آية الله العظمى السيّد محمّد حسين فضل الله

 

دنيا الطّفل

 

 

 

 

 

حاورته: نبيهة محيدلي

 

 

دار الملاك

 

 

 

 

حقوق الطبع محفوظة للناشر

الطبعة الثالثة

1425 هــ ــ 2004م

 

 

 

 

 

دار الملاك للطباعة والنشر والتوزيع ش.م.م

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

 

 

 

 

 

 

للطفولة في بُعدها الإنساني معناها الحيويّ في عملية تأسيس الشخصية الإنسانية وتقويتها وتنميتها وغرس البذور الطاهرة النقيّة فيها.. وإعدادها للتحوُّل إلى عنصر فاعل منتج يمارس دوره في بناء الحياة على أساس ثابت.

ولذلك كان الاهتمام الإنساني الدائم بالأحداث.. لكونهم المؤهّلين لإحداث أيِّ تغيير أو تثبيت دعائمه كما التأكيد على أنّ العلم في الصِّغَر والتربية خلاله، تعني التثبيت لكلّ القِيَم والمفاهيم والأفكار التي يُراد التأكيد عليها.

ولذلك اهتمّ الإسلام كدين في تكوين الطفولة المنسجمة مع مبادئه من خلال ترسيخ مجموعة القِيَم الأخلاقية والتربوية التي تنفتح على الإنسان طفلاً وشابّاً وشيخاً للتخطيط لبناء جيلٍ سليم نفسياً ودينياً وصحيّاً وتربوياً وأخلاقياً وللعمل على إعداد الإنسان لتحقيق معنى وجوده لكونه الخليفة على الأرض، ولبناء الحضارة الإنسانية على الصورة التي يريدها الله في الإنسان كفرد وكمجتمع وكدولة.

وقد حمَّل الإسلام لبلوغ الهدف أمر التربية على عاتق الأب والأُمّ لكونهما يمثّلان العنصر الأساسي في التربية وخاصة في المراحل الأولى للطفل. ولكنّه لم يلغِ دور المجتمع بكلّ ما يشمل من مؤسّسات تربوية واجتماعية، ووسائل إعلامية ونوادٍ ثقافية ورياضية ومراكز دينية وعبادية.. واعتبر أنّ تأدية كلّ واحد من هؤلاء دوره يساهم في خلق المناخات التي تهيّئ لنضوج الطفل ولبناء ركائز شخصيّته التي تتنامى في المستقبل.

وقد اعتمد الإسلام في أسلوبه التربوي على خطّين:

الأوّل هو وقائي بحيث يمنع من وقوع الطفل تحت التأثيرات السلبية التي تنشأ من نقاط ضعفه في طريقة تفكيره ونظرته للأمور أو من المجتمع الذي يعمل على مدّ جذور انحرافه للأطفال.

كما وسعى إلى الخطّ الثاني وهو بناء الشخصية الحيّة المتحرّكة والمتوازنة والتي تأخذ حاجتها في الحياة. وذلك من خلال التأكيد على أهمية كلّ مرحلة من مراحل التربية للطفل، وهي مرحلة اللّعب ومرحلة التأديب ومرحلة المصاحبة.. واعتبر أنّ التربية هي نتاج كامل كلّ المراحل.. بعد إعطاء كلّ مرحلة حقّها الكامل.

وقد أكّد الإسلام على أهمية إنتاج الولد الصالح لأنّه سيشكّل الذخيرة للأب والأُم عند الله بحيث يمنح الله الغفران لأيّ منهما بمقدار مشاركته في ذلك لأنّ الولد الصالح هو الذي يمثّل النموذج الصالح الذي يحرّك حياته وحياة الناس في خطّ الصلاح، كما وهو الذي يمثّل استمرار الحياة لأهله حتّى بعد مماتهم.

وانطلاقاً من هذه النظرة الإسلامية وللرغبة في إبرازها وتنمية الحسّ التربوي لدى الأهل والمربّين من خلالها، من هنا كانت استجابتي لهذا المشروع الذي يهدف إلى تسليط الضوء على عالَم الطفل والطفولة.

وقد كان من الخير لهذا المشروع ما قامت به السيّدة الفاضلة نبيهة محيدلي التي تملك تجربة حيّة ولاسيّما من خلال دراستها وعملها في حقل تربية وثقافة الأطفال، بالإضافة إلى الخبرة الواقعية وذلك بتهيئة العناوين المتنوّعة المتّصلة بالطفولة والطفل من خلال المشاكل الواقعية التي يتخبَّط بها المجتمع المسلم الذي نلاحظ فيه التقصير الكبير في الاهتمام بجانب الطفولة في الوقت الذي يحظى فيه الأطفال برعاية واهتمام ودراسات في المجتمعات الأخرى.. وهكذا كان هذا الكتاب الحواري الذي لم ينطلق من نظرة سطحية ارتجالية بل انطلق من خلال فكر منفتح على الواقع المعاصر مقارناً بالمشاكل النفسية والروحية والسلوكية والأخطاء التربوية في التعامل مع الطفل على صعيد البيت والمدرسة والحياة الاجتماعية العامّة.

وختاماً أرجو من الله عزّ وجلّ أن ينفعني بهذا الكتاب عنده وأن ينفع الناس، ولاسيّما المسلمين، بأفكاره كما أنّني آمل أن أجد من نقد أفكاره ما يعينني على التصويب والتصحيح فإنّ العصمة لله وحده ولمن أعطاهم ذلك والحمد لله ربّ العالمين وهو حسبنا ونِعْمَ الوكيل.

27 شوّال 1421هــ

محمّد حسين فضل الله

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

منذ مدّة كانت تراودني فكرة بناء تصوُّر تربويّ لموضوع الطفولة من وجهة نظر الإسلام لعلمي بأنّ هذا الدِّين الحنيف اهتمّ بمرحلة الطفولة وأسَّس لها ولم يتركها عرضة لأمزجة المربّين بل وضع مجموعة من الضوابط والتوجيهات الأساسية التي شكّلت الإطار العام لها. لهذا كنت آمل أن أُوَفَّق لتقديم عمل يسلّط الضوء على نظرة الإسلام لهذه المرحلة.

ومن خلال متابعتي لأقوال وكتابات سماحة آية الله العظمى السيّد محمّد حسين فضل الله رأيت فيه العالِم المفكِّر المنفتح على قضايا الحياة بكلّ تفاصيلها وقد شجّعني صدور كتابيه "دنيا المرأة" و"دنيا الشباب" للبدء بمشروع "دنيا الطفل". وقد تلاقت هذه الرغبة برغبة سماحته الذي وجدت لديه كلّ التجاوب فأعطاني من وقته الثمين بلا كَلَل أو مَلَل ممّا ساعدني على إنجاز هذا العمل بالسرعة الممكنة.

عند البدء بالعمل لاحظت أنّ الأسئلة التي يمكن أن أتطرَّق إليها في عالَم تربية الطفل كثيرة ومتشعّبة نظراً لتشعّب هذا الحقل في الواقع. لهذا كان لا بدّ من حصر الأسئلة في إطاريها النظري والعملي وضمن عناوين عامّة يسهل التعاطي معها مع الإفساح بالمجال أمام الأسئلة التي تتولَّد عن مجريات الأمور. 

وبطبيعة الحال، فقد بدأت بالموضوعات النظرية التي تتعلّق بالطفولة وتعريفها وأهدافها وتربية الطفل والعوامل المؤثّرة فيها.

ثمّ انتقلت إلى النواحي العملية التي راعيت فيها التسلسل الطبيعي لحياة الطفل فبدأت بالأسرة كونها الخليّة الأولى التي يترعرع الطفل داخلها من دون أنْ أهمل المرحلة الجنينيّة ثمّ إلى العالَم  الخارجي من مدرسة ورفاق ومجتمع.. حتّى وصلت إلى عرض القضايا العامّة التي يتعرّض لها الطفل من خلال نموّه التدريجي وانتقاله إلى عالَم التكليف الذي عرضت له من خلال الأسلوب الأمثل للتوجيه الديني.

وقد قمت قدر الإمكان بحصر الأحاديث الشريفة التي تعرّضت لموضوع الطفل وعملية تربيته من كتب الأحاديث الشريفة وكتب الفقه(*)، وحاولت الوقوف على رأي سماحته منها.

وهذا الكتاب بين أيديكم أتمنّى أن يجد فيه القرّاء من أمّهات وآباء ومربّين بعض ما ينفعكم كما وآمل أن يغنونا بتجاربهم ممّا لم يتطرَّق إليه الكتاب ليتمّ معالجته في الطبعات القادمة بإذن الله.

وختاماً لا بدّ لي من توجيه شكر خاص لكلّ الذين ساهموا في إعداد هذا الكتاب وأخصّ بالذكر الدكتور طلال عتريسي لملاحظاته وتوجيهاته، والسيّدة منى بليبل لمساهمتها الفعّالة في عملية تحرير وتنسيق المواد.. والدكتور محمد رضا فضل الله لقراءته ومراجعته الدقيقة، والدكتور عصام شعيتو لقراءته اللّغوية.

سائلة المولى أنْ يوفّقنا دوماً لخدمة الأجيال الناشئة.

                                                                    والله وليّ التوفيق

                                                                      نبيهة محيدلي

                                                                     شوّال 1421هــ

                                                            الموافق 24/1/2001م

 

 

(1) الطفولة..

المفهوم والمراحل..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الإسلام والطفولة

ـــ على مَنْ يُطلق عنوان "الطفل" في النظرة الإسلامية؟

في العودة إلى النصوص الإسلامية نلتقي بكلمة الطفل أو ما يراد منها في مواقف تشريعيّة خاصة.

في القرآن الكريم وردت كلمة الطفل في مقام الحديث عن المستثنيات بجواز النظر إلى المرأة {... أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء..} [النور : 31].

الأمر الذي نفهم من خلاله أنّ الطفل هو الذي لم يبلغ الحلم، أي الذي لم ينفتح على الجانب الجنسي، ولم تستيقظ عنده الرغبة الجنسية: لا جسدياً ولا فكرياً، علماً أنّ الآية ليست في مقام تحديد مفهوم الطفولة.

وفي إطار هذا المعنى ورد في بعض الروايات تعبير "الصبي والصبيّة" مثل:

"رُفع القلم عن الصبيّ حتّى يحتلم" أي الذي لم يبلغ الحلم، أي مَنْ لا يتمتَّع بالنضج الجنسي.

ثمّ نقرأ قوله تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ...} [النساء : 6].

وفيه وصفٌ لحالة ما قبل البلوغ وبعده. حيث نلاحظ أنّ الحكم الشرعي يرفع الولاية عنه، ويوقف مفعول حجز أمواله بمجرّد بلوغه وخروجه عن الصّبا أو الطفولة، فهو يستطيع ممارسة استقلاله المالي بشرط بلوغه مرحلة الرشد الذي يملك معه القدرة على إدارة أمواله، بحيث لا يبقى لأحد ولاية عليه. فالإنسان من الممكن أن يكون رصيناً في سنّ الخامسة عشرة، وقد لا يكون كذلك حتّى في العشرين من عمره. فالنضج عملية معقّدة، يتحكّم بها مدى انفتاح الإنسان على واقع الحياة، بحيث يتمكّن من التصرُّف بطريقة متوازنة ومعقولة. حتّى أنّنا نجد أنّ مَنْ عاشوا التجربة الحيّة ولم يتجاوزوا سنّ الرشد العمري قد يتفوّقون في رشدهم الاجتماعي والمالي على مَنْ تجاوزوا مثل هذه السنّ.

ـــ بنظركم ما هي قيمة مرحلة الطفولة بالنسبة لحياة الإنسان ككلّ؟

تكتسب مرحلة الطفولة أهمية بالغة في تشكيل بعض معالِم شخصية الولد المستقبليّة، فهو يخضع لأنماط من السلوك والعادات والخبرات التي تعيش في عمق شخصيّته وتساهم في بنائها وصياغتها، فالطفل يمتاز في هذه المرحلة بأنّه سريع التقبّل لِمَا يسمع، وسريع التطبُّع بما يألف.. إنّه يمتاز بسرعة التلقّي والتقليد والامتصاص الذاتي، بحيث يستطيع اختزان الكثير من المشاعر والأحاسيس والأفكار والعادات والتقاليد بالسرعة التي لا يستطيع الإنسان الحصول عليها بعد تجاوز هذه المرحلة.

وربّما يعود ذلك إلى أنّ الأرضية الإنسانية للطفل بما فيها الأرضية التقوية والنفسية والروحية والشعورية، خالية من أيّ تعقيد ومن أيِّ مؤثّر خارج دائرة الوراثة. لذلك فإنّ مرحلة الطفولة سريعة الالتقاط. وهذا ما يعبّر عنه أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) في وصيّته للإمام الحسن (عليه السلام) بقوله: "إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيء قبلته" فهي إذن مستعدة لأنْ تتقبَّل البذور بشكلٍ سريع جداً، لعدم وجود ما يمنع هذه البذور من النمو في أرضها، ولعدم وجود ما يمنع تلك الأرض من أن تقبل تلك البذور.

وقد نستفيد أيضاً من الحديث الشريف: "كلّ مولود يولَد على الفطرة إلاّ أنّ أبويه يهوِّدانه أو ينصرانه أو يمجّسانه" نستفيد من التركيبة الفطرية للإنسان تختزن من بداياتها الإحساس السليم بالأشياء والقدرة على اكتشاف الحقائق، بحيث إنّها لو انطلقت بشكلٍ طبيعي لاستطاعت أن تكتشف الحقائق الأصيلة كقضية التوحيد وقانون السببيّة وما إلى ذلك.. وهذا ما تدلّ عليه الآية القرآنية {... فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ...} [الروم : 30].

إنّنا نفهم من كلّ ذلك أنّ في تكوين الطفل فطرة نقيّة تتفتَّح على الحقائق الأساسية بسهولة إذا أُتيح لها ذلك.

ـــ ورد في الحديث: "قال موسى (عليه السلام) يا ربّ أيّ الأعمال أفضل عندك؟ قال حبّ الأطفال فإني فطرتهم على توحيدي". ماذا نفهم من هذا الحديث؟

لعلَّ القيمة المستفادة من هذا الحديث تتمثّل في الفطرة الصافية في شخصية الطفل التي لم تتلوَّث بالتوجيه المنحرف والتربية السيّئة، باعتبار أنّها تنفتح بالطفل على التوحيد الذي يربطه بالله، وربّما كان في ذلك إيحاء بأنّ من مسؤوليّتنا أن نحبّ الأطفال بالطريقة التي نحافظ فيها على أصالة فطرتهم والابتعاد عن كلّ ما يعرّضها للانحراف، فإنّ ذلك هو الذي يمثِّل الحبّ الحقيقي في السَّير به إلى المستقبل الذي يؤهّله للموقع الإيماني القريب من الله.

ـــ برأيكم هل تحتاج الطفولة لعناية خاصّة أم تترك المرحلة على سجيّتها؟

يختزن الطفل في عناصر النموّ الموجودة فيه حركة المستقبل، لأنّ الطفولة ـــ برأيي ـــ تمثّل المرحلة الجنينيّة التي نستوحي من خلالها ملامح الحاضر وصورة المستقبل، الأمر الذي يعني: أنّنا حين نهمل الطفولة نكون قد أهملنا المستقبل، حيث نترك الطفل في ظروف سلبية يختزن منها الكثير من الطحالب والتعقيدات والعوامل الخبيثة التي تشوّه فطرته وتعيق نموّه الطبيعي.

ولهذا فإنّ الاهتمام بالطفولة هو الاهتمام بالنموّ الطبيعي لحركة المستقبل في الإنسان. وإنّ إهمال الطفولة يشكِّل نوعاً من إهمال المستقبل، أو تعقيده أو إيجاد الكثير من العراقيل أمام حركة الإنسان في المجتمع.

 

 

ـــ هل اهتمّ الإسلام برأيكم بمرحلة الطفولة، وكيف تجلّى ذاك الاهتمام؟

عندما ندرس التعليمات الإسلامية الأخلاقية السلوكية التي تتّصل بالطفولة، نجد تأكيداً على التدرّج في التعامل مع الطفل حسب المراحل العمرية، فقد ورد عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قوله: "دَع ابنك يلعب سبع سنين، ويتعلَّم (ويتأدَّب) سبع سنين، وألزمه نفسك سبع سنين". أي أنْ نمنحه قدراً من الحريّة خلال السنوات السبع الأولى من عمره، لنمارس بعدها عملية التعليم والتأديب والرعاية بمختلف أبعادها الجسدية والنفسية والذهنية في السنين السَّبع اللاحقة.. لننتهي إلى مرافقته سبع سنين أخرى حتّى يستطيع أن يفارق طفولته بأمان إلى مرحلة النضج والشباب.

ولتوضيح ذلك نقول: إنّ الإسلام لم يترك تربية الطفل خاضعة لمزاج الأبوين، على الرغم من أنّه جعلهما مسؤولين مباشرة عن هذه التربية، بل جعلها متحرّكة ضممن خطّة مدروسة تقضي بأنْ يعطي الأب طفله حريّة اللّعب واللّهو والتعبير بالقدر الذي يحفظ سلامته من الأخطار.. ومتى ما اكتملت طفولته الأولى، تأتي المرحلة الثانية التي يتحمَّل فيها الأب مسؤولية تعليمه وتأديبه، بحيث يختزن الطفل المعلومات والخبرات والقِيَم والآداب والمهارات بالقدر الذي ينسجم مع حجمه ومستواه الذهني، بحيث يستطيع التكيّف مع متطلِّبات مجتمعه.

أمّا المرحلة الثالثة فتمثّل مرحلة الانتقال بالطفل من عالم الطفولة إلى عالَم الرجولة، وفيها يصاحب الأب ولده لمساعدته على تطبيق ما تعلَّمه، وبالتالي تعريفه على آلية سلوك الكبار والأوضاع التي تحكمها.

أمّا الأدوات التي يمكن استخدامها في إيصال كلّ تلك المفاهيم فتتّسع لكلّ ما يستحدثه الإنسان من وسائل اللّهو مع مراعاة تنويع الأساليب التربوية والنفسية والروحية.

لقد وضع الإسلام للتربية خطّة من خلال عناوين أساسية، فعندما قال اتركه سبعاً ليعيش طفولته، فهو يحتاج من الكبار إلى توفير وسائل اللّهو واللّعب التي تنمّي شخصيّته دون أن تفرض عليه جانباً تعليميّاً يثقل هذه الطفولة.

ـــ ورد في الحديث: "إنَّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، هل المقصود بأنّ الطفل مثل الورقة البيضاء أو الوعاء الفارغ يمكننا أنْ نملأه بما نشاء؟

ليس المقصود بالقول: "إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية.." أنّه لا يملك قابليّات داخلية خاصة قد تكون فطرية أو ناتجة عن عوامل وراثية، فنحن لا نستطيع أنْ نحوِّل المعجون إلى صورة من الجماد إلاّ من خلال القابليّات الموجودة في داخله.

فالمقصود بالأرض الخالية هو الأرض التي تملك قابلية النموّ بما تحتويه من عناصر، وليس الأرض الفارغة تماماً من كلّ شيء. فالطفل يولَد ولديه قابليّات واستعدادات وقدرات كافية وقابلة للنموّ والتطوُّر، إذا ما تهيّأت لها العوامل البيئيّة المناسبة والمناخات التربوية الملائمة.

لذلك نقول: إنّ تربية شخصية الطفل بمختلف أبعادها الجسدية والانفعالية والعقلية والروحية تتطلَّب مراعاة مستوى النموّ والنضج لديه، فلا نحدّثه عن المفاهيم المجرّدة في الوقت الذي لا يستوعب الأشياء إلاّ من خلال أدوات الحسّ والتجربة التي تتطلَّب وسائل إيضاح تسهّل عملية بناء المفاهيم في عالَم الفكر.. وبهذا لا يجوز أن نعلِّم الصغار بأساليب تعليميّة تختصّ بالكبار.

على هذا الأساس لا بدّ وأن نملأ قلب الحدث بكلّ ما يساعده على النموّ الطبيعي الذي يتناسب مع كلّ مرحلة بخصائصها المختلفة، فيعيش حريّته في طفولته، فلا أوامر تفرض عليه اختيار هذه اللّعبة أو تلك، ولا قيود تمنعه من استهلاك الطاقة الحركيّة لديه..

علينا أن نساعد الطفل على صياغة تجربته الخاصّة في لهوه ولعبه، وفي تداوله للأشياء وطرق اكتشافها.. وهذا لا يعني التخلّي عن مراقبته ورعايته في حريّته التي قد تحتاج إلى بعض القيود والضوابط التي تؤهّله لمواجهة التحدّيات في المستقبل.

إنّنا كمربّين بحاجة إلى متابعة نموّ الطفل والتجارب التي يعيشها. لا بدّ أنْ نتابع الطفل كحالة دراسية، فنراقب تطوّره وكلّ حركاته وكلّ تعبيراته، لعلّنا نستطيع أن نقتطف من هذا الإنسان الصامت الذي لا يعبّر عن نفسه بلغتنا، تعبيرات إنسانية تمكِّننا من معرفة كيف يفكِّر وكيف يتأثّر وكيف يشعر وكيف يكتشف الأشياء.

إنّ الحديث يؤكّد على أهمية التربية المبكرة في الإعداد الإنساني.

مراحل الطفولة

ـــ نلتقي في الحديث الشريف: "دع ابنك يلعب سبع سنين ويؤدَّب سبع سنين، وألزمه نفسك سبع سنين، فإنْ أفلح، وإلاّ فلا خير فيه" بمراحل تربوية أساسية ما أهميّتها؟

هذا الحديث وأمثاله يحدِّد مراحل التربية الأساسية لكلّ إنسان ابتداءً من الطفولة وحتّى مرحلة الرشد: مرحلة الطفولة الأولى تتحدَّد بسبع سنين أو ست سنوات، وهي المرحلة التي يترك فيها الطفل ليكتشف كلّ ما حوله بنفسه وكأنّ الغرض من ذلك أن يعيش تجربته بنفسه دون مساعدة الآخر، ففي ذلك تأصيل لفطرته بحسب ما أودعه الله فيه من خصائص.

في المرحلة التالية يأتي دور التربية من الخارج، فيباشر المربّي إثارة القضايا المتّصلة بالمعرفة أمام الطفل، وتركيز المفاهيم في ذهنه بحيث يتعرّف على طبيعة الأشياء من خلال ما أطلق عليها من أسمائها، فتتفاعل في عقله المادّة الآتية من الخارج مع العناصر الموجودة في داخله.

ثمّ تبدأ عملية التأديب والتوجيه وتعلّم الواجبات، في المرحلة الثالثة، مرحلة إعداد الطفل لما يراد له أن يقوم به من مسؤوليات. فقد ورد في حديثٍ آخر بصيغة أخرى: "الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلَّم سبع سنين، ويتعلَّم الحلال والحرام سبع سنين" وهذا يفرض في المرحلة الثالثة أن يترجم الطفل المعلومات والخبرات إلى سلوك سليم ينسجم مع ما يهدف إليه الآباء من تأصيل للمفاهيم الإلهية المختلفة.

أمّا العبارة في نهاية الحديث "فإنْ أفلح وإلاّ فلا خير فيه" فهي بحاجة إلى الكثير من التأمُّل، إذ ربّما يكون المقصود بهذه العبارة، أنّ هذه المراحل هي مراحل تأسيسيّة لشخصية الإنسان. بمعنى أنّه إذا لم تتعمَّق بداخله على مدى إحدى وعشرين سنة المبادئ والمفاهيم وفشلت التربية في تهيئته وإعداده للحياة، دون أن يكون لذلك الفشل مبرّرات خارجية ساهمت في حدوثه، فمن الصعب جداً أن يفلح بعد ذلك. ممّا يحملنا على الاعتقاد أنّ الانحراف ينشأ عن إهمال هذه المراحل وفعالية العوامل الخارجية الأخرى، التي تتحدّى عناصر التربية. وكأنَّ الحديث الشريف يريد القول إنّ إعطاء هذه المراحل الثلاث حقّها من الرعاية كفيل بتثبيت شخصية الإنسان على خطّ النموّ السليم الذي يشكِّل قاعدة للفلاح بحياته. فإذا ما انحرف بعد ذلك، فبسبب العوارض الخارجية وليس بسبب القصور في تربيته.

ـــ هل نفهم من ذلك أنّ من واجب المربّين الاستنفار في عملية التربية خلال واحد وعشرين عاماً فقط؟

إنّ الواحد والعشرين عاماً هي المرحلة التي يتحمّل فيها الأهل، والأب بشكلٍ خاص مسؤولية التربية حتّى بداية مرحلة الرشد، أمّا بعد ذلك فلا يبقى الأب (أو الأم) وحدهما مسؤولاً عن الطفل بل يصبح المجتمع بكلّ مؤسّساته مسؤولين عنه، بدءاً بالمدارس والجامعات والمساجد والجمعيات إلخ.. إذاً على الأبوين رعاية الولد بتوفير كلّ الظروف الصحيّة الملائمة التي تجعل منه إنساناً منفتحاً على الخير في المستقبل خلال المراحل الأولى من عمره بشكلٍ خاص.

ـــ نلاحظ من خلال مجمل الأحاديث التي تناولت التربية غياب الحديث عن الوسائل الكفيلة بتحقيق الأهداف المرجوة من كلّ مرحلة، فهل يكفي توصيف المراحل دون التطرُّق إلى الوسائل؟

أعطى الإسلام الإنسان منهجاً للوصول إلى المعرفة عبر التفكير والتجربة، تجربة الآخر أو تجربته هو نفسه. لذلك قال لنا ربُّوا أولادكم وأحسِنوا تربيتهم وترك التفاصيل لنا، ربّما أعطى بعض المفردات كنموذج (استخدام وسائل الحسّ للوصول إلى معرفة عظمة الله تعالى)، لأنّ هذه الأمور هي من المسائل التي يصعب وضع خطّ بياني تفصيلي يستوعب كلّ تبدُّلات الحياة على مدى الزمن، باعتبار أنّ الأداة التي تمثِّل تطوُّراً في بعض المراحل تصبح متخلِّفة في زمنٍ لاحق، لذا من غير المجدي تحديد الأدوات وتأطيرها فعلى سبيل المثال ومع استخدام الكتاب كان الإنسان بحاجة إلى سنين طويلة كي يتمكن من الوصول إلى بدايات المعرفة، بينما الآن ومع ثورة الاتصالات التي تجتاح العالَم أصبح الإنسان يختصر الكثير من الجهود للوصول إلى المعرفة باستخدام وسائل إيضاح متنوّعة في تقنيات متطوّرة.

لذلك أعطى الإسلام العناوين الكبيرة لبناء الشخصية، وترك للتجربة الإنسانية أن تلاحق هذه العناوين في حركتها على الأرض، وذلك ضمن الإمكانات والقابليات والتطوُّر الثقافي والنفسي للإنسان بشكلٍ عام..

الطفولة الأولى

ـــ عند دراسة الأحاديث النبويّة الشريفة نلتقي أحاديث تتناول وضعية وتوقيت الاتصال الجنسي بين الرجل والمرأة، هل تعتقدون بتأثير أمور كهذه في نشأة الطفل، نفسياً وجسدياً؟

في دراستي لمثل هذه الأحاديث، وجدت أنّ أكثرها يفتقر إلى الوثاقة، وإذا ما صحّ بعضها، فلا بدَّ من فهم تأثيره في إطار الأجواء النفسية التي قد تترك تأثيراً سلبياً أو إيجابياً في هذا الجانب وذاك من شخصية الطفل. فبعض تلك الأحاديث على سبيل المثال تقول إنّ الطفل يولَد أعمى إذا ما تمّ الاتّصال الجنسي في الهواء الطلق وهو أمر لم نجد له أيّة مصداقية في الواقع لاسيّما أنّنا نعرف أنّ كثيراً من العلاقات الجنسية تحدث في الهواء الطلق دون أنْ يؤدّي ذلك إلى عمى الطفل.

ـــ تكثر الدراسات هذه الأيام، عن المرحلة الجنينيّة التي تؤكّد أنّ للولَد خلالها شخصيّته، وأنّه يفترض بالأهل الاهتمام بهذه المرحلة وعلى الأُم أن تقرأ له وتسمعه الموسيقى وما إلى ذلك، هل اهتمّ الإسلام بهذه المرحلة الأوّليّة من عمر الطفل؟

في زمن الإسلام لم تكن هناك دراسات طبيّة وأبحاث نفسيّة تطال تلك المرحلة الجنينيّة ليتحدّث عنها الإسلام، إنّ هذه الأمور هي من المسائل المستجدة وليست من الأمور المثارة آنذاك ليُسأل عنها، ولتعالج بالشكل الدقيق. ولكن في الإطار العام تؤكّد الدراسات النفسية أنّ حالة الأُم الانفعالية تنعكس سلباً أو إيجاباً على حالة الجنين، لكونه جزءاً منها ينفعل ويتفاعل مع وضعها، فاستقرارها النفسي وتوازنها الوجداني يؤدّيان إلى راحة وأمن واستقرار وتوازن لوليدها، والعكس صحيح في حالة الاضطراب العاطفي.. من خلال ذلك، وحرصاً على سلامة الجنين، يشجِّع الإسلام الأُم وغيرها على تهيئة كلّ الأجواء المناسبة للنموّ الطبيعي للجنين سواء كان بسماع الموسيقى المحلَّلة، أو مطالعة القراءات المفرحة، أو قراءة القرآن الكريم.

ـــ درجت العادة لدى المسلمين بأن يقام الأذان للوليد في الأذن اليمنى والإقامة في الأذن اليسرى ما تأثير ذلك على شخصية الطفل مستقبلاً؟

ربّما يكون في هذا التعليم الإسلامي إيحاء للولد إنْ كان يسمع، أو إيحاء للأهل، بإعلان بداية الانتماء الإسلامي للولد، باعتبار أنّ الأذان والإقامة يجسِّدان معنى عظمة الله ومعنى الأكبرية ومعنى توحيد الله ورسالة الرسول، ممّا يمثِّل بدوره أساس العقيدة الإسلامية. وهما أيضاً يؤكّدان قيمة الصلاة وقيمة السير في خطّ الفلاح وقيمة الانفتاح على خير العمل. ثمّ تتكرَّر فكرة الأكبرية والوحدانية في نهاية الأذان أو الإقامة، ربّما كان هذا السلوك هو إعلان عن الطابع الإسلامي لشخصية الولد الأولى، عندما يبدأ حياته لتنطلق في هذا الخطّ.

وربّما كان فيه إيحاء للأهل أنّهم عندما يؤذّنون للولد في إحدى أُذنيه ويقيمون له في الأذن الأخرى، بأنّ تربيتهم له يجب أنْ تتّجه نحو تأكيد هذه المعاني التي يمثِّلها الأذان أو الإقامة. أمّا بالنسبة لتأثير هذه الكلمات على الولد فهذا يحتاج إلى وسائل معرفية دقيقة لتحديده، ومن الممكن جداً أن تتوصّل الدراسات إلى تأكيد تأثيرها خاصّة بعدما أثبتت تأثير أمور أخرى كالموسيقى على الجنين فكيف بنا مع الوليد.

التكليف والمراهقة

ـــ كيف يمكن أن نعرِّف التكليف؟

التكليف يعني أنّ الإنسان أصبح مسؤولاً أمام الله عمّا يعمل وعمّا يترك في الجانب الإيجابي والسلبي، بحيث يصل إلى مرحلة المسؤولية أمام الله فيستحق الثواب والعقاب على الطاعة والمعصية.

ـــ ما الفرق بين سنّ الرشد وسنّ التكليف؟

الرشد على قسمين: تارةً يكون الرشد بمعنى العقل في مقابل الجنون، فالمجنون حاله كحال غير البالغ أي غير المكلّف في إطار تحمّل المسؤولية وذلك انطلاقاً من الحديث الشريف: "رُفِعَ القلم عن الصبي حتّى يحتلم والمجنون حتّى يفيق". وتارة بمعنى القدرة أي قدرة الإنسان على إدارة أموره بحيث يستطيع أن يدخل في معاملات مادية مع الآخرين ويستطيع إدارة معاملاته بالطريقة التي يصعب معها غشّه أو خداعه بما يضيّع ماله أو بما يهلك حياته وما إلى ذلك.

إنّ مرحلة الرشد، قد تتأخَّر عن مرحلة البلوغ وبالتالي مرحلة التكليف الشرعية، لأنّها مرحلة تتّصل بتعامل الفرد مع الآخرين وإدارة شؤونه المالية أو الحياتيّة، وهذه مسألة تختلف عن قضية المسؤولية في إدارة أعماله الخاصّة بما يأكل ويشرب ويعمل ويشتهي وما يعتدي به على الآخر أو ما إلى ذلك.

ـــ التكليف حسب الأحكام الشرعية محطّة أساسية من حياة الإنسان، لكنّنا نلاحظ أنّ الأهل غالباً لا يولون هذه المرحلة حقّها من الاهتمام. لماذا؟

إنّ مسألة الإهمال هذه هي مسألة وعي، فهناك نوع من الإحساس لدى الآباء والأُمّهات بأنّ عالَم الأبوّة والأمومة هو عالَم يرتبط بالجسد لا بالروح، وبالدنيا لا بالآخرة. ونحن نعرف أنّ القرآن الكريم أكَّد على هذه النقطة في قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا...} [طه : 132].

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ...} [التحريم : 6].

والتربية تستدعي أنْ يؤهّل الإنسان ولده ليكون المسلم الملتزم المنفتح على الله، يرجو الله ويخشاه في كلّ أموره، بحيث يعيش كعبدٍ من عباده وكمخلوق له وكإنسان مسؤول أمامه في أنْ يحوّل الدنيا إلى موقع من مواقع الكدح: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق : 6]. وينتظر الخير من الله عندما يعمل الخير والشرّ عندما يعمل الشرّ {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ـــ 8].

ولهذا أمر الإسلام الأهل أنْ يدرِّبوا الولَد ذَكَراً كان أو أُنثى على أداء واجباته الدينيّة قبل موعد تكليفه بها، فيدرّبوه على الصلاة قبل بلوغه، وعلى الصوم ولو بالتدرّج قبل البلوغ أيضاً، ويمنعوه كذلك من الأعمال المحرَّمة التي لو امتدت في حياته قبل البلوغ لتحوّلت إلى عادة قد تتنامى وتقوى بعد البلوغ.

لقد اهتمّ الإسلام، بتأهيل الطفل لمرحلة البلوغ مسبقاً، لأنّ تحمّل المسؤولية بشكلٍ مفاجئ يخلق صدمة لدى الولَد قد تجعله يرفضها لأنّها تتعبه.

ـــ شاعت في الآونة الأخيرة ظاهرة الاحتفال بسنّ التكليف في المدارس، كيف تنظرون إلى هذه الظاهرة؟

إنّ هذه المبادرات التي اتّخذتها بعض المؤسّسات الإسلامية هي مبادرات إيجابية ونافعة، لأنّها توحي للمكلَّف والمكلَّفة أنّ بلوغ سنّ التكليف، حدثٌ كبيرٌ ومهمّ في حياة كلٍّ منهما، بحيث يشعر الصبي أنّه أصبح كالرجال مسؤولاً مثلهم، وتشعر الفتاة أنّها أصبحت كالنّساء ومسؤوليّتها مثل مسؤوليّتهنَّ. بالإضافة إلى ما يحمله ذاك الاحتفال من إيحاء بأنّ الولَد أصبح في موقع إقامة علاقة مباشرة مع الله، من خلال المسؤولية أمامه. ومن خلال ربط التكليف بمناسبة مفرحة، بدلاً من الشعور بالقلق أو الانطواء، كما يحصل في بعض الحالات.

ـــ أكثر ما تقام حفلات التكليف للإناث، فهل تحتاج الفتاة إلى الاحتفاء بتكليفها أكثر؟

نحن نشجِّع حفلات التكليف للذكور والإناث على حدٍّ سواء، ولكن ربّما كانت حاجة الإناث إلى تلك الحفلات أكبر باعتبار أنّ تكليفهنَّ يسبق تكليف الذكر، على حسب الفتاوى المعروفة والمشهورة ممّا يجعل الفتاة بحاجة إلى كثيرٍ من التعبئة والشحن الروحي الذي يسهل تقبّلها للتكليف في هذه السنّ المبكرة. وعلى الأهل الواعين أن يعتنوا بهذه المناسبة فيقدِّموا للطفل والطفلة الهدايا احتفاء بتكليفهم تماماً، كما تعوَّدوا أنْ يقدِّموا لهم الهدايا في مناسباتٍ أخرى.

ـــ مع الاضطرابات النفسية والجسدية التي ترافق البلوغ، ودخول سنّ المراهقة كيف نحوّل التزامات التكليف أمراً يسيراً على الطفل؟

إنّ البلوغ ـــ في المصطلح العلمي ـــ يعني نضوج الغدد التناسلية التي تبدأ العمل بتزويد بعض أعضاء الجسم بهرمونات معيّنة، تُكْسِب الجسم معالِم جنسية، قسم منها يختصّ بالذكور، وآخر بالإناث.

أمّا في المصطلح الشرعي، فإنّه يمثِّل مرحلة النضج الجنسي الذي به يبدأ التكليف الشرعي، بحيث يعتبر مسؤولاً أمام الله تعالى، فيُلزم بسائر العبادات والواجبات الدينيّة.

أمّا بشأن الاضطرابات النفسية التي ترافق حالة البلوغ فربّما تعود إلى التغيّرات الجسدية التي تفاجئ الولد في هذه المرحلة، والتي تتطلَّب رعاية خاصّة من أجل أن يواجهها بوعي، ويتكيَّف معها بحكمة، وهذا يتطلَّب تحضير الولد مسبقاً لهذه المرحلة من خلال ثقافة جديّة تتّصل بكلّ هذه التغيّرات، وأفضل سبيل لذلك هو تزويده بالأحكام الفقهية التي يُفترض الالتزام بها، وبذلك نكون قد خفَّفنا من وقع الصدمة أو الأزمة.

أمّا كيف نحوِّل التزامات التكليف أمراً يسيراً على الطفل، فيكون باعتماد سياسة تربوية تسبق مرحلة البلوغ من خلال تعويده على الواجبات الدينيّة كي تصبح جزءاً من التزامه اليومي.. إذ لا يجوز أن ننتظر هذه المرحلة لنبدأ معه عملية التوعية والتعليم.

إنّ التزامات التكليف تحتاج إلى وعي من قِبَل الأهل، وعي في فهم حاجات هذه المرحلة، والاستجابة المتوازنة لهذه الحاجات كي يستطيع الولد تجاوزها بأقل قدر من السلبيات.

ـــ لا نعثر في الأحاديث الشريفة أو المصطلحات الشرعية على مصطلح المراهقة ونجد بدلاً عنه مصطلح الفتوة، فهل ترون أنّ المراهقة مصطلح غربي؟

إنّ مصطلح "المراهقة" هو مصطلح حديث جاءت به الثقافة الغربية وهو يعني مرحلة عمرية قد تمتدّ من البلوغ وحتّى الثامنة عشرة أو أكثر، وقد تختلف فترتها بين شخصٍ وآخر بحسب المؤثّرات الوراثية والبيئيّة. والمراهقة ـــ من خلال هذا المفهوم ـــ تعني مجمل التغيّرات الجسدية والانفعالية والعقلية والروحية والاجتماعية التي تطرأ على الشخصية الإنسانية.

وعلى هذا الأساس تعتبر المراهقة حالة تحوّل مهم في شخصية الطفل، بحيث تفرض تعاملاً خاصّاً يختلف في بعض مفرداته عمّا كنّا نعامله سابقاً، والإسلام في طبيعة تعامله مع المراهق يأخذ في حساباته كلّ الظروف الموضوعية المحيطة، ليقدّم له من التعاليم التي تخفّف من أزماته، وتصوّب له مساره.

ـــ ثمّة مبالغة في التأكيد على سلبيات المراهقة إلى درجة أنّ الأهل باتوا يحتجُّون بها لتبرير عجزهم عن ضبط أبنائهم؟

إنّ المراهق بما يحصل له من تغيّرات جسدية مفاجئة، يتكوَّن لديه استعداد نفسي للقلق، بحيث يتحوَّل إلى مظاهر واقعية إذا أهمل المربُّون أمر تربيته ورعايته وتحضيره المتوازن لهذه المرحلة. لذا فنحن نعتقد أنّ المراهقة حالة طبيعيّة في حياة الولد، تتّصل قبل أيِّ شيء بالجانب الجنسي الذي يفرض نفسه على الجسد بقوّة، وهو أمر يصبح صعباً في ظلّ غياب وسائل التنفيس عن الاحتقان الذي تفرزه، ممّا يؤدّي إلى حالة توتّر قد يعبّر المراهق عنها بطريقة عدوانية نحو نفسه أو نحو مَنْ حوله.

لذلك لا بدّ أنْ نتعامل مع المراهق بطريقة خاصّة تراعي حالته الخاصّة، فحالات الجنون لا تقتصر على جنون العقل بالمعنى المرضي، فهناك أيضاً جنون الغريزة والانفعالات الذي قد يخضع له الإنسان دون أنْ يكون مجنوناً. إنّ جنون الغريزة تماماً كجنون الطبيعة التي تصبح في حالة هياج عند حدوث الفيضانات والزلازل والبراكين، دون أن يكون ذلك أمراً غير طبيعي. إنّ مرحلة المراهقة تمثّل مرحلة جنون الغريزة التي كانت هامدة قبل فترة وجيزة، كان الإنسان فيها يمارس حياته بشكلٍ طبيعي، ولا شكّ أنّ جنون الغريزة يمثّل مشكلة لصاحبها في مجتمعٍ تنتشر فيه القيود التي تعيق إشباعها، من هنا جاء اعتراف الإسلام بالجانب الجنسي في حياة الناس، واعتباره أمراً عادياً لا يحمل التهاويل المحيطة به، لقد اعتبر الإسلام الجنس حاجة طبيعيّة ورأى في تعبير الذكر للأنثى أو الأنثى للذكر عن الحاجة الجنسية ضمن الحدود الشرعية أمراً عادياً جداً. المشكلة أنّ المجتمع أرهق العلاقات الزوجية وأحاطها بكثيرٍ من التقاليد والعادات التي عقدت إنشاءها. لقد أراد الإسلام تسهيل الزواج، فمن الممكن لطالِبَيْن على مقاعد الدراسة أن يتزوّجا وكلّ منهما يعيش عند أهله ومن هنا جاء اهتمام الإسلام بالزواج المبكر.

المجتمع الذي لا يريد الهروب من المشكلة عليه أن يغيِّر قوانينه ويغيِّر نظرته إلى الجنس في حياة الإنسان، ولن تكون لدى المراهق مشاكل صعبة عندما نسهّل أمر زواجه بحيث نزوّج الفتاة والشاب بمجرّد بلوغهما، ونطوّق المشاكل التي يمكن أن تنشأ عن الزواج نفسه وعن إنجاب الأطفال بوسائل شرعية لتنظيم النسل وما إلى ذلك. إنّ مجتمعنا برأيي يهرب من المشكلة الجنسية هروباً، ويجبر الأولاد والبنات على الانحراف خصوصاً عندما يرميهم في وسط مفتوح ومختلط، حيث يوجد حالة تماس دائم بين الذكر والأنثى على مقاعد الدراسة، وفي أجواء توحي بالإغراء.

ـــ هل يمكننا القول إنّ نظرة الإسلام إلى موضوع المراهقة هي نظرة ترى فيها مجرّد مرحلة تحوّل وليست حالة مرضية؟

المراهقة ليست مرضاً، لكنّ الكبت يحوّلها إلى أزمة، ذلك أنّ التحوّل الجسدي عندما يحدث في مجتمع مغلق، من الطبيعي أن يواجه المراهق الاختناق أمام جنون الغريزة، فيرتدّ الأمر عليه حيرة وكآبة وأفكاراً لا معقولة وما إلى ذلك.

من هنا، تشكّل المراهقة حالة طبيعيّة، على الأهل التخفيف من آثارها السلبية ما أمكنهم ذلك، وهي بلا شكّ لا تمثّل عائقاً أمام التكليف، لذا على الأهل أنْ يسهّلوا للمراهقين أمر الاستجابة لمسؤولياتهم الشرعية، بالزواج المبكر مثلاً وما إلى ذلك، أو بشغلهم عن الجنس بالأمور الدينية والرياضية والكشفية وغيرها من الأمور التي تتناسب مع ميول الشباب في هذه المرحلة من العمر بما تتحرَّك به الفتوة.

ـــ ورد في الحديث: "إنَّ أحبّ الخلائق إلى الله رجلٌ شاب حدِث السنّ في صورة حَسَنَة جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته. ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته، يقول هذا عبدي حقّاً؟. كيف نفهم هذا الحديث وكيف يطبّقه شباب اليوم؟

إنّ المنهج الإسلامي لصناعة الشخصية الإسلامية للشاب هو الاهتمام بتربيته وتوجيهه إلى القِيَم الروحية والأخلاقية الإنسانية وتعويده على العادات الحَسَنَة وتأكيد الانفتاح على التعلُّم بما ينمّي عقله ويوسّع آفاقه ويفتح حياته على التقوى ومحبّة الله، والتفقُّه في الدّين يجعله ملتزماً بالإسلام من موقع الثقافة الإسلامية ليكون داعية للإسلام وعاملاً في سبيله على خلاف الدعوة في التراخي مع التعاطي مع الشباب في مقتبل العمر، فإنّها قد تكون مقبولةً من حيث أسلوب الرّفق ولكنّها غير مقبولة من حيث إهمال التربية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(2) تربية الطفل

من منظور إسلامي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أهداف تربية الطفل

ـــ لكلّ نظرية اجتماعية، رؤية خاصّة في موضوع التربية وهدفها، ما هو هدف التربية في الإسلام، ولماذا نربّي الطفل؟

التربية وسيلة من وسائل بناء الشخصية الإنسانية لتحقيق أهداف الإنسان الكبرى في إطار الفهم الإسلامي. إنّ هدف التربية في الإسلام إعداد المسلم لتحقيق كلّ الأهداف الإسلامية التي وضعت بين يديّ الإنسان، سواء على مستوى انفتاحه على الله أو انفتاحه على الناس أو على نفسه وما إلى ذلك.. بالعبادة والمعرفة، إنّ هدف التربية إعداد الإنسان المسؤول عن الكون والحياة في علاقته بالله وبالإنسان وبالحياة.

على الرّغم من أنّ الإنسان خُلِقَ ضعيفاً لكن لديه قابلية أخذ القوّة، وعلى الرغم من أنّه خُلِقَ سريع الحركة والانفعال لكن لديه قابلية الوصول إلى التأنّي وما إلى ذلك.. فدور التربية إذن هو أن تؤسّس التوازن في شخصية الإنسان بمختلف أبعادها الجسدية والنفسية والروحية والذهنية والاجتماعية.. وأنْ تنمّي معرفته بالنشاط الذي ينسجم مع مستواه الفكري، وأنْ تزرع القِيَم والمفاهيم داخل شخصيّته، بالمستوى الذي يتحوَّل فيه الطفل إلى تجسيدٍ حيّ لتلك القِيَم، حيث تقوم تربيته على الصّدق في شخصٍ صادق، وتربيته على الأمانة في شخص أمين وهكذا.. إنّ هدف التربية إعطاء القِيَم وتجسيدها في الإنسان ونقل القِيَم من عالَم المفاهيم المجرّدة إلى عالَم الحركة الحياتية، بحيث يتحوّل الإنسان نفسه إلى قيمة متجسّدة، بدرجات متفاوتة في التجسيد تبعاً لتفاوت المؤهّلات، هذا ما يمكن أن نفهمه من حديث إحدى زوجات النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عن أخلاق الرسول على سبيل المثال حيث تقول: "كان خُلقه القرآن" بحيث إنّه تحوَّل إلى قرآن متحرّك. دور التربية إذن هو أن تؤصّل القِيَم في حركة الإنسان في الواقع.

إنّ الإسلام يؤكّد على الشخصية الإسلامية من الناحية الفكرية والعملية والأخلاقية في صناعة الإنسان، ومن الطبيعي أنّ هدف الإنسان المسلم في تربية أولاده هو أنْ يكونوا على الصورة التي يتمثّل فيها الإنسان في عناصر شخصيّتهم فكراً وعملاً على الخطّ المستقيم في خطّ طاعة الله والخوف منه ومحبّته بما يحقّق لهم معنى التقوى هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى، إنّ القول بأنّ هدف التربية في الإسلام، جعل الإنسان منفتحاً على الله لا يعني حصر التربية في إطار ضيِّق، كما يفعل البعض، فالانفتاح على الله ليس مجرّد حالة صوفية تأمليّة أو حالة عبادية طقسيّة جامدة بل هو الانفتاح على كلّ ما يريده الله للإنسان في الحياة. وإذا عرفنا أنّ الله أراد للإنسان أن يكون خليفته في الأرض فمعنى ذلك أنّه أراد له أن يقوم بكلّ مسؤوليّاته تجاه الله.

ـــ هل نستطيع أن نفهم من ذلك أنّ التربية بنظر الإسلام، هي عملية تطويع للفرد، وقولبة له على قياس القِيَم؟

إنّ هدف التربية هو الإنسان بذاته، وصلاح الإنسان أو تديّنه في هذا الإطار يخدم الإنسان والإنسانية في آنٍ معاً، والقول بأنّ هدف تربية الإنسان جعله تجسيداً حيّاً للقِيَم، لا يعني وضعه في خدمة شيء خارجه، بل على العكس من ذلك يعني إعطاءه مجال تحقيق إنسانيّته. فحين أقول إنّني أُربّي شخصاً وأتركه ليحقّق ذاته من خلال النموّ، هذا يعني أنّني أساعده على تحقيق نفسه، صحيح أنّ للتربية جانباً سلبياً وجانباً إيجابياً، حيث تحتوي على مقدار من القهر، يمارسه المربّي على الصغير الذي يشكّله وفق منظومة معيّنة، تخدم برأي هذا الأخير الهدف من الحياة. إلاّ أنّنا لا يمكن أنْ نتناسى في إطار تربية الإنسان لنفسه، أنّ أحد أهداف التربية إعداد الفرد للتكيُّف مع محيطه الاجتماعي، ونقل القِيَم من السابقين إلى اللاحقين، من هنا لا مناص من تبنّي مرجعية معيّنة في تربية الطفل، وهذه المرجعية نفسها تحدِّد مدى صلاح التربية أو فسادها سواء لجهة العناوين الكبرى، أو التفاصيل.

 

ـــ تستعملون في خطبكم وكلماتكم مصطلح التربية الواعية فماذا تقصدون به؟

عندما نتحدّث عن التربية الواعية نتحدّث عن تربية قويّة متوازنة لا تترك الإنسان في مهبّ الرّيح بل تجعله يتحكّم بنفسه بحيث لا تطغى عليه وراثته أو تسقطه المؤثّرات الخارجية بسهولة.

إنّنا لا نستطيع أن نرسم خطّاً هندسياً واضحاً لشخصية الإنسان، بحيث نضبط مدى تأثير الوراثة من جهة ومدى تأثير البيئة عليه من جهةٍ أخرى. فالناس يختلفون في استجابتهم للعوامل الخارجية، فما يدفع شخصية ما إلى السير باتّجاه معيّن، يدفع أخرى باتّجاه مختلف.

إنّ كلّ شيء يستطيع الإنسان أن يهندسه إلاّ نفسه، فمن الممكن أن تهبّ في أيّ وقت الرّياح الداخلية أو الخارجية لتقتلع الزرع الطيِّب الذي غرسناه في داخلنا أو تجتثّ حيويّته أو ما إلى ذلك.

إنّ التربية الواعية تنطلق من فهم جيّد لظروف الولد ثمّ تحاول خلق المناخات الملائمة التي يكتسب الولد من خلالها مختلف القِيَم التي نريد غرسها وتجسيدها في ذاته، كلّ ذلك في إطار احترام شخصيّته وإثارة الثقة في نفسه.

أساليب تربية الطفل

ـــ تُمارَس عملية التربية عبر العصور والأمكنة بأساليب متعدّدة منها المتشدّدة ومنها المتساهلة ومنها المتسلّطة ومنها الحازمة؟ أين الإسلام من هذه الأساليب؟

من الصَّعب جدّاً أن نضع خطّاً بيانياً واحداً للتربية، لأنّ رسالة التربية هي أن نصلح ما يفسد من الطفل أو ندخل الفكرة ـــ القيمة ـــ إلى وجدانه بحسب ما تستوعب إدراكاته وأحاسيسه، لذلك فإنّ هذه العملية قد تحتاج إلى ما يشبه العقاقير لأيّ مرضٍ كان، وقد تحتاج إلى ما يشبه العملية الجراحية، بحيث يدور الأمر بين أن نترك الطفل نهباً للعلّة التي تهدِّد شخصيّته أو حياته أو أن نقسو عليه بطريقة مدروسة لتخليصه منها.

فنحن إذا ما أردنا أن ننشئ إنساناً سويّاً، لا بدّ لنا أن نتعامل مع المفردات السلبية الموجودة داخل شخصيّته بحسب حاجتها إلى الرفق أو إلى العنف، فلا يستعجل المربّي منّا العنف لأنّ مزاجه لا يصبر على متابعة التجربة اللّينة أو السلمية إذا صحّ التعبير، بل يستنفد كلّ التجارب إذا لم يكن لهذا الاستنفاد، ولما يستغرقه من وقتٍ طويل، تأثير سلبيّ على عملية التقويم، لذلك نقول: إنّ الأصل هو عدم القسوة، ولكن من الممكن أن نستعمل العنف من موقع الرحمة لا من موقع حالتنا المزاجية التي تختزن الميل إلى القسوة، إنّنا نفرِّق بين الأسلوب الذي يختزن العنف على اختلاف درجاته والقسوة، فالقسوة حالة نفسيّة تدفع الإنسان إلى الاعتداء على الآخرين واضطهادهم بينما العنف هو خطّة يُراد من خلالها إصلاح ما يفسد من الإنسان أو تعميق قيمةٍ ما في نفسه، وهو بذلك قد يحمل مصلحةً للإنسان تماماً كالعمليات الجراحية التي تحمل إليه الصحّة.

وإذا درسنا المسألة على ضوء الواقع لا نجد الحياة رفقاً كلّها أو عنفاً كلّها. بل إنّ للرفق موقعاً فيها وللعنف موقعاً آخر.. وفي هذا الصّدد نستذكر قول المتنبّي:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلى           مضر كوضع السيف في موضع الندى

إنّ عنوان الأسلوب التربوي الذي نختار هو عنوان يتحرّك تبعاً للحالة الداخلية أو الخارجية التي يعيشها الطفل والتي تتحدَّد على ضوئها حاجة العلاج إلى التدخُّل لتقويم الحالة أو إصلاحها أو ترويضها، ذلك أنّ الأطفال يختلفون فيما بينهم فهناك الذي لا يمكن إصلاح أمره بالرفق دائماً أو بالعنف دائماً، وهناك مَنْ يحتاج إلى الضغط كي يهدأ ويستقرّ.

خلاصة: نحن ضدّ التسلُّط وضد القسوة، لأنّ التسلُّط يمثّل حالة قهر ولأنّ القسوة تمثِّل حالة عدوان. إنّنا نفرِّق بين السلطة والقسوة والعنف المدروس، والأصل في الإسلام هو الرفق.

ـــ هل يمكننا تحديد مبادئ عامّة في التربية تسهِّل على الأهل مهمّتهم؟

في الخطوط العامّة على الأهل، أنْ لا يعتبروا الولد جزءاً من أملاكهم، فالإنسان الصالح هو بالنسبة للمجتمع عاملٌ صالح وقائد صالح.. إنّ المفهوم الإسلامي للتربية يستدعي أنْ يعتبر الأبوان ولدهما أمانة الله بين أيديهم، وهو أمر يتحقَّق من خلال إثارة محبّته، والاستماع إليه، واحترام عقله، والإيحاء له بأنّ باستطاعته الوصول إلى الحقائق بجهده وفكره.. ثمّ تعليمه كيف ينقد ويناقش ويقبل أو يرفض، فإنّ ذلك يمثّل احتراماً للآخر، ولأنّ مَنْ لا يحترم فكر غيره لا يناقشه فيه، لأنّ في نفس هذه المناقشة اعترافاً به.

واحترام الطفل وتعليمه احترام الآخر يأتي ضمن سياسة تربوية متكاملة، حيث يتقبَّل الأهل ما يطرحه الطفل من أفكار، حتّى إذا طرح فكرة سخيفة، لم يبادروا إلى السخرية من هذه الفكرة، بل يحاولون إعطاءه الدليل أو الحجّة على خطئها ويشجّعونه على التفكير من جديد، وبطريقة أفضل دون أن يحملوه على اليأس من نفسه، لأنّ السخرية من قدرات الطفل قد تحمله على الحكم على نفسه بالغباء والعجز والقصور وما إلى ذلك من أحكام سلبية ومحبطة، كما هي حال كثيرٍ من الأطفال الذين يحبطون من جرّاء الحكم القاسي الذي يطلقه عليهم الآباء أو المعلِّمون عندما يخطئون في التفكير أو في اتّخاذ القرارات.. ولتفادي ذلك يجب إحاطة خطأ الطفل في التفكير ببعض الأجواء التي توحي له أنّ مصدر خطئه لا يكمن في شخصه بل في سطحية معالجته أو في الأدوات التي استعملها في الوصول إلى النتائج. فنقول له على سبيل المثال، إنّ هذا التفكير سطحيّ، ولا يقول به أحد، وأنّك لم تتبع المنهج الذي يوصلك إلى الحقيقة ـــ طبعاً بلغته الطفولية ـــ فكرّر المحاولة من جديد فلعلّك تنجح في المرّة الثانية.

ـــ ورد في الحديث: "مَنْ لم يرحم صغيرنا ولم يعزّ كبيرنا فليس منّا". ما المقصود بالرحمة للصغير؟

لعلّ المقصود بالرحمة للصغير هو زرع الإحساس ـــ في شخصيّته الطفولية الباحثة لا شعورياً عن الطمأنينة والأمن ـــ بأنّه موضع المحبّة والرعاية من قِبَل أبيه أو أُمّه بما تمثّله القُبلة والضَّمّة واللّفتة من معنى الاحتضان الروحي الذي يملأه بالدفء والحرارة العاطفية والإحساس بالأمان والفرح، ممّا يترك تأثيره على نفسيّته في المستقبل. وربّما يوحي الحديث المتنوّع في ألفاظه، أنّ مسألة الرحمة هي من القِيَم الإسلامية الروحية التي يريد الله لها أن تشيع في المجتمع ليكون طابعه في كلّ علاقاته الرحمة في حركة السلوك، فمَنْ يرحَم يُرْحَم، فهذا ينسجم مع الخطّ العام لأخلاقيات المجتمع الإسلامي، أمّا مَنْ لا يَرْحَم فإنّه يفقد رحمة الآخرين له، لأنّه لا يحمل في شخصيّته الإحساس بالآخر في حاجاته النفسية والعملية لاسيّما أنّ الرحمة من صفات الله التي أراد لعباده أن يذكروه بها ليتأثّروا بها عقلياً وروحياً وعملياً.

ـــ هل يمكن تطبيق مبدأ "أحبب لأخيك ما تحبّ لنفسك" مع الطفل وهو أدنى وعياً من الأهل؟

عندما ندرس هذا المفهوم الذي تعبّر عنه نصوص عديدة بأساليب مختلفة "لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها"، "يا بنيّ اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك واكره له ما تكره لها" وغيرهما من الأحاديث، نرى أنّ قاعدة التعامل مع الآخر هي جعل النفس مكانه، بحيث يسأل الواحد منّا نفسه ماذا يطلب لو كان في ظروف الآخر، ماذا أفعل لو كنت صبيّاً، إذا كانت العلاقة مع صبي؟ كيف أتصرَّف؟.. وماذا أطلب من أُمّي لو كنتُ ابناً، وماذا أطلب من معلّمي لو كنتُ تلميذاً؟.. إنّ قاعدة التعامل مع الآخر هي العدالة، حيث يجب أن نتعامل مع الآخر من ظروفه لا من خلال ظروفنا نحن.

على ضوء ذلك، عندما نريد التعامل مع الطفل علينا أنْ نتقمَّص شخصيّته في أحاسيسه ومشاعره وحاجاته وأحلامه وآلامه، فنحن عندما ندخل عالمه نكتشف رغباته وحاجاته، لنبادر إلى الاستجابة لها وضبطها في إطار احترام مشاعره وأحاسيسه، المهمّ هو أنْ نخفِّف من آلامه ولا نجهض شيئاً من أحلامه، فقاعدة التعامل مع الآخر لا تختلف بين شخصٍ كبير أو صغير، فهي تقضي أن يضع الإنسان نفسه مكان الآخر ويتصرَّف على هذا الأساس..

مع الإشارة إلى أنّه وخلال عملية التربية نحن نلتقي بطرفين ليسا على المستوى نفسه واحد يعطي وواحد يتلقّى.

دور الثواب والعقاب في تربية الطفل

ـــ تختلف أساليب التربية فيما بينها ولكنّ معظمها يقوم على مبدأ الثواب والعقاب، ما أهمية الثواب والعقاب في العملية التربوية؟

إنّ مبدأ الثواب والعقاب يقوم على آليات نفسية تحفِّز السلوك الإيجابي، وتحبط السلوك السلبيّ، فعندما يشعر الإنسان بأنّه موعود بثوابٍ ما على عملٍ ما، فإنّ ذلك يحمله على المبادرة إلى العمل رغبةً في الثواب، تماماً كما هي الحال مَنْ يقطع المسافات الطويلة ويجهد نفسه بالتدريبات القاسية للحصول على الرّبح والفوز، والثواب هنا يلعب دور المحفِّز للسلوك الإيجابي. والعكس صحيح بالنسبة إلى العقاب فنحن نتجنَّب ونحرم أنفسنا من أمور كثيرة نرغبها خوفاً من نتائجها السلبية علينا، سواء كانت تلك النتائج جزءاً من العمل الذي نتجنّبه أو كان مصدرها عقاباً يوقعه أحد بنا.

مسألة الثواب والعقاب تتّصل بشعوريّ الرغبة والرهبة في تكوين الإنسان، وهما شعوران مهمّان في ضمان حمايته لنفسه، وفي تحقيقه لإنسانيّته بكلّ حاجاتها الإيجابية والسلبية. وفي مجال التربية، علينا أنْ نختار نوعية الثواب والعقاب بعد دراسة قابلية مَنْ نريد إثابته أو عقابه، وعلينا أنْ لا نستخدم الثواب في ما نريد توجيهه إليه أو نستخدم العقاب في ما نريد إبعاده عنه، إلاّ بعد دراسة الشخص والظرف والأسلوب بكلّ جوانبها، لأنّنا قد نُثقل الإنسان بإعطائه جرعة أكبر أو أقلّ ممّا تتحمّله أو تحتاجه شخصيّته.

أمّا بالنسبة للطفل، فإنّ هدف استخدام الثواب والعقاب ما هو إلاّ تنمية شخصيّته وإنسانيّته وعقله، ممّا يفرض علينا أن نحاول اكتشاف أقرب الطرق للوصول إلى عقله. بعبارةٍ أخرى، إنّ عملية التربية بأغلبها، تتّصل بداخل الإنسان باعتبار أنّنا نريد من خلالها جعل الطفل يختزن أفكاراً معيّنة في عقله، ومشاعر معيّنة في قلبه، وحمله على التحرّك نحو أهداف معيّنة عبر طرق محدّدة، وبما أنّ التعامل مع الطفل يتطلَّب النفاذ إلى الداخل، وبما أنّ هذا الداخل، يحتوي دائماً على مناطق مغلقة أمام الآخر، فإنّنا بحاجة إلى تجريب الكثير من الأساليب قبل أن نعثر على المفتاح الملائم. لذا فإنّ عملية الثواب والعقاب في التربية هي عملية متحرّكة دائماً.. على هذا الأساس أقول لا بدّ من دراسة الثواب والعقاب قبل استخدامه، فلعلَّنا إذا ما عوّدنا الطفل على الثواب مكافأة على الدرس حملناه على أنْ لا يدرس إلاّ مقابل عوض مالي يأخذه.. بحيث نبتعد به عن الاهتمام الفعلي بالدرس، أو بأيِّ قضية أو فكرة.

لكنّ ذلك لا ينفي أنّنا قد نحتاج إلى الثواب في الحالات التي يعيش فيها الطفل التمرُّد والتي تنفِّره من الدرس أو القراءة أو من أيّ شيءٍ آخر.. ليلتقي بما نريد أن نوجّهه إليه ويعيش في داخله ليختاره بنفسه، وهذا ما نلاحظه عند بعض الأطفال الذين يمتنعون عن الدرس، فإذا ما أعطاهم الأب أو الأم بعض المال أو الألعاب أو حتّى وعدوهم بنزهة أو بأيّ شيء يحبُّونه اجتهدوا طمعاً بالمكافأة واندمجوا في الدرس إلى درجة الإحساس باللّذة حتّى ينالوا علامات مرتفعة جرّاء ذلك، فلو فرضنا أنّ الأب والأم حجبا عنهم الهديّة أو منعاهم من الدراسة فإنّهم يتمرَّدون عليهما.

إنّ عملية الثواب والعقاب تشبه الدواء، فهي تحتاج إلى التدقيق في كميّة الجرعة التي نهبها للطفل في هذا المجال أو ذاك. كما أنّ الثواب والعقاب مبدأ قرآني ويتناسب مع الطبيعة الإنسانية.

ـــ من أكثر وسائل العقاب الشائعة، وسيلة الضرب ما رأيكم بهذه الوسيلة كوسيلة لضبط سلوك الطفل؟

يلجأ الآباء أو الأمّهات أو المعلِّمون إلى الضرب في إخضاع الطفل لقلّة صبرهم، لأنّهم يعتقدون أنّ هذا الأسلوب يختصر الطريق عليهم إلى حلّ مشكلتهم مع الصغار، لكنّ الضرب قد يُسكِت الطفل إلى حين، ولكنّه في الواقع يترك آثاراً سلبية في شخصيّته، فهو يولِّد لديه إحساساً بالقهر والخوف من جهة، وموقفاً رافضاً من الشخص الذي يضربه من جهةٍ أخرى.

أنْ نُشْعِرَ الطفل بالاضطهاد بفعل استخدام الأسلوب العنيف معه هو شكل من أشكال الظلم الذي يفترض بالأولياء تجنّبه، ولعلَّنا نستوحي ذلك من الفكرة الإنسانية الرائعة التي يُعبّر عنها هذا القول: "ظلم الضعيف أفحش الظلم"، من هنا يأتي وجوب أنْ نحترم إنسانية الطفل كجزء من احترام إنسانيّتنا. إنّ مشكلة غالبية الناس هي أنّهم أنانيّون يطلبون من الآخرين أنْ يتعاملوا معهم بطريقة إنسانية، ولكنّهم لا يقابلون الآخرين بالاحترام الذي يطلبونه منهم، وهو أمر يعبّر عنه دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) "اللّهمَّ فكما كرّهت لي أنْ أُظلَمَ فقني مِنْ أنْ أَظلِم".

وهذا هو معنى "عامل النّاس بما تحبّ أن يعاملوكَ به"، "يا بنيّ اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك"، إنّ الهامش الذي يكون فيه اللّجوء إلى الضرب مبرّراً ضيّق إلى أبعد تقدير، بحيث لا يلجأ إليه إلاّ في حالات الخطر الشديد بوصفه عملية جراحية وظيفتها استئصال المرض.

ونجاح الأسلوب الذي يمكن أن نتبعه في إيصال أيِّ فكرة إلى عقل الطفل، أو في إيصال أيِّ شعور إلى قلبه يقوم على مراعاة ما يمكن أنْ تتحمّله شخصية الطفل من دروس أو ضغوط. ذلك أنّ الخطّ التربوي العام الذي يفترض أن نتبنَّاه يقوم على رحمة الطفل، باعتبار أنّ الرحمة خطّ عام يحكم علاقة الله بالإنسان وعلاقة الإنسان بالإنسان الآخر.

والرحمة ليست مجرّد مفردة أخلاقية بل هي مفردة معرفية تستدعي تحديد مستوى الطفل العقلي، وتقدير ظروفه الواقعية عند محادثته أو توجيهه. ذلك أنّ التربية عموماً، يفترض أن لا تنطلق ممّا يفكّر به المربّي بحيث يتعمَّد إسقاط ما قرأه أو تعلَّمه على الطفل قسراً، كما هي حال المرشد الديني أو الاجتماعي، الذي يفترض به أن لا يفرض مواقفه الخاصّة على الآخرين، بل عليه أن يدرس تجاربهم وأوضاعهم ليحصل على ثقافة تربوية تساعده على القيام بعمله في مجال التربية أو التثقيف بالشكل الذي يؤدّي إلى تحقيق الأهداف المرجوة. وإنْ كان الخطّ العام يقول {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا...} [البقرة : 286] فيما تعطى من توجيهات وما يفرض عليها من تكاليف وما إلى ذلك. 

 

 

 

 

 

 

 

  

(3) دور الوراثة في بناء

شخصية الطفل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ـــ كيف تنظرون إلى دور الوراثة في عملية التربية؟

لقد تحدّث الإسلام عن الفطرة التي تؤدّي إلى التوحيد لولا وجود العوائق الخارجية، أمّا الوراثة فهي تمثّل الاستعدادات التي تحكم الذّات لو تُركت في مسارها الطبيعي، ولكنّ العوامل الخارجية من تربية وتجارب تدخل في تكوين الشخصية بحيث تضعف تأثير الوراثة وتكبتها، ولا تسمح لها بالسيطرة على كلّ وجدان الإنسان العقلي والشعوري. فلا تظهر تلك الاستعدادات إلاّ في حالات ضعف هذا الوجدان بين وقتٍ وآخر.

ومن هنا نقول إنّ التربية تكبت الوراثة، لا أقول إنّها تلغيها تماماً ولكنّها تمنع حركيّتها في الذّات إلاّ في حالات الضعف الذي يُسيطر على الإنسان بين وقتٍ وآخر.

ـــ هل تؤمنون بأنّ الطبع يغلب التطبُّع؟

أنا لا أتصوَّر أنّ الطبع يغلب التطبُّع دائماً. بل إنّ التطبّع إذا كان خاضعاً لخطّة طويلة محكمة يصنع طبعاً ثانياً. بحيث لا يعود تطبّعاً بل يتحوّل إلى طبيعة جديدة تزيل الطبيعة الأصلية وتحلّ محلّها أو تغطّيها فلا يكون لتلك الطبيعة أيّ تأثير في الشخصية.

ـــ كيف نفهم حديث الإمام عليّ (عليه السلام) "إنّ العرق لدسّاس"؟

إنّنا نفهم من هذا الحديث وغيره من الأحاديث الأخرى المشابهة كما في "الخال أحد الضجيعين" أنّ للوراثة دوراً كبيراً في إعطاء القابليّات الطبيعيّة التي قد تهيّئ الطفل سلباً أو إيجاباً ولكنّها لا تشلّ حركته ولا تلغي دور التربية التي يُفترض أن تفهم وتستوعب هذه القابليّات.

 

 

ـــ برأيكم هل تمثّل الصفات الوراثية عذراً للإنسان يعفيه من عقاب الله في حال تقصيره في الالتزام بأوامره ونواهيه؟

لا بدّ لنا من ملاحظة مسألة وهي حجم وقوّة أسلوب التربية المستعملة فإذا كان أسلوب التربية أسلوباً عادياً يعتمد على نوع من المؤثّرات السطحية، كأساليب الموعظة والنصيحة والظروف الاجتماعية، فإنّ الطبيعة الوراثية في هذه الحال تغلب التربية. وهذا ما نلاحظ وفي كثيرٍ ممّن يعيشون الأجواء الدينيّة بطريقة سطحيّة حيث إِنّهم وبمجرّد التواجد في أجواء تنسجم مع ميولهم الموروثة إلى التحلُّل من الالتزام الديني فإنّ تلك الميول تطغى وتثور وتؤثّر تأثيراً كبيراً عليهم.

أمّا إذا فرضنا أنّ التربية كانت عميقة التأثير في النفس، فيصعب جداً آنذاك إزالتها. لذلك نجد مثلاً أنّ التربية في كثيرٍ من الحالات تتغلَّب على البيئة. كما نجد أنّ البيئة تقف في أحيان كثيرة حاجزاً أمام تأثير التربية القوي.

خلاصة الفكرة، ليست الوراثة عاملاً أحاديّاً يتحكَّم بصياغة شخصية الإنسان كما القضاء والقدر. بل هي جزء من جملة عوامل داخلية وخارجية تدخل في تكوين شخصية أيِّ فرد، وهنا قد يكون عامل الوراثة من القوّة بحيث يتغلَّب على العوامل الأخرى أو العكس.

 

 

 

 

 

 

(4) دور البيئة الاجتماعية

في تشكيل شخصية الطفل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

دور الرفاق

ـــ يُشَكِّل الرفاق أحد عناصر البيئة الفائقة التأثير على تكوين شخصية الطفل، فهل يفترض بالأهل التدخُّل في اختيار هؤلاء الرفاق أم يفترض كما يرى البعض ترك الولد يُعاشِر مَنْ يشاء حتّى يختبر الحياة أكثر؟

لعلَّ أخطر دور تلعبه البيئة في تربية الطفل عبر رفاق السوء. وسبب ذلك أنّ للرفاق على الإنسان تأثيراً كبيراً، الأمر الذي يضع الطفل أثناء مصاحبة هؤلاء الرفاق في خطر، باعتبار أنّ حجم التأثير السلبيّ لأيّ سلوك أو فكرة يتّخذها الرفاق قد يأخذ حجماً كبيراً تصعب مقاومته من قِبَل الطفل نفسه.

ولكنّ هذا لا يعني كبح حريّة الطفل في مخالطة الرفاق والأصحاب بل يؤكّد على ضرورة أن نرسِّخ فيه القناعة ببعض القِيَم والمثل، قبل أن نترك له حريّة خوض تجربته الخاصّة. علينا ألاّ نحاصر الطفل ونخنقه بحيث نكون معه دائماً عندما يلعب ويلهو أو عندما يسبح أو يخرج مع رفاقه، بل علينا أن نعمل على تحصينه بحيث نزرع في داخله مِنَ القِيَم الروحية والأخلاقية ما يستطيع به أن يقاوم التأثيرات المضرّة من جهة، ومن جهةٍ أخرى نهيّئ الظروف الاجتماعية الملائمة التي تجعل الطفل ينسجم بشكلٍ عفويّ مع مَنْ نحبّ ونرغب من الرفاق. نحن لسنا مع إلغاء حريّة الطفل أو إرادته، لكنّنا مع تحصينه بحيث نزوّده ببعض العناصر التي تحمي إرادته من الانحراف، ونصون حريّته من التحوُّل إلى فوضى يختلّ بها نظامه الحياتي. وفي كلّ الأحوال لا يجب أنْ نترك الطفل وهو يمضي وقته مع رفاق السوء بحجّة حريّته في الاختيار.

ـــ يرى الناس عموماً أنّ الولد يجب أن ينزل إلى الشارع ليتعرّف على الحياة الحقيقيّة بكلّ ألوانها وأشكالها، فإذا لم يلعب في الشارع وهذا سيكسبه تجربة كافية تساعده على فهم الحياة بشكلٍ أفضل.. هل توافقون على هذا الرأي؟

إنّ تجارب الطفولة تنمّي شخصية الإنسان قبل أنْ يصطدم بالواقع، وعندما يمارس الطفل مع أترابه ألعاب الطفولة، فيلاكم الأطفال الآخرين ويلاكمونه، ويصرعهم ويصرعونه وينافسهم وينافسونه ويشاغب معهم ويشاغبون معه، إنّ هذا وغيره يُكْسبه تجربة غنيّة تساهم إلى حدٍّ بعيد في رسم بعض معالِم شخصيّته.

لكنْ ليس للشارع برأيي خصوصية إلاّ في كونه بيئة متنوّعة قريبة من الطفل. فإذا منعنا الطفل عنه، فإنّ هناك بدائل أخرى كفيلة بملء فراغ الطفل بشكلٍ أفضل وأجدى، هناك ساحة الملعب في المدرسة وميدان الحدائق العامّة ومدن الألعاب وغيرها، وفيها يمارس الطفل لهوه الهادف في جوٍّ صحيّ وسليم.

إنّ أهمية الشارع ليست في كونه زقاقاً، لكنّه في وجود مجتمع متنوّع قريب من الطفل فيه كثير من الطحالب والأصباغ الفاسدة التي قد تشوِّه سلوكه وتساهم في انحرافه، لذلك كان يجب أخذ جانب الحذر، والبحث عن البدائل التي يكتشف من خلالها حقائق الحياة.

العناصر البيئيّة المؤثّرة في التربية

ـــ كيف تقيِّمون دور البيئة المحيطة بالطفل خاصّة أنّ عوامل كثيرة تتدخّل ويقوى تأثيرها على الطفل يوماً بعد يوم؟

تُشبه البيئة الاجتماعية في مضمونها وتأثيراتها وإيحاءاتها تأثير البيئة الطبيعيّة، فكما أنّ البيئة الطبيعيّة الملائمة لتربية الإنسان من حيث ما يتنفّسه أو ما ينظر إليه أو يسمعه أو يلمسه أو يشمّه تنفتح به على عالَم من الفرح والطمأنينة والاسترخاء، والجمال وما إلى ذلك.. والبيئة غير الملائمة تثير في داخله الضيق والتشنُّج والحزن وما إلى ذلك. فإنّ تأثير البيئة الاجتماعية مشابه لذلك تماماً، ولكن على المستوى المعنوي لا المادي. فالبيئة الاجتماعية التي تختزن الفرح والتسامح والمحبّة والقِيَم الروحية والأخلاقية والإيمان تترك تأثيراً إيجابياً على شخصية الطفل والكبير أيضاً، بينما البيئة المشحونة بالعداوة والبغضاء والانحراف والّلاإيمان والقسوة وما إلى ذلك تؤثّر سلباً على الطفل خصوصاً، باعتبار أنّ مثل هذه المعاني السلبية تقتحم عليه مشاعره وتحكم أفكاره وانطباعاته عن العالَم، لذلك فإنّ تأثير البيئة هو تأثير حتمي في جانب السلب والإيجاب، لأنّ كيان الإنسان يتنفَّس أجواء البيئة الاجتماعية، كما يتنفَّس أجواء البيئة الطبيعيّة بشكلٍ عفوي ولا شعوري، فهو لا يختار أفكار البيئة ولا هي تختاره بل إنّ تأثيراتها تنفذ إلى مسامّ إحساسه وشعوره ومعقولاته بشكلٍ غير مباشر. لذا فإنّ تأثير البيئة يتعاظم في حالات الغفلة التي يعيشها كحالة استسلام لا شعوري للمحيط. وقد أكَّد الإسلام على تأثير البيئة القوي في الحديث الشريف: "كلّ مولود يولَد على الفطرة إلاّ أنّ أبويه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه".. وفي هذا الحديث تأكيد على دور الوالدين المباشر في التربية قبل أيّ مؤسّسة أخرى. ولذا نهى الإسلام عن الزواج من خضراء الدمَّن في الحديث الشهير: "إيَّاكم وخضراء الدمّن: قالوا: "وما خضراء الدمّن، قال: المرأة الحسناء في منبت السوء". بلحاظ أنّ منبت السوء يترك تأثيره السلبيّ على داخل الحسناء، فيجعلها قبيحة الداخل في الوقت الذي تحمل مظهراً خارجياً جميلاً، ولذا وعند حدوث أيّ مشكلة تربوية عند الطفل، على المربّين أن ينفذوا إلى داخله، ليدرسوا مدى تأثير المفردات البيئيّة السلبية في شخصيّته، تماماً كما يدرس الطبيب تأثير الجراثيم على وضع الإنسان الصحّي، وعليهم بعد ذلك معالجة المشكلة إمّا بطريقة العزل عن البيئة أو بإيجاد دفاعات داخلية تقتل تأثيرات البيئة السلبية من الداخل عن طريق الجرعات التربوية الملائمة من الحنان والاحتضان والنصيحة وما إلى ذلك.

إنّنا نتصوَّر أنّ للبيئة تأثيراً كبيراً على شخصية الإنسان والطفل والشاب والشيخ والمرأة، لكنّها مع ذلك لا تغلق أمام الإنسان كلّ منافذ التنفّس من الجوّ النظيف.

وعلى المربّين الاستفادة من هذه الثغرة التي تتركها البيئة في الشخصية الإنسانية عادةً، لينفذوا منها إلى تهيئة الوسائل العلاجية الملائمة لأيّ مشكلةٍ يعيشها الإنسان، هذا ما تؤكّده التجربة الإنسانية التي نجحت أحياناً كثيرة في تجاوز مؤثّرات البيئة بطريقةٍ أو بأخرى، وممّا لا شكّ فيه أنّ المسألة تحتاج إلى دقّة وحكمة ووعي وذكاء في فهم طبيعة المؤثّرات وطبيعة العلاجات.

ـــ يطغى اليوم تأثير عناصر البيئة على تأثير الأهل، الأمر الذي يحملهم على الشعور بالإحباط والعجز عن السيطرة على العملية التربوية وهم المسؤولون الأساسيّون عنها، هل يستدعي ذلك انسحاب الأهل ولو جزئياً لصالح البيئة؟

إنّ الراديو والتلفاز والصحيفة والمدرسة والكتاب كلّ هذه الأدوات تمثّل مفردات بيئيّة يتأثّر بها الإنسان عندما يتنفَّس مشاهدها وأفكارها وما إلى ذلك.

من الصعب جدّاً في هذا العصر الذي تحوَّل فيه العالَم إلى قرية صغيرة وأصبح منع النظر للتلفاز أو سماع الراديو أو استعمال الانترنت من الأعمال الشاقّة، فإنّ منع الطفل من ذلك كلّه يترك تأثيراً سلبياً على الطفل فهو يشعره بالحصار الخانق بحيث يفسد ما نريد أن نعلِّمه إيّاه من هذا الحصار جانباً آخر من شخصيّته لأنّنا نوحي إليه بالاضطهاد والقهر.

هذا الواقع يستدعي أنْ نعطيَ الطفل بعض الحريّة مع دراسة المؤثّرات الخارجية وتطويقها بطريقةٍ أو بأخرى.

كما يفترض بنا أنْ نعيش في حالة طوارئ لجهة تجديد الأساليب التي نعتمدها في التربية، ذلك أنّ مشكلة المربّين عندنا سواء كانوا علماء دين أو أساتذة أو أهل، أنّهم ما زالوا يعتمدون الأساليب التقليدية في وقتٍ نجد فيه أنّ الولد ينمو في أجواء مختلفة تماماً عمّا كانت عليه الأمور في السابق. 

من هنا علينا أنْ نلاحق المتغيّرات بكلّ ما تطرحه من إشكالات جديدة ونضع العلاجات لذلك. تماماً كما يفعل الطبيب مع الجراثيم التي تتطوَّر وتستوعب المضادّات التي استعملت للقضاء عليها. إنّ علينا أنْ نلاحق ذلك فإنّ تكرار استعمال مضادّ حيويّ في مكافحة أيّ جسم جرثوميّ ـــ كما نعلم ـــ يؤدّي إلى تعايشه مع المضادّات بحيث يكفّ المضاد عن كونه مضادّاً، وهنا يكون من واجب الطبيب خلق مضادّات حيويّة جديدة.

كذلك الأمر، في القضايا التربوية والأخلاقية والروحية فإنّ مشكلة كثير من الناس الذين يسقطون أمام الضغوط، أنّهم يستعملون في مواجهة المشاكل التي تصادفهم الأسلوب الوحيد الذي توارثوه أو تعلَّموه من الغير ولا يفكّرون في إنتاج حلٍّ جديد لمشاكلهم المستجدّة. إنّنا عندما ندرس حركة الاكتشافات التي تلاحق المرض نتعلَّم أنّ مواجهة المشاكل تحتاج إلى تطوير في وسائل العلاج والمواجهة مع تطوُّر المشاكل والأمراض.

لا بدّ للأهل بالإضافة للمؤسّسات التي تتولّى مهمّة التربية أن يعملوا على التشاور فيما بينهم، كي يتمكّنوا من السيطرة على المشاكل سواء كانوا علماء دين أو علماء نفس أو علماء اجتماع وتربية وما إلى ذلك.

إنّ شعور الأهل والمربّين بالإحباط ليس بالأمر المبرّر، على الرغم من تعقُّد الحياة اليوم، ومشكلة الأهالي والمربّين عموماً أنّهم لا يستنفدون جهدهم في المحاولة.. ففي الإسلام مبدأ راسخ يدعونا إلى عدم اليأس من إمكانية الوصول، وهو أمر يمكن أن نستفيده من تجارب الأنبياء الذين يمثّلون الرمز للإنسان الذي نبحث عنه، ويفترض أن نستمرّ في البحث عنه إلى أنْ نلتقي به ولا نيأس مهما واجهنا من تجارب فاشلة.

وربّما نستفيد هذا المعنى من تجربة النبيّ نوح (عليه السلام) الذي عاش تسعمئة وخمسين سنة وهو يجرّب حتّى إذا استنفد كلّ المحاولات دعا ربّه أن يغيِّر المجتمع. إنّ فشل ألف تجربة لا يعني فشل الفكرة، فلنجرّب المرة الواحدة بعد الألف.

ـــ هل نفهم أن لا عُذر للأهل للتقصير في تربية أولادهم؟

هناك مسألة علينا أن نضعها أمامنا كرساليّين وكمربّين وكمصلحين اجتماعيين، وهي أنّ على الإنسان منّا أن لا يأخذ دور الضحية التي لا تملك شيئاً، فنحن مسؤولون عن متابعة التجربة تلو التجربة على أساس أن نُعذر أمام الله وأمام أنفسنا.

فإنْ نجحنا فالحمد لله، وإنْ لم ننجح فإنّ فَشَلَنا لا يكون ناتجاً عن تقصير بل عن ظروف لا قِبل لنا بها، فنترك آنذاك مجال التجربة من جديد.

وهذا ما نلاحظه في كلّ الكلمات التي يخاطب الله بها نبيّه: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ...} [البقرة : 272].

فأنت تملك بعض الوسائل المحدودة للهداية لكنّك لا تسيطر على كلّ إنسان، علينا أن نستنفد كلّ جهد في تطوير أساليبنا وتنويعها، تبعاً لطبيعة المؤثّرات السلبية والإيجابية المحيطة بالطفل، إنّ مشكلة الأهل مع أولادهم في أحيان كثيرة تعود إلى عدم الاهتمام بنفسية الطفل. والاستغراق في المشاكل المادية أو الاجتماعية، التي تشغلهم عن أولادهم.

لنمنح أطفالنا المحبّة والعاطفة والاحترام والثقة كي نكسب حبّهم واحترامهم وثقتهم وبذلك نستطيع أن نمثّل لهم القدوة التي يتمثّلونها، ويمكن بعدها أن نمارس سياسة اللّين من دون ضعف والحزم مع الرحمة، ونفرض هيبتنا التي تدعوهم إلى أن يسلكوا الطريق التي نرغب بعفوية وإرادة.

 

دور المدرسة في تشكيل شخصيّة الطفل

ـــ يدخل الطفل المدرسة باكراً، ويقضي فيها قدراً كبيراً من وقته ومن سني عمره، ما هو الدور الذي تلعبه المدرسة في التربية؟

للمدرسة أهمية كبرى في تربية الطفل، أوّلاً: بفضل النظام الذي تعتمده في التربية وهو أمر لا يتوفّر في المنزل، إلاّ إذا كان البيت صارماً بشكلٍ فوق العادة. وثانياً، بفضل كثافة المفردات المعرفية التي يتلقّاها الطفل فيها والتي تختلف بطبيعتها عن المفردات التي يتلقّاها في البيت، إنّ هذا الجانب المعرفي يجعل المدرسة تترك تأثيراً كبيراً على شخصية الإنسان خاصّة وأنّ تلك المعارف تحاول مقاربة الحياة بأسرها.

من الطبيعي أنّ للتعلُّم المدرسي سلبيات وإيجابيّات تبعاً لطبيعة النظام المعتمد داخل المدرسة وأسلوب تقديم المعلومات فيها ثمّ طبيعة هذه المعلومات، فعندما يكون نظام المدرسة قاسياً يحمل الطفل على الهرب من المدرسة والنفور من العلم فإنّ هذا يؤثّر سلباً على شخصيّته والعكس صحيح.

إنّ الطفل في المبدأ لا يحبّ القيود وبالتالي لا يحبّ الدرس والالتزام بالدوام المدرسيّ بل يريد فقط أن يلعب بشكلٍ عابث. لذلك لا بدّ من التساهل مع الطفل ابتداءً، والتساهل لا يعني عدم الحزم بل العمل على إثارة الأجواء التي تحبِّب الطفل بالعلم والمعلّم، كأن نعلِّمه باللّعب الذي يحبّه، ونوفرّ له المربّين الذين يمنحونه المحبّة والعاطفة والاحترام ممّا يفتح عقل الطفل وقلبه على المعرفة ويطلقه كعنصر فاعل في الحياة. إنَّنا عندما نقسو على الطفل فهذا يعني أنّنا نغلق ذهنه، ونصادر شعوره فيلتزم بما نعطيه له، التزام العبد الذي يشعر بأنّ لا قدرة له على الاختيار. علينا أن لا نساعد الطفل على الاختيار وذلك بتعزيز كلّ المقوّمات الإنسانية التي تجعله مريداً فاعلاً، بحيث تنطلق الفكرة منه لكن بمساعدتنا، ثمّة فرق كبير بين أن ينطلق الطفل من فكرنا، الذي فرضناه عليه، وحاصرناه به من خلال القهر، وبين أن ينطلق الطفل من فكره الخاص الذي وإنْ جاء صدى لفكرنا، فعن طريق الأساليب الإنسانية التي تجعله يختار لا أنْ يخضع للخيار المفروض عليه.

أهمية المدرسة في تدريب الطفل على تحمّل المسؤولية من خلال الواجبات والفروض. وفي تدريبه على العلاقات الاجتماعية من خلال علاقته مع الرفاق الجدد الذين لا تربطه بهم صلة قربى كما هي حال إخوته في المنزل.  

كما أنّ المدرسة هي المكان المناسب لتدريب الولد على العلاقة مع المجتمع المتنوِّع، الذي يتكوَّن من الإدارة (السلطة) والمعلّم، والواجبات والمنافسة، والصداقة.. وهي أمور تساعد على بلورة شخصية الطفل وتجربته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(5) دور الأسرة

في بناء شخصية الطفل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

علاقة الزوجين

ـــ تتنوَّع طبيعة العلاقة التي تربط الأُم بالأب من أسرة إلى أخرى، فمنها ما يسودها الاحترام ومنها ما يسودها الجفاء، ومنها ما يسودها المحبّة والوئام، وأخرى تسودها المشاكل، كيف ينظر الإسلام إلى تأثير هذه العلاقة في الأولاد؟

إنّنا لا نستطيع التحدّث عن نظرية إسلامية بالمعنى النصّي في هذه المسائل، ولكنّنا نستطيع استقراء الموضوع في الخطّ العام. لا شكّ أنّ الإسلام يؤكّد على قيام العلاقة بين الأب والأُم أو بين الزوج والزوجة على المودّة والرحمة، باعتبار الأصل الذي وضعه القرآن في حديثه عن طبيعة العلاقة الزوجية بحيث أنّ الله تعالى نسب المودّة والرحمة في قلب الزوجين إلى نفسه {... وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً...} [الروم : 21]. ممّا يوحي بأنّه تعالى يريد للزوجين أن يؤكّدا هذا البعد في علاقتهما بعضهما بالبعض بشكلٍ طبيعي، إضافة إلى البعد الحسّي الذي تفرضه العلاقة الزوجية. ومن الطبيعي أنّ مردود جوّ الودّ والرحمة لا يقتصر على علاقة الزوجين بعضهما بالبعض، بل يتعدّاها إلى الأولاد الذين تخصّهم تلك العلاقة، باعتبار أنّ المودّة والرحمة التي تُنتج الاحترام والحبّ تترك تأثيرات إيجابية على حياة الزوجين وعلى حياة الأولاد باعتبار أنّ المودّة والرحمة اللّتين يعيشهما الأبوان تؤمِّنان مناخاً صحيّاً بين الزوجين، ينفتح بهما على كلّ المشاعر والممارسات الإيجابية فيما بينهما، وتنتقل منهما تلقائياً إلى الأولاد، وتخلق لديهم إحساساً بالأمان، وميلاً إلى التعاون وما إلى ذلك من النزعات الإيجابية.

أمّا إذا فرضنا أنّ علاقة الزوجين كانت علاقة فاترة تفتقد الإحساس الصادق والمحبّة الخالصة، خاصة بعد أنْ تتحوّل الحياة الزوجية إلى روتين بفعل اعتياد الطرفين بعضهما على البعض، فمن الطبيعي أن ينعكس هذا الجمود العاطفي سلباً على الأولاد، لأنّ الزوجين عندما يفقدان مشاعرهما الحميمة أحدهما تجاه الآخر فإنّ الأولاد سوف يعيشون مناخاً جامداً لا يتحسَّسون فيه أيّ معنى للعاطفة أو الحميميّة، ولا شكّ أنّ الوالدين اللّذين يعيشان الروتين في علاقتهما بعضهما بالبعض سوف يعيشان نفس الروتين في علاقتهما مع الأولاد لأنّ الحالات النفسية لا تتجزّأ. ذلك أنّ عيش الزوجين حياتهما المشتركة بشكلٍ عادي خالٍ من الحرارة والحميميّة واللّهفة والحنان والاحتضان الروحي وما إلى ذلك، يدلّ على جمود في شخصيّتهما، ومن الطبيعيّ أنّ الشخصية الجامدة تجاه شريك الحياة هي شخصية جامدة تجاه الأولاد كما تجاه النّاس كلّهم. إنّ هذا الجمود سوف ينعكس سلباً على شخصية الأولاد الذين يألفونه وربّما يتمثّلونه في عمق شخصيّاتهم.

في مثل هذه الحالة، يفترض بالزوجين كما يفترض بأيّ إنسان، أن يعيش إنسانيّته بإحساسه بشريكه، فيعتبر جموده العاطفيّ حالة مَرَضِيَة لا بدّ أن يعالجها فيتبادل الزوج عاطفة الودّ مع زوجته وكذلك تفعل الزوجة. الأمر الذي ينعكس إيجاباً على الأولاد، سواء من خلال المناخ الذي يشيعه ذلك أو من خلال ترجمة تلك الحركية الخارجية إلى حركية عاطفية تجاه الأولاد.

أمّا الزوجان اللّذان يعيشان حالة التنافر والنزاع بحيث تكون حياتهما مملوءة بالمشاكل والخلافات، فمن الطبيعيّ أن ينعكس ذلك سلباً بشكلٍ كبير جداً على الأولاد. ونحن نعرف من الدراسات الاجتماعية أنّ أكثر المشاكل التي يعيشها الأولاد لا تتأتّى عن انفصال الوالدين بل عن الخلافات الزوجية داخل البيت، بحيث يبدو أنّ الطلاق، بما فيه من سلبيات، قد يكون أكثر رحمة بالأولاد، من حياة عائلية في كنف أبوين متنافرين متنازعين لا يحترم أحدهما الآخر، ويكره كلّ منهما الآخر.

إنّ علاقة الاحترام المتبادل هي أفضل العلاقات حتّى لو عاش الزوجان الرتابة أو الملل... ولهذه العلاقة تأثير كبير ومهمّ على الأولاد وعلى نظرتهم إلى الوالدين، وإلى الزواج والمؤسّسة الزوجية.

 

 

ـــ لا يوجد علاقة زوجية خالية من الخلافات كيف السبيل إلى حلّ المشاكل الأسريّة بدون أن يؤثّر ذلك على الأولاد؟

بما أنّ الخلاف الزوجيّ أمر طبيعيّ وشائع، فمن واجب الزوجين في حالة التنافر أن لا يتنازعا أمام الأولاد. بحيث لا يسيء الرجل إلى زوجته فيضربها أو يشتمها أو يعنِّفها أمام الأولاد، ولا تسيء الزوجة إلى زوجها بأنْ تتمرَّد عليه أو تحقِّره أو ما إلى ذلك أمامهم، لأنّ ذلك سوف يترك تأثيراً سلبياً على الأولاد، فينشأون معقّدين تتنازعهم عواطف متناقضة بين الحبّ والكراهية تجاه والديهم اللّذين يؤذي كلّ منهما الآخر، كما قد ينعكس ذلك على حياة الأولاد المستقبليّة عندما تنشأ البنت والصبي وفي ذهنيهما إدراك مشوّه لطبيعة العلاقة التي تربط الزوجين، بحيث يحاولان إسقاطها على حياتهما. هذا ما شاهدناه في كثير من التجارب، التي تحوّل فيها الولد إلى شخص قاسٍ على زوجته، لأنّ أباه كان قاسياً على أُمّه، وكانت فيه البنت متمرّدة على زوجها لأنّ أُمّها كانت كذلك. فالبيت هو المدرسة التي تزرع في نفس الأولاد بذور المعرفة الأولى بالعالم، الأمر الذي يحوّل تجربة الآباء والأُمهات إلى درس يتلقَّاه أبناؤهم باكراً في مفهوم الزوجية أو في أيّ مفهوم إنسانيّ أو اجتماعيّ.

ـــ أثناء الخلافات تعمد بعض الأُمّهات إلى تشويه صور أزواجهنَّ أمام الأولاد، كما يفعل الآباء الشيء نفسه، فما رأيكم بهذا مع احتمال أن تكون هذه الصور حقيقة؟

لا يجوز ذلك من حيث المبدأ، لسببٍ بسيط وهو أنّ الولد بشكلٍ طبيعيّ يعيش شعوراً إيجابياً تجاه أُمّه وتجاه أبيه، ممّا يجعل الصورة المشوَّهة تخلق حيرة قاتلة في نفسه، بين ما يشعر به من عاطفة تجاه أبيه وأُمّه والتي تنبعث من عمق إحساسه الطفوليّ باللّهفة والاحتضان وما إلى ذلك، وبين ميله إلى رفض ذاك الكائن المشوّه، وسعيه إلى اقتلاعه من أعماقه. لذا سوف يعيش الحيرة بين طفولته العاطفية وبين ما يقدّم إليه من معلومات.

لكن عندما يصل انحراف الأب أو الأُم إلى مستوى قد يؤدّي قبول صورته إلى تدمير أخلاقية أو حياة الطفل، يصبح من الضروريّ بمكان إعلام الطفل بذلك، بغرض وقايته من السلبيات الموجودة لدى أبيه أو أُمّه، ولكن لا بدّ من استخدام أسلوب تربويّ ملطّف في تقديم هذه المعلومات، فيُقدَّم له انحراف أبيه أو أُمّه بوصفه مرضاً أو نتيجة لتأثيرات خارجية على سبيل المثال، فيقال له أحبّ أباك وأحبّ أُمّك، ولكنّ هناك بعض الأعمال السيّئة لديهما عليك أنْ لا تستجيب لهما فيها.

التربية الجنسية داخل الأسرة

ـــ من أهم مفردات العلاقة الزوجية، العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، ما المسموح وما الممنوع إظهاره من تلك العلاقة أمام الأولاد؟

أمام الأولاد ليس من الطبيعيّ أو الصواب، أنْ يتحدّث الزوجان أو يمارسا أيَّ سلوك جنسيّ، لأنّ المشاهد الجنسية مهما كان مستواها قد تثقل نفسية الأولاد، وتسرّع نضوجهم الجنسي ويدفعهم إلى محاكاة آبائهم في سنّ مبكرة، لا تسمح لهم بمثل ذلك، وربّما ينعكس ذلك على حياتهم الأخلاقية المستقبليّة.

لذلك فإنّ الإسلام أراد لحياة الزوجين الجنسية أن تكون منطقة خاصّة جداً، وأراد لهما الستر فيها سواء أمام الأولاد وأمام غيرهم، ونحن نقرأ أنّ الأولاد الذين قد يرون آباءهم وأمّهاتهم وهم يمارسون الجنس قد يصابون بالانحراف، أو بعقد نفسية لا يسهل شفاؤهم منها، لأنّهم يفهمون المشهد بطريقة مغايرة لما هو في الواقع. لذلك لا يجوز تحت أيِّ اعتبار اطّلاع الأولاد على هذا الشقّ من علاقة أبويهم بل لا بدّ أن تكون تلك العلاقة من المسائل المستورة الخفيّة.

 

ـــ هل يشمل هذا الستر الذي تتحدّثون عنه جوانب العلاقة التي تبرز من خلالها المودّة التي تربط الأبوين ببعضهما كالمصافحة والمعانقة؟

تختلف هذه المسألة باختلاف المناخ الاجتماعي واختلاف المعنى الذي تحمله تلك السلوكات فيه، فنحن نلاحظ أنّ بعض المجتمعات تعتبر عناق الزوجين أو تقبيل أحدهما الآخر هو كعناق أو تقبيل الأخ والأخت أحدهما للآخر أو الأقرباء لبعضهم، ولا يرون في ذلك دلالة جنسية، بل يرون فيه تعبيراً عن العاطفة، بينما نجد في المقابل مجتمعات حسّاسة من أيّ حالة عاطفية بحيث تربطها بالجانب الجنسيّ مباشرة لذا فهي لا تتقبَّل تقبيل الزوج لزوجته أمام الأولاد أو أمام الناس فضلاً عن المعانقة أو ما إلى ذلك. لذلك فإنّ قبول ذلك ورفضه من وجهة نظر شرعية أمر نسبي يعود إلى طبيعة المجتمع الذي تنتمي إليه الأسرة، باعتبار أنّ العناق والتقبيل يمثّلان مظهراً من مظاهر العاطفة وليس من الضروري دائماً أن يكونا سلوكاً جنسياً، لذلك لا بدّ من دراسة هذه المسألة انطلاقاً من طبيعة الواقع.

ـــ هل يشمل التحفُّظ التعبير الكلامي عن العلاقة التي تربط الوالدين، علماً أنّ التعبير عن تلك العلاقة يعتبر بنظر البعض مدخلاً إلى تكوين ثقافة جنسية سليمة لدى الأولاد؟

في تصوُّري إنّ تعبير الأبوين عن علاقتهما الجنسية أمام الأولاد، أمر لا ضرورة له، كما لا يوجد مشكلة ذاتية فيه، فمقبولية ذلك أو عدمها تعود إلى المناخ الذي تعيش فيه الأسرة، فإذا كان ذاك المناخ يستنكر ذلك، فإنّ اعتماد الأهل هذا الأسلوب قد يشكّل مفاجأة غير مستحبّة لهم، لأنّ تثقيف الأولاد في الجانب الجنسي يحتاج إلى خطّة تراعي ردود الفعل التي يمكن أن تواجه الأولاد من الخارج جرّاء ذلك، لهذا لا يمكن أن نقبل أو نرفض هذا الأسلوب بشكلٍ مطلق.

 

ـــ ورد في الحديث: لو أنّ رجلاً غشي امرأته وفي البيت صبي مستيقظ يراهما.. ما أفلح أبداً. هل نفهم هذا كجزء من توجيهات الإسلام الوقائية ضدّ الانحراف؟

لعلّ ذلك من جهة أنّ العملية الجنسية بكلّ تفاعلاتها لدى الطرفين قد تترك بعض التأثيرات السلبية على الولد من الناحية الشعورية، وأنّه سوف يختزن ذلك في منطقة اللاشعور فيترك تأثيراته الخاصّة على إحساسه الجنسي مستقبلاً. لاسيّما أنّ الحديث يشمل الصبيّ الذي يعي هذه الأمور ممّا قد ينعكس عليه سلباً بإيقاظ مشاعره الجنسية بشكلٍ أقرب إلى الفوضى والتعقيد، وهناك بعض القصص المنقولة عن بعض الحالات النفسية المعقّدة في هذا الجانب لبعض الصبيان الذين عاشوا مثل هذه التجربة.

ـــ ما هي الحدود التي يجب على الأُم الوقوف عندها في طريقة لبسها أمام أولادها والأخت أمام إخوانها ونحن نعرف أنّهم من المحارم؟

أمام الأطفال، ليس من الضرورة أن تتقيَّد الأُم أو الأخت بلباسٍ خاص داخل البيت كي لا تخلق لديهم إحساساً بالعقدة تجاه ذلك، لأنّ مقداراً ما من الانكشاف، يعد أمراً طبيعياً في البيت وهو أمر ينشأ الأولاد على تقبُّله، لكنّ هذا لا يعني الانكشاف الكلّي أمام الولد، على الأُم أن لا تظهر أمام أولادها بصورة تعتبر غير مألوفة بما قد يفتح غرائز الأولاد ويلفت انتباههم بشكلٍ غير طبيعيّ.

في العنوان الأوّلي لم يحرِّم الإسلام شيئاً داخل الأسرة، حتّى إنّه أجاز للأخت أن تظهر بثيابها العادية ومن دون حجاب أمام أخيها أو الأُم كذلك، ولكن قد نحتاج، في أجواء مشابهة لأجوائنا هذه الأيام، حيث يعمل الإعلام بكلّ وسائله على إثارة الغرائز حتّى تجاه المحرّمات، إلى مقدار من الاحتشام حتّى داخل البيت، بما لا يثير المراهقين أو المراهقات، ويحملهم على الانحراف الخطر باتّجاه إنشاء علاقة مع المحارم. وهذا ما نلاحظه في التقليد الإسلامي الذي يدعو إلى التفريق بين الأولاد في المضاجع في سنّ العشر سنوات سواء كانوا من الذكور أم الإناث وهذا قبل الأجواء الإعلامية الحديثة، باعتبار أنّ التماس الجسدي بينهم في هذه السنّ الحرجة حيث تبدأ أحاسيس الولد بجسده بالتفتّح الذي قد يجذب أحد الطرفين للآخر لاسيّما إذا توفّرت الأجواء الملائمة. نحن بحاجة للالتزام بمثل هذه التعاليم حماية للأولاد في هذه الأجواء غير الطبيعيّة التي نعيشها.

قد يتصوّر بعض الناس أنّ التقيّد باللّباس المحتشم والحركات غير الموحية في البيت، التزامات قد تعقِّد الولد الذكر أو الأنثى، ولكنّنا نقول إنّه في الحالات التي أشرنا إليها، أي الحالات الانحرافية الطارئة التي تسود المجتمع بحيث تخلق الإثارة في نفس البنت أو الصبيّ تجاه المحارم من أخوة وأخوات وأهل أو ما إلى ذلك بشكلٍ عادي جدّاً، في مثل هذه الحالة يصبح جوّ البيت المتساهل خطراً على أخلاقية الأولاد الأمر الذي يستدعي الالتزام بالحشمة داخله مع ما يحمله ذلك من احتمالات التعقيد لصالح تجاوز الخطر الأكبر الذي يحمله التساهل. في كلّ الحالات من الأفضل الاحتشام "النسبي" الذي لا يخلق الإثارة.

ـــ نلاحظ في كثيرٍ من أُسَرِنا وجود حاجز كبير بين الأُم والابنة فالأُم تخجل من محادثة ابنتها في الأمور الخاصّة مثل علامات البلوغ والدورة الشهرية والعلاقة الجنسية وما إلى ذلك، كيف تفسِّرون ذلك؟

هذا الخجل مردّه إلى التقاليد التي أثّرت على الذهنية العامّة للنّاس وعلى عادات المجتمع. وعلى الأمّهات كما على الآباء، كلّ في دوره، أنْ يتجاوزوا ذلك الخجل بما أكّده الشرع من ضرورة تأمين المعرفة للولد بهذه الأمور قبل أن يفاجأ بها، فعلى الأُم أن تعرِّف ابنتها بكلّ ما يطرأ على جسدها من تبدُّلات كالدورة الشهرية مثلاً، وعلى الأب أن يعرِّف ولده بمسألة الاحتلام وما إلى ذلك، كي لا يعيش الولد أو البنت حالة قلق من هذا التطوُّر الجديد في جسديهما.

كما أنّه من الطبيعيّ أيضاً أن تجيب الأُم ابنتها أو الأب ابنه على ما يمكن أن يوجِّهاهُ من أسئلة محرجة كمسألة الولادة كيف؟ ومن أين؟ وبأسلوب علمي ودقيق جداً، حتّى عندما يتناول الأمر وظيفة الأعضاء في العلاقة الجنسية. لأنّنا وصلنا إلى عصر تعدَّدت فيه مصادر المعرفة بحيث أصبح الأبناء يتفوَّقون على الآباء والأُمّهات في معرفتهم حتّى في هذا المجال. فإذا لم يوفّر الأهل لأولادهم مصدراً أساساً للمعرفة الجنسية، فإنّهم قد يحصّلون معلوماتهم من وسائل سلبية كالأطفال الآخرين أو التلفزيون أو الفيديو أو أشياء أخرى. لذلك أعتقد أنّنا وصلنا إلى مرحلة لم يعد فيها إخفاء المعلومات الجنسية أمراً ممكناً، لذلك فإنّ توفيرها مع بعض التحفُّظات أصبح أمراً ضرورياً للمجتمع، ولكنْ بالأسلوب العلمي الدقيق الذي يبتعد عن الإثارة مع ملاحظة سنّ الطفل والجوّ الذي يحيط به وغير ذلك.

ـــ يعتقد بعض الآباء والأُمّهات أنّ الحديث في أمور كهذه أمام الأولاد يكسر هيبتهم؟

لا شكّ في أنّ لهيبة الأم دوراً مهمّاً في إنجاح العملية التربوية وكذلك هيبة الأب، ولكنَّ التمسُّك بصورة الهيبة هذه قد يحمل تعقيدات كثيرة في عملية التربية، لأنّ هذه الحواجز التي يضعها الأب بينه وبين أولاده وتضعها الأم بينها وبين أولادها، قد تجعل الأولاد يخافون من طرح أيِّ سؤال على الأب أو الأم ومن التحدّث العفوي معهما، فإنّ هذه الصورة الصارمة للأبوين تخلق حاجزاً نفسياً لا يشعر معه الولد بحميميّة علاقته مع أبيه أو مع أُمّه في هذا المجال.

لذلك لو أردنا المحافظة على هيبة ومكانة الوالدين دون حرمان الأولاد من الثقافة الجنسية، فبإمكان الأب والأم أنْ يعمدوا إلى توجيه أولادهم إلى هذه الأمور الحسّاسة من خلال أشخاص آخرين يؤتمنون على تعليم البنات والصبيان هذه الموضوعات، كما هي الحال في مدارس البنات أو الأولاد.

 

 

 

ـــ ألاَ يتنافى الاعتماد على المدرسة أو على أيِّ جهة أخرى، مع علاقة الثقة التي يفترض أن تنشأ بين الأولاد والأهل، عندما تطلب الأم من المعلّمة أنْ تشرح لابنتها علائم البلوغ مثلاً..

قد تلجأ الأُم إلى هذه الواسطة في حال وجود موانع تحول دون أن توصل هي المعلومات مباشرة بفعل الخجل أو الجهل بالأسلوب، أو غيرهما، فنحن نعرف أنّ البنت عندما تزف إلى زوجها، فإنّ الأُم غالباً لا تعلِّم ابنتها بنفسها طبيعة العلاقة الزوجية بل تستعين لأداء ذلك بنساء أخريات. وفي هذا السلوك كثير من السلبيات التي لا بدّ من تجاوزها. ولكنّنا في مثل هذه الأمور الحسّاسة لا نستطيع وضع خطّ عام يسلكه جميع الناس، فلكلّ مورد خصوصيّته التي تجعل من ذاك السلوك أمراً سلبياً تارةً وإيجابياً تارةً أخرى. والقاعدة العامّة تقتضي الانفتاح بتحفُّظ وحذر، وهذا الانفتاح هو مفتاح الأب والأم للوصول إلى أولادهم، إنّ تلك القاعدة تقتضي أن نطرح المعرفة في الهواء الطلق وأنْ نجيب على كلّ سؤال نستطيع الإجابة عليه، بالأدوات المناسبة.

هيبة الآباء وطاعة الأبناء

ـــ تشكِّل العاطفة التي يكنّها الأهل لأولادهم مقوّماً أساسياً من مقوّمات التربية السليمة ولكنّها قد تجرّهم إلى إهمال الحزم، والتساهل مع الطفل، فأين نحن من هذا؟

هناك نقطة لا بدّ أن نعرفها عن الطفل وحتّى عن الإنسان الراشد، ذكراً كان أم أنثى، ألاَ وهي أنّ في شخصيّته حاجة إلى مَنْ يعطيه القوّة فإذا كان القيّم عليه ضعيفاً أمامه فإنّه يفقد الشعور بالأمان. وهذا ما يفسّر أيضاً في بعض المرّات عدم رغبة المرأة بالرجل الضعيف. ولعلَّ هذا ما يفسّر ارتباط الطفل بأبيه أكثر من أُمّه، باعتبار أنّ الأب يشعره بالأمان بينما لا تعطيه الأُم التي يتحسَّس ضعفها أمامه وأمام أبيه الشعور بالأمان. إنّ الحزم في هذا المقام يعني أن يطلق المعلِّم أو المربّي كلمته ولا يتنازل عنها. ففي ذلك إيحاء تربوي بأنّ عليه عدم التنازل عن إرادته. ولكن لا بدّ لإيصال ذلك من أسلوب يبتعد بالحزم عن القهر. بحيث يستوعب الطفل معنى الحزم بدلاً من أن يخضع له خضوعاً أعمى.

ـــ ورد في الحديث: مَنْ كان عنده صبيّ فليتصابَ له. ألاَ يؤثّر ذلك التّصابي على جعل الولد يفقد اللّياقة الاجتماعية مع والديه؟

لعلّ المقصود من التّصابي للولد هو أنْ يتقمَّص شخصيّة الطفل وذهنيّته ومشاعره ولغته، بحيث يشعر بأنّ هناك طفلاً يكلِّم طفلاً في مستواه الطفولي فلا يثقله بأسلوب الكبار وذهنيّتهم في الحديث، ممّا قد لا يستطيع فهمه، وليس المقصود أن يفقد الأب أو الأُم اتّزانهما بما يبعد عن اللّياقة الاجتماعية التي قد تضرّ الولد، ومن الواضح أنّ الإسلام يريد للإنسان أن يخطِّط في أيّ شأن أخلاقيّ على أساس التوازن بين قيمة وقيمة فلا تسقط إحداها بالتأكيد على الأخرى، فإذا كان الله سبحانه يريد للأب أو للأمّ أن يقدِّما التنازل للولد في أسلوب التعامل معه ليقتربا منه، فإنّه يريد لكلٍّ منهما أن يحافظ على ما يحفظ للأبوّة أو الأمومة معناهما في ذهنية الطفل على مستوى احترامهما الذي يترك أثراً إيجابياً على مسألة التربية.

ـــ تعدّ الهيبة التي يتحلّى بها الأهل وخصوصاً الأب، إحدى مظاهر التربية التقليدية الحازمة فهل ترون المحافظة على ثنائية الهيبة مِنْ قِبَل الأهل والطاعة مِنْ قِبَل الأولاد في تربية الطفل مقبولة؟

لا تزال تربية الطفل بحاجة إلى شيء من هيبة الأب التي تعين الطفل على التوازن الداخلي، ولكنّ هناك فرقاً بين هيبة تنطلق من قوّة الشخصية، وبين هيبة تنطلق من عنف وقسوة وقهر وإشعارٍ للطرف الآخر بالدونيّة. لأنّ الهدف من الحزم تربية شخصية الطفل. وبذر عناصر الرجولة المستقبليّة فيه بالطريقة التي تجعله قادراً على أن يفكِّر وَحْدَهُ ومع الآخرين. فإذا كانت مفردة الهيبة في التربية ضرورية. فهذا لا يعني أنْ يستغلّها الأهل لتطويع الطفل لما يريدون بشكلٍ كامل، ونحن عندما نربّي أطفالنا على أنْ يقولوا نعم لكلّ ما نفرضه عليهم فسوف تتعمَّق هذه النَّعَم لتتحوّل إلى نَعَم أمام كلّ ظالم وحاكم ومستبدّ يملك قوّة القهر التي كانت لدى الأب. لأنّ مَنْ نربيه على الخضوع للأب بشكلٍ مطلق سوف نخلق فيه ذهنية الخضوع لكلّ مستبدّ ولكلّ طاغٍ ولكلّ قويّ.

لهذا نفرّق بين الطاعة المنفتحة وبين الطاعة العمياء. إنّ الطاعة المنفتحة تحمل الإنسان على الخضوع للقانون الذي يمثّل الأب أداة تنفيذه في البيت، قد يكون هذا القانون قانون الله وقد يكون قانوناً آخر. فنحن نربّي الطفل على أن يحترم القانون، وفي الوقت ذاته يشعر بإمكانية أنْ يتساءل عنه. أمّا الطاعة العمياء فتجعل الطفل إنساناً خاضعاً للقوّة ومن يحملها وليس للقانون.

ـــ آباء اليوم يتذرّعون بكثرة الأعباء المادية التي تمنعهم من القيام بدورهم التربوي، فكيف يمكن أن يوازنوا بين كثرة انشغالاتهم خارج المنزل ومسؤوليّتهم التربوية؟

أنا أتصوَّر أنّه ليس هناك أب لا يملك وقتاً للجلوس مع أولاده بين وقتٍ وآخر في جلسة مطايبة ومرح وما إلى ذلك.  

وفي حال كان انشغال الأب خارج المنزل كبيراً جداً، فإنّ عليه عند الحضور إلى المنزل أنْ يعوِّض ولده غيابه بالتواصل معه وإشباع حاجته النفسية إليه، صحيح أنّ علاقة الأم بالطفل هي علاقة فطرية يعطي فيها الطفل حنانه الطفوليّ لا شعورياً لأُمّه عندما يعانقها ويلتقط ثديها. لكنّ هذا الاندماج العاطفيّ لا تحكمه الفطرة فقط بل إنّ جوانب تربوية واجتماعية كثيرة تتدخَّل في تكوينه، وهي أمور هامّة بالنسبة للطفل، لأنّ الطفل بحاجة إلى رعاية الأم والأب معاً وليس إلى رعاية واحد منهما فقط، وهذه الرعاية هي التي توحي للطفل بأنّه جزء من النسيج الأسري.. وهي التي تشعر الولد بالأمن والطمأنينة، فلا يمكن الاستغناء عن رعاية الأب، فإذا ما كان الأب وحده موجوداً فَقَدَ الطفل الإحساس بالأمان، ولو كانت الأم وحدها موجودة لَفَقَدَ الطفل الإحساس بالقوّة، إنّ وجود الأبوين في حياة الطفل ورعايتهما المشتركة له هو الأساس في توازن شخصيّته وليس وجود الأب وحده.

لذا كان من مسؤولية الأب تنظيم وقته، بحيث يترك فرصته للتواصل مع أولاده.

أسلوب الآباء في تربية الأبناء

ـــ نهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عن الأدب عند الغضب. هل المقصود الغضب الناشئ عن ظروف الأب أم الغضب الناشئ عن خطأ الطفل؟ ثمّ إنّ الغضب حالة إنسانية ومن الطبيعي أن يصدر عند خطأ الولد.

الظاهر أنّ المراد بالغضب حالة الانفعال النفسي الذي يفقد الإنسان معه توازنه في تصرُّفاته، الأمر الذي قد يؤدّي إلى فقدان التركيز في الوسائل الشرعية المطلوبة في التأديب، فيتجاوزها إلى الوسائل المحرَّمة التي تعنف بالصبيِّ بما لا ضرورة فيه إلى العنف أو تتعدّى إلى عنف أشدّ في الوقت الذي تحتاج فيه الحالة إلى عنف أخفّ.  

ـــ يحدث أنّ كثيراً من الآباء لا يحتفظون لأنفسهم بآرائهم في أولادهم، فإذا تصرّف الولد أيّ تصرّف خاطئ يعبِّرون مباشرة عن امتعاضهم بحكمٍ عام يطلقونه عليه. فما تأثير هذا على الولد؟

كلّ هذه التصرّفات تدخل في الخطّ العام للتربية، والتي يفترض أن ينظر إليها الأهل كعملية واعية تراعي الظروف الموضوعية لمن تطالهم بالتوجّه، سواء أكانوا من الصغار أم الكبار، لا كعملية يتحكَّم بها المزاج الشخصي لأنّ المزاج يحمل الإنسان على التحرّك انطلاقاً من تعقيداته الذاتية، التي قد تسيء إلى الطرف الآخر بدلاً من أن تحسن إليه. أن ينظر المربّي إلى الولد كحالة موضوعية لها خصائصها ولها مشاعرها وأحاسيسها وانطباعاتها عن العالَم، فإنّ ذلك يضمن له أن يتعامل مع كلّ جانب من جوانب شخصيّته برفق بحيث لا يسيء إلى وضعه النفسي والجسدي أو غير ذلك. إنّ عملية التربية عملية دقيقة جداً، وإن الحكم على الطفل سلباً أو إيجاباً يتطلَّب دراسة تحليليّة موضوعية، نحدّد فيها الظواهر والأسباب، ثمّ نبحث عن الطرق الملائمة للمعالجة، كي لا نظلم الولد، ولا نعقِّد أمر تربيته، لكنّ المشكلة لدى الأهل غالباً أنّهم لا يتصوّرونها كذلك، فهم يعتبرون الولد عادة كقطعة من أثاث المنزل أو أحد ملحقاتهم الشخصية التي يملكون الحريّة في التعامل معها بالعنف أو باللامبالاة أو ما أشبه ذلك. وفي كلّ الأحوال إنّ إطلاق مثل هذه الأحكام يسيء إلى ثقة الولد بنفسه، وغير مفيد من الناحية التربوية.

ـــ ما هي الطريقة السليمة، للتعامل مع أخطاء العقل؟

في البداية علينا مساعدة الطفل على أن يكتشف خطأه من خلال معاينته للآثار السلبية التي ظهرت على أرض الواقع، ليبادر إلى نقد نفسه وتقويم خطئه.. فإذا ما أخطأ طفل لا يجوز التعامل مع هذا الخطأ كحالة طفولية عابرة، بل أن يفهم من خلالنا أنّ الطفل قد يخطئ كما يخطئ الكبار وعليه أن يُصلِح خطأه، مع الإيحاء له بأنّ مَنْ يفكّر قد يخطئ وقد يصيب، وبأنّ مَن يختار قد يستقيم وقد ينحرف حتّى لا يخجل من خطئه.

وإذا كان من الطبيعي أن يقلق الآباء حيال أخطاء أبنائهم، فإنّ عليهم أن لا يتركوا لقلقهم مجال التأثير السلبيّ على أولادهم، بل عليهم أن يوظِّفوا ذاك القلق باتّجاه إيجابي فيفكِّروا في أفضل الأساليب لمعالجة خطأ الطفل ويدرسوا الظروف الداخلية والخارجية لاكتشاف الأسباب التي دفعته إلى اختيار الخطأ دون الصواب، ليتعاملوا مع هذا الخطأ، كما يتعامل الطبيب عندما يكتشف أسباب المرض ويصف الدواء الملائم له، في إطار رحمة الآخر فكراً وشعوراً.

ـــ ورد في الحديث: "الصّبي المستحيي لا ينبغي أن يهمل بل يستعان على تأديبه بحيائه". كيف يمكن فهم هذا الحديث؟

الظاهر أنّ الحديث ينظر إلى أنّ الحياء قد يؤدّي إلى فقدان التجاوب من الصبيّ في عملية التأديب لأنّه لا يتفاعل مع السؤال والجواب مِن قِبَل المؤدِّب، الأمر الذي قد يوجب الإهمال له بحجّة عدم وجود فائدة في الحديث معه، ولذلك فإنّ الفكرة هي أن يدرس إيجابيات الحياء والأساليب الناجعة التي تتناسب مع حيائه، لأنّ لكلّ حالة أساليبها ووسائلها، فإذا لم تنفع الوسائل العادية فلا بدّ من استعمال الوسائل المتناسبة مع هذه الحالة.

ـــ هل ترون أنّ إشاعة جوّ الفرح والمرح داخل الأسرة يساعد في عملية تربية الأطفال أم يساهم في انحراف العملية التربوية عن طابعها الجدّي المطلوب؟

إنّ إشاعة جوّ الفرح والمرح داخل الأسرة يشيع في العلاقة الأسريّة جوّاً يوحي للطفل بالراحة لتناسب جوّ الفرح مع طبيعة طفولته. كما أنّ هذا الجوّ يوحي له بالأمان، عندما يتيح له أن يضحك مع الضاحكين ويلعب ويلهو مع اللاعبين لأنّ مشاركته بالفرح تُشْعِره بالانتماء أكثر للوسط الذي يحيط به، وقد تمنحه إحساساً بالإشباع النفسي من جرّاء إشباع حاجته الطفولية إلى الفرح واللّهو واللّعب مع الآخرين.

إنّنا قد نفرض على الطفل الكثير من القيود عندما نجعله يتحرّك بين هذه الجدران ضمن نظام صارم متزمّت يكبت ضحكته ويكبت فرحه ومرحه ولعبه ممّا قد يؤثّر تأثيراً سلبياً كبيراً على شخصيّته، الأمر الذي قد يحمله على الشعور بالحاجة إلى الهرب من البيت كما يرغب السجين بالهرب من جدران سجنه. لذا فإنّ إشاعة جوّ الفرح قد يمنح الطفل الراحة والطمأنينة في البيت، عندما يجد جوّه الطبيعي فيه. ولعلّنا نستوحي شيئاً من الحديث المأثور المشهور: "مَن كان له صبيّ فليتصابَ له". أي على الأهل أنْ يلعبوا مع الصبيّ ويلهوا معه، ويصفّقوا ويفرحوا بالمستوى الذي يشعر معه الطفل أنّ لديه رفاق طفولة في أهله وأبيه وأُمّه وإخوانه، وهذا ما لاحظناه في سيرة النبيّ الشريفة في تربية الإمامين الحسن والحسين حيث كان ينحني لهما ليركبا على ظهره، ويطيل سجوده عندما يركب أحدهما عليه، فيُقال له عند ذلك هل نزل عليك الوحي فيقول: لا ولكنّني لا أريد أن أُزعِج ولدي هذا. ولكنّ إضفاء جوّ المرح يحتاج إلى جرعة توازن، كي لا يُفقد الأبوين هيبتهما أمام الولد، ولا يفرط في صورتهما الحازمة، في حدود ما يحتاجه الطفل من إحساس بوجود قوّة وسلطة يحترمهما فوقه. إنّنا نقول إنّ إشاعة جوّ المرح والفرح داخل الأسرة مبدأ سليم في التربية ولكن لا بدّ من مراعاة التوازن في ذلك.

ـــ بعض الأهل يعتبرون أنّ التبسُّم في وجه الأطفال يفسدهم، فهل هذا صحيح برأيكم؟   

إنّ هؤلاء مخطئون جدّاً لأنّ الابتسام في وجه الولد يشعره بالمحبّة والحنان والعاطفة التي يحملها الأهل له ممّا يملأ قلبه بالطمأنينة ويسهل انجذابه إلى أبيه أو إلى أُمّه، لشعوره بحبّهما الذي تعبّر عنه الابتسامة، وبالتالي يتقبَّل التعليمات والتوجيهات التي يقدّمانها له كما يتقبَّل الإنسان الملاحظات، مع مَنْ يحبّ.

ـــ كيف تنظرون إلى مسألة الصدق مع الولد وهل مسموح للأهل أنْ يحيدوا عنه مع أطفالهم؟

إنّني أعتقد أنّ مسألة الصدق تدخل كعامل أساس في التربية، لأنّ الطفل يمتصّ كلّ ما يستخدمه الأهل معه من أساليب، فإذا رأى فيها كذباً في كلمة أو في عاطفة أو في وعد أو ما أشبه ذلك، وجد في ذلك درساً أوّلياً له في الكذب. ولهذا ورَدَ عندنا "إذا وعدتموهم ففوا لهم فإنّهم لا يرون إلاّ أنّكم ترزقونهم". لذا نعرف أنّه لا فرق في حرمة الكذب عندنا بين الكذب على الطفل أو الكذب على الكبير، لأنّ الكذب هو إعطاء صورة غير واقعية عن الأشياء والأحداث والواقع، الأمر الذي يجعل مَن يتلقّى تلك الصورة يتوهَّم المعرفة الفعلية بالواقع ممّا ينعكس سلباً على تفاعله مع الواقع الخارجي الذي يخالف في الحقيقة الصورة التي يتمثّلها عنه. وبذلك فإنّ الكذب يتضمَّن جريمتين: جريمة تزييف الحقيقة بحيثُ تُنْقَل للطفل بصورة غير واقعية، وإعطاء الطفل درسه الأوّل في الكذب.

 

ـــ ولكنّ بعض الأُمّهات ترى في الكذب أسلوباً يسهل عليهنّ عملية التربية ويعتبرنه "كذباً أبيض"، فهل هذا معفي عنه؟

لا يوجد في الواقع شيء اسمه الكذب الأبيض، هناك فقط كذب في مقام الإصلاح وفي مقام حماية الإنسان، بمعنى آخر عندما يحمل الكذب مصلحة تفوق المفسدة التي يحتويها، فإنّ الكذب في هذه الحالة يجوز بمقدار الحاجة، أمّا أن نكذب حتّى يسهل علينا احتواء أطفالنا، أو نكذب لكي لا يزعجونا عندما نخرج وما إلى ذلك، فإنّ هذا محرَّم شرعاً في ذاته ومحرَّم بانعكاساته السلبية على نفسية الطفل أو على أخلاقيّته.

إنّ مسألة الكذب هي مسألة موضوعية بمعنى أنّه لا يجوز أن نكذب مع أيّ إنسان، الأصل أنْ لا نكذب على أيّ إنسان بقطع النظر عن التأثيرات السلبية أو الإيجابية عليه، إلاّ في الحالات التي تصبح فيها الحاجة إلى الكذب بمستوى الضرورة، باعتبار أنّه يحقِّق مصلحة كبرى أو أنّنا نتفادى به مفسدة كبرى وما إلى ذلك.

ـــ يخلط بعض الأهالي بين الحزم وتخويف الطفل، باعتبار التخويف شكلاً من أشكال فرض السلطة والهيبة، إلى أيّ مدى ترون أنّ الخوف من الأهل مفيد في عملية التربية؟

إنّنا ممّن يرون أنّه لا يجوز للأهل أن يتعاملوا مع الطفل على أساس إثارة عامل الخوف فيه، لأنّ انفعاله بالخوف قد يترك تأثيراً إيجابياً على استجابته الظاهرة للتوجيه.

ولكنّ هذا الخوف قد يحفر في نفسه عادة الخوف من جهة فينشأ جباناً متردِّداً ومن جهةٍ أخرى يولِّد لديه إحساساً سلبياً تجاه أهله ممّا قد يتحوّل في المستقبل إلى حالة تمرُّد. إنّ الثقة بالأهل وغرس المحبّة لهم والرغبة برضاهم تحقّق في نظري نتائج إيجابية على سلوك الطفل أكثر من الخوف، ذلك أنّ المطلوب من الصغير، كما هو مطلوب من الكبير، تبنِّي السلوك الحسن وترك السلوك السيّء عن قناعة، حيث يفترض أنْ ينطلق تبنِّيه لأيّ سلوك نريد تعويده عليه أو تعليمه إيّاه أو منعه عنه من موقع الاقتناع، سواء كان الاقتناع بطريقة طفولية أو بطريقة راشدة، وهنا يدخل الخوف كعنصر مشوِّش للوعي، يدفع الطفل نحو سلوك معيّن دون أن يدخل في نفسه القناعة به ودون أنْ يؤثّر التوجيه أو التعليم فيه داخلياً، بينما إذا تضمن توجيه الطفل إلى السلوك المرغوب مع بعض الاختيار وإحاطة هذا الاختيار بما يحميه من الانحراف، فإنّ تأثير التوجيه يكون أعمق ممّا لو فرضناه عليه بالخوف.

إنّ قوّة القمع قد تدفع الطفل ليحسب حساباً للأهل في تصرّفاته، ولكنّه حساب مَن لا يقتنع بشيء، وحساب مَن يفكّر بالتمرُّد على القمع. إنّ السلوك الذي ينطلق من الخوف سوف يتحوّل إلى حالة عكسية عند ارتفاع الخوف كضابط له.

ـــ بالنسبة لأجواء الأسرة، برأيكم ما هي القِيَم الواجب توافرها لتنشئة جيل صالح وسليم؟

عندما نتحدّث عن الأسرة بشكلٍ خاص بعيداً عن الخطّ العام للقِيَم التي لا بدّ من توافرها في كلّ خليّة من خلايا المجتمع، فإنّنا نتصوّر أنّ على مَن يضطلع بدور المربّي أنْ يتصوّر نفسه فلاّحاً يشرف على الزرع، فيعطيه ما يمكن أن يسهّل نموّه الطبيعيّ من عناصر يحتاجها كيّ يحقّق النتائج التي تراد منه، ذلك أنّ الله تعالى عبَّر عن مسألة الخلق والأولاد بالنبات عندما تحدّث عن مريم (عليها  السلام) "فتقبلها ربّها بقبولٍ حَسَن وأنبتها نباتاً حسناً" وفي آية أخرى: "والله أنبتكم من الأرض نباتاً".

وإذا كان لنموّ النبات شروطٌ مادية ومناخية، فإنّ لنموّ الطفل شروطاً نفسية وقيميّة تجعل الطفل قادراً على مواجهة الحياة في مشاكلها، ومنفتحاً على قضايا الحقّ والخير فيها، على رأس هذه القِيَم الصبر.. حيث يفترض أن يصبر الأهل على كلّ ما تكلّفهم رعاية الطفل من جهد ومتابعة، تماماً كما يصبر الفلاّح على كلّ ما يفرضه نموّ النبات من جهد وعناية تحسُّباً للأمراض التي تحصل له، والمناخ الذي يعطّل أو يؤخّر عملية النموّ وما إلى ذلك.

ـــ يقال إنّ أسوأ أسرة بالنسبة للولد قد تكون خيراً له من أفضل مؤسّسة ما رأيكم؟

من حيث المبدأ هذا الأمر صحيح تماماً، لأنّ المؤسّسة ترعى الطفل من الخارج وبمنطق الواجب، بينما الأبوان يرعياه من الداخل باعتبار أنّهما يمثّلان الأرض التي نَبَتَ فيها، فوالده أعطاه البذرة ثمّ جاد بالتربية، والأُم أعطته رحمها وحضانتها، وبالتالي أصبحت علاقته بوالديه علاقة جذرية لا سطحية.

إنّ هذا الجوّ الطبيعيّ يسهِّل نموّ الطفل عاطفياً وروحياً، ويشعره بالأمان وبالانتماء، لاتّصاله بجذوره التي نَبَتَ فيها، خلافاً لما هي عليه حاله في المؤسّسة. لذلك على المؤسّسات أن تسعى إلى إيجاد أجواء مشابهة لأجواء الأسرة، بحيث يشعر الطفل فيها أنّه يعيش داخل أسرته.

من هنا جوّ الأسرة يبقى الجوّ المفضّل لتربية الطفل، إنّه جوّ غير قابل للتعويض إلاّ إذا تحوّلت الأسرة إلى أسرة شاذّة، بحيث أصبحت تشكِّل خطراً على الولد، هذا الفرق، نشهده بالنسبة إلى الأيتام الذين نشجّع بقاءهم في أحضان أمّهاتهم أكثر ممّا نشجِّع انتقالهم للعيش في كنف المؤسّسة، ولكنّ المشكلة أنّ الأُمّ في حال الترمُّل قد تعيش ظروفاً صعبة تحملها على إهمال ولدها جسدياً، وبذلك تهمله أخلاقياً.

ـــ ورد في الحديث: لأن يؤدّب أحدكم ولده، خير له من أن يتصدَّق بنصف صاع كلّ يوم. هل نفهم أنّ الإسلام حدَّد أولويات الأهل وقد قدَّم التربية على الصدقة.

إنّ الصَّدقة ـــ في قيمتها الروحية عند الله ـــ تنطلق من سَدِّ حاجة المحتاج المادية، ولا بدّ من أنّها تمتدّ إلى تلبية الحاجات الأخلاقية والتربوية للطفل الذي هو في أعلى درجات الحاجة لذلك، لارتباط مستقبله الإيماني والعملي بذلك، ممّا يجعل من تأديبه بآداب الإسلام أفضل أنواع الصدقة، بل هو خير من صدقة المال، ولعلّ مفهوم الصدقة يتّسع لكلّ ما يقدّمه الإنسان إلى الإنسان الآخر في كلّ حاجاته الروحية والمادية.

ـــ ورد في الحديث: أكرموا أولادكم وأحسِنوا آدابهم يغفر لكم. ما المقصود بإكرام الأولاد وإحسان أدبهم؟

الظاهر أنّ المقصود بإكرامهم هو إكرام إنسانيّتهم ببذل الجهد فيما ينمّي طاقاتهم ويسدّ حاجاتهم ويرفع مستواهم ويفتح قلوبهم للخير والفرح، أمّا إحسان أدبهم فهو بالتربية الأخلاقية التي توثّق علاقتهم بالله وبالناس من حولهم وبالحياة في ضروراتها في سلوك الإنسان وبالأهداف الكبرى للأُمّة في قضاياها الحيويّة العامّة، بحيث تؤدّي إلى إعداده ليكون إنسان الحقّ والخير والعدل في كلّ حياته.

ـــ كيف يمكن أن نربّي الطفل على الاعتماد على نفسه وننمّي فيه روح الاستقلالية والمبادرة؟

علينا أن نفعل ما تفعله الحيوانات أو الطيور تماماً، فهي ترعى صغارها حتّى إذا نبت ريشها واشتدّ عودها عرضتها للتجربة الصعبة دون خوف، ونتجنَّب ما كان يفعله آباء الأمس الذين كانوا يريدون أن يصبح أولادهم صورة عنهم، فيمنعونهم من مناقشتهم ومن التفكير بطريقة مخالفة لهم الأمر الذي يدعم ويقوّي الاتّكاليّة الفكرية، فإذا كان لهذا الأمر بعض الإيجابيات باعتبار أنّه يحمي الطفل من المغامرة أحياناً لكنّ سلبياته كبيرة جداً لأنّ الاتّكالية التي يخلفها تجمّد حيويّته.

ـــ هل يلعب خوف الأهل على الولد دوراً في عدم تشجيعه على الاستقلالية؟

خوف الأهل على أولادهم أمر طبيعيّ، ولكنّ المسؤولية التربوية تقتضي أن يهذّب الأهل خوفهم بحيث يصبح خوفاً "حكيماً"، فنحن تارة نخاف على أولادنا فنحبسهم في الغرفة ونغلق الأبواب والنوافذ، وأخرى نخاف على أولادنا فنزرع فيهم الإحساس بالقوّة وبالقدرة على المناقشة والحوار وعلى مواجهة الآخر والحياة.

إنّ بعض الناس قد يخلقون في أولادهم الجبن العضلي والفكري والشعوري عندما يطوّقونهم من جميع الجهات بحيث يمنعونهم من الاعتماد على أنفسهم وهذا أمر خطر جداً. هناك ـــ كما قلت ـــ خوف إيجابي وخوف سلبي، الخوف الإيجابي، هو الذي يدفع الأُم إلى حماية الولد من المخاطر بتنمية قدرته فكرياً، فتغذّيه بالمعرفة، وجسدياً فتدرّبه على المواجهة، وعاطفياً بأنْ تعقلن عاطفته. أمّا الخوف السلبي فهو الخوف الذي يجعلنا نكبّل الولد، بحيث نحاصر فكره.. فنجمّده أو نحاصر جسده فنضعفه وهكذا.

ـــ تولي التربية الحديثة موضوع النموّ العاطفيّ عند الأطفال أهمية بالغة. برأيكم كيف نسيطر على انفعالات الأطفال، وكيف نعالج الخوف لديهم؟

مسألة الخوف هي مسألة طبيعية وفطرية لدى الطفل، فالطفل كائن ضعيف ينتمي إلى محيط لا يعرف كلّ ما فيه، لذلك فهو يستشعر الخطر فطرياً على حياته فيخاف، لذلك نجده كثير البكاء، والبكاء هو تعبير عن خوف وطلب للحماية في آنٍ معاً. وللخوف في حياة الطفل كما في حياة الكبار أسباب ومن بينها الأشياء الخفيّة التي تثير خوف الكبار أيضاً. والمؤسف أنّ بعض المربّين يعمدون إلى تعزيز مخاوف الطفل برواية قصص الجنّ والأشباح عليه بغرض إلهاب مخيّلته لذلك، ولكي نهدّئ مخاوف الطفل علينا أوّلاً وقبل أيّ شيء، أن ننشئ الطفل في محيطٍ آمن عاطفياً وواقعياً ثمّ نبتعد عن تغذية مخاوفه فنعرض الحقائق عليه كما هي ولا نستغلّ خياله بحشد القصص الخياليّة التي قد تتحوّل إلى أشباح تقلق نومه.

وفي إطار التربية الدينية نلتقي بالبعض الذي يتحدّث عن النار وطبيعة العذاب فيها بشكلٍ يثير المخاوف والقلق لدى أطفالنا، ممّا يرسم في أذهانهم صورة مخيفة عن الله تعالى، وهنا نقول: إذا كان للحديث عن النار كما للحديث عن الجنّة بعض الإيجابيّات، باعتباره يعمّق في الطفل جانب الحذر من الانحراف في حياته، فلا بدّ من استخدام الأسلوب اللّبق، وتوخّي الدقّة في إثارة مخاوف الطفل بحيث لا يتحوّل الخوف عنده إلى حالة مرضية. وإذا كان للخوف من النار بعض التأثير الإيجابي على شخصية الإنسان كبيراً كان أو صغيراً، فإنّ للوعد بالفرح في الجنّة دوراً هامّاً في خلق التوازن العاطفيّ عنده، لذلك نجد أنّ الله تعالى في تصويره للآخرة حَشَدَ الكثير من الصُوَر التي تثير الفرح في نفس الإنسان واستعمل الأمثلة الحسيّة الصارخة لتنمية عناصر الفرح في نفسه، من أجل أن يقوده الوعد بها إلى الالتزام بأوامر الله طلباً للجنّة.

نحن نعتقد أنّه من الضروري جدّاً للإنسان أن يكون رقيق القلب وأن يعيش التوازن في إحساسه للخوف أو الأمن أو في جانب الحبّ والبغض وما إلى ذلك، بحيث لا يطغى فيه أيّ إحساس على غيره من الأحاسيس فنفقد بذلك توازنه.

ـــ معظم الأهل يعتبرون بكاء الطفل عملاً سيّئاً من ولدهم ويستنكرون عليه هذا التعبير برأيكم أليس في هذا قسوة عليه؟

إنّ البكاء حالة إنسانيّة تحدث لدى الإنسان ـــ طفلاً كان أو شابّاً رجلاً وامرأة من خلال الحاجة إلى التعبير عن الحزن في أجواء المأساة أو الألم أو للاحتجاج على تصرّف معيّن أو للتذكير بحاجةٍ خاصّة أو لإثارة الاهتمام بالباكي أو بالقضية التي يبكي من أجلها وفي ضوء ذلك فإنّ من الخطأ أو من القسوة الإنكار على الطفل الباكي الذي قد تكون له المبرّرات النفسية أو الواقعية لذلك، وربّما كان بكاء الطفل ـــ لاسيّما في بداية الدخول إلى هذا العالَم الخارجي ـــ غريزة طبيعيّة أراد الله بها حماية الطفل ممّا يحيط به ويشعر به من آلام أو حاجات ليعبّر عنها بهذه الطريقة لتذكير مَنْ حوله بذلك ولهذا فإنّ على الأهل أنْ يبحثوا عن الأسباب الباعثة على البكاء لا مواجهته بالعنف والإنكار لأنّ ذلك موقف غير إنساني.

هناك آباء وأُمّهات ينتقدون أبناءهم أمام ضيوفهم من أقارب أو جيران، ما هي الآثار السلبية لمثل هذا التصرُّف وبماذا تنصحون الأهل؟

مسألة أنْ ينتقد الإنسان إنساناً آخر أمام شخص ثالث، يعني أنْ يقدّمه إلى الآخر كفرد ناقص الأخلاق أو العلم أو الحكمة أو العقل أو ما إلى ذلك، الأمر الذي ينتقص من شعور الآخر بالكرامة ويخلق لديه مشاعر الألم والحزن والضعف. وهو أمر غير جائز بالنسبة للصغار أو الكبار، لأنّه ليس من حقّنا أن ننتقد أو نسيء إلى كرامة أيّ إنسان، إلاّ في الحالات التي يكون فيها لهذا النقد وظيفة تربوية. يمكن أن تردعه عن سلوك غير محمود تحول فيه إلى حالة مرضية، وقد ورد في الحديث: "مَنْ وَعَظَ أخاه سرّاً فقد زانَه ومَنْ وعَظَ أخاه علانية فقد شانه".

والأطفال لا يفترقون عن الكبار في ذلك، لأنّ هذا الأمر يتّصل بإحساس الإنسان بالكرامة، التي يدمّر الانتقاص منها احترام الإنسان لنفسه.

ـــ هل للصغير كرامة؟

إنّ للصغير كرامة برأيي، حتّى إنّني لا أُجوِّز اغتياب الصغير ولا إيذاءه، لأنّ الإيذاء ظلم إلاّ في الحالات التي تستدعيها الضرورة التربوية دون فرق بين الإيذاء المعنوي والإيذاء البدني، الأمر الذي يحتّم على الأهل الانتباه لعدم تجاوز المحظورات الشرعية في ذلك.

ـــ يقول البعض إنّ على الأهل وعلى كلّ مربٍّ أن يقبل الولد كما هو لينشأ حسب طبيعته فهل هذا صحيح؟

أنْ نقبل الولد كما هو، أمر مفيد تربوياً ولكن كيف نكتشف ما هو الولد؟ فقد نكتشف صورته غير الحقيقيّة، لأنّنا لا نرى إلاّ الصورة الماثلة أمامنا، لكن خلف هذه الصورة قد تكمن بعض الملامح التي قد تغيّر أو حتّى تقلب تمثّلنا للصورة.

لا بدّ أن نكون دقيقين في تشخيص القضايا لأنّ الطفل يختلف عن الكبير. فهو قد يعيش نوعاً من الغموض أو قد يتمثّل الأمور بشيء من الغموض جرّاء خوفه أو رهبته من الطرف الآخر ممّا يتطلَّب الكثير من المعاناة لكسر الحواجز التي تمنعه من الانفتاح عليه. ولكي نفهم أطفالنا لا بدّ أنْ نأخذ بعين الاعتبار أنّهم يختفون خلف غشاء من الخوف والهيبة أو من القلق الذي يمنعهم من كشف ما لديهم، فقد أشار بعضهم بالقول: إذا لم تستطع أن تكتشف حقيقة طفلك في البيت أو المدرسة، فقد تكتشفه أثناء اللّعب.. فتِّش عن سرّ الطفل، ثمّ اختر طرق المعالجة..

ـــ قد يظلم الأهل أولادهم بردود أفعالهم السلبية والمتسرِّعة فهل هذا مبرّر؟

قد ينطلق تعامل الأهل مع الولد أحياناً من حالة انفعالية خاصّة، بحيث يبادرون إلى تعنيفه تنفيساً عن ضغط يعيشونه أو إلى المبالغة في تدليله إذا كان ذكراً وحيداً، أو كان جميلاً أو غير ذلك.

وهنا يحضرنا أيضاً قول الشاعر:

ووضع النَّدى في موضعِ السيفِ بالعلى           مضرٌّ كوضعِ السيفِ في موضِع النَّدى

إنّ علينا أن نضع الأمور في نصابها الصحيح لأنّنا إذا أعطينا الولد جرعة أكثر من اللازم من الحبّ فإنّنا قد نسيء إليه معنوياً، وكذلك إذا أعطيناه جرعة زائدة من القسوة، علينا أنْ نتحفَّظ في الجرعات التي نعطيها للولد في المجال التربوي تماماً كما نتحفَّظ في المجال الجسدي.

ـــ يحمل الأهل أحياناً أولادهم على مقاطعة أجدادهم أو أقاربهم لأسباب شخصية فهل من واجب الولد الطاعة آنذاك؟

قد تحمل بعض الظروف، والأوضاع الاجتماعية الأهل على مقاطعة أقاربهم، ولكنّ ذلك لا يعني أنْ يرهقوا أولادهم بمشاكلهم الشخصية، لأنّ الولد لا دخل له فيها. نعم إذا شكَّل الاحتكاك بالأقارب خطراً على أخلاق الولد أو على نموّه الدينيّ والاجتماعيّ، كأنْ يكون أحدهم على سبيل المثال إنساناً مدمناً على الخمر والمخدرات أو مجرماً محترفاً وما إلى ذلك، عند ذلك يخرج نهي الأهل عن بعده الخاص، ويتحوّل إلى مسألة تتّصل بالحياة الداخلية أو الخارجية للولد الذي قد نضطر في بعض الحالات إلى عزله عن أبويه، إذا كانت الحياة معهما تشكِّل خطراً على نموّه الأخلاقيّ والروحيّ والاجتماعيّ.

قد تؤدّي تربية الولد على عداوات أقاربه إلى خلق مناخ نفسي سيّء للولد يؤثّر في حياته الاجتماعية المستقبليّة. كما نلاحظ، في كثير من المجتمعات التي يحمل الأولاد فيها عداوات آبائهم، إلى درجة أنّ تلك العداوات تستمرّ عشرات السنين في نفوس الأبناء، وتتضخَّم إلى درجة يسفكون فيها الدماء. لذا على الأبوين اللّذين يريدان أن يُحْسنا إلى ابنهما أن يضعا خصوماتهما مع الآخرين في حجمها الطبيعيّ، وفي الدوائر التي تحرّكت فيها وأنْ لا يورِّثا لأولادهما منازعات وأحقاداً أو عداوات لا يد لهم فيها..

ـــ يتفاوت مستوى الرابط الذي يصل الأبناء داخل الأسرة الواحدة، فهو قد يكون مقطوعاً تماماً، أو متيناً إلى أقصى حدّ، كيف ينظر الإسلام إلى العلاقة بين الأُخوة، في أيّة صورة يريدها أن تكون وما هو دور الأهل في تحديد شكل العلاقة؟  

يريد الإسلام للعلاقات الاجتماعية عموماً أن تكون علاقات إنسانية، تنطلق دائماً من الإحساس بالآخر ثمّ احترام هذا الآخر، وهذا ما عبَّرت عنه الأحاديث التي أكّدت على أهمية إنصاف الناس من النفس كالحديث الشريف "لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها" وما إلى ذلك.

عندما نقرأ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...} [الحجرات : 10] نعتبرها قاعدة للعلاقات بين الأشخاص وليست مجرّد حالة اجتماعية. 

وهكذا عندما نجد أنّ الحديث يؤكّد على صلة الرحم حتّى لو كان الطرف الآخر قاطعاً، وعلى صلة الجار حتّى لو كان ذاك الجار مؤذياً، نفهم أنّ على أحد الطرفين أن يتّخذ زمام المبادرة ليقدّم التنازل للآخر من أجل الحفاظ على علاقة القرابة أو الجيرة.. وهو أمر يسري على الأسرة الواحدة أيضاً، لذا فإنّ من واجب الآباء، في حالات النزاع، أن يوجّهوا أولادهم إلى تقديم التنازلات لبعضهم البعض وحتّى لأقاربهم وللجيران أيضاً، ممّا ينمّي فيهم قيمة التراحم والتساهل والتعالي، بحيث يعتبر الولد أن تفوّق أخيه عليه أو أخذه شيئاً إضافياً عنه لا يشكّل عقدة لديه، فإذا ما أثار ذاك التفضيل حفيظته وجَّه نقمته إلى مصدر التفضيل لا إلى أخيه، لأنّ الأخ لا يد له في ذلك. فعندما يدلّل أحد الأبوين ولداً دون ولد.. فليس ذلك ذنب الولد المفضّل ليتعقَّد منه أخوه بل هو ذنب الأب أو الأُم اللّذين فضّلاه على غيره. وهذا ما لاحظنا عكسه في قصّة "قابيل" و"هابيل" عندما قرَّبا قرباناً فتُقبّل من أحدهما ولم يُتقبّل من الآخر، فقد قال الحاسد لأخيه {لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة : 27]. لا بدّ للأهل من إخراج الحسد من نفوس أبنائهم وتربيتهم على تقبّل أنفسهم وتقبّل بعضهم بعضاً بمعاملتهم بطريقة عادلة ومتساوية، علماً أنّ الأهل ليسوا دائماً المسؤولين عن ولادة شعور الحسد في أبنائهم فقد يكون أحدهم متفوّقاً على إخوته بالجمال أو بالذكاء والنجاح أو بقوّة البدن.. ممّا يولِّد لدى إخوته عقدة منه. وهنا لا بدّ للأهل من إفهام الإخوة أنَّ تميُّز أخيهم عليهم ليس ذنباً يستحقّ العقاب عليه بالكراهية والحسد وإنّما هو أمر يعود إلى الظروف الخلقية أو الطبيعيّة.

ـــ كيف نتعامل مع أسئلة الأطفال المحرجة، مثل كيف خلقنا؟ من أين خرجنا؟ وغيرها كثير؟

إنّ الطريقة الفضلى لمواجهة الأسئلة المحرجة مع الطفل هي الجواب بصراحة وبأسلوب ينسجم مع مستواه الذهني، فينفذ إلى عقله دون أنْ يثير فيه مشاعر سلبية، فلا نتحدَّث معه بكلام يثير فيه الإحساس بوجود محرَّمات في بعض الكلمات أو الأفكار بطريقة تبعث الفضول لديه إلى اعتماد طرق ملتوية للتعرّف عليها، وبالأخصّ تلك التي تتّصل بالجانب الجنسي، ولتلافي ذلك يمكن أن نبدأ بشكل تدريجي، بالإيحاء للطفل بأنّ للأعضاء الجنسية مهمَّات طبيعيّة جدّاً، ولكن ليس من الضروري أن نقدّم للولد عندما يسأل من أين ولدنا شرحاً مفصّلاً عن أساس الولادة، بل يكفي أنْ نتحدّث بأمانة، ونماثل الولادة بأحداث طبيعيّة كأنْ نقول له إنّ الولادة مثل الأرض عندما تنبت.

علينا أنْ نربّيَ أولادنا على الحقيقة لكن ليست الحقيقة العارية، لأنّ الشيء العاري لا جمال فيه، خصوصاً في هذه المسائل.

التربية بالقدوة

ـــ في مجتمعنا قد نلتقي بالأب ينهى ولده عن الصراخ ونراه يصرخ أمامه والأم تنهى ابنتها عن الكذب ونراها تكذب، برأيكم ما تأثير هذا التناقض على شخصية الولد؟

من الطبيعي أن يسيّء هذا التناقض إلى تربية الولد، ويعطّل مفعول النواهي والأوامر التي يقدّمها الأب والأم في مجال التوجيه، لأنّ الولد عندما يسمع كلمة النهي عن سلوكٍ ما ويرى والديه يقومان به، يفهم أنّ هذا النهي ليس جدّياً، خاصة وأنّه لا يكون قادراً على التفريق بين مساحتي القول والفعل. ونحن نعرف أنّ تأثير القدوة على أيّ إنسان أقوى من تأثير القول. لذلك فإنّنا نتصوّر أنّ هذا التناقض من المسائل الخطرة على التربية، ليس بالنسبة إلى الأطفال فحسب بل بالنسبة إلى المجتمع ككلّ، لذلك يستنكر الله سبحانه بشدّة على المؤمنين أن يتركوا مساحةً بين قولهم وفعلهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 ـــ 3]. باعتبار أنّ هذا التناقض يؤثّر سلباً على صاحبه أوّلاً وعلى مَنْ يرونه أيضاً. وقد ورد في الحديث "أفضل الأدب ما بدأت به نفسك". فإنّ للأخلاق التي يتمثّلها الأب بسلوكه في حياته العائلية تأثيرها الكبير في معنى القدوة على كلّ أفراد عائلته بالإضافة إلى الوسائل التربوية الأخرى.

 

ـــ قدمتم تأثير الفعل على القول في التربية، من أين يستمدّ الفعل قوّته التربوية برأيكم؟

تكمن أهمية القدوة وعظمة تأثيرها في نفس الإنسان المقتدي في تقديمها للولد الفكرة مجسّدة في واقعها الخارجي، لهذا نجد أنّ الله كما أكّد على ضرورة الالتزام بما قاله الرسول "ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" أكّد أيضاً وبشكلٍ أكثر قوّةً على كونه قدوةً للمسلمين {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21]. ويتجلّى هذا التأكيد واضحاً فيما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: "كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الصدق والخير والورع فإنّ ذلك داعية".

وهو أمر ينطبق على تربية الأطفال بصورة أقوى ممّا ينطبق على الراشدين، لأنّ الطفل مُقلِّد ماهر يمتصّ ما يراه بشكلٍ أكبر، ولا يستطيع التفريق ـــ كما قلنا سابقاً ـــ بين القول والفعل، بحيث يرى أنّ هذا الإنسان يملك الفكرة الصحيحة ولكنّه لا يطبّقها مثلاً، خلافاً للكبار الذين يستطيعون أن يفهموا ذلك ويفلسفوه، لذلك ورد في بعض الأحاديث: "إذا وعدتم الصبيان ففوا لهم لأنّهم لا يرون إلاّ أنّكم ترزقونهم".

ـــ يملك الأطفال قابلية كبيرة جدّاً للتقليد، حيث إنّ الولد يبدأ بتقليد والده باكراً وكذلك البنت، كيف يمكن أنْ نوظِّف ذلك الميل إلى التقليد في التربية؟

إنّ للتقليد وجهين: وجهاً سلبياً وآخر إيجابياً، أمّا الوجه الإيجابي فهو تمكينه الطفل من الالتقاط والتعلُّم من الخارج بحيث يغني شخصيّته الطفولية بما حوله وبمن حوله فلا يبقى مجرّد مشاهد سلبيّ لا يتفاعل مع ما يراه أو ما يسمعه أو ما يعيشه. ذلك أنّ التقليد هو أوّل مراحل النموّ العقلي والشعوري.

أمّا الجانب السلبيّ، فهو يحمل خطراً على الطفل حيث يمكن أن يلتقط عبره الأشياء السيّئة إلى جانب الأشياء الحسنة، وقد يعتاد ما قلّده باعتبار أنّ التقليد يطمس ملكة النقد والإبداع في المتلقي ممّا يجمّد فيه طاقة التطوّر والتغيّر، لهذا لا بدّ للأبوين من أن يشجّعا الولد على التقليد كوسيلة من وسائل الانتقال من حالة المشاهدة إلى حالة الفعل، ولكن لا بدّ من استعمال الأساليب الحكيمة من أجل إبعاده عن تقليد السلوكات السيّئة بالإشارة إلى الجيّد منها والرديء، وبتنمية حسّه النقدي بحيث يتعلَّم التفريق بين الأشياء.

ـــ وماذا عن عادات الأهل أنفسهم؟

أمّا بالنسبة لعادات الأهل، فإذا كان الأهل سيّئين أساساً فمن الطبيعيّ أن لا يسعوا لإخراج أطفالهم من إطار عاداتهم، المضرّة بهم، هنا يصبح من واجب العاملين في حقل التربية، سواء في المدرسة أم الواقع الاجتماعي العام أنْ يسعوا للتدخّل بقوّة بحيث يقلّصون تأثير الأهل السيّء على الولد. ولا شكّ في أنّ إمكانية التأثير على الولد في هذه الحال صعبة، لأنّ الطفل يعيش في المدرسة ساعات ويعيش مع المرشدين الاجتماعيين ساعة أو أكثر، ولكنّه يعيش حياته كلّها مع أهله ممّا يجعل المؤثّرات البيئيّة أو العائلية تدخل في نسيجه الفكري والعاطفي، ويصبح تأثيرها بالتالي أكثر عمقاً في شخصيّته من المؤثّرات التربوية الخارجية.

أمّا إذا كان الأهل واعين بأنّ لديهم عادات سيّئة لا يريدون أن تنقل للطفل، فعليهم أن يبيّنوا له رفضهم لتلك السلوكات التي يقومون بها، ويدعونه إلى مجانبة تقليدها، ويفسّرون نشوءها عندهم بالأجواء المعقّدة التي عاشوها ويظهرون ألمهم إزاءها.

 

ـــ كيف نفهم هذا الحديث: لا يزال المؤمن يورث أهل بيته العلم والأدب الصالح حتّى يدخلهم الجنّة؟

الظاهر أنّه إشارة إلى قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ} [الرعد : 23] وتكون الإشارة إلى الجار الصالح والخادم الصالح على أساس قوله تعالى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف : 67]. فتكون تربيته لهم بالعلم والأدب الصالح حتّى يكون ذلك وسيلةً لدخول الجنّة.

ـــ تتكوَّن لدى الطفل عادات سيّئة يلتقطها من محيطه، كيف يمكن أن ندفع الولد للإقلاع عن تلك العادات وكيف نحوّلها إلى عادات حسنة؟

لتغيير العادات السيّئة التي اكتسبها الطفل علينا أن نعرف الأساس الذي قام عليه تكوّنها، فقد يكون أساس ذلك تأثّره العاطفي برفيق يحبّه أو بمجموعة من الأصحاب ينسجم معهم، وربّما يكون نقطة ضعف داخل شخصيّته تستجيب هذه العادة السيّئة لها وما إلى ذلك من أسباب. لا بدّ لنا أن نعالج أساس العادة، ونعمل على النفاذ إلى الجانب العاطفي فيه بعاطفية مضادّة، كأنْ نحيطه برفيق أو برفاق يملكون عادات حَسَنَة (عبر وضعه في مدرسة جديدة على سبيل المثال) بحيث يستوحي من خلالهم سلبية العادات التي ورثها من رفيقه أو رفاقه السابقين. أو نعالج نقطة ضعفه التي يتفرَّع عنها إقباله على العادة السيّئة، لتزول تلك العادة بزوال نقطة الضعف التي تستدعي ولادتها.

وهكذا يمكن لنا أن نغرس العادات الحَسَنَة فيه بواسطة السيطرة على نقاط القوّة ونقاط الضعف الموجودة في شخصيّته، أو بإيجاد بيئة أخرى يمكن أنْ تترك تأثيراً إيجابياً فيه.

لا بدّ لنا لإزالة أيِّ سلوك سيّء لدى الطفل من دراسة كلّ جوانب شخصيّته وكلّ المؤثّرات السلبية أو الإيجابية التي يلتقطها من الخارج، لنحدِّد بعد ذلك الأساليب التي تؤهّلنا لولوج عالمه من الداخل تماماً كما هي الحال في علاج أيّ سلوك سيّء لدى الكبار. لكنّ الفرق بين الكبار والصغار أنّ الكبار يملكون القدرة على الرفض والمقاومة أو التمرُّد على التأثيرات العاطفية والفكرية التي تأتيهم من الخارج بينما لا يملك الطفل مثل هذه القوّة، ممّا يجعل امتصاصه للتأثيرات الخارجية أكثر سهولة من امتصاص الكبير لها، طالما أنّ قوّة الضغط التي تملكها تلك التأثيرات على الصغير أكبر من قوّة الضغط التي نملكها على الكبير.

ـــ من الشائع جدّاً في علاقة الأهل والأولاد، أن يعتبر الأهل أنفسهم دائماً على حقّ، هل يخدم ذلك برأيكم مرجعيّتهم كقدوة أم يضرّها؟

تسري على تعامل الآباء مع الأولاد القوانين نفسها التي تسري على تعاملهم مع الكبار، ليس من الطبيعيّ أن يعتبر الإنسان نفسه دائماً على حقّ، وأن يكون كلامه غير قابلٍ للمناقشة، لا بدّ للإنسان من أن يناقش نفسه دائماً في نظرته إلى نفسه وفي تعامله مع الآخر، فالمؤمن نفسه عنده ظنون، وعلى الإنسان أيّاً كان أن ينقد ذاته وأن يحاسبها سواء في العمل الخاص به أو في العمل الذي يطال الآخرين، وهو أمر يكسب الأولاد ملكة النقد، وفضيلة التراجع عن الخطأ، ويشعرهم أنّهم في محيط لا تعسّف فيه، وإنْ كان نقد الآباء لأنفسهم وتقبّلهم للنقد لا يفترض أن يكون على حساب صورتهم كقدوة، بحيث يبدون متشكّكين دائماً في سلوكهم وغير واثقين بآرائهم وبما يفعلون.

 

 

 

 

الطفل بين الخادمة والأُم

ـــ مع انتشار ظاهرة الاستخدام في المنازل، ارتفعت بعض الأصوات الرافضة لوجود الخادمات في المنازل ونحن نعرف أنّ وجود الخادمات وحتّى المرضعات ليس بالأمر الجيّد. ماذا تقولون في هذا؟

هناك فرق بين أن نعهد بالطفل إلى مرضعة، كما كان يحصل سابقاً أو إلى خادمة كما يحصل اليوم، ففي السابق كان الاعتقاد السائد: أنّ للرضاع واللّبن ـــ كما هو وارد عندنا في بعض الأحاديث ـــ دوراً في التكوين الجسدي والداخلي في نفس الرضيع. لهذا كانت تُسْتَرْضَع المرأة الجميلة والهادئة لأنّ للبنها تأثيراً في بناء شخصية الطفل، فالمرضعة لم تكن تدخل البيت، بل كان يعهد بالطفل إليها، بغياب الأم أصلاً، وكانت تختار وفق مواصفات معيّنة يراد نقلها إلى الطفل. كما يُعهد بأيِّ طفل لأيِّ مربّية تقوم مقام الأم في حال فقدانها. أمّا ما تعارف عليه الناس اليوم من الاستعانة بالخادمات أو المربّيات.. فالغرض منه حلّ مشكلة الأم العاملة وحلّ مشكلة الأب القاصر عن تلبية متطلّبات منزله، وليس المراد منه حلّ مشكلة الولد. إنّ انشغال الأُم عن الطفل وتسليمه للخادمات اللاتي لا علم للأسرة بهنَّ من أين أتينَ؟ وما هي طبيعة تربيتهنَّ، وما هي أخلاقهنَّ وعقيدتهنَّ؟.. قد يمثِّل خطراً على الطفل. لأنّ الخادمة سوف تزرع في نفسه الكثير من السلبيات التي تحملها، في الوقت نفسه الذي يُحْرَم فيه من حنان أُمّه وعاطفتها. لأنّ التربية ليست مجرّد تعليمات تصدر إلى الطفل. بل هي عاطفة يستشعرها في حضن أُمّه ممّا يحيطه بفيض عاطفيّ وروحيّ يضفي عليه لوناً من الأمن النفسيّ فيجعله مستعدّاً لقبول ما يُطرَح عليه. إنّ الاستعانة بالخادمات اليوم لا يرتبط بأيّ مصلحة تربوية للطفل، بل يرتبط بظروف الأُمّ الصحيّة أو الاجتماعية التي تحملها على ذلك.

في حالات خاصّة جدّاً قد تحتاج الأُمّ إلى مربّية تؤازرها في تربية الطفل، عندما يكون الولد بحاجة إلى رعاية لا تملك الأُم تأمينها له، وهكذا فإنّ الاستعانة بالمربّية قد تكون مبرّرة. فقط في ظروف الحاجة الملحّة، كفقدان الأُم مثلاً بحيث تكون المربّية أُمّاً بديلة للطفل أو في حال كان وضع الأُم الصحّي صعباً إلى درجة تشلّها عن رعاية الطفل عملياً، أو عندما يبلغ الطفل مرحلة الحاجة إلى التعلُّم وكانت إمكانات الأُم لا تكفي في تحقيق ذلك.

ـــ يرى البعض أنّ الاستعانة بالخادمة أو المساعدة أمر لا يضرّ بالطفل فوجود الخادمة يُريح الأُم من أعباء كثيرة، وبالتالي يُعطيها المجال لأنْ تقضي وقتاً نوعياً مع طفلها، فما رأيكم؟

المشكلة الأساسية التي يحملها موضوع كهذا، هو أنّ المربّية أو حتّى الخادمة تأخذ غالباً الدور الأوّل، والأمّ تأخذ الدور الثاني. وتنتفي هذه المشكلة، برأيي عندما تأخذ المربّية دور المساعد بحيث يبقى دور الأُمّ هو الدور الأساس لا العكس. عندما نقرأ الآيات والأحاديث التي تتناول الأمومة نشعر ولو بطريقة إيحائية، أنّ الإسلام يركّز على أهمية علاقة الأم بالولد ويعطي لتربيتها وتضحيتها من أجله طابعاً قدسياً {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان : 14]. كما لو كان يوحي بأنّ دور الأم هو الدور الأساسي في تربية الطفل، لا من ناحية واقعية فقط بل حتّى من ناحية استنسابيّة. ولا مانع من وجود عنصر مساعد للأُمّ كوجود مربّية تملك ثقافة الوسائل والمفردات التي ينبغي أن تُلقى في نفس الطفل أو ما أشبه ذلك. إنّنا ننكر أن يكون دور الأُمّ هامشياً في حياة الطفل، كما نجد في بعض المجتمعات الحديثة التي قد لا يعرف فيها الطفل أُمّه إلاّ عبر زيارات أو ساعات محدودة تقضيها معه وهي مأخوذة بمشاغلها الاجتماعية الخاصّة أو حتّى العبثيّة الخاصّة. لقد أثّرت هذه الصورة للمرأة المعاصرة في مجتمعاتنا الإسلامية بحيث أصبحنا نجد أُمّهات يكرهن الأمومة، ويرفضن تكرار تجربتها باعتبار أنّها تفقدهنّ حريّاتهن. إلى درجة الامتناع عن الزواج لأنّهن يجدن في الزواج نوعاً من حجز حريّتهنّ، ويستعضن عن الزواج بالعلاقات العابرة التي تشبع رغباتهنّ دون أن تلقي عليهنّ التزامات، بحيث تصبح علاقتهنّ بالرجل علاقة لهو وعبث، لا علاقة تنطلق من عمق حاجتهنّ الإنسانية إلى الشريك وإلى إشباع غريزة الأمومة.. وممّا لا شكّ فيه أنّ في ذلك انحرافاً يدمِّر الحياة.

لذا نحن نعتقد، أنّ اعتماد الأسرة على الخادمات، بحيث تقوم الخادمة بالجهد كلّه لتتفرَّغ الأُم لنفسها ظاهرة تساهم في تدمير المعنى الإنساني للأمومة، بالإضافة إلى إساءتها إلى الطفل. إنّ لشعور الأطفال بأنّ أُمّهم هي التي تطبخ الطعام وهي التي تطعمهم وترعاهم وترعى البيت، تأثيراً بالغاً في نفسيّتهم، لاسيّما الفتاة، التي تتقمَّص من خلال حركة أمّها في البيت صورة دورها المستقبلي كزوجة وأُم.

ـــ في ظلّ ظروف العصر والوتيرة المتسارعة للحياة والظروف الاقتصادية الصعبة التي تعانيها الأسرة، ما هي دعوتكم للأُمّهات اللواتي تضطرهنَّ الظروف إلى الاستعانة بالخادمات؟

إنّني أدعو الأمّهات إلى الإبقاء على دورهنّ كأُمّهات في تربية الطفل، بحيث لا تُعطى الخادمات أكثر من دور الخدمة والتنظيف وإخراج الولد للفسحة، وبحيث لا تصبح الأُم على الهامش وتصبح الخادمة هي الأصل، بل يبقى دور الأُمّ هو الدور الأساس والأصل، ويبقى دور الخادمة هامشياً. وإذا ما انشغلت الأُمّ عن الولد بحكم عملها عوّضته عمّا افتقده من رعاية في ساعات غيابها ببذل جهد أكبر عند وجودها معه. أو أنْ تحسن اختيار الخادمة، بحيث تكون قادرة على تقمُّص دور الأُمّ في غيابها.

ـــ تؤكّدون على وجود الأُمّ الدائم حول طفلها ماذا عن الحضور المعنوي، يُقال إنّ حضور الأمّ المعنوي مع أولادها أهم من حضورها الجسدي داخل البيت بالنسبة إلى الطفل ما رأيكم؟

لا يتأمَّن الحضور المعنوي للأُمّ بدون حضورها الجسدي، فعندما تحضر الأُمّ جسدياً فمن الطبيعي أن يتنفَّس الطفل الحنان والرعاية والاحتضان بحضورها.

لماذا يعبّر الناس عن عواطفهم تجاه الآخرين بالمصافحة والعناق والتقبيل؟ لأنّ الكلمات وحدها لا تكفي، وكأنّ الإنسان بحاجة إلى الاحتضان الجسدي ليتحسَّس المشاعر الطيّبة التي يحملها الآخر له، وكأنَّ اللّمس يوصلها إليه. ولا شكّ أنّ الطفل يحتاج إلى الاحتضان الجسدي أكثر من الراشد، سواء تمّ ذلك في حالة الإرضاع أو حالة البكاء أو في أيّ وضعية أخرى يشعر معها بالحاجة إلى الرعاية والهدهدة وما إلى ذلك، إنّ هذا الاحتضان هو الذي يُشعر الطفل بالأمن، ويعطيه الإحساس أنّه ليس شيئاً معلَّقاً في الهواء، وتائهاً في الفضاء بل إنّه شخص منتمٍ ومهمّ ومحبوب، باعتماده على شيء مادي يستند إليه، تماماً كما يستند الإنسان إلى الجدار، أو إلى سفينة إذا كان في عرض الماء.

ـــ برأيكم ما الفرق بالنسبة للولد بين الأُمّ التي تسمّى بالتقليدية، وبين الأُمّ العصرية؟

يراد بصفة الأُمّ التقليديّة نوع من الاستهانة بهذه الأُمّ وبدورها لأنّها أُمٌّ ترى ولدها كلّ حياتها، وتشعر بانتمائه إلى جسدها فتحمله وترضعه، إنّ الأُمّ "التقليدية" هي التي تعيش الأمومة بكلّها، بينما تنظر الأُمّ غير التقليدية أو العصرية.. إلى الولد ككائن خارج ذاتها تحمل بعض المسؤوليات تجاهه. وقد لاحظنا أنّ كثيراً من الأُمّهات أنكرن أولادهن بسبب هذا التصوُّر فكانت الواحدة تحمل ولدها كما يحمل الإنسان حملاً ثقيلاً فيلقيه ليتخفَّف منه وينصرف عنه، هذه هي مشكلة كثير من الأُمهات العصريات ولا نريد أنْ نعمِّم في ذلك، أمّا مشكلة الأُمّ التقليدية فحالة التخلُّف التي قد تعيشها والتي يقتل وجودها في الأُمّ الطاقات الحيّة والقويّة في نفس الطفل.

ـــ هل يمكننا القول إنّ حالات التخلّف التي تعيشها بعض الأمّهات أقلّ خطراً على الطفل من الحرمان العاطفي؟

نحن نريد للطفل عندما ينشأ أن ينشأ وهو مرتكز على أرضية صلبة، وهذا الوضع يتأمَّن بمراعاة فطرة الأمومة. أمّا الوضع الجديد للأُمّ فهو وضع يتّصل بنظريات أكثر ممّا يتّصل بالواقع. إنّنا نجد أنّ هناك مشاكل كبيرة وكبيرة جداً عند الأولاد الذين تتركهم أُمّهم في دور حضانة، لأنّ الطفل يشعر من جرَّاء ذلك أنّه مفصول عن جذوره.

ـــ برأيكم هل فطرت المرأة على أداء دور الأُمومة؟

نحن نعتبر أنّ الأُمومة جزء من تكوين المرأة وليست مهمّة خارج ذاتها، باعتبار أنّ الطفل يشكّل جزءاً من جسدها فهي حملته وكانت تتغذّى معه ويتغذّى معها، وهي من أجل ذلك تتحسَّس آلامها ومشاكلها في آلامه ومشاكله. من هنا فإنّ فترة الرضاعة والحضانة لها أثر كبير جدّاً على الطفل لجهة تعميق إحساسه بالقوّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(6) المدرسة ودورها

في صياغة شخصية الطفل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

النظام التربوي من وجهة نظر الإسلام

ـــ هل يوجد في الإسلام نظام تربوي متكامل يمكن أنْ نسترشد به في بناء وفهم دور المدرسة؟

لا نجد في النصوص الإسلامية حديثاً مفصَّلاً عن النظام التربوي وعن المدرسة بل يوجد فيها أحاديث متفرّقة عن المعلّم والعلم وضرورته وقيمته ممّا يمكّننا من رسم بعض الخطوط العامّة للنظام التربوي الإسلامي المرغوب.

فالإسلام يعتبر العلم قيمة، بحيث يميِّز الواجد لهذه القيمة عن غيره، في القرآن الكريم يقول تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ...} [الزمر : 9] أو {... وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه : 114] وكذلك يعتبر القرآن مشكلة الكفر مشكلة جهل.

وتؤكّد الأحاديث على ضرورة التعلّم في الصغر باعتبار أنّه كالنقش في الحجر، وأنَّ التعلّم في الكِبَر كالنقش على الماء وما إلى هنالك من أحاديث تؤكّد على ضرورة الاهتمام بالعلم. لكنّ الإسلام يترك قضية وضع النظام التربوي، كمفردات تفصيليّة لجهة أسلوب التعليم ومناهج التعلُّم وما إلى ذلك، ليتركه للإنسان باعتبار أنّ هذه الأمور تختلف من شعب إلى شعب ومن زمنٍ إلى زمن، لذلك لم يضع له أيّ تشريع تفصيلي، بل ترك أمر اكتشافه إلى خبرات الإنسان ذاته. ولكنّ القاعدة الأساس في هذا النظام هي إعلاء قيمة العِلْم أوّلاً، وتنظيم العلاقة بين العالِم والمتعلّم والتي يجب أن تقوم على الاحترام الشديد.

 

 

ـــ لماذا هذا القصور الذي نلاحظه اليوم في استنباط النظم التربوية أو إدخالها في التخطيط للمناهج؟

تحتاج عملية التخطيط التربوي لتطوّر ثقافي عام لأنّ العلوم تدعم بعضها بعضاً ويفتح بعضها أمام البعض آفاقاً جديدة. وهو أمر غير متوافر اليوم، بينما كان تطوّر النظريات التربوية قد انطلق من التطوّر الثقافي العام الذي عاشه الإسلام خلال المرحلة التي عاشها سواء في المشرق أو في المغرب.

إنّ الإسلام قدَّم لنا الخطّ العام الذي يفترض أن نستهدي به للوصول إلى أسلوب تربوي يتّفق مع ذهنية الطفل ومع تطوُّر الوسائل والمناهج الموجودة لننتقل من التلقين الساذج إلى الانفتاح بعقل الطفل على الإبداع.

ـــ تعتمد معظم المدارس العربية وحتّى الإسلامية على المناهج الأجنبية، في التعليم، هل ترون ضرراً في ذلك؟

في مناهج التربية وأساليبها ووسائلها وحقولها لا عقدة لنا من الأخذ عن الآخرين، الإسلام يؤمن بالتفاعل الحضاري الذي لا يتنافى مع القاعدة التي ينطلق منها كدين. علينا أن ندرس ما يقدّم الغرب من وسائل وتقنيّات تعليميّة ونأخذ ما يتناسب معنا، ويخدم أهدافنا التعليميّة.

ـــ ما المقصود في الأحاديث الشريفة التي تحضّ على العِلْم، هل المقصود العلوم العصرية أم الدينيّة؟

عندما ندرس النصوص، نجد أنّ المقصود منها العلم كلّه فالقرآن عندما يقول: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ...} أو {... وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} لم يفرّق بين علم وعلم. وكذلك بالنسبة لما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "قيمة كلّ امرئ ما يحسنه"، "أطلب العلم ولو في الصين". فهو لم يُرد منها علم الأديان وقد ورد في بعض الأحاديث المأثورة "العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان".

وعندما ندرس القرآن نجد أنّ الله يحثّنا على التفكير في خلق السموات والأرض، والتفكير في خلق الإنسان.

إنّ علوم الطبيعة والحيوان والنبات هي وسائل لتحصيل المعرفة بالله ممّا يعني أنّ الإنسان لا بدّ أن يعرف الكون في كلّ ظواهره وموجوداته ليعرف علم الدّين في هذا المقام، لأنّ الإنسان يعرف الله من خلال التفكير والعقل، لهذا فإنّ المراد بالعلم في هذه الأحاديث هو علم الحياة بكلّ أبعاده. غاية ما هناك أنّ الإسلام يؤكّد على العلم النافع للنّاس الذي يمكن أن ينتج شيئاً للإنسان، لا العلم التجريدي الذي يحشو ذهن الإنسان بالمعلومات دون أن يعطيه أيّة نتيجة عقلية تتّصل بوجوده في هذه الحياة وبحركته فيها.

ـــ هل نفهم من هذه الإضاءات بخصوص التفكير أنّ الإسلام يرى أن ندفع بالأطفال ليفكِّروا وليبدعوا دون أن يتمّ تلقينهم المعارف تلقيناً أو حشوهم بها؟

إنّ الحثّ على اكتساب العلم لا يعني حشو ذهن الطفل بالمعلومات ليردِّدها آلياً دون أنْ تتحوّل إلى مظاهر سلوكية أو تدفع إلى ابتكارات إبداعية، بل يعني أمرين:

1 ـــ تنمية قدراته العقلية كي يصبح مؤهّلاً ليثقّف نفسه ويكتشف الحقائق بجهده.

2 ـــ تزويده بالمعارف المناسبة التي تكون حركة في تنمية عقله.

ومن الطبيعيِّ أنّ تنمية العقل تتأكّد في تقوية الإدراك وتفعيل الطاقة الذهنية بحيث تصبح المعلومات المعطاة للطفل جزءاً من شخصيّته لا مجرّد كتب يشكل عقل الطفل وعاء لها.

إنَّ تعليم الطفل يعني أن تؤصّل المعلومات داخل شخصيّته ليفهمها ويقتنع بها وينتج منها شيئاً جديداً. بحيث توسّع مداركه وتنمّي حسّه الداخلي. إنّ قيمة العلم هي بمقدار ما يتحوّل إلى حركة في عقل الإنسان وقلبه وحياته.

وهنا نؤكّد شيئاً أساسياً وهو أنّ العلم في الإسلام يتحرّك في خطّين خطّ التأمُّل وخطّ التجربة.

وقد كان خطّ التأمُّل الوسيلة الأساس للمعرفة وجاء الإسلام ليؤكّد التجربة كمصدر أساسيّ ثانٍ للمعرفة وهذا ما نلاحظه في توجيه القرآن الكريم بالآيات: {... فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر : 2]، {... فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا...} [الملك : 15].

حتّى إنّ الغرب، اقتبس من خلال احتكاكه بالحضارة الإسلامية في الأندلس مسألة اعتبار التجربة وسيلة للمعرفة من الإسلام (ابن رشد وغيره). فقد سبق الإسلام الغرب باعتبار التجربة أساساً لتقدّم العلم وطريقاً لاكتشاف المعرفة وهذا  كان من الأسباب الرئيسيّة للتقدّم الحضاري التقني الذي نشهد انفجاره اليوم.

ـــ بسبب كثافة المادة التعليميّة المقدّمة للولد نلاحظ أنّ ساعات الراحة المفترضة تتحوّل إلى ساعات درس ويتحوّل البيت إلى مدرسة مسائية، ألاَ ترون في ذلك ظلماً للولد؟

قد لا يكون الاكتفاء بالتعليم المدرسيّ ضمن جدران المدرسة أمراً ممكناً، إذ إنّ ساعات الدراسة ونظام المدرسة لا يسمح بذلك، فلا بُدَّ إذن من التكامل بين البيت والمدرسة فيساهم الأهل في مساعدة المدرسة بمراجعة وتركيز المعلومات والأفكار في ذهن التلميذ. لكنّ هذا لا يعني أنْ يستوعب الدرس كلّ أوقات الطفل، فنمنع عليه لهوه وعبثه وحريّته وحاجته للانفتاح والانطلاق. فيكون الدرس في ساعة محدودة تضاف إلى ساعة المدرسة دون أن تكون الدراسة على حساب كلّ الساعات التي يخلو فيها الطفل للهوه ولعبه وممارسة هواياته الطفولية الخاصّة، لأنّ هذا الجوّ الدراسي المتّصل في البيت والمدرسة، قد يعقّد الطفل، لأنّه يؤدّي إلى نوع من أنواع القهر الذهني الذي لا يعود معه قادراً على التفكير والملاحظة.

نحن نحمِّلُ المسؤولية للمدرسة أوّلاً، باعتبار أنّ عليها أن توصل التلميذ إلى استيعاب المادة التعليميّة بحيث لا يحتاج إلى أن يدرس على يد مدرِّس خصوصي أو ما إلى ذلك، لأنّ الحاجة للمدرّس الخصوصي تتأتّى عن قصور المدرسة في دورها التعليمي، أمّا الأهل فيفترض بهم أن يعملوا على التخطيط للوقت الفائض عن المدرسة بما لا يُثقل على الأطفال ويرهق ذهنيّاتهم ممّا يمكن أن يؤدّي بهم إلى التبلّد أو النّقمة على المدرسة وعلى الحياة.

إنّ مهمّة المدرسة أن تستخدم الأساليب التعليميّة المشوّقة التي تساعد التلميذ على اكتشاف المفاهيم بنفسه، بحيث يسهّل عليه عملية الحفظ والفهم دون جهد في البيت، فلا يستوعب كلّ وقته، ممّا ينقلب لديه حبّاً للعلم والمدرسة والمعلّم.

ـــ يعتمد التقويم المدرسي على العلامات التي تشكّل عقدة بالنسبة للأهل والتلاميذ، ومصدر ضغط كبير على الطفل كيف يفترض أن يتعامل الأهل مع سياسة التقويم المدرسي المرتكز على العلامات؟

إنّ المشكلة الأساسية لا تكمن في العلامة بل بمقياس النجاح الذي درج الناس على تحديده في الشرق خاصّة، فهي التي تشكّل مقياس التقدُّم والتأخُّر والنجاح والرسوب، وهي التي تقرّر مصير الطالب في امتحانات دخول الجامعة أو التقدّم إلى أيّة وظيفة رسمية محدّدة، إنّ العلامة ـــ بشكلٍ عام لا يمكن أن تكون مقياساً حقيقيّاً لمستوى الطفل الدراسي فالطالب قد يستوعب ما قرأه وما درسه استيعاباً كاملاً ولكنّ رهبة الامتحان، قد تصيبه بنسيان مفاجئ لا يستطيع معه أن يعبّر عن مستوى استيعابه لما يطلب منه في الامتحان، ولهذا فإنّ العلامة لا تُمثّل تقييماً دقيقاً لدى عدد من الطلاّب، فقد ينجح مَنْ لا مستوى له، وقد يفشل مَنْ هو في المستوى، لذا لا بدّ من البحث عن وسيلة أخرى يمكن أن نقوّم من خلالها المستوى الذهني لهذا الطفل أو لهذا الشاب، بعيداً عن العلامة.

إنّ المنهج التقليدي يتحرّك على إيقاع الأرقام الماديّة في التقويم، لذا عمدت بعض الاتجاهات إلى اعتماد تصوّر حديث يأخذ بعين الاعتبار مدى تحقُّق الأهداف التعليميّة المرسومة ومدى نشاط وفعالية التلميذ طوال السنة الدراسية مع الأخذ بعين الاعتبار مختلف الظروف التي تحيط بالولد، وبهذا يمكن تحديد مواطن الضعف ومواقع القوّة لتتمَّ بالتالي عملية المعالجة وأخذ القرار بأساليب دعم مناسبة.

أمّا بالنسبة للأهل فعليهم أنْ لا يصابوا بصدمة في حال حصول ولدهم على علامات متدنّية، بل عليهم أن يقرأوا ما وراء العلامة المتدنّية، ويحدّدوا قابليّات الطفل، فربّما كان عاجزاً عن استيعاب الدروس النظرية التي يأخذها، فتكون المصلحة آنذاك في توجيهه إلى التعليم المهني أو إلى سوق العمل مباشرة أو إلى أيّ خيار مفيد للطفل أكثر من الاستمرار في المدرسة. لذلك لا بدَّ للأهل أنْ يدرسوا وضع ابنهم بدقّة ويختاروا ما هو أنسب له ولمستقبله.

ـــ أمام التأخّر الدراسيّ الذي يعاني منه بعض الأطفال هناك من الآباء مَنْ يستخدم العنف ومنهم مَنْ يعمد إلى ترغيب الطفل بالهدايا أو يلجأ إلى الدروس الخصوصيّة، في حين يعتبر البعض ذلك التأخّر جزءاً من تكوين الطفل باعتبار أنّه غبي منذ ولادته.. أيّ المواقف أَسْلَم برأيك؟

إنّ مثل هذه الأحكام المطلقة، ليست ناشئة من دراسة بل هي ردّة فعل أمام مشكلة يحاول الآباء أنْ يتجاوزوها بشكلٍ سريع، لذلك لا بدّ لنا من دراسة سبب التأخّر الدراسي: هل هو عدم الرغبة في الدراسة وانشغال الولد باللّعب أو أنّه نتيجة أسلوب التدريس الذي لا يمكِّن الولد من الاستيعاب أو أنّه ناشئ عن تدنٍّ في مستوى الذكاء بفعل الوراثة وما إلى ذلك، على الأهل أنْ يدقِّقوا في سبب المشكلة ليختاروا الأسلوب الأفضل لمعالجتها. فقد يكون الولد بحاجة إلى مدرِّس خصوصيّ يعوِّض النقص الذي يتركه أسلوب الأستاذ غير الناجح في إيصال المعلومات، أو أنّه بحاجة إلى بعض العنف المبرَّر شرعاً باعتبار أنّ ميله إلى الكسل والراحة قد يتغلَّب عليه فيهدّد مستقبله الأمر الذي يفرض استعمال القسوة المرنة، كي يرجع إلى نفسه وإلى طبيعته.

إنّ الحالات التي يرجع فيها التخلّف إلى غباء الطفل وقصوره العقليّ حالات قليلة جدّاً، فمن النادر أنْ يُخلَق الولد غبيّاً، ولكنّ الغباء قد ينشأ عن مؤثّرات خارجية قابلة للمعالجة.

ـــ كما تعلمون بأنّ للمعلّم تأثيراً كبيراً على الطالب فهو يتأثّر به سلباً وإيجاباً، برأيكم ما هي المواصفات الضرورية التي يجب أنْ تتوافر في المعلِّم؟

إنّ ما نطلبه من الصفات كثير لا نستطيع حصره، فأيّة صفة حميدة يجب أن تفلت منها شخصية المعلّم وهو القدوة بالنسبة لطلاّبه: الرسالية، الكفاءة العلمية، الصدق، الأمانة، الاستقامة، العدالة، الصبر، سعة الصدر، التواضع، الهدوء، حسن الإعداد والتدريب؟!

ولعلّ أهم ما نتوقّعه منه الرهافة الإنسانية التي تطبع أسلوبه بطابع المحبّة فيكون المعلّم أباً لتلاميذه والمعلِّمة أُمّاً لهم. وبذلك يعيش الولد في جوّ حميميّ مفعم بالمودّة والحنان يثير فيه الولع بالدرس والتحصيل، ويدفعه برغبة إلى الالتزام بكلّ الإرشادات والتوجيهات، أمّا بالنسبة للمعلِّمة التي تدرِّس أطفالاً في سنّ المراهقة فيفترض بها أن تكون محتشمة وأن تتعامل مع طلاّبها المراهقين والشباب بطريقة حكيمة لا تستثير غرائزهم، وهو الشيء نفسه الذي يفترض أنْ يتوافر في المعلِّم عندما يدرِّس فتيات مراهقات، لأنَّ بعض الفتيات قد تقع في حبّ المعلِّم الذي قد تجد فيه أباها وتعيش في الداخل رغبة غريزية فيه.

ـــ ما هي حدود سلطة المدرسة على الطلاّب؟

إنّ حدود سلطة المدرسة تتحدَّد من خلال سياسة الثواب والعقاب التي تضبط السلوك وتقوِّم الانحراف وتعزِّز الاستقامة، والتي تتمّ في جوّ من المحبّة والاحترام وحفظ الكرامة، على هذا الأساس لا بدّ للمدرسة من توفير جوّ عائلي لا يعيش الولد فيه الغربة، ولا ترسّخ في شخصيّته العُقد.. وفي الوقت الذي تفرض فيه المدرسة بعض القيود لحفظ النظام وتوفير مناخ تعليمي ملائم، لا بدّ من تأمين ساعات للّعب والترفيه تكون عوناً له على ما تتطلَّبه الدراسة من جهدٍ وتعب.

ـــ ما زالت الكثير من المدارس تعتمد الضرب كوسيلة لفرض النظام فهل يجوز ضرب الولد، وتعنيفه جسدياً؟

الأصل في التربية السليمة أن لا يكون فيها عقاب جسدي، وإنْ كان لا بدّ من العقاب الجسدي، فلا بدّ أن يأتي ذلك بعد استنفاد مختلف الوسائل السليمة وتيقّن العجز عن الوصول إلى أيّ نتيجة بغيره كما لو كان عملية جراحية. وعند اللّجوء إلى الضرب كحلٍّ أخير لا بدّ من دراسة مستوى هذا العقاب ومدى تأثيره السلبي على نفسية الطالب، لأنّ استخدام هذا النوع من العقاب قد يعطي نتيجة إيجابية من جانب، ولكنّه ربّما يؤثّر تأثيراً سلبياً على جانبٍ آخر من شخصية الطفل بحيث يختلّ التوازن في جوانب أخرى. إنّ حال المربّي هنا كحال الطبيب فكما يتوجّب على الطبيب عندما يُعطي الدواء للمريض أن يدرس تفاعلاته، الإيجابية والسلبية فيه، على المربّي أن يفعل الشّيء نفسه مع الطفل.

ـــ ورد في الحديث: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ألقى صبيان الكُتَّاب ألواحهم بين يديه ليخيّر بينهم، فقال: أما إنّها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلِّمكم إنّ ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه. إلامَ كان الإمام عليّ (عليه السلام) يهدف؟

الظاهر أنّ مقصود الإمام (عليه السلام) من ذلك هو ملاحظة التقويم للفرض الذي قدَّمه الصغير في لوحه بطريقة عادلة بحيث لا يحابي أحداً عن آخر لقرابة أو صداقة أو لأيّ شيءٍ آخر، من دون أساس من الجودة والكفاءة ثمّ التنبيه على أنّه ليس للمعلِّم أنْ يبتعد عن التوازن في التأديب ويكون ذكر الضربات الثلاث من باب المثل لا من باب التحديد.

التربية الدينيّة في المدرسة

ـــ أين يتقاطع التعليم مع التربية الدينية؟ وهل المدرسة مسؤولة عن التربية الدينية للطلاب؟

إنّ المدرسة ليست مجرَّد ساحة لحشد المعلومات في ذهن الطالب أو الطالبة، بل هي ساحة لتنشئة الإنسان وتأهيله ليصبح إنساناً صالحاً في علمه وفي أخلاقه وفي علاقته مع الناس ومع الحياة، لذلك فإنّ التربية الدينيّة كالتربية البدنية تتّصل بالجانب الروحيّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ والنفسيّ بالنسبة للطالب، ومن الطبيعي للمدرسة أنْ تتوصّل إلى تربية الطالب دينياً لأنّ العلم بلا أخلاق وبلا دين قد يدمِّر صاحبه والمجتمع.

ـــ إذا كانت التربية الدينيّة إحدى مسؤوليات المدرسة كما سلف وذكرتم، فكيف يمكن لها أن تضطلع بهذا الدور، وكيف يُدَرَّس الدين؟ هل يدرّس في كتاب مثلاً؟

إنّ الدّين كأيّ مادة ثقافية يمتزج فيها الجانب الروحي بالجانب الفكري وينفتح فيه الاثنان على الخطّ الأخلاقي، لا بدّ من أن يدرّس بأسلوبٍ محبَّب هو أقرب إلى التدريب منه إلى التلقين.

وكتاب الدّين في هذا الإطار يمثّل مصدراً للطالب يعود إليه كلّما احتاج إلى تركيز أو مراجعة معلوماته الدينيّة. وبكلمة موجزة لا بدَّ أن تكون دراسة الدّين في الهواء الطلق، بمعنى أن ينطلق معلِّم الدّين من رحابة الآفاق الروحية مؤكّداً فيه على استقامة الخطّ الأخلاقي وعلى الإيحاء الذي يجعل الإنسان يحبّ الله أكثر ويعظّمه أكثر.. معتمداً فيه على كلّ الأساليب والوسائل التعليميّة التي تثير رغبة الولد وولعه بكلّ ما يتّصل بالموضوع الديني من معارف وسلوك.

ـــ بناءً على ما تقدَّم، هل أنتم مع فرض حصص أسبوعية لتعليم التربية الدينيّة؟ أم إنّ التربية الدينيّة بهذه الصورة الشمولية التي قدّمتموها يفترض أنْ تقدّم بطريقة غير مباشرة في كلّ الحصص الدراسية؟

لا بدّ في رأيي من تحديد حصص معيّنة للثقافة الدينيّة، لكنّ ذلك لا ينفي الحاجة إلى جعل المدرسة كلّها منفتحة على الموضوع الديني، كأنْ يقحم في دراسة قواعد اللّغة العربية بعض الكلمات والجمل الدينيّة، أو أن تربط العلوم الطبيعيّة أو علم الحيوان أو علم النبات أو علم الإنسان بالله سبحانه وتعالى، باعتبار أنّ كلّ الموجودات الحيّة والجامدة تشكّل تجلّيات ومظاهر من عظمة الله ولما أودعه في الكون من قوانين وأسرار تؤكّد على عظمة الله وقدرته تعالى، وهكذا...

ـــ تلجأ بعض المدارس إلى فرض الحجاب على الطالبات. كيف تنظرون إلى ذلك؟

من الطبيعي لمدرسة يُعلّمُ فيها المعلّمون، ويختلط فيها الشباب بالفتيات، أن تلتزم الفتيات فيها بالحجاب، كما لا بدَّ من التزام الشباب بالحجاب النفسي...

قد تتضمّن كلمة فرض بعض العنف والقسوة، فنحن عندما نتحدّث عن فرض الحجاب على الفتيات نتحدّث عنه تماماً كما نتحدّث عن الفروض المدرسية الأخرى كأنْ يجلس الطلاب على مقاعدهم بطريقة معيّنة، وينضبطوا خلال الدرس ويلتزموا بوقته أو أن يلتزم الطلاّب بالزيّ الذي تفرضه المدرسة. فنحنُ نحاول أنْ نربّي الفتيات على أنّ اعتماد هذا الزيّ فيه حبّ لله تعالى والتزام بتعاليمه وعمل لمرضاته...

ـــ برأيكم هل يتناقض الصوم مع متطلّبات الدراسة، بكلمة أخرى هل يمكن للولد أن يدرس وهو صائم؟

يثير استغرابي أنّ بعض الحوزات العلمية تعطّل في شهر رمضان حتّى عندما يصادف شهر الصوم في الأيام الباردة، لأنّ الدراسة تطال النصف الأوّل من النهار وأكثر الناس لا يتناولون الفطور في العادة. وفي هذه الحالة لا يسبّب الصوم لهم أيّ جوع أو عطش يمنعهم من الدراسة. ولعلّ التجربة الموجودة في كثير من المدارس الأكاديمية الإسلامية دلَّت على نجاح تجربة الصوم والدراسة معاً فالطلاّب يصومون ويدرسون في آنٍ معاً دون أنْ يؤثّر الصوم على الدراسة أو العكس. وليست الدراسة أكثر صعوبة في شهر رمضان من العمل. إذ نرى كثيراً من الناس الذين يعملون في المصانع والمزارع وما إلى ذلك يواصلون عملهم بشكلٍ طبيعي مع الصوم حتّى في أيّام الحرّ.

وليست العطلة في شهر رمضان أحد مظاهره اللازمة بل هي مظهر سلبي فيه. لأنّ شهر الصوم يستدعي أن يصلّي الإنسان في أوقات الصلاة ويدعو في أوقات الدّعاء ويعمل في أوقات العمل، وليس هناك برنامج خاص بذلك، فيمكن للإنسان أن يدعو وهو في السيارة وهو في المدرسة أو في أيّ مكان، علماً بأنّ معظم المدارس الإسلامية تلتزم في هذا الشهر دواماً مختصراً من شأنه أنْ يخفّف من وطأة الصوم بعض الشيء.  

الاختلاط داخل المدرسة

ـــ في ظلّ الانفتاح الموجود في العلاقات بين الذكور والإناث، كيف يمكننا تدريب الولد والبنت، وهما على مقاعد الدراسة، على عدم الاختلاط منعاً لوقوعهما في الانحراف؟

ليست المشكلة هنا في الاختلاط أو عدمه بل في كيفية منع أولادنا من الانحرافات الجنسية، وهنا تلعب الثقافة الجنسية دوراً هامّاً في منع الانحراف بشرط أنْ تتمّ بأحدث وأدقّ الوسائل العلمية التي تجعلها ثقافة تخاطب وعي الإنسان لجسده أكثر ممّا تخاطب غرائزه، ثمّ بعد ذلك يأتي دور الجوّ الأخلاقي والروحي الذي يفترض أن نخلقه لمقاومة الواقع الذي يعيشه جيل اليوم وهو واقع حافل بالمشاهد التي توحي بالجنس في البحر أو التلفاز. إنّ مشكلتنا الحقيقيّة ليست في الاختلاط بل في أنّنا نحاول نقل التجربة الغربية إلى مجتمعاتنا، مع اختلاف المفاهيم خاصّة في ما يتعلّق بالحريّة الجنسية التي اعتبرتها المجتمعات الغربية حقّاً طبيعياً يشكِّل وضع الحواجز أمامها، سواء كانت قانونية أو اجتماعية ضغطاً على حريّة الإنسان تماماً كما هي الحريّات الاجتماعية والسياسية. بينما ترى مجتمعاتنا أنّ ممارسة الجنس مرتبطة بالزواج، لذلك يصبح نقل التجربة الغربية إلى واقعنا مع الإصرار على الخطوط الأخلاقية والروحية التي تؤكّد على الزواج إطاراً وحيداً للجنس، يصبح مصدراً لحالة من الارتباك بين القِيَم المختزنة في الوجدان والواقع، وهذا ما يتجلّى في ما يسمّى بجرائم الشرف وغسل العار.. عندما يطلق الأب لابنته أو لزوجته أو لأخته حريّة الاختلاط بالجنس الآخر من دون حواجز، فيفسح لها مجال البروز بكامل زينتها وبأحدث الأزياء وإذا أخطأت يقدّم جرعة من الشرف التي هو أحد صانعيها.

مشكلتنا أنّنا نحرّك قِيَمنا في بيئة لا تتناسب معها كمن يزرع نباتات السهل في الجبل أو العكس بدون أن يخلق لها الأجواء التي تتلاءم مع طبيعتها.

ـــ أنتم إذن مع تحديد مجال الاختلاط؟

نحن لسنا مع الفوضى، علينا أن نضع ضوابط مستمدّة من طبيعة القيمة التي نؤمن بها، والقيمة لدينا كالقانون الرادع، وهذه القوانين توضع من أجل المحافظة على النظام وعلى إنقاذ الإنسان من نفسه ومن غيره دون أنْ تخنقه.

لماذا نضع القوانين الصحيّة والبيئيّة ذلك لأنّ هناك مشاكل نريد تطويقها وحلّها.

إنّ علينا عندما نؤمن بقيمة مِنَ القِيَم أن نصنع المُناخ الذي يمكن أن تنمو فيه تلك القيمة ونضع الضوابط التي تمنع الفرد من الانحراف دون أن ندخل في تفاصيل تلك القيمة ومدى ضرورتها.

إذا ما اتّفقنا على قيمة مِنَ القِيَم، لا بدّ أن نضع ضوابط تحميها، وإلاّ فإنّ القيمة سوف تسقط، فالفوضى لا يمكن أن تكون وعاءً لحريّة الإنسان.

حتّى عندما يفرض علينا الاختلاط في أيّ وضع، علينا أن ننفذ إلى داخله لنضع الضوابط المناسبة، عندما نقرأ ما اجتمع رجل وامرأة إلاّ وكان الشيطان ثالثهما، لا نفهم منها أنّ الله يريد من الإنسان أن يفقد الثقة بنفسه، ولكن نفهم أنّه يريد إنقاذه من الأوضاع التي تتحرّك فيها الغريزة طبيعيّاً دون حواجز تعيق اتّجاه الإنسان نحو الانحراف.

ـــ هل يعني ذلك حرمة الاختلاط برأيكم؟

الأصل لدينا عدم الاختلاط، لكن لا مانع من الاختلاط الإنساني الذي يعطي الأنثى والذكر مجال الاشتراك في التجربة الإنسانية دون أن يكون للأنوثة والذكورة مدخليّة في ذاك الاختلاط، بل يكون الأمر مختصراً على مسألة اللّقاء التلقائي الذي تفرضه طبيعة الحياة بين الناس سواء أكان ذلك باختيارنا أم لا.

إنّ الذين يقولون إنّ الاختلاط ضرورة بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، نقول لهم إنّ علينا أنْ نطرح عدم الاختلاط كعلاج للانحراف، ونقدّم لهم هذا العلاج كتجربة جديرة بأنْ تكون نموذجاً صالحاً للاقتداء من قبلهم.

ـــ ما هي سلبيات وإيجابيات كلّ من المدارس المختلطة وغير المختلطة؟

في سنّ المراهقة تبدأ حالة الانجذاب الغريزية بين الجنسين ممّا قد يؤدّي إلى خلق عقدة لدى الذكر من الأنثى أو العكس بسبب الحواجز التقليديّة التي تمنع أحدهما من الاتّصال بالآخر جنسياً على الرغم من تواجدهما في مكانٍ واحد، الأمر الذي يخلق في المدرسة حالة طوارئ جنسية تترك تأثيراً سلبياً ليس فقط على الجانب الأخلاقي عند الفتاة والشاب، بل على أدائهما الدراسي أيضاً، في هذا الإطار يمكن أن نضع عدم مقبولية الاختلاط في المدارس. فالإسلام عندما يقرِّر منع أيِّ شيء فإنّ ذلك يأتي عن دراسة الجوانب الإيجابية والسلبية فيه، وفي مسألة الاختلاط تتفوَّق الجوانب السلبية على الجوانب الإيجابية لاسيّما مع تطوّر الأزياء وتكاثر المظاهر الخليعة في المجتمع، ممّا قد يخلق في المدرسة حالة إثارة دائمة.

الإسلام لم يحرِّم الاختلاط من حيث المبدأ، إنّما حرَّم نوعية الاختلاط التي قد تؤدّي إلى الإثارة الممهّدة للأفعال المحرّمة.

ـــ يقال إنّ المدارس غير المختلطة هي مدارس معقّمة وخروج الطلاب الذين يدرسون فيها إلى العالم الكبير يشكِّل مأزقاً حقيقياً بالنسبة لهم؟

إنّي لا أتصوَّر أنّ المجتمع غير المختلط هو مجتمع مكبوت حاضر للتفجّر في أيّة لحظة بحيث يمثّل مشكلة في المجتمع. إنّ المجتمع المعقّم ينأى بالطالب عن أيّة حالة طوارئ جنسية، بحيث لا يشعر بأيِّ مشاكل نفسية غريزية جسدية وهو في دائرة الدراسة. فيما قد يشكّل الاختلاط في مرحلة استيقاظ الغرائز مشكلة قد تبعد الطالب عن دراسته.

فنحن لا نلاحظ عند مَنْ تربّوا في مجتمعات منفصلة حالة من الكبت بالمستوى الذي وضعهم في دائرة الخطر. إنّ الكبت يولَد عندما نفتح أمام الإنسان النافذة التي تطلّ على غرائزه ونقدّم له عناصر الإثارة ونمنعه من التحرّك نحوها بحريّة. إنّ الكبت لا يتحرّك من خلال فصل الجنسين عن بعضهما، إنّما من منع الجنسين من إشباع الغريزة عندما يلتقيان.

إنّنا نعتقد أنّ المجتمع المنفصل يخفّف من الكبت الذي يحصل في المجتمع المختلط لاسيّما إذا كان مجتمعاً محافظاً في المسائل الجنسية.

قد يقول قائل هذا حديث الماضي، أمّا حديث الحاضر فيرى أنّ اختلاط الذكر بالأنثى في المدارس والمسابح والنوادي يسقط الكبت لأنّ كلّ جنس ينفتح على الجنس الآخر ويعرف أسراره الجسدية وما إلى ذلك، لكنّنا نعتقد أنّ هذا الاختلاط الواسع والمعرفة بجسد الآخر لا يمكن أن يمنع الكبت إلاّ إذا قلنا بالحريّة الجنسية التي تبيح للإنسان كلّ شيء، بحيث يستطيع ذكراً كان أم أُنثى أنْ يتحرّك بجسده كيف يشاء.. لكنّ حلّ مشكلة الكبت بالحريّة الجنسية سوف يخلق مشاكل أخرى تؤثّر على توازن المجتمع وعلى الضوابط التي تحكم العلاقات فيه، وهي مشاكل أكثر حدّة من الكبت، وبما أنّنا كمسلمين لا نؤمن بالحريّة الجنسية لا بدّ إذن أنْ نهيّئ الضوابط التي تقنّن غريزة الذكر والأنثى معاً.

وإذا كان إيجاد هذه الضوابط التي تقنّن غريزة الإنسان في علاقاته مع الآخر أو في معاملاته أو في نظامه الاجتماعي أو السياسي يمكن أن يخلق مشكلة ما، فإنّ الكلام يبقى عن حجم هذه المشكلة مقابل حجم المشكلة التي يخلقها التحرُّر الجنسي الكامل. إنّ القرآن الكريم في نظرته إلى أيّ مسألة يوازن بين الإيجابيات والسلبيات، وكلّما كانت الإيجابيات أكثر، كان الموقف الشرعي إيجابياً، وكلّما كانت السلبيات أكثر كان الموقف الشرعي سلبياً. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّنا نعاني من مشكلة حقيقيّة سببها النظام الاجتماعي العام، حيث نجد أنّ بعض مَنْ يُؤمنون بالقِيَم الأخلاقية يتّبعون أسلوباً حياتياً يُهدِّدُ القِيَم التي يلتزمون بها، كما هي حال مَنْ يعتبرون أنّ انحراف الفتاة على سبيل المثال يشكِّل طعناً لشرفهم وأنّ شرف العائلة من شرف البنت وما أشبه ذلك. مع ذلك يسمحون لبناتهم بالخروج بشكلٍ مثير للشاب، وشبيه ذلك قول الشاعر:

ألقاهُ في اليمِّ مكتوفاً وقال له              إيّاكَ إيّاكَ أنْ تبتلَّ بالماءِ

ـــ في ظلّ وفرة المعلومات الجنسية بالانترنت ألاَ ترون أنّه من الأجدى أن ندرِّب أبناءنا على الاختلاط بدلاً من أن نفرض عليهم قوانين صارمة؟

إنّ الاختلاط في الإسلام ليس محرَّماً، لذلك نجد أنّ الناس يختلطون في صلاة الجماعة ويختلطون في الحجّ في المسجد الحرام، ويختلطون في الأسواق. ونجد أنّ النبيّ كان يُخرِج النساء معه في الحرب ليداوين الجرحى ويسقين العطشى وما إلى ذلك. وأنّ النساء كنّ يأتين إليه ويسألنه ويجلسنّ إليه ويتحدَّثن معه، على هذا النحو استمرّت الحال مع الأئمّة والعلماء. أمّا الاختلاط في المدارس فقد يسمح به في سنّ معيّنة، وهو سنّ الطفولة، ولكن عندما يصل الأولاد إلى مرحلة المراهقة فإنّ التماس بين الجنسين مع كلّ الأجواء غير المحتشمة السائدة ربّما يترك تأثيرات صعبة على ذهنية البنت أو الولد، لأنّ كلّ واحدٍ منهما يرى في الآخر من يلبّي غريزته دون أن يملك حريّة التحرّك نحوه. إنّني أتصوَّر: أنّ الاختلاط في هذه السنّ قد يخلق للمراهقين مشاكل تفوق في حدّتها المشاكل التي يمكن أن يخلقها عدم الاختلاط من مشاعر سلبية تجاه الجنس الآخر.

ـــ إذا لم تكن المعلِّمة ملتزمة دينياً وخاصة بالحجاب لكنّها تملك الكفاءة العلمية، هل ينتقص ذلك من أهليتها كمعلِّمة، وهل يؤثّر عدم التزام المعلمة بالحجاب على التلاميذ برأيكم؟

قد يترك عدم ارتداء المدرِّسة للحجاب بعض التأثير السلبي على الطالبات، كونه يحثّهن على محاكاتها بذلك، وعلى الطلاب كونه قد يستحضر حساسيّتهم الذكوريّة، لكنّ ذلك التأثير لا ينتقص من أهلية المدرِّسة التعليمية والتربوية، إلاّ إذا كانت تدرّس في مدرسة إسلامية، حيث يبرز التناقض بين ما تقدّمه المدرسة من مفاهيم وما يلتزم به مدرّسوها من سلوك.

التربية الجنسية داخل المدرسة

ـــ كيف تنظرون إذن للتربية الجنسية داخل المدرسة وهل توافقون على إدخالها كمادّة في المقرّرات المدرسية؟

نحن لسنا ضدّ التربية الجنسية في المدارس، وفي أيّ موقع من مواقع الحياة، فنحن نلاحظ أنّ الآيات القرآنية والمصطلحات الفقهية تتناول الجنس كحاجة طبيعيّة من حاجات الإنسان، ولكن قد يترك تدريس الجنس في الأجواء المشحونة بالإثارة الجنسية، في بعض مراحل العمر تأثيراً سلبياً على مَنْ يتلقّاه، وهذا ما نلاحظه في أطفال اليوم الذين تنفتح ميولهم الجنسية في سنّ مبكرة جدّاً، محاكاة لما يطّلعون عليه من الأفلام التلفزيونية أو الفيديو، أو محاكاة للوالدين عندما يطّلعون صدفة على علاقتهما الحميمة وما إلى ذلك، لهذا لا بدّ أن نكون دقيقين جدّاً في إيصال المعلومات الجنسية إلى الطفل، وهنا أريد أن أؤكّد على هذه الكلمة، فالمطلوب هو الحذر والدقّة فوق العادة، حتّى لا يكون تعليم الجنس في سنٍّ مبكرة وسيلة من وسائل إيقاظ حاجة الطفل الجسدية قبل الأوان دون أن يكون مهيّأ لإشباع تلك الحاجة بالطريقة السويّة. ونحن في كلامنا هذا نقصد المرحلة التي يملك فيها الطالب أو الطالبة وعي الجنس، أمّا في مرحلة ما بعد البلوغ فقد لا تكون هناك مشكلة في التربية الجنسية إذا أحسن المعلِّم تدريس الجنس بأسلوب علمي لا يؤدّي إلى أيِّ نوع من أنواع الإثارة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(7) واجبات الطفل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بين رضا الوالدين والإحسان إليهما

ـــ تركِّز بعض الآيات والأحاديث الشريفة دوماً على مسألة "رضا الوالدين" كيف تنظرون إلى ذلك من ناحية عملية؟

ليس المطلوب من الابن إرضاء الوالدين أو إطاعة الوالدين بل الإحسان إليهما، وعملية الإحسان هي عملية رسالية تربوية تمثِّل انفعال الإنسان بما يقدّمه الآخر إليه من رعاية وحماية واحتضان وخدمة وتضحية وإحسان. وهذا ما عبَّرت عنه الآية الكريمة {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن : 60]. فالإحسان مسألة إنسانيّة تفرض على كلّ فرد من موقع إحساسه الإنساني أن يستشعر إنسانية الآخر في نفسه. ولذلك ينبغي لنا دائماً أنْ نؤكّد في عقل الطفل وفي قلبه، على القيمة التي يمثّلها الأب والأم في حياته، باعتبار أنّهما أساس وجوده، وباعتبار أنّهما القيّمان على رعايته واحتضانه بكلّ ما يتضمَّنه ذلك من تضحية من أجله، فهما كانا يسهران لينام ويجوعان ليشبع، ويتعبان ليرتاح وما إلى ذلك من مفردات الإحسان الأبويّ أو الأموميّ. وهذا ما عالجه القرآن بطريقة تستثير شعور الابن الإنساني في علاقته بأبويه حيث يقول تعالى: {... إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا...} حتّى لو آذياك {... وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء : 23] ليكن ردّ فعلك حيال ضيقك منهما إذا ما أزعجاك كردّ فعلهما حيال تنغيصك المستمرّ لحياتهما في أوائل حياتك، عندما كانا يتلقّيان صراخك في وجههما بالقبلات.. {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ...} [الإسراء : 24]. إنّ هذه الفقرة توحي بأنّ العلاقة بالأب والأم تقع خارج إطار العلاقات الإنسانية العادية، فهي لا تستدعي منه الثأر لكرامته في حال تعرّضه للأذيّة النفسية، لذا على الطفل أن يمارس حيال والديه الذلّ العمليّ دون أن يشعر بامتهان كرامته، تماماً كما كان الأبوان أنفسهما يذلاّن أمامه عندما كان في صغره يضربهما أو يدفعهما أو ما أشبه ذلك، هذا النمط من الذلّ هو ذلّ الرحمة {... وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء : 24].

لذا على المربّي، أنْ ينمّيَ في الطفل حالة الإحسان إلى والديه كردّ فعل لإحسانهما، وذلك باستحضار كلّ تاريخ حياته معهما، وتاريخ رعايتهما له. هكذا يدخل إرضاء الوالدين بوصفه نوعاً من أنواع الإحسان، يكبت فيه الابن رغباته ويستغني عن بعض حاجاته من أجل إشباع رغبات الأبوين أو من أجل تلبية حاجاتهما، ولكنّ هذه الطاعة المستحبّة للوالدين وهذا الرضا المرغوب فيه ليس أمراً مطلوباً في جميع الأحوال، بل في حدود بحيث لا يكون فيه معصية لله، ولا يكون فيه تدمير لحياة الابن وشخصيّته، ولا يكون فيه إساءة إلى الأبوين من ناحية أخرى، وأنْ لا يكون فيه ضغط عليه أكثر ممّا لا يتناسب مع مصلحته.

إنّ البرّ بالوالدين ليس عملية إلغاء لشخصية الولد أو إلغاء لمصالحه، وتحويل شخصيّته إلى صدى لشخصية الوالدين واعتبار نفسه ظلاًّ لهما، لأنّه لا يجوز أن يُربّى الولد على أن يكون صورة منسوخة عن والده، أو تكون البنت صورة منسوخة عن أُمّها. لا بدّ أن نعين الولد على اختيار صورته بالاستفادة من بعض ملامح الصورة الوالديّة، أو الأموميّة بما يخدم حياته، لكن يجب أن يصنع الولد صورته بنفسه مستعيناً بما يرتاح إليه أو يقتنع به من صور الآخرين أو ما يقتنع به في نفسه.

ـــ يتمرَّد بعض الأولاد على فكرة الإحسان للوالدين هذه ويعتبرونها قيداً لا يطيقونه، وحجّتهم في ذلك أنّهم خُلقوا دون أن يختاروا ولادتهم وبالتالي هم ليسوا مسؤولين عن ردّ الجميل على تربيتهم ورعايتهم فيقولون مثلاً: "أنتم أنجبتمونا وعليكم أن تُرَبُّونا، كيف يواجه الأهل هذه الأفكار؟

لا بدّ لنا أن نُفهِم الولد أنّ مسألة الخلق ليست مسألة اختيارية، يقوم بها أيٌّ كان سواء الوالدان أم الأولاد، وبالتالي فإنّ تحمُّل الأهل مسؤولية رعاية الأولاد، لا يأتي في إطار مسؤوليّتهم عن خلقهم، لأنّ مسألة الخلق جزء من القوانين الكونية، بالتالي فإنّ الإنسان قد يستقبل مِنَ الحياة ما يخالِف رغباته، لذلك يمكن أن نقول لهؤلاء الأولاد إنّ بإمكانكم أن تعطوا لخلقكم معنى يشارك في تقدّمكم وفرحكم وتحقيق كثير من الأحلام لكم، وذلك بأنْ تتعاونوا مع والديكم تماماً كما تتعاون النبتة مع الفلاّح الذي يريد أن يسقيها ويشذبها ويبعد عنها كلّ العناصر الضارّة. إنّ إطلاق هذه الكلمات من قِبَل الأبناء، لا يعبّر عن حالة وعي حتّى بمعناه الطفولي، بل هو مجرّد ردّة فعل ساذجة سببها حالة ضيق يعيشها الولد جرَّاء فرض رغبة أو عمل ما من قِبَل الأهل عليه. إنّ علينا في هذه الحالة أنْ نفسّر له بطريقة طفولية دوافع طلبنا منه شرب الدواء أو اللّجوء إلى الفراش للنوم، والإيحاء له بما حقّقناه له من راحة عبر ذلك.

ـــ بما أنّ موضوع رضا الوالدين هو إحدى مفردات الآداب الإسلامية، كيف ترون انعكاس تطبيقه أو عدمه على الأسرة وعلى المجتمع الإسلامي ككلّ؟

لا بدّ أن نفصل الجانبين الإيجابي والسلبي أحدهما عن الآخر في هذه المسألة، ففي الجانب الإيجابي يعطي رضا الوالدين طابعاً حميميّاً لعلاقة الأولاد مع الأب والأُم ويدعم تماسك الأسرة، حيث تبدو الأسرة كخليّة يقودها شخص ويحضنها شخص، ويتحرّك في إطار هذه القيادة والحضانة الأولاد. ومن هنا فإنّ عمل أفراد الأسرة الواحدة على إرضاء بعضهم البعض، يقوّي الروابط العاطفية ويبسِّط العلاقات الأسريّة، ويجعلها أكثر راحة وسلامة.

أمّا الجانب السلبي من رضا الوالدين، فإنّه يمنع الولد عند خضوعه التام لهذا الشعور، من تنمية شخصيّته المستقلّة واختيار طريقة حياة وطريقة تفكير خاصّة بحيث يصبح مجرّد صدى للآخر. وهو مفعول سلبيّ جدّاً لمفهوم الرضا.

لذلك لا بدّ أن نجرِّد هذا المفهوم من معنى الانسحاق أمام الآخر خوفاً من غضبه. بل لا بدّ لنا برأيي أنْ نستبدل مفهوم الرضا الذي ينفي شخصية الفرد ويجعل كلّ حياته مكرّسة لإرضاء الغير بمفهوم الإحسان، حيث تكون العلاقة مع الآخر قائمة على الإحساس بإنسانيّته، وبما قدّمه هذا الآخر من عناصر ساهمت في تنشئة الطفل وفي تحويله إلى إنسان قادر على الاستقلال بحياته.

فالمجتمع الذي يُربّي أفراده منذ الطفولة على أن يكون إرضاء الآخر قيمة عليا لديهم سوف يتحرّك سياسياً واجتماعياً وسلوكياً تحت تأثير الآخر، لأنّ إرضاء الآخر والخوف من إزعاجه وإهماله هو عقدة تجعل الآخر كلّ شيء بالنسبة لي، وتحمل الآخر على اجتياح عقلي وقلبي وكلّ حياتي، فلا أعلن عن رغبة ضدّ رغبته ولا أختار فكراً ضدّ فكره ولا أتحرّك أيّة حركة ضدّ حركته لأنّ ذلك يغضبه ولا يرضيه.

لذا فإنّ عقدة إرضاء الآخر تشكّل حاجزاً يعرقل نمو الطفل ويعيق تطوّر شخصية الشاب الذي تتركَّز في داخله هذه القيمة الخضوعيّة وتستمرّ معه طوال الحياة، ولعلّ خضوع بعض الشعوب للأقوياء، سواء كانوا من داخل مجتمعهم أو خارجه، يعود إلى هذه التربية على الطاعة وعدم إزعاج الآخر.

ومن نافل القول الإشارة إلى أنّ التوجيه الإسلاميّ لاحظ هذه المسألة في بعض الدوائر الاجتماعية التي يحاول فيها البعض إرضاء الآخرين بتقديم التنازلات لهم {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ...} [البقرة : 120]. إذا كان هاجسك أن يرضى عنك اليهود والنصارى، وهما نموذجان يمكن أن نوسّع دلالاتهما إلى ما يتجاوز هاتين الدائرتين، فإنّ الآخرين لا يرضون عنك إلاّ إذا ألغيت فكرك وإرادتك أمام فكرهم وإرادتهم، بمعنى أن تلغيَ نفسك. وكأنّه يقول لا تلغِ نفسك إنْ كنتَ تؤمن بما يتنافى مع ما يؤمن به الآخرون، فلن يرضى الآخرون إذا ما كانوا يلتزمون فكراً وخطّاً مختلفاً إلاّ عمّن يلتزم هذا الفكر وهذا الخطّ كاملاً.

ـــ ألاَ ترون أنّ من واجبنا كآباء ومربّين التأكيد على مفهوم رضا الوالدين، مجدّداً كي لا تصاب العائلة المسلمة بالشرخ الداخلي الذي أصاب الأسرة في الغرب؟

علينا أوّلاً أن لا نخلط المفاهيم بطريقة مسيئة إلى الطفل والتربية، فعندما نتحدّث عن إرضاء الوالدين قد يمتدّ ذلك ليأخذ شكل القيمة الدينية المقدّسة. الأمر الذي قد يؤدّي إلى نوع من الضغط النفسيّ الشديد على الولد عندما يفرض الوالدان على الولد فعلاً ليس في مصلحته. إنّ أكثر الاتّجاهات شيوعاً لدى الآباء والأُمّهات في تربية أولادهم رغبة الأهل في جعل أولادهم صورة لهم، وسعيهم إلى فرض رغباتهم وأفكارهم الخاصّة على الأبناء. كما هو الحال في مجتمعنا التقليدي، حيث يفرض الأب أو الأم على الولد أو البنت زوجة معيّنة أو زوجاً معيّناً، إمّا من خلال التركيز على شخص معيّن أو على مواصفات معيّنة. أو كما في حال الأب الذي يريد أن يكون ابنه امتداداً له في عمله أو وظيفته أو ما إلى ذلك. لذلك إذا قلنا: إنّ رضا الوالدين بذاته مطلوب في التربية، فإنّ الولد عند ذلك قد يتخيَّل أنّ الله يغضب عليه إذا لم يستجب لرغبة أُمّه أو أبيه فيشعر آنذاك أنّه يعيش دماراً في حياته بأسرها.

لذا نقول إنّ علينا كمربّين عندما نريد غرس قيمة معيّنة في نفس الولد، لاسيّما إذا كان لهذه القيمة عنوان الفرض الدينيّ، الذي يشعر معه الإنسان بأنّ الانحراف عنه يغضب الله، لا بدّ أنْ نحدِّد هذه القيمة بدقّة، والقرآن الكريم يعطي لهذه القيمة معنى حدَّده بالإحسان إلى الوالدين.

أمّا خضوع الولد للوالدين فأمر يتوقّف على أسلوبهما في التأثير على نفسية الولد، ونحن لا ننصحهما بأنْ يعملا على التأثير في نفسية الولد بالمستوى الذي يصادر شخصيّته.

ـــ هل يقف موضوع رضا الوالدين عند حدود رضا الله، وبالتالي يصبح أنّ رضا الله هو الضابط الوحيد لإرضاء الوالدين..

في موضوع رضا الوالدين هناك ضابط يتعلَّق بالله كما "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا...} [العنكبوت : 8]. وضابط آخر يتعلّق بالولد نفسه كما هو الحال عندما يطلب الوالدان من ابنهما أمراً ليس محرَّماً ولكنّه على خلاف رغبته أو مصلحته. كأنْ تطلب الأُم من ولدها تطليق زوجته أو أنْ يتزوّج ابنة أخيها أو ابنة أختها، أو أن يطلب الأب من ولده أنْ يتخصَّص في الطبّ وكانت مصلحة الولد تقتضي أن يتخصَّص في الهندسة، وأصرّ كلّ منهما على تنفيذ طلبه، فهذه أمور مباحة وليست محرَّمة، وليس في عملها أيّ معصية لله، مع ذلك ليس من واجب الابن إطاعة والديه فيها، فلو أنّا غرسنا في نفس الولد أنّ عليه أن يرضي والديه فيما يريدانه منه وأن يحقّق رغباتهما الشخصية، حتّى لو كانت غير مناسبة له، ما دامت مباحة، فإنّ الولد في مثل هذه الحالة قد يعيش اضطراباً بين تلبية رغباته الخاصّة وتحقيق مصالحه وبين تلبية رغبة والديه.

لكنّنا إذا قلنا: إنّ المراد هو الإحسان إلى الوالدين، أي مراعاتهما سلوكاً وشعوراً فإنّ الأمر يختلف تماماً. فالقيمة الإسلامية تكمن في رعاية الوالدين، حيث يكون من واجب الولد حفظ كرامتهما واحترام مشاعرهما وليس جعلهما مصدراً تشريعياً يفترض به طاعتهما كما يفترض به طاعة الله ورسوله. إنّ علاقة الوالدين بالولد يجب أن تبتعد عن الطاعة الشخصية، فليس للأب أو الأم موقع تشريعيّ يمثّل عدم الانسجام مع أيٍّ منهما معصية لله، إنّ الجانب القاسي في هذه المسألة هو العقوق، والعقوق هو عبارة عن إيذاء الوالدين من جهة إحساسهما بالوالدية خصوصاً، وهذا ما يعبّر عنه "بالأوامر الإشفاقية"، كما هو الحال بالنسبة للأب والأُم عندما يمنعان ولدهما من موقع خوف الأبوّة والأمومة على حياته من الذهاب إلى الأماكن الخطرة.

أمّا الأوامر التنظيريّة التي تتّصل بعلاقة الابن بالناس وبحياته وبرغباته الخاصّة فلا علاقة للأب والأُم بها.

بعبارةٍ أخرى ومختصرة: إنّ علاقة الولد بالأبوين مسألة تتّصل بالأبوين لا بالولد، ففي الوقت الذي يقال للولد إرعهما، حافظ عليهما، اخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة، برَّ بهما، أحسن إليهما. لا يفترض أن نقول له: تنكَّر لكلّ أحلامك ولكلّ رغباتك ولكلّ تخطيطاتك في المستقبل لمصلحتهما! بل نقول له إذا بدأت بالتفكير استشر أبويك، وإذا طلبا منك شيئاً تشعر أنْ لا مصلحة لك فيه حاورهما وناقشهما. وفي المقابل نقول للآباء والأُمّهات ناقشوا أولادكم، أقنعوهم.

ـــ ورد في الحديث: يلزم الوالدين من العقوق لولدهما ما يلزم الولد لهما من عقوقهما. وهل يمكن أن يكون الوالدان عاقين لولدهما؟ وكيف؟

لعلّ المقصود من عقوق الوالدين لولدهما عدم القيام بحقوقه الصحيّة والتربوية والأخلاقية التي تؤهّله ليكون صحيح الجسد والعقل والقلب والسلوك هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فربّما يشير الحديث إلى الأساليب العنيفة التي يستعملها الوالدان ضدّ الولد بما لا يجوز لهما شرعاً، ممّا يجعله في حالة من التعقيد ضدّ والديه انطلاقاً من ردّ الفعل النفسي لديه على أسلوبهما السلبي ممّا يمنعه من الإقبال على البرّ بهما والإحسان إليهما كأيّ إنسان يسقط نفسياً تحت تأثير قهر الآخر له وظلمه له.

ـــ عند الحديث عن التربية يتركَّز البحث على حقوق الطفل، ماذا عن واجبات الطفل، وهل هو مجبر على خدمة أهله في المنزل؟

ليس الأبناء مجبرين على ذلك، ولكن على الأهل أن يدرِّبوا الولد ـــ سواء كان ذكراً أو أنثى ـــ على التعاون مع الغير بحيث يَخْدِم غيره وليس العكس، لأنّ تكليف الولد أو البنت ببعض الأعمال المنزلية التي لا تثقل طفولتهما، يؤكّد انتماء الولد إلى البيت، من موقع المشاركة فيه. ثمّ يستحسن أن نعلِّم الولد على التعاون مع الأرحام من الدرجة الثانية ومع الناس عموماً، لأنّ مثل هذا الأمر يخفّف تمركز الولد حول ذاته ويخفّف من أنانيّته وينمّي فيه حسّ الغيريّة، حيث يشعر أنّ عليه تقديم شيء من جهده للآخر، لاسيّما إذا كان أباً أو أُمّاً أو ما إلى ذلك.

ـــ بعض الأهل يلزمون أبناءهم بالخدمة ارتكازاً على فكرة الطاعة، وليس ضمن عنوان التدريب، ما رأيكم بهذا السلوك؟

عندما يكون الابن طفلاً تحت ولاية الأب، لا يجوز للولي أن يوظِّف سلوك الولد لمصلحته الشخصية أو لمصلحة أيّ شخصٍ آخر في البيت أو خارجه بعيداً عن مصلحة الولد نفسه. لذلك نقول إنّ استخدام الولد في شؤون المنزل، لا بدّ أن يأتي ضمن ما تقتضيه مصلحة الولد من وراء ذلك وليس مصلحة أيّ شخصٍ آخر.

ـــ ورد في الحديث: رَحِمَ الله مَنْ أعانَ ولده على برّه وهو أنْ يعفو عن سيّئته ويدعو له فيما بينه وبين الله. هل العفو عن سيّئته يعني قبول الخطأ منه أم ماذا؟

الظاهر أنّ المقصود هو العفو عن السيّئة بالإيحاء له بأنّ الخطأ الصادر منه ناتج عن ضعفه، الذي يمكن اغتفاره كوسيلة من وسائل تشجيعه على التراجع عنه في المستقبل بالتوبة عنه، لأنّه ممّا يسيء إليه في حياته وبعبارة أخرى: إنّ العفو عن الخطأ لا يعني إقراره عليه بل الابتعاد عن أسلوب القسوة في مواجهته.. فلا يحسّ الولد بالخوف منه بل بالمحبّة له، وهذا ما يدفعه إلى برِّ أبيه بما يمنحه من حنانه، أمّا الدعاء فيمثّل حالة الأب أو الأم في لهفته في الرغبة في صلاح ولده بحيث يكون حاجة روحية يرى منها الله ليساعده على تنشئة ولده تنشئة صالحة بلطفه ورعايته، ممّا يعمّق في نفسه الشعور بالحاجة إلى التخطيط في ذلك.

ـــ من واجب الابن على والديه الاحترام، هل يتضمّن ذلك الاحترام طريقة المناداة، ففي الغرب درجة العادة أن ينادي الابن والده باسمه هل ترى في ذلك عدم احترام للوالد؟

إنّنا نستوحي من الحديث عن الحسين بن عليّ (عليه السلام) عن أُمّه فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين (عليها السلام) قالت فاطمة بعد نزول هذه الآية: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً...} [النور : 63] فَهِبْتُ النبيّ أن أقول له: يا أباه فجعلت أقول له: يا رسول الله فأقبلَ عليَّ وقال لي: يا بنيّة لم يتنزّل فيكِ ولا في أهلك مِن قبل.

قال (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): أنتِ منّي وأنا منكِ وإنّما نزلت في أهل الجفاء، وإنّ قولك أباه أحبّ إلى قلبي وأرضى للربّ. إنّ من أدب الإسلام أن ينادي الولد أباه بعلاقة الأُبوّة ـــ يا أباه وما أشبه ذلك ـــ لأنّه يثير معناها في القلب ويؤكّد الرابطة الحميمة التي تربط بينهما فيحسّ الأب ـــ في كلّ نداء ـــ بأبوّته بكلّ عاطفيّتها ومسؤوليّتها ويحسّ الابن بذلك بكلّ ما للأب عليه من حقّ.. وتبقى لهذه النبضة الإنسانية فاعليّتها وإيجابيّتها في نطاق التذكير بالمعنى الإنساني العضوي فيها بينما لا يمثّل النداء للأب بالألقاب العلمية أو الاجتماعية أو الرسمية أيّ معنى في إنسانية الموقع بل ربّما يترك تأثيراً سلبياً حيث تفقد العلاقة معناها في النفس لأنّ اللّقب أو الاسم الشخصي قد يتحوّل إلى حاجز نفسي بينهما في الإيحاء بالجانب الرسمي في ذلك. وفي ضوء ذلك يمكن امتداد الأمر في مناداة الولد لأمّه بكلمة يا أُمّاه أو في مناداة الوالدين لولدهما يا بنيّ أو في مناداة الأرحام لبعضهم بما يوحي بعنوان الرحم، وينبغي التعمّق في الكلمة النبويّة الشريفة "إنّ قولكِ يا أباه أحبّ إلى قلبي وأرضى للرب" فإنّها توحي بأنّ هذا النداء الحميم يفتح القلب على العاطفة ويملؤه بالحنان ويرضي الله بما يوحي به من إحساس الولد بالنبوّة بمناداة الأب بالأبوّة من خلال النتائج الشعورية والعملية التي تلتقي بالشكر لله على هذه النعمة والطاعة له في مسؤوليّتها في توثيق العلاقة.

ـــ يحاول بعض الأهل أن يطبّقوا ما نشأوا عليه من عادات، كأنْ يحملوا أولادهم على النوم في ساعة محدّدة وعلى تقبيل أيديهم صباحاً، ما رأيك باعتماد الأساليب القديمة مع جيل اليوم؟

لا يستطيع الآباء اعتماد الأسلوب الذي تربّوا عليه صغاراً في تربية أبنائهم اليوم، لأنّ تطوّر أساليب التربية ـــ وهو أمر يحصل بسرعة هذه الأيام ـــ يبدّل من طبيعة تمثُّل الأولاد لما يُلقى إليهم، فمن الطبيعي أنْ لا نجعل الأولاد ونحن نربّيهم غرباء عن مجتمعهم، في قضايا التقاليد الاجتماعية، أو ما إلى ذلك مع التحفُّظ على الجانب الشرعي في هذا المجال. لذا لا بدّ لنا من التدقيق في تطوّر الأساليب التربوية والأوضاع الاجتماعية، فقد يكون النوم المبكر في الماضي ضرورة، لعدم وجود أيّ فائدة من السهر، جرّاء عدم وجود الكهرباء مثلاً. أمّا اليوم فنحن نعيش في عصر الكهرباء وفي عصر ثورة الاتصالات وما إلى ذلك ممّا يجعل السهر طبيعياً، ويجعل النوم المبكر على العكس من ذلك أمراً غير طبيعي، مع كلّ ما يمكن أنْ نسجّله من تحفُّظات على السهر من ناحية صحيّة ودراسية بالنسبة للصغار على سبيل المثال. وهكذا لا بدّ من أن لا نجعل الولد غريباً عن الجوّ العام في مجتمعه، فلا نفرض عليه تقاليد ما قبل خمسين سنة لأنّ المجتمع تغيَّر خلالها في كثير من أوضاعه وعلاقاته وأساليبه ووسائله.

أمّا مسألة تقبيل يد الوالدين فهي رمز للاحترام، وقد يكون لتلقين هذا السلوك تأثيرٌ إيجابيّ في نفس الأولاد لجهة تعزيز احترام آبائهم والكبار في السنّ عموماً. وهو سلوك يأتي تحت عنوان: "ارحموا صغاركم ووقِّروا كباركم".

لكنّ التعبير عن الاحترام للوالدين، لا يقتصر على أسلوب معيّن بل هو أمر يتبدَّل بتبدّل الظروف تبعاً للتطورات الاجتماعية المختلفة. من هنا فإنّ الاحترام الذي كان يجسّده تقبيل اليد سابقاً لم يعد كذلك اليوم، حتّى إنّ المجتمع أخذ ينأى عن تلقين هذه العادة إلى الأولاد باعتبارها تدريباً غير مقبول على الخضوع.

نحن نقول المهم هو تشبُّع نفسية الولد بقيمة الاحترام، بحيث تملأ روحيّته فيكونه الاحترام لديه حالة وجدانية وسلوكية في آنٍ معاً.

ـــ ورد في الحديث: من حقّ الوالد على ولده أن يخشع له عند الغضب. ما معنى هذا الحديث؟

الظاهر أنّ المراد به هو أنْ يحترم الولد غضب أبيه، فلا يعارضه أو يناقشه في تلك الحال، لأنّ ذلك قد يكون ناشئاً من أسباب حقيقيّة مقبولة أثقلت مزاجه وأخرجته عن طوره فقد يؤدّي المعارضة إلى زيادة المسألة تعقيداً وإساءة وإيلاماً، بما يوحي للوالد أنّ ولده لا يحترم مشاعره ولا يرعى أبوّته ولا يوقّر سنّه، هذا بالإضافة إلى أنّ الموقف السلبي من الولد في هذه الحال لا يؤدّي إلى أيّة إيجابية في حلّ المشكلة ومن جهةٍ أخرى فإنّ مواجهة الأب في حال غضبه قد تجعله يدخل مع ولده في جدال عنيف لن يكون في مصلحته، هذا مع ملاحظةٍ إيمانية أخرى وهي أنّ مثل هذه المواجهة تسيء إلى مبدأ الإحسان إلى الوالدين والبرّ بهما وتؤدّي إلى الإيذاء الذي قد يدخل في باب العقوق، وفي ضوء ذلك لا بدّ للولد في هذه الحال أنْ ينسجم مع كلمة الخشوع التي قد توحي بما توحي به الآية الكريمة بحسب النتائج وهو قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ...} [الإسراء : 24] من التذلّل له والرحمة به.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(8) حقوق الطفل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حريّة الطفل وحدودها

ـــ تؤكّدون على حماية الطفل من التبعية الفكرية والسلوكية للآباء ونحن نعرف أنّ الأهل يضطرون أحياناً إلى مصادرة آراء الولد، ألاَ يحقّ لهم ذلك؟

إنّني من الذين يشجّعون الحوار مع الأطفال، من أجل إقناعهم بما يُفرَض عليهم، أو بما نريد توجيههم إليه، لأنّ الاقتناع يعمّق الفكرة في النفس أكثر من الضغط. ولعلّ أهمية ذلك أنّ الولد، يبدأ منذ طفولته الأولى، يتحسَّس استقلال شخصيّته التي تقول "لا" و"نعم"، والتي تناقش ما يلقى إليها من أفكار  فتقتنع تارةً ولا تقتنع أخرى. قد يرى البعض في استخدام هذا الأسلوب أمراً سلبياً لأنّ الطفل لا يستطيع أن يفكِّر بشكلٍ مستقلّ، وقد يتعرّض في هذا الجوّ لتجارب تفوق طاقته نتيجة ثقته بنفسه.

لكنّني أتصوَّر أنّ باستطاعتنا أنْ نتفادى هذه السلبيات عندما نحسن أسلوب الحوار مع الأطفال، بحيث يكون بمستواهم وليس كما هو حال مَنْ يحاورون الأطفال كما لو كانوا كباراً. إنّنا نستحضر في هذا المجال القول المأثور: "مَنْ كان له صبيّ فليتصابَ له" يعني فليحدّثه وليحاوره كما يحاور الأطفال بعضهم، وليستخدم معه أساليب الإقناع التي يستخدمها الأطفال في إقناع بعضهم بعضاً، حتّى إذا وصل الحوار مع الطفل إلى ما يسمّى بالخطوط الحمراء أمكن الأب أنْ يتدخّل بأسلوبٍ ما لإشعار الولد بأنّه تجاوز حدوده. ومع التأكيد على ضرورة أنْ يتحرّك الحوار في إطار حكيمٍ جدّاً. فمع كلّ هذا السعي إلى تنمية شخصية الطفل وتشجيعه على التفكير والحوار والاعتراض والمناقشة، لا بدّ أن يحسّ الطفل بأنّه يعيش ضمن نظام مدروس داخل المنزل يشعر أنّه وُجِد لمصلحته، بحيث لا يقوده التمرّد في بعض الحالات إلى الفوضى، بمعنى أنّ على الطفل أن يشعر أنّ للبيت ضوابط ترعى مصالح أهله جميعاً، وليس من حقّه أن يثير الفوضى في أيِّ مكان في المنزل سواء المطبخ أم قاعدة الاستقبال وأنْ لا يرفع صوته ويزعج غيره وما إلى ذلك، وعليه أنْ يفهم أنّ ذلك السلوك لمصلحته.

إنّ مسألة الاحترام هذه تتعلّق بوجود فارق بين الكبار والصغار، لذلك لا بدّ لنا أن نستخدم الأسلوب الذي يمنع الطفل من استغلال الحريّة بشكلٍ يسيء إليه.

ـــ درجت العادة أن يواجَه الطفل بالاستنكار الشديد عندما يقول "أنا حرّ" ردّاً على طلب ما من أبويه، إلى أيّ مدى ترون الولد حرّاً فعلاً، ومتى ترونه عبداً؟

قد لا يعبّر إطلاق هذه الكلمة التي يستخدمها الأطفال أحياناً عن ذهنية متمرّدة راسخة لدى الطفل، لأنّ الولد قد لا يستوعب هذه الدلالة لكنّه يعبّر بهذه الكلمة عن رفض الالتزام بعملٍ معيّن يُعلن عن حريّته في عدم الإتيان به. وإذا كانت هذه الكلمة كلمة اجتماعية تعبّر عن التمرّد، فإنّ استخدام الطفل لها يُعبّر عن إحساس إنساني عام، حيث إنّ الإنسان عندما يُفرَض عليه من الخارج أيّ شيء لا ينسجم مع ما يحبّ ويرغب، يبادر إلى الإعلان عن حريّته في عدم القيام به أو عن حريّته في فعل ما يريد إذا كان ما يفعله أمراً مرفوضاً لدى الآخرين.

ولذلك، فإنّ هذه الكلمة تستخدم في حالات التمرُّد الطفولي أو التمرّد الإنساني، في مواجهة مَنْ يملك قوّة فرض الكلمة أو فرض الفعل. لكن ليس من الطبيعي، أن يواجه الأهل هذا القول في الحالات العادية بالضغط والقسوة، لأنّ القسوة لن تمحو التمرّد، بل ترسّخه، فهي تعمّق لدى الطفل الإحساس بالرفض الدائم بسبب إحساسه بالقهر. إنّ ردّ الفعل السليم على إطلاق هذه الكلمة برأيي يكون بمحاورة الطفل بالأسلوب الذي يتناسب مع قدرته على فهم ووعي الأمور، وذلك بتبيان المصلحة التي تكمن وراء مطالبته بالعمل المقصود إذا كان يُعلن عن رفضه له، أو في تركه أمراً ما إذا كان يفعل شيئاً مضرّاً به. إنّ ذلك هو الأسلوب الذي يمكننا إذا أحسنّا استخدامه، من نزع فكرة الرفض من ذهن الطفل فضلاً عن نزعها من حياته. بينما قد يساهم ردّ الفعل القاسي في إبعاد الرفض عن سلوكه لكنّه لن يتمكّن من إبعاده عن ذهنه. ودورنا بالنسبة إلى الطفل ليس فرض القبول عليه، ولكن إبعاد الرفض الدائم عنه كي لا يتحوّل إلى ذهنية الرفض في حال ازدادت قوّة الضغط عليه.

أمّا متى يكون الطفل عبداً، فأنا لا أستسيغ استخدام كلمة العبد في المجال الإنساني، فالإنسان يعيش العبودية أمام الله فقط، باعتبار أنّ علاقة الإنسان بالله لا يمكن إلاّ أن تكون العبد مع السيّد، لأنّ الإنسان هو خلق الله بكلّه وليس له شيء لذاته في ذاته أمام الله. بالتالي فإنّ تربية الطفل على أنّه عبد في علاقته بإنسانٍ ما هي تربية غير سليمة، حتّى أنّني أرفض أن يخاطب الإنسان من يملكون القداسة بأنّه عبدهم، وأنا لا أجيز من ناحية تربوية الإيحاء للأطفال بمعنى العبودية، أو دفع الطفل إلى التصريح أمامنا بأنّه عبد.      

قد نحتاج تربوياً إلى إشعار الطفل بوجود قضايا تتعلَّق بمصيره لا يملك الحريّة في أن يفعل أو أنْ يترك ما يشاء منها لاسيّما في المرحلة التي نركّز فيها عناصر شخصيّته. كما نحتاج لإشاعة الإحساس بالأمن لدى الولد، ولتسهيل انصياعه للأوامر، إلى أشعاره بقوّة موقع مَنْ يرعاه، ونفاذ إرادته مع التأكيد على احترام حريّة الطفل الذاتية في الاقتناع وذلك باستخدام الأسلوب الذي يشعر الولد أنّ انصياعه لأمر المربّي أباً كان أو معلِّماً نابع من إرادته الشخصية وليس من أمر صادر من فوق، بمعنى أنّ مَن هو فوق يقدّم الفكرة المطلوبة للولد بأسلوب يجعله يختارها.

حريّة الطفل داخل المنزل

ـــ تمثّل حاجة الأطفال الدائمة إلى اللّهو والحركة تهديداً مستمرّاً لأثاث المنزل ولنظامه الأمر الذي يزعج الأهل في مجتمعنا كثيراً إلى درجة يحملهم على قمع حركة الولد، ما رأيك بسياسة تقديم الحفاظ على الأثاث والنظام السائد في مجتمعنا على حقّ الولد باللّعب كأولوية؟

لا شكّ أنّ تربية الولد على النظام أمر حيوي لمستقبله، ولكن لا بدّ لنا من أن نمنح الولد مساحة واسعة يلبّي فيها حاجته إلى الحريّة، ولا بدّ من أن نؤمّن له ساحة للّعب واللّهو ونفتح له مجال اللّهو خارج البيت، مع ملاحظة أساسية وهي أنْ لا يخرّب حياته بلهوه وعبثه، لذا يفترض أن نعلِّمه احترام نظام البيت العام، فنطلب منه على سبيل المثال أن يرتّب سريره عندما يستفيق من النوم، وأنْ لا يقفز فوق السرير، بل يلعب خارجه، ففي الوقت الذي نسمح له بالقفز واللّعب داخل الغرفة يجب أن نوضح الممنوعات فنقول إقفز على الأرض ونحظّر عليه تكسير الأشياء وما إلى ذلك، كما يفترض بنا، أنْ نؤمّن للطفل الألعاب التي تسهّل احترامه لنظام المنزل، بحيث يستغني عن اللّعب بزجاجات العطر أو اللّوحات الفنيّة الموجودة في البيت وما إلى ذلك. ولو فرضنا أنّ الولد، فَعَلَ شيئاً من ذلك، فعلينا أن لا نقسو عليه بل ننبِّهه بطريقة ملائمة بحيث نشعره بذنبه.

على الأُمّهات أنْ لا يقدّمن الحفاظ على أثاث البيت أو نظامه، على الحفاظ على نفسيّة الطفل، ونحن لا ننكر أنّ المحافظة على الولد في المستقبل تفرض على الأُم تربيته على احترام النظام داخل البيت، ولكن على الأُم أنْ تضيف إلى ذلك إعطاءه الفرص الطبيعية كي يحقِّق ذاته في اللّعب واللّهو، بما لا يسيّء إلى نفسه ولا إلى النظام العام.

إنّ مشكلة كثير من الأهل هي أنّهم يحبسون أولادهم في دائرة ضيّقة ولا يتيحون لهم فرصة اللّعب في مساحة واسعة من المنزل، بحيث يتحوّل البيت إلى سجن للولد يخلق في نفسه نفوراً شديداً وميلاً إلى الهرب منه، قد يعبّر عنه بتخريب الأشياء أو بالتمرّد على الأهل تنفيساً عن شعوره بالضيق.

حقوق الطفل الماديّة

ـــ يقوم سعي الأهل لتأمين كلّ رغبات أبنائهم على دافع عاطفيّ لا تربوي عادة، يعزّزه منطق الحرمان الذي عاشه الأهل أنفسهم، حيث نسمع جملة تتكرَّر بأنّنا حرمنا في الصغر ولا نريد لأولادنا أن يحرموا مثلنا ما تعليقكم؟

لا بدّ للأهل من التعاطي مع رغبات الولد، بشيء من الحكمة، بحيث يدرسون تلك الرغبات فيلبُّون بعضها ويمنعون بعضها الآخر، حتّى يعوّدوا الولد على أنْ يتحسَّس الحرمان ليشعر بحرمان الآخرين، وهذا ما يعالجه تشريع الصوم، كما إنّ عليهم أن يدربّوه على التعب وعلى الألم وعلى المعاناة كي يتمكَّن من مواجهة الصعاب في المستقبل. وأعتقد أنّ هذه الأمور التي نتحدّث عنها تشمل كلّ جوانب الحياة. لأنَّ تعوّد الولد على الحصول على كلّ ما يحتاجه من دون جهد لا يعني أنّ كلّ أمور الحياة ستكون مبذولة أمامه بنفس المستوى من السهولة، فقد يواجه هذا الولد عندما يشبّ مشاكل زوجية أو اجتماعية أو سياسية أو أمنية أو ما إلى ذلك سيعجز حتماً عن حلِّها، إذا ما تعوّد على الدلال وعلى أنْ لا يفكّر ولا يتعب ولا يعاني، وهو بالتالي سوف يسقط أمام كلّ مشكلة من مشاكل الحياة.

علينا أن نعطي أولادنا عاطفة حُرِمْناها وعاطفة عشناها، لكنّ العاطفة تقتضي أيضاً أنْ نربّي أولادنا على أنْ يواجهوا صعوبات الحياة كي يتمكّنوا من الثبات أمامها، إنّ بعض الحرمان لا يتعارض مع العاطفة، لأنّ العاطفة ليست نبضات قلب فقط، بل هي سلوك تربوي يسعى معه الآباء إلى تجنيب أولادهم السقوط أمام تحدّيات الحياة سواء كانت حياتهم رخيّة أم صعبة.

ـــ ورد في الحديث: .. مَنْ يرضي صبيّاً صغيراً من نسله حتّى يرضى ترضاه الله يوم القيامة، حتّى يرضى. ما المقصود منه؟

الظاهر أنّ المراد من هذا الإرضاء هو جانب الرحمة التي ترعى مشاعره وظروفه النفسية وتتعامل معه بالطريقة التي تنسجم مع ذهنيّته بما يحقّق له النمو الروحي في مستواه الطفولي ولا يثقل إمكاناته.

ـــ نلاحظ أنّ أجيال اليوم كثيرو التذمُّر والشكوى بالقياس إلى أولاد الأجيال السابقة الذين حُرِموا من أشياء كثيرة في طفولتهم، ما العوامل التي تقف وراء شيوع مفردة الشكوى لدى الأولاد؟

ليست القضية بهذا الشكل في تصوّري، فقد نجد في الماضي ـــ كما في الحاضر ـــ نماذج تصبر وأخرى تجزع، وقد نجد نماذج تشتكي وأخرى تتقبَّل وترضى.  

قد يتعلَّم أفراد المجتمع الذين يعيشون الصعوبات والمشاكل سواء كانوا صغاراً أم كباراً، على التعايش مع الضغوط بوصفها أمراً واقعاً يستسلمون له عندما لا يملكون التخلُّص منها. بينما عندما يعيش المجتمع بعض الأوضاع الاسترخائية ولو من خلال الصورة التي يشاهدونها في التلفزيون، فإنّ ذلك قد يثير فيهم الإحساس بالحرمان ويحملهم على الشكوى، لكنّ هذا الأمر ليس قاعدة تشمل كلّ الناس لا في الماضي ولا في الحاضر، فقد نجد في كلّ المجتمعات على تنوّعها أطفالاً يبدعون ويتفوّقون ويصبرون، باعتبار أنّ الحرمان يزيدهم عزماً على تأكيد ذاتهم ووجودهم فيتفوّقون على مَنْ يملكون المال، وقد نجد من يغرقون في الشكوى على الرغم من امتلاكهم كلّ إمكانيّات الحياة.

ـــ هل يؤثّر مستوى الأسرة الاقتصادي السيّء على تربية الأولاد برأيكم؟ وكيف؟

هناك جهتان يدخل منهما تأثير المستوى الاقتصادي المتدنّي على الأولاد، الجهة الأولى أنّه يحرمهم من تلبية حاجاتهم الضرورية ممّا قد يؤثّر تأثيراً سيّئاً على شعورهم بالأمن والطمأنينة.

والجهة الثانية، أنّه قد يعقّد حياة الأب والأُم المشتركة نتيجة الضغوط الاقتصادية التي تطبق عليهما، فينعكس ذلك سلباً على علاقتهما بالأولاد على صورة عنف في التصرّف أو إعراض دائم أو ما أشبه ذلك.

ومن الطبيعيِّ أن يخلق ذلك في الولد إحساساً قويّاً بالحرمان وبالضعف أمام رفاقه ممّن يملك أهلهم المستوى الاقتصادي الجيّد، وأن يترك في حياته تأثيراً سلبياً سواء داخل البيت أم خارجه مع رفاقه والآخرين.

ـــ كيف يمكن للأهل تلافي تلك التأثيرات السلبية، لوضعهم الاقتصادي السيّء على الأولاد؟

أنا لا أعتقد أنّ الفقر سبب ضمني لسوء التربية أو لخلق المشاكل عند الأولاد، فمن الممكن للأهل أن يعلِّموا أولادهم الصبر وأنْ يحدِّثوهم عن أنّ الحياة يسر وعسر وأنّ المال ليس قيمة وما إلى ذلك، وأن يمنحوهم الكثير من العطف والمحبّة لتعويضهم عن الحرمان المادّي، وأن يبحثوا لهم عن متنفَّس يلهوون به ويشغلهم عن واقعهم الصعب، بالطريقة التي يمكن أن تعوِّض إحساسهم بالحرمان وتملأ مشاعرهم بالفرح. كأنْ يقال للطفل على سبيل المثال في حال كان ذكيّاً في دروسه وكان رفيقه الغني غبيّاً: إنّ نجاحك في المدرسة وإنّ تفوّقك هذا هو أعظم من المال.. بإمكان الأهل إذا ما كانوا واعين أنْ يجدوا ما يعوّض الولد عن إحساسه بالحرمان. هذا عدا، أنّهما لو كانا مؤمنين واعيين فإنّ بإمكانهما أنْ يأخذا بأسباب الصبر، ويتجنَّبا تنفيس غيظهما بأولادهما.

ـــ هل يمكننا القول بأنّ عدم شعور الولد بأيِّ شكل من أشكال الحرمان قد يؤدّي به إلى الفساد، وأنّ الولد لا بدّ من أن يذوق طعم الحرمان لكي ينشأ نشأة سويّة؟

ليس من الضروري أن يكون الاكتفاء المادي سبب مفسدة للولد في طبيعته، ولكنّ المفسدة تتأتّى عادة من الأجواء التي تحيط بالأسر الغنيّة التي تدفعها إلى الإفراد في تدليل الولد، بحيث يجد كلّ ما يحبّه ويريده فيفقد بالتالي الصلابة أمام تحدّيات الحياة وأمام مشاكلها. هناك أحاديث شريفة تدعو المؤمنين إلى الخشونة ومنها قوله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) "اخشوشنوا فإنّ النعم لا تدوم" ولكنّ هذه الأحاديث لا تعالج القضية من الناحية النفسية العقلية بل تعالجها من ناحية إعداد الولد لتحدّيات الواقع الذي يمكن أن ينقلب فيه اليسر إلى عسر، وينقلب فيه الأمن إلى الخوف وما إلى ذلك. لهذا فإنّ سلبية الغنى تكمن في أنّ أولاد النعم، ينشأون ضعافاً لا يملكون التجربة في مواجهة مشاكل الحياة، ويفقدون الصلابة أمام آلامها وتحدّياتها ومخاوفها.

ـــ هل يجب على الأهل تأمين مستقبل الولد المادّي لتجنيبه العوز؟

عندما ندرس المسألة من ناحية شرعية لا نجد هناك إلزاماً شرعياً بتأمين الطفل ماديّاً، ولكنّنا عندما ندرس الحكم الشرعي في أنّ على الأب مسؤولية الإنفاق على الولد إلى أن يستقلّ في إعالة نفسه، ويعمل ما يؤمن للولد قاعدة التحرّك الماديّ في مستقبله، ولكن هذا لا يعني أنّ على الأب أن يهيّئ لولده رصيداً مادياً ينطلق منه هذا الأخير في تأمين مستقبله بل ربّما يكون أمرٌ كهذا مخالفاً لمصلحة الولد، لأنّه سيصبح في هذه الحال اتّكالياً. الغرض من هذه المسؤولية الأبويّة عن الولد في حالة حاجته إليه أن يحضر الأب للولد الظروف الطبيعية التي تجعله يستقلّ بنفسه ثمّ قد تنقلب الأدوار فيصبح الولد مسؤولاً عن رعاية أبيه وأُمّه عند كبرهما.

من ناحية شرعية يحرم على الإنسان أن يضيّع من يعول فقد ورد في الحديث "ملعون ملعون مَنْ ضيَّع من يعول وعيال الرجل أسراؤه" بالتالي يجب أنْ لا يترك الأب إعالة أولاده للمصادفات ويفكّر أنّ الله يرزقهم دون تأمين الوسائل الطبيعية. لذلك، من هنا، يأتي واجب الأهل تأمين الولد بالإنفاق عليه وتهيئة فرص العمل التي تمكّنه من الاستقلال بنفسه.

ـــ ورد في الحديث: علِّموا أولادكم السباحة والرماية. هل يمكن التوسّع ليشمل كلّ أنواع الرياضة الحديثة؟

إنّ السباحة والرماية أمران يتّصلان بالحاجات الحيويّة للإنسان في ذلك الوقت ولذلك فإنّ من الطبيعي التوسّع إلى أشياء أخرى من الحاجات المستجدّة في اهتمامات الإنسان في مختلف جوانب حياته في كلّ تنوّعاتها، إذ لا خصوصية لهذين الأمرين في هذا الحكم.

ـــ ورد في الحديث: من حقّ الولد على والده.. ويزوّجه إذا بلغ.. لكنّ التزويج المبكّر قد يتعذّر اليوم.

إنّ الإسلام يشجّع على الزواج المبكر لصيانة الولد عن الانحراف من الناحية الجنسية وإعفافه في هذا الجانب، هذا من حيث المبدأ، أمّا إذا كانت هناك بعض السلبيات فلا بدّ من ملاحظتها من قبله، والعمل على معالجتها للتخفيف من تأثيرها على تأخير الزواج لأنّ مسألة إعفاف الولد ـــ ذكراً أو أُنثى ـــ من الناحية الجنسية تمثّل مركز الأهمية في التشريع الإسلامي من حيث علاقتها بتلبية الحاجات الحيويّة للإنسان وإبعاده عن الانحراف من هذا الجانب نظراً لقوّة الغريزة الجنسية على حياته. وإذا كانت هناك بعض الظروف المانعة من الزواج المبكر فينبغي مواجهتها بطريقة واقعية من أجل الوصول إلى نتيجة إيجابية مادياً ومعنوياً مهما أمكن.

العدالة بين الأولاد

ـــ كيف نفهم موضوع العدل بين الأولاد وكيف نسعى لتحقيقه، خاصة وأنّنا نعرف أنّ الأم أو الأب في العائلة الواحدة قد يشعران بالانشداد نحو أحد الأولاد دون غيره. هل هذا الانشداد طبيعي وما أثره على الأولاد بلحاظ قصّة النبيّ يوسف (عليه السلام) وإخوته؟

إنّ انشداد الأب أو الأم تجاه أحد أولادهما بشكلٍ خاص، في حال كان هذا الولد أفضل في القيمة الدينية أو الأخلاقية أو العلمية من غيره، وإنّ إعجابهما بمن يملك صفات مميّزة من أبنائهما أمر طبيعي، ولكن عليهما أنْ لا يعبّرا عن ذلك الإعجاب بالطريقة التي يشعر فيها الولد الآخر ـــ لو فرضنا أنّ العائلة مؤلّفة من ولدين ـــ بالحرمان أو بالدونية أو بالسقوط وما إلى ذلك، بحيث يتصوّر أنّ ذاك الأخ هو المسؤول عن حرمانه من الجمال والقوّة والذكاء وما إلى ذلك، فتتولَّد لديه مشاعر الحسد، خاصّة وأنّ الأطفال يعجزون عن ردّ الأشياء إلى أسبابها الطبيعيّة، وهو ما يجب أن يقوم الأهل به، ومع ذلك فإنّ عقدة  الأبناء من الولد المميّز قد تبقى وتتفاعل، وهذا ما نقرأه في قصّة يوسف (عليه السلام): {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ...} [يوسف : 8]. فإخوة يوسف كانوا يشعرون أنّ يوسف أحبّ إلى قلب أبيه منهم، لا لأنّ يعقوب كان يفضّله بالتصرّف أو بالعطاء، ولكن لأنّه ربّما كان يرتاح إلى الصفات التي كان يتميَّز بها عن غيره من وداعة وجمال وما إلى ذلك. وهذا لا يعني أنّ يعقوب (عليه السلام) لم يكن يحبّ أولاده الآخرين، ففي تفاصيل سورة يوسف نتلمَّس عاطفته الشديدة تجاه أولاده، عندما قال لهم حرصاً عليهم بعدما حصل ليوسف {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} [يوسف : 67]. لكنّ إحساس أولئك الإخوة بتميّز يوسف عليهم حملهم على تفسير محبّة أبيهم الطبيعيّة له على أنّها تفضيل عاطفي له عليهم. وربّما كانت القضية لديهم أنّ فضائل يوسف المميّزة أثارت لديهم إحساساً بالحسد له ممّا خيّل إليهم أنّ أباهم يفضّله عليهم من دون أن تكون للمسألة أيّة واقعية ولعلّنا نستوحي ذلك من خوف يعقوب (عليه السلام) من هذه العقدة النفسية لديهم فقد أوصاه أن لا يقصص رؤياه على إخوته فيكيدوا له كيداً لأنّ ذلك قد يزيد من حسدهم له من خلال هذه الفضيلة الجديدة.

ـــ ما المقصود في هذا الحديث: قال الإمام جعفر بن محمّد (عليه السلام): قال والدي (عليه السلام): إنّي لأصانع بعض ولدي وأجلسه على فخذي، وأكثر له المحبّة، وأكثر له الشكر، وإنّ الحق لغيره من ولدي، ولكن محافظة عليه منه ومن غيره، لئلا يصنعوا به ما فعل بيوسف وإخوته.

إنّ المقصود من الحديث حسب الظاهر أنّ الإمام قد يتعامل باللّطف الزائد والمحبّة الشديدة والكلمات الشاكرة حذراً ممّا قد يحصل من السلبيات كأسلوب من أساليب إعطاء هذا الولد أكثر ممّا يستحقه تفادياً لما قد يحصل معه أو مع غيره ـــ كما في قصّة يوسف وإخوته ـــ بفعل ما قد يثيره التمييز للأفضل من حساسيّات الحسد وغيره، وهذا لا ينافي العدالة.

ـــ سُئلت أُمّ: أيّ أولادك أحبّ إليك؟ قالت: الضعيف حتّى يقوى، والمريض حتّى يشفى، والمسافر حتّى يعود.. كيف نفهم هذا القول؟

إنّ هذا الأمر لا يتّصل بالتفضيل على أساس ما يمتلك أحد الأولاد من ميزات بل هو أمر يتّصل بالرعاية، حيث يكون الولد ـــ لسببٍ أو لآخر ـــ بحاجة إلى عناية أكبر، فالولد عندما يمرض فمن الطبيعيّ أنْ تتوجّه الأُم إلى رعايته في مرضه حتّى يشفى، وكذلك عندما يكون صغيراً فلا بدّ لها أنْ ترعاه بشكلٍ خاص كي ينمو نمواً طبيعياً، وكذلك الأمر بالنسبة للغائب باعتبار الفراغ العاطفي الذي يشعر به ويتركه في الدار. إنّ هذا الأمر لا يمثّل ميزة ولد على غيره أو تمييزاً له عن غيره، لأنّ حاجة الصغير إلى الاهتمام أكبر من حاجة الكبير، وكذلك حاجة المريض وحاجة الغائب، علماً أنّ هذه الحالات: المرض والغياب والصغر، حالات لا تختصّ في ولد بعينه دون غيره. فقد يكون الغائب الآن فلاناً ثمّ يصبح الولد الآخر والثالث والرابع وكذلك بالنسبة للمرض، لهذا فإنّ المسألة واردة على سبيل الكناية بأنّ أكثر تعلّق الإنسان بالولد الذي يمثّل وضعاً خاصّاً، لا يتّصل بعالَم القيمة الجمالية أو العلمية أو الأخلاقية أو ما إلى ذلك.

ـــ يقودنا الحديث عن التمييز إلى عادة المقارنة التي درج الأهل على استخدامها مع أولادهم، ونحن نلاحظ أنّ بعض الأهل يبالغون في قسوتهم عندما يقارنون بين الأولاد.

على الأهل أن يستعملوا أسلوباً حكيماً في علاج نقاط الضعف الموجودة عند أحد الأولاد مقارنةً بالآخرين، إذا أرادوا توجيهه أو تأنيبه. لذلك لا بدّ أن لا يكون ذلك أمام أخيه بحيث يُحرج أمامه ويفقد احترامه لنفسه وما إلى ذلك.

من حقّ الأهل أنْ يؤنِّبوا أولادهم على ما يلحقونه بأنفسهم من ضرر ولكنّ عليهم أن يكونوا دقيقين في طريقة التأنيب، انطلاقاً من مبدأ الرحمة، الذي يقتضي أن يختاروا الأسلوب والقول الأحسن {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...} [الإسراء : 53]. وانطلاقاً من مسؤوليّتهم عن حماية الأولاد من المشاكل النفسية، بحيث لا تؤدّي القساوة إلى كسر نفس الولد أمام إخوته، إذا فرضنا أنّ الأب أسقط المخطئ أمامهم وأخذ الباقون يضحكون منه ويقومون ببعض الحركات التي تسيء إليه.

إنّنا نستحضر بعض الأحاديث التي تتّصل بعالَم التوجيه والإرشاد "إذا أردتَ أن ترفع شخصاً مؤمناً فعليك أن ترفعه إليك برفق ولا تكسره فإنَّ مَنْ كَسَرَ مؤمناً فعليه جبره"، علينا أنْ نوجّه الولد برفق بحيث نزيل عنه الخطأ بطريقة لا تكسر كرامته ولا نفسه.

ولكن قد يبقى التمييز بين الأولاد قائماً في حال كان أحدهم يتميَّز بقيمة أخلاقية أو بقيمة علمية مثلاً، ليكون ذلك تشجيعاً للآخرين على أن يكونوا مثله بالأخلاق ومثله في العلم على طريقة "ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلةٍ سواء".

ـــ نفهم من ذلك أنّ على الأهل أن يتحلُّوا كثيراً بالصَّبر والحكمة.

عملية توجيه الإنسان وعملية صنع الإنسان هي من أكثر العمليات صعوبة وتعقيداً في الحياة، فهناك فرق كبير بين أن يتعامل الإنسان مع جماد وبين أنْ يتعامل مع إنسان، لأنّ الإنسان يتنوَّع في حالاته تبعاً لتنوّع الأوضاع والأجواء والأساليب التي يستعملها الآخرون معه. وكلّ هذا يتطلَّب ممّن يتصدّى للتربية صبراً وحكمة ووعياً.

تسمية الولد

ـــ ورد في الحديث: جاء رجل إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال: يا رسول الله ما حقّ ابني هذا؟ قال: تحسن اسمه وأدبه وضعه موضعاً حسناً. وما هي علاقة تحسين الاسم والوضع الحَسَن بتحسين الأدب؟

إنّ للاسم تأثيرات نفسية واجتماعية بحسب إيحاءاته في معناه الدّال عليه فإذا كان الاسم حسناً ملائماً للوضع الاجتماعي الذي يعيش فيه الإنسان كان مريحاً له، أمّا إذا كان سيّئاً أو متنافراً مع العرف العام أو مؤدّياً إلى بعض التعقيدات السلبية عليه فإنّه يتعب الإنسان بشكلٍ سلبي في علاقته بالناس أو علاقة الناس به.

إنّ على الأب أن لا ينطلق في التسمية من مزاجه الذاتي فيما يحبّه أو لا يحبّه، بل من الواقع الذي ينعكس سلباً أو إيجاباً على ولده لأنّ الاسم للولد لا له.. فعليه أن يحسّن اسمه، أمّا إحسانه لأدبه فإنّه يعني التربية الأخلاقية التي تجعله إنساناً مؤمناً صالحاً، وهكذا فإنّ عليه أن يضعه في الموضع الصالح الذي ينمّي له روحيّته ويقوّي موقعه، ويرفع منزلته.

ـــ من واجب الأهل تجاه الولد فضلاً عن الإنفاق والرعاية كما نعلم حسن تسميتهم، ما هي أفضل الأسماء التي يمكن أنْ يطلقها الأهل على أولادهم؟

هناك بعض الأحاديث التي تحثّ الأهل على تسمية الولد بالأسماء التي تجسّد عبوديّته لله، باعتبار أنّ ذلك يجعله يتحسَّس علاقته بالله بمعنى العبودية التي تحرّره من كلّ شيء ما عدا الله، فيتذكَّر أنّه عبد الله وليس عبد غيره. أو يسمّى الولد باسم التحميد، خير الأسماء ما حمّد وأصدقها ما عبّد، باعتبار أنّها تحتوي معنى الحمد، كما تستحضر علاقته بالنبي باسمه المحمّدي. لكنّ ذلك ليس ملزماً، فمن الممكن جداً أن يسمّي الإنسان ولده بأيّ اسم يتناسب مع العصر والمجتمع الذي يعيش فيه الولد. ويبتعد عن كلّ ما يؤدّي إلى تعقيده أو إهانته أو السخرية به في نظر المجتمع أو إيقاعه في بعض السلبيات المذهبية أو الطائفية أو الاجتماعية المرفوضة لدى الناس لأنّ الأسماء قد تحمل بعض الإيحاءات والحساسيّات بفعل التعقيدات المتنوّعة بما يؤدّي إلى الإضرار أو الإحراج للشخص في حياته.

ـــ ترون أنّ إطلاق أسماء محايدة في هذا العصر أفضل من إطلاق أسماء ذات خصوصيّة دينيّة؟

من المفضّل أن يعبّر الاسم عن معنى خلقي، بحيث يكون ترداده موحياً بقيمة معيّنة يتمثّلها الولد في معناه، ولكنّ ذلك كما قلنا ليس ملزماً. إنّي أؤكّد على الاختيار الدقيق عند التسمية، سواء كان اسماً دينياً أو غيره بالشكل الذي لا يمثّل لديه عقدة في مجتمعه.

 

ـــ يتعمَّد بعض الأهل تسمية أولادهم أسماء أجنبية، ما رأيكم بهذه الظاهرة؟

إنَّ منشأ هذه الظاهرة في اعتقادي ما يسمّى بعقدة الخواجة، ذلك أنّ السقوط النفسيَّ الناشئ عن السقوط السياسي أمام القوى المهيمنة سياسياً أو السقوط الثقافي أمام القوى المهيمنة ثقافياً، يحمل الناس على التحدّث باللّغة الأجنبية حتّى في مجتمعنا العربي كحال مَنْ يلقون التحيّة باللّغة الأجنبية تحت تأثير عقدة نفسية توحي لهم بالمكانة والتقدّم جرّاء ذلك. أمّا الأمر الطبيعي فأنْ يسمّي الإنسان أولاده الأسماء الشائعة في مجتمعه، وأنْ يعطي الولد اسماً يرتاح إليه في مستقبله، لأنّ من حقوق الولد على أبيه أنْ يحسن تسميته، ولا يبرِّر إطلاق اسم أجنبي عن البيئة التي يعيش الولد فيها سوى أن يكون ذلك الاسم من الأسماء الريادية أو الثقافية التي تشكِّل تسمية الولد بها حافزاً له على استيحاء سيرة صاحب هذا الاسم في حياته الثقافية أو الاجتماعية وما إلى ذلك، إنّ ظاهرة إطلاق الأسماء الأجنبية هي في تصوّري ظاهرة سلبية في حياة الأُمّة لأنّها تنطلق غالباً من عقدة نقص، ولا تنطلق من دراسة الجانب الإيجابي في هذا الاسم أو ذاك.

الطلاق وتأثيره على الطفل

ـــ من حقّ الولد أن يتربّى في أسرة متماسكة، كيف يمكن أن نفسّر تشريع الطلاق، بناء على ذلك وهل من تأثيرات إيجابية للطلاق تبرِّر تشريعه؟

قد يكون من حقّ الولد أنْ يتربّى في أسرة متماسكة، إلاّ أنّ للطلاق تأثيرات إيجابية على الأولاد في حال فشل زواج الوالدين وتحوّل علاقتهما إلى جحيم لا يطاق بالنسبة للأولاد، خاصّة عندما يضرب الزوج زوجته أو تهرب الزوجة من زوجها عندما يتشاتمان ويتنازعان ويتهاجران بشكلٍ دائم وما إلى ذلك، ممّا يعطي الأولاد إحساساً بالاضطهاد وبالحيرة والتمزّق ويضعهم في حالة طوارئ تدمّر نفسيّاتهم وتعطيهم صورة سلبية عن الحياة والزواج وعن الجنس الآخر، إلى درجة يتعقَّد فيها الصبي من المرأة إذا كانت أُمّه تسيّء لأبيه، وتتعقَّد البنت من الرجل إذا كان أبوها يسيّء إلى أُمّها وما إلى ذلك.

وقد ذكر بعض العلماء: أنّ المجرمين هم أولاد الخلافات الزوجية، لذلك أراد الإسلام من الزوجين معالجة خلافاتهما قبل الوصول إلى الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله، فركَّز على أن يكون أساس العلاقة الزوجية مبنياً على المودّة والرحمة، والأمن والسكينة، وهو المناخ المثالي لتنشئة الأولاد. كما حصَّن الإسلام الزواج من إمكانية الانهيار تحت تأثير الخلافات، بقانون تحكيم العائلة {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} [النساء : 35]. فإذا نشبت الخلافات ولم تنفع معها كلّ الإجراءات الوقائية فإنّ الطلاق عند ذلك يكون الحالة الأسلم للزوجين وللأولاد وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم {... فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ...} [البقرة : 229].

ـــ نحن نعرف أنّ الولد يحتاج إلى أُمّه في مراحل عمره الأولى أكثر من أبيه، فلماذا أعطى الإسلام للأب حقّ حضانة الأولاد بعد الطلاق؟

تترتَّب على الطلاق الكثير من الالتزامات المادية والمعنوية تجاه الأولاد، وهي التزامات تعجز المرأة عن القيام بها، من هنا فإنّ الإسلام أعطى حقّ الحضانة للأب، ذلك أنّ وجود الولد معها قد يعطّل إمكانية زواجها أو يضرّ بالولد نفسه عندما يرفضه زوجها الجديد، وربّما كان الهدف من ذلك التشريع إعطاء الولد فرصة أن ينمو نموّاً طبيعياً لا يتحقَّق إلاّ بوجود الأب الذي يمنحه الإحساس بالقوّة أو الصلابة، وهو أمر قد لا تمنحه الأمّ له، لاسيّما مع الفيضان العاطفي الذي تعيشه تجاه ولدها، خاصّة عندما ينفصل عن أبيه. إنّ الأولاد الذين يتربّون في أحضان الأمّهات المنفصلات عن أزواجهن قد يفتقرون إلى الإحساس بالتماسك والقوّة، فيغدون شخصيات ضعيفة أو مائعة ولكنّ هذا لا يمثّل ظاهرة عامّة بالتأكيد.

وعلى ضوء هذا عندما يحصل الطلاق وينفصل الأب عن الأُم قد يكون الحكم الشرعي بالعقل البارد أنّ الحضانة للأب بعد السنين التي لا يستغني فيها الولد عن أُمّه، في الجانب الحياتي المباشر، هنا في هذه الحالة قد تكون هناك بعض الحيثيّات التشريعيّة التي تجعل الولد في رعاية أبيه من ناحية المسؤوليات.

علماً أنّ إعطاء الأب حقّ الحضانة يوجب عليه أن يوفّر كلّ الظروف الملائمة التي تجعل نمو الولد نموّاً طبيعياً، إمّا من خلال جهده الذاتي، ولو اقتضى الأمر تقمَّص شخصية الأب والأُم معاً، أو بالاستعانة بزوجته الجديدة إذا ما تفاهم معها على تقمّص شخصية الأم بالنسبة لولده، وفي هذه الحال لا يجوز له أن يحرم ولده من أُمّه وهذا هو قول الله تعالى: {...لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا...} [البقرة : 233]. فعلى الأب أنْ يترك الولد ليعيش بين أحضان والدته بين فترة وأخرى، أمّا المدّة التي يقضيها الولد عند أُمّه فلا بدّ أن تخضع لمدى حاجته إلى والدته من جهة ومدى حاجة الأُم لذلك، بنحو لا يضرّ بالولد ولا بالوالدة وهو أمر لا يمكن وضع حدود قاطعة وثابتة له، بل يفترض أن يخضع لدراسة الحالة بشكلٍ منفرد لتحديد ذلك.

الحضانة مسؤولية الحاضن سواء أكان الأم والأب معاً في الحالة الطبيعية أم كان أحدهما في حالة الطلاق أو في حالة وفاة الأب أو الأم، وهي مسؤولية تستدعي أنْ يُعطى الولد كلّ الرعاية التي تبعده عن الضرر وتجلب له النفع والتي تجعله ينمو في مناخ طبيعي يؤمّن كلّ ما يحتاجه لنموِّ شخصيّته بشكلٍ طبيعي.

 

 

 

تعدُّد الزوجات وتأثيره على الأطفال

إلى جانب تشريع الطلاق، يبيح الإسلام تعدُّد الزوجات الذي يرى فيه البعض إساءة إلى تماسك الأسرة ووحدتها، ما هي الآليات التي أقرَّها الإسلام لحفظ ذاك التماسك عند حصول التعدُّد؟

عندما تحدّث الإسلام عبر القرآن الكريم عن التعدُّد، فإنّه اختصر كلّ الشروط الإنسانية التي تخفّف من تأثيره السلبي بالعدل، فإنّنا نعرف أنَّ التعدُّد بحسب طبيعته، سواء كان في الحياة الزوجية أم في أيِّ علاقة إنسانية أخرى يخلق نوعاً من الإرباك. باعتبار أنّ من الصعب جداً أن يوازن الإنسان بين إنسانين تربطه بهما صلة من نمطٍ واحد على اختلاف خصائصهما الشخصية التي قد تجتذبه نحو هذه أكثر ممّا قد تجتذبه نحو تلك، لذلك أراد القرآن الكريم من الإنسان في هذه الحالة أن يقف على خطّ التوازن، ففرض العدل في النفقة بحيث لا تجعله الميزة التي يجدها في إحدى الزوجات سبباً للإجحاف بحقِّ الأخرى، والعدل في العلاقة الزوجية، وهذا ما يسمّى بالقسم بين الزوجين، بأنْ يبيت مع إحداهما ليلة ويبيت مع الأخرى ليلة، دون أن يضطهد إحداهما على حساب الأخرى. هذه العدالة المفروضة على  الزوج في حال التعدُّد تحفظ للأسرة تماسكها، وتؤّمن لكلّ الأطراف حاجاتهم العاطفية والماديّة، وتضمن بالتالي حماية الأولاد على الرغم من التعدُّد، ونحن نلاحظ أنّ الإسلام حثّ الإنسان إذا كان لديه ولدان أو أكثر، على المساواة بينهم حتّى في التقبيل وفي النظرة وفي الرعاية كي لا يعقّد أحدهما ضدّ الآخر عندما يؤثره على أخيه إلاّ إذا كان الإيثار نتيجة ميزة يريد تشجيعه على إثرائها ويريد تشجيع الآخرين على تقليده بها. هذه العدالة هي التي تعطي للزواج المتعدّد جوّاً طبيعيّاً، لا يترك أيَّ تأثير سلبيّ على الأولاد.

في ضوء ذلك، يصبح من واجب هذا الأب في حال التعدّد أنْ لا يفضِّل أولاد إحدى الزوجات على الثانية نتيجة تفضيله لأمّهم على الأخرى، لأنّ ذلك ينافي القاعدة الإسلامية التي تفرض توازن العلاقة مع الأولاد حتّى لو كانوا من أُمٍّ واحدة وهو أمر يزداد حساسية في حال التعدُّد. من هنا على الأب أن يكون دقيقاً جداً في تحقيق المساواة بين أولاده من هذه الزوجة وتلك، لأنّ اختلاف الأُم قد يولِّد حساسيّة بالغة تجاه أيّ سلوك يمكن أن يفسّر على أنّه تفضيل وتحيّز. وهكذا فبما أنّ الإسلام شدَّد على المساواة بين الزوجات مع أنّ الإخلال ببعض جوانب المساواة بينهنّ لا يترك تأثيره على مستوى الكارثة، فإنّه بدرجة أكثر شدَّد على المساواة بين الأولاد لأنّ الإخلال بالمساواة بين الأولاد من الزوجتين قد يصل تأثيره إلى حدّ الكارثة.

ذلك أنّ اللامساواة قد تدمّر الولد نفسياً وتجعله حاقداً على أخيه، وقد تؤدّي إلى خلق مشاكل بين الزوجتين الأمر الذي ينعكس سلباً على الأولاد.. بعبارة موجزة إنّ مسألة المساواة في مشاعر الأب أو ما يظهره من مشاعر أو ما يقوم به من ممارسات تجاه الأولاد محكوم بالخطوط التربوية العامّة التي وضعها الإسلام لرعاية الولد سواء كان واحداً أم أكثر من دون فرق بين تعدُّد الأُمّهات أو وحدة الأُمّ، مع زيادة الرعاية في حالة تعدُّد الأُمّهات، لأنّ التعدُّد بطبيعته قد يخلق بعض التعقيدات أو المشاكل الإضافية التي قد لا تكون موجودة في حالة وحدة الأمّ.

أمّا كيف يؤثّر التعدُّد على الطفل فمن المفروض ألاّ ينعكس التعدُّد سلباً عليه، ذلك أنّ غياب الأب ليلة عن أولاده عند الزوجة الأخرى، يشابه غيابه في عمله أو في سفره، كما هي حال كثير من الآباء الذين قد يضطرهم عملهم إلى التغيّب عن المنزل طويلاً فلا يعودون إلى منزلهم إلاّ في اللّيل، أو في نهاية الأسبوع، لكن على الأب أنْ يضاعف رعايته للولد في اليوم الذي يكون فيه موجوداً مع أُمّه، وأنْ يراقب تأثير الفراغ الذي تركه غيابه عليه بحيث لا يشعر الولد بوجود أيّ فراغ عاطفي لديه بسبب غياب أبيه.

 

 

ـــ يبدو التعدُّد وفق ما قدّمتم عديم التأثير على الأولاد وهي صورة، لا نراها في الواقع حيث تكثر أزمات أولاد الزواج المتعدِّد، كيف تفسّر هذه المفارقة بين الواقع وبين ما هو مأمول؟

أثار التعدُّد السلبية كما نلاحظ من الشكاوى المقدّمة إلى مكتبنا الشرعيّ ناتجة عن أنانية الزوج أو عدم عدالته في علاقته الزوجية بكلا الزوجتين، ذلك أنّ بعض الأزواج قد يكون منجذباً بشكلٍ خاص إلى إحدى الزوجتين إلى درجة الاستغراق، فيهمل زوجته الأخرى، ويهمل بالتالي أولادها حتّى إنّ بعض الآباء يصلون في إهمالهم لأولادهم من إحدى الزوجات لمصلحة أولاد الثانية إلى درجة تفضيل أولاد الجديدة في الوصية وفي الإرث أو في تسجيل بعض الأشياء (الأملاك) وحرمان أولاد الأولى من المصاريف والرعاية أو ما أشبه ذلك. إنّ ذلك ينتج عن سوء تطبيق تماماً، كما هي حال الزوجة الواحدة عندما يهملها الزوج لينصرف إلى العلاقات النسائية غير المشروعة أو لينصرف إلى القمار أو الخمر أو المخدّرات وما إلى ذلك من أمور، إنّ المشكلة هنا تتّصل بالجانب الأخلاقي. ونحن نعتبر، أنّنا عندما نريد دراسة أيّ مشكلة في أيٍّ من العلاقات الإنسانية لا بدّ أن ندرسها من خلال الجانب الأخلاقيّ بالإضافة إلى الجانب القانوني.

ـــ خارج إطار عدم عدالة الأزواج التي يمكن أن تؤثّر سلباً على الزوجات والأولاد ألاَ ترون أنّ النظرة الشائعة إلى التعدّد باعتباره خيانة مِن قِبَل الأب للأمِّ أمر يترك تأثيراً سلبياً على الأولاد وعلى نظرتهم لأبيهم؟

هذه المسألة مسألة اجتماعية ثقافية بحتة ولا علاقة لها بالتعدُّد نفسه، فالتعدُّد وإنْ كان مصدر بعض التعقيدات فهو كأيِّ مسألة اجتماعية يترك تأثيراً سلبياً في جانب مع التأثيرات الإيجابية في جانبٍ آخر. إلاّ أنّ مشاكل الأولاد في حال التعدُّد تتّصل بسلوك الأب والأُمّ وطريقتهما في التعامل مع الوضع، لذلك نحن ننصح الزوجة سواء أكانت الجديدة أو القديمة من موقع إنساني وإسلامي، يتقرّب به الإنسان من الله، أنْ لا تحمل زوجها على إهمال أولاده من الزوجة الأخرى لأنّ ذلك ينعكس سلباً على علاقة الأولاد ببعضهم البعض، وعلى نفسيّتهم بشكلٍ عام. يفترض بالزوجة أن لا تعيش الأنانية وتسعى لاحتواء زوجها لنفسها ولأولادها، بحيث تعزله عن زوجته أو زوجاته الأخريات وتضع حاجزاً بينه وبين أولاده منهنّ. إنّ ما يحدث في تعدُّد الزوجات يحدث في أيِّ علاقة يقيمها الرجل مع امرأة أخرى، سواء كانت علاقته بها مشروعة كالزّواج المؤقّت أم غير مشروعة كما هو الحال في الغرب عندما يعيش الرجل بين الزوجة والعشيقة، فعن ذلك ينتج أيضاً أن يهمل الرجل زوجته لحساب عشيقته أو زوجته المؤقّتة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(9) الذكر والأنثى

في التربية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التمييز بين الذكر والأنثى

ـــ بالنسبة لموضوع التمييز بين الذكر والأنثى، فإنّ بعض التجارب تقول إنّ البنت تميل إلى الهدوء والولد يميل إلى العنف، برأيكم هل تلك الفروقات بيولوجية أم نتيجة تربية؟

عندما ندرس تكوين الولد والبنت في كلّ المراحل التاريخية التي مرّت بها الإنسانية، نجد أنّ الاختلاف بينهما يعود إلى المعطيات البيولوجية لا التاريخية لأنّ البنت مهما تدرّبت على أعمال العنف فإنّها لا تستطيع الوصول إلى مستوى الولد من هذه الناحية، لأنّ العنف جزء طبيعي من شخصية الصبي. لهذا فإنّنا نتصوَّر أنّ هذا الاختلاف يقوم على اختلاف بين شخصية الأنثى وشخصية الذكر. بحيث إنّ الأنثى التي تتدرَّب على العنف تتطبَّع عليه بشكلٍ خارج ذاتها وإنْ كنّا نعرف بعض النماذج العنيفة من الإناث وبعض النماذج المسالمة من الذكور فإنّ ذلك لا ينفي الواقع الطبيعي حيث يكون الذكر أكثر ميلاً إلى العنف من الأنثى، لا العكس.

ـــ نحن نعرف أنّ التربية في مجتمعنا تعتمد بقدر كبير على التنميط الجنسي، بحيث تُنهى الفتاة عن القيام بسلوكات عنيفة أو اللّعب بالكرة كالصبيان وبالمقابل يُزجر الصبي عندما يبكي فالبكاء للبنات فتشجّع بذلك سلوكات القوّة في الصبي وسلوكات الضعف في الفتاة، ما موقف الإسلام من ذلك؟

قد يعود هذا الأسلوب في التربية إلى الرؤية التقليدية التي يتبنّاها الأهل عن دور كلّ من الذكر والأنثى في المستقبل، من هنا يكون على البنت المعدّة للزواج أنْ تتمثّل هويّة أنثوية توحي بالوداعة والطاعة والخضوع وما إلى ذلك. بينما يعد الولد ليأخذ في مستقبل حياته دور الأب القائد والمسؤول عن نفسه وعن الآخرين وما إلى ذلك من أمور يفرضها مفهوم الرجولة، الأمر الذي يستدعي تربيته على الأخلاق التي توحي بالقوّة وما إلى ذلك. هذا أمر شائع ولكنّه لا يقوم على تعليمات عامّة تفرضه، فليس في الإسلام توجيهات تدعو الأهل إلى تنشئة البنت على اللاّقوّة وتنشئة الولد على القوّة، غاية ما هناك تعليمات مشتركة ترفض تنشئة الولد على القسوة والعدوان سواء كان ذكراً أم أُنثى.

فالحديث عن الضعف في القرآن الكريم يتناول الذكر والأنثى على حدٍّ سواء {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء : 28]. وكذلك كلّ الآيات التي تناولت سلبيات الإنسان موجودة عند الذكر والأنثى. فقد ورد في القرآن {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ...} [الأنبياء : 37]. {... وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف : 54]. ممّا يدلّ على أنّ تلك السلبيات تجمع الذكر والأنثى وليست مسألة ضعف تختصّ به المرأة وقوّة يختصّ بها الذكر.

ـــ عدا عن مسألة التفريق لجهة القوّة والضعف، نلاحظ في أساليب التربية الشائعة أيضاً أنّ الأهل يفرّقون بين الفتاة والصبي في أمكنة اللّعب حيث يُسمَح للولد أن يلعب في الشارع وتمنع البنت من ذلك؟

لا يدخل هذا الأمر في إطار التفريق بين البنت والولد فمن حقّ الولد أنْ يلهو ويلعب، كما للبنت الحقّ أنْ تلهو وتلعب ولكنّ هذا التفريق في أماكن اللّعب يعود إلى بعض الأوضاع الاجتماعية التي تخشى على البنت من الاعتداء، بينما لا يوجد هذا النمط من المخاوف تجاه الصبي، علماً أنّ هذا الخوف يعود إلى التقاليد الاجتماعية.

ـــ مِنَ الإشكالات التي تطرح نفسها في تربية الجنسين، وتبرّر التفريق بين الذكر والأنثى بنظر الأهل اعتقادهم بأنّهم يعتبرون الولد لهم بينما يربُّون البنت للغير، إلى أيّ حدّ ترون هذا المنطق سليماً؟

علينا أنْ لا نفكّر بهذه الطريقة والسبب أنّ البنت تشب لنفسها والولد كذلك، فالولد والبنت هما تماماً كفراخ الطير تعيش داخل العشّ خلال مرحلة الطفولة ثمّ يذهب كلّ طير في حاله بمجرّد النضوج، يذهب كلّ منهما إلى تجربته الخاصّة سواء كانت تلك التجربة مع الزوج بالنسبة للبنت، أم مع الزوجة بالنسبة للولد، أو حتّى مع المجتمع عندما يتحرّكان فيه بعيداً عن خصوصيّتهما الشخصية. على الأهل أنْ لا يفكِّروا بطريقة ذاتية وأنانية في تربية الولد ذكراً كان أو أُنثى، بل عليهم أن يفكِّروا بطريقة إنسانية عامّة، بحيث يشعرون أنّهم يربُّون إنساناً للواقع الإنساني، ومواطناً في مواقع المواطنيّة العامّة. وهذا ما عبَّر عنه الإسلام في تركيزه على تربية الولد الصالح: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاَّ عن ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له". إنّ علينا تربية الولد الصالح سواء كان ذكراً أم أُنثى، ومعنى الولد الصالح، الإنسان الذي يتميَّز بسمات الشخصية المستقيمة التي تنعكس حركتها إيجاباً في حياة المجتمع كلّه، لأنّ الفرد الصالح هو منطلق للمجتمع الصالح وللحياة الصالحة وما إلى ذلك. ثمّ إنّ نفس هذه الفكرة، فكرة أنّ الولد للأهل، والبنت لغيرهم، فكرة غير صحيحة فالولد والبنت إذا كانا صالحين فهما معاً للأهل وإذا لم يكونا صالحين فهما معاً على الأهل، كما هما بصلاحهما للمجتمع وبعدمه على المجتمع.

ـــ ورد في الحديث: "من ولدت له ابنة فلم يؤذها ولم يهنها ولم يؤثّر ولده عليها ـــ يعني الذكور ـــ أدخله الله بها الجنّة.

إنّ القرآن الكريم قد تحدَّث عن النظرة السلبية للبنت في المجتمع في قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ*يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58 ـــ 59]. وقد جاءت الأحاديث النبوية الشريفة لتؤكّد المفهوم القرآني الذي يرفض ذلك تأكيداً لقيمة البنت من ناحية إنسانية ومن بينها هذا الحديث الذي دلَّ على أنّ إكرامها وعدم تفضيل الولد عليها يؤدّي إلى الجنّة.

 

 

تعليم الفتاة

في إطار هذا التمييز يستكثر بعض الأهل تعليم البنت، بحجّة أنّ الإسلام يجبر الصبي على تحمّل مسؤولية أهله بينما لا يجبر البنت على ذلك، فهل ترون أنّ الإسلام مسؤول بطريقة وبأخرى عن ذاك التمييز؟

عندما يتحدّث الفقه الإسلامي عن مسؤولية الولد تجاه أبويه، يساوي بين الصبيّ والبنت في المسؤولية. فإذا كان الأبوان محتاجين لا يملكان قوّتهما فإنّ على البنت إذا كانت متمكّنة مادياً أنْ تصرف عليهما كما يتوجَّب على الصبيّ أنْ يصرف عليهما تماماً. فمسؤولية الإنفاق على الأبوين بما يحتاجانه هي مسؤولية مشتركة بين الصبيّ والصبيّة.

في المقابل يجب على الأب والأُم الإنفاق على ولدهما الذكر والأنثى إذا كانا محتاجين حتّى عندما يكبران، فإذا عجز الولد عن إيجاد عمل وعجزت البنت عن إيجاد عمل أو لم تتزوّج، وكان الأبوان قادرين فإنّه يجب على الأُم وعلى الأب معاً إذا كانت الأُم قادرة والأب غير قادر ـــ أنْ ينفقا على الولد.

ـــ إذا كانت مسؤولية الأهل عن الابن والابنة واحدة من منظور إسلامي، كيف تفسِّرون إذن ظاهرة عدم تعليم الفتيات التي درجت في الأوساط الدينيّة في فترة من الفترات؟

إنّ هذه المسألة كانت تستقي شرعيّتها من المفهوم الاجتماعي الشائع الذي انسجمت معه بعض الجهات الدينيّة، وهو مفهوم يرى أنّه ليس من شأن البنت أنْ تتعلَّم، وعلى التربية أن تعدّها لتقوم بدورها كزوجة، تماماً كما لو كانت البنت مجرّد وعاء للحمل أو محضن للطفل أن خادمة أو ربّة منزل أو ما إلى ذلك. ممّا يوحي بأنّ مسألة تعليمها ليست بالأمر الوارد أساساً، لكنّ هذا المفهوم يخالِف القرآن الذي يؤكّد على أهمية العلم {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر : 9] وهذا الأمر يشمل البنت والصبيّ على حدٍّ سواء. وهكذا {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه : 114] وما إلى ذلك من العناوين الإسلامية التي تشمل المرأة والرجل. وقول القرآن {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر : 28] يؤكّد هذا المفهوم. فإذا كان المطلوب إسلامياً من الناس خشية الله تعالى، وكانت الخشية متوقّفة على العلم وعلى الوعي، كان من الطبيعي جداً أن تشترك المرأة مع الرجل في اكتساب العلم. لقد كانت الأوساط الدينيّة التي ذُكرت منسجمة مع الجوّ التقليدي العام الذي عاشه المجتمع في ممارساته على مدى مراحله التاريخيّة.

وليس من الضروري أن يكون تفكير العلماء على هذا النحو، وربّما كان الموقف من تعليم البنت مستقى من ضرورة إبقائها في البيت لحجبها عن الناس هو الأساس في هذا التوجُّه، نظراً لوجود موانع اجتماعية تعيق تعليم البنت، فالتقاليد الاجتماعية كانت تفرض على البنت إذا بلغت سنّ التكليف أنْ تتحجَّب لا مجرّد الحجاب الجسدي بل الحجاب الذي يفصلها عن المجتمع كليّة، خاصّة وأنّ المدارس خارج نطاق تعليم القرآن أو الكتابة، لم تكن متوافرة للفتيات على الأقلّ في أغلب الواقع الإسلامي، حيث يمكن أنْ تتعلَّم الفتاة على يد النساء. لكنّنا نلاحظ في التاريخ الإسلامي وجود بعض النساء اللّواتي تعلَّمن على الرغم من ذاك الجوّ الشائع، فقد باعت إحدى النساء أرضها لأخيها العالم في جبل عامل مقابل كتب يمنحها إيّاها.

ـــ هل يوجد خصوصيّة ما لتربية الفتاة تعدّها برأيكم للقيام بدورها كأُمٍّ وزوجة في المستقبل؟ وما هي هذه الخصوصيّة؟

علينا أنْ نربّي في البنت إنسانيّتها التي تلتقي فيها مع إنسانية الذَّكَر في العلم والوعي وتنمية العقل وتنمية القوّة والإرادة، التي تستطيع بها أن تسيطر على نفسها وتكون صاحبة قرار في المستقبل، فهذه العناوين من العناوين الإنسانية الإسلامية العامّة التي يجب أن يربّى عليها الصبيّ والفتاة على حدٍّ سواء، لأنّه ليس من الضروري خلافاً لما هو شائع في التربية لدينا أن تربّى الفتاة على الخضوع والطاعة العمياء، كما ليس من شأن الولد أن يتربّى على ذلك. نعم علينا أن نربّيهما على الخضوع والطاعة العمياء لله سبحانه وتعالى، أمّا أنْ نربّي البنت على الخضوع الأعمى لزوجها كيفما كان فهذا أمر لا إسلامي أساساً. نعم علينا أن نربّي البنت على اكتساب خاصيّة المرونة التي تسهّل علاقتها بزوجها، وأن ندعم فيها خصال الأنوثة التي تنسجم مع دورها في الحياة الزوجية وفي الأمومة، ولكن ليس من الضروري أن نجعلها أنوثة متجسّدة بحيث تكون الأنوثة بمعناها الشائع كلّ شخصيّتها، وفي المقابل يجب أنْ ننمِّيَ في شخصية الذَّكَر خصائص الرفق واللّين والتسامح التي تعتبر خصائص أنثوية أساساً، على أنْ لا يكون ذاك التسامح تسامحاً مائعاً وعلى أن لا يكون الرفق ماسحاً لشخصيّته وما إلى ذلك.

إنّني أعتقد أنّ شخصية الأنثى كشخصية الذَّكَر في كلّ العناصر الإنسانية فما هو سلبي للذكر سلبي للأنثى، وما هو إيجابي له إيجابي لها. أمّا الخصوصيات التي يفرضها الجانب البيولوجي ويتناسب مع دور الزوجية والأمومة، فإنّ علينا أن نركّزها بطريقة متوازنة لا تُسقط شخصية الفتاة لصالِح ذاك الدور المرصود لها في المستقبل. حسب فهمي، ولا أفرض على الإسلام فهمي، فنحن لا نؤمن بأنّه من المقبول في التربية أن نصادر عناصر شخصية أيِّ إنسان لصالح إنسانٍ آخر، حتّى إنّنا عندما نطلب من إنسانٍ ما التواضع للآخر أو التسامح معه أو التنازل له فإنّنا نطلبه ليس من باب المصادرة بل من موقع الإرادة الشخصية التي تنسجم مع هذا الدافع الإنساني إلى الانفتاح على الآخر ورعايته.

 

 

 

 

الصبي والبنت والعمل المنزلي

ـــ هل ترون أنّ العمل في المنزل هو من اختصاص الفتاة دون الشاب؟ وأنّ تربية الفتاة يجب أن تقوم على إعدادها لذلك.

عندما ندرس المسألة تاريخياً وحتّى نفسيّاً، نجد أنّ الفتاة هي التي تعتبر العمل المنزلي جزءاً من شخصيّتها. ففي الغرب، حيث نجد أنّ المرأة هي غالباً التي تقدِّم الطعام وتطبخ وتهيّء المائدة وما إلى ذلك من أمور بشكلٍ عام، قد يعود هذا الرابط بين الفتاة والعمل المنزلي إلى التربية تاريخياً أو إلى الحالة النفسية التي تعيشها الفتاة كزوجة وأُم، فهي تعتبر العمل المنزلي أمراً من اختصاصها وجزءاً من واجباتها.

مع ذلك نلاحظ أنّ الإسلام لم يضع في أصل تشريعه واجب القيام بالأعمال المنزلية على الزوجة، لذا فإنّ قيام الزوجة أو البنت أو الأُم بهذه الأعمال، إنّما انطلق من واقع اجتماعي جعل المرأة تشعر أنّ تلك الأعمال جزء من وظيفتها ودورها وواجباتها إلى درجة أنَّ النساء في مجتمعاتنا الإسلامية، عموماً أصبحت ترى في أيِّ مبادرة من الرجل للقيام بالعمل المنزلي انتقاصاً من كرامتها ودورها كزوجة.

ـــ إذا تأمّلنا الواقع نلاحظ أنّ الفتاة في مجتمعنا الإسلاميّ تُربّى على القيام بهذا الدور دون استحضار رأي الإسلام، فما سبب ذلك؟

هذا الأمر لا يختصّ بمجتمعنا الإسلامي بل يطال كلّ المجتمعات، فعندما ندرس المسألة تاريخياً نجد أنّ المرأة هي التي كانت تقوم بشؤون البيت، وبحضانة الأولاد وبتربيتهم عند جميع الشعوب. بحيث أصبحت تعتبر ذلك دورها وليس أمراً مفروضاً عليها من فوق، هذا من الناحية التاريخية التي ترك جريانها على هذا النحو تأثيراً على دور المرأة، أمّا من الناحية النفسية فيبدو أنّ استعداداتها الجسدية تتناسب مع عمل المنزل، بينما تتناسب استعدادات الرجل مع العمل خارج المنزل. ربّما نجد فيما روي عن عليّ والزهراء (عليها السلام) اللّذين تقاسما شؤون المنزل أمام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فكان عليّ يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة تطحن وتعجن وتخبز. ما يدلّ على أنّه من الممكن للرجل أن يقوم ببعض شؤون البيت، في المقابل لم يُنقَل إلينا أنّ عليّاً كان يرعى شؤون الأولاد، فذلك كان دائماً من مسؤوليات الزهراء (عليها السلام) التي كانت تهتمّ بالأولاد، إضافة إلى أعمالها البيتيّة الأخرى. بينما كان عليّ يقاتل ويجلب الطعام إلى المنزل.

من هنا قد لا يكون تحمُّل الفتاة لمسؤولية المنزل ناشئاً عن الحالة التاريخيّة فقط، بل عن خصائصها النفسية، باعتبار أنّ وضعها الجسدي، يخلق فيها الاستعداد للعمل المنزلي خصوصاً لجهة علاقتها بالحمل والإرضاع وما إلى ذلك.

ـــ فتيات اليوم ثائرات على هذا الدور التقليدي، ويعتبرنه تمييزاً ضدّهن، لذا يتعمّدن عدم التدرُّب على أعمال المنزل كردّة فعل على عدم المساواة مع الذكر؟

علينا أنْ لا نتنكَّر لهذا الدور، لأنّ التنكّر له قد يترك تأثيراً سلبياً على الحياة البيتيّة وعلى الانسجام الزوجي. لأنّنا عندما ندرس المسألة بشكلٍ طبيعي وعفوي جدّاً، نجد أنّ الرجل، بشكلٍ عام هو الذي يلبّي حاجات المنزل الاقتصادية، وهو الذي يتحمّل مسؤولية الدفاع عن الوطن وعن الأُمّة وما إلى ذلك، وإنْ كانت المرأة قد دخلت الآن إلى الجيش فبنسبة ضئيلة جدّاً وبصفة تطوّعية، مع كثير من المشاكل التي تحياها داخل هذا السلك الذي لم يعتد وجود الإناث.

لو فرضنا إذن أنّ الزوجين كانا يعملان في سلك التعليم معاً أو أنّهما كانا يقومان بعملين مختلفين ماذا نفعل بالأولاد؟ لا بدّ أن نتركهم للخادمة، أو لامرأة تربّيهم، أي إنّنا نستخدم امرأة. الأمر الذي يعني أنّ المرأة تترك شؤون البيت لتعهد بها إلى امرأة أخرى، الأمر الذي يترك تأثيراً سلبياً على الأولاد لأنّهم يفقدون جوّ الأسرة ككلّ لافتقادهم حضورها في المنزل ذلك أنّ الأُم عندما تعود إلى البيت، تكون بين خيارين إمّا أن تمارس أعمال البيت، وهي في هذه الحال تدمّر شخصيّتها جسدياً على الأقلّ إنْ لم نقل نفسياً، وإمّا أن لا تعمل في البيت، الأمر الذي سينعكس سلباً على الرجل الذي يعود إلى المنزل متعباً ويطلب الراحة، وعلى الأولاد أيضاً. لذلك أتصوّر أنَّ تنكُّر المرأة لدورها كربّة بيت هو ردّة فعل على إبعادها عن الأدوار الأخرى في الحياة، نحن لا نقول إنّ كلّ دور المرأة هو دور ربّة المنزل، ولكنّنا نقول إنّ قيامها بهذا الدور أمر حيوي بالنسبة للحياة الإنسانية باعتباره دوراً تقوم عليه صناعة الأجيال القادمة، ومن الطبيعي أنّ صناعة الأجيال لا تقتصر على تلبية حاجات الأولاد الحياتيّة من توفير الطعام واللّباس وما إلى ذلك بل تتعدّاه إلى إعطاء العاطفة التي تلعب دوراً حيوياً في تنمية شخصية الأبناء، ذلك أنّ في نفس تناول الولد للطعام من يد أُمّه معنىً عاطفياً خاصّاً، لا يوفّر له تناول الطعام من يد الخادمة.

إنّني أدعو إلى دراسة إيجابيات وسلبيات عمل المرأة خارج المنزل، فهل يمكن أن نشجّع المرأة على أن تكون عاملة على نحو كامل ونهائي.. وكيف تمارس المرأة آنذاك دورها كعاملة إلى جانب دورها كزوجة وأُمّ؟.. وما هي الآثار السلبية التي يتركها ذلك على البيت الزوجيّ والأولاد؟.. أو حتّى على اقتصاديات الأسرة حيث سيضطر الأب والأُم إلى العمل لتأمين بدلات أتعاب الخادمة والمربّية؟ إنّني أتصوَّر أنّ الحماس لعمل المرأة، والحماس المضادّ لدورها كربّة منزل حصراً، جعل الرؤية الموضوعية أمراً متعسّراً وصعباً.

ـــ إذا كنتم ترون أنّ دور المرأة كأُمٍّ وربّة منزل أمراً حيوياً لها وللأسرة، هل يفترض بالمرأة أنْ تبدأ منذ الصغر في التدرُّب على القيام بهذا الدور؟

نحن نقول إنّه علينا أن ننمّي في البنت كما في الصبي جانبهما الإنساني عقلاً وقلباً ودوراً فاعلاً في الحياة، لا بدّ أنْ نؤصّل شخصيّتها. ولا مانع من أن تتعلَّم الفتاة حتّى تصل إلى أعلى الدرجات كما لا مانع أيضاً أمام احتمالات الحاجة المادية التي قد تقع فيها مستقبلاً، في حال عدم زواجها مثلاً أو في حال حاجة الزوج إلى معونتها وما إلى ذلك، لا مانع من أنْ تتعلَّم البنت مهنة أو حرفة بما يتناسب مع شخصيّتها لتمارسها في حال اضطرّتها الظروف لذلك. لكنّنا في الوقت نفسه لا بدّ أنْ نعلِّم البنت، كيف تكون ربّة منزل كما لا بدّ أن نعلِّم الولد كيف يقوم بشؤون نفسه، ولا مانع من أن نعلِّمه كيف يطبخ وكيف يكنس وما إلى ذلك، لأنّ الولد أيضاً قد يمرّ بظروف تضطره إلى القيام بأعباء نفسه قبل الزواج، لاسيّما وأنّ الزوجة غير ملزمة شرعاً بخدمته في المستقبل.

ـــ هل تدعون إلى تربية الصبيّ للقيام بترتيب سريره وغسل الصحون؟

نعم، نحن نعرف أنّ كثيراً من الشباب الجامعيين الذين يسافرون إلى الخارج، يحصلون على مصروفهم من خلال جلي الصحون ومسح البلاط وما إلى ذلك من الأعمال، فإذا كانوا قد هُيِّئوا لتلك الأعمال فإنّهم سوف يبدعون في ذلك. كما إنّ تدريبه على هذا الأمر يخفِّف من نظرته السلبية إلى هذا العمل عندما تقوم به المرأة، ويجعله أكثر تقديراً للتعب الذي يخيم عنه.

ـــ ما رأيك بالممارسات التي تجبر البنت على خدمة أخيها وتقديم الطعام له بحجّة تهيئتها للدور المستقبلي؟

إنّ الضغط على البنت للقيام بعمل لا تريده، لاسيّما إذا كان عملاً يشعرها بالدونية إزاء أخيها أمرٌ محرَّم، لا يجوز لنا أن نجبر البنت كما لا يجوز أن نجبر الصبيّ على عمل دون اختياره سواء كان بالغاً راشداً أو لم يكن، إذا كان العمل لغير مصلحته لا يجوز للأب والأُم أن يجبراه على ذلك.

ـــ هل نفهم أنّ الإسلام لا يدعو إلى انفراد البنت بهذا العمل؟

يستَحِبُّ الإسلام للبنت أن تقوم بشؤون البيت لكنّه لا يلزمها بذلك. في المقابل يستحبّ للولد أن يساعد أهله تحت عنوان برّ الوالدين ومساعدة زوجته تحت عنوان الودّ والرحمة. عدا ذلك فإنّ الصبي والفتاة يتساويان في القِيَم الإنسانية التي يدعو الإسلام إليها سواء في مجال المودّة والرحمة أم في مجال مساعدة الآخر أم في مجال برّ الوالدين.

مشكلة تسلّط الذكر على الأنثى

ـــ لا تزال مشكلة تسلّط الذكر على الأنثى رغم اندثار الجاهلية، موجودة حتّى في الأوساط الإسلامية، هل ترون أنّ البنت تحتاج إلى ولاية الذكر عليها لحمايتها خاصّة في موضوع الانحراف؟

تقوم التربية الإسلامية، على المساواة بين الذكر والأنثى لجهة مرحلة الولاية ومرحلة الاستقلال، ففي مرحلة الولاية أي مرحلة ما قبل البلوغ، لا فرق بينهما في التبعيّة للأهل فهما من منظور إسلامي لا يملكان الاستقلال في إدارة شؤونهما لا في نفسيهما ولا في ما يملكانه من مال أو ما يقومان به من عمل، ولا بدّ من إشراف الوليِّ عليهما سواء كان وليّاً جبريّاً (كالأب والجدّ للأب)، أم كان وليّاً جعليّاً (كالوصيّ الذي جعله الأب أو الجدّ أو الحاكم الشرعي قيِّماً على الأولاد)، وليست مسألة التبعيّة هنا مسألة ذكورة وأنوثة بل مسألة قصور يستدعي الولاية لمن جعل الشارع له الولاية على الطرفين معاً.

أمّا في ما بعد البلوغ، أي مرحلة الرشد، فلا ولاية لأحد على البنت ولا على الولد، فهما على حدٍّ سواء مستقلان في كلّ شؤونهما، فليس للأب ولا للأخ ولا للجدّ ولا لأيِّ ذَكَرٍ كان أو أيّة أنثى كانت ولاية على البنت، كما لا ولاية لأحد على الذَّكَر. فالولد البالغ الرشيد والبنت البالغة الرشيدة يتمتَّعان بحقّ الاستقلال في كلّ أمورهما تماماً كما الأب والأم. لكنّ ثمّة تحفُّظ واحد لدى الشيعة والسُنّة في مسألة الزواج، حيث يشترط الشيعة على البنت البكر في حال كان أبوها أو جدّها لأبيها حيّين، أنْ لا تتزوّج إلاّ برضاهما، في المقابل ليس لهما الولاية عليها بأنْ يزوّجاها برضاهما ـــ على الأحوط استحباباً ـــ وهو رأي لا يقول به كلّ الفقهاء بل بعضهم، فهناك رأي شيعيّ كبير يقول بأن لا ولاية للأب أو الجدّ للأب على الفتاة ولكن يستحبّ لها أن تستأذنهما، بل يستحبّ لها أن تستأذن أخاها أيضاً باعتبار أنّ رجوعها إلى أبيها أو أُمّها أو جدّها لأبيها أو حتّى لأمّها ولمن يحوطها يحميها من الاختيار الخاطئ ومن الاستغلال جرّاء قلّة خبرتها. وهناك رأي يقول لا بدّ للفتاة من استئذانهما على الأحوط وجوباً. لكن إذا كانت البنت بكراً وفاقدة للأب والجدّ، فلا ولاية لأحد عليها، ولا يجب أن تستأذن أحداً. ممّا يوحي بأنّ مَنْ قالوا بوجوب استئذانها الأب أو الجدّ في حال كانا حيّين لم يقولوا ذلك من ناحية الولاية ومن ناحية قصورها في الاستقلال بأمرها فلو كانت العذراء قاصرة لكان من الضروري في حال فقد الأب والجدّ، أن يصبح الحاكم الشرعي هو وليّها علماً أنّ أحداً لم يقل بذلك، ممّا قد يوحي بأنّ المسألة تقوم على فكرة احترام الأب والجدّ للأب، وليست مسألة قرار بقصورها.

ـــ في الحياة اليومية تشهد الأُسَر مشاحنات يومية نتيجة متابعة تفصيليّة من الأخ لحياة أخته فهو يتابع أصدقاءها ومكالماتها وأوراقها الخاصّة.. إلخ.

تتعلّق هذه السلوكات بالعادات والتقاليد الاجتماعية التي ترى في انحراف البنت إسقاطاً لشرف الأسرة والعائلة بأكملها، مع ملاحظة أنّ البنت ضعيفة أمام الذَّكَر، فهو يملك إن أراد الاعتداء عليها جسدياً دون أنْ تتمكّن من الدفاع عن نفسها بسبب عدم تكافؤ قوّتهما الجسدية وحتّى النفسية، نتيجة قلّة خبرتها بالحياة والمجتمع، وبما أنّ اندماج الرجل بالمجتمع أكثر من اندماج المرأة، فقد تتعرَّض الفتاة للإغراء أو للخداع أو حتّى للاغتصاب كما يحصل في كثيرٍ من الأحيان، حتّى في أكثر المجتمعات حضارة، لذلك يعمل الأهل، الذين يرون أنّ شرفهم مربوط بشرف ابنتهم على مراقبتها حتّى لا تخدع ولا تستغلّ ولا تغرى ولا تنهار أمام قوّة الرجل الجسدية إذا ما حاول الاعتداء عليها. لذا فإنّ الملاحقة الدقيقة لحركات البنت تنطلق من فكرة حمايتها.

ـــ تحت عنوان الخوف على شرف الفتاة الذي أشرتم إليه، يمتنع بعض الأهل عن إعطاء الفتاة حريّة الخروج منفردة في أي نشاط ترفيهي إلاّ برفقة أخيها، هل ترون ذلك أمراً منطقياً؟

هناك منطلقان يمكن ذكرهما هنا، يشكّلان دافعاً لهذا السلوك.

الأوّل: وجود مَنْ يملك حقّ الولاية على البنت، أو بالأحرى امتلاك الذَّكَر حقّ الولاية على الأنثى، وهو أمر أنفيه مطلقاً.  

الثاني: وجود ظروف اجتماعية قد تدفع البنت باتّجاه الانحراف، هنا لا بدّ من وضع الضوابط التي يمكن أن تحميها من نفسها ومن الآخرين. تماماً كما هي الحال بالنسبة إلى الولد، الذي قد يضعف أمام إغراء فتاة ما أو حتّى شباب يحيطون به ويدفعونه إلى ممارسة السلوك الشاذّ وما إلى ذلك، ففي حالات كهذه إذا ما كان الولد أو البنت في مستوى من الضعف أمام قوّة الآخرين، لا بدّ من مرافقتهما لحمايتهما من الضغط أو حتّى من الإغراء.

ـــ هل تؤمّن القوّة البدنية للفتاة الحماية من الانحراف برأيكم؟

قد يكون للقوّة البدنية دور في حال تعرّض الفتاة للاعتداء الجسدي كما هي الحال في الاغتصاب، وأمّا المخاطر الأخرى، فتحتاج الحماية منها إلى قوّة الشخصية، بحيث تؤمن بالمبادئ التي تحافظ عليها في نفسها وفي المجتمع الذي تعيش فيه، أو تملك الوعي الذي تستطيع به مجابهة كلّ أشكال الإغراء والخداع والغشّ.

 

 

 

 

 

 

 

 

(10) الأطفال والعنف

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

العنف داخل الأسرة

ـــ ما الدافع الذي يحمل الأهل على استخدام العنف في تعاملهم مع أولادهم؟

يميل الأهل إلى عدم إتعاب أنفسهم باتّباع الوسائل الطويلة الأمد في تربية أولادهم، باعتبار أنّ تمرّد الطفل أو انفعاله أو ما أشبه ذلك، قد يزعجهم بشكلٍ آني فيعمدون إلى معالجة الموقف بإسكاته أو بإبعاده عن هذا الجوّ أو ذاك، أو بدفعه إلى الدرس وما إلى ذلك عبر الضغط عليه بشكلٍ مباشر كالضرب أو النهر وغيره، دون أن يدركوا النتائج السلبية الطويلة الأمد لاستخدام هذا الأسلوب على شخصية الولد، وما يمكن أن يتركه من تأثيرات سلبية على نفسه، وهي آثار تتجاوز النتائج الإيجابية السريعة التي حصلوا عليها من خلال العنف.

لذلك فإنّنا نوصي الأهل بأنْ لا ينظروا إلى نتائج العنف بعينٍ واحدة بل أنْ ينظروا إليه بشكلٍ كلّي لجهة تأثيره قوّة وضعفاً على شخصية الطفل ككلّ، والاستعاضة عنه بالبحث عن أفضل الوسائل التي تكفل اقتلاع السلوكيات الانحرافية من جذورها دون إيقاعه في مشاكل أخرى قد ترهق نفسيّته، أو قد تعقّد علاقتهم به في المستقبل. لأنّ هذه التعقيدات النفسية قد تخلق من الطفل شخصاً يختزن التمرّد رغبة في الثأر من الاضطهاد الذي يلقاه من أهله. وربّما تزيد رغبته في السلوك الممنوع عنه بالعنف، لأنّ العنف لا يقنع ولكنّه يسكت دون أن يزيل ميول الانحراف وتأثيراتها على الشخصية، وربّما يخلق موقفاً عدائياً من الأهل بحيث يفقد حبّه لهم بطريقة أو بأخرى. ولذلك نوصي الأهل أنْ يصبروا على أخطاء الطفل ويعالجوها بالحكمة والنَفَس الطويل تماماً كما يعالج الطبيب المرض.. نوصي الأهل أن يصبروا على أولادهم ويعالجوا انحرافاتهم بحكمةٍ وتروٍّ كما يعالج الطبيب مرضاه بإعطائهم الجرعات المنتظمة التي تشفي المرض بشكلٍ دقيق وحكيم.

وهناك نقطة نحبّ أنْ نؤكّد عليها وهي أنّ الأهل لا يعتمدون العنف دائماً بهدف تربوي، إنّما بغرض التنفيس عن الغيظ الكامن داخل نفوسهم بسبب ضغوطات خارجية سواء أكانت تلك الضغوطات عاطفية أم وظيفيّة أم سياسية أم اقتصادية أو ما إلى ذلك، فإذا أخطأ الطفل وجدوا فرصتهم في التنفيس بطريقة يبرِّرها لهم مَنْ يؤمنون بهذا الأسلوب في تربية الأطفال، وهم يعرفون تمام المعرفة أنّ هدفهم من ذلك ليس تربية الطفل ولكن مجرّد التنفيس عمّا لديهم من عقدة. لذلك قد يندم الأهل غالباً عندما يشاهدون آثار عنفهم على جسد الأولاد أو نفسيّتهم، أو عندما يكتشفون أنّهم ضربوا الطفل ضرباً مبرحاً أو أساؤوا إليه إساءة بالغة، وأنّ ذلك لم يؤثّر على سلوكه الخاطئ وقد يستغفرون الله من ذلك.

هناك حديث نبوي شريف يقول "نهى النبيّ عن الأدب وقت الغضب" فلا يجوز للوالد أن يؤدّب وقت الغضب باعتبار أنّ غضبه سوف يؤثّر على أسلوب التأديب ووسيلته بما يؤدّي إلى ظلم الطرف الآخر، لأنّ العوامل التي أثارت غضب المؤدّب ستكون الدافع إلى اعتماد هذا الأسلوب وليس الدافع التربوي البحت.

وعلى كلّ حال، نقول للأهل من الناحية الشرعية الفقهيّة إنّ الضرب محرَّم في الحالتين سواء استعملوه كأسلوب تربوي أم كوسيلة من وسائل التنفيس عن عقدهم الشخصية، لأنّ الله لم يسلّط المربّي أيّاً كان أباً أو أُمّاً أو أخاً أو معلِّماً على الطفل، ولم يمنحه الحقّ في أن يعنّفه باعتبار أنْ لا فرق بين الطفل وبين أيِّ إنسانٍ راشد في حرمة العنف الموجّه ضدّه، فالطفل إنسان تماماً كالإنسان الراشد، وربّما كانت عقوبة العنف الموجّه للطفل من الناحية الشرعية أكبر لأنّ "ظلم الضعيف أفحش الظلم" كما ورد في بعض الأحاديث الشريفة وقد ورد الحديث: "إيّاك وظلم مَنْ لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله".

ولذلك فإنّ ظلم الطفل بممارسة العنف ضدّه، يمثّل معصية كبيرة عند الله سبحانه. وقد يقول قائل إنّنا قد نصل إلى مرحلة لا نملك فيها حماية الطفل وإنقاذه من النتائج السلبية لسلوكه إلاّ بالعنف، ممّا يجعل امتناعنا عن العنف امتناعاً عن إنقاذه ممّا قد يهلكه عقلياً أو جسدياً أو اجتماعياً أو تربوياً أو ما إلى ذلك ونحن نقول: أوّلاً على الإنسان أنْ لا يستعجل الحكم باستعمال العنف، بل يجب عليه أن يدرس الأمر بدقّة متناهية تماماً كما يدرس الطبيب الظاهرة المرضية الموجودة في جسد الإنسان، فيجري الكثير من التحاليل والفحوص والصور، إلى أنْ يقتنع بحاجة هذا المرض إلى عملية جراحية فيجريها، لأنّ العنف أشبه بالعملية الجراحية، وإذا ما تمّ له كلّ ذلك ووصل إلى حتمية استخدام العنف مع الولد، استخدمه بطريقة مدروسة. فقد تكون مصلحته في استخدام العنف الكلامي، أو العنف الاقتصادي أو العنف الجسدي، ولا بدّ أيضاً من أن يكون استخدام العنف على مراتب بحيث لا يؤدّي إلى احمرار الجسد الذي يتحمّل معه المعنِّف الديّة الشرعية.

بعبارةٍ أخرى إنْ حال المربّي مع الطفل كحال الطبيب مع المريض، وفي الوقت الذي يتعامل الأول ما حالة مرضية في الشخصية والسلوك بهدف القضاء عليها، يتعامل الثاني مع حالة مرضية في الجسد.  

إنّ القاعدة التربوية الإسلامية تقول لا يجوز اللّجوء إلى العنف إلاّ بعد استنفاد كلّ الوسائل الأخرى، واكتشاف عدم فعاليّتها في معالجة الظاهرة الانحرافية التي تشكّل خطراً على شخصية الولد في أكثر من جانب. وعندما نجد أنّ العنف ضروري لإنقاذ الولد لا بدّ من أن ندرس أسلوب استخدامه، فلا يجوز أن نستخدم وسيلة أشدّ، إلاّ بعد استنفاد الوسيلة الأخفّ تماماً كما هي حال الطبيب مع الدواء الذي يعطيه للمريض.

ـــ على الرغم من وجود كلّ القوانين التي تردع استخدام العنف من البلاد المتقدّمة كما ذكرتم إلاّ أنّه ظاهرة متفشّية في الخارج كيف تفسِّرون ذلك؟

دورة العنف التي يعيشها المجتمع الغربيّ بسبب أفلام الرعب وبرامج التلفزيون والموسيقى الصاخبة وأخبار الحروب، وصور العنف الموجودة في العالم، أغرقت الطفل في جوّ من العنف القاتل، لاسيّما مع انتشار الأسلحة بين أيدي الناس كما في أميركا. إنّ هذا العنف الاجتماعي الذي تتضافر في صناعته عدّة مؤثّرات في المجتمع الأميركي أو المجتمعات المماثلة، هو الذي جرَّد إنسان تلك المجتمعات من نبض العاطفة وجعله إنساناً معقّداً يميل إلى العنف ويلجأ إليه، فنحن نعرف أنّ الأسرة كادت أن تموت في الغرب وأنّ الأبناء يهملون آباءهم حتّى يموتوا وحدهم دون أنْ يتفقّدهم أحد، وأنّ الأب يهمل ولده عندما يبلغ فيطرده من البيت ليبحث عن عمل بنفسه، والمرأة تسقط أجنّتها طلباً للحريّة وما إلى ذلك. من الطبيعي، أن تنعكس أجواء العنف الاجتماعي الذي يعيشه الناس سلباً على نفسيّة المعلّم والمربّي وما إلى ذلك، ولكنّنا نلاحظ إلى جانب ذلك أنّ التشريع القانوني يعمل على وضع الحلول لتلك المشاكل، فإذا ما ضرب أيّ من الأب أو الأُم الولد، كان بإمكان هذا الأخير شكواهما إلى الشرطة التي تتدخّل لصالحه، وقد تأخذه من أبويه لحمايته من العنف. قد يكون لهذا التشريع سلبيات ما، ولكنّ وجود هذا القانون هنا يدلّ على حرص تلك المجتمعات على حقوق الطفل.

لقد حرَّم الإسلام كلّ أنواع العنف ضدّ الطفل، إلاّ في حال كان فيه وسيلة لإنقاذه من خطر محقّق على الجسد وعلى العقل وعلى الروح.

إنّ القاعدة في ذلك كلّه هي تحريم الظلم أي التصرُّف الذي لا يستحقّه الإنسان من ناحية شرعية وإنسانية، وقد ركَّز الإسلام في هذه المسألة على مفهوم الرحمة، الذي أراد للإنسان أن يحكم تعامله مع الآخر، لاسيّما إذا كان ضعيفاً وعاجزاً عن الدفاع عن نفسه، وغير قادر على فرض الطريقة المناسبة للتعامل معه مِن قِبَل الآخرين.

 

 

 

 

التحرُّش الجنسي بالأطفال

من أخطر ما يمكن أنْ يتعرّض له الطفل فضلاً عن العنف، الاستغلال الجنسي الذي تحوَّل إلى ظاهرة في الغرب، كيف تفسِّرون بروز هذه الظاهرة هناك، وما هي الأُسس الإسلامية التي تحمي مجتمعنا منها؟

إنّ موضوع الاستغلال الجنسي للأطفال هو أحد تجليّات المبالغة في التعويل على لذّة الجنس في المجتمع المادّي، بحيث يتقدَّم إرواء ظمأ الشهوة على كلّ الاعتبارات الأخرى. في هذا الإطار يأتي تشريع الغرب للشذوذ الجنسي، إلى درجة الاعتراف بزواج طرفين من نفس الجنس، أي زواج الذكر بالذكر وزواج الأنثى بالأنثى ممّا يتنافى مع طبيعة ما أعدَّ له الجسد البشري من وظيفة جنسية، كلّ ذلك بعنوان حريّة الفرد في إشباع حاجاته الجنسية بالطريقة التي يراها هو مناسبة، حتّى بما يخالف الطبيعة.

إنّ هذا الجموح الجنسي من الطبيعي أن يتحوّل في كثير من الحالات، إلى حالة عدوانية ضدّ الآخر، لاسيّما إذا كان الآخر ضعيفاً، لهذا نجد انتشار ظاهرة اغتصاب النساء الضعيفات خصوصاً واستغلال حاجتهنَّ المادية، والاتّجار بجسدهنّ في سوق الرقيق الأبيض. هذه الحالة الاستغلالية طالت أيضاً الأطفال سواء أكانوا ذكوراً أم إناثاً، إنَّ سبب كلّ ذلك فقدان العمق الإنساني الذي يستدعي احترام الطفولة في ضعفها وفي حاجتها إلى النموّ الطبيعي، وهو أمر يعكس حالة عنف بشري شائع حيث يمارس القوي الوحشية ضدّ الضعيف عندما تغيب القِيَم التي تردعه عن استخدام قوّته بشكلٍ ظالم جسدياً أو روحياً.

أمّا الإسلام فقد حرَّم على الإنسان من حيث المبدأ، كلّ أشكال الممارسة الجنسية غير الطبيعيّة وحلَّل له الجنس الطبيعي فقط في دائرة الزواج، وحكم على مَنْ يمارس الجنس خارج دائرة الزواج أو بطريقة شاذّة كاللّواط أو السحاق، بحدّ شرعي يصل إلى درجة الإعدام، ذلك أنّ مَنْ يزني رجلاً كان أو امرأة ـــ وهو غير محصن يجلد مئة جلدة، أمّا المحصن فيعدم، كما يعدم أيضاً مَنْ يمارس اللّواط أو السّحاق لأنّ هذه الممارسات من الكبائر التي قد تدمّر حياة الإنسان إذا ما تحوّلت إلى ظاهرة عامّة.

من هنا، فإنّ استغلال الأطفال جنسياً يُعتبر جريمة مزدوجة في هذا المجال، لذلك وضع الإسلام حواجز ماديّة تحول دونها، ومن هذه الحواجز العقوبات الحاسمة التي لا مجال للتساهل فيها. بالإضافة إلى القِيَم الروحية التي أكّد على غرسها في نفس الإنسان من عفّة ورحمة واحترام الطفولة واحترام الإنسان الآخر، وعدم استغلاله في أيِّ أمر مادي أو شهواني.

ـــ على صعيد الوقاية من استغلال الأطفال جنسياً هل يوجد تشريعات أو توجيهات إسلامية تمنع تفتُّح الغريزة الجنسية عند الولد؟

لقد وضع الإسلام نظاماً كاملاً لحماية الإنسان ذكراً وأنثى من تفتّح الأحاسيس الجنسية قبل أوانها، ومنها ما يمثّل حواجز معنوية بين الإنسان والإنسان، كالفصل بين الأطفال في المضاجع ما قبل سن تفتُّح الإثارة بقليل "وفرِّقوا بينهم في المضاجع". المراد من التفريق بينهم في المضاجع عدم التصاقهم ببعضهم بالنوم في فراشٍ واحد في السنّ الذي تستيقظ فيه الأحاسيس الجنسية حذراً من الانحراف المبكر واحتياطاً للأخلاق. كما أنّه منع الكبار من تقبيل الأنثى أو احتضانها إذا ما اقتربت من سنّ البلوغ، كما وضع نظام الفصل بين الجنسين في كثيرٍ من الأماكن المثيرة سواء عند الصغار أو الكبار، كالحمّامات أو المسابح وما أشبه ذلك.

إنّ الإسلام عندما حدَّد إشباع الغريزة الجنسية في إطار الزواج حاول وضع الحواجز النفسية والمادية التي تحمي الإنسان من نفسه ومن الآخرين. وأمّا ما يقوله البعض عن فعالية الأخلاق في حماية الإنسان من الانحراف، فجوابنا على هؤلاء أنّ حالات التماس المباشر بين الذَّكَر والأنثى قد تحمل الرغبة على اقتحام الجسد بحيث تسقط القِيَم أمام شدّة الجوع والظمأ، الذي يتحدّى إرادة الإنسان في حاجاته، وهذا ما نلاحظه في موقف الإنسان حيال كثير من الرغبات المادية التي تشدّه الأهواء إلى تلبيتها بحيث تضعف إرادته أمامها، ومن هنا وضع الإسلام الحواجز المادية إلى جانب الحواجز الروحية كوسيلة لحماية الإنسان من نفسه، حتّى لا يضعف أمام المؤثّرات الخارجية لما نعرفه من أنّ التأثير الخارجي قد يكون أقوى من المناعة الداخلية التي يحملها الإنسان.

انحراف الأحداث

ـــ بالنسبة لموضوع انحرافات الأطفال هل يحمّل الإسلام الولد مسؤولية ارتكابه جريمة كبرى كالقتل والسرقة وما يعرف بجنوح الأحداث؟

هناك خطّان في هذه المسألة: خطّ المسؤولية الجزائية أو الجنائية التي تترتَّب على المجرم جرّاء ارتكاب الجرم، والإسلام يُعفي غير البالغ من ذلك لأنّه "رفع القلم عن الصبيِّ حتّى يحتلم"، وخطّ المسؤولية التربوية، التي تقتضي معاقبة الطفل وقايةً له من الانحراف المستقبلي عندما يقوم ببعض الجرائم أو الانحرافات حيث يفترض بوليّ أمر الولد في الجانب العام أو على الأولياء بشكلٍ خاص، القيام بتأديب الطفل بطريقة لا تصل إلى مستوى إنزال الحدّ الإسلامي به ولا تتساوى مع الحدود المترتّبة على الكبار، من أجل تأديبه ووقايته من نفسه ومن الظروف المحيطة به.

ـــ هل يكون الطفل في هذه الحال مجرماً، ألاَ ترون في إطلاق صفة مجرم أمراً قاسياً؟

إنّنا نطلق هذه الصفة من خلال موضوعية الجريمة التي تتمثَّل بالنتائج القاسية تجاه الآخر، وإنْ لم يكن الطفل مجرماً بمعنى المسؤولية الشرعية.

 

ـــ ما يقوم به الولد يكون عادة نتيجة التربية التي يتلقّاها، ألاَ ترون أنّ الأهل يتحمّلون مسؤولية انحراف الولد في حال جنوحه؟

إنّ مسؤولية التربية عن انحرافات الصغار هي نفس مسؤوليتها في انحرافات الكبار، فقد يخضع الفرد كبيراً أو صغيراً لبعض التعقيدات النفسية جرّاء البيئة القاسية التي عاش فيها، طفلاً أو راشداً، لكنّ الإسلام لا يُعفي الإنسان من المسؤولية لمجرّد وجود بعض المؤثّرات التاريخيّة أو الخفيّة داخل نفسه، إلاّ إذا تحوّلت تلك المؤثّرات إلى حالة مرضية لا يملك معها أيَّ اختيار بحيث يندفع إلى سلوك الانحراف اندفاعاً لا شعورياً، فإنّ ذلك يُلحقه بفاقدي العقل والإرادة، والإسلام لا يعاقب إنساناً فَقَدَ عقله أو إرادته، كما لا يعاقب مَنْ يتصرّف في صباه تصرُّفات سلبية.

إنّنا نعتقد أنّ الأهل يتحمّلون جزءاً من المسؤولية، إذا ما أهملوا أولادهم أو وجَّهوهم توجيهاً يؤدّي بهم إلى سلوك الإجرام. لذلك قد يعاقبهم الله على ذلك بطريقةٍ وبأخرى بالقدر الذي يتحمّلونه من المسؤولية، كما قد يثيبهم على صلاح ولدهم، كما تشير بعض الأخبار التي تقول إنّ الله قد يغفر للإنسان نتيجة صلاح ولده.

تمرُّد الناشئة على الأهل

ـــ تقدّم الأفلام والمسلسلات الأجنبية التي تعرض على شاشاتنا نماذج لعلاقة، تغري الناشئة بالتمرُّد على آبائهم ومنها انفصال الأولاد ذكوراً وإناثاً عن أهلهم واستقلالهم في السكن عنهم لمجرّد بلوغ سنّ الرشد، ما موقف الإسلام من استقلالية الأبناء عن أهلهم؟

لا بدّ أن ندرس هذه المسألة من الناحية الموضوعية لجهة تأثيرها أخلاقياً على الصبيّ والبنت، وهو أمر تحدّد وجوده ومستواه الظروف الاجتماعية وما تحتويه من مخاطر فعلية، فقد نجد في استقلال الولد (صبيّاً كان أو بنتاً) عن الأهل تأثيراً إيجابياً على شخصيّته، باعتبار أنّ الاستقلال ينمّي فيه الاعتماد على النفس ويحمله على تحمّل مسؤولية نفسه، ويشعره أنّه يحدّد مسار حياته فيستقلّ بالسكن والعمل ليمارس مهمّة تقرير مصيره. فالإسلام في تشريعاته الإلزامية الترخيصيّة يعطي الولد والبنت عندما يبلغان سنّ الرشد حقّ الاستقلال عن الأب الذي كانت الولاية له، فضلاً عن حقّ الاستقلال عن الأم التي لا ولاية شرعية مستقلّة لها أساساً على الولد.

حتّى إنّنا نقرأ في الفتاوى الفقهية، أنّ للولد والبنت في حال البلوغ إذا اختلف أبواهما أو افترقا، الحقَّ في أن يختارا العيش مع أبيهما أو مع أُمّهما أو حتّى في أنْ يكونا مستقلين. وليس للأب أو للأم أن يضغطا عليهما في أيّ قرار يتّخذانه، إنّ الولد البالغ الرشيد، والبنت البالغة الرشيدة هما تماماً كأبيهما وأُمّهما يتمتّعان بحقّ الاستقلال في حياتهما في كلّ المجالات.

ولكن ربّما يحمل الاستقلال عن الأبوين بعض السلبيات التربوية باعتبار أنّ حياة الولد أو البنت داخل الأسرة قبل أنْ يستقرّا، يشكِّل لهما نوعاً من الحماية من بعض التجارب التي قد يسيء خوضهما لها إلى أخلاقيّاتهما أو إلى أوضاعهما، باعتبار أنّ عدم خوضهما لأيِّ تجربة سابقة يجعلهما فريسة سهلة للخداع ولتأثيرات الناس المنحرفين.. ولكنّ هذا الأمر يمكن معالجته بإبقاء العلاقة بين الأهل وبين الولد، الذَّكَر أو الأنثى حتّى بعد الاستقلال بالصورة التي تمكِّن الأهل من حمايتهما من الانحراف أو من الخداع وما إلى ذلك، بحيث لا يكون استقلالهما سبباً في انقطاعهما عن الأهل كما يحدث في الغرب، إنّنا لا نفرّق من حيث طبيعة الأمور بين أنْ يستقلّ الولد عن أهله بعد أنْ يتزوّج أو قبل أنْ يتزوّج. إنَّ الزواج لا يحقّق للولد استقلالاً لم يكن له سابقاً بل هو جزء من استقلاليّته، كما هو الحال بالنسبة للبنت أيضاً فالزواج لا يحقِّق لها شيئاً جديداً لجهة استقلالها عن الأهل، إلاّ من حيث ارتباطها بإنسانٍ آخر. لقد جعل الإسلام الرشد بعد سنّ البلوغ أساساً للاستقلال حيث تحدّث عن اليتامى في قوله تعالى: {حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ...} [النساء : 6] كناية عن الاستقلال الاقتصادي الذي قد يتبعه الاستقلال الاجتماعي من دون فرق بين البنت وبين الولد.

ولكنّنا نجد الكثير من الإيجابيات في بقاء الولد ـــ والبنت خصوصاً ـــ مع أهلهما قبل أنْ ينطلقا لتحمُّل مسؤوليّتهما في حياة خاصّة مستقلة، فالأسرة تشكِّل حماية ضرورية لهما من الناحيتين العاطفية والعملية. إنّ بقاء الأولاد مع أهلهم هو الخيار الأفضل لهم لجهة ما يؤمّنه من حماية من الانحراف ومن كثيرٍ من نقاط الضعف. ولكن لا بدّ أن نرفق هذه النصيحة بالتأكيد على ضرورة أنْ لا يتعسَّف الأهل أباً أو أُمّاً مع الأولاد فيفرضا عليهم شخصيّتهما وآراءهما أو يضطهدا قراراتهم، بل إنّ على الأب والأم أنْ يعاشرا أولادهما على أساس أنّ الله جعلهما مستقلين وأنّ لهم فكراً وإرادة وقراراً في كلّ شؤون حياتهم ممّا يجعلهما لا يتدخّلان إلاّ من باب النصيحة أو من باب الحبّ الذي يكنَّانه لهم، فيأتي آنذاك الضغط عليهم بعنوان عاطفي لا يسيء إلى شخصية الأولاد ولا يلغيها.

 

 

 

 

 

 

 

 

(11) اليتم والإعاقة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الاهتمام باليتيم

ـــ مَنْ هو الطفل اليتيم شرعاً؟

اليتيم في الشرع هو الولد ـــ غير البالغ ـــ الذي فَقَدَ أباه ذَكَراً كان أو أُنثى، ولكن قد يشتبه الناس في العرف العام فيطلقون صفة اليتيم على مَنْ تجاوز سنّ البلوغ بقليل إذا لم يكن هناك مَنْ يعوله أو يشرف عليه.

ـــ حسب تعريفكم فإنّ اليتيم هو مَنْ فَقَدَ أباه، إذاً لا يطلق على مَنْ فَقَدَ أُمّه صفة يتيم؟

قد يعود ذلك إلى أنّ قضية اليتم هي قضية ترتبط بالإعالة المادية التي يفقدها الطفل بفقدان أبيه، باعتبار أنّ الأب هو الذي يرعاه ويرعى أُمّه بشكلٍ مباشر عبر جهاده في سبيل الإنفاق على عائلته، لهذا فإنّ قضية اليتم هي قضية فقد الطفل مَنْ يتحمّل مسؤوليّته المادية بلحاظ توقّف كثير من شؤون الرعاية على ذلك. ولا شكّ أنّ فقد الأُم يعني فقدان الرعاية العاطفية لكنّ تلك الرعاية لا تمثّل مقوّماً أساسياً في استمرار حياة الولد، وهي رعاية قد يفقدها من طُلِّقت والدته وتزوّجت من غير أبيه. لهذا نحن لا ننكر أنّ للعاطفة الأموميّة دوراً حيوياً في حياة الطفل، لكنّ ذاك الدور ليس شرطاً أساسياً من شروط استمرار حياته.

ـــ نحن نعرف أنّ للعاطفة دوراً هامّاً في بناء شخصية الطفل وهو أمر تقدّمه المرأة، فكيف يكون مصدر اليتم فقدان الأب فقط؟

صحيح أنّ العاطفة التي تقدّمها الأم تلعب دوراً هاماً في بناء شخصية الولد، ولكنّ ذلك لا يلغي الدور الأساسي الذي يلعبه وجود الأب في بناء شخصية الطفل، باعتبار ما يوحيه وجوده من قوّة تكفل تقوية شخصيّته وتمنحه الشعور بالأمان أكثر ممّا تؤمّنه له العاطفة الأمومية أوّلاً، وباعتبار ما يؤمّنه له من شروط العيش، التي تكفل استمراره من طعام وملبس ومشرب ومسكن وما إلى ذلك، وكلّها أمور لا يستوي العيش بدونها، وبدون الرصيد المادي الذي تقوم عليه.

ـــ يقال أنّ الأسرة تتفكَّك بوفاة الأم، ويحصل العكس في حال وفاة الأب ما رأيك؟

لا أظنّ أنّ هذا الأمر دقيق في تقييم وضع الأسرة بعد وفاة أحد أعمدتها، إنّ وفاة الأم قد تدفع الأسرة إلى التشتُّت إذا لم يكن هناك رعاية أبويّة تعوّض فقدانها، وهذا ما أكَّد عليه الإسلام في مسؤولية الحضانة حين جعل الحضانة على عاتق الأب عموماً، فهو وإنْ أعطى الأم حقّ الحضانة لمدّة سنتين أو حتّى سبع سنوات، لكنّ هذه الحضانة قابلة للإسقاط بإسقاطها فيما حضانة الأب غير قابلة له لأنّها من شؤون ولايته، لكن إذا مات الأب فإنّ الحضانة للأُم سواء كان الجدّ موجوداً أم لا، فليس لعائلة الولد أيّاً كانت درجة قرابتهم به أن يأخذوه من أُمّه، فكأنّ الإسلام في تشريعه هذا يلحظ أنّه لا بدّ للولد من أن يعيش مع أحد والديه، فإذا فَقَدَ أباه فإنّ أُمّه هي التي تتولّى حضانته.

فالإسلام لا يترك اليتيم ضائعاً بل يحمِّل الدولة مسؤوليّته، وعندما نتحدّث عن الحاكم الشرعي نتحدَّث عنه باعتباره ممثّل الدولة ورمزها الذي يشرف على الأيتام وغير البالغين وعلى الصبيان والمجانين، وعلى اللّقطاء وعلى كلّ مَنْ يخشى ضياعهم وهدر حقوقهم وهذا ما يسمّى بالأمور الحسبيّة.

ويحمل المجتمع على نحو الوجوب الكفائي، مسؤوليّتهم بحيث يجب على الجميع رعايتهم فإذا قام بهذا  العمل البعض سقط عن الكلّ، وإذا لم يقم به أحد سقطوا جميعاً. لذلك فإنّ رعاية اليتيم تمثّل مفردة من مفردات رعاية الحالات الضعيفة، التي لا تحظى برعاية مباشرة مِن قِبَل أشخاص تربطهم بها علاقة قرابة وما أشبه ذلك.

 

 

ـــ هل نستطيع القول إنّ الإسلام سدّ كلّ الطرق والنوافذ حتّى لا يضيع الأطفال؟

إنّنا نجد أنّ الخطاب يتوجّه إلى المجتمع من خلال قوله تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ...} [النساء : 6]، كما نقرأ في الجانب السلبي {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء : 10]. كما نجد في خطاب الإمام عليّ (عليه السلام) قوله: "الله الله في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم ولا يضيعوا في حضرتكم". فالمجتمع معنيٌّ برعاية الأيتام في جميع مواقعه، والحاكم الشرعي يجسّد رمز الدولة باعتبارها المسؤولة عن قيادة المجتمع وعن تنظيم ورعاية الحالات الصعبة فيه، فإذا فقدت الدولة أو فَقَدَ الحاكم الشرعي أصبح المجتمع كلّه مسؤولاً عن رعاية الأيتام. فمن مسؤولية الدولة أن ترعى أيّة حالة خارجية سواء أكانت يتماً أم جنوناً أم حتّى فقراً. ولذلك جعلت الزكاة للفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين (أصحاب الدِّين الذين لا يستطيعون وفاء دَينهم) وفي سبيل الله. لقد فرض الإسلام أوّلاً في تشريعاته وفي المسؤوليات التي ألقاها على كاهل الدولة رعاية كلّ الحالات التي لا تملك الاستقلال في تدبير شؤونها، واليتيم أحد هذه الحالات.

ـــ تركِّزون على دور الدولة في رعاية الأيتام وهو أمر لا يمكننا التعويل عليه في مجتمعنا اليوم، ونحن نعرف أنّ التكافل الذي كان موجوداً في الماضي هو الذي كان يحمي اليتيم من الضياع فإذا توفي الأب تولّى الجدّ أو العمّ أو الخال رعايته، من الملاحظ أنّ ظاهرة التكافل هذه في طريقها إلى التلاشي رويداً رويداً في مجتمعنا ما السبب في ذلك؟

هذا النمط من التكافل، منشؤه دافعان ديني واجتماعي، فقد أكّد الدِّين على الاهتمام بذوي القربى وعلى صلة الأرحام، كما أكّد في الخطّ العام على رعاية اليتيم. وكان الناس بلحاظ ذلك سواء بوعيٍ منهم أم لا وعيهم يعملون على رعاية أيتامهم تحت عنوان صلة الأرحام {... وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ...} [النساء : 1]. أمّا الدافع الاجتماعي الذي كان يحرّكهم فالخوف من سقوط الأسرة، باعتبار الأسرة التي يضيع أيتامها في وجودها قد تسقط معنوياتها وتخسر احترامها بين العائلات.

إنّ كثيراً من هذه التقاليد الاجتماعية تعود برأيي إلى التشريع والأخلاقيات الإسلامية، وهذا ما يميِّز المجتمع المسلم عن غيره. فالمجتمع المسلم هو مجتمع تكافلي، والخطاب الإسلامي زاخر بالنصوص التي تدعو إلى التكافل، ونذكر أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) على سبيل المثال "مَنْ لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"، "ما آمَنَ بي مَنْ بات شبعان وجاره جائع"، "مثل المسلمين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحُمّى". وقال الله تعالى: {... وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر : 3]. إنّ صفة الرحمة التي يتّصف بها الله، والتي أراد أن تطبع المجتمع المسلم، تمثّل قيمة إسلامية عليا، فنحن عندما نقرأ {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ...} [الفتح : 29]، نفهم أنّ طابع المجتمع المسلم هو طابع قائم على التراحم بين الناس. من الممكن أن تكون كلّ هذه القِيَم، قد تحوّلت إلى عادات وتقاليد اجتماعية تعبّر عنها قوانين العيب وما إلى ذلك، لكنّ المجتمع الآن ابتعد عن القِيَم الروحية، وتوجَّه نحو تقليد المجتمع الغربي بقيمه المادّية التي تمجّد الفرديّة. حتّى إنّ قوانين الرعاية الاجتماعية التي تسود في الغرب لا تقوم على الحسّ الإنساني ولكن على التنظيم الاجتماعي الدقيق.

في الإسلام عمق روحي هو أشبه بالعبادة يفترض أنْ يتحسَّسه الإنسان تجاه الآخرين، يظهر ذلك من النصوص الدينيّة المتنوّعة: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة" {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى : 9]، لرعاية اليتيم بنظر الإسلام قيمة إنسانيّة وروحيّة كبيرة تنعكس على مصير الإنسان في الآخرة، فمن يُكرم الأيتام، يُثاب من الله ويصبح قريباً منه.

 

ـــ في غياب اهتمام الدولة وتلاشي قِيَم التكافل ما هي دعوتكم للأُسَر للحفاظ على قيمة تحسّس مشكلة اليتم؟

على المجتمع المسلم أنْ يعزِّز القِيَم الروحية والأخلاق الإسلامية الإنسانية، التي تجعل رضى الله أساس حركة الفرد في الواقع وفي نفسه وفي علاقته بالآخر، بحيث تبقى هذه الإنسانية متفتّحة في وجدانه الذي ينساب في واقع القضايا الإنسانية الصعبة ابتداءً بالأسرة.

فالأسرة هي الخليّة الأولى المسؤولة عن تربية عناصرها على التراحم الاجتماعي، بحيث يعيش كلّ فرد منها روحية التكافل تجاه أرحامه، لينفتح بالتالي على الدائرة الإسلامية والإنسانية الواسعة، بلحاظ ما أعدَّ الله سبحانه للرحماء والمتراحمين والسائرين في خطّ رعاية عيال الله من ثواب، فالحديث الشريف يقول: إنّ الخلق عيال الله وأنّ الإنسان هو عبد الله مسؤولٌ عن عياله، "الخلق كلّهم عيال الله وأحبّهم إلى الله مَنْ نَفَعَ عباد الله وأدخل على أهل بيت سروراً".

ـــ يبدو لنا من خلال المعايشة الواقعية أنّ الأم التي ترعى يتيماً، تواجه صعوبة مضاعفة في تربيته، هل اليتم حالة نفسية خاصّة تفسّر تلك الصعوبة؟

إنّ منشأ صعوبة رعاية اليتيم بالنسبة للأُم، هذا الفيض العاطفيّ الذي تحسّ به الأُم التي فقدت زوجها تجاه الولد فهي تجد في ابنها مثالاً لزوجها وامتداداً له إضافة إلى كونه ابنها أساساً، الأمر الذي قد ينعكس سلباً على توازن شخصيّة الولد، فالأُم قد تسيء دون قصد عندما تُسقِط على ولدها أحاسيس الوحدة والوحشة التي تعيشها كأرملة فَقَدَتْ زوجها. لذلك لا بدّ من إضافة عنصر آخر يشارك الأم في رعاية اليتيم إمّا الجدّ أو الأعمام ممّن هم غير ملزمين شرعاً برعايته، ولكن يستحبّ الاستعانة بمساعدتهم أو حتّى الاستعانة بمؤسّسات المجتمع التي يفترض أن تتطوَّر باستمرار كي تؤمّن لليتيم الاحتضان العاطفيّ والعقليّ والخدماتيّ بحيث تعوّضه عن الفراغ الذي تركه أبوه.

ـــ كيف يمكن للأم أنْ تقوم بدور الأب والأُم معاً؟

من الصعب جدّاً على الأُم أنْ تجمع بين دوري الأب والأُم معاً، لأنّ هذين الدورين قد يكونان في بعض مفرداتهما متضادين أو متناقضين، فدور الأب يفرض عليها أن تتقمَّص شخصية القوّة بينما يفرض دور الأم أنْ تتقمَّص شخصية عاطفية وحنونة، وهو أمر يصعب على كثير من الأُمّهات تحقيقه في الواقع أو النجاح في الفصل بينهما بحسب المواقع، بحيث لا يطغى أحدهما على الأخرى.

ـــ يحكم البعض على اليتيم من ناحية تربوية أو حتّى إنتاجية، فيرى فيه طفلاً من الدرجة الثانية؟

الدرجة بالمعنى الإنساني تتّصل بقابليات الإنسان وإمكانيّاته. لكنّ هذا الحكم على اليتيم ينطلق من قضية الفقر والغنى، أي من قضية الإمكانات المادية، لذا فرض الإسلام للأيتام حقّاً في الزكاة والخمس، وحتّى في ما يتجاوزهما، وألزم الدولة برعايتهم إذا لم يكن هناك جدّ للأب، والهدف من ذلك أنْ ينشأ اليتيم نشأة طبيعية كغيره من الأطفال، لكنّ ما نعانيه سوء التطبيق الذي يعطي المجال لظهور أحكام كهذه تبخس من إنسانيّة اليتيم.

إنّ اليتم حالة إنسانية اجتماعية سلبية، ولكن على المجتمع أن يحوّل هذا السلب إلى إيجاب وأنْ يسدّ الثغرات لا أنْ يحكم على اليتيم بالقصور.

ـــ شجَّع الإسلام على بعض السلوكات العاطفية تجاه الأيتام كالمسح على رؤوسهم وما إلى ذلك، ألاَ ترون من ذلك تكريساً لشعورهم بالاختلاف أو النقص؟

إنّ الإسلام يريد لليتيم أن يستشعر عاطفة الآخرين تجاهه سواء من خلال الحركة كالمسح على الرأس مثلاً أو من خلال اهتمام المجتمع به باحتضانه وتبنّي رعايته. لكنّ حاجة الطفل للعاطفة، لا تستدعي المبالغة، فنحن عندما نتحدّث عن العاطفة، حتّى عاطفة الأب والأُم، نتحدّث عن عاطفة متوازنة وليس عن عاطفة بلا حدود، لأنّ أيّ شيء يفقد توازنه سيخلق مشكلة بدلاً من أنْ يحلّ مشكلة.

ـــ ورد في الحديث: "أدّب اليتيم ممّا تؤدّب منه ولدك واضربه ممّا تضرب منه ولدك. ألاَ يتنافى هذا الحديث مع قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى : 9]؟

لا منافاة بين هذا الحديث وبين الآية الكريمة لأنّ المراد من القهر المنهي عنه هو التعسُّف في التعامل معه والإيذاء له من موقع الانفعال الشخصي والغيظ الذاتي بما يكون ظلماً وقهراً له في إنسانيّته الطفولية، أمّا الحديث فإنّه يؤكّد على أدبه الذي يصلح أمره ويمنعه من إفساد أمره في حاضره ومستقبله وذلك من خلال إبعاده عن الأفعال السيّئة وتقريبه من الأفعال الحسنة وترغيبه في الدراسة وفي القيام بفرائضه الدينيّة ومنعه عن إيذاء الناس وإرباك أهله وغير ذلك ممّا يرفع مستواه وليس في ذلك أيّ قهرٍ ذاتي بل هو علاج صحّي تربوي لحالة مرضية تماماً كما هي الحالات العلاجية الضرورية التي تؤلم جسده ولكنّها تشفي مرضه.

ـــ نحن نعرف أنّ بعض الأيتام نتيجة هذا الجوّ من الرعاية الخاصّة وخاصّة في شهر رمضان يشعرون بالدلال أكثر من غيرهم، فهل في هذا ما يضرّ شخصيّتهم؟

يركّز بعض مَنْ يقومون برعاية الأيتام على الناحية العاطفية بحيث يتصوّرون أنّهم كلّما أعطوا اليتيم عاطفة أكثر ودلالاً أكثر كلّما تقرّبوا إلى الله أكثر، وكلّما أرضوا إنسانيّتهم أكثر، ولكن على الإنسان في أيِّ تعبير عاطفي أو في أيّ هديّة ودّ يقدّمها أنْ يفكّر بمصلحة الطفل بحيث لا تسيء تلك العاطفة إلى وجدانه وتوازنه الشخصي.

إنّ الهدف من تكريم اليتيم في الإسلام، أنْ نصنع منه رجل المستقبل أو امرأة المستقبل، بمعنى أن نهيّئ له كلّ وسائل الرعاية وكلّ الظروف التي تجعل منه إنساناً كاملاً متوازناً يستطيع إدارة أموره بوعي وقوّة واستقلال.

ـــ لماذا تقتصر مرافقة اليتيم على فترة ما قبل البلوغ فقط؟

إلى جانب مرحلة البلوغ هناك مرحلة الرشد، {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ...} [النساء : 6]، والرشد يعبّر عن النضج الفكري والعاطفي الذي يستطيع معه الولد أن يدير أموره بشكلٍ مستقلّ ويكون بمنأى عن الخداع، هذا الأمر يتعلّق بالسنّ من جهة وبالنضج الذهني من جهةٍ أخرى. ويتساوى في ذلك اليتامى ذكوراً وإناثاً.

ـــ مَنْ أَوْلَى بتربية اليتيم الأُمّ أو المؤسّسات الرعائية؟

الأَوْلَى باليتيم أمّه، ولكنّ الأم قد تنشغل عن ابنها حال الترمّل، فتضطر إلى العمل، أو قد تتزوّج، آنذاك لا بدّ من الجمع بين المؤسّسة والأم، فلا نفصل اليتيم عن أمّه فصلاً كاملاً، بل نهيّئ له كلّ الظروف ليلتقي بها ولو يومياً. ونظراً لضرورة وجود المؤسّسات لرعاية الأيتام لا بدّ من أنْ نطوِّر برامجها ومناهجها وأساليبها، بحيث لا يشعر اليتيم بالغربة أو بالعزلة عن المجتمع فيها، ولا بدّ من أنْ نهيّئ لليتيم داخل المؤسّسة الوسائل التي تشعره أنّه فيها جزء من المجتمع، ونبرمج وسائل الترفيه والعمل والإنتاج بالطريقة التي يشعر معها أنّه إنسان طبيعي يمارس حياته الطبيعيّة كبقية الأولاد. وعلى المؤسّسة أن تظلّ في حالة تيقّظ لمعرفة أيّ ثغرة قد تخلق في حياة الولد، بالاستعانة بدور الأم، الذي يفترض أن تعزِّزه لا أنْ تلغيه وتحلّ محلّه، إلاّ إذا كانت في وضع أخلاقي سيّء قد يدمّر حياة الطفل.

 

ـــ تعوّل بعض الأُمّهات كثيراً على دور المؤسّسة في رعاية ابنها، فتتخلّى عنه للمؤسّسة؟ ما رأيكم بهذا الموقف؟

تعتقد هذه الفئة من النساء أنّ المؤسّسة يمكن أن تصنع مستقبل أولادهنّ ويغفلن عادة عن أنْ صنع هذا المستقبل يحتاج إلى كثيرٍ من العاطفة التي لا يمكن تأمينها بين جدران المؤسّسات، فكما لا يستغني الإنسان بالطعام عن الشراب، فإنّ الطفل لا يستغني بالتربية المؤسّساتيّة عن التربية الأموميّة.

ـــ ما هي النصيحة التي تقدِّمونها للأُمّهات في تربية أيتامهنّ؟ وما هو الدور الملقى على عاتقهنَّ؟

لعلّ أكثر الأدوار حيويّة وضرورة هو مساعدة اليتيم على أنْ يتجاوز عقدة اليتم في بنيانه النفسي، وذلك من خلال الإيحاء إليه بأنّ فقد أبيه وإنْ كان مأساة عاطفية إلاّ أنّها لن تسقط موقعه ونموّه وحركته ولهوه ولعبه ولن تسقط حاجاته وأحلامه في الحياة، ذلك أنّه باستطاعة الأم من خلال تعاونها مع أقربائه والخيّرين تعويضه عن كلّ ما فقده. ويمكنها أنْ تعزِّز فيه القبول بفقد أبيه عبر الإيحاء له أنّه يمكن أن يكون في المستقبل صورة أبيه، وأنّ أباه يوجد به وما إلى ذلك من إيحاءات، لا نريد حصرها بمفردة معيّنة أو بصيغة خاصّة. فهذه الإيحاءات كفيلة بإخراجه من الشعور بالضعف كونه يتيماً, وكفيلة بحمايته من الشعور بالهامشية الاجتماعية، بحيث لا يتصوّر نفسه أساساً من الدرجة الثانية بين أترابه في المدرسة أو في الشارع، حتّى إذا ما منحته العطف لم تخلط بين العطف والشفقة بحيث يشعر أنّه كائن ضعيف، يتحدّث معه الناس بطريقة خاصّة تختلف عن الطريقة التي يتحدّثون بها مع الآخرين، على الأمِّ أن تُشْعِر ابنها أنّ يتمه يمثّل مشكلة حياتية عادية كالمشاكل الأخرى التي يتعرّض لها غيره من الأطفال من مرض وغيره. وأنّه إذا كان قد فَقَدَ أباه فإنّ هناك مَنْ يفقدون البصر أو السمع أو النطق أو أيّ شيء آخر في الحياة، وهو دور لا يقتصر أداؤه على الأُم وحدها بل يطال المجتمع ككلّ والأُم بالدرجة الأولى كونها الشخص الأكثر التصاقاً وتأثيراً بالولد.

لا شكّ، أنّ هذا الجهد الكبير الذي تبذله الأم في تنمية شخصية اليتيم كي يكون ولَداً خيِّراً ومواطناً صالحاً، وكي يكون إنساناً قويّاً وفاعلاً في مجتمعه يضاعف أجرها عند الله. لأنّ أداء هذا العمل يتطلَّب جهوداً نفسية وجسدية وذهنية كبيرة جدّاً، لذلك فإنّه يندرج في "أفضل الأعمال أحمزها"، فكلّما تحمّل الإنسان جهداً أكبر في عمل الخير، فإنّ الله تعالى يمنحه مقداراً أكبر من الثواب والرضوان.

الطفل المعوَّق

ـــ إحدى الحالات الصعبة التي يعاني الأهل كثيراً في معالجتها تربوياً، التعامل مع طفل معوّق، كيف ينظر الإسلام إلى الإنسان المعاق؟

أراد الإسلام للإنسان أنْ لا ينظر إلى المبتلى بأيّة عاهة من العاهات نظرة سخرية أو استهزاء أو فوقية أو ما إلى ذلك، بل أنْ يرى في ذلك بلاءً من الله كان من الممكن أنْ يبتلى بمثله أو بأكثر منه كما ورد أنّ الإنسان إذا رأى مبتلى بعاهة أو بأيِّ نوع من البلاء أن يقول "الحمد لله الذي عافاني ممّا ابتلى به غيري ولو شاء لفعل" بحيث تكون نظرته إلى المبتلى بأيِّ عاهة نظرة شكر لله على النجاة من الابتلاء، وباعتبار وجود العاهات أمراً طبيعياً قد يتعرَّض إليه الإنسان جرّاء وضعية ما قبل أو بعد الولادة، كما هي حال الأمراض التي تصيب الإنسان في عينه أو في أذنه أو نطقه أو في أيِّ عضو من أعضائه.

إنّ الإسلام ينظر إلى صاحب العاهة أو الإنسان المعوّق كأيِّ مبتلى ببلاء يصيب الناس، والبلاء الجسدي هذا، لا يعتبر من الناحية الدينيّة عقوبة للأهل أو للمعاق نفسه، ومصدر الإعاقة من ناحية نظرية أنّ الحياة التي بُنيت على المحدود لا على المطلق، لا بدّ أن تفرز مشاكل في النوع الإنساني. وهناك نقطة لا بدّ من أن نؤكّدها في هذا المجال، وهي أنّ التربية الإسلامية تفرض على الإنسان أن لا ينظر إلى الآخرين نظرة ذات بعدٍ واحد، بحيث إنّه إذا رأى عيباً في أيِّ إنسان ليس موجوداً فيه فإنّه يشعر بالفوقية عليه، لأنّ جميع الناس ناقصون ومَنْ لا يملك عيباً في الجانب الصحّي، قد يملك عيباً في جوانب أخرى من شخصيّته. ومن يتفوّق على غيره بالكمال الجسدي قد يتفوّق الآخرون عليه في مجالات أخرى، فقد نجد إنساناً كفيفاً يملك ذكاء يجعله أفضل من المبصرين، وقد نجد إنساناً جميلاً لكنّه مشوَّه من الداخل، في المقابل قد نجد إنساناً مشوَّه الجسم لكنّه جميل في عقله وقلبه وأخلاقه. إنّ النظرة الكليّة إلى الإنسان بجميع أبعاده ونقاط ضعفه وقوّته هي التي تجعلنا نتوازن في نظرتنا إلى المعاق، إلى أيِّ نوع من الإعاقة انتمت إعاقته. وهذه النظرة الكليّة تحمينا من رؤية المعاق بوصفه إنساناً ناقصاً لأنّ قضية النقص والكمال أساساً هي قضية نسبية. ونحن نعرف أنّه لا يوجد إنسان كامل، لأنّ الكمال الجسدي قد يترافق مع نقص عقلي أو روحي أو شعوري أو أخلاقي أو ما إلى ذلك. فلا يستطيع الكامل في جسده، أن ينظر إلى نفسه كإنسان كامل مقابل المعاق الذي يراه كإنسان ناقص، بل لا بدّ له من أن يقلب نظره لرؤية الأمر من جميع الجهات بحيث يرى جانب النقص فيه كما يرى جانب النقص في الآخر، وليرى جانب الكمال في الآخر كما يرى جانب الكمال في نفسه.

ـــ كيف يمكن أن نطبِّق أمراً كهذا على عالَم الأطفال ونحن نعرف قصورهم من إدراك الأشياء بكليّتها؟

علينا أن نربّي الأطفال الأصحّاء على أنْ لا ينظروا بطريقة سلبية إلى الأطفال غير الأصحّاء، وعلينا في تربيتنا للأطفال غير الأصحّاء أن نركّز على مكامن قوّتهم الداخلية في عملية إيحائية لهم، بالقوّة التي يملكون مثلاً عندما يمرّ الطفل المكفوف على سبيل المثال، بامتحانٍ ما، بنجاح في حين أنّ رفاقه من المبصرين يرسبون فنستخدم هذا النجاح في دعم معنويات المكفوف والإيحاء له بأنّ العمى لا يعني أنّه عاجز وأنّ العمى لن يحوّله إلى إنسان محتقر وناقص، بل إنّه يملك بصر القلب والعقل، وهو أشدّ قوّة وأهمية من بصر النظر الذي يملكه غيره، وهذا ما توحي به الآية الكريمة {...فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج : 46]. إنّ علينا أن نلتقط من نجاحات المكفوف ما نستطيع به دعم معنوياته وإعطاءه الإحساس بالقوّة، في المقابل، علينا أنْ نرفض أن يستعرض أيّ شخص مبصر عضلاته ونجاحاته أو قوّته أمام الكفيف.

ـــ تنتاب أهالي المعوّقين عموماً ردّات فعل رافضة لأوضاع أبنائهم تؤدّي بهم إلى اليأس، ما الذي يمكن فعله حيال هؤلاء الأهالي لمساعدتهم على تقبّل أولادهم؟

علينا أن نضع أمام هؤلاء الأهالي التجارب الناجحة للمكفوفين إذا كان ولدهم أعمى، أو التجارب الناجحة للصمّ إذا كان ولدهم أصمّ، ونعرض عليهم إمكانات تحويل إعاقة أولادهم إلى عنصر إنتاجي من خلال بعض النماذج الموجودة في المجتمع. كأبي العلاء المعرّي وبشّار بن برد، وطه حسين من المكفوفين وموزارت وهيلين كيلر ممّن لا يسمعون على سبيل المثال.. بإمكاننا حيال آباء كهؤلاء أنْ نقدّم النماذج الحيّة التي يمكن أن ترفع معنوياتهم، وتعطيهم الأمل في أبنائهم على الرغم من إعاقتهم بحيث نحثّهم على التحرّك لتوجيه هؤلاء الأبناء نحو النجاح والتفوّق. ويمكننا أن نقدّم لهم يد العون لتحسين فرص أولادهم في العمل مستقبلاً كأنْ نساعد المكفوف على أن يقرأ ويكتب، أو أن نساعد هذا الأصمّ على أن يسمع بطريقة وبأخرى وما إلى ذلك. إنّ الاكتشافات الحديثة في مجال تأهيل المعاقين، يمكن أن تُقدّم إلى الأهل بطريقة واقعية، حتّى يخرجوا من اليأس والإحباط، وأعتقد أنّ المؤسّسات الرعائية التي تكفل رعاية المكفوفين والصمّ والبكم والمعاقين بشكلٍ عام يمكن أن تكون شاهداً حيّاً على إمكانية تأهيل المعاق للحياة بشكلٍ جيّد ومعقول.

 

 

 

ـــ بعض الإعاقات على درجة عالية من الصعوبة كالتخلُّف العقلي والشلل التام بحيث لا يمكن أن يكون للأهل فيها أمل بنجاح الولد فضلاً عن تفوّقه لتعويض إعاقته الأمر الذي يحمل الأهل على اليأس من وضعية أولادهم؟

على مَنْ يعيش مع ولد معاق، أن يتبادل الأدوار مع ولده فيفكّر كما لو كان أصيب هو نفسه بمرض أو أصيب بإعاقة كيف يواجه الموقف؟! نحن نعرف كثيراً من الناس كانوا مبصرين وفقدوا بصرهم، وكانوا سامعين ففقدوا سمعهم أو كانوا أصحّاء فأصبحوا مشلولين وما إلى ذلك. على الإنسان أن يعتبر الدنيا دار بلاء، تتداخل السلبيات والإيجابيات في حركتها، وعالَم محدود لا يربح فيه الإنسان شيئاً إلاّ ويخسر إلى جانبه شيئاً آخر، ولا يحصل على نقطة قوّة إلاّ ليعاني من نقطة ضعف، لذلك على الأهل في وضعية كهذه أن يستنفروا إيمانهم بالله بحيث يرون في حالات كهذه نوعاً من قضاء الله وقدره، الذي لا بدّ من أن يكون وراءه حكمة إلهية، ويتذكّرون أنّ الإنسان كلّما صبر على البلاء أكثر وكلّما واجه البلاء بإيمان وقبول واطمئنان أكبر كلّما أعطاه الله تعالى ثواباً أكثر.

ـــ ما هو دور المؤسّسات والمجتمع ككلّ في حالات كهذه؟

لا شكّ في أنّ رعاية الناس الضعفاء، الذين لا يملكون الاستقلال في إدارة شؤونهم بشكلٍ طبيعيّ أو لا يملك أهلهم إدارة أمورهم بطريقة كافية واجب اجتماعي عام يجب أن يتعاون الجميع على أدائه بعملهم على إنشاء المؤسّسات التي تتكفَّل بتأهيل هؤلاء ورفع عبئهم عن كاهل المجتمع، بحيث تؤهّلهم لأداء بعض الوظائف التي يستطيعون أداءها. والمؤسّسات المتخصّصة تلعب دوراً في هذا المجال، قد يكون في حالات كثيرة، خصوصاً على مستوى التأهيل، وفرص التعلُّم، أفضل من البيت. أمّا دور الوالدين في البيت فينبغي أن يكون التجاوب مع المؤسّسة المتخصّصة وقبول إعاقة الولد.

 

ـــ من تداعيات النظرة السلبية إلى المعوّق، عدم شعور المجتمع بالأسى عليه عند وفاته، ألاَ ترى في ذلك قسوة كبيرة عليه وعلى أهله؟

  تنشأ هذه النظرة من إحدى حالتين، الحالة الأولى مسألة إشفاق على المعاق، لاسيّما إذا كان يتعذّب جسدياً أو روحياً أو عقلياً بسبب إعاقته بنحو يصبح موته معه راحة له، فلا ينشأ عدم الشعور بالأسى عليه آنذاك عن حالة عدوانية بل عن مشاعر إنسانية حياله، لأنّه لو عاشَ أكثر خصوصاً مع فقدان أيّة فرصة للتغلّب على عاهته لتعذّب أكثر، وهو شعور إنساني لا يقتصر على المعاقين من الأطفال خصوصاً بل يطال عادة كلّ مَنْ يتعذّبون في الحياة لأيِّ سببٍ كان.

هذا لا يعني طبعاً أن نتمنّى لهؤلاء الموت، لكنّ هذا الشعور في هذه الحالة بالذات يتأتّى عن تمثُّل مشاعرهم تجاه خصوصية أوضاعهم وصعوبتها، لا عن شعور خاص بالتعذّب من وجودهم.

الحالة الثانية هي حالة مَنْ يشعرون أنّ المعاق عبءٌ عليهم بحيث يريدون التخلُّص منه كيفما كان، إلى درجة التفكير بقتله لو جاز لهم ذلك كي يرتاحوا تماماً كما هي حال الأم الحامل التي تسعى إلى إجهاض وليدها إنْ كان فيه تشويه ما، وتعمل لذلك بكلّ ما عندها من طاقة، لأنّها لا تريد أنْ تتعذَّب به، فهي تتمنّى إسقاطه كما تتمنّى موت الطفل الذي تتعذَّب برعايته. إنّ هذه الحالة ليست حالة إنسانية ولا حالة إيمانية، لأنّ على الإنسان أن يصبر على البلاء، لاسيّما إذا كان هذا البلاء متّصلاً بحياة شخص آخر، يتحمّل مسؤوليّته ومسؤولية حياته.

نحن نعرف أنّ التماسك أمام حالات كهذه بحيث يستطيع الإنسان التغلُّب على مشاعره الذاتية القاسية، أمر صعب جدّاً ولكنّ الله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا...} [العنكبوت : 69] وتحدَّث عن المؤمنين بأنّهم كانوا من الذين {... وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد : 17]. الأمر الذي يدلِّل على أهمية الصَّبر والجهاد والتراحم في وضعيات صعبة كهذه.

(12) التربية الدينيّة

للأطفال

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

زرع بذور العقيدة

ـــ يقول الإمام الصادق (عليه السلام): "بادروا أولادكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة" في أيِّ سنة يجب أن يبادر الأهل أولادهم بالحديث وما هو المقصود بالحديث الذي تتحقَّق فيه المبادرة تلك؟ وإلامَ ترمز المرجئة اليوم؟

يقصد الإمام بالمرجئة اتّجاهات التفكير السلبية المنحرفة والتي تحمل الولد على الانحراف إذا ما أخذ ببعض مفرداتها أو إذا انفتح عليها، وهو أمر يتعلّق بالسنوات المبكرة من العمر بشكلٍ خاص.. كأنّه يريد القول حاولوا مناقشة أولادكم في أمر الانتماء للإسلام ولا تتركوهم لينفتحوا على الاتّجاهات المخالفة له كما يفعل كثير من الآباء، الذين يعتبرون التربية الدينيّة مسألة بيئيّة خالصة، لا تتطلّب اهتماماً بتنمية الناحية الفكرية التي يمكن أن تحصّن الولد، فيركن الأب أو الأم إلى فكرة أنّ البيئة التي تحيط بولدهم بيئة إسلامية ويمتنعان عن محاورة الطفل في شؤون العقيدة ويكتفيان بالحديث معه من الخارج لا من الداخل، أمّا كيف يفكّر، ما هي المفردات العقيدية والمنهجية والأخلاقية التي يتشرّبها عقله، فأمرٌ لا يدقّق فيه أغلب الناس ولا يشعرون بالحاجة إلى اكتشافه. ومن هنا فإنّ الأب أو الأم قد يعيشان اطمئناناً وهمياً إلى اتّجاه ولدهما الفكري والعقيدي باعتبار أنّه جزء من الجوّ الصالح الذي يعيشه الوالدان، كما لو أنّ احتمال الانحراف عن الخطّ العقيدي أو الأخلاقي، أمر غير ممكن، في الوقت الذي ينفتح فيه الولد على جوّ آخر بعيد عن جوّ أبويه، فتكون النتيجة أن يندم الأبوان حيث لا ينفع الندم. إنّ خلاصة هذه الكلمة هي أنّ على الأهل متابعة نمو ولدهم الديني من الناحية الفكرية والروحية والشعورية والعملية، قبل أن تسبقهم إليه الاتّجاهات الأخرى التي قد تنأى به عن الإسلام.

بادروا، تعني حاولوا أن تسبقوا الآخرين، والحديث هنا معناه الكلام الذي من المحتمل أن يتضمن القرآن والحديث النبوي إلى جانب المفردات المطروحة في ساحة الصراع الفكري.

بعبارةٍ أخرى، عندما يقول الإمام عليّ (عليه السلام): "إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية كلّ ما أُلْقِيَ فيها قَبِلَتْه" يوحي أنّه من واجب المربّي إلقاء البذور الطيّبة في هذه الأرض الإنسانية قبل أن يلقي الآخرون فيها البذور الخبيثة.

ـــ في أيِّ فترة من فترات العمر على الأهل أنْ يبدأوا تعليم الطفل أمور العقيدة الإسلامية؟ وما هي أفضل الطرق لفعل ذلك؟

علينا برأيي أن نلقي بذور العقيدة في نفس الطفل منذ أن يبدأ وعيه للأشياء، بحيث يبدأ تصوّره لله كحقيقة يرتبط بها وجوده. وهنا نذكر أنّ بعض الاتجاهات الإلحادية كانت تربط الأطفال بزعيمها، وذلك بتجويعهم لفترة معيّنة تجعلهم ينتظرون الطعام، بفارغ الصبر ثمّ يلقون الطعام إليهم من فوق ويقولون لهم إنّه من هذا الزعيم. يمكننا أن نحدّث الطفل باكراً عن قوّة عظيمة موجودة في السماء تعطيه الوزن والطعام والصحّة بالأسلوب الذي ينسجم مع ذهنية الطفل. ونحن نعرف أنّ في مجال التربية هناك أسلوب الرسوم المتحرّكة والخيال العلمي الذي يتحدّث عن الخوارق وعن البطل الذي لا يقهر، وهو أسلوب يمكننا أنْ نطوِّر بعض مفرداته، بأنْ نقدِّم عبره صورة غير مادية لله تتناسب مع مدارك الطفل، فنعلِّمه بعض الكلمات الدينية ككلمة "لا إله إلاّ الله" أو "قل هو الله أحد" التي يمكن أن نستوحيها من قصّة أم سليم الموجودة في تاريخنا الإسلامي وقد كانت إحدى الدّاعيات في مكّة ووُلِدَ لها ولَد من زوج كافر، وكان يجوز للمسلمات آنذاك أنْ يتزوّجن من الكافرين، فأخذت تلقّنه عندما بلغ سن الثانية قول "لا إله إلاّ الله" وقول "محمّد رسول الله"، بينما كان زوجها يقول: إنّك تفسدين عليّ ولدي فترد عليه إنّي أصلحه.

من هذه القصّة وغيرها من المفردات التاريخية يمكن أنْ نستوحي الأسلوب المناسب لتربية الطفل دينياً. وهذا لا يمنع أنْ نستفيد من الحاضر، فنحن نلاحظ أنّ المسؤولين عن التربية اليوم يبدأون بتعليم الطفل الكثير من المفردات في دور الحضانة، من خلال القصّة والنشيد والتمثيل والصور المتحرّكة والأفلام الهادفة.. وهو أمر يمكننا استخدامه في مجال التعليم الديني بحيث نقدّم له من المعلومات الدينيّة ما يتناسب مع عمره بشكلٍ تدريجي، بحيث يصبح حاضراً لتقبّل الدِّين ككلّ عندما نقدّمه في نهاية صباه. ومن الطبيعي، أنْ نؤازر ذلك بإيجاد المناخات الدينية التي يتنفَّس الطفل فيها الدِّين من الجوّ المحيط به، من كلمات الدعاء التي يسمعها وكلمات القرآن وأجواء الصلاة، بحيث يبدو الدِّين بالنسبة إليه أمراً طبيعياً يتّصل بالعادة وبالصوت والصورة كما يتّصل بالمفردات التعليميّة.

ـــ يتساءل الأولاد عن مكان وجود الله وشكله؟ كيف يمكن للأم أن تجيب بشكلٍ ملائم؟

بإمكان الأُم أن تستعين ببعض الأمثلة والأجواء التي تبرز حسنات الله وعظمته وكثرة نعمه عليه دون أنْ تحدِّد بدقّة صورة له، كأن تقول للولد، إنّ الله هو الذي ينظر إليه، أو يعطيه وما إلى ذلك، فنحن نجد على سبيل المثال أنّ القرآن يحدّثنا عن الله من خلال حركة الطبيعة، مثل {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ} [القصص : 71]، يمكن للأم أن تستعمل الأساليب القرآنية ولكنْ بأسلوبٍ طفولي.

ـــ تضع بعض الأُمّهات الأحراز على أعناق أولادهن أو بناتهن هل يؤيّد الإسلام تصرُّفاً كهذا؟ وما أثره الفعلي في وقاية وحماية الطفل؟

أتصوَّر أنّ لهذه المسألة إيحاءً روحياً يحمي الولد من الأمراض أو الحسد وما إلى ذلك من أمور يخافها الناس عادة، والغالب أنّ هدف الأحراز دفع المخاطر الخفيّة التي يخشاها الناس بعضهم من البعض الآخر كــ "صيبة العين" أو "الكتابة" وما أشبه ذلك. إنّني لا أشجِّع استعمال الأحراز بالطريقة الشائعة، لأنّه أسلوب قد تتداخل فيه الخرافة، ويمكن أن يستغلّ من قِبَل بائعي الأحلام والمتاجرين بمخاوف الناس، أو الذين يحاولون إنتاج الخوف من الأشياء الخفيّة كالجن والأشباح وما إلى ذلك. لكنّ استعمال الأحراز المشتملة على الأدعية وعلى أسماء الله الحسنى وعلى الآيات القرآنية أو القرآن نفسه، أمر جيّد فهي تحمل معنى إيحائياً بأنّ الإنسان يتحرّك بعيداً عن الأوهام والأشباح، بحيث لا يسقط أمام تأثيراتها، حتّى إذا ما قاربت نفسه شعر بأنّ الله يحميه منها، لكنّي لا أُشجِّع التمادي في اعتماد هذا الأسلوب، لأنّه قد يمنع الإنسان من الانفتاح المباشر على الله بالدّعاء والابتهال إليه والثقة بحمايته ورعايته وما إلى ذلك. لا مانع من الأحراز من حيث المبدأ، ولكن بشرط أن تكون منسجمة مع حقائق الأمور والكلمات الصحيحة، ولكن دون السقوط أمام ذلك كلّه.

ـــ ورد في الحديث: الغلام يلعب سبع سنين ويتعلَّم الكتاب سبع سنين ويتعلَّم الحلال والحرام سبع سنين. ما المقصود بتعلّم الكتاب وتعلّم الحلال والحرام؟

الظاهر أنّ المراد بالكتاب القرآن وربّما أُريدَ منه التعليم بالقراءة والكتاب.. أمّا السبع سنين فربّما كانت المراحل التي تتدرَّج فيها ذهنية الطفل في تقبّله للتوجيه ثمّ سنّ التكليف الذي يفرض معرفة الحلال والحرام في مسؤولياته الشرعية في السبع الأخيرة.

مسؤولية الأهل في التوجيه الديني

ـــ ورد في الحديث: "مَنْ قَبَّل ولده كتب الله له حسنة"، "ومَنْ فرَّحه فرَّحه الله يوم القيامة"، "ومَنْ علَّمه القرآن دعي بالأبوين يوم القيامة، فيكسيان حلّتين يضيء من نورهما وجوه أهل الجنّة". هل يمكننا أن نفهم أنّ الإسلام اعتبر أنّ تربية الأطفال عملاً عباديّاً؟

من الطبيعي، في منهج التربية الإسلامية أن ينهج الأب أو الأم بالولد النهج الذي يملأ قلبه بالفرح بمختلف الأساليب التي يتحسَّس فيها الفيض العاطفي الذي يحتاجه للشعور بالأمن، ولعلّ التقبيل في مدلوله الشعوري بالاحتضان والمحبّة هو إحدى الوسائل للانفتاح به على حالة الاطمئنان ممّا يؤكّد في شخصيّته الطفوليّة معنى الثقة بالنفس بما ينعكس إيجاباً على حركته المستقبلية.

 

ولعلّ من بين العناصر التربوية الروحية ربطه بالقرآن بالإيحاء له بقدسية هذا الكتاب، باعتبار أنّه كتاب الله ممّا يجعل لقراءته وحفظه وتجويده منزلة له عند الله بحيث يشعر بأنّ الله يحبّه ويمنحه الكثير من عطاياه ويفرّحه بكلّ حالات الفرح، الأمر الذي يؤسّس لاهتمامه بالقرآن في مستقبل أيّامه ويحرّك خطواته في الاتّجاه السليم الذي يجعل منه مسلماً منفتحاً على كتاب الله.. وهذا سرّ الثواب الذي يعطيه الله للأبوين في رعايتهما العاطفية والتربوية للولد باعتبار ذلك نوعاً من العبادة التي هي الخضوع لله في السير على حسب ما يحبّه ويرضاه.

ـــ هل نعهد بالأولاد لمربٍّ، أو نباشر نحن بتربيتهم على ذلك، وبشكلٍ مباشر؟

من الطبيعي أنّ للثقافة أوّلاً والأسلوب ثانياً دوراً كبيراً في الوصول إلى النتيجة المرجوة من التربية الدينية، فنحن نعلم أنّ عملية غرس المفاهيم ووعي الطفل للفكرة تحتاج إلى دقّة في الأسلوب والمفردات، وباعتبار أنّ الطفل لا يملك تحريك الأمور بنفسه، كما هو حال الكبير الذي قد يسمع ويستنتج.

على أيِّ حال هذه المسألة نسبية، فقد يحتاج الأمر في بعض الحالات إلى مربٍّ أو قد لا يحتاج، فمن الممكن جدّاً أنْ تملك الأُم الوعي وبعض الوسائل التي لا يملكها المربُّون المحترفون، لاتّصالها المباشر بالطفل، فهي تستطيع أن تقدّم له المعلومة الدينيّة عندما تهدهد له في اللّيل وتقصّ عليه الأقاصيص التي تُلهب خياله وتريح أعصابه ونفسه.

نحن لا ننفي الحاجة إلى مربٍّ بتاتاً، لكنّنا نقول إنّ التربية الدينية لا تنحصر في بداياتها بالمربّي، وإنْ كان للمربّي دور، ولكن يمكن أن تقوم به الأُم التي تملك بعض الثقافة وبعض المعرفة.

 

ـــ إذا كان الأسلوب القرآني هو الأسلوب الذي يمكن للأُم أنْ تعتمده في إيصال المعلومات عن الله، فنحن نجد في القرآن أسلوب التخويف من الله، هل يمكن اعتماد هذا الأسلوب مع الطفل؟

التخويف من الله بالمرتبة الأولى يعني أنْ يتعقَّد الطفل من الله وأن يهرب منه كما يهرب من أيِّ شيء يخافه، حتّى في المراحل العمرية المتقدّمة، فإنّ أسلوب التخويف لا يجدي في تقريب الناس من الله، لذلك نجد أنّ التعليم الإسلامي يقوم على توازن الخوف والرجاء في نفس المؤمن "ما من مؤمن إلاّ وفي قلبه نور خيفة ونور رجاء. بحيث لو وُزِن ما في قلبه لم يزد هذا على هذا ولم يزد ذاك على ذلك" لأنّ استعمال الخوف في الموضع الأول لربط الإنسان بالله، يجعله يستوحش ويهرب منه ويشعر باليأس والسقوط أمامه، كما هي حاله أمام أيِّ قوّة تريد الإطباق عليه، ولذلك قد تختزن صورة الله في لا شعوره طابعاً سلبياً بحيث تحمله على رفضه. لذلك علينا أن نوازن بين محبّة الله والخوف منه، ومبعث الخوف هنا هو مصالح الإنسان التي تضرّ بها أعمال العصيان في الدُّنيا قبل الآخرة، تماماً كما يتأثّر جسم المريض بعدم تناول الدواء، فيزداد مرضاً، بينما إذا تناول الدواء شفي من مرضه، علينا أن نستعمل هذا الأسلوب لربط الطفل بالله. بحيث تقوم علاقته به ليس على مجرّد الخوف من قوّة عليا تتسلَّط عليه، بل على الارتباط بقوّة عليا تحبّه كإنسان وتريد له الراحة فتعنّفه إذا أخطأ لمصلحته، وتجازيه إذا أحسن أيضاً لمصلحته.

علينا أن نستخدم الأسلوب الذي يشعر معه الطفل أنّ الخوف من الله يتّصل بمصلحته في الابتعاد عمّا يؤذيه ويضرّه. ولا شكّ في أنّ ذلك يحتاج إلى استغلال الوسائل الماديّة بما يفيده في المسائل المعنوية.

 

 

ـــ إذا اعتبرنا التوازن كما سلف وذكرتم، هو الشكل الأسلم للعلاقة مع الله، هل ترون علاقة الحبّ مع الله تتقدَّم ما عداها؟

عندما ندرس القرآن الكريم نرى أنّ الله يصوِّر لنا آياته في الكون، ونعمه التي لا تحصى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا...} [النحل : 18] و{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ...} [النحل : 53]. وأحد تجلّيات تلك النِّعَم اللّيل والنهار والنظام الذي يحكم الكون كلّه {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر : 49]، {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ...} [الملك : 3]، إلى آخر ما هناك. ونفهم أنّ الله يريد بذلك أن يملأ قلوبنا بمعرفة به قائمة على أساس الحبّ، لأنّ الإنسان يحبّ العظيم والمنعم والرحيم والكريم والعطوف والعالم والقوي وما إلى ذلك. إنّ الأصل في علاقتنا بالله، هو رابط الحبّ، أمّا مسألة الخوف فهدفها ضبط الإنسان أمام ما يأمره الله به وينهاه عنه، حتّى لا يختلّ التوازن في هذا المجال، وإذا ما استطعنا القيام بكلّ التزاماتنا الدينيّة مع الله من موقع الحبّ فتلك هي الدرجة العليا. وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ...} [آل عمران : 31]، فكأنّ الآية تدعو الإنسان أن يحبّ الله ليحبّه الله، وتربط محبّة الإنسان لله ومحبّة الله للإنسان بالسير على ما يرضاه الله وما يحبّه على طريقة "إنَّ المحبّ لمن يحبّ مطيع". وهكذا نجده في آيةٍ أخرى يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ...} [البقرة : 165] الأمر الذي يؤكّد على الحبّ كأساس لعلاقتنا بالله.

وهذا هو الأسلوب الذي يجب أن تتَّبعه التربية الدينيّة لربط الناس بالله بدءاً من مرحلة الطفولة، وهي المرحلة الأكثر حاجة إلى الفرح والأمل بالله، بحيث ننمّي في نفس الطفل الأمل والثقة بالحياة من خلال الثقة بالله، وبحيث يُقبل الطفل على الله كما يُقبل على مَنْ يحضنه ويحنو عليه ويرعاه ويخفّف عنه آلامه، فيتعلَّم بالتالي اللّجوء إلى الله تماماً كما يلجأ إلى أُمّه وأبيه.

 

ـــ هل نفهم من ذلك كلّه أنّكم تستنكرون لغة القمع الشائعة في التربية الدينيّة؟

إنّ الأسلوب الذي يقول للطفل إنّ الله سوف يخنقك ويقتلك هو أسلوب يدمّر نفسية الطفل ويخلق فيه عقدة تجاه ربّه، فإذا كان بإمكان الكبير استيعاب وظيفة الترغيب والترهيب بالسجن وما إلى ذلك في إخضاع الناس للقانون، فإنّ الطفل لا يفهم ذلك، وإذا كان الكبير يرى دور العقوبة الإيجابي في الالتزام بالنظام العام، فإنّ الطفل يرى في العقوبة كالضرب مثلاً، فعل كراهية له، بحيث نجد أنّ بعض الأطفال يخاف من أبيه وأمّه بسبب الضرب ويلتزم أوامرهما نتيجة الخوف والقهر، لا من موقع القناعة والقبول، الأمر الذي يربّي فيه عقدة تجاه ما يوجّهونه إليه من سلوكات. لدرجة أنّ بعض الأولاد يصلون لدرجة الخوف المَرَضي من الأذان على سبيل المثال بسبب أسلوب الأهل في الترهيب.

الأطفال والواجبات الدينيّة

في إطار تعويد الطفل على أداء الواجبات الدينيّة هل يلزم الولد بالصلاة في أوّل الوقت أو يترك على سجيّته؟

إنّ الأساس للتحرّك في هذا المجال نقطتان:

أوّلاً: لا بدّ من أن نعمل على جعل الولد ينسجم بعبادة ربّه في كلّ خطوط القيمة الدينيّة.

ثانياً: أنْ لا نعقّده من التكاليف الدينيّة، فنراعي سنّ الطفل ففي السنين الأولى من عمره وعندما يكون تَمَثُّله الأشياء مرهوناً بالتقليد لا بدّ أنْ نقدِّم له نموذجاً صالحاً سواء من خلال الواقع أم من خلال الوسائل الفنيّة المختلفة.

وربّما نحتاج في مثل هذه المرحلة، إلى استخدام وسيلة الترغيب بحيث نجعله يُقْبِل على العبادات حتّى لو رَغِبَ في مكافأة مادية يتلقّاها.

أمّا في المراحل المتقدّمة التي يصبح فيها الطفل قادراً على فهم معنى العبادات ولو بذهنية طفولية، فيصبح من واجبنا أن نقرّب الفكرة إلى ذهنه ما أمكن باستخدام كلّ الوسائل التربوية التي تستخدم عادة في مرحلة الروضات لربطه بالفكرة عبر الصورة أو العمل.

ولا بدّ أيضاً أنْ نتساهل في هذه المرحلة مع الطفل، بحيث نقبل منه أداء ركعتين أو أداء صلاة بلا ركوع أو بلا سجود، بحيث لا تتحوّل الصلاة إلى عبء على طفولته يشعر معه بالضغط فينفر منها ولعلّ هذا ما توحي به كلمة أتركه سبعاً.

أمّا في المراحل التي تسبق مرحلة التكليف، فنحتاج إلى استخدام الأسلوب نفسه الذي نستخدمه مع الطفل عندما يمتنع عن الدواء أو النوم أو الأكل، وعلينا أن نلاحظ نقطة مهمّة وهي أنْ لا نبلغ حدّ القسوة بحيث نعقّد الطفل من الصلاة وغيرها.

لا بدّ لنا في هذه المرحلة من دراسة دقيقة لمعرفة ما إذا كان تأثير الحزم سلبياً أو إيجابياً على سلوك الطفل. ولتحديد مدى تقبُّل الطفل لهذا الأسلوب أو ذاك، وعندما لا ننجح في التأثير على الطفل ندرس الأمر كمشكلة لاكتشاف العلاج المناسب.

ـــ ورد في الحديث: أدِّب صغار أهل بيتك بلسانك على الصلاة والطهور فإذا بلغوا عشر سنين فاضرب ولا تجاوز ثلاثاً. ألاَ يؤدّي الضرب إلى نتائج سلبية لاسيّما بعد بلوغ الولد عشر سنوات؟

ربّما كانت النصيحة المذكورة مخصوصة بصورة ما إذا لم تنفع الوسيلة التعليميّة التربوية باللّسان، وكأنّ إهمال الموضوع يؤدّي إلى إهمال الصلاة والطهور فتكون المسألة من قبيل الوسائل التأديبيّة، ومن الطبيعي أنّ ذلك لا بدّ فيه من مراعاة المصلحة والمفسدة في أصل المسألة وفي التوقيت والأسلوب، لأنّ الحديث قد يؤكّد المسألة من حيث المبدأ بعيداً عن التفاصيل.

ـــ غالباً ما يجد أبناء اليوم أنفسهم منعزلين عن المحيط، بما فيه الأقارب، ما هي واجبات الأهل حيال ذلك، وهل قوانين صلة الرحم تسري على الأطفال؟

عندما نرى مقدار التأكيد الذي حظيت به صلة الرحم في الإسلام، يصبح من الطبيعي أنْ يُهيّئ الأهل الأجواء والمناخات لتحريك هذا العنوان الأخلاقي والروحي والشعوري بين الأولاد، فنحن إذا ما أوجدنا نوعاً من أنواع الصداقة الحميمة بين الأطفال، من الأقارب فإنّنا بذلك نمهّد لتعزيز مفهوم صلة الرحم فيهم وربّما يتعمَّق فيهم هذا الاتصال ليصبح خطّاً أخلاقياً في حياتهم، لأنّ ذلك سوف يدفعهم إلى التزاور والتعاون والتراحم والتعاطف، ولا فرق في ذلك بين الجنس الواحد أو بين الجنسين.

ـــ هل يتزاحم مفهوم عدم الاختلاط مع مفهوم صلة الرّحم، برأيكم خاصّة وأنّنا نجد أنّه بحجّة الأحكام الشرعية، ومنع الاختلاط يعيش الأقارب اليوم جوّ الغربة التامّة عن بعضهم البعض ما رأيك بذلك؟

إنّ الحياة المدينيّة المعاصرة هي التي قطعت العلاقات الإنسانية بين الأقارب وليس مفهوم عدم الاختلاط، حتّى بات ممكناً أنْ نسمع أنّ الأب مات دون أن يعرف أحد من أهل بيته بموته لأنّ أهله لا يزورونه.

في جميع الأحوال لا بدّ من اتّباع التعاليم الإسلامية في مسألة الحدود الأخلاقية بحيث لا تتحوّل مسألة الاختلاط إلى مبرّر لشلّ علاقات القرابة، بل يفترض أن يبقى هناك نوع من التواصل بين الأرحام من الجنسين بالمستوى الذي لا يسيء إلى الحالة الأخلاقية عند الشاب والفتاة.

 

 

ـــ أحياناً وبسبب ضيق المكان تضطر العائلة إلى الاجتماع في مكانٍ واحد ذكوراً وإناثاً هل من محاذير تحول دون ذلك؟

لا بدّ من توخّي الدقّة في ذلك باعتبار أنّ التماس القريب خاصّة بوجود المراهقين قد يوقظ الناحية الجنسية فيهم، وهذا ما نلاحظه من مسألة عدم تشجيع الإسلام على نوم الأخوة الصغار في فراش واحد، فالتفرقة بينهم في المضاجع إنّما هدفها النأي بهم عن التماس الجسدي الذي قد يُوحي لهم بالانحراف، ونحن نعرف أيضاً أنّ الإسلام قد حذَّر الزوجين من الاتّصال الجنسي مع وجود ولد يسمعهما وليس فقط يشاهدهما.

ومن الطبيعي، أنْ يفرّق الأهل بين الأولاد دون إشعارهم بهذا الجانب. بعبارةٍ أخرى عندما نريد أن نعالِج مشكلة محتملة يجب أن نعالجها بالطريقة التي لا نخلق فيها مشكلة أخرى.

ـــ من التعقيدات التي يمكن أن يدخلها الأهل على حياة أبنائهم، حرصهم على طهارة المنزل، فما تأثير ذلك على الأطفال؟

في هذا السلوك جانب إيجابي، وآخر سلبي فهو من جهة يدرّب الولد على الطهارة والابتعاد عن كلّ ما ينجّس الجسد حتّى في غفلة عنه، كما في طهارة البيت أو الأثاث أو الأشياء التي يستعملها دائماً، ومن جهةٍ أخرى قد يخلق مشكلة للأولاد، لأنّه يقيّد حريّتهم في اللّعب واللّهو داخل البيت ولاسيّما الصغار منهم ممّا يجعل من المحافظة على طهارة البيت دائماً أمراً عسيراً، يخلق جوّاً من التوتُّر بين الأم والأولاد، بحيث يشعر هؤلاء أنّهم ملاحقون دائماً من قبلها بتعليمات الطهارة، وهو أمر قد يعطي نتيجة عكسية على الولد بحيث يتعقَّد من الطهارة ويهمل العناية بها في المستقبل، باعتبارها شيئاً يضغط على حريّته. لذلك نحن لا ننصح بالتعامل مع طهارة المنزل بطريقة هاجسيّة، بل لا بدّ لهم من أنْ يعوِّدوا أولادهم على الطهارة بطريقة مرنة لا تحوِّل المنزل إلى سجن يقيِّد حركتهم ولعبهم ولهوهم.

لهذا أقول إنّ على الأُم أن تربّي نفسها على أنْ تتقبَّل أوضاع الأولاد الطبيعيّة التي تصدر منهم بشكلٍ عفوي، وتتقبَّل حركتهم بما لا يسيء إلى النظام في البيت، وعليها قبل كلّ ذلك أن تعالج نفسها في هذا الموضوع أكثر ممّا تعمل على معالجة أولادها، إنّ المرض في الأم وليس في الأولاد.

أمّا إذا ما أرادت الأم أن تدرِّب الأولاد على الاهتمام بالطهارة فعليها أن تفعل ذلك بمزاج هادئ طيّب لطيف، بحيث لا تدع الولد يتحسَّس الجانب السلبي في الطهارة.

ـــ ما رأيكم بتحفيظ الصغار القرآن، هل ترون ضرورة في ذلك، خاصّة أنّهم يمكن أن يكونوا في عمر يردّدونه ببّغائياً من دون فهم؟

إنّني أؤمن بضرورة الاستفادة من حالة الاستعداد إلى التلقّي ومن إمكانية انغراس المعلومات في ذهن الصغار إبان مرحلة الطفولة وتلقين الطفل بعض الكلمات لاسيّما كلمات القرآن. لأنّه إنْ لم يفهمها في هذا السنّ فإنّه سيكون على استعداد للانفتاح عليها عندما يكبر، باعتبار أنّها ستكون جزءاً من ذاكرته فيسهل عليه أن يسأل ويستفسر عن معانيها.

وترسيخ هذه العادة برأيي هو أحد مسؤوليات الأهل والقائمين على الشؤون الدينيّة لبناء جيل مسلم ملتزم بالقرآن وبأحكامه.

ـــ إذا رفضت البنت ارتداء الحجاب، ما هي الخطوات العملية التي تنصح الأهل باتّخاذها؟

إنّ علينا أن نحدِّد دافع الفتاة لرفض الحجاب، هل هو التأثُّر برفيقاتها غير المحجّبات أو هو الميل إلى إبراز جمالها أو موقف سلبي منه سببه السخرية والاستهزاء الذي قوبلت به جرّاء ارتدائه، وبعد ذلك على الأهل معالجة السبب برفق، مع التأكيد على ضرورة أن يغرسوا في وعيها الشعور برقابة الله فيقدّم لها الحجاب لا كشيء مفروض من الأهل ولا كتقليد من التقاليد بل كزيّ يحبّه الله ويرضاه ولا يحبّ مَنْ يبتعدون عنه. إنّ الخطأ الذي قد يرتكبه الكثير من الأهالي في تربية الفتاة على الحجاب أو على أيِّ أمرٍ آخر، هو أنّهم يستعملون معها أسلوب الانتقاد ويلاحقونها بكلمة العيب، ونحن نعرف أنّ العيب نفسه مفهوم نسبي أو ظرفي لذا يفترض بهم أنْ يستعملوا كلمة الحرام بأسلوب مخفّف ينفتح على محبّة الله أو الخوف منه بحيث ينطلق التزام الفتاة بالحجاب من الدوافع الروحية الكامنة في شخصيّتها، بفعل التدريب والإيحاء والتربية والتعليم.

إنّ إرغام الفتاة على ارتداء الحجاب يجعل التزامها به التزاماً شكلياً خالياً من المعنى وهي نتيجة لا تعكس المطلوب.

على الأهل أن يستعملوا كلّ الأساليب التي تؤدّي بالفتاة إلى قبول الحجاب، بحيث لا تحملهم ردّة فعلهم الرافضة لعدم التزام ابنتهم إلى التسرُّع باتّخاذ أيِّ موقف ضاغط عليها. على الأهل أن يتعرَّفوا على الطريقة التي تجعل الفتاة تتحجَّب من موقع الالتزام وليس من موقع المجاملة الظرفية للأهل.

ـــ من موقع هذه الإرادة التي يفترض أنْ تنشأ لدى الفتاة بارتداء الحجاب هل ينبغي على الأهل سؤال البنت لأخذ رأيها بموضوع الحجاب؟

إنّ قضية السؤال هذه نسبية، فالسؤال قد يؤدّي حيناً إلى إثارة حيرة الفتاة التي لا تعرف كيف تجيب لأنّها لا تدرك معنى الحجاب، وحيناً يكون مدخلاً لحوار يمكن أن يؤدّي إلى إقناعها بالحجاب من خلال السؤال والسؤال المضادّ. إنّ تخيير الفتاة بشأن الحجاب يتعلّق بمقدرة الفتاة نفسها على الاختيار وإلاّ كان المطلوب من الأهل فرض الأمر عليها ولكن بشكلٍ محبَّب. ويصحّ هذا السؤال عندما تتأخَّر الفتاة في ارتداء الحجاب.

عند رفض الفتاة للحجاب، يكون من واجب الأهل ردعها عن ذلك ليس من باب تربيتها على الالتزام بالتكليف الشرعي، بل من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً، وإذا كان العلماء يرون جميعاً أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنّما يجب عند احتمال التأثير والوصول إلى نتيجة من خلاله وإلاّ يسقط، لأنّه يصبح آنذاك جهداً ضائعاً، فإنّنا نرى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبقى مطلوباً حتّى في حال القطع بعدم التأثير، بحيث يبقى باب التحوّل عن الفعل المحرَّم مفتوحاً، وكمثال على ذلك، فإنَّ مَنْ يشرب الخمر، حتّى وإنْ كان لا يتأثّر بمن ينهاه عن الشرب، إلاّ أنّ التأكيد الدائم له على حرمة ما يفعله لا بدّ من أن يغرس في وجدانه الإحساس بكراهية ما يفعل، إلى درجة قد تحمله في يوم من الأيّام على ترك  الشرب.

ـــ هل أنتم مع تعويد الأولاد على الذهاب للمسجد وحضور المناسبات الدينيّة والاحتفالات وخاصّة عاشوراء؟ وبالأخصّ عندما يكونون في عمر لا يفقهون من المناسبة شيئاً؟

إشراك الأطفال في المناسبات الدينيّة أمر مفيد وضروري شرط أن لا نُثْقِل عليهم، وذلك لتحضير الطفل نفسياً للانسجام مع أجوائها في المستقبل، فالطفل يختزن في لا وعيه الصور المرافقة لتلك المناسبات، ويصبح بحكم الإلفة على استعداد لتقبّلها.. ولكن ولكي يتحقّق ذلك فعلاً لا بدّ من أن تكون الصورة التي يختزنها الطفل عن تلك المناسبات صورة إيجابية، وهو أمر يستدعي أنْ يتعاون الأهل مع القيّمين على تلك المناسبات حتّى لا يتعسَّف هؤلاء مع الأطفال بحيث يعقّدونهم من تلك الأجواء، في المقابل على الأهل أن لا يتركوا للأولاد حريّة العبث التي تسيء إلى أجواء العبادة أو المأتم أو الموالد أو ما إلى ذلك.

ـــ يرى البعض أنّ بعض المظاهر التي تتمّ في عاشوراء تخيف الأولاد فيما يرى البعض الآخر أنّها ترسّخ في أذهانهم قضية عاشوراء فما رأيكم؟

إنّنا نؤيّد الفكرة التي لا تحبّذ اصطحاب الأولاد إلى المشاهد المرعبة أو المخيفة التي تصنع في بعض احتفالات عاشوراء، لأنّ تلك المشاهد قد تترك في نفوسهم تأثيرات سلبية، تعقّدهم نفسياً من تلك المشاهد نفسها أو حتّى من الحياة بشكلٍ عام.

إنّ مثل هذه الأمور التي تشبه في طبيعتها أفلام العنف يفترض أنْ لا يراها الولد تجنُّباً لتأثيراتها السلبية على شخصيّته.

ـــ في إطار جذب الأطفال إلى المناسبات الدينيّة، ألاَ ترون أنّ المسلمين لا يهتمون بتوفير أجواء فرحة تشدّ الطفل إلى تلك المناسبات في الوقت الذي يركّز فيه الغربيون بشكلٍ كبير على فرح الأطفال خلال الأعياد؟

من حيث المبدأ اهتم الإسلام كثيراً بالطفل والحدث حيث ورد في الحديث "مَنْ كان له صبيّ فليتصابَ له" لذا علينا أن نراعي مشاعر الطفل وميله إلى اللّعب واللّهو، لأنّ إحساس الطفل بالفرح والحبّ الذي يقدّم له على شكل هدية أو حفلة أو قبلة يجعله يحبّ الحياة من حوله أوّلاً ويعزِّز ارتباطه بأهله وبمجتمعه ثانياً ويغرس بالتالي لديه الشعور بالأمن والحماية لينعكس إيجاباً على نموّه النفسي والجسدي معاً.

لكنّ مشكلة المسلمين عموماً أنّهم لا يلتفتون إلى أهمية الفرح بالنسبة للطفل وحتّى بالنسبة للشباب، وربّما لا نتطرَّف كثيراً عندما نقول: إنّ الأجواء التي تسيطر على بعض الذهنيّات الفقهية هي العقدة من الفرح حتّى لدى الكبار، لذا أنا أدعو الأهل وكلّ القيّمين على شؤون الطفل أنْ يُهيّؤوا مناخات الفرح البريئة التي لا تلتقي بمحرم سواء بالنسبة للأطفال أم للشباب أم الشيوخ.

    

 

        

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



(*)  من هذه المصادر:

     الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، بيروت: دار إحياء التراث العربي، مجلّد:15، ص:94 ـ 223.

     الري شهري، ميزان الحكمة، بيروت: الدار الإسلامية، 1985، ج:10، باب:559، ج:1، باب:7.

     المجلسي، بحار الأنوار، ج:104، ص:77 ـ 106.

     علماً أنّنا سنكتفي بورود هذه المراجع هنا من دون تكرارها في المتن.