى المدينة ورأوا أن رسالته سوف تصادر ما عندهم من المعلومات الدينية.
ولعل الشاهد على ذلك قوله تعالى: ﴿فَإِنكُنتَفِيشَكٍّمِّمَّاأَنزَلْنَاإِلَيْكَفَاسْأَلِالَّذِينَيَقْرَؤُونَالْكِتَابَمِنقَبْلِكَلَقَدْجَاءَكَالْحَقُّمِنرَّبِّكَفَلاَتَكُونَنَّمِنَالْمُمْتَرِينَ﴾(1). وقوله تعالى: ﴿وَمَاأَرْسَلْنَامِنقَبْلِكَإِلاَّرِجَالاًنُّوحِيإِلَيْهِمْفَاسْأَلُواْأَهْلَالذِّكْرِإِنكُنتُمْلاَتَعْلَمُونَ* بِالْبَيِّنَاتِوَالزُّبُرِ﴾(2). فإن هاتين الآيتين، تدلان على أن أهل الكتاب ـ وهم اليهود ـ كانوا ممن يقصدون للسؤال عما جاء في التوراة من أدلّة على صدق النبيw في رسالته، وعلى تاريخ الأنبياء السابقين، الأمر الذي قد يقوّي أن النبي محمداًw فيما حكاه الله عنه، كان يستشهد بهم لما يملكونه من ثقافة توراتية بشّرت بالنبيw، وربما كانوا لا يمتنعون من الشهادة بذلك قبل الاصطدام به، كما جاء في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَيَتَّبِعُونَالرَّسُولَالنَّبِيَّالأُمِّيَّالَّذِييَجِدُونَهُمَكْتُوباًعِندَهُمْفِيالتَّوْرَاةِوَالإِنجِيلِ﴾(3).
وأما الحديث عن أنّ كون القرآن فيه تبيان لكل شيء، يفرض على الذي يعلم القرآن معرفة كل أسرار الغيب، فليس دقيقاً؛ والظاهر أن المقصود بذلك هو الإشارة إلى كل ما يحتاجه الناس من قضايا الرسالة ومن أسرار الوحي التي حملهم الله مسؤولية الانفتاح عليها، وكلّف الرسول تبليغها للناس.
ونعود إلى نوحٍt في حديثه مع قومه، بعد أن قدّم نفسه إليهم في مستوى الإنسان الذي يعيش إنسانيته كما يعيشها الناس في قدراته المادية وصفته البشرية، وفي نفي علمه بالغيب، ليلتفت إليهم، مشيراً إلى أتباعه من المؤمنين الفقراء الذين كانوا محلّ ازدراء قومه واستبعادهم، أن يحصلوا على الخير في ميزان القيمة عند الله ﴿وَلاَأَقُولُلِلَّذِينَتَزْدَرِيأَعْيُنُكُمْلَنيُؤْتِيَهُمُاللَّهُخَيْراًاللَّهُأَعْلَمُبِمَافِيأَنفُسِهِمْإِنِّيإِذًالَّمِنَالظَّالِمِينَ﴾(1)، فإن الله هو المطّلع على أسرارهم الذاتية في إخلاصهم له، وهو الذي يمنحهم الخير من عنده. ولذلك فإني لا أقف منهم موقفاً سلبياً في موقع الاحتقار، لأنني إن فعلت ذلك كنت من الظالمين الذين يتمردون على الحقوق الإنسانية للناس الطيبين انطلاقاً من فقرهم ووضاعة موقعهم الاجتماعي، لأن لهم الحقّ في الاحترام والتقدير بحسب القيمة الإنسانية عند الله وعند الناس. والحمد لله رب العالمين.












































    الدورالنبويّ
    أجرالرسالةليسمادّياً
    الإرادةالنبويّة
    ميزانالقوى
    حالنوحtبعدالطوفان
    غنىقصّةنوحt























لا نزال مع قصة النبي نوحt، هذا النبي الذي يمثِّل ظاهرةً قلّما نجد لها مثيلاً في تاريخ النبوّات، من حيث امتدادها في الزمن، ومن حيث صمودها أمام التحديات، ومن حيث حركتها في خط الدعوة. وقد تقدّم الحديث عن الكثير من ذلك، وفي حديثنا اليوم نطّلع على ما انتهى إليه الأمر بين النبي نوحt وقومه.
الدور النبويّ:
قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾. قد نستوحي من هذه الفقرة أنَّ الجدال كان كثيراً بين نوح وقومه، بحيث تجاوز الأمور التي أشارت إليها قصّة النبي نوح في القرآن، ونستوحي أيضاً أنّهم كانوا معاندين للرسالة التي طرحها عليهم، مصرّين على رفضها، وأطلقوا القول بالتحدّي له بأن ينفّذ تهديده لهم بعذاب الله إذا كان صادقاً في دعواه بأنه رسول الله، فقالوا له: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾(1).
وربما كانوا يتصوَّرون أنّه لا قدرة له على تنفيذ وعيده، لأنّهم كانوا مستمرّين في تكذيبه في دعوته، وأرادوا إظهار فشله في ذلك، من أجل إسقاط أمره في مسألة النبوّة. ولكن نوحاًt لم ينذرهم بعذاب الله من خلال قدراته الخاصّة وإرادته الشخصية، بل حدّثهم عن أن الله هو الذي يقرّر أسلوب تعامله مع المتمردين الكافرين.
ولذلك ردَّ عليهم بأنّ المسألة لا تمثّل أيّ نوعٍ من التحدّي له، لأنّه لم يدّعِ أنّه يملك الأمر في ذلك كلّه، بل إنّ الله ـ وحده ـ بقدراته التي هي فوق كل قدرة، هو الذي يستقلّ بذلك، فهو الذي ينزل عليهم العذاب في سطوته من خلال حكمته: ﴿قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾(1)، فلا تملكون دفع ذلك عنكم إذا جاء أمر الله بالعذاب.
ويتابع نوحt حديثه مع قومه: ﴿وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ﴾، فهو يؤكد حقيقة دوره الذي يشبه دور أيّ رسولٍ من رسل الله، بأن يبلّغ قومه رسالة ربّه، مشيراً إليهم بما يحقّق لهم النجاة، وناصحاً إيّاهم بالسبيل الّذي يحصلون من خلاله على الإيمان بالله وبرسله.
ولكنّ المشكلة أنّ إصرارهم على الكفر، وعنادهم في اتّخاذ الموقف السلبيّ، يمنعهم من قبول النصح، وهذا ما يعبّر عنه قوله: ﴿إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾، والله سبحانه لا يفرض الغواية على عباده، بل إن سوء اختيارهم، وأخذهم بأسباب الغيّ، هو الذي يوقعهم في الغواية من خلال علاقة المسبب بالسبب في تقدير الله لأفعال العباد، فيما يفعلون ويتركون، من خلال قدرته المطلقة على الهيمنة عليهم في ذلك كلّه، ﴿هُوَ رَبُّكُمْ﴾ الذي يملك أمركم ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(2)، فيحاسبكم على أعمالكم.
وكانت خاتمة المطاف، ما نزل عليه من الوحي الإلهي، بأن تجربته الرسالية انتهت، وأنه لن يتبع دعوته إلى الله أحدٌ آخر غير الذين انضمّوا إليه من المؤمنين: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾(3)؛ بمعنى أنّك قد أدّيت الرسالة بجهد بالغ، وبإصرار منقطع النظير، متمِّماً مسؤوليتك في دورك الذي قمت به، فلا تحزن على النتائج المحدودة التي وصلت إليها في عدد المؤمنين، لأنّك ـ على الرغم من ذلك ـ استطعت أن تصنع قاعدة إنسانية من قومك المؤمنين، تخترق بها الحواجز التي وضعوها أمام الرسالة الإلهية، وسوف تنطلق الدعوة من جديد في الجيل الثاني من خلال هؤلاء المؤمنين.
أجر الرسالة ليس مادّياً:
وربّما كان قوم نوح يحسبون أنّه يريد ـ من خلال دعوته ـ أن يحصل على المال من الذين يتّبعونه، أو من الذين يعارضونه ممن قد يغرونه بالمال ليتراجع عن الدعوة، تماماً كالذين يخطّطون للحصول على المال من خلال بعض الوسائل الكفيلة بتحصيل ذلك، ولذلك بادر إلى نفي هذا الأمر، لأنّ الدعوة انطلقت من خلال الرسالة التي حمّله الله مسؤوليّتها من موقع الالتزام الذاتي، على أساس إيمانه بالله الذي أوحى إليه بالانطلاق بالدعوة إليه، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، من دون أيّ طمع بالأجر المالي، ومن دون أيّ طموح للحصول على الثروة بفعل النشاط الذي يقوم به.
وهذا ما قاله لهم، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ﴾(1)، وقوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ﴾(2)، حيث نستوحي من هذا المنطق، تأكيده لقومه أنّ علاقته الوثيقة هي بالله لا بالناس، فهو لا يطلب الأجر من أحد، بل من الله وحده الذي لا يريد منه أن يرزقه مالاً يغتني به، بل يريد منه أن يمنحه رضاه ومحبّته والدرجة العالية عنده، جزاءً لجهاده في سبيل الدعوة إلى دينه، وامتثاله لأمره، وتسليمه كلّ جهده وطاقته ونشاطه له سبحانه، ليكون الإنسان الذي ينتمي إلى الإسلام المطلق لله، قبل أن يدعو الناس إلى الإسلام.
ونلاحظ أن الأنبياء الذين جاؤوا من بعده، كانوا يتحدّثون مع أقوامهم بهذه الطريقة، ليُثبتوا لهم بأنّ دعوتهم الرسالية لا تستهدف الحصول على أيّ مكسب مالي، بل هي خالصة لوجه الله الذي يمنح الأنبياء أجرهم على جهدهم الذي بذلوه في سبيل الدعوة إلى الإيمان بالله، والسير على الخطّ المستقيم في امتثال أوامره ونواهيه.
وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾(1)، فأنا لا أعمل من أجل الحصول على امتيازات مادّية أو معنوية من خلال الرسالة، كالكثيرين ممن يستهدفون الوصول إلى مطامع دنيوية من دعواتهم أو مشاريعهم، لأنني لم أنطلق من مبادرة ذاتية في هذه الدعوة في كل ما أقوم به أو أسعى إليه في دائرة الدعوة، بل انطلقت من خلال رسالة الله التي حمّلني إياها وأرادني أن أعمل في سبيل إبلاغكم إياها، بكلّ أحكامها ومفاهيمها، ما يجعل من موقعي بينكم، موقع الرسول المسؤول الخاضع لمولاه الذي كلّفه القيام بهذه المهمّة، بعيداً عن كل الحسابات الذاتية، فلا أسألكم أيّ أجر أو مطمع من جهة الرسالة، بل الأجر لكم من الله في الدنيا والآخرة إذا تجاوبتم مع الله في شريعته ومنهجه، وليس لي مصلحة مع أيّ فريق منكم في أية علاقة خاصة ﴿إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾، وهو ما أتحرّك من أجله في دعوتي، بحيث أشعر بأنّي قد حصلت على نتيجةٍ إيجابية لدعوتي، عندما أستطيع أن أوجّه إرادة شخص في اتّجاه الإيمان الذي يدفعه إلى أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً يربطه به ويوصله إلى رحمته ورضوانه، وهذا هو الأجر الذي أسعى للحصول عليه، لأنّ أعظم أجر للرسول في رسالته، أن يتجاوب الناس معه ويؤمنوا برسالته.
ولعلّ هذا الاستيحاء التفسيري أقرب إلى جوّ الآية ممّا ذكره جمهور المفسّرين، من أنّ الاستثناء منقطع، بحيث يكون المعنى هو أنّ من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً، أي بالإنفاق القائم مقام الأجر، كالصدقة والإنفاق في سبيل الله، فليفعل؛ فإنّ هذا مما لا دليل عليه.
وجاء في آية أخرى في سورة الشعراء: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ﴾(1)، وهو الكلام الذي جاء في منطق هود مع قومه، وفي منطق صالح في خطابه مع قومه، وفي كلام لوط لقومه، وفي دعوة شعيب أيضاً. وقد جاء في حديث النبي محمدw مع المشركين من قومه قوله: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(2)، وقد جاء في حديث الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، عن الرسل الذين أرسلهم الله إلى الناس فلم يستجيبوا لهم، قال كما جاء في القرآن: ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾(3).
هكذا تتمثّل صورة النبيّ، في إشراقها الروحي، وفي ذاتيّاتها الإيمانية، وفي إخلاصها لله، ليجد الناس فيها صورة الإنسان الذي يقدّم نفسه إليهم في معنى الروح لا في معنى المادة، وفي رسالية الموقف لا في موقعه التجاري، حتى ينطلق المنفتحون على إنسانية الإنسان في شخصيته، ليؤمنوا به وليتّبعوه، لأنّهم لا يرون فيه إلا الشخص الذي أراد لهم الخير في الحياة، والوعي في المعرفة، والفكر الّذي يدفعهم إلى التأمّل، مما قد يكتشفون فيه صلاح أمرهم، بينما يقف الذين في قلوبهم مرض ممن لا يملكون الانفتاح على الحقيقة القادمة إليهم من أصحابها، ليواجهوا الموقف بالعقدة المرضية المستحكمة في نفوسهم، خوفاً من أن يخسروا بعض امتيازاتهم المادّية في أمورهم العامة.
الإرادة النبويّة:
وقد جسّد النبيّ نوحٌt في موقفه قوّة موقف النبوة أمام خصومها، فلم يكن عنده ضعفٌ في العزيمة، ولا خلل في الإرادة، ولا ارتباك في الحركة، بل انطلقت باستقامة واتزان إلى هدفها، ولذلك لم يكن موقفه منطلقاً من حالة شخصية تتجمّد عندها التجربة المحدودة في نطاق الزمان والمكان.
وفي ضوء ذلك، كان الله يعرِّف رسوله محمداًw تلك التجربة، ليكون ردّ التحدي فعلاً متحركاً مستمراً في خط الرسالات، لا ردّ فعل من خلال حالةٍ طارئة، فهو انطلاقة الرسالة في حركة الصراع المستمر بين الكفر والإيمان منذ بدأ الأنبياء يقفون في الساحة من أجل دعوة الناس إلى الله.
ولذلك، فقد كانت أدوات الصراع واحدة في طبيعة الشخصية، ونوعية الكلمات، وحيوية الأساليب، وفاعلية الحركة، وصفاء الروح، وطيبة القلب، ورهافة الشعور، وصلابة الموقف.
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ﴾، من أجل أن تعرّفهم موقفك من خلال موقفه، ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي﴾، ورأيتم أنفسكم في موقف قويّ لا يسمح للآخرين، الذين لا يملكون موقعاً اجتماعياً متقدّماً في سلّم الطبقات الاجتماعية، بمواجهتكم بالدعوة إلى الله في مقابل عبادتكم للأوثان وانفعالكم بأوضاعها الخرافية، فاتّخذتم منّي موقفاً سلبياً في دعوتي لكم إلى التزام خطّ الرسالة، ﴿وتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ﴾ التي تفتح قلوبكم على الله في أفق الحقيقة الناصعة من أقرب طريق، وتوجهكم إلى الخير في موارده ومصادره، وتربطكم بخطّ المسؤولية الذي يبدأ في حركته الصاعدة من بداية حياة الإنسان، لينتهي إلى يوم القيامة في مواجهة نتائج هذه المسؤولية بين يدي الله، ليكون العمل منطلقاً في أجواء الرسالة وآفاق الله.
وبذلك كان هذا التذكير المستمرّ لا يمثل حالة شخصية تنطلق من تجربةٍ خاصة، بل يمثّل وحياً إلهياً يثير الإنسان نحو التفكير الذي يقوده إلى محاكمة الأشياء ودراستها ومناقشتها بشكل موضوعي هادئ، ليتحرّك نحو إدارة الحوار مع الآخرين من موقع مسؤولية الفكر، على أساس قضية المصير فيما يتّصل بحياته وحياة الناس من حوله.
وتلك هي مهمة الرسول؛ وهي أن يفتح عقول الناس للتأمّل والتفكير، وأن يفتح الساحة للحوار والمناقشة، بعيداً عن كل الضغوط النفسية والعملية، لأنّه هو الذي يتحمّل مسؤولية شقّ الطريق نحو الهدف، فلا يمكن أن يتراجع تحت تأثير أيّة حالة مضادّة.
ولهذا وقف نوح مع قومه موقفاً يوحي بالقوّة المرتكزة على قاعدة التوكّل على الله الذي هو مصدر القوّة لمواجهة كل التحدّيات في الساحة من قبل الناس الذين لا يملكون من القوّة إلا القليل، فلا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فقال لهم: ﴿فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ﴾، في عملية الدعوة والتغيير للواقع الفكري والعملي الذي تعيشون في داخله، مهما كانت ردود فعلكم السلبية، ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ﴾، في كل ما تملكونه من طاقات بشرية ذاتية أو مساندة، ﴿ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً﴾، أي مستوراً، بل واجهوا الموقف بكل سلبيّاته التي تهدّدونني ـ والمؤمنين معي ـ بها، وعبّروا عنها بكل صراحة، فإني أملك المدد القويّ من الله في نهاية المطاف، بينما لا تملكون في وسائلكم إلا القليل من القوة، مما يزول بفعل الصدمات التي تواجهونها في عقاب الله لكم، ﴿ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ﴾(1)، واستعملوا كل ما يقع تحت أيديكم من وسائل الضغط، ولا تمهلوني ساعة.
وهذا هو ندائي الأخير إليكم، لتسمعوا، ولتستجيبوا لنداء الله، ولتهتدوا بهداه. وإذا كانت أساليـبي معكم في المراحل السابقة توحي إليكم بموقف الضعف لديّ، فإن ذلك لا ينطلق من ضعف في الموقف، بل هو وسيلة من وسائل الانفتاح على إنسانيّتكم التي أردت أن أفتحها على العقلانية في التفكير والدراسة في مفردات الدعوة. ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾، وأعرضتم، فلن يضرني ذلك، لأني لا أتحرّك، في مواقع الرسالة، من حالة الذّات، في حسابات الربح والخسارة فيما أطمع أن ينالني منكم من نفعٍ مادي أو غيره، أو دفع ضرر، لأشعر بالضعف أمام إعراضكم عني، ﴿فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إلا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(1)، فإني أنطلق في ذلك كلّه من الله، لأصل إليه، وألتقي بمغفره ورضوانه من موقع المسؤولية.
وهكذا نستوحي أن نوحاًt كان يختزن في داخل نفسه الإحساس بالقوة، لأنه كان عندما يتعرَّض لضغوطهم عليه، يرتفع بروحه إلى الله في مناجاته له.
ميزان القوى:
وقد تحدّث القرآن عن اختلال ميزان القوة المادّية بين نوحt وقومه، وهذا ما نلمحه في قوله تعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ﴾(2).
وكان أن بدأ نوحt بصنع السفينة بإذن الله، الذي أخبره أن الأرض ستتفجر بالماء الذي يغرقهم جميعاً... وجاء أمر الله، وتفجرت الأرض بالماء من كل الجهات، والسماء بالمطر بما لم يسبق له مثيل، وتلقّى نوحٌt تفاصيل المسيرة، بأن يحمل في السفينة من كل نوع زوجين اثنين، ولاسيّما من أهله المؤمنين، وبأن يركب الجميع فيها، وسارت السفينة باسم الله، في موج كالجبال، وباسم الله مرساها ومستقرّها في موقع الأمان في البر، وعادت المياه إلى أعماق الأرض، وأوقفت السماء أمطارها، وانتهت المهمّة العقابية، ووقف الطوفان، واستقرّت السفينة على جبل الجودي، وانتهت قصّة الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالشرك وظلموا المؤمنين بالاضطهاد...
وجاء الأمر من الله تعالى بأن يهبط نوح tومن معه وما معه من السفينة بسلام، من خلال ما منحه الله عزّ وجلّ من نعمة السلام الروحيّ المتمثّل بالطمأنينة النفسية التي أشاعت في نفسه حالةً من الاستقرار، وأكدت له أن الله ينصر رسوله بعد المعاناة الطويلة التي عاناها من قومه في الدعوة إلى الرسالة الإلهية، كما أعطاه الله البركات الفيّاضة التي تجعل منه عنصر خير ونفع للناس وللحياة من حوله وللأمم التي كانت معه، ممّن آمنوا به، وشاركوه في خطّ جهاده الطويل، فكان لهم من الثواب ما كان له.
حال نوحt بعد الطوفان:
ولم يتحدث القرآن عن دور نوحt بعد نزوله من السفينة؛ هل انتهت مهمّته الرسالية، أو أنّه ظلَّ رسولاً للمؤمنين الذين معه، ولمن جاء من الذرية من بعده؟ وربما لأنّ ذلك لا يرتبط بالعبرة التي أراد الله للناس أن يأخذوا بها من القصّة النبوية في التجربة الطويلة النادرة التي خاضها نوحt في دعوته إلى الله، وقد جزى الله هذا النبي الصابر الصامد الذي حافظ على الرسالة وأخلص لله، وذلك قوله تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ* سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ* إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً﴾(2)، ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ﴾(3).
غنى قصّة نوحt:
وهكذا تتمثّل في قصّة نوح عدة جوانب للدرس والعبرة: في عناصر شخصيته الروحية الإيمانية، وفي جهاده الرسالي الذي لم يعهد في تجربة أي نبي من الأنبياء في امتداد التجربة، وفي معاناته مع قومه، وفي الجوانب الحوارية التي أثارها، ولذلك جاءت الإشارة إليها في أكثر من آية وسورة، وكانت قصّته من القصص التي قصّها الله على النبي محمدw ليقوّي موقفه ويثبّت به فؤاده، وذلك قوله تعالى: ﴿وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(1).
وإننا ندعو القائمين على شؤون الدعوة الإسلامية، إلى تربية الدعاة على الصبر والصمود والاستمرار في الدعوة، ومواجهة الواقع بواقعيته الإنسانية، والانفتاح على الله في أوقات الشدّة، والدعاء الصارخ إليه، بأن يثبّتهم على الموقف وينصرهم على الأعداء. والحمد لله ربّ العالمين.


























    عادفيالتاريخ
    1ـخلفاءقومنوح
    2 ـموطنهمالأحقاف
    3 ـبسطالأجسام
    4 ـالجبابرةالمستكبرون
    5 ـالحضارةالعمرانيّة
    6 ـسعةالمواردوالثروات
    النبيّهودفيقومه
1 ـالدعوةإلىالتوحيد
2 ـعطاءالرسالةبلامقابل
3 ـتصحيحالمسار
    الملازمةبينالتوبةوالنعم
    موقفالرفضالخرافي
























في هذه المحاضرة، نتوقّف عند نبيّ الله هود؛ هذا النبي الذي أرسله الله بعد نوحٍ إلى قوم (عاد). قيل إنّ عاداً على قسمين: عاد الأولى، وأُشير إليهم بقوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى﴾(1)، وعاد الثانية، ولكن القرآن لم يتحدّث عنها بشيء؛ وقيل إنهم قومٌ من العرب كانوا يسكنون الجزيرة العربية، وانقطعت أخبارهم وانمحت آثارهم ولم يحفظ التاريخ من حياتهم أيّ أثر؛ ولذلك لا نجد في تاريخ شبه الجزيرة العربيّة أي موقع يشير إلى هذه الجماعة، إلا ما يتداوله البعض ممن لا ينطلقون من دراسة تاريخية موثوقة، لأن كثيراً من الناس الذين يتحدثون في بعض الجوانب التاريخية، لا يرتكزون على قاعدة علميّة في حديثهم عن الأقوام الذين عاشوا في هذه المنطقة.
عاد في التاريخ:
والوثيقة التي يمكن أن نعتمد عليها في الحديث عن عاد، قوم هود، ونستند إليها، هي القرآن، والقرآن هو الذي يعطينا ملامح هؤلاء الناس، كيف كانوا؟ وما هي قيمتهم الفنّية والعلمية؟ وما إلى ذلك. ويُمكن أن نُحصي لهم عدّة ملامح، ممّا تعرّض له القرآن الكريم:
1ـ خلفاء قوم نوح:
وقد تحدث القرآن عن قوم هود أنهم جاؤوا بعد قوم نوح، وكانوا يسكنون الأحقاف في شبه جزيرة العرب، كما جاء في قوله تعالى: ﴿واذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾(2). فالله سبحانه وتعالى استخلفهم، لا بمعنى إعطائهم السلطة على الناس، كما هو مصطلح الخلافة، ولكن على أساس أن كل جيلٍ يعقب الجيل الآخر، فهو يخلفه، فالناس يعيشون الخلافة في حركتهم في الحياة من جيلٍ إلى جيل.
2ـ موطنهم الأحقاف:
وفي قوله تعالى أيضاً: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ﴾(1). والتعبير بأخي عادٍ يدلّ على أن هوداًt هو من عشيرة قومه نفسها.
3ـ بسط الأجسام:
وأيضاً كانوا يتميزون ببسطة في الجسم، حتّى قيل إنهم كانوا يشبهون العمالقة، وهو ما جاء الحديث عنه في قوله تعالى: ﴿وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً﴾(2)، أي اتّساعاً، بمعنى أن أجسادهم كانت مبسوطةً ومتّسعة، سواء في الطول أو في العرض. وربّما يستفاد ذلك من تعبير القرآن عنهم بعد إنزال العذاب بهم، حيث قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنقَعِرٍ﴾(3)، حيث إنّ النخل يملك امتداداً في الطول، وتشبيههم بأعجاز النخل يُستفاد منه أنّهم كانوا طوال الأجسام، لأنّهم لو لم يكونوا في موقع العملقة في الطول، لما صحّ تشبيههم بالنخل الذي هو من الأشجار الطويلة بحسب طبيعتها.
4ـ الجبابرة المستكبرون:
وكانوا يملكون القوة في إمكاناتهم وقدراتهم الجسدية والمادية، في عناصرها الحركية، وكانوا يستخدمونها استخداماً سلبياً وعدوانياً، من خلال بطشهم بالناس الآخرين من أعدائهم، أو ممن يعملون على إخضاعهم لسلطانهم، وذلك عبر استخدام العنف القاسي الذي يجتاح الضعفاء من الناس، ككلّ الأقوياء الذين حفل بهم التاريخ، أو الذين يعيشون في الحاضر، الذين يستغلّون قوّتهم للسيطرة على الضعفاء. وقد تحدّث تعالى عن ذلك بقوله: ﴿وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾(1)، حيث كانوا يتجبَّرون على الناس بغير حقّ، ويتعالون عليهم، ويقهرون الضعفاء منهم.
ونستوحي ذلك، من إحساسهم الشديد بالقوة التي لا قوّة تنافسها أو تقترب منها، وذلك قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾، والله سبحانه يردّ عليهم في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾(2).
وهكذا؛ كانوا يعيشون الاستكبار والتعالي على الناس المستضعفين من خلال نظرتهم إلى مواقع القوة التي يملكونها مقارنةً بمواقع الضعف لدى الآخرين من المستضعفين، فيستخدمون قوتهم في استغلال الآخرين في أوضاعهم العامة.
5ـ الحضارة العمرانيّة:
كما كانت لهم حضارة عمرانية، حيث كانوا من الجماعات المتمدّنة، فكانوا يملكون الخبرة العمرانية الفنية التي يستطيعون من خلالها أن يبنوا القلاع المحصّنة، والقصور المشيدة؛ وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُون﴾(3).
والريع: هو المكان المرتفع الذي يُطلّ على الأماكن البعيدة. فقد كانوا يبنون الأبنية الفخمة في الأماكن المرتفعة التي تطلّ على الساحات البعيدة، ولكن من دون حاجة إليها كما يوحي بذلك قوله تعالى: ﴿تَعْبَثُون﴾، أي من غير هدفٍ مقبول؛ بل كان عملهم استعراضاً ولهواً وعبثاً واتباعاً للمزاج الذاتي الذي يبحث عن الزهو الذاتي في الشكل بعيداً عن المضمون، في دلالة على الرفعة والقوة، ما يجعل من المسألة في بعدها الواقعي تمثل حالة من العبث؛ لأن العبث، هو عبارة عن كل عمل يمارسه الإنسان أو يقوم به من دون هدف، ومن دون حاجة إليه، ومن دون قضية كلّية.
فقد كانوا يتّخذون القصور المشيدة والحصون المنيعة والقلاع المحصنة التي تمثّل الثبات في تمرّدها على السقوط والهدم، وامتدادها في مدى الزمن بقوّتها وصلابتها وصمودها أمام عوامل الفناء، في تصورٍ غير واقعي للحصول على الخلود من خلالها. ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾(1)، حيث كان يخيّل إليهم أن خلود البناء وامتداده الزمني قد يؤثّر في خلود الإنسان الذي يقيم فيه، أو أن خلوده يوحي بامتداد الذكر الخالد في التاريخ، وإن لم يكن خلوداً مادّياً.
ولعلّ ذلك ما دفعهم إلى أن يشيدوا الأبنية القوية الشامخة، التي يتمثل بها الفن العمراني الجميل، والموقع القوي المنيع، لتشكّل حمايةً لهم على أساس ما تمثّله من القلعة المحصّنة التي لا يملك الأعداء أن يقتحموها ضدّهم في حالات الحرب؛ وهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَاد﴾ أي المنصوبة على أعمدة، في دلالة على القوّة ﴿الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ﴾(2)، لأنّها كانت تمثل فرادةً في تلك المنطقة، ما يدلّ على تميّزهم في قدراتهم الفنّية العمرانية، التي لم تكن الشعوب المحيطة بهم تملك أن تصنع مثلها.
6ـ سعة الموارد والثروات:
وكانوا إلى جانب ذلك، يملكون الثروة الزراعية والحيوانية، كما كانوا يملكون القوة البشرية من خلال عدد أولادهم، وذلك قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ* أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ﴾ وهي الثروة الحيوانية ﴿وَبَنِينَ﴾ وهي الثروة البشرية ﴿وجناتٍ وعيون﴾(1). وقد أدّى بهم كل هذا الغنى المالي، والقوة العددية والعمرانية، إلى إفساد الحياة العامة للناس، من الناحية الدينية والأخلاقية والاجتماعية، وكان ذلك سبب إرسال الله هوداً من بينهم، ليدعوهم إِلى توحيد الله، ورفض الوثنية، ويرشدهم إِلى عبادة الله والأخذ بمبادئ العدل والرحمة والخير والصلاح.
فانطلق هود في دعوته الرسالية الإصلاحية التغييرية، وبالغ في الوعظ وتقديم النصيحة لهم وهدايتهم إلى الصراط المستقيم، وأقام عليهم الحجّة بمختلف الوسائل العقلية والثقافية، وواجههم في الأفكار المتخلّفة التي يأخذون بها، كما دعاهم إلى التفكير والحوار؛ ولكنّهم أصرّوا على الجحود والإنكار، ولم يؤمن به إلا القليل من الناس، بفعل الضغط الذي كان يمارسه المستكبرون والمترفون عليهم، حتّى وصل الأمر إلى اتّهامه بالجنون والسفاهة، وأطلقوا التحدّي في وجهه، بأن يُنـزل عليهم عذاب الله إذا كان صادقاً، ولكنّه أنذرهم بأنّ الأمر ليس في يده، بل هو في يد الله. ونزل العذاب عليهم، وانتهت هذه الجماعة بشكلٍ حاسم، كما سيأتي بعض الحديث حول هذا الموضوع.
هذا هو حال عاد، قوم هود، فكيف كان موقف هود ودعوته لهم وحواره معهم؟
النبيّ هود في قومه:
1- الدعوة إلى التوحيد:
كانت البداية دعوة هود tقومه إلى عبادة الله الواحد القهار الذي لا إله غيره، في مواجهة عبادة أوثان أدمنوها وأقبلوا عليها؛ فعقيدة التوحيد هي الحقيقة الفكرية والعملية التي تتمحور حولها حركة الحقائق الإنسانية في الحياة، والتي توجّه كل خطواتها إلى الطريق المستقيم في وعي الإنسان لربّه، المنطلق من عمق الانفتاح المعرفي الذي يرى سرّ الخالق في عظمة أسرار الإبداع في خلقه، ومن الإحساس بمعنى العبودية المطلقة أمام الربوبية المطلقة التي لا ترى في الوجود إلا وجود الله.
وهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم منْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ﴾(1)؛ لأنه هو الذي يملك سرّ الألوهية في ذاته، وفي إبداع الوجود في خلقه للكون والحياة، ﴿إِنْأَنْتُمْإِلاَّمُفْتَرُونَ﴾، بتأليهكم للأوثان، والتزامكم بعبادتها، في عملية خضوع وإذلال، لأنّه ليس هناك عقلٌ يحترم ذاته ويعبد الأوثان، فهي مجرّد أحجار صمَّاء لا حسّ فيها ولا شعور، ولا روح لها ولا معنى. وإنّني أدعوكم ـ هكذا كان يقول لهم هود ـ إلى رفضِ ذلك كلّه، وأن تتحرّكوا بما فيه احترام لعقولكم، وتأصيل لإنسانيتكم التي لا تنفتح إلا على الحقيقة التوحيدية في الإيمان بالله الواحد عقيدةً وعبادةً وطاعةً.
2ـ عطاء الرسالة بلا مقابل:
﴿يَا قَوْمِ لا أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْرَاً﴾(1)، فربما يأتي بعض الناس ليدعوكم إلى ما أدعوكم إليه من أجل تحصيل المال منكم، فيتاجرون بالأفكار والمبادىء التي يدعونكم إليها، أما أنا، فلا أريد منكم مقابل جهدي الذي أبذله أمامكم أي امتياز مادّي أو معنوي، لأنّي لست من تجار المبادئ والرسالات التي يستغلّها البعض من أجل تحقيق الربح والحصول على الثمن، مثل تجّار الأديان الذين يتاجرون بالدين ليحصلوا على ثمن ما يقدّمونه؛ فإن الرساليين الذين يعيشون حياتهم للرسالة لا يبتغون منها عوضاً، بل قد يفكّرون في التضحية بالمال والجاه والنفس إذا احتاجت الرسالة إِلى ذلك في حركة الدعوة على مستوى الواقع، لأنّ الهمّ الكبير لديهم هو رضوان الله وثوابه.
﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي﴾ الذي خلقني، فهو صاحب الفضل عليَّ في نعمة الوجود كلّه، ولهذا فإن الدعوة إلى عبادته ورفض عبادة ما عداه، تمثّل الوجه المشرق لعملية الشكر الإنساني، إضافةً إلى أنّه الوجه الأصيل للحقيقة الكونية والعملية في الحياة ﴿أفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾(2)، وتناقشون المسألة من مواقع الفكر لا من مواقع الغريزة؛ لتعرفوا طبيعة القاعدة التي ترتكز عليها حياتكم، ويخضع لها وجودكم بكلّ تفاصيله، في دراسة للخلفية التي تكمن في واقع الرسول الذي يدعوكم إلى الانطلاق في خطّ الله؛ فإن ما تلتزمونه في عبادتكم وأوضاعكم التي لم تنطلقوا فيها من تفكير عقلاني متوازن، يدلّ على أنكم تتحركون في اللاعقل، ما يؤدي بكم إِلى السقوط في وحول التخلّف؟!
3ـ تصحيح المسار:
﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارَاً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾(1).
ثم يدعوهم إِلى أن يصححوا مسيرتهم، وذلك بالاستغفار من الذنب العظيم الذي يقيمون عليه، والتوبة إِلى الله من هذه العبادة السخيفة العمياء التي تمثّل المعصية الكبرى لله، ذلك لأنهم انحرفوا كثيراً عن طريقه، وتمرّدوا على إرادته، وعصوا أحكامه؛ ما يستدعي الابتعاد عن ساحة رحمته، والوقوف في ساحة غضبه؛ فما عليهم إلا الوقوف وقفة استغفار، ليغفر الله لهم ذنوبهم إذا عرف منهم صدق النية، والإخلاص في الموقف، والتوبة إليه توبةً نصوحاً، بإعلان الندم على ما مضى، والتغيير فيما سيأتي؛ فهو الله ولي الإنسان والحياة، فمنه القوّة، ومنه النعمة، ومنه قبل ذلك كلّه سرّ حياته، فلا يستطيع الإنسان الانفصال عنه، بل لابد له من الرجوع إليه في الأمور كلّها.
فإذا كنتم تريدون زيادةً في القوة لتواجهوا كل التحديات التي يوجهها الآخرون إليكم بشكل أقوى، وإذا كنتم تريدون خصب الأرض التي تسكنون فيها، ووفرة الماء التي تشربون، فارجعوا إِلى الله بخشوع وخضوع، ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارَاً﴾، في هطول متتابع، ليحيي زرعكم وأنعامكم، ويروي ظمأكم، لأن الله هو الذي يفيض نعمه على عباده إذا أخذوا بأسباب التقوى، ﴿وَيَزِدْكُمْقُوَّةًإِلَىقُوَّتِكُمْ﴾، لأنه خالق القوة كلها، فمنه وجودها، ومنه حركتها ونموها.
﴿وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾(2)، أي لا تعرضوا عن هذه الدعوة وعن الله، لتسيروا في خط الجريمة في العقيدة والسلوك، ممّا يسير به المجرمون من الكافرين والمشركين.
الملازمة بين التوبة والنعم:
وقد يطرح البعض سؤالاً حول هذا التلازم بين التوبة وزيادة القوّة وهطول المطر؟ في الوقت الذي نعرف أن الله يجري الأمور بأسبابها؛ فقدّر لزيادة القوّة شروطاً لابدّ من تحقّقها، وجعل للمطر أسباباً لابدّ من حصولها؟!
وقد يُجاب عن ذلك بأحد جوابين:
الأوّل: أنّ قانون السببيّة لا يمنع من وجود المعجزات والكرامات الإلهية، فلعلّ المسألة ـ في الآية ـ كانت خاضعةً لذلك؛ وقد يُستشهد على ذلك بكثير من الموارد التي تدخل في الغيب، إمّا من ناحية بعض النعم، كما في مسألة الناقة، أو من ناحية العذاب الذي كان ينزل بالأمم بعد إصرارها على التكذيب.
الثاني: أن تكون الغاية من ذكر ذلك، الإيحاء النفسي إليهم بأنّ الله هو مصدر النّعم، فإذا انحرفوا عن خطّ طاعته، كانت النعمة مهدّدةً بالزوال، فيما يمكن أن يحقّقه من أساليب أسباب زوالها بطريقة وبأخرى، كأن يمنع عنهم قطر السماء، أو يُضعف قوّتهم، وإذا أقبلوا عليه ورجعوا إليه، فإنّه يوفّر لهم أسباب ما يحتاجونه ويريدونه مما يهمهم أمره.
وهكذا تكون مسألة التنمية الروحية للعقيدة، فيما يتفرّع عنها في الجانب العملي الذي قد يغفل عنه الآخرون عندما يفقدون الإحساس بالإيمان، فلا يشعرون بالارتباط بين الله وحركة النِعم في حياتهم سلباً أو إيجاباً، والله يقول: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ﴾(1)، ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾(2).
موقف الرفض الخرافي:
فماذا كان جواب قومه؟
﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾(1)؛ فقد أنكروا الدليل على رسالته، واعتبروها مجرّد دعوة لا ترتكز على أساس، لأنّهم لا يريدون التأمّل والتفكير فيما يدعوهم إليه من عبادة الله وحده، والإخلاص له في الطاعة، والارتباط به في خطّ السير، إذ لم تكن قضيّة دعوتهم إلى الإيمان بنبوّته هي المسألة الأولى لديه، بل كان همّه أن يقدّم لهم الدليل على حجّة نبوّته من دون حاجة إلى معجزة أو ما يشبه المعجزة.
وهنا ينبغي لنا الإشارة إلى نقطة مهمّة، وهي أنّ المعجزة ليست ملازمةً للنبوّة، بل انطلقت المعاجز في بعض الموارد بهدف إيجاد الصدمة في الواقع الذي كان يتحرّك فيه الكافرون، باعتبار أنّ الواقع المستحكم كان يتطلّب ذلك؛ فإنّ فرعون ـ على سبيل المثال ـ لم يكن ليستمع لموسىt لولا أن صدمه بالتحدّي بالعصا التي تستحيل ثعباناً، أو باليد البيضاء، أو ما إلى ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة إلى عيسى t في مجاله.
لذلك، لم تكن الرسالات تعتمد في دعوة الناس إلى الإيمان على المعاجز، بل كانت تنطلق بهدف تحريك عقول الناس، ليكون ذلك هو الذي يحكم حركتهم في الحياة.
ولعلنا نلاحظ أن الإلحاح كان يرتكز على مضمون الرسالة لا على صفة الرسول، بحيث كانت صفة الرسولية طريقاً إلى الانسجام مع خطّ رسالته، وكان إنكارهم للبينة منطلقاً من عدم وعيهم للرسالة في ما تحمله من دلائل الصدق، واعتبارهم المعجزة في خوارق العادة هي الأساس في الالتزام بالدعوة. لذا رفضوا الابتعاد عن آلهتهم، وترك عبادتهم لها، باعتبار أن قوله لا يرتكز على دليل ـ بحسب زعمهم ـ وقد رفضوا الإيمان به كمجموعة متضامنة في الوقوف ضدّه.
ولو كانوا جادّين في التزاماتهم الذهنية، لأداروا الحوار معه، ولسألوه عن وحدانية الله في منطق العقل وحركة التفكير، وعن السلبية في عبادة الأوثان، ولكنهم اختاروا العناد الذي لا ينطلق من قاعدة فكرية للرفض، بل ينطلق من حالة نفسية معقّدة لا تتقبّل الخروج عن إرث الآباء والأجداد في هذه العبادة المتحجرة الخرافية الدالّة على ذهنية التخلّف الأعمى للإنسان. إن المشكلة هي أنهم رفضوا تغيير ما التزموه وألفوه مهما كان يقدّم إليهم من دلائل ويقام عليهم من حجج، وعلى الرغم من كلّ دعوات الحوار التي وجِّهت إليهم حول مناقشة السلبيات والإيجابيات في فرضيات هذه المسألة العبادية. ولذلك فقد اكتفوا بالإنكار من دون أساس.
وكان موقفهم الرافض يتصاعد مسلّحاً بمنطق خرافي يزعم أنّ للآلهة المزعومة تأثيراً سلبياً على من يعارضونها ويرفضون عبادتها، وعلى من يدعون الناس إِلى البراءة منها والابتعاد عنها. لذلك كانوا يرون في موقف هود دلالةً على بعض الخلل في عقله، فلا يتصورون المسألة منطلقة من حالة إيمان بالرفض، بل يعتبرونها منطلقة من موقع ابتزاز عقلي في التفكير؛ وهذا ما عبّروا عنه في قوله تعالى: ﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ﴾(1)، ممّا يمثله ذلك من جنون يفقد معه الإنسان صوابه وسلامة فكره.
ومن خلال هذا الأسلوب العدواني الذي يشبه السُباب، أرادوا إنهاء الكلام معه، في عملية تشهيرٍ اجتماعي به، يهدفون من خلاله الإعلان للناس بأنّ هذا الرجل يعاني من خلل عقلي يمنع من الاستماع إليه والانفتاح على كلماته، الأمر الذي يفرض على المجتمع الابتعاد عنه، خوفاً من تأثيره السلبي على النهج الذي يلتزمونه، فيما يفكرون فيه أو يسيرون عليه.
هذا منطق قوم هود. فكيف كان منطق هود في الرد عليهم؟ هذا ما نتحدث عنه لاحقاً إن شاء الله…






































    إنهاءالحوار
    الحربالنفسيّة
    هلالتحدّيمعجزة؟
    العنادالمتحجّر
    نتيجةالتمرّد























لا نزال نتحدث عن سيرة نبي الله هودt مع قومه، وفي هذه المحاضرة، نستعرض موقف هودt في ردّه على موقف قومه من دعوته لهم. فماذا كان موقف هود من جواب قومه؟
إنهاء الحوار:
لقد رأى هودt أن القوم لا يريدون الاستماع الواعي لدعوته، أو الدخول معه في حوار بإثارة علامات الاستفهام حول طروحاته وإدارته الموقف بطريقة علمية موضوعية، وأن الحديث معهم قد تحوّل إلى مجرّد كلام في الهواء، ولذلك بادر إلى إنهاء الحوار الذي بدأه، لأنّه رأى أنه يدور في حلقة مفرغة، وذلك بإعلانه موقفاً حاسماً يرسم الحدّ الفاصل بينه وبينهم، ويميّز الحق من الباطل، لئلاّ يظنوا أن مقاطعته لالحوار تمثّل لوناً من ألوان الضعف، أو حالةً من حالات التردّد، أو نوعاً من أنواع القناعة بما يقولون في الداخل مع إظهار الرفض الخارجي له.
﴿قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّه﴾ الذي يطّلع على السرائر، فيعرف حقيقة موقفي وما أؤمن به وما أرفضه ﴿وَاشْهَدُوا﴾ أي كونوا شهوداً في إقراري الذي أعلنه أمامكم فيما أعتقده وأتحرّك فيه من خطّ ﴿أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* مِن دُونِهِ﴾(1) بريء من هذا الشرك العبادي الذي يتمثّل بتعبدكم لهذه الأصنام التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ ولذلك فإني أؤكد هذه البراءة الفكرية العقيدية التي تنطلق من الاقتناع العميق بأنكم لا تملكون أيّ وعي ثقافي أو روحي بالالتزام بهذه الأصنام والاعتقاد بألوهيتها، لأن هذه العبادة عبارة عن إرث ورثتموه من التخلّف الذي عاشه آباؤكم في الماضي من دون تفكير في طبيعته، لأنه لا يمثّل أيّ حقيقة معنوية في العقل الذي يحترم فيه الإنسان نفسه.
إنني أعلن هذه البراءة، لتفكروا جيداً في أنّ هذه الدعوة هي التي تمثّل حركة الصدق، بدلاً ممّا أعلنتموه من رفضكم الإيمان بالله الواحد والسير في خطّ طاعته وعبادته من خلال الفكرة العميقة الصافية.
ونلاحظ أنّ هذه البراءة تمثّل أسلوباً من أساليب الصدمة العنيفة التي تهزّ أعماق الجاحدين، وتربك وجدانهم، الأمر الذي قد يدفعهم إلى إعادة النظر فيما يقفون عنده، أو يتساقطون في مواقفهم أمامه، لأنهم تأكدوا من إصراره على رفض ما يلتزمونه كردّ فعل قويّ على موقفهم الرافض لما دعاهم إليه من موقع الإيحاء بالقوّة لا الضعف.
﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً﴾ إذا كنتم تملكون قوة الكيد لي والتآمر عليّ بأنواع الضغوط المختلفة القاهرة ﴿ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ﴾(1)، أي لا تمهلوني لحظةً واحدةً. وتلك هي ذروة التحدّي الرسالي الصادق القويّ الذي يقف فيه النبي وحده أمام القوى الكافرة ليقول لهم: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً﴾، فيتصاغرون أمامه، ولا يستطيعون مواجهة التحدّي بمثله، ما يوحي بأن الإنسان الذي يستمدّ قوته من ربه، ومن عناصر القوة في شخصيته، ثم يقف أمام الناس ليثير أمامهم حقيقة ذلك بتصميم، يستطيع أن يهزم موقف الآخرين، ويدخل الرعب في قلوبهم منه.
الحرب النفسيّة:
وهذا ما يحتاجه الدعاة والمجاهدون في سبيل الله، من استثارة الإحساس بالقوة الفاعلة في داخلهم، لينطلقوا منها في مواجهة من يحاولون استعراض عضلاتهم، وتوظيف ذلك الاستعراض في حرب الأعصاب، ليهزموا المؤمنين نفسياً قبل الدخول في المعركة الفاصلة.
لذلك، فإن على العاملين أن يقتحموا الساحة بأسلحة الحرب النفسية، وذلك بالإعلان عن القوة الروحية القادرة على الثبات والاستمرار في حمل الرسالة والجهاد في سبيلها، لتبقى للموقف قوّته، وللرسالة دورها في حركة الحياة، في وعي الأعداء والأصدقاء معاً، وفي تعميق إحساس الدعاة بهذا الإمداد الروحي الذي يعيشه المؤمن، من خلال شعوره بالاستسلام الكلّي لله، وأنّ الله يرعاه، فلا يشعر بالضعف أمام الآخرين، ولا بالخوف أمام المجهول، كنتيجة للتوكل في العقيدة.
وهذا ما أراد هودt تأكيده أمام قومه من خلال موقفه: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم﴾(1)، فالله هو مصدر القوة في الحياة، لأنّه مصدر حياة كلّ حيّ، وهو المهيمن على كل شيء، لذلك لا تستطيعون الإضرار بي إذا لم يأذن الله بذلك، لأنكم لا تملكون القوّة الذاتية، ولا يملكها أحد من خلقه…
ولعلّ كلمة ﴿رَبِّكُم﴾، يوحي إليهم بأنّهم يواجهون الموقف أمام الله مواجهة المربوب أمام الربّ، ما يجعلهم في موقف الضعف المطلق معه، لأنّ وجودهم مرتبط بإرادة الله، وقدرتهم خاضعة لقدرته، فلا حول لهم ولا قوّة إلا به، ولا يملكون في ذواتهم لأنفسهم ضراً ولا نفعاً إلا بإذنه.
﴿مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ بما يحمله الأخذ بالناصية ـ من تعبير كنائي يفيد سيطرة الله على الأمر كله، وهذا ما يوحي للإنسان المتوكل على الله بأنّ الله يحميه من كل سوء.
﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(2) بما تمثّله عقيدة الإيمان من قاعدة، وما تتحرك به شريعته من خط ونهج للفكر والسلوك معاً. لذلك فإني سأظلّ سائراً في هذا الخطّ المستقيم، ولن أنحرف عنه تحت تأثير أي ضغط أو تهديد، أو طمع أو شهوة، مما تحاولون إثارته أمامي بأساليبكم المتنوّعة المليئة بالترغيب والترهيب، لأنّ ذلك هو معنى الإيمان بالله الذي يجعل الحياة بكل آفاقها وساحاتها تبدأ منه وتنتهي إليه.
هل التحدّي معجزة؟
وقد حاول بعض المفسّرين أن يجعل من التحدي الذي أطلقه هودt في وجه قومه، معجزةً له، وأيّد صاحب (الميزان) ذلك في تفسيره بقوله: «ذلك بأنّ ظاهر الجواب أن يقطع به ما ذكر من الردّ في صورة الحجّة، وفيها قولهم:﴿مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ﴾(1)، ومن المستبعد جداً أن يهمل النبي هودt في دعوته وحجته التعرّض للجواب عنه، مع كون هذا التحدّي والتعجيز صالحاً في نفسه، لأن يتّخذ أية معجزة».
ونحن نتحفّظ على هذه الاستفادة، لأنّ سياق الآية هو ردّ التحدّي بصلابةٍ في الموقف ترفض التراجع والتنازل أمام التهديدات، لا المجابهة بالبيّنة التي أرادوها، لأن ما أرادوه، كما يبدو، هو المظاهر الخارقة للعادة حسيّاً، أو لأن ما ذكروه ليس طلباً للبيّنة بقدر ما كان إنكاراً عنادياً لما قدّمه لهم من البيّنة، فهم ليسوا في موضع من يبحث عن الحقيقة من موقع الحوار، بل هم في موضع من يريد إنكار ضوء الشمس، كما أن موقف هودt كان في إنهاء الحوار مع قومه، بعد أن تحوّل إلى كلام لا غاية له ولا معنى، لا البدء في حوار جديد حول المعجزة الجديدة.
وقد تحدّثنا في أكثر أبحاثنا، أن النبوّة لا تنطلق في حركة النبي من المعجزة، بحيث لم يأتِ الكثير من الأنبياء في دعوتهم لأقوامهم بالمعاجز، بل كانوا يستهدفون مخاطبة العقل الذي يدفع الناس إلى التفكير، ويقودهم من خلال مناقشة فكر الدعوة إلى الحوار، لأن قضيّة الرسالة هي قضيّة عقل يفكّر، وشعور ينفتح، وموقفٍ يتحدّد، وليست قضية صدمة تهزّ الكيان وتبعث على الخوف.
ويتابع هودt كلامه معهم في نهاية الحوار، وفي إقامة الحجّة عليهم: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ بمعنى إن تعرضوا عن الإيمان بالرسالة، فهذا شأنكم ومسؤوليتكم التي تتحملونها تجاه مصيركم الذي عرّفتكم سلبياته وإيجابياته على مستوى قضية الكفر والإيمان، وألقيت عليكم الحجة من الله ﴿فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ﴾ فلم أدّخر جهداً في دعوتكم على مستوى الأسلوب والمضمون ﴿وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾، فلستم أوّل الكافرين ولستم آخر البشر، فإذا لم تؤمنوا فلن ينتهي الإيمان من العالم، فسيأتي الله بقوم آخرين يستخلفهم في الأرض ليعمّروها أكثر مما عمرتموها، وليعملوا بطاعة الله ويسيروا على هداه.
﴿وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً﴾، لأنه الغنيّ عن عباده في معصيتهم وطاعتهم، فلا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرّه معصية من عصاه، بل هم الرابحون في طاعته، والخاسرون في معصيته، لأن الله لم يأمرهم إلا بما فيه صلاحهم، ولم ينههم إلا عما فيه فسادهم ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾، بما يوحيه ذلك من إحاطةٍ الله بكل الأشياء، علماً وملكاً وسيطرةً، ولذلك فلن يفلت أحد منهم، لأنه محيطٌ بهم إحاطة الحافظ بالمحفوظ.
وجاء أمر الله، ونزل العذاب، وتساقط كل الذين كانوا يستعلون على الناس بالقوة الكبيرة التي كانوا يملكونها، ويتمرّدون من خلالها على الله ورسله ورسالاته، فإذا بهم ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ* فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ﴾(1). وبقيت الحياة لمن كانوا دعاة إلى الإيمان بالله، والعاملين في سبيله، لأنهم خدموا الحياة من موقع ارتباطها بالله، والتزامها برسالته.
﴿وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا﴾ بما يرحم الله به عباده المؤمنين من خلال ما يحيطهم به من ألطافه، وبما يرعاهم به من حنانه وعطفه ﴿وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ بما أنزله الله على قومه من الكافرين ﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ واتّبعوا أَمْرَكُلِّجَبَّارٍعَنِيدٍ﴾(1) وقالوا من دون وعي ثقافي وتأمّل عقلي في جحودهم بدعوةرسولهم:﴿أَيَعِدُكُمْأَنَّكُمْإِذَامِتُّمْوَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ* إِنْ هِيَإِلاَّحَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ* إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ﴾(2).
العناد المتحجّر:
وفي آية أخرى: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾(3)، ﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾(4).
وهكذا جاهروا بالعصيان لكل دعوة التوحيد، بتكذيب الرسول الذي جاء ليمنحهم عقلاً من عقله، ورشداً من رشده، ولينصحهم بالسير على الخط المستقيم، حيث أغلقوا عقولهم وصمّوا آذانهم ﴿وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾(5)، ممن يتجبّرون على الناس بغير حق، ويأخذون بأسباب العناد المتحجّر الذي يمنعهم من التفكير بما يدعوهم إليه المصلحون، لأن لهم قلوباً لا يعقلون بها، وآذاناً لا يسمعون بها، وأعيناً لا يبصرون بها، فهم يريدون المحافظة على امتيازاتهم الاجتماعية في زعامتهم الاستكبارية على الناس المستضعفين، في عملية استغلال لضعف الضعفاء وحاجة الفقراء…
فكان عقابهم ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ﴾(1)، ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ* مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾(2). وتلك هي قصة العذاب الذي ينـزله الله على عباده كنتيجةٍ لأسبابٍ تستدعيه، فإن الله يعذّب الجاحدين بآياته، العاصين لرسله، بعد إقامة الحجَّة عليهم، بما لا يدع لهم مجالاً لريب أو شبهة، المستسلمين للجبابرة الطغاة المعاندين للحقّ فيما يأمرونهم به من الكفر والضلال، فإذا وقفوا بين أمر الله وأمر هؤلاء، تركوا أمر الله واتّبعوا أمرهم، وهم يعلمون بوحي فطرتهم، أن ما يدعوهم إليه الله هو الحقّ، وأن ما يدعو إليه هؤلاء هو الباطل، ولكنهم يضعفون أمامهم، وتتساقط مواقفهم بسقوط إرادتهم، والله سبحانه لا يرى عذراً للضعفاء في استسلامهم لحالة الضعف أمام الأقوياء إذا استطاعوا أن يأخذوا بأسباب القوة، ولو بالانتقال إلى موقع آخر يمكّنهم من ذلك.
وفي هذه الفقرة إيحاء بأنّ الغالب في ضلال الشعوب المستضعفة، هو سيطرة القوى المستكبرة التي تقودها إلى ذلك، كظاهرةٍ من الظواهر الاجتماعية لتفاوت مواقع القوة والضعف بين الناس على أكثر من مستوى في بعض المجتمعات.
نتيجة التمرّد:
﴿وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ﴾ بما تمثله اللعنة من البعد عن ساحة الرحمة الإلهية، وبما ينـزله الله بهم من العذاب، ليبقى ذلك إعلاناً عن الطابع العام الذي يغلب على تلك المرحلة من التاريخ، ودرساً لكل من يسير في هذا الاتجاه ﴿أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾(1) ليظلّ هودt الوجه الرسالي المشرق الذي تلتقي في شخصيته الروح الرسالية المنفتحة على الواقع بكل سعة الصدر ومرونة الصبر والإرادة القوية التي تواجه التحديات بصلابة دون أن تتنازل أو تتراجع أمام تهاويل المخاوف التي تُثار حولها، وبكل الحكمة العميقة الواعية التي تواجه بها الذهنيات البدائية لهؤلاء الناس الذين يملكون قوة الجسد دون قوة الفكر، لأنهم يعملون على تنمية أجسادهم دون تنمية أفكارهم، لذلك استخدم هودt أساليب بسيطة في الدعوة، حيث طرح الفكرة ببساطة لا تحوجهم إلى بذل الجهد في فهم الدعوة، وكانت الأساليب العملية في الحركة ترقّ عند الحاجة إلى اللين، وتعنف عند الحاجة إلى العنف، ولكنّ قومه كانوا في حالة تمرّد، فلم يخضعوا للحوار، ولا لتفهّم الفكر، بل كل ما كان عندهم، هو المزيد من الجهل والغرور والكبرياء والتقليد.





























    بعضملامحقومصالح
    سيطرةالمترفينعلىالمجتمع
    حمايةالمصالحلاالفكر
    دعوةالنبيّصالح
    ضرورةشكرالنعمة
    الإحساسالعميقبالارتباطبالله
    لزومالاستغفاروالتوبة
    الدعوةإلىالتقوى
    الدعوةإلىالابتعادعنخطّالمفسدين























بعض ملامح قوم صالح:
وهذا نبي من أنبياء ما قبل التاريخ ـ فيما يقال ـ كان يسكن وقومه في الأحقاف، أو في القرى الواقعة بين المدينة والشام، كما عن بعض المفسّرين، وليس لدينا مصدر تاريخي موثوق يحدّثنا عن تفاصيل حياتهم إلا القرآن،الذيهو المصدر الصحيح في دلالته بأنهم كانوا أمةً من العرب على مايوحي به اسم نبيّهم الذي كان ينتسب إليهم، كما يستفاد من التعبير عنه بأنه أخوهم. وقد كانت لهم حضارة ومدنيّة في حركتهم العمرانية التي كانت تمتدّ في السهول التي يتخذون منها القصور التي ربما كانوا يسكنون فيها في الشتاء، فإذا جاء الصيف، انتقلوا إلى الجبال التي يعمّرون فيها البيوت لسكناهم، وكانوا يمارسون الزراعة بكل مستلزماتها، فيفجرون الينابيع التي تروي الأرض التي يزرعونها، والأنعام والخيول التي يربّونها.
وكانت خبرتهم الزراعية تتحرّك في إنشاء البساتين الممتدة التي تؤمّن لهم حاجاتهم الغذائية، والنخيل والحرث الذي تتنوّع خصائصه وأشكاله في تنوّع الزروع الناضجة اليافعة، فكان ذلك يوفّر لهم ثروةً زراعية تكفيهم في حياتهم، وتحقّق لهم الإمكانات المتنوعة التي يملكون فيها الحياة القوية التي تسدّ حاجاتهم وتجعل منهم مجتمعاً غنيّاً يتحرك فيه أصحاب الثروة التي يحصلون عليها من خلال ما يبذلونه من جهد ذاتي، أو في استخدامهم للمستضعفين في تنمية ثرواتهم وفي تطوير امتيازاتهم الخاصة والعامة، ما جعل المجتمع منقسماً إلى مستكبرين يملكون السيطرة بفعل عناصر القوة، ومستضعفين لا يملكون شيئاً إلا من خلال ما يبذلونه من جهد وما ينتجونه من إنتاج في الزراعة والعمران لخدمة الآخرين، كما توحي به الآيات التي تتحدث عن الذين استضعفوا والذين استكبروا.
وقد كان المستكبرون يعيشون في ضلال الوثنية، فيعبدون الأصنام في خطّ الشرك بالله، تحت تأثير البيئة التي عاشوا فيها، من خلال تراث الآباء الذين لم تكن لهم أية ثقافة منفتحة على الكون في أسراره التي قد يكتشفون فيها ـ لو تأملوا المظاهر الطبيعية وتدبروها ـ سرّ التوحيد.
سيطرة المترفين على المجتمع:
وكان المترفون يسيطرون على مقاليد المجتمع، ويتحكمون في حركة الواقع، وفي التوجيه الفكري والعملي لأتباعهم من المستضعفين، ويوحون إليهم بأنّ طاعتهم هي السبيل الأقوم لنجاحهم وحصولهم على الخير والرشاد، من خلال ما قد تحقّقه الأصنام لهم من ذلك كله.
ولذلك، فإن المتتبّع لأصواتهم وأصوات أمثالهم، لا يشعر بأنها تنطلق من حالة اقتناع فكري ومعاناة شعورية واعية، بل يشعر بأنها أصوات المستكبرين الذين يوحون إلى المستضعفين ﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾(1)، مستغلّين تخلّفهم وجهلهم لاجتذابهم إلى عبادة الأصنام، باعتبارهم الجهة التي تستفيد من إقبال الناس عليها وخضوعهم لها، تماماً كما هي الزعامات الاجتماعية التي تربط الناس بالخرافة، ليبتعدوا عن حركة الوعي التي قد تكشف لهم الحالة السلبية التي تكمن في داخلها، فتتمرد عليها، وتبتعد عن الانتماء إليها.
حماية المصالح لا الفكر:
ولذلك، كانت مشكلة هؤلاء مع الأنبياء، أنّ الأنبياء يدعونهم إلى عبادة الله الواحد، حيث تسقط كل الرموز البشرية وغير البشرية في الأرض، بفعل العقيدة التوحيدية الخالقية التي تجعل كل الوجود بجميع مظاهره وأشكاله وأوضاعه، مخلوقاً عادياً للخالق الواحد الذي خلق الإنسان وخلق معه كل النّعم التي ترتبط بحياته، فلا يبقى في الوجود إلا وحيُه، ولا يحكم إلا شرعه، ولا يترك لأيّ بشري مجالاً للحصول على أيّ امتياز ذاتي في قوته وثروته إلا من خلال عمله؛ بينما كانت حياة هؤلاء المستكبرين تتحرك من خلال ما يحصلون عليه من الامتيازات التي فرضوها لأنفسهم، وأقنعوا الآخرين المتخلّفين باستحقاقهم لها، بما يملكونه من مال أو قوة أو جاه، وفي ما كانوا يدّعونه لأنفسهم من حق الولاية على الناس لرعايتهم للأصنام ووكالتهم عنها، إلى غير ذلك من الخرافات والأضاليل، الأمر الذي يجعل صراعهم ضد الأنبياء صراعاً من أجل حماية مصالحهم، لا من أجل حماية خطّهم الفكري الذي يختلقون قاعدته.
وهذا ما نلاحظه عند كل الذين يقدّمون للناس الخرافة والغلوّ لينحرفوا عن الفكر الأصيل للدِّين إن في الإسلام أو في المسيحية، ليستفيدوا من ذلك في تحقيق الموقع الديني المميّز، استغلالاً للحالة العاطفية التي يثيرونها في علاقة الناس بالشخصيات التي قد يمنحونها الصفات التي تقترب بهم من الألوهية، هذا إضافةً إلى ما يحرّكونه في الواقع الإنساني من انحرافات عقيدية في كثير من القضايا التي تصادر العقل وتدفع نحو الخرافة، وتفسّر الكثير من الأوضاع الطبيعية بالغيب، استغلالاً للمسألة الغيبية التي يؤمن بها المتدينون، مع العلم أن للغيب دوراً محدوداً في النظام الكوني، وأنّ الله أجرى الوجود في كل ظواهره وأوضاعه وفقاً للقوانين الطبيعية التي أودعها في الأشياء على أساس قانون السببية.
وهذا ينطبق على ما نعانيه في أوضاعنا الدينية، من خلال ما يثيره الخرافيون والمتخلّفون والغلاة والمنحرفون مما كان يعانيه الأنبياء، ولكن بطريقة أخرى تختلف عمّا كان مجتمع الأنبياء يعانيه من ممارسات لحالات التخلّف والانحراف.
دعوة النبيّ صالح:
يقول تعالى: ﴿وإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحَاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ﴾(1). هذه هي الدعوة الأساس التي تلتقي عندها كل رسالات الأنبياء، وكل شرائع الله وتعاليمه؛ فالله هو الربّ والخالق، وهو المنطلق في الوجود كله، لأنه هو الذي أعطى للوجود معناه في كل أنواعه ومظاهره وامتداداته، ولذلك فإنّه المرجع في كل أمر، فله الخضوع والأمر كلّه.
وهذا هو جوهر التصوّر الديني للحياة؛ فإمّا أن يكون الذي يلتقي الكون أمامه وينطلق من إرادته هو الله، وإما أن يكون غيره، ولكل منهما خطوط وآفاق وتعاليم وأهداف، فلا مجال للشركة، ولا مجال للتبعيض، ووفقاً لذلك، تختلف حركة المجتمعات في ممارستها لكلّ أوضاع حياتها.
فالذين يوحّدون الله ويؤمنون به، هم الذين يتوجهون إلى إله واحد، ويربطون كل تفاصيل حركتهم السلبية والإيجابية به، بعيداً عن الدخول في المتاهات التي تصنع للإنسان أكثر من إله من الذين لا يملكون أي عنصر من عناصر الألوهية، بل يأخذون الناس إلى ما تخضع له أطماعهم وشهواتهم ومصالحهم، فيعيش الناس التيه في الانتماء لإلهٍ هنا وإلهٍ هناك، من دون قدرة مطلقة أو إرادة شاملة.
أما الذين يشركون بالله غيره، فهم لا يملكون نظرة حقيقية إلى قاعدة الوجود وأسرار الكون ومسؤولية الإنسان، بل يسقطون في وهدة الضلال والانحراف، فلا يستطيعون حيلةً، ولا يهتدون سبيلاً، ويبقون في إخلاد أعمى إلى المادة التي قد تتمثّل لهم ربّاً يعبدونه، وقدساً يقدسونه، من دون ربوبية ولا قداسة.
ضرورة شكر النعمة:
ويتابع النبي صالحt عملية التذكير في وعظه لقومه، فيثير أمامهم مسألة كيف أن الله منحهم الامتداد في حركة الخلافة التاريخية، حيث جعلهم خلفاء من بعد عاد، وأفاض عليهم من نعمة الوجود الذي تحوّل إلى مجتمع واسع يملك الخبرة والقدرة والقوّة، ويتقلّب في نِعَم الله: ﴿وَاذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ في الأرْضِ﴾(1)، وأسكنكم فيها بوسائله التكوينية في امتدادكم الإنساني، وأعطاكم الفرصة الحياتية في عمرانها من خلال الأدوات الضرورية للبناء، ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورَاً﴾ شامخة لتعيشوا في داخلها حياة الأمن والحماية من الأخطار ومن الحرّ والبرد، وتمارسون فيها حياتكم الاجتماعية في داخل أُسركم، وترتاحون فيها في منامكم بالليل واستراحتكم في النهار، وذلك في موسم الشتاء.
﴿وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتَاً﴾، بحيث تستفيدون من مغاورها وكهوفها وصخورها، فتعمِّرون البيوت التي تحميكم من الرياح الهوجاء، وتستفيدون من النعم الوافرة التي منحكم الله إياها، من عيون الماء والزروع المتنوّعة، مما يرتفع في الفضاء كالنخيل وأشجار الفاكهة، ومما ينبت في الأرض من العشب والخضرة. ﴿فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ﴾، ونعمه التي أفاضها عليكم في وجودكم، والتي تحتاجونها في جميع أوضاعكم وحاجاتكم المادية التي تحفظ استمرار حياتكم بكل راحة وطمأنينة ﴿ولا تَعْثَوْا في الأرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، أي لا تمارسوا الفساد في الأرض، ولا تتحرّكوا بالخطط الشريرة التي تسيء إلى حياة الناس في أمورهم العامة والخاصة، لأن الله يريد للإنسان أن يستعمل الطاقات التي أودعها فيه وسخرها له، وأن يحرّكها في إصلاح الحياة وفق الأسس التي أراد أن ترتكز عليها، فمن ينحرف عن هذا الخطّ يعرّض نفسه لغضب الله وعذابه، وربما كان من الطبيعي أن يستوحوا تخطيطهم لحركة الإصلاح من خلال فطرتهم النقية، ومن تعاليم الله وما أوحى به لرسله، لأنها تمثل المنهج الأقوم في هذا الاتجاه.
الإحساس العميق بالارتباط بالله:
وقد تحدث الله عن طغيان هؤلاء بالمستوى الذي جعلهم يمتدّون بالفساد في أكثر مواقع الحياة، وهذا قوله تعالى: ﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصًَّخْرَ بِالْوَادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتادِ* الَّذِينَ طَغَوْا في البِلادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾(1)، بحيث عانى الناس منهم معاناةً كبيرةً في أوضاعهم العامة، من خلال ما كانوا يملكونه من قوة مستعلية طاغية يستضعفون بها الضعفاء، ككل الطغاة الذين يسعون في الأرض فساداً في سلوكهم الاجتماعي، فيؤثرون في نفوس الناس وأموالهم وأعراضهم ومواقعهم ومصالحهم... وقد أكّد القرآن اتّصاف هؤلاء بالطغيان في قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا﴾(2). وأكّد أيضاً أن المفسدين سوف يذوقون نتيجة أعمالهم.
وتنفتح هذه المسألة على الحديث عن الخالقية التي أراد صالح لقومه أن يفهموها في وعيهم لعلاقتهم بالله في أصل وجودهم، وفي الدور الذي أراد لهم أن يقوموا به في العمران في الأرض، مما كانوا يمارسونه في عملية بناء القصور في السهول، والبيوت في الجبال، وذلك قوله تعالى: ﴿هُوَ أنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾(3) أي خلقكم من تراب الأرض، وطلب منكم عمرانها وإحياءها بما تملكونه من طاقات في الفكر، وإمكانات في العمل للاستمرار في العيش، لأن للعيش شروطاً لا بد للإنسان من توفيرها وتحصيلها إذا وجّه طاقاته نحوها، وهذا ما سخَّره الله للإنسان، فيما أودعه في الأرض من ثروات، وما أعدّه من أدوات ومكّنه فيها من قدرات.
وفي هذا الجو، لا بد للإنسان من أن يعيش الإحساس العميق بالارتباط بالله عند استجابته لدعوة الأرض للارتباط بها؛ ليعرف أن ارتباطه التكويني بالأرض من خلال قدرة الله، يفرض عليه الانفصال العملي عنها عندما تقوده إلى التمرد على الله، أو عندما تثير فيه ميل الاستسلام للشهوات، بعيداً عن خط المبادىء وحركة الرسالات، لأن الله الذي خلق الأرض وخلق الإنسان منها، هو الذي يحكم في كل ما يدور فيها، ويتحرك عليها؛ لأنه صاحب السلطة في ذلك كله، وهو العالم بالصلاح والفساد في جميع موارده ومصادره.
لزوم الاستغفار والتوبة:
وتنتهي الدعوة من صالح إلى قومه بالاستغفار لله من الخطيئة الكبرى، وهي الشرك بالله وبعبادته، والتوبة من ذلك الخط الوثني: ﴿فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾؛ لأن أوّل خطوة يخطوها الإنسان على طريق تصحيح الخطأ وتقويم الانحراف عن الخط المستقيم، تتمثل بوقفة الاعتراف بالخطيئة، في حالة ندم تعبِّر عن التراجع عنها، وذلك بالاستغفار الذي يتوسّل فيه الإنسان إلى الله بأن يقبله في عداد التوّابين، من خلال التوبة التي يعبّر بها عن حالة الندم العميق على الماضي، والعزم على التصحيح في المستقبل، ليبدأ السير في الخط المستقيم الجديد من حاضرٍ لا يثقله الماضي، ومن روح لا ترهقها الذكريات السوداء، لأن التوبة تمحو ذلك كله، ولأن الغفران يحوّل ظلمة المعصية إلى إشراقة الطاعة.
﴿إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾(1)، فهو يعرف ما تنطوي عليه النفس الإنسانية من دوافع نحو المعصية، من خلال الشهوات والأهواء والمؤثرات الخارجية التي قد تغلبه، ذلك لأن الله هو خالق الإنسان، وهو يعرف سرّه في داخل ذاته، وهو ليس بعيداً عن تطلعات الإنسان للمغفرة، وعن أحلامه في الرحمة، فهو قريب إلى روحه وفكره وشعوره وكل حياته، فلا يوجد أحد أقرب إليه منه، فإليه يُلجأ في حلّ كل مشكلة، وإقالة كل عثرة، وتخفيف كل همٍ وألمٍ، وهو المجيب لكل دعواته ولما يطلبه من رحمة ومغفرة.
الدعوة إلى التقوى:
ويتابع النبي صالحt تقديم موقفه لقومه، فيؤكد ما أكده الأنبياء من قبله ومن بعده، من الدعوة إلى التقوى في العمل، بالامتثال لأوامر الله ونواهيه في كل شؤون الحياة العامة والخاصة، وإلى إطاعة الرسول في خطوط الرسالة بصفته الرسولية التي تعبر عن التزامهم بوحي الله الذي يبلغهم إياه، لأن طاعة الرسول تمثّل طاعةً لله الذي أرسله لهدايتهم وللخضوع له في العبادة، وذلك قوله تعالى: ﴿إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾(2).
وربما كان يستمع إلى بعض اتّهاماتهم له، بأنه يريد ـمن وراء دعوته ـ التقدم الاجتماعي والحصول على الامتيازات المادية لديهم، ليحصل على الأجر مقابل نشاطه في الدعوة، كالكثيرين من الناس الذين يخططون لتحسين أوضاعهم بنشاطات تحمل عنوان الإصلاح والتغيير للوصول إلى الثروة، فكان ردّه عليهم: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(3)، فلست تاجراً يستهدف الثروة في الدعوة إلى الله وإصلاح قومه، بل أنا رسول أمين أحمل الرسالة بأمانة الإنسان الذي ائتمنه الله على مصالح العباد في خط الاستقامة، وأتقرب إلى الله بمواقفي الإصلاحية في هداية الناس إلى التوحيد في العقيدة والعبادة والطاعة، لأحصل على الأجر منه في تنفيذ المهمة التي أوكلت بها، وهدفي هو الحصول على رضاه، ولا شيء إلا رضاه.
الدعوة إلى الابتعاد عن خطّ المفسدين:
ويتابع النصيحة لهم بأن يتركوا طاعة المسرفين الذين تجاوزوا الحدود المعقولة في تعاملهم مع الناس، فأضلّوهم، وأفسدوا عليهم أفكارهم وأوضاعهم العامة، فملأوا الأرض بالفساد، وحاربوا دعاة الصلاح والإصلاح، مؤكداً لهم أن ذلك سوف يتحوّل إلى خطر على مصيرهم في الدنيا والآخرة، ويؤدي إلى منعهم من تنمية طاقاتهم في سبيل الخير ورفع مستواهم العلمي والروحي، ومن تأصيل إنسانيتهم في علاقاتهم بالناس الآخرين في خط المسؤولية في رعاية أمورهم على ما يحبه الله ويرضاه، وهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿ولا تُطِيعُوا أمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ﴾(1). وهكذا كان صالح يرشدهم إلى اتخاذ الطريق المستقيم سبيلاً، في عملية نصح وتوجيه وعاطفة وانفتاح. فماذا كان موقفهم من دعوته هذه؟ هذا ما نستكمله في المرّة القادمة. والحمد لله رب العالمين.














































    التاريخيتجدَّد
    مواقفمتفاوتة
    الإيمانوصناعةالقوّة
    مواجهةصالحtبخيبةالأمل
    الردّالنبويّ
    التشكيكبتوازنالنبيالعقليّ
    الاحتجاجبإنزالالعذاب
    استعمالالقوّةضدالنبي
    اقترابالعذاب























التاريخ يتجدَّد:
كنا نتحدث عما دعا به النبي صالح tقومه، وحديثنا في هذا اللقاء، عن الأسلوب الذي ردّ به قوم صالح، عليه وموقفهم من دعوته. ولعلّ الفائدة في ذكر القرآن لمثل هذه الأحاديث التي تستحضر تجربة الأنبياء مع أقوامهم في التاريخ، وردود فعلهم السلبية عليهم، هي أننا نستوحي منها أنّ التاريخ يعيد نفسه في كل زمن، فالذهنية التي كانت تحكم أُمم الأنبياء هي نفسها الذهنية التي حكمت المجتمع الذي أُرسل إليه النبيw، وهي الذهنية نفسها التي يواجهها المصلحون في الأمة في مواجهة الفساد الفكري والروحي والاجتماعي والاقتصادي، وربما نستطيع أن نعتبر أن الكلمة المألوفة: «إن التاريخ يعيد نفسه»، تعبر عن الواقع التاريخي، امتداداً إلى الواقع الحاضر، ولعل السر في ذلك، هو أن الإنسان يبقى إنساناً منذ خلق الله آدم وامتد في أولاده إلى يومنا هذا.
فنحن نلاحظ في البداية، كيف كانت تجربة آدم الذي أراد الله له أن يدخل في عملية اختبار لما سيواجه به إبليس في الأرض، وكيف كانت تعقيدات مسألة قابيل وهابيل. وهكذا امتدت مسألة التجربة مع الأنبياء القدامى، كنوح وهود وصالح، حيث نرى أن منطق هذا الجيل يقترب كثيراً من منطق الجيل الآخر، ونرى أيضاً أن الخطوط التي طرحها الأنبياء على الناس، هي الخطوط نفسها التي طرحها الأنبياء في مراحل أخرى. ولذلك فإن القرآن في حديثه عن هؤلاء الأنبياء، الذين لا ندري مدى السنين التي تفصلنا عنهم، فقد تكون بالآلاف أو أكثر، لم يحدثنا عن المسألة في بعدها التاريخي لنتابع التاريخ، ولكنه يحدثنا عنها في بعدها الإنساني في حركته في التاريخ، وفي العِبر التي يمكن أن يقدمها لنا من خلال تجربة هنا وتجربةٍ هناك.
وعندما أرسل الله النبي صالحاً إلى هؤلاء القوم، انقسم المجتمع عليه، إذ آمن به البعض منهم، وكفر بدعوته الآخرون، فكانوا فريقين، ﴿فَإِذاهُمْفَرِيقَانِيَخْتَصِمُونَ﴾(1) فريق المستكبرين الذين استغلوا المستضعفين، وفريق المستضعفين.
مواقف متفاوتة:
وقد أخبرنا القرآن أن المستكبرين تحدّثوا مع الذين آمنوا بدعوة صالح، بلهجةٍ تختزن كل الإنكار والتعجّب من إيمانهم به، لأنّ هؤلاء المستضعفين هم الذين آمنوا به، بعد أن رأوا في دعوته الحقيقة الصافية التي كانوا يبحثون عنها، والروح الحرّة التي تنقذهم من العبوديّة والاستسلام لضغوط المستكبرين، والإرادة القوية التي تمنحهم قوّة الرفض لحالة الاستضعاف التي فرضها عليهم الأقوياء. وهكذا آمنوا به وساروا معه والتزموا بالعقيدة التي بلّغهم إياها وأرشدهم إليها.
أمّا المستكبرون، فقد واجهوا دعوة النبي صالحt بالتكذيب وإعلان الكفر بما جاء به، والتمرّد عليه من موقع الاستعلاء، بعد أن رأوا في هذه الدعوة نسفاً لامتيازاتهم الاستكبارية، لأنّها تدعو إلى المساواة بين الناس، باعتبارهم متساوين في عبوديتهم لله، وفي إنسانيّتهم في خصائصهم البشرية، بعيداً عن امتيازات الغنى والقوّة والنسب والجاه الاجتماعي، لأنها أمور لا تعتبر ذات قيمة كبيرة في حساب الإيمان، بل القيمة الإيمانية هي في التقوى والعمل الصالح، على مستوى خدمة الناس ومعالجة مسألة الخير في قضايا الحياة.
وهكذا وقفوا في وجه هذه الدعوة، لأنهم كانوا يشعرون بالرعب والذعر من خلال تنامي قوّة النبي صالح tفي أوساط الفئات المحرومة الفقيرة من المستضعفين، ما قد يترك تأثيراً سلبياً على مستوى امتيازاتهم وسلطاتهم المستقبلية، باعتبار أنّ المستضعفين يمثّلون القوّة الحقيقية التي تدعم كل أوضاعهم السياسية والاقتصادية والعسكرية، فإذا انفصلوا عنهم واتّبعوا النبي الجديد، الذي قد يحصل على الزعامة الاجتماعية من خلال القوّة الروحية، فمعنى ذلك أنّ القوّة ستنتقل إلى موقع آخر، ما يؤدّي بهم إلى حالة الضعف، بينما ينطلق النبي إلى موقع القوّة. ولذلك فقد حاولوا إثارة حال من التشكيك بالنبي عند المؤمنين، ليقودهم ذلك إلى التمرد والكفر من جديد، كما لو كان الموقف الذي وقفوه مثيراً للاستغراب.
وقد نستوحي من قوله تعالى: ﴿إِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾(1)، أنّ المستضعفين لم يكونوا أقلّيةً مسحوقةً، بل كانوا يمثّلون قوّةً عددية أجبرت المستكبرين على إقامة حوار معهم لاجتذابهم إليهم، ولكنهم لم يخضعوا لهم، بل استمرّوا على موقفهم في إصرارهم على الإيمان بدعوة صالح.
وهذا ما نتمثّله في قوله تعالى: ﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ﴾(2)، فكيف اقتنعتم بذلك؟ وكيف اكتشفتم علاقة صالح الرسالية بالله، وهو بشرٌ مثلكم لا يتميّز عنكم بشيء؟ بينما يفرض موقع الرسالة أن يكون الرسول شخصيةً غيبيةً، كأن يكون من الملائكة الذين يعيشون في رحاب الله؛ وذلك كلّه في لهجة تختزن أسلوب الإنكار والاستغراب، كمن يقول لصاحبه: هل تصدّق مثل هذا القول، أو أنك غير جدّي في التزامك الظاهري، أو أنك تنطلق في إقرارك هذا من موقع المصلحة والطمع، لتجد موقعاً تملك فيه الحرية أكثر من موقعك هذا؟ّ ليقوده ـ بهذا الأسلوب ـ إلى التراجع طلباً للحصول على الاحترام من قِبَلهم؛ لأنّ الذين لا يملكون قوّة الشخصية الذاتية، قد يستعيرون الثقة بأنفسهم من رضا الآخرين عنهم، فإذا شعروا بأيّ نوع من أنواع الاهتزاز في ثقة الناس بهم، لعدم رضاهم عن بعض أفكارهم أو مواقفهم أو تطلعاتهم، انكمشوا في داخل ذواتهم، وحاولوا استعادة ما فقدوه بالالتزام بما لا يؤمنون به ممّا يؤمن به الآخرون، لمجرّد أنّ الناس الكبار يلتزمونه ويستريحون له.
الإيمان وصناعة القوّة:
ولكنّ المستضعفين الذين استطاعوا أن يحصلوا على قوة الشخصية من خلال إيمانهم الجديد، الذي اقتنعوا به اقتناعاً عقلياً وروحياً، واجهوا هذا الأسلوب الإنكاري بموقف قويّ حاسم يؤكّد القوة الإيمانية، كما لو كانت شيئاً لا يقبل التراجع عنه مهما كلّفهم الأمر، لأنّ الظاهر أنّ صالحاً لم يدفعهم إلى الإيمان بشكل سطحي ساذج، بل إنه دخل معهم في حوارٍ عميق بالحجّة والبرهان، حتّى أصبحت العقيدة الإيمانية جزءاً من تفكيرهم العقلي الذي لا مجال للشكّ فيه. ولذلك كان ردّ فعلهم على طريقة المستكبرين، الإصرار على الموقف الإيماني في قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾، على أساس الوعي للرسالة والإيمان بالفكرة، والاقتناع بخطّ التحرك. وهذا لا يجعل من القضية شأناً ذاتياً خاضعاً للتغيير والتبديل على أساس حسابات الربح والخسارة، أو موازين القوّة والضعف، لأنّها قضية حقّ وإيمان وصدق.
﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾(1)، في عملية تأكيد للكفر عناداً واستكباراً، من أجل خلق حالة نفسية ضاغطة لإيجاد حالة من الاهتزاز في موقف المستضعفين، أو لردّ جانب التحدّي منهم بمثله. ولم تنفعهم تلك الأساليب الضاغطة في حربهم النفسية ضدّ المؤمنين شيئاً، ولم يكن لهم منطق معقول لإقناعهم ممّا يمكن أن يعتمدوه كأساس للمواجهة الفكرية في عملية ربح الموقف، فلجأوا إلى القوّة، ولكنهم لم يستطيعوا مواجهة صالح والمؤمنين معه.
مواجهة صالح t بخيبة الأمل:
وقد حاول المستكبرون أن يواجهوا صالحاًt شخصياً بطريقة مباشرة، فعبّروا له عن خيبة أملهم فيه، لأنهم كانوا يجدون فيه الشخص العاقل الوديع الذي يفكر بالأمور بطريقة معقولة موزونة، فلا يحيد في تفكيره عن واقع المجتمع، ولا يتمرد على تقاليده، ولا يسيء إلى أوضاعه، كما هو شأن كل الرموز الاجتماعية المحترمة التي تكسب احترامها من محافظتها على التوازن في العلاقات الاجتماعية، بما لا يزعج الساحة ولا يتنكر للمألوف. ولهذا، كانت دعوة النبي صالح التغييرية لهم بمثابة الصدمة التي أخذتهم بعنصر المفاجأة، وهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا﴾(1)، فقد كانت الآمال معقودة عليك في قيادة المجتمع نحو الخير لا نحو الشرّ، وفي خطّ التوازن لا خطّ الاهتزاز، وفي حال الاستقامة لا حال الانحراف، ﴿أَتَنْهَانَا أنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤنَا﴾، فأنت تنهانا عن عبادة الأوثان التي كنّا نقدّسها ونعبدها من جيل إلى جيل، فأنت بعملك هذا تسيء إلى ذكرى الآباء وتتمرّد على قداستهم، فهل يمكن أن نحكم عليهم بالجهل وتقديس الخرافة والتخلّف فيما عبدوه، كما تقول في خطابك التوحيدي في الدعوة إلى عبادة الله وحده؟! وهل تستطيع الادّعاء بأنّك تفهم أكثر مما يفهمون، وتعرف أكثر مما يعرفون، وهم أصحاب التجربة والفكر والسبق في التاريخ؟! وهل يتعلم الجيل الحاضر إلا من الأجيال الماضية؟! هكذا كانت كل هذه الأوهام تتسابق إلى أخيلتهم، مما كانوا يعتبرونه أساساً لتقويم الفكر أو تقديس التاريخ أو لتمايز المجتمعات.
﴿وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيب﴾، فقد لا تكون المسألة بالنسبة إليك مجرّد فكرة تريد إثارتها أمامنا أو دعوتنا إليها، بل قد تكون هناك خلفيات وأهداف مشبوهة تتصل بطموحاتك ومصالحك، مما قد يتعارض مع أوضاعنا وطموحاتنا ومصالحنا وأهدافنا. لهذا فإننا ننظر إلى المسألة نظرة اتهام منشؤها سوء الظن بك وبما تضمره من سوءٍ للمجتمع. وهكذا يبدو أن هؤلاء القوم لم يرغبوا في مناقشة المسألة من ناحية المضمون على أساس احتمال الصواب والخطأ فيها، لأنّ رفضهم الدعوة كان حاسماً، بل أرادوا مناقشتها انطلاقاً من الدوافع الذاتية الكامنة خلفها، والعناصر الشخصية التي يتصف بها صالح في حركته في الحياة.
الردّ النبويّ:
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾(1)، فيما أعيشه من إيمان بالله وبالرسالة وبالوحي الإلهي النازل عليَّ، كأيّ إنسان يعيش المعاناة الداخلية الحسيّة لاتصال قناعاته بالوجدان، ﴿وآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً﴾، ممّا كلفني به من حمل الرسالة، ومنحني إياه من صفة النبوة، فهل أترك ذلك كلّه لأسير على أهوائكم، وأجتنب هداه لتمنحوني بعض ثقتكم؟! وما الذي أنتفع به من ذلك؟! ثمّ ماذا تفعلون لي إذا تمرّدت على الله ورفضتُ رحمته وجحدت بيّنته وأراد أن يعاقبني على ذلك، وهو القادر عليَّ في كل وقت وفي كل مكان؟! ﴿فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إنْ عَصَيْتُهُ﴾، فأنتم لا تستطيعون فعل شيء أمام الله، ولا تملكون لي ولا لأنفسكم نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه، ﴿فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾، لأنّه ليس وراء محاولتكم في إبعادي عن الدعوة إلى الله، إلا المزيد من الخسارة في الدنيا والآخرة.
التشكيك بتوازن النبي العقليّ:
ويتابع قوم صالح المواجهة الاتّهامية له في عملية تشكيك بتوازنه العقلي: ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾(1) الذين خضعوا لألاعيب السحرة في عقولهم وأفكارهم، فأنت مثلهم لا تستطيع أن تفكّر بعقل متوازن، أو تتكلم بكلام موزون معقول، بل إنّك تنطلق من خيالاتك المَرَضية لتدّعي النبوة والرسالة من الله التي لن تكون إلا للشخص الذي يعيش في عالم الغيب. ﴿مَا أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾(2)، فهل يمكن أن يكون البشر نبياً؟! وكيف يتّصل البشر بالله في مواقع الغيب ليوحي الله إليه برسالته؟! وكيف يميّز الله بشراً عن بشر في ذلك من دون أن يكون هناك امتياز ذاتي في الصورة والقدرة كما هي الحال بيننا وبينك؟! فإنك بشرٌ مثلنا، فلا يميّزك عنا أي شيء.
فإذا كنت صادقاً في ذلك، ﴿فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾، لنعرف صدق دعواك من صدق دليلك، لأن الدعوة التي لا يملك صاحبها دليلاً عليها، لا قيمة لها في حساب الفكر والإيمان، وبالتالي فلا قيمة له.
الاحتجاج بإنزال العذاب:
وكان قوم صالح يسألونه إنزال العذاب عليهم ممّا توعّدهم به إذا لم يؤمنوا برسالته، ولكنّه ردّ عليهم بالدعوة إلى التفكير في مسألة الإيمان من خلال المعطيات الفكرية التي قدّمها لهم، ومن خلال النتائج الإيجابية والسلبية على مستوى قضية المصير، لا أن يبادروا إلى طلب العذاب بطريقة متشنّجة، وذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(1)، لأن الله يرحم المستغفرين المنيبين إليه.
﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ﴾(2)، فقد جئت إلينا وكنّا فريقاً واحداً، وكنّا بعيدين عن المشاكل المعقّدة التي أثرتَها في حياتنا من موقع دعوتك، ما جعلنا نتشاءم بك وبهؤلاء الذين آمنوا بك، لأنكم جئتم بالشؤم المتحرك في كل حياتنا العملية، فاذهب عنّا لنتخلّص من كل مشاكلك، ومن كل الشرّ الذي أحاط بنا من كل جانب بسببك، ﴿قَالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ﴾، فهو الذي أنزل عليكم البلاء فيما اخترتموه لأنفسكم من أسبابه، وذلك هو سرّ ما يصيب الناس من الشرور والمشاكل، انطلاقاً مما يقومون به من أعمال شريرة تستتبع ذلك.
فليست القضية قضية أشخاص يجلبون البلاء إلى المجتمع، كما هو الطير الذي يجلب الشؤم، مما يعتقده البعض من ذلك، من خلال التفكير الخرافي، بل القضية هي أن أعمالكم تؤدّي إلى ذلك، من خلال ما جعله الله من علاقة تكوينية أو جزائية بين الأشياء وأسبابها، ﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾، بما تثيره الرسالة من قضايا يختلف الناس عليها، ليتّخذ كل فريق موقفاً منها، فيكون ذلك فتنةً لهم واختباراً فيما يأخذون به من الحجّة التي يقدّمها الأنبياء على الإيمان أو في ما يرفضونه منها، ليتبيّن المعاند والمنقاد منهم، ويتميّز المؤمن من الكافر.
وهكذا كان النبي صالحt يستهدف من حديثه معهم أن يرجعهم إلى أنفسهم، ليتخلّصوا من الأوهام المريضة التي تفسّر لهم القضايا بطريقة غير صحيحة، فتبعدهم عن حقائق الحياة وخط المسؤولية.
استعمال القوّة ضد النبي:
وتبقى في حركة صالحt وقومه، مسألة استعمالهم القوّة ضدّه، من خلال عقرهم الناقة التي كانت آيةً ومعجزةً لإثبات نبوّته بما هو خارق للعادة، وفي تخطيطهم لاغتياله واغتيال أهله، من دون أن يحقّقوا هدفهم. وهذا ما جاء تفصيله في قوله تعالى في بداية الدعوة: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَة فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ* وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾(2)؛ ولكنهم كانوا في أعلى درجات الحقد والعناد والعداوة للنبي صالحt، ولم ينفتحوا على هذه الآية ـ المعجزة في الناقة التي كانت تشرب الماء كلّه في تمام اليوم، ثم تسقي الناس من حليبها، فيرتوي منه الجميع، بل إنهم أرادوا أن لا يمكّنوا النبيّ صالحاً من أن تكون له هذه القوة الغيبية التي تثبت رسالته من موقع العقيدة الاستكبارية المستعلية، وكانوا يظنون أن قتلها لن ينـزل عليهم العذاب الذي توعّدهم به صالح، فاستمرّوا في طغيانهم.
﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبِّهِمْ﴾(3)، وتمرّدوا عليه، واختاروا الفساد في الواقع، ﴿وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، في موقف تحدٍّ له لإثبات كذبه في دعواه، ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ﴾(4) في إعراض مؤسف، لأنهم لم ينفتحوا على دعوة الهدى في توحيد الله، في الإيمان بألوهيته وفي عبادته وطاعته، ﴿وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي﴾، بكل جهد فكري وعملي، وانفتاح عقلي، وعاطفة روحية ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾، بكل الأساليب الإنسانية التي تفتح العقل والقلب، وتؤدّي بكم إلى معرفة الحقيقة في صلاح أمركم، ﴿وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾(1)، بل تخضعون للمسرفين والمفسدين الذين يتولّون خداعكم وإفساد أمركم.
اقتراب العذاب:
وفي آية أخرى، يبيّن تعالى وعيد النبيّ صالح لهم بالعذاب القريب بقوله:﴿فَعَقَرُوهَافَقَالَتَمَتَّعُوافي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ* فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمنوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ* وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا في دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ* كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلابُعْداً لِثَمُود﴾(2).
وكانوا قبل ذلك حاولوا قتله وقتل المؤمنين معه، كما حدّثنا الله عن ذلك في قوله: ﴿وَكَانَ في المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍٍ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ﴾(3)، ممّن كانوا يعتقدون أنّ الطريقة المثلى لمواجهة هذه الدعوة هي التصفية الجسدية للنبي صالح tوأتباعه بشكل تآمري خفيّ، لأنهم كانوا لا يفكّرون في سلامة مجتمعهم وإنقاذه من النتائج المهلكة، وكانوا يحملون في نفوسهم العقدة المتأصّلة ضدّ الرسالة ودعاتها ومؤمنيها ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ﴾، أي احلفوا بالله، وأمر بعضهم بعضاً بأن يقسموا بالله ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾، أي لنقتله ليلاً هو ومن آمن معه ﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾، أي نحن لا نعرف مكان موتهم ولا قاتليهم ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾(4)، حتى يصدّقنا أهلهم، فلا يثأروا منّا ويحمّلونا المسؤولية. ولكن الله أبطل مؤامرتهم وأظهر حيلتهم في تدبيرهم ذلك في الخفاء، فقال تعالى: ﴿وَمكروا مكراً ومَكَرْنَا مَكْرَاً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ* فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ إِنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ* فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةًبِمَا ظَلَمُوا إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾؛ لأن الله يمهل ولا يهمل ﴿وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾(1).
وهكذا ذهب هؤلاء المستكبرون مع التاريخ، ولم يحصلوا من كفرهم وضلالهم وانحرافهم على شيء، وبقي النبي صالح tنموذجاً للنبي الداعية الناصح المرشد الذي يمتلىء قلبه حباً للناس كلّهم، ليهديهم إلى سبيل الرشاد بعد أن استنفد كل جهده في إرشادهم إلى ما يحقّق لهم الخير والصلاح.
وقد عذّب الله الجميع، مع أن الذي قام بعقر الناقة رجل واحد، لأنهم رضوا بذلك وشجعوه عليه، كما جاء في كلام الإمام عليt: «إنما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم الله بالعذاب لما عمّوه بالرضا، فقال:﴿فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ﴾(2)»(3). والحمد لله ربّ العالمين.


























    الإعدادالإلهيلإبراهيمt
    شموليّةالصلاح
    الإيمانالشامل
    الصِّدِّيقالنبيّ
    الاختبارالرسالي
    منحالمسؤوليةبعدالاختبار























نتابع حديثنا عن سيرة الأنبياء، فنتحدّث عن نبيّ من أنبياء أولي العزم، وهو النبي إبراهيمt، الذي أرسله الله تعالى إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويقودهم إلى الإيمان التوحيدي الذي يدعوهم إلى أن يسلِّموا أمرهم إلى الله في كل شؤونهم الخاصة والعامة، وأن يرفضوا كل دعوة إلى عبادة غيره، وذلك في حركة رسالية تدفع العقل إلى التفكير الذي يصل بالعاقل إلى الحقيقة التوحيدية، وتنفتح على مواجهة المنحرفين الكافرين، في أسلوب يتميّز باللطف والقوة، وفي موقف يتحرّك بالرفض للشرك في مجتمع المشركين، حتى لو كانوا من قوم الداعي ومن أقرب الناس إليه، لأنّ ذلك يؤكّد الحجّة أمام الذين يبتعدون عن الحقّ ويريدون له أن ينحرف إلى خطوطهم الضالّة، فيردّهم عن ضلالهم من موقع التحدّي أمام السلطان الجبّار، ليردّ عليه منطقه الذي يزعم فيه أنه ربّ الكون أو ربّ الناس، فيعيده صاغراً إلى حجمه البشري.
الإعداد الإلهي لإبراهيمt:
وقد حدّثنا الله تعالى عن إعداده لإبراهيمt في عقله المنفتح على الحقيقة والمنطق، في رشد الفكر وحركية الحوار، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ﴾(1)، فقد أعدّه الله تعالى في تكوينه الفكري والروحي إعداداً صالحاً، من خلال ما أثاره من علامات الاستفهام في رحلة البحث عن الحقيقة التوحيدية، في عملية إيحاء للآخرين الذين يتحرّكون في عبادتهم لغير الله بالضلال، بالدليل القاطع المرتكز على المعادلات الفكرية للعقيدة، حيث أدار فكره في المواقع التي تعطي لكل سؤال جواباً، بكلّ دقّة وعمق وانفتاح...
وقد تعرّف من خلال حركة الواقع من حوله، إلى طبيعة الناس في أفكارهم وتوجّهاتهم ومواقفهم، حتّى استطاع أن يختزن في وعيه الحسّ الاجتماعي الذي يعرف من خلاله نقاط الضعف التي تسيطر على أفكار الناس الذين أرسل إليهم، ونقاط القوّة في نفسه، ليواجه نقاط ضعفهم بنقاط قوّته.
وهكذا، استطاع أن يحصل على الرشد الفكري الذي يهديه إلى معرفة مواقع الخطأ والصواب في الأشياء المطروحة في الساحة.
﴿وَكُنَّابِهِعَالِمِينَ﴾؛ لأنّ الله هو الذي تعهّده بالعناية والرعاية له، بما هيّأ له من إمكانات على جميع المستويات، ومن خلال ما يتعهّد به الله من تربية فكرية وأخلاقية وروحية لأنبيائه، ليكونوا في مستوى حمل الرسالة، وفي موقع الاختيار الإلهي، لتقوم بهم الحجّة على الناس من موقع القوّة الفكرية والروحية، باعتبار أنّ الذي يريد أن يقود الناس إلى الرُّشد، لا بدّ له من أن يملك رشده، لأنّ «فاقد الشيء لا يعطيه»، ولأنّ الذي يحمل الرسالة من موقع إرادة التغيير الشامل لكل جوانب الواقع وامتداداته، يجب أن يكون بالمستوى الذي يستطيع من خلاله أن يحرّك عملية التغيير على أساس الإمكانات الواسعة التي يملكها في هذا المجال.
وقد نستوحي من ذلك، أنّ الموقع النبوي لا يملك خصوصية في هذا الأمر، إلا من خلال طبيعة المستوى الأعلى الذي تتميّز به النبوة عن المواقع الأخرى في ساحة الدعوة والتبليغ، فإنّ المسألة هي ـ في العمق ـ مسألة الداعية إلى الله، والعامل من أجل التغيير الذي يقف في الموقع القيادي للأمّة، لجهة طبيعة الكلمات الفكرية والروحية والاجتماعية التي يجب أن يملك فيها رشده، لذا لا يجوز أن تكون هذه المهمّة ـ مهمّة الدعوة والتبليغ والتوجيه السياسي والاجتماعي والثقافي ـ ملقاةً على عاتق الذين لا يحسنون حركة الدعوة في الفكر والمنهج والأسلوب، ولا يستطيعون وعي الواقع في عمقه وامتداده، لأن ذلك ينعكس سلباً على مستقبل الدعوة والرسالة، من خلال ما تؤدي إليه من النتائج السلبية، ومن سيطرة التخلّف على المسيرة الإسلامية كلّها.
شموليّة الصلاح:
وقد اصطفى الله تعالى إبراهيمt في الدنيا نبيّاً ورسولاً وإماماً وداعياً إلى الحقّ، واختاره من بين الناس لذلك كلّه، لتميّزه عنهم في عقله وروحه واستقامته، وفي إخلاصه لله تعالى.
وهكذا أراد الله تعالى له أن يملك زمام الأمور في مسؤوليته الشاملة، ليكون رسول الله إلى الإنسان كلّه، ليُخرجه من الظلمات إلى النور: ﴿وَإِنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾(1)، فهو في الآخرة مع هذه الزمرة الطيبة الطاهرة التي انطلقت في الدنيا لتجسّد الصلاح في روحيّتها وتفكيرها وسلوكها واستقامتها على خطّ الله. وقد تمنّى ـ وهو في الحياة ـ أن يلحقه الله بهؤلاء الطليعة الصالحة، كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾(2)، بتوفيقه للأخذ بأسباب الصلاح في أفكاره وأعماله، بما يقوده إلى السير في طريق الصالحين في تقديم الطاعة لله واجتناب معاصيه، حتى يكون جزءاً من المسيرة الطويلة التي يخلف فيها الصالحون الصالحين، لينال الدرجة العليا التي ينالونها، وليعيش القرب من الله الذي عاشوه، وليحصل على النعيم الذي حصلوا عليه، وليرزقه الله ولداً يتحرّك في مجتمع الصالحين: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(3).
وهذا يعبّر عن صلاحه الذي يجعله من الصالحين في الآخرة، لأن الذين يجسّدون الصلاح في أعمالهم وأقوالهم، بالالتزام بما أمر الله به، والابتعاد عما نهى عنه، ويخلصون لله، هم الذين يمثلون النخبة المنفتحة على رضوان الله في المجتمع الذي يجمع الله فيه الصالحين من عباده في مواقع النعيم والرضوان عنده. وقد كرّر الله في القرآن هذه الصفة في حديثه عن إبراهيمt، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ في الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾(1)، ليؤكّد شخصية إبراهيم الصالحة التي يتمتّع بها، ممّا قد نستوحي منه أنّ هذه الصفة التي يصف الله تعالى بها نبيّاً مميّزاً من أنبيائه، تمثّل قيمةً كبرى في عنوان الشخصية القريبة إليه، ليقتدي الناس المؤمنون به في تطلعاتهم للوصول إلى الدرجات الرفيعة في ميزان القيمة الروحية في عناصرها الداخلية والخارجية.
الإيمان الشامل:
وقد وصف الله تعالى إبراهيمt بالإيمان، في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ﴾(2)، وهم الذين يتحركون من قاعدة الإيمان، ليؤكدوا صفة العبودية الخالصة لله كموقف حيّ للطاعة والانقياد، وهي الصفة التي تمثّل الجذور العميقة في شخصية الإنسان المؤمن التي ينطلق فيها بكل مشاعره وأحاسيسه وأوضاعه في حياته الفردية والاجتماعية، وفي تطلّعاته الإنسانية في الحياة، التي يتطلّع معها إلى الله في خطّ التضحية بحيث يضحّي بكل شيء في سبيل الله، وفي إطاعة أمره، حتّى في التجربة الصعبة في قصّة الإيحاء إليه بذبح ولده، ما جعله في درجة المحسنين الذين أحسنوا العمل لله، وجسّدوا الإيمان في حركة الإحسان بالمستوى الذي لا يرقى إليه أيّ شخص في معنى العبودية المطلقة. وهذا ما جعل حركته تمتدّ في التاريخ في الذكر الطيّب له في مدى الأجيال من خلال السلام عليه الذي أكّده تعالى في قوله: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ في الآخِرِينَ*سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ*كَذَلكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾(1)، من خلال الجزاء الإلهي في الدنيا الذي يخلّد له ذكره في الزمن كلّه.
وربما كان ذلك استجابةً لدعاء إبراهيمt حين دعا الله: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ﴾(2)، ليتحدث الناس عنه في مواقع الصدق التي جسّدها في حياته رسالةً ودعوةً وسلوكاً عملياً في خدمة الناس وإصلاح أمرهم وتوجيه حياتهم إلى ما فيه رضا الله في الدنيا والآخرة، فيكون الإنسان الذي لا تتجمّد شخصيته في حياته الخاصة، بل تمتد في حياة الناس الآخرين من بعده، لتكون النور الذي يضيء عقولهم بما أعطاهم من معرفة شاملة واسعة.
وقد نستوحي من هذه الآية، أن الأنبياء والصالحين لا يطلبون الذكر الممتدّ من موقع الحالة الذاتية، حيث تتطلّب النفس الطامحة الخلود، بل يطلبون الذكر الخالد في خطّ الصدق الذي يلتزمونه في حياتهم، ويدعون إليه في رسالاتهم، فلا تكون القضية قضية ذات تبحث عن اسم خالد، بل قضية رسالة تبحث عن امتداد في ضمير الإنسان المستقبلي وحياته، وبذلك تكون صفة الرسالة في حركة الذات هي المطلوبة لديه، وهذا ما يمثله خلود الأنبياء بخلود رسالاتهم، وهو ما عبّر عنه الله بقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً﴾(3).
الصِّدِّيق النبيّ:
وفي الحديث عن النبي إبراهيمt، نلتقي بصفتين له أكّدهما تعالى، وهما: ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقَاً نَبِيَّاً﴾(1)، فقد نلاحظ أنه من الضروري للنبي أو للداعية بشكل عام، أن يستحضر في وعيه ملامح الشخصيات الرسالية التي تمثّل النموذج الأكمل لحركة الإنسان الرسالي في الدعوة، ليدرس أساليبها، ويستلهم روحيّتها، وينتفع بتجربتها. ومن أبرز هؤلاء النبي إبراهيم t، وهو النبيّ الصدّيق الذي كانت حياته صدقاً كلّها مع نفسه ومع ربّه ومع الناس من حوله، فلم يجامل أحداً في الحقّ، ولم يهادن قريباً أو بعيداً في مستلزمات الرسالة، ولم يترك في حياته فراغاً لغيرها، بل كانت الرسالة كل فكره وهمّّه وكل حياته، وقد بلّغها للناس بكل مفرداتها العقيدية والعملية، وقد كانت تجربته غنية بالتنوّع الذي يحكم جوانبها، كما كانت روحيته في علاقته بالله، وإخلاصه لرسالته، في المستوى الأعلى من روحية الأنبياء والصدّيقين في وضوح الرؤية، وصدق الكلمة، وإشراقة الأسلوب، وقد كانت دعوته للناس صدقاً كلّها، وكان يريد لهم أن يبلغوا القمّة في الصدق في كل أمورهم، ليكونوا من الصدِّيقين اقتداءً به.
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ أي اختبره ربه في حركته في خطّ المسؤولية الرسالية التي ينطلق بها على أساس تغيير الواقع الكافر الضالّ إلى واقع إيماني مستقيم في المنهج الذي يحقّق للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة، ليظهر إخلاصه لله وقدرته على تحمّل المسؤولية، كما يختبر الله رسله وعباده الصالحين في المواقع الصعبة التي تتحدّى طاقاتهم لتعبّر عن نفسها بقوة وصلابة وإخلاص في المسؤوليات الرسالية التي لا بدّ لهم من القيام بها مما تتضمّنه من انفتاح على البرامج المرتبطة بعلاقة الناس بالله في القضايا العقيدية والعملية ﴿بِكَلِمَاتٍٍ﴾ ممّا قد يوحي به إليه من آياته في الصحف التي ينـزلها عليه، وفي المسؤولية التي يحمّله إياها ليستوعب معانيها ويستكمل حركيّتها﴿فأتمّهنّ﴾ فلم ينقص منهنّ شيئاً، ووفاهنّ حقهنّ، بالدعوة تارة، وبالانقياد أخرى، وبالحركة المتحدّية في مواجهة الكفر والاستكبار ثالثة، فلم يهمل موقفاً من المواقف المتّصلة بها، ولم يبتعد خطوةً واحدة عن ساحات التحدّي الكبير، فنجح في الامتحان الإلهي ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامَاً﴾(1)، واستحقّ الدرجة العليا في القدوة الحسنة، التي يراد للناس الأخذ بها، وموقع الولاية على الناس التي أعدّه لها، لتنفتح النبوّة الشاملة المنطلقة في خطّ التبليغ، على الإمامة المتحرّكة في خطّ الواقع، مما يوجد تكاملاً بينهما لا انفصالاً. وبذلك تدخل الإمامة في مضمونها الحركي، في امتداد النبوة في معناها الرسالي...
الاختبار الرسالي:
وربما كان ذلك كنايةً عن الرسالة في خطّها الفكري والعملي، بحيث يكون الاختبار الإلهي لإبراهيم بالكلمات، واستيعابه لها في موقع التكليف بالرسالة، حركةً مترتبةً متدرجةً، إذ لا دليل على جعله للناس إماماً كان بعد النبوة، بل كل ما هناك، أن الآية توحي بأن ثمّة إيحاءً من الله بالكلمات الرسالية، وإعلاناً له بأنها تمثّل الإمامة بمعنى الولاية النبوية والقدوة الحركية في حياته.
وأما ما استدلّ به البعض، من أن مورد الآية قد جاء في أواخر عهد إبراهيمt بعد كِبره وولادة إسحاق وإسماعيل له، وذلك لكونه لم يكن يعلم أنه ستكون له ذرية تخلفه إلا من بعد ما بشرته الملائكة بالأولاد، ممّا يلزم منه أن الإمامة المجعولة لإبراهيم هي غير النبوّة، لا يصلح دليلاً على الموضوع، إذ من الممكن للإنسان أن يتحدّث عن مستقبل أولاده الذين يرجو أن يرزق بهم، ولربما كان حديثه ناتجاً من طبيعة الأنبياء في اهتمامهم بامتداد الخط الرسالي في ذريتهم، ولاسيّما إذا عرفنا أنه لم يتحدث عن ذريته بشكل مباشر، بل كان يتحدث عن الأجيال القادمة من أولاده ممن لم يكونوا موجودين.
وقد لا نجد في القرآن أي شاهد يدل على أن الإمامة تحمل مفهوماً مقابلاً للنبوة في مفهومها الواقعي العام، لأنّ الوحي الذي ينـزل على النبي أو الرسالة التي يحملها الرسول، ليستا تعبيراً عن حالةٍ ثقافيةٍ في وعي النبي، ترتبط بذاته أو تنفتح على غيره في عملية سماع مجرّد لآياتها، بل هما معنيان حركيان في عملية الاهتداء والاقتداء. وهذا ما نلاحظه في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإيتاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُؤقِنُونَ﴾(2)؛ فإنّ الصفات المذكورة للأئمّة في القرآن، هي صفات الأنبياء فيما يقومون به من هداية الناس بأمر الله، وفعل الخيرات، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، من خلال وعيهم اليقيني لآيات الله، وصبرهم الحركي في مواجهة التحديات والعقبات من قِبَل أعداء الله.
وقد نستوحي من القرآن، أن إبراهيمt كان عارفاً بطبيعة المهمة، ومطمئناً إلى نتائجها في أجواء الابتلاء بما أوحى الله به إليه، فلما أتمّ الله له الكلمات ونجح في الامتحان، لم يُفاجأ بالعهد الإلهي عندما قال له الله: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامَاً﴾(3)، فلم يصدر عنه أي ردّ فعل تجاه ما أوكل إليه من مسؤوليات جديدة في نطاق ذاته وموقعه، بل كان ردّ فعله منطلقاً من التفكير في مستقبل العهد وامتداده.
منح المسؤولية بعد الاختبار:
وقد نلاحظ أن هذه الآية التي تتحدث عن إرسال إبراهيم بالرسالة وتكليفه بالنبوة، لم ترد في موضع آخر في القرآن، بهذا الأسلوب الذي يوحي بأن المسؤولية لا تمنح إلا بعد الابتلاء والاختبار، ولاسيّما إذا كانت تتّصل بالأمر الذي يستدعي تغيير الأمة في حاضرها ومستقبلها، فلا يمكن أن تجعل على أساس انطباعات عامة أو على أساس المجاملات والمحسوبيات الخاصة. وربّما كان تخصيص إبراهيم بهذا النوع من الابتلاء الإلهي قبل تكليفه بالنبوة، دليلاً على قيمة الموقع الإبراهيمي في النبوة التي عبّر عنها في إسلامه المطلق لله، ليبدأ مرحلة جديدة في عهد النبوات بعد النبوات السابقة، مما قد يكون له دور جديد في المبدأ والتفاصيل على امتداد الزمن، حتى تحدّث المتحدّثون عن الأديان الكبرى التي أعقبت إبراهيمt بأنّها أديان إبراهيمية؛ لأنه هو الذي أعطى للحركة الدينية عنوان الإسلام الذي ينطبق على القاعدة التوحيدية في كل دين. والحمد لله رب العالمين.
































    تفسيرمعنىأمّة
    لهذاالإطلاقعدةتفسيرات
    خصائصالإنسانالأمّة
    الطاعةالمطلقة
    استغفارإبراهيمtلأبيه
    القرارالصعب
    اللطفالإنساني



























تفسير معنى أمّة:
ممّا تحدّث به تعالى عن شخصية النبي إبراهيمt في القرآن الكريم، قوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمّةً﴾(1). والسؤال الذي يرد هنا: كيف نفسّر إطلاق كلمة (أمَّة) على إبراهيمt؟
لهذا الإطلاق عدة تفسيرات:
الأوّل: ما جاء في مفردات الراغب، أنّ المراد من كونه (أمَّةً): أي قائماً مقام جماعة في عبادة الله، نحو قولهم: فلانٌ في نفسه قبيلة، أو كأنّ القبيلة تجمّعت في شخصه، باعتبار أنّه يختزن كل المعاني القيمية والاجتماعية والثقافية في الأمة، والتي تتوزّع مواقعها في أفرادها. ولعلّ هذا يتمثّل بالشخصية المتكاملة التي قد تختصر الأمّة في ذاته، بالمعنى الذي يمثّل قوتهاوعنفوانهاووجهها،وهذامايجعلشخصيّتهتعادلشخصيةأمّة بكاملها.
الثاني: إنّ إبراهيم tكان في موقع القيادة القوية والقدوة الحسنة، والمعلّم الكبير للإنسانية التي تقتدي به، وتتعلّم منه، وتخضع له، تماماً كما لو كان يختزن في داخله كل واحد من الناس، وقيل إن أمّة إسم مفعول يطلق على الذي تقتدي به الناس وتنصاع له.
الثالث: إن إبراهيم tكان رمز الوحدانية المتمثّلة بعقله وروحه وشعوره وعبادته في محيط خالٍ من أيّ موحّد، فالجميع كانوا يعبدون الأصنام ويخوضون في وحول الوثنية المشركة، فهو يمثل الأمّة الموحِّدة في مقابل الأمة المشركة، كالكلّي المنحصر في فرد.
الرابع: إن إبراهيم tكان منطلقاً لتكوين أمّة الرسالة الموحّدة، ما يجعل الأمة توجد بوجوده، فاستعيرت الكلمة لذاته. وربما يوحي ببعض هذه المعاني قول الشاعر:
لَيْــسَ عَلَـى اللهِ بِمُسْتَنْـكَــرٍ         أنْ يَجْمَعَ العَالَـمَ فِـي وَاحِـد
وقد جاء في بعض الروايات: «أنّ عبد المطّلب ـ جدّ النبيّ ـ يُبعث يوم القيامة أمّةً وحده، عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء، لأنّه كان مدافعاً عن التوحيد في بيئة الشرك وعبادة الأوثان»(1).
خصائص الإنسان الأمّة:
وعلى ضوء هذه التفاسير التي قد تلتقي في بعض جوانبها بالمعنى اللفظي، حقيقةً أو مجازاً، نلتقي بشخصية إبراهيمt التي تتجمّع فيها خصائص الإنسان الذي تعيش شخصيةُ الأمَّة فيه وتمتدّ منه في حركة رسالته، وتلتقي في أجوائه الروحية، روحية الجماعة في صورة الفرد.
وربما كان السرّ في ذلك، أنّ الرساليّين، ولاسيّما الأنبياء منهم، لا ينطلقون في نشاطاتهم الحركية النظرية والعملية في خطّ الدعوة من حالةٍ ذاتية تتحوّل معها الذات إلى دائرة مغلقة تحجبهم عن الآخرين وتخنق في داخلهم روح الامتداد، بل ينطلقون من الروح الرسالية التي تمتدّ في شخصيّتهم لتحوي الأمّة بأسرها في حركة الرسالة، فيسقط الحاجز بين روح الفرد وروح الجماعة.
الطاعة المطلقة:
﴿قَانِتَاً للهِ﴾ يعيش الطاعة لله والعبادة له، باعتبار أنّ الإيمان كان متجذّراً في عمق شخصيته، حتّى كانت صفة الإنسان المطيع لله الخاضع له، تمثّل الطابع الروحي لشخصيّته، ولم تكن هذه الصفة مجرّد حركةٍ عملية، بل كانت صفة إنسانية في التطلّع المعرفي إلى عظمة الله في موقع ربوبيته المطلقة.
﴿حَنِيفَاً﴾ مائلاً بفكره وعمله عن خطّ التطرّف المنحرف في التواءاته النفسية والشعورية التي لا ترتكز على أساس، ولا تخضع لقاعدةٍ من عقل أو روح، منفتحاً على خطِّ الاعتدال في الإخلاص للحقيقة العليا في الخطّ المستقيم الذي يمثّله خطّ التوحيد في مضمونه الذي لا يقتصر على حالة فكرية في العقل، أو شعورية في الحسّ، بل يمتدّ إلى كل مواقع رضا الله ومحبّته، في أوامر الله ونواهيه، وفي المفاهيم الإنسانية التي ترتفع بالإنسان إلى آفاق المعرفة لله والانفتاح على أسرار عظمته.
﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾، لأنّه عاش التوحيد في روحه وفكره ووجدانه كأفضل ما يكون التوحيد. وأيّ توحيد أصفى وأنقى من الإسلام لله في كل شيء بشكل مطلق، حتى إذا خُيِّر بين أن يطيع الله في ذبح ولده، وبين أن يستسلم لعاطفته الأبوية في الامتناع عن ذلك، اختار الاستسلام لله على الخضوع لمشاعره وأحاسيسه!
﴿شَاكِرَاً لأَنْعُمِهِ﴾(1) التي أنعم الله بها عليه وعلى من حوله، مؤكِّداً أنّ ما به وبالناس من نعمةٍ فمن الله، في كل ما يتّصل بحاجات الناس وقضاياهم الحيوية الخاصة والعامة، بحيث لو أنّ الله حجب هذه النعم عنها، لضاقت بهم الحياة في كل مصادرها ومواردها، ولما استطاعوا الحصول عليها من مصدرٍ آخر.
وهكذا، وقف tإبراهيم ليستعرض كل هذه النعم التي لا يملك أحد أن يحصيها، لأنّها فوق حدّ الإحصاء، وليشكر الله على ذلك بالكلمة الشاكرة، وبالعمل الصالح الذي يتقرّب به إلى الله، في تعبيره عن الشكر العملي، فيما يمثله ذلك من سموّ الشكر وعلوّ شأنه.
﴿اجْتَبَاهُ﴾، أي اختاره الله واصطفاه لرسالته، بعدما اختبره بالتجربة الرسالية في قوة الموقف وأصالة الحقّ وصفاء الحجّة،كما إنّ ذاته مُزجت بالرسالة في معنى الروح، فأضحت الرسالة تتحرّك في حياته الداخلية كجزءٍ من ذاته.
﴿وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، فالله سبحانه يتعهد أنبياءه بالهداية الروحية والعملية، ليملكوا وضوح الرؤية التي تمنح الإنسان المعرفة بالله، وتفتح قلبه على معاني الرسالة في خط النبوة التي تحدد له الطريق المستقيم الذي لا التواء فيه ولا عوج ولا انحراف، وتخطط له من خلاله خط السير.
﴿وآتَيْنَاهُ في الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾(1)، مما قد يراد بها المعيشة الطيبة، وربما يراد بها النبوة التي يرتفع بها مقامه وتسمو بها منـزلته. ﴿وَإِنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ بما يختصّ به الصالحون في عملهم وفي دعوتهم وفي جهادهم من درجات عالية في ساحة رضوانه ونعيم جنّته.
وامتدّ تأثير الخطّ الرسالي الذي انطلق به إبراهيمt في رسالته التي أوحى الله بها إليه، حتى أراد الله له أن يكون عنواناً للرسالات التي جاءت بعده، إلى أن جاء دور النبيّ محمّدw﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكِ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفَاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾(2)، فإذا كانت ملّته هي التوحيد الخالص لله ورفض الشركاء له، وإسلام الوجه والعقل والقلب والذات كلها لله، فإنّ الله يريد للنبيw أن يتّبع هذا النهج في الدعوة، وأن يتحرّك مع هذا الخطّ من الرسالة، بحيث لا يبتعد الإسلام في الدعوة المحمّدية عن ذلك كلّه.
ولعلّ تأكيد صفة الحنيفية في شخصه، ونفي صفة الإشراك عنه، يوحي بأنّه يمثّل التجسيد للملّة حتى تحوّل اسمه إلى صورة حيّة لها.
استغفار إبراهيم tلأبيه:
أما الحديث عن استغفار إبراهيمt لأبيه في وعده إياه في قوله تعالى: ﴿قَالَ سلامٌ عليك سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً﴾(1)، فقد أثار مسألة فكرية حول الطبيعة الإيمانية للإنسان المؤمن، وإمكانية انفتاحها على المشركين من أولي القربى، لأن ذلك قد يوحي بالتنافي بينهما، أو بانحرافه عن الإخلاص في الإيمان.
ولكن، قد يكون من بديهيّات حركة الإيمان في شخصيّة، المؤمن أن تلتقي منطقة الشعور بمنطقة الفكر في أجوائه الداخلية، فيكون الموقف العاطفي انعكاساً للموقف الفكري والعقيدي، لأنّ ذلك يمثّل جدّية الخطّ العقيدي في مواقع القرار، فليس الفكر في أجواء العقيدة والإيمان، مجرّد معادلة عقلية في زوايا الفكر التجريدي، بل هو جزء من موقف داخلي يتفاعل مع الحياة ويحدّد موقفه من مفرداتها على هذا الأساس، وبذلك يكون أيّ رفض لأي خطّ هنا، سبباً في رفض أي تعاطف عملي مع القوى التي تمثّله وتؤيّده وتقوّيه، والأمر بالعكس في حالة القبول والموافقة.
وهذا ما أرادت الآية معالجته في موقف النبي والذين آمنوا معه من المشركين، مروراً بموقف إبراهيم من أبيه، فقد بدا أن المشركين من أقرباء النبي أو من غيرهم، أو من أقرباء المؤمنين وأصدقائهم، كانوا يأملون أو يفكرون في أن العلاقة العاطفية التي تفرضها القرابة أو الصداقة بشكل طبيعي، يمكن أن تكون أساساً لتحقيق بعض الامتيازات على مستوى الواقع.
وربّما لم تكن القضية بهذا الحجم منهم، بل قد تكون خاطرةً في أذهان بعض المؤمنين في حالة عاطفية انفعالية، أن من الممكن أن يستغفروا لهؤلاء الأقرباء والأصدقاء، أو يطلبوا من النبي الاستغفار لهم، كما كان الأمر مطروحاً في الساحة في مسألة المنافقين، وربما رأوا في استغفار إبراهيم لأبيه الكافر أساساً لهذا الموقف، لهذا لم يجدوا في هذا الطلب من النبي أي غرابة أو انحراف عن خط الإيمان الذي يسيرون عليه. وهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى﴾(1)، لأن الاستغفار في حال الشرك، يعني اعتبار الشرك حالةً هامشية في انحراف الإنسان، تماماً كما هي حالات المعصية الطارئة العادية القابلة للغفران، ما يعني استهانةً بمسألة التوحيد الإلهي ودوره في حركة العقيدة لدى الإنسان، وتأثيره على مسيرته في كل جانب، ومدلوله الروحي في الإحساس العميق بعظمة الله وجلالة قدره، بينما يُعتبر الشرك ظلماً عظيماً لا يمكن أن يغفره الله، في الوقت الذي يمكن أن يغفر أيّ معصية أخرى، كما ورد في قوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾(2)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾(3).
ولذلك، لا يمكن للنبي أن يقوم بذلك، مهما كانت الحالة العاطفية ضاغطةً على الذات، ولا يمكن أن ينتظر الآخرون منه أو من المؤمنين ممارسة ذلك، لأنّ مسألة التوحيد والشرك هي قاعدة لموقفين متضادّين يتحرك واحد منهما على أساس الهدى في جانب التوحيد، والآخر على أساس الضلال في جانب الشرك، فلا يمكن أن يلتقيا في الحياة في موقع واحد، ولا يمكن أن يعيشا في الذات في قلب واحد.
وهكذا ينبغي أن يكون موقف المؤمنين من المشركين رافضاً للاستغفار لهم ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾(1)، من خلال ما عرفوه من هذا الارتباط بين الشرك والمصير الأسود الذي ينتظر المشركين في الآخرة في نار جهنّم، ما يعني ابتعادهم عن رحمة الله ورضوانه الذي يفرض على المؤمنين الابتعاد عنهم.
ولكن، كيف نفسر موقف النبي إبراهيمt الذي يمثّل في إيمانه قمّة التوحيد الخالص في مواجهته العنيفة للشرك كلّه، حتّى لأقرب الناس إليه ولأقوى المواقع في عهده، هذا الموقف الذي حدّثنا القرآن عنه في آية أخرى، عندما قال إبراهيمt لأبيه: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً﴾(2)؟ هل هو استسلام للعاطفة على حساب العقيدة؟ وهل يمكن أن نقبل هذا التفسير في حالة هذا النبي العظيم، الذي لا يمثّل مجرّد إنسان صاحب عقيدة، بل هو ـ إلى جانب ذلك ـ نبيٌ صاحب رسالة يريد أن يغيّر الناس على أساس انتصار الفكر والعقيدة في ذاته، على الحسّ والعاطفة في شعوره؟!
القرار الصعب:
إنّ القرآن يجيب عن هذا السؤال بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ﴾(3)، فقد كان يأمل أن يستقيم أبوه على الصراط المستقيم ويرجع إلى الله، لأنه كان يعتبر أنّ حالة الانحراف التي يمرّ بها قد تكون حالةً طارئةً لا تعقيد فيها ولا عمق ولا امتداد لها في شخصيته، لأنها ربما انطلقت من خلال تأثره بالبيئة التي نشأ فيها، وبالقوم الذين كانوا من عشيرته ممّن لا يريد مفارقتهم والابتعاد عنهم والخروج من الخطّ العبادي الذي يخضعون له. وفي مثل هذا الواقع، كان إبراهيم يتمنّى أن يزول عن أبيه ذلك الانحراف.
وينطلقإبراهيمtفياستغفارهلهمنهذاالموقعالذي يطلب فيه الهداية له، لينفتح قلبه، ويصفو فكره، وترقّ مشاعره، وتشرق حياته، فيلتقي بالله من أقرب طريق، وربما كان يفكر في هذا الاتجاه من موقع الرغبة في أن تربح العقيدة إنساناً جديداً، ومن موقع العاطفة التي تتحرك في خدمة الرسالة، من أجل أن توحي إلى هؤلاء الذين تتعاطف معهم، بأن المشاعر تحتضنهم بالحب والرحمة ليحتضنوا الحقيقة في مشاعرهم حتى تحتضنهم في أفكارهم،وبقيهذا الأمل ينمو في روحه وضميره وعقله ـبعدحواره معه ـ حتى استنفد كل تجربة وأسلوب وشعور، ولكن أخذ الأمل يتضاءل، حتى سقط في التراب، وانكشفت له الحقيقة، وتبيّن له أنّ كفر هذا الإنسان ليس مجرّد حالة طارئة، بل هو عقيدة مستعصية مستحكمة.
إنّه الكفر المتجسّد في وحشية الفكر المنحرف في الإنسان، فهو عدوّ الله في فكره وعمله، إنه يخلص للحجارة التي يصنعها أصناماً يتعبّد لها، ولا يرضى بأن يتعبّد لله الذي صنع له وجوده. وهو لا يرضى بأنّ يفكّر ويتأمّل ويحاور ليكتشف خطأ فكره وضلال طريقه، بل يدافع عن انحرافه بإصرار، لأنّه يخاف من التغيير والابتعاد عن عقيدة الآباء الذين رآهم يعبدون الأصنام ويخضعون للوثنية.
﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ﴾(1)، من خلال إصراره على الاستمرار في التزامه العبادي الوثني، وفي ضغطه القاسي على ولده إبراهيم بالتهديد وهجرانه وإخراجه من منـزل الأسرة، ومشاركته قومه الذين يخطّطون لإحراق ولده بالنار بعيداً عن أية عاطفة أبوية، ﴿تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾، لأن الله أقرب إليه من كل إنسان، حتى لو كان أباه؛ فالله هو الخالق الذي وهبه الحياة، وأدار وجوده في النظام الكوني من خلال كل هذه القوانين التي كان منها قانون ولادته من أبيه، فهو الأوّل والآخِر في تكوينه الوجودي وحركة حياته، ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ﴾، في روحانيته الصافية الخاشعة الخاضعة أمام الله، الذي يقف بين يديه في موقف العبادة، ليتأوّه أمام الله حبّاً وحزناً وخشوعاً وعبوديةً، تدليلاً على إخلاصه العميق لربّه، ﴿حَلِيمٌ﴾، في سعة صدره وقلبه المفتوح وروحه الكبيرة، التي يعفو بها عند المقدرة ويفتح قلبه للناس.
اللطف الإنساني:
وفي آية ثانية مماثلة للآية السابقة، يقول تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾(1)، وذلك عندما دخل في جدال مع الملائكة حول عقاب قوم لوط، محاولاً صرف العذاب عنهم، لا لأنّه كان راضياً عن سلوكهم، بل هو غاضب عليهم، لأنّ الشذوذ الجنسي الذي كانوا يمارسونه، كان يمثّل عصياناً وتمرّداً على تعاليم الله، واحتقاراً للنبي لوط وضغطاً عليه.
﴿لَحَلِيمٌ﴾؛ وهكذا كانت صفته صفة الحلم المنفتح على كل المعاني الإنسانية، في انفتاح الإنسان على الإنسان من أجل الخير له والسلام الروحي معه، ﴿أَوَّاهٌ﴾ كثير التأوّه في حزنه الروحي لما يحيط به أو يشاهده من السوء، وقد يكون كناية عن تأثره بذلك، وانفعاله بآلام الآخرين، إضافة إلى الآهات التي كان يطلقها في ابتهالاته لله ﴿مُنِيبٌ﴾ إلى الله في كل أموره، فلا يعترض على الله في شيء، ولكنه يتشفّع الله ويتوسّله ويرجوه فيما لا يعلم فيه حتمية القضاء والإرادة.
ونقرأ في ابتهالات إبراهيمt، بعد أن أسّس البيت الحرام، وكانت مكّة حرماً آمناً، طلبه من الله أن يحقّق السلام لساكنيه وزائريه، من الذين يحجّون إلى بيته المحرّم من سائر أصقاع الأرض، ويؤكّد ـ بكل قوة ـ طلبه الإيماني التوحيدي أن يجنّبه وبنيه أن يعبدوا الأصنام، التي ربما تدخل في شعائر بعض الناس الذين يفدون هذا البيت، لأنه أراد له أن يكون بيتاً للتوحيد وللعبادة الخالصة والطواف العبادي، بينما تتحرك الأصنام من خلال الذين يدعون إليها ويتعبدون لها، لتضلّ الناس عن الانفتاح على الله في ربوبيته المطلقة وتوحيده الخالص.
وهـذه هي خطـوط إبراهيم في الالتزامات التوحيدية التي تربطنا بالله، وتحقّق لنا السعادة في الدنيا والآخرة. وللحديث بقية إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.



































    إبراهيمtورحلةالتوحيد
    التجربةالإيمانيّةمدخلٌإلىاليقين
    استعراضالعقائدالمنحرفة
    صرخةالبراءةوالتوحيد
    رحلةإيمانأممحاكاةاستعراضيّة؟























إبراهيمt ورحلة التوحيد:
في رحلته إلى المعرفة البرهانية للتوحيد الذي يؤكّد وحدانية الخالق في الله وينفي غيره، كان إبراهيم يفكّر ويبحث ويلاحق الظواهر الكونية، فيتطلّع إلى السّماء التي تزخر بالكواكب المتناثرة في الفضاء بأوضاع وأشكال مختلفة، ثم يتطلّع إلى القمر وهو يشرق في نور متدرّج هادىء، وينتقل إلى الشمس التي تملأ الكون بإشراقها المتفجّر بالنور الذي يضيء كل شيء، ويتساءل ـ تساؤل الإنسان الطّالب للمعرفة ـ أمام الفئات التي قد تؤمن بألوهية الكوكب والقمر والشمس، من دون أن يتعمّق ذلك في عقله ووجدانه؛ لأن فطرته الصافية الخفية ترفض ذلك، ولكنه كان يريد الدليل على بطلان هذه الاتّجاهات، وسقوط هذه الاحتمالات، طلباً لليقين التفصيلي الذي يملك من خلاله الدخول في حوار مع أصحابه على أساس تقديم البرهان الوجداني ضدّهم.
وبذلك يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾(1). فقد أراد الله أن يفتح عقل إبراهيم tعلى الكون في ظواهر الطبيعة المميّزة التي تترك تأثيرها في إعطاء الكون نوراً خافتاً تارةً، وهادئاً أخرى، وقوياً ثالثاً، ما يوحي بأن وراء ذلك سراً خفياً تختزنه في داخلها ويؤثّر في الحياة العامة، ليوقن بأنها ليست آلهة، بل هي من صنع الإله الواحد، ذلك أنّ رؤية إبراهيم لم تكن رؤيةً ساذجةً سطحيةً، بل كانت رؤية عميقة تأمّلية يحاكم فيها العقل الواقع.
وقد ورد في بعض الروايات ما يشير إلى أن إبراهيم منذ ولادته كان محبوساً في كهف لا يبصر منه النور خوفاً من أن يقتله النمرود، فلمّا خرج منه فوجىء برؤية الكواكب والشمس والقمر، فانجذب إليها بطريقة توحي باستشعاره بربوبيتها. ولكن في متابعتنا للأحداث في حركة إبراهيمt، ما يشير إلى أن النمرود كان لا يزال حياً في حياة إبراهيمt، ولم يصحّ عنه أنه كان يقتل الأولاد اعتقاداً منه بتحذير المنجّم له في ولادة مولود «يكون هلاكنا على يديه». ثم إن الله سبحانه أكّد أنّه أراه ملكوت السماوات والأرض، وقد كان إبراهيم يعيش في الأرض، ما يجعله يعرفها، فإذا كان ما تشير إليه الرواية ينسجم مع السماء التي لم يرها وهو في الكهف، فإنّه لا ينسجم مع الأرض التي عاينها وهو فيه.
وفي رواية أخرى، أنه كشف له عن الأرض ومن عليها، والسماء ومن عليها، والملك الذي يحملها، والعرش ومن عليه؛ ولكنّ الظاهر أن إبراهيم tلم يتحدث عن هذه التفاصيل، ولم يكن بحاجة إليها في استدلاله على بطلان ربوبيتها للناس، بل تحدث عن هذه الظواهر المرئية التي يراها كل أحد، وتترك تأثيرها على الكون.
ولكنّ الظاهر القرآني أكد أن الله ألهمه التفكير في هذه الظواهر الكونية ليكون على حالة من اليقين، على هدى قوله تعالى، عندما طلب منه إبراهيم tأن يريه كيف يحيي الموتى: ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾(1).
ومن الأحاديث التي كانت تؤكّد أنه كان طالباً للحق، ولم يكن ـ في أية لحظة ـ مؤمناً بربوبية هذه الظواهر، ما ورد عن أحد الإمامين الباقر أو الصادقo، في رواية محمد بن مسلم، عن أحدهماt قال في إبراهيم إذ رأى كوكباً، قال: «إنما كان طالباً لربه ولم يبلغ كفراً، وإنه من فكّر من الناس في مثل ذلك فإنه بمنـزلته». وأيضاً جاء في تفسير القمي قال: وسُئل أبو عبد الله جعفر الصادقt عن قول إبراهيم: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ لغير الله، هل أشرك في قوله؟ فقالt: «من قال هذا اليوم فهو مشرك، ولم يكن من إبراهيم شرك، وإنما كان في طلب ربّه، وهو من غيره شرك».
ونستوحي من ذلك، أنه كان يتابع الواقع الاعتقادي للناس، أو الاحتمالات التي كانت تدور في أذهانهم، فأراد أن يتساءل تساؤل الطالب للحقيقة، كأي إنسان يواجه القضايا التي يؤمن بها الآخرون، ليطرح الردّ بأسلوب السؤال، ويطرح السؤال من موقع الإعداد للردّ.
والسرّ فيما قرّرناه، أنّ الظاهر من حياة إبراهيم tمع أبيه ومع قومه، أنه كان موحِّداً بالله منذ بداية حياته، سواء كان ذلك من وحي الفطرة، أو من وحي الاستدلال على بطلان عقيدة الآخرين المنحرفة.
التجربة الإيمانيّة مدخلٌ إلى اليقين:
لقد كان إبراهيمt ـ في تلك اللحظة ـ يتطلع إلى السماء كما لو كان قد شاهدها لأول مرة، لأن المشاهدة السابقة العادية كانت طبيعية في بُعدها الحركي للنظر في الكون. أما في هذه الحالة ـ فيما توحي به الآية ـ فإنه كان يواجهها كتجربة جديدة لم يلتق بها من قبل، وذلك بما تعنيه التجربة من حركة في الحسّ البصري كمادةٍ للتفكير، للانتقال من المحسوس إلى المعقول، ومن المادّة إلى المعنى، فقد كان يشاهدها سابقاً في رؤية جامدة لا تعني له شيئاً إلا بمقدار ما يعنيه انعكاس الصورة في العين، مجرّد تجميع للصور في الوجدان مما يلتقي به الإنسان في مألوفاته العادية في حياته اليومية.
وهكذا نجد أن الرؤية التي يتحدث عنها القرآن في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾(1)، هي الرؤية التي تبعث على القناعة واليقين، من خلال تحرّكها في خطّ اكتشاف الحقيقة التوحيدية ضدّ الباطل الإشراكي، في حركة تتجاوز الفطرة البسيطة إلى العقل المفكّر.
استعراض العقائد المنحرفة:
وكانت البداية أنه أخذ يستعرض عقلياً عقائد قومه في عبادتهم للكواكب وللقمر وللشمس، فالتقى بالكواكب المتناثرة في الفضاء في صورةٍ بديعةٍ في روعة التنسيق والتكوين، فما إن لمح كوكباً يتلألأ ويشعّ في قلب هذا الظلام المترامي، حتى سيطرت عليه أجواء الروعة، واستولى على فكره الخشوع الروحي أمام هذا الشعاع الهادىء في الأفق البعيد، فخيّل إليه أن وراء هذه الأنوار سراً غيبياً يطل على الكون بنوره في حالةٍ من العظمة، ولذلك فمن الممكن أن يكون هو الإله العظيم الذي لا بد للناس من أن يتعبّدوا له؛ لأنّ الفكرة الساذجة تجعله في الأفق الأعلى البعيد الذي تتطلّع إليه الأبصار برهبةٍ وخشوع، ولا تستطيع الخلائق أن تصل إليه أو أن تدرك كنهه.
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليْلُ رَأَى كَوْكَبَاً قَالَ هَذَا رَبِّي﴾(2)، في صرخة الإنسان الطيّب الساذج الذي لم يدخل في تجربة مماثلة، بحيث خيّل إليه أنه اكتشف السرّ الكبير الذي يبحث عنه كل الناس كما لو لم يكتشفه أحد غيره، وكأنه أقبل عليه في خشوع العابد وفي لهفة المسحور، وفي اندفاعة الإيمان. وربما ردّد هذه الكلمة ﴿هَذَا رَبِّي﴾ ليوحي لنفسه بالحقيقة التي اكتشفها بعيداً عن كل حالات الشك والريب.
وبدأ ذلك (الإله) يقترب من نهايته، وبدأت الكواكب تشحب وتفقد لمعانها، ثم بدأت تبهت وتبهت حتى غابت عن العيون، وربما حاول أن يلاحقها هنا وهناك، لقد ضاع (الإله) في الأجواء الأولى للصباح، وانكشفت له ـ بذلك ـ الحقيقة الصارخة، فقد كان يعيش في وهمٍ كبير، لقد أفل الكوكب، ولكن الإله لا يأفل، لأنه القوة التي تمدّ الكون بالوجود في حركته، كما تمثل الحضور الدائم في الحياة كلها، فلا يمكن أن تبتعد عن حركتها المتنوعة، لأن ذلك يتنافى مع الرعاية المطلقة للكون ولما فيه من موجودات حيّة وغير حيّة، فاهتزّت قناعاته من جديد، وبدأ يسخر من الفكرة، ﴿فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾. ولعلّ التعبير بنفي الحبّ يدلّ على أنه ليس في المستوى الذي يختزن السرّ العظيم ويمثل الإله الواحد الذي يجتذب الشعور بالحب من خلال الإيمان بالألوهية والسرّ الغيبـي.
﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغَاً﴾(1)، في صفاء الليل ووداعة السكون، وكان الشعاع الفضي الساحر يلقي على الكون دفقاً من النور الهادىء الذي يتسلّل إلى العيون، فيوحي إليها بالأحلام الساحرة، ويطلّ على الطبيعة فيغلّفها بغلافه الشفّاف الوادع الذي يثير في آفاقها الكثير من الأحلام، بدأت المقارنة بين ذلك النور الكوكبي الخافت الذي يأتي إلينا متعباً واهناً في جهد كبير، وبين هذا النور القمري الذي يتدفّق كشلاّل في قلب الأفق، فأين هذا من ذاك؟! فهذا هو السرّ الإلهي الذي كان يبحث عنه؛ ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي﴾، وعاش في حالةٍ روحيةٍ من التصوّف والعبادة لهذا الرب النوراني الذي يتمثل في السماء قطعةً فضيةً من النور الهادىء الساحر.
وفجأةً بدأ الشعاع يبهت ثم يغيب، وانطلقت الحيرة في وعيه من جديد؛ أين ذهب «الإله»؟ وأين غاب؟ وهل يمكن للإله أن يغيب ويأفل؟ وضجّت علامات الاستفهام في روحه: من هو الإله؟ وأين هو؟ فأخذ يتوسّل بالربِّ الذي لا يعرف كنهه، أن يهديه سواء السبيل لئلا يضلّ ويضيع، ﴿فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾(1).
وفجأةً أشرقت الشمس بأشعتها الذهبية الدافئة، فأخذت عليه وجدانه. ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ﴾، فأين حجم الشمس من حجم القمر والكواكب؟! فلا بد من أن تكون هي الإله الذي يبحث عنه، لأنها تتميّز عنهما بصفات كثيرة، وبدأ يتابعها وهي تتوهّج وتشتعل وتملأ الكون كله دفئاً وحرارةً وحياةً وإشراقاً وجمالاً، فإذا به يهتزّ ويتحرّك في قوة وامتداد وحيوية دافقة، ولكن ماذا؟ وبدأ يفكر؛ فها هي تبهت وتبرد وتكاد تتضاءل ثم تغيب وتأفل، وتترك الكون في ظلام دامس، فكيف يمكن أن تكون إلهاً ما دامت تغيب في المجهول تاركةً الكون كله في ظلام وفراغ؟!
صرخة البراءة والتوحيد:
ولمّا وصل إلى هذا المستوى، أطلق الصرخة في من هم حوله من الذين يعبدون الكواكب والقمر والشمس، ﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾(2)، بريء من عبادة هذه المخلوقات التي انطلقت من العدم، ولا يزال العدم يعشّش في كل حركة من حركاتها، أو خطوة من خطواتها.
وتمرّد على كل هذه الاتجاهات الإشراكية، لأن الإله لا يمكن أن يكون أحد هذه الأشياء المحدودة، بل لا بد من أن يكون شيئاً أعظم من ذلك،وأكبر، وفوق المحدود في القدرة والقوة وكل صفات الكمال والجلال. وقال: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفَاً﴾(3).
وهكذا تدفّقت إشراقة الإيمان في وعيه وقلبه، فأحسّ بأنّ الله هو شيء لا كالأشياء، وأنّ الأشياء نتاج قدرته، وأدرك أن الله لا يُحسّ كما تُحسّ الموجودات الأخرى بالسمع والبصر واللمس، ولكنه يدرك بالعقل والقلب والشعور من خلال كل هذه المخلوقات التي تحيط بالإنسان في هذا الكون الكبير، من سموات وأرض وما فيهنّ وما بينهنّ، فتترك لديه انطباعاً بأن الله هو الذي فطرها وأوجدها. ومن خلال هذه الانطلاقة الإيمانية الرائعة التي أحسّ معها بالراحة والطمأنينة والانفتاح، وقف بكل كيانه ليتحوّل كل وجهه ـ والوجه هنا كناية عن الذات بجميع التزاماتها وعلاقاتها وتطلّعاتها ـ إلى الله حنيفاً مخلصاً، مائلاً عن خط الانحراف، فهو ـ وحده ـ الذي تتوجّه إليه العقول والقلوب والوجوه، بالخضوع والطاقة المطلقة، بإحساس العبودية وحركة الإيمان الذي يعلن هذا التوحيد بما يشبه الصرخة الهادرة الرافضة لكل الوجودات المحدودة التي تتألّه أو التي يحسبها الناس في عداد الآلهة، ﴿وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾.
رحلة إيمان أم محاكاة استعراضيّة؟
والسؤال الذي ينطلق من وحي هذه الآيات هو: هل هذه الحالة تمثل الرحلة الأولى في طريق الإيمان لدى إبراهيمt، أو هي محاكاة استعراضية للأجواء المحيطة من خلال ما يعتقده الناس من ألوهية الكواكب والقمر والشمس، في محاولةٍ إيحائية إلى من حوله بسخافة هذه العقائد وتفاهتها وضعفها أمام المنطق الوجداني الصافي، وذلك من موقع ابتعاده عنها بعد اقترابه منها، ما يعطي لموقفه بعض القوة في الإيحاء، باعتباره الموقف الذي عاش التجربة وعاناها ثم تمرّد عليها؟
إننا نعتقد، أن هذا الرأي قد يكون الأقرب لما تنطوي عليه شخصية النبي إبراهيمt فيما حدّثنا القرآن عن حياته، وربما كان ذلك في بداية وعيه في شبابه، فنحن لم نلمح ـ في غير هذه الآية ـ أي حالة تأثر عنده بالجو المحيط به، بل ربما نرى أنّ الأمر عكس ذلك في حالة التمرّد على البيئة المحيطة به، وخصوصاً فيما يتعلّق بالجوّ العائلي المتمثّل بأبيه الذي نقل لنا القرآن موقف إبراهيم tمنه.
وقد نستطيع الاستيحاء من الآية التي حدّثنا القرآن فيها عن كلام إبراهيمt حول الأصنام، أنّ هذا المواقف سابق لموقفه من هذه العقائد. هذا إضافةً إلى أن الرؤية التي حدّثنا الله تعالى عنها لملكوت السموات والأرض، تشير إلى الرؤية الوجدانية الواعية التي تحاول أن تثير التفكير من خلالها، وليست الرؤية البصرية الساذجة، لأنها تبدأ مع الإنسان منذ اللحظة التي يفتح فيها عينيه على الكون ليتطلّع إلى ما فيه من موجودات يدركها البصر.
وربما كانت كلمة ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾(1) إشارة إلى ذلك، لتلتقي بكلمة ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾(2)، ما يوحي بأن إبراهيم tكان يعيش حركة الفكر الذي يريد أن ينمّي من خلاله أفكاره وإيمانه بكل الأشياء التي تركّز للفكرة قوتها وفاعليتها وثباتها وحركتها أمام التحدّيات التي تواجهها، حتى فيما يشبه الأوهام، ليواجه الصراع الذي يعيشه بانفتاح واقتناع وقوة لا تعرف الضعف ولا التراجع في كل المجالات.
أما الاحتمال الأول، فقد يقرّبه القائلون بأنه من الممكن أن تكون الحادثة قد حصلت في بداية طفولته الأولى، عندما بدأ يتطلع إلى الأشياء ويتأمل في الكون، ولعلّ هذا الذي نستوحيه من الجو النفسي الساذج الذي توحي به الآية، فهذا هو إبراهيم tيواجه الكوكب البعيد في السماء، ولكنه يشرق في قلب الظلام، فيشعر بالرهبة والروع، فيصرخ ـ في مثل اللهفة الطفولية: ﴿هَذَا رَبِّي﴾، انطلاقاً مما كان يسمعه بأن الإله بعيد عن الإنسان، فلما أفل أحسّ بالانقباض وقال: ﴿لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾، فقد نجد في كلمة (لا أحب) بعض كلمات الطفولة البريئة، لا كلمات المعادلة العقلية المفكرة التي تتحرك على أساس أن تحب الشيء أو لا تحبه من خلال مشاعرها الساذجة إزاء الأشياء. وتتكرّر التجربة مع القمر، وتنطلق الصرخة الطفولية من جديد، تماماً كمثل الهتاف الذي يهتف به الطفل عندما يجد شيئاً قد أضاعه أو شيئاً قد طلبه، وتتكرر خيبة الأمل من جديد، ولكن الوعي يتنافى هنا، فلا نجد ردّ الفعل طفولياً، بل نلاحظ في ردة الفعل حالة حيرة وذهول وتوسّل إلى هذا الربّ المجهول الذي يتمثّله في وعيه هادياً لعباده، أن يهديه إلى الحق لئلاّ يكون من القوم الضالّين.
ثمّ تشرق الشمس في هذا الدفق اللاهب من النور الذهبي، في إطار هذا الوجه الواسع الذي يتفايض بالشعاع كما يتفايض الينبوع بالماء الصافي الرقراق، فتكبر الصرخة في طفولية ظاهرة: ﴿هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ﴾، والاعتبار هذه المرة للحجم الذي لا تستوحيه إلا أفكار الطفل أو ما يشبه الطفل؛ لأن الأشياء الكبيرة توحي للفكر الساذج بالهيبة والعظمة بما لا توحي به الأشياء الأقل حجماً. وتتجدّد خيبة الأمل بالأفول، ولكن تلك الإشراقة الساطعة للشمس استطاعت أن تبعث في نفسه إشراقة الإيمان الرافض لكل هذه الأوهام والظنون.
هذه هي وجهة نظر هؤلاء، التي ربما يؤكدها ما ورد عن الإمام جعفر الصادقt في تفسير هذه الآيات، من أن إبراهيم كان في طلب ربه، أو أنه «كان طالباً لربه ولم يبلغ كفراً»، كما قدمنا ذلك في بداية الحديث. وربما كان إبراهيمt يبحث عن أساس بطلان هذه الأفكار بطريقة استحضارها في موقفه، كما لو كان معتقداً بها، ليردّ بذلك عليها...
ولكننا قدمنا أن الاحتمال الثاني قد يكون أقرب، لأن حديث القرآن عن إبراهيم tلا يوحي بشيء من هذا القبيل، ما يدل على أنه كان موحداً بالفطرة منذ البداية. ولذلك لاحظنا أنه بعد إبطاله لربوبية هذه الظواهر الكونية، بادر إلى توجيه وجهه للذي فطر السماوات والأرض، بعيداً عن خطّ المشركين، ما يوحي بأنّ عقيدة التوحيد كانت كامنةً في أعماقه من خلال فطرته الصافية، لأنه لو لم يكن كذلك، لما كان هناك تناسب بين إبطال تلك العقائد، وبين المبادرة لإعلان التوحيد لله والتزامه العملي به في الحياة. والحمد لله رب العالمين.




































    حوارالعقلوالعاطفة
    أمامالأبوّةوالرسالة
    أسلوبدعوةالأقرباء
    إبراهيمtيباشرالدعوةإلىالله
    البنوّةلاتمنعالوعظ
    التهديدجهدالضعيف
    الموقفالحاسمفيالرفض
    الوَلْدُرحمةًوكرامة























إننا أمام حوار مثير يديره إبراهيمt مع أبيه، في رأينا، أو عمّه الذي تبنّاه، في رأي الكثيرين، وقد كان كافراً كقومه.
فقد رأى إبراهيمt أنّ من أولى مهامه في الدعوة إلى الله، أن يبدأ بدعوة أبيه، لأنّه الحلقة الأقرب إليه، كما أنّ بقاءه على الكفر قد يطبع موقف إبراهيمt بنقطة ضعف، ويخلق له مصاعب داخلية يمكن أن تعطّل بعض خطواته الرسالية، أو تجلب له مشاكل غير منتظرة.
حوار العقل والعاطفة:
وقد واجه هذا الحوار صعوبةً في البداية، لأنه حوار الإبن مع أبيه في مجتمع يعطي للأبوّة قيمةً كبيرة قد ترقى إلى درجة التقديس الذي يلزم الأبناء بالخضوع المطلق لآبائهم، ولهذا استخدم إبراهيم أسلوباً جديداً حذِراً، فلم يلجأ إلى أي عنصر من عناصر الإثارة التي تتناول الذات بالتجريح والتبكيت، بل حاول ـ على العكس من ذلك ـ أن يشحن أسلوبه في الحوار بالعاطفة، إلى درجةٍ تجعل من يقرأه يتصوّر أنه في حالةٍ من حالات التوسّل إلى أبيه، تماماً كما هي حالة من يخاطب إنساناً عزيزاً معرّضاً للسقوط أو للهلاك، حيث يتحدث الإنسان فيها عادةً بكل هلع ومحبّة لإنقاذ من يودّه بأيّ طريق، وبذلك نجد في الحوار الذي تمثّله الآيات الآتية بساطة الفكرة ووضوحها في إطار الجوّ الحميم الذي يسود الموقف.
فنحن نلاحظ في أسلوب إبراهيم tمحاولةً لتبرير دعوته لأبيه، في قوله: ﴿قَدْجَاءَنِيمِنَالعِلْمِمَالَمْيَأْتِكَ﴾(1). ولذا فلا مانع من وجهةٍ اجتماعية، أن يدعو الابن أباه مع حفظ موقع الأبوّة، في موقفه الذي عبّر عن شعوره العاطفي تجاه ضلال أبيه وخوفه من أن يمسّه عقاب الله. وقد جاء ردّ أبيه من موقع من يشعر بسلطة الأبوة التي تضغط على الإبن ليسير في خطاها، وتهدده بالقوة والطرد والهجران إن خالف ذلك، فلا حوار ولا كلام بين الإبن وأبيه، إنما هو الأمر والطاعة، فللأب أن يعلن رغبته قبل أمره، وللابن أن ينفّذ دون تردّد أو تفكير.
إنها شريعة المجتمع آنذاك، التي تجعل من علاقة الأبناء بآبائهم علاقة تشبه علاقة العبودية التي يعيشها العبيد أمام المالكين.
أمام الأبوّة والرسالة:
ولم يتراجع إبراهيمt عن إثارة الجو العاطفي في إعلان موقفه الرسالي لأبيه بعد أن رفض دعوته، وقد استطاع أن يوفّق بين الرسالة والعاطفة، فجعل العاطفة طريقاً إلى رسالته، وشعوراً بالمسؤولية تجاه أبيه، محوّلاً موقفه إلى موقف إنقاذ، فكان ردّ فعله أن توجّه إلى أبيه بالسلام، ووعده بأن يدعو له بالمغفرة، بأن يوفّقه الله لأسبابها من خلال الاهتداء إلى الإيمان، ثمّ أعلن له ولقومه، باعتبار أن أباه يمثّل فريق الكفر، بأنّه سيعتزلهم وما يعبدون من دون الله بعد أن قام بواجبه تجاههم.
وقد كان هذا الوعد من إبراهيمt لأبيه بالاستغفار، ناشئاً من أمله في أن يتراجع أبوه عن موقفه ويعود إلى الله، وليس ناشئاً على الإطلاق من إحساسه بأنّ القرابة تمثّل امتيازاً يميّز أباه عن غيره؛ ولذا أعلن البراءة منه بعد أن يئس من إيمانه وظهرت عداوته لله.
أسلوب دعوة الأقرباء:
وإننا ـ في هذا المجال ـ نستطيع الاستفادة من هذا الأسلوب في المواقف التي نحتاج فيها إلى دعوة الأشخاص الذين تربطنا بهم بعض الروابط العائلية المتصلة بالعاطفة من نسب أو غيره، لنتعلم من إبراهيمt كيف نشحن الحوار بالمشاعر التي تسهّل المهمّة، بما تثيره لديهم من مشاعر تسهّل انسجامهم مع الأجواء الحميمة للحوار، من دون أن يخلق ذلك انجرافاً مع العاطفة لمصلحة الكفر والضلال، لأن الأسلوب العاطفي في هذه الحال لا ينبع من حالةٍ نفسية عفوية، بل يرتكز على تخطيط يعتبر العاطفة جزءاً من الخطّة العامّة تخضع لما تخضع له تلك الخطّة من مرونة ووعيٍ وثبات.
وعلى ضوء هذا، نجد أن من واجبنا إعطاء الأسلوب بعض القوّة في حالات أخرى، وخصوصاً إذا عمد الذين ندعوهم إلى استغلال أسلوبنا العاطفي لأغراض في غير صالح الدعوة إلى الله، تماماً كما كان عليه الأسلوب الآخر لإبراهيمt مما أشرنا إليه، ليظل الأسلوب في كلتا الحالتين منسجماً مع خطّ الحكمة الذي يريد الله للدعوة أن تسير عليه.
وقد نشعر ـ في نهاية هذا العرض ـ بالحاجة إلى الاستفادة من الأجواء الروحية في بعض حالات الحوار، بين أسلوب يربط المتحاورين بفضل الله ونعمه، وأسلوب ينقل الموقف إلى ابتهال خاشع يمارسه الداعية للتأثير النفسي على الآخرين عندما يشغلهم عمّا هم عليه بروعة المناجاة وخشوع الابتهال.
إبراهيمt يباشر الدعوة إلى الله:
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نبِيّاً﴾(1). قد يكون من الضروري للنبي أو للداعية ـ بشكل عام ـ أن يستحضر في وعيه ملامح الشخصيات الرسالية التي تمثّل النموذج الأكمل لحركة الإنسان الرسالي في الدعوة، ليدرس أساليبها، ويستلهم روحيتها، وينتفع بتجربتها، ومن أبرز هؤلاء، النبي إبراهيمt، وهو النبي الصدّيق الذي كانت حياته كلها صدقاً مع نفسه، ومع ربه، ومع الناس من حوله، فلم يجامل أحداً في الحقّ، ولم يهادن قريباً أو بعيداً في مستلزمات الرسالة، ولم يترك في حياته فراغاً لغير الرسالة، بل كانت الرسالة كل فكره وهمّه وكلّ حياته، فقد كانت تجربته غنيةً بالتنوّع الذي يحكم جوانبها، كما كانت روحيته في علاقته بالله، وفي إخلاصه للرسالة، في المستوى الأعلى من روحية الأنبياء والصدّيقين.
ومن تجاربه الرائعة التي تعكس عمقه الروحي، تجربته مع أبيه؛ ﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً﴾(1)، فقـد رأى أباه يعبد الأصنـام الحجريـة التي يعبدهـا قومـه، خاضعـاً بذلك ـ كغيره ـ لعادة السير على خطى الآباء والأجداد وتقليدهم في السلوك، بسبب غياب الوعي الفكري الذي يكفل عدم صدور أيّ عمل عن الإنسان إلا بعد دراسة طبيعته وخلفياته ونتائجه.
وهكذا أراد إبراهيمt أن يثير التساؤل في تفكير أبيه، وذلك بأن يطرح الجانب اللامعقول في هذه العبادة، بطريقة بسيطةٍٍ لا تكلّف فيها، فلا يتكلّف الإنسان ـ من خلالها ـ بذل أي جهدٍ في التفكير من أجل اكتشاف انحرافها عقيدياً، فحاول أن يهزّ جمود الموقف عنده بطريقة الصدمة وأسلوب الإثارة، فهاجم هذه المقدّسات الوثنية الحجرية الجامدة بعنف، إذ كيف يمكن لعاقلٍ أن يعبد هذه الحجارة التي لا تسمعه إذا خاطبها في حاجةٍ أو سؤال أو خضوع وابتهال، ولا تبصره إذا وقف أمامها وقفة عبادة؛ لأنها لا تملك أيّ حسٍّ يوحي بالتأثر والانفعال فيما يقوم به الآخرون تجاهها؟! فكيف يمكن أن تكون آلهةً تُعبد من دون الله، وهي لا تملك أي إحساس بنا وبالآخرين في غيابٍ كلي عن الإنسان والكون والحياة؟! ثم ما الذي تملكه من قوةٍ وقدرةٍ على التأثير بما حولها ومن حولها؟! إنها اللاشيء في عالم الحركة الحيّة، فكيف تستجيب لدعوات الناس الذين يعبدونها ويتوسّلون إليها؟! وكيف تدفع عنهم الضرر أو تجلب لهم النفع أو ترفع ضغط الواقع عنهم؟! فما فائدة عبادتهم لها، وما قيمتها على مستوى الوجود كي تُعبد؟! إنها اللافائدةواللامعنى واللامعقول واللاإحساس بأيّ شيء في الحياة.
البنوّة لا تمنع الوعظ:
ويدعو إبراهيم tأباه من منطق العارف الذي ينطلق في منهجه من خلال علمه ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾(1)، فقد عشت تجربة الفكر التي أعطتني المعرفة التأملية، وقد عشت تجربة الواقع، فمنحتني الثقافة العملية، وقد ألهمني الله من وحيه الكثير من تفاصيل العقيدة والشريعة والمنهج العملي في الحياة، واستطعت من خلال ذلك كله أن أحصل على المعرفة الواسعة التي تتيح لي هداية الناس وإرشادهم ودعوتهم إلى الله. والمسألة هنا ليست مسألة ابن وأب، وإنما هي مسألة عالم وجاهل، وليست قضية عُمر كبير أو عُمر صغير؛ لأن أهمية العمر هي فيما يختزنه الإنسان من تجربة، لا فيما يستهلكه من لحظات زمنية، فإذا كان العمر خالياً من تجربة الفكر وتجربة الواقع، فإنه لا يمثل امتداداً في قيمة الزمن في حساب العلم.
﴿فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً﴾، الصراط الذي يقودك إلى الإيمان بالله والعمل بما يرضيه، والانفتاح على الآفاق الرحبة في الحياة، والوصول إلى جنّته ورضوانه، وذلك هو سبيل السعادة في الدنيا والآخرة.
﴿يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾(2) الذي يوسوس للإنسان بوساوس الشر، ويزيّن له أفعال الجريمة والابتعاد عن الله وعن خطّه المستقيم، إلى غير ذلك مما يجلب له الشقاء في الدنيا والآخرة، فابتعد عنه، واقترب من ساحة الله في خطّ عبادته ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً﴾، لأنّ الشيطان عصى الله في البداية عندما أمره بالسجود لآدم، وما زال مقيماً على معصيته، وداعياً الآخرين إليها، ليقودهم إلى عذاب السعير.
﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن﴾(1)، بسبب طاعتك للشيطان وعصيانك لله، ﴿فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً﴾، فيتولّى الشيطان أمرك، لأنك تتولى مواقفه ومواقعه، ومن كان الشيطان مولاه فإنه سائر إلى الهلاك، ومن كان الرحمن مولاه فإنه سائر إلى الخير والنجاح والفلاح.
فكان جواب الأب: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ﴾(2)، كيف تتجرّأ على الانفصال عن خطّ أبيك، فتتركه وتترك مقدّساته، وترغب عن آلهته التي يعبدها؟ وما هذا اللغو الذي تتحدّث به؟ وكيف تجرؤ على أن تتّخذ لنفسك صفة الواعظ المرشد الموجّه لأبيك؟ متى كان الصغار يعلِّمون الكبار، أو يناقشونهم في أقوالهم وأفعالهم؟ هل تريد مني أن أناقشك في كلامك أو أستمع إليك؟ وإذا كان هذا ما تفكّر فيه، فإنّ ردّي الوحيد عليك هو: ﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهِ﴾ عن هذه الذهنية وهذا السلوك وهذا الكلام ﴿لأَرْجُمَنَّكَ﴾، وهذا تهديد له بالقتل رمياً بالحجارة واهْجُرْنِي مَلِيّاً﴾، ابتعد عني وقتاً طويلاً واخرج من داري، بحيث لا أراك ولا تراني، لأني بريء منك ومن عقيدتك وسلوكك.
التهديد جهد الضعيف:
وهكذا رأينا أن أبا إبراهيمt لجأ إلى أسلوب الكافرين المعاندين التقليدي نفسه، الذي لا يجد الكافر فيه ما يقوله دفاعاً عن موقفه، لأن عقيدته لم تنطلق من موقع فكر واقتناع، فيلجأ عندئذٍ إلى التهديد والوعيد، ليغطّي بذلك ضعفه أمام الكلمة الواعية المسؤولة. وكان ردّ إبراهيمt على هذا التهديد: ﴿قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ﴾(1)، فلن أستخدم الأسلوب الذي استخدمته معي، والذي ينذر بالحرب عليَّ، ولن أهدّدك كما هددتني، فإذا كنت قد أعلنت الحرب عليَّ فإني أردّ عليك بالسلام الذي يعيشه المؤمن في علاقته بالآخرين، حتى مع الذين يعادونه، فيعفو عنهم ويصفح إذا أساؤوا إليه أو أجرموا في حقّه، ليدفع بالحسنة السيئة، ويفسح لهم في المجال للتراجع عن موقفهم السيّىء ولو بعد حين. فالمؤمن داعية سلام لا داعية حرب، لأنه ليس إنسان الصراع، بل إنسان الهداية والإرشاد.
﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾، لعلّه يستجيب لي، فيفتح قلبك على الإيمان، ويهديك سواء السبيل، ولو بطريقة خفيّة غيبية، فإن لم أستطع أن أهديك بطريقتي الخاصة، فإني أطمع أن تهتدي بلطف الله ورضوانه وعنايته، فسأدعوه بإخلاص وأبتهل إليه بخشوع، ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً﴾، فلا بد من أن يسمع دعائي، وهو الذي يعرف صلاح الأمر كلّه، ولا أزال أطمع في أن تكون لك فرصة للخير في حياتك.
الموقف الحاسم في الرفض:
﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾(2)؛ لأن دعوتي إلى الخير منطلقة من الله، أما دعوتكم، فهي من الشر القادم من الشيطان، ولن يلتقي الباحثون عن الخير بالباحثين عن الشرّ في أيّة نقطةٍ من الطريق، لأن طريق كل منهما مختلف عن طريق الآخر، ولذلك فإني سوف أبتعد عنكم كما تريدون، وكما يفرض عليَّ الموقف والموقع العائلي. ﴿وَأَدْعُو رَبِّي﴾ وأرجع إليه، وأرجو رحمته ورضاه، ﴿عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً﴾؛ لأنه يشمل عباده برحمته، فيستجيب لهم إذا دعوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويُقبل عليهم إذا ناجوه، فهو الربّ الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه، فلا يحجب رحمته عن السائرين إليه، الراجين رضاه.
﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾(1) ، فأعطى من نفسه المثَل الحيّ والنموذج الأكمل، الذي يرفض كل مشاعر القرابة في مقابل مواقف الإيمان، لأنّ علاقته بالله تعلو فوق كلّ علاقة، كما أن رضا الله يسبق رضا كل من يتّصل بهم من الناس. وهكذا ابتعد عنهم واعتزلهم وانصرف إلى مجتمع آخر يختلف عن مجتمعهم المعاند المليء بالحقد والعداوة، ليستكمل دعوته إلى الله، ويفتح قلوب الناس على الحق، وبهذا يكونقداستكملتجربتهالأولىالصعبة، وبلّغ رسالة الله بكل قوة وإخلاص.
الوَلْدُ رحمةً وكرامة:
وأراد أن يبدأ تجربةً جديدةً في موقع آخر، فأفاض الله عليه في تلك المرحلة بأن رزقه ولده إسحاق، ومن ورائه يعقوب، رحمةً به وكرامةً له و﴿وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً﴾، فكانت النبوة في ذريّته، وامتدت الرسالة في حياتهم، وارتفعت درجاتهم في مواقعها ومواقفها، بعد أن أسلموا لله كما أسلم إبراهيم، وأخلصوا له بكل جهدهم الروحي والإيماني، ﴿وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً﴾(2)، بما يعبّر عن الثناء الجميل، والذكر الحسن، جزاءً لهم على إيمانهم وجهادهم وإخلاصهم لله.
وهكذايكونجزاءالعاملين في سبيل الله، الداعين إليه، المنفتحين على رسالته، الحصول على رضا الله. وهكذا انطلقت تجربة إبراهيمt مع أبيه، في عملية إيحاء رسالي وروحي وحركي، وتنوّع في المشاعر والأحاسيس، لتكون درساً وعبرةً لكل الناس من بعده. والحمد لله رب العالمين.



























    إبراهيمفيمواجهةقومه
    التحطيمالفكريللصنميّة
    التحطيمالعمليّللصنميّة
    عجزالموقف
































ونلتقي بإبراهيمt في تجربة جديدة، ومنطق ناقد، وحركة تحدٍّ مع أبيه وقومه، في منطق يوحي بالقوة، بالرغم من ضعفه الاجتماعي أمامهم، لأنّ روحية الرسالة في مواجهة القوى المشركة المضادّة تمنحه صلابة الموقف، وحدّة المواجهة، فلا تأخذه بالله لومة لائم؛ وهذا هو الذي يجعل من هذا النبي نموذجاً فريداً، ومثلاً حياً في أسلوبه القويّ الذي يختزن التحدي، ويوحي بالفكرة الحقّة في معرض النقد لما يلتزم به الآخرون.
إبراهيم في مواجهة قومه:
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾(1)، قالها لأبيه في موقف يوحي بأن الأبوة، مهما كانت تختزن في داخلها من الاحترام والهيبة، لا تمنع الولد من مواجهتها بالأسئلة الحاسمة في القضايا المتّصلة بالعقيدة، لأنها تتجاوز كل الانفعالات الشعورية في العلاقات الإنسانية، لتتركّز في دائرة القضايا المصيرية، ما يعني أنّ الحواجز النفسية التي تضعها العادات والتقاليد لا تمثّل حائلاً بين الإنسان والآخرين في ما يريد أن يؤكده من قضايا الفكر والحياة.
لذا وقف إبراهيم tأمام قومه الذين كانوا يملكون السلطة الضاغطة على كل فرد من أفراد المجتمع، وقف بكل شجاعة الموقف الرسالي، الذي يملك أن يطلق التحدّي وأن يردّه في عملية الدعوة والهداية والدفاع عن الحقّ، وقال لهم: ﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ﴾ الحجرية الجامدة التي تتعبّدون لها في خشوع وابتهال؟! وما دورها في حياتكم وحياة الناس؟! وما هي الأسرار الكامنة في داخلها التي تميّزها عن الأحجار الأخرى؟! هل هو الشكل والصورة أم ماذا؟ إنكم أنتم من صنعها، فلم تكن منـزلةً عليكم من الغيب، ولولاكم لما كان لها أية ميزة نوعية، فهل فكرتم في ذلك كله؟ وهل وعيتم معنى العبادة في العمق، ومستوى المسؤولية المرعيّة بين العابد والمعبود، فيما يمثله المعبود من قوةٍ مطلقةٍ في الخلق والهيمنة والنعم الشاملة لكل جوانب الحياة والموت؟! فهو الذي يملك الأمر كله، فلا يملك أحدٌ منه ما يملكه منه، وهو الذي يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء، فماذا تملك هذه التماثيل من ذلك كله؟! وهل تستطيع أن تدفع عن نفسها الضرر القادم من أي واحد منا إذا قام بتكسيرها وتحطيمها؟! هل تملكون تفسيراً لذلك؟ وبالتالي، هل لديكم ما تدافعون به عن عقيدتكم هذه ليكون ذلك مبرراً لكم ولمن حولكم للسير في هذا الاتجاه؟
التحطيم الفكري للصنميّة:
﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾(1)، فهم الذين أعطوها القداسة والاحترام عندما عبدوها خاشعين، فقد رأيناهم يطلبون منها الرزق والولد والأمن ولم نعرف لماذا يقدسونها ويحترمونها، وما هي مبررات ذلك كله؛ وهم لم يشرحوا لنا شيئاً منه، بل كل ما هناك أنهم أمرونا بالطاعة فأطعنا، وبالعبادة فعبدنا، كما هو شأن الأولاد النجباء مع آبائهم العقلاء، فليس لهم أن يعترضوا أو يناقشوا في ذلك.
فلم يكن هذا الأمر منطلقاً عندهم من وحيٍ منـزل، بل هي الأهواء العابثة التي تجعل من الوهم حقيقة، ومن العبث قاعدةً، ومن الخرافة أساساً للحياة.
كما إن التخلف العقلي والروحي والعملي الذي يعيشه هؤلاء، هو ما يقودهم إلى الضلال فيما يلتزمون به وما يتحركون فيه من شؤون العبادة والحياة، ممّا يحوّلونه في عقولهم ومشاعرهم إلى إرث مقدّس لا يحمل في داخله أي شيء من معنى القداسة. ولكنه التقليد الأعمى الذي يفرضه الآباء الجاهلون على الأبناء المتخلفين، والضلال الواضح الذي لا شبهة فيه ولا ارتياب.
﴿قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾(1)... ما هي القيمة العلمية لهؤلاء الآباء؟ ومن أين انطلقوا في عبادتهم لهذه الأوثان؟ وإلى أية حجة استندوا في تقديسها والخضوع لها؟ وما هي القاعدة التي حكمت اتباعكم إياهم؟ وهل يمكن للنسب أن يمنح الناس إرث العقيدة على طريقة إرث المال، ولاسيما أن الجهل الذي يطبق على عقولكم هو نفسه الذي كان يُطبق على عقولهم؟ وهل يمكن للجهل أن يعطي وعياً وعلماً للسائرين في مواقعه؟ إنه الضلال الذي يدفع بكم إلى المتاهات الضائعة في مواقع الفراغ.
﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ﴾(2)، فهم يتساءلون في تعجّب واستنكار لما صدر منه من كلام ضدّهم وضد أصنامهم، مما لم يسمعوه من أحد من أفراد مجتمعهم من قبل، ولم يتصور صدوره من شخص يتكلم بالجدية المتوازنة، كأنهم لا يصدِّقون جديّته؛ لأنّه كان المستبعد عندهم أن يفكر هذا الفتى الذي عاش في بيئة أب (عاقل) عابد لهذه الأوثان، وتربّى في أحضانه، بحيث ينبغي أن يكون قد تأثر به في فكره والتزامه، أن يفكّر بهذه الطريقة، ولذا أخذوا يصوغون اعتراضهم بصيغة الاستفهام الإنكاري أو التوبيخي، ليقوده ذلك إلى التراجع من دون إحراج، ليعتذر إليهم بأن ما قاله كان من خلال الأخذ بأسلوب العبث واللعب.
﴿قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾(1)، في موقف تأكيد رفضه للأصنام من موقع الجديّة الفكرية التي تصل إلى مستوى الحقيقة عنده، بحيث يشهد بها كما لو كانت محسوسة لديه عياناً، أو كما لو كان شاهداً عليها من صميم الوجدان، فهو لا يرى إلهاً له ولقومه وللناس وللكون كلّه، في السماوات والأرض، إلا الله الواحد الذي خلقهم من العدم بقدرته المطلقة التي لا تقف عند حدّ معين، فكيف يمكن أن يدّعي أحد غيره الألوهية، ولاسيما إذا كان ذلك في صورة هذه الأحجار الصمّاء التي حوّلوها ـ بالفنّ البشري ـ إلى تماثيل منحوتة من دون أيّ معنى تختزنه في داخلها؟
لذلك، فقد واجههم بطريقة حاسمة، بالحكم بضلال موقفهم، وأعلن لهم الحقيقة الساطعة بتأكيد التوحيد الإلهي الذي تمتد قدرته، وتفيض ألطافه على الكون كله والإنسان كله، ما يفرض عليهم أن يتحرروا من تخلفهم الجاهل، ويستنطقوا فطرتهم الصافية التي لا يجدون في إيحاءاتها إلا الله الواحد؛ خالق السماوات والأرض، ومبدع الإنسان، وموجد الكون كله في نظامه وقوانينه الحكيمة البديعة.
وتتعاظم الثورة في نفسه، فيلجأ إلى الأسلوب القوي الذي يتميز بالعنف، في عملية إثارة للوضع الذي يخضع فيه قومه لهذه العبادة الوثنية، ليثبت لهم سخف التزامهم بهذه الأوثان، وذلك في حركة حسّية تصدم أفكارهم، حتى يفقدوا معها التوازن، ويغيبوا عن الوعي أمام الصدمة القوية التي لا يعرفون كيف يجيبون عن نتائجها غير المعقولة.
التحطيم العمليّ للصنميّة:
وهكذا، عزم على الكيد للأصنام في عملية تحطيم وتكسير، ﴿وَتَاللهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾(1)، في تدبير خفيّ محكم، يستهدف وجودها واحترامها وقداستها بالتكسير والتحطيم، لأن من الضروري أن تواجه العقيدة الضالة المتخلّفة بالتحليل الفكري المضاد الذي يفسح المجال للقناعة الإيمانية أن تنطلق من مواقع الفكر، وأن تواجه أيضاً بالتحطيم العملي الذي يدمّر هيبتها واحترامها في النفوس، ليراها الناس ـ على الطبيعة ـ مجرد أحجار جامدة، لا تملك أن تدفع عن نفسها ضراً، ولا تجلب لها نفعاً.
وهكذا كانت أفكاره تتّجه إلى الخطّة الخفيّة التي تهدف إلى تحطيم هذه الأوثان، لإثارة الجدل الفكري الذي يقودهم إلى التفكير في الموضوع من موقع جديد.
وكان عقله يتحرّك في أكثر من اتّجاه، في محاولة لاكتشاف الأسلوب المتحرّك الذي يستطيع من خلاله اقتحام التحجّر الفكري الذي يعيشون فيه، فراح يخاطبهم في مناجاة ذاتية، ويقسم لهم إنه في مناجاته الذاتية سوف يدمّر هذه الأصنام، في خطةٍ دقيقةٍ لا يملكون معها الوقوف أمامها على صعيد الفكر والواقع. ﴿بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾(2)، فيخلو الجوّ له في التحرك بحرّية فيما يريد أن يقوم به.
وذهب القوم إلى أعمالهم، وبقي إبراهيم tهناك في بيت الأصنام، أو أنه عاد إليها خِلسةً من دون أن يشعر به أحد، وتوجّه إليها مكسّراً محطّماً ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذَاً﴾(3)، أي قطعاً مكسورة؛ والجذّ هو كسر الشيء وتفتيته، ﴿إلاّ كَبِيرَاً لَهُمْ﴾، وهو الصنم الأكبر ﴿لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾، في إيحاء خفيّ بأنّه هو الذي صنع ذلك، على أساس ما يعتقدونه فيه من سرّ القدرة التي تخوّله القيام بما يشاء، كما يصنع الإله في حركة الحياة، فقد يفكّرون بهذه الطريقة، فيرجعون إلى الصنم الأكبر ليسألوه، فلا يملك لهم جواباً، فيدفعهم ذلك إلى إعادة التفكير في العقيدة الوثنية، أو إلى الرجوع إلى إبراهيمt ليتّهموه ويناقشوه، فيكون ذلك وسيلةً لإثارة الحديث معهم حول سلبيات المسألة، أو لعلّهم يرجعون إلى الله بالعبادة، عندما يكتشفون ـ بالفطرة السليمة ـ أنّ هذه الأصنام لا يمكن أن تكون آلهةً. ولعلّ الأول هو الأقرب، لأنّ الظاهر من كلام إبراهيمt، أن هدفه كان أن يوحي إليهم باتّهام الصنم الأكبر، ليقودهم ذلك إلى الصدمة الفكرية التي تهزّ قناعاتهم حول الموضوع.
وجاءوا إلى المعبد ليمارسوا طقوس العبادة المألوفة لديهم، واكتشفوا طبيعة الحدث، وثارت بهم الحميّة، وأقبلوا عليه من كل مكان، بعد أن شاع خبر الاعتداء على الآلهة. وبدأوا يتساءلون فيما بينهم لاكتشاف المعتدي الذي تجرّأ على المقدّسات؛ ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾(1)، وأيّ ظلم أعظم من أن يسيء إنسان إلى مقام الآلهة المقدّسة، التي تملك حقّ التعظيم والاحترام على الجميع، وتمثّل الكرامة الاجتماعية للناس كلّهم، فلا بدّ من اكتشافه لينال الجزاء العادل عن جريمته.
﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾(2)، فهو الوحيد بيننا الذي يرفض عبادتها ولا يؤمن بها، ويرمي الذين يعبدونها بالضلال والتخلّف، ويسيء في كلامه ونظرته إليها، فهو المؤهّل للقيام بمثل هذا العمل الشنيع، وإليه يجب توجيه الاتهام. ﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ﴾(3)، وأحضروه إلى الاجتماع الجماهيري العلني الذي يشهده الجميع ﴿لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾، بما سمعوه منه، فيحرجونه بذلك، فيعترف بما فعله أمامهم، فيقرّرون عقابه في محاكمة عادلة. ﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾(1)، إننا نوجّه الاتهام إليك، لأنك الوحيد من بيننا الذي لا تعبد الأصنام، ما يجعلك في الموقع الطبيعي للاتهام، لأن الذي يعبد الأصنام لا يمكن أن يسيء إليها؛ لأنه يخاف من نتائج ذلك على نفسه وأهله.
﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾(2)، فهو الوحيد الذي بقي سالماً من هؤلاء، ما يوحي بأنه هو الذي قام بالعدوان عليهم؛ إذ يختلف معهم من خلال ما يفرضه عامل الكِبَر من العظمة والقوّة المؤهّلة لإسقاط قوّة الباقين، ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾، فهم الذين يجب أن يوجّه إليهم السؤال، لأنّهم هم الذين كانوا محلاً للاعتداء، وهم الأعرف بالمعتدي، فوجّهوا إليهم السؤال إن كانوا يملكون منطقاً للجواب؟!
إنه يريد أن يصدم عقيدتهم بالحقيقة الدامغة، ولكنهم لم يكونوا يريدون أن يفكروا في نتائجها السلبية على العقيدة، ليقودهم ذلك إلى التفكير من جديد، وإلى القبول بإدارة الحوار حولها.
وعلى ضوء هذا، فإن إبراهيمt لم يكذب في كلامه باتهام الصنم الكبير، لأنه لم يقصد الحكاية عن الواقع، بل قصد التمهيد لإظهار الحقيقة للوصول إلى النتائج الإيجابية في خط الدعوة...
وربما ورد في بعض الروايات، أن كلمة ﴿إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾، راجعة إلى قوله ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾، أي أن الكبير هو الذي فعله إن كان الأصنام الصغار ينطقون، فإذا لم ينطقوا فلم يفعله كبيرهم.
﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ﴾(3)، وفكّروا في المسألة، وفي هذا العجز الذي بدا في عدم قدرة التماثيل على الدفاع عن نفسها، أو النطق لتقدّم الجواب عن السؤال المطروح عليها، ﴿فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ﴾، قالها كل واحدٍ لنفسه؛ لأنه ظلم نفسه بهذه العقيدة الضالة المتخلّفة التي لا معنى لها ولا مبرّر إلا التقليد الأعمى للآباء، أو قالها كل واحدٍ للآخر في عملية اعتراف مباشر بذلك.
عجز الموقف:
﴿ثُمَّ نكسوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ﴾(1)، من خلال إحساسهم بالعجز عن مواجهة إبراهيم tفي اتّهامه للصنم الكبير بالعدوان، لأنّ ذلك يكشف زيف عبادتهم لها، ولكنّهم لا يملكون التراجع عنها ـ بفعل العصبية ـ بل أصرّوا على الخطأ، فمضوا يواجهونه بأنّ ما طلبه من توجيه السؤال إلى الأصنام لا معنى له؛ ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ﴾، فكيف يوجّه السؤال إليهم؟ وكيف نوجّه الاتهام في ذلك إلى الصنم الكبير الذي لا يحسّ ولا يعقل ولا ينطق؟ فإن ذلك يعني أنك أنت الذي حطّمت الأصنام.
﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ﴾(2)؛ هؤلاء لا يملكون الوعي ولا النطق ولا القوة، فكيف يمكن أن يكونوا آلهةً تعبدونها من دون الله، وهم لا يملكون أدنى صفات المخلوق الحيّ؟!
﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾(3) إن ذلك يدعو إلى التأفّف النفسي الذي يشعر الإنسان معه بالضيق نتيجة ما يعيشه الناس من ضلال وتخلّف وضياع ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾، ألم تحكّموا عقولكم فيما تلتزمونه في شؤون العقيدة من الباطل والضلال.
ولكنهم لم يطيقوا هذا الموقف العقلاني الذي وقفه إبراهيم tمعهم، ولم يملكوا أية حجّة في مواجهته، وخافوا أن يؤدّي موقفه المتحدّي لهم، ومنطقه الذي كشف زيف دعواهم، إلى أن يتأثّر الناس بما قاله، ولاسيما البسطاء منهم، الذين يتأثّرون بالكلام الطيّب النابع من الفطرة، فقرّروا أن يتخلّصوا منه بطريقة وحشية، وذلك بإحراقه حياً، ليستريحوا من التحدّي الكبير الذي قد يُبطل عقائدهم، ويعطّل أوضاعهم، ويسيء إلى أوثانهم، ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾(1)، فقد ثبت من أجواء كلامه أنّه هو الفاعل، فيستحقّ الإحراق بالنار الذي هو جزاء المعتدين على الآلهة، فإنّ ذلك هو المظهر الطبيعي لنصرة الآلهة، ما يمنع كل المعتدين من فعل ذلك في المستقبل.
﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدَاً وَسَلامَاً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾(2)، فقد ألقوه في النار إنفاذاً لحكم الإحراق الصادر من كبارهم، ولكن الله سبحانه ـ بقدرته ـ برّد النار التي ألقي فيها، وجعلها برداً وسلاماً عليه، فلم تضرّه شيئاً، ولكن كيف كان ذلك؟ كيف عزلها الله عن التأثير في جسد إبراهيمt؟ هل من خلال إيجاد طبقة عازلة بينها وبين جسده، أو بتبريد النار أو بغير ذلك؟
إننا لا نملك الجواب عن ذلك، لأنّ المسألة من مسائل الإعجاز الإلهي التي اختصّ الله بعلمها مما يتمثّل فيها من روابط التأثير، ﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدَاً﴾(3)، من خلال اتّهامه بما حدث، ومن ثم إصدار الحكم عليه وتنفيذه بأن يقتلوه حرقاً، ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ﴾، وكان ذلك موجباً لإيمان الناس بهذا الفتى الذي يتصرّف بطريقة عقلانية تجلب انتباه الناس إليه وإلى كلماته. والحمد لله رب العالمين.




































    الدعوةإلىالتوحيد
    المعرفةالإيمانية
    تقليدالأمم
    هجرةإبراهيمtإلىالله
    تكريمإبراهيمt
    البراءةالواعية























استكمالاً لما تحدّثنا عنه من سيرة النبي إبراهيمt مع قومه، نتابع الحديث حول الأسلوب الذي اتّبعه خليل الله إبراهيمt في حواره مع قومه، وكيف كان يتحرّك وعظه لهم في مسألة الإيمان.
الدعوة إلى التوحيد:
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ﴾ أي وحّدوه في العبادة في كلّ مفرداتها ﴿وَاتَّقُوهُ﴾ راقبوه في كل أعمالكم وأقوالكم وعلاقاتكم، وتحمّلوا المسؤوليّة عنها، فأطيعوه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(1)، لأنّ توحيد الله في العبادة، وتقواه في حركة الحياة، هما اللّذان ينظّمان للإنسان أموره، ويحرّكانه في الخط المستقيم، ويوحّدان له منهجه وغايته عندما ترتبط كل القضايا بالله، وتتّجه كل الدروب إليه.
وهذا ما يحترم فيه الإنسان عقله الذي يفكر له في حسن الأشياء وقبحها وصحتها وفسادها؛ ولكنّ المشكلة أنكم أهملتم العقل في أوضاعكم، وجمّدتم تفكيركم عن اتّخاذ القرارات التي تفتح لكم أبواب الخير، وهذا يتمثّل بالخرافات التي ورثتموها من آبائكم: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانَاً﴾(2)، من هذه الأصنام الحجرية المصنوعة من دون أن يكون لها أي معنى في مسألة الألوهية، وكيف تتركون الخضوع لله والانفتاح عليه والتعبّد لربوبيته، وتقبلون على الالتزام بها في ذهنية متخلفة متحجرة لا تنبض بأية فكرة، ولا تنفتح على أي شعور، لأنّ هذه الأصنام لا تختلف عن الأحجار المتناثرة في الأرض، أو الصخور المنحوتة في الجبال. ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكَاً﴾، من هذه الأكاذيب التي تصنعونها وتدعون الناس إليها، وتخضعون لها في دعواتكم الخرافية في الارتباط بالأحجار الصمّاء، بمنحها صفة الآلهة، وبما تثيرونه حولها من أوهام وقداسات لا أساس لها...
والسؤال الذي يوجّه إليكم، والذي يقودكم إلى احترام عقولكم، هو: هل فكّرتم في هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله تفكير عاقل يملك استقامة الرأي؟ وهل دخلتم في مقارنة بينها وبين الله في قدرته وفي حاجاتكم إليه؟
ثم يطرح عليهم مسألة مهمّة مثيرة للجدل حول ما يتطلعون إليه في حياتهم من الحصول على الرزق الذي ينظّم لهم حاجاتهم، ويحقّق لهم غاياتهم، فهل تملك هذه الأوثان في متابعتهم لها أن تمنحهم الرزق الذي يطلبونه؟ ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقَاً﴾؛ لأنهم لا يملكون في ذاتهم أي شيء، ولا يستطيعون تحقيق أي أمر من الضرّ والنفع لأنفسهم، فكيف يستطيعونه لغيرهم؟! فما معنى كل هذا التوجّه إليهم والتوسل بهم والخضوع لهم في قضاء حاجاتكم وتوسعة أرزاقكم مما هو بيد الله وأمره، خالق السماوات والأرض، الذي يهيِّىء للإنسان كل وسائل الرزق، ومنبت النبات، وخالق الحيوان الذي جعله غذاءً للإنسان؟! إنه هو الخالق للكون كله، وهو المنعم على الإنسان بكل النعم الصغيرة والكبيرة. أما هذه الأحجار، فهي مجرد أشلاء متناثرة يحطمها الآخرون، وليس لها من أمرها شيء.
﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ﴾ فهو الرزّاق ذو القوة الكريم، وهو القادر على إنزال الرزق إليكم ﴿وَاعْبُدُوهُ﴾ لأنه ﴿وحده﴾ المستحقّ للعبادة، في ألوهيته المطلقة، وقدرته الشاملة، ورزقه الواسع ﴿وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ لأنه الرب المنعم الذي ترجع كل النعم إليه و﴿إِلَيْهِتُرْجَعُونَ﴾، في يوم القيامة، لتواجهوا الحساب أمامه على أعمالكم، ما يفرض عليكم الارتباط به في حاجاتكم وعباداتكم وفي شكركم لنعمه؛ لأن المسألة في غاية الخطورة على مستوى الوجود والمصير.
هذه هي الدعوة التي دعا إبراهيمt قومه إلى الأخذ بها من خلال أنه رسول الله إليهم. ثم يقول لهم: ﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا﴾ بما جئتكم به، من دون أيّة حجة على التكذيب، فلست أول رسول كذّبه قومه من دون برهان ﴿فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ ولم يسقط الرسول أمام ذلك، لأن دوره هو البلاغ المبين ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ الْمُبِينُ﴾(1)، فإذا استكمل بلاغ الرسالة، فقد أدى مهمته وحصل على رضوان الله، لأن مسألة الهداية الواقعية لا تتصل بالرسول وحده، بل تتصل بالناس وبالظروف الموضوعية والرسالية المحيطة بالرسول.
المعرفة الإيمانية:
ثم يثير أمامهم حقيقة الألوهية في قدرتها على إبداع الحياة وإيقاع الموت، ما يفرض عليهم الانطلاق في المعرفة الإيمانية المرتكزة على القدرة: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أولم يروا في نظرتهم العلمية والبصرية، كيف يحصل إبداء الخلق ثم إعادته، باعتبارهما من سنخ واحد في إيجاد ما لم يكن ﴿إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾(2)، فهو الذي أبدع الوجود كله فلا يعجزه شيء من ذلك، لأنّ من أوجد الحياة من عدم، قادر على بعثها بعد الموت، باعتبار أنّ سرّ إبداع الحياة واحد، فإذا انطلقتم في الفكرة من التجربة الحيّة من خلال ما تشاهدونه من تنوع الخلائق واختلافهم في ألوانهم وأشكالهم وطبائعهم من غير مثال سابق، فإنّ ذلك سيوحي إليكم بعظمـة القـدرة واتّساعهـا وشمولها، الأمر الذي يجعلكم تدركون أنّ عمليـة الإعادة هي نتيجة طبيعية، باعتبار أنها أقل صعوبةً من عملية الإيجاد.
﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(1)، لأن قدرته على النشأة الأولى تفرض قدرته على النشأة الأخرى، كما جاء في قولهتعالى:﴿وَضَرَبَلَنَامَثَلاًوَنَسِيَخَلْقَهُقَالَمَنْيُحْيِيالعِظَامَوَهِيَرَمِيمٌ* قُلْيُحْيِيهَاالَّذِيأَنْشَأَهَاأَوَّلَمَرَّةٍوَهُوَبِكُلِّخَلْقٍعَلِيمٌ﴾(2).
﴿يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾(3)، أي تردّون إليه، فيحاسبكم على أعمالكم، فيعذّب من يستحق العذاب، ويرحم من يستحق الرحمة، لئلا تكون الحياة عبثاً من دون نتيجة أو غاية. ﴿وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ﴾(4)، فأنتم خاضعون لحكمه فيما يقدره ويقضيه في الكون كله، فلا تستطيعون دفعاً لعذابه، ولا ردّاً لقضائه في الدنيا والآخرة.
﴿وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾، لن يستطيع أحد أن يتولّى أمركم من دون الله، بحيث تستغنون به عن الله أو يدافع عنكم، فينصركم مما يريد الله أن يوقعه بكم من العذاب.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِه﴾(5)، لم يؤمنوا بآيات الله، ولا بالرجوع إليه في يوم القيامة، وتصرفوا بذهنية الغريزة لا بروحية المسؤولية، فعاثوا في الأرض فساداً، وابتعدوا عن خط الصلاح والإصلاح، ﴿أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رحْمَتِي﴾، لأن رحمة الله لا تنال الجاحدين له والمعاندين لرسله، ﴿وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، جزاءً على كفرهم وعنادهم.
والظاهر أن الخطاب موجّه إلى النبي wليبلغه لقومه، وليحذّرهم نتائج موقفهم، وليس من كلام النبي، وإلا لكان المناسب أن يقول: من رحمة الله.
والمراد بآيات الله هي الدلائل الدالة على أصول العقيدة من التوحيد والنبوة، أما يأسهم من رحمة الله، وهي الجنة والمغفرة والرضوان، فينطلق من جحودهم بالرحمة الإلهية، أو من طبيعة قضاء الله بأن رحمته لا تنال الكافرين.
﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾على هذه الدعوة الواعية التي تفتح الذات على الله من خلال التأمل العميق والنظرة الشاملة ﴿إِلاَّأَنْقَالُوااقْتُلُوهُأَوْحَرِّقُوهُ﴾، لأنهم لا يملكون الردّ المتوازن الذي يناقش القضايا المطروحة بدقةٍ وعمق، وذلك من خلال فقدانهم الحجة على تأكيد ما ينكرون أو ما يعتقدون به، الأمر الذي يجعل موقفهم موقف الضعيف المهزوم الذي لا يمكنه الدفاع بالأسلوب العقلي، فيدافع عن موقفه بالطريقة الغوغائية العدوانية بالتهديد والقوة.
﴿فَأَنْجَاهُاللهُمِنَالنَّارِ﴾ بأن جعل النار برداً وسلاماً عليه، وكان ذلك معجزة إلهية أكرم الله تعالى بها إبراهيمt﴿إِنَّفِيذَلِكَلآيَاتٍلِقَوْمٍيُؤْمِنُونَ﴾(1)، لأنهم يرون فيها مظهر القدرة الإلهية التي تحوّل النار إلى عنصر بارد لا يشعر الذي يلقى فيها بالحرارة والاحتراق، مما ليس مألوفاً لدى الناس في الأمور العادية، لأنه من خوارق العادة.
تقليد الأمم:
ويتابع القرآن حديث إبراهيم tمع قومه في تفسيره للعلاقات التي تربط بينهم، والتي تنطلق من توافقهم في أوهامهم الوثنية، على أساس المودّة العاطفية التي تجذب الإنسان إلى الإنسان، فيخضع لما يفكر الآخر فيه من دون النظر والتأمّل في هذا التفكير. ﴿وَقَالَإِنَّمَااتَّخَذْتُمْمِنْدُونِاللهِأَوْثَاناًمَوَدَّةَبَيْنِكُمْفِيالحَيَاةِالدُّنْيَا﴾(1)، فلم يكن اتخاذكم لها منطلقاً من اقتناع فكري مبنيٍّ على حجة عقلية، بل كان منطلقاً من علاقات المودة القائمة بينكم في الحياة الدنيا، من خلال القرابة أو الصداقة أو المصلحة، ما يجعل للإلفة دورها الكبير، وللعاطفة أهميتها العليا في تكوين العقائد والعادات والتقاليد.
ثم تتسع المسألة، فتتحوّل إلى عقيدة عامة للأمة، وهذا ما عبّرت عنه الآيات القرآنية الأخرى التي ناقشت تقديس عقائد الآباء والأجداد، وذلك فيما حدّثنا الله به عن إبراهيمt في جواب قومه له: ﴿قَالُواوَجَدْنَاآبَاءَنَالَهَاعَابِدِينَ﴾(2)، وفي قوله: ﴿قَالُوابَلْوَجَدْنَاآبَاءَنَاكَذَلِكَيَفْعَلُونَ﴾(3). ولعلّ هذا هو الذي جعل الكثير من الأمم تعتزّ بتراثها القومي، على أساس طبيعة الارتباط العاطفي بالأرض، واللغة المشتركة التي ينتمي إليها هؤلاء، بحيث يكون لذلك أثرٌ في تقديس المضمون التراثي، بعيداً عما إذا كان حقاً أو باطلاً.
وهكذا أراد إبراهيم ـ النبي ـ أن يؤكّد لهم الأساس اللاعقلاني الذي لا يملك أيّ ثبات في حركة الحقيقة فيما يركزون عليه عقيدتهم وعبادتهم، ليدعوهم إلى تحكيم العقل في ذلك، لأن العقيدة القائمة على المودة سوف تتبدّل نتائجها إذا تبدّلت المودة وتحوّلت إلى عداوة، ما يجعل كل فريق يلقي المسؤولية على الفريق الآخر.
﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ﴾، عندما يكفر بكم هؤلاء الذين اتخذتموهم آلهةً من دون الله ويتبرأون منكم، كما قال الله سبحانه: ﴿كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً﴾(1)، ﴿وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً﴾(2)، فتتراشقون اللعن في النار، ﴿وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾، فذلك هو الجزاء الإلهي للناس الذين لا يملكون الحجّة على العقيدة المنحرفة والعمل السيّىء، بل تكون الحجة لله عليهم. ويبقى للدار الآخرة في جحيمها ونعيمها، دورها الكبير في إثارة الإحساس الإنساني بالخوف من المصير الذي يدفعه إلى الخروج من أجواء اللامبالاة التي تجمّد إحساسه بالمسؤولية، فتمنعه من الانفتاح على الرسالة والرسول.
﴿فَآمَنَلَهُلُوطٌ﴾ ليكون داعيةً إلى الله ومرسلاً من قبله إلى قومه بأمر من الله.
هجرة إبراهيمt إلى الله:
﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾، والقائل هنا هو إبراهيمt، الذي كانت علاقته بالله علاقة الخليل مع خليله، والحبيب مع حبيبه، فقد عاش مع الله في عقله وقلبه وشعوره، وذلك من خلال حضور الله معه في كل حياته، لأنه لم يكن له غيره. وقد جاء في قوله تعالى، فيما يشبه هذه الهجرة الروحية الرسالية، وذلك في سورة الصافات: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾(3)، لأن الله هو الذي يملأ كيانه بالهداية التي تمتد معه في كل مسؤولياته التي كلّفه الله بها، ولذا كانت رحلته إليه وهجرته إلى مواقع القرب منه.
والهجرة إلى الله، هي الخروج إلى الأرض الواسعة التي يملك فيها حرية الحركة في عبادة الله والدعوة إليه والعمل في سبيله، بعيداً عن كل الضغوط التي تمنعه من ذلك، وعن الحلقة المفرغة التي كان يدور فيها من غير جدوى في دائرة قومه الضيّقة.
والهجرة إلى الله شعار إيماني يحمله المسلم في قلبه، ويحرّكه في حياته، ليكون نقطة الانطلاق إلى الانفتاح على المواقع الجديدة التي يأمل فيها الحصول على القوة عندما تحاصره القوى المضادة في نقاط ضعفه المحيطة به لتجمّده عن كل حركة، ليستطيع من خلال ذلك، العودة إلى الساحة من مركز قوة، ليحوّلها إلى ساحة إيمان، والعمل على توسعة آفاقه التي تقرّبه إلى الله والناس، وتقرّب الناس من الله، لأن رسالته لا تقتصر على قومه، بل تشمل كل الناس.
وهكذا رأينا أن هجرة إبراهيمt إلى الله كانت السبب في بنائه للبيت، ليكون مثابةً للناس وأمناً ومسجداً للطائفين والقائمين والركّع السجود، وانطلاقاً للحنيفية التي دعا إليها في تلك المنطقة، مما قد لا يحصل في حال بقائه في دائرة قومه.
وقد نجد في إعلانه ذلك لقومه، إيحاءً إليهم باليقين الراسخ عنده بأنه لن يضيع عندما يتركونه، ولن يذلّ عندما يخذلونه، بل سيجد عند ربه الهدى في حكمته ووحيه، وسيحصل على العزة في قوّته وجبروته، لأن ربه ليس مجرد فكرة تجريدية يخلقها في داخل نفسه كما يخلقون أصنامهم من خلال أوهامهم، بل هو حقيقة تهيمن على الكون كله وتدبره وترعاه وترعى كل موجود فيه، ولن يستطيع أحد أن يرعاه كما يرعاه ربه، أو يحميه كما يحميه الله، ولذلك فإنه مهاجر إليه بعد خذلان قومه له واضطهادهم إياه.
تكريم إبراهيم t:
﴿إِنَّهُهُوَالعَزِيزُالحَكِيمُ﴾، لا يذلّ من نصره، ولا يضيع من حفظه.
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِالنُّبُوَّةَوَالكِتَابَ﴾(1)، أي كرّمنا إبراهيمt، بأن جعلنا النبوة تمتد في أبنائه إسحاق ويعقوب، لما كان منه من تسليم قلبه لله ومن صبرٍ على تحمّل أعباء الرسالة، ولما حمله أولاده في قلوبهم من إيمان وإسلام لله، وفي سلوكهم من التزامٍ بأوامر الله ونواهيه، بحيث استحقوا أن يكونوا موضعاً لكرامة الله، فخصّهم بالنبوة وإنزال الكتاب على أيديهم، فيما أنزله الله على أبيهم إبراهيمt من الصحف.
﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا﴾، فيما أكرمه الله به من الكتاب المنـزل، وفي تخليد السلام عليه وعلى آله في رسالاته، ليكون ذلك ذكراً خالداً له في الناس، ليذكروا روعة الإسلام لله في حياته، وعظمة الجهاد في رسالته، وصفاء التأمل في حركة فكره، ووداعة المحبة في نقاء روحه. ﴿وإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الذين ينالون كرامة الله في رضوانه وجنّته في المجتمع المتوازن الذي يعيشون في داخله روحية صلاحهم، بعيداً عن الاختلاط بالمجتمع غير الصالح، فيما كانوا يعانونه من ضغط وخوف واضطهاد، فها هم في الجنة مسرورون برضوان الله، منفتحون على بعضهم البعض في خير ولطف ومحبة وأخوّة، لم يعرفوا طعمها الحلو في الدنيا كما يعرفونه الآن.
ثم إننا نلاحظ أن الله يوحي إلينا بالحديث عن الأنبياء في اعتبارهم من الصالحين في الآخرة، أن مجتمع الصالحين في الجنة لا ينفصل فيه الأنبياء عن المؤمنين الصالحين، لأنه يتحدث في آية أخرى ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ﴾(2)، ما يوحي بأن الصلاح في الفكر والخط والعمل، هو العنوان الذي يفتح للإنسان أبواب الجنة من خلال الرسالة التي يحملها ويبلغها أو يؤمن بها ويؤيدها ويجاهد في سبيلها، ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾(1).
البراءة الواعية:
ويبقى منطق إبراهيم tمع أبيه وقومه، يؤكد البراءة منهم، من خلال التبرؤ من وثنيتهم المتخلفة المضادة لحقيقة التوحيد، ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ﴾(2)، وهذا ما يجعل البراءة من الأوثان براءةً ممن يعبدونها، لأن سلوكهم الانحرافي التضليلي هو الذي يؤدي إلى النتائج السلبية على المجتمع. ولكنه في الوقت الذي يعلن هذه البراءة، يرتفع في وعيه العقلي إلى الإيمان بالله الخالق الذي فطره وأوجده من العدم، والذي حشد في كيانه كل عناصر الهدى المتمثل بالإسلام لله في أموره، وفي امتداده في ذريته، كإرث توحيدي منفتح على الحقيقة الصافية؛ ﴿إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ* وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(3).
وتتحرك هذه البراءة بشكل صارخ لتشمل المجتمع المؤمن الذي يحيط بإبراهيمt، لتدعوه إلى الاقتداء بهذا النبي في منطقه: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُمِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً﴾(4)، لأنّ هذا الاختلاف القاطع في قضية التوحيد والشرك، قد ألغى كل ما يجمع بيننا وبينكم. ﴿حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ وتنتقلوا من دائرة الشرك إلى دائرة الإيمان بالله الواحد في آفاق التوحيد الخالص، لتكون العلاقة بيننا علاقة الفكر الواحد الذي ينفتح على الله ولا ينفتح على غيره...
ولم يبق في الواقع الذي يتحرك فيه إبراهيمt، إلا أن يدعو الله بالهداية لأبيه: ﴿إلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ ليهديك الله إلى سواء السبيل، انطلاقاً من عاطفة الابن لأبيه في الدعاء بأن يفتح الله عقله وقلبه على الإيمان، لا أن يغفر الله له وهو مصرٌ على الشرك. ولكن إبراهيم tيبقى في أفق التمني الروحي العاطفي: ﴿ومَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾(1). ويبقى الانفصال بين الموقفين، لأنه لا لقاء بين الله والأوثان، وبين المؤمنين والمشركين، وتبقى الدعوة تفرض نفسها على حركة النبوة في خط الإيمان. وللحديث بقية في الأسبوع القادم إن شاء الله رب العالمين.


























    رسالةممتدة
    الإسلامعنوانالرسالات
    الإسلامعنوانالدين
    الموتمسلمين
    الامتحانالصعب























رسالة ممتدة:
كان إبراهيمt مسلماً بكلِّ ذاته، فقد أسلم وجوده الحركي لله في كل أموره، لأنّ طبيعة العبودية المطلقة لله، إذا تجسّدت في الإنسان، فلا يبقى له شيء لنفسه مما تدعوه إليه في أموره الخاصة التي تنطلق من ذاتية غرائزه، ولا يبقى للآخرين أي موقع في حياته مما يفرضونه عليه أو يطلبونه منه؛ وهذا هو الذي عبّر عنه الله في كتابه: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾(1). وربّما كان القول من الله وحياً أو إلهاماً، وربما كان فكراً وشعوراً وإحساساً يتحسّسه من داخل روحيته الذاتية وفكره الإيماني، بأن الله يريد منه أن يسلم أمره إليه، فلا تكون له كلمة أمام كلمته، ولا خطّ غير خطّه، ولا قضاء إلا قضاؤه، ولا منهج إلا منهجه؛ فذلك من وحي الإيمان الصافي النقي، والعقل المنفتح على الحقيقة الذي يسمع من خلاله أوامر الله ونواهيه ووحيه إليه. وقد عُبّر عن العقل في بعض الكلمات بالرسول الباطني.
وكانت استجابة إبراهيم tلوحي ربّه سريعة، حيث التزم بالإسلام بشكل مطلق: ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فعاش الإسلام لله بكلّ عمق الإيمان واستقامة الطريق ووضوح المنهج وصفاء الشعور وانفتاح الروح. ولم يكن إسلامه إسلام الكلمة المنطلقة من اللسان، البعيدة عن القلب، أو إسلام الرغبة والرهبة من دون اقتناع، أو إسلام الشكل من غير مضمون، فذلك هو الإسلام الذي لا يعيش حركة الوجود في الذات؛ بل هو الصورة في الظاهر، لا الحقيقة في الباطن. ولكنّ إسلام إبراهيمt كان الإسلام الكلي، لأن الله يريد من الإنسان أن يُخلص له بكله، ويستغرق في عبوديته له، كي لا يبقى لأحد منه شيء حتى لنفسه، ليكون محياه ومماته له.
وقد سبقت هذه الآية آيةٌ أخرى: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾(1)، وربما كان المراد بهذا الاصطفاء، اختياره نبياً ورسولاً وإماماً وداعياً إلى الله وإلى الحق من بين الناس كلهم، ذلك لتميّزه عنهم بعقله وروحه واستقامته وإخلاصه لله، وهكذا أراد الله له أن يملك الموقع القوي المميّز، الذي يملك زمام الأمور في مسؤوليته الشاملة في الحياة، ليكون رسول الله إلى الإنسان، ليخرجه من الظلمات إلى النور، ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، فهو في هذه الزمرة الطيبة الطاهرة التي انطلقت في الدنيا لتجسّد الصلاح في روحيّتها وتفكيرها وسلوكها واستقامتها على خطّ الله. وكان إبراهيمt قد تمنّى أن يلحقه الله بهؤلاء لينال الدرجة العليا التي نالوها، وليعيش القرب إلى الله الذي عاشوه، وليبلغ النعيم الذي بلغوه. وهذا هو التعبير الكنائي عن صلاحه في الدنيا الذي يجعله من الصالحين في الآخرة، وقد ارتفع في هذه الدرجة حتى اتخذه الله خليلاً.
وهناك سؤال: هل كان الاصطفاء قد تمّ بعد أن أمره الله بأن يُسلم، باعتبار أن كلمة «إذ» هي في موضع نصب اصطفينا؟
قد يكون الأمر كذلك على أساس الجانب التعبيري، ولكنّ ذلك ليس ضرورياً، فربما كانت المسألة منطلقةً من الإشارة إلى أنّ سبب هذا الاصطفاء هو إخلاصه لله في إسلامه المطلق له، لأن الله يختار لرسالته الإنسان الذي يعيش عمق الصفاء الروحي الذي يؤهّله لاحتضان روح الرسالة بفكره وكلّ كيانه.
وربما كان ذلك بدايةً للحديث عن حركته الرسالية التي ابتدأت من إحساسه الذاتي لتمتدّ في بنيه، ما يوحي بأنه استطاع أن يجذّرها في الجيل الذي جاء بعده من خلال تجذّرها في مهمته الرسالية.
الإسلام عنوان الرسالات:
ولم يقتصر على نفسه في إسلامه هذا، بل وصّى بها بنيه، لأن الإسلام هو الذي اصطفاه الله للناس، فلا بد لهم من أن يحيوا بالإسلام ويموتوا وهم يحملون كلمته. وحملها يعقوب ـ حفيد إبراهيم ـ وصية يختم بها حياته، فلم يقف في اللحظات الأخيرة ليتحدث عن شؤونه الحياتية فيما يخلفه من إرث مالي، كما يتحدث الناس إلى ورثتهم في ذلك عندما يفكرون في الوصية إليهم، بل وقف ليطمئن على انسجامهم مع الخط العبادي التوحيدي في إسلامهم لله، ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾، فقد انطلقت هذه التجربة في حياة الجد في حديثه مع بنيه، وفي حياة الحفيد في وصيته لأولاده، في دلالة على الأهمية الروحية للرسالة، والتي لم يكتفيا بالجهاد في سبيلها في حياتيهما، بل انطلقا ليدفعا بها للاستمرار في الجيل الجديد بعد وفاتهما، لأنّ الوصية تعبّر في مضمونها عن القلق النفسي الذي يشعر به الإنسان تجاه ما أوصى به ومن أوصى له.
﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾، أي اختار الدين لكم منهجاً للنجاة في الحياة، ووسيلةً للسعادة في الآخرة، من خلال برامجه التي تكفل لكم العيش الرغيد والسلامة المريحة، ومن خلال انفتاحه على معرفة الله وطاعته للوصول إلى رضوانه، وذلك من خلال قاعدة واحدة، وهي إسلام القلب والوجه والحياة كلها لله، ليلتقي الإسلام بمعنى العبودية الحقة الخاضعة للألوهية المطلقة؛ فليكن هذا الدين ـ الإسلام ـ هو الخط المستقيم الذي تتحركون فيه في حياتكم كلها، فلا تنحرفوا عنه أو تتركوه إلى غيره مهما اشتدّت الضغوط واهتزّت الأرض تحت أقدامكم، وتنوّعت الإغراءات حتى نهاية حياتكم؛ ﴿فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾(1)، لتلتقوا بالله على خط الإسلام عندما يقوم الناس لربّ العالمين.
﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾، واجتمع إليه بنوه الإثنا عشر، وهم الأسباط ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ﴾، سائلاً سؤال الإنسان الذي يبدي لهم رغبته الأخيرة في سلوكهم مستقبلاً في الخط الذي بدأه إبراهيم tفي إسلام الروح لله، وحمله كمسوؤليةٍرساليةٍ يبلغه للناس، ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾؟ هل تتراجعون عن هذا الخط المستقيم لتتبعوا مجتمعاتكم الوثنية، أو تستمرّون في السير عليه لتنسجموا مع خط آبائكم وأجدادكم من الرسل؟
فكان الجواب الذي يبعث الاطمئنان في نفسه، ليموت وهو قرير العين مطمئنّ النفس باستمرار الخط الرسالي في التوحيد الخالص لله من بنيه من بعده: ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِدَاً﴾، فلن نشرك بعبادته غيره، ولن نؤمن بإله سواه، فهي العبادة الخالصة لله الواحد الأحد، التي تجعل الحياة كلها في نطاق الإسلام، ليكون الإسلام هو الطابع الذي يطبع شخصيتهم في كل مجالاتهم الفكرية والعملية. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(2)، في الأقوال والأفعال والعلاقات والمواقف، وفي كل مجالات الحياة العامة والخاصة.
الإسلام عنوان الدين:
وامتدّت كلمة الإسلام لتكون عنواناً للدين الذي أرسل الله به النبي محمداًw، وذلك في قوله تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾(3)، فقد انطلقت شرائع الأنبياء بعد إبراهيمt من القاعدة العامة التي أكدها في مبادىء شريعته العامة، بحيث كانت الرسالات اللاحقة بمثابة التفاصيل المتنوّعة لتلك المبادىء، وهو أوّل من أسلم لله بالإعلان الكلي الذي انطلق من عقله وروحه، وتحرّك في كل مواقفه.
وقد أكّد القرآن صفة الإسلام للنبي إبراهيمt رداً على اليهود والنصارى في نسبتهم إبراهيم إليهم، وذلك قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفَاً مُسْلِمَاً وَمَا كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودَاً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفَاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(2).
ونستوحي من ذلك، أن الحنيفية المنفتحة على الإسلام التوحيدي، هي الملّة التي لا بدّ لمن يؤمن به أن ينتمي إليها، وأن أقرب الناس إليه هم الذين اتّبعوه في عملية الانتماء العقيدي التوحيدي، وفي مقدمتهم النبي محمدw وأتباعه، وذلك هو قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾(3). وقد انطلق هذا الانتماء في إيمان المؤمنين واتّصافهم بصفة المسلمين، والتزامهم بالإسلام وإيمانهم بالرسل كلهم، لأن ذلك هو الذي يؤصّل هذه الصفة، لأن الرسل يمثّلون الإسلام لله في رسالتهم وفي حركة الدعوة إلى الله.
وهذه هي العقيدة التي أريد للمسلمين أن يؤمنوا بها ويلتزموها، وذلك هو قوله تعالى: ﴿قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(4).
وهكذا نجد الإسلام متمثلاً بالإيمان بكل الرسل والرسالات، انطلاقاً من وحي الله: ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾(1)، وقال النبي والمؤمنون معه في جدالهم مع أهل الكتاب: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾(2). وفي ختام جدالهم معهم، يقول لهم الله تعالى: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(3).
وقد أراد الله في وحيه للنبي محمدw، أن يكون الالتزام بالإسلام الذي تمثّله ملّة إبراهيم، التزاماً شمولياً وذلك في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾(4).
ويؤكد نوحt الأمر الإلهي، بأن يكون في دعوته المسلم الذي يريد للناس أن يقتدوا به، وذلك قوله تعالى: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(5). وتتمثل الكلمة الآمرة في قوله تعالى عن النبي محمدw، أن يكون المسلم في حركة الدعوة ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(6)، وأن يكون المسلم الأول: ﴿وَأُمِرْتُلأَنْأَكُونَأَوَّلَالمُسْلِمِينَ﴾(7).
الموت مسلمين:
وتنطلق الدعوة من الله إلى الإنسان بأن لا يموت إلا وهو من المسلمين، وذلك في عدة مواقع من القرآن، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾(1)، وقولـه تعالى ـ على لسان السحرة الذين توعّدهم فرعون بالعذاب لما آمنوا ـ ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾(2). وقوله تعالى في دعاء يوسفt: ﴿أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾(3).
وهكذا انطلقت هذه الصفة التي تمثل عنواناً للدين كله، باعتبار أنها تلخّص كل القاعدة التي يرتكز عليها، وكل التفاصيل المتنوعة التي تنطلق منه، وهذا ما أراد الله أن يختصره في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾(4)، وقوله تعالى: ﴿فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ﴾(5)، وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(6). وهكذا كان الإسلام الدين الواسع الذي انطلقت به الأديان كلها، وكان النبي إبراهيمt هو من أعطى دعوته هذا العنوان الكبير، وأراد لأبنائه أن يلتزموا به، ليكون امتداداً في كل الواقع الذي يعيشون فيه، وليكونوا القدوة لكل الناس في الإيمان به...
الامتحان الصعب:
وقد عاش النبي إبراهيمt تجربة الإسلام في أشدّ التجارب صعوبةً، كما عاشها ولده إسماعيل أيضاً، وهذا ما فصّله القرآن في هذا الفصل من الآيات في سورة الصافات: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾(1)، فقد عزم على الهجرة من بلده (أور) الكلدانية، وهي تقع الآن في الناصرية في العراق، إلى بلاد الشام، ليتفرّغ لعبادة ربه، وليبدأ تجربةً جديدةً من تجارب الدعوة في موقع جديد يكتشف فيه ساحة مميزة يملك فيها حرية الحركة لما يريد أن يقوله ويفعله.
وهناك تزوّج واستقرّ به المقام، فطلب من الله أن يرزقه ولداً صالحاً، حيث كان يتوجه بحاجاته إلى ربه من خلال روحية الإيمان التي تجعل الإنسان المؤمن ينفتح على الله في كل حاجاته، باعتبار أنه لا يملك أيّ شيء إلا منه سبحانه، ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(2)، فهو لم يطلب أيّ ولدٍ من خلال إرضاء غريزة الأبوة في داخله، بل أراده ولداً صالحاً يتحرك في طاعة الله، ليعزز خط الصلاح في الحياة المرتكزة على قاعدة الإيمان بالله، لأن المؤمن الذي لا يبتعد عن الرغبات الطبيعية في شخصيته، يبقى دائماً في هاجس العلاقة بالله وبالحياة الإيمانية في كل قضاياه. واستجاب الله دعاءه، فرزقه إسماعيلt﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾(3)، بما تمثله هذه الصفة الإنسانية من وداعة وهدوء طبع، وصفاء روح، وسعة صدر، وانفتاح على الناس كلهم، ولكن الله كان يعدّ له مفاجأة مدهشةً صعبة.
فقد أراد ابتلاءه وامتحانه في محبته له، ليظهر فضله للناس، وليكون قدوةً لهم في المواقع التي يبحثون فيها عن القدوة الحسنة الرائدة في أعلى صورها في المعنى المتجسّد للإيمان، ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾(4)، وأصبح يتحرك معه في غدوّه ورواحه، بعد أن بلغ سنّ الرشد الذي يستطيع معه السعي في حاجاته وحاجات الآخرين، ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾، وهذا، في وعي النبوة، أمرٌ إلهي يدفعه إلى تنفيذ هذه المهمة امتثالاً لأمر الله، لأن الرؤيا الصادقة التي قد تحدث للنبي، تمثل أسلوباً من أساليب الوحي الإلهي، ﴿فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾، لأن المسألة خطيرة بالنسبة إليك، وهي تدفعك إلى التفكير تفكيراً عميقاً في الموضوع، في عملية الاختيار بين السلب والإيجاب، وأنا والدك الذي لا يحب الإقدام على التنفيذ إلا بعد أن تأخذ قرارك بالإيجاب بالمقدار الذي يتعلق بك، ليكون الموقف مني ومنك واحداً في الامتثال لأمر الله مع صعوبته الذاتية بالنسبة إلينا جميعاً.
ولعلّ إبراهيمt كان يعرف أن ولده سيستجيب لنداء الله، لما يعرفه من إيمانه بالله وإسلامه له وصلاحه في خط الشريعة الحقّة. ولم ينتظر إبراهيم tطويلاً، فقد أجابه ولده فوراً بشكل حاسم ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾، فإذا كانت هذه إرادة الله، فلتكن إرادته هي الحاكمة علينا في أمورنا كلها، لأنا لا نملك من أنفسنا إلا ما ملّكنا إياه ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾، فلن أجزع ولن أتهرّب، بل سأقدّم نفسي للذبح من موقع المستسلم لله، الخاضع لأمره، الخاشع في عبادته، فتلك هي إرادتي، وسأثبت عليها بمشيئة الله، لأن كل ما أتحرك به أو أتصف به هو هبةٌ منه في اختياره لعباده.
﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾ أمرهما إلى الله ورضيا بقضائه ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾، أي صرعه على أحد جانبي وجهه، وهو الجبين وبدا إبراهيم tمستعداً للتنفيذ والقيام بمقدمات الذبح، ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾(1)، فلم تكن الصورة في الرؤيا أنه ذبح ولده، بل كانت أن يبدأ بالعملية بطريقة إعدادية توحي بالجدية والانتهاء بها إلى نتيجتها الطبيعية، كما أن الأمر الصادر من الله ليس أمراً جدياً، بل هو أمر امتحاني للاختبار، ولإظهار الموقف الإسلامي البارز في حركة الإيمان بالله والاستسلام له بشكل مطلق، فيما يتمثل به موقف إبراهيم tوإسماعيلtفي التحرك نحو الامتثال، ولم تكن هناك مصلحة حقيقية في ذبح إبراهيم tلولده إسماعيل tكفعل معيّن في ذاته.
﴿إِِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين﴾، جزاء المطيعين، والجزاء الأحسن في الدنيا والآخرة، بعد أن يبتليهم الله ابتلاءً شديداً، ويمتحنهم في موقع الطاعة بالموقف الصعب، فينجحون في الامتحان بفعل ما يظهرونه من موقف عظيم في الطاعة لله ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ﴾(1)، لشدّة ما كان ابتلاء إبراهيم tشديداً ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾(2)، وقد ذكرت الروايات أن جبرئيل جاء بكبش عظيم من عند الله تعالى ليكون فداءً عن إسماعيلt، ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ* سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾(3) كرمز لاحترام موقفه وتخليده في حياة الناس، ليكون ذلك عبرةً ودرساً للآخرين، فيما يريد الله تعالى أن يؤكده في موقفهم الإسلامي في طاعته، وتحيةً للقدوة الرائدة المتمثلة في شخص هذا النبي العظيم الذي تقدم بكل وداعة الإيمان، وصفاء الإسلام، وقوّة الإخلاص لله، ليذبح ولده الذي تجاوب معه، فاستعد لتقديم نفسه قرباناً، فيما يريده الله ولأبيه أن يجسداه من طاعة ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾(4)، الذين يتحركون من قاعدة الإيمان ليؤكدوا صفة العبودية لله كموقف حيّ للطاعة والانقياد. والحمد لله ربّ العالمين.



























    الروحيّةالعباديّةفيبناءالبيت
    همّالمستقبلالرساليّ
    مقامإبراهيمومظهرالتكريمالإلهيّ
    تشييدالبيتعلىالتوحيد
    الحجالأكبر
    دعاءإبراهيمt























كانت مهمّة النبي إبراهيمt الجديدة، بعد التجربة الصعبة التي خاضها مع قومه في مواجهة الصنميّة التي يعيشونها، هي أن يؤسّس أوّل بيت للعبادة في المنطقة، وفق الأسس التي تجذب الناس إلى الإقبال عليه والتعبّد في ساحته، من خلال ما ينفتح فيه الإنسان على الله في فروض العبادة، بالركوع والسجود والابتهال إلى الله. وقد بدأ العمل فيه مستعيناً بولده إسماعيل tفي عملية البناء بشكل مباشر.
ونستوحي من أكثر من آية، أن الله تعالى هو الذي أوحى إلى نبيّه إبراهيمt بذلك، لأنّ الله أراد قيام الكعبة في هذه المنطقة الجرداء، لتكون البيت العالمي الذي كلّف الناس أن يحجّوا إليه ويقصدوه من أقاصي الأرض؛ وهكذا كانت البداية.
الروحيّة العبادية في بناء البيت:
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾، فكانا يقيمان الأسس، ويرفعان البناء، في روحية عبادية تتجاوز الجانب المادي إلى الجانب الروحي، فقد كانا يمارسان دورهما في تشييد البيت الحرام في حالة تعبّدية، كما لو كانا يصلّيان لله في ذلك، ويطلبان من الله أن يتقبّل منهما عملهما فيما يقومان به، تماماً كالمؤمن الذي يصلي لربه راجياً القبول: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾، فنحن نستجيب لك فيما أوحيت به إلينا، وفيما ألهمتنا القيام به امتثالاً لأمرك وطاعةً لك، ﴿إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(1)، فأنت تسمع ابتهالاتنا وتسابيحنا ودعواتنا، وتعلم ما تختزنه ضمائرنا في توحيدك والإخلاص لك، وإيجاد الوسائل التي تجذب الناس إلى الانفتاح عليك في عملهم العبادي الخالص لك.
وربما نستفيد من قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى للْعَالَمِينَ﴾(1)، أنّ هذا البيت الحرام، هو المسجد الأول الذي لم يسبقه مسجد آخر قبل بناء إبراهيمt وإسماعيلtله بأمر من الله، وأنه المسجد العالمي الذي تعبّد الله الناس كلهم بالحجّ إليه والطواف به والتعبّد فيه.
﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾، في امتداد حياتنا، بحيث نتمثّل الإسلام في أقوالنا وأفعالنا وعلاقاتنا ومواقفنا في مستقبل حياتنا، كما كنا في الماضي والحاضر، وذلك لأن الإسلام لا يمثّل حالة واحدة في واقع الإنسان، بل هو حالة متحركة في كل أوضاعه، انطلاقاً من القاعدة التي ارتكزت عليها جذور الإنسان العقيدية والروحية، الأمر الذي يشير أيضاً إلى أن إبراهيم وإسماعيل كانا مسلمَيْن منذ البداية.
﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾، لأنّ ما نفكّر فيه وندعو إليه في التزامنا بالإسلام التوحيدي، هو أن يمتدّ ذلك في ذرياتنا من خلال التربية الواسعة العميقة، والمراقبة الواعية لهم في البيئة التي يتحركون في داخلها، ليكون الانتماء الإسلامي متحركاً في أجيالنا المستقبلة جيلاً بعد جيل، لأنه ليس من الطبيعي أن نحمل الإسلام رسالةً للناس كافة، ثم ينحرف بعض أبنائنا عن السير في خطه المستقيم، فنحن مسؤولون عن الاهتمام بهذه المسألة في المستقبل الذي نملك الانفتاح عليه، كما كنّا مسؤولين عن ذلك في الماضي الذي عشناه.
﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾، لنتعلم من وحيك الذي توحي به إلينا في تعاليمك الشرعية، تفاصيل حجّنا وعبادتنا، حتى نملك وضوح الرؤية للمسؤوليات الملقاة على عاتقنا في مواقع طاعتك التي نحصل فيها على مواقع القرب إليك، ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(1)، بما تعنيه التوبة في الجانب الروحي من الحصول على رضاك والاندماج في الإحساس بعظمتك، حتى وإن لم نرتكب ذنباً، بل انسجاماً في ذلك مع كل ما يرضيك، وذلك من خلال ما تختزنه التوبة من الإحساس العميق بخضوعنا لك، وخشوعنا بين يديك.
همّ المستقبل الرساليّ:
ثمينطلقبعدذلكدعاؤهمافياتجاهالمجتمع المستقبلي الذي سوف يحيط بالبيتالحرامويحجّإليهويقصدالسكنى والاستقرار في رحابه، بأن يرسل الله إليهم رسولاً من داخلهم، يفهمهم ويفهمونه، وتلتقي عقولهم مع عقله في أسلوبالدعوةإلىالله:﴿رَبَّنَاوَابْعَثْفِيهِمْرَسُولاًمِنْهُمْيَتْلُوعَلَيْهِمْآيَاتِكَ﴾،التي توحي إليهم بكل الشرائع والمفاهيم والأفكار والمناهج والأهداف.
﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ الذي يمثل خطّ النظرية العام في المنهج الرسالي للإنسان والحياة، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ التي تمثل حركة التطبيق العملي للنظرية، فيضعون الأشياء في مواضعها، ويتحركون بها في مسارها الطبيعي، ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾، بما تمثله التزكية من تصفية النفوس وتطهيرها من الشرك، ومن كل القذارات الروحية والأخلاقية التي تشوّه إنسانيتهم، وتربك خطواتهم، وتبتعد بهم عن التصور والسلوك السليم، ﴿إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾(2)، الذي لا ينتقص أحد من عزته، والذي لا يبتعد عن مواقع الحكمة، فقد جعل لكل شيءٍ قدراً، ووضع كل شيء في موضعه، انطلاقاً مما يصلح الحياة والإنسان، ويجنبهما المفاسد في كل حركة الواقع.
ويمنح الله البيت الحرام خصوصية لا تتوفر لغيره: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ﴾، ومقصداً لهم، بحيث يحجّون إليه من كل مكان، لما جعله له من القداسة الروحية في انفتاحهم عليه، باعتباره مركزاً للعبادة، وموضعاً للّقاء بين المؤمنين، في عملية تواصل وتعارف وتعاون. وربما كان المراد من كلمة ﴿مَثَابَةً لِّلنَّاسِ﴾، أنه المكان الذي يقصده المؤمنون ليحصلوا على الثواب من خلال الحجّ إليه والعبادة فيه، ﴿وَأَمْناً﴾ أي يأمن فيه الناس على أنفسهم، فلا يعتدي عليهم أحد في اضطهاد أو جرح أو قتل، فقد أراده الله ساحةً للسلام يملك فيها الإنسان حرية الحركة بعيداً عن أي اعتداء من أي أحد.
وقد تحوّل في وجدان الناس إلى موقع للأمن، حتى إن الإنسان يرى قاتل أبيه في ساحته فلا يعرض له بسوء، وهذا ما تحدّث الله عنه في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَْ﴾(1).
مقام إبراهيم ومظهر التكريم الإلهي:
وقد كرّم الله إبراهيمt فيما قام به من جهد عمليّ في بناء البيت، وبما اختزنه ذلك من روحية عالية، فأراد للناس أن يتخذوا مقامه الذي كان يقيم فيه مصلّى لهم ﴿وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى﴾ يؤدّون فيه ركعتي الطواف بعد الطواف، ليتذكروا هذا النبي العظيم الذي أعطى كل حياته لله، عندما أسلم نفسه له، فلم يبقَ لنفسه ولا لغيره شيء من نفسه، بل كان بكل ذاته لربه.
﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ من كل ما يمسّ معنى العبادة لله مما يرتبط بالشرك، كالأصنام، ليكون الله وحده هو الذي يتوجّه الناس إليه بالعبادة، وليتطهروا في هذا البيت من كل القذارات العبادية في عبادة غيره، ومن كل القذارات الروحية التي قد يمارسها الناس في تقاليدهم وعاداتهم بعيداً عن الله، لأن المطلوب هو أن يكون انفتاحهم الروحيعلىاللهوحده...﴿لِلطَّائِفِينَ﴾الذينيجدون في الطواف به والتحرك فيه معنىً يتجاوز المعنى المادي إلى المعنى الروحي الذي يرتفعون فيه في تسابيحهم وابتهالاتهم، فكأنهم يطوفون برحمة الله، ويتطلعون إلى مواقع القرب منه، ﴿وَالْعَاكِفِينَ﴾ الذين يتعبدون الله بعبادة الاعتكاف داخل المسجد، ﴿وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾(1) الذين يعبّرون عن عبوديتهم لله بالخضوع الجسدي الحركي في صورة الانحناء أمامه بما يمثله الركوع، أو في الانسحاق الكلي بين يديه بما يمثله السجود، بحيث يشعر الساجد بأنّ كل كيانه يسجد لربه، ولا يقتصر على الصورة التي تتمثل بإلصاق الجبهة على الأرض.
ويعود إبراهيم tفي ابتهالاته إلى الله تعالى، ليطلب منه أن يعبّىء الناس الذين يسكنون حول البيت، والذين يقصدونه، بالشعور المسؤول بالسلام الذي تفرضه قداسة البيت، بحيث يحافظون عليه في سلوكهم على مستوى علاقاتهم المتنوعة، بعيداً عن الحساسيات التي عاشوها وورثوها واختزنوها في أنفسهم، ليكون بلد الأمن الذي يطمئن الناس إليه في إقامتهم فيه أو قصدهم إليه...
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً﴾ يأمن فيه الناس على حياتهم وعيشهم ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ التي تشبع جوعهم، وتكسو عريهم، وتحقق حاجاتهم، ليستريحوا إلى الإقامة فيه، فلا يشكو أحدٌ منهم من فقر أو جوع أو حرمان، ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾، لأن النبي إبراهيمt أراد لهذا البلد الذي بنى المسجد فيه، أن يكون بلد العبادة وبيت الإيمان وساحة الانفتاح على الله، فليس لغير المؤمنين أيّ دور فيه، لأنهم بعيدون عن رحمة الله لبعدهم عن الإيمان به.
وقد استجاب الله تعالى دعاءه، وأكد له أن الرزق الذي يفيض به على المؤمنين قد يشمل الكافرين الذين قد يمتعهم قليلاً من خلال حكمته التي تشمل الناس جميعاً، ﴿قالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً﴾ في حاجاته المادية والمعنوية، لأن الدنيا ليست هي الأساس في قرب الناس وبُعدهم في مسألة الإعطاء والمنع، بل إن الدار الآخرة هي التي يثيب الله فيها عباده المؤمنين الصالحين، ويعاقب الكافرين المتمردين الذين لن يجدوا فيها من الخير ما وجدوه في الدنيا، فمن كفر ورزقه الله من الثمرات في الدنيا، فسوف يواجه الآخرة بطريقة أخرى، ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾(1) من خلال سخط الله عليه وغضبه منه.
تشييد البيت على التوحيد:
وقد حدّد الله تعالى لإبراهيم tمكان البيت، ليقوم بتشييده على أساس الإيمان التوحيدي والالتزام بالربوبية المطلقة، هذا إلى جانب تطهيره من كل ما يبتعد عن معنى العبادة الخالصة ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾(2) له. ونلاحظ أن الله تعالى يوحي إلى إبراهيم tفي هذه الآية ـ كما فيما سبقها من الآيات ـ ببناء البيت على أساس التوحيد، والابتعاد عن الشرك في العبادة، ليكون في موقع الطهارة الروحية لا في موقع القذارة، وليكون بناء أيّ موقع من مواقع العبادة، مرتكزاً على أساس التوحيد في القيم الروحية، بحيث لا يشعر الدّاخل إلى هذا البيت بأنه يمارس العبادة ممارسةً عاديةً، بل يكون في قيامه وركوعه وسجوده وطوافه ملتزماً بكل قيم التوحيد في عبادته.
ويلتفت إبراهيم tإلى المجتمعات الوثنية التي نشأ فيها وعاش الصراع مع أهلها، بمن فيهم أهله القريبون، وإلى المنطقة التي تحيط بالبلد الحرام والبيت الحرام، ويبتهل إلى الله ـ من جديد ـ أن يجعل هذا البلد بلد الأمن والسلام، ليعيش الناس فيه في راحة واطمئنان، بعيداً عن أية حالة سلبية أو عدوانية: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا البَلَد آمِناً﴾. ثم يدعو الله إلى أن يبقى في جذوره الفكرية الذاتية موحّداً، وأن يجنّبه ويجنّب أولاده عبادة الأصنام، تأكيداً للاستمرار في إسلامه لله، وتوحيده له في الألوهية، ورفضه للشرك كله، لا خوفاً من طروء الانحراف العقيدي على ذاته، بل للتدليل على عمق إخلاصه للمبدأ التوحيدي، ورفضه لأيّ حالة مضادّة...
﴿وَاجْنُبْنِيوَبَنِيَّأَنْنَعْبُدَالأَصْنَامَ﴾(1) مؤكّداً في ذلك خطر هذه الأصنام في وجودها الاجتماعي على حياة الناس البسطاء، من خلال اعتقادهم بها، وجعلها في موقع الربوبية أو القريب من الربّ في أسرارها الخفية... ﴿رَبِّإِنَّهُنَّأَضْلَلْنَكَثِيرًامِنَالنَّاسِفَمَنْتَبِعَنِيفَإِنَّهُمِنِّيوَمَنْعَصَانِيفَإِنَّكَغَفُورٌرَحِيمٌ﴾(2) إذ فاضت رحمتك ومغفرتك عليهم بهدايتهم إلى الطريق المستقيم في نهاية المطاف.
الحج الأكبر:
وقد انتهت مهمة إبراهيم tفي بناء البيت وتشييد البلد من حوله، وأراد السفر إلى مكان آخر ليقوم بمهمة الدعوة، فأسكن بعض أهله هناك، ﴿رَّبَّنَـا إِنِّـي أَسْكَنـتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾، من دون أن أوفّر لهم حاجاتهم الغذائية، لأني أريد أن يكون ذلك دافعاً للآخرين للقدوم إلى هذا البلد والاقتداء بهم في الإخلاص لك في العبادة، وقـد تركتهـم لرحمتـك التي تفيـض على العباد بالخير ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْـوِي إِلَيْهِـمْ وَارْزُقْهُـم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾(1)، عندما ينفتحون على نعمك، ويعيشون في ظلّ رحمتك.
ولم يكن البيت الحرام مجرّد مسجد محدود في مهمّاته المحلية، ولكنه كان ـ كما أراده الله ـ مسجداً للعالم كله، بحيث تشد الرحال إليه بالحج لكلّ من يستطيع الحجّ والقيام بفرائضه، وذلك في نداء الله تعالى لإبراهيم tبأن يقوم بالدعوة إليه، وذلك هو قوله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾(2). وقوله تعالى: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾(3).
وبذلك أكّد الله تعالى فريضة الحج على كل مستطيع: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾(4). وهكذا استكمل النبي إبراهيمt رسالته في بناء البيت والدعوة إلى الحج، وحقّق الممارسة التوحيدية، لتبقى مسؤولية الناس في كل زمان ومكان، وهذا ما منحه الميزة الروحية الشاملة في أداء رسالته في تنوّع مواقعها، وفي حركتها في مدى التاريخ إلى قيام الساعة.
دعاء إبراهيم t:
وفي ختام الحديث، نلتقي بما ذكره الله من دعاء النبي إبراهيم: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾(5). وجاء في تفسير الميزان، قال: وفي الآية دليل على أنهt لم يكن ولد آزر المشرك، فإنه ـ كما ترى ـ يستغفر لوالديه وهو على الكِبَر وفي آخر عهده. وقد تبرّأ من آزر في أوائل عهده بعدما استغفر له عن موعدة وعدها إياه في قوله تعالى: ﴿وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ﴾(1).
وفي ضوء ذلك، فقد ذهب إلى أن آزر هو عمّه، وليس أباه، ولكن الظاهر أن كلمة العم بأفراده لا تطلق على الأب، ولاسيما أن القرآن قد ذكر اسمه بصراحة، فكيف نفسّر استغفاره له؟
ويمكن الجواب عنه، أنه قد آمن في آخر أيامه، وابتعد عن الالتزام بالشرك، بحيث تكون هذه دلالة الآية، وربما كان الاستغفار على أساس الإحساس بالرحمة لوالديه، لأنه لم يكن بهذه المثابة من الابتعاد عن الله، ولكنّ قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾(2) لا يتناسب معه. والله العالم. والحمد للّه ربّ العالمين.































    ملّةإبراهيمt
    الإسلامالمطلقلله
    الحنيفيّة
    اطمئنانالإيمان























يستكمل سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، في ندوته الأسبوعية، حديثه عن الخصائص التي اختصّ الله تعالى بها نبيّه إبراهيمt.
تزخر حياة النبيّ إبراهيمt بالكثير من المحطّات والمواقف الرساليّة الصلبة والراسخة، والتي تنوّعت بين حركته الإيمانية من خلال التأمّل في الكون، وبين صراعه مع الوثنيّة والصنميّة التي أخذ بها قومه من دون الله، ثمّ مواجهته لأبيه الذي كان على دين قومه، وبعد ذلك اختبار الله له في ذبح ولده، إلى غير ذلك، ما جعله أبا الأنبياء، وجعل رسالته أمّ الرسالات السماويّة.
وفي ما يأتي بعض ما اهتمّ القرآن الكريم ببيانه حول حياة هذا النبيّ العظيم.
ملّة إبراهيمt:
لقد أكد القرآن الكريم ملّة إبراهيم، وأراد للناس من بعده أن يأخذوا بها ويلتزموا بأحكامها، ما يوحي بأنها الرسالة الأم التي تفرّعت منها الرسالات، والتي تتضمن القاعدة المنفتحة على وحي الله الممتد في حياة الرسل من حيث المبدأ الأصيل، وقد جاء في سورة البقرة: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن ملَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾(1). ما يدل على أن النداء موجّه إلى الناس كافة من الذين يرغبون عن ملّة إبراهيمtليستعيضوا عنها بملّة أخرى، كما هو حال اليهود والنصارى، لتأكيد الالتزام بهذه الملّة، لأن الرغبة عنها تدلّ على سفاهة الإنسان؛ فإبراهيم tلم ينطلق من حالة ذاتية في دعوته إلى ملّته، لأنه الإنسان الذي اصطفاه الله واختاره في الدنيا من بين الناس ليكون رسولاً له يحمل رسالته ويبلغها للناس ليهديهم إلى صراطه المستقيم.
إنّها الرسالة المرتكزة على التوحيد الخالص لله، والإسلام الشامل له، المنفتح على كل قيم الروح وخصال الخير واستقامة الخطّ وطهارة القلب وصفاء السريرة، والتي تلتقي معها كل الرسالات التي جاءت بعدها في خطوطها العامة، لأنها أصل الرسالات، فكل رسالة منفتحة على ملّته، وكل نبيّ يستوحي منه.
الإسلام المطلق لله:
ولعلّ ما جاء بعد ذلك من قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(1)، يدلّ على أن الإسلام المطلق لله هو القاعدة التي ترتكز عليها هذه الملّة وتنطلق منها، باعتبار أن التوحيد الاستسلامي الذي يمثل العبودية المطلقة الشاملة، هو الأساس الذي يختزن في داخله كل الالتزامات التي أراد الله للناس أن يأخذوا بها، لأن القضية هي قضية طاعة الله في أوامره ونواهيه، ممّا يصلح أمرهم ويحقّق لهم الخير والنجاح، وهو ما قد تختلف فيه رسالات الأنبياء بين تشريع وتشريع آخر بحسب المصالح والمفاسد المترتّبة على أوضاع الناس ومفردات أمورهم، الأمر الذي يعني امتداد هذه الملّة إلى كلّ رسالة أرسل الله بها هذا النبي أو ذاك.
وقدتتابعتالآياتالقرآنيةفيالدعوةإلىاتّباعملة إبراهيمt، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾، فقد انطلق كل فريق من أتباع اليهود والنصارى إلى تأكيد الانتماء إلى مذهبه، ولكن الله تعالى أمرهم باتّباع ملّة إبراهيم tحنيفاً: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾(2). وهكذا جاء التأكيد في قوله تعالى: ﴿قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾(2). وفي هذا دلالة على أن الملة الإسلامية التي تمثل الدين الذي جاء به رسول اللهw هي ملة إبراهيم وليست منفصلةً عنها. وتلتقي هذه الآية بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾(3)، وقوله تعالى: ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ﴾(4).
الحنيفيّة:
أما كلمة (حنيفاً)، فقد جاءت في صيغة الجمع في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾(5). وقوله تعالى: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ* حُنَفَاء لِلَّهِ﴾(6)، وفي حديثه عن إبراهيمt: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(7). وقد فُسّر الحنف بأنه الميل عن الضلال إلى الاستقامة، والحنيف: هو من أسلم أمره لله ولم يلتوِ، وتحنّف فلان أي تحرى طريق الاستقامة. وسمّت العرب كل من حجّ أو اختتن حنيفاً، تنبيهاً على أنه على دين إبراهيم.
وفي ضوء ذلك، فإن وصف ملّة إبراهيم بالحنيفية، تأكيد لما يمثّله هذا الخط من الميل إلى خطّ الاستقامة العقيدية والعملية على مستوى المنهج الذي يحتوي كل الخطوط التي تتحرك في ميزان القيم الروحية والأخلاقية والتوحيدية، في تجسيدها للإسلام الكلي لله الذي يؤكد التوحيد لله في الألوهية والعبادة والطاعة، وفي انفتاحها على الإحسان في الالتزام بطاعة الله في حركة الخير للناس؛ وهذا ما توحي به الآية الكريمة: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾(1)، وهذا الخط هو الذي جاء به محمد رسول اللهw: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(2).
وفي ضوء ذلك، فإنّ الحنيفيّة لا تقتصر على بعض الأعمال الخاصة مما أفاض به المفسِّرون، بل إنّها تتسع لتشمل كل النهج الإيماني والقيم الكبرى، مما كان يتسع ويضيق تبعاً للمرحلة التي يكلف الله به عباده، في عملية الارتباط به، والالتزام بوحدانيته، ونفي الشركاء عنه.
صداقة الله تعالى:
ومن خصائص النبي إبراهيمt، ما تحدّث الله عنه في قوله تعالى: ﴿واتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾(3). والخليل: هو الصديق المخلص، وقد منحه الله هذه المكرمة تكريماً لتضحيته وإخلاصه وفنائه في ذات الله. وقد جاء عن الإمام علي بن موسى الرضاt قال: «سمعت أبيt يحدّث عن أبيهt أنه قال: إنما اتّخذ الله إبراهيم خليلاً لأنه لم يردّ أحداً ولم يسأل أحداً قط غير الله عز وجل»(4).
وقدنستوحيذلكمناستجابته للهعندما دعاه إلى الإسلام له، وذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(5)، ولم يكتفِبذلك،بلإنهأوصىبهاجميع بنيه، وامتدّ بها في الحياة كلها، بحيث كان الإسلام دعوته الخالصة الشاملة التي اعتبرها عنواناً لرسالته ولمن يأتي من الأجيالمنبعده،فلاعلاقة له بغير الله، ولا استغراق له في ذاته، ولا انفتاح له على أحد في الخضوع والطاعة، الأمر الذي تميّز به من بين أولياء الله ورسله. وتلك هي العلاقة التي يخصّ الله بها عباده المخلصين، ممن يعيشون الإسلام في عمق روحهم وحياتهم، فيرتفع بهم إلى تلك الدرجة العالية.
والله الغني عن كل عباده، ليس بحاجة إلى خليل يرتبط به ويملك صداقته، ولكن هذه الخِلة من الله لإبراهيم، كانت تكرمةً منه له، لأنّه ذاب فيه وباع نفسه له، ولم يكن له من ذاته شيء لذاته، فتقبّل الله منه هذا المستوى من الإخلاص الكلّي ومن الصداقة الروحية، فاتخذه خليلاً. وبذلك تحوّل إبراهيمt إلى واجهة رسالية للرسل كلهم وللرسالات كلها.
اطمئنان الإيمان:
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(1).
وهذه قصة من قصص الحوار القرآني التي تطلّ بنا على حياة النبي إبراهيمt في علاقته مع الله، تبرز لنا جانباً من شخصيته النبوية، وهو جانب الباحث عن الحقيقة بأسلوب الحوار، سواء كان ذلك من خلال ما يثيره مع نفسه في تصوير العقيدة حول ذات الخالق، أو الذي كان يثيره مع الناس في تحطيم عقيدة الشرك في عبادة الأصنام في نفوسهم، أو الذي كان يثيره مع ربه في مناجاته له.
وقد سأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، فقد كان يريد أن يشاهد عملية الإحياء على الطبيعة، وكان الجواب سؤالاً تقريرياً: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ﴾، فإن مثل هذا السؤال قد يصدر في صورته هذه من غير المؤمن، فكيف يصدر من إبراهيمt الذي جاء من أجل أن يقود الناس إلى الإيمان؟ فكان جواب إبراهيم بتأكيد إيمانه، وأن السؤال لم يكن منطلقاً من حال شك، بل من أجل الحصول على حال الاطمئنان القلبي الذي يتحرك في مواقع الحس في الحياة، لتحصيل المعرفة الحسية إلى جانب المعرفة العقلية، بما لا يحصل من خلال القناعة الفكرية التي تعتمد على المعادلات العقلية التي تصنع للإنسان إيمانه، ولكنها لا تمنع الهواجس الذاتية، كالخيال الذي يتحرك في النفس في نطاق الأوهام الطارئة، مما لم يكن يحصل لإبراهيم tالذي كان ممتلئاً إيماناً، ولم يكن لديه حاجة إلى زيادة في الإيمان، ولكنه كان يبحث عن معرفة خاصة غير عادية إلى جانب معرفته الذاتية.
ولهذا كانت الرغبة في المشاهدة من أجل تذويب كل ما قد يخطر في البال مما يشبه الأوهام. واستجاب الله لرغبته من خلال محبته له وتنمية معرفته بالحقيقة، فطلب منه أن يواجه التجربة بنفسه، وذلك بأن يأخذ أربعة من الطير، فيضمهنَّ إليه، ثم يقطّعهن ويجزّئهن ويفرّق أجزاءهن على الجبال المحيطة به، ثم يدعوهن فيأتين ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن ـ على اختلاف التفسير لكلمة «سعياً» ـ.
وقد أثار المفسرون حديثاً طويلاً حول ما يمثله سؤال إبراهيمt للحصول على الاطمئنان القلبي، من حيث إن ذلك لا يتناسب مع مقامه النبوي الذي ينطلق في رسالته من أجل تحصيل الطمأنينة للآخرين لا لنفسه. وأجاب بعضهم عن هذا الإشكال بأنّ السؤال هو عن كيفيّة حصول الإحياء دون مشاهدة حثيثة لكيفية الإحياء، فكأن إبراهيم tطلب بذلك المعرفة التجريدية بكيفية الإحياء، تماماً كما يقول القائل: كيف يُصنع الحبر؟ فتقول: خذ مادة كذا واخلطها بمادة كذا وكذا فتصير حبراً...
ولكننا نقول إن ظاهر الآية يدلّ على طلب إبراهيمt كان المشاهدة الحسّية لكيفية الإحياء، وهو ما توحي به كلمة (أرني)، ما يدل على أن السؤال هو عن كيفية الإحياء.
ولعلّ ما يقوله هؤلاء المفسّرون، يختزن استبعاداً للغيب عن ساحة الأنبياء، وهذا أمرٌ نرفضه، لأنه يدفعنا إلى التحفّظ تجاه الغيب كمبدأ. ونحن نتساءل: ما هو المانع من أن يبعث الله الحياة في هذه الطيور المقطّعة بقدرته بمجرد دعوة إبراهيم؟ ونحن لا نجد لهؤلاء دليلاً على تعزيز مثل هذا الاتجاه السلبي في حمل اللفظ على خلاف ظاهره.
وأما جوابنا عن أصل الإشكال، فهو يرتكز على أنّ الاطمئنان يمثِّل سكون القلب وهدوء الإحساس، بحيث لا يعيش أيّ خاطر مضاد ولو في جولة الأوهام، ما يفرض أن تكون مصادره واضحةً للحسّ أو ما يقرب من الحسّ، وهذا لا يُعتبر منافياً للإيمان، لأنه قد يكون من قبيل ضمّ المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية. والحمد لله ربّ العالمين.
































    إيمانلوطt
    استنكارالفاحشة
    التطهّرجريمة؟!
    تمرّدالقومودعاءلوطعليهمبالعذاب
    قوملوطtمعضيوفه
    شعورلوطبالضعفالبشري
    بدءرحلةالانتصار
    إخبارإبراهيمtقبللوطtبالعذاب
    سؤالانوجوابان























يستكمل سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، في ندوته الأسبوعية، حديثه عن تجربة الأنبياءi مع أقوامهم، مستعرضاً حركة النبي لوطt مع قومه، وكيفية مواجهته حالة الانحراف والشذوذ التي ابتدعها قومه، والتي لم تعرف عند أي من الأمم السابقة...
إيمان لوطt:
النبي لوطt من الأنبياء الحركيين، وقد حدّثنا القرآن الكريم عن مهمته الرساليّة التي كلّفه الله تعالى بها، لمواجهة حركة الشذوذ الجنسي المذكّر الذي ابتدعه قومه، والذي لم يكن مسبوقاً عند أحدٍ من الشعوب قبلهم، وقد أشار الله تعالى إليه في حديثه عن النبي إبراهيمt في قوله تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾(1)، وقد قيل إنه كانت له علاقة قربى معه، ويقال إنه ابن أخت إبراهيمt.
والسؤال الذي قد يثور في هذا الموضوع: هل كان لوطt غير مؤمن في نشأته، وكان إيمانه بسبب دعوة إبراهيم t له؟ وكيف أرسله الله تعالى نبيّاً إلى قومه ليدعوهم إلى توحيد الله والتزام التقوى في طاعته؟
قد يُستفاد من ظاهر الآية، أن المقصود هو اتّباعه الإيماني الحركي في خط الدعوة، من خلال استعمال لفظ «فآمن له» بدلاً من «فآمن به»، للإيحاء بأن إبراهيمt قد صحبه في رحلته الرسالية وعاش معه، وربما شاركه في دعوته، حتى بعثه الله رسولاً إلى قومه لإبلاغهم نهي الله تعالى لهم عمّا كانوا يمارسونه من اللواط، وأمرهم بالسير في خط التقوى، ولكنهم لم يستجيبوا له، وهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ﴾(1)، فلم يؤمنوا بالرسالات التي أُنزلت عليهم من قِبَل الأنبياء السابقين، ولاسيما رسالة النبي إبراهيمt.
﴿إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾(2)، فقد حمّلني الله مسؤولية الرسالة وائتمنني عليها، لأنه اطّلع على التزامي بأداء الأمانة في خطّ التبليغ، من أجل توعية الناس بالخط التوحيدي وبتقوى الله الذي خلق الكون كله وأوجدهم بقدرته من العدم، ليوحّدوا الله في إيمانهم بألوهيته، وليطيعوه في أوامره ونواهيه، لأن الإيمان بالله الواحد يفرض عليهم ذلك.
﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(3)، فلم تكن دعوتي دعوة مسؤول يطلب المال في حركته، فأنا رسول الله إليكم، ولا غاية لديّ إلا الحصول على رضا الله، فلا أطلب الأجر إلا منه في مواقع الرضوان التي تمثّل أعلى ما يتطلبه الإنسان من الربح المعنوي والكسب الروحي الذي لا قيمة للربح المادي أمامه، لأن الجانب المادي في الحياة يكفله الله لعباده من خلال رزقه الذي يفيضه عليهم، سواء كانوا من المؤمنين به أو من غير المؤمنين.
استنكار الفاحشة:
ثم يبدأ بعد ذلك إنكاره عليهم لما يمارسونه من فاحشة، ويطلب منهم الابتعاد عنها، ويوجّههم إلى أن الله أبدلهم خيراً منها، وبما يحصلون من خلاله على لذاتهم وشهواتهم، إضافةً إلى الذرية التي تمثّل الامتداد لوجودهم في حركة الزمن: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾(4)، في تجاوزكم العملي للأوضاع الطبيعية التي خلقها الله لكم بما يتناسب مع أوضاع الجسد في إشباع الغريزة وإنتاج النسل. وجاء في آية أخرى: ﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾(1)، فإن هذا العمل الذي تقومون به يتجاوز الحدود المعقولة التي تمثل السلوك المتوازن في إدارة الإنسان لحالاته الغريزية، ﴿أَئِنَّكُمْلَتَأْتُونَالرِّجَالَشَهْوَةًمِنْدُونِالنِّسَاءِبَلْأَنْتُمْقَوْمٌتَجْهَلُونَ﴾(2)، لأن الله لم يعدّ أدبار الرجال لقضاء الشهوة، سواء في تركيبتها العضوية، أو في تجاذب الشهوة في إشراك الرجال والنساء، بل أعدّ الأعضاء الجنسية للنساء لتحقيق ذلك، والشذوذ في طلب ذلك ينطلق من حالة جهل بأسرار الخلق.
وجاء في آية أخرى: ﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾(3)، فلم يمارس أيّ شعب آخر مثل هذا الفعل السيّئ، بل كنتم أول الناس الذين ابتدعوها، انطلاقاً من التفكير غير المتوازن والذهنية الشاذة التي لا ترتكز على أساس إنساني معقول، ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾ على الناس الذين يسلكون الطريق إلى مواقعهم ممن يثيرون فيكم الشهوة، فتستضعفونهم، وتكرهونهم على الخضوع لكم في ذلك، في عملية اغتصاب جنسي مذكّر، ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ﴾(4)، في المكان الذي يجتمعون فيه لممارسة هذا العمل الشنيع، أو للتداول في الوسائل التي يحصلون بواسطتها على إشباع غرائزهم الشاذّة من خلال الضغط على الضعفاء الذين يُكرهونهم على الخضوع لهم، أو تربية المراهقين والشباب من أبنائهم على الاقتناع بذلك، لأن تفرّد مجتمعهم بهذه الحالة الشاذة قد يجعلهم في موقع بذل الجهد لتحقيق ذلك.
التطهّر جريمة؟!
فماذا كان جواب قومه؟: ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾(1)، فلم تكن لديهم أيّ حجة لمواجهةمنطقلوطفيإبرازهذهالعادةالشاذةالخبيثة،إلا تهديده وأهله بالطرد وبإخراجهم من القرية، لأنهم كانوا يخافون من تأثيره على الناس في إظهار النتائج السلبية لعملهم، بحيث تتحوّل الذهنية العامّة في مجتمعهم إلى حال نفور نفسي ممّا يقومون به، وخصوصاً انجذاب الناس إلى هذا العمل كان خاضعاً للجوّ الاجتماعي المسيطر على الذهنيّة العامّة التي كانت لا تجد أيّ شخص مصلح يردع عنها، الأمر الذي جعل الالتزام بها حالة شموليّة.
ولعلّ من الطريف المستغرب أنّ قوم لوط tبرّروا تهديدهم بإخراج لوط وأهله من قريتهم بأنّهم ﴿أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾، تماماً كما لو كان التطهّرمنالقذاراتالأخلاقيّةالعمليّةجريمةيُعاقبعليها الذي يلتزمون بها!
وربّما كان هذا الأسلوب في الردّ السلبي على الدعوة إلى التطهّر، هو أسلوب المجتمعات المنحرفة، التي تعتبر وجود الفئات الخيّرة الطاهرة مشكلةً اجتماعيّةً، ما يدفعها إلى ممارسة الضغوط القاسية عليهم، بحيث لا يطيقون وجودهم في مجتمعاتهم، حذراً من تأثيرهم على الأجيال الشابة التي قد تستيقظ فيها نوازع الخير في بعض حالاتها الطيّبة الطاهرة، فتنجذب لا شعوريّاً إلى دعوة الخير والإصلاح، ولاسيّما عندما تتكرّر الدعوة وتتنوّع الأساليب من الجهات الإصلاحيّة. وهذا ما جعل قوم لوط يقولون له: ﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ﴾(2).
تمرّد القوم ودعاء لوط عليهم بالعذاب:
ووصلوا في مواجهته إلى درجة تحدّيهم له بتحقيق ما أنذرهم به من عذاب الله إذا لم يتركوا هذه العادة السيّئة؛ ﴿قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾(1)، ظنّاً منهم بأنّ هذا الإنذار صادر عنه على أساس التخويف والتهويل لا على أساس الحقيقة، لأنّهم يتصوّرون أنّه لا يملك مثل هذه العلاقة بالله ليطلب منه إنزال العذاب عليهم.
فدعا لوط tربّه، كما يدعو الأنبياء عندما ييأسون من استجابة قومهم لهم: ﴿قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾(2). فاستجاب الله دعاءه، وأنزل عليهم الملائكة بالعذاب، ﴿فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ* قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ﴾(3)، أنا لا أعرفكم، فمن أنتم؟ وما هي قصّتكم؟ وماذا تريدون؟ ﴿قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ* وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾(4)، فقد أرسلنا الله إليك لتنفيذ الوعيد الذي أنذرتهم به، وسوف ترى ذلك عندما تحين الساعة الحاسمة وتتمّ كلمة الله عليهم وينـزل العذاب.
قوم لوط tمع ضيوفه:
ويحدّثنا الله عن المشكلة التي واجهت لوطاً عندما جاءت الرسل إليه؛ وذلك هـو قولـه تعالـى: ﴿وَلَمَّـا جَـاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾(5)؛ لأن قومه وجدوا في هذه الجماعة الملائكيّة المتمثّلة في صورتها بالبشر، فرصـةً ذهبيّةً لاستغلال وجودهم بينهم لإشباع شهواتهم بالطريقة الشاذّة من دون أن يمنعهم مانع، لأنّ لوطاً كان لا يملك القوّة المادّية لمواجهتهم. ﴿وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾(1)، وواجه لوطٌ هذه المسألة بحالٍ من العجز عن إيجاد مهربٍ أو منفذٍ، فكيف يتخلّص من ضغط قومه الذين يريدون الإساءة إلى ضيوفه الآتين إليه في صورة غلمانٍ مُرد، يتميّزون بالجمال البشري المثير؟!
وقد انتهى به الأمر إلى العرض الأخير، وهو تقديمه بناته لهم للزواج بهنّ، ﴿قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ في الحصول على ما يشتهونه من إشباع غرائزهم ـ فَاتَّقُواْ اللّهَ ـ فيما تقدمون عليه من عصيان أمره بارتكاب الفاحشة والاعتداء على الناس ﴿وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾، لأنّ هذا الاعتداء على ضيوفي يجلب لي الخزي والعار بين الناس الذي يرون للضيف حرمةً وكرامةً، ما يفرض عليكم أن تقدّروا ظروفي الخاصّة والمحافظة على كرامتي وموقعي، فإذا لم تعترفوا بموقعي النبوي، فلا بدّ من أن تعترفوا ـ على الأقلّ ـ بأنّي رجل منكم تتّصل كرامتي بكرامتكم، وما يصيبني من العار سيصيبكم، ﴿أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾(2) عاقل يفكّر بطريقة متّزنة، ويدير الأمر على أساس الحكمة؟!
ولكنّهم سارعوا إلى رفض عرضه، ﴿قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾؛ لأنّنا لا نرغب في النساء كما يرغب غيرنا من الناس الذي يجدون فيهنّ موضوعاً لإشباع شهواتهم، ﴿وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾(3)، من قضاء شهواتنا في الذكور من أمثال ضيوفك ممّن قد لا يتيسّر لنا الحصول عليهم في أيّ وقت.
شعور لوط بالضعف البشري:
وأُسقِط في يديه، ووقف موقف العجز والضعف، فبدأ يتحدّث بلغة التمنّي واليأس: ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾(1) كأن يكون عندي جماعة قويّة أو عشيرة مانعة.
وهنا تدخّلت الملائكة لتقوية موقفه، والإيحاء إليه بأنّه يملك القوّة التي لا قوّة مثلها، وبأنه يرتكز على الركن الشديد الذي لا ركن يوازيه، وأنّه يملك الانتصار على قومه في حماية ضيوفه، ﴿قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ﴾، فلسنا من البشر العاديّين الضعفاء الذين يملك قومك الاعتداء عليهم والضغط على أوضاعهم، ﴿لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ﴾، ولن يقدروا أن يصيبوك بسوء، فلا تحمل همّ إحساسك بالضعف تجاههم، لأنّك القويّ بالله الذي يبسط عليك حمايته، ولن تحتاج معه إلى قوّة من نفسك أو من قومك أو من عشيرة مانعة تحميك، وعليك إعداد نفسك للخروج من بلدك، لا من خلال ضغط قومك عليك وطردك من بينهم، بل لتنفيذ التعليمات الإلهيّة الموجّهة إليك.
بدء رحلة الانتصار:
﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ﴾، وهو كناية عن الانطلاق بعزم في حالة تقدّم حاسم، ﴿إلاَّ امْرَأَتَكَ﴾ التي كانت على نهج قومك في كفرهم وضلالهم، حيث كانت تتعاون معهم ضدّك، فتخبرهم بمن يأتي إليك، وتسهّل لهم الاطّلاع على أسرارك، ﴿إنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ﴾ من العذاب، لأنّها منهم، فلا يميّزها عنهم شيء، ولا قيمة لعلاقتها الزوجية بك، لأنّ الله يجزي كلّ إنسان بعمله، فلا يغني أحد عن أحد شيئاً. ﴿إنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ﴾، فهو موعد العذاب، ولا بدّ من العجلة في الخروج، لأنّه لم يبقَ هناك وقت كثير لنزول العذاب، ﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾(1)، فلم يبق لبزوغه إلا بعض سواد هذا الليل.
وخرج لوط بأهله، وجاء العذاب بكلّ ثقله وقوّته وشدّته، ﴿فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾، فقد خسف الله بهم الأرض، فانقلبت عليهم، ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ﴾(2)، وهي الطين المتحجّر المتراكم بعضه فوق بعض، ﴿مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ﴾ أي معلّمة بعلامة خاصّة من الله، ﴿مَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾(3)؛ لأنّ هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتمرّد على الله، يستحقّون عذابه بكلّ أشكاله وألوانه.
وهكذا نجا لوط tبأهله، ما عدا امرأته، ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ﴾(4).
إخبار إبراهيم tقبل لوط tبالعذاب:
وقد كان الملائكة الذين أرسلوا لإنزال العذاب بقوم لوط قد مرّوا بإبراهيمt لإخباره بذلك، وهو ما قصّه الله في كتابه: ﴿وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾(5)، من تقديم الأطعمة التي تفرضها طبيعة الضيافة في تكريم الضيف، خصوصاً إذا كان الضيف مسافراً، لاحتمال أن يكون متعباً وجائعاً وبحاجة إلى الغذاء.
وفوجئ إبراهيمt بأنّ هؤلاء الضيوف امتنعوا عن المشاركة في الطعام، فلم يمدّوا أيديهم إليه، فاستوحش من ذلك، وخاف منهم، لأنّ العادة المتّبعة أن الضيف إذا امتنع من أكل الطعام، فإمّا أن يكون له قصد سوء، أو أنّه غير منسجم مع مضيفه، ولكنّهم بادروا إلى أن يرفعوا عنه هذا الخوف من نفسه، ﴿قَالُواْ لاَ تَخَفْ إنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾(1)، فلم تكن مهمّتنا أن نكون ضيوفاً عليك، بل مهمّتنا مرتبطة بلوط وقومه، لأنّك ترتبط بلوط ارتباطاً وثيقاً، فأردنا أن لا نقوم بأيّ عمل يتعلّق بأوضاعه مع قومه في بلده، إلا بعد أن نخبرك به قبله.
وهكذا اطمأنّ إبراهيمt، وأحسّ بالأمن منهم، ولاسيّما بعد أن بشّروه بإسحاق ومن ورائه يعقوب، وكانت هذه البشرى مستغربةً لدى إبراهيم tوزوجته سارة التي قالت: ﴿يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّه﴾ القادر على كلّ شيء حتّى لو لم يكن مألوفاً بحسب طبيعته ﴿رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾(2) فقد أراد الله أن يفيض عليكم من رحمته بما تمثّله هذه البشارة.
وحاول إبراهيمt أن يثير الجدال معهم في قوم لوط: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾(3)؛ فكأنّه يريد أن يطلب منهم أن لا ينـزلوا العذاب عليهم إذا لم تكن المسألة إرادة من الله، ولكنّهم أجابوه أنّ القضيّة وصلت إلى مستوى القرار الإلهي الحاسم الذي لا رجوع عنه، ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾(4)، وكأنّ الطلب الإبراهيمي في رفع العذاب ناشئ من شفقته التي تدفعه إلى الرجوع إلى الله في ذلك كلّه، وليس جدالاً يختزن الاعتراض.
سؤالان وجوابان:
وربّما يتساءل البعض: كيف يدخل الخوف نفس إبراهيمt من هؤلاء الرسل الذي يجهل طبيعتهم ويستغرب تصرّفهم معه؟ وقد يجاب عن ذلك، بأنّ النبيّ ـ أيّ نبيّ ـ هو بشر كبقيّة البشر في مشاعره وإحاسيسه، في الخوف ممّا يخاف منه، والأمن ممّا يؤمن به، من دون أن يترك ذلك أيّ تأثير سلبي على موقعه الرسالي وثقته بالله وإيمانه به.
وقد يطرح البعض سؤالاً حول ما قصّه القرآن عن حال لوط tالذي ضعف أمام قومه، وتمنّى أن تكون له قوّة ذاتيّة يواجه بها قومه، كأيّ شخص يملك الشجاعة في المواجهة، أو تكون له عشيرة تحميه وتحمي ضيوفه وأوضاعه الخاصة.
والجواب، أنّ هذا الموقف كان موقفاً منسجماً مع القدرات المادية التي يملكها في صراعه مع قومه، ولكنّه في الوقت نفسه، انفتح على الله الذي ينجي رسله، ﴿رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ﴾(1)، فقد رجع إلى الله بعد أن استنفد دراسة كلّ قدراته الخاصّة؛ وهذا هو شأن المؤمن في مواجهته لقوى الأعداء، فإنّه يحاول تعرّف مراكز القوّة عنده، فإذا رأى ضعفاً في موازينها، لجأ إلى الله ليمنحه العون ضدّ هؤلاء. وقد استجاب الله دعاء لوط؛ وذلك ما أكّده قوله تعالى: ﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ﴾(2). والحمد لله ربّ العالمين.







باب
المسائل


 


العزوبيّة ليست قيمة دينيّة:
 قال تعالى: ﴿أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً﴾(1). هل العزوبيّة تمثّل قيمة دينيّة؟ ولماذا خصّ الله كلمة (حصور) بيحيى بن زكريا؟
 إنَّ الله يريد أن يبين لزكريّاt صفة هذا الولد الذي سوف يرزقه إياه بعد أن فقد الأمل في الولد بسبب كبر سنّه وكون امرأته عاقراً، وأنّ هذا الولد الذي سيأتيه سوف يعيش حياته من دون زواج؛ لأنّه لم تكن لديه فرصة للزواج، وأعطى كلَّ حياته للرسالة، وليس معنى ذلك أن عدم الزواج يمثل قيمةً دينيةً، بل إنَّ الزواج هو من سنّة الله ورسوله، وقد حثّ عليه الإسلام، حتى قال:«من تزوّج فقد أحرز نصف دينه، فليتّق الله في النصف الباقي».
الإسلام بين الطّوع والإكراه:
 قال تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾(2). ما المقصود من أنّ جميع النّاس أسلموا لله؟ وأين وجه التناقض مع الآية الكريمة ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين﴾(3)؟
 الإسلام هو خضوع الناس لقضاء الله وقدره، لأنَّ الله سبحانه وتعالى هو وحده الذي خلق الناس، وهو الذي يدبِّر أمورهم، وهو الذي يرعاهم، ونحن نقرأ في دعاء الإمام زين العابدين في الصباح والمساء:«أصبحنا في قبضتك، يحوينا مُلكك وسلطانُك، وتضمّنا مشيئتك، ونتصرف عن أمرك ونتقلّب في تدبيرك، ليس لنا من الأمر إلا ما قضيت، ولا من الخير إلا ما أعطيت»، فالمقصود من ﴿أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾(1) أي أنّ واقعهم هو الإسلام لله تعالى والتسليم له، باعتبار أنهم خاضعون لإرادة الله ولمشيئته وللنظام الذي وضعه الله؛ وليس معنى ذلك الإسلام بالمعنى الإرادي في هذا المقام، ولذا قال ﴿طَوْعاً وَكَرْهاً﴾. وعلى هذا الأساس، ليس ثمّة تناقض بين الآيتين؛ لأنَّ الأولى تتعرّض للمسألة من الناحية التكوينية، والثانية تتعرّض للمسألة من ناحية إرادة الإنسان، وأنّه لا إكراه للإنسان على دينه.
مرجعية القرآن:
 يقول الحديث: «خذ من القرآن ما شِئت لما شئت»، ما المقصود بالحديث؟
 أي أن عليك أن تأخذ من القرآن ما شئت من الآيات، فإن كل آيةٍ من آيات القرآن فيها النور وفيها الهدى وفيها الخير لك، وليس معناه أنك تفهمها أنت كيفما تشاء.
حساب دقيق:
 ما المقصود من هاتين الآيتين: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾؟ وكيف تتلاءمان مع فكرة أن الله يغفر الذنوب جميعاً؟
 معناه أن الله يحاسب الناس على كل أعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وإذا حاسبهم على أعمالهم، فقد تدركهم رحمة الله بعد ذلك. وبعبارة أخرى: عالم الاستحقاق شيء، وعالم التنفيذ شيء آخر، والحساب يتصل بالأوّل، والغفران بالثاني.
الخطاب الإلهي:
ما معنى قوله: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾(1)؟
 أي أنّ الله يخاطب العرب أن هذا القرآن عربي، فينبغي عليكم أن تؤمنوا به، ولو أنّه أنزل عربياً على بعض الأعجمين ولم يؤمنوا به، كان ذلك من جهة أنّهم لا يفهمون معانيه، ولكنّكم لا تستطيعون أن تتذرّعوا لعدم الإيمان بعدم الفهم؛ لأنكم عرب، والقرآن أنزل بلغتكم.
استمرار الرسالة:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِنْلَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(2). ما هو الشيء الذي كان يخشى الرسولw من تبليغه؟
 هذه الآية نزلت في يوم الغدير، والتي أمر الله فيها رسوله أن يُبلّغ المسلمين ـ قبل أن يتفرّقوا ـ ولاية عليّ t، ووقف وأخذ بيد عليt وقال:«من كنت مولاه فهذا عليُّ مولاه. اللهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيثما دار». وهذا الإعلان منهw، جاء ليبيِّن أنَّ الإسلام لابدّ له من شخص يرعاه في الواقع، ويقوم بتقويته وتنميته وتصحيح ما يمكن أن يخطئ النَّاس فيه، وهو الوليّ الذي يلي أمور المسلمين بعد رسول الله؛ فالله سبحانه يقول لرسوله إنّك إذا تركت المسلمين بلا وليّ بعدك فكأنّك لم تبلّغ الرسالة؛ لأنّ الرسالة حينها تضيع، كما ضاع الكثير منها من خلال الأحداث التي أعقبت وفاة الرسول w. وربّما كان إعلانه تنصيب عليّt وليّاً من بعده، منشأً لإثارة كثير من الناس الذين قد يتّهمون النبيّ بالمحاباة لابن عمّه عليّt من بين سائر المسلمين، مما كان يُمكن أن يُثير الجوّ ضدّ رسول الله w، ولكنّ الله سبحانه تكفّل للنبيّ بعصمته من النَّاس ومن هذا الجوّ.
الأشهر الحرم:
ما معنى (النَّسيء) في قوله تعالى: ﴿إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْر﴾(1)؟
 من المعروف أن الله سبحانه وتعالى، جعل أربعة أشهر حرم ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾(2)، وهي التي حرّم فيها القتال؛ وكان هذا منذ زمن النبي إبراهيم t، حتى إنّ الجاهليين القرشيين كانوا لا يحاربون فيها أعداءهم. وقد كانوا في بعض الحالات يحتالون على زمان الأشهر الحُرم، فينقلون شهر محرّم إلى صفر، ويجعلون الشهر الحرام متأخّراً عن زمانه، أي ينقلونه إلى شهر آخر، وهو ما يعنيه بالنّسيء. وكان ذلك يمثل انحرافاً عن الحقّ الذي فرضه الله تعالى.
البسملة للقراءة:
إذا قرأنا آية من سورة (التوبة) لا نعلم أنها تابعة لسورة التوبة، فهل يجوز البسملة؟
 لا مانع من ذلك في مفروض السؤال؛ لأنّ البسملة جائزة في كل شيء، أمّا قراءة البسملة في بداية السورة، فإنّ سورة التوبة لا بسملة فيها.
دابةَّ الأرض:
قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ﴾(1)، ما هي الدابّة؟
 هي مخلوق خلقه الله سبحانه وتعالى، وأراد له أن يُبلِّغ الناس هذه الحقيقة.
نزول القرآن الكريم:
هل نزل القرآن على الرسول دفعةً واحدة من قبل الوحي أم على دفعات؟
 يقول الله:﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾(2)، ومعناه أنّ القرآن لم ينزل دفعةً واحدة، وإنّما نزل تدريجيّاً ليواكب المسيرة الإسلامية في حركتها، فعندما كان المسلمون يواجهون الكثير من المشاكل، كان النبي w يقول:«أنتظر أمر ربي»، وتنـزل الآية التي تعالج المشكلة.
النسخ والنسيان:
قال تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(3). من يخاطب الله عز وجل في هذه الآية؟ هل يوجد في كتاب الله النسخ والنسيان؟ ومن أيّ جهة؟
 رأينا أنّ المراد من الآية هو الآيات الكونية، فالله سبحانه وتعالى قد يظهر آيةً كونية تدلُّ على عظمته، ثم ينسخها تماماً ويزيلها أو ينسيها، أو ينسئها، أي يؤخّرها، وليس المراد منها الآية القرآنية.
تسميات السور القرآنية:
هل إنَّ الرسول هو من وضع تسميات السور في القرآن، أم نزلت التسميات مع الوحي، أم إن جامعي القرآن هم من وضعوا هذه التسميات؟
 الظاهر أنّ أسماء هذه السور كانت بإشراف النبي w، فقد روي أنّه كان يقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها آل عمران، أو يذكر فيها البقرة. وهكذا رأينا أن الأحاديث التي دلّت على فضل السور تشير إِلى أسماء السور.
صنع التماثيل في القرآن:
هل يمكن استنباط حكم شرعي بحلّيّة صنع التماثيل من خلال ما جاء في سورة (سبأ)؟
 لا يُمكن ذلك؛ لأنّه لا يظهر في مضمون الآية إقرار هذا السلوك بالنسبة إلى الإنسان، حيث الوارد في الآية، أنّ الجنّ كانوا يعملون لسليمانt ذلك. مضافاً إلى أنّ الحديث عن الإمام الصادقt يقول:«والله ما هي تماثيل الرجال والنساء، ولكنّها الشجر وشبهه». والمسألة تحتاج إلى بحثٍ معمّق في سائر الأدلّة التي قد يُفهم منها أنّ مسألة الحرمة تدور مدار التشبّه بالخالق؛ والله العالم.
الربوبية المطلقة:
ما معنى قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾(1)؟
 أيْ أنَّهم كانوا يعتبرون أن الجنّ هم بناتُ الله، وبذلك كانوا يجعلون نسباً بينهم وبين الله، ولكن الله يقول إن الجنّ يعرفون أنّهم سيواجهون المسؤولية أمام الله كما يواجهها الإنس.
سرقة يوسف t!
في سورة (يوسف) قال إخوة يوسف بأن لهم أخاً قد سرق من قبل. ما كانت سرقة يوسف؟
 هم كانوا يتّهمون يوسفt بأنه سرق منطقةً ـ كما في بعض الرواياتـ، وهي التي يُشدّ بها الوسط، وكان يتوارثها الأنبياء؛ ولذلك قال تعالى وهو يصوّر لنا موقفه:﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ﴾(1).
مواقع النجوم:
يقول الله العزيز الكريم في كتابه: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾(2). ما المقصود بمواقع النجوم؟
 أي مداراتها ومواقعها في حركة الكون، مما تمثِّله من أسرار عظمة الله تعالى.
شجرة الجحيم:
يقول الله تعالى عن الشّجرة الّتي تخرج من أصل الجحيم: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً للظَّالِمِينَ﴾(3). فما هو المراد من ذلك؟
 هذه الشجرة التي ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾(4)، كأنّ الله سبحانه جعلها تحدياً للظالمين عندما يدخلون النار ويواجهونها ويرونها.
كتاب الأعمال:
يقول تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَأُونَكِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾(1). ما المقصود بالإمام في هذه الآية؟
 المراد كتاب الأعمال؛ لأنّ كتاب الأعمال هو الذي يحدّد للإنسان مصيره؛ فكأنّ الإنسان يمشي وراءه وهو يمشي أمامه.
التَّدبير الإلهي:
ما معنى قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾(2)؟
 هذا بيان لما يتصرَّف به الله ويدبّره من شؤون الكون ومن شؤون الخلق، كما ورد في دعاء الإمام زين العابدين:«أصبحنا وأصبحت الأشياء كلُّها بجملتها لك؛ سماؤها وأرضها وما بثثت في كل واحدٍ منهما؛ ساكنه ومتحرّكه، ومقيمه وشاخصه، وما علا في الهواء وما كنّ تحت الثرى. أصبحنا في قبضتك، يحوينا مُلكك وسلطانك، وتضمّنا مشيئتك، ونتصرّف عن أمرك، ونتقلّب في تدبيرك. ليس لنا من الأمر إلا ما قضيت، ولا من الخير إلا ما أعطيت»؛ فالله سبحانه وتعالى كل يوم هو في شان من خلال تدبيره وإشرافه على الخلق في كل ما ينظّمه من أمورهم وما إلى ذلك.
سُنَّة الله وسُنّة الرسول:
قال تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾(3). ما الفرق بين سنّة الله وسنّة الرّسول؟
 سنّة الله هي القوانين التي أودعها الله في الكون ممّا يتعلّق بحركة الكون ونظامه، في ما يدبّره الله سبحانه وتعالى في كلِّ شؤون الكون؛ في السماء والأرض والإنسان وما إلى ذلك. أما سنَّة الرسول، فهي قول النبيّ وفعله وتقريره ـ كما تُعرّف بالاصطلاح ـ.
الكناية من القرب من الله:
في الآية الكريمة: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾(1). ما الغاية من عدم تحديد المسافة بدقّة وجعلها تبدو مبهمة من قِبل ربّ العزة؟
 هذا يُقال عن الذي يقترب من موقعٍ ما، ويكاد يصل إليه. فهو كناية عن القُرب بشكل كبير جدّاً.
معنى اللغو:
قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾(2)، ما هو اللغو؟
 اللغوهوعبارةعنالكلامالذيلا فائدة فيه ولا منفعة. وربما يكون الكلام المحرّم الذي لا يرضى به الله. قال تعالى:﴿وَإِذَاسَمِعُوااللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾(3).
عرض الأمانة:
قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾(4). ما هي هذه الأمانة؟
 فُسِّرت هذه الأمانة بأمانة التَّكليف والمسؤوليّة، على طريقة تقديم الفكرة بأسلوب الكناية؛ وكأنّ الله عرض على السموات بضخامتها وعلوّها، وعلى الأرض بامتدادها، وعلى الجبال بصلابتها، أن يتحملنّ مسؤولية وجودهنّ، وأن يحاسبهنّ على ما يقمن به من حركة المسؤولية، ولكنّهنّ أبين ذلك، وأشفقن من أن يخطئن أو ينحرفن، فيسقطن في حساب المسؤوليّة. وحمل الإنسان هذه المسؤوليّة، ولكنّه انحرف في كثيرٍ من نماذجه وظلم نفسه، لأنّه جهل مستوى ضخامة هذه المسؤوليّة.
حفظ الحديث الشريف:
إذا كانت الأحاديث النبوية مُنـزلة على الرسول بحسب الآية الكريمة: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾(1)، فلماذا لم تحفظ تلك الأحاديث من التلاعب والتزوير أُسوةً بالقرآن الكريم: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(2)؟
 إذا كانت الأحاديث الواردة عن النبي wهي وحيٌ يوحى، فمعناه أنّها من القرآن. ولكنّ النبيّ يتحرّك من خلال ما أعطاه الله تعالى من العلم والمعرفة والتجربة التي يوجّه من خلالها المؤمنين إلى ما يُصلح أمورهم؛ وهو لا ينطلق في كلّ ذلك من مزاجه الشخصي، بل من خلال ما ركّزه الوحي لديه. وبعبارة أخرى، إنّ قوله تعالى ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾ يتحدّث عن أن ما يصدر عن النبيّ ليس من هواه، وإنّما هو وحيٌ بشكل مباشر، وهو القرآن، أو بشكل غير مباشر، ممّا ألهم الله نبيّه علمه وقواعده.
الموتُ والعدم:
قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾(1). هل الموت هو العدم؟
 الموت ليس عدماً، الموتُ هو حالةٌ ينتج عنها توقّف الحياة في الجسد، وهذا ليس عدماً.
السّماء الدنيا والسّماوات الأخرى:
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً للشَّيَاطِينِ﴾(2)، هنا سماء دُنيا، هل توجد سماء أُخرى؟
 يتحدَّث الله عن السموات السبع، أي كما عندنا سماء دنيا عندنا أيضاً سماوات أخرى؛ والله أعلم بحقائق صنعه.
الرّفث والفسوق والجدال في الحج:
قال تعالى: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾(3)، ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(4). هل هناك فرق بين الجدال في الحالتين؟
 الآية الأولى واردة في الحجّ، حيث ينطلق الإنسان ليعيش مع الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الحجّ يمثّل الهجرة إلى الله، ودوره أن يجعل الإنسان نفسه في المناخ الذي يرتفع به إِلى الله سبحانه وتعالى؛ فهو مشغولٌ بعبادة ربه عن الجدال مع الناس.
وأمّا الآية الثانية، فهي تتحدّث عن أنّه إذا كان هناك جدالٌ من أجل الدعوة إلى الله، فلا بدّ من أن يتحرّك بالَّتي هي أحسن.
الإنسان الكفور:
يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً﴾(1). ما معنى ﴿وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً﴾؟
 أولاً، تحدث الله سبحانه وتعالى عن الناس الذين يركبون البحر، وعندما تثور الأمواج وتهدد المركب الذي يركبونه، يخافون على أنفسهم من الغرق، فيلجأون إلى الله والابتهال إليه، أنه إذا نجاهم من هذا فسوف يشكرونه ويدعونه ويعبدونه، فكأن الله أراد أن يبيّن للناس أنّه عندما تحدث معهم مثل هذه الأحداث، فمن الذي ينقذهم؟! فليست هناك أرض ليقفوا عليها، وليس هناك أحد في قلب العاصفة ينجيهم، ليس هناك إلا الماء والسماء، وما من أحد يدعونه أن ينقذهم من هذا الخطر إلاّ الله... ولكن عندما ينجّيهم الله إلى البر يعرضون عنه وعن عبادته وتوحيده وشكره، ﴿وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً﴾.
والظاهر أن المراد هنا هو كفر النعمة؛ لأن الله أنعم عليهم بخلاصهم من هذا الخطر، وكان يجب عليهم أن يشكروه على هذه النعمة، ولكنّهم كفروا بها، والله يقول في ذلك:﴿لئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾(2).
الإرادة الإلهية:
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾(3) إنّ هذه الآية الكريمة لم نجد لها أي تطبيق أو مثال من أفعال الله جل جلاله، حيث إن خلق السماوات والأرض استمر ستة أيام من أيامه؟
 أوّلاً: يقول الله سبحانه وتعالى في خلق آدم:﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾(1).
ثانياً: إنّ قول ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ المقصود منه الإرادة، والله قد يريد وجود الشيء فوراً فيكون، وقد يريده في زمنٍ متدرّجاً فيكون كذلك، ولكنّ إعمال إرادته واحدةٌ في الحالتين. فمثل السماوات والأرض كمثل خلق الإنسان، حيث شاءت إرادة الله تعالى أن يكون خلق الإنسان متدرّجاً من نطفةٍ إلى علقة إلى مضغة مخلّقة وغير مخلّقة، ثمّ ليكون عظاماً، ثمّ يكسو اللحمُ العظام، ثمّ يخرج طفلاً، وهكذا.
فأن يوجَدَ الشيء تدريجياً بحسب الزمان، لا ينافي إرادة الله سبحانه وتعالى. بعبارة أخرى: إن الله يريد أن يخلق الأشياء بحسب النظام الذي تخضع له وتحتاجه عناصرها؛ ولذلك أراد أن يخلق السماوات والأرض في ستة أيام فكانت في ستة أيام، ولم تزد على الستة أيام مثلاً، كما أراد تعالى للجنين أن يُخلق في تسعة أشهر أو ستة أشهر وكان ذلك، أي أن إرادة الله لا تنفصل عن المراد، ولكنه حسب النظام الذي تتحرك فيه الإرادة في تحقيق المراد، ولذلك فإنّ هذا ليس منافياً لخلق السموات والأرض في ستة أيام.
التسديد الإلهي:
قال تعالى: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدت تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً﴾(2)؟
 الواضح من هاتين الآيتين، أن هناك ضغوطاً هائلةً كانت تُمارس على النبيّw للإذعان لمطالبهم من أجل حرفه عن الدعوة، فالله تعالى لا يريد أن يبيّن أن النبيّw كان عنده شيء من الإذعان لمغرياتهم، بل يريد أن يبيّن أن الأساليب التي استعملوها واستخدموها معه، هي أساليب يمكن على أن تترك تأثيرها على الإنسان الذي يعيش الطبيعة البشرية العادية في نقاط الضعف الإنساني؛ ولكن الله سبحانه وتعالى ثبّته وعصمه وأعطاه القوة والوعي، ولهذا لم تؤثر أساليبهم، التي تؤثر في الإنسان العادي، في النبيw. وقد تحدّث الله في آيةٍ أخرى عن تثبيت الله تعالى للنبيّw:﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾(1).
فالمقصود بالآية الأولى، لولا ما أعطيناك من العلم، والعصمة، وقوّة الموقف، ووعي أساليبهم، لملتَ إليهم من خلال الضغوط الهائلة؛ لأنّ هذه الضغوط تحتاج إلى تثبيت من الله كالذي ثبّتناك به، مما لا يُمكن أن يثبت معه الإنسان بقوّته البشرية العاديّة.
قيمة سورة (هود):
ما مدى صحة الحديث المنسوب إلى النبيw والذي يقول فيه: «شيّبَتْني سورة هود»؟
 ربّما يكون هذا الحديث ناظراً إلى الخصوصيّة التي اشتملت عليها سورة هود؛ ذلك أنّها قد تناولت حجم الضغوطات والتحدّيات التي كان يتعرّض لها الأنبياء، والتي تناولت قصصهم بتفصيل كبير، فقصّت ما دار بين نوحٍ وقومه، وقصّة هود، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسىi، وما كان ينتهي إليه تكذيب أقوامهم من العذاب، ثمّ ختمت السورة مخاطبةً النبيّw:﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾(2)، وبعضُهم يُرجع السبب إلى هذه الآية. وربّما كانت المسألة أعمق من ذلك، ولاسيّما أن الحديث المروي عنهw لا يقتصر على سورة هود، بل يقول الحديث، إنّه لمّا قيل له:«يا رسول الله، أسرع الشيب إليك، قال: شيّبتني سورة هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون»؛ والله العالم.
تساوي الذكر والأنثى:
يقول الله تعالى: ﴿وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى…﴾(1)، هل المقصود أن الذكر له الأفضلية على الأنثى، وإذا كان كذلك فبأي شيء؟
 هذه هي قصة امرأة عمران وأم السيدة مريم u، التي نذرت بعد أن حملت، أن يكون ما في بطنها محرراً، أي أن يكون خادماً لبيت العبادة، وهو بيت المقدس، وبعد أن جاء المولود أنثى، ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى﴾(2)؛ باعتبار أن الشخص الذي يخدم في بيت العبادة، لابد من أن يكون ذكراً، ولا يمكن أن يكون أنثى، فقوله:﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ﴾ الذي نذرته امرأة عمران أن يكون خادماً في بيت العبادة ﴿كَالأُنثَى﴾ التي وضعتها، وليست الآية ورادة في مقام تفضيل الذكر على الأنثى بالمطلق، بل في مقام بيان أن امرأة عمران لم تحصل على ما أرادته من أن يكون حملها محقّقاً لرغبتها في أن يكون خادماً لبيتالعبادة،لأنحملهاكانأنثى، والأنثى لا تصلح للخدمة في بيت العبادة.
دور العلماء تجاه الأحداث:
قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(3)، وخير من في الأمة في الوقت الحاضر علماؤها، ولكن السؤال: ما هو دور العلماء اليوم تجاه ما يجري من استحلال للدم العراقي المسلم؟ وهل يملك العلماء أن يقوموا بحل هذه المشكلة؟
 إن المشكلة في العراق هي مشكلة احتلالٍ يملك أقوى الأسلحة، ويضيف إِلى جنوده جنود أكثر من دولة في العالم، والعلماء لا يملكون السلاح الذي يقاومون به هذا الاحتلال، ولكنهم يملكون إعطاء الرأي للذين يتحرّكون في حلّ هذه المشكلة. ونحن نعرف أنّ هناك كثيراً من العلماء في داخل العراق وفي خارجه، يعطون الفتاوى للمقاومين الذين يقاومون الاحتلال. وأحبّ أن أؤكد أنّ أتباع أهل البيتi في العراق يعملون على أساس مقاومة الاحتلال في العراق، ولعل الكثير مما يصيب الاحتلال، ينطلق من خلال هذه الطليعة المقاومة المؤمنة ممن يلتزمون خط أهل البيتi؛ وبذلك تسقط التهمة التي يُتّهم بها المسلمون الشيعة في العراق أنّهم مع الاحتلال. إنّنا نؤكد أنهم ضد الاحتلال، وأن هناك من يقاوم مقاومة عسكرية، وهناك من يقاوم مقاومةً سياسيةً وثقافيةً.
أهل الكهف ومدّة لبثهم:
قال تعالى: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً* قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا﴾(1)، لماذا لم يقل الله تعالى (ثلاثمئة وتسعة) بدل التجزئة؟
 هذا كما في قوله تعالى عن نوحt:﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَاماً﴾(2)؛ وليست هناك مشكلة في البلاغة، بل هو أسلوبٌ فنّي في بيان الرقم هنا وهناك.
عدد أهل الكهف:
ما الحكمة في جعل عدد الفتية مجهولاً؟
 ما الحكمة أساساً في جعل عددهم معلوماً، ما دامت قضية العدد ليس لها أي دور في حركة العظة في القصة؟!
نداء نوح لابنه:
قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ﴾(1). ما كان نوع النداء؛ هل هو نداء من الأب الصالح إلى الابن العاصي؟
 الآية تقول ناداه أن ﴿ارْكَبْمَعَنَاوَلَاتَكُنْمَعَالكَافِرِينَ﴾، ومن الطبيعي أنّه كان يحاول أن ينقذ ولده من الغرق، بفعل العاطفة الأبوية.
الدعاء على الظالمين:
قال تعالى في محكم كتابه: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾(2). ما المفترض بالإنسان أن يدعو بحسب هذه الآية الكريمة؟ وهل الدعاء على الظالم بالموت جائز؟
 الدعاء يمثّل حاجات الإنسان وتطلّعاته التي يرفعها إلى الله، سواء كانت حاجات شخصية أو حاجات عامة. ولا مانع في أن يدعو الإنسان على الظالمين ويطلب من الله أن يُزهق أرواحهم، ليتخلص العباد منهم.
تفضيل الرُّسل:
يقول تعالى: ﴿تلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض﴾(3)، ما معنى هذا التفضيل؟
 يعقِّب الله تعالى على هذه الفقرة بقوله:﴿منْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ﴾، كما هو شأن موسىt، وكما أعطى الله عيسى معجزة إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وهكذا... فالتفضيل إنما هو في طريقة رعاية الله سبحانه وتعالى للأنبياء في بعض خصائصهم، وربما أيضاً تكون مسألة تفضيل بعض الأنبياء على بعض من ناحية القيم التي يحملونها، والعلم الذي يحملونه، وما إلى ذلك.
تعدّد القراءات وتحريف القرآن:
بعض كلمات الله تعالى في القرآن الكريم فيها قراءات متعدّدة، أليس هذا تحريفاً في القرآن؟
 ليس هذا تحريفاً، بل إن القراءة إذا ثبتت حجّيتها فمعنى ذلك أنها حقيقة بمستوى الحجيّة المقدَّمة. وفي الواقع، فإنّ ثمّة لهجات مختلفة للقرآن، أمّا النصّ القرآني فمحفوظ في هذه القراءات، كما أنّ المعنى لا يتغيّر. فمثلاً:﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾(1)، تُكتب في قراءة حفصٍ وورش بالطريقة نفسها، ولكنّ الأوّل يقرأها بالمدّ، والثاني يقرأها من دونه. وعلى كلّ حال، فهناك جدل في حجّية كلّ القراءات.
ألسِنة والنوم:
يقول الله في كتابه المجيد: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْم﴾(2). ما الفرق بين السنة والنوم؟
 السِنة هي الغفوة الخفيفة، بينما النوم هو الذي يستغرق فيه الإنسان بكلّ حواسّه وكيانه.
تكرار الحديث عن فرعون:
لماذا أكثر الآيات والسور القرآنية تخاطب قوم فرعون؟ وما الحكمة من التكرار؟
 التكرار في القرآن ليس تكراراً في المعنى، وليس تكراراً من دون هدف، بل هو تكرار يرصد حياة موسىt المتحرّكة في شكلٍ يختلف عن بقيّة الأنبياء، فمن ولادته التي كادت أن تنتهي بذبح فرعون له لولا أن أوحى الله تعالى إلى أمّه أن تضعه في التابوت وتقذفه في اليمّ، ليُربّى بعد ذلك عند فرعون، إلى اصطدام موسىt بذلك الشخص الذي وكزه موسى فمات، ثمّ في ذهابه إلى مدين، وإرساله بالرسالة بعد ذلك، ثمّ مواجهته لفرعون من جديد، والسحرة الذين صدّقوا به، حتّى انتهى الأمر بغرق فرعون وقومه في نهاية المطاف، ثمّ في التعقيدات التي واجهها في رسالته مع قومه، الذين أرادوا أن يجعل لهم أصناماً، واتّباعهم السامري، ثمّ في تمرّدهم عليه وعلى أوامره وتعليماته... إلى ما هنالك من تنوّع يحتاج إلى تسليط الضوء عليه، مما تحتاجه الرسالة بشكل وبآخر.
كلام الله:
ما هو الدليل الذي نستطيع من خلاله أن نثبت أنّ القرآن هو كلام الله تعالى؟ وما هي الآيات التي تعبِّر عن ذلك؟
 لقد تحدّى الله سبحانه أن يُؤتى بسورةٍ من مثل القرآن، فقال تعالى:﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم﴾(1)، وتحدّى بالإتيان بعشر سور، ﴿فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾(2)، ثمّ أطلق التحدّي في مستوى الإنس والجنّ، فقال تعالى:﴿قُل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمثْل هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾(1). وقد وجِّه هذا التحدّي إلى قومٍ يعيشون العمق في البلاغة والفصاحة، ولم يقف أحدٌ ليجيب هذا التحدّي، ما يدلّ على أنّ القرآن إنّما هو من عند الله، وليس من صنع بشر.
كما أنّ القرآن أخبر عن حوادث مستقبليّة، أو أشار إلى بعض حقائق الكون، مما لا يمكن أن يصدر عن بشرٍ في ذلك الوقت، ما يؤكّد صدق النبيّw في ما يبلّغ. كما أنّ الانسجام بين آيات القرآن يؤكّد أنّه من عند الله. قال تعالى:﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾(2)؛ لأنّ الإنسان يخضع للمتغيّرات والمؤثّرات، وهو ما ينعكس في ما يؤلّفه وينتجه.
النفاق في مجتمعات الأنبياء:
لماذا لم يحدثنا القرآن عن حالاتٍ نفاقية تُلازمُ مجتمعات الأنبياء ليعالجها كما عالج الشرك والانحراف في مجتمع النبي محمدw؟
 لأنّ طبيعة التعقيدات الموجودة في مجتمع النبيّw تختلف عن سائر مجتمعات الأنبياء؛ ومنها وجود اليهود في المدينة، إضافةً إلى وجود الكثير من الأشخاص الذين لم يدخلوا في الإسلام عن قناعة، وإنما دخلوه رغبةً أو رهبةً. بينما لم يكن النفاق بارزاً في مجتمعات الأنبياء الآخرين، بل كان هناك شرك وانحراف. نعم، قد يكون الأمر وارداً في مجتمع بني إسرائيل الذين اتّبعوا موسىt مما تحدّث القرآن عن تعقيداته التي قد تلتقي بالنفاق.
عناوين دعوة الرسل:
هل بين العناوين الثلاثة في دعوة الرسل تراتبية، أم أنها في عرض واحد؛ خصوصاً عندما نقرأ قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(1)؟
 إن ما ورد في كلام نوحt حول طبيعة العبادة وعلاقتها بالتقوى وعلاقة العبادة والتقوى بالطاعة، يقتضي أن تكون في عرض واحد، باعتبار أن الإنسان عندما يعبد الله ويخلص له في عبادته، فإن عظمة الله تتجسد في نفسه، فإذا تجسدت عظمة الله في نفسه خاف الله، وبذلك يأخذ بأسباب التقوى، ويكون في ذلك متحرّكاً في خطّ طاعة الله سبحانه وتعالى.
القرآن ومستجدّات الحياة:
قد يقال إن القرآن قد استنفد أغراضه بعد هذه المدة الطويلة من نزوله، فهل من كتاب جديد يأتي به رسول أو نبي جديد ليطرح مفاهيم جديدة؟ وكيف يعالج القرآن مستجدات الحياة الجديدة المتطورة؟
 هل إن الحياة استنفدت العدل؟! القرآن يتحدّث عن العدل، والعدل يمثّل القيمة في كل الحضارات وكلّ الاتّجاهات، فما يتطوّر هو حركة مفردات العدل لا مفهومه. والقرآن تحدث عن العقل، فهل تجاوز العالم تطور العقل؟ والقرآن يتحدث عن العلم ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾(2)؟ القرآن يقول:﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(3)، فهل تجاوزت حالات التطوّر التفكّر حتى نستطيع أن نصل إلى الحقيقة، إما بالتأمل أو من خلال التجربة؟! القرآن يؤكِّد التجربة كمصدر من مصادر المعرفة، فهل تجاوز التطور الاعتراف بأنّ التجربة تمثل مصدراً من مصادر المعرفة؟ ثم نحن نعرف أن الله سبحانه وتعالى ضمّ إلى القرآن السنَّة، فقال تعالى:﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(1). ولذلك نحن نقول إنّ كلّ حالة من حالات التطوّر التي تستجدّ في حياتنا، يُمكن عرضها على العلماء المجتهدين من أهل الخبرة، وستجد أنّهم يقدّمون لك الحكم الشرعي من خلال القواعد العامّة في فهم الكتاب والسنّة.
تدافع الإنسان وصلاح الأرض:
ما هو معنى قوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(2)؟
 يريد الله تعالى أن يبيّن تأثير التوازن الذي أودعه في حركة الناس في علاقاتهم بعضهم ببعض، فإنّ موازين القوى هي التي تشكّل حاجزاً أمام الناس حتى لا يبادروا إلى القهر والظلم والإفساد في الحياة والمجتمعات؛ لأن كل فريق يملك قوةً يخشى من القوة التي يملكها الفريق الثاني، ما يمنعه من التحرّك في العدوان؛ وهو ما يمنع الفساد في الأرض، وفساد الأوضاع الإنسانية في علاقات الناس بعضهم ببعض.
هويّة الشيخ الكبير:
ما هو الدليل على أن الشيخ الكبير في سورة (القصص) في قصة الإمرأتين اللتين سقى لهما موسى، هو النبي شُعيبt؟
 لعلّ ذلك باعتبار أن موسىt خرج هارباً من فرعون وقومه وقصد مدين، ومدين هي البلد الذي أرسل الله شعيباً إليه لينذر قومه ثم انتهت مهمّته بعد ذلك، وبلغ من العمر مبلغاً، ما يؤيّد أنّ هذا الشيخ الكبير هو شعيب النبيّt؛ والله العالم.
الزمن الإلهي والزمن البشري:
قال تعالى: ﴿وإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾(1)، وقال أيضاً: ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾(2)، هل معنى ذلك أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة آلاف سنة مما نعدّ؟
 ليس من الضروري أن يكون ذلك؛ فإنّ الله سبحانه قد تحدّث عن يومٍ يوازي خمسين ألف سنة، فقال تعالى:﴿تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ﴾(3)، فيمكن أن يكون المقصود من هذا البيان، أن حساب الزمن يختلف بين سنيّ البشر وسنيّ العالم المتّصل بالغيب، لا أنّ كلّ يومٍ من أيّام الله يوازي ألف سنةٍ ممّا نعدّ؛ والله العالم.
الدين والفطرة:
كثير من الناس لا يؤمنون بالإسلام، والله يقول: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون﴾(4) فما المقصود بالفطرة؟
 المقصود بالفطرة، هي الحال التي إذا رجع الإنسان إليها، انفتح على التوحيد، وانفتح على الإسلام الذي هو دين الفطرة.
الذكر بعد النسيان:
في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾(5)، هل المقصود هنا هو نسيان الذكر والتسبيح؟
 قيل إنّ المقصود هو ذكر الله في قول الإنسان «إن شاء الله»؛ لأنّ الكلام جاء بعد قوله تعالى:﴿وَلاتَقُولَنَّلِشَيْءٍإِنِّيفَاعِلٌذَلِكَغَداً * إِلاَّأَنْيَشَاءَاللهُ﴾(1)، فأتت الآية التالية لتقول إنّك إذا نسيت أن تعلّق فعلك في المستقبل على مشيئة الله، فاذكره ولو بعد حين. وقيل إنّ الآية لا علاقة لها بما قبلها، بل هو كلامٌ مستأنف، يُشير إلى الإنسان أن يذكر الله عندما ينسى أيّاً من مسؤوليّاته؛ والله العالم.
حركة الشمس في القرآن:
يقول تعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾(2)، ما مدى أهمية تلك الآية وتأثيرها في علم الفلك؟
 الظاهر أنّ المراد بالجريان ليس الحركة المادية في هذا المقام، بل جريان النظام؛ فالله سبحانه وتعالى يؤكّد أنّ الشمس تتحرك إلى مستقرها الذي وضعه الله لها في نهاية المطاف.
انتصار الحق:
نزلت الآية المباركة: ﴿وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾(3) في مكة والأصنام تملأها، فهل الأمر سيكون كذلك عند ظهور الحجةr؟
 أراد الله أن يبين من خلال قوله ﴿جاء الحقّ﴾، أن الرسالة التي أُرسل بها النبيw تمثّل الحقّ كلّه، وأن ما عليه المشركون في مكّة يمثّل الباطل، بقطع النظر عما يحدث في الجانب التنفيذي الواقعي. وبعبارة أخرى: أراد أن يميّز بين طبيعة الرسالة التوحيدية وطبيعة الشرك. وهكذا الأمر عندما يظهر الإمام المهديّr، فإن المسألة هي أنه يواجه حالة الظلم العالمي ليعالجها بطريقته الخاصة التي منحه الله سبحانه وتعالى إياها في السيطرة على ذلك الواقع من أجل العدل العالمي.
الأسماء التي عُلّمها آدمt:
يقول تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(1). هل هناك رواية عن أهل البيتi تدل على أن هذه الآية تخصهم؟
 الوارد عن أئمة أهل البيتi، ومنهم الإمام الصادقt، أنه علَّمه الأسماء التي تمثل كل ما تشتمل عليه الأرض التي هي مسؤوليّته. ففي الرواية عن الإمام الصادقt أنّه لمّا سُئل «عن قول الله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، ماذا علّمه؟ قال: الأرضين والجبال والشعاب والأودية، ثمّ نظر إلى بساطٍ تحته، فقال: وهذا البساط ممّا علّمه»(2)، وهذا الأمر من طبيعة الخلافة التي أراد الله سبحانه لآدم أن يمثّلها في الأرض، ممّا لا يملك الملائكة القيام به. وما ورد في هذه الرواية وأمثالها، هو مجرّد أمثلةٍ لكلّ ذلك؛ والله العالم.
نسيان آدم tوفقدانه العزم:
ما هو تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾(3)؟
 هذه الآية تتحدّث عن تجربة آدم في الجنّة، عندما اندمج في الجوّ الذي زيّنه له إبليس، في مسألة منع الله له ولزوجته من الأكل من تلك الشجرة، فغفل عمّا عاهد الله عليه في عدم الأكل منها. وقد ذكرنا مراراً أنّ عالم تجربة آدمt في الجنّة يختلف عن تجربة ما بعد نزوله إلى الأرض، حيث كانت الجنّة تمثّل دورةً تدريبيّةً إعداديّةً لمرحلة الأرض، والتي يُراد من خلالها أن يعرف آدم أنّ هناك شرّاً ليحترس منه، ولم تنطلق المسألة على أساس تكليفٍ شرعيّ يستحقّ عاصيه العقاب، كما هو شأن التكاليف التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه ورسله.
الملائكة وليلة القدر:
على من تنزل الملائكة في ليلة القدر؟ وما معنى ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾(1)؟
 تنـزل إلى الأرض لتقسّم الآجال والأرزاق وما إلى ذلك من مسؤوليّاتها ومهمّاتها التي كلّفها الله بها، ولا تنـزل على أناس معينين، كما هو الشائع بين كثير من الناس. والله أراد أن يجعل ليلة القدر ليلة السلام من خلال ما يفيضه على عباده، وليوحي للناس أنّه لا بد لهم من أن يعيشوا فيها السلام الروحي والسلام العبادي وما إلى ذلك.
قيمة الزمن:
 جاء في القرآن قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُم كَأنْ لَمْ يَلْبثوا إلاّ ساعةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَْينَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذينَ كَذّبوا بِلِقَاءِ الله وَمَا كَانوا مُهْتَدين﴾(2)، كيف نعيش الإحساس بالزمن لنعيش الحاضر ونصنع المستقبل؟
 عندما يجتمع الناس يوم القيامة بعد فراق طويل، قد يكون بحجم القرون أو عشرات السنين، فإنّ فراقهم يبدو وكأنه استمرّ لعدّة ساعات، مع أنّ الإنسان عندما يفترق عن إنسان آخر، فإنه يشعر بثقل الزمن وطول المدّة التي غاب فيها عنه، فيحدّثه بعد اللقاء به عن طول الزمن وضغطه عليه، من خلال ما عاناه من فراق طيلة تلك المدّة، وما ذلك إلاّ لأنّه عاش الزمن وأحسّ به.
أمّا في يوم القيامة، فعندما يلتقي الأجداد والآباء والأبناء، وبعد مضيّ مئات وآلاف السنين، فإنّهم لا يشعرون بالفراق عن بعضهم البعض إلاّ لعدّة ساعات، لأنّهم لم يحسّوا بالزمن.وإذا أردنا تقريب الصورة، نقول: لو أنّ إنساناً دخل في غيبوبة، لمدّة شهر أو شهرين، ولكن بعد علاج معيّن استفاق من غيبوبته، ولم يخبره أحدٌ بالزمن الذي استغرقه في هذه الغيبوبة، فإنّه عندما ينظر إلى الناس من حوله، يظنُّ انه افترق عنهم أربعاً أو خمس ساعات، لأنّه لم يشعر بالزمن الذي يمرّ عليه إطلاقاً.
وقد يمرّ الزمن على الإنسان فلا يحسّ به، لا لأنّه ميّت، أو لأنّه في غيبوبة، بل لأنّه غافل عن هذا الزمن وذاهل عنه، لذا ورد في القرآن الكريم:﴿قال كَمْ لَبِثْتُم في الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ* قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَو بَعْضَ يَوْم فاسْأَلِ العَادِّين﴾(1)، فقد كانوا لا يُحسّون بالزمن الذي مضى عليهم، بل كانوا يحسّون بالزمن الذي يعيشونه في الحاضر، لذلك قالوا يوماً أو بعض يوم.
قبلة موسىt:
يقول تبارك وتعالى:﴿وَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتَاً واجْعَلُوا بُيُوتَكُم قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ المُؤمِنِينَ﴾(2). ما هي القبلة التي تحدّث الله سبحانه وتعالى عنها في هذه الآية؟
 أوحى الله تعالى إلى موسى tوأخيه وهما في موقع القيادة، أن يقيما موقعاً للقوة في ساحة المؤمنين، ليكون لهم منطقة يعيشون فيها بحرية ويدافعون عن أنفسهم إذا ما أراد فرعون مهاجمتهم والقضاء عليهم، وخصوصاً أنّ المعركة كانت ما تزال مفتوحةً بين موسى وأخيه والمؤمنين من جهة، وبين فرعون والذين معه من جهة أخرى، لذلك أمرهما الله تعالى أن يبنيا بيوتاً وأن تُجعل هذه البيوت قبلة.
وفي هذا وجهان من التفسير:
الأول: اجعلوا بيوتكم مساجد تُصلّون فيها، باعتبار أنّ القبلة هي وجهة الصلاة، ولأنهم كانوا يخشون من فرعون إذا صلّوا في مكان عام، فكأنه يقول لهم: صلُّوا في بيوتكم، واجعلوها مساجد، إذا لم تستطيعوا أن تقيموها بشكل رسميّ وعلني، لأنّ فرعون إذا رآها سوف يهدمها.
الثاني:﴿واجْعَلُوا بُيُوتَكُم قِبْلَةً﴾(1)، أي اجعلوها في الواجهة، وليست على شكلٍ متناثر، بحيث إذا أراد العدو مهاجمتكم، فإنّكم قادرون من خلال الموقع المتقدّم أن تدافعوا عن أنفسكم، وخصوصاً أن العدو في هذه الحالة لن يستطيع الالتفاف عليكم. وهذا هو الأقرب؛ لأنّ الآية ليست في مقام بيان المساجد، وإنّما ما ذكرناه من مسألة الأخذ بأسباب القوّة في مواجهة فرعون وأتباعه.
الطلاق في القرآن:
يذكر القرآن الكريم الطلاق بالثلاث، فهل يتمّ ذلك بالتلفظ فقط؟
 جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾(2)، ثم يقول تعالى:﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾(3)، ومن الواضح أن الطلاق هنا ليس المقصود به التلفّظ ثلاثاً، بل إنّ المراد بالطلاق الثلاث أي مرّةً بعد مرّة، بحيث يُرجعها ثمّ يُطلّقها، وهكذا ثلاث مرّات، لا أنّه يقول لها: (أنت طالق بالثلاث).
عموم الفتنة:
قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾(1)، بينما يقول عز وجلّ في آية أخرى ما معناه أنه ينجي المؤمنين من البلاء، فلماذا في الآية الأولى ستصيب الفتنة الظالمين والمؤمنين معاً، بينما في الآية الأخرى وعد المؤمنين بالنجاة ؟
 ثمّة فرق بين الآية الأولى والآية الثانية. أما في الآية الأولى، فهناك تأكيد أنّ الكثير من الفتن التي تعيش في المجتمعات، عندما تنـزل تشمل المجتمع كله، بحسب طبيعتها. فمثلاً، عندما تحصل هناك أمطار غزيرة وعاصفة، فإنها قد تصيب الإنسان المؤمن وغير المؤمن، لأن طبيعة نزول المطر يقتضي ذلك. وعندما تحدث الفتنة في المجتمع، من خلال الذين يعبثون به لتنتشر الفتنة بين أفراده، وليقتل المجرم البريء، فإنه عندما يفقد المجتمع حالة الاستقرار، ويعيش حالة الاهتزاز، فإن ذلك يشمل الذين ينطلقون بالفتنة، أو الذين يخضعون لأوضاع الفتنة.
وهكذا بالنسبة إلى العوامل الطبيعية كالزلازل والبراكين والفيضانات، أو في المسألة الإنسانية. لذلك فإن الدعوة هي أن يواجه المؤمنون المشاكل الفردية والاجتماعية الناشئة من بعض الانحرافات الفكرية والعملية التي تؤدي إلى نتائج سلبية في حركة الحياة، وذلك بالتعامل معها من موقع المسؤولية العامة الواعية للقاعدة الاجتماعية التي تحكم مسيرة المجتمع في سلبياته وإيجابيّاته، لأنّ هذه الانحرافات تقتصر في تأثيراتها على الناس الذين يقومون بها، بل تمتدّ إلى كل أفراد المجتمع، لأن علاقات الناس ومصالحهم متشابكة. ولعل هذا هو ما عبر عنه الحديث:«لتأمرُنّ بالمعروف، ولتنهُنّ عن المنكر، أو ليُسلّطنّ الله شراركم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم».
أما الآية الثانية: فهي في مقام بيان أن اللّه عزّ وجل قد ينجي عباده من بعض البلاء، وليس معناه أن اللّه تعالى تكفّل للمؤمن بأن لا يمرض، أو أن لا يموت أيضاً. فهذه الآية تركِّز على جانب رحمة اللّه سبحانه وتعالى فيما اقتضت حكمته أن ينجي المؤمن من البلاء عندما يدعو ربه.
تفسير (قَدَمَ صِدْقٍ):
ما المقصود بقوله: ﴿قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾(1)؟
 باعتبار أنهم من المؤمنين والصالحين، فاللّه سبحانه وتعالى يعطيهم أجرهم الذي وعدهم به، والذي يمثل صدق وعد الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، ومعنى أن لهم قدم صدق، أي أن لهم موقعاً متقدِّماً وخطوةً حسنةً عند ربهم.
سعة الرزق وضيقه:
يقول اللّه سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يحتسب﴾(2)، وجاء في الحديث الشريف: «كلما ازداد العبد إيماناً ازداد ضيّقاً في معيشته»، ما صيغة التوافق بين الآية الكريمة والحديث الشريف؟
 ربما كانت الآية الكريمة في مورد تأكيد عدم القنوط واليأس من رحمة الله، وأن على الإنسان إذا اتقى ربه، أن يثق بأن اللّه سبحانه وتعالى سوف يجعل له المخرج حيث لا مخرج، وسوف يرزقه الرزق الذي لا يحتسبه، ولا ينتظره، وهذه واردة في مقام الثقة بالله تعالى، وأن الله سبحانه وتعالى يلطف بالأتقياء من عباده، فيفرِّج عنهم في ما يواجهونه من البلاء، سواء ما يتعلّق بالرزق، أو ما إلى ذلك.
أما الحديث الشريف، فإنه قد ينظر إلى مسألة أن على المؤمن أن يصبر عند نزول البلاء، لأن الإنسان كلما زاد إيماناً، فإن عليه أن يتحمل مسؤولية هذا الإيمان فيما يواجهه من التحديات، سواء في حرمانه من شهواته ولذاته، أو في مواجهته أعداء الإيمان، فربما تضيق عليه معيشته، ولكن ليس معنى ذلك أن ييأس من رحمة ربّه.
الحجاب والوضوء في قراءة القرآن:
هل يجب أن ترتدي المرأة ثوب الصلاة أثناء قراءة القرآن؟ وهل يجب أن تتوضأ؟
 لا يجب الحجاب أثناء قراءة القرآن الكريم، ولكن يستحب الوضوء حال القراءة، ويجب الوضوء إذا أريد مسّ كلماته.
تفسير القرآن بالرأي:
قرأت في أكثر من مصدر روايات تنهى عن التفسير بالرأي ومنها: (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار). ما المقصود بالتفسير بالرأي؟ ولماذا نهي عنه بهذه الشدّة؟
 كل تفسير لا ينطلق من حجة واضحة بيّنة هو تفسير بالرأي، مما يندرج في إطار الاستحسان الخاص، والحجة تتحقّق بأكثر من مدخل، من المعنى الظاهر للنص من دون أية قرينة تردّه إلى غير معناه، أو من تفسير القرآن بالقرآن.
القلب في القرآن:
ورد في عدة مواضع في القرآن العظيم، ما معناه أن الإيمان يدرك بالقلوب، مع أنه من المعروف أن وظيفة القلب هي فقط ضخ الدم، أما التفكير والإدراك فهي من وظائف الدماغ؟
 المراد بالقلب في مثل هذه التعابير القرآنية، هو مركز الإحساس والإدراك في الإنسان، وفي مقدمته العقل.
عالم الذرّ:
هل إنّ معنى قوله تعالى: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾(1) يدل على وجود عالم الذرّ؟
 عالم الذر مختلف فيه، فهناك بعض العلماء لا يثقون بوجود عالم الذر الذي جاء الحديث عنه في بعض الروايات، كما في رواية:«أن الله أخرج من ظهر آدم أولاده كمثل الذر» ولذلك، فإن قوله تعالى:﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ هو كناية عن أن الله سبحانه وتعالى أخرج البشر من أصلاب آبائهم. ثم إن علماءنا، مثل الشيخ المفيد(ره)، يقول في تفسير هذه الآية:﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾، أنّ الله ركّب في ولد آدم من الفطرة، بحيث لو سألهم لشهدوا بالربوبية. ونحن نتحفظ على موضوع عالم الذر بالمعنى الأول، لجهة عدم ورود شيء يوثق به تفصيلاً.
خروج الحي من الميّت والعكس:
هل إن الآية القرآنية ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ﴾(2) خاصة بالإنسان فقط؟
 كلا، إنها شاملة لكل الأحياء.
معنى مفاتح الغيب:
يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَعَنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فَي البَرِّ والبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الأَرْض ِ وَلا رَطَبٍ وَلا يَابِسٍ إلاّ في كِتابٍ مُبين﴾(1)، يدّعي البعض المعرفة المطلقة، ويتناسى أنّ معرفته لا تساوي شيئاً أمام معرفة الله سبحانه، فكيف تتناول الآية المباركة هذه المسألة؟
 هؤلاء المدّعون الغافلون ماذا يُمثلون في علمهم وسلطتهم وقوّتهم أمام الله ومعرفته وسلطته وقوّته؟ فهذه الآيات تجيب عن هذا التساؤل، حيث تُصوّر عظمة الله، وتقارن بينه وبين غيره، وهذه مسألة ضرورية، لأننا عندما نعيش حياتنا الحسية والمادية نستغرق فيمن حولنا، فنرى شخصاً تحوطه مظاهر الهيبة والعظمة والسلطة والمال، فنخاف منه ونطيعه من دون الله، لكن ما موقع فلان أو مقدار علمه من الله؟ فنحن لا نرى إلا الحالات التي نحسّ بها، لأننا لا نملك مفتاح المعرفة المطلقة، فعيوننا مفاتيح المعرفة لما يُبصَر، وآذاننا مفاتيح المعرفة لَما يُسمَع، وأيدينا مفاتيح المعرفة لما يُلْمَس، فوسائل المعرفة عندنا هي حواسنا الخمس فقط ، ولكنّ هناك غيباً خفياً في السموات والأرض هو بيد الله تبارك وتعالى:﴿وَعَنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فَي البَرِّ والبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الأَرْض وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاَّ في كِتابٍ مُبين﴾(2)، وهذا كناية عن علمه تعالى. ولذا، فأين يمكن أن تجد هذه المعرفة وهذا العلم عند كلّ من يدعو الناس من دون الله.
حديث القرآن عن الشرك:
يقول سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يُخْزِيهِم وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الّذِينَ كُنْتُم تُشَاقُّونَ فِيهِم قَالَ الّذينَ أُوتُوا العِلْمَ إنَّ الخِزْيَ اليَوْمَ والسُّوءَ عَلَى الكَافِرِين﴾(1)، في القرآن حديث متكرّر عن الشرك ، كيف تظهر صوره المتعدّدة من خلال هذه الآية المباركة؟
 يقف بعض الناس يوم القيامة بين يدي الله تعالى، وقد كانوا ممن أشرك بالله، والشرك ليس فقط شرك العبادة والعقيدة، ولكنّه قد يكون شرك الطاعة، فأنت عندما تستغرق في إنسان وتعطيه كلّ حبّك وطاعتك، وتجعل إرادتك منحنيةً أمام أوامره ونواهيه مبتعداً عن إرادة الله إذا تعارضت مع إرادته، فإنّك بذلك تجعل لله شريكاً من خلقه...
فهذا النوع من الشرك أخطر من شرك العبادة، من خلال عبادة الأصنام، لأنّ عبادة الأصنام مسألة تتصل بطقوس خاصة محدودة، فتسجد للصنم وتطلب ما تريد، من دون أن يتدخّل الصنم في حياتك، لأنّ الصنم لا يأكل ولا يُبصر ولا يتعب، أما عندما يكون الصنم من لحم ودم ويملك موقعاً سياسياً أو دينياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً منحرفاً، ويعمل على نشر الفساد من خلال سلطته التي يأمر من خلالها وينهى، فإنّ عبادة هذا الصنم البشري وإطاعته تمثّل خطورةً على مستوى الحياة كلّها، لأن الإنسان عندما يأتمر بأوامره التي هي على خلاف أوامر الله، وينتهي بنواهيه التي هي على خلاف نواهي الله، ويركّز حياته على أساس مناهجه وشرائعه ومفاهيمه ووسائله وغاياته، فمعنى ذلك أنه يجعل لهذا الصنم البشري حجم إدارة الحياة، وبذلك تكون عبادته العملية لهذا الصنم خطراً على الحياة كلّها وعلى من حوله، وليس خطراً على الشخص نفسه.
من هنا ، فإنّ الله سبحانه وتعالى يطلب من هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أرباباً من لحم ودم ﴿أَيْنَ شُرَكَائيَ الّّذِينَ كُنْتُم تُشَاقُّون فِيهِم﴾ أين هم الذين كنتم تتنازعون فيهم وتجعلونهم شركاء لله، وتتحرّكون في المنازعة بسببهم، عندما تفضّلون زعيماً على زعيم وتتسابقون إلى رضاه، أو عندما تنحازون إلى دولة على أنها الأفضل والأحسن والأكبر، على اعتبار أنّ هناك صنماً أكبر وصنماً أصغر؟ هذا هو النداء:﴿أَيْنَ شُرَكَائيَ﴾، ماذا يمثلون أمام العظمة الإلهية؟ وأين هي عزتهم أمام العزة الربانية؟ أين هم الذين كنتم تفضلونهم في الطاعة، ويحدث لأجلهم الشقاق والنـزاع بينكم؟ لا جواب! وعندها ﴿قَالَ الّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ إنَّ الخِزْيَ اليَوْم والسُّوءَ عَلَى الكَافِرِين﴾(1).
ولاية الكافر:
نرجو تفسير قوله تعالى: ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾(2)؟
 يعني أن لا تتحزبوا للكافرين وتسقطوا أمام كبريائهم، إلا أن تتقوا منهم تقاةً، إذا كنتم في وضع لا تستطيعون معه مواجهتهم، وإلا فمع الاستطاعة، فإنه لا يجوز لكم ولايتهم. وأما قوله تعالى:﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ أي إذا لم تأخذوا بهذا النهي عن ولاية الكافرين، فإن الله سيدخلكم جهنم، وسيكون ذلك موجباً لغضبه الذي يوجب استحقاق العقاب الشديد.
آية التطهير ونساء النبيw:
ذكرت آية (التطهير) في سياق الحديث عن نساء النبيw، فهل تشمل الآية نساء النبي أو أنها تقتصر على أصحاب الكساء؟
 إنها تقتصر على أصحاب (الكساء)، لأن الآية نزلت لوحدها وليست متعلقةً بنساء النبيw، والرواة من السنة والشيعة يؤكدون أنها نزلت عندما كان الرسولw في بيت (أم سلمة)، فجمع علياً وفاطمة والحسن والحسينo، وضمهم تحت الكساء وكان معهم، ودعا بقوله:«اللهم هؤلاء أهل بيتي...» ونزلت هذه الآية:﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾(1)، فقالت أم سلمة للنبيw:«يا رسول الله، ألست من أهلك؟» فقال لهاw:«إنّك إلى خير...».
وهذا النص تتفق عليه روايات أهل السنة والشيعة. ولكنّ القرآن عندما رتّب، لم يُرتَّب على أساس تاريخ النـزول، لأنه كان يتابع المسيرة الإسلامية من مكة إلى وفاة الرسولw، فكانت تنـزل آية في حال الحرب، وآية أخرى تنـزل في حال السلم، وآية تكون موجّهةً إلى نساء النبي، وأخرى تكون موجهة إلى أهل البيت، وعندما كان النبي يشرف على ترتيب القرآن، فإنه وضع هذه الآية في هذا الموضع، ومع ذلك، فإنها لا تشمل أزواج النبيw، بل تختص بأهل بيتهi لما ذكرناه، وهناك أبحاث مفصَّلة حول هذا الموضوع.
النفس الأمّارة بالسّوء:
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي﴾(2)، فما هو المقصود بالاستثناء؟ وهل تتدخل رحمة الله في شؤون بعض الناس دون البعض الآخر؟
 إن رحمة الله لطف منه للإنسان جزاء عمله، وعندما يجاهد الإنسان نفسه وينتصر عليها فإنّ الله يساعده على ذلك دون أن يسلب منه الاختيار.
الشمس والنهار:
قال الله تعالى: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا* وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا* وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاّهَا﴾(1). المعروف أن الشمس هي التي تظهر النور، فلولاها لما كان النهار، فكيف يجلِّي النهار الشمس؟
 إن النهار حالة زمنية، فالشمس وإن كانت هي سبب النهار، إلاّ أن هذه الحالة الزمنية هي التي تظهر فيها الشمس، فيكون النهار مظهر الشمس.
العلامات الكونية:
يقول تعالى: ﴿وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾(2)، ما هي تلك العلامات؟
 المقصود بالعلامات، هي المعالم التي تُعلم بها الطرق، من جبال وسهول وأودية وما إلى ذلك. وقيل: العلامات هي الجبال التي يُهتدى بها نهاراً، وفي مقابلها النجوم التي يُهتدى بها ليلاً. وقيل: إنّ العلامات هي النجوم أيضاً، لأنّ من النجوم ما يُهتدى بها، ومنها ما يكون علامات لا يُهتدى بها. وهناك معانٍ أخرى.
الأئمّة الدعاة إلى النار:
يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ﴾(3). من هم الأئمة الذين يدعون إِلى النار؟
 كل إنسان كافر يدعو قومه إلى الكفر، فإنّه يقودهم ويقود الناس إلى دخول النار من خلال دعوتهم إِلى الكفر بالله والشرك به.
نقص الأرض من أطرافها:
يقول تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾(1)، ماذا تعني هذه الآية؟.
 أي أن الله سبحانه وتعالى قد ينقص هذه الأرض بفعل العوامل التي قد تحدث من خلال الزلازل والبراكين وما إِلى ذلك، وربما يفسرها بعضهم تفسيراً معنوياً، بأن إنقاص الأرض إنما هو موت العلماء.
الشفاعة للأهل:
يقول تعالى: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾(2)، هل الشفعاء من الشهداء يشفعون لأهلهم؟
﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾(3). فقد جعل الله سبحانه وتعالى للشفعاء، وهم الأنبياء والأولياء، برنامجاً ينطلقون من خلاله بالشفاعة لهذا أو لذاك، لأن المسألة ليست مجرد مسألة ذاتية ينطلق فيها الإنسان يشفع لأقربائه أو لأصدقائه أو ما إلى ذلك، بل إنه ينطلق من خلال البرنامج الذي جعله له الله سبحانه وتعالى في ذلك.
حكمة النسخ القرآني:
ما هي الحكمة في مسألة النسخ القرآني، والله قادر على كل شيء، فلم لم يأت بآيات ثابتة؟
 هناك من ينفي النسخ القرآني؛ وهذا هو رأي أستاذنا السيد أبي القاسم الخوئي (رحمه الله) في كتابه (البيان في تفسير القرآن). ولو قلنا بالنسخ، فذلك باعتبار أن هناك بعض الأحكام التي كان ينـزلها الله سبحانه وتعالى لها وقت محدد، فإذا انتهى وقتها يأتي بحكم آخر؛ لأن القرآن لم ينـزل دفعة واحدة وإنما نزل بالتدريج.
معنى الضلال:
يقول تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى﴾(1)، هل هذا يعني أن النبي كان ضالاً قبل أن يرسله الله بالرسالة، وأنّ الله هداه بعد ذلك؟
 ليس المراد بالضلال هنا (ضد الهدى)، بحيث يكون النبيّ منحرفاً عن الخط المستقيم، وأنّه يسير مع قومه في كل عقائدهم وأوضاعهم، بل المراد أن الله وجدك لا تعرف حقائق الإيمان وأصوله وحقائق الكتاب، وهذا ما عبر عنه سبحانه وتعالى:﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ﴾(2)، أي أن النبيw لم يكن يملك ثقافة الإيمان بكل تفاصيله، وثقافة الكتاب بكل آياته؛ فكان ضالاً، أي غير منفتح على تفاصيل خط الهدى، فهداه الله عندما أرسله بالنبوة وأنزل عليه آياته ووحيه، فهذا لا يمثّل حالة سلبية بالنسبة إلى النبيw.
تعليم الإنسان:
ما معنى قوله تعالى: ﴿واللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾(3)، مع أنّه في آيةٍ أخرى يقول: ﴿إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾(4)؟
 هذه الآية تعني أن الإنسان يولد بلا علم، لأنه لا يملك عقلاً ناضجاً يستطيع أن يحصل من خلاله على العلم، ولا يملك أيضاً أية وسائل للمعرفة. ثم قوله تعالى:﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ يفيد أنّه عندما انطلق الإنسان في خط النبوغ وفي خط العقل، فإن الله سبحانه وتعالى هداه إلى سبيل الحق، وجعله يعيش بين خيارين؛ الهدى والضلال، وهذا قوله تعالى:﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾(1) أي هديناه طريق الخير وطريق الشر. فمورد الآية الأولى هي مورد الإنسان الذي يولد من دون أن تكون له أية عناصر تجعله مهتدياً فتجعله عالماً وعارفاً، بينما الآية الثانية تفيد أن الإنسان في حياته ينطلق أمام خياري الخير والشر، وخياري الهدى والضلال، ليختار بينهما، باعتبار أن الله فتح له كل المجالات ليتعرّف هذا وذاك، ويختار هذا أو ذاك.
كفالة النبي:
ماذا يعني قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾(2)؟
 أي أن النبي w كان فقيراً، وكان المعروف عنه أنّه يتيم أبي طالب، ولكن الله فتح له أبواب الرزق، إما من جهة تزوجه بخديجة (أم المؤمنين)، وإما من جهة الأمور الأخرى التي هيّأ الله له فيها سبيل الرزق.
تجويد القرآن:
هل قواعد التجويد جزء من القرآن، وبناءً على ذلك، هل علينا أن نقرأ القرآن الكريم بالتجويد؟
 ورد في الحديث: (اقرأ كما يقرأ الناس)؛ أما قواعد التجويد، فهي تمثّل القواعد المحسّنة لأسلوب القراءة، وليست لازمة إلا بما كانت عدم مراعاته تضرّ بالمتعارف من القراءة، كالإخلال بمراعاة الحروف الشمسية أو القمرية في لفظ اللام وإدغامها، ونحو ذلك.
الخلق ممّا يعلمون:
ما معنى قوله تعالى: ﴿كَلا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِمَّا يَعْلَمُونَ﴾(1)؟
 أي أنّ الله خلق آدم من تراب، وخلق الإنسان من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة... وما إلى ذلك.
عرض الأعمال على الرسول:
يقول تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون﴾(2). هل الأعمال تُعرض على رسول اللهw؟
 هناك بعض الروايات التي تقول بذلك، لكن الظاهر أنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يبيّن للمؤمنين العاملين، أنكم إن تعملوا بما أمركم الله به، فسيرى الله عملكم، باعتبار اطلاع الله على سرّكم وعلى نيتكم في العمل، كما يراكم رسول الله الذي يراقب أعمالكم، لأن الله جعله الشاهد على الناس، وكذلك المؤمنون الذين تعيشون معهم، يرون أعمالكم الصالحة، ويُراقبونها. ولعلّ هذا وارد على مستوى الرقابة في الدنيا؛ بدليل تكملة الآية التي تقول:﴿وَسَتُرَدُّونَإِلَىعَالِمِالغَيْبِوَالشَّهَادَةِفَيُنَبِّئُكُمْبِمَاكُنْتُمْتَعْمَلُونَ﴾(3)، والله العالم.
الإكراه على الحقيقة:
قال تعالى: ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُون﴾(4)، في ما نزلت هذه الآية؟ وماذا قصد بها؟
 تريد هذه الآية أن تبين أن الحقيقة واضحة، وأن عليكم أن تختاروها وتؤمنوا بها وتتحركوا في إيحاءاتها واتجاهاتها، ونحن لا نملك أن نلزمكم إيّاها وأنتم لها كارهون، لأن هذه المسألة تتحرك في دائرة الاختيار، حتى إن النبيw لم يسلِّطه الله على الناس بحيث يجبرهم على الإيمان، قال تعالى:﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾(1)، وقال:﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ﴾(2).
العلوم في القرآن الكريم:
ما رأيكم في قول البعض إن كل العلوم والنظريات موجودة في القرآن حتى علم الذرة؟
 هذا غير صحيح، لأنّ القرآن هو كتاب هداية يُعرف به الله سبحانه وتعالى، وتتحرك فيه النظم الاجتماعية التي تضبط حياة الناس من خلال ما ينفتحون به على بعضهم البعض، فالقرآن يتحدث عن الجانب العقيدي والأخلاقي، وعن النظام الاجتماعي وعن الخطوط السياسية. ولكنّه ليس كتاب ذرة ولا كتاب طب ولا غيرهما. نعم، قد يحتوي على بعض الإشارات إلى حقائق هذه العلوم، إلا أن ذلك لا يعني أن القرآن هو كتاب يتناول كل العلوم. أمّا كونه تبياناً لكلّ شيء، فهو تبيان لكل شيء مما يحتاجه الناس في حياتهم من خلال انفتاحهم على الله وعلى الحياة وعلى بعضهم البعض.
لماذا لم يُسجن موسىt؟
قال الله تعالى: ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾(3) لماذا لم يقم فرعون بسجن موسى، أو قتله كما فعل بالسحرة؟
 لأنه كان يخاف من موسى، انطلاقاً من المعجزة التي هدّد بها موسى السحرة، وهدّد بها فرعون وقومه، وهي العصا واليد البيضاء، فقد امتلأ فرعون رعباً من هذه القوّة الغيبية التي يملكها موسى، وهكذا عندما أنزل الله عليهم تسع آيات تعذّبهم، طلبوا منه أن يطلب من الله أن يرفع عنهم هذا العذاب حتى يؤمنوا به، ولما رفع عنهم لم يؤمنوا به.
المعجزة وتغيير سنّة الله:
هل المعجزة هي خرقٌ لنواميس الطبيعة، ألا يلزم من ذلك تغيير لسنّة الله، والله يقول: ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾(1)؟
 المعجزة تمثل استثناء في خرق العادة. أمّا حركة الكون في نظامه، فهي جارية على سنن الله في الكون، فهذه من قبيل الاستثناءات التي أراد الله أن يؤيّد بها أنبياءه في مقام التحدّي.
فضل السادة على غيرهم:
أُستاذنا قال لنا في الصف، إن السيد أفضل من العامي، فهل هذا صحيح؟
 هذا غير صحيح، لأنّ الله تعالى يقول:﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾(2)، وقد ورد عن عليt في نهج البلاغة:«إنّ وليّ محمّد من أطاع الله وإن بعدت لُحمته، وإن عدو محمّد من عصى الله وإن قربت قرابته»، وقد قال الله:﴿إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِي﴾(3). لذلك، فإنّ الانتساب إِلى النبيw وإلى عليt والزهراءu لا يمثل قيمة بحيث ترتفع بالإنسان عند الله، بل لا بدّ من اتّباع ما جاء به النبيّw وأهل البيتi الذين لم يكن لديهم شيء غير الإسلام.
وقد ورد عن الإمام علي بن الحسين زين العابدينt، أنه رآه بعض الأشخاص وهو يبكي، فقال له: ما هذا الجزع والفزع، ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون، وأنت أبوك الحسين بن عليّ، وأمّك فاطمة الزهراء، وجدّك رسول اللهw؟ فالتفتt إليه وقال:«هيهات هيهات... دع عنك حديث أبي وأمّي وجدّي، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً، أما سمعت قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ في الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾(1)، والله لا ينفعك غداً إلا تقدمة تقدّمها من عمل صالح».
المعاد الجسماني:
ما رأيكم في حقيقة المعاد الجسماني، هل هي للجسد الدنيوي؟
 القرآن هو الحجّة التي أنزلها الله على رسوله، والقرآن يحدثنا عن المعاد الجسماني المادي، فهو يتحدّث عن الطعام والشراب والأزواج، وعن النار التي تحرق ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودَاً غَيْرَهَا﴾(2)، وغير ذلك. فالقرآن هو حجة على المعاد الجسماني بشكل واضح وتفصيلي.
اليوم الأُخروي:
تقول الآية المباركة: ﴿وَقَالَ الَّذِينَفي النَّار لِخَزَنةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْعَنَّا يَومَاً مِن العَذَابِ﴾(3). هل اليوم المذكور فيه ليل ونهار؟ وهل وقته أربع وعشرون ساعة، أم أنه كما ورد في الآية المباركة: ﴿وإنَّ يَوماً عِندَ ربِّكَ كألفِ سَنَةٍ مِمَّا تعُدُّونَ﴾(4)؟
 المراد في هذه الآية، هو الفترة المحدّدة من الزمن، ليكون المقصود أن يُرفَع عنهم العذاب مدةً من الزمن، وقد عبّر عن ذلك باليوم، من دون أن يكون المراد هو المعنى المتعارف عليه عندنا لليوم، وهو مجموع الليل والنهار، بل المراد هو فترة زمنية معينة محددة أو غير محددة، والله العالم.
الزمن في العالم الآخر:
أرجو تبيان رأيكم في تفسير الآية المباركة: ﴿لا يَسْمَعُونَ فيهَا لَغْوَاً إلاَّ سَلامَاً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيَّاً﴾(1). هل المقصود من (بُكرَةً وَعَشِيَّاً) أن هناك ليلاًَ ونهاراً في الجنة؟
 لعلّ المراد بذلك، هو أنّ لهم ذلك متى شاؤوا، وليس المراد مجرد التحديد والإشارة إلى وقت معين، وعلى فرض وجود وقت، فاليوم غير اليوم، لأنّ الزمن إنّما هو مقدار حركة فلك معين، ومن ثم ورد في قوله تعالى:﴿وإنَّ يَومَاً عِنْدَ رَبَّكَ كَأَلفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّون﴾(2).
معاجز الأنبياءi:
قال تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أن يَرتَدَّ إلَيكَ طَرْفُكَ﴾(3). كيف يتمكن مخلوق من إحضار عرش ملكة سبأ في ذلك العصر من على بعد آلاف الكيلومترات في جزء من ثانية، أي قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه، فهل كان ذلك معجزة على يد من أحضر العرش، أم أنّها تعبير مجازي أم مبالغه؟
 نعم، هي معجزة أجراها الله تعالى على يدي نبيِّنا سليمانt لتأييده في دعوته.
تواصل الرسالات:
يستشكل بعض المستشرقين على الوحي الذي كان ينـزل على الأنبياء ونبيناw، وخصوصاً بالنسبة إلى الأوصاف التي ذكرها المؤرّخون للنبي عندما كان يتنـزل عليه الوحي، وأنه كان يتصبب عرقاً ويرتجف ونحو ذلك، ويقولون إنّها قد توحي بأن النبي كانت تنتابه نوبات من الصرع أو ما شابه، ويدعي أنّها وحي من الله، أو أنها تدل على القوّة الروحية التي كان يتمتع بها النبي، وأنّه كان يتصل ببعض الجن أو الأرواح لتخبره ببعض الغيبيات، أو أنّ لديه قدرات خاصة يستطيع من خلالها التأثير في الحجر وجعله يسبح بين يديه، أو ينادي الشجرة فتأتي إليه سعياً، أو يفلق القمر للناس وغيرها، وأنّه استغلّ كل تلك الظروف ليدّعي النبوة والرسالة، ويدّعي آخرون وجود تشابه كبير بين الأحكام والتشريعات التي أمر بها النبي أتباعه وبين مثيلتها في الشريعة اليهودية، ووجود تشابه في بعض الآيات القرآنية مع الآيات الموجودة في الكتاب المقدّس لليهود والنصارى كما يقولون، وفي هذا دلالة على أخذ النبيّ من كتبهم بواسطة ورقة بن نوفل، وهو من أصهاره، أو من بحيرا الراهب، أو من أحبار اليهود في المدينة أو غيرهم، فكيف نرد على افتراءاتهم تلك؟
 لقد أتى النبيّw بمعجزة، وهي القرآن الكريم، الذي أقرّ أهل اللغة والفصاحة من العرب بإعجازه، ما يُثبت أنّه من عند الله تعالى، كما أنّ النبيّw لم يكن يتّصل بأيّة حضارة سابقة أو كتب سماوية أو غير سماويّة، وقد أكد الله ذلك في قوله تعالى:﴿ومَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِنِكَ إذاً لارْتَابَ المُبْطِلُونَ﴾(1). وما أتى به النبيّw كان مصدّقاً لما سبقه من رسالات. أمَّا تشابه العقائد، فباعتبار أنَّ الدين واحد وهو من عند الله تعالى. وإنَّ مسألة الهداية لا تنطلق من شخص الرسول ذاته، بل من خلال رسالته وتوجيهاته وتشريعه الذي يمتد إلى مدى طويل من الزمن، كون رسالته خاتمة الرسالات. وإذا كان بعض الناس لا يهتدون، فلأنَّهم رفضوا التفكير بالرسالة أو الأخذ بها، تماماً كالناس الذين كانوا في زمن الرسولw. أمّا حكاية تفسير الحالة التي يتقبّل فيها النبيّ الوحي بالصرع أو القوّة الروحية، فإنّها لا تنتج الفكر الذي يتمثّل بالوحي، ما يجعل من هذا التفسير تفسيراً لا يرتكز على أساس، ولاسيّما مع التحدّي الذي تحدّى الناس به.
الخطأ في قراءة القرآن:
إذا قرأ شخص آية من القرآن وأخطأ في نطق بعض مفرداتها في جلسة تلاوة القرآن الكريم، هل يجب عليَّ المبادرة إلى تصحيح الخطأ؟ وإذا لم أفعل، فهل أعتبر آثمًا؟
 ينبغي قراءة القرآن قراءةً صحيحةً، ومع الخطأ غير المتعمد، لا إثم عليك في حال عدم تصحيحه مباشرة، وإن كان الأفضل لك تصحيحه.
حكم قواعد التجويد:
أسمع مفسري القرآن في دروسهم، يقرأون القرآن بترك المدود الزائدة والغنات الزائدة، وبإظهار حروف (قطب جد) إذا سكنت فقط دون قلقلتها قلقلةً شديدةً متكلفة تشبه التحريك كما يفعل القراء، فأشعر أنه هكذا قرأه النبيw كما ينطق غيره من الكلام بطريقة واضحة فقط، إذ لو كان قرأه كما يفعل القراء، لسخر منه العرب وقالوا ما هذا الغناء الذي أتيت به، ولكنهم لم يعترضوا على الأداء .فما رأيكم في ذلك؟
وهل وجوب المد قبل الهمز أو الحرف الساكن أو المشدد هو (وجوب فني) مستحدث، خشية حذف المد، كما في بعض اللهجات العامية، أما الواجب الشرعي في نطق كلمة (الضَّالين)، فهو إحداث حركة طويلة بالفتح بعد نطق الضاد، لتفرقتها عن كلمة (الضَّلين) ذات الحركة القصيرة لفتح الضاد، وإذا كان كلامي هو الذي يمثّل الواجب الشرعي، فهل يجوز للعربي أداء القرآن صوتياً بذلك الأداء الفني المستحدث إذا أُمِنَ من نطقه بطريقة أعجمية؟
 قال تعالى:﴿وَرَتِّلِالقُرْآنَتَرْتِيلاً﴾(1)، فالترتيل يؤدي إلى إظهار هذه الأحكام التجويدية في القراءة بالشكل الذي لا يلزم المتكلم العربي بالكلام العادي إظهاره، وأصلاً لا يجب وجوباً شرعياً مراعاة هذه الأحكام في التجويد وقراءة القرآن، وإن كانت أحكاماً تتصل بالنطق العربي الصحيح مع كونها قد قُنّنت متأخراً.
معنى (غاسق) و(وقب):
ما معنى: ﴿وَمِنْشَرِّغَاسِقٍإِذَاوَقَبَ﴾(2)؟
 أي من شر الليل والعتمة إذا حلّت، لكونها ـ عادةً ـ ظرفاً يتحرك فيه الشر وأصحابه.
الطيّبون والخبيثون:
ما تفسير قوله تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾(3)؟
 هذا معناه أن كل شكل لشكله ألف، بمعنى أن الخبيث الذي يعيش الخبث الفكري والشعوري ينجذب إلى الخبيثة، وأن الطيب ينجذب إلى الطيبة. وفي مقام الإيحاء، فإن الآية بصدد الإشارة إلى أن الإنسان إذا كان طيباً، فعليه أن ينفتح على الطيبات، وأن المرأة إذا كانت طيبة، فعليها أن تختار لنفسها طيباً.
نسيان النفس:
قال اللّه تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾(1)، وقال تعالى في موضع آخر: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾(2)، فماذا يعني النسيان في الآيتين؟
 الذين نسوا اللّه، بمعنى أنّهم نسوا المسؤولية، وليس ذكر النفس بمعنى الذكر الذاتي، لأن كل واحد يعرف نفسه، ولكن أن تنسى نفسك، يعني أن تنسى مصلحتك ومسؤوليتك فيما يحقّق لنفسك خلاصها. فإذا نسيت اللّه، فإنك عند ذلك تستسلم للغرائز والشهوات، فتنسى صلاح نفسك وما ينقذها، وتنسى ما يترتب عليك من مسؤوليات تنجيك من عذاب أليم. أما قوله تعالى:﴿نسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ أي أهملهم، لأنّ الله لا ينسى، وفي آية أخرى:﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصيراً* قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾(3)، كما تقول نسيت فلاناً، بمعنى أهملته، أو أنك لا تتذكره.
حزن الأنبياء iوخوفهم:
ما هو تفسيركم للحزن والخوف بالنسبة إلى الأنبياء، كما جاء في عدد من الآيات القرآنية؟
الأنبيـاءi  بشـر، والبشـر يحزن ويخاف، قال تعالى عن موسـىt:﴿فَأَوْجَـسَ فِـي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾(4) وذلك عندما رأى ثعباناً مقبلاً عليه فخـاف منـه، وكذلك مع النبي إبراهيمt عندما جاءته الملائكة ولم يكن يعرف أنهم ملائكة ﴿فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾(5) وقرّبه لهم ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾(1).
الذي أضحك وأبكى:
ما معنى قوله تعالى: ﴿وأنه هو أضحك وأبكى﴾(2)؟
 الضمير هنا عائد إلى الله، لأنه هو الذي جعل في الإنسان طاقة الضحك عندما يعيش حال السرور، وطاقة البكاء عندما يعيش حال الحزن، فهذه الحالة النفسية التي تدفع إلى الضحك والبكاء هي ممّا أودعه الله في الجانب الشعوري للإنسان.
الإنزال والتنـزيل:
ما الفرق بين الإنزال والتنـزيل؟
 الإنزال للقرآن الكريم يعني، كما يقول البعض، أن القرآن الكريم نزل دفعة واحدة، أما التنـزيل فيعني أنه نزل على دفعات.
الإفطار في السفر:
قال تعالى: ﴿أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(3). يستند البعض إلى آخر الآية الكريمة، فيقول: إن اللّه تعالى أطلق الإفطار رخصة منه ورحمة، وأخبر أنه لمن صام ولم يفطر فضيلة، فما رأيكم؟
 أولاً، بالنسبة إلى حكم الإفطار، فإنه جاء على نحو الإلزام، قال تعالى:﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، يعني يجب عليه أن يفطر، في مقابل قوله تعالى:﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾(1)، بمعنى من كان حاضراً فتكليفه الصيام. أما قوله تعالى:﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ فهناك تفسيران: الأول: إن الصيام خير لكم في مقام بيان إيجابية الصوم، والثاني: إن قوله:﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ يعني بمشقة، مرتبط بما بعده، وليس تابعاً لما قبله. وربّما كان المراد منها ـ بقرينة السياق ـ أنّها خطاب للذين يُجهدهم القضاء، فتباح لهم الفدية، لإعلامهم بأنّ الفدية وإن كانت جائزة، إلا أنّ الصوم خير لهم إن كانوا يعلمون، لما فيه من النتائج الروحية والعملية.
آجال الناس:
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾(2). هل المقصود بالأجل الأول في الآية آجال الناس، والأجل الثاني موعد يوم القيامة؟
 قال بعضهم إن الأجل الذي قضاه الله هو الموت، وأما الأجل الذي عنده، فهو يوم البعث الذي لا يعلمه إلاّ اللّه تعالى، والذي لم يجعله حتى لرسوله، ولكن الأقرب أن الأجل المسمى هو المحدد في علمه الموجود في اللوح المحفوظ، والذي قضاه، هو العمر الطبيعي المحدد الممتد بالإنسان بالشروط الموضوعية، من حيث الزمان والمكان، فإذا تحققت له امتد به العمر إلى النهاية، وإذا لم يتحقق له انقطع به العمر بانتفاء شروط الحياة.
كلمة اللّه:
القرآنكلمةالله،والمسيحكلمةمناللّهوروحمنه،فماالعلاقة بينهما؟
 ليست هناك علاقة بالمعنى العضوي، فالمسيحt هو كلمة اللّه وروح منه، لأنّ الله سبحانه يقول:﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(1)، فهو خلق من كلمة اللّه وقدرته وروح منه، والروح كناية عن القدرة التي تنطلق من أجل أن تجعل هذا الجسد الجامد حيّاً. ويقول تعالى في خلق آدمt:﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾(2). فالإنسان من خلال خلق آدمt هو قبضة من طين ونفخة من روح اللّه. وأما أن القرآن كلمة اللّه، فذلك لأنه مما نزل على النبيw بواسطة جبرائيل من كلام اللّه تعالى.
الكلمات غير العربية في القرآن:
 لماذا نجد في القرآن الكريم بعض الكلمات غير العربية، مع أنه تعالى يقول في كتابه الكريم: ﴿إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيَّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(3)؟
 أن ينـزل باللغة العربية والكلام العربي، ليس معناه أن كل كلمة فيه يجب أن تكون عربية، فنحن عرب، ومع ذلك نقول مثلاً إن القضية الفلانية لا يسمح بها البروتوكول، أو تقول اليوم شاهدت التلفزيون أو سمعت الراديو، فهذه كلها كلمات غير عربية، ولكن سياق الكلام عربي، فهناك بعض الكلمات التي عُرِّبت، كما في كلمتي (سندس) و(إستبرق)، وما إلى ذلك. وليس هناك في العالم كله لغة خالصة من كل مفردات لغة أخرى في هذا المجال. ولذلك أن يكون الكلام عربياً، أي أن يكون سياقه وطريقته عربيّين، وليس أن تكون كل كلمة فيه عربية، وهذا ما نراه في اللغات الأخرى، ففي اللغة الفارسية كلمات عربية، وفي غيرها من اللغات تداخل مع غيرها.
معنى القول الثابت:
يقول تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾(1). ما المقصود بالقول الثابت؟
 القول الثابت هو الحق الذي يؤمن به الناس، ويتحركون في خطه، أو بما أوحى الله به إلى رسله، واللّه العالم.
معنى الممتحنة:
ما معنى كلمة (الممتحنة) في القرآن الكريم؟ وما المقصود بها؟
 يتحدث اللّه سبحانه وتعالى عن المؤمنات المهاجرات، اللاتي هاجرن من مكة إلى النبيw في المدينة، فاللّه سبحانه وتعالى قال للمسلمين: استقبلوا هؤلاء المهاجرات وامتحنوهن، هل جئن إلى المدينة من جهة أن عندهن مشاكل شخصية، أو أنهنّ هاجرن فراراً بدينهن، باعتبار أن المشركين كانوا يضغطون عليهن ليرجعن إلى الشرك؟ والمراد من الامتحان أن يعرفن هل هن مؤمنات أو لا؟ قال تعالى:﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾(2).
الصراع بين البشر:
تقول الآية الشريفة: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لـهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً﴾(3)، ما معنى التدافع في هذه الآية الكريمة؟
 ليس المقصود بالتدافع في هذه الآية التقاتل والتحارب، بل هو بمعنى حاجة الناس إلى بعضهم البعض، والذي من شأنه أن يثمر تعاوناً من أجل الوصول إلى الأهداف، وربما كانت المسألة تعالج حالة التوازن في مواقع القوة التي قد تؤدي إلى منع الفوضى والعدوان.
الحذر من الموت:
قال الله تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُالْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾(1) وهناك مقولة تقول: «الحذر غلب القدر»، فهل هذا يعني أن الإنسان يمكن أن ينجو من الموت إذا كان حذراً؟
 قول:«الحذر غلب القدر»، لا يعني أن الإنسان قادر على تجنب الموت، فإن الله يقول في كتابه:﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾(2)، بل إن المقصود من ذلك، أن هناك أسباباً للموت وللقدر، فقد يمكن للإنسان أن يتحرّز ليدفع الأسباب، ولكن هناك من الأسباب ما لا يمكن أن يحذر منه الإنسان، فيموت جزماً.
القاعدون والمجاهدون:
فيقولهتعالى:﴿لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً﴾(3)، فكيف تفسرون تفضيل اللّه للمجاهدين بأموالهم على القاعدين ووعدهم بالحسنى؟
 الآية الكريمة بصدد الحديث عن تفضيل المجاهدين بأنفسهم وأموالهم في سبيل اللّه على القاعدين بطريقة مؤكدة، وذلك ما يوحي به أسلوب التكرار من حيث الابتداء بقوله:﴿لايَسْتَوِيالقَاعِدُونَمِنَالمُؤْمِنِينَغَيْرُأُولِيالضَّرَرِوَالمُجَاهِدُونَفِيسَبِيلِاللهِبِأَمْوَالِهِمْوَأَنْفُسِهِمْ﴾، وذلك لتقرِّر عدم المساواة بين هذا الفريق وذاك. ثم أوضحت الموضوع بخصوصيته الإيجابية:﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾، وليس المراد من الدرجة الوحدة في الأرقام الحسابية، بل من حيث النوع، وهذا ما يؤكده وقوع الكلمة بعد فقرة عدم الاستواء، لبيان أن هذا الفريق أولى من ذاك، ولذلك عقب بالحديث عن الأجر العظيم والدرجات منه تعالى. والآية تشير إلى أن القعود ليس خطيئة بحد ذاته إن لم يكن الجهاد إلزامياً.
استقرار الشمس:
قال اللّه تعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾(1). ما هو رأيكم في تفسير هذه الآية الكريمة، مع أن علماء الفلك أثبتوا أن الأرض تدور حول الشمس؟
 لعلَّ المراد في الآية، أن الشمس تسير بنظام كوني وفق المدى الذي وضعه اللّه سبحانه وتعالى لها، وليس معناه السير الحركي والمادي، كما نقول مثلاً إن الأمور والأوضاع تسير على أحسن حال...
ظن يونسt:
جاء في الآية الكريمة: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾(2)، فما المقصود من قوله: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾؟ وكيف يكون من الظالمين؟
 لن نقدر عليه، بمعنى أننا لن نضيِّقَ عليه، كما ورد في الآية:﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾(1)، أي ضُيِّقَ عليه الرزق، ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾(2). أما قوله:﴿سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ﴾، فإن نسبة الظلم إلى يونسt، إنما يصح باعتباره خالف الأولى ولم ينتظر طويلاً أو يفسح في المجال لقومه بالتوبة، باعتبار أن مهمته في ظنّه قد انتهت عند ذلك المقام من التبليغ لهم، إلاّ أن ذلك كان خلاف الأولى كما يقال.
نزول القرآن على قلب النبيw:
هل توافقون السيد الطباطبائي في قوله إن إنزال القرآن على قلب الرسول كان في ليلة القدر؟
 الأقرب في معنى الإنزال في ليلة القدر، هو بدء إنزاله.
مناجاة النبي محمدw:
ما معنى الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(3)؟
 قيل إن سبب نزول هذه الآية، أن الناس كانوا يتجمعون عند النبيw، بحيث يشغلونه ويعكّرون حياته الشخصية، فأراد اللّه أن يخفّف عن النبيw، فأمر كل واحد من الناس يريد أن يأتي إلى النبيw، أن يأتي بصدقة، ثم رفع اللّه عنهم ذلك، لأن المسألة كانت اختباراً وامتحاناً.
أمّية النبي محمدw:
قال اللّه سبحانه وتعالى ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾(1)، وفي آية أخرى يصف النبيw بالأميّ، فهل الأمية تعني الافتقار إلى القراءة والكتابة؟ وهل تنطبق صفة الأميّة على النبيw، وهو الذي جاء برسالة الإنسانية العالمية؟
 البعض يفسِّر كلمة (الأميّ) نسبة إلى أم القرى وهي مكّة، وقد كان اليهود يُطلقون على العرب (الأميين)، لأنّهم كانوا يعتبرون أنفسهم من أهل الكتاب، ويطلقون على غيرهم وصف (الأميين)، لأنهم، في نظرهم، لا يملكون الثقافة التي يملكونها، حتى تحوّلت هذه الكلمة بهذا المعنى إلى مصطلح في التعبير عن العرب. ولكن القرآن الكريم تحدَّث عن سر عدم ممارسة النبي القراءة والكتابة، كما في قوله تعالى:﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذاً لارْتَابَ المُبْطِلُونَ﴾(2)، فعلى مدى أربعين سنة، لم يره أحد يقرأ في الورق أو يكتب، ومع ذلك جاء برسالة يعجز عن فهم أسرارها الذين يقرأون ويكتبون.
فالقضيةأن(الأميّة)هناليستناتجةًمن حال نقص، بل هي منطلقة من حال بيان إعجاز الرسولw، فهذا النبي الذي لم يقرأ كتاباً أو يستنسخ كتاباً خلال أربعين سنة، جاء بما يعجز عنه الذين يقرأون ويكتبون. فمعجزة النبيw ليست فقط القرآن الكريم، ولكنها أيضاً رسالته العالمية التي لا تزال تفرض نفسها على الحياة، ولا يزال الناس يتحاورون في فهمها، فهذا هو الإعجاز. فالأميّة تكون نقصاً عندما تستتبع الجهل، ولكن عندما تنطلق الأمية لينتج صاحبها العلم كأفضل ما يكون العلم، فعند ذلك تعتبر قيمةً في هذا المجال، لذلك تعتبر معجزةً ودليلاً على نبوة الرسولw.

 
 


الشورى والعصمة:
ما دام النبي معصوماً ولا ينطق عن الهوى، فلماذا المشاورة؟
 قلنا إن النبي لا يحتاج المشاورة، ولكنه أراد أن يدرِّب أمته على ذلك، وأن يشاركها الرأي في هذا المجال.
خطبة البيان:
ما هو رأيكم في صحّة خطبة البيان لأمير المؤمنين؟
 هذه خطبة مكذوبة على عليّ t، ومنسوبةٌ إليه زوراً.
قضيّة المهديrمن غيب الله:
ما هو المقدار الشرعي الواجب للإيمان بالإمام المهديr؟ وهل كل رواية تقال في شأنه صحيحة؟
 نحن بيّنّا مراراً أن قضية الإمام المهدي r هي قضية غيبٍ من غيب الله؛ غيبته من غيب الله، وظهوره من غيب الله. ونحن نعرف أنه يخرج عندما يريد الله سبحانه وتعالى له أن يخرج، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً. أمّا ما يخوض به الناس من أحاديث عن عدد أزواجه أو أولاده، أو من ادّعاء بعضٍ للسفارة عنه، أو النيابة الخاصّة عنه، أو من مصاهرته، أو ما إلى ذلك، فهذا كلّه كذبٌ وزور وبهتان.
عقيدة الغربيين:
هل يمكن عدّ أهل الغرب اليوم من أهل الكتاب؟
 أهل الكتاب هم اليهود والمسيحيّون الذين يؤمنون باليهوديّة والنصرانيّة، وقد يُضاف إلى أهل الكتاب المجوس. وعلى كلّ حال، فإذا خرج بعض هؤلاء من دينهم، ليعتقدوا بدينٍ غير كتابي، أو ليكونوا ملحدين، فلا يعدّون من أهل الكتاب.
نقل غير صحيح:
نقل عنكم قولكم إن المعصوم يمكن له أن ينحرف بشهوته، وعليه فلا يمكن أن يكون متمتّعاً بالعصمة المطلقة. فهل ما نقل عنكم صحيح؟
 نَقْلُ هذا الكلام عني غير صحيح، ولكن قُلت إن المعصوم يبقى له الاختيار، لأن الله أعطاه لطفاً من لُطفه، ولكنه عندما يمارس طاعته لله، فهو يمارسها باختياره. وهو بشرٌ يُمكن أن يحسّ بما يحسّ به البشر، ولكنّه لا ينفتح على الشهوة المحرّمة، ولا ينفتح على الخطأ والباطل.
مكانة إبراهيمt:
لماذا يوصف إبراهيمt بأنه أبو الأنبياء وأوَّل من شيَّد دعائم فكرة التوحيد في التاريخ؟ ألم يكن الأنبياء السابقون موحدين أيضاً؟
 بلى، ولكنّه هو صاحب الشريعة، فنوح t لم يكن صاحب شريعة، وإنّما كان صاحب دعوة، وآدم t كذلك، قال تعالى:﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ﴾(1)، كما أنّ الأنبياء اللاحقين ينتمون إليه من ناحية النسب. على أنّه قد يُفهم من قوله تعالى:﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾(2)، بمعنى أنّ رسالته ممتدّة في رسالات الأنبياء من بعده؛ والله العالم.
الدين غاية أم وسيلة؟
هل يعتبر الدين غاية عند المسلمين أم هو وسيلة للوصول إِلى الهدف؟ وما هي وجهة نظر الأديان الأخرى في ذلك؟
 الدين هو الحقيقة، وهو يمثل الغاية التوحيدية التي تنفتح على الرسالة المحمدية، وتنفتح على الشريعة التي شرَّعها الله سبحانه وتعالى لرسوله، وهو الوسيلة التي توصل الإنسان إذا اعتقد بها والتزم بها إِلى الله سبحانه وتعالى، ليحصل على رضاه من خلال ذلك، وهكذا هي بقية الأديان الأخرى.
الشَّريعة والدين:
هل هناك اختلاف بين الشريعة والدين؟
 الدين يمثل العقيدة والشريعة ومنهج الحياة، والشريعة تمثل الخط الفقهي الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يأخذوا به ويلتزموا به.
حق التشريع:
هل الرَّسول مبلِّغ أم مشرِّع؟
 النبيمشرِّع.وقدورد أنّ الصلاة كانت مثنى مثنى، ثمّ زاد النبيّ wفيها كما هي عليه اليوم، وورد أن أوقات الصلاة كانت في الأصل خمسة، وإنّما جمع رسول الله w لكي لا يحرج أحداً من أمّته. نعم، الإمام ليس مشرِّعاً. ولذلك فإنّ الإمام الصادقt يقول:«حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين t، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله w، وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ».
استمرار الحجّة:
هل هناك آية في القرآن أو حديثٌ يؤكّد أنَّ لكل فترة زمنية إمام يكون حجة على العباد؟
 هناك قوله تعالى:﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾(1)؛ ولكن، من ناحية تجريدية، ليس من الضروري أن يكون النذير نبياً أو إماماً، بل قد يكون فقيهاً عالماً مرشداً مصلحاً وما إلى ذلك.
نفخ الروح:
ما هو الشيء الذي نفخه الله من روحه في هيكل الإنسان؟
 النفخ ليس معناه أن الله ينفخ مثل ما ننفخ نحن، ولكن المراد بالنفخ بالنسبة إلى الله، هو إعمال قدرته تعالى، بحيث تدبّ في جسد الإنسان الروح والحياة. فكلمة النفخ واردة في مقام الاستعارة، وكأنّ الإنسان كجسد هو أجوف، والروح تدخل في جوفه وتمنحه الحياة.
جدال الأنبياء وتنوّعاته:
هل إن الرسول w كان حواره وطريقة جداله مع المشركين أفضل من طريقة نوح في حواره وجداله مع قومه، كما يُفهم من الآيات؟
 الفرق هو أن قوم نوح لم يدخلوا معه في الجدال أصلاً، وإنما واجهوه بطريقة الرفض والعناد؛ وهذا الذي نفهمه نحن في سورة نوح ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَاراً * وَإِنِّـي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً﴾(2)؛ ولذلك كانوا يضغطون على المؤمنين حتى لا يؤمنوا بهم؛ ولذا بعد أن استمر الرفض من قبلهم تسعمائة وخمسين سنة، دعا نوحٌ ربّه، ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً* إنَّكَ إنْ تَذَرْهُمْ يُضِـلُّـوا عِبَـادَكَ وَلا يَلِـدُوا إلا فَـاجِـرَاً كَفَّـارَاً﴾(1). أمّا النبيّ محمد w، فقد واجهه المشركون بالجدال، وبالأساليب المغرضة أيضاً.
إسلام إبراهيمt:
كما نعرف أن النبي إبراهيمt هو أبو الأنبياء، فهل كان دين النبي إبراهيم t هو دين الإسلام نفسه؟ وما هو الكتاب المنزل على النبي إبراهيم؟
 الإسلام في المعنى العام في القرآن الكريم، هو إسلام القلب والوجه واللسان والحياة لله سبحانه وتعالى، وقد ورد في قوله تعالى في إبراهيم:﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(2)، والإسلام هو أن يسلم الإنسان أمره لله في كل شيء، فلا يكون له أمام الله شيء ومع الله شيء؛ وهذا ما تعبر عنه الآية الكريمة:﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾(3)، ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾(4).
وليس المراد بإسلام إبراهيمt الإسلام بكل تفاصيل شرائعه التي أنزلها الله على النبي محمدw، فإبراهيم كان مسلماً، وكذلك موسى كان مسلماً وعيسى ومحمد، ولكن إسلام كل نبي بحسب المرحلة التي يعيش فيها مما يشرعه الله، فالله عندما شرع مثلاً لإبراهيم tالحنيفية كانت الحنيفية، منهجاً في الإسلام، وعندما أنزل الله التوراة على موسى، كانت التوراة تمثّل إسلام تلك المرحلة، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأنبياء.
الرعي والأنبياء:
هل كان هناك علاقة بين مهنة الرعي التي كان يمتهنها بعض الأنبياء، وبين النبوة؟
 لا، ليس لهذه المهنة علاقة بالنبوة، ولكن كأن الله أراد لبعض الأنبياء أن يقوموا بمهمة الرعي، باعتبار أن الرعي يجعل الإنسان يعيش التأمل والانفتاح على الكون كله من خلال ما ينطلق به في الصحراء، وفي الأماكن التي فيها الماء والعشب.
علم المعصومين:
متى يكون علم المعصومين؛ هل قبل ولادتهم أو في عالم الذر أو هو وراثة؟
 الله علمهم وألهمهم ذلك، وما في القرآن يدلّ على أنّهم لا يملكون علم الغيب، إلا بالمقدار الذي يطلعهم الله تعالى عليه، قال تعالى:﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(1)، ﴿قل لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾(2)، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾(3)، وقد ورد في (نهج البلاغة)، أنّه لمّا حدّث الإمام عليt بحديث فيه من الغيب ما فيه:«فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب. فضحكt وقال للرجل ـ وكان كلبيّاً ـ: يا أخا كلب، ليس هو بعلمِ غيب، وإنّما هو تعلّم من ذي علم...».
مهمّة الأنبياء:
ما الغاية من وجود نبي غير مرسل إذا كان غير مبلِّغ ولا مصلح؟
 ليس صحيحاً أنّ هناك نبياً غير مصلح وغير مبلّغ، ويؤكّد ذلك قوله تعالى:﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾(1)، ولكن قد يكون من الأنبياء من هو نبيّ قريةٍ. فالله أرسل لوطاًt إلى قومه، وأرسل صالحاًt إِلى قومه، وأرسل هوداًt إِلى قومه، وهناك أنبياء عندهم نبوة عامة، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد i، فهؤلاء هم الذين يقال لهم أولو العزم، وهم الذين كانت نبوتهم نبوةً عامة.
معنى القيامة:
ما معنى الحديث الذي يقول: «من مات قامت قيامته»؟
 ذلك باعتبار أنه قد انقطعت دنياه، وبات أمام آخرته، وبالتالي أصبح أمام القيامة، لا بمعنى تفاصيل القيامة، بل بمعنى أنّه أصبح أمام عمله الذي لا يُمكن أن يتداركه نقصاناً أو استزادةً؛ والله العالم.
تمزيق الأمة المسلمة:
سمعنا بفتاوى تبيح تهديم مرقدي الإمام الحسينt وأخيه العباس، وهذه دعوة مجانية لقتل الشعب العراقي ذي الغالبية الشيعية، هل هناك موقفٌ من علمائنا؟
 على الأمة كلها، لا العلماء فقط، أن يقفوا بكل قوة، وأن يحرسوا مقامات الأئمة i، سواء في النجف أو في كربلاء أو في الكاظميين، وأن يكون كُل إنسان حارساً وخفيراً عليها؛ لأن هؤلاء القوم يعتبرون بناء القبور شركاً، ولولا أنهم يخافون من العالم الإسلامي لهدموا قبر النبيw.
عصمة الأئمة في آية التطهير:
الآية القرآنية: ﴿إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْت﴾(1) تدل على أن عصمة الأئمة من الله، أليس هذا من الجبر؟
 أي عصمة للأئمةi هي من الله ولكن لا تسلبهم الاختيار، فالله أعطاهم لطفاً من لطفه، بحيث إنهم يتحركون في طاعته ولا يقتربون من معصيته، وينفتحون على الحق ولا ينفتحون على الباطل، كل ذلك باختيارهم، باعتبار اللطف الذي أعطاهم الله سبحانه وتعالى إياه في شخصيتهم.
الكرامة والولاية التكوينية:
ما الفرق بين الكرامة للأئمةi والولاية التكوينية؟
 الكرامة هي أن الله سبحانه وتعالى ربما يشفّع الأئمة i فيمن يرتضي، أي يرتضي شفاعتهم له. أما الولاية التكوينية، فهي بمعنى أن يجعلهم قادرين على أن يتحكّموا بنظام العالم وسننه، وهو أمرٌ يدل القرآن على خلافه. نعم، إنّ الله أعطى الأنبياء معاجز، وأعطى الأولياء الكرامة في بعض ما يراه من الحكمة في إعطائهم هذه الكرامة.
تعدد الأنبياء في وقت واحد:
كيف نفهم إرسال أكثر من نبي في الوقت نفسه من قِبل الله إلى أقوام تعيش في الفترة نفسها؟
 لأنّ الأنبياء قسمان؛ فهناك أنبياء قرى أو أنبياء مناطق، وهناك الأنبياء الذين أرسلوا إلى الناس كافةً، فهم أولو العزم، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم صلاة الله وسلامه.
المعجزة والولاية التكوينية:
قلتم في إحدى الندوات إنه لا ولاية تكوينية لأحد، ولكن أليس تسخير الرياح لسليمان tوإحياء عيسى tللموتى أمراً تكوينياً؟
 نحننقولإنّاللهتعالىيعطي المعجزة لأنبيائه، كما أعطى موسىtالعصا وغيرها، ولعيسى tإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ولكن ليست هذه ولاية تكوينية، بمعنى أنّهم يملكون إدارة الكون، بل إنّ الله تعالى يحرّك على أيديهم المعجزة، والله هو الذي سخّر الريح لسليمانt. فمسألة الولاية التكوينية معناها أنّ الله تعالى جعل لهم الولاية على إدارة الكون كلّه، بحيث يجعلون الشمس تشرق من المغرب، أو تغرب من المشرق، أو يجفّفون البحار، أو يجعلون الصحارى جنّات، وما إلى ذلك، فإنّ القرآن دليل على عكسه، والقرآن يقول:﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ﴾(1)﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوء﴾(2)، ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾(3)، فهل هذا كلام مَنْ عنده ولاية تكوينية؟!
علم المعصومينi:
قلتم في إحدى الندوات إنّه لا أحد يعلم الغيب إلا الله، وقلتم إن ما يعلمه الأئمة iهو علمٌ من ذي علم، ولكن أليس ذو العلم هو رسول الله وقد أطلعه الله على غيبه؟
مقصودنا أنّ الله لم يجعل له القدرة على علم الغيب، ولم يجعل له ملكة العلم بالغيب، ولكنه كان يخبره ببعض غيبه، ذلك في قوله تعالى:﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾(1)، فالله يعطي بعض أنبيائه بعض غيبه، لا أنه يجعله يعلم الغيب.
من الذبيح؟
في أمر نبينا إبراهيمt في رؤياه أن يذبح ابنه، فهل كان هذا الابن هو إسماعيل؟
 المعروف أنه إسماعيل.
قدرات النبي الدعوية:
إذا لم يستطع النبي أو الرسول أن يهدي زوجته أو ولده إلى شريعة الله، فكيف تجد لدعوته صدىً مسموعاً في المجتمع؟
 ليس الأمر كذلك، لأن الله سبحانه وتعالى قال للنبيw:﴿ليْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾(2)، ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾(3)، ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾(4)؛ لذلك فالناس الواعون يعرفون أن النبي لا يملك أن يجبر أي إنسان آخر، سواء كان ابناً أو أخاً أو أباً له على الإيمان برسالته. فهذا الأمر لا يؤثّر على دعوته.
ولذلك نجد أن كثيراً من الأنبياء لم يتمكنوا من هداية أقربائهم، ولكن الناس اتّبعوهم. ونحن نجد أنّ النبي محمداًw لم يستطع هداية عمّه أبي لهب مثلاً، أو بعض أقربائه، ولكن اتبعه أناس كثيرون، وقد قال تعالى:﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾(1).
التعويض عن حرمان الولد:
إذا كان الإنسان محروماً في الدنيا من نعمة الأولاد، هل يعوّضه الله الأولاد في الآخرة؟
 إن الله تعالى يقول:﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾(2)، لكن ماذا نشتهي منها؟ فإنّ عالم الآخرة غير عالم الدينا، وقد ورد الحديث في وصف الجنّة:«فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»(3). المهم أن يفكّر الإنسان كيف يذهب إلى الآخرة وهو مغفور الذنوب، وقريب إلى ربه.
أصالة التشيع:
هل التشيع حالة طارئة على الإسلام، أم هو حالة أصيلة؟
 التشيع الذي جاء به الإمام عليٌt والأئمة من ولده، في ما صحّ عنهم من الحديث، هو الإسلام الأصيل. وقد روي عن رسول اللهw أنّه قال:«مثل أهلُ بيتي فيكم كسفينة نوح؛ من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق»(4).
مكان مقام زينبu:
مقام السيدة زينبu، هل هو في سوريا أم في مصر؟
 أنا أقول لكم: هو في سوريا، وفي مصر، وفي المدينة المنوّرة. فنحن ننفتح على السيدة زينب، السيدة المجاهدة البطلة التي جاهدت في سبيل الله، ولا نمانع في أن يكون لها مقام في مصر، أو في سوريا، أو غيرهما؛ فإنّ مسألة الزيارة لا تتبع الجسد، وإنّما حقيقة الزيارة هي أن نتوجّه إلى تلك المرأة العظيمة، لكي نفهم شخصيّتها الرساليّة؛ كيف كانت مع الحسينt، وكيف رعت عوائل الشهداء، وكيف وقفت لتتحدّى ابن زياد، ومن بعده يزيد؟ فنقتدي بها في كلّ المواقف الرساليّة في هذا المجال.
الخطبة الافتخاريّة:
ما هو رأيكم في الخطبة الافتخارية؟
 عليt لا يتكلّم بهذه الطريقة، فاضربوا بها عرض الجدار، وهي مخالفة للقرآن والإسلام. ولذلك هذه الخطبة موضوعة على لسان عليٍt زوراً وبُهتاناً.
علامات الظهور:
نسمع بالكثير من الروايات حول علامات الظهور، ومنها ما حدث من اضطرابات مناخية في عالمنا الحالي؟
 لا يعرف أحدٌ وقت ظهورهr، فهذا غيبٌ من غيب الله؛ غيبتُه من غيب الله وظهوره من غيب الله، وما يحدث في الكون، سواء في الاحتباس الحراري، أو في الاضطرابات المناخية، أو في الحروب، هي كلّها من طبيعة القوانين الموجودة والتي أودعها الله في الكون.
أسباب فساد الفطرة والعقل:
ما هو سبب فساد الفطرة وخراب العقل؟ وكيف تتمُّ معالجتها؟ وعلى من تقع المسؤولية في زمن الغيبة؟ لماذا لم تظهر ثمار الدعوة من قبل العلماء وهم ورثة الأنبياء؟
 الفطرة تفسد بسبب عدم الانفتاح عليها، ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾(1)، فالفطرة هي التي تجعل الإنسان يعيش معنى التوحيد، وكل معاني القيم الروحية التي أراد الله للإنسان أن يعيشها في نفسه وفي شعوره وأحاسيسه وعقله. ومن الطبيعي جداً أن الإنسان الذي يغفل عن نفسه وعن مسؤوليته وعن دينه ويتبع الضالين والمستكبرين والمنحرفين، من الطبيعي أن تفسد فطرته. أما كون العلماء ورثة الأنبياء، فمعنى ذلك أنهم يحملون علم الأنبياء، وكما أن كثيراً من الأنبياء لم يستطيعوا أن يغيروا أوضاع الناس، فإنّ العلماء الذين يقومون بمهمة الإرشاد والتبليغ لا يملكون أن يغيّروا عقول الناس بشكلٍ جبري؛ لذا قال الله سبحانه للنبيw:﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾(2)، ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ﴾(3).
وزن الأرض:
ما المقصود بالأرضين في تسبيح الإمام زين العابدين tبقوله: «سبحانك تعلم وزن الأرضين»؟ وهل إن للظلمة والنور وزناً، كما يشير في دعائهt؟
 إنّ الله سبحانه وتعالى يعرف حجم الأرض لأنه هو الذي خلقها، وبالتالي، فهو يعرف وزنها فيما تشتمل عليه من الحجر والمدر وغير ذلك من الأمور. أمّا بالنسبة إلى الظلمة والنور، فليس من الضروري أن يكون لهما وزنٌ مادي، بل قد يكون المقصود منه هو المقدار الذي يزن الله به الأشياء في طبيعة وجودها؛ والله العالم.
تعقّد الشخصية البشرية:
مع أنكم ذكرتم أن نوحاًt نذير مبين في فطرية الأفكار التي طرحها، ولكن مع ذلك فإن قوم نوح لم يسمعوا له، والعلّة في ذلك هو الاستكبار، فأين الفطرة؟
 صحيح أنّ الفطرة تقتضي من الإنسان أن يحذر ممّا يخيفه، ولكنّ تعقّد الشخصيّة الإنسانيّة، من خلال استحكام عناصر الغفلة والجهل من جهة، والعناد والاستكبار من جهة أخرى، يُساهم في إبعاد الناس عن الإذعان إلى صوت الفطرة. وربّما لأجل ذلك تحدّث الله عن الطريقة التي كانوا يبتعدون بها عن نوحt، فكانوا يتعمّدون أن لا يسمعوا؛ لأنّهم لو استمعوا لفرضت الأفكار نفسها عليهم؛ والله العالم.
دعوة نوحt وتيار الكفر:
أليس من الممكن افتراض وجود دعاة كفر يجيدون تقديم أفكارهم، واستطاعوا إقناع قوم نوح بالبقاء على عبادتهم الوثنية؟
 لا أظنّ هناك حالة عقلية بهذا المستوى في ذلك الزمن، بحيث نرى أناساً يملكون العقل الذي يستطيعون من خلاله أن يقدّموا البراهين على الوثنية، ولذلك نجد أن قوم نوحٍ كانوا لا يردّون على نوح فكره ولا يناقشون ما يقدّمه إليهم من أدلة عقلية، ما يدل على أنهم كانوا لا ينطلقون من حالة عقل، وإنما من حالة غباء وتقليد للآباء.
سبب المشادّة بين موسى وهارون:
بعد عبادة بني إسرائيل للعجل، بدأت مشادة كلامية بين موسى وهارون، ما هو سبب هذه المشادة؟ وكيف نفهمها بحسب قولنا بالعصمة لهما معاً؟
 كان سبب المشادّة أنّ موسىt كان يرى أن على هارون أن يمنعهممنعبادةالعجلويستعملمعهمالشدّةفيالموقف،ولكنّهارون اعتذر بأنّه خشي أن يطالبه موسى بأنّه فرّق بين بني إسرائيل ولم يرقُب قوله. وأمّا مسألة العصمة، فلم يخطئ موسى ولا هارونo، وإنّما أظهر موسىt الشدّة مع هارون ليحرّك المسألة ضدّ القوم الذين انحرفوا؛ والله العالم.
مشاهدات المعراج:
ما صحة الرواية التي نسمعها ونقرأها من أن رسول الله w في المعراج رأى نساءً من أمته في حال العذاب لأسبابٍ متعددة؟ وإذا كانت صحيحة، هل هناك نار غير نار الآخرة؟
 تعاني بعض أحاديث المعراج من اضطراب؛ ولذا لا بدّ من التدقيق في أسانيدها ومتونها.
العودة إلى المعصية:
أكثر الناس يستمعون القول والنصيحة لكن لمدة قصيرة، ثم يعودون إلى ما كانوا عليه من المعصية، فما هو السبب في ذلك؟
 ربما كان السبب في ذلك هو الغرائز والشهوات الكامنة في النفس، مما يمكن أن تثار في الواقع الذي يعيش فيه الإنسان. ومن الممكن جداً أن يواجهالإنسانبعضحالاتالإضلالالذييضللهبه الآخرون. ولذا ورد في دعاءالسَحَر الصغير:«اللهم إني أستغفرك لما تبت إليك منه ثم عدت فيه».
مصير ابن الزنا:
هل صحيح أن ابن الزنا يدخل النار؟
 كل إنسان يحاسب على عمله؛ فإن كان خيراً دخل الجنة، وإن كان شرّاًدخلالنار،وابنالزناكغيره من الناس من هذه الناحية. قال تعالى:﴿قُلْ أَغَيْرَاللهأَبْغِيرَبّاًوَهُوَرَبُّ كُلِّ شَيءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُوَازِرَةٌوِزْرَأُخْرىثُمَّإلَىرَبِّكُمْمَرْجِعُكُمْفَيُنَبِّئُكُمْبِماكُنْتُمْفيهْ تَخْتَلِفُونَ﴾(1).
التوسّل بأهل البيتi:
ما هي الكيفية الراجحة في التوسل، هل هي قول: «اللهم بفاطمة اشفني» مثلاً، أم هي (يا فاطمة اشفني)؟ وهل يوجد محذور في الكيفية الثانية؟
 التوسّل يكون بالتوجه إلى الله تعالى مع الاستشفاع بأهل البيتi، وأما التوجه إلى غير الله تعالى بالخطاب وطلب الشفاعة والدعاء، فهو غير راجح، حتى لو أريد منه معنى التوسل والاستشفاع.
التقليد في العقائد:
ما قولكم في التقليد في أصول الدين؛ هل هو محرم أم جائز؟ وما هو الدليل على ذلك؟
 لا تقليد في أصول الدين، بل لا بد من تحصيل العلم بها ولو من خلال الاقتناع بكلام العلماء، ومن خلال الفطرة والعقل، فقد ذم القرآن الكريم التقليد في العقيدة:﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾(1).
الصدوق والشهادة الثالثة:
يقال إن الشيخ الصدوق (رحمه الله) عدَّ من يقولون بالشهادة الثالثة في الأذان غلاةً، هل هذا صحيح؟ وفي أي من كتبه قال هذا؟
 نعم صحيح، وقد نقل ذلك عنه الحر العاملي في كتابه الشهير (وسائل الشيعة) في الجزء الخامس، من طبعة (مؤسسة آل البيت ص:423)، وقد نقل عنه أنه قال إنها من صنع الغلاة والمفوضة.
فلسفة الابتلاء:
إن الله عادل بلا شك، ولكن لماذا لا يمنع بقدرته حصول الفيضانات والكوارث الطبيعية التي تصيب شعوباً لا حول لها ولا قوة؟
 هذه الحوادث هي من طبيعة النظام الكوني، فيما أودع الله فيه من نظم، ولا تعبِّر عن ظلم للناس، فإن الله تعالى لا يظلم الناس شيئاً، وإنما الكلام في العدل والظلم محلّه ما يرتب الله من عواقب ونتائج على أفعال الإنسان. وأما حوادث الكون، فهي عامة لا تختص بشعب دون شعب، أو بفردٍ دون آخر، وقد أجرى الله نظام الحياة بأسباب وقوانين.
نصرة المهدي r:
كيف يجسد الإنسان نصرة الإمام المهدي r عملاً وروحاً؟
 هناك طريقتان: مباشرة وغير مباشرة، فالطريقة المباشرة هي أن ننصر الخط الرسالي الذي ينطلق فيه الإمام الحجة r، وهو إمام المسلمين كباقي آبائه، وليس هناك خصوصية من هذه الناحية، فهو من الأئمة الإثني عشرi، فدور الإمام هو نصرة الإسلام وإقامة العدل الشامل على أساس الإسلام. فعندما نريد نصرة الإمام، فإنّ علينا أن ندعو إلى الإسلام، ولا نكتفي بالدعاء، كما لو اكتفى أحدنا بقراءة دعاء (الندبة)، بل علينا أولاً أن نثقف أنفسنا وأهلنا بالإسلام، ونواجه القضايا والتحديات الموجّهة ضد المسلمين، ونواجه الظالمين والمستكبرين الذين يفرضون أنفسهم على كل المسلمين في الاقتصاد والسياسة والأمن.
أما الطريقة غير المباشرة، فهي أن نعدّ أنفسنا بحسب مسؤولياتنا الشرعية، ولا يعني ذلك أننا في زمن الغيبة أحرار في أن نتخلى عن مسؤولياتنا في الدعوة، بحيث نذهب إلى مسجد السهلة، ونقوم بأعمال عبادية لفترة 40 أربعاء مكتفين بذلك، فإن الله سبحانه جعل المسؤولية كما في الآية الكريمة:﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾(1)، فنحن نتحمّل مسؤولياتنا كلّها وننتظر قدوم الإمامr. ولعل أفضل تعبير عن هذه الحال هو دعاء (الافتتاح):«اللهم إننا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك»، أن تكون مشروع داعية إلى الإسلام، وتعدّ نفسك للقيادة.
كيف دل الله على ذاته؟
قال الإمام عليt: «يا من دلَّ على ذاته بذاته»، كيف يمكن الاستدلال بهذا، والذات القدسية غيب بالنسبة إلينا؟
 المقصود بذلك، أنَّ الله سبحانه وتعالى هو الذي دلنا على ذاته من خلال ما قدّمه لنا من أسرار خلقه التي تدل بحسب إرادته، وبحسب صنعه وخلقه، عليه، فهو دلَّ على ذاته بذاته، فليس هناك شيء أجنبي دل على الله سبحانه وتعالى، فإنَّ أسرار الخلق في هذه المخلوقات التي في السماء والأرض كلها صنعة الله، فالله سبحانه وتعالى هو الذي علَّمنا بذاته من خلال ما خلقه وما أودعه من قدرته التي دلتنا عليه. فما يدلّنا على الله هو خلق الله، وهو ما خلقه وأبدعه، وليس المعنى أن نفس الذات الإلهية هي كذات تدل على نفسها، بل الذات من خلال ما يصدر عنها من عجائب العظمة وأسرارها.
سماع النبيّ wصلواتنا:
نحن نسلّم على النبي في الصلوات الخمس، فهل يسمعنا النبيw؟
 نحن نسلِّم عليه، لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بأن نسلّم عليه، حيث قال تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾(1)؛ أما إنه يسمعنا أو لا، ربما تتحدّث بعض الروايات عن ذلك، ولكن على كل حال، فالسلام عليه كالصلاة عليه، إنما يراد منه الانفتاح عليه والتحية له، والتأكيد أنّنا نلتزمه التزاماً بحيث نقدّم له السلام في كل موقع من المواقع.
التفاضل بين الأنبياء:
هل هناك أفضلية لنبي على غيره من الأنبياء؟ بمعنى آخر، هل إن النبي محمداًw أفضل من النبي إبراهيمt مثلاً، أو أنّ الأنبياء متساوون عند الله؟
 يقول تعالى:﴿تِلْكَالرُّسُلُفَضَّلْنَابَعْضَهُمْعَلَىبَعْضٍ﴾(2)، وهذا التفضيل، ربما يكون من خلال المهمة التي توكل إلى الرسول، بحيث تعلو على المهمة الموجودة لدى الرسول الآخر. ونحن عندما ندرس قصة إبراهيمt، فإننا نجد أنّ له المنـزلة الكبرى عند الله، كما أنه تحدّث عن النبيw، فقال:﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾(3)؛ ولذلك نحن لسنا مكلّفين بأن نتحدّث: هل إن هذا النبي أفضل من هذا النبي؟ أو هذا الإمام أفضل من الأنبياء؟ أو ما أشبه ذلك، هذا أمرٌ لم يكلِّفنا الله به، وعلينا أن لا نُشغل أنفسنا بذلك، بل علينا أن نشغل أنفسنا بما أراد الله لنا أن نعرفه في مسؤولياتنا الشرعية وقواعدنا العقائدية.
التائب وإمامة الجماعة:
ما هو المقصود من الآية الكريمة: ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ﴾(1)؟ وهل التائب من المعاصي يصح له أن يتصدى لإمامة الناس في الصلاة؟
 يعملون السوء بجهالة، أي على أساس السفاهة، أي أنّ هؤلاء يُقبِلون على المعاصي وعلى الانحراف، باعتبار أنهم جاهلون بحقائق الأشياء. أما الذي يتوب عن المعاصي، ويصير عادلاً، بحيث يستقيم على الطريق الذي يريد الله من عباده أن يسيروا عليه، فيجوز له أن يؤمّ الناس.
سند الأحاديث القدسيّة:
قيل إن الأحاديث القدسية ضعيفة السند، فهل هذا صحيح؟
 الأحاديث القدسية بعضها لا سند له، ولكنها مروية، وبعضها له سند، فنأخذ بما ثبتت وثاقته، ونترك ما لم تثبت وثاقته، أو ندرس طبيعة المضمون في الحديث القدسي، فإذا اتفق مع ما لدينا فيما جاء به القرآن أو جاءبهحديثالنبيwفنأخذبه،منجهةالتوافقبينما قاله الله وقاله رسوله.
الفرق بين الرسول والنبيّ:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّنُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّأَنَا فَاعْبُدُونِ﴾(2) ما الفرق بين الرسول والنبي؟
 الرسول هو الذي يرسله الله برسالته إلى الناس ليدعوهم إليها، والنبي هو الذي يوحي إليه الله سبحانه وتعالى، فكل رسول نبيّ، ولكن ليس كل نبي رسولاً.
العقول والقرآن:
قال الإمام الصادقt: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله عز وجل، ولكن لا تبلغه عقول الرجال». ما الفائدة منه إذا كانت العقول لا تبلغه؟
 بقطع النظر عن صحّة هذا الحديث، فمعناه أن بعض الأشياء تحتاج إلى عمق وإلى تأمّل، وليس معناه أنها لا تستطيع الوصول إليه؛ والله العالم.
لماذا لم يحترق إبراهيمt:
عندما ألقوا نبينا إبراهيمt في النار، لماذا لم يحترق؟
 لأنّ الله سبحانه وتعالى جعل النار برداً وسلاماً عليه بطريق المعجزة.
العصيان الإرشادي:
 هل معصية آدم tلأمر ربه تنفي مقام العصمة عنده؟
 معصية آدم لربه هي معصية إرشادية، أي معصية لأمر إرشادي، لا لأمرٍ قانوني، ولذا بيّن الله سبب المنع من الأكل من الشجرة ببيان نتيجة العصيان، ما يفيد أنّ البقاء في الجنّة إنّما يستمرّ إذا امتنعا عن الأكل من الشجرة المعهودة. وهذا مثل أوامر الطبيب التي تمثّل النصيحة التي لو تركها الإنسان فإنّه يمرض أو يضعف، باعتبار أن الأمر ينطلق بالنصيحة، فهذه المعصية لا توجب إثماً في ذاتها، ولكن هناك أوامر تشريعية توجب معصيتها إثماً.
هذا مع ملاحظة أخرى، وهي أن آدم لم يكن في الجنة مكلَّفاً أو نبياً في المقام، وإنما كلفه الله بالنبوة والرسالة بعد ذلك.
خوف الأنبياءi:
هل إن خوف الأنبياء من الطُغاة فيه نقص يؤدّي إلى نقص في الكمال، فكيف يمكن أن نجمع بين تحدي الطغاة وضرورة حفظ النفس؟
 الأنبياء بشر مثل بقية البشر؛ يحزنون ويخافون في كثير من الحالات، وهذا ما يؤكده تعالى في قوله عن موسىt:﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى* قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى﴾(1)، وكذلك بالنسبة إلى إبراهيمt عندما جاءته الملائكة ليبلغوه بتعذيب الله لقوم لوط:﴿فَمَالَبِثَأَنْجَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ* فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ﴾(2) فالأنبياء يخافون ويحزنون، ولكنهم عندما يواجهون الرسالة، يتصلبون ويقفون ولا يتراجعون ولا يتزلزلون ولا يسقطون.
دور الأنبياءi في الإصلاح:
لماذا وجد كل هذا الفساد والانحطاط في العالم، بالرغم من وجود الأنبياء والرسل؟
 يقول تعالى:﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون﴾(3)، فالأنبياء كانوا يركّزون رسالتهم ودعوتهم الناس على الإصلاح، وقد ورد على لسان بعضهم:﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾(4)، ولكن الناس لم يلتزموا برسالات الأنبياء واتبعوا شهواتهم وغرائزهم؛ فظهر الفساد بأعمالهم عندما تركوه يستشري فيهم، وقد قال تعالى:﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم﴾(5)، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾(1)، وقال:﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾(2)، فالناس هم الذين يمارسون الفساد ويأتون به، بالرغم من كل دعوات الأنبياء لهم، لأن هؤلاء لا يتبعون الأنبياء.
إنّ الله سبحانه وتعالى قد أجرى الحياة كلّها على أساس الاختيار الإنساني، ولم يُجرها على أساس غيبـي. قال تعالى:﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾(3).
أسماء الله تعالى:
هناك حديث أن الرسول الأكرمw قال: «إن لله تسعاً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة»، والإحصاء معناه العد، ما مدى صحة هذا القول؟
 إحصاء أسماء الله من دونِ الالتزام بأوامر الله ونواهيه والسير على الخط المستقيم، لا يؤدي بالإنسان إِلى دخول الجنة، إلا أن يكون المراد الإحصاء المقرون بالعمل؛ وإلا فيردّ علمه إلى أهله.
الشهادة على غدير خم:
يقال إن في غدير خُم كان عدد المسلمين الذين سمعوا ما بلّغه رسول اللهw كثيراً، وبعد وفاة رسول الله وجدنا أن عدد الذين كانوا مع عليt قليل، فما السبب؟
 لعل المسلمين الذين كانوا في ذلك الوقت، كانوا لا يزالون خاضعين لتقاليدهم العشائرية، وربما لم يكن لهم ذلك الوعي الذي يفهمون فيه طبيعة ما ذكره النبيw في غدير خُم، كما يتحدث عن ذلك المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه (المراجعات).
عصمة النبيw:
من المعروف أنّ الإمامية متفقون على أن الأنبياء معصومون منذ أن خلقهم الله، ولكن غيرنا من المسلمين والمسيحيين يقولون إن النبيwكان يخطىء قبل نبوته، والدليل على ذلك قول الله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾(1)، فكيف يكون النبي معصوماً من الذنب قبل نبوته، ومن يقرأ ظاهر الآية يقول إن النبي كان يخطئ، فما قولكم ؟
 الآية الكريمة قد وجهت من قبل المفسرين بعدة توجيهات بما يبعدها عن معناها الظاهري من نسبة الذنب إلى النبيw لتتناسب مع عصمتهw، ولعل الأقرب هو استيحاء معنى الرضوان والمحبة والرحمة من المغفرة، باعتبارها نتائج المغفرة، فيكون المراد أن الله يمنحك رضوانه ومحبته. ومن الوجوه: أن المراد ذنبه عند أهل مكة، وبالفتح التغت كل السلبيات التي على أساسها اعتبروه مذنباً.
الإدراك بالقلب:
ما هو تفسيركم لقول الله تعالى وفي عدة مواضع في القرآن العظيم، بما معناه أن الإيمان يدرك بالقلوب، مع أنه من المعروف أن وظيفة القلب هي فقط ضخ الدم، أما التفكير والإدراك فهي من وظائف الدماغ؟
 المراد بالقلب في مثل هذه التعابير القرآنية، هو مركز الإحساس والإدراك في الإنسان، وفي مقدّمه العقل.
الشيطان من الجن:
هل إن الشيطان مخلوق من الجن بحسب ظاهر الآية؟ وكيف يوسوس لملايين البشر؟
 إن الشيطان من الجن، كما هو ظاهر قوله تعالى:﴿إلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾(1)، والوسوسة تعني التدبير في الخفاء، كما هو عمل المخابرات التي تشتغل من خلال الصحف والسياسيين والأحزاب، ومن خلال وسائل الإعلام والفضائيات. فالإعلام هو الذي يوسوس، ويخلق في نفس الإنسان الانطباعات والمشاعر والأفكار وحالات البغض والحب لهذا أو ذاك. وما أكثر الشياطين هذه الأيام وهي تصنع الخبر، فالمخابرات اليوم لا تجمع الأخبار فحسب، بل إنها تصنع الحروب والفتن، وحتى في المجتمع الديني، فهي تفكر في خلق الفتن والنـزاعات، وكل يوم تخلق مشكلة بين الناس ليضرب بعضهم بعضاً.
واليوم هناك عددٌ لا يُحصى من الشياطين، ﴿شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾(2). فقد حدثنا اللّه سبحانه وتعالى، عن أنّ الشياطين لا يملكون قدرةً خارقةً حتى مَنْ كان من شياطين الجن، بل هم يوسوسون ويخلقون الأجواء لذلك ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً﴾(3)، وقد قال اللّه سبحانه وتعالى للشيطان:﴿إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان﴾. فالواعون الذين يملكون القاعدة الفكرية والروحية، ليس للشيطان عليهم سبيل، لأنّ اللّه هو الذي يمنح المؤمنين رعايته ﴿إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ﴾(4) الذين يهملون سرّ الإيمان باللّه، ويتبعون الشيطان، ويستغرقون في وساوسه وغواياته.
حديث الغدير:
ما هو رأي سماحة السيد فضل الله في صحة حديث الغدير؟
 إنّ الواقعة التي تمت في آخر حجة للرسولw، والتي تسمى حجة الوداع، لا يمكن لأي شخص إنكارها، كما أنّ الفريقين من السنّة والشيعة يتفقون على ذلك.
مرض المؤمن:
هل صحيح أن المرض كفّارة للذنوب؟ وهل ذلك خاص بالمؤمن فقط، أم أنّه عامّ للمؤمن وغير المؤمن؟
 ورد ذلك في الأخبار بالنسبة إلى المؤمن؛ ورحمة الله وسعت كلّ شيء.
صلاة النبيّw:
في بداية الأذان يقول المؤذن: «إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنو صلوا عليه وسلموا تسليماً». إذا كانت الملائكة والناس يصلّون على النبي، فعلى من يصلّي النبي؟
 قال تعالى أيضاً:﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً﴾(1)، فالنبيّ يصلّي على المؤمنين، وصلاته عليهم هي الدعاء لهم بالهداية والرحمة.
دعاء الفرج:
ما رأي سماحتكم في دعاء: «يا محمد يا علي، اكفياني فإنكما كافيان، وانصراني فإنكما ناصران». ألا يتعارض هذا الدعاء مع قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ﴾(2)؟
 هذا الدعاء لم تثبت صحّته، كما أن ظاهره لا ينسجم مع خط العقيدة؛ لأن الله هو الكافي من كل شيء، وهو الناصر لعباده المؤمنين، ودور النبي wوالإمام tهو الشفاعة.
الحديث الضعيف الموافق للقرآن:
ماذا يسمّى الحديث الذي سنده ضعيف، ولكن مضمونه لا يخالف القرآن؟ وهل يكون مضمون هذا الحديث معتبراً في مثل هذه الحالة؟
 لا يؤخذ به، إلا مع اعتباره من جهات أخرى توجب الوثاقة بصدوره من النبيّ أو الإمام، كاشتهاره، وعمل الأصحاب به بما يوجب الوثوق، وإذا كان مضمونه موافقاً للقرآن.
هل يظلم الله قليلاً؟
ما المعنى المراد من قوله تعالى في سورة (ق): ﴿وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ للْعَبِيدِ﴾(3)، فإذا أخذنا صيغة المبالغة في الاعتبار، فيكون المعنى أنّ الله يظلم ولكن ليس كثيراً، كما عندما نقول عن شخص إنه ليس أكولاً، فهذا يعني أنه يأكل ولكن ليس كثيراً. أفتونا في ذلك أفادكم الله؟
 قوله تعالى:﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾(4) ليس المراد به نفي كثرة الظلم مقابل القلة، بل نفي المبدأ. ولعلّ الإتيان بصيغة المبالغة هنا، لأنّ المورد اقتضى ذلك، حيث إنّ ما يُقبل عليه المستحقّ للعذاب من العذاب، هو ممّا يقتضي شدّة الظُلم لولا أن الله سبق له أن أنذر وقدّم الوعيد بالنحو الذي يدفع المتّقين إلى الحذر منه، فأريد نفي هذا الأمر؛ وهذا لا يقتضي أنّ الله تعالى يُمكن أن يصدر منه الظُلم القليل؛ تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
موقع الإمامة في الفكر العقيدي:
هل صحيح أنكم ترون أنّ الإمامة ليست من أصول الدين الثابتة، بل من المتغير الذي ليس قطعياً؟
 الإمامة من أصول المذهب؛ لأنّ منكرها محكومٌ بالإسلام، وثبوتها قطعي عندنا، ولا تنافي بين ذلك وبين كونها أمراً يحتاج إلى إثباته بالدليل؛ وقد اختلف في مسألة الإمامة بين المسلمين كما هو معلوم.
مفهوم البداء:
ما هو مفهوم البداء؟
 هذا المفهوم مستوحى مما ورد في قوله تعالى:﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾(1)، والمراد به الإبداء، أي الإظهار، بمعنى أنّ الله قد يُظهر أمراً كما لو كان هو الواقع وهو يريد خلافه حكمةً منه، ثم يُظهر حقيقة الأمر بعد ذلك، كما يقال في إظهار أمر إبراهيم بذبح ولده، ثم بيَّن أنَّ أَمْرَهُ كان المراد به إجراء مقدمات الذبح لا الذبح نفسه.
قدرات النبي سليمانt:
إذا كان النبي سليمانt لديه قدرة التصرف بالريح والطير والجن، ألم يكن يملك القدرة على أن يأتي هو بعرش بلقيس؟ وما الفائدة من أن يأتي من يقوم بهذه المهمة شخص غير النبي؟ وهل يمكن القول  إن إحضار هذا الشخص  للعرش من الممكن أن يدل على أن النبي لم يكن قادراً هو بذاته على أن يأتي بالعرش، فاستعان بآخرين لديهم القدرة؟ ثمّ إذا كان هذا الذي لديه علم من الكتاب يملك هذه الولاية التكوينية، فلماذا نرفض الحديث عن ولاية تكوينية لدى الرسولw والأئمةi، ونحن نعرف ما لديهم من علم وكرامات عند الله عز وجل؟
 طلب النبي سليمان tممن حوله أن يأتوا بالعرش، لا يدل على عدم إمكانية أن يدعو الله تعالى مباشرة بذلك، ولكن كان له موقعه الذي يستدعي أن يتولى أعوانه أموره، كما أن في ذلك حكمة، وهي إظهار ما أعطاه الله من قدرة للذي عنده علم من الكتاب، وهذا لا يمثل ولاية تكوينية، بل هو أمرٌ محدود في ظرف معين، وليس لأحد من الخلق أية ولاية تكوينية، لأن الله هو ولي الكون ومدبره، قد يمنح بعض أنبيائه وأوليائه بعض القدرات في حالة الحاجة إلى المعجزة بشكل محدود، من دون أن تكون لهم القدرة الذاتية، لأن الله تعالى لم يجعل لهم ذلك، والقرآن دليل واضح على رفض الولاية التكوينية، بل إنّ دور النبيw هو التبشير والإنذار وهداية الناس والدعوة إلى الحق والشهادة على الناس، ولا شيء غير ذلك بنص القرآن.
الاستغاثة بغير الله تعالى:
هل يجوز قول: يا علي، عند القيام والجلوس؟
 لا يحرم مع كون النية الاستشفاع بالإمام عليt، ولكن الأنسب في عقيدة التوحيد الخالصة، هي التوجه بالدعاء والذكر لله وحده، وقد جاء في قوله تعالى:﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً﴾(1)، وأن يكون أسلوب الاستشفاع بالطلب من الله أن يشفّع الأولياء فينا، وقد ورد في دعاء الإمام زين العابدينt:«واجعل توسلي به شافعاً، يوم القيامة نافعاً».
سلطة الشيطان على الإنسان:
ما مدى صحة هذه المقولة: إن الإنسان عندما يكون نائماً ويتحرّك، يدخل الشيطان إلى جسمه؟
 هذا الكلام غير صحيح، ولا أساس شرعي أو علمي له.
الأبراج الصينية:
ما هو الفرق بين التنجيم والأفلاك، أو ما يسمى بالأبراج الصينية التي نقرأ عنها في الصحف اليومية والمجلات؟
 الأفلاك وحركتها أمر كوني، ولكن استكشاف الغيب من ذلك هو أمر لا دليل عليه، ولا يعلم الغيب إلاّ الله تعالى.
قراءة الطالع:
سألتني صديقة عن بعض من يُسمُّون أنفسهم بصّارين، حيث قالت لها فتاة إنّ بصَّارة بَصَّرت لها بالكف وقالت لها أشياء خاصة جداً تبين بعدها أنها صحيحة، فهل يمكن أن نصدق مثل هذه الأشياء؟
 ليس هناك دليل على واقعيّة هذه الأمور.
قراءة الفنجان:
ما حكم قراءة الفنجان المنتشرة في بعض البلدان العربية؟
 هو محرم مع الاعتقاد بكشفه للغيب، وإلاّ فلا، والأفضل تجنّبه.
تارك الصلاة ودخول الجنّة:
هل تارك الصلاة لا يدخل الجنة أبداً؟ أرجو تفسير ذلك.
 الصلاة من أولى الواجبات المفترضة على المسلم، فإذا تركها عالماً عامداً، فقد ارتكب معصيةً كبيرةً، وربما دخل النار بسبب ذلك، لكنّ عفو الله تعالى عظيم، وقرار إدخال الإنسان إلى النار أو الجنة هو بيد الله تعالى، ولا يمكننا نحن تأكيده مسبقاً.
إمامة المهديr:
إن المهدي المنتظر قام بالإمامة، وحاز هذا المنصب الجليل، وهو ابن خمس سنوات، أي أنّه كان طفلاً لم يبلغ الحلم، فهل يجوز ذلك؟
 تصح إمامة الصبي إذا كانت مستمدةً من الله سبحانه، وقد أنزل الله الوحي على عيسى ابن مريمt وجعله نبياً وهو طفل صغير.
الاعتقاد بالرجعة:
 ما رأي سماحتكم في الرجعة؟
 الرجعة هي من الأمور الاعتقادية الفرعية التي لا تضر بعقيدة المسلم الجهل بها أو عدم معرفة حقيقتها، وقد اختلف فيها بحسب الأخبار الواردة التي منها ما يعبر عن رجوع الأشخاص، ومنهم أهل البيتi، في آخر الزمان، ولكن الأخبار في ذلك مختلفة ومضطربة، ولعل الأصح الأقرب ما يعبر عن كونها رجوع دولة الحق وحكم العدل، وهذا ما ذكر في بعض الأخبار.
الولاية التكوينية:
في عدة بيانات وفتاوى لكم، صرحتم بأن القول بالولاية التكوينية غلوٌ وشرك، ولكننا نرى العديد من العلماء يقولون بها، كالمرحوم الإمام الخميني وأكثر العلماء، وخصوصاً أصحاب الحكمة المتعالية، وهي رائجة جداً في حوزة قم، فما هو رأي السيد في ذلك؟
 يراد بمصطلح الولاية التكوينية، ما مفاده: أن الله تعالى قد فوض تدبير شؤون الكون أو قسم منها إلى النبي محمدw وأهل بيتهi. وقد ذهب فريق من العلماء إلى القول بها والاعتقاد بصحتها، فيما ذهب فريق آخر إلى القول ببطلانها، والأقوى عندنا هو القول ببطلانها، وذلك لأن الولاية المذكورة إن كانت تعني أن الله تعالى لا يتدخل في إدارة تلك الشؤون، بحيث إنه أوكل أمرها إلى غيره من الخلق المتميز، كالملائكة والأنبياء والأوصياء، فهم يستقلون في تدبيرها، فذلك هو (التفويض) الذي اتفق علماء الشيعة على رفضه، في إطار ردهم على من قال بذلك من فرقة المعتزلة. وعليه، فإن كل ما يقال في إثبات بطلان التفويض، هو مما يمكن قوله لإثبات بطلان الولاية التكوينية.
وأما إذا كان مرادهم بالولاية التكوينية معنى آخر غير التفويض، وهو أنه تعالى قد شرّفهم، فأوكل إليهم إدارة تلك الشؤون، رغم كونه تعالىهوالمدبرالحقيقي والمهيمن الأوحد، فإننا نقول إن دورهم صلوات الله تعالى عليهم أجمعين، هو هداية الناس وقيادتهم نحو الخير، وما عدا ذلك من شؤون هذا الوجود لا يتناسب مع دورهم المذكور، ولا يعتبر أمراً ضرورياً لأداء مهمتهمi، ولا يصح اعتبار المعجزات من مصاديق الولاية التكوينية المدعاة، لأن المعجزة حدث طارىء واستثنائي يجريه الله تعالى على يد المصطفين من الأنبياء لغرض إثبات نبوته، وهو أمر لا ريب في ثبوته، لكنه لا يصح إطلاق مصطلح الولاية التكوينية عليه، ما دام ليس حالةً دائمةً لهمi، كما هو المدعى عند القائلين بالولاية التكوينية.
ومهما يكن من أمر، فإن الذي يجب الوقوف عنده في مثل هذه الأمور، هو أن الله تعالى قد أكد في كتابه الكريم، أنه هو المهيمن على هذا الوجود والمدبِّر له، لا شريك له في خلق ولا في تدبير، وأنه حين أجرى الأمور بأسبابها، ظل هو المحرّك لها والحاضر فيها والمدبر لها، وأن الملائكة الكرام الذين كلّفهم بشيء من شؤون التدبير، لا استقلالية لهم، بل هم:﴿لايَسْبِقُونَهُبِالقَوْلِوَهُمْبِأَمْرِهِيَعْمَلُونَ﴾(1)، ولم يثبت أن من عدا الملائكة من الخلق لهم دور معين في إدارة هذا الوجود، وبخاصة الأنبياء والأوصياءi، وما ورد في الروايات ممّا ينافي ذلك، هو إما ساقطٌ بدلالة منافاته لهذا الثابت القرآني، أو هو ضعيف السند، فلا يعتد به.
دور العقل في العقائد:
هل صحيح أن الإيمان لا يستند إلى العقل والبرهان، إنما يعتمد على السمع والنصّ؟
 الإيمان بالعقائد الدينية الأساسية، مثل الذات الإلهية والنبوة وما يتبع ذلك، هي أمور يرتكز الإيمان بها على العقل بمعناه الفلسفي، وما عدا ذلك من قضايا الدين، فالعمدة فيه على الوحي، كما أن ما عدا ذلك من قضايا الحياة، يعتمد على العقل والتجارب.
عقيدتنا في الإسراء:
تعتقد الشيعة الإماميةالإثنا عشرية، أن النبيwعرج بروحه وجسده إلى بيت المقدس... فهل هذا صحيح؟
 إسراء الرسولw بالروح والجسد صحيح، وذلك هو ظاهر قوله تعالى:﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾(1).
علّة الخلق؟
لماذا خلقنا الله؟ نرجو التوسُّع كثيراً في إجابتكم.
 قال تعالى:﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(2)، لا من حاجة إلى ذلك، لأنه الغني المطلق عن عباده وعن طاعتهم وعبادتهم له، بل خلقه لأنّه أراد أن ينعم علينا بنعمة الوجود بعد أن لم نكن شيئا مذكوراً، ولأنه أراد أيضاً أن ينعم علينا بنعمة العبادة لله والتقرب إليه والوصول إلى مراتب القرب والكمال والنعيم الأبدي(1).
تلبّس الجنّ بالإنسان:
نسمع الكثير ونرى العديد من الحالات التي يقال فيها إن الإنسان مصاب بمس من الجن، هل هذا يعني أنّ الإنسان ضعيف خلقاً أمام هذا الجن الذي يلبس الإنسان؟ وكيف يقي الإنسان نفسه من ذلك؟
 لم يثبت واقعية ذلك، والله تعالى لم يسلط الجن على الإنسان بهذا المعنى، بل غاية ما أعطاه، أن أنظره إلى يوم يبعثون مع قدرته على الوسوسة للإنسان سعياً إلى إغوائه، ولكن الله تعالى حذر الإنسان من الشيطان وحبائله ومكره وخدعه ووسوسته، وحصّنه من خلال الفطرة والعقل والدين والرسالات.
هويّة الجـنّ:
ما هو الجنّ؟ و ما هي صفاته؟ و هل يراه الإنسان على حقيقته؟
 الجنّ مخلوق من نار، وهو غير مرئي للبشر، ومنه المؤمن ومنه الكافر، وإبليس وأعوانه لهم قدرة الوسوسة للبشر من دون إجبارهم على ارتكاب المعاصي، لأنّ الإنسان مكلف مختار في ذلك.
زمن شيوع فكرة النص والإمامة:
ورد في أحد المقالات ما مضمونه أنّ ظهور عقيدةالشيعة لم يكن قبل الإمام السادس، الصادقt، وأنّه يشهد لهذه المسألة ـ حقيقة الظهور المتأخر لعقيدة الشيعة في «النص والوصية والتعيين» ـ خلوّ تاريخ الصراع على الإمامة قبل ذلك التاريخ من أية إشارة إلى الاحتجاج بهذه العقيدة؛ فهل هذا الكلام صحيح؟
 القائل بذلك، كأنه لم يطّلع على تاريخ الإسلام وأحاديث النبيw، وأولها حديث الغدير، إضافة إلى غيره مما بيّن فيه ولاية الإمام عليt، والمرجع في إثبات ذلك هو النصوص الشرعية الأولية.
ثبوت حديث الكساء:
ما رأيكم في حديث الكساء؟
 حديث الكساء ونزول آية التطهير ثابتان، ولكن الزيادات الموجودة في بعض الروايات سندها غير ثابت عندنا وعند المحقّقين.












 
 

الإيمان وحرية الاختيار:
من خلال مراجعة التاريخ، وبعد تراكم الرسالات النبوية وتضخّم المفاهيم الدينية والدنيوية، نلاحظ أن دوافع الشر متأصلة، فهل يمكن أن تصفو الحياة والمبادئ الإسلامية، بالقراءة الصحيحة للدين وتطبيقه بشكلٍ صحيح؟
 عندما أرسل الله الأنبياء والأولياء، إنما أراد لهم أن يبلّغوا الناس رسالاته، أما أن يؤمن الناس، فقد قال الله للنبيw:﴿أفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾(1)، والله سبحانه وتعالى يقول:﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر﴾(2). وعلى كلّ حال، فالإيمان لا بدّ من أن ينطلق من خلال تطور عملية الدعوة وعملية الإصلاح، ممّا يمكن أن يحقق نتيجة جيدة، ونحن ننتظر الحجّة r الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بالإسلام، وينشر الإسلام في العالم.
وكما قلنا، فإنّ الله سبحانه وتعالى جعل للإنسان حق الاختيار، والله تعالى يقول:﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾(3)، ولكن الله أراد للناس أن يؤمنوا من خلال قناعتهم ومن خلال وعيهم وإرادتهم. قال تعالى:﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾(4)، ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾(5)، ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾(6).
جواز النقد وشروطه:
هناك مقولة يطرحها البعض فيقول: ليس من حق العامي أن ينتقد ولو نقداً إيجابياً طرح المجتهد، لأن وظيفة العامي أن يتبع فقط، ونحن نعرف أن علياًt هو الذي علّم الناس أن يناقشوا وعلّمهم الجرأة على السلطان، والإمام الباقرt هو الذي كان يأمر أصحابه بأن يسألوه إذا أخبرهم بشيء عن موضعه في كتاب الله.
 من قال إنّه لا يجوز للعامي أن ينقد المجتهد؟! نعم، تارة ينقده في الأحكام الشرعية التي يملك المجتهد فيها حجّة فهنا لا مجال للنقد؛ لأنّ العامي لا يملك الخبرة الاجتهادية في هذا المجال. أما في القضايا الأخرى، كما في بعض قضايا السلوك، أو القضايا السياسية، أو الاجتماعية، فلا مانع من أن ينقد المجتهد، ولكن نقداً بناءً وليس نقداً هدّاماً.
شرف العائلة:
كيف تنظرون إلى مسألة ربط شرف العائلة بشرف الفرد؟
 إذا أساء فرد من العائلة، ولاسيّما في ما يختصّ بما يصدر عن المرأة من انحراف في السلوك الجنسي وغيره، فلا يجب أن يُعتبر ذلك إساءة إلى شرف العائلة أو ما يدفع العائلة إلى أن تستنفر لاستعادة هذا الشرف من خلال قتل المرأة التي تُتّهم بهذا الانحراف. فالقضية ليست قضية شرف، وإنّما قضية تقاليد بالية تُحمّل المرأة ما لا تحمّله للرجل؛ إذ نجد أن العائلة لا تعتبر الرجل الذي يسيء إلى نساء الآخرين بواسطة الاعتداء الجنسي أو بالاغتصاب أو بأي وسيلة أخرى، مذنباً أو مسيئاً إلى شرف العائلة. وهنا المفارقة.
أمّا الإسلام، فيعتبر أن شرف كل إنسان متّصل بنفسه، فإذا قام إنسانٌ بما يسيء إلى شرفه، فليس لذلك أي علاقة بشرف العائلة أو بشرف الطائفة أو بشرف البلد في هذا المجال، فالله سبحانه وتعالى يقول:﴿وَلاتَزِرُوَازِرَةٌوِزْرَأُخْرَى﴾(1). لذلك فإن الشخص يتحمّل مسؤولية عمله ولا يشاركه غيره في ذلك مهما كان قريباً منه.
الغلبة الحضارية:
هل نعيش اليوم صراعاً بين الحضارات، الغلبة فيه للحضارة الغربية المسيحية؟
 نحن لا نعيش صراع حضارات، لأن هذا الصراع يفترض التقابل بين القيم الحضارية لكلّ من الحضارتين، لمعرفة وزن وقيم هذه الحضارة وفاعليتها مقابل قيم الحضارة الأخرى، وهذا ليس حاصلاً. نعم، هناك نقاش في بعض المفاهيم بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. ولكن ما نلحظه ونعيشه، هو صدام المصالح، لأنّ الدول الغربية الكبرى تحاول مصادرة العالم الإسلامي في ثقافته وسياسته وأمنه أيضاً. ولذا نقول إنه ليس هناك صدام بين الحضارات، لأنّ الحضارة الإسلامية لا تتحرّك في عملية صدام بالقوة ضدّ الحضارة الغربية، لكنّ المشكلة هي في الدول الكبرى التي تحاول مصادرة الواقع الإسلامي، من خلال احتلالها بعض مواقعه، من خلال الضغط الاقتصادي والسياسي الذي تمارسه عليه، مستغلةً بذلك اختلال موازين القوى.
سبل الحوار الإسلامي الإنساني:
هل ترون فائدةً من الحوار بين الإسلام والغرب؟
 نحن نؤمن بالحوار المطلق، بمعنى أن يحاور المسلمون بعضهم بعضاً، وأن يكون هناك حوار بين الأديان، فنحاور المسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية، وأن يكون هناك حوار بين المتديّنين والعلمانيين، وبين الإسلام والغرب، لأننا نعتبر أن الحوار هو الذي يمكن أن يقارب بين الشعوب، وأن يحقّق بينهم السلام القائم على أساس العدل والمعرفة. أمّا إدارة المواجهة للغرب، فلها أدواتها التي قد لا تأخذ بالحوار عندما لا يريد الطرف الآخر أن يأخذ به، وعندما يحرِّك منطق الاستكبار والتسلّط والغلبة والقهر والاحتلال.
التقوى في التربية:
الخوف من الله يشكّل عنصراً من العناصر التربوية في بناء شخصية الإنسان. كيف نظر القرآن إلى هذه المفردة من خلال الآية القرآنية:﴿قُلْ يا عِبَادِي الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوارَبَّكُمْلِلَّذينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهَ الدُّنْيا حَسَنَة ٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعةٌ إنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَأَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(1)؟
 في القرآن الكريم نداءات متنوّعة للمؤمنين، ومن هذه النداءات، نداءٌ لرسول اللهw يريد الله سبحانه وتعالى منه أن يبلّغه للناس، ويحمل في مضمونه الحثّ على الخوف من الله، فيقول سبحانه:﴿قُلْ يا عِبَادِي الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوارَبَّكُم لِلَّذينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهَ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌإنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَأَجْرَهُمْبِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، أي: أيُّها المؤمنون، لا يكفي أن تعلنوا إيمانكم بالله بأن تقولوا: إنّنا نشهد أن لا اله إلاً الله وأنّ محمداً رسول الله، وأنَّ الله يبعث الناسَ يوم القيامة ليجزيهم على أعمالهم، إن خيراً فخيرٌ، وإنْ شرّاً فشرٌّ؛ لا يكفي ذلك، بل لا بدّ لكم من أن تستشعروا في قلوبكم وعقولكم وأحاسيسكم الخوف من ربّكم.
والخوف ليس حالة شعورية تعيشونها وتتجمّدون أمامها، بل يجب أن تكون حالة في الموقف والعمل، لأن الإنسان عندما يخاف الله، يتجنّب مواقع غضبه، تماماً كما في حالات الخوف الطبيعية التي تصاحب الإنسان في الحياة، كالخوف من الموت، أو من السجن، أو من العدوّ، أو ما إلى ذلك، بحيث يتحرّك الإنسان ليهرب من كلّ ذلك.
ولكن، إذا خاف من الله، فهل يستطيع أن يهرب منه كما يهرب من حالة يخاف منها؟ ﴿وَهُوَالَّذِيفِيالسَّمَاءِإِلَهٌوَفِيالأَرْضِإِلَهٌ﴾(1)، ففي السماء عظمته وفي الأرض ملكه، وفي البحار والكهوف والأعماق سلطته، فأين يهرب من ربّه؟ فإذا عصى الله وتمرّد على رسالاته وأنبيائه ، فهو لن يستطيع الهرب في الدنيا ولا في الآخرة.
إذاً هناك طريقٌ واحدٌ، وهو أن نطيع الله ولا نعصيه، وهذا هو الطريق الذي يعبّر عنه بالتقوى ﴿قُلْيَاعِبَادِالَّذِينَآمَنُوااتَّقُوارَبَّكُمْ﴾، خافوه واحسبوا حسابه في كلّ أوضاعكم وأعمالكم، فإذا أردتم أن تقوموا بعمل، فاحسبوا حسابه سبحانه قبل أن تحسبوا حساب البشر، وهذه هي التقوى، ومضمونها العملي، أن لا يجدَك اللهُ حيث نهاك، وألاّ يفقدَك حيث أمرك.
العطاء وشهر رمضان:
 أيام شهر رمضان، في مفهومنا الإسلامي، هي مناسبةٌ للبذل والعطاء، كيف نعيش من خلال القرآن روحية العطاء؟
 يريد الله سبحانه تعالى للإنسان، سواء كان رجلاً أو امرأةً، أن يعيش روحيّة العطاء، وذلك بما تمثّله كلمة الصدقة من مفهوم العطاء قربة إلى الله تعالى، فيقول سبحانه وتعالى:﴿إِنَّالمُصَّدِّقِينَوَالمُصَّدِّقَاتِوَأَقْرَضُوااللهَقَرْضاًحَسَناًيُضَاعَفُلَهُمْوَلَهُمْأَجْرٌكَرِيمٌ﴾(2)، حيث يحثّ الله الإنسان على أن يوظّف بعض قدرته المالية للإنفاق على الفقراء والمساكين، لأنّه قد لا يملك الفرصة في أن يتصدّق على الفقراء والمحرومين في المستقبل، ويقول له، بأنّ الصدقة عبادة؛ فأنت إذا أعطيت إنساناً فقيراً محروماً قربةً إلى الله تعالى، فإنّ عطاءك هذا صلاةٌ تصليها، فكما أنّ الصلاة تكون بالأذكار والحركات من ركوع وسجود، فإنّها تكون بالصدقات أيضاً. وهذا هو الذي جعل علياًt يتصدّق بخاتمه وهو في حال الركوع، لأنّهt كان لا يرى فرقاً بين الصدقة والصلاة، بل كان يرى أنّه عندما يكون في حال ركوع وسجود بين يدي الله، يكون في حالة صلاة، وكذلك عندما يتصدّق، يرى نفسه في حالة صلاة أيضاً، فهناك صلاة الركوع، وهناك صلاة الصدقة.
ثم إنّ الله تعالى يقول بأن لا تعتبر الصدقة عندما تتصدّق بها خسارة؛ لأن الله سبحانه يعتبر صدقة المتصدّقين والمتصدّقات قرضاً حسناً في حساباته، والصدقة عندما تعطيها للفقير، فإنّها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير، كما جاء في بعض الأحاديث، فالله يستقرض منك بالفائدة، والفائدة عند الله ليست كفوائدنا نحن، بل يعطيها مضاعفةً، ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾(1).
وهذا هو الذي يدفعنا لأن نفكّر دائماً بانتهاز فرصة إمكاناتنا، حتى نُعين الناس الذين يحتاجون إلى معونتنا. وقد يعتبر الكثيرون منّا حاجة الناس إليهم عبئاً عليهم، ولكن:«من نِعَمِ اللهِ عَلَيْك حاجة الناس إليك»؛ لأنّ الناس عندما يحتاجونك وتعطيهم مما أنعم الله به عليك، فإنّ ذلك يرفع درجتك عند الله سبحانه وتعالى. وقد ورد في الأحاديث عن بعض أئمة أهل البيتi، أنهم كانوا إذا جاءهم سائلٌ أو صاحب حاجة، استعجلوا قضاء حاجته.
التعددية السياسية:
ما هو حكم الإسلام في التعددية السياسية، سواء داخل الإطار الإسلامي بين الجهات الإسلامية، أو خارجه لجهة إشراك جهات غير إسلامية؟
 التعددية السياسية داخل الإطار الإسلامي، يجب أن تبقى محصورةً في إطار الاختلاف في الأسلوب، وسقفها أن لا يلزم عنها الإخلال بالنظام العام، وحينئذ لا مانع من أن تقوم فئات متعددة بالعمل خدمةً للمصلحة العامة، وكلٌ على طريقته. أما اللقاء مع قوى غير إسلامية لتحقيق أهداف سياسية وطنية نافعة، فلا مانع منه، بل قد يكون واجباً، وخصوصاً إذا لم تكن له آثار ضارَّة على المسيرة الإسلامية، إلا أنّه ينبغي دراسة ذلك من قبل أهل الخبرة الذين يملكون تشخيص المصالح الإسلاميّة العليا في المدى القصير والطويل على حدّ سواء.
التصالح مع إسرائيل:
لماذا لا نستطيع أن نصالح إسرائيل؟
 لا نستطيع ذلك، لأن إسرائيل دولة غاصبة لأرض فلسطين، ومعتدية على بلاد المسلمين، وهي تعمل بالظلم والفساد، والإنسان لا يصالح من اعتدى على بيته واحتله ظلماً وعدواناً، بل يسعى لإخراجه منه بكل ما أوتي من قوة.
الديمقراطية والشرعية الدينية:
هل إن الانتخابات الحرة (الديمقراطية) هذه الأيام تضفي الشرعية الدينية على الفائز في الانتخابات، بحيث يلزم المنتخب طاعته وولايته؟
 الفوز في الانتخابات لا يضفي الشرعية الدينية على الفائز، إلا إذا كان الانتخاب شرعياً.
العمليات الانتحارية في العراق وفلسطين:
ما هو رأي سماحتكم في العمليات الانتحارية في العراق وفلسطين؛ هل هي حرام؟ وهل تُعتبر قتلاً للنفس بغير حق، أو تعتبر جهاداً؟
 لا بدّ من التفرقة بين ما يحدث في العراق وما يحدث في فلسطين، لأنَّ بعض العمليات التي تحدث في العراق لا يذهب ضحيتها إلاّ المدنيون والأبرياء، وبذلك لا مبرّر لها شرعاً ولا عقلاً، كما أنّها ليست وسيلةً لمحاربة الاحتلال، لأنّ الاحتلال لا يحارب بقتل المدنيين من العراقيين، بل لعلّ ذلك لا يخدم إلاّ مصالح الاحتلال على المدى البعيد. ولكن ما يحدث من عمليات في فلسطين المحتلة، وضد القوات الإسرائيلية، يمكن اعتباره جزءاً من الطرق الوقائية التي يمكن للفلسطينيين من خلالها تخريب الأمن الإسرائيلي، كما تخرِّب إسرائيل الأمن الفلسطيني، وبالتالي فإنها، أي العمليات، الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يلجأ إليها الفلسطينيون في ظل انعدام توازن القوى من الناحية المادية والتقنية.
علاج التطرف:
كيف نعالج الانحراف الفكري والتطرف؟
 ذلك يحتاج إلى جهد من قبل العلماء والمفكرين والمثقفين فيما يطرحون ويكتبون، ويحتاج أيضاً إلى توعية شاملة، فقد ينشأ التطرف من شبهات وسوء فهم للفكر أو الدين، وقد ينشأ من مصالح وعوامل سياسية وغير ذلك.
التنابز السياسي بالألقاب:
ما هو حكم التنابز بالألقاب في المسائل السياسية المختلف عليها بين أهل البلد الواحد، وإطلاق التهم والألقاب على المختلفين في التوجّه والرأي والعمل؟
 لا يجوز ذلك، ولا بد لنا من أن نتثقّف ونعرف كيف نختلف كما نعرف كيف نتفق، وإلاّ سنبقى هدفاً لكل الآخرين الذين يتربّصون بالإسلام وأهله كل سوء، ونسأل الله التوفيق والهداية، وأن يجمع كلمتنا على الخير والهدى والتقوى، إنه سميع مجيب.
الجزية من أهل الكتاب:
لماذا كان الرسولw يأخذ الجزية من أهل الكتاب؟
 تؤخذ الجزية من أهل الكتاب من أجل حمايتهم، ومن أجل إعطائهم الكثير من خدمات الدولة الإسلامية، مع ترخيصهم في أن لا يدفعوا الحقوق الشرعية التي يجب على المسلمين دفعها مثل الزكاة والخمس وما إلى ذلك، وأما إذا فرضنا أنهم كانوا مستعدين لأن يعيشوا كمواطنين، فيكون عليهم حينها ما على المسلمين، كما في (عقد الذمة) و(عقد المعاهدة). والمعاهدة يمكن أن تنصَّ على أن لا تؤخذ منهم الجزية، بل أن يعيشوا كجزء من المجتمع الإسلامي، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، ما عدا القضايا التي تختصُّ بالمسلمين.
سيادة القانون:
إن كل الناس هم تحت القانون بمن فيهم النبيw والأئمةi، فالقانون الإسلامي أجاز الزواج بأربع، فكيف نجيب على من يسألنا: كيف تزوج النبي الكريمw بأكثر من ذلك؟ وما الحكمة فيها؟
 هذه من خصائص النبيw، كما هي قضية وجوب صلاة الليل على النبيw، فقضية الزواج كذلك من خصائص النبيw، فهو قانونه الخاص الذي خصّه الله به، ما يعني أنه لم يتجاوز القانون الإلهي، لكن فيما لم يختص بهw، فإنه تحت القانون.
خلفيّة دعوات الهلاك:
هل دعاء الأنبياء لهلاك قومهم، سببه حرص الأنبياء على سلامة الدعوة، أو هو أمرٌ آخر؟
 نحن نعرف أنّ الأنبياء يحرصون على سلامة الدعوة، كما نجده في تقرير نوحt:﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِراً كَفَّاراً﴾(1)، فالأنبياء لا ينطلقون من حالة نفسية معقّدة في الدعوة على هلاك قومهم، بل ينطلقون من خلال أن قومهم إذا استمرّوا في كفرهم، فسوف يؤدّي ذلك إلى النتائج السلبية على مستوى الإيمان.
فائدة الحوارات:
ما الفرق بين حوار الأديان وحوار الحضارات؟ وأيهما أجدى وأنفع في التقريب بين المسلمين والغرب؟
 الأديان صنعت حضارات، فالدين الإسلامي صنع حضارةً، والدين المسيحي أيضاً في مفاهيمه صنع حضارة، وكل الأديان التوحيدية صنعت حضارة أرادت للناس أن يأخذوا بها وينفتحوا عليها ويتحركوا من خلال كل عناوينها وما إلى ذلك. فحوار الأديان قد يتحول إِلى حوار حضارات، باعتبار أنّ الحضارة تخلقها الأديان، ولاسيما الحضارة الإسلامية التي خلقها الإسلام في كل عقيدته وتشريعاته ومفاهيمه، وفي كل وسائله وأهدافه وغاياته.
كما أن هناك حضارة غربية مادية، ويمكن أن يكون هناك حوار بين الحضارة الإسلامية في قيمها الأساسية، وبين الحضارة الغربية في ركائزها المادية، كما هي الحال بين حضارة المادة وحضارة الروح. ومن الطبيعي أن قضية الحوار هي قضية إنسانية، ونحن ندعو إِلى حوار الأديان بعضها مع بعض، وإلى حوار الحضارات بعضها مع بعض، وإلى حوار الناس بعضهم مع بعض، لأن الحوار هو الوسيلة التي يمكن للناس أن يتفاهموا بواسطتها، وأن ينفتحوا على خلافاتهم الفكرية من خلالها.
بين العلمانيّين والإسلاميّين:
يحتج العلمانيون على صحة نظريتهم بما وصل إليه الغرب من حضارة، فبماذا يحتج الإسلاميون على صحة أطروحتهم؟
 المسلمون يحتجون بما وصل إليه الإسلام من حضارة، فإنّ الحضارة الإسلامية استطاعت أن تعطي الغرب القاعدة الحضارية، حيث كان الغرب سابقاً يأخذ في مصدر المعرفة بالتأمل فقط، وجاءت الحضارة الإسلامية من خلال الأندلس الذي انفتح على الغرب كله، فأعطى التجربة كمصدر ثانٍ للمعرفة، واستطاع الغرب أن يتقدم من خلال التجربة، ونحن نعرف أن الغرب كان يقرأ كتب ابن سينا وكتب العلماء المسلمين المتخصصين في كل المجالات حتى الطبية، حتى إنّ جابر بن حيان الذي هو تلميذ الإمام الصادقt في الكيمياء، كان يُدرَّس في المدارس الغربية، وقد قال نهرو في كتابه (لمحات في حضارات العالم):«إن الحضارة الإسلامية هي أم الحضارات في العالم». ولذلك نحن نقول إن قضية صنع الحضارة بالمعنى العلمي، تنطلق من خلال الخطوط التي تنطلق فيها حركة الفكر وقاعدته.
ونحن نعرف أن الإسلام أكد مسألة العقل واعتبره حجةً فيما بين الله والناس، وحجة بين الناس مع بعضهم البعض، وأكد أهمية العلم، فقال تعالى:﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾(1)، فإذا أخذ الناس بأسباب العلم وانفتحوا على العقل، فإنهم بذلك يصنعون حضارتهم. لذلك عندما تخلف المسلمون عن الأخذ بأسباب العلم، وعن الأخذ بقاعدة العقل في قضايا التفكر، وانفتحوا على التخلف والخرافة، تأخروا في هذا المجال.
الحاجة إلى الغرب:
لماذا يحتاج المسلمون في هذا الوقت إلى الغرب والكفر، رغم أن الإسلام هو كمال العلم والإنسانية؟
 ذلكلأنالمسلمينلميأخذوا بالإسلام، ولم يأخذوا بما يريد الإسلام للمسلمين أن يرتفعوا به إلى المستوى الذي يستطيعون أن يحركوا العقل في حياتهم، وأن ينفتحوا على الأخذ بأسباب العلم في حياتهم. لذلك قال بعض الغربيين عندما جاء إلى الشرق ودرس الإسلام:«الإسلام شيء والمسلمون شيء آخر». وكان بعضهم يقول: إنه لو كان علي بن أبي طالب موجوداً الآن لرأيت مسجد الكوفة مملوءاً بالقبعات الغربية أو الألمانية، ولما وجدت فيه موطئاً لقدم عربي واحد، لأنّهم لم يتوفّروا على الارتفاع إلى المستوى الذي أراده عليّ بن أبي طالبt لهم، واستغرقوا في عصبيّاتهم الضيقة. ومثال على ذلك، أنّ الإمام علياًt كان يطلب ممّن هم حوله في آخر حياته أن يسألوه:«سلوني قبل أن تفقدوني فإنّي بطرق السماء أعرف منّي بطرق الأرض»، فيقول له شخص: كم شعرة في رأسي؟
نصيحة للشباب:
في جو الفساد الذي نعيشه، بماذا تنصحون الشباب الذي يريد أن يؤسس بيتاً أو أسرة مستقلة؟
 أن يتبع تقوى الله سبحانه وتعالى، وأن يعمل؛ والله يقول:﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾(1)﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(2)، وأن ينطلق في سبيل ما أعده الله له، وما هيأه له في كسب الرزق الحلال.
تجدّد التاريخ:
قلتم إنّ التاريخ يعيد نفسه، لأن الإنسان هو الإنسان، لكن هل يتعارض ذلك مع فكرة التطور، وجدل الإنسان وتغير حياة الأقوام؟
 المقصود أن حركيّة التاريخ في منهجه وقواعده تتحرّك في كلّ زمان، وإنّما تتغيّر الوسائل، وتتطوّر النظرة إلى الأمور، والحقائق التي يكتشفها الإنسان. وبعبارة أخرى: في التاريخ أمور تتّصل بخصوصيّة الفترة الزمنيّة التي تنتمي إليها، وأمور تتّصل بطبيعة الإنسان أو بطبيعة حركيّة الأحداث، بما يخضع لقواعد تتحرّك عبر الزمان.
الروح الثورية بين الحسن والحسينo:
هل صحيح أنه ليس هناك فرق بين الإمامين الحسن والحسينoمن حيث الروح الثورية؟
 إن الحسن tكان حسينياً في حركته، بحيث لو كانت ظروف الحسينt في زمن الحسن لقام الحسن tبما قام به أخوه الحسينt. والحسين أيضاً كان حسنياً في حركته، بحيث لو كان في زمن الحسن، لعمل بما عمل به، وقد كان الحسينt مع أخيه الحسنt عندما وقّع الهدنة التي عقدت مع معاوية لإنهاء الحرب.
العلل الغيبية:
يرى السيّد الشهيد الصدر الأول، أن لا ضرورة للعلل أو الأسباب الغيبية، في كتابه: (بحث حول المهدي)، ما قولكم في ذلك؟
 ليس مراده(قده) من هذا الكلام نفي العلل أو الأسباب الغيبية مطلقاً، بل لعلّ مراده هو نفي مثل ذلك في دائرة تبرير طول عمر الإمام الغائب عن الأنظار، فإنّه بالإمكان تبرير ذلك من جهتين؛ الأولى تتصل بقدرة الله، والثانية تتصل بالقوانين المودعة في هذا الكون، وهي بالتالي لا تكون من قبيل الأسباب الغيبية المحضة؛ والله العالم.
دور الشك في اليقين:
هناك رأي فلسفيّ يقول إنَّ أساس الوصول إلى الحقيقة هو الشك. فهل تؤيدون هذه الفكرة؟
 هذه الفكرة صحيحة، لأنَّ الشك يدفع إلى التساؤل، وإلى البحث الذي يدفع الإنسان إلى أن يدرس بعقلانية وموضوعية ليصل إلى النتيجة.
هدف المناقشة الدينيّة:
هناك كثير من الشباب يقضون معظم وقتهم بالمناقشة حول القضايا الدينية، كلٌ بحسب مذهبه، ويقضون الوقت بالمناقشه السياسية لرفع فلان وإسقاط فلان وهكذا، ما الحكم في ذلك؟
 يجب أن يكون النقاش بهدف بيان الحق والوصول إليه وإقناع الآخر به، ولا يجوز نصرة الباطل وإسقاط المحقين، ولا بد من اتباع الأسلوب الحسن.
الفكر الليبرالي:
ما هي نظرتكم إلى الفكر الليبرالي؟
 هو فكر رأسمالي يؤمن بالتعددية الحزبية والديمقراطية، وهو علماني في أغلبه، وإن كان بحسب أصل فكره لا يعادي الدين كالشيوعية، ولكننحنانطلاقاًمنفكرنا الإسلامي، لا نلتزم كل ما يتعارض مع دين الله وشريعتهومنهجه في حكمه في جميع المجالات السياسية والاقتصادية وغيرها.
العروبة والإسلام:
ما رأي سماحتكم في ما يجري لمحو عروبة بعض الدول العربية؟ وهل فكرة العروبة، بغض النظر عن الدين، لها علاقة بفكرة الدين الإسلامي وتعاليمه؟
 لا خصوصية للعروبة في الدين الإسلامي، سوى أنها الإطار الذي ينتمي إليه كثير من المسلمين، كما أن مصادر الإسلام الأصيلة من قرآن وسنّة، هي باللغة العربية، فالتمسك بها يتناسب مع طبيعة الإنسان في التمسك بمنشئه وارتباطه بقومه وأرضه، وقد ورد:«وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن أن يعين قومه على الظلم».
تضحية غير المؤمن:
ما الذي يدفع الإنسان الملحد، الذي لا يؤمن بالثواب والعقاب، إلى القيام بأعمال الخير وإعانة المحتاجين والدفاع عن المظلومين، وقد يضحي بنفسه في سبيل ذلك، فهل نتوقع أن تشمله الرحمة الإلهية مع أنه منكر لوجود اللّه سبحانه؟
 ربما تنطلق هذه الأعمال من أسس تربوية، أو ربما يكون عند بعض الملحدين رواسب دينية، فهو قد يقول إنه لا يؤمن باللّه، ولكنه من حيث لا يشعر، يذكر اللّه تعالى في أعماقه، كمثل الذي يقول:«أموت وليحيا الآخرون»، فماذا يفيده هذا بعد موته؟! فهو ربما يفكر في حياة أخرى، ولكنه لا يعلن ذلك. أما مدى شموله برحمة اللّه، فحسب الآية الكريمة ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾(1)، وإن أمر رحمة اللّه ومغفرته بيده ولا نستطيع التدخل في ذلك.






 
 

العلم والعمر:
أراد زوجي الدّراسة في الحوزة، ولكنَّ أيّاً من الحوزات لم تستقبله بحجة أن عمره كبير، فهو في الأربعين، مع أنه جاء في الحديث الشريف:«اطلب العلم من المهد إلى اللحد»؟!.
 للحوزات العلمية نظامها الذي ينسجم مع خطّ معيّن في طلب العلم، ولكن هذا لا يعني أنّه لا يمكن للإنسان أن يطلب العلم في كثير من المجالات المتاحة، عبر المطالعة أو المحاضرات أو الندوات أو ما إلى ذلك ممّا هو متاح في شكل وآخر.
أخلاقية استرجاع الحقوق:
جماعة سلبوا حقي المالي، وهو ما يعادل شراء شقة حالياً، وليس هناك من مجال للشكوى عليهم قانوناً لأنهم يستطيعون الإفلات من الموضوع، وأنا أستطيع إرجاع مالي منهم وبالقوة بعد إيذائهم، فهل يحق لي شرعاً استرجاع مالي بهذه الطريقة؟
 لك الحق في أن تسترجع مالك إذا كان لك حق فيه، على أن لا تتجاوز وسائل الضغط حدود الحقّ المطلوب.
الاستخارة في الزواج:
أنا فتاة مؤمنة، تعرّفت إلى شاب مؤمن وصالح يبحث عن زوجة صالحة، وقد أُعجبت بشخصيّته واقتنعت به زوجاً، ولكنّي تردّدت فيما بعد حول ما إذا كان سيكون زوجاً صالحاً لي، فاستخرت الله فكانت النتيجة أنّها لم تكن جيّدة؛ فهل استخارتي صحيحة؟ وهل ألتزم بها وأرفضه عندما يتقدّم لي، أم أقبله وأتوكّل على الله؟ ولكن إذا وافقت، ما هو دور استخارة الله في هذا الأمر، أي كيف تكون الخيرة ليست جيدة وأقبل به؟ أنا في حيرة من أمري، وأريد رأي الشرع في هذه الخيرة وتفسيراً لنتيجتها؟
 الأصل في نجاح الزواج هو التعرّف الجيّد على مختلف أحوال الشخص، ثم الصبر عليه والتضحية أمامه ومعالجة ما يستجد في داخل الأسرة بالحكمة، ولذا فقد تكونين استعجلت في الاستخارة قبل السؤال عنه من خلال أصدقائه وأقاربه، وخصوصاً السؤال عن صحته النفسية والجسدية وقدرته المالية وما أشبه ذلك، وربما يكون السر في الاستخارة، أنَّ عليك أن تسألي عنه أكثر، فقد يتبيّن لك أمور لا تعجبك فيه، أو قد لا يعجب أهلك أو ما أشبه ذلك، فالأفضل أن تعيدي دراسة الأمور وتخبري أهلك لتري رأيهم، ثم إذا اقتنعتم بأنّه جيد من جميع النواحي، فتزوّجيه وتوكّلي على الله تعالى، فالاستخارة قد لا تكون في محلّها ووقتها، ولا إثم في الإعراض عنها وتناسيها.
التوبة من الكذب:
شخص كان كثير الكذب، والآن يريد أن يتوب عن هذا الفعل القبيح المحرم، فماذا يجب عليه أن يفعل للتكفير عن هذا الذنب؟ وهل يجب عليه إخبار من كذب عليهم بالحقيقة، علماً أنه كان يستعين بالكذب لتحسين صورته أمام غيره، فلم يوقع ضرراً في كذبه على أحد، والاعتراف لهم بذلك سيهز صورته أمامهم، وسيُوضع في موقف محرج سيؤثر عليه باقي حياته، فهل يجب عليه إخبارهم بأنه كان كاذباً؟
 يجب عليه التوبة والاستغفار، ولا يجب عليه إخبارهم بذلك.
سبل إحياء القلب:
كيف أستطيع تقوية إيماني بالله سبحانه وتعالى، وأنا أحس أنّ هناك غمامة على قلبي تمنعني من التقرب إلى الله؟
 لا بد من اجتناب الذنوب والتوبة منها، وأن يعيش الإنسان التقوى لله في جميع أحواله.
 
 


أولاً: المرجعية والتقليد

مسؤولية الخطأ في الحكم الشرعي:
 إذا أفتى أحد الفقهاء في حكم وأخطأ فيه، فهل يتحمل المقلِّد العقاب؟
 لا يتحمل المقلِّد مسؤولية الخطأ في الحكم من وجهة النظر الفقهية، بل يتحملها الفقيه إذا كان قد قصّر في الاستنباط، وإلاّ فللمجتهد أجران إن أصاب، وأجر إن أخطأ.
العدول إلى فقيه آخر:
 أحد الأخوان مقلد لبعض المراجع المتوفين ويريد العدول، فهل يلزمه النية؟
 إذا كان مطمئناً ومتيقناً عقلياً لا عاطفياً، يستطيع العدول، والعدول يكفي فيه الالتزام العملي برأي المجتهد الذي يرجع إليه.
التبعيض في التقليد:
هل أستطيع أن آخذ من كل مرجع مسألةً من المسائل، ويكون بذلك عملي صحيحاً باعتبار أن كلهم ثقة؟
 مسألة أنْ تأخذ من كل مجتهد رأياً هي قضية فقهية اجتهادية، وتحتاج إلى أن يكون الإنسان مجتهداً أو مقلّداً لمن يجيز له ذلك.
مسألة أعلمية المجتهدين:
كيف يمكن أن نحصِّل العلم بأعلمية مرجع معيّن في عملية التقليد؟
 مسألة الأعلميّة لا واقعيّة لها، وذلك واضح لمن تتبّع حال كلّ الاختصاصات العلميّة في العالم، إذ لا يُمكن الإشارة إلى الأعلم بينهم، بحيث لا يكون هناك أعلم منه. وكذا ليس عندنا أعلم بالفقه، بل يُمكن الرجوع إلى كلّ عالم من العلماء، ولكلّ وردٍ رائحة. كما لا بدّ من ملاحظة أنّ الشهادات التي تُعطى بالأعلميّة لهذا أو لذاك، ليست علميّة، لأنّ الذي يملك إعطاء الشهادة بالأعلميّة، هو الذي يطّلع على نتاجات كلّ العلماء، ما يجعله قادراً على تكوين صورة لتمايز هذا على ذاك.
والله تعالى يقول:﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْكُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾(1)، ولم يشترط أن يكون من نسأله هو الأعلم، بل كل شخصٍ يملك ثقافة الكتاب وثقافة الذكر، ولديه ممارسة علميّة معتدّ بها، اسألوه وارجعوا إليه، وقال تعالى:﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(2).
وإذا كان البعض يستشهد على اشتراط الأعلمية بالسيرة العقلائيّة، فإنّنا نجد أنّ الناس لا تلجأ إلى الأعلم دائماً، بل إلى أهل الخبرة.
ولذلك، نجد أنّ مسألة الأعلميّة هي من المسائل التي لم يكن يعرفها العلماء السابقون، وإنّما جاءت بها الاجتهادات المتأخّرة.
دليل شرعية العمليات الاستشهاديّة:
كثير من العلماء من الفريقين أجازوا العمليات الاستشهادية، هل هناك دليل واضح من الكتاب والسنّة على ذلك؟ وهل هناك أمثلة حصلت في زمن المعصومين؟
 العمليات الاستشهادية تنطلق من خلال حركة الاستشهادي في حالة الجهاد عندما يتوقف الجهاد الشرعي على العملية الاستشهادية، وليست المسألة مزاجيةً يريد الإنسان فيها الاستشهاد، ونحن نعتبر أنّ كل جندي استشهادياً؛ لأن الجنود الذين ينطلقون في المعركة، يحتملون احتمالاً عقلائياً وكبيراً أنهم يقتلون في المعركة بيد الأعداء، ولا يقتلون بيد أنفسهم؛ أما العمليات الاستشهادية، بأن يفجّر الإنسان نفسه، فهذه لها شروط شرعية لا يملكها أي إنسان، إلا فيما ينطبق عليها من وسائل الجهاد.
المطالبة بتطبيق الشريعة:
هناك من يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية بدلاً من القانون الوضعي في مجال القانون، ولكن الشريعة لا تشتمل على الكثير من الأمور الحديثة، مثل القانون الجوي والبحري وقانون التأمينات.
 من قال إنّ الشريعة لا تشتمل على ذلك؟! إن اجتهادات المجتهدين في فهمهم للكتاب والسنّة وللقواعد العامّة، تمتد إلى كل ما يحتاجه الإنسان في قضايا، ومنها القانون الجوي، والقانون البحري، والتأمينات وما إلى ذلك.
سن تكليف الفتاة:
ما هي سن التكليف للفتاة؟
 هناكرأيان،فهناكمنيقولبإكمال التاسعة من العمر، وهو الموافق للاحتياط، وهناك من يقول ببلوغ سن البلوغ الطبيعي، وهي الحيض.
التقليد في الموضوعات:
هل إن تشخيص الموضوعات المرتبطة بالأحكام الثانوية من شؤون الفقيه فقط؟ أم تشمل كل مكلف خبير؟
 لا يختص ذلك بالفقيه، ولكن إثبات الحكم الثانوي مرتبط بنظر الفقيه.
متابعة آراء العلماء:
عندما يكون هناك ظروف سياسية تختلف آراء الكثير من الناس، ومنهم العلماء ومنهم غير ذلك، فهل يجب عليَّ كمكلف مصادرة تفكيري الخاص لأتبع العلماء؟ وكيف يمكن شخصاً أن يعرف مدى صحة موقفه وإصراره عليه، وهو يرى أن الجميع في الضفة الأخرى، بحجة أن العلماء على هذا النهج؟
 ليس في الأمر مصادرة، فإن اتباع رأي العلماء في أمر معين له علاقة بالدين، هو أمر لازم وضروري من موقع معرفتهم وخبرتهم، لا من موقع استبدادهم وتسلطهم، وذلك، تماماً مثل الرجوع إلى الطبيب فيما هو خبير وعالم فيه من قضايا الصحة والعلاج، ورغم ذلك فإنه لا مانع من الاستفسار منهم ومناقشتهم في رأيهم، ليصير أكثر وضوحاً وقبولاً عند الآخر.




ثانياً: النجاسات والطهارة

نجاسة الميتة:
هل يعتبر الحيوان الذي لم يُذكر اسم الله عليه عند ذبحه نجساً؟ وما حكم الجلود المأخوذة منه؟
 نعم، هو من الميتة، والميتة حرام أكلها، وهي نجسة، سواء منها اللحم أو الجلد.
الدم حال الحمل:
شاهدت بعض قطرات الدم أيام الدورة، ولكنّها خفيفة جداً لمدة ثلاثة أيام تقريباً، ثم اتضح لي أني حامل، فما حكم هذا الدم؟
 الدم في حال الحمل دم استحاضة، وليس حيضاً.
أرض متّصلة بماء كثير:
أرض عليها ماء بارتفاع 2/1 سم تقريباً، وعليها قطعة نجاسة، لكنها في الوقت نفسه متصلة الماء الكرّ، من خلال ماء الصنبور، فما حكم هذا الماء الموجود على الأرض من حيث الطّهارة والنجاسة إذا انتقل إلى الثوب وهو في هذه الصورة؟
 الماء طاهر، إذا لم يتغيَّر بالنجاسة، لاعتصامه بالماء الكثير.
مسّ الميّت بالكف البلاستيكي:
أنا طالب في كلية الطب، وفي السنة الأولى ندرس كيفية تشريح الجثة، وكُنا نلبس الكفوف البلاستيكية، إلاّ أنّي لا أذكر هل كنت أمسه أحياناً بدون كفوف أم لا، ولكنّي كنت أغتسل الأغسال الواجبة ولا أنوي غسل مس الميت؟
 ما دمت لا تعلم أنك مسست ببشرتك، فليس عليك شيء. ثم إذا كنت قد اغتسلت غسلاً واجباً، كغسل الجنابة مثلاً، فهذا يجزئ عن الأغسال الأخرى لو كانت عليك أغسال أخرى.
حكم ما يلمسه الكلب أو الهرّة:
إذا لمس أحد الأشخاص قطة أو كلباً بيده، هل يجب عليه الغُسل أم غسل يده فقط؟
 الإنسان إذا لمس الكلب ويده رطبة فيطهّر يده فقط، وأما إذا كانت يده جافةً فلا تتنجس يده، أما القطة فليست نجسة العين، فلمسها برطوبة أو بغيرها لا يؤثّر في طهارة اليد.
تربية الحيوانات في المنزل:
ما هو حكم تربية الحيوانات الأليفة، كالكلاب والقطط في البيت، هل هو جائز؟
 ليس محرَّماً، ولكن عليه أن يتحفّظ من الكلاب، باعتبار أن الكلب نجس العين، أما بالنسبة إلى القطة؛ فعليه أن يتحفَّظ بأن لا يأتي شيء من وبرها على ثيابه التي يصلي بها.
طهارة الماء الملاقي:
ما حكم الماء الذي يتطاير من الفم عند طبيب الأسنان مع احتمال أن يكون معه دم؟
 إذا كان الفرض مجرد شك فيحكم بطهارة الماء، أما إذا كان مع الماء دم، فهو نجس.
الطهارة الترابية:
كيف تتم عملية التيمّم؟ ومتى يجب التيمّم بدلاً من الوضوء؟
 كيفية التيمم هي كما يلي:
أولاً: نحضر تراباً طاهراً وجافاً، أو بلاطة حجر من الصخر أو الرخام، وذلك بقدر ما يسع الكفين مبسوطين.
ثانياً: ننـزع ما على الكفين والوجه ـ مع الإمكان ـ من رباط، وكذا ننـزع ما عليهما من حلي، كالخاتم ونحوه مما يستر البشرة، ولا يجب أن تكون أعضاء التيمم طاهرة، وإن كان ذلك أفضل مع الإمكان، وإلا جاز التيمم بالأعضاء المتنجسة شرط كون النجاسة جافة.
ثالثاً: النيّة:«أتيمم بدلاً من الوضوء قربةً إلى الله تعالى».
رابعاً: نضرب باطن كفينا على التراب، ثم ننفضهما مما قد يكون علق بهما من تراب أو غبار، ثم نمسح بباطن الكفين معاً الجبهة بالمساحة التي تقع ما بين السالفين عرضاً، وما بين منبت الشعر والحاجبين مع إدخال الحاجبين، مع ملاحظة الابتداء بالمسح من الأعلى من منبت الشعر نزولاً إلى الحاجبين.
خامساً: ثم نمسح ظاهر اليد اليمنى بباطن اليسرى من الزند إلى أطراف الأصابع، ثم نمسح ظاهر اليسرى بباطن اليمنى من الزند إلى نهاية الأصابع.
وينتهي بذلك التيمم الذي هو بدل من الوضوء.
لكن لو فرض، أن على المكلف غسلاً واجباً بسبب الجنابة أو الحيض أو النفاس أو غيرها، ولم يتمكن من الغسل، وأراد التيمم للصلاة، فإنه يتيمم بالطريقة نفسها، لكن يقول في النية إنه يتيمم بدلاً من الغسل قربة إلى الله تعالى، كما وأنه يستحب بعد أن يمسح على يديه في الضربة الأولى، أن يضرب على التراب مرة ثانية، ويمسح بها يديه فقط دون وجهه.
استمرارية الطهارة الترابية:
إذا كان البرد شديداً ولم يستطع الشخص أن يتوضأ لشدة البرد، وليس لمرض يخشاه من الوضوء، فتيمم، فهل تيممه صحيح ويكفي أم لا...؟
 يكفيه ما دام العذر قائماً.
تكليف المرأة للنقاء:
ما حكم الحائض التي لا تستبرىء للتأكد من طهارتها؟
 إن اطمأنت بحصول النقاء كفى، وإلا فعليها التأكد من خلال الفحص، وهناك موارد تستظهر فيها بالانتظار.
استخدام الماء الساخن:
ما حكم استخدام الماء الساخن في الأماكن غير الطاهرة إذا كان البخار يتصاعد؟ هل ينجس بملاقاته الثياب والبدن؟
 البخار طاهر، وإن كان الماء الذي حصل منه البخار نجساً، لأنه يطهر بعد التحوّل إلى البخار، ولذلك لا ينجس الثياب، وكذلك البدن.
تنجيس الذباب:
هل ينجس الذباب والبعوض الثياب والبدن؟
 لا ينجس الذباب والبعوض إلا إذا كان حاملاً للنجاسة مثل دم الإنسان، وإلا فإن دم البعوض غير نجس.



ثالثاً: الوضوء والصلاة

الإتيان بالنوافل والقضاء:
إذا كان في ذمّتي صلاة قضاء، وأردت أن أُصلّي صلاة غُفيلة أو غيرها من الصلوات المستحبّة، فهل يصح ذلك؟
 يصحّ ذلك، ولكن الأفضل أن يقضي الإنسان ما عليه ثمّ يتبرّع، وليس من الطبيعي لمن عليه دين أن يتبرّع في هذا المجال.
البسملة لبعض السور:
هل يجوز لمن أراد قراءة بعض الآيات في الصلاة بعد الفاتحة، أن يأتي بالبسملة؟
 إذا كان يأتي بآياتٍ بعد الفاتحة، فلا يجب قراءة البسملة، ولكن لا تحرم قراءتها.
قراءة السور الطويلة في الصلاة:
سأذهب قريباً لأداء مناسك العمرة، وهناك إخواننا من السنّة يقرأون سوراً طويلة أثناء الصلاة. فماذا أفعل في هذه الأثناء؟
 لا مانع من البقاء وقت الطواف ووقت السعي والاستماع إِلى الصلاة والمتابعة، فذلك لا يضرّ.
الصلاة وفعل الحرام:
لي صديقة تستمع إلى الأغاني دائماً، وهي تصلّي، وأنا أنصحها دائماً ولا تستجيب، فهل أهجرها؟ هل صلاتها مقبولة؟
 صلاتها مقبولة؛ ولا تهجريها وإنما حاولي الاستمرار في نصحها.
القراءة في الصلاة:
هل يجوز بعد الحمد في الصّلاة قراءة آية وليس سورة كاملة؟
 المشهور بين العلماء أنّه يجب قراءة السورة كاملةً، بينما رأينا أنّه يجوز الاكتفاء بآية، والأحوط قراءة سورة.
التشاغل عن الصلاة:
ما حكم متابعة كرة القدم وقت الصلاة؟
 تارةً يتابعها بحيث يخرج وقت الصلاة في متابعته، فهذا لا يجوز، وتارةً يتابعها من دون أن يخرج وقت الصلاة، فهنا يفقد فضيلة الصلاة من أول الوقت؛ وما يربحه من متابعة كرة القدم أقلّ ممّا يخسره من فوات الصلاة في أوّل الوقت.
الملك والوطن:
هل مجرَّد ملك بيت في منطقة ما يعتبر وطناً حتى لو انتقل إلى بلد آخر وسكن فيه؟
 مجرد ملك البيت من دون سكنى واستيطان، لا يجعله وطناً.
معيار الوطن:
سكنت في بلد أوروبي وأحمل جنسيته، وأحصل على راتب تقاعدي منه، وأسكن الآن هنا. ما هو واجبي من ناحية الصلاة والصيام إذا سافرت إلى ذلك البلد الأوروبي؟
 إذا أعرضت عن ذلك البلد، وأصبحت كلُّ إقامتك هنا، وتذهب مجرد زيارة حتى تقبض الراتب التقاعدي، فلا بدّ من أن تصلي هناك قصراً، وإذا لم يكن كذلك، وأردت أن تعيش دائماً بين البلد الأوروبي وبين بلدك، فصلاتك تمام هنا وهناك.
الصلاة خلف المذموم:
هل يجوز الصلاة خلف شخص عليه بعض الكلام بأنه يعمل المحرَّمات؟ وإذا كان لا يجوز، فما حكم الصلوات السابقة خلفه؟
 إذا اطمأنيت بأنه يعمل المحرَّمات، فلا عدالة له، ولا بدّ في إمام الجماعة من العدالة.
الصلاة خلف إمام مع عدم الاطمئنان:
إذا لم أطمئن لإمام الجماعة، وعدم صلاتي خلفه تشكِّل إحراجاً لي، فهل أصلي وأعيد؟
 عليك أن تصلي متابعةً، ولا تقصد الجماعة إذا كان في ذلك أيُّ إحراج.
الدعاء في الركعة الثانية:
هل الدعاء في الركعة الثانية واجب أم مستحبّ؟
 الدعاء، أي القنوت، مستحبّ وليس واجباً، فللإنسان أن يتركه متعمّداً.
عدد التَّسبيحات في الرُّكوع:
كم عدد المرات الّتي ينبغي أن نقول فيها في الرّكعتين الثالثة والرابعة (سبحان الله)؟
 يجزئ قول (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) مرة واحدة، ولكن الأفضل تكرارها ثلاث مرات.
قطع الصلاة:
أقمت الصلاة ثمَّ تذكَّرت أنني نسيت مالي في الخارج، هل يجوز لي قطع الصلاة في هذه الحال؟
 إذاكنتتخافعلىمالكمنالضَّياع،وكانذلكمضرّاًلك، فيجوز.
السجود على الأظافر:
أحياناً تحين الصلاة وأصلّي في مساجد إخواننا المسلمين السُنّة، وللإحراج، لا أتمكّن من السجود على التربة، فهل يمكن السجود على الأظافر؟
 لا يسجد الإنسان على الأظافر، وإنما يسجد على ورق ولو كان من قبيل المحارم؛ لأنّ أصلها من الشجر الذي يصحّ السجود عليه، وليست مسألة السجود محصورةً بالتراب، بل على الأرض، وما أنبتت ممّا لا يؤكل ولا يلبس.
صلاة الجماعة بالعائلة:
هل يجوز أن أصلِّي بعائلتي وأبنائي صلاة جماعة في البيت؟
 إذا كنت ترى نفسك عادلاً يجوز ذلك، وإلا فتكون الصلاة صلاة متابعة في المقام.
قضاء الصلاة:
أنا تركت الصلاة فترة طويلة، هل أعيد ما تركت أم أدفع كفارة؟
 عليك أن تقضي الصلاة، وليس هناك كفّارة في هذا المقام.
حكم التكبيرات بعد التسليم:
هل التكبيرات الثلاث بعد التسليم واجبة أم مستحبة؟
 هي من التعقيب المستحب، أي ليست واجبة.
تأخير الصلاة:
في بعض الأحيان أثناء سفري، أحاول تأخير الصلاة إلى وقت آخر، أو أختفي في جانب بعيد عن الناس من باب القول: «رحم الله امرءاً جبَّ الغيبة عن نفسه». فهل هذا جائز؟
 إذا كان اختفاؤك لا يؤدي إلى ترك الصلاة في وقتها فلا مشكلة في ذلك. أما قضية أن تجب الغيبة عن نفسك بأن تصلّي خارج الوقت، فهذا ليس مورداً لمثل هذا الحديث.
ابنة العمّ من الأرحام؟
رجل متزوج من ابنة عمه وأهداها هديةً، فهل تعد من أرحامه؟ وما هي دائرة الأرحام المقصودة بالحكم؟
 هي من الأرحام، فلا يجوز له أن يرجع بهذه الهدية. أمّا الأرحام، فهم الأقربون الذين يصدق عليهم عرفاً أنّهم الأرحام، والتفصيل مذكور في الرسالة العمليّة.
لفظ "سيّدنا" في التشهّد:
هل يضرّ بالصلاة، زيادة لفظ سيدنا في الشهادة الثانية من التشهد، فيقول: «أشهد أن سيدنا محمداً»؟
 لا يجوزُ أن يُزاد أية كلمة في الصلاة؛ لأن هذه الكلمة تعتبر من كلام المخلوقين، ولا يجوز للإنسان أن يزيد كلمة لم يشرعها الله.
السجود على غير التربة:
هل يصحّ السجود على غير التربة؟
 يصحّ السجود على كل الأرض، ففي الحديث الشريف:«جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»؛ وليس للتربة خصوصية، لأنها تراب مثل أي تراب آخر. ولكن الناس اعتادوا أن يجلبوا هذه التربة من كربلاء، وبعضهم يجلبها من مدينة (مشهد)، حيث صار هناك مصنع للتُرَب. فليست المسألة تشريعاً خاصاً للسجود. ولذلك يجوز للإنسان أن يسجد على الأرض، وما أنبتت مما لا يستعمل للأكل ولا للبس. نعم، ورد استحباب الصلاة على التربة الحسينية التي تأخذ من تراب الضريح الحسيني.
الصلاة في غير وقتها:
هل يسمح بأداء الصلاة بأوقات متأخّرة، لأن عملي متواصل من الساعة العاشرة صباحاً حتى الساعة الحادية عشرة ليلاً؟
 لا يجوز للإنسان أن يترك صلاته في وقتها، وعليه أن يبحث عن عمل آخر، أو يحاول أن يجد فرصةً ولو صغيرةً للصلاة في أثناء عمله.
حكم المبطون:
أعانيمنغازاتقوية لا أقدر معها أن أتمالك نفسي وخصوصاً في الصلاة، فما هو حكم وضوئي وصلاتي؟ وهل أقوم بالوضوء عدة مرات؟
 إذا كانت الغازات مستمرةً بحيث لا تملك وقتاً تستطيع أن تحتفظ فيه بطهارتك وبصلاتك ضمن هذه الطهارة، فيكفي أن تتوضأ وتصلي حتى لو جاءت الغازات في أثناء الصلاة.
تحقق الغروب:
أنا في مدينة يتفاوت فيها الأذان عمّا هو عندنا، فهل أحسب عشر دقائق تمضي على الأذان عند إخواننا السنّة في صلاة المغرب؟ وهل يجوز الإفطار في وقتهم للتقيّة؟
 رأينا أنه لا فرق بين أذاننا وأذانهم، فالغروب يتحقّق عند سقوط القرص، ولا يشترط فيه ذهاب الحمرة المشرقية. والتقيّة هي في ما إذا كان الإنسان يخاف على نفسه من القتل أو ما أشبه ذلك. وعلى كلّ حال، فليس هناك مورد للتقيّة ما دام الوقت واحداً في المقام.
مسّ الآيات خارج القرآن بلا وضوء:
ما حكم مسِّ الآيات القرآنية بلا وضوء إن كانت خارج المصحف، كالصحف والكتب؟
 لابد من أن يكون الإنسان طاهراً طهارةً حدثيةً عندما يريد أن يمس أيّ آية من القرآن.
السجود على الكفّين:
هل يجوز السجود على الكفين في الصلاة؟
 لا يجوز ذلك، بل على الإنسان أن يسجد على التراب أو على ما أنبتت الأرض ممّا لا يؤكل أو يُلبس في طبيعته.
الحركة في الصلاة:
لماذا يتحرك المرء في الصلاة؟ وهل يمكن للمرء أن يؤدي الصلاة من دون أن يتحرك؟
 ما تشتمل عليه الصلاة من أفعال ليس تحركاً عبثياً، بل هو ركوع وسجود خضوعاً لله تعالى مع ذكر الله، ما يجعل الصلاة حالةً عباديةً يعيش فيها المصلي معاني القرب والعبودية والذكر والتسبيح والدعاء، لأنّ الصلاة معراج المؤمن وقربانه إلى الله تعالى، قال سبحانه:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(1).
وجوب صلاة الجمعة:
هل صلاة الجمعة واجبة أو مستحبة؟
 إن رأينا أن صلاة الجمعة واجبة، بينما رأي بعض العلماء الموجودين الآن هو الوجوب التخييري، وبعض العلماء يراها حراماً في أيام الغيبة، من ناحية لزوم التشريع، حيث هناك وجهة نظر تقول بأن صلاة الجمعة مشروطة بوجود الإمام العادل، وليس فقط المعصوم، أي بوجود الدولة الإسلامية، والبعض يقول إنها واجبة مطلقاً، للإطلاق الوارد في الآية:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(1). وقد روي عن الرسولw قوله:«من ترك ثلاث جمع متعمداً منِ غير علّة، طبع الله على قلبه بخاتم النفاق». حتى إن أحدهم قال للنبيw: إني أحب الحج ولكن لا مال لي لأداء الحج، فقالw له:«عليك بالجمعة فإنها حجُّ المساكين». وصلاة الجمعة ليست صلاةً روتينيةً، فهي صلاة فيها جانب روحي وثقافي وعبادي، وفيها أيضاً جوانب سياسية واجتماعية.
الائتمام بصلاة المحتاط:
هل يجوز أن يقضي جماعة من الناس الصلاة الفائتة جماعةً إذا كان الإمام يصلِّي بنية قضاء ما في الذمة، لأنه غير متأكد من كونه مطالب بصلاة فائتة؟
 لا يجوز ذلك؛ لأنه لابد من أن يكون الإمام قاصداً للصلاة المفروضة عليه التي يعتقد بأنه مكلف بها، أما صلاة ما في الذمة، فهي صلاة احتياطية، والصلاة الاحتياطية لا يجوز الائتمام بها.
الأذكار في الصلاة:
في صلاة الجماعة، هل يجوز أن يأتي بأذكار مثل (سبحان اللّه) أو (أستغفر اللّه) أثناء قراءة الإمام للحمد والسورة؟
 نعم، لكن في الصلاة الإخفاتية، أو إذا لم يكن الإمام يسمع، وكذا يجوز للإنسان أن يذكر اللّه في أي موقع من مواقع الصلاة.
المسح في الوضوء:
هل يكفي جفاف مقدَّم الرأس للمسح عند السيدات في حالة الوضوء؟ وهل يغني الغسل المستحب عن الوضوء؟
 طبعاًيكفي،ولكنلايجوزالمسحعلىالشعرالخارجعن حدّ الرأس، وقد أفتينا بأن الغسل المستحب الثابت استحبابه شرعاً مجزٍ عن الوضوء.
قضاء صلاة المرتدّ:
هل تجب صلاة القضاء على الكافر المرتد في فترة ارتداده إذا رجع من الكفر إلى الإسلام؟
 هناك نظرية تقول بأنّ عليه أن يقضي ما فاته.
الدعاء للصلاة:
متى نقول دعاء التوجه: «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً»؟ هل نقوله قبل تكبيرة الإحرام أم بعدها؟
 قبل تكبيرة الإحرام.
القضاء عن الميّت مع شغل الذمّة:
هل تجوز الصلاة عن الميت بحيث أقضي ما عليه، مع العلم أن بذمتي صلاة لنفسي؟
 يجوز ذلك.
الوضوء لقراءة القرآن:
هل يمكن أن نقرأ القرآن من دون وضوء؟
 يمكن ذلك مع عدم لمس كلمات القرآن، ولكن من المستحب أن يكون الإنسان على طهارة حال قراءة القرآن الكريم.
قضاء السجدة المنسيّة:
كيف تقضى السجدة المنسية؟
 بعد الانتهاء من الصلاة، يبقى جالساً، وينوي قضاء السجدة قربةً إلى الله تعالى، ثم يسجد بنية قضائها مع الذكر، ويرفع رأسه، ثم ينوي سجدتي السهو ويسجدهما مع التشهد والتسليم، ويقول في السجود: باسم الله وبالله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
جزء من الدعاء:
أحيانا أقوم بقراءة الدعاء بين الفرضين الواجبين، وقد يكون الدعاء طويلاً، فهل أستطيع مثلاً أن أقرأ الفقرة الأولى من الدعاء الوارد، ثم أنتقل إلى الفقرة الأخيرة مباشرةً؟
 يمكن ذلك.
الشك في الوضوء بعد الانتهاء:
إذا شك الإنسان في الوضوء بعد الانتهاء من صلاته، فماذا عليه أن يفعل؟
 إذا كان هذا الشكّ في أنّه توضّأ أو لا، فصلاته صحيحة، وعليه أن يتوضأ للصلوات اللاحقة. وأمّا إذا كان الشكّ في صحة الوضوء أو لا، فالوضوء صحيح والصلاة به صحيحة.
الجهل في أداء الصلاة:
ما حكم من أخطأ في الصلاة أو الوضوء و هولا يعلم، أي كان يجهل أن هذا العمل مبطل، فهل يعيد كل ما صلاه طوال حياته؟
 ذلك بحسب الخطأ، فإن كان الخطأ في أركان الصلاة مما لا يُعذر معه الجاهل فعليه الإعادة، وكذا في الوضوء إذا كان يُخلّ بصحته مما لا يعذر معه الجاهل احتياطاً في ذلك.
الصلاة في أماكن خاصة:
إذا صليت في بيت صديقي، وعند الانتهاء من الصلاة أتى والده وقال: لا أسمح لك بالصلاة في البيت. فهل يجب علي أن أعيد الصلاة؟
 لا تجب إعادتها.
لبس المطليّ بالذهب:
ما هو حكم لبس المطلي بالذهب، كالساعة، أثناء الصلاة وغيرها؟
 إذا كان مجرد طلاء، فلا حرمة في ذلك.
الغسل بداعي الصلاة:
هل يجوز الصلاة بعد الاستحمام وبعد نية الغسل لأجل الصلاة بدون وضوء؟
 يجوز ذلك في غسل الجنابة أو الحيض والاستحاضة الكثيرة والنفاس، وفي كل غسل ثبت استحبابه كالجمعة والعيدين.



رابعاً: الصيام والكفارات

الإفطار العمدي:
لقد أفطرت في شهر رمضان العام الماضي، فكيف أكفِّر عن ذلك وكان السبب هو سوء حالتي النفسية؟
 عليك أن تقضي عن كلّ يوم ما أفطرته عمداً، بأن تدفع عن كل يوم إطعام ستين مسكيناً، أو تصوم شهرين متتابعين.
اللّحن في قراءة القرآن:
عدم قراءة القرآن قراءةً صحيحة في شهر رمضان، هل يقدح بالصيام؟
 لا يقدح بالصيام، ولكن يجب على الإنسان أن يتعلّم القراءة الصحيحة، وإن كان ذلك بمتابعة قارئ جيّد.
فوت الصيام:
العام الماضي فاتني صيام شهر رمضان لأنني كنت حاملاً، وهذه السنة أنا مُرضع، فهل يجب عليّ صيام شهر رمضان لهذه السنة أم لا، وماذا يتوجَّب عليَّ من أمور؟
 إذا كانت الأخت لا تستطيع الصّيام، وكان الصوم يضرّها أو يضرّ رضيعها، بحيث إنه يمكن أن يجفّ لبنها إذا صامت مثلاً قضاءً عن شهر رمضان الماضي، ولم يكن هناك إمكانية للتعويض عن ذلك بحليب صناعي آخر أو ما أشبه ذلك، فيجوز لها أن تدفع فديةً في هذا المقام.
خروج الدم من اللثة:
صديقتي تعاني من نزيف لثّتها بشكل دائم منذ 11سنة، فهل خروج الدم من اللثّة يُبطل الصوم؟
 لا يبطل ذلك صيامها مع عدم تعمّد بلع الدم.
الشك في فوات الواجب:
في حال نسيت كم عليّ من صومٍ من شهر رمضان، وصمت عدداً من الأيام من دون حساب، فما هو تكليفي في ذلك؟
 إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر، فتكليفه على الأقل، ولا يجب عليه الإتيان بالأكثر.
تأخير قضاء الصوم:
عليَّ صومٌ من السنة الماضية من شهر رمضان ولم أستطع صيامه، فما هو حكمه؟
 عليك أن تصومه في السنة القادمة وتدفع فدية تأخير. أمّا إذا كان التأخير بسبب المرض طوال العام، فإنّه يكتفى بدفع الفدية، ولا يجب القضاء.
الإفطار خوفاً على الطفل:
إمرأة كانت حاملاً وأفطرت أياماً من شهر رمضان خوفاً على جنينها، وبعد الولادة وأثناء شهر رمضان، دفعت الفدية، فهل تقضي الصوم قبل رمضان الثاني أم يجوز لها قضاؤه في أي وقت؟
 الواجب هو قبل رمضان الثاني، وإلا فتؤخّر قضاءه.
التحاميل الطبية:
ما حكم التحاميل الطبية في الشرج أو غيره، هل هي مفطرة؟
 إذا كانت مائعة فهي مفطرة على الأحوط وجوباً.
صيام المستحبّ مع احتمال اشتغال الذمّة:
شخصٌ يُريد أن يصوم شهر شعبان بعنوان المستحب، ولكنه لا يعلم إن كان في ذمته أيام صيام واجب؟
 إذا فرضنا أنّه يحتمل أن يكون عليه صوم سابق يحتاج أن يقضيه، فيأتي بالصوم بعنوان رجاء المطلوبية.
غسل الأسنان حال الصيام:
هل يجوز غسل الأسنان والإنسان صائم؟
 يجوز ذلك، بشرط أن لا يبتلع الإنسان هذا المعجون أو الماء الذي يغسل به أسنانه.
المضمضة بدواء حال الصيام:
إذا كان الصائم مصاباً بمرضٍ في أسنانه، فهل يجوز له المضمضة بدواء على نحو مستحضر القرنفل، لغرض تسكين الألم؟
 يجوز ذلك، ما دام الدواء يبقى في الفم ولا ينزل إلى الجوف.
إثبات الهلال فلكيّاً:
هل يشارككم غيركم من المراجع القدماء أو المعاصرين في إثبات ولادة الهلال فلكياً؟
 بعضهم يضع المسألة في دائرة النفي، أي إذا شهد الفلك بعدم إمكانيّة الرؤية، فتُردّ شهادة الشهود على أساس ذلك، وبعضهم يستقرب الرأي علميّاً ولا يفتي به بسبب بعض التحفّظات، وبعضهم لا يرى إلا الرؤية سبيلاً للحكم بالهلال.
عدم القدرة على القضاء:
أنا مريضة ولدي دواء وعلاج مستمر، وعندي قضاء صيام، وقد صمت يوماً وتدهورت صحتي كثيراً، فهل يصح صيامي أم لا؟
 ليس عليك الصّيام إذا كان الصوم يضرّ بصحتك. وأمّا القضاء، فإن لم تتمكّني صحّياً من القضاء إلى رمضان التالي فيسقط القضاء، وعليكِ دفع الفدية عن كلّ يوم بمقدار ثلاثة أرباع الكيلو خبزاً أو طحيناً للفقراء.
الصوم في محرّم:
أنا أصوم في شهر محرم، فهل يجوز ذلك؟
 يجوز ذلك.
حامل أفطرت ولم تقضِ:
امرأة أفطرت خلال شهر رمضان، لأنها كانت حاملاً ولم تقض صيام هذا الشهر إلى السنة المقبلة بسبب الولادة، فدفعت الكفارة، والآن تمر عليها السنة الثانية، وهي لم تقضِ صيامها بعد، فهل يجب عليها دفع الكفّارة مرة أخرى، أم أن ما دفعته في العام الماضي كاف؟ وهل يجب عليها تكرار دفع الكفّارة في كل عام إلى أن تقضي صيامها؟
 الفدية لا تتكرر، لكن عليها فدية ثانية كون الإفطار كان لأجل الخوف على الحمل.
الإفطار تقليداً:
ادعى شخصٌ أنه لم يحصل لديه الاطمئنان في مسألة الإفطار في شهر رمضان الأخير، فاستمر في صيامه خلافاً لمبناكم في بداية الشهر، هل يعتبر مأثوماً؟
 عليه أن يتابع مرجعه في ذلك، لأنه ليس من أهل الخبرة في ذلك، وهذه قضية مرتكزة على مبدأ اجتهادي فقهي، وترتكز على أنَّ الحسابات الفلكية هي الأكثر دقةً من الرؤية.
التوقيفية في العبادات:
ما هو سرّ علاقة الصيام والمسافة التي توجب الإفطار للمسافر؟
 تحديد المسافة التي يقطعها المسافر التي يجب على أساسها تقصير الصلاة والإفطار، هي من الأمور التوقيفية التي تعبَّدنا الشارع بها، ولا دخل للتعب أو وسائل النقل بها، وأصل وجوب الإفطار في السفر جاء في القرآن الكريم، قال تعالى:﴿أيَّامَاً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُم مَرِيضاً أوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(1).


خامساً: الخمس والزكاة

تخميس مال من الخمس:
أنا من مقلّديكم، وقد استلمت مبلغاً من المال كحقٍّ شرعي (خمس)، فإذا بقي سنة عندي ولم أستعمله، أو بقي شيء منه، فهل يجب فيه الخمس؟
 إذا فرضنا أنه بقي إلى السنة الأخرى، فإنه يجب الخمس فيه إذا أخذه على نحو التملّك. وللتفصيل، يرجع فيه إلى (فقه الشريعة).
دفع خمس الأبناء:
هل يجوز للأب دفع خمس ابنه القاصر وكذلك ابنه البالغ؟
 لا يجب الخمس على الولد قبل البلوغ، وحيث يجب الخمس على الولد البالغ، فإنّ مبادرة الأب للتخميس عن ولده بالوكالة عنه أو بإذنه جائزة، لأنّ الخمس من العبادات التي لابدَّ للمكلف فيها من قصد القربة عند دفعها.
زكاة الغلاّت:
هل يجب الزَّكاة في غير الغلاّت الأربع؟
الأحوط وجوباً، دفع زكاة سائر الحبوب، مثل الأرزّ والعدس ونحوهما.
تخميس الدَّين:
إذا كان عليَّ دينٌ فهل يجب عليَّ الخُمُس؟
 لا يجب الخمس في الدَّين، ولكن إذا كان على الإنسان ديون سابقة، وحصَّل مالاً في هذه السنة؛ فإن وفّى الدَّين فليس عليه شيء، وإذا بقي هذا المال عنده فعليه أن يخمِّسه في آخر السنة، وتبقى الديون السابقة، أما ديون السنة نفسها فإنه يستثنيها ممّا يخرج منه الخمس.
الخمس في شراء البيت:
إني مقيم في سوريا منذ 6 سنوات (متغرب)، ولا يوجد عندي لا في بلدي ولا هنا مسكن، وأجمع الأموال لشراء بيت، فهل الخمس واجب عليّ؟
 إذامرّتعليكسنةولم تدفعه أقساطاً مثلاً، فعليك أن تخمِّس المال.
إعطاء الخمس للفقراء:
هل يجوز إعطاء الخمس للمحتاجين من الأقرباء؟
 يجوز ذلك، والأحوطالاستجازة من الحاكم الشرعي.
رأس السنة الخمسية:
ما حكم من لم يحدّد له رأس سنة خمسية، مع أنّ له راتباً ثابتاً شهرياً، بحجة أن راتبه لا يبقى منه شيء، ولو بقي فهو بحاجة إليه مستقبلاً للدارسة وبناء المسكن والزواج؟
 أساساً هو لا يجب عليه أن يحتسب له رأس سنة خاصة، ولكن إنما يحتسب رأس السنة حتى يعرف الشخص هل بقي عنده شيء زائد عن مؤنة سنته أم لا؟ ولو فرضنا أنه بقي عنده شيء من راتبه إلى آخر السنة، فعليه أن يخمّسه حتى لو كان محتاجاً إليه في المستقبل.
تأخير دفع الخمس:
هل يجوز تأخير إعطاء الخمس أو دفعه على أقساط لظروف مادية صعبة؟
 إذا أخذ الرخصة من المجتهد الذين يقلده أو من وكيله في دفع الخمس على دفعات، فيجوز ذلك.
زكاة الفطرة من غير الهاشميّ:
أحد الإخوان من المشايخ أعطى الفطرة لهاشميّ، وهما طالبا حوزة؛ فهل يجوز للهاشمي أخذ الفطرة، بحيث إنّه عزل الفطرة ثم صرفها إلى أحد إخوانه الطلبة؟
 لا يجوز للهاشمي أن يأخذ الفطرة إلا من هاشميّ آخر؛ ولذلك مافعله،وهوعزلالفطرة وإعطاؤها لمستحقّ آخر غيرهاشميّ،هو الصواب.
حليّة الهديّة وخمسها:
ما هو حكم الهدية غير المعلومة المصدر؛ هل هي حلال؟ وهل يجب الخمس فيها؟
 إذا أهدانا شخص هديةً، وكانت يده عليها، ولم نعرف أنها من مال حرام، فيجوز أن نأخذها، وإذا مرت عليها السنة، فيجب الخُمس فيها.
الخمس عن سنوات مضت:
قبل أربع سنوات دفعت الخُمس وعملت تسويةً لكل شيء، ومن ضمنها البيت وكل ما أملك، ولكني تركت الخُمس في السنوات التالية، فما هو الحكم؟
 طبعاً فيما استجد بعد تلك المصالحة، عليك أن تحسب حساباً جديداً لمعرفة ما إذا كان يتعلق الخمس به أم لا.
دفع زكاة الفطرة:
هل زكاة الفطرة ترتفع عن الطلاب أم لا؛ لأن الطلاب يأخذون الراتب من مال الخُمس؟.
 إذا كان الإنسان لا يملك القدرة المالية التي تكفيه في مصارف سنته، فلا يجب عليه زكاة الفطرة، سواء كان طالباً أم غير طالب. فزكاة الفطرة تجب على الذي يعوله إذا كان هناك من يعوله من أب أو غير أب.
دفع الزكاة إلى المؤسسات الخيرية:
هل يجزي إعطاء الزكاة إلى مؤسسة خيرية إسلامية مع الإعلان بأنها زكاة؟
 يجزي ذلك، مع الوثوق بأن المؤسسة تصرفها في موردها الشرعي، وبالنسبة إلى الخمس لا بد من صرفه عن طريق الحاكم الشرعي.
ضريبة الدخل والزكاة:
لدي شركة في أوروبا، وأدفع ضريبة دخل، وهي تذهب إلى الصالح العام، فهل هي زكاة؟
 لا تعتبر هذه الضرائب زكاةً.
زكاة العملات:
كيف يحسب نصاب الزكاة في يومنا هذا، ونحن لا نتعامل بالذهب ولا بالفضة؟
 يحسب بالنسبة إلى نصاب النقد الذهبي أي الدينار، ومقداره عشرون ديناراً (قيمة الدينار الواحد نصف ليرة ذهبية عثمانية).
زكاة الحليّ:
اشتريت ذهباً منذ حوالي سنتين ونصف، وقد استعملت في هذه الفترة معظمه للزينة، وجزءاً منه لم أستخدمه، فهل يترتّب عليّ الزكاة؟
 لا تجب الزكاة في حلي الذهب، ويجب فيها الخمس إن كانت زائدةً عن مؤونة السنة، أي مما لا تحتاجه المرأة للتزين به، ومقدار الخمس نسبة العشرين في المائة من مقدار قيمتها تخرج من نفس العين، وتعطى للحاكم الشرعي لصرفها على المستحقين.
الزكاة في النقد الورقي:
إذا كانت الزكاة تخص النقدين (الذهب والفضة) ممّا كان سائداً في العصور الماضية، فلماذا لا تكون الزكاة اليوم في الفئات الورقية أو المعدنية التي هي عوض عن النقدين؟
 رأينا أن الزكاة تجب على الأحوط وجوباً في النقود الورقية، كما في النقدين الذهب والفضة.



سادساً: الحج والعمرة

طواف الصغار:
أنا ذاهبة إلى العمرة مع أطفالي وأعمارهم: 15، 13، 7 سنوات، هل يجب عليهم الطواف والسعي وطواف النساء؟
 أمّا غير البالغين، فإن أحرم بهم الوليّ، فعليه أن يطوف بهم. أمّا البالغون، فيجب عليهم الإحرام لدخول الحرم، ويجب عليهم أن يأتوا بكامل أعمال العمرة.
صبي مميّز ترك طواف النساء:
صبي مميز أدى مناسك العمرة، ولم يطف طواف النساء، هل تحرم عليه امرأته إذا تزوَّج بعد سنوات؟
 عليه أن يكلف أحداً أن يطوف عنه طواف النساء، لأنه يترتب عليه الأثر في حرمة الزواج إذا بقي.
استطاعة الحج:
بنت ورثت عن أبيها أملاكاً، فهل يجب عليها أداء مناسك الحج، بفرض أنها حصلت على الاستطاعة المطلوبة؟ وهل يجوز لزوجها منعها بحجّة الإنفاق من هذا المال على عياله؟
 نعم، يجب عليها الحج من هذا المال حتى لو لم يقبل زوجها، وهو ملكها، وليس لزوجها التصرف فيه بغير إذنها.
حجٌ بالاستدانة:
إذا استدان غير المستطيع وحجَّ، فهل يغنيه هذا الحج عن حجة الإسلام فيما لو استطاع مستقبلاً؟
 إذا كان قادراً على الوفاءِ بالقرض بعد ذلك، فيكون حجه صحيحاً، ويكون حجه حج الإسلام.
موقع عرفات:
هل تعتبر عرفات من منطقة مكة؟
 هي ليست من مكة.
لبس الجوارب في الحج:
هل يجوز لبس الجوارب في الطواف؟
 لا يجوز ذلك للرجل، ويجوز للمرأة.
حكم التظليل:
هل تفتون بعدم جواز الجلوس تحت سقف، سواء كان ثابتاً أو متحركاً، في موسم الحج أثناء السفر من مكة إلى عرفات أو بالعكس؟
 لا يجوز التظليل للمحرم أثناء طي المسافات، ومنه التوجه من مكة إلى عرفة، أما مع نزوله في مكان ما، فيجوز له التظليل.
التظليل في الليل:
هل يجوز التظليل عند الإحرام بعد غروب الشمس (حلول الليل)؟
 يجوز ذلك، إلاّ مع وجود المطر على الأحوط وجوباً.
لبس السروال في الحج:
ما حكم لبس السروال القصير تحت الإحرام بالنسبة إلى المرأة والرجل؟
 يجوز ذلك للمرأة، ولا يجوز للرجل لبس المخيط.
مقام إبراهيمt:
هل المقصود بالصلاة خلف مقام ابراهيم بعد الانتهاء من الطواف، المنطقة الواقعة خلف المقام بأكملها، أم المنطقة الواقعة خلف المقام مباشرة بطولها؟
 على الحاج أن يراعي فيها الأقرب فالأقرب إلى المقام.
حكم النظّارات في الحج:
هل يجوز لبس النظّارات في الحج؟
 يجوز ذلك، إذا كان المقصود به الوقاية من الشمس أو الأمن من الضرر لضرورة طبيّة.
سقوط الشعر والدم في الإحرام:
ما هو حكم سقوط الشعر من الوجه بشكل غير عمدي، أو خروج الدم أثناء التنظيف المتعمّد من الأنف خلال لبس ثوبي الإحرام؟
 إذا كان الإنسان يعرف أنه سيجري الدم فهذه مخالفة شرعية، أمّا إذا لم يكن يعلم، وكان ذلك رغماً عنه، فلا بأس به. ولا إشكال في سقوط الشعر بدون عمد.
لباس المرأة في الإحرام:
هل يجوز أن يكون لباس الإحرام للمرأة مطرّزاً بالأبيض؟
 ليس هناك لباس إحرام خاص للمرأة، بل يمكن أن تحجّ بثيابها.
رمي الجمار:
هل يجزي في الرمي وقوع الحصى في الحوض، أو أنه لا بدّ من إصابة العمود نفسه؟
 الجمرة هي مجمع الحصى، ولا بدّ من وقوع الحصى فيه.
مصرف كفّارة الحج:
هل يجوز أكل لحم كفّارة الحج؟
 لا يجوز ذلك، فكفّارات الحج تُدفع كلّها للفقراء.
الاستطاعـة:
سأذهب إلى الحج في هذا العام، ولديَّ مبلغ من المال، ولكنه في سوق الأسهم، بالرغم من أني لا أعمل في الوقت الحالي، فلا أستطيع إخراج الخمس، فهل يكون حجّي صحيحاً؟ مع العلم أن الحجّ سيكون من مال ولي أمري، فهل لا بد من تخميس هذا المال؟ أنا لم أخمس أبداً في حياتي، فما هو الواجب عليَّ فعله قبل الحج؟
 يصح حجّك إن بذل لك وليّ أمرك نفقة الحج، ولا خمس في المال المبذول، وأما المال المدّخر والمستثمر في سوق الأسهم، فلا بد من تخميسه، ويمكن استجازة الحاكم الشرعي بتأجيل الخمس إن لم يمكن دفعه حالاً.
الزيارة والحج:
يتداول بعض العلماء عندنا، بأن الله لا يأمرنا بحجّ بيته في حال علمنا بالخطر على حياتنا، ولكن يأمرنا بزيارة الإمام حتى لو علمنا بأن في هذا الأمر خطراً على حياتنا لما لها من أجر عظيم، فما هو رأي سماحتكم في ذلك؟
 هذا غير صحيح، فإنه لا يجوز للإنسان إيقاع نفسه في الضرر المعتدّ به، إلا في حال الجهاد، أو العلاج لدفع ضرر أشد، أو كان في الزيارة مصلحة كبيرة وعظيمة تستدعي بذل النفس والتضحية بها لأجلها.
النيابة في العمرة:
هل يجوز لي القيام بعمرة واحدة نيابةً عن أكثر من شخص؟
 تصحّ النيابة عن أكثر من شخص في الحج المندوب، أو العمرة المندوبة، فيأتي النائب بحجّ واحد أو عمرة مفردة واحدة نيابة عن الجميع.
معنى المخيط:
ما المقصود من المخيط الذي لا يجوز لبسه حال الإحرام؟
 هو الثياب المتعارفة التي توصل قطع القماش فيها بواسطة الخياطة، أو بالأزرار أونحو ذلك.
دخول الحائض إلى المسجد النبوي:
هل يجوز للحائض دخول الساحة المكشوفة التابعة للمسجد النبوي؟ وهل يصدق عليها الدخول في المسجد؟
 إذا ألحقت بالمسجد في وقف جديد، كان لها حكم المسجد، وإلا فلا حرمة في دخول الحائض أو الجنب إليها.
الوقوف بمزدلفة:
من خلال عملي في الحج، اتّضح لي أن بعض الحملات تعتمد في خروجها من عرفات باتجاه مزدلفة للوقوف الاضطراري مع النساء، طريق رقم واحد، أو ما يسمى طريق الطائف أم القرى، وهذا الطريق يحاذي مزدلفة ولا يمرّ بها، إلا أنهم يقومون بالوقوف على أساس أنهم في مزدلفة، ويتم سلوك هذا الطريق هرباً من زحمة السير الخانقة والوصول باكراً إلى الرجم، فما هو حكم أعمال الحجاج والحال هذه؟ وماذا يتوجب على صاحب الحملة من ناحية شرعية، سواء في حالتي العمد أو الجهل؟
 إذا لم يتوقف الحجاج المعذورون في مزدلفة، ففي حجّهم إشكال، وعليهم أن يُعرّفوا الناس عن صاحب هذه الحملة التي لا تلتزم بالحدود الشرعية، وعلى صاحب الحملة أن يضمن الحج الصحيح للحجاج الذين قد بطل حجهم في مفروض المسألة.



سابعاً: الزواج والطلاق

أم الطفل:
من هي والدة الطفل؟ هل هي التي يأخذون منها البويضة ويزرعونها في رحم أخرى؟ أم هي صاحبة الرحم؟ وهل يرث الإثنين؟ نرجو منكم أن تفيدونا من خلال القرآن الكريم؟
 هناك رأيان: رأي السيد الخوئي(ره) الذي يرى أن الأم هي التي تحمل الطفل وتلده ويرثها، والأب هو صاحب النطفة، وذلك بالرجوع إلى قوله تعالى:﴿إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّاللاَّئِيوَلَدْنَهُمْ﴾(1). ولكنّنا نرى أن الحصر هنا هو حصر إضافي وليس حقيقياً. وعليه فنحن نلتزم رأياً، ويلتزمه بعض العلماء المعاصرين، وهو أن صاحبة البويضة هي الأم، باعتبار أن الولد يتكون من البويضة ومن النطفة، ونسبة البويضة إلى الولد كنسبة النطفة إلى الوالد، يعني أن الولد ينشأ من خلية مكوّنة 23 كرموسوماً من النطفة و23 كرموسوماً من البويضة، ولذلك فالذي يتدخل في تكوين الولد هما النطفة والبويضة، وإنما الحامل هي بمثابة الوعاء لهذه النطفة.
إسقاط الجنين المشوه:
أنجبت زوجتي طفلاً مشوَّهاً، والآن هي حامل في شهرها الرابع، ويقول لها الطبيب إن الجنين سيكون أيضاً مشوهاً، فهل يجوز الإجهاض؟
 لا يجوز لها ذلك، لأن التشويه لا يبرر قتل المشوّه حتى لو كان جنيناً، وإلاّ لو جاز ذلك، لجاز لنا قتل المشوهين الكبار.
الوكالة في طلاق الخلع:
هل يُشترط فيمن يريد أخذ الوكالة للطلاق الخلعي، أن يأخذ أيضاً الوكالة لقبول البذل من المرأة، أم أن مجرّد الوكالة بإيقاع الطلاق الخلعي كافية؟
 تكفي الوكالة بالطلاق الخلعي من الزوج الشاملة ضمناً لقبول البذل بعد تحديده.
حدود حركة المرأة المعتدة:
هل يجوز للمرأة المعتدّة لوفاة زوجها أن تخرج إلى الاحتفالات التي تُقام بمناسبات ولادة الأئمة الأطهارi، مع العلم أنّ الاحتفالات تُقام في المساء؟
 لا يحرم ذلك، والأفضل اجتنابه، حيث يُكره لها الخروج من بيتها في فترة العدّة لغير الضرورة.
تحويل العقد:
إذا عقد الرجل على المرأة عقداً منقطعاً، فهل يجوز له أن يعقد عليها عقداً دائماً فوراً؟
 يلزمه أن يهبها المدة ثم يعقد عليها عقداً دائماً، لأنها عندما تكون زوجته، فكيف يعقد عليها عقداً دائماً، وعليه، فإنه يقول لها: وهبتك المدة الباقية، ثم يعقد عليها العقد الدائم.
الشروط في الزواج:
رجل اشترط على زوجته عدّة شروط في بداية عقد الزواج، وأخلّت ببعض الشروط، هل تستحق المهر المؤجّل بعد الطلاق؟
 نعم، تستحق ذلك، لأن غاية ما تقتضيه مخالفة الشروط، أنّها تأثم، وقد ورد:«المؤمنون عند شروطهم».
الزواج في العدّة:
ماذا تقولون في امرأة تمتعت وقد انتهت مدتها وكانت مدتها شهراً، إلا أنها لم تنته من عدتها المعروفة بحسب المشهور عند الفقهاء بقرءين، ثم عُقد عليها دواماً. ونحن نعرف أنّ مشهور الفقهاء يقولون إنّها تحرم عليه حرمة مؤبدة، ولكنها كانت جاهلة بالحكم والموضوع؟
 نحن رأينا أنها لا تحرم عليه مؤبداً، إذا كانت جاهلةً بالحكم والموضوع.
حكم التبنّي في الإسلام:
لماذا لا يجوز التبني في الإسلام؟
 يقول اللّه سبحانه وتعالى:﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ* ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيماً﴾(1). والأدعياء هم الأولاد الملحقـون بالنسب ـ بواسطة التبنيـ ولعل الأساس في ذلك، هو أنّ بنوّة الولد للشخص ليس أمراً واقعيّاً، لأنّه ليس متولّداً منه، فلا تترتب عليه الآثار الشرعيّة التابعة للواقع.
الأم بالرضاع:
زوجة والدي أرضعتني عشر رضعات، فهل تكون أخواتها وعماتها وخالاتها من محارمي؟
 إذا كان عدد الرضعات التي ارتضعتها أكثر من عشر، بمعنى أنها تبلغ خمس عشرة رضعة بلا فصل برضاع من امرأة أخرى مثلاً، فتكون زوجة والدك أُمَّاً رضاعية لك، ويكون أقاربها المذكورون من محارمك، لأنه يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب، وإلا ففي الاكتفاء بالعدد المذكور إشكال، إذا لم يبلغ الرضاع خمس عشرة.
عدة الوفاة لليائس:
إذا كانت المرأة تبلغ الستين من عمرها وتوفي زوجها، هل تجب عليها العدّة؟ وما مدة هذه العدّة، وما هي شروطها؟
 عليها أن تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام عدة الوفاة مع وجوب الحداد، وعليها ترك الزينة في البدن واللباس.
حق الزوجة على الزوج:
إذا كانت الزوجة مريضة، وبحاجة إلى عملية جراحية، والزوج لديه المبلغ الذي يؤمّن هذه العملية، ولكنه يمتنع عن دفعه، بحجة أن المبلغ كبير جداً، فهل هو آثم؟
 العلاج يعتبر من النفقة الواجبة على الزوج لزوجته، كالطعام والشراب والسكن.



ثامناً: أموال وبنوك

تبييض الأموال:
نرجو إعطاءنا فكرة عن وجهة نظر التشريع الإسلامي بالنسبة إلى تبييض الأموال في المصارف الدولية.
 تبييض الأموال هذا ينطلق من خلال أنَّ الأموال أموال محرَّمة، مثل أموال المخدرات وما إلى ذلك، فالأموال إذا كانت محرَّمة لا يجوز التصرف فيها كلّيةً، سواء كانت بطريقة تبييض الأموال أو بغيرها من الطّرف.
نفقة الأولاد:
أعيش في السويد وأتقاضى راتباً لا يبقى لي منه شيء حتى أرسله إلى أولادي، فهل أكون مقصِّراً في إعالتهم؟
 الإنفاق على أولادك إذا كانوا محتاجين مسؤوليّتك، وعليك أن تتدبّر أمورك في هذا المجال.
استثمار صالة بلياردو:
لديَّ صالة ألعاب بلياردو وألعاب كمبيوتر، فهل هذا الرزق حلال؟
 إذا كان البلياردو من دون رهن، فالرزق حلال إن شاء الله.
أجور الكهرباء:
استأجرت مكاناً وليس فيه عدّاد كهرباء مع وجود الكهرباء، فهل يجب عليَّ أن أطالب المؤجر بتركيب عداد؟
 نعم؛ لأنه لا يجوز لك أن تأخذ الكهرباء بدون أن تدفع أجرتها.
سباق الرايسز:
ما هو رأيكم في سباق الخيل المعروف بسباق (الرايسز)؟
 إنَّ سباق الخيل إن أُريد منه التَّربية البدنية، فهو يندرج في أنواع الرياضات البدنية، وهو جائز بلا إشكال. وأمّا بعد أن تحوّل إلى أداة ووسيلة للقمار، وخصوصاً بلحاظ ما يؤدِّي إليه من سلبيات بأعمق مما هو القمار المتعارف، فإنّه أصبح محرّماً.
حكم المعاملات الربويَّة:
هل تجوز المعاملات الربوية مع الشّركات أو المصارف الأجنبية؟
 لا فرق في حرمة الربا بين الربا مع المسلمين أو مع الكافرين.
الربا بين الأقارب:
هل هناك معاملات ربوية جائزة بين الأقارب؟
 بعضهم يقول إنه يجوز الربا بين الوالد وولده، أو بين الزوجة وزوجها، لكن هذا محلّ إشكال عندنا.
ربح حرام:
شخص أراد أن يشتري بيتاً بـ(2) مليون ليرة، وليس لديه خبرة في الشراء، فكلَّف شخصاً آخر لديه الخبرة في ذلك، فاشتراه له بـ(1.5) مليون ليرة، وقال له: إني اشتريته لك بمليون وسبعمائة وخمسين ألف ليرة، فهل الزيادة حلال أم حرام؟
 الزيادة حرام، وعليه أن لا يأخذ منه إلا مقدار ما دفعه.
وصيّة الجد لأحفاده:
هل يجوز للجدّ أن يوصي بمقدار من الميراث لأحد أحفاده مع وجود أبناء وبنات وزوجة لهذا الجد؟
 نعم، الإنسان له أن يوصي بما أراد، ولكن لا تنفَّذ الوصية إلا بثلث ماله كحدّ أقصى.
شراء محل على أرض مغصوبة:
ما حكم الشراء من محل بني على أرض يقال بأنها مغصوبة، مع العلم بأن صاحب المحل مستأجر من صاحب البناء؟
 الشراء بحد ذاته ليس محرَّماً، ولكن يحرم استعمال المغصوب والتصرف فيه مع العلم بالغصب، ولا يكفي الشك في ذلك.
عقد العمل:
اتفقنا مع شخص لكي يقوم بعمل، وأعطيناه جزءاً من المبلغ مقدَّماً، وبعد أن بدأ العمل عدة ساعات، كان عمله سيئاً جداً، فأوقفناه عن العمل، وبعد أيام أرسل شخصاً ليأخذ عدة العمل، فلم نعطها له إلى أن يعيد المبلغ، علماً بأن قيمة العدة لا تساوي المبلغ بل أقلّ منه، وانقطع عنا فترة أكثر من ستة أشهر، فهل نستطيع أخذ العدة مقابل المبلغ؟
 إذا كان الاتفاق قائماً على إعطائه أجرة ما يعمل من دون النظر إلى تقويم عمله، فهو يستحقّ أجرة ما عمله حتى لو كان سيّئاً.
التصرّف بأموال الغير:
منذ عشر سنوات، أعطتني والدتي 700 ل.س ديناً عليها كي أوصلها إلى دكان تاجر، فذهبت، ولم أجد التاجر، لأنه انتقل إلى مكان آخر، ولم أعرف عنوانه، فصرفت المال على نفسي، ولم أعلمها بذلك، فهل أتصدَّق بالـ700 ل.س على نيّة ذلك الرجل وتبرأ ذمتي؟
 عليك أوَّلاً أن ترجع المال إلى أمّك، وأن تسأل عن الرجل، وإذا لم تصل إليه، فلا بد لأمك من أن تتصدَّق به عليه لا أنت.
الإيداع بقصد الفائدة:
هل يجوز إيداع الأموال لدى الشركات أو المصارف الأجنبية بقصد الفائدة؟
 حرم الله الربا، سواء كان في الشركات أو المصارف الأجنبية أو المصارف الإسلامية.
التصرّف بأموال الوقف:
هل يجوز التصرُّف بأموال الوقف لمصلحة إسلامية أخرى؟
 الوقف يكون على حسب ما يقفه أهله، فإذا أوقف هذا الوقف على مصلحة معينة، فلا يجوز صرفه على مصلحة أخرى.
تشغيل الأموال:
هناك شركات أجنبية تعمل في تشغيل الأموال وتعطي الأرباح، فهل يجوز المشاركة فيها باستلام أرباحها؟
 إذا كانت على نحو المضاربة، بحيث يعطيهم رأس المال وهم يشغّلون هذا المال على أساس نسبة معينة من الربح، فلا مانع من ذلك.
نفقة الأطفال:
لي ولدٌ عند طليقتي لا أستطيع الوصول إليه، وإنما أدفع له النفقة في المحكمة، فما هو تكليفي؟
 عليك أن تدفع له النفقة، وعليك أن تعمل كل الوسائل من أجل أن تراه وتتعرف عليه.
الشراكة في الحلال:
اشتركنا في شركة أجنبية ومن ضمن الاتفاق عدم التعامل بالأشياء المحرّمة، ونحن لا نعلم ما إذا كانت الشركة تلتزم بذلك، فهل هذا جائز؟
 الإنسان إذا كان لا يعلم بأنها تعمل في الأشياء المحرّمة فلا مانع من ذلك.
حصّة الزوجة والبنات من الأرض:
ما هو مقدار حصة زوجة المتوفى وبناته من الأراضي الزراعية في الفقه الجعفري؟
 المشهور في الفقه الجعفري، أن الزوجة لا ترث من الأرض، ولكن هناك رأي لأحد علمائنا الكبار وهو الشيخ الطوسي، ورأينا أيضاً، أن الزوجة ترث من العقار كما يرث الزوج؛ لأن القرآن الكريم لم يفرّق بين الزوج والزوجة في ذلك كلّه.
خطورة أكل الميراث:
هناك من يحتاجون إلى كلمة حول خطورة أكل مال الغير بغير الحق، وأخصّ بالذكر الميراث، هذا مع العلم أن الفاعلين هم من المصلين. ما السبيل إلى إبعادهم عن أفعالهم هذه؟
 يقول الله سبحانه وتعالى:﴿وَلاتَأْكُلُواأَمْوَالَكُمْبَيْنَكُمْبِالبَاطِلِوَتُدْلُوابِهَاإِلَىالحُكَّامِ﴾(1). وقال:﴿إِنَّالَّذِينَيَأْكُلُونَأَمْوَالَاليَتَامَىظُلْماًإِنَّمَايَأْكُلُونَفِيبُطُونِهِمْنَاراًوَسَيَصْلَوْنَسَعِيراً﴾(1). فعلى كل من يأكل مال شخص بغير حقّ، إذا دعته قوته وسطوته إلى أن يفعل ذلك، أن يفكّر في موقفه أمام الله عندما يقوم الناس لربّ العالمين، ويطالب أصحاب الحقوق بحقوقهم، فماذا سيجيب حينها؟
وقد ورد في مضمون الحديث، أنه عندما تقوم القيامة، يأتي شخص وأعماله مثل الجبال لكثرتها وضخامتها، حتى يغبطه الناس على ذلك، ويأتي أصحاب الحقوق فيقال: خذوا من حسناته وأعطوها لهؤلاء، فيعطونهم منها، فإذا انتهت يقول الملائكة: لقد فنيت حسناته، والمطالبون بحقوقهم كثر، فيقال:أضيفوا من سيئاتهم إلى سيئاته!! فليتذكّر الإنسان أنّ المال هو للورّاث، كما يقول الشاعر:
مـا كـان فـاضـلاً عـن قوتـه              فليعـلـمـنّ بأنّـه ميــــراث
فأنت تشقى به والوارث يهنأ به.
راتب من ترك الحوزة:
كنت أدرس في الحوزة العلمية، وقد تركتها وأدرس الآن في المعهد، فهل يجوز لي أن آخذ راتباً من المكاتب؟
 عليك أن تعرف شروط المكاتب في أخذ الراتب، هل إنهم يعطون الرّاتب لمن يدرس في الحوزة، أم أنهم يعطون الراتب لمن يدرس في المعاهد الأخرى؟!
البنوك اللاربويّة:
نرجو إعطاء فكرة بسيطة حول البنوك اللاربوية في الإسلام؟
 البنوك اللاربوية هي البنوك التي تعمل من خلال المضاربة، وهي أن يكون المال من شخص ويكون العمل من البنك، بحيث يتّفق صاحب المال مع البنك على أن يُعطى حصةً من الربح، والبنك يستثمر هذا المال ويعطي صاحب المال حصةً من الربح (ربع الأرباح، أو نصف الأرباح) مثلاً، لا أن يعطيه مبلغاً محدّداً على المال؛ فالنسبة تكون على الأرباح، لا على رأس المال.
العمل في أسهم الشركات:
هل يجوز التعامل بأسهم الشركات والبنوك؟
 لا بد من أن تكون الشركات محللةً من حيث التعامل التجاري، وإما إذا كانت الشركات محرمة، فلا يجوز الاتجار بأسهمها.
تخليص الحقوق:
أخذ أخوة أمي إرثها بالقوة والإكراه، فهل يجوز لأمي أن تأخذ حقها بالقوة واللجوء إلى القاضي؟
 يجوز لها أن تحتكم إلى القاضي.
تبـرئة الذمة:
عليّ ديون، ولكن لا أتذكّر المبلغ بالضبط، وأصحابها غير موجودين، وأنا إنسان فقير، فما العمل حيث لا أعرف لهم مكاناً؟
 يجب عليك إرجاع الأموال إلى أصحابها في حال استطعت الوصول إليهم، ومع عدم القدرة على الوصول إليهم، يجب عليك التصدّق على قدر ما تحتمله من الأموال على الفقراء.
الاقتراض بفائدة:
احتجت إلى بعض المال لتطوير مشروع أقوم به، وأمامي فرصة اقتراضبالفائدةبشكلمريحنوعاًما.فهل يجوز أن آخذ هذا القرض أم لا؟
 لا يجوز لك الدخول في القرض الربوي، ولكن إذا قصدت في العقد الالتزام بردّ القرض من دون التزام بالفائدة، بل كنت تقصد أن تدفعها بفعل الضغط القانوني، فيجوز لك ذلك.
حكم أخذ الفائدة:
هل يجوز لنا أخذ الفائدة المترتبة لنا من وضع الأموال في بنك غير إسلامي، مع العلم أن البنك يقوم بتشغيل تلك الأموال ويربح منها، ولكن يعطينا مقابل ذلك فائدة ثابتة هي حوالي 8 %. ما حكم هذه الفائدة؟
 تحلّ الفائدة المذكورة مع عدم اشتراطها حال وضع المال في البنك، أمّا مع الاشتراط، فهي ربا محرّم لا يحلّ التصرّف فيه.
حكم الأسهم في البورصة:
أريد أن أسأل عن بيع وشراء الأسهم في البورصة، هل هو حلال أم حرام؟
 مع تجنّب الربا، وتجنّب شراء أسهم الشركات التي تعمل في القمار أو البغاء أو نحوهما من المحرّمات، فإنه يحلّ سائر أعمال البورصة.
العثور على مال:
لو عثرت على مال وأنا محتاج إليه، هل أتصدق به على نفسي؟
 هذا المال إذا كان له علامة أو كان كثيراً، فعلى واجده أن يعرّف به لمدة سنة حتى يعثر على صاحبه، أو يراجع الحاكم الشرعي حينئذٍ.
الربا مع البنوك غير الإسلامية:
نحن في الهند يُقبل البعض منا على أخذ القروض من بعض البنوك، مع العلم أن تلك البنوك تفرض فوائد قصيرة الأمد، أو طويلة الأمد، ومسوِّغ هؤلاء، أن التعامل مع هذه البنوك هو أخذ الجزية من الفئة غير المسلمة على أساس أن البنوك هي ملك دولة غير إسلامية؟
 هناك رأيان في المسألة، فإن بعض العلماء يرون أنه لا مانع من أخذ الربا من الكافر، ولكننا لا نرى فرقاً بين الكافر أو المسلم في هذا المجال. أما قضية المقاصَّة من الضرائب المأخوذة من الناس، فهي محل تأمل، كون هذه الدول تأخذ الضرائب من أجل إقامة المشاريع الرعائية العامة للناس. كما أن المقاصة تفرض ملاحظة واحدة، وهي المقدار بين ما يؤخذ وما يُدفع.
البيع بسعر أعلى من السوق:
ما حكم من يبيع كثيراً من السلع في السوق بربح فاحش ضعف السعر؟
 ينبغي للبائع المسلم أن يكتفي بالمقدار المعقول من الربح، وقد قال رسول اللّهw:«رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع، وسمحاً إذا اشترى».
نفقة الولد من أموال أبيه:
هل يجوز أخذ الفوائد من البنك الأجنبي (الربا)؟ وما هو حكم المال الذي ينفقه الوالد على أبنائه في هذه الحالة، وهو من مقلدي السيد الخوئي (ره)؟
 الربا حرام في جميع الحالات، ولكن السيد الخوئي كان يرى أنه في حالة كون صاحب المصرف الأجنبي يلتزم بالفوائد (الربا)، فيجوز الأخذ منه إلزاماً له بما ألزم به نفسه، ولكن لا يجوز أن نعطيه، وكذلك هو رأينا.
العمل في المصارف:
هل يجوز العمل في مصرف يفرض الفوائد على المستقرضين منه؟
 كل عمل فيه ربا هو حرام، فعلى الإنسان أن يبحث عن عمل آخر، واللّه خير الرازقين.
المطالبة بأجرة الخدمة البيتية:
طلّق زوج زوجته، وبعد الطلاق طالبته الزوجة بأجرة خدمتها في البيت وإرضاع الأولاد، مع العلم أنه لم يكن هناك اتفاق على أن تكون خدمتها في البيت بأجرة، كما لم يكن هناك اتفاق على الخدمة المجانية، فهل يجب دفع الأجرة؟
 لا يجب عليه ذلك، والسبب هو أنَّ المرأة عندما تعمل في بيتها الزوجي تكون متبرعةً بذلك. ولو فرضنا أنها منذ البداية اشتغلت على أساس الأجرة، فإنها تستحقها، ولكن واقع الحال هو أن الرجل يعطي المرأة ـ في الغالب ـ أكثر مما يجب عليه من النفقة. والمهم أن نفهم أن اللّه سبحانه وتعالى قد جعل الحياة الزوجية قائمةً على أساس المودة والرحمة، ولهذا فهي من الناحية الشرعية لا تستحق شيئاً، ولا يجب دفع ذلك. ولكن على الزوج أن يقدّر لها الجهد الشاق الذي صرفته في تربية الأولاد، وفي أعمال البيت، وفي رعايتها له ولأوضاعه مما لا يجب عليها في البيت الزوجي، ولاسيّما إذا كانت الزوجة المطلّقة بحاجة إلى المال بعد طلاقها منه.
عزل المال للصدقة:
أستخرج في اليوم مبلغاً معيناً كصدقة، وأجمع الصدقات في البيت، فهل يجوز لي شراء مأكولات بهذا المبلغ وإعطاؤها للفقراء؟
 المال يبقى ملكك ما دمت لم تعطه بيد الفقير، فلو عزلته بعنوان الصدقة، فلا يصبح صدقةً حتى تتصدق به. والمال ملكك، حتى إذا مرّت عليه سنة يجب أن تخمسّه. إنما يخرج المال عن ملكك إذا سلّمته للفقير، أما مجرد عزله فلا يجعله صدقةً، ولذا يجوز أن تأخذه أو ترجعه، كما يجوز أن تشتري به غذاءً وما شاكل.
مصرف الأموال المتبرع بها:
أُعطيت مبلغ 200 دولار على ذمة شراء كتب للفقراء ليتعرفوا مذهب أهل البيتi، وبقي من ذلك المبلغ 50 دولاراً، وقد توفي الرجل المتبرع بالمبلغ، فهل يجوز دفعه صدقةً عنه، أم يجب شراء بقية الكتب بالمبلغ المتبقي؟
 لا يجوز إلا أن يصرف المبلغ بحسب العنوان المحدّد له، وهو شراء الكتب للفقراء.
بيع بأزيد من السعر نسيئة:
رجلٌ اشترى أغناماً بثمن ثلاثة آلاف للرأس الواحدة ومن ثم باعها بالدين كل واحدة بستة آلاف لمدة معيّنة. ما حكم هذه المعاملة؟
 تارةً يبيع بثلاثة آلاف ويزيد الفائدة على الثمن، فهذا لا يجوز، لأنّه ربا. أمّا إنّه سعَّرها بستّة آلاف، ثمّ باعها على هذا الأساس بالدَّين، فيجوز؛ لأنّ البيع يصحّ نقداً كما يصحّ نسيئةً.
الاقتراض من المصرف:
هل يجوز الاقتراض من المصرف ـ مع ربا ـ لسد خمس مستقر في الذمّة؟
 يجوز الاقتراض مع نية المقترض عدم الالتزام بالربا بالقرض نفسه، ويكون دفعه للفائدة حال التسديد من جهة الاضطرار لعدم إمكان التخلص، ولكن الأحوط استحباباً عدم الاقتراض في غير مورد الحاجات المعيشية الأساسية.
الإيداع في البنوك لقاء جوائز:
هناك خدمة تعرضها البنوك، وهي جعل المشترك يودع مالاً بمقدار معين، على أن يكون له الحق في الدخول في السحب على الجوائز المالية على نحو الشرط، إذ لولاه لما أقدموا عليه. فهل هذا يعتبر من القرض الربوي؟ وإذا كان نعم، فهل يملك الجائزة لو تم السحب عليها؟ علماً بأنه لا زيادة على الوديعة إلا هذا الشرط.
 يكفي أن لا يشترط المودع من جهته ذلك، ويحلّ له ما يربحه من جائزة.
إرجاع القرض بأزيد منه:
قررت أن أستلف مبلغاً من أخي، وعرضت عليه أن أرجعه بعد 7 أشهر، وأعطيه مبلغاً يزيد عن المبلغ الذي استلفته، فهل هذا حرام أم حلال؟
 ليس حراماً أن ترجع المبلغ بزيادة من دون اشتراط ذلك حال الإقراض.
مال المرابي:
هل يجوز لي أخذ مال من أحد الأشخاص وهو يرابي (يأخذ الربا)، للضرورة، مثل الزواج أو شراء مسكن؟
 يجوز أخذ المال منه، ولكن لا يجوز الاستدانة منه بشرط الربا.
الأموال المختلطة بالحرام:
ماذا تقولون في الأموال المختلطة من حلال وحرام، وصاحبها يريد التخلص من هذه المشكلة؟
 لا بد أولاً من أن يعرف صاحب المال الحرام الذي هو معه، إذا كان من في يده المال الحرام يعرف صاحب هذا المال، فعليه أن يرده إليه، وإذا كان صاحبه مجهولاً، فيكون حكمه حكم مجهول المالك. أما المال الذي اختلط فيه حلال وحرام، ولم يعرف صاحبه ليتصافى معه، من دون أن يعرف كمية الحلال والحرام، فتطهيره بإخراج الخمس منه.
تأجيل القرض:
هل يجب تحديد الأجل في القروض الشخصية بين الأخوة أو المؤمنين فيما بينهم؟
 لا يجب، ولكنه أفضل منعاً للاختلاف والمماطلة.
الربح والخسارة:
لو أعطيت تاجراً مبلغاً من المال قدره عشرة آلاف دولار على أن يعطيني التاجر من الربح ألف دولار كل شهر، علماً بأني لم أحدد الربح، ولكنّ التاجر هو الذي حدّد نسبة الربح، فما حكم التعامل مع هذا التاجر؟ وما حكم الربح أيضاً؟
 يصحُّ ذلك مع تحديد نسبة معينة من الرِّبح، وإن كان سيحصل مسامحة من أحد الطرفين ليستقر الربح على ألف دولار، ويعتبر في جواز ذلك كونه من التجارة بالحلال.
العمل في المصارف:
هل يجوز العمل في مصرف يفرض الفوائد على المستقرضين منه؟
 كل عمل فيه ربا فهو حرام، فعلى الإنسان أن يبحث عن عمل آخر، واللّه خير الرازقين.


تاسعاً: السلوك والمعاملات

حكم البناء على سطح المسجد:
مسجدٌ بُني منذ عدة سنوات، هل يجوز بناء حُسينية على سطحه؟
 المعروف أنه لا يجوز، ولكننا لا نجد مانعاً من ذلك.
تطويل الأظافر:
هل يجوز للمرأة تطويل أظافرها أم هو محرّم؟
 ليس محرَّماً، ولكن عليها في أثناء الوضوء أو الغُسل أن تُدخل الماء إِلى ما تحت الأظافر، ونحن لا نشجِّع مثل هذه التقاليد التي لدى الآخرين. لا نقول إنها حرام، ولكن لا نشجّعها.
التبرّع للإنجاب:
طلب مني أحد الأخوة التبرع بحيوانات منوية لتلقيح زوجته، لأنه لا يستطيع الإنجاب، فهل يجوز ذلك؟
 لا يجوز أن تلقَّح المرأة بنطفة رجل أجنبي. وإذا كان هذا الرجل يريد لزوجته أن يكون لديها ولد، فالحلُّ هو بطلاقها، ثمّ تتزوّج وتنجب في إطار الزواج. وعلى كلّ حال، فلو حملت من نطفة غيره، فالولد ليس ولده، وإنّما ابن صاحب النطفة.
الحذر من الأخطار:
إذا كانت أوضاع بلدي غير مستقرة، وكنت أرغب في إكمال دراستي في البلد، مع أن ذلك فيه بعض الخطورة، لكني أؤمن بأنّ قدرنا بيد الله، وهو مكتوبٌ علينا من قبل أن نولد، فهل يجوز لي البقاء؟
 صحيح أنّ القدر مكتوبٌ على الإنسان، ولكنّه يجري بالأسباب التي أودعها الله تعالى في الحياة، والله تعالى يقول:﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾(1)، فإذا كان هناك خطر على الحياة، فلا يجوز للإنسان أن يقدم على ذلك، فعلى الإنسان أن يدرس الواقع الأمني قبل أن يقدم على الخطر.
تنشئة الأولاد في الغربة:
أبوان مؤمنان، اضطرتهما الظروف للعيش في بلاد الغرب، هل يجب عليهم الانتقال إلى البلاد الإسلامية، مع العلم أنهما يبذلان كل الجهد للمحافظة على أولادهما من خلال المدارس الإسلامية المتوفرة؟
 إذا كانوا يأمنون على أنفسهم وأولادهم أن لا يكفروا وأن لا ينحرفوا، فلا مانع من البقاء.
أغاني الأطفال:
هناك أغنية للأطفال تبثُّ على التلفاز مع عرض موسيقى مشوقة، هل يجوز أن نسمعها؟
 إذا لم تكن الأغنية مثيرة للغرائز والشهوات، أو تندرج في إطار الباطل عموماً، ولم تكن الموسيقى مثيرة، فلا مانع من ذلك.
حكم الانتحار:
هل يجوز للإنسان الانتحار إذا عاش تحت التعذيب الشديد؟
 لا يجوز الانتحار، لأن الله لم يسلِّط الإنسان على نفسه. نعم، إذا وصل إلى حالة لا طريق له إلا الانتحار، كأن يصل إلى حالة يمكن مع التعذيب أن يعترف على المؤمنين ويعرِّض حياتهم إلى الخطر ويعرّض العمل إلى ذلك، فإنه يجوز له ذلك. أما لمجرد التعذيب والآلام فلا يجوز له الانتحار، وهناك في العالم جدل حول ما يسمى (الموت الرحيم)، والموت الرحيم هو الحالة التي يعيش فيها المريض آلاماً شديدة، فيطلب من الطبيب أن ينهي حياته، وقد شُرِّع ذلك في بعض الدول، كما هو في هولندا مثلاً، ولكن أغلب الدول لم تُشرِّعه، والإسلام لا يشرِّع الموت الرحيم ولا الانتحار. نعم، عندما تكون هناك قضية كبرى فوق العادة يترتَّب عليها خطر على المؤمنين أو خطر على الوطن كلّه، ففي مثل هذه الحالة يجوز الانتحار من باب التزاحم.
شراء اللحوم من تاجر مسلم:
اللحوم التي يستوردها تاجر مسلم من بلد مثل الهند الذي فيه مسلمون وهندوس، ويقول إنها ذبحت حسب الشريعة الإسلاميّة، هل أكلها حلال؟
 إذا كان موثوقاً بأخباره، فلا مانع من الشراء منه.
الخياطة للنساء:
أنا خيّاط في دولة أجنبية، هل يجوز لي قياس الطول والعرض للنساء وتقصير الملابس وتضييقها وإظهار مفاتنها؟
 لا تجوز ملامسة الرجل للمرأة الأجنبية، أما من وراء الثياب فيجوز بدون شهوة أو ريبة، ولكنّنا لا ننصح بذلك لأنّه يوجب الفتنة.
زينة الفتاة:
هل يجوز للفتاة وضع المكياج على الوجه؟
 إذا كان المكياج خفيفاً، بحيث يتناسب مع لون الوجه ولا يكون فيه إثارة، فلا مانع من ذلك.
حكم اللّحوم المستوردة:
إذا كانت اللُّحوم مستوردة من الدول الغربية، ومكتوب عليها (مذبوح على الطريقة الإسلامية)، هل نعتمد على ما هو مكتوب عليها؟
 هذه لا يعتمد عليها، حيث إنها قد تكون للدعاية، لأنه لابد من أن يكون الشخص الذي تشتري منه رجلاً مطّلعاً ومأموناً في هذا المجال. أنا أذكر أنّ جماعة جلبوا معهم سمكاً، وقد وضعوه في صناديق كرتونية، وختموا عليها (مذبوح على الطريقة الإسلامية)! لأن الختم عنده، وهو يختم به لأجل الترويج لبضاعته من دون رعاية للجانب الشرعي في هذا المجال. بعض الناس من هذا القبيل، ولا يجوز للإنسان أن يأكل من هذا اللّحم إلا بعد الاطمئنان إلى تذكيته.
حكم صور محجّبة بدون حجاب:
أختي محجّبة حديثاً، ولها صور معروضة في بطاقة وهي غير محجّبة، فما حكم ذلك عندما يراها جميع الناس؟
 لا مشكلة في ذلك.
حكم شراء الميتة للحيوانات:
هل يجوز شراء اللحوم غير المذكَّاة لغرض تغذية الحيوانات؟
 يجوز للإنسان ذلك.
حكم أكل الكنغر:
هل يجوز شرعاً أكل لحم الكنغر؟
 الظاهر أنه من الحيوانات التي لا يجوز أكلها.
فحش القول:
ما حكم الفحش من القول مع الناس؟
 يحرم الفحش من القول.
كفّارة اليمين:
أقسمت يميناً ثلاث مرات على عدم فعل أمر ما وخالفت القسم، هل أدفع الكفّارة ثلاث مرات؟
 إذا كان القسم مرةً واحدةً: والله واللهوالله، فعليك دفع كفَّارة واحدة، أما إذا أقسمت على عدم الفعل ثلاث مرات في أوقات مختلفة، فعليك ثلاث كفّارات.
الأفلام المدبلجة:
بعض الأخوة والأخوات يتابعون الأفلام الأجنبية المدبلجة التي تحمل طابع الحب وما شاكل، فهل يجوز متابعة هذه الأفلام؟
 يجوز متابعة هذه الأفلام إذا لم تتضمَّن المظاهر الخلاعية التي تؤثر على روحيتهم، بحيث تميّع الأخلاق وتفسدها، ونحن نحبّذ متابعة البرامج والأفلام المفيدة.
العلاج بالقرآن:
عندي مريض عجز الطب عن علاجه، فهل لي أن أعالجه بقراءة القرآن على الماء، بحيث أقرأ القرآن على الماء وأدهن به جسمه؛ فهو يعاني من كآبة ويتقيّأ، والآن يكره والده وزوجته من غير سبب؟
 هذه قضية تحتاج إلى طبيب نفسي، إلى جانب الدعاء لله سبحانه وتعالى.
شم رائحة الخمر:
ما هو حكم التعرُّض لشم رائحة الخمرة عند شراء المواد الغذائية من بعض المحالّ، لأن بعض المحالّ تبيع الخمر سراً في أسواق إسلامية؟
 شم رائحة الخمر في هذه الحالة ليس محرَّماً، خصوصاً من دون اختيار. ونحن نقول لكل أخواننا، إن كل من يبيع الخمر من المسلمين يجب عليهم أن يقاطعوه ولا يشتروا منه حتى الحلال، من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
حلق اللحية:
نرجو منكم بيان الحكم الشرعي لحلق اللحية بالشفرة؟
 نحن لا نرى حرمة حلق اللحية بالموس، وإنما نرى أنه من الأفضل إبقاء اللحية؛ فإنّها من شعار المؤمنين.
الخمر في الأسواق:
ما حكم الشراء من الأسواق الغذائية إذا كانت تبيع الخمور في أسواق المسلمين؟
 إذا لم يكن ترك الشراء حرجاً عليه، فعند ذلك لا يجوز الشراء منها، من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
مخالفة العقود والاتفاقات:
ما هو حكم الموظف الذي يعمل في مؤسسة إسلامية، فيوقع على خلاف موعد وصوله إلى الدوام الرسمي، أي يأتي متأخراً ويكون توقيعه في وقت متقدم؟
 يحرم عليه القيام بذلك، وعليه أن يلتزم بوقت الوظيفة من أولها إلى آخرها، ولا يجوز له أن يوقّع على أنه جاء في الوقت المحدّد مع كونه جاء في الوقت المتأخر. هذا حرام وهو كذب وهو يمثّل خيانةً للوظيفة.
مواجهة الكذب:
عندما يكذب الخطيب على المنبر وينقل قضايا ليست موجودةً في الشريعة، فهل يجوز لي الردّ عليه أمام الناس؟
 نعم، إذا كان يكذب ويأتي بالخرافات وبالأشياء التي يضلُّ بها الناس، فيجوز أن يقف ويعترض عليه.
كتابة الأدعية على الأكفان:
ما حكم الأكفان الجاهزة والمكتوب عليها زيارة عاشوراء وأسماء الأئمة ودعاء الجوشن؟ وهل يجوز استخدامها في تكفين الموتى؟
 الوارد أن يُكتب دعاء الجوشن؛ أما زيارة عاشوراء وأسماء الأئمةi فهو غير وارد في هذا المقام. أما أسماء الأئمة فموجودة في قلوبنا وفي حركتنا، ولا يحرم التكفين بها، ولكن علينا أن نقتصر على ما ورد.
مساعدة الرحم الفاسق:
هل يجوز أن أساعد أحداً من أرحامي مالياً إذا كان فاسقاً لا يصلّي ولا يصوم؟
 ليس محرماً بعنوان صلة الرحم، ولكن علينا أن نرجّح مساعدة المؤمنين.
تهيئة العنب:
هناك لاجئون في أستراليا يعملون في مزارع العنب، وعملهم هذا هو عصر العنب لتهيئته للخمور فقط، وهم يعلمون بذلك، فهل يجوز عملهم هذا؟ وهل رواتبهم حلال؟!
اختلف العلماء في ما يعلم أنه يعمل خمراً، فهناك بعض العلماء لا يجوّزون، وبعضهم يجوّزون ومنهم السيد الخوئي، وهذا رأينا فإنه يجوز ذلك، والبائع غير مسؤول، لأنّه يبيعه في ظرف كونه حلالاً، وهو حالة العنب أو عصيره، أما ماذا يفعلون به، فهذا تكليف أولئك الناس الآخرين، فهو ـ أي البائع ـ ليس سبباً توليدياً، بمعنى كونه سبباً مباشراً في الحرام.
التحنّك في الحجاب:
هل التحنك بالنسبة إلى البنات بعمر إحدى عشرة سنة واجب؟
 مقصود السائل هو التحنك بالنسبة إلى الحجاب، بمعنى أن تتحجّب البنت إلى مكان الحنك. ومن الفقهاء من يقول إنه على المرأة أن ترفع الحجاب إلى موقع الحنك من باب الاحتياط ، أما بالنسبة إلى البلوغ، فإن الرأي الغالب عند الشيعة أن الفتاة تبلغ بإتمام التاسعة، ولكن هناك رأي، ونحن نستقربه، أنّ البلوغ يكون عند مجيء الدورة الشهرية.
تمييز الموسيقى اللهوية:
كيف نميز الموسيقى اللهوية من غيرها؟
 الموسيقى اللهوية، هي الموسيقى التي تثير الغرائز وتوحي بالباطل وتجعل الإنسان يعيش في حالة إثارة جنسية، أو هي التي تحطّم الأعصاب، وما عدا ذلك، فهو محلّل.
روايات تحريم الشطرنج:
أفتيتم بجواز لعب الشطرنج، ولكن هناك روايات تحرّمه؟
 نحن نرى أن هذه الروايات تحرّمه بلحاظ أنّه من الميسر، كبعض الروايات التي تقول إنّ «الشطرنج ميسر العجم»، والميسر هو اللعب برهن، وأما اللعب من دون رهان، فلا يُستفاد من الروايات تحريمه.
مصاحبة المتجاهرين بالفسق:
ما حكم مصاحبة أناس يجاهرون بالفسق، علماً أنني مجبور على ذلك، حيث إن منطقتي كلها كذلك؟
 لا مانع من المعاشرة، ولكن على الإنسان أن يكون واعياً حتى لا يتأثر بضلالهم وفسقهم.
التصويت للأحزاب الإسلاميّة:
هل يجوز التصويت للأحزاب الإسلامية في الانتخابات إن كان وصولها إلى السلطة يؤدي إلى حروب في المجتمع؟
 إذا كان ذلك يؤدي إِلى حروب في المجتمع بين المسلمين، ويؤدي إلى سقوط الواقع الإسلامي والواقع السياسي الإسلامي، فلا يجوز ذلك.
المطالبة بتطبيق الشريعة:
هناك من يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية بدلاً من القانون الوضعي في مجال القانون، ولكن الشريعة لا تشتمل الكثير من الأمور الحديثة، مثل القانون الجوي والبحري وقانون التأمينات؟
 من قال إنّ الشريعة لا تشتمل على ذلك؟! إن اجتهادات المجتهدين في فهمهم للكتاب والسنة وللقواعد العامة، تمتد إلى كل ما يحتاجه الإنسان في قضاياه، ومنها القانون الجوي، والقانون البحري، وقانون التأمينات وما إلى ذلك.
المصاحف شبه الممزّقة:
ما حكم المصاحف القديمة شبه الممزقة؟
 عليه أن يحاول إما أن يدفنها، أو يتلفها بغير الحرق.
علّة تحريم صور الأنبياء والأئمّة:
لماذا يُحرِمُ فقهاء المسلمين تصوير الأنبياء والأئمة، أليس الأنبياء والأئمة بشراً مثلنا وقد شاهد صورهم كثير من الناس في منامهم ووصفوهم لنا؟
 المسلمون الشيعة لا يرون أنّ ذلك محرّم، وأمّا المسلمون السنّة فيرون الحرمة؛ لأنّهم يعتبرون ذلك هتكاً لحرمتهم، لأنّه لا بدّ من تصوّرهم بصورتهم الروحيّة التي يتميّزون بها، ونحن لا خلاف عندنا في الحرمة إذا كان هتك لهم.
ولكنّنا، مع ذلك، نقول: إنّ الصور المتداولة التي يصوّر بها النبيّw أو الأئمّةi لا تتناسب مع مقامهم، ونحن لا نشجّع عليها؛ وأرى أن نصوّر أحاديثهم وكلماتهم ووصاياهم ونصائحهم.
المكياج خارج المنزل:
إذا تزيّنت المرأة بوضع المكياج خارج المنزل، فهل يجوز ذلك؟
 إذا كان المكياج خفيفاً، غير مثير أو ملفت للنظر، فلا يحرم، وإن كان الأفضل تجنّب ذلك.
الجلوس في الشوارع:
ما رأيكم في ظاهرة الجلوس في الشوارع، وخصوصاً المطاعم، حيثتتركالكراسيوالطاولاتوسطالشارعليأكل الجالسون أمام الفقراء؟
 فقهياً ليست المشكلة في الأكل أمام الفقراء، ولكن لا يجوز الجلوس في الشارع (على الأرصفة) بما يعرقل حركة المرور، لأنه غصب وافتئات على حق المارة في الطريق.
تقطيع السمك وهو حي:
ما سبب حلية تقطيع رأس السمك وأكله وهو حي؟
 الإشكال يحصل في حالة تعذيب الحيوان وهو حي، ونحن نتحفظ على ذلك.
إثبات جرم الزنا شرعاً:
كيف يثبت جرم الزنا؟ وما هي عقوبة هذا الجرم حسب الشرع الإسلامي؟
 لو ثبت الجرم على المرأة، فلا يجوز لأحد قتلها حتى لو كانت تعيش في دولة إسلامية، لأن تنفيذ الأحكام من شؤون القضاء، بل يجب أن تعاقب بالجلد 100 جلدة، ـ مثلاً ـ لو كانت غير محصنة، ويطبّق الأمر نفسه على الرجل. وهذا أقرّه الشرع في قوله تعالى:﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾(1)، وفي خصوص مسألة الإثبات، لا يجوز الحكم على المرأة بأنها مارست الزنى إلاّ بعد أن يشهد على ذلك أربعة شهود عدول. ولا يكفي أن يرى الشهود مثلاً رجلاً على جسد امرأة في عملية توحي بالجنس، ولكن يجب أن يشاهدوا العمل الجنسي بتفاصيله، وإلاّ اعتبرت شهادتهم باطلة من الناحية الشرعية. وقد احتاط الإسلام لعملية الكذب والتلفيق، واعتبر أنه في حال انسحب شاهد من أصل الشهود الأربعة ، يتم معاقبة الشهود الثلاثة، ويُعتبر ذلك قذفاً للمرأة بالزنى.
وسائل الإثبات:
لو تمّ تصوير العملية الجنسية كاملة، هل تنتفي الحاجة إلى شهود أربعة؟
 عملية التصوير ليست حجّةً شرعيةً، لأنها قد تخضع لعمليات فنية تُظهر المسألة كما لو أنها مسألة حقيقية وهي ليست كذلك. فاللعبة الفنية في عملية التصوير قد تُظهر ما هو باطل على أنه حق.
مدح الظالم:
ما حكم مدح الظالم في غير ظلمه، والعاصي في غير معصيته، أو ذكر مناقب وفضائل من يفتقد شروط العدالة؟
 إن لم يكن ذلك متّصلاً بالركون إلى الظالم أو تشجيع العاصي ومداهنته فلا يحرم، وإلاّ فيحرم.
التعامل مع الشركات اليهودية:
ما الحكم الشرعي للتعامل الاقتصادي مع كل من: أفراد يهود وشركات يهودية لا يعلم دعمها للكيان الصهيوني؟ أفراد إسرائيليين وشركات إسرائيلية يهودية كانت أم غيرها؟ أفراد وشركات غير يهودية تدعم الكيان الصهيوني؟ وما الحكم لرجل سافر إلى بلد للسياحة وصادف سواحاً إسرائيليين لا يجيدون لغة البلد، فكان يترجم لهم ما يقوله المرشد السياحي؟
 لا بدّ من مقاطعة كل المنتجات الإسرائيلية والشركات الصهيونية التي تدعم الكيان الغاصب كما أنه لا يجوز التطبيع معهم بمثل ما ذكرت من الترجمة، لأنّ ذلك قد يسهّل الكثير من خططهم في مشاريعهم الاستكباريّة والتوسّعية.
حدود التمريض المشروعة:
أنا أدرس التمريض في الجامعة، وأودّ أن أعلم متى يصبح حراماً أن أكون ممرّضةً؟
 لا يحرم ذلك العمل، وعليك التزام الضوابط الشرعية في علاج المرضى بعدم مباشرة لمس الجنس الآخر إلاّ مع ضرورة العلاج.
حق المربيّة:
أمي ولدتني ولم تربني، وقد ربتني عمتي، فهل أطيع أمر عمتي أم أمر أمي، خصوصاً إذا كان هناك اختلاف في رأيهما؟
 إن الله سبحانه وتعالى أوصى بالوالدين، فقال:﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إحساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً...﴾(1)، فهي التي ربّتك وأنت في رحمها وفي حضانتها وفي إرضاعها لك، في أقسى أنواع التربية التي لا بد لك من أن تبرها بسببها، ولكن بالنسبة إلى عمّتك، فهي لها عليك حق الإحسان و﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ﴾(1).
دخول صالات القمار للمشاهدة:
ما حكم الدخول إلى صالات القمار للمشاهدة فقط (في مدينة موناكو تفتح صالات القمار للسواح للمشاهدة، وفي الوقت نفسه، يكون هنالك أشخاص يلعبون القمار)؟
 لا يحرم ذلك بحدّ ذاته إلاّ من جهة لزوم هتك حرمة المؤمن بدخول هذه الأماكن واتّهامه باللعب بالقمار، ويحرم مع التأثر بأجواء الحرام.
سبّ أشخاص غير موجودين:
هل يجوز استخدام السب والشتم والألفاظ القبيحة بحقِّ أشخاص غير موجودين عند سرد موضوع عنهم، لأن تصرّفات أولئك الأشخاص منكرة وليس لديهم أخلاق أبداً؟
 لا يجوز التحدّث بالألفاظ البذيئة الفاحشة أمام الآخرين، ويُكره السبّ حتى لمن يستحقّه، خصوصاً مع عدم حضوره، وقد قال أمير المؤمنينt لشيعته:«إني أكره لكم أن تكونوا سبابين».
كتب الضلال:
ما هي كتب الضلال؟ كيف يمكن تعريفها؟ وما موقف الشارع المقدّس منها في ظل عصر لا يمكن فيه مصادرة فكر أحد؟
 كتب الضلال، هي الكتب التي تؤدّي إلى الانحراف الديني أو الأخلاقي، والكتب الخلاعية، ومنها كل كتاب يدعو إلى التفلّت من القيم الدينية والأخلاقية، ويعتبر أنّ الأديان من مخلفات الماضي، ونحو ذلك من كتب الوثنية والشرك والكفر والزندقة. وقد دعا الشارع إلى الرد على هذه الأفكار ومحاربتها من خلال المختصّين والخبراء، حتّى لا يتأثّر الناس بها.
تقليد الغرب في تصفيف الشعر:
هناك بعض الشباب يقلّد الغرب في القصات الأمريكية للشعر، فهل يجوز ذلك؟
 لا ينبغي للمؤمن، ولاسيّما الملتزم، أن يكون هذا الأمر هو همّه الشاغل بالنحو الذي يجعله تابعاً للآخرين في طريقة العيش، بحيث ينعكس ذلك سلباً على شخصيته. ولذا لا بدّ للمؤمن من أن يتمسّك بأصالة الشخصية الإسلامية والكيان المستقلّ، ولاسيّما أن متابعة الآخرين في ذلك لا يؤدي إلى إيجاد قيمة إيجابية لها. إننا نؤكد ذلك من ناحية أخلاقية، ولكننا لا نفتي بحرمته؛ والله العالم.
أكل بودرة خلاصة اللحم:
يوجد في أوروبا بعض الأطعمة التي تحتوي على بودرة مستخلصة من اللحم، ومن المؤكد أنهم يقصدون لحماً غير حلال، فهل يجوز أكل تلك المأكولات أم لا؟
 لا يجوز أكلها مع عدم إحراز تذكيتها.
حكم سرطان البحر:
هل أكل سرطانات البحر محرم أم مكروه؟ ولماذا؟
 يحرم أكل كل ما ليس له فلس من الحيوانات البحرية، على الأحوط وجوباً.
عمر ارتداء الحجاب:
هل يجب على البنت أن ترتدي الحجاب في السنة التاسعة من عمرها؟
 نعم، يجب ذلك على الأحوط وجوباً.
شهادة المدافع:
هل يعتبر المدافع عن ماله وعرضه وأرضه شهيداً، بغض النظر عن التزامه بالصلاة والصوم؟
 هو شهيد بمعنى أنه مظلوم، ولكن ليس بمعنى الشهادة الشرعية التي يترتَّب عليها الآثار الشرعية والثواب العظيم الموعود به.
العمل بالخمر:
ما رأيكم في العمل في محلٍ يباع فيه الخمر دون أن تكون له علاقة بذلك؟
 العمل بكلِّ ما يتصل بالخمر حرام ولا يجوز، سواء كان في نقل الخمر أو تقديمه أو بيعه، وذلك للدليل الذي دلّ على التحريم مطلقاً، وهذا بخلاف تحريم الخنـزير الذي يمكن تقديمه لمستحليه. نعم، إذا كان الإنسان محتاجاً، وكان عدم العمل حرجاً عليه، وكان عمله في المحل بعيداً عن بيع الخمر، فيجوز له ذلك من باب ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾(1).
دليل وجوب الحجاب:
ما الدليل على وجوب الحجاب؟
 ما ورد في قوله تعالى:﴿قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾(1)، كما أنّه وردت أدلة كثيرة في أحاديث النبيw وأحاديث الأئمةمنأهلالبيتi،وهيمسألة إجماعية بين المسلمين جميعاً سنةً وشيعةً.
عمل المحامي:
هل يجوز عمل المحامي في دولة جائرة، علماً أن أغلب المعاملات باطلة وتقضى بالرشوة؟
 على المحامي أو غير المحامي أن يطلب الحق في كل موقع. لا مانع من أن يعمل الإنسان بالمحاماة، ولكن عليه أن يدرس القضية التي وكل فيها؛ فإذا رأى أن الحق لصاحبه الذي وكّله، دافع عنه، وأما إذا رأى أن الحق ليس معه، وأن دعواه ترتكز على الباطل، فمن الطبيعي أنه لا يجوز للإنسان أن يدافع عن الباطل، سواء تحت قوس القضاء أو في غيره.
حكم ذبيحة الكتابي:
هل تؤكل ذبيحة الكتابي إذا ذكر اسم الله تعالى عليها ولم يستقبل بها القبلة؟
 إذا ذُكر اسم الله عليها وذُبحت حسب الطريقة الشرعية، فإنها تحل. وأمّا الاستقبال، فلا يضرّ بذكاة الذبيحة في مثل المقام.
اللحوم المعلّبة في الغرب:
ما حكم اللحوم المعلبة التي تصنع في دول الغرب؟ ويكتبون عليها (مذبوح على الطريقة الشرعية)؟
 هذه الكتابة لا تكفي، بل لابد من الثقة بأن هذه اللحوم مذكّاة، وبأنها مذبوحة على الطريقة الشرعية.
الكحول الطبي:
هل إن استعمال الكحول الطبي في تحضير الأدوية وتناوله في المعالجة الطبية عن طريق الفم حلال؟
 إذا لم يكن مسكراً وكان استهلاكه بنسبة لا تسبّب الإسكار بحسب طبيعته، فلا مانع.
سبب تحريم الشطرنج:
ما سبب تحريم الشطرنج؟
 وجه الحرمة عند من يقول بها، إمّا النصوص الواردة، أو على اعتبار أنّها من أدوات القمار مع حرمة اللعب بها ولو من غير مقامرة، أما في رأينا، فهي ليست محرّمة إلا بما كان فيه مقامرة وربح وخسارة.
دليل حرمة التدخين:
أرجو منك ذكر الدليل الشرعي على حرمة التدخين؟
 دليل الحرمة ما يسببه التدخين من الأضرار البالغة بشهادة أهل الخبرة وإقرار العقلاء، وما كان ضرره أكثر من نفعه فهو محرم، قال تعالى:﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسَرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثْمُهُمَا أكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾(1).
فحص الشهادات:
هل يجب على القاضي أن يتحقَّق من شهادة الشهود ليطمئنَّ لها؟
 لا بدَّ من إحراز عدالة الشهود، إمَّا على نحو العلم أو الاطمئنان، والذي هو علم عرفاً، كما أنّه لا بدَّ من التدقيق من مضمون الشهادة.
تأديب الأبناء:
إذا ضرب الأب ابنه فأوجعه، ثم استغفر ربه، فما هو تكليفه الشرعي؟ وإذا كانت هناك دية فما قيمتها؟
 طبعاً تختلف الدية حسب قوة الضرب وتأثيره، وتدفع قيمتها للولد وليس للحاكم الشرعي.
شراء الميتة لتغذية الحيوانات:
هل يجوز شراء اللحوم غير المذكاة بغرض تغذية الحيوانات؟
 يجوز للإنسان ذلك.
وصيّة الجد لأحفاده:
 هل يجوز للجد أن يوصي بمقدار من الميراث لأحد أحفاده مع وجود أبناء وبنات وزوجة لهذا الجد؟
 نعم، الإنسان له أن يوصي بما أراد، ولكن لا تنفذ الوصية إلا بثلث ماله، كحدّ أقصى.
تأثير السحر:
يدور في مجتمعنا لغط كبير حول ما يعرف بالكتابة، ما رأيكم في هذا الموضوع؟
 لم تثبت لنا حجية ذلك، بالطريقة التي يتحدث بها الناس.
الاستحباب في الزيّ:
هل صحيح ورود استحباب لبس العمّة والنعل العربية، أم هو إشارة إلى عناوين عامة، كحسن اللباس، بحسب الزمان والمكان الذي يوجد فيه الإنسان؟
 العمامة والنعل العربية كانت أزياء الناس الذين سبقونا بحسب ظروفهم، وبحسب تقاليدهم الاجتماعية، أما الآن، وقد تطوّر اللباس والزيّ، فليس ثمّة أساس للقول باستحباب ذلك في نفسه. وقد ورد في الحديث عن أئمّة أهل البيتi:«خير لباس الزمان لباس أهله».
الجراحة التجميلية:
هل الجراحة التجميلية محرّمة؟
 الجراحة التجميلية إذا لم تكن من قبيل الزينة الظاهرة المثيرة، فلا حرمة فيها، لاسيما إذا كانت في مورد الحاجة الخاصة للمرأة أو الرجل من ناحية تأثير ذلك على العلاقة الزوجية، أو التخفف من بعض الملاحظات الاجتماعية السلبية.
حكم الاستنساخ:
هل يجوز استنساخ الحيوان والنبات؟
 يجوز ذلك، فإن الاستنساخ وجه من وجوه الإعجاز والإبداع الإلهي، يكشف عمّا أودع الله تعالى في ذرّات مخلوقاته وخلاياها من أسرار وخصائص.
الصلح دليل إدانة؟
لو حكم بعض المؤمنين بقضية تخاصم بين اثنين بالتراضي، وليس حكماً قضائياً، مع رضا المتخاصمين بذلك مقدَّماً، فهل يعد تحميل أحدهم دفع مال للآخر إدانةً للدافع وفق ما ارتأته لجنة تحكيم التراضي بذلك الحكم؟
 لا يعدّ ذلك إدانةً ما دام قد صدر عن تراضٍ لا عن إثبات للحق بالبينات المعتبرة شرعاً.
الأكل بالمطلي بالذهب والفضّة:
هل يجوز الأكل بملاعق مغطاة بالذهب أو الفضة؟
 ما هو مطلي بالذهب والفضة لا يحرم الأكل به، بل ما كان كله ذهباً أو فضةً.
حكم مشكوك الحلّية:
إذا شككت في نوعية اللحوم المستخدمة في المطعم، هل هناك إشكالية في أكلها؟
 مع الشك في وجود لحوم غير مذكاة مستوردة، فلا بد من تحصيل الوثوق بمصدر اللحم.
الفرق بين الغيبة والنميمة:
ما الفرق بين الغيبة والنميمة؟
 الغيبة ذكر العيب المستور الذي يكره صاحبه ذكره أمام الآخرين، والنميمة هي نقل الكلام الذي يؤدي إلى فتنة بين الناس.
كسر قفل المأتم:
ما هو حكم من كسر قفل مأتم الإمام الحسين tمن دون علم رئيس المأتم؟
 لا يجوز له ذلك، ويضمن بدل التلف.
مهنة المحاماة في الغرب:
هل يجوز أن أدخل في مجال القانون كـ(محامية) في كندا؟
 يجوز ذلك، لكن مع اجتناب الوقوع في المخالفات الشرعية، من قبيل الظلم ونصرة الباطل ونكران الحقوق وغير ذلك.
قراءة القرآن بالحاسوب:
ماذا تقولون في قراءة دون وضوء على شاشة الحاسوب، أو الخليوي؟
 لا يجب على الإنسان أن يتوضأ عند قراءة القرآن، بل يجوز له أن يقرأ القرآن دون وضوء، ولكن الأكمل له أن يتوضأ.
لعب الورق بالحاسوب:
ماذا تقولون في اللعب بأوراق اللعب الموجودة في الحاسوب؟
 نحن نرى أن اللعب بالأوراق، سواء في الحاسوب، أو بالورق المعروف، إذا كانت للتسلية ولم يكن هناك ربح، فهو حلال. نعم، على الإنسان أن لا يضيع وقته في الاستغراق فيه، ليشغله ذلك عن واجباته ومسؤولياته الدينية والعملية والعائلية.
مراعاة أحكام التجويد:
هل الالتزام بأحكام التجويد أثناء قراءة القرآن الكريم أمر واجب؟ خصوصاً لمن يعرف هذه الأحكام.
 ليس ذلك واجباً، بل هو مستحب.
التخلّف عن النذر:
نذرت أن أصوم يوم مولد الإمام الهاديt، ولكن بسبب الدورة الشهرية لم أتمكن من ذلك، فماذا أفعل؟ هل أقضيه بعد الانتهاء أم أنتظر للعام القادم وأصومه؟
 يكفي أن تقضيه في أي يوم آخر.
الالتزامات الوطنية:
أنا مسلم أعيش في دولة أوروبية، وقد حصلت على جميع حقوقي المدنية في هذه الدولة. سؤالي: إن داهم عدو هذه الدولة، هل يجوز لي شرعاً الدفاع عنها؟ وإن قتلت، هل أُعتبر شهيداً عند الله؟
 يجوز الدفاع عن النفس في أي بلد وجد الإنسان فيه.
السؤال عن مصادر اللحوم:
إذا شككت في أن صاحب متجر مسلم يبيع لحماً حلالاً، هل لي أن أسأله من أين يأتي باللحم؟
 نعم، لا بد من سؤاله إن كان مسلماً، ولا بد في المسلم من أن يكون موثوقاً بصدقه، ليحل لك الأخذ بكلامه.
كفّارة الغيبة:
 شخص اغتاب عدداً من الأشخاص، وهو الآن نادم على ما فعل، فماذا يجب عليه فعله للتكفير عن ذنبه؛ هل يتصدق باسمهم تكفيراً عمّا فعل؟ وهل يجب عليه إخبارهم بأنه اغتابهم، علماً بأن هذا سوف يُلحق به الحرج الشديد، وستسوء العلاقة بينه وبينهم؟
 يجبعليهالتوبةوالاستغفاروعدمالعودةإلىذلك، والاستغفار لهم.
حكم التطبير:
ما هو حكم التطبير في عاشوراء؟ وهل الدم الذي يسيل من الذي يقوم بالتطبير نجس؟
التطبير محرم لما يلحقه من الضرر بفاعله، ولما يسببه من الإساءة والهتك للمذهب، ولا فرق بين الدم الذي يخرج مع التطبير وغيره في كونه نجساً.
إحياء الشعائر الحسينية:
ما هو رأيكم في الشعائر الحسينية، وما يشاع بأنها صنمية؟
 من الشعائر إقامة العزاء والبكاء، وأما ما استحدث من تطبير وضرب بالسلاسل وما أشبه فليس من الشعائر، وهو محرم لإيجابه الضرر الذي يحرم ارتكابه شرعاً بحق النفس أو الغير، ولما يستلزمه من الإساءة والهتك لحرمة المذهب، وهذا ما يقوله أيضاً السيد الخوئي(ره)، أي الحرمة مع لزوم الهتك، أما اللطم الخفيف الذي يعبر عن ردة فعل طبيعية للمفجوع فهو جائز.
الصبر والجزع:
كيف تستطيع أن تقطع سماحة السيد، بأن الصبر الذي أمرت به زينبu هو (أن لا تلطم أو تشق جيبها أو تدمي رأسها)؟
 إن الصبر هو القيمة الإسلامية الإنسانية العليا التي أمر بها القرآن وأكّد الأخذ بها في كل المصائب، وقد جاءت الأحاديث عن النبيw والأئمةi بما ذكره السؤال، كما أن ما روي عن الإمام الحسينt في وصيته للسيدة زينب uليلة عاشوراء يؤكد ذلك، ولاسيما أن هذه الأفعال توحي بالجزع، وهو ضد الصبر.
آداب العزاء:
هل إن تأبين الميت أمر مستحب؟ وهل هذا الأمر كان موجوداً قبل استشهاد الإمام الحسينt؟ وهل كان موجوداً في زمن الجاهلية؟
 إقامة العزاء أمرٌ مستحب وحدّه ثلاثة أيام، إلا المرأة على زوجها، فحدادها أربعة أشهر وعشرة أيام، أما التأبين فهو عادة متبعة.
حلّية أكل السمك:
يقول الله عز وجل في القرآن: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لكُمْ﴾(1)، ولم يذكر أن هناك نوعاً من الأسماك لا يجب تناولها. لماذا نحن الشيعة لدينا بعض الأنواع من الأسماك لا يمكن تناولها؟
 المقصود هنا في الآية هو الإحلال في مقابل الإحرام، لا الإحلال بالنسبة إلى نوعيّة المأكول منه، حيث إن سنة النبيw وأحاديثه وأحاديث أهل بيتهiمفضّلة للقرآن وشارحة له؛ وعليه فلا يمكننا الاستدلال بهذه الآية على حلّية كلّ طعام البحر. ثمّ إنّه في بعض ما ورد، ومما يروى عن الإمام الصادقt أنه قال: ما لم يكن له قشر من السمك فلا تقربه؛ والله العالم.
استعمال القسوة مع الأبناء:
ما الحكم بالنسبة إلى الآباء الذين يستعملون القسوة في ضرب أبنائهم عند معاقبتهم، ما يؤثر على شخصية الأولاد ونفسياتهم مدى الحياة؟
 هو ظلم، وظلم الضعيف لا يجوز، بل هو أفظع الظلم، فالطفل جعله اللّه تعالى أمانةً، ولذلك فإن الآباء الذين يضربون أولادهم تنفيساً عن عقدة أو جهل عندهم هم ظالمون، والطفل، وحتى المراهق، قد لا يستطيع أن يردّ، ولكنه يشتكي إلى اللّه ويدعو على من ظلمه، والواجب على كل إنسان أن يخلِّص الأطفال من الظلم الذي يمكن أن يطالهم حتى لو كان صادراً من الأب، ولكننا وللأسف، نرى البعض يعارض من يدافع عن الطفل بحجة أنّ هذا الطفل هو ابنه، ولكنّ الأب الواعي هو الذي يعيش الرحمة في قلبه.
حكم الألفاظ البذيئة:
بعض المؤمنين يستخدمون الألفاظ البذيئة في كلامهم، وفي ذلك انتهاك لحرمة المسلم وإعطاؤه نظرةً سيئةً أمام الآخرين، فهل المزاح جائز؟
 لا يجوز المزاح بالألفاظ البذيئة، وقد قال تعالى:﴿وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ﴾(1). وقد ورد أيضاً:«حرّم اللّه الجنة على كل فاحش بذيء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له»، وورد:«إن اللّه يبغض المتفحش البذيء اللسان».
مورد الاستخارة:
أنا شاب أستعمل الخيرة في جميع أمور حياتي، حتى في الأمور البسيطة جداً، كما في مسألة شراء كمبيوتر، أو دخول نادٍ صحيّ، أو غير ذلك، فهل هذا طبيعي أم هو أمرٌ مبالغ فيه؟
 أنت تبالغ في الاستخارة، وليس مورد الخيرة كل ما يريد الإنسان أن يُقدم عليه، بل عليه أن يدرس الأمور تفكيراً واستشارةً ليختار الأصلح له، وفي الموارد التي يخاف فيها من عواقب الأمور مع عدم وصوله إلى نتيجة حاسمة، بحسب ظروف المسألة، فيمكن أن يلجأ إلى الاستخارة.
حرمة التطبير:
التطبير كما هو متعارف عليه، حرام لدى سماحتكم، ولكن بعض المراجع أحلّه إذا لم يكن في ذلك أذيّة للنفس، فكيف يحرَّم لدى سماحتكم ويحلَّل لدى آخرين؟ وما هي أدلّة التحريم عندكم؟ وهل تحريم التطبير هي فتوى حديثة؟
 العلماء قد يختلفون في فتاواهم تبعاً للأدلة، وفي نظرنا، فإنّ الإضرار بالنفس المعتدّ به محرم ولو لم يصل إلى حدّ التهلكة، والتطبير فيه إضرار بالنفس، كما أنه من جهة أخرى يؤدّي إلى الإساءة إلى حرمة مذهب أهل البيتi، وعلى هذا المبدأ يحرم التطبير، وهذا ما يشير إليه السيد الخوئي(قده) في بعض إجاباته، حيث يقول بحرمته مع الإساءة إلى المذهب.
ربطة العنق:
هل لبس ربطة العنق جائز؟
 هو جائز ولا مانع منه أبداً.
العقيقة:
ما هي العقيقة؟ وما هي شروطها؟ وكيف تقسم؟ وهل هي أمر واجب أم مستحب؟ وما مقدار التضحيه للذكر وللأنثى؟
 هي ما يذبح من شاة أو سائر الأنعام للمولود، وهي مستحبة، ويمكن أن توزع على المؤمنين أو تطهى ويدعى المؤمنون إليها. وتستحب العقيقة عن المولود في اليوم السابع بعد الولادة، فإن كان المولود ذكراً فيستحب أن يعق بذكر، وإن كانت أنثى يعقّ بأنثى.