{الزَّانِيَةُ والزاني فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} لأنهما انحرفا عن القاعدة الاجتماعية التي أراد الله أن يخضع لها نظام العلاقات الجنسية، بما يكفل ضبط نوازع الغريزة وتلبية حاجتها، ويؤمّن الإيحاء الداخلي الطاهر بأنها حاجة لتنمية الحياة في اتجاه هدفٍ متوازن، وليست قيمةً تتجمع في داخلها طموحات النفس.. ولهذا فإن عملية التنظيم والتخطيط في هذا المجال قد تحمل بعض سلبيات التحديد والتقييد، ولكنها تمنح الإنسان إيجابيات التوازن والاستقامة والتركيز، تماماً كما هي حاجات الحياة الأخرى في داخل الجسد وخارجه، التي لا يريد الله لها أن تموت، لأنها جزءٌ من حركة الحياة في وجوده، ولا يريد لها أن تطغى في أجواء الفوضى، لأنها تقود الإنسان إلى الموت، في ما يخيّل إليه أنها الحياة.

وقد جعل الله نظام الأسرة مرتكزاً على هذه القاعدة التي ترى في عقد الزواج شرطاً لشرعية العلاقة بين الرجل والمرأة، في ما يفرضه التعاضد الذاتي من حقوق وواجبات على أساس المودّة الروحية، والرحمة الإنسانية، والتشريع الإلهي الذي يرعى ذلك كله وينمّيه ويقوّيه، وضبط العلاقات النسبية لجهة الأبوّة والأمومة والبنوّة، وما يتفرع عنها، بسلسلة طويلة من المسؤوليات التي تنظّم حركة العلاقات الاجتماعية، بشكل دقيق ومتوازن..

فلم تعد مسألة الزنى مسألة فردية يستجيب فيها الإنسان لنوازعه الذاتية، أو نزوة غريزية يخضع الإنسان فيها لمشاعره الجنسية، لتكون مجرّد خطأ طارىء من أخطاء الإنسان التي تترقّب العفو، أو تهرب من المسؤولية، بل هي مسألة تمرّدٍ على تركيبة النظام الاجتماعي، ما يجعل الخلل الناتج عن هذا الانحراف أو ذاك، خللاً يمس السلامة الاجتماعية، وخطراً على استمرار التوازن في خط المسيرة الإنسانية. ولهذا أراد الله أن يعطي لهذه المسألة حجمها الحقيقي الذي يصل إلى حجم الجريمة التي تستوجب الردع الشديد الذي يمنع الإنسان من الإقدام على ممارسة هذا الانحراف، فجعل عقوبة كل من الزانية والزاني مائة جلدة، أي مائة سوط، إذا لم يكونا محصنين، أو لم يكن أحدهما محصناً بالزواج..

أمّا إذا كانا محصنين، أو كان أحدهما كذلك، فإن الحكم هو الرجم، الذي أوضحته السنّة النبوية الشريفة، عبر ما تحدث به النبي (ص) وما فعله، إذ إنه أقام هذا الحد ـ وهو الرجم ـ أكثر من مرة حصل فيها الزنى بعد الإحصان.. ثم امتد ذلك الحكم بعد ذلك، حيث كان القضاء الإسلامي يمارسه دون اعتراض من أحد، ما يدل على وضوح المسألة حتى أصبحت من المسلّمات الفقهية، بالرغم من عدم تعرّض القرآن الكريم لذلك.. وإطلاقه الحكم بالجلد في الزاني والزانية دون تقييد.

وقد ثبت في علم الأصول، أن القرآن يمكن أن يرفع اليد عن بعض ظواهره، بالسنة القطعية أو بما كان حجّةً شرعية من الظنيات..

وقد نُقل عن بعض المسلمين من الخوارج وبعض المعتزلة مخالفتهم لهذا الحكم، انطلاقاً من مخالفة هذا الحكم ـ وهو الرجم ـ لإطلاق القرآن، ما يفرض على المسلمين الملتزمين بالقرآن رفضه، لأن ما خالف كتاب الله فهو باطل وزخرف.

ولكنّ هؤلاء لم ينتبهوا إلى أن تخصيص العام القرآني، أو تقييد مطلقه، لا يندرج في دائرة المخالفة، بل يندرج في نطاق الشرح والتفسير الذي أوكل الله أمره إلى رسوله، في ما تتضمنه سنّته الشريفة من تفصيل لما أجمله القرآن، أو تحديد لما لم يحدد كل أطرافه.. وهذا ما لاحظناه في كل تفاصيل العبادات والمعاملات والعلاقات والحدود التي أطلقت الآيات القرآنية معناها، لتقرر المسألة من ناحية المبدأ، ليسأل المسلمون بعدها رسول الله حول التفاصيل. ولعل هؤلاء يعرفون أنَّ عملية الجلد أو الرجم، في دائرتهما الشرعية، تحتاج إلى إثباتات وشروطٍ معينةٍ، لا يتكفل القرآن بتحديدها، بل يرجع فيها إلى السنّة الشريفة.

ولسنا هنا في صدد تحقيق الموضوع بطريقة فقهيةٍ شاملة، لأن مجال ذلك في علم الفقه، بل نحن هنا في صدد الإشارة إلى المسألة بالمقدار الذي يتصل بالتفسير من حيث المدلول اللفظي للآية، ومن حيث التفسير التفصيلي للحدود التي يقف عندها الحكم الشرعي.