الندوة

آية اللّه العظمى
السيد محمد حسين فضل الله


النـــدوة

سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق
محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة




إعداد: عادل القاضي



جزء 20





الـمقدمة

أساليب الدعوة وأخلاقيّة الدعاة

لم تكن الدعوةُ الإسلامية في فكر آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله ـ دام ظلّه ـ همّاً ثانوياً، أو أولوية متأخرة عن أولويات تشغله كمفكّر إسلامي تتزاحم المشاريع الكتابية في ذهنه فيقدّم ويؤخّر بحسب متطلبات الظرف واستدعاء المرحلة، بل كانت حاجة أساسية وثابتة لا يوازيها، بين باقي الاهتمامات سوى همّ يومي ملحّ لا يتحمّل التأخير أو التأجيل، وهو البتّ في المسائل الفقهية، التي وإن شكّل لحل إشكالياتها فريق عمل يجيب عليها وفقاً لمباحثه الاستدلالية، إلا انه يظل مطالباً بمواكبة التطوّر الفقهي لمسائل سبق أن ناقشها وهو يعيد النظر فيها على ضوء تعمّقه في البحث والاستدلال، وأخرى تفرض نفسها من مستجدات العصر الذي تتكاثر أسئلته وتندر الأجوبة العلميّة الرائدة والمتعمّقة بشأنها.
باطمئنان نستطيع أن نقول إن همّ الدعوة إلى الله هو الأوّل عند سماحته، لأنه ومن خلال تقدير مبكر لأهميتها، أدرك في عمق وعيه أن الأسلوب الحركي في العمل هو الأفضل والأصلح والأنضج والأكثر قدرة على التأثير بين أساليب العمل الإسلامي الأخرى، ولذلك تجده قد وهبه كلّه، فكانت كتاباته الحركية ليست مجرد تلبية لحاجة فئوية أو سداً لنقص في المكتبة الإسلامية، بل منهجاً اعتمده في الأعم الأغلب من نتاجاته، تقديراً منه أن ميدان العمل لا تكفي فيه الحركة المنبتّة عن الفكر لتلبّي احتياجاته المتكاثرة، وإنما هما خطان متوازيان متلازمان متكاملان: فكر وعمل، ووعي وحركة، وبالتلازم يمكن القول إن حصيلة فكر سماحته الحركي كان ـ وكما أكّد في أكثر من مناسبة ـ نتاج معايشة لقضايا الدعوة وهموم الدعاة، فهو ليس تنظيرياً بقدر ما هو استلهام للحركة وتسديد لخطاها، هكذا هو في (قضايانا على ضوء الإسلام) وهكذا هو في (الحركة الإسلامية هموم وقضايا) وهكذا هو أيضاً في (أسلوب الدعوة في القرآن) وفي (الحوار في القرآن) وفي (الحركة الإسلامية مالها وما عليها) وفي (الإسلاميون والمستقبل) بل حتى في (مفاهيم إسلامية) وما سواها ممّا قيض له بحثه ودراسته دراستين: ميدانية، وأخرى استلهامية من وحي القرآن والسيرة. وقد لا يتضح الميداني من خلال دراسة للعينات والنماذج والحالات فحسب، ولكنه متبلور عبر الدراسة النقدية لأساليب الدعوة وأخلاقية الدعاة أيضاً، فهو لا يستوحي الآية في أفقها القرآني المعجمي، ولا يحلّق في أجوائها التفسيرية الساكنة، بل ينطلق ليرى من خلال نوافذها المشرعة، وتلك التي لم تُفتح جيداً، تطبيقاتها الحركية في الساحة والميدان، وهذا هو الذي دعاه للقول إن القرآن لا يفهمه إلاّ الحركيّون.
فالحركيّة في اهتمامات سماحته لها منظور آخر، فهي هذا الكلّ المتكامل لآليات العمل وأجهزته وقواه، فهو ـ كما نرصد ذلك في أكثر أحاديثه ومقابلاته وكتاباته وإجاباته ـ لا يجزّئ العمل الحركي في ساحاته المتعدّدة، بل يرى أن نجاحا تحققه الحركة الإسلامية في موقع ما من مواقعها هو نجاح لها في سائر المواقع، كما إن اخفاقاً يصيبها ينالُ الأخريات بضعفه أو تراجعه أو انكساره، وهذا ما أتاح لقارئه أن لا ينصرف ذهنه لحركة إسلامية بعينها، لأن عين كاتبها أو باحثها أو العاكف على دراستها لم تكن منحصرة في المفردات المتناثرة، أو الظواهر الطارئة، أو المواقع الجغرافية القريبة، بل كان يحاول دائماً أن يدرس الحركات الإسلامية دراسة مستوعبة مستقصية شاملة. فهو إذ يتحدث عن الحركة الإسلامية في العراق لا ينساها في السودان وفي لبنان وفي مصر وفي المغرب العربيّ، وهو إذ يكتب عنها لا يتابعها متابعة القارئ العادي لمشاهدها ومشاكلها وإشكالياتها، بل بَنَفَس المهتمّ بسيرها الحركي وما يعتورها من كبوات، ويحالفها من نجاحات، سواء من خلال ما يتاح له من اللقاءات مع قادتها وأتباعها، أو ما يقرؤه من انجازاتها ومشاكلها والتحديات التي تواجهها.
وحينما ينتقل الأمر إلى لقاءاته الجماهيرية المباشرة سواء في درس الثلاثاء في بيروت أو ندوة السبت في دمشق أو سواهما من لقاءات تنظّمها منظمات أو جمعيات أكاديمية أو ثقافية، فإنه يرى في هذه اللقاءات مطارحة حيّة لهموم العاملين الإسلاميين الذين يسترفدون فكره، ويسترشدون وعيه، ويستمدون القوة والمصابرة من تجربته. ولك أن تقف وأنت تدرس (الندوة) في أجزائها كلّها على أسئلة تدور بين التقييم للتجارب المعاصرة، وبين نقد الأساليب الدعويّة المختلفة، وبين النصائح التي يمكن أن يستهدي بها الداعية في طريقه اللاحب، وبين البرامج والمشاريع التي يمكن أن يخطّط لها في انفتاحه على مجتمعه وعلى الآخر المختلف، وكيف تطوّر الدعوة أساليب عملها لتفي باحتياجات العصر، بل وكيف تدخل تجربة العمل السياسي فيما هو متاح من أساليب عمل قد لا تلتقي مع الفكر الإسلامي في الجوهر، ولكنّها ممكنة التوظيف في تقريب المسافات، وتحقيق بعض الأهداف المرحليّة، والتفاعل مع الآخر المشاطِر في العملية السياسية.
فيما يلي قراءة غير مكتملة لرؤى حركية توزعت في أروقة (الندوة) نحاول من خلالها أن نخلص إلى إجمالي الصورة التي يمكن رسمها عن تعاطي سماحته مع الشأن الدعويّ من خلال عنوانين بارزين:
أولاً: أساليب الدعوة
ثانيا: أخلاقية الدعاة
أولاً: أساليب الدعوة:
كيف يتمثل الداعيةُ المسلم إسلامه؟ وكيف يشعر أنه جزء من الأمّة؟ وكيف يفكّر إذا أراد أن يقدّم عملاً يحبّه الله ويقربّه إليه؟
في معرض ردّه على أسئلة كهذه يجيب سماحة السيد قائلاً إنّك: ((كلّما ارتفعت إلى الله أكثر انفتحت على الإنسان أكثر، ولهذا فأنت مسلم بقدر ما تنفتح بكل طاقتك لتوظفها لكلّ الناس من حولك وللمسلمين بشكل خاص، وكلما كنتَ ذاتياً أكثر، وأنانياً أكثر وانعزالياً أكثر، كنت أبعد عن الله أكثر، وأقرب إلى الشيطان أكثر، وكلّما كنت حياديّا أكثر بحيث تقول (مالي وللناس) لستُ مسؤولاً عنهم، وعليّ أن أعيش مع نفسي ومع عائلتي، ليُظلَم من يُظلَم، وليحتاج من يحتاج فلستُ مسؤولاً عن الناس، تماماً كما كان يقول البعض: أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ(1). فإذا كنت الحيادي في قضايا أمّتك وقضايا الناس من حولك، وإذا بخلت بعلمك وطاقتك ومالك وجاهك والناس يكابدون مشاكلهم في هذا الموقع أو ذاك، وهم بحاجة إليك، فأنت لست مسلماً وإن صُمت وصلّيت))(2).
وفي تعريفه الحركيّ للمسلم، يقول: ((ولذلك فأن تكون مسلماً يقتضي أن يتفاعل قلبك وعقلك وكلّ طاقتك مع المسلمين لتهتم بأمورهم اهتماماً فكرياً فيما يمكن أن يقدّم عقلك، واهتماما عاطفياً فيما ينفتح عليه قلبك، واهتماما حركياً فيما تتحرك به طاقاتك ((من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم))(3).
وأن تكون مسلماً يتطلب ذلك أن تتفاعل مع قضايا المسلمين أفراداً، وجماعات وأن تكون الذي يستجيب لاستغاثات المسلمين أفراداً وجماعات، فلا يمكن أن تكون مسلماً وفردياً معاً، لأن معنى أن تكون مسلماً أن تعيش الشخصية الاجتماعية. وأن تكون مسلماً يعني أن تكون الإنسان الذي يقف في ساحة الصراع التي تلتهب والتي تتحدّى، والتي تحرّك الأخطار ليكون جزءاً من الساحة يعطيها علمه عندما تحتاج إلى علمه، ويعطيها قلبه عندما تحتاج إلى نبضة قلبه، ويعطيها حركته عندما تحتاج إلى حركته.. أن تكون الإنسان الذي يعيش حالة طوارئ في المجتمع باحثاً عن من يعيش مشكلة لتحلّها له، وعن من يعيش حاجة لتقضيها له، وعن مَنْ يعيش كربا لتكشف كربته.
وكلّما كنت مسلماً أكثر كنت عنصر إغناء للحياة والإنسان ترفع مستواهما، وعند ذلك ترتفع إلى الله لأنه تعالى يحبُّ الذي يُحبّون عباده وينصحونهم، فلقد جاء في الحديث: ((عليك بالنُصح لله في خلقه فلن تلقاهُ بعمل أفضل منه))(1).))(2).
وحين يصوغ سماحته هذه العلاقة الحركيّة مع الله تبارك وتعالى بوصفه الدعاة على أنهم (عمّال الله) فإنّه يجلّي حقيقة المهمة التي يكدح الإنسان فيها ليلاقي ربّه.. يقول سماحته: ((نحن في هذه الدنيا عمّال الله.. وكلٌ يأخذ حجم عمله.. ونحن سائرون إليه وفي رقابته ورقابة رسوله والمؤمنين.. لأنك إذا ذكرت ربّك، وذكرت موقعك منه، ذكرت مسؤوليتك أمامه، ووقوفك بين يديه))(3).
فما هي هذه المسؤولية؟ وما هي تلك الدعوة إلى الله؟
يقول سماحته وهو يذكّرنا مسؤولياتنا في عصر الغيبة: ((لابدّ لنا أن نعمل من أجل أن نكون الدعاة إلى الله بان نفهم الإسلام، وندعو له في داخل الحياة الإسلامية، حتى نستطيع أن نحفظ المسلمين من الضلال ومن كل ما يتحرّك من كفر في داخلنا، وفي خارج الحياة الإسلامية، بأن ندعو الناس إلى الإسلام، لأن الكثيرين من الناس في هذا العصر يمكن أن يدخلوا في الإسلام إذا أحسنّا عرضه وبيان مفاهيمه ونقاط القوّة فيه، وأحسنّا أن نكون القدوة له، تلك هي المسألة التي أرادنا الله أن ننطلق فيها: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(1).
إن الدعوة إلى الإسلام في داخل الحياة الإسلامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي خارج البلاد الإسلامية بإدخال الناس في الإسلام، مسؤولية حيوية على كلّ مسلم ومسلمة، لأن الإسلام هو الدين الذي أراد الله له أن يكون دين الحياة وأن يختم به الدنيا كلّها، فنحن نقرأ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا(2). وفي الحديث: ((حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة))(3). فلابدّ من أن ننمّي طاقاتنا الثقافية والعمليّة من أجل أن نكون الدعاة إلى الإسلام لأنّ هذا هو الذي يمثل السير في اتجاهه))(4).
وكما أن الدعاة هم (عمّال الله) فكذلك هم (جنود العدل) ففي ذكرى ولادة الإمام المهدي r يقول سماحته: ((إن الله يريدُ لنا أن نكون جنود العدل، وأن نرفض المستكبرين لصالح المستضعفين لأنه سبحانه وتعالى لا يريد للمستضعفين أن يستضعفوا أنفسهم، ولا يريد لنا أن نترك المستضعفين تحت سيطرة المستكبرين))(1).
ولا تتوقف مهمة الدعاة إلى الله تعالى على التوطئة للعدل الإلهي، بل يدعو سماحته إلى إقامة المجتمع الإسلامي في عصر الغيبة، فيقول في معرض نقده للذين يمنعون القيام بالعمل الإسلامي، ويحرّمون الإصلاح والمواعظ خلال غيبة الإمام r: ((هؤلاء يجمّدون الإسلام، والإسلام لا يتجمّد في أي زمن، فـ((حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة))(2). فالجهاد لا يتجمّد، ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتجمّد شرع الله بعامّة، وأما الروايات التي تقول: (كلّ راية تخرج في زمن الغيبة راية ضلال) فهي محلّ تحفّظ كبير، فهل تعتبر راية الإنسان الذي يدعو للائمة من أهل البيت i ولخطهم وللإسلام ويواجه العالم كلّه، راية ضلال؟!
لابدّ للإنسان من إعمال عقله حتى يفهم هل أنّ هذه الروايات موضوعة أو أنه يراد منها شيء آخر، وهل من المعقول أن الله لا يطالب بتطبيق الإسلام؟!))(3).
في العام 1421هـ ـ 2000م يطرح أحد المشاركين في الندوة السؤال التالي: ((أصبح عدد سكان العالم ستة مليارات نسمة، ونجد أن عدد الموحدين المسلمين لا يتجاوز الخمس، فهل هناك تعليق لحركة الدعوة إلى الإسلام، أو ان هناك سوء فهم لدى القاعدة أو سوءاً في التطبيق، وما هو برنامجكم ومنهجكم للدعوة للإسلام في العالم؟)).
يُجيب سماحته قائلاً: ((إن مشكلة المسلمين هي أنهم شغلوا بغير الإسلام، وحتى الذين يملكون مواقع إسلامية قد شغلوا عن الدعوة إلى الإسلام، ولذلك فإن العالم لم يتعرّف على الإسلام من المواقع الواعية المنفتحة المخلصة التي تعيش الإسلام كقاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة. ومشكلتنا هي في المتخلفين والجاهلين والمتقاعدين المسترخين الذين يريدون ان يخدمهم الإسلام ويضخّم أسماءهم بدلا من أن يخدموا الإسلام.
إننا نتصور أنّ الإسلام يتقدم بالرغم من كل الحرب التي يشنها عليه أهله بطريقتهم الخاصة كما الآخرون. لذلك نعتقد أن الدعوة إلى الله هي مسؤولية كلّ مسلم ومسلمة، ومن خصائص الدعوة وشروطها أن يثقّف الإنسان نفسه بالإسلام حتى يستطيع أن يكون داعية للإسلام في أي مكان يذهب إليه، وتذكروا ان أكثر البلدان الإسلامية سكاناً مثل أندونيسيا وماليزيا وغيرها قد فتحها التجار المسلمون قبل أن يفتحها العلماء المسلمون.
ونحن نسعى مع كلّ المخلصين في سبيل ان نقدّم إلى العالم إسلاماً منفتحاً على قضايا الإسلام ومشاكل الإنسان بالطريقة التي يشعر فيها الناس بأن الله أنزل القرآن والإسلام على رسوله من أجل أن يخرجهم من الظلمات إلى النور))(1).
وحينما يسأله سائل آخر عن أرجحيّة دعوة المسلم الفاسق للهداية على الكافر ليكون مسلماً، يجيبه قائلاً: ((يمكن في الوقت نفسه أن نهدي المسلم الفاسق، فننقله من حالة الفسق إلى التقوى، وكذلك نهدي الكافر للإسلام، وليست هناك مشكلة في هداية أكبر عدد من الناس، لكن بعض الناس قد يتكاسل ولا يريد أن يتعب نفسه بهداية الكثير من الناس، وعلى الإنسان الذي يعيش إرادة الدعوة إلى اللّه سبحانه وتعالى، أن يكون لديه استعداد قوي لأداء هذه المهمة))(1).
وهو إذ يوجه النداء المخلص في المبعث النبوي الشريف لكلّ الدعاة إلى الله في أن يشمّروا عن سواعد الجدّ في دعوتهم إلى الله لا ينسى دور المرأة الداعية في هذه المسؤولية المشتركة، فيقول: ((عندما نريد أن نتذكّر ذلك اليوم، فليست المسألة عندنا مسألة ذكرى في التأريخ ولكنها مسؤولية يعيشها كلّ مسلم ومسلمة في أن ينطلق بالإسلام في خُطى الدعوة والحركة والجهاد في سبيل الله.. فالسيرة النبويّة الشريفة تقصّ علينا أن أي مسلم كان يدخل في الإسلام، كان يأتي في اليوم الثاني أو الثالث بمسلم آخر، وهكذا كانت الدعوة الإسلامية مسؤولية الإنسان المسلم في أن يدعو أكبر عدد ممكن من الناس إلى الإسلام ليدخلوا فيه، وقد كانوا ـ من خلال ذلك ـ يعملون على أن يتثقفوا بالإسلام بما يتوفر لديهم مما يحفظونه من القرآن وما يسمعونه من كلام رسول لله w، حتى أن النساء كن يعشن الدعوة بشكل عميق وقوي ومنفتح، فنقرأ ـ مثلاً ـ في قصة امرأة مسلمة (زينب بنت رسول الله w أنّها كانت متزوجة من شخص كافر مشرك هو (ابو العاص بن الربيع) حيث أقنعت زوجها بأن يسلم فلم يقبل وولدت له ولداً، وعندما بلغ ولدها السنّ الذي يمكن أن ينطق فيه كانت تعلّمه أن يقول كلمة الله واسم النبي w فقال لها زوجها: إنك تفسدين عليّ ولدي، فقالت له: إنما أنا أصلحه))(1).
والحركيّة كفهم وأسلوب عمل لا تحدّ عن سماحة السيد بحدود، فكما هي مطلوبة في الأمّة، فكذلك هي مطلوبة في القيادة المرجعية أيضاً، وحينما يُسئل عن رأيه بمقولة السيد الشهيد محمد باقر الصدر (رض) (الأمّة تطير بجناحين: المرجعية والعمل الحركي) يقول: ((إنهما يتكاملان، فالمرجعية تعطي (النظرية والخط العملي) فيما العمل الحركي يعطي (الخطّة التنفيذية التفصيلية).. وإذا كانت المرجعية الداعية الرائدة تمثل القيادة الفكرية للعمل الحركي، فمن الطبيعي أنهما لا ينفصلان، بل يعطي كلّ واحد منهما ما يملك من قوة فكريّة وحركية للآخر))(2).
وعلى ضوء هذه القناعة الفكرية والعملية فإن سماحته يقف مناهضاً للصيحات المطالبة بمنع العلماء الحركيين من العمل في مجالات التبليغ الإسلاميّ، فيقول: ((لعلّ بعض الناس يطلقون مثل هذه الكلمات لأنّهم يتصوّرون أن الإنسان إذا كان حركيّاً فإن معنى ذلك أنه لا ينفتح على الأمّة كلّها بل ينغلق على دائرته الحركيّة ليفضّل جماعته على الآخرين.
إننا نقول بأن الإنسان الذي يفكّر بهذه الطريقة ليس حركياً، لأن المسألة هي ليس أن تكون حركيًاً لحزبك، بل أن تكون حركياً بإسلامك، وان تحوّل حزبك إلى حركة منفتحة على الأمّة لتحضن الأمّة كلّها، بحيث لا تحاول أن تخرج الذين لا يتبعونك عن الإسلام. وليست المسألة مسألة المبلّغ الحركي، فإن البعض ممن يتعقّد من المبلّغ الحركي لا يتعقّد من المبلّغ الذي يتعصّب لذاته، أو يتعصب لبعض الأمور الطارئة في المجتمع، فليست المسألة أن تكون حركياً أو لا تكون لتنفتح على الناس، وإنما هي أن تكون متعصّباً لنفسك أو لحزبك أو لمذهبك أو لطائفتك أو لإقليمك، أو أن تكون ملتزماً بذلك))(1).
هذا في جانب النظرة العامّة لمفاهيم العمل الحركي وأساليبه والتحديات التي تواجهه، وأما في جانب النظرة التطويرية لهذا العمل، فيمكن التقاط أبرز ما تحدّث به سماحته في الندوة عن ذلك، فهو يعتقد ((بضرورة إخراج المؤسسات من الروتين، ومن التقاليد التي ربّما استهلكها الزمن بتجاوز هذا الوضع الركيك أو الجامد في المؤسسات بأن يحمل المشرفون عليها عقلية المؤسسة، ويجب أن نلتفت إلى أن المؤسسات يديرها في العادة أشخاص يملكون فكراً ذاتياً ولا يحملون فكراً مؤسسياً، والإنسان الذي يحمل فكراً مؤسسيا لا يمكن أن يكون أنانياً في حركته في المؤسسة بل لابدّ أن يفسح المجال للآخرين كي يتكاملوا معه، ولابدّ أن يتقبّل النقد الذي يوجّه إليه ممن يعيش معه في المؤسسة.
إن مشكلة المؤسسات هي أن الذين يشرفون عليها ذاتيون ولذلك فإنّهم لا يحبّون تغيير ما يملكون السيطرة عليه، وما يتناسب مع إمكاناتهم أو مع مجهوداتهم، لأن تجديد المؤسسة أو تغييرها يفرض على أحدهم أن يتخلّى عن المؤسسة. فقد يؤسس البعض مؤسسة ولا يكون صالحاً لإدارتها، أي أن لديه قدرة على التأسيس ولكن ليس عنده قدرة على الإدارة، وربما تكون لديه قدرة على الإدارة في وقت معين ولا يمتلك القدرة في أوقات أخرى. ويقال إنّ (تشرشل) الذي ربح الحرب العالمية الثانية لصالح بريطانيا، قيل له عندما انتهت الحرب عليك أن تعتزل لأنك لا تصلح كرئيس وزارة من نوع آخر، إذ ليس معنى كونه رئيس وزارة في جانب أنه قادر على النجاح في كل الجوانب.
إنّ إخلاصك للمؤسسة يفرض عليك أن تعتزل وأن تعطي المؤسسة لاشخاص يحملون دماً جديداً. وغالباً ما تموت المؤسسات سواء الحزبية أو الثقافية أو الخيرية أو الاجتماعية لأن الأشخاص الذين يديرونها يشيخون ولا يملكون القدرة على فهم المتغيرات وعلى وعي المتغيرات، وعند ذلك يجمّدون المؤسسة من حيث أنهم يجمدون.
إنّ عالم المؤسسات يفرض أن تعطيها على الدوام دماً جديداً ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، فهذا الدم الجديد هو الذي يعطيها حياة جديدة، وحركية جديدة. ومع الأسف فإن المؤسسات الإسلامية هي غالباً مؤسسات الأشخاص وليست بمؤسسات الأمة))(1).
وفي تعليقه على لجوء الشهيد الصدر الأول إلى وسائل جديدة للعمل الإسلامي وضرورة تفعيل الحركة الإسلامية، يقول: ((إذا كنت تملأ الساحة بالخطّ الحركيّ فليس معنى ذلك أن تملأها بالطريقة التي ينطق فيها الآخرون.. إصنع حركة على صورة الإسلام وعلى قاعدته وعلى خطّه وعلى منهجه حتى يعرف الناس أنّهم قادرون على مواجهة مشاكلهم الحياتية، سياسية كانت أو اقتصادية أو أمنية أو اجتماعية أو تربوية، في منهج حركي يمكن أن يمرحلوه أو يتحركوا فيه للوصول إلى النتائج المرجوّة لعملية التغيير.
وليس معنى ذلك أن نجمد على الصيغة الحركية الموجودة لدى هذه الحركة العلمانية أو تلك، بل إنّ العمل الحركي يمكن أن يطوّر بحسب تطوّر الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي، فمن الممكن جداً أن تمارس نهجاً معيناً في العمل الحركي ثم تطلّ من التجربة الكثير من نقاط الضعف مما يفرض عليك أن تبدّل بعض مناهجه أو مفرداته.
إننا نعتقد أن من الضروري للمسلمين أن ينطلقوا في العمل الحركي بطريقة متطورة منفتحة على كلّ جديد، وينبغي أن لا نبتعد عن منهج معين في الحركة إلاّ إذا وجدنا البديل، أمّا إذا ابتعدنا عن المنهج دون بديل يحمل فرصاً أفضل ويفتح طريقاً لواقع أفضل، فإنّ ذلك يعني الضياع، وإذا كانت هناك بعض نقاط الضعف في هذا العمل الحركي أو ذاك فعلينا أن لا نبادر إلى هدمه أو استغلال نقاط الضعف لاسقاطه، بل علينا أن نعمل على ترشيده وإصلاحه بكل الوسائل الممكنة.
تماماً كما إن عليك عندما تواجه مريضاً أن لا تسكت صراخه، إذا كان يزعجك بصراخه وأنت نائم، بأن تقتله، بل أن تداويه وتعالجه. إنّ هناك طريقتين لإراحة المريض، فإما أن تريحه فيموت، أو أن تريحه فيتعافى.
إنّ مشكلتنا أننا نريد أن نقتل المريض السياسي، والمريض الاجتماعي والمريض النفسي، نريد ان نقتله لأننا لا نريد أن نتحمل النتائج السلبية لمرضه، والقليلون منا يصبرون على عملية المعالجة ليتعافى المريض لاسيما إذا كان المريض مجتمعاً كاملاً وأمة كاملة))(1).
وعندما يسأله احد الدعاة إلى الله تعالى: ((لطالما تعرّض الدعاة في كل وقت إلى ضغوط المجتمع وخاصة عاداته الموروثة، فما هي توجيهاتكم للشباب الذين بدءوا طريق الدعوة حديثاً في مواجهاتهم الصعبة مع التقاليد والعادات اللاإسلامية؟)).
يقول سماحته مجيباً: ((نحن نقول لكل الدعاة إلى الله إنّ عليهم أولاً: أن تكون لهم ثقافة ما يدعون إليه. وثانياً: أن يتعرفوا الأسلوب الذي يدخلون به إلى عقول الناس ونعبّر عنه بأن علينا أن نهندس الطريق إلى عقول الناس وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(2). ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(3). وأن يكون الداعية واسع الصدر بحيث لا يضيق بأي اعتراض أو اضطهاد ولا يضيق بأي حصار، بل يعرف أنه موظّف عند الله سبحانه وتعالى الذي يقول لرسولهw فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ(1). لذلك فعلى الإنسان أن يستنفد جهده كلّه في سبيل الوصول إلى عقول الناس وإقناعهم، وعليه أن لا يتهم الناس. فبعض الدعاة يقولون إن العمل لا ينفع مع الناس فهم لا يفهمون.. إن عليك أن لا تقول إن الآخر لا يفهمك بل عليك أن تتهم نفسك أنك لم تفهمه جيداً وإذا لم ينجح أسلوب ما ابحث عن أسلوب ثان وثالث حتى تستطيع أن تصل إلى العقول، فالعقول لها مفاتيح والقلوب لها مفاتيح، ولهذا يجب علينا اكتشاف مفاتيح كل شخصية على حدة، وهذا يحتاج إلى صبر، والله سبحانه وتعالى يتحدث عن كيف نربح الأصدقاء وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(2) إننا نحتاج إلى صبر وإلى حظ عظيم))(3).
وهو إذ يشدّد على التجديد في أساليب الدعوة لا يرى تناقضاً في اعتماد أساليب الدعوة في القرآن لأنّها تمثل المنهجية الرائدة لكلّ داعية ولأنها بطبيعتها متجدّدة، ولذا ينصح بدراسة أساليب الأنبياء الدعاة إلى الله، كما فعل سماحته في (أسلوب الدعوة في القرآن)، ومن ذلك نصيحته بدراسة أسلوب النبي إبراهيم t حيث يقول: ((إنه النبي الذي كان أمّة، وواجه أعداءه وأعداء الله، بأساليب متنوعة لابد للدعاة من أن يدرسوها وينهجوا نهجها في تجاربهم الحركية في طريق الدعوة إلى الله. وقد قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاه    ِيمَ حَنِيفًا(1)، إنه الدين الحقّ الذي يريد الله للإنسان أن يتحسسه في مشاعره وأفكاره، فيستسلم له استسلاماً مطلقاً في جميع قضاياه وتصرفاته. وهذا هو ما تمثله كلمة الإسلام لله أو إسلام الوجه لله، في اتباع الرسل وأحكام الرسالات، والتي تتمثل في إبراهيم t بما كان يمثله من الخط العام لكل الرسل، ولذلك كانت ملة إبراهيم t حنيفاً - أي مخلصاً - وجهاً من وجوه الالتزام بالإسلام وبالله، لأنه كان المخلص الذي أسلم لله بالمطلق، ليكون خليل الله في تكريم الله له ولتضحياته وإخلاصه في ذات الله، وقد قال الإمام الرضا t: ((إنما اتخذ الله إبراهيم خليلاً لأنه لم يرّد أحداً ولم يسأل أحداً قط غير الله عز وجل . فكيف نتمثله، وكيف نتبعه لنكون الأولى به والأقرب إليه؟))(2).
ذلك هو السؤال الذي يطرحه سماحته برسم كلّ داعية إلى الله يضع الله تعالى هدفاً أعلى لكلّ حركته، ذلك أن هدفاً كهذا لا تنطفئ الجذوة الحركية في سعيها للوصول إليه، وأن كلّ ما يحقّقه الداعية في هذا السبيل، وكلّ ما يُكابده فيه من مشاق ومشاكل، هو طاعة له سبحانه وهو بعينه، وهو ضمانة الفوز.
ثانياً: أخلاقية الدعاة:
تعامل سماحة آية الله السيد فضل الله في إشاراته وإجاباته عمّا ينبغي أن يكون عليه الدعاة إلى الله تعالى من أخلاقية متميّزة في جانبين: جانب إيجابي فيما يفترض بحَمَلَة الرسالة أن يحملوه من روحها وأخلاقها وأريحيتها، وجانب سلبيّ فيما يجب أن يتخلّى عنه من نصّبوا أنفسهم هداة ودعاة وقادة للأمّة من سلوكات شائنة لا تقدح في شخصية الداعية فحسب، بل تقلل من أثر وقيمة دعوته إلى الله تعالى أيضاً، ولذلك كان يركّز دائماً على ضرورة أن يكون خُلق الدعاة القرآن كما كان خُلُق الداعية الأول رسول الله w فيقول: ((وقد اختصرت إحدى زوجات النبي w خلقه بقولها: ((كان خلقه القرآن))، فهل نتبع رسول الله في قول الله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(1). هل نتجه إلى أن يكون القرآن في عقولنا علماً وفكراً وفي قلوبنا خيراً ومحبة وفي حركتنا صلاحاً وإصلاحاً؟!
إن معنى أن نكون المسلمين هو أن يكون الإسلام في كلّ مفهوم من مفاهيمه وكل عنوان من عناوينه وحكم من أحكامه، هدانا في كلّ حياتنا الخاصّة والعامّة، لنقول لربنا إننا أسلمنا إليك وليس لدينا إرادة أمام إرادتك، وليس لنا كلمة أمام كلماتك، وليس لنا أي خط إلاّ خطك:
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(2). قُلْ إِنَّ
صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ
وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(3) وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ(1)))(2).
غير أنه لا يطلق الدعوة بهذه العموميّة، ففي ذكرى المولد النبويّ الشريف يتوجه بالدعوة إلى الاقتداء بأخلاقية النبي w في دعوته إلى الله تعالى فيقول: ((تعالوا لنتحرك مع آيات القرآن التي تمثل لنا أسلوب رسول الله w، في الأخلاقية التي تتصل بأسلوب الدعوة وفي الأخلاقية التي تتصل بشخصيّة الإنسان الداعية، لأن أسلوب الدعوة ليس مجرد شيء في الكلمة ولكنه عنصر في الشخصية، وهكذا ليس دور الداعية والمبلّغ والرسول والعالم والإمام أن يعطي للناس كلاماً يحدّثهم عن الفكرة، وإنما يعطي الناس من إنسانيته ما يشعرون معه بأنه يحتضن آلامهم كلّها وآمالهم كلّها وقضاياهم كلّها، وأن لا يكون الداعية شخصاً جامداً أمام الآخرين ليعطيهم علمه وكلمته بطريقة جامدة، بل أن يعطيهم قلبه كلّه قبل أن يعطيهم لسانه كلّه، ولذلك فإن الداعية والمبلّغ والعالم والواعظ الذي لا يعيش الناس في داخل قلبه لا يمكن أن يدخل إلى قلوبهم وإلى عقولهم. وهذا ما حدّثنا الله به عن رسوله وعن قلبه وإحساسه ومشاعره.
تعالوا نستمع إلى كلام الله عندما يقول: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ، كنت الليّن في لسانك فلا يستمع الناس إلى قسوة في كلامك، وكنت الليّن في قلبك فلا يتحسس الناس إلا نبضات المحبة في قلبك فهم لا يتحسسون قلباً متحجّراً قاسياً جامداً يطلّ على الناس من فوق ولكنهم يتحسسون قلباً ليناً يعيش مع الناس في نبضاته كلّها فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ(1).
وهذا درس لكلّ العاملين في الحقل العام، ولكل العاملين في خط الرسالة وفي خط القضايا العامة سواءً كانت قضايا اجتماعية أو قضايا سياسية أو ما إلى ذلك. إنها دراسة في أن يفهم العامل حقيقة الإنسانية وأن الإنسان مهما كان انتماؤه وعقيدته يبقى إنساناً، فحتى الكافر هناك بعض الإنسانية في شخصيته، والإنسان البعيد يعيش شيئاً من الإنسانية كما هو القريب، لذلك فكلّ إنسان لديه إنسانية بنسبة ما، وعندما تدعو الناس وتخاطبهم كن إنساناً في قلبك ليتعرّف الناس إلى إنسانيتك من خلال ما يتمثل في قلبك من ملامح وجهك وفي تعاملك مع الناس، كن إنساناً في لسانك ليكن لسانك اللين الرقيق اللطيف، لأنّك إذا قسوت على الناس بلسانك فإن الناس ينفرون من قسوتك، والإنسان بطبعه لا يحب القسوة في الكلمة حتى من أقرب الناس إليه، فلا تعش القسوة والغلظة في قلبك لأنك عندما لا تعيش في قلبك معنى الناس فإن قلوب الناس لن تنفتح عليك. وقد استوحى الإمام علي t هذه الفكرة من القرآن بطريقة أخرى، عندما قال: ((إحصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك))(2). أي اقلع الحقد والعداوة من صدرك تقتلع الحقد والعداوة من الآخرين، لأن صدرك وقلبك الذي ينفتح على محبة الآخرين وعلى الخير لهم سوف يكون رسالة أولى أو ثانية يرسلها إلى القلب الآخر، والقلب يتقبل رسالات الحب كلّها وإن بعد حين.
وهذا يعطينا فكرة أن النبي w نجح في الدعوة بالرغم من كلّ الحواجز النفسية والاجتماعية والتاريخية التي نصبها الناس أمامه، لأنه كان ليّن القلب ليّن اللسان، فهل لنا أن نتعلّم ذلك من رسول الله w، بأن تكون لنا شخصية الخير في قلوبنا وألسنتنا، في البيت والمدرسة والنادي والمجتمع وساحة الصراع وغيرها؟!))(1).
وبالتالي فإن إنسانية الدعوة تقتضي الداعية أن يكون إنساناً أولاً، وأن يراعي نقاط الضعف في شخصية الإنسان الذي يدعوه إلى الهدى، ولذلك كان سماحته يؤكد دائماً على إنسانية الدعوة وإنسانية الداعية حيث يقول: ((من وصية الإمام موسى t بن جعفر الكاظم t لهشام بن الحكم: ((إن خالطت الناس، فإن استطعت أن لا تخالط أحداً من الناس إلاّ كانت يدك العليا عليه فافعل))(2). تؤكّد هذه الفقرة، من الوصيّة، أن على الإنسان، عندما يعيش مع الآخرين، مهما كان انتماؤهم، ومهما كانت أوضاعهم، أن يدرس هؤلاء الناس؛ ما هي حاجاتهم التي يريدون من الآخرين أن يقضوها لهم؟ وحاجات الناس من الناس تتنوّع؛ فقد تكون حاجاتٍ علمية، بحيث يعيش معك إنسانٌ ما ويخالطك ليستفيد من علمك، وقد تكون حاجات اقتصاديّة، فيخالطك ليستفيد من مالك، وربما تكون حاجاتٍ اجتماعيّة، فيخالطك ليستفيد من موقع أنّك شخصيّة اجتماعيّة تستطيع أن تكون وسيطاً بينه وبين مواقع القرار، أو مواقع القوة في المجتمع، لتحقق له ما يريد منهم في أموره العامة أو الخاصة، وقد تكون الحاجة دينيّة، فيخالطك كي يستفيد منك دينياً، من حيث هو شخص يريد أن يرفع من مستواه الديني، وهكذا. والقضيّة التي تركّز عليها هذه الكلمة، هي أنّ عليك أن تستجيب لكل من يحتاج إليك، لتحقّق حاجته، ولترفع من مستواه، من موقع كون يدك هي اليد العليا عليه. واليد العليا ـ بحسب المفهوم العام ـ هي اليد المعطية، واليد المبادرة، واليد الخادمة، وبذلك يكون مظهر علوّ يدك عليه أن تحسن إليه في كل حاجاته منك.
ومن خلال ذلك نقول: إنّ على الإنسان الذي يملك أي طاقة في المجتمع، أن يتسلّم زمام المبادرة ليكون في الموقع الأعلى في ذلك المجتمع، لا من خلال ما يعيشه من ضخامة الشخصية، في إحساسه بالاستعلاء على الناس، بل ليكون في الموقع الأعلى في تلبية حاجات المجتمع؛ لأن المعطي يمثّل موقعاً أعلى من المُعطى له في تواصل العطاء فيما بينهما؛ لأن الذي يحقِّق الحاجة، هو في الموقع المميز ممن يحصل على الحاجة))(1).
((وفي الجانب الإيجابيّ، ينقل لنا التاريخ قصة أخرى ـ وهذه كلها قضايا تجريبية ـ وهي أنّ شخصاً نصرانياً جاء إلى الإمام الصادقt، ودخل في الإسلام على يديه وقال له: إن أمي لا تزال على دين النصرانية، وأنا أصبحت مسلماً، فكيف أتعامل معها، قال له: انظر إلى ما كنت تقوم به من خدمتها، فضاعفه. فمثلاً، إذا كنت تقدم إليها الطعام، الآن أطعمها بيدك، وإذا كنت تقدم لها الخدمات، مثلاً، بواسطة خادمة أو ما أشبه، فالآن عليك أن تخدمها بنفسك.
وهكذا؛ فإنّ الإسلام لا يعزل الإنسان عن أهله إذا كانوا غير مسلمين، والأخلاق الإسلامية هي أخلاقٌ منفتحة على الآخر؛ لأن القيمة الإسلامية هي قيمة مطلقة، فلا تقتصر في عطائها وإحسانها على المسلمين فقط، بل تمتدّ إلى المسلمين وغير المسلمين، وقد ورد: ((لكلِّ كبد حرَّى أجر))(1)، وورد في كلمة الإمام علي t في عهده لمالك الأشتر: ((إن الناس صنفان: إما أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق))(2). ولقد كانت عظمة رسول الله w، وعظمة الأنبياء قبله، أنهم انفتحوا على الناس الذين لم يؤمنوا بدينهم وبرسالاتهم، انفتحوا عليهم بالأخلاق العالية، فاجتذبوهم بأخلاقهم إلى ما يدعون إليه.
وهكذا ذهب هذا النصراني الذي أسلم حديثاً، وبدأ يخدم أمّه خدمةً تتجاوز الخدمات التي كان يخدمها بها، ولفت هذا الوضع الجديد نظر أمه، فقالت له: يا بني، إني أرى شيئاً جديداً، صحيح أنت ولد بارٌّ، ولكني أرى أن طريقتك في البرْ بي هي طريقة جيدة وحسنة، وقد تطوّرت عن السابق، ما الذي تغيّر فيك؟ قال لها: لقد دخلت في الإسلام، وقد أمرني إمام هذا الدين أن أعاملك بهذه الطريقة، مع بقائك على دينك، قالت: هل من أمرك بهذا نبي؟ قال: لا، ولكنه ابن نبي، قالت: هذه أخلاق الأنبياء. ثم قالت له: يا بني، أعرض عليّ دينك، وعرض عليها دينه، ودخلت في الإسلام، ثم ماتت بعد ذلك، وتولى المسلمون أمر تجهيزها ودفنها.
وإذا أردنا أن نحلّل الموقف، لوجدنا أن هذا الرجل لو أراد أن يقنع أمه بالإسلام، بعدما مضى عليها ستّون سنة أو سبعون سنة وهي على دين آخر، بحيث تجذّر دينها في وجدانها، فهل تراها يمكن أن تقبل منه؟ ولكن هذه الأخلاقية كانت بمثابة الصدمة الروحية التي استطاعت أن تهز كل وجدان هذه المرأة، وكل إحساسها وشعورها، وقد كان الرفق في الدعوة، واللطف الذي يحترم إنسانية الإنسان، هو الذي جذبها إلى الإسلام.
وهذا ما يجب علينا أن نتعلمه في كل دروس الحياة، بأن نحترم إنسانية الإنسان الآخر، وأن نحترم قناعاته الشخصية، في انتمائه الفكري، فلا نضطهده لانتمائه، بل نحاوره وندعوه من موقع الفكر الذي يحاور الفكر، وأن نعرف كيف ننفتح على انتمائه، لنقدّم له ما نملكه من انتماء، بالشكل الذي يتقبّل فيه انتماءنا، سواء كنا في مجال دعوة دينية أو أخلاقية أو سياسية أو اجتماعية.
ولذلك نجد أن الدعوة الإسلامية لا بدّ أن تتحرّك في إطار الحكمة، كما في قوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ(1)، والحكمة ـ بحسب المعنى اللغوي ـ: هي وضع الشيء في موضعه، والكلمة المناسبة مع الشخص المناسب، والأسلوب المناسب مع الشخص المناسب، والمناخ المناسب مع الإنسان المناسب، والموعظة الحسنة: هي الموعظة التي تتحرك في القلب لتلينه ولتفتحه، ولتجتذبه، بحيث إنها تدخل في قلب الإنسان وفي إحساسه وشعوره، لتليّنه وتفتح آفاقه. وفي اعتقادي أننا لو اتَّبعنا أسلوب الرفق هذا، لاستطعنا أن نتجاوز كثيراً من المشاكل العائلية، في علاقة الزوج بزوجته، وعلاقة الزوجة بزوجها، وعلاقة الأب بأبنائه، وعلاقة الأبناء بآبائهم وأمهاتهم؛ لأن المشكلة هي أننا لا ندرس ما يعيشه الآخرون، ولا ندرس عقل الآخرين، ولا ندرس قلوب الآخرين، ولا ندرس ما يميز أخلاقية الآخرين))(1).
وكما تشغل الإنسانية حيزها اللائق في مساحة تحرك الداعية فإنه لا يوازيها إلا العدل في الحركة في المجتمع، ولذلك يطرح سماحته على الدعاة التساؤل التالي: ((أتعرفون ـ أيها الأحبة ـ لماذا لم تنجح أكثر الدعوات الإسلامية وأكثر الدعوات غير الإسلامية سواء الإصلاحية أو التغييرية؟)).
ويجيب على التساؤل بقوله: ((لأن الذين يطلقونها ليسوا عادلين، ولأنهم يعيشون العصبية الشخصية، وإذا تجاوزوا العصبية الشخصية، فإنهم يعيشون العصبية الفئوية، فبدلاً من أن تنطلق الحركة لتنفتح على الناس كلّهم لأنهم هم مسؤوليتها فإنها تنغلق على نفسها وتعتبر نفسها العنصر المميز الذي ينظر إلى الناس من فوق، والذي يبدأ وهو يحدّق في داخله في التآكل من الداخل لسبب بسيط وهو أن الإنسان عندما يمنع غرفة من تنسّم الهواء فإن الغرفة تبدأ بالتعفّن، وإذا منعت نفسك من أن تتنفس الهواء في الفضاء الواسع وعشت في داخل زاوية ضيقة من نفسك فإنك سوف تتعفّن، وهكذا تتعفّن حركتك وسوف يتعفّن واقعك. وعلى هذا فلابد لنا دائماً كأفراد وجماعات وحركات من أن نعيش في الهواء الطلق وأن لا نحبس أنفسنا في زاوية شخصانية أو في زاوية فئوية أو في زاوية عائلية أو في زاوية طائفية أو مذهبية، بل أن ننفتح على الهواء الطلق لنكون للناس كلّهم، ولنكون للإسلام كلّه ولنكون للإنسان كلّه، فانظر إلى الإسلام كلّه واختر مذهبك من الإسلام))(1).
هذا في الجانب الإيجابي لأخلاقية الدعوة والدعاة.
أما في الجانب السلبي فإن سماحته لا يجيز للداعية أن يستريح وفي الأمة حاجة لعطائه وحركته وعلمه وهدايته، فيقول: ((قلتها مرارا: (الراحة حرام) إلا بمقدار ما يمسك عليكم حياتكم وما عدا ذلك يحرم، لاسيما على أهل العلم، أن يكون لهم وقت فراغ للهو والعبث وأن يبتعدوا عن المسؤولية، ولو كان بإمكاننا أن ندخل إلى بيوت الناس لندعوهم إلى الله فلنفعل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا، فعلى الأقل أنذر عشيرتك الأقربين.. ألا تحبون أولادكم وبناتكم وزوجاتكم، فلو قيل لك أن ابنك أو ابنتك أو زوجتك تحترق في النار.. فكيف تكون مشاعرك حينها؟ كيف والنار نار الله وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(1).))(2).
ويسأل أحدهم: ((ترددون دائماً أن الراحة في زماننا حرام، فهل تقصدون الحرمة الشرعية حقاً أم تطلقون العبارة مجازاً وتعنون عظم المسؤولية في الدعوة إلى الله؟)).
فيردّ سماحته بالقول المبيّن لمراده: ((أقصد ذلك بالعنوان الثانوي، ففي بعض الحالات نقول عن أمر أنه حرام ونعني به ابن عم الحرام، وإذا وصل إلى درجة ابن عم الحرام فإنه قد يصل بالإنسان إلى مستوى الحرمة لأنّ ((المحرّمات حمى الله فمن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه))(3). وعندما تكون الدعوة إلى الله واجبة فإننا نحتاج إلى جهودنا جميعاً، فمن يترك الدعوة إلى الله للهو أو عبث أو استرخاء، فمعنى ذلك أنه يكون قد ترك الواجب، وعلى هذا الأساس يقترب من الحرام. ولو قرأنا قوله تعالى بالنسبة لصلاة الجمعة حيث يقول: أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ(4). فإننا نفهم بإن حرمة البيع هنا من جهة أنه يشغل الإنسان عن الواجب، فكلّ شيء يعطل الإنسان عن الواجب يرفضه الله تعالى. فإذا كان يجب علينا الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذه الراحة تعطّل ذلك فإنها تصير بمثابة المحرّمة، فالمقصود إذاً هو عظم المسؤولية))(1).
وإذ يتعذّر البعض بالمشاغل والانشغالات وانصراف الناس إلى أعمالهم أو انصرافهم عن الشأن العام والبحث عن فرص الهداية، يقول سماحته: ((لا يخلو الإنسان من وقت الفراغ، ولذلك فإنّ عليه أن يحاول أن يستفيد من أوقات الفراغ، وأيام الجمع والعطل والمناسبات. ورغم انشغال الناس فعلاً، إلا أن السؤال غير واقعي. نعم، إذا كان يريد أن يجمع أقاربه ويعمل لهم حفلة فقد يتعذر ذلك، أما إذا أراد أن يزور أقاربه زيارة مجاملة لمدة ربع ساعة أو نصف ساعة أو يتصل بأقاربه بالهاتف أو المراسلة، فإن ذلك ممكن في كلّ وقت. وفي كلّ الأحوال، لا يعدم الإنسان الرسالي الوسيلة في الوصول إلى ما يريد في هذا المجال. كما أنّ مسألة الدعوة لا تتطلّب دائماً الفرص السانحة والأوقات الطويلة، فربما مارست دعوتك إلى الله وأنت في عملك من خلال أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو نصيحة تقدمها لأخيك أو زميلك في العمل أو تصحيح مفهوم من المفاهيم الخاطئة وهكذا))(2).
ومع ذلك كلّه فإن الداعية وهو ينطلق في دروب دعوته تواجهه الكثير من العراقيل والعقبات والمعوّقات والمزالق التي تحتاج إلى وعي وصبر منه، وإلى تثبيت من عند الله تبارك وتعالى الذي يتولّى الصالحين، وفي ذلك يقول سماحته: ((وكان الله يثبِّت رسوله - كما يثبِّت الدعاة من خلاله - لئلا يهتز أمام الحالات الشعورية الحاصلة من جحود الكافرين وتمرّدهم، لأن النبي w كان رقيق القلب، مرهف الإحساس، فيحزن عليهم، ويتألم لهم، فيوحي الله إليه ويدعوه أن يتماسك في مشاعره ولا يحزن وذلك هو قوله تعالى : فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(1)، وقوله تعالى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(2).
ويتأكد هذا التثبيت للنبي محمد w في تعليل نزول القرآن على دفعات نجوماً، وذلك قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا(3).
وينفتح هذا التثبيت من خلال النماذج التي يقدمها القرآن عن أنباء الرسل في مسيرتهم الصعبة الغارقة في التحديات الكبرى وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(4). ويمتد هذا التثبيت الروحي الذي يراد له أن يتحوَّل إلى ثبات حركي للمؤمنين، إلى قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ(5)، لأن المطلوب من النبي w ومن المؤمنين في حركة الدعوة في حياة الناس هو أن لا يهتزوا أمام تحديات أعداء الرسالة، مهما عظمت أساليبهم الضاغطة نفسياً وعملياً، لأن خطة الأعداء هي أن يدفعوا الرساليين إلى السقوط النفسي بأسلوب الهزؤ تارة كما في قوله تعالى: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ(1)، أو بالأساليب التعسفية تارة أخرى. وهذا ما ينبغي للدعاة إلى الله أن يتمثَّلوه في مسيرتهم الطويلة في خطتهم التغييرية التي تستهدف تغيير التفكير كمقدمة لتغيير الواقع الإنساني، فلا تشغلهم الوسائل الضاغطة عن الهدف الكبير الذي يسعون إليه، بالإنشغال بالقضايا الجزئية والصراعات الصغيرة، ولذلك كان النداء الحاسم في مواجهة التحديات بأكثر من عنوان وأسلوب: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(2)، وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر(3)، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُو الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ(4).
وهكذا كانت حركة الدعوة في مرحلتها الأولى صموداً وثباتاً، ووعياً للواقع وانفتاحاً على الناس، بالرغم من كل حالات الانغلاق التي تحيط بهم وتتمثل فيهم، حتى ظهر أمر الله وهم كافرون))(1).
والمثل الرائد دائماً رسول الله w باعتباره الداعية الأول والذي يستمد الدعاة إلى الله تعالى روحية العمل من خلال سيرته التي ينقلها لنا صاحبه في تلك الدعوة الإمام أمير المؤمنين t فيقول سماحته في قراءته لما قاله t في وصف دعوة النبي w: ((ثم يصوّر لنا كيف كان رسول اللّه w يتحرّك في المجتمع فلا يجمد في بيته بحيث ينتظر الناس ليأتوا إليه كما يفعل الكثيرون من الذين لا يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن أن يتحركوا مع الناس بل أن يبقوا في بيوتهم ليقصدهم الناس، فإذا سألوهم أجابوا، وإذا لم يسألوهم رأوا أنفسهم في حلّ.. ((طبيبٌ دوّار بطبّه)) فلا يجلس في العيادة في انتظار مرضاه، فعندما ينتشر الوباء فإن الأطباء يمسكون مفارق الطرق كلٌّ يقف بمفرق الطريق لمداواة القادمين والخارجين حتى يمنعوا من تفشيه، ولكن رسول اللّه w طبيب العقول والقلوب لا طبيب الأبدان، فانظروا كيف يصوّر الإمام t المسألة: ((قد أحكم مراهمه)) لجرحى العقول والقلوب، وجرحى الأخلاق والآداب، وجرحى القيم والمثل، وجرحى الجهل والتخلف. فالمرهم يوضع على الجراح ليدملها ((وأحمى مواسمه)) والمواسم هنا جمع ميسم وهو المكواة باعتبار ((أنّ آخر الدواء الكي)) فقد لا ينفع المرهم الذي يمثل الدواء فلا يكون أمام الطبيب من علاج سوى الكي ((يضع من ذلك حيث الحاجة اليه)) يضع المرهم لعلاج مرض هنا ويكوي مرضا هناك، ((من قلوب عمي)) يعالجها حتى تنفتح ((وآذان صمّ)) يعالجها حتى تستمع بعد وقر ((وألسنة بكم)) يدوايها حتى تنطق بعد خرس ((متتبّع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة)) فهو يتحرك ليهدي الناس الغافلين الذين لم ينفتحوا على أفق الوعي، بل كانوا في ظلمة الغفلة يتقلّبون، ليعيدهم إلى وعيهم ورشدهم، فهو كما الطبيب الذي يتتبع مواقع المرض الموجودة هنا وهناك، ويحاول أن يدرس كلّ مظاهر المرض، وكلّ أوضاع المرضى حتى يتمكن من القضاء على المرض ((لم يستضيئوا بأضواء الحكمة ولم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة)) ومعنى أن يقدح الزناد أن يخرج النور من خلاله، وكأن الإنسان عندما ينفتح على العلم فإنّه يضيء له النور الذي يبدّد ظلام الجهل ((فهم في ذلك كالأنعام السائمة والصخور القاسية))(1).))(2).
ولأنه يتحسس خطى الدعاة على طريق ذات الشوكة فإنه يرفق بما يواجههم من تحديات كحالة التحسس من العمل الحركي في عناوينه الحزبيّة فيقول لسائل يسأله: ((هل يصح التنازل عن العنوان الحركي وإلغاؤه جرّاء العقبات الاجتماعية التي تثير الشبهات حوله إذا كان ذلك يشكل حائلاً دون نمو العمل واستمراره؟
لا قيمة للعنوان إذا وقف حائلاً دون العمل. فالعنوان يعتبر واجهة للعمل، فإذا فرضنا أنه اصبح حاجزاً عن العمل نترك العنوان ونطلق العمل، ولكن لابدّ – أمام هذه الفرضية في السؤال – أن ندرس تلك العقبات، فقد تكون من قبيل التحديات التي يطلقها الأعداء ويثيرها المعارضون ليتراجع العاملون عن الخط الحركي الأصيل بسبب ذلك، ففي هذه الحال لابدّ أن نؤكّد العنوان في خط الحركة بطريقة مدروسة في مواجهة التحديات))(1).
هذا فضلاً عن رفضه القاطع لفرض مزاجية الداعية وانفعاله في دعوته إلى الله لأنه لا يملك موقعه، كما يقول ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ في تحريمه الغضب على الدعاة: ((إن الغضب حرام على الدعاة إلى الله تعالى وإلى الإسلام من جهة أن الداعية لا يملك موقعه ولا رسالته، فعندما تتحرك في خط الدعوة إلى الله فإن عليك أن تغلق الباب على مزاجك لتخرج بمزاج الرسالة لا بمزاج الذات، لأنك عندما تحرّك مزاجك في أسلوب رسالتك ودعوتك فإنك تسيء إلى الدعوة من حيث أنك تريد الإحسان إليها.
فلو تصورت إنساناً ذا مزاج معين جاء ليسألك بعض الأسئلة ورحت تنهال عليه بكلمات فَضَّة من قبيل أنك كافر وضالّ، أخرج ولا تريني وجهك بعد الآن، فإن معنى ذلك أنك ستزيد هذا الإنسان ضلالاً أو تزيده عقدة من الإسلام.
أما كيف تعالج ذلك فبالنظر إلى غضب الله الذي يقول كما في الحديث القدسيّ: ((اذكرني في غضبك أذكرك في غضبي لا أمحقك فيمن أمحق))(1). وأن تذكر هدفك الرسالي وأن تعرف أن غضبك يمكن أن يؤذي رسالتك، فإذا كنت مخلصاً لها أكثر فعليك أن تجاهد نفسك أكثر.
هذا بالإضافة إلى المشاكل التي قد يثيرها غضبك عليك))(2).
شرط المعرفة:
دعوة بلا معرفة كسير على غير الطريق، ولذلك يشدّد سماحته على ضرورة التزوّد بالزاد المعرفي الذي يمكّن الداعية من امتلاك أدوات دعوته والقدرة على استعمالها استعمالاً موفقاً، وتستوقف سماحتَه هنا مشكلتان: مشكلة العاملين بدون علم، ومشكلة العلماء بدون عمل، فيقول: ((عندما ندرس تأريخ المسيرة الإسلامية فإننا نلاحظ أن المشكلة كانت تتحرك في مواقف المسلمين أو مواقعهم في خطين: مشكلة عمل بدون علم،ومشكلة علم بدون عمل. فهناك الكثيرون في هذا التاريخ ممن تخشع لتقواهم ولإخلاصهم ولكنك تكتشف أنها تقوى تفتقد عمق الوعي، أو أنه إخلاص افتقد العلم والمعرفة،وهؤلاء كثر في مجتمعنا الإسلامي. وقد عاش هذا المجتمع ولا يزال الكثير من مشاكل هؤلاء لأنهم قد يحصلون على الثقة الاجتماعية بين المسلمين من خلال علمهم فتفرض هذه الثقة على الواقع الإسلامي جهلهم.
وهناك الأشخاص الذين يملكون العلم كأرحب ما يكون العلم ولكنهم لا يملكون العمل ولا يملكون مسؤولية هذا العلم ورساليته فينطلقون الى المجتمع من خلال ما يفرضونه عليه بالثقة بهم من خلال عملهم ولكنهم يسيئون الى مسيرته من خلال انحراف خط العلم عندهم عن خط العمل.
ولعلّ الكلمة المشهورة التي لم ندقّق في سندها ((قصم ظهري إثنان: جاهل متنسّك وعالم متهتّك))..تمثل واقع المسيرة الإسلامية كلّها.
وقد عالج رسول اللّه w والأئمة من أهل البيت i ذلك كلّه، فلنقرأ بعض ما ورد عنهم ولنستوح حركة الواقع في هذين الخطين:
ففي الخط الأول: وهو العمل بغير علم، نقرأ في الحديث عن بعض أصحاب الإمام جعفر الصادق t قال: ((سمعت أبا عبد اللّهt يقول: العالم على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا تزيده سرعة السير الا بعدا))(1). فعندما تبدأ خط السير فعليك أن تعرف الطريق الذي تسير فيه والهدف الذي تسعى إليه، لأنك عندما لا تعيش ثقافة المسيرة في بداياتها ونهاياتها وخطوطها فقد يخيّل إليك أنك تسير في الطريق الذي يصل بك الى الهدف، وإذا بك تسير في الطريق الذي يصل بك الى ما هو ضد الهدف. ولذلك فقد تكتشف وأنت في نهاية الطريق أنّك ابتعدت عن الطريق أكثر، بعدما كنت أقرب إليه في البدايات،ولكن عندما تنطلق تلك البدايات في خط الانحراف فانك تبتعدعن الطريق كثيرا،ولو وقفت لاستطعت أن تهتدي أكثر.
وفي حديث آخر عن بعض أصحاب الإمام الصادق t وهو (حسين الصيقل) قال: سمعت أبا عبد اللّه t يقول ((لا يقبل اللّه عملا الا بمعرفة))(1). فاللّه تعالى يريد منّا أن نعرف من قبل أن نعمل لأن العمل ليس مطلوبا في ذاته من خلال ذاتيات العامل فيما ينطلق به، ولكن العمل المطلوب هو الذي يجسّد الفكرة. وهو أن تتحرّك الرسالة في الواقع،فإذا كنت تجهل الرسالة فإن معنى ذلك أن ما يتحرك في الواقع باسم الرسالة ليس هو الرسالة .
وقد كانت عظمة الأنبياء i وفي مقدمتهم سيدهم وخاتمهم رسول اللّه محمد w هي أن الرسالة كانت تتجسد في خطواتهم عندما تنطلق من كلماتهم، لأن المسألة هي أن تتجسد الرسالة، ولذلك فإن اللّه لا يقبل عملاً بغير علم ـ ولاحظوا هذه الكلمة الحاسمة ـ فقد تكون إنسانا مخلصا ولكنك جاهل بمقدار إخلاصك، فإذا كان إخلاصك يشدّك الى اللّه في نظرك فإنّ جهلك يبعدك عن اللّه أكثر لأنك لم تخلص للّه ولكنك أخلصت لما تتصوّر أنه للّه، فأنت بالتالي لم تخلص للحقيقة .
يقول الإمام الصادق t:((ولا معرفة الا بعمل)). فلابد من أن يكون هناك نوع من الانسجام بين المعرفة والعمل. ((فمن عرف دلّته المعرفة على العمل)). فإذا كان لديك وعي الفكرة ووعي الرسالة فإن الفكرة والرسالة تدلّك على الطريق. فالذين يجهلون يتخبّطون في الطريق لأنهم يعيشون عمى الفكر، في حين أن المعرفة تدلّك على الطريق وتحدّد لك معالم الطريق وتحدّد لك الذين يقودونك في الطريق.
((ومن لم يعمل فلا معرفة له ألا إن الإيمان بعضه من بعض))(1). فالإيمان ليس فكرة مجردة عن العمل،كما أنّ الإيمان ليس عملا مجردا عن الفكرة.
وفي الحديث عن أبي عبد اللّه الصادق t عن رسول اللّه w قال : قال رسول اللّه w : ((من عمل على غير علم كان ما يفسد اكثر مما يصلح))(2). لأنك عندما تتحرك في خط العمل فإنك ترمي إلى تغيير الواقع، وعندما تغيّر الواقع على أساس الخطأ والجهل، فإن معنى ذلك هو أنك تخلق مشكلة للواقع أكثر من المشكلة التي كانت فيه قبل أن تبدأ العمل.وهذه مسألة ـ أيها الاحبة ـ عشناها ولا نزال نعيشها في المسيرة الإسلامية كلّها، حيث نواجه من لا يبلورون الفكرة قبل البدء بالعمل ولا يتعمّقون في خطوطها وطبيعتها وإيحاءاتها، الأمر الذي يؤدي إلى الوقوع في الكثير من الاخطاء والتسبّب في العديد من الاضرار والمفاسد.
فعندما تنفتح على حبّ اللّه فإن عليك أن تعرف اللّه في طريق هذا الحب، لأنّ بعض الناس ربّما عاشوا الحبّ للّه فانحرفوا عن طريق هذا الحب لأنهم لم يعرفوا اللّه كما ينبغي أن يعرف مما يمكن للعبد أن يعرفه.
وعندما تحبّ رسول اللّه w فعليك أن تعرف رسول اللّه مما عرّفنا اللّه من صفاته في كتابه الكريم ومما جسّده w في حياته وحركته. وعندما تحبّ أهل البيت i فإن عليك أن تعرف أهل البيت i من خلال مفردات هذه المعرفة فلا تغمط حقّهم كما غمط الكثيرون حقّهم، ولا تغلو فيهم كما غلا الآخرون، وهذا هو قول أمير المؤمنين t ((هلك فيّ اثنان: محبّ غال ومبغض قال))(2). فعليك أن تحبّ من موقع المعرفة ولن تكون المعرفة حقيقية الا من خلال المصادر الأصيلة والدقيقة التي يمكن لك أن تجعلها حجّة بينك وبين اللّه، بحيث إذا سألك اللّه عن ذلك أجبت جواباً يمكن أن يكون عذرا لك أمام اللّه سبحانه وتعالى.
وعندما نتحرّك في خط العمل الإسلامي فإن علينا أن نعرف الإسلام، فلا يكفي أن ننفتح على الإسلام بطريقة ضبابية، أو أن ننادي بالإسلام من دون أن نعرف الخطوط الأصيلة له، ومن دون أن نعرف المفردات المنهجية للإسلام، ومن دون أن نعرف الحلول التي يقدّمها الإسلام إلى العالم.فأن تعمل للإسلام قيادةً في موقع ثقافي، أو قيادة في موقع سياسي،أو قيادة في موقع اجتماعي، لابد أن يكون لديك وعي الإسلام ولن يكون لديك مثل هذا الوعي الا إذا كان لديك وعي القرآن، فمن لا يقرأون القرآن علما وثقافة وروحا وحركة ليسوا مؤهلين أن يكونوا في أيّ موقع قيادي للإسلام، لأن القرآن هو النور الذي يضيء الطريق.
ولعلّ مشكلتنا ـ أيّها الأحبّة ـ فيما نأخذ به من مواقع الثقافة والعلم، هي أن القرآن يعيش على هامش ثقافتنا الحوزوية، وأن الكثيرين ممن ينفتحون على الفقه علماً لا ينفتحون على القرآن علما، ولذلك فإنهم قد يتصورون الانحراف استقامة والاستقامة انحرافا، وقد يتصورون الضلال هدى والهدى ضلالة. فلن نعرف الإسلام إلا إذا قرأنا رسول اللّه w بكلّه، وقرأنا علياً وأبناءه الطاهرين بكلّهم، بأن نقرأهم فيما يعيشونه مع اللّه وفيما قدموه للأمة من فكر وهدى، وفي مسيرتهم من مناهج في الحياة، وأن لا نقرأهم في الشهود فقط ولا نقرأهم في الغيب فقط وإن كانت لديهم مساحة كبرى في الغيب بل نقرأهم في هذا وذاك لأنّ مشكلة الكثيرين هي أنهم عاشوا مع الأنبياء والأولياء في الغيب ففقدوا معرفتهم للأنبياء وللنبوات في عالم الشهود، فضاع الغيب منهم عندما ضاع الشهود ذلك لأن الغيب مرتبط بالشهود كما أن الشهود منفتح على الغيب))(1).
مستقبل الحركة الإسلامية:
وتبقى النظرة المتفائلة لمستقبل الحركة الإسلامية تراود سماحته رغم كلّ ما تتعرض له من تحديات واخفاقات وانكسارات وسلبيات، فهو يخالف الذين كانوا يراهنون على نهاية عصر الحركة الإسلامية، فيقول: ((الحديث عن أن نهاية القرن سوف تشهد نهاية عصر الحركة الإسلامية ليس دقيقاً، لأن الحركة الإسلامية بقطع النظر عن السلبيات الموجودة في مواقعها وأوضاعها، بلغت من القوة في العالم مستوى لا يملك أيّ نظام أن يسقطها.
ولا أقصد بالحركة الإسلامية الأحزاب الإسلامية فقط، بل هذه الصحوة الإسلامية التي يفكّر فيها المسلمون بطريقة حركية حتى لو لم ينضمّوا إلى حركة إسلامية بشكل أو بآخر، ونحن نرى أنّ الإسلام قد انطلق من القمقم ولن يستطيع أحد أن يعيده إلى القمقم ثانية.
وثمة نقطة أخرى ألفت النظر إليها وهي أنّ هناك فرقاً بين الحركة الإسلامية أو ما يصطلحون عليه ب‍ (الإسلام السياسي) وبين كل الحركات الأخرى، فالحركة الإسلامية تتغذى حتى من الإسلام التقليدي في بقاء الإسلام، فما دام الإسلام باقياً كصلاة وكصيام وكحج وكترك للمحرمات، ومادام يعيش في حياة الناس ولو بطريقة تقليدية، ومادام القرآن يُقرأ وترتفع كلمة (الله أكبر ولا إله الا الله) على المآذن، ومادام هناك حركة تنفتح على أفق وحدة إسلامية بين وقت وآخر، فلن يضعف الواقع الإسلامي الحركي في جهة إلا ويقوى في أكثر من جهة))(1).
((إن مسألة الدعوة هي مسألة تتصل بثقافة الداعية إذ لابد أن يملك العناصر التي يحتاجها الآخرون في إمكانات اقتناعهم بالفكرة، أي أن تكون ممن يهضم الفكرة ويتفهمها في العمق والامتداد، لأن مشكلة بعض الذين يقومون بالدعوة إلى الله أنهم لا يملكون ثقافة ما يدعون له بل يأخذون القضايا من الجانب السطحي، وربما يتصور بعضهم أن الآخرين بسطاء سذّج يمكن أن تنطلي عليهم أية كلمة سطحية ساذجة هنا وهناك.
لذلك لابد أن يكون الداعية إلى الله مسلّحاً سلاحاً ثقافياً، ثم عليه أن يمتلك روحية الدعوة إلى الله، بحيث يكون رسالياً يعيش همّ الناس الذين يبتعدون عن الرسالة كما حدّثنا الله سبحانه وتعالى في كتابه عن رسوله w عندما كان يقول فَلا تَذْهب نفسُكَ عَلَيهمْ حسَراتٍ(1). فلعلَّكَ بَاخعٌ نَفْسَكَ على آثارِهِمْ(2). فإنِهمْ لا يُكِّذبُونَك وَلَكنَّ الظَّالمِينَ بآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ(3). كان النبي يتألم وكان قبله يبكي وكان عقله يبكي عندما يرى الناس يبتعدون عن الخط الصحيح، وكان يحب الناس الذين يختلفون معه كما يحب الذين يتفقون معه. فإذا لم يكن الداعية إلى الله يحب الناس الذين يدعوهم ويحبّ هدايتهم بحيث يكونون هماً عنده فمن الصعب أن ينجح.
وثالثاً: أن تراعي الظروف المحيطة بمن تدعوه، وكذلك العناصر الذاتية. فلا تتألم عندما تعطي كلّ ما عندك ولا ترى نتيجته، فالله يقول لنبيه w فإنما عليك البلاغ(4) إنما أنت مُذكِّر(5) ليس عليك هُداهم(6). لأن عناصر الاهتداء لا تنحصر بأسلوب الداعية بل ترتبط بشخصية المدعو وبالعناصر التي يمكن أن تجذبه إلى الأسفل أو ترفعه إلى الأعلى، لذلك لا تتعقّد من ذلك إذا أحسنت أسلوبك وثقافتك ودراستك للواقع في عملية الدعوة))(7).
والله تعالى نسأل أن يأخذ بأيدي الدعاة إلى الله إلى هذه المعاني الحركية التي مررنا بها مرور راكب قطاراً وهو يتطلع من نافذته فلا يستطيع التقاط المشاهد والمعالم كلّها بشكل تفصيلي وإن كانت الطريق ككل واضحة أمامه، وآخر دعوانا أن الحمد  لله رب العالمين.

عادل القاضي
ديربورن ـ أميركا
20 شوال 1429 هـ
20 تشرين الأول 2008 م

جدول إحصائي بـمسائل الندوة ج20

الـمحاضرات    30 محاضرة
الـمسائل القرآنية    69
الـمسائل العقيدية    79
الـمسائل الفكرية    32
المسائل التربوية    7
الـمسائل الفقهية    163
مجموع الـمسائل    350


 

















    حركة متواصلة
    التجربة العجائبية في ولادته ونشأته
    موسى t في بيت فرعون

بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد  للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
حركة متواصلة:
النبي موسى t، هو أول الأنبياء من بني إسرائيل، ويتميز بأن حياته كانت متحرّكةً في جميع مراحلها بالصعوبة والجهد والتعقيدات والإشكالات المنفتحة على الخطر المحيط به وبرسالته، والتحدّيات الكبرى التي واجهت خطواته وكل أوضاعه، ولم نجد لأي نبي من الأنبياء من قبله أو من بعده مثل هذه التنوّعات الحركية والأوضاع الامتدادية الرسالية في المجتمعات التي انفتح عليها وانفتحت عليه. وفي حديثنا عن النبي موسى t، نتتبّع المحطات في الأدوار التي مرّت بها حياته، وانطلقت بها تجربته، وانفتحت عليها مواقفه، واتّسعت أو ضاقت لها مواقعه، وهي:
المحطة الأولى: وهي تشمل مرحلة الولادة والتربية والنشأة الأولى التي أحاطها الله بلطفه ورحمته.
المحطة الثانية: وتبدأ من الحركة الصدامية مع بعض أعداء قومه، ومدى السلبية التي شعر بثقلها في ذلك، وإحساسه بالخطأ الذي وقع فيه، وتعريض نفسه للخطر ورجوعه إلى الله للاعتذار منه في هذا الواقع.
المحطة الثالثة: هروبه من فرعون، ورحلته إلى خارج مصر خوفاً من اقتصاص قوم فرعون منه لقتله فرعونياً منهم.
المحطة الرابعة: وصوله إلى مدين والتقائه بابنتي شعيب، وبأبيهما النبي شعيب ـ على الظاهر ـ وزواجه بإحدى ابنتيه.
المحطة الخامسة: خروجه من مدين مع عياله، ومفاجأته بالنداء الإلهي وتكليفه بالرسالة، في تجربة عجائبية تنفتح على الإعجاز في تحويل العصا إلى ثعبان حيّ متحرك، وفي تغيير لون اليد من الأسمر إلى أبيض...
المحطة السادسة: حواره مع الله في شؤون الرسالة الموجهة في مضمونها إلى فرعون، وخوفه من القيام بذلك، لما لفرعون من سلطة غاشمة، ولذنبه عنده وعند قومه، وطلبه من الله أن لا يتولى الرسالة وحده، لأن لديه بعض حالات الضعف التي تحيط ببعض جوانب شخصيته، مما يتطلب منه أن يستعين بأخيه هارون ليكون الوزير الذي يشد أزره، واستجابة الله له في ذلك.
المحطة السابعة: دخوله إلى مجلس فرعون، ودعوته إلى عبادة الله رب العالمين، واستخفاف فرعون به وبمنطقه، حتى إذا أراه المعجزة، أخذه الخوف والقلق، واعتبره ساحراً في الدرجات العليا من السحر، وأراد إسقاطه بدعوة السحرة في عملية التحدي الكبيرة التي أراد أن يجمع لها الناس.
المحطة الثامنة: المواجهة بينه وبين السحرة، وهزيمتهم أمامه في ألاعيبهم السحرية، وإيمانهم به، ما جعل فرعون وقومه يفقدون توازنهم، لشعورهم بالهزيمة أمام هذا الساحر العظيم، ومحاولة فرعون تغطية ما حدث بأنّ موسى t هو الذي علَّم السحرة وتآمر معهم عليه.
المحطة التاسعة: الحريّة الحركية التي اكتسبها موسى t من هذا الانتصار الذي أدّى إلى تعاظم العقدة بالضعف لدى فرعون وقومه، ما جعلهم يخططون لقتل موسى t، فأيّده الله بإنزال البلاء في تسع آيات بينات أصابتهم بإرباك كل الواقع الذي كانوا يتحركون فيه حتى استغاثوا بموسى t .
المحطة العاشرة: وتتمثّل باستعداد فرعون لإنهاء ظاهرة موسى t، ولاسيما بعد أن اتبعه جمهور من قومه بفعل الحرية التي حصل عليها في الدعوة إلى الله، وحشده لكل الذين يؤيدونه ويدعمونه أو يعبدونه، وهروب موسى t بقومه بإيحاء من الله، حيث كاد فرعون أن يسيطر عليهم ليقتلهم، وكانت المعجزة في أن الله فرق البحر لموسى t وقومه، حتى انتقلوا إلى الجانب الآخر، وغرق فرعون وقومه، وانتهت سطوته وسقط جبروته.
المحطة الحادية عشر: المسيرة الحرة التي انطلق فيها موسى t بقومه، ومواجهته للكثير من المشاكل بسبب الذهنية المتخلفة المسيطرة عليهم، بحيث أصبحت مشكلته معهم في التوعية الإيمانية والتصحيح العقيدي.
المحطة الثانية عشر: الوعد الإلهي الذي منحه الله إياه لينـزل عليه التوراة، واصطدامه بتجربة عنيفة في مسألة المعرفة، بحيث أصيب بالصعقة الإلهية.
المحطة الثالثة عشر: عودته إلى قومه، وتفاجؤه بالسامري الذي أخرج لقومه عجلاً جسداً له خوار وإقناعهم بأنه إلههم وإله موسى t، وموقفه العنيف في تلك المرحلة.
المحطة الرابعة عشر: اختياره جماعةً من قومه للوقوف بين يدي الله في موعد محدّد ومواجهته بالتجربة الصعبة في سقوط هؤلاء أمامه بالهلاك من الله، الأمر الذي أحرجه وجعله يتوسل إلى الله لإعادتهم إلى الحياة.
المحطة الخامسة عشر: دعوته قومه للذهاب إلى بيت المقدس والاستقرار فيها، باعتبار أن الله أراد لهم في تلك المرحلة أن يؤكدوا السلطة والحركة للحصول على مواقع القوة هناك، فرفضوا ذلك وتمردوا عليه، حتى لم يبق معه إلا أخوه هارون، ولم ينقل لنا القرآن المدى الذي عاشه موسى t بعد ذلك، وهل اختار الدخول إلى الأرض المقدسة؟ وكيف واجه الجبارين المسيطرين عليها؟ وماذا كان حال بني إسرائيل الذين عاشوا في التيه أربعين سنة؟ وماذا كان مستقبلهم؟ ومضى موسى t في تاريخه، وبقيت التوراة التي فيها حكم الله يحكم بها النبيون، وكانت التوراة أول كتاب يتضمن العقيدة والشريعة والمفاهيم والحياة.
وهناك تجربة للنبي موسى t لم نتعرض لها في المحطات التي عرضناها، وهي لقاؤه بالعبد الصالح ـ الذي قيل إنه الخضر ـ الذي أراد الله له أن يتعلم منه، كوسيلة من الوسائل التي يريد الله أن يعلِّم من خلالها رسله مما لم يوح إليهم به. وقد التقاه ودار بينهما جدال انتهى بفراق هذا العبد الصالح لموسى t بعد انتهاء مهمته، مما سوف نتحدث عنه في الأحاديث القادمة، ونريد أن ندخل إلى تفاصيل هذه الأدوار والمواقف.
 
التجربة العجائبية في ولادته ونشأته:
من المفيد أن نشير إلى أن القرآن الكريم لم يعتن بتسجيل ولادة الأنبياءi، باستثناء ولادة عيسىt وولادة موسى t، وذلك لاعتبارات تتصل بالعقيدة لجهة الإعجاز والتدخل الإلهي، أو لاعتبارات رسالية تتصل بطبيعة الدور المستقبلي للنبي وما ينتظره من مهام.
كانت سلطة فرعون قد أصدرت قراراً بذبح الأطفال من بني إسرائيل، وهذا ما جاء في قوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(1). حتى إن القوابل ـ من آل فرعون ـ كنّ يراقبن النساء الحوامل من بني إسرائيل. وعندما حملت أم موسى t به، لم تظهر علامات الحمل عليها، بل كان خفيّاً ـ كما قيل ـ، وعندما أحسّت بألم الولادة، أرسلت خلف قابلة كانت لها علاقة مودة معها وأخبرتها بالواقع، وأنها تحمل جنيناً في رحمها وتوشك أن تضعه، ويقال إنه حين ولد موسى t، سطع نور بهيّ من عينيه، فاهتزّت القابلة لهذا النور، وسيطر حبّه في قلبها وأنار جميع كيانها.
ولذلك لم تخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد المحبوب، حذراً من قتله على أيديهم، على الرغم من أن الجائزة كانت تنتظرها لو قامت بذلك. وحارت أم موسى t كيف تحفظ ابنها، وبالأخص أن الفرعونيين ارتابوا في دخول القابلة عليها، ولكنَّ الله حفظه من كيدهم ولم يعثروا عليه، لأنّ صوت بكائه كان يحتبس في داخل فمه عندما كانوا يدخلون البيت، فلم يحسوا بوجوده.
وأراد الله تعالى له أن يحصل على النجاة، وكانت أمّه تشعر بالمشكلة تحاصر وجدانها وتهزّ كيانها، لأنها لم تعرف أين تخبّىء ولدها من العيون التي كانت تحيط بها من كل جانب في ذلك المجتمع الحاقد على الطفولة، المجرم في قراراته الوحشية، فكانت في حال ذهول نفسي وحيرة روحية، ولكنّ الله ألهمها بما يشبه الوحي في اللطف الخفيّ، تماماً كما هي حال الوحي التي يفيض بها على الأنبياء بوسائل مختلفة، قد يكون الإلهام الصافي من بينها من دون حاجة إلى رسول من الملائكة، ألهمها بأن ترضع وليدها حتى يمتلىء بطنه، بحيث لا يحتاج إلى الحليب في مدة محدودة، ثم تضعه في قارب في النهر بطريقة لا يكتشفها أحد بشكل عادي. وهكذا فعلت، وسار القارب حتى وقف على ساحل قصر فرعون... وكان الله قد وهبها الطمأنينة والسكينة التي جعلتها تعيش عمق الإحساس بالأمن عليه، بالرغم من الخطر الذي كان يحدق به.
وهنا اكتشفه آل فرعون، وأصعده قومه إليه، ورأوا فيه ملامح بني إسرائيل، ولكن كان لفرعون امرأة مؤمنة تحدث القرآن عنها، وضربها مثلاً للذين آمنوا، وذلك قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(1). فكيف واجه فرعون هذه الظاهرة الغريبة وهذا الولد العجيب؟ وما هو دور امرأته في المنع من قتله عندما رأت أنهم عازمون على ذلك تنفيذاً للقرار الفرعوني في قتل أطفال بني إسرائيل؟ وكيف خضع فرعون وقومه لإرادتها، لأنها كانت ـ بحسب الظاهر ـ موضع تقدير ومحبة من قِبلَ فرعون، بحيث كان لا يعصي لها أمراً، ولا يمنع عنها رغبةً؟
وقد تحدّث الله تعالى في آيات أخرى عن إيحائه إلى أم موسى t بأن تلقيه في اليمّ، وذلك في قوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ موسى t أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ(1). والظاهر من الوحي إليها، هو الإلهام الذي قذفه الله في قلبها، لأن الموقف كان يعالج حالةً خاصةً في حفظ موسى t، وكان يكفي في ذلك الوحي النفسي الذي يوحي به الله بطريقة إلهامية خفية إلى بعض عباده، وقيل إنّه أتاها جبرائيل t بذلك، كما عن مقاتل، وقيل: كان هذا الوحي رؤيا في المنام، عبّر عنها من يوثق به من علماء بني إسرائيل، كما عن الجبائي، ولا دليل على ذلك ولا ضرورة له. أما فقرة وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فقد تكون مما ألهم الله به أم موسى t، ليعرّفها خطورة موقعها الكبير في ساحة الرسالات، وقد تكون مما اقتضاه حديث النهايات العظيمة التي اقتضاها لطف الله في شأن موسى t، ولعل هذا هو الأقرب، لأن ذلك لم يكن معلوماً في حياة موسى t ـ حتى من قِبَل موسى t ـ الذي فوجئ بتكليفه بالرسالة في حينها، مما حدّثنا الله عنه من قصته في القرآن بأساليبها المتعددة المتنوعة الخصائص.
موسى t في بيت فرعون:
قال تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ وذلك عند وصول الزورق الذي يحمل الوليد إلى ساحل قصر فرعون، لتكتمل إرادة الله بذلك لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً فيما بعد عندما يبعثه الله بالرسالة التي يتحدى بها فرعون وقومه وَحَزَناً من خلال النتائج السلبية على حياتهم ومُلكهم إنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ(1) من خلال كفرهم وشركهم وطغيانهم وظلمهم للناس، واستكبارهم على المستضعفين، إلى درجة قتلهم الأطفال عند ولادتهم في وحشيةٍ خبيثة بعيدة عن المعنى الإنساني.
وهكذا ربما كان يدور في خاطر فرعون بعض القلق والخوف من بقاء هذا الوليد، وربما كان قومه يشجعونه على قتله، لأنهم يخافون من نشوء أي ولد ذكر في بني إسرائيل قد يخلق لهم المشاكل ويهز سلطانهم، وقد يفسر ذلك بأن فرعون رأى مناماً يوحي بذلك.
ولكن امرأته وقفت في وجه هذا المخطط وقفة إنسانية روحية من موقع إحساسها بالأمومة التي لم تحصل عليها، لأنها لم ترزق بولد، أو من خلال إنسانيتها التي تفكر في رعاية هذا الإنسان الصغير وتنشئته، ليكون بمثابة الولد الذي ينفع الأسرة، وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ فقد نحصل في مستقبله على نتائج طيبة لا تَقْتُلُوهُ كما تقتلون أولاد بني إسرائيل عَسَى أَن يَنفَعَنَا عندما يكبر، فيدبر شؤون الأسرة بجهده وجدّه أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً نتبناه، لأننا لم نرزق بولد يزيل الوحشة الداخلية عنا.
وهكذا أقنعت زوجها فرعون وآله الذين كانوا بحضرته في المجتمع المحيط به وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(1). فيما وافقوا عليه، لأنهم لم يعرفوا ما ينتظرهم من خلال هذا المولود الإسرائيلي من نتائج مستقبلية صعبة.
وهكذا أصبح موسى t أشبه بالولد بالتبني لفرعون وامرأته. فماذا كان من أمر أمه التي وعدها الله بإرجاعه إليها؟ والحمد لله رب العالمين.


















    الحضانة الربّانية
    التجربة المريرة
    الشكر العملي

بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
تتمة للحديث السابق عن حياة النبي موسى t، نُسلِّط الضوء على ما ورد في القرآن الكريم، وهو يسرد تفاصيل قصته بعدما وضعته أمّه في اليمّ، إذ يقول الله تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً في حالٍ من الذهول الذي يفقد الإنسان معه إحساسه بالسكينة، لما يثيره الواقع الذي يحيط به من القلق؛ فربما أصبح ولدها بين يدي فرعون الذي قد يتعامل معه كما يتعامل مع أطفال بني إسرائيل عند اكتشافه بأنه من هذه العائلة، وقد أوقعها ذلك في الصدمة العنيفة التي لا تملك معها أن تتوازن؛ فإنّ القلب إذا فرغ من التفكير الواقعي، أوقع صاحبه في حال من الضياع، حتى إنها كادت أن تصرّح بأمومتها وما أوحي إليها بإلقائه في النهر، مع ما يعنيه ذلك من إفساد للخطة التي رسمها لها الله تعالى، والتي وضعت بحيث لا تثير أيّ شكّ في نفس فرعون، الذي ربّما لو اطّلع على القصّة، لشعر بأنها مؤامرة مدبرة ضده أو ضد قراراته.
وهذا ما عبّر عنه في قوله تعالى: إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ، بفعل القلق المدمّر الذي يهزّ الأعماق ويترك تأثيره على التوازن في الشعور، لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لولا أن ثبّتها الله على الالتزام بالوحي الإلهي الخفيّ الذي يفتح لها أبواب الأمل بنجاته وبعودته إليها؛ لأنه ليس من الطبيعي أن ينال منه فرعون بعد الظروف التي رافقت رحلته في النهر إلى ساحل قصر فرعون، وعليها أن تؤمن بأنّ الله يصدق في وعده، ويمنحه النتائج الطيبة من خلال رعايته له فيما يدبّره له من الأمر لتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(1) المصدقين بوعد الله سبحانه، المستسلمين لقضائه وقدره.
وربما نستوحي من الآية، أنها كانت لا تزال تجهل ما حدث لولدها من الرعاية الفرعونية، ولذلك طلبت من أخته أن تتقصّى خبره وتقتفي أثره، وأين استقرّ مكانه، ومن الذي احتضنه، وهذا ما جاء في قوله تعالى: وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ، فحاولت أن تسأل الناس في المنطقة، لأن هذا الأمر من الأمور التي تنتشر بين الناس، باعتبار أنه يتصل بأسرة فرعون الذي كان يملك البلاد والعباد، وخصوصاً أنه لم يذبحه كما يذبح الأطفال الآخرين، فتحركت في اتجاه الحصول على الحقيقة في أمره فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ، أي عن بعد وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(2)، فلم تظهر اهتمامها بالتعرف إليه، بحيث يلوح ذلك في حركاتها وإشاراتها وأسئلتها، وربما نظرت إليه في أيدي الخدم نظرةً عابرة، كأيّ شخص ينظر إلى الأشياء التي حوله بشكل طبيعي.
الحضانة الربانية:
وقد تدخّل لطف الله بشكل يشبه الإعجاز، فقد امتنع موسى t الوليد ـ مع كل جوعه وحاجته إلى الغذاء ـ عن تقبُّل الرضاعة من أية مرضعة كانوا يأتون بها إليه لترضعه؛ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ، ما جعلهم يواجهون مشكلةً صعبةً في تغذيته للإبقاء على حياته، وكانت أخته قد اقتربت من الجوّ أكثر عندما سمعت القوم يعيشون القلق من خلال ذلك، ما جعل أكثر من امرأة تتقدّم لتعطي رأيها في هذا الأمر، ووجدت أخته في ذلك فرصةً لأن تعطي رأياً في حلّ المشكلة كأية امرأة أخرى، وقرّرت أن تتدخّل ليرجع الولد إلى أمه بشكل طبيعي، من خلال إحساسها بأن هناك وضعاً غيبياً خفياً يتدخّل لتحقيق الوعد الإلهي لأمِّها، بعد أن ألهمها بوضعه في القارب في النهر، فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ(1)، ورحّب القوم بكلامها واستجابوا لها ووثقوا بها، ولاسيّما بعد أن أحضرت أمّها وشاهدوه قد التقم ثديها وبدأ يرضع منه...
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ، وذلك عندما رجع ولدها الحبيب حياً إلى أحضانها وشعرت بالأمن عليه، بل إنها أصبحت مسؤولة عن المحافظة على حياته، باعتبار موقعه المميز في بيت فرعون، فلا مجال ـ بعد ذلك ـ للقلق ولا للحزن بعدما امتلأ قلبها بالسرور والسكينة وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فيما يعد به عباده في قضاياهم التي تتحرّك في مواقع رحمته.
وهذه هي الحقيقة التي لا شك فيها، لأن الذي يخلف الوعد، إمّا العاجز، وإمّا الكاذب أو الجاهل الذي يظهر له الشيء بطريقة معينة ثم يبدو له غيره، فيبدّل رأيه وموقفه، وقد تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، لأنه القادر على كل شيء، والصادق في وعده، والعالم بالأشياء كلّها بشكل مطلق، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(1)، لأنهم لا ينفتحون على الأفق الواسع الذي يطل بهم على مفردات القضايا من خلال القواعد العامة للإيمان، ولذلك فإنهم يستغرقون في أوضاعهم الشخصية المزاجية، وأفكارهم الارتجالية السريعة، بعيداً عن أية معرفة عميقة في حقائق العقيدة والحياة.
وهذه هي مشكلة الناس في كل زمان ومكان أمام الإيمان؛ إنها مشكلة الجهل التي تغلق عليهم أبواب الحقّ، وتدفعهم إلى الاندفاع نحو الباطل.
وهكذا تعهد الله تعالى موسى t بالرعاية في طفولته ونشأته، حتى تكامل جسده واستقر عقله، وربما مكث في رعاية أسرة فرعون التي قامت بتربيته بعد انتهاء مدة الرضاعة، وهذا ما نستوحيه من قول فرعون له – مما قصّه الله – في تذكيره إياه بأنه هو الذي رباه في بيته ولبث عندهم من عمره عدد سنين، وهذا هو قوله تعالى: قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(2).
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وبلغ مبلغ الرجال واشتدّت قواه وَاسْتَوَى بحيث استقر في حياته واعتدل في توازنه، آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً، وذلك عندما ألهمه الله معرفة موازين الأمور التي يستطيع من خلالها أن يعرف مصادر الأحكام ومواردها، فيبلغ بها مواقع العدل، وأعطاه الله من أبواب العلم ما يفتح له آفاق الحياة، بحيث يتمكن من حل مشكلاتها، ومن السيطرة على تحريك قضاياها في الاتجاه السليم، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(1) الذين يأخذون بأسباب الإحسان في الفكر والعمل، فنتعهّدهم بالحفظ والرعاية، ونرفع مواقعهم الفكرية والروحية في المستويات العليا من حركة العقل والتفكير، ليكونوا أكثر قدرةً على الإحسان إلى الحياة من حولهم، وإلى الإنسان في كل مواقعه، ولاسيّما إذا بلغوا مراكز القيادة العامة.
التجربة المريرة:
أما المرحلة الثانية، فبدأت حين دخل المدينة، وكانت قد فرغت من الناس الذين أخلدوا إلى بيوتهم بعد أن قضوا أشغالهم وانتهوا من أعمالهم، قاصداً الحصول على الهدوء النفسي من خلال هذا الهدوء العام، وهذا ما يوحي به قوله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا...(2)، ولكن ما رآه أمامه صدمه وشكّل مفاجأةً عنيفةً له فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ أي من بني إسرائيل وَهَذَا مِنْ عَدُوِّه من الأقباط الفراعنة، وكانا يتقاتلان، وربما كان الفرعوني أقوى من الإسرائيلي الذي كان يعاني من الضعف بسبب بنيته الجسدية أو انتمائه العائلي الضعيف من الناحية الاجتماعية.
فاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ، لينتصر به عليه، لأن موسى t كان، على الظاهر، قويّ البنية، شديد القدرة، وربما رأى أن الفرعوني كان يمارس حالةً عدوانية على الإسرائيلي، لأن المجتمع الفرعوني كان يفرض على بني إسرائيل كل أنواع الهيمنة، ويمارس معهم حالة العنف، ويحتقر معنى الإنسان فيهم، ولذلك فقد اقتنع موسى t أن صاحبه كان مظلوماً أمام الفرعوني الظالم، فتدخل منتصراً له، وضرب الفرعوني، ولعلّها كانت ضربة قوية، فقتله من دون قصد القتل، فَوَكَزَهُ موسى فَقَضَى عَلَيْهِ من دون أن يكون الهدف هو أن يصل الأمر إلى هذا المستوى من العنف القاتل، لأنّ همّ موسى t كان بأن يدفعه عن الذي استغاثه ويخلصه من بين يديه ـ كما هو الظاهر ـ وخصوصاً أنّ الاستغاثة توحي بوجود حالٍ من الخطر أو الألم الشديد.
وفوجئ موسى t بالنهاية القاسية الصعبة التي يعتبرها المجتمع ـ بفعل القانون ـ في حجم الجريمة، وأدرك نتائجها السلبية على موقعه في البلد، وحريته في الحركة. قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ الذي يغري الناس بالعداوة والبغضاء، ويدفعهم إلى التقاتل الذي يؤدِّي إلى إزهاق الأرواح، بفعل العنف الذي يدفعه التوتر النفسي إلى أعلى الدرجات، وقد لا تكون الإشارة إلى قتل القبطي، بل إلى طبيعة العمل الذي دخل فيه ناصراً لا معتدياً، باعتبار أن الإسرائيلي كان في موقع المظلوم المعتدى عليه، على أساس الواقع الاجتماعي الذي يجعل بني إسرائيل في الطبقة السفلى، بينما يضع الأقباط في الدرجة العليا من السلّم الطبقي، بما يجعلهم يضطهدون كل من هو دونهم وينظرون إليه نظرة استعلاء، ويتعاملون معه بأساليب التعسف والاحتقار والإذلال.
وهكذا كانت نظرة موسى t إلى طبيعة العمل القتالي في الحالات الفردية على صعيد المقدّمات والنتائج، بأنه من عمل الشيطان الذي يتدخل في عملية الإثارة التي تؤدي إلى الانفعال العنيف، بعيداً عما إذا كان الحق مع هذا الفريق أو ذاك، لأنه على كل حال، العمل المؤدي إلى المشاكل الخاصة أو العامة التي تربك السلامة العامة للمجتمع كله في تأثيرها على علاقات الناس بعضهم ببعض. إنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ(1)، لأن دوره في وسوسته الخفية في حركة الغرائز الانفعالية، هو إثارة المشاكل التي تؤدي بالناس إلى الدخول في المشاحنات، وإبعادهم عن الله الذي يريد للحياة أن تقوم على أساس المحبة والتصالح والعدالة والسلام، وبذلك كان موقع الشيطان منهم، هو موقع العداوة والإضلال، ما يفرض عليهم أن يواجهوه من هذا الموقع الذي يحتوي حياتهم ويصادرها بمشاكله وأضاليله ليتمردوا عليه.
وهنا توجه موسى t، الذي عاش الإيمان بالله والإخلاص له كأقوى ما يكون، إلى الله، في موقف ابتهالي خاضع، ليقدم حسابه بين يديه في الممارسة التي ابتلي بها: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فقد شعر بخطورة ما قام به.
ولكن هنا سؤال يفرض نفسه في هذا الاستغفار أمام الله، وهو: هل كان موسى t يشعر بالذنب لقتله القبطي، باعتبار أن ذلك يمثل جريمة دينية في مستوى الخطيئة التي يطلب فيها المغفرة من الله، أو أن المسألة هي شعوره بالخطأ غير المتعمد وغير المقصود، ممّا كان يتمنى أن لا يصل به إلى ما وصل إليه، وهو ما جعله يعيش الألم الذاتي تجاه عملية القتل، لأنه لا يريد أن يبادر إلى قتل أي إنسان حتى لو كان المقتول عدواً له، لأنه يحب السلام إذا كان يستطيع تفادي ذلك؟
إننا نرجح الاحتمال الثاني، لأن موسى t لم يدخل المعركة القائمة بين الشخصين من موقع عدوان ذاتي تفرضه العصبية العائلية، لأنه لم يكن يجد ضرورة أو مبرراً للدخول في معركة مع الأقباط، من خلال وعيه العقلاني لطبيعة التوازن في القوى الذي كان لا يسمح له ولا لغيره بأن يحل المشكلة القائمة في مجتمع بني إسرائيل، ولم تكن هناك أية ظروف تفرض عليه أن يثير الأوضاع القلقة، ولذلك لم تكن هناك جريمة، لا على مستوى التفكير، ولا على صعيد الحركة المقصودة في الواقع، بل كان الدخول شرعياً، ولم تكن النتيجة السلبية العنيفة مقصودةً، ولكنه كان يفضّل أن لا يحدث ما حدث، وأن لا تنتهي الأمور إلى ما انتهت إليه، وبذلك كان لديه بعض الإحساس النفسي بالذنب الأخلاقي أو الاجتماعي، باعتباره رجل سلام وداعية إصلاح.
وعلى ضوء هذا، كان التعبير بأنّه ظلم نفسه، تعبيراً عن الحالة الشعورية وليس تعبيراً عن ثقل المسؤولية الشرعية، وربما كان تعبيراً عن القلق من النتائج الواقعية السلبية التي يمكن أن تترتّب على ذلك في علاقاته الاجتماعية بمحيطه، مما يحمله من أخطار مستقبلية على شخصه بالذات، أو على دوره الإصلاحي.
أما طلبه المغفرة من الله، فقد يكون ناشئاً من الرغبة الروحية العميقة للإنسان المؤمن، بأن يضع أعماله بين يدي الله، حتى التي لا تمثل انحرافاً عن أوامره ونواهيه، بل تمثل نوعاً من الخطأ الأخلاقي المبرّر بطريقةٍ ما، ليحصل على لمسة الرحمة الإلهية العابقة بالحنان والعطف، فيبلغ من خلال عصمته الكمال الإنساني في سلوكه، والتوازن في أخلاقه، ما يجعل من المغفرة لطفاً في توازن الشخصية، وإظهاراً للعبودية لله، لا عفواً عن ذنب في مستوى الخطيئة.
وكان اللطف الإلهي بموسى t فيما كان يعلمه من ظرفه الواقعيّ فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(1) غفران المحبة لعبده، الخاضع له، الذي يتحرك من خلال القاعدة الإنسانية في نصرة المظلوم.
الشكر العملي:
وهكذا اهتزت مشاعر موسى t في إخلاصه لله، وفرحته برحمته، فأعطاه العهد بأنه لن ينصر مجرماً قريباً كان أو بعيداً قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً للْمُجْرِمِينَ(2)، وهذا هو الشكر العملي الواقعي الذي أراد موسى t أن يُعبر عنه في امتنانه للنعمة الإلهية، وذلك برفض استخدام قوته في دعم المجرمين الذين يبغون على الناس بغير حق، لأن الله أراد من الأقوياء أن تتحرك نعمة القوة لديهم في نصرة المظلومين ضد الظالمين والمجرمين، وهذا ما ينبغي للمؤمنين أن ينفتحوا عليه في سلوكهم العملي في مواجهة الخطوط الإجرامية، في عملية رفض مطلق لها.
وهذه الآية، هي من أدعية القرآن التي نطق بها موسى t في ابتهاله الروحي، وقد يكون من الخير أن يذكرها المؤمنون في صلواتهم ودعواتهم وابتهالاتهم في ذكر الله.
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ لأنّ السلطة كانت تعمل على الاقتصاص منه، فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ من قومه يَسْتَصْرِخُهُ لينتصر له في معركة جديدة مع شخص آخر من الأقباط، قَالَ لَهُ موسى  إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ(1)، أنت لست رجل خير وسلام، لأنّك تتنقل من مشكلة إلى مشكلة. واندفع موسى t لنصرته بعد أن اقتنع بظلامته فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لهُمَا قَالَ يَا موسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ(2) الذين يبادرون إلى حل المشكلة بالصلح لا بالعنف، والتقريب بيني وبين هذا الرجل الذي استنصرك عليّ فيما اختلفنا عليه. والظاهر أن موسى t تركه ولم يتدخل في هذه المعركة بالانتصار للإسرائيلي، وربما تحرك لإيجاد حالة سلام بينهما بعد أن رفع ظلامة صاحبه بالتي هي أحسن.
ولكن خبر قتل القبطي من قِبل موسى t شاع في المدينة، وتحمّس قوم فرعون الذين يملكون السلطة المطلقة للاقتصاص منه، ولم يبلغ موسى t الخبر بتفاصيله إلا من خلال المخبر الناصح له، وهكذا رجع موسى t إلى الله مستعيناً به في تهيئة الوسائل التي تنجيه من هؤلاء الظالمين.
ونلاحظ أن فرعون قد ذكّر موسى t بهذه الحادثة عند حواره معه حول الدعوة بعد أن بُعث بالرسالة، وذلك قوله تعالى: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ(1) بالنعمة على الظاهر قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ(2)، لأنني لم أدرك النتائج السلبية التي تترتب على ذلك فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ(3).
وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا موسى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(4). وانتهت المرحلة الثانية بخروجه لتبدأ المرحلة الثالثة. والحمد لله ربّ العالمين.
















    المهام الخيرية
    الكفالة الإلهية
    الحياة الجديدة
    عرض الأب إبنته للزواج


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد  للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
متابعة لما تقدَّم من حديث عن النبي موسى t، نتحدث عن المحطة الثالثة من حياته.
عندما أدرك موسى t أن بقاءه في مصر قد يعرّض حياته للخطر المحقّق، انطلاقاً من الخطة التي وضعتها سلطة فرعون لقتله، اقتصاصاً منه لقتل القبطي، خرج في حال من الخوف الشديد والحذر والترقّب، قاصداً الابتعاد عن مواقع سلطة الفراعنة، داعياً ربه أن ينجيه منهم، وقد اختار التوجه إلى مدينة (مدين) التي كانت منطقة سكنى قوم النبي شعيب، التي يُقال إنها تتفق في مواصفاتها مع بلدة (معان) في الأردن، وكانت تقع شرق خليج العقبة، وكانت لأهلها تجارة مع مصر وفلسطين ولبنان ـ كما قيل ـ وكانت رحلته متعبةً مضنيةً، وهو الذي لم يسافر من بلده من قبل، بل كان يعيش حال الرفاه والراحة والنعمة في بيت فرعون.
ولم يجد راحلةً يركب عليها، بل كان يسير ماشياً على قدميه، وقيل إنه قطع الطريق في ثمانية أيام، ولقي ما لقي من الجهد والتعب، وربما ورمت قدماه من كثرة المشي، وكان ـ كما يقال ـ يقتات من نبات الأرض ومن أوراق الأشجار وثمارها دفعاً للجوع، حتى بدت له معالم مدينة مدين، فاطمأنَّ قلبه، وذهب عنه الخوف، لأنه ابتعد عن سلطة الظالمين.
ووصل المدينة التي توجّه إليها، مما تحدَّث الله عنه في قوله تعالى: ولما توجّه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل(1)، وقد رأى من ألطاف الله به، في وصوله إلى منطقة الأمن والنجاة، أن الله لم يسلِّمه للضياع، ولم يخذله في مسيرته، فها هو في بلد لم يعهد له أن رآه أو عرفه، فيه الأمن والنجاة له، حيث لا سلطة لفرعون عليه، ولكنه في الوقت نفسه، لا يزال يعيش التفكير في المستقبل الذي ينتظره في هذا البلد الذي لا قريب له فيه ولا صديق، ولا فرصة واضحة من فرص الاستقرار الواقعي للعيش فيه.
المهام الخيرية:
فلجأ إلى الله تعالى طالباً أن يمنحه اللطف الروحي في خطِّ رحمته، بما عوّده عليه في حلّ مشكلته الصعبة التي كانت تتحدّاه بالخطر الكبير، وطلب منه الهداية إلى السبيل السوي الذي يبلغ به الطمأنينة في حياته، والسكينة في مشاعره، انطلاقاً من رعاية الله تعالى له في ماضيه وعنايته به في حاضره.
وهكذا وصل إلى ماء مدين الذي كان الناس يستقون منه لأنفسهم ولأغنامهم، فوقف يتطلع إليهم وهم يملأون أوعيتهم بالماء ويسقون الأغنام، وهذا ما جاء في قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، وهم يتزاحمون ويتدافعون، بحيث يتقدَّم القويّ على الضعيف. وفوجىء بامرأتين بعيدتين عن القوم تحبسان أغنامهما من أن تندفع وتختلط بأغنام القوم، وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ أغنامهما وتحبسانها، وعرف أنهما ضعيفتان من منطلق موقعهما الأنثوي، فلا تملكان الوصول إلى ما تريدان في هذا الزحام الشديد.
وكان من أخلاقه أن ينتصر للإنسان الضعيف ويعينه ويأخذ له بحقه، فعزم على مساعدتهما في أمرهما، فالتفت إليهما متسائلاً: قَالَ مَا خَطْبُكُمَا أي ما شأنكما ؟ ولماذا لم تسقيا غنمكما؟ قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء، حتى يخرجوا أغنامهم، فيخلو الموقع لنا، لأن العادة هي أن يتقدم الرجال النساء، وليس لنا رجال في الأسرة يقومون بمهماتها وحاجاتها كالرجال الآخرين، وليس لدينا إلا أب عاجز لا يملك القيام بمثل هذا العمل الذي يقوم به الشباب الأقوياء... وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ(1)، فلا يستطيع الإتيان بالماء ليسقي الأغنام بجهده الذاتي. فانفعل موسى t بهذه الحالة المأساوية التي يعانيان منها، وقرّر مساعدتهما، فتقدم إلى الماء، وأخذ الدلو، وسيطر على الموقف بقوَّته وهمّته وعزيمته فَسَقَى لَهُمَا.
وهكذا أكمل موسى t المهمّة الإنسانية الخيّرة في إعانة هاتين المرأتين الضعيفتين طلباً لما عند الله ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ، ليستريح من التعب، وليتخفّف من حرارة الجوّ، ولم يكن هناك من يتحدث إليه من قريب أو صديق، فانطلق يحدّث ربه ويناجيه في مناجاة خاشعة، شاكراً له نعمة التي أنعم بها عليه، والخير الذي منحه إياه: فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(2)، من خلال ما وهبتني إياه من القوّة، وأعطيتني من الأمن، ومكّنتني من الحصول على الغذاء، وأنا الفقير إلى ذلك، لأني لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، إلا بك وحدك لا شريك لك، فلك الشكر ولك الحمد ...
وكانت المفاجأة بعد انتهائه من مناجاته الله فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء(1)، في خفر العذارى، وحياء العفيفات اللاتي لم يعتدن أن يتحدَّثن مع شاب غريب لا يعرفن عنه شيئاً، سوى ما قام به من خدمة في مساعدتهما في سقي أغنامهما من دون أن يطلب أجراً على تلك الخدمة قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا، فقد أحسنت إلينا، وقمت بجهد كبير في رعايتك لنا، في حاجتنا إلى سقي أغنامنا، وتوفير الماء لنا، وإبعادنا عن مزاحمة الرجال، وقد أخبرنا أبانا بذلك، وأراد أن يتعرف إليك ليشكرك ويجزيك الجزاء الجميل، وليعطيك أجرك على ذلك، وليكرمك كرامة المحسنين، فتعال إلينا ورافقني إليه، بكل تقدير وإعزاز.
الكفالة الإلهية:
ولم يكن موسى t يرغب في طلب الأجر على خدمته لهن، ولكنه وجدها فرصةً للتعرف إلى هذا الشيخ الكبير كمدخل للدخول إلى مجتمع هذه المدينة، لعل الله تعالى يجعل له في ذلك فرجاً ومخرجاً، وخصوصاً أنه ليس من الطبيعي أن يبقى وحيداً من دون بيت أو معارف، وربما لم يكن لديه المال الذي يستطيع من خلاله أن يدبر شؤونه... ثم إنّ العلاقة الخاصة بأهل هذا البلد تجعله يشعر بالاستقرار في أمنه، بعيداً عن المخاوف التي تعيش في مشاعره من امتداد جماعة الفراعنة إلى هذا البلد.
وهكذا رأى أن من المصلحة الاستجابة لهذه الدعوة التي ربما رأى فيها لطفاً من الله تعالى به، في تهيئة الظرف المناسب لأوضاعه الخاصة فَلَمَّا جَاءهُ أي أتى إلى والد الفتاتين، وهو شعيب t، ارتاح إليه، ورأى في روحانيته صفاء الإيمان وحنان الأبوة، وروحية الرسالة، وانفتاح القلب الكبير، اطمأنّ إليه، وشعر بأنه يقف على شاطىء الأمان عنده، فبدأ يحدّثه عن حياته، وعن عمق المعاناة التي يعيشها وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ، وعرف شعيب t أن هذا الشاب لا يزال خائفاً من سطوة فرعون وقومه، وأنه يطلب المكان الذي يرتاح إليه ويأمن فيه.
قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(1)، فإنهم لن يصلوا إليك في هذا المكان، لأنهم لا يملكون أية سلطة هنا، ولا علاقة بين أهلنا، في هذا البلد، وبينهم، ليستغلوا ذلك للإيقاع بك تبعاً لهذه العلاقة، فأنت في مكان آمن، ولا تفكر في وحشة الغربة، فسوف نكون الأهل لك، والأسرة التي تحضنك وتضمك إليها بكل محبة وحنان. فأيقن موسى t أنه وجد في هذا الرجل أستاذاً عظيماً، الذي تنبع من جوانبه عيون العلم والمعرفة والتقوى، وتغمر وجوده الرّوحانية، ما يمكّنه من أن يروي ظمأه الروحي منه، كما أحسّ شعيب t بأنه عثر على تلميذ جدير ولائق يملك الحديث معه والحوار في أكثر من قضية لديه، ويتلقى منه العلم.
وانفتح الشيخ الكبير على هذا الشاب الذي امتلأ قلبه بالإيمان، وتحرّك فكره بالقيم الروحية، وتمثل فيه الخُلُق الكريم، وانفتح الشاب عليه، ليجد فيه الأب الذي افتقده، وليجد في بيته الأسرة التي غاب عنها نتيجة خوفه. وبعد ما رآه موسى t، عرف أنه كان في رعاية الله ورحمته ولطفه منذ طفولته الأولى، وأنّ هذا اللطف الإلهي امتدّ في حياته، حيث أنقذه الله من سيطرة الفراعنة، وهيّأ له الخروج من مصر فراراً منهم، ومنحه الظروف الملائمة للاستقرار في مدين، من دون أن يعاني أي جهد في ذلك، سوى ما قدّمه لهاتين المرأتين من الخدمة التي فتحت له أبواب الخير. وهذا ما ينبغي للمؤمن أن يعتبر به، بأن ينفتح على الله ويلجأ إليه في كل مشاكله، ليجد الله قريباً إليه، مجيباً لدعائه إذا عرف منه صدق النية وإخلاص القلب.
الحياة الجديدة:
وكانت المفاجأة الجديدة لموسى t، وهو ما نستوحيه من أن إحدى الفتاتين شعرت بالحب يغزو قلبها تجاه هذا الشاب القوي، الذي أحسّت بقوته في مزاحمته للرجال الذين تجمعوا حول البئر، وفي تفريقهم عنها بالرغم من تكاثرهم حولها، حتى سقى لهنّ الأغنام، وكان الشاب الأمين الذي لم يرفع نظره إليها إلا بالاحترام، حتى قيل إنها عندما سارت أمامه إلى بيت أبيها، طلب منها أن تتأخّر ويتقدمها لئلا تضرب الريح ثيابها، هذا إضافةً إلى أنه لم يطلب منهما أجراً مقابل خدمته لهما، ولم يبتعد عن خط الأمانة العفيفة في علاقته بهما، فلم يستغل قوته من أجل الإساءة إليهما.
وبسبب كلّ ذلك رغبت الفتاة في أن يزوجها أبوها إياه، وربما شعر أبوها بذلك، وبأن هذا الشاب قد يرغب في الزواج كأيّ شابٍ في مثل عمره، وقد يحقّق له ذلك طمأنينةً وسكينةً وراحةً روحيةً وجسديةً، فابتدرت أباها بهذا العرض الذي يخفّف إحراج الجميع، ويحلّ مشكلة الموقف، مما يحتمل أن يكون قد ورد في فكر موسى t، وفي أنه لا يمكن أن يبقى ضيفاً إلى ما لا نهاية، وأن الخروج من هذا البيت قد يوقعه في الضياع من جديد، قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، فنحن في حاجة إلى من يلي أمورنا ويدبّر أوضاعنا، وليس للمرأة أن تلي ذلك في مجتمعنا مهما كانت قوتها، لأن ذلك قد يخلق لها مشاكل كثيرة في علاقاتها الخاصة والعامة، وقد عرفنا في هذا الشاب القوة والأمانة اللتين تؤهلانه لأن يكون في مستوى المسؤولية، فيما نحتاج إليه في ظروفنا هذه التي لا تخلو من الصعوبة، فهو شاب قوي يقوم بالمهمة الصعبة في إدارة شؤوننا، وأمين يحفظ أمانة المال والكلمة والسرّ والعرض إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ(1)، الذي يتمنّاه كل أصحاب المهمات والأعمال.
وتقبّل شعيب t هذه الرغبة من ابنته، وربما أحسّ بانجذابها الروحي إلى هذا الشاب، وعرف أن من الطبيعي أن لا يكون استئجاره له كأي أجير آخر لقاء مبلغ من المال، لأنه سوف يسكن معهم في البيت، ويكون جزءاً من الأسرة في العلاقة الحميمة المرتكزة على الرابطة الوثيقة، وهي رابطة الزواج، فيكون صهر العائلة الذي يحفظ زوجته ويصون أهلها من خلال أمانته الأخلاقية العالية. ولذلك عرض عليه الزواج بإحدى ابنتيه لقاء مهر يتمثل بخدمته للأسرة.
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ممن تختارها منهما عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ أي ثماني سنين، فهذا هو المهر الذي تقدمه إليّ للزواج بإحداهما، فتقيم بيننا، وتصلح أمورنا بقوتك وأمانتك، ويبقى لك أن تزيد المدة سنتين تطوعاً وتبرعاً وإحساناً فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ، كزيادة تمنّ بها علينا من دون أن تكون شرطاً ملزماً منّا عليك، بل تكون على سبيل الخير الذي تقدّمه إلينا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بما أعرضه عليك من ذلك، فلك حرية الاختيار في القبول وعدمه، وسأحقق لك كل ما ترغب فيه من الوفاء والحفظ والرعاية، وذلك انطلاقاً من روحية الإيمان في ذاتي، وأخلاقية الصلاح في عملي وسَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ(1)، الذين يوفون بالعهد ويرعون الذمام.
عرض الأب إبنته للزواج:
ونستوحي من عرض شعيب هذا، أنه لا عيب في أن يعرض الأب ابنته للزواج من شخص يرتضيه ويجد سعادة ابنته عنده، فله أن يقترح عليه ذلك، كما أنه لا مشكلة في أن يكون المهر خدمةً وعملاً في حساب المستقبل. وإذا كان الأب هو الذي اقترح هذا المهر، فإن البنت كانت موافقةً عليه، تماماً كما لو كان الزوج هو الذي قدّمه إليها، لأن شؤون أسرتها من شؤونها من خلال المسؤولية الخاصة عنها، وليس من الضروري أن يكون المهر مالاً نقدياً، بل يكفي في شرعيته كل ما يتراضى به الزوجان، ولاسيما أن القرآن يعبر عن المهر بأنه نحلة، وذلك قوله تعالى: وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً(1)، والنحلة، هي الهدية بلا مقابل، بل هي رمز محبة.
وربما يلاحظ البعض، أنه ليس من الطبيعي أنْ يطلب شعيب t من موسى t أن يعقد الزواج على إحدى ابنتيه بشكل مبهم، لأنه لا بد من تعيين الزوجة في العقد؟ ولكن القضية في صيغتها الموجودة في الآية كانت عرضاً يقدمه إلى موسى t، ليجري التفاهم على الموضوع. ولا بد من أن التفاهم قد حصل قبل إجراء العقد، وحدّد الأمور بشكل واضح، ما جعل العلاقة الزوجية المعقودة تتحرك بينهما في حال من الوضوح بالنسبة إلى الزوجة والمهر.
واستجاب موسى t إلى تمام هذا العرض الكريم، وصادف ذلك رغبةً عنده وفرح به، لأنه يعتبر أن ذلك سوف يمنحه الاستقرار في السكن، والأمن في الموقع، والراحة في الزواج، وذلك أقصى ما يتمناه في الوقت الحاضر، قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، عهدٌ وشرطٌ ثابت لازم ألتزم به فيما أعطيك من عهد الله عليّ، والتزام الأمانة لدي أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ، ثماني سنين أو عشراً فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ فليس لك أن تلزمني بالزيادة إذا كانت ظروفي تفرض عليّ الاقتصار على الأقل، وليس لك أن تمنعني من تقديمها إذا كنت أريد التبرع بها وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ(2)، فهو الشاهد علينا، وهو الحاكم بيننا إذا ما اختلفنا، لأنه الشّاهد على عباده الذين يلتزمون خط الإيمان، ويخشون رقابة الله عليهم في أمورهم الذاتية وفي التزاماتهم العقدية في علاقاتهم بالناس.
وقد عاش موسى t في هذا البيت الإيماني الطاهر إلى جانب النبي العظيم، وربما كان راعياً لغنمه، خادماً لأسرته في حاجاتها الحيوية. وقد منحته تلك الفترة الذهبية من عمره الفرصة في التفكير، والتأمل في أسرار الخلق وعالم الوجود، وفي بناء شخصيته، ولاسيما أن المهمة المستقبلية التي كانت تنتظره، كانت من أكثر المهمات خطورةً في حركة مسؤوليته، في الرسالة التي يوشك أن يكلفه الله بها في مواجهة الجبابرة، وفي مقدمتهم فرعون وهامان وقومهما، وفي هداية الناس إلى التوحيد وإبعادهم عن خط الشرك، وتحرير الإنسان من الرقّ والعبودية المفروضة عليه من قِبَل القوى الطاغية المستكبرة...
وانتهى هذا الفصل من حياة موسى t، وأراد الانطلاق إلى موقع جديد يملك فيه حريته في بلد آخر، بعدما اشتدت قوته، وانفتحت مواقفه على تطورات جديدة وتطلعات كبيرة، في إحساس غامض في داخل ذاته، بأن هناك شيئاً ذا أهمية كبرى ينتظره، من دون تحديد لطبيعته.
وهكذا سار بأهله في ليلة شديدة البرد، وكانوا في حاجة إلى نار للدفء، وهذا هو قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَى موسى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ(1) ومن هذا الموقع، بدأت المرحلة الرابعة من حياة موسى t، والتي تحمل المناجاة الكبرى. وللحديث بقية إن شاء الله تعالى. والحمد  لله رب العالمين.












    الإشراق الرباني
    الوادي المقدّس
    الاصطفاء للرسالة
    لا إله إلا الله
    عبادة وصلاة
    يوم القيامة
    علامات التصديق

بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد  للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
الإشراق الرباني:
احتاج أهل موسى t في سفرهم إلى النار ليحصلوا منها على الدفء في ليلة شديدة البرد، فراحt يبحث لهم عنها، وتطلَّع إلى الأفق الواسع في الصحراء، فشاهد ناراً ترتفع وتشتعل، فاندفع بسرعةٍ للوصول إليها بعد أن طلب من أهله الاستقرار في مكانهم ليتعرّف إلى مكان النار ليسير بهم إليها، أو ليقتبس منها جذوةً يحملها لإيقاد الحطب الذي جمعه لهم من أجل الاستدفاء به بعد إشعاله.
وكانت المفاجأة الكبرى عند وصوله إلى النار، إذ وجدها ناراً لا تشبه النيران الأخرى التي يعرفها، من حيث الحرارة والحريق والدخان المتصاعد منها، بل كانت قطعةً نورانيةً تتميز بالإشراق والصفاء الذي قد يشبه ضوء الشمس عند الشروق. وبينما هو في تأملاته النفسية من خلال الدهشة البالغة، إذا به يسمع صوتاً لا كالأصوات، من دون أن يرى شخصاً، وقد ملأ هذا الصوت روحه، وحركّ مشاعره، وألهب إحساسه، بحيث نفذ إلى كيانه بالسكينة والطمأنينة، عندما نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ أي من ساحل الطريق الممتد بين الجبلين أو من ممرّ السيول على جهة اليمين فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ التي باركها الله بما أفاضه عليها من روحه، وبما أوحى فيها من كلماته، وبما منحه لموسى t من نوره في تجلياته فيها مِنَ الشَّجَرَةِ التي كان يحدّق فيها، فيما يخيّل إليه أنّ هناك سراً في داخلها يختزن الصوت الذي ينطلق منها أَن يَا موسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(1).
وكانت تلك هي المفاجأة المذهلة التي هزّت كيانه، فقد كان ذلك فوق مستوى التصوّر، لأنه كان يطمع في أن يجد في موقع النار دليلاً على الطريق وجذوةً للدفء، فإذا به يجد الفرحة الروحية الكبرى التي ترتفع به إلى المستوى الأعلى في إشراقة الروح والعقل والقلب والحياة، ليكون دليلاً على موقع القرب من الله، وعلى خط السير إليه، وليجد فيه دفء الإيمان الذي يملأ عقله وشعوره وحياته؛ فها هو الله الذي يؤمن به دون أن يراه أو يسمعه أو يتكلم معه، يخاطبه ويناديه دون وسيط، معلناً له عن اسمه وذاته القدسية، وعن صفته الربوبية المهيمنة على العالمين من خلال قدرته المطلقة ورسالاته الموحية، ليكون ذلك بدايةً للانطلاق نحو التغيير المستقبلي من خلال ما سيحمله من مسؤوليات جديدة، لأن مناداته له لا بد من أن تنفتح على وحي جديد يدفع به إلى السير في الطريق التي سوف يبدأ الاتجاه إليها، إطاعةً لأمر الله، وخضوعاً لإرادته.
الوادي المقدّس:
وجاء في آيات أخرى في سورة طه تفصيل أكثر عمّا كلّم الله به النبي موسى t، فقال تعالى : إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى(1)، في عملية إيحائية بأن الموقف الذي يقفه أمام هذا الصوت الإلهي، هو موقف يوحي بالقداسة، لأن تجلّي الله تعالى لموسى t في مخاطبته له في هذا الوادي المسمَّى طوى، أعطاه حالاً من القداسة جعلته مختلفاً عن غيره، لتميّزه القدسيّ بهذه الميزة الإلهية الروحية، فلا بد له من أن يخلع نعليه ليقف بين يدي الله حافياً، كدلالة على التواضع والخشوع في حضرة ربه الذي استولت عظمته على كل كيانه، فتصاغر أمامه تصاغر العبد أمام مولاه...
الاصطفاء للرسالة:
وربما انتظر موسى t من الله تعالى أن يعرّفه المهمّة الخاصة التي كلّمه من أجلها، وكانت المفاجأة الرسالية: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ لتكون رسولاً من قِبَلي إلى فرعون، لتقوده إلى الإيمان، ولتردعه عن الطغيان، وإلى هذا الشعب الذي عاش العبودية حتى أصبحت جزءاً من ذاته، بما يقدمه من فروض الطاعة لمستعبديه، من دون إحساس بالحاجة إلى الثورة عليهم من أجل الحصول على حريته التي هي سرّ إنسانيته، ولتكون رسولاً إلى الحياة كلّها من أجل تغييرها إلى الأفضل، ليستقيم الطريق من خلال الرسالة التي أكلّفك بها وأحمّلك مسؤوليتها، ولتدفع بخطواتها إلى شاطىء الأمان والسعادة.
لا إله إلا الله:
فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى(2) وافتحْ قلبك لآياته، وعقلك لأفكاره، وسمعك لكلماته، وروحك لإحساساته، وأعطه كل كيانك لتستوعبه كحقيقة وجدانية لا مجال فيها لأيّ شك وزيغ. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا، فهذه هي الحقيقة المشرقة التي يشعّ نورها في الوجود كله؛ إنها فكرة التوحيد التي تؤكد وحدانية الخالق، وأنه الله الواحد الذي لا شريك له ولا عديل. وهذا هو العنوان الذي انطلقت به الرّسالات كلها، والذي عمل الرسل على تعميق معناه الأصيل في وجدان الإنسان وعقله، ليكون التصور للمسألة الإلهية صافياً نقياً في العمق التوحيدي الربوبي، بحيث يمتزج الجانب العقلي بالجانب الوجداني الشعوري.
عبادة وصلاة:
فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي(1)، فإذا كان الخطّ الأول في المسألة التوحيدية هو وحدانية الخالق، فإنّ الخطّ الثاني هو توحيد الله في العبادة، بحيث لا يكون هناك معبود غيره، والخضوع المطلق له في كل أمور الحياة، والالتزام بأحكامه في الجانب التشريعي، والتزام مفاهيمه الأصيلة في الجانب الفكري، والانفتاح على منهجه في الأسلوب العملي، ما يجعل حركة الإنسان في الحياة منسجمةً مع حركة إيمانه في الداخل، لأنّ الإخلاص في التوحيد يفرض التحرك في خطين؛ خط العقيدة وخط العمل.
وفي هذا الجو، تأتي إقامة الصلاة لتحقق القوة الروحية التي ترتفع بالإنسان إلى الله، ليعيش عروج الروح إلى قدسه من خلال الجو الإيماني الذي يعيشه الجسد في حركة العبادة، ما يؤدي به إلى الإحساس بحضور الله في وعيه ووجدانه، بحيث يراه في كل شيء، فيذكره في كل موقف، ويرتفع إلى مواقع القرب عنده.
وهذا هو الوحي الأول الذي أوحى به الله إلى موسى t، ليكون عنوان الرسالة في خطوطها التفصيلية الفكرية والعملية، ليعرف من خلاله البداية التي تحدد له خط السير لتلمّس ملامح خط النهاية، تماماً كما هو المفهوم من الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا(1).
يوم القيامة:
إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا، وهذا هو الوحي الثاني الذي يضع المسألة في دائرة المسؤولية، من خلال الموعد الذي حدّده الله، وهو يوم القيامة الذي يعبَّر عنه بالساعة التي لم يبيّنها الله للإنسان لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى(2)، فيما تقدّمه من أعمال الخير التي تنال بها رضا الله، وأعمال الشر التي تستنـزل عقابه.
فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا ممّن يعيش في الدنيا باعتبارها نهاية المطاف، أو باعتبارها الفرصة الأولى والأخيرة، فيعمل على ممارسة الضغوط الفكرية والنفسية والعملية للوقوف في وجه الالتزام الفكري والعملي بالخط الإيماني الذي يطلّ على الدار الآخرة في عملية اقتناع وإيمان، والحؤول دون الوصول به إلى نتيجة حاسمة في حركة الإنسان والحياة.
إن مثل هذا النموذج من الناس لا يمثل قيمةً كبيرةً في ميزان التقويم الاجتماعي على مستوى الحق والواقع، لأنّ عدم الإيمان ليس ناشئاً من حالةٍ فكريةٍ مضادةٍ، بل هو ناشىء من حالةٍ مزاجية معقّدة، وقلقٍ ذهنيٍّ ساذج، ونزعة شهوانية منحرفة. وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فكان مقياسه للرفض والقبول في مواقفه، هوى النفس، بعيداً عن العقل. فلا تستسلم لأسلوبه فَتَرْدَى(1)، لأنه يصل بك إلى الهلاك المحتوم في قضية المصير. وهذه هي المفاجأة الثانية التي تعطيه الدليل على أن الرسالة تنتظره في مواقع التحدي، وأن الله لن يتركه وحده، بل سوف يؤيده ويدعمه بقوّة عجيبة لا يثبت أمامها شيء...
وجاء في سورة النمل، في الحديث عن النار التي واجهها موسى t : فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا، والظاهر أنّ المراد بهذا المبارك هو الذي خلق البركة ومنحها لعباده في وجودهم، وخلق النعم التي أنعم بها عليهم، وهو الله، ولكن ليس بمعنى أنه في داخلها، بل بمعنى أنه الذي أبدعها وأشرف عليها وأعطاها حالة الإبداع والإشراق. وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2) فهو الذي تتجلى عظمته في ذاته، وتمتدُّ في ربوبيته، وتتمثل في قدرته يَا موسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(3) الذي يملك العزّة جميعاً، ويمنح الأعزاء لطفاً من عزته، والذي يجري الخلق كله بحكمته.
فتعال إليّ، وأقبل عليَّ، واستمع إلى ما أقوله لك، واعتمد على قوّتي أمام كل القوى، واتّبع هداي إذا سلك الناس طريق الضلال، وانتظر عطاياي التي تتمثل فيها المعجزة التكوينية التي سوف تكون عوناً لك في مسؤوليتك المستقبلية في حمل الرسالة إلى فرعون، في عملية صراع القوة التي سوف تكون الرابح فيها.
علامات التصديق:
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ في صورة حية فيما كان يتصوّره الناس من صورة الجان وَلَّى مُدْبِراً ولم يعقّب، في حالة هروب من هذا المخلوق المخيف الذي يمكن أن يستهدفه كما تستهدف الثعابين الإنسان لتقتله. وانطلق الصوت الإلهي من جديد ليمسح على قلبه بالسكينة الإلهية الروحية التي توحي إليه بالأمن والطمأنينة، ليثبته ولينـزع من صدره عنصر الخوف من هذه العصا الثعبانية التي لم يرد لها أن تثير الرعب في نفسه: يَا موسى أَقْبِلْ ولا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ(1)، بل أطلقها لتكون الآية المعجزة الخارقة للعادة التي أريد لها أن تكون سلاحاً مخيفاً للطغاة الذين أرسلك إليهم، ولتستشعر القوة في موقفك في مواجهة التحدي الكبير الذي ينتظرك في مهمتك الصعبة.
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ الذي هو البرص وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ أي الخوف، وذلك بأن يجمع يديه إلى صدره إذا عرض له الخوف فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ، يؤكِّدان أنك الرسول الذي اختاره الله لرسالته ليواجه فرعون وقومه إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ لتقدمهما إليهم في بداية دعوتك إياهم إلى الله، لتبدأ فيما بعد عملية التحدي لفرعون وجبروته وطغيانه وكذلك لقومه إنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ(1)، لأنهم تجاوزوا حدود ما أمر الله به وطغوا وبغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد.
وفي آية أخرى، عبّر الله تعالى عن هذا الموقف بأسلوب آخر، فقال تعالى: وَمَا تلْكَ بِيَمِينِكَ يَا موسى(2)، ولم يكن السؤال استفهاماً من الله، لأنه هو الذي يعلم كل شيء، ولكن كان وسيلةً للحوار الذي يريد الله تعالى إثارته مع موسى t، ليحصل موسى t على حال الانفتاح في الجواب عن السؤال الإلهي، من خلال التعجب من سؤال الله عن ذلك، وهو العالم بكل ما يحيط به.
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا عندما يثقلني الجهد ويحلّ بي التّعب، وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي لأدير أوضاعها في الغذاء، وفي انضباطها في خط سيرها وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى(3)، مثل الدفاع عن النفس أو عن الآخرين الذين تتصل مسؤوليتي بحياتهم العامة والخاصة أو غير ذلك. قَالَ أَلْقِهَا يَا موسى(4)، لتكتشف في ذلك شيئاً جديداً لم تكن تتصوره، فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى(1)، وكانت هذه أول دلالةٍ لموسى t على أن هناك حدثاً يتجاوز المألوف قد دخل حياته، فكيف حدث هذا التطور في لحظات؟ وكيف تحولت العصا الجامدة اليابسة إلى حية تتحرك؟
وبدأ الخوف الغريزي يدبّ في قلبه من هذه الأفعى التي قد تؤذيه إذا اتجهت نحوه أو هجمت عليه قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ فلن تؤذيك، لأن العصا سوف ترجع كما كانت سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى(2)، أي ستعود عصا من جديد وَاضْمُمْ يَدَكَ السمراء إِلَى جَنَاحِكَ أي تحت إبطك تَخْرُجْ بَيْضَاء في نقاء البياض وإشراقه مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي من غير مرض أو عاهة كالبرص آيَةً أُخْرَى * لنُرِيَكَ من خلال الآيتين؛ العصا التي تحولت إلى ثعبان، واليد السمراء التي تحوّلت إلى يد بيضاء مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى(3)، التي ستكون التحدي الكبير لما قد تصادفه في حركتك الرسالية من ضغط وإنكار وتهديد وجحود وتمرّد، لتنطلق إلى المهمة الصعبة بقلب قوي ثابت لا تهزه كل التهاويل المحيطة به، الضاغطة عليه، ولا تضعفه تهديدات الطغاة.
وهكذا خرج موسى t من هذه التجربة الجديدة المثيرة، نبياً، وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً(4)، وَكَلَّمَ اللّهُ موسى تَكْلِيماً(5). فكيف تحدّث الله معه عن هذه المهمة؟ وكيف واجه الموقف الصعب؟ وكيف كان إحساسه بخطورة الأمر؟ وما الذي طلبه من الله؟ هذا ما نتحدث عنه لاحقاً إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.
 














    التكليف الإلهي بالدعوة
    اللطف الإلهي
    الشراكة الرسالية
    أسلوب مواجهة فرعون
    أحسن الحديث

بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
التكليف الإلهي بالدعوة:
ومتابعة لما سبق من حديث عن المحطات التي تقلّب فيها النبي موسى t، لبلوغ ما بلغه من المرتبة النبوية، نتوقف عند المحطة الخامسة، وكيف واجه موسى t التكليف الإلهي الذي كلّفه الله به في مواجهة فرعون وقومه، بالدعوة إلى الله، والسير في خطّ التقوى بالعبادة التوحيدية، والطاعة لأوامره ونواهيه، وتحرير المستضعفين الذين استعبدهم، ومنعه من ذبح أطفالهم واستحياء نسائهم؟ وهل تقبّل حمل هذه المسؤولية الكبرى التي قد يواجه فيها الخطر على حياته؟
إن القرآن ـ في عدةّ آيات ـ صوّر لنا إحساسه بصعوبة المهمة، وخوفه من عدم القدرة على القيام بها، لما تحتاجه من عناصر القوة التي لا يملكها في ذاته، إضافةً إلى عنصر الضعف في التعبير عما يريده في خطابه للناس، ولاسيما في الموقف الذي يفرض عليه الأخذ بأسلوب الفصاحة في النطق، والبلاغة في البيان.
لذلك تمنّى على الله تعالى أن يكلف معه أخاه هارون بالرسالة، كما جاء في قوله تعالى: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ موسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(1)، الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعدوان على الآخرين، لأنّ الله لا يريد للظلم الذاتي أو الاجتماعي أن ينتشر في حياة الناس، وخصوصاً ما يصيب الضعفاء من المستكبرين، حتى إن الله سبحانه يرفض ظلم الإنسان لنفسه بمختلف الوسائل الداخلية والخارجية، لأن رفض الظلم ينطلق من القاعدة الدينية الإنسانية في إقامة الواقع على أساس العدل الكلي. ولذلك، فإن الصفة التي أعطاها الله لهؤلاء الفراعنة، هي صفة القوم الظالمين، وهي تختصر كلّ واقعهم المنحرف في عقيدتهم الباطلة، وكل سلوكهم في الحكم، وتعاملهم مع الناس، ما جعل الأوضاع العامة خاضعةً للألم النفسي والفساد العملي.
وهكذا أراد الله لنبيّه موسى t أن يتوجّه إلى موقع السلطة الأقوى في الساحات العامة، إلى فرعون الذي عاش ضخامة الشخصية وانتفاخ الذات، حتى خيّل إليه أنه يقف في موقع الربوبية للمستضعفين الذين استعبدهم واستغلّ ضعفهم، ففرض عليهم عبادته، وصادر حريتهم في الإرادة من خلال قوته وملكه، وذلك من خلال التفاف قومه حوله، وطاعتهم له، وخضوعهم لسلطانه على خطّ العصبية العائلية، لأنهم كانوا يحصلون من خلاله على الامتيازات الكثيرة في مواقعهم وأوضاعهم المالية والسلطوية، تماماً كأية قبيلة يملك رئيسها السلطة المطلقة، فيستعين بأهل قبيلته في تعزيز ملكه وتقوية سلطانه.
وكان العنوان الحركي الكبير في دعوته الإصلاحية التغييرية، هو عنوان التقوى: أَلا يَتَّقُونَ(1)، ما يجعلهم يخافون الله ويحسبون حسابه في أعمالهم ومواقفهم من خلال المستقبل الذي ينتظرهم في الدار الآخرة، التي ينال التقيّ فيها ثوابه، والشقي عقابه؟!
وقد أراد الله لنبيّه أن يدعوهم إلى الالتزام بهذا العنوان، لأنه يلخّص كل القيم الروحية في الانفتاح على العدل كله، والخير كله، والإحسان كله، والمسؤولية كلها، ما يوحي بالواقع التغييري للإنسان في تفكيره العقلي وفي سلوكه العملي، وهذا ما أكّده الأنبياء في رسالاتهم، وبشّروا السائرين في خطه بالجنة التي وعد الله بها المتّقين.
اللُّطف الإلهي:
ولكنَّ موسى t ناجى ربه بأن يذلّل له العقبات التي قد تصادفه أثناء قيامه بهذه المهمّة الصّعبة، وذلك من خلال بعض الأوضاع الخاصة التي قد تثير لديه القلق في نجاحه في مسؤوليته الرسالية. قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ(2)، لأنهم قد ينظرون إليّ نظرة الاستضعاف، لانتمائي ـ في نظرهم ـ إلى الناس المستضعفين، فلا يستمعون إليَّ فيما أدعوهم إليه، تماماً كما هي حال القوم الذين يحتقرون الناس من حولهم ممن هم دونهم في الطبقة الاجتماعية، فلا يلتفتون إليهم، لذلك لا فائدة تُرجى من إرسالي إليهم، لأن النتيجة معلومة منذ البداية وهي الرفض.
وَيَضِيقُ صَدْرِي بسبب ما قد أتعرّض له منهم، مما لا أستطيع تحمّله بقدرتي الذاتية، بحيث تتضاءل حريّتي في الدعوة والمواجهة، الأمر الذي قد يترك تأثيره السلبي على حالتي النفسية التي تتمثّل بضيق الصدر في هذا الموقف. وَلا يَنطَلِقُ لِسَانِي مما أعانيه من حالات احتباس الكلام، حيث لا يسمح لي بالحوار والجدال وإدارة الصراع بالكلمات القوية الفصيحة والأسلوب الدقيق.
وعلى أساس ذلك، فإني أقترح أن تكلّف أخي هارون بالمهمّة، فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ(1)، ليكون عوناً لي على أداء الرسالة، لما يتميّز به من صفات تسدّ النقص الذي أعاني منه، كفصاحة اللسان ونحوه، أو ليتحمّل المسؤولية وحده، خصوصاً أنّ هناك مشكلة خطيرة بسبب قتلي شخصاً فرعونياً منهم، انتصاراً لظلامة قريبـي الذي هجم عليه لقتله، بينما لا يعيش هارون هذه المشكلة. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ(2) لذلك عندما أبرز أمامهم، فإنهم سيعتقلونني ويقتلونني، فلا أستطيع ـ من خلال ذلك ـ استكمال المهمة الرسالية.
وفي آية أخرى مماثلة، ولكنّها أكثرُ تفصيلاً: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي(3)، ليتسع صدري للرسالة في التحديات التي أواجهها، ولأنفتح على حقائقها وآفاقها وامتداداتها، لأنني بحاجة إلى الصَّدر الرحب الذي تتحرك في جنباته القيم الإنسانية التي يملك فيها الإنسان الداعية أن يقدمها للناس ويهديهم إليها. ويَسِّرْ لِي أَمْرِي(1) في هذه الرحلة الرسالية التي قد تكلّفني الكثير من العسر في خط الدعوة وفي موقف المواجهة. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي(2)، لأملك الأسلوب الفصيح الواضح الصريح الذي يتحدّث إلى الناس بانفتاح الفكرة والكلمة. يَفْقَهُوا قَوْلِي(3)، حتى يفهموا كلامي بعيداً عن العقدة في طريقة النطق التي ابتليت بها.
الشراكة الرسالية:
وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي(4) يساعدني في أداء الرسالة، لنتكامل كما يتكامل الرئيس مع وزيره الخبير بالأوضاع المحيطة به، وبالأساليب المقنعة التي يقتنع بها الآخرون اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي(5) لأتقوّى به، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(6) ليكون رسولاً من قِبَلِك في موقع الوزارة والمساعدة لي في حمل الرسالة كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً(7) بأن نستحضر عظمتك في الوجود كله، في تسبيح إيماني روحيّ يمتد في حياتنا كلها. وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً(8) لنعيش حضورك في العقل والقلب والشعور والحياة، فلا ننساك، بل ننفتح على ربوبيّتك في كياننا كله.
إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً(1)، فأنت تعلم كل أسرار الذات في وجودنا، وكلّ مشاعر الإيمان بك، وكلّ أحاسيسنا في حبّك والإخلاص لك. قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا موسى(2)، فقد استجبنا لكل طلباتك في إشراك أخيك معك في حمل الرسالة، وفي إفاضة اللطف عليك في تقوية نقاط الضعف عندك، لتنطلق بكل قوة في موقع المواجهة.
 وفي آياتٍ أخرى، يختلف فيها الأسلوب التعبيري في الطلب الذي قدّمه موسى t إلى ربّه: قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ* وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً، لوجود بعض الضعف في عملية النطق، وأسلوبي في البيان فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً أي عوناً وناصراً، والرّدء هو الذي يتبع غيره معيناً له. يُصَدِّقُنِي يدعم منطقي ودعوتي، ويؤيّدني في تأكيد الصدق الذي أتحدّث به، إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ(3)، فإذا دعا إلى ما أدعو إليه، ووقف معي في خط الرسالة، فقد يضعف موقفهم في التكذيب، لأن انضمام الإنسان الآخر الذي لم يعرف الكذب في تاريخه، يجعل المكذِّبين في موقع القلق بما تحدثوا به، قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ، ليدعم كلّ واحدٍ منكما الآخر، ويثبّت موقعه وموقفه. وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً في القوّة الإعجازية التي يفيض بها الله عليكما ليجعلكما الأقوى. فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا، وهي آية العصا واليد البيضاء وغيرهما. أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ(1).
ونتساءل: هل إنّ الطلب الذي تقدّم به موسى t إلى ربه هو استعفاء من موسى t وهروب من تأدية الرسالة على أساس نقاط الضعف الذاتية التي تحدّث عنها، والمخاوف التي كانت تطوف في ذهنه أمام القيام بهذه المهمة الصعبة، ولاسيّما خوفه على نفسه من القتل؟ وهل يمكن أن يرفض موسى t رسالة الله إليه؟ وكيف يتهرب من مسؤوليته؟
والجواب: هذا الطلب لا يعني أنّ هناك استعفاءً أو هروباً أو رفضاً للقيام بالمسؤولية، بل هو شعور بالحاجة إلى اللّطف الإلهي في شكواه إلى الله، تماماً كما يشكو الإنسان إليه في حالات الضعف التي يتعرّض لها، وتهاويل المستقبل التي يقبل عليها؛ فهي مسألة شعور بالحاجة إلى المساعد والمعين، بالنظر إلى المشاكل التي تنتظر المهمّة، والمخاوف التي تحيط بها، ممّا يمكن أن يضعفها أو يعطّلها، وبذلك فإنه يبحث عن الوسيلة الفضلى التي تحقِّق للرسالة قوتها وسلامتها، ما يجعل من خوفه خوفاً على الرسالة الموكولة إليه، لا خوفاً ذاتياً على نفسه. ولذلك لم يطلب من الله إعفاءه من الرسالة، بل طلب مشاركة هارون له ليَكْمُل به ويقوّي به جانب الضعف عنده.
أسلوب مواجهة فرعون:
أما ما هي القضايا التي أراد الله منهما إثارتها مع فرعون؟ وما هو الأسلوب الذي طلب منهما أن يتحرَّكا به في حديثهما معه؟ فقد جاء ذلك في قوله تعالى: اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وهي المعجزة التي سوف تقهر جبروت فرعون وقومه، من خلال الإيحاء بالقوة التي لم يعهد في حياته مثيلاً لها وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي(1) أي ولا تقصّرا في ذكري، أو تهملا أمري، ولا تضعفا في أداء رسالتي، اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(2) في دعوته الناس إلى الالتزام بربوبيته، عندما قال لهم: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى(3)، وفي تجاوزه الحدود الإنسانية في تعامله مع الناس، ولاسيّما المستضعفين منهم.
فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(4)؛ لأنّ من الضروري للرساليين أن يخطّطوا للدعوة من أجل تغيير المفهوم المنحرف لدى الطغاة وأمثالهم، بتغيير القاعدة الفكرية التي ينطلق منها هؤلاء فيما يفكرون فيه ويتحركون نحوه، ولا بدّ في هذا المجال من دراسة أفضل الأساليب الفكرية والعملية والروحية من أجل تحقيق الاتصال الهادىء الذي ينفذ إلى القلب بهدوء، بعيداً عن كل عوامل الإثارة القاسية التي تشبه الصدمة القوية المضادة؛ لأن الأسلوب هو العنصر الحيوي في تحريك الفكر والشعور نحو الارتباط بالقناعات الرسالية، فهو الذي يهيّىء لعملية الانسجام مع الفكرة في خطواتها العملية، ولهذا أكّد الله سبحانه لهما، أن عليهما أن يختارا الأسلوب الليّن في الكلمة والأسلوب، والابتعاد عن طبيعة الإثارة في ذلك.
فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لا خشونة فيه ولا عنف ولا إثارة لعلّه يَتَذَكَّرُ عندما يقوده الأسلوب الحكيم إلى التفكير في الحقيقة، أَوْ يَخْشَى عندما تثير فيه الذكرى الخوف أمام قضية المصير في الآخرة، فيما ينتظره من عذاب الله، عندما يتحدثان إليه عن يوم القيامة، حيث يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ(1).
أحسن الحديث:
وربّما يوحي التحدُّث عن الغاية بكلمة [لعلَّه. بالترقُّب لحصول التذكّر والخشية، انطلاقاً من دراسة طبيعة تأثير الأسلوب في النتيجة، بعيداً عن الجانب الذاتي الخاصّ في الشخص المدعوّ، لأنّ الأساليب الرقيقة الهادئة التي يتعامل بها الأشخاص من موقع الدراسة الواعية لكلّ العوامل المؤثِّرة في أفكارهم ومشاعرهم، لا بد من أن تؤدي إلى النتائج المرجوّة. وعلى هذا الأساس، فإن المسألة لا تخرج عن طبيعتها بسبب بعض العوامل المعاندة في حياة هذا الشخص أو ذاك، لأن المبدأ يبقى قائماً في علاقة النتائج بالمقدِّمات بنسبة عالية.
وقد لا يرد في هذا المجال، الاعتراض الذي مفاده: كيف يقدّم الله تعالى المسألة بأسلوب الترقّب الذي يعني إمكانية التذكر والخشية من قِبَل فرعون، مع أن الله يعلم بأنه لا يقبل الانفعال بالكلمات الهادئة الرسالية التي يلقيها موسى t وهارون t عليه؟
إن المسألة في ملاحظتنا للموضوع، هي أن الترجي كان بلحاظ طبيعة الأسلوب لا بلحاظ خصوصية الشخص والموقع.
قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى(1)، وكانا لا يزالان يختزنان في ذاتيهما جبروت فرعون وطغيانه، فقد يرفض استقبالهما والاستماع إليهما، أو يطردهما من مجلسه، أو يتجاوز الحدّ في ظلمه لهما أو لقومهما، باللجوء إلى وسائل ضاغطة وقاسية.
ولكن الله عرّفهما بأنهما ينطلقان في رعايته وحمايته، قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(2) فالله تعالى هو الذي يسمع الكلام الذي يدور بينهم ويرى صورة لقائهما به، ويعرف أنّه لا يملك إيذاءهما أو مواجهتهما بالضغط والطغيان، لأنهما لا يتحركان من موقعهما الذاتي، بل من موقعهما الرسالي الذي يرتبط بالله الذي يملك القوّة جميعاً.
فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ(3)، فنحن نحمل إليك رسالة الله الذي هو ربّك وربّ العالمين جميعاً، ثمّ أعلنا له المطلب الإنساني أوّلاً، واختصرا المسألة وقدّماها بشكلٍ حاسم: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ، أخرجهم من دائرة الاستضعاف من خلال ضغطك عليهم، وأطلق سراحهم، وامنحهم الحرية التي يستحقونها من خلال موقعهم الإنساني، فلطالما استعبدتهم بدون حقّ، لأنهم أحرار، ولطالما أهدرت إنسانيتهم وأذللت عزّتهم وكرامتهم؛ إنها رسالة الله إليك وليست كلمتنا الشخصية، وإذا لم تصدق ذلك، فسترى أنّا قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ تعرِّفك طبيعة الصفة الرسالية التي نتصف بها من خلال الوحي الإلهي.
وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، في لفتةٍ إيحائيةٍ لفرعون أنه لا سلام معه وعليه إذا بقي على ضلاله الاستكباري، لأن السلام هو للمهتدين المنسجمين مع دعوة الهدى المنفتحة على الله سبحانه.
ويتصاعد الموقف في خطابهما المتحدّي إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى(1)، وهذه هي النصيحة التي نقدّمها إليك في نهاية المطاف، لتتفادى العذاب الذي ستتعرض له في الدار الآخرة، إذا بقيت مصرّاً على كفرك وضلالك وطغيانك.
فكيف كان ردّ فعل فرعون على هذه الدعوة؟
هذا ما نرجو أن نوفّق له في الحلقة الآتية بإذن الله، والحمد  لله ربّ العالمين.












    التساؤل الفرعوني
    الخلق والهداية
    ماذا عن الماضين؟
    الأسلوب الحكيم في الجواب
    الخط القرآني في العقيدة
    الاتهام بالسحر
    الاستعداد للمواجهة


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
في سياق الحوار بين فرعون والنبي موسى t وأخيه هارونt، يحاول فرعون أن يتعرف إلى ربهما في أسمائه وصفاته وأفعاله، ليعرف أية رسالة يحملانها، بعد أن تمّت دعوته إلى الإيمان بالله.
التساؤل الفرعوني:
قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا موسى(1). هل اخترتما ربّاً على الطريقة التي يختار بها الناس أربابهم، مما قد يختلفون فيه على أساس المواصفات التي يملكها هذا الربّ أو ذاك، سواء كان بشراً أو حجراً، لأني لا أعرف مثل هذا الربّ الذي تدعواني إليه ولم ألتقِ به؟
والملاحظ في هذا التساؤل الفرعوني، أنه كان يستمع إلى موسى t وأخيه بهدوء غريب، فلم يثُر أو يتشنّج أو يتعقّد من كلامهما الذي فاض بالجرأة القوية التي خاطباه بها، وربما منحه هذا الجوّ نوعاً من الفضول الباحث عن المعرفة، لأنه لم يسبق له أن سمع كلاماً مماثلاً، فاستسلم لهذا الجوّ الغامض الجديد الذي أخذ عليه كل شعوره، حتى خُيِّل إليه أنه يعيش في جوٍّ سحريّ مثير.
لقد حدّثاه في البداية عن ربّه كما لو كان معترفاً به، ولكن الرب قد يحتاج إلى الاعتراف به من المربوب ليستكمل علاقة الربوبية به بطريقةٍ طبيعية، لأن الناس اعتادوا أن يتخذ كل فريقٍ ربّاً لنفسه، يتعبد له ويقدّم له القرابين، أو يمارس تجاهه الطقوس، انطلاقاً من القداسة التي يتمثلها به، ومن القوة التي يتوهمها في ذاته، مما يخترعه خياله، أو ممّا يبعثه إيحاؤه الداخلي بأنه يملك أسراراً غيبيّة مقدّسة، بالمستوى الذي يجعله أقرب إلى ربّ الكون من غيره...
أما خطاب فرعون لموسى t، فقد جاء على قاعدة أنه رأى فيه الشخص الأصيل، القويّ في الموقف، والثابت في القناعة، إلاّ أنّ جواب موسى t كان مفاجئاً له، لأنه لم يحدثه عن ربٍّ محسوسٍ مماثل لما يتخذه الناس من الأرباب، بل حدّثه عن الربّ الذي ينطلق الوجود كله من خلال إرادته، ويتحرك من خلال هدايته وتدبيره له في عناصره الداخلية والخارجية.
الخلق والهداية:
وكان ردّ موسى t قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(1)، فهو الذي أوجد كل شيء ثم لم يهمله ليتركه ضائعاً، بل رعاه رعايةً شاملة، فمنحه الهدى الذي يضيء له حركته في الوجود والتكوين، وينظّم له حركة نموّه، وتكامله ووصوله إلى الغاية المطلوبة لوجوده. ولم تكن ربوبيته للخلق من خلال التزامه الذاتي به، وإقباله عليه، وتأييده له، بل كانت ربوبية ذاتية منطلقةً من طبيعة الإيجاد الذي يمنح الموجودات سرّ الحياة، ومن الإشراف الدائم والرعاية الكاملة الشاملة القائمة على أساس العلم اللامحدود، والقدرة المطلقة، والحكمة الواسعة التي لا تغيب عن الكون في أية لحظة، كما لا يغيب عنها الوجود في أيّ وقت، لاحتياجه الدائم إلى الغنى المطلق الذي يتمثّل بربوبيته.
وهكذا قد نجد الهدى قائماً في الأشياء بذاتها عبر القوانين المودعة فيها، وقد نجده في العقل الإنساني الذي يدبّر الوجود بشكل مباشر من خلال الطاقة الكبرى التي يختزنها في داخله، وذلك من خلال وعي اختياري دقيق في إنتاج الفكر، وإبداع الخطة الشاملة للحياة.
ماذا عن الماضين؟
ويتابع فرعون سؤاله، في ظلّ استمرار حال الفضول التي تهزّ وجدانه: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى(1)، أي ما حال الأمم والأجيال الإنسانية الماضية، حيث لا خبر عنهم ولا أثر لهم، ما هي النظرة إليهم؟ وكيف هي علاقة هذا الربّ بهم وبمستقبلهم، في حركية الوجود، وفي هداية الواقع؟
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: ما مناسبة هذا الاستفهام من فرعون؛ فهل كان يتساءل عن أمر المعاد الذي هرب إليه بعدما عجز عن مواجهة أمر الربوبية، التي فصَّلها موسى t في حديثه بما لا مجال فيه للردّ والاعتراض، لأن إدراكه لم ينفتح على هذا الأفق الواسع للألوهية في امتدادها في عمق الوجود، وحركتها الشاملة في تدبير أمره، وخصوصاً أن تفكيره كان مشدوداً إلى الربوبية التي تتميز بما تملك من عناصر القوة المادية ومن السلطة الواسعة، ومن خضوع الضعفاء لإرادتها المستعلية، أم أنه أراد معرفة المزيد عن رب موسى t؟ فإذا كان فرعون قد فهم أنّ من صفات الربّ هيمنته على الناس في حياتهم، فإنّ ما أثار استغرابه هو امتداد هذه السيطرة إلى ما بعد الموت، تماماً كما كان المشركون يقولون: أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ(1)، فكيف يواجهون الموقف؟ وكيف ترجع الحياة إليهم؟ وكيف يتحملون المسؤولية؟
قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى(2)، فقد كان جواب موسى t، أن علمها عند الله تعالى الذي أحياهم وأماتهم، فهو المحيط بأعمالهم، فلا يفوته منهم شيء، ولا يغيب عنه شيء، وكل شيء مثبت في علمه، الذي لا يضلّ عن حقائق الأشياء، ولا ينسى ما علمه منها، لأنها حاضرة لديه حضوراً مطلقاً لا حدود له في كل مفرداتها وجوانبها. فالله يملك أمرهم وحسابهم من خلال إحاطته المطلقة بكل شؤونهم في كلّ ما عملوه، فيحاسبهم على ذلك بشكل دقيق، بعد إعادة الحياة إليهم بقدرته التي لا يعجزها إعادة الوجود إلى الموتى، وهو الذي أعطاهم قبل ذلك الحياة في بداية وجودهم.
وقد يخطر في البال، أنّ هذا الاحتمال المتصل بفهم بعض حقائق ما بعد الموت، لا يظهر من الآية التي يبدو أنها مسوقة للحديث عن الربوبية، وهو ما تظهره الآيات التالية التي استمرت في الحديث عن صفات الله في حركة الخلق في الكون، بما يدل على عظمته وتوحيده، ولم تتحدث عن المعاد أو تشير إليه.
وهنا ربما يبرز احتمالٌ آخر، مفاده أن السؤال قد يكون متجهاً للحديث عن تاريخ الأمم الأولى المنقرضة، ليصرف موسى t عن التكلّم في أصول المعارف الإلهية، وإقامة البرهان على صريح الحق في مسألة المبدأ والمعاد مما تنكره الوثنية، فيشغله بما لا فائدة فيه من تواريخ الأولين وأخبار الماضين. فكان جواب موسى t مختصراً وواضحاً، وهو إرجاع العلم بذلك إلى الله، وأن هذه المسألة تمثّل بعض الغيب الذي لا يعلم تفاصيله إلا علاّم الغيوب.
أيضاً قد يظهر احتمال آخر يقرب من هذا الاحتمال، ولكنه يتجه اتجاهاً آخر، وهو أن فرعون أراد إثارة موضوع القرون الأولى ليثير الأجواء السلبية حول موسى t، وذلك من خلال إيجاد جوٍّ عاطفي سلبيّ في المجتمع المحيط بموسى t، ليدفع هؤلاء باتجاه الدفاع عن آبائهم الذين يرميهم موسى t بإيحاءات حديثه بالضلال ويحكم عليهم بالعذاب، فكان ردّ موسى t بإيكال العلم بمصير الماضين إلى الله، خروجاً من أجواء الجدل الضائع الذي لا يؤدّي إلى نتيجة، بل يدخلهم في متاهات انفعالية لا مجال للخروج منها إلا بالوقوع في كثير من المشاكل الاجتماعية.
الأسلوب الحكيم في الجواب:
وأسلوب موسى t هذا يمثّل الأسلوب الحكيم الذي قد يحتاج الإنسان الداعية إلى الأخذ به في مواجهة الأشخاص الذين يريدون إيقاعه في أجواء الإثارة الاجتماعية أو السياسية الانفعالية العاطفية التي يتحرك فيها الناس بعيداً عن أية حالةٍ عقلية، مما يخلق الكثير من الإرباك العملي في مجال الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله.
ثم تأتي الآيات القرآنية، لتحثّ الإنسان على التفكّر والتدبّر في مخلوقات الله، ليعرفوا تدبيره وعنايته: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً فيما مهَّده لكم من قرارٍ وثباتٍ وراحةٍ، وببركة قانون الجاذبية، وكذلك الطبقة الغازيّة العظيمة المحيطة بالأرض. وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً تسهِّل لكم عملية التنقّل في أرجائها، من خلال ارتباط جميع مناطقها بعضها بالبعض الآخر.
وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، وهو ماء المطر الذي يتحوَّل إلى بحيرات جوفية في أعماق الأرض، فتتفجّر منه الينابيع والأنهار والماء الذي هو أساس الحياة ومصدر كل البركات. فأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى(1). فيما أعطى الله تعالى الأرض من خصب وحيويّة وقدرة على تحويل التراب إلى عناصر تتكوّن فيها البذور، وتنمو فيها الخضرة والثمار والفواكه المتنوعة، ففي أشكالها وخصائصها وتنوعاتها وطعمها وريحها مصدر غذاء ومنفعة للإنسان والحيوان، لتستمر الحياة.
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ لتكون الفائدة مزدوجةً لكم، بحيث تتغذون بما أخرجه الله ممّا تقوم به حياتكم، وليكون غذاءً لأنعامكم أيضاً، التي جعلها الله لكم غذاءً ومركباً إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى(1). الذين يملكون العقول الراجحة ويستخدمونها وسيلةً للتفكّر في القضايا العقيدية المتصلة بخالق الكون والحياة، والتي يستدل عليها من دقة النظام، وعظمة الخلق، ووحدة القوانين الكونية.
الخط القرآني في العقيدة:
وهذا يمثّل الخط القرآني في مسألة العقيدة، فهو يحثّ العقل على التفكير في القضايا المطروحة في دائرة العقيدة، ليكون العقل هو الأساس في تكوين القناعات الدينية، لا الانفعال العاطفي. وبذلك تتلخّص المعادلة القرآنية، في أن الإنسان كلما ازداد عقلاً، انفتح على الإيمان من بابه الواسع، وكلما ضعف إدراكه العقلي وزاد انفعاله، ابتعد عن الإيمان وعن قضاياه، خلافاً للفكرة الشائعة التي يرددها الماديون، وهي أنّ المجتمع المتخلّف هو الذي يلتزم الطريقة الدينية في الفكر والحياة، بينما يلتزم المجتمع المتحضر المثقف الطريقة المادية في الفكر. فالقرآن يؤكد في مسألة تحصيل المعرفة عنصر الوجدان الذي ينفتح على إيحاءات الفطرة في العقيدة، وعلى عنصر العقل الذي يؤكد صفاء الفكر وعمق التأمّل في التفاصيل، لأن القضية ليست في وجود فكر ذي طابع ديني، بل هي قضية الفكر الذي يثير الإيمان من خلال العقل في المبدأ والتفاصيل بالطريقة التي تبتعد عن السطحية والخرافة.
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ فمن تراب الأرض كانت البداية، فنحن جميعاً من آدم، وآدم من تراب، كما أن كل المواد الغذائية التي كوّنت أجسادنا وأجساد آبائنا وأمهاتنا، قد أخذت من هذا التراب. وفِيهَا نُعِيدُكُمْ وإلى التراب ستعودون بعد الموت. وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى(1). عندما يأذن الله للحياة ببعثكم من قلب الأجداث. فأنتم جزءٌ من هذه الأرض التي خلقها الله ونظّمها وأدارها وأودع فيها قوانينه، وأنتم تخضعون لكل قوانين الحياة والموت فيها، كما أنكم تتحركون في الحياة وفيما بعد الموت بإرادة الله. فكيف تجحدون الله وتتمردون عليه، وتواجهون الحياة بعيداً عنه؟!
وبذلك، كان جواب موسى t لفرعون حاسماً في تجسيد عظمة الله في عقله وعقول قومه، من خلال التفكير الهادىء، والعرض الموضوعي، والاستعداد للامتداد بالحوار في جوٍّ تتحرك فيه المعجزة بطريقةٍ وبأخرى، ما جعل فرعون يشعر بالرهبة من هذه القوة الجديدة التي تواجهه، وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فيما قدّمه موسى t لفرعون من آيات الله التي تدل على صدقه في أنه رسول الله إليه وإلى قومه، وإلى الناس كافةً؛ في العصا التي تحولت إلى ثعبان حيّ، واليد السمراء التي تحوّلت إلى يدٍ بيضاء. فَكَذَّبَ وَأَبَى(2). كأمثاله من الطغاة الذين يعتبرون امتيازاتهم فوق كل منطق، وفوق كل حقيقة.
ولهذه الأسباب، لا يوافق هؤلاء الطغاة على الدخول في أي حوار جدّي حول قناعاتهم وأوضاعهم، لأنهم لا يريدون تغييرها، إذ قد يفقدون بذلك ـ بحسب رؤيتهم ـ مكاسبهم الذاتية ومواقعهم الطغيانية. ومن هنا، فإنهم يمتنعون عن القبول بالطروحات الفكرية المضادة، بل يبادرون إلى رفضها من غير تبرير، ويحاولون إثارة الشكوك حولها وحول الدعاة الذين يقدمونها ويدعون إليها.
وهكذا فعل فرعون في مواجهته لموسى t، عندما استخدم أسلوب الإثارة ضدّه حتى تقف جماعته في وجه موسى t بطريقة عدوانية، بذريعة الدفاع عن وجودهم في أرضهم، حين أثار قضية أنّ موسى t يريد اقتلاعهم منها وإبعادهم عنها بسحره.
الاتهام بالسحر:
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا موسى(1)، في أسلوب يستهدف إبعاد المسألة عن نطاقها الفكري الإيماني الذي يريد أن يحرّك العقول نحو اكتشاف الحقيقة بالدخول في حوار حولها، وذلك من أجل أن يضع الحقيقة في نطاق السحر الذي كان مألوفاً عندهم، فيما كان يستعمله السحرة من ألاعيب وأوضاع يسحرون بها أعين الناس، مما لا يرقى في نفوس الناس إلى مستوى القداسة، بل يعتبرونها جزءاً من امتيازات النظام الذي يعمل على إلحاق السحرة بخدمته، بما يمنحهم من أموال ومواقع، بشرط أن يتحركوا في مواقعه ويتبنوا مواقفه.
ثم نرى فرعون بعد ذلك يعمل على إثارة الناس ضدّ موسى t، كما يفعل الكثير من الإعلاميين اليوم في مواجهة الدعاة إلى الله والعاملين في سبيله، لإثارة المجتمع ضدّهم ببعض الشعارات المضادة التي تثير عدوانية الناس عندهم بحجة درء الأضرار التي تلحق بهم.
وانطلاقاً من هذا، تحرّك فرعون لإثارة البلبلة تجاه موقف موسى t فقال: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ، لأنّ طبيعة السحر لا تقابل إلا بسحر مماثل، وستجد هناك من هو الأقوى. فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً أي زماناً معيّناً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ، بل نلتزمه جميعاً مَكَاناً سُوًى(1)، أي مكاناً وسطاً في الساحة المشتركة. قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وهو من أعيادهم التي كانوا يجتمعون فيها ويتزيّنون وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى(2)، فيلتقون هناك في وقت الضحى ليعرفوا كيف يكون التحدي الرسالي المستند إلى قوة الله في مواجهة التحدي الفرعوني المستند إلى تهاويل الشيطان.
فتولّى فرعون لتهيئة السحرة الذين سيواجهون موسى t بالتحدي، في مشهدٍ عظيم يشهد فيه الناس ـ حسب تصور فرعون ـ هزيمة موسى t، فيقضي فرعون على أيّ أملٍ لدعوته إلى الإيمان بالله والكفر بكل الآلهة المزيّفين من الطغاة الجبابرة أمثاله ممن يدّعون الربوبية للناس، وبذلك يستقيم لفرعون عرشه وملكه وجبروته من دون خوفٍ من أية حالة اهتزاز من أي فريق كان، ولاسيما من هذا الشخص الذي أرعبه فيما قدّمه من الآيات الكبرى التي زلزلت طغيانه.
 
الاستعداد للمواجهة:
فَجَمَعَ كَيْدَهُ وقد تجسّد هذا الكيد بحشد السَّحرة الذين أعدّهم للتأثير على المجتمع، وذلك في عرضٍ مهيب للقوة التي يملكها أمام شعبه المأخوذ بسحر هؤلاء السحرة.
وهكذا كان فرعون يكيد للناس من خلال سحرته، فكانوا أدوات كيده وحِيَلِهِ وخِدَعِهِ أمام الآخرين من شعبه أو أقرانه أو أعدائه، وقد أعدّهم إعداداً هائلاً، ثم حشد الناس لذلك، ثم استكمل كل استعداداته للحدث العظيم، ثُمَّ أَتَى(1). وواجه موسى t من جديد، فوقف مع السحرة في موقع، ثم وقف موسى t في موقعٍ آخر.
وبدأت المواجهة، وحان وقت التحدي، ولكن موسى t النبي الرسالي لم يبغِ من وراء هذا التحدّي استعراضاً للقوة من أجل إيقاع الهزيمة بالسحرة كمنافسين لحساب الزهو الذاتي، بعيداً عن مسألة الرسالة الهادية التي تستند إلى التوعية على الإيمان لا على القهر والغلبة. ولذلك وقف وقفة الرسول الهادي المنذر لكل هؤلاء الذين جعلوا من أنفسهم أدوات لإضلال الناس خدمةً للطاغية الجبار من دون أن يحسبوا حساب النتائج السلبية التي توجب عذاب الله في الدنيا والآخرة.
وكانت خطة موسى t أن يثير فيهم الخوف من عذاب الله في أفكارهم ومشاعرهم، قَال لَهُم موسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيما تعتقدونه من عقائد باطلة، وفيما تنسبونه إلى مخلوقاته من قوى خفية غامضة، وفيما تتوسلون به من وسائل مزيفة خادعة، وتتمسكون به من شرائع باطلة كاذبة فَيُسْحِتَكُمْ أي يستأصلكم ويهلككم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى(1). لأنّ المفتري على الله لن ينال الفلاح في الدنيا والآخرة.
وقد أراد موسى t أمام هذا الجمع الغفير الذي يجمع الناس كلهم، وفي انتظار تعرّف مواقع القوة لدى فرعون، أن يبلّغ الرسالة الإلهية في الإنذار بالعذاب الذي قد يدفعهم إلى التفكير في الأمر بجديّة على مستوى المصير قبل أن يدخل معهم معركة التحدي، لأنه أراد أن يستفيد من هذا الاجتماع الواسع من أجل القيام بمسؤوليته أمام الله.
فماذا كان موقف هؤلاء من إنذاره؟ وكيف واجهوا الموقف؟ وكيف بدأت المعركة؟
وهذا ما سنتحدّث عنه تالياً إن شاء الله.
 


















    الموعظة الإنذارية
    المعركة الكبرى


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
الموعظة الإنذارية:
أراد موسى t الاستفادة من الاجتماع الواسع الذي دعا إليه فرعون، للقيام بمسؤوليته أمام الله، فأطلق موعظته الإنذارية في ذاك الجمع الذي كان يتقدمه السحرة، وربما كان خطابه موجّهاً إليهم لردعهم عن الخضوع لسلطان فرعون الذي أراد أن يستغلّهم للدفاع عن ملكه بغير الحق، باستخدام سحرهم في خط المواجهة للنبي موسى t، وقد سمعوا من موسى t كلاماً وعظياً لم يكن من عادة السحرة أن يتحدثوا بمثله، وهو كلام أثار بطبيعته القلق فيهم، ودفعهم إلى النزاع فيما بينهم من خلال الخوف والقلق والحيرة، لأنهم رأوا أن هذا الرجل لا ينطق بلغة السحرة الاستعراضية التي يراد بها التأثير على الجماهير قبل عرض سحرهم، بل كانت لغته لغة فكر وهدى وإيمان تنفذ إلى القلوب وتدخل في العقل، ما جعلهم يواجهون الموقف بالحذر من أن يكون هذا الرجل، الذي أراد لهم فرعون تحدّيه، صادقاً، ولاسيما فيما يتمثل في موقفه من القوة الروحية الخفية التي لا تنطلق من أصالة استعراض ذاتي، فقد كان مظهره في ثيابه البسيطة يوحي بالتواضع الإنساني الذي يحاول اجتذاب خصومه إلى ما فيه صلاح أمرهم، وإنقاذهم من النتائج السلبية التي تنتظرهم في مواقف الآخرة، إذا أصروا على طريقتهم في الأخذ بأسباب السحر الاستعراضي الذي يخطفون به عيون الناس، فيضلونهم بذلك خدمةً لفرعون.
وبدأ الخلاف يدبّ فيما بينهم؛ فكان هناك فريق اقتنع بصدق موسى t وسلامته الروحية، وتحرّك الشك في نفسه حول اعتباره ساحراً في الخط الذي يسيرون فيه، ولكن فريقاً آخر منهم أو من خارجهم، حاولوا أن يبعدوهم عن التفكير الهادىء في جوانب المنطق الموسوي، ليصرفوهم عن الموقع الحقيقي للموعظة التي خاطبهم بها موسى t في الدعوة إلى الإيمان بالله وحده، والكفر بالآلهة المزيّفة الباطلة، وليثيروا فيهم ما يهدد امتيازاتهم المادية والمعنوية في مواقع القوة الفرعونية، وليثيروا الجانب القومي والإقليمي الذي يربط الناس بالفئة الحاكمة، بالإيحاء بأنها هي التي تحمي للناس أرضهم ووجودهم فيها أمام الجهات التي تمثل الخطر الكبير في إلغاء وجودهم في أرضهم ومصادرة حرياتهم.
وهكذا نجح هذا الفريق في تدبير فكرته بطريقة خفية وَأَسَرُّوا النَّجْوَى(1). فلم يظهروها للناس، خوفاً من انتقال الشك الذي عاشوه في أنفسهم إليهم، وطرحوا المسألة من خلال الشعار المثير الذي يستهوي القلوب ويلهب المشاعر في تأثيره على الجماهير التي تخشى من أية خطة تخرجهم من أرضهم وتبعدهم عن مقدساتهم وتذهب بطريقتهم في الحركة والعبادة والحياة، قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِلا يملكان أية صفة للرسالة أو للنبوة، ولكنهما يتظاهران بذلك في منطقهما الذي يشبه منطق الأنبياء، حتى يسيطروا على الناس بطريقةٍ إيحائية بقداسة موقعهما، ليحققا أهدافهما العدوانية في إسقاط النظام الصالح الذي ينظِّم للناس حياتهم في أوضاعهم الخاصة والعامة، مما ورثوه من السلف من آبائهم وأجدادهم في التاريخ المتحرك بالقضايا الحيوية التي يتمثل فيها المصير المنقذ.
إنهما ـ حسب هذا المنطق ـ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا ليكونا الحاكمين على أنقاض الحكم الذي يتمثل بسلطة فرعون وقومه، بعد أن يسيطرا بالقوة السحرية الفاعلة على الأرض كلِّها، ويطردا أهلها منها، ليستبدلا بهم أهلاً آخرين من قومهما المستضعفين الذين يمنحانهم القوة الجديدة.
وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى(1). ويغيّرا كل أوضاعكم وتقاليدكم التي أخذتم بها، وعاداتكم التي سرتم عليها حتى أصبحت جزءاً من شخصيتكم القومية أو الوطنية، وحققت لكم الغلبة على مَن حولكم من الشعوب، وحصلت لكم بها الامتيازات في الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فهل تنتظرون منهما أن يحققا ما يريدانه، فتندموا على ذلك من حيث لا ينفع الندم بعد فوت الأوان؟!
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ بما تملكونه من حيلة سحرية، وخطة دفاعية، وهجمة جماعية، بكل وسائلكم وإمكاناتكم، في وحدة شعبية غالبة ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً واحداً لا مجال فيه للاختلاف ولا للتنازع، لتكونوا ـ بذلك ـ قوةً قاهرةً ساحقةً في مواجهة هذين الساحرين الخطِريْن، لأن الموقف هو موقف الفريق الأقوى الذي يغلب الآخر في معركة السحر. وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى(1). الذي وقف في موقف التحدي ونجح فيه وحصل على الموقع المتقدم في ساحة الصراع.
وهكذا نجحت الخطة الفرعونية في إبعاد السحرة وأتباعهم عن مواقع الفكر والحوار، ليكون الموقف هو موقف المجابهة والتحدي، ولكن إلى حين.
وبدأت التعبئة الجماهيرية من أجل جمع أكبر قدرٍ من الناس ليشهدوا انتصار فرعون على موسى t، وقد كان واثقاً من انتصاره، لأنه لم يقتنع بالقوة الخفية الإعجازية التي تتجاوز قدرة البشر وتقضي على كل مقاومة ضدّها.
المعركة الكبرى:
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ* لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِين(2)، فالمشهد الذي يتمثل في هذا الصراع يغري بالحضور، تماماً كما في المراحل السابقة عندما كانت المعركة تدور بين سحرة فرعون وسحرة غيره، فيتغلب الفرعونيون على أولئك في احتفال كبير يشبه الاحتفال بالعيد. وربما كان التعبير باتّباع السحرة يوحي بتأييدهم لهم، باعتبار أن الناس يتبعون الفريق الغالب. ولكن موسى t كان في موقع القوة التي منحه الله إياها، وأراد أن يوحي إلى الناس بأنه ليس ساحراً يستعرض قوته السحرية، بل هو رسول من الله يدعو إلى الهدى.
وَقَالَ موسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(1)، فسوف تكون الغلبة له، والهزيمة لفرعون وللظالمين من قومه الذين استكبروا في الأرض بغير الحق، في غفلة مطبقة عن الله والدار الآخرة التي سوف يواجهونها في حساب المسؤولية.
وبدأت المعركة الفاصلة بين موسى t وسحرة فرعون قَالُوا يَا موسى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى(2)، إن الساحة جاهزة للحدث، فهل تحب أن تكون البادىء بإلقاء عصاك لنرى ماذا تفعل، أو ترغب في أن نلقي حبالنا وعصيّنا لترى عظمة السحر الذي نملكه وقوة الموقع الذي نقف فيه، لتكون الهزيمة الساحقة لك؟ قَالَ بَلْ أَلْقُوا، لأن الخطة الإلهية كانت تقتضي أن يستنفدوا كل جهدهم، لتكون النتيجة في التحدي الكبير لصالح موسى t، باعتبار أنه لا يلقي عصاه كساحر، بل كرسول يملك الآية الإلهية الكبرى التي تختلف عن وسائلهم المتحدّية في استعراضهم الساحر.
فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى(3). في الصورة الظاهرية التي لا تختزن في داخلها عمقاً في الواقع، وحركة في الحقيقة، بل هي مجرد تخييلٍ في عالم الخيال الذي لا واقع له، مما يأخذ بالعيون التي تتراكض فيها الصورة بطريقةٍ شكلية لا عمق فيها، فليست هناك حركة للعصي، بل هي خيال في المشهد الساذج، ممّا يتقنه هؤلاء من فنون السحر من أجل الإيحاء بالرهبة التي تزلزل قلب موسى t وروحه، وتهزم موقفه فيما كانوا يفكرون فيه، وفيما يملكونه من الفنّ العظيم الذي يسحر العيون، ويخلب الألباب، حتى كاد موسى t ـ في انجذاب لا شعوري ـ يتأثر بذلك، في إحساس بشريّ طبيعي بالصدمة السريعة التي تتوجه إليه، بحيث طاف به خيال الإنسان الذي يتأثر بسرعة بما يحيط به في عالم التحدي.
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى(1). حين راوده الضعف البشري، خصوصاً أنّه لم يكن قد اطّلع على التدبير الإلهي بكافة تفاصيله وجزئياته في مواجهة مثل هذه التجربة الجديدة في ساحة الصراع، فتسرّب الخوف إلى نفسه في إحساسه الشعوري أمام الصورة التي توحي بالخوف تلقائياً. ونحن نعرف أن الأنبياء في بشريتهم الإنسانية الطبيعية، لا يختلفون عن البشر الآخرين في خضوعهم للضعف البشري الذي لا ينافي الكمال والعصمة الروحية.
وهكذا كان موسى t ينتظر لطف الله ونداءه له في تعليماته ليطمئن قلبه بالفوز والنجاح والانتصار في هذه المعركة الفاصلة. وجاءه الصوت الإلهي بكل قوة الموقف: قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى(2)، لأن موقفك هو موقف الحق في حركة الإعجاز الخارق للعادة الذي يستمد قوته ومصداقيته من الله سبحانه خالق كل شيء، ومصدر القوة لكل قوي، والذي أعطى للأشياء حياتها في عملية الإحياء الطبيعية، أو في موقع المواجهة للأقوياء الذين يخططون لإسقاط القضية الرسالية الكبرى بألاعيبهم السحرية، فلا قوة إلا منه، وهو الأعلى في كل موقع.
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا فتتحول إلى حية عظيمة تأكل كل هذه الحبال والعصي المتحركة المشابهة للحيات الحقيقية دون أن يكون لها حقيقة في الواقع. إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ، بما تعنيه الحيلة من سرعة الحركة والتأثير على لمعات العيون، واللعب على المشاعر، وتغيير الشكل بطريقةٍ فنية ساحرة. ولا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(1)، لأن ما يقوم به السّاحر ليس إلا مجموعة حِيَلٍ وخِدعٍ يسحر بها أعين الناس، ويصادر بها عقولهم، وهو يعلم ذلك تماماً، وهذا ما يجعل مواقعه سريعة الاهتزاز والسقوط، بما يمثله الباطل من الاهتزاز على أكثر من صعيد.
وألقى موسى t ما في يده، فإذا بالعصا تتحول إلى حيةٍ حقيقيةٍ تسعى وتتحرك باتجاه ما صنعوا، حيث أكلت كل الحبال والعصي، فلم يبقَ منها شيء، وحدّقت عيون السحرة بها، ثم بدأوا يمسحون عيونهم؛ هل هناك غشاوة عليها، أو أن ما يرونه هو الحقيقة؟ إن هذا ليس سحراً، فهم يعرفون جيداً فنون السحر مما يعلمونه أو يعلّمونه للناس، وبدأوا يستذكرون كلامه عن الله وعن الإيمان به وعما ينتظره المفترون عليه من العذاب، وبدأت عملية المقارنة بين ما سمعوه منه في البداية، وما رأوه الآن من فعله، فآمنوا بأن هذا الرجل رسول من الله، وليس ساحراً تقليدياً من فصيلتهم.
وهكذا تعاظم شعورهم بالإيمان، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً، وأعلنوا الموقف بشكل مفاجىء سريع قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَموسى(1)، وكفرنا بفرعون وما يأمرنا به من عبادة غير الله.
هذا ما جاء في سورة طه. أما في سورة الأعراف، فقد تحدث الله سبحانه عن تأثير حركة السحر بطريقةٍ أوضح، قال تعالى: قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ(2)، بحيث ألقوا الرهبة في نفوس الناس من خلال الدقة في سحرهم، إذ بدا أن العصي والحبال تحوّلت إلى ثعابين تلاحق الناس كما لو كانت حقيقية، أما عصا موسى t، فقد ألقاها وَأَوْحَيْنَا إِلَى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ* فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ(3)، وبذلك وقعت الهزيمة في موقع الفراعنة وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ موسى وَهَارُونَ(4)، لأن ما جاء به موسى t كان فوق قدرة السحرة، على الرغم مما بلغوه من القدرة العلمية الفنية في معرفتهم بالسحر.
وقد جاء في حديث موسى t في ردّ فعله على ما أطلقوه وحرّكوه من السحر: فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ موسى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ(1). وهكذا انتهت المعركة بإيمان السحرة الذين استقوى بهم فرعون لإسقاط موسى t في دعوته إلى الإيمان بالله، لأنهم رأوا في سرّ عصا موسى t سرّ الله في قدرته التي أعطت الحياة للعصا كما أعطت الحياة لكل حيّ، فآمنوا من موقع المعرفة الواعية التي تعرف الفرق الكبير بين السحر والمعجزة.
هذا ما كان من شأن السحرة، فكيف كان ردّ فعل فرعون على هذا السقوط الكبير والإحباط العظيم؟!
للحديث بقية إن شاء الله، والحمد  لله رب العالمين.

 
















    الصدمة العنيفة
    فرعون يهدّد السحرة
    الإشراق الإيماني


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
نواصل الحديث عن تجربة النبي موسى t، وما تركه من أثر كبير في الجولة الأولى من المواجهة مع فرعون وحكمه.
الصدمة العنيفة:
كان إيمان السحرة بالله بعد طرح النبي موسى t الآية الكبرى، صدمةً عنيفة لفرعون أسقطت جبروته السلطوي أمام الجماهير الغفيرة التي حشدها في ساحة التحدي ليشهدوا انتصاره على موسى t، فكانت المفاجأة أنهم شهدوا هزيمته. ولقد حاول أن يغطّي سقوطه الساحق بالاتجاه إلى تهديد السحرة واتهامهم بالتبعية للنبي موسى t، وبأنّه ربما كان هو المعلّم الذي تلمّذوا عليه، وأنّ هناك مؤامرة خبيثة ضدّه، فلم يكن ـ في منطقه التبريري للهزيمة ـ يعتبر أن هناك فريقين في المعركة، بل كان يرى أنّ هناك فريقاً واحداً، وهو فريق موسى t والسحرة، يقف ضدّه.
وهكذا بدأ حديثه معهم بتوجيه تهمة التمرّد على الشرعية القانونية التي يعتبرها ممثلةً به، والتي تقتضي منهم الالتزام بأوامره ونواهيه، فليس لأحدٍ أن يقوم بأيّ عمل أو يتّخذ أيّ موقف إلا بإذنه، ولاسيما هؤلاء السحرة الذين يمثلون القوة الفاعلة المرتبطة بسلطته الشرعية، والسائرة في مواقع حركته في معارك التحدي التي يبحث فيها عن انتصارات ضد أعدائه، وهذا ما خاطب به هؤلاء: قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ(1)، فكيف فعلتم ذلك؟ إنها الجرأة على الإله السيّد العظيم ـ وهو فرعون نفسه ـ الذي لا يجوز لأحد،ٍ مهما كانت رتبته، أن يقوم بأيِّ عملٍ أو يعلن أيّ موقف يتعلّق بنفسه أو بالآخرين، إلا بعد أن يحصل على موافقته، فهو الذي يحدّد لهم ما يصلح حياتهم أو يفسدها، لأنه هو الذي يعرف ما لا يعرفونه من أمور الحياة.
ثم حاول أن يغطّي فشله وضعفه، وأن يمنع الناس من التأثّر بموقف السحرة الإيماني أمام موسى t، فعمل على تصوير المسألة بصورة الحالة التآمرية الخفيّة الحاصلة بين موسى t والسحرة للقيام بهذه التمثيلية المسرحية للإيقاع به، وإضعاف ملكه، وإخراج أهل مصر من مصرهم، إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ، وشبّه دورهم (أي دور السحرة) بدور التلاميذ الذين يخضعون لأستاذهم فيما يأمرهم به وينهاهم عنه، وفيما يوجِّههم إليه، ليوحي بأنّ دورهم كان امتداداً لدور موسى t . وبذلك حاول أن يستوعب مشاعر الجماهير لمصلحته، تماماً كالكثيرين من الطغاة الذين يحاولون أن يدرسوا مع الأجهزة الأمنية الإعلامية، ما هي أفضل الوجهات التي يمكنهم إثارتها أمام الفئات المعارضة التي تهدّد سياستهم وحكمهم، ليلصقوا بهم مختلف التّهم التي تحاصرهم في الساحة الجماهيرية، تخفيفاً من تأثيرهم على الآخرين، وبذلك قد ينجحون في عزلهم عن الأمة، مستغلّين عجز الناس عن فهم ألاعيبهم وأسرارهم.
وهذا ما يجعلنا نستوحي من الأسلوب الفرعوني، كيف نواجه أسلوب الكثيرين من الفراعنة المعاصرين والمستقبليين، فيما يضلّلون به شعوبهم تجاه التحديات التي توجّه إليهم.
والملاحظ أن فرعون كان يعرف أن هذه التهمة للسحرة هي تهمةٌ غير حقيقية، لأن موسى t قد تربّى في بيت فرعون منذ ولادته حتى بلوغه سنّ الشباب، وقد قال له: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(1)، وكان موسى t يتحرك في المجتمع الذي يسيطر عليه فرعون وقومه، وربما كانت علاقات موسى t مستمرةً مع فرعون قبل قيامه بقتل القبطي، ولم يعهد أنّ موسى t مارس أي عمل من أعمال السحر، أو ارتبط بأية جهة ممن يمارسون السحر، أو تعلّم من أيّ شخص هذا الفنّ، فكيف تحوّل في منطق فرعون إلى أن يبلغ درجة كبير السحرة الذي علّمهم؟!...
ومن جانب آخر، فإنَّ السحرة كانوا يمثلون الجيش الاحتياطي الذي يحارب به فرعون أعداءه وينتصر بهم عليهم، وكانوا معه في كل تاريخهم، فهم يعيشون معه، ويترددون على مجلسه، وينشئون العلاقات مع قادة ملكه، وينعمون بما يمنحهم إيّاه من امتيازات عظيمة، بحيث يعرف عنهم كل أوضاعهم، منذ بدأوا الأخذ بأسباب الفن السحري، إلى تلك المرحلة في المعركة مع موسى t، فكيف يتهمهم بأنهم تلاميذ موسى t وأنهم يتآمرون عليه، خصوصاً أنه عندما استدعاهم إليه، كانوا يطلبون الأجرة على مشاركتهم في المعركة، وذلك قوله تعالى: وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(1)، ما يدل على أنه كان يعرف أن وقوفهم معه وخدمتهم له، كانت طمعاً في ماله أو في الحصول على مواقع القرب منه؟!
وربما كان الناس يعرفون ذلك من خلال نظرتهم إلى أمثال هؤلاء الذين يجتذبهم الطاغية إلى مواقع حكمه من أجل الاستعانة بهم للوصول إلى أهدافه، أما هم، فلم تكن علاقتهم به إلا علاقة مادية من أجل الحصول على الأجر منه. ولكن الطاغية فرعون لم يكن يهمه اقتناع الناس بمصداقيته فيما يطرحه من اتهامات وشعارات، بل كل ما كان يهمّه هو أن يقدم تبريراً لواقع الهزيمة، تخفّفاً من الإحراج الذي واجهه، والصدمة التي أسقطت عنفوانه وأضعفت قوته.
فرعون يهدّد السحرة:
ثم بدأت عملية التهديد بالعقاب، في محاولةٍ فرعونية لدفعهم إلى التراجع عن موقفهم، والابتعاد عن موسى t، ليضمن بذلك الحصول على بعض ما فقده من القوة المعنوية أمام الجماهير، فقال لهم: فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى(2)، فهو يهددهم بأنهم سيندمون على موقفهم في تآمرهم مع موسى t وتمردهم عليه، لأن موسى t لا يملك أي شيء من سلطة الدنيا وسطوتها وأموالها التي يرغبون في الحصول عليها، فهو الذي يملك كل شيء من حوله، ويملك مواقع القوة والنفوذ، أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي(1)، فأعطي من أشاء، وأمنع من أشاء، وأقتل من أريد، وأعفو عمّن أريد؟!
ونلاحظ أن هذا المنطق الفرعوني لا يمثل منطق القوة، بل هو موقف ضعف، لأن استعراضه لكل قوته أمام السحرة في تهديده لهم، وإعلانه إنزال العذاب بهم بهذه الطريقة الوحشية من القتل، يدل على شعوره بأنه فقد أكثر المواقع من موازين القوة، لأن هؤلاء كانوا يمثلون الفئة التي يتحدى بها الآخرين، وقد كان منطقه هذا يوحي بأنهم يمثّلون الندّ له في عملية التوازن فيما بينهم.
ولكن السحرة كانوا قد دخلوا في عالم آخر؛ في آفاق الروح الواسعة، فقد التقوا بالله في روحية الإيمان به، وانفتحوا من خلاله على عالم القدس والصفاء والطهارة، وعاشوا في عالم الغيب المطلق الذي لا تحدّه أية حدود، وانفصلوا عن عالمهم المحدود في أمور الدنيا، فلم تعد الدنيا تمثل لهم أيّ هدفٍ أو غايةٍ في أيّ طموحٍ ماديّ في غناها وفقرها، ورفعتها وضِعتها، وقوّتها وضعفها، بل أصبحت الآخرة في رضوان الله ورحمته وعفوه ومغفرته أكبر همّهم، وأفضل طموحاتهم. ولذلك كانت مواجهتهم له من موقع إحساسهم بالقوة الكبيرة المتحدية، فيما ارتفعوا إليه في سماوات الروح، وفي انفتاحهم على المعاني الروحية الهادئة الصافية المطمئنة، والسكينة النفسية العميقة.
الإشراق الإيماني:
وكان ردّهم: قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ(1). من دلالات واضحة ظاهرة تؤكد لنا الحقيقة من دون شكٍّ أو شبهة، فكيف نتنكّر لها ونتركها من دون أساس؟ وماذا تمثل أنت أمام الله تعالى، خالقنا وخالق الناس كلهم والكون كله؟ إنك مجرد إنسان ضعيف في تكوينه البشري، لا تملك لنفسك نفعاً ولا ضراً إلا بالله الذي هو وليّ الحياة والموت، أما المال الذي تملكه، والأرض التي تسيطر عليها، فإنهما مجرّد عرَض زائل يزول حيث تزول، ويفنى حيث تفنى، ولا يبقى لك من سيطرتك على مقدرات المال في خزائنك وفي أرضك شيء تزهو به أو تستعرضه في مواقع القدرة عندك.
ثم ماذا تمثل أنت أمام حقيقة الإيمان في مواجهة ما يختزنه فكرك، وما تتحرك به في خطك من الباطل؟ وماذا تمثل طريقتك في الحياة التي تدفعك إلى الاستكبار على الناس والاستعلاء عليهم، إحساساً منك بانتفاخ الشخصية وضخامة الذات؟ وما هي قيمك في المعنى الإنساني للقيمة؟ وما هي شريعتك في إصلاح الناس وتدبير أمورهم وتركيز أوضاعهم على الخط المستقيم؟ وما هي مفاهيمك في الانفتاح على حقائق الإنسان والحياة؛ هل تثبت بالمقارنة أمام قيم الإيمان ومفاهيمه؟
إن الحقيقة تفرض نفسها علينا، وهي أن شريعة الله هي شريعة الحق، وأن شريعة أمثالك من الطغاة وأتباعهم هي شريعة الباطل، ولذلك فإننا لن نؤثر الباطل على الحق مهما كانت الإغراءات، ومهما كانت التهديدات، ولن نؤثرك على الله ربنا وَالَّذِي فَطَرَنَا وخلقنا وأوجدنا وأفاض نعمه علينا، وما زال يرعى حياتنا بنعمه ولطفه ورحمته، فمن أنت أمام الله؟ وما هو حجمك؟ وما هي قيمتك؟ وما هي قوتك؟ وما دورك بالنسبة إلينا وإلى بقية الناس، ليكون لك علينا وعلى الناس حقّ الطاعة؟
من أنت؟ إنك مجرد مخلوقٍ ضعيف لا تملك لنفسك نفعاً ولا ضراً ولا حياةً ولا موتاً إلا بالله. وما هي قدرتك؟ ومن أين لك كل هذه الإمكانات والوسائل لو لم يمنحك الله إياها، فهي من الله الذي أعطاك إياها لحكمةٍ، وسيسلبك إياها في أيّ وقتٍ في حياتك أو عند موتك؟ فماذا تريد؟ وماذا تستطيع أن تفعل؟ فإنك قد تملك السيطرة الغاشمة على أجسادنا، ولكنك لن تملك السلطة على عقولنا وأفكارنا وأرواحنا ومشاعرنا التي ترفضك وترفض كل ملكك وسلطانك وكل ألاعيبك، كما ترفض طريقتك في إضلال الناس واستغلال جهلهم وسذاجتهم وضعفهم في إلزامهم بالواقع المنحرف الكافر الذي تتحرك فيه وتتحكم به.
فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذه الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(1)، هل تريد أن تقتلنا؟ هل عندك أكثر من التمثيل بنا وصلبنا؟ إننا لن نخسر الكثير، إنها حياتنا الدنيا نفقدها ونفقد شهواتها ومنافعها ولذّاتها ونخسرها، ولكنها لن تكون الخسارة الكبيرة، لأنّنا سنفارق هذه الدنيا إن عاجلاً أو آجلاً، وسوف نربح الدار الآخرة من خلال هذه الشهادة التي يكرمنا الله بها من خلال عدوانك علينا، من أجل إيماننا بالله، وموقفنا من الحقّ، والتزامنا بتوحيده وعبادته وطاعته، وسوف ننتقل إلى دار الرحمة التي تنتظر المؤمنين فيما أعدّ الله لهم من نعيم الجنة وسعادة الرضوان.
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا(1). التي أسلفناها في ماضي حياتنا، في ممارساتنا الذاتية تجاه أنفسنا، وفي مساعدتنا لك في تضليل الناس وحرفهم عن صراط الحق، وها نحن نتوب إليه من موقع الإيمان به، والالتزام بخطه المستقيم في الحياة، ليغفر لنا ذلك كلّه وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْر، الذي كان وسيلةً تخدع بها الناس وتضلّهم لمصلحتك، حيث كنا مستكرهين لما فرضته علينا من سلطتك الغاشمة، ولما أغرقتنا فيه من ضلال، وحدَّدته لنا من دور، وهدَّدتنا به من قوة ساحقة، وأغريتنا به من مالٍ وجاهٍ وسلطة.
وها نحن نتضرع إلى الله تعالى أن يغفر لنا واقعنا المنحرف كله، وستزول أنت، وسيزول ملكك عاجلاً أو آجلاً، وسيزول كل هؤلاء الذين من حولك، ممن يزيّنون لك الباطل، ويشوّهون لك الحقّ، ويساعدونك على ظلم الناس، ويمنعونك من الحكم بالعدل والأخذ بأسبابه، ويبقى الله القادر الملك القاهر فوق عباده، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، لأنه الربّ العظيم الذي يرحم خلقه ويرعاهم ويهيّىء لهم السعادة في الدارين إذا أطاعوه وعملوا بما يحبّ ويرضى. وقد جاءت هذه الفقرة التي تتحدث عن أن الله خيرٌ وأبقى، ردّاً على كلمة فرعون بأنه الأبقى في تهديده للسحرة.
وهكذا استطاع هؤلاء المؤمنون أن يقفوا الموقف الذي يؤكِّدون فيه إيمانهم وتمرّدهم على كل التهديدات الفرعونية القاسية التي وجَّهها إليهم، لأنهم تخطّوا بإيمانهم بالله وانفتاحهم على عالم الغيب، كل مواقع الخوف ونقاط الضعف، وانطلقوا مع قوة الله التي لا قوة فوقها.
وهذا هو الدرس العظيم الذي يقدّمه القرآن للمجاهدين، الذين قد يقفون مثل هذا الموقف أمام طغاة زمانهم، فيواجهون التهديد بالسجن والقتل والصلب، ليتنازلوا عن مواقفهم، وليتركوا مواقعهم، وليسقطوا أمام التجربة الصعبة، ليتعلّموا من هؤلاء السحرة الذين رفضوا كل الامتيازات التي كانوا يملكونها في حكم فرعون، من مال وسطوة وجاه، لأنهم اختاروا الإيمان على الكفر، والهدى على الضلال، والتزموا بالله وتركوا فرعون، فلم تعد الدنيا تمثّل لهم أيّ شيء أمام الآخرة التي تمثّل لهم كل شيء.
وللحديث بقية إن شاء الله. والحمد  لله رب العالمين.

















    السلطة المزيّفة
    المنطق الفرعوني
    طريق ذات الشوكة
    منطلقات العمل


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
السلطة المزيَّفة:
بدأ عرش فرعون يهتزّ على مستوى موقعه الاستكباري، وحاله النفسية، ونظرة الكثيرين من الناس إليه، خصوصاً ممّن حضروا المعركة التي دعا إليها ضد النبي موسى t من خلال السحرة، ليشهدوا انتصاره الكاسح الذي يؤكد فيه أنه الأقوى والأعلى. أما موسى t، فقد استطاع أن يستوعب قومه في أجواء عاطفية تثير الأمل في نفوسهم، وتوحي بالإيمان في أفكارهم، وبدأوا يلتفّون حوله تحت تأثير تلك الأجواء، لأنهم شعروابأنهم حصلوا على بعض الحرية نتيجة هذا السقوط العنفواني الفرعوني، حيث استطاع موسى t أن يُثبت أنه الأقوى في هذه المعركة، وهو أمرٌيساعد على تطور الأمور لصالحه، وحصوله على تحرير قومه من استعباد فرعون لهم، لأنّ قوة موسى t في هذه المعركة الفاصلة، أوحت إلى الجماهير في تلك المنطقة، بأنه أصبح هناك قوتان في الساحة، وهما قوة فرعون وقوة موسى t، بعد أن كانوا يرون أن هناك قوة واحدة، وهي القوة الفرعونية.
وهكذا بدأ موسى t يتحرك في الساحة من موقع هذه القوة المنفتحة على الواقع في ساحة قومه الذين التزموا بقيادته عاطفياً، سواء كانوا ممن آمن به، أو لم يؤمنوا به ولكنهم خضعوا له. وربما رأى قوم فرعون بعضاً من هذا الالتفاف العاطفي الجديد، أو سمعوا عنه شيئاً من مخابراتهم الخفية، إن لم يكونوا قد رأوا هذه الظاهرة البارزة في الواقع، وأخذوا يفكرون: ماذا يفعلون تجاه هذا التطور المخيف في حركة هذه الجماعة التي كانت تمثل الفئة التي يستقوي بها فرعون في حربه على الأعداء، وفي سلطته الداخلية، لأنهم كانوا العبيد المستضعفين الذين يتلقون الأوامر والتعليمات، فيطيعون؟
وبدأ التيار الفرعوني، من خلال الذين يمثّلون السلطة في مواقعهم وامتيازاتهم القانونية وامتداداتهم الشعبية، يواجه المسألة بخوف وحذر، وأخذ يفكّر في القضاء على حركة موسى t وهي في بداياتها الأولى، وكان حديثهم مع فرعون لإثارته ضد موسى t وقومه، ليستخدم العنف الساحق ضدهم قبل أن يتضخم تيار المستضعفين الذي يقوده موسى t، فيهدّد السلطة القائمة، ويسيطر على الوضع الداخلي في حركة الحكم في الساحة الجماهيرية التي يحكمها فرعون وقومه. ولربما لم يكن فرعون بحاجةٍ إلى مثل هذه الإثارة، لأن صدمته العنيفة كانت كفيلةً باستثارته على المدى القصير أو الطويل.
وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ(1)، من خلال القوة الجديدة التي حصلوا عليها؟ وذلك هو منطق الطغاة الحاكمين في ما يثيرونه ضد خصومهم في الساحات الشعبية، من المعارضين لسياستهم وحكمهم وإدارتهم لأوضاع الناس، من عناوين الإصلاح والإفساد، فينظرون إلى كل عملٍ يدعم حكمهم أو نظامهم أو سيطرتهم الواسعة، أو يهيّىء لهذا الحكم سُبُل الاستقرار والاستمرار، على أنه من أعمال البناء والإصلاح، فيما يرون أنّ أي عمل ينقض هذا الحكم ويعمل على تغييره وإضعافه، ويساهم في إثارة الأجواء ضدّه، ويتحرك باتجاه زلزلة قواعده واهتزاز أركانه، كمقدّمة للانقلاب عليه، على أنه من أعمال الهدم والإفساد.
وفي ضوء هذا، كان هؤلاء القوم ـ قوم فرعون ـ يعتبرون الدعوة إلى توحيد الله، ونبذ الشرك، ومحاربة الطغيان، والقضاء على الظلم، وتحرير العبيد من المستضعفين، وغير ذلك من المفاهيم الرسالية التي كان يدعو إليها موسى t، ويسير عليها مع المؤمنين من قومه، حركة إفساد في الأرض، لأنه ينطلق في خطة تغييرية تقلب الموازين، وتفتح الذهنية على أفق إنساني جديد للحرية، فلا يبقى أحدٌ من أصحاب الامتيازات الزائفة الظالمة، ولا يذر أي إله في الأرض، ممن يعتبرهم الناس أو يعتبرون أنفسهم آلهةً، سواء كان فرعون أو ما يعبدونه من الأصنام، ولا يبقى في الوجدان العام للناس إلا الله الذي لا إله إلاّ هو. وهذا ما أراد قوم فرعون أن ينذروه به في إثارتهم له وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ في وحدةٍ موحشةٍ قاتلة، بحيث لا يبقى معك أحد من هؤلاء الذين كانوا يتبعونك ويتعبدون لك ولآلهتك.
المنطق الفرعوني:
وجاء الردّ الفرعوني الذي يمثّل منطق الطغاة الذين لا استعداد لهم للمناقشة في الأوضاع الجديدة التي لا تنسجم مع أوضاعهم ومصالحهم ومواقعهم، ولا طاقة لهم في مشاعرهم الذاتية للتفكير في الموضوع، أو لإدارة الحوار مع القوى المعارضة المضادّة، بالتهديدبالقوة التي يملكونهافي مواجهة الضعفاء الذين لا يملكون أي ميزان للقوة المادية في حياتهم.
قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْسنقضي على الأجيال الجديدة التي قد تتحول إلى قوة شعبية لمصلحة موسى t، فلا يبقى منهم أحد يقوى على المواجهة وحمل السلاح وتخريب الأوضاع والسيطرة على السلطة وإضعاف مواقعنا، لأن الذكور عادةً هم وقود الحرب ومواقع القوة فيها، وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ فنبقيهنّ كإماء وخادمات، لأنّ النساء لا تمنح القيادة أو أية قوة في المواجهة، فلا يمكن لموسى t وأخيه هارون t أن يحصلا من خلالهنّ على أية قوة، وبذلك لا يبقى ـ بفعل هذه الخطة ـ أي شخص قويّ في هذا الاتجاه، ولن يبقى إلا نحن الأقوياء الحاكمون الذين يمتد سلطاننا وتتضاعف قوتنا وتخضع لنا الجماهير.
وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ، عندما نستخدم هذه القوة القاهرة من الرجال والسلاح والأموال والمُلك الطاغي، فأين يكون موقع هؤلاء المستضعفين؟ وكيف سيثبتون أمام كل هذه القوة التي نملكها، وكل هذا الجبروت الطغياني؟ فلا تخافوا على سلطاني وسلطانكم، وعلى آلهتي وآلهتكم، فإن المستقبل الكبير سوف يكون لنا، كما هو الحاضر الذي نعيش فيه. وربما ترك مثل هذا التهديد أثره السلبي في نفوس قوم موسى t الذين عاشوا ذهنية العبودية المملوءة بالخوف من السيّد الفرعوني، الذي كانوا خاضعين لسلطانه، فلم يبقَ لديهم أي إحساس بالقوة من خلال هذا الضعف التاريخي الذي كان مسيطراً على المشاعر والأحاسيس.
أما القوة التي فاجأتهم في انتصار موسى t الذي كان انتصاراً لهم، لأنه منهم وفي موقع القيادة لحياتهم، فقد كانت تمثل التجربة الأولى للواقع الجديد، وربما لم يصدّقوا ما رأته عيونهم، وما سمعته آذانهم من الظاهرة المتمثلة بالمعركة الفاصلة بين فرعون ـ في هزيمة سحرته ـ وموسى t في انتصاره الكبير، ولم يكن إيمان المؤمنين بموسى t قد أخذ الصلابة القوية، ولم تكن عزيمتهم قد قويت، بل كانوا يهتزون أمام الوعيد الفرعوني في الحاضر، كما كانوا يهتزون أمام وعيده في الماضي، فوقف موسى t يشدّ من عزائمهم، ويقوّي إيمانهم وثقتهم بالله، ويبعث فيهم روح الصبر والثبات، ليفتح أمامهم نوافذ الأمل وأبواب الرجاء.
طريق ذات الشوكة:
قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ(1)، فإن الوصول إلى الغايات التي يسعى إليها الإنسان المؤمن، لا بد من أن يمرّ بأكثر من مرحلة، ولكلّ مرحلةٍ مشاكلها وتحدياتها وآلامها، فلا بد من الصبر الذي يمنح الإنسان التوازن في الموقف، والانفتاح في التفكير من أجل مواجهة الواقع الصعب، وعدم الوقوع في قبضة الانفعال الذي يشلّ عقل الإنسان وتفكيره، ويقوده في النهاية إلى الهاوية، فلا تتجمّدوا أمام المرحلة الحاضرة لتعتبروها خاتمة المطاف، بل عليكم أن تتطلعوا إلى ما كان عليه هؤلاء قبل هذه المرحلة وسيطرتهم عليها، فهم لم يكونوا شيئاً في الوجود ولا في السلطة، بل كان هناك قومٌ آخرون، أورثهم الله الأرض طبقاً لسنّته في الكون، ومضوا كما مضى الذين من قبلهم، وجاءت بهؤلاء إلى السلطة ظروف موضوعية هيّأت لهم وراثة هذه الأرض في الموقع والحكم والسيطرة والملك، وسيزولون كما زال غيرهم، إن عاجلاً أو آجلاً، ويبقى الأمر كله لله مالك الوجود كله، في الأرض والسماء والإنسان.
إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وذلك تبعاً لتطوّر مراحل التاريخ التي تنقل الحكم من جيلٍ إلى آخر، ومن فئةٍ إلى أخرى، فقد ينتصر الظالمون في معركة، وقد ينهزمون في معركة أخرى، وهكذا تتحرك سنة الله في الكون على أساس حكمته وتدبيره في ربط المسبّبات بأسبابها، ولكنها مجرد مراحل تبدأ وتنتهي من دون عمق وامتداد وتجذّر في الحياة.
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الذين يجسِّدون إرادة الله في إصلاح أمور الحياة، في الحكم والشريعة والعقيدة، على قاعدةٍ صلبة تؤكد للإنسان مفاهيمه الواسعة الثابتة، وأوضاعه المستقيمة الهادفة، وتحرِّك التقوى في داخله، لتستوعب ذلك كله في خطة حكيمة ممتدة، يحكم مراحلها الوعي والصدق والأمانة والإخلاص.
وهكذا يريد الله من المؤمنين أن يعملوا للسير في خط التقوى في حياتهم، من أجل أن يجعلوا من أنفسهم القيادة الواعية الملتزمة، التي تتحمل الصعاب والمشاقّ والتحديات بروحٍ قويةٍ صابرة، لأن مسألة حكم الأرض وقيادة الإنسان في مواجهة التيار الكافر الضاغط، ليست مسألة كلماتٍ تُقال، وليست انفعالاً يتشنّج ويصرخ، أو عبادةً تبتهل وتخشع، ولكنها المواقف التي تفكّر وتتقدم وتصبر وتواجه التحديات بروح العزيمة والقوة، وبإرادة الإيمان والإخلاص الباحث دائماً عن لطف الله وروحه ورضوانه في كل خطوةٍ من خطوات الطريق.
ولم يكن قوم موسى t قد بلغوا هذا المستوى من الوعي الذي يفهم معنى المرحلة في اتجاه الهدف، ومعنى الصبر في مسيرة الوصول إلى الغاية، ومعنى التوكل على الله في الانطلاق نحو غيب المستقبل بقوّة، فكانوا يتألمون مما يلاقونه من آلام بعد أن ساروا مع موسى t، ويرون أن الحال لم تتغير بعد الالتزام بقيادته، وها هي الآلام تمتد بهم معه، فما الذي انتفعوا به من خلاله؟ فلا تزال المشكلة هي المشكلة، والواقع هو الواقع.
قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا(1)، إنه منطق الضعفاء الذين لا يعرفون معنى حركة القوة في الداخل من أجل تنمية روح التحدي في الواقع، فهم لا يتعاملون مع القضايا التي يعيشونها من موقع العلاقة بالأهداف الكبيرة البعيدة في مستقبل الحياة، بل يتعاملون معها من موقع المشاعر والانفعالات فيما تختزنه من همومٍ وآلام.
منطلقات العمل:
إنّهم يعيشون في جوّ الإحساس دون التفكير في مضمون المشكلة، لأنهم لا بد من أن يعرفوا أن هناك فرقاً بين الإيذاء الذي يتعرض له الإنسان الذي لا يحمل أية قضية، فيزيده هذا الأذى شعوراً بالانسحاق والإحباط، ويأسره إحساسه بالألم الذي لحق به في اللحظة الحاضرة، وبين الإيذاء الذي يتعرض له وهو يحمل قضية، ويتحرك من أجل رسالة، فيزيده الأذى شعوراً بالقوة والصلابة، لأنه يضاعف معنى التحدي في مشاعره وأحاسيسه، في عملية إيمان بالقضية الكبيرة التي لا بد لها من أن تستمر معه في مسيرته الجهادية، لتحلّ المشكلة من جذورها بعيداً عن كل عوامل التخدير.
ولهذا، فإن مثل هذا الاتجاه لا يرتاح لعملية التهدئة، بل ينطلق دائماً في أجواء التثوير، لأن المسألة ليست مسألة ذاتٍ تريد أن تستريح، بل هي مسألة أمّة تريد أن تتحرك وتتقدم، ومسألة واقعٍ يريد أن يتغيّر، وهذا ما أراد موسى t أن يثيره في الانفتاح الإيماني على الله في حالات الشدة، والثقة بوعده في حالات الضيق، فذلك هو الذي يجدّد في الإنسان روح القوة، ويبعث في روحه معنى الأمل.
قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ، كما أهلك الطغاة من قبله بالطريقة المباشرة وغير المباشرة، فقد أعدّ الله للطغاة مصيراً لا يستطيعون الهروب منه، ولكنّ لكل شيء وقتاً لا يتعداه، تبعاً لما أودعه الله في حركة الحياة من أسرار حكمته، فليكن أملنا بالله كبيراً، ونحن نعمل في سبيل تهيئة الظروف التي تتحقق فيها إرادته بالنصر من خلال أسبابه الواقعية.
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ، فقد وعد الله المستضعفين أن يستخلفهم في الأرض، والله لا يخلف وعده، كما جاء في قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ(1). فمسألة الاستخلاف في الأرض ليست امتيازاً لأحد، بل هي المسؤولية الواعية من أجل تغيير الواقع وفق الأسس الإيمانية التي تصلح أمر البلاد والعباد، بعيداً عن الأسس الاستكبارية الكافرة التي تفسد الحياة كلها بخطط الكفر والضلال.
ولهذا، فإن المسألة تعيش في نطاق الامتحان والاختبار لما تحملونه من عقيدة، وما تعيشونه من مفاهيم، وما تتحركون به من خطط وأهداف، ليُعرف الصادقون من الكاذبين، والمخلصون من المنافقين، فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ(2). فيما تمارسونه في خلافتكم على مستوى الحكم في إدارة شؤون الناس والحياة، وفي شؤون أنفسكم في التزامكم بالمسؤولية.. وهذا ما تمثله مسألة الحكم في المفهوم الديني للإنسان؛ إنها قصة التغيير وتحويل المسيرة من خط الظلم إلى خط العدل، ومن شريعة الكفر إلى شريعة الإيمان، وليست عملية تبديل أسماءٍ وتغيير وجهات، لنبرّر الظلم باسم العدل، وننطلق مع الكفر باسم الإيمان.
هذا ما كان من أمر موسى t مع قومه، فكيف تعامل في معركته الجديدة مع فرعون وقومه في العقوبات الإلهية؟ وكيف واجه فرعون وقومه هذا التحدي الجديد؟ وكيف حاول تهديد موسى t واستعراض قوته أمام الناس؟ هذا ما سنتحدّث عنه في اللقاء القادم بإذن الله. والحمد لله ربِّ العالمين.

 















    التدخل الرباني
    وحول الجهل
    غضب السماء
    فرصة التصحيح


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
ونواصل الحديث عن حياة النبي موسى t وتجربته الطويلة والمتنوعة.
لقد تركت المعركة بين النبي موسى t وفرعون أثرها الإيجابي الكبير على الدور الرسالي الذي التزمه النبي موسى t في حرية الحركة، فلم يتعرض لأي ضغط كبير من السلطة الفرعونية، لأنهم شعروا من خلال التجربة، أنه يملك القوة التي قد يطلق عليها القوة السحرية، ولكنها ـ مع ذلك ـ تؤدي إلى خشيتهم من تحدّيه اجتماعياً، لما قد يثيره في مواجهتهم من ردّ الفعل القويّ... وقد أراد الله أن يهزّ أوضاعهم كوسيلة من وسائل إرباك موازين الاستقرار والقوة لديهم، كمقدمةٍ لإضعاف سلطانهم واهتزاز مواقعهم العامة...
التدخل الرباني:
وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ، وهذا كناية عن الجدب في عملية الإنتاج الزراعي الذي يعيشون منه ويتغذون به، وذلك بحبس الأمطار عنهم، أو تسليط الأمراض القاتلة على مزروعاتهم، بحيث يستمر ذلك معهم لأكثر من سنة، أو يتنوع ضعفاً وقوةً بين سنةٍ وأخرى، ما يترك تأثيره السلبي على الثروة الاقتصادية الإنتاجية في التنمية المادية، ويربك حياتهم على مستوى التغذية والتنمية، ليتطوّر تأثيره الكبير على قوة الحكم ونفوذه في الناس، باعتبار أنّ هذا الحكم يتقرّب إليهم من خلال القدرة المادية التي يمنحهم إياها طلباً لاستمرار التفافهم حوله وتأييدهم له.
إضافةً إلى أنّ هذا الأمر يضعف موقع الحكم السلطوي في حلّ المشاكل العامة التي يتعرض لها الناس، لجهة مسؤولية الدولة الحاكمة عن معالجة أوضاع الناس الصعبة وإمكاناتهم الضيّقة، الأمر الذي يؤدي إلى ضعف السلطة وعدم الثقة بها، ويدفع الناس الذين يعانون الجوع والحرمان من خلال حالة الجدب الزراعي والنقص في الثمرات، إلى البحث عن سلطةٍ أخرى في بلاد ثانية، ليحصلوا على حاجاتهم الحياتيّة، أو يدفعهم إلى الاستجابة للنبي موسى t في الإيمان بالله الذي قد يلجأون إليه لرفع ذلك عنهم وإنقاذهم منه، لأنه المالك للأمر كله، ولأن قضية الخصب والجدب لا تخضع دائماً للأسباب العادية التي يملك الناس، بمن فيهم أهل السلطة، أمر التحكم فيها سلباً أو إيجاباً.
وقد لا يكون من الضروري أن يكون هذا البلاء عقاباً مباشراً لهؤلاء بالمعنى الغيبـي للعقاب، فربما يكون خاضعاً لبعض الأوضاع الطبيعية الكونية، ولكن الله سبحانه يريد لعباده في مثل هذه الحالات، أن يتذكروه ويرجعوا إليه عند اليأس من قدرة أصحاب النفوذ المهيمنين على الواقع على تغييره، فيتوجهوا ـ تلقائياً ـ إلى الله من خلال الدعوة الرسالية التي توجههم إليه، وتفتح في وجدانهم فيوضات رحمته، ليعرفوا أن الله تعالى هو وحده القادر على إنقاذهم من هذا البلاء الصعب، بقوانينه وسننه التي تتحرك من خلال الأسباب الطبيعية الاستثنائية التي يحركها بقدرته المطلقة، بما قد يعرف الناس المؤمنون منها مما أعطاهم من أسرار معرفته من مصدر الرسول والرسالة، ما لا يعرفه أحدٌ بوسائله الخاصة، لأنه مما اختص الله تعالى بعلمه.
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(1)، ويخرجون من أجواء الغفلة المطبقة على تفكيرهم، بفعل التوجيه المنحرف الذي أثاره فيهم المضلّون من فئات الشرك والضلال، فيتراجعون عن تمرّدهم وعتوّهم واستكبارهم الفرعوني، عندما يلتفتون فيرون أنّ فرعون، الذي يعبدونه أو يخضعون له، لا يملك حولاً ولا قوةً، حتى إنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فيتذكرون كلام موسى t في مواعظه ونصائحه وتوجيهاته، الأمر الذي قد يدفعهم إلى الانسجام مع نداء الرسول للسير في خط رسالته الداعية إلى عبادة الله وحده في كل مجالات الحياة الخاصة والعامة...
وهذا ما يفرضه العقل على مَن يملك بعضه، والوجدان على مَن ينفتح على معناه، والوعي على مَن يتحرك في مضمونه الفكري، ولكنهم لم يخرجوا من هذا النفق المظلم الذي أدخلتهم فيه السلطة العمياء من خلال محاصرتها لهم بالرغبات والشهوات والامتيازات، مغلقةً عنهم نوافذ التفكير في الآفاق الروحية المضيئة بالإيمان، ما جعلهم يواجهون الأمر بطريقة أخرى. فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ، فنحن مستحقون لها، لكرامتنا الإنسانية التي تغدق علينا سحب الخير وفيوضات النعمة، وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِموسى وَمَن مَّعَهُ بحيث يعتبرونهم مصدر الشؤم، مما يتشاءم به الناس من الأشخاص والأوضاع.
ولكن الله يردّ عليهم هذا المنطق التبريري الذي يقنعون به أنفسهم من دون أساس، ليجدوا في ذلك بعض الراحة النفسية، في تحميلهم مسؤولية ما يحدث لهم من سوء، لموسى t والمؤمنين معه، لأنهم ـ في نظرهم ـ يمثلون المشكلة المعقدة التي تنزل عليهم هذا البلاء، فيقول ـ سبحانه ـ: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ، فهو الذي أنزل عليهم ذلك كله، لأنه ـ وحده ـ الذي يرجع إليه أمر العافية والبلاء، ولا يملكها أحد غيره في الكون كله، حتى إنّ موسى t، النبي المرسل من عند الله، والمؤمنين المقرّبين إليه، لا يستطيعون أن يمارسوا أي شيء من هذا القبيل.
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(1)، لأنهم لا يملكون مصادر المعرفة الإيمانية والحقيقة التوحيدية، في قدرة الله المطلقة على إدارة الكون كله في كل ما يتعرض له الخلق من أوضاعهم المرتبطة بأرزاقهم وأمورهم الحياتية الأخرى، وما يزالون في غفلة عن الآفاق الرحبة للعقيدة الصافية المنفتحة على علم الله تعالى وقدرته وحكمته في تدبير خلقه في السلب والإيجاب، فلا يعرفون كيف يخضع الوجود الكوني وما في داخله لإرادة الله تعالى في كل شيء؛ فلا مغلق لما فتح، ولا فاتح لما أغلق، ولا رادّ لما أعطى.
وحول الجهل:
وهكذا غرقوا في وحول الجهل المطبق، والتخلف السخيف، فوقفوا أمام النبي موسى t وقفة المتحدّي الذي يرفض كل آية للإيمان، مهما بلغت من القوة في الحجة والبرهان، وابتعدوا عن تذكّر القدرة الإلهية التي أنزلت عليهم السيئة في حياتهم، فجعلهم ذلك لا يرجعون إلى النبي موسى t، ولا يجدون فيه شخصية الرسول الذي أرسله الله إليهم لهدايتهم إلى الحق، بل اعتبروه ساحراً كبيراً من خلال اعتقادهم بدوره في السحر، أو من خلال محاولتهم إلصاق هذه الصفة به لإبعاده عن صفة الرسالة التي يتعقَّدون منها.
وهكذا كان خطابهم له من خلال وصفهم له بالساحر، وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ(1)، فقد أعطوا الآيات التي قدّمها إليهم صفة السحر، لأنهم كانوا يبحثون عن مبرّر لاستمرارهم على الكفر والتمرّد، على الرغم من أنهم لو كانوا يحترمون عقولهم، وحرّكوها في دراسة طبيعة هذه الآيات التي تنطلق من إرادةٍ غيبية لا من جهد بشري، لآمنوا بها، كما فعل السحرة الذين استقدموهم لمجابهة موسى t، فيما كانوا يزعمونه من اعتبار الآيتين المعجزتين اللتين واجه بهما فرعون، من السحر بدرجة عالية. لكن مشكلتهم أن العصبية العمياء التي صادرت عقولهم، وأغلقت تفكيرهم، منعتهم من الانفتاح على الحقيقة الواضحة التي تتحداهم بعناصرها الغيبية التي توحي إليهم بالحقيقة من خلال مقارنتها بعبث السحرة في تجربتهم التخييلية.
ولذلك أطلقوا الكلمة التي أعلنوا فيها إصرارهم على رفض الإيمان برسالته مهما قدّم إليهم من الآيات الإعجازية، تعصّباً للخط الذي يلتزمونه، كما هو شأن القوى الطاغية المستكبرة في كل زمان ومكان، عندما تحاول ضرب كل داعية للحق والعدل، والإجهاز على دعوته وتشويه صورته أمام الناس، فتلصق به أو بدعوته بعض الصفات السلبية التي توحي بالمعاني المتخلفة البعيدة عن كل خير وصلاح، ليكون ذلك مبرّراً لهم للوقوف ضده، ولإبعاد الناس عن القبول بدعوته، بكل ما يملكونه من قوة البغي والعدوان، خوفاً من تأثيره الرسالي على سلطانهم وامتيازاتهم المادية والسياسية.
غضب السماء:
وبدأت الآيات تتحرك في الضغط على أوضاعهم، وتدمير خصوصياتهم المعيشية، وامتداداتهم الحياتية في البلاء المتنوع الذي أخذ يطاول القضايا الحيوية للواقع الذي يعيشون في داخله.
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ فأغرق كل شيء من الزرع والمال والثروة الحيوانية والمواقع الاقتصادية وَالْجَرَادَ الذي أكل كل ثمراتهم الزراعية، وَالْقُمَّلَ (بضمّ القاف وتشديد الميم) وهي دوابّ صغار كالقردان تركب البعير. أما مع فتح القاف وتخفيف الميم، فهي الحشرة المعروفة التي تزحف على الرؤوس والأجساد، وكلاهما ينزل البلاء والوباء وَالضَّفَادِعَ التي يُقال إنها كانت تظهر في طعامهم وشرابهم، فتنغّص عليهم حياتهم وَالدَّمَ فقد تحوّل الماء عندهم إلى دم ـ كما يقال ـ وقيل إنهم أصيبوا بمرض الرّعاف آياتٍ مُّفَصَّلاَتٍ لتنذرهم وتعطيهم فكرةً عن سخط الله وعقابه فَاسْتَكْبَرُواْ على الله ورسوله بما يعيشونه من عقدة الكبرياء والجبروت، ورفضوا الاقتناع بما توحيه هذه الآيات من خلفيات غيبية، والانفتاح على الإيمان بالله تعالى في قدرته على إنزال البلاء بهم بما لا يطيقون الصبر عليه وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ(1)، فقد تأصّلت الجريمة في أفكارهم، حتى صاروا يخططون لتأكيدها في الواقع، وفي مشاعرهم التي صارت تجذب الحقد والضغينة إلى العلاقة بالحق، وحاولوا أن يتماسكوا، وأرادوا أن يعالجوا المشكلة الناشئة من ضغط هذه الآيات عليهم، ولكنهم عجزوا عن ذلك.
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ، وهو العذاب ـ في معنى الكلمة هنا ـ وضاق بهم الأمر، ولم يجدوا مجالاً للاستمرار فيما هم فيه، وعرفوا بفطرتهم الذاتية أن هذا الأمر ليس من فعل موسى t بصفته البشرية أو قدرته السحرية، لأنه يتجاوز الإمكانات العادية لأي إنسان، وأدركوا أن الله ـ ربّ موسى t وهارون ـ هو الذي أنزل عليهم ذلك عقاباً لهم على طغيانهم في أعمالهم الاستكبارية، لجأوا إلى موسى t ـ في نهاية المطاف ـ وتوسلوا إليه أن يدعو ربه القادر على الأمر كله أن يخلصهم من البلاء الذي وقع عليهم ليكشف عنهم العذاب، وعاهدوه على أن يؤمنوا بالله، ووعدوه بإرسال قومه معه، وتحريرهم من الطوق الاستعبادي الذي أحاطوهم به.
قَالُواْ يَا موسى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ من كرامته ولطفه ورحمته ـ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ ـ ببركة دعائك، وخلّصتنا من هذا الوضع الصعب الذي أوقعنا في الشدة في حياتنا العامة لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(1). فيتحقق لك ما تريده من الإيمان الشامل برسالتك في امتداده العقيدي في الواقع كله، في موقعنا وفي موقع الجماهير التابعة لله، ومن تحرير قومك من العبودية والاضطهاد.
فرصة التصحيح:
وقد أراد الله تعالى أن يمنحهم فرصةً للتصحيح، أو ليظهر كذبهم وانحرافهم ونقضهم للوعد الذي أخذوه على أنفسهم أمامه فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ فلم يتعهد الله تعالى لهم برفع العذاب إلى ما لا نهاية من الزمن، بل رفعه إلى وقتٍ ما لينظر كيف يعملون إذَا هُمْ يَنكُثُونَ. ينقضون العهد، فكان الحسم الأخير، وكانت النهاية.
وقد صوّر لنا القرآن الكريم هذه المسألة في سورة الزخرف، بقوله تعالى: وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا، تبعاً لما تمثله كل آية من الضغط الذي لا يتحملون نتائجه، وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(2). ولكنهم لم يرجعوا، بالرغم من عهدهم للنبي موسى t بالإيمان برسالته، ومن إرسال قومه معه إذا رفع عنهم هذا العذاب الشديد.
ونستوحي أيضاً من هذه الآية، أن فرعون كان لا يزال يملك القوة الطاغية المسيطرة على بني إسرائيل في حصاره لهم وتطويق حرياتهم، ما جعل الفرعونيين يعاهدون موسى t بإرسالهم معه، وتحريرهم من ضغوطهم القاسية، لأن الحرية التي حصل عليها موسى t في انتصاره في المعركة، لم تتطور إلى المستوى الذي يستطيع فيه تحرير قومه. كما أنهم استمروا في إصرارهم العنادي، بأن هذه الآيات البيّنات تمثل عملاً من أعمال السحر، وهذا ما جاء في قوله تعالى: فَلَمَّا جَاءهُم موسى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ(1).
وهكذا واجه موسى t هذه التعقيدات المثيرة من خلال هؤلاء الذين اتبعوا الشيطان وخضعوا له، فأنساهم ذكر الله، وأدخلهم في الظلمات التي منعتهم من رؤية النور المنطلق من نور الرسالة والرسول.
أما قوم موسى t، فإنّهم لم يستطيعوا أن يستوعبوا خطّ الإيمان بالله، ولا اتّباع رسالته، لأن التخلّف الفكري كان مسيطراً على عقولهم، فلم يملكوا التفكير العميق الذي يدرسون من خلاله الدعوة الرسالية التي جاء بها موسى t، حتى إن المؤمنين بموسى t، كانوا يعيشون القلق النفسي والخوف من أن يضغط عليهم فرعون لإجبارهم على التراجع عن إيمانهم. وهذا ما جاء في قوله تعالى: فَمَا آمَنَ لِموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ(2).
وقد حاول فرعون أن يتحدى موسى t بالكلام الاتهامي، بأنه شخصية مسحورة بفعل السحرة الذين ضغطوا على عقله فابتعد عن التفكير السليم، ولكن موسى t كان يملك القوة التي جعلته يواجه هذا الطاغية بالكلمة القوية القاسية، وهذا ما جاء في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا موسى مَسْحُوراً(1)، وأنك تخضع في نفسك وفي أعمالك المتنوعة للسحر، ولست رسولاً من الله تحمل الرسالة وتهدي إلى الحق.
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ(2)، لأن القدرة البشرية لا تملك القيام بذلك بهذا المستوى من الإعجاز والقوة الخارقة التي لا يملكها أي ساحر، لأن السحر لا يمثل أي عمق في تغيير الواقع وفي التأثير الفاعل في الحياة، بل يمثل تغيير الشكل في السطح، ويبعث الاهتزاز في حركة الصورة في إحساس البصر، بينما تتحرك هذه الآيات التي أطلقتها أمامك، والتي حرَّكتها في حياة المجتمع من حولك، في أوضاع قومك والآخرين ممن يعيشون تحت سلطتك، لتصنع واقعاً جديداً في بعض مظاهر الحياة، بما يدل على أنها ليست من صنع البشر، بل لم ينـزلها إلا رب السماوات والأرض، خالق الكون كله وما فيه، لتكون بصائر تفتح عيون الناس الذين يكفرون بالله وبرسله، على الحقيقة التي يرتكز عليها الإيمان، ليفكروا في المسألة من جانب آخر غير الجانب الذي تعودوا أن يوجهوا التفكير إليه.
وهذه هي مهمة الآيات التي ينـزلها الله على عباده، فهي ليست عرضاً للقوة لينبهر الناس بها في حالةٍ انفعالية، بل هي تحريك للفكر، ليقتنع الناس بالحق من خلالها، وليكتشفوا ما لا يستطيعون اكتشافه إلا من خلالها بفعل الضغوط التي يواجهونها في حركة العقيدة في حياتهم.
وهكذا أثار موسى t أمام فرعون حقيقة السرّ الذي يختفي وراء هذه الآيات، ليفكّر في ذلك في اتجاه جديد، ثم انطلق ليردّ التحدي الذي مارسه فرعون ضدّه في مجال التجريح الشخصي، فإذا كان يظنّه مسحوراً لأنه دعا إلى الإيمان بالله، فإن موسى t يوجه إليه الإنذار بالحقيقة المرعبة الحاسمة التي تنتظره، وهي الهلاك وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً، والثبور هو الهلاك، وقد عبّر بالظن محاكاةً لأسلوبه في التعبير.والحمد  لله ربِّ العالمين.


















    ملامح طاغوتية
    الغرور الغبي
    الخيار الدموي


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
ملامح طاغوتية:
تطوّرت نظرة فرعون إلى نفسه حتى وصلت إلى حال انتفاخ مرضي سيطرت على تفكيره، من خلال الامتيازات المادية التي كان يملكها، والناس الذين خضعوا له، والتخلف المعرفي الذي حكم عناصر شخصيته، ومن خلال الاستضعاف البشري لبعض الفئات الضعيفة المقهورة التي استعبد أوضاعها العامة والخاصة، حتى تعاظم هذا المرض النفسي الخطير في نظرته إلى ذاته، بحيث تصوّر موقعه في مستوى الربوبية التي تفرض على الناس أن يعبدوه، فلم يعد يرى في العالم إلا نفسه، ولا يحسّ في الساحة إلا بوجوده، ولا يتصور الحياة من حوله إلا من خلال وحدانيته التي تفرض نفسها على الواقع كله، فصار يعتبر أن الذين لا يملكون من الإمكانات المادية ما يملكه، لا يمثلون أية قيمة إنسانية فاعلة كبرى، وهذا ما جعله يتحدث عن النبي موسى t بلهجة احتقارية، ولاسيما أنه كان مستضعفاً من قوم مستضعفين، وكان له الفضل عليه في تربيته، وقد عبّر عن ذلك عندما خاطبه بقوله: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(1).
وهكذا أراد استعراض قوته المادية أمام قومه، للتدليل على سعة ملكه، تعبيراً عن موقعه الكبير الذي لا يقترب منه أحد، وذلك ما جاء في قوله تعالى: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الاَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ(1)، فأنا الذي أملك هذا البلد الواسع الكبير المملوء بالثروات، والحافل بالخيرات، والقويّ بفعل هذه القوة البشرية من الناس، إضافةً إلى الأنهار التي تجري تحت قدرتي، فتخصب الأرض بالثمار المتنوعة، والأشجار الباسقة، وتروي ظمأ الظامئين، ما يجعل من موقعي حاجةً ضروريةً للحياة كلها.
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ(2)، فماذا يملك موسى t ليتحدى سلطتي وينازعني في ملكي ويهددني في أرضي وسلطاني؟ فهو الإنسان المهين الذي لا يملك أي عنصر من عناصر الاحترام التي تجعله شخصاً مرموقاً نظراً إلى وضعه المستضعف، وخصوصاً أنه لا يكاد يفصح عما في نفسه في منطقه، فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ(3)، فكيف يدَّعي لنفسه المقام القيادي في كونه ممثلاً لربه، رب السماوات والأرض، وهو الفقير في المال؟! فلو جاءنا وهو يلبس أسورةً من ذهب تدل على ثروته وتمنحه رونقاً وبهاءً وزينةً وعظمةً، فيما كان الناس يعتادونه من هذه الأمور التي تدلّ على مكانة الشخص، أو لو أنّه جاء مع الملائكة الذين يشهدون له بالصدق بما يدَّعيه من الرسالة، وينفتحون به على الغيب، لأمكننا أن نحترمه ونقدّر موقعه.
وهكذا ترك كلام فرعون تأثيراً كبيراً على قومه، لأن ذلك وحده الذي يؤكد زعمه، حيث كان منطقه قريباً إلى ذهنيتهم التي كانت تركز على المقوّمات الخارجية للشخصية مما تملكه من مال وجاه وقوة، لا فيما تملكه من كفاءات فكرية وروحية وعملية، ولذلك انفعلوا بالمقارنة التي عقدها فرعون بينه وبين موسى t، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ(1)، أي استفزّهم بأسلوبه القريب من سذاجة عقولهم، فحملهم على أن يسقطوا تحت تأثير منطقه، ويخضعوا لعناصر القوة في شخصه.
فَأَطَاعُوهُ بالانصياع لخطته في مواجهة موسى t، ولم يحاولوا أن يدرسوا كلامه دراسةً موضوعيةً صائبة، ليعرفوا أن السلطة والمال لا يدخلان في تقويم الشخصية في الجانب القيادي، لأن القيادة تحتاج إلى العقل المنفتح، والفكر الواسع، والتجربة الغنية، والقوة الداخلية في الذات الإنسانية، وهو ما يملكه النبي موسى t ولا يملكه فرعون. ولكن المشكلة أن هؤلاء الناس لم يملكوا القدرة على التوازن في التفكير في موازين القيمة للأشخاص الذين يحكمون البلاد والعباد، ولم يتميزوا بالعقل الذي يميّز بين الحسن والقبيح، بل كانوا يتحركون من خلال جهلهم وتخلفهم وانحرافهم الإنساني عن الخط المستقيم.
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ لا يملكون الأساس القويم الذي يثبِّت أقدامهم على الأرض الصلبة في حركتهم الثقافية، وفي التزاماتهم المبدئية في التوازن العملي لما يفعلونه ويتركونه، لأنهم ليسوا أصحاب فكر يضبط لهم مواقفهم، ويحدّد لهم مواقعهم، بل هم أصحاب أهواء ومطامع تحرِّكهم ذات اليمين وذات الشمال.
ووفقاً لذلك، استطاع فرعون استغلال هؤلاء الجاهلين المتخلفين الطامعين في ماله وجاهه، والطامحين للحصول على الامتيازات الكبرى في سلطانه، فرأى نفسه كبيراً بخضوعهم له وتصاغرهم أمامه، وابتعد بذلك عن التفكير في نقاط الضعف الداخلية الذاتية في عناصره الشخصية.
وهكذا خيّل إليه من خلال هذا الانتفاخ المريض في نفسه، أنه يتصاعد إلى المستوى الذي يرتفع به إلى درجة اعتبار نفسه إلهاً للناس، فأعلن ذلك للجماهير التي حشدها في ساحته وحشرها في موقعه، كما جاء في قوله تعالى: فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى(1)، ليتطلعوا إليه كما يتطلع العباد إلى ربهم في غياب العقل وغفلة الإحساس. وجاء في آية أخرى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي(2)، لأنني لم أجد أحداً يملك من العظمة ما أملكه، ومن عناصر القوة ما أتميز به.
وقد كان يشغله ويقلقه حديث النبي موسى t عن رب العالمين، لذا بادره بالسؤال المثير الذي هزّ جواب موسى t عنه وجدانه، وتحدّى جهله، وأبرز ضعفه، وهو ما جاء في قوله تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ(1).
وقد شعر من خلال هذا المنطق الرسولي بالرعب من هذا الرب الذي يهيمن على السماوات والأرض وما بينهما وعلى الناس كلهم؛ من مات ومن بقي، ولذلك لم يستطع التماسك أمام قومه، إلا باللجوء إلى اتهام موسى t بالجنون قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(2)، بما يدعيه من أنه رسول لهذا الرب العظيم الواسع القدرة، حسب زعمه. ولكن موسى t لم يتركه في حال الهدوء التي حاول أن يظهر بها أمام الناس، فأطلق حديثه عن الصفة الثانية لله ربّ العالمين قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ(3). ولذلك فإني أدعوكم إلى أن تفكروا بعقولكم، وتنفتحوا بوجدانكم، لتكتشفوا أن الله وحده هو الذي يملككم، ويملك ما تملكون، ويسيطر على العالم كله.
وبدأ فرعون، الذي أعوزته الحيلة عن جوابه بالمنطق العقلاني، بتهديد موسى t بالسجن، باعتباره إنساناً ضعيفاً من قوم ضعفاء يملك السلطة القوية عليهم، قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ(4)، وظنّ أن ذلك سوف يهزم الحالة النفسية لموسى t، ولكنه تحدّاه بما زلزل عقله، وأضعف موقفه، وأسقط موقعه، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ(1). وأسقط بما في يده، وربما شعر بأن هذا الرب ليس مجرّد حالةٍ سحرية أو خيالية، بل هو حقيقة صارخة قادرة مهيمنة. وهكذا آمن قومه بوجود هذا الإله الذي سجد له السحرة، ولكنهم لم يعترفوا بذلك، كما جاء في قوله تعالى: فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ(2).
الغرور الغبـي:
وبدأ القلق الكبير يدبّ في نفس فرعون، وأصيب بضعف في عقله، ففكّر في أن يدخل في حرب مع هذا الربّ العظيم لينتصر عليه بالقوة التي يملك عناصرها في ملكه الربوبي ـ حسب زعمه ـ، وهذا ما جاء في قوله تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ موسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ(3)، في تصوّر ساذج بأنّ الله يسكن في مناطق العلوّ في السماء، ليصعد إليه ويدخل في صراعٍ معه. وجاء في آية أخرى تعبير أكثر صراحةً عن تصوراته الساذجة: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ موسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ(1).
فقد كان فرعون يتوهم أنّ لهامان قدرةً على أن يبني له صرحاً ليبلغ به أسباب السماوات، التي لا يملك كل قوم فرعون وكل معاونيه في السلطة، كهامان وقارون أن يصلوا إلى مواقعها العالية. وقد تحدث الله عنهم في قوله: وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم موسى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ(2). فقد كانوا يمثلون مراكز القوى المالية والسياسية التي أفسحت لهم مجال السيطرة الواسعة، وهو ما جعلهم لا يستمعون إلى البينات التي جاء بها موسى t ليهديهم إلى الله وإلى صراطه المستقيم، بل إنّ استكبارهم دفعهم إلى إنكار الحق، والتعالي على الناس، والتمرّد على الرسل، وحاولوا أن يدافعوا بقوتهم ليُبطلوا الرسالة، ويهزموا الرسول، ويطفئوا نور الله، فلم يستطيعوا ذلك، فقد أخذهم الله بعذابه، وما كانوا في موقع الغلبة، بما يمثله التعبير بالسبق على سبيل الكناية، ولكنهم تحركوا في عملية الهروب إلى الأمام، وذلك باتهام موسى t بالسحر، للإعذار إلى أنفسهم وإلى الناس في موقفهم المعاند، وهذا ما جاء في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ(3).
وحار فرعون، ماذا يفعل في مواجهة النبي موسى t الذي بدأ نفوذه يمتدّ إلى مصر؟ وربما كان المؤمنون التابعون له من قومه ومن غير قومه يزدادون بعد انتصاره الكبير، ولاسيما بعد أن حذره قومه الذين خافوا أن يفقدوا امتيازاتهم، وأن تتطور حركة موسى t إلى أن يبلغ الموقع الذي يملك فيه السلطة على الساحة كلها، من خلال امتداد دعوته التوحيدية الإصلاحية التي تفسد على المجتمع الفرعوني كل خططه وأفكاره ومواقفه وعلاقاته العامة، مما يعتبرونه إفساداً في الأرض، وتدميراً للآلهة المدعاة التي كان فرعون يتعبد لها مع قومه.
الخيار الدموي:
وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ(1)، فكيف تدافع عن نظامك وآلهتك؟
وعندما لم يجد أية فرصة واقعية تحقق له النصر من خلال المواجهة المتكافئة، حيث سبق له أن دخل في تجربتها وانهزم ـ مع سحرته ـ فيها... فما كان منه إلا اللجوء إلى المجازر الوحشية اللاإنسانية، وذلك من خلال قتل الأطفال عند ولادتهم، لئلا ينشأ جيل جديد يملك القوة العددية البشرية في المستقبل، وهو أمرٌ لا يمكن أن يحقق أي نصرٍ لأيّ حاكم يحترم نفسه، لأن الانتصار لا يتحقق بقتل الطفولة واستحياء النساء لإبقائهن من أجل الخدمة فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ(2). ونستوحي من ذلك، عجز فرعون وقومه عن التصدي للمؤمنين بموسى t، ما جعلهم ينتقلون إلى قتل أبنائهم، وهذا ما يؤكد السقوط الإنساني والإحباط السلطوي الذي أصابهم في خط المواجهة.
وتتعاظم العقدة النفسية لدى فرعون، فيعلن عزمه على قتل موسى t الذي أصابه بالإرباك في حكمه، منادياً قومه بأن يتركوه في هذه المبادرة التصفوية للخلاص من هذه القوة الجديدة، في عملية استعراض مجنون للمواجهة مع الله الذي سوف يقهره إذا تدخل في الدفاع عنه، وذلك هو قوله تعالى: وَقَالَ فرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ موسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ(1). ليدافع عنه دون جدوى، مبرّراً ذلك، بأن مسؤوليته في حاكميته الربوبية هي حماية الدين الذي ينتمي إليه الناس في مصر، والقائم على عبادة الأوثان وعبادته، في مواجهة الدين الذي يدعو إليه موسى t القائم على توحيد الله وعبادته، ورفض عبادة غيره من حجر أو بشر، والدفاع عن الحركة الإصلاحية التي تمثل نظامه القانوني في خطوطه التشريعية والتنفيذية ضد موسى t الذي انطلق في حركته ونشاطه التخريبـي الإفسادي لإظهار الفساد في الأرض على مستوى الأوضاع العامة في العلاقات الاجتماعية والمعاملات القانونية، وذلك ما عبّر عنه الله تعالى حاكياً عن منطقه: إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ.
وكان رد فعل موسى t على هذا التهديد هو الاستعاذة بالله من هذا الطاغية، الذي لا يرتكز على خط الإنسانية المنفتحة على الحق والإيمان بيوم الحساب وَقَالَ موسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ(1)، ممّن يجعله استكباره يبرر لنفسه كل الجرائم التي يقوم بها ضد الرساليين المصلحين، انطلاقاً من عمق إحساسه بالكبرياء التي يختنق بها في الاستغراق في ذاته.
وفي نهاية المطاف، بدأ التخطيط الإلهي لإنهاء مرحلة فرعون، وكان التوجيه الصادر من الله تعالى هو تنظيم الجماعة التابعة لموسى t بالطريقة التي تمكنهم من التحرك بقوة، وهذا ما جاء في قوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً(2)، لتكون قاعدةً للانطلاق في عملية صنع القوة المستقبلية، لأن بدايات النصر قد لاحت، فلا مجال للاهتزاز في المواقع، بل لا بد من التخطيط للثبات بما تمثله إقامة البيوت المتقابلة، وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أي متقابلة في مواجهة بعضها البعض، لأنَّ ذلك يؤمِّن إمكانية مواجهة أي خطر داهم، كأسلوب من أساليب تجميع القوة، وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ التي تمثل الطابع الروحي الذي يطبع هذا المجتمع الجديد الذي يرتكز على أساس عبادة الله في مواجهة عبادة الطاغوت، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالنصر على فرعون في المرحلة النهاية، وبداية التحرك لإنهاء الطغيان، ليبدأ عهد جديد يرفّ فيه لواء الحق والعدل على رؤوس الجميع، فلا يبقى مجال لأي ضغط خارجي كافر مهما كان نوعه.
وقد بدأ موسى t بمنطقه الابتهالي أمام الله، في ذكر ما يواجهه من مشاكل المجتمع الفرعوني، وتأثير فرعون على الناس من خلال القدرات المادية التي يملكها هو وجماعته، وذلك قوله تعالى: وَقَالَ موسى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا(1)، الأمر الذي جعل منهم فتنة للناس الآخرين، ومكّنهم من استغلال ذلك في عملية الإغواء والإضلال، ربّنا ليُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ من خلال الضغوط النفسية التي يضغطون بها على الناس في حاجاتهم إلى أموالهم، وفي انفعالهم بالزينة التي تبهر أبصارهم وتغري النفوس بأشكالها وألوانها، ما يضعف المواقف ويسحق الإرادات، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وامحقها، لئلا يكون لهم سبيل ضاغط على الناس البسطاء، وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ واطبعها، حتى لا تنفتح على أي فكر يوحي إليها بالامتداد في حياة الناس، فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ، ليكون إيمانهم في نهاية الأمر من موقع رؤيتهم للعذاب الذي يلتقون معه بالحقيقة، ولكن من دون جدوى.
وهكذا استجاب الله تعالى دعاء موسى t وهارون t، فأوحى إليهما قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا في موقع القوة الجديد الذي ستحصلان عليه بعد إهلاك الطاغوت، وتابعا المسيرة في الخط الذي أراد الله لكما أن تسيرا فيه، لأن الإنسان بطبيعته الغريزية، قد يضعف أمام السلطة، فيترك ما كان يدعو إليه، ويستسلم للدوافع الذاتية والمؤثرات الشيطانية بفعل الغفلة المطبِقة على عقله إذا لم ينفتح على الله في كل حالاته، وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ(1). طريق الحق، ولا يهتدون إلى غايات الخير والعدل والإيمان.
هذا هو أسلوب التربية القرآنية القائم على الإيحاء الدائم إلى الدعاة ـ بمن فيهم الأنبياء ـ بالبقاء في خط الاستقامة، والحذر الشديد من الانحراف والاستغراق في أية حالةٍ ذاتية، لأن المسألة لا تتصل بمستوى الذات وقضيتها، بل ترتبط بضخامة التحديات التي تواجه الرسالة وتزلزل الإنسان، وقد تهوي به إلى مكان سحيق، لذا لا ينبغي أن يكون النظر إلى قيمة الشخص في درجة عظمته ممّا يمنع البعض من إثارة النصح والتحذير له، بل إلى قيمة الرسالة في حمايتها من كل الأوضاع السلبية التي قد تحيط بحاملها فتنحرف به عن الخط المستقيم... وهذا درسٌ لكل الدعاة إلى الله بعد مرحلة النبوات والأنبياء في كل زمان ومكان.والحمد  لله رب العالمين.
 















    الإله المزيّف
    ذهنية وثنيّة
    الاستقلال العقلي
    الانتاج الفرعوني


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
الإله المزيَّف:
كيف كان فرعون يتصوّر الربوبية ومعنى الألوهية في نفسه؟ حيث كان يؤكد للناس أنه الربّ الأعلى لهم، كما كان يعلن لهم أنه الإله ولا إله لهم غيره، وذلك ما حكاه القرآن عنه في قوله تعالى: فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى(1)، في إصرار على أنه في الدرجة العليا من الربوبية التي لا بدّ لهم من أن يلتزموا بها، ويخضعوا لها، ويتعبّدوا لقداستها. وجاء في قوله تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي(2)، فإني لا أجد في هذا العالم الذي نعيش فيه شخصاً يستحق الألوهية للناس غيري، لما أتمتع به من عناصر العظمة في المال والسلطة والاتّباع، فلا بد لكم من أن تعترفوا بي في هذا الموقع، وإلا فإني سوف أعاقب الذين يتخذون غيري إلهاً، وهذا هو ما هدّد به النبي موسى t بقوله:قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ(3)، لأنك تتحدى الدين الذي يدين به الناس في مصر ويتعبد به قومك، ما يوحي بتمردك على مواقع القدس الإلهي.
ولكننا نلاحظ في نصّ آخر، أن قومه كانوا يحذّرونه من النبي موسى t ومن دعوته إلى الإله الواحد، وذلك ما ذكره تعالى: وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ(1)، فهم يحدثونه عن آلهته التي سوف يسقطها موسى t، ما يدل على أنه كان يتعبّد لآلهةٍ يؤمن بها ويخضع لها، فكيف نوفّق بين منطقه الذي يقول إنّه ليس لهم من إله غيره، وبين هذا النصّ؟
وقد نجيب عن هذا التنافي، بأنّ فرعون كان يعبد الأوثان التي كان الناس يتعبّدون لها ويقدّسونها ويطلبون حاجاتهم منها، وهو ما يمكن أن نستفيده من حديث النبي يوسفt مع صاحبي السجن، كما جاء في قوله تعالى: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(2). وربما يتمثل ذلك بالجانب الخاص من شخصية فرعون وقومه لجهة ما ورثوه عن آبائهم، مما لا يمثل أية سلطةٍ قاهرة أو مُلك واسع أو قدرة متحركة عظيمة.
أما مفهومه للألوهية التي ادّعاها لنفسه، والربوبية التي دعا الناس إليها للخضوع له والارتباط به، فهي تمثل القوة القادرة الحاكمة التي يلتزم الناس بتعاليمها وقراراتها، باعتباره الشخصية المهيمنة على الأمر كله في حياتهم، والمالكة للثروات الضخمة التي يفيضها عليهم، والجبروت الطاغي الذي يسيطر على الناس من خلال انتصاره على أعدائه من جهة، وضغطه القوي على الناس الذين يعيشون تحت سلطته من جهة أخرى، وهذا هو تفكيره في معنى الربوبية العليا التي لا يملك أيّ قوي الاقتراب منها أو النيل من مقامها أو المواجهة لسلطانها أو الفرار من طغيانها.
ولعل هذا الاتجاه في فهم هذا المصطلح المقدّس، هو الذي جعله يشعر بالقلق من حديث موسى t عن رب السماوات والأرض وما بينهما، وربّ المشارق والمغارب، ورب العالمين جميعاً، وربما دبّ الخوف في نفسه أمام هذه الصفات التي تشمل الكون كله، بينما كانت عظمته المتوهمّة قائمةً على أنّه يملك مصر والأنهار التي تجري من تحته، ولذلك فقد فكّر تفكيراً ساذجاً غبياً في الدخول في مواجهةٍ مع هذا الرب الذي يملك القدرات الخارقة التي لم يثبت أمامها السحرة الذين جاء بهم ليقهروا موسى t أمام جماهيره المحتشدة في الساحة يوم الزينة، بل خروا ساجدين له، ولم ينفع فرعون تهديده لهم بالقتل الوحشي.
وهكذا خاف فرعون من المستقبل الذي يتمثل بهذا التحدي الكبير لربوبيته، فطلب من وزيره هامان أن يبني له صرحاً، كما جاء في قوله تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ موسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ(1)، وقوله تعالى: فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ موسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ(2). وهذا يدل على الذهنية السخيفة في تمنياته الخرقاء وطموحاته الوهمية، فكيف يملك هامان أن يبني له صرحاً من الطين ليبلغ السماوات التي لا يستطيع أحد بلوغها بهذه الوسائل المحدودة مهما بلغت من إمكانية الارتفاع؟! ولكنها الحالة الاستعراضية التي يحاول من خلالها الإيحاء إلى الناس بأنه بلغ الدرجة العليا من القوة، بحيث إنّه فكّر في الدخول في صراع مرير مع رب موسى t لينتصر عليه، وليبقى هو الربّ الأعلى، إلا أنّه كان قد بدأ يختزن في داخل نفسه مشاعر الإيمان ولكن بشكل ضبابي، فينفتح عليه تارةً، ويجحد به أخرى، حتى بلغ في نهاية المطاف موقع الاعتراف بالله، وذلك عندما بدأ يلفظ أنفاسه، حيث لم يعد ينفعه اعترافه.
ذهنيّة وثنيّة:
لقد كانت ذهنية فرعون في نظرته إلى نفسه، أو في التزامه بآلهته، تخضع لتاريخ الوثنية في مضمونها، من خلال الأوهام التي يتصوّرها الناس في نظرتهم إلى هذه الأوثان، بأنها تختزن الكثير من الأسرار، أو فيما يعتقدونه في الشخصيات الكبيرة بأنّها تمتلك مواقع العظمة بما لها من قدرة مادية أو معنوية، وهذا ما حدّثنا القرآن عنه في الشخص الذي أتاه الله الملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(1).
وقد كانت المشكلة المهيمنة على الوثنيين، أنهم فقدوا استقلال عقولهم في التفكير، فلم يدرسوا الاعتقادات التي يعتقدونها، والالتزامات التي يلتزمونها، في عناصر رموزها الذاتية، وأوضاعها الجامدة المحدودة التي لا تملك أية حالةٍ من حالات الوعي لما حولها ومن حولها، ولا تنفتح على أية قوةٍ فاعلةٍ في تأثيرها في النفع والضرر والحركة والجمود والحياة والموت، ولعلّ أفضل صورة تمثّل هؤلاء، هي حديث النبي إبراهيمt مع أبيه وقومه: إذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ(2).
وفي آيات أخرى: قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(3). وجاء في حواره مع أبيه: إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً(4). وفي آيات أخرى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُون * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ(1). فإننا نلاحظ في هذه الآيات، أن هؤلاء لم يستطيعوا تبرير عبادتهم للأصنام إلا بأنهم يتّبعون في ذلك آباءهم ويقلّدونهم، من دون دراسة لما تمثله من جمود الحجر الذي لا حسّ فيه ولا حياة، مما يؤدي إلى تحجّر عقولهم وفقدانهم للإحساس الواعي للأشياء، ولاسيما المرتبطة بالعبادة.
وقد تحدث الله عن بعض النماذج ممن كانوا يعيشون الانحراف الذهني في تصوراتهم الخاطئة، كاعتقادهم بأنوثة الملائكة، وعبادتهم لها من دون أي أساسٍ فكري معقول، بل كانت الحالة التي يعيشون في ضلالها ناشئةً من تقليد الآباء بسبب العلاقة التاريخية العاطفية بهم، وذلك قوله تعالى: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ(2).
فنحن نلاحظ أن هذا السلوك يمثل ظاهرة عامّة لكلّ المنحرفين عن الخطّ المستقيم في عبادة الله الواحد، والسير على هداه، في وعي الحقيقة في العقيدة والشريعة والحياة. وتشير الآية الثانية إلى أن الذين يقودون هذا الاتجاه المتخلف في الانحراف عن الأصالة العقلية، هم المترفون الذين يملكون السيطرة على المستضعفين، فيأخذون بأيديهم إلى الهلاك الروحي في خط الخرافة، فإذا قال لهم الرسول إنّ الرسالة التي أحملها تمثّل المستوى الثقافي والروحي الأفضل مما وجدتم عليه آباءكم، رفضوا ذلك من دون تفكير أو مناقشة، بل امتدوا في الكفر بالله تقليداً للآباء المتخلفين.
وهناك آية أخرى أيضاً تصوّر هذا المنطق الجاهل الذي لا يرتكز على حجة قوية، ولا يخضع لعقل منفتح، ولا لهدى في اتجاهات خطوط السير، وذلك قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ(1).
الاستقلال العقلي:
إن الخط المنهجي في الإسلام يرتكز على الاستقلال العقلي في إبداع الفكرة التي ينتمي إليها الإنسان في إيمانه بالله، من خلال التطلع إلى الكون كله، لينفتح على آيات الله في نفسه، بما أودع الله تعالى في خلقه من عناصر التنظيم في تكامل أجهزته في حركة الحياة، وإنتاج الأفكار وتحديد الوسائل والغايات، وليقوم بجولة واسعة في آيات الله تعالى في الكون، في آفاق السماوات والأرض، وما بثّ فيهما من دابة، وما أودع في النظام الكوني من الظواهر التي تمنح الحياة، وتحيي الأرض بعد موتها، وتحرّك الرياح بالنعمة والنقمة، وتعطي الإنسان القدرة على الاستفادة مما سخره الله تعالى له من النعم الكثيرة التي تمتد بها حياته.
لقد منح الله عزَّ وجلَّ الإنسان العقل، وأعطاه الحرية في الانطلاق في إنتاج الفكر الذي يمثل أصالة الحق وسلامة الانتماء واستقامة الالتزام، وأراد له أن يتحمّل مسؤولية ذلك كله في الدفاع عن عناصره وأدلته، ولم يجعل التقليد في العقيدة عذراً إذا لم يطابق الحق الذي أنزله الله تبارك وتعالى على رسله في الخط التوحيدي، لأن العقيدة تمثل التجسيد الحي للذات في الانتماء، حتى لا يسقط الإنسان في الوثنية العبادية أو السياسية أو الاجتماعية، من خلال الخضوع للشخصيات التي تفرض نفسها على الناس في خطوطها الذاتية، ليتحركوا معها تحركاً أعمى بفعل العصبية التي تلتقي بعصبية الجاهلية، تماماً كما صوَّر الإمام عليt بعض هذه النماذج في حديثه عن تنوّع الناس في مضمون القيمة السلبية والإيجابية؛ قالt كما جاء في نهج البلاغة: ((النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاة، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِق، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيح، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى رُكْن وَثِيق))(1).
وهذا هو حال المستضعفين من الناس التابعين للمستكبرين في عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم وأوضاعهم العامة والخاصة، ولا عذر لهؤلاء في البقاء على حال الضعف التي تبعدهم عن خط التوازن وعن الأخذ بأسباب القوة، كما جاء في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً(2)، وفي قوله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ(1)، لأنهم خضعوا لهم في كفرهم وضلالهم وحربهم وسلمهم، ما يحملهم المسؤولية أمام الله تعالى الذي أراد لهم أن يفكّروا بعقولهم فيما يوحون به إليهم، وأن يؤكّدوا إرادتهم في موقع الأصالة الإنسانية، وأن لا يقلّدوهم في أمورهم من دون علم ولا برهان. وهذا ما تحدث الله به عن فرعون وقومه الذين استخفّ بعقولهم، وصادر إنسانيتهم، وضغط على أوضاعهم، وخدعهم بتصوير نفسه رباً وإلهاً يفرض عليهم طاعته وعبادته، وأطمعهم بما يحقق لهم حاجاتهم وأطماعهم فيما يملكه من السلطة والموقع والمال.
الإنتاج الفرعوني:
وتلك مشكلة الفراعنة في العصور المتأخرة والزمن الحاضر، ممّن يسيرون في خط الفراعنة التاريخيين، هؤلاء الذين قد لا يطلبون من الناس المستضعفين أن يؤلهوهم ويعتقدوا بربوبيتهم، ولكنهم يضغطون عليهم من خلال استغلال حاجاتهم ونقاط ضعفهم، ليتبعوهم في تأييد مواقعهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ليتمكّنوا من السيطرة على واقع الناس في حركة الصراع الدائر من قِبَل المستكبرين للاستئثار بمواقع السلطة، ليحارب النّاس من يحاربونه، وليسالموا من يسالمونه، وليتحركوا بالفتنة إذا أرادوا إثارتها للوصول إلى أهدافهم الخبيثة أو للحصول على موقع استكباري جديد ضد المواقع الأخرى.
وقد يكون من السير في خط المنهج الإسلامي، أن نقرأ القرآن قراءةً واعيةً، بحيث تكون مرتكزةً على التدبّر في آياته، وذلك بالانفتاح على ربط الحاضر بالماضي من أجل التخطيط للمستقبل، على أساس الهدف القرآني في تأسيس الشخصية الإسلامية على قاعدة الوعي، وذلك بأن لا يقف القارىء للقرآن عند الشخصيات التاريخية التي تحدثت عنها آياته على أساس حكاية التاريخ، بل أن يتعمق في داخلها، وينفتح على آفاقها، باعتبار أنها تمثِّل النماذج الإنسانية القلقة للشخصيات المنحرفة من الطغاة والمستكبرين، ليستوحي منها كيف ينظر إلى أمثالها من الشخصيات الحاضرة في عناصرها وصفاتها الطغيانية الاستكبارية، ليتعامل معها بالطريقة التي تعامل بها القرآن مع الشخصيات المماثلة في التاريخ، ويدرس سلبياتها من خلال الخط القرآني في إيحاءاته التحليلية في الواقع الإنساني.
وإلى جانب ذلك، لا بد من الانفتاح على الشخصيات الرسالية السائرة في خطّ المسيرة التوحيدية في طريق الدعوة إلى الله، والمواجهة لأعدائه، والصبر على الأذى في جنبه، من أجل البحث في الواقع المعاصر عن النماذج التي تملك مثل هذه الصفات الإيجابية في حركة الرسالة في خط التقوى، بما يتمثل فيها من معنى القدوة العملية في الاهتداء بها، والحركة في اتجاه دورها القيادي الإسلامي.
إننا نؤكد ذلك، لأن القرآن يؤكد أن حديثه عن التاريخ هو حديث الدرس والعبرة في امتداد الحياة الإنسانية، ليستفيد كل جيل من العناصر المستقيمة والمنحرفة، ومن التحديات السلبية، ومن مواقف الصراع بين الطغاة والرسل، وحركة الشعوب في الاستجابة للرسالة أو التنكّر لها، فنأخذ منها الخطوط التربوية، والمناهج الحركية، على أساس أن النماذج التاريخية لا تنحصر في دائرتها المحلية أو الزمنية، بل تمتد في العناصر الإنسانية في عمق الشخصية في مبادئها وسلوكياتها، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَاب(1)، وحتى يكون المنهج القرآني في حركته التاريخية منهجاً قويماً منفتحاً ممتداً بامتداد الحياة الإنسانية، في تجربة المنحرفين في الأخذ بأسباب العقيدة الوثنية في الجانب السياسي والاجتماعي، وسيرهم خلف الشخصيات الجاهلة المنحرفة التي تملك السلطة القبلية أو الثروة المالية أو الدعم الاستكباري الذي يؤكِّد حمايتها لمصالحها ضد الخط المستقيم، لأن الوثنية السياسية والاجتماعية قد تؤثر تأثيراً سلبياً على الإنسان، في حاضره ومستقبله، لأنّ الوثنية العقيدية تمثّل الخضوع للأصنام البشرية، كما هي حال فرعون الذي طغى في البلاد فأكثر فيها الفساد، وقد تتمثل بأصنام المجتمع الطائفي والمذهبي والسياسي. والحمد لله رب العالمين.

















    تحوّلات موازين القوّة
    النصر الإلهي
    نهاية المستكبرين


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
تحوّلات موازين القوّة:
عانى فرعون وقومه معاناةً كبرى من حركة الصراع مع موسى t، والذي استطاع أن يحصل على أكثر من ميزان للقوة، ولاسيّما أنه استطاع أن يجمع بني إسرائيل وقومه إلى موقعه الجديد، بعد أن أكّد لهم أن الله سوف ينصرهم على الطاغية الذي استعبدهم، وهذا ما عبّر عنه الله سبحانه في حوار موسى t مع قومه من المستضعفين، قال تعالى: قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِالله، وهو المعين الوحيد للمظلومين المقهورين من عباده، وارجعوا إليه في موقف استغاثة واستعانةٍ ورجوع إلى رحمته التي يرحم بها عباده المؤمنين به.
وَاصْبِرُوا على البلاء الذي حلَّ بكم مما واجهتموه من اضطهاد وعدوان، لأنّه لم يبقَ أمامكم إلا القليل من الزَّمن الذي سوف يأذن الله تعالى فيه بسقوط الطغيان، ويسلبه ملكه ويخرجه من الأرض ذليلاً مُهاناً، بحيث يسقط صريعاً أمام تحدّي الموت، وسترثون الأرض من بعده وتكون لكم السيطرة فيها: إنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فليس هناك أيّ شخص أو أيّة جماعة تملك الخلود فيها وتمتدُّ في سيطرتها عليها، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(1)، الذين يراقبون الله تعالى في مواقعِ طاعته، فاتّقوه وأطيعوه لتحصلوا على النتائج الكبرى فيما تستقبلونه من أموركم العامة.
ولكنهم كانوا يستذكرون الظلم الذي حلّ بهم من فرعون وقومه، والأذى الذي أصابهم من تعسّفه في سلطانه، وهم يواجهون الأذى الذي أصابهم بعد مجيء موسى t بما توعّدهم به الطاغية من قتل أبنائهم واستحياء نسائهم، وإنزال أشدِّ حالات القهر بهم قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا.
وقد كان ذلك كلّه منهم بسبب الضعف الشديد الذي عاشوه في تاريخهم وواجهوه في حاضرهم، الأمر الذي جعلهم يستبعدون تحوّل حال اليأس لديهم إلى حال أمل، ككل المستضعفين الذين لا يملكون في واقعهم المستضعف أي عنصرٍ من عناصر القوّة.
ولكن موسى t الواثق بربّه، والمطمئن إلى وعده، بادرهم بإظهار الرجاء بما يخبِّئه لهم المستقبل في حركة الزمن، من الفتح المبين الّذي ينفتحون فيه على النصر بإهلاك عدوّهم الطاغي، واستخلافهم في الأرض وسيطرتهم عليها، وهذا ما جاء في قوله تعالى: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ، فتكونوا ملوكاً بعد الملوك، لا لتمثّل مسألة الملك امتيازاً ذاتياً لأيّ واحدٍ منكم، أو موقعاً متقدِّماً لمواقعكم القبليّة، بل لتواجهوا المسؤولية في تقوى الله، والعدل بين الناس، والاستقامة في خطّ الحركة الإنسانية الرسالية، ليحاسبكم الله على ما تعملونه من خيرٍ أو شر فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ(1)، لأنّ الله لا يقرِّب أحداً لامتيازاته الماديّة، بل لحركته الرسالية العمليّة.
وكانت نهاية المطاف، عندما قرّر فرعون بعد كلّ تلك المعاناة الطويلة في صراعه مع موسى t، أن يلجأ إلى حشد جماهيره، ليستعين بهم للقضاء على موسى t وهارون وأتباعهما بالقوَّة القاهرة المسلّحة، بعد أن ضاقت به السبل في الانتصار عليهم، ليحفظ هيبة موقعه الربوبي وقوّة ملكه. وبدأ يعدّ العدة لذلك، وأوحى الله إلى موسى t بالأمر ليعدّ للأمر عدّته: وَأَوْحَيْنَا إِلَى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي، من بني إسرائيل ومن آمن بدعوتك، للخروج من مصر من دون استشارة فرعون، لأنك ـ في هذه المرحلة ـ في موقع القوة لا في موقع الضعف الذي قد يضطرك إلى أخذ موافقته، باعتباره السلطان الذي يملك حدود البلدة في خروج أهلها منها أو قدومهم إليها، وذلك من أجل أن لا تصطدم به في مجابهة مسلّحة قرّر مجابهتك بها، وليكن السير ليلاً، إنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ(2). مطاردون من خلال الجموع الغفيرة التي بدأ يحشدها ويدعوها إلى القيام بتلك المهمة العدوانية ضدكم.
وهكذا استجاب موسى t لنداء ربّه، وعبّأ بني إسرائيل بعيداً عن أعين أعدائهم، وأمرهم بالتحرُّك في الاتّجاه الذي حدَّده لهم، واختار اللَّيل لتنفيذ هذه الخطّة المرسومة لتكون نافذةً بدون أية إشكالات وتحدّيات.
ولكن قوم فرعون اكتشفوا الأمر، فرفعوه إليه، ما جعله يشعر بخطورة المسألة وتأثيرها السلبي على سلطانه، لأن جماعة موسى t كانوا يمثّلون قوةً عدديةً كبيرةً تستطيع مواجهته في حال التحدّي إذا بدأت المعركة بينه وبين قيادتهم المتمثّلة بالنبي موسى t، ولهذا، بدأ بالتعبئة الجماهيريّة ليوازن بها القوّة الطارئة المخيفة. فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ(1)، أخذ يجمع النَّاس ويحشرهم في ساحات ملكه، لتصل بلاغاته إلى المدن القريبة بسرعة، وتتحرّك القوى المعدّة فوراً، وتؤدِّي مقدمة الجيش مهمتها لتتبعها بقيَّة الأفواج في المدن الأخرى المتّصل بعضها ببعض بالتدريج.
وقد حاول في نداءاته التعبويّة أن يهوّن من شأن موسى t وقومه، بطريقة إعلانيّة مضلّلة إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ(2). ـ وكلمة (شرذمة) في الأصل تعني القلّة من الجماعة، كما تعني ما تبقّى من الشيء، فلن يكلّفنا القضاء عليهم جهداً كبيراً ولا مدّةً طويلةً، لأنّهم جماعة قليلة لا تمثّل أيَّ قوّة في العدد والعدّة والموقع، وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ(3). أي يأتون بالأعمال والمواقف التي تجلب لنا الغيظ، وتربك نظام المجتمع، وتمزِّق وحدته، وتثير فيه المشاكل، وتؤدِّي بالواقع إلى النتائج السيئة على حياة الناس وأوضاعهم الحيوية العامة، على مستوى قضايا الدِّين الذي نؤمن وتؤمنون به، كما يشكّل خطراً على استقرارنا وثباتنا في أرضنا، التي قد يخطِّطون بسحرهم لإخراجنا منها، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ(1)، نؤكِّد الحذر من خطورة مواقفهم، ما يفرض علينا متابعة التحدّيات في مواقعها الكبيرة والصَّغيرة، لنهزمهم، ولندمّر كلّ مواقع قوّتهم قبل أن يطبقوا علينا بالخطة الموضوعة المرسومة، التي يهدف أصحابها من خلالها إلى اغتيالنا وتدمير مصالحنا بطريقة وبأخرى.
النصر الإلهيّ:
وهكذا اندفع الجيش الفرعوني لملاحقة موسى t وقومه فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ(2)، أي في وقت شروق الشمس، ليلاحقوهم في ضوء النهار، وكانوا قد قطعوا مرحلةً كبيرةً في مسيرتهم بالليل، فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَان، ودنا بعضهم من بعض، وأبصر بعضهم بعضاً، واستعدّ فرعون وجيشه للهجوم، شعر قوم موسى t بالخطر المتمثّل بضخامة جيش فرعون بالعدّة والعديد، فاندفعوا للتعبير عن القلق الذي ساورهم من هذا الواقع العنيف.
قَالَ أَصْحَابُ موسى الذين عاشوا القهر والاستعباد التاريخي من هذا الطاغية المستكبر، بحيث تأصّل الخوف منه في نفوسهم، وتعمّق الرعب منه في قلوبهم، ففقدوا الثقة بأنفسهم، وابتعدوا عن التفكير في رعاية الله لهم وقوّته المطلقة في الكون كله، إنَّا لَمُدْرَكُونَ(3)، فسيدركنا فرعون بجنوده، وسيقبضون علينا ويقتلوننا أو يرجعوننا إلى العبودية من جديد.
لكنّ موسى t كان مطمئنّاً هادىء البال، وكان يعرف أنَّ وعد الله بهلاك فرعون وقومه حقّ، وأنّ الله لن يخلف وعده لرسله. قَالَ كَلا فلن يستطيعوا اللّحاق بنا مهما حاولوا، لأنّ القضية ليست في مستوى القضايا العاديّة المرتكزة على القدرة البشرية، بل هي في مستوى التدبير الإلهي الذي لا يخضع للأمور المألوفة في قوانين الطبيعة المادية إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ(1)، فهو الحافظ لي من الأعداء، وهو الناصر لي عليهم فيما وعدني في بداية الرسالة، ولذلك فإني واثقٌ بأنه سيدلّني إلى الطريق الآمن الذي لن يستطيعوا الوصول إليه واللحاق بي من خلاله.
ولكنَّه ـ في الوقت نفسه ـ رجع إلى الله، في هذه الحال الصَّعبة التي يقبل فيها مع قومه على تجربة لا تخلو من الخطورة، لأنَّه يتحرَّك نحو الدّخول في خضمّ بحرٍ متلاطم الأمواج، عميق الغور، ممتدّ المساحة، وتلك هي عادته في الرجوع إلى الله في مثل هذه الحالات، منذ حركته الأولى بعد خروجه من مصر، فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ(2)، فقد تأصّلت الجريمة في كيانهم، حتى لم تعد تنفع في هدايتهم أيّة وسيلة من وسائل الترغيب والترهيب، وأية حجّة من حجج الإقناع بالحق الصادر منك، وستتحرك الجريمة من خلالهم لتمتدّ في المستقبل لتحكم حياة الأجيال القادمة، لأن هؤلاء سوف يمنعون امتداد الحق إلى الآخرين، عندما ينصبون الحواجز أمام الرسول والرسالة، لأنّهم يملكون كل مواقع القوّة في مراكز السلطة العليا، وفي ساحات الواقع الشامل لكلّ نشاطات الحياة.
وهكذا استجاب الله دعاءه في تلك اللحظة الحرجة، في خطة إلهية أراد من خلالها أن يدفع موسى t إلى مواجهة الموقف بمعجزة، ليلاحقهم فرعون وقومه في البحر، فيغمرهم الماء بشكلٍ نهائي، ويقضي عليهم قضاءً نهائياً.
ويقول تعالى في موضع آخر: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إلى أرض الحرّية الجديدة، بعيداً عن سطوة فرعون، فقد أصبحت في موقع القوّة، وأصبح هو في موقع الضعف، وستجد أمامك معجزة جديدة، فستدخل البحر من دون أن يكون هناك جسر تقطعه، ولا سفينة تقلك وقومك، وسيحوّل الله تعالى البحر إلى أرض يابسة تنتهي إلى الشاطئ الآخر، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً، فإذا ضربت البحر بعصاك، فسينشقّ الماء أمامك، وتبدو الأرض بشكل مفاجئ معجز، لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى(1)؛ لأنّك تسير بأمان الله، فلا تخاف من لحوق فرعون وجيشه بك.
وبدأت التَّعليمات تنـزل على موسى t في بداية الخطة وانطلاقة المسير: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ(2)، فسيلاحقكم فرعون وجنوده، لأنّك نفّذت شعارك في إنقاذ بني إسرائيل وتحريرهم من استعباده لهم، وهو أمر خطير بالنسبة إلى سلطته الاستكبارية، لأن في ذلك نوعاً من السقوط السياسي لمواقعه القوية، باعتبار أن هؤلاء المستضعفين يمثلون القوّة الاحتياطية لسلطانه في حروبه الداخلية والخارجية، وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ(1)، أي اتركه ساكناً بعد أن ينفتح أمامكم وتنحسر المياه عن أرضه، في تدبير إلهيّ تتمثل فيه المعجزة الخارقة التي لا يملك أيُّ بشر القيام بها، لتقطعوا البحر إلى الجانب الآخر، وذلك بأن تقرِّبه بعصاك التي كانت إنذاراً وتحدّياً في المرحلة الأولى، وهي اليوم رحمة ونجاة وانتصار، فتتركه مفتوحاً ساكناً في أرض يابسة تغري المطاردين بدخوله لملاحقة الهاربين إنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُون. فالخطَّة المرسومة تقضي برجوع الماء إلى موقعه بعد دخول آخر جندي من جماعة فرعون، وخروج آخر شخصٍ إلى الأرض الطبيعية اليابسة من قوم موسى t .
وجاء تفصيل الخطَّة في آيات أخرى أكثر صراحةً، كما في قوله تعالى: فأَوْحَيْنَا إِلَى موسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ وانشقّ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ والفرق هو القطعة المنفصلة من الماء كَالطَّوْدِ العَظِيم(2). أي كالجبل العظيم في ارتفاعه. وهكذا، فإن الله الذي ينفذ أمره في كل شيء، وبأمره تموج البحار، وتتصرَّف الرياح، وتتحرك العواصف، وكلّ شيء في عالم الوجود من رشحات فضله وقدرته وتدبير أمره، خضع البحر لأمره، وانطلقت الأمواج بعيداً عن الأرض بإرادته، فالتحمت وتراكم بعضها إلى بعض، وظهرت ما بينها طرق سالكة يابسة لا ماء عليها، فمرّت كل فرقة من بني إسرائيل في إحدى الطرق.
وهكذا سيطر موسى t على البحر اليابس، ودفع قومه إلى الاندفاع في ساحاته، فلم يصبهم شيء من الماء بالرغم من إحاطته بهم من كلِّ جانب. إلا أنَّ فرعون وأتباعه، بالرغم من مشاهدتهم هذه المعجزة الكبرى الواضحة التي لم يعهدوا لها مثيلاً حتى في تصوّراتهم، لم يذعنوا للحق ويؤمنوا بالله الذي لا يملك أحد غيره أن يدبِّر الأمر بمثل هذه الطريقة، ولم ينـزلوا عن مركب غرورهم، فاتبعوا موسى t ورهطه ليبلغوا مصيرهم المحتوم، كما جاء في قوله تعالى: وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ(1)، وهم فرعون وجنوده، وقرّبناهم إلى المنطقة التي سار فيها موسى t وقومه حتى شعروا بالأمن في ملاحقتهم لهم وَأَنْجَيْنَا موسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ(2)، فأخرجناهم من البحر إلى البر، وانتقلوا إلى الجانب الآخر الذي وجدوا الأمن والطمأنينة عنده ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَخَرِينَ(3). فقد انطبق البحر عليهم، وعاد كما كان في تلاطم الأمواج العالية الّتي انهالت عليهم فجأةً، فهلك فرعون وقومه في البحر، وصار كالقشة في وسط هذه الأمواج التي نقلتهم من مكان إلى مكان، في حال الموت التي حلت بهم كأنهم أعجاز نخل خاوية.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(4)، فقد رفضوا كل ما يقدِّمه لهم موسى t من آياتٍ وبيّنات، من دون أن يكون لهم أيّ أساس وأية قاعدة للإنكار، فكان جزاؤهم العقاب في الدنيا والآخرة، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ(1)، فلا يستطيع أحد أن ينتقص من عزَّته، كما أن رحمته تتسع لجميع خلقه من خلال مشيئته.
وفي سورة طه، يُبيّن الله تعالى أنّ طريق فرعون كان طريق الضلال لقومه، الأمر الذي انتهى بهم إلى الغرق، بينما كان طريق موسى t طريق الهداية إلى برّ الأمان، قال تعالى بعد حديثه عن خطّة النجاة عن طريق البحر: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ وقد هالهم ما استطاع موسى t أن يبلغه من تنفيذ خطّته دون رضاهم، وساروا خلفه، وقد رأوا البحر مفتوحاً أمامه؛ حتّى إذا استكملوا عددهم ولم يبق منهم أحد في الشاطئ، جاءهم الموج من كلّ مكان، فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ(2). وماتوا جميعاً غرقاً وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وضيّع عليهم الدنيا والآخرة بما عاشوه من كفر وطغيان، وَمَا هَدَى(3)؛ لأنّه استغلّ حياتهم لذاته، فلم يهدهم سواء السبيل.
نهاية المستكبرين:
وكانت نهاية المطاف لهؤلاء المستكبرين من السلطة الفرعونية، أنهم ذهبوا في متاهات الزمن ومجاهل التاريخ، وصاروا عبرةً لمن بعدهم من الذين ينهجون نهجهم ويلتزمون أفكارهم ويستكبرون في الأرض. وقد تحدث الله تعالى عن هذه النهاية بقوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(1). من تلك الحقول المترامية المثقلة بالثمار الجنيّة والفواكه الشهيّة المنفتحة على الخضرة الحلوة الساحرة، ومن تلك الينابيع المتدفّقة بالمياه العذبة التي تروي العطشى، وتفجِّر الخصب في الأرض وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(2)، أي مساكن جميلة زاهية وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ(3). مستأنسين ومتمتّعين بها كما يتمتَّع الإنسان بالفاكهة بما تثيره من الإحساس باللذّة.
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ(4). لتكون هناك تجربة جديدة لبعض الناس الجدد في حكم هذه الأرض فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لأنهم لا يمثلون أية قيمة في ميزان الحق والخير والعدل، ولا يملكون أية درجةٍ في آفاق الروح المتصلة بالله، ليُحدِث فقدهم من ساحة المسؤولية فراغاً كبيراً بالنسبة إلى الحياة والإنسان، لتحزن عليهم السماء والأرض وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ(5). فإذا جاء الأجل الذي قدّره الله لهم في نهاياتهم الحتمية، فإنّه ينفذ من دون تأخير، لأن مصلحة الحياة تفرض الموقف الذي يوحي بالابتعاد عن الواقع المتمثِّل فيها، انطلاقاً من الحكمة الإلهيّة الّتي حدّدت لهم مواقعهم في الوجود.
وهكذا نجح موسى t في تحقيق هدفه التّحريريّ في إنقاذ قومه من طغيان فرعون، فأنجاهم الله بفضل رعايته التي شمل بها هؤلاء المستضعفين، وقد جاء في قوله تعالى: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ العَذَابِ المُهِينِ(1)، الّذي تمثّل بظلم الطاغية لهم واستخدامهم في تثبيت سلطانه، من دون أية مراعاة لحقوقهم الإنسانية بذبح الأبناء واستحياء النساء مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ المُسْرِفِينَ(2)، فقد كان يعيش عقدة العلوّ في الأرض مما لم يكن يملك معه أساساً جوهريّاً في عمق القيمة في شخصيّته، أو في سعة المعرفة في فكره، أو في سموّ الروح في روحيّته، بحيث تحوّلت طموحاته الذاتية إلى عقدةٍ استكبارية تتحرَّك في نزعة اضطهادٍ للآخرين واحتقارٍ لإنسانيتهم، كما كان يعيش الإسراف في ظلمه وطغيانه وقوانينه التعسُّفية التي تحطِّم المعنى الإنساني في حياة الناس بما يتجاوز الحدود المعقولة.
أمَّا فرعون، فقد كان له شأن آخر في إعلان إيمانه بالله عندما أدركه الغرق وبانت له الحقيقة، قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ(3)، ولكنَّه آمن حيث لا ينفع الإيمان عندما عاين النهاية في حالة الموت، فالتوبة إنما تنفع في موقع الاختيار العميق الذي يملك فيه الإنسان عقله ونفسه في واقع الحياة الطبيعية التي يحياها ويختار فيها التزاماته الإيمانية، ولذلك جاءه الجواب الحاسم الرافض لهذا الإيمان الاضطراري، في قوله تعالى: آَلآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ * فَاليَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ(1)، لتكون عبرةً لمن اعتبر، وعِظةً لمن اتَّعظ، وليعرف الناس أن الامتداد في الضلال والعلوّ في الأرض والتمرّد على الله، لا يبلغ المدى الذي يريده أصحابه، بل يقف في نهاية المطاف عند حدٍّ لا يتعداه.
وفي ختام الموقف، يصوِّر الله تعالى لنا عاقبة فرعون وقومه يوم القيامة: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الوِرْدُ المَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ المَرْفُودُ(2)، فسوف يواجهون العطايا السيئة التي لا تحقّق لهم أيّ هدف مما كانوا يرجونه، لجهة قضاء حوائجهم من خلال فرعون، بل يحصلون على ما هو خلاف ذلك، على نارٍ محرقةٍ مهلكة وقودها الناس والحجارة أعدَّت للكافرين.
وفي آية أخرى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِنَ المَقْبُوحِينَ(3).
وانتقل موسى t وقومه إلى أرض أخرى، فكيف كانت أوضاعهم؟ وكيف واجه موسى t هؤلاء الناس في دعوتهم إلى الإيمان بالرسالة؟! والحمد لله ربِّ العالمين.

















    وراثة الأرض
    هدف الرسالة النبويّة
    زيف الفكر والواقع



بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
انتهت المرحلة الفرعونية الطاغية، وعاش الناس من بعد ذلك حرية اجتماعية في أمورهم العامة والخاصة، وفي أمن شامل، وتخلَّص المستضعفون من بني إسرائيل من الاستعباد الفرعوني بعد أن حرَّرهم النبي موسى t وحقّق هدفه الأساس في إرسالهم معه، وانطلقت المعجزة الإلهية في تحويل البحر إلى أرض يابسة سمحت لموسى t ومن معه بالسير فيها والاتجاه إلى الجانب الآخر، وعاد البحر إلى حالته الأولى بعد أن استكمل جيش فرعون دخوله فيه، فغرقوا جميعاً.
وراثة الأرض:
ويبقى السؤال: ماذا حدث بعد ذلك؟ هل رجعوا إلى مصر ليحكموها بقيادة موسى t، أو أنهم أكملوا رحلتهم في الجانب الآخر ليستقرّوا في أرض أخرى، وهي بيت المقدس التي كان موسى t يخطِّط للإقامة فيها وتحريك الدعوة إلى العالم من خلالها، باعتبارها الأرض المقدَّسة التي تجذب الناس إليها بوحي قداستها الروحية إذا ارتفعت الحواجز الأمنية بينهم وبين الدخول إليها؟
لا بدَّ لنا من متابعة الآيات القرآنية التي تتحدّث عن مرحلة ما بعد الانتصار على السُّلطة الفرعونية، فنقرأ في البداية قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ(1). فنلاحظ أن الله سبحانه أراد أن يتسلّم المستضعفون قيادة الحكم في مصر، وأن يرثوا الأرض، فيكونوا سادتها وقادتها، وأن يتمكَّنوا في الأرض من موقع القوة والثبات بعد هزيمة فرعون وهامان ـ الذي كان مصدر قوةٍ ودعم لسلطة لفرعون ـ وجنودهما مما كانوا يحذرونه من حركة النبي موسى t والمؤمنين معه والجماهير الكثيرة من قومه. وقد وصلت هذه الإرادة الموعودة من الله للمستضعفين إلى درجة الفعلية بعد الانتصار على أولئك الطغاة وأتباعهم، وهذا ما جاءت به الآية الكريمة، في قوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ(2).
فإننا نستوحي من هذه الآيات، أن الله منح الامتداد الحرّ للمستضعفين، بحيث مكّنهم من الحركة في أي موقعٍ من مواقع الأرض، حتى الأرض المباركة المقدسة، وتحققت الإرادة الإلهية لهؤلاء الناس الصَّابرين الذين صبروا في مدى الأجيال على اضطهاد فرعون وسلطته الظالمة المستكبرة، لأن الله سبحانه قد جعل الصبر قيمةً حركيةً لا بد من أن تنتهي إلى النتائج الإيجابية، لأن امتداده يضعف مراكز القوة المستعلية بشكل تدريجي.
وهذه الآية تدل على أن المستضعفين قد أصبحوا سادة الأرض وقيادييها، وأن الله منحهم القدرة على الامتداد إلى أرض أخرى، ما قد يوحي بأنهم أمسكوا بالقيادة العامة في مصر التي عاشوا الاستضعاف فيها تحت سلطة المستكبرين من فرعون وقومه.
ونقرأ في آيةٍ أخرى: فَأَخْرَجْنَاهُم أي فرعون وقومه من جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ* كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ(1). وفي آية مماثلة في قوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ(2)، والمقصود بهم بنو إسرائيل بقيادة النبي موسى t والمؤمنين معه، بقرينة الآية السابقة، وباعتبار أنهم كانوا هم المتحرّكين ضد المستكبرين في ساحة الصراع.
وهكذا يمثّل عنوان الوراثة معنى السلطة الفعلية التي حصلت على الموقع القيادي الجديد بعد الموقع السابق، ومن المعروف أنها لن تتحقق بالمعنى الواقعي، إلا إذا كان المستضعفون من بني إسرائيل هم البديل في الواقع، ما يعني أنهم كانوا متواجدين في الأرض التي كانوا يسكنون فيها. ثم إنَّ الآيات التي تحدّثت عن معاناة موسى t مع قومه، لم تتحدث عن ذلك في المجتمع المصري، بل في المسيرة التي كانوا يتحركون فيها معه، ما قد يوحي بأنهم لم يرجعوا إلى مصر ليحكموها وليكونوا في مواقع السلطة الجديدة الحاكمة القوية.
ولكن بعض المفسّرين، ومنهم القرطبي، نقل عن الحسن وغيره، أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر، وقيل إنه أراد بالوراثة هنا ما استعادوه من حُلي آل فرعون بأمر الله تعالى. وقال القرطبي إنَّ كلا الأمرين حصل لهم بعد هلاك فرعون وقومه، كما أنّ مفسرين آخرين قالوا إنهم تحركوا نحو بيت المقدس بعد هلاك فرعون وأتباعه، إلا أنهم بعد مدة مديدة رجعوا إلى مصر وشكَّلوا فيها حكومتهم. ويعتقد بعض المفسرين، أنّ بني إسرائيل صاروا جماعتين أو فئتين، فجماعة بقيت في مصر وحكمت فيها، وجماعة تحرّكت مع موسى t نحو بيت المقدس.
واحتمل البعض أنّ بني إسرائيل حكموا مصر بعد موسى t في زمان النبي سليمان بن داودt. وردّه بعض المفسرين إلى أن موسى t نبيّ ثائر كبير، فمن البعيد جداً أن يترك هذه الأرض التي تهاوت أركان حكومتها وقد أصبحت مقاليد أمرها بيده، فيذرها كلياً دون أن يخطّط لها خطة، ويتّجه نحو فلسطين وبيت المقدس والصحارى الشاسعة، ولاسيما أن بني إسرائيل قد سكنوا مصر لسنين طوال، وتعوّدوا على محيطها. فبناءً على هذا، لا يخرج الأمر من أحد حالين: إما أن نقول: إن بني إسرائيل عادوا جميعاً إلى مصر وحكموا فيها، أو أن نقول إنّ قسماً منهم بقي في مصر بأمر موسى t، واستولى على العرش وحكم فيها. وفي غير هاتين الحالين، لا يتجلى مفهوم إخراج الفراعنة منها ووراثة بني إسرائيل.
 
هدف الرسالة النبوية:
ونلاحظ على ما ذكروه، أن الهدف الذي كان يستهدفه النبي موسى t، كان ينطلق من الدعوة إلى الإيمان التوحيدي بالله، ورفض عبادة الآلهة المدَّعاة في خط الشراكة لله أو تأليه البشر واعتبارهم أرباباً للناس، وتحرير بني إسرائيل وإرسالهم معه، بعد أن دعا فرعون وقومه إلى عبادة الله، وتحاور معه في ذلك، ثم استفاد من انتصاره على السحرة الذين جمعهم فرعون لمواجهته.
وبقيت دعوته تتحرّك في أكثر من موقف في حالٍ جزئيةٍ أو كليةٍ، وقد أثَّرت هذه الدعوة في بعض الناس الذين اقتنعوا بموسى t، عندما شاهدوا السحرة وهم يعلنون إيمانهم وسجودهم لله ربِّ العالمين، لأنهم رفضوا اتهام موسى t بالسحر بعد أن أثبت السحرة سخافة ذلك. كما أن المعجزة في فتح البحر لهم وإفساح المجال أمامهم للسير على الأرض اليابسة وإنقاذهم من فرعون وقومه كانت الهدف الثاني الذي حققه الله لهم...
ولم يتحدث الله عن هدفٍ ثالثٍ، وهو قيام النبي موسى t بحكم مصر ليكون في الموقع البديل من فرعون، بل إنّ المطلوب منه كان الامتداد في الخطّة التي أعدّها الله له بعد تحرير مصر من سيطرة الطاغية، وربما كان الله يريد منه ـ من خلال الرسالة ـ أن يستكمل هداية قومه من بني إسرائيل، ليكونوا في مستوى الوراثة للأرض، وليبلغوا درجة الإمامة للبلد الذي كانوا يقيمون فيه في نطاق الاستعباد الفرعوني، كما عبّر الله عن ذلك وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(1). ولعلّ تحقيق هذه المهمة الرسالية، كان يقتضي أن يفصلهم عن الجوّ الذي كانوا يتأثّرون به ويجعلهم يستعيدون الذكريات السوداء في الصنمية الوثنية والربوبية الفرعونية، ليتنفسوا الهداية في الهواء الطلق، لأنهم كانوا لا يزالون يفكرون في الاتجاه المنحرف، ولم تكن علاقتهم بالنبي موسى t علاقةً رسالية ـ إلا من آمن منهم ـ بل كانت أشبه بالعلاقة القومية القيادية التي يأملون أن تخلّصهم من فرعون وظلمه، ولذلك كانوا يخاطبون موسى t بأنه أدخلهم في الأذى منذ أن حمل مسؤولية إنقاذهم من فرعون الذي شدَّد من ضغطه عليهم...
زيف الفكر والواقع:
وهكذا انتقلوا إلى الضّفة الأخرى في أرض جديدة ومسيرة جديدة... وكانت المفاجأة الصعبة للنبي موسى t في حديثهم عن الذهنية الإشراكية، وطلبهم منه أن يجعل لهم إلهاً يعبدونه من دون الله، عندما التقوا بأناس كانوا يعبدون الآلهة الوثنية، وهذا ما جاء في قوله تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ في عملية عبادة خاشعة وخضوع مسحوق لما يتصورونه فيهم من الأسرار الإلهية قَالُواْ يَا موسى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ لنعبدها كما يعبدها هؤلاء القوم قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(2).
فقد كانوا يشعرون ـ فيما يبدو ـ أن النبوّة مجرد سلاح في يد موسى t في معركته ضد فرعون، لا حقيقة إلهية في الحياة ضد كل ما هو زيف في الفكر وفي الواقع. وهذا ما واجهه موسى t في بداية التجربة الأولى في الأجواء الجديدة، حيث استيقظت كلُّ رواسب الصنمية في الأعماق، وبدأت تتحرك على السطح، لتتحوّل إلى نداءٍ متوسّل إلى موسى t ليقوم بصناعة آلهة لهم ليعبدوها كما للآخرين آلهة، فقالوا له: إننا ابتعدنا عن مصر وعن معابد الآلهة التي اعتدنا العبادة فيها للأصنام، فكيف نقبل أن نعاني من هذا الحرمان الروحي، فأنقذنا من ذلك كما أنقذتنا من ظلم فرعون.
وشعر موسى t بالمرارة، ولم تكن مرارة الخيبة التي تقود إلى الإحباط وتدفع إلى اليأس، بل هي مرارة الرسول الذي يشعر بأنّ ما تحتاجه المرحلة من جهدٍ وتوعية وتربيةٍ لا زال كبيراً، لأن القوم لم يأخذوا قضية الإيمان كقضيةٍ للفكر والحياة، بل أخذوها كوسيلةٍ للخلاص من العبودية، لأنّ التاريخ الطويل الذي عاشوه في أجواء الظلم والطغيان والشرك، قد ترك تأثيره الكبير على الملامح الداخلية والخارجية لشخصيتهم، ما يفرض على موسى t وضع خطة جديدة تختلف في وسائلها، وتتنوّع في أساليبها وأشكالها.
وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، لأنّهم لم يتعرفوا حقيقة الألوهية في معناها المطلق، من حيث أنّ الله يخلق كل شيء، ويحيط بكل شيء، وليس كمثله شيء، وليس بينه وبين أحدٍ من عباده قرابة ليكون واسطةً بينه وبينه، فلا معنى لأن يعبد أحدٌ أحداً ليقرّبه إلى الله زلفى، لأنّ العمل المتحرك في خطّ الإيمان هو الذي يقرّب العبد من ربه. وبذلك لا معنى لإعطاء هذه التماثيل الحجرية والخشبية والذهبية والنحاسية والفضية معنى الألوهة، فهي مخلوقة لله بمادّتها، ومصنوعة للإنسان بشكلها، فكيف تحمل سرّ الألوهة؟ ومن أين تحصل على القوة والقدرة؟ إنه الجهل والغفلة والخرافة والسذاجة، إنهم يتمنّون أن يكونوا كهؤلاء؛ أن يعبدوا مثل ما يعبدون، هل عرفوا مستوى هؤلاء وقيمتهم فيما يفكرون ويعملون؟!
إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ، فإن واقعهم يسير بهم إلى الهلاك والدمار، لأنهم يفقدون العقل الذي يفتح لهم نوافذ الحقّ، والحكمة التي تحكم الحياة وتدبّرها في ظل نظام دقيق تلتقي فيه حركة الإنسان بحركة الكون. وإذا تحرك الإنسان من دون قاعدة ثابتة أو منهج متكامل، فإنه يبقى في مهبّ الرياح، فلا يسكن إلى ملجأ، ولا يستريح إلى أرض. وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، لأنهم لا يملكون حجة في عبادتهم لهذه الآلهة الصنمية المدّعاة.
وتلك هي قصَّة الحق والباطل، فللحقِّ سلطانه من خلال قوة العناصر الفكرية والعملية التي تدعم مضمونه، وللباطل شهواته وأهواؤه التي تفقده الثبات وتجعله في قبضة الاهتزاز، تبعاً لاختلاف الأهواء والشهوات التي لا تشتعل إلا لتتبخّر في الهواء، كماء الزبد الذي يذهب جُفاءً ولا يبقى منه شيء ينفع الناس.
وهذا ما أراد النبي موسى t أن يعمّمه في ذواتهم، من أسلوب الإنكار لهذه الرؤية الظلامية للأشياء، ليدرسوا واقعهم المستقبلي في نتائجه السلبية على هدى واقع هؤلاء القوم في النتائج السلبية الحاضرة. ثم عاد ليربطهم بالله من خلال النعمة التي أنعم بها عليهم قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(1). فيما منحكم من نعمه الكثيرة، وما ميّزكم به على فرعون وقومه من اختصاصكم برحمته وبآياته المعجزة، وبغير ذلك من نعم كبيرة في كل مجالات حياتكم.
إنه تفضيل النعمة التي قد يخصّ بها الله بعض عباده لحكمةٍ ما، لا تفضيل القيمة التي يرفع بها بعض عباده على بعض درجات ويقرّبهم إليه ويمنحهم المزيد من رحمته ورضوانه. إنه يذكّرهم بهذه النعمة، ليفكّروا ويقارنوا، ليأخذوا من ذلك أوّل درس ينفتح بهم على الإيمان، وهو أن لا شيء غير الله يمكن أن يمنح الإنسان النِعَم في كل حياته، لأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً.
وهكذا بدأ موسى t عملية التوعية الرسالية في الدعوة التوحيدية لقومه، في المسيرة الطويلة التي عاناها منهم كما عاناها من فرعون وقومه، ولكنه لم يرجع إلى مصر في المرحلة التي واجهها معهم. فكيف واجه تلك المرحلة؟ والحمد  لله رب العالمين.

















    صناعة المنهج والفكر
    خلافة الرسول
    تأصيل الفكر



بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
لا نزال نتحدّث عن تجربة النبي موسى t والمراحل التي مرّت بها رسالته، وقد وصلنا إلى مراحلها المتأخرة.
فقد كانت مرحلة النبي موسى t منذ أرسله الله برسالته، هي مرحلة الصراع مع فرعون وقومه من أجل إنقاذ المستضعفين من عشيرته، وإسقاط استكبار فرعون، ودعوته إلى الإيمان بتوحيد الله وعبادته وطاعته، وإبعاده عن التفكير الوثني الذي كان يعيش في خطوطه العبادية، وتحطيم غروره النفسي في انتفاخ ذاته الذي بلغ درجةً اعتبر فيها نفسه ربّاً أعلى يطلب من الناس أن يخضعوا له خضوع عبادة تأليهية.
وقد حقّق الله لموسى t ذلك، فاستطاع هزيمة الطغيان الفرعوني بكل أتباعه وأوضاعه، وأنقذ قومه من العبودية، فأصبحوا ـ معه ـ أحراراً يملكون أنفسهم ويقررون مصيرهم بأنفسهم... ولكن النبي موسى t لم يكن شخصاً يبتدع الفكرة الرسالية من خلال ذاته، أو يصنع الشريعة للناس من خلال حركة ثقافته وموازين عقله، ليكون مجرّد مصلحٍ يملك عبقرية الإصلاح في خط النظام الحركي في انطلاقة الواقع، كبقية المصلحين الذين يتحركون من موقع شخصي في عملية الإصلاح، فتكون الرسالة بشريةً لا إلهية، على أساس أن مهمته في مسؤوليته أمام الله تعالى قد انتهت وتحققت بما حققه الله تعالى له من النتائج الكبرى على مستوى الرسالة، ليأخذ حريته الشخصية في تدبير أمور الناس من حوله، وخصوصاً الذين كانوا من قومه. لقد كان موسى t رسولاً من قِبَل الله، وقد أعلن في بداية مواجهته لفرعون صفته الرسالية التي تجعله يتحرك بأمر الله في كل خطواته العملية، وفي كل أقواله وأفكاره، فليس له أي موقعٍ حركيّ في المسؤولية على مستوى الذات، فهو ـ في حديثه مع فرعون ـ أعلن أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ(1)، وبذلك حدّد المنطلق لمسيرته في التفكير والتخطيط والتشريع.
صناعة المنهج والفكر:
وكان موسى t ينتظر وحي الله ليرسم المنهج، وليركّز الخط ويطلق الشريعة، ليكون برنامجه دين الله وشريعته، لا دين موسى t وشريعته. وانتظر موسى t في المرحلة الجديدة أن ينـزل عليه الوحي، وأن يفصّل الله تعالى له الشريعة، وجاء وعد الله له بذلك، وحدّد له موعداً معيناً، وأخبره أن الكتاب سينـزل عليه جملةً وتفصيلاً، وأن عليه أن يستوعبه في قلبه قبل أن يكتبه في الألواح، وأن يفكر فيه ليعرف خصوصيات القضايا من خلال الخطوط العامة، وأن يتطلّع إلى آفاق الكتاب كيف تحتوي الحياة في رحابها الواسعة، ليعود إلى قومه حاملاً لهم خطّ النظرية، وميزان التطبيق. وعاش في هذا الجو تجربةً فريدةً صاعقةً هزّت كيانه، وعرّضته لموقف صعب محرج مع الله، وهذا ما نستوحيه من جولتنا في هذه الآيات.
جاء في قوله تعالى: وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً(1)، فقد أراد الله له أن يأتي إلى موعده معه، ليغيب عن قومه وعن حركته العادية اليومية معهم أربعين ليلةً. فكيف كانت ثلاثين ثم أتمها الله بعشر؟ هل هو إتمام طارىء للموعد؟ وكيف ينسجم ذلك مع الله الذي لا تختلف كلمته، ولا يتخلّف وعده، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً؟ الظاهر ـ والله العالم ـ أن المسألة لا تعدو أن تكون على نحو التفصيل تعبيري فنيّ عن الأربعين، باعتبار أن الثلاثين تمثّل وحدةً زمنيةً هي الشهر، فتكون الليالي العشر زيادةً على هذه الوحدة منفصلةً عنها في المفهوم، متصلةً بها في الزمن، ولهذا جمعها في نهاية الفقرة.
وبدأ موسى t ينظّم الأوضاع في مجتمعه ومع قومه، ليجعل لهم قائداً يقود خطاهم إلى الخطوط الإصلاحية الإيمانية في المسيرة التي بدأها، فكلّف أخاه هارون الذي طلب من الله أن يجعله وزيراً له وشريكاً في أمره ليسيرا معاً من أجل تحقيق الهدف الذي أراد الله لهما أن يحققاه. وهكذا، زوّد موسى t أخاه هارون بالتوصيات الحكيمة التي تحفظ التوازن لهذا المجتمع، لكي يعود إليه ويكمل مسيرته التي أراده الله تعالى أن يسير فيها من دون أن يكون في ذلك أي شك في سلامة مسؤولية أخيه، لأنه يعرف ـ من موقعه الرسالي ـ أنه كان من الرساليين المنفتحين على الله وعلى الرسالة.
 
خلافة الرسول:
وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي، فأنت القائد في غياب القائد، والرسول في غياب الرسول، والمصلح في غياب المصلح، باعتبار أن المسؤولية كانت مسؤوليتي في حضوري، وهي مسؤوليتك الكبرى في غيابي، ولا بد لهؤلاء الناس من أن يعيشوا في امتدادهم العملي مع القيادة الروحية المتمثلة بشخصك، بحيث تبقي لهم الجو الروحي الذي يربطهم بالله ويذكّرهم بخط الإيمان لئلا يسقطوا في الغفلة عنه، ويهيّىء جوّهم العقلي والروحي للمرحلة الجديدة التي أعدّني الله للتحرك فيها، لأن ابتعادهم عن القيادة، قد يحوّل الواقع في ساحاتهم إلى حالٍ من الفوضى قد تؤدي بهم إلى الانحراف عن الخط المستقيم، وتعود بهم إلى السقوط في التراكمات التاريخية المملوءة بالرواسب المتعفنة، من خلال عقلية الشرك الذي أوقعهم في مهاوي الذل والعبودية في شخصياتهم المسحوقة تحت وطأة الاستعباد نتيجة الطغيان المهيمن عليهم، الأمر الذي يجعلهم بحاجة إلى الرعاية الدائمة والعناية المركّزة من أجل استكمال عملية الحضانة الإنسانية الجديدة التي تؤسس لبناء الشخصية القوية الواعية المنفتحة على إيجابيات الحركة الرائدة بعيداً عن مؤثرات الشخصية المتخلفة القديمة.
وهكذا أراد موسى t لأخيه هارون أن يخلفه في قومه، ووضع له الخطوط الإصلاحية التربوية في خط الرسالات، في إدارة شؤون الإنسان والحياة من الداخل والخارج، بالقوة التي مارسها النبي موسى t معهم، والحكمة التي حرّكها في برنامجه الذي وضعه لهم.
وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ(1). وهو الإصلاح في مضمونه الفكري، وفي طريقة تنفيذه، وفي إدارة العلاقات بين الناس لجهة خلافاتهم ونزاعاتهم وما يتعرضون له من السلبيات في تعقيدات الواقع في أوضاعهم العامة، التي تهدأ حيناً وتضطرب حيناً آخر، هذا في الجانب الإيجابي للخط. أما في الجانب السلبي، فهو الامتناع عن اتباع سبيل المفسدين في إثارة المشاكل وتعقيد العلاقات وإثارة الفتنة وضعف الإدارة في حركتها المسؤولة، واهتزاز الإرادة في فاعليتها الواقعية، وتوجيه الأوضاع في اتجاه الأنانيات والعصبيات، وغير ذلك من الأمور التي تعزل الإنسان عن الساحة الرحبة الشاملة للحياة، وتحوّله إلى كائن سلبي يدور حول نفسه أو عصبيته بعيداً عن الأجواء الإنسانية العامة.
وقد يطرح هنا سؤال، وهو: كيف يوجه النبي موسى t هذا الخطاب إلى أخيه هارون الذي هو شريك له في المهمة والنبوة المساندة للدعوة في حال الصراع؟ وهل كان في حاجة إلى مثل هذه الوصية للأخذ بأسباب الإصلاح والابتعاد عن خط الفساد في موقعه الجديد في خلافته له؟!
تأصيل الفكر:
والجواب هو أنّ المسألة المطروحة في هذه الوصية لا تعني أن هارون كان لا يملك معرفة خط السير الذي تسير عليه النبوّات، ولكن موسى t أراد أن يؤكد له الفكرة من خلال المهمة الصعبة التي تنتظره في مجال التطبيق، مما كان يعرفه ـ من خلال التجربة القاسية ـ من ضيق أفق هؤلاء القوم الذين ينتسب إليهم، وطفولتهم الفكرية، والجذب الروحي المهيمن على مشاعرهم وأحاسيسهم وأوضاعهم النفسية في واقعهم الداخلي، وربما أراد من ذلك الإيحاء إلى قومه ـ إذا كان التنصيب لخلافته علنيّاً بمسمع من قومه ـ أن خط الإصلاح والبعد عن الفساد ليس أمراً مرهوناً بوجوده القويّ الفاعل في الموقع القيادي، ليكون التزامهم به التزاماً من حيث الإخلاص للشخص على أساس ما يمثله من قوةٍ عندهم، بل هو أمر يحكم حياتهم في حال حضوره وغيابه، لأنه ينطلق من رسالة الله التي تفرض على الإنسان أن يراقب ربه قبل أن يراقب أي إنسان آخر، حتى إذا كان في مستوى النبوة.
وقد لاحظنا هذا الأسلوب التوجيهي الحادّ في الخطاب القرآني للنبي محمدw، كما جاء في قوله تعالى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ(1). وقوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ(2). وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ(3).
فإننا نلاحظ في هذه الآيات، أن الله تعالى يؤكد لرسوله ومن معه الاستقامة في الدعوة وفي الخط والعمل، وينهاه عن اتباع أهواء المشركين وعن الطغيان، كما يريد منه ومن الرسل أن يعملوا صالحاً في مسؤولياتهم الخاصة والعامة، وأن لا يركنوا إلى الذين ظلموا فتمسهم النار بذلك، ولا يجدوا هناك ناصراً ينصرهم من الله تعالى.
وقد نلتقي في القرآن بآيات كثيرة مماثلة، كما في قوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(1). هذا هو الأسلوب القرآني في منهجه التربوي الذي يركّز المبدأ في الأهمية الكبرى التي يتمثل فيها، من خلال خطاب الشخصيات الرسالية التي تتصف بالعصمة الروحية والسلوكية، والإيحاء بأن مثل هذه العناوين الحركية الأخلاقية، يريد الله للناس أن يلتزموها في الجانب الإيجابي، وأن يجتنبوها في الجانب السلبي، وهذا ما أراد الله للنبي موسى t أن يوصي به أخاه هارون في مسؤوليته القيادية الجديدة.
وهناك مسألة أثارها المفسرون، حول موعد الله لموسى t وميقاته الذي قرره له؛ هل هو موعد واحد اختار فيه من قومه سبعين رجلاً ليكونوا معه في هذا الميقات الإلهي، أو أنه كان هناك موعدان، كان في الأول وحده، وفي الثاني مع السبعين من قومه؟
ربما يرى البعض أنه موعد واحد، وأن موسى t لما أراد الحضور إلى ميقات ربه وإنزال التوراة عليه، اختار هؤلاء السبعين، فذهبوا معه إلى الطور، ولم يقتنعوا بتكليم الله له، وسألوه الرؤية، فأخذتهم الصاعقة فماتوا، ثم أحياهم الله بدعوة موسى t، ثم كلّم الله موسى t، الذي سأله الرؤية، وكان ما كان، ومما كان، اتخاذ بني إسرائيل العجل بعد غيبتهم وذهابهم إلى ميقات الله.
وربما يشهد لهذا الرأي قوله تعالى: وَاخْتَارَ موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا(1). ما يشير إلى الميقات الذي تحدث الله تعالى عنه فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً(2)، ما يوحي بأنه ميقات واحد في هذه الآية وفي الآية الأخرى (143).
ولكننا نلاحظ أولاً، أن الظاهر من آية المواعدة، أن موسى t كان وحده، باعتبار أن الميقات كان له من أجل إنزال التوراة عليه، ولم يكن للإتيان بالسبعين رجلاً من قومه أية مناسبة أو ضرورة في ذلك، لأنهم لم يكن لهم أي دور في هذا الأمر.
وثانياً: إن موسى t طلب رؤية لله تعالى من خلال رغبته المعرفية، ظناً منه أن التكليم الذي أكرمه الله به قد يبرر له الطلب من الله النظر إليه لزيادة علمه به، وكانت الصدمة السلبية التي صعقته بتجلي الله تعالى للجبل بعد إعلامه بأنه لن يرى الله، مختصة به في هذه التجربة الذاتية، فلو كان معه هؤلاء، لواجهوا الموقف بالاستغراب والدهشة.
وثالثاً: إن الآية (155) تتحدث عن الرجفة التي أصابت هؤلاء منذ وصلوا إلى الميقات، فأهلكتهم وبقي موسى t من دون أن يُصاب بها، ليطلب من الله أن يعيدهم إلى الحياة، فقال: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا(1)، الأمر الذي يوحي بأن هناك شيئاً سلبياً في تاريخ قومه أدّى إلى ذلك، من دون أن تفصّل الآية طبيعة العلاقة بين هؤلاء وبين ما فعله السفهاء.
وقد ذكر البعض أنهم لم يصدقوا موسى t في تكليم الله له، فأرادوا رؤية الله، ولكن ذلك ليس واضحاً في الآيات، ولم يتبين أن هؤلاء كانوا في موقع الإنكار والتكذيب لموسى t .
ورابعاً: إن الله قد أكرم موسى t بالإعلان له عن اصطفائه على الناس برسالته وكلامه، ما يدل على أن الخطاب له وحده، وأنه لم يكن معه أحد ممن اختارهم، بل إن الله أنزل التوراة عليه بشكل خاص، وذلك قوله تعالى: قَالَ يَا موسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ(2).
وفي ضوء هذا، فقد يكون من القريب القول إنّه كان هناك موعدان، موعد لإنزال التوراة عليه، وموعد لاختيار جماعة من قومه من أجل أن ينفتحوا على الله في الجبل، ولكننا لا نجد كبير فائدة من الدخول في مثل هذه التفاصيل، لأن القرآن أجمل القصة لابتعاد خصوصياتها عما يريده الله من أغراض، وهو تأكيد العقاب الإلهي لمن تمرّد وانحرف، وتقرير الفكرة التي تربط الحاضر بالماضي في قضايا الإيمان والانحراف. والحمد لله ربِّ العالمين.

 
















    الحضور بين يدي الله
    النظر إلى الله تعالى
    التنمية الرسالية


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
الحضور بين يدي الله:
حدَّد الله للنبي موسى t ميقاتاً لحضوره بين يديه، تكريماً له، ولإنزال التوراة عليه وتكليمه بشكل مباشر فيما يريد أن يوحي به إليه، واندمج موسى t في هذا الجو الإلهي، وشعر بالسعادة تغمر قلبه، ففاضت روحه بالأشواق الإلهية الروحية، من خلال ما توحيه كلمات الله إليه، وما يتمثل فيها من معاني القرب منه، والوصول إلى الدرجة العليا من رضوانه، مما لم يسبق لنبيّ قبله، وهذا ما جعله ينفتح على إشراق النور الإلهي في لحظة روحية رائعة، فطلب من الله أن ينظر إليه، فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ(1)، فقد خيّل إليه أن من يسمع كلام الله يستطيع أن يراه، أو يمكن له أن يطلب منه أن يحقق له هذه الأمنية التي تهزّ كيانه بالسعادة.
هذا هو الظاهر من الآية، ولكن أكثر العلماء والمفسرين وقفوا من ذلك وقفة حيرة فلسفية تستبعد الأمر، بل تضع المسألة في نطاق الاستحالة، من خلال التركيز على شخصية هذا النبي العظيم الذي هو من أنبياء أولي العزم، وهو يعلم أن الله ليس بجسم ولا يحويه مكان ولا زمان، وليس كمثله شيء، والحال أن مثل هذا الطلب لا يليق حتى بالأفراد العاديين من الناس، فكيف نفسر ذلك؟
وقد اختلفت أجوبة المفسرين، فأجاب الشيخ الطوسي في (تفسير التبيان) بأن هناك ثلاثة أقوال: ((أحدها، أنه سأل الرؤية لقومه حين قالوا له: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً(1)، بدلالة قوله تعالى: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا(2). فإن قيل: على هذا، ينبغي أن يجوِّزوا أن يُسأل الله تعالى: هل هو جسم أم لا؟ أو يسأله الصعود والنزول، وغير ذلك مما لا يجوز عليه؟
فلنا في ذلك أحدهما أنه يجوز ذلك، إذا علم أن في ورود الجواب من جهة الله مصلحةً، وأنه أقرب إلى زوال الشبهة عن القوم بأن ذلك لا يجوز عليه تعالى، كما جاز ذلك في مسألة الرؤية. وقال الجبائي، إنهم سألوا الله تعالى قبل ذلك: هل يجوز عليه تعالى النوم أم لا؟ وقالوا له: سل الله تعالى أن يبيّن لنا ذلك. فسأل الله تعالى ذلك، فأمره بأن يأخذ قدحين يملأ أحدهما ماءً والآخر دهناً، ففعل، وألقى عليه النعاس، فضرب أحدهما على الآخر فانكسرا، فأوحى الله تعالى إليه أن لو جاز عليه تعالى النوم لاضطرب أمر العالم كما اضطرب القدحان في مدة حتى تكسرا.
والجواب الثاني: هو أنه إنما يجوز أن يسأل الله ما يمكن أن يعلم صحته بالسمع وما يكون الشك فيه لا يمنع من العلم بصحة السمع، وإنما يمنع من ذلك سؤال الرؤية التي تقتضي الجسمية والتشبيه، لأن الشك في الرؤية التي لا تقتضي التشبيه، مثل الشكّ في رؤية الضمائر والاعتقادات وما لا يجوز عليه الرؤية، وليس كذلك الشك في كونه جسماً أو ما يتبع كونه جسماً من الصعود والنزول، لأن مع الشك في كونه جسماً، لا يصح العلم بصحة السمع، من حيث إن الجسم لا يجوز أن يكون غنياً ولا عالماً بجميع المعلومات، وكلاهما لا بد فيه من العلم بصحة السمع، فلذلك جاز أن يسأل الرؤية التي لا توجب التشبيه، ولم يجز أن يسأل كونه جسماً وما أشبهه.
والجواب الثاني ـ في أصل المسألة ـ أنه سأل العلم الضروري الذي يحصل في الآخرة ولا يكون في الدنيا ليزول عنه الخواطر والشبهات، والرؤية تكون بمعنى العلم، كما يكون الإدراك بالبصر، كما قال: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1). وأمثاله. وللأنبياء أن يسألوا يزيل عنهم الوساوس والخواطر، كما سأل إبراهيمt ربه: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى(2)، غير أنه سأل ما يطمئن قلبه إلى ذلك وتزول عنه الخواطر والوساوس، فبيّن الله تعالى له أن ذلك لا يكون في الدنيا.
الثالث: أنه سأل آيةً من آيات الساعة التي يعلم معها العلم الذي لا يختلج فيه الشك، كما يعلم في الآخرة، وهذا قريب من الثاني. وقال الحسن والربيع والسدي: إنه سأل الرؤية بالبصر على غير وجه التشبيه. وقوله: لَن تَرَانِي(3). جواب من الله تعالى لموسى t أنه لا يراه على الوجه الذي سأله، وذلك دليل على أنه لا يُرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، لأن (لن) تنفي على وجه التأبيد، كما قال: وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً(1)، وهذا إنما يمكن أن يعتمده من قال بالجواب الأول، فأما من قال إنه سأل العلم الضروري أو علماً من أعلام الساعة، لا يمكنه أن يعتمده، لأن ذلك يحصل في الآخرة، فيجري ذلك مجرى اختصاص الرؤية بالبصر على مذهب المخالف بحال الدنيا))(2).
ونلاحظ على ذلك، أن التأويل بأنه سأل الرؤية لقومه لا لنفسه باطل، لأن الآية التي جعلوها شاهداً على ذلك، وهي قوله تعالى: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً(3)، لا تصلح لأن تكون قرينةً على ذلك؛ أولاً، لأن مسؤولية موسى t أن يبيّن لهم استحالة رؤية الله من كل أحد، تماماً كما بيّن لهم استحالة أن يكون هناك آلهة غير الله لما طلبوا منه ذلك.
وثانياً: لأنّ ما تدل عليه الآية في سياقها، هو أنهم لم يطلبوا رؤية لله جهاراً للمعرفة التي تؤدي بهم إلى الإيمان، بل للتحدي الذي يعبّر عن الرفض، لأن مسألة رؤية الله ـ حتى لو كانت ممكنة ـ لا تحصل لكل من يطلبها من الناس، بحيث يظهر الله لخلقه بشكل الاستجابة لاقتراحاتهم.
وثالثاً: إن الآية في قوله: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ، دالة على أنه طلب الرؤية لنفسه لا لقومه، ولو كان الأمر كذلك، لقال موسى t: أرهم ينظروا إليك، ولقال الله تعالى: لن يروني. وأما ما يذكره البعض من أنه إذا رآه أخبرهم، فإن الجواب أنهم علقوا إيمانهم على رؤيتهم المباشرة الخاصة لا على رؤيته له. وإذا كان البعض يرتئي بأن السبعين الذين اختارهم موسى t للميقات كانوا معه في ميقاته الذي أنزل الله تعالى عليه فيه التوراة، فإذا استجاب الله له الرؤية رأوه معه، فإنه لا ظهور للآية في ذلك، بل الظهور على خلافه، لأن الحوار كان بين الله وبين موسى t صاحب الطلب.
وأما ما ذكره الشيخ الطوسي q في تفسيره من السؤال والجواب، فلا حاجة إليه في إبطال القول المذكور. أما الحديث عن سؤاله العلم الضروري، فإن استعمال الرؤية لا يبرر التعبير بها عنه، لأن الآية لم تتحدث عن الرؤية، بل قال موسى t : رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ، ما يدل على طلب النظر الحسي لا العلم البديهي الذي يمتنع في الدنيا ويمكن في الآخرة، كما احتمله صاحب تفسير الميزان. وأما السؤال عن آيةٍ من آيات الساعة التي يعلم معها العلم الذي لا يختلج فيه الشك كما يعلم في الآخرة، فهو بعيد كل البعد عن منطوق الآية.
وقد وردت في ذلك روايات متنوعة لا نضمن وثاقتها وصحتها، لغرابة مضمونها في تفاصيلها، ونحن نحاول البحث في ذلك حول طبيعة رؤية الله، وسؤال موسى t الرؤية في إمكان ذلك من جانبه.
النظر إلى الله تعالى:
أما مسألة رؤية الله، فيدلُّ الكتاب المجيد على نفيها عن الله تعالى، وذلك في قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(1)، والظاهر من الإدراك إذا قرن بالبصر أنه يعني الرؤية بالعين.
وقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ(2)، وقوله تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً(3). وقد جاء في الحديث عن الإمام علي أمير المؤمنينt، ((وقد سأله ذِعلبٌ اليماني فقال: هل رأيت ربّك يا أميرالمؤمنين؟ فقالt: أَفأَعْبُدُ مَا لا أَرَى؟ قال: وكيف تراه؟ قال: لاَ تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ، وَلكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الاِْيمَانِ))(4).
وجاء عن الإمام علي بن محمد الهاديt، مما رواه أحمد بن إسحاق، قال: ((كتبت إليه أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس، فقال: لا تجوز الرؤية ـ عقلاً ـ ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء لم ينفذه البصر، فإذا انقطع الهواء أو عُدم الضياء بين الرائي والمرئي لم تصح الرؤية، وكان في ذلك الاشتباه، لأن الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية، وجب الاشتباه، وكان في ذلك التشبيه، لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات))(5).
أما ما استدل من العقل، فإن الرؤية إمّا أن تقع على الله كله، فيكون مركباً محدوداً متناهياً محصوراً يشغل فراغ الناحية المرئي فيها، فتخلو منه بقية النواحي، وإما أن تقع على بعضه، فيكون مبعّضاً مركباً متحيّزاً، وكل ذلك ممّا يمنعه أهل التنـزيه. ولعل من الطبيعي أن لا يكون الله تعالى بحاجة إلى الزمان والمكان، وهو الغني عن كل شيء، لأن ذلك خلقه، فلا معنى لحاجته إلى خلقه.
وقد استدل القائلون بالرؤية بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(1)، قالوا إنها ظاهرة في أن أصحاب تلك الوجوه الناضرة يوم القيامة ينظرون إلى ربهم، فيرونه عياناً بأبصارهم.
والظاهر أن المراد بنظرها إلى الله تعالى، أنها تتطلع إليه من موقعها على أساس الإيمان بعظمته ونعمته، لتحصل على لطفه ورضوانه وكرامته، كما يقال: إننا ننظر إلى الله تعالى ثم إليك، في انتظار الفضل منه أولاً، وليس المراد هو التحديق بوجهه بعيونهم، لأن الله إذا كان ممن يظهر بنفسه يوم القيامة، لرآه كل الناس، كما قد يستوحيه البعض في قوله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً(2)، فإن المقصود من مجيء الله هو حضوره، بحيث يشعر الناس بوجوده كما لو كان أمامهم عياناً، لأنه لا معنى لمجيئه بمعنى حركته بطريقة استعراضية.
واستدلوا بقوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لمـَحْجُوبُونَ(3)، فقد قالوا إن المستفاد منها، أن المؤمنين يرونه سبحانه وتعالى، بينما يُحجب الكافرون عن رؤيته، ولولا ذلك، لم يكن للتشخيص فائدة. ولكن الظاهر أن المقصود بالحجب هنا الحجب عن رحمته، وهذا خاص بهم دون المؤمنين، فإن المؤمنين في سعة رحمة الله وبحبوحة جنته مع الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً(1).
واستدلوا بقوله تعالى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(2)، قالوا: نصّت الآية على أنهم ملاقو ربهم، والملاقاة تستلزم الرؤية بحكم العقل. ولكن الظاهر أن المقصود بملاقاة ربهم هنا كناية عن الموت، بدليل قولهم فيمن مات: لقي الله تعالى، ولا يعنون أنه رأى الله، ولا يفهمون منه سوى موت من أخبروا عنه. وقد جاء في آية أخرى قوله تعالى عن المنافقين: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ(3)، فإن المنافقين لا يرون ربهم، وإنما يلقون الموت، وما بعده من الحساب وألوان العذاب.
التنمية الرسالية:
وهناك مسألة أخرى قد تتصل بالجانب الثقافي في تفاصيل الرسالة، وهي أن الله تعالى يوحي إلى بعض الأنبياء بالرسالة في قضاياها وتشريعاتها ومفاهيمها بطريقة تدريجية، لأن طبيعة المرحلة التي تتحرك بها النبوة، في التحديات التي تواجهها، والأوضاع الصعبة التي تحيط بها، والحاجات التي تمثل الأمور المرتبطة بجماهيرها، قد تفرض ذلك، من أجل تقوية الموقع النبوي، وتثبيت شخصيته، وتنظيم حركته، ومتابعة علاقاته بالناس من المؤمنين والكافرين والمنافقين، فيما يثيرونه من الإيجابيات أو السلبيات، وهذا ما توحي به الآية الكريمة التي جاءت رداً على الكافرين الذين أنكروا على الرسول تدريجية الوحي النازل عليه بحسب حاجات الزمان والمكان والمناسبات المرتبطة بالحرب والسلم وحركة الصراع المنفتحة على أكثر من قضية، وهو ما جاء في قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً(1).
فقد كان المشركون يثيرون الشبهات حول القرآن، ليشككوا في نزوله من عند الله، وليبطلوا مفعول تأثيره في النفوس، من خلال الإيحاء الداخلي بعدم قداسته، وليحاولوا إبطال الإيمان برسالة الرسول، ليتحوَّل في نظر الناس إلى رجل عادي يختلق الكلام كلما عرضت له حاجة، على أساس المناسبات الطارئة، ثم ينسبه إلى الله تعالى.
وقد كان من بين هذه الشبهات، الحديث عن نزول القرآن عليه على دفعات، في الوقت الذي كانوا يسمعون عن التوراة والإنجيل بأنهما قد نزلا على موسى t وعيسىt دفعةً واحدةً، وكما يوحي به لفظ الكتاب الذي يدل على مجموعة من الفصول المترابطة بعضها ببعض، بحيث تمثل وحدة الفكر العامة الموزعة على مواقع متعددة، كما هو الدين في معناه الشامل الذي يتضمن العقيدة والشريعة معاً.
وفي ضوء ذلك، فقد كانوا يثيرون الشبهة على أساس أن هذا النـزول التدريجي الذي لا ترتبط فيه الآيات بعضها ببعض، باعتبار أنه موزّع على الحوادث والقضايا التي يعيشها الرسول مع الناس، وعلى المشاكل التي يثيرونها حوله، قد يدل على أن المسألة تعبر عن معاناة شخصية تتأثر بالأحداث.
ولكن الله تعالى يثير أمامهم المسألة من موقع الصفة الحركية للرسالة، والخط التربوي للمسيرة الإنسانية في حركة الإسلام في تنمية الفكر والروح، ومراقبة الحركة في الوسيلة والهدف ومواجهة التحديات، فلم يكن الإسلام مجرد فكر يُراد للناس أن يختزنوه في وعيهم في مواقع نظرية للمعرفة المجردة، بل كان فكراً يُراد له أن يتجذّر في النفس والواقع والحياة، لأن المقصود هو تنمية الروح الإسلامية في الإنسان، في عملية صنع الأمة على هدى الإسلام وتعاليمه، ولهذا كانت الخطة أن تطرح الفكرة في ساحة التطبيق، ليعيش المسلمون المشكلة، فتتفاعل في عقولهم ومشاعرهم، وتحتوي أوضاعهم وعلاقاتهم ومواقعهم، لتأتي الآية بالحل المناسب الذي يستوعب الحالة كلها، فيرى الناس الحل في حجم المشكلة وفي صعيدها، بحيث ينظرون إلى الفكرة وهي تتحرك على الأرض متجسدةً بطريقة واقعية، فيعيشون واقعيتها، وتثبت في شخصيتهم، وبذلك تمنحهم المعرفة والتطبيق والثبات الفكري والروحي والعملي على الخط المستقيم. فهناك فرق بين أن يأخذ الإنسان الفكرة من موقع التجريد، وبين أن يأخذها من موقع الواقع، إذ إن الانطلاق من الواقع يجعل الفكرة أكثر تجذّراً في الشخصية.
أما الأساس في تنـزّل القرآن على دفعات، فمن أجل أن يواكب المسيرة كلها، ليرعاها ويشرف عليها ويؤصّلها ويجنبها المشاكل الصعبة، وينظّم لها خطوطها التفصيلية على مستوى القيادة والقاعدة، ولاسيما عندما تتصل القضية بالنبي في القضايا الشائكة التي تواجهه، والمشاكل الواسعة التي تتحرك في واقع المسلمين، مما لم ينـزل عليه فيه وحي خاص للمعالجة، فيبقى منتظراً لأمر ربه، فتنـزل الآية لتملأ عقله وحركته بالحلّ الملائم، وتثبّت موقعه في تجاوز المشكلة إلى الحل، وهذا ما جاء في قوله تعالى: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ، والفؤاد ـ هنا ـ هو الشخصية العقلية والروحية التي تواجه المأزق أمام الحالات القلقة الطارئة.
وإذا كان الله تعالى يتحدث عن تثبيت النبي w في استقراره الداخلي، فإنه يتحدث عنه بصفته الرسالية القيادية، من موقع انفتاحه على الأمة في قضاياها التي تتطلب معرفة الحلول الطبيعية من خلال وحي الله، وليس في هذا التثبيت منافاةً لعصمته، لأن هناك فرقاً بين الخطأ في الممارسة الإنسانية، وبين ما هو التكامل الحركي في تحديد المراحل ومراعاة الظروف من خلال التخطيط في صناعة الشخصية للارتفاع إلى مواقع السموّ والكمال.
ونقرأ في قوله تعالى، أن الله تعالى كان يقص على رسوله أنباء الرسل الذين سبقوه وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ(1). وقوله تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ(1). وقوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(2). ونقرأ قوله تعالى: تلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ من قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ(3). وقوله تعالى في قصة الكفالة لمريم: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون(4)، وقوله تعالى في قصة يوسف: ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ(5).
إلى غير ذلك من الآيات التي أراد الله تعالى أن يوجّه فيها رسوله من خلال الإشراف على تاريخ الرسل من قبله، لينفتح على تجربتهم الرسالية، وليثبّت فؤاده بالكثير من حوادث التاريخ، الأمر الذي قد يوحي إلينا بأن الله كان يتابع إنزال الحقائق العقيدية والشرعية والمفاهيم الحركية بشكل تدريجي يتناسب مع طبيعة المرحلة التي كان الإسلام يتحرك فيها مما لم يكن النبي w مطلعاً عليه قبل ذلك، ليستكمل له الدين في حاجاته العامة على مستوى حركة المراحل، ما قد يدل على أن إغفال حقيقة في حالة، وبيانها في حالة أخرى في ثقافة النبي w، كان أمراً مألوفاً في وحي الرسالات. والسؤال: كيف كان الأمر مع موسى t في هذا الاتجاه؟
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى. والحمد لله ربِّ العالمين.
















    رسالة التحرير من العبوديّة
    نحو منهج عقيدي جديد
    الشخصية النبوية في القرآن الكريم
    الإيمان الحسّي


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
رسالة التحرير من العبودية:
أرسل الله موسى t برسالته من أجل إبلاغها إلى فرعون وقومه، لتحرير بني إسرائيل من العبودية التي فرضت عليهم استضعافاً لهم، وليصطحبهم معه ليقودهم إلى منهج جديد في حركة الحرية الإنسانية، ثم ليدعو فرعون إلى الإيمان بالله الواحد، ويبتعد به عن عبادة الأوثان كآلهةٍ مزعومة، وعن إعلان ادعاء الربوبية والألوهية...
ولم تنفتح الرسالة على التفاصيل العقيدية في مفرداتها الفلسفية، لأن الدعوة لم تكن بحاجة إلى ذلك، ولهذا اكتفى النبي موسى t بإعلام فرعون وقومه بأنه رسول من رب العالمين الذي تشمل ربوبيته العوالم كلها، وأن هذا الربّ العظيم هو الذي أعطى كل شيء خلقه، فهو الذي خلق الكون كله، وهداه إلى تحقيق كل ما يرتبط بوجوده من غايات وأهداف، وهو الذي جعل الأرض مهداً، وسلك فيها سبُلاً، وأنزل من السماء ماءً، فأنبت به الزرع بجميع أشكاله وألوانه وثماره وخصائصه الحيوية الإنتاجية، ليأكل الناس منه ما يتطلبونه في أغذيتهم، ولتغتدي به أنعامهم التي يركبون عليها ويأكلون لحومها ويشربون من ألبانها، وهو رب السماوات والأرض وما بينهما، وهو رب الناس كلهم ممن حضر وممن مات في الأزمنة الأولى...
وقد تحقق لموسى t الهدف الأول بتحرير قومه، واصطحابهم معه بعد إغراق فرعون وأتباعه، ولم يؤمن فرعون إلا بعد أن أدركه الغرق في الماء ومات بسبب ذلك. وواجه موسى t بعد ذلك قومه الذين رأوا بعض الوثنيين ممن التقوهم في مسيرتهم يعبدون الأصنام، باعتبار أنهم يؤمنون بألوهيتها، فطلبوا منه أن يجعل لهم صنماً يعبدونه كإله كهؤلاء الناس، فواجههم موسى t باتهامهم بالجهل الذي يطبق على عقولهم، إذ كيف يفكرون في أن يجعل لهم إلهاً غير الله الذي فضَّلهم على العالمين بنعمه، ما يفرض عليهم أن يعبدوه ويؤمنوا بتوحيده، لأن ذلك هو ما يمثل شكر النعمة.
نحو منهج عقيدي جديد:
تلك هي المرحلة الرسالية التي حكمت مسيرة النبي موسى t مع فرعون وقومه ومع بني إسرائيل، ولم يحدثنا القرآن عن أية تفاصيل عقيدية أخرى عرفها موسى t فيما يجوز نسبته إلى الله سبحانه وفيما لا يجوز، مما يمتنع اتصافه به مما هو من صفات خلقه... ولذلك، لم يكلّف النبي موسى t في مهمته الرسالية بذلك، ولكن الله سبحانه أراد أن يكمل له تفاصيل الرسالة في العقيدة بالله، في تجربةٍ منفتحة على الحقيقة التوحيدية في تعالي الله عن بعض ما هو من صفات خلقه، وفي الشريعة من خلال إنزال التوراة عليه التي فيها تبيان كل شيء مما يتعلق بما يريده الله للناس في مسؤولياتهم العملية في مواقع عبادته وطاعته في حلال الأفعال وحرامها، مما يكمل به تصوراته للأشياء وللحياة وللانفتاح العميق الواسع على الله في سر وحدانيته، وذلك في الموعد الذي واعد الله به موسى t ليكلّمه وليفتح عقله وليوسّع علمه في مدى أربعين ليلة.
وإننا لا نستبعد أن يسأل موسى t ربه أن يراه، بعد أن سمع كلامه بشكلٍ مباشر، وأحسّ بحضوره في وجدانه وموقعه، بحيث خيّل إليه أنه يستطيع أن يراه، وأنّ بإمكانه أن يطلب المزيد من القرب الحضوري، وذلك بأن يكرمه برؤيته كما أكرمه بكلامه. فقد لا يكون من البعيد من ناحية التصور والاحتمال، أن يكون مرّ في خاطر موسى t مثل هذا التصوّر في الذات الإلهية، لأن الوحي لم يكن قد تنـزّل عليه بذلك، إذ إنّ مهمته في المرحلة السابقة لم تكن تفرض الإيحاء إليه بمثل هذا العلم الدقيق، ولم يكن هناك مجال واسع للتأمّل والتحليل النفسي حول استحالة تجسّد الإله أو إمكان ذلك، لأنه لم يكن أمراً مطروحاً لديه، ولا ينافي ذلك عظمته وموقعه النبوي باعتباره من أنبياء أولي العزم، لأن الله سبحانه قد جرت سنّته وحكمته أن يتعامل مع رسوله بطريقة التدرّج، لتحصيل التكامل التدريجي للتصور الإيماني في شخصية الرسول الثقافية.
وربما نلاحظ في هذه الأجواء، أن هذه المسألة ليست من المسائل البسيطة التي قد تُعَدّ من البديهيات الفكرية، بل هي من المسائل الدقيقة العميقة التي تثير الكثير من الشبهات، كما حدث في الجدل الفكري في مسألة رؤية الله بين الأشاعرة الذين يلتزمون إمكانية الرؤية أخذاً بظاهر بعض الآيات القرآنية، وبين المعتزلة والإمامية الذين يؤكدون استحالة رؤية الله، لأن ذلك يؤدي إلى الكثير من اللوازم الباطلة التي لا تتناسب مع أصالة التوحيد، مما قد يسيء إلى التصور العقيدي الذي يرتفع بالله عن الحاجة التي قد يوحي بها التجسد، إلى غير ذلك من الأمور. ولهذا أوّلوا الآيات الظاهرة في إمكانية الرؤية بمعاني أخرى بخلاف الظاهر، بواسطة القرينة العقلية التي تؤكد استحالة الرؤية...
وفي ضوء ذلك، قد لا يكون النبي موسى t قد أثار هذه المسألة في تفكيره الذاتي، لأنها لم تكن جزءاً من مسؤوليته في تبليغ الرسالة، لأن الله تعالى لم يوحِ بها إليه، ولم يكلفه ببيانها للناس. وربما نستوحي ذلك من إرشاد الله للنبي موسى t إلى أن يلتقي العبد الصالح الذي أتاه الله رحمةً من عنده وعلّمه من لدنه علماً، فلمّا التقاه قال له: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً(1)، لأن الله أراد أن يوحي إلى موسى t بما يريد له أن يتعلمه من خلال هذا العبد الصالح، كما يوحي إليه بكلامه أو بالوسائل الأخرى التي يوحي بها إلى الأنبياء.
ولهذا، فإنا نحاول ـ هنا ـ أن نسجّل تحفّظنا عن الكثير من الأحكام المسبقة التي تحاول تطويق النص القرآني ببعض الاستبعادات الخاصة من خلال الثقافة الذاتية ـ كما في مثل هذه الآية ـ إذ إننا نلاحظ أن المنهج الإسلامي الثقافي يفرض علينا أن يكون تصورنا لشخصية الأنبياء منطلقاً من الآيات القرآنية، مما يحدثنا عنهم من أحاديث ويسبغه عليهم من صفات، فهو المصدر الأساس الأمين المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
 
الشخصية النبويّة في القرآن الكريم:
ونحن نلاحظ أن الحديث القرآني يركّز في بعض آياته على نقاط الضعف لدى الأنبياء، كما يركّز على نقاط القوة عندهم، من موقع بشريّتهم التي يريد أن يؤكدها في التصور القرآني في أكثر من موقع، وفي أكثر من اتجاه. فهل نريد أن ندخل في مزايدة كلامية على القرآن بما يتعلق بمثل هذه الأمور، فنفرض لأنفسنا بعض التصورات المعينة للأنبياء من خلال بعض التصورات الفلسفية المجرّدة، ثم نحاول تأويل كلام الله بطريقة لا يقبلها النص في بعض الأحيان؟!
إننا نفهم التأويل حملاً للفظ على خلاف الظاهر، على أساس المجاز والكناية أو ما يقترب منهما، ولا بد للخروج عن الظاهر من أن يكون هناك قرينة لفظية أو عقلية تصرف اللفظ عن معناه الظاهري. أما في هذا النصّ المتصل بطلب موسى t من ربه النظر إليه، فلا نجد في هذا الطلب أي مانعٍ عقليّ من إرادة النظر بالمعنى الحسّي المباشر، بل هو الظاهر الواضح جداً في أجواء الآية، من خلال التجربة التي قدّمها الله تعالى أمامه، بما تعطيه كلمة التجلّي من أجواء استحالة الرؤية البصرية من خلال ما وجّهه للجبل من صورة نوره الذي خلقه، مما لم يستطع الجبل أن يتماسك معه، فكيف لو كان التجلّي له؟ ثم لو كان المراد الرؤية القلبية التي لا تحصل للإنسان في الدنيا كما تحصل في الآخرة، لما كان هناك وجه قريب لهذه التجربة في انهيار الجبل، بما تعطيه من معنى مادي للمسألة، لأن الجبل لا يحمل أية مناسبة أو إشارة للجانب القلبي في الموضوع في تأثره بنور الله.
وخلاصة الفكرة، أننا لا نستهين بعظمة موسى t في موقعه النبوي الرسالي، باعتبار أنه يتصف بنبوّة مميّزة كونه من أنبياء أولي العزم، ولكننا نلاحظ أن الله لم ينـزل عليه وحياً في مسألة رؤيته، ولم يكلّفه بتبليغ ذلك للناس، على أساس التثقيف التدريجي لنبيّه من خلال طبيعة المرحلة التي يتحرك في مسيرتها التكاملية. وقد بيّن الله له ذلك في التجربة الجديدة التي عاشها عندما ذهب إلى ميقات الله الذي ألهمه أن يسأل هذا السؤال، ويطلب ذلك الطلب، ليعرّفه هذه الحقيقة الإيمانية، وهي أن الله ليس وجوداً متجسّداً يحتويه الزمان والمكان، وليس كياناً عضوياً تتعلّق به أبصار الناس، لأنه الربّ الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهذا هو الدرس الذي تعلّمه في موعده مع الله قبل أن يُنـزِل عليه التوراة.
وبذلك أدرك في وعيه التوحيدي هذه الصفة الإلهية، وهي أنّه يستحيل النظر الحسّي إلى الله الذي لا يعرف ذاته إلا هو، لأن ذاته تختزن الأسرار الخفية العميقة التي لا يصل إليها الوعي البشري في وسائله المادية التي يستخدمها في الوصول إلى آفاق المعرفة.
الإيمان الحسيّ:
وهكذا انطلق موسى t من تكليم الله له وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ لينتقل في معرفته به إلى موقع آخر قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ(1)، لأتمثّل الإشراق الإلهي في وجهك الذي يفيض بالنور على الكون كله، فأنفتح على حبك والإيمان بك من خلال المعرفة الخاصة، إضافةً إلى ما أختزنه من المعرفة العامة، لأن الإنسان إذا التقى في إيمانه بالوسائل الحسية، كان أكثر طمأنينةً، وأوسع علماً، وأعمق إدراكاً، كما هو حال النبي إبراهيمt الذي كان يؤمن الإيمان الواسع العميق بقدرة الله على إحياء الموتى، ولكنه أراد أن يزداد معرفةً ليحصل على المزيد من الاطمئنان القلبي الذي ينطلق من الرؤية الحسية، كما جاء في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(1).
فقد كان يريد أن يشهد عملية الإحياء على الطبيعة، وكان الجواب سؤالاً تقريرياً: أولم تؤمن، فإن مثل هذا السؤال قد يصدر في صورته هذه من غير المؤمن، فكيف يصدر من إبراهيمt الذي جاء من أجل أن يقود الناس إلى الإيمان؟! وكان جوابه بتأكيد إيمانه، فلم يكن السؤال منطلقاً من حال شك، بل من أجل الحصول على حال الاطمئنان القلبي الذي يتحرك من مواقع الحسّ في التجربة في الواقع، بما لا يحصل من خلال القناعة الفكرية التي تعتمد على المعادلات العقلية الوجدانية التي تصنع للإنسان إيمانه، ولكنها لا تمنع الهواجس الذاتية الساذجة من أن تتحرك في النفس في نطاق الأوهام الطارئة، فكانت رغبته هذه من أجل تذويب كل ما يخطر في البال ولو على سبيل الوهم. وأخيراً نفّذ الله له هذه الرغبة الروحية، لأن المسألة كانت في طور الإمكان لا في طور الاستحالة.
أما سؤال موسى t، فلم يكن تحقيقه أمراً ممكناً يجيبه الله له قَالَ لَن تَرَانِي، لأن الرؤية لا تكون إلا للموجود المادي المتجسّد المحدود، وهذا مما يستحيل على الله الذي لا يدخل وجوده في سر ذاته تحت التجربة، فهو الوجود الغيبـي الذي لا يقدر أحدٌ على الإحاطة به ولا يتعلق به الحسّ، فهو معنى خفيّ في عمق الأسرار الإلهية التي لا يعلمها إلا الله الذي لا يماثله شيء، لأنه ـ كما قال عن نفسه ـ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ(1). ولم تكن هذه الخصوصية الإيمانية في المعرفة بالله معلومةً للنبي موسى t، لأن الله تعالى لم يبيّنها له في وحيه، وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي(2). إنها التجربة البارزة التي قد تعطي موسى t فكرةً توضيحيةً حول استحالة تحقّق ما يطلبه، ما يوحي بامتناع الاستجابة له في ذلك.
ولكن في صورة أخرى، أراد الله تعالى له أن ينظر إلى هذا الجبل العظيم وهو يتهاوى قطعةً قطعة حتى يتحوّل إلى ما يشبه الرَّمم، في عملية زلزال عنيف أمام التجلي الإلهي الذي لم يكشف الله سرّه ومعناه؛ فهل تمثّل التجلّي بصورة مادية، أو تمثل ـ على سبيل الكناية ـ بتسليط نوره عليه، الذي قد يكون معنى في إشراقة ذاته وإضاءة وجوده مما لا يتصوره الإنسان الذي لا يملك الوعي للإشراق الغيبـي في نور الخالق؟ فإذا لم يستطع المخلوق ـ وهو النبي موسى t ـ أن يواجه تجربة تجلّي الله بنوره للجبل الذي أطلّ عليه وزلزله وأزاله من مكانه، فكيف يمكن له أن يواجه الله بذاته ـ لو كانت الرؤية ممكنةً ـ وهو الوجود الغيبـي في أسراره الخفية؟
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ بالمعنى الغامض للتجلّي، الذي قد يعبّر به عن إشراف الله عليه بقوته وقدرته وإشراقه، جَعَلَهُ دَكّاً مهدوماً، وتحوّل إلى أرض مستوية ليّنة، بعد أن فقد صلابته وعلوّه وارتفاعه وشموخه في الأعالي وَخَرَّ موسى صَعِقاً، أي مصعوقاً من هول الصدمة العنيفة المرعبة، بحيث أغمي عليه ـ بما توحي به الكلمة ـ فَلَمَّا أَفَاقَ وتجلّت له الحقيقة الإلهية في جلال العظمة التي لا يقترب منها بصر، ولا يحيط بها فكر في تجربة الحسّ، وشعر بأنه قد تجاوز الحدّ في طلبه الرؤية، مما لم يسبق له العلم به في تفاصيل الصفة الإلهية فيما يمكن نسبته إليه وما لا يمكن، سواء كان منطلقاً من رغبة ذاتية يحسّ بها في نفسه، أو كان منطلقاً من الاستجابة لما قد يجيب عنه السائلون له، مما يتصل بذلك الأمر.
فلمّا أفاق من هذه الحالة الروحية والرغبة الذاتية، رجع إلى الله تعالى وأناب، واعتبر ذلك بمثابة الذنب ـ وإن لم يكن ذنباً ـ لأن الله لم يحرّم عليه مثل هذا الطلب، ولذلك عرّضه للتجربة التي توحي إليه بالحقيقة الإيمانية في استحالة رؤية الله، ولكن الأنبياء ـ وفي مقدمتهم موسى t ـ يرغبون في الحصول على القرب من الله تعالى، بحيث لا يبعدهم عنه شيء، مما لا ينسجم مع شأنه الربوبي، من دون أن يكون ذلك عصياناً، ونحن هنا لا نريد أن ندخل في مناقشة مسألة العصمة النافية للمعصية. قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ في إحساس عميق بالعظمة الإلهية والندم الروحي في السؤال عما ليس له به علم حتى من أجل المعرفة، ما دفعه إلى التسبيح والتوبة المعبرة عن التواضع لله أَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ(1). في الدرجة العليا من الإيمان. والحمد  لله ربّ العالمين.
 
















    المزايا النبويّة
    في طريق الله تعالى
    تواصل الرسالات


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
لا نزال نتحدث عن الرحلة الفكرية في تجربة النبي موسى t، مستعرضين أهم مراحلها.
لقد انتهت التجربة المعرفية التي خاضها النبي موسى t في طلبه من ربه أن يجعله ينظر إليه ليراه رؤيةً حسيّةً، واستطاع أن يحصل من خلال هذه التجربة ـ بفعل الصدمة العنيفة التي صعقته فخرّ منها مغمًى عليه ـ على الحقيقة الإلهية التوحيدية، بأن وجود الله تعالى ليس كوجود مخلوقاته التي يتعلق بها الحسّ البصري، وربما كان هذا الأسلوب الإلهي هو أحد الأساليب التي يمنح الله بها أنبياءه علماً من علمه.
وأراد الله ـ بعد ذلك ـ أن يوحي إلى موسى t بمحبته ولطفه وكرامته، واصطفائه لرسالته، واختصاصه بكلامه، ليتخفف من هول الصدمة، وليرفع عنه إحساسه النفسي بتجاوزه الحدّ في طلبه من ربه النظر إليه، مما كان لا يعرف خطورته من خلال التجربة الفكرية المعرفية والوحي الإلهي، لينفتح على الرسالة الجديدة الشاملة في ركائزها العقيدية، وخطوطها الثقافية، ومفاهيمها الإنسانية الحياتية، وقوانينها التشريعية، فيستوعبها بروح منفتحة راضية مطمئنة من خلال إحساسه بالرحمة والمحبة الإلهية.
المزايا النبويّة:
قَالَ يَا موسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي(1)، لقد اخترتك لتكون الرسول الذي يبلّغ رسالتي للناس، لتخرجهم من الظلمات إلى النور، لما تملكه من صفاء الإيمان ووضوحه وعمقه، ومن قوة العزيمة وصلابة الإرادة وحكمة التفكير وصدق الموقف وصبر المعاناة، مما لا بد للنبي الرسول الذي يتولى هذه المهمة التي تفرض المواجهة للتحديات، من أن يتّصف بها ليؤدي الرسالة بقوةٍ وإخلاص. وهذا هو الذي يجعل للأنبياء ميزةً يستحقون بها اختصاص الله لهم برسالته، لأن الذي يحمل الرسالة لا بد من أن يعيش روحية الرسالة وأخلاقيتها وأفقها الواسع ورحابتها الروحية، وأن يمتلك الخصائص الفكرية والسلوكية التي تجعل من تجربته في خط الرسالة وحركتها تجربةً ناجحة على مستوى القدوة العظيمة في حساب النتائج الرسالية للحياة.
وَبِكَلاَمِي فقد كنت النبي الوحيد الذي كلمته بشكل مباشر منذ بداية تكليفك بالرسالة، لأمنحك الإحساس بالقوة، وبأنك تملك الوسائل الكفيلة بتحقيق النجاح في المهمة الموكولة إليك في الدعوة وحركة الصراع، بحيث كنت ترى أمامك مستقبل الانتصار في نهاية المطاف، من خلال الروح التي أفضتها عليك، بكلماتي التي نزعت منك ومن أخيك هارون الذي طلبته مساعداً لك، عنصر الخوف من الطاغية وقومه، حيث شعرت بأنك بعين الله ورعايته، من خلال اتصاله المباشر بك في كلامه الذي كان يدخل في وعيك السمعي، تماماً كما تسمع الكلام في المخاطبات العادية من حيث النتيجة في طبيعته. وهذا ما عاشه النبي موسى t في تكليم الله له، فلم يجد فيه شيئاً غريباً عما اعتاده مما كان مألوفاً لديه، ولكن من الطبيعي أن تكون آلية الكلام لله مختلفةً عن الآلية لدى الناس، لأن الله تعالى ليس جسداً ينطلق في كلامه وفي نظرته إلى الأشياء بالطريقة التي لدى المخلوقين، بل قد يكون ذلك صوتاً يخلقه الله يتضمن المعاني التي يدل عليها اللفظ الملقى بالكلام.
وقد نلاحظ في هذا التعبير القرآني، الجوّ الحميم الذي أراد الله تعالى لموسى t أن يتمثله في الإحساس بمحبة الله ورعايته له، بعد الصدمة الشديدة التي واجهها في تجربة طلب الرؤية، ليزول كل شيء سلبي من نفسه، وليعرف أنّ الله لم يسلب عنه رعايته ولطفه، وذلك من خلال الاصطفاء المميَّز عن الناس بما حمّله من مسؤولية الرسالة وإنزال التوراة عليه ليبلغها للناس، وليبدأ عهداً جديداً في حركة الدعوة والهداية والإصلاح في الواقع الإنساني الممتد مع الزمن كله، الذي يتجاوز حياته إلى زمن آخر، وهذا ما أعطاه الله له من الميزة في ثقافة الرسالة الشاملة. فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين(1). لله، بالإخلاص له في أداء رسالته، وتحويلها إلى ثروة فكرية للعقيدة والشريعة والمفاهيم العامة للإنسان والحياة، فذلك هو الشكر العملي الإيجابي في موضوع الرسالة، إضافةً إلى الشكر الشعوري المتمثل بحال الامتنان الروحي في الداخل.
 
في طريق الله تعالى:
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مما يحتاجه الناس في عباداتهم ومعاملاتهم ومعاشهم ومعادهم مَّوْعِظَةً تليّن مشاعرهم، وتفتح قلوبهم على الله، فيخشعون له، ويخضعون لربوبيته، ويتحركون في حياتهم العامة والخاصة، وفي علاقاتهم الإنسانية، بأعمال الخير وقيم الروح وَتَفْصِيلاً لكُلِّ شَيْءٍ في قوانين الشريعة التي تنظّم للناس أمور حياتهم بكل مفرداتها وتفاصيلها، لتتحرك الحياة كلها في طريق الله من خلال الالتزام بإطاعته في أوامره ونواهيه. فلا بد من الدعوة إلى هذه الشريعة، وتخطيط الوسائل العملية الموصِلة إلى الأهداف لتحويلها إلى واقع يتحرك في حياة الناس، وتوجيه الأفكار نحو الالتزام بمفاهيمها وأهدافها بشكلٍ واقعيّ حاسم فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ليتلقّاها الناس بوعيٍ منفتح يفرض نفسه على العقل والإحساس والانتماء، لأن إخضاع الواقع للرسالة الإلهية، يتطلّب من الداعية أن يستخدم كل الأساليب القوية التي تدخل في كيانات المجتمع في تنوعاته الانتمائية، وفي تحدياته الفكرية، فتخترق كل الحواجز الضالة مما يثيره أعداء الحق وخصوم الرسالة، فتقهرهم بالمنطق القوي والحجة القاطعة بما تسقط معه كل التحديات.
وتلك هي الدعوة المستمرة لكل الدعاة إلى الله تعالى من حملة الرسالات، بأن يتحرّكوا في التزامات الدعوة وحركيتها ونشاطاتها ووسائلها بكل قوة وعقلانية بما يجعل الآخرين غير قادرين على مواجهتها بتحدياتهم الضالة المضلّة، بسبب ما يحشده الدعاة من العناصر الفكرية والروحية التي تجعلهم في موقع المواجهة الحاسمة الحازمة التي تسقط أمامها كل عوامل الضعف، وتنهار عندها كل وسائل الترهيب والتهويل.
وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا بما يرفع مستوى حياتهم، ويعزز لهم ثقافتهم، ويصلح لهم أوضاعهم. فليفتشوا عن الأحسن فيها ليأخذوا به، تماماً كما يفعل الإنسان العاقل الواعي في اختيار الأحسن في كل ما يقرأه أو يراه أو يقدم عليه، وسيرون بعد التأمل والتدبّر، أن كل ما فيها يمثل المرتبة العليا في الحسن، فلا تفاضل بين تشريع وتشريع، أو بين مفهوم ومفهوم، بل هو التوازن في خط الاستقامة في الجميع، لأن الله الذي أوحى بها وشرّعها ودعا الناس إلى أن يتمثلوها في سلوكهم العملي وثقافتهم الفكرية، قد راعى الحكمة في ذلك كله، فيما يريده من تحقيق الفلاح للإنسان المؤمن في الدنيا، والسعادة التي يحصل عليها في الحياة، والانتصار للحق في ساحة الصراع مع الباطل في مواجهة أعداء الله الذين لا يؤمنون به في حقيقة توحيده، بل يأخذون بأسباب الفسق الفكري والعملي بما يشركون به ممّا لم ينـزل به سلطاناً، وينحرفون بأنفسهم عن الخط المستقيم، فيتعرّضون نتيجة ذلك لعقاب الله الذي يجمعهم في الدار التي يحشر فيها الفاسقين في العقيدة والعمل، سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ(1). الذين ابتعدوا عن الحق، فتشاهدونهم هناك في نار الجحيم وهم يعيشون حياة الشقاء والعناء ويواجهون عذاب الله.
 
تواصل الرسالات:
وقد تحدث الله تعالى عن التوراة في القرآن الكريم بأنّها: هُدًى وَرَحْمَةٌ للّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ(1)، وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ(2). فهو الكتاب الذي تحدد آياته الفرق بين الحق والباطل، وتضيء للناس الطريق المظلم ليتحركوا من خلال النور الإلهي الذي يضيء العقول والقلوب وحركة الحياة في كل قضاياها الحيوية المنفتحة على ما يرفع مستوى الإنسان، ويفتح له آفاق المعرفة، ويقرّبه إلى الله في مواقع الرضوان والمغفرة، ويذكّره بالآخرة من خلال الإعداد للوصول إلى حال الإخلاص لله سبحانه في إطاعته لأوامره ونواهيه والسير في الخط المستقيم.
وقد جاء في قوله تعالى، في حديثه عن اليهود الذين ربما كانوا يلجأون أحياناً إلى النبي محمدw ليحكم بينهم في بعض منازعاتهم، تهرّباً من الشدّة التي تتمثّل في بعض أحكام التوراة، كما جاء في كتب السيرة: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ* وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(1).
ويقال إن الآية تشير إلى حكم الرجم للزاني المحصن، إذ حدث عندهم أن زنا البعض ممن كانوا لا يريدون تطبيق حكم التوراة عليه، فأرادوا من النبي محمدw أن يحكم بينهم بما يرفع ذلك عنهم، ظناً منهم أنه لا يشرّع حكم الرّجم، ففوجئوا بأن هناك تطابقاً بين حكمه وحكم التوراة، وأنه حكم عليه بذلك لأنه حُكم العدل، فتولّوا عنه، لأنهم لم يكونوا ملتزمين حتى بالكتاب الذي يؤمنون به، الذي أنزله الله على نبيّه موسى t وأراد للنبيين والربانيين والأحبار أن يحكموا به بين الناس، واليهود منهم.
((وفي الآية تصديق ما للتوراة التي عند اليهود اليوم، وهي التي جمعها لهم عزرا بإذن (كورش) ملك إيران بعدما فتح بابل، وأطلق بني إسرائيل من أسر البابليين، وأذن لهم في الرجوع إلى فلسطين وتعمير الهيكل، وهي التي كانت بيدهم في زمن النبيw، وهي التي بيدهم اليوم، فالقرآن يصدّق أنّ فيها حكم الله، وهو يذكر أيضاً أن فيها تحريفاً وتغييراً.
ويستنتج من الجميع ـ كما يقول صاحب تفسير الميزان ـ أن التوراة الموجودة بينهم اليوم فيها شيء من التوراة الأصلية النازلة على موسى t، وأمور حُرِّفت وغُيّرت، إما بزيادة أو نقصان أو تغيير لفظ أو محلّ أو غير ذلك، وهذا هو الذي يراه القرآن في أمر التوراة، والبحث الوافي عنها يهدي إلى ذلك))(1).
ويؤكّد القرآن أن الله تعالى قد تحدّث في التوراة عن النبي محمدw في صفته الدالة عليه، من خلال خطوط رسالته وأحكامها ومفاهيمها، وذلك في قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ(2). ويتحدث في آية أخرى عن أنّ صفة النبيw وأصحابه الذين هم معه، مذكورة في التوراة، إضافةً إلى الإنجيل، وذلك في قوله تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً(3).
وفي ضوء ذلك، نلتقي بالفكرة التي تؤكد انفتاح الرسالات بعضها على بعض، فنبيّ هذه الرسالة يبشّر بالنبي الذي يأتي من بعده، كما جاء في الحديث عن النبي عيسىt فيما حكاه الله عنه: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ(4). وقد تحدث القرآن عن تصديقه لما سبقه من الرسالات الإلهية والكتب المنـزلة من الله، وذلك هو قوله تعالى: نزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى للنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَان...(1).
وإذا كان القرآن مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، ومؤكداً لنبوّة الأنبياء الذين أرسلهم الله قبل النبي محمدw، بما جاء في قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(2). وجاء في آيةٍ أخرى: وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ(3). وقوله تعالى: وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ(4)، وقوله تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ(5). إلى غير ذلك من الآيات التي تؤكد تصديق القرآن للإنجيل والتوراة والإيمان بالرسل كلهم في أصول العقيدة الإسلامية، إلا أنّ هناك بعض الملاحظات النقدية لبعض العقائد الطارئة التي لا تنسجم مع الحقائق التي جاءت بها كتب الله، كما في الالتزام بألوهية السيد المسيح أو قتله وصلبه إلى غير ذلك.
وفي ضوء ذلك، فإن المسلمين يملكون القاعدة الثقافية العقيدية التي يلتقون فيها مع أهل الكتاب في الخطوط العامة، مع بعض التحفّظ في التفاصيل، على القاعدة القرآنية بالدعوة إلى الكلمة السواء، وبذلك فإن باستطاعتهم الدخول معهم في حوار حول القضايا التفصيلية فيما يختلفون فيه معهم، في توجيه أخلاقي يؤكد الجدال بالتي هي أحسن، من خلال الانطلاق من مواقع اللقاء بالكلمة الطيبة، والدفع بالتي هي أحسن، والقول بالتي هي أحسن، في نطاق الحوار بين الأديان الذي يلتقي بحوار الحضارات. وهذه هي ميزة الدين الإسلامي الذي ينفتح على أكثر المفردات الدينية في الأديان الأخرى في خطوط المسألة الثقافية. والحمد لله ربِّ العالمين.
 
















    المواعدة الميقاتيّة
    إسترحام السماء
    تواصل الرحمة


بسم الله الرحمن الرحيـم
لحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
المواعدة الميقاتيّة:
ونواصل الحديث عن تجربة موسى t في تنوعها وتعقيداتها.
قال تعالى: وَاخْتَارَ موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لمِيقَاتِنَا(1). وينفتح السؤال هنا عن هذا الاختيار الذي لم يظهر من آية المواعدة الميقاتية أن الله أمره به كجزءٍ من الموعد الإلهي. وما هو دور هؤلاء؟ هل إنه جاء بهم كشهودٍ على تكليم الله له، وهو لا بد من أن يكون معلوماً لبني إسرائيل في المسيرة التي ساروا بها مع موسى t فيما أوحى الله تعالى به إليه من آياته في مواجهة فرعون وسحرته، وفي العقاب الذي أنزله على فرعون وجماعته، وفي المعجزة الإلهية التي شقّ الله بها البحر لموسى t وقومه حتى قطعوا البحر وأغرق فرعون وقومه؟! فقد كانوا يعرفون أن هذا كله لم يصدر من موسى t بقدرته الذاتية، بل بحواره الرسالي المباشر مع الله تعالى، فمن المستبعد أن يكون بحاجة إلى شهود لهذه الميزة الرسالية له، وخصوصاً أنه لا بد من أن يكون قد حدّثهم عنها بعد أن يكونوا قد أثاروا السؤال حولها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ موسى t كان في موقع القيادة المسيطرة على بني إسرائيل، لأنهم أدركوا قوّته وأقرّوا بزعامته، خلافاً لموقفهم من هارون الذي قالوا له بعد أن عبدوا العجل الذي نهاهم عنه: قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى(1).
ثم يعود السؤال: مَن هم هؤلاء السبعون؟ هل هم من خيار أصحابه الذين آمنوا به، ليكون اختياره لهم لحضور الميقات الإلهي تكريماً لهم بهذا الحضور معه أمام الله وسماعهم كلام الله له، وليحدّثوا قومهم، إذا رجعوا إليهم، بما سمعوه وبالتوراة التي أنزلها الله تعالى عليهم؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف أخذتهم الرجفة، التي ربما أريد بها الصاعقة التي صعقتهم فماتوا تحت تأثيرها؟ وهل هذه الصاعقة من خلال هول المنظر وانفعالهم بشدّته في الصدمة التي صدمتهم، أو هي من خلال أنهم طلبوا من موسى t، بعد أن سمعوا كلام الله، أن يريهم الله جهرةً ليصدّقوه، ما يعني أنهم لم ينطلقوا من موقع إيمانهم به؟
وإذا كان بعض المفسِّرين يشرح المسألة بأنهم قالوا: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا موسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ(1)، فإن هذه الآية، كما الآية في سورة النساء: أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ(3)، المستفاد منها ليس الطلب العادي الناشىء من رغبة ذاتية لزيادة الاطمئنان بالعلاقة الوثيقة بين موسى t وربه المتمثلة بتكليمه له، بل هي واردة في مقام التحدي والعناد، فقد قدّم لهم موسى t كل الأدلة والبراهين التي كان قد قدّمها لفرعون وقومه من الآيات المعجزة، لتكون حجةً قاطعةً على الإيمان بالله وتوحيده، وربما حدثهم عن ذلك في لقاءاته المستمرة بهم، بما يحقق لهم الاقتناع بمضمون التوحيد، ما جعل بعض قومه يؤمنون به، كما جاء في قوله تعالى: فَمَا آمَنَ لِموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ(1).
لذلك كانت المسألة واردةً في موقع التحدي العنادي الذي قد ينتقلون منه إلى اقتراحٍ آخر، كما هي سيرة المشركين من قريش مع النبيw في اقتراحاتهم التعجيزية، وبالأخص أن قضية رؤية الله جهرةً وعياناً ليست تحت اختيار موسى t، بل هي بإرادة الله تعالى ـ هذا لو كانت رؤيته ممكنةً من خلال صورة التجسّد ـ. ولذلك، فإن الله تعالى تحدّث عن هذا الطلب إلى جانب طلبهم الآخر بأن ينـزل الله عليهم كتاباً من السماء، بأنه يدخل في نطاق الاقتراح التعجيزي، لأنّ النبي لا يملك ذلك، بل إن كل قدرته هي أن يقدِّم لهم الوحي القرآني الذي يوحي به الله إليه.
ولهذا أخذتهم الصاعقة بظلمهم في تحديهم للرسول وللرسالة، وأماتهم الله تعالى ثم بعثهم لحكمةٍ في ذلك، ومراعاةً لموسى t واستجابةً لطلبه، ولذلك فلا مجال لتفسير ما حدث لهم بالطلب الساذج للرؤية، تماماً كما هو طلب موسى t من الله تعالى أن ينظر إليه، لأن ذلك لا يمثل خطيئةً وتحدياً، بل يمثل طلباً للمعرفة بحسب التصورات الساذجة. وفي ضوء ذلك، فلا نستقرب وجود رابط بين ما حدث لهم وبين ما تحدَّث الله تعالى به عن بني إسرائيل بشكل جماعي شامل في موقع التحدي.
ونتابع السؤال في ابتهال النبي موسى t لربّه: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ(1)، فقد فسّره البعض بأنه كان يخاف أن يتهمه بنو إسرائيل بقتلهم، فيخرجوا به من الدين وتبطل بذلك دعوته من أصلها.
إسترحام السماء:
ونلاحظ أن من البعيد أن يحدث مثل هذا الخوف في نفس موسى t الذي كان رفيقاً بقومه، راعياً لهم، محافظاً على سلامتهم، بما كان يعرفه بنو إسرائيل منه في سلوكه معهم، فلا يمكن اتهامه بقتلهم، لأنه ليس هناك أي داعٍ يدعوه إلى ذلك، وأي دافع يدفعه إليه، ولاسيما أنهم لم يصابوا بأيّ جراحة أو صدمة جسدية عنيفة، بل إنّ موتهم كان موتاً طبيعياً بالرجفة التي أصابتهم.
وربما كان تفسير ذلك، أنه كان في مقام استرحام الله لهؤلاء القوم، لأنهم لم يقوموا بأي ذنب أو يمارسوا أية خطيئة، باعتبار أنهم كانوا، حسب معرفته بهم، من المؤمنين الذين لا يستحقون العقاب، فلم يكونوا من السفهاء الذين يفعلون المنكرات ويمارسون الخطايا وينحرفون عن الخط المستقيم. أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا، فإذا كانت إرادتك أن تهلكهم، فليكن هلاكي معهم، لأنّهم من أتباعي في حركة الإيمان، وإذا كانت المسألة أنك قضيت عليهم بالهلاك، لأن قومهم كانوا من السفهاء الذين ابتعدوا عن الخط المستقيم وتمردوا على طاعتك، فإنك، في عدلك ورحمتك، لا تحاسب المؤمنين بما فعله السفهاء من قومهم، لأنهم لا علاقة لهم بذلك كله، إلا أن يكونوا قد تركوا القيام بردعهم عن حال الانحراف لأسباب ذاتية أو لظرفٍ اجتماعي.
ومن الطبيعي أن سؤال موسى t لا يمكن أن يكون في هذه المسألة وارداً على نحو الاعتراض أو على سبيل المطالبة الجدية، بل هو على سبيل الاسترحام، كأنه قال: إننا لم نفعل شيئاً مما فعله السفهاء منا، فلا تنـزل بنا ما يستحقونه، لأننا لا نستحقه، ولكنك ـ يا ربّ ـ قضيت على عبادك بأن تختبرهم وتمتحنهم، فيما تعبّر عنه كلمة الفتنة التي يفتتن بها الإنسان، فيضل عن طريق الهدى إذا لم يكن واعياً لما تختزنه من الأساليب التي قد تؤدي به إلى الانحراف، أما الذين يملكون العقل الواعي الذي يحسب حساب الخير والشرّ، والانحراف والاستقامة، فإنهم ينفتحون على إشراقة الهدى في نور الحق، فيهتدون إليك.
ونحن نعتبر ما حدث لنا مما لا نفهم عمقه وطبيعته، من الفتنة التي تختبرنا بها لتبلونا أنهتدي أو نضل إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء، وها نحن نرجع إليك أَنتَ وَلِيُّنَا، فقد خلقتنا ولم نكن شيئاً مذكوراً، ورزقتنا العقل والسمع والبصر، وهيّأت لنا كل وسائل معرفة الحق وأهله، فإذا أخطأنا وضللنا السير في طريقك المستقيم، فَاغْفِرْ لَنَا، فإنك وليّ المغفرة للخاطئين، وَارْحَمْنَا، فإنك أرحم الراحمين وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ(1)، لأنك تغفر الذنوب كلها، ولا يغفر الذنوب كلها غيرك. وهكذا تمثّلت رحمة الله ومغفرته بإحيائهم بعد موتهم، وإدخالهم في رحمته.
ويتابع موسى t ابتهاله إلى الله في دعائه له: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ(2). لأننا لجأنا إليك، ورجعنا إلى مواقع رضاك، وتحرّكنا في خطّ الإخلاص لك في العمل، لنحصل على النجاح في الدنيا والنجاة في الآخرة، وتلك هي حسنة الدنيا فيما نتمتع به من الحصول على حاجاتنا من نعمك التي تنعم بها علينا، وحسنة الآخرة عندما تضمنا إلى مواقع القرب منك وتدخلنا في نعيم جنتك، إنّا هدنا إليك أي عدنا إليك ورجعنا إلى مواقع رضاك، وأنبنا إليك بقلوبنا وأرواحنا وخطواتنا العملية. وتلك هي التطلعات الروحية التي عبّر بها موسى t عن تطلعات كل مؤمن يعيش محبة الله والخشية منه والرغبة إليه، فكيف أجابه الله تعالى؟
قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء ممن يستحقه بكفره أو شركه أو تمرّده، وليست مشيئة الله هنا بمعنى الإرادة المطلقة من دون قيدٍ أو شرط، كما لو كانت تشبه الإرادة الذاتية غير المبرّرة، بل هي إرادة مقترنة بالحكمة والمصلحة الراجعة إلى الإنسان في التزاماته التي تنعكس على الحياة سلباً أو إيجاباً، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ في امتداداتها التي تفيض على الإنسان بما يصلحه ويلطف به وينفتح به على كل نعم الله، سواء كانت رحمةً مادية أو معنوية، فهي مفتوحة للجميع في كل شؤون الحياة التي تشمل كل الناس، ولكنها تتأكد في مواقع الاستحقاق مما يكتبه الله للناس بشكلٍ خاص، فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويخشون الله ويراقبونه في أمورهم كلها، كمنهج للسير في خط الفكر والعمل في الحياة، فيمنعهم ذلك من التمرد عليه بمعصيته، ويدفعهم إلى الانقياد له بطاعته، وذلك بما تمثله التقوى من التزام روحي وحركيّ بالله.
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ بمعناها الواسع الذي يشمل العطاء كله بفرائضه ومستحباته، بما تمثله هذه المبادرة الخيّرة الصادرة من القادرين للمحرومين، من حركة رحمة تتفاعل مع آلام المحرومين والمحتاجين، وبما توحي به من روحية العطاء وسرّ المحبة وفاعلية الإيمان. وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُون(1). بما يثيره الإيمان بآيات الله من انفتاحٍ للعقل على الآفاق الرحبة للمعرفة، وإذعانٍ للحقيقة الواضحة في أجواء الله، والله يحبّ العقل المنفتح والروح المؤمنة التقية المذعنة للحق.
تواصل الرحمة:
ونلاحظ أن الله تعالى في حديثه للنبي موسى t عن الذين يستحقون رحمته، يؤكّد أنّ من هؤلاء الذين يستحقون هذه الرحمة، الذين يسيرون في خطّ النبي محمدw فيما بشّر الله به الأجيال الآتية من بعد موسى t الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ(2)، الذي خاطبه الله تعالى في تأكيد أميّته بقوله تعالى: وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ(1). ولكن هذه الأمية لم تنطلق من قاعدة جهل، بل من قاعدة إشراقٍ عقلي وروحيّ وثقافي وحركيّ، من خلال الوحي الذي أنزله الله عليه، ومن خلال ما ألهمه إياه من حقائق الأمور، وما فتح عليه قلبه من وسائل الهداية في دعوته الرسالية.
وكانت تلك معجزته النبوية، حيث إن هذا الأميّ قدّم للعالم ما لم يقدّمه أيّ قارىء أو كاتب من علم ومعرفة وحكمة وإصلاح الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيل حيث بشّرا به تصريحاً وتلميحاً، كما ورد عن لسان عيسىt في سورة الصف: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ(2). يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَر الأمر الذي يحقق الانضباط لحركة المجتمع في علاقاته ومعاملاته وتصرفاته العامة، بحيث يكون الطابع العام للمجتمع هو الرقابة الاجتماعية التي يراقب الناس بها بعضهم بعضاً، في تأكيد الخط المستقيم في جميع الاتجاهات، بطريقةٍ عفوية إيمانية، لا تكلّف فيها ولا تعقيد وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِث مما يتطلبه الإنسان في حياته من الاستمتاع بطيباتها فيما يأكل ويشرب ويتلذذ ويلبس، ومن الابتعاد عن خباثتها التي تسيء إلى جسده وذوقه وروحه، لأن الله لم يبح للإنسان أن يسيء إلى نفسه، ولذلك حرّم عليه ما يؤدي إلى ذلك. وهذا هو منطق الفطرة الإنسانية السليمة في رغباتها وما تنفر منه.
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ الذي يثقل عليهم في أوضاعهم العامة والخاصة، من تشريعات سابقةٍ أو لاحقةٍ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ممّا كان يقيّدهم في الشرائع السابقة من الأشغال الشاقة فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ أي أعانوه في تأدية رسالته وعرفوا عظمته وَنَصَرُوهُ في جميع معاركه ضد الكفر والشرك والضلال وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ وهو القرآن الذي انطلقوا معه في جميع مفاهيمه وتشريعاته التي تضيء للناس طريق الفلاح والنجاح، وحوّلوه إلى برامج عملية في تنظيم حياتهم أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(1). الذين أفلحوا في حياتهم الدنيا، لأنهم أقاموا على قاعدة ثابتة من تشريعات الله، وأفلحوا في حياتهم الأخرى، لأنهم تحركوا نحوها عن طريق الإخلاص لله في الطاعة، وعرفوا أن طريق الجنة يمرّ بالإيمان والعمل الصالح المرتكز على التقوى الذي هو موقع رضا الله والقرب إليه.
وقد نستوحي من هذه الآية، أن الله سبحانه يريد لهؤلاء الذين عرفوا الكتاب الذي أنزله على رسله، أن يتعرفوا صدق النبي محمدw من خلال دراسة عناصر رسالته فيما تأمر به أو تنهى عنه، وما تحلّه أو تحرّمه، وما تقدّمه للناس من تشريعات وتثير في عقولهم من مفاهيم للحياة والإنسان، ما يساعدهم على التخلص من أثقال الحياة التي تثقل حريتهم الإنسانية. وربما يوحي إلينا ذلك، بأن الرسالات الإلهية تتشابه في خطوطها التشريعية والقيميّة، بما تتحرك به من خطوط عامة، فيمكن للإنسان أن يتعرّف صدق أيّة دعوةٍ رسالية من خلال دراسة العناصر الحيّة البارزة التي تكمن في خط الرسالات، من دون انتظارٍ لمعجزةٍ خارقة أو نحو ذلك، ما يدل على أن العقل الواعي الذي يميّز بين الأشياء، هو الحجة التي يرتكز عليها الإيمان في خط الصدق. والحمد لله رب العالمين.
 

















    الانهيار الإيمانيّ
    تساؤلات إصلاحيّة
    الرواسب الوثنيّة

بسم الله الرحمن الرحيـم
لحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
نواصل الحديث عن التجربة النبوية الواسعة لنبي الله موسى t، وما انتهت إليه هذه الدعوة.
الانهيار الإيماني:
كان دور موسى t في ميقاته مع الله قد انتهى بعد أن أنزل عليه التوراة، وكان من المفروض أن يتبعه قومه الذين اختارهم لملاقاة ربّه... وكانت المفاجأة الصدمة، فقد قال الله تعالى لموسى t : وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا موسى(1)، فلماذا لم تصحبهم معك قبل أن تأتي إلى موعدك؟ قَالَ هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي في سيرهم خلفي واتّباعهم لي، ولكن شوقي إلى لقائك وتكليمك إياي وحبّي لك قادني إليك بسرعة، فاستعجلت السير لبلوغ الموعد وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى(2)، فأنت الربّ الواحد الذي ألقاه ولا ألقى غيره، وأؤمن به ولا أؤمن بغيره، بكل عقلي ومحبتي الخالصة وعبادتي المخلصة، لأنك غايتي ومقصدي وملجأي، ولهذا لم أنتظرهم، بل عجلت إليك لأحصل على حبّك ورضاك في اللقاء المباشر.
ولكنّ قومه لم يلحقوا به، وكأن الله سبحانه أراد من خلال السؤال أن ينبّهه إلى حقيقة قومه، وربما نستوحي من هذا الحوار، أن قوم موسى t الذين اختارهم لم يشاركوه في حضور الموعد، لأنهم كانوا قد تأخروا عنه، ورجع إليهم موسى t بعد أن أخبره الله بانحرافهم من بعده وعبادتهم العجل، الأمر الذي جعله يحصل على موعد خاص لهم معه بعد اختياره سبعين رجلاً منهم.
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ، اختبرنا إيمانهم بالتجربة الصعبة التي تهزّ مشاعرهم، وتزلزل كيانهم، وتلامس إحساسهم، وتعيدهم إلى أجواء الأصنام التي كانوا يعبدونها أو يعيشون أجواءها ويتوقون إلى أن يحصلوا على أية فرصة تعيدهم إلى عبادتها، ولذلك طلبوا من موسى t بعد أن خرجوا من البحر ورأوا القوم الذين يعبدون الأوثان التي يعتبرونها آلهةً، أن يجعل لهم آلهة كما لهم آلهة، فصدمهم موسى t بالرفض القاسي لذلك.
وهكذا أراد الله لأتباع موسى t أن يواجهوا حالة اختبار جديدة تدخلهم في وعي إيماني جديد، بعد اكتشاف الخطأ الذي وقعوا فيه، والانحراف الذي ابتعدوا فيه عن الخط المستقيم، لأن سنّة الله في عباده أن يدخلهم في التجربة تلو التجربة، ليثبت الصادق في إيمانه في موقع صدقه، ويسقط الكاذب فيه في موقع كذبه، وهذا ما جاء في قوله تعالى: ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(1)، لأن كلمة الإيمان الصادرة من الإنسان قد لا تمثل العمق الإيماني في الذات، وثبات الالتزام في الانتماء والموقف، ما يجعل القضية في موقع الامتحان والاختبار بين الحق والباطل.
وهكذا سقطوا في الامتحان، لأنهم لم يحركوا عقولهم ليتعرفوا طبيعة الإغراء الذي استسلموا له، بل اندفعوا اندفاعاً ساذجاً غريزياً لا موقع فيه لأي نوع من التوازن الفكري الذي يتميّز به الإنسان العاقل في دراسته للأمور بموضوعية وتدقيق، وأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ(1). الذي صاغ لهم العجل، وأخرجه إليهم بطريقة عجيبة غامضة تستهوي الإحساس وتثير المشاعر، فقد كان هذا العجل ـ التمثال ـ يرسل صوتاً يشبه الخوار كما لو كان له لحم ودم كبقية أنواع العجول.
وكانت القضية في مستوى الصدمة العنيفة لموسى t الذي عانى الكثير في هداية قومه، فكان غضبه شديداً من خلال خيبة أمله في هؤلاء الناس الذين أراد لهم الاهتداء إلى إشراقة الإيمان بالله، فوقعوا في ظلمات عبادة الشيطان، فَرَجَعَ موسى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً، فقد هزته المفاجأة المؤلمة التي شعر معها بسقوط كل خططه، بعد أن ركّز على هؤلاء الذين بذل كل جهده في سبيل تحريرهم من عبوديتهم لفرعون، وتحرير عقولهم من الخضوع للأوثان، حتى يخلصوا العبادة لله تعالى، ويلتزموا خط الإيمان به وحده، وأحزنه ضياع جهوده، وخصوصاً أنّه كان في رحلته إلى ميقات ربه ليأخذ منه الكتاب الذي ينظّم لهم وللناس كلهم نظام حياتهم في أمورهم الخاصة والعامة، وفي علاقاتهم الإنسانية، وفقاً لنظام الشريعة التي تمثل القوانين التي تبني القاعدة للمجتمع المؤمن الذي يصنع على عين الله ووحيه. فكيف حدث هذا الانحراف وبهذه السرعة؟ وكيف استسلموا للضلال من دون وعيٍ وتفكيرٍ متوازن؟ وأين كان هارون الذي استخلفه على قومه؟ ولماذا لم يبادر إلى إيقاف هذا الانهيار الإيماني ويواجهه بحكمته بالطريقة التي كان ـ هو ـ يواجه بها قضايا الانحراف؟ لقد كان يعيش روح الغضب لا لنفسه بل لله، ومرارة الحزن لا لذاته بل على رسالته، وها هو يقف منهم موقف الحساب، ويواجههم من موقعه القيادي بالتأنيب والنقد اللاذع والرفض الحاسم.
تساؤلات إصلاحية:
قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً في بناء المستقبل المشرق الكبير، على الأسس التي تجلب لكم السعادة في الدنيا والآخرة، من خلال السير على الخط المستقيم الذي يتمثل بالقرب من مواقع رضاه والبعد عن مواقع غضبه، وذلك بما تتضمنه التوراة التي فيها الخير والهدى والنور والشريعة الجديدة التي تنظم لكم أمركم وتدفعكم إلى الخير كله في طريق الإيمان بالله؟ فقد كنت معكم منذ وقت قريب، ولم يبدر منكم ما يشير إلى ما أنتم عليه الآن، أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ في غيابي عنكم، الذي امتدّ أربعين ليلةً، حتى نسيتم إرشاداتي ومواعظي ونصائحي والعهود التي عاهدتموني عليها، التي أكدتها لكم في مسيرتكم الطويلة، في الإخلاص لله سبحانه، وفي توحيده في العقيدة والطاعة والعبادة؟
لقد كان كل هدفي أن ترتفعوا بإيمانكم بالرسالة الإلهية إلى أن تكونوا في خط الدعاة إلى الله، فكيف انقلبتم على أعقابكم وتحوّلتم من الإيمان إلى الكفر، ومن الوحدانية إلى الوثنية؟! كيف حدث هذا في هذه المدة القصيرة التي لا يمكن للإنسان فيها أن ينسى عهده وميثاقه؟! إن مشاعري تمتلىء بالأسف والغضب، فلم يكن غيابي عنكم طويلاً ليحدث مثل هذا التطور التراجعي والسقوط الروحي ونسيان الله الذي يؤدّي إلى غضبه وعقابه.
أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ في انحرافكم عن خط الاستقامة، من دون مراعاة لحركة العقيدة في حياتكم الفكرية، وفي سلوككم العملي، وفي موقفكم من ربكم الذي لا بد لعباده من أن يتقوا غضبه، ويطلبوا الحصول على رضاه؟ فهل كنتم تحسّون بالأمن من غضبه في أوضاعكم الخبيثة البعيدة عن خط التقوى، والتي تفرض على الناس أن يأخذوا بأسباب الخوف والوجل من سلطته القاهرة التي ينـزلها على المشركين؟ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي(1). الذي كان يتمثل بالوعد الواقعي الحركي الذي وعدتموني به، بأن تحسنوا خلافتي في هذا الخط الإيماني الذي عشنا الحياة كلها والجهد كله في جميع موارده ومصادره، من أجل أن نلتزمه ونسير عليه؟
وقد ترك كلام موسى t تأثيراً عنيفاً على قومه الذين كانوا يخشون قوّته من خلال تاريخه مع فرعون وقومه ومعهم، وكانوا يحسبون الحساب المخيف من غضبه... وربما كانوا خاضعين للغفلة المطبقة على عقولهم، ما جعلهم يشعرون بالخطأ الذي وقعوا فيه، والخطيئة التي ارتكبوها. ولكنّ كلام موسى t جعل الغشاوة تنقشع عن عيونهم، فحاولوا أن يفسّروا له ما فعلوه، وأن يتخفّفوا من المسؤولية الذاتية فيه، ويحمّلوها للسامري الذي خدعهم وغرّهم، واستغلّ غياب عقولهم عن التفكير، وإقبالهم على الأشياء المحسوسة التي كانت لا تزال تعيش في خلفيات التخلّف الذي بقي يتفاعل مع مشاعرهم وأحاسيسهم، تاركاً بعض تأثيره على أفكار التخلف في أكثر من موقع.
قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وبإرادتنا في ما نختاره ونلتزم به عن اقتناع يقيني، ولكنها حالة طارئة تفيض بالإغراء الذي يملك على الإنسان عقله، ويضعف إرادته، ويصادر أفكاره وقناعاته، فقد هيّأ لنا هذا الرجل ـ وهو السامريّ ـ الانحراف، من خلال الأجواء النفسية الغافلة التي استغلّ فيها جوّ الغفلة الذي سيطر علينا، أضف إلى ذلك الرواسب التي تستيقظ في نفوسنا بين وقت وآخر، فتترك تأثيراتها على حركتنا بطريقةٍ لا شعورية. وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً أثقالاً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ، وربما أريد منها قوم فرعون مما تركوه من الذهب الكثير الذي يمكن الاستفادة منه وتصنيعه بمختلف الوسائل، ومنها تحويله إلى تمثال، فَقَذَفْنَاهَا في النار لتتفاعل معها لنصنع منها بعض الأشياء العجيبة التي تجذب الأنظار وتستهوي النفوس، وهذا ما قام به السامري الذي كان يتميّز بقدرة فنية رائعة، مستغلاً ذلك في صنع عجل يشبه العجل الحيّ.
 
الرواسب الوثنية:
فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ(1). ما عنده كما ألقينا ما عندنا في النار، ليحوّله بقدرته الخاصة إلى تمثال ذهبي مثير لم نعهد له مثيلاً في حياتنا، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ، لا يحمل أي مظهر للحياة في داخله من العقل والإرادة والسمع والبصر والحركة الحيّة، ولكنه يتميّز بأن له صوتاً كصوت العجل، ما يعطيه ميزةً مقدّسة توحي بأنه يحمل في ذاته بعض الأسرار الإلهية، تماماً كما هي الخصائص الشكلية التي كانت تصنع في الأوثان التي كان الوثنيون يعبدونها، من أجل الإيحاء إلى الناس البسطاء ببعض الأسرار الخفية الغامضة الموحية بعمق القداسة في شخصيتها، ليخدعوهم بذلك، لأنهم لم يكونوا يملكون ثقافة معنى الإله الذي خلق الكون كله، والذي يهيمن على الأمر كله، القوي الذي لا ضعف فيه، والغني الذي لا حاجة له، وما إلى ذلك من صفات الإله، فيحسبون كل وثن إلهاً من خلال بعض أفكار التخلف التي تتحرك من خلال الجهل الذي يسيطر على عقولهم.
وهكذا ابتدأت رواسبهم الوثنية تتحرك في داخلهم، لأنّ رحلتهم الطويلة مع موسى t لم تكن رحلةً ثقافيةً واسعةً مما يتعلمونه منه، ولأول مرة يرون وثناً ينطلق في دائرتهم الاجتماعية فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ موسى، وربما قالها بعضهم لبعض من خلال كلام السامريّ، الذي ربما أراد أن يأخذ مكان موسى t في الموقع القيادي، فَنَسِيَ(2)، والضمير في (نسي) قيل إنه لموسى t، والمعنى: قالوا: هذا إلهكم وإله موسى t، فنسي موسى t إلهه هذا وهو هنا، وذهب يطلبه في الطور، وقيل إن الضمير هو للسامري الذي نسي حقيقة الوحدانية في الإله الذي هو ربّ كل شيء، وربما أريد من النسيان الضلال.
أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً(1). ويتدخل الوحي القرآني ليثير الإيحاءات التي تكشف زيف الموقف، لفقدان الأساس العقلي الذي يرتكز عليه مما يملكه الإله من خصائص الألوهة في ذاته المقدسة، من القدرة المطلقة على التحرك، ووعي الأشياء، والتمكن من النطق على الأقل، ولكن هذا العجل لا يستطيع أن يستجيب لمن يخاطبه ولو بالإشارة، ولا يملك أية قدرة على النفع والضرر، فكيف يتصورونه إلهاً لهم ولموسى t بدلاً من الله الواحد الذي دعاهم موسى t إليه ودلّهم عليه وتحدّى فرعون من أجل عبادته؟ بل هو مجرد شيء جامد لا حياة فيه، مصنوع للإنسان الذي كان مخلوقاً لله قبل أن يصنعه، فكيف يكون صانعاً له، أو أن مسألة الإله لديهم تختلف عما هو في الوعي الدقيق للمسألة؟
هذا ما كان من حديث موسى t وحواره مع قومه، فكيف كان تصرّف خليفته هارون أمام هذا الانحراف، وكيف كانت مواجهة أخيه موسى t له ومحاسبته له على طريقته في مواجهة هذا الأمر؟ وكيف دافع هارون عن نفسه أمامه؟ هذا ما نأمل أن نتحدث عنه لاحقاً إن شاء الله تعالى. والحمد لله رب العالمين.

















    الفتنة المتحرّكة
    الغضب الربانيّ
    نحو موقف هادئ


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
لا نزال نواصل رحلتنا مع تجربة النبي موسى t، تلك التجربة المتعددة الأبعاد، وقد مضى طرف من الحديث عن بعض هذه الأبعاد، ونكمل الحديث عن الباقي...
أراد موسى t من الله سبحانه عندما كلّفه بالرسالة، أن يجعل أخاه هارون وزيراً يصاحبه في حركته أمام فرعون ويساعده في أمره، من دون أن يكون له دور فاعل مميّز في حركة الدعوة، حتى إن فرعون عندما وقف أمامه موسى t وهارون وأعلنا له الدعوة إلى الإيمان بالله الواحد، توجّه بالخطاب إلى موسى t وحده قائلاً: فمن ربّكما يا موسى(1)، فكان الحوار معه، والتحدي والمواجهة له في الموقف، بعد أن قدّم موسى t الآيتين المعجزتين في مجلسه، وكان الدور كله لموسى t .
ولذلك لم يتحدث القرآن عن هارون بشيء مما قاله أو فعله، لأنّه كان تابعاً لموسى t ومساعداً له، ولم يظهر منه أيّ موقف يوحي بالقوة، سواء كان ذلك مع فرعون وقومه أو مع بني إسرائيل، وهذا ما جعل قومه يرون فيه الشخصية الضعيفة، لا شخصية النبي الذي أرسله الله ليكون رفيقاً لأخيه في الرسالة، أو شخصية الوزير القويّ الذي يملك الإرادة الحازمة في بسط سلطته على الناس. حتى إن استخلاف موسى t له عند ذهابه لميقات ربه، لم يترك أي تأثير في قومه من خلال موقعه، وهذا ما نلاحظه عندما انحرفوا عن الخط الإيماني بعبادتهم العجل، فلم يقف من ذلك موقف اللامبالاة السلبي تجاه هذا الانحراف، بل وقف من خلال شرعية خلافته عن أخيه، محاولاً أن يرشدهم ويعرّفهم خطورة موقفهم وطبيعة الخط الإيماني، ليفكروا فيه بدقة، فلا يستسلموا للنظرة الساذجة وللرؤية السطحية وللجوّ الانفعالي المحيط بهم أمام هذا المخلوق العجيب في صوت الخوار الذي انطلق به.
الفتنة المتحركة:
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ، فهذا يمثّل الصورة المتحركة لاختبار إيمانكم، ليظهر صدقه وعمقه واستقراره فيما تشتمل عليه عقولكم من ركائز التفكير، أو ليتبيّن زيفه من خلال الرواسب التاريخية الوثنية الكامنة في نفوسكم، والتي تشدكم إلى الموقف الخاطىء في العقيدة والتصور والعمل، ما يوحي بأن اتّباعكم لموسى t كان منطلقاً من قوة شخصيته لا من الاقتناع برسالته، فحاولوا أن تنتبهوا إلى طبيعة الخطة الشيطانية التي نصبت لكم من خلال هذا الشخص الضال المضلّ، فلا تغمضوا عيونكم عنها، وفكّروا في أن هذا المخلوق المصنوع المشوّه لا يمكن أن يكون ربّاً لكم، لأنه لا يملك أي عنصر من عناصر الحياة فضلاً عن الربوبية.
وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ الذي جعل الرحمة عنواناً لربوبيته وخالقيته، فأنعم عليكم بنعمه الظاهرة والباطنة، وأفاض عليكم من لطفه وفضله ورعايته وعنايته، بتحريركم من استعباد الطاغية لكم، وبما سخّره لكم من الكون كله لترتاحوا فيه، ولترجعوا إلى الله تعالى من موقع امتداد رحمته في وجودكم كله، فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي(1)، لأنني حجّة الله عليكم من خلال مسؤوليتي الرسالية، ولن أدعوكم إلا إلى ما دعاكم إليه موسى t من خيرٍ وصلاحٍ، بصفتي خليفته في تدبير أموركم وإنقاذكم من الانحراف عن الخط المستقيم.
قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى(2)، لأننا لا نركن إلا إليه، فهو النبي الأصيل الذي حمل الرسالة، وقاد المعركة، وتحمّل المسؤولية، وانتصر على طغيان فرعون وقومه، أما أنت، فإنك مجرد شريك ووزير مساعد تابع، فأنت لا تستقبل الوحي الذي استقبله، ولا تملك من الأمر ما يملكه، ولم يكن لك أيّ دور في حركة الصراع مع فرعون، إلا من خلال حضورك السلبي مع موسى t، فاترك الأمر لموسى t نتدبّره معه عندما يعود.
ولم يجد هارون مجالاً للدخول في مناقشة معهم حول هذه القضية، بل اعتبر أنه قد أدّى دوره في القيام بمسؤوليته، في تحذيرهم من النتائج السلبية المترتبة على موقفهم المعاند المصرّ على الاستمرار في الالتزام بعبادة العجل، ولم يقصّر في الدعوة والإرشاد، ولكنه لم يكن عنيفاً معهم، كما كان أسلوب موسى t معهم، القائم على العنف والشدة، مما يبدو أنهم اعتادوه من إطاعة الأوامر الصادرة إليهم من القوي في حسابات الرهبة المرتكزة على الخوف من صاحب القوة ووليّ السلطة، ولم يركّزوا حياتهم على أساس الفكر والتأمل والتحليل، فقد كانوا أقرب إلى المجتمع الخاضع المطيع الذي ينفّذ التعليمات، من المجتمع الذي يحلّل الأفكار والمواقف، تماماً ككل الشعوب التي تعيش تحت سلطة الحكم الظالم الطاغي الذي يربّيها على أساس الطاعة المنفعلة بالسوط الذي يسلّطه على رؤوسهم ويلهب به ظهورهم، والضغط الذي يطبق على وجودهم. وربما كان موسى t ينتظر من هارون أن يكون حاسماً قوياً في دوره الذي أوكله إليه في مثل هذه المسائل، لأن المسألة لا تتصل بالقضايا الجزئية الإجرائية، بل تتصل بالقاعدة التي ترتكز عليها الرسالة في مفاهيمها الأصيلة الأولى، ولهذا كان ردّ فعله تجاه أخيه لا يخلو من القسوة.
الغضب الرباني:
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي(1)، لقد طلبت منك أن تصلح أمرهم، وكنت تعرف ما هو الأسلوب الأفضل في عملية الإصلاح، من خلال التجربة المشتركة التي خضناها معهم في الحركة التربوية في التزامهم بالرسالة، فما الشيء الذي منعك أو دعاك إلى أن لا تتبعني في طريقتي وأسلوبي؟ أفعصيت أمري بعد أن طلبت منك أن تخلفني في هؤلاء الناس فتكون مكاني كأني موجود بينهم؟!
وكان موسى t يتحدث بهذا الكلام وهو في فورة من فورات الغضب، وربما كان يصرخ في وجهه، وقد أخذ برأسه ولحيته وهو يجرّه إليه، في تعبير صارخ عن الحالة النفسية التي كان يشعر بها إزاء هذا الحدث. وربما تحدّث البعض عن مسألة غضب موسى t، وإذا ما كان منافياً لعصمته كنبيّ في طبيعة هذا التصرف الغاضب... وحاول البعض أن يفسّر ذلك في دفاعه عن الموقف، بأن موسى t كان متيقناً من براءة أخيه، إلا أنه أراد أن يثبت بهذا العمل أمرين:
الأول: أراد أن يُفهم بني إسرائيل أنهم قد ارتكبوا ذنباً عظيماً جداً، وأيّ ذنبٍ؟ الذنب الذي ساق هارون الذي كان نبياً عظيماً إلى المحكمة، وبتلك الشدة من المعاملة، أي أن المسألة لم تكن بتلك البساطة التي كان يتصورها بنو إسرائيل، فإن الانحراف عن التوحيد والرجوع إلى الشرك، بعد كل تلك التعليمات، وبعد رؤيتهم كل تلك المعجزات وآثار عظمة الحق، هو أمرٌ لا يمكن تصديقه، ويجب الوقوف أمامه بكل حزمٍ وشدة.
قد يشقّ الإنسان جيبه ويلطم رأسه عندما تقع حادثة عظيمة أحياناً، فكيف إذا وصل الأمر إلى عتاب أخيه وملامته، ولا شك في أنّ هذا الأسلوب مؤثّر في حفظ الهدف، وترك الأثر في الناس المنحرفين، وبيان عظمة الذنب الذي ارتكبوه، كما لا شك في أنّ هارون أيضاً كان راضياً كل الرضا عن هذا العمل.
الثاني: هو أنّه أراد أن يثبت للجميع براءة هارون من خلال التوضيحات التي يبديها، حتى لا يتهموه ـ فيما بعد ـ بالتهاون في أداء رسالته.
ونلاحظ على هذا الكلام:
أولاً: أنه يوحي بأن الموقف بين موسى t وهارون كان تمثيلياً ولم يكن واقعياً، وهو على خلاف ظاهر الآيات في العنف الجسدي الذي قام به موسى t تجاه أخيه، وكان من الممكن أن يحقق الأمر بالكلام العنيف الذي تكلم به معه.
وثانياً: إن الجميع كان يعرف براءة هارون الذي قام بأداء رسالته على أكمل وجه، ولكنهم رفضوا مواعظه ونصائحه وتحذيراته، وقاموا بتهديده، فلا معنى لأن يقصد موسى t بما فعله إثبات هذه البراءة.
وثالثاً: إن موسى t قد واجه قومه بأن عبادتهم للعجل كانت ذنباً عظيماً يستوجب الغضب من الله تعالى، كما أنه أظهر لهم غضبه عليهم الذي فهموا منه أنهم كانوا في ذنب عظيم...
ثم ما علاقة ذلك بهارون ليكون موقف موسى t إثباتاً لخطورة الخطيئة الكبيرة التي وقعوا فيها لأن القضية، كل القضية، هي في محاسبة هارون على التقصير. ولكننا لا نجد أنّ هناك تنافياً بين عصمة موسى t وتصرفه الغاضب، إذا أخذنا القضية ببساطة بعيداً عن التعقيد والتكلّف والتأويل، فموسى t بشر يغضب كما يغضب البشر، ولكن الفرق بينه وبينهم، أن لغضبه ضوابط، فلا يتصرف بما لا يرضي الله، ولا يغضب إلا لما يغضب الله، ولا يتجاوز في غضبه الحدّ المعقول الذي يقف به عند حدود المسؤولية الرسالية، وقد غضب على قومه لله، وتصرّف مع أخيه هارون للغرض نفسه.
لقد اعتبر أخاه مسؤولاً عما حدث بسبب تساهله معهم، وعدم ضغطه عليهم ومنعهم من الامتداد في الأخذ بأسباب الشرك، وقد كان تقديره أنه لو رفع درجة الضغط عليهم، لكان ذلك ساهم في منع ما حدث، وهو ما رأى أنّ هارون ربما لم يقم به، لأنه كان لا يعلم غيب المسألة، لأن الله تعالى لم يعرّفه تفاصيل ذلك، ولم يكن حاضراً في الموقع، بل كانت المسألة لديه بمثابة المفاجأة الغامضة في طبيعتها، والصدمة في تأثيرها على نفسه، فكان ما قام به موسى t منسجماً مع نفسه ودوره وصفته الرسالية ومسؤوليته في المحاسبة، فيما اتخذه من إجراء حيال هارون، والذي لم يخلُ من العنف الذي قد لا يمكن أن يخلق مشكلةً في علاقته بأخيه الأصغر، على أساس ما بينهما من المودّة والمحبة في معنى الأخوّة التي تسمح للأخ بأن يمارس بعض أوضاع القسوة مع أخيه.
ولكن هارون t كان له رأي آخر، وقد أراد أن يعرّف أخاه طبيعة الموقف في صراعه معهم واصطدامه بهم، ليكون على بيّنة واضحة من الأمر، فقد وقف ضدّهم وواجههم بكل وسائل الضغط التي يملكها، ولكنهم كانوا لا يهابونه كما يهابون موسى t صاحب الشخصية القوية التي واجه بها فرعون بكل طاغوتيته، أما هارون، فقد كان ـ فيما يبدو ـ في الظلّ مجرد تابعٍ لموسى t، فلم يظهر له دور إلا في المواجهة الأولى مع فرعون، فاستضعفه القوم بالرغم من مركزه كخليفة لموسى t ونائب له، وربما قبلوا ذلك على مضض في تعاملهم معه منذ البداية، وهذا ما عبّر عنه بما تحدث الله تعالى به: قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء، فأنا لم أفعل ما أحاسب عليه، لأن الظروف كانت أقوى من قدرتي، فقاومتُ حتى لم يعد هناك مجال للمقاومة لديّ، وجابهت حتى كدت أقتل بأيديهم، فإذا تصرَّفت معي بهذه الطريقة، فإن ذلك سوف يكون دافعاً لشماتة الأعداء بي، لأنني قاومتهم وجابهتهم، وها هم يرونني أمامك واقفاً وقفة المذنب من دون ذنب، فلا تفعل بي ذلك وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(1)، لأني قمت بما اعتقدت أنه مسؤوليتي دون تقصير.
نحو موقفٍ هادئ:
وكان هارون قد حاول أن يبرّر موقفه بشكلٍ أكثر وضوحاً وتفسيراً، فقد خاطب أخاه بعد أن أخذ برأسه يجرّه إليه وشدّه بلحيته: قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي، في أسلوب عاطفي يختزن في داخله التذكير بالأمومة التي حملتهما معاً وحضنتهما معاً، فإني أناشدك بعمق الأخوة التي ربطتنا رباطاً وثيقاً لا انفكاك له، وفتحت مشاعرنا على كل محبة وطهر، وأناديك باسم الأم التي عشنا في أحضانها ورضعنا حليب الحب من ثديها، ما جعل العلاقة بيننا أعمق من أية علاقة أخرى، بحيث تتجاوز المسؤوليات إلى الجانب الإنساني، أناشدك وأسترحمك أن تأخذ نفسك بالهدوء، وأن تبرّد غضبك الذي دعاك إلى التصرف معي بقسوة، فتأخذ بلحيتي وبرأسي لتشدّهما بغير رحمة، في الوقت الذي لا تمنعني دقة الموقف من أن أجد لك العذر في سلوكك القاسي، وأريد منك أن تستمع إليَّ بهدوء، لأبرر لك بأنّ الموقف الذي اخترته كان منسجماً مع وصيتك، فلم يكن أسلوبي مع هؤلاء ناشئاً من موقف ضعف، وإن كانوا يتصورون أنهم استضعفوني لأني لم أدخل معهم في صدام عنيف، ولم يكن مخالفاً للتعليمات، بل كان ناشئاً من دراسة هادئة عاقلة للموقف.
فقد كان الجو المسيطر على الساحة انفعالياً، وكان بحاجةٍ إلى شخصية توازن الأمور بدقة، وتفرض نفسها على القوم من موقع قوة، بحيث تملك أن تمارس تأثيرها القوي عليهم، بعيداً عن طبيعة الأسلوب الذي تتبعه معهم، فهي التي يمكن أن تفرض نفسها على الجميع بكل قوةٍ.
وهذا ما تملكه أنت في موقعك عندهم، لأنك أنت من هزمت فرعون وجنده أمامهم وحرّرتهم من العبودية له، ما جعلك عندهم في موقع القوة العليا التي لا قوة تنافسها، إضافةً إلى صفتك الرسالية الحركية التي فرضت نفسها على الواقع كله.
أما أنا، فلا أملك أمامهم ما تملكه أنت، ولذلك فقد يكون تدخلي العنيف بالتنسيق مع المؤمنين المعارضين لعبادة العجل، موجباً لانقسام القوم بين مؤيّد ومعارض، ما يؤدي إلى اختلال العلاقات فيما بينهم، وإفساد الواقع الاجتماعي الذي قد يتحول إلى قتال، ولاسيما أن العجل قد تحوّل لدى المؤمنين به إلى وثنٍ مقدس.
وقد فهمت من كلامك أنك تريد مني أن أصلح الأمور ولا أفسدها، وأن أوحّد مجتمع بني إسرائيل لئلا تضعف قوتهم التي قد نكون بحاجة إليها في المستقبل في حال الصراع مع الآخرين، ولهذا فقد ابتعدت عن المواجهة العنيفة، وأعلنت الموقف البعيد عن عناصر الإثارة، وتركت الحلّ الحاسم لك عندما تعود، ولاسيما بعد أن أعلنوا استمرارهم في عبادتهم العجل، وعكوفهم على تقديسه حتى ترجع إليهم، ما جعلهم يقفون من أية نصيحة أو موعظة موقفاً سلبياً، الأمر الذي يجعل كل جهد جهداً ضائعاً.
لقد كنت أنتظرك لتعالج المسألة من موقع الوحدة، لا من موقع الفرقة والخلاف، لأنك وحدك الذي يخضع لك المؤيّد والمعارض، إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي(1). في جمع شملهم، وتوحيد كلمتهم، وإصلاح أوضاعهم.
وقد استوعب موسى t حديث هارون معه في تفسير موقفه الإصلاحي التوحيدي، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى في الآية الكريمة: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(2).
أما بالنسبة إلى الموقف العنيف الذي وقفه موسى t من أخيه، والذي أبدى فيه غضباً ظاهراً على ما وصل إليه حال قومه، فإننا لا نجد فيه ابتعاداً عن خط الطاعة لله تعالى ليكون منافياً للاستقامة الشرعية في نطاق العصمة، ولكننا نجد فيه خضوعاً لبعض نقاط الضعف البشري التي توحي بأنّ بشرية النبي قد تدفعه إلى الخضوع لنقاط الضعف الطبيعية التي قد يغفل فيها عن بعض المناسبات الشكلية أو المعنوية.
وكانت نهاية المطاف لمن عبدوا العجل، ما قاله الله تعالى في الحديث عنهم: وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ، وهو تعبير كنائي عن موقف النادم الذي يشعر بالإحباط ورَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ وانحرفوا عن الهدى الذي عاشوه مع موسى t، قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(1). ولعلّ مثل هذه الروح التي انطلقت بهذا الابتهال الخاشع النادم، توحي بأن القوم كانوا قد وصلوا إلى مرتبةٍ جيدة من الروح الإيمانية في أعماقهم، حتى إذا انحرفت بهم الطريق في اتجاه الشيطان، سارعوا إلى الرجوع إلى الاستقامة في اتجاه الله تعالى.
هذا ما كان من حال القوم، فما هو حال السامريّ؟
للحديث بقية إن شاء الله تعالى. والحمد لله رب العالمين.

















    مواجهة الفتنة
    النفس الأمارة بالسوء
    استحقاق الجزاء


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
لا نزال نواصل الحديث عن تجربة النبي موسى t مع قومه، واليوم نتحدث عن موقفهt من السامري الذي أثار المشكلة التي أدّت إلى حالٍ من الفوضى الفكرية العقيدية في قومه. فما هو الدافع الذي دفعه إلى ما صنعه بعد أن كان ظاهره الإيمان، باعتباره من جماعة موسى t الذين اتبعوه وآمنوا به، ولم يكن قد صدر منه في حضور موسى t ما يشير إلى إمكانية سلوكه مثل هذا السلوك الذي ينقل المجتمع إلى الوثنية من خلال ربطه بالتمثال الذي أبدعه وجذب مشاعر الناس نحوه حتى عبدوه؟!
مواجهة الفتنة:
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ(1). كيف فعلت ما فعلته من هذا الانحراف الخطير الذي وجّهت الناس إلى السير فيه وخدعتهم به، وجئت به من خلال ذهنيتك الخاطئة؟ وهذا هو معنى (الخطب)، أي الأمر الذي وصل بالناس إلى درجة الخطورة الكبيرة. وكان جواب السامري غريباً لم يفصح القرآن عن كل تفاصيله، قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ شاهدت ما لم يشاهدوه أو يلتفتوا إليه، ما منحني القدرة على القيام بشيء مميّز لا يملك الآخرون أن يفعلوه.
فقبضتُ قبضةً من أثر الرسول فنبذتها وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي(1)، وبدأت بالاستفادة من هذه الخصوصية في صنع العجل بالطريقة البديعة التي يختلف فيها عن أيّ تمثال يُصنَع من قِبَل النحّاتين، لأني أبدعت فيه عنصراً متحركاً، فكان له صوت كصوت العجل في الخوار، مما يذهب بألباب المشاهدين له، ويلهب مشاعرهم إلى ما يشبه القداسة.
وهنا تتحدّث الروايات المختلفة عن الشيء الذي بصر به السامري وحده ولم يبصره الآخرون، ففي بعضها أنه رأى جبرئيل عند نزوله بالوحي على موسى t، أو رآه على فرسٍ من الجنة أمام فرعون وجنوده عندما جاء جيشه إلى ساحل البحر، وهو يرغّب ذلك الجيش في المسير في تلك الطرق اليابسة في البحر، وكان يسير أمامهم، وقد لفت نظره من خلال هذه الرؤية، فقبض شيئاً من تراب قدمه أو مركبه لهذا اليوم، فألقاه داخل العجل الذهبي، وما هذا الصوت إلا من أثر ذلك التراب الذي أخذه، فإن من خاصية هذا التراب أنه لا يلقى على شيء إلا حلّت فيه الحياة ودخلت فيه الروح، فحفظ السامريّ هذا التراب، حتى إذا صنع العجل، ألقى فيه ما لديه منه، فأعطاه الحياة وتحرك بالخوار.
ولكن دراسة هذه الروايات تجعل الباحث يشكِّك في وثاقتها، لأنها تتناقض في تفاصيلها، ولاسيما أنها تتحدث عن تأثير هذا التراب، في منح الحياة للعجل الذهبي أو لكل ما يلقى عليه، أو يجعلنا نقول بأنه من الضروري في مثل هذه الحال أن تدبّ الحياة في المكان الذي حفظ فيه أو ألقي فيه، ولكنّ الظاهر القرآني لا يوحي بانبعاث الحياة والروح في العجل المصنوع، لأن التعبير القرآني يصفه بأنه جسدٌ له خوار، ما يعني أنه جسدٌ خالٍ من الروح، لكنه يحمل صوت العجل من خلال بعض التجويف الذي يشتمل على بعض العناصر الفنيّة الداخلية التي تنتج الصوت. ولو كانت المسألة كما تقول الروايات، لكان من المفروض التعبير عنه بالعجل، كما هو الحال في التعبير عن العجل الحيّ.
وعلى أيّ حالٍ، فهذه أخبار آحاد لا تقوم بها حجة في التفسير، لأن حجية الخبر الواحد ثابتة من خلال البناء العقلائي والسيرة العقلائية القائمة على قبول الأخبار التي توحي في سندها ومضمونها بالوثوق والاطمئنان، ولاسيما في القضايا ذات الأهمية، كما في الأمور الكونية في السماء والأرض، أو تفسير القرآن الذي هو كلام الله الذي لا يجوز الالتزام بمعناه إلا بحجة قوية أو أحداث تاريخية تتصل بالأمور المرتبطة بالسيرة النبوية أو بالتاريخ الإسلامي أو بسيرة الأئمة من أهل البيتi، فلا مجال للاعتماد على الخبر الواحد بنفسه إذا لم يكن مفيداً للقطع أو الوثوق والاطمئنان، فلنترك الموضوع لعلم الله، كالكثير مما أجمله القرآن ولم نصل فيه إلى يقين، ولاسيما إذا كان الأمر مما لا يتعلق بالعقيدة أو بما يجب الاعتقاد به، مما لا بد من البحث العميق في عناصره الأصيلة بكل الوسائل الثقافية، أو إذا كان الأمر مما لا يتصل بخط العمل أو الالتزام في خطوط المفاهيم العامة.
وهناك احتمال يقفز إلى الذهن، وهو أن السامري أراد أن يقدّم لموسى t تبريراً غيبيّاً لما صنعه، وذلك من خلال ربط المسألة بأثر الرسول الذي يمثل الشخصية الغيبية في التصور العام عن تكوينه وحركته، ليوحي إلى موسى t أن ما صنعه كان منطلقاً من تميّزه عن قومه في المسألة الروحية، بينما كانت طبيعة القضية، أنّ ما فعله كان مجرّد صناعة مألوفة لدى النحّاتين، وخصوصاً أن جبرائيل لم يُذكَر له أيّ دور في مسيرة موسى t الرسالية، حتى في مسألة التوسّط في نقل الوحي، بل كان الله يكلمه بشكل مباشر وَكَلَّمَ اللّهُ موسى تَكْلِيماً(1). هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى، فإنه لم يظهر للناس الذين دخلوا الطريق اليابسة في البحر ولم يسمعوه، فكيف أخذ السامري من أثره شيئاً؟!
إن السامري لم يتكلم مع موسى t من موقع الحقيقة، بل كان يريد أن يقدّم تفسيراً عجائبياً لما قام به، ولذلك لم يناقشه موسى t في هذا التفسير، لأنه عرف كذبه في ذلك كله، ولو كانت المسألة في دائرة المعقول، لدخل معه في حوار حول الموضوع...
النفس الأمارة بالسوء:
وهكذا ختم السامري كلامه بقوله: وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي(2)، فليس هناك سرٌ خفيّ من وحي أو غيب خاص يفرض عليَّ القيام بما قمت به من موقع الالتزام بالدعوة الجديدة التي أجد موقعي معنياً بها، بل كل ما هناك، أني استسلمت لبعض رغبات النفس الأمارة بالسوء التي دفعتني إلى أن أثير المجتمع في أوضاعٍ قلقة تربك الجوّ وتنحرف بالمسيرة وتقود إلى الضلال، تماماً كأية حالٍ ذاتية يتحرك الإنسان من خلالها لتلبية رغبة محمومة تسيطر عليه. وربما كان يستهدف من خلال ذلك كله، أن يحصل على الموقع القيادي في المجتمع، باعتباره الشخص الذي قام بصناعة إلههم وإله موسى t هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ موسى(1)، وذلك من أجل أن ينافس موسى t على الزعامة القيادية في قومه، ليختلف الناس عليه وعلى موسى t.
ونلاحظ في هذا الاتجاه، أن هناك سؤالاً يفرض نفسه، وهو: ما هو الموقع الذي يملكه السامري في مجتمعه ليترك هذا التأثير الكبير في المجتمع، حتى إن هارون لم يستطع مقاومة خطته التي رسمها، ولاسيما أنه لم يذكر له أي دور في كل تفاصيل مسيرة موسى t مع قومه، فلم يكن وجيهاً يملك الوجاهة عندهم في تاريخه، ولم يكن غنياً يملك الثراء المالي في مقدراته، فكيف اتّبعه القوم هذا الاتباع الأعمى وتركوا رسالة موسى t التي تحرك بها معهم بعد انتصاره على فرعون؟ ربما كان الجواب عن هذا السؤال، أن الدور المؤثّر لم يكن ناتجاً من عناصر موقعه الشخصي في قومه، بل إنّ الدور كان للعجل الذي تحرّك بالخوار، فأدهشهم وخضعوا لتأثيره على قاعدة الغفلة التي أسرعت بهم إلى تاريخهم في الوثنية، على الرغم من خوفهم من موسى t الذي كانوا ينتظرون عودته، حتى إذا جاءهم لم يتحركوا فيما تحركوا به، ثم ندموا على ذلك، واستغفروا الله على هذا الذنب العظيم...
وانتهى حديث السامري، ولم يجد موسى t أية حاجة للدخول معه في التفاصيل بعد ظهور جريمته واعترافه بها، فلم يبقَ إلا إنزال العقوبة به بما يدمّر خطته ويصادر أحلامه في حصوله على موقع اجتماعي قيادي مميّز ينافس به موسى t، وذلك بطرده من المجتمع وإبقائه وحيداً لا يتحدث مع أحد ولا يتحدث معه أحد، قال فاذهب، واخرج من المجتمع كله، وعش وحدك ما دمت قد تحركت منساقاً وراء رغباتك الخاصة على حساب سلامة المجتمع وفكره ومصيره، مما لا يمكن أن يمارسه عاقل مسؤول يتحمل المسؤولية عن مصير الناس من حوله، فإذا كنت قد فضّلت الاستسلام لرغباتك وأغفلت حياة المجتمع في استقامته وتوازنه، فعش مع نفسك لنفسك.
إنها نزوة مجنونة لا تخضع لأيّ اتّزان عقليّ، فكيف تسوّل لك نفسك أن تهدم البناء الذي بناه موسى t على قاعدة الإيمان، وتصادر الجهد الشاقّ الذي بذله في صراعه مع فرعون وقومه من أجل التزام الناس بتوحيد الله في الألوهية والطاعة والعبادة، وفي تربيته لقومه على أساس الانطلاق بالحرية في الموقف والإرادة، وبالإيمان في العقيدة والعمل؟! ولذلك، لا بد من القضاء على هذا الجنون النفسي الذي يتحكم فيك.
استحقاق الجزاء:
قال فاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ، أي لا تخالط الناس، ولا تمسّ أحداً ولا يمسّك أحد، كناية عن العزل الاجتماعي والمقاطعة الشاملة في كلّ أنواع العلاقات والمعاملات واللقاءات. ويذكر بعض المفسرين، أن جملة (لا مساس) إشارة إلى أحد القوانين الجزائية في شريعة موسى t التي كانت تصدر في حقّ من يرتكب جريمةً كبيرةً، وكان ذلك الفرد يبدو كموجود شرّير نجس قذر، فلا يقربه أحد ولا يقرب هو من أحدٍ(1).
. وقيل: إن السامري اضطر بعد هذه الحادثة أن يخرج من جماعة بني إسرائيل ويترك ديار أهله ويتوارى في الصحراء.
أما العقوبة الثانية، فهي عقوبة الهلاك والعذاب وإنّ لك موعداً لن تُخلفه سواء أكان ذلك في الدنيا أم في الآخرة، وذلك جزاء من يعمل على إضلال الناس وإبعادهم عن الحق من دون أي شعور بالمسؤولية الإنسانية الاجتماعية أو بالرقابة الإلهية.
أما العجل الذي قدّمته للناس كإله، وربما استغرقت في الالتزام به وبعبادته من خلال الهوى النفسي الذي سيطر عليك، فسوف تُفجع بمصيره وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً هذا الذي صنعته كتمثال عجائبي مقدّس لتضلّ به الناس وتبعدهم به عن خطّ التوحيد لنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً(2)، فسيحرق بالنار ويذرى في البحر ذرواً. وربما استفاد البعض من التهديد بإحراقه بأنه كان حيواناً، لأن الذهب لا يُحرق، ولكن المذكور في القرآن هو الزينة التي قد تكون من الذهب الخالص وقد لا تكون كذلك، فلا دليل فيه على هذه الاستفادة، إنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، لأن كل ما عدا الله هو مخلوقٌ له، فكيف يكون إلهاً من دونه، أو يكون شريكاً له في الألوهية، وهو الخالق الذي يتميّز وحده بالخالقية والقدرة المطلقة والعلم الذي لا حدّ له؟! وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً(1)، فكيف يكون المحدود في علمه الذي يستمد علمه منه ويتحرك في دائرة مخلوقاته، شريكاً أو ندّاً له؟!
وتنتهي قصة هذه الفتنة بهذه الخاتمة التي تنفتح على رفض الشرك بكل أشكاله، وتأكيد التوحيد بأكمل معانيه. ويبقى السامري نموذجاً للأشخاص الذين يستخدمون وسائل الخداع لإضلال الناس وإبعادهم عن الحقيقة الخالصة، فلا تبقى القضية قضية تاريخ يستهلكه القارئون، بل تتحول إلى درس يتعلم منه الناس كيف يكتشفون المضلّين والمخادعين والمنافقين في أساليبهم الملتوية، ليكونوا عبرةً وعظةً للأجيال كلها. والحمد لله ربّ العالمين.
 














    تحدّي الانحراف
    عقوبة الإعدام الجماعيّ
    الموقف الصادم المساوي لحجم التمرّد
    علاقة العقوبة باللطف الإلهي
    هل القتل حقيقيّ؟


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
تتمةً لما مضى من حديث عن رسالة النبي موسى t، نواصل الحديث في بُعد مهم من هذا التاريخ النبوي، وهو تحدّيه للانحراف الذي تعرَّض له قومه، ومدى تأثير ذلك على مسيرة النبي موسى t .
تحدّي الانحراف:
لقد كانت مسألة عبادة العجل من المسائل الممثِّلة للانحراف الخطير الذي انحرف به بنو إسرائيل عن خط الإيمان الذي أراد لهم النبي موسى t السير عليه، والدالة على سذاجة التفكير لديهم في خضوعهم لفتنة السامري الذي صنع تمثالاً ذهبياً على شكل عجل، ممّا لا يختلف عن التماثيل الفنية التي يصنعها النحّاتون، لولا الصوت الذي كان ينطلق منه كصوت خوار العجل، وقد شعر قوم موسى t الذين اتّبعوا السامري في فتنته العبادية، بالسقوط النفسي، وانتبهوا إلى الانهيار الروحي في أوضاعهم، فرجعوا إلى الله بعدما واجههم موسى t بوقوعهم في الخطيئة الكبرى، ولذلك أعلنوا الرجوع إلى الله، وطلبوا الغفران والرحمة منه، كما جاء في قوله تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ في تعبير عن الندم وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(1).
وقد تحدّث موسى t إليهم بما يجب عليهم أن يأخذوا به لتأكيد توبتهم وعودتهم إلى الإيمان بالله، لإثبات صدقهم في الموقف النادم: وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ، وهو يحاورهم حول السلبيات السلوكية الصادرة منهم في انحرافهم العملي، ليثير فيهم الشعور بعقدة الذنب بعمق، بما يؤدِّي بهم إلى القيام بعملية التصحيح والعودة بحياتهم إلى خط الاستقامة في الالتزام بالرسالة في الفكر والعمل، ليواجهوا ما قد يتعرّضون له من تجارب مماثلة في المستقبل، انطلاقاً من الثبات القويّ الذي لا تزلزله الفتن الخادعة والأساليب القلقة، مما قد يثيره المخادعون المضلّون الذين قد يستغلُّون سذاجتهم الثقافية في بعض حالات الاهتزاز.
يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ وورّطتموها في السير بها في مواقع الهلاك الأخروي، بعد أن قمتم بما يؤدّي إلى غضب الله، من خلال حركتكم التمرّدية على الخط التوحيدي وأخذكم بأسباب الشرك، بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ معبوداً وإلهاً من دون الله، بعد أن بينت لكم، في مواعظي ونصائحي وإرشاداتي، الأسس الثابتة للعقيدة الحقة في توحيد الله، وذلك بإخلاص العبادة له وعدم الإشراك به، لأنه الربّ الذي لا شريك له ولا عديل فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ الذي خلقكم وأخرجكم من دائرة العدم، فهو الذي يملك وجودكم كله، وهو سرّ النعمة في امتداد إنسانيتكم في حاجاتها الخاصة والعامة، بما يمنح وجودكم من حركية الحياة، الأمر الذي يفرض عليكم العودة إليه بعد الرحلة الضالة في الابتعاد عن مواقع رضاه، فذلك هو الأمر الطبيعي الذي تفرضه طبيعة الأشياء في جذورها العميقة التي تقتضي عودة الإنسان إلى مبدع وجوده، ليحصل على رحمته، ويمتد معه في نعمته، وليعبّر بذلك عن شكره لإنعامه عليه وعن انقياده له، ولاسيما أن الأمر بالتوبة ليس أمراً شخصياً من موسى t، بل هو من خلال صفته الرسالية التي تجعل أمره أمراً صادراً من الله. ولعلّ في التعبير بكلمة (بَارِئِكُمْ) إشارة إلى طبيعة الموضوع في عمقه الروحي، للإيحاء إلى الإنسان بضرورة الانضباط في خط التوبة من الخطيئة الكبرى بحقّ الخالق الذي هو سبب الوجود وسرّ الحياة.
عقوبة الإعدام الجماعيّ:
فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ كعقوبة دنيوية حاسمة على سيركم في خطّ الشّرك وابتعادكم كثيراً عن الخط التوحيدي المستقيم، بعدما تمردتم على الله ونسيتم نعمه، ورجعتم إلى الوثنية الجاهلة المتخلفة التي انطلق كل جهادنا ضد فرعون وقومه من أجل تحرير ذهنية الإنسان وروحيته وحركته منها، بما يشملكم في حريتكم الجديدة التي لم أعمل لتكون حرية جسد، بل لتكون حرية روح، لأن قضية الرسالات الإلهية التوحيدية ليست في تحرير الإنسان من الوثنية الخارجية المتمثلة بالحجر الذي يتعبده الناس من دون الله ويخضعون له، بل في تحريره من الذهنية الصنمية بما لا يبقي لها أيّ جذور في وعيه الفكري وسلوكه العملي وإحساسه الذاتي، بحيث تتجذّر الحرية في داخله كأساسٍ ثابت لشخصيته، فلا يعود إلى ذهنية الصنمية عند توفر الظروف الطارئة الملائمة في الواقع الخارجي.
وهذا هو الذي جعل العقوبة لهذا الجرم الكبير قاسيةً متمثلةً بالأمر بالإعدام الجماعي الذي يقتل فيه بعضهم بعضاً، بحيث يقتل المذنبون بعضهم بعضاً، أو يقتل الأبرياء المجرمين، فذلك كان السبيل في الشريعة الموسوية آنذاك للتكفير عن الخطيئة الكبيرة، وللحصول على الإخلاص في التوبة التي تؤدي إلى غفران الله ورضاه عنهم، ذلكم أي القتل الذي يمثّل الوسيلة للتوبة خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ، لأنه يحقّق لكم الحصول على مواقع القرب منه، من خلال دلالته على الصدق في التوبة في عمق الإحساس بالندم، ويؤدي بالتالي إلى السعادة الكبرى في دخول الجنة والنجاة من النار فتاب عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(1). بعباده المنيبين إليه.
وإذا أردنا الأخذ بالظاهر القرآني، فلا بد من أن نحمل القتل على معناه اللغوي، وهو إزهاق الروح بالوسائل الحادّة، وقد يكون السبب في هذه العقوبة الصعبة، أن الموقف يمثل أوّل تمرّد عنيف للقوم على النبي في التزامات النبوة في بداية تحركها العملي من أجل انتقالها من دور الدعوة والتبليغ إلى دور التنظيم التشريعي، من خلال إنزال التوراة على موسى t التي تمثل الوثيقة القانونية في بناء الفرد والمجتمع، على أساس المسؤولية المباشرة، والمفاهيم الدينية الجديدة التي أوحى الله بها إلى موسى t في صيغة تشريعية متصلة لا تترك أي مجال للفراغ الفكري والعملي، لأنها تنفتح على جانب التصور في العقيدة والسلوك في حركة الإنسان في الواقع.
الموقف الصادم المساوي لحجم التمرّد:
لذا كان لا بد من القيام بموقف صادم يساوي حجم التمرّد، ليكون ضربةً قويةً للطبيعة المتمردة التي بدأت تؤثّر في مسيرة الدين الجديدة في مجتمعه الذي يمثل قاعدة الحركة للدعوة، وليمنع حدوث أي تحرّك أو تصرّف مماثل في هذا الاتجاه، تماماً كما هي الحال في العقوبات التشريعية الإسلامية في الحدود، لحفظ النظام العام من الذين يتجرأون على مخالفته وعلى إيجاد الفوضى في حياة الناس. ولعلّ الخصوصية في هذه العقوبة القاسية، أن الموقف فيها مرتبط بالتوبة التي تهزّ الكيان كله في الواقع، لتكون قويةً خالصةً حاسمةً عميقةً لا مجال فيها للعودة إلى تجربة مماثلة عند حدوث أي طارىء قد يدفع بالمجتمع إلى الانحراف عن الخط المستقيم، لأن هناك فرقاً بين خطأٍ ينطلق من الغفلة والجهل والاندفاع العفوي، وخطأٍ ينطلق من موقع التمرّد والجحود مع وعي الموقف كله وما يترتب عليه، ولاسيما مع بقاء قيام الحجة عليهم بوجود هارون النبي الخليفة لموسى t في موقع القيادة لهم، واحتجاجه عليهم، ومواجهته الموقف بكل قوة.
علاقة العقوبة باللطف الإلهي:
وقد أثار بعض المتكلمين من المفسرين جدالاً كلامياً فلسفياً حول علاقة هذه العقوبة القاسية باللطف الإلهي، ومدى انسجامها مع مفهومه المرتبط بالمستقبل لا بالماضي. ونحن لا نريد الخوض كثيراً في مناقشة ذلك، ولا نظن أن هناك مشكلة في أساس القضية من حيث المبدأ، لأن الذي أثاروه يتصل بقضية اللطف الإلهي في موضوع التكليف الشرعي الذي ينطلق من حكمةٍ عامة شاملة ترتبط بمصلحة الإنسان كله في النظام العام للحياة، إضافةً إلى الوسيلة الواقعية في دفع المكلف إلى الطاعة وإبعاده عن المعصية، ما يقتضي تسهيل الفعل عليه بالمستوى الذي لا يقع فيه المكلف في مشقةٍ أو حرج غير عادي...
ولكن القضية في هذه المسألة تتصل بالعقوبة على المعصية المتحدية من الذين عاشوا ـ مع نبيهم موسى t ـ حقيقة الإيمان ومسؤولية الالتزام، وهي حق الله الذي يملك الأمر كله، فيضعه حيث يشاء وكيف يشاء، ونحن لا نعقل فرقاً بين الأمر للقاتل بالاستسلام لوليّ المقتول عمداً ليجري عليه القصاص، وبين هذا الأمر الذي عالجته الآية، إلا من جهة ارتباط ذلك بالعقوبة الفردية، بينما ترتبط هذه العقوبة بالعقاب الجماعي، ولكنه لا يصلح فارقاً في طبيعة التقريب والاستبعاد، كما لا نجد فرقاً بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة التي تدخل الكافرين والمشركين بأجمعهم في النار، فلا استبعاد ولا مخالفة لرحمة الله ولطفه وعدله وحكمته في النظام الإنساني العام الذي يقرب الإنسان من مصالحه الحيوية، ويبعده عن المفاسد الشريرة التي تزيده سوءاً وتهدد استقراره وتوازنه.
هل القتل حقيقيّ؟
وربما يلوح للبعض أن القتل هنا لم يرد بمعناه الحقيقي، وهو إزهاق الروح، بل المراد به قتل شهواتها المحرّمة وصفاتها الذميمة وأوضاعها السيّئة، تماماً كما يعبّر بعض المرتاضين الروحيين بإماتة النفس، ويقصد بذلك إماتة كل شهوة أو كل اندفاع للشهوات المحرمة فيها. وقد يؤيد ذلك باعتباره أسلوباً تربوياً من أساليب تأصيل التوبة في عمق الثبات في النفس في جذورها الأصيلة، باعتبارها أسلوباً واقعياً في تحقيق الإحساس العميق بالندم على ما مضى، والعزم على تصحيح المسيرة في المستقبل. وربما يجد هذا البعض في إلحاق صفة الرحيم بالتواب ما يوحي بأن الموقف يتناسب مع الرحمة الإلهية في التعامل مع العاصي والمنحرف، مما لا ينسجم مع الأمر بالقتل الذي لا مستقبل لحركية التوبة فيه. ولنا تعليق على ذلك، وهذا ما نتطرّق إليه لاحقاً بعونه تعالى.

















    المنهج التفسيري
    ملاحظات نقدية
    الطابع العام للعقوبات الدينية


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
لا زلنا في الحديث عن تجربة النبي موسى t، وقد تحدّثنا فيما سبق عن عصيان قوم النبي موسى t له باتّخاذهم العجل رباً، وعن توبتهم عن ذلك عند رجوعه، وعن العقوبة الإلهية القاسية بحقّهم، وهي عقوبة القتل الجماعي، ثم نقلنا آراء بعض المفسّرين بأن القتل لا يقصد به إلا قتل الشهوات المحرّمة وصفات النفس الذميمة، كأسلوب يتناسب مع الرحمة الإلهية في التعامل مع العاصي والمنحرف.
المنهج التفسيري:
أما تعليقنا على ذلك، فهو ما ألمحنا إليه في حديث سابق، وهو أن الخط التفسيري الذي نسير عليه، هو العمل بظاهر القرآن بما توحيه طبيعة الكلمة في معناها الموضوع لها، أو في القرائن المحيطة بالكلمة إلى أن يثبت خلاف ذلك من عقلٍ أو نقل. ونحن لا نجد فيما ذكره هذا البعض دليلاً على إرادة خلاف الظاهر، لأن من الممكن أن تكون التوبة بالاستسلام للقتل نظير القصاص في مورد القتل العمدي، ولا ضرورة لامتداد الحياة في المستقبل للتائب، لأن الحدود الشرعية في حال القتل بطريقة القصاص أو الرجم للزاني المحصن أو غير ذلك، تعتبر وسيلةً للتوبة التي تُسقط عقوبة الآخرة عن المجرم، أما مسألة الرحمة، فقد تكون متصلةً بقبول التوبة من الله وعدم إغلاق وسائلها بوجه الإنسان الذي يريد أن يتخلص من الذنب ويتطهر من خطاياه.
وجاء في تفسير الميزان، أن قوله تعالى: فتاب عليكم(1). يدل على نزول التوبة وقبولها، وقد وردت الرواية أن التوبة نزلت ولما يقتل جميع المجرمين منهم. ومن هنا يظهر أن الأمر كان أمراً امتحانياً، نظير ما وقع في قصة رؤيا إبراهيمt وذبح إسماعيل أن يا إبراهيم * قد صدّقت الرؤيا(2)، فقد ذكر موسى t فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم، وأمضى الله سبحانه قولهt، وجعل قتل البعض قتلاً للكل وأنزل التوبة بقوله: فتاب عليكم(3).
ونلاحظ على هذا الرأي، أن هناك فرقاً بين الأمر الصادر لإبراهيم الذي لم يكن منطلقاً من إرادة جدية في تحقيق الفعل، بل كان وسيلةً من وسائل إظهار عمق الإسلام الروحي والعملي في موقف إبراهيم وإسماعيل، الأمر الذي لا علاقة له بالفعل، بل بمقدماته، وبين الأمر الصادر لهؤلاء، والذي كان في أقصى درجات الجدية، وقد أريد له أن يتحول إلى واقعٍ امتثالي، غير أن الله سبحانه اكتفى بما حصل من القتل، وعفا عن الباقين الذين لم يمتثلوا لذلك، فأسقط التكليف عنهم ـ إذا صحّت الرواية ـ باعتبار أن المقصود هو التوبة المنطلقة من الإسلام الروحي، المنضمة إلى الفعل في دلالته على الصدق فيها، ولا معنى لأن يكون الأمر امتحاناً بالنسبة إلى الباقين الذين لم يقتلوا أنفسهم، لأن الأمر لم يصدر إليهم بخصوصياتهم ليميّز أمرهم عن أمر غيرهم، ولعلنا نستفيد من الآية السابقة ثم عفونا عنكم من بعد ذلك(1). أنه كان هناك عفوٌ شاملٌ عن الجريمة.
وربما يخطر في البال أن الأمر بقتل النفس ليس وارداً على النحو المطابق للكلمة، بل هو واردٌ بمعنى إماتة النفس وإسقاط حركيتها في التأثير على إرادة الإنسان وفعله، لأنها إذا استيقظت في معنى الحياة الفاعلة في النفس، أسقطت التزامه بالمسؤوليات المفروضة عليه، وخنقت القيم الروحية في وجوده الحركي، وهذا ما قد نستوحيه من قوله تعالى: وما أبرّىء نفسي إن النفس لأمارةٌ بالسوء إلا ما رحم ربي(2). ولعل التعبير بقتل النفس وتجميد حياتها الفاعلة، أو إبعادها عن حركة التأثير، هو أمرٌ وارد في الاستعمالات العرفية، فقد يقال عن شخص ورّد نفسه فيما أدّى إلى إسقاط مواقعه، إنه قتل نفسه.
ملاحظات نقدية:
وقد نسجّل بعض الملاحظات على هذه المسألة:
أولاً: إن الظاهر يدلّ على أنّ عبادة العجل شملت قوم موسى t جميعاً، ولم تختص بجماعة دون أخرى، ولذلك لم يتحدث القرآن عن اعتراض البعض وتأييدهم لهارون في إنكاره ذلك عليهم، كما أنّ الله تعالى قال لموسى t : قد فتنّا قومك من بعدك وأضلّهم السامري(1)، وقد خاطبهم موسى t بعد رجوعه إليهم بالتنديد بفعلهم من دون أن يميِّز جماعة من جماعة، فقال لهم: يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً(2)، كما أن هارون كان قد خاطبهم بالخطاب الشمولي نفسه. وفي ضوء ذلك، فقد يكون من البعيد أن يأمرهم الله بقتل أنفسهم عقاباً على جريمتهم التي شاركوا فيها جميعاً، فلا يبقى منهم أحد إذا امتثلوا للأمر، ولا يبقى في الساحة إلا موسى t وهارون وحدهما. أما الرواية القائلة بأن الأمر حدث من بعضهم وعفا الله عن الباقين، فهي غير ثابتة وغير دقيقة، لأن السؤال يبقى: لماذا لم يعف الله عنهم جميعاً بعد امتثالهم للأمر الإلهي، لأن القضية واحدة في مسؤولية الجميع؟!
ثانياً: إن القتل لو كان مطلوباً لله كعقاب على الجريمة في الإشراك به بهذه الطريقة، لكان من الأولى أن يصدر الأمر بقتل السامري، لأنه هو السبب في إضلالهم باستغلال رواسبهم الوثنية وحاجتهم إلى عبادة إله محسوس لديهم مما كانوا قد طلبوه من موسى t، بل إن جريمته أعلى من جريمتهم، فكيف أبقاه موسى t حياً وفرض عليه عقوبة العزلة الاجتماعية مكتفياً بها؟
ثالثاً: إن قوم موسى t الذين عبدوا العجل من خلال الغفلة عن وعي العقيدة التوحيدية ونسيانهم الحقيقة التي تكمن في داخلها، قد رجعوا عنها بعد إرشاد موسى t لهم وتنديده بفعلهم وغضبه عليهم، وهذا ما عبّر عنه الله سبحانه وتعالى: ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكوننّ من الخاسرين(1).
وقد وعد الله التائبين من هؤلاء بالرحمة والمغفرة لهم، وذلك قوله تعالى: إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربهم وذلّة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين * والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفورٌ رحيم(2). وقوله تعالى: وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون * ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلّكم تشكرون(3)، وقوله تعالى: فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم(4)، والظاهر من هذه الآية، أن الله تاب عليهم من ذنب عبادتهم العجل وهم في حال الحياة، لأنه هو التواب الرحيم الذي يرحم عباده الخاطئين، وهو ما يشير إليه قوله في الآية التي قبلها: ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون(5).
الطابع العام للعقوبات الدينية:
وفي ضوء ذلك، فإننا نستبعد إجراء العقوبة القاسية في الأمر بقتل النفس بشكل مباشر، لا من جهة استبعاد العمل في نفسه في تعامل الله مع عباده في جرائمهم التي يستحقون عليها القتل، ولكن من جهة العفو الإلهي عنهم وقبول التوبة منهم ورجوعهم إلى الله واستمرار مسيرتهم مع موسى t في رحلته الطويلة، ما يدل على أن هذه القضية لم تأخذ مداها في العقاب الدنيوي، وقد يكون ذلك قرينةً قرآنيةً من خلال المنهج القرآني في إسقاط العقوبة عن الخاطىء بقبول توبته والعفو عنه، ما يجعل الأمر بقتل النفس وارداً بمعنى تجميد تأثيرها الفاعل في إثارة الغرائز الشريرة والأفعال القبيحة، تماماً كما لو كانت ميتةً في عالم الإحساس، ما يجعل التعبير وارداً على سبيل الكناية والاستعارة.
رابعاً: إنه لم يعهد في العقوبات الإلهية الدنيوية مثل هذه العقوبة التي تفرض على التائبين من الكفر والشرك أن يقتلوا أنفسهم، بل يكتفى منهم بإعلان الشهادتين والالتزام بالإسلام، وإذا قيل ـ جواباً عن ذلك ـ بأن بني إسرائيل قد ارتدّوا عن إيمانهم الذي أعلنوه لموسى t، فإن من الممكن الردّ على ذلك بأن القضية كانت فتنةً طارئةً خضعوا لتأثيراتها الساذجة، وقد عادوا عنها وطلبوا من الله المغفرة والرحمة، حتى لا يكونوا من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم من خلال غضب الله عليهم، ولكن الله عفا عنهم وتاب عليهم واستمروا في مسيرتهم مع موسى t في الخط الإيماني من حيث المبدأ، بالرغم من المشاكل التي أثاروها معه، ولذلك فإن اعتبار القتل بمعناه الموضوعي هو أمر مستبعد جداً، بلحاظ الجوانب التي أثرناها في هذا المجال، والله العالم بحقائق أحكامه وآياته. والحمد لله ربّ العالمين.
 














    الذين اعتدوا في السبت
    عقوبة المسخ
    الإدانة الإلهية
    وقفات تأمّل
    الإيمان بين الجوهر والمظهر


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
عوداً على بدء، نتحدث عن تجربة النبي موسى t، ونحاول استخلاص العبر منها...
الذين اعتدوا في السبت:
لقد تحدّث الله سبحانه عن الذين اعتدوا في السبت وتلاعبوا بأمر الله ونهيه، وابتعدوا به عن غايته، وحوّلوه إلى مسألة في الشكل لا تحمل في داخلها أي مضمون، كأنهم يمارسون السخرية من عقوبة الله لهم بإبطال تأثيرها عليهم، الأمر الذي يمثّل نوعاً من أنواع التحدي لإرادة الله، إذ يقول سبحانه: واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(1)، فكان عقاب الله لهم شديداً يكن للناس عهد به، لأنهم ارتكبوا خطيئتين:
الأولى: اللعب بأمر الله بإخراجه من المضمون إلى الشكل.
الثانية: التحدّي لله بما يشبه السخرية بإرادته، ما جعل المسألة ترتبط بالانحراف الكبير عن خط الإيمان، فكان نتيجة ذلك: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ(2)، فقد مسخهم الله وطردهم من رحمته، وأبعدهم عن كل مواقع الإنسانية والكرامة.
عقوبة المسخ:
وقد اختلف المفسرون حول هذا المسخ التحويلي؛ هل هو مسخٌ حقيقي، أو هو مسخ معنوي تمثيلي تشبيهي؟ ذهب المشهور منهم إلى الرأي الأول أخذاً بظاهر القرآن، لأن ظاهر القرآن هو صدور الإرادة الإلهية التكوينية بأن يكونوا قردةً بعد أن كانوا بشراً، وليس هناك ما يمنع من ذلك من خلال إرادته في خلقه، فكما خلق الله القردة، فإنه قد يحوّل بعض الناس إلى قردةٍ في وجودهم الخارجي، عقاباً لهم على ما فعلوه، ولا بد من الأخذ بالظواهر القرآنية في مضامينها المعنوية إذا لم تكن هناك قرينة لفظية أو عقلية تدل على خلاف ذلك ليحمل المعنى عليه.
وذهب مجاهد فيما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم إلى الرأي الثاني، فقال: إنه ما مسخت صورهم، ولكن مُسخت قلوبهم، فجعلت كقلوب القردة، فلا تقبل وعظاً ولا تعي زجراً. وقد مثّل الله حالهم بحال القردة كما مثّل بالحمار في قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا أي لم يعملوا بها كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً(1)، وذكر بعضهم أن الآية نظير قوله تعالى: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ(2). أي الشيطان.
وذهب الشيخ محمد عبده إلى أن هذا الرأي هو الرأي الأقرب، وقال ـ نقلاً عن المراغي في تفسيره ـ: ((والآية ليست نصاً في رأي الجمهور، ولم يبق إلا النقل، ولو صحّ لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة، لأنهم يعلمون بالمشاهدة أن الله لا يمنح كل عاصٍ فيخرجه عن نوع الإنسان، إذ ليس ذلك من سنّته في خلقه، وإنما العبرة الكبرى في العلم بأن من سنن الله في الذين خلوا من قبل، أن من يفسق عن أمره ويتنكب الصراط الذي شرّعه له، ينـزله عن مرتبة الإنسان ويلحقه بعجماوات الحيوان، وسنّة الله واحدة، فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية)).
وقال ابن كثير في تفسيره: ((والصحيح أن المسخ معنوي كما قال مجاهد، لا صوري كما قال غيره)).
وقال المراغي: ((إن الاتّعاظ بالمسألة للمتقين ـ كما جاء في الآية ـ لا يتمّ، ولا تكون عقوبةً للمتقدم والمتأخر، إلا إذا جرت على سنن الله المطردة في تهذيب النفوس وتربية الشعوب، فرأي مجاهد أحرى بالقبول، ولاسيما أنه ليس في الآية نصّ على كون المسخ في الصور والأجساد))(1).
وقال الفخر الرازي ـ في التفسير الكبير ـ : ((ولما ثبت بما قررنا جواز المسخ، أمكن إجراء الآية على ظاهرها، ولم يكن بنا حاجة إلى التأويل الذي ذكره مجاهد رحمه الله، وإن كان ما ذكره غير مستبعد جداً، لأن الإنسان إذا أصرّ على جهالته بعد ظهور الآيات وجلاء البينات، فقد يُقال في العرف الظاهر إنه حمار وقرد، وإذا كان هذا المجاز من المجازات الظاهرة المشهورة، لم يكن في المصير إليه محذور البتة))(2).
ونلاحظ في هذه القضية، أن هذه الخطيئة المتمثلة باللعب على طريقة تنفيذ التكليف الشرعي، ليست أكبر الخطايا الصادرة من بني إسرائيل، لأن عبادة العجل في مضمونها الرافض للتوحيد أكبر منها، باعتبارها تتصل بالأساس العميق للإيمان، بينما مثّلت هذه الخطيئة التزاماً بالطاعة من حيث الشكل، ولعباً بالطريقة التي استخدموها في مقام الامتثال، فلماذا لم يكن المسخ لعبادة العجل التي تمثل الخطيئة الكبرى؟ هذا إضافةً إلى التحدي الذي واجه به قوم موسى t نبيّهم، بأنّا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً، وهو ما يمثل الرفض لكل التعاليم التي كان قد قدّمها لهم لإثبات حقيقة الإيمان بشكل دقيق واسع، وكانت العقوبة هي الصاعقة المميتة التي أعقبتها الحياة والعفو الإلهي، وهذا أمرٌ يرتبط برفض الإيمان من حيث المبدأ في عدم الاستجابة لدعوة موسى t ولإرشاده وهدايته، ومع ذلك، لم تكن عقوبتهم بطريقة المسخ. وهكذا لا نجد في السنّة الإلهية في مواجهة هؤلاء الناس المعاندين تارةً، والمشاغبين تارةً أخرى، ما يوحي بعقوبة مماثلة.
وإننا لا نريد اعتبار هذه الملاحظة دليلاً على تأويل المسخ لإنسانيتهم بالمسخ الفكري والنفسي، ولكننا نحاول إثارة الاستبعاد لذلك على سبيل الاحتمال.
وربما تمتد الملاحظة إلى الجانب التعبيري في الآية فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ، فالله سبحانه لم يستخدم الإرادة التكوينية الصادرة منه بتحويلهم إلى قردة بقدرته الإعجازية، بل وجّه الخطاب إليهم بأن يكونوا في موقعهم النفسي والاجتماعي بمنزلة القردة، لأنهم لم يدركوا عمق المصلحة في عقوبة المنع من الصيد في يوم السبت، والتي تعني عدم حصولهم على السمك من حيث الأساس في ذلك اليوم، وليس من جهة خصوصية الزمن، كما أن قوله، خَاسِئِينَ يوحي بطردهم من رحمة الله وإبعادهم عن مواقع رضاه في حياتهم المستقبلية، تماماً كأية معصية تستوجب ذلك، وهو ما لا يتناسب ـ ظاهراً ـ مع إخراجهم من حدود الإنسانية إلى موقع القردة.
ثم إن المذكور في الروايات أنهم هلكوا بعد ثلاثة أيام، بحيث لم يعد لهم أي وجود في المجتمع، فكيف يكونون، في حال مسخهم قردةً، تذكرةً وعبرةً للقرى المحيطة بهم، بحيث يستفيد أهل هذه القرى من رؤيتهم لهؤلاء الذين كانوا بشراً مثلهم فتحوّلوا إلى قردة بفعل تمرّدهم على الله، أو كيف يكونون عبرةً للناس الذين يأتون من بعدها أو للمناطق التي تبتعد عنها؟ وكيف يكون مسخهم موعظةً للمتقين، على ما جاء به قوله تعالى: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لـمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ(1)؟ فإن الموعظة والعبرة لا تحصلان إلا إذا كان هناك استمرار لهؤلاء الناس المتحوّلين إلى قرود في داخل المجتمع، ليتعرف الناس إليهم، ويتذكروا أوضاعهم البشرية التي كانوا عليها، حتى يعتبروا بما يحدث لهم من العذاب الدنيوي، فيمنعهم ذلك من القيام بأعمالٍ خاطئةٍ مماثلة، ما يدفعهم إلى الانضباط في الخط المستقيم.
الإدانة الإلهية:
وربما نستفيد من الآية الأخرى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ(1)، فقد ذكر الفرّاء: تأويله: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت، فإنه يفيد بأن الجعل لهؤلاء على نسق واحد، بحيث إن الآية كانت تتحدث عن أناس كانوا موجودين وموصوفين بأنهم قردة وخنازير وعبدة الطاغوت في سلوكهم المنحرف عن خط الإيمان من خلال تنـزيلهم منـزلة القردة والخنازير، من دون أن يكون في الآية دلالة على عنوان المسخ، لأن الجعل لا ينحصر بذلك، بل يمكن أن يكون وارداً على سبيل بيان حال الشر المتمثلة في هؤلاء الناس الذين لعنهم الله وغضب عليهم حتى أصبحوا يشبهون هذه الحيوانات الخبيثة لدى المجتمع، ولذلك نرى البعض يواجه عدوّه في ذكر صفاته السيئة بكلمة يا قرد ويا خنـزير، ولا مانع من أن ينـزل القرآن بعض الكافرين منـزلة بعض الحيوانات المذمومة بطريقة المثل، كما في قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً(2). وقد يكون التنـزيل بالطريقة المذكورة في جعلهم كالقردة والخنازير.
إن منهجنا القرآني في التفسير هو الأخذ بظاهر القرآن فيما لم يدل دليل على خلافه من قرينةٍ كلامية أو عقلية، ولكن ربما توحي بعض الاستبعادات الفكرية الاحتمالية بما يشبه القرينة على التصرف في الكلمة بإرادة خلاف الظاهر، والله العالم.
وقفات تأمّل:
ويستوقف نظرنا في هذه الآيات عدة أمور:
الأول: إن إنزال الكتاب على أيّة أمةٍ من الأمم يعتبر إلزاماً لها به من قِبَل الله كميثاق بينه وبين عباده، فيطالبهم بالالتزام به والوفاء بمضمونه كأي عهد شخصي يُلزم به الإنسان نفسه تجاه الآخرين.
أما عظمة هذا الميثاق، فهي أنه لا يختص بحال دون أخرى، بل يشمل كل مناحي حياة الإنسان في كل منطلقاتها وتطلعاتها، لأن الكتاب الإلهي ينظّم حياته الفكرية والعملية بمفاهيمه وتشريعاته، ولهذا يعتبر الإخلال بأي حكمٍ من الأحكام إخلالاً بالميثاق، وربما يرشد إلى ذلك تعقيبه بذكر حادثة الاعتداء على ميثاق الله في قصة السبت.
الثاني: إن الأمة مخاطَبةٌ بأن تأخذ ما آتاها الله من الكتاب بقوة، فلا يستسلم الإنسان للضعف الذاتي الذي تفرضه الشهوات عليه عندما تضغط عليه غرائزه، ليترك الالتزام بمبادئه ومفاهيمه أمامها، ولا يضعف أمام عوامل الضغط الخارجية التي تفرض نفسها على مصالحه لتهدّده بالإساءة إلى هذه المصالح إذا حاول التمرد عليها لمصلحة إيمانه، ما يجعل من قضية الموقف القوي ضدّ هذه الشهوات قضيةً يفرضها الوفاء بالميثاق بين الله وعباده.
وقد نستوحي من ذلك، ضرورة أن يعمل الإنسان على تحقيق القوة لوحي الله المنـزَل في الحياة، من خلال العمل على الدعوة إليه لتحقيق امتداده في أكبر مساحةٍ بشرية، لأن إيجاد القوة البشرية للدعوة إلى الله وتنفيذ أحكام شريعته، يمنح الموقف قوةً في داخل الإنسان، عندما يشعر بالتماسك والتوازن أمام الضغوط المتنوعة من خلال شعوره الذاتي بالقوة المستمدّة من الجو العام، كما يعطيه قوةً في ساحة الصراع، حين يقف المؤمنون بقوّتهم الإيمانية ليُرهبوا أعداء الله ويدعموا المستضعفين من أوليائه.
وربما يتمثل ذلك بالدعوة إلى أن يكون الإسلام ديناً منفتحاً على الحياة في حاجات الإنسان ومواقع نموّه ووسائل تطوّره، في حركة التقدم المادي والمعنوي على مستوى القاعدة الفكرية والتجربة الإنسانية والسلوك العملي، ليواجه الحضارات الأخرى القائمة على الفلسفة المادية التي لا تنفتح على الله وعلى عالم الغيب، والتي تفرض عليه صراعاً يجعل الواقع الإسلامي يعاني الكثير من التحديات الكبرى التي تحارب حركته في الانطلاق التشريعي في حياة الإنسان بشكل شامل، نتيجة ما يمارسه الغرب المستكبر في وسائله المتنوعة على الصعيد الأمني والسياسي والاقتصادي والثقافي، ومن خلال الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين التي تحارب خطة تطبيق الشريعة الإسلامية على مستوى الحكم والقانون، الأمر الذي جعل الخط الإسلامي الواقعي ينحسر عن الحياة العامة حتى لدى المسلمين، ليستبدلوه بالخط العلماني الذي يعزل الدين عن الحياة في كل أبعادها الواقعية على الصعيدين القانوني والسياسي.
الإيمان بين الجوهر والمظهر:
الثالث: إن الإيمان يفرض على الإنسان مواجهة الأعمال الواجبة والمحرّمة في مقام الطاعة بعمقها الفكري والروحي والشعوري والعملي، لا بشكلياتها الساذجة، ما يجعل من محاولة تطويق الفكرة بالشكليات التي تُعطي للطاعة معناها الحرفي على حساب أهدافها الواقعية، قضيةً تشبه اللعب على الفكرة باسم الفكرة، ولهذا اعتبر الله عملهم في السبت اعتداءً على الميثاق، مع أنهم لم يخالفوا حرفيّة الأمر، فقد كان المطلوب منهم أن لا يمارسوا الصيد في يوم السبت، وقد فعلوا ذلك، ولكن بعد أن طوّقوه بإيجاد الطريقة التي تجعلهم يحصلون على نتيجة الصيد بشكلٍ غير مباشر. وعلى هذا الأساس، كانت عقوبتهم قاسيةً في الدنيا والآخرة، لأن هذه الطريقة التي تفرّغ الطاعة من روحيتها، تتحوّل إلى ما يشبه السخرية والاستهزاء بالتشريع وصاحبه، للإيحاء بقدرة المكلّف على أن يتجاوز أهداف التشريع بالأسلوب الذي لا يستطيع المشرِّع أن يسجّل عليه نقطة مخالفة قانونية.
ولعلّ من هذا القبيل، ما اجتهد فيه الفقهاء بما يسمى (الحيل الشرعية) التي تجعل من التشريع حالةً شكليةً قد تتجاوز المضمون الذي يمثّل المصلحة أو المفسدة التي انطلقت منها الشريعة، على أساس اعتبار ذلك منسجماً مع العنوان الحرفي للنصّ التشريعي، الأمر الذي يجعل المكلَّف يحصل على نتائج الحرام من دون الخضوع للتحريم، وقد نحتاج إلى تحريك الاجتهاد في عالم المصالح والمفاسد والملاكات الواقعية، على أساس مخالفة الكثير من ذلك للقرآن الذي يفرض الرفض لأي نص يختلف مضمونه الواقعي مع المفهوم القرآني. والحمد لله رب العالمين.

 

















    مطالب تعجيزية
    المسؤولية الدينية
    صدمة الوعي

بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
لا نزال نتابع الحديث عن تجربة النبي موسى t، ونتناول اليوم عدة قضايا أُثيرت حول بني إسرائيل في ما انحرفوا به عن الخط المستقيم:
مطالب تعجيزية:
الأولى: التحدي الكبير الذي واجهه موسى t من قومه فيما يتعلّق بمسألة الإيمان بالله وبرسالته في مضمونها الفكري في حركة العقيدة التوحيدية، إذ رفضوا الإيمان بالله إلا بالطريقة التعجيزية المستحيلة التي لا يملك أن يحققها موسى t لهم، لأن الأمر ليس بيده، أو لأن القضية لا يمكن أن تتحقق بحسب طبيعتها، كما حدثنا الله عن ذلك بقوله: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا موسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، أي علانيةً، بحيث يتمثل لنا بجسده المادي، فيبرز للناس في مجتمعنا بصورته الحقيقية، ليخبرنا بأنك نبي مبعوث من قبله، حتى نصدقك فيما تخبرنا به من وحي الله الذي تكلفنا بالخضوع له والعمل بما يتضمنه، فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ(1)، عقاباً لكم على هذا التحدي الذي أطلقتموه من دون أساسٍ عقليّ له، ممّا لا بد للإنسان العاقل من أن يرجع إليه ويدرك من خلاله الحق والباطل والخير والشر، بل كانت القضية لديكم هي طلب المستحيل ممّا تعرفون أن النبي موسى t عاجزٌ عنه، لأن قدرته تتحدد فيما يملكه من الأمور الواقعة في نطاق خطته.
ولو كان سؤالكم يتحرك في خط المعرفة حول العلاقة بين الإيمان ورؤية الله، لكان من الممكن أن يكون ردّ الفعل تجاهكم مختلفاً من خلال اللطف الإلهي الذي يعلّم الإنسان ما لا يعلم، ولكان الله عرّفكم أنّه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ(1)، وأنّه لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ(2). ولكنّ السؤال كان منطلقاً من حال التمرّد العنيف، ومن رغبتكم في الانتقال اللاعب العابث من اقتراح إلى اقتراح، لأنّكم لم تكونوا تريدون الوقوف عند الجواب المعرفي الذي يصل بكم إلى النتيجة الإيجابية في معرفة الحقيقة، ولذلك أرسل الله عليكم الصاعقة المدمّرة، فأماتكم، لتعرفوا الله وتؤمنوا به من خلال سيطرته عليكم، لأنه مالك الحياة والموت، ولكن لم يكن هذا الموت أبدياً في امتداده إلى نهاية وجودكم، بل كان موتاً مؤقتاً، ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(3)، فقد بعثهم الله من بعد ذلك ليعرفوا حقيقة الموت والبعث، وليدركوا عظمة هذه النعمة في الحياة الجديدة التي أنعم الله بها عليهم في وجودهم الحاضر.
وقد نستوحي من قوله تعالى: لعلّكم تشكرون، أن المقصود هو الشكر العقيدي الذي يعيدهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وتصديق نبيّهم الذي عرّفهم أسس الإيمان من خلال أصول المعرفة الحقّة في حركته التبليغية الثقافية التي أغلقوا آذانهم عنها، وأبعدوا عقولهم عن فهمها، فلم يفكروا في مضمونها مما يقتنع به صاحب العقل الواسع العميق الذي يحمل مسؤولية الوصول إلى الحقيقة الناصعة.
وقد تحدّث الله عن هذه المقولة الإسرائيلية الواردة في موقع المواجهة للنبي موسى t ورفضهم الإيمان به إلا بشرط مستحيل، وذلك في قوله تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً(1).
وربما نستفيد من هذه الآية، أن هذا التحدي بالربط بين الإيمان بموسى t ورؤية الله عياناً بأبصارهم في عالم الحسّ، كان قبل عبادتهم العجل التي أصرّوا عليها من بعد ما جاءتهم البينات، ولكن الله أخذهم بالصاعقة، فماتوا على أثرها، ثم عفا الله عنهم، وانتصر موسى t بإقامة الحجة عليهم وردّ على تحدّيهم العدواني، وهذا ما يدل على ذهنيتهم القلقة التي كانت لا تستقر على قاعدة ولا تسير إلى هدف معقول، لأنهم كانوا ينتقلون من حالٍ منحرفةٍ إلى حال مماثلة، الأمر الذي جعل موسى t يعيش التعب الحركي في حياته معهم وعلاقته بهم ومواجهته لأوضاعهم المختلفة.
 
المسؤولية الدينية:
الثانية: لقد أخذ الله ميثاقهم بعد إنزال التوراة، وطلب منهم أن يتحملوا مسؤولية الوحي الذي أنزله عليهم مما أوحى به إلى موسى t، وأن يأخذوه بقوة في الالتزام به والدعوة إليه، وأن يتذكروا ما فيه فلا ينسوه مهما كانت الأوضاع، لأن ذلك هو السبيل للحصول على ملكة التقوى التي تتيح لهم الانضباط أمام الله فيما يأمرهم به أو ينهاهم عنه، ولكنهم أعرضوا عن ذلك، فلم يلتزموا بالميثاق، وربما كان هذا الخط المنحرف معرّضاً للامتداد في حياتهم، فيؤدي بهم إلى الخسران في الدنيا والآخرة، ولكن فضل الله عليهم ورحمته بهم، أنقذهم في آخر لحظة، فرجعوا إلى الله وتابوا إليه.
الثالثة: أنّه يذكّرهم من جديد بالقوم الذين اعتدوا في قصة السبت التي ابتلاهم الله بها كأسلوبٍ من أساليب الاختبار لطاعتهم، فحاولوا أن يتلاعبوا بذلك، بأن يحبسوا السمك يوم السبت ليجتمع في محلٍّ واحد، حتى يصطادوه في يوم آخر، ليحققوا بذلك حرفيّة الطاعة مع نتائج روحية المعصية، فكان من نتيجة ذلك أن مسخهم الله قردةً صاغرين، ليكون ذلك عقوبةً وعبرةً لبقية المجتمعات المعاصرة لهم التي تنظر إليهم فترتدع عن السير فيما ساروا فيه، ولمن خلفها من الأمم التي تأتي بعدهم، وموعظةً للمتقين الذين يأخذون الدرس والعبرة من ذلك كله، وقد جاء في الحديث عن الإمام محمد الباقرt وولده الإمام جعفر الصادقt، أنهما قالا في قوله تعالى: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لـمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ(1)، قال: لما معها ينظر إليها من أهل القرى، ولما خلفها قال: نحن، ولنا فيها موعظة.
وروى العياشي في تفسيره، أنّ الإمام جعفر الصادقt سُئِل عن قول الله عز وجل: خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ(2)، أقوة في الأبدان أم قوة في القلوب؟ فقال: (فيهما جميعاً). أما طبيعة هذه القوة، فهي العزيمة والجدّ واليقين الذي لا شكّ فيه. أما الطور، فهو الجبل الذي رفعه الله فوقهم لإرهابهم بعظمة القدرة، كما ورد في تفسير الميزان.
وهذا ما جاء في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ في توحيد الله، والإحسان إلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين، والقول الصالح، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، واجتناب سفك الدماء، والانفتاح على الأنبياء جميعاً واتّباعهم والالتزام بكتبهم وبرسالاتهم، والابتعاد عن إخراج الناس من ديارهم، والعمل في سبيل الله، وغير ذلك من الأمور التي جاءت بها التوراة في خط العقيدة والشريعة، وانطلقت بها كتب الله في الماضي والحاضر والمستقبل.
وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ(3). أي الجبل الذي انتصب فوقكم، حتى خُيِّل إليكم أنه سوف يقع فوق رؤوسكم، تخويفاً من الله وإرهاباً لكم، لتبتعدوا عن التمرد الذي تحركتم فيه في أجواء العناد بعد قيام الحجة عليكم، ما جعل الموقف بحاجةٍ إلى معجزةٍ خارقة تقف بكم في خط الاستقامة لتؤمنوا بالتوراة وتلتزموا بها ولا تنقضوا الميثاق بعد أن كنتم سائرين في هذا الاتجاه.
وفي ضوء ذلك، نعرف أن المسألة لم تكن إكراهاً على العقيدة ـ كما أثاره البعض ـ لتكون قضية الإيمان بعيدةً عن دائرة الحرية الفكرية والاختيار الإنساني الإرادي مما أكده القرآن وجعله في مستوى القاعدة في حركة الدعوة، وذلك قوله تعالى: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ(1)، وقوله تعالى: أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ(2). والوجه في ذلك، أن العقيدة كانت ثابتةً بأدلتها وبراهينها التي قدّمها موسى t إليهم، منذ بداية صراعه مع فرعون، إلى نهاية تلك المرحلة وبداية مرحلة الدخول في تفاصيل العقيدة والشريعة والميثاق الذي يمثل القاعدة الفكرية للعلاقة الإيمانية التوحيدية بالله، التي يتمثل فيها الالتزام النفسي والحركي للإنسان المؤمن مما كان موسى t يحدثهم عنه ويدعوهم إليه، لأن مسيرته معهم وقيادته لهم لم تكن حالاً فارغةً من التثقيف والتوعية والتوجيه، باعتبار أن مسؤوليته الرسالية والإرشاد في الهداية، كانت إزاء هذا المجتمع الذي يملك التجربة الواقعية في الدخول إلى عقله، لأنه لم ينفتح في رسالته على مجتمع آخر.
 
صدمة الوعي:
ولذلك، فإنه قد يكون من الطبيعي أن يستوعبوا تعاليمه ويتفهموها بعقولهم، الأمر الذي أدى إلى قيام الحجة عليهم، مما لم يكونوا يملكون معه تبرير انحرافهم عن خط الإيمان بالحاجة إلى المعرفة التفصيلية أو الحوار حوله لحلّ الإشكالات المحيطة به. ولعلّ هذا هو الذي جعل الحاجة ماسّةً إلى صدمةٍ قوية تعيدهم إلى وعي النتائج السلبية المتمثلة بموقفهم، وتبعدهم عن حال التمرّد التي توحي بالتحدي العدواني الذي يشبه السلوك الطفولي في مواجهة موسى t في دعوته الرسالية، تماماً كما هم الأطفال الذين يرشدهم آباؤهم إلى ما فيه صلاحهم، فيدركون ذلك، ولكنهم يتهربون من الالتزام بها انطلاقاً من عبث الطفولة الذي يحرك فيهم نزعة اللعب اللاهي والفوضى الحركية، فينطلق الأسلوب القاسي لإشعارهم بأن هناك خطراً يتهددهم إذا أصرّوا على موقف العناد والهروب من المسؤولية بما لا يملكون مواجهته ويحاذرون الوقوع فيه، وربما كان هذا هو إيحاء هذه الفقرة من هذه الآية ومن الآية الواردة في سورة الأعراف في قوله تعالى: وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنّوا أنّه واقعٌ بهم(1)، بحيث خُيِّل إليهم بأن هناك خطراً مميتاً ساحقاً من وقوع الجبل عليهم، انتقاماً من هروبهم من الالتزام بما كلفهم الله به وحمّلهم مسؤولية الوقوف عنده.
وفي ضوء ذلك، فإن التهديد لم يكن لإجبارهم على الإيمان وإكراههم على السير في نهجه التوحيدي، بحيث كان يُراد لهم أن يؤمنوا من خلال قوة الضغط التهديدي، بل كان من أجل إعادتهم إلى خط التوازن مع الأفكار التي أدخلها موسى t في عقولهم وزرعها في قلوبهم، ليكون ذلك وسيلةً من وسائل مساعدتهم على الانضباط والعودة إلى التفكير الواعي فيما يأخذون به ويلتزمونه ويتحملون مهمّة الدعوة إليه، باعتبار أنهم الفئة التي تمثل المجتمع الأول للرسول الحامل للرسالة، على هدى ما دعاهم الله إليه في قوله تعالى: خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ، من خلال الالتزام القوي الذي تتحركون به في امتثالكم لتعاليمه، والإرادة النفسية التي تنفتحون من خلالها على مسؤولياتكم الرسالية التي حمّلكم الله أمانتها التي تؤدونها للناس، لتكون عقلاً في عقولكم، ورحمةً في مشاعركم، ونبضة حبّ في قلوبكم، وحركة خير في حياتكم، وحكماً بالعدل في أحكامكم، لتنتقل من الجيل الذي تعاصرونه إلى الأجيال الأخرى، كقاعدة للتفكير، وخطٍّ للحركة، ومنطلق للسير، من أجل بناء المستقبل الإنساني عليها، في حركةٍ تصاعدية للنموّ والتطوّر.
وهذا هو الذي يفرض عليكم تنمية قوّتكم من الداخل، في عزيمة الإرادة وصلابتها، ومن الخارج، في عناصر الحركة في خط الصراع مع التيارات الأخرى المضادة للرسالة، الأمر الذي قد يحتاج إلى المزيد من الطاقات المتحركة في صعيد الواقع الذي تخضعون لعناصره فيما يحيط بكم من تهاويله وتحدياته وأوضاعه الصعبة.
وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ، ليكون أساساً لثقافتكم الذاتية، من المفاهيم العقيدية والأخلاقية والشرائع القانونية في التزاماتكم الدينية الحركية، واحفظوا ذلك كله في وعيكم المعرفي والروحي، ولا تنسوه من خلال الاستغراق في حالات الغفلة، وتدبروا معانيه بتأمل العمق الذي يختزنه في داخله، ليكون ذلك كله حضوراً رسالياً لكم في القاعدة التي تنطلق منها تفاصيل أفكاركم، فتردّكم إلى الصواب عند الوقوع في الخطأ، وإلى الاستقامة عند الانحراف، لعلّكم تتقون، فهذا ما يفتح لكم أبواب المعرفة لله، ومواقع القرب منه، ويعرّفكم النتائج السلبية للأخذ بأسباب المعصية، ويقودكم إلى النتائج الإيجابية في السير في خط الطاعة، من خلال الالتزام العميق بتوحيد الله في العقيدة والطاعة والعبادة، فلا شريك له في الألوهية، ولا طاعة لغيره ولا معبود سواه.
وهذا هو سرّ التقوى في خط الاستقامة التي تبدأ من الله وتنتهي إليه، خوفاً من عقابه، ورجاءً لثوابه، وهذا هو الذي أراده الله منكم من أجل صلاحكم ونجاحكم في قضية المصير في الدنيا والآخرة، ولكنكم ابتعدتم عن الأخذ به ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ، ونبذتم العهد وراء ظهوركم، وأعرضتم عن كل التزاماته الخيّرة ومعطياته الصالحة، ولم تؤمنوا بالكتاب كله، طمعاً في العاجل، وغفلةً عن الآجل فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بالتوفيق للتوبة من خلال تهيئة الظروف الملائمة للوعي الروحي الذي جعلكم تعيشون الندم العميق على ما أسلفتموه من الانحراف في الخطايا، فواجهتم الإحساس بالمسؤولية من جديد، من خلال التذكر لما ينتظركم من الخسران في النتائج السيئة لأعمالكم، فرجعتم إلى الله وانفتحتم على خط الاستقامة، فتاب عليكم وعفا عنكم، رحمةً منه للخاطئين المذنبين، ولولا ذلك لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ(1). الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وذلك هو الخسران المبين. والحمد لله رب العالمين.
 














    مشروع التحرير
    حركة إزعاج الرسالة
    مرارات الصالحين
    الإعجاز الرباني
    انطباعات حول الموقف


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
وكما بدأنا، نعود لنواصل الحديث عن التجربة النبوية للنبي موسى t، فلقد أرسل الله موسى t برسالته إلى الناس كافةً، وكان مولوداً من عائلة مستعبدة مضطهدة خاضعة لفرعون وقومه، مسيّرة لإرادتهم، خادمة لمصالحهم، فلم يكونوا يملكون أي موقع للحرية، ولا أي منطلقٍ للاستقلال، وقد انتهى بهم الأمر أن يذبح الذكور من أبنائهم، ويبقي الإناث من بناتهم، ليستخدمهن للقيام بحاجته وحاجات قومه، ولولا أن الله أفاض عليه من لطفه، فقدّر له أن يتربّى في أحضان أسرة فرعون ورعاية امرأته المؤمنة، لكان ذبح كما ذُبح أبناء قومه...
مشروع التحرير:
وجاءته الرسالة فيما يشبه المفاجأة، وكان برنامجها أن يهدي فرعون وقومه وجماهيره، وأن يأخذ معه بني إسرائيل في عملية تحريرٍ لهم من الاضطهاد والاستعباد، في مهمّة صعبة ثقيلة، ولم تكن رسالته مقتصرةً على ذلك ومحصورة في قومه تحريراً وهدايةً وإرشاداً، بل كانت شاملةً للنّاس كافةً، فهو من الأنبياء أولي العزم، وقد كان من أوائل الرسل الذين خصّهم الله بكتاب منفتح على كل ما يحتاجه الناس في شؤون العقيدة والحياة وحركة العلاقات الإنسانية والمعاملات الاقتصادية والاجتماعية.
وكان من قيمة هذا الكتاب، وهو التوراة، أنّه لم يكن مقتصراً في الالتزام بشريعته والأخذ بتعاليمه، والانفتاح على مفاهيمه، على بني إسرائيل فقط، بل كان الكتاب الذي ينفتح على الهدى الذي يهدي الناس جميعاً إلى الحق، ويقودهم إلى الصراط المستقيم، وينير لهم الآفاق المظلمة في الحياة، ويمتد إلى مسؤوليات الأنبياء الذين يأتون من بعد موسى t، ويصدّق الكتب التي ينـزلها الله بعده، فيكون شريعةً للأنبياء من بعده كما هو شريعته في مرحلته الرسالية، وهذا ما جاء به القرآن الكريم في قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(1)، وقوله تعالى:  ثُمَّ آتَيْنَا موسى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(2).
وقد أراد الله لموسى t أن يبدأ رسالته بتثقيف بني إسرائيل بالكتاب الذي أنزله عليه ليكون هدًى لهم، وليكون الإرث الذي يتوارثونه في امتداد أجيالهم، والذكرى التي تنقذهم من عوارض الغفلة التي تحجبهم عن رؤية الحق ووعي الإيمان...
وهكذا بدأ موسى t تجربته الرائدة الصعبة التي واجه بها الواقع المنحرف في بداية حركية الكتاب عند مجيئه به وتقديمه إليهم، حيث كانوا قد انحرفوا عن الخط المستقيم في الإيمان التوحيدي بعبادتهم العجل، الأمر الذي هدّم كل ما بناه موسى t في تأكيد شخصيتهم المتوازنة، وفي تربيته لهم منذ صراعه مع فرعون وإهلاك الله له ولقومه، ومسيرتهم معه التي لا بدّ من أن يكون شغلها بالوعظ والإصلاح والإرشاد، وخصوصاً عندما طلبوا منه أن يصنع لهم آلهةً من الأوثان، تشبّهاً بما عند الوثنيين، فكان ردّه عليهم: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(1)، ولا بد لي من أن أخرجكم من هذا الجهل المظلم إلى نور العلم، وهذا ما جعله ينشغل بالتخلف الذي كان لا يزال يسيطر على عقولهم وأذهانهم، ويحرّك فيهم حالة التمرّد التي تشاغب وتزعج وتحاصر موسى t بالأسئلة والمطالب البدائية التي لا ترتكز على قاعدةٍ من الحاجة إلى المعرفة التي تثقِّف العقول وتطلب الأمور النافعة المفيدة.
حركة إزعاج الرسالة:
وقد أدّى هذا الوضع إلى حصر النشاط الرسالي للنبي موسى t بقومه، فلم يذكر التاريخ في القرآن وفي غيره، أنه انطلق في الدعوة إلى ساحات واسعة وجماعات مختلفة من أقوامٍ آخرين ممن كانوا يعبدون الأصنام ويخضعون للطغاة، ولم يدخل في التجربة الرسالية لهداية الناس الذين كانوا يحيطون بمصر ويسكنون خارجها، بل كان مشغولاً بفرعون وقومه ثم ببني إسرائيل، الأمر الذي جعله نبياً محدوداً في نشاطه، وخصوصاً أن الصورة القرآنية لهؤلاء الناس من قومه، توحي بالسذاجة الفكرية، وبالتصور البدائي، أو بالرغبة في إشغال نبيهم بالأسئلة والمطالب التي لا حاجة لهم بها أو بمعرفتها، بل كانت المسألة هي الرغبة في إزعاجه وإشغاله بالتفاهات.
وهذا ما نستوحيه من أسلوبهم الترديدي فيما كانوا يطرحونه من أسئلة كما في قصة البقرة التي كانت قصةً مثيرةً من قصص بني إسرائيل، وذلك من جهتين: فهي من جهةٍ تشتمل على جانب من الإعجاز في إحياء الله الميت القتيل الذي اختلف القوم في قاتله، ومن جهةٍ ثانيةٍ تشتمل على صورة مجتمع بني إسرائيل من الداخل، إذ توضح لنا الطريقة التي يواجه بها أفراده الأوامر الصادرة من موسى t إليهم، ما يوحي بطبيعة المشاغبة التي تجعلهم يواجهون القضايا من موقع التعقيد، لا من موقع البساطة، حيث كانوا يحوّلون مهمة النبي في قيادته الفكرية والعملية إلى مهمة صعبة، لأن هناك فرقاً في حركة القيادة، بين قيادة تتحرك في جمهور يطيع الأوامر كما ترِد في صيغة الأمر، وبين قيادةٍ يقف جمهورها ليسأل عن كل صغيرةٍ أو كبيرةٍ من دون أن يكون ذلك داخلاً في حساب مسؤوليته، إذ إن ذلك يعطل الحركة، وينذر بالهزيمة في أصعب المواقف وأكثرها تعقيداً، عندما تكون بحاجة إلى الحسم والتحرك السريع.
ولا بد لنا من وقفةٍ أمام هذا الحوار بين موسى t وقومه، لنستجلي بعض خصائصه الموضوعية، فقد طلب منهم ـ باسم الله ـ أن يذبحوا بقرةً، فاستغربوا الطلب، لأنهم لم يفهموا علاقته بالقضية المتنازع عليها، أو هكذا حاولوا أن يصوّروا الموضوع، فاعتبروا ذلك سخرية واستهزاءً بهم من موسى t، فدلّلوا ـ بذلك ـ على أنهم لا يعرفون مقام النبوة، ولا يحترمون شخصية النبي موسى t بأبعادها الروحية التي تمنعه من أن يوجّه إليهم طلباً باسم الله على سبيل العبث والسخرية بهم، فإن ذلك يُعتبر إساءةً إلى الله باستخدام اسمه في هذا المقام وبالكذب عليه، لأنه يخبرهم بأن الله يأمرهم بذلك من دون أساس ثابت.
وهذا ما حدثنا الله عنه: وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً أية بقرة، فإنه لم يحدد لهم شكلها ولونها وحركتها وعملها قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً، لأن مثل هذا الأمر لا يخضع لأية مناسبة تتصل بحياتنا في أوضاعنا العامة والخاصة، فليس المورد مورد قربانٍ نقدّمه إلى الله في مناسبات القرابين لنعتبرها قرباناً له، وليس المقام مقام دعوةٍ للإطعام لنقدّم لحمها للآكلين من الفقراء، وليس هناك شيء آخر يدخل في دائرة التصور الواقعي المعقول، وليس لها أية علاقةٍ بالمسألة التي وقع الخلاف فيها في تحديد القاتل.
مرارات الصالحين:
وكان جواب موسى t زاخراً بالمرارة بسبب ردود قومه السيّئة عليه: قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ(1)، فقد استعاذ بالله أن يكون من فئة الجاهلين الذين يتحدثون في الأمور من دون علم أو معرفة، لأن مثل هذا التصرف يجعله في مستوى الإنسان الجاهل الذي لا ينطق بالحكمة، ولا يعرف كيف يتصرف وأين يضع كلماته، ولا يعقل مركز النبوّة ومنطلقاتها المعرفية، كما أنه لا يمكن أن يحدِّثهم عن الله بما لم يوحِ به إليه ولم ينـزله عليه، ومما لم يأمرهم به، لأن ذلك يُعتبر خيانةً من الرسول لرسالته وكذباً على الله، وكيف يمكن لموسى t أن يسخر بالناس، وهو النبي الذي يدعوهم إلى الأخذ بأسباب الحكمة وخطوط التعقّل، وقد جاء لهدايتهم وربطهم بالجانب الجدي في مواقع المسؤولية في الحياة، ولاسيما إذا كانت المسألة مرتبطةً بالعمل الذي قد يكلفهم الكثير من الجهد والمال والتعقيدات الاجتماعية، وخصوصاً أن هناك عمقاً للموقف في سرّ الارتباط بالمعجزة الإلهية؟!
وعادوا من جديد إلى المشاغبة، ولكن من موقع اتهامه بأنه يحمل أمراً مبهماً لا وضوح فيه، فسألوه عن طبيعة البقرة، وقد كان بإمكانهم أن يأخذوا بإطلاق الكلمة في مقام البيان ـ كما يقول الأصوليون ـ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لنَا مَا هِيَ، وبدأ الموقف يتجه اتجاهاً آخر يشبه العقوبة في مواجهة التحدي بمثله، فتحوّل الجواب إلى نوعٍ من التضييق عليهم بفرض قيود لم تكن داخلةً في حساب التشريع في ذاته.
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ أي ليست هرمةً وَلاَ بِكْرٌ أي ليست صغيرةً عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ أي وسط بين ذلك فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ(1)، واستجيبوا لهذا الأمر الإلهي في حدوده الجديدة، ما يعني أن القضية لا تحتاج إلى سؤالٍ جديد، فبإمكانهم أن يكتفوا بما ذُكر، لأنه لم يذكر لهم زيادةً في التفاصيل، وأن يسكتوا عما سكت الله عنه، لأن الله لا يُحاسب العباد إلا على ما بيّنه لهم، فلا عقاب بلا بيان، ولكنهم لم يكتفوا بذلك، لأنهم لم يكونوا بصدد الاستزادة من المعرفة، بل كانوا مستمرين في المشاغبة وإزعاج موسى t، فعادوا يثيرون كل ما يتصورونه من خصائص البقر مما يمكن أن يقع مورداً للسؤال، قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لنَا مَا لَوْنُهَا، لأن ألوان البقر تتنوع وتتعدد، فهل يفرض علينا لوناً معيّناً لنلتزم به، لأنك لم تحدد لنا ذلك؟
وجاء الجواب الثاني ليحدّد أكثر ويفرض قيوداً جديدة ردّاً على هذا الفضول الذي لا معنى له قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ(2)، وعاد السؤال من جديد، فهم لا يعرفون كيف يحصلون عليها، لأن أنواع البقر تتشابه، فقد لا يملكون الحصول على المطلوب المحدّد منها، فطلبوا الصفات التي يمكن أن يجدوها بسهولة على الطبيعة قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ في خصائصها وصفاتها الواضحة التي تجعلها أكثر وضوحاً إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا، وكأنهم شعروا بأنهم قد ذهبوا بعيداً في هذا المجال، واستنفدوا كل الأسئلة المثارة حول هذا الموضوع، وابتعدوا عن الخط المستقيم في هذا الإلحاح الفضولي الذي لا يتناسب مع موقفهم من النبي، كما لا ينسجم مع طبيعة المسؤولية، فوعدوه بأنهم سيسلكون طريق الهدى في نهاية المطاف وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ(1). بالهدى الذي ترشدنا إليه في حدود مسؤولياتنا المتصلة بالامتثال لأمر الله، والانقياد لأوامره ونواهيه.
وجاء الجواب أكثر تحديداً وتضييقاً وتقييداً قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ لم يذللها العمل بإثارة الأرض بأظلافها وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ لا يستقى عليها الماء للزرع مُسَلَّمَةٌ من العيوب لاَّ شِيَةَ فِيهَا لا علامات فيها تخالف لون جلدها. قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ، فإن هذه الأوصاف المتعددة المتنوعة تضعنا في موقع الوضوح الذي لا مجال فيه للحيرة والاشتباه، ولم يملكوا سؤالاً جديداً، فَذَبَحُوهَا، لأنهم لم يجدوا حجةً للامتناع وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ(2)، لأنهم لا يعيشون في أنفسهم روح الطاعة والانقياد.
الإعجاز الرباني:
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ولم يتبيّن لكم القاتل فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا أي اختلفتم، فكان التوجيه الإلهي لموسى t ـ بعد أن سألتموه ـ لإظهار الحق في القضية المعقّدة التي كادت أن تخلق مشاكل صعبة مدمّرة، أن تذبحوا بقرةً ليظهر الحق من خلال ذلك في نهاية المطاف، وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(3). من الحقيقة الخفية المعروفة لديكم في الباطن، الغامضة في الظاهر، نتيجة كتمانكم معلوماتكم، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا أي اضربوا القتيل ببعض البقرة ليحيا فيحدّثكم عن قاتله ويرجع بعد ذلك ميتاً، فيكون ذبح البقرة قرباناً يقدّمونه إلى الله ليستجيب لهم دعاءهم بأن يكشف لهم سرّ القاتل، ولتُحلّ مشكلتهم الاجتماعية بذلك، حتى لا يتبادلوا الاتهامات التي تثير الخلاف والشحناء، وربما تؤدي إلى القتال وسفك الدماء، وليكون ذلك تقليداً دينياً لديهم في تقديم القربان إلى الله في كل مشكلةٍ يطلبون حلّها، وفي كل سرٍّ يتطلعون إلى معرفته، وليتأكّد لهم ـ من خلال ذلك ـ أنّ هناك حياةً بعد الموت، من خلال التجربة الحسية التي تركّز المبدأ في حياتهم، حتى يزداد إيمانهم بذلك.
كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى كما أحيا هذا الميّت وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ودلائل قدرته، كما في هذه الحادثة التي تتمثل فيها معجزة إحياء الميت لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(1). وتحركون عقولكم في تخطيط المنهاج الفكري العقيدي في قضية الإيمان باليوم الآخر، على أساس المقارنة بين عملية الإحياء التي هي دليل على القدرة في عملية البعث، وبين التجربة الحيّة الماثلة أمامكم التي تكون دليلاً على طبيعة التجربة الكبرى التي جاءت بها النبوات في قضية يوم القيامة.
وهذا تأكيدٌ لدور العقل في مسألة العقيدة، والذي نستطيع أن نأخذ من حركته في القضايا الفكرية، الأساس القوي الذي يركز الفكرة على قاعدة ثابتة لا تهتز تحت تأثير الأهواء والعواصف والحالات الطارئة.
انطباعات حول الموقف:
ومن وحي هذه الآيات، يمكن لنا أن نخرج من هذا الموقف القلق لبني إسرائيل بانطباعين:
الأول: أنهم كانوا يبحثون عن الحجة التي تبرر لهم الامتناع عن أداء الأوامر وامتثالها، وذلك بإثارة الفضول أمام النبي موسى t، مما يُدخل القضية في نطاق المناقشات الجدلية التي تُفقد الموقف روحانيته وحيويته وجديّته، وتؤدي بالنتيجة ـ في زعمهم ـ إلى انسحاب النبي من الساحة وإلغاء الأمر من خلال الحالة النفسية التي تثيرها هذه الأجواء النفسية.
الثاني: أن على القادة أن يأخذوا من ذلك درساً عملياً فيما يتعلّق بالمسؤوليات العادية التي يوجّهونها إلى الأشخاص مما لا ينطلق من حكم شرعي محدّد، بل من مهمّات عملية عامة تدخل في حركية العمل، فإذا واجهتهم مثل هذه النماذج، فإن عليهم أن يعالجوا ذلك بطريقةٍ تأديبيةٍ هادئة، كدرسٍ عملي لهؤلاء الناس بأن يمتنعوا عن الأسئلة التي لا معنى لها، لئلا يعودوا إلى مثلها في المستقبل، وحتى يعرفوا أن ذلك سيكلِّفهم مسؤوليات ثقيلة قد لا تكون واردةً في الحساب.
وهذا ما نستوحيه من الحديث المأثور عن النبي محمدw، فقد روي أن رسول الله خطب في أصحابه فقال: ((إن الله كتب عليكم الحج، فقام عكاشة (ويروى سراقة بن مالك) فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثاً، فقال رسول اللهw: ويحك، وما يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلت: نعم، لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم كفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عنه فاجتنبوه)). والحمد لله رب العالمين.
















    الخطاب الإنساني
    الخلاص الشكلي
    انطلاق الرسالة
    فلسفة العذاب


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
لا نزال في أجواء التجربة النبوية لموسىt، التي تنوّعت من حيث تعقيداتها وخطواتها.
الخطاب الإنساني:
كانت طريقة النبي موسىt في تعامله مع قومه بني إسرائيل طريقةً إنسانيةً توجيهيةً رساليةً، من خلال تذكيرهم بنعم الله عليهم ولطفه بهم وتخطيطه لمستقبلهم في المواقع الكبرى التي أراد أن يرفعهم إليها، لتمتد بهم كرامات الله في تحويلهم إلى مجتمعٍ يملكون الملك والسلطة فيه، ولينفتحوا في أجيالهم القادمة على النبوّة التي يختار الله بعضهم ليحصل على موقعها الروحي القدسي، ممّن يصطفيه الله من عباده انطلاقاً من القيم الروحية التي يتمتع بها، إضافةً إلى تذكيرهم بالفيوضات المتنوعة التي أفاضها الله عليهم مما لم يحصل عليها أحد من الناس.
وهكذا انطلق معهم بأسلوب الرسالة الذي يخاطب فيهم إنسانيتهم، ليوحي إليهم بحسّ الكرامة في ذواتهم، وليعلّمهم أنّ العقيدة والالتزام والطاعة كلها، لا تمثّل التعليمات المفروضة كالتي يصدرها الكبار إليهم بالطريقة التي تعوّدوا عليها في عهد عبوديتهم لفرعون، مما كانوا لا يملكون معه أيّة فرصةٍ للاختيار الإرادي، خوفاً من ضغطه عليهم وتهديده بقتلهم، بل هي فكرةً في العقل يتحرك بها في خط التفكير المتوازن، وإرادة في حركة الإنسان في انفعاله بما يؤمن به، وتفاعل نفسي داخلي في مواجهة الحالة الجديدة في الدعوة، وحركة منفتحة على الكون كله، ليرى الإنسان ملكوت السماوات والأرض، ويتعرف النظام الكوني والحركة الإنسانية في القوانين التي تحكم حياته وتنظّم أوضاعه، على أساس القاعدة المرتكزة على الحكمة في خط التوازن والاستقامة، ليتحول جهده كله إلى فعل إيمان.
ولذلك، كان موسىt يدعوهم إلى التأمل والتفكر والتذكّر وقراءة الكتاب كله والعالم كله، والحوار مع الآخرين الذين قد يختلفون معهم في الرأي، لأنّه كان يربيهم تربيةً ثقافيةً تختزن العلم في داخل الذات، وترتفع بالعقل إلى مستوى الإبداع، وهذه هي رسالة الأنبياء الذين كانت مهمتهم أن يرفعوا مستوى الناس ليكونوا في موقع القيادة للهداية والإرشاد، من خلال ما يتميزون به من المعرفة العميقة الواسعة.
ولقد خاض موسىt معهم الحوار في كل القضايا المتحركة في حياتهم، والمشاكل الطارئة عليهم، ليعلّمهم كيف يفكّرون، وكيف يناقشون الفكر الذي يطرح عليهم للاستزادة من المعرفة، ولكنهم كانوا يختزنون العقدة النفسية التي لا تسمح لهم بالانطلاق في عملية التغيير نحو الأفكار الجديدة، بفعل الجمود التاريخي الذي أدمنوه، والذي كان يمنعهم من حرية التفكير في الواقع الأفضل، والمضمون الأحسن، وهذا ما عاناه موسىt منهم، إذ كانوا يبتعدون عنه كلما اقترب منهم، ويتمردون عليه كلما انفتح على تربية عقولهم وتوجيه مشاعرهم في أكثر من موقف، وذلك بسبب ما اعتادوه من العبودية التي يخضع صاحبها لما يفرض عليه من الموقع الفوقي، لا لما يختاره بإرادته وقناعته، فكانوا ينتظرون من النبي موسىt أن يعاملهم بالطريقة القاسية التي كان يعاملهم بها فرعون استضعافاً واستعباداً لهم من خلال حكمه القاهر، ليحصل على طاعتهم ويضمن استقرار ملكه من خلال انضباطهم العبودي.
الخلاص الشكلي:
وكانوا يعتبرون أن معنى خلاصهم من فرعون، هو أن يعيشوا حال استرخاء ودعةٍ وطمأنينة نفسية لا جهد فيها ولا تعب، بعيداً عن كل أجواء الصراع ومشاكله، فلم يكونوا مستعدين للدخول في تجربة جديدة للالتزام الفكري وللقيم الروحية، بل كانوا يريدون أن يخضعوا لأهوائهم الذاتية وشهواتهم الغريزية، من دون أن تفرض عليهم أية قيادة إيمانية رسالية، خضوعاً لفكر منفتح على الشريعة، كما أنهم لم يكونوا مستعدين للقتال في سبيل الاستقرار في أرض جديدة تكفل لهم القوة في الموقف والقرار المستقلّ، ليكونوا القادة الحاكمين فيها، بدلاً من أن يكونوا المحكومين من قِبَل قيادات جبّارة أخرى، كما كانت الحال في مجتمع فرعون الذي عانوا منه الكثير، بل كانوا يتحفّزون للهرب والتراجع عند أول دعوةٍ إلى المعركة.
هكذا كانوا يتصرفون ويفكرون. أما النبي موسىt، فإنّ شخصيته في عناصره الروحية الرفيعة العالية الرائعة، لم تكن تلتقي بشخصية فرعون من قريب أو بعيد، لأنّ هناك فرقاً بين من يريد الناس لنفسه، وبين من يريدهم لله ولأنفسهم من موقع إصلاحهم، ولهذا لم يستطع النبي موسىt النجاح معهم، ولم يكن من خطته أن يحقق النجاح على هذا المستوى بالطريقة الفرعونية المستكبرة، لأنه كان يعمل ـ من خلال دوره الرسالي ـ على تغيير مفاهيمهم الخاطئة، واستبدالها بمفاهيم صحيحة صائبة، وتأصيل إنسانيتهم، وتصفية روحيتهم وطريقتهم في التفكير والعمل.
ولذلك كانت الموعظة الهادئة، والانسجام مع أوضاعهم، والعفو عن خطاياهم معه، السبيل للوصول إلى هذا الهدف الذي استطاع أن يعطي الساحة بعض النماذج التي ارتفعت إلى مستوى الرسالة، فعاشت مع موسى آفاقه وأحلامه.
ونتمثّل أسلوب النبي موسىt معهم في الحوار والدعوة، وأسلوبهم في الهزيمة النفسية والتمرد عليه، في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ( ). فقد دعاهم إلى فترةٍ من التأمّل يستعيدون فيها تاريخهم المظلم الغارق في العبودية والظلام، ليقارنوا بين ذاك التاريخ وبين واقعهم الجديد الذي منحهم الله فيه الحرية على يد رسوله بالمعجزات الخارقة، وبعد أن جعل منهم أنبياء قادةً إلى الإيمان بالله والهداية إليه، وصيّرهم ملوكاً، مع ما يعنيه ذلك من حصولهم على الامتيازات الكبرى التي تجعلهم في مركز السلطة التي يملكون فيها الحكم في شؤون الناس، ورزقهم من النعم ما لم يؤته أحداً من العالمين الذين عاصروهم، وكانت هذه الدعوة منه لكي يواجهوا الحاضر والمستقبل من هذا الموقع وتلك النبوّة، ليرتفعوا ـ من خلال هذا الوعي والوعد الإلهي ـ إلى المستوى الذي أراد الله أن يرفعهم إليه، ليتحملوا مسؤولية الرسالة معه، ويعملوا على التحرك من أجل التغيير من خلال قيادته الرسولية.
انطلاق الرسالة:
وقد كان من خطة موسىt أن يجعل من بيت المقدس، الأرض التي تنطلق منها رسالته وتمتد إلى ساحات أخرى وآفاق جديدة، ليبلِّغ دعوته إلى الناس في تلك المنطقة وفيما حولها، بحيث لا تقتصر على بني إسرائيل، كما كانت الحال التي أعقبت خروجه من مصر في الصحراء المترامية التي كان يسير بقومه فيها. وربما يتساءل الإنسان عن السبب في امتناعه عن العودة إلى مصر بعد سقوط ملك الفراعنة، وانتصاره على القوم الذين كانوا يملكون السيطرة عليها، وما هو الأساس في رحلته إلى القدس؟!
وربما يُجاب عن ذلك، بأن هذه المنطقة لم تكن خاضعةً لسلطةٍ مماثلةٍ لسلطة فرعون، في إخضاع الناس لربوبيته، والاعتراف بألوهيته، وانفعال الناس بأفكاره من خلال التزامهم بامتداداته، ما يجعل من حركة الدعوة مسألةً بالغة الصعوبة من أجل الخروج من ذهنية الوثنية المستغرقة إلى ذهنية التوحيد، بينما كانت القدس خاضعةً لبعض الأقوياء الذين يتحركون من خلال قوتهم، لا من خلال ذهنياتهم وأفكارهم وعقائدهم المنحرفة.
هذا إضافةً إلى أن هذه القرية كانت تملك بعضاً من القداسة التي تميزها عن القرى الأخرى، ما جعلها في الموقع الملائم للرسالة في حركة الدعوة. ولذلك كان الدخول إليها يفرض على الداخل نوعاً من العبادة في الإخلاص لله والانفتاح عليه، وهو ما نستوحيه من قوله تعالى في خطاب الله لبني إسرائيل: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ، والظاهر أن المراد بها بيت المقدس الذي أريد له أن يكون المستقر لموسى وقومه، بحيث تتحرك فيه الرسالة في امتدادها الجغرافي من موقع القوة بعد خروج موسى من مصر، باعتبار أن وجود قاعدة للانطلاق في أيّ مشروع رسالي عام، هو أمرٌ ضروري في موازين القوى في ساحة الصراع بين الحق والباطل في واقع الحياة العامة.
وقد أثار الله فيهم الرغبة في الحصول على مِتَع الحياة الرغيدة في الأغذية اللذيذة والطعام الشهيّ، قال تعالى: فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً، من خلال القوة القاهرة التي ستملكونها في سيطرتكم على مواقع الجبارين الذين يسكنون فيها ويستولون عليها، وكانوا يستضعفون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، لتكون لكم الحرية في الأخذ بما تشاؤون من النعم الموجودة فيها، والأكل اللذيذ مما تشتهونه من طيباتها وثمارها في سعة من العيش الهنيء، وبذلك تحصلون على الاستقرار والسكينة من دون أية حاجةٍ إلى التنقّل من مكان إلى مكان في رحلة الجهد والتعب، وادْخُلُواْ الْبَابَ والظاهر أنه باب البلد سُجَّداً شكراً لله على نعمته في انتصاركم على الطغاة الظالمين الذين يكفرون به ويصدّون عن سبيله كل المؤمنين الصالحين.
وَقُولُواْ حِطَّةٌ أي ابتهلوا إلى الله في اعتراف صادق بالتوبة والندم على كل التاريخ الخاطىء الذي عشتموه في خطاياكم، وقولوا في ابتهالاتكم: اللهم حطّ عنّا خطايانا، واغفر لنا ذنوبنا، فإن الله سوف يستجيب لكم ويغفر لكم خطيئاتكم.
نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ، لتتحرّروا من ثقل الخطيئة وعقدة الإحساس بالذنب، ولن يقتصر اللطف الإلهي على غفران الخطايا، بل يمتد بكم في رحمته ولطفه إلى الزيادة لكم في أعماركم وأموالكم، جزاءً لما تمارسونه في حاضركم المنفتح على الطاعة، من الإخلاص لله في توحيده. وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( ) الذين أحسنوا القول والعمل، إضافةً إلى الإحسان في خط العقيدة والإيمان.
فلسفة العذاب:
ولكنهم لم يأخذوا بهذه الموعظة الإيمانية والنصيحة الخيّرة، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أنفسهم بالانحراف عن الخط المستقيم قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، فاستبدلوا الدعاء بالحطّ من الخطايا، بإعلان الإصرار على التمرّد على الله، كما استبدلوا التواضع للحق بالاستكبار عليه، والاحترام للرسول والرساليين بالسخرية والاستهزاء، فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء، والرجز أصله الاضطراب ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ ومنه قيل: رجز البعير، إذا اضطرب مشيه لضعفه. ويقول الطبرسي في مجمع البيان: ((إن الرجز بمعنى العذاب عند أهل الحجاز، ويروى عن الرسولw قوله بشأن مرض الطاعون: إنه رجزٌ عُذِّب به بعض الأمم قبلكم)).
وهكذا أنزل الله العذاب على المنحرفين من بني إسرائيل ممّن ظلموا أنفسهم، بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ( )، لأن العذاب، دنيوياً كان أو أخروياً، لا ينطلق من فراغ، بل من السبب الواقعي الذي يتمثل بالفسق العملي نتيجة تجاوز الإنسان الحدود الإلهية المرسومة له، بأخذه بأسباب الخطيئة، وسيره في طريق العصيان. وفي هذا إشارة إلى العلاقة الوثيقة بين العمل الشرّير المنحرف عن الحق، وبين النتائج السيّئة التي تطال المنحرفين الأشرار، من خلال الرابطة العضوية بين السبب والمسبّب، أو المقدمة والنتيجة، في نطاق السنن الإلهية التي أودعها الله في حركة الواقع الطبيعي في النظام الكوني.
وقد جاء هذا النصّ ـ مع بعض التغيير في الكلمات ـ في آية أخرى: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ، لأن الهدف من دخولها كما جاء في الآية السابقة، هو إقامتهم وسكناهم فيها لتكون مقاماً ومستقراً لهم وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ مما أودعه الله فيها من الغذاء والثمار، فليس هناك أي شيء ممنوع عنكم، وَقُولُواْ حِطَّةٌ في الاستغفار من ذنوبكم بطلب المغفرة من الله، وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً في تعبير عبادي عن سجود الشكر لله فيما أنعم به عليكم من ألطافه الكثيرة، نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ، لأن الله يغفر للمستغفرين الصادقين في توبتهم كل سيئاتهم، سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ...( ) على إحسانهم بكل مظاهره ومواقعه.
ونستوحي من ذلك كله، أن بني إسرائيل انفصلوا عن موسىt، وابتعدوا عنه وخالفوا رسالته وعصوا أمره، ما جعل موسى يعيش المشكلة الصعبة في القيام برسالته والامتداد بها، لأنهم كانوا هم القاعدة الجماهيرية التي أراد أن ينطلق بها إلى الناس الآخرين في خطِّ الدعوة، ويجعل منهم القاعدة في الأرض المقدّسة لإيجاد الحركة الإيمانية الهادية المرشدة للناس كافةً... وهذا ما قد ندخل في بعض تفاصيله من خلال ما جاء في سورة المائدة. والحمد لله رب العالمين.

















    النعم الإلهية
    الاحتلال في المنهج
    الضعف الذاتي


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
ونواصل الحديث عن تجربة النبي موسىt في تبليغ الرسالة، حيث كانت مسيرة بني إسرائيل مع موسىt مسيرةً متعبةً، له من حيث أوضاعهم التي كانت تتنوّع بين الإيجابية والسلبية، فقد أفاض الله عليهم النعم الكثيرة، من طيبات الرزق فيما يأكلون، ومن الغمام الذي أرسله ليظلّلهم من حرارة الشمس المحرقة في رحلتهم الطويلة، وهذا ما تحدث الله عنه بقوله في خطابه لهم: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى( )، إذ كانوا يسيرون في الصحراء الجرداء التي لا تظللها الأشجار، فتشرق عليهم الشمس الحارقة بشكل قوي مباشر تلهب أجسادهم، فأرسل الله عليهم الغمام الذي يحجب حرارة الشمس ويخفف من تأثيرها اللاهب، بحيث يصبح الجوّ الحار المحرق جوّاً ظليلاً منعشاً يمنحهم الاسترخاء الجسدي من خلال برودة الهواء ونعومة الظلال، رحمةً من الله بهم، في وقت لم يكن وجود الظلّ أو السّحاب ممكناً.
فإذا جاعوا واحتاجوا إلى الغذاء الذي لا مصدر له في منطقة رحلتهم، أنزل الله عليهم المنّ الذي هو، كما قيل، إما طعام يسقط على الشجر، وإما غذاء يمثل النعم الكثيرة التي منّ الله بها عليهم، والسلوى الذي قيل إنّه طائر أبيض يشبه السماني، أو هو السماني، وبذلك كانوا يحصلون على الاكتفاء الذاتي من الطعام الذي يمنع عنهم الجوع القاتل بسبب طبيعة الأرض الصحراوية الجرداء التي لا يتوافر فيها أي نوع من مصادر الغذاء.
النعم الإلهية:
وهذه بعض النعم الإلهية التي أفاضها الله عليهم، ليأكلوا من طيبات ما رزقهم، مما يسدّ جوعهم بالطيّب من الطعام الذي يستلذونه ويشتهونه ويستطيبونه من الأصناف الشهية، مما أحلّه الله لهم ودعاهم إلى التمتع به، لأنّ الله سبحانه لم يكن يريد لأتباع موسى أن يسقطوا في حالات الحرمان، كرامةً منه لهم، لأن القيمة في الحياة ليست في أن يجوع الإنسان أو يظمأ أو يلبس اللباس الخشن للدلالة على زهده في الدنيا وإيمانه بربه، بل القيمة هي في الإرادة الإنسانية القوية الواعية التي يملك الإنسان معها نفسه في مواقع السلب أو الإيجاب، بحيث لا يكون عبد الطيبات والملذات والراحة الجسدية، بل يكون سيّدها من حيث هو سيّد نفسه في قوة إرادته ووعي وجوده.
وهكذا أراد الله لهم أن ينفتحوا على النِّعم الإلهية، ليعرفوا فضله ويشكروه، لأن سر إنسانية الإنسان، هو في أن يشعر بلطف المنعم الذي يحسن إليه، ليعبِّر عن ذلك بالشكر له في القول والعمل. ولكنهم استمروا في تمرّدهم وظلمهم وبغيهم الذي أساؤوا به إلى أنفسهم، وذلك قوله تعالى: وَمَا ظَلَمُونَا في سلوكهم السيّىء، وانحرافهم عن الخط المستقيم المتمثّل بالإيمان والعمل الصالح والشكر لله على نعمه التي لا تُحصى، ولاسيما الغمام الذي ظلّلهم وأنقذهم من حرارة الشمس اللاهبة، والمنّ والسلوى الذي منع عنهم الجوع، وذلك بما توحي به كلمة الظلم من النتائج السيّئة التي تصيب المظلوم من تصرفات الظالم، فلم يكن عصيانهم لله وانحرافهم عن خط طاعته ظلماً لربّهم، لأنه الغني بذاته، الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا إيمان من آمن به، ولا تضرّه معصية من عصاه أو كفر من كفر به، وهو القاهر فوق عباده، في وجودهم الحركي وتصرفاتهم العملية، فلا يقهره أحد بأي لون من ألوان التمرد، لأن القوة له جميعاً.
وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( )، لأنّ الكفر والانحراف يمثلان خطين سلبيين من خطوط السقوط الإنساني، والابتعاد عن القيمة الكبرى التي ترتفع بكيان الإنسان وتسمو بروحه إلى الدرجات العليا في الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة، ما يجعل هذا الانحراف يهبط به إلى الحضيض، ويؤدّي به إلى الهلاك العاجل والآجل معاً.
واستمرّت النِّعم تتوالى على بني إسرائيل، إذ لم يكن في الصحراء مصادر للماء من الآبار والينابيع، ولم يكن الفصل فصل نزول المطر ليرتووا منه، ما أدّى بهم إلى الضيق بالعطش. وكانوا قد انقسموا إلى اثنتي عشرة قبيلةً وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً، وتحوّلوا إلى جماعات وقبائل، لكل واحدة منها رئيس وتقاليد ومواقع، وعاشوا في رحلتهم الطويلة، في بيئة قلّ فيها الماء أو انعدم، فطلبوا من موسىt أن يسقيهم الماء، لأنهم عرفوا من خلال تجربتهم معه ومع فرعون وقومه، أنه يملك من الله الكرامة التي تتيح له الحصول على ما يريده، استجابةً لدعائه، وتأييداً لموقعه، فاستجاب الله له ذلك عندما استسقاه لقومه بناءً على طلبهم ذلك منه وحاجتهم إليه، وذلك هو قوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ منْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ( )، لئلا يختلفوا فيما بينهم عند توزيع الماء عليهم، لأن الله يريد لهم الخير ليرتووا من الماء جميعاً من دون مشاكل ومنازعات.
وهكذا كانت المعجزة الإلهية في العصا التي كان موسى قد ضرب بها الماء في البحر، فانكشفت الأرض، وسار هو وقومه في الطريق اليابس، ثم ضرب بها الحجر، فانفجرت عيون الماء التي تسقي القوم، وقد أراد الله لهم أن يتعرفوا من خلال هذا اللطف الإلهي المعجز، الطريق القويم الذي يؤدي بهم إلى الإصلاح من خلال ما رزقهم الله من طعامٍ وشرابٍ من غير جهدٍ ولا عناء، ليشكروه على ذلك في السير على منهاج الحق في القول والعمل، وليستخدموا هذه النعم فيما يرضاه الله من إصلاح البلاد والعباد، وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ( )، لأن الله لا يحب الفساد، فلا يريد للإنسان أن يحرك طاقاته في الفساد والإفساد في مجالات الحياة.
الاختلال في المنهج:
وكانت مشكلة بني إسرائيل التي عانى منها النبي موسىt، أنهم كانوا لا يرتكزون إلى قاعدة من التوازن في طلباتهم وتصوراتهم للأشياء وانفتاحهم على حاجاتهم بشكل معقول، فلم يرتاحوا للأوضاع الجديدة التي غيّرت نظام حياتهم بما رزقهم الله من المنّ والسلوى، وما أفاضه عليهم من نعمه مما يمثّل الأفضلية على ما اعتادوه في حياتهم الغذائية وقيمهم الإنسانية، فكانوا مشدودين إلى مزاجهم الذاتي وعاداتهم القديمة، رافضين أي جديد يغيّر أوضاعهم إلى الأحسن.
وهكذا بدأ الملل يتسرب إلى نفوسهم، وفقدوا الرغبة في النعم الجديدة التي أفاضها الله عليهم، من الطّعام اللذيذ، والشراب النقي الصافي، فاشتاقوا إلى طعامهم المفضل الذي كانوا يأكلون منه في مصر، وفقدوا الصبر على هذه الحياة الهنيئة الرخيّة، وهذا ما تحدث الله عنه في حوارهم مع النبي موسىt، الذي ضاق بطلباتهم الساذجة ذرعاً: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ، ويقال إنه المنّ والسلوى، باعتبار أنه الطعام الذي لا يتغير ولا يتبدل، وهو ما يعطيه معنى الوحدة حتى مع تعدده، فقد قالوا إننا نريد التنوّع أو العودة إلى طعامنا الذي اعتدنا عليه، إضافةً إلى ما رزقنا الله من الطعام فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وهو كل ما اخضرّت به الأرض من البقول والخضروات وَقِثَّآئِهَا وهو الخيار وَفُومِهَا وهو الثوم وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا، وهما معروفان.
قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى أي أقلّ مرتبةً في الخصائص والعناصر الشهية بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وهو المنّ والسلوى وغيرهما، مما قد تفسر به كلمة (المنّ) بأنّها ما يمنّ الله به عليهم من النِّعم الوافرة المتنوعة، الأمر الذي قد يوحي بالجمود الذاتي في عاداتكم وتقاليدكم، والذي يمتد إلى أفكاركم ونفسياتكم، فلا تنـزع إلى التطور في اكتشاف الجديد الأفضل في عناصره وخصائصه في حياتكم الخاصة، أو الجديد لدى الشعوب الأخرى الذي قد يتميز عن القديم المألوف للناس، حتى لو كان الجديد من الطعام طيباً والقديم خبيثاً، بحيث يتعقّد الإنسان من الطيب ويرفضه لمصلحة الخبيث الذي يتطلبه؟!
ولكن المسألة مهما كانت طبيعتها فيما تطلبون، فإنَّ هناك فرصةً للحصول على ذلك في البلد الذي خرجتم منه، والذي تتوفر فيه هذه المآكل التي لا تتوفر في هذه الصحراء التي تتيهون فيها: اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ( ).
وقد اختلف المفسِّرون في المقصود من كلمة (مصر) في هذه الآية، فهناك من قال إنها إشارة إلى المدن من حيث التنوع في المأكولات، ويستدل أصحاب هذا الرأي بأن بني إسرائيل لم يطلبوا العودة إلى مصر موطنهم السابق، ولم يعودوا إليه إطلاقاً، وقالوا إنّ التنوين في كلمة مصر دليل على تنكيرها وعلى عدم اختصاصها بالأرض المعروفة. وهناك من قال: إن المقصود من قوله تعالى: (اهْبِطُواْ) هو أن بقاءكم في الصحراء واقتصاركم على الطعام الواحد يعودان إلى ضعفكم، فكونوا أقوياء وحاربوا الأعداء وحرروا من سيطرتهم مدن الشام والأرض المقدسة، ليتوفر لكم ما شئتم( ).
وهناك رأي ثالث للمفسِّرين، وهو أن المقصود من مصر البلد المعروف، والظاهر أن هذا هو المعنى المتبادر من الكلمة، لأن الأطعمة التي ذكروها وطلبوها كانت هي التي اعتادوا عليها في بلدهم الذي كانوا فيه، وربما يشهد لذلك ما جاء على لسان فرعون في ندائه لقومه: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي( ). أما التفسيران الأخيران، فليس هناك ما يؤيدهما، لأن موسى كان يشير إليهم أن ارجعوا إلى بلدكم التي خرجتم منها واعتدتم على طعامها لتحصلوا على ما تريدون، ولاسيما أن ملك فرعون وقومه كان قد انتهى بغرقه في البحر مع جنوده، والله العالم.
الضعف الذاتي:
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، بسبب فقدانهم الطّموحات الكبرى التي يرتفعون من خلالها إلى المستوى القيادي في التحرك نحو القضايا الكبيرة، ويبتعدون بها عن الخضوع للأطماع الذاتية التي تهوي بهم إلى المواقع السفلى، الأمر الذي يجعلهم مشدودين إلى الضعف النفسي والسقوط الروحي أمام الآخرين الذين يملكون حاجاتهم، ويفرضون عليهم سيطرتهم، من خلال نقاط الضعف المتحكمة فيهم، الكامنة في داخل شخصياتهم، وربما نجد ذلك في رفضهم دخول القرية التي أرادهم موسىt أن يدخلوا إليها، مستندين في ذلك إلى أن فيها قوماً جبارين، فلا يدخلون إليها إلا بعد أن يخرجوا منها، ما يدل على أنهم كانوا لا يتّصفون بالقوة والشجاعة التي تتحرك بهم في خط مواجهة الأقوياء، وتأكيد مواقع العزّة في حياتهم العامة.
وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ أي عادوا بحصيلتهم العملية بغضب الله عليهم، لعصيانهم له، وتمردهم عليه وعلى رسوله ورسالته، وقد انحرفوا في تاريخهم المستقبلي انحرافاً كبيراً عن خط الإيمان، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّه التي أنزلها على رسله من بعد موسى، بعد قيام الحجة عليهم، وإدراكهم الحق الصادر من الله، عناداً منهم وتعصباً ذاتياً، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ من خلال العقدة المتأصِّلة في نفوسهم ضد الحقّ وأهله، من الرسل الذين جاؤوا ليحرروا الإنسان المستعبَد من عبوديته، والشخص المستضعف من استضعافه، وليربطوه بالله الذي خلقه وأراد له أن يكون عزيزاً حراً، وبالقيم الروحية التي أراد الله للإنسان أن ينطلق بها في كل خطواته في الحياة، ليرتفع إلى الدرجات العلى في الروح والفكر والحركة والحياة.
ولكن هؤلاء الناس الذين تعوّدوا الخضوع والاستعباد، لا يريدون الانفتاح على الرسالة الجديدة الحرّة، ولا يحترمون الرسل الذين يحملونها، ولا يملكون في الوقت ذاته مواجهتهم بالحجة، فيعمدون إلى اضطهادهم أو قتلهم لئلا يكونوا شهوداً على الواقع الشرير الذي يتقلبون فيه ويتحركون من خلاله، ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ ربهم وخالفوا أوامره ونواهيه في السير على الصراط المستقيم، وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ( ) أي يتجاوزون الحدّ الأقصى في الظلم والبغي والفساد. والحمد لله رب العالمين.
















    جمهور الرسالة وشروط العمل
    استحضار الخوف والرعب
    الجهاد بشروط
    غضب السنن الإلهية


بسم الله الرحمن الرحيـم
الحمد للّه رب العالـمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الـمنتـجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه الـمرسلين.
جمهور الرسالة وشروط العمل:
تتمةً للحديث عن تجربة النبي موسىt مع قومه، نجد أنهt لم يستطع ـ على الرغم من كل جهوده ـ أن يجعل من قومه جمهور الرسالة الذي يواجه قوى الكفر والشرك والضلال، والذي يدخل ساحة الصراع ليكون في حال مواجهة قتالية للقوى المضادة المالكة للقوة. ولذلك، فقد كانوا يسيرون معه في حالٍ استرخائية دون أن يكلّفوا أنفسهم أي جهد في الموقف الرسالي، وهم ـ في حالهم تلك ـ لم يكفوا عن إزعاجه بطلباتهم ومشاغبتهم، الأمر الذي ربما عطّل خطته في هدايتهم وإرشادهم.
فقد كانوا في الفترة التي عاشوها تحت سيطرة فرعون وقومه، يختزنون في ذهنياتهم التخلف الفكري الذي يدفعهم إلى العبثية الحركية المتمردة على قيادتهم الصالحة، فكان منطقهم مع موسىt منطق الشكوى من الأذى الذي لحقهم قبل مجيئه وبعده، وربما لم يؤمنوا بقدرته على تحريرهم والعمل على خلاصهم، حتى فاجأهم بالمعجزة الكبرى في دخوله البحر بعد انحسار الماء عن الطريق الذي أريدَ لهم أن يسلكوه من أجل نجاتهم من فرعون وجنده، وإغراق فرعون وهلاكه في هذه التجربة العظيمة.
وخرجوا من البحر، وبدأوا يفكِّرون في العودة إلى ما اعتادوا عليه من التفكير الوثني الذي يتمثّل بعبادة آلهةٍ من الأصنام، ولم يستوعبوا تعاليم النبي موسىt التي أوحى الله بها إليه في التوراة، لتفتح عقولهم على الحق، وحياتهم على الاستقامة، ووعيهم على الإيمان. وكانت قصة عبادة العجل المظهر الحيّ للخلفيات الداخلية المرضية في ذواتهم الانحرافية.
وهكذا أراد النبي موسىt لقومه الاستقرار في مكان آمن يحصلون فيه على السكينة والطمأنينة، ويأكلون فيه من الطيبات، ويحقّقون فيه ما يشتهون، وينفتحون فيه على الأرض المقدّسة التي تمنحهم قداسة الروح وروحية القيم، ليكونوا في الموقع القيادي الرسالي بإشراف النبي موسى t، وليحملوا التوراة إلى الناس ـ كما جعلها الله ـ نوراً وهدًى لأبناء جيلهم وللأجيال المقبلة. فكيف واجهوا الموقف؟
استحضار الخوف والرعب:
لقد استغرقوا في نقاط ضعفهم، وخضعوا لأوهامهم، واستحضروا الرعب والخوف من الأقوياء ممّن قد يضطرون إلى الدخول معهم في صراع قتالي ضاغط مما لم يعتادوه عندما كانوا تحت سلطة فرعون التي زرعت في نفوسهم كل عناصر الضعف، ثم ساروا في الرحلة الطويلة مع موسى t، ولم يكونوا في هذه المرحلة في أيّ موقع من مواقع الصراع، بل كانوا يشعرون بالأمان الذي يمنحهم الإحساس بالراحة، ويقوّي حال الضعف لديهم، لأنهم لم يكونوا قد دخلوا بعد في أية تجربة لحركة القوة.
وهكذا بدأ النبي موسىt خطابه لهم، فطلب منهم الدخول إلى بيت المقدس، كما جاء في قوله تعالى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْض المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ( )، وكانت القافلة تقترب من بيت المقدس في مسيرتها في تلك الرحلة الطويلة، ولاحت لهم الأرض المقدسة من بعيد، وكأنه كان يحاول أن يوحي إليهم بالقيمة القدسية التي تمثلها هذه الأرض، ليكون دخولهم إليها من موقع الميزة التي ميّزها الله بها، فهي الهدف الذي استهدفه موسى لتكون مكان إقامتهم الدائمة، لينظّموا أوضاعهم فيها، وليمارسوا الانطلاق منها إلى المنطقة المحيطة بها في امتدادهم الإنساني مع المجتمعات الأخرى، وليستقروا في جنباتها في عملية إعمار للبيوت التي يسكنونها، وليجددوا حركتهم من خلال التوراة التي يتمثّل فيها المجد الإلهي الذي يمنحهم نور الهداية بما تشتمل عليه من التعاليم التي ترفع مستوى الناس في الحياة، فيدفعهم ذلك إلى أن يكونوا في مواقع الحكم العادل الذي تتحرك به النبوة في شخصية موسى t.
ويتابع موسىt خطابه لهم في تحذيرهم من التراجع عن قاعدة الحق، حتى لا يخسروا من خلال ذلك مصيرهم في الدنيا والآخرة، خصوصاً أن دخولهم إليها وسكناهم فيها هو مما كتبه الله لهم في إقامتهم فيها إلى الأمد الذي فرضه تعالى. ولكنهم ـ على الرغم من ذلك ـ رفضوا هذا العرض بقوّة، لأن الدخول إليها سوف يكلفهم صراعاً وقتالاً وتضحياتٍ في مواجهة أهلها الذين يملكون القوة القاهرة.
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ( )، فقد كان يحكمها قوم جبَّارون لم يكونوا يسمحون لأي داخل إليها من أي قوم أن ينازعهم سلطتها، وكان قوم موسىt يخافون أن يستخدم هؤلاء القوّة ضدّهم، وأن يدخلونهم من جديد في دائرة العبودية ممّا لا يكون باستطاعتهم التخلّص منها، ولم يكونوا على استعداد للدخول في صراعٍ معهم، لأنهم لم يعتادوا الصراع مع أيّة جهة للحصول على المكاسب في الأرض أو في حركة الواقع في الحياة. ولذلك كانت استجابتهم لموسى مشروطةً بالدخول إليها في حال من السلام، دون أن يكلفهم ذلك أي حرب.
الجهاد بشروط:
ولذلك كان منطقهم في ردّ الفعل على طلبه، أن قالوا له إن دخولهم إلى هذه الأرض معلّق على خروج الجبابرة منها بهدوء وسلام واستسلام، تماماً كما كانت الحال في حركته القاهرة مع فرعون بالطريقة القوية الإعجازية، فإذا خرجوا منها من دون أن يكلفهم ذلك نقطة دم، كان دخولهم إليها معقولاً ومقبولاً.
وكان هناك رجلان لا ثالث معهما، أنعم الله عليهما بنعمة الإيمان الثابت القوي، وعَرَفا ـ من خلال ذلك ـ معنى المسؤولية في مواطن التحديات، ووقفا في مواجهة هذا الجمع المهزوم نفسياً ليقولا له: إننا نملك القوة التي تستطيع أن تحكم الفكر والناس والحياة، وكل هذه الأمور التي تمثل وسائل القوة الغالبة، فلندخل الباب عليهم، ولنهاجمهم في عقر دارهم، ليكونوا في موقع الضعف، ونكون في موقع القوة، فإن القوم طلاّب سلطة ونحن جنود رسالة، وستتغلب الرسالة على السلطة إذا أخذت بأسباب القوة المادية مضافاً إلى ما تملكه من القوة الروحية، ولاسيما أن الأمر بدخول هذه الأرض كان أمراً إلهياً يبلغه الرسول بصدق وانفتاح، حيث يوحي ذلك بأن الله سوف يتم هذا الأمر، ويحقق لهم النجاح، كما حقق ذلك فيما مضى من ألطافه السابقة في هزيمته للطغاة الجبارين من الفراعنة، وقد تحدّث الله عن ذلك بقوله: قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ( )، لأن الله لا يخذل المتوكلين عليه، الواثقين بصدق وعده في نصرته لعباده المؤمنين.
ولكن هذه الكلمات ضاعت في ضجيج التخاذل، وفي هدير الهزيمة النفسية التي كانت مسيطرةً على هؤلاء القوم، وانطلق الصوت المهزوم يتكلم بلغةٍ تحاول أن تعطي الهزيمة صفة القرار الحاسم الذي لا رجعة عنه قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا، وكانت تلك كلمتهم الأخيرة التي لا تقبل نقاشاً. وتطورت المسألة لديهم ليعلنوا الانفصال عن موسىt، إذ اعتبروا أنفسهم غير ملزمين بطاعته في القتال، لأنهم يحبون الحياة أكثر مما يحبون الطاعة لله والخضوع للمقدسات الرسالية، فقالوا له: إذا شئت البقاء على إصرارك في الدخول إلى هذه المدينة، على الرغم من الخطر المحدق بالداخلين إليها بسبب قوة هؤلاء الجبارين، فلا تنتظر منا أن نطيعك في مواجهة الخطر الذي قد يضطرنا إلى القتال، فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ( )، لنرى ما هي النتائج من هذه المغامرة.
وقد كان موسىt يحدثهم في كل مسيرته عن الله وعن قوته التي يستعين بها المؤمنون، وأنه يملأ قلوب عباده المتّقين بالشعور بنصرته، كما كان الأمر في تاريخهم ضد فرعون. ولكنّهم تمرّدوا على موسى، وقابلوه بالموقف اللامسؤول، بأن يقاتل هو وربه إذا كانا يريان القتال لازماً ومنتجاً للنصر ومؤدياً إلى السلامة، فتلك هي مسؤوليتهما في خدمة الرسالة التي أرسلها الله وحملها موسى، وفي الحصول على السلطة في ميزان القوة... أما هم (جنود موسى وأتباعه)، فلم يدخلوا في أيّ تجربة قتالية، ولم يوجِّهوا حياتهم إلى هذه الوجهة، فليتركهم لأنفسهم، لأنهم لا يشعرون بأية مسؤولية في هذا المجال، فقد اختاروا القعود في انتظار النتائج الإيجابية أو السلبية، تماماً كما كانوا في صراعه مع فرعون وقومه، فلم يشاركوا في حركة الصراع بالدخول معه في عملية صناعة القوة.
وشعر موسىt بالحرج من هذا الموقف الانهزامي المتمرّد من قومه الذين أراد أن يرفعهم إلى مستوى المسؤولية في الأخذ بأسباب القوة، فسقطوا في الحضيض نتيجة غرقهم في وحول الضعف الذي زرع في نفوسهم الرعب والخوف من الدخول في أي حركةٍ للصراع من أجل الدفاع عن القضايا الكبرى.
 
غضب السنن الإلهية:
وهكذا، فقد أية سلطة أو قوة ضغط، مما يمكن أن يمارسه على هؤلاء الناس الذين كانت رحلتهم معه مملوءةً بالمشاغبة عليه والابتعاد عن تعاليمه، فرجع إلى الله ليعذر إليه، ليخرج من حدود المسؤولية أمامه على رضًى منه ومحبّة له، فتوجّه إليه ليعلن له ما كان الله يعلمه من ظروفه القاسية وأوضاعه الصعبة، ليتخفَّف من الدخول في هذه التجربة، قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي، ولا أملك أحداً من هؤلاء مما يملكه القائد من أمر جنوده، فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ( ) الذين خرجوا عن طاعتك، وتمردوا على رسولك.
وجاءتهم العقوبة التي يستحقها الخائفون المهزومون الذين رفضوا السير في خط الهدى، لأنّ الذي لا يعمل للنصر لا يستأهله، فكتب الله عليهم أن يظلوا في التيه أربعين سنة، بحيث لا يحصلون على الاستقرار، بل يبقون في حركة دائمة، فلا يرجعون إلى مصر لأنهم فقدوا الظروف الطبيعية في العودة إليها، ولا يدخلون الأرض المقدسة.
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ، لأنهم هم الذين اختاروا لأنفسهم ذلك، وسيتحملون متاعب الضياع وأهواله، ومتاهات الصحراء التي يغرقون في رمالها، وسيعيشون الاضطراب النفسي والحركي في الاهتزاز ومشاكله، وذلك هو مصيرهم الذي استحقوه كنتيجة لفسقهم العقيدي والعملي الذي تجاوزوا فيه حدود ما فرضه الله عليهم وحمّلهم مسؤوليته. فلا تتألم ـ يا موسى ـ من موقع الرحمة في قلبك، فإن الله سوف يغمرك بلطفه، ويرحمك برحمته، ويجعل لك من أمرك فرجاً، لأنك أديت الرسالة خير أداء، وأجهدت نفسك في طاعة الله والدعوة إليه، ومنحت قومك كل رعاية وعناية، وعملت على رفع مستواهم العقلي والروحي لينفتحوا على الله، ويحصلوا على مواقع القرب منه، وينالوا الخير من رحمته.
ولكنهم لا يستحقون الرحمة، لأنهم رفضوا السير في الاتجاه الذي يحصلون فيه على هذه الرحمة من ربّهم الذي أفاض عليهم من نعمه، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ( )، ولا تحزن على ما صاروا إليه من المصير الأسود الذي لا يحصلون فيه على خير. والحمد لله رب العالمين.

 






باب
المسائل


 

الإمامة في القرآن:
 قال الله تعالى: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً( ). ما المراد من الإمامة؟.
 المراد بها النبوة الحركيّة؛ فكل نبيٍ إمام، لأن الإمامة هي عبارة عن الموقع الذي يؤم الناس ويهديهم إلى سواء السبيل، ولذلك، فإنّ قوله تعالى: إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ليس المقصود به الإمامة بمعنى الوصيّ أو الخليفة عن نبي، بل المراد به النبوة، ولذا قال: وَمِن ذُرِّيَّتِي هل تجعله نبياً كما تجعلني؟ قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. فليس المراد بالإمامة هنا الأئمة الإثني عشر الذين هم أوصياء النبي وخلفاؤه، بل المراد بها بالنسبة إلى إبراهيم هي النبوة التي تمثل القيادة للناس في هدايتهم إلى الله سبحانه وتعالى.
تكليم الله موسىt:
 قلتم إن موسى t كان أول نبي يكلّمه الله مباشرةً، والآية تقول: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً( )، فما تفسير ذلك؟
 يقول الله سبحانه وتعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ( )، وقال تعالى: وكلّم الله موسى
تكليماً( )، وقال تعالى: قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين( )، ما يعني أنّ الله اصطفاه بذلك من بين سائر الأنبياء.
خوف الأنبياءi:
 في عقيدتنا أن النبي هو أفضل الناس، ولكنّنا نقرأ في القرآن عن خوف موسىt، فكيف يكون هو الأفضل؟
 النبي أفضل الناس في ملكاتهِ العلميّة والروحيّة، ولكنه بشر؛ فهو يجوع كما يجوع البشر، ويتعب كما يتعبون، وكذلك يخاف كما يخافون، والحديث عن خوف موسىt جاء في سياق الحديث عن إرسال الله تعالى له بالرسالة، إذ قال له تعالى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قََالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى( )، وفي آية أخرى: فلمّا رآها تهتزّ كأنّها جانٌّ ولّى مدبراً ولم يعقّب وجاءه النداء من الله تعالى: يا موسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ( )، وعندما تحدّى موسىt السحرة وألقوا حبالهم وعصيهم، شعر بالخوف: فإذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى( ).
فلذلك نقول: إنّ الخوف حالة بشريّة، والأنبياء بشر وليسوا ملائكة، ولم يخرجوا عن بشريتهم، وهم يعيشون بعض نقاط الضعف البشريّة.
النقص التكويني في الشخصية النبويّة:
 كيف يكون هارون أفصح من موسىt، مع أنّ موسىt من أولي العزم؟
 قال موسىt في مسألة استعانته بأخيه هارون: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً( )، وهذا ما عبّر عنه فرعون في حديثه عن موسى t: أمّن هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ( )، أي عنده لثغة في لسانه، ولكن الضعف البشري لا ينافي الرسالة؛ لأن الرسالة هي عملية فكر ووعي ووحي وتوجيه وإرشاد، ولا مشكلة في أن يكون هناك رسول وأن يكون عنده مرض مثلاً، فأيوبt، ألم يبتله الله سبحانه بالمرض في هذا المجال؟ وهكذا بالنسبة إلى النبي محمدw، ألم يصب بالحمّى في آخر حياته؟ فالأنبياء هم بشرٌ تماماً كبقية البشر، تتجاذبهم نقاط الضعف الجسدي والضعف النفسي، ولكنهم لا يعصون الله، ولا يخطئون في الفكر، وهذه هي العصمة.
عدد الأنبياء:
 ورد في الآية [147] في سورة الصافات: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ( )، ما الهدف من عدم تحديد العدد؟
 لأنّ الحكمة اقتضت أن لا يبيّن العدد بالدقّة، بل تحدّث بهذه الطريقة ليبيّن فخامة عدد الذين أرسل إليهم يونسt.
السياقات القرآنية:
 نُلاحظ في القرآن الكريم، أن كثيراً من السور تخرج عن الموضوع الأساسي لها ثم تعود له ثانية، كما في سورة البقرة التي يخاطب بها الله تعالى اليهود، وفجأةً ترد آيات تتحدث عن الصيام، ثم مخاطبة اليهود ثانية، وبعدها آيات تتحدّث عن الذبح الحلال وهكذا. ما العبرة والحكمة في ذلك؟
 السور القرآنية ليست منطلقة من وضعٍ يشبه الوضع الأكاديمي، بحيث تعالج موضوعاً واحداً، فالقرآن يريد أن يجعل الإنسان ينفتح على الله تعالى، وينفتح على القيم الروحيّة والأخلاقيّة والتشريعات الرساليّة وما إلى ذلك؛ ولذلك يحشد له الله سبحانه بعض القصص وبعض الخطوط الثقافية والفكرية والتشريعات التي شرعها للإنسان، مثل الصلاة والصيام والحج والذبح الحلال والذبح الحرام والدَّين وما إلى ذلك. فالقرآن انطلق لينفتح على الإنسان بكل نقاط ضعفه وقوته، حتى يدخل وحي الله في عقله ليجعل عقله عقلاً رشيداً، وفي إحساسه وفي كل حياته، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ( ) فالقرآن يؤكّد هذه الحياة الروحية والأخلاقية والإنسانية من خلال آياته التي تتوزّع في مضامينها بين قصة وموعظة ونصيحة وتشريع وما إلى ذلك.
شجرة البيعة:
 الشجرة التي ذكرها الله في القرآن وبيعة الناس تحتها، هل لها خصوصية، ولماذا قطعها عمر في زمنه؟
 الشجرة جزء من المكان الذي اجتمع فيه المسلمون لكونه المكان الملائم للبيعة. وعلى كلّ حال، فإنّ كون البيعة صارت تحت الشجرة، لا يعني قداسة تلك الشجرة حتى نتبرك بها ونتعبّد عندها وما إلى ذلك، كما نجد مثلاً في هذه الأيّام، أنّ بعض الناس حين يذهب إلى جبل النور، فإنه يأخذ بعضاًَ من حجارته، باعتبار النبيw كان يتعبّد عنده، ولكنّ تعبُّد النبيّ في هذا الجبل لا يعني أنّ الحجارة صارت مقدّسةً حتى نأخذها ونتبرك بها، فقضية القداسة تحتاج إلى أن يأتينا نصّ من القرآن أو من السنة أو من الأئمة من أهل البيتi أنّهم تبركوا بهذا الشيء أو ذاك، فما لم يرد فيه نصٌ موثّق وصحيح، فعلى أي أساس نعطيه القداسة؟!
طبيعة وحي أمّ موسى:
 ما أهمية أن نقول إنّ ما نزل على أم موسى كان إلهاماً ولم يكن وحياً، فما المشكلة في أن يكون وحياً حقيقياً نزل به جبرائيل؟   
 لا يوجد لدينا رواية أن أم موسى نزل عليها جبرائيل أو ملك من الملائكة، بل عندنا أن الله أوحى إليها كما أوحى إلى النحل، كما جاء في قوله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً( ). فهل نقول إنّ جبرائيل نزل على كل نحلة من النحل وأوحى إليها أن تنظم وضعها وحياتها؟ إنّ القرآن يستعمل الوحي أحياناً بمعنى الإلهام. لذلك لا يوجد لدينا دليل أن الله أرسل إليها ملكاً، المهم أنه أوصل إليها الفكرة، والله سبحانه وتعالى عنده وسائل كثيرة لإيصال الفكرة، ولذلك تحدّث الله تعالى عن الأنبياء، أنّ منهم من كلّم الله، ومنهم من أرسل إليه ملكاً، ومنهم من بعث إليه الوحي في المنام، وما إلى ذلك.
لعن الظالمين:
 قال الله تعالى:  لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ( ). من هم الظالمون؟ وهل يجوز أن نلعن الذين أبعدوا الإمام علياًt عن حقّه، باعتبار أنهم من الظالمين؟
 الظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك وبالكفر، وربما يكون المقصود الذين ظلموا الناس بغيرِ حق. أما قضية الذين أبعدوا الإمام عليّاًt عن حقّه، فإذا كان ذلك ظُلماً لعليّt، فقد تعلّمنا من الأئمّة من أهل البيتi أن لا نكون سبّابين ولا لعّانين، وخصوصاً أنّ ما درج عليه الكثير من الناس يؤدّي إلى كثير من الفتن في الواقع الإسلامي الذي يستغلّه الكافرون والمستكبرون.
 
وجه الشبه بين الرسالات:
 إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً( ). ما هو وجه الشبه في ذلك؟
 وجه الشبه هو الرسالة، أي أن الله تعالى يُرسل رُسُلَهُ للطُغاة وللشعوب الضالّة، لهدايتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور. فكما أرسلنا إلى فرعون رسولاً وهو موسىt، أرسلنا إليكم، أيها المشركون، رسولاً ليهديكم ويرشدكم، وربّما كان ذلك باعتبار حضور أهل الكتاب كفئة تمتلك موقعاً مميّزاً في المسألة الدينية في المجتمع آنذاك، ولذا وردت في القرآن آيات تطلب من كثير من المشكّكين الرجوع إلى أهل الكتاب.
تدريس القرآن الكريم:
 ما رأيكم في الحوزات العلمية التي لا تدرّس القرآن، أي علومه، ولا تبحث وتحقّق في حياة الأئمةt، وهو خلاف حديث الثقلين، ((إني تاركٌ فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي...))؟
 في حوزة قم الآن مناهج لدراسة القرآن، في تجويده وعلومه وفي الكثير مما يتّصل به، ولكن مع الأسف، فإنّ الحوزة العلمية في النجف لا تُدرِّس القُرآن، وإنما تُدرس الأصول والفقه فقط. وهذا مما أتحدّث فيه مع الكثير من المسؤولين في النجف الأشرف التي كانت القمة في الاهتمام بالقرآن. ونحن نعرف أن أستاذنا السيد الخوئي q كان من الذين يملكون الثقافة القرآنية التي تتلمذ فيها على المرحوم الشيخ جواد البلاغي، المفسّر المعروف. أما بالنسبة إلى حياة الأئمة، فمع الأسف، فإننا غالباً لا نأخذ من حياة الأئمة i إلا المأساة، ولا نأخذ الثقافة الحضارية التي تنفتح على العالم كلّه. ولذلك نجد أن الشيعة قليلاً ما يعرفون أهل البيت i إلا من خلال مآسيهم وأحزانهم.
المهاجرون والتَّابعون:
 ما معنى قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( )؟
 هناك فئة من المسلمين سبقوا المسلمين الآخرين في الإيمان برسولِ اللهw، سواء من المهاجرين الذين آمنوا به في مكة وهاجروا إلى المدينة، أو من الأنصار الذين جاؤوا إلى مكة وآمنوا به، أو الذين آمنوا به عندما جاء إلى المدينة، وأما الذين اتبعوهم بإحسان، فهم الجيل الثاني الذين اتبعوا المهاجرين والأنصار، وهؤلاء رضي الله عنهم، لأنهم آمنوا بالله وعملوا الصالحات وساعدوا رسول الله، ورضوا عنه، لأنهم انفتحوا على الله سبحانه وتعالى وأعلنوا له الشكر والحمد وما إلى ذلك، وأعد لهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار.
التوبة مع اقتراب الأجل:
 قلتم في فقه الشريعة، إنه إذا قوي الظن الإنساني باقتراب الأجل، فيلزمه عدة أمور، أولها التوبة، فما معنى قوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ( )؟
 على الإنسان أن يتوب قبل أن يعاين المصير، لا أن يتوب وهو في حال احتضار، بحيث لا يفصله عن الموت إلا لحظات، فيقول: آمنت بالله رب العالمين، أو تبت إلى الله، فهذا لا يُعتبر توبةً، بل لا بد من أن يتوب وهو يشعر بالحياة، وإن لم تكن الحياة طويلةً أمامه...
إستعاذة الإنس بالجنّ:
 ما معنى قوله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً( )؟
 هذا كان في الجاهلية، حيث كان بعض الناس يحاولون الاستعانة بالجن والانفتاح عليهم وانفتاح الجنّ عليهم.
وسائل ابتغاء الوسيلة:
 جاء في تقويم البشائر في معرض رأيكم بالآية: ابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ، قلت المقصود بالوسائل التي تدل على الله، والأئمة هم الهداة، فما هي الوسائل؟
ج من الوسائل التقوى، وطاعة الله سبحانه وتعالى في أوامره ونواهيه، والالتزام بمن أراد الله لنا أن نتولاهم وأن يكونوا هم قادتنا في الحياة.
 
معرفة فرعون نسب موسى t:
 التقط آل فرعون موسى من اليمّ، فهل عرف فرعون أن نسب هذا الطفل يعود إلى بني إسرائيل، أم اعتبره مجهول النسب؟
 ربّما كان شكل موسى t واضحاً في أنّه من بني إسرائيل، وقد حاول بعض قوم فرعون أن يغروا فرعون بأن يقتل هذا الطفل انطلاقاً من طريقته في قتل أطفال بني إسرائيل، ولكن امرأته الصالحة تدخّلت وقالت: لعله ينفعنا أو نتخذه ولداً؛ ولذلك بقي موسى t في حضرة فرعون، وقد كان فرعون يقول له: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدَاً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ( ).
الثعبان والحيّة:
 نجد في القرآن الكريم، أنّ الله سبحانه تحدّث في آية أنّ العصا تحوّلت إلى حيّة، بينما ذكر في آية أخرى أنّها تحولت إلى ثعبان، فما الفرق بين الثعبان والحية؟
 في الآية الأولى بيّن الجنس، والثعبان من جنس الحيّة، وفي الثانية بيّن نوع هذه الحيّة، فليس هناك تنافٍ في المقام.
معنى الروح:
 فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ( ). ما هي الروح؟ وهل هي مختصّة بالإنسان فقط؟
 المقصود من الروح القدرة، أمّا روحه تعالى فليست مركبة، بمعنى أنّ فيها أجزاءً يمكن أن يجعل جزءاً في هذا وجزءاً في ذاك، لأنّ الله تعالى حيٌّ ليس كمثله حيّ، وإنّما هي القدرة التي يعطي من خلالها الحياة للكائن بعد أن كان طيناً أو نحو ذلك، باعتبار أن القدرة هي مظهر من مظاهر الروح، فجيء بها على نحو الكناية.
علم الله:
 نحن نؤمن بأن علم الله سبحانه وتعالى بالمستقبل هو كعلمه بالحاضر والماضي، فهل يمكن للإنسان أن يختار التقوى، مع أن الله كتب له الشقاء منذ وجوده؟
 إذا كان الله تعالى يعلم بأن هذا الإنسان سوف يكون تقياً، فكيف يمكن أن يكتب الله تعالى له الشقاء في بطن أمه؟ فهذا يعني أننا ننسب الجهل إلى الله تعالى؛ لأنّ الله كتب شيئاً لا واقع له، وأن الإنسان اختار شيئاً على خلاف علم الله سبحانه وتعالى. لذلك، فإنّ هذا السؤال ليس له واقعية كلياً؛ لأن الله عندما يكتب مستقبل الإنسان، فإنه يكتبه على ما يعلم أن الإنسان يختاره في المستقبل، فلا يمكن أن يتبدل حال الإنسان عما يكتبه الله سبحانه وتعالى.
النار في قصة موسى:
 إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى( ). إلى ماذا تشير كلمة النار في هذه الآيات؟
 يبدو أن موسىt كان يريد الاستهداء إلى الطريق، فكان هدفه النار باعتبار ما تختزنه من ضوء يستدل به على الطريق، أو أن هدفه كان الاستفادة من النار في حاجات أخرى مثل التدفئة أو الطبخ.
تألّم النبي والعصمة:
 فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً( ). هل هذا يناسب عصمة النبي؟.
 إن النبي هو رسولٌ من الله تعالى، وهو يريد للناس أن يؤمنوا بالله وأن يتقربوا إليه ويوحّدوه ويطيعوه ويعبدوه، لذلك كان النبيw يتألم عندما لا ينفتح الناس على رسالته، وهذا يؤكد العصمة ولا ينافيها؛ لأن النبي يتألم من خلال ألم الرسالة وليس ألم الذات.
هارون وموسىo:
 قال تعالى في سورة طه: آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى( )، فلماذا تقدم اسم هارون في هذه الآية على اسم موسى t؟
 تقديم الاسم لا يدل على التفضيل، لأن القرآن في هذه الآية إنما ينقل لنا ما ورد على لسان السحرة، وقد ورد نظير هذا التقديم والتأخير كما في قوله تعالى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى( )، بينما جاء في سورة يس: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ( ).
طبيعة الإعجاز القرآني:
 يقول الله تبارك وتعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( ). نفهم من الآية أن هناك تحدّياً للمشركين... كيف نقرأ هذا التحدّي من خلال الآية المباركة؟ وهل الإعجاز الذي تحدّى الله تعالى به عباده، هو إعجازٌ من ناحية بلاغة القرآن، أي أن يأتوا بمثله في بلاغته وفصاحته، أم أنه إعجاز لجهة ما يتضمنه القرآن الكريم من خصائص فكرية وفلسفية وتاريخية، أم من خلال ما أثاره القرآن من لمحاتٍ علميّة لم ينتبه إليها الإنسان إلاّ بعد حين؟
 يذهب كثير من المفسّرين، ومنهم السيد الطباطبائيq صاحب الميزان، إلى أنّ التحدي كان بكلّ ما يتضمنه القرآن من أسرار ومعارف وعلوم، لأنّ الخطاب موجّه إلى كلّ الناس من عرب وعجم، وإلا من لا يملك معرفة اللغة العربية، فكيف يمكن أن يوجّه إليه التحدّي في البلاغة؟
ونحن نخالف هذا الرأي، ونرى أنّ التحدّي كان في الجانب البلاغي للقرآن، لأننا عندما ندرس بعض سور القرآن، لا نجد فيها أسراراً علمية أو تشريعية. ولذا فعندما يتحدّاهم بالإتيان بسورة واحدة، فإنّه يتحدّاهم بلاغياً. نعم، لو كان التحدّي بأن يأتوا بمثل القرآن كلّه، لكانت المسألة تحتمل ذلك، ولكننا نلاحظ أن القرآن طرح عليهم التحدّي متدرّجاً من الأكبر إلى الأصغر، أي من القرآن كلّه، إلى عشر سور، إلى سورة واحدة، ومع ذلك، لم يستطيعوا الاستجابة لهذا التحدّي. والقرآن جاء على لسان النبيw بأسلوب سهل ممتنع، فوصل إلى قمّة الإعجاز، ولم يستطع المجتمع العربي بكلّ ما فيه من فصحاء وبلغاء وشعراء أن يأتي بسورةٍ تصل في فصاحتها وبلاغتها إلى حدّ سورة واحدة من القرآن، من مثل سورة الكوثر مثلاً.
هذا إضافةً إلى الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيتi، والتي تشير إلى أن الله تعالى ينـزل المعجزة بحجم الواقع الذي يتحرّك فيه الناس، ففي زمن موسىt، كان السّحر هو الفنّ الغالب على مجتمعه وأهل عصره، لذا كان يحتاج إلى أن يتحدّاهم بما يُبطل سحرَهم، كما كان الغالب على المجتمع الذي عاش فيه عيسىt الطبُّ، فكان لا بدّ من أن تتناسب المعجزة مع ما يهزم طبّهم الذي لا يستطيع معالجة القضايا المستعصية، كالموت مثلاً، لذلك كانت معجزتهt في إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى. وهكذا في زمن رسول الله محمدw، حيث كانت البلاغة مسيطرةً على واقع الناس فيما يعتزّون به ويفخرون، فبعث الله تعالى على يديه الإعجاز الذي تحدّى كلّ إمكاناتهم البلاغية وأربكها.
أما أن النبيّw جاء ببعض الأسرار والمعارف والعلوم التي لم يعرفها عصره، كونه لم ينطلق في ذلك من ثقافة ذاتية لأنّه لم يقرأ ولم يكتب، فهذا دليلٌ على صدق النبيw لا على طبيعة المعجزة.
 
الأسلوب النبوي في الهداية:
 في تعليق لكم على هذه الآية المباركة: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبينٌ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ( ) تقولون إنّ النبي نوحاًt كان يواجه قومه بالأسلوب النبوي العاطفي الروحي الذي يختزن روح الأبوة والعاطفة... في رأيكم، ما التأثير الإيجابي لهذا الأسلوب تجاه غير المعاندين؟
 هذا الأسلوب النبوي نلمحه في مسيرة الأنبياء كافةً، حيث يأتي النبي إلى عُبّاد الأصنام والأوثان ليدعوهم إلى الله تعالى من موقع العاطفة الروحية التي توحي بأنّه يحدّثهم من منطلق خوفه عليهم لا من منطلق غلظة وقساوة وتهديد. وهذا ما علينا أن نتعلّمه من الأنبياءi في أسلوب هداية الإنسان المنحرف أو الفاسق، فلا نواجهه بالذهنية القاسية المعقّدة، بل نفتح قلوبنا له، بما يوحي إليه بأننا حريصون عليه من موقع قلوبنا المفتوحة عليه، لينجذب إلى خطّ الصلاح والإيمان من خلال العاطفة التي يتحسّسها في أسلوبنا وكلماتنا، فيكون ذلك وسيلة ندخل عبرها إلى قلبه وعقله.
لذا نقول لكلّ العاملين في سبيل الله: ادخلوا إلى قلوب الناس قبل أن تدخلوا إلى عقولهم ، لأنّ الطريق إلى العقل هو القلب ، فإذا استطعتم أن تكسبوا عاطفة إنسان ومحبّته، فإنّكم تستطيعون أن تصلوا إلى عقله من أقرب طريق.
ومن هذه الفكرة انطلق نوحٌt، ولكن الذين جمّدوا عواطفهم وعقولهم رفضوا ما أنذرهم به ووجّههم إليه فَقَالَ المَلأُ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إلاّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبعَكَ إلاّ الّذِين هُمْ أرَاذِلُنَا بَادِيَ الرّأي( ). وهنا نعرف طبيعة الذهنية التي كانت تحكم قومه، إذ يبدون من خلال ردّة فعلهم، أنّهم كانوا يعيشون الطبقية الاجتماعية، إضافةً إلى أنهم كانوا ينظرون إلى نبيّهم بأنّه بشر، ولا يمكن للبشر أن يكون مرتبطاً بقوة إلهية، فبشريّته تنفي أن يكون رسولاً من قبل الله، لأنهم يتصوّرون أنّ النبي w يمثّل مَلَكاً من الملائكة، وعلى هذا فليس للبشر أي علاقة بالله تعالى.
وهذه الذهنية جعلتهم يرفضون دعوة نوحt، لأنّ من آمن به من قومه لم يكن من المستوى الاجتماعي المتقدّم وما نَراكَ اتّبَعَكَ إلاّ الّذين هُم أراذِلُنا الذين يمثّلون الطبقة السفلى في المجتمع، أي أراذل المجتمع الذين لا يملكون مالاً ولا قوّة ولا جاهاً ولا امتيازات، فإذا آمنّا بدعوتك، فمعنى ذلك أن تساوي بيننا وبينهم، والفارق كبيرٌ بين مواقعنا المتسلّحة بالقوة والسلطة، ومواقعهم الفقيرة الضعيفة.
التبيان القرآني:
 يصف الله كتابه بأن فيه تبياناً لكل شيء، لكننا لا نجد القرآن كما وصفه الله، حيث لا يوجد في القرآن كيفية الزراعة، أو بيان هندسة البناء، أوليس هذا الوصف مخالفاً للواقع؟
 ليس المراد أنّ فيه تبياناً لكل شيء من شؤون الأوضاع العلمية والأوضاع الزراعية والأوضاع الصحية، وما إلى ذلك، بل فيه تبيان كل شيء ممّا يؤدي إلى هداية الناس ومعرفتهم بالله وانفتاحهم عليه، والإخلاص في توحيده وعبادته وطاعته.
آية التطهير:
 كيف يذهب الشيعة إلى أن آية التطهير نزلت في الخمسة، والحال أن سياق الآية يدل على أنها في نساء النبيw، وقد جاء ضمير التذكير فيها للتغليب؟
ج أولاً: إنّ القرآن لم ينـزل جُملة واحدة، بل كانت بعض الآيات تنـزل وحدها كما في آية التطهير، فقد ورد عند السنّة والشيعة أن آية التطهير نزلت في حادثة الكساء، عندما كان رسول اللهw في بيت علي وفاطمةu، وكان قد التحف الكساء وأدخل معه الحسن والحسين وعلياً وفاطمة i، ونزل جبرائيل بهذه الآية: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً( ). وكانت إلى جانبه أم سلمة زوجته، وسألته قائلة: هل أنا من أهل البيت؟ قال إنك على خير، ولكن أهل البيت هم هؤلاء. وكان النبيw عندما يمر ببيت فاطمةu يقول: ((السلام عليكم يا أهل البيت))، وقد أصبحت كلمة أهل البيت حتى في الواقع الإسلامي، علماً لعليٍ وفاطمة والحسن والحسينi.
معنى (الواو) في والراسخون}:
 لماذا تقولون إن الواو في قوله عز وجل: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ( ) أنها واو عطف، وقد ورد عن عائشة والزبير وقتادة والجبائي أنها استئنافية؟
 نحن قد ذكرنا الرأيين، وذكرنا أدلّتهما. وعلى كلّ حال، فإنّ البناء على كونها استئنافيّة لا يعني أن الراسخين في العلم لا يعلمونه، بل نعلم أنّهم يعلمونه من خلال الله تعالى، ويؤمنون به في مقابل الذين في قلوبهم زيغ، ممّن يتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وتأويله.
الهداية والضلال:
 وردت في القرآن آيات كثيرة تبين أن الهداية والضلال بيد الله تعالى، كما يقول الله عزَّ وجلّ: ومَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ( ). ألا يخالف ذلك عدل الله تبارك وتعالى؟
 إضلال الله سبحانه للناس لا يعني أنه يجعلهم ضالّين، أو يهديهم بأن يجعلهم مهتدين، بل المعنى أنّه يهيئ لهم السبل التي يختارون فيها الضلال أو الهداية... وهذا نظير أنّ الله تعالى يرزق عباده، بمعنى أنّه يهيّئ لهم أسباب الرزق، لا أنّه يُنـزل لهم الرزق من السماء بشكل مباشر، أو أن الله جلَّ وعلا يشفي الناس بمعنى أنّه يهيئ لهم أسباب الشفاء. إن نسبة الأمور إلى الله سبحانه وتعالى ليس معناها أنها صادرة منه بشكل مباشر، بل إنه هو مسبب الأسباب، وقد جعل كل شيء في الحياة خاضعاً لقانون السببية، فللرزق سبب، وللضلال سبب، وللهداية سبب، وهذا كله منطلق من إرادة الإنسان واختياره، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً( ). وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ( ).
معنى الأبوّة في القرآن الكريم:
 أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ ِإِلَهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ( ). لم ورد اسم النبي إسماعيلt ضمن آباء يعقوب؟
 ليس المقصود بالآباء المعنى الحقيقي للأبوّة، بل كما هو قول الشاعر: (أولئك آبائي فجئني بمثلهم، فكلمة (الآباء) تطلق على كل من يكون بينه وبين الآخرين نسبٌ تاريخي، فيشملون الأعمام، فعندما يُسأل الإنسان: من هم آباؤك؟ فيقول: آباؤنا فلان وفلان وفلان. فكما يُذكر الآباء والأجداد، يُذكر أيضاً الأعمام، باعتبار أنهم في موقع الأبوة، وإن لم يكونوا آباءً.
معنى (ما لا يُبصَر):
 ما المقصود فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ( )؟
 هذه تُفسَّر بأن هناك كثيراً من الحيوانات التي لا تُبصَر بشكل مباشر، بل نحتاج إلى كثير من الأجهزة المكبرة حتى يمكن لنا أن نبصرها، كالميكروبات أو الحشرات وما إلى ذلك؛ والله العالم.
 
تسخير الكون للبشر:
 قل تعالى: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ( )، ما هو تفسير هذه الآية؟
 هذه الآية تتعرّض لما ذكره الله تعالى في آية قبلها من حديث عن وسائل النقل، كالسفن وسائر ما نركب، فعقّب الله بقوله: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ( ) أي ما كنا له مطيقين في القوّة.
الاستعانة بالله وبغيره:
 كيف نوفّق بين قول الله تعالى: إيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ( ) وقوله: واسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ( )؟
 إيَّاكَ نَسْتَعِينُ تعني أننا لا نستعين بغيرك من الناس، وعندما نستعين بالله سبحانه وتعالى، فنحن نستخدم ما أرادنا أن نتحرك به من خلال ما أودعه من سننه وقوانينه وممّا هدى الإنسان لوسائله، كالاستعانة بالصبر والصلاة، حيث يقول تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة، استعانة بالصبر على الطاعة وعن المعصية التي تدفعه إليها شهواته ومطامعه، والاستعانة بالصلاة في الانفتاح على الله تعالى والخضوع له.
الكلمات الأجنبية في القرآن:
 نزل القرآن بلسانٍ عربيٍ فصيحٍ، فلماذا نرى بعض الكلمات نُقلت من لغاتٍ أُخرى دون ترجمة، مثل كلمة (حِطَّةٌ)، وأسماء الملائكة؟.
 عندما يتحدّث القرآن عن قصص بعض الأقوام وما يستخدمونه من بعض المصطلحات، فإنه ينقل هذه المصطلحات كما هي، وهذا لا يضُرّ بعروبة القرآن ولا بسلامة اللغة هي أن تكون حركة اللغة، في قواعدها وفي سياقاتها، عربية.
إصرار على الطغيان:
 تحدث القرآن كثيراً عن رموز الطُغاة والمصلحين، ابتداءً من قابيل وهابيل، ومروراً بموسى وفرعون، وصولاً إلى النبي محمدw، والمشركين وانتهاءً بمواجهة الإمام المهدي والسفياني. لماذا هذا العناد والإصرار من الطُغاة؛ ألا يُعتبر القرآن وما سبقه من الكتب سبيلاً واضحاً للنهاية المحتومة للطُغاة، أم هناك أسباب تحول دون ذلك؟
 لماذا نتكلّم في التاريخ؟ القرآن اليوم موجود في كل بيت، والتوراة موجودة والإنجيل وغيرهما، ولكن أكثر الناس لا يتّعظون، كما قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ( ). كذلك بالنسبة إلينا ـ كمسلمين ـ فإن القرآن يقول لنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ( ).
هل كان المؤمنون في ظلمات؟
 يقول تعالى في آية الكرسي: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ( )، نفهم من هذه الآية ظاهراً أن المؤمنين كانوا في بحر الظلمات ثم أخرجهم الله إلى النور والهداية، وكذلك الكفّار كانوا في النور ثم أخرجوا إلى الظلمات، فما هو تعليقكم على ذلك؟
 تشير هذه الآية إلى أنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي أعطى المؤمنين الهدى وأخرجهم من ظلمات الضلال، وذلك بلحاظ ما قبل الهدى الذي جاءهم، أو الضلال الذي يمكن أن يقعوا فيه، وكان كثير من المؤمنين في الضلال فأخرجهم الله تعالى منه. أما الكفّار، فإن الطاغوت هو الذي أوقعهم في الظلمات، لأن الهدى من الله سبحانه وتعالى، والكفر من الطاغوت، وقد استجرّهم الطاغوت إلى الضلال وأخرجهم من دعوة الله ومن فطرته التي فطرهم عليها، وهي دين الله، وقد قال تعالى: فطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه( ) غير أن الطاغوت أخرجهم منها، ولذلك ورد: ((كل مولود يولد على الفطرة، إلا أن أبويه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجسانه))( ).
آجال الناس:
 قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ( ). هل المقصود بالأجل الأول في الآية آجال الناس، والأجل الثاني موعد يوم القيامة؟
 يقول البعض إن الأجل الذي قضاه الله تعالى هو الموت، وأما الأجل الذي عنده، فهو يوم البعث الذي لا يعلمه إلاّ اللّه تعالى، والذي لم يجعله حتى لرسوله، ولكن الأقرب أن الأجل المسمّى هو المحدد في علمه الموجود في اللوح المحفوظ، والذي قضاه، هو العمر الطبيعي المحدد الممتد بالشروط الموضوعية لعمر الإنسان، من حيث الزمان والمكان، فإذا تحققت له امتد به العمر إلى النهاية، وإذا لم تتحقّق له انقطع به العمر بانتفاء شروط الحياة.
وهج المظاهر:
 ما هو تفسير قوله تعالى: وَإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُم الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ( )؟
 يتحدّث اللّه سبحانه وتعالى عن المنافقين، ويصفهم بالخشب المسندة على الحائط، التي لا تحس ولا تشعر، لأنّهم لا يملكون عقلاً ولا وعياً و لا حركةً، بل إنهم يعيشون في فراغ وخوف وقلق أمام التحديات، فعندما يسمعون أحداً يصيح، فإنهم يحسبون ذلك صيحة عليهم، ولذلك فهم لا يعيشون الصلابة والثبات لأنهم لا يعيشون الإيمان.
تحكيم النبيw:
 قال اللّه سبحانه وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ( ). ما تفسير هذه الآية؟
 تبيِّن هذه الآية أن الإيمان ليس مجرد قضية تعيش في العقل والقلب، بل تتعدى إلى الممارسة، فلن يكون الإنسان مؤمناً إذا لم يحكِّم اللّه سبحانه وتعالى ورسوله فيما يختلف فيه الناس، ليأخذ حكم اللّه ورسوله ويسلِّم به، حتى لو كان ذلك الحكم مخالفاً لما يحب ويريد. وبذلك نعرف أن مسألة الإيمان هي حركة في الواقع، كما يقول سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ( )، بمعنى أن المؤمن لا يرى نفسه حرّاً أمام أمر اللّه وحكمه، كما هو دأب بعض الناس حينما تقول له: (صلِّ أو لا تشرب الخمر)، فيقول: أنا حرّ، إذ لا حرية تجاه أوامر اللّه سبحانه وتعالى، باعتبار أن الإيمان هو حركة في الواقع إلى جانب أنه عقيدة في القلب. فمن يقل عن نفسه إنه مؤمن ولا يلتزم بحكم اللّه في الوقت نفسه، فهو ليس بمؤمن وإن صام وصلّى.
تعليم الإنسان:
 في قول الله تعالى: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ( )، كيف يعلِّم الله القرآن أولاً ثم يخلق الإنسان؟
 هذا لا يدل على الترتيب، بل ورد في مقام بيان أن القرآن من الله، وأنه ليس من رسول الله، كما كان البعض يحاول أن يصوّر، ثمّ بيّن أنّه خلق الإنسان، وأنه علّمه البيان، فإن هذا كله في مقام بيان صفات الله سبحانه وتعالى من دون أن يتحدث عن الترتيب، ولم يَرِد ما يدل على الترتيب، كالحروف التي تفيد الترتيب، ومنها الفاء مثلاً.
تعلّم سورة يوسف:
 نرجو من سماحتكم البيان في صورة الحديث المروي عن الإمام علي t: ((لا تعلِّموا نساءكم سورة يوسف، ولا تقرئوهن إياها، لأن فيها الفتن، ولكن علّموهن سورة النور، فإن فيها المواعظ))( ).
 في مناقشتنا لهذه الرواية ـ من حيث المضمون ـ نجد:
أولاً: أن كل القرآن نور وهداية، ولذلك لا يمكن أن يصدر من أي إمام نهي عن قراءة أية سورة من القرآن.
ثانياً: أن سورة يوسفt تمثِّل أعلى درجات العفّة. صحيح أنها تتحدّث عن شخصية امرأة العزيز والنسوة اللاتي جمعتهن لمحاولة إغراء يوسفt، ولكن السورة توضّح أن يوسفt برز في أعلى درجات العفّة وأعلى درجات اللجوء إلى اللّه سبحانه وتعالى. والآية الكريمة: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا( ). ليس المراد بها المعصية، بل إنّها تعني الانجذاب الجسدي لا الانجذاب العقلي، فتلك الحال مثل حال الصائم عندما يمرّ على مطعم ويشمّ رائحة الطعام، فتصبح عنده إفرازات طبيعية رغم أنه صائم، وهو ليس مستعداً لأن يفطر. وهو ما أخذ به الكثيرون من العلماء حول تفسير تلك الآية من سورة (يوسف).
نسبة السيئات إلى النفس:
 قال الله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ( ) وفي سورة البقرة: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْف وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ( ) لقد أشكَلَت عليّ هاتان الآيتان فيما يختصُّ بالسيئة؟
 الآية الأولى تتحدّث عن الجانب الفعلي، أي ما أصابك من سيئة، فإنَّما هي من جهة سوء اختيار الإنسان من خلال تهيئة الظروف التي تؤدي إلى النتائج السيئة، وذلك قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( )، وأما بالنسبة إلى الآية الثانية، فإنَّ الله تعالى لا يُنـزل البلاء من دون مناسبة، حيث يقول سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ( ).
فالبلاء هو نتيجة لفعل الإنسان من خلال سوء عمله، وسوء اختياره.
 
معنى (الفيء):
 ما تفسير قوله تعالى: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ منهم( )؟
 أي ما أعطاه الله لرسوله في الحروب التي خاضها، من حق في التصرف بالغنائم التي غنمها النبي w.
فامرأة العزيز استعملت كل وسائل الإغراء والضغط فوق العادة على يوسفt وهو بعد لم يزل شاباً، ومع ذلك قال: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ( ).
فالنبي يوسفt في تلك القصة يمثِّل العصمة والسُمو. ثم إننا نلاحظ أنّه عند خروج يوسف من السجن، أراد العزيز (الملك) أن يكافىء النبي يوسفt بعد أن فسّر له حلمه، وأن يعطيه منصباً كبيراً، ولكن يوسفt لم يقبل أن يخرج من السجن إلاّ بعد أن تثبت براءته للناس كافة، فقال لمبعوث الملك: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ( )، عند ذلك قالت امرأة العزيز: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ * ذلك ليعلم أنّي لم أخنه بالغيب وأنّ الله لا يهدي كيد الخائنين * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ( ). معنى ذلك أن امرأة العزيز تراجعت واعترفت بذنبها، وأن يوسفt بريء من تهمها، فخرج يوسفt نقيّاً بريئاً أمام المجتمع، وبالمستوى الأعلى من الأخلاق، وعلى هذا الأساس تمّ تكليفه بتلك المسؤولية بعد أن قال للملك: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ( )، فلو لم تظهر براءته أمام الناس لما وصل إلى تلك المسؤولية.
فعندما ندرس قصة يوسفt من أولها إلى آخرها، نرى أنّ هذه التجربة تمثّل التجربة الأخلاقية الرائعة، سواءً بالنسبة إلى يوسفt أو حتى بالنسبة إلى امرأة العزيز التي اعترفت بخطئها وتراجعت. فأي درس للرجال والنساء أعظم من ذلك الدرس الذي يمكن أن يستفيد منه المجتمع في كل زمان ومكان، هذا إضافة إلى أنّ الرواية المذكورة ضعيفة السند. والرواية لا بد من أن تناقش من ناحية السند والمضمون معاً.
السياحة أربعة أشهر:
 يقول تعالى في سورة (التوبة): بَرَاءةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ( )، في أية مرحلة من تاريخ المسلمين نزلت هذه الآية؟ وما هي دلالتها؟
 وردت هذه الآية عندما أنهى النبيw العهود المعقودة بين المسلمين والمشركين، وترك لهم أربعة أشهر، وذلك لإعطائهم مهلةً للتفكير في الأمر في ما يريدون أن يختاروه من الإيمان بالإسلام أو البقاء على الشرك، لتبدأ بعد ذلك عملية إخراجهم من المنطقة، ولم يكن ليعاجلهم بالمواجهة، بل أبقى لهم الأمن وحرية الحركة في أي مكان يذهبون إليه، على أساس أنهم واجهوا الإسلام بالحروب والمنازعات.
الحذر من اللّه تعالى:
 ما معنى قوله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ( )؟
 الآية الكريمة واردة في مقام تحذير الناس الذين يستهينون بأوامر اللّه ونواهيه، ويعتبرون أن اللّه سيعفو عنهم ويغفر لهم، أي عليكم أن تحذروا اللّه سبحانه وتعالى لأنه هو القوي. وقد ورد في دعاء الافتتاح المروي عن الإمام علي بن الحسين t: ((وأيقنت أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة)). ويقول اللّه سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ( ). لذلك فإن على الإنسان أن يحذر من اللّه، لأنه لا يضمن أن يغفر له إذا عصاه.
الاستعانة بالجنّ:
 وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً( )، ما تفسير هذه الآية؟
 في أيام الجاهلية، كان بعض الناس ممّن كانت تصيبهم بعض الأمراض، أو يريدون أن يتعرفوا بعض أوضاع المستقبل أو ما يحيط بهم من مشاكل وقضايا، كانوا يلجأون إلى الجنّ الذين قد يمثّلهم الكُهّان، ولكنهم كانوا لا يعطونهم الرأي الصحيح؛ ولذلك أرهقوهم بما كانوا يحدّثونهم عنه من دون أي أساس للحقيقة.
بين موسىt وقومه:
 عندما طلب سيدنا موسىt من الله أن يراه، كانت الإجابة مختلفة تماماً عن الإجابة عندما طلب نفرٌ من قومِ موسى رؤية الله، فلماذا هذا الاختلاف في الردّ؟
 أمّا بالنسبة إلى موسىt، فلم ينـزل الله تعالى عليه منذ أن أرسله بالرسالة أنه لا يراه؛ ولذلك أراد الله سبحانه وتعالى أن يعرِّفه من خلال هذه التجربة، وهي عندما تجلّى الله للجبل بنحوٍ قد لا نفهم طبيعته، أنّه تعالى لا يمكن أن يُرى بشكل محسوس؛ لأن الله تبارك وتعالى فوق الحسّ. أما بالنسبة إلى جماعة موسىt، فقد كانوا في موقع التحدّي للرسول والرسالة، فقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً( ). أي مهما قرَّبت إلينا من أفكار ومواعظ ونصائح ورسالات، فنحن لسنا مستعدين لأن نؤمن حتّى نرى الله سبحانه وتعالى جهرةً. فهذا وارد في مقام التحدّي، وليس وارداً في مقام سؤال المعرفة؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى تحدّاهم في مقابل تحدّيهم لموسى t بهذه الطريقة، حيث أخذتهم الصاعقةُ بظلمهم.
 
أمانة التكليف:
 ما هو معنى (الأمانة) المذكورة في سورة الأحزاب؟
 المراد بها أمانة التكليف، من حيث هو رمز ونتيجة لقابلية الإنسان للانقياد والطاعة وتنفيذ الأوامر بما أودع فيه من عقل وقدرة على الاختيار، وهي خاصية غير موجودة، فضلاً عن الإنسان، في غير الجنّ من سائر الموجودات، وخاصة الجمادات الموجودة في السماء والأرض.
الترتيب بين الرسالات:
 يقول الله تبارك وتعالى في سورة (الأحقاف) في الآية (30): قَالُواْ يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدّقاً لـمَا بَيْنَ يَدَيْهِ( ). ما هي الحكمة الإلهية من قوله: "كتاباً أنزل من بعد موسى"، ونحن نعلم أن القرآن أنزل بعد نبي الله عيسىt؟
 لعل ذلك باعتبار أن رسالة نبي الله موسىt تشكل مفصلاً أساسياً في الرسالات الإلهية والرسل المبعوثين، ولأن التوراة هي الكتاب الذي يشتمل على الشريعة، ولذلك كان النصارى مكلفين بالعمل به، بينما لم يتضمن الإنجيل ذلك.
عرش الله عزَّ وجلّ:
 في الآية القرآنية الكريمة: ويحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ( ). فهل هو حمل حقيقي أم حمل رمزي؟
 الحمل له معنى رمزي، وقد يراد به إدارة شؤونه وتحمل مسؤولياته، والعرش له معنى رمزي، وقد يراد به موقع التحكم بحركة الوجود وتدبير أموره.
النجاسة المعنوية:
 قال تعالى: إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ( ). أنتم قلتم إن المراد هنا النجاسة المعنوية لا النجاسة الظاهرية، ولكن الله تعالى قال: لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ( )، أي لا يجوز للقرآن الكريم أن يمس بدون وضوء، فما رأيكم في ذلك؟
 لا علاقة بين الأمرين، فقوله تعالى: إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ إنما المراد به نجاسة الشرك ونجاسة الفكر، أي نجاسة القذارة النفسية والروحية، والدليل على ذلك، قوله بعد ذلك: فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا...، فلو كان المراد النجاسة المادّية، فاللازم هو عدم مقاربتهم في الحال، وليس بعد سنة. ثمّ إنّ المراد بالمسجد الحرام هو مكّة، ولا يلتزم أحد بعدم جواز تنجيس مكّة، بل خصوص المسجد. فهذه الآية نزلت من أجل إنهاء المعاهدة بين المسلمين والمشركين.
ثمّ نحن نلاحظ أن المشركين استمرّوا في علاقتهم مع المسلمين بعد نزول الآية، ولم يرد أنّ أحداً سأل النبيّ عن قريبه المشرك، وعن مؤاكلته ومعاشرته ممّا يُبتلى به الإنسان عادةً بالنجاسة.
أمّا قوله: لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ( )، فهناك تفسير أنه لا يمس القرآن إلا المطهر، أي المتوضئ، وهناك رأي آخر يقول: لا يمسه، أي لا يدرك تفسيره ولا معانيه إلا المطهرون. فليس هناك علاقة بين هذه الآية وتلك.
معنى ضلالة موسى:
س:قال تعالى: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ( )، ما المقصود بالضلالة هنا؟
 ليس المقصود بها الضلالة عن الهدى، وإنما المقصود عدم معرفة المصلحة، وفي ذاك الوقت، لم يكن هناك توجيه من الله سبحانه وتعالى له، فقوله نظير قوله تعالى عن النبيّw: وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى( )، أي لم تكن تعرف الإيمان، كما قال تعالى: مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ( )، فلم يكن الله قد أنزل عليه الوحي وعرّفه الأمور.
السياق القرآني والترتيب:
 كيف نحل مشكلة السياقات والترتيب في القرآن؟
 السياق في الكلام العربي بشكلٍ عام يمثل عنواناً من عناوين الظهور، باعتبار أن السياق يصلح لأن يكون قرينة لما قبله وما بعده. أما مسألة الترتيب، فقد جاء النقل الكثير بأن ترتيب الآيات القرآنية كان يجري تحت إشراف النبيw، فمثلاً آية التطهير، البعض يحملها على أن المراد بأهل البيت يشمل نساء النبيw، ولكن يمكن أن يقال إنها ليست واردةً في هذا السياق التفصيلي، بل إنما ذُكرت في هذا الفصل نتيجة الحديث عن بيت النبي من خلال أزواجه، وهو ينسجم مع الحديث عن بيت النبي من خلالِ ابنته ومن خلال سبطيه ومن خلال صهره وما إلى ذلك، وهذا مما دل الدليل عليه، بمعنى أننا نأخذ بالسياق إلا إذا دل الدليل على أنه ليس مراداً بالمعنى النظامي في القرآن الكريم، فيمكن أن نأخذ بالسياق باعتبار أنّه يمثل إحدى وسائل الظهور، ولكن الأدلة الواردة من طريق السنة والشيعة دلت على أن المراد بأهل البيت هم عليٌ وفاطمة والحسن والحُسين، وأن النبي كان يؤكد ذلك عندما كان يمر على البيت وهو يقول: السلام عليكم يا أهل البيت، حتى إننا نلاحظ أن العرف الإسلامي بشكلٍ عام، عندما يتحدث عن أهل البيتi بشكل مطلق، فإنهم يقولون إن المراد بأهل بيت النبيw الذين كانوا تحت الكساء، ولذلك فإن المسألة أصبحت تحت المُصطلح، أي من قبيل المصطلح الذي أكدته الكثير من الروايات الكثيرة أو المتواترة.
تكرار بعض القصص في القرآن:
 يُقال إنّ البلاغة في الإيجاز، ولكننا نلاحظ تعدد قصص النبي موسى في القرآن، وبعضها قد تنقل الحادثة الواحدة في عدة مواضع في القرآن، كقصة موسى وزوجته؟
 أظن أن الأخ لم يلتفت إلى حديثنا، فنحن نقول إنّ القرآن ليس كتاب تاريخ، ولا كتاب قصة، بل هو كتاب موعظة وإرشاد وعبرة لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ...( )، فإن بعض القصص تتصل بأكثر من جانب من الجوانب المفاهيمية التي يعالجها القرآن، ولذلك لا يعدّ هذا الأمر تكراراًً، وإنما هو وضع جانب من جوانب القصة في هذه الفكرة، ووضع جانب آخر في فكرة ثانية.
الأمة الواحدة والسلطة والواحدة:
 قال الله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ( )، هل معنى ذلك أن الناسَ كانوا يحكمون أنفسهم بأنفسهم دون سلطة أو قانون؟.
 يعني أنهم كانوا يعيشون حياةً طبيعيةً في بداية الأمر، حيث كانوا أمةً واحدة، فلم تكن بينهم خلافات في الاتجاهات الفكرية أو الاتجاهات الدينية، لأنه لم يكن هناك أي أساسٍ للاختلافات الدينية، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين لأنّهم كانوا يعيشون بعض الاختلاف في مفردات حياتهم العامة، من خلال اختلافهم في طبيعة المزاج في المصالح، وفي الكثير من الأمور التي تحتاج إلى مصلحين يوفقون فيما بينهم ويوحدونهم على الخط المستقيم الذي يرتكزون عليه، على أساس العدل فيما يختلفون حوله من قضايا قد ينحرفون بها عن الأسس القويمة الصحيحة.
 
علل التحريم:
 قال تعالى: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ( )، هل يحق لنا أن نسأل: لماذا حُرمت الميتة والدم ولحم الخنـزير؟ وما هو الدليل المقنع؟
 نحن كمسلمين علينا أن نتعبد بكل ما جاء في النص القرآني: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ( )، وأن نسلّم بما حرَّمه الله وبما أحله، ونحن نعرف أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، فما كان فيه مصلحة فإن الله يأمر به أو يرخص فيه، وما كان فيه مفسدة فإن الله ينهى عنه ويحرمه، وقد ذُكر من خلال أهل الخبرة في الخنـزير، أن هناك أضراراً كثيرة في لحمه، ولذلك فإنهم يحتاجون إلى كثير من الوسائل حتى يتجاوزوا هذا الضرر، والله العالم بحقائق أحكامه.
التركيز على بني إسرائيل:
 على الرغم من القلة العددية لبني إسرائيل وأثرها في حركة الرسالة على المستوى العالمي، نلاحظ أن القرآن الكريم قد ركَّز على هذه الأمة أكثر مما ركز على المسيحية التي تشغل مساحةً أكبر من هذه؟
 أظن أنك لم تقرأ القرآن جيداً، فإن القرآن قد حدثنا عن النصارى وعن اليهود وعن أهل الكتاب وعن عقائدهم، قَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ...( )، لقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَة...( ) مَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ...( ) وأيضاً أراد منّا أن نحاورهم وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ). اقرأوا القرآن جيداً، تجدوا أن القرآن كتاب الحوار الذي حاور المشركين والملحدين وأهل الكتاب، وتحدث عن عقائدهم وناقشهم فيها وما إلى ذلك.
العطف في آية الوضوء:
 في الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ( )، هل أرجلكم معطوفة على أيديكم لأنها منصوبة؟
 لا، هي منصوبة بنـزع الخافض، ولا يجوز أن تكون معطوفة على أيديكم، لأنّه لا بد من أن يكون المعطوف والمعطوف عليه من دون فاصل، وكلمة (وَامْسَحُواْ) فاصل بين (أيديكم) وبين (برؤوسكم)، ولذا يقال هنا إنّ الباء زائدة.
 
اقتراب الساعة:
 ما تفسير قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ( )، من حيث دلالته على معجزة النبيw؟
 الظاهر أن هذه الآية تتحدث عن نهاية العالم، أما الروايات الواردة في مسألة الإعجاز، فهي مما لا يمكن للإنسان أن يقتنع بها، وخصوصاً أنّها تقول إنه عندما طلبت قريش من النبيw أن يجعل القمر ينشقّ، فإن نصف القمر صار في جانب والنصف الثاني دخل في كُمه، ونحن نعرف أن القمر مثل الأرض، فكيف يمكن أن يدخل في كم النبيw. ثم إن القرآن الكريم يؤكد أن الله سبحانه وتعالى لم يقبل الاقتراحات التي كانت توجه إلى النبيw: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً( )، والله ينفي أنه أرسل نبيه بالآيات الكونية، ولذلك نحن نرى أن قضية انشقاق القمر ليست من معاجز النبي w، وإن كان من الممكن أن يلقي الله المعاجز على يديه، ولكن الله أراد أن تكون معجزته الوحيدة هي القرآن الكريم.
الأثر الواقعي للحسد:
 هل للحسد أثرٌ واقعيٌ على الغير، أم هو مجرد مرضٍ نفسي؟ وما معنى قوله تعالى: لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ( )؟
 هناك بعض الأحاديث تقول إن العين حق، كما ورد في قوله تعالى: وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ( )، ولكنّنا نلاحظ أن مسألة الحسد لو كانت كما يظن الناس في أنها تترك تأثيراً مادياً سلبياً على الإنسان، لأمكننا أن نحارب الطُغاة به. أما الاستعاذة من شرّ الحاسد، كما ورد في الآية الكريمة، فباعتبار أن الحاسد يعيش العقدة ضد المحسود، (وكل ذي نعمةٍ تلقاه محسوداً). يتمنى أن يزيلها الله عن المحسود وينقلها إليه، وقد تصل به العقدة إلى أن يعتدي عليه، وهذا ما يؤكده الحديث المروي عن النبيw: ((إذا حسدت فلا تبغِ))، أي لا تعتدي على من حسدته. فمسألة الحسد تنطلق من خلال العقدة النفسية لدى الحاسد ضد المحسود، والتي قد تدفعه إلى الاعتداء على المحسود بطريقة أو بأخرى.
الإمام المهديt في القرآن الكريم:
 هل يوجد في القرآن الكريم ما يوحي بوجود الإمام المهديr؟
 ليس هناك تصريح بهذه المسألة، ولكن من الممكن أن نستوحي ذلك من الخط العام، فالله تعالى يقول: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ( ). ويقول أيضاً: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ( ). حيث تدل هذه الآيات على أنه لابد في نهاية المطاف من أن يحكم الصالحون والمستضعفون العالم كله، بعد أن يسقط المستكبرون والظالمون.
نيّة يعقوبt:
 في سورة يوسف، يأمر يعقوب أولاده بأن يدخلوا مصر من أبواب مختلفة، ما الحكمة في هذا الأمر؟
 ربما كانت المسألة تنطلق، بحسب ما يقوله البعض، من جهة الخوف عليهم من الحسد، ويمكن أن يقال إنهم عندما يدخلون مجتمعين، فقد يوحي ذلك إلى الآخرين بالمواجهة لهم أو بالضغط عليهم أو ما إلى ذلك.
بقية الله:
 ما تفسير قوله تعالى: بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ...( )؟
 أي ما يبقيه الله سبحانه وتعالى من لُطفه ورحمته ورضوانه ونعمه فيما يفيض به على عباده( ).
الدور الإبليسي:
 ما المقصود بـ (خيل إبليس)؟ وكيف تكون مشاركة إبليس الناس في أولادهم؟( )
 ليس المقصود بالمشاركة المشاركة المادية، ولكن بمعنى أنه ربما يجعلهم يعيشون ذهنيةً لا تنفتح على طلب الذرية الصالحة، وهذا ما جعل النبي زكريا يقول، كما ورد في قصّته: رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء( ). فقد يوسوس إبليس للإنسان في تمنياته وأحلامه فيما يتعلّق بذريته، بحيث يجعله لا يفكر في أن تكون ذريةً صالحةً أو طيبةً.

استغفار النبيw للمؤمنين:
 ما معنى قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً( )؟ هل يكون ذلك بعد وفاة الرّسولw؟
 هذه الآية واردة في حياة النبيw بالنسبة إلى المنافقين الذين انحرفوا عن الحق، والذين كانوا يُبطنون الكفر ويُظهرون الإيمان. والله سبحانه يريد أن يقول لهم إن هناك فرصةً لهم للتراجع، وذلك بأن يستغفروا الله من ذنوبهم، سواء كانت ذنوب الكفر أو ذنوب المعاصي... ومعنى يستغفر لهم الرسول، أي، يكون لهم شفيعاً إلى الله سبحانه وتعالى، فيطلب من الله أن يغفر لهم بعد أن يستغفروا الله سبحانه وتعالى لأنفسهم. وعليه، فإنها واردة في حياة النبي لا بعد وفاته.
صيغة (جاء) في الماضي:
 وردت كلمة (جاء) في القرآن في كل المواضع بصيغة الماضي، ما السرُ في ذلك؟
 القرآن الكريم قد يأتي بالفعل الماضي لما يُستقبل، باعتبار أن ما يُستقبل إذا كان يحصل على نحو التحقيق، فهو يشبه الماضي في الثبات، لأن الشيء الماضي هو شيءٌ ثابت. وبعضهم يقول إن الفعل الماضي لا يدل على الماضي، وإنما يدل على ثبات الشيء.
تكليف المشركين:
 وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ( ) كيف للمشركين أن يؤتوا الزكاة؟
 أراد تعالى في هذه الآية، أن يبيّن بأن المشركين بخلاء لا يعيشون روح العطاء، ولا يتميزون بما يتميز به المسلمون من العطاء، وذلك بإعطاء الزكاة للفقراء والمساكين وما إلى ذلك. فليست المسألة أنهم مكلفون بشكلٍ شرعي في ذلك، بل أراد أن يبين الجوانب السلبية في شخصيات المشركين، وذلك بأنهم لا ينفتحون على العطاء لمن يحتاج إلى ذلك من المحرومين من الفقراء والمساكين.
عرض أعمال البشر:
 هل صحيحٌ أن آل النبيw يرون أعمال الناس؟ وهل يسمعون نداءنا المباشر إليهم في الزيارات وغيرها؟ وما معنى قوله: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ( )؟
 بعض الناس يرون هذا الأمر ويستفيدون ذلك من الآية، ولكن لم يثبت عندنا ذلك بشكلٍ تقوم الحجة به، لأنّ الظاهر منه أنّه وارد كخطاب للمسلمين الذين كانوا في زمان النبيw، لحثهم على العمل الذي يراه الله ويراه الرسول ويراه المؤمنون الذين يعيشون في المجتمع الإيماني الإسلامي.
الاستشفاء بالقرآن:
 الاستشفاء بالقرآن الكريم، وردت فيه الأحاديث الكثيرة، ما هو رأيكم في ذلك؟
 القرآن ليس كتاباً طبياً حتى يبين لنا وسائل علاجية، بحيث إذا كان هناك مريض فإنه يقرأ آيةً ليشفى، وإذا كان عند أحد سرطان فإنه يقرأ سورة أو ما أشبه ذلك. إنّ القرآن فيه شفاء لما في الصدور، أي الشفاء القلبي، والشفاء الروحي، والشفاء الثقافي. أما بالنسبة إلى الأمراض التي تصيب الناس، فعليهم أن يلجأوا إلى الأدوية أو الأجهزة التي يمكن أن تساهم في شفائهم، وأن يرجعوا، إلى جانب ذلك، إلى الله سبحانه وتعالى، ليطلبوا منه أن يشفيهم بلطفه ورحمته ومغفرته.
من هم الصادقون:
 قال الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ( )؟ الخطاب في هذه الآية موجّه إلى المؤمنين، فما هي درجة إيمانهم؟ ومن هم الصادقون الذين أمر المؤمنين باتباعهم؟
 المراد بالذين آمنوا الذين أسلموا عن إيمان، وهم الذين انتموا إلى خط الإيمان وانفتحوا عليه في عقائدهم، أما الصادقون، فهم الذين يتحركون بالصدق في الكلمة والموقع والمسؤولية في كل قضايا الناس. ولذلك انظر من تجعله أمامك تأتمر بأمره، وتجعله مثلَك الأعلى، فليكن الصادق الذي لا يخونك، والصادق الذي لا يؤدّي بك إلى الضياع. ولذلك ورد أيضاً تفسيرها في الأئمةi، وذلك من باب التفسير بالمصداق الأكمل.
المسؤولية تجاه الأحكام الشرعية:
 قال الله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ( ). ألا ترون أن معظم قواعد القانون الجزائي في البلاد العربية مستمدة من الغرب، وهي بعيدة عن قواعد الشريعة الإسلامية من حيث العقاب، فهل إذا حكم القاضي بهذه المبادئ يكون ظالماً؟ ومن يكون مسؤولاً عن المشرع، أم هو كقاض مفوض من قِبل المشرع؟
 كل من ينحرف عن الحكم بغير ما أنزل الله يتحمل المسؤولية عن ذلك، سواء كان مشرِّعاً، وهو الذي يشرع القانون ويفرضه، أو كان خاضعاً لهذا القانون بحيث كان ممّن يقضي به ويحكم، لأن الله خاطب الذين يشرعون بغير ما أنزل القرآن بقوله تعالى: آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ( ). أي أن الله لم يأذن لكم بمثل هذه التشريعات، وأنتم عندما تشرعونها وتعتبرونها شرائع لابد للناس من أن يلتزموا بها، فإنكم تفترون على الله. فالمسؤولية يتحمّلها المشرِّع، كما يتحمّلها أيضاً الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله.

 
 

روح الله؟
 ما معنى خلق عيسى t من روح الله؟
 الله سبحانه لا تتجزأ روحه، وإنما المراد بروح الله قدرة الله تعالى؛ ولذا وردت هذه المسألة في خلق آدمt، قال تعالى: إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن روحِي ـ أي من قدرتي ـ فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ( ).
تجلّي الله للجبل:
 ما معنى التجلّي للجبل في قصة موسىt؟
 الوارد أنه تجلّى للجبل، أي أرسل نوره إليه، فاهتز الجبل من هذا الأمر، ما جعل موسىt لا يستطيع التماسك أمام هذا الاهتزاز للجبل، وَخَرَّ موسَى صَعِقاً( ). وشعر بأن طلبه من الله سبحانه وتعالى أن ينظر إليه، لا يتناسب مع عظمة الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس جسداً يمكن أن يراه الإنسان.
النصّ والشورى:
 هل من تناقض بين نظرية الإمامة المعينة بالنص ونظرية الشورى فيما يتعلق بالولاية؟
 الإمامة في عقيدة الشيعة الإثني عشرية ثابتة بالنص من النبيw، ومن الله سبحانه وتعالى بالإيحاء إلى النبيw، كما هي القضية في مسألة الغدير، حيث أنزل الله سبحانه وتعالى على نبيّه قوله تعالى: بََلِّغْ مَا أُنزِل إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس( ). أما نظرية الشورى، فإنها تنطلق من خلال ما يجتمع عليه أهل الحل والعقد أو أهل الخبرة، لينتخبوا شخصاً يملك عناصر القيادة من أجل أن يقود المجتمع إلى ما يحبه الله ويرضاه.
الدعوات المهدويّة:
 ظهرت في العراق مؤخراً حركة سُميت بالمهدويّة، إدّعى صاحبها أنه ممهِّد للظهور المبارك للإمام، وسالت من أجل ذلك دماء كثيرة، ما رأيكم في هذه الحركة؟
 إنها حركةٌ سخيفة وباطلة، وإني أستغرب من كثير من إخواننا وأحبائنا العراقيين إيمانهم بصاحبها ومحاربتهم معه، فهذه حركة أفضل ما يقال عنها إنها حركة سخيفة؛ والإمام r لم يظهر لأحد، وقضية علامات الظهور هي من الأمور الغيبية التي لا يستطيع الناس أن يعرفوها إلا عند ظهوره.
رضا فاطمةu:
 ما هو تفسير الحديث الشريف: ((فاطمة يرضى الله لرضاها))؟
 ليس معنى هذا الحديث أن إرادة الله تعالى تابعة لإرادة فاطمةu، بل معنى ذلك أنهاu المرأة المعصومة التي لا يصدر منها إلا ما يرضي الله سبحانه وتعالى. وعلى ضوء هذا، فإن ما يرضيها هو ما يرضي الله عزَّ وجلّ، لأنه لا يبتعد عن رضا الله سبحانه وتعالى.
سند دعاء التوسل:
 أرجو منكم بيان سند دعاء التوسل، ووجوه الضعف فيه.
 أساساً، هذا الدعاء ليس ثابتاً عن أئمة أهل البيتi، وسنده ضعيف، ونحن نقول إن علينا عندما ندعو الله سبحانه وتعالى، ونطلب الشفاعة من أهل البيتi والأنبياء، أن يكون ذلك وفق أسلوب: ((واجعل توسلي به شافعاً))، أي أن نطلب من الله أن يشفّعهم فينا، لا أن نطلب الشفاعة منهم بشكل مباشر، لأنهم لا يملكون الشفاعة، بل إنّ الله عزَّ وجلَّ هو الذي يكرِّمهم بالشفاعة لعباده.
حجّ آدمt:
 جاء في دعاء الإمام زين العابدينt الصلاة على آدمt قوله: ((... وسابق المتذللين بحلق رأسه في حرمك))، فهل هذا يعني أن آدم قد حجّ؟
 حلق الرأس يعتبر مظهراً من مظاهر الخضوع والخشوع لله تعالى، ولذا جعله الله سبحانه وتعالى منسكاً من مناسك الحج: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ( ). فاعتبر الحلق من المناسك، لأن حلق الرأس يعتبر من علامات التواضع والعبودية والخضوع لله، ولذا كانوا سابقاً، وحتّى الآن، يعاقبون الشخص بأن يحلقوا له رأسه، لأنه يمثل نوعاً من أنواع المذلّة أمام الناس.
ويمكن أنه يكون حجه من نوع آخر، أي قبل أن تُبنى الكعبة البيت الحرام؛ والله العالم.
معنى الإلهام:
 في دعاء العارفين: ((إلهي ما ألذَّ خواطر الإلهام بذكرك على القلوب)). ما المقصود بالإلهام؟ وهل هو مختص بالأنبياء والأئمةi؟
 هو إلهام التقوى وإلهام المحبة لله تعالى، وثمّة نقاش في مسألة نسبة هذه المناجاة إلى زين العابدينt.
الحريّة بالتديّن:
 بما أن الله سبحانه وتعالى عادل ليس بظلاّمٍ للعبيد، فلو كنتُ صادقاً مع نفسي، راغباً في الوصولِ إلى الحقيقة، ولكني لم أقتنع بأيِ دين، بل عملت بالمبادئ السامية عند جميع الأديان، فما مصيري عند لقاء ربي؟
 أنت تقول إني لم أقتنع بأي دين، وعملت بالمبادئ السامية عند جميع الأديان؛ من أين عرفت كل الأديان؟ إنّ قولك: عملت، معناه أنك اقتنعت بالأديان، والله سبحانه وتعالى جعل الدين واحداً، وإنما التفاصيل هي في بعض المراحل التي أراد الله للناس أن يحصلوا على المصلحة فيها. فهذا الافتراض الذي فسّرته ينطلق من حال جهل، لأنّ فرضيّتك تقتضي معرفتك بكلّ الأديان؛ بدين إبراهيمt ودين موسىt، وبالتوراة كلها والإنجيل والقرآن، ومعرفة كل ما جاء به رسول الله محمّدw. وإلاّ كيف تنفذ ما لم تقتنع به ولم تؤمن به؟! ثم نقول لك: افرض أنّك لم تقتنع بدين، فعليك أن ترجع إلى الذين يملكون ثقافة الدين؛ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ( ). فالإنسان عندما يكون جاهلاً، وليس لديه ظروف شخصية ذاتية للمعرفة، فعليه أن يرجع إلى أهل المعرفة وأهل الخبرة ليعرِّفوه ما جهله من ذلك كله. ولذلك هذا السؤال هو سؤال افتراضي ليست له أية واقعية بالطريقة التي أثرتها في سؤالك.
وعدالة الله سبحانه وتعالى، هي أنه يجازي الإنسان بما أقام عليه الحجّة في ذلك، والحجّة هي عقله ووحيه؛ ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً( ). فالله سبحانه أقام عليك الحجة، ولكنك في سؤالك هذا لم تنفتح على هذه الحجة، لأن الانفتاح على الحجة الإلهية يكون بالرجوع إلى من يفهمك ويعرفك الأسس التي ترتكز عليها.
الفطرة على الولاء؟!
 هل صحيحٌ أن الإنسانَ مفطورٌ على الولاء، بحيث لا يستطيع أي إنسان إلا أن تكون له قضية يتولاها، سواء أكانت إيجابية (دين، رسالة، إمام) أو سلبية؟
 الإنسان هو عبارة عن عقل وشعور وإحساس، ومن الطبيعي أنه عندما يتطلع إلى المجتمعات من حوله، وإلى الأوضاع التي تحيط به، فلا بد من أن ينفتح في عقله على أشياء، وفي إحساسه على أشياء أخرى، ومن الطبيعي أن يتحوّل هذا الانفتاح على العقل في جانب، وعلى الإحساس في جانب آخر، إلى حالٍ ولائية خاصة، لكن هذه الحالة الولائية تنطلق من خلال حالة ساذجة، وعليه أن يدقق فيها، وأن يرجع إلى من يعرفه صحة الإدراك العقلي وصحة الانفتاح الشعوري.
شروط قبول التوبة:
 هل تُقبل توبة مسلم ارتكب المعاصي خلال فترات طويلة، مع علمه بأنها معصية أثناء القيام بها؟  
 إنّ الله تعالى يقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( ). وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ( ). إنّ الله تعالى يحبُّ التوابين إذا عرف منهم صدق التوبة، وأنها التوبة النصوح التي يندم فيها الإنسان على ما فعل ويعزم على أن لا يقوم بذلك ثانيةً، ورحمة الله سبحانه وتعالى وسعت كل شيء، ولابد من أن تنال الرحمة هذا العبد التائب.
تفضيل النعمة:
 كيف نفهم تفضيل الله تعالى لبني إسرائيل؟ وهل هذا التفضيل يمتدّ في الزمان؟
 إنه تفضيل النعمة، وليس تفضيل القيمة، فالله أعطاهم الكثير من النّعم، ولكنّهم كفروا ونقضوا العهود وقتلوا الأنبياء، ولم يشكروا هذه النعم.
الدعوة إلى الديانات السماوية:
 هل يعطي الإسلام الحقّ لأصحاب الديانات السماوية وغيرها، في الدعوة إلى دينهم في الوسط الإسلامي، كما يدعو أتباعه في محيطه وبيئته؟
 الإسلام لا يعطي مثل هذه الحرية لأتباع الديانات الأخرى أو الاتجاهات الأخرى؛ لأن الإسلام هو الحق، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ). ولذلك فنحن لا نعطي الحرية للآخرين، لينفذوا إلى المجتمع الإسلامي لينحرفوا به عن خط الإسلام.
وقد أطلق الله تعالى الإسلام للعالم، فقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ( ). وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( ). وأراد لنبيّه وللمسلمين أن يدعوا العالم كلّه إلى الإسلام؛ ولكنّ الله سبحانه وتعالى لا يمنعنا من التعايش مع أصحاب الأديان الأخرى، والجدال معهم بالتي هي أحسن، والاتفاق على مواقع اللقاء.
إرتكاب القتل وعصمة الأنبياءi:
 هل قتل موسى لأحد المصريين ينفي العصمة عنه، كونه ارتكب القتل؟
 لا، لأنّ الرجل الفرعوني كان ظالماً لذلك الإسرائيليّ، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه( ). ولأنّ موسىt لم يقصد قتله، بمعنى أنه لم يتعمّد القتل، ولكنّ ضربته كانت ضربة قوية، وقد بينّا ذلك.
مسؤوليات الخطيب الحسيني:
 إن بعض خطباء المنبر الحسيني، وخصوصاً في عاشوراء الأربعين، لا يتناولون في موضوعاتهم إلا موضوع الخلاف السنّي الشيعي، تاركين مشاكل المجتمع والوضع الأُسري الذي أصبح متفككاً في المجتمع الشيعي. ألا ترون أنه يجب التركيز على الأسرة؟
 نحن قلنا إن الحديث عن الإمام الحسينt ينبغي أن يؤخذ من خلال المضمون الذي تحدث بهt في شعارات كربلاء، كما في قولهt: ((خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي))، فكل حالة من الحالات السلبية الموجودة في المجتمع الإسلامي، لا بدّ لنا من معالجتها وفق المنهج الذي نهجه الإمام الحسين t، وأن نسير بسيرته ونحمل شعاراته في مجتمعنا؛ ولذلك على الخطباء والعلماء أن يعملوا على الإصلاح في أمة الإسلام بشكلٍ عام، وعليهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر على مستوى الأسرة والمجتمع والأمة.
إنّ مشكلتنا هي أننا أخذنا المسألة كلّها على أساس إثارة المأساة؛ أمّا الحديث عن الحسين t كإمام وكمصلح في أمة الدِّين، فهذا نسيه الكثيرون، ولذلك أصبح مجتمعنا مجتمعاً يعرف كيف يبكي، ويعرف كيف يلطم، ويعرف كيف يضرب رأسه بالسيف، وكيف يجلد ظهره بالسياط؛ ولكنّ الكثير منهم لا يعرفون الصلاة ولا الصوم ولا يعرفون مواجهة المستكبرين والكافرين وما إلى ذلك، وأصبح الكثيرون يهتمون بالخلاف السنّي الشيعي ولا يهتمون بالخلاف الإسلامي اليهودي أو الإسلامي المسيحي، أو بالخلاف مع الملحدين أو ما إلى ذلك. أنا لا أتكلم عن الكُلّ، ولكن على مستوى الظاهرة. ونحن نعتقد أن الشخصية التي استطاعت أن تُدخل على الخطابة ثقافةً إسلامية رائعة، هي المرحوم الخطيب، الشيخ أحمد الوائلي، الذي استطاع أن يُقدم في خطابته ثقافة إسلامية قرآنية ولائية من أفضل ما يكون، ونحن ندعو إلى الاقتداء بهذا الرجل الجليل الذي كانت كل حياته للإسلام وللقرآن وللأئمة من أهل البيتi.
الاجتهاد بعدم وجود خالق:
 في العقائد يُقال إنّه يجب البحث والتقليد، ولكن عندما يبحث المكلف، قد يصل إلى عدم وجود خالق للكون؟
 هذا غير صحيح؛ لأن الإنسان عندما ينظر في الكون كله نظرة تأمّل وتدبّر، فلا بدّ من أن يسلّم بوجود خالق له؛ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون( ). وهذا أمر فطريّ درج عليه الأطفال في أسئلتهم: من أين جاء هذا؟ أو هذا؟ ولذا ورد قوله تعالى: أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ). ويقول الشاعر:
فيا عجباً كيف يُعصى الإله            أم  كيف   يجحده  الجاحدُ
وفي  كـل  شيء   له   آيـة            تـدل   على   أنـه   واحدُ
ولذلك، الذي يقول أنا بحثت وأشك في وجود الخالق، إنّما هو يشك في وجود نفسه، ويشك في وجود عقله وفي وجود مشاعره وإحساسه.
الخلاف بين السُنّة والشيعة:
 يقول أحد علماء الشيعة، إن الخلاف بين السُنة والشيعة لا يتعلق بالخلافة بعد وفاة رسول الله w، إنما هو حول الأسس التي يعتمدها السنّة في مذهبهم. ما هي هذه الأسس؟ وما هي أسس الشيعة مقابل ذلك؟
 أسس الخلاف تنطلق من قضية الخلافة، فهناك مدرسة الخلافة ومدرسة الإمامة، ولكل مدرسة ركائزها المعينة من خلال طبيعة الاستدلالات والبراهين، حيث إنّ مدرسة الخلافة تعتبر أن الخلافة بعد رسول الله w لأبي بكر، ومدرسة الإمامة تعتبر أن الخلافة بعد رسول الله لعليt، وتعتبر أيضاً أن الحجّة هو ما يأتينا من أهل البيتi؛ لأنّهم أعرف بالإسلام، بينما مدرسة الخلافة لا تسلك هذا المنهج، وإنّما تتعامل مع الأئمّةi على أنهم مجتهدون كسائر المجتهدين.
معنى واسطة الفيض:
 ما معنى أن النبيّw واسطة الفيض الإلهي، وأنّه أكبر مظهر لآيات الله وقدرته؟
 هذه إشارة إلى بعض النظريّات التي تجعل بين الله وبين عباده وسائط في إفاضة الوجود، ونحن نقول إنّ الأنبياء i هم وسائط في الهداية، أمّا الخلق فكلّه بيد الله تعالى.
حدود علم أهل البيتi:
 ورد أن أهل البيتi يعلمون ما كان وما يكون وما هو كائن، ويعلمون ما في السماوات والأرض، فما هي حدود علم أهل البيتi؟
 لا يعلم الغيب إلا الله تعالى، ولا يعلم الأنبياء ولا أئمة أهل البيتi إلا ما علّمهم الله إيّاه وأطلعهم عليه، والله تعالى يقول عن النبيّw: وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ....( ) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْري مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ( ). قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( ). فهل هذا حديث شخص يعلم كل شيء؟ فالله يعطي علم الغيب بحسب الحاجة في أمور الرسالة، كما في قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُول( ). ولذلك جاء عن الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان)، يقول: كيف ينسبون إلى المسلمين الشيعة أنهم يعتقدون أن الأئمةi يعلمون الغيب، مع أن الله تعالى هو وحده العالم بالغيب كله؟
نسبة الخطبة الافتخارية إلى عليt:
 تروون في كتبكم كلاماً عن علي (كرم الله وجهه) لا يقبله العقل، كالخطبة الافتخارية؟!
 الخطبة الافتخارية وخطبة البيان تُمزّقان وتُرميان في البحر، فهما مكذوبتان على عليt، لأنهما تخالفان كتاب الله وسنّة رسولهw، فهذه الخطب التي يقوم بعض الناس بطبعها باسم الولاء لعليt، هي خطبٌ لا يقبل بها عقل ولا دين ولا تنسجم مع خط عليt، وتسيء إليه في موقع عبوديّته لله تعالى، وفي موقعه الرسالي أيضاً.
التوكّل في الحياة:
 هل يتناقض التوكّل مع سعي الإنسان ومحاولته البحث عن حلول لمشكلة ما وطلب المعونة لحلها من أشخاص آخرين؟
 إنّ من شروط التوكل أن يأخذ الإنسان بالأسباب التي وضعها اللّه للوصول إلى أغراضه مما يملكه في قدراته وعلاقاته والظروف المحيطة به، وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادقt: ((المتوكِّلون هم الزرّاعون))، كما هو الفلاح الذي لا يكتفي بقوله: اللهم ازرع لي الأرض حنطة أو تفاحاً، بل يحاول أن يدرس طبيعة الأرض الزراعية ويكافح كل الأمراض والمواد التي تؤثر على الزراعة، ثم يضع البذور ويسقي الأرض بالماء حسب الفصول، ثم يتعهد الزراعة ويلاحظها، وثمّ يطلب من اللّه داعياً بقوله: يا رب هذا ما أستطيعه وأتوكل عليك فيما لا أستطيعه. فالتوكل هو أن تعمل كل شيء تستطيع عمله للوصول إلى النتائج التي تطلبها ثم تتوكّل على الله في مواجهة ما يخبّئه المستقبل.
وهكذا يقال إن شخصاً أعرابياً قال: ((إني تركت دابتي في الصحراء وتوكلت على اللّه ورجعت فلم أجدها، فقيل له: اعقلها وتوكل))، وهذا ما يحدّثنا القرآن الكريم عنه في مخاطبة اللّه لرسولهw بقوله: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه( ). أي أن تشاور في كل أمر تريد أن تسير فيه، ثم إذا أخذت الرأي الصحيح من خلال الشورى فتوكل على اللّه تعالى. فاللّه سبحانه هو الذي أمرنا بالسعي فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ( ). وقوله تعالى: فَإذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فضْلِ اللَّه( ).
أما الاستعانة بالآخرين، فلا تكون على أساس أنَّهم هم الذين يقضون لك الحاجة، بل لأنهم هم الجهة التي سخّرها الله سبحانه وتعالى من أجل إعانتك.
الإمامة وأصول الدين:
 ذكرت الإمامة في القرآن الكريم عدة مرات، فلماذا لا تعتبرونها من أصول الدين؟
 ذُكرت الصلاة عدة مرات في القرآن، فهل نعتبرها من أصول الدين؟ وذُكرت الزكاة في القرآن عدّة مرات، فهل نعتبرها من أصول الدين؟ ما معنى أصول الدين؟ لأصول الدين عندنا معنيان: فتارةً تكون بمعنى المعيار في الدخول في الإسلام والخروج منه، وبهذا المعنى تكون في الأصول ثلاثة: التوحيد، النبوة، المعاد، فمن أنكر التوحيد فهو كافر، ومن أنكر النبوّة فهو كافر، ومن أنكر المعاد فهو كافر. وتارةً تكون بمعنى حقائق الدين، فكلّ حقيقة من حقائق الدين تكون عندئذٍ أصلاً، فالصلاة من حقائق الدين، والزكاة من حقائق الدين، والصيام والحج... وما تحدّث به القرآن بالنحو الأوّل هو الثلاثة، فتحدّث عن التوحيد والشرك، فمن أشرك بالله فقد كفر، وتحدّث عن النبوّة واليوم الآخر، فمن كفر بأحدهما اعتبر خارجاً من الإسلام.
منـزلة الأئمةi:
 هل ما يروى عن أحد الأئمةi من قوله: ((قولوا فينا ما شئتم ونزّهونا عن الربوبية)) هو حديث صحيح؟
 غير صحيح، فهل نقول فيهم مثلاً إنهم أنبياء؟ لا، فهذا الحديث غير صحيح، والأئمةi لا يتحدثون بهذه الطريقة.
القبطية زمن موسىt:
 نحن نقرأ في القرآن الكريم: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ( ). وفي التفسير أنّ هذا الشخص كان قبطياً، فهل إن الديانة المسيحية سبقت رسالة موسى؟
 لم يكن موسى t عندما واجه هذا القبطي نبياً أو رسولاً، ولم تكن القبطية ديانةً في ذلك الوقت، بل كانت تمثل قوميةً، أما الآن، فحيث إنّ الأقباط في مصر انتموا إلى الدين المسيحي، فقد صاروا مسيحيين.
من نبوة موسىt إلى نبوة محمدw:
 نقرأ في القرآن الكريم: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أنصتوا فلمّا قضي ولّوا إلى قومهم منذرين * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى( ). فما المقصود بذلك، وهل يعتبر هذا تجاوزاً لإرسال عيسىt؟
 كان عيسىt يؤمن بالتوراة ويلتزمها، حتى إنّ المسيحيين يلتزمون بالعهد القديم الذي يمثّل التوراة إلى جانب العهد الجديد الذي يمثّل الإنجيل، ذلك أنّ التوراة تشتمل على التشريع، بينما الإنجيل يشتمل على المواعظ والوصايا وما إلى ذلك؛ ولهذا كانت التوراة التي أنزلت على موسىt تمثل الامتداد التشريعي في حياة الناس، حتى إن عيسىt جاء مصدقاً بالتوراة.
رؤية الخالق يوم القيامة:
 هل يمكن للبشر أن يروا الله تعالى يوم القيامة، كما ورد في أحاديث أهل السنة؟
 قال تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ( ). فالله تبارك وتعالى ليس جسماً حتى يراه الناس، ولكنه يمثل ذاتاً غيبية لا يستطيع الإنسان أن ينفذ إلى داخلها؛ لأنها ليست تحت التجربة ولا تحت الحس، وأما ما ورد في قوله: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً( ). فهي بالمعنى المجازي، أي: جاء مُلك ربك، وجاءت عظمة ربك وما أشبه ذلك؛ لأنه لو كان جسداً، لكان محتاجاً فقيراً في ذاته إلى غيره، والله هو الغنيّ المطلق؛ قال تعالى: يَا أيّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ( ).
إقالة العثرات:
 يقول أمير المؤمنين t في دعاء الصباح: (وأقلني صرعة رَدائي..)، ما معنى ذلك؟
 رَدائي، بفتح الراء لا بكسرها، هي من الردى لا من الرِداء الذي هو الثوب، وهو كناية عن خطّ السير الذي يسير به الإنسان في حياته ويواجه فيه العثرات، فيطلب من الله أن يقيل عثرته في ذلك.
منـزلة عليt من النبيw:
 قال الرسول w: ((يا علي، أنت مني بمنـزلة هارون من موسى...))( )، هل هذا الحديث الشريف صحيح من حيث السند والمتن؟
 هو صحيح من حيث السند، وقد ورد في أسانيد موثوقة، ومن حيث المتن؛ إذ إنّ النبيw أراد أن يبين أن علياً هو وزيره،كما كان هارون وزيراً لموسىt، وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي( ). ولكنّه ليس بنبي كما كان هارون، لأن النبوة قد انتهت بنبوة النبيw الذي هو خير الأنبياء.
إنتظار الإمام المهديr:
 من ينتظر من؛ هل الإمام صاحب الأمر r ينتظرنا أم نحن ننتظره؟!
 المسألة ليست (من ينتظر من؟)، فالإمامt كانت غيبته من غيب الله، ولم يطلعنا الله على سرّها، وسيكون ظهوره من غيب الله؛ ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً. لذلك فهو ينتظر أمر الله سبحانه وتعالى في الإذن له للقيام بدوره القيادي في العدل الشامل للبشرية كلّها في نهاية المطاف. أما نحن، فإننا ننتظره من خلال الالتزام بالإسلام والقيام بحركة العدل في كل موقعٍ يكون فيه للعدل قضية، ويكون فيه للظلم مشاكل. نعم، نحن ننتظره؛ أما هو فينتظر أمر الله سبحانه وتعالى.
حقيقة الحظّ:
  ما هو رأي سماحتكم في الحظّ؟ وهل هو حقيقة إسلامية؟
 (الحظّ) ليس مخلوقاً وكياناً خاصاً يتواجد هنا أو هناك، بل هو اسم لحالة النجاح التي تحدث لنا في مختلف الأمور، وذلك حين تنجح أعمالنا بما أمّـنّاه لها من أسباب النجاح، أو حين يحدث ذلك مصادفة في بعض الأحيان.
 
الحجر الأسود:
 ما هي قصة الحجر الأسود؟ وما هي معجزاته في حال كان له معجزات؟
 لا معجزة له، وهو حجر تعبّد الله المسلمين باحترامه، ولا أسرار فيه.
ترك الذنوب حياءً
 ما رأيكم في رجل يترك الذنوب حياءً؟ وهل يعتبر هذا شركاً؟
 المهم أن يترك الإنسان الذنوب، سواء كان تركهُ من جهة امتثاله للنواهي التي أصدرها الله تعالى، أو كان حياءً أو من خلال المزاج النفسي، ولكن هذا لا يعتبر شركاً بالله سبحانه وتعالى. نعم، هذا يفقده ثواب الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإنسان إنما يثيبه الله على ترك المعاصي إذا كان يتركها من أجل نهي الله له في ذلك.
الفطرة الإنسانية
 ما معنى الحديث: ((كل مولود يولد على الفطرة))؟
 يعني أن الإنسان لو ترك لنفسه ولفكره، فإن الفطرة تقوده إلى التوحيد، والإسلام يرتكز على التوحيد، ولذا ورد الحديث: ((كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه يهوّدانه وينصّرانه))، وقد ورد في القرآن الكريم: فطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ( ).
 
معنى الإحالة الإلهية:
 هل الإحالة من الله تعالى بين المرء وقلبه جبرية أم من باب اللطف؟
 ليس معنى أن يحول الله بين المرء وقلبه أن يغير فكره بشكل مباشر، ولكن معناه أن الله قادر على أن يغير للإنسان فكرهُ وشعوره وأحاسيسه، لا أنه تعالى يجبره على ما لا يريد.
حق التشريع:
 هل للأئمةi حق التشريع؟ وهل إن قول المعصوم i ينسخ القرآن، وكيف نفسّر قضية الرجم للزاني المحصن بينما في القرآن تحبس المحصنة في دارها؟
 ليس لأحد حق التشريع بعد رسول الله w، وهذا ما أكده قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً( ). وقد جاء في حديث الإمام جعفر الصادقt أنه قال: ((حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي... وحديث جدي حديث رسول الله عن جبرائيل عن الله سبحانه وتعالى))( )، فلذلك ليس للأئمة ولا لغير الأئمة حق التشريع أو حق نسخ النص القرآني.
أما بالنسبة إلى الرجم، فقد رد في السنّة ولم يرد في القرآن، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نأخذ بالسنّة كما نأخذ بالقرآن، فقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا( ). وإلا فكثير من الأحكام لم ترد في القرآن، وإنّما وردت في السُنّة، كما هي، مثلاً، مسألة عدد ركعات الصلاة، وتفاصيل الصلاة، وتفاصيل الصوم، وتفاصيل الزكاة، فإنها لم تذكر في القرآن الكريم، فالله سبحانه أوحى إلى النبيw بشيء وأوكل إليه التشريع، وأما بعد النبي w فلا تشريع لأحد. أمّا الآية التي تتحدّث عن حبس الزانية في البيت، فليست واردة في المحصنة، كما أنّها كانت تمثّل البداية التشريعيّة في عقاب الزانية إلى أن ينـزل العقاب الحاسم، وذلك قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ( ).
دور العقل في العقائد:
 هل نفهم من حديثكم أن تفاصيل عقيدتنا بالله سبحانه وتعالى نتلقاها منه، لا عن نظرة وتفكّر؟ وما قيمة الاستدلال العقلي من هذه المطالب الدقيقة؟
 ثمّة قضايا يحكم بها العقل القطعي، وهو الحجّة بين الله وبين عباده؛ وقد تعرّض القرآن لها في آياته وبيّنها في شكلٍ فريد يمتزج فيه العقل بالوجدان، كما تعرّض لتفاصيل العقيدة، ونحن نأخذ بالمنهج القرآني وبما بيّنه من تفاصيل العقيدة في كلّ ذلك؛ ليس بمعنى أنّ العقل لا دور له في ذلك، بل إنّه يستقلّ بإدراك بعض القضايا، وهي الأساسيّات، ويحتاج إلى مساعدة النقل في كثير من القضايا.
 
الكمال المعرفي للأنبياء:
 كيف نوفّق بين التدرّج المعرفي للنبيّ موسىt، وبين كونه أكمل الناس؟ وهل الكمال هنا بالنسبة إلى أهل زمانه فقط؟
 هو أكمل الناس، ولكنّ الله تعالى يكمله بالتدريج أيضاً. وقد ورد عن النبيّ محمّدw أنّه قال: أدّبني ربي فأحسن تأديبي، وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً( ). فالله هو الذي كان ينـزل القرآن على النبيw بشكل تدريجي، بحيث إنه عندما كانت تواجه النبي w بعض المشاكل كان يقول: (أنتظر أمر ربي) أي أنه لم يكن له علم ذلك، ولكن الله كان يُنـزل عليه الوحي بذلك.
خطورة الغلوّ:
 الغلوّ آفة خطيرة على إيمان الفرد والمجتمع، فكيف يمكن أن نفهمه ونتعامل معه؟
 الغلوّ، هو أن تعطي المخلوق صفة الخالق وتحوّله إلى أن يكون مثل الخالق؛ حتى إن بعضهم كان يقول إن علم الإمام عليt هو كعلم الله سبحانه وتعالى، ولكن علم الله ذاتيّ وعلم الإمام كسبي وليس ذاتياً، بينما نحن نقرأ: وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله. الأنبياء والأئمّة i إنما يكبرون من خلال إخلاصهم في العبودية لله سبحانه وتعالى.
 
إجتماع عقوبة الدنيا والآخرة:
 هل يحاسب الإنسان في الآخرة على خطأ حوسب عليه في الدنيا؟
 الله لا يجمع للإنسان عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فالإنسان الذي يزني إذا أُجري عليه الحد وتاب، لا يعاقبه الله في الآخرة.
العقدة في لسان موسىt:
 هل إن الله عقد لسان موسى t مؤقتاً ليعبّر عنه هارون؟
 لا، بل إنّ موسى t كانت عنده حبسة في لسانه منذ خلقه، وهناك بعض الروايات التي قد لا تكون موثوقةً، تقول إنّه في طفولته كان قد كُوي لسانه في النار، وذلك أثناء وجوده وتربيته في بيت فرعون، ما خلق له آفةً في لسانِهِ.
إغراق فرعون وجنوده:
 هل إن النبي موسى t غرق في البحر أم لا؟
 موسىt وقومه لم يغرقوا، لأن الله شق لهم طريقاً في البحر يبساً، وهذا ما أكّده في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَىطه:77]؛ ذلك أنّ أصحاب فرعون انطلقوا من أجل أن يدركوا أصحاب موسى أو يقتلوهم، حتى قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ( ). فالله سبحانه وتعالى فلق لموسىt ولقومه البحر، فمشوا على اليابسة، والماء عن يمينهم وعن يسارهم، واندفع قوم فرعون خلفهم، وعندما خرج أصحاب موسى من البحر، أرجع الله الماء فغرق فرعون وجنوده.
دور الإنسان في القدر:
 ما هو القدر؟ وهل شريك الحياة هو قدرٌ اختاره الله تعالى لكلّ إنسان، أم أنّ الإنسان هو الذي يختار قدره، وهو الذي يختار بالعقل والفكر شريك حياته؟ وهل الدعاء يغيّر القدر؟ وما هي الأمور المقدّرة للإنسان في الحياة مسبقاً؟ وما هي الأمور التي يختارها الإنسان بنفسه؟
 الإنسان مختار في أفعاله، أمّا القدر، فإنما يرتبط بالتكوين وما يحصل به التدخّل الإلهي لحكمة ما، واختيار الإنسان لشريك حياته يقع ضمن الأمور الاختيارية، وكلّ إنسان يجد في نفسه الحرية في القبول أو الرفض، وهذا معلوم وجداناً، وأما وجود بعض الظروف والعوامل التي قد تؤثر على اختيار الإنسان، فهي لا تنفي الاختيار، كمثل المسافر الذي يختار الطرق التي يسلكها بناءً على سهولتها ومواصفاتها ووجود ما يشجّعه أو يرغبه فيها، وللدعاء الأثر في التوفيق، ودفع البلاء، وقضاء الحوائج.
أبواب الرزق:
 إنّ أبواب الرزق لا تدوم، فالنقود لا تدوم في أيدينا، فما هي أسباب ذلك؟ وكيف نعمل على زيادة رزقنا؟
 قد يكون لذلك أسبابه الخارجية، مثل عدم تنظيم المصروف، أو قلّة مصادر الإنتاج وفرص العمل، والذي ينفع في مثل هذه الحالات، هو تنويع مصادر الكسب والتصدّق، وصلة الرحم، إضافةً إلى الدعاء.
 
معيار حساب الإنسان:
 هل يدخل النار غير المسلم، الذي لا يعلم بالإسلام ولا يعلم أن هناك شيئاً اسمه إسلام؟
 يقول الله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ( ). فالله تعالى يحاسب كلّ إنسان بقدر ما وصل إليه من حجة، إلاّ أنّ الإيمان بالخالق مما يهدي إليه العقل والفطرة، والبحث عن الحق من الواجبات الفعلية أيضاً.
آثار التوبة:
 الشخص الذي يرتكب المعاصي ثم يتوب ويعود إلى الصراط المستقيم، هل يمكنه أن يصبح عالم دين أو شخصاً يدعو الناس إلى التوبة؟
 من تاب تاب الله عليه، ومع فرض توبته يجوز له درس العلوم الدينية والتوجّه لوعظِ الناس.
الإسراء والمعراج:
 يقول بعض المفكرين: إن حادثتي الإسراء والمعراج حادثتان منفصلتان جرت كل واحدةٍ منهما على حدة، وذلك اعتماداً على أنّ الحادثتين ذكر كلٌ منهما في سورتين مختلفتين (الإسراء والنجم)، فماذا تقول في هذه المسألة؟
 هذا ليس دليلاً على أن الحادثتين منفصلتان عن بعضهما البعض؛ لأن الله سبحانه وتعالى ربما يتحدث عن بعض مظاهر هذه الحادثة في سورة، ويتحدث عن مظاهر أخرى في سورةٍ أخرى. ولكنّنا من خلال السيرة النبوية الشريفة، نلاحظ أن مسألة الإسراء والمعراج كانت حادثة واحدةٍ، والله أسرى بعبده ليلاً من المسجدِ الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به إلى السماء ليريه ما قد يحصل به على الثقافة الكونية التي تملأ عقله بالمعرفة، ويطّلع به على ملكوت السموات والأرض. فما يقوله هذا المفكّر لا يصلح لأن يكون دليلاً على كون الإسراء والمعراج حادثتين منفصلتين، بل هما حادثة واحدة، ولكن الله تحدث عن الإسراء في موقع، وتحدث عن المعراج في موقعٍ آخر.
حرية العقيدة في الإسلام:
 هل إن الإسلام يؤيد حرية الفكر والعقيدة أم لا؟
 الإسلام يؤيّد حرّية الفكر للإنسان فيما ينطلق به عقله، فالله خلق العقل حراً وقال للعقل فكّر كما شئت، ولكن عليك أن تتحمّل مسؤولية قرارك ومسؤولية تفكيرك. أما الحرية، بمعنى نشر الفكر المضادّ والفكر المنحرف في الدولة الإسلامية، فإنّ الأشخاص الذين يحملون بعض الشكوك وبعض الشُبهات يُستدعون من قبل العلماء القائمين على شؤون الثقافة الإسلامية، ويطلبون منهم أن يقدّموا شبهاتهم وأن يثيروا شكوكهم ليحاوروهم في ذلك كلّه ويقنعوهم؛ وعند ذلك لا تكون لهم أية حجّة في إضلال الناس بعد أن يثبت لهم العلماء أنها غير صحيحة وغير مستقيمة.
عدالة الله تعالى والكوارث الطبيعية:
 إذا كان الله عادلاً، فما فلسفة الكوارث والحوادث المؤلمة من قبيل الأمراض والسيول والزلازل؟ وإذا كانت هذه الكوارث تنبيهاً للغافلين من الناس، أو أنّها نتيجة عمل الإنسان، فما ذنب الأطفال؟
 إذا أردنا أن ننطلق من هذا المنطق، فنقول: ما ذنب الناس أن يموتوا؟ العالم الذي نحن فيه هو عالم المحدود وليس عالمٌ المطلق، والمطلق هو الله فقط، وعالم المحدود هو أن الإنسان لا يحصل على شيء إلا إذا خسر شيئاً مقابله. ثم إنّ الفيضانات والكوارث والزلازل وما إلى ذلك، تنطلق أيضاً من ناحية وجود بعض الفوائد والمنافع في جانبٍ آخر من حركة الكون ومن نظام الكون. ثمّ ما هي العدالة؟ العدالة هي أن تعطي لكل شخصٍ حقه. أيُّ حقٍ لنا على الله؟! نحن مُلكٌ لله، والله لا يظلمنا، بمعنى أنّه لا يعاقبنا على ما لا نفعله. أمّا مسألة المرض والكوارث والبلاء، فهي من طبيعة النظام الكوني.
المعجزات في بني إسرائيل:
 إذا لم يكن إيمان بني إسرائيل قوياً لأنهم طلبوا تمثالاً للعبادة، فكيف تحدث لهم معجزة كبيرة مثل معجزة شق البحر والسير فيه؟
 هذه المعجزة ليست كرامةً لهم من الله سبحانه وتعالى، ولكنها كرامة لموسىt الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يختم صراعه مع فرعون ومع قومه بعد تلك المسيرة الطويلة التي عاشها في حركة هذا الصراع المتنوّعة، سواء كانت من خلال مواجهته السحرة وإسقاطه سحرهم، أو من جهة الآيات التي عاقب الله تعالى بها قوم فرعون وما إلى ذلك؛ فأراد الله سبحانه وتعالى أن ينهي مسألة فرعون، وأن يجعله مع قومه يغرقون في البحر وأن ينجي بني إسرائيل، باعتبار أن موسى t كان يطلب تحريرهم ليهديهم بعد ذلك. فهذه المعجزة ليست كرامةً لهؤلاء الناس، ولكنها كرامةٌ لموسىt في سبيلِ إبادة فرعون وقومهِ.
تقليد الآباء والأجداد:
 عندما سأل رسول اللهw قريش: لماذا تعبدون الأصنام؟ قالوا: هذا ما وجدنا عليه آباءنا، والآن هناك كثيرٌ من المسلمين الذين يقومون بالعبادات فقط تقليداً للآباء والأجداد؟
 هناك فرق؛ وهو أنهم قلّدوا آباءهم وأجدادهم في الكفر والشرك والضلال، بينما المسلمون الذين يؤمنون بالله، ويعبدونه سبحانه وتعالى من خلال التربية التي حصلوا عليها من آبائهم وأجدادهم الذين كانوا منفتحين على الحقّ في ذلك. ولا مشكلة إذا قلّد الإنسان من يملك الحق في تفكيره وفي حركته العبادية وما إلى ذلك.
فراسة المؤمن وفراسة المعصوم:
 يقول الحديث الشريف: ((اتقوا فراسة المؤمن...))، والإمام عليt من أفضل المؤمنين، فكيف يعيّن رجلاً فاسقاً كزياد ابن أبيه والياً له على الكوفة، حيث انقلب بعد استشهاد الإمامt وفتك بشيعته فتكاً ذريعاً؟
 الولاية لم تكن إكراماً لهذا الإنسان وتعظيماً له، ولكنّ المجتمع الذي كان الإمامt يحكمه في خلافته، لم يكن مجتمعاً معصوماً، ولم يكن كل أفراده يملكون الوثاقة والإخلاص وما إلى ذلك، ولهذا فقد كان الإمامt يرى أنّ زياداً يصلح ليدير أمر المنطقة التي وُلِّيَ عليها في تلك المرحلة، ولكن الإمامt نبهه بعد ذلك إلى طريقة معاوية في اجتذابه إليه، وإلحاقه بخطّه. فالإمامt كان يفهم الناس، ولكن ظروف الحكم تقتضي وجود بعض الأشخاص لتنظيم شؤون الحُكم، مما قد يخضع للموازنة بين الإيجابيّات والسلبيّات. وهذا ما قد نجده أيضاً في تولية القاضي شريح شؤون القضاء.
رؤية الله في النصوص الدينية:
 ورد في الصحيفة السجادية إمكانية رؤية الله جلّ وعلا في ثلاثة مواضع في أدعية سيدنا الإمام زين العابدينt؟!
 لماذا تقول في الصحيفة السجادية؟! جاء في القُرآن الكريم قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة* إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ( ). وقوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً( ). ولكنّنا عندما نقارن مثل هذه الآيات بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ( ). أو قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ( ). نفهم أنّ تلك الآيات من المتشابهات التي تفسّرها هاتان المحكمتان؛ فالوجوه ناظرة إلى عظمة الله وقوّته وجلاله، والمجيء ليس بذاته تعالى، بل كناية على سيطرته وسلطته على مواقع القيامة.
 
علامات ظهور المهديr:
 هل علامات ظهور الإمام r المتداول بها في مجتمعنا الشيعي، مسندة في المراجع والكتب الشيعية، كعلامة خروج السفياني من الشام؟
 أساساً غيبة الإمام r من غيب الله وظهوره من غيب الله، حتى ما يُقال بالنسبة إلى خروج السفياني، فهذا لا نعرفه إلا في وقته. أما الكتب التي تتحدث عن علامات الظهور، وكلما حدثت مشكلة في العالم يقولون هذه من علامات الظهور، وبعض الناس يقولون إنّه كان يجب أن يظهر في محرم الماضي، وغير ذلك، فهذه عملية تضليل للناس. فغيبته من غيب الله وظهوره من غيب الله، ولا يعلمها إلا الله؛ حتّى الإمام المهدي r لا يعرف وقت ظهوره، لأن الله هو الذي يوحي إليه بذلك عندما يحين الوقت. وعلينا أن نُشغل أنفسنا بالاستعداد في تحمّل مسؤوليّاتنا تجاه الإسلام؛ حتّى إذا ظهرt وجدنا جاهزين لنكون من جنوده، ولا نكون من أعدائه الذين يقاتلونه عندما يُريد أن يتحرّك بالخطّ المستقيم.
تفسير أنوار العرش:
 ما رأيكم في الكلام الذي يصف الأئمة t بأنهم أنوار العرش، وأنهم خلقوا قبل كل الناس؟
 هناك أحاديث تذكر ذلك؛ ولكن الأئمةi هم حجج الله على خلقه، وأوصياء رسول اللهw، والهداة إلى الله سبحانه وتعالى، كما ورد في زيارة أمين الله: ((السلام عليك يا أمين الله في أرضه وحجته على عباده...)).
 
التمييز بين الرسل:
 ذكر الله سبحانه وتعالى عدة آيات في القرآن الكريم تؤكِّد عدم التمييز بين أنبياء الله ورسله، فلماذا نذكر الرسول محمداًw فقط في الصلاة وفي التشهد؟  
 ليس هناك تفريق، بمعنى أن الرسل كلهم من عند الله تبارك وتعالى، ولا يصح أن يعتبر كل فريق أن له أنبياء خاصين فيه فلا يؤمن أو يعترف بغيرهم، والإسلام يعتبر كل من سلف من الأنبياء للأمم السابقة هم أنبياء الله، وعلى المسلم أن يؤمن بهم، إلا أن النبي محمداًw هو أفضل الرسل تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض( ). وهو خاتمهم، ورسالته خاتمة الرسالات، وشريعته خاتمة الشرائع، فخصص ذكره في الصلاة لأجل ذلك.
التبليغ الكامل:
 هل بلَّغ النبي محمدw رسالته بشكل كامل، أم ترك جزءاً منها للأئمة عليهم السلام ليبلغوها للمسلمين؟
 لقد بلّغ النبيw رسالته بشكل تام وكامل، ولاسيّما أن الله أكد ذلك في كتابه بقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً( ). ولكنه أودع ذلك كله، ما حفظه الناس وما غاب عنهم، عند الإمام عليt، الذي أخذ الأئمة عنه، بالرجوع إلى كتابه، أو إلى ما رووه عنه، وقد جاء عن الإمام الصادقt، أن كل ما حدَّث به هو من رسول اللهw.
عصمة النبي:
 جرَّ النبي موسى أخاه هارون من رأسه أمام بني إسرائيل، فهل يتناقض ذلك مع عصمته كنبيّ؟
 إنّ النبيّ موسىt غضب لله ولم يكن يريد إسقاط هارون أو معاقبته، ولكنّه أراد أن يعبر عن ألمه وغضبه مما حدث مع القوم. ومن الممكن أن يكون ذلك باعتبار أن هارون كان خليفته، أو أنّه أراد أن يثبت لقومه أنه لا تأخذه في الله لومة لائم، حتى بالنسبة إلى أخيه؛ ولذلك رجع موسى بعد هذا الأمر إلى الله سبحانه وتعالى. وعلى كلّ حال، فهذه المسألة لا تمثّل معصيةً لله من قبل موسى، وإنما أراد بذلك أن يؤكّد تنديده بقومه الذين عبدوا العجل، وكأنه كان يريد أن يعاتب أخاه، فلمّا قدّم هارون له المبرّرات التي جعلته لا يستطيع أن يحل المشكلة، تراجع. فموسىt لم يعصِ الله، ولكنّ الأنبياء لا يعلمون إلا ما يعلمهم الله سبحانه وتعالى إياه.
معجزة السامري:
 كيف يمكن أن تحصل الكرامة أو المعجزة للسامري، فيصنع لهم عجلاً له صوت؟
 هل النحاتون لديهم معاجز؟ وهل الموسيقيون عندهم معاجز؟ الأمر واحد، فقد يقوم النحّات بتصوير تمثال يُصدر أصواتاً، وليس ذلك بالمعجزة؛ والله العالم.
 
دور السيدة فاطمةu في الإمامة:
 ما هو دور سيدتنا فاطمةu في الإمامة؟.
 هي بنت رسول اللهw وزوجة عليt وأم الحسنينu، وهي أمّ الأئمّةi، ولكنها ليست إماماً، بل إن علياً كان إمام الزهراء، وكانت تعتقد بإمامته، ولذلك كان نشاطها ينطلق في الدفاع عن إمامتهt وعن شرعية هذه الإمامة في مقابل الآخرين.
ذريّة النبي موسىt:
 لماذا لم يكن للنبي موسىt أولاد أو بنات كالنبي محمدw تتسلسل منهم الرسالة النبوية والإلهية كالتي حملها ونشرها أئمتنا i؟
 وهل من الضروري أن يرزق كل نبي أولاداً؟ ثم إنه لا علاقة لذريّة النبيّ بالرسالة من ناحية ذاتيّة ونسبيّة. وعلى كلّ حال، فالقرآن لم يحدّثنا عن ذرّية لموسىt، ثم إنّ نبيّي الله نوحاً ولوطاً كان لديهما أولاد، ولكنّهم لم يكونوا صالحين.
تهذيب الروايات:
 هل هناك معايير معيّنة ينبغي توافرها في الشخص الذي يقوم بعملية فرز الروايات، أو مطابقتها بما في القرآن؟
 هذه قضيّة تتصل بعلم الدراية وعلم الرجال وعلم الحديث، وهي كأيّ علمٍ آخر، لا بد لمن يتصدّى لها من أن يكون عالماً بأسس توثيق الحديث، سواء من حيث السند أو المضمون، أو من حيث توافقه مع العقل أو عدم مخالفته للقرآن أو للسنة القطعية، أو ما إلى ذلك. ثم لا بد من تحصيله لعلوم القرآن، حتى يعرف أن هذه الرواية مخالفة للقرآن أو أنها غير مخالفة له، وهذا لا يتيسّر إلا للمتخصصين بعلوم الحديث وعلوم القرآن.
مقام النبوة والإمامة:
 هناك من يرى أن مقام الإمامة هو أرقى من مقام النبوة الرسالية، فما هو رأيكم؟
 جاء عن الإمام الرضاt ما يخالف هذه المقولة، وذلك عندما جاءه شخص وتحدث معه عن قضية قبوله بولاية العهد من المأمون، فأجابه الإمامt، بأنّ يوسف كان نبياً وكان عزيز مصر كافراً، والمأمون مسلم بمعنى الانتماء، وقد قبل يوسف الولاية من عزيز مصر، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ( ). وأنا قبلت الولاية من المأمون، ولا إشكال في أنّ النبي أفضل من الإمام. وهذه الرواية معتبرة وموجودة في كتبنا.
دور هارون في الرسالة:
 إذا كان موسى t قد قام بكل شيء في مواجهة فرعون، من مواجهة السحرة إلى غيرها من التحديات، وكان له تأثير مختلف وأقوى على بني إسرائيل من هارون، فما هو دور هارون كوزير لموسىt؟
 قال موسى t: وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي( ). أي أن موسى أراد أن يدخل على فرعون دخولاً يشعر فيه فرعون بقوة الموقف في هذا المجال، ولا إشكال في أن هارون كان يعاون موسىt، لأن موسى على ما يُنقل، كان عنده حبسة في لسانه، ولذلك كان فرعون يقول: أمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ( ). وهذا ما عبر عنه موسى بقوله: وأخي هارون أفصح مني لساناً فأرسل إلى هارون، فقد أراد موسى أن يكون معه شخص يرافقه في مسيره إلى فرعون، حتى يدخل إليه من موقع الإيحاء بالقوة، خصوصاً أن موسى تربى في بيت فرعون، وهو ما قد يجعل فرعون يتعاطى باحتقار مع موقف موسىt في حال كان وحده.
منجزات الإمام المهديr:
 كيف نستطيع أن نتصور نجاح الإمام المهديr من حيث فشل مئة وأربعة وعشرون ألف نبي؟
 هناك فرق، فالأنبياء أرسلهم الله لفترة محدودة، ولموقعٍ محدود، ولقضية محدودة، فمثلاً قضية لوط كانت في أن يعالج الشذوذ الجنسي المذكر، وقضية شعيب كانت في أن يعالج قضية التطفيف في المكيال والميزان، وهكذا ما عدا أنبياء أولي العزم، أما بالنسبة إلى الإمام الحجة r، فإنّ الله أعده لتغيير العالم، ولذلك كانت غيبته من غيب الله وظهوره من غيب الله، وهي ليست من المسائل العادية، بمعنى أن تحرك الأنبياءi كان تحركاً بشكل طبيعي، ولذا كان الأنبياء يُقتلون ويعذبون ويحاصرون، وما إلى ذلك، أما الإمام المهديr، فقد ورد في الحديث: ((أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً))، ومعناه أنه هو الذي يغير العالم على أساس نشر العدل الكُلي فيه، وهذا لا يتحرك بشكل عادي وبشكل طبيعي، بل بشكل غيبـي، لأن الله أراد له أن يكون هو في نهاية العالم، حيث يرى العالم في كل مسيرته وفي كل امتداده الزمني، مرحلةً من المراحل التي لا ظُلم فيها. هذا هو الفرق بين هذا وهذا.
التقيّة والنفاق:
 ما الفرق بين التقية والنفاق؟
 النفاق هو أن يظهر الإنسان شيئاً يكون على خلاف ما يضمره لمصلحة شخصية، لطمع مثلاً، أما التقية، فهي أن يظهر الإنسان بعض الأعمال من أجل حماية نفسه إذا وقع في الخطر، أو حماية الدين أو المذهب أو ما إلى ذلك.
إستمراريّة الرسالات:
 عند غياب قائد أو نبي أو أي حركة أو دين، تحدث اضطرابات بين أتباعه، فهل هذا أمر طبيعي؟
 لا، ليس أمراً طبيعياً، فقد قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ( ). فالرسول يموت وتبقى الرسالة، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ( ). ولذلك فإن ما يبالغ في قوله بعض الناس عندما يموت عالم من العلماء غير صحيح، لأن الرسول يموت والإمام يموت، ومع ذلك تبقى الرسالة ويبقى الخط الإمامي الذي يفرض نفسه على واقع الناس وواقع الحياة.
تواصل الحاضر مع الماضي:
 كيف نستطيع الاستفادة من الأخطاء التي حدثت في عصر النبيّ موسىt؟
 بأن ندرس واقع بني إسرائيل وطريقتهم في المشاغبة وفي التمرد على نبيّهم وسذاجتهم وما إلى ذلك، وندرس ما يماثل ذلك الواقع في واقعنا.
مؤهلات التوبة:
 إذا ارتكب الإنسان معصيةً، فهذا لأنّ مستوى إيمانه قد انخفض، فكيف يكون تنفيذ التوبة؟
 تتطلب التوبة مستوى عالياً جداً من الإيمان، والله سبحانه يريد من الإنسان أن يقوي إيمانه من خلال آياته التي خلقها له سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ...( ). ويَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً...( ). لذلك، فإنّ الإسلام لا يعذر الإنسان إذا أبقى نفسه على جهلها، بل يريد له أن يقوِّي إيمانه من خلال التفكير العميق في آيات الله في الكون، وفي ما أوحى الله به إلى أنبيائه ورسله.
 
نزول البلاء:
 لماذا لم ينـزل البلاء على الأمة الإسلامية في زماننا هذا، باعتبار أنّها فعلت جميع المحرَّمات، من كفرٍ ومعاصي نهى الله عنها، في حين ورد في القرآن أن الأمم السالفة أنزل الله عليها العذاب من خسفٍ وريحٍ صرصر، لأنهم كانوا يرتكبون المعاصي التي نفعلها الآن؟
 لأنّ الله سبحانه وتعالى جعل للأمة الإسلامية أمانين، رسول اللهw والاستغفار، وهذا ما تحدث عنه القرآن الكريم، وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ( ) وقد تحدث الإمام عليt في نهج البلاغة عن هذا الموضوع، قال: ((كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أما الأمان الذي رفع، فلهو رسول اللهw، وأمّا الأمان الباقي، فالاستغفار، قال تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)).
عقوبة يوم السّبت:
 ما هو سبب عقوبة بني إسرائيل في يوم السبت؟
 هذه العقوبة كانت ابتلاءً، لأنّ الله أراد أن يختبرهم من جهة، ومن جهة أخرى، أراد لذلك أن يكون عقوبةً لهم على ما أسلفوه من الانحرافات التي انحرفوا بها في تعاملهم مع الرسالة ومع النبي موسىt.
 
ظاهرة الغلو:
 الغلو ظاهرة اجتماعية متطرفة تفتك بالأمة، وهي بحاجة إلى علاجٍ سريع، كمثل الكتابة حولها بما يبيّن خطورتها؟
 لقد كتبنا الكثير حول ذلك، وكُفِّرنا وضُلِّلنا وأُصدرت الفتاوى في أننا ضالون مضلون، بسبب وقوفنا ضدّ الغلو وضدّ الخُرافة، لأن الكثيرين من الذين يتبنون الغلو على أنه استقامة، ويتبنّون الخرافة على أنها حقيقة، يقفون ضد الذين يحاولون الإصلاح على أساس الكتاب والسُنة، ولا نزال في هذا المجال، وليس معنى ذلك أننا نتراجع، بل إننا نعتقد أن الغلو قد يكون كُفراً وقد يكون قريباً من الكُفر.
الحكم بالتيه على بني إسرائيل:
 في قصة قوم موسى، ورد أنّ الله حكم عليهم بالتيه مدّة أربعين سنة، لماذا؟
 باعتبار أنهم رفضوا الأمر الإلهي بالاستقرار، فقد أراد الله لهم أن يدخلوا الأرض المقدسة ويستقرّوا فيها، ليبدأوا حياةً مطمئنةً مستقرةً، ولكنّهم رفضوا ذلك، ففرض الله عليهم العقوبة، وهي أن ينطلقوا في التيه أربعين سنةً.
مفهوم العقيدة:
 هل العقيدة هي الإيمان أم هي أصول الدين؟ كما نسمع من بعض الفضلاء؟
 أصول الدين هي العقيدة، أي الإيمان بالله وبالنبي وبالمعاد، وهي التي يكون بها الإنسان مسلماً، وبإنكارها أو بإنكار واحدة منها يكون كافراً. أما الإمامة فهي من أصول المذهب ومن حقائقه، ولكنها ليست من أصول الدين. ولذلك نحن لا نعتبر المسلمين الذين لا يؤمنون بالأئمة كفرةً، بل إن الأئمةi كانوا يعتبروهم مسلمين، وكانوا يزوّجونهم ويتزوجون منهم وما إلى ذلك.
التوجه إلى غير الله:
 ما حكم من يدعو النبيw أو أحد الأئمةi دون الله؟ هل هو مصيب أو مخطئ؟
 هذا نوعٌ من الشرك، وقد قال الله تعالى: لا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً( ). فليس صحيحاً أن يقول أحدنا: يا علي ارزقني، أو يا علي أعطني ولداً، أو يا علي أو يا محمد، لأن الأئمةi أنفسهم كانوا يطلبون حاجاتهم من الله، وأدعيتهم في طلب الحوائج وفي طلب الرزق كثيرة بين أيدينا. نعم، إنّ الله جعل للأنبياء وللأئمة الشفاعة، وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ( ). وكما ورد في دعاء (يوم الخميس) المنسوب إلى الإمام زين العابدينt: ((واجعل توسلي به شافعاً يوم القيامة نافعاً))، أي علينا أن نقول: اللهم شفِّعهم فينا، لا أن نطلب منهم أن يقضوا حاجاتنا، لأن الله وحده هو الرزَّاق، وهو المحيي وهو المميت، وقد ورد على لسان إبراهيمt كما في القرآن الكريم: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ( ).
علم الأئمةi بالغيب:
 هل صحيح أن الأئمةi يعلمون الغيب؟
 النبيw لم يكن يعلم الغيب، وهذا ما يؤكده قوله تعالى في القرآن الكريم: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ( )، وكذلك قوله تعالى: قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ( )، وقوله: وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ( ). نعم، إن الله سبحانه وتعالى كان يُطلع النبيw على بعض الأمور الغيبية، ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ( )، ولكن لم يجعل له ملكة العلم بالغيب، وهذا في نص القرآن.
الحكمة في نذر امرأة عمران:
 ما الحكمة من النذر الذي نذرته امرأة عمران بأن يكون ما في بطنها لله؟ وهل هو مثل الجهاد؟
 النذر هو عبارة عن أن يتقرب الإنسان لله بشيء خالص له، كأن يقول: نذراً لله عليَّ أن أفعل كذا. وقد يكون النذر شكراً لله، وقد يكون من خلال الزجر، وذلك بأن ينذر أنه إذا عصى الله فإنّه يتصدق بكذا وما إلى ذلك، ولكن لا علاقة له بمسألة الجهاد. أما امرأة عمران، فكانت امرأةً مؤمنةً، وكانت تحب أن يرزقها الله ولداً حتى يخدم في بيت المقدس، ولكن الله رزقها بنتاً، والبنت كانت بحسب الوضع الموجود، لا يمكن لها أن تخدم في المسجد.
معجزات النبيw:
 هل صحيح ما يُنقل عنكم أنكم لا ترون أن هناك أي معجزة للرسولw سوى القرآن؟
 القرآن الكريم يقول ذلك: وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا( )، لوْلاَ نزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ( ) وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً( )، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً( )، والله سبحانه وتعالى إنما ينـزل المعجزة في مقام الحاجة إليها، ولذلك ورد عن أئمة أهل البيتi، أن الله عندما أنزل على موسى معجزة العصا واليد البيضاء، فذلك لأن المجتمع كان مجتمع سحر، فأراد أن يُبطل سحرهم، وأيضاً في معجزة عيسىt، حيث كان مجتمعه مجتمع الطب، فجاءهم بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، والنبيw جاء في مجتمعٍ تغلب عليه الفصاحة، فجاءهم بالقرآن. ولذلك أطلب من الإخوان أن يقرأوا القرآن بشكل دقيق جداً، وأن لا يسمعوا من هذا وذاك، لأن القرآن هو النور الذي يضيء للإنسان سبيله ويعرّفه حقائق الأمور.
زواج السيدة مريمu:
 بحسب الروايات الإسلامية، هل كانت السيدة مريم متزوجة؟ وكيف نفهم رهبانيتها، علماً أن الإسلام يرفض الرهبانية؟
 لم تكن السيدة مريم متزوجة، ولكنها حملت بعيسىt، بكلمة من الله سبحانه وتعالى.
وهي لم تكن راهبة بالمعنى المعروف للرهبانية، وإنما كانت مطيعة لله سبحانه وتعالى، وخاضعةً له وعابدةً له، وقد أفاض الله عليها من نعمه، لأن أمها عندما وضعتها قالت: قالت رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( ) فتقبلها الله تعالى بقبولٍ حسنٍ، فأصبحت في رعاية الله سبحانه وتعالى وفي حمايته، وقد أفاض الله عليها من نعمه، فكانت كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ( ).
مظاهر التوحيد:
 في موضوع التوحيد تفريعات كثيرة، ومنها التوحيد الأفعالي، أي أن أوامر الله سبحانه تمتد إلى ما يترتب عليها من آثار السؤال هو: ما هو نمط العيش الموضوعي في الإسلام؟
 قضية التوحيد تعني أن نوحّد الله سبحانه وتعالى في العقيدة فلا نشرك به أحداً، وأن نوحّده في العبادة فلا نعبد سواه، ونوحده في الشريعة فلا شريعة لغيره، وأن نسير في حياتنا على أساس الإحساس بالانفتاح عليه في كل أمورنا، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ...( ).
المسيحية ماضياً وحاضراً:
 يقول القرآن الكريم إن المسيحية تؤمن بأن عيسى t ابن الله، بينما نرى في الواقع خلاف ذلك، فهناك مسيحيون يقولون إن هذه تهمة، ويدافعون عن عقائدهم الحقة بكل وسيلة؟
 إن النصارى الآن، وخصوصاً الكاثوليك، يقولون إن ربنا هو يسوع المسيح، إذ يرون أنّ الله تجسد في السيد المسيح، وبذلك يكون له صفة لاهوتية وصفة ناسوتيه في هذا المجال. أما قضية الإبنيّة، فهي مما كان يعتقده فريق من المسيحيين سابقاً، كما قال لي بعض علماء المسيحيين في حواري معه، ولكنه قال إنّ الإبنية الآن لم تعد بمعنى الإبنية المادية، بل أصبحت من قبيل إبنية التفكير. ولكن على كل حال، هم يقولون: ربنا يسوع المسيح، ويقولون: باسم الآب والابن والروح القدس إلهاً واحداً، وعندما يُسألون: كيف يجتمع التثليث والتوحيد؟ يقولون: إنّ الأمر فوق العقل.
هدف عصمة السيدة الزهراءu:
 ما هو الهدف من عصمة السيدة الزهراء، علماً أنها ليست بنبي ولا إمام، بل كان الإمام علي هو الذي يتمم الخط الرسالي للرسول بعد وفاته؟
 كانت الزهراءu معصومة، وقد تربّت على يد النبيw كما عليٌt، إذ كانا يعيشان في بيت النبيw، وقد نهلت من روحانيته وأخلاقه وارتباطه بالله سبحانه وتعالى وكل قيمه، ولذلك كانتu تمارس العصمة في ذاتها، وهي المعصومة بآية التطهير: إنّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً( ) فهذه الآية دليل عصمة علي والزهراء والحسن والحسين i، وإن لم تكن واجبة العصمة.
 
 

ترشيد أسلوب الزيارة:
 هل صحيح أنكم تعارضون المشي الجماعي لزيارة الإمام الحسينt في الأربعين، أم تريدون ترشيدها؟
 أنا لا أعارض المشي إلى زيارة الإمام الحسينt، بل يستحبُّ زيارة الحسينt ماشياً أو راكباً، لكن كنتُ أنبّه إلى سلبيّات تكريس هذا المبدأ في العراق، ومنها الخطر الذي قد يجعل المسألة من باب إلقاء النفس في التهلكة، وكذلك مسألة تعطيل كلّ الإدارات والأعمال لأيّام عديدة، وهذا يخلّ بالنظام العام للمسلمين.
وبعبارة أخرى: إنّ مسألة المشي والركوب لا بدّ من أن تخضع للظروف التي قد تفرض على هذا أن يأتي ماشياً، وعلى ذاك أن يأتي راكباً، لا أن يُصبح الأمر تقليداً قد يخلّ بالتكليف الشرعي في أمور أخرى، أو يؤدّي إلى دخول الإنسان في الخطر.
النظام العلماني والنظام الإسلامي:
 يقول العلمانيون إن النظام العلماني يجعل جميع الديانات والطوائف على مستوى واحد من الحقوق في الدولة، على عكس النظام الإسلامي الذي يميِّز المواطنين المسلمين عن غيرهم في الدولة الإسلامية، فما هو تعليقكم على ذلك؟
 إنّ العلمانيين عندما يفعلون ذلك، يلغون كل الديانات، ويجعلون ديانتهم هي الديانة العلمانيّة، وهذا لا يعني أنهم يجعلون الناس في مستوى واحد، بل يريدون منع بعض الناس من ممارسة دينهم والتزامهم في بعض الجوانب التي تفرض العلمانيّة فيها رأياً أو خطّاً مخالفاً للدين، كبعض الجوانب الاقتصادية أو الحقوقيّة أو الاجتماعية، أو ما إلى ذلك. وفي هذا اضطهاد للمجتمع.
أما بالنسبة إلى الإسلام، فهو يجعل الناس كلهم ينطلقون من قانون واحد، من خلال العهد الذي يقع بين الدولة الإسلامية والناس غير المسلمين، كما حدث في المدينة عندما ساوى رسول اللهw، في معاهدة المدينة، بين اليهود والأنصار والمهاجرين، في قانون واحد، على أساس حفظ خصوصيّات كل جماعة فيها.
النظام العلماني والحرية الدينية:
 أعطى النظام العلماني الحريات الدينية لجميع الديانات السماوية وغيرها، فيحقّ في الدولة العلمانية لأيّ إنسان أن يمارس عبادته، على عكس النظام الإسلامي الذي يحرّم ويمنع الأقليات غير الإسلامية وحتى بعض المسلمين من ممارسة حقوقهم، فما تعليقكم على ذلك؟
 أولاً، النظام العلماني المتّبع في كثير من البلدان، يمنع المسلمين الذين يحكمهم من أن يمارسوا شريعتهم في عالم القانون، أو أن يُدخلوا القوانين الإسلامية في قضايا الحكم، حتّى وجدنا أنّ دولاً كفرنسا، تمنع الطالبات المسلمات من أن يرتدين الحجاب الإسلامي داخل المواقع الرسميّة أو الجامعيّة. وكذلك نجد أنّ المعركة الحاليّة في تركيا شعارها أنّ الدولة عنوانها علمانيّ، وينطلق أتباع العلمانيّة باسمها لحظر الحجاب في المواقع الرسمية والتربويّة. وبهذا فهم يعطون العلمانيّة صفة الانغلاق، فلا تعطي الحرّية لشعوبها في ممارسة التزاماتهم الدينية التي تتصل بأمورهم الشخصيّة...
نعم، قد تعطي العلمانيّة الحرّية في العبادة، ولكنّها لا تعطي المسلمين كثيراً من الحرّيات في قضاياهم القانونية والسياسية والحياتية التشريعيّة. وعلى كلّ حال، فالفكرة التي تعطى عن العلمانية بأنها تمثل النظام المثالي الذي يعطي الحرية للإنسان في جميع الحالات غير صحيحة، فالعلمانية هي عبارة عن دين مادي يواجه الأديان الأخرى، ويمنعها من أن تمارس الكثير من حرياتها في تشريعاتها وفي قضائها وفي سياستها.
الاضطهاد المذهبي المتبادل:
 في الدول التي يكون فيها غالبية سنّية يُضطهد الشيعة، وفي البلاد الشيعية يتم اضطهاد السنّة، ألا يعني ذلك أن النظام الإسلامي لا يعطي حقوقاً للأقليات؟
 لا يُمكن رمي الاتهامات هكذا جزافاً، بل لا بدّ في مثل هذه القضايا من الانطلاق من إحصائيّات دقيقة للواقع هنا وهناك؛ فإنّ كثيراً من الوقائع توحي بغير ذلك، كما أنّ ثمّة تعقيدات تداخلت فيها عوامل عديدة أوجبت أن يتحرّك المسلمون هنا وهناك في أفعال وردود أفعال، ولاسيّما في المسألة التكفيرية التي تؤدّي إلى الإجرام وقتل الأبرياء والآمنين، مما نشهد نماذجه المتحرّكة في العراق. أنا أعتقد أنّ المسلمين لو تركوا وأنفسهم، لتحرّكوا بكثير من الإيجابيّة على كلّ المستويات، ولنظّموا خلافاتهم حتى تكون مصدر غنىً وتنوّع، لا مصدر فرقة وتباغض.
كتب صحاح، أم كتب حديث؟
 هل يوجد عندكم كتب صحاح، كما عند أخوانكم السُنّة؟
 لا، نحن عندنا كتب حديث فيها الصحيح وفيها غير الصحيح، ونحن من خلال نقد الحديث عندنا، لا نعتبر أن ما يسميه السنّة بالصحاح يشتمل على أحاديث كلها صحيحة، بل يُمكن أن تكون خاضعةً للاجتهاد الذي قد ينتهي إلى المناقشة في بعضها. وبعبارة أخرى: إنّ صحيح البخاري هو ما صحّ عنده، وكذلك صحيح مسلم، أو غيرهما، ولا يعني ذلك بالضرورة أن يصحّ عند غير أصحاب الصحاح.
عيد النّوروز:
 قبل يومين، انتهى في بعض بلاد المسلمين عيدٌ موروث، وهو عيد النوروز، ما رأي الإسلام في هذا العيد؟
 النوروز ليس عيداً إسلامياً، بل هو عيد الربيع، والأحاديث التي تُروى في هذا المجال تؤكّد أنّه ليس إسلاميّ المنشأ، وإنما هو يوم عيد الربيع وعيد الشجرة، والذي تنفتح فيه النّفوس على ما يتمثل في الطبيعة من جمال. وعلى كلّ حال، فالاحتفال بمجرّده ليس محرّماً، لكن لا بدّ من أن يكون أسلوب الاحتفال والممارسات فيه منسجمةً مع القيم والأخلاق الإسلاميّة.
مسؤولية العلماء:
 يقول رسول اللهw: ((إذا ظهرت البدع في أمتي، فليُظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله))( ). كيف نفهم قول رسول اللهw في مواجهة البدع؟
 عندما تنتشر البدع بين الناس، سواء كانت بدَعاً في العقيدة تدعو الناس إلى الإيمان بغير العقيدة الحقّة، أو بدعاً في الأخلاق تحرّض الناس ضد أخلاق الرسالة، أو بدعاً في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي تدعو إلى الانحراف عن خط الله تبارك وتعالى، فعلى العلماء والمثقفين والواعين أن يواجهوا هذه البدع كلّ بحسب إمكاناته وقدراته. ومن هنا، فإنّهw يعتبر أنّ مواجهة البدع قضية حيوية ملحّة، بحيث إنّ الذي يبتعد عن ساحة الصراع بين السنّة والبدعة، أو بين الكفر والإيمان، فإنّه يحصل على لعنة الله. وإنّ الله عزَّ وجلّ عندما كلّف المؤمنين بالإيمان، كلّفهم بالدعوة إلى الإيمان وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أمّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْر ويَأمُرون بالمعْروف ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَر وأولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُون( ). وقد حدّثنا سبحانه وتعالى في القرآن عن الذين يُبلّغون رسالات الله، ويخشون الله وحده إذا خوّفهم الناس بالناس بأنّهم سوف يضطهدونهم، فلا يضعفون، ولا يخافون وَلاَ يَخْشَوْن أحَداً إلاّ اللهَ وكَفَى باللهِ حَسيِباً( ). فمسألة الدعوة إلى الله في إلقاء الحجة على النّاس تظهر في خطّين: العقل، وهو الحجّة الأولى، لأنّ العقل هو الرسول الباطني، والأنبياء وأولياء الرسل ومَن جاء بعدهم، فهم الحجة الثانية على العباد.
إذاً، فإنّ مسألة التبليغ هي مسؤولية كل مؤمن ومؤمنة، ولو فرضنا أنّه كان يُقال فيما سبق إنّ الدعوة إلى الله تعالى وتبليغ أحكامه والدفاع عن شرعه هو واجب كفائي، فإني أقول، وأتحمّل مسؤولية ما أقول، إنّ الدعوة في هذه الأيام واجب عينيّ على كل مؤمن ومؤمنة، لأن الكفر برز إلى الإيمان بكلّ أسلحته، وبكلّ وسائل التضليل والتشكيك والتمييع والضغط.
فهذه هجمة الكفر أخذت تحقّق أغراضها وأهدافها، والمسلمون يتركون مسؤولياتهم في المواجهة من دون أيّ تصدّ، وكثيرٌ ممن هم في مواقع المسؤولية الدينية لا يشعرون بأيّة حاجة إلى التبليغ والتوجيه، مع أنّ المرحلة تقتضي وجود حال من الاستنفار الكبير في وجه الكفر والضلال، تماماً كما هي حال الاستنفار في مواجهة الوباء، حيث لا يجوز للأطباء أن يجلسوا في بيوتهم، بل أن يخرجوا معلنين حال الطوارىء ليتمكنّوا من حصر الوباء وإزالته.
الطغاة وامتلاك المال:
 يبدو أن الطغاة والمستبدين يكونون أغنياء أو أصحاب مال كفرعون وقارون، أم أن هذه ليست قاعدة؟
 هذه ليست قاعدةً، بل إن الطغاة ربما يصيرون أصحاب مال من خلال استغلال المستضعفين، لا من خلال إمكاناتهم الذاتية التي تجعلهم في هذا المستوى.
الوسطية والتوفيقية:
 يطرح البعض الوسطية في الإسلام، ما رأيكم في هذا الشعار؟ وكيف يمكن تمييزه عن التوفيقية، وقد يعتبركم البعض وسطياً بين السنّة والشيعة؟
 الوسطية، هي بمعنى أن الله تعالى قد جعل في التشريع الإسلامي وسطية بين الإفراط والتفريط، والغلوّ والاجحاف، والبذخ والتقيد وبين الفردية والاجتماعية، وبين الروح والمادة، وبين الدنيا والآخرة، بحيث إنه أراد للتشريع أن ينفتح على كل حاجات الإنسان المادية والروحية والفردية والاجتماعية. أما التوفيقية، فقد يكون لها مدلول سلبي، وذلك بأن يوفق الإنسان بين الحق والباطل.
أما مسألة أنني وسطي بين السنّة والشيعة، فأنا مسلمٌ أنطلق من خلال الإسلام في خط أهل البيتi، وأعمل على أساس تصحيح الخطأ في هذا الجانب أو ذاك الجانب، وتقويم الانحراف في هذا الجانب أو ذاك.
مشروعية الفتوحات الإسلامية:
 إذا لم تكن الفتوحات الإسلامية بقرار من إمام معصوم، فمن أين تأتي شرعيتها؟
 كان الإمامt موافقاً على هذه الحروب التي كانت تنطلق في خلفياتها لمواجهة الطغاة الذين يسيطرون على العالم وعلى المستضعفين، ونحن نقرأ في الصحيفة السجادية دعاءً للإمام زين العابدينt يدعو فيه لأهل الثغور، وأهل الثغور هم الجنود الذين كانوا يتواجدون لحماية ثغور العالم الإسلامي، ولمواجهة كل عدوان من قبل الآخرين والمستكبرين.
 
مواجهة الفتنة:
 ما هو الواجب علينا أن نفعله في وجه الذين يثيرون الفتنة؟!
 علينا أن نبتعد عن الفتنة؛ لأن كثيراً من الذين يتحركون بالعصبية المذهبية ويحاولون الإساءة إلى مقدّسات هذا المذهب أو مقدسات ذاك المذهب، هم الذين يحرّكون الفتنة ويتبعون الأشخاص الذين يثيرون الفتنة ويحركونها. لذلك نحن نقول إنّ على الإنسان أن يطرد الفتنة من عقله ومن مشاعره وأحاسيسه ومن مواقفه؛ وعند ذلك، يمكن لنا أن نواجه الذين يثيرون الفتنة في هذا الاتجاه أو ذاك الاتجاه.
تجديد الخطاب الديني:
 كيف يمكن تجديد الخطاب الديني؟ وكيف يمكن الخروج من أزمة الفكر الإسلامي المعاصر؛ هل هناك خطة واقعية؟
 لابد للإنسان من أن يملك الثقافة الإسلامية الواسعة مقارنةً بالواقع المعاصر في حاجاته وتطلعاته وتحدياته وما إلى ذلك؛ ليحرِّك ثقافته الإسلامية الواسعة في الكتاب والسنّة في حاجات الناس في الواقع المعاصر. أما تجديد الخطاب الديني، فيكون بتجديد أساليبه وتجديد خطوطه... هذا أمرٌ يحتاج إلى ثقافةٍ واسعة عميقة ممتدّة.
ألقاب ملوك مصر:
 ما هي الحكمة من تسمية حكّام مصر بالفرعون تارةً، والعزيز تارةً أُخرى؟
 قيل إنّ (فرعون) لقب لكلّ من ملك مصر، وكذلك العزيز؛ وقد قيل إنّ الفرعنة تعني المكر والتجبّر.
دور هارونt في تجربة موسىt:
 ما هو دور هارون t في تعزيز موقف أخيه موسى t لردع فرعون؟ وما هو دوره بعد موسى t؟
 الله تعالى يقول عن لسان موسىt: وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي( ). فهو كان معاوناً لأخيه موسىt، وكان موسى هو الذي يمثل القيادة الفعلية.
أما عن دور هارونt بعد موسىt، فإنه لم يذكر لنا التاريخ أنه قد مات قبل موسى أو بعده، وإذا كان قد مات بعد موسى، فماذا كان دوره؟ هذا ما لم يذكره لنا التاريخ.
حوار الأديان وعالمية الإسلام:
 هل يمكن أن نجعل حوار الأديان يخدم عالمية الإسلام؟
 نعم، يمكن ذلك إذا انطلق الحوار بشكلٍ جدي، لا بشكل ظاهري وسطحي، وإذا كان هناك من المثقفين والعلماء المسلمين من يقدّمون الإسلام بالطريقة الحضارية التي تنفتح على العالم كلّه، وتثبت أنه هو الدين الذي يمكن أن يصنع للعالم حضارته على أساس العدل والحق والخير، فعند ذلك يمكن أن يخدم هذا الحوار الإسلام.
مشاورة النساء:
 ما هو تفسيركم للأحاديث المروية عن الإمام الحسنt حول المرأة، وهي: ((إيّاك ومشاورة النساء، فإنَّ رأيهن إلى أفن، وعزمهن إلى وهن))( )، وقوله: ((لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها، فإنَّ المرأة ريحانه وليست قهرمانة))( )؟
 إذا صحّت أسانيد تلك الأحاديث، فلعلّها تنطلق من واقع تلك المرحلة، لأن الإمامt لم يتحدَّث عن نوع المرأة. فقد حدّثنا اللّه سبحانه وتعالى في القرآن عن نوع المرأة التي تميّزت بعقلها على الرجال، وهي ملكة (سبأ)، وعن المرأة القوية الإيمان التي رفضت الدنيا من أجل إيمانها، وهي امرأة (فرعون)، وعن المرأة التي أحصنت فرجها، وعاشت الروحانية والآلام، وصدقت بكلمات ربّها وكتبه، وكانت من القانتين، وهي السيدة مريم العذراءu.
ثم هل ينطبق هذا الكلام على السيدة فاطمة الزهراءu، لو سلّمنا أنه كان يتكلم عن نوع المرأة؟ لذلك يمكن تفسير مثل تلك الأحاديث عن المرأة على نحو يؤكد عدم الاستسلام لها، وقد ورد ـ أيضاً ـ في الأحاديث المنسوبة إلى أحد الأئمةi قوله: ((لا تطيعوهن في المعروف لئلا يطمعن في المنكر))( )، لأنَّ رابطة العاطفة الزوجية قد تجعل الإنسان يستسلم عاطفياً لزوجته التي قد لا تملك العقل، وتلك الحكمة الكبيرة في ذلك، وإلاّ فهل يشاور أحدهم امرأته هل يصلّي أم لا؟ فإذا قالت: نعم، فهل عليه أن يأخذ بكلامها؟ طبعاً لا. أو إذا كان للزوجة اختصاص ـ مثلاً ـ في التجارة وتفهم في هذا المجال، فهل رأيها إلى أفن؟ لذلك فهناك عدّة تفاسير لتلك الأحاديث، وخصوصاً أنَّ القرآن الكريم لم يميّز بين الرجل والمرأة في الجانب العقلي والعبادي، قال تعالى: إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا( ). وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( ).
إنسان اللّه:
 تذكرون دائماً عبارة (إنسان اللّه)، فماذا تقصدون بها؟
 المقصود بـ(إنسان اللّه) هو الإنسان الذي يؤمن باللّه، ويطلب رضاه ويعيش في أجواء طاعته ومحبته وتقواه، وبعبارة أخرى، هو إنسان القرآن الذي يعمل على أنْ يكون خُلُقُه وعمله موافقاً لما جاء في كتاب اللّه، بحيث يكون انتماؤه إلى اللّه تعالى في موقع عبوديته له أكبر من انتمائه إلى أي شخص آخر من حيث الرغبة في الحصول على محبته ورضاه، بحيث يكون اللّه عزَّ وجلّ كل شيء بالنسبة إليه.
 
الإبداع في المجتمع العربي:
 في رأيكم، ما السبب وراء انعدام مساحة الإبداع وغياب إمكانيات التطوير وانسداد آفاق الإصلاح في المجتمع العربي المعاصر؟ وكيف يمكننا حلّ مثل هذه المشكلة؟
 القول بغياب الإبداع في المجتمع العربي ليس دقيقاً، فهناك الكثير من الضغوط الاقتصادية والسياسية والاستعمارية التي تمنع ظهور الإبداع، ومع هذا نرى بعض الإبداعات الموجودة في مجتمعنا العربي والإسلامي. ونحن نقول إنّ على الإنسان أن يُطلق فكره وتجربته في كلّ ميدانٍ مفيدٍ للإنسان وللحياة، وعلى المجتمعات والدول أن تؤمّن للعالم والمبدع البيئة العلميّة الخصبة التي يستطيع من خلالها أن يغني تجربته ويطورها. كما ينبغي علينا أن نعمل على أساس تأكيد روح النقد المفيد، لينشأ لدينا مجتمع لا يستسلم للأمر الواقع، وفي الوقت نفسه، يتحرّك بحكمة في سبيل إيجاد الحلول لمشكلاته وقضاياه.
حدود حرية الإنسان:
 هل الإنسان حرّ في اختيار دينه أم لا؟ وإن كان الجواب نعم، فلماذا إذاً نختار نحن لأطفالنا الإسلام، ألا تشكّل هذه الخطوة تعدّياً على حقوقهم وانتهاكاً لحرّيتهم؟
 تربية الأطفال على الدين الحقّ وهدايتهم إلى الطريق المستقيم لا تُعتبر انتهاكاً لحقوقهم، وإلاّ كان إرسالهم إلى المدرسة وإجبارهم على التعلّم من انتهاك الحقوق، فكلّ عمل لصالح الطفل لا يمكن اعتباره انتهاكاً لحقوقه، بل هو من حقوقه على والديه، إذ من حق الولد على والديه حسن التربية. كما أنّ هناك نقطةً، وهي أنّ الإنسان لا يخلو من تربية؛ فإذا كان البناء على أن نترك تربية أولادنا على أمرٍ معيّن بحجّة ترك الحرّية لهم، فإنّ المجتمع والبيئة الثقافية من حولهم سوف تؤمّن لهم نوعاً من التربية غير المباشرة، فنكون قد تركنا تربيتهم ليربّيهم غيرنا. المهمّ هو أن ننشئ أولادنا على ما نعتقد أنّه يمثّل الصلاح لهم، وأن نعلّمهم حرّية التعبير والنقد والاستقلاليّة في التفكير.
موقف الإنسان من العبودية:
 من أسس الإسلام أنه جاء ليحرّر الإنسان من العبودية لغير الله تعالى ويعطيه الحرية... ولكن لماذا لم يطلق العبيد ويمنع نظام الرقّ، بحيث لا يكون من يدخل في الدين عبداً لأحد؟
 لقد كان للاسترقاق في المجتمعات القديمة أهمية كبرى في دورة الحياة الاقتصادية وفي شبكة العلاقات الاجتماعية، بل الدولية أيضاً، وبالتأكيد، فإنّ تحريمه الفوري كان سيربك وضع الناس الاقتصادي ويوقع الفوضى في مجتمعاتهم وأمنهم، ولقد كان من الحكمة أن يتدرّج التشريع الإسلامي في تقليص الرقّ من خلال خطوات عدّة، منها: حصر أسباب الرق بالحرب، وجعل قرار الاسترقاق بيد الحكام، إضافةً إلى أنّه فتح أبواب تحرير العبيد على مصراعيها، مثل منعه تملّك الآباء والأمهات، وتحرير الأمة التي تحمل من سيّدها، وجعل تحرير العبيد واجباً كفّارة عن بعض الذنوب، وحثه على تحرير العبيد كعمل مستحبّ، كما أنه فسح المجال للعبد ليحرّر نفسه بالتوافق مع سيّده على مبلغ من المال. هذا وما كان الاسترقاق ليبقى في المجتمع الإسلامي هذه المدّة الطويلة لولا تسلّط حكّام الجور الذين لم يلتزموا في سياساتهم بقيم الإسلام وتعاليمه بنحو جيّد وفعّال.
الجمعيات الخيرية:
 حصل بعض الشباب المسلمين على ترخيص لإنشاء جمعية خيرية، وهم يريدون أن يكون الانتساب إلى الجمعية محصوراً بأبناء مذهبهم خوفاً على مستقبل الجمعية، فهل يجوز لهم هذا؟
 عليهم أن يلاحظوا المصلحة الإسلامية في ذلك، فهم ليسوا مقيّدين بطبيعة الناس الذين ينتمون إلى هذه الجمعية، بل لابد من أن يلاحظوا ما هي المصلحة الإسلامية في ذلك كله.
الثقافة الإسقاطية:
 الثقافة الإسقاطية تحدّ الإبداع الفكري وتحجب النص عن الانطلاق فيما نستوحيه من دلالة سطحية أو عميقة. في تصوركم، ما هو الأسلوب الأمثل للخروج من هذا المأزق المنهجي؟
 لعلّ من جملة الوسائل إلى ذلك، أن ينفتح الإنسان على أكثر من وجهة نظر في أيّ قضيّة مطروحة، لا أن يعتبر أن وجهة نظره تمثّل الحقيقة، فيحبس نفسه في إطار ذاته.
العلمانية والدين:
 هل العلمانية ضدّ الدين، أم أنها تكون أحياناً ضرورة للتغيير في المجتمعات؟
 العلمانية هي ضدّ الدين، والإسلام يعارضها ولا يراها ضرورةً لصالح المجتمعات، وفي التشريعات الإلهية كفاية لما فيه مصلحة المجتمعات، كما أن التزام الدين والشريعة واجب على كل إنسان بحسب ما نعتقد، ولا بدّ من أن تقوم الحياة على التشريع الذي أنزله الله تبارك وتعالى، والذي يقتضي العدل والقسط والحق والاستقامة.
الديمقراطية والشورى:
 ما الفرق بين الديمقراطية والشورى؟ وهل حدثت الشورى من وجهة نظر المسلمين الشيعة في عصر النبيw؟ وما هو النموذج الأمثل "للديمقراطية الإسلامية" في الوقت الحالي؟
 لا إشكال في أنّ الديمقراطية من المفاهيم الغربية المرتبطة بالثقافة والحضارة الغربية، والشورى من المفاهيم الإسلامية المرتبطة بالثقافة والحضارة الإسلامية، والديمقراطية قد تعني حكم الأكثرية والأغلبية بصرف النظر عن أي مقياس ثقافي أو أخلاقي آخر، بينما الشورى تعني التشاور في الأمر وطرح وجهات النظر المختلفة بين ذوي الخبرة في الموضوع المراد التشاور فيه،  فيكون حكم الأكثرية عندئذ مبنياً على الأخذ بقول أكثرية أهل الخبرة لا الأكثرية المطلقة، وهذا هو الفارق الجوهري بين الأمرين، ومن هنا تحمل الآيات القرآنية التي ذمّت الأكثرية والأغلبية على كونها ذات كم مجرّد من القيم والمبادىء، لأنّ الأكثرية المرتبطة بالقيم والمبادىء تكون منتخبةً بحسب العادة.
وقد حاول النبيw والأئمةi تركيز مثل هذه المفاهيم في صفوف الأمة، فكان النبي يشاور أصحابه في الأمور الهامة والمصيرية، وهو النبي المعصوم والذي قد لا يحتاج إلى مثل هذه المشاورة، ولكن من حيث كونه في قمة السلطة، كان يحاول أن يرسم المنهج للذين يريدون السير على خطاه، وقد وردت الآية: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ( ). وقوله: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( ). يؤكّد هذا الخط أيضاً... ولكن هناك جدل حول إلزامية الشورى في النظام العام للدولة، مع العلم أنها وسيلة لتأصيل الرأي للقيادة أو للمجتمع. وعلى هذا، فإنّ الديمقراطية محلّ تأمّل في خلفياتها الفكرية...
حقيقة علم الأبراج وتأثيرها في العالم:
 ما رأي سماحتكم في علم الأبراج في الجزء المتعلّق بالخصائص التي تنطبع في المولود عند الولادة، والتي يتّصف بها المولودون في نفس اليوم أو في نفس البرج؟ وما هو رأيكم في المقولات التنجيمية التي تنسجم مع بعض الأحاديث التي تتضمّن الصوم في الأيام البيض، وعدم ممارسة النكاح في أوقات محدّدة وهي مذكورة في كتب الأحاديث؟
 لم يثبت أي تأثير لعالم الأبراج وحركة الأفلاك في عالم الإنسان، أو استكشاف أوضاعه وأعماله من خلال الأفلاك، وقد وردت أحاديث في حرمة التنجيم والنهي عن تصديقه والعمل به، أما بعض ما ورد من مستحبّات ومكروهات في الصيام والممارسات الزوجية، فمنه ما هو غير ثابت، أما ما ثبُت منه، فباعتبار التأثيرات الواقعية بحسب الأمكنة والأزمنة.
 ثقافة الطغاة:
 في كثير من الأحيان، نظنّ أن الطُغاة والمستبدين على ثقافةٍ ومعرفةٍ كبيرة، فهل هذه أقنعة ووسائل لإخفاء جهلهم، كما كان الحال مع فرعون؟
 من الممكن جداً أن يكون لبعض الطُغاة بعض المعرفة، ولكنّهم ـ على طريقة ما ذكره الله تعالى ـ: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً( )؛ إلا أنّ الكثيرين من الطغاة ومن المستبدين قد يستغرقون في ذواتهم من خلال ما يحيط بهم من الثروات أو من السُلطة أو من خضوعِ الناسِ لهم، أو ما إلى ذلك، ما يؤدّي إلى تضخيم شخصيّاتهم، حتى إنهم قد يرتفعون بأنفسهم إلى أن ينظروا إلى ذواتهم بأنها في موقع الألوهية، كما في حال فرعون الذي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي( ). وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى( ). وهكذا نجد الكثير الآن من الطغاة والمستبدين، من الملوك والأمراء والرؤساء، يسيطرون على الناس، ويجعلون أنفسهم في مواقع الاستعلاء السياسي والاجتماعي، وربما الاستعلاء الديني، من دون أن تكون لهم أية كفاءة تبرّر لهم ذلك، ولكنهم قد يكونون ممن ورثوا المُلك أو ورثوا السلطة أو ما إلى ذلك، فخُيل إليهم أنهم يملكون الناس، وأن على الناس أن تخضع لهم. فالأمر يختلف بين طاغيةٍ وآخر.
الحرية الفكرية:
 ما هي الحرية الفكرية في نظرك؟ وإلى أين وصلت الحرية الفكرية في بلادنا؟ وهل أتاح العالم فعلاً للفكر حرية؟ وما هي مميزات عصرنا فيما يتعلق بها؟
 الحرية الفكرية تعني أنه يمكن للإنسان أن يفكر فيما يشاء، وكيفما يشاء، بشرط ألاّ يسيء ذلك إلى المجتمع أو الأمة، وأن يكون تفكيراً واعياً وساعياً إلى طلب الحقائق قدر المستطاع.
وقد يختلف الحال من بلد إلى آخر، ولكن الحرية الفردية قد تكون متاحة في شكل لا يحد منها شيء عندنا، ومن هنا تنشأ بين الحين والآخر بعض الدعوات والتي تعبر عن انحراف الإنسان على المستوى الفكري، لينعكس ذلك على المستوى العملي والوظيفي.
ومن الملاحظ في هذا المجال أن العصر الراهن، يتميز بحرية ظاهرية واسعة للانطلاق الفطري، ولكن الواقع قد يختلف كثيراً عن مثل ذلك، لأن كثيراً من القيود التي تفرض هنا وهناك، تجعل من هذه الانطلاقة انطلاقةً محدودة ومقيّدة، ولاسيّما في ظل الهيمنة والتوجيه الإعلامي الحاد الذي تسيطر عليه الدول الاستعمارية الكبرى.
 
العولمة والعالمية:
 كيف نفرق بين مفهوم العولمة عند الغرب ومفهوم العالمية التي يدعو إليها القرآن، كما في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( )؟
 هناك فرق كبير، لأن العولمة عند الغرب، هي أن يكون مصدر التشريع والحكم والسياسة والاجتماع من البشر، وأن لا يكون للدين أي دخلٍ في حياة الناس، بمعنى أنه لا يمكن أن نجعل الدين أساساً للدولة أو أساساً للحياة العامة، وإنما يبقى الدين عند العلمانيين غير الملحدين مجرد حالة شخصية بين الإنسان وربه، ولا علاقة له بالسياسة أو بالحياة العامة، بينما العالمية في الإسلام، هي أن يكون الإسلام هو الذي يحكم العالم، ويُطبق في العالم كله، لأن الله يريد للناس أن يحكموا بما أنزله الله عليهم مما أنزله على رسله جميعاً، فالعالمية هي أن ننطلق في ما انطلق به النبيw وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيراً( ). وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين( ). وأن يعمل على أسلمة العالم والناس، ليكون الإسلام هو عقيدة الناس وشريعتهم، وهو الأساس الذي ترتكز عليه كل شؤون الحياة.
حوار الأديان:
 ما هو رأيكم في مؤتمر حوار الأديان الذي ينعقد هذه الأيام في أسبانيا؟
 نحن نُشجع حوار الأديان، لأنّ القرآن الكريم يؤكّد ذلك في قوله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّه...( ) فالإسلام أكد مبدأ الحوار بين المسلمين وأهل الكتاب، حتى إنّ القرآن تحدث عن الحوار بين المشركين والمسلمين، وحدّثنا أيضاً عن دعوة الأنبياء أممهم إلى أن يدخلوا معهم في حوار حول قضايا التوحيد وكل القضايا التي يطرحونها عليهم.
لذلك نحن نشجِّع الحوار، ولكن نعتقد أن هذه المؤتمرات التي يلتقي فيها أهل الأديان لا تمثل إلا مؤتمرات احتفالية، لا تغير شيئاً من طبيعة الواقع الذي يعيشه أهل هذا الدين ضد أهل الدين الآخر، وهذا ما نلاحظه الآن في الواقع، بل حتى بالنسبة إلى حوار المذاهب، فقد نجد أن أهل هذا المذهب يقفون ضد مقدسات المذهب الآخر، أو يكفِّرون أهل المذهب الآخر وما إلى ذلك، ذلك أن غالبية المؤتمرات لا تنطلق من أسس علمية موضوعية، بحيث يحاول المؤتمرون أن يدرسوا حقائق هذا الدين وذاك الدين، وأن يعمل كل فريق على أن يقنع الفريق الآخر بوجهة نظره وما إلى ذلك. ولكن على كل حال، فهذا شيءٌ جيد بحد ذاته، ولكنه لا يحقق أية نتيجة عملية واقعية.
تصدي الفقهاء للشؤون العامة:
 كيف نوفق بين قول البعض بوجوب تصدي الفقهاء العدول لإدارة شؤون الأمة، وقول البعض الآخر إن الأئمة بعد استشهاد الحسين لم يتصدوا لهذا الأمر؟
 لقد تصدّى الأئمةi لتوعية الأمة، وكانواi وفق ما نقرأه من سيرة الإمام زين العابدين الذي كان أستاذ المرحلة الثقافية الإسلامية في كل عهده، وكذلك من سيرة الأئمة الباقر والصادق والكاظمi، كانوا يواجهون كل المشاكل التي تتحرك في الواقع الإسلامي، والاختلافات الفكرية التي تحدث بين المسلمين، سواء على أساس فلسفي، أو على أساس فقهي شرعي أو ما إلى ذلك. أما قضية الحكم، فلم تكن هناك ظروف تساعدهم على أن يواجهوا مسألة إدارة شؤون الأمة بالحكم، ولكنهم كانوا يوجهون الأمة للسير على الخط المستقيم، وكيفية التعامل مع الظالمين، وكانوا يشجِّعون الثائرين على الظالمين، فلم يكونوا سلبيين أمام التطورات التي كانت تحدث في مجتمعاتهم، ولم يكونوا يجلسون في بيوتهم، وإنما كانوا يستقبلون الناس ويجيبون عن كل أسئلتهم.
حتى إن هناك بعض الرواة يتحدث عن الإمام الصادقt، بأنّه رآه في منى والناس يجتمعون حوله كأنه معلم صبيان. كما أنّهt كان يجلس في المسجد الحرام والناس يطوفون، وكان يلتقي بالزنادقة والملحدين، وكان يناقشهم ويواجههم بالحجة والبرهان وما إلى ذلك.
ولهذا، فإن الأئمةi لم يكونوا سلبيين في كل ما يعرض للمجتمع من خلافات ومشاكل، وكانوا يجيبون الناس عن أسئلتهم. حتى إن ضرار الذي سأله معاوية عن عليt، يقول في وصف عليt: ((كان يجيبنا إذا سألناه، وإذا لم نسأله كان يبتدئ))، وحين نقرأ نحن نهج البلاغة، ونقرأ القضايا التي أثارها الإمامt، نجد أنه كان يعالج كل قضية تحدث للمسلمين. لذلك يجب على العلماء أن يعالجوا القضايا الثقافية والسياسية والأمنية، بحيث إذا لم يستطيعوا أن يقوموا بحركة ثورية، فعلى الأقل أن يقوموا بحركة ثقافية، وأن لا ينعزلوا عن الناس، بل أن يعيشوا مع الناس ويتابعوا كل تطورات العالم الإسلامي، ليحاولوا علاج أي تطور إذا كان سلبياً، وليحاولوا توجيه هذا التطور وترشيده وتعميقه إذا كان إيجابياً.
الموقف من الأحزاب العلمانية:
 ما هو موقفكم من الأحزاب العلمانية؟ وكيف نتعامل معها؟
 طبعاً، نحن نعتقد أن الإسلام يمثل الدين الذي أنزله الله على رسوله ليحل كل مشاكل الناس، سواء كان ذلك على مستوى الحكم أو السياسة أو الاجتماع أو كل العلاقات الإنسانية وما إلى ذلك، فبعض العلمانيين ملحدون كالماركسيين، وبعضهم لا يعتبر أن للدين علاقةً بالحياة، ولذلك نحن نختلف معهم اختلافاً جذرياً في هذا المجال.
قدرة الشعوب العربية:
 لكم تصريح بأن الشعوب العربية ماتت، مع أننا نعيش فترة الازدهار العربي والانتصار؟
 قلت إن العالم العربي مات، وليست الشعوب العربية، لأن الشعوب العربية لا تزال تقف مع القضايا، والدليل على ذلك، وقوف الشعوب العربية مع المقاومة الإسلامية في انتصارها على إسرائيل سنة 2006م، وفي فرضها على إسرائيل إطلاق سراح الأسرى وجثامين الشهداء وما إلى ذلك. إنّ أملنا هو بالشعوب العربية، أمّا العالم العربي الرسمي فهو الذي مات، لأننا لا نجد لهم أي تأثير في حركة شعوبهم، بل إنهم حولوا بلادهم إلى سجنٍ لشعوبهم امتثالاً للسياسة الأمريكية.

 

مقاييس اختيار الزوجة:
 شابٌ يطمح للزواج من فتاة مقتنعٍ بها، وهي ذات أخلاق ودين، ولكن أم الشاب تعارضه بسبب مقاييس جمالية. ما تعليقكم في ظل ضياع الشاب بين إرضاء ذاته وإرضاء أمّه؟
 ليست الأم هي التي تتزوّج، فالشابّ حرٌ في اختياره، ولا يجب عليه إطاعة أمه في ذلك، فالمقاييس الجمالية تخصّه وحده وخاضعة لرغباته، وعليه أن يقول لأمّه: إن الحديث النبوي الشريف يقول: ((إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ـ سواء من ترضون خلقه من النساء أو من الرجال ـ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير))( ). وهناك نقطة يجب أن نعرفها، وهي أنه ليس المطلوب إطاعة الوالدين، وإنما الإحسان إليهم؛ لأنّ الوالد ليس نبياً ولا رسولاً ولا إماماً، فهو لا يملك حقّ الطاعة من الولد، بل يملك عليه حقّ الإحسان، وكذلك بالنسبة إلى الوالدة، وخصوصاً إذا طلبا منه ما لا ينسجم مع مصالحه ومع حياته.
عدم التركيز في الصلاة:
 أعيش حالاً نفسيّة صعبة، ما يجعلني غير قادرة على التركيز في صلاتي، وبالتالي لا يمكنني أن أشعر بالخشوع والروحانيّة، فبماذا تنصحونني؟
 على كل إنسان ألاَّ يستسلم لحالته النفسيّة الصعبة، بل عليه أن يدرس سبب هذه الحالة، وإذا عرف السبب، فباستطاعته معالجتها، سواء باللجوء إلى شخص آخر واعٍ أو بالذهاب إلى الطبيب النفسي، مع الابتهال إلى الله سبحانه أن يساعده للخروج من هذه الحالة.
الروحانية في الصلاة:
 ما هو السبيل إلى زيادة الروحانية في الصلاة اليوميّة؟
 بأن يهيئ الإنسان نفسه عندما يقف بين يدي الله تعالى، وأن يثقّف نفسه بعظمة الله عزَّ وجلَّ، فالإنسان عندما يشعر أنَّه يقف أمام العظيم، فإنَّه بطبيعة الحال سوف يشعر بالرهبة والهيبة وبالتضاؤل أمامه سبحانه. هذا أولاً، وثانياً، على الإنسان أن يتحسّس نِعَم الله وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوهاإبراهيم:34.. ثم عليه أن يهيّئ الجوّ النفسي قبل الدخول في الصلاة، وهذا ما يعيشه في الأذان والإقامة اللتين تعتبران مدخلاً للصلاة، فيعيش الشهادة والوحدانية والإقرار بالنبوّة، وعندما يلفظ "حيّ على الصلاة" يستشعر في داخله نداء الله له بالإقبال والتوجّه إلى الصلاة تنفيذاً لأمره سبحانه، وعند كلمة "حيّ على الفلاح"، يعيش معنى الفلاح والنجاح والاستقامة والتقوى وكلّ ما هو خيرٌ وعدل، وهكذا في "حيّ على خير العمل"، على اعتبار أنَّ الصلاة هي خير العمل، وهي المنجاة في الآخرة. وفوق كلّ ذلك، عندما يدخل في الصلاة، يرى نفسه أنَّه يقف بين يدي الله العظيم الكبير العزيز الجبّار المتكبّر، الرحمن الرحيم، ربِّ العالمين، مالك يوم الدين، وخصوصاً عندما يحاول أن يستوعب الكلمات التي يقولها في الصلاة، ويتدبّر الأفعال التي يفعلها في ركوعه وسجوده، ولا شكَّ في أنَّه سيحصل على التوجّه والروحانية.
توادّ المسلمين:
 قال الرسولw: ((من فرَّج عن مؤمن كربه فرّج الله عنه سبعين كربةً من كربات يوم القيامة، ومن سمع منادياً ينادي يا للمسلمين فلم يُجبه فليس بمسلم))( )، فهل نحن بالمستوى هذا الذي يشار إليه في الحديث الشريف؟
 إذا فرضنا أن الحاجة كانت ملحّة، وكان المستمع إليها من المسلمين قادراً على القيام بها من دون أن يكون عليه حرج، ووفقاً للشروط الشرعية، فإنه يجب على المسلم إعانة أخيه المسلم. وعلينا أن نعمل لنكون بالمستوى المطلوب لرضا اللّه سبحانه وتعالى، كما يقول سبحانه وتعالى: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ( ). ولكن البعض منّا يتواصى بالعصبية والحقد.
الطمع والطموح:
  ما هي حدود الطموح؟ وهل يصبح طمعاً في بعض الأحيان؟
 الطموح هو أن تطوّر أهدافك نحو الدرجات العلى، وأن تعمل على تحقيقها، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية، بالطرق الشرعية. أما الطمع، فهو عبارة عمّا تريده وتصبو إليه من دون أسس شرعية، وذلك بأن يستعجل الإنسان النتائج التي يتوخاها، ويبدأ بجمع الحرام والحلال في فعله، من دون التفات إلى الموازين الشرعية والقيم الأخلاقية.
الحلال المبغوض:
 الطلاق أبغض الحلال إلى الله، فهل يجب على المسلم أن يختار الطلاق دون سواه؟
 لقد جعل الله سبحانه وتعالى أمر الطلاق بيد الرجل، فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ( ). ولكنّ الله تعالى أراد له أن يصبر على ما يواجهه من مشاكل قد تحدث في الحياة الزوجية من خلال طبيعة المزاج الذي لزوجته أو ما إلى ذلك، وقال له إنّ الطلاق حلال، ولكن الله لا يحبه.
أخلاق طلاّب الحوزة:
 ما هي نصيحتكم للطلاب الذين يسعون دائماً إلى صنع الخلافات والمشاكل بين طلاب الحوزات العلمية من خلال الخلافات التي جرت أو تجري بين المراجع؟
 إنّ من يسعى في إثارة الخلاف بين المؤمنين هو إنسان بعيد عن خطّ العدالة والتقوى، لأنّ الدين يعني الاستقامة، قال تعالى: إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا( ). وقال تعالى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ( ). فالاستقامة هي أن لا يثير الإنسان الفتنة بين الناس، أما التعدّد في التقليد، فإنه يتبع قناعة كلّ مكلّف، فعلى أيّ أساس نحوّل قضية المرجعية إلى عصبية؟! والنبيw يقول: ((العصبيةُ في النار))، وقد ورد في حديث الإمام علي بن الحسين زين العابدين سلام الله عليه: ((العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظُلم))، ولكن هؤلاء الناس الذين يثيرون الفتنة والخلافات لأجل اختلاف المرجعيات، ويحاولون أيضاً أن يتهجموا على مرجعٍ هنا أو مرجعٍ هناك، هؤلاء ليس لهم من التقوى شيء، وننصحهم بأن يتّقوا الله سبحانه وتعالى في الناس وفي أنفسهم؛ لأنّهم سوف يقفون غداً بين يدي الله، وعندما ينطلق النداء: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ( ). فبماذا سيجيبون الله عن ذلك؟

 

أولاً: المرجعية والتقليد:
تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد:
 إذا كان هناك فعل محرّم في الإسلام، ولهذا الفعل عدّة آثار سلبية، فإذا انتفى تقديرياً أحد تلك الآثار، فهل تنتفي حرمة هذا الفعل ويصبح مباحاً؟   
 لقد بيّنا مراراً أنَّ الحكم الشرعي تابع للمصالح والمفاسد، فما يكون ذا مصلحة، يكون مباحاً وجائزاً، وما يكون ذا مفسدة، يكون حراماً، ولابد من تركه، ويكون ذلك لا على نحو مطلق، بل معنى أنْ يكون الشيء ذا مصلحة، هو أن تكون الإيجابيات فيه أكثر من السلبيات لدى المقارنة بينهما، ومعنى كونه ذا مفسدة العكس، أي أن تكون السلبيات أكثر من الإيجابيات، وعندئذٍ، إذا انتفت بعض الآثار السلبية لشيء ما، وكان حراماً عندما كان متصفاً بهذه الصفة، فلابد من النظر إلى حال الدليل الذي دلّ على حرمته أولاً، وهل إنْ التحريم لوحظ فيه ذلك، وعرف أنّ هذه الآثار السلبية هي التي أوجبت التحريم، (وهذا يستدعي وجود أدلة لفظية عليه)، كما إذا ورد عندنا أنّ حرمة الخمر إنّما هي باعتباره يؤدي إلى الإسكار، فإذا ارتفع الإسكار، وشككنا في حرمة المائع بعد ذلك، فنقول بحلّية ذلك، لأنه شراب جديد خال مما يؤدي إلى الإسكار ولا دليل على حرمته، وفقاً لقول: كل شيء لك حلال أو مباح حتى تعرف أنه حرام فتدعه. أمّا إذا لم يلاحظ الدليل الشرعيّ ذلك، وإنما يثبت التحريم مطلقاً، فعندئذٍ لا يصلح انتفاء بعض السلبيّات للقول بحلّيته. لذلك فزوال بعض الآثار السلبية لا يعني دائماً تبدّل الحكم.
دليل حجّية الإجماع:
 يرد كثيراً في الكتب الفقهية دعوى الإجماع، فما هي الأدلة على حجّية الإجماع، وإذا كان هناك دليل من القرآن أو السنّة أو العقل على حكم معين، فما حاجتنا إلى الإجماع؟
 الفقهاء من المتأخّرين يقولون إنّ الإجماع حجّة لأنّه يكشف عن رأي الإمام المعصوم، إلاّ أنّه حيث لا يوجد دليل ورد في كتاب أو سنّة ولم يحكم به عقل، فليس هناك حجّة على الإجماع، فإذاً ما هي الحجّة؟ يمكن أن يقال إنهم سمعوا من الإمام، وغاية الأمر أنّهم لم ينقلوا كلام الإمام، أو أنّهم رأوه في فعلٍ أو أدركوا تقريره. ولكن نحن نتحفّظ في هذا المقام؛ لأنّه لو كانت المسألة مسألة قول أو فعل أو تقرير، فلماذا هذا الاتّفاق على عدم النقل؟! وبعض علمائنا يقول إنّ فكرة الإجماع نشأت لدى مذاهب أخرى، وكثيرٌ من علمائنا تأثّروا بهذا الفكرة، وحاولوا أن ينظّروا لها.
دليل الإجماع:
 ما هو رأيكم في الإجماع؟ هل هو دليلٌ مستقل في مقابل القرآن والسنّة، أم أنه كاشف عن أحدهما؟
 العلماء يقولون إن قيمة الإجماع هي في كونه كاشفاً عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره، ونحن لنا تحفّظ في الأصل في حجّية الإجماع، مما ذكرناه في أبحاثنا الفقهية والأصولية.
دليل حرمة التدخين:
 أرجو منك ذكر الدليل الشرعي على حرمة التدخين؟
 دليل الحرمة هو ما يسببه التدخين من الأضرار البالغة بشهادة أهل الخبرة وإقرار العقلاء، وما كان ضرره أكثر من نفعه فهو محرم، قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسَرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثْمُهُمَا أكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ( ).
حكم التدخين واللحية:
 هل يوجد للتدخين وحلق اللحية دليل على حليتهما؟
 طبعاً التدخين محرم؛ لأنه يؤدي إلى أمراضٍ مميتة كما يذكر أهل الاختصاص من الأطباء، أما اللحية، فالمشهور بين العلماء وجوب إبقائها، ولكن رأينا ورأي علماء آخرين أنه لا يحرم حلقها، وإن كان الأفضل إبقاءها؛ لأن الأحاديث الواردة في حرمة الحلق لا تتم سنداً في بعضها، ولا دلالةً في بعضها الآخر.
الفقه الفردي وفقه الأمة:
 يتميز الفقه الشيعي بالاجتهادات المتواصلة على يد علماء كبار، ولكن يبقى هذا الاجتهاد ضمن الفقه الفردي، أي فيما يخصّ الفرد دون الوصول إلى الفقه المجتمعي مثل الاجتماع والسياسة، والسؤال: لماذا لم يجتهدوا في ذلك؟
 من قال ذلك؟! هناك كثير من العلماء المحققين المجتهدين الذي اجتهدوا في الفقه السياسي، وفي الفقه المجتمعي، وما إلى ذلك مما يعيشه الناس في التطورات القانونية في الحياة العامة.
المستجدات الفقهية:
 ألا ترون أن هناك تفاوتاً في سرعة المستجدات بالمقارنة مع الأبحاث الفقهية؟
 طبعاً، وعلى الإنسان أن يلاحق المستجدات، وأن يتابعها ويدرس ما لدينا من الخطوط الفكرية في بعض أبحاث علم الكلام، وما استجد منها لدى الناس.
الاستفهام من الفقيه:
 هل يجوز للمكلَّف أن يسأل مقلَّده عن المباني التي استدل بها على فتواه؟ وما هو دور العقل وحدوده في تطبيق الفتوى؟
 طبعاً من حقه أن يسأل إذا كان يملك معرفة المباني الفقهية وطرق الاستدلال الفقهي، أما إذا كان لا يملك ذلك، فلا فائدة من ذلك السؤال. أما دور العقل، فيعني أنه لابد للشخص من امتلاك الحجة عندما يقلِّد، ومن أن يستند المقلَّد إلى حجة وبرهان، والله تعالى يقول: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ( ).
توعية الأبناء بتكاليفهم الشرعية:
 هل من الواجب على الآباء توعية الأبناء بأمور علامات البلوغ لديهم؟
 يجب ذلك، لأن القضية ترتبط بتكاليفهم الشرعية، فلا بد للآباء والأمهات من أن يعلّموا الأبناء تكاليفهم الشرعية في التغيرات الجسدية التي تحدث لهم، مما يستتبع تكليفاً شرعياً، ومن الطبيعي أن يكون ذلك بالطرق الملائمة التي يمكن لهم أن يتحدّثوا عنها.
معايير الأعلمية:
 كيف لي أن أعرف أعلمية مرجع من المراجع؟ وما هي المصادر لتعرّف الأعلم بين الأحياء؟
 ليس هناك أعلم، بل لكل وردٍ رائحة، وكل الذين يشهدون بالأعلميّة لفلان أو لغيره، لا ينطلقون من حجّة؛ لأنّهم لم يطّلعوا على كلّ أبحاث العلماء ونتاجاتهم العلمية، وإنّما انطلقوا من خلال ثقافتهم تجاه من درسوا عنده، أو بعض من اطّلعوا عليه، وليس الجميع. ثمّ إنّه ليس في العالم كلّه ـ في أيّ ميدانٍ من العلوم ـ من يُشار إليه بأنّه الأعلم بين الجميع في ميدانه، حتى في مسألة الطب والهندسة وغيرهما، لا يوجد أعلم العالم أو أعلم الناس، بل هذا عنده خبرة ليست موجودة عند ذاك، وذاك عنده خبرة ليست موجودة عند ذاك.
حكم التبعيض في التقليد:
 هل يمكن للمسلم أن يقلّد مجتهداً معيناً في العبادات، وأن يقلِّد مجتهداً آخر في المعاملات، وآخر في بعض الأحكام الفقهية مثل الطب؟
 يُمكن ذلك إذا رجع إلى مجتهدٍ يفتي بجواز التبعيض في التقليد؛ لأنه لا بدّ للتبعيض من أساسٍ شرعيّ؛ فإمّا أن يجتهد المكلّف فيه إذا كان يملك أهليّة الاجتهاد، وإمّا أن يقلّد من يقول به.

ثانياً: النجاسات والطهارات
الاغتسال للصوم:
 الذي يحتلم في شهر رمضان بعد صلاة الفجر، هل يجب عليه أن يغتسل ويبقى على صيامه ولا قضاء عليه، أم يصوم يومه ثم يقضيه بعد شهر رمضان؟
 كلا، عليه أن يغتسل ويبقى على صيامه، لأن الإمناء المتعمد في نهار شهر رمضان هو المفطر وهو المحرّم، أما الاحتلام فلا يوجب الإفطار.
النجاسة الخبيثة:
 إذا نزل المني على جسم المرأة وبدون إيلاج وبدون حصول المرأة على الشهوة التامة، فهل عليها الغسل؟
 لا، بل إنّها تطهِّر المنطقة النجسة كما تطهر أي نجاسة عادية تصيب بدنها.
الجلود المستوردة:
 ما حكم الجلود الملبوسة المستوردة من الغرب؛ هل تنجِّس لابسها في حال تعرّقها عند ملامسة البشرة؟
 إذا كان الجلد من حيوان مذكّى أو مشكوك التذكية حتى لو كان من الغرب، فإن حكمه الطهارة، لأن في الغرب مسلمين أيضاً. أما إذا علم بأنه ليس مذكّى، فإن حكمه النجاسة، فينجّس ملاقيه بالرطوبة.
 
الدم المتخلّف في الذبيحة:
 الدم الباقي في الذبيحة طاهر، فهل تجوز الصلاة فيه إذا وقع على ملابس المصلي؟
 كُلُ دمٍ طاهر يجوز الصلاة فيه، لأن ما لا يجوز الصلاة فيه هو النجس.
طهارة الإنسان:
 ما هو دليلكم على طهارة الإنسان مُطلقاً؟
 ما هو دليلكم على نجاسة الإنسان؟ الأصل الطهارة في كل شيء، وليس عندنا أي دليلٍ على نجاسة الإنسان جسداً، أما قوله تعالى: إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ( )، فهو حديث عن نجاسة الفكر لا نجاسة الجسد. وقد عاش رسول اللهw بعد نزول هذه الآية، ولم يسأله أي مسلمٍ عن هذه المسألة، مع أن المشركين كانوا يعيشون مع المسلمين في شبه الجزيرة العربية، ومع ذلك، لم يصدر من النبيw أي تعليق حول هذا الموضوع، ما يدلّ على أنّ الحُكم لم يكن هو النجاسة؛ وإلا لأوجب أن تكثر الأسئلة له، وتكثر بالتالي الأحاديث عنه، وهذا غير واضح.
مقاربة الزوجة قبل الغسل:
 هل يجوز الجماع بعد نقاء الدم من الحيض؟ وقبل الغُسل؟
 يجوز ذلك، فلا يشترط في جواز الجماع الغُسل، بل يكفي الطهارة الواقعية، وذلك بنقاء المرأة من الدم.

ثالثاً: الوضوء والصلاة
القضاء عن الميت:
 هل يجوز القضاء عن الميت جماعةً، كما لو كان عليه قضاء عشرة أيام، فيقضي عنه عشرة أشخاص في يوم واحد؟
 نعم يجوز ذلك، لأن الترتيب غير ضروري.
صلاة الخرس في الصف الأول:
 إذا كان في الصف الأول من صلاة الجماعة إثنان أو ثلاثة أشخاص (خرس)، فهل وجودهم يسبب فصلاً لما بعدهم؟
 إذا كان الخرس يؤدون صلاة جماعة بالإشارة، فإن وجودهم في الصف لا يكون فاصلاً.
تقدم صلاة الجمعة وتأخّرها:
 إذا أقيمت أكثر من صلاة جمعة في مكان واحد، قلتم إنها تعتبر باطلة إلا الأولى، فما هو المقصود بذلك؟
 الأولى هي الصلاة التي تُقام فيها تكبيرة الإحرام أولاً، ويجب أن تكون المسافة بين مكان صلاة جمعة وأخرى 5200م، فإذا كانت الأخرى قريبة بما دون المسافة شرعاً، فتكون الصلاة المتأخرة في التكبير باطلة.
الائتمام بمجهول العدالة:
 هل يجوز أن أأتمّ بإمام لا أعترف بعدالته؟ وما الحكم لو شككت في عدالته؟
 لا يجوز الائتمام إلا بعد إحراز العدالة، ولو من خلال بعض القرائن، كحُسن الظاهر واتّباع الناس عموماً له.
الصلاة إذا قصر النهار:
 ما هو تكليف الإنسان بالنسبة إلى الصلاة، إذا كان في منطقة تغيب فيها الشمس لتشرق بعد عشر دقائق؟ هل يصلي المغرب أو صلاة الفجر؟
 تُلاحظ الصلاة بحسب طبيعة حركة الشمس، ولو كانت المدّة الزمنيّة ضئيلة، فيلزمه صلاة المغرب عند غروبها، ثمّ صلاة العشاء، ويصلّي الظهر عند زوالها وبعدها العصر، والفجر قبل طلوعها.
السجود على غير التربة:
 مسألة الصلاة بدون السجود على القرص (التربة)، هل هي خاطئة؟
 يقول النبيw: ((جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً))، فالسجود على ما نسمّيه قرصاً إنّما هو باعتبار أنه تراب طاهر. وبعض الناس يتبركون به إذا كان من الأرض التي استُشهد فيها الإمام الحسينt. أمّا عدا ذلك، فيجوز للإنسان أن يسجد على العشب وعلى أوراق الشجر ممّا لا يؤكل، والقاعدة عندنا هي جواز السجود على الأرض وما أنبتت ممّا لا يؤكل ولا يُلبس. فالتعبد بالسجود على التربة حصراً، هو تعبّد لا موضوع له.
الوضوء مع الكحل:
 هل يجوز الوضوء للصلاة بوجود كحل في العين؟
 يجوز ذلك إذا لم يكن الكحل خارج العين، بحيث يكون حاجباً عن وصول الماء إلى البشرة.
قضاء السجدة المنسية:
 كيف تقضى السجدة المنسية؟
 بعد الانتهاء من الصلاة، يبقى جالساً، وينوي قضاء السجدة قربةً إلى الله تعالى، ثم يسجد بنية قضائها مع الذكر، ويرفع رأسه، ثم ينوي سجدتي السهو ويسجدهما مع التشهد والتسليم، ويقول في السجود: باسم الله وبالله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
الجهل بصلاة الآيات:
 كنت أصلي صلاة الآيات بعشر ركوعات فقط من دون قراءة الفاتحة والسورة، فهل عليَّ القضاء؟
 لا بد من قراءة الفاتحة أو السورة، ولكن إذا كنت جاهلةً بكيفيّة الصلاة فلا يجب القضاء.
القضاء لغير القادر:
 هل يجوز لمن يصلي جالساً لمرض أن يقضي ما فاته من صلاة جلوساً أيضاً؟
 إذا كان لا يأمل بأن تتغير حالته من هذا المرض إلى الصحة، بحيث يستطيع فيما يستقبل من الصحة أن يقضي بشكل اختياري، فيجوز له ذلك.
 
اشتراط المسافة بين جمعتين:
 هل إنه لابد من اشتراط المسافة بين جمعة وأخرى أم أن هناك استثناءات؟
 ليست هناك استثناءات، بل لابد من أن تكون المسافة بين صلاة الجمعة والجمعة الأخرى المسافة المعتبرة، وهي خمسة آلاف ومائتي متراً.
النيابة عن العاجز الحيّ:
 هل تجوز النيابة في العبادات عن العاجز الحيّ؟
 لا تجوز النيابة عن الحي إلا في الحج، إذا كان قادراً مالياً ولم يكن قادراً جسدياً؛ أما بالنسبة إلى الصلاة أو الصوم فلا يجوز ذلك.
موارد الاحتياط في ظهر الجمعة:
 ما هو مورد الاحتياط في أداء صلاة الظهر يوم الجمعة؟
 باعتبار أن بعض العلماء يرون أن صلاة الجمعة ليست واجبةً، فيأتي الإنسان بصلاة الجمعة، لوجود فتاوى من كثير من العلماء في وجوبها، ويأتي بصلاة الظهر احتياطاً لعلها تكون مطلوبةً.
الدعاء للصلاة:
 متى نقول دعاء التوجه: ((وجهت وجهي إلى الذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً))؟ هل نقوله قبل تكبيرة الإحرام أم بعدها؟
 قبل تكبيرة الإحرام.
الأذان والإقامة لصلاة القضاء:
 هل يتوجَّب الأذان والإقامة لصلاة القضاء؟
 إن الأذان والإقامة من الآداب المستحبة التي يُؤتى بها قبل الصلاة، ويتأكد استحباب الإتيان بالإقامة أكثر من الأذان، ولذا، فيجوز للمصلي الصلاة بدونهما.
تاريخ الجمع بين الصلاتين:
 متى بدأ تاريخ الجمع بين الصلاتين عند الشيعة؟
 بدأ من رسول اللهw؛ وقد ذكر في موطّأ مالك والبخاري وغيرهما، أن النبيw كان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر؛ وذلك من أجل أن لا يحرج أحداً من أمّته، وفي رواية ((لكي يتّسع الوقت على أمّته))؛ ولكن من الطبيعي أن الأفضل هو التفريق بينهما.
الصلاة مع أهل السُنّة:
 رجل شيعي قال للشيخ: لقد كنت أصلّي صلاةً في جماعة مع أهل السُنة في مساجدهم وخلف إمام سني، فقال له الشيخ: يجب عليك أن تعيد كل الصلوات التي كنت تصليها مع أهل السنّة، ولا يجوز أن تأتم برجل سنّي. هل هذا صحيح؟
 هذا غير صحيح، وهذا مخالف لقول الأئمّةi، وهناك حديث يقول: ((إن الذي يصلّي معهم كالمصلي خلف رسول الله في الصف الأول))، لذلك لا يجب عليه الإعادة، وما ذكره هذا الشيخ خطأ.
كيفية الوضوء:
 روُي عن ابن عباس أن الوضوء غسلتان ومسحتان، أرجو التوضيح؟!
 المقصود غسل الوجه وغسل اليدين، ومسح الرأس ومسح الرجلين.
حد الغروب:
 ما هو حدّ الغروب الشرعي؟
 نحن رأينا، كما هو رأي السيد الخوئي ورأي السيد الحكيم وكثير من العلماء، أن المغرب يتحقق بسقوط قرص الشمس وليس بغياب الحمرة المشرقية.
التحدث أثناء خطبة الجمعة:
 هل إن التحدث أثناء خطبة الجمعة مبطل للصلاة؟
 لا يجوز التحدث أثناء خطبة الجمعة، ويجب الاستماع إليها، ولكن ذلك لا يبطل الصلاة اللاحقة.
الصلاة على النبيw:
 هل الصلاة على النبي w واجبة على بعض ومستحبة على البعض الآخر من الناس؟
 هي مستحبة إلا فيما جاء في الصلاة، والصلاة على النبيw هي عبارة عن الدعاء إلى الله بطلب الرحمة له ورفع الدرجة، وما إلى ذلك.
اختلاف التقليد بين الإمام والمأموم:
 هل تصحّ الصلاة خلف الإمام الذي يعتقد بمشروعية الشهادة الثالثة في التشهد والصلاة؟
 الشهادة الثالثة ليست أساساً في الإقامة، حتى إن الشيخ الصدوق يقول: ((إنها من صنع الغُلاة والمفوضة، وليست واردةً عن النبيّ والإمام))، فلا أصحاب الأئمةi كانوا يقولونها، ولا العلماء كالشيخ المفيد والشيخ الطوسي والمرتضى والرضي كانوا يقولونها،  والصدوق رجل من علمائنا الكبار، ولا يمكن أحداً أن يشك في حبّه لأهل البيتi وفي عظمته العلمية، كما أنّ الشهيد الثاني يقول في كتابه (اللمعة الدمشقية): ((إن الولاية لعلي من حقائق الإيمان وليست من فصول الأذان)).
حكم التكتف في الصلاة:
 أنتم ذكرتم في مسألة التكتّف أنّه إذا تكتّف في الصلاة لأجل الخشوع لا إشكال فيه، فما هو الفرق بيننا وبين أهل السُنّة إذاً؟
 أهل السُنة يرون أنّ التكتّف مستحبّ، وأنه مما ورد عن النبي w، أن على الإنسان عندما يقف للصلاة أن يتكتَّف. أما نحن، فإننا نقول إنه لم يثبت عن النبيّ ذلك، فاعتقاد استحبابه تشريع والتشريع محرَّم.
حقوق الوالدة وقضاء صلواتها:
 ذكرتم في الفتاوى الواضحة أنه يجب على المكلّف أن يقضي ما فات عن والده دون الوالدة من الصلاة، أليس هذا تمييزاً للرجل على المرأة، رغم أنّ مكانة الأم أعظم من مكانة الأب في ديننا الحنيف؟
 هذا لا يرتبط بالدلالة على أعظمية مكانة الأب، وربما كان ذلك في مقابل الحبوة كما في تعليل البعض، لكنه أمر تعبّدي بحسب ما ورد في الأدلة الشرعية، وقد وردت الأحاديث العديدة في مكانة الأم وفضلها وتعظيم دورها وثوابها.
الإخفات والجهر:
 ما هو الإخفات والجهر في الصلاة؟ وما حكمهما؟ وهل يختلفان بالنسبة إلى المرأة والرجل؟
 المدار فيهما هو العرف، والإخفات هو عدم إظهار جوهر الصوت بخلاف الجهر، وعلى الرجل الإخفات في القراءة في الظهرين والجهر في الصبح والعشاءين، والمرأة تخفت في الظهرين وتخيّر في غيرهما.
الشك في التكاليف السابقة:
 عندما وصلت إلى سنّ التكليف كنت أصلّي فرائضي، ولكنّي حالياً أشكّ في صحّة ما صلّيت من فرائض، فهل كان وضوئي صحيحاً في ذلك الوقت؟ وهل كانت صلاتي صحيحة أم لا؟
 حكمك البناء على صحة ما سبق، وعدم وجوب الإعادة.
الوضوء للطَّهارة:
 ما حكم الوضوء من غير تعيين الصّلاة لأيِّ وقت؟
 يجوز للإنسان أن يتوضأ ليكون على طهارةٍ في وقت الصلاة أو في غير وقت الصلاة.
حكم الوسواس:
 زوجي مخلص في حياته الزوجية معي، ولكنه منذ بدأ بالصلاة، أخذ الوسواس يلاحقه، خصوصاً فيما يتعلق بالوضوء والصلاة، ما أثّر على حياته معي وجعله يتصرّف بعصبيّة؟
 نطلب من الأخت أن يراجع زوجها عالماً دينياً أو بعض الأخوان ليحلّوا له هذه المشكلة من الناحية الشرعية، لأن الوسواس مرض شيطاني، وقد نقل عن الإمام الصادقt، أنّ رجلاً جاءه مبتلى بالوضوء والصلاة، فوصفه أنّه يعبد الشيطان، لأنه يطيع الشيطان، فالمرض النفسي ناشئ من عدم فهم الفقه الإسلامي والتكليف الشرعي، وذلك يحتاج إلى شخصٍ يملك الحكمة والأسلوب والوعي حتى يعالجه كما يعالج أي مريض.
الائتمام بصلاة المحتاط:
 هل يجوز أن يقضي جماعة من الناس الصلاة الفائتة جماعةً إذا كان الإمام يصلِّي بنية قضاء ما في الذمة، لأنه غير متأكد من كونه مطالباً بصلاة فائتة؟
 لا يجوز ذلك؛ لأنه لابد من أن يكون الإمام قاصداً للصلاة المفروضة عليه التي يعتقد بأنه مكلف بها، أما صلاة ما في الذمة، فهي صلاة احتياطية، والصلاة الاحتياطية لا يجوز الائتمام بها.
الصلاة مع استدبار القبلة:
 إذا صلى الشخص مستدبراً القبلة، فهل تبطل صلاته؟
 تبطل صلاته، وعليه أن يعيدها إذا علم أثناء الوقت، وإلا فلا يجب الإعادة.
مسح الرجل بباطن اليد الأخرى:
 هل يجوز لي أن أمسح ظاهر قدمي اليمني بباطن اليد اليسرى؟
 يجوز، ولكن الأفضل أن يمسح اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى.
الوضوء قبل الصلاة:
 توضأت قبل الصلاة بساعتين وبقيت على طهارة، هل علي تجديد الوضوء عند دخول الوقت؟
 لا مانع، المهم أن يكون الإنسان على طهارة قبل الدخول في الصلاة، كونه توضأ بنية الكون على طهارة.
البسملة:
 نعرف أنه إذا قرأنا سورة الضحى علينا أن نقرأ سورة الانشراح، ولكن هل علينا قراءة البسملة مرتين؟
 الأحوط ذلك.
تكليف المريض بالصلاة:
 ما هي أحكام الصلاة للمريض؛ هل عليه القضاء لاحقاً أم عليه الصلاة حتى في حالته المرضية؟
 لا تسقط الصلاة عن المريض، ولكن عليه أن يصلي بحسب استطاعته من قيام أو جلوس أو اضطجاع، حتى مع الإتيان بالطهارة المائية أو الترابية بحسب إمكانه وظروف مرضه.
الانحراف عن القبلة:
 ما هو المقدار الجائز للانحراف عن القبلة في الصلاة، والذي لا تبطل به الصلاة؟
 بالنسبة إلى الانحراف غير العمدي، فإن لم يصل إلى حد اليمين أو اليسار فلا تجب الإعادة، سواء ضمن الوقت أو خارجه، بل لو التفت أثناء الصلاة، فإنه يصحح توجهه ويتابع صلاته، أما إذا وصل إلى حد اليمين أو اليسار فضلاً عن الاستدبار، فلا تجب الإعادة خارج الوقت، وتجب الإعادة لو التفت ضمن الوقت، وإن التفت في أثناء الصلاة قطعها وصحح توجهه. أما بالنسبة إلى الانحراف العمدي، فهو مبطلٌ للصلاة مطلقاً، والانحراف يتحقق بأدنى ما يصدق معه عدم التوجه للقبلة.

رابعاً: الصيام والكفّارات
قضاء الصوم الفائت:
 هل يجب قضاء ما فات من الصوم منذ البلوغ ولعدة سنوات؟
 نعم، يجب على المكلَّف القضاء، ويكون ذلك بالتدريج، مع دفع الكفّارة، وهي إطعام ستين مسكيناً أو صيام شهرين متتابعين، وبالتدريج أيضاً عن السنوات السابقة.

خامساً: الخمس والزكاة
دفع خمس الأبناء:
 هل يجوز للأب دفع خمس ابنه القاصر، وكذلك ابنه البالغ؟
 لا يجب الخمس على الولد قبل البلوغ، أما بالنسبة إلى الولد البالغ، فإن مبادرة الأب إلى التخميس عن ولده بالوكالة عنه أو بإذنه، جائزة، لأن الخمس من العبادات التي لابد فيها من قصد المكلّف القربة عند دفعها.
تحديد الهاشمي:
 من هو الهاشمي الذي يستحقّ الخمس؟ هل كلّ بني هاشم؟
 بنو هاشم هم الذين يرجع نسبهم إلى هاشم الجدّ الأعلى للنبيّ w، وليس كلّ هاشميّ يجوز له أن يأخذ من الخمس، بل الفقراء منهم.
كيفية تخميس القرض:
 شخصٌ اقترض مبلغاً من المال واستثمره بالتجارة، وبعد أقل من سنة ربح المبلغ الضعف، فهل يخمِّسه كله أو الربح فقط؟
 ما دام المبلغ باقياً على القرض فلا يخمّسه في مفروض السؤال، أما إذا وفى القرض وزاد عنه شيء، فيخمِّس ما زاد عند مرور الحول أو رأس سنته الخمسية.
تخميس الأموال:
 في السابق، كان لدي رأس سنة خمسية، ولكني الآن لا أملك أموالاً، وكل ما أملكه هو ملابسي ومصروفي اليومي، فهل عليَّ خمس؟
 ليس عليك خُمس إذا لم يفضل عندك من مصاريفك السنوية أي مال، ولا خمس في ثيابك التي تلبسها أو في مصروفك اليومي في أثناء السنة.
زكاة الحلي:
 ما حكم الزكاة بالنسبة إلى الذهب الذي مضى على امتلاكه سنتان ونصف (وهناك جزء منه لا ألبسه)؟ ما هي كيفية الزكاة؟ وما هي شروطها؟ وكيف يتم حسابها؟ ولمن يصلح وهبها؟
 لا تجب الزكاة في حلي الذهب، ويجب فيها الخمس إن كانت زائدة عن مؤنة السنة، أي مما لا تحتاجه المرأة للتزين به، ومقدار الخمس هو بنسبة العشرين في المائة تخرج من نفس العين، وتخرج قيمة الخمس وتعطى للحاكم الشرعي للصرف على المستحقين.
الدخل والزكاة:
 لدي شركة في أوروبا وأدفع ضريبة دخل، وهي تذهب إلى الصالح العام، فهل هذه تعتبر زكاةً؟
 لا تعتبر هذه الضرائب زكاةً.
عزل المال للصدقة:
 كل يوم أستخرج مبلغاً معيناً كصدقة، وأجمع الصدقات في البيت، فهل يجوز لي شراء المأكولات بهذا المبلغ وإعطاؤها للفقراء؟
 المال يبقى ملكك ما دمت لم تضعه بيد الفقير، فلو عزلته بعنوان الصدقة فلا يصبح صدقةً حتى تتصدق به. والمال ملكك حتى إذا مرت عليه سنة يجب أن تخمّسه. إنما يخرج المال من ملكك إذا سلّمته للفقير، أما مجرد عزله فلا يجعله صدقة، ولذا يجوز أن تأخذه أو ترجعه، كما يجوز أن تشتري به غذاءً وما شاكل.
الأموال المختلطة بالحرام:
 رجل عنده أموال اختلط فيها الحلال بالحرام، وهو يريد أن يتخلّص من المال الحرام، فماذا عليه أن يفعل؟
 أولاً: لا بدّ من أن يعرف أن هذا الحرام هل يعرف صاحبه أم لا؟ فإذا عرفه فعليه أن يرده إلى صاحبه، وإذا كان صاحبه مجهولاً، فيكون حكمه حكم مجهول المالك. أما المال الذي اختلط الحلال فيه بالحرام، ولم يعرف صاحبه حتى يتصافى معه، من دون أن يعرف كمية الحلال والحرام، فتطهيره يكون بإخراج الخمس منه.
التساهل في الخمس:
 وجب عليّ خمس منذ عشر سنوات، ولكنّي لم أكن أخمّس، فهل يتوجّب عليّ الآن التخميس عن عشر سنوات أو عن سنة واحدة؟
 تخمّس المال الذي تعلّق به الخمس.
الزكاة في النقد الورقي:
 إذا كانت الزكاة تخص النقدين (الذهب والفضة) ممّا كان سائداً في ذلك العصر، فلماذا لا تعتبر الفئات الورقية أو المعدنية السائدة اليوم بديلاً منهما بحيث تشملها الزّكاة؟
 رأينا أن الزكاة تجب على الأحوط وجوباً في النقود الورقية؛ كما في النقدين الذهب والفضة.
تخميس الأموال:
 إذا كنا مغتربين عن الوطن، وزوجي ليس له عمل في هذه البلد، ومرَّت أربع سنوات علينا ولم نخمِّس أبداً، فما الحكم في ذلك؟
 إذا لم يفضل عندكم من المال ما يستحقّ الخُمُس، فلا يجب عليكم الخمس، فالخمس إنما هو في ما يزيد عن فاضل المؤونة، وأما إذا لم يبق مع الإنسان شيء؛ لأنه لا عمل له ولا مكسب، فلا خمس عليه.
الزكاة في المال الموقوف:
 مجموعة من المؤمنين تبرّعوا بمبلغ لترميم مسجد في مدينتهم، وأخ آخر تبرّع لهم بأرض للاستفادة من المبلغ أعلاه في زراعتها والاستفادة من الناتج، وزُرعت بالحنطة، فهل على هذا الحاصل زكاة، علماً بأن المبلغ الذي استُفيد منه بالزراعة يعود إلى المسجد؟
 لا يجب إخراج الزكاة من الحنطة، لأنها ـ في مفروض السؤال ـ ليست ملكاً للمتبرعين بالمال لترميم المسجد، بل هو أشبه بمال الوقف، والله العالم.
وضع الخمس في صناديق التبرعات:
 هل يجوز وضع الخمس في صناديق الصدقات؟
 لا يجوز ذلك، وإنما يجب تسليمه إلى الحاكم الشرعي. نعم، إذا كانت الجهة التي تتولى هذه الصناديق موثوقة، فيجوز ذلك بإذن الحاكم الشرعي، على أن يضع المكلف عليها ما يشير إلى أنها خمس ومن أي الحقين هي.
صرف حق الإمامt:
 أرسلت بيد أحد الإخوة المؤمنين مبلغاً من حق الإمامt لأجل صرفه في أحد موارد نشر الفكر الإسلامي بعد أخذ الإذن من سماحتكم طبعاً، ولكن نسي هذا الأخ، فصرفه لأحد الفقراء المستحقين، فهل أبرئت ذمتي بذلك، أم يجب علي دفع المبلغ مجدداً؟
 تبرأ ذمتك بذلك إن شاء الله تعالى.
دفع الحق الشرعي للأخت:
 بعد وفاة زوج أختي، قامت أختي وأولادها بالسكن مع أمي لأنهم لا يملكون بيتاً، وتقوم أمي بأمور البيت كلها، ولكن أمي لا تملك المال لتصرفه، لذا أقوم أنا بإعطائها المال. فهل يجوز لي أن أعطي أمي أموال الخمس المترتبة علي لكي تصرفه على الأيتام، بمعنى أن أضع مؤونة سنة والدتي (من مالي الخاص) ومؤونة سنة الأيتام (من الخمس المتوجب علي) في صندوق أو في البنك  لتقوم والدتي بصرفه على البيت خلال السنة؟
 يجوز من حيث المبدأ إعطاء أختك وأولادها من الخمس المتوجّب عليك، ولا يجوز إعطاء والدتك من الخمس، والطريقة التي ذكرتها صحيحة، مع الالتفات إلى لزوم استئذان الحاكم الشرعي في الدفع على الأحوط وجوباً.

سادساً: الحج والعمرة
الحج بمال مسيحي:
 هل يجوز للمسلم أن يستقرض مبلغاً من المسيحي للذهاب إلى الحج؟
 ليس هناك إشكال في القرض من المسيحي أو الهندوسي وغيرهما والذهاب به إلى الحج، لأن الإنسان يملك المال عندئذٍ بالاقتراض، بشرط عدم الإساءة إلى الإسلام.
الحج وعمل المستحب:
 إني أريد أن أذهب إلى الحج إن شاء الله، وهناك شعورٌ ينتابني بأن أدفع كلفة الحج إلى المقاومة في لبنان وفلسطين والأيتام فيها، فأيهما الأفضل، الحج أم الدفع؟
 الحج واجب، والدفع للمقاومة مستحب. لذلك لا يجوز للإنسان أن يقدّم ويفضّل المستحب على الواجب؛ لأنه جاء في الحديث: ((من استطاع الحج ولم يحج، فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً)).
التبرع للحج:
 تبرع لي شخص بأموال للحج، علماً أنّ في ذمّتي ديناً لبعض الأشخاص، فهل أذهب إلى الحج أم أقضي الدين؟
 إذا كان قد بذل لك المال للحج، فيجب عليك الحج، لا أن تصرفه في قضاء دينك.
الحج ببطاقات الائتمان:
 هل يجوز الاستقراض من بطاقات الائتمان (Credit Card) لغرض الحج الواجب؟ وما هو الحكم في حال الاقتراض منها وإرساله إلى الأهل ـ الوالدين ـ لتمكينهم من الحج؟
 إذا كان الاقتراض من دون قصد دفع الزيادة الربوية، ولو أُرغم على الدفع فيما بعد، فلا مشكلة من هذه الناحية، فإذا رأى نفسه أنه قادر على أداء ذلك بعد الرجوع من الحج، فيجزيه ذلك عن حجة الإسلام، كما لا إشكال في صحة حج الآخرين إذا قدّم لهم المال الذي يفي بالاستطاعة من هذا الطريق.

سابعاً: الزواج والطلاق
كفارة الإجهاض:
 ما هي كفارة الإجهاض إذا أخذت الزوجة بعض الأدوية التي تُسيء إلى نمو الجنين أو في حال الاعتقاد بأن الجنين لا يتخلق قبل أربعين يوماً من الحمل؟
 إن عملية الإجهاض حرام من أول ما تنعقد النطفة، وقد سُئل أحد الأئمةi عن امرأة شربت دواءً لتسقط ما في بطنها، فقال: لا يجوز لها ذلك، وتقع عليها الديّة. وهي تدفعها إلى الزوج ـ وفي هذا المقام، فإن الكفارة بحدود أربعة دنانير ذهب ـ وإذا سامحها زوجها فلا بأس عليها.
طلب الطلاق الخلعي:
 هل يجوز للمرأة أن تطلب الطلاق الخلعي حتى لو لم يرغب الرجل في الطلاق، أي أن يطلقها القاضي؟
 في هذه المسألة جدل فقهي، كما حدث في مصر، حيث أقر القانون أن المرأة إذا كرهت الرجل، فعلى الرجل أن يطلقها طلاقاً خلعياً لو طلبت منه ذلك، وإذا رفض فعلى القاضي أن يطلقها، ولكن المشهور بين المسلمين من السنّة والشيعة، أن كراهية المرأة للرجل لا تلزمه بالطلاق، وإن كان بعض علمائنا مثل الشيخ الطوسي يرى أن الرجل يجبر على الطلاق، وهناك بعض الآراء في ذلك من خلال بعض الوجوه الفقهية القريبة، ولكن الرأي الفقهي العام، أنه لا يجوز إجبار الرجل على الطلاق.
الطلاق البائن:
 إذا تمت المخالعة بعد عقد القران، ولكن بدون دخول، فهل يُعتبر هذا الطلاق طلاقاً بائناً بعد المخالعة والعدة مباشرةً؟
 طبعاً، لأنّ كل زواج بدون دخول فإنّ الطلاق فيه يُعتبر طلاقاً بائناً؛ أمّا الطلاق الرجعي الذي يجوز للزوج أن يرجع فيه، إنما هو إذا كان بعد الدخول.
شروط الأسلمة:
 أنا نصراني وقد أسلمت. أريد الزواج من مسلمة، فهل هناك أمور شرعية يجب عليَّ أن أقوم بها، أم يكفي شهادتي بالتوحيد؟
 لابد من أن يطمئن الذين يريدون أن يزوجوك ابنتهم، أو المرأة التي تريد أن تتزوج بها، لصحةٍ إسلامك والتزامك الإسلامي، وأنه ليس مجرد كلمات تقولها من دون أي التزامات بالإسلام، ولذلك، لا بدّ من أن تعتبر نفسك جزءاً من المجتمع المسلم.
عدالة الشهود في الطلاق:
 إمرأة مسلمة طلّقها زوجها المسلم أمام شاهدين غير مسلمين، ما حكم هذا الطلاق؟
 إذا كانا مسلمين غير عادلين فالطلاق باطل. نعم، إذا كانا غير مسلمين والمرأة مسلمة وطلقها زوجها المسلم أمام شاهدين غير مسلمين فالطلاق محل إشكال؛ لأن الله تعالى يقول: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ( ) أي من المسلمين، فالطلاق على هذا الأساس باطل، وإذا طلقها بواسطة محامٍ أمام المحكمة، فهذا الطلاق يعتبر باطلاً. نعم، إذا كانت المرأة غير شيعية، وكانت متزوجة من سُني، فالسنّة لا يشترطون في الطلاق شاهدين عادلين.
عدّة المرأة اليائس:
 هل توجد عدّة طلاق على المرأة التي بلغت سن اليأس؟
 كلا، لا عدّة عليها.
حكم الزواج الصوري:
 ثمّة فتوى لأحد أعضاء لجنة الإفتاء في الأزهر، يرى فيها أنه لا يجوز التعامل مع مشاهد الزواج على أنها تمثيل وهزل، فما رأيكم في ذلك؟
 إنّ العقد الذي يترتّب عليه الأثر القانوني والشرعي، لا بد من أن يعبّر عن إرادة جدّية في المضمون والمعنى، في ما يقصدانه من العقد.
ونحن نعتبر، استناداً إلى الروايات الصحيحة والقواعد الفقهية، أن أي عقد لا يقصد فيه الطرفان الجدية في إنشاء العلاقة الزوجية القانونية، كما لو انطلق في حال هزل أو غضب شديد يُفقد الإنسان توازنه وقصده، فإنه لا يملك أيّة قيمة شرعية، كذلك الحال في الطلاق، فلو توجّه الرجل بنطق لفظ الطلاق لزوجته على نحو الهزل والمزاح، فإن المرأة تبقى زوجةً له وتبقى العلاقة الزوجية قائمةً بينهما، لأن الإرادة التي يقصد بها الطرفان إقامة العلاقة الزوجية أو إنهاءها، هي شرط من شروط الصيغة، ولذا لا بدّ من أن يتحرّك الجانب الإنشائي في الصيغة القانونية، على أساس قصد المضمون.
الجدية في إنشاء العقد:
 بما أنكم تؤكدون أهمية النيّة في الزواج، فهل هذا يعني أن الزواج الحقيقي إذا لم يكن مستنداً إلى نية حقيقية، لا يعد زواجاً شرعياً، حتى لو عقده المأذون الشرعي؟
 هناك نوع من الخلاف الفقهي بين المذاهب السنّية والمذهب الشيعي حول هذا الموضوع، فالمذاهب السنّية تشترط وجود شاهدين ليكون الزواج شرعياً، أمّا عند الشيعة، فيمكن أن ينشىء الرجل والمرأة عقد الزواج جدياً، من دون توسيط كاتب العقد، أو من دون وجود شاهدين، بل يعتبرون أن دوره في الزواج هو لإثبات العقد وتوثيقه من الناحية القانونية.
وفي رأيي، أن التشريع الإسلامي أراد أن يسهّل أمر العلاقات الزوجية، لذلك فهو لم يشترط توسّط رجل دين لإنشاء عقد الزواج، لأن الزواج يمثّل علاقة شخصية وخاصةً جداً ينشئها الرجل والمرأة بإرادتهما.
شرط الاختيار في الطلاق:
 امرأة عقد عليها ولم يتم الدخول بها، وبعد فترة قليلة طلب والدها الطلاق من زوجها، وعندما حدث الطلاق سألها من أشرف على الطلاق: هل تريدين زوجك؟ فقالت: لا، وبعد فترة تبين أن المرأة قالت ذلك مكرهةً من قبل والدها، فهل هذا الطلاق شرعي؟
 إذا كان الزوج مختاراً في طلاق زوجته، ولم يكن مكرهاً، فالطلاق صحيح؛ لأنه في الطلاق لا يُشترط رضا الزوجة، وإنما يُشترط اختيار الزوج.
توفير حاجات الزوجة:
 هل يجب على الزوج الفقير أن يوفِّر لزوجته الغنية كافة المتطلبات التي كانت تمتلكها في بيت أبيها، مثل الخادمة والسيارة وما إلى ذلك؟
 لا يجب عليه ذلك لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِه( ). فعلى الزوج الإنفاق على زوجته حسب الوضع الاجتماعي العام المتعارف عليه، أما إذا كان الإنفاق يكلّفه فوق طاقته، فلا يجب عليه ذلك.
حكم التبنّي في الإسلام:
 لماذا لا يجوز التبني في الإسلام؟
 يقول اللّه سبحانه وتعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا( ). والأدعياء هم الأولاد الملحقون بالنسب بواسطة التبني. ولعلَّ الأساس في ذلك، هو أنّ مسألة البنوّة في التبنّي ليست أمراً واقعيّاً لأنّه ليس متولّداً منه، فلا تترتب عليه الآثار الشرعيّة التابعة للواقع.
حكم تبني الأطفال:
 ما هو حكم الشرع في الأطفال اللقطاء مجهولي الأبوين الذين يتمّ تجميعهم في دور خاصة تتمّ فيها متابعتهم وتربيتهم، وعندما يكبرون يخرجون إلى المجتمع وهم لا يعرفون من هم، وهذا يسبّب لهم أذى كبيراً ويجعلهم يدفعون ثمن خطيئة آبائهم، فهل يجيز الدين تبنيهم وإلحاقهم بالأسر التي تبنّتهم، وهذا يبعدهم عن المعاناة التي يعيشونها وهم لا يعرفون أصلهم؟
 التبني بمعنى الكفالة والرعاية، هو أمر جيد ومرغوب ومندوب في شرعنا، لكن حيث إنّ للنسب علاقة بكثير من الأحكام التي ليس أقلّها التوارث والنفقة والقرابة والزواج، فإنّه يجب الحرص على عدم إخفائه، لذا لا يجوز حين التبني نسبة اللقيط إلى غير والديه، التزاماً بصريح قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ( ). وأما السلبيات التي تنتج من جهالة النسب بالنسبة إلى اللقيط فيمكن تلافيها بحسن التربية والمصارحة، حيث لا خيار آخر.
سفر الزوجة دون الزوج:
 ما حكم الزوجة المسافرة وحدها إلى بلدٍ آخر، إذا  سمح زوجها بذلك؟
 نحن لا نرى ضرورة وجود محرم للمرأة في سفرها، إذا كانت تأمن على نفسها في هذا السفر من ناحية الظروف المحيطة بسفرها.
الزواج بغير المسلمة:
 أردت أن أتزوج بامرأة مسيحية، ووعدتني أن تتوب إذا تزوّجت، ووالدي لا يسمح لي بذلك، بل يجبرني أن أتزوج بامرأة مسلمة لا أحبها؟
 أولاً: أنت إذا أردت لبيتك أن تكون فيه زوجة مسلمة، فلا يكفي أن تعدك بأنها إذا تزوّجت فسوف تُسلم، فلو كانت تريد أن تسلم لأنها مقتنعة بالإسلام، لاقتنعت منذ البداية، كما أنّ الزواج من أهل الكتاب محلّ كلامٍ بين الفقهاء، فبعضهم يجيزه في المنقطع فقط، وبعضهم يجيزه في الدائم أيضاً؛ ولكننا لا نشجّع ذلك، باعتبار أننا نريد للبيت المسلم أن يعيش كل أفراده، ضمن الخط الإسلامي الأصيل، كما أنّه عندما يحصل هناك أولاد، فإن الوضع سوف يربك حركة انتماءاتهم؛ لأنّ الأم تريدهم أن يكونوا على دينها، والأب يريدهم أن يكونوا على دينه، وبعد ذلك يحدث هناك نوع من الاضطراب في الواقع. أمّا أن أباه يريد أن يزوجه من امرأة لا يحبّها، فليس للأب أن يجبر ولده على أن يتزوج امرأة لا يحبّها ولا يرضى بها.
الزواج من مشهورة بالرذيلة:
 لي صديق يريد الزواج من امرأة مشهورة بالزنا ومتجاهرة به، هل يجوز الزواج من هذه المرأة زواجاً منقطعاً؟
 الأحوط وجوباً عدم التزوج دائماً أو منقطعاً بالمشهورة بالزنا، التي تمتهن الزنا وتتاجر به، ثم إنّ هذه التي تتاجر بالزنا هي أساساً لا تقصد معنى العقد، وإنما ترتبط به حتى تأخذ أجراً على ذلك وتستمتع به، وبهذا لا يكون العقد شرعياً، لأن معنى الزواج لم يقصده أحد الناطقين بصيغة العقد.
الزواج من مشهورة بالزنا:
 لي صديق يريد الزواج من امرأة مشهورة بالزنا ومتجاهرة به، فهل يجوز الزواج من هذا المرأة زواجاً منقطعاً؟
 الأحوط وجوباً عدم الزواج دائماً أو منقطعاً من المشهورة بالزنا، وهي التي تمتهن الزنا وتتاجر به. ثم هناك نقطة، وهي أنّ التي تتاجر بالزنا أساساً لا تقصد معنى العقد، وإنما ترتبط به حتى تأخذ فلوسه وتستمتع به، وبهذا لا يكون العقد شرعيّاً؛ لأنّ معنى الزواج لم يقصده أحد الناطقين بصيغة العقد.
الشهود في الزواج المؤقت:
 هل يحتاج المتزوج متعةً إلى حضور الشهود وبقية شروط الطلاق إذا أراد أن يهب؟.
 الإشهاد ليس شرطاً عندنا، سواء كان زواجاً دائماً أو منقطعاً. وأمّا بالنسبة إلى هبة المدة في الزواج المنقطع، فلا يشترط فيها ـ أيضاً ـ حضور شاهدين عدلين كما هو الحال بالنسبة إلى الطلاق.
أطفال الأنابيب:
 زوجان لا يُنجبان، اقترح عليهما الطبيب من أجل الإنجاب أن يؤخذ مني الزوج ليلقّح به بويضة امرأة أجنبية ومن ثمّ تزرع البويضة في رحم الزوجة لتتمكّن من الحمل، فهل يجوز ذلك؟ وإذا كان الجواب النفي، فلو عقد الزوج على تلك المرأة الأجنبية، فهل يجب أخذ البويضة من المعقود عليها فقط في الفترة التي عقد عليها، أم يجوز استعمال البويضة التي سبق تلقيحها بعد العقد؟
 لا يترك الاحتياط بما يتعلّق بتلقيح مني الزوج لبويضة امرأة أجنبية، ولكن إذا عقد على تلك المرأة فيجوز ذلك، من دون فرق بين صورة ما إذا كان استعمال البويضة قبل العقد أو بعده، ولكن الإشكال هو في لحوق الولد بصاحبة البويضة أو بالحامل، فهناك رأي أستاذنا آية الله الخوئي (قدس سره) بأن الولد يلحق بالحامل، وهناك رأي آخر نتبنّاه كما يتبنّاه فتوىً واحتياطاً بعض الفقهاء المعاصرين، بأنّ الولد هو ولد صاحبة البويضة، لأنّ الولد ينشأ من النطفة والبويضة معاً، والله العالم.
حكم إجهاض الجنين:
 لديّ أربعة أطفال، والظروف الصحّية لزوجتي ليست على ما يرام، وهي الآن حامل في الشهر الثاني، وهي غير مستعدّة للإنجاب حالياً، لذا أسألكم ما هو موقف الشرع والحكم الشرعي في حال إجهاض الجنين؟ وهل يجوز ذلك؟
 لا يجوز الإجهاض بسبب كثرة الأولاد، إلاّ أن يضرّ الحمل الجديد بالوالدة ضرراً بليغاً فيجوز إجهاضه.
حقوق الطفل غير الشرعي:
 ما حكم الطفل الناتج من علاقة غير شرعية، هل تجب عليه النفقة؟
 هو ابن لأبويه، وهما ويتحمّلان مسؤوليته من رعاية ونفقة.
التراضي في الزواج:
 هل يكفي التراضي بين الرجل والمرأة في الزواج من دون الصيغة؟
 لابد من العقد ولا يكفي الرضا القلبي؛ لأن الرضا القلبي لا يُمثل أساساً لحالة قانونية، والزواج يمثل حالة قانونية، وهي الرابطة بين الرجل والمرأة، ولا بد من أن يكون هناك تعاقد فيما بينهما بما يمثل التزام كل منهما بحقوق تترتب عليه تجاه الآخر، وهذا موجود في كلّ العالم. فمنذ كان العالم لم يُكتفى بالرضا القلبي، بل كان لابد من أن يعبَّر عن هذا الرضا القلبي بالالتزام العقدي.
تحديد الولد:
 إذا وضعت نطفة رجل غريب في رحم امرأة متزوجة، لمن يكون الولد؟ وهل يعتبر ذلك زنا؟
 هذا محرم، وإن لم يكن زنا، والولد يكون للرجل الغريب صاحب النطفة.
زواج غير الرشيدة:
 هل زواج البنت غير الرشيدة بدون إذن وليها يبطل عقد الزواج؟
 نعم، لأن البنت إذا لم تكن رشيدة تبقى ولاية أبيها عليها، فلا يجوز الزواج بها إلا بإذن أبيها أو جدها لأبيها.
 
موجبات التقليد:
 هل يجوز للشخص أن يتزوج بالبكر زواجاً مؤقتاً، علماً أنهما يقلدان من لا يجيز العقد على البكر من دون إذن الوليّ؟
 إذا كانا يقلِّدان من يحرّم زواج البكر بدون إذن وليّها، فعليهما أن يلتزما بتقليدهما.

ثامناً: أموال وبنوك
تسجيل الأملاك باسم الزوجة:
 رجل اشترى منـزلاً وسجّله باسم زوجته، وهو ليس المنـزل الوحيد لهذا الرجل، ومات الرجل، ما حكم هذا المنـزل؛ هل يعتبر من حقّ الزوجة، أم يعتبر إرثاً للورثة الشرعيين؟ وهل يؤخذ بقول أحد الورثة، بأنه سمع من أبيه أنه اضطر لتسجيل المنزل باسم الزوجة هرباً من الضريبة؟
 هذه دعوى؛ فهل إن التسجيل كان لغرض التهرب من دفع الضريبة، بحيث بقي المنـزل تحت ملك الزوج، وعندئذٍ فهو للورثة، أو أنه كان قاصداً إعطاءه إياها، وهنا يكون البيت حقاً للزوجة؟ وهذه أمور تحتاج إلى مرافعة شرعية من أجل إثبات ما هو الأساس في ذلك.
حرمان بعض الورثة:
 سجّل الوالد بيت العائلة الذي هو باسمه، باسم أحد أبنائه، والملك الثاني باسم الولد الثاني من الزوجة الثانية، وحرم الأولاد من الزوجة الأولى، ما هو الحكم في هذه المسألة؟  
 ورد في الحديث: ((الناس مسلطون على أموالهم))، فإذا كان تسجيله باسم الولد الأول تسجيلاً حقيقياً تمليكياً، وهكذا بالنسبة إلى الولد الثاني، ولم يبق لديه تركه، فهو يملك هذا وذاك، ولا يملك الأولاد شيئاً، لأنه لم يبقَ عنده شيء في هذا المجال، ولكن ينبغي للأب أن لا يعقد أولاده بأن يعطي بعضهم ويحرم بعضهم الآخر.
بيع الأعضاء الجسدية:
 هل يجوز بيع أعضاء من جسم الإنسان مثال بيع الكلية؟
 إذا كانت هذه الأعضاء لا تضر الإنسان ضرراً بالغاً، بحيث يبلغ درجة الخطورة أو المرض الشديد، فيجوز، ولكن لا على نحو البيع والشراء. نعم، يمكن أن يقدّم ذلك هديّةً.
إسترجاع الهبة:
 وهب شخصٌ زوجته قطعة أرض، ثم ماتت ورجع عن الهبة جهلاً بعدم جواز ذلك، ثم باع الأرض دون علم المشتري بأنّها كانت مهراً لزوجة البائع، ثم توفي المشتري والبائع، وانتقلت الأرض إلى ورثة المشتري، ثم عرف الورثة بالموضوع، فماذا عليهم؟
 عليهم أن يرجعوا هذه الأرض إلى ورثة الزوجة، ومن ورثة الزوجة زوجها، فيرثها أيضاً، ولكن بمقدار حصته.
الإنفاق على الولد:
 أعرف شاباً كان يعمل عند أبيه، وفي أثناء العمل أصيبت عينه، وأدى ذلك إلى فقدانه الرؤية فيها، وقد طرده أبوه بعد ذلك من العمل، ولم يؤدِّ واجبه كاملاً في معالجته. هل يجوز لهذا الشاب أن يطالب أباه بأن يصرف عليه، مع العلم أنه متزوج وبيته بالأجرة، وقد منعه الطبيب من العمل وأمره أن يجلس في بيته؟
 إذا كان عاملاً كبقية العمّال، فإن قوانين العمل تفرض على أبيه أن يدفع له ما تفرضه قوانين العمل. هذا أولاً، وثانياً، إن الولد حتى وإن كان كبيراً متزوجاً، فإذا كان لا يستطيع أن يملك العيش الكريم، فيجب على أبيه الإنفاق عليه إذا كان محتاجاً وكان الأب قادراً.
حكم الإعطاء المؤدّي إلى الفقر:
 هل يجوز أن يعطي الزوج كل ما يملك من حصة له في دار أو أرض لزوجته، وربما يكون فقيراً بعد هذا العطاء؟
 يجوز له ذلك، فالناس مسلَّطون على أموالهم، فيجوز له أن يعطيها في حياته بأن يهبها ذلك.
الأجرة على إبطال السحر:
 هل يجوز إبطال السحر بالسحر؟ وهل يجوز أخذ مبلغ من المال إذا كان العلاج بالقرآن؟
 نعم، يجوز ذلك إذا كان السحر واقعاً، ولكننا نتصور أن السحر لا واقع له، كما ذكرنا أنه مجرد تخييل. كما أنّ القرآن لم ينزل لهذا الغرض. نعم، هو شفاء لما في الصدور، شفاء للروح، شفاء للعقل والقلب، ولكنّ بعض الناس يحاول أن يفتح عيادة للاستشفاء بالقرآن، القرآن لم يجعل لذلك، بل هو كتاب النور قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّه نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ( )، وكتاب أراد الله لنا أن نستشفي به من أمراض عقولنا، وأمراض قلوبنا، وأمراض مشاعرنا وأحاسيسنا.
القرض البنكي لشراء مسكن:
 هل يجوز لي شراء دار سكن عن طريق القرض من البنك ودفع الربا للبنك لعدّة سنوات لحين تسديد القرض والفوائد، علماً أن الموارد التي تأتيني شهريّاً في الوقت الحاضر تكفي لدفع الإيجار ومستلزمات المعيشة، لكن سأبقى طيلة حياتي من دون أن يكون لي دار ملك، مع الأخذ بعين الاعتبار أيضاً أنّه في حال شراء البيت بالربا يكون دفع المبلغ الشهري بعد دفع المقدّمة للبنك متقاربة للإيجار الشهري، وفي النهاية يكون لي بيت ملك؟
 لا يجوز الاقتراض بشرط الفائدة؛ لحرمة الربا. ولكنّ هناك طريقة شرعيّة لحلّ ذلك، وهي أن يلتزم المقترض بالمبلغ الذي يريد اقتراضه دون أن يلتزم عقديّاً بالفائدة، حتى لو كان يعرف أنّهم سوف يفرضونها عليه عند الاستيفاء، فيجوز له ذلك حينئذٍ. وقد ورد في بعض النصوص: جاء الربا من قبل الشرط، وإنّما تفسده الشروط. فإذا لم يقصد المقترض الشرط فلا إشكال.
تصرّف الزوجة في أموالها:
 لدي نقود، وزوجي لا يعلم بها، وهذه النقود يشغلها أخي، ويعطيني ما يرزقه الله منها، فما حكم ذلك؟
 إذا كانت النقود هي مُلك السائلة وليست من أموال زوجها، فهي حرّة في مالها؛ تتصرّف به وتتاجر به، ولها الأرباح الحاصلة من استثمار أموالها، وعليها الخُمُس بشروطه.
موت المنذور:
 رجل نذر أن يذبح شاةً عند ختان ولده، واشترى الشاة، وقبل حفلة الختان ماتت الشاة، فهل يتعيّن عليه أن يشتري شاةً أخرى؟
 لا بدّ من شراء أخرى؛ لأنّ هذه الشاة غير متعيّنة بحسب النذر.
تصرف الزوجة بأموال زوجها:
 ما حكم من تأخذ المال من جيب زوجها من دون علمه، أو تبيع أشياء زائدة من البيت وتأخذ المال، ولكنها تصرفه على نفسها وأطفالها للمأكل؟
 هذه المسألة محرمة شرعاً؛ فلا يجوز للزوجة أن تأخذ من مال زوجها إلا برضاه، كما لا يجوز للزوج أن يأخذ من مال زوجته الذي ورثته، أو من راتبها أو أرباح تجارتها إلا برضاها؛ إذ (لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا عن طيب نفسه)، سواء كان رجلاً أو امرأةً، زوجاً أو زوجة، أباً أو ابناً، حتى الأب لا يجوز أن يأخذ من أموال ابنه بدون رضاه.
البناء على أرض مشتركة الملكية:
 قطعة أرض ملكيتها مشتركة بين عدّة أشخاص، ولم يتم فرزها، ويصعب تقسيمها بين الشركاء، قام أحد الشركاء ببناء دار له عليها، فهل يجوز له ذلك، خصوصاً أن أحد الشركاء في الأرض بحاجة إلى دار سكن؟
 الأرض المشاعة بين الشركاء والورثة لا يجوز التصرف بها شرعاً إلاّ بموافقة جميع الشركاء والورثة.
التصرف في الوقف:
 إذا أوقف شخصٌ أرضاً فيها بئرُ ماء للمسجد، وبعد ذلك احتاج إلى الماء في بيته، فهل يجوز أخذ الماء في هذه الصورة مقابل دفع أجرة الماء للمسجد؟
 إذا فرضنا أنه أوقف بئر الماء هذا كما أوقف الأرض، فحكمه حكم الوقف، فلا يجوز التصرف فيه إلا بما يتناسب مع جهة الوقف أو من خلال الرجوع إلى ولي الوقف، ليرى هل هناك مصلحة في ذلك للوقف أو ليس هناك مصلحة.
الاقتراض من المصرف:
 هل يجوز الاقتراض من المصرف ـ مع ربا ـ لسدِّ خمس مستقر في الذمة؟
 يجوز الاقتراض مع نية المقترض عدم الالتزام بالربا، بل الالتزام بنفس القرض، ويكون دفعه للفائدة حال التسديد من جهة الاضطرار لعدم إمكان التخلص، ولكن الأحوط استحباباً عدم الاقتراض في غير مورد الحاجات المعيشية الأساسية.
البضائع المصادرة:
 أنا أعمل في محل بقالة، اشتريت بضاعةً من جهة رسمية وعلمت أنها مصادرة، فهل يجوز بيعها؟
 لابد لك من مراجعة الحاكم الشرعي ليدرس المسألة حسب موازينها الشرعية.
التصرف في أموال الزوج:
 إذا كان الزوج لا يعطي الزوجة مصروفاً خاصاً بها، فهل يجوز لها أن تأخذ منه المال بدون علمه لتأمين احتياجاتها من الملبس وباقي الاحتياجات الأخرى؟
 يجب على الزوج أن ينفق على زوجته ما تحتاجه في شؤونها الخاصة من الطعام والشراب والملبس والدواء وما إلى ذلك، أما ما يفضل عن ذلك مما لا يمثل حاجة الزوجة الحياتية، بل إنّه قد يكون من شؤون الترف والكماليات، فلا يجب عليه ذلك، ولا يجوز لها أن تأخذ من ماله شيئاً لذلك.

تاسعاً: السلوك والمعاملات
حرمة الاستمناء:
 هل هناك نصٌ أو دليل قطعي في تحريم الاستمناء؛ علماً أن الأطباء المعاصرين قد أثبتوا أنّ له فوائد كثيرة، ولعله يمكن أن يكون تحريمه ناظراً إلى فترة زمنية؟
 هناك أدلّة ثابتة عن أئمة أهل البيتi، وحتى عن النبيw بالحرمة، وهناك من يستدل على ذلك بقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ( ) ، فجعل الاستمناء من الابتغاء ما وراء ذلك. ومن الروايات أنّه جيء لعليt بشخصٍ استمنى، فضربه حتى احمرت يده وزوَّجه من بيت المال، وقد ورد عن النبيw عن سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، وعدّ منهم الناكح يده. وأمّا ما ذكره السائل من منافع ذلك، فكون الشيء محرّماً لا يعني أنه ليس له منافع؛ فالله تعالى يقول: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا( ). فالحرام قد يكون فيه منفعة، ولكن المضرة فيه تكون أكثر من المنفعة. ونحن على اطلاع على الكثير من المشاكل الاجتماعية الزوجية التي سببها أن الشخص الذي يعتاد على العادة السرية، فإنّ هذه العادة تستمر معه حتى بعد الزواج، ما يجعله لا ينفتح على علاقته الجنسية مع زوجته، وتأتينا الكثير من المشاكل الاجتماعية الزوجية التي تتحدث عن مثل ذلك، وخصوصاً أن الإنسان الذي يمارس العادة السرية ويدمن عليها، ربما يمارسها بشكل كثير، ما يسيء إليه وإلى علاقته الزوجية.
تحديد رشد البنت:
 ما هو المعيار في تحديد رشد البنت التي ترغب في الزواج بدون إذن وليها؟
 قضية الرشد لا تخضع لسنِّ معيّنة، والمعيار في ذلك، هو أن لا تُخدع في نفسها ومالها، وأن تكون منفتحةً على ما يُصلح أمرها ويحقّق مصلحتها.
الثواب على العمل:
 ما مدى صحة هذا الحديث: ((من بلغه عن رسول الله ثواب على عملٍ فعمله، كان له ذلك وإن كان رسول الله لم يقله))؟
 الرواية صحيحة، ولكنها لا تدل على حجية الأخبار الضعيفة، فلو فرضنا أنّ الإنسان عمل عملاً على أساس ما جاء به حديث عن رسول الله w، وإن لم يكن هذا الحديث مسنداً وصحيحاً، فإنّ الله تعالى يعطيه على حسب نيّته، ولكن لابدّ من الالتفات إلى بعض الأمور التي تتصل بسلبيات تربوية أو بعناوين ثانوية توجب عدم رجحان متابعة الحديث.
 
الموسيقى الجائزة:
 هل يمكن لطالب الدين أن يعمل في مجال الموسيقى المحللة؟
 يجوز له أن يتعلم الموسيقى الحلال.
حكم حلق اللحية:
 هل تقولون باستحباب إبقاء اللحية بعد قولكم بإباحة حلقها؟ إن قلتم بذلك نرجو بيان الأدلة.
 إنّ إبقاءها يتّصل باعتبارها مظهراً من مظاهر الإيمان العامّة، وأساس القول برجحان إبقائها هو الأخبار التي وردت في إبقائها، والتي لم نحملها على الوجوب.
إستمناء الجنسين:
 ما هو ما الفرق بين الرجل والمرأة في مسألة الاستمناء، حيث ذهبتم إلى تحريم الاستمناء للرجل دون المرأة؟
 ما هو الاستمناء؟ هو إخراج المني، والمرأة لا مني لها، أما الماء الذي يخرج من المرأة عند أول إثارة الشهوة وعند بلوغ الذروة في الشهوة، إنما هو لتسهيل العملية الجنسية، وترطيب الموضع، وبعض الأطباء يقول: ليس للمرأة غدة تفرز المني. ثم هناك نقطة يجب أن تفهموها، وهي أن المني هو ما يشتمل على الحويمن، والحويمن هو النطفة التي تُلقح بها البويضة ليخرج الولد، والمرأة ليس لديها حويمن، لأن الولد لا يأتي من نطفة المرأة وإنما يأتي من البويضة، فلا دور للمني بالنسبة إلى المرأة كلياً، وإنما هناك غدة موجودة عند المرأة يرشح منها الماء من حين إثارة الشهوة، أي قبل الوصول إلى الذروة، ثم تتصاعد إلى حين بلوغ ذروة الشهوة. ولكن المرأة لا مني لها، فلا يوجد شيء اسمه استمناء، وهناك أدلّة أخرى في المقام تُبحث في محلّها.
مدة الرضاعة:
 أود فطام ابني في عمر الستة شهور، فهل هذه المدة كافية للحصول على الأمر المطلوب؟ وهل إنقاص الرضاعة جور على الصبي؟
 ذكر الله سبحانه وتعالى أنّ مدة الرضاعة هي سنتان لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ( )، وعلى الأم أن تدرس حاجة ابنها إلى الرضاعة، لأن رضاع الأم ـ وحسب كلام أهل الخبرة ـ لا يمكن أن يعوض عنه أي حليب. وللأسف، فإنّ المشكلة باتت في هذا العصر تتصل بالنواحي الجمالية أكثر ممّا تتصل بعالم الرعاية والمسؤولية، بحيث بات يُستعجل الفطام للصغير من دون دراسة حاجاته، وإنّما بسبب اهتمام المرأة بالعنصر الجمالي عندها وتقديمه على الاهتمام بولدها ورعايته وما إلى ذلك.
الموت الرحيم:
 ما هو رأيكم في مسألة الموت الرحيم؟
 لا يجوز ذلك، لأن الله لم يسلِّط الإنسان على إنهاء حياته حتى ولو كان يتعذب. نحن نقول: لا بدّ من أن يصبر ويأخذ المسكّنات والدواء؛ والله المعافي والمجازي.
 
إنجاب الأطفال وحق الزوجة:
 زوجي لا يريد إنجاب الأطفال، ونحن في متوسط العمر، وأخاف فوات الفرصة، فهل يجوز لي مخالفته وترك موانع الحمل، أم في ذلك حرمة؟
 المرأة حرة في جسدها من حيث الإنجاب وعدمه، وليس له أن يفرض عليها الإنجاب أو أن يمنعها، وإن كان بعض الأزواج لا يقبلون بذلك.
الخياطة للنساء:
 أنا خياط في دولة أجنبية، هل يجوز لي قياس الطول والعرض للنساء وتقصير الملابس وتضييقها وإظهار مفاتنها؟
 لا تجوز ملامسة الرجل للمرأة الأجنبية، أما من وراء الثياب فيجوز بدون شهوة أو ريبة، ولكننا لا ننصح بذلك، لأن ذلك يوجب الفتنة.
مشروعية الإجهاض:
 هل يجوز إسقاط جنين قد أكّد الأطباء بعد التصوير والفحص أنّه بدون جمجمة، وأنه قد يموت بعد الولادة مباشرةً، أو قبلها، هل يجوز إسقاطه؟
 إذا ثبت أنّه من دون جمجمة على نحو اليقين، فيكون بمنـزلة الميّت، عندها يجوز إسقاطه في هذه الحالة.
 
إجهاض الجنين المشوّه:
 هل يجوز إسقاط الجنين الذي ثبت بعد الفحص أنه مشوه، بحيث إنه يعيش، ولكن قد يكون فيه تشوّه خلقي؟
 لا، لا يجوز ذلك؛ لأنه لو قلنا بجواز إجهاضه على أساس أنّ عنده تشوّهاً خَلقياً، فينبغي القول بجواز قتل كل المشوهين في العالم؛ فالتشويه وحده لا يكون مبرراً للإسقاط.
حدود الاختلاط:
 ما هو حكم الإسلام بالنسبة إلى حرّية المرأة، خصوصاً في ظلّ هذا الاختلاط الفاحش، فما هي الحدود الشرعية لمسألة الاختلاط؟
 المرأة حرّة كالرجل، ومسألة الاختلاط من حيث كونه عاملاً مساعداً على ارتكاب الخطأ أو الانحراف، لا يختصّ بالمرأة وحدها، بل يشمل المرأة والرجل معاً، فكما لا يجوز للمرأة أن تختلط مع الرجال بالنحو المؤدّي إلى المعصية، مهما كانت صغيرة، فكذلك لا يجوز للرجل الاختلاط بالنساء. ومسألة الاختلاط لا بدّ من أن ترتكز إلى الجدّية التي تبعد الأجواء عن واقع المزاح والهزل، وما أشبه ذلك.
واجب المسلم المعاصر:
 في ظلّ الظروف السياسية الراهنة، ما هو واجب المسلمين كأفراد وجماعات، بحيث يكونون بريئي الذمّة أمام الله عزّ وجل؟
 من واجب المسلمين التسلّح بالوحدة فيما بينهم، فلا يتفرّقون مذاهب وجماعات يُضعف بعضهم بعضاً، بل يتراصّون على كلّ المستويات، لمواجهة الاستكبار والكفر العالميين اللذين اجتمعا ضدّ الإسلام كلّه، والمسلمين كلّهم، وأن يؤدّي كلّ مسلم دوره على المستوى الثقافي والسياسي والاقتصادي والجهادي في مواجهة كلّ واقع الاحتلال الذي ألقى بثقله على منطقتنا العربية والإسلاميّة.
الموقف تجاه الإساءة إلى النبيw:
 ما هو التكليف الشرعي تجاه الإساءات الأوروبية إلى النبي الأكرمw والقرآن الكريم؟
 تكليفنا هو أن ننكر عليهم ذلك بالطريقة الإنسانية الحضارية، وأن نعلمهم ما لا يعلمون من شخصية النبيw وعظمته وعصمته وإنسانيته وأخلاقيته الروحية؛ لأن الأساليب العنيفة لم تجدِ شيئاً، بل قد تخلق مشاكل كثيرة.
حكم سرطان البحر:
 هل يجوز أكل سرطان البحر؟ وإذا كان لا يجوز، فهل يجوز بيعه لغير المسلمين أو للمسلمين الذين يرون حلّية أكله؟
 الأحوط الاقتصار في حيوان البحر على السمك الذي له فلس، وأمّا ما ليس له فلس فالأحوط تركه، ولكن يجوز بيعه لمن يستحلّه من المذاهب الإسلامية الأخرى أو لغير المسلمين.
تذكية الأسماك:
 سمعت إحدى الأخوات تقول إنه لا يجوز أكل الأسماك المستوردة من البلاد الغربية، لأنهم يقومون باستخدام طريقة التفجير في الحصول على الأسماك، أي أنهم يضعون متفجرات في البحر ويقومون بتفجير مناطق تواجد هذه الأسماك، فيموت السمك ويطفو على الماء، وهذه الطريقة محرمة بحسب قولها، فهل هذا صحيح؟ وهل يجوز أكل سمك السلمون والسردين؟
 المعروف في البلاد الغربية عدم استعمال الطريقة المذكورة في الصيد، بل الصيد من خلال السفن المخصصة التي تستعمل الشباك، والحكم هو جواز الأكل من الأسماك المستوردة من بلاد الغرب، ويجوز أكل سمك السلمون والسردين.
العمل في محل يبيع الخمور:
 أعمل في كافتيريا منذ زمن، ولم يكونوا يبيعون الخمر، أما الآن فهم يبيعون الخمر، هل بقائي في عملي جائز، علماً أني أبرمت معهم اتفاقاً، وهو أن لا أنقل الخمر ولا أقدمها ولا أتعامل بها مطلقاً أثناء عملي، وهم قبلوا بهذا؟
 لا مانع من البقاء في عملك، ما دمت لا تزاول بيع الخمر ولا تقديمه، وما دمت تمارس العمل في الأشياء المحللة.
الموقف من جريمة الشرف:
 ما رأيكم فيما يسمّى جريمة الشرف؟
 أنا أعتبر كل الذين يقتلون الأبرياء باسم جريمة الشرف هم مجرمون يستحقون القصاص؛ لأن الله تعالى يقول: ولاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى( )، وشرف كلّ إنسان مرتبط بنفسه، وكلّ إنسان يتحمّل مسؤوليّة خطأه بمفرده، فلا تصير العائلة خائنة إذا كان أحد أفرادها خائناً، وكذلك إذا زنت إحدى أفرادها، ثمّ إنّ الحدود إنما يقوم بها المسؤولون الشرعيون، وليس لأحدٍ، حتّى من أقرب الأقرباء، أن يعاقب الزاني أو الزانية، لمجرد إشاعة الخبر، بل لا بدّ من ثبوته ثبوتاً شرعيّاً أمام القضاء العادل.
تلهي طالب الحوزة:
 هل يجوز لطالب الحوزة أن يتسلى أحياناً في بعض أوقاته للترويح عن نفسه؟
 إذا كان ذلك لا يتعارض مع واجباته الدينية والدراسية، فلا مانع.
حكم الطبخ بالحشيش:
  ما هو حكم الطعام المطبوخ في بعض المناطق بقليل من الحشيش؟
 لا يجوز ذلك، ومع الأسف، فإنّه في بعض المناطق الإسلامية يروّج البعض للمخدرات. إنّ مثل هذه الأمور التي تجري في البلاد تشكل خطراً على الشعب المسلم، كما هو خطر الاحتلال، فالمخدرات هي وسائل قوى الاستكبار لتدمير الإنسان.
فحص الشهادات:
 هل يجب على القاضي أن يتحقق من شهادة الشهود ليطمئنَّ لها؟
 لا بدَّ من إحراز عدالة الشهود، إمَّا على نحو العلم أو على نحو الاطمئنان، كما أنّه لا بدَّ من التدقيق في مضمون الشهادة.
تأثير السحر:
 في مجتمعنا، يدور لغط كبير حول ما يعرف بالكتابة وصدمة الغيب، فما رأيكم في هذا الموضوع؟
 لم يثبت عندنا حجية ذلك بالطريقة التي يتحدث بها الناس.
لمس المصحف:
 أشتغل في المطبعة، حيث نطبع القرآن، ولابد من اللمس أحياناً دون وضوء؟
 عليك أن تتوضّأ أو تلبس القفازات حتى لا تمس القرآن ببشرتك.
الولادة عند الطبيب اضطراراً:
 امرأة اضطرت إلى أن تلد على يد طبيب؛ لأن طبيبتها كان قد انتهى دوامها وذهبت إلى بيتها، فهل تأثم على ذلك أم يُغفر لها؟
 هي لم تُذنب حتى يُقال إنّها تأثم؛ لأنها كانت في حال اضطرار إلى ذلك ولم تكن هناك طبيبة. ونحن نقول: إذا كان الرجل أرفق بعلاجها من النساء، فلها أن تتعالج عنده حتى في غير هذه الحالة.
حكم الرقص:
 ما هو حكم رقص النساء بين النساء؟
 الرقص ليس محرَّماً إذا لم يكن خليعاً، سواء بين النساء والنساء، أو بين الرجال والرجال، كما في ما يعرف بالعراضة. نعم، الرقص الخليع غير جائز، سواء بالنسبة إلى النساء في المجتمعات النسائية المغلقة، أو بالنسبة إلى الرجال في المجتمعات الرجالية.
أخذ المياه من المسجد:
 رجل جار المسجد يريد أن يمد من المسجد خط ماء إلى بيته ويضع عدّاداً ثم يدفع ثمن الماء إلى المسجد، هل يجوز له ذلك؟
 إذا كان للمسجد وليٌ، وكان هناك مصلحة للمسجد، ولم تكن هناك مفسدة على المسجد، يجوز له ذلك. وعلى كلّ حال، فهذه الأمور تخضع لنظام الدولة في مسألة المياه؛ فإذا كان ذلك يعدّ مخالفةً فلا يجوز ارتكابه.
تشريح الإنسان للدراسة:
 نحن نسكن في بلاد الغرب في أوروبا، وابنتي تريد أن تدرس في كلية الطب، ولكنها مترددة بسبب أن هنالك تشريحاً. السؤال: هل يجوز دراسة الطب ومن ضمنه تشريح جسم إنسان؟
 يجوز ذلك مع كون التشريح لغير جثة المسلم، وبالتالي يجوز الدراسة بالاختصاص المذكور مع اجتناب التشريح المحرَّم، ولو اضطر الطالب إليه فلا حرمة أيضاً.
حرمة الشِّعر:
 متى يصبح الشِّعر حراماً؟
 لا يحرم الشعر إلا إذا كان مضمونه محرماً، كأن يكون كذباً أو فيه ما يغضب الله تعالى.
حكم المرتد:
 ألا ترون في مسألة حكم قتل المرتد أنها تحتاج إلى إعادة نظر، حيث قد يكون ملاك الحكم فيها هو منع الإفساد وليس قتل المرتد، بل هو قتل المرتد مع كونه مفسداً؟
 الارتداد فساد، وأيُّ فساد أكثر من إنكار وجود الله بعد معرفته وقيام الحجّة؟! وأيّ فساد أكثر من إنكار الإسلام وإنكار الرسالة والرسول بعد العلم وقيام الحجّة؟! وأيّ فساد أكثر من اعتبار أنّ القرآن من كلام النبيw وليس وحياً من قبل الله تعالى، بعد قيام الحجّة؟!
ثم نحن نقول إن مجرد ارتداد الشخص لا يؤدّي إلى قتله، بل يُدعى، ويقال له لماذا ارتددت؟ ونأتي به إلى العلماء ليطرح عليهم شبهاته، فإذا فرضنا أنه اقتنع فالحمد لله، وإذا أقنعوه مثلاً ولكن بقي متمرداًً، وأعلن ارتداده، فيصير من قبيل الشخص الذي يخون المجتمع الإسلامي كلّه. وإذا لم يعلن ارتداده، بقي ارتداده في داخل نفسه، ولكنه يعيش مع المسلمين فلا يقتل. وللمسألة تفاصيل أخرى.
تأديب الأطفال بالضرب:
 ما هو الحد المسموح به في ضرب الطفل للتأديب؟
 أولاً، علينا أن ندرس ذهنية هذا الطفل، وندرس ما هي أفضل الوسائل لتربيته وإصلاحه؛ فإذا وصل الأمر إلى حدِّ الخطر في انحرافاته التي يعيشها، عند ذلك يُضرب ضرباً غير مبرح، بحيث لا يحمرّ جسده، وإلا فإنّه لا بدّ من دفع الدية، حتى من قِبَل الأب.
المعنى الروحي للزيارة:
 عندما نقوم بزيارة الأماكن المقدسة، نعيش حالاً من الروحانية والطمأنينة منقطعة النظير، ولكن مع مرور الأيام ومشاغل الحياة وظنونها، نبتعد تدريجياً عن تلك الحال، كيف السبيل إلى الحفاظ على تلك الروحانية؟
 أن يذكر الإنسان الله دائماً، وأن ينفتح على حياة الأنبياء والأئمّةi، وعلى ما جاء في القرآن وما جاء من النبي والأئمةi؛ وبذلك يُبقي عقله وقلبه ووجدانه في حال توقّد دائمٍ، ويحاول أن يتأمّل ـ عندما يزور ـ في سير أولئك العظماء الذين عبدوا الله حقّ عبادته، وجسّدوا الإسلام في قولهم وفكرهم وأخلاقهم وعملهم وخطّهم الحركي، ليكونوا بذلك قدوة له في تجسيد الإسلام في حركته ومواقفه في الحياة.
تذكية السمك:
 هل ضرب السمكة على رأسها خارج الماء كافٍ في تذكيتها، أم لابد من اختناقها خارج الماء ليحل أكلها؟
 ما دام قد أخرجها من الماء حيّةً، فلا مشكلة في ذلك.
إحياء ذكر النبيw:
 كيف يذهب الشيعة إلى جواز الاحتفال بموت النبي w مع أنه لا يوجد دليلٌ عليه، ولم يكن في الصدر الأول، وإنما أحدثه الفاطميون؟
 أيضاً يُمكن أن نسأل: كيف يذهب الشيعة إلى تعظيم زيارة النبي وتعظيم النبيw؟! أساساً، نحن حين نحتفل بمولد النبيw، فإننا نحتفل بذكراه ونحتفل بسيرته ونسترجع أخلاقه ونستعيد سيرته، ونحن لا نحتاج إلى وجود نص يؤكّد استحباب ذلك أو جوازه، لأنّ الله علّمنا وربّانا أن نذكر النبي w في كل صلاة؛ وأن نذكره في الأذان، وفي الإقامة، فنحن نذكره في مولده، بأن نتحدّث عن سيرته وما إلى ذلك. هذه المسألة ليس فيها جانب تعبّدي حتى نقول إن التعبد لابد من أن ينطلق من خلال نص شرعي.
قاعدة التسامح في أدلة السُنن:
 نرى في أكثر من موقع في كتب الفقه وغيرها من كتب الأدعية والزيارات، أن العالم عندما لا يصل إلى دليل واضح حول حكم أو دعاء أو زيارة، فإنّه يركن إلى قاعدة التسامح في أدلة السنن، فما هو رأيكم في ذلك؟
 هذه قاعدة لا قيمة لها في ذلك ولا أساس؛ لأنّ معنى التسامح في هذه السنن، أي أنه إذا ورد عندنا خبر ضعيف، بحيث يكون الذي يرويه شخصاً من الغُلاة أو من الفسقة، فقاعدة التسامح تعني الأخذ بهذا الحديث، وهذا ممّا لا يمكن قبوله. ونحن نقول: إذا لم يكن الخبر موثوقاً، سواء كان في دعاء أو في زيارةٍ أو في حكم، واجب أو محرم أو مستحب أو مكروه، فلا قيمة له.
الوصية والإيصاء:
 ما الفرق بين الوصية والإيصاء؟
 ربما يراد بها المعنى نفسه، فالوصية تفيد المضمون الموصى به نفسه، والإيصاء يفيد معنى صدور مضمون الموصى به من الشخص.
دراسة القانون:
 هل يجوز تعلم ودراسة القانون الوضعي (المحاماة)، والعمل في القضاء؟
 بالنسبة إلى ممارسة المحاماة لا مانع من ذلك، إذا كان يدافع عن الحق، لا عن الباطل، وكذلك بالنسبة إلى القضاء إذا كان يقضي بما حكم الله سبحانه وتعالى.
نوم الأشقاء في سرير واحد:
 ما هو حكم نوم الأخ مع أخته في سرير واحد، وكذا في غرفة واحدة، وما هو حكم النوم مع المثيل في لحاف واحد؟
 الأجدر بالمؤمنين البالغين أو المميّزين تركه؛ لأنه مثار الفتنة، وكذا الحال في المماثلين من الذكور والإناث.
التصرف بهدايا المولود:
 هل يحق للوالدين التصرّف بالهدايا الخاصة بالمولود؟
 يحقّ لهما ذلك ما دام الولي يصرف على الولد بقيمتها.
الاقتصاص من الظالم:
 هل يجوز القصاص من الظالم أو النيل منه بأية طريقة كانت؟
 يجب دراسة القضية ونوع الظلم لتحديد نوعية القصاص بشروطه المعيّنة، كما أن هناك نقطة مهمة، وهي أنه ليس لأي شخص إقامة الحدود، لأن ذلك من صلاحيات السلطة الشرعية، ولذلك فلا يجوز للناس القيام بالقتل العشوائي من دون الرجوع في ذلك إلى الحاكم الشرعي الذي يدرس الأمور قضائياً حسب الموازين الشرعية، كما يدرس طريقة التنفيذ بحسب المصلحة الإسلامية العامة.
صيد السمك في موسم التكاثر:
 هل يحرم صيد السمك أثناء موسم التكاثر أم هو مكروه؟
 لا يجوز صيد السمك أثناء فترة تكاثره، وكذلك الطيور النادرة حفاظاً عليها، لأن ذلك يعود بالضرر العام على الناس.
إتلاف لفظ الجلالة:
 ما هو حكم استعمال المجلات والجرائد التي يوجد فيها لفظ الجلالة؟ وما طريقة التخلص منها، فهل يجوز حرقها إذا تعذر الرمي في البحر؟
 يمكن استخدام التلاّفة بحيث نتلف الكلمة، لأننا إذا استطعنا أن نتلف الكلمة فإنها لا تعود لفظة مقدسة. أما بالنسبة إلى الحرق، فلدينا أحاديث تنهى عن الحرق.
صدم المارة:
 كان سائق سيارة يقود سيارته على أوتستراد دولي بسرعة معقولة، فصدم صبياً يقطع الشارع، بدون انتباه، ما أدى إلى وفاة الصبي، هل يتوجب على السائق دفع الديّة؟
 في مفروض السؤال، يعتبر هذا من قتل الخطأ في هذا المقام، فإذا كان الصبي غير بالغ فعليه الديّة، وأما إذا كان رجلاً بالغاً وخالف الأنظمة، فيمكن أن يقال إنه هو الذي أوقع نفسه بالتهلكة. ولكنّ الاحتياط قد يقتضي دفع الديّة إذا كان الشخص غافلاً وغير ملتفت إلى القوانين في مسألة السير.
نبات منشِّط:
 هناك نبتة معيّنة يؤدي تناولها إلى إحساس بالنشاط الذهني والبدني بشكل فوق العادة، وقد تؤدي أيضاً إلى بعض الأرق في الليل عند محاولة النوم، وإلى بعض الضعف في الشهية، ما هو حكم تناولها؟
 يجوز تناولها من حيث المبدأ، لكن إذا أوجبت ضرراً فلا يجوز.
حرمة الكذب وشهادة الزور:
 قد نقوم في بعض الأحيان بالكذب والإدلاء بالشهادة في غير مواقعها، والهدف من ذلك التخلّص من الروتين في سير بعض الأمور، فما حكم ذلك؟
 لا يجوز للإنسان أن يكذب، كما أنه لا يجوز له أن يزوِّر أو أن يشهد شهادة بالباطل، وتلك الشهادة لا تغير الحقّ، والروتين قد يكون مسؤوليّتك وقد لا يكون، فإذا كان مسؤوليّتك فعليك أن تلتزم بمسؤوليّتك بحسب الوظيفة التي تلتزمها.
النظر الحرام:
 ما معنى قول رسولw: ((النظرة الأولى لك، والثانية عليك))؟
 أي أنّ النظرة الأولى تُعتبر نظرةً عابرة، لأنها لا تحمل أيّ مشكلة، بينما النظرة الثانية التي تنطلق من الشهوة، تُعتبر حراماً.
شهادة المدافع:
 هل يعتبر المدافع عن ماله وعرضه وأرضه شهيداً، بغض النظر عن التزامه بالصلاة والصوم؟
 هو شهيد بمعنى أنه مظلوم، ولكن ليس بمعنى الشهادة الشرعية التي يترتَّب عليها الآثار الشرعية والثواب العظيم الموعود به.
إفادات وهـمية:
 أقوم بإصدار إفادات عمل وهمية لبعض المعارف لتقديمها إلى إحدى السفارات الأجنبية بقصد الهجرة، هل يجوز ذلك؟
 الكذب حرام، وهذا العمل ينطبق عليه هذا العنوان، وعلى المؤمن ألاّ يقع فيما ينال من حرمته.
كفارة اليمين:
 أقسمت يميناً ثلاث مرات على عدم فعل أمر ما وخالفت القسم، هل أدفع الكفّارة ثلاث مرات؟
 إذا كان القسم مرةً واحدةً: والله والله والله، فعليك دفع كفارة واحدة، أما إذا أقسمت على عدم الفعل ثلاث مرات في أوقات مختلفة، فعليك ثلاث كفارات.
الأفلام المدبلجة:
 بعض الأخوة والأخوات يتابعون الأفلام الأجنبية المدبلجة التي تحمل طابع الحب وما شاكل، فهل يجوز متابعة هذه الأفلام؟
 يجوز متابعة هذه الأفلام إذا لم تتضمن المظاهر الخلاعية التي تؤثر على روحيتهم، بحيث تميّع الأخلاق وتفسدها، ونحن نحبّذ متابعة البرامج والأفلام المفيدة.
 
ركوب المرأة الخيل:
 هل يجوز للمرأة ركوب الخيل؟ وإن كان الجواب سلبياً، فما العلة والحكمة من ذلك؟
 يجوز ذلك، من حيث المبدأ، مع الحفاظ على الحشمة والالتزام.

الفهرس
 
 

 [ الـمقدمة ]
أساليب الدعوة وأخلاقية الدعاة    5
أولاً: أساليب الدعوة     8
ثانياً: أخلاقية الدعاة    21
مستقبل الحركة الإسلامية    43
جدول إحصائي بـمسائل الندوة ج20     47
[ المحاضرات ]
المحاضرة الأولى:
تجربة النبي موسى t الرسالية(1) المحطّات الرئيسيّة    51
حركة متواصلة    53
التجربة العجائبية في ولادته
ونشأته    57
موسى t في بيت فرعون    60
المحاضرة الثانية:
تجربة النبي موسى t الرسالية(2)
توظيف القوة في نصرة
المظلومين    63
الحضانة الربّانية    66
التجربة المريرة    69
الشكر العملي    73
المحاضرة الثالثة:
تجربة النبي موسى t الرسالية(3)
النجاة من القوم الظالمين    79
المهام الخيرية    80
الكفالة الإلهية    82
الحياة الجديدة    84
عرض الأب إبنته للزواج    86
المحاضرة الرابعة:
تجربة النبي موسى t الرسالية(4)
موعد النبوّة    91
الإشراق الرباني    93
الوادي المقدّس    94
الاصطفاء للرسالة    95
لا إله إلا الله    95
عبادة وصلاة    96
يوم القيامة    97
علامات التصديق    99
المحاضرة الخامسة:
تجربة النبي موسى t الرسالية(5)
التكليف بالدعوة إلى الله    103
التكليف الإلهي بالدعوة    105
اللطف الإلهي    107
الشراكة الرسالية    109
أسلوب مواجهة فرعون    111
أحسن الحديث    113
المحاضرة السادسة:
تجربة النبي موسى t الرسالية(6)
الحوار مع فرعون    117
التساؤل الفرعوني    119
الخلق والهداية    120
ماذا عن الماضين؟    121
الأسلوب الحكيم في الجواب    123
الخط القرآني في العقيدة    125
الاتهام بالسحر    127
الاستعداد للمواجهة    129
المحاضرة السابعة:
تجربة النبي موسى t الرسالية(7)
موقف السحرة    131
الموعظة الإنذارية    133
المعركة الكبرى    136
المحاضرة الثامنة:
تجربة النبي موسى t الرسالية(8)
الإشراق الإيماني في نفوس
السحرة    143
الصدمة العنيفة    145
فرعون يهدّد السحرة    148
الإشراق الإيماني    150
المحاضرة التاسعة:
تجربة النبي موسى t الرسالية(9)
السلطة الفرعونية المزيّفة    155
السلطة المزيّفة    157
المنطق الفرعوني    159
طريق ذات الشوكة    161
منطلقات العمل    163
المحاضرة العاشرة:
تجربة النبي موسى t الرسالية(10)
التدخّل الربّاني لنصرة الدين    167
التدخل الرباني    169
وحول الجهل    172
غضب السماء    174
فرصة التصحيح    176
المحاضرة الحادية عشر:
تجربة النبي موسى t الرسالية(11)
تحدّيات السلطة الفرعونية    181
ملامح طاغوتية    183
الغرور الغبي    188
الخيار الدموي    190
المحاضرة الثانية عشر:
تجربة النبي موسى t الرسالية(12)
ملامح الشخصية الفرعونيّة    195
الإله المزيّف    197
ذهنية وثنيّة    200
الاستقلال العقلي    203
الانتاج الفرعوني    205
المحاضرة الثالثة عشر:
تجربة النبي موسى t الرسالية(13)
إنقاذ موسى t لقومه    209
تحوّلات موازين القوّة    211
النصر الإلهي    215
نهاية المستكبرين    220
المحاضرة الرابعة عشر:
تجربة النبي موسى t الرسالية(14)
وراثة المستضعفين    225
وراثة الأرض    227
هدف الرسالة النبويّة    231
زيف الفكر والواقع    232
المحاضرة الخامسة عشر:
تجربة النبي موسى t الرسالية(15)
مرحلة ما بعد الهزيمة
الفرعونيّة    237
صناعة المنهج والفكر    240
خلافة الرسول    242
تأصيل الفكر    243
المحاضرة السادسة عشر:
تجربة النبي موسى t الرسالية(16)
رؤية الله تعالى    249
الحضور بين يدي الله    251
النظر إلى الله تعالى    255
التنمية الرسالية    258
المحاضرة السابعة عشر:
تجربة النبي موسى t الرسالية(17)
منهج جديد في حركة الحريّة    265
رسالة التحرير من العبوديّة    267
نحو منهج عقيدي جديد    268
الشخصية النبوية في القرآن
الكريم    271
الإيمان الحسّي    272
المحاضرة الثامنة عشر:
تجربة النبي موسى t الرسالية(18)
روحية الرسالة وأخلاقيتها    277
المزايا النبويّة    280
في طريق الله تعالى    282
تواصل الرسالات    284
المحاضرة التاسعة عشر:
تجربة النبي موسى t الرسالية(19)
الميقات الإلهي    287
المواعدة الميقاتيّة    289
إسترحام السماء    292
تواصل الرحمة    295
المحاضرة العشرون:
تجربة النبي موسى t الرسالية(20)
إلتزام الانتماء والموقف    299
الانهيار الإيمانيّ    301
تساؤلات إصلاحيّة    304
الرواسب الوثنيّة    307
المحاضرة الحادية والعشرون:
تجربة النبي موسى t الرسالية(21)
الغضبُ على المرتدّين    311
الفتنة المتحرّكة    314
الغضب الربانيّ    316
نحو موقف هادئ    320
المحاضرة الثانية والعشرون:
تجربة النبي موسى t الرسالية(22)
مواجهة الفتنة    325
مواجهة الفتنة    327
النفس الأمارة بالسوء    330
استحقاق الجزاء    332
المحاضرة الثالثة والعشرون:
تجربة النبي موسى t الرسالية(23)
تحدّي الانـحراف    335
تحدّي الانحراف    337
عقوبة الإعدام الجماعيّ    339
الموقف الصادم المساوي لحجم التمرّد    341
علاقة العقوبة باللطف الإلهي    341
هل القتل حقيقيّ؟    342
المحاضرة الرابعة والعشرون:
تجربة النبي موسى t الرسالية(24)
العقوبةُ وسيلةٌ للتعرّف    345
المنهج التفسيري    347
ملاحظات نقدية    349
الطابع العام للعقوبات الدينية    351
المحاضرة الخامسة والعشرون:
تجربة النبي موسى t الرسالية(25)
عقوبة المسخ    353
الذين اعتدوا في السبت    355
عقوبة المسخ    356
الإدانة الإلهية    360
وقفات تأمّل    361
الإيمان بين الجوهر والمظهر    363
المحاضرة السادسة والعشرون:
تجربة النبي موسى t الرسالية(26)
المطالب التعجيزيّة    365
مطالب تعجيزية    367
المسؤولية الدينية    370
صدمة الوعي    373
المحاضرة السابعة والعشرون:
تجربة النبي موسى t الرسالية(27)
مشروعُ التحرير    377
مشروع التحرير    379
حركة إزعاج الرسالة    381
مرارات الصالحين    383
الإعجاز الرباني    386
انطباعات حول الموقف    388
المحاضرة الثامنة والعشرون:
تجربة النبي موسى t الرسالية(28)
الانطلاق بالدعوة إلى الأرض
الخصبة    391
الخطاب الإنساني    393
الخلاص الشكلي    395
انطلاق الرسالة    397
فلسفة العذاب    399
المحاضرة التاسعة والعشرون:
تجربة النبي موسى t الرسالية(29)
تجربة التيه واختبار الإرادات    403
النعم الإلهية    406
الاحتلال في المنهج    408
الضعف الذاتي    411
المحاضرة الثلاثون:
تجربة النبي موسى t الرسالية(30)
فقدان شروط جمهور الرسالة    415
جمهور الرسالة وشروط العمل    417
استحضار الخوف والرعب    418
الجهاد بشروط    420
غضب السنن الإلهية    423
[باب المسائل]
الفصل الأول: المسائل القرآنية    427
الإمامة في القرآن    429
تكليم الله موسىt    429
خوف الأنبياءi    430
النقص التكويني في الشخصية النبويّة    431
عدد الأنبياء    431
السياقات القرآنية    432
شجرة البيعة    433
طبيعة وحي أمّ موسى    433
لعن الظالمين    434
وجه الشبه بين الرسالات     435
تدريس القرآن الكريم    435
المهاجرون والتَّابعون    436
التوبة مع اقتراب الأجل    436
إستعاذة الإنس بالجنّ    437
وسائل ابتغاء الوسيلة    437
معرفة فرعون نسب موسى t    438
الثعبان والحيّة    438
معنى الروح    438
علم الله    439
النار في قصة موسى    439
تألّم النبي والعصمة    440
هارون وموسىo    440
طبيعة الإعجاز القرآني    441
الأسلوب النبوي في الهداية    443
التبيان القرآني    444
آية التطهير    445
معنى (الواو) في (والراسخون)    445
الهداية والضلال    446
معنى الأبوّة في القرآن الكريم    447
معنى (ما لا يُبصَر)    447
تسخير الكون للبشر     448
الاستعانة بالله وبغيره    448
الكلمات الأجنبية في القرآن    448
إصرار على الطغيان    449
هل كان المؤمنون في ظلمات؟    449
آجال الناس    450
وهج المظاهر    451
تحكيم النبيw    451
تعليم الإنسان    452
تعلّم سورة يوسف     453
نسبة السيئات إلى النفس    454
معنى (الفيء)     455
السياحة أربعة أشهر    456
الحذر من اللّه تعالى    457
الاستعانة بالجنّ    457
بين موسىt وقومه    458
أمانة التكليف    459
الترتيب بين الرسالات    459
عرش الله عزَّ وجلّ    459
النجاسة المعنوية    460
معنى ضلالة موسى    461
السياق القرآني والترتيب    461
تكرار بعض القصص في
القرآن    462
الأمة الواحدة والسلطة
والواحدة    463
علل التحريم    464
التركيز على بني إسرائيل    464
العطف في آية الوضوء    465
اقتراب الساعة    466
الأثر الواقعي للحسد    466
الإمام المهديt في القرآن
الكريم    467
نيّة يعقوبt    468
بقية الله    468
الدور الإبليسي    468
استغفار النبيw للمؤمنين    469
صيغة (جاء) في الماضي    469
تكليف المشركين    470
عرض أعمال البشر    470
الاستشفاء بالقرآن    471
من هم الصادقون    471
المسؤولية تجاه الأحكام
الشرعية    472
الفصل الثاني:
المسائل العقائدية    475
روح الله؟    477
تجلّي الله للجبل    477
النصّ والشورى    477
الدعوات المهدويّة    478
رضا فاطمةu    478
سند دعاء التوسل    479
حجّ آدمt    479
معنى الإلهام    480
الحريّة بالتديّن    480
الفطرة على الولاء؟!    481
شروط قبول التوبة    482
تفضيل النعمة    482
الدعوة إلى الديانات
السماوية    483
إرتكاب القتل وعصمة
الأنبياءi    483
مسؤوليات الخطيب الحسيني    484
الاجتهاد بعدم وجود خالق    485
الخلاف بين السُنّة والشيعة    486
معنى واسطة الفيض    486
حدود علم أهل البيتi    487
نسبة الخطبة الافتخارية إلى
عليt    488
التوكّل في الحياة    488
الإمامة وأصول الدين    489
منـزلة الأئمةi    490
القبطية زمن موسىt    490
من نبوة موسىt إلى نبوة
محمدw    491
رؤية الخالق يوم القيامة    491
إقالة العثرات    492
منـزلة عليt من النبيw    492
إنتظار الإمام المهديr    493
حقيقة الحظّ    493
الحجر الأسود    494
ترك الذنوب حياءً    494
الفطرة الإنسانية    494
معنى الإحالة الإلهية    495
حق التشريع    495
دور العقل في العقائد    496
الكمال المعرفي للأنبياء    497
خطورة الغلوّ    497
إجتماع عقوبة الدنيا والآخرة    498
العقدة في لسان موسىt    498
إغراق فرعون وجنوده    498
دور الإنسان في القدر    499
أبواب الرزق    499
معيار حساب الإنسان    500
آثار التوبة    500
الإسراء والمعراج    500
حرية العقيدة في الإسلام    501
عدالة الله تعالى والكوارث
الطبيعية    501
المعجزات في بني إسرائيل    502
تقليد الآباء والأجداد    503
فراسة المؤمن وفراسة
المعصوم    503
رؤية الله في النصوص الدينية    504
علامات ظهور المهديr    505
تفسير أنوار العرش    505
التمييز بين الرسل    506
التبليغ الكامل    506
عصمة النبي    507
معجزة السامري    507
دور السيدة فاطمةu في
الإمامة    508
ذريّة النبي موسىt    508
تهذيب الروايات    508
مقام النبوة والإمامة    509
دور هارون في الرسالة    509
منجزات الإمام المهديr    510
التقيّة والنفاق    511
إستمراريّة الرسالات    511
تواصل الحاضر مع الماضي    512
مؤهلات التوبة     512
نزول البلاء    513
عقوبة يوم السّبت    513
ظاهرة الغلو    514
الحكم بالتيه على بني إسرائيل    514
مفهوم العقيدة    514
التوجه إلى غير الله    515
علم الأئمةi بالغيب    516
الحكمة في نذر امرأة عمران    516
معجزات النبيw    517
زواج السيدة مريمu    518
مظاهر التوحيد    519
المسيحية ماضياً وحاضراً    519
هدف عصمة السيدة
الزهراءu    520
الفصل الثالث:
المسائل الفكرية    521
ترشيد أسلوب الزيارة    523
النظام العلماني والنظام
الإسلامي    523
النظام العلماني والحرية
الدينية    524
الاضطهاد المذهبي المتبادل    525
كتب صحاح، أم كتب
حديث؟    526
عيد النّوروز    526
مسؤولية العلماء    526
الطغاة وامتلاك المال    528
الوسطية والتوفيقية    528
مشروعية الفتوحات
الإسلامية    529
مواجهة الفتنة    530
تجديد الخطاب الديني    530
ألقاب ملوك مصر    530
دور هارونt في تجربة
موسىt    531
حوار الأديان وعالمية
الإسلام    531
مشاورة النساء    531
إنسان اللّه     533
الإبداع في المجتمع العربي    534
حدود حرية الإنسان    534
موقف الإنسان من العبودية    535
الجمعيات الخيرية    536
الثقافة الإسقاطية    536
العلمانية والدين    536
الديمقراطية والشورى    537
حقيقة علم الأبراج وتأثيرها في العالم    538
ثقافة الطغاة    539
الحرية الفكرية    540
العولمة والعالمية    541
حوار الأديان    541
تصدي الفقهاء للشؤون
العامة    543
الموقف من الأحزاب
العلمانية    544
قدرة الشعوب العربية    544
الفصل الرابع:
المسائل التربوية    547
مقاييس اختيار الزوجة    549
عدم التركيز في الصلاة    549
الروحانية في الصلاة     550
توادّ المسلمين    551
الطمع والطموح    551
الحلال المبغوض    552
أخلاق طلاّب الحوزة    552
الفصل الخامس:
المسائل الفقهية    555

أولاً المرجعية والتقليد    557
تبعية الأحكام للمصالح
والمفاسد     557
دليل حجّية الإجماع    558
دليل الإجماع    558
دليل حرمة التدخين    559
حكم التدخين واللحية    559
الفقه الفردي وفقه الأمة    559
المستجدات الفقهية    560
الاستفهام من الفقيه     560
توعية الأبناء بتكاليفهم
الشرعية    560
معايير الأعلمية    561
حكم التبعيض في التقليد    561

ثانياً النجاسات والطهارات    563
الاغتسال للصوم    563
النجاسة الخبيثة    563
الجلود المستوردة    563
الدم المتخلّف في الذبيحة    564
طهارة الإنسان    564
مقاربة الزوجة قبل الغسل    564

ثالثاً الوضوء والصلاة    566
القضاء عن الميت    566
صلاة الخرس في الصف
الأول    566
تقدم صلاة الجمعة وتأخّرها    566
الائتمام بمجهول العدالة    566
الصلاة إذا قصر النهار    567
السجود على غير التربة    567
الوضوء مع الكحل    567
قضاء السجدة المنسية    568
الجهل بصلاة الآيات    568
القضاء لغير القادر    568
اشتراط المسافة بين جمعتين    569
النيابة عن العاجز الحيّ    569
موارد الاحتياط في ظهر
الجمعة    569
الدعاء للصلاة     569
الأذان والإقامة لصلاة
القضاء    569
تاريخ الجمع بين الصلاتين    570
الصلاة مع أهل السُنّة    570
كيفية الوضوء    570
حد الغروب    571
التحدث أثناء خطبة الجمعة    571
الصلاة على النبيw    571
اختلاف التقليد بين الإمام
والمأموم    571
حكم التكتف في الصلاة    572
حقوق الوالدة وقضاء
صلواتها    572
الإخفات والجهر    573
الشك في التكاليف السابقة    573
الوضوء للطَّهارة    573
حكم الوسواس    573
الائتمام بصلاة المحتاط    574
الصلاة مع استدبار القبلة    574
مسح الرجل بباطن اليد
الأخرى    574
الوضوء قبل الصلاة    575
البسملة     575
تكليف المريض بالصلاة     575
الانحراف عن القبلة     575

رابعاً الصيام والكفّارات    577
قضاء الصوم الفائت    577

خامساً الخمس والزكاة    578
دفع خمس الأبناء    578
تحديد الهاشمي    578
كيفية تخميس القرض    578
تخميس الأموال     578
زكاة الحلي    579
الدخل والزكاة    579
عزل المال للصدقة    579
الأموال المختلطة بالحرام     580
التساهل في الخمس    580
الزكاة في النقد الورقي     580
تخميس الأموال    581
الزكاة في المال الموقوف    581
وضع الخمس في صناديق
التبرعات    581
صرف حق الإمامt    582
دفع الحق الشرعي للأخت    582

سادساً الحج والعمرة    583
الحج بمال مسيحي    583
الحج وعمل المستحب    583
التبرع للحج    583
الحج ببطاقات الائتمان    584

سابعاً الزواج والطلاق    585
كفارة الإجهاض    585
طلب الطلاق الخلعي    585
الطلاق البائن    586
شروط الأسلمة    586
عدالة الشهود في الطلاق     586
عدّة المرأة اليائس    587
حكم الزواج الصوري    587
الجدية في إنشاء العقد    588
شرط الاختيار في الطلاق    588
توفير حاجات الزوجة     589
حكم التبنّي في الإسلام     589
حكم تبني الأطفال    590
سفر الزوجة دون الزوج    590
الزواج بغير المسلمة    591
الزواج من مشهورة بالرذيلة    591
الزواج من مشهورة بالزنا    592
الشهود في الزواج المؤقت    592
أطفال الأنابيب    592
حكم إجهاض الجنين    593
حقوق الطفل غير الشرعي    593
التراضي في الزواج    594
تحديد الولد    594
زواج غير الرشيدة    594
موجبات التقليد    595

ثامناً أموال وبنوك    596
تسجيل الأملاك باسم
الزوجة    596
حرمان بعض الورثة    596
بيع الأعضاء الجسدية    597
إسترجاع الهبة    597
الإنفاق على الولد    597
حكم الإعطاء المؤدّي إلى
الفقر    598
الأجرة على إبطال السحر    598
القرض البنكي لشراء مسكن    598
تصرّف الزوجة في أموالها    599
موت المنذور    599
تصرف الزوجة بأموال
زوجها    599
البناء على أرض مشتركة
الملكية    600
التصرف في الوقف    600
الاقتراض من المصرف    601
البضائع المصادرة    601
التصرف في أموال الزوج    601

تاسعاً السلوك والمعاملات    603
حرمة الاستمناء    603
تحديد رشد البنت    604
الثواب على العمل    604
الموسيقى الجائزة    605
حكم حلق اللحية    605
إستمناء الجنسين    605
مدة الرضاعة     606
الموت الرحيم    606
إنجاب الأطفال وحق الزوجة    607
الخياطة للنساء    607
مشروعية الإجهاض    607
إجهاض الجنين المشوّه    608
حدود الاختلاط    608
واجب المسلم المعاصر    608
الموقف تجاه الإساءة إلى
النبيw    609
حكم سرطان البحر    609
تذكية الأسماك    609
العمل في محل يبيع الخمور    610
الموقف من جريمة الشرف    610
تلهي طالب الحوزة    611
حكم الطبخ بالحشيش     611
فحص الشهادات    611
تأثير السحر    612
لمس المصحف    612
الولادة عند الطبيب
اضطراراً    612
حكم الرقص    612
أخذ المياه من المسجد    613
تشريح الإنسان للدراسة    613
حرمة الشِّعر    613
حكم المرتد    613
تأديب الأطفال بالضرب    614
المعنى الروحي للزيارة    614
تذكية السمك    615
إحياء ذكر النبيw    615
قاعدة التسامح في أدلة السُنن    616
الوصية والإيصاء     616
دراسة القانون     616
نوم الأشقاء في سرير واحد    617
التصرف بهدايا المولود    617
الاقتصاص من الظالم    617
صيد السمك في موسم
التكاثر    618
إتلاف لفظ الجلالة    618
صدم المارة    618
نبات منشِّط    619
حرمة الكذب وشهادة الزور    619
النظر الحرام    619
شهادة المدافع    619
إفادات وهـمية     620
كفارة اليمين     620
الأفلام المدبلجة     620
ركوب المرأة الخيل    621
الفهرس    623