آية الله العظمى

السيّد محمد حسين فضل الله

الندوة

سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق

محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة

 

 

إعداد عادل القاضي

الجزء الثالث

 

 

دار الملاك

 

 

 

 

 

 

حقوق الطبع محفوظة للناشر

الطبعة الأولى

1418 هــ ــ 1998 م

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة

 

المرجعية المنفتحة على حاجات العصر

الندوات الجماهيرية مثالاً

من مدرسة العصمة:

في "نهج البلاغة" يصف الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه لسلام) الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقوله: "طبيبٌ دوّارٌ بطبّه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه، يضع من ذلك حيث الحاجة إليه، من قلوب عمي، وآذانٍ صمّ، وألسنة بكم، متتبّعٌ بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحيرة"(1). وهي ـــ لعمري ـــ خصلة ـــ ترتقي مع ما عداها من خصال ـــ لتقف عند سدةِ الأسوة الحسنة.

فلم يكن النبيّ المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) طبيباً يفتح عيادة في شارع بعيد منزو، ليحدِّد لمرضاه مواعيد الزيارة بأيّام وساعات معيّنة، وأمّا من لا يسعفُه المالُ والحالُ على ريادة تلك العيادة، فإنّه يبقى يعاني آلامه ويتخبّط فيها، وقد يموت تحت وطأة مرضه، بل كان طبيباً سيّاراً يلتقي مرضاه في كلّ ساعة وساحة، فلا حاجب ولا حاجز ولا رفض لطلب مقابلة يحول دون الإفادة من (طبّه) القلبيّ والروحيّ والنفسيّ بل والعقليّ أيضاً.

فلقد أرسى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قواعد علاقة جماهيرية حركية واسعة النطاق تمكّن ـــ من خلالها ـــ إجراء عقد التواصل بين (القائد) وبين (القاعدة) و(النبيّ) و(الأمّة) و(المعلّم) و(تلاميذ) مدرسته، فلم تكشف سيرته المطهّرة ولا حتى رقماً واحداً يشي بامتناع أو إحجام أو احتجاب أو إشاحة، فحتى الذي يتناقله بعض الناس من قصة "عثمان بن مضعون" في (عبس وتولّى) لم يكن ينسجم مع بناء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) التربويّ، فلقد أدّبه ربّه فأحسن تأديبه، وجاء ليتمّم مكارم الأخلاق وكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، حتى إذا استوى على القمة، قال فيه مؤدّبه مشيداً {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(1). فالمسألة منطلقة، ممّا يعبّر عنه من (وحدة الحال) لا من الجفوة التي نربأ بنبي الرحمة المهداة إلى العالمين، أن يُطعن بمثلها.

لقد كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ميسور اللّقاء، يزورُ ويُزار، إذ لم تكن قد نشأت بعد المظاهر الاحتفالية البلاطية التي يقف فها الحجّاب على الأبواب ليُدخلوا من يأذن السلطان بدخوله، وليرفعوا لافتة "ممنوع الدخول" بوجه من لا يرتضي مقابلته ولو كان ذا حاجةٍ أو صاحب شكوى وظليمة.

وعلى هذا النهج، كان لقاءُ الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) بالناس برنامجاً يومياً مفتوحاً فلا اعتكافَ ولا اعتزالَ ولا ممانعة، الأمر الذي فتح أبواب الجدال والحوار والمناظرة على مصاريعها إن للأصحاب المقربين أو للقادمين من الأمصار، بل وحتى الأعلام من أصحاب التيارات الدينية والماديّة المناهضة.

ولا يمكن اعتبار سفراء الإمام الحجّة (عجَّل الله فرجه الشريف) الأربعة بمثابة الحجّاب، وإنّما الأبواب التي يدخل الناس البيت منها، فللغيبة الصغرى ظروفها الخاصة التي لا يمكن قياس العلاقة فيها بين الإمام وبين أتباعه وفق النظرة البلاطية التي سبقت الإشارة إليها، وما عدا ذلك فلم تشهد الأمة حالة من الانحسار في التواصل إلاّ في زمن الغيبة الكبرى، غير أنّه كان انحساراً تدريجياً، ولضرورات أملتها طبيعة الغيبة من جهة وطبيعة الظروف السياسية من جهة ثانية.

عصر الفقهاء:

فحتى في عصر الرسائل العملية التي قلّصت ـــ بطبيعتها ـــ الحاجة إلى الرجوع إلى المجتهد، بقي جسر العلاقة بين المراجع وبين الأمة موصولاً بحدود ضاقت واتسعت، حسب تقدير المرجع لأهمية هذا التواصل، وحسب ضغط الأمة باتجاه تحريكه لممارسة مسؤولياته العليا، ممّا أبقى جذوة الانفتاح المتبادل متقدةً وإن خبا وهجُها لانحصارها بالحدود الفتيائية والمالية والقضائية، باعتبار أنّ المرجع حاكمٌ شرعيّ ترجع إليه الأمّة في فضّ نزاعاتها.

وإذا حصل واتسع إطار هذه الدائرة فليشمل بعض المناقشات العلمية (ولا أعني مباني الأحكام وملاكاتها في أصول الفقه بل الفكرية والعقائدية) بين فضلاء الحوزة حصراً، ممّا يحجب الجماهير حتى المثقفة منها على الإطلاع على تلك المناظرات إلاّ من خلال نتائجها المكتوبة أو المطبوعة، فهو لقاءٌ على الورق الصامت لا على الأرض المتحركة، وهو لقاءٌ يثقّف عن بعد لا عن كثب، وهو بالتالي لقاءٌ مغلق ليس فيه مداخلات واسعة لإثراء المحور موضوع النقاش.

ولقد ترتّب على ذلك خسارة الساحة الإمامية لثروة مهمة حتى بلغ الانحسار حداً يرثى له ـــ في بعض مراحل تاريخنا المعاصر ـــ فراح المبرّرون أو المنظّرون لهذا التوجّه الانعزالي يركنون إلى القول أنّ على المرجع أن يقترّ في كلامه، وأن يضع مسافة فاصلة بينه وبين الأمة، وما ناظر من تبريرات عقّدت العلاقة وأطّرتها في أطر ضيّقة وجامدة انتهت أحياناً إلى أنّ المقلّد يعيش ويموت ولا يرى مرجعه، كما أنَّ هذا لا يرى من جمهور مقلّديه إلاّ النفر القليل.

عزلة المرجعية:

في (المعالم الجديدة للمرجعية الشيعية) يقول سماحة آية الله العظمى السيد محم حسين فضل الله ـــ دام ظلّه ــ "إنّ هناك عزلة عن الواقع الإسلاميّ والواقع العالمي الذي يؤثّر سلباً أو إيجاباً على الواقع الإسلاميّ ممّا يجعل المرجعية في عزلة عن تطوّر الأحداث في العالم، وعن مواكبة المتغيّرات في العالم، بينما نجد أنّ المرجعيات الأخرى، ولاسيّما في الدائرة المسيحية تظلّ في حضور دائم حتى في القضايا غير المسيحية ممّا يجعلها تمثّل الحضور في كل الوعي السياسي والثقافي والديني في العالم"(1).

وفي نفس السياق يضيف معقّباً على ما آل إيه الواقع المرجعي في سنيّ عمره المتأخرة، فيقول: "إنّ هذه المسألة من نقاط الضعف الكبيرة جداً التي جعلت الواقع الإسلامي يعيش في واد والمرجعية تعيش في وادٍ آخر، ولولا الخطُّ الفقهي الذي يجعل الناس بحاجة إلى رأي الفقيه، ولولا الخطُّ الماليُّ المرتبط بالخطّ الفقهيّ من خلال الحقوق الشرعية لما كانت هناك أيّة علاقة بين المرجعية وبين الناس"(1).

وممّا لا ريب فيه أنّ انقطاع التواصل أو ضعفه أو مروره بفترات جزر طويلة خلّف آثاراً سيئة وقاتمة على مستوى التعامل بين المرجعية والراجعين إليها لدرجة أنّ (الحاشية والبطانة) أو بعض الذين يتردّدون بانتظام على مكاتب المراجع العظام راحوا يصوّرون المسائل التي يستفتون بها أولئك المراجع بالنحو الذي يشوّه صورة مرجع هنا، وحركة عاملة على الساحة هنا، أو رمز ينهض بمسؤوليته الرسالية والجهادية والسياسية هناك، ممّا أسفر عن نتائج وخيمة غاية في الأسف والرثاء، ما كانت لتحصل لو أنّ دائرة الاتصال كانت أوسع وأروع ممّا هي عليه، ولا يعني ذلك أنّ هذا هو السبب الوحيد للأزمة، لكنّه ذا دخلٍ ملموس في التأثير على قرار المرجعية التي قد لا تعيش ـــ في بعض مفاصلها ـــ التريّث في إطلاق الأحكام.

تجربة (فضل الله) الجماهيرية:

يجب ـــ ونحن نتحدّث عن علاقة المرجعية بالأمّة ـــ أن لا ننسى أنّ هناك شواهد شاخصة ومشرّفة ملأت المرحلة بما أعاد الثقة المفتقدة أو المتزعزعة إلى نفوس الكثير من أبناء الأمة، كالإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رض) والإمام الخميني الراحل (رض).

إلاّ أنّ تجربة الندوات الجماهيرية ـــ وهي تجربة خاضتها العديد من القوى الثورية والتحرّرية والنهضوية في العالم لإنجاز مكسب التواصل الميدانيّ بين فئات الجماهير وبين المفاصل القيادية والفكرية الرائدة، هذه التجربة يُعدّ سماحة آية الله العظمى فضل الله رائدها وفارس ميدانها منذ أكثر من أربعين عاماً.

فلقد رأى ـــ منذ وقت مبكر ـــ أنّ الندوات الجماهيرية تمثّل نافذة يطلُّ منها "المتحاور" على جمهور "المحاوِرين" ليقرأ أفكارهم وهواجسهم وإشكالاتهم وشبهاتهم ومخاوفهم وتطلّعاتهم، ويطلّ هؤلاء على الرأي الإسلاميّ النابض الحيّ وجهاً لوجه... ومنذ وقت مبكر أيضاً انبثق إيمانه بالحاجة إلى استنطاق الناس في القضايا المثيرة للاهتمام، يقول سماحته حول هذه النقطة:

"لقد مضى على هذه التجربة أكثر من أربعين سنة بالطريقة الجماهيرية المفتوحة مع مختلف الفئات الشعبية والمثقفة والحوزوية انطلاقاً من إيماني بالحاجة إلى استنطاق الناس في كل القضايا المثيرة للاهتمام والسؤال عندهم، سواءً كان ذلك متصلاً بالقضايا الفكرية العامّة أو الإسلامية في مجال العقيدة والشريعة أو بالقضايا السياسية والاجتماعية أو العاطفية، ممّا قد لا يجدون متنفّساً ثقافياً للتعرّف عليه، الأمر الذي تمثّل الندوات فيه سدّاً للفراغ الهائل الذي يعيشه هؤلاء الناس"(1).

تجربتان ناجحتان:

من الحريّ الإشارة هنا، إلى أنّ سماحة آية الله العظمى فضل الله يخوض تجربتين من الندوات الجماهيرية الأسبوعية، تجربة قديمة وأخرى حديثة، فالقديمة هي تلك التي تجري في لبنان منذ أن عاد سماحته بعد دراسته في النجف ليحمل علمه المنفتح على قضايا العصر وهموم الحركة الإسلامية في العالم، إلى المسلمين من أبناء هذا البلد الذي تتصارع فيه الأفكار والتيارات الوافدة من كلّ حدبٍ وصوبٍ، فكان أن فتح الذهنية اللبنانية المسلمة على الكمّ المتراكم والمتوالد من الأسئلة التي يطرحها الواقع المعاصر وبإلحاح شديد، ولا يجدُ إلاّ بعض الإجابات المنثورة في كتاب يصدر هنا أو ندوات موسمية تنتظر المناسَبَة المُناسِبَة حتى يثار فيها ما يروي بعض الظمأ الفكري والعلمي والثقافي، ثم لا تلبث الحياة الثقافية أن تعود إلى رتابتها السابقة في انتظار ما تطرحه دورُ النشر من جديد.

ففي (ندوة الثلاثاء) التي تقام في مسجد الإمام الرضا (عليه السلام) في الضاحية الجنوبية وبعد درس تفسير القرآن الكريم يفتح سماحته باب الأسئلة والأجوبة لروّاد الندوة من الجنسين، وتمتاز أسئلة هذه الندوة بميزتين أساسيتين:

الأولى: أنّ أسئلتها الفقهية والفكرية والثقافية العامة تنطلق من حاجات اجتماعية يعيشها المجتمع اللبناني بكل خصائصه المتميزة، وهي أسئلة تتناسب وطبيعة حاجات الإنسان اللبنانيّ المسلم الذي يحاول ويقاتل من أجل أن يحدّد لهويته معالمها وبالتالي موقعها في نظام طائفي يعيش التعددية بشتّى أشكالها.

الثانية: هناك فسحة تكاد تكون معدومة في ندوة السبت بدمشق ـــ للأسئلة السياسية المنفتحة لا على الشأن اللبناني حصراً، بل على كل الشؤون السياسية في المنطقة، الأمر الذي يكشف عن متابعة سياسية حثيثة لكلّ ما يجري في الساحة السياسية العالمية، وعن قدرة مميّزة على التحليل والاستنتاج، وبالتالي تحديد الموقف ممّا يجري.

أمّا (ندوة السبت) التي تعقد في (حوزة المرتضى) منذ صيف (1995م) فهي وإن غابت عنها الأسئلة السياسية فإنّها تنفتح على كلّ ما عدا ذلك، حتى إنّك لتجد أسئلة لروّاد من غير الخطّ الشيعي، بل وحتى من المسيحيين أيضاً، كما تمتاز بالمحاضرة الافتتاحية التي يكرّسها سماحته لمحور ساخن يعالج قضايا فكرية وحركية وتربوية كما تعالج العديد من الشبهات والإشكالات المثارة في الواقع الإسلاميّ. 

وتلتقي الندوتان في أنّهما (استطاعتا تحقيق الكثير من النتائج الإيجابية الفكرية وأن توضّحا الكثير من القضايا الغامضة، وأن تثيرا الكثير من الأفكار، وأن تمنحا أكثر من إضاءة لأكثر من مشكلة)(1).

نتائج قيّمة:

وبالإمكان تقسيم الثمار المقطوفة من الندوتين إلى قسمين رئيسيين يخصّ أحدهما السائل ويتعلّق الثاني بالمجيب.

الأول: ما تدرّه الندوة على جمهورها من ثقافة ملوّنة وزادٍ فكريّ منوّع، فهي أشبه شيء بالمؤتمر الصحفي الذي يخرج منه المراسل الصحفي لا بالإجابة على سؤاله أو أسئلته فقط، بل عن أسئلة المراسلين الآخرين، ممّا يوفّرُ غنىً ملحوظاً في الحصيلة المجتناة.

ولا يخفى الفرق بين أن يرسل السائل رسالة يضمّنها أسئلته الشرعية وغير الشرعية ليحظى بالإجابة على هامشها بعد حين، وبين الإجابة المباشرة التي إذا شعر السائل أنّ المجيب لم يستوفِها، فإنّه يعود ليستكمل النقص أو يرفع اللبس بسؤال لاحق، وكلّ ذلك في لقاءٍ حيٍّ لا يرحّل ولا يؤجّل ولا يؤمّل إلاّ ما فاض عن الوقت المخصّص.

الثاني: ما تدرّه الندوة من غنىً في الجانبين النظري والتطبيقي في تجربة سماحة آية الله العظمى فضل الله الثقافية والحركية، وما كتبه (خطوات على طريق الإسلام)، و(الحركة الإسلامية، هموم وقضايا) وغيرها من كتبه الحركية الأخرى إلاّ نتاجُ حوارٍ بينه وبين العاملين الحركيين الذين تجابههم هموم وقضايا الدعوة إلى الله فيهرعون إلى هذا المفكّر المغيّر والمؤثّر على أكثر من صعيد ثقافي وفكري وسياسي ليعالج ما لديهم وفق نظرة إسلامية عميقة الغور مستمدة من كتاب الله وخطّ أهل بين العصمة (عليهم السلام) ومن تجربة حركية وحوارية ثريّة وعريقة.

والأهم من ذلك، أن يرسم سماحته إلى الجمهور العريض صورة المرجع الإسلامي المسؤول الذي يحمل في الصدارة والصميم اهتمامه بالقاعدة الشعبية بمختلف فئاتها.

وثمّة نتائج ضمنية تترتّب على هذا التواصل، منها:

ـــ الثقة المتبادلة بين الساهر على هموم واهتمامات الناس وبين المستشعرين مدى الصدق والإخلاص والأصالة في الوعي، من الذين يرونه حاضراً على الدوام في معالجة مشكلاتهم المختلفة، فيما يقفون على أهبة الاستعداد لتلبية فتاواه في مقارعة إسرائيل والاستكبار الأميركي ومقاطعة الشركات الأجنبية وما إلى ذلك.

ـــ تبديد الشبهات والإثارات والإشكالات بالسرعة التي لا تنتظر المناسبة أو الإصدار المطبوع أو فرصة اللقاء غير الموقوتة.

ـــ إخراج الثقافة من الأطر المحبوسة فيها إلى فضاءات أوسع، فبدلاً من أن يدور الجدل والحوار والنقاش حول المسائل في أروقة خاصة وغرف مغلقة، تطرح في الهواء الطلق في حالة فرز واختبار لما هو في الصميم ولما هو على الهامش، ولما هو الحق وما هو الملتبسُ بالحق.

ـــ العودة بالمرجعية أو برجال الفكر إلى الوضع الطبيعي من الانفتاح على القطاعات الواسعة للأمة، والحضور الدائم في الساحة، وردم العزلة التي ترين على الواقع المرجعي، والإطلالة على الآفاق الأخرى غير الفتوائية والمالية.

عن مجلة (المعارج) الأعداد 28/31 بقلم المعدّ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المدخل

عزيزي القارئ الكريم

تحية من عند الله مباركة طيّبة:

هذا هو المجلد الثالث من كتاب الندوة للمدّة بين 25 شعبان 1417 هــ الموافق لــ 4/1/1997م وبين 11 جمادى الأولى 1418 هــ المصادف 13/9/1997/ وقد ضمّ ثلاثين محاضرة و(338) مسألة موزّعة على النحو التالي: (63) مسألة قرآنية و(95) مسألة عقيدية، و(47) مسألة فكرية و(87) مسألة تربوية، و(281) مسألة فقهية في مختلف حقول الفقه.

ولا يخفى أنّ هذه الـــ (338) مسألة لا تمثّل حصار الندوة للمدّة المذكورة، إذ أنّنا نحرص أن لا نقع في التكرار ما أمكننا ذلك، وإلاّ فالمسائل الكلية ربما كانت تربو على الضعف.

في هذا المجلّد حاولت أن أستخدم التاريخ الهجري مقدّماً على التاريخ الميلادي عملاً بوصية كنت سمعتها من سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رضوان الله عليه) في مطلع العام الهجري الماضي حينما أكّد على ضرورة إرفاق التاريخ الميلادي بالهجري وليس العكس.

وبدلاً من استعمال مصطلحات من قبيل أنوار قرآنية ونظرات عقيدية وآفاق تربوية.. الخ، قرّرت توحيد المصطلح لتحمل الفصول عنواناً موحّداً هو "المسائل" فأنت ترى في هذا المجلّد المسائل القرآنية والمسائل العقيدية والمسائل الفكرية والمسائل التربوية بالإضافة إلى المسائل الفقهية، فلقد رأيت أنّ هذا أقرب إلى جوّ الندوة من العناوين التي وردت في المجلّدين السابقين.

بقي أن أُشير إلى أنّ القارئ قد لا يجد التفريع العنواني أو ما يسمّى بالعناوين الثانوية الذي سبق أن لاحظه في بعض فصول المجلدين، وما ذاك إلاّ لندوة بعض الأسئلة المندرجة تحت هذه العناوين ممّا حملني على إلحاقها بالعنوان الأكبر، أضف إلى ذلك أنّ بعض المسائل كانت بحاجة إلى إثراء أو زيادة في الإيضاح، فكان أن أحلتها إلى سماحة السيد الأجل ليمنحها مزيداً من إضاءاته.

وإذا كان الشكر لله لا يحصى كما هي نعمه فإنّ شكر من قدّموا لي العون في الرحلة الثالثة هو من بعض الشكر له ـــ جلّت آلاؤه ـــ لذا أتقدّم لحوزة المرتضى الموقّرة وللأستاذ السيد محمد الحسيني بخالص شكري ومحبّتي ودعائي لما تحمّلوه من بعض عناء هذه الرحلة التي نسأل الله تعالى أن يكلّلها بقبوله الحسن وأن يرفعها خالصة لوجهه الكريم إنّه سميع مجيب، والحمد لله ربّ العالمين.

       عادي القاضي

دمشق 15 رجب 1418 هـــ

الموافق لــ 15/11/1997م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباب الأول

 

المحاضرات

 

  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الأولى

25/ شعبان/1417 هـــ (*)

 

في استهلال شهر رمضان المبارك:

الإعدادُ للصومِ الكبير

 

"رمضان.. حركة روحية، تدريبية لمواجهة سلطان العادة والغريزة والمغريات والضغوط.. إنّه شهرُ التحرّر من ذلك".

 

 

 

في استهلال شهر رمضان:

نحن في آخر أسبوع من أسابيع شهر شعبان، وها نحن نطلُّ على شهر رمضان، ومن خلال دراستنا لما كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعمله في توعية أصحابه بمعنى شهر رمضان وبالبرنامج الذي ينبغي للإنسان أن يتخذه في هذا الشهر وبالآفاق الروحية التي لا بدّ له أن يطوف بها، وبالحركة الاجتماعية التي تمثّل حركية الإنسان في علاقاته بالناس، يبدو من خلال ذلك أنّ الإسلام يريد للإنسان المؤمن أن يعدّ نفسه إعداداً روحياً إنسانياً ثقافياً قبل أن يدخل هذا الشهر ليدخله بقلب مفتوح على الله تعالى وعلى الخير وعلى العدل كلّه وعلى الإنسان كلّه والحياة كلّها.

ونلاحظ أنّ الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ساروا على مثل هذا الخطّ في التوجيه، فلقد كانوا يتحدثون مع الناس في آخر جمعة من شهر شعبان من أجل يحرّكوا كلّ وعيهم في اتجاه الانفتاح على هذا الشهر الكريم.

خطبة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في استقباله:

فنحن هنا من أجل أن ننفتح على توجيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للناس في هذا الشهر قبل أن يقبل هذا الشهر الفضيل، ففي الرواية أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خطب المسلمين في آخر جمعة من شعبان، فقال:

"يا أيّها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله"، وكلمة "شهر الله" توحي بمعنى يجعل الزمن هنا زمناً إلهيّاً يحمل العنوان الإلهيّ في كل ساعاته وأيامه ولياليه، لأنّنا نعرف أنّ الشهور كلّها من عند الله، فهو الذي خلق الزمن وقسّمه من خلال الظاهرة الكونية التي تحدّد الزمن في مشهوره كما تحدّد الزمن في أيامه ولياليه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(1) فالمشهور كلّها من عند الله وهي خلق الله، ولكنّ الله اختصّ هذا الشهر بأن نسبه إليه على ما جاء في حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليقول لنا: أيّها الناس إنّ عليكم أن تحركوا كل هذا الزمن في آفاق الله لتكون ثوانيه ودقائقه وساعاته وأيامه ولياليه انفتاحاً على الله.

فليكن عقلك عندما تفكّر عقلاً منفتحاً على الله في الحق والخير، وعندما تحرك عاطفتك في قلبك باعتبار أنّ القلب هو مخزن العاطفة، فإنّ عليك أن تجعل عاطفتك عاطفة منسجمة مع الخطّ الذي يرضاه الله، بأن تحبّ في الله وتبغض في الله، وأن توالي أولياء الله وتعادي أعداء الله، وعندما تتحرك فلتكن حركتك إلهية سائرة في الخطّ المستقيم الذي يريد الله للناس أن يسيروا عليه، وفي الأجواء الخيّرة التي يريد الله للناس أن يتنفّسوها. وفي كل حركة يمكن للإنسان أن يركّز فيها حقاً أو يقيم عدلاً أو ينفتح فيها على كلّ ما للإنسان فيه معرفة واستقامة.

شهر الله.. رحمة الله:

"قد أقبل إليكم شهر الله" محمّلاً بالبركة والرحمة والمغفرة، فهو موقع البركة في أعماركم وأرزاقكم وفي كل طاقاتكم، وهو مخزن الرحمة التي يرحم الله فيها عباده بكل مواقعها وآثارها وبكل فيوضاتها. وإذا عرفنا أنّ وجودنا هو مظهر لرحمة الله، وأنّ النعم التي يغدقها الله علينا هي مظهر رحمة الله فينا، وأنّ طاقاتنا التي أودعها الله في كياننا هي مظهر رحمة الله، وأنّ كلّ ما يحيط بنا، وكل من يحيط بنا ممّا يتّصل بحياتنا ويغنيها هو مظهر رحمة الله، فكم هي هذه الرحمة الرمضانية التي تختصر رحمة السنة كلّها بالبركة والرحمة والمغفرة.

فماذا تنتظر ذنوبنا التي أثقلت ظهورنا، وإحساسنا ومشاعرنا، وجعلتنا نتحرّك في أجواء الحياء من الله أنّنا عصيناه وهو يغدق علينا نعمه، كما عبّر عن ذلك الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في دعائه: "تتحبَّب إلينا بالنِعَمْ ونُعارِضُك بالذنوب خيرُك إلينا نازِل وشرّنا إليك صاعد، ولم يَزَلْ ولا يزال مَلَكٌ كريم يأتيك عنّا في كل يوم بعملٍ قبيح فلا يمنعك ذلك من أن تحوطنا بِنِعَمِك وتتفضّل علينا بآلائك فسبحانك ما أحْلَمَكْ وأعظَمَك وأكرمك مبدئاً ومعيداً"(1)، قد أقبل إلينا وهو يحمل لنا المغفرة لذنوبنا.    

 

خصيصة في الزمان:

ـــ أيّها الأحبّة ـــ ولله خصائص في الزمان وفي المكان "شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي" ونحن ضيوف الله في هذا الزمن كلّه، فالله عندما أوجدنا دعانا أن نعيش الضيافة في نعمه التي تفيض علينا صباحاً ومساءً، ولكن ضيافة شهر رمضان هي ضيافة خاصة يختصّ الله فيها عباده بالبركة والرحمة والمغفرة، وإنّ لله في كل ليلة في هذا الشهر عتقاء من النار.

"شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامته" فعندما تدخلون الشهر تدخلونه ولكم كلّ كرامة الله في إيمانكم وإسلامكم وتقواكم وعملكم الصالح. فانظروا كيف هي هذه الكرامة، وكيف هي هذه الرحمة فأنت تتنفّس لأنّ ضرورة حياتك تقضي أن تتنفّس، ولكنك تتنفّس في شهر رمضان لتهبط أنفاسك أو تصعد فإنّ "أنفاسكم فيه تسبيح" فأنت تسبّح وأنفاسك أيضاً تسبّح وذلك عندما يسبّح عقلك، وعندما يسبّح قلبك ومشاعرك وعيناك في الكون، وعندما تسبّح أذناك وهي تسمع فرح الأشجار والشلالات والأنهار والطيور وكلّ هذه الموسيقى الإلهية التي جعلها الله في هذا الكون من أجل أن تدخل الفرح في قلبك، موسيقى لا إشكال فيها لأنّها الموسيقى الإلهية التي لم تتلوّث بغرائز البشر ولا المعاني الأخرى.

"ونومكم فيه عبادة" وأنتم إذ تنامون لترتاحوا فإنّ الله يجعل نومكم عبادة، لأنّ الإنسان الذي يشغل نفسه بعبادة الله فإنّ نومه يكون عبادة، فبالنوم يقوى على العبادة ويتجدّد نشاطه، ولذلك فإنّ نومه هو نوم عباديّ في معناه، وفي منطقة  اللاشعور التي يخرج فيها الإنسان أثناء نومه من دائرة الحسّ ليعيش عالماً جديداً يلتقي فيه الناس وينفتح على الأكوان ويختصر فيه المسافات.

أجواء رمضان الطيّبة:

"وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب" هذا هو جوُّ رمضان فماذا نصنع بهذا الجوّ، وكيف نتحرّك فيه؟

"فاسألوا الله بنيّات صادقة" والنيّة هي روح العمل، ففي الحديث الشريف "إنّ الله يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة"(1) ونقرأ في الحديث "النيّة روح العمل"(2) فالعمل المجرّد جماد والحركة لوحدها لا تعني شيئاً ولكنك إذا أعطيتها نيّة القربة إلى الله صارت صلاة، وإذا أعطيتها نيّة الإخلاص لعباد الله، صارت عملاً صالحاً وصدقة، والله تعالى يريد أن تكونوا الصادقين في نيّاتكم، فعندما تتحرّك دوافعك فلتتحرك للخير كلّه وللعدل وللإنسان كلّه.

"فاسألوا الله بنيات صادقة" إذا اطلع الله على عمقها، يرى منكم الصدق كلّ الصدق، وأنتم تناجونه وتعبدونه (بقلوب طاهرة) طهّروا قلوبكم من الشرّ ومن الحقد والعداوة والبغضاء، فليكن قلبك في نقاء الثلج وبياض الصبح قلباً مفتوحاً على الله يحبّ عباد الله ليعمل معهم، ويحبّ الذين يختلفون معه ليهديهم، ويحبّ الذين يتّفقون معه على البرّ والتقوى ليتعاون معهم.

(أنْ يوفّقكم لصيامه) والصيام هو هذه الحركة الروحية التي تعيشها في عقلك ليصوم عن كل أفكار الشرّ التي تعيشها في قلبك ليصوم عن كل عاطفة الشرّ، والصيام الذي تعيشه في جسدك ليصوم كل حركة الشرّ وأحاسيسه. فالصيام الذي يريده الله منّا في شهر رمضان هو الصيام الصغير الذي يعدّك إعداداً روحياً وإرادياً من أجل الصوم الكبير لأن هناك صوماً عن الطعام والشراب وبعض الشهوات في نهار شهر رمضان، ولكن هناك صوم العمل كلّه في أن تصوم عن الخمر والقمار والزنا والكذب والسرقة والظلم والاستكبار وعن كلّ محرم.

مواجهة سلطان العادة:

لذلك كان شهر رمضان حركة روحية تدريبية تتعلّم فيها كيف تواجه سلطان العادة عليك، وكيف تواجه سلطان الغريزة عليك، وسلطان المغريات التي تتحرك من هنا وهناك، والضغوط التي تطبق عليك، فكيف تتحرّر من ذلك، لتكون حرّاً في جميع أحوالك، فحريتك ليس هي أن يصدر مرسوم يقول لك أنّك حرّ لوجه الله، فأن تكون الحرّ يعني أن تكون حرّ الإرادة والعقل والعاطفة وهي أن تملك نفسك عندما تفكّر فلا يضغط عليك فكر الآخرين، وأن تملك قلبك عندما ينبغي فلا تسقطه نبضات قلوب الآخرين وأن تملك حركتك ومصيرك من خلال إرادتك، وأن تقول (لا) عندما تكون الــ (لا) هي قرارك، وأن تقول (نعم) عندما تكون الــ (نعم) هي قرارك، فأن تكون حرّا في إرادتك، فتلك هي الحرية التي قد يتّصف بها الإنسان المؤمن حتى لو كان في أضيق الزنزانات.

(وتلاوة كتابه) أن تتلو القرآن من حيث أنك مسلم، فأن تكون مسلماً يساوي أن تكون قرآنياً وأن يكون القرآن عقلك وقلبك وإحساسك وشعورك وبرنامجك وحركتك في نفسك وفي علاقتك بالحياة وبالإنسان الآخر، وفي كلّ مواقفك وكلّ ما تتحرّك فيه.

إنّ قراءة القرآن في شهر رمضان انطلقت أولاً من أنّ هذا الشهر أخذ قيمته من خلال نزول القرآن فيه، وأخذ القرآن موقعه الزمني من خلال نزوله في شهر رمضان، فكان هناك تفاعل بين القرآن في كل معانيه وروحيته وبين شهر رمضان فيما أودعه الله فيه، فكان القرآن رمضانياً في كل روحانية رمضان، وكان رمضان قرآنياً في كل روحانية القرآن وكل معانيه، فنحن بحاجة إلى أن ندخل بين هذين الخطّين بين رمضان والقرآن لنعيش رمضان في القرآن ونعيش القرآن في رمضان، نتلوه ونتدبّره {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}(1)، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(2) والله سبحانه وتعالى يريدك أن لا تعجل به، فهو يحمي لك وعيك في القرآن وأنت تقرأه، ولقد أنزل الله على رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يستقبل القرآن {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ*إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ*فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ*ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}(3) إنّ عليك أن تقرأه قراءة وعي وفكر وتدبّر وروحانية، فإنّك كلّما كرّرت القرآن أكثر اكتشفت معانيه بشكل أوسع وأعمق لأنّه ليس الكلمات في معاني القاموس ولكنه الإيحاء الذي تشعر فيه أنّ للقرآن عيناً تبصر وأذناً تسمع وحركة في كل الواقع، فإذا أردتم أن تعيشوا مع القرآن فإنّ عليكم أن تلاحقوه في شوارعكم وفي بيوتكم وفي نواديكم وفي كل ساحات صراعكم لأنّ للقرآن كلمة في ذلك كلّه. وهذا هو الذي يجعل لتلاوة كتاب الله في شهر رمضان معنى يتّصل بثقافتك وإحساسك وإيمانك وبحركتك في الحياة.

جوع في قبال جوع:

وبعد ذلك، يا رسول الله نحن نجوع في شهر رمضان ونعطش فيه لاسيّما في أيّام الحرّ، فماذا تريدنا أن نستوحي من هذا الشهر في هذا الخصوص؟!، إنّه يخاطبنا فيقول: (اذكروا بجوعكم وعطشكم جوع يوم القيامة وعطشه)، لأنّ الله علّم رسوله في القرآن أنّ اليوم الآخر هو الذي يجعل الإنسان يملك ضميراً روحياً ووعياً مسؤولاً، لأنّك وأنتَ تتحرّك في حياة ليس فيها حساب لا بدّ أن تعمّق معنى الحساب في نفسك. فلا بدّ وأنت لا ترى الله في حسّك، أن تعمّق ربوبية الله في عقلك وموقفك أمام ربّك: {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}(1)، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(2)، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}(3)، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}(4)، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}(5).

فالذين يختصرون موقفهم في يوم القيامة ويختصرون جوعهم وعطشهم هم الذين تحفّفوا من أثقال معاصيهم، وهم الذين انفتحوا على طاعتهم لربّهم، وهذا ما نستوحيه من بعض أدعية الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين (عليه السلام) عندما كان يتأوّه ويبكي ويشتاق ويقول:

"ويلي إذا قيل للمخفّين جوزوا وللمثقلين حطّوا، أمع المخفّين أجوز أم مع المثقلين أحطّ، ويلي كلّما كَبُرَ عمري" وهو يتحدّث بلسان الإنسان كلّه لا بلسانه الخاص، لأنّه كان القمّة في الطاعة ـــ وهو المعصوم ـــ "ويلي كلّما كَبُرَ عمري كثُرَتْ خطاياي"، أمَا آنَ لي أن أستحي من ربّي.

 

 

"اذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه" {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(1)، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ*وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ*وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ*لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}(2)، اذكروا ذلك لتخفِّفوا عن أنفسكم قسوة الجوع، فأنتم لا تتحمّلون جوع يوم ولا عطش يوم فكيف تحملون جوع وعطش يوم مقداره ألف سنة ممّا تعدّون وأكثر من ذلك كما في آيةٍ أخرى.

واذكروا ـــ بعد ذلك ـــ الفقراء والمساكين والجائعين الذين لا يشبعون، لا لأنّ هناك مانعاً شرعياً، من الشبع، ولكنّهم لا يجدون ما يأكلون أو يشربون.

(وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم) فإنّ الصدقة تدفع البلاء، ويقول الإمام عليّ (عليه السلام): "سوسوا إيمانكم بالصدقة"(3) فإنّ الصدقة تربّي لكم إيمانكم وتحميه، وليست الصدقة كما استهلكها الناس بأن تحمل ليرة لتعطيها هذا الشحّاذ أو ذاك، بل أن تدرس ظروف هذه العائلة وتلك وهؤلاء {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً}(4)، أن تتصدّق بالصدقة التي تحلّ المشكلة للفقير ولو آنياً أو تخفّف من ثقلها عليه.

ثمّ إنّ هذا المجتمع فيه الكبار والصغار، فالكبار قد يصادرون الصغار ويحتقرونهم، والصغار قد لا يحترمون الكبار، لذلك أيّها الصغار إذا كان هناك كبار في مجتمعكم من آبائكم وأمّهاتكم، أو غير آبائكم وأُمهاتكم "وقّروا كباركم" والتوقير ليس أسلوباً شكلياً، بل أن توقّر عقله الذي استطاع أن يقوى في التجربة، وقّر تجربته وقِدَمه في الإسلام وكل هذا التاريخ الذي عاشه وربّما شارك في صنعه.

فيا أيها الصغار: لا تنظروا إلى الكبار نظرتكم إلى جيل يتلاشى ولا يملك حيويّتكم وعنفوانكم وأحلامكم وطموحاتكم، لأنّه جيل بدأ يودّع الحياة قليلاً قليلاً، ولكن انظروا إلى الكبار على أنّهم تاريخكم الذي شاهدتموه والذي تتحسّسونه، وأنّهم جزء من مسيرة الأمّة وحركة التاريخ، وجزء من التجربة الغنيّة فربّما تكون جامعياً ولا تستطيع أن تحصل على ثقافة هذا الكبير الذي صنع ثقافته من خلال تجربته فيما صنعت ثقافتك من خلال تجارب الآخرين.

(وارحموا صغاركم) لا تعنّفوا الصغار ولا تعتبروهم كمية مهملة أو شيئاً لا فكر له، فقد تجد في صغيرك الكثير من الفطرة الصافية التي لا تملكها أنت، لأنّ فطرتك قد تكون تلوّثت بالكثير من وحول الواقع الذي تعيشه.

(إنّ قلب الحدث كالأرض الخالية)(1)، إنّه يستقبل الحياة ولديه قابليات وإمكانيات، فارحم نقاط ضعفه ودرجة نموّه وارحم أحلامه ولا تتعسّف في إسقاط أحلامه، وارحم آلامه وحاجته إلى اللهو واللعب، وحاول أن تجنّبه مشاكل اللهو واللعب... وارحمه وعلّمه بما يبني شخصيته.. ارحمه وحاول أن تعطيه من عقلك عقلاً.. فلا تفرض عليه عقلك ولا عاداتك، فلقد قال الإمام عليّ (عليه السلام): "لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم فإنّهم ولدوا لزمان غير زمانكم"(2).

ثمّ مجتمعك الصغير، الخلية الأولى التي تنفتح فيها على المجتمع الكبير، وهو مجتمع أرحامك الذين أراد الله أن تصلهم ولا تقطعهم، وذلك بأن تعطيهم المحبة والصلة حتى ولو آذوك وتعسّفوا معك وقطعوك، لأنّك تتعلّم بذلك أن تصل الناس من غير أرحامك، إنّها المدرسة الأولى للصلات المتمثّلة في رحمك.

حصاد الألسنة:

(واحفظوا ألسنتكم) ففي الحديث الشريف "إنّما يكب الناس على مناخرهم في النار حصائد ألسنتهم" وقد قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ممّا روي عنه لبعض أصحابه الذي طلب منه أن يدلّه على طريق يدخل به الجنة: "احفظ لسانك إلاّ عن خير" ولذلك لا بدّ لنا أن نعرف بأنّ كلماتنا قد تصنع مشكلة وقد تصنع حلاً، وقد تثير حرباً وقد تصنع سلماً، وقد تحرّك خيراً وقد توقظ شرّاً، لذلك لا بدّ لنا أن ندرس كل ما نتحدّث به، وهناك لفتة رائعة للإمام عليّ (عليه السلام) وقد رأى شخصاً يتكلّم دون أن يدقّق فيما يتكلّم، قال له: (يا هذا إنّك تُملي على كتابيك كتاباً إلى ربّك)(1) أتعرف ماذا تصنع؟ إنّك لا تحسّ بمعنى الكلام، وإنّ هناك كاتبين يكتبان كلّ ما تقول {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(2)، فأنت في كل كلمة تقولها إنّما ترسل رسالة إلى ربّك فانظر ماذا تكتب في الرسالة وانظر ماذا تحمل الرسالة إلى ربّك، لأنّك مسؤول عن كل كلماتك ولأنّ رعاية الله لك تنطلق من حساب هذه الكلمات.

 (وغضّوا عمّا لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم)، فلا تنظروا إلاّ إلى ما يحلّ {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ*وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}(3)، ولا بدّ أن يعيش الإنسان مسؤولية السمع لأنّه نافذة تطلّ على العقل وتحمل إليه المواد الخام التي تنطلق من الكلمات، فاعرف ماذا احمل لعقلك، هل تحمل إليه كلمات يحبّها الله أو كلمات يبغضها الله.

التوبة النصوح:

(وتحنّنوا على أيتام الناس يتحنّن على أيتامكم) احملوا مسؤولية الأيتام فقد يكون أولادكم أيتاماً في المستقبل، فإذا كان التحنّن على الأيتام هو طابع المجتمع من خلال حنانك أنت وحنان الآخرين فسوف تنتقل المسألة غليك فيتحنَّن الناس على أيتامك.

 (وتوبوا إليه من ذنوبكم{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(4)، وفي آية أخرى {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}(5)، {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً}(6) وقد ورد أنّ "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"(7)، "يخرج الإنسان بالتوبة كيوم ولدته أمّة ويقال له استأنف العمل من جديد".

(وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات) لا تشغلوا أنفسكم عن صلاتكم بكلّ فكر لأنّها معراج روح المؤمن ولا معنى لأن تعرج روحك إلى الله وهي في جولة سياحية حول العالم أو في جولة اجتماعية حول كل أوضاع المجتمع أو في جولة غرائزية حول كلّ أحلامك الغرائزية وشهواتك. "ينظر الله عزّ وجلّ فيها إلى عباده ويجيبهم إذا ناجوه ويلبيهم إذا نادوه ويعطيهم إذا سألوه ويستجيب لهم إذا دعوه".

(أيّها الناس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم) وأعمالكم هي التي تحرّرها من النار وتعتقها منها (ففكّوها باستغفاركم) فلا تتركوا الاستغفار في أيّ موقع "وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخفّفوا عنها بطول سجودكم واعملوا ـــ وهذه هي البشارة لكلّ المصلّين والساجدين ـــ اعلموا أنّ الله أقسم بعزّته أن لا يعذّب المصلّين والساجدين وأن لا يروّعهم بالنار يوم يقوم الناس لربّ العالمين".

هذا هو الفصل الأول من خطبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونتعلّم منه كيف نملأ هذا الشهر بكل المعاني الروحية والإنسانية والاجتماعية والعباديّة حتّى يعيش الإنسان مع ربّه ومع الإنسان من حوله ومع نفسه ومع حياة كلّها حق وعدل وخير، وعند ذلك يقرب من الله لأنّ الله يحبّ الذين يدعون إلى الحق ويعملون الخير ويسيرون مع خطى العدل في كل مجالات الحياة.

التجربة أمامنا:

هذا هو شهر رمضان، فكيف نستقبله، وكيف ندخل إلى رحابه؟ التجربة أمامنا وعلى كل إنسان أن يعرف كيف يحرّك تجربته في الطريق الذي يجعل من رمضانه رمضان خير ويجعل من يوم عيده أيام عيد، وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما قال في يوم عيد الفطر "إنّما هو عيد لمن قبل الله صيامه وشكر قيامه، وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد"(1) لأنّ عيد الفطر هو عيد القيام بالمسؤولية فأيّ زمن تقوم فيه بمسؤوليتك أمام الله، فيمكنك أن تحتفل به كعيد لك كما يحتفل الناس بأعيادهم، فهذا هو الذي يعطي الفرح الروحي، فالعيد ليس أغنية ولا موسيقى ولا لهواً ولا عبثاً إنّما هو فرحك بعفو ربّك ورحمته وفرحك بإنسانيتك وبامتدادها، وبمسؤوليتك.. هذا هو عيدك الذي تحصل به على فرح الدين والآخرة.

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثانية

8/ شوال/1417 هـــ (*)

 

حصاد شهر رمضان:

الإنسانُ الجديد: التقيّ.. النفّاع

 

"إنّ هدف الإسلام في كلّ ما شرّع هو صناعة الإنسان على الصورة التي يحبّها الله من أجل أن يعدّه في كلّ جيل ومرحلة ليكون خليفة الله".

 

 

لقد كانت للمؤمنين جولة في أجواء الشهر الذي ودّعناه، كما كانت للمؤمنين فرحة في أجواء العيد الذي استقبلناه، ولكن ماذا هناك في عمق العناصر التي تحرّكت وتحرّكنا معها في كلّ ما انطلقنا فيه في هذا الشهر؟ وما هي المعاني الروحية والإنسانية التي عشناها وعمّقناها في آفاق العيد؟ هل أنّ ما عشناه في هذه الجولة الرمضانية هو مجرّد مناسبة نستهلكها بالكلمات التي تخرج من اللسان ثم تضيع في الهواء؟! وهل هو العبادات التي تتحرّك في كلماتنا وفي أوضاعنا الجسدية لتتبخّر في الفضاء؟ هل كان رمضان تقليداً من تقاليدنا التي تبدأ فكراً وروحاً ثم تنتهي شيئاً بارداً ميّتاً يمضغ الإنسان كلماته كما يمضغ الأشياء الميتة ويتحرّك فيها كما يتحرّك في جسد مشلول؟!.

ثمّ هل أنّ العيد كلمات ومجاملات ولذّات وما إلى ذلك؟!

صناعة الإنسان الخليفة:

أيّها الأحبّة: إنّ هدف الإسلام في كل ما شرّع هو صناعة الإنسان على الصورة التي يحبّها الله من أجل أن يعدّه في كل جيل وفي كل مرحلة ليكون خليفة الله، فأن تكون خليفة الله في الأرض معناه أن تتمثّل أخلاق الله وأن تكون على صورة صفاته، وعلى صورة وحيه، وعلى صورة قيمة حتى تكون إنسان الله الذي يتحرّك من خلال أن يشرق الله في عقله حقاً ويشرق في قلبه حبّاً، ويشرق في حركته إستقامة نحو الهدف الكبير.

الصلاة وسيلة:

ومن هنا رأينا أنّ قصة الصلاة هي قصّة الوسيلة التي يكون فيها الإنسان إنسان المعروف في جانبه الإيجابي، وإنسان الرفض للمنكر في جانبه السلبي، ذلك أنّ الصلاة إنّما تنهى عن الفحشاء والمنكر لتجعل هذا الإنسان إنساناً ينفتح في عقله وقلبه وحياته على المعروف، الذي يريده الله في واقع الإنسان الفردي والاجتماعي، ولتجعل ـــ أي الصلاة ـــ الإنسان إنساناً يعيش في كلّ إحساسه وشعوره الرفض للمنكر، وبهذا تختصر كلمتا المعروف والمنكر كلّ وجود الإنسان الحركي وكل تطلّعاته الفكرية وكل نشاطاته العملية، فكيف يمكن للصلاة أن تحقّق ذلك كلّه؟!.

إنّها تحقّقه من خلال معراج المؤمن بروحه إلى الله، فإذا التقيت بالله كبّرته وسبّحته وحمدته، وانطلقت في كل الكلمات التي تعيش فيها مع ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، المعبود وحده، والمستعان به، الهادي إلى الصراط المستقيم، الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد، العظيم الأعلى، إنّك عندما تعيش ذلك مع الله تعالى فإنّك لا يمكن أن تسقط في وحول الذين يتحرّكون بدون قِيَم، ومن دون حق، ومن دون عدل، فإنّك كلّما انفتحت في صلاتك على الله أكثر اختزنت في داخل كيانك معنى الله أكثر.

لقاؤنا بالله سطحي:

ولعلّ مشكلتنا ـــ أيّها الأحبّة ـــ أنّنا نلتقي بالله في سطح وجودنا وسطح فكرنا، فأفكارنا لا تتعمَّق بالله، وفي سطح القلب فقلوبنا لا تختزن في نبضاتها محبّة الله، وهكذا في سائر جوانب حياتنا، فالله عندنا كلمة وليس معنى، وهو بالنسبة لنا مجرّد شيء نعيشه بعيداً عن واقعنا وهو أقرب إلينا من حبل الوريد. لذلك ورد عندنا في الحديث الشريف "مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلاّ بُعدا"(1) ذلك أنّ الصلاة تقربّك إليه بمعناها، فإذا لم تتقرّب إليه فإنّك لا تبقى مكانك ولكنّك تزداد بعداً عنه، لأنّك استخدمت وسيلة القرب إلى الله لتكون وسيلة القرب من الشيطان من خلال غفلتك، ومن خلال كل هذه السلبيات التي تعيشها صلاتك.

صناعة الإنسان التقي:

وهكذا عندما نعيش مع الصوم في شهر رمضان، فإنّ الله تعالى جعله وسيلة من وسائل صنع الإنسان التقيّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(2) فأن تكون الصائم المقبول هو أن تكون الإنسان التقي من خلال صومك، والتقي في عقيدتك وأن تستقيم عقيدتك على الخطّ يعني أن تكون التقي في عبادتك، وأن تخلص لله في العبادة يفرض عليك أن تكون التقي في علاقاتك مع الناس، وأن تتحسّس مسؤوليتك في أن تنفتح على الناس من خلال منافذ الخير والمحبة والهداية والنور الذي يشعُّ في عقلك وقلبك، بل وأن تكون الإنسان النفَّاع للناس (المبارك) وأن تكون الإنسان العادل مع الناس، وأن تكون الخيّر في كل نشاطاتك التي تتعاطاها في حياة الناس، لتعيش مع الناس كجزء من مجتمع أو من أمّة أو من إنسانية تتكامل مع الأجزاء الأخرى فتنفعل بها وتتفاعل معها. أن تكون الصائم المقبول في كل مواقفك ومواقعك.

ولقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن الجوانب السلبية في علاقة الإنسان بالآخرين في المجال الاجتماعي الإنساني بطريقة تشعر فيها بخطورة شديدة {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}(1) وقوله سبحانه وتعالى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً}(2) وهكذا في قوله عزّ وجلّ {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً}(3)، {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً}(4) وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}(5)، وقوله: {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ}(6).

وهكذا نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يحرّك أمامنا كل هذه القِيَم السلبية المرفوضة لأنّها تساهم في إسقاط الإنسان الآخر وفي تحطيم كرامته بل وفي تحطيم حياته بطريقة وبأخرى.

لذلك فإنّ الصوم يوحي إليك بأن تكون التقي في الجانب السلبي، وذلك بأن ترفض كلّ القِيَم السلبية، وأن تكون التقي في الجانب الإيجابي بأن تتبنّى كل القِيَم الإيجابية من الصدق والأمانة والعفّة والنفع للناس والأخذ بالحق والانفتاح على العدل وما إلى ذلك من قِيَم الحق التي جمعا الله سبحانه وتعالى في المنهج الأخلاقي الذي رسمه للإنسان.

 

معطيات الأدعية الرمضانية:

وهكذا أيّها الأحبّة ـــ عندما نعيش مع أدعية شهر رمضان الكثير من مفردات العقيدة التي تجعلك أكثر وعياً لعقيدتك بالله من خلال ما تعطيك إيّاه من مفردات المعرفة في صفات الله بجماله وكماله وفي مواقع عظمته ونعمه، فيمكنك أن تعرف من خلال أدعية شهر رمضان كيف تندمج في علاقتك مع الله على المستوى الذي تعيش فيه حبّك لله وأن تكون الإنسان الذي يتحدّث إلى الله من بعيد {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(1) وأن تكون الإنسان الذي يحبّ الله كحبّ عليّ (عليه السلام) "وكيف تعذّبني وحبّك في قلبي" إنّ هذا الجوّ الدعائي الذي يجعلك أكثر معرفة بالله، وأكثر انشداداً إليه وارتباطاً به ويجعلك في الوقت نفسه، الإنسان الذي يعيش مع الناس من أجل أن يرتبط بهم وأن يتكامل معهم وأن يخفّف آلامهم وأن يعمل على أساس أن يحلّ مشاكلهم، إنّ ذلك كلّه موجود في فقرات الدعاء، ولذلك فإنّ من الخطأ الكبير أن نعتبر الدعاء مجرّد تقليد من تقاليدنا نستهلكه ألفاظاً ونبتعد عنه روحاً.

الدعاء مدرسة:

ـــ أيّها الأحبّة ـــ إنّ كل أدعية القرآن وأدعية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأدعية الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) تمثّل مدرسة ثقافية روحية، ولو تعمّقنا في كل مفرداتها وأساليبها لاستطعنا أن نخرج من جامعة الإسلام الروحية مزوّدين بكل عناصر الثقافة الروحية التي لا تتحرّك فيها الروح في أجواء صوفية تجريدية، ولكنّها تجعلك ترتبط بالله وبالإنسان وبالحياة وبنفسك وبمسؤوليتك عن ذلك كلّه. لذلك أن تعيش الدعاء في شهر رمضان يساوي أن يصنع الدعاء منك إنسان الإسلام الذي يحلّق في سماوات الروح، والذي ينطلق في خطّ الاستقامة ليلتقي بالهدف الإسلامي الكبير الذي يرضاه الله تعالى، وبالهدف الروحي الكبير وهو رضا الله {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ}(2).

وإذا التقينا في شهر رمضان بالقرآن فهو النور الذي يشرق في عقولنا وقلوبنا وحياتنا ويهدينا إلى سبل السلام لنتبع رضوان الله من خلال عطاءات وبركات وفيوضات هذا الكتاب الكريم، ولنعيش زكاة أنفسنا وانفتاحنا على الله من خلاله.

وتأسيساً على كل ذلك فإنّ الجولة الصلاتيّة الصومية الدعائية القرآنية في شهر رمضان تعني، في المحصلة النهائية، أن نصنع إنساناً جديداً لا عهد له بالإنسان القديم (إنسان ما قبل رمضان) ذلك أنّ الإنسان التقيّ هو الذي يتخفّف من كل ذنوبه، وهو الذي ينفق سراً وعلانية، وهو الكاظم للغيظ العافي عن الناس والمحسن لهم، والذي لا يصرُ على المعصية، والذي لا يستكبر ولا يخون، فهل سألنا أنفسنا بعد شهر رمضان عمّا هو حجم التقوى في عقولنا؟ هل بتنا نملك العقل التقيّ الذي يحرّك كلّ أفكارنا في طريق الحقّ، ولا يحرّكها في طريق الباطل؟! هل استطعنا أن نحصل على هذه التقوى العقلية ليكون ميزانها العدل لا ميزان الظلم؟! وهل استطعنا في شهر رمضان أن نحصل على القلب التقيّ من خلال إنسان العاطفة التقيّة التي تنبض بالمحبّة للمؤمنين لتلتقي معهم على طاعة الله، وتلتقي بالمحبّة لغير المؤمنين لتهديهم إلى سبيل الله وإلى طريق الله، لأنّ المؤمن لا يفكّر فقط بالمؤمنين وإنّما يفكّر في الناس كافة. فكن كالشمس تطلع على البرّ والفاجر وذلك بأن تفكّر بالمؤمنين لتتعاون معهم على البرّ والتقوى، وأن تفكّر بالكافرين لتتعاون مع أنفسهم بهدايتهم إلى سواء السبيل.

وليكن بيّنا أنّ القلب المغلق على الناس هو قلب لا يستطيع أن يهدي أحداً بالمرّة، فعندما تحقد على أي إنسان يختلف معك وتعيش البغض والعداوة معه، فكيف يمكن لك أن تجعل كلماتك تدخل في قلبه؟! إنّ الكلمة المغموسة بالحقد لا يمكن أن ينفتح لها قلب الآخر بعكس الكلمة المغموسة بالمحبة التي تنفتح إليها حتى القلوب الجامدة المتحجّرة، ولذلك قال الله تعالى مخاطباً نبيّه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(1)، كان قلب رسول الله رحيماً ورقيقاً، وكان لسانه عذباً رقيقاً كرقّةِ قلبه ولذلك استطاع أن يفتح قلوب الناس عليه، وأن يفتح قلوب أصحابه عليه {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(1) وأن يفتح قلوب أعدائه عليه، فعندما انطلقت كلماته التي هي كلمات الوحي رفضوها ولكنّ ابتسامته وحنانه وعطفه وخلقه العظيم استطاع أن يدفع بالكلمة الطيّبة إلى قلوبهم لتنمو بذرة طيّبة تنتج إسلاماً ولو بعد خمس سنين أو عشر سنين، وذلك عندما دخلوا في دين الله أفواجاً.

جلسة تقييم:

ـــ أيّها الأحبّة ـــ لتكن جلستنا بعد شهر رمضان مع أنفسنا ومع ربّنا جلسة نفحص فيها عقولنا كيف صارت، وقلوبنا كيف صارت، وحياتنا كيف استعملت، هل نحن الأتقياء الذين نتّقي الله ونخافه في كلّ ما نتكلّم وفي كل ما نفعل، أو أنّنا على طريقة ذلك الشاعر الذي كان يعاقر الخمرة في كل السنّة حتى إذا جاء شهر رمضان أودع كلّ دنانه وكلّ قناني الخمرة وكلّ كؤوسه في الخزانة، وما إن يأتي العيد، يقول:

رمضانُ ولّى هاتها يا ساقي        مشتاقةً تسعى إلى مشتاقِ

 

أبعاد العيد الحقيقي:

ونأتي بعد ذلك إلى العيد ـــ أيّها الأحبّة ـــ فهل هو عيد الفرحُ اللاهي؟! هل هو عيد العبث المجنون؟ هل هو عيدُ الكلمات التي لا تعني شيئاً؟! هل هو عيد المظاهر والشكليات؟ أتعرفون كيف كان عليّ (عليه السلام) يفكّر؟ أتعرفون كيف يحكمُ على الأشياء من خلال عمقها الروحي الإنساني الإسلامي المنفتح على الله (إنّما هو عيد لمن قَبِلَ الله صيامَهُ وشكر قيامَهُ) ثمّ انطلق من هذا العيد في السنة كلّها من حيث هو عيد القيام بالواجب الذي يحتفل الإنسان به كفرح كبير في الروح وفي الحياة "وكل يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد" وذلك بأن تعيش عيدك في إيحائه بأن لا تتجمّد عنده كيوم في التاريخ، ولكن انفتح لتكون كلّ أيامك عيداً بفرحتك بالله وفرح الله بك وبمحبّتك لله وبمحبة الله لك.

ـــ أيّها الأحبّة ـــ بعد أن نفرغ من رمضان لا بدّ أن نلملم كلّ ما تناثر منه لنجمعه في عقولنا وفي قلوبنا وفي حياتنا، وأن نفرغ من العيد بإنقضاء يوم العيد يقتضي منّا أن نلاحق العيد لنعمّقه في كل يوم، وذلك هو عيد المؤمن الذي ينبغي أن يكون عيده طاعة لله بالرفض لمعصية الله، وأن يكون عيده بالمحبة لعباد الله وبالنفع لعيال الله، ففي الحديث: "الخلقُ كلّهم عيالُ الله وأحبّهم إلى الله مَنْ نفع عباد الله أو أدخل على أهل بيته سروراً" إنّ عيدنا هو عيد الفرح، وفرحنا أن نعطي الفرح من قلوبنا لكلّ الفئات المحرومة، وأن نعطي الفرح لكلّ الإنسانيات المتألّمة، وأن نعطي الفرح لكلّ المشرّدين ولكلّ الحزانى ولكلّ البائسين وعند ذلك لا يكون الفرح شيئاً في الزمن بل يصبح شيئاً في الإنسان.

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثالثة

15/ شوّال/ 1417 هــ(*)

 

الطُغيان

 

"الحقُّ هو القاعدة التي تحدّدُ المنطلق.. والخطّ.. والهدف"

 

 

 

 

أسلوب الاختصار:

في بعض آيات القرآن الكريم ينطلق الأسلوب الربّاني ليختصر في كلمتين كلّ عناصر النجاح التي تؤدي بالإنسان إلى الجنة وكلّ عناصر الفشل التي تؤدي به إلى النار، بحيث يحشد في هاتين الكلمتين كلّ تطلّعات الإنسان الإيجابية في انفتاحه على الله وكلّ أوضاعه السلبية في الابتعاد عن الله.

فهناك آيتان تتحدّثان عن (الجحيم) و(الجنّة) في مضمار الحديث عن يوم القيامة، {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى*يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى*وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى*فَأَمَّا مَن طَغَى*وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى*وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}(1) .

الطغيان:

فنحن نلاحظ أنّ الله سبحانه وتعالى اختصر كل الواقع السلبي الذي يعيشه الإنسان لينفتح على نار جهنم في كلمة (الطغيان) وإيثار الحياة الدنيا، وربّما كانت الثانية نتيجة للأولى، فكلمة الطغيان تختصر كلّ الحالة العقلية والنفسية والحركية للإنسان عندما يتجاوز خطّ التوازن الذي وضعه الله سبحانه وتعالى له، وهو الخطّ المستقيم الذي يوازن للإنسان كمّية نشاطه المادي في حياته الدنيوية مقارناً بكمية النشاط الروحي في مسؤولياته الآخروية.

هذا النوع من التوازن بين حاجات الإنسان في الدنيا ومسؤولياته التي تطلّ به على الآخرة، يريد الله تعالى للإنسان أن يأخذ به، فلا يطغى جانب على جانب، ولا يريد له أن يهمل دنياه فلا يعمّرها ولا يقوم بمسؤوليته في حماية نفسه فيها، بل أراد له أن يأخذ من الدنيا ـــ في معناها المادي ـــ كل حاجاته، لكنّه رسم له خطّ الحلال في ذلك كلّه، وأراد له أيضاً ألاّ يطغى هذا الجانب المادي على الجانب الروحي بحيث تكون مسؤولياته في الحياة الدنيا المرتبطة بتكاليفه الشرعية على هامش حياته المادية.

 

التوازن الفكريّ:

فيمكننا إذاً أن نطلّ ـــ من خلال ذلك ـــ على الطغيان الفكري، فالمطلوب من الإنسان أن يتوازن فكرياً، بمعنى أن يحرّك فكره نحو الخير والحق والعدل، بحيث يعمل على أن يجمّع لفكره العناصر التي يستطيع من خلالها أن ينتج فكر الحق وفكر الخير وفكر العدل، وأن يفتح فكره على الآفاق التي تبني له إنسانيّته وتعمّق له إحساسه بمسؤوليته.

التوازن العاطفي:

كما أراد له أن يتوازن في عاطفته، فلا يتّجه بها إلى الأشياء أو الأشخاص أو الأوضاع التي لا ترضي الله سبحانه وتعالى، فالله أراد للعاطفة أن تتوازن، فلم يمنعك من أن تحبّ قومك بهذه الخفقة من القلب والنبضة من الإحساس، حتّى لو كان قومك على غير الخطّ، فتلك حالة إنسانية ينجذب فيها الإنسان إلى من يكون قريباً منه، ولكن الله أراد لك عندما تحرّك عاطفتك أن لا تبتعد عن خطّ إيمانك، بل تتحوّل هذه العاطفة إلى التزام، وإلى علاقة تنتج الكثير من المواقف المنسجمة في الحياة.

من هنا، فلا بدّ للعاطفة أن تعقّل بحيث لا ينفتح الإنسان على عاطفته في حبّه للأشياء أو بغضه لها من خلال الحالة الغرائزية الموجودة في مشاعره وأحاسيسه، بل لا بدّ له أن يجعل في عاطفته شيئاً من عقل الفكر ومن عقل الإيمان وعقل الروح حتى تتوازن عاطفته فلا تنحرف عن طريق الحقّ عندما تتحرّك في الواقع، وهكذا رسم الله لنا في حركتنا في الحياة، خطّ الاستقامة {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}(1) فالله يريدنا أن نتوازن في حركتنا بحيث نراقب مبادئنا وإيماننا وخطوط الخير التي رسمها لنا وأراد أن نجرّبها في الحياة.

الطغيان انحراف:

فكلّ انحراف عن فكر الحق وعاطفة الحق وعن حركة الحياة يعتبر طغياناً، لأنّ الطغيان هو تجاوز الحقّ في أي موقع من مواقعه، سواءً في خطّ السير أو في أجواء الفكر أو الإحساس، فالله يعبّر عن طغيان الإنسان الذي يجعله يرتفع عن خطّ التوازن الذي أراد له أن يسير فيه، بأنّه طغيان يجعل الإنسان يعيش الدنيا بعيداً عن الآخرة، أو ربّما يكون إيثار الحياة الدنيا نتيجة للطغيان، أو بالعكس، لأنّ كلاً منهما يمكن أن ينتج الآخر والنتيجة واحدة.

ونخلص من كلّ ذلك إلى أنّ هذا الطغيان الذي ينطلق من الاستغراق في الذّات وحاجاتها واعتبار الدنيا الفرصة الأولى والأخيرة، هذا الطغيان هو الذي يقود الإنسان إلى الجحيم لأنّه يبعده عن ربّه ومسؤولياته ووعيه لمعنى وجوده في الحياة من أنّه حامل الأمانة، وأنّه إنسان الله الذي يتعيّن عليه أن يبني الحياة على الصورة التي يحبّها الله سبحانه وتعالى.

عملية الرصد الذاتي:

من هنا، لا بدّ أن يرصد الإنسان نفسه ويفحصها من خلال الخطوط التي وضعها الله في كتابه وسنّة نبيّه، وأن يفحصها ليعرف هل أنّ الدنيا تمثّل كل شيء عنده، فلو وقف بين الدنيا والآخرة، فهل يفضّل هذه على تلك، أم تلك على هذه؟ وهل إذا وقف بين مبادئه وبين شهواته، وبين إيمانه وبين أطماعه، هل يغلّب هذا على ذاك، أو يغلّبُ ذاك على هذا؟!

مقام الخوف:

وفي الجانب الآخر، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}(1)، فثمّة عنصران، الأول: أن يعيش الإنسان عظمة ربّه في نفسه من خلال تجلّي هذه العظمة على أساس وعيه لكلّ أسرار العظمة في خلق الله سبحانه وتعالى، والثاني: الخوف من مقامه بالانفتاح على نعمه التي تجعله مشدوداً إلى الله في وجوده وفي حركة هذا الوجود وتفاصيله، فعندما يدرك مقام ربّه ويدخل في مقارنة بين هذا المقام ومقام الخلق، وبين مقام ربّه وبين مقامه الإنسانيّ فإنّه ـــ عند ذلك ـــ يخاف ربّه، فخوف الله ينطلق من عمق معرفة الله والاستزادة من هذه المعرفة، فكلّما عرفته أكثر احتقرت ما دونه في عملية الموازنة بينهما، وكلّما أحسست بنعم الله عليك وبأنّه وحده مصدر النعمة كلّها، خفّ اعتمادك على خلقه لأنّهم لا يملكون لك ضرّاً ولا نفعاً وهو وحده الكافي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء.

فلا بدّ أن نمرّ ـــ أيّها الأحبّة ـــ برحلة عقلية تجعلنا ننفتح على الله لنعرفه من خلال عظمته في خلقه وفي ذاته، ومن خلال ارتباطنا به وانشدادنا إليه جرّاء الفقر الإنساني المطلق في قبال الغنى الربّاني المطلق، بحيث تشعر أنّك ظلّ لوجوده، ولا حياة لك إلاّ من خلال عناصر الحياة اليومية التي يحشدها في وجودك وينفتح عليها هذا الوجود.

بين خوفين:

فإذا خفت مقام ربّك، والخوف هنا ليس هو حالة الانسحاق التي تضيع فيها في خوفك كما يفعل الناس الذين يخافون من عباد الله عندما يسحقهم هذا الخوف فلا تبقى عندهم إرادة ولا موقف ولا كلمة، بحيث يتحوّل خوفك من عباد الله إلى إلغاء لإنسانيتك، وإلى إسقاط وجودك فتفقد بذلك إحساسك بنفسك، بينما الخوف من الله يجعلك أكثر وعياً للمسؤولية وأكثر إحساساً بمسؤوليتك، وأكثر قوة في وجودك، لماذا؟ إنّ هناك فرقاً بين علاقتك بالإنسان وبين علاقتك بالله، فالإنسان الآخر هو وجود مستقل عن وجودك، هو مثلك وأنت مثله إلاّ بما يميّز الله به إنساناً عن إنسان {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}(1)، حتى أنّ الله تعالى قد جعل خطاب الرسول للناس بهذه الطريقة: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}(2)، فعندما تخضع لإنسان آخر، وتسقط بإرادتك أمام إرادته، وعندما تخافه، فمعنى ذلك أنّ وجودَكَ يذوبُ في وجوده، فيكون هو الشيء وتصبح أنتَ اللاشيئ، ولقد جعلك الله تعالى شيئاً ولا يريد لك أن تتحوّل إلى اللاشيء إزاء الآخر.

مقام العبودية:

وأمّا بالنسبة لله فلا وجود مستقلاً لك قبال وجوده، فهو يرزقك ويطعمك ويسقيك ويشفيك، وهو الذي أحياك وهو الذي يميتك، فأنتَ صنع الله، فعندما تخضع له وتسقط بإرادتك أمامه، وتعيش الفقر المطلق بين يديه لا تضيف إليه شيئاً، فأنتَ الفقير وأنتَ الموجود به، وأنتَ الحيّ به وفي ظلّ رحمته، فمعنى وجودك في الأصل هو أنّك عبدُ ربّك، وهو الذي أراد لك في مقام العبودية ومقام الخوف منه والإحساس بمقامه أن تعيش إنسانيتك بين يديه.

وكما أعطاك الله من حاجتك إليه ـــ وجودك ورزقك ـــ وكما أعطاك من خلال ضعفك بين يديه ـــ قوّتك، وكما أعطاك من تطلّعك إليه عقلك وقلبك وإحساسك وكل شروط حياتك، فعندما توحّد الله في خوفك فلا تخاف غيره تكبر وتقوى وتنمو وتغني إنسانيّتك، بل وتتحوّل إلى إنسان مسؤول، وتشعر أنّ الله هو القاعدة التي تنطلق منها وترجع إليها، فالله سبحانه وتعالى ماثل في ربوبيّته التي ترعاك وتربّيك، وهو حاضرٌ في ألوهيّته التي تدبّرك وتحميك، وهو الموجود في صفاته التي تملأ نفسك بالقِيَم إذا تطلّعت إليها وتخلّقت بها.

{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}، بحيث عندما تقدم رِجْلاً تشعر أنّ الله يراقبك ويحاسبك وأنّ بيده الحكم عليك، وعندما تؤخّر رِجلاً تشعر به كذلك، وعندما تتكلّم تذكّر أنّ مقام ربّك أمامك، وعندما تسكت استحضر مقام ربّك في وعيِك، وعندما تؤيّد أو ترفض أو تمارس أي شيء فالله يتجسّد بعظمته في وعيك وعقلك وقلبك وإحساسك، فلا يبقى للهوى مجال، فإذا وقفت بين أمر ربّك في مقامه العظيم وبين هوى نفسك في حقارة هذه النفس أمام الله وفي حاجتها إلى الله وانسحاقها أمامه، فما قيمة الهوى إزاء الحق الذي يطلّ عليك من الله؟!

{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} الذي يمثّل الإيمان في عمقه العقلي والشعوري والحركي {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}، الذي يمثّل خطّ الالتزام وذلك بأنّ تتحرّك في التزامك بكلّ مسؤولياتك في الحياة بأن توازن بين هوى نفسك الأمّارة بالسوء وبين مسؤوليتك، فتتصاغر وتنفعل بأوامر ربّك ونواهيه وتترك هوى نفسك عندما تقارن بين نتائج قربك من الله ونتائج بعدك عنه.

إتّباع الهوى وطول الأمل:

وهذا ما عبّر عنه الحديث المأثور الذي يروى عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعن عليّ (عليه السلام): "إنّ أخوف ما أخاف عليكم خصلتان: اتّباع الهوى وطول الأمل، أمّا اتّباع الهوى فيصدُّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة"(1)، فإذا انفتحت على أهوائك وشهواتك فإنّما تنفتح على خطّ الضياع، لأنّ الهوى لا ميزان له، ولا قاعدة له، ولا خطّ له، بل هو التيه الذي يتيه فيه الإنسان في صحارى الغرائز والشهوات والتي قد تتحوّل من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين لأنّها تتحرّك بحركة الغرائز الملتهبة غير العاقلة كمنطلق، وتتحرّك من خلال العوارض التي تحيط بها والضغوط التي تخضع لها، ممّا يجعل الإنسان في حالة طوارئ غرائزية لا يعرف من أين يبدأ وإلى أين يسير.

وأمّا الحقّ فهو القاعدة الصلبة التي يمكنك أن تسند كلّ وجودك إليها لأنّها تحدّد لك منطلق السير وخطّ السير والهدف الذي تسعى إليه، بحيث تنطلق من نور وتظلّ تسير في خطّ النور مستقبلاً النور ـــ الهدف والغاية.

"أمّا اتّباع الهوى فيصدُّ عن الحق" عن حقّ العقيدة، عندما يسير الإنسان مع ما يسير عليه الناس فيخوض مع الخائضين فيما اعتقدوه، وفي خطّ العمل عندما يخوض مع الخائضين فيما يعملون، وفي خطّ العلاقات عندما يحبّ ويبغض ذاك لمجرّد أنّ الناس يحبّونه أو يبغضونه، وعندما يؤيّد هذا ويرفض ذاك لأنّ أولئك رفضوه أو أيّدوه.

فالمطلوب ـــ أيّها الأحبّة ـــ هو أن تكون للإنسان قاعدة ينطلق منها وهدفٌ يسعى إليه وخطُّ سير مستقيم يربط بين المنطلق والغاية حتى يكون الإنسان واعياً لرحلته الفكرية والعاطفية والحركية في هذه الحياة، والنتيجة هي الجنّة.

"وأمّا طول الأمل" بأن لا يحسَّ الإنسان بأنّ الموت سوف يطرق بابه في أيّ وقت من الليل والنهار، عندما يرى الناس يموتون من حوله ويشعر بالموت نظرياً، ولكنه، في إحساسه، يتصوّر أنّ كل الناس يموتون ولكنه لا يسأل نفسه ما إذا كان بالإمكان أن يموت مثلهم، بالمعنى الشعوري والإحساسيّ للموت، ولذلك فإنّه يستسلم للدّنيا ويؤثرها وينسى الآخرة لأنّ هذه تنطلق من ذكر الموت الذي هو الجسر الرابط بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.

فنحن كمسلمين ومؤمنين وكعباد لله سبحانه وتعالى، لا بدّ أن نعيش هذا التأمّل الفكريّ الروحيّ القرآني لنعرف أنّ معنى أن تكون مسلماً أو مؤمناً أو عبداً لله هو أن تركّز كل حياتك على أساس أن يكون في الإيمان فكرك ويكون في الإيمان قلبُك، ويكون في الإيمان عملك، وفي محبّتك لله وخوفك منه {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(1)، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}(2)، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}(3)، فهل نستطيع أن نجادل عن أنفسنا أمام الذي يملك أنفسنا ويعلم سرّنا وعلانيّتنا؟!

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الرابعة

22/ شوّال/1417 هـــ (*)

 

 

في وفاة الإمام الصادق (عليه السلام):

موقعُ العقل في حياتنا

 

"العقلُ الفطريُّ هو العقل الذي إذا تحرّك التقى بالحقيقة في موقع اليقين، وهذا هو الحجّةُ لله على خلقه".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المزيد من الوعي:

بعد أيام نلتقي بمناسبة ذكرى وفاة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ونحاول أمام الذكرى أن نحصل على المزيد من الوعي في معنى الإمامة في أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وفي حركة الإمامة من خلال حركة الأئمة (عليهم السلام) في تأصيل المفاهيم الإسلامية وتوجيه المجتمع أو توجيه الناس كافة إلى الركائز التي تمثّل القاعدة التي يرتكزون عليها فيما يأخذون به وفيما يدعونه، وفي المعاني التي تمثّل تفاصيل حركة الإنسان المسلم في نفسه وفي علاقته مع الآخر وفي علاقته بالحياة.

ولعلّ قيمة هذه الدراسة هي أنّها تجعلنا عندما نتحرّك فإنّنا لا نأخذ الإسلام قطعاً متناثرة بحيث نمسك واحدة هنا وواحدة أخرى هناك من دون أن يكون هناك أيّ رابط بينهما، لأنّك بذلك لا تستطيع أن تواجه الحياة كمسلم من خلال المفاهيم العامة التي تجمع في داخلها كلّ أخلاق الإسلام وكل أحكامه وكلّ أساليبه وغاياته.

الإمامة ليست اجتهاداً:

الإمامة في نظر المسلمين من الشيعة الإمامية ليست عنواناً ثقافياً فقهياً ينطلق من اجتهاد الإمام في فهمه للكتاب والسنّة، فيمكن أن يخطئ ويمكن أن يصيب ولكنّ الإمامة تمثّل الخلافة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم). 

وإذا أخذنا بالخطّ العقيديّ الذي يتحدّث عن العصمة الفكرية والعملية فإنّ معنى ذلك أنّ كلامهم هو الكلام الذي ينطلق من عينٍ صافية هي عين النبوّة فيما أعطته من مفاهيم ومن قواعد ومن أحكام. ولعلّ الذين ينطلقون في هذا المعنى، ولسنا في سبيل الاستدلال، يؤكّدون على الحديث النبويّ الشريف الذي يرويه المسلمون جميعاً "إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ما إنْ تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنّهما لن يفترقا حتى يَرِدا عليّ الحوض"(1) وقول الله سبحانه وتعالى قبل ذلك {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(1)، والحديث الذي يرويه السنّة والشيعة "يكون من بعدي من الخلفاء عدّة نقباء موسى اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش"(2).

ولسنا هنا في مقام الاستدلال والجدل الكلامي كما قلت ولكن مفهوم الإمامة في العقيدة الإمامية الإثني عشرية يختلف عن مفهوم الإمامة لدى المسلمين الآخرين لأنّهم يعتبرون الإمام مجتهداً كأئمة المذاهب يمكن أن تختلف معه ويمكن أن تتّفق كأي مجتهد يمكن أن يخطئ ويمكن أن يصيب. فعندما يصلنا أي حكم شرعي أو مفهوم إسلامي أو خطٍ أخلاقي من أي إمام من الأئمة (عليهم السلام) فإنّنا نعتبره كما لو كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي قاله، ولذلك لا يمكن لنا أن نناقشه كما لا يمكن لنا أن نناقش رسول الله، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(3)، ولكنّ المسألة التي تبقى محلاً للجدل هي قضية ما ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما هو الجدل المثار فيما ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

توثيق الروايات:

فقد اختلف المسلمون فيما روي عن رسول الله في وثاقة الروايات التي صدرت عنه، وهكذا فيما ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فقد نرفض بعض الأحاديث لأنّها غير موثّقة وقد نقبل بعضها لأنّها موثّقة، وما يجب أن يفهمه الجميع هو أنّه ليس عند الشيعة صحاح فيما عدا القرآن الكريم، فليس عندهم نصّ يمكن أن يقال إنّه الحقيقة 100% فيما رووه في كتبهم (الكافي)، و(الاستبصار)، و(مَنْ لا يحضره الفقيه)، و(التهذيب)، وهناك كتب أخرى أيضاً، فلا يلتزم الشيعة بها بشكل عام على أنّها صحاح، ولذلك نجد أنّ عالماً كبيراً كالمجلسيّ صاحب (البحار) يكتب شرحاً (للكافي) في كتابٍ اسمه (مرآة العقول) ويناقش الكثير من أحاديث الكافي فيقول هذا مرسل وهذا ضعيف وهذا موثّق وهذا حسن، وفقاً للمصطلحات الموجودة.

ولذلك فليس من النهج العلمي أن يتّهم الشيعة الإمامية بما ورد في (الكافي) ممّا لم تثبت وثاقته سنداً أو ممّا لم تتمّ دلالته من ناحية النص، لأنّهم لا يقولون بصحّة كل ما في (الكافي) بينما نجد أنّ إخواننا المسلمين من أهل السنّة يلتزمون فيما ورد في (صحيح البخاري) و(صحيح مسلم) وما استدركه عليهم الحاكم في الصحيحين، لا بدّ أن يلتزموا بذلك لأنّه ثبت عندهم بأنّه صحيح 100%، ولذلك قيل بأنّ صحيح البخاري هو ثاني القرآن باعتبار أنّه يمثّل السنّة الصحيحة 100%، فهذه أمور لا بدّ أن نعرفها وأنّ علينا أن ندرس كلّ حديث جاء عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي كثرت الكذّابةُ عليه في حياته وعن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين كثرت الكذّابة عليهم في حياتهم، علينا أن ندرسها على حسب القواعد العلمية التي وضعت لتمييز صحيح الحديث من فاسده إن من حيث السند أو من حيث النصّ.

قاعدة العقل:

أمّا ما نريد أن نثيره أمام ذكرى الإمام الصادق (عليه السلام) فهو أنّ الإمام (عليه السلام) كان يريد أن يؤسّس الفكر الإسلامي من خلال ما رواه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن خلال ما استلهمه قبل ذلك من كلام الله ليعطي الشخصية الإسلامية القاعدة التي ينطلق من خلالها لتواجه كلّ الأفكار وكل الخطوط وكلّ الأساليب من قاعدة ثابتة شاملة هي قاعدة العقل، فأن تكون مسلماً يعني أن تكون عقلانياً وأن يكون عقلك هو القاعدة التي تنطلق منها لترفض ما يرفضه ولتقبل ما يقبله، وهذا ما تحدّث به الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفي مقدّمتهم الإمام محمد الباقر الذي روى هذا الحديث: "إنّ الله خلق العقل فقال له أقبِل فأقبَل، ثم قال له أدبِر فأدبَر، ثم قال وعزّتي وجلالي أو فبي حلفتُ ما خلقتُ خلقاً أعزّ عليّ منك، إياك آمُر وإياك أنهى وبكَ أُثيبُ وبكَ أُعاقِب"(1). إنّنا نستلهم من هذا الحديث أنّ الله سبحانه وتعالى جعل العقل الأساس فيما يمكن للعقل أن يدركه من قاعدة القضايا ومن تفاصيلها وهذا ما ينبغي لنا أن ننطلق به في عملية إيضاح.

 

العقل: الطاعة الفطرية:

النقطة الأولى التي نريد أن نوضحها في مسألة العقل هي أنّ العقل يمثّل الطاقة الفطرية الروحية التي تنفتح على كل القضايا في منطق الفطرة بحيث أنّ الإنسان عندما ينفتح على القضايا بفطرته فإنّه يصل إليها وبذلك يلتقي بالحقيقة في موقع اليقين وهذا هو الحجّة لله على خلقه. وهناك حركة للعقل في موقع آخر وهي العقل الذي ينطلق من خلال الثقافة.. فأنتَ تقرأ ليتربّى فكرك من خلال ما قرأت، وتجرّب فيتربّى فكرك من خلال ما جرّبت، أو تعيش في بيئة معيّنة فتنشأ لك أحكام وإدراكات من خلال تلك البيئة. ومن الطبيعي فإنّ هذا العقل التجريبي الثقافي البيئي يترك مساحة بين اليقين وبين الظنّ، لأنّ الوسائل التي يحصل عليها لا تصل به إلى الحقيقة فلا يبقى هناك سؤال يفرض نفسه على العقل، ومن هنا فإنّنا نقول إنّنا عندما نواجه حكماً عقلياً قطعياً فإنّنا نؤول النصّ لمصلحته، حتى النص القرآني، وأمّا إذا واجهنا عقلاً ظنّياً فإنّنا نبقى معه ولكنّنا لا نفسّر أو نؤول النص لمصلحته بل نبقى معه في رحلة البحث عمّا يقودنا إلى اليقين، فهناك عقل ينطلق من الثقافة بحيث يكون صورة لما تثقّفت به.

المعقول والمألوف:

وربما يخطئ بعض الناس في فهم بعض هذه الأمور فيقول لك أن هذا غير معقول ولكنّك لو أثرت السؤال معه لرأيت أنّه يقصد من كلمة غير المعقول غير المألوف.

فبعض الناس يقول ليس من المعقول أن يكون هناك جنّ وليس من المعقول أن يكون هناك ملائكة وليس من المعقول أن تكون هناك حياة بعد الموت، وهذا المنطق خاطئ، لأنّك لو عرضت هذا على عقلك فإنّ العقل يقول لك أن ذلك ممكن، إلاّ أنّ غاية ما هناك أنه ليست لديك وسيلة حسّية لإدراك ذلك، "فكلّ ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان حتى يذودك عنه واضح البرهان" كما يقول ابن سينا.

فهناك فرق بين المعقول وبين المألوف، ذلك أنّ الناس قبل مئات السنين لو حدّثوا أنّه سيسمع مَن في المشرق مَن في المغرب، أو سيرى مَن في المشرق مَن في المغرب، أو أنّ الإنسان يختصر المسافة في عشرات الآلاف من الكيلومترات في ساعتين أو ثلاث ساعات، فمن تراه كان يصدّق ذلك؟ بل كانوا يعتبرونه خرافة، وكان الحديث عن الصعود إلى القمر أمراً غير معقول.

لذلك علينا أن نفرّق، أيها الأحبّة، فيما يصل إلى أفكارنا بين غير المعقول الذي يقول العقل إنّه مستحيل وبين غير المعقول لأنّ الإنسان لا يألفه، فمن الأفضل أن نستبدل كلمة غير المعقول بكلمة المألوف، وعلى ضوء هذا فإنّنا قد نلتقي بالإيمان بالغيب إذ ربّما يقول بعض الناس إنّ الإيمان بالغيب ليس عقلائياً لأنّنا لا نملك أية وسيلة للّقاء بالغيب ولاكتشاف الغيب ولمشاهدة ما في الغيب، هذا صحيح لو كانت القضية قضية وسائل نملكها، لأنّنا لو عرضنا على العقل أسئلة من قبيل: هل يمكن أن يكون هناك غيب؟ هل يمكن أن يكون هناك جنّة، وأن يكون هناك نار، وأن يكون هناك ملائكة وجنّ وما إلى ذلك؟ فإنّ العقل يقرّ بأنّ هذا ممكن وليس من الضروري أن كلّ شيء لا تحسّ به لا يمكن أن يوجد، فنحن لا نحسّ أشياء كثيرة بالمعنى المادي للحسّ، ولكنّنا نؤمن بها، ألاَ نؤمن أنّ لنا عقلاً؟! هل نمسك هذا العقل بأيدينا أو نشمّه أو نذوقه؟! إنّنا نؤمن بالعقل لأنّ آثار العقل تتمثّل لنا، وهكذا الإيمان بالله... فالله غيب، ولكنّنا ندرك وجوده من خلال إدراك هذا العالم لأنّه لا تفسير لوجود هذا العالم إن لم يكن هناك خالق له لا يحمل صفات هذا العالم من الإنسان والمادية وما إلى ذلك.

لهذا فإنّ الإيمان بالغيب ليس خلاف العقل، فالإنسان وإن لم يستطع الإحساس بالغيب لكنّه يملك الاستدلال على وجوده من خلال عقله تارةً ومن خلال ما جاء به الرسل الذين تثبت رسالتهم بالعقل تارةً أخرى.

لنرافق بعد هذا العرض الموجز كلمات الإمام الصادق (عليه السلام) في حديثه عن بعض المفردات في مسألة العقل.

العقل حجّة:

يقول (عليه السلام) "حجّة الله عل العباد النبيّ بما أوحى به إليهم" ليبلغه للناس "والحجّة فيما بين العباد" ليدركوا نبوّة النبيّ وليدركوا كثيراً من الحقائق، "وبين الله هو العقل" فهناك حجّتان: العقل هو الحجّة التي تدرك بها وجود الله وتدرك بها رسالة الرسول وتدرك بها الكثير من حقائق الحياة من خلال الفطرة العقلية الصافية التي تنفتح على الحقيقة من أقرب الطرق، والحجّة التفصيلية فيما بين الله وبين العباد وهو النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنّه يبلّغهم ما لا يملك العقل معرفته أو ما لا يملك العقل الخوض فيه من تفاصيل التشريع وما إلى ذلك ممّا لا يرفضه العقل في ذاته وممّا يدعو العقل للالتزام به من خلال ما يدركه من وجود الله ورسالة الرسول.

وعلى ضوء هذا فالإنسان المسلم لا بدّ أن ينطلق من عقله لمواجهة القضايا العامّة فيما يمكن أن يدركه عقله، وأن يرجع إلى النبيّ فيما أوحى الله إليه وفيما أراد أن يبيّنه فيما لا يملك العقل الخوض فيه إن من خلال تفاصيل الغيب أو عن طريق تفاصيل الشريعة.

إنّ العقل دليل المؤمن فإذا أردت أن تتحرّك في الحياة لتؤيّد موقعاً أو تنقض آخر، أو لتلتزم فكراً أو لترفض آخر فإنّ عليك أن تستنطق عقلك حتى يتحرّك بكلّ العناصر التي يملكها ليدلّك على الحقيقة في نهاية المطاف. ومن هنا نفهم أنّ الشخصية الإسلامية هي شخصية عقلانية.

وعندما ننطلق مع الإمام الصادق (عليه السلام) في حديثه عن العقل نرى أنّه يتحرّك في الأسلوب الذي يخاطب به الإنسان الناس، فلو كنت واعظاً مرشداً أو كنتَ قائداً أو كنتَ مثقّفاً بأعلى درجات الثقافة تملك العقل الكبير فكيف تخاطب الناس؟ هل تخاطبهم بمنطق المستوى الذي أنتَ فيه، هل تخاطبهم من خلال المفردات الثقافية التي تملكها، أو أنّ عليك أن تخاطبهم من منطق عقولهم؟!

إنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يقول "ما كلَّم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) العباد بكنه عقله"(1) يعني بحقيقة عقله، وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نُكلِّمَ الناس على قدر عقولهم" فلست حرّاً، إذا أردت من خلال حديثك مع الناس أن تعطيهم العلم أو أن ترشدهم أو أن تهديهم، لستَ حراً أن تستعرض عضلاتك الثقافية لتبيّن للناس أنّك الشخص المثقّف الذي لا يفهمه أحد لأنّ الناس أقلّ منه، بل لا بدّ أن تدرس عقول الناس من حولك! ما هو مستواهم الثقافي؟ ما هي الخلفيات التي تكمن وراء تصوّراتهم وأفكارهم؟ ما هي المؤثّرات التي يتأثرون بها فيما يقبلون عليه من الكلام وفيما لا يقبلون عليه؟ ما هو الأسلوب الأفضل لأن تصل من خلاله إلى عقولهم؟ فربّما تتحدّث مع عقولهم من منطق العاطفة، وربّما تتحدّث مع عقولهم بمنطق الترهيب والترغيب، وربّما تتحدّث مع عقولهم بالمنطق الفكري وبالمستوى الذي يملكونه من الفكر، وهذا هو الذي نواجهه في الأسلوب القرآن المتميّز بالحكمة.

إنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يحاول أن يحرّك مسألة العقل في هذه الدائرة، أي أنّك عندما تكون مرشداً حاول أن تدرس عقول الناس في كل مواقعها ومفرداتها وتحرّك كلامك بما يتناسب مع عقول الناس.

العلاقة بين العقل والأخلاق:

ثمّ نلاحظ أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يربط بين العقل وبين الأخلاق فيعتبر أنّ الإنسان كلّما كان سيّء الأخلاق أكثر كان ضعيف العقل أكثر، وكلّما كان حسن الأخلاق أكثر كان قوي العقل أكثر "أكملُ العباد عقلاً أحسنهم خُلُقاً" لأنّ العقل يقودك إلى أن تشعر بأنّك لست وحدك في هذا الكون، وأنّك لست الإنسان الذي يجمع كل صفات الكون وطاقاته، بل إنّك جزء من مجتمع صغير أو من مجتمع كبير هو مجتمع الإنسانية كلّها، ومن هنا فإنّ عليك أن تتعايش مع الناس وتنفتح عليهم من أجل أن تعطيهم ما عندك وتأخذ ما عندهم لتتكامل لك حياتك وليتكامل موقعك الاجتماعي مع الناس.

فمن العقل أن تفتح أخلاقك للناس بأن تكون الإنسان الذي يفتحون له قلوبهم، لأنّه يفتح لهم قلبه، والإنسان الذي يحبّه الناس لأنّه يعيش المحبة للناس، والإنسان الذي يرحم الناس ويقدّر ظروفهم ويواجه حاجاتهم كما يريد للناس أن يرحموه ويقدّروا ظروفه وحاجاته، أمّا إذا كنتَ أنانياً تختصر العالم في شخصك فأنتَ إنسان غير واقعي، وبالتالي غير عقلانيّ، لأنّ الإنسان الذي يتصوّر أن ليس هناك أحدٌ غيره فإنّه لا يتميّز بشيء من الفكر أو العقل.

وإذاً، فهناك عقل فكري ينطلق من خلال دراسة موقع الإنسان من الحياة ومن الناس، وهناك عقل عمليّ يحرّك الإنسان للسير وفقاً للأساليب والوسائل التي يمكن من خلالها للناس أن يتكاملوا معه ليحقّق أهدافه من خلالهم وليحقّقوا أهدافهم من خلاله، ولتحقّق الحياة معناها من خلال هذا التكامل بين الإنسان وأخيه.

العقل العبادي:

ثم نجد أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يناقش مسألة العبادة، فالمعروف عندنا أنّ أكثر الناس عبادة هو أكثرهم ثواباً وأكثرهم قرباً من الله، فمن يصلّي أكثر ويحجّ أكثر ويصوم أكثر فهو المقرّب عند الله أكثر، ولكن للإمام الصادق كلاماً آخر، حيث يربط حجم الثواب بحجم العقل فيقول: إذا كنت تملك عقلاً واعياً تعيش فيه عمق الإيمان بالله ووعي الطاعة لله وثقافة كلّ المسائل العبادية، فإنّ ثوابك سيرتفع كثيراً وإن كانت عبادتك قليلة، ولو قضيت العمر كلّه في العبادة وكنت إنساناً ضيّق الأُفق والفكر لا تفهم القضايا في آفاقها الواسعة فإنّ عبادتك لن تستطيع أن تقرّبك إلى الله.

فعندما تريد أن تعبد الله عقّل روحَ العبادة في نفسك، وعقّل حركة العبادة في وجدانك. وتعالوا إلى الإمام الصادق لنستمع إليه وهو يحدّثنا عن ذلك:

فعن اسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "قلت له: جعلت فداك إنّ لي جاراً كثير الصلاة كثير الصدقة كثير الحجّ فقال: يا اسحاق كيف عقله، قلتُ له: جعلت فداك ليس له عقل، فقال: لا يرتفع ذلك منه" لأنّ قيمة العبادة ليست في معناها الماديّ إنّما في معناها العقليّ، أي الوعي والانفتاح والروح الذي يقرّب الإنسان إلى الله.

وهناك حديث آخر ورد في قصّة عن أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، إذ يقول (محمد بن سليمان الديلمي) عن أبيه، قال: "قلت لأبي عبد الله فلان مَنْ عبادته وفضله ودينه ـــ أي لا يرقى إليه أحد ـــ فقال: كيف عقله، فقلت: لا أدري، فقال: إنّ الثواب على قدر العقل، ثم قال: إنّ رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر خضرة نضرة كثيرة الشجر ظاهرة الماء، وإنَ مَلَكاً من الملائكة مرَّ به، فقال: يا ربّ أرني ثواب عبدك هذا، فأراه الله تعالى ذلك فاستقلّه المَلك، فأوحى الله إليه أن اِصحَبهُ، فأتاه المَلَك في صورة إنسيّ، فقال له: مَن أنت: قال: أنا رجل عابد بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان، فأتيتك لأعبد الله معك، فكان معه يومه ذاك، فلما أصبح قال له المَلَك: إنّ مكانك لَنَزِه وما يصلحُ إلاّ للعبادة، فقال له العابد: إنّ لمكاننا هذا عيباً، فقال له: وما هو؟ قال: ليس لدينا بهيمة، فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع، فإنّ هذا الحشيش يضيع، فقال له المَلَك: وما لربّك حمار؟! فقال: لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش، فأوحى الله إلى الملك: إنّما أُثيبُه على قدر عقله"(1)، أي أنّ فهمه للكون وللحياة ضيّق وبالتالي فإنّ فهمه لله وللعبادة وللمعاني الروحية ضيّق، والله سبحانه وتعالى ينظر إلى قلوبنا ولا ينظر إلى وجوهنا ولا إلى أجسامنا.

وهناك حديث آخر يؤكّد الفكرة ينقله الإمام الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "إذا بلغكم عن رجل حسن حال فانظروا في حسن عقله فإنّما يجازى بعقله".

ثم نأتي إلى الوسواسيّين بالطهارة والنجاسة وفي الصلاة وفي الكثير من أعمالهم العبادية، عن عبد الله بن سنان، قال: "ذكرتُ لأبي عبد الله رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة، وقلت: هو رجل عاقل، فقال أبو عبد الله: وأيّ عقل له وهو يطيع الشيطان، فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟ فقال: سَلْهُ: هذا الذي يأتيه من أي شيءٍ هو فإنّه يقول لك من عمل الشيطان"!.

وإذاً، فمن العقل أن يكون الإنسان متوازناً في شكّه كما يكون متوازناً في حياته، فإذا حصل لك شكّ فعليك أن تناقش هذا الشك لتحوّله إلى شكّ عقلائيّ.

التواضع من العقل:

ثم ننطلق مع الإمام الصادق (عليه السلام) إلى الذين يعيشون ضخامة الشخصية فيعتبرون أنفسهم بأنّهم الأعلى والأفضل والأزهد ممّا يمثّل إعجاب الإنسان بنفسه، فعن الصادق عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله"(1)، لأنّ الإنسان المعجب بنفسه إلى درجة مرضيّة هو إنسان لا يفهم نفسه، فإعجابك بنفسك ينطلق من اعتقادك بأنّك تملك الكمال كلّه، وأن ما تملكه لا يملكه الآخرون، وهذا أمرٌ ليس واقعياً لأنّك لو حدّقت بالناس لرأيت أنّ الكثير ممّا يملكه الناس لا تملكه أنت، وأنّ البعض ممّا تملكه لا يملكه الناس، فإعجابك بنفسك يعني عدم فهم الحياة في تنوّع طاقات الناس.

الدعاء ليس عقلاً:

ثم يفرّق الإمام (عليه السلام) بين العقل وبين الدهاء والشيطنة: "قلت، قلت له: ما العقل؟ قال: ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان، قال: قلت: ما الذي كان مع معاوية؟ فقال: تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"! فالعقل هو الذي يقودك إلى السعادة، وهو الذي يقودك في إرشاداته الفكرية والعملية في مسائل الحسن والقبح إلى أن تربح مصيرك ولاسيّما المصير الأخرويّ، فكلّما كنتَ أكثر عقلاً كلّما كنت أكثر طاعة لله سبحانه وتعالى، وعبدته أكثر واكتشفت الجنّة، لأنّ قيمة العقل فيما يكشف عن حسن الأشياء وقبحها لاسيّما الأمور التي تتّصل بمصير الإنسان، ومن الطبيعي فإنّ الجنة والنار هما في القمّة من تلك الأمور التي لا بدّ للعقل أن يتحرّك للوصول إليها.

فحركة معاوية السياسية، ليست حركة العقل كيفما كان، فقد تدير الأمر بالحيلة التي ليس لها واقعية، أو قد تديره باللّف والدوران ممّا لا يؤدّي إلى نتيجة حقيقيّة، فمسألة العقل ليست مسألة تتّصل بالوسائل ولكنّها تتّصل بالوسائل مقارنة بالأهداف، فإذا كان الفكر وسيلة للغاية القبيحة فإنّه لا يكون عقلاً، فقد تسميه دهاءً أو شيطنةً أو أيّ شيء، ولكنك لا تستطيع أن تسميّه عقلاً، وأمّا متى يمكنك أن تسميه عقلاً، فعندما يقودك إلى المصير الطيّب بأن تكسب رضوان الله وجنّته.

 

 

العقل حركة عمل:

بناءً على ما تقدّم، فإنّ علينا أن نتعرّف على حركة العقل في مفهوم الإمام الصادق (عليه السلام) الذي هو المفهوم الإسلاميّ، فالعقل ليس حركة تجريدية في الفكر وإنّما هو حركة ينطلق بها الفكر في العمل والأسلوب والغاية ليصل إلى ما يرضي الله سبحانه وتعالى، لتكون حياته عقلاً في طاعة الله ولتكون نهايته في نعيم الله، فمن كان عاقلاً كان له دين ومن كان له دين دخل الجنّة {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}(1)، وفي ذلك فلنفهم كيف نعيش مع أئمّتنا هذه المفاهيم الأصيلة لتكون لنا زاداً في كل حياتنا مع أنفسنا ومع الله والآخرين.

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الخامسة

7/ ذي القعدة/ 1417 هــ(*)

الرفقُ

 

"الرفق زينةٌ.. في التوعية والتعامل.. والصحبة.. والمعيشة"

 

 

 

           

 

 

 

 

 

مفهوما الرفق والعنف:

هناك بعض المفاهيم الحركية الأخلاقية في الجابين السلبي والإيجابي تتّسع لأكثر من موقع في حياة الإنسان، ومن هذه المفاهيم "الرفق" و"العنف".

فقد اعتاد الناس أن يتحدّثوا عن هذين المفهومين في الأسلوب العملي للدعوة، وفي الأسلوب العملي في مواجهة المشاكل التي تحدث بين الناس.

وعلى ضوء ذلك، تقف الآية التالية، لتحدّد أسلوب الرفق الذي يحوّل العدوّ إلى صديق، في مقابل أسلوب العنف الذي يفقد فيه الإنسان صديقه، وربّما يحوّله إلى عدوّ، وذلك في قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(1)، ولكنّنا عندما ندخل في تراث أهل البيت (عليهم السلام) ممّا نقلوه عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وممّا استلهموه من كتاب الله وسنّة رسوله، نجد أنّ مسألة الرفق والعنف لديهم من المسائل التي تتّسع لطريقة الإنسان في التعامل مع الإنسان الآخر.

الرفق في التوعية:

ففي جانب التوعية ـــ مثلاً ـــ عندما يكون إنسان في المرتبة العليا من الثقافة ويكون إنسان آخر أقل مرتبة منه، فإنّ الكبرياء العلمي قد يدفع الأول ليسقط الثاني في نظرته إليه وفي تعامله معه، ويبتعد عن محاولة النزول إلى مستواه من حيث الأسلوب والتعامل.

هنا نجد الإمام الصادق (عليه السلام) في بعض كلماته يعالج هذه الظاهرة، فيقول وهو يخاطب بعض أصحابه: (فلا تسقط من هو دونك فيسقطك مَنْ هو فوقك)(2) فهذه الظاهرة تمثّل عدوى اجتماعية، لأنّ العرف الاجتماعي يتحرّك بين الناس ليسقط الأعلى الأدنى في حين أنّه ليس هناك (أعلى) بالمطلق، فهو إذا كان شخصاً أعلى من شخص آخر، فإنّه ـــ في الوقت نفسه ـــ أسفل من شخص آخر أيضاً، ذلك لأنّ الثقافة نسبية.

 

فإذا كنت تُسْقِط من هو دونك على أساس أنّك أعلى منه، فسوف يُسقِطك مَنْ هو فوقك على نفس الأساس، ثمّ يوجّه الإمام الصادق (عليه السلام) الإنسان الذي هو بهذه المرتبة كيف يتعامل مع الإنسان الذي هو أقل منه مرتبة في مسألة التوعية والهداية والتوجيه، فيقول: (إذا رأيت مَن هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق) لاحظوا أنّ الإمام استعمل كلمة (برفق) أي أن تعمل على أساس أن تدرس عقله فتعطيه من عقلك بما يتناسب مع وعي عقله، وأن تدرس ثقافته فتعطيه من ثقافتك الأسلوب الذي يمكنه أن يستوعب هذه الثقافة، فلا تفقد نفسك أمامه، ولا تفقد مستواك معه، ولكن حاول أن تتعامل معه تعامل الإنسان الذي يريد أن يصعد الإنسان الآخر إلى مستواه برفق وأناة وعطفٍ وحنان، فكلمة "الرفق" تختزن في داخلها معنى هذا العطف الإنساني الذي ينفتح فيه إنسان على إنسان.

ويقول الإمام مضيفاً (ولا تحملنّ عليه ما لا يطيق فتكسره) فلا تتكلّم معه لغة لا يفهمها، ولا تحاول أن تثير معه المطالب التي لا يستطيع أن يعيها، لأنّك إذا حمّلته ما لا يطيق، فستهدم وعيه، وستشعره بالإحباط وأنّه في موقع اليائس الذي يفقد الثقة بنفسه (فإن مَن كسر مؤمناً فعليه جبره) فأنتَ تتحمّل مسؤولية النتائج السلبية الناجمة عن هذا الأسلوب الذي استعملته معه.

الرفق بالحيوان:

وهكذا نجد أنّ الحديث عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتّجه إلى أن يكون الإنسانُ رفيقاً حتى بالحيوان، بحيث أنّك عندما تتعامل مع الحيوان، فإنّ عليك أن تدرس حاجاته وطاقته، لتعطيه ما يحتاج ولتتعامل معه بحجم طاقته.

ففي الحديث عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "إنّ الله يحبّ الرفق ويعين عليه، فإذا ركبتم الدوّاب العجاب "الهزيلة" فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض مجدبة فانجُ عنها لأنّ الحيوان لا يستفيد منها شيئاً ـــ وإن كانت مخصبة فأنزلوها منازلها ـــ حتى تأكل منها وتستمتع بها"(1).

فإذا كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث في هذا الحديث عن إنزال الحيوان وإراحته وجعله يتجدّد في نشاطه بأن ينزل في الأرض الخصبة حتى يأكل منها ويكتفي فإنّنا نستوحي من ذلك أنّ الله يريد منّا الرفق بالحيوان، فلا يجوز لنا أن نحمّله أكثر ممّا يتحمّل، ولا يجوز لنا أن نضربه من دون حاجة إلاّ في الحالات الاضطرارية، وعلينا أن نعامل الحيوان كمخلوق ذي روح وكمخلوق يتألّم ويحزن ويفرح ويرتاح ويتعب.

وفي بعض سيرة الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام) أنّه كان راكباً على ناقته فامتنعت عليه، فأهوى عليها بالسوط ليضربها، ثمّ قال (آه.. لولا القصاص) فكأنّه يعتبر أنّه إذا ضرب الناقة في غير حاجة، فإنّ الله سيقتص منه.

الرفق بالرفيق:

ونجد كذلك أحاديث أخرى عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تتحدّث في قضية المتصاحبين في الطريق، فقد يخدم أحدهما الآخر، فبحسب هذا الحديث يقول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "ما اصطحب اثنان إلا كان أعظمهما أجراً وأحبُّها إلى الله عزّ وجلّ أرفقهما بصاحبه"(1) فالإنسان الذي يرفق بصاحبه لا يتعسّف في تعامله معه، ولا يحاول أن يلقى كلّه عليه، بل يبادر إلى أن يخفّف عنه بخدمته ورعايته له، فيكون بذلك الأعظم أجراً والأكثر حبّاً من الله.

الرفق بين الزوجين:

وإذا كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث عن الصاحبين فقد نستطيع أن نجعل القضية تمتد إلى الزوجين، فأيّة صحبة أكثر من صحبة الزوجين لبعضهما، فهذا الحديث يوحي بأنّ الزوج والزوجة عندما يعيشان في البيت فإنّ أعظمهما أجراً عند الله أرفقهما بصاحبه، وإنّ أحبّهما إلى الله أرفقهما بصاحبه.

فعلى الأزواج الذين يعتبرون أنفسهم في الموقع الذي يجب فيه على الزوجات أن يتعبن ليرتاحوا وأن يتألّمن ليسرّوا، وأن يسهرن ليناموا، بحيث يرى الزوج أنّ ذلك من واجبات زوجته، فقد يحصل على بعض الراحة والسرور والطمأنينة، لكنّه يخسر من الأجر الكثير عند الله تعالى، ويخسر الكثير من حبّ الله إذا كانت زوجته أرفق به.

ولذلك، فإذا رأى الزوج أنّ زوجته ترفق به، فإنّ عليه أن يبادلها رفقاً برفق ورعاية برعاية ومحبّة بمحبّة حتى ينطلقا معاً ليكون كلٌّ منهما رفيقاً بصاحبه على محبة الله وعلى أمل الأجر منه.

وهناك حديث عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال لبعض أصحابه وقد دار بين هذا الرجل وبين أشخاص آخرين نزاع عنُفَ فيه هذا الرجل. فقال: (ارفق بهم) فهؤلاء يملكون طبعاً حاداً وأسلوباً سيّئاً بحيث قد يكفرون في حالة الغضب وقد يبتعدون عن الخطّ، فإذا أردت أن تتعامل معهم وأن تتحاور معهم (فارفق بهم، فإن كفر أحدهم في غضبه، ولا خير فيمن كان كفرهُ في غضبه)(1) فإنّ الغضب يخرجك عن طورك وعن خطّك وإيمانك، لأنّك إذا فعلت ذلك كنت مثلهم، أي مثل هؤلاء الذين كفرهم في غضبهم.

الخطّ العام للرفق:

وتنطلق الأحاديث بعد ذلك لتتحدّث عن الخطّ العام للرفق كقيمة إسلامية رائعة تجعل الإنسان قريباً إلى الله وإلى الناس، فعن الصادق (عليه السلام): (من كان رفيقاً في أمره، نال ما يريد من الناس)(2) وعن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "إنّ الرفق لم يوضع على شيء إلاّ زانه ولا نزع عن شيء إلاّ شانه"(3) ويقول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "إنّ في الرفق الزيادة والبركة ومن يحرم الرفق يحرم الخير"(4) فإذا كان الرفق في عقلك وقلبك وحياتك وأسلوبك مع الآخرين، فإنّه يعطيك الخير كلّه في الدنيا والآخرة.

وهكذا نجد أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يتحدّث عن الرفق في تقدير المعيشة، أي أن تكون رفيقاً في مصارفك واقتصادك فيما أعطاك الله من مال، حيث يقول (أيّما أهلِ بيتٍ أعطوا حظّهم من الرفق فقد وسّع الله عليهم في الرزق) والرفق في تقدير المعيشة بأن تبذل ما أعطاك الله بقدر حاجاتك ولا تحاول أن تقفز فوقها لتسرف وتبذّر، فعقلية الرفق التي هي عقلية الاقتصاد خير من السعة في المال، إذ ما قيمة مال تبذره وتسرف فيه من دون أن يعطيك حاجاتك.

وفي نهاية المطاف (والرفق لا يعجز عنه شيء) لأنّ الرفق يدرس الأمور ويخطّط لها ويعطي كل حاجة تريد (والتبذير لا يبقى معه شيء إنّ الله رفيق يحبّ الرفق)(1)، فإذا كان الله يحبُّ الرفق، وهو يحبُّ الذين يحبّون ما أحبَّ ويعملون بما أحبَّ، فهل لنا أن نعيش هذه القيمة الأخلاقية في أنفسنا وبيتنا ومع الناس الآخرين وفي أسلوبنا العملي والحركي مع الإنسان ومع الحيوان ومع الحياة، إنّنا بذلك نستطيع أن نصنع الإنسان الذي يعيش مع الإنسان الآخر بكلّ مسؤولية وبكلّ محبّة وانفتاح.

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة السادسة

12/ ذي القعدة/1417 هـــ (*)

 

في ذكرى مولد الإمام الرضا (عليه السلام):

الشخصية الحواريةُ.. القرآنية

 

"كان الإمام الرضا (عليه السلام) المحاور الذي يدخل في حوار مع كلّ الناس الذين يختلفون معه، ولا يشترط شرطاً معيناً في شخصية المحاور أياً كان توجهّهُ الديني أو الفلسفي".

 

 

 

 

مناسباتنا:

قبل يومين استقبلنا ذكرى مولد الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام)، ونحن في كلّ مناسبة من مناسبات أئمّتنا الذين نقتدي بهم وندين الله بولايتهم لا بدّ لنا من أن لا نستهلك الكلام، بل علينا أن نتحرّك معهم فيما قالوه وفيما عملوه لنشعر أنّهم يعيشون معنا في حياتنا، لأنّ المسألة ليست في أن نبقى في التأريخ لنستغرق فيه، فالتأريخ، حتى تأريخ الأنبياء والأولياء هو الدرس والعبرة واستلهام ما يبقى منه لما يتحرّك في الحاضر، لأنّ الله لا يريدنا أن ننسى مرحلتنا، بل يريد لنا أن نعيش هذه المرحلة بكلّ وعي وبكلّ مسؤولية، أمّا المراحل التي تقدّمتنا فهي مراحل الناس الآخرين ويبقى منها للحياة ما يمثّل امتداد الحقيقة في الحياة، ويموت منها ما كان الزمن إطاراً له.

الشخصية الحوارية:

وعلى ضوء ذلك، فالإمام الرضا (عليه السلام) هو الإمام الثامن من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، عاش إمامته كما عاش آباؤه، وانفتح الناس عليه في خطّ الولاية والإمامة بما انفتحوا به على آبائه (عليهم السلام). ونحن نريد أن نلتقط من حياته بعض العناصر البارزة في شخصيّته، وبعض الكلمات التي تركها للإنسان وللحياة. أمّا الجانب البارز من شخصيته فهو أنّه كان المحاور الذي يدخل في حوار مع كلّ الناس الذين يختلفون معه، ولا يشترط في حركته الحوارية شرطاً معيّناً في شخصية المحاور، فليكن ملحداً، أو بوذيّاً أو يهودياً أو نصرانياً، أو ليكن سائراً في الخطوط الفلسفية التي كانت قد بدأت تدخل في الواقع الإسلامي لاسيّما في زمن (المأمون) الذي عاصره الإمام، فلقد كان المأمون يجمع الناس إليه من سائر أرباب المقالات والمتكلّمين، فكان الإمام (عليه السلام) يجلس إليهم ويخاطبهم من موقع المعرفة الشاملة بكلّ أفكارهم، فهو يعرف أفكارهم ومقالاتهم، ويعرف كيف يفكّرون، ولذلك كان يحاورهم من موقع الإنسان المنفتح على كلّ التيارات الفكرية في عصره، ومن هنا فإنّهم كانوا يعجبون ويفاجأون بأنّه يعرف ما يعرفون ممّا يتحرّكون فيه، وكان يبادرهم بالحجّة والبرهان، فلا يملك أحد أن يثبت أمامه، هكذا تقول كتب السيرة.

ونحنُ أمام شخصية الإمام الحواريّ الذي ينفتح على الإنسان كلّه مهما اختلفت أفكاره وآراؤه، نحن في عصر لا يملك فيه الإنسان عندما يريد أن يفتح الدرب إلى فكره إلاّ أن يكون الحوار هو الخطّ الذي يتحرّك فيه، ولا بدّ للإنسان أن يطّلع على حركة الفكر في عصره وعلى اتجاهات الواقع في سياسته واقتصاده وأمنه وسائر شؤونه، لأنّ الإنسان إذا لم يستطع أن يفهم عصره فإنّه لا يستطيع أن يدخل هذا العصر، ولا يستطيع أن يحاور الناس الذين يعيشون في عصره، فعندما يكون فكرك فكر الناس الذين كانوا يعيشون قبل مئات السنين فأنت من جيل مضى لا تستطيع أن تحاوره الآن لأنّه مات، أمّا الجيل الذي يعيش معك ولم تعش فكره ولا تطلُّعاته ولا اتّجاهاته فكيف يمكن أن تتفاهم معه؟!

وقد ورد في الحديث عن الإمام الكاظم (عليه السلام): "وجدتُ علمَ الناسِ كلّهم قد اجتمعَ في أربع أولها: أن تعرفَ ربّك، والثانية: أن تعرف ما صنع بك، والثالثة: أن تعرف ما أراد منك، والرابعة: أن تعرف دينك، وأن تعرف ما يخرجك من دينك"(1)، وهذا يعني أن تعرف كل الاتجاهات التي تتحدّى دينك فكراً وشريعة ومنهجاً وحركة.

مسؤوليتنا إزاء أئمّتنا:

إنّ مسؤوليتنا عندما نطلّ على حياة الإمام الرضا (عليه السلام) وحياة الأئمة من قبله ومن بعده هي أن نأخذ الدرس، فإنّنا نجد أنّ هذا الطابع الحواري الذي كان الإمام الرضا (عليه السلام) يحاور به كلّ الناس هو طابع الأئمة، وقد تعلّموه من سيّدهم وجدّهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي كان يحاور كل الناس، وقد نقل القرآن لنا كيف يعلّمه الله تعالى أن يكون محاوراً في أسلوب الحوار وحركته، والقرآن هو معلّمُ الرسول كما هو معلّم الأئمة وكما هو معلّم كل الناس، لأنّ الله هو الذي خطَّ الطريق للجميع. فلا بدّ أن نفهم هذا المعنى في حياة الإمام الرضا (عليه السلام) لننقله إلى حياتنا.

 

 

الشخصية القرآنية:

الطابع الثاني، أنّه كان لا يُسأل عن مسألة إلاّ ويجيب عنها، وكانت أجوبته انتزاعات من القرآن بحيث كان لا يجيب بجواب إلاّ ويجعل القرآن الأساس الفكري في مضمون الجواب ليحقّق نقطتين: الأولى، أن يربط الناس بالقرآن ليتعلّموا كيف يتدبّرون القرآن، ويفكّرون فيه جيداً، حتى يتعمّقوا في معانيه، وحتى ينفتحوا على آفاقه، فإذا نابتهم نائبة أو أشكلت عليهم مشكلة، أو انفتح لهم درب لا يعرفون مداه، لجأوا إلى القرآن ليروا النور فيه.

والثانية: هي أن يعطي الفكرة بأنّ في القرآن ـــ لو وعينا القرآن حقّ وعيه ـــ تبياناً لكلّ شيء ممّا نحتاجه، ونحن هنا لا نتحدّث عن تبيان الكيمياء أو الفيزياء وما إلى ذلك من العلوم، فليس للقرآن دخل في ذلك، وإن كان يشير إلى بعض اللمحات في هذه المجالات، لكنّ القرآن ليس كتاباً يتحدّث عن علوم البيئة، وإنّما يتحدّث عن الإنسان وعمّا ينفتح بالإنسان على ربّه وعلى واقعه وعلى نفسه.

التواضع الرسالي والعلمي:

وهذا ما ينبغي لنا ـــ أيّها الأحبّة ـــ أن نتعلّمه من الإمام الرضا (عليه السلام) وهو أن نجيب الناس في كلّ ما يسألونه، أن لا كون هناك ثقافة خاصة للنخبة وثقافة أخرى عامة للناس، فالإسلام كلّه للناس فلقد أراد الله لهم أن يعوه كلّه في عقدته وفي فلسفته وفي شريعته وفي منهجه وفي أسلوبه الحركيّ، هو للناس كافّة، لأنّ الله أرسل رسوله بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}(1) ولذلك فلا بدّ أن نعطي الحقيقة كلّها للناس، وإن كان المفروض أن يُعطى كل إنسان بحسب عقله وبحسب ثقافته وبحسب إمكاناته، أمّا أن نقول هذا أمر ينبغي أن لا نعطيه للناس فهذا للخاصة وذاك للعامة، فمن الذي جعل إسلاماً للخاصة وإسلاماً للعامة؟! في حين نجد أنّ القرآن يخاطب كل الناس وأنّ النبيّ تحدّث مع كل الناس، وربّما يتفذلك بعض الناس فيحدّثونك أنه لا بدّ لمن يملك علماً كبيراً عميقاً واسعاً أن لا يتحدّث إلاّ بالمستوى الذي يتناسب مع مستواه، بينما لو قرأنا القرآن وقرأنا الآيات التي يسأل فيها الناس عن أشياء بسيطة نرى أنّ الله يجيب عليها كلّها {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}(1)، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ}(2)، وهذا معناه أن تجيب الناس لا من خلال ما أنت فيه من علم لتتحدّث عن مستوىً لا بدّ أن يطلّ على الناس من فوق، بل أن تتحدث للناس كما كان يتحدث الأنبياء "إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناسَ على قدر عقولهم"(3)، وفي الحديث "ما كلّم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) العباد بكُنهِ عقله قطُّ"(4)، إنّ عقله سيد العقول، ولكنه، كما يصفه أصحابه، "كان فينا كأحدنا"، يتحدّث معهم كما يتحدّثون مع بعضهم، وكان يفكر معهم عندما يشاورونه ويشاورهم، فعلينا أن نأخذ من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن أبناء رسول الله الأئمّة (عليهم السلام)، أن نأخذ منهم هذا التواضع الرسالي، وهذا التواضع العلميّ، وهذه الرسالية المنفتحة على الإنسان كلّه، هذا ما نتعلّمه منه بأن ننفتح على كلّ الأسئلة، فلقد أحصي من أجوبة مسائله ثمانية عشر ألف مسألة، وكان ينتزع ذلك من القرآن. وعلينا أن ننفتح على القرآن ليكون أساس عقيدتنا وأساس الخطوط العامة في شريعتنا، وإذا انطلقنا إلى السنّة فعلينا أن نجعل القرآن هو الحاكم عليها "كلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"(5)، "ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالَف كتاب الله فذروه"(6)، ولعلّنا إذا انفتحنا على القرآن أولاً وأخذنا أصول العقيدة منه واستلهمنا الخطوط العامة للشريعة منه، وأخذنا المفاهيم العامة للحياة منه، عند ذلك يمكن أن نفهم الأحاديث فهماً آخر، لأنّ القرآن هو الذي يضيء للحديث معناه {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ}(7).

تحمّل المسؤولية:

وكان طابع الإمام (عليه السلام)، أنّه تحمّل المسؤولية عندما خاطبته حتى في الظروف والأجواء التي كان لا يرى فيها انسجام المسؤولية مع الخطّ الذي ارتضاه لنفسه من حيث ما ارتضاه الإسلام له، وهذا ما ينبغي أن نستوحيه بأن يشعر كلّ واحد منّا عندما يعيش حياته وعندما تخاطبه المسؤولية أن يدرس خطوطها، وأن يدخل في عملية مقارنة بين حركة المسؤولية وبين خطّها العمليّ والفكريّ، فإذا لم يجد هناك في تحمّله للمسؤولية أيّ انحراف عن الخطّ وأي تشريع لما يضادّ الخطّ، فإنّ عليه أن يتحمّلها لأنّنا ـــ أيّها الأحبّة ـــ إذا لم نستطع أن نتحمّل المسؤولية كلّها لحلّ مشكلة هنا وللقيام بدعوة هناك ولتوسعة الساحة في هذا المجال أو ذاك، إذا لم نستطع ذلك فالعشرون بالمائة مسؤوليتنا والثلاثون بالمائة مسؤوليتنا، أمّا قرار المائة بالمائة وإمّا لا شيء فموقف غير صحيح، لأنّ الأنبياء والأولياء لم يملكوا المائة بالمائة في كل تاريخ النبوّات، فلقد كانت هناك فرصة للدعوة بنسبة (20%) وللحركة بنسبة (10 أو 20 أو 30%) وكان الأنبياء يتحمّلون مسؤوليتهم في ذلك، وكانوا يدارون الناس لا مداراة النفاق، فهم أعظم من أن يقتربوا م ذلك، ولكن مداراة الواقع من خلال فهمه والتحرّك مع شروطه ومع عناصره الموضوعية.

أهمية التفكير الواقعي:

أيّها الأحبّة، إنّ مشكلة الكثير من الناس أنّهم يفكّرون تجريدياً، ولذلك يبتعدون عن الواقع، في حين أنّ الله عندما أرسل النبوّات كان يعلم أنّها لن تحقّق رسالتها في الواقع بنسبة (100%) فلربّما تنطلق بعض النبوّات لتثير الفكرة وتنطلق النبوّات الأخرى لتغرس غرسة صغيرة هنا وغرسة أخرى هناك، فيما بعض النبوّات تحاول أن تطلق حركة هنا وحركة هناك، وقد يبلغ بعضها الآخر النتائج المرجوّة ليتطلّع الناس إليها، تماماً كما هو النور، حتى يستلهموها ويعيشوها وحتى تتحرّك ظروفهم باتجاهها.

لذلك لا تفكّروا عندما تنطلقون إلى أهدافكم في الــ 100%، لتكن الــ 100% طموحاتكم، ولكن ليكن الواقع فيما يخضع له من حركة مسؤوليّتكم بحسب ظروفه وعناصره، وليكن اتجاه حركتكم أن تبلغوا القمّة، ولكنك إذا كنت تفكّر بالقمّة فقد تستطيع أن تصعد إلى بعض مراحلها، أمّا إذا لم تكن تفكّر بالقمّة فإنّك تبقى في السهل، إنّ حلم القمة يعطيك الكثير من العزم والإرادة والتطلّع، ولكن إذا كنت تعرف أنّك لن تبلغها فلا تتوقّف وحاول أن تقترب منها:

فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلَهم        إنّ التشبّه بالكرام فلاحُ(1)

فإذا لم تستطع أن تكون رسول الله ولن تستطيع، فكن قريباً إلى سيرته، قريباً إلى سنّته، قريباً إلى روحه، قريباً إلى انفتاحه على ربّه، قريباً إلى محبّته للناس، قريباً من أسلوبه، وعند ذلك قد تكونون رسول الله بنسبة الواحد بالمائة أو العشرة بالمائة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(1)، خذوا منه ما تستطيعون، وخذوا منه ما تتحرّكون فيه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} للجادّين في دينهم، وفي حركتهم، وفي هدفهم، {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}، لأنّ من ذكر الله فإنّه لا شكّ سيذكر رسول الله وأولياء الله ورسالة الله، سيحاول أن يسير في خطّ الرسالة والرساليين.

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة السابعة

21/ ذي القعدة/1417 هـــ (*)

 

في الذكرى الرضوية أيضاً:

الارتفاع بإنسانية ومسؤولية الإنسان

 

"عندما تكون ممتلئ العقل بالعلم النافع وممتلئ القلب بالعواطف الطيّبة وممتلئ الحركة بالنشاط المسؤول فأنت الكبير وإن كنت خاملاً من الشهرة".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كنّا نتحدث في ذكرى الإمام الرضا (عليه السلام) عن بعض ملامح شخصيّته من أجل أن تدخل هذه الملامح في تكويننا العقلي والعملي، لأنّ دور الأئمّة في حياتنا هو أن نتمثّلهم فكراً وعاطفة وحركة ومنهجاً للحياة. ونحن في هذا الحديث نريد أن ننفتح على الإمام الرضا (عليه السلام) في بعض كلماته التي يؤصّل فيها بعض المفاهيم المتّصلة بحياة الإنسان في نظرته إلى الله وفي علاقته بالناس وفي انفتاحه على مسؤولياته في الحياة.

حدّ التوكُّل:

ولذلك فنحن مع الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) ليحدّثنا من وراء التاريخ وهو الحاضر فينا بما كان يحدّث أصحابه، فلقد سأله أحد أصحابه وهو (الحسن بن الجهم) قال: سألتُ الرضا (عليه السلام) جعلت فداك ما حدُّ التوكّل؟ قال: "أن لا تخاف مع الله أحداً" فكأن هذا السائل يقول، إنّ الله يحدّثنا عن التوكّل، ونحن نواجه الكثير من قضايا الحياة مع هذا الإنسان الذي يهدّدنا، ومع ذاك الإنسان الذي يخوّفنا، فكيف يكون التوكّل على الله في حركتنا في الحياة أمام الأخطار والضغوط والتهديدات؟

هنا يركّز الإمام (عليه السلام) أن قضية التوكّل هي قضية معرفتك بالله مقارنةً بمعرفتك بالإنسان وبمعرفتك بالأشياء، فأنتَ عندما تتحرك في معرفتك بالله عقلياً فإنّك تجد أنّ الله هو خالقُ كل شيء، وهو مدبّرُ كل شيء، وأنّه المهيمن على الأمر كلّه، وأنه يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء، وأنّه على كل شيء قدير، فإذا استوعبت هذه المعرفة بالله سبحانه وتعالى، فإنّك عند ذلك لا تشعر بوجود أحد مع الله، فالوحدانية هناك تجعلك تستغرق في وجدانك العقليّ بحيث لا تتصوّر في الوجود إلاّ الله، أما الآخرون، كلّ الآخرين، فإنّك تنظر إليهم على أنّهم مخلوقات الله وأنّ قدرتهم هي من خلال ما أعطاهم من قدرة وأنّ علمهم هو من خلال ما أعطاهم من علم، وأنّ حركتهم تنطلق من خلال ما هيّأه لهم من وسائل الحركة، وعلى ضوء هذا فإنّك عندما تتوكّل على الله، تفرّغ عقلك وقلبك وإحساسك وشعورك من الخوف من أي أحد وعندما تتطلّع إلى الله وتخاف من عباد الله فمعنى ذلك أنّك تبتعد بعباد الله عن الله.

 

تحريك القدرات:

وقد يقول قائل أنّ مسألة الخوف هي مسألة القدرة التي نملكها والتي يمتلكها الآخرون فقد يملكون قدرات ممّا أعطاهم الله سبحانه وتعالى، ولا نملك مثل هذه القدرات، كما إنّ مسألة الخوف تتحرّك في الجانب الذي يملكونه من القدرة زائداً على ما نملك نحن من القدرة، فكيف لا نخاف؟

إنّ المسألة المطروحة هنا هي ما نستوحيه من هذه الكلمة ومن الكلمات الأخرى، ذلك أنّ الله يريد لك أن تتحرّك بقدرتك، فالتوكّل لا ينطلق من تجميد قدراتك، ثم إذا وصلت إلى نهاية الطريق وجاءتك تهاويلُ نقاط ضعفك، أو تهاويلُ الشيطان الذي يخوّفك توكلت على الله تعالى وقلتَ "يا ربّي أنت القادر على كلّ شيء والمهيمن على كل شيء، وقد استعملت كل الأسباب التي وضعتها بين يديّ في حماية نفسي، وفي حماية كل قضاياي، هذا ما أستطيع وأنا أتوكّل عليك فيما لا أستطيع، وعند ذلك عليك أن تنطلق من اعتقادك بأنّ الله سبحانه وتعالى هو المهيمن على الأمر كلّه، فقد تكون حكمته بأن يحميك وأن تكون حكمته بأن يبتليك، ولكن إيّاك أن تفكر في أنّ قدرة هؤلاء يمكن أن تغلب قدرة الله ـــ جلّت قدرته ـــ والله هو الغالب على كل شيء ولكنّه قد جعل لكلّ شيء قدرا.

الخوف تعطيل للقدرة:

ومن هنا فإنّ الخوف شيء وحركتك في الواقع شيء ودراستك للواقع شيء آخر، لا تخف أحداً، ولكن إعرف بأنّ الله سنةً في الكون، فإذا غلبك الغالبون فليس ذلك لأنّ قدرتهم غلبت قدرة الله أو قدرة الأنبياء، ولكنّ الله سبحانه وتعالى وهو يتحرّك مع الأنبياء ليؤيّدهم وهم رسله يبتليهم بذلك، وهم لا يخافون أحداً، وآية ذلك قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}(1)، والمؤمنون كذلك لا يخافون أحداً وآية ذلك قوله سبحانه {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ*فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ*إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(1).

التوكّل نبذ للخوف:

وخلاصة القول هي أنّ التوكّل حالة في النفس تتمثّل في إفراغ عقلك وقلبك من كل خوف لمن عدا الله، وأن تكل أمرك إلى الله ليدبّر أمرك بحكمته إن شاء يعافيك، وإن شاء يبتليك، فإذا ابتلاك فليس من خلال أنّ الآخرين غلبوا إرادتك، وإذا عافاك فإنّ معافاته لك تأتي من خلال حكمته ورحمته، ومن هنا فإنّ التوكّل على الله لا يعني أنك تصل إلى ما تريد دائماً من خلال التوكّل، ولكن معنى ذلك أن تشعر بالقوة مع الله لتترك أمرك إليه كأنّك تقول: يا ربّ إنّي أوكل أمري إليك لتتصرّف في أمري، فكما خلقتني برحمتك ودبّرت أمري بحكمتك فأنا أكلُ الأمر إليك لأنّي أعتقد أنّ الأمر أولاً وآخراً إليك، لذلك فإنّ المتوكّلين هم الواثقون بالله والواثقون بأنفسهم من خلال الله، والواثقون بالنتائج سواءً كانت منسجمة مع مشاعرهم أو غير منسجمة لأنّهم يعرفون أنّ الله لا يفعل إلاّ ما هو الحكمة والمصلحة، لأنّه سبحانه وتعالى هو الذي خلقنا فهو الذي يعلم ما يصلحنا وما يفسدنا لأنّه المحيط بالأمر كلّه {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(2).

حدّ التواضع:

وسأله فما هو حدُّ التواضع؟ أيّ كيف تكون إنساناً متواضعاً، والتواضع هو من القِيَم الإسلامية والإنسانية التي تتحرّك على أساس أن تعيش مع الآخرين إنسانيتك مع إنسانية الآخر، فكما تريد للآخر أن يحفظ لك إنسانيتك فعليك أن تحفظ له إنسانيته، قال فما حد التواضع، قال: "أن تعطي الناس من نفسك ما تحبّ أن يعطوك مثله"(3) فكيف تحبّ للناس أن يتعاملوا معك، هل تحب أن يتكبّروا عليك، هل تحب أن يضطهدوك؟ هل تحب أن يهملوا إنسانيتك، إنّ التواضع هو أن تعطي الناس ما تحبّ أن يعطيك الناس، وإذا فكّرت بالمسألة في العمق فسوف تكون إنساناً لا يعيش مع الناس في خيلاء الذات، ولا في تكبّر العنفوان، ولا يعيش مع الناس في أنانية النفس، ولا يعيش معهم في إهمال قضاياهم ومصالحهم، عند ذلك يتعايش الإنسان مع الإنسان ليحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها.

إنّك لن تكون متواضعاً إذا لم تعش هذه الروحية في مشاعرك وأحاسيسك، ولن تكون متواضعاً إذا لم تعش هذه الذهنية في وجدانك وفكرك، وهي أن يكون فكرك إنسانياً منفتحاً على الإنسان الآخر يتألّم له ويفرح له وينفتح عليه في كل قضاياه.

منزلتك عند الآخرين:

قلت ـــ وهذه نقطة ذاتية ـــ "جعلتُ فداك أشتهي أن أعلم كيف أنا عندك وما هي منزلتي لديك وما هي مشاعرك اتجاهي، قال (كيف أنا عندك) فإذا أردت أن تعرف منزلتك عند شخص في انفتاحه الإنساني عليك فحاول أن تدرس كيف هي مشاعرك اتجاهه، لأنّ المشاعر تنفتح على منطقة الشعور لدى الآخر، وقد عالجها الإمام عليّ (عليه السلام) في الاتجاه السلبي الذي يعيشه الإنسان حيال الآخر، وذلك عندما قال: "إحصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"(1) حاول أن تقتلع من صدرك كلّ الشرّ الذي يطوف في وجدانك ضدّ الآخر، وعند ذلك سوف تنفتح إنسانيتك عليه لتجعل إنسانيته منفتحة على ذلك، لأنّ مشاعر الحقد تعدي في ردّة الفعل، كما أنّ مشاعر الخير كذلك تعدي في ردّ الفعل.

العجب مفسد للعمل:

ولقد سأله "أحمد بن نجم" عن العجب الذي يفسد العمل ففي دعاء (مكارم الأخلاق) يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) "وعبّدني لك ولا تفسد عبادتي بالعجب" قال له: ما هي مظاهر العجب، قال: "العجب درجات منها أن يرى العبدُ سوءَ عمله حسناً فيعجبه، ويحسب أنّه يحسن صنعا" {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}(2)، {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً}(3) وقد اغترف الإمام الرضا (عليه السلام) هذا المعنى من القرآن، وقد قدّمنا أنّ كلّ انتزاعاته في أجوبته كانت من القرآن، فأن تعجب بنفس يعني أن تستغرق في ذاتك وأن تبتعد عن التفكير فيما حولك ومَنْ حولك، وأن تتعبّد لذاتك بأن تعتبر الفكر الذي يصدر منك أنّه الفكر العظيم، وأنّ كل حركة تتحرّك بها ففي الحركة التي تتمثّل بها كل القِيَم وأن تدرس نفسك من خلال نفسك، لا أن تدرس نفسك من خلال الفكر الذي ينطلق به الآخر لتدخل في عملية مقارنة بين فكرك وبين فكر الآخر.

المعجبون بأنفسهم:

إنّ هؤلاء النرجسيين الذين يتعبّدون لأنفسهم تماماً كما تقف المرأة التي يعجبها جمالها أمام المرآة من الصباح إلى المساء من أجل أن تتعبّد لذاتها في جمالها، هؤلاء الذين يستغرقون في مرآة أنفسهم فلا يرون أنفسهم إلاّ في داخل أنفسهم، في حين أنّ المؤمن مرآة أخيه، أي أنّ عليك أن ترى نفسك في غيرك، وعليك أن ترى نفسك في وحي الله تعالى، وعليك أن ترى نفسك في كلّ ما ينطلق به رسلُ الله وأولياء الله.

إنّ مشكلة المعجب بنفسه هي أنه يعتبر العالم محصوراً في نفسه فلا يجد هناك شيئاً غير نفسه فكأنّه يختصر العالم فيها. ومنها أن يؤمن العبد بربّه فَيَمُنّ على الله ولله المنّةُ عليه، ويصلّي بعض الركعات فيما يتنفّلُ به أو يحجُّ استحباباً أو يتصدّق هنا وهناك، ثم إذا ما ابتلاه الله عاتب الله في ابتلائه، لماذا تبتليني وقد عبدتك، لماذا تبتليني وقد صلّيت لك صلاة الليل، وقد حججت، وقد تصدّقت "مدلاً عليكَ فيما قصدتُ فيه إليكَ فإنْ أبطأ عنّي عتبتُ بجهلي عليك، ولعلّ الذي أبطأ عنّي هو خيرٌ لي لعلمك بعاقبة الأمور"(1) فقد تكون حالة الإدلال على الله منطلقة من أنّ الإنسان يشعرُ أنّه قدّم إلى الله خدمة عندما صلّى، وأنّه فعل مع الله جميلاً عندما صام وحجّ، فيما يعتبر الله سبحانه وتعالى أنّ كل طاعة الإنسان إنّما هي لنفسه، ذلك لأنّ الله (لا تنفعة طاعة مَن أطاعه ولا تضرّه معصية مَنْ عصاه). 

تمامُ العقل:

وتحدّث الإمام الرضا (عليه السلام) فيما روي عنه من عنوان مهم جداً، وهو كيف نحكم على الإنسان أنّه تام العقل بما يتمّ به عقل الإنسان، والإمام يتحدّث حسب هذه الرواية في "العقل العمليّ" الذي إذا انفتح الإنسانُ عليه وانطلق به كان دليلاً على أنّ وعيه للحياة وللإنسان وللقيم وللواقع عقلانيّ وليس وعياً عاطفياً، قال: "لا يكون المؤمن عاقلاً حتى تجتمع فيه عشرُ خصال: (الخيرُ منه مأمول) أي عندما يعيش مع الناس وهو يملك العناصر التي يمكن لها أن تعطي الخير للناس، سواء كان الخير ما يملكه من عنصر علم أو خبرة أو عنصر قوّة أو مال أو جاه أو ما إلى ذلك، فإذا تطلّع الناس إليه فإنّهم يأملون خيره، لأنّه ينفتح على الناس من موقع الخير.

(والشرّ منه مأمون) فإذا عاش مع الناس فإنّ الناس يأمنون شرّه، لأنّه لا يفكّر بالشرّ ضدّ الناس، بل يعمل على إبعادهم عن شرّ نفسه ويحميهم من نفسه، كما يعمل على إبعادهم عن شرّ غيره، وقد لاحظنا ذلك في دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) في (مكارم الأخلاق) عندما يقول "ولا أُظلمنَّ وأنت مطيقٌ للدفع عنّي ولا أُظلِمنّ وأنتَ القادرُ على القبض منّي" أيّ يا ربِّ اجعلني كما أريد أن لا يظلمني الناس، أن لا أظلم الناس أيضاً، وإذا انطلقت قدرتي من أجل أن تتحرّك لظلم إنسان بريء فسلّط يا ربِّ قدرتك عليّ واقبض عليّ، اقبض يدي واقبض كلّ طاقتي عن أن تتحرّك لظلم الناس.

وفي فقرة أخرى "اللّهم فكما كرّهت لي أن أُظلَم فقني من أن أَظلِم" وهكذا فإنّ من صفات المسلم العاقل أن يأمن الناسُ شرّه، لأنّ عقل الإنسان هو الذي يميّز له الحسن من القبيح، ويوجّهه إلى الحَسَنْ ويبعده عن القبيح، وعندما يفكّر الإنسان في الخير فإنّ عقله يقول لهُ إنّ الخير ينفعك مع الناس لأنّك إذا فعلت الخير أحبُّوك، ثم إنّه ينفعك عند الله {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}(1) وأما إذا فكّرت بالشرّ فإنّ الشرّ يجعلك تجني عداوة الناس وبغضهم، وفي الوقت نفسه فإنّ ذلك يبعدك عن كثير من مصالحك عندما ينغلق الناس عليك وعلى حياتك، ثم أنّك إذا فعلت الشرّ فإنّه بهلاكك في مصيرك و{وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(2).

 

استكثار الخير واستقلاله:

والخصلة الأخرى هي "يستكثر قليل الخير من غيره ويستقلُ كثيرَ الخير من نفسه" فإذا فعل الناس الخير فإنّه يعمل على أن يشجّعهم على الخير، ولذلك فإنّه يتكلّم معهم على أساس تقدير ما قاموا به، حتّى لو كان الخير الصادرُ منهم قليلاً، لأنّه عندما يستكثر ذلك بما يوحي إليهم بالقيمة في أعمالهم، فإنّه يعمل على أن يشجّعهم في ذلك. أمّا بالنسبة إلى نفسه فهو الطَمُوحُ ليبلغ القمّة في الخير، والطَمُوحُ إلى أن يضاعف كلّ طاقاته من أجل أن يكسب خيراً هنا وخيراً هناك، فإذا وصل إلى مرحلة من الخير وكانت مرحلة أعلى منها، فإنّه يشعر بأنّه لم يقم بما يريد، لأنّ الإنسان الذي يطلب الكمال فإنّه لا يقبل أيَّ درجة من درجات النقص، فإذا بقيت ثمّة درجة فإنّه يعمل على أن يصعد إليها نحو القمّة، وهذا ما ورد في بعض أحاديث أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) "إنَّ المؤمن نفسُه ظنون عنده" أي أنّه يتّهم نفسه دائماً بالتقصير، وفي الحديث أيضاً "لا تُخرج نفسكَ من حدّ التقصير" فمهما فعلت فاعتبر نفسك مقصّراً حتى تستطيع أن تدفع نفسك إلى مراحل الخير أكثر وفي مراقي الكمال أكثر. 

قضاءُ حوائج:

(لا يسئم من طلب الحوائج إليه) ذلك أنه يعتبر أنّ طاقته فيما أعطاه الله من طاقة ليست ملكه بل هي أمانةُ الله عندهُ، فعلمه أمانة الله عنده، فمهما طلب الناس من علمه فإنّه لا يملّ من سؤالهم ولا يملُّ من عطائه لهم، وهكذا يرى أنّ ماله أمانة الله عنده، فمهما طلب الناس من ماله وممّا يملك أن يعطيهم فإنّه لا يسأم من تلبية ذلك.

وهكذا بالنسبة إلى قوّته وبالنسبة إلى جاهه، لأنّه يعتقد أنّ طاقاته سوف تموت عندما يموت، وسوف تذهب في الفراغ عندما يمضي الوقت من دون أن تمتلأ طاقاته بالقيم التي يريد أن يحرّكها نحوها، لذلك فهو يعتبر أنّ عليه أن يؤدّي إلى الله تعالى الأمانة التي أودعها عنده الناس في أن يمنحهم من طاقته وهو يملك أن يعطيهم ذلك، والله سبحانه وتعالى سوف يحتجّ عليه بطاقته، وهذا هو حديث الإمام الصادق (عليه السلام) "إنّ الله لم ينعمَ على عبدٍ بنعمةٍ إلاّ وقد ألزمهُ فيها الحجّة من قبله، فمن منَّ الله عليه فجعلهُ موسّعاً عليه في ماله فحجّته عليه ماله ثم تعاهدُهُ الفقراءَ بفرائضه ونوافله ومَن منَّ الله عليه فجعله قوياً في بدنه فحجّته القيام بما كلّفهُ واحتمال مَن هو دونه ممّن هو أضعفُ منه، ومَن منّ الله عليه فجعله شريفاً في قومه جميلاً في صورته فحجّته عليه أن لا يغمط حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله"، وإذاً فهو لا يسأم من طلب الحوائج إليه، بل يرتاح لذلك لأنّه يرى أنّ الله سبحانه وتعالى يعطيه أضعاف ذلك، ولا يملّ من طلب العلم طولَ دهره فهو الطالب للعلم أبداً ما دام عقله معه، وما دامت قدراته الفكرية معه، لأنّ العلم هو نموُّ إنسانيته وهو معرفته بربّه، وهو الطاقة التي يمكن أن يفجّرها فكراً واكتشافاً وإبداعاً وعطاءً.

لذلك فإنَّ الإنسان المؤمن يشعر أنّ قضية العلم بالنسبة إليه تمثّل خطّ حياته، فالذي يطلب شيئاً من العلم ويحسّ بالاكتفاء فإنّه إلى تراجع، ومن بقي يشعر بحاجته إلى العلم فإنّه كلّما انفتح له أُفق جديد شعر بجهل جديد عنده، ولذلك فإنّه يحاول أن ينطلق من أُفق ليكتشف أسرار الكون وأسرار المسؤولية في ذلك كلّه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفقر في الله:

وخصلته الأخرى هي: (الفقر في الله أحبُّ إليهِ من الغنى) فلو دارَ الأمر بين أن يكون غنياً مع الشيطان ومع أولياء الشيطان يعطونه المال كلّه ولكنه عندما يسير في خطّ الله فإنّه قد يعيش فقراً هناك وقد يعيش حاجة هنا، فإذا ما وقف بين الله تعالى وبين الشيطان بكل ما يمثّله خطُّ الله من خط النبوات والرسالات والأولياء، وما يمثّله خطّ الشيطان من الكفر والضلال فإنّه يفضّلُ السير في خطّ الله، حتى لو كان الفقرُ هناك، ويفضل أن يقف ضدّ خطّ الشيطان حتى لو كان الغنى معه ليحصل على محبّة الله ورضوانه ورحمته في ذلك، وما دام الله تعالى هو الذي يملك رزقه كما يملك حياته، فإنّ عليه أن لا يسمع للشيطان عندما يعدهُ الفقر بل يفكّر في أنّه إذا افتقر اليوم فإنّ الله لا بدّ له من أن يغنيه غداً {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ}(1)، {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً}(2).

الذلّ في الله:

والخصلة الأخرى هي "والذلّ في الله أحبَّ إليه من العزّ مع عدوّه" فربّما تنطلق مع أعداء الله ليعطوك موقعاً متقدّماً من مواقع الجاه في الحياة، ولكنّك عندما تبتعد عنهم وتنفتح على الله فقد تكون إنساناً عادياً لا تملك ما يملكون، لكنّ المؤمن العاقل يفضّل هذا الذلّ الشكليّ وإلاّ فهو ليس بالذليل بل هو عزيز في نفسه، والله تعالى يقول: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً*الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}(3)، فعندما ينظر الناس إلى مسألة الذلّ والعزّ فمن الجانب الشكلي، أمّا المؤمن فينظر إلى قضية العزّ والذلّ على أنّها شيء في العقل وفي القلب وفي الإحساس والشعور.

فقد تكون العزيز الذي تمتلك نفسك وتمتلك كرامتك وتمتلك حرّيتك وإرادتك في الوقت الذي لا تمتلك أيّ موقع بين الناس، وقد يكون الإنسان الآخر ذليلاً في الوقت الذي يملك فيه أرفع المواقع لأنّه لا يملك أن يريد ولا يريد فربّما أحتلّ موقعاً هناك، بينما يكون الآخرون قد استلبوا إرادته وموقفه منه وأخذوا منه حريّته فليست القضية هي أن تربح العالم، إذ ما قيمة أن يربح الإنسانُ العالمَ ويخسر نفسَه {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(1).

الهروب من الشهرة:

ومن خصاله أيضاً: (والخمول أشهى إليه من الشهرة) فإذا دار الأمرُ بين شهرة ترضي ذاته بحيث يشعر بأنّها هي التي تكبّره، وهي التي تعظّمه، وهي التي ترفع مقامه، لأنّ نفسه فارغة من القيمة بحيث يستعير من الآخرين قيمة نفسه في موقع اللاشيء وفي موقع اللااحترام، إنّ إنساناً كهذا يستعير ثقته بنفسه من الآخرين فيطلب الشهرة ليرتفع لأنّه يعتبر أنّ ارتفاعه بمقدار ما يصفّقُ الناس لهُ، وبمقدار ما يتحرّك الناس خلفه، لأنّه لا يجد في نفسه أيّ معنى من الغنى ولا الامتلاء، فهذا هو الإنسان الذي يتوقّف عند الشهرة من موقع الإحساس والانشغال والاهتمام الكبير، أمّا المؤمن فإنّه يفضل الخمول بأن يبقى إنساناً عادياً لا يبيع نفسه ولا يبيع موقفه، لأنّه يشعر بالغنى من داخل نفسه ولا يشعر بأنّ مدح الناس وإقبالهم عليه يمكن أن يرفع من مقامه، وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما قال: "لا تزيدُني كثرةُ الناس حولي عزّة ولا تفرّقهم عنّي وحشة"(2) لأنّي لا أستعيرُ ثقتي بنفسي من خلال الناس وإنّما أستعير ثقتي من نفسي بنفسي ممّا أعرفه منها في كل هذا الغنى الذي يشتمل عليه الإنسان.

وليس معنى ذلك أنّ الخمول قيمة إيجابية في المطلق وأنّ الشهرة قيمة سلبية مطلقة بل معناه أنّ الشهرة بحسب طبيعتها ليست هي القيمة، وأنّ الخمور بحسب طبيعته ليس ضدّ القيمة، فالقيمة هي في نفسك عندما تكون ممتلئ العقل بالعلم النافع وممتلئ القلب بالعواطف الطيبة وممتلئ الحركة بنشاطك المسؤول، وعندها فأنت الكبير حتى لو كنت خاملاً لا يذكرك أحد، وإذا كنت فارغاً من ذلك كلّه فأنتَ الصغير حتى لو هتف كل الناس باسمك.

 

إجلال الآخرين:

وقال: ما المعاشرةُ؟ قال: (لا يرى أحداً إلاّ قال هو خيرٌ منّي) فهو لا يرى أنّه خير من الناس، (فإنّما الناسُ رجلان: رجلٌ خيرٌ منه وأتقى) أي أفضل منه، (ورجلٌ شرٌّ منه وأدنى)، فإذا لقي الذي هو شرٌّ منه وأدنى، قال: (خيرُ هذا باطنٌ وهو خيرٌ له وخيري ظاهر وهو شرٌّ لي) فقد يكون هذا الشخص بحسب ظاهره شريراً ولكن قد يكون عنده باطن خيرٌ من باطني، وقد أكون بحسب ظاهري، خيّراً ولكن يمكن أن يكون باطني شرّيراً، فعلي أن لا أنظر في مجال المقارنة بين نفسي وبين الآخر من خلال ما هو ظاهر منّي وما هو ظاهر من الآخر لأنّه يمكن أن يكون ظاهري مشتملاً على باطن سيّء، ويمكن أن يكون ظاهر الآخر مشتملاً على باطن خيّر، وهذا هو ما يشير إليه الإمام زين العابدين (عليه السلام) في عملية التكامل النفسيّ (اللّهم لا ترفعني في الناس درجةً إلاّ حططتني عند نفسي مثلها ولا تُحْدِثُ لي عزاً ظاهراً إلاّ أحدثت لي ذلّةً باطنة عند نفسي بقدرها) ويمضي الإمام الرضا (عليه السلام) فيقول: (وإذا رأى الذي هو خيرٌ منه تواضع له ليلحق به، فإذا فعل ذلك فقد علا مجدُه وطابَ خيرُه وحسُن ذكره وساد أهلَ زمانه)(1) بهذه الصفات.

خطّ أهل البيت (عليهم السلام):

أيّها الأحبّة، هذا هو خطُّ أهل البيت (عليهم السلام) فإذا كنتم تريدون السير في خطّهم فإنّ خطّهم هو ارتفاع الإنسان بإنسانيته، وخطّ أهل البيت هو أن ينطلق الإنسان في إيمانه بربّه وبحركة مسؤوليته اتجاه الآخر، وخطُّ أهل البيت هو أن تفهم نفسك جيداً وأن تدخل في مقارنة دائمة بين نفسك وبين الآخرين، أن تكون إنساناً في موقع القيمة وفي موقع المعرفة بالله والقرب إليه سبحانه وتعالى، أن تتحرّك بمحبّة الناس في خطّ المسؤولية، هذا هو خطّ أهل البيت (عليهم السلام) فهو ليس كلمات ومظاهر تتحرّك من دون وعي، فأهل البيت (عليهم السلام) ينطلقون من خلال الإسلام، فكن مسلماً موالياً لأهل البيت فليس عندهم شيء إلاّ الإسلام، يقول الإمام الباقر (عليه السلام) "مَن كان مطيعاً لله فهو لنا ولي ومَن كان عاصياً لله فهو لنا عدو، والله لا تُنال ولايتنا إلاّ بالورع"(1).

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثامنة

28/ ذي القعدة/1417 هـــ (*)

 

في الذكرى 17 لاستشهاد المرجع الصدر (رض):

الفكر الذي لا يزال العصرُ بحاجة إليه

"كانت المعرفة لدى الشهيد الصدر قلقاً يبحث عن الجديد    وعن متغيّرات الواقع، وعن تحدّيات الفكر والاستكبار، وكان يعيش الهمّ العلميّ والإسلاميّ والإنسانيّ".

 

ذكرى الشهيد الصدر (رض):

في هذه الأيام نلتقي بذكرى شخصية إسلامية مرجعية أعطت الإسلام كلّ عقلها وكلّ قلبها وكل طاقاتها، بل وأعطت كلّ دمها للإسلام، وهي شخصية السيّد محمد باقر الصدر (رض).

هذا الإنسان الذي إذا أردنا أن نتحدّث عنه بكلمة واحدة فإنّ أفضل الكلمات هي أنه كان الحركيّ الرساليّ، فلم يعش علمه كطاقة تجريدية تعيش ذاتية الموقع، ولم يعش مرجعيته، وهي في بدايتها، كطموح يرضي العنفوان، بل كان منذ أن انطلق في الحياة إنساناً يريد أن يعيش الحركة عريضة عريضة حتى لو لم تكن طويلة طويلة، لأنّ الأشخاص الكبار الذين يحملون الرسالة لا يفكّرون في طول الحياة بل في عرضها الذي يجعل حياتهم وهي تتحرّك تختصر الساحة كلّها لتكون متنوّعة في أبعادها بحيث تملأ الساحة في كلّ مرحلة من مراحل العمر، وهكذا كان.

ظروف النشأة:

رافقته منذ بداية الشباب ونهاية الصبا، وقد كانت عبقريته في صباه تبشّر بأنّ هذا الإنسان يحمل في طاقته مستقبلاً كبيراً، حيث نشأ في بيت علميّ في امتداد الآباء والأمهات، فقد كان من عائلة الصدر العلمية المعروفة، وكان أبوه السيّد "حيدر الصدر" ممّن ملأ ذهنية المجتمع الحوزويّ في النجف بعلمه وهو لا يزال شابّاً، وكان جدّه السيّد "إسماعيل الصدر" من الأشخاص الذين يعيشون في مستوى المرجعية، وكان نسبه من جهة الأم يتّصل بعائلة "آل ياسين" فكان خاله الذي تربّى في أحضانه الشيخ "محمد رضا آل ياسين" المرجع والفقيه المعروف.

فلقد نشأ في هذا الجوّ: في حضانة أخيه السيّد "إسماعيل الصدر" الذي كان من العلماء المعروفين في النجف، وبدأت عبقريته الجنينية تظهر عندما كان يحضر المجالس الحوزوية، وكان يناقش ويذاكر، وقد ساعده هذا الجوّ المرجعيّ الذي كان لخاله في أن تنفتح له المواقع.

اهتماماته الفلسفية:

وفي بواكير عمره وهو يدرس الأصول فكّر أن يدرس الفلسفة، ولم يكن يملك المال الذي يشتري به كتاب الفلسفة فأعطى كتاب "الحدائق" الفقهي لبعض الناس ليأخذ منه في المقابل كتاب "الأسفار" الفلسفيّ، وانتقده بعض الناس لأنّهم كانوا ينظرون إلى الفلسفة نظرة سلبية فلا يهضمون استبدال كتابٍ فقهيّ بكتابٍ فلسفيّ.

وكانت نظرته إلى دراسته الفلسفية تنطلق من تطلّعاته المستقبلية إلى أن الواقع الذي يتحدّى الإسلام هو واقع الفكر المعاصر الذي يرتكز على عمق فلسفيّ وامتداد فكريّ يفرض على طالب العلم أن تكون له المشاركات التي يستطيع بها أن يتعمّق حتى يملك عمق الفكرة ليواجه تحدّياته في العمق والامتداد.

النبوغ العلمي المبكر:

ثمّ انطلق وقد تابع فضلاء الحوزة انطلاقاته وحركة الإبداع في ذهنه وعمق نظرته إلى الأشياء، وأصبح من فضلاء الحوزة في وقت مبكر حتى أنّ بعض علماء الحوزة الكبار وهو الشيخ "عباس الرميثي" (رحمه الله) كان يريد له أن يجلس إليه عندما كان يكتب حاشيته على بعض الرسائل العملية، وراحت التحديات تهزّ العراق والحوزة معاً بصدمة لم تعهدها في تاريخها، لأنّها لم تكن صدمة سياسية مجرّدة، بمقدار ما كانت صدمة ثقافية تتحرّك فيها الخطوط الثقافية الإلحادية التي كادت أن تسيطر على الساحة كلّها، وأن تنذر الحوزة بواقع قد يسقط الكثير من مواقعها.

 

حركية السيّد الشهيد:

وانطلقت حركية السيّد الشهيد آنذاك بانطلاق (جماعة العلماء) التي كان خاله الشيخ "مرتضى آل ياسين" الشخص الأول فيها، وبدأت جماعة العلماء في النجف الأشرف تصدر المنشورات التي تتحدّث عن الإسلام وعن الواقع بأسلوب تفرضه طبيعة تلك المرحلة، وكان السيّد محمد باقر الصدر (رض) هو الذي يكتب هذه المنشورات بأسلوب لم تعرفه الحوزة في منهجها التقليدي سواء في الكلمات التي تطلقها أو في الأجواء التي تثيرها.

كتاب "فلسفتنا":

ثم بدأ السيّد محمد باقر الصدر يتحرّك في واقع التحدّي الماركسيّ مستنفراً كلّ ثقافته الفلسفية التي كانت منفتحة على الفلسفة القديمة ليستعين بها على الاطلاع على الفلسفات الحديثة، ويكتب كتاب "فلسفتنا" الذي كانت مقدّمته برنامجاً عملياً لحركة إسلامية مقبلة، وكان هذا الكتاب يمثّل أكبر تحدٍ للخطّ الماركسيّ وللخطوط المادية الأخرى، لأنّه انطلق بفلسفة عميقة حديثة تخاطب العقل المعاصر بأسلوب معاصر يتساوى مع أفضل الأساليب، حتى أنّ هذا الكتاب أحدث هزّة في أجواء الماركسيين هناك بشكل شعروا فيه بأنّ هناك علماً يخاطب الماركسية بدلاً من الكلمات التي كانت تواجهها بالطريقة الاستهلاكية، لأنّ السيّد محمد باقر الصدر لم يكن إنساناً يستهلك الكلام، بل كان إنساناً يحمل مسؤولية الكلمة وكان ينتج من عمق حركة الفكر فكراً جديداً.

افتتاحية "الأضواء":

وعندما أسست "مجلة الأضواء" وهي مجلة (جماعة العلماء) كان السيّد محمد باقر الصدر يكتب افتتاحيتها تحت عنوان "رسالتنا" وهو الذي أطلق شعار أن يكون الإسلام قاعدة للفكر، وللعاطفة وللحياة، وهذه هي الكلمة التي اختصرت أبعاد الإسلام في كلّ مفرداته. وكان يتحرّك بالأضواء في كلّ الأجواء التي يراد لها أن تنطلق بها مع ثلّةٍ ممّن رافقه في فكره الإسلاميّ ومنهجه الحركيّ وتطلّعاته المستقبلية نحو التغيير.

كتاب "اقتصادنا"

وقد رأى أنّ الفلسفة لا يمكن أن تمثّل كلّ التحدي لهذا الخطّ الذي يعتبر أنّ الاقتصاد هو الأساس في تطوّر الإنسان والواقع، فلقد كان "ماركس" يعتبر العامل الاقتصاديّ هو الذي يحرّك عملية تغيير الواقع، فكتب كتاب "اقتصادنا" وهو أوّل كتاب إسلاميّ يكتشف المذهب بطريقة علمية، ويناقش الاقتصاد الرأسمالي والماركسي بالاقتصاد الإسلاميّ، ولم يستطع أحد ممّن سبقه أو ممّن تأخّر عنه أن يتحدَّى هذا الكتاب بكتاب أو بفكر أفضل منه.

إنشاء حركة إسلامية:

وكان الإنسان الذي أطلق الحركة الإسلامية، فانبثقت من فكره كقاعدة ومن أفكار بعض الذين عاشوا معه وتحرّكوا معه، وكان يعطيها فكره ومنهجه، كما كان يؤسّس لها ويبني لها أُسسها، وكان يتحرّك بها حتى استطاعت أن تقف على قديمها في عصره، وإنّنا نتصوّر أنّه أوّل إنسان أطلق الحركة الإسلامية في المحيط الذي ينتمي إليه في العراق وفي خارجه.

إغناء الفكر الإسلاميّ:

وهكذا بدأ يتحرّك في أكثر من جانب ليغني الفكر الإسلامي، فلقد كان يعيش قلق المعرفة، فلقد كانت المعرفة عنده قلقاً يبحث عن الجديد، وعن متغيّرات الواقع، وعن تحدّيات الكفر والاستكبار، وكان يعيش الهمّ العلمي والهمّ الإسلاميّ وهمّ الواقع الإنسانيّ، مثلما عاش همّه بمسؤولية لا كمن يعيشون الهمّ في حالة بكائية خائفة تتحدّث عن اليأس وعن الفشل، وكان الأمل بالإسلام يملأ قلبه، وكانت الثقة بالله تملأ عقله، وكانت إيجابيات المجتمع الإسلاميّ تحرّك خطواته.

وهكذا كان يعيش التحدي للواقع وهو يكتب الفقه والأصول و"الأُسس المنطقية للاستقراء" ويعيش التحدي وهو يكتب مقالاً هنا ومقالاً هناك، ويعيش التحدي وهو يتحدّث لطلابه في أكثر من جانب من جوانب الواقع في خطّ الإسلام.

مرحلته حسينيّة:

وكان الحسين في عقله، فكان يستوحيه ويستهديه وكان يشعر في قمّة التحدي أنّ مرحلته حسينية، ولذلك كان يفكّر بالكثير من الأساليب التي قد يعتبرها الناس استشهادية إذا عاشوا مسؤولية الكلمة، وانتحارية إذا لم يعيشوا مسؤوليتها.

كان يشعر أنّ عليه هو في بداية مرجعيته أن يتحدّث بصراحة، وأن يطلق الفتوى بوضوح ومسؤولية، ولم يكن يجد في مرحلته أنّ التقية تفرض عليه أن يسكت أو ينسحب، أو يخلع على الكلام غلافاً يغطّي الحقيقة أو يخفّف من قسوتها، بل كان يجد أنّ المرحلة هي مرحلة صدمة الواقع لا الاسترخاء أمامه. من هنا أُريدَ لهُ أن يخفّف من لهجته فزادها ثقلاً، وأُريد له أن يبتعد عن الوضوح فكان أكثر وضوحاً، وأريد له أن يتراجع، فكان أكثر تقدّماً وتحدّياً.

قيل له أنّ المرجعية العربية تتمثّل فيك، وسنفتح لك كلَّ المجال ولكن كن تقليدياً كمن سبقك، ورفض أن يكون تقليدياً في مرحلة كانت التقليدية أماناً وكانت الثورية التغييرية خطراً، فتقبّل الخطر، وبدأ يفكّر في المرجعية الرشيدة بأن يضع لها منهجاً وأن لا يجعلها ذاتية تعيش في إطار الشخص، ولكنّه أرادها موضوعية تتحرّك لتبلغ المرجعية المؤسّسية.

انتصار الثورة الإسلامية:

وكتب تجربته، وحاول أن يحرّكها في الواقع، وتجمّع ذلك كلّه لاسيّما بعد أن نجحت الثورة الإسلامية في إيران، وأعطاها كلّه وذاب فيها، وأراد لكلّ أصحابه وأتباعه أن يذوبوا فيها لأنّه رأى فيها الحلم الكبير، ورأى أن ما يفكّر فيه قد تحقّق ولو من خلال تجربة أخرى، ولا بدّ للجميع أن يحيطوها لتستمر وتقوى وتتصلّب وتبلغ أهدافها.

وخاف الآخرون.. خاف النظام الطاغي ومن خلف النظام الطاغي أن يكون العراق هو الدولة الإسلامية الثانية، وشعروا بالخطر من خلال حركة الجماهير، وكانت المأساة.. وكانت الشهادة، ولكن السيّد محمد باقر الصدر (رضي الله عنه) وهو الذي يمثّل قوّة الفكر، وقوّة الموقف، وقوّة التطلّع نحو المستقبل، وقوّة التغيير، باقٍ بفكره، وبروحه، وبكلّ المنهج الحركيّ الذي خطّه، وبكلّ هذا الجيل الذي صنعه والذي فتح له الطريق.

فلا تدرسوه كتأريخ ولكن أدرسوه كفكر لا يزال العصر بحاجة إليه، وكأمل لا يزال المستقبل بحاجة إليه.

والسلام عليه يوم ولد ويوم استُشهِد ويوم يبعث حيّاً.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة التاسعة

5/ ذي الحجة/1417 هـــ (*)

 

في ظلال ضيافة الرحمن:

حضور الله في العقل والقلب والحياة

 

"وأنت تلبّي ربّك استحضر كلّ نداءات الله في وعيك، واعطه عهداً في أنّك من هنا تبدأ الاستجابة له بحيث تكون حياتك إجابةً دائمة لله فيما الزم وفيما حرّم".

أجواء الحج:

نحن في أيام الحجّ والناس هناك ينطلقون ليلبّوا وليطوفوا وليصلّوا وليسعوا إلى المشعر الحرام، فإلى (مِنى) فإلى أعمال مِنى فإلى (مكّة) من جديد، فإلى كل موطن انطلقوا منه.

وإذا كنّا نعيش هذه الأجواء، فلا بدّ لنا من أن ندرس المفاهيم التي يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يركّزها في عقله وفي قلبه، وأن يحرّكها في حياته من خلال الحجّ، لأنّ الحج كأيّة عبادة من العبادات ليس مجرّد كلمات وحركات ووقوفات، ولكنّ العبادة صلاةً كانت أو صوماً أو حجّاً تستهدف بناء إنسانية الإنسان للارتفاع بعناصر إنسانيته في انفتاحه على ربّه، فالمطلوب للإنسان في هذه الحياة في كل الرسالات أن يتقرّب إلى الله، وأن يعيش معه وأن يفكّر فيه، وأن يذكره، وأن يتعبّد له، وأن يطيعه، وأن يجعل دنياه في كل معانيها تجربة لما يحياه في الآخرة، وذلك بأن تكون دنياه لله لتكون الآخرة له في جوار الله.

استنطاق كتاب الله:

فنحن ـــ في هذه الأجواء ـــ نحتاج أن نستنطق كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الأساس في العقيدة، فآياته هي التي تؤكّد لنا أصالة العقيدة والمفاهيم المتصلة بالشريعة، وبالمنهج وبالحركة، وإنّ آياته هي التي تضيء لنا النور في كلّ ظلمات اختلاط المفاهيم والأفكار، لذلك نريد أن نستنطق القرآن في مسألة الحج فيما يريد الله للإنسان أن يعيه. فهل يكتفي الله منا بمناسك الحجّ كجسد يحتوي أعضاءه، أو أنّ هناك روحاً للحج، فمن لم يدخلها في عقله، ومن لم يدخلها في قلبه، فإنّه لم يحجّ.

 

 

 

الرفث والفسوق والجدال:

فتعالوا إلى كتاب الله في ذلك كلّه لنقرأ فيه، قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}(1) فالإحرام للحج يشرع في شوّال وذي القعدة وذي الحجّة، حيث يمكن للإنسان أن يحرم للحج بعمرة التمتّع ليمارس بقية مناسك الحجّ من ذي الحجّة.

{فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} على نفسه وقرّر أن يحجّ فعليه أن يعرف أنّ الحج هو العبادة التي لا بدّ للإنسان أن يؤديها أن لا يرفث {فَلاَ رَفَثَ} وأن يمتنع عن العلاقات الجنسية سواء كانت علاقات كاملة أو غير كاملة، وربما تمتدّ كلمة "الرفث" إلى أبعد من ذلك، فعليك أن تصوم عن العلاقة الكاملة في داخل الحجّ ما دمت محرماً تماماً كما تصوم في شهر رمضان.

{وَلاَ فُسُوقَ} فهو لا يريد لك أن تمارس الفسق في علاقاتك في الحج بالسباب وبما يؤذي المؤمنين، وبما يحمل الباطل في داخله، وبكل ما يكون لله معصية في عملك.

{وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فالحجّ هو فترة السلام، والجدال يعبّر عن خصومة وعن نزاع فأنتَ تجادل فيما يغلب على الجدال الإنسانيّ من الثأر للذات أو الثأر لما يعرض عن الذات من العصبيات، ولذلك يريد الله تعالى أن تجاهد نفسك، فإذا أراد الآخرون أن يدخلوا معك في جدال، فقل لا جدال في الحجّ، فأنا هنا أعيش السلام مع الناس، فالله يريدني عندما أحرم أن أعيش السلام معه والسلام مع نفسي والسلام حتى مع الحشرات ومع صيد البرّ، فحتى لو كنت من هواة الصيد فعليّ أن أترك ذلك.

فلا جدال في الحجّ أثناء الإحرام، وإذا كان بعض الفقهاء يخصّون الجدال بكلمة (لا والله) و(بلى والله) فإنّ الظاهر أنها مظهرٌ لحدّة الجدال عندما يحاول الإنسان أن يحتجّ لما يريده في قبال الآخر بالحلف بالله سبحانه وتعالى، والله أعلم.

ونلاحظ بأنّ هذه النقاط الثلاث تتّصل بالإنسان الآخر، ممّا يوحي بأنّ الله يريد لك في حركتك في الحجّ أن تكون الإنسان الذي يعيش مع الإنسان الآخر بعيداً عن لذّته كما مع المرأة، وبعيداً عمّا يؤذي الآخر فيما تمثّله المعصية من إساءة للإنسان وللحياة أو الجدال فيما يعبّر عنه من خصومات.

ثم أراد الله تعالى في هذا المجال أن تنفتح على الخير، فكأنّه يقول لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ، وإنّما في الحج الخير، إعمل خيراً في كلماتك.. وخيراً في علاقاتك بالناس وفي كلّ ما تعبّر به عن مسؤوليتك في الحياة، {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ}، حتّى لو فعلتموه في السرّ، لأنّ السرّ والعلانية يستويان عند الله.

التزوّد بالتقوى

{وَتَزَوَّدُواْ} فكّر وأنت في الحجّ أنك بحاجة إلى زاد تقدّمه يوم القيامة، حيث لا زاد إلاّ التقوى، ولذلك حاول وأنتَ تتحرّك نحو الحجّ، وأنتَ تعيش داخله أن تحصل على التقوى، بأن تتّقي الله تعالى من موقع حبّك له وحبّ رضاه، ومن موقع خوفك منه لتبتعد عن غضبه.. وحاول أن تحاسب نفسك في الحجّ حتى تكتشف ما في نفسك من عناصر الانحراف، وحاول أن تجاهد نفسك وتحاكمها من أجل أن تخرج إنساناً تقيّاً منفتحاً على الله سبحانه وتعالى.

{فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ} فهو يريد أن يؤكّد المسألة وأن يربطها بنفسه {يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}(1) يا أُولي العقول، فإذا كان لك عقل تفكّر فيه فإنّ عقلك يقول: أيّها الناس إنّ نهاية المطاف عند الله، كما كانت بداية المطاف من الله، فعندما تتّقون الله في مواقع رضاه فتعملونها، وتتّقون الله في مواقع غضبه فتتركونها، فإنّكم تحرزون عقلانية الحركة وعقلانية العمل، لأنّ العمل يقودك إلى ما ينقذ نفسك وإلى ما يركّز مصيرك.

 

ابتغاء الفضل:

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ}(1) فعليك أن لا تذهب إلى الحج للتجارة ولكن إذا جاءت التجارة في الطريق وجاءك الرزق في الطريق فالله لا يمنعك، فليكن حجّك لله، ولكن إذا أردت أن تحصل على الفضل من ربّك فيما يمكن أن يكون رزقاً لك فـــ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ}.

الوقوف في عرفات:

{فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ}، وعرفات موقف ليس فيها في المعنى الشرعي الإلزاميّ أيّ عمل ـــ فعرفات هي موقف.. قف لله.. قم لله، وليس وقوفُكَ يعني قيامك بالمعنى الماديّ للقيام، ولكن أن تشعر أنّك انطلقتَ في رحلتك وأنّ الحياة تتحرّك بك هنا وهنا في أشغالك وأعمالك وشهواتك ولذّاتك، وتصل إلى (عرفات) ليقول الله تعالى لك: قفْ هنا وتأمّل.. قف هنا وفكّر فيما أسلفت.. قف هنا وفكّر فيما تقبل عليه.. قف هنا وانفتح على ربّك.. وتحدّث معه.. اطلب منه.. نفّس عن كلّ آلامك.. استحضر كلّ أحلامك، فإنّ هذه الساحة هي ساحة استجابة الدعاء، وهي ساحة المغفرة، فمن ظنَّ أنّ الله لا يغفر له في هذا الموقف فلن يغفر الله له.

لذلك ليكن شغلك كلّه في (عرفات) مع الله، انفصل عن نفسك وعن شهواتك ولذّاتك.. انفصل عن كلّ ذكرياتك الحميمة.. تذكّر ذنوبك.. وتذكّر مشاريعك المستقبلية.. تذكّر الله.

{فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ}(2) وانتهى الموقف، فماذا هناك {فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} فلقد كانت عرفات موقف ذكرٍ في العقل وذكر في القلب.. وذكر في الحركة.. فعندما تقف أمام المعاصي لتذكر الله فإنّ ذلك يمنعك عن المعصية، لأنّ مسألة الحجّ هي مسألة ذكر الله.. وأن تعيش حضور ذاتك مع الله لتعيش حضور الله في الكون كلّه ومن فوقك ومن تحتك وعن يمينك وعن شمالك وأمامك وخلفك.. اذكر الله كما لو كنتَ تراه فإنْ كنت لا تراه فإنّه يراك.

الحجّ ذكرٌ كثير:

{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} استحضر وأنتَ تذكر الله سبحانه وتعالى، كيف كنتَ ضالاً فهداك، وكيف كنتَ منحرفاً فدلّك على طريق الاستقامة.. واحمد ربّك واشكره على الهداية.. وقل: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أنْ هدانا الله، لأنّه لا نعمةَ أعظم من الهداية.. أعظم من أن يهديك الله فتوحّده ومن أن يهديك فتعبده.. ومن أن يهديك فتتحرّك في الخطّ المستقيم الذي يوصلك إليه.

{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} استحضر دائماً نعمة الهداية، فإذا عشت معنى النعمة فيها، كان ذلك حافزاً لك بأن تحوطها من كل ضلال وتحرسها من كلّ سارق حتى تستمر بها، لأنّ الإنسان إذا غفل عن نفسه وعن هداية ربّه فقد يسرقها السارقون وقد يصادرها المنحرفون من حيث لا تدرون ولا تشعرون.

{وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ}(1) أي قبل هذا الهدى، {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}(2) فعندما تريدون أن تتحرّكوا من موقع إلى موقع فكونوا مع الناس الذين يكبّرون، والذين يلبّون والذين يخشعون، والذين يخضعون، فإنّك عندما تعبد الله في هذا الجوّ الجماعي الصارخ بالله، الملبّي لله، الخاشع لله، المهاجر إلى الله، فإنّك تزداد بذلك روحانية وتشعر بنفسك أنّك جزء من أُمّة وجزء من مجتمع.

{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ}(3) من ذنوبكم وأنتم تسيرون من "عرفات" إلى "المشعر" ومنه إلى "منى" {وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ}(1) وانتهيتم من عرفات والمشعر ومِنَى وقمتم برمي الجمار وبالذبح وبالحلق، {فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ} كما هي العلاقة بينكم وبين آبائكم، فهل ينسى الإنسان أباه وهو سرّ وجوده بشكل مباشر.. {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}، لأنّ الله تعالى هو سرُّ الوجود كلّه.. وهو سرّ السرّ الذي انطلقت فيه من أبيك.

ولذلك {اذْكُرُواْ اللّهَ} ولاحظوا كيف يكرّر الله ذكر الله مبيّناً لنا أنّ الحج هو الفرصة التي تحتاج فيها أن تعيش حضور الله في قلبك وعقلك وحياتك ليكون ذكراً في العقل، وذكراً في القلب وذكراً في اللسان، وذكراً في الحياة، ثم ابدأوا الدعاء، والناس على صنفين في الدعاء: فهناك من لا يستحضر إلاّ دنياه، يستحضر مالاً يريده أو ولداً أو زوجة أو أرضاً أو جاهاً أو مجداً.. فهو يقف في "عرفات" و"المشعر" وعندما يدعو فإنّه لا يستحضر إلاّ الدنيا.

اذكروا الآخرة:

وأمّا الآخرة فهو في غفلةٍ عنها حتى في ذلك الموقف، إنّه يذكر الله حتى يعطيه الدنيا، أما أن يطلب من الله الآخرة فهذا ليس وارداً في حساباته، ولكنّ هناك أُناساً يعرفون أنّ الله أراد للإنسان أن يوازن بين الدنيا والآخرة ففي الحديث: "ليس منّا مَنْ ترك دنياه لآخرته، ومَنْ ترك آخرته لدنياه" والله تعالى يقول {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(2)، {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}(3)، لأنه لم يذكر الآخرة ولم يعش اهتمامات الآخرة فليس له فيها نصيب، لأنّ نصيب الآخرة للذين يفكّرون في الآخرة ويعيشون همّها، كما قال الإمام عليّ (عليه السلام): (فليكن سرورك بما قدّمت وأسفُك فيما خلّفت من فُرص وهمّك فيما بعد الموت)(4) فمن لا يعيش همَّ الآخرة فإنّه لا يستعدّ ولا يعمل لها.. ومن لا يعمل للآخرة فكيف يحصل على النتائج الإيجابية فيها.

{فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}(1)، أي من حظ ونصيب {وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}(2)، لأنّ لنا في الدنيا حاجياتنا، ولأنّ لنا فيها أوضاعنا ولأنّنا لا نستطيع أن نطيعك في الدنيا، أو أن نحقّق أهدافك فيها ما لم يكن لنا في الدنيا ما يبني أجسامنا وما يحرّك لنا خطواتنا، وما يحيط بنا ممّا يحتاجه الإنسان من حاجات مادية ومعنوية، لذلك {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، من رزقك ومن طاقتك، ومن كلّ قوّتك، ومن كل ما يمكن أن يجعل من حياتنا حياة طيّبة رخيّة مريحة.

{وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} حسنة رضوانك وحسنة نعيمك {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، {أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(3) ثم نعود إلى ذكر الله من جديد {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}(4)، فعندما تبيتُ في (مِنى) في أيام التشريق في الليلة الحادية عشرة والليلة الثانية عشرة، اذكر الله، فالمبيت في "منى" لا شغل فيه سوى أن تذكر الله، وأن تعيد كل حساباتك في نهاية الحجّ، {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} ونفر في اليوم الثاني عشر {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}(5)، فلقد أدّى ما عليه من واجب {لِمَنِ اتَّقَى} فيستحبّ له أن يبيت الثالث عشر إذا اتّقى النساء ـــ على بعض التفاسير.

الإستعداد للموت:

{وَاتَّقُواْ اللّهَ}، وأنتم هناك فقيل أن تعودوا إلى بيوتكم ومنازلكم خذوا هذه الفكرة من الحجّ {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أنّكم ستقفون بين يديه وسيسألكم عن كلّ ما قدّمتم من أعمال فاستعدّوا من موقع روحانية الحجّ واستعدّوا وتذكّروا في نهاية الحج بدايته.. فلقد كانت بدايته التلبية (لبيك اللّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) فالتلبيةُ تعني إجابتين إجابةً بعد إجابة بل تعني الاستمرار في الإجابة.. أجبتكَ يا ربّ أولاً.. وثانياً وثالثاً ورابعاً وإلى النهاية في كل أعمالي.

التلبية إجابة دائمة:

وأنتَ تلبّي ربّك وتشهده أنّك تستجيب له.. تستحضر {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ}(1)، وتستحضر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ}(2)، وتستحضر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(3) وتستحضر كلّ نداءات الله في وعيك، وتعطيه عهداً أنّك من هنا تبدأ الاستجابة له، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}(4)، بأن تنطلق في هذا الاتجاه لتتحرّك من جديد، ولتكون حياتك إجابة دائمة لله فيما ألزمك به وفيما حرّمه عليك.

ويقال أنّ بعض أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كان إذا قال (لبيك) ارتعد واخشع واهتزّ، فقيل له: لماذا يا ابن رسول الله، تصيبك هذه الحالة، قال: أخاف أن أقول لبّيك ويقول الله: لا لبّيك ولا سعديك، لأنّه قد يطّلع على قلبي، والأئمة يعلّموننا ذلك ولا يعيشونه، فيرى أني لستُ في موقع الإجابة ولستُ في موضع الطاعة، فتذكّروا (لبيك اللّهم لبيك.. لبيك لا شريك لك) ألبيك ولا أُلبّي أحداً غيرك إلاّ الذي تكون تلبيته تلبية لك لأنّه يقودني إليك، لبيك لا شريك لك.. إنّ الحمد والنعمة لكَ والملك لا شريك لك) وحدك المحمود.. لا حمدَ لسواك إلاّ من خلال الحمد لك.. وحدك ولي النعمة {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}(5)، وحدك {مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء}(6)، وإذا كنت المتفرّد بالنعمة والمتفرّد بالحمد وبالملك، فالذين عُدوا كباراً فبك ومنك، والذين حصلوا على القوّة كانت قوّتهم منك وبك..

 

 

الهجرة إلى الله:

فيا ربّنا إنّنا في الطريق إليك.. هاجرنا إليك كما قال إبراهيم (عليه السلام) {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}(1)، فاجعل هجرتنا في الحياة ونحن نسير إليك هجرة عقولنا إليك.. لتلتقي بالحقّ فيما تتحرّك به.. وهجرة قلوبنا إليك لتكون عاطفتها عاطفة الحقّ.. وهجرة كلّ جسدنا إليك حتى يكون وقفاً على طاعتك وبعيداً عن معصيتك.. وبذلك نحجّ ولا نكون كما جاء في الكلمة المأثورة (ما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج).

وفي نهاية المطاف نلتقي بقول أحد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام): (لا يعبأ الله بمن أمّ هذا البيت إذا لم يكن فيه خصالٌ ثلاث: ورعٌ يحجزه عن معاصي الله، وخلقٌ يداري به الناس، وحلمٌ يردُّ به جهلَ الجاهل) بأن تأتي من الحجّ لتكون الورع الذي يحجزك ورعك عن معاصي الله فيما تستقبل.. وأنْ تكون إنساناً تداري الناس فلا تثير حساسيّاتهم، وأن تكون حليماً تردّ جهل الجاهل بالعفو والمغفرة {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً}(2).

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

المحاضرة العاشرة

12/ ذي الحجة/1417 هـــ (*)

 

في ذكرى وفاة الإمام الباقر (عليه السلام):

كتابُ الله أولاً... فاستنطقوه

 

"كان الإمام الباقر (عليه السلام) يطلب من أصحابه أن يسألوه عن مصدر فتياه من كتاب الله ليرجعوا إلى القرآن في أخذ أحكامهم ومفاهيمهم".

 

 

عودة إلى ذكرى الإمام الباقر (عليه السلام):

كان من المفروض أن نتحدّث عن الإمام الباقر (عليه السلام) في المناسبة التي استقبلناها في الأسبوع الماضي، وهي ذكرى وفاته (عليه السلام) ولكن حديث الحجّ جعلنا نؤخّر الحديث إلى هذه الليلة.

عندما ندرس الإمام الباقر (عليه السلام) الذي هو الإمام المفترض الطاعة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) والذي يتميّز بكلّ ما يتميّز به الأئمة (عليهم السلام) من ألطاف الله بهم فيما منحهم من عصمته، وفيما هيّأ لهم من الكرامات التي توحي بأنّهم قريبون إلى الله قرباً لا يملكه الكثيرون من أوليائه. وعندما ندرسه في هذه المرحلة التي نعيشها، فإنّنا نريد أن ندرس الخطوط الفكرية التي أرادنا أن نتحرّك فيها لنستهدي بهداه كما استهدينا بهدى الأئمة من آبائه وأبنائه الذين استهدوا جميعاً بهدي الله في كتابه وهدي رسوله من سنّته، لأنّ دورنا في علاقتنا بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) هو دور الأمة التي تعمل على أن تعيش مع أهل البيت في حركتها في الحياة، وفي تصوّراتها الفكرية، وفي علاقاتها بكلّ المسؤوليات التي تتحمّلها، وفي معرفتها بالقِيَم الإسلامية.

مالئ عصره علماً:

نحن في هذه الليلة مع الإمام الباقر (عليه السلام) الذي ملأ العصر الذي عاشه بعلم تنوّعت موضوعاته وانفتحت أبعاده على كلّ القضايا التي كان يعيشها عصره فلم تنطلق أيّة قضية في أيّة شبهة أو أيّة مشكلة إلاّ ووجدنا الإمام الباقر (عليه السلام) يتحدث عنها ليضيء ما أظلم منها، وليفتح آفاقها تماماً، وقد تحدّث بعض الذين رووا عنه وهو "محمد بن مسلم" أنّه كان يسأله في مختلف القضايا حتّى أنّه روى عنه ثلاثين ألف حديث، ونجد أيضاً رواة آخرين رووا عنه ما يقارب ذلك في أكثر من موضوع.

وكان العلماء في تلك المرحلة، كما يقول كتّاب سيرته، يهرعون عليه ليرووا عنه، فمنهم من بقايا الصحابة، ومنهم من فقهاء التابعين، ومنهم عظماء المفسّرين والفقهاء والمؤرّخين، حتى أنّنا رأينا (الطبري) في تأريخه يروي الكثير عن الإمام الباقر (عليه السلام)، ويذكر كتّاب سيرته كذلك أنّ العلماء عندما يلتقون عنده فإنّهم يتصاغرون أمامه كما لو كانوا تلامذة بين يديه، حتّى أنّ بعضهم يقول: "رأيت الحكم بن عتيبة، وهو من العلماء المبّرزين في ذلك الوقت، عندما دخل على الإمام الباقر (عليه السلام) جلس بين يديه كما لو كان تلميذاً من تلامذته" وهذا يدلّ على أنّه كان ملتقى كلّ الواقع الإسلامي من خلال مثقّفيه، فلقد كان محلّ الثقة المطلقة في علمه، كما كان محلّ الثقة المطلقة في الجوانب الأخرى من شخصيته.

قبسات من كلماته (عليه السلام):

وفي هذه اللقطات التي التقطناها من بعض كلماته نحاول أن ندرس كيف كان الإمام (عليه السلام) يثير القضايا التي تمثّل اهتمامات المجتمع من حوله، فلقد كان يريد للناس أن يتعلّموا، ويريد للعلماء والمثقّفين أن يعلّموا الناس، فكان يقول لهم إنّهم يتحمّلون مسؤولية العلم الذي يعطونه للناس، فإن فتحوا للناس من علمهم باب هدى فإنّهم يحصلون على كل أجر النتائج التي يتحرّك بها هذا العلم في هداية الناس. وإذا أعطوا الناس علماً ضالاً يفتح باب ضلال فإنّهم يتحمّلون كل سيئات هذا الضلال وكل وزره، فلقد قال: (مَنْ علّم باب هدىً فله أجر من عمل به ولا ينقصُ أولئك من أجورهم شيئاً، ومن علّم باب ضلال كان عليه مثل أوزار مَن عمل به، ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيئاً)(1).

التدقيق في العلم:

فماذا نستوحي من هذا الحديث؟ ما نستوحيه هو أنّ على العالم والمثقّف والمفكّر عندما يريد أن يعطي نتيجة ثقافته وعلمه وفكره للناس فإنّ عليه أن يدقّق في هذا العلم الذي يعطيه، هل أنّه علم هدى أو أنّه علم ضلال، لأنّ حركته في تعليم العلم جزء من عمله الذي يعطيه الله به خيراً أو شرّاً. وهذه مسألة مهمة وهي أن تتحمّل مسؤولية ما تعلّم الناس به وما تحدّثهم به لأنّك من خلال علمك ربّما تغيّر تفكير الإنسان، فإذا كان علمك ضالاً فإنّك تغيّر فكره إلى الضلال، وإذا كان علمك هدىً فإنّك تغيّر تفكيره إلى الهدى.

من هنا ـــ فإنّ الذين يتحدّثون مع الناس الذين يطرحون الثقة في علمهم لا بدّ أن يعيشوا مسؤولية هذا العلم فلا يتحدّثون به بطريقة استهلاكية من دون أساس.

ثم أراد (عليه السلام) أن يبيّن للناس حقيقة مهمّة وهي أنّ عليهم أن يرجعوا إلى كتاب الله في كل القضايا التي يبتلون بها، والمشاكل التي تعرض لهم، والتحدّيات التي يواجهونها، لأنّ كتاب الله يشتمل على كل الخطوط العامة، وعلى أُسس المفاهيم العقيدية والشرعية والحياتية التي يحتاجها الناس، فلقد كان يريدهم أن يقرأوا القرآن قراءة يستنطقونه بها في كل ما يُشكل عليهم من أمر، وفي كلّ ما يواجههم من أفكار معقّدة.

كتاب الله أوّلاً:

يقول (عليه السلام): (إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج الأمة إليه إلاّ وأنزله في كتابه وبيّنه لرسوله وجعل لكلّ شيء حدّاً)(1)، فالكتاب أولاً والسنّة ثانياً وهي لا تبتعد عن الكتاب في الخطوط العامة ولكنها قد تختلف عنه في أنّها تتحدّث عن التفاصيل التي لم يتحدّث عنها، ممّا أوكل الله تعالى أمره إلى رسوله فيما ألهمه به أو فيما أوحة إليه وحياً ليس قرآنياً، لأنّ الله سبحانه وتعالى كان يوحي للنبيّ بأمور ليست قرآناً يتلى بين الناس.

ويضيف الإمام (عليه السلام) فيقول: (وجعل لكلّ شيء حدّاً) أي أنه حدّد حدود المفاهيم والشرائع بحيث لا يتجاوزها الناس، (وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه) وهم الذين جعلهم الله سبحانه وتعالى تراجمة وحيه والأدلاء عليه (وجعل على مَن تعدّى ذلك الحدّ حدّاً).

وإذن، نفهم من خلال هذا الحديث أنّ علينا في كل ما يطرأ من مشاكل وقضايا فكرية، أن ننطلق إلى كتاب الله وسنّة نبيه لنجد فيها ما يحلّ لنا كلّ مشكلاتنا، ولكي لا نضيع فيما ضاع أو يضيع فيه الآخرون، وقد اعتبر الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) عندما رفضوا القياس الذي أخذ به بعض فقهاء المسلمين أن لا حاجة بنا له، لأنّنا إنّما نحتاج إلى القياس فيما لو كان هناك فراغ في التشريع فيما بيّنه الله في كتابه أو سنّة نبيّه، ولقد ذكر الأئمة في أكثر من مكان وحديث أنّ الله تعالى لم يترك شيئاً إلاّ وقد بيّنه، ولكن هناك أشياء لم يحفظها المسلمون، بل حفظها من قرّبهم إليه.

فنحن نجد أنّ علياً (عليه السلام) كان يجمع كل ما عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة يحدّثوننا عن كتاب عليّ (عليه السلام) كمصدر من مصادر معلوماتهم وعن الجامعة التي هي خطّ عليّ وإملاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ممّا يعني أنّنا إذا لم نجد مسألة عند رواة المسلمين فإنّها موجودة عند أهل البيت (عليهم السلام) من خلال المصدر الذي انطلق به عليّ (عليه السلام) فيما تعلّمه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى أنّه قال: (علّمني رسول الله ألف باب من العلم يُفْتَح لي من كل باب ألف باب)(1) وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما يرويه الفريقان من المسلمين (أنا مدينة العِلْم وعليٌّ بابها)(2).

منهجه في تربية أصحابه:

وكان الإمام (عليه السلام) في تربيته لأصحابه يتّخذ منهجاً رائعاً قد لا يستسيغه الكثيرون ممّن يملكون المواقع العلمية، فقد كان يطلب من أصحابه إذا أفتى لهم بفتوى أن يسألوه عن مصدرها من كتاب الله ليعلّم أصحابه منهجين: الأول، هو أن يسألوا كل من يفتيهم حتى لو كان في مستوى الإمام، عن مصدر فتياه، ذلك أنّ المسألة لا تنطلق من خلال الشكّ في المفتي في عدم امتلاكه المعرفة فيطلبون منه أن يدلّهم على المصدر، ولكن ليتثقّفوا بذلك، لأنّ هناك فرقاً بين أن تطلق الفتوى من دون أن تركّزها على الحجّة التي انطلقت منها، فتترك الإنسان الذي سمع منك من دون أن يعيش ثقافة الفتوى وإن كان يعيش حرفيّتها، وبين من يطلق الفتوى ويشير إلى الدليل عليها، فإنّك بذلك تحصل على ثقافتين: الثقافة التي انطلقت بها الفتوى وثقافة الفتوى ذاتها.

فنفهم من هذا أنّ الأئمة (عليهم السلام) كانوا يريدون للأمة أن تتثقّف بالإسلام بحيث تحمل الثقافة الفقهية في مصادر الفتوى بالمقدار الذي يتّسع له فكرها ومستواها، وأما في الجانب الآخر، فإنّه (عليه السلام) كان يريد للأمة أن ترجع إلى القرآن وكان يعلّمها كيف تأخذ أحكامها ومفاهيمها منه.

يقول الحديث عن (أبي الجارود) قال: قال أبو جعفر ـــ أي الإمام الباقر (عليه السلام) ـــ "إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله" ثم قال في بعض حديثه (إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال) فقيل له ـــ أي للباقر ـــ (يا ابن رسول الله: أين هذا من كتاب الله؟!)، قال (عليه السلام): "إنّ الله يقول: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ}(1) فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية اعتبر كل حديث لا يتضمّن الأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس حديثاً لا خير فيه، فالقيل والقال هو الحديث عن عيوب الناس واللغو وما شاكل.

وأمّا الدليل القرآني على (فساد المال) أي النهي عن إضاعة المال، فقوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً}(2)، فإنّما نهى الله عن إتيان السفهاء أموالنا من جهة أنّ السفيه لا يعرف كيف يريد المال وكيف يصرفه.

وأمّا الدليل على النهي عن (كثرة السؤال) فقوله تعالى: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}(3) أي اسألوا عن الأشياء التي تتعلّق بالعقيدة والشريعة والمنهج وبما تحتاجونه في أمر معاشكم ومعادكم، أما الأسئلة التي لا تعنيكم والتي لا تضرّ من يجهلها ولا تنفع من يعلمها، فلماذا تضيّعون أوقاتكم في طلبها؟!.

مفهوم الآخرة:

وكان الإمام الباقر (عليه السلام) يريد إبطال بعض الأفكار الموجودة لدى بعض الناس ممّن يعتبرون أنّ الحصول على الآخرة لا يجتمع مع طلب المال، ومع العمل الذي يستهدف الحصول على الرزق ليعول الإنسان أهله أو ليحفظ ماء وجهه، فلقد كانوا يعتبرون الإنسان الذي يريد الآخرة هو الذي يترك الدنيا، فمن اشتغل بالدّنيا حتى لو كان انشغاله من أجل هدف يحبّه الله ويرضاه فإنّه بعيد عن الآخرة.

 ففي قصة للإمام الباقر (عليه السلام) مع (محمد بن المنكدر) الذي كان يقول "ما كنت أرى أنّ مثل عليّ بن الحسين (عليه السلام) يدعُ خلفاً لفضل عليّ بن الحسين حتى رأيت ابنه محمد بن عليّ، فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه بأيّ شيء وعظك؟ قال: خرجت إبى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت (محمد بن عليّ) وكان رجلاً بديناً وهو متك على غلامين له أسودين أو موليين فقلت في نفسي شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا أشهد لأعظنّه، فدنوت منه، فسلّمت عليه فسلّم عليّ ببهر ـــ أي بانقطاع نفس ـــ وقد تصبّب عرقاً، فقلت: أصلحك الله شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال" ترى ماذا كانت عاقبتك؟ فقال: فخلّى عن الغلامين من يده ثم تساند وقال: (لو جاءني والله الموت وأنا في هذه الحال جائني وأنا في طاعة من طاعات الله تعالى أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس، وإنّما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله)(1).

إنّه يقوم بمسؤولياته حيال عياله وهو أمرٌ يحبّه الله الذي يحبّ الذين يقومون بمسؤولياتهم في الدنيا فيما يرضيه وهو أمر عباديّ، حتى ورد عندنا في الحديث تعليقاً على فهمنا لكلام الإمام (العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال)(1) فقلتُ (القول لابن المنكدر): "يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني" أي أنّك نبّهتني على هذه الحقيقة الإسلامية وهي أنّ الاستعداد للآخرة لا يعني أن يترك الإنسان الدنيا بل أن يترك معصية الله وله كل الحرية في أن يأخذ من الدنيا ما يجعله يعيش في نطاق مسؤولياته.

الحبُّ في الله:

وهكذا كان الإمام يتحرّك على أساس ربط الناس ببعضهم البعض على أساس الإيمان، وهذا أمر قد يفتقده الكثير من المسلمين، قال وهو ينقل الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكل ما عنده وعند الأئمة من رسول الله "ودُّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان، ألا ومن أحبّ في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله فهو مع أصفياء الله"(2) أي أراد أن يقول إنّ ارتباط الإنسان المؤمن بالله يعني أن تكون علاقته بالناس من خلال علاقته بالله، فأنتَ تحبّ الناس بقدر ما يحبّون الله ويحبّهم الله، وأنت تبغض الناس بقدر ما يبغضون الله ويبغضهم الله، وأنت تعطي الناس لأنّهم قريبون من الله، وتمنعهم فلا تعطيهم لأنّهم بعيدون عن الله. فمن كان الله هو النور الذي يضيء له مشاعره في الحب والبغض، وينير له مواقفه في العطاء فهو من أصفياء الله وتلك تمثّل الدرجة الرفيعة من مراتب الإيمان.

وهكذا كان يوصي أصحابه فيقول: "عظِّموا أصحابكم ولا تحقِّروهم ووقِّروهم ولا يتهجّم بعضكم على بعض ولا تضارّوا أي أن يضرّ أحدكم الآخر ـــ ولا تحاسدوا ـــ أن يحسد أحدكم الآخر ـــ وإيّاكم والبخل وكونوا عباد الله المخلصين"، وهكذا نجده يقول للذين يحاولون أن يتحدّثوا دائماً عن عيوب الناس يقول: (إنّ أسرع الخير ثواباً البرّ) بحيث أنّك إذا بررت بالناس وأعطيتهم الخير فما أسرع حصولك على الثواب، (وأسرع الشرّ عقوبة البغي) أي العدوان على الناس (وكفى بالمرء عيباً أن ينظر في عيوب غيره)(1) ممّا يعمى عليه من عيب نفسه أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه من بعض الكلمات التي تثير حساسيته وتثير أذاه، أو ينهى الناس عمّا لا يستطيع تركه. وكان يقول: (اتبع من يبكيك وهو لك ناصح ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاشّ)(2).

كما يروي الإمام الباقر (عليه السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: "دخل يهودي على رسول الله وعائشة عنده فقال السام عليك ـــ السام يعني الموت ـــ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعليك، ثم دخل آخر فقال مثل ذلك فردّ عليه كما ردّ على صاحبه ثم دخل آخر فقال مثل ذلك فردّ رسول الله كما ردّ على صاحبيه فغضبت عائشة لأنّها لم تلتفت للموضوع، فقالت: عليكم السام والغضب واللعنة يا معشرَ اليهود يا إخوة القردة والخنازير، أنتم تدعون على رسول الله وعلى مَن حوله بالموت، فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "يا عائشة إنّ الفحش لو كان ممثّلاً لكان مثال السوء" وهذا يعني أنّ الكلمات الفاحشة لو مثّلت في صورة إنسان لكانت إنساناً قبيحاً ينفر الناس من رؤيته (إنّ الرفق لم يوضع على شيء إلاّ زانه ولم يرفع عن شيء إلاّ شانه)(3)، قالت: يا رسول الله أما سمعتَ قولهم، فقال بلى، أما سمعت ما رددتُ عليهم {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}(4) وهذا هو خُلُق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي كان يعفو عندما كان يرى في العفو مصلحة.

ظلم من لا يجد ناصراً:

ويقول الباقر (عليه السلام): "لما حضرت (عليّ بن الحسين) الوفاة ضمّني إلى صدره، ثم قال يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة وبما ذكر أنّ أباه أوصاه به، قال يا بني إياك وظلمُ مَن لا يجدُ عليك ناصراً إلاّ الله"(5)، فالظلم قبيح للقوي وللضعيف ولكن أقبح الظلم وأشدّه عقوبة هو أن تظلم الإنسان الذي لا يملك أن يدافع عن نفسه ولا يملك إلاّ أن يبتهل إلى الله طالباً أن ينصره عليك، وإذا كان الله هو الذي ينصر هذا المظلوم عليك فكيف يكون موقفك ومنظرك "إيّاك وظلم مَن لا يجدُ ناصراً عليك إلاّ الله".

ونستوحي من ذلك كيف كان أهل البيت (عليهم السلام) يرسمون الظلم بالمستوى الذي يكون النهي عن الظلم آخر وصاياهم عندما يريدون أن يودّعوا الحياة، ممّا يعني أنّ هذه الوصية تقف في درجة الأهمية الكبرى.

الكذب مفتاح الشرور:

وفي مسألة الكذب يقول الإمام الباقر (عليه السلام): "إنّ الله جعل للشرّ أقفالاً وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب والكذب شرّ من الشراب"(1)، وقال: "الكذب خراب الإيمان"، وقال: "أيّ شيء أشد من الكذب، إنّ الكذّاب كلّما أفنى أحدوثة مطّها بأخرى"، أي أنّ عنده مصنع أكاذيب والسرّ في أن الكذب خراب الإيمان وأنّ فيه مفاتيح الشرّ لأنّ الكذب يستر الحقيقة، ولأنّه يبدّل صورة الأشياء فيسيء إلى تصوّرات الناس وإلى الكثير من أوضاعهم وذلك عندما تتحرّك الكذبة لتفرض نفسها على الواقع لتشويه صورة إنسان مؤمن أو من خلال تلميع صورة إنسان كافر، وبذلك تكون جريمة الكذّاب جريمة تتّصل بالواقع العام للناس، بينما أكبر نتائج جريمة شرب الخمر تتّصل بشارب الخمر وحده.

وفي نهاية المطاف، يقسّم الإمام الباقر (عليه السلام) الظلم كما قسّمه جدّه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فيقول: "الظلم ثلاثة: ظلم لا يغفر، وظلم يغفر، وظلم لا يدعه الله، أمّا الظلم الذي لا يغفر فهو الشرك بالله". والله تعالى يقول: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(2)، "وأمّا الظلم الذي يغفره الله سبحانه وتعالى فهو ظلم العبد نفسه" في بعض الحالات "وأمّا الظلم الذي لا يدعه الله فالمداينة بين العباد"(1) يعني ما للعباد من ديون مادية ومعنوية ومن حقوق على بعضهم البعض، فإنّ الله يترك ذلك للناس عندما يقفون بين يديه غداً ليأخذ كلّ واحد منهم حقّه عندما يقول يا عدلُ يا حكيم احكم بيني وبين مَن سلب مالي ومَن أخذ حقّي، وهذا هو منهج أهل البيت (عليهم السلام) في علاقتنا بالناس وبالحياة وقبل ذلك بالله.

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الحادية عشرة

12/ ذي الحجة/1417 هـــ (*)

 

الولايةُ الحقّة

 

"الولايةُ تمثّلُ القاعدة التي انطلق فيها الإسلامُ من جديد في امتداده في خطّ الدعوة والحركة والثقافة والجهاد، تماماً كما كانت النبوّة انطلاقة لانفتاح الإسلام على العالم".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يوم الولاية:

يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(1).

ويقول سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(2).

ويقول عزّ وجلّ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(3).

وهكذا نلتقي بذكرى يوم الغدير.. يوم الولاية بمعناها الروحيّ والحركي والثقافي والتأريخي الذي لا يتجمّد في زمن معيّن ولكنّه يمتد امتداد الحياة.

هذا اليوم هو الذي استجاب فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأمر الله له بأن يبلّغ الولاية التي تمثّل القاعدة التي ينطلق فيها الإسلام من جديد في امتداده في خطّ الدعوة والحركة والثقافة والجهاد، تماماً كما كانت النبوّة انطلاقةً لانفتاح الإسلام على العالَم.

ونحن لا نريد أن ندخل في مفردات ما حدث، ولكنّنا نريد أن نقف وقفة تأمّل في كلّ تأريخ عليّ (عليه السلام) مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد نخرج بنتيجة أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أوحي إليه ـــ إذا جاز التعبير ـــ وحياً روحيّاً ونفسياً قبل الرسالة، ووحياً رساليّاً بعد الرسالة أن يعدّ علياً الإعداد الذي يجمع له فيه كل العناصر التي تجعله امتداداً لرسول الله في كلّ شيء إلاّ النبوّة، فكيف نفهم ذلك؟ كيف نفهم أنّ المسألة لم تكن مفاجأة بالنسبة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم تكن حدثاً لا ينتظره بل كانت معنى يعيشه ويتطلّع إليه في المستقبل.

تعهّده طفلاً:

فلم تكن صدفة أن يختار النبيّ عليّاً في طفولته الأولى ليربّيه، ولم يختر أخوته الآخرين، وقد كان له أكثر من أخ، فلقد اختار عليّاً من بين إخوته واحتضنه، وكان رفيقه في صباه يذهب حيث يذهب، ويجلس حيث يجلس، وكان يلقي إليه منذ الطفولة في كل يوم خلقاً من أخلاقه ـــ كما يقول عليٌّ نفسه عن تلك المرحلة ـــ وكان يربيه على صورته، ونستطيع أن نفهم من صفتي الصدق والأمانة اللتين كانتا عنوان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّهما عنوان عليّ (عليه السلام) أيضاً.

ففي حديث الإمام الصادق (عليه السلام) وقد جاء أحد أصحابه وقال له: "علّمني شيئاً أبلغ به الحظوة عندك" قال: (انظر إلى ما بلغ به عليّ من الحظوة عند رسول الله فافعله، فإنّه بلغ ذلك بالصدق والأمانة)(1). كان يربّيه ليكون على صورته، وكان يعلّمه أن يتأمّل كما كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتأمّل وأن يتعبّد كما كان هو يتعبّد، وكان عليّ (عليه السلام) تلميذاً رائعاً وبارّاً حيث يقول "كنت أتّبعه إتّباع الفصيل أثر أمّه" فلا يبتعد الفصيل عن أمّه وإنّما يخطو بخطواتها، ولقد كان عليّ كذلك: يقتفي أثر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إتّباع في الفكر واتّباع في التأمّل والروح والخلق والعادات والسلوك.

إبنُ الإيمان:

لذلك نستطيع أن نقول بأنّ طفولة عليّ (عليه السلام) الواعية المنفتحة كانت صنع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلم يؤمن عندما دعاه النبيّ للإيمان إيمان الأطفال، كما يحاول بعض المؤرخين أن يقول بأنّ أول مَن آمن من الأطفال عليّ، فطفولة عليّ (عليه السلام) كانت طفولةً شابّة، ذلك أنّ طفولة الطفل هي طفولة وعيه لا طفولة سنّة، فهناك من الأطفال مَن هم شبّان في وعيهم وعقلهم، وهناك من الشيوخ مَنْ هم أطفال في عقلهم ووعيهم، فالطفولة الجسدية لا تستتبع دائماً الطفولة العقلية، فما بالك والمعلم هنا رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وما أعظمه من معلّم.

فعندما دعا عليّاً إلى الإسلام كان الإسلام في عقله معنى قبل أن يكون الإسلام ديناً بالمعنى الانتمائي، لأنّ الإسلام كان يعيش في عقل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وروحه وإحساسه وشعوره قبل أن يرسله الله برسالته، فلقد أعدّه الله تعالى للرسالة فجعل رساليّته في عقله وإحساسه قبل أن يقول له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}(1).

وهكذا نجد أنّ بعض رواة السيرة ينقلون أنّ علياً سئل (هل استشرت أباك عندما آمنت برسول الله) فيقال أنّه قال: "إنّ الله لم يستشر أبي عندما خلقني"(2)، فكيف أستشير أبي وأنا أريد أن أؤمن بالله وبرسوله وبرسالته ـــ إنّ هذا الكلام ـــ على فرض صحّة الرواية ـــ يدلّ على وعي للمسألة في كل أبعادها الفكرية والروحية.

ثم انطلق عليّ (عليه السلام) مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد الرسالة كمسلم مسؤول عن حماية رسول الله، كما جاء في بعض كتب السيرة، وكان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يرعاه في عملية الإعداد كما يحدّثنا عن نفسه، فما من آية تنزل إلاّ وعليّ أول من يسمعها، وأوّل من تتلمذ على رسول الله في معناها وآفاقها ومجالاتها، فهو يذكر في بعض أحاديثه في (نهج البلاغة) أنّه كان يسمع رنّة الوحي عندما كان يأتي إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كما حدّث رسول الله عن ذلك بقوله لعليّ "إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى"(3).

 

 

 

الإعداد المتعدّد الجوانب:

وكان الإعداد ثقافياً وروحياً حيث بقي عليّ (عليه السلام) ملازماً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فعندما كان النبيّ يذهب إلى المسجد الحرام كان عليّ (عليه السلام) يصلّي خلفه عن يمينه وخديجة تقف خلفهما حتى جاء أبو طالب وقال لجعفر: يا بنيّ صِل جناح ابن عمّك، فلم يفارق عليٌّ (عليه السلام) رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عبادته، وكان يقول إنّ أول بيت في الإسلام هو البيت الذي ضمّه وضمّ رسول الله وخديجة، وليست المسألة العائلية هي التي كانت تربط أفراد هذا البيت، بل هي المسألة الإسلامية التي يتحمّل الجميع مسؤولياتها: رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالدعوة، وخديجة (رض) بمالها ورعايتها لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعليّ (عليه السلام) بإعداد قوّته ليشهر سيفه دفاعاً عن الإسلام، وعقله دفاعاً عن الحق، وحركته في الخطّ الذي ينطلق منه وإليه، ولقد عرفنا أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أعطاه سرّه في الهجرة وأراده أن يعبّر عن إخلاصه وتضحيته ليغطّي على  غيبته، فبات عليّ في فراشه بعد أن اطمأن لا إلى سلامته، ولكن إلى سلامة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).. وكان الوحيد الذي ائتمنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أن يؤدّي ودائعه إلى الناس.

 

 

 

 

 

 

الفرد في الغزوات:

وجاء إلى المدينة وكانت التجربة الحربية في انتظاره: تجربة (بدر) وتجربة (أُحُد) و(الأحزاب) و(حُنَين) و(خيبر) وقد جعلته في الواجهة والصدارة في كلّ تلك الحروب، فكانَ له ما لم يكن لغيره فيها من النتائج الكبيرة التي أعطت الفتح للإسلام وللمسلمين وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث عن جهاد عليّ (عليه السلام) في مواطن شتّى، فنحن نقرأ هتاف (لا فتى إلاّ عليّ ولا سيف إلاّ ذو الفقار) ونقرأ في معركة (الخندق) (برز الإيمان كلّه إلى الكفر كلّه)(1) ونقرأ (ضربة عليّ خير من عبادة الثقلين)(2) ونقرأ كذلك (لأعطِيَنَّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله كرّار غير فرّار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه) ممّا يدلّ على أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان في كل معركة من معارك الإسلام يحاول أن يؤكّد على دور عليّ الطليعي العظيم في عملية النصر.

تلميذ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

وكان يتثقّف على يديّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى قيل إنّ نساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كنّ يغرن من عليّ لأنّه كان يشغل رسول الله عنهن، عندما يتناجيان أو يتشاوران في أمر، حتى قال عليّ (عليه السلام) وهو يتحدّث عن تجربته الثقافية مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتتلمذه على يديه: "علّمني رسول الله ألف باب من العلم يُفتَحُ لي من كلّ باب ألف باب"(3) وقد رعاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عقله وروحه وحركته وزهده وإخلاصه للإسلام وانفتاحه على الواقع الإسلاميّ كلّه لأنّه مكّنه من أن يرى ويسمع ما يسمع ويتحرّك مع النبيّ في كلّ التجارب التي مرّت عليه، وبهذا كان نفسه، لأنّه كان صورة عنه، ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي صنع هذه الصورة على صورته، ونستطيع أن نستوحي ذلك من مسألة خاصة، وهي أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما آخى بين المسلمين ترك عليّاً بلا أخ، فسأله عليّ عن ذلك فقال رسول الله: أَمَا ترضى أن تكون أخي، وآخاه في الله، فكانت أخوتهما تعني أن ليس هناك من المسلمين مَن هو في مستوى أن يكون أخاً لرسول الله، ذلك أنّ الأخوة بينهما كانت أخوّة عقل وأخوّة روح وأخوة إخلاص وأخوّة لله ولرسوله وأخوّة انفتاح على الإسلام والمسلمين، وإذن فهو صنعته وهو صورته، وكان لطفُ الله الذي يفيض على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يفيض على عليّ (عليه السلام) ليعيش الكمال كأفضل ما يكون الكمال، وهذا هو ملمحٌ من ملامح صورة الإعداد النبويّ لعليّ.

حديث النبيّ عن عليٍّ:

وأمّا الصورة الثانية، فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يتحدّث عن صحابيّ كما تحدّث عن عليّ (عليه السلام) فهل المسألة عاطفية لأنّه ربّاه، أو لأنّه ابن عمّه وأبناء عمومته كثيرون؟ أو لأنّه صهره، وإذا صحّ أن يكون لرسول الله بنات فعليّ ليس الصهر الوحيد.

كما أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبنصّ القرآن {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(1) فليس لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هوى بالمعنى الشخصيّ للهوى، بل إنّ هواه هو هوى رسالته وخطّه وإخلاصه لربّه وانفتاحه على كل رضوان الله سبحانه وتعالى.

فلماذا إذن يؤكّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على الحديث عن عليّ (عليه السلام) فيقول: (أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها)(2) ويقول: (أنتَ وليُّ كلّ مؤمن ومؤمنة)(3) ويقول: (عليٌّ مع الحق والحق مع عليّ)(4) ويقول: (أما ترضى بأن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي)(1) ومنزلة هارون من موسى عبّر عنها القرآن بقوله تعالى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي*هَارُونَ أَخِي*اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي*وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي*كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً*وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً}(2).

فلماذا كلُّ هذا الحديث وأصحاب رسول الله كثر مع كلّ احترامنا للصفوة الطيّبة منهم، فما هو تفسير هذه المسألة، وهل أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أراد للمسلمين أن يحبّوا علياً في الجانب العاطفي؟ تلك مسألة لا تحتاج إلى كلّ هذا الجهد، فعليّ يمكنه أن يفرض حبّه على كلّ مَن عرفه، فبإزاء إمكاناته الروحية والثقافية والجهادية والحركية لا يملك الإنسان إلاّ أن يحبّه إلاّ مَن كان في قلبه مرض.

المحبوبُ لشخصه:

إنّنا لا نستطيع إلاّ أن نحبّ عليّاً.. كن شيعياً أو سنيّاً أو مسيحيّاً، كن أيّ شيء فإنّك لا تملك إذا تطلّعت إلى عليّ في جميع آفاقه الروحية وإخلاصه وجهاده وعلمه إلاّ أن تخشع أمام هذه الشخصية التي من الصعب أن تجد شخصية بعد رسول الله تملك ذلك كلّه، ولذلك قال الشاعر المسيحي (بولص سلامة).

يا سماء اشهدي ويا أرضُ قُرّي            واخشعي إنّي ذكرتُ عليّا

فأنتَ تحبُّ علياّ إذا كنت تملك عقلاً منفتحاً وقلباً منفتحاً ووعياً للإنسانية، وهذا أمرٌ لا يحتاج إلى وصية قرآنية أو نبوية، فأنتَ تشعر بنفسك وقلبك ومشاعرك تتجّه إليه لتحتضنه بكلّ عاطفة وحبٍّ، فلم يكن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يريد أن يحبّ الناس علياً (هكذا) ولغرض عاطفيّ، لأنّ الذين في قلوبهم مرض لا يحبّون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بل ولا يحبّون الله، وأمّا مَن ليس في قلبه مرض فلا بدّ أن يتّجه نحو الحقيقة الصافية.

لهذا نفهم أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يريد أن يعدّ علياً في عقول المسلمين من خلال أنّه الشخص الذي يملك العلم كلّه، والذي ارتبط الحقُّ به ارتباطاً عضوياً بحيث لا يمكنك أن تجد أيّة ثغرة بين الحقّ وبين عليّ، ممّا يجعله تجسيداً للحق، فكما يمكن أن تنظر لصورة الحقّ الفكرية بعقلك يمكنك كذلك أن تنظر لصورة الحق العملية متمثّلة بعليّ (عليه السلام) بعينك.

فعندما يكون شخص بهذا المستوى وهذه المنزلة، وعلى جميع الأصعدة، ففي القضاء على سبيل المثال يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "عليٌّ أقضاكم"(1) وسبقت الإشارة إلى بعض أحاديث الجهاد فمن كل ذلك نفهم أن ليس هناك شخص في المسلمين يساوي علياً ولا نريد أن نغمط حق أحد ممّن له حقّ.

وبناءً على ذلك، فإنّ بيعة الغدير أمرٌ طبيعيٌّ جداً، فلقد جاء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}(2) فقد أنزل إليك ــــ يا رسول الله ــــ بلاغٌ من ربّك أن تؤكّد ولايته، فالولاية ليست حكماً شرعياً يمكن أن يؤجّل أو ينسى بل هي قضيّة الإسلام كلّه الذي يراد له أن يتحرّك في قيادة جديدة تكون في كل مجالاتها وآفاقها امتداداً للقيادة النبوية حتى تبقى المسيرة منطلقة.

احتياجُ الكلّ إلهي:

فثمّة فرق بين أن يكون أحدٌ خليفة لحاكم يقود الناس ليقود وضعهم الإداري أو الرسمي، فهذه مسألة ليست من المسائل التي تحتاج إلى شخص فوق العادة إنّما تحتاج إلى شخص له إمكانات مناسبة وغير استثنائية، أمّا في مسألة الدين الإسلاميّ فإنّ الله أرسل رسوله بهذا الدين وأنزل عليه القرآن من أجل أن يدخل الإسلام في عقول الناس وفي قلوبهم وليقوم عليّ من بعده بنفس الصفاء الذي كان يعيشه رسول الله وبنفس الفهم أيضاً، وبنفس الانفتاح والأُفق الواسع وبنفس الأخلاق ليكمل المسيرة.

لذلك نلاحظ أنّ المشركين لم يتركوا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يمضي في تنفيذ خطّته في توعية المسلمين وتعميق الإسلام في نفوسهم ونشر الإسلام في كلّ المجالات.

فلقد كان المطلوب أن يكون هناك قائد يملك أن يكمل حركة الرسالة، وأن يكون له العلم الذي يستطيع أن يجيب به كلّ أحد عن سؤاله، كما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يجيب كلّ سائل عن سؤاله، وأن يكون الإنسان الذي لا يحتاج في مواجهة التحدّيات إلى أحد بل يحتاج إليه كلّ الناس في المسائل الثقافية على الأقل، وهذا ما عبّر عنه (الخليل بن أحمد الفراهيدي) عندما قيل له لِمَ قدّمت علياً (عليه السلام)؟ فقال "احتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكلّ دليلٌ على أنّه إمام الكلّ" فلم يعهد أنّ علياً سأل أحداً مسألة، بينما يعرف الجميع أنه حتى الخلفاء الذين تقدّموه كانوا يحتاجون إليه.

فنحن نقرأ في التاريخ قول الخليفة الثاني "لولا عليّ لهلك عمر"(1) وقوله: "لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن"(2) ممّا يرويه كلّ المسلمين.

لذلك كان الأمر يحتاج إلى شخص يجسّد الإسلام عقلاً وروحاً وقوّة وحركة وانفتاحاً وإخلاصاً، فلم يكن ثمّة شخص بمستوى عليّ، لذلك كانت الولاية تتطلّب أن يكون هناك إنسان هو نفس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في كل ما تعيشه نفسه، ففي آية المباهلة {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ}(3)، فعليٌّ كان يمثّل نفس رسول الله، لذلك قال تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}  فكأنك لم تصنع شيئاً بدون ذلك وهو الرسول الذي بلّغ كل الرسالة التي أنزلت إليه، ولم يترك شيئاً، فلا بدّ أنّ إهمال هذا الأمر يساوي عدم تبليغ الرسالة وتركها في مهبّ الريح.

ولذلك قال تعالى: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} الذين قد يقولون لقد ولّى ابن عمّه وصهره ممّا يمكن أن يثيره المنافقون والكافرون يومذاك.

فأمر الناس، كما رواه السنّة قبل الشيعة وصحّحه الكثيرون من علمائهم، بالنزول في وقت قائظ شديد الحرّ، وكانوا يبلغون مائة ألف وأكثر، وقال لهم (أيّها الناس إنّه يوشك أن أدعى فأجيب)(1) ثمّ قال (ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم) قالوا: اللّهم بلى، قال: اللّهم اشهد، وقوله (أولى بالمؤمنين) دليل حاكمية الرسول {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}(2) فللنبيّ صفتان: صفة المبشِّر والنذير {إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ*لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(3)، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً}(4)، وصفة الحاكمية التي أشارت إليها الآية السابقة، فما ذكره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إيحاء بحاكمية عليّ (عليه السلام).

ثمّ قال: (هل بلّغت اللّهم اشهد) ثمّ بعد ذلك، قال: (مَن كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللّهم والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه وانصر مَن نصره واخذل مَن خذله وأدر الحقّ معه حيثما دار)(5).

الولاية تعني الحاكمية:

إنّنا نفهم من هذا أنّه أراد أن يقول مَنْ كنت مولاه ـــ بمعنى الحاكمية ـــ فعليّ وليه، والدليل على ذلك هو هذه المقدمة، لأنّه ليست لها مدخلية في الموضوع لو لم تكن كلمة المولى تعني مسألة الولاية في معنى الحكومة، ثم أتبع ذلك بقوله: (اللّهم والِ مَن والاه) فهو يتحدّث عن الحاكم الذي يحتاج إلى النصرة وإلى عدم الخذلان، ويحتاج إلى أن يكون الحقّ معه في جميع حالاته.

إنّنا نؤكّد ذلك لأنّ البعض حاول أن يفسّر (مَن كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه) أي مَن كنت أحبّه فهذا عليّ محبّه ومَن كنتُ ناصره فهذا عليّ ناصره، لكنّنا نرى أنّ هذا لا يحتاج إلى كل هذا الاجتماع وكل هذا الجهد وكل هذه المعاناة التي عاناه المسلمون ولا يحتاج أيضاً إلى أن يدعو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمن نصره بالنصرة ولمن خذله بالخذلان، وأن يتحرّك على أساس أن يدور الحق معه حيثما دار، وعندما أكمل رسول الله كل هذه المراسم ونصب خيمته حيث بويع عليّ نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(1) وانطلق الضبابُ والغيوم والغبار من هنا وهناك من تشكيك المنافقين ـــ ممّا اعتادوه ـــ في محاولة منهم لتضييع الحقيقة وإرباك الوضع وإثارة الاستفهام، وهي محاولات لم تتوقّف عند عصر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد عاني منها عليّ (عليه السلام) إلى درجة أنه اضطر معها أن يشهد بين الحين والآخر الصحابة ممّن سمع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وشهد يوم الغدير في مواجهة كلّ هذا الضغط وكل هذه المحاولات التي وإن فشلت في تحقيق مرامها وتغييب هذا اليوم العظيم من أذهان المسلمين إلاّ أنّها حاولت على الأقل أن تربك الوضع العام فيما بعد، ممّا بقي أثره إلى اليوم.

الولاية الحقّة في حياتنا:

عندما نريد ـــ أيّها الأحبّة ـــ أن نؤكد الولاية الحقّة في خطّ عليّ (عليه السلام) والأئمة من أهل بيته فإنّما نريد أن نقول أنّ علينا من خلال هذا الاقتناع وهذا الالتزام أن لا ننطلق في عملية فتنة أو تفرقة بين المسلمين، فلنا التزامنا الذي نؤمن به بكلّ عمق وبكلّ يقين وللآخرين ما يلتزمون به، وقد أمرنا الله أنّنا إذا تنازعنا في شيء فإنّ علينا أن نردّه إلى الله وإلى الرسول لنتحاور ونرى ماذا قال الله وماذا قال رسول الله ولنقرأ بعد ذلك {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(2).

إنّنا نعرف بأنّ مسألة الولاية أساسية، وهي بالنسبة إلينا من الناحية العملية أن نأخذ بفكر عليّ الذي هو الفكر الصافي في الإسلام، وأن نأخذ بجهاد عليّ وبروحانية عليّ، وأن نأخذ بشجاعة عليّ وإخلاص عليّ وصبر عليّ (عليه السلام) ووعي عليّ لقضية الإسلام والمسلمين، وعلينا أن لا نعمل على إرباك الواقع الإسلاميّ كلّه بالفتنة وبالتنازع وبالتحاقد في الوقت الذي ينطلق فيه الاستكبار العالمي من جهة والصهيونية من جهة أخرى وهما متحالفات تحالفاً استراتيجياً من أجل القضاء على الإسلام والمسلمين.

الارتفاع إلى مستوى عليّ:

في مثل هذه الظروف علينا أن نرتفع إلى مستوى موقف عليّ (عليه السلام) الذي رأى أنّ المصلحة الإسلامية تفرض عليه أن يعاون الذين تقدّموه بالنصح والمشورة والرعاية لا تنازلاً عن حقّه، لأنه لا يملك أن يتنازل عنه ولكن (لأسلّمن ما سلمت أمورُ المسلمين ولم يكن بها جورٌ إلاّ عليّ خاصة)(1) وقوله في كتابه لأهل مصر، وعليكم أن تتذكّروه دائماً لتعرفوا كيف يعلّمنا عليّ (عليه السلام) إذا وقفنا بين مصلحة الإسلام العليا وبين خصوصياتنا فيما نلتزمه وما نرفضه فإنّ علينا أن نجمّد خصوصيّاتنا ولا أقول نلغيها، وأن نراعي المصلحة الإسلامية العليا (فما راعني إلاّ انثيال الناس على "فلان" يبايعونه فأمسكت يدي) أي وقفت موقفاً حيادياً (حتى إذا رأيتُ راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يريدون محق دين محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فخشيت إن أنا لن أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثَلَماً أو هدْماً تكون المصيبة به عليّ ) ولاحظوا كلمة "المصيبة" (أعظمَ من فوت ولايتكم هذه التي هي متاع أيام قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب وكما ينقشع السحاب فنهضتُ حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتَنَهْنَه)(2).

فهذا هو عليّ (عليه السلام) لقد نصر الإسلام بسيفه كما نصره بعقله وفكره، ونصر الإسلام بصبره ووعيه وانفتاحه، فلا تستغرقوا في داخل نفوسكم وفي داخل عصبيّاتكم ولكن انظروا دائماً إلى الأرض التي أنتم عليها متى تثبت ومتى تهتز، انظروا إلى الآفاق التي تعيشون في داخلها ومتى تنطلق العواصف ومتى ينطلق النسيم العليل، لذلك حاذروا أن تضيفوا عاصفةً إلى العواصف التي تريد أن تجتاحنا، لا تضيفوا زلزالاً عصبيّاً يضاف إلى الزلازل التي تهزّ الأرض من تحت أقدامنا، علينا أن نصر كما صبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأن نصبر كما صبر عليّ (عليه السلام) وكما صبر الحسن والحسين والأئمة (عليهم السلام) وكما صبر إمامنا (عجَّل الله فرجه الشريف) في هذه الغيبة الطويلة، ولنكن الصابرين الواعين المنفتحين، ولنكن كما جاء في الحديث "لا يُقَدِّم رجلاً ولا يؤخِّر أخرى حتى يعلم أنَّ ذلك لله رضا" فلا تفكّروا برضا عصبيّاتكم ولكن فكّروا برضا ربّكم وإيمانكم وإسلامكم {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ}(1).

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثانية عشرة

26/ ذي الحجة/1417 هـــ (*)

 

في ذكرى "المباهلة":

نحو حوارٍ موضوعيٍّ هادف

 

"يجب أن ننطلق في حياتنا لنمارس الحوار لا مع أهل الكتاب فحسب بل مع كلّ الناس الذين نختلف معهم في الفكر سواءً كان دينياً أو ثقافياً أو سياسياً أو اجتماعياً".

 

 

ذكرى "المباهلة":

نعيش في هذه الأيام قضية "المباهلة" التي تحدّث القرآن عنها في أجواء تفتح لنا آفاق جديدة، فالله تعالى يقول: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ*الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ*فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ*إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(1).

إنّ لهذه الآيات كما يذكر المفسّرون قصّة وخلاصتها أنّ وفد نصارى نجران جاء إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونزل في مسجده وذلك ليحاوره، فقالوا له: ما هو رأيك في عيسى؟ فقال: إنّ عيسى (عليه السلام) عبد مخلوق لله يأكل ويشرب ويمارس ما يمارسه الناس ويُحدث وما إلى ذلك، فأرادوا أن يعطوا فكرتهم في أنّ عيسى (عليه السلام) ليس بشراً كبقية البشر من خلال عقيدتهم في أنّ الله تجسّد فيه، وأنّه هو الله متجسد في جسد بشر فقالوا هل يمكن أن يكون هناك مخلوق بدون أب، فعيسى (عليه السلام) ولد من دون أب كما تقولون، فأنزل الله على رسوله {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(2) فآدم ـــ باعترافكم ـــ مخلوق يأكل ويشرب ويحدث، وما إلى ذلك، وليس له أب وأم.

إنّ مسألة الخلق تنطلق من قدرة الله الذي خلق آدم من دون أب وأم وخلق الناس كلّهم من أب وأُم وهو القادر على أن يخلق إنساناً من دون أب، فما دام الأمر متّصلاً بقدرة الله فإنّها قدرةٌ لا حدّ لها، ويبدو أنّهم ـــ أي نصارى نجران ـــ قد دخلوا في الحجاج حول هذا الموضوع وفي غيره، ويبدو من خلال جوّ الآية أنّ الحجاج وصل إلى طريق مسدود بحيث أغلقوا عقولهم عن التفكير فيما قاله لهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الله تعالى.

 

في حركة الواقع:

ونحن ـــ في حياتنا اليومية ـــ نلتقي بالناس الذين ما إن تبدأ معهم الحوار حتى يغلقوا عقولهم وتفكيرهم عن الاستمرار فيه، لهذا فإنّ الله تعالى قال للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) احسم الموضوع بالمباهلة التي ربّما كانت معروفة في الرسالات السابقة، وهي أن يقف اثنان أمام الله إذا اختلفنا في أمر ولم يصل الحوار إلى أيّة نتيجة، وأن يقول كل واحد منهما: تعال لنبتهل إلى الله ليلعن الكاذب منّا، وربّما كانت قضية ابني آدم تقترب من جوّ المباهلة وإن كانت ليست مباهلة، وذلك عندما قرّبا قرباناً فتقبّل من أحدهما ولم يتقبّل من الآخر، فالمباهلة هي أن يقف الاثنان بين يديّ الله ليلعن الكاذب منهما.

فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من خلال الآية والرواية: تعالوا نبتهل، وانصرف القوم على أساس اللقاء وفق موعدٍ محدّد، وتقول الرواية التي يذكرها المفسّرون أنّ رئيسهم وهو "السيّد" أو "العاقل" كما يسمّونه، قال لهم: انظروا فإن جاء بقومه فليس نبيّاً وستكون النتيجة لصالحنا، ولكن إنْ جاء بأهل بيته فإنّ علينا أن نمتنع عن المباهلة.

وعندما جاء موعد اللقاء جاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعه عليّ (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) والحسنان (عليهما السلام) فسأل رئيس النصارى: مَن هم هؤلاء؟ فقيل له: هذا صهرهُ وابن عمّه وهذه ابنته وهذان ابنا ابنته، وعند ذلك، قالوا للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لا نريد أن نباهلك، قل ما هي شروطك لنعقد معاهدة بيننا وبينك، وعقدت المعاهدة بين النبيّ وبين النصارى، وهذه هي قصّة المباهلة.

إستيحاء المباهلة:

وثمّة نقطة في القصة لا بدّ لنا أن نعرفها وهي مهمة في استيحائنا للقصّة وهي أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنزلهم في مسجده، فلم يكن لديه دار ضيافة، ومن ذلك نستوحي أن لا مانع من أن يدخل غير المسلمين في المسجد، حتى أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن بعده كانوا يستقبلون الوفود في المسجد حتى من المشركين، ولسنا في صدد هذا البحث الفقهي، فعندما جاء وقت صلاتهم ضربوا الناقوس واستنكر المسلمون ذلك، ونقلوا الأمر للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال دعوهم ليفعلوا ما يشاءون من صلاتهم، هذه هي القصة، وما نريد أن نقف عنده منها هو كيف نستوحيها؟

إبن البنت:

فإبن البنت يطلق عليه إبن، فلمّا نزل قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ} ما كان من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلاّ أن أخرج معه الحسنين وهما ابنا ابنته، كما يطلق ذلك على عيسى (عليه السلام) {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ} [الأنعام : 84]، {دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة : 78] أي أنّه يتّصل بإبراهيم من خلال الأم لا من خلال الأب.

ثمّ التعبير عن عليّ (عليه السلام) من أنّه نفسُ رسول الله، فهذا التعبير يوحي بأنّ شخصية عليّ (عليه السلام) قد اندمجت بشخصية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علماً وروحانية وأخلاقاً وزهداً وشجاعة بحيث كان يمثّل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ذاته كما كان رسول الله يتمثّل فيه.

الحوار الإسلاميّ ـــ المسيحي:

والإيحاء الآخر الذي نستنتجه من هذه القصة هو مسألة الحوار الإسلاميّ ـــ المسيحي، لأنّ هؤلاء عندما جاءوا إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهم يحملون عقيدة غير عقيدتهم، لاسيّما بالنسبة للسيّد المسيح (عليه السلام) ويتّبعون ديناً غير دينه، جاءوا إلى مركز النبوّة ونزلوا في الموقع العباديّ للإسلام وهو المسجد، وأعطاهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كلّ الحرية في أن يطرحوا فكرهم، ولم يمارس أيّ ضغط عليهم في تقديم فكرهم إليه، بل كان يواجههم بالحجّة كما نقلته الرواية من ردّه عليهم بالنسبة لعيسى (عليه السلام) بتمثيله بآدم (عليه السلام)، فإنّنا نستوحي من ذلك الدلالة على سماحة الإسلام وعلى أنّه لا مانع في تشريعه من أن يأتي النصارى إلى المسجد ويؤدّوا صلاتهم فيه، وربّما نلاحظ من خلال القصة أنّ مجتمع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو متقدّم على مجتمعنا، بمعنى أنّ العرف الذي كان في ذلك المجتمع هو عرفٌ منفتح أغلقناه فيما بعد.

أدب الاختلاف:

تلك نقطة مهم يجب أن لا ننطلق منها في حياتنا لنمارس الحوار مع أهل الكتاب فحسب بل مع كل الناس الذين نختلف معهم في الفكر، سواءً كان دينياً في مجال العقيدة، أو ثقافياً في مضمار المفاهيم، أو في حقول السياسة والاجتماع وغيرها، فالحوار الهادف الموضوعي هو الذي يحترم فيه المحاور محاوره دون أن يتّخذ من اختلافه معه في الرأي أسلوب السباب والشتائم والإساءة إلى الذات لأنّك عندما تريد أن تدخل مع الآخر في حوار فيما اختلفت معه في الفكر، يجب عليك أن تحترم فكره في مجال الحوار كما تريد منه أن يحترم فكرك، وهذا أقوى وأبلغ من أن تواجهه بأسلوب العنف لأنّ أسلوب العنف هو أسلوب الفاشلين الضعفاء، ذلك أنّ القوي فكرياً لا يخاف ممّا يواجهه به الآخرون من فكر مختلف، بل يردّ الحجّة بالحجّة والفكرة بالفكرة، وهذا هو شأن الإسلام في كلّ ما تحرّك فيه من أسباب الحوار.

قراءة القرآن بوعي:

فنحن عندما نقرأ القرآن، وأنا أوصيكم دائماً أن تقرأوه قراءة وعي وعلى أساس أن تتحرّكوا معه في حركة الحياة من حولكم لأنّكم إذا فهمتم القرآن ككتاب هدىً فإنّه ينير لكم الطريق إلى أن تعيشوا حياتكم بشكل أفضل فإنّكم تستطيعون أن تعيشوا القرآن متجسّداً في حياتكم بحيث تكون صورة حياتكم هي صورة القرآن، وبذلك تنفتحون على الأُمّة كلّها.

إنّنا نريد أن نستوحي من هذه الآية أن ننفتح على الحوار المسيحي ـــ الإسلامي كما ننفتح على الحوار مع كلّ الأديان الأخرى حتّى غير الكتابيّة، ومع كلّ الأفكار الأخرى، وأن يكون طابعنا طابع الأمّة التي تحاور وتحترم مَنْ تُحاوِر.

ولعلّنا نحتاج إلى أسلوب الحوار بيننا عندما نختلف كلاميّاً أو فقهياً أو سياسياً أو اجتماعياً وأن نبتعد عن روحية الانفعال التي يحاول كل فريد منّا أن يدمّر من خلالها الفريق الآخر، وأن يشوّه صورته، وأن يتحدّث معه بأسلوب لا مسؤول، ففي هذه الحالة سوف لن تحقّق شيئاً بل إنّك لن تقنع الآخر، ولن تنفتح عليه أو ينفتح عليك.

الأساليب الإيمانية:

ثم نستوحي من المباهلة كخطّ أخير في الجدال أنّ علينا كما نستخدم أساليب الحوار الفكرية في مقام اجتذاب الآخرين، علينا كذلك أن نستخدم الأساليب الإيمانية، فإذا كنّا والآخر نؤمن بالله سبحانه وتعالى فلننطلق إلى تقديم الأساليب التي تجعل الفريقين يخافان من الله ويرجعان إليه لأنّ الإيحاء بقوّة الله في أجواء هذا الخلاف يجعل كل فريق يراجع نفسه عندما تصل المسألة إلى المنطقة الأخيرة وإلى الموقف الحاسم، فكأنك تقول له لم تقتنع بما أقول ولم أقتنع بما قلت والحقيقةُ عند الله وهو لا ينزل علينا ملكاً ليحلّ الخلاف بطريقة إعجازية، فتعال من خلال إيماننا بالله نرجع إليه لندعو في موقف واحد وفي جوّ مليء بالعاطفة من أبنائنا وأبنائكم، ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم، أن يلعن الكاذب منّا.

إنّ المباهلة تمثّل أسلوب الصدمة الإيمانية التي تهزّ أعماق الإنسان لتعيده إمّا إلى أن يؤمن بما تؤمن به أو ليبتعد عن موقع الحوار والجدال وهذا ما حدث، فالمباهلة التي طرحها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من خلال أمر الله له بذلك جعلت هؤلاء يعيشون الصدمة التي خافوا منها على أنفسهم عندما استنفروا إيمانهم بالله، ولذلك منعتهم تقاليدهم ورواسبهم أن يؤمنوا لكنها ابتعدت بهم عن ساحة الجدال والخلاف الذي يحارب فيه الناس بعضهم بعضاً، فخضعوا للمعاهدة، وهكذا كان.

ـــ أيّها الأحبّة ـــ في درس المباهلة الكثير من الإيحاءات وعلينا ونحن نعيش في ذكرى المباهلة أن ندخل إلى أعماقها لنفهمها فهماً يبتعد بها عن المناسبة المحدودة في الزمان والمكان والأشخاص لننطلق بها من أجل أن تتحرّك في حياتنا كلّها وفي واقعنا كلّه عندما نختلف مع الآخرين ونحاورهم، فالأمة القرآنية هي الأمّة التي يعيش القرآن نوراً في عقولها ويقظة في قلوبها وطهراً في مشاعرها وحركة في واقعها.

أيّها القرآنيون انفتحوا على القرآن وتدبّروه جيداً وتأمّلوه جيداً حتى تخرجوا به ـــ كما أراد الله لكم ذلك ـــ من الظلمات إلى النور، ومن ظلمات الجهل والتخلّف والأنانية والعصبية العمياء إلى نور العلم والتقدّم والإبداع والانفتاح على الإنسان الآخر.

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثالثة عشرة

10/ محرّم/1418 هـــ (*)

 

في العاشر من محرّم:

تغيير الواقع على أساس استقامة الخطّ

 

"لا بدّ أن تكون نتائج هذه المجالس والمواكب والتعبئة الروحية خطةً من أجل تغيير الواقع".

 

 

 

قصّة الحسين (عليه السلام):

لقد قيل الكثير في تحليل ثورة الإمام الحسين أو نهضته أو حركته ـــ حسب اختلاف التعبيرات، ولا زال هناك الكثير ممّا يمكن أن يقال، لأنّ انطلاقة الحسين (عليه السلام) لم تكن محصورة في المرحلة الزمنية التي عاشها الإمام الحسين (عليه السلام) لتعيش ضمن هذه الحدود في الزمان والمكان فتنتهي كما ينتهي أي شيء يتجاوز زمانه ومكانه، ولكنّ قصة الحسين (عليه السلام) هي قصّة الإسلام كلّه من خلال موقعه الشرعيّ كإمام للإسلام ومسؤول عن المسلمين، هي قصّة الإسلام في تأصيل مفاهيمه وتركيز خطوطه في مواقع الإنسان، وبذلك تغدو قصّة الحسين قصّة الإنسان كلّه، لأنّ الإسلام جاء من أجل أن يجعل الإنسان يعيش معنى إنسانيّته التي أودعها الله في تكوينه فيما يسمى بالفطرة {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(1)، والفطرة هي هذا المعنى الكامل في عمق الإنسان الذي يجعله ينفتح على الحقِّ كلّه وعلى الخير كلّه بكل عفوية وبساطة، فلولا الحواجز التي تحجزه عن الحق والخير لا نفتح عليها بكلّ معنى واستقامة.

فكلّما كانت للإسلام قضية كان هناك الحسين، وكلّما كانت للمسلمين ساحة صراع كان هناك الحسين، لأنّه يمثّل التجسيد الفكري والروحي والعملي والجهادي لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهذا ما قد نستوحيه من كلمة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "حسينٌ منّي وأنا من حسين"(2) وهي تنطلق بعيداً عن الجانب الذاتيّ لأنّ ذلك لا يمثّل شيئاً كبيراً في القيمة الحقيقيّة للارتباط العضويّ والتفاعل الروحي والحركي بين النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والحسين (عليه السلام) ممّا يجعلها شيئاً واحداً بحيث يمكن أن نقول إنّ الحسين من رسول الله ورسول الله من الحسين فهما يتكاملان بهذا المعنى الذي يشكّل الوحدة بينهما.

 

تعظيم الذكرى:

وعلى ضوء ذلك فإنّنا في كلّ سنة نقيم فيها هذه الذكرى لا بدّ لنا أن نقف وقفة تأمّل أمامه، فما هي الغاية من إقامة وتعظيم هذه الذكرى بهذا المستوى الحاشد في العالم الإسلاميّ، فهل المسألة هي استعادة ذكرى وتاريخ، لأنّنا نخلص إلى شخصيات ذلك التاريخ ولأحداثه وتبقى القضية قضية تاريخ ضاع في الزمن ونحاول أن نستعيده، ثم عندما نفرغ من قصة هذا التاريخ ذكرى ودموعاً وحركة ننطلق إلى حياتنا تماماً كما لو لم نكن فعلنا شيئاً.

قد تزيدنا الذكرى حبّاً للحسين أكثر وولاءً لأهل البيت أكثر، وقد تزيدنا عمقاً في الإحساس بالمأساة أكثر، ولكن ذلك كلّه عندما يبقى في نطاق الذات فإنّه لا يغيّر من الحياة شيئاً، ونحن عندما نستنطق الحسين (عليه السلام) في كلماته فإنّنا نجد أنه انطلق من أجل تغيير الواقع على أساس استقامة الخطّ، لأنّ الواقع انحرف عن الخطّ فأراد الحسين (عليه السلام) أن يرسم معالمه للقيادة الإسلامية، حيث قال: "أيّها الناس إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لِحُرَم الله ناكثاً لعهد الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثم لم يغيّر بقول ولا فعل كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله"(1)، إنّه يختصر الموقف الرسوليّ في أنّ الحاكم عندما لا يكون منفتحاً على الإسلام في الفكر وفي العمل فإنّ على الأمّة أن تغيّره، ولو بقيت الأمّة راضية به فإنها تدخل مدخله لأنّ "مَن رضي بفعل قوم كان كالداخل فيه معهم" كما قالها عليّ (عليه السلام).

بين الخطّ والواقع:

ثم قال في توجيه الأنظار إلى الواقع لإحداث عملية مقارنة بين الخطّ وبين الواقع: (ألاَ إنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتولّوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطَّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله وعطّلوا الحدود، وأنا أحقُّ بهذا الأمر)(1) فهناك انحراف في الالتزام بالله في موقع الطاعة.

وهناك انحراف عن الدستور في موقع التشريع بتحريم الحلال وتحليل الحرام، وهناك تعطيل للقوانين والحدود بتقديم الشريف فلا يطبّقون القانون عليه فيما يطبّق على الضعيف حصراً، واستئثارهم بالفيء الذي هو مال الأمة وهو بالتالي مال الله.

(وأنا أحقُّ بهذا الأمر) ممّا يعني أنّ الحسين (عليه السلام) كان في عملية تغيير شاملة للواقع من خلال حركته كإمام يملك الشرعية ويعطيها لكلّ حركة ولكلّ خطّ ولكلّ قضيّة من قضايا المجتمع.

وعندما نأتي إلى قوله (عليه السلام) (ألا ترون إلى الحق لا يُعمَل به وإلى الباطل لا يُتَنَاهى عنه) نرى أنّه بذلك يرسم الخط ويقول لنا أنّ المشكلة التي أواجهها هي هذه وأنّ مسؤوليتي تتعيّن برسم الخطّ، ويقول لنا أنّ المشكلة التي أواجهها ومسؤوليتي التي تنطلق في اتجاهها، هي أنّ هناك حقاً لا يعمل به في العقيدة والشريعة والمنهج والحركة والسلوك، وأنّ هناك باطلاً لا يُتناهى عنه في ذلك كلّه أيضاً.

التحرّك الإصلاحي:

وإذاً فالمسألة تفرض التحرّك الذي قال عنه الحسين (عليه السلام) (لم أخرج أشِراً ولا بطراً ولا مُفسِداً ولا ظالِماً وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي أريدُ أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر)(2) وهذا يعني أنّ الحسين (عليه السلام) يحدّد نوعية هذا التحرّك على شكلين:

هناك شكل للحركة في أن تكون منطلقة من مواقع ذاتية ومن خلال طموح ذاتيّ، أو أن تنطلق لتؤكّد الظلم في مواجهة العدل، وتركّز الفساد في مواجهة الصلاح، وهذه حركة يرفضها الحسين لأنّها غير شرعية، ولذلك أراد أن يضع في عنوان حركته أنّها ليست لظلم القيادة أو الشعب، وليست لإفساد الواقع بخلق الفرقة والتمزّق في مواقع الحق، ولا هي ذاتية تنطلق من حالة بطرٍ أو طمعٍ أو من طموح يريد أن يرضي الذات على حساب الرسالة.

ثم أكّد نوعية حركته ممّا يعطي الخطّ في كل حركة تريد أن تنطلق في الواقع الإسلاميّ، فمن خلال عنوان "الإصلاح في أُمّة جدّي"، يوحي بأنّ قضية أن يعيش المجتمع الإسلاميّ الفساد في كل مجالاته تفرض أن تكون هناك حركة من أجل الإصلاح، ولذلك تحرّك على أساس هذا الواجب الشرعيّ في أنّه إذا كان هناك فساد في الواقع فلا بدّ أن تنشأ حركة في مواجهة هذا الفساد، وأن لا نعيش التخدير للواقع ولا التجميد لحركتنا وطاقتنا، وأن يشعر كل مَن يعيش في المجتمع لاسيّما قيادته الشرعية حركة تغيير هذا الواقع من الفساد إلى الإصلاح.

الخطوط التفصيليّة:

كما شرح (عليه السلام) الخطوط التفصيليّة للإصلاح، ما دام الحقّ الذي هو المعروف لا يعمل به، وما دام الباطل الذي هو المنكر لا يتناهى عنه، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الخطّ الإسلاميّ يمثّل أسلوباً متطوّراً "مَن رأى منكم منكراً فلينكره بيده إن استطاع فمن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه فحسبه أن يعلم الله من قلبه أنّه لذلك كاره"(1) بحيث تنطلق تجربة الإصلاح في هذا الخطّ على أساس الطاقة التي يملكها الشخص أو القيادة أو الأمة في التغيير بالقوّة إن أمكن ذلك، أو بالكلمة إن لم يكن ممكناً، أو بالرفض القلبيّ إن تعذّر بالكلمة حتى يبقى الرفض للمنكر والانفتاح على المعروف شيئاً في قلبك وعقلك لكيلا يغلبك الآخرون من خلال قوّة الأمر الواقع فيغلبون الحقّ ويرغمونه على الاستسلام للباطل.

فبعد أن تحدّث الإمام الحسين (عليه السلام) بالكلمة الموحية بالرفض انطلق من أجل تجربة التغيير باليد، فماذا نستوحي من ذلك؟

ما نستوحيه هو أنّ على كلّ قيادة إسلامية عندما ترى الفساد في أية مرحلة من المراحل وفي أي مجتمع إسلامي أن تصنع التغيير فلقد كان عنوان الصراع في زمن الحسين (عليه السلام) هو الإسلام، ونحن نعيشه ضدّ الاستكبار والكفر العالمي واليهودية العالمية بشكل خاص.

فعندما نعيش هذا الواقع الذي يحلُّ فيه الناس حرامَ الله ويحرّمون حلاله، والذي يتحرّك فيه الناس في طاعة الشيطان ويتركون طاعة الرحمن، والذي يتحوّل فيه مال الأمّة إلى غنيمة يتقاسمها نفرٌ يتسلّط عليهم، والذي يطبّق فيه القانون على الأقوياء لا الضعفاء.

عاشورائنا الراهنة:

إنّنا إزاء هذا الواقع الذي نراه على المستوى العالمي وعلى مستوى المنطقة وعلى مستوى كل موقع محلّي، لا بدّ من أن نصنع شيئاً من عاشوراء أو شيئاً من كربلاء. وقد لا يكون ذلك الشيء بنفس الأسلوب الذي تحرّك به الإمام الحسين (عليه السلام) لأنّ قضية الأسلوب تختلف حسب اختلاف الظروف الموضوعية التي يعيشها كل شعب في مرحلة من مراحل حياته.

وإذا كانت أساليب الأئمة (عليهم السلام) قد اختلفت من مرحلة إلى أخرى، بل إنّ أساليب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) التي اختلفت قبل الهجرة في مكّة وبعدها في المدينة، فإنّنا لا يمكن أن نضع خطّاً بيانياً واحداً، بل إنّ مسألة الأسلوب تتغيّر حسب تغيّر الظروف، ولا بدّ لنا أن نعمل بالتي هي أحسن في كلّ زمن {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1)، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2)، {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(3) فمسألة "الأحسن" تخضع لطبيعة القيم والظروف في الساحة، ولكن المهم هنا، هو أنّنا عندما نتذكّر التاريخ فإنّ علينا أن نستوحيه فيما يبقى في حقائقه للزمن، وكلّ ما في تاريخ الحسين معنى الحقيقة التي تستمر مع امتداد الزمن.

وبهذا اللّحاظ نحاول استنطاق المرحلة الحسينية ونستوحيها، ثم نصنع لأنفسنا كربلاء، فلا بدّ ـــ أيّها الأحبّة ـــ أن تكون نتائج كل هذه المجالس والمواكب والتعبئة الروحية خطّة من أجل تغيير الواقع، خطّة تعطي الكفر لتوجّه الناس إلى ما في الواقع من نقاط الضعف وحالات الانحراف، كما وجّه الإمام الحسين (عليه السلام) أنظار الناس للتحديث في الواقع مقارناً بالخطّ، وعلينا أيضاً أن تكون كلّ عاشورائنا دراسة للواقع حتى لا يغيب في التاريخ، فلو عرفنا واقع يزيد ومجتمعه، وواقع ابن زياد ومجتمعه ودرسناه بالتحليل فلن نغيّر شيئاً سوى استيحاء معانيه، خاصةً وأنّ ذلك المجتمع قد ذهب بكلّه، وهو ليس مسؤوليتنا {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(1)، فنحن نشجب كلّ الانحرافات في ذلك التاريخ ونقف بعقلنا وروحنا مع الحسين ضدّ يزيد وضدّ نهجه وننفعل بالمأساة بكل عمق، نبكيها، ونستوحيها، لكنّ ذلك لن يحلّ لنا مشكلة، بل علينا أن ندرس مواجهة الحسين (عليه السلام) والصفوة الطيّبة من أهل بيته (عليهم السلام) لمشاكل مرحلتهم، ولا بدّ لنا بعد ذلك أن نواجه مشاكل مرحلتنا.

الصراع العربي ـــ الإسرائيلي

ففي عاشوراء لا بدّ من الحديث عن مشكلة الصراع العربي ـــ الإسرائيلي لأنّها المشكلة التي تحاول أن تدمّر كل بقايا الحضارة التي نعيشها كعرب وكمسلمين، كما تحاول أن تسيطر على الواقع العربيّ والإسلاميّ كلّه بالتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، فهي تريد أن تلغي شيئاً اسمه الأمّة، وقد لاحظنا ذلك في مؤتمر "مدريد" عندما رفضت إسرائيل وأميركا أن يلتقي العرب مجتمعين وأن يكون هناك تمثيل للجامعة العربية، فلقد أُريد للعرب أن ينطلق كل واحد منهم من خلال بلده، لأنّ إسرائيل ترفض الاعتراف بشيء اسمه العالم العربيّ، وإنّما تريد أن تفاوض كل بل بصورة منفصلة عن البلد الآخر، وهذا ما لاحظناه عندما أرادت أن تستفرد بالفلسطينيين عندما باعوا فلسطينهم في "اتّفاق أوسلو" وبالأردن كذلك وتركوا ما أكّدت عليه سوريا في انطلاق العرب مجتمعين فلا يدخل أحد في المفاوضات النهائية ما دام الآخرون لم يحصلوا على حقوقهم.

فقصّة إسرائيل هي قصّة الثأر اليهوديّ من الإسلام كلّه ومن المسلمين كلّهم، إنّها تمثّل الثأر لبني قريظة وبني النضير وبني قينقاع وخيبر من أجل أن تجعل اليهودية بديلاً للإسلام وهي قضية لا تمثّل مجرّد انحراف في الخطّ، وإنّما تمثّل اهتزازاً في الأُسس.

وهكذا عندما نواجه الاستكبار الذي يصادر ثرواتنا لتكون كلّها بيده، ويصادر سياستنا وأمننا ويحاول أن يضغط علينا لمصلحة إسرائيل ومصالحه على حساب مصلحتنا.

فنحن الآن كمسلمين نعيش مشكلة حقيقيّة في كلّ قضايانا من خلال سيطرة الاستكبار العالمي الذي يعيش واقعاً تحالفيّاً يعمل على أن لا تقوم للعرب وللمسلمين قائمة، ولذلك يثير الخلافات المذهبية، والخلافات الطائفية والعرقية بينهم، فهذا واقع نعيشه فيما يعمل الكفر العالمي على كلّ المستويات المتديّن بدين معيّن، أو الإلحادي  منه على مواجهة عقائد المسلمين وشريعتهم وكل واقعهم، فالأرض تهتزُّ من تحت أقدامنا، ولو كان الحسين (عليه السلام) موجوداً الآن لكان من الممكن أن يجمّد صراعهُ في الدائرة الإسلامية لينطلق إلى الدائرة العالمية الكبرى التي تطلب رأس الإسلام.. فعاشوراء قامت من أجل هذا، من أجل أن نستوحي كمسلمين أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كما استوحى جدّه وأباه وأخاه وكتاب الله وعاش لطف الله فيما أعطاه من أسرار روحية ومعنوية بحيث واجه كلّ مشاكل مرحلته، فإذا كنّا نعيش السلبية تجاه مشاكل مرحلتنا الصعبة فأيّة علاقة لنا بالحسين الذي يريد لدموعنا أن تبكيه فتبكي الواقع الذي عاش فيه لتبكي ـــ من خلال ذلك ـــ الواقع الذي يعيش فيه الناس.

 

 

 

مآسينا الحاضرة:

إنّنا نعيش مأساة الحسين وحزنها ودموعها، ولكنّنا نعيش اللامبالاة إزاء مآسي الإنسان في الواقع، فمعنى أن تنفعل بالمأساة الحسينية هو أن ترفض كل مأساة يعيشها الإنسان في عالم المسلمين والمستضعفين، فمن لا يرفض مأساة (قانا) وكلّ المواقع التي صنع الإسرائيليون فيها المأساة كمجزرة (دير ياسين) في مدى الخمسين سنة الماضية هو إنسان لا يفهم مأساة الحسين (عليه السلام) فكما أنّ علينا أن نرفض الذين صنعوا المأساة ضدّ الحسين (عليه السلام) في كربلاء علينا كذلك أن نرفض كل الذين يصنعون المأساة ضدّ الإنسان، وأن ينصبَّ احتجاجنا على مأساة الواقع لنعمل على منع الذين يصنعون المأساة في العالم من أن يصنعوا المأساة في الحاضر والمستقبل.. فهذا هو معنى وعي عاشوراء، وهو أن تتحوّل إلى إنسان يتحرّك عقله في مواجهة قضايا الأمة، ويتحرّك قلبه في المشاعر التي تتحرّك في حياة الأمّة، وتتحرّك طاقاته من أجل معالجة هذه المشاكل ولو على مستوى التخطيط، وقد يقول البعض: ماذا نملك من قوّة حتّى نواجه الاستكبار العالمي، ماذا نملك من طاقة لمواجهة الكفر العالمي والصهيونية العالمية؟

صحيح ذلك، لكن الكفر العالمي كان ضعيفاً فقّوى نفسه، وكذا الاستكبار العالمي كان ضعيفاً وصار قوياً من خلال أخذه بأسباب القوّة، ولم تكن إسرائيل تمثّل شيئاً، كانت مجرّد فكرة في ذهن اليهود، كانت حُلُماً لكنهم لم يهربوا منه، ولم يقل بعضهم لبعض هذا حلمٌ لا يمكن تحقيقه، بل زحفوا إليه سنة بعد سنة. ففي المؤتمر اليهوديّ التأسيسيّ الأول الذي قاده "هرتزل" كانت كلمته سوف تنشئ دولة إسرائيل بعد (50) سنة وكان ذلك في 1897م وولدت دولة إسرائيل الّلاشرعية في عام 1947م فهل كان هرتزل عالماً بالغيب؟

لم يكن عالماً بالغيب: بل كان يملك فكراً يخطّط، ويعرف موازين القوى في العالم ويتحرّك مع كل موقع من مواقع القوة ليجمعه إلى قوّته فيما العرب غافلون، فلقد استطاع أن يحقّق حلمه ـــ وقد مات قبل أن يرى حلمه ـــ لكنّه استطاع ذلك بالخطّة التي ترسم معالم المراحل وتواجه المواقف والصعوبات بعقلية لا تسقط أمام الصعوبات ولكنها تعمل على أن تجد لها حلاً، أمّا نحن فعندما تواجهنا الصعوبات نسقط ونقول: "لا فائدة"! ولم نجرّب، لكنّهم يواجهون الصعوبات ويملكون شجاعة الاعتراف بها، ثم يدرسون كيف يحلّونها، أمّا نحن فعندما نربح يطغينا الربح وعندما نخسر تسقطنا الخسارة.

هبْ أنّنا ضعفاء الآن فلماذا لا نجرّب بأن نصنع القوة حتى نكون أقوياء بعد (50) سنة!! فلتبقَ عاشوراء مصدر وحي ومصدر إلهام ومصدر تأكيد للقوة، ومصدر انفتاح للعاطفة، ولتبقَ لعاشوراء دموعها وحزنها شريطة أن لا تكون الدموع دموع الضعف بل دموع القوة، وأن لا يكون الحزن حزناً سلبياً بل إيجابياً فلا تستغرقوا بالحزن كما لو كان غاية، ولكن انفتحوا به ليكون رسالة، لأنّ قصّتنا هي أنّ الله يريد لنا أن نبني الدنيا على أساس قِيَم الآخرة {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ} من طاقاتك ومن عقلك ومن عاطفتك وحركتك {الدَّارُ الآَخِرَةُ}(1)، بحيث تكون الآخرة عنوان ما تؤكّده في الدنيا، وبذلك تكون دنيانا آخرة وتغدو آخرتنا مرتبطة بدنيانا.

دور المرأة في الإصلاح:

ـــ أيّها الأحبّة ـــ لنأخذ من عاشوراء وعي حركية الإنسان كلّه، فلقد عشنا ونحن نفكّر أنّ المرأة لا دور لها في حركة الإصلاح، وحركة الصراع والثورة وأصبح ما عشناه شيئاً مقدّساً وأصبحت فكرتنا التقليدية أنّ للمرأة البيت وليس لها الساحة العامة، ولكنّ عاشوراء قالت لنا إنّ للمرأة دوراً قيادياً مع قيادة الرجل وبعد قيادة الرجل.

إنّ زينب (عليها السلام) كانت تمثّل رمز المرأة التي تملك عقلاً قيادياً وروحاً قيادية وصبراً قيادياً وتحدّياً قيادياً، وتملك أن تحتوي الواقع كلّه لتعرف كيف تخطّط له، فلم تتحدّث مع ابن زياد حديثاً انفعالياً بل كان مدروساً حتى في قولها له: (ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة) فلقد أرادت أن تسقط عنفوانه في مجتمعه، وكذلك عندما وقفت تخاطب يزيد (كِدْ كيدك واسْعَ سعيك وناصِب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تُميت وحينا ولا تدرك أمَدَنا)(2) فلقد كانت تفكّر بكلّ كلمة من كلماتها، كانت إنسانة تعيش التخطيط لكلماتها كما كانت تعيش التخطيط لحركيّتها، تماماً كأمها الزهراء في حركتها من أجل الحق في موقع عليّ (عليه السلام) فلقد كانت تقيّة في خطبتها في المسجد النبوي الشريف وفي حديثها مع النساء حيث تناولت المواضع الحسّاسة التي تثير الرجال عندما تنقل لهم نساؤهم ذلك، كانت تمثّل التحدّي بتخطيط، وكانت تنطلق برساليّتها من خلال فهمها للواقع وللذين يتحرّكون في الواقع. وهكذا كانت أمّها خديجة (رض) في أسلوبها العمليّ في دعم واقع الدعوة الإسلامية الأول، إنّها تنطلق من عمق المسؤولية الإسلامية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قضايا الدعوة والحركة والجهاد في سبيل الله الذي يقول {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}(1) سواء كان المعروف سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو أمنياً، كما إنّها مسؤولة عن النهي عن المنكر في ذلك كلّه تماماً كما هي مسؤولية الرجل، وعلى المرأة أن تتكامل مع الرجل في عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على خطّ التغيير للواقع.

كل ما لدينا من عاشوراء:

أمّا الرجل الذي استطاع أن يستوحي عاشوراء من خلال ما يصنعه من عاشوراء تغييرية للواقع مقارناً بالخطّ الإسلاميّ فهو الإمام الخميني (رضي الله عنه) هذا الإنسان الذي كان يبكي الحسين كأشدّ ما يكون البكاء وكان يعيش المأساة كأقوى ما يعيشها الإنسان لكنّه كان يدرس الواقع ويعرف أنّ قضية عاشوراء تلهم الإنسان أكثر من عاشوراء، وكان يعرف أنّ عاشوراء تبحث عن جمهورها لتصنع في كلّ جيل جمهوراً للحسين وجمهوراً للقضية يتحدّى ويخطّط ويجاهد ويرفض ويواجه الموقف بكلّ صلابة، كما واجهه الحسين (عليه السلام) (لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرُّ لكم إقرار العبيد)(2)، (ألاَ وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ ركَزَ بين اثنتين: بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة)(3).

كان الإمام الخميني (رض) يواجه عاشوراء ويريدها أن تكون حركة تنتج جمهوراً جديداً لا يضعف أمام التحدّيات ولا ينهزم في المواجهة ولا يبتعد عن خطّ الإسلام أمام المشاكل والبلاء، كان إنساناً يرصد الواقع ويفهمه ويخطّط له، وعاشوراء أمامه تمثّل الصورة الحركية المشرقة للإسلام في جهاد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولذلك قال "كل ما عندنا من عاشوراء" لأنّ عاشوراء كانت في كل خطّة من خططه وكل موقف من مواقفه، وكانت صلابة الحسين (عليه السلام) توحي له بالصلابة فاستطاع أن ينتج من حركته العاشورائية التي استوحاها من عاشوراء التاريخ حركة تغييرية وواقعاً تغييرياً.

أيّها الأحبّة، في هذا اليوم العاشر من محرّم حاولوا أن تنظروا إلى عاشوراء في عملية وعي واستيحاء واقتداء وحاولوا أن تواجهوا كلّ عاشورائكم السياسية والاقتصادية والأمنية لتقفوا كما وقف الحسين (عليه السلام) والصفوة الطيّبة من أهل بيته وأصحابه، وعند ذلك تخطّطون للدموع وتخطّطون للوسائل في التعبير عن العاطفة، وتخطّطون بموضوعية وعقلانية لعاشوراء حتى تدخل في الزمن والعصر من خلال وسائل جديدة وأساليب جديدة وروحية جديدة.

هذا هو طريق عاشوراء، إذا كنتم تريدون أن تعيشوها في وعي الإسلام ووعي الواقع.

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الرابعة عشرة

17/ محرّم/1418 هـــ (*)

 

أُسس العلاقة مع الآخر

 

"الإيمان هو الذي يحدّد لك علاقتك بالآخرين، فمن كانَ مؤمناً كن معه في العمق".

 

 

 

محبّة الله ورسوله:

في القرآن الكريم أكثر من حديث عن الخطّ الذي ينبغي للإنسان المؤمن المسلم أن يتحرّك عليه في وجدانه العاطفي الذي يراد له أن يتحوّل إلى حركة في الواقع، وهي محبّة الله ورسوله، فلا يكفي أن تشهد بالوحدانية لله وبالرسالة لرسول الله، بل لا بدّ لك من أن تعيش ارتباطاً روحياً وجدانياً بالله وبرسوله.

وفي هذا الجانب ينطلق الخطُّ لينفتح على الإيجاب من جهة وعلى السلب من جهة، ففي الجانب الإيجابيّ نقرأ قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}(1)، وذلك بأن يكون حبّك لله في عقلك وفي قلبك حركةً في خطّ رسول الله الذي {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(2) وفي الجانب السلبيّ الذي يؤكّد على أنّ حبّ الله ورسوله يعني الرفض لكلّ موقف أو لكلّ شخص تتعارض العلاقة به مع هذه الحالة الوجدانية في حبّك لله، ولرسوله، وأن ترفض كلّ ما عدا الله وكل مَن يخالف الرسول في عقلك رفضاً عقلياً، وفي قلبك رفضاً عاطفياً، وفي حياتك رفضاً عملياً.

الخطُّ السلبيّ:

تعالوا لننطلق في الخطّ السلبيّ بعدما امتلأ القرآن بالخطّ الإيجابيّ {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}(3)، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(4)، فالخطّ السلبي يعني كيف يتحرّك حبّك لله ولرسوله ليكون حالة رفض تمثّل منطق الرفض عندك، وحركة الرفض في حياتك لمن هو مخالف لله ولرسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ}(5)، فلا بدّ أن تنقطع الولاية بينك وبينهم، إذ ليست هناك مشكلة أن تبقى الحالة العاطفية الشخصية التي تتّصل بمشاعر الذات وأحاسيسها {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}(1) ولكنّ الولاية المرفوضة هي هذا الاندماج في الموقف وفي الفكر وفي العاطفة، إذ لا بدّ أن ينقطع ما بينك وبينه إذا استحبّ الكفر على الإيمان، وارتضى السير في خطّ الكفر العملي العقيدي، أي العمل في الموقع المضادّ للخطّ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ}(2) أي من ينصرهم على المؤمنين ويساعدهم في خطوطهم ويعمّق قلبه على أساس حبّهم ويسكت عن رفض أفكارهم {فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لله، لأنّهم أعانوا عدوّ الله ووالوه في المضادّة لله، وهم الظالمون لأنفسهم لأنّهم وجّهوا أنفسهم في اتجاه مضادّ لخطّ الإيمان وبما يعرّضهم لسخط الله وعقوبته، وهم أيضاً ظالمون للحقيقة لأنّهم وقفوا ضدّ الحقّ لمصلحة الباطل وإن كان الموقف موقفاً عملياً.

{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ (أي انتظروا) حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(3) إنّ هذه الآية تتحدّث عن الأفق الواسع في الجانب السلبيّ الذي يجب أن يتّخذه الإنسان في مواجهة كلّ الحالات والأوضاع التي تصدّ الإنسان عن مسؤوليته أمام الله ورسوله في علاقته بهما، وأمام مسؤوليته عن الجهاد في سبيل الله عندما يأمره أبوه وابنه وأخوه أو زوجته أو عشيرته بأن يبتعد عن خطّ الإيمان ومجتمع المؤمنين وعن السير في خطّ الله ورسوله.

أو أن يكون لك مال تخاف عليه إذا انفتحت على الله وعلى رسوله، وابتعدت عن أعداء الله ورسوله، أو تجارة تخشى كسادها لأنّها قد تحقّق لك الربح كلّما اقتربت من مجتمع الكفر أكثر وكلّما جاملته أكثر وكلّما انفتحت عليه أكثر، أو هناك مصالح يمكن أن تحصل عليها جرّاء الانفتاح عليهم، ويمكن أن تفقدها أو تعيش مشكلة في داخلها إن أنتَ انسحبت من واقعهم ممّا يمنعك عن الجهاد في سبيل الله.

{فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} وهنا جعل الله تعالى القضية غامضة ليشعر الإنسان بالهول ممّا يهدّده الله به من أمره الذي قد يكون عذاباً في الدنيا وقد يكون خسارة في تجارته وعملاً بضدّ ما يريده... {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(1).

انطلاق الإيمان من الوجدان:

وهناك أية أخرى تشبه هذه الآية في طبيعة الأسلوب الذي يتحرّك فيه الإنسان في الجانب السلبيّ والإيجابيّ، ففي سورة (المجادلة) يقول تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}(2) فالإيمان بالله واليوم الآخر الذي يشمل الانفتاح على التوحيد الذي يختزن في داخله معنى الرسالة والذي يمثّل مواجهة الإنسان لمسؤوليته، لا بدّ أن ينطلق من حالة وجدانية شعورية روحية في داخل ذات الإنسان المؤمن، وذلك بأن لا يحمل المودّة ـــ وهي هنا عمق العاطفة ـــ بحيث لا تمثّل محادّته لله ولرسوله شيئاً بالنسبة إليه، كما يقول بعض الناس عن نفر من أصدقائهم أنّه كافرٌ وكفرُه عليه لكنّني أحبّه فهو صديقي رغم أنّه يحادّ الله ورسوله ورغم تمرّده على الله سبحانه وتعالى، فهذا يدلّ بحسب طبيعته على هوان الله عليك وعلى ضعف الإيمان عندك، لأنّك لو واجهت إنساناً يعادي أباك أو عشيرتك فإنّك لا تنفعل إيجابياً معه بحيث تحمل له المودّة، فكيف يمكن لك وأنت تعيش عظمة الإيمان وقيمته وتعيش عظمة الله وجلاله، وتعيش عظمة مسؤوليتك يوم تقف بين يديه، كيف ذلك وأنت توادّ من حادّ الله ورسوله.

 

 

الدّين الحبّ:

ولذلك فإنّ معنى قوله تعالى هو أنّه لا يجتمع الإيمان مع الإخلاص العاطفي لمن يقول ضدّ الإيمان وينفتح على الكفر بكلّ حياته، لأنّ الإيمان والكفر لا يجتمعان، فإذا اقتربت من الإيمان ابتعدت عن الكفر والعكس صحيح، ولهذا ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) (إذا أردتَ أن تعلم أنّ فيك خيراً فانظر قلبك فإنْ كان يحبّ أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبّك، وإذ كان قلبك يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك والمرء مع مَن أحبّ)(1) لأنّ الحبّ يمثّل حركة الذات الإنسانية في مواجهة ما يؤمن به الإنسان أو ما يرفضه، وقد ورد في حديث الإمام الصادق (عليه السلام) وهو يختصر حالة الإنسان الوجدانية للدين أو خلافه: (وما الدينُ إلاّ الحبّ)(2) فالدين هو الحبّ وهو بأن تحبّ أولياء الله وأن تبغض أعداء الله، لذلك قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(3).

هؤلاء هم الذين يؤمنون ويحرّكون قلوبهم وعقولهم في خطّ إيمانهم، فالإيمان هو الذي يحدّد لهم علاقتهم بالآخرين، فمن كان مؤمناً كانوا معه في العمق، ومن لم يكن مؤمناً لم يكونوا معه في العمق، وقد كرّم الله هؤلاء فقال {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ}(4) أي جعل قلوبهم منفتحة على الإيمان كما لو كان مكتوباً في قلوبهم كما لو كان مخلوقاً معهم {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ}(5) وهذه هي الجائزة الروحية للإنسان المؤمن، فإنّه يعطيهم روح القدس الذي يعطيه لأنبيائه ولأوليائه {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}، ثمّ هذا الرضا المتبادل من خلال الحبّ المتبادل {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} لأنّ الله تعالى أراد لحزبه أن يكونوا معه كلاً لا بعضاً كأن يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض، بل إنّ مَن يكون من "حز//ب الله" فإنّه يخلص كلّ عقله وقلبه ومشاعره وحياته لله سبحانه وتعالى، وهؤلاء هم الذين يعيشون الفلاح في الدنيا وفي الآخرة.

النموذج القرآنيّ التطبيقيّ:

فمن هو يا ترى النموذج القرآني لهذا الإنسان الذي تحدّثت عنه الآيات الكريمات، مَن هو الإنسان الذي يقف ليضادّ قومه وأباه ويتحدّى ويتحمّل المشاكل، مَن هو هذا القرآني الذي لا يوادّ من حادّ الله ورسوله حتى لو كان أباه وعشيرته، مَن هو هذا القرآني الذي إذا وقف أمام أبيه وأخيه وعشيرته وأمام كلّ ما في الدنيا من أموال وتجارة ومساكن فيرفضه من أجل الله، إنّه إبراهيم الخليل (عليه السلام): {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً}(1)، عاش الصدق حتى تحوّل إلى صدقٍ في كلّ ذاته (إذ قال لأبيه) وفي الروايات أنّه عمّه وهو معه في البيت (يا أبتِ) وكان إبراهيم يومذاك شاباً يعيش الإيمان من خلال عقله وما أفاضه الله عليه من لطفه. قال لأبيه بكلّ حنان وبكلّ عاطفة وبكلّ دالّة الابن على أبيه {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً}(2) فها أنا أخاطب عقلك ووجدانك وإنسانيتك، فمن هو هذا الصنم الذي تعبده وهو لا يسمع ولا يبصر ولا يستطيع أن يدافع عنك أو يمنحك أية فرصة في حاجات الحياة. (يا أبت) لا تتصوّرني إنساناً صغيراً هو نتاجك ممّا جعله الله من سنّته في ولادة الناس، فربّما حصل الصغير على علم لم يحصل عليه الكبير، وقصّة الإيمان وقصّة الكفر إنّما هي قصّة علم لا قصّة سنّ، فقد يرسل الله الصغير نبيّاً للناس كما في قوله تعالى عن يحيى (عليه السلام) {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً}(3) وكما أنطق عيسى (عليه السلام) بالرسالة وهو لا يزال في المهد.

 

الصراط السويّ:

ويمضي إبراهيم (عليه السلام) في حواره مع أبيه {إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ}(1) يمكن أن أهدي به كلّ الضّالين {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} لأنّني أملك هذا الصراط الذي لا تملكون رؤيته بفعل تقاليدكم وعاداتكم وتعقيداتكم النفسيّة. فالصنميّة في كلّ تقاليدها وعباداتها هي من وحي الشيطان، فأنتَ عندما تعبد الصنم فإنّما تعبد الشيطان {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً}(2) فقد رفض السجود لله وتمرّد عليه وهدّد كل بني آدم بأن يخرجهم من الجنّة عندما أنظره الله (يا أبت) إنّني انطلق في هذا فيما أقوله لك من حالتين:

حالة الإنسان الذي يريد أن يهدي الناس من الضلال من خلال رسالته ومسؤوليته. وحالة الإنسان الذي يريد أن يهدي أباه من خلال حالة عاطفية. أنتَ أبي ولا أحبّ لأبي أن يمسّه العذاب ولا أحب له أن يسخط الله عليه {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً}(3) ومن خرج من ولاية الله إلى ولاية الشيطان فأين يكون موقعه ومصيره؟

الهجر الجميل:

هذه هي كلمة إبراهيم لأبيه {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ}(4) فلقد كلَّم أباه بالمنطق وبحنان البنوّة أمام الأبوّة وبكلّ إنسانيته لكن الأب تحدّث بلغة الأب المسيطر والإنسان الذي أغلق عقله عن الهدى، وعن الانفتاح عن كلمات الحقّ {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} أي أخرج من بيتي (قال سلام عليك) وهذه كلمات الأنبياء {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً}(5)، {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً}(6)، ومن الطبيعي أن لا يستغفر له وهو مشرك ولكن يطلب من الله أن يغفر له بأن يهيء له وسائل المغفرة، وبأن يهديه إلى سواء السبيل {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً}(1) وهكذا أعطاه الله من لطفه ومن رحمته بعد أن أدّى رسالته {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً}(2)، {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً}(3) وهكذا انطلقت الصلاة الإبراهيمية كما نقول دائماً "اللّهم صلّ وسلِّم وبارك وترحَّم وتحنَّن على محمد وآل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين" فلا يزال المسلمون يردّدون هذه الصلاة عندما ينطلقون في أي موقع من مواقع الإخلاص لله سبحانه وتعالى.

الألفة الآبائية:

ثم ينقل القرآن بعد ذلك مواجهته لقومه {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ*إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}(4) وهو يعرف ذلك ولكن أراد أن يجرّهم إلى الحوار {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}(5) أي كما ترى {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ}(6) هل يملكون آذاناً يسمعون بها {أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}(7) فلو تمرّدتم عليهم فهل ينزلون عليكم العذاب، ولو طلبتم منهم المال فهل يعطونكم المال {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}(8) فنحن لا نناقش قضية العبادة لأنّها قضية تراث الآباء والأجداد ولسنا بصدد مناقشة ما كان عليه آباؤنا وأجدادنا، وهو أمر واجهه الكثير من الأنبياء ولا يزال يواجه الكثير من المصلحين عندما يناقشون شيئاً أو يواجهون مسألة فيحدّثك الناس عن الآباء والأجداد وعن عاداتهم. ونحن نقرأ القرآن ونقرأ رفضه في أن تكون العلاقة مع الأجداد علاقة فكر نرثه أو عادة نرثها لأنّ الله يريد للإنسان أن يتحمّل مسؤولية فكره وعاطفته وحركته سواء كانت مع الآباء والأجداد أو ضدّهم {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ*أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ}(1) وأعلن إبراهيم الموقف لوحده وكل قومه محيطون به وقد يكون قومه عشيرته وقد يكونون أهل بلده {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي} أعلن العداوة للأصنام {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}(2) وكان كمن يخاطب نفسه، وهو يريد أن يسمعوه جيداً عن حالة التشنّج لأنّهم يرونه يخاطب نفسه عندما يتحدّث عن الله عزّ وجلّ، فكأنّه انفصل عن موقفهم كما لو كان يناجي نفسه على طريقته عندما رأى شمساً وقمراً وكوكباً فكان يريد لهم أن يفكّروا من دون أن يواجههم بالفكرة وجهاً لوجه لكن من موقع أنّهم يستمعون ويستغربون ويفكّرون فلعلّهم يهتدون بذلك.

{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ*وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ*وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ*وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ*وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}(3).

ثمّ انفصل عن نفسه وعنهم قائلاً {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}(4) حكماً أستطيع أن أنفتح فيه على كلّ قضايا الناس في كل ما يختلفون ويتنازعون فيه وكل ما يعيشونه ساحة الصراع فيه {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}(5) بحيث يذكرني الناس في مدى الزمن.

فهل كان إبراهيم (عليه السلام) يبحث عن الذكر الخالد لحاجة في نفسه؟ وما قيمة الذكر الخالد للإنسان إذا مات وانفصل عن الحياة الدنيا ولم يعد يشعر بالحياة كلّها وكلّ امتيازاتها وكلّ سلبياتها وإيجابياتها، لكنه أراد أن يتحدّث الناس عن رسالته {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ}(6)، {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}(7)، {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً}(8) لتبقى رسالته وجهاده وكل أساليبه في الدعوة ليستفيد الناس منها، وتلك هي قصّة الإنسان الداعية إلى الله، فهو يحبّ أن يذكر الناس دعوته ورسالته، ويحبّ أن يمتدّ الزمن باسمه حتى يكون منطلقاً لفهم رسالته.

{وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}(1)، وهذه هي أمنية كل مؤمن ومسلم {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}(2) لأنّه وعده بالاستغفار {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}(3)، اجعلني أنطلق لأحصل على رضاك وعلى محبّتك ومغفرتك فلا شيء إلاّ رضاك {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}(4)، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ}(5)، لأنّ المال يتركه الإنسان وراءه ولأنّ البنين يتحرّكون ليدافع كل واحد عن نفسه {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(6) من الكفر ومن الضلال ومن الحقد والبغضاء.

الخطّ القرآني للعلاقة:

وهذه ـــ أيّها الأحبّة ـــ هي قصة هذا الخطّ القرآنيّ الإسلاميّ الذي يقول لك: لا تنطلق في الحياة في علاقاتك مع الآخرين من خلال ذاتيّاتك ولا فئويّاتك بل انطلق ليكون ربّك ورسولك وقرآنك وإسلامك هو الأساس في علاقاتك مع الناس إيجابياً إن ساروا في الخطّ الإيجابيّ للإيمان، وسلبياً إن ساروا في الخطّ السلبيّ منه إنْ في قضايا العقيدة والشريعة أو في الاجتماع والسياسة والحرب والسلم، ليكن الله كلّ شيء عندك، وليكن رسول الله كل شيء في خطّك، وليكن القرآن الذي هو كلام الله ورسالة رسوله هو المنهاج الذي تحرّك كل حياتك وعملك وعلاقاتك ومواقفك في الحياة على أساسٍ منه.

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

المحاضرة الخامسة عشرة

24/ محرّم/1418 هـــ (*)

 

في ذكرى الإمام زين العابدين (عليه السلام):

كيف نتمثّل صورته الحقيقيّة:

"إنّنا ندعو إلى قراءة الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام) في تراثه الفقهي والتفسيري والوعظي والتأريخي، لأنّ ذلك يمكن أن يمثّل حجم الحركة الثقافية التي تحرّك بها الإمام آنذاك".

الصورة السائدة:

في مثل هذه اللّيلة نلتقي بذكرى إمام من أئمّة المسلمين من الدوحة المباركة من أهل البيت (عليهم السلام) هذا الإمام الذي ملأ كلّ المرحلة التي عاش فيها علماً كأعمق وكأوسع ما يكون العلم، وروحانيةً كأصفى وأنقى وأسمى ما تكون الروحانية في انفتاح الإنسان على الله تعالى، كما إنّه أعطى من أخلاقه النموذج الأرقى للأخلاق الإسلامية التي تمثّل عظمة القِيَم الأخلاقية الإسلامية التي تتحرّك في خطّ الفعل لا في خطّ رد الفعل كأقوى خطّ أخلاقي في الاستقامة والامتداد.

وهكذا رأيناه يخطِّط لثقافة الدعاء ليجعل الدعاء منهج فكر وحركة جهاد ومصدر معرفة لله وللرسول ولكلّ الخطوط الإسلامية، وهكذا أيضاً نمتد في حياته وهو يلتفت إلى الإنسان في كلّ عناوينه في علاقته بربّه وبنفسه وبالإنسان الآخر ليخطّط له حقوقه وواجباته، كما عاش العبادة كأصفى وأعظم ما تكون العبادة.

فلو درسنا الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في كلّ جوانب حياته لرأينا أنّه كان إمام المرحلة بكلّ حركية المرحلة في حاجاتها العملية والروحية والحركية بحيث يشعر الإنسان أنّه عندما يدخل إلى حياته فإنّه يلتقي بالغنى كلّ الغنى العلمي والروحي والأخلاقي وفي مختلف جوانب حركة الإنسان في الحياة.

هذه هي الصورة الإجمالية التي يمكن لنا أن نطلّ بها على حياة أو شخصية الإمام السجّاد (عليه السلام).

 

 

 

الصورة الحقيقية:

ونحن هنا بحاجة إلى أن نتمثّل الصورة الحقيقيّة، فكيف نتمثّلها؟

عندما ندرس تراث الإمام زين العابدين (عليه السلام) العلمي وندرس الأسماء التي أخذت عنه والتي استفادت من علومه نرى فيما يعدّده المؤرّخون من هذه الأسماء أنّها الأسماء البارزة في ثقافة تلك المرحلة والتي لا زلنا نعيش على مائدتها.

فلقد ذكر المؤرخون أنّ (الطبريّ) ـــ صاحب التأريخ والتفسير ـــ روى عنه وكذا (ابن البيّع) و(أحمد) والظاهر أنّه (بن حنبل) و(ابن بطّة) و(أبو داود) صاحب السنن، وصاحب الحلية والأغاني (أبو الفرج) و(قوت القلوب) و(شرف المصطفى) و(أسباب نزول القرآن) و(الفائق) و(الترغيب والترهيب) و(الزهري) وهو من الشخصيات المعروفة في ذلك العصر و(سفيان بن عيينه) و(نافع) و(الأوزاعي) و(مقاتل) و(الواقدي) و(محمد بن اسحق) المؤرّخ المعروف.

ويقول الشيخ المفيد (رحمه الله) أنّه روى عنه الفقهاء ما لا يحصى كثرةً، فهذه الأسماء مقارنة بالتراث الكبير الموجود في كتب التأريخ والتفسير وكتب الفقه والموعظة، تدلّنا على أنّ الإمام كان يغذّي الحركة العلمية في وقته في مختلف نواحي الثقافة في ذلك العصر، وقد ذكر المؤرّخون أنّه ما من كتاب أُلّف في الموعظة إلاّ وفيه حديث لعليّ بن الحسين (عليه السلام) لأنّه كان يتحدّث في هذا الجانب من الثقافة الإسلامية بشكل كبير وواسع، ومن هنا فإنّنا نتمثّل فيه شخصية الإنسان الإمام الذي كان العلمُ يشغله، وكانت الثقافة الإسلامية بكلّ تنوّعاتها تمثّل خطّ النشاط والتعليم والتوجيه والتركيز فيما ينطلق به.

ولذلك وإزاء هذه الحقائق، فإنّنا ندعو إلى قراءة الإمام عليّ بن الحسين في تراثه الفقهي والتفسيري والوعظي والتأريخي لأنّ ذلك يمكن أن يمثّل لنا حجم الحركة الثقافية التي تحرّك بها الإمام آنذاك.

 

كنز الصحيفة السجّاديّة: 

وعندما نقرأ الجانب الثاني من تراثه وهو الجانب الدعائي فإنّنا نجد أنّ الصحيفة السجّادية الكاملة بلغت من الوثاقة والشهرة المستوى الذي لا يحتاج الإنسان أن يبحث في سندها، وإنّ دراستنا لهذه الصحيفة ستكشف لنا أنّها تتحرّك في دعاء إذا قرأه الإنسان يتعرّف من خلاله على صفات الله تعالى، والفكرة التي تجعله ينطلق في خطّ المعرفة بالله بحيث يشعر وهو يدعو ربّه أنّه يتحرّك في خطّ المعرفة لله من خلال المفردات الموجودة في الدعاء، تماماً كما يتحرّك مع الله من خلال الروحانية التي ترتفع به إلى الله في حالة الدعاء.

فإذا انتقلنا من ذلك وقرأنا دعاءه الذي يتحدّث به عن الملائكة، هذه المخلوقات الغيبيّة الخفيّة التي لا نعرف عنها شيئاً نرى أنّ هذا الدعاء يدخل بنا في مجتمع الملائكة لنتصوّرهم في أشكالهم وفي وظائفهم وفي مهمّاتهم وفي عبادتهم حتى لتشعر من خلال كلّ هذه الكلمات كأنّك تعيش معهم، وقل نفس الشيء عندما يتحدّث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنّ حديثه عنه في دعائه يختصر لك كلّ حركة رسول الله في الدعوة وكلّ جهاده وكلّ نشاطه وانفتاحه وكلّ آلامه في دعاء من أقصر أدعية الصحيفة السجّادية.

ويتحدّث بعد ذلك عن صحابته وعن أهل بيته ثمّ ينفذ إلى الزمن لينطلق بالإنسان إلى الدعاء في الصباح وفي المساء ليعرّف الإنسان كيف يبدأ صباحَه ليكون صباحاً مسلماً منفتحاً على كلّ قيم الإسلام التي لا بدّ أن يملأ بها يومه، وأن يكون مساؤه مساءً مسلماً ينفتح على كلّ ما يريد الله للإنسان أن يتحرّك به في علاقته بالزمن وبحركة الواقع المستقيم والمنحرف وفي حركته مع الإنسان الآخر.

(مكارم الأخلاق):

وهكذا ينطلق الداعي مع الله سبحانه وتعالى عندما ينزل به كرب وتعرض له محنة، ويتحرّك مع الله عندما يتذكّر محاسن الأخلاق ومساوئها، ثم ينفتح في هذا البرنامج الأخلاقي الذي يمثّل كل الخطّ الأخلاقي الإسلاميّ في مفرداته ودعائه في (مكارم الأخلاق) الذي يجلس فيه بين يديّ الله ليستعرض كلّ الخطوط الأخلاقية في الإسلام من خلال عناوينه البارزة فيقول:

"اللّهم وبلِّغ بإيماني أكمل الإيمان واجعل يقيني أفضل اليقين وانتهِ بنيّتي إلى أحسن النيّات وبعملي إلى أحسن الأعمال".

ثم يبدأ بعد هذه العناوين في مفردات الأخلاق بحيث إذا خرج الإنسان من هذا الدعاء متأمّلاً متدبّراً واعياً منفتحاً على الله فإنّه يحصل على ثقافة أخلاقية تختصر له أخلاقه في نفسه ومع ربّه ومع الناس في الحياة بل ومع الحياة كلّها.

ثمّ ينطلق إلى الناس ليدعو إلى أوليائه وإلى جيرانه وإلى عائلته وإلى أهل الثغور فتشعر بأنّ هذا الإمام العظيم يعطينا الخطّ الذي يعيش فيه الإنسان مسؤوليته بين يديّ ربّه، كيف يفكّر بالناس وكيف يفكّر بأولئك الذين يقفون على ثغور (حدود) البلاد الإسلامية وهم يعيشون رباطهم وجهادهم، ويفكّر بجيرانه ويخطّط لك كلّ حقوق الجيران حتى لكأنّك لا تحتاج إلى كتاب يشرح لك تلك الحقوق.

وقل الشيء نفسه عن علاقة الإنسان بعائلته وبأولاده وبأبويه لتستشعر أنّك عندما تجلس بين يديّ الله داعياً فإنّ عليك أن لا تفكّر بنفسك بل عليك أن تفكّر بكلّ الناس الذين ترتبط بهم برباط النسب لتعرف حقّك عليهم وحقّهم عليك، ولتعرف كيف تدعو لهم وكيف تريد أن يدعوا لك، وبالتالي تعرف كيف تدعو لكلّ الناس الذين يتحرّكون في حياتك وفي حياة الأُمّة كلّها.

وتتنوّع مفردات الدعاء، فهناك دعاء للتوبة تعرف به شروط التوبة وروحيّتها وحركيّتها والعودة إليها وإذا بك تقرأ كلّ البرنامج الإسلاميّ للتوبة في كل نقاط الضعف والقوّة التي يعيشها الإنسان التائب.

ثم ينطلق بنا في أغراض متنوّعة، فإذا نظرنا إلى أصحاب الدنيا كيف نقول، وإذا عشنا بعض الآلام كيف نواجهها، ثم يدخل بعد ذلك في الزمن، فليوم الجمعة دعاء وليوم السبت دعاء ولكلّ أيّام الأسبوع أدعية، وليوم العيد دعاء نستوحي منه كيف يكون العيدُ عيداً ينفتح فيه الإنسان على الله لينفتح بالتالي على الناس من خلال انفتاحه على الله ليعيش أجواء عيد الفطر ويوم عرفة ويوم الأضحى، فتشعر أنّ الصحيفة السجّادية تدخلك إلى الزمن كلّه لتحدّد مسؤوليتك أمام الزمن، ولتستوحي عناوينه ولتدخل إلى الناس كلّهم لتحدّد علاقتك بهم وعلاقتهم بك، ولتعيش مع الله لتنطلق مذنباً يسعى للتوبة، ومكروباً يتضرّع إلى الله في كشف كربه، ومتألّماً يريد الله أن يخفّف عنه ألمه، وصاحب حاجة يلب من الله قضاء حاجته.

ثقافة حياتيّة:

وعلى كلّ ما تقدّم، فإنّ أدعية الصحيفة السجّادية تمثّل الثقافة الاجتماعية والأخلاقية والروحية والحياتية وذلك من خلال انفتاحك بها على الله فلا يعزلك الدعاء عن الحياة ولا يبعدك عن الناس ولا عن التفكير بنقاط ضعفك من أجل أن تحوّلها إلى نقاط قوة.

وإذا ما انطلقنا في (دعاء أبي حمزة الثمالي) والأدعية الأخرى التي جمعت في أكثر من كتاب فإنّنا نجد أنّ الإمام قد استطاع بأدعيته أن يغني الثقافة الإسلامية الروحية بأن حشدَ في داخلها كلّ الحياة التي يتمثّلها الإنسان بين يديّ الله لتكون كلّ حياته في نفسه وفي مجتمعه مفتوحة على الله سبحانه وتعالى. ولذلك فإنّني أدعو الشباب إلى قراءة أدعية الإمام زين العابدين (عليه السلام) في كلّ مناسباتها وأجوائها، فإذا تألّمت وضاقت بك الحياة فاجلس معه لتطلب من الله أن يخفّف ألمك وأن يوسّع لك مجال الحياة، وإذا طافت بك أفكار الشيطان لتطبق عليك، إجلس مع الإمام زين العابدين (عليه السلام) واقرأ دعاءه عندما يذكر الشيطان وكيف يعرّفك حبائله وخدعه وأمانيه، وكيف يساعدك على أن تكتشف ذلك لتعرف كيف تتخلّص منه.

وإذا قرأتم هذه الأدعية فاقرأوها قراءة ثقافة لا قراءة تقليد واستظهار، كما أطلب من كلّ الجامعات وأصحاب الفكر الذين يكتبون أو يدرسون المنهج الإسلاميّ الروحي وعلاقته بالحياة أن يدرسوا أدعية الإمام زين العابدين (عليه السلام) ليكتشفوا أنّ العبادة في الإسلام وأنّ الدعاء في الإسلام ليسا شيئاً يبعد الإنسان عن الحياة، بل يدخله إلى الحياة ليعيش الحياة بكلّ قوّة وهو ضارعٌ بين يديّ الله تعالى.

رسالة الحقوق:

ولننطلق ـــ بعد الدعاء ـــ إلى جانب آخر لنجد أنّ الإمام (عليه السلام) كتب رسالة الحقوق التي تعدّ من أعظم الرسائل التي تتحدّث عن الإنسان في حقوقه وواجباته، وعن علاقتك بربّك وعلاقتك بنفسك وبكلّ جسدك وبأبيك وأمّك ومن تعلّمه وبالحاكم، بحيث تمتدّ العلاقات في الرسالة لتشمل كلّ علاقات الإنسان بعناوينها المتشعّبة.

ولعلّنا لا نجد في التراث الإسلاميّ رسالة بهذه الدقّة وهذه المتابعة لكلّ حالات الإنسان وقضاياه ووظائفه وكلّ علاقاته وأوضاعه كرسالة الحقوق.

تحريك القِيَم في الواقع:

أمّا إذا انطلقنا إلى القِيَم التي كان يحرّكها الإمام زين العابدين في الواقع، والتي كان يواجه فيها حتى أصحاب القوّة في زمانه، نجد من بين تلك المفردات ما يرويه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): إنّ عليّ بن الحسين (عليه السلام) تزوّج سرّية (أمة) كانت للحسن بن علي، فبلغ ذلك عبد الله بن مروان فكتب إليه في ذلك كتاباً إنّك صرتَ بعل الإماء، فكتب عليّ بن الحسين: (إنّ الله رفع بالإسلام الخسيسة وأتّم به الناقصة وأكرم به اللؤم فلا لؤم على مسلم إنّما اللؤم لؤم الجاهلية، وإنّ رسول الله (ص) أنكح عبده ونكح أمَتَه حيث زوّج زينب بنت جحش وهي ابنة عمّته من عبده زيد وتزوّجها بعد ذلك)(1)، فلمّا انتهى الكتاب إلى عبد الملك قال لمن عنده: أخبروني عن رجل إذا أتى ما يصنع الناس لم يزده إلاّ شرفاً، قالوا: ذاكَ أميرُ المؤمنين، قال: لا والله، ما هو ذاك، قالوا: ما نعرف إلاّ أمير المؤمنين، قال: فلا والله ما هو بأمير المؤمنين ولكنّه عليّ بن الحسين.

فلقد هزّت هذه الكلمات عمق (عبد الملك بن مروان) وكلّ وجدانه وشعر أنّ الإمام ارتفع من حيث تصوّر أنّه اتّضع، وتلك هي قيمة الإنسان الذي يعيش القيمة الإسلامية في حياته ليؤكّدها وليجسّدها وليجعل من نفسه قدوة للناس في ذلك حتّى لو كان العرف الاجتماعي على خلافِه، لأنّ قضية الإمام والمصلح والداعية ليست في أن يعيش مع قِيَم الناس إذا كانت منحرفة ولكنّ مسؤوليته أن يرتفع عن القِيَم المنحرفة ليعطي الناس النموذج الأمثل للقيمة الإسلامية الرائعة.

كما يعطينا ذلك درساً في أن نخرج من كلّ هذه التقاليد والعادات التي تجعل الزواج مسألة خاضعة للطبقيّة الاجتماعية نسباً ومالاً وما إلى ذلك لنعرف الخطّ: "إذا جاءكم مَنْ ترضون خلقه ودينه فزوّجوه إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير" هكذا قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منطلقاً من قول الله تعالى:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(1)، فليس هناك شعب أكرم من شعب ولا قبيلة أكرم من قبيلة، بل الأكرم هو الأقرب إلى الله تعالى في فكره وروحه وحياته.

عزّة الموقف وصلابته:

وفي قصّة أخرى تبدو قوّة الموقف وصلابته أمام عبد الملك بن مروان فلقد بلغ عبد الملك أنّ سيف رسول الله عنده (عند الإمام السجّاد) فبعث يستوهبه منه ويسأله الحاجة فأبى عليه فكتب عبد الملك يهدّده وأنّه يقطع رزقه من بيت المال فأجابه (عليه السلام): (أمّا بعد فإنّ الله ضمن للمتّقين المخرج من حيث يكرهون والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جلّ ذكره {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}(2)، فانظر أيّنا أولى بهذه الآية؟!)(3) ومن الطبيعي أنّه أراد أن يقول له إنّك الأولى بهذه الآية لأنّك عشت الكثير من الخيانة في حياتك، حيث تهدّد الناس بقطع أرزاقهم إذا لم يستجيبوا لك فأي خليفة هو هذا الذي يستغلّ مركزه في تهديد الناس بقطع أرزاقهم إذا حجبوا عنه أيّ شيء شخصيّ يريده.

هاتان القضيّتان تمثّلان كيف ينطلق الإمام (عليه السلام) من خلال العزّة الإسلامية التي لا يسقط فيها أمام تهديد الخليفة مهما كان موقعه، وهو القائل في الدعاء: (واعصمني من أن أظنّ بذي عدمٍ خساسة أو أظنّ بصاحبِ ثروةٍ فضلاً فإنّ الشريف من شرّفته طاعتك، والعزيز من أعزّته عبادتك).

لا شرفَ أعلى من الإسلام:

ثم لننطلق لنرى كيف يواجه الناس الذين يريدونه أن يلجأ إلى نسبه ليعتبر أنّه هو الذي ينجيه، أو يلجأ إلى الشفاعة، بل وحتى إلى رحمة الله ليتحرّك في حياته من دون هذا الإلحاح في العبادة، فاستمعوا إليه كيف كان ردّه:

(قال طاووس رأيت رجلاً يصلّي في المسجد الحرام تحت الميزاب يدعو ويبكي في دعائه فجئته حين فرغ من الصلاة فإذا هو عليّ بن الحسين، فقلت له: يا ابن رسول الله رأيتك على حالة كذا ولك ثلاثة أرجو أن تؤمنك من الخوف: أحدهما أنّك ابن رسول الله والثاني شفاعة جدّك، والثالث رحمة الله، فقال: يا طاووس أما أنّي ابن رسول الله فلا يؤمنني وقد سمعتُ الله تعالى يقول: {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ}(1) وأمّا شفاعة جدّي فلا تؤمنني لأنّ الله تعالى يقول: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}(2)، وأمّا رحمة الله فإنّ الله تعالى يقول: إنّها {قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}(3)، ولا أعلم أنّي محسن"(4)!، يقول هذا وهو المعصوم!

وبهذا يعطينا الإمام (عليه السلام) درساً بأنّ على الإنسان أن يبقى مع الله في موقف الخائن الراجي الذي يتقرّب إلى الله سبحانه بعلمه وإنْ كان يأمن الشفاعة والرحمة من دون أن يبتعد عن ذهنية الخائف الراجي، ففي الحديث: "ما من مؤمن إلاّ وفي قلبه نور خيفة ونور رجاء"، "خف الله خوفاً لو جئته ببرّ الثقلين لعذّبك وارجُ الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك"(1) فالمطلوب هو أن تعيش هذا التوازن لتتحرّك في خطّ المسؤولية لله دائماً وأنتَ ترجو ثوابه وتخاف عقابه.

قيمة كظم الغيظ:

ويقول مؤكداً قيمة كظم الغيظ، ونحن أناسٌ نعيشُ تفجير الغيظ كقيمة، أَوَلَسْنا نلومُ بعضنا بعضاً عندما يُساء إلينا، لماذا لا نفجّر غيظنا؟ إنّنا نفعل ذلك، فانظروا ماذا يقول الإمام (عليه السلام):

"ما أحبُّ أنّ لي بذلّ نفسي حمر النعم ـــ وهي من الثروات المهمّة ـــ، وما تجرّعت من جرعةٍ أحبّ إليّ من جرعة غيظ أعقبها صبر"(2)، فهو لا يتحرّك بردّ الفعل تجاه صاحب الإساءة وهذا ليس ذلاًّ، فالإنسان الذي يكظم غيظه ولا يقابل المسيء في إساءته لا يكون في موقف الذلّ بل في موقف العزّ لأنّه استطاع أن يحبس غيظه في حين أنّه قادرٌ على أن يفجّره، بل الذليل هو الذي لا يفجّر غيظه استكانة وذلاًّ، أمّا الذي لا يفجّر غيظه خُلُقاً وقربةً إلى الله ودرساً للإنسان المسيء ليتراجع عن خطأه، فهو العزيز.

أُنس المؤمن بالقرآن:

ثمّ يتحدّث في لقطة أخرى عن أُنس المؤمن بالقرآن فكراً وروحاً ومنهجاً وحركة وانفتاحاً على الله وعلى الناس (لو مات منْ بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي)(3) لأنّه عندما يقرأ القرآن يعيش مع الله ومع الحقيقة ومع الإسلام ومع كلّ القِيَم التي ترتفع بها إنسانية الإنسان بما يتقرّب به إلى الله، فأيّ أُنسٍ أعظم من هذا الأُنس، وربّما استوحى هذا من وصية عليّ (عليه السلام): (لا يؤنسنّك إلاّ الحق ولا يوحشنّك إلاّ الباطل)(1) فليكن الحقّ أنيسك بحيث لو لم يكن معك أحد وكان الحقُّ معك، فأنتَ في أُنس عقليّ وروحيّ وحياتيّ، ولو كنت مع الباطل وكان معك كل الناس لما كان معك أحد.

وكان (عليه السلام) يقرأ القرآن بطريقة تختلف عمّا يقرأه الناس، فكان إذا قرأ الفاتحة ووصل إلى قوله تعالى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}(2)، كان يكرّرها ويبكي حتى ليكاد أن يموت كما في الرواية.

لأنّه عندما يقرأ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يستحضر عظمة الله سبحانه في ملكه لكلّ الجزاء ثواباً وعقاباً، ويتذكّر يوم الدين والوقوف بين يديّ الله وأعماله وما يواجهه عندما يقوم لربّ العالمين.

وفي هذا درس لنا أنّنا إذا قرأنا القرآن أن لا نستعجل القراءة ولكن نقف مع كلّ آية لتدخل عقلنا وقلبنا وإحساسنا وشعورنا ولتتحرّك في حياتنا لتأمرنا في خطّ الأمر، ولتنهانا في خطّ النهي.

وينقل أنّ (الزهري) وهو الفقيه المعروف، قتل شخصاً خطأ فاستعظم ذلك حتى أنّه ترك الطعام والشراب واعتزل عن الدنيا، فجاؤا به إلى الإمام فدخل عليه فقال له: إنّي أخاف عليك من قنوطك ما أخاف عليك من ذنبك فابعث بدية مسلّمة إلى أهله واخرج إلى أهلك ومعالم دينك، قال فرّجت عني يا سيّدي والله أعلم حيث يجعل رسالته.

منزلة السجّاد (عليه السلام):

وفي نهاية المطاف نقرأ كيف كانت منزلة الإمام لدى الناس، فعن سفيان بن عيينه "قال: قلت للزهري لقيت عليّ بن الحسين، فقال نعم لقيته وما لقيت أحداً أفضل منه والله ما علمت له صديقاً في السرّ ولا عدوّاً في العلانية، فقيل له وكيف ذلك؟ قال: لأنّي لم أرَ أحداً وإن كان يحبّه إلاّ وهو لشدّة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه إلاّ وهو لشدّة مداراته له يداريه" فلقد كانت أخلاقه بالدرجة العليا من الأخلاق وليس ثمّة متّسع للحديث عن مفرداتها ولكنّنا عندما ندرسها نعرف كيف أنّ الإمام كان يريد أن يركّز على أخلاق القيمة لا أخلاق المنفعة (وسدّدني لأنْ أُعارِض من غشّني بالنصح وأجزي مَنْ هجرني بالبرّ وأُثيب مَنْ حرمني بالبذل وأُكافي مَن قطعني بالصلة وأُخالف مَن اغتابني إلى حسن الذكر وأن أشكر الحسنة واغضي عن السيّئة).

ذلك هو عليّ بن الحسين (عليه السلام) الإنسان الذي عاش حياته كلّها لله ومن خلاله للإنسان وللرسالة، وكان يعمل على أن يحرّر الإنسان من شيطانه والعبيد من رقّهم، فهو إمام الإسلام وإنسان الله فالذي كان يناجي ربّه بدعائه (الحمد لله الذي أرجوه ولا أرجو غيره ولو رجوتُ غيره لأخلف رجائي، والحمد لله الذي أدعوه ولا أدعو غيره ولو دعوتُ غيره لم يستجب لي دعائي، والحمدُ لله الذي وكَلَني إليه فأكرمني ولم يكلني إلى الناس فيهينوني والحمد لله الذي تحبَّب إليَّ وهو غنيٌّ عنّي فربّي أحمدُ شيءٍ عندي وأحقّ بحمدي) فعلينا أن نعيش معه دائماً بعلمه وفي خلقه وفي عبادته وفي دعائه وابتهالاته وإخلاصه لرسالته وفي حركة المسؤولية في حياته أمام الله وأمام الناس.

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

المحاضرة السادسة عشرة

1/ صفر/1418 هـــ (*)

 

الطريق إلى تطبيق "رسالة الحقوق"

 

"رسالة الحقوق برنامج إسلاميّ يحدِّد طبيعة العلاقات في معناها الإنساني".

 

 

 

 

 

 

قراءة في رسالة الحقوق:

كنّا نتحدّث عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) باعتباره الإمام الذي ملأ الساحة الإسلامية علماً وروحانيةً وأخلاقاً، وغنىً في كلّ مواقع إنسانية الإنسان، وقد تحدّثنا بعض الحديث عن دعائه.

وفي هذه الجلسة نحاول أن نطلّ على ما جاء في رسالة الحقوق التي وضعها الإمام زين العابدين (عليه السلام) لتحدّد لكلّ إنسان ما للناس عليه من حقوق حتّى يتحرّك في حياته الاجتماعية وفي علاقته بالناس من خلال برنامج إسلاميّ يحدّد له طبيعة العلاقة في معناها الإنسانيّ وخطوط التحرّك في دائرة الحقوق.

حقّ الزوجة:

سوف نحاول في هذا اللقاء أن نقتطع من رسالة الحقوق ما جاء في حقوق الأسرة:

(الأب، والأم، والزوجة، والولد، والأخ) ففي حقّ الزوجة يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) (وأمّا حقّ رعيّتك بملك النكاح فأن تعلم أنّ الله جعلها سكناً ومستراحاً وأُنساً وواقية) فلا بدّ للإنسان أن يعيش هذا التصوّر لعلاقته بزوجته فهي الإنسان الذي يأنَس به ويتخفّف من وحشته معه، ولذلك فلا بدّ أن يحافظ في علاقته معها على أجواء الأنس، فلا يعكّر صفوها أيّ جوّ يوحي بالأذى.

و(سكناً) أي أن تسكن وتستريح إليه وتأنس به، والسكن ينطلق من خلال معنى السكينة بحيث تشعر أنّك تسكن إليها كما تسكنُ هي إليك لتحسّ بالطمأنينة معها، ولتحسّ هي بالطمأنينة معك.

و(مستراحاً) فهي الإنسان الذي يرتاح إليه الإنسان الآخر بحيث يشعر بالراحة العقلية معه والراحة العاطفية والراحة الجسدية والراحة الاجتماعية في هذه الخلية الصغيرة والمهمّة من خلايا المجتمع.

و(واقية) تقيك من الوقوع في الحرام ومن السقوط في الزلل. ويمضي الإمام في تحديد معالم هذا الحقّ فيقول: بأنّ على كلّ واحدٍ منكم أن يحمد الله على صاحبه، بأن يشعر الزوج أنّ الزوجة نعمة يجب أن يحمد الله عليها، وتشعر الزوجة أنّ الزوج نعمة الله عليها فينبغي أن تحمد الله على ذلك.

(ويعلم أنّ ذلك نعمة منه عليك، ووجب أن يُحسن صحبة نعمة الله) فإذا كنت تعتبر أنّ الإنسان الآخر زوجاً أو زوجة هو نعمة من الله فلا بدّ لك أن تعرف كيف تصحب نعمته، لأنّ الله يريدُ لنا أن نصحب نعمه بالحمد وبالشكر وبالانضباط وبتوجيهها بالوجهة التي يحبّ الله أن نوجّهها فيها وبالرعاية التي يريد الله أن نرعاها بها.

 (ويكرمها ويرفق بها وإن كان حقّك عليها أغلظ وطاعتك بها ألزم) أي {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}(1)، ولكن ذلك لا يعفيك من حقّها عليك.

(فيما أحببت وكرهت ما لم تكن معصية) فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (فإنّ لها حقَّ الرحمة والمؤانسة) ارحم ظروفها وذهنيّتها وآلامها وأحلامها ولا تعش معها من خلال أنانيتك بل عش معها من خلال أنّها أمانة الله عندك ونعمة الله عليك فاعرف كيف تحفظ الأمانة وكيف ترعى النعمة، فهذا هو شأن الزوجة.

 

 

حقُّ الأم:

(وأمّا حقُّ أمّك) وهنا يتحدّث الإمام (عليه السلام) بطريقة أقرب إلى الطريقة الشاعرية في تمثّل عمق إنسانية أمّك في احتضانها لك وفي ذوبانها فيك، اندماجها بك، وفي تضحيتها من أجلك، فلنستمع إليه.

(وأمّا حقّ أمّك فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحملُ أحدٌ أحداً) حملتك في أحشائها تسعة أشهر في اللّيل والنهار، ولربّما يكلّفك إنسانٌ أن تحمل شيئاً ساعة أو ساعتين فتصبر لذلك، ولكن ماذا إذا أقحم في داخل جسدك هذا الحمل الذي يربكُ كلّ جسدك وكلّ مزاجك وكل حريّتك، ولكنها ـــ أي الأم ـــ تبتسمُ في هذا الارتباك كلّه (وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحداً) فأنتَ تتغذّى بدماء قلبها وبكل أعصابها ومشاعرها وبكلّ طاقاتها، وهكذا فأنت تشاركها غذاءها، فإذا جاء الغذاء فهو حصّة لك وحصّة لها ولربّما كانت حصّتك أكثر من حصّتها.

(وأنّها وقتك) من كلّ سوء (بسمعها) فهو في حالة طوارئ تلاحق كلّ شيء يمكن أن تتعرّض له، (وبصرها) فهو يتنقّل من هنا وهناك مذعوراً خائفاً أن يصيبك سوء (ويدها) التي تحتضنك وتدفع عنك (ورجلها) التي تجعلها تهرع لتفتّش عنك ولتردّ عنك الأذى (وشعرها وبشرها) لأنّ كلّ أعضائها وكل ما في جسدها يعيش في حالة طوارئ (وجميع جوارحها) تفعل ذلك (مستبشرة) فهي تتألّم وهي مبتسمة، ويصيبها المكروه وهي فرحة محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمّها (حتى رفعتها عنك يدُ القدرة، وأخرجتك إلى الأرض) بل وحتى بعد أن تخرج تبقى أمّك معك، فكيف ذلك (فرضيت أن تشبع وتجوع هي وتكسوك وتعرى هي وترويك وتظمئ وتظلّلك وتضحى) تجلس تحت الشمس، وتنهمك ببؤسها وتلذّذك بالنوم بأرقها، تعطيك حالة النعيم من خلال ما تعيشه من بؤس أمام ذلك، وتلذّذك بالنوم فتهدهدك وتغنيّ لك وتلمسك وهي ساهرة أرِقة لا تملك أن تنام خوفاً عليك ورعاية لك.

(وكان بطنها لك وعاءً وحجرها لك حواءً) تحتويك به (وثديها لك سقاءً ونفسها لك وقاءً تباشر حرّ الدّنيا وبردها لك ودونك) فإذا علمت ذلك فماذا عليك أن تعمل (فتشكرها على قدر ذلك ولا تقدر عليه إلاّ بعون الله وتوفيقه) وذلك من أجل ما تعيشه الأم في أمومتها بكلّها فلا يبقى هناك شيءٌ منها إلاّ وتقدّمه عندما تكون الأمومة في داخل الجسد ولا يبقى لها شيء إلاّ وتضحّي به عندما تكون الأمومة خارج الجسد، أمّا الأب فالأبوّة لا تكلّفه شيئاً سوى الإنفاق بعد ذلك، ولهذا قال ذلك الإعرابي للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (مَنْ أبرّ؟ قال: أمّك، قال مَن أبرّ، قال: أمّك، قال من أبرّ قال: أمّك، قال من أبرّ؟ قال: أباك).

فالأمومة تقيّد حركة الأم، ولكنّ الأبوة لا تقيّد حركة الأب وذلك هو الفرق بينهما، ولذلك تحدّث الله في القرآن الكريم عن الوالدين معاً في آيات وتحدّث عن الوالدة بشكلٍ خاص في آيات أخرى.

حقُّ الأب:

(وأمّا حقُّ أبيك فأن تعلم أنّه أصلك) لأنّك تمثّل البذرة التي انطلقت من دمه فأنت جزء منه (وأنّك فرعه وأنّك لولاه لم تكن) فهو سرُّ وجودك من خلال ما سنَّه الله تعالى في حركة الوجود (فمهما رأيت في نفسك) من ذكاء ومن جمال ومن خير ممّا يعجبك (فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك واحمد الله واشكره على قدر ذلك).

لاحظوا كيف تحدّث الإمام عن الأم وكيف أفاض في الحديث عنها، وكيف تحدّث عن الأب ولكلّ فضلٌ، ولكنّ فضل الأمّ أعظم وأكبر نظراً لأنّ التضحية التي تقوم بها أكبر وأخطر.

حقُّ الولد:

(وأمّا حقُّ ولدك فأن تعلم أنّه منك) فهو جزء انفصل عنك (ومضاف إليك) فهو ابنُ فلان (في عاجل الدنيا بخيره وشرّه) فإذا كان خيّراً فخيرهُ ينعكسُ عليك، وإذا كان شريراً فشرّه ينعكس عليك (وأنّك مسؤولٌ) أمام الله عنه غداً (عمّا ولّيته من حسن الأدب) لأنّ الله تعالى يريد لك أن تؤدّب عقله فتجعل له عقلاً منفتحاً عميقاً قوياً، وأن تؤدّب قلبه فتجعل له قلباً لا ينفتح إلاّ على عاطفة الخير وينغلق عن عاطفة الشرّ، وتؤدّب حركته فلا تكون حركته إلاّ فيما يرضي الله لا فيما يسخطه، وتؤدّب طريقه فلا تسلك به إلاّ الطريق الذي يقرّبه من الله سبحانه وتعالى، وتؤدّب له علاقاته فلا تجعله يقيم أيّة علاقة إلاّ التي يرتفع بها إلى الخير ويأخذ بها ما يريد الله به من القِيَم.

(وأنّك مسؤول) فولدك مسؤوليتك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(1)، (عمّا وليته من حسن الأدب والدلالة على ربّه والمعونة له) ليعبد ربّه ويطيعه وينفتح عليه في كلّ أموره وليرتبط به في كلّ أوضاعه وقضاياه، وأن تعينه (على طاعته فيك وفي نفسه) بحيث يطيع الله فيك فيكون البارّ بك، وقد ورد في الحديث: "رحم الله والداً أعان ولده على برّه، قالوا: كيف، قال: يحسنُ اسمه وأدبه ويقبل ميسوره ويتجاوز عن معسوره ولا يكلّفه ما لا يطيق"، لأنّك إذا كلّفت ولدك فيما لا يطيق وحاولت أن تحاسبه على كلّ شيء ولا تغفر له في أيّ مجال فإنّك بذلك قد تعين ولدك بأن يكون عاقّاً بك.

(فمثابٌ على ذلك ومعاقب) أي أنّك إذا أحسنت الولاية وأحسنت التربية فسيثيبك الله على ذلك، وإذا لم تحسن التربية فإنّ الله يعاقبك على ذلك.

(فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحسنِ أثره عليه) عمل الإنسان الذي يريد أن يجعل من ولده زينة له في إيمانه وأخلاقه وعلمه وإحسانه لنفسه وإلى الناس (في عاجل الدنيا المُعذر إلى ربّه) أي أن تقدّم العذرَ إلى الله بأن تبذل كلّ جهدك بقدر ما يتّصل الأمر بك فيما بينك وبينه (بحسن القيام عليه والأخذ له منه).

 

حقُّ الأخ:

(وأمّا حقُّ أخيك، فأن تعلم أنّه يدُك التي تبسطها) فالأخ هو اليد التي تستعين بها (تبسطها) لتعينك ولتنقذك وتحميك ولتدافع عنك (وظهرك الذي تلتجئُ إليه) وتستند إليه عندما يصيبك الضعف من خلال أيّ طارئ وأيّ حادث.

(وعزّك الذي تعتمد عليه) فالأخ عزٌّ لأخيه عندما يتضامن معه ويتكامل معه وينطلق معه ويلتقي معه لأنّ العزّة تأتي من القوة، وأخوك قوّة لك إذا كان يعيش معنى الأخوّة وبذلك يكون عزّاً لك في مواجهة التحدّيات.

(ولا تدع نصرته على نفسه)، فإذا أراد أن يخضع لنفسه الأمّارة بالسوء فحاول أن تكون معه على نفسه، وهذا ما ورد به الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما قال: "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" وهي الكلمة التي كانت معروفة في الجاهلية، قالوا: يا رسول الله قد عرفنا كيف ننصره مظلوماً بأن نعينه على ظالمه، فكيف ننصره ظالماً؟ فهل نعينه على الظلم، قال (بأن تمنعه من الظلم) بأن تساعده على نفسه وتنصره عليها.

(ومعونته على عدوّه) وهو الشيطان (والحول بينه وبين شياطينه وتأدية النصيحة إليه) بأن تنصحه عندما يريد الانحراف أو السقوط (والإقبال عليه في الله فإن انقاد إلى ربّه وأحسن الإجابة له) فليكن ذلك هو الخير، وإذا لم ينقد إلى ربّه ولم يجبك (وإلاّ فليكن الله أثرَ عندك وأكرم عليك منه) فإذا أراد أخوك أن يعصي الله ويتمرّد عليه ويبتعد عنه ويظلم عباد الله وأن يؤذي المؤمنين، فاترك أخاك وليكن الله أكرم عليك لتكون مع الله ضدّ أخيك عندما يكون أخوك ضدّ الله.

 

 

خطّ الولاية:

هذه هي دروس الإمام زين العابدين (عليه السلام) وهذه هي حقوق الأسرة في ذلك، فإذا كنّا نريد أن نعيش معه في خطّ إمامته، وأن ننفتح عليه في خطّ الولاية فعلينا أن نتحرّك معه في هذه الخطوط وأن نعمل على تأكيد وتطبيق هذه الحقوق، وأن نعيش مع الله دائماً وأن نكون مع الله دائماً كما كان الإمام (عليه السلام) مع الله دائماً، فإنّها معنى الولاية وحقيقة الالتزام، فهل نتحرّك معه بأن تكون ذكراه ذكرى الالتزام به والسير على خطّه الذي هو خطّ الإسلام، وخطّ الله ورسوله {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}(1).

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة السابعة عشرة

8/ صفر/1418 هـــ (*)

 

في ذكرى وفاة الإمام الحسن (عليه السلام):

واقعةُ الصُلحِ ومواقعُها

 

"أدعو الباحثين إلى أن يتعرّفوا على شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) في إرادة القوّة في كل كيانه، وفي العنفوان الإسلامي في كلّ عقله".

 

 

 

في ذكرى المجتبى (عليه السلام):

بالأمس كانت ذكرى وفاة الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ولا بدّ لنا أمام هذه الذكرى أن نطلّ على الأجواء التي كان يحشدها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في وجدان الأمّة من أجل أن يعمّق حضور هذين الإمامين (الحسن والحسين) في أعماقها كانطلاقة تهيّئ الساحة المستقبلية لهما على أساس أن يكونا في موقع القيادة التي توجّه الأمّة إلى الصراط المستقيم.

يروي رواة السنّة والشيعة أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة"(1)، وعندما نستنطق هذه الكلمة فإنّها تعني أنّ كلّ ما قام به الإمام الحسن (عليه السلام) فإنّه يمثّل الشرعية الإسلامية بكلّ مفرداتها، وأنّ كلّ ما قام به الإمام الحسين (عليه السلام) يمثّل الخطّ الإسلامي بكلّ استقامته، لأنّ مَن كان سيّداً لشباب أهل الجنّة لا بدّ أن يكون معصوماً في فكره وفي حركته وفي كلّ منطلقاته، وفي الجنّة يوجد الذين اصطفاهم الله تعالى للقرب منه، ومن هنا فإنّنا لا نحتاج إلى الكثير من التحليل لنعرف شرعية صلح الإمام الحسن (عليه السلام) في دائرة الظروف التي عاشها وثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في دائرة التحدّيات التي واجهها.

شهادة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

ثم ننطلق لنسمع من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما رواه السنّة والشيعة "اللّهم إنّي أُحبّهما فأَحبَّهما وأحبَّ مَن يُحبِّهما"، وهناك رواية أخرى تقول: "مَن أحبَّهما فقد أحبّني ومَن أبغضهما فقد أبغضني"، وهكذا نقرأ، كما في (أسد الغابة) عن ابن أم سلمة عن أم سلمة أنّ هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(2)، نزلت على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بيت أُم سلمة فجاء بكساء ودعا حسناً وحسيناً وفاطمة والتفّوا به وعليّ خلف ظهره، فقال: "اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجل وطهّرهم تطهيراً"، وقالت أمّ سلمة: هل أنا منهم؟ قال: "إنّك على خير".

في هذا الجوّ نستطيع أن نطلّ على هذين الشخصين اللذين لم تنطلق كلمات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحقّهما من إحساس عاطفي في احتضان الجدّ لسبطيه، لأنّه كما قال الله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(1)، فللنبيّ إحساسه العاطفي، والعاطفة هي من صفات الإنسان في عمق إنسانيته، ولكنّ تقييم الأشخاص لا يمكن أن ينطلق من عاطفة نبيّ أراد الله له أن يقول الحقّ حتى في أقرب الناس إليه، وقد قال الحقّ ممّا أوحاه الله إليه في عمّه أبي لهب {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}(2)، ولذلك فعندما يتحدّث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن سبطيه بحديث فيه القيمة كأرفع القيمة، وفيه المحبّة كأعمق المحبّة، فإنّنا لا نجد في ذلك إلاّ معنى الحقيقة في معناه، وإلاّ عاطفة الحقّ في عاطفته.

شخصية الإمام الحسن (عليه السلام):

وعندما نريد أن ندرس شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) من دون استعراض التفاصيل لأنّ الندوة لا يسع وقتها لذلك، فإنّنا نحاول أن نأخذ قبسات من سيرته وبإمكانكم أن تقرأوها في تفاصيلها المتنوّعة.

فكيف صنع الله شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) بقطع النظر عن اللّطف الإلهيّ الداخلي الذي يتميّز به كلّ إمام؟ لقد عاش طفولته الأولى مع جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وينقل بعض كتّاب سيرته من العلماء من غير الشيعة أنّ الحسن وهو ابن سبع سنين كان يحضر مجلس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المسجد ويستمع إلى ما يلقيه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من وحي وما يشرحه فيحفظ ذلك فيأتي إلى أمّه فيلقيه عليها، فيأتي عليّ (عليه السلام) وإذا بالزهراء تحدّثه بكلّ ما حدّث به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيقول ما مضمونه، (فمن أين لكِ هذا؟ قالت: هذا ابني يحدّثني بذلك) ممّا يدلّ على وعي منفتح وحافظة عظيمة.

ثمّ عاش بعد ذلك مع أبيه عليّ (عليه السلام) ومع أمّه فاطمة (عليها السلام) الإنسانة التي تمثّل قمّة الفضائل وقمّة الوعي وقمّة العبادة وقمّة الصدق وقمّة المسؤولية وقمّة الشجاعة في الحق، وقمّة الأمومة في كل متاعبها وتضحياتها، وقمّة الاحتضان لأبيها بكلّ روحها وعواطفها، فلقد عاش الحسن معها وروى عنها أنّها كانت تقوم الليل حتى تتورّم قدماها. وكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولم تدعُ لنفسها مع أنّها كانت تعاني من ضعف البدن، فقال لها وهو في طفولته الأولى في السابعة من عمره أو أقلّ من ذلك: يا أمّاه إنّ الإنسان ينتهز فرصة إقباله على ربّه وتوجّهه نحو ربّه بكلّ حاجاته، إنّني أراكِ تستحضرين حاجات المؤمنين والمؤمنات وآلام المؤمنين والمؤمنات، وأحلام المؤمنين والمؤمنات فأين آلامك في دعائك، وأين أحلامك وأين مشاكلك، "لمَ لا تدعين لنفسك؟" قالت: ـــ وتلك هي القيمة التي تمثّل الإنسانية بأسمى معانيها ـــ : "يا بنيّ الجار ثمّ الدار"(1) إنها تقول ـــ بلسان الحال ـــ نحن نفكّر بالآخرين أولاً، ونفكّر بأنفسنا ثانياً، ونهتمّ بآلام الناس وبمشاكلهم وبقضاياهم ونطلب من الله أن يغمرهم بلطفه، ثمّ بعد ذلك قد نفكّر أن ندعو لأنفسنا، يقول الله تعالى في مدحهم: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً*إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً}(2).

عليّ وفاطمة (عليهم السلام):

وهكذا اختزن كلّ تلك الروحانية الفاطمية في قلبه وعقله وفي حياته، ثمّ استمرّ بعد ذلك مع أبيه وعاش تلك الأحداث الصعبة التي واجهها المسلمون في قضية الخلافة، ورأى كيف أنّ أباه يصير وكيف ينفتح على الواقع الإسلامي، وسمع أباه وهو يقول: "فخشيت إنْ أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه هدماً أو ثَلَماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه التي إنّما هي متاع أيّام قلائل يزول منها ما يزال كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب ونهضت حتى زاج الباطل وزهق واطمأنَّ الدين وتَنَهْنَهْ"(1)، وعرف من أبيه أنّ الإنسان إذا وقف بين حقّه، وإن كان حقّه حقّ الأمّة، وبين مصلحة الإسلام والمسلمين فإنّ مصلحة الإسلام والمسلمين تتقدّم لأنّ حقّه إنّما هو لأجل الإسلام والمسلمين.

وهكذا سمع أباه يقول: "لأسلمنّ ما سلِمَت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليّ خاصّة"(2). وسمع أباه يقول: "لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّةِ ظالم ولا سغب مظلوم لألقيتُ حبلها على غاربها ولسقيتُ آخرها بكأس أوّلها ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز"(3).

استوعب ذلك كلّه.. فلقد كان مع أبيه في صبره، وكان مع أبيه في انفتاحه حتى الذين تقدّموا عليه لأنّ القضية كانت قضية الإسلام لا قضية الأشخاص، حتى إذا تسلّم أبوه الخلافة وثارت المشاكل في وجهه كان الحسن (عليه السلام) في المستوى الكبير من الحكمة ومن الوعي ومن الفقه ومن دراسة الأمور بحيث أرسله أبوه إلى الكوفة من أجل أن يحلّ المشاكل الصعبة آنذاك التي وقفت معترضة خلافة الإمام عليّ (عليه السلام)، وهكذا كان أبوه يعتمده في حلّ كلّ المشاكل الفقهية التي كان الناس يسألونه عنها، فكان يرسلهم إلى الإمام الحسن (عليه السلام).

خريج المدرسة العلوية:

عاش مع أبيه حياةً استطاع من خلالها أن يأخذ كلّ عليٍّ في عقله وأن يأخذ كلّ عليٍّ في قلبه وأن يأخذ كلّ عليٍّ في روحه وفي شجاعته وفي أخلاقه، حتى مضى عليٌّ (عليه السلام) إلى رحاب ربّه، وتسلّم الخلافة في ظروف من أصعب الظروف التي تمرّ على إنسان، فلقد كانت الساحة مزروعةً بالألغام كما يُقال في هذه الأيام، وكانت الساحة النفسية والساحة الاجتماعية والساحة السياسية لا تملك الكثير من عمق الوعي المسؤول ولا تملك الكثير من الرسالة المنفتحة على الله، بل كانت ساحة استطاعت أن تزحف إليها كلّ الطفيليات وأن تسيطر عليها كلّ الانحرافات، فواجه الموقف بكلّ قوّة.

هل الحسن (عليه السلام) مسالم؟

وقد يتحدّث الناس، ونحن في هذا الموقف قبل أن نطلّ على مسألة الصلح، عن أنّ الحسن (عليه السلام) كان الإنسان المسالم الذي لا يعيش في شخصيته معنى التحدّي، وربّما تطرّف بعض الناس فقالوا، وبئس ما قالوا، أنّه كان يعيش الضعف في شخصيّته لأنّ هؤلاء درسوا مسألة الصلح ولم يدرسوا ما قبله، إنّني أدعو كلّ الباحثين من أجل أن يتعرّفوا على شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) في إرادة القوّة في كلّ كيانه وفي العنفوان الإسلاميّ في كلّ عقله، وعندما نقرأ الرسائل التي تبادلها مع معاوية ونقارن بينها وبين الرسائل التي دارت بين عليّ (عليه السلام) وبين معاوية فإنّنا لا نجد أيّ فرق في كلمات القوّة والمسؤولية والوعي والرساليّة والتحدّي والعنفوان الإسلامي، ولو أنّك أزلت كلمة الإمام الحسن عن هذه الرسائل ووضعت بدلها كلمة الإمام عليّ لرأيت أنّ الرسالة هي رسالة عليٍّ ممّا يجعلنا نكتشف في شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) الشخصية القويّة بالحق والشخصية المتحدّية للباطل والشخصية التي تعرف كيف تردّ التحدي وكيف تعرفُ أن تحرّك أسلوب العنف في الجدال من دون أن تبتعد عن الخطّ الإسلاميّ في كلّ مفرداتها، لأنّ الإنسان إذا عاش العنف ينسى الخطوط الهادئة، ولكنّك ترى الإمام الحسن (عليه السلام) يعنف في الموقف في الوقت الذي تراه مسؤولاً في كلماته بحيث لا تشعر أنّ هناك أيّة حالة من الانفعال، لذلك لم يكن الإمام الحسن (عليه السلام) ضعيفاً، ولم يكن مسالماً من خلال طبيعة هذه الحالة النفسية التي تمثّل المسالمين الذين لا يحبّون الدخول في ساحة الصراع، ونحن نعرف أنّ الحسن (عليه السلام) دخل ساحة الصراع بكلّ قوّة وعمل على أن يستكمل من أجل الحقّ ما بدأه أبوه عليّ (عليه السلام) ولكنّ المشكلة التي واجهت عليّاً في آخر أيّامه من خلال هذا الاهتزاز في جيشه عادت لتتمثّل في أقسى ما يكون في جيش الحسن (عليه السلام).

 

 

طبيعة جيشه:

فلقد كان قسم من جيشه من (الخوارج) الذين اندفعوا معه لا حبّاً به ولكن لأنّهم يريدون قتال معاوية بأيّة وسيلة ومع أيّ شخص، ولقد كان بين جيشه الأشخاص الذين دخلوا من أجل الغنائم وكان بينهم الأشخاص الذين عاشوا مع عصبيّات عشائرهم التي كان يحرّكها زعماؤهم الذين كانوا يبحثون عن المال وعن الجاه وكانوا يريدون أن يفسدوا على الحسن جيشه، وكان بين جيشه ومن قيادته بعض أقربائه الذين أرسل إليهم معاوية مالاً فتركوا الجيش من دون قيادة وكانت رسائل الكثيرين تذهب إلى معاوية "إن شئت سلّمناك الحسن حيّاً أو ميتاً" وكان معاوية يرسل بذلك إليه، واختبر جيشه ورأى كيف حاولوا أن يقتلوه، لذلك لم تكن للحسن (عليه السلام) ظروف الحسين (عليه السلام) من خلال المرحلة ومن خلال طبيعة الجيش ولم تكن الأجواء تسمح بأيّة حركة مشابهة لحركة الحسين لأنّ المعارضة سوف تسقط 100% وكان الإمام الحسن يريد للمعارضة أن تبقى من أجل أن تفتح وعي الأمة على الحقّ، ولذلك لم يكن الصلح اعترافاً بشرعية معاوية وإنّما كان واقعاً درسه الإمام الحسن (عليه السلام) من خلال الساحة كلّها ومن خلال المرحلة كلّها ومن خلال طبيعة جيشه ومن خلال النتائج التي لو استمر الإمام الحسن (عليه السلام) في الحرب فسوف لن تكون في مصلحة القضية بل ضدّها.

ونحن نعرف إنّك إذا أردت أن تدخل في عملية استشهادية أو ما يشبه ذلك فلا بدّ لك من أن تفكّر بالنتائج الإيجابية في عمليّتك، أمّا إذا كانت النتائج سلبية فإنّ السير مع هذه العملية يكون ضدّ الرسالة والقضية، وهكذا قيل بأنّ ثورة الحسين (عليه السلام) كانت صدىً لصلح الحسن (عليه السلام)، ونحن ضدّ من يطرح أنّ هناك أسلوباً حسنيّاً في السلم وأنّ هناك أسلوباً حسينيّاً في الثورة فالأسلوب الحسنيّ هو أسلوب حسينيّ في مرحلة الحسن والأسلوب الحسينيّ هو أسلوب حسنيّ في مرحلة الحسين لأنّهما يغرفان من نبعٍ واحد ولأنّهما ينطلقان من خطّ واحد، ونحن نعرف أيضاً بأنّ حركة الإنسان الرساليّ لا بدّ أن تدرس الظروف الموضوعية لتختار سلماً هنا أو حرباً هناك للحرب نتائجها الإيجابيّة أو السلبية وللسلم نتائجه الإيجابية أو السلبية ولا بدّ للمسالم أن يدرس الإيجابيات.

الصلح في الواقع الإسلامي:

أيّها الأحبّة، إنّ القضية تعطينا وعياً سياسياً في كلّ مراحل حياتنا، فلندرسها في الواقع الإسلامي فحسب، لا في الواقع غير الإسلامي، فعندما يكون هناك صراع وخلاف في الساحة الإسلاميّة فقد تكون المصلحة الإسلامية العليا أن تسالم لأنّ الحرب قد تسقط الهيكل على رؤوس الجميع، كما يقولون، وهذا ما نستوحيه من كلمة عليّ (عليه السلام): "لأسلمنّ ما سلِمَت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليَّ خاصّة" إنّ السلام والتسليم ينطلق من المصلحة العليا للمسلمين لا من خلال الحالة النفسيّة للإنسان، وهكذا نلاحظ أنّك لا بدّ من أجل إصلاح الواقع الإسلاميّ من أن تعنف أحياناً ولا بدّ من أن تثور، وعند ذلك تكون الثورة هي الحلّ للمصلحة الإسلاميّة في هذا المجال.

وقد قلنا إنّ المسألة تدور في الساحة الإسلامية لأنّ بعض الناس استغلّ مسألة صلح الإمام الحسن (عليه السلام) ليتحدّثوا عن الصلح مع إسرائيل كما استغلّ بعض الناس ومنهم بعض وعّاظ السلاطين من فقهاء صلح الحديبيّة ليشرّعوا بذلك الصلح مع إسرائيل، في حين أنّ صلح الحديبيّة لم يكن تنازلاً من لدن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن موقفه لكنّه كان يريد أن تبقى حالة السلم بينه وبين المشركين ليهيّئ للفتح الكبير وهو فتح مكّة، ولو أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دخل في معركة مع قريش في تلك المرحلة لما استطاع أن يتحرّك نحو مكّة ليفتحها، لذلك كان صلحاً قدّم تنازلاً مرحلياً ليس بذي شأن إلاّ من الناحية المعنوية ليربح فتحاً كبيراً ينهي الصراع تماماً مع قريش لأنّه يسقط كلّ عنفوان قريش، أمّا صلح الإمام الحسن (عليه السلام) فهو صلح في الساحة الإسلامية من أجل مصلحة المسلمين الذين أتعبتهم الحروب ولم تعد الحرب تنتج شيئاً في واقعهم جرّاء التعقيدات والظروف الصعبة هنا وهناك ولأنّه كان يريد أن يخطّط لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ولو حارب الإمام الحسن (عليه السلام) آنذاك لقتل هو وقتل الحسين (عليه السلام) وقتل كلّ أهل بيته وقتل كلّ أصحابه ولم يعد هناك صوت ينطلق بالحقّ.

 

الصلح مع إسرائيل:

لذلك لا يغرّنكم من يحاول أن يتحدّث عن صلح الحسن (عليه السلام) كما يتحدّث عن صلح الحديبية ليقول لكم أن في تاريخ المسلمين صلحاً مع المشركين وصلحاً مع المسلمين، فتعالوا لندخل صلحاً بين المسلمين من أجل أن نطبّع العلاقات مع الظالمين ومع المستكبرين في الداخل أو لنطبّع العلاقات مع إسرائيل في الخارج، افهموا معنى الصلح هناك ومعنى الصلح هنا لتفهموا كيف يمكن للأمّة الإسلامية أو العربية التي تختزن الإسلام في عمقها أن تفهم أنّ الصلح مع إسرائيل ليس له أي مبرّر شرعي، لأنّ قصّة إسرائيل هي أنّها أخذت الأرض كلّها وأنّها طردت الشعب كلّه، أمّا أنها طردته إلى الخارج أو طردته من تقرير مصيره.

لذلك فلو قال العالم كلّه إنّ إسرائيل دولة تملك الشرعية القانونية لبقينا نقول أن لا شرعية لإسرائيل لأنّه ليس هناك أيّ أساس إنسانيّ أو حضاريّ أو دينيّ مسيحيّ أو إسلاميّ يمكن أن يقرّ شعباً يأتي ليطرد شعباً آخر ليحلّ محلّه بحجّة أنّ آباءَه كانوا قبل ثلاثة آلاف سنة يسكنون هذه الأرض، ولقد زارني بعض الصحفيين الإيطاليين والفرنسيين قبل أسابيع وكانوا يتحدّثون عن مسألة السلام فقلت لهم ما رأيكم لو جاء شعب من بلاد معيّنة وطردكم أيّها الفرنسيون وأيّها الإيطاليون من بلادكم بحجّة أنّ آباء هذا الشعب كانوا قبل ثلاثة آلاف سنة يقيمون في هذه البلاد ويعتبرونكم محتلين لبلادكم ويريدون أن يحرّروا البلاد منكم وقد مضى عليكم ألف سنة أو أكثر من الإقامة فيها، هل تقبلون ذلك؟! قالوا لا نقبل، قلتُ ماذا تفعلون إذاً؟ قالوا: نقاتلهم! قلتُ لهم: فلماذا تقولون بأنّنا إرهابيون عندما نقاتلهم ولماذا تقولون أنّنا متطرّفون عندما ندعو إلى عودتهم إلى بلادهم، وليبقَ اليهود الذين كانوا سابقاً والمسيحيون والمسلمون ليتدبّروا أمرهم بينهم، فلم ينبسوا ببنت شفة.

لذلك، أيّها الأحبّة، علينا أن ندرس القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية والأمنية من خلال القواعد التي ترتكز عليها قضايانا في العقيدة في الخطّ الإسلاميّ وفي الواقع الذي يحدّد أين المصلحة العليا هنا وأين المصلحة العليا هناك، وأن نعي تاريخنا جيداً، كما أنّ علينا أن نعي إسلامنا جيداً وأن نعي واقعنا جيداً فهذا هو الذي يمكن أن يهيّئ لنا الخطوط التي يمكن أن نتحرّك بها في حياتنا.

أيّها الأحبّة، إنّ العالم يتحرّك في عمق الوعي لقضاياه، فلماذا نبقى نتحرّك في هوامش الهوامش من قضايانا، وكما قلنا في قصيدة سابقة قبل أكثر من أربعين سنة:

ونبقى نلفُّ ونبقى ندور            ونحن نفتّشُ عن قافيه

ألا قُتلَ الضعفُ فينا                فقد أضاع الرعيّةَ والراعيه

والحمد لله ربّ العالمين

     

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثامنة عشرة

15/ صفر/1418 هـــ (*)

 

في ذكرى وفاة الإمام الرضا (عليه السلام):

حركة المقاطعة والمشاركة في الحكم

 

"علينا أن نثقّف الناس تماماً كما ثقّف الإمام الكاظم (عليه السلام) "صفوان الجمّال" (مَنْ أحبّ بقاءهم فهو منهم) فعندما تتعاون لا تملأ قلبك بالعاطفة اتجاههم".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في الذكرى الرضوية:

نلتقي في هذه الليالي ـــ على حسب بعض الروايات ـــ بذكرى وفاة ثامن الأئمة الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام)، ولا بدّ لنا أن نطلّ ولو إطلالة يسيرة على حياة هذا الإمام الذي هو من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، وفي عقيدتنا أنّه أحد الأئمة الإثني عشر المعصومين الذين فرض الله طاعتهم وجعلهم حججاً على عباده وخلفاء لرسوله.

وعلى ضوء ذلك، فإنّ معنى الإمامة بما تنفتح عليه من سرّ العصمة واللّطف الإلهيّ يوحي إلينا بأنّ كلّ الخطّ المتمثّل في المسيرة العلمية والأخلاقية والسياسية هو في الخطّ المستقيم للإسلام الأصيل، ومن هذا المنطلق قد لا نجد في وعينا العقيدي أيّة ضرورة للحديث عن تبرير قبوله لولاية العهد من المأمون، لأنّ الكثيرين من الرواة تنوّعوا في تحليل ذلك وتفسيره وقد تبعهم العلماء والباحثون بين من اعتبر المسألة خاضعة لضغط تهديديّ يصل إلى إمكانية القتل، واتجه البعض اتجاهاً آخر، ولسنا في صدد الإفاضة في ذلك غير أنّ هناك نقطة أساسية، وهي أنّ فعله (عليه السلام) يمثّل الشرعية، ولذلك فلسنا بحاجة إلى البحث عن أساس الشرعية خارج نطاق ذلك، لأنّ العصمة التي يتميّز بها الإمام الرضا (عليه السلام)، ولأنّ الأفق الواسع المفتوح على الإسلام الأصيل في قاعدته الثقافية وامتداداته الفقهية المتمثّلة في وعي الأئمة (عليهم السلام) للإسلام، كلّها تكفي في تركيز الشرعية.

ولسنا نريد إثارة الموضوع للبحث عن تكليف الإمام الرضا (عليه السلام) ولكنّنا نثيره لأنّنا نريد أن نأخذ الفكرة في أمثال هذه الأمور من خلال سيرة الإمام الرضا (عليه السلام) فنحن نتحرّك في البحث من موقع حركة القدوة، فلا بدّ لنا من أن نفهم طبيعة الموضوع وفقاً لهذه الرؤية.

 

 

طبيعة العلاقة مع الحاكم:

إنّ الفكرة التي يتداولها البعض لاسيّما في الأجواء الثقافية لأتباع أهل البيت (عليهم السلام) والتي أصبحت متجذّرة في وجداننا الثقافي هي أنّه لا بدّ أن ننعزل عن أي ارتباط وعن أي مساعدة لأي حاكم غير شرعي أو سلطة غير شرعية، ممّا يعني أنّ المطلوب في الخطّ الإمامي هو أن ينعزل كل الإماميين عن الانفتاح على أيّ حكم في العالم ما دام خارج نطاق الشرعية ليكونوا خارج نطاق المسؤوليات العامّة والخاصة على أساس أنّه لا يجوز معاونة الظالمين ولا مساعدة السلطان الجائر، وبالتالي فإنّ أيّ ارتباط من قريب أو بعيد بأيّ سلطان جائر يعني مساعدته ومعاونته وتثبيت حكمه، ولهذا انطلقت هذه الذهنية لتعزل كلّ هذا الواقع التأريخي عن أي نشاط في هذا الموقع أو ذاك، وإذا ذكروا بعض الأسماء كعليّ بن يقطين فإنّهم يذكرونه استثناءاً محاطاً بألف قيد وقيد، لكنّنا لا نتصوّر المسألة بهذه المثابة، بل أن لا تساعد الظالم في ظلمه، وأن لا تقوّي سلطانه عندما تكون المسألة مسألة حكم يمكن أن يكون البديل، وعدما تكون مسألة حركةً تريد أن تسقط حركة الباطل.

العزلة في جانبها السلبي:

وأما عندما لا تكون بهذه المثابة، فلا تكون مسألة البديل الواقعي، ولا مسألة الخطر الداخلي على الواقع الإسلاميّ، بل ربما تكون العزلة سبباً في زيادة ضعف الحقّ وإضعاف أهل الحقّ لأنّ مصالحهم سوف تسقط ولأنّ واقعهم سوف يضعف، ولأنّ الآخرين سوف يطبقون ويضغطون عليهم وربّما يؤدي بهم الأمر إلى أن يحرّكوهم في أجواء الانحراف من خلال الضغط الذي يتحرّك هنا وهناك.

فقد تكون القضية السلبية في هذا الاتجاه أو في ذاك، مساعدة الظالمين في الابتعاد عن أن يكون لك مركز قوّة في دولتهم أو في الواقع الذي يسيطرون عليه، فبدلاً من أن يكون وجودك مقوّياً له، قد يكون ابتعادك مقوّياً له أكثر، ولهذا نقول من حيث المبدأ وضمن الظروف الواقعية التي تتحرّك في كل العالم والتي تفرض على أيّ فريق أن يكون له موقع قوّة في هذه الساحة أو تلك، فربّما يستطيع من موقع هذه القوّة أن يضاعفها وأن ينتهي إلى تغيير الواقع كلّه، فربّما تفرض عليك بعض الأوضاع السياسية المقاطعة المرحلية، وربّما نحتاج إلى التفريق بين الجانب الثقافي في رفض الواقع الظالم وبين الجانب الواقعي في الدخول في هيكلية النظام لنستطيع حماية المستضعفين الذين قد لا يكون لهم صوت أو موقع.

ثقافة التعاون مع الحاكم:

فما أريد أن أؤكده هو أنّ علينا أن نثقّف الناس تماماً كما ثقّف الإمام الكاظم (عليه السلام) أحد المؤمنين المخلصين (صفوان الجمّال): "من أحبّ بقاءهم فهو منهم" فعندما تتعاون فلا تملأ قلبك بالعاطفة تجاههم، ولا تبتعد عن رفض خطّ الباطل الذي يتحرّكون فيه، ولا تنزع من نفسك كلّ الانطباعات السلبية، فهناك مسألة تتّصل بالجانب الثقافي تؤكّد على الطريقة الكاظمية بأن تنزع من قلب الإنسان المؤمن كلّ فكر وعاطفة يمكن أن تتحوّل إلى شرعية لهذا الظالم أو ذاك، "مَنْ رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، أي أن تعيش الرفض القلبيّ للواقع، فلا تحبّ أهل الباطل ولا تكره أهل الحقّ؛ فهذا أمرٌ على غاية من الأهمية لا بدّ للتربية أن تتحرّك باتجاهه. وكما قال الإمام الصادق (عليه السلام): "وما الدِّين إلاّ الحبّ".

المصلحة الإسلامية العليا:

وأمّا بالنسبة لقضية المشاركة والمقاطعة فهي خاضعة للمصلحة الإسلامية العليا، فقد تفرض علينا أن ندخل في داخل أنظمة الكفر حتّى نستطيع أن نحمي الواقع الإسلامي من هذه الزاوية ولكن بشرطها وشروطها، فلا يكون هذا الدخول دخولاً عفوياً بل لا بدّ أن يكون دخولاً مدروساً من خلال الواقع، وحتى إذا أردنا أن نرفض فلا بدّ أن يكون الرفض مدروساً، فثمّة فرق بين أن تحرّك المسألة فردياً لتقول للناس تحرّكوا كما تريدون من خلال مصالحكم الفردية، وبين أن تنطلق من خلال المصلحة الإسلامية العليا ومصلحة المسلمين، لتقول للمسلمين تعالوا لنرسم خطّة من أجل أن نتّخذ موقعاً هنا وموقعاً هناك.

سيطرة اليهود عالمياً:

إنّ عندنا مثلاً صارخاً على مستوى العالم وهم "اليهود" فهم لا يشكّلون قوّة عددية في العالم، فأكثر إحصائية لليهود لا تزيد على الثلاثين مليون، ولكن اليهود اليوم يسيطرون على مفاصل الاقتصاد والإعلام والسياسة في العالم، فاليهود في الإدارة الأميركية 80% والــ 20% الآخرون من غير اليهود الذين يعيشون تحت تأثير اليهود الذين خطّطوا لتأسيس بنك هنا وبنك هناك، أو إنشاء صحيفة هنا وصحيفة هناك أو محطة تلفزيونية هنا أو محطة هناك حتى أضحت اليهودية العالمية مسيطرة على أكثر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، واستطاعت أن تسيطر على أكثر وأكبر مفاصل الاقتصاد العالمي وبالتالي تمكّنت من التأثير على كل مفاصل السياسة العالمية، فلم ينعزلوا رغم أنّ المطاعم الأميركية كانت تضع لافتة مكتوب عليها "ممنوع دخول الكلاب واليهود" لكنّهم الآن يسيطرون على السياسية الأميركية وعلى الاقتصاد الأميركي، لأنّهم خطّطوا للنفوذ إلى جسم العالم، وهم في الصراع الذي نعيشه الآن يخطّطون للدخول إلى مفاصل الاقتصاد الإسلامي والعربي، فيعملون مع أميركا على أساس أن يقيموا المؤتمرات الاقتصادية في العالم العربي بدءاً من مؤتمر الدار البيضاء مروراً بمؤتمر عمّان ومؤتمر القاهرة ثم انتهاءً بالمؤتمر الذي يعقد في قطر، مع أنّهم لم يقدّموا أيّ شيء في عملية التسوية.

كلّ ذلك من أجل أن يسيطروا على مفاصل الاقتصاد العربي ليضغطوا على الواقع السياسي، فينبغي أن لا نعيش هذه السلبية التي أعبّر عنها بــ "سياسة السامريّ"، فالحركات الإسلامية التي تبتعد عن الانفتاح على التيارات الموجودة من أجل اللقاء بها في بعض مراحل الطريق، والابتعاد عن كلّ الأنظمة، يرفعون شعار السامريّ الذي كان يقول (لا مساس) فكل من يريد أن يتعاون معنا في قضايانا الحيوية نقول له: أنت شيء ونحن شيءٌ آخر.. خطّان لا يلتقيان.

القبول بولاية العهد:

حتى وصل الأمر بنا إلى أن نتساءل بحسب الصورة المرسومة: كيف قبل الرضا (عليه السلام) ولاية العهد؟ في حين أنّ ولاية العهد ليست وظيفة حتى نقول كيف وافق على أن يكون موظّفاً عند المأمون، بل هي أن يكون الإمام الخليفة بعد المأمون، فعندما يمثّل الإمام الشرعية فإنّ المركز الأول هو مركزه، وحتى لو كان الإمام الرضا (عليه السلام) يعرف بأنّ هذا لن يتمّ لكن ذلك يمثّل الاعتراف بالشرعية، فإنّك لن تجد في العالم الإسلاميّ كلّه من يمثّل الشرعية يومذاك إلاّ هو، حتى أنّ البعض يقول إنّ المسألة لم تكن مسألة ولاية العهد بل كانت تمثّل تنازل المأمون للإمام الرضا (عليه السلام) ولست في صدد مناقشة المسألة من ناحية تحقيقيّة لكنّني أناقشها مناقشة ذهنية، فلماذا نعتبر المسألة مسألة ضغط وتهديد بالقتل فالإمام هو الذي يمثّل الشرعية والمركز الأعلى هو مركزه وذلك من خلال فكرة الإمامة.  

وقد يكون الإمام (عليه السلام) رأى في ذلك إمكانية أوسع للتبليغ والدعوة حتّى أنّ بعض الروايات تقول أنّ المأمون شعر بالخطر، لأنّ الناس اجتمعوا حول الإمام وكانوا يسألونه في كلّ أمورهم حتى شكّلت خطراً يتهدّد كيان المأمون.

الإمام في نظر معاصريه:

ثم نحاول أن نقرأ صورة الإمام في نظر معاصريه، فلدينا في هذا الخصوص عدّة نصوص:

ـــ النصّ الأول: يقول أبو الصلت الهرويّ: "ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى الرضا ولا رأيت عالماً إلاّ شهد له بمثل شهادتيّ ولقد جمع له المأمون في مجلس له عدداً من علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلّمين فغلبهم عن آخرهم حتّى ما بقي أحدٌ منهم إلاّ أقرّ له بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور، وأنّ موسى بن جعفر قال لبنيه هذا أخوكم عليّ بن موسى عالم آل محمد فسلوه عن أديانكم واحفظوا ما يقوله لكم".

ـــ النص الثاني: في المناقب عن عيون أخبار الرضا "أنّ المأمون جمع علماء سائر الملل مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصابئين منهم عمران الصابئي والهربذ الأكبر وأصحاب زرادشت، ونطاس الروميّ والمتكلّمين منهم سليمان المروزي، ثم أحضر الرضا فسألوه فقطع الرضا واحداً بعد واحد".

ـــ النص الثالث: عن إبراهيم ابن العباس وهو يتحدّث عن أخلاقية الإمام الرضا السلوكية، قال: "ما رأيت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) جفا أحداً بكلمة قط، ولا رأيته قطع على أحدٍ كلامه حتى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مدَّ رجليه بين جليسٍ له قطّ، ولا اتّكأ بين يدي جليس له قطّ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسّم وكان إذا خلا ونصب مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه ومواليه حتى البوّاب والسائس، وكان (عليه السلام) قليل النوم باللّيل، كثير السهر يحيي أكثر لياليه من أوّلها إلى الصبح، وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر ويقول ذلك "صوم الدهر" وكان كثير المعروف والصدقة في السرّ، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنّه رأى مثله في فضله فلا تصدّق".

وقال أيضاً: "ما رأيت الرضا يُسئل عن شيء إلاّ علم، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأول إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كلّ شيء فيجيب فيه، وكان كلامه كلّه وجوابه وتمثله انتزاعات من القرآن، وكان يختمه في كل ثلاثة ويقول: لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة ختمت ولكن ما مررت بآية قط إلاّ فكّرت فيها وفي أيّ شيء نزلت وفي أيّ وقت، فلذلك صرت أختم في كل ثلاثة أيام".

حقيقة الزهد:

وعندما وليّ العهد جاءه جماعة من الصوفية الذين يرون أنّ القيمة كلّ القيمة هي أن لا يأكل الإنسان جيداً ولا يلبس جيداً وأن لا يعيش حياة رخيّة، لأنّ الزهد في مفهومهم يمثّل حالة سلبية في واقع حركة الإنسان بينما الزهد في المعنى الإسلاميّ الأصيل يمثّله عليّ (عليه السلام) فيما فهمه من القرآن "الزهد كلّه بين كلمتين من القرآن، قال الله سبحانه: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}(1) بأن لا تكون لك علاقة بالدّنيا بحيث تتعبّد لها، فإذا خسرت شيئاً سخطت وإذا ربحت شيئاً بطرت، وبأن تواجه الربح والخسارة كشيئين طبيعيين لأنّ الشيء إذا وجد سببه تحقّق وإذا لم يوجد سببه لم يتحقّق، وهذا ما عبّر عنه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في رسالته لابن عباس "أمّا بعد فإنّ المرء قد يسرّه ترك ما لم يكن ليفوته ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه"، وفي الحديث عنه (عليه السلام) "ليس الزهد أن لا تملك الدنيا بل الزهد أن لا تملكك الدنيا"، فالزهد حالة نفسيّة في الوجدان الإنسانيّ بحيث يواجه الدنيا بكلّ لذّاتها وشهواتها فلا يتعلّق قلبه بها بالمستوى الذي تفرض عليه كلّ قيمها المادية، بحيث يستطيع أن يقول: (لا) إذا أرادت الدنيا أن تفرض عليه معصية الله ليحصل على رغباتها وشهواتها، ويستطيع أن يقول: (نعم) عندما تكلفه (نعم) الكثير من التضحيات.

دعاوي باطلة:

ولقد قال الإمام الرضا (عليه السلام) للصوفية عندما قالوا له: "إنّ المأمون قد ردّ الأمر إليك وإنّك لأحقُّ الناس به إلاّ أنه يحتاج مَن يتقدّم منك بقدمك إلى لبس الصوف وما يخشن لبسه: وَيحكُمْ إنّما يراد من الإمام قسطه وعدله، إذا قال صدق، وإذا حكم عدل وإذا وعد أنجز، والخير معروف {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}(2)، وإنّ يوسف الصدّيق لبس الديباج المنسوج بالذهب وجلس على متّكئات فرعون". فالإمام هنا يقول لو أنّكم ربطتم الحاكم بالشكليّات فإنّه من السهولة أن يخذلكم أي شخص يلبس المسوح ويأكل الطعام الجشب فيما هو يظلم الناس، في حين أنّ الناس يرون منه الشكل فيقولون أنّه زاهد تقي.

فمسألة الحاكم لا تنطلق من الشكليات وإنّما من خلال طبيعة حكمه، بأن يكون حكمه على أساس العدل وأن يكون قوله على أساس الصدق، وأن يكون وعده على أساس الإنجاز.

ولقد قال له (أبو الصلت الهروي): "قلت للرضا (عليه السلام) يا ابن رسول الله ما شيءٌ يحكيه الناس عنكم، قال: وما هو؟ قلت: يقولون إنّكم تدّعون أنّ الناس لكم عبيد، فقال: اللّهم فاطر السموات والأرض عالِم الغيب والشهادة، أنتَ شاهد بأني لم أقل ذلك قطّ ولا سمعت أحداً من أبائي قاله قطّ وأنتَ العالِم بما لنا من المظالم عند هذه الأمة وأنّ هذه منها". ولقد نظّم بعض الشعراء في هذا المعنى:

سادةٌ نحنُ والأنامُ عبيدُ             ولنا طارفُ العُلى والتليدُ

فهذا المفهوم لا يزال متداولاً عند الكثير من الناس.

ثمّ إنّ الإمام (عليه السلام) يركّز في دراسة الأشخاص على القضايا الحيوية التي تدلّ على عمق الشخصية، بأن لا تدرس الإنسان من خلال مظهره بل من خلال مخبره "روى عن أبيه عن أبائه عن عليّ (عليه السلام) قال: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحجّ والمعروف وطنطنتهم بالليل ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة"(1).

إلغاء الطبقية:

ثم يرتفع الإمام (عليه السلام) في وحيه الإسلامي الأخلاقي الذي يستوحي القرآن في إلغاء كلّ طبقية بين سيّد وعبد أو بين الناس في تفاوتهم الطبقي بين الغنيّ والفقير والشريف والوضيع "قال رجلٌ للرضا (عليه السلام) والله ما على الأرض أشرف منك أباً، فقال: التقوى شرّفتهم وطاعة الله أحظّتهم، فقال له آخر: أنتَ والله خير الناس، فقال له: لا تحلف يا هذا، خيرٌ مني مَن كان اتقى الله وأطوع له والله ما نسخت هذه الآية: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(1)".

وهناك رواية تتحدّث عن النظرة القيميّة الأخلاقية التي عبّرت عنها رواية سابقة في جمعه للمماليك وتناوله الطعام معهم، فعن رجل من أهل بلخ: "قال كنتُ مع الرضا في سفر إلى خراسان فدعا يوماً بمائدة له فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقلت: جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال: مه إن الربّ تبارك وتعالى واحد والأم واحدة والأب واحد والجزاء بالأعمال". فالمسألة هي: قل لي ما هو عملك وما هي طاعتك لربّك أقول لكَ مَن أنت.

مالئ المرحلة:

أيّها الأحبّة: هذا إمام من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ملأ كل المرحلة التي عاشها علماً كأفضل ما يكون العلم فيما حدّث به عن آبائه وفيما انتزعه من القرآن وفيما حرّكه ممّا لديه، وفيما ألهمه الله به، وهكذا ملأ العالم الإسلامي بالصورة الرائعة للأخلاق الإسلامية في تأكيد القِيَم الإسلامية من خلال الممارسة والقدوة واستطاع أن يطرح كلّ مفاهيم الإسلام في وجدان الناس وحياتهم، فإذا أردتم أن تتذكّروه فتذكّروا أنّ معنى الإمامة ليست نبضة قلب تتحرّك مدحاً فحسب ولكن أن تتحرّكوا كما تحرّكوا وأن تنطلقوا كما انطلقوا وأن تسيروا في الخطّ الذي ساروا فيه:

فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم        إنّ التشبّه بالكرام فلاحُ

أن نجسّدهم وعياً في وعينا وإيماناً في إيماننا وروحاً في روحنا وحركة في خطواتنا ومنهجاً في حياتنا وأن نعيش معهم في الخطّ والدرب، فالهدف الذي نلتقي جميعاً عنده هو الله ولا شيء إلاّ الله، فلقد كانوا مع الله وعملوا لله ودعوا إلى الله، وجاهدوا في سبيل الله، وأن تكون مأموماً في الفكر والحركة والمنهج لهؤلاء الأئمّة "ألاَ وإنَّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، إلاّ وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينونني بورع واجتهاد وعفّة وسداد"(1).

ولا يزال نداء عليّ (عليه السلام) يدعو والسائرين الذين يجتهدون في طاعة الله واجتناب كل ما حرّم الله والذين يقولون القول السديد ويتحرّكون بالفكر السديد، وذلك هو الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) في بعض صورته.

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

    

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة التاسعة عشرة

22/ صفر/1418 هـــ (*)

 

في ذكرى أربعينيّته:

لنأخذ الإمام الحسين (عليه السلام) كلّه

 

"إذا أردتم أن تفهموا الحسين (عليه السلام) جيداً.. فافهموا الإسلام جيداً".

 

 

في محطة الأربعين:

في هذه الأيام نعيش ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم أربعينه، ويبقى للحياة من الحسين الكثير، ويبقى للإنسان من سيرة الحسين (عليه السلام) الكثير الكثير لأنّه ـــ سلام الله عليه ـــ كان الإنسان الذي أطلق إسلامه ليتحرّك في الحياة ليلاحق كلّ انحراف في الفكر وفي السلوك ليسلّط عليه ضوءاً من روحه وعقله ومن كلّ انفتاحه على الله وعلى الإنسان ليقوده إلى الاستقامة، وهكذا رأينا كيف انفتح الحسين (عليه السلام) بمحبّته على الناس كلّهم لأنّ الإنسان الذي يحبّ الله لا بدّ أن يحبّ الناس الذين هم عباد الله، وإذا كان يبغض مؤمناً في واقع بعض الناس فإنّ البغض لا يتّجه إلى إنسانية الإنسان بل إلى الجانب السلبيّ في ذاته، فالإنسان المسلم يبغض كفر الكافر وفسق الفاسق وضلال الضال واستكبار المستكبر وظلم الظالم.

أمّا الإنسان الذي يعيش هذه الأمور، فإنّ الإنسان المسلم الداعية يحاول أن يقتحم إنسانيته ليخلّصه من ظلمه ومن استكباره ومن كفره ومن ضلاله. وهكذا رأينا أنّ قلب الحسين (عليه السلام) يتّسع حتى لأعدائه حتى أنّه كان يبكي أعداءه، كما تقول بعض كتب السيرة لأنّ الله سوف يعذّبهم بسبب موقفهم منه.

الملامح العامة لخطّ الثورة:

ونحن أمام ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) نريد أن نطلّ أوّلاً على بعض الملامح العامة للخطّ العام للثورة، ثم نحاول بعد ذلك نلاحق بعض الكلمات التي يتحدّث بها الإمام الحسين (عليه السلام) مع الناس من حوله، فنحن نلاحظ أنّ بعض كتّاب سيرة الإمام الحسين (عليه السلام) لا يحدّثوننا إلاّ بما تحدّث به في كربلاء، أمّا ما تحدّث به واعظاً ومرشداً وموجّهاً فالقليل مَنْ يتحدّث في ذلك.

فعندما ندرس الخطّ الذي انطلق به الإمام الحسين (عليه السلام) في ثورته فإنّنا نرى أنه يختلف عن خطّ الثائرين الآخرين، حيث أنّ هؤلاء غالباً يركّزون على الخطوط العامة للثورة في مواجهتها للأوضاع السلبية لدى الآخرين الذين تتوجّه الثورة ضدّهم من دون أن يتحرّكوا مع الناس في الخطوط التفصيلية، ولهذا نجد مثلاً في واقعنا المعاصر أنّ على الحركات الإسلامية وهي تتحرّك سياسياً وتتحدّث في خطابها السياسي عن ظلم الظالم وعن هذا الوضع السياسي وذلك الموقف السياسي، وتحاول أن تثقّف قواعدها بكلّ المجريات، وأن ترصد الواقع السلبي كواقع منحرف عن الإسلام، أن تبقى توحي لقاعدتها بالخطوط التفصيليّة للإسلام كما كان الحال في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) الذي لم تتح له الظروف أن يجمع إلاّ هذه القلّة القليلة من ذوي البصائر.

أمّا الآخرون الذين كانوا يهتفون بالإسلام وكانوا يحبّون الحسين حبّاً عاطفياً وكانوا يصلّون ويصومون ويحجّون، فإنّهم كانوا لا يعيشون عمق الالتزام الإسلامي بالمعنى الحركي الذي يحكم الإنسان في كل قضاياه، فلقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) في مكّة وكان كلّ الحجيج هناك فلم يتبعه إلاّ القليل والكلّ يعرف أنّه انطلق ليأمر بالمعروف ولينهى عن المنكر وليغيّر الواقع على أساس الإسلام.

الالتزام في الواقع الإسلاميّ:

ونحن نلاحظ في بعض جوانب الواقع الإسلامي أنّ قضية الالتزام الشرعي بالمعنى الذي يراقب الإنسان فيه ربّه عندما يتكلّم أو عندما يتحرّك أو عندما يعيش علاقته مع زوجته ومع جيرانه ومع الناس من حوله وحتى مع الناس في حركته فإنّنا نجد أنّ الإسلام، في هذه العلاقات شيء، وأنّ الواقع شيء آخر، لذلك رأينا أنّ الذين اتّبعوا الحسين (عليه السلام) كانوا من الذين عاشوا الثورة في عقولهم من خلال الإسلام وعاشوا الحركة في واقعهم من خلال الإسلام، وكانت علاقاتهم مع بعضهم تتّجه إلى الإسلام، وكان ارتباطهم بالقيادة ينطلق من خلال الإسلام، ولهذا كان العنوان الكبير الذي أعطاه الإمام الحسين (عليه السلام) للجميع {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}(1)، كانوا الصادقين في عهدهم مع الله وبذلك صدقوا في عهدهم مع الحسين لأنّ الحسين هو ولي الله، وكانوا الجماعة التي واجهتهم التحدّيات وعزلتهم عن الواقع وضغطت عليهم كأقسى ما تكون الضغوط وحاصرتهم كأضيق ما يكون الحصار، ليبدّلوا تبديلاً كما بدَّل الكثيرون، وما بدّلوا تبديلاً.

أيّها الأحبّة، هذه ملاحظة حسينية نريد للعاملين في سبيل الإسلام أن ينطلقوا ليعيدوا النظر ـــ من خلالها ـــ في أسلوب عملهم وفي منهج عملهم، فلقد كان الحسين ينزل إلى داخل الإنسان ليعمّق فيه حبّه لله، وعلينا أن ننزل إلى عمق الإنسان لأنّ الإنسان الذي تنزل إلى عمقه وتجعل عمقه عمقاً إسلامياً منفتحاً على الله محبّاً له تستطيع أن تدفعه إلى أيّة ساحة من الساحات ويبقى واقفاً على قدميه لا يتراجع ولا يسقط ولا ينحرف.

في رحاب كلمات الحسين (عليه السلام):

ونأتي إلى كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) لنستوحيها، فالكلمة الأولى "لا يكمل العقل إلاّ باتّباع الحقّ" توحي إلينا بمعنى العقل وأنّه ليس مجرّد طاقة تفكّر ولكن العقل هو طاقة تفكّر وتحاور وتلاحق الحقيقة حتى ترتبط بالحقيقة، فالعقل العملي لا يكمل إلاّ باتّباع الحقّ أي أن لا يكون عقلك طاقة مجرّدة تتحرّك في الفراغ أو طاقة مجمّدة من دون أن تتحوّل إلى قوّة تهزّ كل كيانك لتدفع بك إلى أن تجعل الواقع عقلاً، فالعقل ليس حالة نظرية تجريديّة، ولكنّ العقل هو حالة فكرية تتحوّل إلى خطّ عملي، وهذا ما استوحاه أو ما عبّر عنه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عندما قال: "العقل ما عبد به الرحمن وعصي به الشيطان"، فأن تكون العاقل يعني أن يكون عقلك حركتك وأن يكون عقلك خطّك وأن يجعل عقلك الحقّ كلّ ساحته وكل آفاقه فلا يكمل العقل إلاّ باتّباع الحقّ.

والكلمة الثانية "العلم لقاح المعرفة"، ذلك أنّ المعرفة هي هذه الحالة الإنسانية التي تعطيك الانفتاح على الحياة وعلى الحقائق وأنّ العلم بمفرداته يلقّح المعرفة لينتج منها ما يتقدّم به الإنسان ويرتفع به، "وطول التجارب زيادة في العقل" فكلّما جرّبت أكثر فإنّك تستطيع أن تكبّر حجم عقلك، ولكن هناك فرقاً، أيّها الأحبّة، بين تجربةٍ تمارسها وأنت غافل وبين تجربة تمارسها وأنتَ واعً، فأن تعي تجربتك يعني أن تفهمها بأن تجعلها موضوع دراسة وأن تجعلها وسيلةً من وسائل التفكير وأن تكون تجربتك إحدى مصادر عقلك وإحدى مصادر المعرفة، ولذلك حاولوا أن تفكّروا وحاولوا أن تجرّبوا وأن تنطلقوا بتجربتكم لتكون مصدر فكرٍ ومصدر وعي في حركتكم في الحياة.

والشرف، هل هو النسب، هل هو المركز الرفيع، هل هو هذه الأجواء التي يحيطك الناس ـــ من خلالها ـــ بالتعظيم ليهتفوا باسمك. "والشرف التقوى" وهذا ما استوحاه ابنه عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) عندما قال وقد كان ينظر إلى أصحاب الدنيا "واعصمني من أن أظنّ بذي عدمٍ خساسة أو أظن بصاحب ثروةٍ فضلاً فإنّ الشريف من شرّفته طاعتك والعزيز مَن أعزّته عبادتك" لأنّك إذا كنت تقيّاً فإنّك تكون القريب عند الله والحبيب إليه والأثير عنده وأي شرف أعظم من أن يشرّفك الله بأن يجعلك وليّه وأن يقرّبك إليه وأن يحبّك وأن يرفع درجتك في عليّين، إذ ما قيمة كل شرف الدنيا أمام شرف الآخرة، فكلّ شرف يموت عندما يموت الإنسان ولكن يبقى شرف التقوى هو الزاد {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}(1).

 (والقنوع راحة الأبدان) فإذا أردت أن تكون مرتاحاً فلا تعش الهمّ الكبير ولا القلق ولا دمار الشخصية، اقنع بما رزقك الله، وحاول أن تنمّي ما رزقك الله بالوسائل التي أعطاك إيّاها، لا تجلس لتندب حظّك، ولا تجلس لتيأس، لا تجلس لتعترض على ربّك، بل اقنع بما رزقك الله فإنّ في ذلك راحة البدن.

"مَن أحبّك نهاك ومَن أبغضك أغراك" إنّنا نحبّ الذين يمدحوننا ويضخّمون لنا شخصيتنا ونعتبرهم الأصدقاء الأصدقاء ونبغض الذين ينقدوننا والذين ينهوننا ونعتبرهم الأعداء الأعداء، ولكن لو نظرت جيداً لعرفت أنّ من ينهاك يريد أن يجنّبك مزالق الهلاك وأنّ مَن يغريك يريد أن يسقطك في هاوية هنا وهاوية هناك، وفي المثل الشعبي (مَن أبكاك بكى عليك ومن أضحكك ضحك عليك) فلا تجعل نفسك مضحكة للذين يريدون أن يضخّموا شخصيتك، لا إيماناً بك ولكن ليستغلّوا ذلك في أكثر من موقع، ونحن نقرأ أنّ الإمام عليّ (عليه السلام) ـــ وهو المعصوم ـــ كان إذا مدحه الناس قال "اللّهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل ممّا يظنون واغفر لي ما لا يعلمون"(1) وإذا جاءه المتزلّفون ليمدحوه بما لا يعتقدونه فيه قال لهم كما قال للبعض من هؤلاء "أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك" ولقد قال عليّ (عليه السلام): "لا يغرّنك سواد الناس عن نفسك فإنّ الأمر يصل إليك دونهم".

الوجه الآخر للمفاهيم:

ثمّ يحدّثنا الإمام (عليه السلام) في خطّ الشرف عندما قال له رجل: "مَن أشرف الناس؟ قال مَن اتّعظ قبل أن يوعَظ ومَن استيقظ قبل أن يوقَظ"، أي الإنسان الذي يوحي لنفسه بالموعظة عندما يجلس مع نفسه وعندما يدرسها وعندما ينقدها ويحاسبها ويحاكمها ويحكم عليها ويجاهدها من دون أن يحتاج أن يأتي الناس إليه ليعظوه ويبقى يقظاً واعياً لا يحتاج من الناس أن يوقظوه فهذا هو أشرف الناس لأنّه يعيش معنى الشرف في معنى كمال نفسه وفي معنى قربه لربّه.

وهكذا ـــ أيّها الأحبّة ـــ يقال إنّه قيل للحسين (عليه السلام) أنّ أبا ذر يقول "الفقر أحبّ إليّ من الغنى والسقم أحبّ إليّ من الصحّة"، لأنّه كان يريد أن يبتليه الله بذلك ليصبر فيرفع درجته، قال (رَحِمَ الله أبا ذر أما أنا فأقول: "من اتّكل على حسن اختيار الله تعالى له لم يتمنَّ غير ما اختار الله عزّ وجلّ" فإذا اختار الله لنا الصحّة فخيارنا الصحة لأنّها اختيار الله، وإذا اختار الله لنا الغنى فخيارنا الغنى لأنّه هو الذي اختاره لنا، وهكذا لو اختار الله لنا الفقر أو اختار لنا السقم، أو اختار لنا غير ذلك، فالمهم أن يكون خيار الله هو خيارنا وهذا هو معنى الرضا بقضائه وقدره.   

وقد سئل الإمام الحسين (عليه السلام) فقيل له "كيف أصبحت الآن" ولو وجِّه إليك نفس السؤال: كيف أصبحت؟ لقلت الحمد لله إنّ صحّتي جيدة والأمور على ما يرام، أما الحسين (عليه السلام) فيعطينا درساً في هذا الموضوع، فقد قيل له: كيف أصبحت يا بن رسول الله قال: "أصبحت ولي ربٌّ فوقي"، أي أنا أشعر بأني لستُ حرّاً، فهناك ربٌّ فوقي لأعيش ربوبيته في معنى عبوديّتي له "والنار أمامي" لأنّني إذا سرت بعيداً عن حركة العبودية لله فإنّ النار هي النتيجة، ولذلك أصبحت وأنا أفكّر في النار بأن أهرب منها وأن أهرب من أي شيء يدخلني فيها، "والموت يطلبني" لأنّي أموت في كل يوم عندما ينقص من عمري يوم لأنّ الموت يلاحقني حتى يأخذ مني في كل مرحلة شيئاً إلى أن تنتهي كلّ المراحل "والحساب محدّقٌ بي"، لأنّ الله سوف يحاسبني على كلّ شيء {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}(1)، وأنا مرتهنٌ بعملي {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ*إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ*فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ*عَنِ الْمُجْرِمِينَ*مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ*قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ*وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ*وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ*وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ*حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}(2)، فلا أجد ما أحبّ وليس بيدي تحقيق كلّ ما أحبّ، كما لا أملك القدرة على أن أدفع ما أكرهه عندما يقبل عليّ، "والأمور بيد غيري، فإنْ شاء عذّبني وإنْ شاء عفا عني فإنّي فقير"، وهذا هو صباح الحسين (عليه السلام) فإذا كنّا نريد أن نبدأ صباحنا بالتفكير بالله وبالنار وبالحساب وبكلّ مسؤوليتنا عن أعمالنا فلنفكّر بأنّنا بيد الله لنبقى مع الله نتوسّله ونبتهل إليه ونخشع بين يديه ليرحمنا برحمته.

طريق ذات الشوكة:

ولقد كتب رجل إلى الحسين (عليه السلام): "يا سيدي أخبرني بخبر الدنيا والآخرة"، فكتب إليه: "بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنّ مَن طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس"، ليكن موقفك موقف الحق حتى لو رجمك الناس بالحجارة، لتكن لك أصالة الحق فيما تواجهه ضدّ الباطل حتى لو شتمك الناس وسبّوك، كن الإنسان الذي يراقب الله، "صانع وجهاً واحداً يكفيك الوجوه كلّها"، لذلك إذا كنت تطلب رضا الله تعالى ولا شيء غير رضاه، فلا تخف الناس ولا تنظر إلى ما يرضيهم عنك أو يسخطهم، ولا تحدّق بعيون الناس هل تتوجّه إليك فتلتمع بالرضا أو أنّها تزورُّ عنك فتوجه غليك النظرات الحانقة، ولا تفكّر عندما تعمل بماذا يقول الناس عنك، بل فكّر كيف يكون رضا الله عزّ وجلّ عليك، لأنّ ربّك يحول بين المرء وقلبه ولأنّ ربّك هو أقرب إليك من حبل الوريد ولأنّ ربّك هو مقلّب القلوب، فلقد قالها ربُّ العالمين لرسول ربّ العالمين: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}(1)، لأنّه خالق القلوب ولأنّه محيي القلوب ولأنّه مقلّب القلوب.

"من طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس" وفي الدعاء: "يا مَن يكفي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء اكفني ما أهمّني ممّا أنا فيه من أمور الدنيا والآخرة". "ومن طلب رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس" بأن يرضي هذا ويرضي ذاك ولو على حساب سخط الله فإنّ الله يقول له لقد أهملتني، لقد نسيتني، لقد تركتني، لقد فضّلت خلقي وعبادي عليّ، فاذهب إلى عبادي لأكلك إليهم، ومن وكله الله إلى نفسه أو وكله إلى غيره فإنّه سوف يتخبّط وسوف يضيع وسوف يسير إلى الهلاك.

أيّها العاملون في سبيل الله، أيّها الدعاة إلى الله، أيّها المجاهدون في سبيله، ستواجهون في الحق الذي تقفون معه الكثير ممّا تكرهون، لذلك إذا كنتم صادقين في التزامكم بالحق فليكن علامة صدقكم أن تصبروا على كلّ ضريبة الحق الذي يمكن أن تأكل من أجسادكم أو تأكل من جاهكم أو تأكل من سمعتكم أو تأكل من كثير من الأشياء التي تحبّونها، يقول الحسين (عليه السلام): "اصبر على ما تكره بما يلزمك الحقّ واصبر عمّا تحبّ" لأنّ الحقّ سوف يخسرك كثيراً، يخسرك الكثير من ملذّاتك ومن شهواتك ومن امتيازاتك ومن علاقاتك وما إلى ذلك، فاصبر عمّا تحبّ فيما يدعو إليه الهداة، وقد كان موقف الحسين صورة لذلك "فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومَن ردّ عليّ اصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين"(1).

إسداء المعروف:

قال رجل في مجلس الحسين (عليه السلام) "إنّ المعروف إذا أسدي إلى غير أهله ضاع" يعني لا بدّ لنا أن نصنع المعروف مع أهله لينتج ويثمر، أما إذا صنعنا المعروف مع غير أهله فإنّه يضيع، هنا قال الحسين (عليه السلام) ليس كذلك، لأنّ قضية المعروف ليست قضية تجارة، ولكنّها قضية أخلاقك وقضيّتك أنت في أن يكون المعروف عندك تماماً كالشمس التي تشرق على البرّ والفاجر وكالينبوع الذي يفيض على الأرض الجديبة والأرض الخصبة، ليكن المعروف خلقك وليكن القيمة التي تعيش في حركتك بقطع النظر عن ردّ فعل الناس، كان الحسين (عليه السلام) يريد أن يقول لا تكن إنساناً يعيش ردود الفعل سلباً أو إيجاباً من خلال مواقف الآخرين معك ولكن كن الإنسان الذي يعيش الفعل، افعل شيئاً لأنّك تؤمن به وافعل الشيء لأنّه خير بقطع النظر عن ردّ الفعل من الآخر، قال الحسين "ليس كذلك ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر يصيب البرّ والفاجر".

كنْ أيها الإنسان مطراً وليكن المعروف بالنسبة إليك مطراً يهمي لينزل على البرّ وعلى الفاجر، فأي سموّ هو هذا السموّ، ونحن نقول في الدعاء "فإن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك فرحمتك أهلٌ أن تبلغني وتسعني لأنّها وسعت كلّ شيء" فقد لا أكون أهلاً لرحمة الله ولكن رحمة الله التي اتّسعت لكلّ شيء سوف تغمرني حتى لو لم أستحق ذلك بالقليل أو الكثير.

ذلّ الاعتذار:

ثم يقول: "إيّاك وما تعتذر منه" أي عندما تريد أن تفعل شيئاً وعندما تريد أن تتكلّم مع إنسان فانظر هل أنتَ مستعد لتحمّل مسؤولية الكلمة؟! فلو قابلك الناس بها فهل تثبت عليها، ولذلك فالعمل الذي تضطر إلى الاعتذار عنه ينبغي ألاّ تفعله. "فإنّ المؤمن لا يسيء ولا يعتذر"، وقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في قوله "إنّ الله فوَّض للمؤمن أموره كلّها ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه، قالوا كيف يذلّ نفسه؟ قال: يدخل فيما يعتذر منه"، وموقف المعتذر هو موقف الذلّ، فأنت تسقط نفسك أمام مَن تعتذر منه.

وفي نهاية المطاف، كتب رجل إلى الحسين (عليه السلام): "عظني بحرفين"، فكتب إليه: "من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما يرجو". فأيّ أمر تحاول أن تبلغه أو أيّ مشروع تريد أن تصنعه، وأي انتماء تريد أن تنتمي إليه، وأي علاقة تريد أن تنشئها، فلا تحاول أن تحصل على ما ترجوه بمعصية الله لأنّ معصية الله سوف تخرّب لك ذلك كلّه إن عاجلاً أو آجلاً، لأنّ معصية الله ليس فيها عمق الحقيقة، وليس فيها أيّ شيء يمثّل الثبات.

أيّها الأحبّة، هذا هو الحسين (عليه السلام) واعظاً ومرشداً وموجّهاً كما عرفناه ثائراً وبطلاً وصابراً، فخذوا الحسين كلّه ولا تأخذوا منه مأساته ولا ثورته فحسب بل خذوا الحسين كلّه، فلقد كان مسلماً وكلّ ما انطلق فيه فهو من الإسلام، لذلك، إذا أردتم أن تفهموا الحسين (عليه السلام) فافهموا الإسلام جيداً، فهناك الحسين في كلّ موقف للإسلام، وفي كل حكم للإسلام، وفي كلّ انفتاح على الإسلام، ويبقى الحسين (عليه السلام) يلهمنا ويعطينا ويوجّهنا ويقودنا، يبقى الإمام في المستقبل كما كان الإمام في الماضي.

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

المحاضرة العشرون

29/ صفر/1418 هـــ (*)

 

في ذكرى وفاة خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلَّم):

يموتُ الرسولُ ويبقى خطُّ الرسالة

 

"ما نحتاج أن نستوحيه في كلّ علاقاتنا بالرموز المقدّسة والعظيمة والمحترمة أن نأخذ منها فكرها وأخلاقها وكلّ خطّها حتى إذا غاب عنا بجسده بقي ماثلاً فينا بكلّ ذلك".

 

 

في ذكرى وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

عشنا بالأمس، حسب بعض الروايات ذكرى وفاة النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهناك بعض الروايات التي تقول أنّه توفي في الثاني من ربيع الأول أو في الثاني عشر منه ولسنا في مجال النقاش في تأريخ وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولكنّنا نريد أن نتحدّث عنه في ذكرى وفاته أولاً في حديث القرآن عن ذلك، وثانياً في الأجواء التي حقّقها أو أثارها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في آخر سنة من حياته وفي القرآن الكريم أيضاً.

يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}(1) فمن خلال سياق هذه الآية وما يذكره مؤرّخو السيرة نستوحي أنّ قريشاً كانت تتمنّى وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنّها كانت تضيق برسالته وبصموده وبشجاعته وباستمراره على الخطّ، ولذلك كانت تتمنّى موته، وجاءت هذه الآية لتقول لهؤلاء الذين يتمنون موته، كما توحي للذين يتمنون موت المصلحين والصالحين من أولياء الله، أنّ قضية الموت هي قضية الإنسان كلّه {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}(2).

يموت الرسول ويبقى الخطّ:

وننطلق من خلال هاتين الآيتين إلى الآية التي تريد أن تتحدّث عن موت الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أساس أن لا تتوقّف المسيرة بل تستمر {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}(3) إنّ هذه الآية الكريمة تعطينا القيمة الإسلامية في أي موقع من مواقع العمل أو المسيرة الإسلامية التي يموت فيها القائد والرسول والإمام، وهي أنّ الرسول يموت ويبقى خطّ الرسالة، ويموت الإمام ويبقى خطّ الإمامة، ويموت القائد ويبقى خطّ القائد، لأنّ الرسول ليس شخصاً ترتبط حركة الرسالة به بل هو شخص يطلق الرسالة ويدعو إليها ويبلّغها ويجاهد في سبيلها ويعمّقها في وعي الناس ويتحرّك على أساس أن يكون الصورة المشرقة لها ثم يمضي لربّه كما يمضي كلّ إنسان لربّه لتبقى الرسالة، فيما بلّغه بكلمته، وفيما أكّده بعمله، وفيما وجهه في كل خطواته ومواقفه.

العلاقة بالرموز المقدّسة:

وهذا ـــ أيّها الأحبّة ـــ هو ما نحتاج أن نستوحيه في كل علاقتنا بالرموز المقدّسة والعظيمة والمحترمة التي تعيش فيما بيننا، وذلك بأن نأخذ من هذا الرمز أو ذاك كلّ فكره وكلّ أخلاقه وكلّ خطّه حتى إذا غاب عنّا جسده بقي ماثلاً فينا، وأن لا نرتبط بالشخص بل بالرسالة، ولعلّ قيمة المعصومين من الأنبياء والأولياء أن رسالتهم لا تنفصل عن ذواتهم، أي أنّ هناك شخصاً يمكن أن تفصل ذاته عن رسالته لأنّ ذاته يمكن أن تبتعد عن رسالته كالكثير من القادة والمسؤولين الذين قد تجد لديهم ثغرة بين الرسالة وبين صاحبها، ولكن عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكلّ المعصومين من أبنائه، ليس هناك فرق بين الذات وبين الرسالة، لأنّ الرسالة تجسّدت في ذاتهم باعتبار أنّها تجسّدت في فكرهم الذي هو فكر الحق، وفي عاطفتهم التي لا تتحرّك إلاّ بالحق وفي خطواتهم التي لا تنطلق إلاّ في طريق الحقّ، ولكن تبقى الرسالة في كلّ هذا الكيان المتحرّك من حياتهم، حتى إذا غاب الجسد. فالآية تؤكّد على أنّنا يجب أن لا نرتبط بجسده ولكن برسالته التي هي قوله وفعله وتقريره، بل هي كل حياته، لذلك قال الله تعالى لنا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(1) قولوا كما يقول وافعلوا كما يفعل وقفوا كما يقف في كل المواقف الإيجابية والسلبية.

إذاً، أراد الله للناس أن يركّزوا على هذه الفكرة وهي أنّ الرسول يموت كما يموت كلّ الناس لأنّه بشر، ولكن رسالته تبقى في مدى الزمن لأنّها ليست رسالة الشخص ولكنها رسالة الله.

مواقف من السيرة:

ثم نقترب من الأجواء التي عاشها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وآثارها لنأخذ منها بعض المواقف التي قد نتعلّم منها الكثير ونصحّح الكثير، ففي حجّة الوداع ـــ في أكثر من رواية ـــ أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقف خطيباً بالناس في (منى) في يوم عيد الأضحى وسألهم (وكم سائل عن أمره وهو عالمُ) أيّ يومٍ هذا؟ قالوا: يوم النحر، أيّ شهر هذا؟ قالوا: الشهر الحرام، أي بلد هذا؟ قالوا: البلد الحرام. ثم قال، كما في ـــ الرواية ـــ مع اختلاف بعض التعبيرات (إنّ حرمة دمائكم وأموالكم ـــ وربما قال ـــ وأعراضكم ـــ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا لا ترجعنّ بعدي ضلالاً ـــ في رواية ـــ أو كفّاراً ـــ في رواية أخرى، يقتل بعضكم بعضاً، أو يضرب بعضكم أعناق بعض، وفي بعض الروايات ـــ ويلعن بعضكم بعضاً، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب فلعلّ من يبلغه أوعى ممّن سمعه).

فكيف نأخذ هذه الكلمات التي قالها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمن حضر هناك، ولكنّه أراد أن نسمع ذلك، وقد بلغنا ذلك، فكيف نواجه الموقف؟ إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان مسلماً كاملاً بكلّه بل كان يتحدّث عن المسلمين الذين قد يختلفون في كثير من ممارستهم للإسلام والذين قد يختزنون الكثير من نقاط الضعف في بعض ما يفكّرون وفي بعض ما يعملون حتى أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما استوحينا من القرآن كان يقبل الناس الذين لا يعتقدون بالإسلام، ولكنّهم كانوا يدخلون في الإسلام نتيجة رغبة أو رهبة أو مصلحة أو ما إلى ذلك، لأنّه كان يريد أن يبعد الناس عن خطّ الكفر، وكان يريد أن يخرجهم من مجتمع الكفر إلى مجتمع الإسلام ليعيشوا فيه عسى أن يفتح ذلك عقولهم من الموقع القريب على كلّ آفاق الإسلام، وربّما يقرّبهم إلى مفاهيمه وإلى عقائده وشرائعه، وهذا هو قول الله سبحانه وتعالى {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}(1) فالإسلام هو أن تسلم حياتك في داخل المجتمع للخطّ العام الذي يتحرّك فيه المسلمون، وإن كنت غير مقتنع بذلك من خلال الجانب الفكري أو ما إلى ذلك.

أدب الاختلاف:

ومن خلال ذلك نفهم أنّ علينا عندما نتحدّث عن المسلمين فإنّ علينا أن نتحدّث عن كل هذه الساحة الإسلامية حتى الذين نختلف معهم في بعض الخطوط الأصيلة عندما تتّصل المسألة بالواقع السياسي والواقع الاجتماعي للمسلمين، والواقع الذي يواجه فيه المسلمون الاستكبار العالمي في كل مواقعه، والكفر العالمي في كل ساحاته، فهنا لا بدّ للمسلمين مهما اختلفوا مذاهبَ وأفكاراً وطرقاً يلتقوا على كلمة الإسلام لينصروا الإسلام كلّه وليدخلوا معارك المسلمين كلّها، حتى إذا ارتاح الإسلام واستقر وقوي وحصل على موقع العزّة والقوّة والكرامة، فعند ذلك يمكن أن نتناقش ونتنازع والله تعالى يريدنا أن لا نتسابب ولا نتلاعن لأنّه أنكر على المسلمين أن يسبّوا الذين يدعون من دون الله بغير علم، ذلك لأنّ الفعل السلبي ضدّ الآخر يتحوّل إلى ردّ فعل سلبي ضدّ مقدّساتك {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}(1).

وهكذا نقرأ في (نهج البلاغة) أنّ علياّ (عليه السلام) سمع قوماً من أهل العراق يسبّون أهل الشام، وهو في طريقه إلى حرب أهل الشام (إنّي أكره لكم أن تكونوا سبَّابين ولكن لو وصفتم أفعالهم) وهذا وعي عليّ (عليه السلام) للحوار مع الآخر وللتعبير عن الخلاف بينك وبين الآخر (وذكرتم حالهم لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر وقلتم مكان سبّكم إيّاهم ربّنا احقن دماءنا وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحقّ من جهله ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به)(2).

عنوان الإسلام:

وهكذا عندما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يؤكّد علاقة المسلمين ببعضهم البعض في كلّ اهتماماتهم وكل آلامهم وكلّ مشاكلهم (مَن أصبح يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم) فهو يتحدّث عن المسلمين باعتبار أنّ عنوان الإسلام هو العنوان الذي يجب أن يتحرّك المسلمون حوله في الساحة حتى لو كان ثمّة انحراف هنا وضلال هناك، فالمهم أن يكون عنوان الإسلام قوياً في مقابل الكفر، وأن يكون المسلمون أقوياء في مقابل المستكبرين، ولذلك فإنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعتبرك مسلماً إذا كانت أمور المسلمين هي اهتماماتك، وإذا كانت التحدّيات التي توجّه للمسلمين هي التحدّيات التي تواجهها أنت كما لو كانت تتحداك بالذات.

لو أنّ رسول الله بيننا:

أيّها الأحبّة: لو أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان حاضراً بشخصه وهو الآن حاضرٌ فينا برسالته لقال لنا، والمسلمون يواجهون أكبر التحدّيات التي تريد أن تستنزف ثرواتهم وكلّ طاقاتهم وتصادر كلّ سياساتهم وتحاصر كل مواقعهم وتضلّل كلّ حقائقهم، أيها المسلمون ـــ إنّ المسلمين يعيشون هموماً كبيرة كلٌّ في موقعه وكلٌّ في ساحته، يواجهون تحدّيات كبيرة كلٌّ في موقعه وكلٌّ في ساحته، لذلك لا تشغلوا أنفسكم بالنزاعات التي تنصب الحواجز بينكم، ولكن حاولوا أن تسقطوا كلّ الحواجز في ساحة الصراع والمواجهة وفي ساحة التحديات.

أنا لا أريد أن أهوّن ما يختلف فيه المسلمون فهناك حقائق لا بدّ أن نلتزمها ولا يجوز لنا أن نتنازل عنها، ولكنّ هناك فرقاً بين أن أتحاور معك وتتحاور معي على أساس خطّ القرآن {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}(1)، فإذا كان الله يريدنا أن ندعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء بيننا وبينهم، وكم هناك فرق في العقيدة وفي تفاصيلها وفي الشريعة ومسائلها، كم هناك فرق بيننا وبين أهل الكتاب في كلّ ذلك، أفلا ندعو ـــ من باب أولى ـــ أهل القرآن ليقول كل منّا للآخر: يا أهل القرآن تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم في أسس العقيدة وامتدادات الشريعة وما إلى ذلك. وهكذا عندما نواجه الموقف في الجدال مع أهل الكتاب {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2) فهل يكون ردّ فعلنا بأن نجادل أهل القرآن بالتي هي أسوأ سبّاً ولعناً وتجريحاً وتكفيراً وما إلى ذلك.

إفرازات الساحة:

أيّها الأحبّة: إنّ الساحة التي نعيشها الآن تطلق قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (ألاَ لا ترجعن بعدي ضلالاً أو كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض أو يلعن بعضكم بعضا) فكم نلعن بعضنا بعضاً، وكم نكفّر بعضنا بعضاً، لقد انتهينا من تكفير الكافرين وأصبح الكافرون حلفاء لنا، وأصبحوا أصدقاء لنا وأصبحوا الذين نطالبهم ليدافعوا عنّا ضدّ المسلمين، أمّا المسلمون فإنّنا نصفُ هذا بالشرك تارة وذاك بالكفر تارة ويبقى الاستكبار والكفر كلّه يضحك علينا جيداً ويعرف كيف يثير العصبيات وكيف يثير الفتن فيما بيننا.

أيّها الأحبّة، حاولوا أن تحصلوا على الأرض ثم تحدّثوا عن الديكور وعن الهندسة، لدينا الأرض الإسلامية التي راحت تذوب فيما بعد أيدينا، فلقد اقتطع اليهود منها قطعة واقتطع الاستكبار العالمي منها الكثير إذا لم يكن بالمعنى المباشر فبالمعنى غير المباشر، فهل هناك اقتصاد إسلامي أو أمن إسلامي أو سياسة إسلامية؟! ونظلّ نتنازع في جزئيات وهوامش أمورنا. إنّ شاعراً فلسطينياً(1) كان يخاطب زعماء الفلسطينيين في عام 1936 فيقول لهم:

في يدينا بقية من بلاد                    فاستريحوا كي لا تطير البقية

ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(2)، {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(3).

إنّي أخشى أنّنا نقف الآن على شفا حفرة من النار: النار السياسية والاقتصادية والأمنية التي نخشى أن تدخلنا نار الآخرة.

لو عصيت لهويت:

أيّها الأحبّة، هذا هو درس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لنا في خطبة حجّة الوداع، وأمّا الدرس الثاني، فقد انطلق ليقول للمسلمين وهو يودّعهم (لا يتمنّى متمنٍ ولا يدّعي مدعٍ، إنّه ليس بين الله وبين أحد شيء يعطيه به خيراً أو يدفع به عنه شراً إلاّ العمل، ألا إنّه لا ينجّي إلاّ عمل مع رحمة ولو عصيت لهويت) إنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يستوحي الآية القرآنية {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(1) والآية {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}(2) لا تقولوا نحن المسلمين الجنّة ساحتنا ولا تقولوا نحن أهل الكتاب الجنّة ساحتنا حتى لو عصينا الله وحتى لو ابتعدنا عن خطّه المستقيم {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}(3) وينطلق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليخاطب أقرباءه كما تقول كتب السيرة (يا بني عبد مناف اعملوا لما عند الله فإنّي لا أغني عنكم من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطّلب يا عمّ رسول الله اعمل لما عند اله فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفيّة بنت عبد المطّلب يا عمّة رسول الله اعملي لما عند الله فإنّي لا أغني عنكِ من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد يا بنت رسول الله اعملي لما عند الله فإنّني لا أغني عنكِ من الله شيئاً) إنّه لا يتحدّث عن الشفاعة والشفاعة منزلته ودرجته، ولكنّه يتحدّث عن الناس الذين لا يعملون ولا يطيعون ولا يلتزمون ويبقى النسب وحده هو الأساس الذي يربطهم بالله.

ولقد قالها الإمام عليّ (عليه السلام) (إنّ وليّ محمد مَن أطاع الله وإن بعدت لحمته وإن عدوَّ محمد مَن عصى الله وإنْ قَرُبَت قرابته)(4) وهذا ما عبّر عنه الشاعر بقوله:

كانت مودة سلمان لهم رحماً       ولم يكن بين نوع وابنه رحمُ

إنّ علينا أن نأخذ هذه الكلمات النبوية القرآنية دستوراً لنا لنعتبر أنّ القيمة كلّ القيمة التي نتحرّك بها في حياتنا وفي علاقاتنا ببعضنا البعض من حيث تقويم منزلة هذا وذاك، والقيمة كلّ القيمة في علاقتنا بربّنا هي العمل والتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(5) فالعمل هو القيمة لا النسب ولا الجاه، فالحديث لا يتحدّث عن جانب المصير الشخصي بالنسبة إلينا، إنّما يتحدّث عن طريقة التقويم للأشخاص وللأوضاع التي لا بدّ لنا أن نعيشها هنا وهناك.

 

 

مصير الأمّة:

كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يفكّر بأمّته حتى وهو في آخر أيام حياته، عندما رأى أنّ هناك من يفسّر الأشياء بغير معانيها، وأنّ هناك من يثير الاختلاف هنا وهناك، وأراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يعطي الوضوح كلّه بحيث لا يختلف الناس حول ما أراد وحول ما يريد، لقد تركهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لظواهر الكتاب وهي الحجّة ولظواهر سنّته وهي الحجّة ولكنّه خاف عليهم أن يضلّوا من خلال طبيعة الفوضى الثقافية أو النفسية التي يعيشونها، فقال: (آتوني بدواةٍ وكتف لا كتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً)، وهو يريد أن يعطيهم الوضوح كلّ الوضوح لأنّ الأجواء كانت تثير الكثير من الضباب، واندفع شخص ليقول إنّ النبيّ قد غلبه الوجع وإنّ النبيّ ليهجر وهو يعرف أنّه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(1) وأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان عقلاً كلّه جاء من أجل أن يعطي العالم عقلاً، فلا يمكن للعقل الذي أراد الله له أن يبقى متفتّحاً قوياً معصوماً إلى أن يلفظ أنفاسه أن يهجر، ولكنّ القضية أُثيرت وخلقت كثيراً من الجدل، ممّا يدلّ على أنّ هناك كثيراً من التعقيدات دخلت الواقع الإسلامي بحيث أنّهم يجتمعون عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يقول كلمة ويطلب أمراً فيختلف الناس معه، فهذا يقول إئتوه بالدواة وبالكتف، وذاك يقول إنّ النبيّ ليهجر وضاعت الكلمة الواضحة الصريحة عندما قالوا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما تقول كتب السيرة (ألا نأتيك يا رسول الله بالدواة وبالكتف، قال: أبعد الذي قلتم) فلو كتبتُ فسيقول البعض منكم إنّ النبيّ كتبه وهو غير واعٍ لما يريد فلقد كان يهجر بكلمته وضاعت الفرصة الأخيرة.

ونستفيد من كلمة ) (لن تضلّوا بعدي أبداً) إنّ هذا الكتاب يحمل الصراحة والوضوح في كلّ القضايا الحيوية التي أراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يوضحها بحيث لا يبقى هناك خلاف، وفي مقدّمتها قصة الولاية وقصة الغدير، ولكنّ التعقيدات التي عاشها المسلمون أضاعت القضية.

البحث عن الحقيقة:

ونستوحي من ذلك أنّنا نعيش الكثير من التعقيدات حول الكثير من الحقائق، فقد لا نريد الوضوح في الأشياء لأنّ الوضوح قد يتعبنا وقد يسيء إلى تخلُّفنا وإلى مصالحنا وشهواتنا، إنّنا نحبّ دائماً ـــ بكلّ أسف ـــ أن نعيش في الضباب حتى أنّنا لا نقبل الضباب الذي تطلّ الشمس من ورائه لأنّ الضباب هو الذي يحمي لنا عصبيّاتنا ويؤكّد لنا تخلُّفنا وهو الذي يجعلنا نتفرَّق ونضيع لأنّنا لا نملك الضوء الذي نعرف فيه من أين نبدأ وأين سننتهي.

أيّها الأحبّة، إنّ الله يريد لنا أن نبحث عن الحقيقة وعن إشراقها وقد قال لنا {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ}(1) النور الذي علينا أن نبحث عنه.. فاقرأوا كتاب الله جيداً، حاولوا أن تتدبّروه جيداً، فهو الأساس في كل ما نعتقد، وهو الأساس في كل ما نحمل من مفاهيم، وهو الأساس في كل تصحيح لكلّ ما يأتينا من أحاديث هنا وهناك.

أيّها الأحبّة، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(2) علينا أن نكسر هذه الأقفال حتى يدخل الكتاب بكلّه إلى عقولنا وقلوبنا وذلك درس رسول الله فينا.

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الحادية والعشرون

8/ ربيع الأول/1418 هـــ (*)

 

في ذكرى وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام):

المسؤولية عن تصحيح المسار

 

"نحن مسؤولون عن حماية الساحة الإسلامية ثقافياً كما إنّنا مسؤولون عن حمايتها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً فلا بدّ للإسلام كلّه أن يبرز إلى الكفر كلّه".

 

 

 

 في مثل هذا اليوم الثامن من ربيع الأول كانت وفاة الإمام الحادي عشر من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وهو الإمام الحسن بن عليّ العسكري (عليه السلام). وعندما ندرس حياة هذا الإمام فإنّنا لا نجد الكثير من تفاصيلها بالدرجة التي يمكن للإنسان أن يحيط بها ليتعرّف على عناصر العظمة التي يختزنها في شخصيته في الجانب الروحي الذي ينفتح على آفاق واسعة لا تنحصر في الفكر أو الجانب العلمي وحدهما، بل في كلّ الجوانب التي استطاعت أن تفرض شخصيته على مجتمعه بحيث ينقل كتّاب سيرته أنّ أعداءه وأصدقاءه أجمعوا على تعظيمه وعلى تقديره وإكباره.

شهادة من متعصّب:

فنحن نقرأ فيما ينقله مؤرّخو سيرته عن شخص كان ممّن يضمر العداوة له ولكلّ أهل البيت (عليهم السلام) وهو (أحمد بن عبد الله بن خاقان) حيث يقول: "ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا في هدوئه وسكونه وعفافه ونبله وكبرته عند أهل بيته وبني هاشم كافّة وتقديمهم إيّاه على ذوي السنَّ منهم والخطر، وكذلك كانت حاله عند القوّاد والوزراء وعامّة الناس".

وقال له أبوه ـــ كما يقول هذا الرجل الذي رأى أباه يقدّم الإمام العسكري (عليه السلام) حتى أنّه لم يلتفت إلى زيارة وليّ العهد له ـــ فلقد كان هذا الرجل من كبار القوم، وقد استغرب ابنه المعقّد منه ذلك وسأله عن سبب اهتمامه بالإمام، فقال له: "يا بنيّ لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العبّاس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه".

ثم يقول هذا المتعصّب كما يصفه كتّاب السيرة: "فما سألت أحداً من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلاّ وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل والتقديم له على جميع أهل بيته ومشائخه فعظم قدره عندي، ولم أرَ له ولياً ولا عدوّاً إلاّ وهو يحسن القول فيه والثناء عليه".

ولسنا نريد من خلال هذه الشهادة أن ندخل في تقييم الإمام (عليه السلام) لمجرّد أنّ هذا الرجل شهد له، فالإمام يتميّز بموقع إمامته بالدرجة الرفيعة عند الله وبالمحل الكبير في الواقع الإسلاميّ كلّه، لكنّنا نريد أن نأخذ من هذه الشهادة التي تنفتح على شهادات متنوّعة لكلّ طبقات المجتمع المميّز بالإضافة إلى المجتمع العادي الذي كان يعيش فيه الناس، فنجد أنّ هذا يمثّل الدلالة على أنّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قد استطاع أن يدخل في مجتمعه علماً وفضلاً وحركة ومنهجاً وزهداً وعبادة بحيث أخذ بكلّ عقول مجتمعه وبكلّ قلوبهم حتى أصبح في موقع القيمة المميّزة التي يخشع لها العدوّ والصديق، وإنّنا نرى أن ما من شخصية كبيرة وفاعلة في المجتمع إلاّ وهناك من يسيء القول فيها وهناك مَن يحسن القول فيها، لكن أن تجد في مجتمع، هو من الناحية الرسمية يقف بشدّة ضدّ هذا الخطّ من أهل البيت (عليهم السلام) ليحاصره وليضيّق عليه، وليعمل كلّ ما من شأنه أن ينقص قدره، أن تجد شهادة الأولياء والأعداء لمثل هؤلاء فإنّك تستطيع أن تأخذ من هذه الشهادة اختصاراً لكلّ نشاطه المتحرّك في الدخول إلى عقول الناس علماً وإلى قلوب الناس روحانية وإلى واقع الناس حركة، وقد تختصر بعض الشهادات كلّ واقع هذا الإنسان في كلّ حياته.

شهادة أخرى:

وهناك شهادة أخرى لسجّانه (صالح بن وصيف)، وقد حبسه خليفة زمانه آنذاك من بني العباس، وجاء الحاقدون من بني العباس ومن غيرهم يطلبون من هذا السجّان الذي أُوكل إليه أمر سجنه أن يضيّق عليه غاية التضييق، وربّما يتوسّلون بذلك إلى أن ينتهي التضييق عليه إلى إنهاء حياته، فقال لهم: "وما أصنع وقد وكّلت به رجلين من أشرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم فقلت لهما: ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كلّه، لا يتكلّم ولا يتشاغل وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا"، بحيث استطاع أن يؤثّر فيهما بقوّة شخصيّته الروحية وبهذا الجوّ الروحاني الذي لم يجدا مثله، فالإنسان ـــ في العادة ـــ يعيش في السجن حالة نفسية صعبة ولكنهما وجداه في أعلى درجات الفرح الروحيّ بالله وفي أعمق مواقع الإخلاص لله سبحانه وتعالى.

هذه هي الصورة التي نستطيع أن نأخذها ممّا ذكره المؤرّخون في حياته، وهي ـــ كما ذكرنا ـــ تختصر في دلالاتها وفي خلفياتها الكثير ممّا يوحي إلينا بعظمته، ونحن نحبّ أن نطلّ على بعض ما صدر عن هذا الإمام ممّا وصل إلينا فيما نقله الرواة، فنجد أنّ هناك من ينقل عنه مسألة تتّصل بالقرآن في متابعة الإمام (عليه السلام) لكنّ النشاط الثقافي المضادّ والمنحرف الذي كان يتمثّل ببعض الرموز الثقافية الموجودة في زمنه.

درس في العمل الحركي:

ينقل (أبو القاسم الكوفي) في كتاب (التبديل): "إنّ اسحق الكندي وهو فيلسوف العراق في زمانه"، وقد يناقش البعض في هل أنّ المراد هو إسحق أو غيره، إلاّ أنّ المهم لدينا أنّ الرجل يملك ثقافة عميقة حيث كان أستاذاً من أساتذة الفلسفة والثقافة في ذلك العصر.

وفي تتمة الرواية أنّه "أخذ في تأليف كتاب في تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك، وتفرّد به في منزله ـــ أي أعطاه كلّ وقته ـــ وأنّ بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فقال له (أبو محمد)، وهذه هي كنية الإمام الحسن العسكري: أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟ فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال أبو محمد (عليه السلام) أتؤدّي ما ألقيه إليك؟ قال: نعم. قال: فصِرْ إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأنسة في ذلك، فقال: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنّه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلّم بالقرآن ـــ أيّاً كان المتكلّم به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو أي شخص آخر ـــ هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم به منه غير المعاني التي قد ظننت أنّك ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول إنّه من الجائز"، لأنّه رجل يفهم إذا سمع ما أوجب ذلك ـــ لأنّ الناس قد يختلفون في فهم ما تقوله لهم، وليس من الضروري أن يكون فهمهم لما تقول واحداً، وهذا أمر يحدث بين الناس فيما يقرأون من كتب أو فيما يسمعون، ثم مضى يعلّمه "فقل له: فما يدريك لعلّه أراد غير الذي ذهبت أنتَ إليه فتكون واضعاً لغير معانيه".

"فصار الرجل إلى الكندي وتلطّف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة، فقال له: أعد عليّ، فأعاد عليه فتفكّر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت عليك إلاّ أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلاّ، ما مثلك اهتدى إلى هذا ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرّفني من أين لك هذا؟ فقال أمرني به أبو محمد (عليه السلام)، فقال: الآن جئتَ به وما كان ليخرج مثل هذا إلاّ من ذلك البيت، ثم إنّه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه".

دلالات القصّة:

فما هي دلالات هذه القصّة؟

الدلالة الأولى: هي أنّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كان يتابع حركة الثقافة في زمانه، وكان يتحرّك على كل الاتجاهات المضادّة التي تنطلق في مواجهة الإسلام فلم يكن خارج نطاق الواقع الثقافي، وهذا ينطلق من مسؤولية الإمام عن تصحيح المسار الإسلامي في كل ما يمكن أن يعرض عليه من الانحرافات، ويرى أنّ عليه أن يقوم بالمبادرة الفعلية في ذلك إمّا بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. وهذا هو ما نرصده في سيرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فنحن عندما نقرأ كل التراث الذي نقله لنا المؤرّخون والباحثون فإنّنا نرى أنّ كلّ إمام من الأئمة يواجه كلّ التيارات التي تتحرّك في داخل الواقع الإسلاميّ عندما يعيش المسلمون الخلاف الكلاميّ تارة والفقهيّ تارة أخرى، فيتمذهب كل واحد منهم بمذهب معيّن وينطلقون إلى الواقع الإسلاميّ ليديروا الحوار حول هذه القضايا حتى يصحّحوا ما فسد ويقوّموا ما انحرف، ويلتفتون إلى الواقع الإسلاميّ عندما تفد عليه التيارات اللاإسلامية فيجلسون مع الزنادقة ومع الملاحدة ومع اليهود والنصارى والمجوس وأهل الفلسفات ليديروا الحوار معهم بكل العقل المنفتح على الإنسان الآخر في كل ما هو فيه وبكلّ لسان لا ينطلق إلاّ بالتي هي أحسن وبكلّ أسلوب لا يتحرّك إلاّ بالتي هي أحسن.

خطٌّ متّصل الحلقات:

وهذا ما تمثّل في تأريخ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عندما كان يجلس في المسجد الحرام والناس يطوفون فيما هو يناقش (عبد الله بن المقفّع) وأبا شاكر الديصاني وغيرهم ممّن يطلق عليهم أنّهم من زنادقة ذلك الزمان ومن أساتذة الثقافة في ذلك العصر، وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يتكلّم بكلّ لطف ويحاورهم بكلّ عمق حتى قال أحدهم وأظنّه ابن المقفّع: "ما وجدت رجلاً يستحقّ اسم الإنسانية بهذا الجمع غير جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)". وقال آخر: "ما وجدت رجلاً يتروّح إذا شاء ـــ كما لو كنت ترى روحاً بلا جسد ـــ ويتجسّد إذا شاء غير جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)".

ولذلك استطاع الإمام الصادق (عليه السلام) أن يملأ كل المرحلة التي عاشها في تقويم المسار الإسلاميّ بالفكر الإسلامي في مواجهة الفكر غير الإسلامي، وعندما ندرس تأريخ أبيه محمد الباقر (عليه السلام) وتأريخ ولده موسى الكاظم (عليه السلام) والإمام الرضا (عليه السلام) فإنّنا نجد أنّ أي تبار جديد يفرض نفسه على الواقع إلاّ والأئمة أول من يتصدّى له، وفي ذلك درس، وهو أنّ العلماء لا يجوز أن ينعزلوا في دائرة خاصة، بل لا بدّ لهم أن ينفتحوا على كلّ الدوائر الثقافية التي تفرض نفسها على الواقع الإسلاميّ لتنحرف به عن مسيرته تارة ولتصادر حقائقه أخرى. وإنّ عليهم أن ينزلوا إلى الساحة ميدانياً ليواجهوا كلّ الاتجاهات المادية والعلمانية والانحرافات التي تطرأ على الفكر الإسلامي لاسيّما في هذا العصر الذي استطاع من خلال المستوى العلمي الكبير أن يخترق كلّ ساحاتنا وأن يواجه كل أفكارنا وكل قِيَمِنا ليناقشها، فلا بدّ لنا أن نردّ العلم بالعلم ونعالج الكلمة بالكلمة وأن ننفتح على كل الواقع لأنّنا مسؤولون عن حماية الساحة الإسلامية ثقافياً كما نحن مسؤولون عن حمايتها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً لأنّ الكفر كلّه قد برز إلى الإسلام كلّه، ولا بدّ للإسلام كلّه أن يبرز إلى الكفر كلّه، وعليّ (عليه السلام) الذي قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيه عندما برز إلى عمرو بن عبد ود "برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه" فإنّه لم يبرز بسيفه فحسب ولكنّه برز بفكره وقوّة إيمانه.

ولو درسنا (نهج البلاغة) لعرفنا كيف استطاع عليّ (عليه السلام) أن يعالج كلّ الواقع الإسلاميّ في كلّ اتجاهاته، وعالج الواقع غير الإسلاميّ الذي فرض نفسه على الواقع الإسلامي، ولو درسنا الإمام عليّ (عليه السلام) دراسة معمّقة في أسلوبه وفي منهجه ومفردات فكره وفي حركته المضادّة للانحرافات لاستطعنا أن نحصل على علم كبير واسع وعلى أفضل المناهج والأساليب في الحوار، لكنّ مشكلتنا أنّنا قد نكون كأولئك الذين قال لهم: "سلوني قبل أن تفقدوني فإنّي بطرق السماء أعْرَف منّي بطرق الأرض" فسأله شخص: كم شعرة في رأسي!.. والكثيرون منّا يسألون عليّاً عن كثير من الشعرات الشخصية والاجتماعية ولكنّهم لا يسألونه عن عقل الفكر وعن قلب المحبّة وعن حركة الواقع كلّه.

وقد قال ذلك الألماني: لو كان عليّ موجوداً لرأيتَ مسجد الكوفة مملوءاً بالقبّعات الأوروبية، ولن تجد فيه موطئ قدم لعربي واحد، فماذا نعرف عن ثقافة عليّ وفكر عليّ وقِيَم عليّ؟.. إنّكم تتحمّسون عندما يقال ضرب (مرحب) وقدّه نصفين وضرب (عمر بن عبد ودّ) فقطع ساقه واحتزّ رأسه، فيما قدَّ أكثر من مرحب ثقافي وأكثر من عمر بن عبد ودّ فكريّ، قدّه نصفين عندما سلّط الحقيقة على كلّ هؤلاء. ولقد قال (عليه السلام) وهو يناجي ربّه بكلّ مرارة الإنسان الغريب في مجتمعه: "اللّهم إنّك لتعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطّلة من حدودك... اللهم إنّي أوّل مَن سمع وأجاب"(1).

الرفق أنجح الوسائل:

الدلالة الثانية: كما نستوحي من هذه القصة أنّك عندما تريد أن تحاور إنساناً وتجادله فلا يكن العنف سبيلك إلى ذلك، ولا يكن القلب القاسي وسيلتك إلى الانفتاح عليه، بل حاول أن تتلطَّف به أولاً وأن تؤانسه ثانياً، حاول أن تربح قلبه قبل أن تخاطب عقله لأنّ أقرب طريق إلى عقل الإنسان هو قلبه، لذلك حاول أن تدخل إلى قلبه وإحساسه شعورياً، ثم خاطب عقله فإنّ العقل يرقّ ويلين ويفتح لك أبوابه من خلال المحبّة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(1)، وهكذا كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ينفتح على الناس برسالته من خلال قلب رؤوف حنون ولسان ليّن لطيف عذب، وهذا ما يجب أن نتعلّمه ـــ أيّها الأحبّة ـــ نحن الذين نختلف مذهبياً في مجتمعاتنا ونختلف دينياً في أوسع من مجتمعاتنا، ونختلف سياسياً واجتماعياً وثقافياً، فنحن لا نتّقن أن نتحدّث بمحبّة ولا نتّقن أن نحبّ الذين يخالفوننا، فيما نحن بحاجة إلى أن نحبّهم لنهديهم، كما علينا أن نحبّ الذين يتّفقون معنا لنلتقي معهم في موقع المحبّة. ونحبّ الذين لا يلتقون معنا من أجل أن تكون المحبّة هي الوسيلة للهداية.

هكذا ينبغي لنا أن ننفتح على الناس الذين نريد أن نحاورهم.

الفكرة على سبيل الاحتمال:

الدلالة الثالثة: هي هذا الأسلوب الذي اتّبعه الإمام العسكري (عليه السلام) في مخاطبة هذا الإنسان العالم، فلقد انفتح على علمه لأنّه يرى أنّه حتى لو كان مسيئاً لكنّه عالم يفكّر ولا يعيش العقدة، ولذلك ألقى إليه الفكرة على سبيل الاحتمال ليدفعه إلى التفكير، وهذا أمر نحتاجه كما يحتاجه العلماء والمثقّفون، وذلك بأن لا ينطلقوا من العقدة المستحكمة في نفوسهم عندما يريدون مواجهة العالم الآخر، فعلى العالم أن يخلص للعلم، أن يناقش كل شيء مع الآخر وأن لا يتعصّب لخطأه إذا أخطأ ولباطله إذا التزم الباطل، بل أن ينفتح كما انفتح هذا الفيلسوف عندما كان مخلصاً للعلم، فمشكلتنا أنّ بعضنا يخلص لذاته أكثر من إخلاصه للثقافة، ويخلص لشخصه أكثر ممّا يخلص للعلم، ولذلك فإنّه يسقط علمه وثقافته على مذبح ذاته فيتعصّب للباطل حتى لو رأى الحقّ.

الثقة العلمية العالية بالأئمة:

الدلالة الرابعة: هي أنّ هذا الرجل الذي سمع من تلميذه أنّ هذا الأسلوب كان من قبل الإمام العسكري (عليه السلام) قال: "لقد علمت أنّه لا يخرج هذا إلاّ من أهل هذا البيت" وبذلك نعرف كم هي الثقة العلمية التي كان يحملها الفلاسفة والمثقّفون في علم أهل البيت (عليهم السلام) ممّا يوحي أنّهم قد بلغوا القمّة في العلم حتى خضع الآخرون لعلمهم وانحنوا لهذا المستوى الكبير من الثقافة.

أيّها الأحبّة، عندما نملك مثل هذه الرموز الروحية العلمية التي اقتربت من الله كأفضل ما يكون القرب، واقتربت من الناس في خطّ المسؤولية كأفضل ما يكون الاقتراب، وانفتحت على كلّ الواقع ولاحقت كل الاتجاهات، فإنّ مسؤوليتنا عندما ننتمي لهؤلاء العظماء وإلى هذه الثروة الكبيرة من العلم والروحانية والجهاد والحركة، أن نتساءل: هل نحن نتحرّك في طريقهم؟! أخشى أنّنا نعطيهم نبضات قلوبنا وخفقات مشاعرنا ودموع عيوننا ثم نقول لهم: هذا يكفيكم منّا، أمّا علمكم فنحن في شغل عنه، وأما روحانيّتكم فلا علاقة لنا بها، إنّنا نحبّكم في التأريخ ولكن إياكم أن تقتربوا إلينا،لأنّنا سوف نواجهكم كما واجهكم الذين في عهدكم.. إنّ مشكلتنا أنّ عليّاً (عليه السلام) لو جاءنا الآن فمن الصعب أن ينجح في الانتخابات لأنّنا لن نعطيه أصواتنا عندما يحملنا على المحجّة البيضاء، لأنّ أكثر من تلميذ لعليّ يتحرّك باسم عليّ وبمنطق عليّ لكنّ الناس يرجمونه بالحجارة الكلامية وغير الكلامية.

أيّها الأحبّة، كونوا مع عليّ الذي كان مع الإسلام ومع أبنائه الذين عاشوا الإسلام فكراً وحركة وجهاداً ومنهجاً، إنّهم يطلّون علينا من التأريخ وعلينا أن نغتني بذلك كلّه أمام الفقر الذي نعيشه.

وسلام الله على أبي محمد الحسن العسكري، وسلام الله على ولده الذي ننتظره ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

والحمد لله ربّ العالمين

  

 

 

 

 

المحاضرة الثانية والعشرون

14/ ربيع الأول/1418 هـــ (*)

 

في ذكرى الولادة المحمّدية:

الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في معناهُ القرآني

 

"عندما يتحدّث الله تعالى عن رسوله فإنّه لم يتحدّث عن صفاته الجسدية ولا خصوصياته العائلية بل عن أخلاقه الرسالية".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بين الرسول والرسالة:

في ذكرى مولده هل نقف لنمارس تقاليدنا التي تجمّدت في عقولنا وربّما جمّدت معناها في حياتنا.. في ذكرى مولده هل أنّ العلاقة به هي علاقة بشخص نحبّه ونحترمه ونعظّمه {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ}(1)، هل المسألة هي أن نعيش في التأريخ معه أو يعيش في الحاضر معنا.

في ذكرى مولده لا يمكن أن نفصل بينه وبين رسالته، فعندما ولد لم تكن هناك في أجواء ولادته عناوين كبيرة ولكنه ولد والحقيقة في عقله والطهر في قلبه والعظمة في سلوكه، ولد وكانت رعاية الله له في داخل شخصيته وفي خارجها حتى كان الله يعدّه في مضمون الرسالة الفكريّ والروحيّ والعمليّ قبل أن يكون رسولاً، ولم تكن التفاصيل بين يديه {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}(2)، لم يقرأ كتاباً ولم يكتب كتاباً وليس ذلك من جهة صفة الأميّ التي اختلف الناس في معناها، ولكنّه قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}(3)، لا لأنّ الله أراد لك أن لا تعرف القراءة والكتابة ولكن ليكون ذلك هو المعجزة لك بالإضافة إلى معجزة القرآن، بأن تنطلق ولم تتلُ كتاباً وأن تتحرّك ولم تكتب شيئاً وتأتي بالرسالة في القرآن وبتفاصيل الرسالة في السنّة، بما جعل العالم كلّه ينحني للحقيقة التي فتحت عقول الناس عليها، وللنظام الذي ركّزت حركة الناس عليه، ولكلّ القِيَم التي رفعت بها مستوى الإنسان عندما أطلقته ليفكّر في خلق السماوات والأرض {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً}(4)، ليكون الفكر أساس حركة الإسلام في حياة الناس وليمنهج الإسلام الإنسانيّ حركة العقل التي يشرف عليها الوحي حتى يلتقي هذا بذاك فيتكاملان.

النبيّ الأميّ:

ونرى ـــ أيّها الأحبّة ـــ أنّ هذه الأمية لم تكن أميّة الفكر ولا أُميّة العقل والقلب، بل كانت أميّة الممارسة في عقل يعطي الناس ما يقرأون ويعطيهم ما يكتبون، لذلك كان الرسول قبل أن يرسله الله لأنّ الله تعالى أعدّه وصنعه على عينه، ولو درسنا كلّ تأريخه قبل الرسالة لرأينا أنّه لم ينقل عنه أيُّ عمل سلبي في أي جانب من جوانب القِيَم الإنسانية، ولم ينقل عنه أيُّ فكر فيه للخطأ مجال، ولو كان ذلك في تأريخه لاستطاع الذين أنكروا رسالته وجحدوها واتّهموه بالكثير من كلمات السوء، أن يسجّلوا ذلك عليه ليسقطوا موقعه وليكذّبوا مقولته ولكنّهم كانوا لا يرون فيه إلاّ الصدق في الكلمة والموقف والعلاقة والصدق حتى في الرأي، فكان رأيه صدقاً من خلال أنّه يتعمّق في الحقيقة.

وهكذا انطلق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لينفتح على الرسالة من خلال وحي الله له، وعندما انفتح عليها عاشها في خطوطها العامّة كما عاشها في تفاصيلها فكان قرآناً يتحرّك، ولو أنّ الله سبحانه وتعالى أنزل على رسوله كتاباً كما طلبوا منه وقدّمه إليهم فقد لا يجد الكثير من الناس ممّن يقرأونه أو ممّن يؤمنون به، ولكنّ الله أرسل رسوله بالقرآن آية فآية وحرّك رسوله بالقرآن خطوة فخطوة، فكان الناس يستمعون إلى الآية من رسول الله كلاماً ويتطلّعون إليها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خلقاً وسلوكاً، ولذلك كان الرسول يجسدّ القرآن حتى قالت إحدى نسائه وقد سئلت عنه: "كان خُلُقه القرآن".

أخلاقه الرسالية:

وعندما يتحدّث الله تعالى عن رسوله، فإنّنا نجد أنه لم يتحدّث عن صفاته الجسدية ولا عن صورته ولا لون عينيه ولا لون جسده ولا طوله وعرضه، ولم يتحدّث لنا عن أية خصوصية من خصوصياته، وقد يكون في ذلك إيحاءٌ لنا على مستوى المنهج بأن لا نشغل أنفسنا في الأنبياء والأولياء والعظماء بخصوصياتهم الجسدية، لأنّ تلك الخصوصيات لم تنطلق من ميزة في الموقع الذي يتقرّبون فيه إلى الله فينطلقون في الحياة، فقد خلقوا بشراً كبقية البشر يخضعون في صفاتهم الجسدية لكلّ القوانين التي وضعها الله في ذلك سواء كانت قوانين الوراثة أو غيرها، ولم يحدّثنا عن خصوصياته العائلية إلاّ بما يتّصل بحركته الرساليّة وحركة الناس معه في المنهج الذي يريده الله في تعامل الناس مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

فما حدّثنا عنه هو أخلاقه الرساليّة، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(1)، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ} هذه الرحمة التي أفاضها الله على الناس من خلالك باعتبارك أنك الرحمة في عقلك وأنك الرحمة في قلبك وأنك الرحمة في سلوكك، وأنك الرحمة في علاقاتك وأنك الرحمة في مواقفك ومواقعك... تلك الرحمة التي تجمّعت لتكون تجسيداً لها {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ}(2)، فلقد كنت اللَيّن في كلامك فلا ينطلق منك الكلام إلاّ بكلّ رقّةٍ وعذوبة ورحمة وانفتاح، ولقد لنت لهم في قلبك فلست صاحب القلب القاسي ولكنّه القلب الذي يتفجّر حناناً وعاطفة ومحبّة واحتضاناً لكلّ الناس من حوله.

اللْينُ سرّه:

{وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، وهذا درس لكلّ الدعاة إلى الله، فإذا أرادوا أن يقوموا بمهمّة الدعوة فعليهم أن يربّوا ألسنتهم على الكلمة الطيّبة اللّينة في حروفها واللّينة في مضمونها، وأن يربّوا قلوبهم على أن تكون تكون قلوب المحبّة لا قلوب البغضاء وقلوب الرحمة لا قلوب القسوة، فالإنسان يتأثّر بالمعاني الإنسانية التي تعيش فيه، ويبقى الإنسان إنساناً حتى لو كان جبّاراً {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً}(3)، إنّه طغى لكنّه يملك قلباً يمكن أن يلين للدعوة عندما تأتيه الدعوةُ بأسلوبٍ ليّن، ويمكن أن يخشى ويخشع عندما تتحرّك الدعوة بأسلوبها الذي ينفتح على القلب ليغمره بكلّ الخشوع، {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}(4).

أخلاقه في أمّته:

ثم يندفع القرآن ليحدّثنا عن أخلاقه في أمّته، وفي صحابته {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}(5)، من داخلكم ومن حياتكم ومن مجتمعكم فلم يأتِ من صنف آخر أو من مجتمع آخر {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} والعنت هو المشقّة، فهو الإنسان الذي يعيش في قلب آلامكم ويعيش في قلب أحلامكم وفي عمق قضاياكم وفي كلّ الآفاق التي تتحرّكون فيها، فتتعبون هنا عندما تثقلكم الآلام وتتألمون هنا عندما تسقط أحلامكم، وتواجهون الجهد والمشقة هناك عندما ترتبك أوضاعكم وتتحدّاكم الضغوط من هنا وهنك، فيعزّ عليه ذلك ويؤلمه ويثقله.

{حَرِيصٌ عَلَيْكُم}، على كل واقعكم وعلى عزّتكم وعلى كرامتكم والمستوى الذي لا بدّ لكم أن تبلغوه لما يريد لكم أن ترتفعوا إلى أعلى الدرجات فيه، حريصٌ عليكم أن تذلّوا وأن تضعفوا وأن تهنوا وتحزنوا وأن تسقطوا وأن تتراجعوا، وكل ما تعطيه كلمة "الحرص" على الإنسان في كل ما يعيشه.

ولذلك فإنّ إنسانيّته في العمق تجعله يدخل في مشاعر كل الناس وحياتهم.

على الدعاة ألاّ يجمّدوا مشاعرهم:

{بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} إنّهما معاً الرأفة والرحمة، وقد تكون هذه الآية معدودة الحروف ولكنّني كلّما قرأتها شعرت بأنّ الرسول العظيم يشعّ في كلّ آفاق الإنسان وكلّ تطلّعاته وكلّ أوضاعه وذلك هو الإيحاء للدعاة إلى الله أن لا تتجمّد مشاعرهم وأن لا يتحوّلوا بأن تكون تلك الدعوة إلى الله عندهم مهنةً يمتهنونها، ولكن أن تكون إنسانية يعيشونها، وأن تكون تطلّعاً ينفتحون عليه، وعمقاً يدخل في عمق إنسانيّتهم، إنّها شيء لا يمكن أن تحدّده الكلمات بل شيء يعيشه الإنسان عندما يتحسّس مسؤوليته عن الإنسان الآخر.

الصبر على الأذى:

لذلك، فلا تجمّدوا إنسانيتكم، "كن كالشمس تطلع على البرّ والفاجر" كما ورد عن السيّد المسيح (عليه السلام)، وكما في دعاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لقومه: "اللّهم اغفر لقومي" وقومه المشركون، وقومه الجاحدون والكافرون "فإنّهم لا يعلمون"(1) لا تعذّبهم يا ربّ.. لا تعاجلهم بالعذاب حتى لو جحدوا وكفروا وأشركوا، اترك لهم فرصة لأنّ مشكلتهم أنهم لا يعلمون، دعهم حتى أجرّب التجربة تلو التجربة من أجل أن أدخل الإيمان في قلوبهم والحقّ في عقولهم والطريق المستقيم في دروبهم.. امنحهم يا ربّ فرصةً فإنّهم لا يعلمون.

ونحن نلاحظ أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) استخدم المصطلح القرآنيّ في الحديث عن المشركين {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}(1)، إنّه يتحدّث عن شركهم على أنه ليس منطلقاً من علمٍ مضادّ ولكنه منطلقٌ من جهل يفتقد عناصر الوعي وعناصر العلم، وهذا ما ينبغي للداعية أن يعيشه، بأن يصبر على الناس، بأن لا تيأس لو رجمك الناس بالحجارة بل قل لربّك كما قال لربه "إنْ لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أُبالي"(2)، وأن لا تتعقّد من الناس عندما يتّهمونك حتى بالجنون.

التحرّر من العقل الجمعي:

{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ}، هذا الأسلوب الإنسانيّ الذي يقدّم للناس المنهج وهم يسبّونه ويرجمونه باللاعقل، {أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ} تعالوا إليّ.. استمعوا إلى كلمة واحدة ثمّ قولوا ما تشاؤون، {أَن تَقُومُوا لِلَّهِ} انفصلوا عن هذا الجوّ الحاقد العاصف العدوانيّ الذي يفقد فيه كل إنسان منكم عقله وتوازنه واستقلاله الفكريّ.. تفرّقوا {أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى} اثنين يتحاوران ويفكّران معاً {وَفُرَادَى} أن تنفصل عن الجمع لتفكّر وحدك وليرجع إليك عقلك {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} في كلماتي وأفعالي وفي علاقاتي وفيما أقدّمه إليكم من فكر، والنتيجة سوف تكون معي لا معكم لأنّها كانت معكم عندما كنتم تعيشون مع اللافكر ومع غرائزكم العدوانية، {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}(3)، إنّهم يطلقون السباب ويبسط إليهم المنهج في طريقة التفكير لأنّه الإنسان الذي لا ينفعل ولكنّه يخطّط ليدفع بالانفعاليين إلى أن يكونوا عقلانيين، فهل نعيش ذلك أيّها الأحبّة؟!

ممنوعٌ على الداعية إلى الله أن يكون انفعالياً، بل لا بدّ له، حتى والانفعالات المضادّة تطبق عليه وتضغط على حسّه وعلى شعوره وعلى حياته، أن يبقى متوازن التفكير يدرس الأرض جيداً والكلمة جيداً والمستقبل جيداً.

 

صورة مجتمعه:

وهذا ما يختصر الله تعالى به الأوضاع التي كان يعيشها رسوله والصحابة من حوله في مجتمعهم في الداخل وفي التحدّيات في الخارج وفي موقفهم أمام الله الذي يعطيهم من الروحانية والوعي الإيمانيّ والقوّة والصلابة ما يجعلهم يتابعون المسيرة.

{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ}(1)، لاحظوا ـــ أيّها الأحبّة ـــ أنّنا نأخذ من هذا التعبير المنهج في علاقة القائد بالناس الذين يتّبعونه فهو سيدُ ولد آدم ولكنّه معهم {وَالَّذِينَ مَعَهُ} فهو ليس فوقهم في حركته وإن كان فوقهم في درجته، فلا يعيش الفوقية "كان فينا كأحدنا"، ويجلس معهم، فليس هناك كرسيّ يجلس عليه يميّزه عنهم وليس هناك مظاهر تفصله عنهم، ويأتي القادم ويجدهم حلقة ويقول أيّكم محمد؟! لأنّه لم يميّز نفسه عن أصحابه، حتى أقنعه أصحابه ـــ كما تقول السيرة ـــ أن يضعوا له حجراً يجلس عليه حتى لا يتحيّر القادم عندما يريد أن يتحدّث إليه.

إنّه يعيش مع أصحابه وأتباعه، فهم معه في الرسالة وفي الدعوة وفي الجهاد وفي كلّ التحديات، ولذلك قد نستوحي من ذلك أن لا ينطلق الإنسان في موقع قياديّ أيّاً كان الموقع سواء كان دينياً بالمعنى التقليديّ للدين أو سياسياً أو اجتماعياً، أن لا يعيش فوقية الإحساس والشعور على الناس معه، وأنْ لا تتحوّل الحالة الشعورية أو الواقعية لديه إلى حالة طبقية، بل يبقى القائد والمرجع والزعيم والوجيه والشخصية مع الناس.

الآية في واقعنا:

وإذا أردنا أن نسحب الآية إلى واقعنا فنستطيع أن نكون معه، كان الصحابة معه ممّن سار في خطّه المستقيم وكان التابعون معه ممّن سار في خطّه المستقيم، وإذا وفّقنا الله لأن نسير في الخطّ المستقيم فسندخل في عمق الآية، لأنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليس إنساناً يعيش في مرحلة زمنية من خلال الجمهور الذي يريد أن يحتويه، ولكنّه إنسان يعيش للزمن كلّه "حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة"(1)، "إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي"، فهو خاتم النبيّين.

أشدّاء على الكفّار:

{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ}(2)، فعندما ينطلق الكفر ليسقط الإيمان وليضغط عليه وليحتلّ أرضه وليحرف خطّه، ومن أجل أن يشوّه صورته لا يضعفون ولا يهنون ولا يحزنون بل تبقى لديهم شدّه الكفر وشدّة الموقف الذي لا ينطلق من عقدة بل من رسالة منفتحة تتحدّى كلّ الذين يقفون في طريقها.

{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} شدّة الموقف وشدّة المواجهة وشدّة التحدّي لأنّهم قرأوا قول الله  {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(3)، فماذا يحدث لو جرحتم {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}(4)، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(5).

وكانوا يقرأون قول الله سبحانه وتعالى: {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ}، والفرق بينكم وبينهم  {وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ}(6).

بين الخوف وبين الحذر:

{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(7)، فماذا كانت النتيجة {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ*إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ}(8)، فكلّ من يخوّفكم شيطانيّ، وسياسة الخوف سياسة شيطانية، وعلينا أن نفرّق بين الخوف والحذر، فالخوف يسقط روحك ويضعف موقفك والحذر يقوّي خطّتك ويشدّ عزيمتك ويجعلك تتحرّك في الطريق وأنتَ تنظر إلى كلّ الألغام المزروعة في الطريق.

لذلك، هناك فرق بين أن تحذر وبين أن تخاف، فإذا كنت تخاف فمعنى ذلك أنّك لا تثق بالله، وأنّ الله لا يعيش في قلبك قوّة وطمأنينة وسكينة {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ}(1)، لا تحزن حزن الخوف {إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}، وكانت النتيجة {فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا}.

الرحمة... الرحمة:

{رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}، يرحمون بعضهم ويرحمون ظروف بعضهم فيقدّرون ظروفهم، ويرحمون المستوى الفكريّ لبعضهم البعض، ويرحمون المشاكل التي يعيشها هذا البعض أو ذاك، يرحمون كلّ آلامهم وكلّ أحلامهم وكلّ أوضاعهم. فذلك ـــ أيّها الأحبّة ـــ هو مجتمع المسلمين، فأيّ مجتمع هو المجتمع الذي نعيشه الآن! وأين هي الرحمة التي تجعلنا نرحم الفكر الضعيف لنقدّر ظروفه فنعطيه القوّة بكلّ حنان ومحبّة، ونرحم نقاط الضعف فينا، ومن منّا لا يعيش نقطة ضعف! نرحم الضغوط التي تسيطر على هذا وعلى ذاك!

{رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}، رحمة العقل ورحمة القلب ورحمة الإحساس ورحمة الحكم على الآخر، ورحمة الانطباع الذي نكوّنه عن الآخر.

{تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً}(2)، وعند ذلك يستمدّون من الله في ركوعهم وسجودهم كلّ القوة لأنّ الله هو القويّ العزيز، وكلّ الرحمة لأنّه الرحمن الرحيم، وتنطلق العبادة لتغرس في نفس العابد كلّ القيم من خلال تخلّقه بأخلاق الله كما ورد في الحديث "تخلّقوا بأخلاق الله" وذلك عندما يعيش مع الله.

 

لنتحسّس مسؤوليتنا:

أيّها الأحبّة، هذا هو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في معناه القرآني وعلينا أن نستهديه وعلينا ونحن في هذا العصر أن نتحسّس مسؤوليتنا عن الإسلام، فالإسلام مسؤوليتنا جميعاً، وقد يحدّثكم الناس كما هو الحكم الشرعي أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله هي واجب كفائي إذا قام به البعض سقط عن الكلّ ويتصوّر البعض أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ساقط عنهم لأنّ العلماء والفقهاء والخطباء يقومون بالمهمّة والحمد لله على ما قاموا به.

أيّها الأحبّة، لو تحرّك الآن مليار مسلم وهم مزوّدون بالعلم والخبرة وبكلّ الأساليب لما استطاعوا أن يحقّقوا النتائج الإيجابية التي يريدها الله من أجل أسلمة العالم. لذلك فالواجب الآن عينيّ بأن نعيش في حالة طوارئ في الدعوة إلى الله، وحالة طوارئ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن نعطي كلّ جهدنا، ولن يكفي كل جهدنا للوقوف في مواجهة الاستكبار العلمي والثقافي الذي يحاول أن يسيطر على كلّ ثقافتنا وعلى كلّ علومنا، وكذا الاستكبار السياسي، والاستكبار الأخلاقيّ، والاستكبار الاجتماعيّ.

لئن يهدي الله بك رجلاً:

فلتكن ذكرى المولد فينا انطلاقة جديدة، ولنتصوّره معنا لأنّه ليس غائباً عنّا، فقد غاب عنّا جسده ولكنّني أتصوّر حضوره أعظم من كلّ الحاضرين في مرحلتنا وعصرنا هذا لأنّه يبقى في كلّ القرآن وفي كلّ السنة وفي كلّ الجهاد وفي كلّ السيرة وفي كلّ المسيرة الإسلامية حيّاً نابضاً يخاطبنا بكلّ حنان وكل محبّة ويقول لنا ما قاله الله عندما صاح شخص في أُحُد: "إنّ محمداً مات أو قتل{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}، وتركتم الرسالة وابتعدتم عن الهدف، وماذا تصنعون {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً}، بل يضرّ نفسه {وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}(1).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}(1)، {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}(2).

أيّها الأحبّة، {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(3)، وذلك هو معنى المولد فهل نعيش هذا المعنى؟!

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثالثة والعشرون

21/ ربيع الأول/1418 هـــ (*)

 

في ذكرى مولد الإمام الصادق (عليه السلام):

قيمةُ العمل وأسلوب التعامل

 

"أمّة لها مثلُ هذه الرموز لا بدّ أن تكون في مصافّ الأمم الكبرى".

 

 

 

 

 

في ذكرى الإمام الصادق (عليه السلام):

في الأسبوع الماضي التقينا بذكرى مولد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفي نفس التأريخ كانت ذكرى مولد الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ولا بدّ لنا أن نقف مع هذه الذكرى لأنّ شخصية الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) هي الشخصية التي كانت ملتقى كلّ الاتجاهات التي كان المسلمون يعيشونها، أو كان الواقع الإسلاميّ يعيشها حتى بالنسبة للذين لا ينفتحون على الإسلام من المنحرفين عن الخطّ، فعندما ندرس الكلمات التي قالها معاصرون ممّن اختلفت اتجاهاتهم المذهبية واتجاهاتهم الفكرية فإنّنا نجد عظمة هذا الإمام تتمثّل في تمكّنه من أن يأخذ بعقول هؤلاء ووجداناتهم ومواقفهم منه.

شهادات معاصرة:

فنقرأ لــ (مالك بن أنس)، وهو إمام المذهب المالكي، هذه الشهادة التي يقول فيها: "اختلفتُ إليه زماناً كنت لا أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال: إمّا مصلٍّ وإمّا صائم وإمّا يقرأ القرآن، وما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً" وهذا التصريح نقله الذين أرَّخوا لشخصية الإمام مالك.

فإذا التقينا بالإمام (أبا حنيفة) إمام المذهب الحنفي فإنّه يقول: "ما رأيتُ أفقه من جعفر بن محمد، لمّا أقدمه المنصور بعث إليّ فقال يا أبا حنيفة إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهيّء له من المسائل الشداد ـــ كأنّه قال لتفحمه ـــ ويظهر عجزه أمام الناس، فهيّئت له أربعين مسالة، ثم بعث إليّ أبو جعفر المنصور، وهو الخليفة الثاني من خلفاء بني العبّاس، وهو بالحيرة، فأتيته فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه فلمّا أبصرتُ به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور فسلّمت عليه وأومأ إليّ فجلست، فقال: يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة، قال جعفر: نعم، ثمّ أتبعها: قد أتانا ـــ فكأنّه كره ما يقول فيه قومٌ أنّه إذا عرف الرجل عرفه بطريقة غيبيّة ـــ ثمّ التفت إليّ المنصور، وقال: يا أبا حنيفة ألقِ على أبي عبد الله مسائلك، فجعلت ألقي عليه فيجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربّما تابعهم وربما خالفنا جميعاً حتى أتيت على الأربعين مسألة، ثم قال أبو حنيفة: أليس روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس"، فكأنّما كان يريد أن يقول أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يملك ثقافة فقهية موسوعيّةً تنفتح على كلّ الآراء الفقهية في زمانه بحيث يستطيع أن يواجه هذا وذاك بالحجّة التي بين يديه لتأكيد رأيه.

ويقول فيما نقل في كتاب (مناقب أبي حنيفة)، وينقله (الآلوسي) صاحب التفسير: هذا أبو حنيفة يفتخر ويقول بأفصح لسان "لولا السنتان لهلك النعمان"، والنعمان اسم لأبي حنيفة، ويعني بذلك السنتين اللتين جلس فيهما لأخذ العلم عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، ويقول بعض المؤلّفين (أبو حسن الوشا)، وهو شخصية مهمّة: "أدركت في هذا المسجد ـــ مسجد الكوفة ـــ تسعمئة شيخ ـــ أي (900) أستاذ، فكلمة الشيخ هي عنوان للأستاذ الذي يمتد في ساحة تعليم الآخرين ـــ كلٌّ يقول حدّثني جعفر بن محمد".

وقد قال (أحمد بن حجر) صاحب (الصواعق المحرقة): "جعفر الصادق نقل عنه الناس من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان وروى عنه الأئمة الأكابر كيحيى بن سعيد وابن سعيد وابن جريح ومالك وأبو حنيفة وشعبة وأيوب السجستاني".

ويقول (ابن أبي العوجاء)، وهو من الشخصيات التي يقال عنها إنّها من الزنادقة، وهو وآخرون كانوا يلتقون الإمام جعفر الصادق في المسجد الحرام ليحاوروه في وجود الله وفي الكثير من القضايا الأساسية في العقيدة: "ما هذا بشر وإن كان في الدنيا روحانيٌّ يتجسّد تارة إذا شاء ويتروّح إذا شاء فهو هذا"، ومن الطبيعي فإنّ شخصاً لا يؤمن بالإسلام ويقف في الموقف المضادّ ثم يتحدّث بهذه الطريقة، فإنّ هذا يدلُّ على مدى التأثير العميق الذي استطاع الإمام الصادق (عليه السلام) أن يؤثره في عقل هذا وفي قلبه حتى تحوّل في مواقفه لصالح الإمام (عليه السلام).

ويقول (السيد مير علي الهندي): "إنّ الذي تزعّم حركة فكّ الفكر من عقاله ـــ في تلك المرحلة ـــ هو حفيد عليّ بن أبي طالب المسمّى بالإمام الصادق، وهو رجل رحب، أُفُق التفكير، بعيد أغوار العقل، ملمٌّ كلّ الإلمام بعلوم عصره، ويعتبر في الواقع أول من أسّس المدارس الفلسفية المشهورة في الإسلام، ولم يكن يحضر حلقته العلمية أولئك الذين أصبحوا مؤسّسي المذاهب الفقهية فحسب، بل كان يحضرها طلّاب الفلسفة والمتفلسفون من الأنحاء القاصية".

فعندما نقرأ مثل هذه التصريحات والتي تعدَّدت على لسان الكثيرين، نعرف حقيقة أنّ هذا الإمام كان يملك ألطافاً إلهية في عقله وروحه وكلّ كيانه بحيث استطاع وهو يختلف مع هؤلاء أن يجعل الكثيرين في حالة انحناء عقليّ وروحيّ أمامه، ونحن نعرف جميعاً أنّ مثل هذه المنزلة في مثل تلك الظروف المعقّدة لا يمكن أن ينالها شخص عادي.

دراسة تراث الصادق (عليه السلام):

وعندما ندرس تراث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) دراسة تفصيلية دقيقة فإننا نرى أنه عالج كلّ المفاهيم الإسلامية المطروحة في الساحة سواء كانت قرآنية أو كانت سنّية أو كانت ممّا كثر الجدل بشأنه في المذاهب الكلاميّة التي انطلق بها العلماء في ذلك العصر، كما أنه انفتح على كل التفاصيل الأخلاقية في كل مفردات الأخلاق الإسلامية. فإنّنا لا نجد ونحن نقرأ تراث الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ هناك مفردة أخلاقية واحدة غابت عن أحاديثه.

ونلاحظ أيضاً، في هذا المجال، أنّ مدرسته كان المدرسة المنفتحة على كل مشاكل العصر، ولم تكن مدرسة بالمعنى الأكاديمي للمدرسة في هذه الأيام، ولكنها كانت مدرسة مفتوحة في بيته وفي المسجد بحيث كان الناس يقصدونه من كل مكان، حتى أنّنا ـــ كما أشرنا ـــ نقرأ في سيرته أنّه كان يجلس في المسجد الحرام والناس يطوفون في البيت وهو جالسٌ مع رجال الفكر المضادّ ليستمع إليهم وهم يناقشون القضايا الإسلامية بما فيها الحج، حتى أنّ بعضهم كان يقول له: إلى متى تدوسون هذا البيدر ـــ ويقصد بيدر الكعبة أي المطاف ـــ والإمام يردّ عليه بكلّ انفتاح وبكلّ سعة صدر.

فكان بعضهم يقول له: دلّني على معبودي أو على إلهي، وكان يتحدّث معهم بكلّ رحابة صدر لأنّه كان يرى أنّ من الضروري الوقوف أمام كل التيّارات المضادّة بالمنطق وبالعقل المنفتح لأنّ ذلك هو الذي يحلّ مشكلة تأثير تلك التيارات في الواقع، لأنّ مسألة أن تكفّر هذا وأن تزندق هذا وأن تضلّل هذا وأن تفسّق ذاك، لا يمكن أن تنفع أيّ إنسان ولا يمكن أن تبعد أيّ تيّار عن التأثير في الواقع. وهكذا نرى في أحاديثه الفلسفية والكلامية ممّا يعالج القضايا الفكرية في ذلك العصر، حتى أنّه أطلق الكثير من المفاهيم التي تعتبر من المفاهيم السياسية التي يمكن أن ينفتح عليها كلّ العاملين في الحقل السياسي في خطّ المعارضة.

مفهوما الصبر والحرية:

فنحن ـــ مثلاً ـــ نقرأ في تراثه وفي باب الصبر كيف يربط (عليه السلام) بين الصبر وبين الحرية، فإذا كنت تملك هذه الطاقة من الصبر في عقلك والصبر في مشاعرك والصبر في مواقفك فإنّك تستطيع أن تمارس حريّتك في داخل ذاتك، أمّا إذا كنت الإنسان الذي يسقط أمام الحرمان من لذة أو أمام الحرمان من موقع، أو أمام الحرمان إزاء ضغطٍ ما، فإنّك لا تستطيع أن تكون حرّاً.

ولقد نبَّه الإمام إلى هذه الحقيقة الإسلامية، وهي العلاقة بين الصبر وبين الحرية، ثم اكتشف قبل أن تتحرّك مفاهيم الحرية في هذا العصر، من خلال مفاهيم (جان بول سارتر) أو غيره، أكّد أنّ الحرية لا تأتي من الخارج وإنّما تأتي من الداخل، فأن تكون حرّاً هو أن تملك إرادتك في داخل كيانك حتى لو كنت في الزنزانة، أمّا إذا كنت لا تملك إرادتك فأنت عبدٌ حتّى لو كنت في رحاب الصحراء، فقضية الحرية ليست قضية جسد يمكن أن يتحرّك كما يشاء أو لا، بل هي قضية إرادة تتصلّب وتقوى وتركز الموقف حتى لو كانت الدنيا تضغط عليها.

لنقرأ هذا النصّ للإمام الصادق (عليه السلام)، يقول أحد أصحابه وهو (أبو بصير): "سمعت أبا عبد الله يقول: إنّ الحرّ حرٌّ في جميع أحواله إن نابته نائبة صبر لها وإن تداكّت ـــ اجتمعت ــــ عليه المصائب لم تكسره، وإن أُسِر وقُهِر واستبدل باليسر عسراً كما كان يوسف الصدّيق ـــ صلوات الله عليه ـــ لم يضرر حريته إن استُعبِد وأُسِر وقُهِر.. ولم تضرر ظلمة الجبّ ووحشته وما ناله أن منّ الله عليه فجعل الجبّار العاتي له عبداً بعد إذ كان له مالكاً فأرسله ورحم به أمّة، وكذلك الصبر يعقبه خير فاصبروا ووطّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا"(1).

لذلك فإذا أردنا ـــ أيّها الأحبّة ـــ أن نربّي الأمّة على الحرية فإنّنا لا نستطيع أن ننجح في هذه التربية إذا لم نربها على الصبر الذي حدّثنا عنه أنّه ليس موقف ضعف ولكنه موقف قوّة، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(2) وهكذا نعرف من خلالها أنّ الصبر قيمة إسلامية مطلقة لأنّه يمثّل تماسك الشخصية وإصرار الإنسان على المبدأ والموقف، ولهذا فإنّنا ننكر على أيّ شخص يقول إنّ الجزع يمكن أن يكون قيمة إيجابية حتى عندما تكون المصيبة فوق المصائب، لأنّ الجزع يعني اختلال التوازن في الموقف، والصبر يعني ثبات الموقف وتوازن الشخصية في مواجهة هذه الأحداث.

مفهوم العزّة:

ويطرح الإمام كذلك مفهوماً سياسياً يتّصل بإنسانية الإنسان وبمسؤوليته، فيقول: "إنّ الله فوّض إلى المؤمن أمره كلّه ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً"(3)، إنّ الله يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(4)، إنّه يؤكّد العزّة في نفسه وفي موقفه وفي سلوكه على أساس أنّها جزء من حركة إيمانك في عمق إنسانيتك، فأن تكون عزيزاً لا تملك الخيار عندما تنفتح على الله، فقد جعلك عزيزاً وأراد لك أن تمارس العزّة في نفسك، ولهذا فإن ما جعله الله لك في حركة إرادتك تماماً كما جعله لك في صلب تكوينك، فكما لا يمكن لك أن تخرج من ذلك لأنّه خروج من ذاتك، كذاك لا يمكن أن تخرج من العزّة لأنها خروجٌ من إيمانك وإنسانيتك.

هذا المفهوم للعزّة الذي يعتبره الإمام (عليه السلام) جزءاً من إيمانك في عمق إنسانيتك، هو من المواقف التي لا بدّ أن نربّي الأمّة عليها على أساس أنّها جزء من الإيمان والتديّن، فمن لا عزّة له لا إيمان له، ومن لا عزّة له لا دين له، إنّه يقول: "إنّ الله فوَّض للمؤمن أمره كلّه"، كُل ما تشاء من حلال، اشرب ما تشاء، إلعب ما تشاء، إلهُ ما تشاء، لكن ليس لك حريّة أن تكون ذليلاً لأنّك بذلك تخرج عن مواقع رضا الله.

فأن ينطلق بعض الناس ليقولوا لنا: لا مانع من أن تنحنوا للاستكبار العالمي وأن تذلّوا له لأنّ السياسة الواقعية تفرض ذلك، ولأنّ الأمر الواقع يفرض ذلك، ولأنّ توازن القوى يفرض ذلك، كما يأتي الكثير ممّن يقولون لنا أعطوا بيدكم إعطاء الذليل لإسرائيل، صالحوها، طبّعوا علاقاتكم معها، حاولوا أن تعيشوا في سلام معها، إنّ ذلك ليس مسموحاً، فليضغط الاستكبار كلّه على كلّ مقدّراتنا لكن يجب أن تبقى نفوسنا عزيزة ترفضه بالفكر والعاطفة أو في الظروف السياسية الصعبة أو الظروف الأمنية الصعبة.

ولو أنّ إسرائيل امتدت كلّ امتداد بفعل الاستكبار الأميركي، فإنّ علينا أن نظلّ الرافضين لها، وأن نبقى في عزّة الإسلام وفي عزّة الإيمان لنرفضها، فإذا لم نستطع أن نهزمها في الحاضر فإنّ حركة الرفض في قلبك وفي عقلك كإنسان حرّ يعيش الحريّة في داخل ذاته ويعيش العزّة في معنى إيمانه سوف تهزمها في المستقبل إنْ عاجلاً أو آجلاً.

المهم ـــ أيّها الأحبّة ـــ أن نعيش العزّة كقيمة أساسية في إنسانيتنا وفي إيماننا، وأن نعيش الحرية كقيمة إنسانية ثابتة في كلّ تكويننا، وأن لا تكون حالة طارئة تتغيّر حسب الظروف، فالذين يتحدّثون عن السياسة الواقعية نقول لهم أن هذه السياسة لا تعني أن تستسلم للأمر الواقع بل تعني أن تغيّر الواقع بأدوات الواقع، لأنّ الله أعطاك الكثير من الوسائل لهذا وذاك.

هذا هو مفهوم الإمام الصادق (عليه السلام) للشخصية الإسلامية الإيمانية في الحريّة التي لا تؤخذ بمرسوم تصدره هذه القوة أو تلك، والعزّة التي لا تأتي هبة من هنا أو هناك، وقد قال الصادق (عليه السلام) فيما استوحاه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "من أراد عزّاً بلا عشيرة وغنى بلا مال وهيبة بلا سلطان فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته"(1)، وقد قال الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) إذا نظر إلى أصحاب الدنيا: "واعصمني من أن أظنّ بذي عدم خساسة أو أظنّ بصاحب ثروة فضلاً فإنّ الشريف من شرّفته طاعتك والعزيز مَن أعزّته عبادتك".

قيمة العمل:

وهناك مفهوم يتّصل بنظرة الإسلام إلى العمل وقيمته عند الله، فهل هي طبيعة العمل وحجمه أم وعي الإنسان العامل لمقام ربّه وثباته في داخل إيمانه أمام ما حرّمه الله، فقد يتصوّر بعض الناس أنّ قضية أن تكون تقيّاً هو أن يكثر عملك، فإذا ضعف عملك وقلّ فأنت لا تتعلّق من التقوى بسبب.

فلقد جاء شخص إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وهو يعيش هذا الضغط النفسي أمام قلّة عمله، وهذا ما يرويه أحد رواة الإمام الصادق (عليه السلام) وهو (المفضّل بن عمر) قال: "كنت عند أبي عبد الله فذكرنا الأعمال فقلت: آه ما أضعف عملي، فقال: مه، إستغفر الله"، أي اكفف ولا تتحدّث بهذه الطريقة عمّا لديك من العمل، فهو ليس في الكمية بل في النوعية لا نوعية العمل فحسب بل نوعية الشخص العامل، فالنوعية الإيمانية التقوائية في شخصية العامل وفي إرادته هي التي تحدّد لك صفة التقوى إذا كانت إيجابية وتحدّد لك اللاتقوى إذا كانت سلبية.

"ثم قال لي: إنّ قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى، قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى؟"(1)، أي أنّنا نفهم التقوى أن يصلّي الإنسان كثيراً وأن يصوم كثيراً ويسبّح كثيراً ويتصدّق كثيراً، ونفهمها عملاً وأنت تحدّثنا أنّه قد يكون الإنسان كثير العمل ولا يكون تقياً فكيف ذاك؟! "قال: نعم، مثل الرجل يطعم طعامه ويرفق بجيرانه ويوطئ رحله فإذا ارتفع له باب من الحرام دخل فيه"، أي أنّه لا يسرق لأنّه لا يستطيع السرقة ولا يزني لأنّه لا يملك ظروف الزنا، ولا يظلم لأنّه لا يملك القوّة لأنّ يظلم الناس، ولكنه عندما يملك الفرصة للحرام فإنّه يدخل الحرام من كلّ باب، فهذا كثير العمل بحيث يصلّي كثيراً ويصوم كثيراً ويحجّ كثيراً ولكنه ليس تقيّاً لأنّ قضية التقوى تتمثّل أن تعيش في داخل عقلك وقلبك رفض الحرام حتى لو كانت كلّ فرص الحرام بين يديك.

فإذا ارتفع له باب من الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى، ويكون الآخر ليس عنده أي عمل كثير فإذا ارتفع له باب من الحرام لم يدخل فيه، أي أنّه يصلّي الفرائض ويعمل الواجبات، وقد لا يعمل المستحبّات، ولكنه رجل يملك قوّة الإرادة أمام الحرام، فإذا انفتحت له أبواب الحرام كان له من ملكة التقوى في نفسه ما يعصمه من الوقوع في الحرام.

فإذاً، أن تكون تقياً أو لا تكون هي مسألة أن تكون لديك عصمة الفكر وعصمة الإرادة في أن تقول "لا" لكلّ حرام وأن تقول "نعم" لكلّ واجب.

المسألة في الإطار الثقافي:

وهناك نقطة مهمّة جداً في طريقة أسلوب تعامل الناس مع بعضهم البعض لأنّهم متنوّعون في الثقافة، فهناك من يملك الثقافة العالية، وهناك من يملك ثقافة متوسطة أو دانية، فربّما يبرأ صاحب المستوى العالي في الثقافة أو في الإيمان من الذي هو أدنى منه ويحتقره ويسقطه باعتبار أنّه يملك الموقع الأعلى في هذا المجال، ولعلّ هذا من الأمور التي نعيشها أو تعيشها كثير من المجتمعات. 

فلقد تحدّث الإمام مع بعض أصحابه حول هذا الموضوع، فعن عبد العزيز القراطيسي، قال: "قال لي أبو عبد الله: يا عبد العزيز إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم يُصعَدُ منه مرقاة بعد مرقاة ـــ أي درجة بعد درجة ـــ فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الثلاثة لستَ على شيء" ـــ أي أنّك لا تفهم ولا ثقافة عندك ـــ حتى ينتهي إلى العاشرة ـــ أي صاحب الثلاثة لا يقول لصاحب الأربعة.. وهكذا، فلا تُسقِط مَن هو دونك فيُسقِطك مَن هو فوقك لأنّك إذا أسقطت من هو أقلّ ثقافة منك، والأقل إيماناً منك فإنّ معنى ذلك اعتزازك بموقعك ودرجتك، في حين أنّ هناك من هو أعلى منك، فهل ترضى أن يسقطك مَن هو أعلى منك لمجرّد أنّه يختلف عنك في الدرجة؟! "وإذا رأيت مَن هو أسفل منك" أي كيف تتعامل مع مَن هو أسفل منك أو أقلّ منك في الثقافة أو في الإيمان "فارفعه إليك برفق" أي حاول أن تدرس عقله لتكلّمه في مستوى عقله، وحاول أن تدرس إحساسه ومشاعره حتى لا تثقل إحساسه ومشاعره، وحاول أن تدرس كلّ ظروفه وكل مفردات ثقافته.. أعطه كلمةً كلمة وفكرةً فكرة.. وحاول أن تكون الكلمة التي تعطيها مشوبة باحترام فكره، أوح إليه أنّه قادر على أن يرتفع إلى درجة أعلى ممّا هو فيه، "ولا تحملنّ عليه ما لا يطيق فتكسره" خاطبه بالكلمات التي يفهمها.. تحدّث معه بالأسلوب الذي يمكن أن يخترق كلّ عقله وقلبه وحاول أن تحترم مشاعره وأحاسيسه ونقاط ضعفه.

"فإنّ مَن كَسَرَ مؤمناً فعليه جبره"(1) أي أن تتحمّل عندما تكسر عقل هذا الإنسان وتكسر قلبه وتكسر موقعه وتكسر ثقته بنفسه، أن تتحمّل مسؤوليته أمام الله الذي يقول لك، كما كسرته حاول أن تجبره وترمّم كل ما كسرته من شخصيته ومن أوضاعه، فأيّ سموٍّ هو هذا السموّ في منهج التعامل الإنسانيّ من خلال تعامل صاحب الدرجة العليا مع صاحب الدرجة السفلى، وأيّ احترام للإنسانية في نقاط ضعفها عندما يتعامل معها من يملك نقاط القوّة.

بين العصبية والالتزام:

وفي نهاية المطاف، يأتي الإمام إلى الداء الذي نعيشه في أكثر مواقعنا وهو العصبية، العصبية للذات والعصبية للعائلة والعصبية للمذهب وللطائفة وللقومية ولغير ذلك، فالعصبية مرض لأنّه يمثّل حالة انغلاق في داخل موقعك ونفسك عن الآخر، وهي أن تلتزم شخصاً فتلغي الآخر دون وعي، والعصبية عمى، وقد يقول قائل إذا كنّا ننكر العصبية فكيف يمكن أن نواجه التزاماتنا فيما نعتقده وفيما نعيشه!!

إنّ ثمّة فرقاً بين العصبية وبين الالتزام، فأن تلتزم هو أن يقتنع عقلك، وأن ينفتح قلبك على الفكرة، كن مع فكرتك بكلّ صلابة ولكن انفتح على الآخر ليحاورك في فكرك ولتحاوره في فكرك، ولا تلغِ الآخر حتى وأنتَ تختلف معه، حتى وأنت تعتقد أنّه على باطل، حاول أن تعيش فكرك بإنسانية، وأن تمارس فكرك بموضوعية، ولهذا قال الإمام الصادق (عليه السلام) في رواية يتحدّث فيها حديثاً مستقلاً، وفي رواية يرويها عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقولهم قول رسول الله:

"مَن تعصّب أو تُعصّب له ـــ أي شجّع الآخرين أن يتعصّبوا له ـــ تعصّباً أعمى، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه"(1)، أي خلع قيد الإيمان والتزامه من عنقه باعتبار أنّه شجع العصبية بقطع النظر عن طبيعة الالتزام والفكرة وما إلى ذلك.

وفي حديث آخر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "مَن تعصَّب عصّبه الله بعصابة من نار"(2) لذلك نقول إنّ علينا أن نبتعد عن العصبية لأنّها هي داء إبليس فقد تعصّب لعنصره عندما قال: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}(3)، وهكذا تمتدّ القضية في كل ما يتمايز به إنسان على إنسان.

أيّها الأحبّة، إنّنا عندما نقف مع الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في ذكرى مولده مع هذه القِيَم الكبرى التي تتّصل بمواقفنا السياسية في إنسانية العمل السياسي والموقف السياسي، وتتّصل بجوانبنا العملية في تقييم العمل، وبجوانبنا الإنسانية في أسلوب التعامل مع الآخرين وأسلوب الحوار مع الآخرين، فحريٌّ بنا كأمّة لها مثل هذه الشخصيات الكبيرة العظيمة التي اغتنت بألطاف الله وبالروحانية التي أفاضها الله عليها وعاشت كل الموقع القيادي والموقف الرساليّ، أمّة لها مثل هذه الرموز هي أمّة لا بدّ أن تكون في مصافّ الأمم الكبرى علماً وورعاً وتقوى وحركة ومنهجاً، ولكنّ مشكلتنا أنّ الإسلام شيء وأن المسلمين شيء آخر، فمتى... متى يكون الإسلام متجسّداً في المسلمين في كل قيمه وفي كلّ مفاهيمه، وفي كلّ إنسانيته، متى.. متى يكون المسلمون صورة للإسلام لنبدأ الخطوة الأولى، فإنّ الإنسان إذا شرع بها في طريق الله فإنّ الله يقول له {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(4).

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

المحاضرة الرابعة والعشرون

28/ ربيع الأول/1418 هـــ (*)

 

وفق الربط بين الدنيا والآخرة:

كيف نخطّط للطريق المستقيم؟

 

"إنّ الطريق طويلة، وإنّ القرآن هدانا في ذلك كلّه، وإنّ نبيّنا هو قدوتنا في ذلك كلّه، وإنّ أهل بيته هم الذين يسلكون بنا السبيل السويّ".

 

حديث القرآن عن القيامة:

في القرآن الكريم يحدّثنا الله سبحانه وتعالى أكثر من حديث عن يوم القيامة وكيف يعيش الناس ذلك الموقف، وكيف يفكّرون عندما يواجهون نتائج أعمالهم، وكيف يبدأون بنقد أنفسهم عندما كانوا في الدنيا، لأنّ نتائج أعمالهم هناك هي التي جعلتهم يواجهون هذا الموقف الصعب في الآخرة، وقد حدّثنا الله تعالى عن ذلك من أجل أن ننتبه في الدنيا إلى مثل هذه الأمور حتى لا نضطر أن نقف في الآخرة هذا الموقف الصعب.

فنجد مثلاً آية تحدّثنا عن أنّ مشكلة الإنسان في النتائج السلبية التي عاشها في الآخرة هي أصدقاؤه، لأنّ أصدقاءه استغلّوا الجوّ العاطفي الذي يحكم علاقة الصديق بصديقه فحاولوا أن يدخلوا إلى عقله ليزرعوا فيه بذرة الفكرة الشريرة، وأن يدخلوا إلى قلبه ليزرعوا فيه بذرة العاطفة الشريرة، ودخلوا إلى حياته ليملؤها بالأعمال الشريرة وبالمواقف الشريرة وليضعوه في المواقع الشريرة ولينحرفوا به عن الخطّ المستقيم في عملية إيحائية بالخطّ المنحرف.

الأصدقاء يوم القيامة:

ولقد حرّك القرآن هذه المسألة بطريقة تصوير موقف الندم الذي يحرق القلب ويهزّ الأعماق، حتى أنّ الإنسان يعضُّ على يديه ويكاد يقطع أصابعه من إحساسه بالندم وينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور، وهذا هو قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ}(1) والظالم هو الظالم لنفسه الذي ظلم نفسه بالكفر إذ اختار الكفر أو ظلم نفسه بالضلال إذا زاغ عن الحق، أو ظلم نفسه بالانحراف إذ ابتعد عن خطّ الاستقامة {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً}(2) يا ليتني سرتُ في الخطّ المستقيم الذي رسمه لي الرسول من خلال ما بلغه من وحي الله الذي قال عن الناس الذين ينالون رحمة الله في يوم القيامة {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(3).

 

{يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} لأنّ الله تعالى ربط بين محبّة الناس له وبين اتباع الناس للرسول {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}(1)، {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} لأنّ الرسول جاء إلى الناس بالحياة الروحية التي تعمّق للناس الإحساس بالحياة المادية لتجعل في المادة فيما تأكل وفيما تشرب وما تتلذّذ، شيئاً من الروح.

الحياة الروحية:

وهذا ما نلاحظه في أنّ الله عندما أرادنا أن نستحلّ الذبيحة أن نذكر اسم الله عليها حتى يشعر الإنسان بأنّه عندما يستحلّ ذبح الحيوان الذي تضجّ الحياة في داخل جسده فإنّه يستحلّه باسم الله ليكون هذا اللحم الذي تأكله من هذا الحيوان مغسولاً باسم الله وبمعنى الله.

وهكذا أرادنا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن نبدأ باسم الله في كلّ شيء وأن نحمد الله على كلّ شيء وأن نسبّح الله في كلّ إحساس بالعظمة، وأن نشكر الله في كلّ إحساس بالنعمة، وأن نأخذ الحول والقوّة من الله عندما نحسّ بالضعف، وهكذا أراد لك الإسلام أن تتحرّك في حياتك المادية من خلال المعنى الروحي، فالأكل فيه شيء من الروح والشرب فيه شيء من الروح وحتى اللّذات الجسدية الأخرى فيها شيء من الروح، فأنتَ يستحبّ لك ـــ رجلاً كنتَ أو امرأة ـــ أن تذكر الله سبحانه وتعالى حتى في ممارسة الجنس، وأن تتحدّث بأنّك إنّما استحللت ما استحللت بكلمة الله وباسم الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}(2) الحياة الروحية التي تنفتح على العلم وعلى الفكر وعلى الأخلاق، والتي تنفتح على خطّ الاستقامة على كلّ شيء في الحياة.

{يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} لأنّ الرسول جائني من قبل الله سبحانه وتعالى بخير الدنيا والآخرة.

لماذا لم تتّخذ سبيلاً مع الرسول والرسول كان بذاته يسير مع الناس ويجلس معهم ولا يترفَّع عليهم "كان فينا كأحدنا" لماذا لم تتّخذ سبيلاً مع الرسول؟!

وإذا كان الرسول قد غاب بشخصه فإنّه لم يغب بقرآنه وبسنّته وبأخلاقه وبسيرته، والله تعالى يحدّثنا عن الرسول كما لو كان حيّاً بيننا فيقول {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(1).

الأخلّاء يومئذ:

{يَا وَيْلَتَى} أي النداء بالويل والثبور وعظائم الأمور {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً} وليتني لم أصادق فلاناً ولم أصاحب فلاناً. وتقول المرأة ليتني لم أتزوّج فلاناً وربّما يقول الرجل ليتني لم أتزوّج فلانة ولم أتبعها لأنّ المخالَلة تشمل ذلك كلّه. ماذا فعل فلان معك عندما اتّخذته صديقاً {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ}(2) أبعدني وضيّعني عن ذكر الله  {بَعْدَ إِذْ جَاءنِي} وعندما ضللت تبرّأ منّي {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً}(3)، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}.

وهكذا نفهم من خلال هذا الموقف في يوم القيامة كيف يطلّ الله بنا من خلال القيامة على حركتنا في الدنيا ليقول حاولوا أن تختاروا أصدقاءكم وأصحابكم وأزواجكم، من خلال الخطّ المستقيم الذي انتميتم إليه لتستعينوا بهم على طاعة الله سبحانه وتعالى، وهذا ما رمى إليه الإمام عليّ (عليه السلام) أيضاً "صاحب أهل الخير تكن منهم وباين أهل الشر تبنْ عنهم"(4).

إذن نفهم من خلال هذا النصّ القرآني أنّ علينا أن لا نعتبر مسألة الصداقة مسألة يفرضها الواقع الاجتماعي من خلال علاقات الناس بعضهم مع البعض الآخر، بل هي مسألة لا بدّ أن يدخل فيها عقلك ليوجّه قلبك، ويدخل فيها قلبك ليوجّه حياتك وحركتك، لأنّ قصة العقل ليست خاضعة للبيئة التي تعيش فيها ولكن للمسؤولية التي أودعها الله سبحانه وتعالى في هذا الإشراق الفكري لتسير من خلاله إلى الله سبحانه وتعالى. وهكذا قلبك، فهو ليس خفقة تنطلق من شيء تشاهده فيعجبك ولكنّه ينطلق من معاناة في دراسة عمق العاطفة حتى تعقّل عاطفتك لأنّ العاطفة الهوجاء التي تعيش في فوضى النظرات والكلمات والأجواء في عاطفة تقتل صاحبها بدلاً من أن تحييه.

الربط بين الدنيا والآخرة:

وعلى ضوء هذا فإذا كنّا نريد أن ننفتح على الموقف الذي نشعر فيه بالطمأنينة في يوم القيامة فعلينا أن نرتّب أمورنا في صداقاتنا الشخصية وصداقاتنا الاجتماعية وصداقاتنا السياسية وصداقاتنا الثقافية، وكل صداقة يمكن أن تترك تأثيرها على عقولنا في خطّ الانحراف والكفر، وعلى قلوبنا في خطّ الانحراف العاطفي، وعلى حياتنا في خطّ الانحراف العملي.

ثم ننتقل إلى كلمة أخرى يقولها بعض الناس في يوم القيامة {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}(1) يُسئلون: لماذا ضللتم؟ فيجيبون: لأنّنا عشنا في مجتمع يحكمه أناس يملكون جاهاً ويملكون مالاً ويملكون نسباً ويملكون موقعاً سياسياً واجتماعياً وما إلى ذلك، أطعناهم كما يطيع المستضعفون المستكبرين، أطعناهم كما يطيع الأغنياء الفقراء وكما يطيع الناس الذين يعيشون بعض نقاط الضعف في شخصيتهم الذين يعيشون نقاط القوّة {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}.

دراسة الموقف الاجتماعي:

وتقول لك هذه الآية أيضاً: فكّر فيما إذا كنت لا تريد أن تقف موقف هؤلاء، فكّر في كلّ هؤلاء الذين يتحرّكون على مواقع المجتمع أو على مواقع السياسة أو على مواقع الأمن والاقتصاد وما إلى ذلك، فكّر في هؤلاء كيف يفكّرون، هل يفكّرون تفكير الحق أو تفكير الباطل، فكّر في هؤلاء كيف يخطّطون؟ هل يخطّطون الخطط التي تؤدّي إلى الله؟ أو يخطّطون الخطط التي تؤدي إلى الشيطان؟ أدرسهم جيداً: ما هي انتماءاتهم السياسية والاجتماعية والثقافية وفي أي محور يدورون، وفي أيّة ساحة يتحرّكون، أدرسهم جيداً، أدرسهم في فكرهم وفي عاطفتهم وفي نقاط ضعفهم وفي نقاط قوّتهم وفي انتماءاتهم وفي مواقعهم، ثم حدّد موقعك منهم وموقفك منهم، فإذا عرفت أنّهم يسيرون بك إلى الحق فكن معهم، وإذا عرفت أنّهم يسيرون بك إلى الباطل فوفّر على نفسك يوم القيامة أن تكون مع أهل الباطل {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}(1) وهذه مسألة ـــ أيّها الأحبّة ـــ تعالج مشكلة ممتدة في كل واقع الناس الذين يخضعون لمظاهر القوّة فيسقطون أمامها وهي أن تعيش المسألة في عقولنا من حيث أنّنا مسؤولون عن حركة هذه العقول فيما تتميّز به من الحسن والقبح.

مشكلة الاستضعاف:

ونقرأ بعد ذلك فيما يقارب هذا الجوّ {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ}(2) لا نملك مالاً يعطينا شيئاً من القوّة ولا نملك جاهاً ولا نملك عضلات أو أدوات القوّة، كنّا مستضعفين وكان هناك المستكبرون الذين يملكون مالاً نحتاجه منهم وكانوا يملكون قوّة تضغط علينا من فوق وكانوا يملكون كلّ الظروف الملائمة التي تحاصرنا في كلّ أوضاعنا فلا تترك لنا مجالاً للحركة في الداخل، فهل قبل الملائكة منهم ذلك؟!، هل تقبل الملائكة الذين يتحدّثون باسم الله لا باسمهم، جواباً كهذا، هل يقبلون منك أن تقول إنّي مستضعف {قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا}  لو أنّكم كنتم لا تملكون حريّة الحركة في أرضكم فهناك أكثر من أرض يمكن أن تمنحكم حرية الحركة، انطلقوا إليها وخذوا بأسباب القوّة منها وعودوا إلى أرضكم أقوياء من أجل أن تسقطوا مواقع المستضعفين بالقوّة الجديدة، إنّ الضعف في الإسلام ليس مبرّراً لك أن تسقط إذا كنت تملك فرصة لأن تكون قوياً لأنّ الله يريدنا أن نكون أقوياء وأن نتخلَّق بأخلاقه {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}(3)، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(4)، {فَأُوْلَـئِكَ}  الذين استضعفوا أنفسهم ولم يبحثوا عن فرص القوّة {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً}، {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}(5)، وترك الله المسألة في موقع الخوف والرجاء {فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً}(6).

 

إدمان الضعف:

هذه صورة وهي موجّهة ـــ أيّها الأحبّة ـــ إلى كلّ المستضعفين الذين يسترخون باستضعافهم ويرتاحون للإحساس بنقاط الضعف، وقد نلاحظ أن بعض الضعفاء أدمنوا ضعفهم حتى أنّهم يخافون أن يصيروا أقوياء، كما أنّ الكثير من الناس أدمنوا الخوف من خلال الضغط على الحرية حتى أنّهم يخافون أن يفكّروا بحرية لأنّهم من خلال هذه الحالة النفسية الخائفة الوجلة قد يتصوّرون أن من صادر حريّتهم قد يطلع على فكرهم ليصادر حرية فكرهم، لذلك أراد الله لنا أن نكون الأقوياء في أنفسنا وعندما قال تعالى {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}(1) فإنّ إيحاءات الآية تعدّ لكلّ هؤلاء المستكبرين والأقوياء قوّة الفكر عندما يحاول الآخرون أن يستضعفوا فكرك، وقوّة الموقف عندما يحتقرون موقفك وقوّة المواجهة عندما يريدون أن يواجهوك، لأنّ الله يريد لعباده المؤمنين العزّة ولا عزّة بدون قوّة {فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}(2) من حيث (إنّ القوّة لله جميعاً) فعزّته منطلقة من موقع قوّة، لذلك يقول سبحانه وتعالى: يا أيها المستضعفون لا تستضعفوا أنفسكم، فكّروا في نقاط القوة عندكم وفكّروا في نقاط الضعف عند المستكبرين فإنّه ليس هناك مخلوق يملك كلّ القوّة وليس هناك مخلوق يملك كلّ الضعف، ذلك أن في الضعيف نقاط قوّة وفي القوي نقاط ضعف فواجهوا الأقوياء في نقاط ضعفهم بنقاط قوّتكم لتكتسبوا في ذلك قوّة جديدةً.

إنّها دعوة للمستضعفين أنّكم إذا عشتم من خلال موقع الاستضعاف وتركتم مبادئكم وكنتم مع مبادئ المستكبرين، وتركتم مواقفكم ووقفتم مواقف المستكبرين وتركتم انتماءاتكم وكنتم مع انتماءات المستكبرين {فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً}(3).

النجاة في الآخرة:

فالقصّة ـــ أيّها الأحبّة ـــ من خلال إيحاءات هذه الآية ليست قصة الدنيا بأن تكون ذليلاً في الدنيا، ولكنّها قصة أن تكون الناجي في الآخرة، وهذا ناتج عن مواقف سلوكك في الدُّنيا التي تمثّل مصيرك هناك.

ثم نقرأ بعد ذلك كما قبول بعض الناس الذين لا يستعجلون التوبة {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}(1) أي لا تيأسوا من رحمة الله إنّ الله غفور رحيم. وأنيبوا إلى ربّكم ـــ ارجعوا إليه وأسلموا له ـــ أسلموا له فكركم وأسلموا له عاطفتكم وأسلموا له حياتكم حتى يكون ربّكم هو الذي يرعى كل ذلك، لتكون حياتكم بعين الله ورعايته وفي خطّه {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}(2) {وَاتَّبِعُوا} فلا تكفي التوبة ولكن عليك أن تتحرّك نحو العمل {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} وهو القرآن {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}(3)، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} توبوا قبل الموقف إذ ماذا يقول الذين لم يتوبوا، ماذا يقول الذين لم ينيبوا إلى ربّهم، ماذا يقول الذين لم يسلموا إلى ربّهم، ماذا يقول الذين لم يتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربّهم {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ}                      من فرص كثيرة في طاعة الله {وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}(4) كنت أسخر من هذا المؤمن وذاك المؤمن وكنت أسخر من هذا الخطّ الإسلامي ومن المجاهدين الذين ينطلقون في خطّ الجهاد، كنت أسخر وأضحك وأقهقه، {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، لأنّ الهداية من الله ولكنّ الله لم يهدنِ فانحرفت عن الخطّ ولو أنّ الله هداني وهو الذي لو أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون {لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} فالمسألة ليست مسألتي إنّما هي مسألة الله، هكذا يحاول الإنسان الإيحاء إلى نفسه {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} لو أنّ الله يرجعني إلى الحياة {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أتقول ذلك {بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي} فإنّ الله لا يهدي بطريقة تكوينية ولكنّ الله يهدي بطريقة إيحائية تتحرّك فيها إرادتك واختيارك عندما يتحرّك عقلك ليدعوك لأن تأخذ بأسباب الهدى التي تقودك إلى النجاة {بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي} وهي وسيلة الهداية {فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ} لأنّك تملك مالاً، واستكبرت لأنّك تملك جاهاً، واستكبرت لأنّك تملك موقعاً ثقافياً وعلماً واستكبرت لأنّك تملك موقعاً سياسياً أو أمنياً أو ما إلى ذلك {وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} فما هي النتيجة {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ} بأقوالهم وأعمالهم {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ}(1) والضلال عند الله مظهر تكبّر لدى المتكبّر الذي يمنعه كبرياؤه من أن ينحني للحقيقة وأن يخضع لله سبحانه وتعالى، كما هو حال إبليس {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ}، {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ} بما فازوا به من أعمالهم الصالحة ومن إيمانهم العميق بمفازتهم {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(2).

إلى الطريق المستقيم:

ـــ أيّها الأحبّة ـــ في القرآن أكثر من مشهد من مشاهد يوم القيامة يقدّمها الله إلينا ونحن في الدنيا، اقرأوا القرآن جيداً، اقرأوا بعقولكم، واقرأوه بقلوبكم، واقرأوه بكلّ حياتكم لأنّ الله جعله نوراً للعقل ونوراً للقلب ونوراً للحياة لذلك لا تعيشوا في ظلمات التخلُّف والجهل.

ـــ أيّها الأحبّة ـــ إنّ المسألة هي أنّ الطريق طويلة وأنّ القرآن هدانا في ذلك كلّه، وأنّ نبيّنا هو قدوتنا في ذلك كلّه، وأنّ الذين عاشوا مع النبيّ وفي خطّه من أهل بيته وأصحابه هم الذين يسلكون بنا السبيل السويّ، ونحن ـــ أيّها الأحبّة ـــ مسؤولون في مرحلتنا هذه أن نحطّط للطريق المستقيم فكراً وعاطفة وحياة ممتدة في كلّ المجالات. نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل وأن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين على أنفسهم إنّه أرحم الراحمين.

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الخامسة والعشرون

5/ ربيع الآخر/1418 هـــ (*)

 

المنهج الإسلامي الأخلاقي.. الحسدُ مثالاً

 

"في المنهج الإسلامي الأخلاقي يريد الإسلام أن يركّز على ذهنية الإنسان المسلم في نظرته إلى الآخر فلا يكون عدوانياً حتى في ذهنيّته".

 

 

 

مفهوم الحسد:

في المنهج الإسلاميّ الأخلاقي، يريد الإسلام أن يركّز على ذهنية الإنسان المسلم في نظرته إلى الآخر، وفي انفتاحه على الآخر بأن لا يكون عدوانياً حتى في ذهنيّته، لأنّ عدوانيته الذهنية تتحوّل غالباً إلى عدوانية في الواقع، فأنتَ عندما تفكّر أمام الآخر بطريقة غير إيجابية فإنّك بذلك تتعامل معه على أساس أن تضعف إنسانيته وأن تواجهه بنظرة العدو إلى العدوّ.

ومن بين هذه الأخلاق السلبية التي حاربها الإسلام واعتبرها خطيرة على إيمان الإنسان من جهة، وخطيرة على المجتمع من جهةٍ ثانية، هي "الحسد"، وقد تحدّث الله عنه في أكثر من آية، كما تحدّث عنه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة من أهل بيته في أكثر من حديث.

والحسد بحسب المصطلح هو أن ينعم الله على أخيك بنعمة فتتمنّى زوالها عنه وانتقالها إليك بحيث تتعقّد من نعمة الله التي ينعم بها على الآخرين وترجو أن يزيلها الله عنه وأن ينقلها إليك.

هذا هو مفهوم الحسد وهو الأخلاقية السلبية، وفي مقابل مفهوم الحسد مفهوم "الغبطة" وهو أن ينعم الله على أخيك وتطلب منه أن يعطيك مثلها مع إبقائها لصاحبها. وهذا يمثّل خطاً أخلاقياً إيجابياً يحبّه الله تعالى.

الحسد في القرآن:

وقبل أن ندخل في تحليل المسألة نقرأ في كتاب الله تعالى بعض الآيات التي تمثّل خطاً تاريخياً لمضمونها القرآني:

يقول سبحانه وتعالى عن أهل الكتاب موضحاً كيف كانوا يحسدون المسلمين: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم}(1)، فهذا اللون من الحسد يتمثّل في هؤلاء الذين يريدون أن يرجع المؤمنون الذين آمنوا بالإسلام إلى الشرك من موقع عقدتهم ضدّ أيّ دين جديد حتى لو كانت كتبهم تقول أنّه الدين الحقّ انطلاقاً من العصبية التي يعيشونها لجماعتهم لتكون الجماعة الوحيدة في ذلك المجتمع المشرك.

فلقد كانوا يودّون أن يرجع المؤمنون المسلمون إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى والحقيقة هي أنّ اليهود والنصارى في مفهومهم الدينيّ ضدّ هذا الشرك الجاهلي الذي كان موجوداً آنذاك، ولكنّ حسدهم للمسلمين الذين أنعم الله عليهم بنعمة الإيمان جعلهم يتمنّون زوال هذه النعمة عنهم بقطع النظر عن أنّها تنتقل إليهم أو لا تنتقل.

{وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء}(1) وهذا مظهر آخر من مظاهر الحسد وهو أن يودّ الحاسد أن تكون مثله في الواقع الشركيّ حتى لا تكون لك ميزة عليه، لأنّ بعض خلفيات الحسد تنطلق من ميزة تمتاز بها على شخص فيريد هذا أو تزول تلك الميزة عنك حتى لا تتفوّق عليه.

حسد أخوة يوسف:

وفي قصّة يوسف مع إخوته {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ*اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ}(2)، وهذا أيضاً مظهر من مظاهر الحسد العدوانيّ باعتبار أنّ يعقوب (عليه السلام) كان يفضّل يوسف وأخاه على بقيّة إخوتهما بسبب صلاحهما وقربهما من الله سبحانه وتعالى، بحيث كانا يعيشان صفاء الإخلاص لله والإخلاص للنّاس ولإخوتهما، بينما يعيش إخوتهما العقدة ضدّهما، وهكذا عرفنا كيف تحوّل هذا الحسد الأخويّ إلى جريمة في حقّ يوسف عندما ألقوه في غيابة الجبّ.

 

 

 

الحسد على الرسالة:

{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ}(1) وهذه الآية كما يذكر المفسّرون نزلت في حقّ الذين كانوا يؤمنون بالحنيفيّة وكانوا يريدون أن يكونوا هم الذين يرسل الله الرسالة إليهم، فلمّا أرسل الله النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) برسالته حسدوه على ذلك.

الحسد بين العلماء:

ويحدّثنا الله كذلك عن حسد أهل العلم عندما يحسدون بعضهم بعضاً فيبغون على بعضهم البعض {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ}(2) فالعلم عندما ينطلق ويعطي لصاحبه ميزة، فإنّ نفسه تكبر وتتضخّم عنده من خلال ما يكبر عمله عنده فيحاول أن ينفرد بموقعه في الناس فيحمله ذلك على أن يحسد الناس الذين يتميّزون بموقع لا يملكه على أساس هذه العقدة النفسية في ذاته.

الحسد الأوّل:

وأول حسدٍ كان هو حسدُ إبليس لآدم (عليه السلام) عندما فضّله الله عليه، ثم كان الحسد الثاني في البشرية حسد "قابيل" لــ "هابيل" {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(3) فنحن نلاحظ في هذه الآيات الكريمة أنّ الله سبحانه وتعالى حدّثنا عن الحسد في صيغته النفسية، وفي حركته العدوانية التي تمثّلت بأكثر من مثل كما في يوسف وإخوته وقابيل وأخيه في العقدة النفسيّة كما تمثّلت في أهل الكتاب وفي المشركين وفي الذين كانوا يتمنّون أن تكون الرسالة فيهم.

ومن خلال ذلك نفهم، أنّ الله سبحانه وتعالى يريد من خلال هذه الإيحاءات القرآنية أن يقول لنا إنّ مشكلة الحسد هي أنّه يخلق في داخل الإنسان عقدة ضدّ الإنسان الآخر بحيث يفصله عن المعنى الإنسانيّ تجاه الآخر، ثم أنّ الحسد يتحوّل عندما يتعاظم في نفس الإنسان إلى حالة عدوانية قد تؤدي إلى قتل الحاسد للمحسود، وقد تؤدي إلى ما يشبه القتل كما في قصّة أبناء يعقوب (عليه السلام).

في أحاديث النبيّ والأئمة:

تعالوا إلى أحاديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) في شأن الحسد، فعن داود الرقيّ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "قال الله عزّ وجلّ لموسى بن عمران لا تحسدنَّ الناس على ما آليتهم من فضلي ولا تمدنّ عينيك إلى ذلك ولا تتبعه نفسك، فإنّ الحاسد ساخط لنعمي صادٌّ لقسمي الذي قسمت بين عبادي ومن يكُ كذلك فلستُ منه وليس منّي"(1).

إنّ هذا الحديث الذي يمثّل نوعاً من الحديث المباشر بين موسى (عليه السلام) وبين الله سبحانه وتعالى يريد أن يقول، إنّ قصة الحسد في الإيمان، هي أنّ الحاسد يعترض على نعمة الله للمحسود، لأنّ الله عندما يعطي إنساناً نعمة فإنّه إنّما يمنحها على أساس حكمته وعلى أساس رحمته وعلى أساس تنظيمه لما يرزق به الناس في الكون، فأنت عندما تعترض على الله في أنّه أنعم على فلان وتتمنّى زوال نعمته عنه فإنّ معنى ذلك أنّك تضادّ الله في ذلك، وتعترض عليه، وتقول في مضمون معنى الحسد في نفسك يا ربِّ إنّك لم تكن حكيماً عندما أعطيت فلاناً، وإنّك لم تكن عادلاً عندما أعطيت فلاناً، لأنّ العدل هو أن تعطيني لا أن تعطيه، ولأنّ الحكمة هي أن تمنحني لا أن تمنحه، وبذلك فإنّ الحسد في عمق خلفيات حسده يقف موقف المضادّ لله سبحانه وتعالى، ولذلك قال الله بحسب الرواية: "الحاسدُ ساخطٌ لنعمي صادٌّ لقسمي".

فمسألة الحسد ترتبط بمسألة الإيمان، وبذلك فقد تكون خلفية الحاسد خلفية كافرة، لأنّ الإنسان الذي يعترض على ربّه ويتهم ربّه بعدم العدل وإن لم يقل ذلك بلسانه ويتّهم ربّه بعدم الحكمة وإن لم يتفوّه بذلك، هو إنسان لا يعرف طعم الإيمان وهذا ما يفسّر الحديث الذي يقول: "إنّ الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب"(1) لأنّك إذا بدأت في الاعتراض على الله في حكمته وفي نعمته وفي رزقه فإنّ معنى ذلك أنك بدأت الخطوة الأولى في طريق الكفر وبدأت السير في خطّ التراجع عن الإيمان، وبذلك يتحوّل الحسدُ أيضاً إلى نارٍ تأكل حسناتك، كما ورد في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"(2) لأنّ الإنسان الحاسد عندما يتحرّك في هذا الخطّ العدوانيّ لربّه كما هو العدوانيّ للإنسان الآخر فأيّة حسنات هي التي يمكن أن يحصل عليها أو ينطلق منها. وهناك حديث آخر عن الحسد عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) ورد في التفرقة بين المنافق وبين المؤمن، قال: "المؤمن يغبط ولا يحسد والمنافق يحسد ولا يغبط"(3).

خلفيّات الحسد:

وبعد هذا العرض لبعض آيات الله وبعض الأحاديث، دعونا نتعرّض لخلفيات الحسد، فلماذا يحسدُ الناس؟ وما هو الأساس في انطلاق الحسد من الإنسان؟

يذكر علماء الأخلاق في ذلك عدّة عناصر:

العنصر الأول: العداوة والبغضاء، فالإنسان الذي يعيش العداوة لأيّ إنسان أو البغض له فإنّه يعيش نفسية تدميريّة تتجّه إلى كل واقع هذا الإنسان ليتمنّى زوال أيّة نعمة، وأيّ خير يمكن أن يعيش في داخله، باعتبار أنّه يتمنّى أن يكون الإنسان الآخر ساقطاً مدمّراً في كلّ شيء، فقد تخلّق العداوة والبغضاء في داخل نفس الإنسان عقدة الحسد ضدّ الإنسان الذي يعاديه وهذا ما نلاحظه في الكثير من حالات العداوة، لأنّ العدو يحمل في داخل شخصيته نفسية التدمير لعدوّه، كما يحاول أن يتحرّك من أجل أن يدمّر عدوّه في الواقع.

العنصر الثاني: التعزّز، أي الشعور بالعزّة والعظمة بحيث يشعر الإنسان أنه وحده الذي ينبغي أن تكون له الكرامة، وهو وحده الذي ينبغي أن تكون له الدرجة العليا والموقع المميّز في المجتمع فيدفعه ذلك إلى أن ينظر إلى الناس الذين يملكون العزّة والمواقع المميزة في المجتمع ليتمنّى سقوطهم عن مواقعهم وزوال نعمتهم عنهم.

العنصر الثالث: (الكبر) فعندما يجد الإنسان نفسه أنّه الأكبر والأعظم والأعلى وليس هناك شخص في موقعه ومرتبته فإنّ ذلك يدفعه إلى أن ينظر إلى كلّ الناس الذين يمثّلون هذه المواقع المتقدّمة في المجتمع ليتمنّى سقوطهم عنها وزوال نعمتهم فيها، وهذا ما نلاحظه في قول بعض المشركين عندما كانوا يستضعفون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويشعرون بالكبر أمامه كما يشعرون بعظمة ذلك الشخص الآخر {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}(1).

العنصر الرابع: (العجب) الذي يقتضي احتقار الآخر والذي قد يدفع صاحبه إلى أن يتمنّى زوال النعمة عن الآخر.

العنصر الخامس: (الخوف من فوت المقاصد التي توصل إلى المقصود) أي قد تكون لدى إنسان مشاريع وأهداف يريد أن يبلغها في الحياة فيرى أنّ الآخرين الذين يملكون مركز قوّة يتصوّرون أنّ مشاريعه يمكن أن تقف ضدّ مشاريعهم، أو يملكون موقعاً اجتماعياً يمكن أن يؤثّر على مشروعهم أو على أطماعهم، فيعيشون عقدة الحسد وروح التدمير لهذا ولغيره.

العنصر السادس: (حبُّ الرئاسة وطلب الجاه) وحبُّ التفرّد الذي يراد منه إزاحة كلّ الآخرين عن الساحة.

العنصر السابع: (خبث النفس) المعقّدة التي تعيش في داخل كيانها رفض الآخر والعقدة ضدّه.

وعلى هذا الأساس فإنّ الحسد ينطلق من حالات إنسانية نفسية سلبية يجمعها شيء واحد وهو عدم الثقة بالله سبحانه وتعالى لأنّك إذا أردت أن يعطيك الله نعمة أعطاها لمثلك فلماذا تتمنّى زوال هذه النعمة، هل أنّ الله سبحانه وتعالى أنعم بهذه النعمة وليس له بديلٌ عنها أو مثيل، فعند ذلك يمكن أن تقول يا ربِّ لماذا أعطيت فلاناً ولم تعطني، وعندها يقول لك إنّي واسع عليم أعطيك وأعطي الآخرين {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي}(1)، {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ}(2) فالله لا يعجزه شيء، فبإمكانك أن تتمنّى أن يعطيك الله مثلما أعطى فلاناً وأحسن ممّا أعطاه دون أن تنتقص من نعمة فلان.

وينقل أنّ هناك أعرابياً جاء إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال اسمح لي أن أدعو الله، قال: ادعُ، قال: "اللّهم اغفر لي ومحمّداً ولا تغفر لأحدٍ معنا" قال له: يا هذا لقد حجّرت واسعاً" فلو كانت المغفرة محدودة في دائرة ضيّقة ولا تتّسع إلاّ لشخص واحد أو اثنين فبإمكانك أن تدعو دعاءً محدوداً ولكن الله يغفر للناس جميعاً، فلماذا تحجر المغفرة في هذه الدائرة الضيّقة.

ومن ناحية إيمانية ونفسية، لماذا تتمنى أن يزيل الله نعمة هذا الإنسان الذي قد تكون النعمة حاجة له في حياته، لماذا تتمنى أن تزول النعمة عنه لتنتقل إليك، والله تعالى قادر على أن يعطيك إياها مع إبقائها لدى الإنسان الآخر لتعيش معه في نعمة الله وفي رحمة الله ما دامت الحياة تتّسع لك وله ولا تضيق عنك وعنه وعن الآخرين.

هذا بالإضافة إلى ما ذكرناه من أنّ الحسد يمثّل حالة سلبية في الإيمان لأنّه يتحوّل إلى نوع من أنواع الاعتراض على حكمة الله وعلى عدل الله ونعمة الله وهذا باب إذا التفت إليه الإنسان كان باب كفرٍ يمكن أن يؤدي في نهاية الأمر إلى الكفر الكبير.

 

علاج الحسد:

إنّ علاج الحسد هو بأن يشعر الإنسان أولاً: بأنّ الله يريد منه أن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها، وقد جعل الله هذا أساس الإيمان، كما جاء في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها"(1)، فعندما تكون مؤمناً حاول أن تفهم إيمانك وحاول أن تحاكم إيمانك وحاول أن تكتشف الأمراض التي في داخل إيمانك، وحاول أن تعالج إيمانك، فإذا انفتحت في إيمانك على الله، فإنّ عليك أن تعرف أنّ الله سبحانه وتعالى وسعت رحمته كلّ شيء وجرت حكمته في كلّ شيء وانفتح عدله على المخلوقات كلّها، ولذلك فإنّ عليك أن لا تناقش شيئاً ممّا أعطاه الله هنا وممّا منعه الله هناك، لأنّه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(2)، ثمّ انطلق بعد ذلك في إيمانك لتعرف أنّ الله أراد منك في معنى الإيمان أن تكون إنسانيتك منفتحة على الإنسان الآخر ليكون عقلك منفتحاً على عقله وقلبك منفتحاً على قلبه وحركتك منفتحة على حركته لتطلب من الله أن تكون معه في النعمة التي يفيضها على الناس كلّهم، وأن تكون معه في طاعة الله والجهاد في سبيله وأن تكون معه يوم يقف الناس بين يدي الله لتدخلا الجنّة معاً، ولتكون الجنّة لك وله، فلا تعيش الحسد هناك ليدخل صاحبك النار وتدخل وحدك الجنّة لأنّ الجنّة هي مظهر رحمة الله، كما أنّ الحياة مظهر رحمة الله وعلينا أن نعيش ذلك.

إنّ الإسلام يقول لك إذا لم تستطع أن تعالج الحسد في داخل نفسك، فحاول أن تجمّد هذا المعنى ليبقى في داخل نفسك ولا يتحوّل إلى حركة عدوانية ضدّ الآخر، وهذا ما ورد به الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما روي عنه، قال: "ثلاث لا ينجو منهنّ أحدٌ: الظنّ والطيرة والحسد، وسأحدّثكم بالمخرج من ذلك: إذا ظننت فلا تحقّق وإذا تطيّرت (تشاءمت) فامض وإذا حسدت فلا تبغ"(1) أي لا تعتدي ولا تحوّل حسدك إلى حركة عدوانية ضدّ الآخر.

ومن خلال ذلك نفهم قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}(2) أي من شرّ بغيه ومن شرّ عدوانه، من خلال أنّ الحسد ينطلق من عقدة تدميريّة ضدّ الآخر.

مناقشة (العين حقّ):

ولقد ورد حديث يقول أنّ (العين حقّ) ويعتقد الناس أنّ عين الحسود تفلق الصخر، وقد تقتل الإنسان، ولا نريد أن ننكر ذلك بالمطلق ولكنّنا ندّعي أنّنا لا نفهم ذلك لسبب بسيط وهو أنّ هذه لو كانت حقيقة بهذه الشمولية التي يعتقدها الناس لكان كلّ ذي نعمة يعيش الدمار في حياته لأنّ "كلّ ذي نعمة تلقاه محسوداً" فإذا كانت العين بطبيعتها تدمّر المحسود فلنوجّه هذه العين إلى إسرائيل وإلى كلّ أعداء الله والإنسانية لأنّه يحاول السيطرة على المنطقة كلّها، فإذا صحّ الحديث فإنّنا نبقيه على إجماله ونردّ علمه إلى أهله، أمّا أن نحوّل ذلك إلى عقيدة بأنّ عين الحاسد يمكن أن تدمّر المحسود أو تقتله أو تربك وضعه، فهذا أمر نجد أنّ التجربة الشاملة في مدى الإنسان لا تدلّ عليه.

إنّنا نعتقد أنّ كل الكلمات التي جاءت لتدعو الناس إلى الابتعاد عن الحسد أراد أن تزيل الحسد من نفوسنا من أجل أن يكون إيماننا إيماناً صافياً مسلّماً لله في حكمته ونعمته ورحمته وأن تكون قلوبنا صافية تجاه الإنسان الآخر الذي أنعم الله عليه لنتمنّى أن يعطينا مثله دون أن يزيلها عنه, وهذا هو معنى الغبطة وهو المعنى الإسلاميّ الأخلاقي الإيجابيّ..

أيّها الأحبّة، علينا أن نعيش هذه الحركة الأخلاقية الداخلية التي نجلس فيها مع أنفسنا لنحاسبها ونحاكمها ونجاهدها لأنّ مثل هذه الأخلاق السلبية تأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب وتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وتحوّل الإنسان إلى شخص لا يعيش إنسانيّته.

لذلك يمكن أن تتحوّل الحياة إلى حياة تدمّر فيها الإنسان الإنسان الآخر من خلال روحية الحسد بدلاً من أن ينفتح الإنسان على الإنسان الآخر ويتعاون معه {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(1)، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(2).

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة السادسة والعشرون

12/ ربيع الآخر/1418 هـــ (*)

 

الإسلام في خطوطه الاجتماعية

 

"أنت مسلمٌ بقدر ما تنفتح بكل طاقاتك لتوظّفها لكلّ الناس من حولك وللمسلمين بشكلٍ خاص، وكلّما كنت ذاتياً أكثر وانعزالياً أكثر، كنت أبعد عن الله أكثر".

 

 

تمثّل الإسلام:

كيف يتمثّل المسلم إسلامه؟ كيف يمكن للمسلم أن يشعر من ناحية ذهنية ومن ناحية عملية أنّه جزء من الأمة؟ كيف يفكّر إذا أراد أن يقدّم لله عملاً يحبّه الله تعالى فيه أكثر ويقرّبه إليه أكثر؟

ربّما يطرح الكثير من الناس أنّ العبادة بمعنى الصلاة والصوم والحجّ هي كلّ شيء ممّا يقرب الإنسان إلى الله، أو ممّا يجعل الإنسان مسلماً في عمق المعنى الإسلاميّ، ولكنّ المسألة ليست بهذه الدرجة من العمق، فالصلاة هي العبادة التي ترتفع بها نفسك إلى الله لتلتقي به في كلّ السموّ الروحي إليه لتنزل بعد ذلك إلى الناس، فأنتَ كلّما ارتفعت إلى الله أكثر انفتحت على الإنسان أكثر، ولهذا فأنت مسلم بقدر ما تنفتح فيه بكلّ طاقاتك لتوظّف طاقاتك لكلّ الناس من حولك وللمسلمين بشكل خاص، وكلّما كنت ذاتياً أكثر وأنانياً أكثر وانعزالياً أكثر، كنت أبعد عن الله أكثر، وأقرب إلى الشيطان أكثر.

وكلّما كنت حيادياً أكثر بحيث تقول "مالي وللناس" لستُ مسؤولاً عنهم وعليّ أن أعيش مع نفسي ومع عائلتي، وليظلم من يظلم وليحتاج من يحتاج فلست مسؤولاً عن الناس، تماماً كما كان يقول أولئك {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}(1) فإذا كنت الحياديّ عن قضايا أمّتك وعن قضايا الناس من حولك، وإذا بخلت بعلمك وبطاقتك وبمالك وبجاهك والناس يتجمّعون في مشاكلهم في هذا الموقع أو ذاك وهم بحاجة إليك فأنتَ لست مسلماً وإن صمت وصلّيت، وليس هذا كلامنا ـــ أيّها الأحبّة ـــ ولكنه كلام رسول الإسلام (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

استنطاق الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

فتعالوا إليه لنسأله، في مؤتمر صحفي، لأنّه يحدّثنا من خلال التأريخ في مشاكلنا كما لو كان يعيش معنا الآن: يا رسول الله إنّ العالم الإسلاميّ يهتزُّ، وإنّ الكثير من المستكبرين يصادرون أمنه لحساب أمنهم وسياسته لحساب سياستهم واقتصاده لحساب اقتصادهم وثقافته على مذبح ثقافتهم، فيا رسول الله ما هو الموقف والمستضعفون يعيشون هذا الاستضعاف بطريقة عسكرية واقتصادية وسياسية وأمنية، ماذا نفعلُ كمسلمين: هل نقف على الحياد؟ هل نبتعد عن ساحة الصراع؟ هل نقول: "اللّهم أعطنا خبزنا كفافَ يومنا ونجّنا من الشرير" ونبتعد عن الساحة؟ هل نجلس في مساجدنا لنبتهل إلى الله أن ينصرنا على القوم الكافرون دون أن نقدّم للنصر شروطه من أنفسنا ومن طاقاتنا ومن كل حياتنا؟

يا رسول الله إنّ الكثير من المسلمين يستغيثون بالمسلمين أن ينقذوهم لأنّهم يعيشون حصاراً يهودياً وحصاراً استكبارياً ويعيشون مشاكل تفتك بكل الواقع من حولهم وينادون المسلمين كلّ المسلمين: أعطونا موقفاً، أعطونا موقعاً، تحرّكوا سياسياً، حاولوا أن تركّزوا مواقفكم اقتصادياً في مواجهة الذين يريدون أن يسقطوا اقتصادكم (يا للمسلمين).

وهناك يا رسول الله الكثير من المسلمين الذين يقولون دائماً: الصلاة عند عليّ أقوم والطعام عند معاوية أدسم والجلوس على التلّ أسلم، فهل تريدنا أن نجلس على التلّ ونصمّ آذاننا عن صرخات المستضعفين وعن آهات المظلومين وما إلى ذلك.

الاهتمام بأمور المسلمين:

هذا سؤال نوجّهه الآن إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنّ الله تعالى أرادنا أن نستنطقه في سنّته كما في كتابه الذي أوحى به إليه.

فعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "من أصبح" وهو يسمع هذه الإذاعة من هنا وتلك الإذاعة من هناك، ويقرأ هذه الصحيفة وتلك، ويرى ما يحلّ بالمسلمين ويقول: "ما لنا وللدخول بين السلاطين" ولا تتحرّك نبضة قلبه شعوراً وإحساساً، ولا يتحرّك عقله في التفكير بخطة في مواجهة الخطّة المعادية، ولا تتحرّك طاقاته لتنضمّ إلى الطاقات التي تقف في الساحة: "مَن أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم".

إنّ الشهادتين هما المدخل إلى الإسلام ولكنك إذا دخلت إلى البيت فهل تبقى تنظر إلى حيطانه وتتجوّل في غرفه أم تدخل إلى البيت لتؤثثه ولترعاه ولتقدّم كل شيء يجعل من هذا البيت بيتاً صالحاً للسكن وصالحاً لاستقبال الناس فيه، والإسلام بيتنا ـــ أيّها الأحبّة ـــ فهو بيتنا الفكريّ ولا بدّ لنا أن نرعى فكره، وهو بيتنا الروحيّ ولا بدّ لنا أن نحمي روحه، وهو بيتنا الواقعي ولا بدّ لنا أن نتحرّك في ساحات الواقع لأجله، وهو بيتنا في مدى الزمن عندما نحاول أن نركّز الحاضر لنبني المستقبل من خلاله.

مسؤوليتك كمسلم:

ولذلك فأن تكون مسلماً يقتضي أن يتفاعل قلبك وعقلك وكل طاقاتك مع المسلمين لتهتم بأمورهم اهتماماً فكرياً فيما يمكن أن يقدّمه عقلك، واهتماماً عاطفياً فيما ينفتح عليه قلبك، واهتماماً حركياً فيما تتحرّك به طاقاتك: "مَن أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم".

فكِّر كمسلم في كلّ خطّة يمكن أنْ تقدّم حلاً لمشكلة، لا تقل إنّ التفكير هو مهمة الذين يقودون، فالقادة يحتاجون إلى كلّ فكرك ليصوّب فكرهم وليمنحهم كل مفردات الواقع لأنّ القادة قد يعيشون في داخل موقع معيّن لا يعيشون فيه تجربة الواقع كلّه، لذلك إذا لم تقدّم أنتَ فكراً وأقدّم أنا فكراً وتطلّع القيادة على خبرة هنا وعلى موقع هنا وعلى مشكلة هناك، فكيف يمكن للقائد أن يصنع خطّته، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}(1)، فذلك خطّ الإسلام وخطّ الشورى في حركة المجتمع الإسلاميّ، فحتى القادة لا بدّ لها أن تستشير الناس لتعرف كيف يكون وضوح الرأي عندها، ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(2) ليس بحاجة إلى مشورة أحد لأنّ الله أضاء عقله وأضاء قلبه، وأطلعه على كلّ مواقع النور في الحياة، لكنّ الله خاطبه قائلاً:

{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}، فعلينا أن لا ننتظر أن يستشيرنا من يجب أن نشير عليه، بل يجب أن نقدّم له المشورة حتى نستطيع أن نتكامل معه.

 إذاً، مَنْ أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، إنّه بمثابة العضو الأشلّ، الذي لا يتفاعل مع أعضاء الجسد، فهو مربوط بالجسد شكلياً ولكنّه ليس من الجسد حركياً وحياتياً.

 

 

"يا للمسلمين":

"ومن سمع رجلاً" وهذه نقطة مهمة جداً وخطرة جداً "ينادي يا للمسلمين" أغيثوني "يا للمسلمين" أعينوني "يا للمسلمين" حلّو لي مشكلتي "فلم يجبه فليس بمسلم"، فأن تكون مسلماً يتطلّب ذلك أن تتفاعل مع قضايا المسلمين أفراداً وجماعات وأن تكون الذي يستجيب لاستغاثات المسلمين أفراداً وجماعات.

نفهم من هذا أنّك لا يمكن أن تكون مسلماً وفردياً في آن معاً، فأن تكون مسلماً يعني أنّك لا بدّ أن تكون اجتماعياً بحيث تعيش الشخصية الاجتماعية في داخل عقلك لتعطيها شخصيتك الفردية ما عندها من فكر وطاقة، فأنت في الحياة ذو شخصيتين: شخصيتك التي بها تأكل وتشرب وترتاح وتتعب وتفكّر، وشخصيتك التي تمارس فيها الحياة، وهي الشخصية الاجتماعية، وأنت فرد في ذاتيّاتك، وأنتَ جزء من مجتمع وجزء من أُمّة، وعلى الجزء أن يتكامل مع الكلّ "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر".

النفع لعيال الله:

ثم تعالوا لنسأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): مَن هو العابد؟ ومن هو أكثر الناس عبادة: هل هو الذي يقضي ليله ونهاره بالصلاة والصوم؟ القصة هنا كما هي هناك.. إنّها قصّة المجتمع وعلاقتك بالمجتمع. يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما يرويه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): "أنسك الناس نسكاً" أي أعبدُ الناس عبادة، لأنّ الناسك هو العابد الذي يقوم بالطاعات والقربات "أنصحهم جيباً للمسلمين"(1) والجيب ـــ في هذا المقام ـــ يعني الصدر، فهذه تعدّ من أفضل العبادات.

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو هنا لا يتحدّث عن المسلمين فحسب "الخلق كلّهم" والتفتوا إلى كلمة "كلّهم" حتى تعرّفوا البعد الإنساني للإسلام وأنّ المسلم لا يفكّر فقط في المسلم ولكنه عندما يريد أن يفجّر طاقاته فإنّه يفكّر في الناس جميعاً حتى يستطيع أن ينفتح عليهم ليكون انفتاحه عليهم وسيلة من وسائل هدايتهم، لأنّنا ذكرنا أكثر من مرة أنّ أقرب طريق إلى عقل الإنسان قلبه، اربح قلبه فإنّك تشقّ الطريق بذلك إلى عقله، ومشكلة بعض الناس أنّهم يغلقون قلوب الناس عليهم ويحاولون أن يفتحوا عقول الناس على فكرهم، ومن الصعب أن ينفتح العقل من غير طريق القلب.

"الخلق كلّهم عيال الله فأحبُّ الخلق إلى الله مَن نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سروراً"(1)، أن تقدّم طاقاتك لكلّ من يحتاجها سواء كانت طاقات علم أو مال أو قوّة أو جاه أو ما أشبه ذلك، لينتفع بها الناس، وأن تعطي الفرح للناس "وأدخل على أهل بيت سروراً" فكلّما أعطيت الناس الفرح ليبتسم الإنسان الذي لا يملك البسمة ولينفتح الإنسان الذي لا يملك الانفتاح، وليعيش الإنسان الأمل إذا كان يتحرّك في أجواء اليأس، أدخل عليه السرور لتكون أحبّ الخلق إلى الله.

وقد قالها عليٌّ (عليه السلام) لصاحبه كميل "يا كميل مُرْ أهلك يروحوا في كسب المكارم ويدلجوا ـــ والادلاج هو المشي في اللّيل ـــ في حاجة من هو نائم، فوالذي وسع سمعه الأصوات ما من امرءٍ أدخل على قلب سروراً إلاّ وخلق الله له من ذلك السرور لطفاً، فإذا نابته نائبة جرى إليها كالسيل في انحداره فيطردها كما تطرد غريبة الإبل(2) في الدنيا قبل الآخرة"، فعندما تمنح الفرح للناس يتحوّل إلى لطف يمنحك الفرح في حلّ كلّ مشاكلك، وإذا وفدت على الله فهناك محبّة الله ورضوانه.

أحبّ الناس إلى الله:

وهكذا ـــ أيّها الأحبّة ـــ نقرأ عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) كما ينقل ذلك سيف بن عميرة، قال: "حدّثني من سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: سئل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مَن أحبّ الناس لله، فقال: أنفع الناس للناس"(3)، ولاحظوا كلمة الناس، فلم يقل أنفع الناس للمسلمين، لأنّ الله يريد للمسلم أن يكون كالشمس تطلع على البرّ والفاجر، فلقد قالها عليّ بن الحسين (عليه السلام): "افعل الخير مع أهله ومع غير أهله فإن لم يكن من أهله فأنتَ من أهله"(1)، كن كالينبوع يتفجّر على الأرض سواء كانت خصبة أو غير خصبة، وكن كالشمس تطلع على البرّ والفاجر، فهذه هي المسألة التي يريد الإسلام للمسلم أن يتمثّلها.

وعن عليّ بن الحسين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "من ردّ عن قوم من المسلمين عاديةً ماء" كما لو حصل فيضان أو ما أشبه ذلك، "أو نار وجبت له الجنّة"(2) لأنّ الجنّة عند الله سبحانه وتعالى موجودة في الطرقات، ومهمّتنا أن نلملمها، فلقد جعل الله مفردات الجنّة ووسائلها حيث ينطلق الإنسان في الحياة الاجتماعية ليرتفع مستواه وليحلّ مشكلته وليقضي حاجته.

وعن الصادق (عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ في حديث عيسى "وجعلني مباركاً أينما كنت" فما معنى البركة هنا؟ هل معناها أن يمسح على رؤوس الناس كما يفعل البعض ليعطيهم البركة، إنّ معناها أن تكون: "نفّاعاً للناس"(3) أي كلّما كنت نفّاعاً للناس أكثر كنت المبارك أكثر.

قولوا للناس حسناً:

وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}(4) أي قولوا لهم أحسن ما تحبّون أن يقال لكم، فماذا تحبّ أن يتحدّث الناس عنك، وما هي الكلمات التي تحبّ للناس أن يخاطبوك بها، وما هي الأساليب التي تحبّ للناس أن يتعاملوا معك بلحاظها؟ فافعل للناس كما تحبّ أن يفعلوا معك.

ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) في استيحاء هذه الآية قال: "قولوا للناس أحسن ما تحبّون أن يقال فيكم"(5)، والنبع واحد والطريق واحد.

أيّها الأحبّة: من خلال هذه الأحاديث الإسلامية النورانية التي انطلقت من قلب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن قلب الأئمة من أهل البيت الذين قولهم قوله وفعلهم فعله وحياتهم حياته، لأنّهم ينطلقون منه في كل شيء، هذه الكلمات تعطينا مفهوم أن تكون مسلماً يعني أن تكون الإنسان الذي يقف في ساحة الصراع التي تلتهب والتي تتحدّى والتي تحرّك الأخطار ليكون جزءاً من الساحة يعطيها علمه عندما تحتاج إلى علمه ويعطيها قلبه عندما تحتاج إلى نبضة قلبه ويعطيها حركته عندما تحتاج إلى حركته. أن يكون الإنسان الذي يعيش حالة طوارئ في المجتمع باحثاً عن الإنسان الذي يعيش مشكلة ليحلّها لها، والإنسان الذي يعيش حاجة ليقضيها له، والإنسان الذي يعيش كرباً ليكشف كربته.

مسؤوليتنا إغناء الحياة:

أيّها الأخوة، كلّما كنت مسلماً أكثر كلّما كنت عنصر حياة تغني الحياة والإنسان وترفع مستواه أكثر، عند ذلك ترتفع إلى الله لأنّ الله تعالى يحبّ الذين يحبّون عباده وينصحونهم وقد جاء في الحديث "عليك بالنصح لله في خلقه فلن تلقاهُ بعمل أفضل منه".

هذا هو الإسلام في خطوطه الاجتماعية وهذا هو الإسلام في خطّ أهل البيت (عليهم السلام) وهو ليس مجرّد دمعة، وليس مجرّد صرخة وليس مجرّد نبضة قلب ولكنّه ذلك كلّه مع كلّ هذه الحركية الإنسانية الاجتماعية التي تنفتح بالخير على الإنسان كلّه وعلى المجتمع كلّه.

كن الإنسان الذي يعيش إنسانيّته مع الناس جميعاً لتُفتَح لك عقول الناس جميعاً وقلوب الناس جميعاً، وعند ذلك تعرف الطريق إلى أن تتحرّك نحو هذا العقل وذاك القلب لتزرع فيه الهداية من خلال المحبّة والإنسانية {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(1).

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 المحاضرة السابعة والعشرون

19/ ربيع الآخر/1418 هـــ (*)

 

في العلاقة مع الآخر

إنصاف الناس

 

"يريد الإسلام أن لا يفرض العدل على الإنسان من خارج، بل أن يتحرّك من داخل، بأن يعدل عقلك وقلبك ويداك وحركتك مع الآخرين".

 

 

المنهج الأخلاقي الإسلامي:

في قاعدة الأخلاق الإسلامية أنّ الإسلام يعطي اهتماماً كبيراً في معنى الإيمان في العمق في العلاقة مع الآخر، فليست القضية فقط أن تعيش إيمانك، ولكن كيف يكون تعاملك مع الآخر، عندما تكون هناك مشكلة حقّ بينك وبينه، أو مشكلة قضايا تتعلّق بك وبه.

لقد طرح الإسلام مسألة العدل واعتبره أساساً في عمق الدين، فالدين هو انطلاقة عدل ليقوم الناس بالقسط، وقصة العدل لابدّ أن تعيش في داخل نفسك في نظرتك إلى الآخر في كل شيء يتّصل بك وبه من الناحية الشعورية والناحية الفكرية والناحية العملية.

وهذا هو الذي عقد له صاحب "الكافي" باباً تحت عنوان "الإنصاف والعدل" والسؤال هنا: كيف تكون عادلاً في نفسك في انفتاحك على الآخر؟ هو بأن تنصف الآخر من نفسك، وأن تكون المنصف الذي يفرض الإنصاف على نفسه في الفكر والعاطفة والحركة قبل أن يفرضها عليه الآخرون، ولذلك يريد الإسلام من الإنسان أن لا يفرض عليه العدل من خارج، بل أن يتحرّك من داخل، بأن يعدل عقلك ويعدل قلبك وتعدل يداك، وأن تعدل حركتك في كل درب تسير فيه مع الآخرين. هذه هي الفكرة، وهي أن تحاكم نفسك فيما للآخر من حقّ عليك، وأن تحاكمها في التدقيق فيما تعتبره من حقّ لك على الآخر، وأن لا تستعجل في أن تحكم بالحق لحسابك قبل أن تدقّق في أسس هذا الحق، كما أنّ عليك في الوقت نفسه أن تعرف ما هو حقّ الآخر عليك، وكيف يمكنك أن تعطيه حقّه.

على المائدة النبوية الإمامية:

تعالوا ـــ أيّها الأحبّة ـــ إلى هذه المائدة النبويّة الإماميّة التي نتغذّى منها بالأخلاق الإسلامية، حتى نستطيع من خلال ذلك أن نرتفع بإنسانيتنا في مجتمعنا ليكون مجتمعاً إنسانياً في أخلاقه وأن نكشف للإنسان الآخر، أنّك بمقدار ما تكون مسلماً أكثر، بمقدار ما تكون إنساناً أكثر، وبمقدار ما تكون إنساناً أكثر فإنّك تنفتح على قِيَم الإسلام أكثر.

فلنقرأ بعض ما جاءنا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو عندما يحدّثنا فإنّه لا يقتصر على مفردة أخلاقية، ولكنّه يضمّ المفردات بعضها إلى بعض حتى يعطي الإنسان شخصية متكاملة تنفتح على القِيَم الإسلامية في كل جانب من جوانبها.

يروي أبو حمزة الثمالي عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) أنّه قال: " كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول في آخر خطبته طوبى لمن طاب خلُقه" أي كان خلقه الطيب كلّه بحيث يتنفّس الناس الطيب والطِيبة من أخلاقه "وطهرت سجيّته" أي كانت طبيعته فيما يبني عليه نفس الطهر، فلا قذارة في كلّ ما ترتكز عليه طبيعته وسجيّته.

"وصلحت سريرته" والسريرة هي السرّ، أي تصلح ما تسرّه في نفسك وذلك بأن لا تحمل في نفسك للنّاس إلاّ كلّ صلاح وكلّ خير، "وحسنت علانيته" بأن يكون ظاهرك عندما تتعامل مع الناس وعندما تتحرّك معهم وتتعايش معهم حسناً تماماً كما هي سريرتك.

"فأنفق الفضل من ماله" لأنّ ما يفضل من مالك جعل الله تعالى فيه حقاً لغيرك {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}(1)، "وأمسك الفضل من قوله" وأما فضول القول فهو الذي لا ينفعك ولا ينفع الناس بل ربّما يضرّك.

إنصاف الناس:

ومحلّ الشاهد هو هذه الكلمة "وأنصف الناس من نفسه"(2) ولعلّ الكلمة الأخيرة هي نتاج الكلمات السابقة، فإذا كان الإنسان طيّب الخلق طاهر السريرة صالح العلانية، يعطي من ماله ويمسك عن الناس الفضول، فمن الطبيعي أن تكون روحيته مع الناس روحية الإنسان الذي لا يظلم الناس عندما يكون لهم حقّ عليه سواء كان حقاً في الكلمة أو في الموقع أو في الموقف.

وكلمة أخرى، فلقد جاء إعرابي إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يهمّ بالسير إلى بعض غزواته، فأخذ بغرز (بركاب) راحلته، ومن هنا نعرف كيف كان الناس يتعاملون مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من خلال ما انفتح عليهم بكلّ بساطة وكل عفوية فلا يتحدّثون معه بالرسميّات ولا يتكلّفون الكلمة أو الحركة معه "كان فينا كأحدنا" ولكنّهم عندما تجاوزوا الحدّ أنزل الله تعالى {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً}(1)، ولكنّهم كانوا كذلك ولم يكن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يرى مشكلة في ذلك، فلاحظوا كيف تحدّث هذا مع النبيّ وكيف تحدّث معه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في نهاية المطاف.

"فقال يا رسول الله: علّمني عملاً أدخل به الجنّة، فقال: ما أحببت أن يأتيه الناس إليك فأته إليهم" فماذا تنتظر وماذا تحبّ من الناس في التعامل معك في كل علاقتهم بك فافعله معهم، "وما كرهت أن يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم، خلِّ سبيل الراحلة"(2).

فلاحظوا كيف هي العفوية المنطلقة من هذا الرجل في خطابه للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكيف هي العفوية في حديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) معه، وقيمة هذا الحديث أنّه يقول لهذا الرجل إنّ هذا العمل وهذه الروحية وهذا السلوك الإنساني مع الآخرين يمثّل أحد الدروب التي تسلك بك إلى الجنّة، ونحن نعرف أنّ جائزة الجنّة كبيرة فعلينا أن نتحمّل كلّ الحساسيات المضادّة التي تمنعنا من أن ننفتح على الآخرين لنفكّر فيهم كما نفكّر في أنفسنا.

ثلاث خصال:

وهناك حديث آخر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يرويه الإمام محمد الباقر (عليه السلام) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "ثلاث خصال من كنّ فيه أو واحدة منها كان في ظلّ عرش الله يوم لا ظلَّ إلاّ ظلّه، رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم"(3) أي أعطاهم من المشاعر ومن المواقف ومن المعاملة ما يطلب أن يعطوه مثله عندما يكون الحقّ له.

"ورجل لم يقدم رِجْلاً ولم يؤخّر رِجْلاً حتى يعلم أنّ ذلك لله رضا" بحيث يكون كل سلوكه خارجاً من دائرة ذاته ومن انطلاقات شهواته وفق كلّ ما يتحدّث به من حوله، وذلك بأن تعتبر نفسك عبداً لله وأنّ الله يراقبك وأنّه يحاسبك، فإذا جاءك الناس وأرادوا منك أن تقدم رجلاً في مشروع معيّن أو في موقف معيّن قائلين: سرّ معنا يا فلان، ففكّر قبل أن تأخذ بما يقوله الناس فيما هو موقع رضا الله في هذه الدرب التي تسير فيها، سواء كانت درباً اجتماعياً يراد لك أن تقوم فيها بعمل اجتماعي، أو درباً اقتصادياً يراد لك أن تعيش فيها على أساس معاملة اقتصادية، أو درباً سياسياً تريد من خلاله أن تتّخذ موقفاً سياسياً، أو درباً حربياً أو سلمياً، فلا بدّ أن تقدِّم رجلاً في الطريق التي تعرف أنّها تسير بك إلى مواقع رضا الله.

وإذا أراد الناس لك أن تنسحب من موقف، وأن تتراجع عن مشروع معيّن فحاول أن تدرس هل أنّ الله يرضى بذلك، هل يريدك أن تقف حيث أنت أو أن تتقدّم، فإذا أراد لك أن تتقدّم فإنّ عليك أن لا تتراجع بعد أن تكون قد عرفت أنّ غضب الله في تراجعك.

"ورجلٌ لم يعب أخاه المسلم بعيب حتى ينفي ذلك العيب عن نفسه" فإذا أردت أن تعيب الناس فخذ حريّتك شريطة أنك إذا كنت تريد أن تعيب الناس بعيب فلا تعبهم به إلاّ بعد أن تحرز من نفسك أنك سالم منه أو من عيب مماثل، فإذا كنت معصوماً من العيوب فتحدّث في عيوب الناس وواجههم بعيوبهم، أمّا إذا كانت عندك نفس العيوب أو كانت لك عيوب مماثلة فلماذا تشغل نفسك بعيوب الناس قبل أن تشغل نفسك بتطهير نفسك من كلّ هذه العيوب.

"فإنّه لا ينفي منها عيباً إلاّ بدا له عيب وكفى بالمرء شغلاً بنفسه عن الناس".

أربع كلمات:

ونبقى في هذا الجوّ لنزداد تعمّقاً في هذا المفهوم "إنصاف الناس من نفسك" ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في شأن آدم وهو في الأرض، قال: "أوحى الله عزّ وجلّ إلى آدم إنّي سأجمع لك الكلام في أربع كلمات" أي أربع عناوين "قال: يا ربّ وما هنّ؟ قال: واحدة لي وواحدة لك وواحدة فيما بيني وبينك وواحدة فيما بينك وبين الناس"(1) لأنّ علاقات الإنسان تتوزّع بين علاقته بالله في حقّه المطلق عليه، ولديه علاقة أخرى فيما بينه وبين الله فيما جعل له من حق وفيما لله عليه من حق، وهناك علاقة بينه وبين الناس.

"قال: يا رب بيّنهنّ لي حتى أعلمهن؟ قال: أمّا التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً" فهذا هو حقّ الله المطلق على العباد في أن توحّده في فكرك وتوحِّده في عقلك فلا يكون فيه إلاّ الله، وأن توحّده في قلبك فلا ينفتح قلبك بالحبّ إلاّ لله، أما غير الله من أنبياء وأولياء فإنّهم يدخلون قلبك من طريق الله، وأن تكون موحّداً لله في الطاعة والعبادة فلا تعبد غير الله ولا تطع غير الله.

"وأمّا التي لك: فأجزيك بعملك أحوج ما تكون إليه" ففي يوم القيامة {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ}(1)، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ*وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}(2)، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}(3)، في ذلك الوقت أجزيك، وأنتَ الفقير المحتاج إلى أيّ شي، بنتائج عملك {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}(4)، {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}(5)، و{أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى}(6).

"وأمّا التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعليّ الإجابة" {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(7).

"وأما التي بينك وبين الناس" وهنا محلّ الشاهد "فترضى للناس ما ترضى لنفسك وتكره لهم ما تكره لها" وهو معنى أن تنصف الناس من نفسك.

أشد الفروض:

وللإمام الصادق (عليه السلام) كلمة في هذا المجال، حيث يقول أحد أصحابه وهو "الحسن البزّاز" قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) "ألا أخبرك بأشدّ ما فرض الله على خلقه (ثلاث) قلت: بل، قال: إنصاف الناس من نفسك"(8) فهذا ممّا فرضه الله على الخلق وهو من أصعب الأمور على النفس، لأنّ الإنسان عادة يعيش الأنانية فهو يحبّ للناس أن يعطوه ولا يحبّ لنفسه أن يعطي الناس لاسيّما إذا كان الذي يريد أن يعطيه للناس من حق الناس عليه الذي قد يؤذي عنفوانه وقد يسيء إلى ماله، فمن أصعب الأمور أن ينصف الإنسان الناس من نفسه، فنحن نطلب من الناس الكثير، ولكن هل فكّرنا أو نفكّر فيما نقدّمه للناس من هذا وغيره، إنّنا دائماً نفكّر بأن نأخذ ولا نفكّر بأن نعطي، لذلك فإنّ عليك عندما تفكّر بعلاقتك مع الناس وفي أن تأخذ من الناس شيئاً، أن تفكّر فيما تعطي للناس في قباله، فالقمة في هذه الروحية هو الإمام زين العابدين (عليه السلام) عندما كان يقول وهو ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "ما أحبُّ أن أخذ برسول الله ما لا أعطي مثله" فعندما أريد للناس أن يعظّموني ويكرّموني ويحترموني لأنّي أنتسب إلى هذا النسب العظيم فعليَّ أن أقدم من عملي ومن مالي ومن جهدي ومن كل مشاعري ما يقابل ذلك.

"ومواساتك أخاك" في المال وعندما يحتاج إليك أن تقدم له من نفسك ما يلبّي حاجاته حتى لو لم يسألك، وهذه من أصعب الأمور على الإنسان لأنّه بخيل بطبعه، فهو يفكّر فيما أعطاه الله من مال بالفقر فيما لو أنفق منه، وهذا ما تحدّث به أولئك الذين كانوا يقولون {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}(1) وما ذاك إلاّ لأنّ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً}(2).

ثم قال "وذكر الله في كل موطن" وربما يقول قائل: ما هي المشكلة في ذكر الله، فما عليك إلاّ أن تمسك المسبحة وأن تقول ألف مرة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، فكيف يكون ذلك من أشدّ ما افترض الله علينا، بينما يقول (عليه السلام) (أمّا إنّي لا أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر) فذكر الله ليس ذكر اللسان ولكنّه ذكر العقل والقلب والموقف "وإن كان هذا من ذاك" فهو ذكر أيضاً (ولكن ذكر الله عزّ وجلّ في كل موطن إذا هممت على طاعة أو على معصية)(3) فإذا وقفت أمام الطاعة وقالت لك نفسك أخِّرها، أهملها، اقضها، فاذكر ربّك واذكر ما ينتظرك من ثواب الطاعة عند ربكّ وما تخسره من هذا الثواب إذا لم تطعه. وعندما تواجه المعصية وكانت كلّ الظروف مهيّئة لك، فاذكر الله، اذكره بكلّ كيانك ليمنعك ذكره عن أن تتهاون في مواقع طاعته أو أن تتهاون في مواقع معصيته.

أقرب الخلق إلى الله:

ونختم الحديث بقول الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله عزّ وجلّ يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب" ومَن منّا ـــ أيّها الأحبّة ـــ لا يحبّ أن يكون أقرب الخلق إلى الله، ونحن دائماً نصلّي ونقول: قربة إلى الله، نصوم قربة إلى الله، ونحجّ قربة إلى الله، فنحن نعيش هذه التربية الروحية في نيّة العبادة بأن نتقرّب بها إلى الله ليقرّبنا الله تعالى إليه، وهذه الخصال الثلاث لا تقرّبنا إلى الله فحسب بل تجعلنا أقرب الخلق إليه.

"رجل لم تدعُه قدرته في حال غضبه إلى أن يحيف على من تحت يده" فأنت تملك القوّة في بيتك، وزوجتك تحت يدك حسب ميزان القوى بين الرجل والمرأة في مجتمعاتنا، وقد تغضب عليها أو قد تأتي غاضباً من الناس وتدخل بيتك فتحاول أن تفجّر غضبك على من تحت يدك، أي على زوجتك وأولادك وعلى الضعاف من جيرانك، أو أن تكون صاحب سلطة وتحاول أن تفجّر غضبك على مَن هم تحت سلطتك أو صاحب عمل أو تجارة، وتحاول أن تستغلّ قدرتك على العمّال الذين تحت يدك أو الموظفين الذين تحت يدك لتتعسّف في التعامل معهم وتحاول أن تثور عليهم، فإذا استطعت أن تمسك نفسك فتذكّر ربّك عند غضبك وتذكر حقّ الناس عليك في أن لا تجور عليهم حتى لو كانوا في موقع الضعف وأنتَ في موقع القوّة، عند ذلك تكون من أقرب الناس إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن دون ذلك خرط القتاد {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}(1).

"ورجلٌ مشى بين اثنين" مصلحاً أو حاكماً "فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة" حتّى لو كان أحدهما قريباً إليك والآخر عدواً لك {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}(2)، {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(3).

والثالث "ورجل قال الحقّ فيما له وفيما عليه"(1) فإذا كان الحق لك فقله لا من موقع أنّه لك ولكن من موقع أنّه الحق، وإذا كان الحقُّ لغيرك فقله لتكون لك شجاعة إيمانك في الاعتراف بحقّ غيرك، والإيمان ـــ أيّها الأحبّة ـــ هو بطولة وشجاعة عندما تستطيع أن تجاهد نفسك لحساب ربّك وذلك هو الجهاد الأكبر، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}(2).

أيّها الأحبة: علينا أن نربّي عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا وجوارحنا على المعاني الإنسانية التي تحمي إنسانيّتنا وتجعل الحياة عندنا جنّة مصغّرة على الأرض، فإنّ أهل الجنّة هم الذين يعيشون الصفاء والتصافي {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}(3) فلا يحقد أحدهم على الآخر بل ينفتحون على بعضهم البعض، فلماذا لا نجرّب أن نجعل بعض مجتمعاتنا وبعض أرضنا جنّة ولو بنسبة 1% لأنّنا كما نتدرّب على الهندسة ونتدرّب على التجارة ونتدرّب على الحرب لنتدرّب أيضاً على العيش في الجنّة! أما عندما نموت وقلوبنا مملؤة بالحقد، وعندما نلاقي الله وكلّ حياتنا تتحرّك في الظلم فكيف يمكن لنا أن ندخل الجنّة.

فرّغ قلبك من كلّ حقد، فرّغ حياتك من كلّ ظلم، فرّغ نفسك من كل ما يسيء إلى عباد الله، عند ذلك تكون من أهل الجنّة بحيث تعيش في الدنيا السعادة الروحية التي يعيشها أهل الجنة ولكن في جنّة الدنيا قبل جنّة الآخرة.

والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثامنة والعشرون

26/ ربيع الآخر/1418 هـــ (*)

 

الوجهُ السلبيُّ في العلاقة مع الآخر

 

"أن تكون مسلماً يعني أن تكون الإنسان الذي يعطي الإنسان الآخر فرداً كان أو مجتمعاً القيمة التي يحسُّ فيها بإنسانيته".

 

 

 

 

في العلاقة مع الآخر:

كنّا نتحدث فيما مضى حول تعامل الإنسان المسلم مع الآخر، كيف ينظر إليه وكيف يتعامل معه لأنّ مسألة أن تكون مسلماً هي أن تكون الإنسان الذي يعطي الإنسان الآخر فرداً كان أو مجتمعاً القيمة التي يحسُّ فيها بإنسانيته عندما تنفتح عليه من أجل أن تتكامل الإنسانية مع بعضها البعض تكامل الإنسان الذي يفكّر معك لتتعاون معه، وتكامل الإنسان الذي يختلف معك لتتحاور معه، لأنّ الخطّ الإسلامي هو أن يجمع الله تعالى الناس عليه وعلى وحيه وعلى رسله ممّا يفرض عليك وأنتَ المؤمن به وبرسله أن تعطي شيئاً من عقلك حتى تطوّر عقل الإنسان من موقع المسؤولية، وأن تعطي شيئاً من قلبك حتى تنمّي الخير والمحبة في قلب الإنسان الآخر، وأن تعطي شيئاً من حركتك حتى تنفتح بكلّ هذه الطاقات التي تنتج الحركة في واقع الإنسان الآخر بأن تحترم إنسانيته ليحترم إنسانيّتك.

الجانب السلبيّ من العلاقة:

كنّا نتحدّث عن الجانب الإيجابي للمسألة وفي تراث أهل البيت (عليهم السلام) ممّا تحدّثوا به عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وممّا انفتحوا عليه من خلاله، لأنّ كل واحد منهم يجسّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في علمه وأخلاقه وسيرته وفي كلّ القيم التي ينطلق بها، فلا بدّ لنا من أن نقف عند هذه الكلمات المضيئة في تراثهم لنتصّور السلبيات التي يمكن أن تصدر من الإنسان ضدّ الإنسان المؤمن الآخر ممّا يبعده عن الله لأنّه يبعد المجتمع عن التوحّد وعن التكامل وعن التعاون وعن التقارب.

ونحن هنا ـــ أيّها الأحبّة ـــ في هذا الخطّ الإسلامي الأصيل وهو خطّ أهل البيت (عليهم السلام) من أجل أن نصوغ أوضاعنا وشخصيّاتنا صياغة إسلامية تنفتح على إيجابية الإسلام وتبتعد عن سلبياته.

الاتّهام في الدّين:

فهناك حالة من الحالات التي تطغى بكل أسف على المجتمع المؤمن وهي أن يتّهم المؤمنون بعضهم بعضاً في دينه فيحاول أن ينتقص من دينه على أساس معطيات لا يملك فيها الحجّة وعلى أساس ظنون لا ترتكز على أساس، وبناءً على بعض الخواطر التي تخطر في ذهنه عندما يسمع كلمة أو عندما يرى شيئاً فيسبق إلى ذهنه الاحتمال السيّئ فيعمل على أساسه.

فما هو الموقف من اتّهام المؤمنين لبعضهم البعض، وما هو الخطّ الإسلامي في ذلك كلّه؟

لنقرأ ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) وهو إذا قال، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنّ حديثه كحديث آبائه وأبنائه هو حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنّهم لا يخطئون في أيّة كلمة من كلماته ولا في أيّة قيمة من قيمه(1) يقول (عليه السلام) كما في الرواية عنه: "إذا اتهم المؤمن أخاه إنماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء"، وإنماث يعني ذاب، وهذا يعني أنّ اتهام المؤمن للمؤمن في دينه وفي أي جانب من الجوانب سواء كانت هذه التهمة في عقيدته بأن ينسب إليه ضعف العقيدة، أو كانت في أعماله كأن يرميه بالمعصية وبما لا يرضي الله، أو كانت التهمة في علاقاته ليحكم عليها بالسوء في حين ثمّة إمكانية للحمل على الحسن... إنّ اتهام المؤمن بذلك يعني ذوبان إيمان المُتّهِم.

فإذا اتهمته ولم تكن لك حجّة في ذلك، بل كان الشكّ أو الظنّ أو ما إلى ذلك، فإنّك تفقد إيمانك "إنماث الإيمان كما ينماث الملح في الماء" وهذه الكلمة ـــ أيّها الأحبّة ـــ تعطينا فكرة أنّ الإيمان ليس كلمة وأنّه ليس صلاة فقط، وإنّما هو كيف تتمثّل مسؤوليتك فيها يحبّه الله وفيما يبغضه.

فالصلاة إيمان لأنّها موضع محبّة الله، والكلمة الحقّة إيمان لأنّها موضع رضا الله، وكذلك فإنّ الموقف والشعور والإحساس والفكرة تجاه الآخر هي إيمان عندما تنسجم مع ما يريده الله سبحانه وتعالى، فإذا ابتعدت عن الله الذي لا يريد لك أن تتّهم أخاك المؤمن فإنّ معنى ذلك هو أن يبتعد الإيمان عن قلبك وبهذا تصبح المسألة في خطورتها من أساسيات الإيمان في جذوره العميقة في النفس.

 

فصم لعرى الإيمان:

وفي الحديث الآخر يقول بعض أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "من اتّهم أخاه في دينه" بأن نسب إليه في دينه شيئاً يشوّه إسلامه في عمله أو يشوّه إسلامه في عقيدته بحيث تنسب إليه التشويه في عقيدته أو في أعماله "فلا حرمة بينهما"(1) ذلك أنّ للإيمان حرمة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(2)، وهي أن تكون مع المؤمن الآخر كمثل الجسد الواحد، فإذا اتّهمته في دينه، ولم تكن لديك حجّة على ذلك، ولم تحمل كلمته إذا تكلّم، وعمله إذا عمل، على خير ممّا يمكن أن يتمثّل من الخير فيه، انقطعت العلاقة بينكما، فلم تعد علاقة إيمان، لأنّ من علاقة الإيمان أن لا يتّهم المؤمن أخاه، ومن حرمات الإيمان أن لا يتّهم أخاه.

ثمّ يتابع الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) المسألة ليقول لك: عليك أن لا تعامل المؤمن كما تعامل بقية الناس، بل ليكن للإيمان دور في مستوى علاقتك به، وليكن للإيمان دور في زيادة احترامك له، لأنّ حقّ الإيمان يزيد في حقّ الإنسان فللإنسان حقّ على الإنسان في معنى إنسانيته وللإيمان حقّ في علاقة المؤمن بالمؤمن.

يقول (عليه السلام): "ومن عامل أخاه بما عامل به الناس غير المؤمنين فهو بريء ممّا ينتحل"(3)!! فأنْ تكون مسلماً وتعامل أخاك بما تعامل به غير المسلم، أو تكون سائراً على منهج الحق في خطّ أهل البيت (عليهم السلام) ولا تعامل أخاك بهذا المستوى فأنت بريء من انتمائك على أساس الإسلام وعلى أساس الخطّ لأنّ معنى الانتماء هو أن تشعر بالرابطة الإيمانية التي تحكم عقلك في نظرته إلى الإنسان المؤمن وتحكم قلبك في نظرتك إلى الإنسان المؤمن وتحكم علاقتك مع الإنسان المؤمن. 

 

 

الحمل على الأحسن:

والحديث الثالث، هو حديث جدّ الإمام الصادق (عليه السلام) إمامنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) حيث يقول في كلام له: "ضع أمرَ أخيك على أحسنه" فإذا تكلّم المؤمن بكلمة أو قام بعمل أو أنشأ علاقة، أو وقف موقفاً، أو كان في موقع من المواقع وكانت هناك احتمالات للخير في عمله يمكن أن يكون قصد الخير من خلالها، واحتمالات للشرّ في عمله بحيث يمكن أن يكون قد قصد الشرّ في ذلك. ففي هذه الحال، اختر الجانب المشرق من الصورة ولا تختر الجانب المظلم منها.

فاحمله على الأحسن تعني أن لا تحمله على الأسوأ فليس من الضروري أن تحكم بالأحسن، لأنّ الحكم بالأحسن يحتاج إلى حجّة، فمعنى أن تحمله على الأحسن أن تغلّب احتمال الأحسن على الاحتمال الأسوأ وعلى الأقل لا تحمله على الأسوأ حتى تأتيك الحجّة التي تؤكّد لك الاحتمال الأسوأ، وعندها يكون الحمل على الأسوأ محملاً على ما قامت الحجّة عليه "ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنتَ تجد لها في الخير محملاً"(1) فلو فرضنا أنّ كلمة صدرت من أخيك وكان احتمال الشرّ فيها 99% واحتمال الخير 1% ففي هذه الحال إفسح المجال لاحتمال الخير وابحث عن الأمر جيداً، وفي ذلك نلتقي بالفكرة الحضارية الإنسانية العالمية "المتّهم بريء حتى تثبت إدانته" فما دام هناك احتمال واحد للبراءة فلا تحكم بها ولكن لاحق هذا الاحتمال ولا تنفتح على الاحتمال الآخر فذلك هو منطق العدالة.

النتيجة المستخلصة:

ومن خلال هذه الكلمات النورانية المضيئة المشرقة كيف نخرج بالنتيجة، هي أنّك إذا وجدت من أخيك وثيقة من دين فتثبّت قبل أن تتهمه وتثبّت قبل أن تحكم عليه ولاسيما إذا كانت عناصر التهمة تنطلق من خلال "قال الناس" و"روى الناس" {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(2).

وهناك نقطة أخرى في السلبيات وهي تتّصل بالحديث عن أخيك المؤمن بسوء بقصد إسقاط إنسانيته وإضعاف موقعه وتحطيم صورته الإيمانية، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) فيما يرويه أحد أصحابه، قال، قال لي أبو عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام): "من روى على مؤمن رواية" أي نقل حديثاً "يريد بها شينه" أي عيبه "وهدم مروءته" أي إنسانيته ليسقط من أعين الناس "أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان"(1) وحينئذٍ لا يكون لا في ولاية الله ولا في ولاية الشيطان، والسبب كما يذكره بعض شرّاح "الكافي" هو أنّ الشيطان سرّ الشرّ لأنّه عندما رفض السجود لآدم وخالف ربّه في أمره له بالسجود لم ينطلق من انتقاصه الشخصيّ لآدم، فلم يقبل إنّ آدم ليس مؤمناً وليس صالحاً وإنما انطلق من خلال تفضيل عنصره على عنصر آدم {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}(2)، فقد كانت معصيته منطلقة من مسألة العنصر لا من خلال الإيقاع بآدم وتشويه صورته وإسقاطه.

إذاً، فالمتّهم أخاه شرٌّ من إبليس لأنّ هذا انطلق من المسألة العنصرية وأنت تقول لنفسك بأنّك مؤمن، وأنّ هذا هو أخوك المؤمن ومع ذلك تحاول أن تسقطه، ولذا يرفضك إبليس لأنّه لا يقبل أن ينسب إليه مثل هذا.

الحفاظ على حرمة المؤمن:

وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) فيما جاء من الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "عورة المؤمن على المؤمن حرام" وقد سئل الإمام: ما معنى ذلك؟ قال: "ما هو أن ينكشف فترى منه شيئاً" فليس معناه أن ترى عورته الجسدية "إنّما هو أن تروي عليه أو أن تعيبه"(3) أي عوراته الأخلاقية والعملية وغيرها. والنتيجة الإيمانية التي نستخلصها، هي أنّ على المؤمن أن يحفظ حرمة المؤمن فلا يعمل على إسقاطه اجتماعياً، ولا على إسقاطه دينياً، بل يحاول أن يستر عليه وأن ينصحه فإنّ "مَن وعظ أخاه سرّاً فقد زانه ومَن وعظه علانية فقد شانه"(1)، فكيف إذا لم تكن المسألة مسألة وعظ بل مسألة تشهير، لاسيّما إذا كان هذا الأخ المؤمن الذي تعمل على إسقاط مكانته ممّن يملك موقعاً قد تستفيد الأمة منه فإنّك بذلك إذا أسقطت سمعته ومكانته فإنّك تسقط البرنامج الذي يحمل ممّا يمكن أن يصلح أمر الأمّة وأن يرفع مستواها.

إذلال الإنسان المؤمن:

النقطة الأخيرة هي مسألة إذلال الإنسان المؤمن واحتقاره والإساءة إليه، هنا يأتي الحديث الصادقيّ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورسول الله لا يتحدّث عن نفسه وبصفته ولكنه ينقل عن الله سبحانه وتعالى فيما أوحى الله تعالى إليه ممّا ليس في كتابه.

عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): قال الله عزّ وجلّ "قد نابذني" أي خالفني وحاربني "مَن أذلّ عبدي المؤمن"(2) ويريد الله سبحانه وتعالى من خلال هذا الحديث أن يبيّن قيمة المؤمن عنده، وبلحاظ هذه القيمة نعرف كم هي الجريمة في إذلال هذا المؤمن الذي يحبّه الله، "مَن أهان لي ولياً فقد أرصد لمحاربتي"(3).

وقد وردت أحاديث كثيرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ومنها: "من احتقر مؤمناً لقلّة ذات يده كان الله حاقراً له وماقتاً حتى يخرج عن محقرته إياه"(4).

العلاقة الإيمانية:

أيّها الأحبّة، إن العلاقة الإيمانية هي فوق كلّ العلاقات: فوق علاقة النسب وفوق علاقة الجغرافيا وفوق علاقة القومية، إنّها العلاقة التي تربطك بالآخر من خلال الله وما يجمعه الله لا يمكن أن يفرّقه شيء، ففكّروا في ذلك كلّه لأنّ هذه العناوين تقتحم عمق إيمانكم، فبها ترتفعون إلى الدرجات العليا من الإيمان وبالانحراف عنها تسقطون إلى أحطّ دركات الضلال.

 

 

"أيّها الناس حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا وزِنوها قبل أن تُوزنوا"(1)، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}(2)، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}(3)، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(4).

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة التاسعة والعشرون

4/ جمادى الأولى/1418 هـــ (*)

 

الشرك في صورة التوحيد

 

"قد يتحوّل الإنسان إلى إنسان يعبد الناس بدلاً من أن يعبد الله، وقد يشرك الناس بعبادة الله، ممّا يجعله مشركاً في صورة مُوَحِّد".

 

 

 

طاعة الناس في معصية الله:

من العناوين التي طرحت في أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) عنوان طاعة الناس في معصية الله وهذا عنوان كبير جداً ربّما نجد الكثير من الساحات الإسلامية تسير في أجوائه لأنّ كثيراً من الناس يرتبطون بالواقع ارتباطاً فكرياً، أمّا ارتباطهم بالله فهو ارتباط تجريدي لا يرون أنّ الواقع يمكن أن يخضع له، فالإنسان يدرس مراكز القوّة في المجتمع بين مركز سياسي يسيطر على الواقع السياسي ومركز اجتماعي يملك الساحة الاجتماعية ومركز أمني يملك الساحة الأمنية، وهكذا تمتدّ القضية للمركز الاقتصادي الذي يشعر صاحبه بأنّه يملك أن يخضع الناس لما يريد، وهنا يجد الناس مصالحهم الآنية مرتبطة بهذا المركز وبذلك، أو بهذا الشخص أو بذاك لاسيّما إذا كان لديهم خوف من أن يكون انسحابهم من طاعة هذا أو طاعة ذاك يؤدّي إلى بعض الضرر في أوضاعهم أو في أمورهم العامة.

هنا ينطلق الناس ليحدّقوا بالطاعة التي تضمن لهم مصالحهم المادية الآنية وينسون الله سبحانه وتعالى وإذا ذكروا الله ليذكروا طاعته فإنّهم يؤجّلونها ليومٍ آخر ولظروف أخرى، وربّما يستسهلون معصية الله على أساس ما يُخيّلُ إليهم أنّ رحمة الله تتّسع لكلّ المعاصي حتى الذي يتمرّد على الله وفي خياله أنّ الله يمكن أن يسامحه وهو يبدأ العمل بمخالفة أوامره ونواهيه.

الصورة في خطّين:

وصورة هذا الموضوع تتحرّك في خطّين: الخطّ الأول هو تحوّل هذا النهج في علاقة الإنسان بالناس الذين ترتبط مصالحه بهم مقارنة بعلاقته بالله أنّه يتحوّل إلى إنسان يعبد الناس بدلاً من أن يعبد الله، وإذا فكّر في عبادة الله فإنّه يشرك الناس بعبادته بحيث يقع في شرك الطاعة وفي شرك العبادة وفي شرك الحبّ وهذا ما يجعله مشركاً في صورة موحد لأنّ القليل من الناس الذين أشركوا بالله يعتقدون الإشراك في العقيدة لأنّ الذين عاشوا في صدر الدعوة الأولى وهم مشركو قريش كانوا يبرّرون عبادتهم للأوثان بقولهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}(1) فالمشركون موحدون في العقيدة لذلك كانوا يكتبون في وثائقهم "بسمك اللّهم" وما شركهم إلاّ شرك عبادة وليس شرك عقيدة، ولهذا كانت كلّ آيات القرآن التي تعالج واقع هؤلاء تركّز على أنّهم لا يملكون لهم نفعاً ولا ضرراً ولا علاقة لهم بالله من قريب أو من بعيد لذلك يتحوّل الإنسان إلى عابد للشخص كأن تعبد صاحب المال من خلال عبادتك لماله وصاحب السلطة من خلال عبادتك وخضوعك لسلطته وهكذا صاحب الجاه أو صاحب السلاح أو صاحب السياسة أو ما إلى ذلك.

والنقطة الثانية التي تمثّل خطراً على هذا الإنسان هو أنّه يبتعد عن إسلامه لأنّ قضية الإسلام ليست كلمة تقولها، وليست مسألة طقوس تمارسها ولكنّها مسألة عقل ليس فيه إلاّ الله وقلب ليس فيه إلاّ الله وحياة ليس فيها إلاّ الله، وعندما يكون غير الله في عقلك وفي قلبك وفي حياتك، فلستَ مسلماً بما هو معنى الإسلام لأنّ الإسلام هو أن تسلم أمرك لله فلا يكون لأحد غير الله شيءٌ عندك {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(1)، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2)، وهذا ما يعبّر الله عنه في بعض آياته عندما يتحدّث عمّن يشركون غير الله في الحب، ومن الطبيعي فإنّ الحبّ يجذب الإنسان للخضوع، والخضوع يجذبه إلى الطاعة {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ}(3) فلا يحبُّون غير الله أبداً إلاّ من خلال حبّهم لله، ولذلك نحن نحبّ الأنبياء ونحبّ الأولياء ونحبّ المؤمنين ولكن عن طريق الله. ونحن نحبّ الأنبياء لأنّهم رسل الله، ونحبّ الأولياء لأنّهم الأولياء المقرّبون لله، ونحبّ المؤمنين لأنّهم آمنوا بالله، وهذا هو معنى الحبّ في الله والبغض في الله وهو أن لا تحبّ انطلاقاً من حالة مزاجية أو من مصلحة شخصية، ولكنّك تحبّ من خلال الروحية الإلهية التي تنفتح على الذين يتحرّكون في طريق الله ويصعدون إلى رحاب الله ويملكون القرب من الله فتنفتح عليهم بعقلك وقلبك وحياتك كلّها من خلال الله.

 

نسيان الله:

إنّ هذا كلّه ـــ أيّها الأحبّة ـــ ينطلق منه أنّ الإنسان ينسى ربّه وينسى مقام ربّه وينسى عبوديته لربّه وينسى حجم الناس في المقارنة مع ربّ الناس وإله الناس وملك الناس، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى وهو يرصد خطّ الانحراف من خلال نسيان الله {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}(1)، ذلك أنّك إذا نسيت الله فإنّك تنسى ما يصلح نفسك وما يفسدها وإذا نسيت الله نسيت الانفتاح على النور الذي يشرق من خلال الله في عقلك وفي قلبك، وإذا نسيت الله نسيت الطريق المستقيم الذي يؤدّي بك إلى الله. لذلك كلّما آمنت بالله أكثر وكلّما تيقّنت بالله أكثر وكلّما عرفت الله أكثر وكلّما انفتحت على الله أكثر استطعت أن توازن حياتك أكثر وأن تملك حريّتك أكثر.

ولذلك لا بد للإنسان من أن يعيش روحية ذلك، وقد قال عليّ (عليه السلام) وهو يصف المتّقين وهو العارف بالمتّقين لأنّه إمام المتّقين "عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم" لأنّ الإنسان كلّما تجلّت عظمة الله في نفسه {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}(2) عند ذلك تتصاغر كلّ القوى أمامه وعندما يتجلّى علم الله في نفسه فإنّه يصغر كل العلماء أمامه.

استشعار وحدانية الله:

وهكذا في كل موقع من مواقع الصفات التي تجذبك إلى الناس، فكّر في الله أولاً وعند ذلك تجد أنّ ما عند الناس في كلّ فضائلهم إنما هو من خلال الله سبحانه وتعالى، فأنت تحمده لأنه هو الذي أعطى الأشياء ما يحمد به وأعطى الناس ما يحمدونه به، فالله أعطى العالم علمه فبعلم الله الذي وهبه إيّاه يحمد، وهكذا في الأشياء كلّها، وهذا ما ينبغي لنا ـــ أيّها الأحبّة ـــ أن نعيش فيه مع الله دائماً.

وقد أراد سبحانه في التربية العباديّة أن يربّي في نفوسنا عمق معناه وعظمة ذاته، فأنت في الصلاة مثلاً لو وعيت معنى الصلاة عندما تبدأ صلاتك بأذانك وإقامتك ترى أنّك تطلق كلمة الله "الله أكبر" وإذا انطلقت هذه الكلمة من كلّ كيانك فإنّ معناها أنّ كل من عدا الله هو الأصغر، وإلاّ ما معنى "الله أكبر" معناه أنّك عندما تتصوّر الأكبر بقول مطلق، فلا بدّ أن تتصوّر الأصغر بشكل شمولي، وعندما تقول "أشهد أن لا إله إلاّ الله" فإنّ معنى ذلك أنك تتصوّر أن كل ما في الكون مألوه لله لأنّ الله هو وحده الإله، وعند ذلك لا تنمو في نفسك أيّة حالة من حالات تأليه الإنسان أو الشمس أو القمر أو الكواكب، وهكذا تدفعك الصلاة إلى أن تشهد بأنّ محمداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فتشعر بأنّك ترتبط به عندما تتصوّر عظمته وعندما تتصوّر خلقه وعندما تتصوّر موقعه حيث أنّك تتصوّره من حيث هو رسول الله، وفي التشهّد تقول "وأشهدُ أنّ محمداً عبده ورسوله" فأنتَ تتصوّره وهو في مواقع العظمة كلّها فيما يعيش الإنسان من مواقع العظمة، لكنّك تقول بأنّه "عبد" هذا العظيم في إنسانيته هو عبد الله في بشريّته.

ذكر الله على كلّ حال:

وهكذا عندما تدخل الصلاة مكبِّراً وتقرأ في الصلاة سورة الحمد وسورة أخرى وعندما تسبح ربّك العظيم وأنت راكع وتسبّح ربّك الأعلى وأنتَ ساجد، ثم تنتقل في التكبير من عمل إلى عمل، ثم تسبّح الله وتهلّله وتحمده وتكبّره. فالصلاة في كل نقلة من نقلاتها تعمّق في قلبك ـــ لو عرفت معنى صلاتك ـــ علاقتك بربّك وعظمتك بربّك، فلا يمكن إذا كنت واعياً للصلاة أن تخرج من صلاتك لتقول إنّ فلاناً هو الأكبر وإنّ فلاناً هو الأعظم، حتى وإن كان فلان عظيماً، إذ علينا مهما أمكن أن نختصر من ذلك فيما نتحدّث به عن الناس.

والصوم هو عبادة صامتة تتحرّك فيها كل مواقع جسدك، فأنت عندما تظمأ فإنّ حالة الظمأ في جسدك تنفتح على الله لتقول يا ربّ أنا ظامئٌ لأني أريد أن أرتوي من حبّك وأُريد أن أرتوي من طاعتك، وعندما تجوع تصرخ كلّ عضلات جسمك يا ربّ إنّي جائع ولكن جوعي هو الشبع لأنّني أشبع من خلال ما يمنحني هذا الجوع من التقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(1).

وهكذا يتحرّك الإنسان مع الله عندما يرى شيئاً عظيماً فيقول سبحان الله، وعندما يتذكّر الله في مواقع حمده فيقول الحمد لله، وعندما يتحسّس النعمة ويستلذّ بها فيقول الشكر لله، وعندما يتحرّك الناس الذين يحاولون أن يستكبروا في الأرض يقول "لا إله إلاّ الله والله أكبر".

وهكذا ـــ أيّها الأحبّة ـــ ينطلق الإسلام في عبادته وفي آدابه ليقول لك أذكر الله في كل حالاتك أذكره في الصباح عندما ترى في إشراقة الشمس معنى نوره، واذكره في المساء عندما تعيش صفاء روحك، واذكره في كل موقع تتحرّك فيه لتعمل أو لتتكلّم، أذكر الله على كل حال وليس فقط بقول "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر" ولكن أن تذكره عند كل حرام تقبل عليه فتتركه، وأن تذكره عند كل واجب يمكن أن تبتعد عنه لتفعله، وعندما تحدّثك نفسك عن طاعة الناس في معصية الله حدّثها أنّ الناس لا يملكون ضراً ولا نفعاً، وعندما تحدّثك نفسك عن قوّة فلان حدّثها {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}(1)، {فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}(2) وعندما يخوّفك الناس بالناس قل كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}(3) وقل كما قال المؤمنون المجاهدون {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} كما يقولون لنا الآن أمام كل التحديات الاستكبارية التي تأتي من هنا وهناك لتخوّفنا بالناس {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ}(4) وبدأوا يحيطون بكم ويواجهونكم ويحاصرونكم {فَاخْشَوْهُمْ} تراجعوا عن مواقفكم وتنازلوا عن كل مواقعكم، وحاولوا أن تعيشوا الزلزال في نفوسكم {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} لأنّهم عندما قال الناس لهم ذلك وخوّفوهم بالناس رفعوا رؤوسهم في معنى العقل في رؤوسهم، وفي معنى الوعي في إيمانهم {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ} يكفينا الله فهو الكافي من كل شيء ولا يكفي منه شيء {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وكانت التجربة أمامهم {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ} بعد أن صبروا وتحمَّلوا وعانوا الحرمان وعانوا كلّ الجهد {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ}(1)، لا رضوان الناس {وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} يتفضّل على عباده بالرحمة وبالنعمة وبالرضوان.

ثمّ قال الله لنا وهو يرسم القاعدة إنّ كلّ من يخوّفكم بالناس فهو الشيطان نفسه أو الناطق باسم الشيطان {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ} فلا تكونوا أولياءه لتخافوه {وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(2) فلا تخشوا الناس واخشونِ {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ}(3).

المسألة في السنّة:

هذا هو وحي الله، فتعالوا إلى بعض حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحديث أبناء رسول الله أهل البيت (عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) فيما روي عنه قال، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "من طلب مرضاة الناس بما يسخط الله" بحيث أنّك تحاول أن ترضي شخصية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو عسكرية أو أي شخص من هؤلاء الذين يصعدون درجات عالية في السلم الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي، فإذا كنت تحاول أن ترضيهم في معصية الله بأن تظلم الناس لترضيهم، وبأن تقوم بالأعمال المحرّمة التي حرّمها الله لترضيهم، فالمسألة ليست مسألة الآخرة فقط لتخسر ما هناك، لكنّك لن تحصل على ما تريد في الدنيا "من طلب مرضاة الناس بما يسخط الله كان حامده من الناس ذامّاً"(4) فقد يمدحك الناس ولكنّهم يحقّرونك في داخل أنفسهم لأنّك أغضبت مولاك وسيّدك وخالقك وإلهك من أجل عرض زائل لعبد من عبيده. إنّ الناس الذين يعون موقعك حتّى لو مدحوك فإنّ مدحهم يكون مجرّد نفاق، لأنّك بمواقعك في معصية الله ربّما أصبحت تملك موقعاً دنيوياً، لكنّ الكثيرين حتّى الذين تخدمهم وتبيعهم دينك وموقفك وموقعك وأمتك ووطنك، إنّ هؤلاء قد يرتاحون لك لأنّك حقّقت لهم بعض الشيء ولكنّهم يحتقرونك، ذلك أنّ الذي يحترم نفسه ويحترم إيمانه بربّه ويحترم أمّته ويحترم دينه ووطنه يملك احترام أعدائه قبل أصدقائه، لأنّهم يعرفون أنّه إنسان كامل الإنسانية يحترم إنسانيّته.

ونحن نعرف واقعنا الذي نعيشه، وقد سمعنا من بعض اليهود الذين احتلوا فلسطين أنّهم يقولون أنّنا لا نحترم في الواقع العربي إلاّ هؤلاء الذين يقاتلوننا لأنّهم يمثّلون الأصالة في إنسانيّتهم وفي مواقفهم كما يزعمون أنّهم يقاتلون من أجل قضاياها، لذلك تأتي الكلمة الرسولية "من طلب مرضاة الناس بما يسخط الله كان حامده من الناس ذامّاً" أمّا الشخص الآخر "ومن آثر طاعة الله بغضب الناس" هذا الذي يقول كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "إن لم يكن بكَ غضبٌ عليَّ فلا أُبالي"(1) لو رجمني الناس بالحجارة، لو سبّوني، لو شتموني، لو اتّهموني "إن لم يكن بكَ غضبٌ عليَّ فلا أُبالي" وكما قال ذلك الشاعر:

فليتك تحلو والحياة مريرةٍ           وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيتي وبينك عامرٌ              وبيني وبين العالمين خرابٌ

"ماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكْ وماذا فَقَدَ مَنْ وجَدَك" أنت الكلّ في الكلّ والآخرون لا شيء "ومَنْ آثر طاعة الله بغضب الناس كفاه الله عداوة كلّ عدو" {فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا}(2) "وحسد كلّ حاسد وبغي كلّ باغ، وكان الله عزّ وجلّ ناصراً وظهيراً"(3) فالقضية هي أن تضبط أعصابك لتصبر على بعض الحرمان الذي يلوّح لك به الآخرون بأن يعطوك شيئاً في مقابل أن تعصي الله {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ} في الكلمة وفي الموقف وفي الطاعة وفي الجهاد {يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(4).

والحديث الثاني عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "مَنْ أرضى سلطاناً" ماذا تدلّ هذه؟ إنّها تزلزل كيان الإنسان "مَنْ أرضى سلطاناً بسخط الله خرج من دين الله" فإذا أرضيت سلطاناً بما يسخط الله كأن تصير مخبراً للظالم أو أحد المنفّذين لأوامره وأحد المؤيّدين له، وأحد المبرّرين لعمله العاذرين له من أرضى سلطاناً سواء كان يملك السلطة الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الأمنية أو غير ذلك "مَن أرضى سلطاناً بسخط الله خرج من دين الله".

أوهام المكاسب:

والحديث الآخر يرويه الإمام الصادق (عليه السلام) عن الحسين بن عليّ (عليه السلام) قال: كتب رجل إلى الحسين عظني بحرفين فكتب إليه: "مَن حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأسرع لمجيء ما يحذر"(1).

فهو يقول بأنّك تبدأ التجربة التي تلبّي طموحاتك وتحقّق أحلامك فيما تزعم، تحاول ذلك بمعصية الله وبإسقاط مؤمن وإيذائه وإضراره وبمحاصرته وبالانطلاق في إفساد أوضاع الناس الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأنت تؤمّل في أنك ستحصل على ما تريد وسوف تبتعد عمّا تحذر.

الحسين (عليه السلام) يقول بأنّ الله هو الذي يحقّق لك أحلامك لا الناس وأنّه هو الذي ينجّح لك مشاريعك لا الناس وأنه هو الذي يملك الحماية لك لا الناس، وأنّ الله هو الذي يملك القلوب التي تنفتح عليك أو تنغلق عنك لا الناس {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} لمن يقولها الله؟ يقولها لحبيبه ونبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) {مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} فأنت لا تملك القلوب، بل الله هو مقلِّبُ القلوب، و{أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}(2) ولا تملك منها إلاّ ما أعطاك ربّك وما منحك من مفاتيحها ومغاليقها، {وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}(3) لذلك إذا أردت أن تحصل على شيء فليكن الله هو الذي تتوجّه إليه واعتبر الناس أدوات بيد الله يسخّرها لك، وإذا أردت أن تبتعد عمّا تحذر منه فاطلب من الله أن يحميك من كل من يريد أن يسيء إليك أو يضرّك.

 

 

الخروج عن الدّين:

والحديث الأخير للإمام محمد الباقر (عليه السلام) "لا دين لمن دان ـــ إلتزم ـــ بطاعة من عصى الله" فعليك أن تطيع من أطاع الله في خطّ طاعة الله، أمّا من عصى الله ـــ أيّاً كان ـــ في فكره فكان فكره فكر الباطل، ومن عصى الله في عاطفته فكان قلبه قلب الباطل، ومن عصى الله في حركته فكانت حركته حركة الباطل.. فإذا كنت تدين بطاعته وتعتبر نفسك ملزماً بطاعته انطلاقاً من بعض الأمور والقضايا التي يتداولها الناس في انتماء الناس إلى الناس فأنت لا دين لك، لأنّه لا يجتمع في قلب إنسان أن يدين بطاعة الله وأن يدين بطاعة مَن عصى الله، والله يقول ـــ كما في الحديث القدسي ـــ (أنا خيرُ شريك من أشرك معي غيره في عمل عمله لم أقبله إلاّ ما كان لي خالصاً)(1).

"لا دين لمن دان بطاعة من عصى الله ولا دين لمن دان بفرية باطل" والفرية هي الأمر المختلق "ولا دين لمن دان بجحود شيء من آيات الله"(2).

تذكّر مقام ربّك:

إذاً ـــ أيّها الأحبّة ـــ من خلال كل هذه الكلمات من آيات الله ومن سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن أحاديث أولياء الله في خطّ الله ورسوله علينا أن نبدأ لندرس ما هو مقام ربّنا {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}(3) تلك هي المسألة أن نخاف الله سبحانه وتعالى، وأن نعرف الله في مواقع عظمته وأن لا يكون الله أهون ناظر إلينا، ولا يكون الله أهون من نقف بين يديه غداً عندما يقوم الناس لربّ العالمين.. أن لا نكون ممّن قال عنهم {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}(4) وينطلق النداء غداً {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(5)، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}(6)، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ*وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ*وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}(1) وينطلق النداء في القيامة {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} هاتوا كلّ الملوك وكلّ الزعماء {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}(2) فهلّموا ـــ أيّها الأحبّة ـــ لنصير في خطّ الواحد القهّار ليخصّنا برحمته وبلطفه وبرضوانه فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}(3).

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثلاثون

11/ جمادى الأولى/1418 هـــ (*)

 

في ذكرى سيدة نساء العالمين

نداء الزهراء (عليها السلام): كونوا للإسلام

 

"عندما نتذكّرها.. نتذكّر الصدّيقة الطاهرة التي كانت الطّهر كلّه.. والعصمة كلّها.. والحقّ كلّه".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عندما نذكرها(1):

عندما نذكرها سواء في ذكرى ولادتها وهي تنفتح على الحياة, أو في ذكرى وفاتها وهي تنفتح على رحاب الله لتلتقي في أقرب موعد بأبيها رسول الله، عندما نتذكّرها وهي لم تتخط شبابها بل ربّما فارقت الحياة وهي في ريعان الشباب، عندما نتذكّرها وهي الإنسانة التي كانت رسالة متحرّكة في عقلها وفي روحها وفي فكرها وفي علمها وزهدها وعبادتها وصلابتها وقوّتها في الحق، عندما نتذكّرها نتذكّر هذه الصدّيقة الطاهرة التي كانت الطهر كلّه، وكانت العصمة كلّها، وكانت الحقّ كلّه.

هذه الإنسانة التي عاشت المعاناة منذ طفولتها الأولى كأقسى ما تكون المعاناة وانفتحت على المعاناة حتى وهي زوجة لعليّ (عليه السلام) في كل متاعبها في بيتها وفي مجتمعها، وعاشت المعاناة في فقدها لأبيها التي كانت منه العقل من العقل والروح من الروح والحياة المنفتحة على حياة الرسالة بحيث تمتزج الحياتان معاً في خطّ الإنسانية في روح الرسالة، وعاشت المعاناة كذلك في بيتها وفي نفسها وفي القضية الكبرى التي دافعت عنها كأقوى ما يكون الدفاع.

لم تعش لنفسها:

إنّ خلاصة حياة هذه الإنسانة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في أنّها لم تعش لنفسها لحظة واحدة وإنّما عاشت لأبيها رسول الله ولزوجها وليّ الله ولولديها اللذين هما إمامان إنْ قاما وإنْ قعدا، ولم تعش لهم قرابة فقط، ولكنها عاشت لهم رسالة، ولذلك كانت الرسالة تجري معها وتسير معها وكانت تطلّ على الناس كلّهم لتفكّر بآلام الناس قبل أن تفكّر بآلام نفسها وهكذا كان ابنة رسول الله في رسالته كما هي ابنة رسول الله في نسبه، فتعالوا لنتحدّث من خلال حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في شأنها ممّا رواه الفريقان من المسلمين، ولعلّ أفضل من نظّم في الزهراء (عليها السلام) هو أمير الشعراء "أحمد شوقي" حيث قال:

ما تمنّى غيرها نسلاً ومَنْ          يَلِد الزهراءَ يزهد في سواها

لماذا الاهتمام بالزهراء (عليها السلام)؟:

وهذا هو الذي يجعلنا ـــ أيّها الأحبّة ـــ نهتم بذكرى الزهراء (عليها السلام) لأنّنا عندما نذكرها نذكر قضية الرسالة في خطّ الدعوى، وكيف كانت الزهراء (عليها السلام) فيها، ونذكر خطّ الحركة الإسلامية في القضايا المتحرّكة في داخل الإسلام التي كانت الزهراء عنصراً حيوياً فيها. إنّنا نتذكّرها في ذلك كلّه لأنّ هناك أشخاصاً في التاريخ ينتهون عندما يموتون لأنّ حياتهم تختصر في داخل ذاتهم، وهناك أناس يبقون في الحياة حياةً تنفتح على رسالتهم ليبقوا ما بقيت رسالتهم. وفاطمة الزهراء (عليها السلام) من هؤلاء، ذلك أنّك لا تستطيع أن تذكر رسول الله إلاّ وتذكرها، ولا تستطيع أن تذكر عليّاً (عليه السلام) إلاّ وتذكرها، ولا تستطيع أن تذكر طفولة الحسن والحسين وزينب (عليهم السلام) إلاّ والزهراء هي سرّ الطهر في طفولتهم، لذلك ندعو إلى أن تبقى الزهراء في عقولنا وفي قلوبنا رسالة وفكرة لا مجرّد دمعة، لأنّنا لا نملك إلاّ أن ننفتح عليها بدموعنا، ولكن الأكبر من ذلك أن ننفتح عليها برسالتها لأنّها عاشت كلّ دموعها للرسالة ولم تعشها لنفسها طرفة عين، وهذا هو سرّ أهل البيت (عليهم السلام) في أنّهم عاشوا للإسلام كلّه، ومن هنا فإنّ علينا أن نوظّف كلّ ذكراهم من أجل الإسلام كلّه.

استنطاق الزهراء (عليها السلام):

عندما نريد أن نستنطق الزهراء (عليها السلام) في كلمات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنحن نلتقي أولاً بــ "البخاري" في سنده عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "فاطمة بضعة مني مَن أغضبها أغضبني"، ونلتقي بمسلم صاحب الصحيح: "إنّما ابنتي فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها"، وفي رواية أخرى لمسلم "إنّما ابنتي بضعة منّي يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها".

عندما نريد أن نستنطق هذه الأحاديث ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما عرّفنا الله إيّاه لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(1) وحيٌ في القرآن ينزله الله آيات ووحي في عقله يركزه الله بالحقيقة في المفاهيم، ووحي في سنّته عندما يحرّك سنّته لتكمل خطّ الكتاب، وهو الصادق الذي لا يتقوّل على الله {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}(2) لذلك عندما يتكلّم فإنّه لا يتكلّم عاطفةً ليعطي القيمة من خلال العاطفة، ولكنه يتكلّم رسالةً ليعطي القيمة من خلال الرسالة، هو بشرٌ يحضن ابنته كما يحضن أيّ بشر ابنته، ولكن عندما يعطي القيمة فإنّه بشر يوحي إليه، ولذلك عندما يقول "بضعةٌ منّي" فما معنى أن يكون إنسانٌ ما قطعة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ معناه إنّه يرتبط برسول الله ارتباطاً عضوياً كما لو كان جزءاً حيّاً في جسده، وعندما يكون شخص قطعة من رسول الله فإنّ عقله يختزن بعضاً من عقل رسول الله وأنّ روحه تختزن بعضاً من روح رسول الله، وأنّ حياته تختزن الطهر والنقاء والصفاء والروحانية والصدق والأمانة من كلّ حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعندما يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مَن أغضبها فقد أغضبني ومَن آذاها فقد آذاني فهل يتحدّث عن الأب عندما يؤذي الناس ولده أو ابنته؟ إنّ أصحاب الرسالات لا ينفعلون عاطفياً عندما يُغضب الناس أولادهم بالحقّ، فإذا كنت أباً صالحاً وأغضب الناس ولدك لأنّه أساء ولأنّه أذنب فهل يجوز لك بأنْ تتحدّث عن أن من يغضب ولدك يغضبك؟ لا يمكن ذلك، إذاً فمعنى ذلك أنّ فاطمة (عليها السلام) هي الإنسانة التي لا يمكن أن تسيء إلى أحد ولا يمكن أن تسيء في قول أو في عمل حتى يكون للناس الحقّ في إيذائها، وحتى يكون للناس الحقّ في إغضابها، بل هي الإنسانة التي لا يملك أحد أن يغضبها من خلال ما تثيره من غضب على أساس الانحراف ـــ تقدّست عن ذلك ـــ ومعنى ذلك إنّ فاطمة (عليها السلام) هي الإنسانة التي لا تسيء، والإنسانة التي لا تذنب ولا تنحرف، ولذلك فمن أغضبها فإنّه يغضب الحقّ ويغضب الخطّ المستقيم.

هكذا أفهم كلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "مَن أغضبها أغضبني ويؤذيني ما آذاها" وهي لا تتأذى إلاّ عندما يُعطى الله ولا تتأذى إلاّ عندما ينحرف الناس عن طريق الله، ولذلك يتأذّى رسول الله بأذاها، وإلاّ كيف يمكن أن يتأذّى رسول الله بأذاها إذا كان أذاها ليس مبرّراً من جانب الحق أو من جانب الرسالة؟!

أشبه الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

ثم نتابع في كتاب "الاستيعاب" وهذه ليست مصادر شيعية، لنبيّن من خلال ذلك أنّها تمثّل مصادر حيادية، لأنّ بعض الناس قد يتّهم الشيعة بأنّهم يتحدّثون بعاطفتهم، ففي "الاستيعاب" لابن عبد البر بأسانيده كما يقول عن عائشة أم المؤمنين أنّها قالت "ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وسمتاً وهدياً ودلاً برسول الله من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبّلها ورحّب بها كما كانت تصنع هي به إذا دخل عليها فإنها تقوم وتقبّله وترحّب به" وفي رواية لأبي داود في سننه "كان إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها فقبّلها وأجلسها في مجلسه، وكانت إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبّلتها وأجلسته في مجلسها".

عندما ندرس هذا النصّ سواء ممّا ورد عن عائشة في الاستيعاب أو في سنن أبي داود ماذا نفهم؟ إنّه يوحي بعمق العلاقة الروحية بين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين فاطمة (عليها السلام) لأنّ رسول الله لم يفعل ذلك مع غيرها ولم تفعل ذلك مع غيره إذ لم ينقل أنها فعلت ذلك مع عليّ (عليه السلام) ولم ينقل أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فعل ذلك مع عليّ (عليه السلام) ولكنّه فعله معها وفعلته معه، لماذا؟ لأنّ العلاقة بين فاطمة الزهراء (عليها السلام) وبين رسول الله بدأت منذ طفولتها الأولى. ربّما لم تحدّثنا السيرة عن طفولتها مع رسول الله في حياة أمها ولكنّ السيرة النبوية الشريفة حدّثتنا عن طفولتها بعد وفاة أمها وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحيداً في بيته؛ مات عمّه "أبو طالب" الذي كان يرعاه ويحميه من عنف قريش، وماتت زوجته "خديجة" أمّ المؤمنين التي كانت تعيش معه وله بكلّ وجودها وأصبح يعيش الوحدة تماماً.

أمُّ أبيها:

كما عاش الوحدة عندما افتقد أمّه وهو رضيع، والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو الممتلئ بمحبّة الله كان بشراً يحتاج إلى الحنان والعاطفة والمحبّة كما يحتاجها البشر وليس ذلك نقصاً في ذاته وليس ضعفاً في ثقته بنفسه وامتلائه بربّه، ولكن ـــ أيّها الناس ـــ إنّ النبيّ يجوع كما نجوع ويعطش كما نعطش، ونحن نجوع إلى الحنان عند حاجتنا إلى الحنان، ونحتاج أن نشبع منه، كما نجوع إلى الغذاء ونحتاج أن نشبع منه، وكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يريد اللمسة الحلوة والاحتضان الرقيق وتفرّغت الزهراء (عليها السلام) بكلّ ما في قلبها من حنان وعاطفة وطهر ونقاء وصفاء واحتضنت آلامه واحتضنت حياته واحتضنت كل متاعبه في رسالته حتى اكتشف النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّ أمّه قد بعثت من جديد وانطلقت كلمته الخالدة "إنّها أمّ أبيها" وربما حاول البعض أن يصوّر حديثنا عن هذه الأمومة التي انفتحت فاطمة من قلبها وروحها على أبيها من خلالها، أنّنا نتحدّث عن ضعف في النبيّ، وقد يحمل ذلك كالذين يحملون الكلام على الأسوأ، إنّها تسيء إلى كماله وعصمته، ولكن أيّها الناس هل تنافي العصمة أن يجوع النبيّ ويربط حجر المجاعة على بطنه، أنْ يظمأ النبيّ ويشرب الماء ليستقي به، فكذلك جوع الحنان وشبع الحنان وظمأ العاطفة وارتواء العاطفة، وقد لا يعي الناس هذه المعاني التي أكّدها الله سبحانه وتعالى عندما تحدّث عن حزن النبيّ وتحدّث عن ذهاب نفسه حسرات من أجل قومه، وتحدّث عن كثير ممّا يعانيه من مشاعره التي تبقى مشاعر الإنسان. وهذا ما يفسّر عمق هذه العلاقة التي امتدت حتى وفاته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلقد كان هناك عشق روحي متبادل، وربّما نستطيع أن نؤكّد أنّ هناك وحدة تمثّل هذا الاندماج الروحي بين الزهراء (عليها السلام) وبين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ثمّ نتابع في نفس الجوّ وفي عدّة روايات "إنّ فاطمة أقبلت ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)" تأثّرت به حتّى في طريقة مشيه لأنّه كان أستاذها وكان المربّي لها وكان المعلّم لها وكان الذي يعطيها في كل يوم خُلُقاً من أخلاقه وروحاً من روحه وعقلاً من عقله، كانت معه في مكّة في الليل والنهار يناجيها وتناجيه، ومن هنا كان علم فاطمة من علم رسول الله، كما كان علم زوجها من علم رسول الله، لم يتحدّث التاريخ عن أستاذ لفاطمة (عليها السلام) غير رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما لم يحدّثنا التاريخ عن أستاذ لعليّ (عليه السلام) غير رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

عمق العلاقة:

ومن هنا كان زواج عليّ من فاطمة بعد ذلك، كان زواج التلميذ الذي تلقّى من نفس المصدر من التلميذة التي تلقّت من نفس المصدر، وكان هذا هو الذي جعلهما يعيشان الانسجام في عقليهما وفي روحيهما وفي أخلاقيّتهما وفي كلّ سلوكهما الروحي، لأنّ الأستاذ واحد، ولذلك فإنّنا عندما نقرأ عليّاً إنّما نقرأ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عليّ، وعندما نقرأ فاطمة فإنّنا نقرأ شيئاً من رسول الله في فاطمة (عليها السلام).

روى الحاكم في "المستدرك" وهو الذي استدرك على الصحيحين بسنده عن أبي ثعلب قال: "كان رسول الله إذا رجع من غزاة أو سفر أتى المسجد فصلّى فيه ركعتين شراً لله على أنّه أرجعه من سفره، ثم ثنّى بفاطمة ثم يأتي أزواجه" ممّا يعني أن فاطمة تقف في المركز الأول في علاقته بالناس حتى في علاقته بزوجاته.

وبسنده أي سند الحاكم في المستدرك عن عبد الله ابن عمر "أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان إذا سافر كان آخر الناس به عهداً فاطمة" أي آخر من يلتقيه هو فاطمة لتبقى صورة فاطمة وليبقى حنان فاطمة وعاطفة فاطمة التي تفيضها عليه معه في سفره يعيش فيه ويرتاح له "وإذا قدم من سفر كان أوّل الناس عهداً به فاطمة" لأنّه كان يعيش الشوق إليها كما لم يعش الشوق إلى أي إنسان آخر، ولذلك كان يعبّر عن حرارة هذا الشوق باللّقاء بها، أوّل من يلتقيه من الناس.

وفي "الاستيعاب" بسنده سئلت عائشة أم المؤمنين "أي الناس كان أحبّ إلى رسول الله؟!! قالت: "فاطمة"، يقول الراوي قلت: "من الرجال؟ قالت: "زوجها إنْ كان ما علمته صواماً قواماً" وهذه شهادة منها لعليّ (عليه السلام).

الصدّيقة:

وروى أبو نعيم في "الحلية" بسنده عن عائشة "ما رأيت أحداً قط أصدق من فاطمة غير أبيها"، إنها الأصدق التي لم يقترب أحد من المسلمين ليكون أفضل منها، وهذه درجة توحي بأنّها اندمجت برسول الله في الصفة المميزة لرسول الله، فلقد كان الصدق صفة رسول الله التي هيّأت الأجواء لنبوّته في نفوس الناس وركّزتها على قاعدة الصدق والأمانة، والصدق يجتذب الأمانة ويمكن أن تعيش الأمانة في داخله، لأنّك عندما تكون صادقاً فإنّك لا يمكن أن تكون خائناً لأنّ الخيانة تمثّل نوعاً من غشّ الناس أو غشّ الحياة والغشّ هنا وهناك، لذلك فقد انفتحت على صدق أبيها وارتفعت بهذا الصدق حتّى كانت الأصدق في الدرجة الثانية، كان أبوها الأصدق في الناس كلّهم، وكانت الأصدق في الناس كلّهم ما عدا أبيها لأنّ صدقها مستمدّ من صدق أبيها الذي زرع الصدق في عقلها ليكون فكرها فكر الصدق وزرع الصدق في قلبها لتكون عاطفتها عاطفة الصدق وزرع الصدق في حياتها لتكون حياتها صدقاً كلّها.

وكانت وهي الطفلة تتابع أباها وهو يأتي من المسجد، كانت تشعر بمسؤوليتها عنه تماماً كمسؤولية الأم لولدها، وتذكر السيرة النبوية الشريفة "إنّ قريش ألقت سلا الجزور على ظهر النبيّ وهو ساجد فجاءت فاطمة" والظاهر أنّها كانت تتحرّك معه عندما كان يذهب إلى صلاته في المسجد الحرام "فطرحته عنه" قد تكون تلك قصّة صغيرة ولكنّها توحي بكمّ الاهتمام من هذه البنت الطاهرة بأبيها الرسول، بحيث كانت تتابع وضعه وتتابع كلّ ما يقوم به المشركون معه.

 

معه حتّى في معاركه:

وهكذا نتابع متابعتها له بأنّها كانت تخرج معه في بعض معاركه فمن أخبارها بالمدينة، يقول المؤرّخون بأنّه "لمّا جرح النبيّ يوم أُحُد جعل عليّ ينقل له الماء في درقته من المهراس وينسك فلم ينقطع الدم وهنا كان دور فاطمة (عليها السلام) دور الممرّضة "فأتت فاطمة ـــ فأعطته أولاً جرعة من الحنان ـــ فجعلت تعانقه وتبكي وأحرقت حصيراً وجعلت على الجرح من رماده فانقطع منه الدم" وهذا ممّا يوحي بعمق العلاقة والمتابعة منها بأبيها وأنّها هي التي كانت ترعاه، وكان له أكثر من زوجة في ذلك الوقت لكنها كانت تشعر أنّها المسؤولة عنه وعن رعايته وتضميد جراحه أكثر من زوجاته المسؤولات عنه.

قصّة زواجها بعليّ (عليه السلام):

وفي الحديث عن زواجها من عليّ (عليه السلام) وكان عليّ فقيراً كأفقر ما يكون الناس، ولقد خطب فاطمة لكبار من المهاجرين، وكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول كما تقول الرواية "أنتظر أمر ربّي" وقيل لعليّ "لمَ لم تخطب فاطمة" وكان يستحي من ذلك، وجاء إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحدّثه عن ذلك وانفرجت أسارير رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فكأنما كان ينتظر ذلك، وكأنّه كان يُعدّ لذلك، وقال له ماذا عندك وهو يعرف كلّ ما عنده لأنّه هو الذي ربّاه وهو الذي يعرف كلّ ميزانيته المالية كما يعرف كلّ فضائله العلمية والروحية والحياتية، كان معه في بيته، ولم يكن له بيت منفصل عنه، وكان معه في اللّيل والنهار "وكم سائل عن أمره وهو عالمُ" ما معك؟ قال معي درعي وسيفي، وهذه الثياب التي ألبسها، وأنتَ تعرف ذلك، قال: "أمّا سيفك فلا تستغني عنه، لأنّه السيف الذي تذب به عن الإسلام، وعن وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولكن أعطني درعك، وبيع الدرعُ بـــ (500) درهم، وكان ذلك مهر الزهراء (عليها السلام)، وعاشا كأفقر الناس حتى أنّ الزهراء (عليها السلام) كانت تعاني من الفقر ومن الجهد والتعب والمشقّة في بيتها ما لم تعانه إمرأة سواها.

هنا نأتي إلى الحديث عن زواجها وعن قيمته ففي "كشف الغمّة" روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) جعفر الصادق، قال: "لولا أنّ الله تبارك وتعالى خلق أمير المؤمنين (عليه السلام) لفاطمة ما كان لها كفؤ على وجه الأرض" فلو كانت الكفاءة بالنسب فما أكثر أبناء عمّ النبيّ، ولو كانت الكفاءة في هذا الجانب في الإسلام فما أكثر المسلمين، ولكن هناك سرٌّ في عليّ (عليه السلام) وسرٌّ في فاطمة (عليها السلام) لا يعلمه إلاّ الله فهو شيء من غيبه، ولكن هناك شيئاً يلتقي به عليّ بفاطمة وهو ما أشرنا إليه وهو أنّهما عاشا معاً مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علماً وروحاً وأخلاقاً بما لم يعش به أي صحابي أو صحابية، لأنّ علياً وفاطمة كانا معه في الليل وفي النهار، وكانا يعيشان معه تماماً كما يعيش الإنسان الذي يستلهم كل ما عنده، وكان ينطلق هو أيضاً ليربيهما على صورته استجابة لنداء الله {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(1) وعندما انكفأت عنه عشيرته كان أقرب عشيرته إليه إيماناً وروحاً عليّ وفاطمة، ولذلك فإنّ ما يعيشه عليّ من روح ومن أُفق ومن انفتاح على الله ومن معرفة بالله كانت تعيشه فاطمة (عليها السلام).

ومن هنا فإنّنا إذا درسنا عبادة عليّ (عليه السلام) ودرسنا عبادة فاطمة (عليها السلام) فإنّنا نجد نفس القوّة والجهد والانفتاح على الله سبحانه وتعالى، ممّا يعني أنّهما يعيان معنى القرب إلى الله سبحانه وتعالى معاً في هذه الدرجة من معرفة الله ومن الانفتاح على كلّ أسرار قدسه وعلى كلّ صفات غيبه.

وروى "الصدوق" في "عيون أخبار الرضا" بسنده عن أبي الحسن الرضا عن أبيه موسى الكاظم عن آبائه عن عليّ (عليه السلام) وهذه هي سلسلة السند الذي قال عنها الإمام "أحمد ابن حنبل" أنّها "لو عرضت على المجنون لأفاق" لأنّها من إمام إلى إمام إلى إمام إلى عليّ (عليه السلام) إلى رسول الله، عن عليّ (عليه السلام) أنّه قال: "قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يا عليّ لقد عاتبني الرجال من قريش في أمر فاطمة وقالوا خطبناها إليك فمنعتنا وزوجتها عليّاً فقال: ما أنا منعتكم وزوّجته بل الله منعكم وزوّجها" ليس الأمر أمري في ذلك ولكنّه أمر الله سبحانه وتعالى.

 

الإخلاص لزوجها:

وهكذا عاشت الزهراء (عليها السلام) حياتها كأيّة زوجة تخلص لزوجها في كلّ مسؤوليتها الزوجية، لم تميّز نفسها عن أيّة زوجها مسلمة مع زوجها من خلال أنّها ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانت مسلمة كأفضل ما تكون المسلمات في مسؤولياتها الزوجية، كانت تطحن وتعجن وتخبز، وكانت تربّي أولادها، وكان أولادها يتتابعون وهي ما هي عليه من الضعف منذ بداية حياتها كما ينقل الذين كتبوا سيرتها، وكانت هناك نقطة مهمّة في هذا البيت الذي ضمّ عليّاً وفاطمة، وهي أنّ الزهراء (عليها السلام) الجوّ الإسلامي للبيت بحيث كان عليّ يدخل البيت ويرى الإسلام يحيط به من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله لأنّ الزهراء (عليها السلام) كانت تملئ البيت بذلك كلّه، فكان عليّ يتنفّس الإسلام في المسجد مع رسول الله وكان يتنفّس الإسلام في البيت مع ابنة رسول الله، وكان عليّ أيضاً الزوج المسلم الذي كان مع الحقّ وكان الحقّ معه، كان يعطي فاطمة (عليها السلام) من عقله ومن روحه ومن استقامته ومن عبادته ومن زهده هذا الجوّ الإسلامي، فكانت تتنفّس الإسلام في بيتها من خلال عليّ، وكانت ابتهالاتهما لله وعبادتهما له وسجودهما بين يديه، وتنهّداتهما في المحبّة لله والخوف منه، كانت تمتزج ببعضها البعض.

الجار ثمّ الدار:

وكانت الزهراء (عليها السلام) تعيش هذا الجوّ الروحي في هذا البيت، حتى أنّ أولادها كانوا يتنفّسون في طفولتهم ذلك، ويحدّث ولدها الإمام الحسن (عليه السلام) بعد حين، وقد كان طفلاً وكانت تقوم اللّيل، وكان يراقبها وكان يراها تعبد الله ليلة وليلة، حتى قال أنّها كانت تقوم الليل حتّى تتورّم قدماها، ومن الطبيعي أن ذلك يكون من خلال طول قيامها لأنّ طول القيام هو الذي يضغط على القدمين، وطول القيام يوحي بطول المناجاة وطول الانفتاح على الله ويصغي إليها بكلّ طهر طفولته، وفي ركعة الوتر كانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وينتظر هذا الطفل الإمام أن تدعو لنفسها وهي الضعيفة بدنياً والتي عاشت المعاناة في كلّ أوضاعها، فلا يسمع ذلك فيسألها بعد أن تفرغ من صلاتها: أمّاه لمَ لا تدعين لنفسك؟ وأنتِ الأحوج إلى الدعاء، وصلاتك تفيض بالروحانية وهو الجوّ الذي يحقّق استجابة الدعاء من الله لأنّ الإنسان كلّما أقبل على الله بروحه وقلبه كلّما أفاض الله رحمته عليه أكثر واستجاب دعاءه أكثر.

قالت: "يا بنيّ الجار ثمّ الدار"، نحن نفكّر بالمسلمين قبل أن نفكّر بأنفسنا، ولذلك نتحسّس آلام المسلمين فندعو الله أن يخفِّف آلامهم، ونتحسَّس أحلام المسلمين فندعو الله أن يحقّق أحلامهم، ثم بعد ذلك، لعلّ الله يرحمنا عندما يرانا ندعو للمسلمين فيعطينا مثلما نطلب لهم، وقد خلَّد القرآن هذه الروح التي امتاز بها أهل البيت (عليهم السلام)، فلم تكن وحدها في ذلك بل كان يشترك معها في ذلك كلّ أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فعاشوا الطهر في الروح والعقل والحياة {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً*إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}(1)، نطعمكم ونبقى جائعين، نطعمكم ونبقى صائمين لم نتناول فطورنا لأنّكم قبلنا ونحن بعد ذلك "الجار ثمّ الدار" {لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً*إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً*فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً}(2).

وانطلقت فاطمة (عليها السلام) وقد عاشت المعاناة في بيتها من أثر التعب والمرض، فقال لها عليّ (عليه السلام) ماذا لو جئت أباك لنطلب منه خادماً يريحك بعض الشيء ويخفّف متاعبك، لكنّها امتنعت لأنّها تعلّمت أنّ رسول الله هو الذي يبادر، وتعلّمت أن تعيش مع رسول الله في كلّ أجوائه ـــ حتّى أنّها كما تقول كتب السيرة ـــ لبست قلادة أو إسوارة أهداها إليها عليّ (عليها السلام) أو أنّها وضعت ستاراً على بيتها جديداً وجاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من سفر فلمّا رآها أو رأى السوار ـــ حسب اختلاف الرواية ـــ قفل راجعاً إلى المسجد وفوجئت الزهراء (عليها السلام) بعودته ذلك أنّها لم تتعوّد من النبيّ أن يرجع حينما يؤب من سفره، فتساءلت: ماذا حدث؟ وما الذي تغيّر؟ فنظرت إلى السوارين أو إلى القلادة أو إلى السوار، ففي رواية أنّها أخذت السوارين أو القلادة وباعتهما واشترت عبداً وأعتقته لوجه الله، وفي رواية أنّها جمعت الستار وأعطته لولديها الحسن والحسين (عليهما السلام) وهما طفلان، وقالت: إذهبا إلى أبي وقولا له: ما أحدثنا بعدك غير هذا فاصنع به ما شئت.

فجاءا يدرجان والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على المنبر فصعدا المنبر وقدّما إليه هذا الستار وبلّغاه رسالة أمّهما ـــ وهنا كما تقول الروايات في السيرة ـــ اهتزّت أريحية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: "فداها أبوها، فداها أبوها.. فداها أبوها، ما لآلِ محمد وللدُّنيا، إنّهم خلقوا للآخرة".

تسبيح الزهراء (عليها السلام):

ولذلك استجاب عليّ (عليه السلام) على أساس أن يتحدّث هو لا هي عن الخادم ـــ ووصلا إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فتحدّث عليّ (عليه السلام) قائلاً "إنّها طحنت بالرحى حتى مجلت يداها ـــ أي اخشوشنت ـــ وأثَّر في صدرها وكنست البيت ـــ أو كسحت البيت ـــ حتى اغبّرت ثيابها ـــ وكأنّه قال وهي تعاني من تربية أولادها ـــ وطلب منه خادماً فيما يأتيه من بعض الأسرى، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يخاطب روحيّتهما ليرتفع بها وليربطهما بالله سبحانه وتعالى لتتخفَّف متاعبهما الجسدية من خلال ذلك، قال: ألا أعلّمكما شيئاً إذا فعلتماه كان خيراً من الخادم، إذا أخذتما منامكما فكبّرا الله (34) مرة واحمداه (33) مرة وسبّحاه (33) مرة فهو خيرٌ لكما من الخادم، فقالا: رضينا بالله!! وخلّد الإسلام تسبيح الزهراء الذي نتذكّر معه متاعب الزهراء (عليها السلام) ونتذكّر معه أنّ الزهراء ابتعدت عن متاعبها من خلال تكبير الله وتحميده وتسبيحه لنعرف كيف هو العيش مع الله وكيف هو ذكر الله عندما يعيش الإنسان آلامه.

وفي رواية رواها "الكافي" بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: لما جاءت فاطمة تشكو إلى رسول الله بعض أمرها أعطاها كربة ـــ أصل السعفة العريض وكان يكتب عليها ـــ فكان يربّيها على أن تنفتح على العلم والروح أكثر من الانفتاح على الجواني المادية ـــ قال: تعلّمي ما فيها فإذا فيها "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت".

وكان هذا هو ما أراده الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لفاطمة (عليها السلام) في تخفيف آلامها من خلال الانفتاح بآلامها في أجواء القيم الإسلامية التي تشغل فكرها فيما تبلّغه للناس ليكون ذلك انتصاراً على كل ما تعانيه من قسوة ومن ألم، ومعنى ذلك فيما نستوحيه أنّ على الإنسان أن يكون وعيه لرسالته أقوى من وعيه لآلامه لينتصر برسالته على آلامه، لأنّ الإنسان إذا عاش الاهتمام بالشيء الكبير فإنّه ينسى الشيء الصغير.

دورها في تعليم المسلمات:

ولقد عاشت الزهراء وانطلقت، وكانت ـــ كما ينقل بعض المؤرّخين ـــ تُعلّم المسلمات ما تتعلّمه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وينقل صاحب "دائرة المعارف الإسلامية" أنّها ضاعت بعض الأوراق التي كانت تكتبها فقالت لخادمتها "فضّة" وهي التي قامت على خدمتها في أواخر حياتها "ابحثي عنها فإنّها تعدلُ عندي حسناً وحسيناً" لأهمية هذه الكلمات التي اكتسبتها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ممّا يعني أنّها مع كلّ هذه المعاناة كانت تعيش المسؤولية الإسلامية في تثقيف المسلمات، وكنّ ـــ أي المسلمات ـــ يأتينها بين وقتٍ وآخر.

وتنقل لنا أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) أنّ لها كتاباً يطلق عليه "مصحف الزهراء" وقد ظنّ بعض الناس من خلال كلمة المصحف أنّه قرآن غير هذا القرآن الذي يقرأه المسلمون، لكنّه قد عبّر عنه في بعض الأحاديث ـــ كما في الكافي في باب الزكاة ـــ بأنّه كتاب فاطمة لأنّ المصحف مأخوذ من الصحف وهي الأوراق، ففي القرآن يقول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}(1)، أو كما في قوله {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ}(2)، فهي الأوراق التي يكتب فيها، وقد اختلف الناس فيما يشتمل عليه مصحف الزهراء بين قائل إنّه يشتمل على وصيّتها مع بعض الأحكام الشرعية، وبين قائل إنّها تشتمل على بعض الغيبيّات وما إلى ذلك.

وعلى أيّة حال، فإنّه ليس موجوداً في أي مكان في العالم، ولذلك فإنّ الجدل فيما يتضمّنه وماذا يحويه ليس له أيّة ثمرة، لأنّه ليس موجوداً حتى نختلف فيه، وإنّما نأخذ منه ما حدّثنا أهل البيت (عليهم السلام) عنه كما نأخذ من كتاب عليّ (عليه السلام) ـــ وهو ليس بين أيدينا ـــ ما حدّثنا الأئمة (عليهم السلام) عنه، وهكذا بالنسبة إلى "الجامعة" وإلى "الجفر" ممّا أثر عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّها مصادرهم.

دراسة خطبة الزهراء (عليه السلام):

ومن هنا ـــ كانت الزهراء (عليها السلام) من خلال كل ما تقدّم ـــ تمثّل الإنسانة العالِمة، الداعية التي تنفتح على القضايا الإسلامية من موقع الغنى العلمي والروحي، ولعلّنا عندما نقرأ خطبتها في المسجد عندما انطلقت لتطالب بحقّها في فدك لا من خلال الناحية المادية ولكن لأغراض أخرى تتّصل بالقضية العامة التي كانت تدافع عنها، كانت تنطلق من خلال الدفاع عن حقّ أمير المؤمنين الذي تعتقده ونعتقده في مسألة خلافة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وعندما ندرس خطبتها فإنّنا نجد الفصل الأول من الخطبة يمثّل شرحاً للقيم الإسلامية وللفرائض الإسلامية ولكثير من الخطوط الإسلامية ممّا يدلّ على غنى علمي وثقافي يمكن للإنسان أن يجعل منه متناً لشرح كبير يبيّن أكثر التعاليم الإسلامية، وهكذا أيضاً عندما دخلت في الجدل القرآني حول إرثها والآيات التي تحدّثت بها كأساس لتأكيد أنّ لها الحقّ في الإرث من أبيها ورفض ما روي عن "إنّنا معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة" فذلك يعبّر أيضاً عن ثروة فقهية كبيرة تعتمد على القرآن في استنطاقه في الجوانب الفقهية.

وعندما نلاحظ حديثها مع المهاجرين والأنصار فإنّنا نجد أنّه يمثّل الصلابة في الموقف، ويمثّل القوّة في تحميل المسؤولية بحيث أنّنا لا نتصوّرها تلك الإنسانة الضعيفة البدن المنهدّة الركن التي يغشى عليها ساعة بعد ساعة ـــ كما يقولون ـــ ولكنّنا نتصوّرها المرأة القويّة التي تقف أمام الرجال كلّهم مع اختلاف درجاتهم لتتحدّث عنهم بالمنطق القوي الذي يقيم الحجّة والذي يردّ الشبهة بما لم نعهده في امرأة قبلها.

ظلامات الزهراء (عليها السلام):

وكانت تعيش آلامها وتعاني من الكثير من الظلامات التي وقعت عليها، ولعلّ ما يرويه السنّة والشيعة معاً ومنهم (ابن قتيبة) في الإمامة والسياسة أنّهم جاءوا بالحطب ليحرقوا بيت عليّ (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) تهديداً للمعارضة التي اجتمعت عند عليّ (عليه السلام) كما يقول المؤرخون، فلقد قيل لقائد الحملة: يا هذا إنّ فيها فاطمة!! وفاطمة هي الإنسانة التي التقى كلّ المسلمين على حبّها وعلى احترامها وعلى تعظيمها لأنّها البنت الوحيدة التي تركها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من بعده ولأنّها بضعة منه يغضبه ما أغضبها ويؤذيه ما آذاها فكيف تأتي بالنار لتحرق بيت فاطمة (عليه السلام)، ولكنّه قال: "وإن!!" ونحن نعتبر هذه الكلمة من أخطر الكلمات، لأنّ معناها أنّ لا مانع من أن نحرق البيت حتّى ولو كانت فاطمة (عليها السلام) في داخله، إنّها من أخطر الكلمات التي عبّر الشاعر المصري "حافظ إبراهيم" في قصيدته العمريّة عن خطورتها، لأنّها تعني فيما تعنيه أنّه لا مقدّسات في هذا البيت فلا مانع من أن يُحرق على أهله، قال:

وقولة لعليّ قالها عمرٌ                    أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرّقتُ دارك لا أبقي عليك بها             إنْ لم تبايع وبنتُ المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفصٍ يفوهُ بها          أمام فارسِ عدنانٍ وحاميها

ولذا فإنّنا نعتبر أنّ هذه الكلمة تعبّر عن أبشع الظلم الواقع على الزهراء (عليها السلام) سواء صدق الرواة فيما يتحدّثون به عن دخولهم البيت وفعلهم ما فعلوا، أو لم يصدقوا في ذلك، لكن هذه الكلمة تشير إلى الروحية وإلى ما كان القوم يهيّئون له، وإنّني أتصوّر لو أنّهم فتحوا باب الحوار الإسلاميّ والكلمات الطيّبة فإنّ علياً كان إنسان الحوار في كلّ حياته حتى عندما أصبح خليفة، وإنّ فاطمة (عليها السلام) هي إنسانة الحوار لأنّ القرآن هو كتاب الحوار الذي تعلّما منه، ولكنّ الجوّ كان لا يوحي بأيّ حوار.

وعليه، فقد عانت الزهراء (عليها السلام) من ذلك كلّه ولكنها لم تتحدّث عن ذلك، وإنّما تحدّث عليّ (عليه السلام) عندما تحدّث مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعدما دفن فاطمة وذلك بقوله: "وستحدّثك ابنتك عمّا نالها وما أصابها بعدك" ولقد لاحظنا أنّ ما كان يشغل فاطمة هو القضية الإسلامية العامّة التي كانت تعتقد أنّها القضية الحيوية التي تمثّل خطّ الإسلام باعتبار أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يمثّل الإنسان الذي علّمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ألف باب من العلم يفتح له من كل باب ألف باب وأنّه مع الحق والحقّ معه، وأنّه منه بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعده، وأنّه الإنسان الذي عاش حياته كلّها جهاداً في سبيل الله، وكانت ضربته تعدل عبادة الثقلين، وكان الإنسان الذي تربّى مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في كلّ شيء، فكانت ترى فيه الإنسان المؤهّل الذي يقود المسلمين إلى الخير وإلى الانتصار.

حوارها مع الأنصار والمهاجرين:

ولقد عدّ العلماء في "الاحتجاج" و"معاني الأخبار" و"شرح النهج" لابن أبي الحديد وأمالي الشيخ وفي "كشف الغمّة" عن صاحب كتاب "السقيفة" أنّها لما مرضت المرضة التي توفّيت فيها، واشتدّت عليها، اجتمعت إليها نساء المهاجرين والأنصار ليعدنها فسلّمن عليها، وقلن لها: كيف أصبحت من علّتك يا بنت رسول الله؟ فحمدت الله وسلّمت على أبيها، ثم قالت: "أصبحت والله عائفة لدنياكنّ قالية لرجالكنّ، لفظتهم بعد أن عجمتهم وشأنتهم بعد أن سبرتهم فقبحاً لفلول الحدّ واللعب بعد الجدّ وقرع الصفاة وصدع القناة وخطل الآراء وزلل الأهواء".

إلى أن قالت: "وما الذي نقموا من أبي الحسن، نقموا منه والله نكير سيفه وقلّة مبالاته بحتفه وشدّة وطأته ونكال وقعته، وتنمّره في ذات الله عزّ وجلّ" إنّها لا تتحدّث عن زوجها ولكنها تتحدّث عن إمامها الذي يختزن في ذاته كلّ هذه الصفات "وتالله لو مالوا عن الحجّة اللائحة وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة لردّهم إليها وحملهم عليها".

قال "سويد بن غفلة" فأعادت النساء كلامها إلى رجالهن فجاء إليها قوم من المهاجرين والأنصار معتذرين وقالوا: يا سيّدة النساء لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن يبرم العهد ويحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره، فقالت: إليكم عنّي!! فلقد بقيت على صلابة الموقف "فلا عذر بعد تعذيركم ولا أمر بعد تقصيركم".

فعلى هذا الأساس كانت كلّ قضيتها هي هذه، حتى يقال في بعض الروايات أنّها كانت تطوف على جموع المهاجرين والأنصار لتحدّثهم عن حقّ عليّ (عليه السلام) ونستفيد من هذا بقطع النظر عن خصوصيات القضايا أنّها كانت تعيش للقضايا الكبرى ولم تعش القضايا الصغرى، أنّها كانت تعيش الإسلام كلّه وكانت تعيش الحقّ كلّه حتى أنّها كانت قوية صلبة في هذا المجال لم تجابِ ولم تداهن ولم تتراجع ولم تضعف في ذلك كلّه.

حوارها مع الخليفتين:

وينقل "ابن قتيبة" في "الإمامة والسياسة" حواراً بينها وبين الخليفتين أبو بكر وعمر، قال عمر لأبي بكر انطلبنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما فأتيا علياً فكلّماه فأدخلهما عليها فلما قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط، فسلّما عليها فلم تردّ عليهما السلام، فتكلّم أبو بكر، فقال: "يا حبيبة رسول الله والله إنّ قرابة رسول الله أحبّ إليّ من قرابتي، وإنّك لأحبّ إليّ من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أنّي مت ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقّك وميراثك من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلاّ إنّي سمعت أباك رسول الله يقول: لا نورّث ما تركناه فهو صدقة".

فلم تعلّق على هذه الناحية لأنها عالجت المسألة في خطبتها، ولأنّ المفارقة التي تقف أمام هذه المسألة هي أنه لم يروِ هذا الحديث أحدٌ غير أبي بكر، وثانياً: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي كان يحبّ فاطمة أعظم الحبّ وكان يقيها من كل سوء، كيف لم يخبر فاطمة بهذا الحكم الشرعي إذا كان تخصيصاً للقرآن مع أنّ الكتاب الكريم صريح في مسألة الإرث، كيف لم يخبرها ولو على نحو الإشارة ليجنّبها أن تقف هذا الموقف الذي تعترض فيه على رواية تروى عن رسول الله؟!.

حتى أنّ علياً (عليه السلام) جاء وشهد بحق فاطمة لكنّ شهادته لم تقبل، فكأنّ الزهراء (عليها السلام) قد فرغت من المسألة ولم ترد أن تعالجها من جديد بعد أن عالجتها فيما سبقه ولكنّها أرادت أن تقيم الحجّة فيما عرض لها من أذى ومن ظلامة في الأوضاع التي أحاطت بها، فقالت: "أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تعرفانه وتفعلان به، قالا: نعم، فقالت: نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: رضى فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي فمن أحبّ ابنتي فاطمة أحبّني ومن أسخط فاطمة أسخطني، قالا: نعم سمعناه من رسول الله، قالت: فإنّي أشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبيّ النبيّ لأشكونكما إليه، فقال أبو بكر: وأنا عائذ بالله من سخطه وسخطك يا فاطمة، وهي تقول: والله لأدعونّ عليك في كلّ صلاة أصلّيها".

حزنها على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

كانت تعيش الصلابة في كل مواقفها، وكانت تعيش الحزن الكبير على أبيها، وبكت من فراقه وهو حيّ عندما اعتنقته وهو في حالة الاحتضار، فبكت ثم اعتنقته ثانية فضحكت، فسئلت بعد ذلك ـــ كما تقول الرواية ـــ فقالت: إنّه أخبرها أولاً بوفاته فبكت وأخبرها ثانياً بأنّها أوّل أهل بيته لحوقاً به فضحكت، وانظروا إلى هذه الإنسانة الشابة، الأم، الزوجة التي لم تأخذ الكثير من الحياة، كيف هو اندماجها بحبّ رسول الله أنّها تفرح لأنّها لن تفارق حياة رسول الله كثيراً بل ستلتقي به في أقرب وقت بعد وفاته.

وينقل الرواة في حزنها على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما رواه "الكليني" بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: عاشت فاطمة بعد رسول الله خمسة وسبعين يوماً لم تُرَ كاشرة ولا ضاحكة تأتي قبور الشهداء في كلّ أسبوع مرتين الاثنين والخميس، فتقول: ها هنا كان رسول الله وها هنا كان المشركون، وفي رواية عن الصادق (عليه السلام) أنّها كانت تصلّي هناك وتدعو حتّى ماتت.

وهكذا ـــ أيّها الأحبّة ـــ عاشت الزهراء (عليها السلام) حياتها كلّها وهي الإنسانة التي نعتقد أنّها المعصومة في كل ما قالته وكل ما فعلته أولاً لأنّها سيدة نساء العالمين ومَن كانت بهذه المنزلة لا تخطئ في قول أو في فعل، وثانياً: أنّها من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا(1)، وثالثاً: لأنّنا في دراستنا لحياة الزهراء (عليها السلام) منذ طفولتها حتى لاقت وجه ربّها لم نرَ أي باطل ولو بأدنى نسبة، فكانت المعصومة بإرادتها وبلطف ربّها وإفاضته عليها الكثير من اللطف، والروحانية والرعاية وما إلى ذلك، عاشت الألم كلّه والجهاد كلّه والإسلام كلّه والقوّة كلّها في خطّ مواجهة القضايا الكبرى حتى أنّها أوصت بأن تدفن ليلاً وأن لا يحضر جنازتها الذين واجهتهم في الموقف والذين اعتبرتهم لم يقفوا مع قضايا الحقّ.. ليكون دفنها في اللّيل الاحتجاج الأخير بعد وفاتها امتداداً للاحتجاج قبل وفاتها، كما أرادت أن يسوّى قبرها من أجل أن يكون ذلك دليلاً على كلّ هذه المأساة التي كانت لله وفي سبيل الله ومع رسول الله.

وهكذا بقيت فاطمة (عليها السلام) سيدة النساء وقدوة للمؤمنين والمؤمنات في الموقف وفي مواجهة القضايا الكبرى لتقول للجميع أنّ هناك أكثر من قضية تنتظركم في سبيل الإسلام، وأنّ هناك أكثر من قضية تنتظركم في سبيل وحدة المسلمين، وأنّ هناك أكثر من قضية تنتظركم من أجل الدعوة للإسلام والعمل في سبيله ليكون الأقوى والأعزّ والأرفع من خلال كلّ ما تملكونه من فكر ومن روح وفي كل ما تتحرّكون به من خطوات.

كونوا للإسلام.. هذا هو نداء فاطمة (عليها السلام) كونوا للإسلام كما كنتُ للإسلام.. واعملوا من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى.. وإذا كان الموقف يفرض أن تقفوا وتتوحّدوا وتجمّدوا الكثير من القضايا بالرغم من آلام التاريخ ومآسيه فليكن الإسلام هو الهدف الكبير والعنوان الكبير.

سلام الله عليها يوم ولدت ويوم توفيت ويوم تبعث حيّة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباب الثاني

مسائل الندوة

 

 

 

 

 

الفصل الأول

المسائل القرآنية

 

"كتابُ الله المسطور جاء من أجل أن يفتح عقول الناس على الله وعلى مسؤولياتهم وعلى الحياة من حولهم".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أولاً: التفسير

عمى القلوب:

ما هو تفسير الآية الكريمة {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(1)؟

ــــ يعني أنّ على الإنسان أن يعيش الاهتمام الكبير بعمى قلبه وبصر قلبه أكثر ممّا يعيش الاهتمام بعمى بصره لأنّ القلب أي العقل هو الذي يمثّل إنسانية الإنسان ويمثّل وعيه وعطاءه الروحي.

لهذا لا بدّ للإنسان من أن يعمل على أن لا يكون أعمى القلب وأعمى القلب وأعمى الإحساس، وقد ورد في بعض آيات القرآن الكريم {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً}(2)، وأنت تحشر الناس كما كانوا في الدنيا {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}(3)، فنسيان آيات الله يمثّل حالة من عمى القلب لأنه لا ينفتح على ما فيه صلاح الإنسان وعلى ما فيه سلامة الإنسان، وقد يتمثّل هذا في الانغلاق عن حقائق العقيدة والشريعة والحياة بحيث يفقد الإنسان التفاعل العقلي والروحي مع كلّ كلمات الحق والخير والإيمان، فلا يصغي إليها ولا يستجيب لإيحاءاتها الفكرية والقيميّة، فيبقى في غيبوبة نفسية في كهوف غرائزه وشهواته ورواسبه التاريخية بعيداً عن إشراقة الوعي للحقيقة في الكلمات.

آيات تبدو متناقضة:

هل هناك تناقض بين قوله تعالى: {اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}(4)، وقوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(5)؟.

ــــ ليس هناك تناقض البتة فقوله تعالى: {اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} يتعرّض إلى مضمون التقوى أي لتكن تقواكم لله كما ينبغي أن يتّقى في عظمته وفي إحساس الإنسان في عبوديته له. أمّا الآية في قوله عزّ وجلّ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فناظرة إلى جانب الطاقة في التقوى فتلك تتحدّث عن مضمون التقوى وعن عمقها في المزيد من الاحتياط والإخلاص والمزيد من التوجّه، وأمّا {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فهي كمثل {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}(1)، فلهذه معنى ولتلك معنى آخر يختلف عنه.

معنى "السكن":

يقول تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}(2) ما معنى سكنٌ لهم؟

ـــ الصلاة هنا تعني الدعاء لأنّ الدعاء لهم يشعرهم بالطمأنينة والسكينة النفسية، باعتبار أنّ الله يستجيب دعاءك ـــ يا رسول الله ـــ فيفيض عليهم من رحمته الواسعة والله العالِم.

لا موت ولا حياة:

يقول تعالى: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى}(3) إذا لم يكن موتاً ولا حياة فكيف إذن يعيش في جهنم؟

ــــ يعني أنّه لا يعيش راحة الموت ولا لذّة الحياة، لأنّ الحياة تلاحظ من خلال ما يستلذُّ بها الإنسان فيشعر بطعم الحياة من خلال الحياة ذاتها، فالموت أيضاً راحة للإنسان من آلامه، فهو لا يعيش راحة الموت ولا يعيش لذّة الحياة، وبالتالي فهو لا يموت بما للموت من نتيجة الراحة ولا يحيى بما للحياة من نتيجة اللّذة. والله العالِم بحقائق آياته.

 

 

 

 

قوامة النساء:

يرى بعض المفسّرين أنّ قوله تعالى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}(1) يشمل الرجال والنساء معاً، أي بما فضَّل الرجال بعضهم على بعض فيما بينهم وبما فضّل النساء بعضهم على بعض فيما بينهنّ، فماذا ترون؟

ــــ هذا يعني أنّ الرجال قوّامون على الرجال الذين هم أقلُّ فضلاً منهم، والنساء قوّامات على النساء اللاتي هنّ أقلّ فضلاً منهنّ، وبالتالي فإنّ الرجال ليسوا قوّامين على النساء، بل هم قوّامون على بعضهم كما أنّ النساء قوّامات على بعضهن، والنتيجة هي أنّ الإنسان الأفضل قوّام على الإنسان غير الأفضل، وبذلك تلغى قُوامة الرجل على المرأة، كما يقول أحدُ الكتّاب.

غير أنّ بعض التفاسير تحتاج من المفسّرين أن يفهموا اللّغة العربية، فالمسألة ليست فكرية فقط، فلو أراد الله أن يقول إنّ الرجال قوّامون على الرجال بما فضّل الله بعضهم على بعض وأنّ النساء قوّامات على النساء بما فضّل بعضهن على بعض لقال: الناس قوّامون على الناس بما فضّل الله بعضهم على بعض، لكنّه خصّ الرجال بذلك بما فضّل الرجال على النساء من خلال بعض عناصر التكوين، فهناك قرينة في قوله {بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أيْ أنّ البعض الأول المراد به الرجال والبعض الثاني المراد به النساء من خلال صدر الآية.

ثمّ هناك نقطة أخرى، وهي قوله تعالى: {وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} فإذا كانت القوامةُ للنساء فما دخلن بمسألة الإنفاق التي هي من اختصاص الرجل في نطاق الحياة الزوجية حصراً، فهل إذا أنفقت امرأة على امرأة تصبح قوّامة عليها؟! فالكاتب هنا استغرق في الكلمة الأولى ونسي الثانية، ولذلك نقول، للذين يعتبرون القوامة للرجال على النساء في كلّ شيء، بأنّ هذا غير صحيح، إذ ليست هناك حالة يجب فيها على الرجل ـــ بما هو رجل ـــ أن ينفق على المرأة ـــ بما هي امرأة ـــ إلاّ الحالة الزوجية، فقط لا غير.

ولو ضربنا مثلاً آخر، فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوّام على الرجال والنساء معاً، وهكذا الإمام، والفقيه ـــ إذا قلنا أنّ له القوامة ـــ فهو أيضاً قوام على الرجال والنساء معاً، وكذا الأب على أولاده وبناته، فليس ثمّة حالة للرجل، بصفته الذكوريّة، تجعله قوّاماً على المرأة ـــ بصفتها الأنثوية ـــ سوى الحالة الزوجية، فهي الوحيدة التي ينفق فيها الرجل على المرأة، أمّا إنفاق الرجل على ابنته فلأنها ولدٌ له، لذا تجب عليه النفقة لأولاده وبناته ضمن شروط معينة.

وهكذا، في نطاق المسؤوليات العامّة، فليس هناك رجلٌ أو امرأة، إنّما هناك نبيّ أو وليّ وهناك أناس أجمعون، وهناك إمام والناس أجمعون وهناك فقيه ـــ بناءاً على ولاية الفقيه، وهناك الناس أجمعون، وهناك أب وهناك الأولاد أجمعون، فالآية هنا مختصّة بالحياة الزوجية لاعتبارها مؤسّسة عائلية من أجل احتضان الأولاد كي يعيشوا في الخلية الأولى ليتربّوا ـــ من خلالها ـــ على الحياة الاجتماعية، ومن البديهي فإنّ هذه المؤسسة بحاجة إلى إدارة وقوامة، ولا تعني القوامة هنا حاكمية الرجل على المرأة، فالمترتّب من المسؤوليات للرجل على المرأة محدود جداً، وبالتالي فالقوامة ليست استعباداً ولا استبداداً وليست حكماً وإنّما هي إدارة جعل الله تعالى فيها للرجل حقاً وللمرأة حقاً {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}(1)، وهي القوامة المتمثّلة بحق الطلاق وبعض الأمور التي اختلف العلماء في تحديدها.

قوامةُ الصالحات:

حول القوامة أيضاً، هناك من يرى بأنّ القوامة للنساء مستمدة من كونهنّ صاحبات فضل أيضاً مستدلاًّ بتتمّة الآية الخاصة بالقوامة {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ}  فهل هذا الاستنتاج صحيح؟

ــــ هذا أيضاً يحتاج إلى فهم اللغة العربية، فالتفريع جاء بعدما بيّن الله أنّ الرجال قوّامون على النساء بما فضّل اللهم بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم، فالنساء الصالحات اللواتي يعشن في إطار الحياة الزوجية هنّ المطيعات لله، الحافظات للغيب، العفيفات اللواتي لا يسئن للزوج في غيبته، فهذا تفريع على ما يجب أن تكون عليه النساء اللواتي يعشن داخل العائلة بأن ينسجمن مع خطّ قوامة الرجل في خطّ طاعة الله ومع مسؤوليّتهن في حفظهن أنفسهن انطلاقاً من الحياة الزوجية.

المرادُ بــ "النشوز":

يفهم البعض النشوز في الآية القرآنية {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}(1)، أنّ النشوز هنا هو الخروج عن صفات القوامة من الصلاح والقنوت وحفظ الغيب وليس النشوز الأخلاقي الذي يوجب التأديب، فأي النشوزين هو المراد؟

ــــ هنا لا نقول إنّ المراد هو "النشوز الأخلاقي" بمعنى الانحراف الأخلاقي أي أن تزني المرأة أو تنحرف، كما أنّه ليس المراد من النشوز مسألة عدم حفظ الغيب والصلاح والقنوت ممّا ورد في الآية، بل هو نشوز عن حقّ الزوج في الاستمتاع الذي التزمته الزوجة على نفسها في العقد الزوجي، فالله تعالى لم يفرض على المرأة أن تستجيب للرجل في حاجته الجنسية فرضاً فوقياً، وإن كان له أن يفرض عليها ذلك من فوق، لكنّها التزمت على نفسها في قولها: "زوّجتك نفسي" أي إنني ألتزم بكلّ النتائج التي يفرضها الزواج على المرأة، خاصة وأنّ الجانب الجنسي هو الأساس في الحياة الزوجية من حيث طبيعة العلاقة لا أنّه كلّ شيء.

وإذا كان الأمر كذلك، فالمقصود من النشوز هو عدم طاعة الرجل فيما يجب له عليها، والدليل على هذا قوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً}(2) فلو كانت المسألة مسألة قنوت وصلاح وحفظ للغيب، فهي طاعة الله لا طاعة الرجل، فقوله سبحانه {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} أي فيما تريدونه منهنّ ممّا هو لكم حقّ عليهنّ، فهذا يدلّ على أنّ النشوز يتّصل بحق الرجل على المرأة في الاستمتاع، لأنّه تعالى يقول فيما بعد {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} أي أنّ جوّ الآية يعالج المشكلة الزوجية في البيت الزوجيّ، فتارة يكون التمرّد من الرجل وتارة من المرأة، وتارة من الطرفين {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا}(1) فهذه متعلّقة بالخلاف الزوجي الذي قد يسبّبه الرجل أو تسبّبه المرأة أو قد يشتركان فيه معاً، فما علاقة ذلك بصفات القوامة من صلاح وقنوت وحفظ للغيب؟!

التعدّدية الزوجية:

هل حقاً أنّ المراد بالآية الكريمة الخاصة بالتعدّدية الزوجية {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}(2) أنّ السياق فيها محصورٌ باليتامى، وبالتالي فإنّ الآية جاءت لتحلّ مشكلة إنسانية هي مشكلة اليتامى في حالة الخوف من عدم القسط؟

ــــ صحيح أنّ مورد الآية هو هذا، لكنّنا نعرف أنّ الله سبحانه وتعالى قد تحدّث عن التعدّدية كقاعدة عامّة، فنحن نلاحظ في آيةٍ أخرى {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء} ـــ أي في الميل القلبي ـــ {وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}(3) فالإسلام اعتبر التعدّدية حكماً طبيعياً جداً، ولذلك نراه يتحدّث عن الحدود التي يجب أن ينطلق فيها الرجل بين نسائه، فإذا لم يستطع أن يعدل بينهن في المحبة فعليه أن يعدل بينهنّ في المعاشرة والنفقة وما شاكل.

وهناك نقطة أساسية في السنّة التي يقول عنها القرآن {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(4) وقد جاءنا عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تشريع التعدّد، وهو أوّل مَنْ طبّقه، وكان المسلمون في عهده يطبّقون التعدّد أيضاً، فنحن ننظر إلى الآية من خلال ما جاء في القرآن أولاً وما ورد في السنّة ثانياً، ومن خلال الواقع التأريخي الذي كان المسلمون ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سيّدهم في ذلك، يعدّدون الزوجات على مرأى من النبيّ ومسمع.

 

 

"الحظُّ" و"النصيب":

يفهم بعض المفسّرين المحدّثين أنّ قوله تعالى {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}(1) هو الوصية التي يريدنا الله أن نلتزم بها، ولا علاقة لهذه الوصيّة بالنصيب في التركة، فالله يقول (حظّ) والحظّ لا يكونُ مع الإرث، واعتبروا الولد في آية الإرث {إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ}(2) ليس حصراً بالذكر وإنما تعني الذكر والأنثى معاً، ويتساءل لو أوصى رجل لأولاده وبناته بتركة وله ولد مقعد أحبّ أن يوصي له بنصيب أكبر، فهل يجوز ذلك أم لا يجوز؟

ــــ أمّا قوله في {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} أنّ المراد ليس النصيب، فإنّ الحظّ هو كناية عن النصيب، كما في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ}(3) أي نصيباً، أمّا من يقول أن ليس هناك ترادف في القرآن، أي أنّ كلمة النصيب ليست بمعنى الحظّ ولكلّ لفظ خصوصيته، فهذا صحيح، ولكنّ الترادف هنا هو معنى واحد ولكن تستعمل كلُّ لفظة في موقع يختلف عن الآخر.

فمثلاً يقال (بشر) في مقابل (مَلَكْ) وعندما يقال (إنسان) ففي مقابل (حيوان) والمعنى في بشر وإنسان واحد، فهما مترادفان ولكن هذا استُعمل في مورد وذاك استعمل في موردٍ آخر، وموقع الاستعمال لا يغيّر خصوصية المعنى كلّية، فنحن نقول بالترادف في وحدة المعنى وليس معنى ذلك أن يستعمل هذا في موقع هذا، ويستعمل ذاك في موقع ذاك، فهذه اللفظة وضعت لهذا المعنى لتستعمل في مقابل شيء، وتلك وضعت لذاك المعنى لتستعمل في قبال شيء آخر وهكذا.

وأمّا النقطة الخاصة بالأب الذي لديه ذكور وإناث، فكلمة الولد ـــ كما يرى الكاتب ـــ تعني الذكر والأنثى، فلو أراد أن يوصي فيجوز له ذلك ولكن يوصي بمقدار الثلث، فلو كان لديه ولد مقعد وأراد أن يوصي له بأكثر من حصّة إخوته، فله أن يوصي له بالثلث، وكذلك له أن يوصي بكلّ التركة إذا وافق الورثة، كما أنّ له أن يملّكه تمليكاً فعلياً كل التركة في حياته، فالمسألة ليست مغلقة في مراعاة الجانب الإنساني.

اتّخاذ المسجد:

في قصة أهل الكهف ما معنى اتّخاذ المسجد عليهم، فهل المقصود هو مطلق دار العبادة قبل الإسلام؟

ــــ المسجد هو محلّ السجود لله، والظاهر أنّ المقصود هو محلّ العبادة وليس المراد بالمسجد المصطلح الإسلامي وإن كان المصطلح الإسلامي ينطلق من خلال المصطلح العام وهو محلّ السجود لله أي محل العبادة.

الرؤية والغيب:

يقول تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ*وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ*وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ*فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}(1) فمن المقصود بهذه الآيات؟

ــــ المقصود به النبيّ وليس المراد أنّه رأى الله، فالله سبحانه وتعالى لا يُرى {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}(2) بل الأقرب كما في بعض التفاسير أنّه رأى جبرائيل وذلك لتأكيد تجربة النبيّ الحسيّة في مسألة الوحي، فليس الأمر أمر سماع قد يختلف الناس في تقدير طبيعته، بل هو أمر عيان لا يشكّ الرائي في حقيقته.

وأمّا قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} المراد بها أنّ النبيّ لا يبخل بما أوحى به الله إليه، فلا يحتفظ به لنفسه ليكون شأناً ذاتياً بل هو أمانة الله عنده التي يتحمّل مسؤولية إبلاغها للناس كاملة غير منقوصة.

طعامهم حلٌّ لكم:

ما حكم ذبائح أهل الذمّة من الأنعام، وهل تضم إلى حكم الآية الكريمة التي تقول: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ}(3)؟

ــــ هذه الآية مختصّة بغير الذبائح فعندما يقول {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} فلو قدّموا لنا خنزيراً هل نقول أنّ الله يقول "بحلّية طعامهم" ولو قدّموا خمراً أو ميتة فهل نأكل هذه ونشرب ذاك، فطعامهم هنا يعني غير المحرّم، أي تأكلون ما أحلّ الله لكم عندما يقدّمونه إليكم، وهذا دليل طهارة أهل الكتاب ـــ كما يرى البعض ـــ وهذا مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} أو {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ}(1)، لذلك فإنّ المقصود من قوله (طعامهم حلٌّ لكم) (ملاحظة لم أجد هذه الجملة في القرآن؟؟؟؟) ما كان غير محرّم ذاتاً حتى لو قدّمه المسلم نفسه، فلو فرضنا أنّ مسلماً قدّم لنا خمراً أو لحم خنزير أو قدم ميتة فهل يجوز لنا أن نأكله بحجّة أنّ طعام المسلم حلال؟

علم الكتاب:

يقول تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}(2) السؤال مَنْ هو المقصود بهذه الآية {الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} حسب الروايات الموثوقة عن أهل البيت؟

ــــ هناك روايات كثيرة تقول بأنّ المقصود به هو الإمام عليّ (عليه السلام) باعتبار أنه يملك علم الكتاب ولكنّ الظاهر من الآية أنّها تتحدّث عن أهل الكتاب الذين يعلمون الكتاب والوجه في ذلك أنّ النبيّ كان في مقام الاحتجاج عليهم بما يكون حجّة عليهم والإمام عليّ (عليه السلام) هو تلميذ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لذلك فالآية من قبيل {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(3) بالبيّنات، ذلك لأنّ القرآن كان يتحدّاهم بأن يظهروا التوراة، وكان يتحدّث عن أهل الكتاب وعلماء أهل الكتاب الذين كانوا يعلّمون الكتاب، فالرواية بحسب ظاهر السياق القرآني يراد فيها علماء أهل الكتاب وهذا لا ينفي أنّ الإمام عليّ (عليه السلام) كان يعلم علم الكتاب "علَّمَنِي رسول الله ألف بابٍ من العلم يُفْتَح لي من كلّ بابٍ ألفَ باب"(1) وربّما كانت الروايات لتأكيد ذلك لا لتفسير الآيات، والله العالِم.

العدو من الأزواج والأولاد:

ما هو تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ*إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(2)؟

ــــ مفهوم هذه الآية والله العالم هو أنّك ينبغي أن لا تستسلم لزوجتك لتطيعها في كلّ شيء ولتحقّق لها كلّ مطالبها ولتستسلم لكلّ أهوائها ورغباتها فيما يتعلّق بك أو بها أو بالآخرين، وهكذا لا تستسلم لولدك لأنّ الزوجة ربّما تكون عدوّة لك عندما تريد أن توقعك في معصية الله، أو تريد أن تكيد لك وما شاكل، وهكذا قد يكون ولدك معقّداً فيكون عدوّك بشكل مباشر أو أن يعمل على أن يستغلّ عاطفتك ليقودك إلى جهنّم باعتبار أنّه يطلب منك أن تلبّي رغباته في معصية الله سبحانه وتعالى فاحذرهما من أن ينحرفا بك عن الجادّة، والحذر ليس معناه الشكّ بل كن واعياً لما يطلبه منك ولدك وكن واعياً لرغباته وكن واعياً لعلاقته بك ولعلاقة زوجتك بك وعليك أن تواجه ما يريدانه منك بوعي لتعرف ما يرغبانه أو ما يقودانك إليه هل هو حقّ لتفعله من خلال اقتناعك بأنّه حقّ أو إنّه باطل لتتركه من خلال اقتناعك بأنّه الباطل والله تعالى يقول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}(3)، والفتنة تعني الاختبار فالله يختبرك بمالك هل تطيعه به أو تعصيه ويختبرك بأولادك هل تطيع الله فيهم أو تعصيه فهما موقع اختبار وامتحان، فحاول أن تنجح في الامتحان عندما يختبرك الله بمالك وولدك {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}(4)، {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}(5) فليس هذا إهانةً وليسَ ذلك إكراماً.

 

المقصود بــ (أهل الذكر):

في قوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(1)، هل المقصود من كلمة (الذكر) مطلق الكتاب السماوي أو القرآن الكريم تحديداً، وإذا كان المقصود من كلمة الذكر القرآن فمن هم (أهل الذكر)؟

ــــ من الممكن أن يكون مورد نزول الآية هو أهل الذكر بمعنى أهل الكتاب لأنّ الله أراد أن يحتجّ بما ورد في صفات النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ودلائل نبوّته في الكتاب، ولكنّ الآية إذا كانت قد نزلت في هؤلاء فهي شاملة لكلّ أهل الذكر لأنّ التوراة ذكر الله والإنجيل كذلك ذكر الله ولأنّ القرآن ذكر الله أيضاً ولأنّ ما يتحرّك به العلماء في ثقافتهم الدينية يجعلهم من أهل الذكر، فالآية وإنْ وردت في مورد خاص فإنّها لا تتجمّد عنده ولكنها تجري مجرى الليل والنهار والشمس والقمر كما يقول الإمام الباقر (عليه السلام)، وقد ورد في بعض الروايات أنّ المراد بهم الأئمة (عليهم السلام) وهو تفسير بالمصداق.

ممَّن الحسنةُ وممَّن السيّئة؟

قال تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً*مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}(2)، ففي الآية الأولى الحسنة والسيّئة من الله والثانية تقول الحسنة من الله والسيّئة من نفسك؟

ــــ من الممكن جداً أن يكون المقصود بالآية الأولى الحسنة والسيّئة بحسب الأوضاع الطبيعية التي قد تحصل من قبيل الزلازل والبراكين والصواعق والابتلاءات الأخرى، فلقد كان قوم موسى يتشاءمون أي يطيّروا بموسى وكانوا يقولون له هذا من عندك، وإذا جاءتهم حسنة كما لو أنزل الله المطر عليهم وأعطاهم الخصب والرخاء يقولون هذا من عند الله، في حين أنّه كلّه من عند الله الذي ينزّل الصواعق والعذاب على من يشاء وينزّل المطر والرحمة على من يشاء، فالمطر من الله والصواعق من الله.

أمّا بالنسبة إلى الآية الثانية فربّما وردت في مورد الحديث عن تأثير أفعال العباد في حدوث كثير من المشاكل والأزمات والآلام باعتبار علاقة المقدّمات بالنتائج فيما أودعه الله من قانون السببية في الكون وبذلك أمكن نسبة السيئة إلى الإنسان، وهي التعبير عن مظاهر المشاكل والآلام في حياته، أمّا الحسنة فإنّ نسبتها إلى الله أكثر باعتبار ما أعدّه الله من مقدّمات حتى إنّ إرادة الإنسان الخيّرة قد تحرّكت بفعل التوجيه الإلهي بينما الأمر في السيئة على العكس لأنّ التوجيه كان متعلّقاً برفض السير في هذا الاتجاه وقد تحدّث القرآن في أكثر من آية في هذا الموضوع، يقول تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}(1)، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}(2).

الصراط:

ما هو تفسير قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}(3)؟

ــــ هذه الآية تتحدّث عن الخطّ الذي رسمه الله لعباده ليسيروا عليه وهو خطّ الإسلام في عالم النظرية والتطبيق، هذا الخطّ الذي أنعم الله به على عباده "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أنْ هدانا الله"، فالهداية بالإسلام هي نعمة الله علينا التي لا بدّ أن نحمده وأن نشكره عليها، فهذا هو الصراط وهو الطريق المستقيم طريق الذين أنعم الله عليهم والذين لم يغضب عليهم لأنّهم عرفوا الحق وجحدوه، ولم يضلّوا لأنّهم لم يعرفوا الحق وساروا في خطّ الضياع وفي خطّ الضلال.

 

 

معنى "لا جناح"

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}(1)، وكلمة "لا جناح" في الآية توحي بالاستحباب فما هو تفسير وجوبهما؟  

ــــ  كلمة {لاَ جُنَاحَ} إذا وردت في مقام توهّم الحرمة فإنّها لا تفيد إلاّ الإباحة في مقابل التحريم، لا الإباحة بالمعنى المصطلح، أي في مقابل الوجوب، وقد كان المسلمون يتحرّجون من السعي بين الصفا والمروة حيث موضع الأصنام، فكانوا يتصوّرون أنه حرام فكأنّه طواف أو سعي بمواقع الأصنام، وأراد الله أن يبيّن لهم أنّ هذا الشيء الذي يظنون أنّه حرام ليس بحرام، وعندما قال: {مِن شَعَآئِرِ اللّهِ} فإنّ الله يريد للناس أن يعظّموها لذلك يستوحي السامع أو القارئ الإلزام من هذا والرخصة في مقابل التحريم من ذاك، ولهذا يقولون إذا ورد "لا جناح" في مقام توهم الحظر فلا تفيد إلاّ الجواز في مقابل التحريم، أما الوجوب فيستفاد من دليل آخر.

معنى "طائركم":

قال تعالى: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}(2)، فما معنى قوله تعالى: {طَائِرُكُمْ}؟

ــــ الطائرُ عند العرب يرمز إلى التشاؤم بالتطيّر فقد كانوا يتشاءمون بالطيرة {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ}(3) أي تشاءمنا بكم أنّكم سوف تخرّبون بلدنا وتحدثون لنا مشاكل وابتلاءات {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي ليس لنا دخل بنتائج ما يحدث لكم، بل إنّ كفركم وضلالكم هو الذي يؤدي إلى التشاؤم في مستقبلكم أو في مصيركم.

 

 

 

 

{وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}:

سمعت من بعض الخطباء تفسير قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً}(1)، أنّ الأنبياء وحتّى النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يرد جهنّم ثم يخرج منها، فما هو ردّكم على ذلك؟

ــــ الورود قد يكون الدخول وقد يكون بمعنى الوصول، فلمّا ورد موسى (عليه السلام) ماء مدين لم يدخل في الماء بل وصل إلى الماء، فالورود قد يكون بمعنى الدخول في الشيء وقد يكون بمعنى الوصول إلى الشيء، ومن الممكن جداً أن يكون المراد هنا من واردها الوصول إليها، وهناك بعض الآيات التي يستوحى منها أنّ طريق الجنّة يمر بالنار أي بطريق النار، ولذلك نرى أنّ أصحاب النار وأصحاب الجنّة يتحاورون من الباب الذي باطنه الرحمة وظاهره من قبله العذاب. فقد يكون الأمر على هذا النحو وليس ضرورياً أن يدخل جهنّم وربما يكون الدخول سياحياً والله العالِم.

الفحشاء والمنكر:

يقول تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}(2) فما معنى الفحشاء والمنكر؟

ــــ إنّ الفحشاء هي المعصية التي تتجاوز الحدّ وربما تطلق على المعاصي الجنسيّة، وأمّا المنكر فهو كلّ شيء ينكره الله تعالى ولا يحبّه.

وفاة عيسى (عليه السلام):

في عقيدتنا أنّ روح الله عيسى (عليه السلام) ما صُلِب وما قُتِلَ وإنّما قد شُبِّه له، وقد أخبرنا القرآن الكريم بذلك، وهنالك آية أخرى يخاطبه فيها عزّ وجلّ ويقول: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}(3)، وفي آيةٍ أخرى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}(4)، فهل يكون المسيح قد توفي ورُفِعَ إلى السماء، أم أنّه رُفِع حيّاً؟

ــــ هناك رأيان، فالله يقول: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} فالوفاة هنا قد لا تكون بمعنى قبض الروح، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}(1)، فالتوفية هنا بلوغ الحدّ، فقد يبلغ امرؤ حدّ عمره فيرفعه الله إليه، فالموت عندما يسمّى وفاة فباعتبار أنّه يمثّل استيفاء الإنسان حقّه وعمره في حياته.

وهناك رأي لبعض المفسّرين ومنهم الشيخ (محمود شلتوت) يقول أنّ من الممكن انّه مات وأنّ الله رفعه إليه رفعاً طبيعياً أي بالروح، لكنّ الظاهر من الأحاديث الواردة أنّ الله رفعه رفعاً جسدياً.

النجدان:

يقول تعالى: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ*وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ*وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}(2)، فما هو المقصود من (هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)؟

ـــ المراد بـــ (النجدين) الطريقان، ولقد قال الإمام الكاظم (عليه السلام) في بعض كلماته "إنّما هما نجدان نجد خير ونجد شرّ فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير".

الحديث حول النعمة:

يقول تعالى: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}(3)، فهل النعمة هي المال والأولاد وغيرهما، وإذا كانت كذلك فالحديث عنها يجلب الحسد، فما هو رأيكم؟

ــــ المراد بالحديث عن نعمة الله، قد يكون بالكلمة وقد يكون بإظهار النعمة، أي أن تظهر النعمة عليك في كلماتك وفي عملك وفي الإقرار والاعتراف بذلك والشكر له على كل ذلك، وليس من الضروري أن تتحدّث عن كل التفاصيل، بل أن تتحدّث عن المبدأ أو من خلال التفاصيل التي تستطيع أن تذكرها إذا لم تكن هناك مفسدة، أمّا إذا كانت هناك مفسدة قد توبق دينك وواقعك ومصالحك فليس من الضروري أن تتحدّث في ذلك، والظاهر من الآية ـــ والله العالم ـــ أن يذكر الله بنعمته ويشكر الله على ما أولاه منها فذلك هو التجسيد الحي للاعتراف بعبوديته له التجسيد الحيّ للاعتراف بعبوديته له وفقره إليه وخضوعه لربوبيّته في إحساس بالفضل الإلهي العظيم عليه في مواقع النعمة.

مفهوم البركة:

نرجو إيضاح مفهوم البركة في كتاب الله وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) وبأسلوب مقنع؟

ـــ أمّا بالنسبة لأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) في تفسيرهم لقوله تعالى في حديث عيسى (عليه السلام) عن نفسه: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً}(1) قالوا: "نفّاعاً للناس" فالبركة تعني النفع، وأن يكون الإنسان مباركاً هو أن تكون حياته حياة خير للناس بحيث تتّسع حياة الناس باتساع حياته، وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) بطريقة أخرى عندما قال: "أحسن الناس معاشاً من حَسُن معاشُ غيره في معاشه، وأسوأ الناس معاشاً من لم يعش غيره في معاشه"، فأن تكون مباركاً وأن تنطلق البركة منك يعني أن تكون نفّاعاً للناس بعلمك وبمالك وبجاهك وبجهدك وبكلّ ما تريد أن تقدّمه للناس وللحياة.

رؤية الله في الآخرة:

هل يمكن أن نرى الله في الآخرة، وما هو تعليقكم على قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}(2)، وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}(3)؟

ــــ ليس الله جسداً ليُرى، أمّا كيف هي ذاته وكيف هي ملامح وجوده، فنحن لا نملك أيّة وسيلة لهذه المعرفة لأنّنا المحدودون في عقلنا الذي يتحرّك من خلال ما يحسّه فيما يريد أن يحسّه، أو من خلال الغيب الذي يخبر به الأنبياء عن الله سبحانه وتعالى، كما لم يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن ملامح وجوده ولكنّه أخبرنا أنّه {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}(4)، كما إنّ موسى (عليه السلام) عندما قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}(1)، أي علَّقه على أمرٍ لا يحصل، لذلك فإنّ الله لا يُرى لا في الدنيا ولا في الآخرة.

أمّا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، فالمراد هنا ليس النظر الحسّي بل النظر إلى عظمة الله تعالى فيما تتمثّل في يوم القيامة.

أمّا آية {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فلا علاقة لها بهذا الموضوع ولكنّها تعني أنّ الله يعطي الإنسان المحسن الحسنى ويعطيه الزيادة على ذلك {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}(2)، وكما في قوله تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(3).

إستيئاس الرسل:

يقول تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ}(4)، فما هو المقصود باستيئاس الرسل؟

ــــ الاستيئاس ليس المراد منه اليأس من الله تعالى، بل المقصود أنّهم استنفدوا كلّ التجارب كما في قصّة نوح (عليه السلام) عندما عاش مع قومه (950) سنة بحيث لم تكن هناك أيّة تجربة أخرى في مجال الدعوة ممّا يمكن القيام بها، وفي النهاية كان يقدّم تقرير نهاية الخدمة {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً*فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً*وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً}(5)، فلمّا استكمل التجارب بأجمعها {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً}(6)، لا من جهة عقدة، بل {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً}(7)، فالرسل لا ييأسون من روح الله ولكنّهم قد يقاربون اليأس باعتبار أنّهم استنفدوا كلّ التجارب ولم تبقَ هناك تجربة أخرى. وربّما كان قوله تعالى: {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} دليلاً على أنّ المسألة تتّصل بموقف قومهم المتمرّدين منهم بعد استنفاد التجارب الكثير معهم ممّا جعلهم يتصوّرون أنّهم قد كذبوا ولا فائدة لتجربة أخرى.

{وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ}

يقول الله تبارك وتعالى: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ}(1)، فماذا يعني {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ}؟

ــــ الظاهر ـــ والله العالِم ـــ أنّهم كانوا يقولون للنبيّ سمعنا وأخذنا علماً بما تقول ولكنّنا لن نطيعك في ذلك كلّه فكأنّهم يحاولون أن يثيروا حالة من الاستهزاء في إقرارهم بالسماع ويضيفون إلى ذلك قولهم: اسمع لا أسمعك الله، وهو معنى قولهم راعنا في لغة اليهود وكانوا يستعملونها للتمويه فهم يريدون فيها هذا المعنى بحسب لغتهم ولكنّ المسلمين يفهمون منها انظرنا من المراعاة حتّى يستوعبوا الكلام، وكانوا يلوّون ألسنتهم بالكلام والسخرية والاستهزاء.

طلب الهداية إلى الصراط:

ما هو سبب طلبنا من الله الهداية إلى الصراط المستقيم في قوله تعالى: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}(2)، هل نحن ضالّون حتى نحتاج إلى هذه الهداية؟ وإذا فرضنا قبول ذلك من البعض فكيف يصدر مثل هذا الأمر عن المعصومين (عليهم السلام) وهم نموذج الإنسان الكامل؟

ــــ إنّ الهداية للصراط المستقيم قد تكون للضالّ الذي يمكن أن ينحرف، ولنا حتى لو كنّا مهتدين، فإنّ الهداية تمثّل حالة استمرارية، فـــ {اهدِنَــــا} تعني اجعلنا يا ربّ نسيرُ دائماً في خطّ الهداية ونهتدي إلى الصراط المستقيم في كلّ أوضاعنا، في حاضرنا ومستقبلنا، وبديهي أنّنا لا نستطيع أن نقول أنّنا مهتدون مئة بالمئة لأنّنا إذا كنّا مهتدين في الإيمان فقد لا نكون مهتدين في العمل، وإذا كنّا مهتدين في العمل قد لا نكون مهتدين في بعض المشاعر والأحاسيس وما إلى ذلك.

أمّا بالنسبة إلى المعصومين فإنّ الهداية إلى الصراط المستقيم قد تنطلق إلى الدرجات العليا التي يمنحهم الله إيّاها عندما يزيد الله في كرامتهم وفي درجتهم، كما أنّ الهداية إلى الصراط المستقيم لا تعني دائماً الفعلية بل قد تختلف حسب اختلاف الأشخاص وربّما ينطلق الأنبياء المعصومون للتعبير عن اعترافهم أمام الله تعالى بأنّهم إذا كانوا سائرين على الصراط المستقيم فإنّه من هداية الله لهم في ذلك، والله العالِم.

إتيان الآيات:

يقول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً}(1) السؤال: ما هي آيات الله المقصودة في هذه الآية مع تفسير مختصر للآية؟

ــــ إنّنا نستوحي من هذه الآية ـــ والله العالم بحقائق آياته ـــ أنّها جاءت رداً على هؤلاء الجاحدين المتعنتين الذين لم ينفتحوا على عقلانية الإسلام فيما أوحى به الله سبحانه وتعالى لنبيّه من القرآن وما أراد لهم أن يعيشوه في عقولهم وأفكارهم، فهم يقولون تارة لماذا لا نرى الله جهرة، ويقولون أخرى أنّ على الملائكة أن تأتي معك لنعرف أنّك رسول الله، أو يأتي بعض آيات ربّك كالآيات التي كانت ترد على موسى وعلى الأمم السابقة، في حين أنّ الله تعالى يقول لهم لو جاءت آيات الله وبقي هؤلاء على جحودهم فإنّ الهدنة التي جعلها الله للناس ليأخذوا فرصة في البحث عن الحقيقة ليصلوا إليها ستنتهي، فإنّ الله سبحانه وتعالى إذا أنزل آياته فإنّ العذاب سوف يكون بعد هذه الآية وتلك سنّة الله سبحانه وتعالى في أنبيائه فيما سبق من الأنبياء.

 

 

 

 

{وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}:

كيف تفسرون الآية: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ*إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}(1)؟

ــــ ربما كان المراد اقتضاء سنّة الله وجود الاختلاف في مستوى التفكير وطريقته والتنوّع في التجربة وطبيعة الملاحظة والاستنتاج ممّا يفرض الاختلاف في النظر إلى الأشياء وفي النتائج التي ينتهي إليها الاختلاف، ممّا قد يؤدي إلى الكثير من حالات التنازع والاختلاف والارتباك في شؤون الحياة الخاصة والعامة للناس، كما يؤدي إلى الانحراف عن الخطّ المستقيم والبعد عن خطّ الإيمان والاقتراب من خطوط الكفر والضلال، وتلك هي طبيعة الحرية التي جعلها الله للإنسان في حركة الإرادة التي تتحرّك في الخطوط المتوازية في الفكر والعمل، لما يراه الله من الحكمة في ذلك بعيداً عن أي محذور عقلي لما جعله الله من الضوابط الذاتية التي تحدّد للإنسان خطّ السير في مناهج الفكر وأساليبه وطبيعة المضمون ممّا لو اختاره الإنسان وسار عليه لاستطاع أن يصل إلى نتيجة واحدة، ولكنّ مشكلته أنّ غرائزه الذاتية تتدخّل ـــ سلباً ـــ في نهجه في الفكر وطريقته في عملية الإرادة والاختيار كما أنّ أوضاعه العاطفية قد تؤثّر على قراراته الفكرية، فتختلط عليه الأمور وبذلك يحدث الخلاف الذي يؤدي إلى النتائج السلبية {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}(2) من المؤمنين الذين تقبّلوا رحمة الله التي أفاضها على الناس من إشراق الحقيقة في الفكر ووضوح الرؤية في الموقف ممّا جعلهم يختارون الإيمان من مواقع الوضوح ويسيرون في الخطّ المستقيم، وهكذا تكون الرحمة الإلهية في تأكيدها على أجواء الإيمان في الفكر والعمل {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}  لينفتحوا على آفاق رحمته فيما يريده لهم من الالتزام بطاعته بما يحقّق لهم مصالحهم المادية والروحية وذلك هو الذي يلتقي بالمضمون الداخلي لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(3) ـــ والله العالم ـــ .

 

 

تأويل {أُوْلُواْ الأَرْحَامِ}:

يقول تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ}(1) ما تأويل هذه الآية الكريمة؟

ــــ هذه الآية جاءت لتعطي برنامجاً تشريعياً في مسألة الإرث في أنّ الأقرب يمنع الأبعد، أي أنّ الابن يمنع الأخ والأخ يمنع العم والعم يمنع ابن العم وهكذا.

وبهذا يستدلّ فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) على أنّ البنت إذا انفردت فإنّها تأخذ المال كلّه مع أنّ الله فرض لها النصف {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}(2)، إنّهم يقولون إنّها ترث النصف بالفرض وترث النصف الآخر بالقرابة {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ}(3)، فالمفروض أنّها أقرب الأرحام إلى الميت، وإذا كان الأقرب هو الأولى من الأبعد فمن الطبيعي أن تأخذ ذلك والمسلمون الآخرون يستدلون بما يشابه ذلك لكن في غير هذا الموقف، أي في محل استدلال مشترك ولكنّ هناك اختلافاً في بعض التفاصيل.

دفاع الله عن المؤمنين:

كيف تفهمون قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}(4) هل هو تشريع للدفاع أو هو إخبار عن سنّة إلهية، ومتى يتحقّق هذا الدفاع في الدّنيا أو في الآخرة، وكيف؟

ــــ {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} في الدنيا وفي الآخرة {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ولكن لنصر الله شروط نلتزمها ونعيشها في حياتنا، وهي تنطلق من خلال حكمة الله في التوقيت وحكمة الله في هذا الموقع وفي ذاك وعلينا أن نفهم وعد الله فيما يعدنا به على أساس حكمته فالله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(5)، ولكنّنا قرأنا في الأحاديث المأثورة أنّ هناك الكثير ممّن لا يستجيب الله دعاءهم وأنّ الله قد لا يستجيب الدعاء للإنسان لأنّه لا مصلحة له في ذلك أو قد لا يستجيب الدعاء للإنسان لأنّ فيه اختلالاً في نظام الكون ممّا يشكّل وضعاً سلبياً على الناس الآخرين.

لذلك فإنّ الله ينصر كما يخلق، ألم يخلقنا الله ولكن في مدى تسعة أشهر، وهكذا {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(1) ولكنّه خلق السماء والأرض في ستة أيام، ولذلك فإنّ الله ينصر الذين آمنوا ويدافع عن الذين آمنوا ولكن قد لا تكون هناك حكمة في ذلك بقدر علاقتها بالنظام الكوني والنظام الإنساني بحيث إنّ الله إذا أراد أن يدافع عن هذا المؤمن هنا فقد يكون دفاعه سلبياً على المؤمنين هناك، أو قد تسقط حكمة من حكم الله في الكون، لذلك فالله هو الذي ينصرنا ويرزقنا ويدافع عنّا من خلال رحمته المنفتحة على حكمته، ولذلك أيضاً علينا أن لا نتّهم الله في قضائه وقدره لأنّه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(2).

كيد النساء ومكرهن:

قال تعالى في سورة يوسف: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}(3) فهل للنساء كيد ومكر، وهل هو محمود؟

ــــ ليس هذا ما قرّره الله ولكنّه يقصّه عن العزيز زوج هذه المرأة {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} لذلك لم يؤكّد الله هذه المسألة وإنّما ذكر القصة في سياقها، وقد يقول بعض الأشخاص أنّ اضطهاد الرجال للنساء ومنعهن من أن يفجّرن طاقاتهن العقلية والفكرية في العلم وفي الثقافة وفيما إلى ذلك جعل المرأة تحرّك عبقريتها في هذا الكيد، بحيث أصبح كيدها عظيماً فانطلقت كلّ عبقريتها من أجل حماية نفسها من كيد الرجل ليكون كيدها أعظم من كيده لتحفظ نفسها في ذلك ولكن كما قلنا فإنّ الجواب الأساس هو أنّ القرآن لم يقرّر ذلك كحقيقة إيمانية أو إنسانية وإنّما تحدث بذلك عن لسان زوج هذه المرأة صاحبة يوسف (عليه السلام).

 

 

سعة الجنّة:

كان جواب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما سئل إذا كانت الجنّة عرضها السماوات والأرض، فأين تكون النار، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل؟

ــــ إذا صحّ هذا الحديث فهو جواب تقريبيّ لأنّنا نعرف أنّ النهار إذا جاءنا فاللّيل يجيء قوماً آخرين نتيجة كروية الأرض، فقد يكون الحديث تقريباً للفكرة بأنّ المراد من الجنة التي عرضها السماوات والأرض ـــ والله العالم ـــ المبالغة في سعة الجنّة لا في مقام التحديد الدقيق فإنّ السياق يوحي بذلك، وإلاّ فليس المقصود العرض في مقابل الطول، فقد يقول قائل: هذا العرض فأين الطول؟ وربّما نقول إذا كان عرض الجنّة هو السماوات والأرض فلا بدّ أن يكون للنار أُفق غير أُفق السماوات والأرض، فلماذا لا نعتبر المسألة هكذا، فكما يكون الليل في مكان آخر فالنار تكون في مكان آخر خارج نطاق السماء والأرض لأنّ الله يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، والله العالم بحقائق كونه وجنّته وناره. فليس المهم أن نعرف جغرافية السماوات والأرض والجنّة، إنّما المهم أن ندخل الجنّة كيفما كانت جغرافيّتها، والمهم أن تتّسع لنا.

دخول البيوت من أبوابها:

ما معنى قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}(1)؟

ــــ إنّ هذه الآية تريد أن تؤكّد لنا أنّنا إذا أردنا أن نصل إلى أي هدف فهناك وسائل طبيعية للسير في طريق الهدف، فإذا أردت الدخول إلى البيت فإنّ للبيت باباً تدخل إليه من خلاله لا من النافذة أو من مداخل أخرى.

وهذا ما يشمل كل القضايا سواء كان ذلك في الطاعة أو السياسة أو الاجتماع وما إلى ذلك.

 

أضعاف الربا المضاعفة:

ماذا نفهم من قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً}(1)، إذ من ذا الذي يُحدِّد الأضعاف؟

ــــ ليس المراد منه أن لا تأكلوا الربا إذا كان أضعافاً مضاعفة، وإلاّ فإذا كان ضعفاً وليس أضعافاً فهلا معنى ذلك أن لا مانع منه؟! بل إنّ الآية كناية عن أنّ الربا يتطوّر، فلا تأكلوا الربا لأنّه بالنسبة إلى صاحب المال سوف يتطوّر رأسماله من خلال الربا إلى أن يبلغ أضعافاً مضاعفة باعتبار أنّ المدين لا يستطيع أن يفي وتظلّ الفائدة تتراكم عليه وحينئذٍ يتحوّل الربا إلى أضعاف مضاعفة.

فالله تعالى يريد أن يبيِّن خطورة الربا في نتائجه السلبية على الإنسان المستدين.

الاستدراج الإلهيّ:

ما معنى قول المعصوم الصادق (عليه السلام): "إذا أراد الله بعبدٍ خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمة لتذكّره الاستغفار، وإذا أراد الله بعيدٍ شرّاً فأذنب ذنباً أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها"، والله يقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}(2)؟

ــــ إنّ هذا الحديث بهذا الشكل التعبيري قد لا يراد ظاهره، بل المقصود أنّ الإنسان إذا عصى الله وأذنب فإنّ الله تعالى يهيء له الظروف بحيث يعاقبه بالبلاء ليتذكّر ربّه فيستغفر رحمةً منه به، وأمّا الإنسان الذي تمرّد على الله سبحانه وتعالى ورفض ذكر ربّه فإنّ الله سبحانه وتعالى قد يعطف عليه بإعطائه الفرصة بحيث يغرقه بالنعم فإذا كانت روحيّته سيئة فإنّ النعمة قد تنسيه الاستغفار فيأتي ربّه يوم القيامة وهو مقيم على ذنبه، وإلاّ فإنّ الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يجبر الإنسان على أن ينسى الاستغفار وهو يحبّ لعباده أن يستغفروه.

أمّا قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}، فهي واردة في الحديث عن الكافرين {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً}(3)، فالله تعالى يمدّ للإنسان الكافر حتّى يقيم الحجّة عليه من خلال نعمه ليشكر ربّه أو ليكفر من خلال اختياره.

ثانياً: مسائل عامّة:

الجهر والإخفات:

في الآية المباركة {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}(1) ليس هناك دليل ظاهر على أنّ الجهر يجب أن يكون في صلاة الصبح والعشائين ولا وجوب الإخفات في الظهرين فهل هناك من يقول من علمائنا بغير ذلك؟

ــــ جاءت السنّة على تحديد القراءة في الصلاة فحدّدت الإخفات في الظهرين والجهر في الصبح والعشاءين. وربّما كان مفاد الآية أنّه لا يكون هناك جهر إلى حدٍّ عالٍ ولا إخفات بحيث لا يسمع الإنسان نفسه وبهذا يمكن الجمع بين الآية وبين ما جاءت به السنّة.

عشر ختمات في الشهر:

ربيع القرآن هو شهر رمضان وأنا أقرأ عشر ختمات أو أكثر بصورة سريعة خلال هذا الشهر، فما هو رأيكم؟

ــــ أنتَ لم تقرأ القرآن وإنّما قرأت ألفاظه.

فلسفة تكرار الآيات:

يزخر القرآن الكريم بالعديد من القصص والعبر لأنبياء الله تعالى ونرى من ذلك قصّة نبيّ الله موسى (عليه السلام) تتكرّر مراراً في العديد من السور، فما هي فلسفة تكرار الآيات في القرآن؟ وما هي فلسفة تكرار قصة نبيّ الله موسى على وجه التحديد؟

ــــ القرآن ليس كتاباً يتحدّث عن الموضوعات بطريقة أكاديمية حتى يحافظ على وحدة الموضوع وعلى وحدة القصّة، ولكنّه كتاب أراد الله له أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأن يفتح عقل الإنسان على العبرة وعلى العظة وعلى كلّ المعاني التي يمكن أن تبني له إنسانيّته وحياته فتربطه بالله سبحانه وتعالى وتفتح له أبواب المسؤولية.

ولذلك فإنّ هناك أكثر من قصّة في القرآن تتّصل بأكثر من جانب، والله عندما يتحدّث عن هذه القصة أو تلك في مورد معيّن فلارتباطها بالموعظة، وبعضها لارتباطها بالمفهوم الإسلامي الذي يريد أن يركّزه القرآن, وهذا ما تمثّل بشكل واضح في قصة موسى (عليه السلام) الذي عاش حياة متحرّكة متنوّعة، فموسى (عليه السلام) عاش قبل الرسالة مشكلة صعبة في مجتمعه من خلال حالة الاستضعاف الذي عاناه في ذلك المجتمع، والتي دفعته إلى أن ينصر مستضعفاً آخر من أهله وقومه على ذلك الفرعونيّ الذي جاء ليقتل هذا المستضعف أو ليحطّمه فلكزهُ موسى فقضى عليه، ولذلك عاش في حالة خوف وإن كان لم يذنب لأنّه كان في مقام الدفاع عن المستضعف، ولكنّه رأى أنّ هذا يخلق له بعض المشاكل مع المجتمع الفرعوني فخرج خائفاً يترقّب.

فهذه اللّفتة يمكن أن تعطينا فكرة معيّنة عن واقع المستضعفين آنذاك وعن طريقة موسى في مواجهة هذا الواقع والنتائج السلبية التي تمخض عنها هذا الواقع، وهكذا في رعاية الله له في ولادته، باعتبار أنّ فرعون كان يذبح أبناء بني إسرائيل ويستحي نساءهم ولذلك فإنّ هذه تدل على النعمة الإلهية وعلى الرحمة واللطف الإلهي بموسى وفي إعداده وفي جعله فرعون وامرأته يشعران بالعطف عليه، ثم بعد ذلك عندما التقى بشعيب وما حدث له في مسيرته بعد خروجه من مدين بموعد مع الله سبحانه وتعالى في الرسالة، كذلك عندما ذهب إلى فرعون وتحدّى السحرة، وقد عاش تلك الفترة وهو في موضع التهديد من فرعون ومن قومه.

إنّ حياة موسى (عليه السلام) هي حياة متحرّكة في أكثر من جانب، ولذلك فإنّ القرآن الكريم تحدّث عن موسى في أكثر من موقع باعتبار أنّ أي موقع من المواقع التي أشار إليها القرآن يحمل فكرة معينة ويحمل مفهوماً معيّناً يحتاج فيه الإنسان المؤمن إلى جانب من جوانب قصّة موسى من أجل أن يتعمّق لديه هذا المفهوم أو تلك القيمة أو هذه العظة وهلمّ جرّا. لذلك لم يكرّر القرآن القصّة بسياقها وطبيعتها ولكنّه حرّكها في جوانبها المتعدّدة في أكثر من موضوع وأكثر من عبرة وأكثر من عظة، والله العالم بحقائق آياته.

 

لغة القرآن الصعبة:

هل أنّ الله تعالى ـــ كما يتصوّر البعض ـــ يخاطبنا بلغة صعبة، وأحياناً تحتاج إلى تمحيص، فهؤلاء يربطون بين الكون ككتاب منشور وبين القرآن ككتاب مسطور، في أنّ كلاًّ منهما معقّد ومحكم ودقيق، فهناك وحدة ناموس ووحدة صانع بينهما؟

ـــ هناك فرق بين كتاب الله الوجودي الطبيعي (كتاب الكون) وبين كتاب الله الكلاميّ (القرآن) فالله سبحانه وتعالى خلق الكتاب الوجوديّ من أجل تنفيذ حكمته في ترابط الكون وتكامل عناصره وليحقّق النتائج التي شاءتها حكمته سواء من خلال حياة الإنسان والحيوان فيه أو من خلال حياة أهل السماء في السماء، وهلمَّ جراً!

ومن الطبيعي، فإنّ الله تعالى عندما يريد أن يخلق الكون على أساس أسرار معينة وقوانين وسنن، فإنّ فهم هذه السنن والقوانين يحتاج إلى دقّة، بحيث أنّك كلّما تعمّقت فيها أكثر، كلّما اكتشفت أسراراً أكثر، ولكنّها دقّة لا تمنع الإنسان من أن يستوضح منها ما يحتاجه في بعض مواقع معرفته بالله.

إذن، فدور الكتاب الوجوديّ الذي يشتمل على الظواهر الكونية وعلى كلّ هذه الأفلاك وما تختزنه من نظم وقوانين وسنن، هو أن يحقّق للإنسان وللملائكة وللمخلوقات وللوجود نتائجه التي أراد الله لها بحكمته أن تتحقّق، ولا يحتاج ذلك إلى وضوح كلّ الأسرار، فلقد خلق الله تلك الظواهر والسنن لتحقّق للإنسان شروط وجوده.

وأمّا القرآن الكريم، فإنّ الله تعالى أنزله نوراً {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ*يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ}(1) ليخرجهم من الظلمات إلى النور، فكتاب الله المسطور جاء من أجل أن يفتح عقل الناس على الله وعلى مسؤوليّاتهم وعلى الحياة من حولهم، ولا مانع من أن تشتمل المفاهيم القرآنية الواضحة في بعض أسرارها، على العمق، إلاّ أنّ القرآن ـــ وكما يصرّح هو بذلك ـــ قد نزل بلسان عربي مبين أي ليبيّن للناس، فالمطلوب فيه الوضوح، وعلى ذلك فإنّ كتاب الله (القرآن) نزل ليوضّح للناس الحقيقة وليعرّف الناس مسؤولياتهم وليخرجهم من ظلمات الجهل والتخلّف والشرك والإلحاد إلى نور التقدّم والوعي والتوحيد والإيمان.

فإذا كان كتابُ الله الوجوديّ يحمل بعض التعقيد في عمق أسراره فليس معنى ذلك أن يكون كتاب الله القرآني معقّداً بهذه الطريقة لأنّ لذاك الكتاب دوراً لا يتطلّب الوضوح، ولأنّ لهذا الكتاب دوراً يتأسّسُ على الوضوح، إذ لا معنى له بدون الوضوح.

الحشويّة في القرآن:

وفقاً للقول بأنّ الذكر الحكيم خالٍ من الحشويّة، فهل يصحّ اعتماد ما يقوله النحاة من أنّ هناك حروفاً أو أدوات زائدة مثل (ما) بعد (إذا) علماً أنّ هناك رأياً معاصراً يقول بأنّ لكلّ حرف مكاناً ودلالة ومعنى في القرآن؟

ــــ قد تكون لهذه الحروف والأدوات معانٍ، ولكن ليس معنى أنّها زائدة أي ليس لها ضرورة في الكلام، وإنّما لها جانب فنيّ تعبيري، فالجانب الفنيّ كما يتّصل بالمضمون فإنّه يتّصل بالشكل أيضاً.

تشريع الحجاب:

ما رأيكم فيمن يدّعي أنّ الحجاب (الزي الإسلامي) لم يرد فيه تشريع في القرآن الكريم، أو يدّعي أنّ ما ورد خاص بنساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حصراً؟

ــــ ماذا يقول المدّعي في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}(1) فهذه عامّة لكلّ الناس، أمّا الخاصة بنساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}(2) وحتّى هذا لا يعتبر خاصاً وإنّما هو لكلّ نساء المسلمين.

ثم إنّ السنّة الشريفة وما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) يعتبر جزءاً من تشريع الحجاب فبعض الناس يناقش هذه المسألة بالنسبة إلى القرآن الكريم مناقشة غير تامّة، إنّ السنّة تقف في ذلك إلى جانب القرآن {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(1) وقد جاءت الأحاديث عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعن الأئمّة (عليهم السلام) وعن الصحابة في التأكيد على مسألة الحجاب.

الإنصات إلى القرآن:

ما حكم من إذا تلي القرآن عليهم وهم لا ينصتون له، فهل يؤثمون؟

ــــ عندما نقرأ الآية الكريمة {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(2) فإنّنا نستفيد من ذلك أنّ الله يأمرنا بالاستماع والإنصات، ولكنّ الناس اعتادوا أن لا ينصتوا للقرآن، ولذلك فإنّهم يبتعدون عن الفلاح والرحمة وهما أساس الفائدة في الإنصات للقرآن.

الناسخ والمنسوخ:

يقول البعض أنّه لا توجد آيات الناسخ والمنسوخ، لأنّ كل آية لها ظروفها الخاصة المتعلّقة بها، فما رأيكم بهذا؟

ــــ هناك جدل وخلاف حول الآيات المنسوخة في القرآن، هل هناك نسخ أم لا، فهناك أحاديث تؤكّد النسخ، ولكن هناك بعض العلماء ومنهم السيد الخوئي (رحمه الله) في كتابه (البيان في تفسير القرآن) يحاول أن يبني على أنّ الآيات التي يقال أنّها منسوخة لها ظروفها التي تخرجها عن كونها منسوخة، إنّنا نتحفّظ في ذلك لورود بعض الروايات التي تتحدّث عن علم الناسخ والمنسوخ بالمستوى الذي يصعب إنكاره أو التشكيك فيه.

الآيات المتشابهة:

هناك رأي يقول ليس في القرآن آيات متشابهات، وإن كلّ آية نستطيع تفسيرها بظروف نزولها وأسباب نزولها؟

إنّ القرآن يؤكّد الآيات المتشابهات في قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}(1) غاية الأمر أنّ المتشابه لا يبقى متشابهاً بحسب ما يمكن أن يثير من احتمالات أخرى، لأنّ الآيات المحكمات هي التي تفسّر المتشابهات.

الأبعاد الحركية لآية:

ما هي الأبعاد الحركية في قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً}(2)؟

ـــ أي عندما ينطلق المشركون من موقع واحد ليقاتلوا المسلمين فمن الطبيعي أن لا يتفرّق المسلمون في قتالهم، لأنّ المسألة تتعلّق بالصبر، فعندما يقاتلك الآخرون صفّاً واحداً ومن موقع واحد فلا يصحّ أن يختلف المسلمون على قتالهم بل عليهم الوقوف صفاً واحداً لقتالهم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ}(3) من أجل حماية الإسلام والمسلمين.

نصيحة لاستماع القرآن:

يقول تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} كثيراً ما نلاحظ أنّ الحاضرين يتكلّم بعضهم مع البعض الآخر فيما يقرأ القرآن، فما هي نصيحتكم لمن لا يستمع للقرآن؟

ــــ إنّ الله يقول {فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ورحمة الله في الاستماع إلى القرآن هي الرحمة الثقافية والروحية والحياتية، وإذا لم ننصت ولم نستمع فلن يرحمنا الله وعندما يسلب الله منّا رحمة فكيف يا ترى ستكون حياتنا، ولو فرضنا أنّ الله قال وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلّكم تربحون مائة دينار هل كان هناك مَنْ يتكلّم أثناء قراءة القرآن؟! في حين أنّ رحمة الله أكبر {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} ولكنّنا في هذه الأيام لا نعتبر حسابات الله فالحسابات تجري بالبورصة، والمشكلة أنّنا لا نقدِّر رحمة الله التي يقول عن جانب منها {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} فكما توجد بورصة في الدّنيا توجد بورصة في للآخرة فيجب أن نفكّر بالآخرة أكثر ممّا نفكّر بالدنيا.

ختم جماعيّ للقرآن:

لو أنّ مجموعة أشخاص اتّفقوا على بدأ ختمة قرآن في جلسة أسبوعية ثم تغيّب أحد أفراد المجموعة أو التحق أعضاء جدد بالجلسة فهل تحسب لكلّ من شارك في الختمة ابتداءً وانتهاءً ختمة قرآن أو لا بدّ من المواظبة على الحضور؟

ــــ ختمة القرآن الجماعية هي أن يقرأ جماعة القرآن بالتناوب حتّى تحسب ختمة ولا يؤثّر على الختمة إذا ذهب أحدهم وأتى آخر مكانه وإن كان المتغيّب يفقد من الثواب بقدر ما قطع.

الاقتصار على القرآن:

هناك دعوة تقول علينا فقط الاقتصار على القرآن الكريم من أجل وحدة المسلمين ونضع جانباً أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) حتى لا ندخل في تفريغات تؤدّي إلى الخلاف؟

ــــ هذا على خلاف القرآن الذي يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(1)، وأيضاً {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}(2) وقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ}(3) وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(4) فالله هو الذي أمرنا أن نأخذ بالسنّة الصحيحة الثابتة فكيف نقول أنّ علينا أن نكتفي بالقرآن فقط.

 

 

 

العلاقة بين الرزق والزواج:

هل صحيح أنّ الزواج سبب لزيادة الرزق، لقوله تعالى: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(1) وللحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء الظنّ بالله"(2) وهل يحقّ للإنسان أن يخطب إذا كان دخله بالكاد يكفيه اتّكالاً على الله سبحانه وتعالى؟

هذه الآية الكريمة ليست في مقام البيان أنّ كلّ مَنْ تزوّج فسوف يوسّع الله عليه رزقه بحيث تصبح قاعدة مئوية، وإنّما تريد أن تقول أنّ الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان، والله العالم، أن يعيش الثقة بالله، فإنّ الله الذي رزقهم ما يملكونه الآن وفي الماضي سوف يرزقهم في المستقبل، أي اعتمد على الله ولكن من قبل الاعتماد والتوكّل هيّئ الظروف الطبيعية وانطلق وتوكّل على الله، فكأنّه يريد أن يقول لا تتركوا الزواج مخافة العيلة والضيق لأنّ الله يقول {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}(3) ويقول: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}(4)، فهو ينزل المعونة على قدر المؤنة، فقد يكون الإنسان أعزباً ورزقه ضيّق ويتزوّج فيوسّع الله عليه بأن يأتيه ولد فيكثر رزقه.

أي أنّ على الإنسان أن يثق بالله سبحانه وتعالى وأن يرى صنع الله في أمثاله حيث أنّه وسّع على هذا ووسّع على ذاك فلا ييأس من روح الله ومن رحمة الله، وهكذا بالنسبة للحديث "مَن ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء الظنّ بالله". أمّا "مَن استطاع منكم الباءة فليتزوّج" فيعني أنّ الإنسان إذا كان قادراً على أن يحصل على الزواج بأيّة طريقة من الطرق الشرعية فعليه أن يتزوّج.

في الوحي:

هل الوحي يخضع للموازين البشرية أداة وآثاراً؟

الوحي هو كلام الله فلا يخضع للموازين البشرية، بمعنى أنّه ليس منطلقاً من حالة بشرية، نعم، إنّ الوحي ينظّم للبشر حياتهم ويعرّفهم كيف يتحرّكون وكيف ينطلقون.

مخاطبة القرآن للإنسان:

يقول البعض أنّ القرآن الكريم نزل ليخاطب الإنسان الذي كان يعيش قبل (1400) عام، ولهذا ليس عنده القدرة على مخاطبة إنساننا في هذا العصر، فما هو ردّكم على ذلك؟

ــــ هل إنّ إنساننا لا يتقبّل قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ}(1)، أو قوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}(2)، إنّ هذا الإنسان يتكلّم بما يسمع وأظنّه لم يقرأ القرآن جيداً أو لم يفهم القرآن جيداً. وقد ورد عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام): "أنّ القرآن عندما ينزل في قوم ـــ أي في مرحلة ـــ فإنّه لا يتجمّد فيها وإلاّ مات القرآن ولكنّه يجري مجرى الليل والنهار والشمس والقمر". إنّ المرحلة مجرّد نموذج لبقية المراحل والناس الذين نزل فيهم القرآن مجرّد نموذج لبقية الناس. ويبقى القرآن دليلاً للإنسان في كل عصر وزمان من خلال خطابه للإنسان في عمق إنسانيّته من القِيَم الروحية والأخلاقية التي تلامس قضاياه الحقيقيّة ومشاكله الحيوية بعيداً عن الخصوصيات الذاتية والعرقية والجغرافية ممّا يمكن له أن يستنطقه في كلّ حالاته.

الشيطان عند الموت:

قال تعالى في سورة النساء: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}(3)، وقرأت روايات تتحدّث عمّا يحصل إذا حضر أحداً الموتُ أنّ إبليس وأعوانه يكيدون للمؤمنين والمسلمين في سكرات الموت لإضلالهم بعدّة حِيَل مثل التنكّر في صورة قريب لهم وأنّهم على دين المسيح ويصوّرونه بأنّه الدين الصحيح، وتارة بالتهديد والوعيد، فإن نجح في إضلال ذلك المؤمن فإنّه يكون من أصحاب النار، فكيف يمكن القبول بضلال المؤمن مع ما يقوم به من الأعمال الحسنة وعدم القبول بالتوبة للكافر في نفس وقت ضلال المؤمن؟

ــــ الآية الكريمة تتحدّث على نحو الكناية بأنّ التوبة لا بدّ أن تنطلق من إرادة الإنسان واختياره في إحساسه بالندم على ما مضى وفي تطلّعه إلى التصحيح فيما يستقبل، فالمسألة إذاً تتحرّك في هذا الاتجاه.

فالإنسان الذي يبقى مصرّاً معانداً ثم يدخل في سكرات الموت يستحضر التوبة لا عن اقتناع ولكن عن خوف ممّا يقبل عليه. وقد تكون هذه الآية دليلاً على أنّ توبته لا تقبل ولكنّ رحمة الله سبحانه وتعالى ينزلها على هذا الإنسان وغيره إذا عرف منه صدق التوبة بحيث إذا عاش الحالة النفسية وامتدّ به العمر لتحرّك ليعمل صالحاً.

أمّا حديث أنّ إبليس يأتي إليه ويحاول أن يضلّه فهذه الرواية تتماشى مع التفسير الحرفي للآية، أمّا إذا فهمنا منها المعنى الكنائي الذي يتحدّث عن طبيعة الروحية والإيمان الذي يعيشه الإنسان فإنّ إبليس لا يستطيع أن يزلزل الإنسان الذي عاش معه مدّة عمره، ولم يستطع إبليس أن يزلزله ويسقطه فكيف يمكن أن يسقطه وهو يستقبل وجه ربّه؟!

  التقيّة والكذب:

يقول تعالى: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ}(1)، هل التقيّة نوع من الكذب؟ وهل حذّرنا الله من التمادي في التقيّة بعد أن أباحها؟

ــــ التقيّة هي أسلوب من أساليب حماية النفس أو حماية الخطّ أو حماية المؤمن، فإذا دار الأمر بين أن تموت وبين أن تظهر نفسك موافقاً لهذا الشخص الذي يريد أن يقتلك، وبين أن يسقط الخطّ الذي تؤمن به والذي يمثّل المصلحة العليا للمسلمين، إذا صرّحت بما عندك فإنّ التقيّة جائزة لك على أساس ما من شيء إلاّ وأحلّه الله لمن اضطر إليه، فهي تدخل في باب الاضطرار مع اختلاف درجته ومع اختلاف أهمية الشيء الذي يتّقى منه، وقد ورد عندنا في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) أنّ التقيّة تقف عندما تؤدي إلى فساد في الدين وإلى خطر في القضايا الحيوية الأساسية، فعند ذلك لا بدّ من التضحية ولا بدّ من الموقف الصلب الواضع باعتبار أنّ الحفاظ على القضايا الكبرى أهمّ من الحفاظ على النفس ونحن نعرف أنّ الله يرخّص للإنسان أن يلقي بنفسه في التهلكة في الحرب عندما يتعرّض الإسلام والمسلمون إلى خطر العدوان.

أمّا {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ} فتابعة لقوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ}.

القرآن والمعجزات:

يقول بعض الكتّاب أنّ القرآن رسم منهجيّته بأن لا يمارس المعجزات لأنّ الكون يقوم على السنن، وأنّ القرآن بصدد ترسيخ العقل المنهجي فما هو تعليقكم على هذه المسألة؟

ــــ لي رأي في مسالة علاقة المعجزة بالنبوّات، وقبل أن أتحدّث في ذلك فإنّ علينا أن نفهم أنّ الغيب هو جزء من العقيدة الإسلامية، وأنّ الله سبحانه وتعالى أجرى المعجزات على يديّ أنبيائه وأجرى الكرامات على يديّ أوليائه، ولذلك فإنّ المعجزة في إبراهيم (عليه السلام) هي عندما جعل النار برداً وسلاماً عليه، وأثبتها في نوح في الطوفان، وأثبتها لموسى (عليه السلام) ولعيسى، وأثبتها أيضاً لأكثر من نبيّ وأيضاً أعطى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المعجزة الخالدة وهي القرآن الذي تحدّى به الناس والإنس والجن أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله أو بعشر سور.

وهناك حديث يدور بين المفسّرين في أنّه هل هناك معاجز على مستوى التحدّي الكبير للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مثل انشقاق القمر وما إلى ذلك، ولعلّ المشهور بين علماء المسلمين أنّ هناك معاجز أخرى غير القرآن ولكنّ بعضهم يحاول أن يستفيد من كتاب الله في أن يفسّر آيات العذاب بآيات أخرى، وإذن فإنّ المعجزة بحسب طبيعتها حق، وقد قال بعض العلماء من المفسّرين المفكّرين وهو العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) صاحب تفسير "الميزان" أنّ المعجزة لا تخرق قانون العليّة، أي أنّ هناك أسباباً ظاهرة عرّفنا الله إيّاها في علاقة المسبّبات بأسبابها، وهناك أسباب خفيّة لم يعرّفنا إيّاها وهي الأسباب التي تتحوّل بها العصا إلى ثعبان والأسباب التي تتحوّل النار فيها إلى عنصر عازل عن الحرارة، وهكذا في الأمور الأخرى.

ونحن نقول بأنّ الله أرسل كلّ أنبيائه بالعقل، أي أنّه أرسلهم بالكتاب في دعوة الناس إلى أن يستمعوا إليهم وأن يحاوروهم، وليست المعجزة جزءاً ضرورياً في النبوّة.

فنحن نرى أنّ كلّ الرسالات قامت على أساس أنّها تخاطب عقل الإنسان ولو قرأنا القرآن قراءة دقيقة لرأينا أنّ خطاب الرسل واحد، ولذلك نجد أنّ نوحاً (عليه السلام) عاش مع قومه (950) سنة ولا ندري كم عاش بعدها ولم يأت بأيّة معجزة، فلقد كانت نبوّته تتحرّك مع الدعوة {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً}(1).

وهكذا إبراهيم (عليه السلام) فهو لم يأتِ بمعجزة بل كانت المعجزة بالنسبة له إنقاذية {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}(2) فيما نرى أنّ كل دعوته كانت دعوة حركية في مجال الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ومحاورة قومه في الكوكب والقمر والشمس، وهكذا حديثه مع قومه عندما كسّر أصنامهم وحديثه مع الذي حاجّه في ربّه فكلّ ذلك حصل في إطار الحوار لأنّه لم تكن هناك ضرورة للمعجزة.

أمّا عندما وصلت القضية لموسى (عليه السلام) فإنّ موسى كان رجلاً مستضعفاً من بني إسرائيل وفرعون يقول {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}(3)، وهو يستعبد بني إسرائيل فكيف يمكن أن يدخل موسى إلى فرعون بدون قوّة تخضعه، إذ لو لم تكن له هذه القوّة فإنّ فرعون لم يكن ليستقبله، وكان موسى وهارون يعرفان ذلك {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى*قَالَ لَا تَخَافَا}(4)، وقال موسى (عليه السلام) {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ}(5) فواقع موسى ما كان ليسمح له أن يستقبله فرعون، لذلك تلاحظون أنّ موسى يتميّز عن كلّ الأنبياء الآخرين أن المعجزة واكبت منذ اللحظة الأولى رسالته، فعندما ذهب يقتبس لأهله ناراً قال له الله سبحانه وتعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى*قَالَ هِيَ عَصَايَ}(6) في ذلك الوقت قال له {أَلْقِ عَصَاكَ} فلمّا ألقى عصاه {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}(1) وإذا بموسى يهرب فيخاطبه الله {لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ}(2) وكذا اليد البيضاء من غير سوء، فالله أراد منذ البداية أن يعطي موسى الشعور بالقوّة، أي أنّ الله عندما أرسل موسى أعطاه التجربة فلمّا دخل على فرعون خاف هذا وشعر أنّ موسى سوف يخرجه من أرضه ولذا أطلق الفكرة أمام الآخرين بأنّه سوف يخرجنا من أرضه بسحره، ومعنى ذلك أنّه رأى سحراً لم يعهده في حياته، ولذلك كانت التجربة الثالثة عندما واجه موسى السحرة وبقي في حركته مع فرعون ينتقل من معجزة إلى معجزة في الآيات التسع البيّنات، وفي شقّ الله البحر له، ذلك لأنّ مجتمع موسى مجتمع استعباد الشخص للجميع ويعتبر موسى جزءاً من هذا المجتمع المستضعف فلا يمكن أن يتقدّم إلاّ بمعجزة ولهذا بعدما خرج من مصر، وأصبح دوره دور الداعية لم ينقل عنه أيّة معجزة وغدا نبياً مثل بقية الأنبياء ينكره قومه.

وعيسى (عليه السلام) كما ورد في الحديث عن الإمام عليّ الهادي (عليه السلام) أنّ الله أرسله من جهة أنّ مجتمعه كان مجتمعاً مثقّفاً وكان يغلب عليه الطبّ وكان مجتمعاً معقّداً ولذلك أراد الله سبحانه وتعالى أن يدخل عيسى بكلّ قوّة من خلال ولادته عندما تكلّم في المهد، ثم حركيّته عندما قال لهم {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ}(3).

أمّا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فما كان بحاجة إلى معجزة كما يقول الإمام الهادي (عليه السلام) فالله أرسله بالفصاحة ولا حاجة للمعجزة إلاّ في الفصاحة لأنّ قريشاً لم تكن لها قوّة فرعون ولا المستوى الثقافي الذي يحتاج إلى قوّة علمية فوق العادة كمسألة إحياء الموتى.

فإذاً نحن نعتبر أنّ المعجزة ليست من الأمور التي تتوقّف عليها النبوّة وإنّما يُردّ بها التحدي الكبير الذي يمنع النبوّة من أن تبدأ أو تواصل حركتها.

 

 

معاجز الأنبياء:

كيف يجتمع ما تفضّلتم به مع ما اشتهر به من صفوف المسلمين من أنّ كلّ نبيّ له آية ومعجزة بل حتى المشركون كانوا يطالبون النبيّ بمعاجز أخرى غير القرآن؟

ــــ إنّ كل نبيّ له معجزة، هذا غير صحيح، فلوط وشعيب وإبراهيم ونوح ليسَ لهم معاجز في صلب رسالتهم بل لكلّ نبيّ معجزة عندما يتعرّض للتحدّي فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) معجزته القرآن وهو يختلف عن المعاجز الأخرى، لذلك نقول صحيح أنّ القرآن الكريم ركّز على السنن وأراد للإنسان أن يفكّر وأراد للعقل أن يتحرّك، ولكنّ ذلك لا ينفي أنّ الله حدّثنا عن الغيب في القرآن كما حدّثنا عن الذي أماته الله مائة عام، وحدّثنا عن صاحب سليمان {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}(1) وحدّثنا عن أشياء كثيرة، ولذلك نقول أنّ هذا لا ينفي الغيب ولا ينفي المعجزة والله كما أراد لنا أن نؤمن بالشهود أراد لنا أن نؤمن بالغيب.

طير إبراهيم (عليه السلام):

أليست قضية الطير عندما دعاه سيّدنا إبراهيم (عليه السلام) حيث جزّأه أربعة أقسام ثم وضع كل جزءعلى جبل ثمّ دعاه إليه فأتاه سعياً، معجزةً؟

ـــ ليس هذا معجزة، فالمعجزة هي التي يقابل بها النبيّ الناس ولكن تلك كانت تجربة شخصية لاطمئنانه الشخصي {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}(2)، فهو لم يكن يريد أن يعرض هذه على الناس ليؤمنوا ولكن كان يريد أن يزداد اطمئناناً ويقيناً ذلك أنّ عالم الحسّ والشهود هو أقرب لحصول الإنسان على الاطمئنان من عالم الفكر.

 

 

حدود التفسير:

ما هي حدود التفسير؟

ــــ هو أن نستنطق القرآن في ظواهره على أساس قواعد اللغة العربية في الفن البلاغي لنحصل على ثقافة أدبية منفتحة على كل قواعد الفن في الكلمة والأسلوب لنفهم القرآن في مستواه البلاغي باعتبار أنّه قمّة الإعجاز في البلاغة، لذلك فمن يريد أن يفهم القرآن يحتاج إلى ثقافة أدبية واسعة منفتحة على عمق الأساليب الأدبية في فهم المضمون هنا وهناك، ولا يمكن أن تفهم  القرآن من خلال القاموس لأنّ القاموس قد يضيء لك معنى الكلمة في بعض الاستعمالات ولكنّه لا يعطيك حركية الكلمة في المضمون الفكري الذي يحتاج إلى الكثير من وعي الأسلوب ووعي القاعدة.

لذلك لا بدّ لنا من أن ننطلق إلى ظواهر القرآن لنفهمه على أساس هذا الظاهر، ولا بدّ لنا أن نطلّ على ما وردنا من البيت الذي نزل فيه القرآن من خلال ما جاء من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في التفسير ومن خلال ما جاء عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في التفسير وذلك هو الذي يمكن أن يعطينا المضمون بطريقة متوازنة.

ثم نحتاج عندما نأخذ مضمون الفكرة إلى أن نحرّك الفكرة القرآنية في أبعادها الثقافية الإنسانية، لأنّ القرآن لا يتحرّك في داخل مضمون الكلمة في معناها اللغوي أو في مرحلتها الزمنية، ولكنّه كما وصفه الإمام الباقر (عليه السلام) "يجري مجرى الليل والنهار ومجرى الشمس والقمر" فكما أنّ الليل والنهار يتجدّدان في عطائهما في حركة الزمن، وكما أنّ الشمس والقمر يتجدّدان في إشراقتهما في حركة الكون، فكذلك القرآن يتجدّد وليس معنى ذلك أن ينقلب عما هو عليه لكنّه يعطي الجديد لكلّ مشكلة ولكلّ قضية في هذا المجال أو ذاك.

"من وحي القرآن":

هل تفسيركم "من وحي القرآن" يدخل في التفسير التجزيئي للقرآن، وهل لكم كتابات في التفسير الموضوعي؟

ــــ تفسير "من وحي القرآن" هو تفسير للقرآن كلّه، وإذا كنّا نعتبر هذا النوع من التفسير تفسيراً تجزيئياً فهو تفسير تجزيئي، ولكنّه يشتمل في داخله على كثير من مفردات التفسير الموضوعي باعتبار أنّ هناك حديثاً مكثّفاً عن المرأة في القرآن وعن الإنسان، وعن كثير من القضايا الأخرى.

وأمّا هل لي كتابات في التفسير الموضوعي فلقد كان أوّل كتاب صدر لي في سنة (1961م ـــ 1380 هــ) هو كتاب "أسلوب الدعوة في القرآن" وهو من التفسير الموضوعي، كما صدر لي قبل 20 سنة كتاب "الحوار في القرآن" وهناك أكثر من كتاب في هذا الاتجاه.

قدم القرآن:

يقول بعضهم أنّ كون النازل في ليلة القدر هو القرآن بأكمله يستلزم قدم القرآن ووجوده مسبقاً على نزوله، والشيعة لا تميل إلى قدم القرآن فماذا تقولون في تفسير الآية: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}(1)؟

أمّا تفسير {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} فليس المراد، والله العالم أنّ الله أنزل القرآن جملة في ليلة القدر، ولكن الرأي الأقرب هو أنّ الله بدأ بإنزاله في ليلة القدر، ولذلك فنحن نناقش من الناحية التاريخية هل أنّ المبعث هو ليلة السابع والعشرين من رجب إذا ثبت أنّ {اقْرَأْ} نزلت في المبعث لأنّنا نشكّك في الرواية التي تحدّثت بذلك.

المهم أنّ ظاهر {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} يعني أنزلنا القرآن، لأنّ كلمة القرآن لا يراد منها كل القرآن، علماً أنّ كلّ ما أنزله الله فهو القرآن، لأنّ {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} هي كذلك جزء من القرآن، عندما يتحدّث الله سبحانه وتعالى عن القرآن فإنّه يتحدّث عنه جملة كما يتحدّث عنه آيات وسور فالمراد من القرآن هو كل آية وكل سورة وكل ما نزل من الله على رسوله فهو قرآن.

إذاً ليس معنى {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} أنزلنا جميع القرآن في ليلة القدر وإنّما أنزلنا القرآن يعني بدأنا بإنزاله ولو بأوّل آية.

وأمّا الحديث أنّه لو فرضنا أنّ القرآن كان قد أنزل جملة في ليلة القدر فيلزم القول بقدم القرآن فهذا شيء وذاك شيء آخر، لأنّ النزاع حول القرآن احتدم في زمن المعتصم وسجن بمقتضاه إمام الحنابلة "أحمد بن حنبل" وكان الجدل الدائر في هل أنّ كلام الله قديم أو أنّه مخلوق؟ وهذا لا علاقة له بمسألة نزول القرآن، بل معناه أنّ الله يخلق الكلام، وهل أنّ الكلام من صفات ذاته بحيث أنّها موجودة معه أو أنّ الكلام يخلق، فالله سبحانه وتعالى يخلق الكلام كما يخلق الإنسان وهناك بحث في هذا المجال ولا دخل له في هذه المسألة، ولذلك نحن نقول أنّ مشكلة في هذا الموضوع في {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} يعني أنزلنا القرآن ولو بلحاظ بداية نزوله، والله العالم بحقائق آياته.

علم الرسول المسبق بالقرآن:

هناك رواية تقول أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عالم بالقرآن وبما حواه قبل أن يوحى به إليه والدليل هو هذه الآية المباركة {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}(1) وهناك شيء آخر هو معرفة الرسول بالقراءة والكتابة قبل البعثة وبعدها وهناك آية تدلّ أيضاً على هذا وهو قوله تعالى: {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}؟

ـــ أولاً: إنّ القرآن يدلّ على أنّ النبيّ لم يكن عنده علم بالقرآن {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}(2) فعلامَ تدلّ هذه الآية؟ إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحسب هذه الآية كان لا يدري ما الكتاب بتفاصيله ولا الإيمان ولا التشريعات بتفاصيلها ويقيناً أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان مسلماً قبل أن يبعث بالإسلام وكان يعيش الإيمان الذي ينفتح به على الله سبحانه وتعالى، لكن تفاصيل الإسلام وتفاصيل القرآن قد جاء بها الوحي ولذلك كانت هناك الكثير من المشاكل التي تحدث في واقع المسلمين وبعضها ممّا يمسّ شخص النبيّ وعرضه وهي قضية الإفك، ويتحدّث المسلمون في الأمر فيقول النبيّ إنّني أنتظر أمر ربي، ويمرّ يوم وثان وثالث حتى تنزل الآية ولذلك فإنّ هذا ليس نقصاً بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنّ الله تعالى أكمل له روحه وعقله وقلبه وأخلاقه حتّى صار بالمستوى الذي يمكن أن يصطفيه الله لرسالته بالدرجة الفعلية.

وأمّا قضية القراءة والكتابة فإنّي أستغرب كيف يقول السائل {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} فهذا دليل على عدم كتابة النبيّ {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}(1) أي أنّ مغزى عدم ممارسة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للقراءة والكتابة هو ليعرف الناس أنّ هذا الشخص الذي لم يقرأ كتاباً ولم يكتب أي كتاب آخر جاء بكتاب أعجز الفصحاء والبلغاء وجاء بشريعة أعجزت كلّ المفكّرين والمشرّعين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

المسائل العقيديّة

 

"لو قرأنا القرآن من أوّله إلى آخره لرأينا العنوان الكبير الذي يحكم كلّ سورة وكلّ آية هو "توحيد الله" إمّا بشكل مباشر أو غير مباشر".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

استشارة الخلق في خلقهم:

ما هو المعنى الدقيق لبيت من الشعر لعمر الخيام وهو:

 

لبست ثوب العيش لم استشر             وضللتُ حائراً بين شتى الفكر

ـــ إنّه يعبّر عن حيرة كلّ إنسان لم يُستشر، ولكن الله إذا لم يستشرنا في وجودنا فلأنه أعرف بالحكمة من هذا الوجود، وهو الحكيم الذي لا يعطي شيئاً إلاّ من خلال الحكمة التي يعرفها الإنسان، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(1). أمّا أن يظلّ حائراً بين شتّى الفكر فإنّ الحيرة قد تكون مبرّرة عندما يعيش الإنسان التساؤل، ولكن عليه أن ينطلق في تساؤلاته من شكّ في عملية بحث عمّا يوصله إلى اليقين.

الرأي الشرعي في الاستنساخ:

أذاعت وكالات الأنباء خبر النعجة (دولي) التي تمّ استنساخها بأخذ عيّنة من نعجة أخرى، فكان النتاج هذه النعجة المطابقة للأولى، فما هو حكم الشرع في ذلك، خصوصاً أنّه بدأ التفكير باستنساخ الإنسان؟

ــــ لقد سئلت عن هذه المسألة في بيروت كما سئلت عنها من قبل إذاعة (مونت كارلو)، فكان الجواب كما يلي:

هناك مسألتان: الأولى: هل أنّ هذا العمل خلاف الدين، أو كما قال (كلينتون) يمثّل تدخّلاً في عمل الله؟ أي أنّنا كمسلمين أو كمتدينين كيف ننظر إلى هذه المسألة، هل فيها شيء مخالف للدين؟

إنّ الاستنساخ ليس فيه شيء مخالف للدين، والسبب هو أنّ العلماء اكتشفوا فيما اكتشفوه أسرار الله في خلق الجسد، فهم لم يخلقوا قانوناً جديداً، وإنّما اكتشفوا القوانين التي أودعها الله في الكون وفي جسم الإنسان، فهم عندما يتحرّكون في عملية الاستنساخ فإنّهم يتحرّكون على حسب القانون الإلهي في السرّ الذي أودعه في جسد الإنسان، وضربت لذلك مثلاً، فقلت أنّه عندما أُثيرت مسألة (طفل الأنبوب) بدأت الصرخة في أنّه عمل غير شرعي، في حين لم يكن ذاك عملاً منافياً للشرع، فلقد حاول العلماء دراسة نشوء الإنسان في تلقيح البويضة بالنطفة.

وفي مسألة الاستنساخ فإنّهم عندما يأخذون الخلية من جسم الإنسان ويلقّحون بها البويضة بعدما يفرغونها من خصائصها ويزرعون فيها الخصائص الموجودة في الخلية، فإنّهم لم يصنعوا شيئاً على خلاف سنّة الله في الكون وفي الجسد.

فمن الناحية الفكرية الفلسفية العقيدية، ليس في ذلك أيّ شيء يجعل من الإنسان خالقاً لمجرّد أنّه صنع هذا من خلال ما استوحاه وما استهداه من أسرار الجسد التي أودعها الله فيه، فكما أنّ بإمكان النطفة تلقيح البويضة، يمكن كذلك للخليّة أن تلقّح البويضة، ويمكن نقل خصائص الخلية للبويضة، فهذه أمور موجودة في داخل جسم الإنسان ولم يصنع العلماء المستنسخون أكثر من أن وظّفوها في الاستنساخ بعد اكتشاف أسرارها.

وثمّة نقطة أخرى، وهي أنّه لو فرضنا أنّه جرى في المستقبل استنساخ إنسان، فمن المبكر إعطاء فتوى في مثل ذلك، إذ لا بدّ أن ندرس ـــ حينذاك ـــ الجوانب الأخلاقية والاجتماعية والقانونية الشرعية، ففي بعض الفرضيات قد يكون هناك شخص مستنسخ من أمَّ بلا أب، فكيف ينظر لمثل هذه المسألة وأمثالها من الناحية القانونية؟ فهذه وغيرها من المسائل لا بدّ أن تبحث في الواقع العملي.

وبقطع النظر عن ذلك، فإنّنا مع العلم في اكتشافه لأسرار الكون، ونحن مع الحقائق العلمية، ولسنا مع النظريات العلمية فهي قابلة للخطأ والصواب. لكنّ مشكلة العلم أنّه سلاحٌ ذو حدَّين، فيمكن أن يتّجه إلى الهدم وإلى البناء كما في الذرّة التي هي من أعظم وأروع الاكتشافات التي وصل الإنسان إليها، ولكنّها استعملت من أجل تدمير البشرية، كما استعملت من أجل راحتها في القضايا السلمية.

فلسنا ضدّ موضوع الاستنساخ من ناحية المبدأ على أساس الفكر الديني، ولكن قد نكون ضدّه عندما يتّجه إلى إفساد وإرباك حياة الناس.

 

عبدة الشيطان:

تردّدت في الفترة الأخيرة من بعض دول العالم كفرنسا والسويد وإسرائيل ومصر بعض الأصوات التي تدعو إلى الابتعاد عن الأديان السماوية واتّباع ما يدعى بعبادة الشيطان وإباحة محرّمات الأديان ومحاولة إدّعاء دين جديد، فما هو رأيكم في ذلك؟

ــــ عندما يعيش الإنسان الفراغ من الله فمن الطبيعي أن يتلقّفه الشيطان، ولذلك فإنّ من يعمل على اضطهاد الخطّ الإيماني الإسلامي وفي محاصرته، وما يثار في واقع الإنسان من أجواء اللهو والعبث والفراغ الروحي هو الذي يدفع الناس إلى أن يعبدوا الشيطان كلّ بطريقته الخاصة.

غضب الله:

هناك تصوّر أنّ الله غاضب على الإنسان دائماً، فإذا أصيب بمرض أو أذى فلأنّه أخطأ أو أذنب، وكأنّ الله لا عمل له سوى أن يؤذينا، فالأمراض عقاب والكوارث عقاب، فهل جاء هذا الاعتقاد من التراث القديم والعبادات الوثنية، أم أنّ له عندنا أصلاً؟

ـــ ليس لهذا أصل عندنا، لأنّ الأمراض التي تصيب الإنسان أو الزلازل أو الفيضانات أو الصواعق وكلّ الأمور التي لا يدَ للإنسان فيها من الناحية السلوكية، هي من سنن الله في الكون، بمعنى أنّه سبحانه وتعالى خلق الكون على نظام وأساس ينتج مرضاً هنا من خلال بعض العناصر الموجودة في الكون، وينتج خوفاً أو موتاً هناك من خلال السنّة الطبيعية العامّة، فهي موجودة سواءً آمنّا بالله أم لم وإلاّ فماذا يقول المادّيون؟ فطبيعة الوجود تفرز هذه الأمور، فنظام التناسل ـــ مثلاً ـــ بما فيه من عوامل وراثية تجعل أحدنا مشوّهاً والآخر سوياً، وهكذا، فليس معنى ذلك أنّ الله غضب على هؤلاء، فهو تعالى أجرى الكون، من خلال حكمته، على قانون معيّن. فلربّ سائل يسأل: لماذا لم يخلق الله دنيا بلا أمراض، وبلا خوف وبلا مشاكل وبلا أزمات، أليس هو قادر على كل شيء؟

ولقد قلنا في إجابات سابقة على مثل هذا السؤال إنّ الله قادرٌ على ذلك، ولكنّ الأشياء ليس لها قابلية على ذلك، فلو قلت لأعظم مهندس في العالم ابنِ لي ناطحة سحاب في سنتيمتر واحد، فإذا قال لك لا أقدر على ذلك، فهل هو عجز منه، أم أنّ السنتيمتر لا قابلية له؟ فأساس الوجود الماديّ ليس مطلقاً فالله وحدهُ هو المطلق، فلا حدّ لعلمه ولا حدّ لحكمته ولا حدّ لقدرته، أمّا في المادة فالأمر مختلف فإذا أردت أن تحصل على شيء لا بدّ أن تخسر شيئاً.

وكما مثّلت سابقاً، فلو كانت هذه القاعة التي نحن فيها بلا جدران ولا سقف لكانت كمية الهواء والنور أكثر، لكن كمية الحماية من الحرّ والبرد والأخطار الأخرى أقل، فإذا أردنا حمايةً من كل ذلك فلا بدّ أن نخسر شيئاً من كمية النور وكمية الهواء، فالله يوازن بحسب حكمته، فإذا كان الإنسان يربح من الوجود 70% ويخسر 30% فهل يعقل أن يغلّب الله سبحانه وتعالى الــ 30% على الــ 70%، فالمسألة هي محدودية الوجود الذي لا يمتلك القابلية لأن تكون كلّ الأمور الإيجابية متوفّرة فيه. فالأمراض والزلازل وما شاكل هي ممّا تقتضيه طبيعة الكون وليست عقاباً من الله.

نعم، قد يجعلها الله تعالى بلاءً بمعنى الاختبار، فشأنه ـــ سبحانه ـــ الرحمة حيث يقول: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}(1) فهو {الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ}(2) واستمرار وجودنا برحمته، فقد تكون هذه الأشياء السلبية مظهراً لرحمته بلحاظ ما يحصل لنا من نتائج خفيّة جرّاءها، فالفكرة التي تقول أنّ الله يعاقبنا بالأمراض غير صحيحة، لكنّه يعاقبنا بأعمالنا {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}(3) فعندما تعمل عملاً سلبياً ينتج نتائج سلبية، فإنّ تلك عقوبة طبيعية {لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}، فأنت تحصد ما تزرع: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(4).

 

 

الدالّ على ذاته:

ما المقصود من هذه الفقرة (يا مَن دلّ على ذاته بذاته)؟

ـــ تعني أنّ الله ليس محتاجاً لمن يدلّ عليه من الخارج فهو سبحانه وتعالى دلّ على ذاته بذاته أي هيّأ لنا وسائل معرفته من خلال ما أودعه في الكون من عناصر العظمة وما أفاضه من خلال موارد النعمة التي لا تحصى.

الأقانيم الثلاثة:

كيف تفسّرون قول المسيحيين بأنّ الله واحد ذا أقانيم ثلاثة، وما تقولون في المثال الذي يضربونه لذلك بأنّك لو وضعت شمعة في غرفة فإنّك سترى شمعة واحدة ونوراً واحداً وإذا زدت شمعة ثانية وثالثة فسيصبح لديك شمعات ثلاث بنورٍ واحد، فالنور هو الله الواحد والشمعات هي الأقانيم الثلاثة فهو واحد بأقانيم ثلاثة؟

ــــ من قال إنّ النور هو النور، نعم، لا إشكال بأنّ كلّ شمعة تزيد النور الآخر، لكنّ النور لا يتعدّد في حقيقته ولكنّه يمكن أن يتعدّد في درجته فالنور الذي يأتي من شمعة واحدة غير النور الذي يأتي من هذه الشمعة أو تلك الشمعة، لذلك فإنّ هذا التفسير لا ينطبق على الواقع إذ ما هي هذه الأقانيم الثلاثة؟ ثمّ إنّ هذا النور هو نتيجة هذه الشمعات، فهل الله الواحد هو نتيجة هذه الأقانيم؟ بمعنى أنّ الأقانيم هي الأصل وهو الفرع لها؟ إنّ هذا الكلام لا معنى له ولذلك يقول مفكّروهم أو فلاسفتهم إنّ مسألة الجمع بين التوحيد والتثليث فوق العقل، فهذا أمر لا بدّ أن ينطلق من الإيمان ولا يمكن أن يخضع للعقل.

وقد قال لي بعض مفكّري المسيحيين في حوار بيني وبينه في بعض الصحف اللبنانية إنّنا لا نقول بالتثليث المادي بل نقول بأنّ الابن ليس هو الولد، أي أنّهم يقولون نحن ضدّ المسيحيين الذين يؤمنون بالولد بالمعنى المادي للولد، وهذا الذي نفاه القرآن ليس هو ما يعتقده المسيحيون الآن، لأنّ القرآن نفى مسألة الولدية المادية ونحن نقول بالولدية المعنوية مثل ولدية الفكر من العقل، ويضيف أنّ كلامهم هذا شبيه بمقول القائلين بأنّ كلام الله قديم وأنّه ليس مخلوقاً، فهو من قبيل الكلام الذي ينطلق من الله وليس مجرّد شيء ماديّ، وعلى أيّة حال لم يستطع متفلسفة المسيحية أن يوازنوا بين التوحيد وبين التثليث سواءً كان التثليث معنوياً أو مادياً.

الغاية من حشر المخلوقات:

ما الغاية من الحشر الوارد في الآية الكريمة: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}(1)؟

ــــ ليس ضرورياً أن يكون الحشر للحساب ثمّ أنّنا لا نعرف واقع هذه الأمم إلاّ ما عرّفنا الله بذلك بحسب الوسائل، والله سبحانه لم يبيّن لنا الغاية {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(2).

إشكالية الشفاعة:

كيف يمكن للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) الشفاعة للناس يوم القيامة وفي القرآن آيات تصرّح بعدم القبول بها ومن هذه الآيات: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}(3)؟  

ــــ في هذه الآية حديث عن الشفاعة الذاتية، ولعلّها واردة بالنسبة إلى الكافرين الذين ماتوا على الكفر، وربّما يكون المراد الشفاعة الذاتية كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(4)، {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ}(5)، إنّه يتحدّث عن الشفعاء الذين لا يملكون الشفاعة إذ ليست لهم الحظوة عند الله، وأنّ الله لم يعطهم الشفاعة {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}(6) وقوله تعالى: {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}(1)، فالمهم أنّ الله تعالى أذن لأوليائه وأنبيائه بالشفاعة وهم عندما يشفعون لا يشفعون على أساس قضايا ذاتية ولكنّهم يشفعون حسب البرنامج الذي وضعه الله لهم في خطّ الشفاعة ومعنى الشفاعة.

بلاء النقمة وبلاء الرحمة:

في لقاء لمجلة "المعارج" معكم تحدّثتم عن أنّ هناك نوعين من البلاء فتارة يكون نقمة وعذاباً من الله سبحانه وتعالى نتيجة الذنوب والمعاصي والآثام، وتارة أخرى يكون البلاء رحمة من الله تعالى ترفع بها درجات المؤمنين ويزداد بها إيمانهم، فكيف نميّز البلاء الذي هو عذاب ونقمة من الله من البلاء الذي هو رحمة خصوصاً ونحن نعيش في زمن تحدق بنا الابتلاءات من كلّ جانب؟

ــــ من الممكن جداً أن يعرف الإنسان أنّ البلاء عذاب يأتي من فوق أو هو مرتبط بطبيعة العمل أو هو اختبار، وذلك من أكثر من آية، كما في قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(2)، أي أنّ الله يذيقك نتائج عملك، فإذا كنت تعرف أنّ عملك يسير في الاتجاه غير الصحيح وابتليت ببلاء فاعرف أنّك قد حصدت ما زرعت.

وكذلك نستفيد نفس المعنى من قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}(3)، فهذا يدلّ على أنّ هذا بلاء ينطلق من صنع الناس الخارج عن طاعة الله، ويقول {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}(4)، وفي سورة العنكبوت يقول تعالى: {الم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(5) فهذه الابتلاءات هي من أجل أن يظهر جوهر الإنسان ومن أجل أن يرفع الله درجته بها، ويحدّثنا القرآن بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام): {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ*فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ*فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ*وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ*قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ}(1)، فهذا الاختبار لكي يظهر شأنُ إبراهيم وشأن إسماعيل فترتفع درجاتهما عند الله وعند الناس. وربّما يكون البلاء عذاباً كما نجده في العقوبات التي ينزلها الله بالناس من خلال عصيانهم وانحرافهم عن الله.

الحكمة من زواج المرأة بواحد:

لماذا لا يسمح الإسلام للمرأة أن تتزوّج أكثر من واحد كما سمح للرجل، إذ ما الحكمة في ذلك؟

ــــ النظام الإسلامي نظام أبوي أي أنّه يعتبر أنّ الأب هو سبب النسب وأنّ المرأة إذا تزوّجت أكثر من شخص فلا يعرف لمن الولد، والنقطة الثانية هي أنّنا لو درسنا حاجة المرأة وحاجة الرجل فإنّ حاجة الرجل هي أكثر انسجاماً مع التعدُّد بينما حاجة المرأة بشكل نوعي طبيعي أكثر انسجاماً مع الوحدة، أنّ المرأة ترغب في العلاقة برجل واحد في الوضع الطبيعي وقد تشذّ بعض النساء عن ذلك بينما طبيعة الوضع بالنسبة للرجل في التاريخ الكلّي الإنساني هي طبيعة التعدُّد وقد يشذّ بعض الناس نتيجة ظروف معيّنة تمنعهم من ذلك والله العالم بحقائق أحكامه.

العقل والقياس:

كيف نفهم إعراض الشيعة عن القياس وإيمانهم بقيمة العقل؟ وكيف نفهم أخذ أخواننا السنّة بالقياس وما يظهر من إعراضهم بالأخذ بالعقل في العقائد؟

ــــ أمّا إعراض الشيعة في الأخذ بالقياس فلأنّ القياس يمثّل طريقاً ظنيّاً، أي لا يمثّل القطع، وبعبارة أخرى فنحن نحتاج في أخذنا بأي حكم شرعي من قيام الحجّة عليه من الكتاب فيما دلَّ عليه الكتاب بشكل مباشر، ومن السنّة فيما دلّت عليه السنّة بشكل مباشر، ومن القواعد المستلهمة من الكتاب والسنّة، بحيث يكون إيماننا بهذه القاعدة منطلقاً من دلالة الكتاب والسنّة، وعندما تواجه الشيعة القياس ترى أنّه لا يوجد حديث عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالقياس الذي هو حجّة طنّية لا تفيد القطع، وعلى هذا الأساس يعتبرون أنّ القرآن يقول: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}(1) ويقول {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(2).

أمّا إخواننا من أهل السنّة فإنّهم يحاولون أن ينظروا للقياس من خلال بعض الآيات القرآنية كما في قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}(3) وبعض الأحاديث التي يناقشها الشيعة ويرون أنّها لا تثبت أمام النقد.

أمّا قضية كيف نفهم ما يظهر من إعراضهم بالأخذ بالعقل في العقائد فلا نعتقد أنّ كلّ السنّة كذلك، بل هناك الأشاعرة وهناك المعتزلة الذين هم من السنّة ولكنّهم يأخذون بالعقل في بعض المعتقدات.

العقل عند المعتزلة:

هل يمكننا القول أنّ المعتزلة وهم من أصحاب التحكيم بالعقل قد استخلصوا قيمة العقل الإنساني من أفكار الإمام الصادق (عليه السلام)؟

ــــ من الممكن أن يكونوا قد تأثّروا بمدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) وانطلقوا من خلالها في تفريع ما فرّعوه وفي تحريك ما حرّكوه بعد ذلك.

العقل والغيب:

لا يمكن أن ننكر أنّ الإسلام دعا إلى اعتماد العقل، لكنّنا إذا أطنبنا في تمجيده فإنّنا نحطُّ من قيمة الجانب الغيبي ولو في النصّ الذي يمثّل جانباً قائماً في ذاته في العقيدة الإسلامية، فماذا ترون؟

ــــ أظنّ أنّ السائل لم يكن موجوداً عندما تحدّثنا عن هذه النقطة، أو لم يلتفت إلى ذلك بشكلٍ دقيق. فلقد قلنا بأنّ الغيب عقلانيٌّ لأنّه وإن لم يدرك العقل خطوطه التفصيليّة، لكنّه يقول بأنّه ممكن، فإذا ثبت لنا من الصادق المصدّق الذي دلّ العقل على علاقته بالله تعالى من خلال رسالته فإنّ الغيب ـــ عند ذلك ـــ يصبح عقلانياً، وهكذا بالنسبة إلى الوحي وغيره من شؤون الغيب فليس معنى أن يكون الشيء عقلانياً أن تكون كلُّ مفردات تحت الحسّ بل أن يكون عقلانياً أي أن لا يرفضه العقل وأن يقبل الوسائل التي ينطلق الإيمان من خلالها، ولذلك فإنّ إيماننا بالعقل يؤكّد لنا الوحي والنصّ والغيب باعتبار الأُسس التي ارتكزت عليها هذه المفردات العقيديّة في مسألة العقل.

حوار الشيعة:

كيف أصبح الشيعة أكثر الناس حواراً مع أنّهم يعتقدون بعصمة أئمّتهم، وكذلك أئمّة الشيعة كانوا أكثر حواراً مع أنّهم حسب عقيدتهم خلفاء رسول الله؟

ــــ في البداية نسأل هل أنّ الإنسان إذا كان معصوماً ينبغي أن لا يحاور الناس؟!

لقد تعلّمنا الحوار من الله تعالى و{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(1) إنّ الله حاور إبليس، وليس هناك من هو أكثرُ شرّاً من إبليس، وحاور الملائكة، وحرّك الحوار مع الكافرين ومع المشركين ومع المنافقين، وقد لاحظنا أنّ علياً (عليه السلام) عندما كان يدخل في خلاف مع الناس الذين كان يختلف معهم كان يلجأ إلى الحوار، لقد حاور الذين تقدّموه في حقّه وحاور (معاوية) وحاول أهل (الجمل) وحاور أهل (النهروان) من الخوارج حيث دخل معهم في حوار مرير، لأنّ علياً (عليه السلام) كان لا يفكّر أن يربح أجساد الناس بل كان يفكّر أن يربح عقولهم.

لذلك كلّما كنت ملتزماً أكثر، كنت قريباً إلى الله أكثر، وكلّما كنت تعيش المسؤولية عن الإسلام أكثر كنت حوارياً أكثر {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(2) هذا هو شعار القرآن مع الذين يختلف معهم {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(3)، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1)، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(2)، فمن لم يحاور أو يخاف من الحوار فهو جبان، لأنّك إذا كنت شجاعاً وكنت تؤمن بفكرك وأنّك قادر على أن تدافع عن فكرك فعلى أي أساس تخاف من الذين يعارضون فكرك؟!

حجيّة الروايات:

استدللتم لإثبات المنهجية الباقرية في مطالبة الدليل لكلّ ما يتكلّم به الإمام (عليه السلام) من كتاب الله برواية أبي الجارود، وهو كما لا يخفى مطعون في مذهبه، فاسد في عقيدته، ألا يمكن أن يكون ذلك منهجاً لأولئك الذين لم تتكامل معرفتهم بالأئمة (عليهم السلام) ويا حبّذا لو استدللتم بروايات أخرى أقوى دلالة وسنداً؟

ــــ إنّ لنا منهجاً في عملية حجية الرواية، وهو أنّنا لا نعتمد وثاقة الراوي، بل نعتمد وثاقة الرواية، ومن أساليب وثاقة الرواية أنّنا ندرس الرواية في مضمونها: هل فيها ما يغري الراوي بالكذب أو ليس فيها ما يغريه بذلك، فإذا رأينا أنّه ثمّة ما يدعو للكذب في هذه المسألة فإنّ ذلك يثبت لنا الوثاقة، كما لو أنّ أحداً أخبر بقضية معينة وهو ليس بالرجل الثقة لكنّنا نرى أن لا مصلحة شخصية له في الإخبار بذلك، فلا تتّصل القضية بجوّ سياسي يريد دعمه، ولا هي تتّصل بجوّ سياسي يريد تهديمه.

ولم نكن في مقام حصر الدليل في ذلك، ولكنّ الرواية ذكرت في أكثر من كتاب تحدّث عن سيرة الإمام الباقر (عليه السلام) ولسنا نريد الاعتماد على أيّ من هذه الكتب، بل نعتمد على هذه النقطة تحديداً، وهناك حديث آخر ـــ سبق ذكره ـــ وهو أنّ كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه، ممّا يؤكّد المعنى الذي أشارت إليه الرواية. وكذلك مسألة تعليم الناس التي أشرت إليها، فالله تعالى ما أخذ على الجهّال أن يتعلّموا حتى أخذ على العلماء أن يعلّموا، فلم نرد الاقتصار على ذلك، وإنّما أردنا إعطاء نموذج للفكرة والمنهج الذي هو ليس منهجاً باقرياً فحسب لكنّه منهج إسلاميّ ينطلق في طولِ خطّ أهل البيت (عليهم السلام).

روايات منع مساعدة الظالم:

بناءاً على ما بيّنتموه من عدم وجود قيود كثيرة في دخول المؤمن في العمل الحكومي، كيف إذن نفسّر الروايات الواردة في المنع عن مساعدة الظالم ولو بتقديم قلم أو دواة؟

ــــ أولاً: في المسألة الثقافية يجب أن تنزع من نفسك كلّ عاطفة إيجابية اتّجاههم بحيث توحي لنفسك دائماً أنّهم يمثّلون اللاشرعية وأنّهم يمثّلون الظلم في الموقع وفي الخطّ.

وثانياً: عندما ندرس بعض هذه النصوص فإنّنا نجد أنّها واردة في سبيل المبالغة في عدم مساعدتهم في ظلمهم عندما تكون المسألة مسألة أن تساعدهم في ظلمهم لحساب نفسك، ولقد قلنا أنّنا عندما ندخل معهم فإنّما ندخل لحساب القضية وندخل لحساب المصلحة العامة، وكنّا نتحدّث في المسألة على أساس الخطّ العام ولم نتحدّث على أساس المصالح الشخصية، وعلى ضوء هذا أحبّ أن تعرفوا أنّي كنت في موقع تقرير المبدأ، وأمّا التفاصيل فلا بدّ من دراستها على مستوى المرحلة وعلى مستوى النتائج في هذا الظرف أو ذاك.

التجربة في لبنان:

التجربة في لبنان شهدت دخول الإسلاميين في صنع القرار التشريعي، فكيف تصحّحون عملهم هذا وهل استفادوا من تجربة المعصوم؟

ــــ إنّ المجلس النيابي في كلّ بلد يمثّل الصوت الذي يمكن أن ينطلق بالحقّ إذا كان يمثّل صوت الحقّ، ويمكن أن ينطلق بالباطل إذا كان يمثّل صوت الباطل، ومن الطبيعي فإنّك عندما تكون إسلامياً وتناقش القضايا المطروحة على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الأمني بطريقة إسلامية فإنّك تجعل الناس يسمعون صوت الإسلام السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي، فأي ضرر في ذلك؟ هذا أولاً. وثانياً: إنّك تستطيع أن تتحدّث عن الظالم أياً كان في أعلى موقع في الحكم أو في أدنى موقع بطريقة قانونية تكفل لك حمايتك في كلّ ما تتحدّث به لأنّ صوتك هو صوت الشعب، حسب المصطلح.

وثالثاً: إنّك بذلك تملك أن تغيّر الكثير من القوانين لمصلحة القوانين الإسلامية ولا يعتبر هذا تقوية للظلم ولكنّه استفادة من الفرصة التي طرحت أمامك لتحاول أن تعطي بما تمثّله من الخطّ الإسلامي ومن المسلمين قوةً بطريقة وبأخرى.

أمم بلا نبوّات:

لماذا تتغيّر النبوّات، وكيف هو مرور بعض الأمم والأعصر من غير نبوّة، وما هو تكليف تلك الأمم؟

ــــ تتغيّر النبوّات من أجل أن تخطّط كل نبوّة لوضع حلول لمشاكل الإنسان في الفترة بين نبيٍّ ونبيّ ثم تكبر المشاكل وتتعاظم، فقد نحتاج أن نحلّل بعض ما حرّم الله، أو نحرّم بعض ما أحلّ الله، أو تتغيّر بعض المفاهيم، وهذا ما نستوحيه من قول عيسى (عليه السلام) فيما قصّه القرآن {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}(1)، وفيما نقرأه من أنّ الله حرّم على بني إسرائيل ـــ عقوبة وتأديباً ـــ ما كان قد أحلّه قبلهم وهذا ما جاء في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}(2).

وقد نلاحظ أنّ حركة الرسالات هي قضية التربية الإلهية الرساليّة التدريجية للأمم حتى تأخذ كل أُمّة ما يتناسب مع ظروفها ومرحلتها، فهناك خطوط عامة لكلّ الرسالات، وهي ـــ خطّ التوحيد ـــ {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}(3)، أمّا التفاصيل فإنّها تختلف بين عهد وآخر ونستوحي ذلك من كلمة السيد المسيح (عليه السلام) المروية عنه "جئت لأكمل الناموس"، وكلمة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "إنّما بعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق"، فكأنّ الناموس ينقص من خلال مرور الزمن ومن خلال التعقيدات الجديدة وتعاظم المشاكل فيأتي النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليكمّل ما نقص وليتمّم ما نقص أيضاً.

أمّا أنّ بعض الأمم كانت تنطلق من غير نبوّة، فالله تعالى يقول: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ}(1)، فقد يكون نبيّاً وقد يكون وصيّاً وقد يكون عالماً مبلّغاً لرسالات الأنبياء، لكنّ الله أقام الحجّة على كلّ الناس، كلّ بحسب ظروفه، وكلّ بحسب عقليّته.

النبوّة الخاتمة:

نبوّة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هي النبوّة الخاتمة، فما المقصود بالخاتمية، وهل هي صفة كمال، وكيف؟

المقصود بالخاتميّة بحسب طبيعة ما ورد من أحاديث هو أنّه آخر نبيّ، وهذا ما قاله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "أنّه لا نبيّ بعدي" ولكن ربّما ترد بعض الكلمات بعنوان "خاتَم الأنبياء" ويراد به الوسط، فكما أنّ الخاتَم يحيط بالأصبع فالنبيّ محيط بكلّ النبوّات، وهو في الوسط منهم من حيث إشرافه عليهم وانفتاحه على كلّ رسالاتهم، لأنّه جاء مصدقاً الذي بين يديه.

الإعداد الإلهي لشخصية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

بمناسبة حديثكم عن الإعداد الإلهي لشخصية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هل يجري ملاك هذا الإعداد في مختلف العصور حتى عصرنا هذا متمثّلاً في الإمام الحجّة (عجَّل الله فرجه الشريف)؟

ــــ إنّ اللطف الإلهي الذي يتمثّل بالإعداد لكلّ الذين يحملون الرسالة نبوّةً وإمامة وولاية هو أن يعطي الله هذا الإنسان الذي اصطفاه كلّ ما يدخل في حساب مسؤولياته إنْ في صفاته الذاتية وإنْ في أساليبه وفي مناهجه وكلّ أوضاعه في الحياة.

اندماج الرسالة بأصحابها:

من أين تأتي خصوصية اندماج الرسالة بأصحابها من الأنبياء والأولياء، ولماذا لا توجد هذه الخصوصية في أصحاب المذاهب المادية؟

ــــ إنّ تأثير الرسالة بأصحابها ينطلق من خلال القابليّات الروحية والفكرية التي يتمتّع بها أصحاب الرسالات، فكلّما كانت القابلية أكثر طهارة ونقاءً وصفاءً  وعمقاً وانفتاحاً وامتداداً، اندمج أصحاب الرسالة بها أو اندمجت الرسالة بهم، وكلّما خفّت هذه العناصر، ترى الثغرات التي تفصل بين الرسالة وبين أصحابها.

خطب الرسول في الجُمَعْ:

يقال بأنّ لدينا (400) خطبة جمعة للرسول على الأقل، وهي غير موجودة بين أيدينا، بينما وصلتنا أحاديث آحاد عن خبر جرى بين الرسول وامرأة من الناس، ولم تصلنا الخطب، فأين هي؟

ــــ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}(1) و{اسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} مفسّرة بأنّها خطب الجمعة، وأمّا لماذا لم تنقل فلربّما كانت الخطب آنذاك قصيرة تؤدّي بكلمات قصار، ولربّما ما ذكر من مواعظ النبيّ ونصائحه ووصاياه قد أخذها الآخرون من خطب الجمعة.

إساءة اليهود للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

كيف ترون الردّ المناسب على اليهود الذين أساءوا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وما هو موقف الدول الإسلامية والعربية؟

ــــ لقد سمعنا الكثير من الاحتجاجات، ولقد سمعنا الكثير من إصدار الفتاوى بإهدار دم هؤلاء، ولكنّنا نعتقد أنّ الردّ الوحيد لكلّ هذه الإفرازات هو أن نبقى في الموقف ضدّ إسرائيل، فالموقف ليس أن تحتجّ الجامعة العربية أو يحتجّ المؤتمر الإسلامي، أو تنطلق الفتاوى بإهدار دم هذه المرأة أو تلك، لكنّه المقاطعة لإسرائيل سياسياً واقتصادياً من قبل الدول التي صالحت ومن قبل الدول التي تخطّط لتصالح من قبل الدول التي طبَّعت علاقاتها حتى لو لم تنشئ علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.

وهكذا الحال بالنسبة إلى المسلمين جميعاً، إذ علينا أن نقاطع إسرائيل في كل شيء حتى لو كانت البضائع الإسرائيلية أرخص وأفضل، وحتى لو كان الاستيراد من إسرائيل أسهل، فالموقف هو أن نقاطعهم لأنّ الله سبحانه وتعالى حرّم علينا جميعاً أن نعطيهم أيّة قوّة وأن نمنحهم أيّة مودّة.

أيّها الأحبة، إنّ مشكلتنا كعرب وكمسلمين أنّنا عشنا تأريخ الصراع العربي ـــ الإسرائيلي  بالكلمات، وجاءنا الآخرون من الدول الإستكبارية يمنحوننا كلمات ويمنحون إسرائيل أقوى الأسلحة المدمّرة، ويمنحونها القوّة الاقتصادية ويعملون لكي تكون أقوى دولة في المنطقة. إنّ الإساءة إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليست من هذه المرأة وليست من هذه الجماعة، ولكنّ الإساءة إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هي أنّ هذه الأرض كانت أرضاً إسلامية فأصبحت يهودية، ولأنّ الإسلام كان هو الذي يشمل الأرض كلّها، فأصبحت اليهودية تشمل الأرض كلّها، لن يكون هناك ثأر لرسول الله إلاّ من خلال الثأر للمسلمين جميعاً وللإسلام كلّه لئلا يبقى يهودي في فلسطين، لنفكّر بذلك ولو بعد مائة سنة، "اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً". لقد خطّط اليهود ووصلوا، ونحن نخطّط بالكلمات ونخطّط بالتمزّقات ونخطّط بالعصبيات وبالأحلام الضائعة في الفراغ، حتى أصبحنا لا نحبّ أن نحلم بأن ننتصر، وأن تكون لنا حريتنا وعزّتنا وكرامتنا وأن نكون كما أراد الله لنا خير أُمّة أخرجت للناس. فالردّ الوحيد هو أن نبقى في الساحة ضدّ إسرائيل، وكلّ الردود الأخرى من فتاوانا واحتجاجاتنا ستبقى في الهواء، ونحن نعرف كيف تتبخّر الكلمات في الهواء.

استشهاد علمائنا بأحاديث الأئمة (عليهم السلام):

يقول لنا إخواننا أهل السنّة أنّ علمائنا أهل الشيعة عندما يتكلّمون يضربون الأمثلة ويقدّمون غالباً الأحاديث عن الأئمة ولا يذكرون الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلاّ قليلاً؟

ــــ ليست المسألة بهذا الشكل، وإنْ كانت أحاديث الأئمة قد تغلب أحياناً في كلماتهم، وحتى في هذه الحال فإنّ أحاديث الأئمة عند الشيعة هي في الغالب أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث أنّ لدى الأئمة طريقتين في طرح الأحاديث عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم). فتارة يروون عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيذكرون ذلك بقولهم "حدّثني أبي عن جدّي" وتارة يقولون قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من دون سند. ففي الطريقة الأولى يقول: الإمام الصادق (عليه السلام) "حدّثني حديثُ أبي وحديث أبي حديث جدّي وحديث جدّي حديث عليّ وحديث عليّ حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)"(1).

منهجية دراسة عليّ (عليه السلام):

ما تفضّلتم به من منهجية لدراسة الإمام عليّ (عليه السلام) يلتقي مع كلمات للسيد الشهيد الصدر (رضي الله عنه) حول موضوع إعداد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعليّ (عليه السلام)، فقد تناولتما الموضوع بعيداً عن حرفية النصوص، والسؤال هو لماذا لا تتّجه بحوث العلماء لتناول هذه المسألة الحساسة بالشكل الذي طرحتموه لتكون مقبولة منهجياً ومضموناً؟

ــــ إنّنا نعتقد أنّ علينا في هذا العصر الذي يتحرّك في خطوات التطوّر أن نعالج القضايا بأساليب تتجاوز المنهجية القديمة التي لم تعد قادرة على مواجهة التحدّيات الفكرية والثقافية، ولعلّ الخطوات المبذولة في هذا الطريق تفتح بعض الآفاق بهذا الاتجاه.

قراءة عليّ في سيرته:

يقول الأستاذ (عبد الفتّاح مقصود) الباحث المصري أنا أقدّم علياً على غيره لا لأنّني أقرأهُ في النصوص بل لأنّني قرأت تاريخه وسيرته ومواقفه فما هو رأيكم في هذا الكلام، وهل تكفي دراسة تاريخ الإمام من خلال النصوص الواردة في حقّه؟

ــــ عندما ندرس علياً نعرف أنّه المتعيّن، وتأتي النصوص تأكيداً لذلك لا تأسيساً له، فاحتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكلّ دليل أنّه إمام الكلّ فإنّ حقّه (عليه السلام) ينطلق من طبيعة الواقع في نظرة الإنسان إلى الإنسان في واقع القيادة.

 

الاستدلال على الإمامة بالغدير:

تستدلّون على الإمامة الشرعية والسياسية بحديث الغدير الذي قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذا إذا كان قد صدر عن الرسول، وهذا الحديث على تقدير صحّته لا يعطي هذا المعنى البعيد الذي تذهبون إليه؟

ــــ حديث الغدير هو حديث مستفيض بل متواتر عند السنّة والشيعة، وإذا كان الشخص يناقش بالدلالة فالدلالة واضحة، لأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجع من حجّة الوداع وكان معه مسلمون حتى وصلوا مفترق الطرق فجمع الناس في وقت الظهر ورفع يدّ عليّ عالياً حتى بان بياض إبطيهما للناس ثم قال: "ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟" قالوا: "اللّهم بلى" قال: "اللّهم اشهد" ثم قال: "مَن كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه" هنا يقول بعض الناس مَن كنت محبه فعليٌّ محبّه لأنّ المولى يطلق على المحبّ ويطلق على الناصر ويطلق على وليّ الأمر.

وتعليقاً على ذلك نقول: أولاً: عندما ندرس طبيعة الحادثة وكيف جمع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الناس في ذلك الوقت القائظ، هل لمجرّد أن يقول لهم إنّ الذي أحبّه أنا يحبّه عليّ أيضاً، إنّ هذا لا معنى له من خلال طبيعة الموضوع ثم إنّ قوله "ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم" يعطي معنى الولاية والحاكمية بقرينة تحديد كلمة المولى في أنّ المراد بها الأولى بالمؤمنين من أنفسهم يعني الولي، وهذا ما يستدلّ به على الإمامة من حديث الغدير.

وضوح الظهور:

أيّ ظهور هذا الذي تحدّثتم عنه مع صراحة موقف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من عليّ (عليه السلام) حيث نصب له خيمة ليسلّم عليه المسلمون بإمرة المؤمنين بعد نزول القرآن بشأنه، ألم يكن هناك وضوح قبل حديث الدواة والكتف؟

ــــ لقد قلنا بأنّ هناك فرقاً بين وضوح الظهور، ونحن نعرف كيف تأوّل الكثيرون من الناس كلمة المولى وكيف تأوّلوا الموقف، فنحن لا نقول أنّ ما تأوّلوه حقّ فإنّ كلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفعله ظاهر، ولكن عندما أراد أن يكتب الكتاب في هذا وفي غيره أراد أن لا يفسح المجال حتى للاحتمال بنسبة عشرة بالمائة.

ونحن نقول بأنّ الظهور صراحة، ولكنّ النصّ الذي لا يحتمل التأويل هو أكثر صراحة. فنحن نقرأ بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام) في طبيعة الوضوح {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}(1)، فهناك ما هو أكثر وضوحاً وهو الشيء الذي يرتبط بالحسّ وإنْ كان العقل قريباً من الحسّ.

اليقين بصحّة الغدير:

إنّ تواتر الأخبار عن يوم الغدير يقطع الشكّ ويعطي اليقين بهذا العيد الإسلامي الكبير، ولكن يتحدّث البعض عن عدم استخدام الإمام هذا الحدث في المطالبة بحقّه في الخلافة بشكل واضح فما هو رأيكم؟

ـــ يقول عليّ (عليه السلام) (أما واللهِ لقد تقمّصها فلان وإنّه ليعلمُ أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير)(2) ممّا تبيّن أنّه تحدّث عن ذلك بطريقة الرمز، هذا من جانب. ومن جانب آخر ينقل التاريخ الموثّق أنّ علياً دعا الصحابة الذين سمعوا حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في يوم الغدير أن يشهدوا له وشهد الكثيرون بذلك وكان أحد الصحابة قد تلجلج أو لم يشهد فأدركه البرص وكان يقول أدركتني دعوة العبد الصالح لأنّ الإمام دعا على مَن يمتنع عن الشهادة أن يصاب بالبرص، فلقد تحدّث الإمام في أكثر من موقع بطريق الرمز تارة وبطريق الإشارة تارةً وبطريق الصراحة تارة أخرى لأنّه كان يواجه القضايا بالحكمة وبما فيه المصلحة للإسلام والمسلمين.

جدوى إحياء ذكرى الغدير:

البعض يرى أنّ بيعة الغدير انتهت عندما بايع عليّ الخليفة الأول ومن هنا يرون عدم وجود ضرورة حتى لإحياء هذه المناسبة نظراً لانتفاء الموضوع؟

ــــ عندما ندرس الإمام عليّ (عليه السلام) في الخطبة الشقشقية نجد أنّه ـــ حتّى مرحلة حكمه ـــ يرى أنّ حقّه هو الحقّ وأنّ الظروف التي أحاطت به لم تجعله يتراجع عن حقّه، لأنّ مثل هذه القضية التي كانت الولاية فيها من الله بتنفيذ من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حريٌّ أن لا يتنازل عنها إذ لا معنى للتنازل.

وكما قلنا ونحن نستحضر هذه الذكرى لنأخذ منها القيمة وهي أنّ الذي يلي أمور المسلمين لا بدّ أن يكون تجسيداً للإسلام. إنّها مسألة الاختبار الأفضل، كما أنّنا عندما نذكر عليّاً لا نريد أن نتنازع لنزيل الذين تقدّموه ونضع عليّاً مكانهم فقد أصبح عليّ ومَن تقدّمه في رحاب الله، إنّما القصّة هي قصّة خطِّ عليّ الفكري والمنهجي والروحي والجهادي وهو معنى حركتنا في خطّ الولاية.

أين المبايعون عليّاً؟!

لقد ورد في حديث الغدير أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد حشد الآلاف من المسلمين عندما ولّى عليّاً، والسؤال أين كان هذا الحشد بعد وفاة رسول الله من المبايعة لعليّ؟

ــــ لقد أحيط الواقع الذي أعقب واقعة الغدير بأسلوب نفسيّ جعل الجميع يغفلون عن القضية تماماً، وإذا كان البعض يتحدّث عن كيف هي المسألة وكيف جرت الرياح بهذا الاتجاه فإنّ عندنا في الواقع الذي عشناه في تاريخنا في بيعة الناس للحسين (عليه السلام) مثلاً آخر، فلقد كانت قلوبهم معه وسيوفهم عليه، كما نجد في تاريخنا المعاصر القيادة التي التفّ حولها المسلمون كيف لم تجد ناصراً واحداً أو صوتاً واحداً عندما اضطهدت بطريقة وبأخرى؟!

عليّ والشباب المسلم:

لو كان الإمام عليّ (عليه السلام) موجوداً فهل سيكون راضياً عن الشباب المسلم الذي يقف بصلابة في بقاع عدّة من الأرض متحدّياً رصاص الاستكبار العالمي، ولو كان (عليه السلام) موجوداً فما هي المرحلة القادمة وأي طريق كان سيسلك بالشباب المسلم؟

ــــ سيسلك الطريق الذي بدأه، لأنّ علياً عندما دعا إلى الله تعالى، وعندما جاهد في سبيل الله، وعندما صبر على الأذى في جنب الله، وعندما واجه التحدّيات بالعقل المفتوح، فإنّه جعل كل ذلك لمصلحة الإسلام العليا، ولو أنّ علياً (عليه السلام) عاش في هذه المرحلة لكان هؤلاء الشباب من المجاهدين والصابرين ومن الدعاة إلى الله هم جند عليّ (عليه السلام) وأنصاره وأعوانه، ولكانت خطّة عليّ هي الخطّة التي يتحرّك فيها مع هؤلاء في مواقعهم.

شروح "نهج البلاغة":

ما هو أحسن شروح نهج البلاغة برأيكم؟

ــــ كلّ ورد له رائحة، ولا نستطيع أن نعطي فكرة شاملة لأيّ شرح، فهناك شرح (ابن أبي الحديد المعتزلي) وهو من أغنى الشروح، وهناك (شرح ابن ميثم البحراني) وهو ينفتح على الجانب الأدبي واللغوي و(منهاج البراعة) و(في ظلال نهج البلاغة) للشيخ (محمد جواد مغنية) وهناك شروح مختصرة وكما قلت فإنّ لكلّ ورد رائحة.

عليّ وتدوين الحديث:

هل كان عليّ يرى في مسألة تدوين الحديث ما يراه عمر في هذه المسألة؟

ــــ لم يكن يرى هذا الرأي وقد عبّر عن ذلك ولده الإمام الحسن (عليه السلام) الذي كان يشجع على كتابة الحديث، وفحوى الرأي أنّه لا يمكن أن يختلط الحديث بالقرآن لأنّ للقرآن أسلوبه المعجز الذي لا يمكن أن يحاكيه أحد بينما الحديث جارٍ على حسب ما عند الناس، ولهذا ربّما كانت هذه المسألة قد أضاعت على الناس كثيراً من حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

تدوين الأحاديث:

متى دوّنت الأحاديث والسنّة النبويّة الشريفة ومَن الذي دوّنها؟

ــــ الظاهر أنّها دوّنت في وقت متأخر، لأنّ الخليفة الثاني (عمر بن الخطاب) لم يقبل بتدوين السنّة لأنّه خشي أن تختلط بالقرآن، هذا في الواقع الإسلامي العام، وفي إطار مدرسة أهل البيت لم يتأخّر التدوين، فقد تعاهد الأئمّة (عليهم السلام) حفظ السنّة بمختلف الوسائل ومنها التدوين. ونحن نقرأ ـــ في روايات الأئمة (عليهم السلام) ـــ أنّ للزهراء (عليها السلام) كتاباً ولعليّ (عليه السلام) كتاباً، وهناك أكثر من رواية منقولة عنهما كمصدر للتشريع وغيره.

استقبال ذكرى محرّم:

ما هي الأعمال التي ينبغي علينا أن نستقبل بها الأيام الآتية من شهر محرّم؟

ــــ ينبغي أولاً أن ننفتح في محرّم على الشعارات التي أطلقها الإمام الحسين (عليه السلام) فقد أطلق (عليه السلام) عدّة شعارات تتّصل بالواقع السياسي وبالواقع الإسلامي الحركي وبواقع القِيَم الإنسانية التي هي قِيَم إيمانية، فنحن نقرأ في سيرة الإمام الحسين (عليه السلام) أن أوّل خطبة قالها وهو يريد للناس أن يعرفوا الأساس الشرعي على مستوى الخطّ وعلى مستوى الواقع لحركته أو لثورته أو لنهضته ـــ ما شئت فعبّر ـــ عندما قال "أيّها الناس إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال "مَن رأى منكم سلطاناً جائراً مستحّلاً لحرام الله ناكثاً لعهده مُخالِفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباده بالإثم والعدوان فلم يغيّر ما عليه على رواية أو فلم يغر عليه أي يثور عليه، بقول ولا بفعل كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله" هذا هو الخطّ البياني العام الذي رسمه رسول الله لحركة التغيير في مواجهة الانحراف المتمثّل بالقيادة.

ثمّ قال عندما أراد أن يلفت النظر إلى الواقع المرير "إنّ هؤلاء القوم قد لزِموا طاعة الشيطان وتولّوا عن طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وإنّي أحقّ بهذا الأمر"(1).

إنّ هذه الكلمة تدلّ على أنّ الحسين (عليه السلام) تحرّك في الخطّ العام الذي رسمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنّه الأمين على الرسالة في الخطوط العامة والأمين على الرسالة في الجانب الحركي للرسالة، لذلك عندما التقى أمير المدينة وعرض عليه البيعة ليزيد قال (إنّا أهل بيت النبوّة وموضع الرسالة ومختلَفِ الملائكة بنا فتَحَ الله وبنا خَتَم ويزيد رجلٌ فاسق شاربٌ للخمر قاتلٌ للنفس المحرّمة ومثلي لا يبايع مثله)(1) من هنا نستوحي أنّ الحسين (عليه السلام) كان ينطلق من أجل إقامة الحكم لله تعالى لا كما يقول البعض أنّ الحركة إصلاحية يراد منها تخفيف الواقع الفاسد لا تغييره، فالحسين (عليه السلام) يطرح مسألة التغيير وهذا هو الذي يفسّر كلمته الأخرى وهي "ما خرجتُ أشِراً ولا بطراً ولا مُفسِداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"(2) باعتبار أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يختصر كل حركة الإنسان الواقعية في مواجهة الانحراف عن الخطّ كلّه، لأنّ المعروف والمنكر يختصران كل الجوانب الإيجابية والسلبية الموجودة في الإسلام، وهكذا نستوحي أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا ينحصر بالكلمة ولكنه قد يصل إلى حدّ الثورة.

وهكذا عندما نلتقي بالإمام الحسين (عليه السلام) عندما يطرح عليه الخضوع لحكم يزيد وابن زياد عندما قال (لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد ألا وأنّ الدعي ابن الدعي قد رَكَزَ بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله)(3) من هذا نفهم أنّ علينا أن نأخذ شعار الحسين (عليه السلام) في كلّ التحدّيات التي يراد لنا فيها أن نخضع لحكم الاستكبار كلّه ولاسيّما الاستكبار العالمي ولحكم الاستكبار الصهيوني، لأنّ القضية المطروحة الآن في كلّ هذا الصراع بين العرب واليهود وبين المسلمين واليهود هو أن ننزل على حكم اليهود بحيث نخضع لكلّ شروطهم وكلّ خططهم وأن نخضع أيضاً للاستكبار العالمي في كلّ خططه الذي يحاول أن يدعم فيها إسرائيل، لذلك عندما تدخلون عاشوراء أطلّوا على التاريخ الذي لا يحصر الحسين في دائرته ولكنه يطلق الإمام الحسين كرمز لتغيير الواقع الفاسد والمطالبة بحرية الإنسان كلّه.

لذلك ـــ أيّها الأحبّة ـــ لن تكونوا حسينيين إذا أعطيتم بأيديكم إعطاء الذليل وأقررتم إقرار العبيد، ولن تكونوا حسينيين إذا وقفتم موقف اللامبالاة أمام كلّ معروف يترك وكل منكر يفعل سواءً كان المعروف عبادياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو أي شيء وسواءً كان المنكر كذلك.

ولن تكونوا حسينيين إذا لم تتحمّلوا مسؤولية التغيير كلٌّ بحسب إمكاناته وكلٌّ بحسب ظروفه. كما إنّ هناك نقطة لا بدّ أن نلفت النظر إليها لأنّها تتّصل بالإيمان، فإذا كنتم لا تستطيعون الرفض العملي فعليكم أن تعيشوا الرفض في أفكاركم، حذارِ من أن تتقبّلوا الأمر وتبرّروه، حذارِ من أن تتقبّلوا القيادة الجائرة وتعذروها وحذارِ من أن تسمّوا الذلّة تسامحاً، كما قال ذلك الشاعر عندما كان يتحدّث عن أناقة الكلمات التي تتحرّك في غير معناها:

"تأنَّقَ الذُلُّ حتى صارَ غفرانا" فالبعض عندما يبرّر الذلّة يقول أنا أغفر لمن أساء إليّ، ولكنّ ذلك في الحقيقة ليس غفراناً، لأنّ الغفران إنّما يكون عندما تملك حرية أن تغفر أو لا تغفر، أمّا عندما يحاصرك الآخرون فإنّ ذلك لن يكون غفراناً بل ذلاً.

أيّها الأحبّة: إنّ قيمة كربلاء في كل معانيها أنّها تصنع من كل واحد منّا حسيناً ولو بنسبة الواحد بالألف، بمعنى أن نأخذ من أخلاق الحسين بعضاً من أخلاقنا ومن موقف الحسين بعضاً من مواقفنا ومن روحانيّة الحسين التي نعيشها في دعائه يوم عرفة لنعيش روحانيّتنا. وإنّ كربلاء هي مدرستنا وإذا كنّا نبكي الحسين (عليه السلام) فإنّنا نعرف أنّ الحسين وهو في قمّة المأساة، كان يفرح الفرح الروحي بالله لأنّ الله ينظر إليه، وعلينا أن نتعلّم درس الحسين (عليه السلام)، نحن الذين قد نشرَّد عن أوطاننا، نحن الذين قد نضطهد، وقد نعيش كلّ الجراحات والمشاكل، إذ علينا أن لا نجزع وأن لا نسقط لأنّنا عشنا المأساة، بل أن نكون حسينيين وأن يقول كلّ واحد منّا (هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله) وتلك هي أمثولة كربلاء التي تنتج في كلّ سنة جيلاً جديداً لمن عاش في عمق كربلاء لا الذي يتحرّك على سطوحها.

 

 

 

 

الأحاديث الواردة بحق الحسين(عليه السلام):

لماذا كلّ هذه الأحاديث الشريفة بحقّ الحسين (عليه السلام) وفضله ووجوب نصرته والتمسّك به وبخطّه دون أن نرى مقداراً مقارباً فيما يخصّ الإمام الحسن (عليه السلام) مع أنّ دور الإمام الحسن (عليه السلام) لا يقل أهمية عن دور أخيه الحسين (عليه السلام)؟

ــــ ليست المسالة هي مسألة التفاضل بين الإمام الحسين (عليه السلام) والإمام الحسن (عليه السلام) فهماً معاً (سيدا شباب أهل الجنّة)(1) وهما (ريحانتا رسول الله)(2) وهما (إمامان قاما أو قعدا)(3) لكنّ المسألة هي أنّ طبيعة الظروف التي عاشها الإمام الحسين وطبيعة الحركة التي قام بها والتي تجسّدت في ثورته وطبيعة النتائج التي أسفرت عنها تختلف عن طبيعة الظروف أو النتائج التي تركتها حركة الإمام الحسن لذلك فلا تفاضل بين الأخوين، ولكنّها قضية الفرق بين هذا الدور وذاك الدور، وقد قال بعض العلماء أنّ ثورة الحسين (عليه السلام) هي صدى لصلح الحسن فالإمام الحسن هيّأ للحسين (عليه السلام) أرضية الثورة عندما أراد للناس أن يعيشوا حقيقة الحكم على الطبيعة ليتعرّفوا وليثوروا ضدّه، ولو كان الإمام الحسن في ظرف الإمام الحسين لكان حسينياً كما لو كان الحسين في ظرف الحسن لكانَ حسنيّاً، ولذلك كان الحسين (عليه السلام) يدافع عن صلح الحسن (عليه السلام) لأنّه كان يمثّل المصلحة الإسلامية في تلك المرحلة.

مظلومية الحسين (عليه السلام):

أنتم الشيعة تقولون بأنّ الحسين (عليه السلام) مظلوم والواقع أنّه ليس كذلك لأنّ مَن يثور بوجه طاغية كيزيد فلا بدّ أن يتحمّل نتائج هذه الثورة وأقلّها هو القتل، فما هو تعليقكم على ذلك؟

ــــ ليس معنى أن يكون الإنسان مظلوماً أن يكون ضعيفاً، فلقد كان الحسين قوياً كأقوى ما يكون الرجال، ولكنّ المسألة هي أن يتصرّف معه الآخرون بما لا حقّ لهم فيه، ولذلك فإنّ الله تحدّث عن أنّ الناس تظلمه فهو مظلوم من عباده، وهذا ما ورد في قصّة لقمان: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(1) هل معنى ذلك أنّ الله في موقع الضعف؟ حاشا وكلّا، وهكذا في كلمة الإمام عليّ (عليه السلام): "الظلم ثلاثة، ظلم لا يغفر وظلم يغفر وظلم مطلوب لا يترك، أمّا الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله إنّ الشرك لظلم عظيم"(2).

وقد قال عليّ (عليه السلام) وهو يحدّد لنا شخصية الظالم "للظالم من الرجال ـــ ومن النساء أيضاً ـــ ثلاث علامات يظلم من فوقه بالمعصية ومن دونه بالغلبة ويظاهر القوم الظلمة"(3)، الظلم إذاً هو أن تتصرّف مع أي أحد بما لا حقّ لك بالتصرّف فيه.

رواة واقعة كربلاء:

كيف تمّ نقل تفاصيل أحداث كربلاء إلينا خصوصاً الجزئيّات منها، وهل كان الإمام محمد الباقر (عليه السلام) موجوداً في كربلاء؟

ــــ لقد نقل كربلاء كثيرون ممّن عاشوا الحادثة، كما نقل كثير منها عن الإمام الباقر (عليه السلام) وبقية الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) الذين كانوا يعرفونها من خلال السيّدة زينب ومن خلال الإمام عليّ بن الحسين ومن خلال النساء اللاتي حضرن في كربلاء، ولعلّ من أوثق المصادر ما ورد في تاريخ الطبري من مقتل أبي مخنف فهو الذي لا يخلو من الوثاقة وهناك مقاتل أخرى، وهناك كما قلنا روايات موجودة عن أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المجال.

رواة الواقعة من الأعداء:

نقلت بعض تفاصيل أحداث كربلاء من قبل بعض مَن شارك في حرب الحسين (عليه السلام) هل يمكن الوثوق بأخبارهم خاصة إذا كانت تحمل إدانة لهم ذاتهم؟

ــــ إنّ الخبر المعتبر هو الخبر الذي يوثق به ولذلك لا بدّ لنا أن ندرس هذه الأخبار أولاً من خلال الرواة هل هم موثوقون أم لا، هل لهم مصلحة في الكذب أو لا، ولا بدّ أن ندرس مضمون الخبر هل يتناسب مع طبيعة الأمور أو يتنافى مع بعض القضايا القطعية فإذا حصل لنا وثوق من خلال الراوي أو من خلال مضمون الرواية من أنّه ليس هناك أيّة مصلحة في أن يكذب، فمن الطبيعي أن نصدّقها وحتى أنّه لو نقل لنا بعض أعداء الحسين أشياء تدينهم فهذا دليل على الصدق فالإنسان عادة لا ينقل ما يضعف موقفه فلو كانوا كاذبين لما نقلوا مثل هذه الأمور.   

اهتمام الأئمة بعاشوراء:

اهتم أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بشهادة الحسين ومأساته بما لا نظير له اتّجاه مظلوميّة باقي الأئمة فما الحكمة من ذلك؟

ــــ كان ذلك من خلال الدور المتنوّع الأبعاد في مسألة الحسين (عليه السلام) بالمستوى الذي يمكن أن يحقّق للخطّ الإسلامي لاسّيما في خطّ أهل البيت بما لا يحقّقه دور أي إمام من الأئمة مع تقدير القيمة في هذا الدور أو ذاك، ولذلك كان الإمام الصادق (عليه السلام) عندما يشير إلى إقامة المجالس يقول: "أحيوا أمرنا رَحِمَ الله مَن أحْيَا أمرنا"(1) فالمسألة تتحرّك من جهة أنّ العناصر الموجودة في ثورة الحسين (عليه السلام) هي عناصر تملك الحركية في عملية إحياء أمر أهل البيت ولا أمرَ لأهل البيت إلاّ الإسلام وليس عندهم شيء غيره.

 تركيبة المجتمع الكوفيّ:

هل هناك تركيبة واضحة لمجتمع أهل الكوفة في ذلك الوقت قومية أو حزبية معارضة أو مؤيّدة لأهل البيت؟

ــــ مَن يتحدّث عن مجتمع الكوفة يقول بأنّ هذا المجتمع كان خليطاً من التيارات ومن الاتجاهات المتباينة، ولذلك لا نستطيع أن نعتبر الكوفة محضناً للتشيّع بكلّ فئاتها.

هدف خروج الحسين (عليه السلام):

يدّعي البعض أنّ الحسين (عليه السلام) إنّما خرج طمعاً بالحكم كغيره من الثوار الذين فضّلوا خيار القوّة، فما هو رأيكم؟

ــــ لا يجوز أن نتحدّث عن الحسين (عليه السلام) في كلمة الطمع، فالحسين هو الإمام الرساليّ الذي ليس له طمع بأي شيء ماديّ في الحياة، هناك طمع واحد للحسين كما لكلّ الرسل والأولياء، هو الطمع برضوان الله وبرحمته وبالدرجات العلى عند الله.

إنّ الحسين (عليه السلام) هو الإمام وهو الذي يمثّل شرعية الحكم الإسلاميّ، ولذلك فإنّه عندما ثار ضدّ يزيد، قال: "نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالبيعة"، أو "مثلي لا يبايع مثله"(1)، لذلك أراد الحسين (عليه السلام) الحكم لأجل أن يغيّر الواقع كلّه على صورة الإسلام تماماً كما عبّر أبوه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عندما قال: "اللّهم إنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنردّ المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتُقام المعطّلة من حدودك"(2).

كان الإمام الحسين يستهدف التغيير "ألاَ وقد علمتم أنّ هؤلاء القوم قد لَزِموا طاعة الشيطان وتولّوا عن طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنّي أحقّ بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)"(3)، فلقد كان الحكم لديه رسالة ومسؤولية، ولم يكن امتيازاً وطموحاً وحاجة نفسية.

الذين راسلوا الحسين (عليه السلام):

مَنْ هم الذين أرسلوا الرسائل للحسين (عليه السلام) يدعونه وينصرونه، هل هم الخلَّص من المؤمنين، وإذاً لماذا نكثوا العهود؟

ــــ هناك الخلَّص من المؤمنين الذين أرسلوا إليه الرسائل وحالت ظروفهم إمّا من خلال السجن أو من خلال ظروف طارئة وضاغطة لا نعلمها، لأنّ التاريخ لم يتحدّث عنها بشكل واضح، وهناك من أرسل الرسائل من الناس الآخرين الذين كانت قلوبهم مع الحسين (عليه السلام) وصارت سيوفهم عليه.

إصلاحية أم تغييرية؟

هل أنّ ثورة الحسين (عليه السلام) إصلاحية أم تغيّيرية، إنّه (عليه السلام) يقول: "خرجتُ لطلب الإصلاح" ويقول: "أنا أحقُّ مَنْ غَيَّر" فهل هما مترادفان في ثورة الحسين أي هي إصلاحية تغييرية أم هما عنوانان مختلفان؟

ــــ لم يكن المفهوم آنذاك كما هو متداول الآن، فكما لو أردت أن تصلح بيتك الذي اختلت بعض سقوفه وتصدّعت بعض جدرانه فإنّك تعمد إلى ترميمه، ولكن عندما يصل الفساد للأساس فإنّ من الطبيعي أن تصلح بيتك بأن تنطلق إلى الأساس لتغييره ولتثبيته ولتقويته.

لذلك فإنّ مسألة الإصلاح في أُمّة جدّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تختلف حسب اختلاف طبيعة الفساد الموجود هناك، فإذا كان الفساد جزئياً فمن الطبيعي أن يكون الإصلاح جزئياً، وإذا كان الفساد كليّاً فمن الطبيعي أن يكون الإصلاح كليّاً أي تغيّيرياً، وبذلك يمكن القول أنّها ثورة تغيّيرية تصلح ما فسد من الواقع سواءً على مستوى القيادة أو على مستوى القاعدة أو على مستوى القضايا الجزئية هنا وهناك.

استيحاء دروس أخرى:

هل يمكن أن نستوحي دروساً غير الثورة والتضحية من سيرة الإمام الحسين (عليه السلام) باعتباره إمام الأُمّة؟

ــــ إنّنا نريد أن نأخذ الحسين (عليه السلام) كلّه، نأخذ الحسين العالم لنتحرّك في خطّ العلم ونأخذ الحسين الزاهد لنتحرّك في خطّ الزهد، ونأخذ من الحسين خطّ الإنسان الروحاني الذي نتمثّله في دعائه في يوم عرفة وهو يبتهل إلى الله وهو يعيش الدعاء حتّى كان الذين من حوله يشعرون أنّ الأرض تدعو معهم وأنّ السماء تدعو من خلال دفق روحانية الإمام الحسين (عليه السلام).

لذلك نحن نريد أن نأخذ الحسين بكلّه، وإنّما نأخذ ثورته من خلال علمه الذي انفتح وخطّط للثورة، ونأخذ ثورته من خلال إخلاصه لربّه ونأخذ ثورته من خلال إخلاصه لإسلامه ونأخذ ثورته من خلال زهده وشجاعته وصلابته في الحق.

لذلك لا تأخذوا من الحسين جانباً واحداً لأنّ كلّ جوانب الشخصية هي عناصر العظمة المرتبطة بعضها ببعض فلا نستطيع أن نفصل جانباً عن جانب وأن نفصل الحسين العالم عن الحسين الثائر والحسين الروحاني عن الحسين المقاتل وما إلى ذلك.

السند الشرعي للثورة ضدّ الطغيان:

هل يمكن القول أنّ ثورة الحسين (عليه السلام) هي السند الشرعي للثورة والتصدّي للجور والطغيان؟

ــــ إنّ السند الشرعي للثورة هو كتاب الله وسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد كان الحسين (عليه السلام) في أحاديثه يستهدي كتاب الله وسنّة الرسول، ومن الطبيعي فإنّ هذا اللون من الثورة يعطي الشرعية لأمثاله باعتبار أنّ الحسين إمام معصوم مفترض الطاعة.

نشاطات الباقر السياسية:

ما هي حدود النشاطات السياسية التي كان يمارسها الإمام الباقر (عليه السلام) في ظلّ الاضطهاد السياسي الذي كان يتعرّض له من قبل الأمويين؟

ــــ لعلّ قيمة أئمّتنا (عليهم السلام) منذ عليّ (عليه السلام) أنّهم كانوا إذا اضطهدوا من قبل السلطات القائمة وأُبعدوا عن حقّهم ونُكِّل بهم وكانوا يرفضون ذلك، ولكن كانوا لا يقومون بردّ فعل غير مسؤول لأنّ الأئمة (عليهم السلام) كانوا يتحرّكون على أساس المصلحة الإسلامية العليا وهذا ما عبَّر عنه عليّ (عليه السلام) عندما قال: "لأسلمنَّ ما سَلِمَت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليَّ خاصّة".

فلقد كان الإمام الباقر (عليه السلام) في سلوكه مع الأمويين الذين كانوا يحاصرونه تارة ويوسّعون عليه أخرى كان يتطلّب المصلحة الإسلامية العليا، ففي عهد (عبد الملك بن مروان) كانت الدراهم المسكوكة هي دراهم الروم، ولم تكن هناك عملة إسلامية نقدية متداولة ولاسيّما في مناطق الشام، وتبدأ القصّة عندما أمر عبد الملك بتغيير الشعارات المكتوبة على الأقمشة المستوردة من الروم، وهي شعارات النصرانية، فلمّا علم ملك الروم بذلك أرسل إلى عبد الملك هدية حتى يترك هذا الموضوع فرفض مرّة ثانية ومرة ثالثة فقال له "إذا أنتَ بقيت مصرّاً على ذلك فسوف أصنع عمله أذكر فيها سبّ نبيّكم" وعندما جاء الكتاب إلى عبد الملك ظلّلته غمامة سوداء، كما يقولون، فكان في حيرة حتى استشار أصحابه فلم  يشيروا عليه بشيء، وكان رأي بعضهم أنّه قال له أين أنتَ عن محمد بن عليّ، وكان في المدينة فجاء الرسول إلى الإمام الباقر (عليه السلام) يستقدمه إلى الشام وبالفعل فقد أشار عليه وأعطاه البرنامج الذي صنع فيه العملة، وقال له إنّه لم يصنعها له شخصياً وإنّما صنعها للمسلمين حتى يتداولوها وهكذا سُكَّت العملة الإسلامية الجديدة، وعندما صنعت قيل لملك الروم لماذا لم تنفّذ تهديدك؟ فقال: أنا هدّدت للتخويف.

فالإمام الباقر (عليه السلام) واجه المسألة على أساس المسؤولية الإسلامية، فلم يتوقّف عند إشكالية أنّ المستنجد به هو "عبد الملك بن مروان" الغاصب للإمامة، وهكذا كان في كلّ أوضاعه وتحرّكاته، ولكنّه في الوقت نفسه كان يثقّف المسلمين برفض الحاكم الجائر حتى يكون تعايشهم معه منطلقاً من طبيعة الأمر الواقع لا من طبيعة الاقتناع بالأمر والخضوع له.

وعندما ندرس دوره في خلق مشكلة لبنيّ أُميّة في أواخر خلافتهم وذلك في حديثه مع "الكميت الأسدي" بأن ينظّم قصيدة تثير وتؤلّب الوضع ضدّ بني أُميّة، فإنّنا نجده يخلق جواً يمهّد لإسقاط حكم بني أُميّة، ممّا يدلّ على أنّ الإمام كان يراقب الواقع السياسي، وكان يتدخّل بالطريقة التي يمكن أن تعطي الإسلام قوّة، وأن تثير في واقع الظلم مشكلة تهدّده بالسقوط والانهيار.

ولا بدّ لنا من أن نستفيد من ذلك في أن ندرس كلّ مواقفنا ومواقعنا في المعارضة السياسية في إيجابيات التعايش مع الحكم القائم أو سلبياته، فلا بدّ من دراسة مصلحة الإسلام ومصلحة المسلمين في ذلك بجانبيه.

وعلينا أن لا ننطلق من حالة استغراق في المشكلة بحيث يحجبنا ذلك عن دراسة الواقع ومعرفته، وهذا هو النهج الذي عاشه أهل البيت (عليهم السلام) في كلّ حركتهم السياسية السلبية أو الإيجابية.

أسانيد أحاديث الباقر (عليه السلام):

عندما يتلقّى طلّاب الإمام الباقر (عليه السلام) الأحاديث والروايات منه (عليه السلام) لا نجد أنّهم يتساءلون عن أسانيد أحاديثه ومرويّاته، فلماذا كان الأمر كذلك، فهل إنّ ما ورد فيه حذف للأسانيد أو أنّهم تقبلوا عصمته وعلمه الإلهاميّ؟

ــــ أمّا ما يتعلّق بما يرويه الإمام الباقر (عليه السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنّه (عليه السلام) كان يقول: (قال رسول الله) ولم يقل حدّثني أبي عن جدّي عن أبيه، فكما جاء في بعض الروايات أنّه قال: (كلّ حديث لم أسنده فهو حديث عن أبي عن جدّي عن عليّ عن رسول الله عن جبرئيل عن الله تعالى) تماماً كما كان الإمام الصادق (عليه السلام) يؤكّد هذا المعنى حينما يحدّث بدون سند.

أهمية دراسة الإمام الصادق (عليه السلام):

أين تكمن أهمية دراسة الإمام الصادق (عليه السلام)؟ هل في جانب الانفتاح على الجانب العلمي وتدريس المحدّثين والفقهاء، أو في تربية الكوادر الواعية الصالحة أو في محافظته على المؤمنين ورسم معالم أهل البيت؟

ــــ كان الإمام الصادق (عليه السلام) كل ذلك، فلقد كان الإمام المسلم الذي يجد أنّ من رسالته أن يؤصّل المفاهيم الإسلامية، وأن يبعدها عن الانحراف وأن ينفتح على كلّ العلماء والمحدّثين والفقهاء ممّن يختلفون معه أو يتّفقون معه ليعمّق الوعي لدى الذين يتّفقون معه وليثير الحوار العقلانيّ الرساليّ مع الذين يختلفون معه، ولذلك، كان الذين يختلفون معه حتى الذين لا يؤمنون بالله يجلّونه ويعرفون مكانته المميزة حتّى قال قائلهم: (ما رأيت أحداً يستحق اسم الإنسانية عدا جعفر بن محمد الصادق) لأنّه كان يفتح لهم عقله ليقودهم إلى أن يفتحوا عقولهم له وليناقشهم بالحكمة والموعظة الحسنة حتى يقودهم إلى الاقتناع، أو يقودهم إلى أن يفهموا الإسلام بطريقة مشرقة عقلانية.

وهكذا رأينا أنّه كان يربّي الكوادر الثقافية، فقد استطاع أن يربّي الكثيرين ممّن يتمذهب به وممّن لا يتمذهب به، وهذه هي مهمة الإنسان الرساليّ في أن يترك من بعده أشخاصاً يحملون ثقافته وفكره ورسالته، وكان أيضاً يؤصّل معالم أهل البيت في فكرهم وفي فقههم وفي الخطّ الثقافي الذي يملكونه.

ثورة زيد بن عليّ:

هل كانت ثورة (زيد بن عليّ) في الكوفة نقطة ابتعاد عن إمامة وزعامة الإمام محمد الباقر (عليه السلام)؟

ــــ عندنا أحاديث تؤكّد على أنّ زيداً لم يدّع الإمامة لنفسه، بل كان يدعو للرضا من آل محمد، فنحن نقرأ في كلمات الإمام الصادق (عليه السلام) ما يفيد ذلك.

خروج (زيد) على (هشام):

كيف تنظرون إلى خروج زيد بن عليّ بن الحسين على هشام بن عبد الملك، ولماذا؟ وهل هو مقبول عندكم؟ ولماذا لم تتكلَّموا عن حياته كما تتحدّثون عن أئمة أهل البيت؟

ــــ لقد تحدّثنا هنا في هذه الندوة وفي أماكن أخرى عن زيد بن عليّ بن الحسين وهو الرجل العالِم العابد المخلص الذي كان أهل البيت (عليهم السلام) يتحدّثون عنه بإعزاز وإكبار، ولكنّه في عقيدة الشيعة الإمامية الإثني عشرية ليس إماماً بل هو لأخو الإمام وإنّه لو انتصر لأعطاها إلى الرضا من آل محمد كما ورد في حديث الإمام الصادق (عليه السلام).

منجزات الرضا (عليه السلام) في ولاية العهد:

ماذا فعل الإمام الرضا (عليه السلام) بعد أن صار ولياً للعهد في خدمة الإسلام، وهل حقَّق في ذلك مصلحة كبيرة؟

ــــ لو درسنا مفردات تاريخ الإمام الرضا (عليه السلام) في كل ما قاله وفي كل ما انفتح عليه وفي كلّ ما تحدّث به لرأينا أنّه ملأ الحياة الإسلامية بالإسلام الأصيل الحقّ حتى إنّ بعض الرواة عنه يقولون أنّه جمع المسائل التي وصل ما روي عنه منها خمسة عشر ألف أو ثمانية عشر ألف مسألة، ولقد ذكرت لكم أنّه كان يجمع الناس ليحدّثهم بكل ما يملكه من علم حتى خشي بعض أصحاب المأمون أن يشكّل ذلك خطراً على الحكم.

الاهتمام بقضيّة المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف):

لسماحتكم دور مميّز لمناقشة القضايا الإسلامية ولكن حسب اعتقادي لم تنل مسألة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) الاهتمام نفسه رغم أنّها تمثّل المرحلة الأخيرة من الصراع التاريخي بين الشرك والتوحيد؟

ــــ أعتقد أنّ الأخ لم يسمع الكثير من أحاديثي في هذا الموضوع فلقد تحدّثت في العديد من المناسبات عن ذلك ولكنّني لا أريد أن أدخل في التفاصيل لأنّ قصّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) هي قصّة غيب من غيب الله سواءً في غيبته أو في ظهوره، فنحن لا بدّ أن نعتقد به ونؤمن به على أساس {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً*وَنَرَاهُ قَرِيباً}(1) ولكن علينا في المقابل أن نشغل أنفسنا في السير في خطّه وخطّ آبائه الذي هو خطّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فالخوص في تفاصيل علامات الظهور وما إلى ذلك قد لا يوصلنا إلى نتيجة حاسمة بل علينا أن نعيش جوّه وروحه ونعيش فكره ونقرأ "دعاء الافتتاح" لنستقي منه مفاهيم الانتظار.

عمل الإمام بالتقيّة:

إنّ مسألة أنّ الإمام هو الذي يمثّل الشرعية لا غبار عليها، ولكن قول الإمام قد يصدر تقيّة وكذلك فعله ومن هنا فإنّ الأمر قد يفسّر من قبل العلماء على أنّه استثناء وليس قاعدة؟

ــــ للعلماء والمحدّثين رأيهم في فهم المسائل، وأعتقد أنّ مسألة التقيّة نابعة من طبيعة الموقف وطبيعة الظروف وطبيعة القرائن المحيطة، ولا نستطيع أن نقول أنّ كلّ عمل يقوم به الإمام تقيّة، فهناك الكثير من القضايا التي قد لا تكون هناك ضرورة للتقيّة فيها وقد تمثّل التقية فيها البعد السلبي للموقف ونحن لا ننكر أنّ هناك بعض المواقف تعبّر عن تقيّة ولكن أن نعتبر التقيّة قاعدة في كلّ ما يصدر عن الأئمة فإنّ هذا يعني أنّنا لا نستطيع أن نأخذ شيئاً من الأئمة كليّةً.

الأئمة والعبّاسيون:

في أجواء ذكرى استشهاد الإمام الصادق (عليه السلام) تثار مسألة استحواذ العباسيين على مقاليد الأمور راكبين الموجة مستغلّين تعاطف الأمة مع مظلوميّة أهل البيت، والإشكال المثار هنا هو أين كان أئمّتنا عن كل هذا؟

ــــ لقد جاء بعض الذين قادوا الحركة ضدّ الأمويين وهو (أبو سلمة الخلّال) مع رمز الحركة وطلب من الإمام أن ينفتح عليه في هذه الحركة، ولكنّ الإمام عرف أنّ هذه الحركة مشبوهة، وأنّ هؤلاء ليسوا مؤتمنين على القضية، وأنّهم أرادوا أن يلعبوا ورقة الإمام الصادق (عليه السلام) لأنّ الظروف كانت في ذلك الوقت غير مهيّئة للوصول إلى النتائج الإيجابية الحاسمة.

المنهج الأفضل:

في ساحة دراسة حياة الأئمة (عليهم السلام) يوجد فراغ كبير، فكيف يتسنّى للمفكّرين الإسلاميين أن يملؤا هذا الفراغ، وكما نعلم فإنّكم متمرّسون في هذه الدراسات، فما هو منهجكم في ذلك؟

ــــ إنّني أتصوّر أنّ المنهج الأفضل لدراسة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هو دراسة أحاديثهم بالدرجة الأولى لأنّ فكر أهل البيت الذي هو فكر الإسلام في قاعدته وفي تفاصيله تمثّله الأحاديث الموجودة في كتب الحديث عنهم، لأنّ كتب السيرة لم تتناول إلاّ جانباً بسيطاً في ذلك وهو جانب المعاجز والفضائل العامّة، ولكنّها لم تتناول حياتهم الفكرية من خلال ما يصدر عنهم من أحاديث ومن توجيهات، إنّني أعتقد أنّنا بحاجة إلى أن ندرس أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في مواقعهم من الخطّ الإسلامي الكبير الواسع في كلّ ما يتحرّك به العالم من مشاكل ومن قضايا ومن تحدّيات، فلو نظرنا إلى تراث أهل البيت (عليهم السلام) لرأيناه منطلقاً من القرآن والسنّة النبوية الشريفة ممّا يمكننا أن ندخل كلماتهم في ثقافة العصر وفي قضاياه، حتى لا يتحوّل أهل البيت (عليهم السلام) كما حوّلناهم ـــ بالفعل ـــ إلى مجرّد حالة مذهبية خاصة جداً ممّا انعكس ذلك حتى الذين يتّبعون مذهبهم فلم ينفتحوا على الأمة في المجالات العامة إلاّ في حالات محدودة.

وأعتقد أنّ دراسة أهل البيت (عليهم السلام) من خلال أحاديثهم سوف تغيّر الكثير من الانطباعات والكثير من العناوين التي قد يرسمها الناس لأهل البيت هنا وهناك.

الدراسة الشمولية:

هل تعتقدون أنّ الدراسات التي كتبها العلماء كافية لعرض فكر أهل البيت ومنهجهم في مختلف القضايا؟

ــــ لا أريد أن أكون متطرّفاً فأزعم أنّني لم أطّلع على دراسة لفكر أهل البيت (عليهم السلام) لقد اطّلعت على دراسات لسيرتهم في القضايا العامة لسيرتهم، أما في القضايا التي تطلق تراثهم في الواقع ليجد فيه كل عنصرٍ لمشكلاته ووجهة نظرٍ لقضاياه السياسية والاقتصادية والاجتماعية فنادر. هناك كتابات استطاعت أن تلقي الضوء من خلال بعض الأحاديث التي ربطت الناس بالخطّ العام، كما ورد عن السيّد الشهيد الصدر (رضي الله عنه) أو الشهيد مطهّري (رضي الله عنه) أو بعض العلماء الطليعين الذين حاولوا من خلال بعض المفردات الجزئية أن يُطلُّوا على بعض القضايا العامة، أمّا دراسة فكر أهل البيت (عليهم السلام) دراسة شمولية لكلّ ما ورد عنهم ومقارنة بعضه مع بعض، ومقارنة هذا كلّه مع القرآن والسنّة النبوية الشريفة القطعية فأنا لم أطّلع ولا أدّعي لنفسي الإطلاع على كل ما صدر.

الإيمان بالأئمة (عليهم السلام):

كيف تدفعون شبهة بعض المفكّرين في كون الشيعة أصحاب العقل المستقبل لإيمانهم بالأئمة وعصمتهم، مع إنّكم أوضحتم أهمية العقل في الفكر الإسلامي، فهل أنّ إيمانكم بالأئمة كان إيماناً بالمعجزة أم بماذا؟

ــــ الإيمان بالأئمة جاء انطلاقاً من أحاديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيكف يكون استقالة للعقل؟! والإيمان بعصمة الأئمة نشأ باعتبار أنّ خطّهم هو امتداد لخطّ النبوّة وإن لم يكونوا أنبياء فكيف يكون استقالةً في العقل؟ ونحن نقول بعصمة النبيّ حتى لو كانت هذه العصمة لدى فريق من المسلمين في إطار التبليغ وحسب، فعندما نؤكّد المبدأ فليس معنى ذلك أنّ المبدأ ضدّ العقل، لأنّك عندما تجعل إنساناً معصوماً بحيث لا يخطئ فإنّ معنى ذلك أنّ العصمة ليست شيئاً ينكره العقل.

وأمّا المعاجز فهي أمر ممكن أيضاً، وإذا كان ثبت عندنا بالدليل القطعي أو الدليل المعتبر فإنّنا نؤمن بكلّ ما ثبت بالدليل ممّا لا يرفضه العقل بحسب طبيعته، لاسيّما إنّنا نرى أنّ الله كما أجرى المعجزة على أيدي بشر من بعض أوليائه الذين لم يكونوا أنبياء ولا أئمّة {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}(1) ولم يكن هذا نبيّاً ولم يكن إماماً.

لذلك نحن نعتقد بأنّ فهم بعض المفكّرين ـــ كما في السؤال ـــ هو فهم غير دقيق لأنّنا بيّنا بأنّ العقل لا يعني أن ننكر الغيب ولا يعني أن ننكر أنّ الله قد تدخّل في بعض الأمور وقد يعطي بعض القدرات لبعض أوليائه وأنبيائه ممّا يختصهم به لحكمة يراها لأنّ دورهم ورسالتهم او موقعهم يفرض ذلك.

أمّا إيماننا بالأئمة (عليهم السلام) فقد كان من خلال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن خلال دراسة حياتهم بأجمعها فإنّنا نقول في ذلك ما قاله (الخليل بن أحمد) عن أمير المؤمنين وهذا ما يقال في كلّ إمام (احتياج الكلُّ إليه واستغناؤه عن الكلّ دليلٌ أنّه إمامُ الكلّ) ولا ننفي المعجزة في ذلك لكنّ المعجزة ليست هي الأساس، لأنّنا نعتقد بأنّ المعجزة ليست أساساً لإثبات نبوّة الأنبياء، فالله تعالى أرسل نوحاً ولم يكن معه أيّة معجزة، فالطوفان كان نتيجة عقاب ولم يكن معجزةً لنوح، وإبراهيم (عليه السلام) عندما أُرسل لم تكن عنده معجزة، نعم {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ*وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}(2) هذا من جهة إنقاذ إبراهيم، ولهذا فنحن عندما ندرس المعجزات نختلف مع الكثير من علماء الكلام الذين يقولون بأنّ الله تعالى يرسل المعجزة كدليل على النبوّة، فنحن نرى بأنّ الله أرسل الأنبياء بالعقل وهم خاطبوا الناس بالعقل، فالمعجزة جاءت في موقع التحدّي فقط، أي أنّ معجزة موسى ـــ مثلاً ـــ تحدّى بها فرعون وسحرته، فموسى مستضعف من بني إسرائيل بحيث يعتبر عبداً من عبيد فرعون كما يقول في القرآن {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ}(1) أي أن تجعلهم عبيداً لك، ثم إنّه هو الذي ربّاه {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ*وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ}(2)، فكيف يمكن أن يأتي إلى فرعون ليجعله يقف مرعوباً أمامه، وهذا هو الذي حصل، فعندما دخل تكلّم بالمنطق، فلم ينفع معه المنطق فكانت معجزة العصا، {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ*وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ}(3) فكانت المعجزة مدخلاً لموسى إلى مجتمع فرعون، وكانت هي التي قوَّت موقف موسى (عليه السلام) لأنّ المجتمع كان يؤمن بالسحر، ولذلك جاء بما أعجز السحرة وبهذا استطاع موسى أن يثبت أقدامهُ فلم تكن المعجزة من أجل الدليل على النبوّة، ثمّ جاءت الآيات بعد ذلك في تسع آياتٍ بيّنات في مقام العقوبة.

وعيسى (عليه السلام) جاء إلى مجتمع يغلب عليه الطبّ كما ورد عن الإمام الهادي (عليه السلام) وعيسى رجلٌ مستضعف فكيف ينفذ إلى هذا المجتمع {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى}(4) فلقد جاء بشيء أعجز الآخرين، لهذا كانت المعجزة مدخل بعض الأنبياء إلى السيطرة على مجتمعهم كما يدخلوا المجتمع من الباب الواسع وإلاّ فإنّ الكثير من الأنبياء لم تكن عندهم معجزات.

من هنا نستوحي أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جاء بالمعجزة العقلانية وهي معجزة القرآن.

لذلك نحن نعتبر أنّ المعجزة ليست هي السبيل الوحيد للإيمان بنبوّة نبي أو إمامة إمام بل هناك الكثير من الأسس التي يمكن أن يعتمد عليها في ذلك.

فاتهام الشيعة بأنّهم لم يأخذوا عقيدتهم من القرآن والسنّة بل من العقل والفلسفة اتهام باطل والقرآن يقول {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(1) فعندما نأتي إلى القرآن لنأخذ منه المفاهيم نراه يقول {قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(2) أي أنّ الذي ظلم نفسه بالكفر لا يلي الأمر وهذا ما تعتبره الشيعة دليلاً على أنّ الذي يلي أمر الولاية لا بدّ
أن يكون إنساناً لم ينفعل لا بالشرك ولا بالكفر عادلاً حتى في تاريخه.

وهكذا عندما ينطلق أيضاً المسلمون الشيعة في فهمهم لأهل البيت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(3) كلّ ذلك مقارناً بالأحاديث الواردة عن رسول الله التي تفسّر أهل البيت بالمعنى المصطلح لأهل البيت.

فالشيعة عندما ينطلقون في البحث لا ينطلقون من الفلسفة بمعناها التجريدي فحتى موضوع العصمة ينطلق من مسائل عقلية قريبة إلى وجدان الإنسان من خلال فهم دور النبوّة ودور الإمامة أو من جهة بعض القضايا التي تتحرّك من خلال الوجدان العام.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

المسائل الفكرية

 

"إنّ الفكر الذي يخضع لعناصر الزمن التي تموت يموت.. أمّا الفكر الذي ينطلق من قلب الحقيقة بعيداً عن خصوصيات البيئة وجزئيات الثقافة والجوانب العاطفية فهو فكر الحياة".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

النظام التخصصيّ للدين:

قد يعترض البعض على النظام التخصصيّ للدِّين ومنع غير المتخصّصين أن يبدوا رأيهم فيه، ويقول: أليس ذلك تحنيطاً لأسماع وأبصار وأفئدة الناس؟!

فلماذا لا يحقّ لغير أهل الاختصاص أن يقرأوا القرآن ويفهموه ويعلنوا ما فهموه منه خاصّة وأنّ الدعوة إلى التدبّر عامة وليست محصورة؟

ــــ من قال بأنّ فهم القرآن مختصّ بعلماء الدين، فلربّما يفهمه بعض الناس الذين يفهمون ثقافة اللّغة، والذين يملكون ثقافة الحياة، فهماً جيداً، فنحن لا نقول بأنّ فهم القرآن مختصّ بعلماء الدين، فلقد خوطب بالقرآن كل الناس، ولم يكن هناك علماء دين عندما نزل القرآن، ولكنّ الناس كانوا يفهمون اللغة العربية بكلّ أسرارها بفطرتهم.

لكنّنا نقول لا بدّ أن يكون من يتعرّض لفهم القرآن وتحليله مثقّفاً بالعناصر التي يحتاجها، فهل يمكن للإنسان الذي لا علاقة له بالثقافة الأدبية أن يفهم النصّ الأدبي وأن ينقده بطريقة سليمة؟

إنّ التخصّص لا يعني أن تحجب المعرفة عن الناس الآخرين، ولكنّنا نقول بأنّ لكلّ علم عناصر وآليات لا بدّ للإنسان أن يفهمها، فإذا كان غيرُ عالم الدين مثقّفاً بالعناصر الحيّة التي يتوقّف عليها فهم القرآن فمرحباً به.

اعتماد التطبيقات الإسلامية:

كلّ ما تفضّلتم به من الإجابة على الأسئلة حول المرأة شافٍ ووافٍ، ولكن لماذا لم تعتمدوا في مخالفة بعض الباحثين على التطبيقات الإسلامية المأثورة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمعصومين (عليهم السلام)، أي بالاستناد إلى الارتكازات الإسلامية سواءً كانت في العصور الإسلامية الأولى أو المتأخرة ـــ خاصة أنّه يدّعي أنّ له منهجاً يعتمد على الرياضيات، فهل خاطبه القرآن فقط؟

ــــ قد أشرنا بعض الإشارة إلى الجانب التطبيقي عندما تحدّثنا في مسألة تعدّد الزوجات في الواقع الإسلامي، إلاّ أنّنا كنّا نريد أن نناقش فهمه للآيات من خلال القرآن نفسه الذي يحاول أن يستند إليه، وكما يقول السائل فإنّ التطبيقات الإسلامية سواءً من ناحية التعدّد أو من جهة القوامة أو ما إلى ذلك كانت موجودة في زمن النبيّ وما بعده، بحيث أنّ المسلمين كانوا يتحرّكون فيها من خلال أنّها بديهيات الإسلام وأنّها ليست من الأمور النظرية التي تخضع لاجتهاد هنا أو اجتهاد هناك.

حجم القوامة:

في حديث سابق قلتم إنّ القوامة على المرأة في الطلاق فقط، واليوم ذكرتم أكثر من ذلك، فما هو السبب؟

ــــ الطلاق هو المظهر الأبرز، وباعتبار أنّ الإنفاق أيضاً يعتبر مظهراً آخر جرى التطرّق إليه، أمّا الاستمتاع فبطبيعة الحال للرجل الحقّ فيه، كما أنّ للمرأة في رأينا أيضاً الحق في الاستمتاع ضمن تفاصيل معينة، وإلاّ فإنّ فقهاءنا يقولون أنّه ليس للرجل على المرأة أيُّ حق خارج هذا النطاق، أي ليس له أن يضربها، فالرجل عندما يتعامل مع المرأة تحكمه شريعة الله فيما له من حقوق وفيما عليه من واجبات، تماماً كما أنّ المرأة تحكمها شريعة الله، وذلك في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}(1)، وهذه الدرجة قد تتمثّل بالاستمتاع وقد تتمثّل بالطلاق.

تخلّف المسلمين:

يكثر في هذه الأوقات التحدّث عن التشخيص لتخلّف المسلمين وتأخّرهم، فما هو رأيكم في هذا المجال؟

ــــ نختصر الجواب بهذه الآية {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(2)، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}(3)، فتخلّف المسلمين ناتج من أنّهم لم يأخذوا بالإسلام ولم يأخذوا بأسباب القوّة ولم ينفتحوا على حجم التحديات التي تواجههم ليواجهوها بتحدّيات مماثلة أو أكبر منها.

تقادم الفكر:

يرجى الإجابة على الأسئلة التالية:

إذا تقادم الفكر هل يسقط على مستوى القيمة، أم تقصدون من الفكر معنىً خاصاً، نرجو التوضيح؟

ــــ نحن نقول أنّ الفكر على قسمين: هناك فكر الحقيقة والحقيقة لا زمنَ لها، إنّه الفكر الذي يفرض نفسه على الزمن كلّه وعلى الإنسان كلّه لأنّه لم ينطلق من ظروف بيئية، أو من حالة خاصة أو من عناصر جزئية هنا وهناك، فإنّه يتحرّك بحركة الحياة، وهكذا استطاع فكرُ الرسالات أن يقتحم الحياة كلّها، هناك فكرٌ بشريّ انطلق من خلال واقع معيّن لبيئة معينة أو نتيجة وضع ثقافي فقد يجيء زمن آخر ليثبت خطأه، أو من خلال مؤثّرات عاطفية، أو ما إلى ذلك.

إنّ الفكر الذي يخضع لعناصر الزمن التي تموت يموت، أمّا الفكر الذي ينطلق من قلب الحقيقة بعيداً عن خصوصيات البيئة، وبعيداً عن جزئيات الثقافة، وبعيداً عن الجوانب العاطفية، فهو فكر الحياة لأنّه انطلق من قلب الحياة، ولذلك فنحن نقول أنّ التقادم لا يسقط الفكر بل يسقط ما يموت منه عندما يتقدّم الزمن، تماماً كما هو الإنسان، أمّا الفكر الذي لا عمر له فالزمن لا يؤثّر فيه.

مراعاة التعدّدية في الخطاب:

الناس مراتب من الوعي والفهم، فهل نخاطب الجميع بخطاب واحد؟

ــــ من الطبيعي أن لا نخاطب الجميع بخطاب واحد ففي الحديث الشريف "إنّا معاشر الأنبياء أُمِرْنا أن نكلِّم الناس على قدرِ عقولهم" فلكلٍ عقله، ولكلّ عقل الأسلوب الذي يمكن أن نستعمله للدخول إليه. فلقد قلت إنّ علينا أن نقدّم كلّ الحقيقة للناس، إذ ليست هناك ثقافة خاصة لأنّه لا كهنوت في الإسلام ولا أسرار مقدّسة للأشخاص ما عدا الأسرار التي أفاضها الله تعالى على أنبيائه وأوليائه، إذ ليس عندنا شيء سريّ وثقافة خاصة ذلك أنّ الثقافة الإسلامية للناس ـــ كلّ الناس ـــ وعلينا أن نعطي كلّ إنسان ثقافة الإسلام بالطريقة التي فهمها وبالأسلوب الذي يمكن أن يقتنع به، فإذا أردت أن تهدي إنساناً فارفعه إليك برفق ولا تكسرهُ، تحدّث معه بمستوى عقله وبمستوى ثقافته، فإنّك بذلك تستطيع أن تهديه.

إجمالية الخطاب الإسلاميّ:

لماذا يتحدّث الخطاب الإسلاميّ عن العلوم الإنسانية كالاقتصاد بشكلٍ مجمل، هل هذا يدلّ على عدم تبلور الرؤية الفكرية الإسلامية في هذه العلوم؟

ــــ لا أعتقد أنّ الخطاب الإسلاميّ يتحدّث دائماً بشكل مجمل، فثمّة فرق في ذلك، فتارة يكون الخطاب الإسلامي جواباً عن سؤال فمن البديهي أن يتمّ الحديث بشكل يتلائم مع طبيعة السؤال والجواب، أمّا في البحث والدراسة فلا نستطيع أن نقول بأنّ كتاب (اقتصادنا) يتحدّث عن الاقتصاد الإسلامي بشكل مجمل.

ولقد فصّل الباحثون المسلمون في الاقتصاد وفي غيره تفصيلاً جيداً بقطع النظر عمّا إذا كان التفصيل ممّا نوافق عليه أولاً.

تطوير أساليب عمل المؤسسات:

إنّ طبيعة المرحلة التي نعيشها وعمق التحدّيات التي تفرضها تحتّم علينا لا تجديد الأساليب في الفكر والعمل والحركة فقط وإنّما تطويرها في أبعادها المختلفة، فكيف نتجاوز النزعة الاستصحابية التي جمّدت القدرات وحطّمت كل توق لمستقبل أفضل في مؤسّساتنا العلمية والاجتماعية والسياسية، وكيف نستطيع أن نحدث التغيرات الضرورية داخل هذه المؤسسات فعلياً بعيداً عن الشعارات الجوفاء والكلمات الطنّانة دون رصيد واقعي؟

ــــ أنا لا أُفرّق بين كلمة تجديد وتطوير، ففي التجديد نعمل على إبعاد الأساليب البالية التي لا تثبت أمام حاجات الحياة، لذلك نعتقد بضرورة إخراج المؤسسات من الروتين ومن التقاليد التي ربّما استهلكها الزمن، بأن نتجاوز هذا الوضع الركيك أو الجامد في المؤسسات وذلك بأن يحمل المشرفون على المؤسسات عقلية المؤسسة، ويجب أن نلتفت إلى أنّ المؤسسات يديرها ـــ في العادة ـــ أشخاص يحملون فكراً ذاتياً ولا يحملون فكراً مؤسّسياً فالإنسان الذي يحمل فكراً مؤسّسياً لا يمكن أن يكون أنانياً في حركته في المؤسسة بل لا بدّ أن يفسح المجال للآخرين لكي يتكاملوا معه ولا بدّ أن يتقبّل النقد الذي يوجّه إليه ممّن يعيش معه في المؤسسة.

إنّ مشكلة المؤسسات هي أنّ الذين يشرفون عليها ذاتيّون ولذلك فإنّهم لا يحبّون تغيير ما يملكون السيطرة عليه وما يتناسب مع إمكاناتهم أو مع مجهوداتهم لأنّ تجديد المؤسسات أو تغييرها يفرض على أحدهم أن يتخلّى عن المؤسسة. فقد يؤسّس البعض مؤسّسة ولا يكون صالحاً لإدارتها، أي أنّ لديه قدرة على التأسيس ولكن ليس عنده قدرة على الإدارة، وربّما تكون لديه قدرة على الإدارة في وقت معيّن ولا يمتلك القدرة في أوقات أخرى، ويقال أنّ (تشرشل) الذي ربح الحرب العالمية الثانية لصالح بريطانيا قيل له عندما انتهت الحرب عليك أن تعتزل لأنّك لا تصلح كرئيس وزارة فلقد كنت رئس وزارة في الحرب أما السلم فيحتاج إلى رئيس وزارة من نوعٍ آخر، فليس معنى كونه رئيس وزارة في جانب أنّه قادر على النجاح في كلّ الجوانب.

إنّ إخلاصك للمؤسسة يفرض عليك أن تعتزل وأن تعطي المؤسسة لأشخاص يحملون دماً جديداً وغالباً ما تموت المؤسسات سواءً الحزبية أو الثقافية أو الخيرية أو الاجتماعية لأنّ الأشخاص الذين يديرونها يشيخون ولا يملكون القدرة على فهم المتغيّرات وعلى وعي المتغيّرات وعند ذلك يجمّدون المؤسسة من حيث أنّهم يجمدون. إنّ عالم المؤسسات يفرض أن تعطيها على الدوام دماً جديداً ثقافياً وسياسياً واجتماعياً فهذا الدم الجديد هو الذي يعطيها حياة جديدة، وحركية جديدة ومع الأسف فإنّ المؤسسات الإسلامية غالباً هي مؤسسات الأشخاص وليست بمؤسسات الأمّة.

تحوّل المشاريع إلى إرثٍ شخصي:

عالجتم في كتاب "قضايانا على ضوء الإسلام" قضية على غاية من الأهمية وهي أنّ بعض المشاريع تمثّل أكثر الأحيان فرداً وأفراداً معدودين يتولّون بدورهم قيادة المشروع الأمر الذي يمهّد إلى اعتبار المشروع إرثاً شخصياً، لكنّ المعالجة كانت سريعة فحبّذا لو توسّعون القول في ذلك خاصة وأنّه من مشاكلنا المعاصرة؟

ــــ إنّ ما يمكن أن يقال هنا هو أنّ المشاريع العامة يجب أن تبقى مشاريع عامة، فعندما تكون هناك مؤسسات خيرية أو مؤسسات اجتماعية أو مؤسسات ثقافية يمكن أن يديرها شخص أو قيادي أو مرجع أو شخصية اجتماعية في حين أنّ الحالة الموجودة هي أنّ هذا الشخص أو هذه الجماعة تجعل هذه المشاريع تحت سلطة الأبناء والأقرباء والأهل وما إلى ذلك بحيث تتحوّل إرثاً شخصاً، فإذا أراد شخص أن ينشئ حسينية فإنّه يجعل ابنه ناظراً عليها أو يبني مسجداً فيجعل أحد أقربائه مسؤولاً عنه وما شابه، مع أنّه لم يصرف ذلك من ماله وحتى لو صرفه من ماله فقد لا يكون قريبه هو أفضل الناس لإدارة المشروع، ولذلك فقد تحوّلت كثير من المؤسّسات والمشاريع بعد موت مؤسّسيها إلى إرث شخصي لمن يمتّون لهذا الشخص بصلة، وبذلك يفقد المشروع صفته العامة وقد يفقد الكثير من نتائجه الكبرى في واقع المجتمع.

حساب الاحتمالات:

أفاد الشهيد الصدر كثيراً من مقولات علمية حديثة، ومن ذلك حساب الاحتمالات، فأدخلها في أصول الدين، فكان كتابه "الأُسس المنطقية للاستقراء"، وأدخلها علم الأصول والفقه، فمثلاً أقام الإجماع على حساب الاحتمالات بدلاً من مقولات غير تامّة، من قبيل (قاعدة اللّطف) و(دخول الإمام) وأدخلها أصول الفقه فأقام حجّية خبر الواحد لإثبات التواصل الإجمالي للأحاديث المثبتة للحجيّة وغير  ذلك، فلماذا لم يفد العلماء بعده من هذه المقولات بل لا يزالون يجترّون مقولات قديمة؟

ــــ كان الشهيد الصدر (رضي الله عنه) المبدع في حركة الأسس المنطقية للاستقراء في أصول الدين، أمّا بالنسبة إلى أصول الفقه فإنّه استطاع أن يطوّر النظرية الأخيرة في الإجماع التي أصبح علماء الشيعة يتبنونها وهي نظرية كشف الإجماع عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره. ومسألة الكشف لم توضع على أساس قاعدة واضحة في هذا المجال، ولكنّها كانت تعيش في حساب الاحتمالات.

وجاء السيّد الصدر (رحمه الله) ليركّزها على أساس حساب الاحتمالات لأنّ في استقراء كلمات العلماء كلّما كثر العلماء خفّ الاحتمال المضادّ حتى يكاد يلحق بالوهم.

وهكذا بالنسبة إلى إثبات التواتر في مسألة حجّية الخبر، وربّما تحدّث العلماء أيضاً عن مسالة حساب الاحتمالات بالنسبة للعلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة. فكان الشهيد الصدر المبدع في المسألة العقيديّة لحساب الاحتمالات، وكان الموضّح الذي استطاع أن يوضّح القاعدة في المسألة الأصولية.

أمّا لماذا لم ينطلق الواقع الأصوليّ بعده، فلأنّ نظريته لم تُدرس لحدّ الآن دراسة عميقة وواسعة.

واقع المرأة المسلمة:

في كتاب (الإسلام يقود الحياة) تحدّث الشهيد الصدر عن واقع المرأة المسلمة المتخلّف ورأى أنّ تغييره يمرّ من طريق الإسلام نفسه وذلك بالقضاء على النظرة التقليدية السائدة تجاه المرأة والانطلاق بالفكر الإسلاميّ الجديد بغية الحؤول دون تمرير الشعارات الغربية لتحرير المرأة وغير ذلك؟ فما هي وجهة نظركم؟

ــــ إنّ السيّد الشهيد (رضي الله عنه) كان ينظر بعين الإسلام وبعين الفهم الواعي للإسلام الذي إذا استنطقنا القرآن، وهو كتاب الإسلام الأصل، فإنّنا نجد أنّ الإسلام يساوي بين الرجل والمرأة في القيمة وإن خالف بينهما في أدوار المسؤوليات في الحياة للتنوّعات الطبيعية بينهما، ولذلك فإنّ المشكلة التي كانت تواجه المجتمع الإسلاميّ هو أنّ هذا الواقع المتخلّف للمرأة أريد مواجهته بثورة تجعل المرأة خاضعة للتفكير الكافر والغربي الذي يريد أن يعطي المرأة قيمه ويبعدها عن قِيَم الإسلام.

ولذلك كان من مسؤولية المفكّرين الإسلاميين أن يعملوا على إيضاح الخطّ الإسلامي الفكري في تأكيد إنسانية المرأة ودورها الفاعل في الحياة في جانبي التخطيط والتنفيذ.

زينب العصر:

لقد شاطرت الشهيدة بنت الهدى (رضي الله عنها) أخاها في مسؤوليّته في الحياة حتى لاقت نفس المصير الذي قالاه (رضي الله عنه) هل في ذلك دلالة على نهج الشهيد الصدر ليقدّم للمرأة نموذجاً للمرأة الرساليّة؟

ــــ كانت الشهيدة بنت الهدى (رضي الله عنها) تلميذته، كما كانت أخته، وكانت ترعاه بحياطتها له، وكان يرعاها بحياطة عقلها وروحها وحركيّتها، وكانت الإنسانة التي تعيش ما يعيش وتفكّر بما يفكّر وتتحرّك فيما يتحرّك به في نطاق إمكاناتها الثقافية والحركية.

وكانت تتحرّك تحت سمعه وبصره، وقد رأيناها عاملة للإسلام منذ البداية حيث كتبت أول كلمة للمرأة في مجلة "الأضواء" تحت عنوان (صوت المرأة المسلمة) ورأيناها كيف كانت كاتبة تنادي المرأة بأن تنطلق في خطّ الإسلام، وكانت كاتبة قصصيّة تتحدّث عن بعض مشاكل المرأة وهمومها في قالب قصصي هادف، وكانت شاعرة تحاول أن تعيش الإسلام في شعرها الرساليّ المكتوب للمرأة والرجل معاً.

وكانت تعيش عقل الشهيد الصدر وروحه وفكره، وكان الصدرُ جزءاً منها، ومن هنا فإنّها تمرّدت على كلّ الأوضاع والتقاليد، وعلى كلّ عناصر الخوف حتّى ضاق بها الطغاة ذرعاً، وشعروا أنّ بقاءها بعده سوف يجعل هناك زينباً جديدة تستكمل ثورة الحسين من خلال كلّ مواقفها وشجاعتها وقوّتها في مواجهة الطغاة.   

تفعيل الحركة الإسلامية:

منذ وقت مبكّر جداً لجأ الشهيد الصدر إلى وسائل جديدة للعمل الإسلامي ومن ذلك دوره في تأسيس الحركة الإسلامية في العراق في وقت لم يفكّر أحد قبله بذلك، وللأسف فبدلاً من التفكير بوسائل أكثر نجاعة نرجع اليوم القهقري ولا نلوي على شيء، فكيف تقيّمون دور الشهيد الصدر، وكيف يمكن أن نفعّل هذا الدور لرفد الإسلام وتقويم حركة العاملين لأجله؟

ــــ لقد قلنا إنّ السيّد الشهيد كان يفكّر على طريقة ما جاء في كلمة لبعض العلماء الذين سبقوه "لا ينتشر الهدى إلاّ من حيث انتشر الضلال" فإذا كان الواقع الكافر والمستكبر يتحرّك في إضلال الناس عن المفاهيم الإسلامية بالأسلوب الحركيّ فلا بدّ لك أن تواجهه بنفس الأسلوب، لأنّ الساحة لا تتحمّل الفراغ، فإذا كنت لا تملأها فإنّ الآخرين سوف يملأونها.

وإذا كنت تملأ الساحة بالخطّ الحركيّ فليس معنى ذلك أن تملأها بالطريقة التي ينطق فيها الآخرون، اصنع حركة على صورة الإسلام وعلى قاعدته وعلى خطّه وعلى منهجه حتى يعرف الناس أنّهم قادرون على مواجهة مشاكلهم الحياتية سياسية كانت أو اقتصادية أو أمنية أو اجتماعية أو تربوية في منهج حركي يمكن أن يمرحلوه أو يتحرّكوا فيه للوصول إلى النتائج المرجوّة لعملية التغيير.

وليس معنى ذلك أن نجمد على الصيغة الحركية الموجودة لدى هذه الحركة العلمانية أو تلك، بل إنّ العمل الحركي يمكن أن يطوّر حسب تطوّر الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي، فمن الممكن جداً أن تمارس نهجاً معيناً في العمل الحركي ثم تطلّ من التجربة الكثير من نقاط الضعف مما يفرض عليك أن تبدّل بعض مناهجه أو مفرداته.

إنّنا نعتقد أنّ من الضروري للمسلمين أن ينطلقوا في العمل الحركي بطريقة متطوّرة منفتحة على كل جديد، وينبغي أن لا نبتعد عن منهج معيّن في الحركة إلاّ إذا وجدنا البديل، أمّا إذا ابتعدنا عن المنهج دون بديل يحمل فرصاً أفضل ويفتح طريقاً لواقع أفضل، فإنّ ذلك يعني الضياع، وإذا كانت هناك بعض نقاط الضعف في هذا العمل الحركي أو ذاك فعلينا أن لا نبادر إلى هدمه أو استغلال نقاط الضعف لإسقاطه، بل علينا أن نعمل على ترشيده وإصلاحه بكلّ الوسائل الممكنة.

تماماً كما إنّ عليك عندما تواجه مريضاً أن لا تسكت صراخه، إذا كان يزعجك بصراخه وأنتَ نائم، بأن تقتله، بل أن تداويه وتعالجه. إنّ هناك طريقتين لإراحة المريض، فإمّا أن تريحه فيموت أو أن تريحه فيتعافى.

إنّ مشكلتنا أنّنا نريد أن نقتل المريض السياسيّ والمريض الاجتماعيّ والمريض النفسي، نريد أن نقتله لأنّنا لا نريد أن نتحمّل النتائج السلبية لمرضه، والقليلون منّا يصبرون على عملية المعالجة ليتعافى المريض لاسيّما إذا كان المريض مجتمعاً كاملاً وأُمّة كاملة.

نهاية عصر الحركة الإسلامية!!

يرى بعض المحلّلين والكتّاب الغربيين أنّ نهاية هذا القرن سوف تشهد نهاية عصر الحركة الإسلامية، ويعتبرون إدخال الإسلام في الساحة السياسية هو محض مفارقة تأريخيّة، وأنّ الفرق بين الدولة الإسلامية والحكم الديني هو أنّ الأخير يستلزم وجود رجال دين على رأس السلطة السياسية الأمر الذي لم يحدث في تأريخ المسلمين باستثناء التجربة الإسلامية في إيران، فما هو تعليقكم على هذا الرأي؟

ــــ أمّا الحديث عن أنّ نهاية القرن سوف تشهد نهاية عصر الحركة الإسلامية فهو حديث ليس دقيقاً، لأنّ الحركة الإسلامية بقطع النظر عن السلبيات الموجودة في مواقعها وأوضاعها، بلغت من القوّة في العالم مستوى لا يملك أيّ نظام أن يسقطها.

ولا أقصد بالحركة الإسلامية الأحزاب الإسلامية فقط، بل هذه الصحوة الإسلامية التي يفكّر فيها المسلمون بطريقة حركية حتّى لو لم ينضمّوا إلى حركة إسلامية بشكلٍ أو بآخر، ونحن نرى أنّ الإسلام قد انطلق من القمقم ولن يستطيع أحد أن يعيده إلى القمقم ثانية.

ونقطة أخرى ألفت النظر إليها وهي أنّ هناك فرقاً بين الحركة الإسلامية أو ما يصطلحون عليه بــ "الإسلام السياسي" وبين كلّ الحركات الأخرى، فالحركة الإسلامية تتغذّى حتّى من الإسلام التقليدي في بقاء الإسلام، فما دام الإسلام باقياً كصلاة وكصيام وكحجّ وكترك للمحرّمات، وما دام يعيش في حياة الناس ولو بطريقة تقليدية، وما دام القرآن يُقرأ وترتفع كلمة (الله أكبر ولا إله إلا الله) على المآذن، وما دام هناك حركة تنفتح على أُفق وحدة إسلامية بين وقتٍ وآخر، فلن يضعف الواقع الإسلامي الحركي في جهة إلاّ ويقوى في أكثر من جهة.

وأمّا أنّ الحكم الديني يدار من قبل رجال الدين فمن قال ذلك، فعلى مبدأ ولاية الفقيه، فالوليّ الفقيه سوف يشرف على الحكم ويبقى الحكم مدنيّاً، فليس في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران شرط أن يكون الحاكم رجل دين، فلقد كان الشهيد (رجائي) وهو مدني رئيساً للجمهورية، ومع أنّ الشيخ (رفسنجاني) كرئيس للجمهورية رجل دين ولكن الوزراء ليسوا رجال دين. فكما أنّه ليس من الضروري أن يكون كلّ جهاز الدولة من رجال الدين، فليس لنا أن نحرم رجال الدين إذا كانوا حائزين على الكفاءة والأهلية للحكم والمسؤولية، إذ مَن قال أنّ عالم الدين تسقط حقوقه المدنية لمجرّد أنّه أصبح عالِم دين؟

ويقيناً أنّ (الشيخ رفسنجاني) وكثيراً من علماء الدين الآخرين يفهمون السياسة والعمل الإداري أكثر من فهم العديد من الخرّيجين من الجامعات.

ونحن نقول تصحيحاً للمصطلح (علماء الدين) لا (رجال الدين) فكلّ المسلمين رجال دين ونساء دين فليس في الإسلام كهنوت، إنّهم مواطنون كبقيّة المواطنين فمن حقّهم أن يشاركوا في النشاطات التي يشارك فيها سائر الناس على الأسس التي يضمنون فيها حريات الناس والعدالة في أمورهم.

أنواع الجدال:

كما لا يخفى عليكم فإنّ المجادلة كما جاءت في آيةٍ أخرى يمكن أن تكون في الخير {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1) فهل أنّ مطلق المجادلة لا يجوز في الحجّ؟

ــــ أشرنا في معرض الحديث ـــ أنّ الغالب في المجادلة أن تكون مجادلة في الذات ـــ أمّا إذا أردنا أن نهدي إنساناً فندخل معه في حوار حول الكفر والإيمان والحقّ والباطل وحول الخير والشرّ فإنّ الحجّ يؤكّد هذا الجدال الذي هو بالتالي هي أحسن لا الجدال الذي ينطلق من التوترات النفسية العصبية، بل الذي ينطلق من حبّ الحقّ والدفاع عنه.

مفهوم البراءة من المشركين:

اقترن الحجّ بالبراءة من المشركين، فهل يمكننا أن نتوسّع في فهم البراءة من كلّ أعداء الإسلام والمسلمين؟

ــــ إذا أردنا أن نفهم "سورة براءة" التي أراد الله تعالى لرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يعلنها في مجتمع الحجّ الذي يلتقي فيه المسلمون ليقرأها رجلٌ عاش البراءة من المشركين، من خلال أنّ حياته وشبابه كلّه كان في مواجهة المشركين لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة المشركين هي السفلى، وهو عليّ (عليه السلام) فلقد أراد الله في إعلان البراءة من المشركين وإنهاء المعاهدات التي كانت قائمة بينهم، إخراجهم من المسجد الحرام (مكّة) كما أراد أن لا يسمح للمشركين أن يكونوا في داخل جسم المجتمع الإسلامي، لأنّ هذا المجتمع هو مجتمع التوحيد ولا يمكن أن ينطلق مجتمع واحد يحمل التوحيد والشرك في ساحة واحد.

لذلك أراد الله تعالى أن يطرد المشركين من ساحة المسجد الحرام الذي هو القاعدة للإسلام، والذي هو بيضة الإسلام وقوّة المسلمين، كما أراد للمسلمين أن يعوا ذلك وأن يتحرّكوا من أجل تنفيذ ذلك، فلا خصوصية لمشركي مكّة إلاّ أنّهم كادوا الله ورسوله والمسلمين، وأنّهم عملوا على إضعاف المسلمين {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}  فلقد كانوا يكيدون للمسلمين بكلّ وسائل الكيد.

فعندما نعيش في هذه المرحلة من حياتنا نستوحي من البراءة من المشركين في "سورة براءة" التي أعلنت في الحجّ، نستوحي البراءة من كل الشرك السياسي والشرك العقيدي والشرك الأمني، حتى يبرأ المسلمون من المستكبرين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وأمنياً بحيث يعيش المسلمون معنى إسلامهم بعيداً عن كلّ شرك ينفذ إلى عقولهم وقلوبهم وحياتهم.

ونحن نعرف أنّ الشرك الاستكباري يحيط بالواقع الإسلاميّ كلّه ويسيطر على الواقع الإسلاميّ ويهدّده، فإذا كانت هناك حاجة أن نخرج المشركين من المسجد الحرام كرمز لإخراجهم من كل الواقع الإسلاميّ، فإنّ الشرك الذي نواجهه أقوى في إمكاناته وأخطر في خططه، لذلك لا بدّ أن نستعيد ذلك لا في الحجّ فحسب ولكن في كلّ موقع يتحرّك فيه الشرك الاستكباري بكلّ قواه وخططه ومواقفه.

وعلينا أن نعرف حقيقة أخرى، وهي أنّ الإيمان قائم على إيجاب وسلب (لا إله إلاّ الله) أن تتبرّأ من كل إله غير الله وأن تؤمن بالله فهو (أي الإيمان) سلب في اتجاه الشرّ وإيجابٌ في اتجاه الخير.

علماؤنا والفكر الغربيّ:

هناك من الأكاديميين من يتّهم علماءنا ومفكّرينا بأنّهم لا يقرأون فكر الغرب بل يعادونه لمجرّد السماع أو النقل، فمثلاً يقال أنّ الإمام الخميني (رضي الله عنه) لم يقرأ (الآيات الشيطانية) ومع علمنا أنّ العديد من الردود على الفكر الغربي والشرقي إنّما كانت نتيجة قراءات واعية ومتفحّصة، إلاّ أنّ السؤال هو: هل هناك حالات ومصاديق لما يثيره هؤلاء، وهل هناك ضرورة لقراءة النص الغربي بشكلٍ مباشر حتى يتسنّى الردّ عليه؟

ــــ  إنّ هذه التهمة الموجّهة لعلمائنا تدلّ على أنّ صاحبنا الذي يدعونا لأن نقرأ الغرب لم يقرأ هو أبحاث العلماء المسلمين، فماذا يقول عن السيّد الشهيد الصدر (رضي الله عنه) الذي قرأ فكر الغرب بكلّ عمق وبكلّ دقّة، فكتب (فلسفتنا) الذي ردّ فيه على الفلسفة الماركسية وغيرها، كما أنّه كتب (اقتصادنا) وردّ فيه على الاقتصادين الرأسمالي والماركسي، وكذلك (الأُسس المنطقية للاستقراء).

وماذا يقول عن الشهيد (مطهري) وغيره كثيرون ممّن قرأوا الفكر الغربي بشكلٍ جيد وناقشوه من موقع دراستهم العميقة التي قد تكون أعمق من دراسة الكثير من الأكاديميّين الذين قد يقرأون الفكر ولكنّهم لا يتعمّقون فيه وفي مناقشته.

لكنّنا لا ننكر أنّ هناك من الأشخاص مَنْ يرفضون الغرب دون أن يقرأوه، كما أنّنا نجد في الغرب من يرفضون الإسلام دون أن يقرأوه، وهذا هو الغالب في الغربيين الذين يهاجمون الإسلام في الإعلام الغربي، فهم يرون الإسلام في بعض تجارب المسلمين.

أمّا قضية قراءة الإمام الخميني (رضي الله عنه) للآيات الشيطانية، فلو فرضنا أنّ الإمام لم يقرأ ترجمة هذا الكتاب ولكن لديه مستشارين يمكن أن يقرأوا الكتاب ويقدّموا له تقريراً عنه، فهو لا يمكن أن يفتي من دون علم لأنّه الرجل العارف بالله التقيّ النقيّ المخلص لربّه، فلا يمكن أن يتكلّم من دون أن يملك علم ما يتكلّم به، فغاية ما في الأمر أنّ بعض مستشارية قرأ الكتاب ثم قدّم له تقريراً أصدر الفتوى بموجبه، فإذا لم يقرأ هو النصّ فإنّه كان قد اعتمد على من قرأ النصّ.

تحديد المفاهيم الإسلامية:

يدّعي (محمد سعيد العشماوي) في محاضرة ألقيت مؤخرا أن المفاهيم الإسلامية بلا تحديد وتحتاج إلى من يعرّفها ويحدّدها، وقد ألقى على عاتقه هذه المهمة، فهل ترون أنّ أي إنسان يستطيع ذلك بجهد شخصي بعيداً عن السنة الشريفة وعن آراء العلماء والفقهاء السابقين مع العلم أنّ هذا الشخص يعتبر ذلك تجديداً في الإسلام؟

ــــ هناك فرق بين أن نقول بأنّ المفاهيم الإسلامية غير محدّدة، بمعنى أنّها مفاهيم ضائعة وضبابية ليست لها ملامح ولا حدود، وبين أن نقول بأنّ المفاهيم الإسلامية لا تملك تحديداً علمياً أكاديمياً على طريقة تعريف المصطلحات.

 فمن الممكن أنّ المفاهيم الإسلامية لم تخضع لطريقة تحديد المصطلحات العلمية، لكنها تملك في مصادرها القرآنية ومصادر السنّة النبويّة وكثير من الأبحاث، القاعدة الفكرية التي يمكنها أن تطرد ما هو خارج عنها وتجتذب ما هو داخل فيها.

ولذلك، فلا بدّ لكلّ من يريد أن يحدّد المصطلحات التي تمثّل المفاهيم الإسلامية من أن تكون له ثقافة هذه المفاهيم، ولا يستطيع أن يحصل على هذه الثقافة إلاّ إذا قرأ الكتاب والسنّة وقرأ كذلك أبحاث العلماء الذين عالجوا تلك المفاهيم.

 

 

الرواة المختلقون:

ذكر المحقّق الكبير السيد العسكري أنّ هناك أكثر من (150) صحابي مختلق مع إنّهم وردوا في أكثر الكتب المتأخرة التي تنقل عن (الطبري) فهل تلتقي نظرتكم في هذا الموضوع مع السيّد العسكري في أنّ الحوادث لا تثبت بمجرّد ذكرها في كتب التاريخ، بل لا بدّ من أمرين: النظر في المضمون وإمكانه والنظر في الأسانيد، ولا تكتفي كثرة الرواة ما لم يكن الرواة المباشرون في عملية السماع متعدّدين؟

ــــ إنّنا نتّفق مع السيّد العسكري (حفظه الله) وأطال عمره لأنّه عمر مبارك، ونحن نلتقي معه في هذا المنهج، لأنّ المشكلة الآن هي أنّك تلتقي ببعض الباحثين ممّن يقولون أنّ لهذه القضية رواة يبلغ تعدادهم المائة ثم بعد ذلك تبحث عن هؤلاء المائة فترى أنّهم أخذوها من شخص واحد كما في قضية (عبد الله بن سبأ) فعندما تقرأ (الطبري) وترى أنّ الآخرين أخذوا من الطبري والطبري أخذ من سيف وسيف رجل يضع الأحاديث وغير موثوق فإنّ معنى ذلك أنّ المائة تساوي الواحد، وهذا يشبه إلى حدّ ما رؤية الهلال، فالبعض يقول هل يعقل أنّ ملايين المسلمين يفطرون ونحن صائمون؟! صحيح أنّهم ملايين ولكنّهم يساوون شخصاً واحداً هو الشاهد الواحد الذي شهد بالرؤية في بلده وبني الحكم على أساسه. لذلك فلا بدّ لنا في المنهجية التاريخية، وأعني المنهج الموضوعي التاريخي، لا بدّ أن لا ننظر إلى كثرة الرواة، ولكن علينا أن ننظر رووا في وقت الحادثة، فيجب أن ندرس شخصية أولئك فإذا كانت شخصيتهم غير موثوقة فمعناه أنّ كلّ البناء يتهدّم، وبعكسه إذا كانت شخصية الراوي موثوقة فيمكن أن نأخذ بروايته.

كذلك ترى أن بعض الناس يحاول أن يأتيك بمائة كتاب كمصدر للموضوع وهي تأخذ من بعضها البعض نقلاً عن المصدر الأول، فالمائة كتاب هي في الحقيقة كتاب واحد، وهو المصدر الذي أخذت منه كل الكتب الأخرى، ثم لا يكفي أن يكون الحديث صحيح السند بل لا بدّ أن يكون صحيح المضمون أيضاً، بحيث يجب أن يكون مضمونه موافقاً للعقل وموافقاً للكتاب والسنّة القطعيين وللواقع الاجتماعي.

فهم الأحاديث:

هل مهمّة فهم الأحاديث متروكة للناس يفسّرونها كيفما يشاؤون، وبالتالي ما هو المراد من رواية جابر بن عبد لله الأنصاري عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "من أحبَّ عمل قومٍ حشر معهم"، فهل المراد الحبّ العاطفي المجرّد؟

ــــ أولاً: ليس لدينا في الإسلام كهنوت، أي أنّنا نرفض قول من يقول لا علاقة للناس بالقرآن لأنّهم لا يفهمونه، بل هناك طبقة معيّنة تفهمه، في حين أنّ الله أعطى القرآن للناس وخاطب الناس بالقرآن وأقام الحجّة عليهم بالقرآن من خلال ظواهره. نعم هناك متشابهات في القرآن وبعض المسائل التي قد يختلف الرأي فيها، فهنا لا بدّ من الرجوع إلى أهل بيت العصمة (عليهم السلام) حتى نعرف المطلوب إذا كنّا لم نحصل على يقين أو اطمئنان بذلك، فليس لدينا كهنوت بل يمكن لأيّ إنسان يملك مقوّمات الثقافة الإسلامية ـــ ومنها العربية ـــ بشكلٍ جيد، أن يفهم ظواهر القرآن وظواهر السنّة.

ثانياً: قد يجد الإنسان المسلم في السنّة والحديث معارضات، فهذا حديث صحيح، وهذا غير صحيح، وهذا يحتاج إلى علم وخبرة، لكن أصل فهم النصّ هو أنّ أيّ إنسان يملك ثقافة معينة يمكنه أن يفهم النصّ، وإلاّ فكيف كان القرآن حجّة على الناس، وكيف كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخاطب الناس، ونحن نلاحظ خطاب القرآن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} فإذا كنّا لا نفهم القرآن والسنّة فإنّ الحجّة لا تقوم علينا بهما.

أمّا حديث "مَنْ أحبَّ عمل قومٍ حشر معهم" فهو إشارة إلى الحبّ الذي هو طريق للعمل، فعندما تحبّ عمل قوم فإنّك تتبنّاه، وعندما تتبنّاه فإنّك تعمله، وتسير في الخطّ الذي ساروا فيه، ومن الطبيعي جرّاء ذلك أن تحشر معهم. أمّا أنّك تحشر معهم لمجرّد أنّك تحبّ فلدينا حديث يقول: "إذا أردت أن تعرف نفسك فانظر قلبك، فإن كان قلبك يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله ففيك خير والله يحبّك، وإن كان قلبك يوالي أعداء الله ويعادي أولياء الله فليس فيك خير والله يبغضك والمرء مع مَن أحبّ". فهو يحشر معهم عندما يكون جزءاً من مجتمعهم، وإلاّ فالحبّ ليس حالة وجدانية وإنّما هو حالة إنسانية، وعندما يكون الحبّ كذلك فإنّه يغمر العقل والقلب والوجدان.

وعملية الحبّ هي عملية اتّباع، ففي القرآن الكريم {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي}(1)، فعلاقة الحبّ هي الاتّباع، وممّا ينسب للإمام زين العابدين (عليه السلام) قوله:

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه                     هذا لعمرك في الفعال بديعُ

لو كان حبّك صادقاً لأطعته                إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيعُ

فتصوَّر أنّ شخصاً يقول لك إنّني أحبّك حبّاً ليس فوقه حبّ لكنّني لستُ مستعداً للتعاون معك عندما تحتاجني، ومستعد أن أحبّ كلّ الذين يبغضونك وأبغضُ كلّ الذين يحبّونك ولا أساعدك ولا أطيعك في شيء.. فهل هذا معقول؟

الإقناع بالروايات الصحيحة:

ثمّة شبهة على المذهب الشيعي وهي أنّ هناك روايات صحيحة وموثّقة، مع أنّ رواتها أو بعضهم ممّن يخالفون الإثني عشرية كالواقفيّة، فكيف نقنع الآخرين بأنّ رواياتنا صحيحة أو الرواية موثوقة مع ما فيها ممّا يخالف المعتقد؟

ــــ الرواية التي يُعتَمد عليها هي التي يرويها راوٍ ثقة، وليس من الضروري أن يرويها مسلم اثنا عشري، فالراوي ناقل، وهناك فرق بين أن تأخذ فكر إنسان، ففي هذه الحالة لا بدّ أن يكون فكره صحيحاً، وبين أن تأخذ كلامه وروايته، حيث يكفي هنا أنّه ثقة.

العلم الذي لا يضرّ ولا ينفع:

أحياناً تجيبون على بعض الأسئلة بقولكم بالقول المشهور "هذا علم لا يضرّ من جهله ولا ينفع من علمه" فلماذا؟

ــــ الواقع أنّ هذه الكلمة ليست لي إنّما هي للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على ما روي كما في كتاب "الكافي" أنّه عندما دخل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المسجد فرأى قوماً مجتمعين حول شخص، فقال ما هذا قالوا: علّامة، قال: وما العلّامة؟ قيل: أعرف الناس بأخبار العرب وأشعارها وغزواتها قال: "ذاك علمٌ لا ينفع من علمه ولا يضرُّ مَن جهله" إنّما العلم "آية محكمة وفريضة قائمة وسنّةٌ متبعة" أي أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يقول لتكن اهتماماتكم فيما تتعلَّمونه بما يتّصل بمسؤولياتكم وهي عبارة عن الآية المحكمة التي تمثّل المسؤوليات الفكريّة والعقيديّة والمنهجيّة، والفريضة القائمة وهي الواجبات، والسنّة المتبعة وهي الأشياء التي حثّ الله ورسوله على العمل بها.

لذلك نحن نتحدّث في كثير من الحالات في بعض القضايا على أساس أنّها مسائل متنازع بشأنها وهي ليست من القضايا الأساسية، ففي قضية التفاضل بين الزهراء (عليها السلام) ومريم (عليها السلام) قد يقول قائل هل أنّ الزهراء (عليها السلام) أفضل أو أنّ السيّدة مريم (عليها السلام) هي أفضل، ويرجع إلى الأحاديث التي تقول أنّ الزهراء أفضل نساء العالم، لكنّنا نقول بأنّ هذا الجدل لا يتّصل بالعقيدة ولا ثبت فليس محلاً للنزاع، فنحن نعظّم السيدة مريم (عليها السلام) ونعظّم السيدة الزهراء (عليها السلام) وقضية إنّ هذه أفضل أو تلك أفضل وإن وردت فيها أحاديث فهي ليست من الأمور التي ينبغي أن نتنازع فيها مع وجود أشياء كثيرة تتّصل بعقائدنا وشريعتنا، حيث ينبغي أن تكون اهتماماتنا الأولى هي فيما نتحمّل مسؤوليته في عالم العقيدة وفي عالم الشريعة وفي المنهج والواقع، فهذه أمور قد تكون لها حقائق ولكن ليس من الضروري أن نجعل نزاعنا وخلافنا فيها، وهذا هو المقصود من قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي أشار إليه السائل.

في مواجهة العلمانيين:

في الكثير من الأحيان نجالس ونواجه أشخاصاً علمانيين لا يعترفون بوجود الله سبحانه وتعالى ويطرحون أسئلة محرجة ويقولون أنّنا جبناء في استعمال عقولنا، فما هي الخطوط الحمراء للتفكير بكنه الله سبحانه وتعالى، وما هو الجواب لهؤلاء؟

ــــ إنّ بعض الناس يحبّون التصوير لأنفسهم أنّهم يملكون الحقيقة بشكل استكباري جداً، أي بالغرور، وإلاّ فهؤلاء الذين يتّهمون المؤمنين بأنّهم لا يستعملون عقولهم، يمكن أن يرد المؤمنون الاتّهام إليهم، فلو أنَّ أيّ إنسان من هؤلاء قيل له إنّ هذه البناية وجدت صدفة ألا يتّهمك بالخرف، أو قيل له إنّ هذا الكتاب في الكيمياء أو الفيزياء وجد نفسه دونما مؤلّف، فهل يقبل ذلك؟ إنّ مشكلة هؤلاء أنّهم يصادرون فطرتهم لا عقولهم لأنّ مسألة وجود الله ليست مسألة معادلات عقلية، ولكنها مسألة الفطرة التي تقودك، حتّى وأنت في حال غفلتك إلى أن كوناً لا يزال الإنسان في كلّ علومه واكتشافاته يزحف زحف السلاحف في سيره وهو لم يبلغ إلاّ الشيء اليسير من العلم به، فهل يمكن أن يكون هذا الكون، الذي يجزم العلماء حتى الماديين منهم، أنّ ما من مادة إلاّ ولها قانون وأنّهم يبحثون عن هذا القانون، هل يمكن لهذا الكون الذي يملك أسراراً في ظواهره بحيث تلتقي أصغر ذرّة مع أعظم الحجوم في الكون من خلال قانون الزوجية، هل يمكن أن يولد هكذا كون صدفة؟! هل يمكن أن يتحرّك دونما محرّك؟!

إنّ مسألة أن يؤمن بالله هي أوضح من أن يؤمن بإنسانيته لأنّ وضوح وجود الله أكثر من وضوح الإنسان عند نفسه.

أمّا الحديث عن ذات الله، فقولوا لهم: حدّثونا عن ذاتكم، هل يفهم الإنسان نفسه بكلّ نفسه؟ إنّ في النفس الإنسانية أشياء لا يفهمها الإنسان، وحتى الآن لا يزال علم النفس رغم تطوّره عاجزاً عن فهم كثير من الأحاسيس الإنسانية {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}(1).

وقولوا لهؤلاء الناس : إذا كنتم مثقّفين فإنّ الثقافة تعلّم صاحبها أن يتواضع، وكلّما ازداد علماً ازداد إحساساً بجهله.

سقوط الرأسمالية:

يطول الكلام عن سقوط الرأسمالية ولكنّها ما زالت باقية، فهل أنّ السبب هو نقدها لنفسها أم أنّ هناك سبباً آخر؟

ــــ ربما يقصد بانهيار الرأسمالية ذلك الانهيار الناجم من خلال الأمراض التي قد تفتك بجسم الكائن الحيّ أو في جسم الدول أو المؤسسات أو الأحزاب التي قد تؤدّي إلى الهلاك، ولكن هذا الجسم وإن كان جسماً مادياً أو معنوياً فإنّه يشتمل على بعض المناعة التي تمنع تأثير هذه الأمراض بشكلٍ سريع، ولكنّنا نعرف أنّ الميكروبات والأمراض الموجودة في داخل الجسم الحيّ لا تزال تصارع كلّ عناصر المناعة حتى تصرعها وتؤدّي بها بعد ذلك إلى الهلكة، وهذا ما لاحظناه في سقوط الاتحاد السوفياتي وفي سقوط كثير من الأحزاب وفي سقوط كثير من الحضارات التي كان لها عمر معيّن ينطلق من العناصر القوية التي تعطي هذا العمر الحيوية حتى إذا ضعفت هذه العناصر وانفتحت على كلّ عناصر الهلاك فإنّها لا تلبث أن تنهار وتموت.

حدود دعوة نوح (عليه السلام):

هل كانت دعوة النبيّ نوح (عليه السلام) عامّة أم خاصّة بقومه، وإذا كانت عامّة فكيف كانت سبل التبليغ في أطراف الأرض؟

ـــ أولاً: ليس لدينا جغرافية الأرض في ذلك الوقت إذ يمكن أن تكون نفس المنطقة التي يعيش فيها نوح هي كلّ الأرض الإنسانية، ونوح عندما دعا الله جرب (950) سنة {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً*فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً*وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً}(1) (950) سنة، وهو يعيش التجربة فلم يبقَ معنى لليأس، ولذا قال {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً}(2) لا من جهة العقدة التي تعبّر عن ضيق الصدر بل {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً}(3) أمّا مشكلتنا فإنّنا نجزع بسرعة فما أن نبلّغ لشهر أو شهرين حتّى نقول لا جدوى، في حين أنّ عليك أن تصبر كما تصبر على الجنين تسعة أشهر فلا بدّ أن نصبر على جنين الفكرة وعلى جنين الهداية الذي قد يحتاج إلى أكثر من تسعة أشهر وقد لا تولد الهداية إلاّ بعد عشر سنين، فعلينا أن نصبر حتّى لو فشلت التجربة، ذلك أنّ الأمر منوط بيد الله سبحانه وتعالى، فما عليك إلاّ البلاغ وأن تقوم بالتجربة مهما فشلت وفشل ألف تجربة لا يعني فشل الفكرة، بل أن نجرّب الواحد بعد الألف، وهذا أمر يجب أن نمارسه في حركة الحياة من حولنا كما نمارسه في طبيعة العمل في سبيل الله.

 

بين ولاية الفقيه والشورى:

ما الفرق بين النظريتين السياسيتين الإسلاميتين ولاية الفقيه والشورى، وهل يعد القائل بالولاية بالعنوان الثانوي من القائلين بالنظرية الأولى؟

ــــ القول بولاية الفقيه ينطلق من خلال العنوان الأولي لا من خلال العنوان الثانوي والفرق بينهما هو أنّ الولي في ولاية الفقيه هو الذي يعطي الشرعية لحركة الحكم باعتبار أنّه الولي على المسلمين وهو الأولى بهم من أنفسهم. أمّا نظرية الشورى فتعتبر الشرعيّة إمّا برأي الأكثرية أو رأي أهل الحلّ والعقد، فاختلاف الرأي هو في مَن له الشورى؟ والقائل بالولاية بالعنوان الثانوي لا يعدّ من القائلين بالنظرية الأولى لأنّ النظرية الأولى هي نظرية تعطي الولاية بالعنوان الأولي.

إقامة الحكومة الإسلامية:

ما هو دليل الذين يقولون بعدم وجوب إقامة الحكومة الإسلامية. وكيف يمكن مع هذا الرأي إقامة الأحكام الشرعية والحدود وما إلى ذلك مع أنّ ذلك يحتاج إلى سلطة تنفيذية؟

ــــ بعضهم يستدلّ بما يروي بقطع النظر عن الأسانيد "اخلدوا إلى الأرض حتى يخرج قائمنا" أو مثلاً "كلّ راية ترفع قبل راية الحجّة (عجّل الله فرجه) هي راية ضلال" ونحن نناقش هذه الروايات لأنّ الله سبحانه وتعالى أراد للحياة أن تعيش على العدل وعلى الإسلام كما قال الإمام عليّ (عليه السلام) "لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر"(1) أي لا بدّ للحياة من أجل حفظ نظامها أن تتحرّك من خلال إيجاد حكومة إسلامية عادلة حتى أنّ القائلين بعدم الولاية للحاكم الشرعي يرون أنّه إذا توقّف حفظ نظام الأمة وإقامة العدل فيها على إقامة الحكومة الإسلامية فيجب ذلك، وللحاكم الشرعي المجتهد العادل أن يشرف على ذلك.

وبعضهم يقول لا تجب إقامة الحدود الشرعية في زمن الغيبة، ولا بدّ من تطبيق الأحكام الشرعية بطريقة فردية غير جماعية، ومع احترامنا لهذا الرأي فإنّه يبتعد عن المنهج القرآني وعن روح الإسلام وأساسه، لأنّ الله أراد للناس أن يعيشوا الإسلام في حياتهم وإلاّ فليس من المعقول أن يحكم الإسلام في حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والإمام (عليه السلام) فقط بل هو قائم إلى قيام الساعة ولا يمكن لإنسان أن يعيش وعي الإسلام ووعي القرآن وهو يقول بتجميد الإسلام وحكمه وأحكامه.

ميزانية الدولة الإسلامية:

يقول بعض العلمانيين إذا أردنا أن نؤسّس دولة إسلامية فيجب علينا أن نعتمد في ميزانية الدولة على الجهاد لأنّ اقتصاد دولة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان قائماً على غنائم الغزوات التي كان يقوم بها وعلى حدّ زعمه فإنّ الإسلام لا يركّز على الحياة الاقتصادية ولا يشجّع الزراعة والتجارة والصناعة؟

ــــ هذا إنسان يعيش عقدته في حديثه عن الإسلام وإلاّ فلو درس الإسلام لرأى أنّه لا يعتبر الجهاد عندما ينطلق المجاهدون لقتال أعدائهم الوسيلة الفضلى لدعوة الناس إلى الإسلام، بل كان الإسلام ينطلق ليخاطب الناس بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وقد كانت الحرب في الإسلام حرباً وقائية تارة ودفاعية أخرى وحركة من أجل أن تسقط الحواجز التي ينصبها الآخرون أمام الإسلام الذي يريد أن ينطلق بحرّيته في دعوة الناس إلى الإسلام ونحن نعرف أنّ هناك ضرائب شرعية كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يأخذها من الناس.

وعندما انطلق الإسلام أراد للناس أن يتحرّكوا في حياتهم بكلّ ما يمكن أن يحقّق لهم العزّة والكرامة وإذا لم تكن هناك صناعة بالطريقة الموجودة الآن فإنّ للقرآن وللإسلام منهجاً اقتصادياً يركّز على كل وسائل الإنتاج، وإذا كان هذا الرجل مثقّفاً فإنّه قد يتراجع عن فكره عندما يقرأ كتاب (اقتصادنا) للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (رضي الله عنه) الذي استطاع أن يمنهج الاقتصاد الإسلامي وأن يمذهبه وأن يوازن بين مذهب الاقتصاد الإسلامي والمذهب الاقتصادي الرأسمالي والماركسي ليظهر أنّ مذهب الإسلام في الاقتصاد أكثر واقعية وأكثر منهجية وأكثر إنسانية من المذاهب الاقتصادية الأخرى لكن مشكلة الكثيرين أنّهم لا يقرأون وعندما لا يقرأ الإنسان فأيّة ثقافة هي ثقافته؟!

مرجعية العقل:

يثير العلمانيون مرجعية العقل في قبال مرجعية الدين، فما هو رأيكم في ذلك؟

ــــ أيّ عقل يريدون؟ فقد يكون العقل ناشئاً من الثقافة، ألا ترى كيف يختلف الناس في عقولهم، فهذا يرى عقله شيئاً وآخر يرى عقله شيئاً آخر، فإذا كان العقل مرجعية فيجب أن يكون عقلاً واحداً، فالعقل على قسمين: هناك عقلٌ فطري وقد جعله الله مرجعية: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(1)، وهناك عقل ينطلق من الثقافة والبيئة والتربية، وعلى هذا فلكل إنسان عقله باعتبار أنّ لكلّ إنسان بيئته وتربيته.

هل الدِّين عامل تفرقة؟:

يزعم العلمانيون وغيرهم بأنّ الدين ومنه الإسلام يفرق الناس إلى مسلم وكتابيّ وإلى رجل وأنثى فما هو تعليقكم؟

ــــ العلمانيون أنفسهم يقسّمون الناس إلى شيوعي وإلى قومي وإلى اشتراكي وإلى ديمقراطي، ولو فرضنا أنّ هناك مسلماً وكتابياً فهذا حسب الانتماء الفكري والديني أمر طبيعي في الحياة، فالعلمانية ذاتها ليست شيئاً واحداً بل هي مختلفة في خطوطها وإلاّ فما معنى التعدّدية الحزبية؟ معناه أنّ هذا ديمقراطي وهذا جمهوري وهذا من حزب المحافظين وهذا من حزب العمال وما إلى ذلك، ولذلك فإنّ من كان بيته من زجاج فلا يرمي الناس بالحجارة وكما قيل قديماً (رمتني بدائها وانسلّت) فالإسلام عندما يقسّم الناس إلى مسلم وكتابيّ فإنّه يضع برامج وحدوداً وأجواءً لا تجعل من هذا التقسيم مصدر تقاطع بل مصدر تواصل {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}(2)، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(3). أمّا التقسيم إلى رجل وأنثى فالعلمانيون لا يستطيعون أن يقولوا بأنّ كل الناس رجال أو نساء فهذا كلام لا معنى له، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}(4)، فلا فرق بين الرجل والأنثى ولا فرق بين شعب وشعب إنّما هذا التمايز من أجل تنوّع الخصائص وتبادل الخبرات ومن أجل أن يحصل التعارف على أساس حاجة كل واحد من الآخر {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فقد يكون الرجل أفضل من المرأة إذا كان اتّقى وقد تكون المرأة أفضل إذا كانت أتقى من الرجل.

المواكب العزائية والسياسة:

يعتبر البعض أنّ تطرّق المواكب العزائية للموضوعات السياسية والاجتماعية هو خروج عن الهدف الأصلي للموكب، فماذا ترون؟

ــــ لو كان الحسين (عليه السلام) موجوداً، لقال له هذا البعض إنّك خرجت عن هدفك الأصلي في ثورتك لأنّك وقفت موقفاً سياسياً ضدّ يزيد ووقفت موقفاً اجتماعياً في مواجهة الواقع، هؤلاء الناس لم يفهموا الحسين (عليه السلام) كإمام للإسلام وكثائر من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى.

الخلاف ليس جبرياً:

هل كتب الله تعالى على أُمّة محمد أن تقع في الخلاف والشقاق منذ وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحتى قيام الساعة؟ فما الحكمة في ذلك؟

ــــ لم يخبرنا الله تعالى على أن نختلف وإنّما ترك لنا الخيار في ذلك وأراد لنا أن نتّحد، ولكنّنا تمرّدنا على أمر الله سبحانه وتعالى.

نظام الأسرة في الإسلام:

يقولون بأنّ هناك هجوماً غربيّاً على نظام الأسرة في الإسلام، فهل هذا صحيح وما هو العلاج؟ وهل لمؤتمر السكان الأخر في القاهرة وفي بكّين دور في ذلك؟

ــــ هناك هجوم غربي ـــ شرقي ـــ علماني ولا نستطيع أن نقول إنّه غربي أو شرقي فقط، فهناك هجوم علماني على القِيَم الدينية وفي مقدّمتها القِيَم الإسلامية، لأنّ الإسلام يختلف عن التشريعات وعن القانون العلماني في قضايا الزواج والطلاق والإجهاض وفي كثير من الجوانب الأخرى، ولذلك وقف علماء المسلمين أمام الكثير من الطروحات التي طرحت في مؤتمر القاهرة وفي مؤتمر بكّين، وعلينا أن نعرف كمسلمين ومسلمات وكمثقّفين ومثقّفات أنّ الساحة المعاصرة هي ساحة التحدي لكلّ عقائد الإسلام ومفاهيمه وقيمه، وعلينا أن نعمل على ملاحقة كلّ التحدّيات التي تنطلق من هنا وهناك، كما علينا أن نفهم إسلامنا جيداً فهماً واعياً عميقاً منفتحاً على مشاكل الإنسان المعاصر وأن نفهم ما لدى الآخرين أيضاً من القِيَم التي يقدّمونها للإنسان المعاصر وندخل في مقارنة بين قيمنا وقيمهم ونحاول أن ندرس الغنى الذي تحمله قيمنا حتى نستطيع أن ننجح في ساحة الصراع.

إنّني أريد أن أقول لكّ إخواني وأخواتي من المثقّفين الإسلاميين ولكلّ صاحب علم بأنّ عليهم أن يوجّهوا كلّ عقولهم وكلّ جهودهم من أجل أن يفهموا الإسلام أكثر وأن يفهموا العصر أكثر وأن يدخلوا ساحة الصراع بسلاح فكري قوي يمكن أن يقيموا فيه الحجّة على الناس بالعلم وبالفكر، وأن لا يشغلوا أنفسهم بالهوامش ممّا يختلفون فيه وممّا يتنازعون فيه، وممّا لا يقدّم ولا يؤخّر، ذلك أنّ مشكلتنا في الواقع الإسلامي هي أنّنا نتحدّث في غير ما نحتاجه بنسبة 90% ونتحدّث فيما نحتاجه بنسبة 10% وقد تشاركها الــ 90% وهذا هو سرّ تخلُّفنا وتقدّم الآخرين، وهذا هو سرّ سيطرة الكفر والضلال على أوضاعنا وعلى أجيالنا حتى لقد دخل الضلال إلى غرف نومنا.

حقوق الإنسان:

هل يوجد في رسالة الحقوق ما يشير إلى مسألة حقوق الإنسان بالمصطلح الحديث المستخدم في العصر الحديث:

ــــ عندما نجمع حقوق كلّ الناس ففي النتيجة نحصل على حقوق الإنسان بالمعنى المشار إليه، ذلك أنّ حقوق المرأة وحقوق المعلِّم وحقوق الحاكم وحقوق المحكوم وغيرها تحدّد للإنسان في أي موقع كان بما لا يدع فرصة للطعن في حقوق الإنسان في الإسلام، وهناك نقطة مهمّة، وهي أنّ الإسلام قد يختلف في نظرته إلى حقوق الإنسان عن نظرة الغرب إليها.

 

علاج المشكلة السكانية:

من مشاكل العصر الراهن المشكلة السكانية، فكيف يمكن علاجها على ضوء النهج الإسلامي الحنيف؟

لا بدّ من دراسة المسألة دراسة ميدانية موضوعية فالإسلام لا يعتبر القلّة قيمةً ولا يعتبر الكثرة ضدّ القيمة، كما لا يعتبر الكثرة قيمةً، إنّ المسألة في ذاتها هي أنّ الله سبحانه وتعالى يقول لنا أنّه يرزق من يشاء {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم}(1)، بما يوحي بأنّ على الإنسان أن لا يستعمل وسائل تحديد النسل لمجرّد خوفه من شحّة الرزق.

ومن الممكن تحديد النسل إذا كانت الوسائل محلّلة، هذا إذا كان الأب يريد أن يتأنّى في تربية ولده لظروف معينة، لكنّ القضية الأهم تدخل في نطاق النظام الإسلامي العام إذ لا بدّ من دراسة المصلحة الإسلامية العليا في ذلك، لأنّه ربّما تكون المصلحة الإسلامية العليا هي في تنظيم النسل، وربّما تكون في إطلاق مسألة النسل، نحن نجد حملات لتنظيم وتحديد النسل في بعض بلدان العالم الثالث وفي إيران التي بدأت بعملية تنظيم النسل نتيجة الظروف الصعبة أو الموضوعية من خلال دراسة الخبراء ورجال الاقتصاد في هذا المجال، بينما نرى في فرنسا تشجيعاً على تكثير النسل لأنّ هذا الاتجاه في تحديد النسل الذي أصبح يشمل الأفراد والجماعات في الغرب جعل الأُمة هناك تتقلّص، ولهذا فإنّهم يعطون مالاً ومخصّصات لكلّ مولود جديد ولكلّ عائلة تنجب أو تواصل الإنجاب.

فهذه أمور لا يمكن أن يضع لها الإنسان خطاً تفصيلياً عاماً، بل لا بدّ أن تدرس المسألة تبعاً للظروف الموضوعية الاقتصادية وغير الاقتصادية الموجودة في هذا البلد أو ذاك.

 

 

 

 

دوافع السرقة وعلاجها:

ما هي دوافع السرقة، وكيف عالجها الإسلام؟

ــــ السرقة قد تنطلق من حالة مَرَضيّةً وقد تنطلق من حاجة اضطرارية وقد نطلق من شهوة نفسية، ولكلّ واحدة علاجها لأنّ الإسلام يدرس ظروف السارق، فإذا كان مضطراً للسرقة فمن الطبيعي أن يعامَل معاملة المضطر في درء الحدّ عنه، وإذا كانت لديه أمراض نفسية بحيث تجعله لا يسيطر على إرادته بشكل جيّد فقد يُعاَمل معاملة المريض، وأمّا إذا كان ينطلق من شهوة ذاتيةٍ وطمعٍ ذاتيٍّ وكانت شروط الحدّ الشرعي موجودة فقول الله تعالى فصلٌ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}(1).

الإسراء والمعراج والغيبة:

إنّكم تقولون أنّ الإسراء والمعراج كانتا تجربتين لإغناء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثقافياً وترفضون أن تكون غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) إغناءً ثقافياً له، أليس مورد الحاجة في التجربتين واحداً؟

ــــ هناك فرق بين التجربتين، ففي قضيّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أراد الله له أن يطّلع على آياته في الكون باعتبار أنّ النبيّ يحدّث الناس عن الله وعن آفاق عظمته {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}(2)، كما أنّ الله أراد له أن يرى في قصّة المعراج الجنّة والنار ليحدّثهم عنها كما لو كان قد رآهما، وأراد له في بيت المقدس أن يرجع إلى القبلة الأولى ليربط بينها وبين القبلة الثانية، وإذا صحّ الحديث أنّه التقى بالأنبياء وأنّه صلّى بهم فقد كانت المسألة أن يعيش مع كلّ النبوّات وكل تاريخ الأنبياء لأنّه خاتمهم، لذلك أراد الله له أن يعرف البداية لأنّه هو النهاية.

أمّا قضية الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف)، فهي قضية غيب في ولادته وفي غيبته وفي ظهوره، ولذلك فإنّ مسألة أن يغنيه الله سبحانه وتعالى بالتجربة، لا تحتاج إلى أن يعيش هذا العمر الطويل من أجل أن يلاحق تطوّراً تقنياً هنا أو تقدّماً علمياً هناك أو فكراً جديداً أو ما إلى ذلك، فإنّ قضيّته هي قضية غيب، فنحن لا نريد أن ننكر ذلك، ولكنّنا نقول لا ضرورة له، فالنفي يحتاج إلى دليل كما أنّ الإثبات يحتاج إلى دليل، ولكنّنا نقول أنّنا لا نستطيع أن نفسّر غيبته الطويلة بهذا التفسير لأنّ المعنى الذي يوحيه لا تقتضيه طبيعة الأمور.

مداد العلماء ودماء الشهداء:

ما هو معنى التفضيل في الحديث الشريف "مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء"؟

ــــ ذلك لأنّ دم الشهيد قد يحلّ مشكلة احتلال آنيّ وقد يحلّ مشكلة ظلم آنيّ ولكنَّ مداد العلماء يحلّ مشكلة الجهل للإنسان على مدى الزمن ما دام الكتاب موجوداً، ولذلك ورد في الحديث أنّ الإنسان إذا مات انقطع عمله إلاّ عن ثلاث، ومن هذه الثلاث ورقةُ علم ينتفع بها، لأنّها تظلّ تعطي وتظلّ تتحرّك في عقل الإنسان وفي قلبه.

فريضة الجهاد:

كيف نؤدّي فريضة الجهاد في وقتنا الحاضر؟

ــــ بأن نعرف مواقع الجهاد، فإذا عرفناها فإنّ علينا أن ندرس كيف يمكن لنا أن ننطلق نحوها من خلال الظروف الموضوعية والإمكانات المادية.

ضريبة الأمر بالمعروف:

هل يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا أدّيا إلى ضياع الأموال وهتك الأعراض وإزهاق الأنفس؟

ــــ هذا يختلف بحسب اختلاف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كان الأمر من القضايا الخطيرة والكبيرة التي تمسّ كيان الإسلام وكيان الأُمّة كما في موقع الإمام الحسين (عليه السلام) عندما قال "أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر" فيمكن للإنسان بل يجب عليه ذلك حتّى لو ضاعت الأموال وهلكت الأنفس، أما إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عادياً فلا يجب على الإنسان ذلك.

التوافق العمري:

كان عمر خديجة (رضي الله عنها) 40 سنة فكيف تزوّجها الرسول وقد أثبتت الدراسات الحديثة أنّ الزواج بين الرجل والمرأة يجب أن يكون ضمن التوافق العمري؟

ــــ مَنْ قال ذلك؟! هناك أشخاص في الثمانين من العمر يتزوّجون بنات في العشرين من أعمارهن، وإذا كنت تقول إنّنا شرقيون متخلِّفون، فإنّ هذه الظاهرة موجودة في الغرب أيضاً.

فقد تحصل زيجة لا توافق للعمر فيها ومع ذلك يحصل الانسجام بين الزوجين، فإذا لم يكونا قريبين في العمر فقد يكونان قريبين في العقل، هذا مع العلم أنّ من الباحثين مَن يقول أنّ خديجة (عليها السلام) كانت في سنّ الخامسة والعشرين وإنّها لم تكن متزوجة سابقاً.

الشروط الصعبة للزواج:

هل الزواج اختياريّ أم إلزاميّ؟ فأنا فتاة في التاسعة عشر من العمر قد وضعت شروطاً صعبة لشريك العمر من الإيمان والجهاد والاستقامة ولم يتقدّم أيّ شخص بالمواصفات، والناس يعاتبونني على رفض مَن يتقدّم لخطبتي، فماذا تقولون في ذلك؟

ــــ إنّك تضعين صفات وشروطاً صعبة ليست موجودة فيك، لأنّ على الإنسان أن يكون واقعياً، فلا ينبغي على الإنسانة غير المعصومة أن تطلب إنساناً معصوماً، ولا بدّ للإنسان أن يطلب المعقول، ولذا فإنّنا ننصح هذه الفتاة أن تدرس المسألة بطريقة واقعية وأن لا تعيش طموحاتها وأحلامها في رفيق العمر بطريقة خيالية.

حول مقابلة "المستقلة":

قرأنا في صحيفة "المستقلة" التي تصدر في لندن أنّكم تقولون بأنّ المسلمين ليسوا أعداء لأي شعب من الشعوب ولذلك ينفتحون على الغرب ويلجأون إليه من واقع ظلمهم السياسي، فهل يفهم من هذا أنّكم تجيزون اللجوء المطلق أو بشروط؟

ــــ أنا لم أتحدّث عن اللّجوء هل هو شرعي أم لا، ولكن تحدّثت عن الواقع وهو أنّ أغلب المسلمين الذين يعانون من ظلم بلدانهم يذهبون إلى هناك ممّا يدلّ أنّهم لا يعادون شعوب تلك البلدان، لأنّهم لو كانوا يعتبرونهم أعداء لما ذهبوا إليهم، أمّا هل اللّجوء مشروع أم لا فهذا ما سبق أن تحدّثنا عنه أكثر من مرة.

تعلّم اللّغة الفصحى:

ما مكان اللّغة العربية الفصحى من الدين، وما هي الطريقة المثلى لاتّقانها وتعلُّمها على الوجه الصحيح الأكمل؟

ــــ اللّغة العربية الفصحى هي اللّغة التي أعزّها الله بأن أنزل كتابه بها وجعلها وعاءً لكلامه ووعاءً لوحيه، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذه اللغة في قوله: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}(1)، ممّا يوحي أنّ الله تعالى يريد لهذه اللغة أن تكون موضع اهتمام الناس حتى يستطيعوا أن يتفهَّموا وحيه وحكمه، وعلى الإنسان الذي يريد الوصول إلى ذلك أن يتعلّم اللغة العربية الفصحى بحسب العلوم العربية وبحسب قواعدها التي لا بدّ أن يرجع فيها إلى المختصين.

رافضة لفكرة الحجاب:

امرأة كانت تعيش في جوّ غير إسلامي وهي الآن متزوّجة من أحد المؤمنين وهي ترفض فكرة الحجاب الإسلامي وتحاول أن تفسّر الحجاب على طريقتها الخاصة، فما هي النصائح التي يمكن أن تقدّم لها حتى تغيّر فكرتها هذه؟

ــــ نحاول أولاً أن نسأل هذه المرأة الرافضة لفكرة الحجاب: هل تؤمن بالإسلام وهل تؤمن بالقرآن وهل تؤمن بالسنّة، فإذا كانت لا تؤمن بذلك كلّه فإنّ معنى ذلك أنّها ليست مسلمة ولذلك يكون الحديث معها حديثاً مع إنسان غير مسلم، أمّا إذا كانت تؤمن بذلك وقد ورد الحجاب في الكتاب والسنّة وهي تقول أنها تفسّر الحجاب على طريقتها الخاصة كأن ترى الحجاب حجاب الفكر وحجاب الأخلاق لا حجاب الجسد، فإنّنا نقول لها إنّ المسألة تتّصل بقواعد اللغة العربية وقضية الكتاب والسنّة هي قضية كيف نفهمها من خلال القواعد التي يفهم بها النصّ الأدبي، فليس هناك معنى لأن يقول الإنسان إنّ مزاجي كذا وأنّ هذا لا يوافق مزاجي.

ثمّ نقول لها كما نقول لكلّ اللاتي يتحدّثن عن الحجاب بسلبيّة إنّ الفرق بيننا وبين السافرات هو في عدد قطع الثياب لأنّنا نعرف أنّه ما من امرأة إلاّ وهي محجّبة في بعض أجزاء جسدها حتى اللاتي ينطلقن إلى البحر إنصاف عاريات ترى لماذا يلبسن الصداري ويلبسن المايوه؟ أليس ذلك من جهة أنّ هذه المناطق ممّا يؤمنّ بحجابها لأنّها مثيرة، فنحن نضيف عدّة قطع أخرى من الثياب لأنّنا نرى أنّ الإثارة كما تكون هناك تكون في الجوانب الأخرى، فعلينا إذا كنّا نريد أن نرفض فكرة الحجاب ونقول إنّ حجاب الجسد ليس مهماً فلننطلق على أساس سياسة العراة على الأقل، في حين أنّنا نقول دائماً بأنّ القضية ليست قضية حجاب أو سفور بل قضية هل نؤمن أنّ للإنسان حريةً مطلقة في جسده فلنرخّص حتّى في الحريات الجنسية ولنرخّص العري، وإذا قلنا أنّ هناك ضوابط للإنسان في جسده فعلينا أن ندرس هذه الضوابط، ذلك أنّ الغرب تبنّى الحرية الجنسية وتبنّى الحرية المطلقة للإنسان في جسده أمّا نحن فلدينا ضوابطنا التي تقنّن ذلك.

وإذا فعلنا كما يفعلون فإنّ هذا الجوّ سيدفع إلى مزالق الانحراف وعندها تثور غيرتنا لغسل العار ونصرخ:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى          حتى يراق على جوانبه الدم

فعلينا أن نحدّد، فإمّا أنّنا نريد أن نمشي مع الغرب فلا بدّ أن نصل إلى النهايات التي وصل إليها الغرب، وإمّا أنّنا نريد أن نمشي مع قيمنا فلا بدّ أن نلتزم بالضوابط وإلاّ فالحال كما وصفه الشاعر:

ألقاهُ في البحر مكتوفاً وقال له            إيّاك إيّاك أن تبتلَّ بالماء

أي إنّك تجعل ابنتك أو أختك وزوجتك في المحرقة ثم تقول لهنّ لا تحترقن، إنّ هذا أمرٌ غير طبيعي.

 

 

 

 

اصطلاح "أهل الله":

هل يجوز استعمال اصطلاح "أهل الله" في الشرع الإسلامي؟

ــــ ليس هناك مشكلة في ذلك فنحن نقرأ في الحديث الشريف "الخلق كلّهم عيال الله"، أي أهل الله، وليس معنى ذلك مضموناً نسبيّاً في انتسابهم إلى الله تعالى، ولكنّ أهل الله هم الذين يعيشون مع الله في إيمانه وفي طاعته وفي الجهاد في سبيله، ويقول النحاةُ في اللغة إنّ الإضافة تصحّ بأدنى ملابسة.

النصيب في حياتنا:

"النصيب" كلمة نردّدها ونطلقها على عدّة أمور في حياتنا مثل "الزواج"، "العمل"، "الفرص"، فما هو النصيب: هل هو كلمة نقصد بها رفع مسؤولية اختيارنا صحيحاً كان أم خطأ؟ أم هي عامل لا إرادي يوجّهنا لما يريد دون اختيارنا رغم أنّنا لا نرغب داخلياً بما حدث بالفعل؟

ــــ إنّ النصيب يمثّل واقع حياتنا، ولكنّ نصيبك هو حظّك في الحياة، في صحّتك، وفي علمك، وفي موقعك... وهكذا.

ونصيبنا ككلّ شيء يوجد في الحياة، قد يكون ناشئاً من اختيارنا، كأن يختار أحدنا زوجة معيّنة فيدرس خصالها ويسأل عنها ثم يتزوّجها فهي نصيبه، فإذا وجد أنّها ليست صالحة فهي نصيبه الذي تمّ اختياره، وإذا كان هناك من تقصير فهو تقصيرك في مقدّمات البحث والمعرفة لأنّك استعجلت أمراً كان ينبغي أن لا تستعجل فيه.

فالعمل والزواج والدراسة وغيرها تنطلق من اختيارك، لأنّ الله تعالى جعل هذه الأمور تحت اختيارنا.

وقد تكون المسألة مربوطة بالنظام الكونيّ، فنصيبك من اللّون والشكل مثلاً، هو هذا الذي أنتَ عليه، ونصيبك في أن تكون جميلاً هو حصيلة العملية الوراثية والتناسلية، كما أنّ نصيبك في أن تكون في أرض مزدهرة اقتصادياً أو بالعكس أو في أن تكون في أرض واقعة تحت حكم ظالم أو عادل، فهذا كلّه حظّك، ولكن قد يكون حظّنا ناشئاً من اختيارنا، وقد يكون ناشئاً من خلال علاقتنا بالنظام الإنسانيّ والكوني، ولا يمكن للإنسان أن ينفصل عن وجوده وعن كلّ ما يتّصل بوجوده.

أمّا أن نقول بأنّ النصيب شيء خفيّ بحيث يتحرّك دون قوانين وضوابط فلا، فكلّ واحد منّا لو درس ما هو فيه من حياة زوجية أو حياته المادية أو الاجتماعية فإنّه يستطيع أن يعرف الأُسس التي ارتكز عليها نصيبه، ومن الصعوبة أن تجد نصيباً خفي الأُسس بحيث لا يمكن أن يفهم، نعم قد لا نفهم الواقع المحيط بالموضوع، وقد تكون بعض الأمور خفيّة عنك كخفاء كثير من الأشياء في حياتك.

والله سبحانه وتعالى يحاسبنا على نصيبنا الذي اخترناه ولا يحاسبنا على نصيبنا الذي اختاره لنا من خلال النظام الكونيّ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

 

 

الفصل الرابع

المسائل التربوية

 

"على الإنسان المؤمن أن يراقب أعماله وأن يدقّق ويخلص فيها، وأن يكون لديه طموح التطوُّر الإيجابي، ولا بدّ أن تكون نفسه ظنوناً عنده فلا يخرجها من حدّ التقصير".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الشعور بالذنب:

أنا شاب مؤمن إن شاء الله وأُصلّي وأصوم ولكن أشعر دائماً أنّني مذنب فبماذا تفسّرون هذه القضية من الناحية الروحية؟

ــــ لا بدّ أن تكون نفس المؤمن ظنوناً عنده، أي يتّهم نفسه فلا يخرجها من حدّ التقصير، لكنّ الإنسان عندما يرى أنّه لا يمارس ذنباً ويعيش عقدة الذنب فربّما تعطيه هذه الرؤية تأثيرات سلبية على مستوى اليأس وعدم الثقة بنفسه، وعلى الإنسان دائماً أن يراقب أعماله وأن يدقّق في أعماله وأن يخلص في أعماله وأن يكون لديه طموح التطوّر الإيجابي في أعماله. أمّا أن يشعر دائماً أنّه مذنب فهذه عقدة ينبغي للإنسان أن يعالجها بشكلٍ متوازن.

التوبة من الكبيرة:

شاب اقترف كبيرة أكثر من مرّة وهو يريد أن يتوب فماذا يجب عليه؟

ــــ أن يتوب إلى الله توبةً نصوحاً من كلّ عقله وقلبه وكلّ جوارحه فيتوب الله عليه، يقول تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(1)، ويقول عزّ وجلّ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(2).

شروط التوبة:

هل يغفر الله لمن ترك الصلاة والصوم عمداً من دون أن يقضيها أو يتوب؟

ــــ الواقع إنّ التوبة لها شروط ومن شروط التوبة القضاء، لما يجب على الإنسان قضاؤه من الصلاة والصيام وعلى الإنسان أن يرجع إلى ربّه وليس فقط يقول (اللّهم إنّي تائب) أمّا قضية أنّ الله يغفر أو لا يغفر فهذا بيده ففي الدعاء (وأيقنتُ أنّك أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشدُّ المعاقبين في موضع النكالِ والنَقِمة) إنّه يغفر لمن يشاء ويعذِّب من يشاء، ومن يترك الصلاة والصوم والفرائض الأخرى فإنّه يستخف بفرائض الله وتلك كبيرة من الكبائر، التي يستحقّ بها دخول النار، ولكن هل يعذّبه الله أو لا يعذّبه فذاك أمرٌ متروك لرحمة الله سبحانه وتعالى، لأنّ استحقاق العذاب شيء وفعليّته بتنفيذه شيءٌ آخر.

غسل التوبة وصلاتها:

إنسان أراد التوبة فهل غسل التوبة هو شرط لها، وهل للتوبة صلاة وشرط لصحّتها؟

ــــ لا تحتاج التوبة لا إلى غسل ولا إلى صلاة، بل أن تفتح قلبك لربّك ليرى من قلبك أنّك نادم على ما مضى وعازم على أن تصلح أمرك على ما بقي وتقول لربّك إنّي تائب ولا حاجة إلى غسل التوبة ولا إلى صلاة للتوبة، نعم ورد في بعض الروايات إشارة إلى غسل التوبة وصلاتها وربّما كان ذلك من جهة أنّه يعمّق التوبة في وجدان الإنسان الخاطئ باعتبار ما يوحيه الغسل من تطهير البدن الذي عاش في الخطيئة من آثارها القذرة من الناحية المعنوية، وما تنفتح به الصلاة على الله من أعماق الإنسان التائب الذي يشهد الله ـــ في صلاته ـــ على قلبه أنّه تائب من خطيئته في معنى الصلاة.

هل هذا من الغيبة؟

لو ذكرت أنّ فلاناً يتأخّر عن مواعيده ويتأذّى هو من ذلك فهل يعتبر ذلك من الغيبة؟

ــــ إذا كان هذا ممّا لا يعرفه الناس عنه فهو عيب من العيوب المستورة التي لا يجوز لك أن تذكره فيها، إلاّ إذا كان الأمر يتعلّق بنصيحة الآخر في الالتفات إلى هذا الجانب في التعامل معه.

أساليب مكافحة الغيبة:

كثيراً ما يحدث في أوساطنا الاجتماعية مرض اجتماعي خطير وهو الغيبة، وقد تتّخذ لذلك أساليب مختلفة بغطاء شرعي، فما هي الطرق لمعالجة هذه الحالة مع العلم أنّ النهي عن المنكر لا يبلغ أثره المطلوب؟

ــــ أولاً: علينا أن نستمع إلى قول الله تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}(1)، وثانياً فإنّ "الغيبة أدامُ كلاب أهل النار" كما ورد في بعض الأحاديث، وثالثاً "الغيبة أشدُّ من الزنا إنّ الرجل قد يزني ويتوب فيتوب الله عليه وإنْ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفر له صاحبه"(2) كما ورد في حديثٍ آخر، والغيبة بكلّ بساطة ذكرك أخاك بعيبٍ مستور في ظهر الغيب، فإذا كان هذا العيب غير موجود فيه فقد أضفت إليه البهتان، ولذلك فإنّ الإنسان الذي يخاف من الله ويخاف من النار فإنّه يحجم عن الغيبة وأما الذي لا يخاف النار فهو من أكبر الشجعان لكنّها شجاعة تدخل إلى النار، إنّها شجاعة مقلوبة، وقد قال الشاعر:

ليس من يقطعُ طرقاً بطلاً          إنّما من يتّقي الله البطل

ونسأل الله أن يجعلنا أبطالاً في هذا الخطّ.  

في الغيبة:

هل يدخل في دائرة الغيبة عندما نتحدّث عن شخص حال غيابه بما يتّصف به من أخلاق بذيئة كأن تقول أنّه إنسان منافق أو كاذب أو بخيل وهي حقيقة موجودة فيه، وهل نكون قد عصينا الله فيما نهانا عنه؟

ــــ وهل الغيبة إلاّ هذا؟ ـــ فالغيبة هي أن تذكر أخاك بعيب مستور موجود فيه، أمّا ذكره بما لا يكون موجوداً فيه فهو بهتان وهو أعظم من الغيبة، لذلك علينا أن نبتعد عن هذا إلاّ في مستثنيات الغيبة.

غيبة الوالدين لولدهما:

هل يجوز للوالدين غيبة ابنهما؟

لا يجوز للوالدين أن يغتابا ولدهما إذا كان إنساناً بالغاً راشداً أو ابنتهما لأنّهما ابنان لهما في النسب وإخوان لهما في الإيمان وقوله تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً(3) يشمل الآباء والأبناء.

غيبة الطفل والمجنون:

هل يحلّ بشكل عام غيبة الطفل المميّز أو المجنون؟

ــــ إذا كان ذلك يسقط قيمته في نظر الناس أو كان يؤذيه بحيث يكون له أثر في أخلاقيته بين الأطفال الآخرين فالأحوط أن لا يغتاب الكبير الطفل، أما المجنون فباعتبار أنّه لا يحسّ بذلك ولا يشعر به فالآية منصرفة عنه، ولكن إذا كان ذلك يعني احتقاراً للمجنون وشماتة أو سخرية منه فهو حرام بهذا العنوان.

غيبة أم..لا:

تصرّفت معي إحدى صديقاتي بطريقة آلمتني فتحدّثت مع زوجي في الموضوع فهل يعتبر ذلك من الغيبة؟

ــــ إذا كنتِ مظلومة بذلك فإنّ الله يقول: {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ}(1)، أما إذا لم تكوني كذلك فعليك أن تستغفري الله من ذلك.

بين النقد والغيبة:

كما هو واضح فإنّ الغيبة حرام وأنّ النقد ضرورة لتكامل الشخصية ولكن كيف يمارس الشخص عملية النقد البنّاء دون أن يقع في مشكلة الغيبة الحرام؟

ــــ إنّ النقد البنّاء يكون في المواقع التي يحتاج فيها المرء إلى دراسة الشخص الآخر من خلال القضايا العامة وهذا ليس غيبة بل تقييم، كما إنّ هناك مستثنيات للغيبة ومنها نصيحة المؤمن، فلو جاء إنسان يستنصحك بزواج ابنته من شخص أو يزوّج ابنه من بنت مثلاً وأنتَ تعرف أنّ هذا الإنسان سيّء الخلق أو أنّ هذه الإنسانة سيّئة الخُلُق فلك أن تتحدَّث عن عيوبها. وهكذا يمكن للإنسان أن يغتاب من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعبارة أخرى فإذا كانت هناك مصالح عامة أو مصالح خاصة أكثر من مفسدة الغيبة فيجوز ذلك.

 

 

مقاطعة صاحب الجريمة:

من يعرف أنّ والده ارتكب جريمة تغضب الله تعالى فهل يجوز له مقاطعته؟

ــــ لا تجوز مقاطعته إلاّ إذا كانت المقاطعة وسيلة يقينيّة أو شبه اطمئنانية أنّه سوف يرتدع عن ذلك {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}(1).

المشبوهون في المساجد:

إذا كان أكثر المتواجدين في المسجد تدار حولهم الشبهات فهل يجوز الحضور والجلوس معهم، علماً أنّها حالة يندى لها الجبين بالنسبة لبعض الناس الذين يقومون ببعض الأعمال المخلّة وخاصةً عندنا في أوروبا؟

ــــ علينا أن لا نترك المساجد حتّى مع وجود بعض الناس الذين تدور حولهم الشبهات أو الناس الفَسَقَة أو ما إلى ذلك لأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يعيش في المسجد الذي يجتمع فيه المؤمنون والمنافقون الذين ذمّهم القرآن.

مقاطعة:

لي أخ غير ملتزم حاولت معه كثيراً لكي يترك الأعمال السيئة، ولكنّني لم أستطع، فقاطعته، فهل يعتبر ذلك قطعاً للرحم؟

ــــ إذا كانت المقاطعة تفيد في تركه لهذه الأعمال السيئة فهي ليست قطيعة للرحم، وإنّما تكون من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي قد يكون واجباً عليك، ولكن إذا لم تؤدِّ المقاطعة إلى هذه النتيجة فعليك أن لا تقاطعه، وربّما كانت مواصلتك له سبباً في هدايته ولو بعد حين، وعلى الإنسان أن لا ييأس من التجربة في مقام الهداية، فإذا فشلت اليوم فقد تنجح غداً أو بعد غد.

 

 

مشكلة عائلية:

شخص له صهر حدثت بينهما مشاكل عائلية وقد تشاركا في شراء دار ولم يسجّل حصّة للصهر وكانا يشترطان عليه تسجيلها للزوجة (ابنتهما) وقد حلف الأب بطلاق أمّها إذا دخلت الزوجة الدار، وتريد الزوجة الآن الانتقال مع زوجها إلى الدار ولكن تخاف وقوع طلاق أُمّها؟

ــــ هذه أمور لا يسئل عنها شرعاً ولكن لا بدّ من إدارتها من خلال أهل الخير الذين يحلّون هذه المشاكل بطريقة ميدانية واقعية. وعلى أيّ حال، فإنّ الأب إذا كان يخاف من الإثم في مخالفة يمينه، فعليه أن يعرف أنّ هذا اليمين لا قيمة شرعية له لأنّه ليس راجحاً ولا يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن متعلّقه راجحاً ولا يحرم على البنت الانتقال إلى بيت الزوجية لأنّها لا تتحمّل ـــ من ناحية شرعية ـــ مسؤولية ما يفعله أبوها تجاه أمّها ولكن ينبغي القيام بحلّ المشكلة بطريقة عملية واقعية من خلال أهل الخير من الأصدقاء والأقرباء أو بالعمل على تقديم بعض التنازلات بالتجاوب مع رغبة الأب إن لم يكن فيها مفسدة كبيرة.

طلب أشرطة محرّمة:

طلب صديق لي في أميركا أن أُرسل له أشرطة غناء محرّمة فهل أُلبّي طلبه مع أنّه صديق عزيز؟

ــــ لأنّه صديق عزيز عليك فلا ترسل له تلك الأشرطة لأنّ الإنسان لا بدّ أن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها، فإذا كنت تحبّ أن يرضى الله عنك وأن لا يغضب منك فعليك أن ترضى لصديقك ما ترضاه لنفسك، وتكره له عقاب ربّه، بالإضافة إلى أنّ هذا الصديق ليس صديقاً عزيزاً لأنّ الصديق العزيز لا يمكن أن يورّطك في غضب الله وفي فعل المحرّم.

 

 

معاملة أم الزوجة:

أنا متزوّج من امرأة لديها أمّ سيئة تحاول أن تفسد علاقتي بزوجتي وتخلق المشاكل بيننا، فهل يمكن لي أن أمنعها من دخول منزلي أو يمكن أن أمنعها من رؤيتها خصوصاً وهي تقول أنّ طاعة الوالدين واجبة؟

ــــ أنا لا أنصحك بالمنع الكلّي لزوجتك من رؤية أمها، فلها أن ترى زوجتك، ولكن يمكن لك أن تضع بعض القيود التي تخفّف من المشكلة لأنّك إذا منعت زوجتك من رؤية أمّها فإنّك سوف تعقّدها وقد تشعر بالظلم لأنّها ليست مسؤولة عن مشاكل أمّها، لذلك عليك أن تستعمل الحكمة في ذلك، فالله كما أراد للإنسان أن ينطلق بالكتاب في أحكام الله في حلاله وحرامه أراد له أن ينطلق بالحكمة بحيث يتصرّف تصرّفاً حكيماً يعالج المشكلة بالطريقة التي لا تخلق له أكثر من مشكلة وعليه أن يفكّر هكذا: فلو كان لزوجته الحقّ في أن تمنعه من رؤية أمّه فكيف يكون شعوره؟

ولذلك فعندما تريد أن تقوم بأي عمل مستغلاً حقّك الزوجي فكّر فيما لو كنت مكان زوجتك وكانت زوجتك مكانك وكانت تريد أن تستعمل حقّها ضدّك فهل تطيق أن تمنعك زوجتك عن رؤية أمّك؟ "عامِل الناس بما تحبّ أن يُعامِلوك به"، "لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه"، وزوجتك بالجسد هي أختك في الإيمان، فعاملها كما تعامل الأخ في الإيمان، وبذلك يمكن لك أن تكون عادلاً في أي تصرّف وهكذا يريدنا الله أن نفعل.

رضا الأم:

أنا شاب لا أعرف كيف أرضي أمي على الرغم من حبّي لها، فهي كلّما أمرتني أفعل ومع كل هذا أشعر أنّها لا تتّكل عليّ دائماً؟

ــــ إنّ حقّها عليك هو أن تدخل السرور عليها وأن تطيعها فيما لا معصية فيه لله ولا ضرر فيه ولا حرج عليك، فإذا فعلت ذلك وأعطيتها كلّ حبّك وكلّ حنانك ورعيتها بأفضل ما تكون الرعاية فقد قمت بواجبك. أمّا هي فإذا قامت بواجبها نحوك أو لم تقم فذلك شأنها ولست مسؤولاً عن ذلك وليس عليك أي إثم لأنّ القضية عندئذٍ تكون قد انطلقت منها لا منك.

أسلوب التعامل مع الزوجة:

أنصح زوجتي في قضاء وقت فراغها في المطالعة والعبادة والأشياء المفيدة لكنّها تصرُّ على أن تذهب كل يوم إلى بيت أهلها وتقضي الوقت هناك بما لا ينفع ولا يضرّ من الأحاديث، هل لي الحق في منعها أو أن أسمح لها في زيارة أهلها مرة أو مرتين في الأسبوع؟

ــــ يقول تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. ودلالة هذه الفقرة من القرآن الكريم هي أن تحاول أن تدرس الأسلوب الأفضل الذي لا يحوّل المنع، حتى لو كان فيه مصلحة، إلى عقدة في نفسها وإلى شعور بالإذلال وما إلى ذلك، وحاول أن لا تجعل نصيحتك خشنة أو جامدة ولكن أعط نصيحتك شيئاً من الحيوية ومن المحبّة ومن الحنان ومن الحوار معها بطريقة وبأخرى، فلعلّها تنفتح عليك عندما تجدّد أسلوبك وتحسّنه، لأنّنا قد لا نحصل على ما نريد من الآخرين عندما نخطئ في الأسلوب، ولذلك لا بدّ لنا أن نعمل على تطوير أساليبنا فإذا أغلقت أساليبنا قلوبَ الآخرين علينا مرةً فعلينا أن نفكّر كيف نفتحها في المرة الثانية والثالثة {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}(1).

وعلى ضوء ذلك فقد يكون من الأفضل أن تحاور زوجتك حول تنمية قدراتها الثقافية والروحية بالمطالعة والحوار مع الذين يملكون الثقافة وحيوية الروح والعمل على أن تكون علاقتها بأهلها علاقة وعي وحديث في الأمور النافعة وقد يمكنك بالأسلوب الحسن والطيبة أن تخفِّف من زيارتها لأهلها إذا كان ذلك يثقل على جوانب الخير في حياتها.

البرّ بعد الموت:

إذا كان الولد عاقّاً لوالديه في حياتهما فهل من الممكن أن يكون بارّاً لهما في مماتهما؟

ــــ ورد في بعض الأحاديث أنّ الإنسان قد يكون بارّاً في الحياة عاقّاً بعد الممات بأنْ لا يتصدّق على الوالدين ولا يهديهما شيئاً من قراءة القرآن ولا يدعو لهما ولا يقضي لهما، وقد يكون عاقّاً في الحياة وبارّاً بعد الممات إذا فعل ما يريحهما في آخرتهما.

حقّ الوالدين:

هل صحيح أنّ أحداً لا يستطيع أن يؤدّي حقّ والديه إلاّ أن يكونا مملوكين فيشتريهما ويعتقهما؟

ــــ ليس عندنا في هذه الأيام عبيد ومماليك ولكن جاء في بعض الأحاديث ما مضمونه أنّ شخصاً جاء للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال له: أنا عملت مع والديَّ أكثر ممّا عملا معي وأنا أغسلهما وأطعمهما بيدي وأعطيهما كلّ شيء وأتحمّل الأذى عنهما بحيث أنّهما وجدا من رعايتي لهما ما لم يجداه من أحد فهل أدّيت حقّهما؟ قال لا! قال كيف؟!

ومن باب الطرفة فإنّ الأم قد تقول لولدها أنا أرضعتك كذا شهراً، فيقول لها كم كيلو حليب أرضعتني فأنا مستعد أن أجلب لكِ عوضه، فربّما يفكّر هذا الشخص أنّه بهذه الطريقة يجازي أتعابها، فلقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للسائل: "الفرق بينك وبينهما أنّهما رعياك وهما يستقبلان حياتك ولكنّك ترعاهما وأنتَ تستقبل موتهما" فالوالدان يربّيان ويرعيان حياة ابنهما ولا يمكن أن يفكّرا في أن يرتاحا منه عندما يموت، فيما يفكّر ـــ هو ـــ في الراحة إن هو تخلّص منها بالموت.

وهذا هو الفرق كما يروى في هذا الحديث.

 

 

 

 

 

تفرّد في قرار:

امرأة انتقت رجلاً أجنبياً تقدّم لخطبة ابنتها دون علم زوجها فما حكم ذلك علماً أنّها لا تنطوي في قراءها على سوء، فما هو حكم موقفها من حيث المبدأ بغض النظر عن الخصوصيات؟

ــــ من الطبيعي أنّ عليها إخلاصاً للحياة الزوجية ولعلاقتها مع زوجها أن تتشاور معه في ذلك قبل أن تتّخذ قراراً مع أي إنسان آخر، لأنّها إذا اتّخذت قراراً ولم يوافق زوجها فإنّها ستعقّد علاقتها بهذا الإنسان وتعقّد الواقع، ومن الطبيعي فإنّه لا بدّ من أن تستشير ابنتها في ذلك لأنّها هي صاحبة الحقّ.

بين حماتي وأميّ:

إذا جاءت أم زوجي لزيارتي وعلمت ذلك من خلال العين السحرية في الباب ولم أفتح الباب لظرف ما في بيتي لعدم نظافته مثلاً فهل هذا عمل حرام أُحاسب عليه أم لا، مع العلم أنّ الطارق لو كانت والدتي لكنت فتحت الباب، ليس من باب التفرقة بينهما ولكن إذا رأت أمّي بيتي وسخاً فلا مشكلة بينما يكون الوضع محرجاً بالنسبة لي أمام أمّ زوجتي وفي حال تكرار هذا الموقف هل يجب إعلام زوجي بالحقيقة مع العلم أنّه لن يكون موافقاً على تصرّفي؟

ــــ ليس ذلك محرّماً في ذاته إذا كانت السائلة تخاف الضرر على نفسها من خلال مشكلة الكنّة والحماة، ولكنّنا نقول للأخت السائلة أنّه إذا تكرّر هذا بأن يظلّ بيتك وسخاً وكلّما جاءت أم زوجك رأت البيت وسخاً فالمفروض أن تنظّفي بيتك حتّى لا تبتلي بمثل هذا الذي قد يضرّ في بعض الحالات حياتك الزوجية فيما لو اطّلع زوجك على ذلك، ولكن لا أنصحك بأنّ تذكري ذلك لزوجك، فربّما يعقّد حياتك الزوجية معه.

 

 

 

صلة مَنْ لا يصلّي:

شخص من أقربائي لا يصلّي فهل صلة الرحم معه واجبة؟

ــــ نعم، تصله من أجل أن تهديه إلى سواء السبيل، إلاّ إذا كانت قطيعتك له تجعله يرتدع عن المنكر فيجب عليك أن تقطعه.

مَنْ المسؤول؟

هل يعيب الأب أن يحمل ابنه أو ابنته في الشارع أو أن يحمل حاجياته، وهل أنّ هذا الأمر من مسؤولية الزوجة فقط؟

ــــ هو من مسؤولية الأب وليس من مسؤولية الوالدة أبداً، ولا يجب عليها ذلك فالإسلام كان مع حقوق النساء في هذه المسألة، إذ لا يجب على الأم إرضاع ولدها ولا حضانته ولا حمله بل هي تقدّم خيراً ومعروفاً إذا قامت بذلك ولها أن تستلم أجر ما تصنع، لكنّ الله أراد أن يعرّف الزوج بأنّ زوجته تضحّي في سبيله وتعمل ما لا يجب عليها حتى يعرف كيف يعاشرها بالمعروف، وليس هناك أي عيب في حمل الأولاد أو الحاجيات عندما يرون المرأة، خصوصاً إذا كانت محجّبة وزوجها يحمل ابنها أو ابنتها فإنّ الناس يقولون بأنّ هذا الرجل إنساني وهذا الزوج طيّب جداً، ألم تسمعوا بأنّ علياً وفاطمة (عليها السلام) تقاسما الشغل فكان عليٌّ (عليه السلام) يحتطب ويستقي ويكنس البيت وكانت الزهراء (عليها السلام) تطحن وتعجن وتخبز، فهل منكم مَن يقبل أن يكنس البيت على أساس أنّه الرجل وأنّ هذا ليس من ضمن مسؤوليته وليس مسؤولاً عن أولاده وبناته وعن بيته، إنّ التعاون في ذلك شرفٌ ولا عيب فيه بل العيب خلاف ذلك.

الكذب على الزوجة:

ورد في فتاوى بعض الفقهاء في مسوّغات الكذب، الكذب على الزوجة فما العلّة في ذلك؟

ــــ نحن لا نرى ذلك، ونرى أنّ الكذب محرّم على الزوجة وعلى الولد وعلى الأقرباء وعلى الأبعدين وعلى المسلمين وعلى الكافرين إلاّ في حالات الضرورة القصوى عندما تكون هناك مصلحة ملزمة أو مصلحة راجحة في الكذب، فالكذب محرّم بالنسبة لشخصية الكاذب.

فبعض الفتاوى تقول بجواز الكذب على الزوجة لأنّها تلاحق الزوج بطلباتها وتخلق له مشاكل في ذهابه وإيابه، فهو يكذب عليها ليريح باله، لكن ذلك لا يجوز، وتجوز التورية التي قد تكون كذباً في الظاهر لكنها صدق في الواقع.

 إنفاق الولد على الوالدين:

هل يجب على الولد سواءً الأكبر أو الأصغر الإنفاق على والديه وإخوانه وأخواته، وما هي حدود هذا الإنفاق؟

ــــ عليه أن ينفق على والديه إذا كانا فقيرين بما يسدّ حاجتهما الشخصية من مأكل ومشرب وسكن وملبس، وحتى التمريض.

نهيٌّ عن المنكر:

وأنا في طريقي إلى البيت شاهدت امرأة مؤمنة ظهر قسم من جسمها ممّا دعاني الحرص على توجيه كلام جعلها تغضب ولم تستجب، فما هو موقفنا في مثل هذه المشاهد؟

ــــ لقد أدّيت تكليفك وليس عليك شيء، وعلى الإنسان أن يوازن الأمور ويلاحظ طبيعة المسألة وطبيعة الظرف.

القيام للناس:

ما هو حكم القيام إذا دخل شخص إلى مجلس أو مكان ما، علماً أنّ حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "مَن أحبَّ أن يمتثل الناس له قياماً فليتبوّأ مقعده من النار"؟

ــــ إذا صحّ الحديث، فالمقصود منه ذاك الذي يعيش حالة الاستكبار وحالة الشعور أنّ من حقّه على الناس أن يقوموا له وأن يعظّموه وهذه خصلة أو صفة لا تدلّ على معنى التواضع، لأنّه ورد في دعاء مكارم الأخلاق: "اللّهم لا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلاّ أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها"، فهناك فرق بين مَن يقوم له الناس احتراماً، وبين من يعيش الإحساس في نفسه أنّ من واجب الناس أن يحترموه ومن واجبهم أن يقوموا له وما إلى ذلك، وقد قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) في تأكيد هذا المعنى "ما أحبُّ أن آخذ في رسول الله ما لا أعطي مثله"، يعني إذا كنت أحبّ أن يحترمني الناس باسم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلا بدّ أن أقدّم لهم بمستوى ما يعطونني إيّاه، وهكذا بالنسبة لك، فإذا أردت أن تأخذ من الناس ففكّر ماذا أعطيتهم.

مصافحة تارك الصلاة:

لي بعض الأقارب لا يصلّون ويصرّون على عدم الصلاة، فما حكم الأكل معهم، وما حكمي إذا صافحت تارك الصلاة ويده رطبة؟

ــــ ترك الصلاة إذا لم تكن عن عناد لا توجب النجاسة عند من يقول بنجاسة الكافر، وأمّا إذا كان عن عناد وعن رفض للصلاة بمعنى رفض لوجوب الصلاة من قبيل إنكار الضروري أو الاستخفاف بالصلاة أو الاستهزاء بها فعندئذٍ يكون حكمه حكم الكافر، وأمّا قضية أن تأكل معه فهذه مسألة من حيث المبدأ لا بدّ أن تقاطع مَن قاطع الله سبحانه وتعالى ولكن إذا كانت لك ظروف معينة ضاغطة فالله يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(1).

الشراء من الظالم:

هل يجوز الشراء من مبيعات الظالم أو من مبيعات المعين للظالم؟

ــــ من باب النهي عن المنكر لا يجوز، أمّا إذا لم يكن المورد من موارد النهي عن المنكر فيجوز.

المساعدة في الشؤون المنزلية:

أنا فتاة مؤمنة ملتزمة بأمور الدين تكلّفني والدتي ببعض الأمور المنزلية فأتكاسل عن أدائها بعض الأوقات، فهل هذا واجب شرعي عليّ أو لا، وإذا لم يكن واجباً شرعياً فهل هو واجب أخلاقي وإنساني؟

ــــ قد يكون واجباً شرعياً باعتبار أنّ الأهل لا يجب عليهم أن ينفقوا على أولادهم إذا كان أولادهم قادرين على العمل وعيالة أنفسهم، فالبنت في البيت قادرة على أن تعول نفسها على أن تشتغل في البيت مقابل أن تأخذ شرابها وطعامها من خلال ذلك، فإذا لم يكن ذلك واجباً بلحاظ ما ذكرت فهو ابن عم الواجب، وعلى الإنسان أن يحاول أن يطلب رضا الله تعالى وأن يطلب ثواب الله ولا إشكال في أنّ إعانة البنت لوالدتها ولأبيها ولأهلها هو من أفضل أعمالها عند الله سبحانه وتعالى.

السهر بعيداً عن الزوجة:

يسهر بعض الشبّان من العائلات المحترمة على لعب الشطرنج حتى ساعة متأخّرة جداً من الليل قائلين أنّها لا تلهيهم عن أمور دينهم بينما يتركون زوجاتهم حتّى ذلك الوقت بمفردهن في المنزل، فما هي نصيحتكم؟

ــــ الواقع أنّها تلهيهم عن أمور دينهم وتصدّهم عن ذكر الله لأنّهم مشغولون بالشطرنج، وتصدّهم عن الصلاة فقد يصلّيها أحدهم آخر الوقت أو يصلّيها على عجل وبدون توجّه، ثم أنّ من أمور دينهم رعاية عائلاتهم والقيام بمسؤولياتهم، لذلك فإنّ فتوى الحلّية في التسلية من قبيل "روِّحوا القلوب ساعة بعد ساعة" لا على أساس أن تستهلك كلّ وقتك بحجّة أنّها حلال، وقد ذكرت مراراً على نحو الطرفة أنّ لحم الغنم حلال فهل يأكل الإنسان عشرين رطل لحم في اليوم بحجّة أنّ اللّحم حلال؟! وأنّ شرب الماء حلال فهل يشرب 50 ليتراً في اليوم بحجّة أنّه حلال؟! صحيح أنّ ذلك حلال ولكن عليك أن تعرف كيف تمارس الحلال بما لا يثقل جسدك ولا يثقل حياتك ولا يثقل مسؤولياتك.

العزّة المفتعلة:

لقد ذكرتم مسألة العظمة والعزّة المفتعلة عند الإنسان، فلماذا نجد هذه الحالة حتّى عند أرباب الديانات مع أنّهم يعلمون {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}(1)؟

ــــ أن يعلموا أنّ العزّة لله جميعاً ليس من الضروري أن يعيشوا ذلك، لأنّ هناك مسافة بين أن تعلم المسألة وبين أن تعيشها في نفسك، وهذا هو الفرق بين الفكر وبين الإيمان، فالفكر معادلة عقلية مثل (1+1=2)، أمّا الإيمان فهو حالة يمتزج فيها الفكر بالروح والإحساس بحيث تصبح جزءاً من شخصية الإنسان.

وهذا الفاصل بين ما يقول الإنسان وبين ما يفعل ينطلق من الفاصل بين ما يفكّر فيه وبين ما يعيشه، ومن جهة ثانية، فإنّ بعضاً من هؤلاء يعتقدون في أنفسهم أنّهم يمثّلون الله وأنّهم هم الذين يتمظهر فيهم خطُّ الله سبحانه وتعالى فيعتبرون أنّ ما يعيشونه من عظمة هو عظمة الإسلام المتمثّل فيهم، ولذلك قد يخيّل إليهم أنّ إحساسهم بالعظمة هو إحساسٌ بعظمة ما يمثّلون لا بعظمة ما يعيشون وكثيراً ما يخلط الإنسان بين ذاته وبين رسالته فيخيّل إليه أنّه يدافع عن رسالته في الوقت الذي نجده يدافع عن ذاته، ولذلك فإذا كانت الرسالة عند غيره فإنّه لا يدافع عنها باعتبار أنّه لا يعيشها في نفسه وهذا ما ينبغي للإنسان أن يفكّر فيه.

إنّ مسألة أن يعيش الإنسان العجز في نفسه وأن يتواضع لله أكثر تنبع من إيمانه وإخلاصه، ولذلك فإنّ من يعيش مفهوم العزّة لله لا بدّ من أن يعيش مفهوم الذلّ أمام الله والتواضع في نفسه وهذا ما علّمنا إياه الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعاء (مكارم الأخلاق) الذي يريد للإنسان دائماً أن يدرس العناصر التي تدفعه إلى هذا الإحساس بالعظمة أو بالذات "اللّهم لا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلاّ أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها" وهذا ما عبّر عنه الحديث المروي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عندما كان يسمع مديح الناس له حيث يقول: "اللّهم اجعلني خيراً ممّا يظنون واغفر لي ما لا يعلمون" هذا الإحساس بالتواضع أمام الله سبحانه وتعالى هو الذي يجعل الإنسان لا ينتفخ عندما يعطيه الناس الانتفاخ الشعبي أو ما ناظره، بل يحاول دائماً أن ينظر إلى نفسه عندما يحدّث الناس به في نظرة إكبار وإعزاز.

 

الصلاة عند غير الملتزمين:

أنا شاب ملتزم أقوم أحياناً بزيارة أقاربي غير الملتزمين وعندما أهمّ بالصلاة أُلاحظ إنزعاجهم فما حكم الصلاة في بيوت هؤلاء مع العلم أنّهم يكرهون ذلك؟

ـــ إذا كان لا يرخّصونك بالصلاة في بيتهم فعليك أن تصلّي في مكانٍ آخر لأنّه حتّى إذا كانوا غير ملتزمين فلا يجوز لك أن تتصرّف في مالهم بغير إذنهم، ولذلك إذا كانت كراهتهم أنّهم لا يريدون منك أن تصلّي في بيتهم فعليك أن تصلّي في مكانٍ آخر.

الوفاء بالوعد:

يقول (صاحب الجواهر) بوجوب الوفاء بالوعد ولم يقل الفقهاء بذلك، فهل معنى هذا أنّه ليس واجباً شرعياً بل أخلاقياً وهل الدِّين إلاّ الخلق؟

ــــ  بالنسبة إلى الوفاء بالوعد فإنّ الوعد على قسمين: فتارة يكون إخلاف الوعد بأن تعد إنساناً وتضمر في نفسك أن لا تفي له، أي أنّك تقول تعال غداً في الوقت الفلاني وفي نيّتك بأن لا تفي به فهذا لا إشكال في حرمته لأنّه من الكذب، لأنّه عندما تقول له تعالى في الوقت الفلاني فإنّك تقول أنا أنتظرك في ذلك الوقت وأنا موجود في بيتي أو في دائرتي، في حين تعرف مستيقناً بأنّك لست موجوداً هناك فهذا كذب.

وهناك حالة أخرى وهي أن تعده ثم تحدث بعض الطوارئ وأنتَ قاصد لأن تفي بالوعد، فهل يجب عليك الوقوف لتطرد هذه الطوارئ التي تمنعك عن الوفاء بالوعد؟ بعض الفقهاء يقولون بأنّ الوفاء بالوعد مستحبّ وهو أمرٌ أخلاقي أي من الأخلاق المستحبّة، وليس من الأخلاق الواجبة، ولكن يذهب فقهاء آخرون إلى أنّه واجب وربما يستفاد ذلك من بعض الروايات إضافة إلى ما ورد في الدعاء "اللّهم إنّي أستغفرك لكلّ وعدٍ وعدته ولكلّ عهدٍ عاهدته ثمّ لم أفِ لكَ به" باعتبار أنّ الاستغفار من عدم الوفاء بالوعد كما هو عدم الوفاء بالعهد يدلّ على أنّه ذنب وخطيئة، ومعنى ذلك أنّه محرّم، لذلك فالمسألة هي محلّ خلاف بين الفقهاء وكلام السائل: هل الدِّين إلاّ الخلق، صحيح إنّ الدين هو الخلق ولكنّ الأخلاق على قسمين: هناك أخلاق إلزامية وهناك أخلاق إستحبابية.

المزاح الجارح:

هل يحقّ للإنسان أن يتكلّم مع صديقه بكلمات تجعل نفسيته مملوءة حقداً عليه كمثال العبارات الجارحة أثناء المزاح؟

ــــ لا يجوز ذلك إذا كان مؤذياً للصديق لأنّه لا يجوز إيذاء المؤمن.

زمن السوء:

هناك من الأحاديث ما تنهى عن حسن الظنّ في أزمنة لا يصحّ فيها بل يعتبر سذاجة فلمن يرجع تحديد تلك الأزمنة وما هو الخطّ الفاصل في ذلك؟

ــــ هناك حديث يقول "إذا غلب الفساد على الزمان وأهله وأحسن إنسانٌ ظنّاً بإنسان فقد غرّر وإذا غلب الصلاح على الزمان وأهله وأساء إنسان ظنّاً بإنسان فقد ظلم" وليس معنى ذلك أن يُسيء الإنسان الظنّ بالناس بمعنى أن يحكم عليهم بالسوء، ولكن أن يكون حذراً، فإذا كان الواقع سيّئاً كن حذراً ولا تستعجل الحكم بالحسن، فلدينا إذاً جانب حذر وجانب حكم فلا يجوز للإنسان أن يحكم على الناس وعلى الأوضاع بالسوء حتى لو غلب الفساد على الناس، وهكذا لا يجب على الإنسان الحكم بحسن الظنّ، كما لا يجوز له الحكم إذا لم تكن لديه حجّة، لمجرّد أنّ الصلاح غالب على الناس، لكن هناك فرقاً بين أن يكون الواقع العام صالحاً وعند ذلك تقلّ نسبة الحذر عند الإنسان لأنّه يستبعد إساءة الظنّ، وبين أن يكون أغلب المجتمع فاسداً فالحذر يكون مطلوباً في هذه الحالة. فالحديث كناية عن أن يكون الإنسان حذراً عندما يغلب الفساد على الزمان وأهله وأن لا يُسيء الظنّ وأن لا يكون حذراً أكثر من اللازم إذا غلب الصلاح، ونحن قد أمرنا بالحذر كما في قول الإمام عليّ (عليه السلام) في بعض كلماته في "نهج البلاغة" يقول "لا تثقن بأخيك كلّ الثقة فإنّ صرعة الاسترسال لا تستقال" أي أنّك عندما تريد أن تثق بإنسان فعليك أن لا تثق به 100% ضع نسبة 20% كحذر، وإلاّ إذا انكشف أنّ هذا الإنسان كان سيئاً أو أراد أن يدبّر لك أمراً فستكون الصرعة شديدة لا تقوم منها، ويقول (عليه السلام) "أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما وابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما". وهكذا جاء (اتقِ شرَّ مَنْ أحسنت إليه) لا كما يفهمها بعض الناس من أن كلّ مَن تحسن إليه سوف يأتيك الشرّ من جانبه فهذا خطأ، بل يعني احذر منه واتقِ شرّه فلا تستسلم لإحسانك فتقول أيعقل أن يضرّني إنسان خدمته وعملت له كذا وكذا، وكن حذراً منه لأنّ بعض الناس قد يتحوّل إحسانك إليهم إلى عقدة عدوانية فقد يسيئون إليك فاحذر من إمكانات الشرّ في ذلك، والله العالم.

كرامة الأخوة:

نحن ثلاث أخوة: ولدان وبنت، نعيش في الغرب في مدينة واحدة، والمشكلة هي أنّنا لا نكلّم بعضنا بعضاً، فمنّا مَن يدّعي أنّ كرامته أُهينت، والآخر بحجّة أنّه الأكبر ويفترض احترامه والاعتذار إليه، فما هي كلمتكم لنا؟

ــــ إنّ هذا المنطق ليس منطق الإسلام، فإنّ من سبق أخاه إلى صلته وإلى مصالحته كان السابق إلى الجنّة، فلا كرامة بين الأخوة، فالكرامة هي بصلة الرحم والكرامة هي بطاعة الله، والكرامة بصلة ما أمر الله به أن يوصل، والكرامة هي عند الله، فما قيمة كرامة تنطلق من كلمة اعتذار يقولها إنسان لآخر.

إنّ الكرامة هي عندما يقف الناس في المحشر، "إذا قيل للمخفّين جوزوا وللمثقلين حطّوا، أمع المخفّين أجوز أم المثقلين أحطّ"، فالإنسان الذي يهرع إلى الجنّة، إنسان ليس لديه هذه العقليات والعنتريات، فالكرامة هناك هي عندما يؤمر بك إلى الجنّة حتى لو كنت في موضع غير عالٍ في الدنيا، بل حتى لو أهينت كرامتك في هذه الدار وأنتَ تعيش كرامتك في طاعتك لربّك فالكرامة هي في الطاعة لله، ولذا فكّروا بالله عندما تفكّرون بالكرامة.

 

 

 

الألفاظ النابية:

هل يجوز شرعاً التلفّظ بالألفاظ النابية وما يستقبح ذكره؟

ــــ يحرم إذا كان موجّهاً إلى الإنسان الآخر في حالة الإهانة والتحقير والتنكيل، وهذا ما يوحي به الحديث المأثور عن أهل البيت (عليهم السلام): "إنّ الله يبغض الفاحش المتفحّش الذي لا يبالي ما قال ولا ما قيل له".

تأثير الحرام على الجانب الروحي:

تناول الحرام جهلاً هل يؤدي إلى إضعاف الجانب الروحي؟

ــــ هناك من يرى أنّ في الحرام خصوصياته التي تضعف الجانب الروحي لدى الإنسان، ولكن هذا لم يثبت تماماً. نعم إذا كانت فيه مفاسد مادية فمن الطبيعي أنّها تترك آثارها، أما إذا كان الإنسان مخلصاً لله ومنفتحاً عليه ولكنه تناول الحرام جهلاً فإنّ مسألة الروح تتّصل بالقلب وبالعقل أكثر من اتصالها بالجسد.

سبّ الله:

بينما أنا راكب بإحدى باصات النقل اليوم وإذا بشخص يسبّ الله وينزله منزلة القدم، فما هو واجبي تجاه هذا الإنسان وأنا لا أعرفه ولا أعرف إلى أي ملّة ينتمي، وهل لهذا الإنسان توبة؟

ــــ إنّ واجبك هو أن تنكر عليه ذلك بطريقتك الخاصة، وإذا كنت لا تستطيع أن تنكر عليه بالكلام القاسي أو ما أشبه ذلك، فإنّ عليك أن تنكر عليه ولو بالغضب البارز بوجهك، أو بما يشعره بسخطك، أما قضية التوبة، فإذا تاب هذا الإنسان فإنّ الله يتوب عليه.

 

 

 

 

الفاسق والعاصي:

ما الفرق بين الفاسق والعاصي أو هي ألفاظ لمعنى واحد؟

ــــ قد يطلق الفاسق على الكافر {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ}(1) ولكن المصطلح هو أنّ الفاسق هو الذي يتعدّى حدود الله في أن يترك واجباً أو يفعل محرّماً، وبذلك تلتقي كلمة الفاسق مع كلمة العاصي.

الكذب مزاحاً:

هل يجوز الكذب في محل المزاح وفي المجاملات؟

ــــ تارة يكذب الإنسان بقصد المزاح ليخدع الآخرين كما في (كذبة نيسان) فهذا حرام، والإمام زين العابدين (عليه السالم) يقول: "إتّقوا الكذب الصغير منه والكبير في هزلٍ أو جدّ فإنّ المرء إذا اجترأ على الصغير اجترأ على الكبير".

أمّا إذا كان الكذب من النوع الذي لا يقصد منه خداع الآخر، فإنّ الذي تتوجّه إليه الكذبة يعرف أنّ صاحبها مازح، فهو ليس كذباً لأنّه ليس في مقام الإخبار، فطالما أنّ كليهما يعرف أنّ المسالة مزاح في مزاح، فهذا ليس محرّماً.

موارد جواز الكذب:

ما هي المواضع التي يجوز فيها الكذب، والتي لا يجوز؟

ــــ الأصل في الكذب أنّه غير جائز في كل المجالات، لكنّه جائز في الإصلاح بين اثنين، أو لإنقاذ مؤمن (إحلف بالله كذباً ونجِّ أخاك من القتل) فلا يجوز للإنسان أن يكذب إلاّ إذا كانت هناك مصلحة عليا ملزمة، بحيث تكون أقوى من مفسدة الكذب. 

صلاة اللّيل:

أستيقظ لصلاة الليل وأرغب أن أُؤدّيها ولكنّي لا أستطيع كأنّ شيئاً ما يبعدني عنها فبماذا تنصحونني؟

ــــ المسألة مسألة إرادة فإذا ركّزت إرادتك فإنّ الله يعينك {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(1).

دائرة الدعاء:

هل تنحصر فائدة الدعاء في قضاء الحوائج أم له فوائد أخرى؟

ــــ يمثّل الدعاء عبادة الله والانفتاح عليه في موضع الخضوع له، كما يمثّل انفتاحك على الله من خلال إيمانك به، ومن خلال إحساسك بعظمته، ومن خلال شكرك لنعمته، فهو سبحانه القائل {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(2) فالدعاء هو انفتاح على عبادة الله ومن لا يدعو الله تعالى يعتبر مستكبراً عن عبادته، لذلك أدعُ الله حتّى وإن لم تكن لك حاجة، أدعه من خلال أنّك تريد أن تعبّر له عن حبّك وعن شكرك له وتلك هي قمّة الدعاء في كلّ أساليبه.

هذه هي روحية الدعاء فعندما ترتفع بروحك إلى الله فإنّك تجده عند حاجتك، وتجده عند آلامك وتجده عند همومك وعند فكرك وعند كلّ أوضاعك في الحياة، لأنّك تشعر أنّ الله وحده هو القوّة وأنّك تمثّل الضعف، وأنّ الله وحده المالِك وأنت المملوك، وهو المعطي وأنت السائل، وباختصار فإنّك عندما تعيش مع الدعاء هذه الروحية في إحساسك بالمحبّة وبينك وبين الله فمن الطبيعي أن تنقل إلى ربّك حاجاتك وأن تطلب منه أن يخفّف وأن يزيل آلامك وهمومك.

إنّ الدعاء يمثّل الوسيلة التي ينطلق بها الإنسان إلى الله من أجل أن يعبّر له عن كلّ ما في روحه وفي قلبه وفي حياته من حبّ "الحمد لله الذي أدعوه ولا أدعو غيره ولو دعوتُ غيره لم يستجب لي دعائي، والحمد لله الذي أرجوه ولا أرجو غيره ولو رجوتُ غيره لأخلَفَ رجائي، والحمد لله الذي وَكَلَني إليه فأكرمني ولم يكلني إلى الناس فيهينوني، والحمد لله الذي تحبَّب إليّ وهو غنيٌّ عني، والحمد لله الذي يحلم عنّي كأنّي لا ذنب لي، فربّي أحمدُ شيءٍ عندي وأحق بحمدي" فأن تعيش هذه الأجواء يعني أنّك ترتفع من كل واقع الحياة إلى مستوى الارتباط بالله.

السهو في الصلاة:

أُعاني من حالة سهو في الصلاة وأُفكّر في أمور دنيوية حتّى أنّ السهو يصل إلى حدٍّ ينافي الصلاة بدون أن أنتبه؟

ــــ هذه مسألة تحتاج إلى إرادة فكرية بأن تركّز فكرك في صلاتك عندما تبدأها، وأن تركّز في الكلمات التي تقولها، وفي الأفعال التي تقوم بها، حتّى إذا ابتعدت بك الأفكار عمّا انطلقت لتركّزه حاول أن تركّز من جديد وعند ذلك إذا لم يذهب ذلك عنك فإنّه يخفّ.

الطمأنينة في الأذكار:

هل تجب الطمأنينة في الأذكار المستحبة في الصلاة كقولنا (الله أكبر) و(بحول الله) وغيرها من الأذكار؟

ــــ لا تجب الطمأنينة في غير الأذكار الواجبة والأفعال الواجبة وإن كان الأفضل للإنسان أن يكون مطمئناً في كلّ صلاته.

الثقة بإجابة الدعاء:

عندما أدعو الله تعالى أحياناً يتباطئ عليّ بالإجابة أو أحياناً لا أُجاب في دعائي بالرغم من ثقتي بالله وكوني على طهارة كاملة؟

ــــ قد لا يستجيب الله تعالى دعاءك لأنّه لا مصلحة لك في الدعاء في هذا الشيء الذي دعوته فيه، وقد لا يستجيب لأنّ هناك حاجزاً يحجز دعاءك عن الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك لا بدّ أن تصبر فقد يستجيب الله دعاءك ولو بعد حين لأنّ شروط الاستجابة قد لا تتحقّق إلاّ بعد ذلك.

 

 

نوافل بلا توجّه:

لقد حثّ الإسلام كثيراً على الالتزام بالنوافل اليومية وصلاة الليل وأنا ممّن يحاول الالتزام بذلك، ولكنّني غالباً ما أصلّيها كمجرّد حركات فلا أستفيد منها، فهل عليّ أن أواظب عليها وأداوم عسى أن أنتفع بها على مرور الأيام، لأنّي أتألّم إذا تركتها لما فيها من الأجر؟

ــــ أنا أقول لك صلّها حتّى لو كنت لا تتوجّه الآن، لكن حاول أن تستحضر معنى الصلاة في نفسك ومقام ربّك فلعلّك وأنتَ مستمر عليها تنفتح على معانيها وعلى روحانيّتها.

الدعاء لقضاء الحاجات الخاصّة:

هل يجوز أن ندعو في الصلاة لقضاء حاجاتنا الخاصة؟

ــــ نعم يجوز لنا ذلك لأنّ الله يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(1)، أدعوني في حاجاتكم وادعوني في آلامكم وفي أحلامكم، والدعاء جائز في كل موقع من مواقع الصلاة إلاّ أن يكون دعاءً على محرّم، أي أن يدعو مثلاً على مؤمن لا يستحقّ ذلك أو ما إلى ذلك.

مفهوم التفكّر:

وردت روايات تؤكّد المفهوم القرآني للتفكّر لكنّها قالت إنّ فكر ساعة خيرٌ من عبادة سنة فكيف تفهمون ذلك، وما هو الموضوع الذي يفكّر فيه الإنسان؟

ــــ معنى (تفكّر ساعة خير من عبادة سنة) ينطلق من قاعدة وهي أنّ الإنسان يقترب إلى الله بمقدار ما يعيش فكره العقيدة بالله والمفاهيم التي يريد الله للإنسان أن يحملها والخطوط التي يريد للإنسان أن يتحرّك فيها حتّى العبادة فإنّ العبادة ليست مجرّد كلمات وحركات ولكنّها عمق في الوعي في كلّ ما توحي به هذه الكلمات والحركات، وإلاّ ما معنى أن تكون {الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}(2) كيف يمكن أن تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر إذا دخلت إلى صلاتك ولم تفهم معنى الجوّ الصلاتي والكلمة الصلاتية والفعل الصلاتي وكلّ ما يعيش من أحاسيس ومشاعر في قلب الصلاة، كيف يمكن ذلك؟ كيف يمكن لك أن تعبد الله وأنتَ لا تعرف ربّك، وكيف يمكن أن تعرف ربّك إذا لم تفكّر فيما خلق ولم تفكّر فيما أوحى ولم تفكّر في كل مسؤولياتك، لذلك عندما تفكّر فكراً واعياً عميقاً في الله وفي رسله وفي كتبه وفي إنسانيتك وفي كل المفاهيم التي يريد الله لك أن تحملها في نفسك وكلّ الخطوط التي تريد أن تسير فيها، عند ذلك تكون الركعتان اللّتان تصليهما بوعي خير من ألف ركعة تصلّيها من دون وعي، وقد ورد أنّ ركعتين يصلّيهما العالم. والمراد به العارف بالله ـــ خير من عبادة ستين سنة أو كذا ـــ يصلّيها العابد.

لذلك فالمراد فكّر حتى تعيش عبادة الله تعالى في هذه العقلانية الفكرية والروحية حتى تكون القريب إلى الله بعقلك لتكون القريب إلى الله بعبادتك وبحياتك، والله العالم.

الكلمة الطيّبة صدقة:

لماذا الكلمة الطيّبة أفضل من الصدقة؟

ــــ القرآن يقول {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}(1) فإذا دار الأمر بين أن تتصدّق على هذا الفقير ثم تقول في الليل وفي النهار أنا عملت لفلان كذا فالكلمة الطيّبة تحفظ له كرامته وهي أفضل من أن تعطيه صدقة وتهدر كرامته، نعم (الكلمة الطيّبة صدقة) وهذا الذي ورد عندنا، لأنّ هناك صدقة المال وهناك صدقة الإنسانية وهناك صدقة الكلام وصدقة الجاه وصدقة العلم وما إلى ذلك، ولكن إذا دار الأمر بين الصدقة التي يتبعها المن وبين الكلمة الطيّبة فقل الكلمة الطيّبة ووفّر على هذا الإنسان أن تهدر كرامته بالمن بعد الصدقة.

أجر النيّة في الأمر بالمعروف:

هل صحيح أنّ النيّة شرط في استحقاق الثواب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو قام المكلّف بالأمر بالمعروف لحبّه لهذا الفعل مثلاً ألَا يؤجَر ويُثاب؟

ــــ من الطبيعي أنّ كلّ عمل يعمله الإنسان لا يقصد به وجه الله فإنّه لا يستحقّ على الله شيئاً لأنّه لم يعمل هذا العمل لربّه ولكن ربّما تكون فيه القربة بشكلٍ غير مباشر لأنّ الإنسان إذا كان مسلماً وأحبّ عمل الخير وانطلق ليأمر بهذا الخير من خلال حبّه لهذا العمل فإنّه يختزن في ذاته حبّ هذا العمل باعتبار أنّه من قِيَم الإسلام، وباعتبار أنّه يحبّ الله فقد تكون نيّة القربة مختزنة في داخل الإنسان بحيث يتحرّك بها عفوياً من دون أن يقصدها بشكلٍ مباشر، هذا بالإضافة إلى أنّ بعض الفقهاء يقولون بأنّ بعض الأفعال الحسنة في ذاتها يحبّها الله تعالى فيثاب صاحبها إذا كان مسلماً.

حجاب حرجيّ:

ما هو رأيكم في مدى معصيتي لله تعالى في عدم ارتداء الحجاب إذا كان زوجي يرفض الحجاب رفضاً تامّاً بحيث إذا تحجّبت يطلّقني؟

ــــ في هذه الحال، إذا كانت المرأة مكرهة على ترك الحجاب، وكان تركها للحجاب يؤدي للطلاق، وكان الطلاق حرجاً عليها ـــ بما لا يتحمّل عادة ـــ فإنّها غير مأثومة، ولكن عليها أن تقتصر على المقدار الضروري، ففي الحالات التي لا يكون فيها زوجها موجوداً، كما لو خرجت للشارع لوحدها أو ما إلى ذلك. فإنّ عليها أن تلتزم بحجابها، والضرورات تقدّر بقدرها.

ليس حجاباً:

أرى الكثير من الأخوات يرتدين العباءة السوداء ويرى منهنّ ما فوق الزند من أيديهنّ كما تُرى الأساور والحلي أو مقدّم شعرهنّ فما هو الحكم الشرعي؟

ــــ هذا ليس حجاباً بل هو نوع من الحجاب "المموّظ" والمهم أنّ الإنسان إذا أراد أن يطيع الله فعليه أن لا يتعدّى حدود الله في الحجاب وغيره.

صورة بالبريد:

فتاة محجّبة أرسلت صورتها بدون حجاب في البريد والموظّفون في البريد أحياناً يفتحون الرسائل فهل يجوز النظر إلى هذه الصورة؟

ــــ كان السيّد الخوئي يحتاط للنظر إلى صورة المرأة التي كان يعرفها إذا كان ذلك يؤدّي إلى هتك حرمتها، أما إذا كان لا يوجب هتكاً أو لا يعرفها موظّف البريد فلا مانع من ذلك ونحن نوافقه في ذلك.

حضور الأعراس:

ما حكم حضور الأعراس؟

ــــ إن كانت الأعراس في أوضاعها وتقاليدها منسجمة مع ما أمر الله به وبعيدة عمّا نهى الله فلا مانع من حضورها، وإلاّ فلا يجوز حضور الأماكن التي يعصى الله فيها.

رياضة بآلات مغصوبة:

هل يجوز تنمية عضلات الجسم بأدوات مغصوبة أو مسروقة إذا لم أكن أنا الغاصب؟

ــــ لا يجوز للإنسان أن يتصرّف في المال المغصوب والمسروق سواءً كان هو الغاصب أو كان غيره غاصباً، وبذلك فإنني أخشى على هذا الإنسان الذي ينمّي عضلات جسمه بالمسروق والمغصوب أن يتدخّل الله ليبتليه بما يضعف عضلات جسمه أكثر عندما يطلب القوّة بضعف إيمانه. وإني أقول له أنّ تقوية عضلات جسمه بالآلة التي لا يرضاها الله قد تؤدي به إلى ضعف عضلات روحه وإيمانه، الأمر الذي يوجب سخط ربّه.

ما هو حكم من لعب بالآلات المغصوبة لمدةٍ طويلة ونمّى جسمه بها؟

ـــ عليه أن يستغفر الله من ذلك وعليه أن يطلب السماح من صاحبها، أو يدفع له عوضَ استعماله لهذه الأدوات، وإذا لم يعرف صاحبها فعليه أن يقيّم أجرة استعمال هذه الأدوات في تلك المدة ويدفعها إلى الحاكم الشرعي إذا كان صاحبها مجهولاً ليتصدّق بها عنه.

تشجيع الفرق غير الإسلامية:

ما حكم تشجيع الفرق الرياضية الأجنبية ضدّ الفرق الرياضية الإسلامية، علماً أنّ خسارة أو فوز الفرق الإسلامية لا يضرّ الإسلام ولا ينفعه في شيء؟

ــــ في ذاته ليس محرّماً، فأن يتحمّس شخص لفريق رياضي معيّن نتيجة حبّه للرياضة ولأنّه يقدّر الفن الرياضيّ فلا ضير فيه، ولكن عندما ندرس خلفية الموضوع في حبّ شخص لتفوّق فريق غير إسلامي على الفريق الإسلامي فإنّ هذا يدلُّ على ضعف في محبّته لإسلامه.

العبث البريء:

في كتابكم (خطوات على طريق الإسلام) وتحت عنوان دور عالم الدين الإيجابي وردت عبارة لم أفهمها وهي اللّهو والعبث البريء فما هو العبث البريء؟

ــــ العبث البريء هو العبث غير المحرّم كاللعب في البحر أو الرمال أو ما شاكل فهو اللّهو الذي لا ينطلق من فائدة أو منفعة بل تلهية للنفس وإشغالاً للوقت بعبث غير مجدٍ لكنه غير محرّم، وينقل أنّ مسبحة أهديت لشخص غربي قال: ما أفعل بها، فقيل له تتسلّى بها، فقال: هل أحصل بها على النقود، فقالوا له: لا، فقال فلماذا أبذل جهداً من غير منفعة، ونحن في الشرق نعيش الكثير من هذا العبث الذي يمكن أن يكون مريحاً للإنسان بطريقة أو بأخرى ومجدّداً لنشاطه شريطة أن لا يستهلك وقت الإنسان وطاقته.

تكليف من عاش في بيئة منحرفة:

ماذا يفعل من عاش في بيئة منحرفة لم يعرف فيها عن الدّين شيئاً من الصلاة والصيام وغير ذلك، فهل عليه شيء غير القضاء كفّارة أو غير ذلك؟

ــــ إن كان لا يعرف أنّ الصلاة والصوم واجبين ولم يخبره أحد بذلك، فلا يجب عليه الكفّارة، وأمّا إذا عرف بأنّهما واجبان ولكنّه تهاون، فيجب عليه القضاء والكفّارة معاً.

معاملة غير المسلمين بالحسنى:

أيّهما أقرب إلى الإيمان مقابلة غير المسلمين بالحسنى واحترامهم لأنّهم خلق الله أم اعتبارهم غير جديرين دائماً بالاحترام لأنّهم غير مسلمين؟  

ــــ قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ*إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ}(1).

فالمسألة هي أنّ علينا أن نقتدي برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي كانت أخلاقه أسلوباً من أساليب الدعوة، وعلينا أن نتذكّر قول الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ}(1). في دين أو في مذهب أو في سياسة أو عداوة أو في أي أمر شخصيّ {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}. وهذه تربية تحتاج إلى جهد فهي صعبة وما يلقاها إلاّ الذين صبروا وما يلقاها إلاّ ذو حظّ عظيم من الإيمان ومن الوعي ومن التقرّب إلى الله سبحانه وتعالى.

قصيدة مدح غير المسلم:

إذا نظم شاعر قصيدة في غير المسلم وذكر جانب مشرقاً في حياته فهل يأثم؟

ــــ لا يأثم إذا كان يقصد الجانب المشرق، فكما رأينا أنّ السيّد الشريف الرضيّ رثا أبا إسحاق الصابي وهو من الصابئة وذكره بصفاته الحميدة فلا مانع أن يذكر غير المسلم حياً كان أو ميتاً بصفاته الحسنة.

صور أبطال المسلسلات:

توجد في بعض المكتبات والأسواق اللوازم المدرسية والملابس التي تطبع عليها صور أبطال وبطلات الأفلام والمسلسلات فهل يجوز بيعها وشراؤها؟

ــــ لا أقول أنّه حرام ولكن قد يكون ابن عم الحرام في مثل هذه الحالة لأنّ في ذلك دعاية متحرّكة ومجانية أيضاً، ففي الراديو والتلفزيون تكون الدعاية للقمصان في مقابل مال معيّن وأنت تعمل دعاية مجانية لمن تسميهم الأبطال، وقد تكون دعاية للباطل ولما يثقل حياة الناس، لذلك هي قريبة من الحرام وقد تكون في كثير من الحالات معنونة بعنوان الحرام.

خضراء الدمن:

ما مدى صحّة الحديث القائل "إيّاكم وخضراء الدمن، قالوا وما خضراءُ الدمن يا رسول الله، قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المرأة الحسناء في منبت السوء" فهل أنّ المرأة المؤمنة هي من هذا الصنف إذا كانت من أب وأم غير متمسّكين بمبادئ الدين الإسلامي، مع العلم أنّها متمسكة بهذه المبادئ؟

ــــ ليس المقصود بهذا أن لا تتزوّجوا أيّ امرأة تنبت في منبت السوء، بل المعنى أنّه لا يشغلكم جمالها عن التفكير في الخصائص والعناصر الأخلاقية والتربوية الموجودة فيها، فلربّما ينطلق الشاب ليتزوّج فتاة حسناء نمت في بيئة سيّئة من دون أن يدرس تأثير البيئة عليها، فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول عليك أن تحذر من ذلك فلا تقبل على الجمال من دون أن تدرس عناصر الشخصية الأخرى لتعرف هل تأثّرت الفتاة التي تقدم على الزواج بها بمنبت السوء أم لم تتأثّر.

أمّا إذا تمرّدت على بيئتها وكانت أقوى من أهلها واستطاعت أن تكون مؤمنة فعليك أن تبادر إلى الزواج بها، لأنّ هذه الإنسانة تدلّل على قوّة شخصية وقوّة إرادة، بحيث استطاعت أن تنتصر على كل عناصر الإغراء وعناصر الضلال والانحلال ممّا يضمن له أنّها لا تنحرف في المستقبل أمام كل عوامل الانحراف، وهذا تماماً يشبه كلمة أمير المؤمنين (عليه السلام) "اتّق شرّ مَن أحسنتَ إليه" فإنّ بعض الناس يفهم الكلمة بأنّك تحاول أن تتّقي شرّ من تحسن إليه بأنّه سوف يعمل الشرّ معك وهذا غير صحيح، بل معناه: احذرهُ ولا تعتمد على إحسانك إليه لتستسلم له في علاقتك معه، بل حاول أن تحذر من مغبة الاستغراق في حسن الظنّ بالإنسان الذي أحسنت إليه فقد يكون من الناس المعقّدين الذين يزيدهم الإحسان عقدةً، بل عليك أن تكون حذراً فقط تستيقظ فيه بعض نقاط الضعف التي تستغلّ غفلتك واستسلامك للجوّ الحميم من خلال إحسانك إليه، كنْ حذراً دائماً والإمام عليّ (عليه السلام) يقول في كلماته القصار التي فيها الحكمة والتجربة الواعية (لا تثقنّ بأخيك كلّ الثقة) فلا تغمض عينيك عندما تمشي وراء أخيك ولا تثقنّ به كلّ الثقة بل اترك فاصلة بينك وبينه، (فإنَّ صرعة الاسترسال لا تستقال) فإذا كنت تمشي وراءه من دون وعي مشياً أعمى فإن أوقعك في ورطة فإنّك سوف لن تستطيع القيام منها كما في حركة السيارات، فلو فرضنا أنّ سيارة تسير بسرعة (160كم) في الساعة وأنّ أخرى تسير وراءها تماماً فإذا وقع حادث اصطدام فكيف تكون النتيجة؟

أمّا لو كانت المسافة بين السيارتين 20 أو 30 متراً فإنّ الحادث سوف يكون بسيطاً والقضايا المعنوية مثل القضايا المادية في مثل هذا المجال.

الزواج في الأشهر الحرم:

هل الزواج في الأشهر الحرم مكروه أم محرّم، وإذا كان محرّماً فهل يجوز الزواج في إحداهن علماً أن العقد قد تمّ قبل الشهر الحرام؟

ــــ الزواج طاعة لله تعالى ولا يحرّم في أيّ وقت إلاّ في حال الإحرام، أي إذا كان الإنسان مُحرّماً، ولكنّ المسألة المنظورة هي إظهار الفرح في الوقت الذي يعيش فيه الناس الحزن كشعائر، فهذا لا يتناسب مع الولاء لأهل البيت (عليه السلام).

فهل كنت تتزوّج ـــ مثلاً ـــ في أربعين أبيك أو جدّك؟ فهذه المسألة تتّصل بالجانب العاطفي الشعاراتي الولائي، فهو ليس محرّماً ولكنّ ذلك قد يكون من الناحية النفسية "ابن عمّ الحرام"!

الانغماس في طلب المعيشة:

يضيع كلّ نهاري وقسم من اللّيل في طلب الرزق وأحسّ بأنّ عمري كلّه يضيع منّي دون أن أستفيد منه وإنّي مقصّر في كل واجباتي الدينية والاجتماعية؟

ــــ طلبك للرزق إذا كان على منهج الحكم الشرعي هو عبادة وهو واجب ديني يثيبك الله عليه أجر المجاهد في سبيل الله وأجر العابد، ففي الحديث "العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال"(1) وفي الحديث أيضاً: "الكاد على عياله أعظم أجراً أو كالمجاهد في سبيل الله".

 

 

 

اهتمام الشهيد الصدر بالشباب:

مع احترامنا الكبير للمراجع، انصبّ اهتمام السيّد الشهيد على الشباب بما لا نظير له عند الآخرين، هل ينطلق ذلك من كونه شابّاً أو هذا من منطلقات الإسلام ومن مسؤوليات المرجع الديني؟

ــــ لا أعتقد أنّ لشبابيّته من حيث مرحلة العمر ـــ دخلاً في ذلك ـــ ولكنّه كما قلنا كان رساليّاً حركيّاً يعمل من أجل التغيير، ومن الطبيعي أنّ الشاب هو طاقة التغيير، حيث يمكن لك أن تغيّر فكر الشباب لأنّه لا يزال يعيش حركية الفكر، بينما الذين بلغوا من العمر سنّاً متقدّمة، فقد تكون مسألة تغييرهم من المسائل الصعبة، لذلك فإنّ الشاب هو الذي يفتح عقله للجديد لأنّه يمثّل جدّة الحياة، وهو الذي يملك الطاقة الكبيرة التي يمكن أن تعطي الرسالة حركيّتها وحيويتها، وأنْ تتحدّى القوى الكبرى.

ولذلك رأينا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد اهتمّ بالشباب وكان يرعى ما عندهم من قوّة، وكان اهتمامه بهم منطلقاً من أنّهم يشكّلون قوّة الرسالة فيما يتمتّعون به من طاقة حركية قابلة للتطوير والتغيير والإنتاج والثبات والصلابة والتحدّي، وتلك مسؤولية كلّ الذين يعيشون المسؤولية إنْ على مستوى المرجعية أو غيرها، حيث أنّ عليهم أن يعملوا على رعاية الشباب وعلى إنتاج فكرهم وحركيّتهم، وأن يفتحوا قلوبهم وعقولهم، ليفهموا الشباب جيداً، لأنّ أوّل شرط في الإنسان الرساليّ الحركيّ هو أن يفهم الناس، وأن يفهم كيف يفكّر الشاب وكيف يتألّم وكيف يحلم، وكيف يتطلّع، وأن يفهم نقاط ضعفه ليحوّلها إلى نقاط قوّة، وأن يفهم نقاط قوّته ليزيدها قوّة، فأن تكون مسؤولاً يعني أن تكون رساليّاً وأن يكون الشباب عقلاً وقلباً وأحلاماً وآلاماً وحركة كلّ مسؤوليتك.

 

 

 

أخلاق العمل عند الصدر:

عملتم فترة مع الشهيد الصدر وخاصة في "مجلة الأضواء" فما هي أخلاقُ العمل عنده، وكيف تصفون لنا تلك الأيام التي تشاطرتم العمل في ظروفٍ قاسية ومريرة، ولماذا توقّف الشهيد الصدر عن رفد مجلة الأضواء وكتابته إفتتاحيّتها؟

ــــ السيّد الشهيد (رضي الله عنه) كان يكتب الافتتاحية الأولى للأضواء وهي تحت عنوان "رسالتنا" وكنت أكتب الافتتاحية الثانية تحت عنوان "كلمتنا" وهي التي جمعت في كتابنا (قضايانا على ضوء الإسلام) وكنّا ندرس الواقع في حاجاته، فكان يكتب في الخطوط العامّة للرسالة، وكنتُ أحاول أن أكتب في الخطوط التفصيلية لحركة الرسالة في الواقع، فكان هناك تكامل بين تجربة "رسالتنا" وتجربة "كلمتنا".

وكانت أخلاق العمل عنده، أنّه كان الإنسان المتواضع الذي يعيش مع إخوانه الذين يتعاونون معه، وهو المميّز فيهم، وكان يعيش معهم كأحدهم، وكان يشجّعهم إذا أحسنوا وكان لا يبادرهم بالكلام القاسي إذا أخطأوا أو أساءوا، بل كان ينطلق بطريقة إنسانية غاية في الاحترام لحساسيات الآخرين.

وكانت هذه المجلة الإسلامية الرائدة التي استطاعت أن تفرض نفسها على الواقع الإسلاميّ في العراق بشكلٍ فاعل جدّاً تجاوز المسألة الطائفية بحيث أنّها كانت تقرأ من قبل المسلمين السنّة تماماً كما كانت تُقرأ من قبل المسلمين الشيعة، لأنّها أعطت خطّاً إسلامياً منفتحاً على كل الواقع الإسلاميّ ومتجاوزاً للذهنية الطائفية، حتّى أنّ النظريات المذهبية كانت تكتب بطريقة موضوعية علمية.

وانطلق السيّد الشهيد الصدر مع الأضواء حتى جاءت ضغوط فوق العادة من بعض شخصيات الحوزة ممّن لا يعيشون المسؤولية عن الإسلام كما يجب، وممّن كانوا يمثّلون موقعاً متقدّماً ولكنّهم لا يملكون أيّ شيء رساليّ يتعدّى دائرتهم الضيقة، بل ربما كان البعض      يتعقّد من أية رسالية حركية، ولكنّهم كانوا يملكون موقعاً يمكن أن يضغط، وتجمّعت الضغوط التي لم يستطع السيّد الشهيد في ذلك الوقت أن يتحدّاها من خلال طبيعة المرحلة لأنّها ربما جعلته يصطدم ببعض الجوانب الشرعية، لكنّه عندما امتنع عن كتابة رسالتنا كان يعطي فكرتها لبعض من يكتبها في أكثر من تجربة وكان توقّفه عن الكتابة خسارة كبيرة للفكر الإسلاميّ ومن خلالها نعرف كم تتحرّك ضغوط التخلّف من أجل أن تواجه حركة التقدّم مستغلّة نقاط الضعف في الواقع الذي يحيط بالقائمين عليها.

إحباط:

أحياناً يصاب طالب العلم بالإحباط واليأس الكآبة من خلال المشاكل في هذا الخطّ أو هذا النهج، فما هي نصيحتكم له؟

ـــ ليست المسألة محصورة في طالب العلم فقط، بل إنّ الكثيرين من الناس قد يصابون أمام ضغط الآلام أو ضغط المشاكل أو ضغط البلاء أو ضغط الواقع عليهم، قد يصابون بزلزال نفسي يجعلهم يشعرون بما يشبه الانهيار وبما يقترب من اليأس، وقد يصاب البعض عند ذلك بالكآبة لأنه يرى نفسه محاصراً من جميع الجهات من دون أن يجد هناك مخرجاً ومنفذاً من هذا الحصار وهذه الحالة النفسيّة المتأزّمة، فالكآبة والشعور بالإحباط تصيب الكثير من الناس الذين يواجهون الضغوط المتنوعة في حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والعاطفية والسياسية وما إلى ذلك.

ولكن على الإنسان أن يرفع رأسه إلى الله سبحانه وتعالى ليعرف أنّ الله قادر على كلّ شيء {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً}(1) حيث لا مخرج ومنفذ ولا منقذ إلاّ هو {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}، اعمل ما عليك من كلّ ما تستطيعه ثمّ توكّل على الله {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، فهو كافيه {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}، فإذا انفتحت على الناس فقد يدقّون على صدورهم ويقولون لك اعتمد علينا ولكنّهم لا يملكون الكثير من أمورهم فكيف يملكون الكثير من أمورك، لكنّ الله {بَالِغُ أَمْرِهِ} وانتبه إلى هذه النقطة {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}، فإذا تعطّلت حاجتك فاعرف أنّ الله قد جعل لها في ضمن نظامه الكوني وقتاً معيّناً وجعل لها شرطاً معيّناً فلا تسقط أمام هذه الحالة، حالة التأخّر في تلبية طلباتك لأنّك ربّما تطلب من الله شيئاً ويعلم الله أن لا مصلحة لك فيه، فاترك الأمر إلى الله سبحانه وتعالى {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}(1). 

وهكذا {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}(2)، {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}، أي أنّ من يتركه الله لنفسه فليس له هادٍ، وعلى هذا الأساس فلا بدّ أن تبقى عندنا الثقة بالله وأن تبقى لنا الثقة بأنفسنا من خلال ما أودعه الله من إرادة القوّة.

هذا في الجانب الإيماني، وأما في الجانب النفسي فإنّك إذا أصبت بالإحباط أو أصبت بالكآبة وغمرتك حتى بدأت تعيش حالة يائسة أمامها فلا تتركها تسيطر عليك، أدرسها وقل لنفسك لماذا أنا مكتئب، ثم أدرس كلّ ما حولك هل أنا مكتئب لقلّة ما في يدي، أو أنا مكتئب لحالة عاطفية أو لوضع اجتماعي أو لوضع عائلي أو لفشل في دراسة أو لفشل في مشروع. فإذا حاولت أن تستجمع كل العناصر التي يمكن أن تكون مصدر الكآبة نسيت هذه ونسيت تلك ولا بدّ لك في نهاية المطاف أن تضع يدك على المصدر الأساس، بذلك تستطيع أن تتعامل معها كما يتعامل الطبيب مع الداء لأنّك تستطيع بتفكيرك أو باستشارة الآخرين أن تكتشف الدواء لكآبتك لتتحوّل إلى حالة سرور وأنس.

أيّها الأحبّة: إنّ هذا الدواء الذي أصفه لكم هو دواء مجرَّب فعندما تهجم المشاكل لتغمركم فلا تسقطوا تحت تأثيرها وتعاملوا معها كما يتعامل الناس مع الفيضان عندما يطغي الماء، لماذا يطغي الماء ويفيض؟ لأنّ طاقة النهر لا تتحمّل ضغط هذا الحجم الكبير من الماء، لذلك كيف يتعامل الناس مع الفيضان، إنّهم يفتحون للنهر مسرباً من هنا ومسرباً من هناك فيخفّ الضغط وعند ذلك لا يعيش الناس ضغط الفيضان بالشكل المدمّر، إنّ فيضان المشكلة كفيضان الماء تماماً حاول إذا أطبقت عليك المشكلة أن تجد لها مسارب من هنا وهناك ليخفّ ضغطها عليك حتى يمكنك أن تفكّر بهدوء وأن تعالجها بهدوء.

الكآبة من الموت:

ما هو سبب الحزن والكآبة من الموت لمن بلغ من العمر فوق الستين سنة، وهل من علاج عمليّ واقعي ينطلق من الإسلام؟

ــــ هناك فرق في طبيعة هذا الحزن، فقد يكون إيجابياً وقد يكون سلبياً، فتارة يخاف الإنسان أو يحزن من الموت لأنّه متعلّق بالحياة بحيث لا يرغب في لقاء الله سبحانه وتعالى، فهو يحبّ الحياة لشهواتها ولذّاتها وانحرافاتها، وهو يكره الموت لأنّه يحبّ الحياة اللاهية العابثة، كما قال بعض الناس لأحد الصحابة: "لماذا نكره الموت؟ قال: لأنّكم خرّبتم الآخرة وعمّرتم الدُّنيا" فالإنسان لا يحبّ أن ينتقل من دار عمران إلى دار خراب.

وتارة يحزن المرء من الموت ويخافه لأنّه يريد أن يستزيد من العمل، ولأنه يخاف من أعماله السيئة فيريد أن يأخذ فرصة من الحياة ليصلح أخطاءه وليقوّم انحرافاته وليتوب من سيّئاته على هدى دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) في مكارم الأخلاق: "اللّهم عمِّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليّ أو يستحكم غضبك عليّ"، وهكذا في الدعاء المنسوب إليه في يوم الثلاثاء "واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير والوفاة راحة لي من كلّ شرّ"، أن تحزن من الموت حتى تستزيد من عملك الخيِّر في الحياة.

احترام نسل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

ألا تتناقض قضية احترام نسل الرسول أكثر من غيرهم عند الشيعة مع حديث "إنّما الناس كأسنان المشط"؟

ــــ ليس معنى ذلك أنّنا نحترم أبناء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى لو كانوا غير مؤمنين، والله تعالى يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ولذلك فإنّ علينا أن نحترم الناس جميعاً لتقواهم ولإيمانهم، أمّا قضية احترام النسل فعلى أساس احترام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهذه حالة نفسية، وإلاّ فإنّ أولاد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كأولاد غيره إذا عملوا بطاعة الله تعالى اكتسبوا القيمة بطاعتهم لا بنسبهم، وإذا عملوا بمعصية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانوا كغيرهم، بل ربّما أكثر حساباً، فكما ورد في حديث الإمام الصادق (عليه السلام) لبعض أصحابه (الحسَنُ من كلٍّ أحد حسن ومنكم أحسن لأنكم تنتسبون إلينا والقبح من كلّ أحد قبيح ومنكم أقبح لأنّكم تنسبون إلينا) وقد ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قوله (ما أحبّ أن آخذ برسول الله ما لا أُعطي مثله) فعلى الإنسان الذي يحترمه الناس باسم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يقدّم للناس عطاءً أو خدمة وخيراً بحيث تتناسب مع ذلك.

أجر العالِم:

يرجى شرح قول الإمام عليّ (عليه السلام) "لا يكون العالِم عالماً حتى تكون فيه ثلاث خصال لا يحسد مَن فوقه ولا يحقر من دونه ولا يأخذ على العلم ثمناً" من أين يحصل العالم على المورد المالي على معيشته؟

ــــ هناك فرق بأن يقول لهم أنا أعظكم موعظة بهذا المبلغ وبين أن يعظهم قربة لله تعالى {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}(1) فالله يتكفّل برزقه {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ}(2) فالإنسان كلّما اتّكل على الله أكثر صار الله سبحانه وتعالى يرعاه أكثر لأنّه ترك أمره إليه.

دفع الحقوق الشرعية:

والدي حادّ المزاج كثيراً ما يبتعد عن الحق في بعض الأحيان خلال التهاون في دفع الحقوق الشرعية ودفع حقوق الناس التي لهم بذمّته وأحاول من خلال الحوار الهادئ إقناعه بدفع الحقوق الشرعية وإيصال الحقوق للناس وإشعاره بالمسؤولية اتجاه نفسه خلال التزامه بكلّ مفردات الإسلام واتّجاه ربّه أيضاً، ولكنه لا يستمع الكلمة الطيّبة، فاضطر إلى أن أكون حادّاً معه بعض الشيء من خلال الكلام القاسي علماً أنّه يتأثّر عندما أقف هذه المواقف ويعيد النظر في أموره أكثر؟

ــــ إذا كانت الحدّة يمكن أن تقوده إلى طاعة الله وإلى دفع حقوق الله وحقوق الناس فإنّ الحدّة واجبة عليك في هذا المجال وأنت مأجور عليها لأنّك بذلك تهديه إلى الصراط المستقيم، ولقد قال شخص لأحد الأئمة (عليهم السلام) أو إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "إنّ أمي لا تردُّ يدَ لامس يعني أنّها "خفيفة" ويمكن أنّها تمارس الأشياء غير الشرعية فقال: "احبسها فإنّ ذلك برٌّ بها" فهذا من البرّ لأنّ من البرّ أن تقود والديك إلى الطاعة، بل يمكن أن نقول في هذه الحالات إذا كان الضرب يؤدي إلى الطاعة، أو الضغط الشديد الذي يجعل الإنسان الذي لا يصلّي يصلّي أو الذي لا يدفع حقوق الله يدفعها لله وللناس ففي هذه الحالة يجوز ذلك، وذلك تطبيقاً لقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قول لرابعة العدوية:

ما قولك في مقولة (رابعة العدوية) "ربّي عبدتك لا طمعاً في جنّتك، ولا خوفاً من نارك ولكنّني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك"؟

ــــ هذا القول ينسب لرابعة وهو منسوب للإمام عليّ (عليه السلام) أيضاً ويشكّك البعض في أنّ هذا دعاءً، فالإمام (عليه السلام) يقول: (إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجّار وقوماً عبدوه رهبة فتلك عبادة العبيد، وقوماً عبدوه شكراً فتلك عبادة الأحرار).

فإذا استطاع الإنسان الوصول إلى هذه المرحلة من الاستغراق في محبّة الله فتلك من المراحل المهمة والراقية في العبادة.

تعمّد عدم ردّ التحيّة:

يقول تعالى: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}(1)، هناك ظاهرة اجتماعية سيّئة وهي تعمّد عدم ردّ التحية، فكيف يمكن تطبيق هذه الآية عملياً، وهل يمكن القول بأنّ عدم ردّ التحية هو أسلوب إيحائي يتّخذ في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم إنّ عدم ردّ التحية غير مبرّر في كل الأحوال؟

ــــ ردّ السلام واجب شرعي، فإذا لم يرد الإنسان السلام فإنّه يأثم ويخسر كما ورد في الحديث "إنّ للسلام سبعين حسنة تسع وستون للمبتدأ وواحدة للرادّ، وإن أحسن فعشر" فالشخص الذي لا يردّ السلام يخسر الحسنات، وعلى كلّ حال فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يحصل بما يأثم الإنسان عليه.

ثقافة الحاسد:

هل تتبع مسألة الحسد ثقافة الإنسان، فنحن نرى أنّ بعض المنحرفين لا يحسدون بعضهم بعضاً؟

ــــ في الواقع أنّ ما نخشاه هو أنّه كلّما ازدادت ثقافة الإنسان كلّما كبر حسده، ولذلك ترى الله تعالى يتحدّث عن الذين آتاهم العلم فبغى بعضهم على بعض. إنّ مسألة الحسد هي مسألة التربية، فقد تجد هناك إنساناً يعيش مع الإنسان الآخر بطريقة واقعية منفتحة بحيث يشعر أنّ نعمة الآخر لا تمنع نعمته وأنّ مجد الآخر لا يمنع مجده وأنّ الدرجة العليا لدى الآخر لا تمنع درجته.

أيّها الأحبّة: إنّ الذي يحسد الناس هو إنسان يعيش الضعف في نفسه، إذ لماذا تتمنّى زوال النعمة عن المحسود، ما ذاك إلاّ لأنّك تخاف أن يغلبك أو أن يسقطك أو أن يضعفك، ولكن إذا كنت تشعر بقوّتك وبواقعية الحياة التي يلتقي فيها الناس حيث كلّ له موقعه فإنّك بذلك لن تخاف من الآخر إذا كان كبيراً لأنّ ذلك لن يمنعك من أن تكون كبيراًن لأنّ أيّ إنسان لا يستطيع أن يلغي الإنسان الآخر فإذا لم تلغ نفسك فإنّ الآخرين لا يستطيعون إلغاءك.

 

الحسد اللاإرادي:

الحسد حالة لا إرادية في بعض الأحيان فهل يأثم المرء إذا صارعها في ذاته دون التأثير على المحسود مادياً؟

ــــ لا يأثم الإنسان على ما يعيشه من مشاعر قهرية، ولكنّ الله يريد للإنسان أن يعقّل أحاسيسه وأن يضبط مشاعره كما يعقّل حركته، لكن لا إثم عليه، "وإذا حسدت فلا تبغ"، فالمهم أن لا يتحوّل حسدك إلى عدوان على المحسود.

تصرّف الزوجة في أموالها:

هل يحلّ للمرأة بدون علم زوجها إخراج الخمس أو القيام بالأعمال الخيرية من إنفاق وغيره؟

ــــ إذا كان السؤال عن تصرّف الزوجة في مالها، فإنّها حرّة في التصرّف في مالها سواء في إخراج الخمس الذي يجب عليها إخراجه حتّى لو رفض زوجها ذلك، أو في الإنفاق في الخير.

أمّا بالنسبة لمال زوجها فليس لها أن تتصرّف إلاّ بإذنه ولكن هناك فرضية قد يوحي بها السؤال هي لو كان الزوج لا يخمّس ماله، فهل تستطيع الزوجة أن تخرج خمس المال بدون معرفته أو لا، ففي هذه الصورة، إذا لم تكن هناك أيّة طريقة لإجباره، فإنّها ترجع إلى الحاكم الشرعي، فإذا رخّصها فيجوز لها ذلك.

إطالة الشعر كالنساء:

هل يجوز للشاب المسلم إطالة شعره بحيث يتشبّه بالنساء؟

ــــ إنّ الإطالة التي توجب التشبّه بالنساء قد لا تكون راجحة، باعتبار أنّ التأنّث مرفوض إسلامياً، وقد كان الناس يطيلون شعورهم في عهد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحيث تكون لديهم جدائل، فهذا يختلف باختلاف العرف، فإذا أقرّ العرف العام إطالة الشعر على هذا النحو فالمسألة تختلف.

الوشم على الصدر:

هل يجوز الوشم على الصدر مع انّه لا يضرّ طبّياً، ولماذا بالسلب والإيجاب؟

ــــ ليس محرّماً في ذاته إذا لم يكن مضرّاً ولكن نقول لماذا ذلك، فهل أنّ الوشم يمثّل حالة جمالية، أنا أعتقد أنّها مجرّد تقاليد يتبع فيها الناس بعضهم بعضاً من دون أن يعرفوا لماذا وكيف.

مشكلة لاجئ:

أنا لاجئ في السويد، ولقد مضى عليّ فترة طويلة هناك، وأخيراً تبيّن لي أنّ بقائي يقود أطفالي إلى الانحراف لا محالة، وزوجتي لا توافق على الخروج معي، فكيف التصرّف في هذه المشكلة؟

ــــ لا بدّ لك من أحد أمرين: إمّا أن تقنع زوجتك بذلك لتصل إلى النتيجة الإيجابية في الخروج من هذا البلد إلى بلاد إسلامية، وإمّا أن تبحث عن محضن إسلامي هناك يمكن أن ينمو فيه أطفالك على الإسلام، أما إذا لم تستطع هذا وذاك فيحرم عليك البقاء هناك، لأنّه يحرم التعرّب بعد الهجرة بالنسبة إلى الإنسان وبالنسبة إلى أطفاله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(1) فإذا كنت تخاف على أولادك من أنْ يتحرّكوا في طريق يؤدي بهم إلى النار فيحرم عليك البقاء، أترك زوجتك هناك إذا لم تأتِ معك وخذ أولادك إلى حيث تبني لهم شخصيتهم الإسلامية.

 

 

الفصل الخامس

المسائل الفقهية

 

"معنى أن تكون مرجعاً للمسلمين هو أن تكون واعياً لكلّ قضاياهم الفقهية في الجانب العملي ليكون رأيك معذراً لهم أمام الله".

 

 

 

 

أولاً: المرجعية والتقليد:

عمر المرجع:

هل لتقدّم العمر بالمرجع تأثير سلبي على فتواه؟

ــــ إذا كان عقله معه ووعيه معه، فقد يكون لتقدّم العمر تأثير إيجابي باعتبار نضج فكره ونضج عقله.

المفاهيم في عملية الاستنباط:

يلاحظ غياب المفهوم الإسلامي من حركة الاجتهاد حتى لتبدو عملية الإستنباط أقرب ما تكون إلى التخطيط الهندسيّ.. ولقد أكّد السيّد الشهيد على دور المفاهيم في عملية الاستنباط وذلك في كتابه "اقتصادنا" فهل يمكن إضاءة هذه الفكرة؟

ــــ هناك الاجتهاد التقليدي الذي يحاول أن يتتبّع الحكم الشرعي في البحث الفقهي في جسم الرواية الحرفيّ، بحيث يأخذ مضمون الرواية كحكم لا علاقة له بالمذهب الاقتصادي أو الاجتماعي أو التربويّ أو السياسي أو ما إلى ذلك، بل يأخذ مجرّد مفردة من المفردات التي لا علاقة لها بالمفردات الأخرى في الهيكل الفكري لمواقع الفقه الإسلاميّ.

ومن هنا فإنّنا لم نرَ في مدى الاجتهاد الإسلامي اكتشافاً لمذهب إسلاميّ اقتصاديّ أو تربويّ أو اجتماعي يمكن له أن يجمع المفردات التي تتّصل بهذا الجانب أو ذاك، ليؤسّس قاعدةً فكريةً يمكن أن يتمثّلها الناس ليفهموا طبيعة الحلول العامة التي يقدّمها الإسلام لمشاكل الإنسان في الحياة، ولذا بقي الفقه قطعاً متناثرة بالرغم من كلّ التحقيق والتدقيق في توثيق الروايات، وفي تفسير القرآن وفهمه وما إلى ذلك.

ولكنّ المنهج الذي اتّبعه السيّد الشهيد (رضي الله عنه) يعتمد استخراج المفاهيم من خلال جسم الأحكام، حيث لا بدّ أن نفهم دلالة النص الاقتصادية في حركة الاقتصاد أو دلالته الاجتماعية والتربوية، حتى نجمع هذه الدلالات في هيكل معين يمكن أن ننتج منه مذهباً اقتصادياً أو تربوياً، كما فعل السيّد الشهيد في كتابه "اقتصادنا".

فالواقع أنّه كان يعاني في تركيز المذهب الاقتصادي في الإسلام من أنّ كل الفتاوى التي يمكن استخلاص المذهب الاقتصادي منها ليست فتاواه، فهو في بعض الأحيان يستنطق فتوى "الشيخ الطوسيّ" في جانب ويستنطق فتوى مجتهد آخر في جانبٍ ثانٍ بالإضافة إلى فتواه لأنه كان في صدد إخراج مذهب اقتصاديّ إسلاميّ من خلال هذا التراث الإسلاميّ، بقطع النظر عمّا إذا كان يوافق على هذه الفتوى التي تعتبر إحدى مفردات المذهب الاقتصادي أو لا.

وكان يحاول تطوير هذا المنهج، وإنّني أعتقد أنّه لو استمرّ به الزمن لغيَّر الكثير من الفتاوى على أساس ما يمكن أن يصل إليه من تطوّر في حركته الفقهية لأنّ فكراً كفكر السيّد الشهيد لا يمكن أن يجمد حتى عند رأيه، بل إنّه يظلّ حركيّاً يتحرّك في كثير من الآفاق التي يمكن أن تعطيه فهماً جديداً أو أفقاً جديداً.

جناحا المرجعية والعمل والحركي:

ذكر تلميذه الفقيه السيّد "كاظم الحائري" في مقدّمة كتابه "مباحث الأصول" مقولة للسيّد الصدر "أنّ الأمة تطير بجناحين: هما المرجعية والعمل الحركي" فما هو تعليقكم؟

ــــ من خلال تخطيط السيّد الشهيد للمرجعية وللعمل الحركي، كان يرى أنّهما يتكاملان، فالمرجعية تعطي "النظرية والخط العملي" فيما العمل الحركي يعطي "الخطّة التنفيذية والتفصيلية".

وإذا كانت المرجعية الواعية الرائدة تمثّل القيادة الفكرية للعمل الحركي فمن الطبيعي أنّهما لا ينفصلان بل يعطي كلّ واحد منهما ما يملك من قوّة فكرية وحركية للآخر.

التشكيك الحوزوي بالسيّد الشهيد:

تعتقد الأمة أنّ الحوزة الدينية هي القلب النابض لها، وهي التي تتصدّر عملية التغيير في الأمّة، فكيف تفسّرون التحدّيات التي واجهها السيّد الشهيد الصدر وما تعرّض له من تشكيكات من داخل الوسط الحوزويّ؟

ــــ إنّ مشكلة السيّد الشهيد سواء في داخل الحوزة أو خارجها هي مشكلة كل إنسان رسالي وكل إنسان جاء إلى الواقع ليغيّره، وكلّ إنسان جاء للناس ليقول لهم لا تتحرّكوا على أساس {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}(1) سواء كانت المسألة مسألة آبائهم الذين كفروا أو آباءهم الذين تبنّوا آراء تحتمل الخطأ والصواب.

إنّ مشكلة السيّد الشهيد والذين عاشوا الرسالة معه وقبله وبعده أنّهم قالوا للناس تحمّلوا مسؤولية الفكر، فكّروا من جديد كما فكّر الآخرون من قبلكم، فإنّ الآخرين لا يملكون فكراً من ذهب ليكون فكركم من فضّة، ولأنّ الآخرين لا يملكون أشياء غيبيّة في العلم ممّا لا تملكونه أنتم، فعلى كلّ جيل أن يصنع فكره حتّى إذا كان موافقاً لفكر الآخرين فإنّه يصنعه ليعتقده كما اعتقده الآخرون، لا ليقلّد الآخرين به.

فمشكلة كل من يفتح طريقاً جديداً للفكر وللحياة، وكل من يريد أن ينقذ الواقع من الخرافة، وكل من يريد أن يخرج الذهن من التخلُّف، وكل من يريد للناس أن يفكّروا في الهواء الطلق وفي الصحو المشرق، وكلّ من أراد للناس أن يخرجوا من ظلمات جهلهم وتخلّفهم فإنّ الناس يرجمونه بالحجارة.

مَن الشهيد الصدر؟ مَن نحن؟ مَن كل هؤلاء؟ إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي جاء بما يصدم الشرك وبما يصدم العادات والتقاليد قالوا عنه أنّه "ساحر" و"كذّاب" و"مجنون" و"شاعر" وقالوا.. وقالوا.. وسقط كلّ ما قالوا وبقي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رسول الله ينطلق متحدّياً كل تخلّف وكلّ شكّ، ويبقى السيّد الشهيد وكل الذين يفكّرون بإشراق وبمسؤولية ليكون المستقبل هو الذي يحتضن فكرهم إذا كان الحاضر لا يحترم ذلك.

تقويم الشهيد الصدر لحركة المرجعية:

منذ مئات السنين والمرجعية تعيش الدور الذاتيّ، ولا زالت تعيش وكأنّها في القرون الخالية، في وقت ينبغي أن يكون عملها أسرع وتيرة ودقّة للوفاء بمتطلّبات العصر وتحدّياته، كيف تقيّمون ما طرحه الشهيد الصدر في وقت مبكر لتقويم حركة المرجعية، وما هو السبيل لتطبيق المشروع المشار إليه؟

ــــ إنّنا نعتقد أنّ من الضروري للمرجعيات الحاضرة والمستقبلية أن تدرس مشروع السيّد الشهيد وما يشبهه من المشاريع في تطوير حركة المرجعية واكتشاف الآلية التي يمكن أن تحوّل المشاريع إلى واقع، لأنّ بعض المشاريع قد تحتاج إلى واقع منفتح على وسائلها وعلى أساليبها، باعتبار أنّ بعض الضغوط قد تمنع واقعية تلك المشاريع، فعلينا أن نفكّر دائماً كيف نطوّر هذه المشاريع حتى نستطيع أن نطوّر عملنا الإسلاميّ نحو الأفضل.

دور العلماء الحركيّين في التبليغ:

تنطلق صيحات هنا وهناك لمنع العلماء الحركيين من العمل في مجالات التبليغ الإسلامي، وهذا، كما سمعنا منكم، يتنافى مع رؤية الشهيد الصدر عن دور العالم ومسؤوليته عن الحركة الإسلامية وعن التبليغ؟

ــــ لعلّ بعض الناس يطلقون مثل هذه الكلمات لأنّهم يتصوّرون أنّ الإنسان إذا كان حركياً فإنّ معنى ذلك أنّه لا ينفتح على الأمة كلّها بل ينغلق على دائرته الحركية ليفضل جماعته على الآخرين.

إنّنا نقول بأنّ الإنسان الذي يفكّر بهذه الطريقة ليس حركيّاً، لأنّ المسألة هي ليس أن تكون حركيّاً لحزبك، بل أن تكون حركيّاً لإسلامك، وأن تحوّل حزبك إلى حركة منفتحة على الأمة  لتحضن الأمة كلّها، بحيث لا تحاول أن تخرج الذين يتبعونك عن الإسلام، فقد جمع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو نبيّنا وإمامنا وقدوتنا وأسوتنا الذي خطّ لنا الطريق، جمع الذين دخلوا الإسلام برغبة ورهبة ممّن قال الله تعالى فيهم {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}(1) حتى أنّه وضع سهماً من الزكاة للمؤلفة قلوبهم.

فعندما يكون المبلّغ حركياً منفتحاً على الإسلام كلّه وعلى المسلمين كلّهم وتمثّل حركته الأسلوب العمليّ لتطوير الواقع كلّه لرفع مستوى الجاهلين والمتخلّفين وتقوية مستوى العالمين والمنفتحين، عند ذلك يكون الأفضل لأنّه يعيش حركية الإسلام في عقله وفي قلبه وفي علاقاته بالناس.

فليست المسألة مسألة المبلّغ الحركيّ، فإنّ بعض الناس ممّن يتعقّد من المبلّغ الحركيّ لا يتعقّد من المبلّغ الذي يتعصّب لذاته، أو الذي يتعصّب لبعض الأشياء الطارئة في المجتمع. فليست المسألة أن تكون حركيّاً أو لا تكون لتنفتح على الناس، وإنّما هي أن تكون متعصّباً لنفسك أو لحزبك أو لمذهبك أو لطائفتك أو لإقليمك، أو أن تكون ملتزماً بذلك.

إنّ التعصّب يغلق عقلك عن الآخرين والالتزام يفتح عقلك وقلبك عليهم، فعندما ترى أنّ من حقّك أن تفكّر وأنّ من حقّ الآخرين أن يفكّروا بطريقة أخرى حتّى لو أخطأوا يبقى الحوار بينكما مفتوحاً للوصول إلى النتيجة الفاصلة في ذلك كلّه.

قرار الاستشهاد:

ذكر لي أحد السادة العلماء الأفاضل أنّه كان مبعوثاً من قبل أبيه للسيّد الشهيد ليقول له عليك أن تغادر البلد، فقال له الشهيد الصدر (إنّي وضعت روحي وقلبي على راحة يدي) فهل كان عليه أن يفدي روحه أو يغادر البلد؟

ــــ كان كما ذكرنا ـــ يفكّر بذهنية حسينيّة ـــ ولم يكن الحسين (عليه السلام) فيما كان يقرأه السيد الشهيد، لم يكن يفكّر كما كان يريد منه "عبد الله ابن الزبير" أو "ابن عباس" و"ابن الحنفية" وغيرهم، لم يكن يفكّر بنفسه ولكنّه كان يفكّر بمسؤوليته، وكانت القضية واضحة لديه، وهو الفقيه التقي المخلص لله ولرسوله وللإسلام كلّه، فكان لا يقدِّم رجلاً ولا يؤخِّر أخرى حتّى يعلم أنّ ذلك لله رضا.

تقليد غير المعصوم:

المرجع يخطئ ويصيب وهو ليس بمعصوم فكيف نقلّد من يخطئ ويصيب؟

ــــ كلّ أصحاب الخبرة يحتمل فيهم الخطأ والصواب، ولكنّنا عندما نجدهم يتحرّكون في اجتهاداتهم من موقع إرادة الصواب فإنّ علينا أن نعتمدهم كما نعتمد على أهل الخبرة الآخرين، فإذا لم نعتمد على المراجع والفقهاء غير المعصومين في الفقه، فعلى أي أساس نعتمد على الأطباء والمهندسين وهم يخطئون ويصيبون، فالرجوع إلى المجتهد إنّما هو نموذج لرجوع العقلاء إلى أهل الخبرة، ونحن نعرف أنّ أحداً لم يقل أنّ أهل الخبرة معصومون.

العدول إلى الميّت:

كنت مقلّداً للسيد الخوئي وبعد وفاته بعدّة سنوات قلّدت السيّد السبزواري وقد توفي فهل يجوز لي أن أرجع في تقليدي للإمام الخوئي مع علمي أنّه لا يجوز العدول إلى الميّت؟

ــــ لا بدّ لك أن تحدّد المسألة من خلال المرجع الذي ترجع إليه الآن، فإذا كان هذا المرجع يوجب البقاء على تقليد الميت الأعلم وكنت ترى أنّ الميت الأعلم هو السيّد الخوئي لأنّك قلّدته قبل أن تقلّد السيد السبزواري فتقليدك للسيّد السبزواري كان خطأ فعليك أن ترجع إلى مقلّدك السابق أي أنّك باقٍ على تقليدك بحسب تقليد الحيّ الذي يقول لك لا بدّ أن ترجع في البقاء على التقليد للحيّ، فإذا كان يقول ذلك يجب عليك البقاء على تقليد الميّت الأعلم وهو عندك السيّد الخوئي، فمعناه أن تقليدك الطارئ للسيد السبزواري كان خطأ ولذلك لا بدّ أن تبقى على تقليد السيد الخوئي، أمّا إذا فرضنا أنّ ـــ الحي لا يوجب عليك ذلك ولكنّه ـــ يجيزه فإذا عدلت فعليك أن ترجع إلى الميت إلاّ إذا قلّدت من يجيز تقليد الميت ابتداءً وبقاءً.

فتوى بغير معرفة المقلّد:

سأل شخص خطيباً منبرياً مسألة فقهية فأجابه الخطيب ولم يسأل عن مقلّده، فاكتشف السائل أنّ الجواب لم يكن مطابقاً لفتوى مقلّده، وقد راجع ذلك الخطيب فقال له إنّني أجبتك على وفق المرجع الفلاني، ولقد عمل هذا الشخص وفق الفتوى أياماً كثيرة فهل يعيد عمله أم ماذا؟

ــــ عليه أن يرجع إلى مقلّده في هذه المسألة فقد يكون رأيه الإعادة أو عدم الإعادة لأنّ الأعمال تختلف حسب طبيعة العمل.

 

الفتاوي والعرف:

ما هو السرّ في تشخيص الفقهاء لحرمة الكثير من الموضوعات السائدة في العرف الاجتماعي كتعليم المرأة قيادة السيارة وهل تجب مراعاة ذلك العرف؟

ــــ تعلّم السياقة للمرأة ليس محرّماً في ذاته ولكن إذا أوجب هتك حرمة المرأة أو المؤمن فقد يحرم بالعنوان الثانوي.

سنّ تكليف الفتاة

متى تكلّف الفتاة شرعاً؟

ــــ الأحوط وجوباً أنّها تكلّف في التاسعة هجرية.

الأُسس النظرية لفقه الحياة

ما هي الأُسس النظرية والضوابط العملية التي تجب مراعاتها في إظهار الاستنباط الفقهي حتى يصبح الفقه فقهاً للحياة حقاً بحيث يتحرّك في الشوارع والأسواق وتقرّ له الجماهير بالحاكمية في كلّ الظروف؟

ــــ نحن نعتبر أنّ الإسلام في فقهه هو الذي يحرّك الحياة، فالله تعالى يقول لنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}(1)، فكلّ دعوة الله في مفاهيم العقيدة، وكل دعوة الله في مفاهيم الشريعة، وكل دعوة الله في المنهج هي دعوة للحياة.

فالله سبحانه يريد من خلال الإسلام أن ينظّم لنا الحياة الدنيا لتكون مزرعة للآخرة لنعيش فيها حاجاتنا ونحرّك فيها قضايانا، ونتحمّل فيها مسؤولياتنا في رسالتنا.

أمّا كيف يستنبط الفقيه الفقه ليكون فقهاً للحياة، فذلك يحتاج إلى أن يعيش الفقيه إلى جانب الضوابط والقواعد الاجتهادية الفقهية والأصولية روح الإسلام في كلّ القضايا التي فرضها على الناس، أي أن لا ينظر إلى جسم التشريع فحسب بل إلى روحه أيضاً، وعندما نتحدّث عن روح التشريع فإنّنا لا نتحدّث عن حالة مزاجية لأنّ الإنسان قد ينطلق بالهوى وليس من خلال المنهج الصحيح، ولذا علينا أن نفهم القضايا من خلال القرآن، فإذا عرفنا مثلاً أنّ الله يريد للناس من خلال تشريع الزواج أن يحصّن الرجل والمرأة فمن الطبيعي أن يكون هذا الهدف حاكماً على كلّ الفتاوى وكلّ الأدلة التي تتحرّك في تشريع العلاقة بين الرجل وبين المرأة.

وهكذا، نعرف من الحديث "لا ضرر ولا ضرار" أنّ الله لا يريد للناس أن يقعوا في الضرر، ومن هنا اعتبرنا هذه القاعدة حاكمة على كلّ أدلّة الأحكام إلاّ ما كان موضوعه الضرر، وهكذا أيضاً عندما نستلهم من قول الله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(1) نعرف أنّ الله عندما حمّلنا مسؤولية أحكامه فإنّه لا يريد لنا أن نقع في المشقّة وفي الحرج في امتثال أحكامه، ولذلك يلتزم الفقهاء بأنّ قاعدة نفي الحرج تحكم على كلّ الأحكام فتقيّدها وتحصرها في دائرة ما لا حرج فيه ولا مشقة، وهكذا إذا قرأنا قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(2) فنعرف أنّ الإسلام قام على أساس اليسر لا العسر فيمكن لنا أن نستلهم الكثير من الأحكام في هذا المجال في عملية الاستنباط، وهكذا إذا قرأنا {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}(3) فإنّنا نعتبر أنّ تكريم الله للإنسان هو قاعدة إسلامية يمكن لنا أن نجعلها تحكم على كلّ الموارد التي تقف ضد كرامة الإنسان.

والخلاصة هي أن يفهم الفقيه القرآن فهماً منطلقاً من حالة وعي لروح القرآن ومفاهيمه بالوسائل العلمية التي يفهم فيها الكلام والتي يستنبط فيها المسألة، ثم ينطلق ليواجه واقعه الذي يعيش فيه، لأنّ مشكلتنا الآن مع كثير من الاستنباطات الفقهية هي أنّ الكثيرين من فقهائنا يجتهدون في القضايا التي كان يعيشها الناس قبل ألف سنة، فمتون الفقه هي ممّا قد مضى على بعضها ألف سنة أو (800) سنة. فالفقهاء في الماضي كانوا يجتهدون للأمور التي هي محلّ ابتلاء الناس عندهم وقد ذهبت هذه الأمور من خلال تطوّر الواقع، فأنت ترى مثلاً حتى الآن أنّ فقهائنا يطرحون في الرسائل العملية أحكام العبيد والإماء لأنّ الفقهاء السابقين تحدّثوا عن العبيد والإماء في حين أنّه ليس عندنا اليوم في العالم الإسلامي كلّه عبيد أو إماء. وهكذا قد ينطلقون في أمور تدخل في الرسائل العملية وهي ممّا لا يمكن أن يتحقّق مثل أمور العلم الإجمالي وما إلى ذلك، فهي قابلة للتصوّر في الخيال ولا يبتلى بها الإنسان، ولذلك أقول بأنّ هناك جهداً ضائعاً يبذل في قضايا لا يبتلى بها الإنسان مع أنّ هناك الكثير من الأمور التي فرضها تطوّر الواقع وتطوّر الحاجات وتطوّر الابتلاءات بحيث بتنا نحتاج إلى فقه جديد لا في أحكامه بل جديد في فروعه، وإلى فقه جديد من خلال العناوين الجديدة التي أصبحت تفرض نفسها على الواقع، وهذا هو الذي يجعل الإنسان يفكّر في الفقه على أساس أن يعيش مع الحياة ويشعر بأنّ هذا الفقه هو حياته، وهو حاجاته وهو أوضاعه.

العنوان الأوّلي والثانوي:

ما معنى العبارتين محرّم بعناوينه الأوّلية أو حلال بالعنوان الأوّلي محرّم بالعناوين الثانوية، مع الأمثلة؟

ــــ إنّ الحرام بالعنوان الأوّلي يعني الفعل الذي أنزل الله حرمته في أصل التشريع كما في مسألة الخمر والميسر {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}(1) وكما في مسألة الزنا {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً}(2) وكما في مسألة الميتة فهي محرّمة بالعنوان الأولي لكنّها لمن اضطر إليها تصبح جائزة بالعنوان الثانوي.

أمّا الحرام بالعنوان الثانوي مثل شرب الماء، فشرب الماء حلال بالعنوان الأولي لكن إذا فرضنا أنّ إنساناً أجريت له عملية جراحية وكان شرب الماء قبل العملية أو بعدها خطراً على حياته فيصبح شرب الماء حراماً بالعنوان الثانوي فيما هو حلال بالعنوان الأولي، وهكذا في الكثير من الموارد التي قد ينقلب حكمها من حرام إلى حلال أو من حلال إلى حرام تبعاً للعنوان الثانوي، وما أكثر العناوين الثانوية التي تعيش في حياتنا وحياة الآخرين، ولكن لا بدّ للإنسان المؤمن ـــ وهذه نقطة جديرة بالاعتبار ـــ أن لا يتساهل في ذلك بل عليه أن يدقّق حتى يعذر إلى الله في تحديد العنوان الثانوي وفي تحديد الحكم الذي ينطبق عليه.

 

البقاء على تقليد الشهيد الصدر (رضي الله عنه):

أنا من مقلّدي السيّد الصدر (رضي الله عنه) وباقية على تقليده ولكنّني أجهل حكمه في أمور كثيرة فماذا عليّ أن أعمل، علما أنّني أرجع إلى فتاواه لأرى الجواب الشافي؟

ــــ لا بدّ لك في البقاء على السيّد الشهيد (رضي الله عنه) بالرجوع إلى الحيّ، الذي يجيز البقاء على تقليد الميّت، أما إذا لم يكن له فتاوى في هذا الجانب أو ذاك فعليك أن تأخذي الفتاوى من الحيّ الذي تقلّدين في المسائل التي له فيها فتوى وحكم والذي رجعت إليه في البقاء على التقليد.

الأدلة على الأحكام:

إنّ كتاب المسائل الفقهية يخلو من الأدلة على الأحكام فهو من هذه الناحية مختصر ويعطي الفتوى مباشرة وذلك لا يكفي بالنسبة للمؤمن المثقّف حيث يحتاج إلى أن يعرف الدليل الشرعي ليكون أكثر اقتناعاً ويتمكّن من مناقشة غيره، فنرجو أن تكون الرسائل العملية حاوية على الأدلة ولو بشكل مختصر؟

ــــ من الصعب جداً القيام بذلك، فالرسائل العملية لا تحوي عادة كلّ الأدلة لأنّ الإنسان العادي لا يستفيد من ذلك، ولقد صدر كتاب "فقه الحياة" وفيه نوع من الاستدلال الميسر الذي يمكن للإنسان أن يعرف الأدلة على الأحكام الواردة فيه، كما صدرت عدّة كتب فقهية لتقريرات أبحاثنا ويمكن للسائل أن يطلّع عليها.

التقليد العاطفي:

شخص قلّد أحد المراجع بشكل عاطفي، أي أنّه تعاطف معه فقط وهو يريد العدول فما هي الطريقة؟

ــــ إذا فرضنا أنّ تقليدك كان على غير أساس بلحاظ العاطفة فالتقليد غير صحيح فعليك أن تعدل لمن تطمئن به وتستطيع أن تجد أُسس التقليد موجودة فيه إذا حصل لك الاطمئنان المستقرّ غير العاطفي من خلال دراستك للشخص أو الشياع أو شهادة الشهود أو ما إلى ذلك.

كتاب لتعلّم الفقه:

ما هو أفضل كتاب لتعلّم الفقه بالنسبة لطالب العلم؟

ــــ هذا يختلف بحسب مرحلة الطالب، فهناك طالب في المرحلة الأولى يمكن أن يقرأ الرسالة العملية أو الشرائع، شرائع الإسلام للمحقّق الحلّي (رحمه الله) أو اللّمعة وشرحها للشهيدين العامليين الأول والثاني (رحمهما الله)، وهناك (فقه الإمام جعفر الصادق) للشيخ محمد جواد مغنية (رحمه الله) وهو من خيرة الكتب الفقهية لغير المختصين.

تقليد السنيّ للشيعيّ:

أنا شاب سنّي فهل يجوز لي تقليد سماحتكم؟

ــــ إنّ عملية التقليد تتبع مسألة المذهب، فإذا اقتنع الإنسان بالخطّ الفكريّ والمذهبيّ فيجوز له ذلك.

تقليد المرأة الجامعة للشرائط:

ورد في كتابكم (فقه الحياة) ما يفهم بأنّه يجوز تقليد المرأة الجامعة للشرائط مع العلم أنّ الارتكاز الشرعي هو في عدم الرجوع إلى المرأة لشرط الذكورة في مواصفات المرجع؟

ــــ كنا نقول من الناحية العلمية تبعاً للكثير من الفقهاء وفي مقدّمتهم السيّد محسن الحكيم (رضي الله عنه) في (المستمسك) والشيخ محمد حسين الأصفهاني في (بحث الاجتهاد والتقليد) والكثير من الفقهاء، إنّ قضية التقليد هي من باب رجوع الجاهل إلى العالم، وإذا كانت القضية كذلك فلا دخل للأنوثة والذكورة في هذا المجال، فلقد قلنا أنّ القضية من حيث القاعدة العلمية لا غبار عليها ولكنّها لم تصل إلى درجة الفتوى لما ذكرناه من أنّ الارتكاز الشرعي يرفض ذلك، ولذلك نحن نتحفّظ في ذلك.

مضمون الرواية المطابق للعقل:

هل يطرح مضمون الرواية المطابق للعقل إذا كان الراوي ضعيفاً في الكتب الرجالية؟

ــــ إذا كان في الرواية بعض العناصر المحيطة بها أو في داخلها ممّا يوجب الوثوق بها بحيث تكون رواية موثوقة وإن كان الناقل غير ثقة، لأنّنا لا نجد هناك أيّة ضرورة للكذب، فيمكن أن يعمل بها لأنّنا نقول بأنّ الحجّة هو الخبر الموثوق نوعاً وليس الحجّة هو خبر الثقة فحسب.

ولاية الفقيه وتعدّد المرجعية:

هل ولاية الفقيه التي طرحها الإمام الخميني الراحل (رضي الله عنه) تلغي التعدّدية في المرجعية؟ ما أثر التعدّدية على ولاية الفقيه؟

ــــ تعتبر المرجعية حالة ثقافية، إنّ صحّ التعبير، أي أنّ من يلتزم برأي المرجع فإنّه يقلّده في الأحكام الشرعية، والولاية هي حالة تنفيذية، ولذلك هناك فرق بين المسألتين إذ لا علاقة بالمرجعية بالولاية وقد تلتقي المرجعية بالولاية فيكون المرجع ولياً وقد لا تلتقي، ونحن نعرف أنّ الإمام الخميني (رضي الله عنه) في آخر حياته أعلن الفصل بين المرجعية وبين القيادة باعتبار أنّه يشترط في المرجع الأعلمية وربّما لا يتوفّر في الأعلم صلاحية القيادة وقد لا تتوفّر الأعلمية فيمن له صلاحية القيادة، ولذلك أعلن قبل وفاته (رحمه الله) بالفصل بين القيادة والمرجعية كام هو الواقع.

والمرجع هو كل مجتهد عارف بأمر زمانه، عدل، وهناك من يشترط فيه الأعلمية وهناك من يشترط الممارسة الطويلة وما إلى ذلك.

نيّة التبعيض:

إذا كان الفقيه يجيز لمقلّديه التبعيض في التقليد فهل يشترط عند رجوعه إلى الفقهاء الآخرين النيّة بحيث يكون رجوعهم عن نيّة؟

ــــ النيّة هي أنّه إذا أراد أن يعمل أو يترك فإنّه يعمل أو يترك على أساس التزامه بفتوى هذا الفقيه.

 

المسائل الاحتياطية:

هل أنّ الاحتياط الذي يذكره الفقهاء في رسائلهم العملية يعد فتوى للفقيه أو يمكن للمكلّف تركه والانتقال إلى فقيه آخر؟

ــــ إذا كان الاحتياط استحبابياً وهو الذي سبقته الفتوى أو لحقته الفتوى فيجوز للإنسان أن يتركه أما إذا كان الاحتياط وجوبياً فلا بدّ للإنسان أن يلتزم به، لكن يجوز له أن يرجع إلى فقيه آخر.

التقيّة في التقليد:

هل يجوز التقيّة في تقليد مرجع من المراجع أي أنّني أقلّد هذا المرجع أمام الناس أما في الباطن فأنا أُقلّد شخصاً آخر؟

ــــ مع الأسف أنّنا نبتلى في حالة من الحالات التي يحتاج فيها الناس إلى التقيّة في إعلانهم تقليد هذا المرجع أو ذاك، إنّ هذا من التخلُّف في ممارسة الإسلام وفي فهم الإسلام.

تقليد على غير الأساس الصحيح:

زوجتي تدّعي أنّها تقلّد أحد المراجع المتوفّين لأنّ أهلها يقلّدونه لكن لا هي ولا أهلها يعرفون المعنى الشرعي للتقليد ولم يتعلّموا فتاواه بل يملكون الرسالة العملية له، فما هو تكليفها الشرعي الآن؟

ــــ لا بدّ أن تقلّد الحيّ سواءً كانت تفهم معنى التقليد للمرجع المتوفّى لتبقى على تقليده أولاً، لأنّ البقاء على التقليد لا بدّ أن يكون بفتوى الحي الذي يجيز البقاء على التقليد، وإذا كانت لا تفهم التقليد وإنّما هي لقلقة لسان فعليها أن تقلّد الحيّ وأن تستفتيه في أعمالها السابقة.

الالتزام بفقيه مدى الحياة:

هل عناك نصّ شرعي يلزم الإنسان بأن يتبع أو يلتزم بفقيه معيّن طوال حياته علماً بأنّ هناك فقهاء كثيرين لهم آراء وفتاوى لم يتعرّض لها الفقيه الذي اتّبعه أو قلّده؟

ــــ عندنا في ذلك نظريتان: هناك نظرية تقليد الأعلم فإذا انحصر الأعلم بواحد فمن الطبيعي على ضوء هذه النظرية أنّك تتبعه وتستمر إذا لم ينشأ شخص أعلم منه في حياته، فإذا نشأ شخص أعلم منه في حياته فعليك أن تتبعه. أمّا إذا كان هذا الأعلم ليس له فتاوى فعند ذلك ترجع إلى الأعلم فالأعلم، أي إلى الأقرب علماً من مرجعك فالأقرب.

أمّا إذا فرضنا أنه لا يجب تقليد الأعلم، ونحن نقول بذلك، كما أنّنا لا نرى أنّ هناك أعلم في المرحلة الحاضرة لأنّ لكلّ ورد رائحة فيجوز للإنسان أن يتخيَّر.

ثانياً ـــ النجاسات والطهارة:

غسل الجنابة:

المعروف أنّ غسل الجنابة واجب، ولكن لماذا الحكم بالغسل لجميع البدن بالترتيب، مع أنّ موضع الجنابة محدّد؟

ــــ أمّا قضية الغسل لجميع البدن لأنّ الجنابة لا تجب نجاسة البدن بالمعنى الذي يكون البدن فيه نجساً وإنّما ينجس موضع الجنابة بالمنيّ فقط، فإنّ هناك بعض الأحاديث التي تعطي فكرة تقريبية وإن لم تكن علّة لذلك، تقول إنّ هناك فرقاً بين الجنابة والبول ففي حال البول هناك عضو معيّن يتحرّك من أجل إخراج هذه المادة، لكن بالنسبة إلى الجنابة فإنّ الجسد كلّه يشارك في عملية إخراج النطفة، فكأنّ البدن يمني كلّه، فلذلك أُريد أن يغسل البدن وهي حدث أكبر كما يقال، ويعني نجاسة حدثية وليست خبثيّة، والله العالم.

أمّا قضية الترتيب فتقتضيها طبيعة الغسل عندما يغتسل الإنسان بالماء القليل بينما ليس في الإرتماس ترتيب.

مسّ الميّت بالقفاز:

هل يجب غسل مسّ الميّت بعد برده بالموت قبل تغسيله لو أمسكه من خلف قفّازين نايلون؟

ــــ يجب الغسل عندما تمسّه بالبشرة وبلا حائل.

الغسل الارتماسي:

في الغسل الإرتماسي هل يجوز النزول مرة واحدة، وخاصة إذا لم يكف الوقت لتغلغل الماء إلى بشرة الرأس، فهل يجوز الخروج من الماء ومن ثمّ العودة إليه؟

ــــ لا بدّ في الغسل الإرتماسي من الإتيان به دفعة واحدة، بحيث يبقى المغتسل داخل الماء ليوصله إلى جميع أجزاء جسده، وإلاّ فهو غسل غير ارتماسيّ.

شكوك في الطهارة:

ثبت أنّ كلّ شيء طاهر حتّى نعلم أنّه نجس، لكنّنا نبتلى بهذه المسائل: 1ــ الشكّ بكرّية الماء. 2 ــ الشكّ بالسراية أو عدمها. 3 ــ الظنّ بكليهما. 4 ــ الشكّ في حالة الوسوسة.

ــــ أمّا في حالة الشكّ بكريّة الماء فعلينا أن نبنى على عدم كرّيته إلاّ إذا كان مسبوقاً بالكرّية وشككنا في نقصه أو ارتفاع كرّيته.

ـــ أمّا في حالة الشكّ في السراية (سراية النجاسة إلى الجسم الآخر) فإنّ الأصل هو عدم السراية.

ــــ وفي حالة الظنّ بكليهما، فإذا كان الظنّ بمستوى الاطمئنان فيجوز العمل به.

ــــ والشكّ في حالة الوسوسة يعني أنّ الشاكّ ـــ في الغالب ـــ وسواسيٌّ فعليه أن يعمل كما يعمل الوسواسيّ.

المسح على الشعر الاصطناعي:

في البلدان الغربية بدأ الأطباء يعالجون الصلع بواسطة زرع شعر اصطناعي غير قابل للنمو، والسؤال هل يجوز الاكتفاء بمسح هذا الشعر عند الوضوء؟

هذا الشعر مثل الباروكة إذ ليس هناك فرق بينهما، ولذلك فهو ليس جزءاً من الجسد ولا يجزي المسح عليه.

 

 

الأظافر الطويلة:

هل تتأثّر الصلاة بإطالة الأظافر؟

ــــ لا علاقة لها بالصلاة ولكن لها علاقة بالجانب الشرعي الإستحبابي لأنّه يستحبّ أن يقلّم الإنسان أظافره شرعاً، وعادة إطالة الأظافر أخذناها من غيرنا وعلينا أن لا نخضع لغيرنا من العادات التي لا معنى لها.

كما أنّ علينا أن نسأل أنفسنا أولاً على أي شيء ترتكز العادة، وقبل ذلك نسأل هل تنسجم مع خطّنا الشرعي أو لا، إذ ليست المسألة مسألة واجب وحرام بل علينا أن لا نترك المستحبّات بل وأن نتجنّب المكروهات أيضاً حتّى وإن لم تكن إلزامية فهي تكمل الشخصية الإسلامية، وعندنا أحاديث تشير إلى أنّ النقص الحاصل في الفرائض تكمّله النوافل.

تطهير الأجهزة النجسة:

كيف نستطيع تطهير الأجهزة الكهربائية المتنجّسة علماً أنّنا لا نستطيع تطهيرها بالماء، لأنّ ذلك يتسبّب بإتلافها؟

ــــ عليك أن تتعامل معها كما تتعامل مع أي شيء متنجّس إذا لم يمكن تطهيره، ويمكن تطهير الغطاء الخارجي عند فصلِهِ ثم تجفيفه وإرجاعه إلى محلّه.

دم الكتابيّ:

رجل كبير في أميركا تعرّض لحادث دهسٍ ونقل إلى المستشفى وعملت له عملية جراحية وأثناء العملية احتاج إلى دم وأعطي زجاجتين من الدم لا يعرف مصدره والغالب في تلك البلاد هم النصارى، فما حكم هذا الدم؟

ــــ له أن يأخذ من دم النصراني وغير المسلم خصوصاً في مثل الحالة المذكورة.

 

 

 

الفاضل من الاغسال:

ما حكم الماء المتقطّر عند غسل اليد المتنجّسة بالبول أو غيره أو عند غسل الثوب كذلك وأيضاً عند غسل الفم من الدم حيث يتقاطر بعض الماء من أثر المضمضة، فما حكم هذه القطرات؟

ــــ  إذا كانت القطرات متخلّفة عن الغسلة الأولى وكان الشيء ممّا يطهر بغسلة واحدة ولم يكن فيها شيء من عين النجاسة فيكون طاهراً في الغسلة الثانية، فما يسقط من الغسلة الأولى يكون نجساً ولكن في الغسلة الثانية يصبح طاهراً.

الدم المتخثّر على الجروح:

ما حكم الجروح والخدوش باليد أو الجسم بعد أن يتخثّر الدم عليها من حيث الطهارة والوضوء والغسل؟

ــــ إذا فرضنا أنّ الدم المتخثّر كان موجوداً في أعضاء الغسل وفي أعضاء الوضوء وبقي الجرح مفتوحاً وجمد الدم عليها فلا بدّ من المسح على الجبيرة، وإذا لم تكن هناك جبيرة فيغسل ما حولها ولا يغسلها والأحوط إضافة التيمّم.

المواضع التي لم يصلها الماء:

بعد أن أنتهي من غسل الجنابة يتبيّن لي أنّ هناك مناطق صغيرة لم يصلها الماء فأقوم بغسلها، فما هو حكم الغسل؟

ــــ إذا كانت هذه الأعضاء في جسدك لا في رأسك ولم تكن قد أحدثت بحدث البول أو غيره فيمكن لك أن تغسلها تتمّة للغسل ولا شيء عليك.

حيض أو استحاضة؟

ــــ تستمر الدورة عندي ثلاثة أيام وليلتين متوسطتين وبعدها يتغيّر لون الدم إلى بنّي فهل هذا الدم الأخير يعتبر استحاضة أم أنّه من ضمن الدورة؟

ــــ إذا كان في أيام الدورة فيعتبر حيضاً حتى لو كان بصفات دم الاستحاضة، أمّا إذا كان خارج أيام الدورة الطبيعية فهناك رأيان: رأي يقول إنّه إذا وقف على العشرة فالجميع حيض، ورأي آخر يقول إنّ الدم خارج الدورة إذا كان بصفات دم الاستحاضة فيعتبر استحاضة.

طهارة الإنسان البوذي:

إذا كان رأيكم هو طهارة الإنسان فهل يسوغ لي أن أستخدم في بيتي بوذيّة بدون محاذير؟

ــــ إذا كانت المسألة أنّك تلتزم هذا الرأيّ ممّن يفتي به فلا مشكلة، ولكن ماذا تصنع بالناس الذين تستضيفهم في بيتك وهم يقلّدون من يقول بالنجاسة، أو ما تصنع بالناس الذين تساورهم ويساورك الشكّ من رأي مقلّديهم، فالمشكلة هنا اجتماعية وإن كانت في جانبها الفردي قابلة للحلّ. ومن جهة أخرى هناك مشكلة تربوية فربّما يخلق وجود البوذية في بيتك وضعاً لا ينسجم مع التقاليد الإسلامية.

تأخير غسل الجنابة:

ما حكم تأخير غسل الجنابة إلى وقتٍ آخر؟

ــــ غسل الجنابة إنّما يجب من أجل الصلاة ومن أجل ما يُشترط فيه الطهارة، فإذا لم يكن الإنسان في وقت صلاة فلا مانع من أن يؤخّر الغسل إلى الوقت الذي يصلّي فيه.

المواقعة أثناء الطُهر:

في آخر يوم من أيام الطهر الشرعي ما حكم المرأة إذا واقعها زوجها؟

ــــ إذا كانت قد طهرت طهراً كاملاً ولم تغتسل فلا مشكلة في ذلك، وإن كان الأحوط الانتظار إلى ما بعد الغسل، ولكن إذا كانت لم تطهر فقد فعل حراماً، وإن كانت هي مكّنته من نفسها فعليها الحرام أيضاً، وهناك بعض العلماء يرون الكفارة وجوباً في الجماع حال الحيض، وهناك من يراها احتياطاً استحبابياً وهو ما نراه.

 

التنضيد أثناء الدورة:

ما حكم المرأة التي تنضد على الكمبيوتر أثناء دورتها الشهرية فيما لو أرادت صفّ آيات من المصحف مباشرة أو آيات واردة في مقال، خاصة وأنّها تحتاج إلى المتابعة من المصحف وقد تلامس كلمات المصحف في هذه الأثناء؟

ــــ لا يجوز لها أن تلامس كلمات المصحف، ولكن لا مانع من أن تصف الحروف وأن تنضّد الحروف القرآنية بشرط عدم الملامسة عندما تصير الحروف كلمةً قرآنية.

كحول العطور:

معظم العطور عندنا في البلاد الغربية تحتوي على كحول، فما هو حكمها؟

ــــ هي طاهرة ولا إشكال فيها من هذه الجهة.

الرضاعة والطهارة:

هل يجب على المرأة أن تكون طاهرة تماماً لكي ترضع طفلها؟

ــــ الطهارة ليست شرطاً في إرضاع الطفل.

دهون لتغيير لون البشرة:

هل يجوز استعمال الدهون حتى نغيّر لون البشرة؟

ــــ لا مانع من ذلك ولكن إذا كانت في مواضع الغسل فلا بدّ من أن لا تتحوّل إلى حاجب عن وصول الماء إلى البشرة.

بعد الاستبراء والغسل:

مع إنّي أستبرء بالبول قبل غسل الجنابة إلاّ أنّني كثيراً ما أرى بقايا تخرج مع التبوّل بعد الغسل فهل عليّ أن أُعيد غسلي على رأي السيد الخوئي؟

ــــ لا يجب مع الاستبراء إعادة الغسل، إلاّ إذا عرف بأنّه مني، لكن إذا شكّ في ذلك يحكم بأنّه ليس منيّاً.

 

اختلاط المطر بماء الوضوء:

فيما شخص يتوضأ سقط المطر عليه واختلط بماء الوضوء فهل يبطل وضوءه؟

ــــ لا يبطل الوضوء في هذا الفرض، نعم إذا فرضنا كانت يده مبتلّة بماء الوضوء واختلط ماء المطر بعد أن غسل يده فالإشكال في المسح لأنّ ماء المطر يصبح ماءً جديداً في هذه الحال.

غسل الاستخارة:

ما معنى غسل الاستخارة؟

ــــ يعني أن يغتسل الإنسان ليستخير الله بحيث يصلّي ركعتين ويدعو الله أن يخيّر له الخير.

غسل الجنابة بماء البحر:

هل يصحّ الاغتسال غسل الجنابة بماء البحر؟

ــــ نعم يصحّ، لأنّه ليس ماءً مضافاً، أي إنّه ليس ماءَ ملحٍ وإنّما هو ماءٌ مالح.

جرح في جسد الميّت:

إذا كان في جسد الميّت جرح ولم يمكن إيقاف النزيف بأي حال فهل تجوز خياطة الجرح؟

ــــ نعم يجوز ذلك ثم يطهّر إذ لم يكن هناك طريقة إلاّ هذه أو يلصق الجرح لإيقاف النزف.

ثالثاً ـــ الصلاة والإقامة:

الإقامة في وطنين:

من اتّخذ وطنين يقيم في أحدهما في شهر رمضان، فإذا سافر إلى الوطن الثاني في اليوم الثاني هل يوجب ذلك الإفطار؟

ــــ إذا كان قد سافر قبل الظهر ولم يصل إلى وطنه الثاني إلاّ بعد الظهر فعليه أن يفطر، ولكن إذا وصل إلى وطنه الثاني قبل الظهر فيمكن له أن يجدّد نيّة الصوم ويكمل صومه، وإذا خرج من وطنه بعد الظهر فهو صائم وعليه البقاء على صيامه.

السجود على المكتوب:

ما هو المقصود بعدم جواز السجود على المكتوب؟

ــــ لا يحرم السجود على الورق المكتوب لأنّ الكتابة لا تمثّل شيئاً حاجزاً. نعم لا يجوز السجود على الملبوس والمأكول في المذهب الإمامي الإثني عشري.

المرور أمام المصلّي:

هل يجوز أن نمر أو نقف أمام المصلّي، وهل إذا فعلنا ذلك تبطل الصلاة؟

ـــ ليس محرّماً ولكنه مكروه ولا تبطل صلاته بذلك.

لغة إمام الجماعة:

ما هو رأيكم بصلاة الجماعة خلف من لا يجيد العربية، علماً أنّ المأموم يجيد العربية أفضل من الإمام؟

ــــ إذا كانت قراءته صحيحة على حسب قواعد اللّغة العربية فصلاة الجماعة صحيحة.

إدراك الجماعة:

لو أدركت صلاة العشاء مثلاً في الركعة الثانية مع الإمام فماذا أفعل لكي أتمّ الصلاة أربع ركعات؟

ــــ إنّ عليك أن تصلّي في الركعة الثانية معه، فإذا جلس للتشهّد الأوسط فإنّ عليك أن تتجافى يعني أن ترفع ركبتيك قليلاً وتكون في حالة المنتظر ثم تقرأ الفاتحة وهو يقرأ التسبيحات، فإذا استطعت أن تقرأ سورة معه فبها وإلاّ فيمكنك أن لا تقنت ولا تقرأ السورة وإذا خفت أن لا تستطيع متابعته وتركع معه ثم تتشهّد ويقوم الإمام وتسبّح معه فالركعة الثالثة لك والرابعة للإمام تستطيع أن تقوم من السجود إلى الركعة الرابعة أو تنتظر انتظار التجافي إلى أن يقول الإمام السلام عليكم ورحمة الله فتقوم لتكمل صلاتك.

مسافة القصر:

وردت في القرآن آية واحدة في "سورة النساء" تحكي عن القصر في الصلاة في حالة الخوف، فما هو الدليل على تحديد المسافة بــ "22" كم لكي يقصر المكلّف الصلاة؟

ــــ هناك دليل ورد في السنّة من أنّ القصر لا بدّ فيه من ثمانية فراسخ وهي تبلغ ما يقارب الــ (4) كلم، باعتبار أنّ المسافة ملفّقة من الذهاب والإياب فالقرآن تكلّم عن حالة الخوف، غير أنّ السنّة الشريفة تكلّمت عن القصر في السفر بشكلٍ مطلق.

صلاة العيدين:

هل صلاة العيدين واجبة؟

الفتوى هي أنّها في هذا الزمن مستحبّة وليست واجبة.

قنوت صلاة العيدين:

هل يصحّ للمأموم أن لا يقرأ القنوت في صلاة العيدين؟

ــــ القنوت ليس شرطاً ولكنّه مستحبّ، وليس من الضروري أن يقرأ نفس القنوت الذي يقرأه إمام الجماعة بل يستطيع أن يقرأ ما يشاء من القنوت ولكن ورد استحباب بعض أنواع القنوت.

صلاة التراويح:

نرجو الإجابة عن عدم مشروعية صلاة التراويح عند الأئمّة الإثني عشر، أي ما هي حجّتهم في ذلك؟

ــــ الحجّة هي أنّ تشريع صلاة النوافل جماعة في ليالي شهر رمضان أو في غيرها ليس وارداً عندنا فهي تصلّى فرادى، ويرى الكثير من علمائنا أنّ صلاة النافلة لا تشرع جماعة، فهذا أمر ارتآه (عمر) في وقته وسار عليه المسلمون بعد ذلك، فقد رأى المسلمين يصلّون فرادى فقال لو اجتمعتم في الصلاة، وهكذا كان، فالجواب هو أن لا حجّة شرعية في صلاة الجماعة في النوافل، والمطلوب هو أن يقدم الآخرون حجّة على ما يفعلون، أما عمل عمر في ذاته بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلا يصلح أن يكون حجّة.

بطلان وضوء:

هل يصحّ الوضوء ويكون مجزياً للمكلّف في الدخول في الصلاة في بعض الموارد التي يسقط فيها الوضوء ويجب فيها التيّمم، كالمرض مثلاً؟

ــــ إذا كان يتضرّر بالوضوء فيحرم عليه الوضوء وإذا حرم عليه الوضوء بطل.

قضاء صلاة:

أحد الأخوة يقيم في (استراليا) كلاجئ وهو مطلوب قضاء صلاة حوالي (20) سنة وحالياً لا يتمكّن من أداء هذه الصلاة لقضاء ما في ذمّته لسوء حالته الصحيّة والنفسية التي يعاني منها فما هو حكمه؟

ــــ فليصلّ حتى تزول حالته النفسية، لأنّ الصلاة تنفتح به على الله، فتفتح قلبه على الأمل والرجاء فتطرد منه كل عوامل اليأس والإحباط فتترك آثارها الإيجابية إيجاباً على نفسه، لكن عليه أن يصلّي بمقدار ما يستطيع وبما يتحمّل وضعه الجسمي، وسوف تعطيه الصلاة زخماً روحياً عندما يتكلّم مع الله ويؤدّي فرض الله، فإنّ الله سيفتح قلبه ويفتح روحه ويهيّء له من أمره فرجاً ومخرجاً.

قضاء الصبح:

هل يجوز قضاء صلاة الصبح بعد الظهر أو لا تجوز؟

ــــ إذا خرج الوقت ولم يصل فهو مختار في أيّ وقت يقضي صلاته.

الخراج لا يبطل الصلاة:

هناك إصابة قديمة في جسدي أجريت لها عملية جراحية ولم يفد ذلك فحتّى أثناء الصلاة يخرج منها خراج، فهل هذا مبطل للصلاة؟

ــــ الجراح الدائمة لا تضرّ بالصلاة، ولكن عليه أن يخفّف منها بالصلاة بواسطة جبيرة يضعها عليها.

قضاء الصلاة والصيام:

بدأت بالصلاة والصيام منذ خمسة عشر عاماً وأنا الآن أقضي ما فاتني من صيام قبل هذا العمر، فهل تجب عليّ الكفارة مع الصوم، علماً أنّني لا أملك ما أدفعه كفّارة عمّا فاتني؟

ــــ على الأخت السائلة إذا كانت تركت الصوم عمداً أو لا مبالاة وهي تعرف وجوبه ولم تكن تخاف الضرر أو تخوّف بالضرر، عليها أن تدفع الكفّارة وعليها أن تنتظر الإمكانات لذلك والقضاء واجب في الحالين.

الردّ على الطارق أثناء الصلاة:

يحصل أحياناً أن يرن الباب أو يرنّ الهاتف وأنا داخل في الصلاة الواجبة ولا يوجد أحد غيري في البيت، فهل يجوز قطع الصلاة وإجابة الطارق أو الهاتف؟

ــــ لا يجوز ذلك على الأحوط وجوباً، إلاّ إذا احتمل الإنسان أنّ في المسألة بعض الخطورة أو ما إلى ذلك.

صلاة في بيت مُختلف عليه:

لي صديق ساكن في بيت بينه وبين صاحبه خلاف على الإيجار، فهل يجوز لي الصلاة في بيته؟

ــــ إذا كان بقاؤه في بيته خاضعاً لقاعدة شرعية فلا مانع من ذلك، أمّا إذا لم يكن خاضعاً لقاعدة شرعية فلا يجوز له ولا لكَ الصلاة في بيته، لأنّه يعتبر غاصباً.

الصلاة على النبيّ في الصلاة:

ما حكم صلاة مَنْ لم يذكر الصلاة على محمّد وآله قبل التسليم إذا كان جاهلاً بالحكم؟

ــــ صلاته صحيحة إذا كان غافلاً وجاهلاً بشكل مطلق.

الإعراض عن السكن:

كان لي أملاك في قرية وهي مسقط رأسي وبعت هذه الأملاك جميعها ولم يبقَ شيء وسكنتُ في منطقة بعيدة، فهل عند ذهابي لتلك القرية أقصّر في صلاتي، أي ما هو حكم صلاتي وصومي؟

ــــ إذا كنتَ أعرضت عن السكن عن قريتك الأصلية واخترت سكناً آخر بحيث لم تذهب إلى القرية إلاّ لترى أقرباءك تماماً كأي إنسان يزور أقرباءه في أي بلد فعليك أن تصلّي قصراً وأن تفطر عندما تذهب إلى قريتك، أما إذا لم تعرض عنها وفكّرت في الرجوع إليها بين وقتٍ وآخر فعند ذلك يمكن أن تبقى على صلاتك وصومك.

سن الصلاة على الميّت:

هل هناك سنّ محدودة للصلاة على الميّت فقد قرأت أنّ السادسة من العمر هي الفترة التي يصلّى بها على الميّت فما هو التبرير؟

ــــ إنّ الله سبحانه هو الذي أمرنا بذلك وأمرُ الله هو التبرير الأكبر لأنّه إذا جاء الأمر من الله سبحانه وتعالى فطاعته فيما أمر واجبة وهو الأعرف بأسرار أحكامه.

استخلاف إمام الجماعة:

ما هي شروط الاستخلاف وكيفيّته فيما لو أحدث الإمام في الصلاة؟

ــــ أن يقدّم أحد المصلّين الجامع لشروط الإمامة.

القضاء عن الأم:

هل يجب قضاء الصوم والصلاة عن الأم، وهل تهدى لها الصلوات والصدقات وما هي النيّة في ذلك؟

ــــ لا يجب ذلك ولكن يستحبّ، ويمكن للإنسان أن يصلّي صلاة مستحبّة عن أبويه ويمكن أن يهدي ثوابها لهما.

أذكار الصلاة:

ما حكم الأذكار الواردة في الصلاة مثل (وتقبّل شفاعته)؟

ــــ يمكن للإنسان المصلّي أن يذكر الله في أي فعل من أفعال الصلاة ويمكن أن يدعو بأيّ دعاء ما لم يكن في الدعاء معصية لله، وقول المصلّي (وتقبّل شفاعته) دعاء.

صلاة الزوجة:

ما هو حكم صلاة المرأة في بيت زوجها على رأيكم وعلى رأي الإمام الخميني إذا كان زوجها مسافراً وهو ليس في وطنه؟

ــــ إذا كان مسافراً وليس في وطنه ومستأجراً البيت فيجب أن تصلّي قصراً إذا لم يكن هذا البيت مستقراً لها وله، فلو فرضنا أنّ شخصاً سافر مع زوجته ونزل في فندق أو في شقّة ولم ينو الإقامة عشرة أيام فمن الطبيعي في هذه الحالة أن تصلّي زوجته قصراً إلاّ إذا نوت الإقامة أو كان هذا البيت بيتاً صيفياً فيكون دائماً وطناً صيفياً.

الذهب والماكياج في الصلاة:

هل يجوز للمرأة لبس الذهب ووضع الماكياج في الصلاة؟

ــــ لا يحرم ذلك، ولا مشكلة من ناحيةٍ روحيةً ما دامت تعيش جوّ وروحانية الصلاة.

معرفة الشروق:

أحياناً أستيقظ متأخّراً وبسبب الأبنية الشاهقة التي تحيط ببيتي لا أعرف أنّ الشمس أشرقت أم لا، فهل أُصلّي الصبح قضاءً؟

ــــ إذا كنت لا تعلم بشروق الشمس ولم تكن ثمّة علامة فصلِّ أداءً، ويمكن التبيّن من التقويم مع الاطمئنان.

سجود الجبهة:

لماذا كان وجوب السجود على التربة للجبهة فقط دون سائر مواضع السجود؟

ــــ لأنّ مظهر السجود هو الجبهة، وأمّا المساجد الأخرى فهي تكمّل السجود، ولذلك يقال أنّ هذه من شروط السجود لا من مقوّماته، فلو صلّى إنسان وسجد بجبهته ولم يسجد بيده سهواً أو غفلة فإنّه يعتبر ساجداً، ولكنّه لو لم يسجد بالجبهة وسجد باليدين والرجلين فإنّه لا يعتبر ساجداً.

الإيقاظ للصلاة:

هل يجب على الأب أن يوقظ أولاده لصلاة الصبح خاصة إذا كان يلاقي صعوبة في إيقاظهم لاستغراقهم في النوم؟

ــــ لا يجب عليه ذلك، ولكن عليه أن يجد الوسيلة التي يستطيع من خلالها أن يوقظهم حتى يعلّمهم كيف يفتحون يومهم بالصلاة إلى الله.

وقت القضاء:

هل هناك إشكال فيما لو أدّيت الظهر أداءً ثم أصلّي الصبح قضاءً، وما هو حكم الأيام الماضية؟

ــــ ليس هناك إشكال في هذا الموضوع، فللإنسان أن يقضي صلاة الصبح قبل صلاة الظهر أو بعدها أو بعد صلاة العصر، إذ ليس للقضاء وقت معيّن.

الائتمام بالإمام العاجز:

الإمام العاجز عن القيام بالصلاة هل تصحّ الصلاة خلفه؟ وهل هناك إشكال في هذا المجال؟ وإذا عجز الإمام في وسط الصلاة ما الواجب المترتّب على المأموم، هل تصحّ المتابعة أو أن ينفرد؟ وكذلك لو خطب لصلاة الجمعة من جلوس، وما حكم صلاة الجمعة عند الجهل بالحكم؟

ــــ إنّ مجرّد الخطابة من جلوس لا يضرّ، لكنّ مسألة الصلاة إذا كانت من جلوس فهي التي تضرّ، وعلى ضوء هذا فإذا عجز الإمام في وسط الصلاة فعلى المأموم الانفراد والأحوط الإتيان بالظهر بعد صلاة الجمعة في فرض جلوس الإمام فيها بعد الالتفات والعلم بالحكم.

الخاتم الذي يحمل اسم الجلالة:

لديّ خاتم مكتوب عليه اسم الجلالة واسم النبيّ وأهل بيته، هل يجوز لبسه بدون وضوء؟

ــــ نعم يجوز لبسه بدون وضوء ولكنّ الاحتياط أن لا يلمسه الإنسان بدون وضوء.

حدّ المغرب والعشاء:

هل تُصلّى صلاة المغرب والعشاء بعد الساعة الثانية عشر ليلاً قضاءً؟

ــــ تُصلّى بداعِ امتثال الأمر المتوجّه إليه.

السجدة التي فيها اسم الله:

ما حكم السجود على التربة المنقوش عليها لفظ الجلالة؟

ــــ لا مانع من ذلك.

حجم التربة:

ما الحجم الأدنى المسموح به للتربة؟

ــــ أن تكون بمقدار ما يصدق به السجود من الجبهة.

القربة في العبادات:

ما هو الدليل على عدم وجود قصد أمر زائد على القربة في العبادات؟

ــــ ما هو الدليل على وجوبه؟ إذ لا يسئل عمّا هو الدليل على عدم وجوبه لأنّ الدليل هو أن يأتي الإنسان بالصلاة بقصد القربة، أمّا بقصد الوجوب وأمّا بقصد كونها صلاة كذا وكذا فلا يجب ذلك إلاّ إذا توقّف تعيين العبادة على ذلك.

 

 

السلام على المصلّي:

يقال إنّ المصلّي إذا كان يصلّي وجاء رجل وسلَّم فإنّه يجوز له أن يردّ عليه السلام، فهل هذا صحيح؟

ــــ إذا كان مقصوداً بالسلام بنفسه يجب عليه أن يردّ السلام والأحوط أن يأتي به بالطريقة القرآنية {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} وهكذا يجب ردّ السلام سواءً في الصلاة أو في غيرها، وهذا ممّا يدلّنا على قيمة السلام في الإسلام باعتبار إيحاءات كلمة السلام لما تمثّله من إعلان المسلم السلامة مع الإنسان الآخر بمثلها أو بأحسن منها، وأنّ علاقته معه هي علاقة سلام لا علاقة حرب ويجيب الآخر لتأكيد تلك العلاقة، وقد جاء في الحديث "في السلام سبعون حسنة تسع وستون للمبتدأ وواحدة للرّاد وإن أحسن فعشر".

بعد تكبيرة الإحرام:

أحياناً لا أجد مكاناً في الصفوف المتقدّمة لصلاة الجماعة فأضطر إلى البقاء في الصفوف غير المنتظمة بعيداً عن إمام الجماعة وعند سماعي تكبيرة الإحرام أكبِّر مباشرة فأجد أنّ المصلّين يتحركون قليلاً نحو الإمام أو الخلف لتنظيم صفوفهم وبذلك أصبح خارج الصف تماماً ولا أستطيع الحركة لأنّي قد شرعت بالصلاة فما هو موقفي؟

ــــ لا مانع لو كنت في صفٍ وحدك وكنت تتّصل بالإمام من خلال المصلّي الذي أمامك.

الصلاة بالملابس الحكومية:

هل يجوز الصلاة بالملابس التي تعطى من قِبَل الدائرة الحكومية التي أعمل فيها؟

ــــ على رأي بعض العلماء أنّها من مجهول المالك فلا بدّ من رخصة الحاكم الشرعي، ونحن نرخّصك في ذلك باعتبار أنّك في حاجة إلى ذلك وأنّ من يقول كما نقول أنّها معلوم المالك فهي جائزة ولا يعلم أنّها من مال حرام لتشكّك فيها، وهكذا بالنسبة إلى الرواتب، وكما قلت فإذا كنت مؤمناً وإن شاء الله أنت مؤمن ومحتاج، فإنّنا نرخّصك في ذلك كلّه.

نيّة الصلاة:

أُريد أن أقضي عن صلوات فاتتني ولكن هل أقول في الصلاة نويت أن أُصلّي فرض صلاة الظهر قضاءً لما فاتني من الصلاة؟

ــــ لا يجب التلفّظ بالنيّة لا في صلاتك ولا في صومك ولا في حجّك فالنيّة هي الدافع الذي يدفعك نحو العمل، فإذا أردت أن تصلّي لقضاء الظهر تكفي هذه النية في نفسك حتى إذا سألك أحد ماذا تفعل تقول أُصلّي صلاة الظهر وماذا تصلّي أُصلّي قضاءً فهذا القصد الذي في نفسك هو النيّة ولا تربكوا أنفسكم بالتلفّظ بالنيّة بأية صيغة تقولونها.

في الإقامة:

حين وصولنا إلى سوريا كنت وزوجتي لا نعلم بأنّ علينا أن نتمّ العشرة لذا كنت أقصّر في صلاتي وزوجتي تتم، فهل عليّ ذنب بأنني لم أخبرها وهل عليها أن تعيد صلاتها؟

ــــ إذا كنت تعتقد أنّك ستقيم عشرة أيام ولذلك قصدت الإقامة عشرة أيام فلا إعادة عليها في هذا المجال وإذا كانت جاهلة بالحكم أيضاً فلها إعادة عليها.

تحديد السورة بعد البسملة:

عندما أُصلّي وأقرأ الفاتحة قبل أن ألفظ البسملة يجب عليّ أن أنوي السورة التي سأقرأها، وإذا نويت في الركعة الأولى ثم سهوت في الركعة الثانية فلم أنوِ فماذا أفعل هلا أتمَّ الصلاة بالنية بركعتين إلى الله أم تبطل وأصلّيها من جديد؟

ــــ نحن لا نشترط تحديد السورة قبل قراءة البسملة بل يمكن للإنسان أن يقرأ البسملة ويختار أيّة سورة بعد ذلك ولكن حتّى إذا سهوت حسب رأي مَن يشترط ذلك فصلاتك صحيحة ولا تحتاج لأن تبطلها بصلاة ركعتين أو تعيد صلاتك.

ما تتمّ فيه الصلاة:

في بعض المسائل الفقهية ترد عبارة ما تتم به الصلاة وما لا تتم، فما معنى ذلك؟

ــــ ما تتمّ به الصلاة أي ما يستر العورة وما لا تتمّ فيه الصلاة أي ما لا يستر العورة.

التكتّف في الصلاة:

كل المسلمين عندما يقبلون على الصلاة يقفون وقفة التواضع بالتكتّف بين يديّ ربهم إلاّ الشيعة فإنّهم يطلقون أيديهم فلماذا هذا الخلاف؟

ــــ المسلمون مجمعون على أنّ التكتّف ليس واجباً حتّى أخواننا من المسلمين السنّة يقولون أنّه سنّة وهناك من يتّفق معنا من إخواننا السنّة من المالكيين إنّه ليس سنّة، هذا أولاً، وثانياً هناك خلاف في المسألة فبعضهم يقول أنّه بدعة وبعضهم يقولون أنّه سنّة ومن الشيعة من يقولون لو فرضنا أتى بها بعنوان كونها مستحبّة إذا كانت واردة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونحن لا نرى ذلك لأنّه لم يثبت عندنا ذلك فيصبح حينئذٍ تشريعاً والتشريع محرّم، وربّما رأى إخواننا السنّة بحسب المباني التي عندهم أن ذلك جائز، ولكن عندما نتكلّم عن مسألة الخضوع فالإسبال فيه خضوع أكثر من التكتّف لأنّ الإسبال معناه أنا مسلم والدليل على ذلك ما هو دارج في عرف الناس فإذا ذهبت إلى محكمة ووقفت أمام القاضي متكتّفاً ألا يقول لك أنزل يديك، لماذا؟ لأنّ الإسبال علامة أنا مسلم لكَ يا ربّ وتعني {إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ}(1) أي أنّني مسلم ولم أغيّر وضعي واقف بين يديك يا ربّ وأنا في وقفتي، أعيش التسليم التّام لك.

القبلة في سجدة الآيات:

هل يجب استقبال القبلة في سجود التلاوة؟

ــــ لا يجب ذلك وإن كان أحوط.

تسوية صفوف الجماعة:

يسبق الدخول في الصلاة توجيهات من الإمام عند الإخوان السنّة وفي تسوية الصفوف فهل تحبّب ذلك؟

ــــ نعم نحبّ ذلك ونحبّبه باعتبار أنّ تسوية الصفوف تدلّ على التنظيم الذي هو مستحبّ في صلاة الجماعة.

وللأسف فإنّ عندنا فوضى في الكثير من صلاة الجماعة وهي أن يظلّ المصلّون منشغلين أو متريّثين فيكبّر هذا ويكبّر ذاك مع أنّه إذا وقف المصلّون مستعدين في حال الصلاة يمكنهم أن يكبّروا مع بعضهم البعض الآخر، فهذه الفوضى ليست محبوبة في الصلاة سواء في التكبّر أو في عدم استواء الصفوف.

القنوت بعد الركوع:

ما رأيكم بالقنوت بعد الركوع وليس قبله؟

ــــ هذا موجود في صلاة الجمعة أمّا في غير صلاة الجمعة فإنّ استحبابه قبل الركوع.

صلاة الصبح بمنبّه:

إذا تكرّر عدم النهوض لصلاة الصبح وعلم الشخص أنّ هذا الأمر لا ينتهي إذا لم يتّخذ له منبّهاً، فهل يكون آثماً إذا كانت صلاة الصبح دائماً قضاءً؟

ــــ ما غلبَ الله عليه فهو أولى بالعذر، فما دام أنّ النوم غلب عليه ولم يكن له اختيار في ذلك فلا إثم عليه ولكنّه يخسر الكثير من الثواب.

ودائماً أقول أنّنا نفهم بالعملات ولا نفهم بالحسنات، فلو قال لك شخص مَنْ يصلّي فإنّ له عشرة دولارات ألا تبقى يقظاً حتّى الصباح؟ ممّا يدلّ على أنّنا لا نهتم بما عند الله {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ}(1).

رابعاً ـــ الصيام والكفّارات:

الخوف من المرض:

إذا كنت مصاباً بقرحة الإثني عشري ثم أخذت دواءً فشفيت والآن أرغب أن أصوم ولست أدري هل يؤثّر الصوم عليّ أم لا؟

ــــ اسأل طبيبك، فإذا قال لك إنه يضرّك أو إذا خفت الضرر فلا يجوز لك الصوم.

ماذا إذا كنت أخشى من الصيام لأسباب مرضية ليس لها علاقة بالصوم ولكن أخشى أن يؤثّر الصوم على تلك الأمراض؟

ــــ إذا خفت أن يزيد الصوم في مرضك فلا يجوز لك الصوم.

فدية الصوم:

زوجتي مريضة مرضاً يمنعها من الصوم وقد استمرّ بها المرض سنين فما حكمها وخصوصاً لرمضان القادم حيث أنّ مرضها يستمر لرمضان القادم، وما حكم الفدية التي أدفعها مع أنّي لم أدفع عن هاتين السنتين؟

ــــ يمكن لك أن تدفع عنها الفدية من دون زيادة والفدية هي مقدار ثلاثة أرباع الكيلو من الخبز أو الحنطة أو الطحين والمهم أن لا يصرفها مالاً.

دم الفحص في رمضان:

هل يجوز للإنسان أن يخرج دمه للفحص الطبي من أجل الإقامة في شهر رمضان وهو صائم؟

ــــ لا يحرم ذلك إلاّ إذا كان ذلك مضعفاً بنحو لا يسيء إلى الصوم إذ يعدّ ذلك مكروهاً.

الصائم المجنب:

إني أزاول الخدمة الإلزامية وفي إحدى ليالي رمضان أصبحت عند طلوع الفجر جنباً ولم أغتسل بسبب الطقس البارد وعدم وجود الماء الساخن ولم أتيمّم لجهلي بجواز التيمّم بالطين وكان الجوّ ماطراً فما هو حكم ذلك اليوم من الصيام، وإن كنت مفطراً فما هي كفّارتي؟

ــــ بإمكان الإنسان أن يصوم ذلك اليوم، لأنّه لا يصدق عليه التعمّد في البقاء على الجنابة، باعتبار أنّه ليس لديه ماء وليس لديه تراب وهو جاهل بالحكم، ولذلك لو بقي على صومه لكان صومه صحيحاً ولكنّه إذا أفطر بنيّة أنه يجوز له الإفطار ففي هذه الحالة لا يجب عليه إلاّ القضاء ولو جهلاً.

إفطار آخر رمضان:

ما حكم من تعمّد السفر في آخر يوم من شهر رمضان المبارك كي يكون مع الذين أفطروا وأوجبوا ذلك اليوم عيداً، وما هي كفّارة ذلك اليوم الذي أفطره بدون بيّنة شرعية أو دليل؟ وما الحكم بالنسبة للذي اشتبه بأنّه يوم عيد؟

ــــ إذا كانت لهذا الإنسان ظروف ضاغطة تفرض عليه أنْ يحتفل مع الذين عيَّدوا في غير يوم العيد بحسب عقيدته فهو معذور باعتبار أنّه أفطر في سفر فلا مشكلة في ذلك. وأمّا إذا أفطر تحت تأثير أنّه يجب أن يحتفل مع الذين أفطروا بعيدهم بداعي المجاملة أو شهوة النفس أو ما شاكل فما فاته من بركة يوم العيد فلا يمكن أن يعوّضه شيء، فهو ليس آثماً في ذلك لأنّ الله يقول {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}(1)، سواءً كان سفراً متعمّداً أو كان سفراً طارئاً، ولكن ما فاته من بركة آخر يوم من شهر رمضان الذي ورد أنّه تتجمّع فيه بركة كل شهر رمضان لا يعوّضه ما حصل عليه من الأنس والسرور، ولا كفّارة له في ذلك ولكن عليه أن يجعل كفّارته أن يطلب من الله أن يعطيه بعض البركة. وأمّا الذي أشتبه بأنّ يومه يوم عيد وعاش في وضع احتياطي فبإمكانه أن يستصحب شهر رمضان ولكن إذا خرج محتاطاً فلا إشكال.

كفّارة إفطار العمد:

هل يجوز إعطاء كفارة إفطار العمد في شهر رمضان لعائلة واحدة فقط؟

ــــ بل يجب إعطاؤها لستين مسكيناً.

إكراه الزوجة على الإفطار:

يعتقد شخص بثبوت شهر شوّال ولم يثبت ذلك عند زوجته لاختلاف المسلمين في ثبوت الهلال فأكره زوجته على الإفطار فما هو حكم إفطارها؟

ــــ لقد فعل حراماً في إجبار زوجته على الإفطار لأنّه ليست لديه سلطة عليها في ذلك ولا يجب على الزوجة إلاّ القضاء.

قضاء الصوم أثناء الدورة:

كانت زوجتي تصوم قضاءً أثناء الدورة الشهرية بل شهر رمضان جهلاً بالحكم، فهل يجزي صوم قضاء أيام الدورة في الشهر الأول بعد رمضان الثاني؟

ـــ لا يجزي ذلك.

في صوم الإجارة:

ما حكم الصائم صوم الإجارة وتمضمض لأجل إزالة الرائحة ودخلت قطرة إلى جوفه أو شكّ في دخولها؟

ــــ إذا شكّ في دخولها فليست هناك مشكلة، وإذا دخلت فالأحوط أن يقضي.

أداء كفّارة:

على إنسان كفّارة صوم ولم يؤدّها، فهل يجوز له أن يذهب إلى مكّة المكرّمة لأداء فريضة الحجّ قبل أداء الكفّارة؟

ـــ يجب عليه أن يؤدّيها، ولكن إذا ذهب إلى الحجّ ولم يؤدّها، وكان مستطيعاً فحجّه صحيح.

الإفطار على محرم:

ما حكم الإفطار على محرم بعد الزوال في صوم قضاء شهر رمضان على رأيكم ورأي السيّد الخوئي (رحمه الله)؟

ــــ بالنسبة لرأي السيّد الخوئي تجب كفّارة الجمع على الأحوط في شهر رمضان لا في قضائه، ورأينا هو أنّه لا يجب إلاّ كفّارة واحدة.

صوم المصاب بالربو:

أنا مريض بالربو مرضاً مزمناً وفي شهر رمضان أحتاج إلى آخر لحظة إلى تناول الدواء فهل يكون صيامي جائزاً؟

ــــ لا يجب عليك الصيام إذا كانت الحالة مستمرة بالنسبة إليك ولك أن تفطر إذا كنت مضطراً لتناول الدواء بحيث تقع في حرج كبير إذا لم تتناوله وقد تصاب بمضاعفات خطيرة، فعند ذلك يكون تكليفك الإفطار إلاّ إذا أمكنك أن تتناول الدواء بعد الإفطار.

صيام المتردّد:

كنت في السجن وقد نقلت إلى مكان بعيد وقطعت مسافة القصر وكنتُ أعلم أنّني سأؤخذ إلى التحقيق وسأقطع المسافة أيضاً فأخذت أصلّي وأنا في حكم المتردّد وكان ذلك في شهر رمضان فأكملت الثلاثين يوماً، فما حكم صيامي؟

ــــ إذا كنت متردّداً لا تعرف بأنّك تقيم عشرة أيام فعليك الإفطار والقصر.

خامساً: الخمس

تخميس راتب:

أنا موظّف لي راتب بقدر خمسة آلاف ليرة فهل في ذلك خمس؟

ــــ الخمس إنّما يجب عليك في آخر السنة إذا فضل عندك من رواتبك أو أرباحك شيء.

جبر الخمس:

أنا شاب أملك (100) ألف ليرة مخمّسة ثم سافرت للعمل وبعد عودتي وجدت زوجتي قد صرفت المبلغ وقد استفدت من سفري بنفس القدر فهل يجب تخميس هذا المبلغ الأخير؟

ــــ هناك رأيان: رأي يقول أنّ الــ (100) ألف الجديدة لا تجبر وهو رأي السيّد الخوئي (رحمه الله) أمّا رأينا فإنها تجبر لذلك لا يجب عليك الخمس في نفس هذا المقدار.

تخميس الهدية:

بالنسبة إلى الهدية هل تخمّس أم لا وفي دخولها في الخمس هل تدخل في حساب رأس السنة أم تخمّس لوحدها؟

ــــ في رأينا ورأي السيّد الخوئي الهدية تخمّس وإن كان الإمام الخميني لا يرى ذلك، وبالنسبة لنا فإنّها تدخل في حساب رأس السنة.

لمن يدفع الخمس للعلماء؟

ما هو الدليل على إعطاء الخمس للعلماء، ولماذا لا يجوز التصرّف بالمال من قِبَل الشخص نفسه خصوصاً في حالة الشكّ في إيصال الحقوق الشرعية بصورة عادلة إلى مستحقيها؟

ــــ إنّ الفتوى التي تقول لا بدّ من إعطائه إلى المرجع إنّما هي احتياطية غالباً بلحاظ أنّ المرجع أعرف بمصارفها، وهناك وجهة نظر تقول إنّ الأموال العامّة لا بدّ أن يرجع فيها إلى الحاكم الشرعي، وبالطبع فإنّ وظيفة الحاكم الشرعي هو أن يكون أميناً على هذه الأموال بأن يوصلها لمن فرضها الله له.

صحّة العبادات بالخمس:

لماذا لا تصحّ الصلاة والصوم والحجّ إلاّ بدفع الخمس؟

ــــ الصلاة صحيحة إذا صلّى في ثوب لا حقَّ لله فيه، والحج صحيح إذا أحرم بثوب لا حقَّ لله فيه، لكن الخمس واجب شرعي مستقلّ وقد ورد في القرآن الكريم {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(1).

تخميس الفائض:

أهديت إليّ حاجات ولكنّني لم أستعملها وأصبحت فائضة عن الحاجة، وقبل أن يحول عليها الحول بأشهر، نويت أن أبعثها إلى أرحامي وأقاربي، ولكني لعدم وجود من يوصلها أو لتأخّر من يوصلها فسوف تدور عليها السنّة، فهل عليها الخمس؟ وماذا لو كان بدل الحاجات مالٌ؟

ــــ نعم، فما دام المال في ملكك ولم تكن بحاجة إليه ولم تصرفه قبل مرور السنة فإنّ عليك أن تخمّسه.. والحكم في المال هو نفس الحكم في وجوب الخمس.

تخميس أموال الحج؟

هل على مَن يحجّ نيابة أن يخمّس أمواله، وما الذي يخمّسه، هل المال المخصّص للنيابة أم ماذا؟

ــــ إنّ قضية الخمس ليست مرتبطة بالحج على نحو تكون شرطاً للحجّ في ذاته، بل هي مرتبطة بالحجّ بلحاظ أنّ ثوب الإحرام إذا كان متعلّقاً للخمس فيبطل الإحرام فيه، أو إذا حجّ بمال غير مخمّس وصرف عين المال وهو ممّا لا يتحقّق هذه الأيام كذلك يبطل، لذلك ليست هناك علاقة عضوية بين الحجّ وبين الخمس إلاّ من خلال شكليات الحجّ، أو قبول الحجّ من خلال الآية الكريمة: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} لأنّ مَن لم يخمّس كان بعيداً عن التقوى، لكن إذا كان الإنسان حاجّاً إلى الله أي تاركاً لكلّ الدنيا وقد نزع كلّ ثيابه وترك أهله وترك كلّ شيء وراءه ليذهب إلى الله سبحانه وتعالى، فهو عندما يقف في الإحرام ليقول (لبّيك اللّهم لبيك) يعني إجابةً بعد إجابة، ألا يقول الله تعالى له: "إنّك كذاب، فلقد قلت لك أخرج زكاتك وأخرج خمسك واعط للناس حقوقهم وسدّد دينك المستحقّ عليك؟ كان حجاً أصلياً أو نيابياً أو تبرعيّاً، على أن نعرف أنّ هناك شيئين في العبادة: هناك (إجزاء) بمعنى أن يسقط عنك العمل إذا حججتَ بشروط الحجّ، وهناك (قبول) بأن يتقبّل الله تعالى حجّك {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ومن التقوى أن تذهب إلى الحجّ وقد فرغت من كل حقوق الله عليك، وحقوق الناس عليك، حتى إذا انتهى حجّك قيلَ لك (استأنف العمل من جديد) لأنّك تكون قد تخفّفت من كل واجباتك.

لا خمس في مال الضيافة:

ماذا لو كان حجّ ضيافة أو ضمن قافلة تدفع نفقات حجّه، فما الذي يخمّسه في هذا المال؟

ــــ إذا لم يكن عليه خمس في ماله الآخر، فلا خمس عليه في هذا المال الذي بذل له للضيافة.

 

تخميس سيارة:

إذا جمعت مبلغاً من المال ولم تمرّ عليه سنة وأردت أن أشتري به سيارة خاصّة فهل يجب فيه الخمس، وإذا اشتريت السيارة دون أن أُخمّس فهل يجب أن أخمّسها؟

ــــ لا يجب الخمس قبل مرور سنة، وإذا اشتريت سيارة واستعملتها فلا خمس فيها ولا في المال.

إخراج خمس:

أنا طبيب أسنان أوفّر في كلّ عام مبلغاً من المال فكيف يمكنني إخراج الخمس علماً بأنّني في حاجة إلى منزل سكن ومكان للعيادة وأنّ المبلغ الموفّر لا يكفي لأيّ منهما بل أحتاج لعدّة سنين لتأمين ذلك؟

ــــ يجب عليك إخراج الخمس في كلّ سنة، لأنّ الخمس ليس مالك بل هو مال الآخرين الفقراء عندك.

أموال مخمّسة:

كانت عندي أموال مخمّسة منذ (10) سنوات، وانتقلت من البلد الذي كنت فيه إلى بلد آخر، وبهذه الأموال اشتريت بيتين وفي كل بيت تسكن عائلة، وعندي شقق زائدة أؤجّرها، وخلال السنة أنفق كل ما يأتي من إيجار الشقق ولا يفضل شيء من ذلك، فما هي وظيفتي الشرعية؟

ــــ إذا كنت قد اشتريت هذه الشقق الزائدة مع الشقق التي تحتاجها من مالٍ مخمّس فلا خمس عليها، فغاية ما هناك أنّ الخمس يترتّب في نتاج الشقق الزائدة، فإذا لم يفضل منها شيء إلى آخر السنة فلا يجب عليك الخمس.

 

 

 

التصرّف بالخمس:

أنا شخص ميسور الحال لكن لديّ بعض المتطلّبات الضرورية، فهل يجوز أن أعطي أخوتي بعضاً من المال وأعتبره من مال الخمس أو أنّ ذلك يحتاج إلى إذن من الحاكم الشرعي؟

ــــ يجوز لك أن تعطيهم بإذن الحاكم الشرعي.

تخميس رأسمال مفترض:

رجل ابتدأ عمله التجاري برأس مال قدره (10) آلاف دولار، قد اقترضه من صديق له، وكان عمله شراء وبيع المواد الغذائية في محل تجاري استأجره بــ (300) دولار شهرياً وهو يربح في كلّ يوم مبلغاً من المال ويدفع شهرياً أجور العمّال وإيجار المحل ومصروف العائلة من ذلك الربح، فكيف يخمّس الربح، وهل أنّ رأس المال قد تعلّق به الخمس قبل العمل به أم لا؟

ــــ إذا كان المال ديناً فلا يجب فيه الخمس ما دام ديناً، أما إذا وفّى منه قسماً كما لو وفّى (5000) دولاراً وأصبحت هذه الــ (5000) بضاعة في المحل فعليه أن يخمّسها في آخر سنته.

العراقيون والحقوق الشرعية:

جوّز سماحتكم دفع العراقيين الخمس إلى أهلهم، فما حكم الأهل لو كانوا خارج العراق؟

ــــ إذا كان الأهل خارج العراق وكانت أمورهم جيدة فلا تنطبق عليهم الحقوق الشرعية، أمّا إذا كانوا فقراء محتاجين خصوصاً الذين شُرّدوا وأوذوا وأُخرِجوا من ديارهم بغير حقّ إلاّ أن يقولوا ربّنا الله، فحال العراقيين خارج العراق ممّن وصفناهم هو مثل حال العراقيين داخل العراق.

 

 

استعمال الحاجيات قبل تخميسها:

إذا كانت على الحاجة خمس هل يجوز لنا استعمالها قبل أن ندفع خمسها إلى مستحقيها مع العلم أنّنا قد أخرجنا مال خمسها؟

ــــ لا بدّ لك أن تبرأ ذمّتك من خلال الحاكم الشرعي بطريقة معيّنة ومن ثم تستعملها.

استقطاع من أرباح السنة:

كلّما توفّر لدي مبلغ من المال خلال السنة أدفع منه إلى المستحقين بعنوان خمس دون حساب ربح، وفي نهاية السنة أحسب أرباحي وأخصم ما دفعته خلال السنة ثم أدفع خمس الباقي، فهل هذه الطريقة جائزة؟

ــــ نعم لا مانع من ذلك من الناحية الشرعية.

هبة من الخمس:

إذا كان عندي ستة آلاف دينار وأردتُ أن أهبَ ألفاً إلى زوجتي قبل أن أُخرج الخمس رغم أنّي أُخمّس لأول مرة، فهل يجوز ذلك؟

ــــ إذا كان قد مرّ عليك سنة أو مرّت رأس سنتك فليس لك أن تهبها هذا المال قبل أن تخرج خمسه، أمّا إذا كان ذلك قبل مرور السنة وقبل مجيء رأس السنة فبإمكانك أن تهبها ذلك. ولا يجب عليك الخمس فيه بشرط أن تكون جادّاً في الهبة بحيث تقصد تمليكها المال بشكل حقيقيّ، لا أن تكون المسألة صوريّة للهروب من الخمس، فإنّه يجب الخمس فيها في الغرض المذكور لأنّها باقية على ملكك واقعاً.

تخميس مال مدّخر:

أنا طالب جامعة ادّخرت مبلغاً من المال قد مرّ عليه سنة، فهل عليّ أن أخرج الخمس علماً أنّني ادّخرته لمواجهة الأعباء المادية خلال دراستي الجامعية، وأنا غير مستقرّ مادياً؟

ـــ لكَ أرباع أخماسه، وليس لك أن تتصرّف في مقدار الخمس بل عليك أن تخمّس المبلغ، وكما رزقك الله هذا المال فإنّه يرزقك غيره.

عدول في الخمس:

أنا ممّن يقلّدكم فهل هناك أدنى إشكال لأنْ أنتقل إلى السيّد الخميني (رحمه الله) في مسألة تخميس الهدايا إذ هو يفتي بعدم الوجوب لا من باب التخلّص من حكم شرعي بل من باب الاطمئنان وإبراء الذمّة في حالات النسيان والغفلة وما إلى ذلك؟

ــــ من حيث المبدأ يجوز ولكنّنا نحتاط في مسألة تقليد الميّت ابتداءً.

الامتناع عن دفع الخمس:

ما حكم مَن يمتنع عن الخمس بحجّة التوفير لبناء منزل علماً أنّه لا يملك منزلاً؟

ــــ شأن هذا الإنسان شأن من عنده وديعة وليس مستعداً لإرجاعها إلى صاحبها باعتبار أنّه يريد أن يبني منزلاً بهذا المعنى، فالخمس ليس ملكك إنّما هو مال الفقراء والمساكين، ولذلك فأنت عندما لا تدفع الخمس فأنت تسرق مال الفقراء والمساكين كما لو كانت لديك وديعة وامتنعت عن أن تعطيها لصاحبها.

خمس فاضل الأجور:

حين يأتي رأس السنة الخمسية يبقى لي في ذمّة صاحب العمل أجرة عدّة أيام نم السنة الماضية فهل في هذا المال خمس؟

ــــ نعم لأنّك تملكه في ذمّة الشخص الآخر.

جمعية شهرية:

يشترك عدد معيّن من الناس في جمعية مصغّرة حيث يدفع كلّ شخص (500) ليرة سورية في أول كلّ شهر على أن يأخذ أحدهم المبلغ المجموع في مطلع الشهر، فهل في هذا المبلغ فيما لو استمرت الجمعية "أكثر من عام" خمس؟

ـــ هنا إذا كان المال يبقى على ملك صاحبه أي مجرّد شيء تعاوني فلا خمس عليه، لكن عندما تنحل الجمعية بحيث يأخذ كل شخص الأموال التي دفعها، فهنا يجب الخمس، أما إذا خرج عن ملك صاحبه بحيث إذا فرضنا أنّ الجمعية انحلّت فيعطى المبلغ إلى جمعيات خيرية أخرى فلا يجب فيه الخمس.

تخميس الهدية:

إنّني أقلّد المرجع الذي لا يرى وجوب الخمس في الهدية، وزوجتي تقلّد مَن يرى وجوب ذلك، وقد أهدي إلينا بعد الزواج هدايا كثيرة ولم نستعمل بعضها حتى مرَّ عليها سنة، فما حكمها؟

ــــ إذا كانت هذه الهدايا لكما معاً بحيث كنتما شريكين، فكلّ شيء بحسابه، فما لزوجتك عليها أن تخمّسه وليس عليك أن تخمّس حصتك.

سادساً ـــ أموال وبنوك:

التصرّف برواتب الأطفال:

ما رأيكم حول رواتب الأطفال، هل يجوز للأب أن يصرف عليهم من مرتّباتهم أو أن يخزّنها إلى أن يبلغوا مبلغ الرجال؟

ــــ هو حرّ في ذلك إذ لا يجب على الأب أن ينفق على أولاده إذا كان لأولاده مال يكفيهم، ولذلك لو فرضنا قدّمت للولد هدايا أو أنّ الولد ورث مالاً من أُمّه مثلاً أو ما أشبه ذلك، فيجوز للأب أن يصرف عليه من ماله ولا يجب عليه أن يخزن ماله لأنّ ما يجب على الأب هو أن يصرف على أولاده إذا كانوا فقراء، ولكن إذا أحبّ هو أن يتبرّع لهم في النفقة ويخزّن لهم مالهم لحين بلوغهم ليستعينوا به على الحياة فهذا أفضل.

زكاة الغلّات:

إذا أردت أن أُزكّي غلّة من الغلّات الواجب فيها الزكاة فهل يجب أن أدفع من الغلّة التكلفة والبذار ثم أزكّي الباقي أم تتعلّق الزكاة في الجميع قبل إخراج مقدار التكلفة؟

ــــ الظاهر أنّ الزكاة تؤخذ قبل إخراج التكلفة.

التمليك لبعض الورثة:

هل يحق للأب أن يملّك في حياته بعض ورثته هروباً من بعض الورثة؟

ــــ يجوز للأب ولأي إنسان أن يهبّ ماله لأي إنسان آخر، أو أن يهبه لجمعيات خيرية، أو لمشاريع جهادية أو ما إلى ذلك لأنّ "الناس مسلّطون على أموالهم" وهو مسلّط على ماله، يملّكه لمن يشاء، والتركة إنّما هو ما تركه في حال الموت، وإذا كان ملّك ماله شخصاً ما سواءً كان ولداً أو غير ولد، فلا تبقى هناك تركة، غير أنّ هذا العمل في الفرض المذكور ليس أخلاقياً بل ومكروه شرعاً.

حرمان من الإرث:

هل يحق للأب أن يحرم بناته من الإرث أو بعض أفراد عائلته؟

ـــ ليس له من الوصية في هذا المجال إلاّ الثلث.

القرض الذي يجرّ نفعاً:

هل القاعدة (إن كلّ قرض جرّ نفعاً فهو ربا) هي قاعدة فقهية صحيحة، أم أنّ هناك فرقاً بين قرض الحاجة والقرض الاستثماري كما جاء في فتوى الأزهر؟

ــــ لا فرق في الربا بين القرض الاستثماري وقرض الحاجة، فكلّ قرض جرّ منفعة بشرط فهو حرام.

شراكة مع مسجد:

عندي مالٌ لمسجد وأردت أن أعمل بهذا المال في التجارة لأنّ المسجد ليس بحاجة إليه في الوقت الحاضر علماً أنّ ربح هذا المال مناصفة بيني وبين المسجد، فهل هذا جائز؟

ــــ لا بدّ لك في هذا المجال من أن تتّفق مع ولي المسجد، فقد يكون للمسجد ولي خاص أو وليّ عام وهو الحاكم الشرعي، فليس لك أن تتصرّف بمال المسجد إلاّ بالإتفاق بإذن وليّه، وليس لوليّ المسجد أن يأذن لك بالتصرّف والاتجار بمال المسجد إلاّ إذا كانت هناك مصلحة للمسجد، وكنت أميناً على هذا المال بما يضمن عدم ضياعه.

وصية في الثلث:

رجل توفي وهو مؤمن بالله تعالى وقبل وفاته أوصى بثلث ماله في سبيل الله، علماً بأنّ له ذرية ولكن لسوء الأحوال داخل العراق والظروف الصعبة هناك لم ينفقوا ما أوصى به، علماً بأنّ ما تركه كان ينحصر في بيت واحد ومحل وثلث محل ثان؟

ــــ يجب إنفاق ثلثه لأنّ للميت ثلثه من ماله وله أن يوصي به فيما يشاء.

توفير بفائدة:

أودعت مبلغاً من المال في صندوق توفير البريد وهم يعطون فائدة 9% فما حكم هذه الفائدة وأين تصرف؟

ــــ إذا لم تكن قاصداً للربا فلا بأس في ذلك، وأمّا إذا وضعته قاصداً للربا فعليك أن تدبّر أمره مع الحاكم الشرعي.

دين في الذمّة:

استشهد أخي في سبيل الله منذ ثلاث سنوات، علماً أنّه مطلوب صلاة وصيام، فهل سقط ما في ذمّته عندما استشهد، أم يجب قضاؤها له؟

ــــ يجب القضاء لأنّ هذه العبادة دينٌ لله في الذمّة، تماماً كما لو استشهد أخوك وكان عليه دين للناس، ودين الله أحقّ أن يُقضى.

الشكّ في معاملة:

وضعت مبلغاً قدره (100) ألف لرة سورية مع أحد التجار ولم نتّفق على ربح أو خسارة، إنّما هو يعطيني في الشهر ألفين ليرة، فهل يعتبر ذلك ربا أم هو حلال؟

ــــ إذا فرضنا أنّك أعطيته قرضاً ولم تشترط عليه، ولم تتّفق معه على أساس المضاربة بنسبة معينة من الربح وأعطاك من نفسه طواعية، فحينئذٍ لا مانع من ذلك. وهكذا فلا تصحّ المضاربة إذا لم تشترط شرطاً معيناً في نسبة الربح.

بطاقة يانصيب مفروضة:

أنا موظف وأثناء استلام راتبي فرضت عليّ ورقة يانصيب وقطع سعرها من راتبي وعند السحب ربحت هذه الورقة مبلغاً كبيراً من المال فما حكم هذا المال وماذا أستطيع أن أفعل به؟

ــــ في رأينا أنّ هذا المال هو حلال لك، وهناك من يقول من العلماء ومنهم السيّد الخوئي (رحمه الله) والسيّد الخميني (رحمه الله) أنّ ربح ورقة اليانصيب ليس جائزاً ولذلك يكون حكم المال على رأيهما حكم مجهول المالك الذي لا بدّ أن يرجع فيه إلى الحاكم الشرعي ليرى رأيه فيه.

تجارة الدخان:

أحد أخواننا من أهل السنّة يريد أن يفتح محلاً لتوزيع الدخان والسؤال هل تجارة الدخان حرام حسب الرأي المشهور ورأيكم؟

ــــ الرأي المشهور من العلماء إنّه ليس حراماً، ولكن بالنسبة ليّ إذا كان الدخان حراماً فالإتّجار به كذلك.

استرداد حاجة:

إذا أخذ أحد ما حاجة ولا أستطيع أن أردّها فسرقتها منه فهل تصرّفي هذا حرام؟

ــــ إذا كانت الحاجة لك وأخذها منك فهذه ليست سرقة، فلك أن تأخذها إذا أراد أن يمنعك منها وهي لا تزال باقية على ملكك، ولك أن تأخذها بأيّة طريقة. أمّا إذا كانت الحاجة لغيرك وقد أخذها هذا الشخص منه ظلماً فلك أن تأخذها من المعتدي لترجعها إلى صاحبها الشرعي.

قرض ربوي لشراء مسكن:

ما هو حكم أخذ القروض من البنوك من الدول الأجنبية لغرض شراء مسكن للسكن علماً أنّ المقترض يدفع فائدة ربويّة للبنك؟

ــــ لا فرق في حرمة الربا في التعامل بين الأجنبي ومع المسلم، لكن إذا استطاع الإنسان أن يختزن في داخل نفسه عند توقيع العقد الالتزام بالقرض من دون الفائدة بحيث ارتكز في نفسه بأنّه إنّما يدفع الفائدة تحت الضغط لا على نحو الالتزام، فإذا استطاع أن يحقّق هذه الحالة النفسية من الالتزام فيجوز له ذلك لأنّه لا يكون قد قصد الربا.

جمع الصدقات وتوزيعها:

أعطي صدقة للفقير دائماً لدفع البلاء، ولكن في دول الغرب لا يوجد من يستحقّ الصدقات، فأنا أضع صندوقاً أجمع فيه الصدقات للأيام ولأول الشهر وبعد الجمع أدفع المبلغ إلى شخص فقير في العراق أو في سورية، فهل تحتسب هذه الصدقة كالصدقات التي كنت أدفعها؟

ــــ لا إشكال في ذلك ففي الحديث "إنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرئ ما نوى" وبالتالي فإنّ ما تفعله من التصدّق بالجملة شبيه بما كنت تتصدّق به بالمفرق من قبل ذلك، فإنّ النتيجة الآن واحدة فإذا لم يتحقّق عنوان صدقة أول الشهر فإنّ الله يعطيك ثوابها عندما يعلم صدق نيّتك في ذلك.

احترام الملكية الفكرية:

إنّكم تفتون بضرورة احترام الملكية الفكرية ولكن برامج الحاسوب "الكمبيوتر" الأجنبية الأصلية غالية الثمن وكل البرامج التي يتداولها الناس هي برامج منسوخة غير قانونية، ولو أردنا احترام الملكية الفكرية فلن يحصل أي تطوّر في مجال الحاسبات في البلد حيث أنّ ثمن بعض البرامج يساوي ثمن جهاز الكومبيوتر نفسه ومعظم الناس لا يملك هذا الثمن فأرجو إعادة النظر في هذا الموضوع؟

ــــ نحن لا نستطيع أن نعيد النظر في هذا الموضوع لأنّه حكم شرعي، وهذه مسألة تتّصل بالماليات، ولقد كان المال سابقاً عبارة عن جهاز يملكه شخص أمّا الآن فالمال هو نوع الجهاز، وغاية ما هناك أنّنا نقول أنّ وسائل الإعلام الموجودة في العالم أصبحت تقدّم هذه الأمور للناس كافة، أمّا أن تتاجر بهذا البرنامج أو ذاك فهذا أمر غير جائز، ولقد طرحت أجهزة التواصل مثل الانترنت مجال الخدمة في نطاق الاشتراكات، فالمتاجرة في ذلك أو عدم مراعاة ضوابط الاشتراك يعتبر تعدّياً على الملكية الفكرية، وعليه فعامل الناس بما تحبّ أن يعاملون به وتصوّر لو أنّك اخترعت برنامجاً يشكّل مادة للحياة وأخذه منك شخص آخر فهل كنت تقبل بذلك؟! والخلاصة أنّ طريقة التملّك الآن تختلف عن طريقة التملّك في السابق، فسابقاً كان نفس الكتاب يملك، أما اليوم فنوع الكتاب هو الذي يملك وهذه مسألة راجعة لنظر المتشرّعة في الملكيات.

 تصوير المراجع الدراسية:

إنّ ثمن المصادر الأجنبية العلمية الدراسية قد يصل إلى عدّة آلاف من اللّيرات لذلك يلجأ كلّ طلاب الجامعة إلى تصوير نسخ عن هذه الكتب التي تكلّفهم بضع مئات من الليرات، فهل الدراسة في هذه الكتب المصوّرة حرام، وإذا أردنا الالتزام بحماية الملكية الفكرية سيصبح العلم رياءً؟

ــــ لا علاقة لذلك بالرياء فأنتَ ترى كتاباً فتقوم بتصويره وهذا ليس حراماً، أما أن تطبعه فذاك شيء آخر إذ الفرق بين أن أُصوّر كتاباً حتى أدرس فيه وأن أطبع كتاباً لأتاجر فيه، هو أنّ الأول لا دخل له بالملكية الفكرية، فالملكية الفكرية هي أنّك تقوم بطبع كتاب تجاوزاً على حقوق المؤلف، وهذا غير جائز.

مال مجهول المالك:

ورد على حساب شخص مبلغ من المال فلا يعرف المرسل لا المرسل إليه فماذا يفعل؟

ــــ إذا لم يستطع معرفة صاحبه فيكون حكمه حكم المال مجهول المالك الذي لا بدّ أن يرجع فيه إلى الحاكم الشرعي.

عقد شراكة:

شخصان تشاركا في أعمال مفروشات وديكور على أن يقدّم أحدهما المحل والثاني يقدّم العمل وبنسبة متّفق عليها، هل يجوز للثاني أن يعمل خارج المحل ولا يحاسب شريكه على الربح، مع العلم أنّ الاتفاق عقد شراكة في المهنة نفسها؟

ــــ هذا يختلف باختلاف العقد، فتارة يكون العقد هو أن يعمل في المحل، وتارة يشترك معه على أساس أن يقدّم أحدهما المحل والآخر يقدّم العمل في المحل وفي غيره، فإذا كان العقد على هذا فليس له أن يعمل خارج المحل ضمن الضوابط المتّفق عليها بينهما.

مضاربة:

لدي مال وقد اتّفقت مع من يعمل به على أن يعطيني جزءاً من الأرباح وما فضل كثيراً كان أو قليلاً فهو له، أي أنّ النسبة محدودة ممّا يحصل عليه من أرباح، علماً أنّ المال معطى بالدولار والنسبة بالدولار فهو يعمل به ويحوّله إلى أية عملة شاء، فهل في ذلك إشكال، علماً أنّه ضامن لأصل المبلغ؟

ــــ هناك نقطتان: فإذا كان العمل مضاربة، أي أنّك تقدم المال وهو يقدّم العمل على أساس الاتفاق على النسبة بربع الأرباح أو نصفها لا على أساس رقم معيّن وإلاّ كان ربا. ففي هذه الصورة إذا ربح فيكون الربح بينك وبينه، وإذا لم يكن هناك ربح فليس لك شيء، وإذا خسر المال فالخسارة على صاحب المال، وهناك طريقة شرعية لضمان المال، لا بأن يقول له عليك ضمانه، بل يقول بشرط أن تعوّضني من مالك إذا حسرت.

التصرّف بالصدقات:

ما حكم استخدام مبالغ الصدقات وإرجاعها فيما بعد؟

ــــ لا بدّ من مراجعة الحاكم الشرعي في هذا الأمر.

سريان رخصة:

لقد حصلت على رخصة أو إجازة خاصة من السيّد أبو القاسم الخوئي في العمل في البنوك الحكومية المتخصّصة والتي أموالها جزء لا يتجزّأ من أموال الدولة مع ملاحظة أنّ الفائدة التي يأخذها البنك لا تغطّي حتى مصاريف راتب الموظفين العاملين، وأنّ هناك دعماً حكومياً لهذا البنك، والسؤال: هل في تقاعد صاحب العلاقة وحصوله على راتب شهري مخفّض أو في حالة الحصول على مبلغ كامل بعنوان الخدمة للسنوات التي قضاها في الخدمة زال السبب في الرخصة الخاصة؟

ــــ  في رأي السيّد الخوئي وجماعة من العلماء أنّ مال الدولة بحكم مجهول المالك ولذلك يحتاج فيه إلى رخصة من الحاكم الشرعي وعلى هذا الشخص إذا كان باقياً على تقليد السيّد الخوئي (رحمه الله) أو قلّد من يقول إنّ مال الدولة مجهول المالك عليه أن يأخذ الرخصة من الحاكم الشرعي الذي يلتزمه الآن.

فوائد على التوفير:

امرأة وضعت مبلغاً من المال في صندوق التوفير لغرض حفظه ولكن المصرف المذكور يعطي فوائد سنوية لكلّ المشتركين، فما حكم هذه الأرباح؟

ــــ إذا كانت هذه المرأة ملتزمة في وضعها هذا المال بالفائدة على نحو تعتبر أنّ لها حقاً نتيجة التعاقد فلا يجوز ذلك، ولكن إذا لم تكن ملتزمة بأنّ لها حقاً على المصرف فيجوز ذلك.

التعامل بفيزا الحساب الجاري:

نريد توضيحاً بشأن التعامل "بفيزا كارت" حيث انّ هذه البطاقة تعطى من بعض البنوك الذي يحدّد لك مبلغاً معيناً للشراء به على أن يحتسب عليك فائدة إذا لم تسدّد؟

ــــ يجوز لك أن تتعامل به على أساس أن تسدّد المال في وقته لأنّ طريقة الابتعاد عن الفائدة هي مسألة عدم التسديد، ولذلك إذا كنت قاصداً للتسديد في هذا المجال لم تكن ملتزماً بالفائدة على أساس عدم التسديد فلا مانع من ذلك، أمّا إذا كنت ملتزماً بالفائدة على أساس التسديد وأنتَ تعرف أنك يمكن ان لا تسدّد، ففي الأمر إشكال.

هبة الزوجة من أموال زوجها:

هل يمكن للزوجة أن تهب شيئاً من أموال زوجها بدون علمه إذا أحرزت رضاه، وهل يكفي الرضا المسبق؟

ــــ إذا كانت تحرز رضاه من ناحية ما يدلّ على الإذن فيجوز ذلك، أمّا إحراز الرضا في هبة المال النقدي فلا يكفي، بل إنّ إحراز الرضا يمكن أن يكون في تقديم طعام أو ما يشبهه من الأعيان لأنّ المعاملات لا بدّ لها من الإذن ولا يكفي فيها إحراز الرضا.

استثمار:

لدى سيدة مبلغ من المال وضعته في محل حلاقة لأجل الاستثمار، فهل هناك إشكال إذا كان الحلاق يحلق الذقن؟

ــــ على من يقول بحرمة حلق الذقن يكون هذا الاستثمار حراماً، وإلا فبالنسبة لمن يقول بحليّة حلق الذقن كما نرى هذا الرأي فهو جائز من هذه الناحية.

العاملون على الصدقات:

يقول تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}(1)، ففي زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة كان العاملون يقومون بجباية الحقوق الشرعية كالزكاة فيبذلون جهداً كبيراً فيستحقون نصيباً من الزكاة، فهل يصدق اليوم على من يستلمها عنوان العامل فيستحق نصيباً؟

ــــ العامل هو الذي يبذل جهداً ليأخذها من صاحبها باعتبار أنّك قد لا تصل إليه ولا تعرفه، وإذا كان الله سبحانه وتعالى يعطيه هذا فلماذا نحن نبخل عليه بذلك؟!

تغيير وصية الميّت:

هل يمكن للورثة أن يغيّروا وصية الميت؟

ـــ يقول الله تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}(1) نعم لو تراضوا فيما بينهم، حيث كانت القسمة وتقاسموا الحصص بطريقتهم الخاصة بنحو التراضي فهذا ملكهم ويمكن أن يتراضوا بشأنّه إذا كانت الوصية تتعلّق بهم، أمّا إذا كانت الوصية تتعلّق بغيرهم فلا يجوز لهم أن يبدلوها.

افتقار الضامن:

إذا افتقر الضامن فهل يستطيع أن يرجع عن ضمانه؟

ــــ إنّ الضمان لازم له باعتبار أنّ الضمان يقتضي نقل المال من ذمّة إلى ذمّة، فيكون هو ـــ والحال هذه ـــ مديناً، فتكون علاقته الحاسمة بالدائن وإذا أبرأه الدائن فله ذلك وإلاّ فليس لهُ أن يتراجع.

حليّة اليانصيب:

تحدّثتم عن أنّ اليانصيب حلال علماً أنّني ومن زاوية اقتصادية بحتة أرى أنّه استغلال لأموال الآخرين لنكي يأخذها الآخر دون جهد أو تعب فكيف تصبح حلالاً؟

ــــ عندما يتبرّع الآخرون لك ويوافقون على دفع أموالهم ويتّفقون جميعاً على أن تجري القرعة ليتنازلوا لك أو لأي إنسان آخر عن هذا المال فما هي المشكلة في ذلك. كما أنّ أعمالاً تجارية يبذل فيها الجهد وهناك أعمال أشبه بالهبة وإن كانت بطريقة معقّدة، لهذا قلنا أنّ اليانصيب ليس قماراً وإذا لم يكن قماراً فهو ليس محرّماً وقد يراه بعض العلماء على أنّه من أفراد القمار ولذلك أفتوا بحرمته كالسيّد الخوئي والسيّد الخميني (رحمهم الله) ولكنّ علماء آخرين كالسيّد محسن الحكيم والسيد السبزواري وغيرهم أفتوا بعدم حرمته، ولذلك فالقضية اجتهادية حسب انطباق عنوان القمار عليه أو عدم انطباقه.

صرف الكفّارات على السادة:

هل يجوز صرف الكفّارات على السادة فقط أو لا يجوز إلاّ في زكاة الفطرة؟

ــــ تجوز الكفّارات لكلّ الفقراء من بني هاشم ومن غيرهم، أمّا كفارة الفطرة فلا تجوز إذا كانت لعامي أمّا إذا كانت لغير عامي فيجوز أن تعطى للسيّد الهاشمي.

نظرة إلى ميسرة:

رجل اقترض مبلغاً من المال لمدة معيّنة وعندما حلّ الأجل لم يكن لديه ما يسدّ به دينه فهل يأثم بذلك علماً أنّه يسعى للحصول على مال لتسديد الدين؟

ــــ يقول الله تبارك وتعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}(1)، ويقول: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}(2).

وفاء لشركة التأمين:

ارتكبت حادثاً بسيطاً في سيارة وكان الحادث لصالحي وبعد فترة فعلت حادثاً بليغاً نوعاً ما في نفس الموقع وكان ضدّي فهل لي الحقّ أن أذهب إلى شركة التأمين التي تتعلّق بالحادث البسيط لصالحي وأن أدعهم يصلحون السيارة بدون أن أخبرهم عن الموضوع الذي حلّ بي؟

ــــ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}(3) فيجب عليك أن تفي بعقدك مع شركة التأمين، وعلى هذا الأساس فلا بدّ أن تنفذ بنود العقد المعقود بينك وبين الشركة، فإذا كانت تسمح بمثل هذا فلا بأس وإذا كانت لا تسمح بحيث يطلب منك أن تتحدّث عن كل الحوادث التي حصلت معك فلا يجوز أن تأخذ منهم عوضاً على أساس الحادث الأول وتخفي الحادث الثاني إلاّ إذا كان للحادث الثاني علاقة بالحق.

ملكية الثروة الجوفية:

معلوم أنّ ملكية الثروة الموجودة في جوف الأرض، كما لو كانت عين ماء أو غير ذلك، هي لصاحبها فما هو التكليف الشرعي لصاحب الأرض بالنسبة لهذه الثروة، فهناك دليل على أنّ العين ليست في الحقيقة نماءً على ملكه بمعنى كونها ثمرة لمال يملكه ليملك الثمر بملكيّته بالأصل وإنّما هي ثروة في جوف ثروة فمالها مال الظرف والمظروف، فملكية الظرف لا تؤدي إلى ملكية المظروف، فهل يعني أنّ هذه العين هي شراكة بينه وبين أصحاب الأراضي المجاورة وأنّه لا يجوز لصاحب هذه الأرض حيازة هذه العين لوحده حتى لو أدّى هذا إلى الإضرار بالأرض عندما يكون ماء العين قليلاً؟

ــــ هناك جدل بين الفقهاء في هذه المسألة، فهناك فقهاء يرون أن كلّ ما يوجد في باطن الأرض فهو ملك لصاحب الأرض وليس من الضروري أن تكون المسألة مسألة نماء بل إنّهم يعتبرون أنّ السيرة العقلائية جارية على ذلك، أي أن الإنسان يملك الأرض وما فيها. ويقولون إنّ الشارع المقدّس لم يرفض هذه السيرة ولم يردع عنها ولكن بعضهم يعتمدون على القول بأنّ "الناس شركاء في الماء والنار والكلأ" باعتبار أنّ ما في الأرض من ينابيع وآبار وأنهار لا يملكها صاحب الأرض، وهكذا بالنسبة إلى النفط وما أشبه ذلك، ونحن نميل إلى هذا الرأي وليس المقام مقام الاستدلال من الناحية الفقهية لأنّ هذا يتطلّب حديثاً واسعاً لا يتّسع له المجال.

الهدايا التي يحصل عليها الشريكان:

أنا أعمل في متجر ولدي شريك وعندما أشتري بضاعة تكون مع البضائع في أغلب الأحيان هدايا من نفس الشركة وأنا أعلم بأن وضع شريكي المادي جيد وهو غير محتاج لمثل هذه السلع البسيطة وهو لا يعمل في المتجر وإنّما المال منه وثقل العمل كلّه ملقى عليّ ولي النصف لكنه يعطيني مبلغاً بسيطاً مقابل كلّ أتعابي وتحمّلي المسؤولية في المتجر، وسؤالي هو هل أخذي لتلك الهدايا فيه إشكال شرعي؟

ــــ إنّ البضائع التي تأتي من الشركة إنّما تأتي للمحل ومن الطبيعي أن تكون شركة بينك وبينه ولذلك لا بدّ لك أن تستأذنه في ذلك.

الشكّ في مصدر مالي:

إذا أهداني أحد أقاربي مبلغاً من المال، فما حكم هذا المال في الحالتين التاليتين: (أ) الشكّ في أنّ مصدر أمواله من الحرام. (ب) أنا متأكد من أنّ مصدر أمواله من الحرام؟

ــــ إذا كان مجرّد شكّ ولم يصل إلى حدّ الاطمئنان فلك أن تبني على أنّ المال ماله لأنّ اليد علامة الملكية.

وفي الحالة الثانية، إذا كنت متأكداً أنّ مصدر أمواله بأجمعها بما فيه المال المهدي من الحرام فلا يجوز لك أن تقبله، والأحوط أن لا تأخذ منه إذا كان بهذا الشكل.

سابعاً ـــ الحجّ:

أيام النحر:

هناك في مكّة بعض الحجّاج الذين يستأجرون للذبح بغض النظر عن وقته مع أخذ أجرة من كل منهم، فهل يصحّ لنا ممارسة هذا العمل؟ مع علمنا بعدم الصحّة إلاّ في أيام الذبح؟

ــــ إنّ للمتمتّع للحج يوماً معيّناً وهو يوم النحر ويمتد إلى أيام التشريق وربّما يقال بامتداده نتيجة الأعذار، ولكنّ هناك حديثاً عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو أنّ بإمكان الإنسان أن يقدّم ما ينبغي أن يؤخّر ويؤخّر ما ينبغي أن يقدم فلا حرج عليه في ذلك، إلاّ أنّ بعض الفقهاء خصّ ذلك بصورة الجهل والنسيان، ولكن هناك من عمَّم ذلك حتى بصورة التعمّد، فالمسألة تختلف حسب المباني الفقهية للعلماء.

تطهير المال قبل الحجّ:

من خلال كسبي للمال ابتليت بطرق شرعية وأخرى غير شرعية، والآن أصبحت مستطيعاً للحجّ، وقد اختلط في مالي الحلال والحرام، فكيف يكون المخرج حتى أستطيع الحجّ وتطهير المال؟

ــــ إذا كنت تعرف نسبة الحلال من الحرام أي إذا عرفت بأنّ نسبة الحرام هو النصف، فإن كنت تعرف أصحابه فعليك أن تعيده لأصحابه، وإنْ كنت لا تعرف أصحابه كان حكمه حكم مجهول المالك الذي يُرجع فيه إلى الحاكم الشرعي.

وأمّا إذا كنت لا تعرف نسبة الحلال من الحرام، فعليك أن تخمّس المال، وبذلك يتطهّر من الحرام، وعند ذلك لا بدّ أن تلاحظ ما إذا كنت تستطيع في الأربعة أخماس أن تحجّ أولاً، فإذا كانت تكفيك للحج وجب عليك، وإلاّ فلا.

حلق الرأس في الحجّ

هل أنّ حلق الرأس للصرورة (حجّ الإسلام) واجب أم يكفي التقصير؟

ــــ المشهور أنّ الفقهاء يحتاطون احتياطاً وجوبياً بالنسبة إلى قضية الحلق بالنسبة لحجّ الصرورة وهو الذي لم يحجّ سابقاً، والأحوط وجوباً عند أكثر العلماء اختيار الحلق، ولكنّ السيّد "الخوئي" (رحمه الله) والمشهور من علمائنا السابقين ـــ ونحن نوافقهم في ذلك ـــ يذهبون إلى التخيير بين الحلق والتقصير، وإن كان الحلق أفضل وأحوط لكن ليس احتياطاً وجوبياً.

حدود الميقات:

أين ميقات من جاء إلى (جدّة) عن طريق البر ويريد الذهاب منها إلى (المدينة المنورة) ثم يعود إلى (جدّة) مرة أخرى؟

ــــ إذا كان يريد الذهاب إلى المدينة المنوّرة فميقاته (مسجد الشجرة) وعليه أن يحرم في مسجد الشجرة، على اعتبار أنّ مروره يكون على مسجد الشجرة، حتى أنّه لا يجوز له أن يؤخّر إحرامه إلى (الجحفة) إلاّ لظروف فوق العادة.

نسيان طواف النساء:

أدّيت الحجّ ولم أكمله بطواف النساء، وعاشرت زوجتي بعد ذلك، فماذا يجب عليّ حتى يصحّ حجّي، مع العلم أنّني قد حججتُ قبل سنتين؟

ـــ عليه أن يستنيب، إن لم يتمكّن من أن يطوف بنفسه طواف النساء عن تلك الحجّة.

 

 

في الطواف:

رزقني الله حجّ بيته الحرام وفي الشوط السابع في طواف عمرة التمتّع خرجت من المسار الصحيح وواجهت الكعبة لتقبيلها ولامست جدارها بصدري ولم أرجع لتصحيح ذلك جهلاً بالحكم، ثم بعد أن علمت خطأي في ذلك سألت أحد الشيوخ المرافقين، وأخبرني ـــ حسب السيّد الخوئي ـــ أنّ عليّ إعادة طواف الشوط السابع فقط، فهل طوافي صحيح؟

ــــ إذا كنت قد أعدت طواف الشوط السابع قبل أن تفوتك الموالاة فلا بأس في ذلك، ولكن الفرض في المسألة لا يبطل الحجّ، فلو أنّ شخصاً لامس جدار الكعبة وهو واقف، أو قبّل البيت وهو واقف، أي أنّه جمّد طوافه فلا إشكال في ذلك.

حجٌّ مقبول بإذن الله:

سمعنا بالحادث الأليم في منى، هل أنّ حجّ المصابين مقبول؟

ــــ إذا أحرم الإنسان ودخل الحرم ومات بعد ذلك فحجّهُ مقبول، أي يجزي ذلك وتبرأ ذمّته بإذن الله.

في حجّ النيابة:

هل يجوز لي الحجّ نيابة عن والدي وهو على قيد الحياة لعدم تمكّنه في الوقت الحاضر، علماً أنّني لم أحج الحجّة الأولى؟

ــــ يمكن أن تحجّ عنه حجاّ مستحباً، وإذا فرضنا أنّه كان عاجزاً تماماً عن الحجّ فيمكن أن يكلّفك أن تنوب عنه في الحجّ، لكنك إذا كنت واجداً للمال فلا يجوز لك أن تحجّ نيابة لأنك تعتبر مستطيعاً إذ لا بدّ أن تحجّ عن نفسك.

حول المبيت في منى:

شخص من أبناء السنّة سألني هل عليه كفارة إذا لم يستطع المبيت في منى فأجبته أنه لا يجب؟

ــــ كيف تقول له لا يجب، فالشخص الذي لا يستطيع المبيت في منى لبعض الظروف تجب عليه الكفّارة.

تأخرت في المبيت في منى ليلة الثاني عشرة عن النصف الثاني من اللّيل بسبب السعي وزحمة السير بحيث تجاوز اللّيل النصف لم أصل منى، فما هو حكمي؟

ـــ إذا كانت زحمة السير قد جعلتك تتأخّر ولم تصل في الوقت المحدّد فلا إشكال.

عرقلة الطواف:

ما رأيكم فيمن يصلّي صلاة الطواف قرب مقام إبراهيم ويعرقل الطواف ولا يستجيب لطلبات الحجّاج بالرجوع إلى الخلف؟

ــــ إنّ مقام إبراهيم هو مطاف ومحلّ صلاة {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}(1) فالله جعله مصلّى ومطافاً، ولذلك فالمصلّي هناك لا يعطِّل أو يعرقل الطواف وإلاّ فإنّ الطائفين يعرقلون عليه صلاته، فيما نرى أنّ الجميع راضون بذلك، وأنّ حجّ الجميع إنْ شاء الله مقبول.

في حجّ النيابة:

في ليلة التاسع من ذي الحجّة أمرني شخص أن أكون نائباً عن غيري لأداء الحجّ فواجبي هو حجّ التمتّع ولا أستطيع أن أخرج إلى الميقات فخرجت إلى أدنى الحلّ (التنعيم) لعمرة التمتّع فهل صحّ مني هذا العمل؟

ــــ إذا كنت لم تأتِ بعمرة التمتّع عن نفسك فيجب عليك الذهاب إلى الميقات ولا يجزي أدنى الحلّ على رأي المشهور من العلماء بل لا بدّ أن ترجع إلى الميقات إذا أردت أن تنوب عن غيرك. أمّا إذا فرضنا أنّك أتيت بعمرة التمتّع عن نفسك فلا يجوز لك أن تنوب عن غيرك في الحجّ بعد ذلك باعتبار أنّ عليك أن تكمل الحجّ عن نفسك ما دمت مستطيعاً لذلك.

 

 

 

نيابة الذبح:

لم أستطع أن أذبح نيابة عن غيري لكنني وكّلت شخصاً آخر وعندما أتى إلى المسلخ أمَرَ شخصاً آخر بالذبح فنوى الذبح نيابةً عنّي فهل هذه النيّة مجزية، وإذا لم تكن تجزي فهل يجوز أن أذبح في أي مكان أشاء؟

ــــ لا تجزي إذا قصدك بالذات، أما إذا قصد الشخص الآخر بحيث عرف أنك نائب والقصد عنك باعتبارك نائباً فلا مانع، أمّا إذا قصد عنك بالذات، والمفروض أنّ الحجّ عن غيرك، فلا يجزي ذلك وعليك أن تذبح في العام القادم. وقد يكون في مسألة النيابة خلل عند بعض العلماء.

الحلق أو التقصير:

ما هو رأيكم بالنسبة لحجّ الصرورة لوجوب الحلق أو التقصير؟

ــــ رأينا هو رأي السيّد الخوئي (رحمه الله) في أنّ الذي يحجّ حجّ الصرورة أو الذي لم يحج قبل ذلك مخيّر بين الحلق والتقصير والحلق أفضل وأحوط.

تقديم أعمال الحجّ؟

هل يجوز تقديم أعمال الحجّ على جمرة العقبة سواء في حال الضرورة أو في غيرها؟

ــــ في غير حال الضرورة الأحوط أنّه لا يجوز ذلك، أمّا في حال الضرورة فيجوز.

تقديم رمي جمرة العقبة:

هل يجوز رمي جمرة العقبة في ليلة الحادي عشر من ذي الحجّة لضرورة بسبب العمل في بعثة الحجّ؟

ــــ لا بدّ لك من أن ترميها في النهار.

بيع جلد الأضحية:

هل يجوز بيع جلد الأضحية والتصدّق بثمنه على الفقراء أم أنّ هناك مانعاً للبيع؟

ــــ لا يجوز بيعه، ولكن يمكن أن يعطيه للفقير ليبيعه وينتفع به.

طواف النساء:

سيدة أحدثت في سعي حجّ التمتّع وأكملت طواف النساء وصلّت الركعتين ثمّ تزوّجت وأنجبت بعد ذلك دون أن تعلم ما يجب عليها، فما الذي يترتّب عليها جرّاء ذلك وهل زواجها صحيح؟

ــــ بعض العلماء يقول أنّ الزواج صحيح لأنّ المحرّم من الاستمتاع في طواف النساء هو لمن لم يطف طواف النساء وليس المحرم العقد، فعلى هذا الرأي الذي يراه الكثيرون ونحن نراه أيضاً فإنّ الزواج صحيح لكن الاستمتاع الذي حصل يوجب الكفّارة وعليها قضاء طواف النساء.

نيابة عن الوالدين:

إذا كان شخص لا يستطيع أن يحجّ نيابة عن أمّه وأبيه فهل يجوز جمعهما في حجّة واحدة، وإذا كان لا يجوز فأيّهما أولى بالنيابة؟

ــــ تارة يكونان (الوالد أو الوالدة) مستطيعين للحجّ وأوصيا بذلك أو كانت تركتهما تتّسع لذلك فهنا يجب أن يحجّ عن كل واحد منهما مستقلاً، أما إذا كانا غير مستطيعين للحجّ وأراد الإنسان أن يحجّ عنهما استحباباً فيجوز أن ينوب عنهما وعن غيرهما أيضاً إذ لا مانع من أن ينوب عن عشرين شخص بحجّة واحدة.

نيابة الحج أو مساعدة الفقراء؟

ــــ إني أعيش في الغرب وقد علمت أنّ والدي قد توفي في العراق وهو مطلوب حجّ بيت الله الحرام وأنا ولده الأكبر وبإمكاني أن أذهب عنه نيابة ولكن ذهابي يؤثّر على مساعدة إخوتي الفقراء؟

ــــ في هذا المجال أنتَ لست مسؤولاً عن حجّه إلاّ إذا كان قد ترك تركة يمكن أن يحجّ بها عنه، لأنّ الحج لا بدّ أن يخرج من أصل التركة على رأي الكثير من الفقهاء ولذلك فيجب الحجّ عنه من تركته وليس من الضروري أن تحجّ أنت عنه، لكن يجوز لك أن تحجّ عنه حتى لو أثّر ذلك على مساعدة إخوتك إذا أمكنكم أن تأخذوا من هذه التركة لينوب شخص عن أبيك ولعلّ هذا هو الأفضل.

ثامناً ـــ الزواج والطلاق:

زواج مؤقت ـــ دائم:

تزوّج رجل بامرأة بالزواج المؤقت، وقد ذكر في العقد أنّ الزواج إلى الأبد بدون تحديد المدّة وانتبهوا لجهلهم لشروط هذا الزواج فاستدركوا بتحديد المدّة بعد ذلك، فما حكم هذا الزواج؟

ــــ إذا كانوا قد قصدوا الأبد فإنّ ذلك زواجاً دائماً فلا بدّ من الطلاق.

أمّا إذا قصدوا المؤقت ونسوا ذلك، فهناك من يقول بأنّ الزواج باطل لا مؤقتاً ولا دائماً، وبعضهم ـــ ونحن منهم ــــ يرى بأنّ الزواج صحيح لكنّه يصبح دائماً لأنّ الدائم هو الذي لم يذكر فيه الأجل سواءً كان قاصداً لغيره أو لا، فهذه مسألة مختلف فيها، ولكن على كلّ حال إذا قصد الأبد أي إلى نهاية العمر فهو زواج دائم.

زواج المسلمة بغير الكتابيّ:

ما هو حكم زواج المرأة المسلمة من غير الكتابي في حالة وجود مصلحة في ذلك الزواج؟

ــــ هذه علاقة زنا، وهي علاقة غير شرعية لأنّه لا يجوز للمسلمة أن تتزوّج غير مسلم كتابياً أو غير كتابي، وأي مصلحة في أن تكون المرأة زانية باسم الشرع وأن تعصي الله سبحانه وتعالى في ذلك؟!

الزواج من ابنة مرتد:

شابة في الحادية والعشرين من العمر كان أبوها مسلماً لكنه ارتدّ عن الإسلام ودخل الدين المسيحي فهل يجوز الزواج بها مع عدم موافقته، علماً بأنّها موافقة؟

ــــ على الإنسان أن يتحفّظ في هذه الأمور حرصاً على الفتاة بغضّ النظر عمّا إذا كان رضا والدها شرطاً أو ليس شرطاً.

حدود النظر إلى الخطيبة:

ما هي الحدود الشرعية المسموح للخطيب أن ينظر لخطيبته قبل عقد الزواج من خلالها؟

ـــ إذا كان يريد أن يتعرّف على مَنْ يريد أن يخطبها ويتزوّجها فيجوز أن ينظر إليها حتّى بشكلٍ سافر، ولكن بعد أن يرتضيها للزواج فلا يجوز له أن ينظر لها إلاّ كما ينظر للأجنبية إلاّ إذا عقد عليها عقد زواج.

شرط المهر:

هل المهر شرط في صحّة العقد الدائم، فيما إذا لم تطلب المرأة شيئاً؟

ــــ ليس شرطاً في الصحّة ولكن لا بدّ منه ولو بشكل رمزيّ.

في العقد المنقطع:

هل يجوز العقد المنقطع مع شكّ الزوج بعدم التزام الزوجة بالعدّة؟

ــــ يجوز ذلك في العدّة المستقبلة، فالعدّة تكليفها الشرعي وتكليف الذي تزوجها بعد ذلك، أمّا الزوج فليس عليه شيء، تماماً كما هو الحال بالنسبة لمن يطلّق في الزواج الدائم.

في الطلاق:

اتّفق زوجان على الطلاق على كراهة من الزوجة وذلك بسبب ضرب زوجها لها على أن تعطيه مبلغاً من المال مقابل الطلاق إلاّ أنّ كلا الزوجين لا يعرفان صحّة هذا الطلاق، فالزوج أعطى الوكالة لوكيله بأن يطلّق والوكيل طلّق طلاقاً رجعياً، فإذا وقع الطلاق فعلى أيّة جهة، هل هو باطل، وما هو الحكم إذا انتهت العدّة؟ وهل يجب الاحتياط بطلاق جديد أو عقد؟

ــــ إذا كانا لا يعرفان الطلاق الخلعي، فإذا قال لها سأطلقك إذا تنازلت عن المهر فليس من الضروري أن يكون الطلاق خلعيّاً، فإذا سامحته بمهرها ولم يتحدّثا عن الطلاق الخلعيّ لأنّهما يجهلانه وطلّقها فإنّ الطلاق يكون رجعياً، وله الرجوع في العدّة، وإذا تقضت العدّة فلا رجوع. وفي فرض السؤال لا يحتاجان إلى طلاق جديد.

طلاق المحكمة الشرعية:

هل أنّ طلاق قاضي المحكمة الشرعية يجزي، وهل يجوز الزواج بالمطلقة بهذا الطلاق فيما إذا كان لا يؤتى بصيغة الطلاق الشرعية؟

ــــ طلاق أي إنسان لا يجزي إلاّ إذا كان جامعاً للشروط الشرعية ومنها الصيغة المحدّدة، ومنها الشاهدان العدلان، ومنها أن تكون المرأة في طُهرٍ لم يواقعها فيه، فإذا لم تجتمع هذه الشروط فالطلاق باطل، ولا يجوز الزواج بالمطلقة على هذا الأساس.

إشكالية عدّة الطلاق:

إذا كان الغرض من عدّة الطلاق استبراء المرأة من الحمل، فلماذا صارت عدّة الطلاق في الزواج الدائم ثلاثة أطهار تتخلّلها حيضتان، بينما في الزواج المؤقت غير ذلك؟

بالنسبة للزواج الدائم ليست المسألة مسألة استبراء فقط، وإلاّ فإنّ الفحص الدقيق الآن يمكن أن يعطي النتائج 100%، بل إنّ العدّة وضعت من أجل أن يراجع الزوجان موقفهما فيفكّران ويتأمّلان خلال فترة العدّة، ففي العدّة الرجعية تعتبر المطلقة بمنزلة الزوجة، فيجوز للزوج أن يراها سافرة، ويستحبّ لها أن تتزيّن له لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً، بل ولا يحتاج إلى عقد إذا أراد الرجوع إليها.

وقد يقول شخص بالنسبة للمطلّقة طلاقاً بائناً، فإنّها تلحق بها من جهة الحمل، علماً أنّ مسألة الحمل تلاحظ في جانب النوع العام لا الجانب الشخصيّ.

إسقاط خشيةَ الضرر:

إمرأة حامل وهذا الحمل يضرّ بها ولقد نصحها الطبيب بإسقاط الطفل حفاظاً على حياتها وإسقاط الطفل ـــ كما نعلم ـــ هو قتل نفس، فهل عليها أن تسقط الطفل أو تبقيه؟

ــــ هناك عدّة آراء في هذا المقام، هناك آراء لفريق من العلماء منهم السيّد الكلبايكاني وهو أنّه لا يجوز للمرأة في أي حال من الحالات أن تسقط حملها حتى لو كان في أول أيام الحمل وحتى لو كان الحمل يشكّل خطراً على حياتها، وإنّما عليها أن تنتظر أمر الله، وهناك رأي للسيّد الخوئي (رحمه الله) ونحن نوافقه عليه وهو أن هذا الجنين إذا كان في الأشهر الأولى من الحمل بمعنى أنه لم تنفخ فيه الروح كما يقولون، وكان بقاء الحمل يمثّل ضرراً صحياً من الشاق الصبر عليه فإنّه يجوز لها أن تسقطه، أما بعد نفخ الروح فلا يجوز الإسقاط إلاّ في حالة ما إذا كان بقاء الجنين يؤدّي إلى موت المرأة أو يشكّل خطراً على حياتها فعند ذلك يكون إسقاطه من باب الدفاع عن النفس، ولذلك فإنّ عليها أن تعرف هل أنّ هذا الجنين هو في مرحلة ما قبل نفخ الروح أو بعدها، ثم هل أنّ هذا الضرر بسيط يمكن الصبر عليه، أو أنّه فوق العادة، ثم ترجع إلى من تقلّد فإنّ عليها أن تتبع تقليدها في هذه المسألة.

مانع بدون موافقة الزوج:

إمرأة تريد وضع مانع حمل من غير موافقة زوجها وهي تعلم أنّه لا يقبل، فما هو حكمها الشرعي؟

ـــ لا مانع من ذلك على رأينا وعلى رأي السيّد الخوئي (رحمه الله) لأنّها حرّة في جسدها، نعم هناك فرق بين امرأة ولدت اثنين أو ثلاثة من الأولاد وأرادت أن توقف الحمل إمّا نهائياً أو لمدّة من الزمن وكان زوجها يريد الأولاد ففي هذه الحالة يجوز لها منع الحمل لأنّها حرّة في جسدها، أمّا إذا فرضنا أنّها كانت في أول زواجها ولا تريد الإنجاب فهنا لا يجوز لها ذلك لأنّ طبيعة عقد الزواج يختزن في داخله أن تكون المرأة مستعدةً للحمل بمقدار حمل طبيعي كأن يكون واحداً أو اثنين أو ثلاثة، أمّا إذا أرادت أن ترتاح من الحمل لمدة معيّنة فيجوز لها وضع مانع مؤقت.

 

 

الزواج بمسيحية:

تزوّجت من فتاة مسيحية ووعدتني قبل الزواج أن تسلم وبعد أن تزوّجتها لم تنفذ وعدها لي، فما حكم زواجي؟

ــــ إنّ هذه المسألة هي محلّ خلاف بين الفقهاء، فالسيّد الحكيم (رحمه الله) والسيّد الخوئي (رحمه الله)، ونحن نتّفق معهما، يقولان إنّ زواج المسلم بالكتابيّة جائز، لأنّ الله تعالى يقول {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ}  فلا يحرم زواج المسلم من الكتابيّة حتّى لو بقيت على دينها، ولكنّنا لا ننصح بذلك لأنّ الإنسان لا بدّ أن يختار أمّاً لأولاده تعيش الإسلام في روحيّتها وفي عملها وفي موقفها وموقعها.

الزواج من زوجة الخال:

هل يجوز التزوّج من زوجة الخال الميت؟

لا مانع من ذلك، فزوجة الخال أو زوجة العمّ أو زوجة الأخ وكلّ مَنْ ليست بمحرم يجوز الزواج بها.

مطلقة أثناء الدورة:

امرأة طلّقها زوجها وهي في أيام العادة وقد كتمت عليه هذا الأمر فما حكمها، مع العلم أنّها بعد انتهاء العدّة تزوّجت من شخص آخر؟

ــــ الزواج الثاني باطل وتحرم على الزوج الثاني مؤبّداً إذا كان قد دخل بها، وإن لم يدخل بها فإذا كانت عارفة بأنّها ذات زوج وعارفة بالحكم فإنّها تحرم على الثاني مؤبّداً وليس لها أن تتزوّج بأيّ شخص إلاّ بعد طلاقها من زوجها الأول لأنّها ما تزال زوجة له ما دام الطلاق باطلاً.

 

 

 

استنكار تحريم المتعة:

عندما حرَّم عمر بن الخطاب زواج المتعة لماذا لم يقف الإمام عليّ (عليه السلام) في وجهه خاصّة وأنّه حرّم حلال محمّد، وهل حديث الإمام عليّ "لولا تحريم عمر لزواج المتعة لما زنى إلاّ شقي" إلاّ دليل على تقدير الإمام لأهمية المتعة؟

ــــ لقد استنكر الإمام (عليه السلام) وبعض الصحابة ذلك حتى ينقل أنّ "عبد الله بن عمر" و"عبد الله بن عباس" استنكرا ذلك، كما تحدّث الإمام عليّ (عليه السلام) عن هذا الأمر، وهذا الحديث الذي ذكرته في سؤالك هو حديث صحيح في مضمونه.

الزواج بغير ذات بعل:

هل يجوز الزواج من امرأة من أهل الكتاب مهجورة لفترة طويلة من زوجها لأنّه لا يوجد طلاق في شريعتهم؟

ــــ لا يجوز ذلك لأنّه لا يجوز الزواج بذات بعل سواءً كانت مسلمة أو كانت كتابية.

ناتج علاقة غير شرعية:

تمّت علاقة غير شرعية بين رجل وامرأة وبعد ظهور الحمل تحوّلت إلى علاقة شرعية بالعقد على المرأة فما هو حكم الولد؟

ــــ هو ولد غير شرعي حتّى لو فرضنا حصول العقد لأنّ الولد الشرعي هو الذي تنعقد نطفته في ظلّ علاقة شرعية بحيث يكون انعقاد النطفة في ظلال العلاقة الشرعية وهو ولد زنا في الحالة المذكورة في السؤال حتّى لو تزوّج أبوه بأُمّه بعد ذلك.

حقّ مطلّقة:

ساءت علاقتي بزوجتي جداً ولذلك طلّقتها وسجّلت لها بيتاً من شقتين واحدة تسكنها وأخرى تؤجّرها لمصرفها فما هو واجبي اتّجاهها بعد ذلك لإبراء ذمتي شرعاً؟

ــــ إذا كنت قد أعطيتها حقّها وأعطيتها زائداً على ذلك كما ذكرت أو على أساس الصلح بينك وبينها فليس عليك شيء من الناحية المالية، ولكن إذا كنت قد أسأت إليها في حياتها وأسأت عشرتها كما لو كنت شتمتها وأخرجتها من بيتها من غير حقّ فعليك أن تسترضيها إذا لم تكن قد سامحتك.

عقد قران الأطفال:

طفل عمره عشر سنوات وطفلة عمرها أربع سنوات تمّ عقد قران بينهما من قبل أوليائهما وجرى عقد مؤثّق من قبل المحكمة وبعدها بعدّة أشهر تعرّض الطفل إلى حادث فأدّى إلى وفاته هو ووالده فهل للطفلة حقّ في الإرث؟

ــــ إذا كان العقد صحيحاً، حيث يمكن للوليين إذا رأيا مصلحة للطفل والطفلة أن يعقدا زواجهما بلحاظ بعض المصالح التي تتعلّق بحياتهما المستقبلية أو بلحاظ الابتعاد عن بعض المفاسد، فيكونا ـــ والحال هذه ـــ زوجين حتى لو لم يكونا بالغين، لأنّ من حقّ الولي أن يعقد لابنه ومن حقّ الولي أن يعقد لابنته والعقد صحيح من الناحية الفقهية، وإذا كان قصد الزوجية بمعناها الصحيح وكانت هناك مصلحة ولم يكن ثمّة مفسدة فهذا الطفل هو زوجها وبذلك ترثه كما ترث الزوجة زوجها في الحالات الطبيعية.

الزواج في العدّة:

امرأة مطلّقة تزوجت في العدّة ولم تكن تعلم بالحكم وعندها ثلاثة من الأولاد هي ملتزمة فما هو حكمها؟

ــــ هناك إجماع على أنّ مَنْ تزوجت في العدّة ودخل بها زوجها تحرم عليه مؤبداً وعليها أن تنفصل عنه.

الوضع بعد الطلاق:

امرأة حامل طلّقت وبعد طلاقها بعشرين يوماً وضعت جنينها، فهل يحتسب هذا الوضع من عدّتها أم لا، مع العلم أنّ عدّة طلاق الحامل إلى ما بعد الوضع؟

ــــ يقول تعالى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ}(1).

 

التمتّع بالزانية:

يقول بعض العلماء بالجواز بالتمتّع بالزانية ولو كانت من ذوات الأعلام، وجاء في القرآن الكريم: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}(1)، فكيف نوفّق بين الاثنين؟

ــــ بعض العلماء يقولون أنّ الآية ليست واردة في بيان حكم شرعي بل من قبيل "كلُّ شكل لشكله ألفُ" {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ}(2)، أي أنّ الزاني يحبّ الزواني، أمّا المؤمن فيحبّ المؤمنة وحرّم ذلك على المؤمنين فبعضهم يحمل التحريم على الكراهة الشديدة وبعضهم يحملها على ظاهرها وهو الحرمة ويحملها على الزانية المشهورة بالزنا.

التلفّظ في عقد الزواج:

أحد الأشخاص تزوّج امرأة لم تستطع لفظ حرف الجيم، فما حكم عقد الزواج في لفظها "زوجتك"؟

ــــ ليس هناك أيّة مشكلة، فهناك بدل هذه الكلمة كلمة ثانية وهي كلمة "أنكحتك"، وحتّى لو لم يكن اللّفظ فصيحاً، فالصيغة صحيحة إنْ شاء الله.

الزواج من بنت أخت الزوجة:

هل يجوز الجمع بين الزوجة وبين بنت أخت الزوجة حسب مذهب أهل البيت (عليهم السلام)؟

ــــ يجوز الجمع بشرط رضا الخالة.

المسافر عنها زوجها:

امرأة متزوجة سافر عنها زوجها لمدة سبع سنوات فهل تحلّ عليه عند العودة أم يجب عليها إجراء عق زواج جديد؟

ــــ لا تنفصل المرأة عن زوجها إلاّ بالطلاق أو بالموت حتّى لو غاب عنها عشرين سنة ولم يطلّقها ولم تطلب هي الطلاق، فهي زوجته من دون حاجة إلى أي عقد جديد.

عقد الزواج الفضولي:

ما هو عقد الزواج الفضولي؟

ــــ عقد الزواج الفضولي هو أن يقول الرجل زوّجت نفسي من فلانة وفلانة لا تعرف شيئاً، وهذا عقد لا قيمة له إلاّ إذا أجازته صاحبته، أو امرأة تزوّج نفسها من شخص لا يعرف ذلك، فالعقد الفضولي هو ما إذا كان زواجاً أو بيعاً وأنّ أحد الشخصين ينشئ عقداً أو تمليكاً أو زوجية من دون أن يتفاعل معه الطرف الآخر ليقبل ذلك، وهذا عقد باطل لكنّه موقوف على الإيجاب.

زواج باطل:

إحدى المؤمنات تزوّجت بعقد منقطع ثم خطبها أحد المؤمنين وتزوّجها بعد فسخ العقد بأسبوعين أو ثلاثة ولم تكن تعلم أنّها حامل ثم أنجبت طفلاً وحملت بآخر وأنجبت طفلة ثم اكتشفت شبه الطفل بالرجل الأول فأجرت له بعض التحاليل عند عدّة أطباء فأجمعوا على أنّه ابن الرجل الأول الذي تزوّجته في عقد المتعة والرجل الثاني كان على علم بارتباطها الأول؟

ــــ زواجها الثاني باطل وتحرم عليه مؤبداً على أساس بطلان العقد لأنّ الإنسان إذا تزوّج امرأة في عدّتها ودخل بها فإنّها تحرم عليه مؤبداً، وأما الابن فيلحق بالأول لأنّه يعتبر من الفراش ولا اعتبار بفحص الطبيب إلاّ إذا أوجب القطع أما في حالة عدم إيجابه القطع فلا اعتبار به.

صحّة عقد زواج:

شاب سنّي عقد قرانه على فتاة لكن والد الفتاة تراجع وأراد تزويجها من شخص آخر، فهل يستطيع والد الفتاة تزويجها وكتابة عقد ثانٍ دون أن يطلّقها الأول الذي يطالب بمؤخّر المهر حتّى يرضى بطلاقها نتيجة الأضرار المعنوية التي لحقت به؟

ــــ إنّ العقد صحيح ولاسيّما إذا تمّ برضا الأب لمن يشترط إذن الأب في صحّة الزواج والسنّة يشترطون ذلك، والكثير من الفقهاء يشترطون ذلك أيضاً، فإذا تمّ العقد بشروطه فالعقد صحيح ولا يمكن لها أن تتزوّج أي إنسان إلاّ إذا طلّقها الأول.

في الرضاعة:

هل حرمة الرضاعة تشمل الأخوة ما قبل الاثنين وما بعدهما أم تختصّ بهما فقط؟

ــــ عندما يرضع الإنسان من امرأة فإنّ الحكم الشرعي هو أنّه يصبح ولداً لها من الرضاعة كما لو كان ولداً من النسب، أي أنّ أولادها السابقين وأولادها اللاحقين، هم أخوته بلحاظ أنّ ما يحرم من الرضاعة هو ما يحرم من النسب.

شرط في عقد الزوجية:

لو اشترط أحد على زوجته ضمن العقد أن لا تخرج إلاّ بإذنه، فإذا أخلّت بهذا الشرط فهل يعتبر العقد باطلاً؟

ــــ لا يعتبر العقد باطلاً، بل صحيح باعتبار أنّ مخالفة الشرط في عقد الزواج لا يوجب السلطة على الخيار، وأقول لماذا لا يسأل لو اشترطت الزوجة على الزوج أن لا يخرج من البيت إلاّ بإذنها؟ إنّ أبا العلاء المعرّي كان لا يأكل لحماً، فلقد كان نباتياً فأُتي له بفروج وصفه له الطبيب، فقال ما هذا؟ لأنّه كان أعمى، فقيل له: فروج، فأمسكه بيده وقال: "استضعفوك فوصفوك، ألا وصفوا شبل الأسد؟!" فالقضية في الجانب الإنساني تدعوك إلى أن تدرس حاجة المرأة إلى أن تخرج وتتخفّف، هذا طبعاً مع الالتزامات الأخلاقية، فحاجتها مثل حاجة الرجل، فلماذا الرجل لا يقبل أن تُضطهد حرّيته في الخروج والحركة ويريد أن يفرض الاضطهاد على حرّية المرأة، "عامل الناس بما تحبّ أن يعاملوك به"، إنّ زوجتك هي زوجتك بالجسد ولكنّها أختك في الإيمان والحديث يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه".

 

 

محارم الزوجة:

هل يجوز النظر إلى محارم الزوجة بتلذّذ أو الحديث معهنّ بريبة؟

ــــ إنّ محارم الزوجة كأختها وبنات خالتها وعمّتها أجنبيات لا يجوز له أن يتعامل معهنّ إلاّ كما يتعامل الأجنبي مع الأجنبية في النظر والملامسة والحديث وما إلى ذلك.

صيغة الوكالة الزوجية:

هل هناك صيغة لفظ معيّنة للوكالة لإجراء عقد الزواج؟

ــــ ليست هناك صيغة، بل كل ما يدلّ على الوكالة وإنشاء الوكالة كافٍ.

 وكالة الأب:

هل يصحّ لوالد الفتاة أن يكون وكيلاً عنها في إجراء العقد بدون علمها علماً أنّها سوف توافق على منح الوكالة لوالدها بعد إجراء العقد إذا علمت بالعقد مع موافقتها المسبقة في الزواج؟

ــــ إذا كانت قد وافقت عندما أراد والدها أن يزوّجها بدون أن يكون وكيلاً عنها فإنّه يكون عقداً فضولياً، أي أنّ الزواج يعتبر موقوفاً، فإذا أجازت البنت ما قام به أبوها صحّ زواجها وإذا لم تُجز فلا يصحّ.

عقد منقطع بلا اقتناع:

هل يجوز أن أعقد على فتاة عقداً منقطعاً وهي غير مقتنعة به؟

ــــ لا يجوز ذلك لأنّ العقد لا بدّ أن يكون إنشاءً من الطرفين، أي أنّ كلاً منهما يقصد هذا الزواج، فإذا كان أحدهما غير مقتنع بشرعيته أو كان غير قاصد للزواج فمعنى الكلام لقلقة لسان وليس هناك تعاقد فالعقد باطل.

 

 

 

عمر الفتاة الرشيدة:

هل الفتاة الرشيدة تحدّد بعمر تقريبي، وكيف تعرف الرشيدة من غيرها؟

ــــ الرشد هو أن تستطيع أن تدير أمورها المالية والحياتيّة بشكلٍ طبيعي كما يديرها الناس العاديون، وهذا أمر يختلف، فقد تكون فتاة بعمر (12) سنة رشيدة وأخرى بعمر (21) سنة ولكنّها غير رشيدة.

فراق لا طلاق:

رجل خرجت زوجته غاضبة إلى بيت أهلها وبقيت إلى الآن، أي ما يقرب من اثني عشرة سنة وهو يحاول أن يرضيها ولم ترض، فهل تخلع؟

ــــ لا تخلع المرأة إلاّ بطلاق زوجها ولو فرضنا افترقت عنه عشرات السنين أو افترق عنها من دون طلاق فتبقى على زوجيّتها.

التصرّف بمهر البنت:

هل يجوز للأب أن يتصرّف بمهر ابنته؟

لا يجوز له أن يتصرّف بمهر ابنته لأنّه ملكها، ولا يجوز أن يتصرّف بمال أولاده إلاّ بإذنهم تماماً كما هو شأنه مع غير أولاده.

زواج الأقارب:

ينهي بعض الأطباء عن الزواج بالأقارب خوفاً من ظهور بعض الأمراض الوراثية فما رأي الشرع بذلك؟

ــــ الأمراض الوراثية يمكن أن تكون حتى عند الأباعد، إذ يمكن أن تكون هذه الزوجة من غير أقاربك ومصابة بأمراض وراثية من أهلها، ولكن لدينا حديث يقول "تباعدوا لكي لا تضووا" أي لكي لا تضعفوا لأنّه عندما تستهلك الخصائص الوراثية نفسها فحينئذٍ لا توجد خصائص جديدة وربما يكون هناك ضعف أكثر، أو يتوقّف نمو الصفات الجديدة للوليد الجديد.

 

رؤية حلائل الأبناء:

هل يجوز للمرأة أنْ تكشف عن شعرها لوالد زوجها؟

ـــ طبعاً، باعتبار قوله تعالى: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ}(1)، فيجوز لوالد الزوج النظر إلى زوجة ولده فهي بالنسبة إليه من المحارم.

الزواج ببنت الزانية:

لو قامت علاقة غير شرعية بين رجل وامرأة ثم تاب، فهل يجوز له الزواج ببنتها؟

ــــ هناك، في هذه المسألة خلاف، فبعض العلماء يرون أنّ من زنى بامرأةٍ يحرم عليه أن يتزوّج ابنتها، وهناك رأي أنّ الحرام لا يحرّم الحلال، لذلك يجوز له أن يتزوّج بابنتها وإن كان الاحتياط لا بأس به في هذه المسألة، ونحن نفتي بذلك.

الشروط ضمن العقد:

هل الشرط ضمن العقد يمضي، فلو اشترطت على خطيبتي ضمن العقد خدمة والدي ووالدتي وأخلّت بالشرط فهل يفسخ العقد بدون طلاق؟

ــــ "المؤمنون عند شروطهم"، فعليها أن تلتزم، ولكن بالنسبة لعقد الزواج لا يفسخ بتخلّف الشرط لا في الزواج فحسب بل بعقود البيع والإجارة وما إلى ذلك.

تاسعاً ـــ السلوك والمعاملات:

شروط الصيد:

هل يجوز الاصطياد لمن ليست مهنته الصيد وهل تحرم الذبيحة بحرمة الصيد؟

ــــ إذا كان يعرف الصيد وكان يصطاد من أجل أن يأكل فليس محرماً عليه، إذ ليس من الضروري أن يكون الصيد لصاحب المهنة فقط فالمهم أن يعرف كيف يصطاد فإذا عرف واصطاد على الأصول الشرعية وسمّى ومات الصيد قبل أن يدركه فيستطيع أن يأكل من هذا الصيد، وعلى أيّ حال فلا تحرم الطريدة إذا كان الصيد محرّماً تكليفاً.

 

 فتوى التورية:

ذكرتم أنّ التورية حرام إلاّ عند الضرورة والحرج، في حين أنّ فتواكم السابقة هي الجواز؟

ــــ كنت أنظر في الفتوى السابقة إلى أنّ التورية ليست كذباً لأنّ الإنسان المورّي ليس كاذباً بينه وبين الله، فعندما يقول لك إنسان أنّ فلاناً ليس موجوداً هنا وهو في غرفة الضيوف وفهمت أنّه ليس موجوداً في البيت، فهو ليس مسؤولاً عن فهمك وهو ليس كاذباً، وعلى هذا يرى العلماء أنّ التورية ليست حراماً، ولكن لاحظنا بعد ذلك أنّ مفسدة الكذب بالعنوان الثانوي، أي من ناحية تأثيرها في تشويه الواقع لدى الناس الآخرين، تجعل مفسدة التورية هي كمفسدة الكذب، فلا تجوز إلاّ حيث يجوز الكذب، وطبعاً هي أخفّ منه إذا اضطر الإنسان إليها {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(1).

كسر رجل لاعب:

ما هو رأيكم عندما يعيق لاعب فريق كرة قدم لاعباً آخر من أجل منعه من تسديد هدف وماذا إذا أدّت الإعاقة إلى كسر رجله بقصد أو بدون قصد؟

ـــ تارة تكون هذه الإعاقة ناتجة من طبيعة اللعبة، كأن يريد أحد اللاعبين أن يسجّل هدفاً، فيأتي الثاني ليمنعه، فإذا كانت الإعاقة من طبيعة اللعبة فإنّ منعه فلا يكون مأثوماً في  ذلك، أمّا إذا كسر رجله بقصد فهو مأثوم وعليه الديّة، وإذا كانت بغير قصد فهو ليس مأثوماً ولكن عليه الدية أيضاً، دية كسر الرجل. وقد صدر كتاب بعنوان "فقه الحياة" يتضمّن آراءنا ومن ضمن المواضيع التي يطرحها (فقه الرياضة) فالرياضة لها أحكام أيضاً.

القذف بالثلج:

عندما ينزل الثلج فإنّ الكثير من الشباب يرمون المارة به من على السطوح وأغلبية المارة يقبلون ذلك ويبتسمون والبعض لا يقبلون، فهل هناك حرمة على هؤلاء الشباب علماً أنّهم يفعلون ذلك بدافع المزح والدعابة؟

ــــ هو حرام في ذاته حتّى لو قبله الآخر، وهو بهذه الطريقة مظهر تخلّف، نعم قد يذهب البعض إلى محلّ الثلج، يلعبون هناك فيضرب أحدهم الآخر مزحاً ودعابة، فلا إشكال، أمّا أن يصعد للسطح ويرمي المارّة فهذا قطعاً حرام، وهو مظهر تخلّف حضاري لا نريد للمؤمنين أن يأخذوا به.

رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي:

نشزت امرأة من بيت زوجها وهو غائب وسافر خارج بلده لمدة عامين ولم يواصل زوجته فهل تُردّ إليه، وهل يجوز أن تطلّق من قبل القاضي؟

ــــ تبقى على زوجيّته، ومن حقّها أن ترفع قضيّتها إلى الحاكم الشرعي وإذا كان ممتنعاً عن الإنفاق وعن الطلاق يطلقها الحاكم الشرعي.

الرهن مع الإيجار:

ما هو حكم الرهن الكامل للبيت، وماذا لو كان معه مبلغ بسيط للإيجار؟

ــــ ليس ثمّة مانع شرعي، فالرهن لا يعني انتقال المال إلى الراهن، نعم له الحقّ أن يستوثق من المال، فإذا لم يدفع له في غدٍ ماله فله الحقّ أن يبيع البيت، وليس من مشكلة في السكنى في البيت المرهون مع دفع الإيجار.

درء الحدود بالشبهات:

ما معنى ما ورد في الحديث الشريف "الحدود تدرء بالشبهات"؟

ــــ في الحدود مثل حدّ الزنا وحدّ اللّواط أو القتل، لو قامت البيّنة، ولكن هناك شبهة تترك نوعاً من الشكّ في فعل الأمر أو لا، فالشبهة هنا تكون لمصلحة الشخص المتّهم. بحيث يرفع عنه الحدّ، فالشبهة تدرء (تدفع وترفع) الحدّ إذا لم يكن لدى القضاء ما يزيل هذه الشبهة.

أين يدخّن المدخّن:

هل يجوز للمدخّن أن يدخّن في مكان يمنع فيه التدخين أو في مكان لا يدخّن فيه مَن كان حاضراً؟

ــــ في رأينا لا يجوز للإنسان أن يدخّن حتّى لو كان في الصحراء وحده، لأنّ التدخين حرام ـــ كما أكّدنا مراراً ـــ ذلك أنّ ضرره أكثر من نفعه كما هو الخمر والميسر، وكلّ ما كان ضرره أكبر من نفعه فهو حرام، كما لا يجوز للمدخّن ـــ على القول بحلّية التدخين ـــ أن يدخّن في مكان مكتوب فيه ممنوع التدخين، كما أنّه لا يجوز له أن يدخّن بين جماعة لا يدخّنون وينزعجون، لأنّ فيه إضراراً بالمؤمن وهو غير جائز.

سرقة الكهرباء:

إذا كان المؤجر يسرق الكهرباء فما حكم صلاة المستأجر وغسله وخصوصاً إذا كان الانتقال فيه حرج على المستأجر؟

ـــ لا يجوز له أن يفتح زرّ الكهرباء، أمّا بالنسبة لصلاته وغسله فصحيحان، فلو أنّ الماء أصبح حاراً بواسطة الكهرباء وتوضّأ فيه أو اغتسل فلا إشكال ولكنّه مأثوم بسرقة الكهرباء، ولا يقع الإثم على المؤجر ـــ وحده ــــ الذي ربط الكهرباء بالخطّ العام بدون صفة شرعية بل عليه أيضا لأنّه استعمله.

إيصال المخمورين للحانات:

هل يجوز لسائق تاكسي يعمل في الغرب أن ينقل أشخاصاً إلى محلات شرب الخمر فيأخذ منهم أجرة ثم يأخذ من صاحب المحل مكافأة على جلب الزبائن إلى محله وبعد ذلك يتصدّق بهذا المبلغ على الفقراء؟

ـــ هذا تشجيع للناس على الذهاب إلى محل الخمر فيكون أخذ الأجرة عليه من صاحب المحل مصداقاً للسحت المحرّم.

القوّة أو المقاصّة؟

أكل أحد الأشخاص حقّي فهل يجوز لي أن آخذ حقي عن طريق القوّة أو عن طريق المقاصّة؟

ـــ إذا كنت لا تستطيع أن تأخذ حقّك الثابت بطريقة شرعية أو توَقَّفَ أخذُ حقّك على المقاصة فيجوز لك ذلك، والأحوط أن تستأذن الحاكم الشرعي.

ديّة القتيل:

هل يجوز أخذ الفدية أو ما يسمّى بالفصل في حالة قتل الخطأ، كما إذا دهس شخص في سيارة، وفي حالة الجواز هل هناك مقدار معيّن أم حسب الاتّفاق بين الطرفين؟

ــــ هناك ديّة وليس فدية، فإذا فرضنا أنّ شخصاً قُتل خطأ أو بواسطة سيارة أو غيرها فكان القاتل رجلاً فإنّه يجب عليه أن يدفع له الديّة، والديّة على المعروف بالفتاوى أنّه مخيّر بين عدّة مواقع، والقاتل هو الذي يدفع الديّة بأن يختار الأقل وأقلّهن هذه الأيام تقريباً الفضة ومقدارها عشرة آلاف درهم أي (25) كيلو فضّة أي ما قيمته (5000 ــ 6000) دولار تقريباً، أمّا إذا أردنا أن نأخذ بفتوى الدينار فإنّ الــ (1000) تعادل تقريباً (40) ألف دولار ولعلّ هذا أقرب من جهة الدليل وأكثر تأثيراً في الردع حتّى لا يتجرّأ الناس عندما يرون الديّة المقدّرة بخمسة آلاف دولار فيقول أحدهم: أقتل وأدفع!!.

شاة بخروف:

إذا نذر شخص أن يذبح خروفاً فهل يجوز ذبح الشاة بدلاً عنه مع العلم أنه غير مضطر، وهل يجوز إيفاء النذر بشيء آخر بإعطاء قيمة الخروف إلى فقير؟

ــــ إذا كان نذره شرعياً وكان صحيحاً فإنّ قصد الخروف بمعنى الذكر فيجب عليه أن يفي به، أمّا إذا كان مقصوده من الخروف ما يعمّ الشاة أيضاَ فيجوز له ذلك.

أما أن يعطي ثمنه لشخص فلا يجوز إلاّ إذا كان يعطي ثمنه لشخص ليشتري خروفاً ويذبحه وفاءاً للنذر.

اثنان بإثنين:

اعتقل أخي في سجون الطاغية وضاع خبره، وبعد سنة جاء أحد رجال الأمن وقال إنّه موجود وهو قادر على أن يواجهني معه ولكن بثمن، وطلب مني خروفين ومضى أكثر من ثلاثة أشهر واتّضح لي أنّه كاذب وبعد ذلك قمت بسرقة الخرفان من بيته، فهل تعتبر هذه سرقة أتحمّل إثماً عليها؟

ــــ إذا كان أخذ خروفين فلك الحق أن تأخذ خروفين أمّا ثلاثة فلا يجوز لأنّه {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم}(1) أمّا كونه رجل أمن أو كذا فهذا لا يحلّل ماله.

بين التأكيد والتشكيك:

يشرف على ذبح الدجاج في الدانمارك (المركز الثقافي الإسلامي) في "كوبنهاكن" وهو المسؤول عن (شركة دابنو) التي تصدّر للخليج، وقد كلّمتهم مؤخراً هاتفياً بنفسي، وقالوا إنّ ذبحهم حلال وهم المسؤولون شرعاً عن كلّ ختم يحمل اسمهم وفي عاتقهم، علماً أنّهم من إخواننا السنّة، لكنّ البعض في الدانمارك يشكّكون ويقولون أنّ ذلك غير صحيح، فهل يجوز أن نكتفي بقول هؤلاء الإخوة المسؤولين عن المركز الذين ذكروا أنّ ذبحهم حلال وأنّهم هم المسؤولون عن كل ختم؟

ــــ إذا كانوا مسلمين أخبروا بذلك، كما يذكر السؤال، فإنّ ما يصدر عنهم وما يؤخذ منهم يحكم بكونه مذكّى إذا كانوا موثوقين، وكانت الذبيحة تحت أيديهم، إلاّ أن يثبت خلافه، لأنّ "يد المسلم أمّارة على التذكية" إلاّ أن يثبت الخلاف.

إهداء الأعضاء:

ما هو رأيكم بإهداء أعضاء البدن للآخرين؟

ـــ إذا لم تكن موجبة للخطر على الحياة فيجوز ذلك من باب {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}(2) فإنّ الله، يحبُّ المؤثرين على أنفسهم، ولا إشكال أنّ إعطاء الإنسان بعض أعضاء بدنه لمن يحتاج إليه هو من أروع أنواع الإيثار.

 

قتل الكافر:

هل يجوز قتل الكافر لمجرّد كفره أو أنّ القتل يدور مدار المحاربة؟

ــــ رأينا أنّ القتل يدور مدار المحاربة.

دخان "الأركيلة":

هناك فتوى لسماحتكم في تحريم التدخين، وأنا من مقلّديكم، وكنت عارفاً بالفتوى لكنني نسيتها عندما بدأت أدخّن "الأركيلة" وأنا الآن أحاول ترك التدخين ولكن دون جدوى، فهل أنا مأثوم؟

ــــ إنّ الأركيلة أخطر من السيجارة، لأنّ الأطباء وهم أهل الخبرة يقولون بأنّ كل نَفَس "أركيلة"، ــــ حسب الاصطلاح ـــ يساوي علبة دخان ذات عشرين سيجارة في رأي الأطباء وخمسة علب أي مائة سيجارة في رأي طبيب آخر. فقبل أن تكون مأثوماً عند ربّك بهذه الفتوى أنتَ مأثوم عند نفسك لأنّك تظلم نفسك.

فبإمكانك أن تركّز إرادتك في مسألة الإقلاع عن التدخين كليّةً، وهنا يمكنني أن أعطيك تجربتي في هذا الصدد، فقيل أربعين سنة كنتُ مدخّناً بشكل فوق العادة ـــ وتركت التدخين في وقت كان يدخّن فيه من لا يدخّن، والعراقيون يعرفون بأنّ السجائر توزّع على الناس في عاشوراء بشكل مجّاني وفوق العادة، فتركتها في أوّل محرّم من دون يمين، ولقد شعرت ببعض الضيق أياماً ولكنّ الترك أصبح عادة عندي.

فالقضية هي قضية إرادة ولهذا الأخ فسحة في أن يقلّد غيري في هذه المسألة ـــ لأنّني أقول بالتبعيض ـــ لكنني أريد له أن يرحم نفسه وأنْ لا يظلمها.

طعام مجالس العزاء:

ما حكم من يأخذ الطعام إلى بيته من مجالس العزاء والفواتح المقامة في الحسينيات على رغم علمهم بذلك؟

ــــ أعتقد أنّ ليس ثمّة مشكلة في ذلك، فباذل الطعام لا يرفض ذلك خاصّة إذا كان أهل بيته جياعاً أو محتاجين فثوابه سيكون أكثر، فلتكن لدينا ثقة بالناس أنّهم يحبّون الخير حتّى بهذه الطريقة، أما إذا عرف قبولهم فلا يجوز له، لكنّهم في الغالب لا يمانعون.

في فقه الرياضة:

في بعض المساعدات الرياضية ككرة القدم ـــ مثلاً ـــ يقوم اللاعب بعد تسجيله هدفاً بحركات انفعالية والصراخ وما إلى ذلك ممّا يخرج عن الأدب الاجتماعي في الحالات الطبيعية، فما حكم ذلك، وكذلك بالنسبة للجمهور الذي يخرج عن طوره فيؤيّد ويشجّع بصراخ؟

ــــ  إذا كنّا نتحدث عن مخالفة ذلك للعرف الاجتماعي، فإنّنا نقول بأنّ لكلّ مجتمع عرفه، ولكن مهما كان العرف الاجتماعي، فلا بدّ من إيجاد توازن في حركة هذا العرف، فالكثير من حركات المشجعين قد تثير بعض الحساسيات والعصبيات للمشجعين الآخرين، بحيث تؤدي إلى استخدام العنف وإطلاق الرصاص، كما حدث في لبنان وغيره.

فعلى الإنسان الذي يربح أن لا يكون دوره دور الذي يسقط معنوية الطرف الثاني، وهذا هو الفرق بين اللعبة الرياضية وغيرها، فكما توصف الألعاب الرياضية بأنّها تحفظ روح المحبّة والكرامة للمغلوب، فعلى اللاعبين أن يلتزموا بشعاراتهم، ولا شكّ أنّ الطريقة الانفعالية التي تشاهدونها لا تتناسب مع وقار الإنسان وانضباطه.

  إلقاء النفس في التهلكة:

ما حكم من سلَّم نفسه للسلطة في العراق، وهو مطلوب بحيث لا يقلّ حكمه كما تعلمون عن الإعدام، فهل يعتبر ذلك من إلقاء النفس في التهلكة؟

هذا من إلقاء النفس في التهلكة لأنّه تعريض للنفس إلى التهلكة، ولما كان السائل يعرف أنّ الوضع في العراق ـــ كخطّ عام ـــ هو الإعدام، فإنّه لا شكّ إلقاء للنفس في التهلكة.

 

 

الذبح بالحديد:

يقول الفقهاء إنّ الذبح لا بدّ أن يكون بالحديد إلاّ عند الضرورة، فما هي هذه الضرورة؟

ــــ أولاً: المقصود ـــ حسب فهمنا للأخبار ـــ من عنصر الحديد السكّين الحادّ في مقابل الحجر وفي مقابل العظم، لأنّ بعض الناس يستشكلون استخدام السكاكين الاستيل لأنّها ليست حديداً، وثانياً يرى بعض العلماء كالسيد الخوئي أنّ الاستيل قسمٌ من الحديد.

فلا ذكاة إلاّ بالحديد أي لا يجوز الذبح بالعظم أو بالحجر أو ما إلى ذلك إلاّ في حال الضرورة.

فعندما لا يجد سكيناً يستطيع أن يذبح بالآلات الأخرى.

قطع يد السارق:

هل يجوز للحاكم الشرعي في ظلّ دولة إسلامية لا توجد فيها عدالة اجتماعية 100% أن يقطع يدَ سارق سرق ليكفي حاجته أو ليسدّ رمقه؟

ــــ عندما يكون في حالة الاضطرار لا يُقام الحدّ عليه، ولكن تقدير هذا يرجع للحاكم الشرعي الذي يدرس طبيعة الظروف التي تحيط بسرقة السارق من خلال المسألة الخاصّة ومن خلال الجوّ العام.

في فقه الطب:

لا يزال جانب مقاربة الطبيب المسلم للمريضة المسلمة وغير المسلمة مجلبة للإحراج لكلّ من الطبيب والمريضة لقلّة المواد الفقهية الناظمة لهذه العلاقة المتشدّدة في حال وجودها على قلّتها بما لا يسمح بالممارسة الطبيّة الحديثة، علماً أنّ سرطان الثدي وسرطان عنق الرحم لا علاج لهما إلاّ بالفحوص الدورية لكشف الآفة باكراً والسيطرة عليها فهل من إضاءة حول هذه النقطة علماً أنّ الفحوص تتطلّب الخبرة والمعرفة والدقّة في الفحص المجهري بأيدي خبيرة مجرّبة، والفحص ينتظم بالمراحل التقليدية المطبقة عالمياً في المقاربة الطبّية، التأمّل، الجسّ، الإصغاء وما يتبعها من فحوص أخرى خاصة؟

ــــ إذا كان الرجل أرفق بعلاجها من النساء سواءً كان الأمر وقائياً في الحالات التي يمكن فيها أن يحدث المرض أو كان دفاعياً علاجياً فيجوز للرجل أنْ يعالج المرأة إذا لم تكن هناك امرأة بنفس الخبرة وبنفس التدريب والإمكانات، أو كانت المرأة لا تثق بالطبيبة في هذه الحالة نتيجة حالات نفسية أو نتيجة حالات واقعية فلا مانع للرجل إذا كان أرفق بعلاجها، فيجوز أن ينظر ويفحص ويعالج حتّى المناطق الحسّاسة للمرأة ويجوز للمرأة أن تعرض نفسها عليه، وقد شرحنا كثيراً من ذلك في كتابنا (فقه الحياة)، لذلك أعتقد أنّ هناك شرحاً وافياً لهذه المسألة في هذا الكتاب.

أجرة الأجير:

إذا لم يتّفق صاحب العمل مع الأجير على الأجر قبل العمل فكيف يتمّ تحديد الأجر بعد القيام بالعمل؟

ـــ يرجع إلى أجرة المثل، يعني ما يأخذه أمثاله من العمّال لأمثال هذا العمل.

هل مجادلة البائع في سعر بضاعته حرام أو مكروه؟

ـــ ليس حراماً وليس مكروهاً، ذلك أنّ البائع لا يعطي الثمن الحقيقي منذ البداية غالباً.

احترام قانون السير:

لقد سمعنا أنّ لكم فتوى في مسألة احترام قانون الطرقات، فهل تشمل الفتوى كذلك تجاوز تحديد السرعة في الطرقات بالنسبة لمن يعيش في أوروبا؟

ــــ لا يجوز مخالفة قوانين السير، وليس هذا رأيي فقط، بل هو رأي الكثير من العلماء ومنهم السيّد الخوئي (رحمه الله)، باعتبار أنّ الحفاظ على نظام المجتمع ضرورة، فإذا تجاوزه الناس أدى إلى إزهاق النفوس والأموال، وهذا ممّا لا يجوز لا في أوروبا ولا في غيرها، إلاّ إذا كانت هناك ضرورة فوق العادة واستطاع الإنسان أن يؤمن سيره عن الحوادث الطارئة.

قطع الأصابع الزائدة:

هل يجوز قطع الأصبع الزائد لدى إنسان عند أربعة أصابع زائدة في يديه ورجليه؟

يجوز ذلك باعتبار أنّه قد يشكّل بالنسبة لديه حرجاً أو ضرراً معنوياً أو ما إلى ذلك.

حقن هرمونات مقويّة:

طفلة تبلغ من العمر عاماً ونصف العام وهي دون الطول المناسب لعمرها فهل يجوز إعطاؤها حقناً مقوّية تساعد على الفرز الجيّد للهرمونات؟

ـــ يجوز ذلك.

الدجاج كعقيقة أو أضحية:

هل يجوز ذبح الدجاج لغير القادر على ذبح الغنم في العقيقة أو الأضحية؟

ــــ العقيقةُ يجب أن تكون من الغنم ولا يمكن أن تكون الدجاجة عقيقة أو أضحية، وإذا لم يستطع ذبح الغنم فليتصدّق بهذه الدجاجة على الفقراء فلعلّ الله يعطيه ثواب العقيقة وثواب الأضحية.

المقدار الشرعي لطول اللّحية:

ما هو المقدار الشرعي لطول اللحية حيث نرى أنّ البعض يطلقون لحاهم أكثر من المتعارف عليه والذي نعرفه هو أربعة أصابع متطابقة، وفي الحديث "ما زاد عن قبضة فهو في النار"؟

ــــ صحيح نّ اللّحيةأنأنّ اللّحية جمال، ولكن الله يريد للإنسان إذا ربّى لحيته أن يجعلها بطريقة جمالية لأنّ جمال وجهك ليس شيئاً يخصك ولكنّه شيء يخصّ الآخرين أيضاً، فأنتَ الآن تعيش مع جمال وجهك أمام المرأة لترضي ذاتك ولكنك عندما تعيش مع الآخرين فإنّك تفرض عليهم وجهك، فإذا كان مقطباً فإنّك ترهق مشاعرهم وإذا كان وسخاً فإنّك تسيء إليهم ولاسيّما أهل بيتك لأن الكثير من الرجال يحبّ لزوجته أن تتزيّن له بكامل الزينة ولكنّه يأتي أشعث أغبر لا يتزيّن لا في هندامه ولا في لحيته.

وقد ورد في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "تزيّنوا لهنّ كما يتزيّن لكم فإنّهن يحببن منكم ما تحبّونه منهنّ" وهذا جانب إنساني لأنّ على الإنسان أن يتحرّك بطريقة جمالية في وجهه وفي شعره وفي هندامه وفي طريقه مشيه فإنّ الله جميل يحبّ الجمال علينا أن نعيش هذا الجمال، في أنفسنا وفي الآخرين بحسب حدود الله في ذلك.

حادث مقتل أحد المارّة:

لو أنّ عاملاً استأجرتُه لينقل الحجر إلى أعلى السطح فوقعت الحجارة على رأس أحد المارّة وأدّت إلى وفاته فمن هو المسؤول عن هذا الحادث ومستحقّاته؟

ــــ مبدئياً، المسؤول عن هذا الحادث هو العامل لأنّه هو الذي مارس القتل وإن كان خطأ، والديّة عليه، ولكن حسب قانون العمل الذي يلزم أصحاب العمل كشرط ضمني في عقد العمل فإنّ صاحب العمل يتحمّل نتائج ما يحدث في الورشة التي يشرف عليها، فلا بدّ من أن يتحمّل صاحب العمل ذلك. فمبدئياً يتحمّل العامل المسؤولية إلاّ إذا كان هناك تبانٍ والتزام ضمني بأن يكون قانون العمل هو الذي يحكم بين العامل وبين صاحب العمل في كلّ النتائج فتكون الديّة عندئذٍ على صاحب العمل.

الكاميرات الخفيّة:

انتشرت الكاميرات المخفية في صالات الأفراح، فهل يجوز للمحجّبات الذهاب إلى هذه الصالات مع عدم العلم بوجود الكاميرات؟

ــــ إذا لم يكنّ عالمات فهنّ معذورات في ذلك، إلاّ إذا كانت لديهنّ فكرة في هذا الموضوع، أي أنّ الآخرين يستغلون ذلك لأغراض غير شرعية أو لابتزازهنّ بطريقة أو بأخرى فعليهنّ أن يحفظن أنفسهنّ من ذلك. ونحن ننصح للمؤمنات أن يستعملن الحذر في التردُّد على المسابح النسائية الخاصة أو صالات الأفراح وذلك بالتأكد من أمانة القائمين عليها في عدم وجود كاميرات خفية أو عيون سحرية أو متلصصين على النساء لأنّ ذلك قد يوقعهن في حالات التهديد والابتزاز من قِبَل الأشرار لإخضاعهن تحت التهديد لما يريدونه منهن ممّا لا يتناسب مع العفّة والموقع الاجتماعي.

اتّفاق داخل اتّفاق:

أنا أعمل في شركة حكومية متخصّصة بالبناء وعندها أسعار محدّدة لكلّ نوع من الأعمال فالبناء بسعر محدّد والبلاط بسعر معيّن، وهكذا، فإذا أتيت بعمال واتّفقت معهم على سعر أقلّ من سعر الشركة، فهل يجوز أخذ فارق السعر علماً بأنّ العمال راضون بالسعر المتّفق عليه معهم؟

ــــ إذا كنت أنتَ المستأجر وفرضنا أنّك تلتزم بالعمل لدى صاحبه ثم تستأجر أناساً ليقوموا به بأجرٍ أقلّ فهذا لا يجوز إلاّ في الحالة التي تقوم فيها ببعض العمل وتستأجر العمال بالأقل من الأجرة في الباقي فإنّه يجوز، وأما إذا كنت تأتي بالعمال على أساس أن تتّفق معهم ليعطوك شيئاً من أجرتهم لقاء توظيفهم، فهذا يجوز وإن كان عملاً غير أخلاقي باعتبار أنّك تستغلّ الإنسان الضعيف بطريقة قانونية.

خبز الخبّاز السكّير:

هل يجوز تناول الخبز من الخبّاز الذي يُعرف بشربه للخمر؟

ــــ يجوز ذلك، لأنّه لا علاقة بين حلّية الخبز وشربه الخمر، ولكن ينبغي للمؤمنين أن يقاطعوا شارب الخمر فلا يبايعونه ولا يشارونه ما أمكنهم ذلك، أمّا إذا كان هناك حرج أو ما أشبه ذلك فلا مانع منه.

هجرة بسبب المخاطر الأمنية:

إذا احتمل المجاهد تعرّضه لمخاطر أمنية في البلد الإسلاميّ الذي يعيش فيه مستقبلاً، فهل هجرته إلى بلد أوروبي أكثر ضماناً تعتبر هجرةً في سبيل الله؟

ــــ عليه أن يدرس هذا الاحتمال وواقعيته جيداً لأنّ القضية ربما تكون أوهاماً تخطر في ذهنه أو مخاوف لا حقيقة لها، فإذا كانت هذه أفكاراً حقيقيّة وبنسبة كبيرة جداً، فلا يجوز له الهجرة إلاّ إلى بلد يأمن فيه على دينه وعلى دين أهله لأنّه لا يجوز للإنسان بأن يتعرّب بعد الهجرة، أي أن يهاجر إلى بلد يضعف فيه الدين.

هل زراعة التبغ محرّمة؟

ــــ التدخين محرّم عندكم، ولكن هل أنّ زراعة التبغ محرّمة مع العلم أنّ معظم المزارعين يعتمدون على هذه الزراعة؟

ــــ نحن هنا نجوّز التبعيض فإذا ضاق الأمر بهم من جهتنا فقد ينتفعون من فتاوى المراجع الآخرين، ولكن في الوقت نفسه لا نرجّح ذلك لأنّه ثبت علمياً من خلال تواتر آراء الأطباء والبديهيات في الطبّ أنّ التدخين يشارك في موت الكثير من الناس وأنّه المسؤول عن سرطان الفم والحنجرة والرئة وما إلى ذلك، ممّا يجعله في مستوى المادة التي كلّها ضرر.

صناعة يابانية:

إني صاحب محل بيع كاميرات وساعات وأدوات كهربائية والكلّ مكتوب عليها صناعة يابانية وهي ليست يابانية، في الأصل، فإذا سألني المشتري أقع في الحرج بين أن أقول يابانية وتباع بسعر غال جداً وبين أن لا أقول ذلك فيرفض الزبون البضاعة ويشتريها من جاري على أنّها يابانية وبسعر مضاعف وتتكرّر هذه الحادثة عدّة مرّات في اليوم وأنا أتَحَرَّق بين أن أصدق وأحصل على قوت يومي وبين أن أدّعي أنها يابانية كما هو مكتوب عليها، فماذا أعمل؟

ــــ قل له إنّها ليست يابانية كما أنّ كلّ ما في السوق ليس يابانياً ولكن الفرق أنّني لا أُريد أن أغشّك والآخرون يغشونك فإذا كنت تحبّ الغشّ فاشترِ من الآخرين، وإذا كنت تحبّ أن لا يضحك عليك أحد فهذه هي البضاعة أمامك ويمكنك أن تقول ذلك مراراً فيعتاد الناس عليك وعلى صدقك، ولن يجعل الله رزق إنسان في حرام.

النظارات كزينة:

ربما تكون عيون المرأة جميلة بحيث تكون مدّعاة للفتنة، فهل يجوز لها لبس النظارات التي قد تعدّ من الزينة؟

ــــ لسنا أكثر غيرةً من الله سبحانه وتعالى، فهو أباح للمرأة أن تكشف وجهها من دون زينة اصطناعية أخرى على اعتبار أنّ الآية: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}(1)، مفسرة بالوجه والكفّين، وبالنسبة إلى النظارات إذا كانت تعتبر زينة على نحو تتحوّل إلى عنصر إثارة بحيث تؤدي إلى أن يطمع الذي في قلبه مرض فلا يجوز.

الجلد المشكوك التذكية:

ما هو دليلكم على جواز الصلاة في الجلد المشكوك التذكية كالمستورد من الدول الكافرة؟

ــــ لأنّ الدليل الذي دلّ عندنا على ذلك، دلّ أيضاً على أنّ المحرّم هو الصلاة في الميتة "فما علمت أنّه ميتة فلا تصلِّ فيه"، فمتعلّق النهي عن المعلوم، ومفروض السؤال في المشكوك.

المتاجرة بالمسروقات:

لي صديق يتاجر بالأشياء المسروقة، فما هو حكم الهدية المقدّمة منه إليّ؟

ــــ إذا عرفت أنّها من المسروقات فلا يجوز لك أن تقبلها.

بيع المُسكر:

لديّ محل في إحدى الدول الأوروبية أبيع فيه المواد الغذائية والمشروبات الغازية، فهل هناك مانع شرعي في بيع البيرة لمن يستحلّه من المسيحيين علماً أنّ ذلك سيؤدي إلى زيادة المبيعات الأخرى، فهل يجوز لي ذلك، وماذا لو استخدمت مسيحياً لبيعها؟

ـــ كلّ المُسكرات سواء كانت بيرة أو خمراً لا يجوز بيعها، حتى لمن يستحلّها.

تعطّر المرأة:

إنّ زوجي حاضر في هذا المجلس وهو يقول أنّكم لا تحرّمون أن تتعطّر الزوجة خارج بيتها، وهو يفضّل أن أكون معطّرة دائماً في داخل البيت وفي خارجه، فما هو الصحيح؟

ــــ قلنا إنّه العطر العادي الذي لا يوحي بأيّ شيء، أمّا العطر الذي يؤدّي إلى أن تتحقّق الآية {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}(1) فكلّ شيء يوجب ذلك من عطرٍ وغير عطر فلا يجوز، أمّا العطر العادي الذي يذهب الروائح الخبيثة فلا مانع فيه.

ختمة إستيجار:

بدأت بقراءة ختمة استيجار ثم توقّفت لمدة شهرين، فعندما أعود للقراءة هل أكمل حيث انتهيت أم أقرأ من جديد؟

ــــ عليك أن تكمل من حيث انتهيت.

الإعلانات على جدران المنازل:

هل يجوز لصق الإعلانات على جدران المنازل بدون إذن أصحابها؟

ــــ لا يجوز ذلك ولا كتابة الشعارات على جدران المنازل إذا لم يعلم إذن أصحابها أو علم أنّ أصحابها لا يقبلون، لأنّه لا فرق في ملكية هذا الجدار بين الداخل وبين الخارج فلا يحلّ مال امرئٍ مسلم إلاّ عن طيب نفسه، ولكنّ الناس اعتادوا على الحرام باسم الثورة أو باسم أي شيء من هذه الأشياء، وهذا أمر غير حضاري، فقد يكون صاحب البناية قد صبغها بشكل جيد وجعل لها واجهة ممتازة وتأتي أنتَ لتتجاوز كلّ ذلك لتكتب (يسقط) أو (يعيش) أو (الموت لفلان)، وما إلى ذلك، فإذا أردتم أن تكونوا حضاريين فيجب أن تكون هناك لوحة في هذا الشارع ولوحة في ذاك الشارع لإلصاق الإعلانات، والذي يلصق على جدران الآخرين يكتسب إثماً لأنّه تصرّف في مال امرئٍ مسلم بغير إذنه، وقد صرّحنا عن ذلك في بعض الصحف قبل ما يقارب الستة عشر سنة أيام الحرب اللبنانية.

تناول الأدوية:

هل يجب على الإنسان المريض تناول الأدوية بحيث إن لم يأخذ الدواء يأثم؟

ــــ لا بدّ للمريض أن يداوي نفسه إذا كان المرض يضرّ بصحته ضرراً بالغاً أو يشكّل خطراً على حياته، أما إذا كان المرض عادياً لا يشكّل مثل هذا الخطر على نوعية حركية حياته أو على أصل حياته فلا يجب عليه ذلك.

عاشراً ـــ النذر والقسم:

وفاء النذر:

ذهب رجل إلى السوق واشترى خروفاً علماً أنّه نذر ذلك لولده الصغير المقعد إذا استطاع المشي، لكنّه ذبح الخروف تحت ضغط زوجته قبل أن يستطيع الطفل المشي، ولم يذبحه إيفاءً بالنذر فما حكمه؟

ــــ إنّ ما حصل لا يعتبر وفاءً للنذر، لأنّ المنذور له لم يتحقّق أساساً، فإذا تحقّق النذر بعد ذلك، ونرجو من الله أن يستجيب دعاءه وأن يقضي حاجته ويفرّج عن ولده فعليه أن يذبح خروفاً بدون ضغط زوجته ولكن بضغط تكليفه الشرعي.

الوفاء بعهد الله:

من السهل إعطاء العهد لله سبحانه وتعالى، ولكنّ المشاغل الدنيويّة تصرفنا عن الالتزام بهذا العهد، فكيف يمكن الاستمرار في الاستقامة في طريق الله عزّ وجلّ لاسيّما وأنّنا نعيش أجواءً مليئة بالمغريات؟

ــــ يقول تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}(1)، فعلى الإنسان أن يحاول المداومة على ذكر الله حتّى يمنعه ذلك عن الانحراف ويدفعه إلى الاستقامة في الطريق.

نذور السيدة زينب:

هل يجوز صرف النذور المخصّصة للسيدة زينب بدون إلقائها في القفص؟

ــــ تصرف عن روح السيّدة زينب (عليها السلام) للفقراء.

 

 

الحلف بغير الله:

يروى أنّ ابن عمر سمع رجلاً يقسم بالكعبة فقال له لا تشرك فقد سمعت رسول الله يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" فما مدى صحّة ذلك؟

ــــ أن يكون هذا كفراً أو شركاً ففيه تحفّظ، لأنّ الكفر هو أن تعبد غير الله ومن يحلف بالكعبة لا يعتبرها ربّاً يعبده بل احتراماً لها فبعض الناس عادة يحلف بأبويه، نعم هناك جدل واختلاف في الأخبار أنّ لله أن يقسم بما شاء من خلقه، وهناك حديث عن أهل البيت (عليهم السلام): "أنّ لله أن يقسم بما شاء من خلقه وليس لخلقه أن يقسموا إلاّ به" وهل يجوز الحلف بغير الله أو لا يجوز فذاك جدلٌ بين الفقهاء، أمّا أن يكون كفراً أو شركاً فهذا ما لا نستوضحه.

النذر صلاة ركعتين:

ما مدى صحّة قول البعض إنّي نذرت لله سبحانه أن أُصلّي ركعتين عندما أمتنع عن الفعل الفلاني المحرّم، فهل يجب الوفاء به عندما يحدث ذلك الأمر؟

ــــ نعم لأنّ النذر قد يكون شكراً لله تعالى على ترك الحرام وقد يكون رجزاً للنفس فهذا معناه شكر لله إذا صلّى ركعتين لله لتوفيقه على عدم معصية الله سبحانه وتعالى.

 

 

 

 

 

 

   

 

       

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



(1) نهج البلاغة، الإمام عليّ (عليه السلام)، إصدار المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق، الخطبة (107) ص120.

(1) سورة القلم، الآية: 4.

(1) المعالم الجديدة للمرجعية الشيعية، سليم الحسني، ص 121.

(1) المرجع السابق نفسه، ص 121.

(1) الندوة: الجزء الأول، ط 1، ص 7.

(1) نفسه، ص 13.

(*) 4/1/1997م .

(1) سورة التوبة، 36.

(1) دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) المنسوب إلى أبي حمزة الثمالي.

(1) البحار: ج 70، ص 209.

(2) البحار: ج 70، ص 192.

(1) سورة النساء، الآية: 82.

(2) سورة محمد، الآية: 24.

(3) سورة القيامة، الآيات: 16 ــ 19.

(1) سورة الإسراء، الآية: 14.

(2) سورة المطففين، الآية: 6.

(3) سورة الصافات، الآية: 24.

(4) سورة الانفطار، الآية: 19.

(5) سورة النحل، الآية: 111.

(1) سورة الشعراء، الآية: 88 ــ 89.

(2) سورة عبس، الآيات: 34 ــ 37.

(3) نهج البلاغة: باب المختار من حكمه، الحكمة (138).

(4) سورة البقرة، الآية: 273.

(1) نهج البلاغة: قصار الحكم، ص 379.

(2) المصدر السابق، ص 267.

(1) البحار: ج5، ص 327.

(2) سورة ق، الآية: 18.

(3) سورة النور، الآيتان: 30 ــ 31.

(4) سورة الشورى، الآية: 25.

(5) سورة البقرة، الآية: 222.

(6) سورة التحريم، الآية: 8.

(7) البحار: ج6، ص 21.

(1) نهج البلاغة: المختار من الحكم القصار، الحكمة (420).

 

(*) 15/2/1997م .

(1) البحار، ج 97، ص 573.

(2) سورة البقرة، الآية: 183.

(1) سورة هود، الآية: 113.

(2) سورة الأحزاب، الآية: 58.

(3) سورة النساء، الآية: 105.

(4) سورة النساء، الآية: 107.

(5) سورة الحجرات، الآية: 12.

(6) سورة الحجرات، الآية: 11.

(1) سورة البقرة، الآية: 186.

(2) سورة التوبة، الآية: 72.

(1) سورة آل عمران، الآية: 159.

(1) سورة التوبة، الآية: 128.

(*) 22/ 2/ 1997م.

(1) سورة النازعات، الآيات: 34 ــ 41.

(1) سورة الأنعام، الآية: 153.

(1) سورة النازعات، الآية: 40.

(1) سورة الأعراف، الآية: 194.

(2) سورة الكهف، الآية: 110.

(1) البحار: ج2، ص 106.

(1) سورة المطففين: 6.  

(2) سورة الانفطار، الآية: 19.

(3) سورة النحل، الآية: 111.

(*) 1/ 3/ 1997م.

(1) البحار: ج2، ص 100.

(1) سورة الأحزاب، الآية: 33.

(2) البحار: ج 36، ص 298.

(3) سورة الأحزاب، الآية: 36.

(1) البحار: ج1، ص 96.

(1) البحار: ج1، ص 85.

(1) البحار: ج1، ص 84.

(1) البحار: ج1، ص 161 وهو نظير ما جاء في نهج البلاغة في الحكم القصار (203) "عجبُ المرء بنفسه أحدُ حسّاد عقله".

(1) سورة المطففين، الآية: 26.

(*) 15/ 3/ 1997م.

(1) سورة فصلت، الآية: 34.

(2) البحار: ج 69، ص 165.

(1) البحار: ج64، ص 213.

(1) البحار: ج75، ص 64.

(1) البحار: ج75، ص 61.

(2) البحار: ج75، ص 64.

(3) نفسه: ص 60.

(4) نفسه: ص 60.

(1) نفسه: ص 60.

(*) 22/3/1997م .

(1) البحار، ج1، ص 212.

(1) سورة سبأ، الآية: 28.

(1) سورة البقرة، الآية: 219.

(2) سورة البقرة، الآية: 215.

(3) البحار: ج1، ص 85.

(4) البحار: ج1، ص 85.

(5) البحار: ج2، ص 242.

(6) البحار: ج2، ص 235.

(7) سورة المائدة، الآية: 15.

(1) للشاعر الصوفي السهروردي.

(1) سورة الأحزاب، الآية: 21.

(*) 29/3/1997م .

(1) سورة التوبة، الآية: 40.

(1) سورة آل عمران، الآيتان: 173 ـ 175.

(2) سورة الملك، الآية: 14.

(3) البحار: ج 71، ص 134.

(1) البحار: ج 75، ص 212.

(2) سورة الكهف، الآيتان: 103 ـ 104.

(3) سورة فاطر، الآية: 8.

(1) البحار: ج1، ص 108.

(1) سورة الزلزلة، الآية: 7.

(2) سورة الزلزلة، الآية: 8.

(1) سورة الزمر، الآية: 36.

(2) سورة البقرة، الآية: 268.

(3) سورة النساء، الآيتان: 138 ـ 139.

(1) سورة آل عمران، الآية: 26.

(2) البحار: ج10، ص 362.

(1) البحار: ج78، ص 336.

(1) البحار: ج 70، ص 98.

(*) 5/ 4/ 1997م.

(*) 12/ 4/ 1997م.

(1) سورة البقرة، الآية: 197.

(1) سورة البقرة: 197.

(1) سورة البقرة، الآية: 198.

(2) سورة البقرة، الآية: 198.

(1) سورة البقرة: الآية 198.

(2) سورة البقرة، الآية: 199.

(3) سورة البقرة، الآية: 199.

(1) سورة البقرة، الآية: 200.

(2) سورة القصص، الآية: 77.

(3) سورة البقرة، الآية: 200.

(4) البحار: ج33، ص 492.

(1) سورة البقرة، الآية: 200.

(2) سورة البقرة، الآية: 201.

(3) سورة البقرة، الآية: 202.

(4) سورة البقرة، الآية: 203.

(5) سورة البقرة، الآية: 203.

(1) سورة النساء، الآية: 1.

(2) سورة المائدة، الآية: 35.

(3) سورة التحريم، الآية: 6.

(4) سورة الأنفال، الآية: 24.

(5) سورة النحل، الآية: 53.

(6) سورة آل عمران، الآية: 26.

(1) سورة العنكبوت، الآية: 26.

(2) سورة الفرقان، الآية: 63.

(*) 19/ 4/ 1997م.

(1) البحار: ج 78، رواية: 5، باب: 22.

(1) البحار: ج 92، ص 84.

(1) البحار: ج 22، ص 47.

(2) البحار: ج 24، ص 107.

(1) سورة النساء، الآية: 114.

(2) سورة النساء، الآية: 5.

(3) سورة المائدة، الآية: 101.

(1) البحار: ج 46، ص: 287.

(1) البحار: ج 103، ص 17.

(2) البحار: ج 69، ص: 240.

(1) البحار: ج 23، ص 263.

(2) البحار: ج 75، ص 102.

(3) البحار: ج 16، ص 258.

(4) سورة البقرة، الآية: 194.

(5) البحار: ج 46، ص 153.

(1) البحار: ج 72، ص 236.

(2) سورة لقمان، الآية: 13.

(1) البحار: ج 75، ص 322.

(*) 24/ 4/1997م.

(1) سورة المائدة، الآية: 67.

(2) سورة المائدة، الآية: 3.

(3) سورة المائدة، الآية: 55.

(1) نهج البلاغة: الخطبة 234.

(1) سورة العلق، الآية: 1.

(2) البحار: ج 14، ص 476.

(3) البحار: ج 14، ص 476.

(1) البحار: ج 39، ص 3.

(2) البحار: ج 39، ص 2.

(3) البحار: ج 22، ص 567.

(1) سورة النجم، الآية: 3-4.

(2) البحار: ج 24، ص 107.

(3) البحار: ج 28، ص 45.

(4) البحار: ج 10، ص 484.

(1) البحار: ج2، ص 226.

(2) سورة طه، الآية: 29ـ34.

(1) البحار: ج1، ص 445.

(2) سورة المائدة، الآية: 67.

(1) البحار: ج 40، ص 298.

(2) البحار: ج40، ص298.

(3) سورة آل عمران: الآية 61.

(1) البحار: ج 40، ص 298.

(2) سورة الأحزاب، الآية: 6.

(3) سورة الغاشية، الآية: 21ـ 22.

(4) سورة الإسراء، الآية: 105.

(5) الرواية السابقة نفسها.

(1) سورة المائدة، الآية: 3.

(2) سورة الأحزاب، الآية: 36.

(1) البحار: ج 23، ص 568.

(2) البحار: ج 23، ص 568.

(1) سورة التوبة، الآية: 72.

(*) 3/ 5/ 1997م.

(1) سورة آل عمران، الآيات: 59 ـ 62.

(2) سورة آل عمران، الآية: 59.

(*)

(1) سورة الروم، الآية: 30.

(2) البحار: ج 43، ص 261.

(1) البحار: ج 44، ص 669.

(1) البحار: ج 44، ص 382.

(2) البحار: ج 44، ص 329.

(1) البحار: ج 97، ص 64.

(1) سورة الإسراء، الآية: 53.

(2) سورة فصلت، الآية: 34.

(3) سورة النحل، الآية: 135.

(1) سورة البقرة، الآية: 141.

(1) سورة القصص، الآية: 77.

(2) البحار: ج 45، ص 135.

(1) سورة التوبة، الآية: 71.

(2) البحار: ج 45، ص 7.

(3) البحار: ج 45، ص 9.

 

(*) 24/ 5/ 1997م.

(1) سورة آل عمران، الآية: 31.

(2) سورة النجم، الآية: 3 ـ 4.

(3) سورة النساء، الآية: 59.

(4) سورة الأحزاب، الآية: 36.

(5) سورة التوبة، الآية: 23.

(1) سورة لقمان، الآية: 15.

(2) سورة التوبة، الآية: 23.

(3) سورة التوبة، الآية: 24.

(1) سورة التوبة، الآية: 24.

(2) سورة المجادلة، الآية: 22.

(1) البحار: ج 66، ص 622.

(2) البحار: ج 27، ص 94.

(3) سورة المجادلة، الآية: 22.

(4) سورة المجادلة، الآية: 22.

(5) سورة المجادلة، الآية: 22.

(1) سورة مريم، الآية: 41.

(2) سورة مريم، الآية: 42.

(3) سورة مريم، الآية: 12.

(1) سورة مريم، الآية: 43.

(2) سورة مريم، الآية: 44.

(3) سورة مريم، الآية: 45.

(4) سورة مريم، الآية: 46.

(5) سورة الفرقان، الآية: 63.

(6) سورة مريم، الآية: 47.

(1) سورة مريم، الآية: 48.

(2) سورة مريم، الآية: 49.

(3) سورة مريم، الآية: 50.

(4) سورة الشعراء، الآيتان: 69 ـ 70.

(5) سورة الشعراء، الآية: 71.

(6) سورة الشعراء، الآية: 72.

(7) سورة الشعراء، الآية: 73.

(8) سورة الشعراء، الآية: 74.

(1) سورة الشعراء، الآيتان: 75 ـ 76.

(2) سورة الشعراء، الآية: 77.

(3) سورة الشعراء، الآية: 78 ـ 82.

(4) سورة الشعراء، الآية: 83.

(5) سورة الشعراء، الآية: 84.

(6) سورة الحج، الآية: 78.

(7) سورة البقرة، الآية: 135.

(8) سورة آل عمران، الآية: 67.

(1) سورة الشعراء، الآية: 85.

(2) سورة الشعراء، الآية: 86.

(3) سورة الشعراء، الآية: 87.

(4) سورة الانفطار، الآية: 19.

(5) سورة الشعراء: الآية: 88.

(6) سورة الشعراء، الآية: 89.

(*) 31/ 5/ 1997م.

(1) البحار: ج 46، ص 105.

(1) سورة الحجرات، الآية: 13.

(2) سورة الحج، الآية: 38.

(3) البحار: 46، ص 95.

(1) سورة المؤمنون، الآية: 101.

(2) سورة الأنبياء، الآية: 28.

(3) سورة الأعراف، الآية: 56.

(4) البحار: ج 46، ص 101.

(1) البحار: ج 67، ص 204.

(2) البحار: ج 46، ص 311.

(3) البحار: ج 46، ص 107.

(1) البحار: ج 22، ص 435.

(2) سورة الفاتحة، الآية: 4.

(*) 7/ 6/ 1997م.

(1) سورة البقرة، الآية: 228.

(1) سورة التحريم، الآية: 6.

(1) سورة المطففين، الآية: 26.

(*) 14/ 7/1997م.

(1) البحار: ج1، ص 353.

(2) سورة الأحزاب، الآية: 33.

(1) سورة النجم، الآيتان: 3ـ 4.

(2) سورة المسد، الآية: 1.

(1) البحار: ج 43، ص 253.

(2) سورة الإنسان، الآيتان: 8 ـ 9.

(1) نهج البلاغة، الرسالة: 62.

(2) نهج البلاغة، الخطبة: 73.

(3) نهج البلاغة، الخطبة: 3.

(*) 21/ 6/1997م.

(1) نهج البلاغة، الإمام عليّ، الكلمات القصار (431).

(2) سورة الأعراف، الآية: 32.

(1) البحار: ج 71، ص 9.

 

(1) سورة الحجرات، الآية: 13.

(1) نهج البلاغة: الكتاب 45.

(*) 28/ 6/1997م.

(1) سورة الأحزاب، الآية: 23.

(1) سورة البقرة، الآية: 197.

(1) نهج البلاغة، الخطبة: 184.

(1) سورة الإسراء، الآية: 14.

(2) سورة المدثّر، الآيات: 38 ـ 47.

(1) سورة الأنفال، الآية: 63.

(1) البحار، ج 44، ص 329.

(*) 5/ 7/ 1997م.

(1) سورة الأنبياء، الآية: 34.

(2) سورة الزمر، الآية: 30.

(3) سورة آل عمران، الآية: 144.

(1) سورة الأحزاب، الآية: 21.

(1) سورة الحجرات، الآية: 14.

(1) سورة الأنعام، الآية: 108.

(2) البحار، ج 71، ص 209.

(1) سورة النساء، الآية: 59.

(2) سورة العنكبوت، الآية: 46.

(1) هو الشاعر الفلسطيني "إبراهيم طوقان".

(2) سورة الأنفال، الآية: 46.

(3) سورة آل عمران، الآية: 103.

(1) سورة التوبة، الآية: 105.

(2) سورة النساء، الآية: 123.

(3) سورة النساء، الآية: 123.

(4) البحار: ج 64، ص 20.

(5) سورة الحجرات، الآية: 13.

(1) سورة النجم، الآية: 3 ـ 4.

(1) سورة المائدة، الآية: 15.

(2) سورة محمد، الآية: 24.

(*) 12/ 7/ 1997م.

(1) نهج البلاغة، الخطبة: 131.

(1) سورة آل عمران، الآية: 159.

(*) 19/ 7/ 1997م.

(1) سورة الأحزاب، الآية: 40.

(2) سورة الشورى، الآية: 52.

(3) سورة العنكبوت، الآية: 48.

(4) سورة آل عمران، الآية: 191.

(1) سورة القلم، الآية: 40.

(2) سورة آل عمران، الآية: 159.

(3) سورة طه، الآيتان: 43 ـ 44.

(4) سورة طه، الآية: 44.

(5) سورة التوبة، الآية: 128.

(1) البحار: ج 98، ص 167.

(1) سورة البقرة، الآية: 113.

(2) البحار: ج 19، ص 22.

(3) سورة سبأ، الآية: 46.

(1) سورة الفتح، الآية: 29.

(1) البحار: ج89، ص 148.

(2) سورة الفتح، الآية: 29.

(3) سورة آل عمران، الآية: 139.

(4) سورة آل عمران، الآية: 140.

(5) سورة آل عمران، الآية: 26.

(6) سورة النساء، الآية: 104.

(7) سورة آل عمران، الآية: 173.

(8) سورة آل عمران، الآيتان: 174 ـ 175.

(1) سورة التوبة، الآية: 40.

(2) سورة الفتح، الآية: 29.

(1) سورة آل عمران، الآية: 144.

(1) سورة الأنفال، الآية: 24.

(2) سورة النساء، الآية: 59.

(3) سورة آل عمران، الآية: 104.

(*) 26/ 7/ 1997م .

(1) البحار: ج 67، ص 72.

(2) سورة لقمان، الآية: 17.

(3) البحار: ج 68، ص 345.

(4) سورة المنافقون، الآية: 8.

(1) البحار: ج 68، ص 345.

(1) البحار: ج 70، ص 104.

(1) البحار: ج22، ص 350.

(1) البحار: ج 73، ص 283.

(2) البحار: ج 73، ص 284.

(3) سورة ص، الآية: 76.

(4) سورة العنكبوت، الآية: 69.

(*) 2/ 8/ 1997م.

(1) سورة الفرقان، الآية: 27.

(2) سورة الفرقان، الآية: 27.

(3) سورة الأحقاف، الآية: 13.

(1) سورة آل عمران، الآية: 31.

(2) سورة الأنفال، الآية: 24.

(1) سورة الأحزاب، الآية: 21.

(2) سورة الفرقان، الآية: 29.

(3) سورة الحشر، الآية: 16.

(4) البحار: ج 74، ص 188.

(1) سورة الأحزاب، الآية: 67.

(1) سورة الانفطار: الآية: 19.

(2) سورة النساء، الآية: 97.

(3) سورة البقرة، الآية: 165.

(4) سورة الحج، الآية: 40.

(5) سورة النساء، الآية: 97 ـ 98.

(6) سورة النساء، الآية: 99.

(1) سورة الأنفال، الآية: 60.

(2) سورة النساء: الآية 139.

(3) سورة النساء، الآية: 97.

(1) سورة الزمر، الآية: 53.

(2) سورة الزمر، الآية: 55.

(3) سورة الزمر، الآية: 54.

(4) سورة الزمر، الآية: 56.

(1) سورة الزمر، الآية: 60.

(2) سورة الزمر، الآية: 61.

(*) 9/ 8/ 1997م.

(1) سورة البقرة، الآية: 109.

(1) سورة النساء، الآية: 89.

(2) سورة يوسف، الآيات: 8 ـ 9.

(1) سورة النساء: الآية 54.

(2) سورة الشورى، الآية: 14.

(3) سورة المائدة، الآية: 27.

(1) الكافي: ج2، ص 307.

(1) الكافي: ج2، ص 306.

(2) الكافي: ج8، ص 45.

(3) الكافي: ج2، ص 307.

(1) سورة الزخرف: الآية: 31.

(1) سورة الكهف: الآية 109.

(2) سورة النحل، الآية: 96.

(1) البحار: ج 72، ص 257.

(2) سورة الأنبياء، الآية: 23.

(1) البحار: ج 58، ص 320.

(2) سورة الفلق، الآية: 5.

(1) سورة التوبة، الآية: 105.

(2) سورة العنكبوت، الآية: 69.

(*) 16/ 8/ 1997م.

(1) سورة يس، الآية: 47.

(1) سورة الشورى، الآية: 38.

(2) سورة النجم، الآية: 3ـ 4.

(1) الكافي: ج2، ص 163.

(1) الكافي: ج2، ص 164.

(2) شرح ابن أبي الحديد، ج 19.

(3) الكافي، ج2، ص 164.

(1) البحار، ج 64، ص 417.

(2) وسائل الشيعة، ج 15، ص 142.

(3) وسائل الشيعة، ج 15، ص 142.

(4) سورة البقرة، الآية: 83.

(5) الكافي: ج3، ص 171.

(1) سورة التوبة، الآية: 105.

(*) 23/ 8/ 1997م.

(1) سورة المعارج، الآية: 24 ـ 25.

(2) الكافي، ج2، ص 151.

(1) سورة النور، الآية: 63.

(2) الكافي: ج2، ص 152.

(3) الكافي: ج2، ص 155.

(1) الكافي: ج2، باب الإنصاف والعدل.

(1) سورة الشعراء، الآية: 88.

(2) سورة عبس، الآية: 34 ـ 36.

(3) سورة الإنفطار، الآية: 19.

(4) سورة الزلزلة، الآية: 7.

(5) سورة الأنعام، الآية: 160.

(6) سورة آل عمران، الآية: 195.

(7) سورة غافر، الآية: 60.

(8) الكافي: ج2، ص 145، باب العدل والإنصاف.

(1) يس، الآية: 47.

(2) البقرة، الآية: 268.

(3) الكافي، ج2، باب العدل والإنصاف مع اختلاف أرقام الصفحات حسب الطبعات.

 

(1) سورة العلق، الآية: 6 ـ 7.

(2) سورة الأنعام، الآية: 152.

(3) سورة المائدة، الآية: 8.

(1) الكافي: ج2، نفس الباب.

(2) سورة المطفّفين، الآية: 26.

(3) سورة الحجر، الآية: 47.

(*) 30/ 8/ 1997م.

(1) الكافي: ج2، ص 361.

(1) الكافي: ج2، ص 361.

(2) سورة الحجرات، الآية: 10.

(3) الكافي: ج2، ص 361.

(1) الكافي: ج2، ص 361.

(2) سورة الحجرات، الآية: 6.

(1) الكافي: ج2، ص 358.

(2) سورة الأعراف، الآية: 12.

(3) الكافي: ج2، ص 359.

(1) البحار: ج 74، ص 165.

(2) الكافي: ج2، ص 351.

(3) الكافي: ج2، ص 351.

(4) المستدرك: ج9، ص 103.

(1) وسائل الشيعة، ج 16، ص 96.

(2) سورة النحل، الآية: 111.

(3) سورة الانفطار، الآية: 19.

(4) سورة الشعراء، الآية: 88 ـ 89.

(*) 5/ 4/ 1997م.

(1) سورة الزمر: الآية 3.

(1) سورة البقرة: الآية: 131.

(2) سورة الأنعام: الآية: 162 ـ 163.

(3) سورة البقرة: الآية: 165.

(1) سورة الحشر، الآية: 19.

(2) سورة البقرة، الآية: 165.

(1) سورة البقرة، الآية: 183.

(1) سورة البقرة، الآية: 165.

(2) سورة النساء، الآية: 139.

(3) سورة التوبة، الآية: 40.

(4) سورة آل عمران، الآية: 173.

(1) سورة آل عمران، الآية: 174.

(2) سورة آل عمران، الآية: 175.

(3) سورة النساء، الآية: 108.

(4) الكافي: ج2، ص 372.

(1) البحار: ج 19، ص 22.

(2) سورة التوبة، الآية: 40.

(3) الكافي: ج2، ص 372.

(4) سورة محمد، الآية: 7.

(1) الكافي: ج2، ص 373.

(2) سورة الأنفال، الآية: 24.

(3) سورة الأنفال، الآية: 63.

(1) الكافي: ج2، ص 295.

(2) الكافي: ج2، ص 373.

(3) سورة النازعات، الآية: 40 ـ 41.

(4) سورة الزمر، الآية: 67.

(5) سورة الشعراء، الآية: 88 ـ 89.

(6) سورة الانفطار، الآية: 19.

(1) سورة عبس، الآية: 34 إلى 36.

(2) سورة غافر، الآية: 16.

(3) سورة المطففين، الآية: 26.

(*) 13/ 9/ 1997م.

(1) الأحاديث الشريفة الواردة في المحاضرة مأخوذة من كتاب أعيان الشيعة ج1، حياة الزهراء (عليه السلام) أو من مصادرها الأساسية المثبتة في المتن.

(1) سورة النجم، الآية: 4.

(2) سورة الحاقة، الآية: 44.

(1) سورة الشعراء، الآية: 214.

(1) سورة الإنسان، الآيتان 8 ـ 9.

(2) سورة الإنسان، الآيات: 9 إلى 11.

(1) سورة الأعلى، الآيتان: 18 ـ 19.

(2) سورة عبس، الآية: 13.

(1) إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} سورة الأحزاب، الآية: 33.

(1) سورة الحج، الآية: 46.

(2) سورة طه، الآية: 125.

(3) سورة طه، الآية: 126.

(4) سورة آل عمران، الآية: 102.

(5) سورة التغابن، الآية: 16.

(1) سورة البقرة، الآية: 286.

(2) سورة التوبة، الآية: 103.

(3) سورة الأعلى، الآية: 13.

(1) سورة النساء، الآية: 34.

(1) سورة البقرة، الآية: 228.

(1) سورة النساء، الآية: 34.

(2) سورة النساء، الآية: 34.

(1) سورة النساء، الآية: 35.

(2) سورة النساء، الآية: 3.

(3) سورة النساء، الآية: 129.

(4) سورة الحشر: الآية 7.

(1) سورة النساء، الآية: 11.

(2) سورة النساء، الآية: 11.

(3) سورة آل عمران، الآية: 176.

(1) سورة التكوير، الآيات: 23 ـ 26.

(2) سورة الأنعام، الآية: 103.

(3) سورة المائدة، الآية: 5.

(1) سورة الأنعام، الآية: 121.

(2) سورة الرعد، الآية: 43.

(3) سورة الأنبياء، الآية: 7.

(1) البحار، ج: 22، ص 567.

(2) سورة التغابن، الآيتان: 14 ـ 15.

(3) سورة التغابن، الآية: 15.

(4) سورة الفجر، الآية: 15.

(5) سورة الفجر، الآية: 16.

(1) سورة الأنبياء، الآية: 7.

(2) سورة النساء، الآيتان: 78 ـ 79.

(1) سورة الشورى، الآية: 30.

(2) سورة الروم، الآية: 41.

(3) سورة الفاتحة، الآية: 7.

(1) سورة البقرة، الآية: 158.

(2) سورة يس، الآية: 19.

(3) سورة يس، الآية: 18.

(1) سورة مريم، الآية: 71.

(2) سورة النحل، الآية: 90.

(3) سورة آل عمران، الآية: 55.

(4) سورة الزمر، الآية: 42.

(1) سورة الزمر، الآية: 42.

(2) سورة البلد، الآيات 8 إلى 10.

(3) سورة الضحى، الآية: 11.

(1) سورة مريم، الآية: 31.

(2) سورة يونس، الآية: 26.

(3) سورة القيامة، الآية: 23.

(4) سورة الأنعام، الآية: 103.

(1) سورة الأعراف، الآية: 143.

(2) سورة الأنعام، الآية: 160.

(3) سورة البقرة، الآية: 261.

(4) سورة يوسف، الآية: 110.

(5) سورة نوح، الآيات: 5 إلى 7.

(6) سورة نوح، الآية: 26.

(7) سورة نوح، الآية: 27.

(1) سورة النساء، الآية: 46.

(2) سورة الفاتحة، الآية: 6.

(1) سورة الأنعام، الآية: 158.

(1) سورة هود، الآية: 118 ـ 119.

(2) سورة هود، الآية: 119.

(3) سورة الذاريات، الآية: 56.

(1) سورة الأنفال، الآية: 75.

(2) سورة النساء، الآية: 11.

(3) سورة الأنفال، الآية: 75.

(4) سورة الحج، الآية: 38.

(5) سورة غافر، الآية: 60.

(1) سورة يس، الآية: 82.

(2) سورة الأنبياء، الآية: 23.

(3) سورة يوسف، الآية: 28.

(1) سورة البقرة، الآية: 189.

(1) سورة آل عمران، الآية: 130.

(2) سورة الأعراف، الآية: 182.

(3) سورة آل عمران، الآية: 178.

(1) سورة الإسراء، الآية: 110.

(1) سورة المائدة، 15 ــ 16.

(1) سورة النور، الآية: 31.

(2) سورة الأحزاب، الآية: 59.

(1) سورة الحشر، الآية: 7.

(2) سورة الأعراف، الآية: 204.

(1) سورة آل عمران، الآية: 7.

(2) سورة التوبة، الآية: 36.

(3) سورة الصف، الآية: 4.

(1) سورة الحشر، الآية: 7.

(2) سورة النساء، الآية: 59.

(3) سورة النساء، الآية: 65.

(4) سورة الأحزاب، الآية: 36.

(1) سورة النور، الآية: 23.

(2) الكافي: ج5، ص: 330.

(3) سورة الزمر، الآية: 36.

(4) سورة الذاريات، الآية: 22.

(1) سورة البقرة، الآية: 188.

(2) سورة هود، الآية: 113.

(3) سورة النساء، الآية: 18.

(1) سورة آل عمران، الآية: 28.

(1) سورة نوح، الآية: 5.

(2) سورة الأنبياء، الآية: 69.

(3) سورة النازعات، الآية: 24.

(4) سورة طه، الآية: 45 ـ 46.

(5) سورة الشعراء، الآية: 14.

(6) سورة طه، الآية: 17 ـ 18.

(1) سورة طه، الآية: 20.

(2) سورة النمل، الآية: 10.

(3) سورة آل عمران، الآية: 49.

(1) سورة النمل، الآية: 40.

(2) سورة البقرة، الآية: 260.

(1) سورة القدر، الآية: 1.

(1) سورة طه، الآية: 114.

(2) سورة الشورى، الآية: 52.

(1) سورة العنكبوت، الآية: 48.

(1) سورة الأنبياء، الآية: 23.

(1) سورة الأنعام، الآية: 54.

(2) سورة الفاتحة، الآية: 3.

(3) سورة الروم، الآية: 41.

(4) سورة الأنفال، الآية: 53.

(1) سورة الأنعام، الآية: 38.

(2) سورة الأنبياء، الآية: 23.

(3) سورة البقرة، الآية: 48.

(4) سورة البقرة، الآية: 254.

(5) سورة الأنعام، الآية: 51.

(6) سورة الأنبياء، الآية: 28.

(1) سورة سبأ، الآية: 23.

(2) سورة الروم، الآية: 41.

(3) سورة النحل، الآية: 112.

(4) سورة محمد، الآية: 31.

(5) سورة العنكبوت، الآية: 1ـ 3.

(1) سورة الصافات، الآيات: 101 ـ 106.

(1) سورة النجم، الآية: 28.

(2) سورة الإسراء، الآية: 36.

(3) سورة الحشر، الآية: 2.

(1) سورة النور، الآية: 35.

(2) سورة البقرة، الآية: 111.

(3) سورة النحل، الآية: 125.

(1) سورة العنكبوت، الآية: 46.

(2) سورة فصلت، الآية: 34.

(1) سورة آل عمران، الآية: 50.

(2) سورة النساء، الآية: 160.

(3) سورة الأعراف، الآية: 59.

(1) سورة فاطر، الآية: 24.

(1) سورة الجمعة، الآية: 9.

(1) البحار: ج2، ص 178.

 

(1) سورة البقرة، الآية: 260.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 3.

(1) البحار: ج44، ص 382.

(1) البحار: ج44، ص 325.

(2) البحار: ج44، ص 329.

(3) البحار: ج 45، ص 7.

(1) البحار: ج10، ص 253.

(2) البحار: ج 43، ص 270.

(3) البحار: ج16، ص 307.

(1) سورة لقمان، الآية: 13.

(2) نهج البلاغة، الخطبة: 176.

(3) نهج البلاغة، قصار الحكم: 350.

(1) البحار: ج 110، ص 14.

(1) البحار، ج 44، ص 325.

(2) نهج البلاغة، الخطبة: 131.

(3) البحار: ج 44، ص 382.

(1) سورة المعارج، الآية: 6 ـ 7.

(1) سورة النمل، الآية: 40.

(2) سورة الأنبياء، الآيتان: 69 ـ 70.

(1) سورة الشعراء، الآية: 22.

(2) سورة الشعراء، الآيتان: 18 ـ 19.

(3) سورة الشعراء، الآيتان: 32 ـ 33.

(4) سورة آل عمران، الآية: 49.

(1) سورة الحشر، الآية: 7.

(2) سورة البقرة، الآية: 124.

(3) سورة الأحزاب، الآية: 33.

(1) سورة البقرة، الآية: 228.

(2) سورة الرعد، الآية: 11.

(3) سورة الأعراف، الآية: 96.

(1) سورة النحل، الآية: 125.

(1) سورة آل عمران، الآية: 31.

(1) سورة الإسراء، الآية: 85.

(1) سورة نوح، الآية: 5 ـ 7.

(2) سورة نوح، الآية: 26.

(3) سورة نوح، الآية: 27.

(1) نهج البلاغة: الخطبة: 40.

(1) سورة الروم، الآية: 30.

(2) سورة آل عمران، الآية: 64.

(3) سورة العنكبوت، الآية: 46.

(4) سورة الحجرات، الآية: 13.

(1) سورة الإسراء، الآية: 31.

(1) سورة المائدة، الآية: 38.

(2) سورة الإسراء، الآية: 1.

(1) سورة طه، الآية: 113.

(1) سورة الزمر، الآية: 53.

(2) سورة الشورى، الآية: 25.

(1) سورة الحجرات، الآية: 12.

(2) البحار: ج 72، ص 402.

(3) سورة الحجرات، الآية: 12.

(1) سورة الحجرات، الآية: 12.

(1) سورة لقمان، الآية: 15.

(1) سورة يوسف، الآية: 78.

(1) سورة الحج، الآية: 78.

(1) سورة يونس، الآية: 65.

(1) سورة السجدة، الآية: 18.

(1) سورة العنكبوت، الآية: 69.

(2) سورة غافر، الآية: 60.

(1) سورة غافر، الآية: 60.

(2) سورة العنكبوت، الآية: 45.

(1) سورة البقرة، الآية: 263.

(1) سورة الممتحنة، الآيتان: 8 ـ 9.

(1) سورة فصلت، الآية: 34.

(1) البحار، ج: 103، ص: 17.

(1) سورة الطلاق، الآية: 2.

(1) سورة يوسف، الآية: 87.

(2) سورة الزمر، الآية: 36.

(1) سورة الشعراء، الآية: 180.

(2) سورة الزمر، الآية: 36.

(1) سورة النساء، الآية: 86.

(1) سورة التحريم، الآية: 6.

(1) سورة الزخرف، الآية: 23.

(1) سورة الحجرات، الآية: 14.

(1) سورة الأنفال، الآية: 24.

(1) سورة الحجّ، الآية: 78.

(2) سورة البقرة، الآية: 185.

(3) سورة الإسراء، الآية: 70.

(1) سورة المائدة، الآية: 90.

(2) سورة النساء، الآية: 22.

(1) سورة الأنعام، الآية: 162 ـ 163.

(1) سورة النحل، الآية: 96.

(1) سورة البقرة، الآية: 184.

 

(1) سورة المائدة، الآية: 27.

(1) سورة التوبة، الآية: 60.

(1) سورة البقرة، الآية: 181.

(1) سورة البقرة، الآية: 286.

(2) سورة البقرة، الآية: 280.

(3) سورة المائدة، الآية: 1.

(1) سورة البقرة، الآية: 125.

(1) سورة الطلاق، الآية: 4.

(1) سورة النور، الآية: 3.

(2) سورة النور، الآية: 26.

(1) سورة النساء، الآية: 23.

(1) سورة الحج، الآية: 78.

(1) سورة البقرة، الآية: 194.

(2) سورة الحشر، الآية: 9.

(1) سورة النور، الآية: 31.

(1) سورة الأحزاب، الآية: 32.

(1) سورة الحشر، الآية: 19.