آية الله العظمى
السيِّد محمّد حسين فضل الله "دام ظلّه"
حوارات
في الفكر والسياسة والاجتماع
إعداد وتنسيق
نجيب نور الدين
دار الملاك
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدّمة
ليست المسألة الحضارية شأناً نعبره بلا تأمُّل وإمعان نظر، بل هي قيمة إنسانية كبرى تكتسب أهميّتها وموقعيّتها عند الأمم والشعوب من تماسك قوّتها ومدى ملاءمتها واحترامها للإنسان.
والإنسان لأيّة فئة انتمى، هو مخلوق لله، كامل في تكوينه، مكتمل في مواصفاته، عاقل في كنهه، عارف بالحياة أو بموضوعها إجمالاً بالقوّة أو الفعل.
وكثيرة هي الأسباب التي تدخل كعوامل محدِّدة لاختلاف الحضارات وتنوُّع بناها الفكرية ووعيها لذاتها ومستوى أدائها؛ فالجغرافيا والتاريخ والعقيدة ومنظومات السلوك وغير ذلك... هي من العناصر الالتزامية التي تدخل في سياق توكيد الفوارق الكبيرة والنوعية بين بني الإنسان. وهي تتنوَّع تبعاً للمدى والمسافة والوسيلة التي تسهم جميعها في تشكيل الخصوصيّة الاعتبارية والكيانية لمجموعة إنسانية معيّنة.
فقد تتعاظم هذه الاختلافات مع لحاظ النوع الخاص لحضارة أو مجتمع إنسانيٍّ ما، يميِّزه عن غيره من المجتمعات، بحيث تغدو أبعاده المختلفة أمراً بالغ الأهمية، لنشوء تعارضات حدّية في الموقعية والمصلحة، اللّذين ينعكسان بدورهما على منظومة الوعي الخاص فترتسم جرّاء ذلك ـــ وفي سياقه ـــ ما يعرف الخاص المجتمعي والعام الإنساني.
وهذه الاختلافات الخاصّة تنعكس بدورها تعارضات، تتشكَّل في رحمها المصالح المتناقضة فتحيل هذا الاختلاف موقعيّات متقابلة ومتعارضة ومتضاربة أحياناً كثيرة.
والقراءة المتأنّية لتاريخ البشرية تنبينا عن الاتجاه الأحادي لطبيعة العلاقات الإنسانية، إذ غالباً ما اصطبغت بالسلب المتحوّل تلقائياً إلى صدام أحال التاريخ البشري ساحة صراع لا تنتهي بين قاطنيه في أربع رياحه، والأطراف.
لقد عرفت الإنسانية فترات مؤلمة في سيرورتها الدائمة والمستمرّة، تحتشد في لجّتها الحروب والمآسي والويلات، بسبب تجذُّر العصبيّات اللامتناهية للأنا الفردية حيناً، والاجتماعية أحياناً أخرى؛ حتّى أنّه بالإمكان ـــ من خلال الاستقراء الموضوعي لهذا الواقع المتأصّل ـــ انتزاع المعادلة الصعبة والموغلة في الحقيقة في آن، وهي أنَّ الوجود يعادل دائماً نفي الآخر أيّاً كان هذا الآخر بشراً أو حجراً أو حياة.
ولعلَّ السبب الأساسي في سيادة هذه المعادلة البشرية عبر التاريخ يعود إلى أمرين: الأوّل يتلخَّص بالمصالح التي تراها المجموعات الإنسانية حافزاً لغزو الآخر وإلغاء خصوصيّته ومكانته، والآخر يكمن في ما تعتقده هذه المجموعات من أنّها تحتكر الحقيقة الوجودية وحدها وتنكر على الآخرين ما عندهم من فكرٍ وعقيدة ومصالح.
وهذا التعارض الحدّي بين مصالح وعقائد المجموعات الإنسانية ـــ بل مجتمعاتها ـــ شكَّل مقدّمات طبيعية لصدامات بشرية مؤلمة ومهولة في أحيانٍ كثيرة، وقد ساهم في استشراء هذا النوع من التعاطي الإنساني جهل الناس بعضهم لبعض وعدم استعدادهم لوعي الآخر والتعرُّف عليه والتلاقي معه، ولو في الحدود الدُّنيا.
ليس جديداً القول إنّنا لا نرى في التاريخ إلاّ مشهداً أوحد للعلاقات الإنسانية، هو مشهد الحروب المتكرّرة بكلّ ويلاتها ومآسيها. ونادراً ما حدّثنا التاريخ عن لقاءات حضارية بين المجموعات والمجتمعات الإنسانية. بحيث كان مبدأ القوّة هو الحاكم الأساسي لعلاقات البشر في ما بينهم، ولعلّ مبدأ التساكن الحضاري لم يكن يسري إلاّ في الحالات التي ساد فيها مبدأ توازن الرعب والقوّة بما يؤثّر على ذهنية العدوان المستمرّ، التي اعتمرت العقليّات الإنسانية وجعلتها دائمة السعي والانكباب على إعداد أسباب القوّة التي تحيل الآخر باستمرار عدوّاً سهل المنال. {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} [البقرة : 30].
ميزة الأديان السماوية أنّها جاءت بمبدأ إلهي {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات : 13].
بداية، هذا المبدأ يشير إلى معرفة الخالق ـــ عزّ وجلّ ـــ بطبيعة مخلوقه الإنسان وما ينسج هذا المخلوق من معارفَ وعلاقات. وهو يقرِّر أنَّ الاختلاف شأنٌ طبيعيٌ ولصيق ببني البشر، بل هو واقع موجود وراسخٌ. وهذا النصّ القرآني لا يعطي حكماً قيميّاً سلبياً على هذا الاختلاف والتنوّع نفسه؛ إنَّما يعتبره حافزاً رئيسياً لأن ينطلق الناس منه لبناء علاقاتهم سواءً كانوا شعوباً أو قبائل. ويطرح المبدأ الإلهي صيغة مثلى لهذا البناء أسماه التعارف الذي هو صفة إنسانية إيجابية كنهها الاعتراف بالآخر، ووجهتها الاستعداد لبناء علاقة تعارف معه، تفسح في المجال لبناء علاقة سويّة وسليمة.
فالتفاضل هنا لا يسري على التنوُّع القائم بين بني البشر، وإنَّما يطال القيمة التي يحملها كلّ نوع. من هنا فالأفضلية عند الله هي للأتقى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات : 13]. أمّا التعارف فلا يشترط له أن يكون بين الأتقياء فقط، بل هو للأتقياء وغيرهم من بني الإنسان طبعاً، إذا لم يساوقه العدوان وتسبقه نيّة الاعتداء.
وإذا أردنا أن نضع سلّم أولويّات للعلاقة بين بني البشر، فإنَّ التعارف يأتي بالدرجة الأولى، حيث إِنَّ الأساس هو تعارف المجموعات الإنسانية في ما بينها؛ في حين التقاتل والتنابذ والتحارب والتضادّ في مستويات أدنى ودرجات هابطة من حيث القيمة. وكما يطرحها المبدأ الإلهي، فهذه العلاقة ليست متساوية من حيث الأهمية والنوعية، بل هي تتفاوت في ما بينها قيمة وجوهراً. كما أنّها ليست متفرّعات عن أصلٍ واحد، كونها ذات جذور وأصول مختلفة يصعب استخدامها كبدائل متكافئة، بل لا بدّ من استخدامها بمراتب، ووفق أولويّات تحدِّدها طبيعة القِيَم والمبادئ.
وهذا الآخر قد يكون ممّا تشترك معه في وطنٍ واحد، أو دينٍ واحد، أو تختلف معه في الوطن والدّين. وعلى الأقلّ فإنَّ الأديان من قِيَم الإنسان الوضعية، تضع التعارف في أولى اهتماماتها، وتؤكّد على أنّه الصيغة الأفعل لتلاقي المجموعات البشرية وتعارفها، باعتباره القيمة الكبرى في جوهرها ومستلزماتها ونتائجها والآثار.
ومفهوم التعارف يحمل مضموناً ذا بعدين: الأوّل ينطوي على دعوة لمعرفة الآخر من خلال استكشافه وولوج منظوماته وقراءته كما هو، بعيداً عن الذاتية التي تسقط على هذا الآخر عصبيّتها الاعتقادية والقيميّة، والثاني محاورة هذا الآخر من أجل تحقّق الموضوع المراد إجراء أحكام التفاضل عليه واستكشاف تقواه {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات : 13]. وهذا هو الفائز الأساسي لمختلف أشكال التنوُّعات الإنسانية بالنسبة إلى الله في أرجاء كوكبنا المعمور.
إنَّ إدراك سماحة آية الله السيّد محمّد حسين فضل الله لمسألة التعارض في الفكر الإنساني ولتمظهراته المتنوّعة، كان وراء دفع آلية الحوار بوصفها الوسيلة المثلى، لتتلاقى فيها الأفكار وتتقابَل وقد تتواجَه، إنّما تحت سقف المحبّة الذي لا يجعل من تغايرها وافتراقها سبباً في تأسيس تنازعات، بعدد تنوّعها، لا يمكن حدّه أو حصره بحال من الأحوال.
فمن أهمّ العوامل المؤثّرة في النفس الإنسانيّة وجود آخر يحترم إنسانيّتك، بمعزل عن لونه وفكره وانتمائه الديني أو الحضاري. وإنَّ الفهم الإنساني للآخر المرتكز على النهج القيمي من شأنه أن يحيّد المجموعات البشرية ـــ إلى أيّ فئةٍ انتمت ـــ عن التصادم والتضارب الذي يجعل البشر جميعاً أرقاماً وأشياء لا قيمة لها ولا وزن.
إنَّ وعينا لقيمة الآخر ولمغايرته لا يجب أن تكون أبداً دافعاً لنبذه واستعباده أو احتقاره ومعاداته، لأنَّ التغاير والتمايز، هو سنّة الله في الخلق {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات : 13] فالتعارف يجب أن يكون الركيزة الأساسية في التعاطي الإنساني المختلف، وهو الرابط في ما بينهم من ضمن منظومة الوشائج الإنسانية، المرتكزة على مبدأ التعايش على قاعدة احترام أفضل تكوين الخليقة الإلهية أيّ الإنسان.
ويصبح التعارف والتواصل الإنساني أكثر إلحاحاً، حين تكون المجموعات البشرية المتنوّعة متقاربة أو تعيش على أرض واحدة، يلتصق في ما بينها المدى وتتجاوز طرق العيش والتفكير والاعتقاد فتتحوَّل المشاهد اليومية المألوفة موضوعات نقاش وحوار تضرب عميقاً للكشف عن فلسفة الواقع والاعتقاد في التاريخ والمستقبل.
إنَّ الحوار، هذا الاختراع الإنساني الهام، الذي يجب أن تقوم عليه عمليات التعارف، يوفّر علينا الكثير من الصراعات والنزاعات التي لا طائل منها. وبدل أن تصارِع مَنْ تجهَل، تعارَف معه لأنّك ستجد عنده الكثير من مواطن اللّقاء التي تحيل التنوُّع إلى غنى والتغاير إلى حوافز إضافية لاستكشاف سبل التواصل الجديدة.
والحوار، وسيلة بشرية لا يجب التقليل من أهميّتها، فكما السلاح وسيلة المتنازعين، كذلك الحوار وسيلة المتعارفين. وهما يلعبان أدواراً متعاكسة بنسبة كبيرة جداً، فحين يتغلَّب منطق السلاح ينكفئ منطق الحوار والعكس صحيح. وكلَّما ارتفعت قِيَم الإنسان إلى أعلى، كلَّما كانت وسيلة الحوار هي السلاح الأمضى لتواجه المجموعات البشرية وتقابلها. وهذا هو النهج الذي آمن به سماحة آية الله، السيّد محمّد حسين فضل الله وأرسى أسسه ودعائمه، فجعله كالشجرة المثمرة التي لا ينفكّ ثمرها عن الإيناع في كلّ المواسم.
والكتاب الذي بين أيدينا عبارة عن مجموعة حوارات أُجريت مع سماحته من قِبَل عدد كبير من الصحف والمجلات اللبنانية والعالمية، تمّ جمعها في مؤلّف هو الأوّل من سلسلة، ستصدر أعدادها تباعاً.
وقد حاولنا ـــ قدر المستطاع ـــ توضيب هذه الحوارات ضمن فصول حافظنا فيه على طابعها الحيوي المباشر، حيث سيرى القارئ تنوُّعاً في وتائره صعوداً أو خفوتاً حسب ما استلزمته طبيعة المقام وتلقائية الحوار.
المركز الإسلامي الثقافي
الفصل الأوّل:
جولة في آفاق:
الفكر ـــ السياسة ـــ الحضارة ـــ الحركة الإسلامية والسيرة الذاتية
نعيش في فوضى القِيَم والمفاهيم(*)
غسّان بن جدّو:
ـــ سماحة السيّد، كيف يتراءى لكم مشهد المنطقة العربية، والعالَم الإسلامي عموماً في هذا العام الجديد؟
الواقع العربي... واقع السقوط
آية الله السيّد محمد حسين فضل الله:
عندما ندرس الواقع السياسي للمنطقة العربية، نشعر بأنّه قد دخل مرحلة الانحدار الفعلي نحو التداعي والسقوط، وذلك بفعل قادته الذين لا يعيشون أيَّ إحساسٍ بالمسؤولية العامّة، والذين نصّبوا حرُّاساً للتخلّف ولمصالح الاستكبار العالمي الصهيوني، حيث عملوا بكلّ ما عندهم من طاقة وبكلّ ما توفّر لديهم من إمكانات، ليصلوا بالعالَم العربي إلى حالة انعدام الوزن السياسي والاقتصادي والثقافي والأمني.
ولذلك، فإنَّنا نتصوَّر هذا العالَم، بقيادة هؤلاء، عالَماً لا يوحي بأيّ عنوان من عناوين القيمة الإيجابية، بل هو أصبح تجمّعاً لكلّ القِيَم السلبية؛ ولكنَّنا لا نستطيع أن نبتعد عن بعض نقاط الضوء والقوّة، التي لا تزال متناثرة في الواقع الشعبي في عالَمنا العربي، فهناك أكثر من نقطة ضوء تتمثَّل بشكلٍ كبير في حركة المقاومة ولاسيّما المقاومة الإسلامية في لبنان وفي فلسطين، وحركة القوى الإسلامية الطليعيّة هنا وهناك، ممّا يوحي بأنَّ اللّيل ليس دامساً بالكامل ولكنّه يحمل بعض نقاط الضوء التي توحي بالفجر.
وأمّا العالَم الإسلامي، فإنّه يعيش في داخل سفينة تتلاطمها الأمواج الاستكبارية، من أجل إسقاط مضمونها الإسلامي وتحطيم عنفوانها وعزّتها وكرامتها، وإحباط جهادها في سبيل الحريّة والعدالة، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّنا دخلنا في اليأس، إذ نجد الصحوة الإسلامية، التي تتحرَّك هنا وهناك، تفرض الكثير من العناوين والقِيَم الجديدة في هذا الزمن الصعب، وذلك بفعل ثباتها وصمودها في وجه العاصفة والأمواج العاتية التي تحيط بها من كلّ حدبٍ وصوب. لا نقول هذا استعراضاً وحماسة، وإنَّما نعكس الواقع وحقيقة الأمر كما هو عليه، حيث نجد إصراراً وعناداً وتشبُّثاً غير عادي للوصول إلى الأهداف. ولا نعني بهذا أنّ الأهداف باتت في متناول الأيدي، إذ دونها عقبات كأداء، وتضحيات جسام، لكن ما نريد توكيده هو أنَّ الإسلام قد انطلق من القمقم بزخم وقوّة وعنفوان، لن تستطيع أيّة قوّة استكبارية إعادته إليه ليرجع مجرّد حارس لبلاطات الملوك والأمراء والرؤساء هنا وهناك وهنالك.
ـــ سماحة السيّد: أنا سمحت لنفسي باعتبار هذا اللّقاء استثنائياً مع رجل استثنائي، بارز على الساحتين اللبنانية والإسلامية، لذلك يتوق كلّ مَن يتابع كتاباتك، وخطاباتك، ومواقفك، إلى معرفة أمور تتعلَّق بحياتك الشخصية، ونحن ندرك جيّداً الوضع الصعب وخاصّة الوضع الأمني الذي تعيش فيه، ولذلك لا يمكننا أن نحيط بكلّ تفاصيل حياتك الشخصية، وكنَّا قد تحدّثنا معك قبل هذا المساء في جانب يسيرٍ عنها، وأعددنا هذا التقرير الذي سنشاهده مع الرأي العام.
إطلالة على السيرة الذاتية
كانت ولادتي في النجف الأشرف في العراق، لأنَّ السيّد الوالد ـــ رحمه الله ـــ عاش في النجف مدة تقارب الثلاثين سنة في الدرس والتدريس، ولذلك ولدت ونشأت هناك. وكان انفتاحي على الواقع مبكراً جداً، فأنا أذكر أنّني في السنة العاشرة أو في الحادية عشرة من عمري نظمت قصيدة شعرية لفلسطين قبل احتلالها من اليهود في سنة 1947 أذكر منها بيتين:
"دافعوا عن حقّنا المغتصب في فلسطين بحدّ القضب
واذكروا عهد صلاح حينما هبّ فيها طارداً للأجنبي"
نظمت الشعر في مطلع شبابي. وبدأت دراستي هناك في الكتاتيب، ولم يكن الجوّ الذي نشأت فيه منفتحاً على الدراسات الحديثة. كانت دراستي في النجف وفق الطريقة الحوزويّة وكانت في أغلبها عند السيّد الوالد منذ بدايات الدراسة حتّى نهاية ما يُسمّى بــ "السطوح" وهي دروس في الكتب الفقهية والأصولية الخاصّة. وبعد ذلك انتقلت إلى ما يسمّى بمرحلة "درس الخارج" وهي دراسة في الحلقات أو الدروس العامّة التي يلقيها العلماء الكبار.
فكانت معظم دراستي عند المرحوم السيّد أبي القاسم الخوئي والسيّد محسن الحكيم والسيد محمود الشهرودي والشيخ حسين الحلّي، وهم آنذاك من كبار العلماء والمراجع في النجف. كنتُ منفتحاً على الواقع ـــ كما قلت ـــ من بدايات عمري، وقد عملت مع بعض أصدقائي، ومنهم المرحوم الشهيد السيّد مهدي الحكيم ابن المرجع السيّد الحكيم وهو ابن خالتي، وقد قمنا بإصدار مجلّة مخطوطة بعنوان "الأدب"، كان عمري ما بين الثانية عشرة والثالثة عشرة، وذلك قبل الخمسينيّات، وأصدرنا منها خمسة أو أربعة أعداد. واستكتبنا فيها بعض الأدباء في النجف وكنّا نكتب الأعداد بعدد المشتركين. ومذ ذاك الوقت، بدأت إلقاء الشعر في المناسبات العامّة في النجف، وكان عمري أربع عشرة سنة تقريباً. كانت أوّل زيارة لي إلى لبنان سنة 1952 بمناسبة وفاة المرحوم السيّد محسن الأمين، وأذكر أنّني شاركت في أربعينه الذي عُقِدَ في بيروت وحضرته شخصيات كبيرة قيادية، أذكر من بينهم المرحوم مصطفى السباعي، المرشد العام للأخوان المسلمين في سوريا ولبنان، الذي ألقى كلمة مؤثّرة في ذلك الحفل، وألقيتُ قصيدة مؤثّرة وكانت مشتملة على أغراض سياسية وإسلامية، أذكر مقطعاً منها حول الوحدة الإسلامية:
"والدِّين وهو عقيدة شعَّت على أُفق الوجود
ومبادئ توحي لنا روح التضامن والصمود
عرَّفتنا فيه الحياة بما حواه من البنود
وأريتنا أنَّ الإخاء من الهدى بيت القصيد،
فالمسلمون لبعضهم في الدّين كالصّرح المشيد
لا طائفية بينهم ترمي العقائد بالجحود
والدّين روح برّة تحنو على كلّ العبيد
ترمي لتوحيد الصفوف ودفع غائلة الحقود
عاش الموحد في ظلال الحقّ في أُفق الخلود"
وكان عمري ست عشرة سنة ونيّفاً. وعشت عدّة أشهر في لبنان، وكنت في ذلك الوقت أقوم بحوارات قاسية مع الشيوعيّين والبعثيّين والقوميّين العرب حول مسألة الإسلام. في سنّ الثانية عشرة بدأت بالانفتاح أو الثالثة عشرة، على الصحافة المصرية، كنتُ أقرأ "الرسالة" التي كان يصدرها محمد حسن الزيّات، ومجلّة "الثقافة" ومجلّة "الكاتب المصري" التي كان يصدرها "طه حسين" ومجلّة "الكتاب" التي كان يصدرها عادل غضبان، كما كنتُ أُلاحق المجلات السياسية "المصوّر" و"آخر ساعة"، وكنّا منفتحين على الواقع السياسي في العراق أيّام نوري السعيد.
ومن خلال هذا الجوّ، كنّا نتعاون مع السيّد محمد باقر الصدر، باعتبار أنَّنا من جيلٍ واحد. وقد شاركنا في تلك المرحلة في ولادة الحركة الإسلامية في الدائرة الشيعيّة في العراق، التي عبَّرت عن نفسها في سنة 1958، حيث شهد المدّ الشيوعي انطلاقته. وبعد انقلاب عبد الكريم قاسم، نشأت في النجف الأشرف "جماعة العلماء" وهم من كبار العلماء الذين يُعتبرون في الصفّ الثاني بعد المراجع. وقد أصدرت هذه الجماعة ـــ التي كانت تحظى بتأييد المرجع آنذاك السيّد محسن الحكيم وبقيّة المراجع ـــ أصدرت مجلة "الأضواء" وهي أوّل مجلّة إسلامية حركيّة في الواقع الإسلامي الشيعي في العراق، وأظنّ في الواقع الإسلامي كلّه في العراق، إذ لم تكن هناك مجلّة حركيّة قبلها. وكان السيّد محمد باقر الصدر يكتب افتتاحيّتها الأولى تحت عنوان "رسالتنا"، وكنت أكتب افتتاحيّتها الثانية تحت عنوان "كلمتنا"، وقد جمعت افتتاحيّات "كلمتنا" في كتابي "قضايانا على ضوء الإسلام".
لقد زرت لبنان عدّة مرّات في هذه الفترة، إلى أن استَقْرَرت فيه سنة 1966 في منطقة برج حمّود(1)، المنطقة الشعبية المعروفة في الضاحية الشرقية لمدينة بيروت. لقد كانت المرحلة التي عشتها من سنة 1966 حتّى انطلاق الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 واجتياح منطقة النبعة مرحلة مليئة بالنشاط، فقد أسّست هناك حوزة علمية، تخرَّج منها الكثير من المشايخ والعلماء الشباب وفي مقدّمتهم المرحوم الشيخ راغب حرب، كانت أوّل دراسته عندنا في "المعهد الشرعي الإسلامي" في النبعة.
العلاقة مع السيّد موسى الصدر
ـــ هل كانت لك علاقة مع السيّد موسى الصدر؟
كانت علاقتي جيّدة بالسيّد موسى الصدر، وكانت هناك صداقة حميمة بيننا فقد كان يزورني وأزوره في بيته قبل أن يؤسّس المجلس الإسلامي الشيعي، ثمّ بعد ذلك، على الرغم من عدم مشاركتي في هذا المجلس، كنتُ أسعى للتوفيق بين السيّد موسى الصدر وبين بقيّة العلماء المعارضين له، أنا والأخ الشيخ محمّد مهدي شمس الدين، كنتُ أطرح في ذلك الوقت شعار "إنّني لن أنتخِب ولن أُنتخَب". وبقيت محافظاً على هذا الشعار. والواقع أنّه ليست عندي عقدة من المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ولكنّي كنتُ أُفكِّر، وقد تحدّثت مع السيّد موسى حول هذا الموضوع، أنّ لبنان يحتاج إلى مجلس إسلامي أعلى من دون أن يكون شيعياً أو سنيّاً، وكان متجاوباً مع الفكرة ولكن يبدو أنّ الظروف الواقعية في لبنان لم تكن تسمح بمثل هذا، لأنّه لا يكفي أن توافق أنتَ على ذلك بل لا بدّ من موافقة الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى على هذا الموضوع.
ـــ السيّد موسى الصدر كان باستمرار يزور المسيحيّين والكنائس المسيحيّة، أنا أُلاحظ أنّك لم تزر مطلقاً البطريركيّة المارونية؟
ظروفي لا تسمح بذلك، كما أنَّ هناك حقوقاً لبعض الأصدقاء من بعض علماء الدّين المسيحيّين عليَّ، ولكنَّ الأوضاع الأمنية منعتني من زيارتهم. أمّا مسألة البطريركيّة فأعتقد أنّ البروتوكول الذي يمنع البطريرك من زيارة الضاحية(1)، ربّما يمنعني من زيارة بكركي(2)، لأنَّ هناك مواقع معيّنة لدينا في المراكز الإسلامية الدينيّة قد تحمل في داخلها قيوداً تماماً كما هي القيود الموجودة لديهم.
ليست المسألة مسألة ذاتية، فأنا أحبّ أن أزور كلّ النّاس من مسلمين وغير مسلمين بقطع النظر عن مواقعهم، ولكنَّ المسألة أنّ الإنسان الذي يقف في موقع معيَّن عليه أن يحترم خصوصيّات هذا الموقع. كما أنّ البطريرك يحترم موقعه، ونحن نقدّر احترامه له، نرجو أن يقدِّر الآخرون ذلك بالنسبة لنا.
ـــ سماحة السيّد، لا شكّ في أنّك شخصية مستهدفة باستمرار من طرف العدوّ الصهيوني والمخابرات الدولية، لكنَّ حادثة بئر العبد تبقى علامة فارقة في التاريخ، وأنا شخصياً كنتُ خارج لبنان وكانت ضجَّتها كبيرة، العديد من المواطنين يسألون كيف تمّ استهدافك وكيف حصلت المسألة؟
متفجّرة بئر العبد.. والعناية الإلهية
هناك قضايا عشناها وقرأناها حول هذا الموضوع، ففي كتاب "الحجاب" للكاتب "ودوود" الذي يشتمل على مذكّرات "وليم كايسي" مدير المخابرات المركزية الأميركية، أنّ كايسي اجتمع مع سفير من سفراء بعض دول الخليج الكبيرة وتمَّ الاتّفاق على أنّ الشيخ فضل الله ـــ كما يقولون ـــ أصبح مزعجاً للسياسة الأميركية في لبنان وأنَّ عليه أن يرحل. وعلى هذا الأساس سلَّم سفير دولة خليجية لــ "وليم كايسي" ثلاثة ملايين دولار، حتّى ينفقها في التحضير لعملية اغتيالي، لأنَّ الكونغرس الأميركي كان لا يسمح بصرف ميزانية لمثل هذه العمليات بشكلٍ رسمي.
واتّفقوا مع مسؤول مخابرات بريطاني، جاء إلى لبنان واتّصل ببعض مراكز المخابرات الرسمية، التي وظَّفت بعض الناس من أجل مراقبتي مدّة سنة كاملة. وفي اليوم المعيّن شعرت بوجود وضع غير عادي لأجهزة الإعلام العالمي، حيث جاءت عشرات أجهزة الإعلام التلفزيونية والإذاعية والصحافية وهي تطلب حديثاً ولو على مستوى دقيقة، وكانت تواكب موكبي إلى مسجد الإمام الرضا (عليه السلام)(1)، وكان يوم الجمعة، كما لو كانوا يسجِّلون اللّحظات الأخيرة في حياتي؛ واندفع الكثيرون منهم إلى داخل المسجد، عندما كنتُ أُلقي الخطبة. ثمّ انتهت الصلاة وبدأت صلاة النساء، لأنَّني كنتُ أؤدّي في يوم الجمعة صلاة للرجال وأخرى للنساء، ثمَّ كانت أسئلة النساء. وانتهى اليوم، وكنتُ أستعد للعودة إلى البيت، وعندها جاءت امرأة من المؤمنات، من معارفنا، لتسألني مسألة أو تعرض لديّ مشكلة ـــ لا أذكر طبيعتها الآن ـــ وقالت إنّها استخارت الله في أن تأتي لتسألني بعد أن انفضَّ الناس من حولي، وقلتُ لها إنَّني متعب ومرهق وأنَّ بإمكانها أن تأتي إليَّ في البيت لتعرض مشكلتها، ولكنَّها ألَحَّت إلحاحاً فوق العادة فخضعت لإلحاحها وبدأت أستمع إلى حديثها، وبينما نحن في الحديث دوَّى الانفجار الذي رأينا لمعانه ونحن داخل المسجد.
ـــ هل ذهب موكبك بدونك؟
لا، إنَّما هي العناية الإلهية التي ألهمت هذه المرأة. لقد مرَّت سيارة تشبه سيارتي وسيارة رانج روفر في المكان نفسه، الذي كان مهيّأ لتفجير السيارة فيه، فظنُّوا أنَّ هذا هو موكبي، وعندها دوّى الانفجار، ولولا أن يُلهِم الله هذه المرأة بأنْ تأتي إليَّ، لكنتُ لحظتها في مكان الانفجار حيث رصد الجماعة ذهابي ومجيئي مدّة سنة تقريباً. وهذا ما كشفته التحقيقات بعد ذلك {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال : 30] "وكفى بالأجل حارِساً".
ـــ سماحة السيّد: أنتَ في كلّ يوم تقريباً تستقبل النّاس ولديك مسؤوليات كثيرة، بالنسبة لحركتك كيف تجد الوقت حتّى تقرأ وتكتب وتنظم شعراً وغير ذلك؟
وهبني الله مزاجاً خاصّاً. يجعلني عندما أدخل في جوٍّ معيّن أنفصل تماماً عن الجوّ الذي كنتُ فيه، بحيث إِنّه لا يشغلني أبداً عندما أدخل في جوٍّ آخر، ولذلك فأنا في كثيرٍ من الحالات أكتب أو أقرأ في ما بين لقاءين من دون أن يؤثّر اللّقاء الماضي واللّقاء الآتي على مزاجي. ولعلّي كتبتُ كتابي "من وحي القرآن" الذي هو من التفاسير التي أعتز بها من خلال مستواها وجدّتها، وأنا في الطائرة أو في الملجأ تحت دوي الانفجارات أو بين استقبالي لإنسان وتوديعي لآخر. كنتُ أكتبه عندما أذهب إلى طهران وأنا في الفندق، كان يأتيني النّاس والأوراق تحت يدي فإذا ذهبوا بدأت أكتب، وهكذا.
لعلَّ هذا ما جعلني أستطيع أن أقوم بأعمال متنوّعة ومختلفة ومرهقة، من خلال مقابلاتي الدبلوماسية والصحافية والثقافية والاجتماعية العامّة وقضايا النّاس وحوائجهم وصلاة الجماعة وما إلى ذلك، أعتقد أنّ الفضل في هذا المجال يعود لما منحني إيّاه الله من طبيعة لشخصيّتي.
ـــ هل تولي عائلتك الصغرى حقّها من الرعاية والاهتمام؟
أنا لم أنفصل عن عائلتي أبداً، فأنا في وقت الظهيرة وفي اللّيل أجلس مع عائلتي، أحاول أن ألتقط الأوقات التي أستطيع فيها ذلك بين وقتٍ ووقت أو بين موعدٍ وآخر، باعتبار قرب البيت منّي.
ـــ سماحة السيّد: من خلال اطّلاعنا على التقرير(1) انجلت مختلف المراحل التي تدرّجت بها علمياً، وحسب ما توضَّح لدينا الآن أنّه لكَ لقاءات باستمرار وتتّصل بالناس ويتّصلون بك، باختصار لكَ حركة سياسية وثقافية معيّنة، سؤالي: هل توقّفت حركتك العلمية الفقهية بالتحديد؟
لم أترك العمل الثقافي ـــ العلمي ـــ الفقهي والأصولي طيلة المدّة التي عشتها في لبنان منذ أكثر من ربع قرن، فأنا أقوم يومياً منذ ما يقارب الثلاثين سنة بإعطاء الدروس الفقهية العالية وهي ما يُعبَّر عنها في الحوزات بـــ "دروس الخارج" وهي الدروس التي تُلقى مِن قِبَل الأساتذة بعيداً عن الكتاب. فأنا لا أزال أعطي طلاّب الفقه وأصوله الدروس الفقهية العالية، منفتحاً على أحدث الآراء الفقهية الجديدة في الحوزات، بمستوى لا أظنّ أنّ الذين يعيشون في الحوزات العلمية الكبرى قد تعدّوه أو بذلوا جهداً كالذي أبذله في هذا المجال. إنَّ حركتي الفقهية الأصولية الثقافية تزيد كثيراً عن الحركة الاجتماعية والسياسية والثقافية العامّة.
ـــ تعرَّضنا في التقرير لحادثة استهدافك من قِبَل المخابرات الأميركية التي حدَّثتنا عنها بالتفصيل، لكن يبدو حسب ما سمعنا مؤخّراً، من خلال بعض وسائل الإعلام، أنَّه تمّت محاولات أخرى لاستهدافك، هل عندك بعض التفاصيل لهذا الأمر؟
لستُ في مجال الحديث عن التفاصيل، ولكنَّني أعتبر نفسي مستهدفاً ما دمت في ساحة المواجهة للاستكبار العالمي والصهيوني. أنا لا أعطي لنفسي حجماً كبيراً ولكنّني أقف في موقع الجندية للإسلام، الذي هو رسالة لا يمكن أن تهادن أو تتراجع أو تبتعد عن الساحة، لذلك فإنَّني أتصوَّر أنّ هذا الموقف الذي أُحاول دائماً أن يكون قويّاً وصلباً، لا يريح الكثيرين من رجال الأجهزة المخابراتية الدولية أو الإقليمية أو المحليّة. ونحن لا نتعقَّد من ذلك لأنَّ بعض أجدادنا من أهل البيت (عليهم السلام) قالوا: "القتلُ لنا عادة وكرامتنا الشهادة"(1).
ـــ سماحة السيّد: نحن لا نريد أن ندخل كثيراً في جزئيّات وتفاصيل الساحة اللبنانية اليومية، ولكنَّ هناك سؤالاً مركزياً وجوهرياً ربّما يعانق المستقبل انطلاقاً من الحاضر، وهو كيف يمكن أن تشرِّح علاقة الدولة بالمجتمع في لبنان، وبديهيٌّ أين تُموقِع نفسك من ذلك؟
الواقع اللبناني.. والشخصيات العاجيّة
في تصوُّري أنَّ الدولة في لبنان غائبة غياباً كليّاً عن المجتمع، فهي لا تعيش معه بطريقة متفاعلة بالدرجة التي يشعر فيها رجال الدولة بآلام المجتمع وأحاسيسه ومشاكله المعقّدة. فنحن نلاحظ أنّ المسؤولين يمثّلون طبقة عاجيّة. ولا أتحدَّث عن برج عاجي ولكن أتحدَّث عن شخصيات عاجيّة، تطلّ على الناس من "فوق" وتستغرق في ذاتيّاتها وفي مصالحها وأوضاعها، بحيث ينطلق العمل الشعبي من خلال ما يقترب من هذه المصالح أو المواقع. إنَّني لا أجد هناك ساحة مشتركة بالمعنى الشعوري والوطني بين الدولة والشعب، ولذلك فإنّني أُحاول أن أكون مع الشعب في كلّ قضاياه ومشاكله وآلامه، ولذلك أشعر دائماً بأنّي بعيد عن المواقع الرسمية في الدولة، وإن كانت لي فيها صداقات وعلاقات، ولكنّني لا أستطيع أن أحتفظ بها دائماً لأنّ الواقع الشعبي يفرض عليَّ أن أقول الكلمة التي أؤمن بها، ولو على حساب العلاقات الشخصية التي أملكها مع هذا المسؤول أو ذاك.
ـــ ولكن بعد انتهاء الحرب ربّما تجد موالاة أو معارضة وربّما تجد انتقادات للحكومات، أفَلا تعتقد أنَّ الشعب أصبح يحسُّ بشيء اسمه الدولة؟
عندما نتحدّث عن المسألة في هذا الأُفق، فإنَّ من الطبيعي القول إنّ الشعب انطلق من حالة الفوضى إلى حالة الدولة، فهناك دولة تتحرَّك وتضبط الأمن وتتابع الخدمات العامّة، بحيث أصبحت الحالة الواقعية في لبنان تقترب من التوازن في الأوضاع العامّة على مستوى الأمن والخدمات، وأقصد بالتوازن ما هو ضدّ الفوضى، ولكنَّني كنتُ أتحدّث عن طبيعة عمق هذا الارتباط بين الدولة والشعب. فهناك فرق بين دولة تقوم بالخدمات العامّة أو تطلّ على الشعب من خلال وظيفتها التقليديّة، وبين دولة تطلّ على الواقع الشعبي من خلال شعورها بأنَّ المسؤول لا يملك أيّة ذاتية أمام ذاتية الشعب والأُمّة. ولا يتصوَّر لنفسه مجداً خاصّاً ولا موقعاً مميَّزاً؛ بل يشعر بالوكالة عن هذا الشعب في إدارة أموره، ممّا يجعله يراقب القضايا الشعبية وردود فعلها مراقبة دقيقة مسؤولة لا تتحرَّك فيها عقدة.
هذه المشكلة هي مشكلة الكثيرين من دول العالَم الثالث، ولاسيّما في العالَم العربي، حيث إِنَّ الحاكم يرى في نفسه الموقع الفوقي، الذي يفرض على النّاس أن يمدحوه بلا حساب وأن يقتربوا به إلى مواقع الآلهة، حتّى لو لم تكن له أيّة ميزة معيَّنة إلاَّ ميزة التجبُّر والتكبُّر وما إلى ذلك.
ـــ عوضاً عن أن يكون خادماً للشعب، يريد أن يكون الشعب خادماً له...
تلك هي المسألة، ونحن لا نرى في واقعنا إنساناً يتمثَّل كلمة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو خليفة، عندما كان يخاطب النّاس ليقول لهم: "فَلا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، ولا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ ـــ أي عند أهل الغضب ـــ ولا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ ـــ أي بالمجاملةـــ ولا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي ولا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ فَلا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ ولا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي"(1)، ونحن نعرف أنّه هو فوق أن يخطئ.
ـــ في هذه الأجواء برزت هبّة أو طفرة سمّيت بالفساد السياسي هنا في لبنان. والحقيقة أنَّه ربّما تمّ تشخيصها كثيراً في معركة ثنائية بين شخصين، في حين أنَّ المسألة أعمق بكثير، ولا أدلّ على ذلك من أنَّ هذه المسائل هي غابرة في التاريخ لدرجة أنَّ "أفلاطون" تحدَّث وحدَّد أسباب هذا الفساد السياسي حين ربطه بفساد الحكومات "وأرسطو" ربطه بفساد الدساتير، و"شيشرون" في العهد الروماني كذلك تحدَّث عن هذا الأمر، حتّى العهد المسيحي بعد ذلك كالبروتستانت عندما ظهروا كانوا يريدون إصلاح ما اعتبروه فساداً في الكنيسة. نحن هنا في لبنان، إنْ لم نقل في المجتمع العربي، برأيكم هذا الفساد السياسي الذي يبرز في حقيقته وفي عمقه وفي جذوره، ما أسبابه، وما مكوّناته، وما نتائجه إذا جاز الحديث عن ذلك أيضاً؟
لبنان بلد الطائفة
مشكلة لبنان ـــ في تصوّري ـــ هي أنّه لا يمثّل لدى النّاس، سواءً كانوا في مستوى القِمّة أم القاعدة، وطناً ينفتحون عليه من خلال الخطوط العامّة التي تمثِّل حركته في ذاته في المنطقة التي تتحرَّك من حوله ويتحرَّك معها، بل كان لبنان ولا يزال وطناً للطائفة، فكلّ طائفة في لبنان ترى لها موقعاً معيَّناً جنوباً أو شمالاً أو بقاعاً، أو عاصمة بحيث لا يملك الآخرون من الطوائف الأخرى أن يتدخّلوا فيها، تماماً كأيّة دولة لا تملك أنْ تتدخّل في شؤون دولةٍ أخرى.
إنَّ الذهنية الطائفية السياسية، التي توظّف الدّين بشكلٍ متعصِّب وأعمى مستفيدة من حالات التخلُّف التي تطبق على الوجدان الديني في العصور المظلمة، إنَّ هذه الذهنية الطائفية هي التي تجعل من رموز الطوائف أُناساً يستثيرون ذواتهم بشكلٍ مَرَضي وعلى مستوى العقدة، ليؤكّد كلّ منهم أمام طائفته، عنفوانه أو حركته أو مواجهته للإنسان الآخر من الطائفة الأخرى، ليوحي بأنَّه يحمي طائفته ومصالحها وما إلى ذلك؟
إنَّ الذهنية الطائفية تجعل الإنسان يستغرق في طائفته وبالتالي يستغرق في شخصه من خلال ما يمثّله في الطائفة. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ طبيعة الدور الذي جُعِل للبنان من خلال اللّعبة الدولية التي أوجدت لبنان في الأربعينيّات ليكون وطناً ودولة مستقلّة، إنَّ هذه الأوضاع الدولية تتدخَّل في عدّة قنوات من أجل أنْ تختار زعيماً لهذه الطائفة وآخر لتلك، وشخصية بارزة هنا وأخرى هناك، بحيث تمنحهم دوراً لترتيب وضع معيَّن أو لإنضاج مشروع معيَّن.
ومن خلال ذلك تتحرَّك مسألة الفساد السياسي مستظلَّة بالدور الطائفي والعقدة الذاتية والدور الإقليمي أو الدولي والقضايا الصغيرة التي تتجمَّع هنا وهناك. ومن هنا فإنَّنا نعتقد أنَّ الفساد السياسي في لبنان هو فساد مميَّز يختلف عن الفساد في المنطقة، لأنَّ هذا الأخير يأخذ بُعداً واحداً، بينما الفساد في لبنان يأخذ أبعاداً متعدِّدة في خطوط متعرِّجة منحنية ملتوية، لا تعرف كيف تتغيَّر وتتبدَّل بين وقتٍ وآخر. ولذلك فإنَّنا لا نجد في أغلب التاريخ اللبناني أنَّ سياسياً معيَّناً قد سقط سقوطاً كليّاً أمام فساده الذاتي، لأنَّ طبيعة الفساد العام تحمي رموزه؛ ربَّما يُجمَّد سياسيٌّ معيَّن في مرحلة معيّنة بفعل وجود دور أكبر منه، ولكن من الصعب أن تجد سياسياً يسقط سقوطاً كاملاً عند طائفته أو في مجتمعه أو لدى القوى الخارجية الداعمة من هنا وهناك.
ـــ على هذا الأساس، هل يمكن أن نخلص إلى حقيقة أنَّ الفكر السياسي في لبنان هو فكر مدرسيّ طائفيّ مهما حاولنا التعمية عليها فلن نتجاوزها؟
إنَّني أكاد أقول إنَّه ليس هناك فكر سياسي في لبنان؛ بل هناك لعبة سياسية لا تحكمها خطوط فكرية بالمعنى الفنّي للخطّ الفكري، ولكن تحكمها أوضاع معيّنة متغيِّرة، تجعل لكلّ فساد دوره وميزته وقيمته.
ـــ هل أنتَ جزء من هذه اللّعبة السياسية أم تحمل فكراً سياسياً؟
أنا لم أدخل في اللّعبة السياسية اللبنانية. ربَّما تحدّثت في أكثر من مرّة حول كثير من القضايا السياسية، وأحاول أن أدفع ببعض المواقع هنا وهناك، لأنَّني أنطلق من فكرٍ إسلامي منفتح على الواقع السياسي كلّه ولا يتعقَّد من موقع غير إسلامي هنا وهناك، سواء كان دينياً أو غير ديني. إنَّني أخوض تجربة قد لا يُكتَب لها النجاح بفعل التعقيدات الموجودة في الواقع السياسي اللبناني، ولكنَّني مع كلّ الإخوة الذين أتعاون معهم في الساحات العامّة، نحاول أن نطلق بعض النقاط المضيئة هنا وهناك، ونحاول أن نمنح الواقع بعض أصالة القيمة الإنسانية، التي يوحي بها الإسلام.
إنَّني أتصوَّر أنَّ الإسلام الحركيّ في لبنان قد استطاع أن يؤكّد في السّاحة اللبنانية أسلوباً جديداً وقيمة جديدة لم يعرفها لبنان في كلّ عهوده، وهي قيمة هذا الشباب المجاهد الحرّ المنفتح على كلّ قضايا الإنسان والذي يعتبر أنَّ قيمة الحياة بمقدار ما تؤصّل حركة الرسالة المفتوحة على الإنسان كلّه وعلى القيمة كلّها.
ـــ هذا عن شخصك، بما أنَّك لم تدخل في اللّعبة السياسية، ولكنّ الحركة الإسلامية في لبنان دخلت اللّعبة السياسية، هل تعتبر أنّها لا تملك كذلك فكراً سياسياً؟
إنَّني أتصوَّر أنّ الحركة الإسلامية انطلقت من الخطوط السياسية العامّة وهي تتّجه نحو النضوج في العمق والامتداد في تجاربها المستقبليّة، وأستطيع أن أؤكّد أنَّ الإخلاص لا يعوز هذه الحركة، كما أنّ الانفتاح على مواقع القوّة وعلى ساحة الإنسان كلّه لا يعوز هذه الحركة. إنّني أتصوَّر أنّ الحركة الإسلامية في لبنان تتميَّز عن أكثر الحركات الإسلامية الموجودة في العالَم الإسلامي بهذا الانفتاح المتحرِّك، الذي يحضن كلّ المواقع السياسية الأخرى، ليبحث عن مواقع اللّقاء بكلّ مرونة من دون أن يفقد ذاته أو يفقد خطَّه. وهذه ميزة تُسجَّل للحركة الإسلامية اللبنانية.
ـــ سماحة السيِّد: نحن في الحقيقة أردنا الاستفادة أكثر من وجودكم معنا في تلفزيون المنار، فأردنا أن يدخل الرأي الآخر أو آراء أخرى، فمن بين الذين ساهموا معنا بالرأي الدكتور "اسماعيل صبري عبد الله" المفكِّر الاقتصادي المعروف من مصر والأستاذ "عبد الإله بلقزيز" من المغرب وكذلك الدكتور "إدوار سعيد"، ولكن قبل هؤلاء اتّصلنا بمجموعة من الشباب فأخبرناهم أنَّه سيكون لنا لقاء مع سماحة السيّد محمد حسين فضل الله، وسألناهم إنْ كان لهم تساؤلات أو آراء فكانت هذه التساؤلات:
عبد الرحمن نون: في القرآن الكريم هناك "التمرحل" في إنزال الآيات، منها ما نزل قبل سلطة الإسلام أو دولة الإسلام ومنها ما نزل بعد ذلك، كما أنَّ منها مكيّة ومنها مدنيّة. فقبل السلطة، أخذت معنى ترغيبيّاً، وبعد السلطة أخذت إلى حدٍّ ما المعنى الترهيبي والإلزامي. التيّار الإسلامي عنده طرح سياسي لبناء مشروعه، كما يقول "السيّد" إنَّه فكر مثل باقي الأفكار السياسية فلنجرّب حظّنا، في واقعنا اللبناني هناك تعدُّد في التيّارات من السياسية إلى الدينيّة، هناك تلوين في الواقع اللبناني مختلف. إذاً كيف سيتمّ التعاطي لو تمّ إنشاء دولة دينيّة أو سأقول كما يطرحها السيّد فضل الله "دولة الإنسان"، كيف سيتمّ التعاطي معها، هل بموقف مثل الموقف من أهل الذمّة؟ في السابق تعرّض أهل الذمّة للعقاب عندما تخلَّفوا عن دفع الجزية، فهل سيكون لهم عقاب مماثل في دولة دينيّة لبنانية؟ فكلمة الذمّة صارت خطيرة جداً وتدفع الأطراف الأخرى للخوف، كالأحزاب من ماركسيّين وقوميّين وغير ذلك، واليوم نشهد في إيران أو في أيّة دولة إسلامية أخرى أنَّ الإيرانيّين يتّهمون المثقّفين إمّا بالشيوعية وإمّا بالإمبريالية أو بالصهيونية أو بالعمالة، هل سيكون هناك مواقف واضحة جداً من المثقّفين؟ ومن التيّارات السياسية؟
وهناك سؤال أخير مختلف إلى حدٍّ ما عن هذه القضية. اليوم هناك ظاهرة تحصل في فرنسا وهي قصّة الحجاب، أريد أنْ أسأل السيّد فضل الله: هل سيظلّ دائماً التعاطي مع المرأة انطلاقاً من إعطاء القيمة لجسدها؟ أم لا بدّ من التعاطي معها بشكلٍ آخر معنوياً كإنسان مقابل للرجل أو متمِّم للمجتمع ولبناء أسرة واستكمال الحياة واستمراريّتها؟
نجوى نصر: أنا ضدّ الحجاب إذا كان سيثير الإشكالية حول المرأة المحجَّبة أي أنّه سيلفت النظر إليها، أمّا إذا كان في وسط فتيات محجَّبات فأنا لستُ ضدّه، ولكن إذا كنتُ في منطقة ليس فيها محجَّبات فمن المؤكَّد أنَّني ضدّه، كي لا أُثير التساؤل حول نفسي ولكي يكون النّاس كلّهم متقاربين في المظهر. والحجاب ليس ضرورياً في فرنسا، ومن المألوف جداً أنْ تظهر الفتاة من دون حجاب. وأنا أعتبر أنّ التي تعتقد أنَّ الحجاب واجب عليها في فرنسا، فلا داعي لأنْ تذهب إلى فرنسا، بل تبقى في محيطها. فإذا كان الحجاب تديُّناً، فنحن نتديَّن في محيطنا الذي نوجَد فيه وليس من الضرورة السفر إلى أيّ مكانٍ آخر نتعرَّض فيه للدهشة من منظرنا، فعلى الإنسان أن يتبع الزيّ السائد في أيّ مكان يكون فيه. أنا الآن لا أخاف من التيّار الإسلامي، لكن إذا أراد أنْ يتحكَّم بسلوكي فمن الطبيعي أنْ أخاف من فرض الحجاب عليَّ، لأنَّ لكلّ إنسان قناعاته وإلاّ لم يعد هناك حريّة رأي.
فداء دكروب: نشهد على الساحة اللبنانية صراعاً قوياً على الثقافة، حيث تحوَّل الصراع من سياسي مسلَّح إلى صراع على الثقافة، كلّ يعمل على استمالة المثقَّفين لجهته. نرى هذا الانقسام في الثقافة كما في السياسة بين مثقّفين موالين ومثقّفين معارضين للحكم أو للنظام السياسي في البلد. السؤال هو في الوقت الذي يُقدّم كلّ شيء لمثقّفي الموالاة وكلّ شيء إيجابي وكلّ التسهيلات التي يستطيعون أن يحصلوا عليها في البلد عبر كلّ وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة وتغطيات إعلامية كبيرة، نرى أنَّ مثقّفي المعارضة يتعرَّضون لأكبر أنواع الضغط والتعتيم، فنحن أمام خيارين؛ إمَّا نكون مع الموالاة ومع المثقّفين الذين يبيعون أقلامهم ومواقفهم مقابل راتب بخس آخر الشهر، وإمّا نبقى معارضين ونتعرَّض للتعتيم ولا يرتفع صوتنا، فهل هناك خطّة موضوعية لتقوية المعارضين المثقّفين؟
أميرة كلش: سؤالي أنّه كان يُقال عن الشيخ أو رجل الدّين "عالِم دين" لأنّه كان يلمّ بكلّ الأمور وخصوصاً أنَّ العلوم كانت محدودة، الآن توسَّعت العلوم عندنا وتوسَّعت الاختصاصات، إذ تجد في كلّ علم عدّة اختصاصات، فهل ما زال حتّى الآن رجل الدّين "عالِم دين"، يستطيع أن يلمّ ويتحدَّث ويعرف كلّ مواضيع العلوم الأخرى غير الدّين. فأحب أنْ أسأله أين يلتقي مع باقي العلوم وأين تنتهي حدوده بالمناقشات؟ ومتى يصادر اختصاصات العلوم الأخرى والرجال المختصّين بالعلوم الأخرى؟
باسمة رماني: الحجاب مبدأ، والدّين بحدّ ذاته مبدأ يتّخذه الإنسان أسلوباً وقانوناً ينظّم به حياته، فالحجاب مبدأ، وإذا توجَّهت الفتاة إلى فرنسا وأرادت أن تترك حجابها فهي هنا كمن تغيِّر مبدأها، فمجرَّد تغيير المكان لا يكون دافعاً لتغيير المبادئ، وأنا ضدّ الفكرة، فأكبر تحدٍّ لحجاب الفتاة وإيمانها هو أن تكون في جوّ وفي بلد مثل فرنسا بحجابها؛ فهذا يدلّ على مصداقية اعتناقها لهذا المبدأ، فإمّا أن يكون عندها قناعة كاملة أو تكون معرَّضة في أيّة لحظة لمجرّد ريح عابرة تهزّ هذا الإيمان.
أنا أدعو سماحة السيّد إلى الاستمرار في المسيرة التي يعمل بها في التوعية، وهو برأيي أوّل رجل دين قريب من الشباب إلى حدٍّ ما، ليس لأنّه لا حكم مطلق له على هذا الشباب، بل بالعكس هو يحاول أن يفكِّر مثلنا ويستوعب مشاكلنا وإنْ لم أكن ملتزمة ومحجَّبة فإنّي أتصوَّر أنّه يستوعب أفكاري وطريقة عيشي، فهو ليس مهاجِماً.
أنا لستُ ضدّ تعاطي رجال الدّين بالسياسة، ولكن هنا في لبنان نسوا الدّين واتّبعوا السياسة ونسوا مهمّتهم الأساسية كعلماء دين. أنا أتمنّى أن يظلُّوا على اطّلاع إلى حدٍّ معيّن بأمور مهمّة كالتي تحصل في البلد وأن يعطوا رأيهم وموقفهم منها، شرط أن يكون موقفاً صريحاً وليس مسيَّساً، وأن يلتفتوا أكثر لمعالجة مشاكل الشباب مع الدّين، حيث إِنَّ أزمة الشباب كبيرة، على هذا المستوى هناك أمور يقول بها الدّين فأنا معها ولكن بعض الأمور أكون ضدّها، فأين موقعي هنا. أنا أقتنع بأنَّ الدّين يقول لي كذا ولكن في الحياة لا أستطيع التطبيق، فعلى العلماء أن يتقرَّبوا أكثر من مشاكل الشباب والنّاس، وأنْ يبتعدوا عن السياسة قدر استطاعتهم.
محمّد إبراهيم: بالنسبة "للسيّد" أحترمه كثيراً وأوقّره كعالِم دين وكفيلسوف وكشاعر وكخطيب، وأنا اعتقد أنّه أفضل خطيب في الشرق الأوسط أو في الشرق العربي إلى الآن، لكنّ التساؤل الذي أحبّ أن أطرحه عليه وهو أنّه في إحدى خطب نهار الجمعة كان ينادي بمسألة العلمنة والتعايش المسيحي ـــ الإسلامي، فإلى أيّ مدى تنطبق هذه المسألة على مجتمعنا الحاضر في لبنان؟ إذا كنَّا نريد أن نفصل الدّين عن الدولة، العلمنة كيف يمكن أن نطبّقها؟ وإذا كنّا نريد إلغاء الطائفيّة السياسية فكيف يمكن إلغاؤها وبأيّة وسيلة؟
جاك أبو شقرا: كمسيحي لا أخاف على مستقبلي بل أخاف على نفسي، أخاف على نفسي كإنسان، قد تحصل حرب جديدة لأنَّ أسباب الحرب لم تنتهِ، وللأسباب نفسها قد تعود الحرب ونختلف من جديد ونموت بالطريقة ذاتها التي كنّا نموت فيها من قبل.
خطاب السيّد فضل الله خطاب معتدل ومنطقي وعقلاني لا يخيفني، الذي يخوِّفني هو العنف. طالما استمرّ المنطق، وإنْ كان صاحب الخطاب متطرِّفاً بمعزل عن الشخص، يبقى الحوار على قاعدة العقل لكن إذا حصل العنف فهذا الذي يخيفني.
هيفاء راضي: هل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر؟ هذا السؤال أخذ حيّزاً واسعاً من النقاش، وكثيرٌ من الآيات الواضحة تدلّ على أنّ الإنسان مسيَّر أكثر ممّا هو مخيَّر، من هذه الآيات {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا} [التوبة : 51]، من هذا المنطلق على أيّ أساس تتمّ محاسبة مرتكب الذنب مع أنَّه يفعل الشيء الذي قدّر له الله أن يفعله؟
رجاء عواضة: أكيد أنَّنا سنخاف على حجابنا في لبنان، فما حصل في فرنسا قد يحصل في لبنان، وقد لا تكون بالطريقة الفرنسية ذاتها بل بأسلوبٍ آخر، كمنعهنَّ من العمل مثلاً أو منعهنَّ من دخول الجامعات. وطبعاً هذا يمثِّل مساساً بالديمقراطية في لبنان. السؤال أنّه بعد مرحلة ما يسمّى بالسلام، كيف يمكن أن يحفظ الحجاب في لبنان فلا تفرض الدولة السفور على البنات وخاصّة المحجّبات منهنَّ؟
إبراهيم زين الدين: من ضمن مشاغل الشباب اليوم موضوع الفساد الأخلاقي. وأنا كشاب جامعي أرى أنَّ الفساد المستشري الآن في الجامعات وخصوصاً الظاهرة الأخيرة، التي رأيناها في الجامعة الأميركية أو ما سُمّي "باليوم المفتوح"(1) هو من أبشع مظاهر هذا الفساد. ما دور علماء الدّين بعد مرحلة السلام للحدّ من هذه الظاهرة السيّئة والمهدَّمة للأخلاق، وما تقييمكم لما جرى ويجري؟
ليلى هرموش: بالتأكيد نحن عشنا فترة 17 سنة حرب، لا يمكن أن تُمحى بين ليلة وضحاها، فآثارها برزت في المجتمع فظهرت الأحزاب التي تمثِّل بعضها بالدولة، ولكي نستطيع أن نمحو هذا الشيء علينا أن لا نتَّجه نحو الرموز لحلّ مشاكلنا بل أن نحاول تغيير جزءٍ منها إذا لم يكن كلّها.
ـــ غسان بن جدّو: سماحة السيّد، قد نكون أطلنا عليكم مع آراء الشباب، لكن سمعتم هذه الملاحظات: عقلاني، منفتح، أفضل خطيب، رجل الشباب.. فهل يمكن أن تترشَّح لرئاسة الجمهورية في وقتٍ من الأوقات؟
ليس هذا طموحي ولا ما أُفكِّر به، لأنّه طرح غير واقعي.
ـــ سماحة السيّد: في مختلف هذه التساؤلات، اسمح لي أن أنطلق من الأخ "جاك" الشاب المسيحي الذي تخوَّف نوعاً ما على مستقبله باعتبار أنَّ ظروف الحرب أو أسباب الحرب لم تلغَ نهائياً في لبنان؟
المسلمون والمسيحيون في لبنان ضحايا اللّعبة الدولية
أحبّ أن أقول لهذا الشاب، إنَّ مسألة الحرب في لبنان ليست في عمقها مسألة اللبنانيين؛ ولا أُريد أن أستهلك الحديث عن الخارج ومؤامرات الخارج، لأنّها تحوَّلتإلى عقدة تجعلنا لا نفكِّر بمشاكل الداخل، لكنَّ مسائل الحرب في أيِّ بلد من البلدان هي مسألة اللّعبة الدولية والإقليميّة، التي تستفيد من التعقيدات الداخلية. ولذلك فإنَّ اللبنانيّين بأجمعهم من مسيحيّين ومسلمين لم يختاروا الحرب، وإنَّما فُرِضت عليهم وحاصرتهم، وحاولت أن تحشر كلّ واحدٍ منهم في زاوية تجعله يحدّق بالزاوية الثانية التي يوجد فيها الآخر، لتوحي إليه بأنّه لن يستطيع أن يخرج من زاويته إلاَّ إذا حطَّم الزاوية الأخرى.
لهذا فإنَّني أحبّ أنْ يتَّسع له الأُفق، ليعرف أنّ مسألة الحرب هي مسألة العنف الذي فرض على المنطقة والذي كان سبباً في وجود "إسرائيل" كدولة مصطنعة في فلسطين، والذي جعل الأوضاع الدولية تتحرَّك هنا وهناك من أجل أن تؤكّد موقعها بإضعاف المواقع الأخرى. إنَّني أحبّ أن أقول له علينا أنْ نتّفق في لبنان على معالجة الذهنيّات المنغلقة، سواء في الدائرة الدينيّة أو السياسيّة والتي تخيّل لكلّ واحدٍ من هنا أو هناك بأنَّه يملك مفتاح البلد أو مفتاح المنطقة. إنَّ المشكلة هي أنَّنا ضحايا هذا الانغلاق الذاتي الذي يستغرق فيه الإنسان في طفيليّاته الذاتية وفي أجوائه الطائفية.
إنَّ مسألة الحرب التي يخاف فيها الإنسان على نفسه، هي مسألة الواقع السياسي للمنطقة المطلّ على لبنان. ومن هنا فإنَّه الواقع الذي علينا أن نحدّق فيه، لنعمل على حماية بلدنا وأنفسنا منه بمختلف الوسائل التي لن نستطيع أن نجعلها في خطٍّ واحد لأنّها تمثّل الحركيّة في هذا المجال.
ـــ سماحة السيّد: علاقاتكم ممتدّة نوعاً ما إلى الشارع المسيحي من خلال رموزه وبعض مثقّفيه، ألاَ ترى ما يُخشى على مستقبل لبنان في محيطه العام؟
لا أتصوَّر أنَّ هناك مشكلة خوف مسيحي، كما ليست هناك مشكلة خوف إسلامي في الدائرة اللبنانية، إنَّما هناك ثقافة تحاول أن تنتج هذا الخوف، لأنَّ المسيحيّين لا يزالون موجودين منذ مئات السنين في لبنان ولم يحدث أنّ الوجود الإسلامي في لبنان، سواء كان في مواقع قوّته أو ضعفه، تحوَّل إلى خطر على المسيحيّين. لا أعتقد أنّ هناك مشكلة مسيحية في الشرق، لأنَّ المسيحيّين موجودون في مصر وفي سوريا وفي العراق وفي الأردن كما هم موجودون في لبنان، بل إنَّ وجودهم في مناطق أخرى أكثر من الناحية العددية من وجودهم في لبنان، ولم يحدث هناك خطر يهدِّد المسيحيّين هنا أو هناك. هناك مشاكل تحدث في الدائرة المسيحيّة، سواء من خلال خصوصيّات المسيحيّين الذاتية في ما يختلفون فيه، أو من خلال الخصوصيات السياسية في ما يتّخذونه من مواقف، أو من خلال خصوصيّات الأنظمة التي تحكم المسيحيّين والمسلمين معاً. ولو أردنا أن ندخل في دراسة ميدانية مقارنة لرأينا أنّ المسلمين عانوا من حكّامهم ومن أنظمتهم ومن الأوضاع السياسية المعقَّدة أكثر ممّا عاناه المسحيون، أو على الأقل بدرجة مساوية لما عناه المسيحيون.
لذلك أعتبر المسيحيّين في لبنان، كما هم المسلمون، ضحايا اللّعبة الدولية التي فرضت نفسها على لبنان، كما أنَّ المسيحيين والمسلمين معاً في العالَم العربي كلّه ضحايا هذه اللّعبة الدولية، التي فرضت عليهم حكَّاماً لا يعيشون مسؤولية الحكم في هذا البلد أو ذاك. لذلك أحبّ لكلّ مواطنينا وأصدقائنا من المسيحيين ـــ سواء كانوا من المثقّفين أو الطلاب أو رجال الدّين أو النّاس ـــ أن يدرسوا هذه المسألة دراسة موضوعية. إنَّني أحترم المشاعر التي قد تتحرَّك بالخوف نتيجة وضع ضاغط هنا أو هناك أو في موقعٍ كان للمسيحيّين وأخذه المسلمون، أو في موقع كان للمسلمين وأخذه المسيحيّون، أتصوَّر أنّ الإنسان قد ينطلق بعفويّته، ليعيش هذا الانفعال هنا أو هناك، ولكنَّ المسألة ليست بالصورة التي يتصوَّرونها، لذلك أنا أدعو إلى الدخول في حوار موضوعي لدراسة المسألة بطريقة ميدانية، على مستوى التاريخ والحاضر، لنعرف كيف نصنع مستقبلاً بعيداً عن كلّ العوامل الضاغطة نفسياً، والوهم الذي يُصنَع لنا بين وقتٍ وآخر.
ـــ من الأشياء التي طرحها الأخوة الشباب مسألة الحجاب والمرأة، هناك: رأي يقول إنّه لا ضرورة لارتداء الحجاب خارج المجتمع الإسلامي، ويتساءل آخر فيقول: لماذا بالأساس يُفرَض على المرأة الحجاب وربَّما يعتبر، خاصّة الأخ عبد الرحمن نون، أنَّ هذا الأمر فيه تشيّئ للمرأة من خلال الاهتمام فقط بجسدها، ومن ثمّ سنتحدَّث أكثر عن موضوع المرأة في الفكر الإسلامي.
المرأة والحجاب
إنَّني أحترم أفكار وتطلُّعات هؤلاء الشباب، ولكنَّني أتصوَّر أنّهم لم ينظروا إلى المسألة في العمق. هناك نقاط عاشت في ذهني وأنا أستمع إليهم، ونحن نشعر بأنَّ علينا أن نستمع إليهم وأن نحاورهم وأن ننفذ إلى أعماقهم لأنَّ الشباب هم المستقبل؛ ولذلك فإنَّ مسؤوليتنا في دائرتهم هي مسؤوليتنا عن المستقبل، وعلينا أن نصنع المستقبل من خلالهم. وبالعودة إلى النقاط التي أُثيرت، هناك شاب كان يقول بأنَّ الحجاب يشيّئ المرأة ويحبسها في جسدها ويجعلها تشعر أنَّ الجسد قيمة، ولذلك لا بدّ من حجب هذه القيمة عن الآخرين حتّى لا يفسدوها وما إلى ذلك من كلمات. إنَّالنظرة الإسلامية كانت على العكس من ذلك، فالإسلام عندما أراد أن يرتفع بالمرأة أراد لها أن لا تبرز كجسد يثير الغرائز ويدفع إلى الاشتهاء، باعتبار الطبيعة التي تعيش في وجدان الشاب تجاه الفتاة، ولأنَّ التاريخ أو طبيعة الأشياء جعلت من المرأة مركزاً للإغراء ولم تجعل من الرجل مركزاً له في نظر الفتاة. قد ينشأ هذا الأمر من التربية، وقد يكون ناشئاً من طبيعة عنصر الانفعال لدى المرأة بالنسبة إلى الجانب الغريزي وعنصر الفعل بالنسبة إلى الرجل أو لغير ذلك.
إنَّ الإسلام أراد للمرأة أن تخرج في المجتمع كإنسانة، لا يشغل جسدها عقلها ولا يريد لشخصية الأنثى ـــ كأُنثى ـــ أن تكون هي الرابط الذي يربط الرجل بها، بل يريد أن يكون هناك إنسان يخاطب إنساناً، ولذلك أراد للمرأة أن تبتعد عن إبراز مفاتنها، لا من خلال أنّه يريد أن يشيئها ويسجن جسدها، ولكن لأنَّه لا يريد لجسدها أن يطغى، في الوعي العام، على عقلها ولا يريد له أن يحاصر إنسانيّتها في النظرة العامّة.
لو أردنا أن نقوم بإحصائية شاملة في الواقع الإنساني عن نظرة الشاب المنطبعة في ذهنه عن المرأة، ماذا نجد؟ من الطبيعي أنَّنا من خلال قراءاتنا لكثير من المواقع نجد أنَّ مسألة الاشتهاء غالباً ما تكون الأبرز في نظرته إلى المرأة، وإلاّ فكيف نفسِّر حوادث الاغتصاب التي تحدث بأرقام قياسيّة في المواقع التي يملك فيها الشباب والفتيات حريّة للجنس؟ إنَّ طبيعة الأجواء التي تظهر بها المرأة في نطاق هذه الحريّة تجعل الإنسان يتحرَّك طبيعيّاً. إنَّ الغريزة طبيعيّة، حتّى لو ثُقِّفَتْ فإنّها تفرض نفسها عليك. نحن لا نتكلَّم بالخيال ولا بالمثال، نحن نتكلَّم في الواقع. ونحن عندما ندرس الأدب الغزلي، فإنَّنا نجد أنّ الغزل يحاول دائماً أن يستثير الجوانب الجمالية للمرأة في خطّ الجوانب الجنسية.
وهكذا نجد صورة الإعلان وثقافة التجميل وثقافة ملكات الجمال والأزياء وما إلى ذلك. إنَّني أزعم أنَّ أسلوب العصر الذي يتحرَّك في الواقع هو الذي جعل جسد المرأة عنواناً يشيئها، ليس تشيّئ المرأة بستر جسدها وإنَّما هو بأنْ تنظر إلى جسدها كما لو كان منطلقاً للإغراء. أن تحدِّق بجسدها ليكون هو القيمة في وجدانك، لا أن يكون عقلها هو القيمة. هل هناك انتخاب لملكات العقول ولملكاتالذكاء؟ إنَّ الانتخابات دائماً في العالَم تكون لملكات الجمال. نحن لا ننكر أنَّ الجمال يمثِّل قيمة إنسانية كبرى خلقها الله، ومن الطبيعي أنَّ الجمال قيمة في مواجهة القبح، ولكن هناك فرقاً بين جمال تنفتح عليه من خلال عناصره الجمالية وبين جمال تعتبره جسراً للعبور إلى الجانب الغريزي، هذه هي المسألة.
أمّا بالنسبة إلى نظرة المرأة إلى الرجل، فإنَّني لا أتصوَّر أنّ الذهنية العامّة للمرأة هي ذهنية النظر إلى الرجل من موقع الإغراء، لأنَّ الرجل ليس هو رمز الإغراء ولو على مستوى الثقافة التاريخيّة. إنَّ قضية العنصر الغريزي لدى المرأة أكثر تعقيداً من العنصر الغريزي لدى الرجل، لأنَّ العنصر الغريزي لدى الرجل سريع الإثارة، بينما المسألة بالنسبة للمرأة تختلف عن ذلك. وربّما كان لهذا دور في طبيعة التفاعل في هذه المسألة في النظرة هنا والنظرة هناك.
إذاً، أنا أزعم أنَّ الإسلام هو الذي لا يريد أن يشيّئ المرأة ولا يريد أن يستغرق الآخرون في جسدها وذلك من خلال الحجاب، الآخرون هم الذين يشيّئونها. إنَّ الإسلام يحترم عقل المرأة وسيأتي الحديث عن المرأة في هذا المجال. إنَّني أسأل سؤالاً آخر لكلّ هؤلاء، وهو لماذا نفرض الحجاب على الرجل وعلى المرأة في المواقع الحسّاسة من جسد المرأة والرجل؟ أليس هذا تشييئاً للرجل وللمرأة معاً؟ لماذا؟ إذا كانت مسألة حجاب جزء من الجسد هو ضدّ القيمة الإنسانية فلماذا يكون حجاب الجزء الآخر للمرأة وللرجل معاً مع القيمة؟ إنَّكم تعتبرون أنَّ هذه المواقع الحسّاسة هي مواقع مثيرة، إنَّنا نتصوّر أنّ عملية الإثارة للمواقع غير الحسَّاسة أكثر من المواقع الحسَّاسة، لأنَّ المواقع الحسَّاسة عندما يستغرق فيها الإنسان قد يُصاب بالغثيان في بعض الحالات، بينما الجانب الجمالي الذي يتمثَّل لدى المرأة، موجود في المواقع غير الحسَّاسة أكثر ممّا هو في المواقع الحسَّاسة.
ـــ هذا على المستوى الفكري، أمّا على المستوى العملي في ما يتعلَّق بقضيّة الحجاب، فعندنا مسألتان: الأولى متعلّقة بالأزمة التي أُثيرت من خلال ارتداء الفتيات للحجاب في فرنسا، وهناك سؤال ذكرته إحدى الفتيات تقول إنَّها تخاف أو تخشى على مستقبلها كمحجَّبة في لبنان وخاصّة بعد التسوية؟
فرنسا الدولة المتخلِّفة في خلفيّاتها الدينيّة
إنَّ الحكم في فرنسا، ولاسيّما حكومة اليمين الفرنسي(1)، تحمل رواسب معقّدة من الإسلام كدين، وهم قد لا يلتفتون إلى ذلك ولكنَّهم يعيشونه كواقع، وهذا ما لاحظناه عند اليمين الفرنسي في عقدته، حتّى على مستوى الشعب، تجاه المجموعات الإسلامية التي تعيش هنا وهناك.
إنَّنا نحبّ أنْ نثير هذه المسألة، على أساس قضايا الحريّة التي كانت فرنسا السبَّاقة إلى طرحها، من خلال الثورة الفرنسية التي انتشرت في أوروبا كلّها. إنَّهم يتحدَّثون عن دولة علمانية ويعتبرون أنَّ الحجاب يمثّل رمزاً دينياً وهم لا يريدون في المدارس أيّ رمز ديني. في الواقع إنَّ الحجاب يمثِّل رمزاً تعيشه المرأة في التزامها الذاتي في ما تعتقد، أيّ فرق بين المرأة التي تريد أن تستر بعض أجزاء جسمها نتيجة التزام أخلاقي أو مزاج ذاتي وبين المرأة التي تريد أن تستر قسماً كبيراً من جسدها نتيجة التزام ديني؟ إنَّ الالتزام الديني ليس شيئاً تقليدياً يعيش خارج ذات الإنسان، بل هو عنصر عميق في وجدان الإنسان الذي يحترم قناعاته ويريد للنّاس أنْ يحترموها، لذلك أيّ فرق بين الرمز الديني أو الرمز القومي أو الرمز الوطني؟ ليس هناك أيّ فرق، لو جاء طالب إلى المدرسة يلبس زيَّه القوميّ أو زيَّه الوطنيّ أو أي زيّ آخر، فإنَّ مفاهيم الحريّة تقتضي أن نحترمه في ذلك ما دام لا يسيء إلى النظام العام.
إنَّنا لا نفهم العلمانية على أنّها ضدّ الدّين، إنَّ العلمانية تعني أن لا يكون الدّين عنصراً دخيلاً في حركة الحكم وفي السياسة وفي القانون. أمّا أن نضطهد الإنسان الذي يعيش في المجتمع، في المدرسة وفي النادي وفي السوق وفي أيّ مجال، لأنَّه يتمسَّك برمزه الديني الذي لا يسيء إلى أحد ولا يضطهد به حريّة أحد، فهذا مفهوم جديد للعلمانية جاءت به هذه الحكومة.
إنَّنا نريد للمسؤولين الفرنسيّين أن يفهموا أنَّ قضية الحجاب ليست مسألة عادة تعيش خارج ذات المرأة المسلمة بل هي جزء من التزامها الديني، تماماً كما هي الصلاة وكما هو الصوم؛ لذلك فإنَّنا نقول للفرنسيّين: إنَّنا نطلب منكم أن تحترمونا عندما نكون عندكم وأن تحترموا التزاماتنا الدينيّة التي لا تسيء إلى النظام العام، كما تريدون أن نحترمكم في التزاماتكم الدينية وغير الدينية التي لا تسيء إلى النظام العام.
أنا أزعم أنَّ فرنسا تمثّل الدولة المتخلِّفة في خلفياتها الدينية والتي تحاول أن تفرض هذا التخلُّف اللاإنساني على عنوان العلمنة. ولذلك فإنَّنا لا نتصوَّر أنّ فرنسا أكثر علمانية من أميركا وأكثر عراقة في الديمقراطية من بريطانيا، ونحن لا نجد في بريطانيا وأميركا ولا في أيّة دولة غربية أنَّ الحديث عن الحجاب يدور بهذه الطريقة.
ثمَّ نحن نتساءل، ولا نريد أن نقحم السياسة في هذا المجال: هل النظام الفرنسي يمنع الرمز اليهودي للطالب اليهودي في المدرسة، وهل يمنع الرمز الكاثوليكي المتمثِّل في الصليب الذي قد يوضع على الصدر كزينة، هل يُمنع في المدرسة؟ أم أنَّ هذا تمييز عنصري ضدّ الإسلام؟ إنَّنا لا نجد للمسألة أيّ تبرير ثقافي أو علماني أو ديمقراطي أو أيّ مفهوم إنساني، ولكنَّها العقدة التي بدأت تتحكَّم في النظام الفرنسي، الذي أصبح يعيش حساسية تجاه الإسلام والمسلمين، حتّى وهو يصرِّح بأنّه يريد أن يربح صداقة الإسلام والمسلمين. ونحن نراقب حركة النظام الفرنسي الآن سواء في المسائل الفقهية أو السياسية، نجد أنَّ الشاغل الأكبر لفرنسا الآن هو الإسلام والصحوة الإسلامية، لأنَّها بدأت تخاف من أن يتّجه الواقع الإسلامي في فرنسا إلى أنْ يتأثَّر الفرنسيون بالإسلام ممّا يؤدّي إلى أسلمة فرنسا في المستقبل.
ـــ ربّما يجيبونك بأنَّ الإسلاميّين كذلك، سواء كمجموعات أو كدول لا تسمح لغير المحجَّبات بالظهور بالشكل الذي يرتئيه؟
هناك فرق بين النظرة الإسلامية والنظرة غير الإسلامية، إنَّ غير الإسلاميين بحسب وجدانهم الثقافي، يتحدَّثون عن الحريّة التي تمنح الإنسان فرصة أن يلبس ما شاء ويتحدَّث بما شاء. فالسفور ليس التزاماً للعلمانيّين ولكنّه خيار، بينما لدى الإسلاميين الحجاب التزام وهم يفلسفون بطريقة أو بأخرى بأنَّ السفور قد يسيء إلى نظام المجتمع بشكلٍ عام، تماماً كما هي القضايا التي تهدِّد المجتمع في اقتصاده وفي سياسته، وإنَّهم يزعمون أنّها تهدِّد المجتمع في أخلاقه. لذلك فإنَّ القاعدة التي ينطلق منها الفرنسيون وأمثالهم تختلف عن القاعدة التي ينطلق منها الإسلاميون في هذا المجال، ولذلك فإنَّنا نلزمهم بقاعدتهم، على أساس القاعدة التي تقول "الزموهم بما ألزموا به أنفسهم"، هم ألزموا أنفسهم بالحريّة في خصوصيّات الإنسان ونحن نريد أن نتحدَّث معهم بمنطق الحريّة الذي يلتزمونه.
ـــ هل أفهم من كلامك أنَّ الحريّة يمكن أن تُعدم في داخل المجتمع الإسلامي، إذا تناقضت مع المبادئ العليا؟
إنَّ مسألة الحريّة هي من المسائل التي لا بدّ أن تنطلق من القاعدة الفلسفيّة المستندة إليها، ولذلك ففي غياب الحديث عن الحريّة ـــ الفوضى أو عن فوضى الحريّة لا بدّ أن تكون الحريّة مسؤولة، وما يحدِّد مسؤولية الحريّة إنَّما هو القاعدة التي تنطلق منها. ولهذا فإنَّ علينا أن ندرس حركة الحريّة في مصلحة الإنسان، فقد يزعم بعض الناس أنَّ الجانب الأخلاقي هو الذي يؤطّر الحريّة بإطار معيَّن. وتختلف النظرة الأخلاقية إلى هذا الجانب الأخلاقي في خطورته السلبية باختلاف المفهوم الأخلاقي للإنسان. لذلك فإنَّ القضية لا يمكن أن تُطْرَح على مستوى الشعار، بل لا بدّ أن تُطرَح على مستوى القاعدة الفكرية التي تنطلق فيها هذه الحريّة هنا وهناك.
ـــ بالنسبة إلى سؤال الفتاة حول الحجاب، ربّما تخشى على مستقبلها كمحجَّبة في لبنان خصوصاً بعد التسوية، فهل يمكن أن يحصل هذا الأمر؟
من الطبيعي أنَّ هناك بعض المفردات الموجودة في لبنان، التي تحرَّكت من خلال التخلُّف الذهني. فهناك بعض النوادي أو المطاعم التي تمنع دخول المحجَّبات إليها وبعض المدارس التي تفرض خلع الحجاب على الطالبات. إنَّني أعتقد أنّ هذا يمثِّل مظهراً من مظاهر التخلُّف ولا يمثّل مظهراً متقدِّما، لأنَّه يُعدُّ اضطهاداً لحريّة الإنسان في أن يلبس كما شاء. إنَّنا نتساءل لماذا يمنعون المحجَّبة من أن تدخل هذا المكان ولا يمنعون المرأة التي تأتي بكامل زينتها إلى المدرسة بما يسيء إلى نظام المدرسة، والمحجَّبة لا تسيء إلى النظام العام، لأنَّها لا تخلق أيّ جوّ سلبي حيث توجد، سوى أنَّ بعض الناس لا يطيقون هذا المنظر، كما أنَّ بعض الناس لا يطيقون منظر صورة معيّنة، فلماذا لا تُمنَع من المدرسة التي ترتدي آخر الأزياء المثيرة للغرائز؟
ـــ إذا أردنا أن نستشرف المستقبل هل تعتقد...؟
وأنا لا أتصوَّر أنَّه في بلدٍ شرقي كلبنان، ما زال الدّين فيه يملك قوّة الحاضر والمستقبل تخشى فيه الفتاة على مستقبلها إلى هذا المستوى.
فوضى القِيَم والمفاهيم
ـــ أحد الشباب سألك رأيك بالفساد الأخلاقي خصوصاً في الجامعات وخاصة "اليوم المفتوح" في الجامعة الأميركية؟
قبل هذا، أحبّ أنْ أُعلِّق على حديث الفتاة التي قالت بأنَّ على الفتاة التي تريد أنْ تحتفظ بحجابها أنْ لا تذهب إلى فرنسا أو إلى الغرب، إنَّني أتساءل لماذا؟ هل الإنسان الذي يعيش في مجتمع، يتّخذ لنفسه فيه سلوكاً معيّناً، لا يجب أن ينسجم مع هذا المجتمع. ما رأي هذه الفتاة التي لا تزال تحمل بعض تقاليد الشرق وبعض أخلاقيّاته، لو كانت هناك فتاة تريد أن تذهب إلى باريس، وفي باريس حريّة جنسية، وفي لندن حريّة جنسية فهل نقول: إنَّ على الفتاة التي لا تلتزم بالحريّة الجنسية أن لا تعيش في مجتمع يؤمن بالحريّة الجنسية؟ هل الإنسان الذي يتميَّز بمواصفات أخلاقية وسلوكية جيّدة، يجب ألاّ يعيش في مجتمعٍ آخر؟ هذا مفهوم لا معنى له، لأنَّ القضية هي أن يعيش الإنسان التزاماته وقناعاته وأنْ يؤكّدها بالموقف القوي الصلب، الذي يوحي للنّاس بصلابة القيمة التي يؤمن بها وصلابة الإنسان الذي يعيشها.
إنَّنا نعتقد أنّه لا يجب النظر إلى المسألة بهذه العين البائسة، فلماذا نحدِّق بالشكل؟ إنَّها تتحدّث عن أنَّ المحجَّبة يجب أن لا تعيش في مجتمع السافرات، لماذا نتوقَّف عند الشكل؟ هل يجب على الإنسان الذي يعيش التزامات معيّنة ـــ والالتزام هو أقوى من الشكل ـــ أنْ لا يسافر إلى بلد لا يعيش فيه الناس هذه الالتزامات؟ ما معنى التغيير؟ ما معنى أن ينطلق شخص ليصلح المجتمع؟ ما معنى أن يكون هناك شخص طليعي يريد أن يغيِّر الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي؟ هل نقول له إنَّ عليك أن لا تعيش في قلب هذا الواقع، إذا كنت تملك فكراً يختلف عن هذا الواقع، أو إذا كنت تملك سلوكاً يختلف عن هذا الواقع؟ "غاندي" كان يذهب بثيابه الهنديّة إلى أوروبا ويدخل الجامعات وقد نال الاحترام في هذا المقام. لكنَّ مشكلتنا في الشرق أنَّنا نحتقر خصوصيّاتنا أمام خصوصيّات الآخرين، انطلاقاً من نظرة الضعيف إلى القوي، حيث إِنَّ الضعيف يحتفر ذاته وموقعه وأخلاقه وسلوكيّاته لمصلحة انبهاره بالقويّ.
أمّا مسألة ما أُثير من الفساد الأخلاقي، فإنَّنا نتصوّر أنّ هذا الأسلوب من حركة الحريّة في هذه الجامعة قد تأسَّس على قواعد سياسية وهو لا ينطلق من قواعد ثقافية فكرية، لأنَّني أتصوَّر أنَّ هناك في بعض الجامعات الموجودة في البلد أو في غير البلد خطّة من أجل تغيير المناخ الثقافي الأخلاقي للنّاس، حتّى يبعدوهم عن أصالتهم وعن خصائصهم الأصيلة، وإلاَّ فلو أردنا أن ندرس الداخل لهذه الجامعة، وندرس المناخ الاجتماعي الذي يمثّله طلاّبها، والمناخ الذي يمثّله المجتمع الذي ينتمي إليه هؤلاء الطلاّب؛ لرأينا أنَّ هذا الأسلوب في الحفلات لا ينسجم مع جوّه الاجتماعي والثقافي والأخلاقي.
أنا أتساءل: لو أنَّ مثل هذه الحفلات أدَّت إلى علاقة غير شرعية بين شاب ينتمي إلى هذه العائلة وفتاة تنتمي إلى تلك العائلة العريقة، أو لو حدثت هناك بعض الأوضاع اللاأخلاقية بينهما، فهل المجتمع يهضم مثل هذا الأمر؟ هل نعيش في مرحلة نحتاج فيها إلى أن نقوم بثورة في المسألة الجنسية وفي المسألة الأخلاقية الغربية؟ لماذا ذلك إذاً؟ إنَّني أتصوَّر أنَّ مثل هذه الحفلات لا تنسجم مع الجوّ الاجتماعي السائد، ولذلك فإنَّ على المجتمع أن يعمل على حماية نفسه. لقد قلت مرّة وأنا أتحدَّث عن مسألة الحجاب وغير الحجاب: هناك قاعدتان أخلاقيّتان تتنازعان الذهنية العامّة في المسألة الأخلاقية، هناك قاعدة تقول بأنَّ الإنسان حرٌّ، يمارس حريّته المطلقة في كلّ شيء، وهناك قاعدة تقول بأنّ هناك قاعدة أخلاقية تمثّل التوازن والضوابط الأخلاقية.
عندما نلتزم بالقاعدة الأولى من ناحية فلسفية، فإنَّ علينا أن لانطرح أيّة محرَّمات إلاّ ما يسيء للنظام العام، علينا أن نشجِّع العري وأن نشجِّع الانفلات الجنسي وأن لا يحاسب إنسان إنساناً على أيّ شيء من هذا القبيل، لأنَّ الإنسان حرٌّ في جسده من دون فرق بين أن يكون هذا الإنسان مراهقاً أو بالغاً رشيداً أو غير ذلك، لأنَّ الجنس يكون كالطعام والشراب وغيره.
أمّا إذا أردنا أنْ نلتزم الضوابط الأخلاقية والقانونية في علاقة الرجل والمرأة وفي حريّة الإنسان في جسده وفي حياته؛ فمن الطبيعي أن نفرض الخطوط التفصيليّة، التي تحفظ لهذه الضوابط توازنها. وعلى ضوء هذا، فإنَّ المشكلة التي نعيشها في الشرق هي أنَّ بعضنا يحاول أن يبقي على التزامه المفاهيم الأخلاقية مثل الشَّرف والعفَّة وما إلى ذلك، ويأخذ بالأساليب الغربية المنطلقة من قاعدة الحريّة المطلقة! البعض يُطلِق للمرأة كلّ حريّة التبرُّج والدخول في المجتمعات اللاهية والعابثة والراقصة وما إلى ذلك، حتّى إذا انحرفت المرأة انطلقت مسألة الشرف والعفّة.
"لا يسلمُ الشَّرفُ الرفيعُ مِنَ الأذى حتّى يُرَاق على جوانبِهِ الدَّمُ"
وتنطلق العشيرة والعائلة وكلّ هؤلاء لتحصيل الشرف الضائع.
إنَّنا نعيش في فوضى القِيَم والمفاهيم، فنحن نأخذ شكليّات السلوك الغربي المنطلق من قاعدة فلسفية لا نؤمن بها، ونترك ما تفرضه علينا القواعد الأخلاقية، ولذلك يكون موقف الشاب والفتاة متّفقاً مع قول ذلك الشاعر:
"ألقاهُ في اليَمّ مكتوفاً وقالَ لَهُ إيَّاكَ إيَّاكَ أنْ تبتلَّ بالماءِ"
ـــ سماحة السيّد: ربَّما أثّرت بعض المسائل التي تتعلَّق بالآخر، أي كيف يتدخَّل الآخر ليسوّغ الأشياء، سواء على المستوى الثقافي أو السياسي، ليغيِّر الأمور في داخل المناخ أو المحيط الذي نوجَد فيه. لكنَّكم تعلمون أنَّ هناك بعض الدعوات، حتّى في داخل الفكر الإسلامي، التي تدعو إلى التجديد في التعاطي مع الأحكام الفقهية ومنها ما يتعلَّق بالمرأة. المرأة هي امرأة بلا شكّ ولكنَّ واقع المرأة في الوقت الحاضر، يختلف عن واقعها في ما سبق وفي ما سَلَف من التاريخ. نحن الآن ارتأينا أو ارتضينا أن تكون المرأة قاضية ومحامية وأستاذة جامعية ووزيرة ورئيسة وزراء، ومع ذلك ما تزال بعض الأحكام التي ربَّما يعتبرها البعض مقيَّدة لوضع المرأة، كالميراث وحقَّها في الطلاق والشهادة، ارتضينا أن تكون المرأة محامية وقاضية ولم نرتضِ أن نغيِّر حكماً على سبيل المثال بأنَّ شهادة الرجل توازي شهادة امرأتين؟
لنفهم الإسلام بطريقة موضوعيّة
عندما نريد أن ندرس هذه المفردات التفصيليّة بالنسبة إلى المرأة، فعلينا أن ندرس كلّ مفردة من خلال القاعدة التي ترتبط بها. عندما نطرح مثلاً شهادة المرأة مقارنة بالرجل، فإنَّ النصّ الإسلامي يفلسف المسألة بقوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة : 282]فنحن نلاحظ هنا أنّه يفرض إمكانية أنْ تخضع المرأة لعاطفتها أو تنسى، باعتبار أنَّ الجانب العاطفي لدى المرأة أقوى من الجانب العاطفي لدى الرجل، من خلال حاجة الأُمومة والأنوثة في حركتها الإنسانية لهذا الكمّ الكبير من العاطفة أو لهذا الفيض العاطفي القويّ.
لذلك فإنَّنا نلاحظ أنّ شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل كانت باعتبار أنَّ المرأة قد تضلّ، سواء أنّها تنسى، تنحرف، تخطِئ، تقودها عاطفتها {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}، فتأتي امرأة لتذكّرها. فالمسألة لا تمثِّل انتقاصاً من كرامة المرأة وإنسانيّتها، وإنَّما تمثِّل احتياطاً للعدالة.
ـــ وبالنسبة للرجل كذلك يمكن أنْ يخطئ..
الظاهرة العامّة ـــ كما قلنا ـــ إنّ كمية العاطفة لدى المرأة هي أكبر من كمية العاطفة لدى الرجل، ممّا يقتضي أن يكون الاحتياط هنا أكبر. وهكذا نجد مثلاً في التشريع الإسلامي لا تُقبَل شهادة رجل واحد.. إنَّ أقلَّ عدد في الشهادة ـــ وهو ما يُسمّى بالبيّنة ـــ رجلان، لأنَّ المسألة تنطلق مع كون الرجلين عدلين في دينهما، لكن لا بدَّ من رجلين احيتاطاً للعدالة، ولإمكانية أن يكون هناك شيء خفيّ في شخصية هذا الإنسان، الذي نراه عادلاً ولتقوية موقع الحقّ في العدالة برجلٍ ثانٍ في هذا المقام. لا تُقبَل شهادة رجل واحد في هذه المسألة، وقد تُقبَل شهادة امرأة واحدة في بعض القضايا التي تختصّ بالنساء مثلاً.
ـــ هل المسألة تخضع لظروفها؟
المسألة تخضع لمفرداتها، التي تجمعها فكرة واحدة وهي الاحتياط للعدالة والتحرُّك لها في ما تقتضيه من خلال الظروف الواقعية التي تحيط بحركة العدالة هنا وهناك. فالقضية ليست انتقاصاً لشخصية المرأة. وربَّما كان هذا الجانب العاطفي من شخصية المرأة، هو الذي يجعل الفقهاء يتحفَّظون على أن تكون المرأة قاضية. إنَّ المسألة تتّصل بهذا الجانب، لا بجانب انتقاص شخصيّتها وإنسانيّتها، ولكن من جهة الاحتياط للعدالة، باعتبار أنَّ علينا أن نحمي العدالة من نقاط ضعفنا، لأنَّ القضية تتّصل بالآخر ولا تتّصل بنا في الذّات.
أمّا مسألة الإرث؛ فإنَّ الإرث انطلق من التوازن في الحقوق والواجبات، لأنَّ المرأة لا تكلّف شيئاً في البيت الزوجي، وقد شرَّع الإسلام المهر للمرأة ولم يشرّعه للرّجل، ولذلك فإنَّ بعض الظرفاء يقولون إنَّ على الرجال أن يطالبوا بالمساواة بالمرأة في مسألة الإرث، لأنَّ المرأة تأخذ أكثر من الرجل. فلو فرضنا أنَّ رجلاً ـــ على طريقة هذه الظرافة ـــ ورث من أبيه ألفي دولار وورثت أخته ألف دولار، فإنَّ هذا الرجل إذا تزوَّج، سيدفع الألفين وأكثر مهراً، خصوصاً مع غلاء المهور في هذه الأيام، وسيحتاج إلى أن يستدين، ليستأجر بيتاً ولينفق على زوجته، وعليه الإنفاق على الأولاد أيضاً؛ بينما يبقى الألف دولار لدى المرأة، إذا تزوّجت، على حاله وتستزيد من ذلك. فالمسألة لا يُنظَر إليها من جانبٍ واحد، بل لا بدَّ أن تُنظَر من أكثر من جانب. ومن جهةٍ ثانية فإنَّنا لا نتصوَّر أنّ المرأة خارج نطاق هذه المفردات، التي تتّصل بالاحتياط للعدالة، لا نجد أنَّ الإسلام قيَّدها في هذا الجانب، بل إنَّنا نتصوَّر أنّ الإسلام لم يحدّد للمرأة عملها أو نشاطها، فبإمكانها أن تنطلق في أيّ موقع من المواقع المتّصلة بالجانب السياسي والاجتماعي والثقافي وحتّى الأمني، ولكن في النطاق الأخلاقي الذي فرضه الإسلام، ولم يفرضه عليها وحدها، بل فرضه على الرجل أيضاً بالمستوى نفسه.
ـــ سماحة السيّد: أنتَ تطرح نفسك كمجدِّد أو على الأقل هكذا يراك الآخرون؟
أنا لا أطرح نفسي كمجدِّد، بل أطرح نفسي كإنسان يحاول أن يفهم الإسلام بطريقة موضوعية، بعيداً عن التقاليد التي ورثناها من خلال بعض الأحكام الفكرية التي جاءت من بيئة التخلُّف.
ـــ أقول هذا الكلام، لأنَّه ربَّما عندما تنظر إلى "بينازير بوتو" الآن كيف تصارع الرجال، و"تاتشر" في وقت من الأوقات كيف كانت تتحكَّم بجزء من العالَم وكانت مسؤولة عن الزرّ النبوي، فربّما عندما تنظر المرأة المشرقية والمرأة التي تعيش في المجتمعات الإسلامية إلى أنَّ العالَم الغربي قد مكَّن المرأة من مجالات رحبة وواسعة جداً من الحريّة، في حين ترى أنَّ الفكر الإسلامي والفقه الإسلامي الذي تتفضَّل بذكره الآن ربّما يغلِّب الاحتياط على المجالات الأخرى.
أنا لا أتصوَّر ذلك، لكنَّ المشكلة أنَّ طبيعة الواقع الاجتماعي الذي نعيشه لا يزال بحاجة إلى أن تتركَّز فيه المفاهيم بشكلٍ متوازن وعميق ودقيق، بحيث تتبيَّن فيه الخطوط الفاصلة بين الأشياء، لأنَّنا إذا أردنا أن نُطلِق حركة الواقع في اتّجاهٍ ما يعيشه العالَم، مع الاحتفاظ بالمفاهيم التي نتمثَّلها بشكلٍ ضبابي أو متخلِّف أو غير مركَّز؛ فإنَّ المسألة سوف تتحوَّل إلى حالة اختلال في توازن المجتمع. إنَّها تكون تماماً كما تحدَّثنا عن النّاس الذين يؤمنون بالقِيَم الأخلاقية على المستوى الشرقي ويأخذون بالسلوك الغربي المرتكز على قِيَم أخلاقية أخرى.
ـــ نرجع إلى بعض التساؤلات بالتفصيل، إحدى الفتيات ذكرت مشكلة تعيشها وهي مسألة "التسيير والتخيير" من خلال الآية {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا}.
جوابي عن سؤال هذه الفتاة، أنَّ الإنسان مسيَّر ومخيَّر معاً. هو مسيَّر في ما يعيش، فنحن مسيَّرون في طبيعة تكويننا الجسدي في بياض الأسنان وسواده وطوله وقصره وما إلى ذلك، ونحن مسيَّرون في تأثُّرنا بالكون من حولنا وما إلى ذلك من الأمور، التي تتّصل بحركة وجودها في واقع الوجود العام وفي واقع الوجود، مقارناً بالوجود الآخر.
أمّا ما نفعله نحن، فالله خلق للإنسان عقلاً وخلق له إرادة وجعله حرّاً: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان : 3]، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد : 10]، {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف : 29]، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ـــ 8].
أمّا النصّ الذي يقول {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا} [التوبة : 51] إنَّه يتحدَّث عن أنَّ الله كتب مستقبل الخليقة، ولكنَّ كتابة الله لا تعني أنَّ الإنسان مسيَّر، لأنَّ الكتابة تنطلق من رصيد ما يحدث في المستقبل بأسبابه، ومن أسباب ما يحدث في المستقبل اختيار الإنسان. الله يعلم من خلال الظروف التي نعيشها، سواء كانت ظروفاً فكرية أم نفسية أم بيئيّة، الله يعلم أنَّنا سنفعل كذا من خلال ظروفنا، ولذلك فإنَّ ما كتبه الله، لا يلغي قانون السببيّة الذي ينطلق من أنَّ الفعل يتبع سببه، ومن الأسباب إرادة الإنسان، تماماً كما لو كتبنا أنَّ السماء سوف تمطر في شباط مثلاً وحدث ذلك، هل معنى ذلك أنَّنا إذا كتبنا ذلك فلا يكون هناك سبب لنزول المطر. إنَّنا نكتب حدوث المستقبل بأسبابه. فالله نظَّم الكون وجعل الإنسان المخلوق الوحيد في هذا الكون، الذي يملك عقلاً متحرِّكاً ويملك إرادة متحرِّكة ويملك ظروفاً متحرّكة. وقد حمَّله الله مسؤولية نفسه من خلال هذه الحركة، ولعلَّنا نستوحي ذلك من قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب : 72]، الأمانة هنا تمثِّل المسؤولية، كأنَّ الله عرض الأمانة ـــ المسؤولية ـــ على السموات والأرض والجبال، لتتحمَّل مسؤولية إدارة وجودها، بحيث تتحمَّل نتائج هذه المسؤولية {فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا}، وقلن لا نستطيع ذلك، ولكن يا ربّ أنتَ حرِّك القوانين في داخلنا، التي تسيِّرنا نحو ما تريد.
أمّا الإنسان، فقد قال من خلال ما يملك من عقل ومن إرادة ومن واقع متحرِّك يستطيع أن يغيِّره ويبدِّله، قال: أنا لها، ولكنَّه ظلم نفسه وجهل حجم المسؤولية، ونحن نقرأ أيضاً في القرآن الكريم: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11]، معناه أنَّ الإنسان يملك تغيير الواقع من خلال تغيير نفسه؛ {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل : 118].
لذلك أحبّ أن أقول إنَّ القضاء والقدر في الإسلام لا يجعل الإنسان واقعاً تحت تأثير شيء قاهر يُلغي إرادته. نحن نصنع قضاءنا وقدرنا، لأنَّ القدر والقضاء يحدِّدان للإنسان هندسة حياته من خلال ربط المسبِّبات بالأسباب.
ـــ هناك قضية أُثيرت حول مفهوم ودور عالِم الدّين خصوصاً في الوقت الحاضر؛ حيث إِنَّ عالِم الدّين له مكانة مميّزة، حتّى في داخل التشريع باعتباره فقيهاً. ألا تعتقد ذلك في الوقت الحاضر، خصوصاً وقد تشعَّبت الأمور بشكلٍ كبير وفُتِحَ المجال أمام مختلف الطاقات غير الدينيّة من رجال اختصاص ـــ اقتصاد وثقافة واجتماع وسياسة ـــ أنْ يكون لهم كذلك دور، بمعنى آخر أين تقف حدود عالِم الدِّين؟
دور عالِم الدِّين
إنَّ عالِم الدِّين هو إنسان يملك ثقافة دينية منفتحة على كلّ ما له علاقة بحركة الدين في الإنسان وفي الحياة، من خلال الخطوط التفصيليّة في القانون والأخلاق والقِيَم وما إلى ذلك. لذلك، لا بدَّ للعالِم الديني من أن يكون مُلِمَّاً بكلّ ما يتّصل بحركة الدين في وجدان الإنسان وفي واقع الحياة.
أمّا الاختصاصات الأخرى كالكيمياء والفيزياء والهندسة وما إلى ذلك، فإنَّ عالِم الدّين لا يدَّعي لنفسه الإحاطة بذلك، بل إنَّ طبيعة أمانته لمسؤوليته وأمانته على النّاس أن لا يعطي رأياً اقتصادياً، إلاّ بعد أن يرجع إلى أهل الخبرة في الاقتصاد، وأن لا يعطي رأياً سياسياً ـــ إذا لم تكن له ثقافة سياسية ـــ إلاَّ بعد أن يرجع إلى أهل الخبرة. لذلك عالِم الدِّين لا يتصوَّر نفسه إنسانً يملك كلّ الخبرات، بل هو إنسان يقف في دائرة الخبرة الثقافية والعملية التي يملكها، حتّى أنَّ عالِم الدّين إذا كان اقتصادياً فإنَّه لا يتحرَّك في الاقتصاد من موقع أنَّه عالِم دين، بل يتحرَّك في الاقتصاد من خلال أنَّه رجل اقتصاد، يعطي لنفسه الخبرة في ما يتّصل بالمسألة الاقتصادية في الجانب الديني كما يعطي لغيره الخبرة في هذا المقام.
لذلك نحن نقول: إنَّ الدّين يحترم العلوم الأخرى، ويرى أنّ على كلّ إنسان أن يقف عند حدود معرفته، وأنَّ على عالِم الدّين أن يحترم أهل الخبرة الآخرين، وأن لا يعطي أيّ رأي في مسألة لا تتّصل باختصاصه وبخبرته، إلاَّ بعد أن يرجع إلى أهل الخبرة؛ وعليه أن يلتزم برأيه إذا رآه ملزماً، لأنَّ عملية الرجوع إلى أهل الخبرة هي عملية متحرِّكة، لأنَّك قد ترجع إلى مَنْ هو من أهل الخبرة فيرى رأياً، وقد يكون هناك بعض أهل الخبرة يرى رأياً آخر. لذلك لا بدَّ لك من أن تشاور ثمّ تحاول أن ترجع إلى نفسك، لتقرِّر القرار من خلال ذلك. وهذا ما عبَّرت عنه الآية الكريمة في خطاب الله للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) حيث يقول: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} [آل عمران : 159].
ـــ سماحة السيّد نحن نرى الكثير من المشايخ، هل كلّ شيخ هو عالِم دين؟
من الطبيعي أنّه ليس كلّ شيخ عالِم دين. العلم الديني ليس عمامة وليس موقعاً. العلم الديني هو كأيّ علمٍ آخر. إنَّ الموقع لا يمنحك الدرجة العلمية والزيّ لا يمنحك الدرجة الدينيّة. عالِم الدِّين كأيّ إنسان، إذا تمكَّن من الحصول على العلم الذي يجعله في مستوى موقعه فعلى النّاس أن يقدِّروه كتقديرهم لأيّ صاحب علم، وإذا لم يكن له ذلك ووضع نفسه في موقع ليس أهلاً له، فعلى النّاس أن يرفضوه حتّى لا يسيء إلى القيمة الدينية أو العلمية بجهله أو انحرافه.
ـــ هناك مَنْ يسأل سؤالاً شائعاً جدّاً، مفاده أنَّ الفكر الإسلامي أو الحركات الإسلامية المعاصرة تُقصِي الآخر، وأعطى مثالاً على ذلك إيران وتجربة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) متحدِّثاً عن مرحلتين: المرحلة المكيَّة التي كانت ترغيبية والمرحلة المدنية التي كانت ترهيبيّة...
الإسلام لا يلغي الآخر
هناك مفردات لا بدَّ من ملاحظتها في هذه المداخلة. أوّلاً الحديث عن أنّ مسألة الترغيب كانت من سمات المرحلة المكيّة وأنَّ مسألة الترهيب كانت من سمات المرحلة المدنية. هذا الكلام غير دقيق، لأنَّنا عندما ندرس المرحلة المكيّة، نجد أنَّ الآيات التي نزلت فيها قد تكون أكثر ترهيباً من الآيات التي نزلت في المرحلة المدنية أو مساوية لها، ولذلك فنحن لا نوافقه على هذا، بل إنَّنا ندرس الآيات التي نزلت في المرحلة المكيّة، نجد فيها ترهيباً؛ وربّما استهدفت إحداث صدمة للمشركين الذين كانوا يحتاجون إلى ما يهزّ مواقع وثنيّتهم في وجدانهم، لأنَّ الوثنية لم تكن حالة فكرية لتناقش فكرياً، وإنَّما كانت حالة تخلُّف مغرقة في التقليد وفي التاريخ وما إلى ذلك. ولذلك فإنّ القرآن كان عنيفاً جدّاً في المرحلة المكيّة.
ـــ ربَّما المقصود أنّه أُقيمت الدولة الإسلامية في المدينة فكان ملزماً...
عندما ندرس الآيات المدنية، فإنَّنا نراها أكثر انفتاحاً على فكر الإنسان وعلى وجدانه. إنَّ الله يقول: {اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال : 24] إنَّه يخاطب في الإنسان عقله وقناعته، لأنَّ الإسلام لا يريد أن يقيم دولته على أساس إلغاء وجدان الإنسان وقناعته لأنَّ القناعة فعل إيمان. وقضية الإلزام بالأحكام الإسلامية، تماماً كما هو الإلزام بالقانون في أيّ نظام من الأنظمة. إنَّنا نلاحظ أنَّ أيَّ قانون من القوانين في العالَم ينطلق من حالة إلزام، تواكبها القوانين الجزائية والجنائية وما إلى ذلك. فالإسلام في مسألة فرض القانون انطلاقاً من سلطة القانون ليس بدعاً من المواقع، بل هو يلتقي مع كلّ سلطة تملك قانوناً، حتّى لا يعيش المجتمع الفوضى في شؤون حياته.
أمَّا الحديث عن أنَّ الدّين يُلغي الآخر، فإنَّنا لا نستطيع أن نتحدّث عن الإسلام تحت هذا العنوان، إلاَّ إذا أراد بعض الناس أن يتحدّث عن أديان أخرى، لا تؤمن بما يقول هذا الدّين: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران : 64]. إنَّ الواقع الذي عاشه الإنسان في مرحلة حركة الأديان كان واقع التعدُّدية الدينيّة، كما أنَّنا نعيش في عصرنا التعدُّدية السياسية. ونحن نلاحظ أنَّ الإسلام حافظ على التعدُّدية الدينية، ولذلك عاش اليهود والنصارى جنباً إلى جنب مع المسلمين في كلّ المراحل. ونحن نجد أنَّ اليهود والنصارى موجودون في البلاد الإسلامية حتّى الآن؛ وقد سلك الإسلام طريقاً واقعياً في البحث عن نقاط اللّقاء وإعطاء اليهود والنصارى حريّتهم الدينيّة.
"الذمّة" حالة حضارية
وإذا كان البعض يتحدَّث عن مسألة "الذمّة"، فالواقع أنَّني أعتبر أنَّ الذمّة تمثّل في مفهومها الإنساني حالة حضارية، بدل أن تكون حالة اضطهاد للإنسان. إنَّ الإسلام هو دين ينطلق من قاعدة فكرية معيّنة. إنَّ الدولة في الإسلام هي دولة ملتزمة، تنطلق من قاعدة فكرية؛ تماماً كأيّة دولة أخرى معاصرة. ومن الطبيعي أنّه إذا عاش في داخل هذه الدولة أُناس لا يملكون الإيمان بهذه القاعدة، فإنَّ الإسلام لا يفرض عليهم الالتزام بمسؤوليّاتها، ولذلك فإنَّ الإسلام لا يكلّف اليهود أن ينخرطوا في الجيش الإسلامي أو النصارى حتّى يحاربوا ـــ في بعض الحالات ـــ يهوداً مثلهم أو نصارى مثلهم، لأنَّه يحترم رغبتهم بعدم محاربة أهل دينهم، لو صادف أنَّ الدولة الإسلامية اصطدمت مع أُناس من هذا القبيل. إنَّ الإسلام يقول لهم إنَّ الإنسان الذمّي، الذي يعيش في ذمّة الإسلام وفي مسؤولية السلطة الإسلامية، يعيش حقوقه وإنسانيّته وحريّته في أداء عباداته وتقاليده، بما لا يتنافى مع النظام العام.
وإذا كان بعض النّاس يتضايقون من كلمة الذمّة، باعتبار أنّها حُمِّلت كثيراً من السلبيات، من خلال التطبيق السيّئ لها في القرون المتخلِّفة؛ فإنَّ هناك أسلوباً آخر في علاقة المسلمين بغيرهم وهو العقد الاجتماعي، وهو العهد، لأنَّه عندنا ذمّي وعندنا معاهد، والإسلام تكلَّم عن عهد النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلَّم) مع المشركين كما يتكلَّم عن عهده مع اليهود والنصارى. فمن الممكن أن تدخل الأقليّات الدينية ـــ وربّما غير الدينية ـــ في نطاق المصلحة الإسلامية العليا، في عملية معاهدة مع المسلمين، بحيث يكون هناك مجتمع متعدِّد في طبيعته وانتماءاته وتكون هناك معاهدة بين هذا الفريق وذاك على هذا الأساس.
ـــ أين نضع الماركسيّين على سبيل المثال في هذا؟
الإسلام عندما يقوم على الحريّة في نطاق الفكرة التي يرتكز عليها القانون، فمن الطبيعي أنَّ أيّ فكر مضاد يعمل لإسقاط الدولة، لا يوافق عليه الإسلام ولكنَّه يعطيهم حريّة أنْ يتحرَّكوا وأنْ يدخلوا في حوار منفتح مع كلّ الجهات الإسلامية في هذا المجال. إنَّ الإسلام لا يختلف في نظرته إلى الحريّة عن الماركسية في نظرتها إلى حريّة الإنسان الآخر.
ـــ بعبارة أخرى، في الدولة الإسلامية هل هناك مجال للماركسيّين أنْ يعيشوا فكرهم؟
حريّة الفكر الآخر
إنَّ المسألة تتّصل بأنَّ الإسلام لا يوافق على حريّة الإلحاد وحريّة الشرك في دولته إنّه يوافق على حريّة الدِّين الآخر، يوافق على حريّة الرأي الآخر المعارض في داخل السياسة، أمّا حريّة الإنسان الملحد، بأنْ تكون له الحريّة في نشر إلحاده مثلاً وفي حركة إلحاده، فإنَّ الإسلام قد يتحفَّظ على ذلك. لكنَّ المسألة ليست مغلقة تماماً، ربّما يرى بعض المفكّرين من المسلمين أنَّ مسألة الضغط على حريّة الآخر لحماية الخطّ الذي تؤمن به، إنَّما يتحرَّك على أساس أن توفّر لفكرك الذي تقوم عليه الدولة قاعدة أمنية متينة بينما نرى أنَّ اضطهاد الفكر يقوّيه أكثر من إعطائه حريّته، لذلك لا أجد مانعاً من إعطاء الحريّة للفكر الآخر، بما فيه الفكر الماركسي ولكن ضمن ضوابط معيّنة، تحافظ على التوازن في الواقع الإسلامي.
ـــ إذا كان هناك فكر آخر ـــ ماركسي أو غيره ـــ يحترم ضوابط النظام القائم والدولة والقانون، فهل هو حرّ أن ينشر ثقافته وفكره وعقيدته؟
قلت إنّ الفكرة لدى الفقهاء، أنّه لا يجوز إعطاء الحريّة للضلال لأنَّ ذلك يضعف الهدى، ولا يمكن إعطاء الحريّة للباطل لأنَّ ذلك يضعف الحقّ. إنَّني أناقش في هذه المقولة وأرى أنَّ تطوّر الواقع الثقافي في العالَم وتداخل الأوضاع السياسية، جعلا من اضطهاد الفكر وسيلة من وسائل تقويته وإضعاف الفكر المضطهِد. لذلك فأنا أجد أنَّه إذا كانت هناك مبرّرات لاضطهاد الفكر الآخر بالمطلق في العصور السابقة، من خلال طبيعة الظروف المحيطة بالدولة وبالنّاس وبالفكر الآخر؛ فإنَّ التطوّر المعاصر، يجعل من اضطهاد الفكر حالة سلبية للفكر المضطهِد وحالة إيجابية للفكر المضطهَد.
لذلك نحن نقول: لتعطِ الدولة الإسلامية حريّة الفكر الآخر، تماماً كما أعطت حريّة الدّين الآخر، ولكن ضمن ضوابط معيّنة تُبقي للفكر حريّته في ظلّ حماية الإسلام لفكره.
ـــ في هذا الوقت المعاصر هناك ضرورة التفريق بين الدولة والنظام، فتصبح الدولة ملكاً للجميع في حين أنَّ النظام هو ملك للحاكمين الذين يقودون.. ما رأيكم بذلك؟
المسألة التي يجب علينا أن نفكِّر بها هي، هل نريد دولة لا فكر لها ولا خطّ لها على مستوى الأيديولوجيّة، أو أنَّنا نريد دولة ترتكز على خطّ؟
ـــ نريد دولة ذات مؤسَّسات تكفل حقّ الجميع وحريّتهم، ولكن نريد نظاماً ذا هوية وفكر، أليس كذلك؟
عندما يكون هناك نظام ذو هويّة وفكر، فإنَّ الدولة تكون أمينة على حماية هذا النظام وعلى حركيّته في داخل الخطوط التي تمثّل هذا النظام. ولذلك فإنَّنا إذا اتّفقنا على أنَّه من الضروري أن تكون هناك دولة ذات هويّة شخصية وفكر، فمن الطبيعي أن تكون حركيّة هذه الدولة في دائرة ما يحمي هذا الفكر؛ حتّى إذا تحدّثت عن الحريّة فإنّك تتحدَّث عنها في هذا الإطار.
إنَّنا لو تحدّثنا عن الدولة الديمقراطية، التي لا لون لها من ناحية المضمون الفكري مثلاً، باعتبار أنَّ الشعب يحكم نفسه من خلال ممثّليه ـــ أيّاً كان فكر الشعب ـــ فمن الطبيعي أنَّ الدولة الديمقراطية تحمي الديمقراطية ولا تسمح بشيء يسقطها؛ قياساً على ذلك، نحن نقول: لو كانت الدولة الإسلامية فإنّها لا بدّ أن تكون حياديّة أمام الإسلام.
ـــ فقط حول هذا الموضوع ماذا بالنسبة لمسألة إيران؟
أمّا مسألة إيران، فإنَّني أزعم أنَّ هناك في إيران حريّة سياسية وفكرية في النطاق الذي ذكرناه. إنَّ الماركسيّين في إيران لا يملكون حزباً ولكنَّهم يملكون وجوداً، بمعنى أنَّ النظام لا يضطهدهم لأنّهم ماركسيون، إنَّهم يتحرّكون في المجتمع بشكلٍ طبيعي جداً. هناك مراكز ثقافية فكرية كبرى في إيران معارضة لفكر الدولة، سواء منها على مستوى النوادي الثقافية أو على مستوى الصحف أو ما إلى ذلك. ونحن نرى أنَّ الدولة لم تضطهد مركزاً ثقافياً مضادّاً، ولم تغلق مجلّة لمجرّد انتقادها ولاية الفقيه أو لأنَّها تنتقد بعض القضايا الموجودة. ونحن نعرف أنَّ هناك بعض الأساتذة الجامعيّين، الذين أثاروا ضجّة كبرى، وكانوا يرفعون أصواتهم بالنقد في الجامعات والحوزة، وينقدون كثيراً من المضمون الفكري لمفردات الثورة...
ـــ مثل الدكتور عبد الكريم سروش مثلاً...
ولم تطردهم الدولة من مواقعهم، ربَّما خفَّفت بعض المواقع التي ترى فيها خطراً على الدولة..
ـــ وعلى مستوى سياسي، مثلاً هل لدى اليهود والمسيحيّين نشاط؟
لقد أخبرني القائد ـــ آية الله ـــ السيّد الخامنئي أنَّ هناك أربعة مواقع ثقافية كبرى في إيران؛ والدولة تعرفها ولكنّها لا تتعرَّض لها بسوء، لأنَّها لا ترى هناك مصلحة في ذلك. كما أنَّنا نجد أنَّ اليهود والنصارى يتمثَّلون في مجلس الشورى في إيران التي تعتبر دولة إسلامية. وهكذا نلاحظ حريّة الصحافة. من الطبيعي أنَّ إيران، التي قامت على الإسلام، قد لا توافق على أن يكون في الأحزاب الموجودة في داخلها حزباً مضادّاً للإسلام في فكره، وربّما تنطلق التجربة المستقبلية عندما تقوى الدولة، فتفسح في المجال لبعض الأحزاب التي قد تختلف مع الفكر الإسلامي هنا وهناك، تبعاً للمناعة التي تملكها الدولة أمام هذا وذاك.
ـــ سماحة السيّد: الأخ محمّد إبراهيم، تساءل كيف أنَّك دعوت في إحدى خطبك يوم الجمعة إلى العلمنة في لبنان من خلال إلغاء الطائفية السياسية؟
لم أتحدَّث عن العلمنة بشكلٍ إيجابي مطلقاً في كلّ مداخلاتي الفكرية والإعلامية، لأنَّني ملتزم إسلامياً؛ والعلمنة لا تتعاطف ولا تنسجم مع الالتزام الإسلامي، لأنَّها ترى في الإسلام ديناً وتعتبر أنَّه لا علاقة للدّين بحركة الواقع، سواء على مستوى الحكم والسياسة أو القانون وما إلى ذلك، بينما أرى ـــ كإنسان ملتزم إسلامياً ـــ أنَّ الإسلام هو دين الحياة في كلّ مواقعها. لذلك لم أتحدَّث عن العلمنة بشكلٍ إيجابي.
ـــ ربَّما فَهِمَ إلغاء الطائفية السياسية بأنَّه دعوة للعلمنة؟
دولة الإنسان
من الممكن جدّاً أنَّني تحدَّثت في بعض المواقع بموضوع آخر، كنتُ أقول: إذا لم يكن ممكناً في لبنان إقامة دولة الإسلام التي نلتزمها فكرياً وثقافياً، لأنَّه ليست هناك ظروف موضوعية واقعية لإقامتها فلا أقلّ من أنْ تنشأ هناك دولة الإنسان، لا على أساس التخفُّف من الالتزام ولكن على أساس التعاطي مع الواقع في صيغة تقترب من المفاهيم العامّة في قضايا الإنسان ولاسيّما في مسألة العدالة، حيث يمكن للإنسان أن يعيش بعض القِيَم الإسلامية المتّصلة بالإنسان وبحركة الحكم إذا لم يستطع أن يعيشها بأجمعها.
ـــ هل هي دولة العقل التي دعا إليها ابن خلدون أم شيءٍ آخر؟
أنا لا أعتبر أنَّ الحديث عن دولة الإسلام يبتعد عن حديث دولة العقل، أنا أعتبر أنَّ الإسلام عقلاني وأنَّه يؤكّد حركة العقل لاسيّما أنَّنا نلتزم ما يؤدّي به العقل بشكلٍ قطعي إلى فكرةٍ ما؛ إنَّنا نؤول النصّ لمصلحة حكم العقل، ولذلك فنحن لا نعتبر أنَّ الحديث عن دولة العقل يبعد عن الحديث عن دولة الإسلام، لأنَّ الإسلام يؤكّد العقل ويتحرَّك في المجالات التي قد لا يملك العقل الوسائل إليها، كما في مسائل الغيب وما إلى ذلك، فإنَّ العقل لا يرفض الغيب ولكنّه لا يثبّته بوسائله الخاصّة، لأنَّه لا يملك هذه الوسائل. ومن هنا فإنَّ النبوّات هي الوسائل التي يمكن أنْ تطلّ بالإنسان على الغيب بعد أن يجد الدليل على صحّة النبوّات.
لذلك فإنَّني كنتُ أطرح المسألة على أساس أنَّ الواقع الطائفي في لبنان ليس في مصلحة الإسلام ولا في مصلحة العلمنة ولا في مصلحة المسيحيّة، عندما نريد أن ننفذ إلى الإسلام كقِيَم تتحرَّك في حياة الإنسان وفي حركة الحياة، أو عندما ننظر إلى المسيحيّة كقِيَم تتحرَّك في السّاحة ذاتها، وهكذا عندما نتحدَّث عن العلمنة كوسيلة من وسائل ربط الإنسان بالواقع من خلال القِيَم الإنسانية، على أساس حقوق الإنسان التي تتحرَّك في خطّ الحريّة والعدالة، فإنَّ الواقع الطائفي في لبنان هو واقع عشائري متخلِّف، يصادر الكفاءات والقِيَم الكبرى لمصلحة تجمُّع طائفي بشري، لا يعني له مضمون الطائفة شيئاً، في مقابل تجمّع طائفي هنا، لا بأس بدولة الإنسان.
لذلك كنتُ أقول: إنَّ علينا في الواقع الذي نعيش فيه، إذا لم نستطع تغيير الواقع على صورة أفكارنا ـــ أيّاً كان الفكر الذي نلتزمه ـــ فإنَّنا على الأقل لا بدّ من أنْ نخفِّف من سلبيات هذا الواقع وذلك بالحدّ من مظالِم النظام الطائفي السياسي والطائفية السياسية، وفي الوقت نفسه كنتُ أتحدَّث عن الكلمة السّواء بين المسلمين وبين أهل الكتاب، وإنْ لم يرتضِ بعض أصدقائنا من المسيحيّين أن يُنسِبوا إلى أهل الكتاب، لأنَّهم ينتسبون إلى السيّد المسيح بحسب التصوُّر الذي يتصّورون فيه ألوهية السيّد المسيح، ولكنَّ هذا مصطلحنا، الذي ننفتح فيه على ما يؤمنون به من الإنجيل، سواء كان الإنجيل يمثِّل الكتاب الذي أوحى الله به إلى السيّد المسيح أو كان شيئاً آخر.
على كلٍّ، نحن ندعو إلى الكلمة السّواء في لبنان وفي العالَم مع أهل الكتاب من اليهود ومن النصارى، وقد طرح القرآن الكريم عنوانين كبيرين، العنوان الأوّل هو وحدانية الله: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [آل عمران : 64]، والعنوان الثاني هو وحدة الإنسانية أمام المستكبرين: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} [آل عمران : 64]، وحدة الله ووحدة الإنسان، ممّا يولّد مناخاً لا يطغى فيه إنسان على إنسان. ومن خلال هذين العنوانين ننطلق للانفتاح على كلّ قضايا اللّقاء في العالَم التي تتضمّنها هاتان الوحدتان. ومن هنا فإنَّ الدعوة إلى التعايش الإسلامي ـــ المسيحي ليست مسألة تتّصل بقضايا العلمنة وغيرها، وإنَّما تتّصل بالواقع الذي تفرضه الرسالتان الإسلامية والمسيحيّة معاً، باعتبار أنّهما رسالتان إلهيّتان، تنطلقان من خلال الإيمان بالله الواحد والعمل من أجل المستضعفين في الأرض.
ـــ هناك مسألة أثارتها إحدى الفتيات ـــ الآنسة ليلى هرموش ـــ وهي أنَّه بعد انتهاء الحرب برزت ميليشيات، وهذه الميليشيات تحكم الآن في الدولة، كما برزت مشكلة الفساد السياسي. حقيقةً نريد موقفاً منك أو توضيحاً، هل أنَّ القضاء على هذا الفساد السياسي يتمّ بالقضاء على رموز هذه الميليشيّات وتنظيف كلّ طاقم الدولة منها؟
المشكلة أنَّ لبنان لا يُحكَم من خلال الشعب
أنا لا أتصوَّر أنَّ المسألة هي مسألة أشخاص يحكمون، ولكنّها مسألة نظام يفسح في المجال لمثل هؤلاء الأشخاص ولغيرهم، ممَّن لهم وظائف في دوائر معيّنة على المستوى الإقليمي والدولي. ولذلك فإنَّ مثل هذا الشخص يبقى قضاءً وقدراً في الدائرة الإقليمية أو في الدائرة الدولية، مفروضاً على المجتمع كلّه. إنَّ من مشاكل لبنان الحقيقيّة في كلّ تاريخه، هي أنّه لا يُسمَح للشعب بأن يُسقِط الحاكم سياسياً، حتّى أنّنا إذا رأينا أنَّ هناك مرحلة من مراحل إسقاط بعض السياسيّين تحت تأثير واجهة شعبية، كما حدث في "أيار"(1)، فإنَّنا نكتشف وجود خلفيّات أخرى، تريد أن تنقل الدور من شخصٍ إلى آخر، مع إبقاء الشخص الذي تتجاوزه المرحلة احتياطاً لمرحلةٍ أخرى.
لذلك فإنَّ الواقع السياسي اللبناني، الذي يعيش عقدة الضغط الخارجي، أصبح يحدِّق في الخارج وهو يفقد الأمل في أيّ تغيير نوعي، إلاَّ من خلال طبيعة التعقيدات السياسية الخارجية هنا وهناك.
ومن هنا، فإنَّ مسألة الفساد السياسي، هي مسألة تعيش في جسم النظام اللبناني، من خلال طبيعة القيود التي تحيط به ومن خلال طبيعة الخطوط التي تتحكَّم فيه.
إنَّنا نلاحظ أنَّ الجوّ السياسي غرق في مرحلة سابقة قريبة باتّهامات تُوزَّع هنا وهناك ضدّ هذا الرمز السياسي وذاك، فهذا خارج عن القانون يعيش في قلب النظام، وذاك مخالِف للقانون كان يملك موقعاً كبيراً في النظام وما إلى ذلك، وقد خيِّل للناس أنَّ هؤلاء الذين يتحدّثون بهذه الطريقة، ممّن يملكون مواقع متقدّمة سوف يندفعون في ثورة لا أوّل لها ولا آخر تستهدف تنظيف السّاحة السياسية؛ وإذا بنا نرى أنَّ القضايا وُضِعَت في البرّاد، وأصبح الذين تكلَّموا بهذه الطريقة يتحدّثون عن وجود أجهزة تحاول أنْ تثير مثل هذا الجوّ الضوضائي السياسي، من أجل أن تُسقِط الواقع في لبنان. ومن الطريف أنَّ بعضهم حاول أن يربط بين المتفجّرة الإسرائيليّة في الضاحية وبين ما دار في الجوّ السياسي، وهم لا يعرفون أنَّهم هم الذين أثاروا هذه القضايا ولم تثرها الأجهزة.
إنَّ المشكلة في لبنان، هي أنَّ لبنان لا يحكم من خلال الشعب، حتّى أنَّني أعتبر أنَّ ما يُسمّى باللّعبة الديمقراطية البرلمانية ليست دقيقة في التمثيل الشعبي، وليس الأمر محصوراً في بعض المواقع حتّى في مسألة رئاسة الجمهورية، والحديث الجاري على سبيل النكتة هو أنَّ النوّاب ينتظرون الوحي في آخر ساعة، ليصوِّتوا لهذا أو لذاك من دون أيّة مناسبة واقعية للتصويت لهذا أو لذاك.
ـــ أليس عندك مرشّح للانتخابات الرئاسية القادمة؟
إنَّ مرشّحي للانتخابات الرئاسية القادمة هو العدالة، ولكن أين هي العدالة وأين هو العادل؟ لا أزال أحمل مصباحاً، لأفتِّش عنه في ضوء الشمس.
ـــ لست ناخباً في لبنان؟
أنا أنتخب القيمة ولا أنتخب الشخص، وأنا أبحث عن الشخص الذي تتجسَّد فيه القيمة ولا أراه حتّى الآن.
المثقَّف بين المعارضة والموالاة
ـــ آخر مسألة هي مسألة المثقَّف بين الموالاة والمعارضة، أحدهم يبدو أنّه صحافي في جريدة الدّيار، تحدَّث عن رأيه كيف يمكن للمثقّفين في المعارضة أن يتمّ تحصينهم ولو بالإغراءات، هل هناك خطّة معيّنة؟
إنَّ قضية أن ينطلق أيّ حكم، ليضطهد معارضيه أو ليخفِّف من الفرص التي يحصل عليها المعارضون، ليعيشوا خارج دائرة الضوء هي أمور سائدة في العالَم، وإنْ كان هناك فرق في هذه المسألة بين الواقع الشرقي والواقع الغربي. إنَّ الواقع الشرقي يزيد في تعسُّفه ووحشيّته ضدّ المعارض، ولكن يبقى هناك هامش للآخر في الواقع الغربي، وهذه إيجابيّة نسجّلها لواقع الغرب في حركته في الواقع السياسي.
ـــ أتصوَّر أنَّ الـــ BBC إذا رأت هذا الحوار فستلتقط هذه الفقرة وتنشرها على أوسع نطاق.
نحن علَّمنا القرآن الكريم أنْ نتحدَّث حتّى عن إيجابيات الذين نختلف معهم من خصومنا {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة : 8] لذلك نحن نريد أن نعدل حتّى مع خصومنا. ولذلك إنَّ على الإنسان المعارض أنْ لا يشعر بالمأساة إذا أُبعِد عن موقع أو إذا لم يُعْطَ فرصة، لأنَّه اختار ذلك حين اختار التمسُّك بموقفه. وأتصوَّر أنَّ الموقع تماماً كما هي الحريّة وكما هو الحقّ، يؤخذ ولا يُعطى؛ لذلك أنا لا أتجاوب مع هذه المشاعر المأساوية للمثقّفين الذين يشعرون بالإحباط أمام تقدُّم مثقّفي الموالاة، لأنَّ المثقَّف يمثّل في ثقافته رسالة في مضمون فكره المتحرِّك في خطّ الثقافة، وعلى صاحب الرسالة أن يعرف أنَّ حركة الرسالة في الواقع ليست مفروشة بالورود. ولعلَّ مشكلتنا في الشرق هي أنَّ الإنسان المعارِض، عندما يصير في ساحة الموالاة فإنَّه ينسى معارضته ولذلك يبدأ في اضطهاد المعارضين الآخرين.
ـــ ما دمنا نتحدَّث عن الثقافة والمثقّفين، الدكتور إدوار سعيد، المفكِّر الفلسطيني ـــ الأميركي المقيم في الولايات المتحدة الأميركية، حاضر الأسبوع الماضي في بيروت وتحدَّث عن فهمه للمثقَّف، اقتطفنا جانباً من كلامه نستمع إليه سماحة السيّد.
إدوار سعيد: الأفكار الرئيسية المركزية دائماً تقمع الضعفاء والمحرومين، ودائماً تخفي تاريخاً غير مذكور، فعلى المثقَّف أن يعلن إخلاصه لهذا التاريخ المفقود أو الذاكرة المفقودة، أنْ يصبح في النهاية المثقَّف لا منتمياً ومهمَّشاً من المجتمع خصوصاً مجتمعات مثل أميركا والمجتمعات الغربية المتقدّمة، التي تجد فيها أنّ طموح كلّ إنسان هو في أنْ ينتميَ إلى الوسط، فيبدو لي أنَّه من الممكن للإنسان أن يطرح لنفسه دوراً هامشياً فلا تكون النظرة من الداخل دائماً والتي تتطلَّب من الإنسان أن يكون مخلصاً للرئيس وللأفكار السائدة ولكن أن يكون مشكّكاً بهم. وهذا ما يبدو لي الآن في العالَم المعاصر؛ إنَّه من المهم للمفكِّر وللمثقَّف أن يطلب دور اللامنتمي، والصعوبة في ذلك ـــ حسب وجهة نظري ـــ أنَّه بالنسبة للمثقَّف في العالَم العلماني لا لجوء إلى الإلهام الديني، ولا وسيلة أو طريقة أو منهج ثابتاً، يمكن لكلّ شخص أن يأخذ منه ويطبّقه. أنا ضدّ فكرة أنَّ المثقَّف يجد قوانين أو وسيلة وأخيراً يعبّر عنها بنوع من التلقائية دون تفكير أو تشكيك، بالعكس يبدو لي أنَّ التحدّي الرئيسي الآن، أنَّه لا يوجد مثل هذه القِيَم الثابتة الموجودة وعلى المثقَّف أن يعبّر عن شيء من القِيَم الثابتة.
ـــ سماحة السيّد، الدكتور إدوار سعيد يُقدِّم نفسه كصاحب رؤية ثالثة جديدة في التاريخ المعاصر، في تحديده للمثقَّف ودوره، لأنَّك تعرف أنّه على الأقلّ في المدرسة الغربية هناك تصوّران أساسيّان أو مدرستان: المدرسة التي يعبّر عنها "غرامشي" المفكِّر الإيطالي الماركسي المعروف والذي يحدّد المثقَّف بنوعين: المثقَّف التقليدي والمثقَّف العضوي، والمثقَّف هو كلّ صاحب عقل يفكِّر وهو مرتبط بالمصالح. وهناك المفكِّر الفرنسي "جوليان" صاحب كتاب "خيانة الإكليروس" سنة 1927 الذي اعتبر أنَّ المثقَّف هو الإنسان النادر في المجتمع ولذلك لم يصنّف التاريخ من المثقّفين إلاّ السيّد المسيح (عليه السلام) و"كانت" و"نيتشه" و"فولتير" وغيرهم. الدكتور إدوار سعيد يعتبر أنّه صاحب رؤية ثالثة تعتبر أنَّ المثقَّف هو الذي يستطيع أولاً أن يطوّع اللّغة ــ أيّة لغة ـــ ثمّ هو المتمرِّد على السائد والشائع. وأخيراً هو الإنسان اللامنتمي، يجب أن يكون المثقَّف لا منتمياً، ومن ثمّ كلّ ما يلهمه ـــ حتّى الإلهام الديني ـــ هو مرفوض عنده.
أن تكون لامنتمياً.. معنى غير مفهوم
آية الله فضل الله: نريد أن نناقش هذه النظرية في إطار هذه المفردات التي طُرِحَت، لأنَّني لا أريد أن أتحدَّث عن النظرية بشكلٍ مطلق فربَّما كانت هناك بعض الخصوصيّات التي لم تُطرَح. في تصوُّري أنَّ مثل هذا الحديث هو حديث في الضباب وليس حديثاً في حركة الضوء الذي يسمّي الأشياء بأسمائها.
نحن نتّفق معه ومع كلّ إنسان يفكِّر بأنَّ الإنسان عندما ينطلق إلى الحياة، سواء من خلال ثقافته الفطرية التي تتحرَّك في نطاق التجربة لتبدع الفكر من خلال التجربة، أو الذي ينطلق من ثقافته الأكاديميّة أو ما أشبه ذلك؛ إنَّ الإنسان لا بدَّ له من أن ينفتح على كلّ شيء. فالإنسان في إنسانيّته وُجِد لا منتمياً، لأنَّ عليه أن يستقبل كلّ قضايا العالَم من موقع تجربته الفكرية والشعورية والحسيّة. وهذا ممّا لا يبتعد عنه الإسلام، لأنَّ هناك شيئاً في علم الكلام الإسلامي وهو أنّه لا يجوز لك أن تقلّد في القواعد الفكرية الأساسية للعقيدة، عليك أنْ تُنْتِج عقيدتك من خلال معاناتك الفكرية، أنْ تجتهد في العقيدة بحجم الإمكانات التي تملكها في ما تجتهد فيه. في العقيدة لا ترجع إلى أهل الخبرة، كما في الشريعة، في العقيدة لا بدَّ أن ترجع إلى نفسك، ليس هناك شيء ديني ترثه، بل هو شيء ديني تقتنع به.
أمّا في المفاهيم العامّة في الحياة، فإنَّك تستطيع أن تفكّر فيها حتّى وأنتَ منتمٍ، لأنَّ من حقّك أن تفهم ما يفرضه عليك التزامك الديني؛ فقد يكون له معنى آخر وقد يكون له ظاهر آخر، ولذلك فأنتَ تملك حريّتك في أن تناقش الأشياء لتتفهَّمها. لكن أن تبقى اللامنتمي، هذا معنى غير مفهوم. لأنَّك ـــ وأنتَ تتحدَّث عن المثقَّف اللامنتمي ـــ تعيش الانتماء إلى هذه النظرية، نظرية أن تكون منتمياً إلى ثقافتك، التي تفتحها على كلّ الآفاق التي تثير علامات الاستفهام، لترسم علامة استفهام هنا وهناك.
لهذا نقول إنَّ الإنسان يبقى في دائرة اللاانتماء الإيجابي التي تحرِّك الشكّ في نفسه، حتّى إذا وصل إلى نتائج حاسمة من خلال هذه الانتماء الإيجابي ومن خلال هذا الشكّ العلمي، إذا وصل إلى حالة الالتزام، فإنَّه لا بدّ أن ينتمي إليه. والحديث عن أنَّه يجب على الإنسان أنْ لا يعتمد على إلهام، أنا عندما أكون منتمياً للدّين فأنا لم أعتمد على شيء من الخارج، لأنَّ الانتماء الديني أصبح أنا، أصبح عقلي، أصبح إحساسي، أصبح شعوري، يمكن لي وأنا منتمٍ دينياً أنْ تنطلق في ذهني علامات استفهام حول مفردات هذا الانتماء. والدّين ليس سلبياً أمام هذا، فنحن نروي نصّاً عن أحد أئمّة الدّين وهو الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يقول وقد سأله شخص: "ما تقول فيمن شكَّ في الله، فقال: كافر يا أبا محمّد، قال فشكّ في رسول الله، فقال: كافر، ثمّ التفت إلى زرارة، فقال: إنَّما يكفر إذا جحد"(1)، ما دام في دائرة الشكّ التي تفتح له الطريق نحو البحث فهو ليس بكافر، وقال (عليه السلام) في كلمةٍ أخرى: "لو أنَّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا"(2).
إذاً، الدّين لا يقول لك أغلق عقلك ولكنَّه يقول افتح عقلك، ولكن عليك أن لا تجعل عقلك يعيش في المطلق، بمعنى أنْ يبقى في الحيرة، ليبقى مع علامات الاستفهام، يلاحقها، يحاور فيها، لا أن يعيش عقدة اللامنتمي. مشكلة بعض الذين يتحرَّكون في خطّ اللاانتماء أنَّهم يعيشون عقدة اللامنتمي، بحيث إذا ضبطوا أنفسهم منتمين فإنَّهم يرون أنفسهم قد خرجوا عن دائرة الثقافة ودائرة الحريّة. أن تستلهم شيئاً اقتنعت به، تماماً كما تستلهم الآن ملاحقة علامات الاستفهام، لأنَّك اقتنعت بها، أنتَ منتمٍ الآن وإن سمّيت نفسك غير ذلك، أنتَ منتمٍ إلى هذا الخطّ.
ـــ لكن ربَّما الإلهام الديني أو الثوابت الدينيّة هي التي تجعل المثقَّف لا يتمرَّد على ما هو سائد؟
القصّة هي هل التزمت بالدّين أو لم تلتزم؟ إذا التزمت فإنَّ التمرُّد لا يبقى حاجة في نفسك، تماماً كما إذا التزمت بالماركسية أو التزمت بالوجودية أو بالقوميّة أو بأيّ خطّ فكري أو سياسي أو اقتصادي، إنَّك عندما اخترت التزامك من خلال ملاحقة علامات الاستفهام، ووقفت من دون أن تجد علامات استفهام أخرى؛ فإنَّ استلهامك ما اقتنعت به هو أنَّك تستلهم نفسك.
ـــ ألاَ يعيق هذا الإبداع؟
هناك نقطة أخرى: إذا ارتسمت عندك علامة استفهام، الدّين يقول لك لاحقها، ولكن لا تبقى حائراً، حاول أن تجعل الشكّ طريقاً إلى اليقين. وهذا ما أكّده الأسلوب الإسلامي في الحوار وهو ما أُردِّده دائماً: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبأ : 24]. إنَّ الطرح الإسلامي عندما يدخل في الحوار مع الآخر، فإنَّه يجرِّد الفكرة من ذاتية الأنا أو الآخر، بل يجعل هناك فكرة في مقابل فكرة، من دون أن يكون لانتمائك إلى الفكرة أو انتماء الآخر إليها دخلٌ في الخطأ والصواب.
ـــ هل يُعتبر الالتزام بالضوابط الأيديولوجيّة، سواء كانت عقائدية أو نظرية أخرى، معيقاً للإبداع؟
أنا لا أعتقد أنَّه معيق للإبداع، لأنَّ مسألة الإبداع تنطلق من حالة القلق الفكري التي تعيشها، فأنتَ إذا التزمت ولم تحدث عندك علامة استفهام جديدة، فإنَّ من الطبيعي أن لا تبحث عن إجابات جديدة.
ـــ بكلّ صراحة، هل أنتَ راضٍ عن الواقع الثقافي للإسلاميين المعاصرين في الحاضر؟
هناك شيءٌ آخر، تارة نتحدّث عن فكرٍ انتميت إليه، وأخرى نتحدَّث عن مجتمعٍ انتمى إلى هذا الفكر؛ وقد يكون انتماؤه عاطفياً، وقد يكون تقليدياً، كما قد يكون ضبابياً. هذا شيءٌ آخر، نحن نتحدَّث عن الانتماء الذي يحاول أن ينطلق من ملاحقة علامات الاستفهام والبحث عن كلّ المفردات التي تتّصل به، ليقف الإنسان عند الالتزام الذي يتحرَّك فيه وجدانه العقلي وحسّه وشعوره وما إلى ذلك.
ـــ إذاً هل أنتَ راضٍ عن واقع المثقّفين الإسلاميّين؟
أنا لستُ راضياً عن ذلك، لأنَّني أرى هناك تخلُّفاً عند الكثيرين في فهم الإسلام، وأرى هناك ضعفاً عند البعض في هذا المجال، وأرى هناك أشياء غير إسلامية لدى الكثير من المسلمين.
ـــ الدكتور إدوار سعيد يقول إنَّ ما يطرحه في المثال، يعترف ويقرّ ويكرّر باستمرار أنّه متأثّر جدّاً بالتجربة الغربية، وما دام هذا سيدفعنا للحديث عن الغرب، هناك قضية أُثيرت منذ عامين وهي حتّى الآن تلاقي جدلاً واسعاً، ليس فقط في دوائر رجال الثقافة أو النوادي الثقافية والفكرية، بل طالت حتّى المسألة السياسية. "صموئيل هنتغتنتون" العام الماضي في خريف أو صيف 93 في مجلة أميركية شهيرة تابعة لوزارة الخارجية، طرح مسألة أساسية مفادها أنَّ مستقبل البشرية خصوصاً بعد تفكُّك الاتحاد السوفياتي يتمحور حول صدام الحضارات، وحدَّد تسعة مظاهر لهذا الصدام، سبعة منها للصدام بين الحضارتين الغربية والإسلامية، سؤالي لك سماحة السيّد: هل فعلاً تعتقد أنَّ المستقبل هو للصراع وللصدام بين الحضارتين الغربية والإسلامية؟
الصراع بين الغرب والإسلام سيكون مريراً
في تصوُّري أنَّ هناك صراعاً ـــ إذا أردنا أن نكون دقيقين ـــ بين كلّ من المفاهيم الإسلامية والمفاهيم الغربية في كثيرٍ من المواقع. ولا أستطيع أنْ أتحدَّث عن حضارة إسلامية في الواقع، لأنَّني أجد أنَّ الواقع الإسلامي لا يمثِّل حالة حضارية تعبّر عن الإسلام، بحيث يمكن أن نطلق عليها اسم الحضارة الإسلامية، هناك مفردات لمفردات الحضارة الإسلامية، تتّصل بالمفاهيم التي يختزنها المسلمون أو ببعض الأوضاع العملية التي ينطلقون فيها.
من الطبيعي، أنَّ القاعدة التي تنطلق منها الحضارة الغربية هي القاعدة الماديّة، بينما القاعدة التي تنطلق منها الحضارة الإسلامية ليست قاعدة ماديّة وإنْ كانت لا تبتعد عن حركة المادّة وتأثيرها في الإنسان. فالإسلام لا يتنكَّر للعالَم الخارجي وتأثير العوامل الماديّة في حركة الإنسان وفي واقع الحياة، ولكنّه يعتبر أنَّ الله هو الأساس في ذلك وهو الذي خلق السببيّة، ليجعل الإنسان محور الكون باعتباره صانع التغيير: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11].
أنا أعتقد أنَّ هناك صراعاً بين الغرب والإسلام، وقد برزت هذه الحركة الصراعيّة، عندما انطلقت الصحوة الإسلامية وشعر الغرب بخطورة المفاهيم الإسلامية، التي تمثِّل خلفيّات هذه الصحوة في المسألة السياسية والاقتصادية والأمنية. من هنا بدأ يستعدّ لها بصنع القيود التي يفرضها على الإسلاميين الذين يعيشون في محيطه من جهة، أو في الأوضاع التي يفرضها على الحركة الإسلامية في هذا البلد الذي يرتبط به سياسياً أو أمنياً أو اقتصادياً أو ما إلى ذلك من جهةٍ أخرى. وإنَّني أتصوَّر أنّ الصراع سوف يكون مريراً في المستقبل.
ـــ ألاَ تعتقد سماحة السيّد أنَّ الخطاب العام للإسلاميين المعاصرين ربّما أوجد الذريعة لخشية الغرب من هؤلاء الإسلاميين، خصوصاً أنّ ما هو سائد في الحقيقة يطغى عليه رفض الوافد الغربي. وأنت ـــ أعتقد ـــ تنتمي إلى هذا الجوّ؟
هناك فرق بين أنْ تتحدّث عن سلبية تجاه الغرب ككلّ أو تتحدّث عن سلبية تجاه الغرب كقوّة اقتصادية وسياسيّة وأمنية، تفرض نفسها على واقع المستضعفين وتصادر ثرواتهم وحريّاتهم وما إلى ذلك. إنَّنا لا نتعقَّد من الغرب في العلم والثقافة ومن الغرب في القوّة التكنولوجية والتقنيّة. ونحن نعمل على أن نستفيد من الغرب في ذلك كلّه، ولذلك ندفع بشبابنا إلى الغرب ليتخصَّصوا ونعمل على تحصين هؤلاء الشباب من خلال المواقع الثقافية والدينية التي تحفظ للشباب إسلامهم. لذلك نحن لا نتعقَّد من الغرب ونحن لا نوافق على خطاب يلغي الغرب كلّه.
ـــ حتّى سياسياً تقسِّم الغرب؟
إنَّنا نفرِّق بين الغرب في المسألة السياسية، بحسب درجات التحرّك الغربي ضدّ مصالحنا. فنحن الآن نفرِّق بين الغرب الأميركي والغرب الأوروبي، على الرغم من أنَّنا عانينا من الغرب الأوروبي كثيراً، خاصّة في المسائل المتّصلة بالقضية الفلسطينية أو بعض المسائل المتّصلة ببعض الواقع الموجود في هذا البلد أو ذاك. إنَّ الخطاب الإسلامي في مواجهته للغرب ليس خطاباً جامداً متعصِّباً، يستغرق في السلبيات الغربية ويعطي الحكم الشمولي عليها، ولكنَّنا نواجه المسألة الغربية على أساس أنَّ هناك شعوباً غربية وأنَّ هناك إدارة غربية. ونحن نعتبر أنَّ هذه الشعوب هي ساحة رسالتنا لنفتح عقولها على الإسلام، ونعمل على أن نربح صداقتها وتأييدها لقضايانا بطريقة أو بأخرى.
ولذلك فنحن لا نتعقَّد من الغرب الشعب، ولا نتعقَّد من الغرب العلم، ولا نتعقَّد من أيّة مبادرة سياسية غربية؛ نحن نتعقَّد من الاستكبار الغربي، بكلّ ما تعطيه كلمة الاستكبار الغربي في مواجهة استضعاف العالَم الثالث، هذه هي المسألة.
ـــ تقصد الهيمنة...
الغرب الذي يصادر ثرواتنا، ويضغط على قراراتنا السياسية، ويطغى في المسائل الأمنية وما إلى ذلك. وتبقى هناك بيننا وبين الغرب المفاهيم عن الإنسان وعن الحياة وعن الكون وعن الخطوط السياسية والمذاهب الاقتصادية وما إلى ذلك، ممّا قد يختلف الغرب فيه بين مفكِّر وآخر، وبين مدرسةٍ وأخرى، كما قد نختلف فيه بين مذهب إسلامي وآخر، أو بين دين إسلامي ودين مسيحي، وما إلى ذلك.
ـــ حتّى النظام السياسي الغربي القائم على أساس الديمقراطيّة ترفضه؟
أنا لا أرفض الديمقراطية جملةً وتفصيلاً، ولكنّني كإنسان مسلم أجد أنَّ هناك أشياء ثبتت من الله بالوحي الحاسم، أنا لا أعتبرها خياراً للإنسان ليرفضها أو ليقبلها. أنا لا أعتبر أنَّ شرعيتي كمسلم وشرعية إسلامي، تنطلق من خلال الإرادة الشعبية.
ـــ لكنَّك تعتبر أنَّ الديمقراطية تختلف مع القاعدة الفكرية الإسلامية ولذلك يمكن أن ترفضها.
أقول ذلك، لأنَّ الخلفية الفكرية للديمقراطية تقول إنَّ شرعية المضمون الفكري أو السياسي للديمقراطية تنطلق من إرادة الجماهير.
ـــ حينئذٍ ـــ سماحة السيّد ـــ هل أنتَ ضدّ الديمقراطية كمفهوم أم ضدّ قاعدتها الفكرية؟
أنا ضدّ قاعدتها الفكرية، لأنَّها تركّز على اعتبار الشعب مصدراً لكلّ الأمور، بينما أعتبر أنَّ هناك أموراً أساسية في الإسلام تنطلق من وحي الله. أمّا الديمقراطية كممارسة وكمضمون حركي وآليّة لحسم الصراعات ولاتّخاذ الموقف السياسي، فإنَّني أؤمن بالشورى التي هي صورة محسَّنة عن حركة الديمقراطية في الواقع، فنحن لا نلغي دور الشعب. حتّى أنَّ نظرية ولاية الفقيه، التي ترتكز على أنَّ الفقيه هو الذي يملك الشرعية، تعتبر أنَّ الفقيه يحكم من خلال الشورى.
ـــ الوقت معك ثمين جدّاً سماحة السيّد ولكن للمشاهدين علينا حقّاً، نحن ـــ كما قلت ـــ لنا ضيفان آخران: الدكتور إسماعيل صبري عبد الله المفكِّر الاقتصادي المصري المعروف وهو ماركسي، سألته عن تصوّره لمستقبل الحركات الإسلامية بعد التسوية، فكانت إجابته على النحو التالي:
الدكتور إسماعيل صبري: أوّلاً أنتَ تفترض أنَّ التسوية قد تمّت أو أنّها ستتمّ في العام القادم أو الذي بعده، وأنا أعتقد أنّ التسوية بمعنى السلام الشامل العادل، إذا تحقَّق، لن يكون في هذا القرن ولكن يمكن في بداية القرن الواحد والعشرين، وبالتالي لا أرتِّب نتائج على أمر أنا أراه مشكلاً وفيه احتمالات الإخفاق. وخير مثال على ذلك، كيف تنفّذ "إسرائيل" اتّفاقية "أوسلو"؛ لقد امتدت كلّ الخطوات التي كانت موجودة فيها والاتصالات تأخّرت وما زالت متأخّرة، ولم يقوموا بإعادة توزيع قوّاتهم، بحيث لم يخرجوا من المدن الكبيرة كلّها. وهذا يعطينا فكرة عمّا ستكون عليه الأمور في كلّ المسارات؛ فلا أرى تسوية في الأمر الموجود أمامي، حتّى أرتِّب عليها أيّة نتائج.
ـــ حينئذٍ ما مستقبل هذه الحركات على الأقل خلال السنوات القادمة، خصوصاً أنَّك تعرف السياسة الإسرائيليّة؟
د.إسماعيل: هذه الحركات قوى موجودة في المجتمع لها وجهة نظر سياسية، أنا لا أتكلَّم في الجانب الديني، وهي تنمو بقدر ما يعجز الديمقراطيون عن النشاط واكتساب الجماهير وليس لسببٍ خارجي.
الساحة فيها سخط شعبي، والقوى التقدّمية والديمقراطية لم تأخذ مكانها الكامل، لكي تعبِّئ هذا السخط لصالح التغيير الذي يتمّ لصالح الشعوب. اتّجه الناس وخصوصاً الشباب إلى ما يبدو لهم أكثر جذريّة وأنّه سيعجل بانتهاء الأوضاع الحالية. لو كنّا قمنا نحن التقدّميّين بدورنا كما ينبغي، لكان معظم الشباب الذي يذهب للحركات الإسلامية جاء إلينا.
ـــ ولكن أنتَ تعرف أنَّ القيادة الإسرائيليّة تتحدّث باستمرار عن أنَّ الخطر الأساس على السلام والحضارة الغربية عموماً هو ما تسمّيه بالتطرُّف الأصولي..
د. إسماعيل: هذه لعبة إسرائيليّة، المطلوب منها تجميع أموال لمصلحة "إسرائيل"، لأنَّ عليها خطراً من الإسلام. في الماضي كان الخطر من العرب، الآن العرب يريدون الصلح مع "إسرائيل" ويعرف الغرب ذلك، فكيف تسحب الأموال من الخارج؟ بهذه الطريقة بأن تقول لهم إنَّ الإسلاميّين مختلطون بالمجتمعات العربية وسيقلبون السلطة وسوف يهاجمونني مرّة أخرى، فأعطونا معونات من الآن.
ـــ ولكن على أرض الواقع، ألاَ يوجد حقيقة خطر من هذه الحركات الإسلامية على "إسرائيل"؟
د. إسماعيل: المجتمعات كائن حيّ، ولاؤه يتغيَّر كتغيّر الكائن الحيّ. فالمجتمع تحصل فيه تغيّرات وأحداث، وتصوّر مدى قوّة تيّار سياسي معيَّن في ظروف غير ديمقراطية، كما هي الحال في الوطن العربي، إنَّها من أصعب ما يكون. الآن حين توجد الديمقراطية وكلّ صاحب رأي له منبر، يمكن أن تستطلع رأي الناس ويمكن أن تعرف ما هي التوجُّهات، لكن في أشكال الحكم المختلفة التي يعيش تحتها العرب في ظروف استثنائية تشلّ حركة المجتمع الطبيعيّة، المجتمع دائماً تظهر فيه أمور يراها صالحة وأخرى يراها غير صالحة، وثالثة يُقدم عليها فترة ويتخلّى عنها فترة ثانية. ويمكن أن يرجع إليها في فترة ثالثة، فالمجتمع لا يمكن الحكم عليه مقدّماً في وضع معيَّن. الموجود فعلاً هو أنَّ الحركات الإسلامية تستقطب السخط الشعبي ولكن ليس معنى ذلك أنّها هي الوحيدة التي تستطيع أن تستقطبه، ويمكن للقوى الديمقراطية والتقدُّمية، لو حلَّت خلافاتها في ما بينها وتجمَّعت حول مطالب الجماهير، أن تأخذ الجزء الكبير من هذا السخط لمصلحتها.
ـــ نستطيع أن نقول إنَّ الدكتور إسماعيل صبري عبد الله ذكر ثلاث مسائل أساسية، المسألة الأولى: أنَّه يعتقد أنَّ التسوية ليست أمراً وارداً على الأقلّ في المدى المنظور؛ المسألة الثانية: أنَّ هذه الحركات الإسلامية تنمو في الواقع العربي، نتيجة لتشتُّت القوى الديمقراطية والتقدُّميّة؛ والمسألة الثالثة: أنّ ما يُنسَب لخطر إسلامي على الصهيونية ليس حقيقيّاً بالشكل الكامل، وإنَّما الإدارة الإسرائيلية هي التي تضخّم هذا الأمر.
أمام التسوية مشاكل كثيرة
آية الله فضل الله: هناك عدّة ملاحظات حول هذه النقاط الثلاث، الملاحظة الأولى: هي هذه اللّغة الفوقية التي يتحدَّث بها مَن يسمُّون أنفسهم القوى الديمقراطية والتقدُّمية، عندما يتحدّثون عن الدّين وعن الإسلام بشكلٍ خاص. وحسب زعمهم أنَّ الإسلام، عندما ينطلق في الواقع الشعبي، فإنَّما ينطلق من خلال الفراغ الذي تتركه القوى الديمقراطية والتقدُّمية، وعند ذلك يندفع الشعب بغريزته الدينيّة وبسذاجته وبساطته وانفعاله الديني، وربَّما تخلّفه، نحو الحركة الإسلامية وما إلى ذلك!! ونحن نسمع بين وقتٍ وآخر أنَّ السبب في نموّ الحركات الإسلامية هو الواقع الاقتصادي المتردّي من جهة وضغط الحكم من جهةٍ أخرى...
نحن نتحفَّظ على هذا الطرح، لأنَّنا نعتقد أنّ الإسلام يملك عمقاً فاعلاً حيّاً في أغلب الخلفيات الثقافية للإنسان المسلم، بل نكاد نقول، حتّى للإنسان غير المسلم الذي يعيش في الواقع الإسلامي؛ وحتّى نستطيع أن نقول، إنَّ الكثيرين من الماركسيين لا يزالون يحملون رواسب دينيّة.
هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية فإنَّ التقدّميين والديمقراطيين قد دخلوا في تجربة كبيرة واسعة، وأيّة تجربة أكبر من التجربة التي عاشها الاتّحاد السوفياتي؟ أو التجربة التي عاشتها القومية العربية؟ ولذلك فإنَّ المسألة لم تكن تكمن في عدم إفساح المجال لهم، لقد سقطت التجربة تحت تأثير العناصر السلبية الموجودة في داخل الفكرة وفي داخل الذين يتحرَّكون بالفكرة.
أمّا حكاية أنَّ التسوية ليست أمراً واقعاً، فأنا أوافقه على ذلك، لأنَّني أتصوَّر أنَّه قد تتمّ التسوية في مستقبل منظور بعد فكفكة التعقيدات، لكنّ في الجانب الرسمي فقط؛ ولكنَّ التسوية لا تتحرّك في الجانب الشعبي كما يخيّل. وقلت من الممكن جداً أن تكون هناك تعقيدات وحتّى أنَّني أؤكّد أنّه لا يجوز لنا أنْ نتحدَّث عن التسوية، كما لو كانت أمراً واقعاً أو كما يتحدّث الذين يطلقون مسألة رفض التطبيع.
أنا أعتقد أنّ أمام التسوية مشاكل ومشاكل كثيرة، تنشأ من خلال تطوّرات الواقع السياسي الدولي ولاسيّما الأميركي، ولذلك فإنَّني لا أستبعد ـــ وإنْ كنت لا أستبعد ـــ وإن كنت لا أؤكّد ـــ أن تمتدّ التسوية إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، وربّما يمكن أنْ تأخذ دورها ولاسيّما في المسألة السورية اللبنانية والمسألة الفلسطينيّة أيضاً، لذلك أنا لا أعتبر التسوية أمراً واقعاً.
أمّا مسألة أنَّ الحركات الإسلامية لا تمثِّل خطراً، فأنا لا أتصوَّر أنَّ الخطر الأكبر ضدّ "إسرائيل" هو الحركات الإسلامية وهو الإسلام بالذّات، باعتبار أنّ "إسرائيل" انطلقت من موقع ديني ومن إحساس ديني ومن إلهاب الشعور الديني، ولذلك فإنَّنا نعتقد أنَّ التحرُّك السياسي الذي طُرِح منذ الخمسينيّات حتّى الآن في مواجهة "إسرائيل" كان تحرُّكاً يضع الدّين على الهامش. ولو أنَّه كان تحرُّكاً دينياً واستعملت فيه الأساليب المتنوّعة في إثارة الشعور الديني، لاستطعنا أنْ نثير العالَم الإسلامي بأجمعه ضدّ "إسرائيل" ولأمكننا أنْ نحصل على نتائج كبيرة.
عندما نراقب هذه التجربة التي تخاض بالإمكانات المحدودة للمقاومة الإسلامية في لبنان والمقاومة الإسلامية في فلسطين، وصلابة المقاوم وإيمانه وانفتاحه على الشهادة بهذا الشكل الروحي، الذي يجعله ينطلق إلى الشهادة وهو يبتسم، لتكون هدفاً له وقضية من قضاياه، إنَّ مثل هاتين التجربتين المحدودتين شكّلتا مشكلة كبيرة مربكة لــ "إسرائيل". وإذا كانتا لا تمثِّلان خطراً، فلأنَّ الظروف الموضوعية التي تحاصر هاتين الحركتين قد صنعت من مواقع سياسية حزبية ومواقع دولية في المنطقة. إنَّني أعتقد أنَّه لو قُدّرَ للروح التي تتحرَّك بها المقاومة الإسلامية في لبنان والمقاومة الإسلامية في فلسطين أن تشمل الواقع السياسي والجهادي كلّه، لاستطعنا أنْ نشكِّل خطراً كبيراً بمستوى إمكانية زوال "إسرائيل".
ـــ وإذا حصلت التسوية في لبنان، سواء بعد وقت قصير أو في المستقبل، ما مستقبل الحركة الإسلامية؟
أنا أعتقد أنَّ الحركة الإسلامية سوف تبقى، حتّى لو حصلت التسوية. إنَّ التسوية قد تمنع الحركة الإسلامية من أن تمارس العنف في المواجهة ضدّ "إسرائيل" بالطريقة التي تمارسها الآن، ولكنَّ الحركة الإسلامية تملك عمقاً شعبياً، كما تملك رشداً سياسياً وتجربة حيّة، وإنَّني أتصوَّر أنَّ مثل هذه النقاط الإيجابية لا يمكن للتسوية أن تصادرها.
ـــ ألاَ تعتقد أنّ أحد الشروط، وربّما الأساسية من جهة التسوية، هو ضرب الحركة الإسلامية في لبنان؟
إنَّ المسألة ليست هي ماذا يقرِّر الآخرون، المسألة هي ما تقرِّر أنتَ. ونحن كإسلاميين قررنا أن نصمد، وقرَّرنا أن نواجه، وقرَّرنا أن ندعو إلى سبيل ربّنا بالحكمة والموعظة الحسنة، وقرَّرنا أنْ تتحرَّك بانفتاح في المسألة السياسية، وقرَّرنا أن ندافع عن الإسلام بالدفاع عن الحركة الإسلامية.
ـــ أنا مضطر سماحة السيّد أنْ نختم هذا الحوار، أعتذر من الأستاذ عبد الإله بلقزيز ونعده بأنَّ هذه المكالمة تكون في مجالٍ آخر، لأنَّه تحدّث عن المسألة الجزائرية.
سماحة السيّد هل أنت راضٍ عن هذا الحوار؟
يا مستضعفي العالَم اتّحدوا
كانت فيه إيجابيات كبيرة، وقد وجدت هذا الحوار ممتعاً، لأنَّني أحبّ دائماً أن أطلّ على مجتمع الشباب والمثقّفين، من خلال إيماني بأنَّ علينا أن نستمع إلى كلّ تطلُّعات الشباب وأحلامهم وآلامهم وقضاياهم.. فهم إشراقة المستقبل. ولذلك فإنَّني أدعو كلّ الإسلاميين إلى أنْ ينفتحوا على الإنسان الآخر وعلى الرأي الآخر، وأنْ لا يتعقَّدوا من أيّ نقد ومن أيّ فكر مضادّ. إنَّ علينا أن نشعر بأنَّ الله أراد لنا الكلمة السّواء. وإذا كان قد تحدَّث عن الكلمة السّواء مع أهل الكتاب، فإنَّ إيحاءات هذه الكلمة تعني أنّ علينا أن نطلق الكلمات السّواء مع كلّ إنسان نقف نحن وإيَّاه على هذه الأرض.
لذلك نحن نتصوَّر أنّ على الإسلاميين أن يكونوا إيجابيين مع الآخر وأنْ لا يكونوا سلبيين. وإذا كانت السلبية خياراً في بعض المواقع الحسّاسة، فإنَّ علينا أن نجعلها أمراً مرحلياً، لا أن تكون سلبية الطريق كلّها. نحن مع أهل الكتاب في وحدة الله وفي وحدة الإنسانية؛ ونحن مع كلّ مَن يطالِب بالحريّة والعدالة في قضايا الحريّة والعدالة؛ ونحن مع كلّ المستضعفين في الأرض؛ ونحن ضدّ الاستكبار العالمي والصهيوني وضدّ استكبار الأنظمة المتناثرة هنا وهناك تحت أقدام الاستكبار العالمي.
ونحن نحبّ أن نقول: يا أيُّها المسلمون اتّحدوا، يا أهل الرسالات اتّحدوا، يا مستضعفي العالَم اتّحدوا، حتّى ننطلق إلى عالَم المستضعفين دون مستكبرين، عالم يستفيدون فيه من تجربة استضعافهم، لينفتحوا على الإنسان كلّه حتّى لا يكون هناك مستضعف في العالَم. قد تكون هذه هي مثاليّات الفكر، ولكنَّ الفكر بدأ مثالياً ثمّ تحوَّل بفعل الطاقات المتحرّكة إلى واقع، وعلينا أن نستمع قول الله: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص : 5].
غسّان بن جدّو: شكراً لكم سماحة السيّد على هذا التشريف وهذا الكلام المؤثّر جداً، ونتمنّى أنْ نلقاكم في مناسبات أخرى، وكلّ عامٍ وأنتم بخير.
نتطلَّع إلى أسلمة العالَم
والقوي لن يظلّ قويّاً(*)
مع السيّد محمد حسين فضل الله أنتَ في حضرة شخصية فذّة نواتها معرفة حصينة، تضفي عليها المكانتان الدينيّة والسياسيّة هالة من الوداعة والمهابة.
وينتبه السيّد إلى ملكاته الذهنية والنفسية، ويوظّفها آلياً في السّجال، حتّى أنَّك تميل في غفلةٍ منك إلى الانحياز إليه تحت تأثير صوته العميق وعينيه اللّتين تراقبانك في تركيزٍ يبقى ـــ ولو حاد بها إلى جليسه الآخر حين سؤالك ـــ مثيراً.
ولا يضير سماحة السيّد أن يسمع منك أبعد الكلام عنه في الاتّجاه النقيض. لولا أنَّه في أجوبته الطويلة، المستطردة والتي تنزع أحياناً نحو تفسيرية أكاديميّة قد تضيّع عليك وعلى السامع ـــ والقارئ ـــ الفروقات الأساسية التي في السؤال، يبدو وكأنَّه يزيد إلى منطقه منطق اللّغة وعلم النفس المناظر، وفي هذا، سماحته ليس ديمقراطياً في الإفساح لحوار متعادل الشروط والظروف.
فالوقت القصير الذي للسؤال ـــ بحكم أنّه سؤال ـــ تقابله مساحة زمنية لا محدودة لأجوبة أنتَ لا تستطيع اختراقها جرّاء الظروف المشار إليها في الفقرتين الأُوْلَيَين من هذا الكلام.
دخل علينا السيّد بقامته المعتدلة الطول على سمنة، ومشية كالغيم متعجّلة قليلاً إنَّما هادئة، وعمامة كأنَّها صورة مجسَّمة لهالته، وهي جزء منها في آن.
بلطافة صادقة صافحنا وجلس إلى كرسيّه المحاذية لنافذة يشقّها مستشاره الإعلامي شقّاً، وهو تولّى مشكوراً تصويرنا مع العلاّمة لنتبيَّن لاحقاً تشوّش الصورة، على عكس جلستنا التي طبعها الوضوح والصراحة.
... يبقى أنَّني ذهبت إلى لقائه باعتباره مرجعيّة إسلامية بارزة يمكن أن تناقِش في رحابةٍ وغوصٍ بعضَ أسئلتي، وما يطرح اليوم على السّاحة الثقافية من إشكالات كلّ دين مع عصر بالغ السرعة والتبدُّل، غنيّ التناقضات.
يسمح الإسلام بالتعدُّدية الدينيّة
وينظِّم التعايش بين الأديان
ـــ لك، حضرة العلاّمة في شرق بيروت، صورة مخيفة للنّاس، على أنّي أرتاح إليك للوهلة الأولى..
(بابتسام) تغيَّرت ملامح الصورة أخيراً...؟
ـــ لي، تغيَّرت ظاهرياً. لكن وبصراحة واجهتني في الشارع القريب من هنا كنائس مهجورة ومدمّرة بالقصف أو ربَّما سواه. طبعاً مشروعكم جمهورية إسلامية ولو أن...
(مقاطعاً) تطلُّعاتنا لا مشروعنا. فرق بين أنْ تتطلَّع وأن...
(مقاطعاً بابتسام) من جهتي أتمنّى أن تظلّ تطلُّعات.
لا، هناك فرق. ثمّة شيء. هناك خلل في فهم العنوان الذي يُطرَح. من المؤسف أنّ كلّ إنسان يحاول أن يفهم العنوان من خلال خلفيّاته النفسية من جهة، وبيئته المعقّدة من جهةٍ أخرى، والسطحية أثناء التدقيق في المفردات والأجواء التي يتحرَّك فيها هذا العنوان.
من الطبيعي في لبنان أن تطرح جمهورية إسلامية مقابل جمهورية مسيحية مع أنَّ المسيحية كفعل إيمان لا تختزن مشروع دولة، بل آفاقاً روحية قد تكون ضابية في بعض الحالات بحيث لا يفهمها حتّى الذين يستهلكونها، وقد تكون حركة أخلاقية وعبادية وما إلى ذلك. ممّا يعني أنّ أيّ طرح من أيّة جهة لأيّ مشروع دولة لا يناقض المسيحيّة.
وهكذا نجد أنَّ الإسلام حسب تفكير قسم كبير من المسلمين، وبالاستناد إلى التاريخ الفكري لديهم، يختزن مسألة الحكم والشريعة. وقد كانت خلافات المسلمين منذ البداية إلى الآن هي حول مسألة الحكم ومَنِ الأَوْلَى به، كما أنَّ هناك قانوناً إسلامياً يطلق عليه اسم الشريعة يتحرَّك من خلال اجتهادات فقهاء المسلمين على مرّ العصور، مستمدّاً هذه الاجتهادات من مصادر الكتاب والسُنّة، ويشمل كلّ نواحي الحياة وتتجدَّد مفرداته حسب تجدُّد حاجات الحياة ومشاكلها.
ـــ أهذا حقيقي فعلاً؟
طبعاً، بمعنى أنّه لا يواجه أيّة قضية من موقع فراغ. على هذا الأساس عندما يطرح المسلم الإسلام كدولة أو مشروع سياسي، فإنَّما يطرح الجانب الفلسفي والعبادي في الإسلام كما الجانب المدني. وهذا الأخير ليس نقيضاً للمسيحية تماماً كما تتحرَّك المسيحية أمام المشاريع التي تطلق خطّ المدنيّة وكما هي المشاريع القانونية في فرنسا أو بريطانيا..، أو المشاريع السياسية، والقومية، كالماركسيّة... ونلاحظ أنّها لا تثير حساسيّة المسيحية إذ لا تجدها مضادّة لها، بينما هي تتحسَّس من الإسلام...
ـــ (مقاطعاً) أسباب ذلك أنّه...
(متابعاً)... مع أنَّ الإسلام أقرب إلى المسيحية من كلّ القواعد الفكرية للتيّارات الأخرى...
ـــ لا أظنّ...
لأنَّ المسيحية دين والإسلام دين. بينما تمثِّل التيّارات الأخرى إطلالة على الفلسفة المادية، سواء في شكلٍ مباشر كالماركسية أم غير مباشر كالتيّارات العلمانية الأخرى.
ـــ إنَّما...
(معجّلاً ومستطرداً)... قد تقول إنَّ الإسلام حين ينظر إلى المسيحيين فإنَّه ينظر إليهم كأهل ذمّة. وهو الطرح المستهلك في السّجال السياسي.
ـــ وهل من نظام آخر للتعاطي معهم...
لكن أُريد أنْ أؤكِّد أنَّ هناك نوعين من إدارة علاقات المسلمين مع غيرهم.
أوّلاً: علاقة الذمّة. والذمّة مفهوم حضاري وليس مفهوماً متخلِّفاً. ففي البلد أكثرية وأقليّة، وفي حالات كثيرة قد تلتزم الأقليّة ما لا يلائم جوّ الأكثرية. وهذه حسب خطّها الفكري قد تحارب فريقاً من النّاس يتّفق والأقليّة. وقد لا تنسجم هذه وحروب الأكثرية. هنا تُعفى الأقليّة من الدخول في حرب لا تؤمن بها. وفي الوقت نفسه تلتزم الأكثرية حماية إنسانية الأقليّة وحريّتها في الدائرة التي لا تتنافى مع النظام العام، على أساس دفع ضريبة البدل. لهذا ربَّما تكون الأقليّة في هذا المعنى تنال من الامتيازات أكثر ممّا تناله الأكثرية. هذه نقطة...
ـــ وهل...
هناك الخطّ الثاني. نوع من العقد الاجتماعي بحيث أنَّ جان ـــ جاك روسو ركَّز المجتمع عليه. وهو أن يدخل المسلمون في الدولة الواحدة أو الدولة المتعدّدة على أساس تعهّد التزامات معيّنة تنسجم والخطوط العامّة للدولة. وإنّي قبل وقت كتبت بحثاً حول هذا الموضوع في مجلّة "المنطلق"(1) مركزاً على أُسس المصادر الإسلامية في هذا المجال.
وأتصوَّر أنَّ المزيد من الحوار الفكري العلمي البعيد عن الغوغائية، قد يجعلنا ننفتح على نافذة جديدة في علاقة الطرح الإسلامي مع المسيحيّين إذ هو أكثر حضارية من الطرح الموجود في العالَم في ما خصَّ الأقليّة والأكثرية.
الغرب أخذ من المسيحيّة
شكلها وأعطاها وثنيّته
اللاهوت والفقه والحريّة...
ـــ ربَّما لا يتناقض الإسلام روحياً مع المسيحيّة تماماً، ولكن في النظام المدني ثمّة تناقض واحتواء الإسلام لدينٍ آخر يقوم على الحريّة. فالمسيحي تالياً لا يقبل أن يكون ذميّاً.
قلت إنَّ هناك نظام تعاقد آخر.
ـــ وهو يقوم على الحريّة؟
أُريد أن أُناقش معك مسألة "المسيحية ـــ كفكر لاهوتي ـــ تقوم على الحريّة". ما معنى الحرم في المسيحية عندما يتمرَّد إنسان على سلطان الكنيسة؟ ثمّة أيضاً في نظامها الكنسي الرسمي ما يجعلها بعيدة عن فكرة الحريّة في الحضارة الغربية، فلست حرّاً في أن تزني، أو أن تمارِس حريّتك الشخصية في علاقاتك الجنسيّة.
الحريّة في الأديان كما في الأنظمة الديمقراطية ليست مطلقة ونسبيّتها تنطلق من الفكر الذي ستؤمن به.
ـــ حضرة العلاّمة هل تشكّ في أنَّ تطوُّر اللاهوت فاق تطوُّر الفقه؟ إنَّ كاردينالاً في الفاتيكان وكذلك البابا يقبل اليوم أنَّ حكاية آدم في التوراة أسطورية رمزية عن الخلق. فهل يمكن القول مثل ذلك عن آية في القرآن الكريم؟
أجيب بسؤال: هل مسألة الخلق عند المسيحيّة تمثِّل حقيقة دينية هي عبارة عن فكرة لا تقبل المناقشة باعتبارها مسلّمة، أو هي نظرية دينيّة قابلة لأكثر من احتمال؟
فهل يمكن لكاردينال أو بابا أن يعتبر أنَّ الله يمثِّل مجرَّد فكرة رمزية للقوّة الأبدية التي قد نعبّر عنها بالمادّة؟
وأنطلق من هذا لأقول بأنَّ البابا أو غيره لا يملك أن يناقش الحقائق المسيحية وإلاّ خرج عن الدّين. وكذلك بعض المفكّرين الإسلاميين يفكِّرون أنَّ آدم ليس بداية الخلق وقبله ألف ألف آدم. وثمّة من يفسِّرون القرآن تفسيراً رمزياً، وكلّ ذلك يطرح في المجال العلمي للمناقشة على أساس هل هي اجتهادات صحيحة أو باطلة.
لو درسنا الكلام والفلسفة الإسلاميين لوجدناهما يتحرَّكان في حريّة علمية لا حدود لها.
ـــ كذلك اليوم؟
كذلك اليوم.
ـــ ما انعكاس هذا السجال الحرّ الذي تشير إليه على الحياة اليومية للنّاس، على الأشكال الحضارية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟ نلاحظ ركوداً في المجتمعات الإسلامية على جميع هذه الصعد.
كما أنَّ المجتمعات المسيحيّة التي تعيش في مواقع الركود غارقة في الركود.
ـــ ربّما تريد الإشارة إلى الإشكالية الأخلاقية في المجتمعات المسيحيّة أو في الغرب؟
لا، لا، عندما تريد التحدُّث عن: هل هناك فرق بين مجتمع المسيحيين في منطقة البقاع وهناك..
ـــ نتحدَّث عن مسيحيّة الغرب كنموذج حضن التطوُّر...
إنّه ليس نموذجاً مسيحيّاً، إنَّه نموذج غربي مسيحي أخذ من المسيحية شكلها وأعطاها بعضاً من وثنيّته. وهذا ما تناقشه الكنيسة الشرقية مع الغربية. لهذا لا تستطيع القول إنَّ الحضارة الأوروبية مسيحيّة.
ـــ ولكنَّ البيئة التي نضجت فيها الحضارة العلمية الأوروبية هي بيئة مسيحيّة.
بيئة المسيحيّة تمرَّدت على المسيحيّة.
ـــ إذاً فالمسيحيّة تحتمل أن تفسح مجالاً لـــ ...
لا، لا تحتمل، بل ضعفت وفقدت مواقعها في حركة الواقع هناك تحت تأثير الضربات التي وجّهتها إليها العلمانية. ليست المسألة أنَّ المسيحيّة انفتحت على التطوُّر من منطلق الحريّة. فالحقائق المسيحية الإيمانية تشبه الأسطورة في نظر الحضارة الغربية. إنَّ فكرة المعجزة والألوهية للسيّد المسيح هل تتقبَّلها الحضارة الماديّة؟
ـــ ليس ضروريّاً أنْ تتقبَّلها الحضارة المادية المؤمنة بالليبرالية. فهي تترك للمؤمن حريّته في الإيمان أو الإلحاد، مثلما تستطيع الكنيسة استيعاب التطوُّر العلمي.
التطوُّر العلمي الذي يختزن حركة الإنسان في اكتشاف أسرار الكون، ما من تناقض فيه بين الإسلام والمسيحيّة.
ـــ وإذا تناقضت حقائق العلم مع النصّ الديني في الإسلام؟
نحن الآن في الإسلام نرى أنَّ كلّ نصّ له ظهور ينافي الحقيقة العلمية(1) لا بدَّ أن يؤوّل لمصلحة الحقيقة العلمية. فنظرية داروين مثلاً مجرَّد نظرية تتنافى مع التاريخ الديني وظواهره، لا مع تفكيره. ورغم ذلك لا نستطيع القول إنَّ الدين ضدّ العلم. لأنَّ الثغرات التي في هذه النظرية قد تحمل علامات خطأ النظرية في المستقبل.
نحن نتعايش مع الباطل
ولكن لا نعترف بشرعيّته
لا نرفض الدولة
ـــ من إشكالات مسألة الحريّة في الإسلام أنّ من يترك دينه إلى آخر يستحقّ الموت. فهو أساساً لم يختر دينه، وحتّى لو اختار فقد يحقّ له اختيار ثان، كيف يمكن حلَّ هذه المسألة؟
طبعاً إنّها من المسائل التي لا تزال مطروحة في السّاحة، على أساس أنّه عندما نعتبر الدّين جزءاً من هويّة الإنسان في نظر الدولة ـــ الدولة الإسلامية ـــ ويشبه هذا إلى حدٍّ ما الإنسان الذي يتمرَّد على جنسية الدولة.
ـــ ولكنَّك طرحت منذ قليل التعدُّدية الدينيّة..
نعم.
ـــ كيف تكون تعدُّديّة وهويّة الدولة هي الإسلام؟
هناك نقطتان. فالإسلام من جهة يسمح بالتعدُّديّة الدينيّة في المجتمع الواحد. ومن جهة، هناك ما يتّصل بالتنظيم الداخلي لكلّ دين، فيحافظ على نفسه ويتعايش مع الآخر في آن.
ـــ وهل يكون هذا الحفاظ عبر القمع؟
هناك نقطة في هذا المجال. ثمّة قضايا تشبه في شكلها مسألة تمرُّد الإنسان على هويّته أو جنسيّته، وهذا ما قد يعتبر خيانة عظمى في معظم الدول. لكن قبلاً، هناك نقطة يجب ملاحظتها، وهي أنَّ الإسلام يطلب من الإنسان أن يؤمن أو يلحد عن قناعة. والإسلام يقول للمسلم الذي لديه شبهات، تعال وخذ حريّتك في طرحها أمام جهات علمية. لأنَّك إذا وقفت في موقع الشكّ فلست بكافر. إنَّ الكافر هو الذي يشكّ فيكفر من دون أن يكون لكفره أساس.
ـــ ومَنْ يحدِّد الأُسس؟ هل تقبل حججه، أو سيجري تكفيره في كلّ الأحوال من ضمن الحفاظ على حقائق الدّين؟
لا، من الطبيعي أنّه لن يُكَفَّر. عندنا حديث عن أئمّة أهل البيت يقول: "لو أنَّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا، لم يكفروا"(1). إنَّما يكفرون إذا جحدوا.
ـــ ومن يترك دينه أليس بجاحد؟
لا، أقول إنَّك إذا أردت أن تترك دينك، قبل أن تفعل تعال وناقشني. لكنّك قد لا تكون مستعداً للمناقشة، وإنَّك تتمرَّد انطلاقاً من حاجات عاطفية أو مزاجيّة. وفي هذه الحالة الإسلام لا يسمح لك أنْ تتمرَّد.
ـــ مَنْ يقرِّر إذا كانت الجهات العلمية الدينيّة استطاعت تقديم أجوبة على استفسارات المشكل، أو لم تستطع؟
المفروض أنّها جهات مؤمنة عالِمة تقيّة. وفي العالَم كلّه لا يستطيع القانون أن يحمي نفسه. إنَّ كثيراً من النّاس قد يحمِّلون غيرهم جريمة لم يرتكبوها نتيجة قضاء منحرف أو شهود منحرفين أو نظام معيَّن. هذا عندما تحدّثني عن سوء التطبيق هنا أو في العالَم..
ـــ وعن مسألة رفض الدولة والقوميّة لصالح الأُمّة الإسلامية...؟
أبداً، كيف نرفض الدولة؟ تارة قد ترفض الدولة التي لا تنسجم مع خطّك..
ـــ هل ترفض الدولة أو الحكومات والسياسات؟
(مستغرباً سؤالي المقاطع) أنا أتكلَّم. الدولة التي.. أنا لا أرفض الدولة لأنَّ الإسلام يدعو إلى دولة..
ـــ يدعو إلى دولته.
إلى دولته. كلّ صاحب فكر يريد أن يؤسِّس دولة وفق خطّ فكره ويرفض من ناحية فكرية الدولة التي لا تتحرَّك وفق هذا الخطّ، ويعتبرها دولة غير شرعية. ولكن هناك فرق بين أن أرفض شرعية الدولة وأن أرفض الدولة كواقع بمعنى التمرُّد على قوانينها ونشر الفوضى داخلها. فحفظ النظام واجب شرعاً، ولذا قلت: نحن نتعايش مع الباطل ولا نعترف بشرعيّته.
إذاً الإسلام يرفض الخطّ الذي تسير عليه الدولة ويتعايش معها، محاولاً أنْ يغيّره.
ـــ كيف؟
إمّا بطريق الدعوة أو الثورة، تماماً كما هي كلّ الأنظمة في العالَم. دلّني على نظام يستطيع أن يقلب نظاماً آخر بطريقة العنف الذي يكشف أسرار حركته الخفيّة، ولا يُقدم على ذلك.
ـــ إذاً أنتم تعملون من أجل دولتكم؟
أعمل كأيّ إنسان يعمل من أجل أن يحرِّك فكره. تماماً كما تعمل أنتَ الليبرالي وإنْ كنتَ مسيحيّاً، أو أنتَ الماركسي المسيحي من أجل الماركسية. إنَّ هذه ليست فزّاعة لتثير السؤال بهذه الطريقة كما لو كانت لقطة تريد أن تثير بها...
ـــ (بابتسام) ولكن أين كاميرا التلفزيون؟
(متابعاً بجديّة).. تريد أن تثير بها أعصاب القرّاء. نحن نحترم أنفسنا ولذا نعمل في سبيل أن نحوّل فكرنا إلى واقع، ولكن بالطريق الحضارية.
تحيط جسد المرأة هالة من الإغراء
لا تحيط جسد الرّجل
ـــ سيّدنا غَدَا العالَم قرية واحدة وتالياً فالكلام على تجسيد فكر ديني في دولة هو كلام مفزع حقّاً.
نحن ندعو إلى أسلمة العالَم.
إنَّك تسخر، ولكنَّ الإنسان يجب أن يفكِّر في المستقبل. إنَّ السيّد المسيح كان مستضعفاً واستطاع أن ينشر المسيحية في العالَم بعد ألفي سنة. ومحمّداً كان مستضعفاً واستطاع أن ينشر الإسلام في ما يقارب ربع العالَم.. إنَّ مسألة الضعف والقوّة ليست مسألة خالدة. الضعيف قد يصير قويّا إذا عرف كيف ينمّي عناصر قوّته وينتصر على عناصر ضعفه، والقويّ قد يصير ضعيفاً عندما يستسلم لعناصر الضعف وينسى عناصر القوّة.
أنتَ تحدّثني عن الفكر المنهزم المنبهر بمظاهر الواقع. إنَّك تحدّثني من الحاضر، وأنا أُحدِّثك عن المستقبل.
ـــ ومنطلقات النهوض، ألاَ نتوافق على أنَّ الحريّة في البحث الفقهي والعلمي والاجتماعي والثقافي والصحافي هي الأساس لأيّ نهوض؟
لو اطّلعت على حركة الإسلام الفكري في الفقه.
ـــ هل تستطيع أن تدلُّني على كتب فقهية اليوم وفقهاء.. جدَّدوا...؟
اقرأ كلّ كتب الفقه تجد أنَّ هناك حريّة فقهية لا تقف عند حدّ.
ـــ هل يمكن أن ترشدني إلى كتب بعينها؟
اقرأ كلّ الكتب الفقهية. ونحن اليوم نلتزم ربّما أفكاراً لم يقل بها الأقدمون.
المرأة رمز الإغراء
ـــ يرى مفكّرون أنّ ما من دين في العالَم اليوم غير الإسلام. ففي المفهوم الداخلي للدّين، يمارس المسلم علاقته بربّه من خلال الجماعة والمؤسّسة الدينيّة، كالصلاة في الجامع والصيام في رمضان. ومن جهةٍ أخرى يتمّ تطبيق الشريعة بواسطة القانون. فمن لا يصوم ينفَّذ القانون ضدّه.
لا يستطيع المسلم فصل الإسلام ولا المجتمع عن الدولة. لذا فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يمثِّل رقابة المجتمع على بعضه البعض من خلال الانسجام مع الخطوط التي تهدِّد سلامة المجتمع إذا تخطَّاها أو انحرف عنها.
فلو أراد أيّ فرد من النّاس في أيّ مجتمع أن ينشر المخدرات، هل يقف المجتمع حياديّاً تجاهه؟
ـــ هل نساوي المخدِّر بأداء الصلاة أو عدمه؟
أجبني عن هذا.
ـــ أجبت بسؤال.
أنتَ تسلّم معي برفض المخدّر لأنّه يتّصل بالجسد وما يؤذيه. كذلك يعتبر الانحراف أو الجفاف الروحي مسيئاً إلى المجتمع. فمشكلة البعض أنَّهم لا يعطون بعض الأشياء أهمية، ويستنكرون مَن يمنحها من الآخرين الأهمية.
ـــ أطرح نقطة وهي علاقة المؤمن بربّه حين لا تمرّ عبر الآخرين والمؤسّسة الدينيّة. ما رأيك مثلاً في الكاتب المصري نجيب محفوظ حيث يقول إنَّه لا يصلّي ويصوم لأنّها أمور غير أساسية في الدّين، وأنَّ علاقته بربّه علاقة مباشرة وأكثر حريّة؟
ومَن الذي وقف أمام نجيب محفوظ لأنّه لا يصلّي أو يصوم. إنَّ المسألة ليست في التزامه أو لا. فالمجتمع الإسلامي مليء بمن لا يصلّون أو يصومون، ولا يتعرَّض لهم أحد بعنف، وإنَّما يتحدَّث معهم النّاس في طريقة إنسانيّة وعقلانية.
ـــ أمر ثالث في معرض إشكالات الحريّة في الإسلام، عزل المرأة أو التخفيف من وجودها الاجتماعي والإنساني، في الثياب تارّة، والحقوق تارة، والنظرة المتعالية إليها تارّة ثالثة. فكيف ترى ذلك؟
أنا أعترض. لماذا تقمعون حريّة المرأة في أن تخرج عارية. لماذا تقيّدون حريّة الرجل في أن يظهر عارياً في المجتمعات؟ لأنَّكم تؤمنون أنّه لا بدّ من الثياب أخلاقياً واجتماعياً.
ـــ ولكن دون أن يتحوّل الثوب إلى عكس ما يُراد منه، عبر المبالغة والإسراف...
الخلاف هو في عدد قطع الثياب. فأنتَ تقمع حريّة الإنسان في ما يشتهيه، والإسلام حسب ما تقول يقمع أيضاً حريّة المرأة والرجل في مجالات. إنَّ مسألة الحريّة تتّصل بالخطوط الأخلاقية التي تمثّل سلامة المجتمع.
ـــ إنَّما للرجل في الإسلام حريّة أكبر من المرأة.
نعم لأنَّ المرأة اعتبرت ولو من خلال ذهنية الرجل، رمزاً للإغراء.
ـــ وهو ألا يغري المرأة؟
بلى، ولكنّه ليس الرمز. ولذا نجد السياسة الإعلامية تركّز على المرأة لا الرجل اعتبرت المرأة الرمز لأنَّ الرجل فاعل وهي عنصر منفعل، وإنْ كان الانفعال قد يتحوَّل إلى فعل من خلال بعض الأجواء. فغدت هي، أقلّه في الوعي الإنساني، مركز الإغراء بحيث تعيش هذا الجانب من شخصيّتها، فترى في الجانب الجمالي وما يحيط بجسدها قيمة، وكذلك يرى الرجل. بينما ليس لجسده مثل هالتها.
هنا نقول، هل للمرأة والرجل حريّة أن يمارسا كلّ حاجاتهما الجسدية في شكل مطلق؟ في إطار المسيحية يُطلب منهما الالتزام بالعفّة. وكذلك الإسلام. ولا بدَّ للعفّة من جوّ. لا أقول إِنَّ الحجاب يفرضها ولكنّه عامل مساعد، ولو أنَّنا نحتاج إلى جوانب أخرى في التربية.
ـــ والطريقة لمساعدتهما على الاقتراب من العفّة، ألا تظنّ أنَّ الحجاب يبقى ليذكّرنا بالجسد وأنَّ مجتمعاً مرتاحاً جنسياً لا يحتاج إليه؟
الحجاب يجعلني أُفكِّر في المرأة كإنسانة. بينما الطريقة التي تعتمدها لا تمكّنني من النظرة إليها إلاّ كأنثى حتّى وأنا أتحدّث معها بكلّ الأحاديث الجديّة.
ـــ وجه الإنسان هو المكان حيث تلتقي الروح والجسد. وإخفاء الوجه إخفاء لإنسانيّة المرأة.
إخفاء الوجه من التقاليد فقط. الإسلام يفرض على المرأة حجاب جسدها ما عدا وجهها وكفّيها.
ـــ في طريقي إليك لقيت الدكتورة إلهام كلاّب بساط وحملتني إليك السؤال أن تحدّثنا عن المرأة كما تشعر بها في أعماقك بعيداً عن رقابة العقل والنصوص والقوانين.
إنَّني عندما أنظر إلى المرأة أنظر إليها كإنسان يتكامل مع الإنسان الآخر الذي هو الرجل.
ـــ كان هذا حتّى في مراهقتك؟
لا تستطيع أن تحكم على موقفك الآن من خلال موقفك في طفولتك أو مراهقتك. وأتحدَّث الآن كإنسان يفكِّر. وأقول إنَّ الجانب الجنسي في المرأة كما في الرجل حاجة يراد للإنسان أن يلبّيها كالأكل والشرب. ولما كانت مسألة الجنس تتّصل بالتناسل وتنظيم المجتمع في هذا الجانب، فمن الطبيعي أن يكون لها نظام وهو نظام الزواج.
للمرأة الحقّ أن تكون عنصراً إنسانياً فاعلاً يغني الحياة بفكره وتجربته وحركته، تماماً كما هو الرجل في هذا المجال. وإذا كانت الأديان، والإسلام منها، تركّز على جانب الأمومة، فهي لا يمكن حبسها في هذا الجانب، تماماً كدور الأُبوّة الذي لا يلغي شخصية الأب.
ـــ أُخالفك في أنَّ الجنس حاجة كالأكل والشرب وللتناسل.
لم أقل للتناسل. قلت كالأكل والشرب حاجة جسدية، وهو أيضاً حاجة اجتماعية.
ـــ أكثر من ذلك هو...
... أمّا حديث الشعراء عن ذلك، وأنا شاعر، فإنَّهم يحاولون أنْ يتخيَّلوا أشياء يرتاحون إليها ولكنّهم عندما يرتبطون بالواقع لا يجدون فيها شيئاً من الحقيقة.
ـــ ليس الشعراء وحدهم. كلٌّ منّا عندما يحبّ تجده يفعل، في الوظيفة مثلاً، ما لم ينجزه قبل أن يلتقي الشخص الآخر.
تحدّثني عن إنسانيّة الحبّ.
ـــ كلا. أتكلَّم على رجل عرف امرأة، وفي مراحل أولى حيث الجاذب الجنسي قويّ، أي في مستهل العلاقة، يقدم على أشياء لم يكن ليتخيّلها أو يفعلها سابقاً ولا حتّى لاحقاً حين تستقرّ العلاقة.
لا تستطيع أن تربط ذلك بالجانب الروحي. فكلّ إنسان إذ يرغب في شيء ويرى أنَّ الوصول إليه يمرّ في إبداع معيّن أو تفوّق معيَّن، يكون له الإقدام على كثير من حياة السموّ.
أقول إنَّ مسألة الجنس عندما تضعها في نطاقها الطبيعيّ فإنّها تظلّ حاجة كبقية الحاجات. نعم هناك حالة يحبّ الإنسان فيها أن يروحن المادّة. تماماً كما أنَّك تأكل على شاطئ نهر أو جبل أو في بستان. أو أنّك تحاول أن تمارس بعض أوضاعك الخاصّة الجسدية في أجواء تحاول أن تخلقها حتّى لا تكون المادّة شيئاً جافّاً.
الحبّ والشعر وأُنسي الحاج
ـــ "الجنس يأتي بحبّه معه" عبارة للشاعر أُنسي الحاج في كتابه الجديد، ما رأيك فيها؟
لقد قرأتُ أنسي الحاج كثيراً منذ كان يكتب في ملحق "النهار" وأدمنتُ قراءته، ولكنّي أرى فيه إنساناً يعيش في التجريد أكثر ممّا يعيش في الواقع.
ـــ كيف؟
يحاول أن يعطي الأشياء معاني ليست فيها، هي في الفكر وليست في الواقع. نحن نتحدَّث عن الإنسان في واقعه. وهناك حديث عن الإنسان في خيالاته، وهذه تمثّل في كثير من الحالات حالة نفسيّة يحاول أن يهرب فيها من قيوده.
لا أسمع أغنيات ولا أملك ثقافة سينمائية
ـــ ألاَ تظنّ سماحة السيّد أنَّ الأديان أيضاً نوع من التخيّل للواقع. ففكرة فناء الحياة يجري منحها بعداً ما ورائيّاً، لأنَّنا لو قبلنا الموت كنهاية لكان الأمر صعباً؟
من الطبيعي أنَّ لكلّ شيء إيحاءاته. ولكن ثمّة فرق بين الإيحاء الذي يقترب من الواقع ولا يجعلك تنساه لتعطيه صورة غير صورته، وبين الإيحاء الذي يجعلك تستغرق في فكرك وتنسى الواقع، بحيث إِنَّك حتّى عندما تمارس الجنس تنسى وتعيش في آفاقك التي تخلقها لنفسك، فيكون لكَ جنسك في فكرك، أكثر ممّا هو جنسك في جسدك.
ـــ أليسَ هذا أجمل؟
قد يتخدَّر الإنسان ببعض الأشياء ليكون الجمال في الخدر، ولكنَّ الخدر لا يعطي الإحساس بالواقع.
ـــ سيِّدنا حين تصلّي ألاَ تصل إلى مرحلة الخدر؟
لا أصل إلى مرحلة الخدر بل أستطيع أن أعيش الحضور مع الله، إنَّه الحقيقة وأشعر به يحيط بي من بين يديّ ومن خلفي وعن يميني وشمالي، فأتصوَّر أنّي أخاطبه لأنّي أشعر بحضوره.
ـــ نعم، ولكنّها حالة انخطاف إذاً؟
ليست حالة انخطاف بل انتقال من موقع إلى موقع، ولكنّي لا أنسى الله ولا نفسي حيث أعيش مع الله.
ـــ كلامنا على الجنس يذكّرني بتعليق للفيلسوف الإنكليزي "برتراند راسل" حين يلاحظ أنّ القوانين يسنّها رجال مسنّون تخلَّصوا بسبب العمر من شهوات الجسم ورغباته، فتأتي الموانع والمسموحات ظالمة للشباب.
أنا لا أُوافق، لأنَّنا نجد أنّ هذه القوانين قد تأتي جامدة من خلال الشباب، وحيَّة من خلال الشيخ. فهذا يختزن في داخله شبابه مثلما الشاب يختزن طفولته.
وربّما يعيش الشيخ أو المسنّ أكثر فهماً للحريّة باعتباره عرف النضوج، لذلك هو يتكلّم بعد معاناة، بينما الشاب يتكلَّم عن شيء لم يستكمل تجربته.
ـــ إنَّما طبيعي أنّه يحتاج أن يجرّبه بنفسه.
الشيخ يفهم معنى الحريّة من خلال شمولية التجربة. أمّا الشاب فينطلق من التجربة الطائرة التي قد يلتقي فيها تجربة أخرى تغيِّر أفكاره ومفاهيمه عن الحياة. الفرق أنَّ التجربة الناضجة تأخذ الفكرة من كلّ جوانب الواقع.
ـــ ولكن في قضايا كالجنس مثلاً، يحتاج المرء لينضج نفسياً أنْ يجرِّب بنفسه لا أنْ يفكِّر ذهنياً.
من الطبيعي أنَّ الشيخ جرَّب لأنّه عاش شبابه.
ـــ لا يستطيع المرء أن ينضج إلاّ من خلال تجاربه الشخصية.
من الطبيعي أنَّ الشيخ جرَّب لأنّه عاش شبابه..
ـــ لا يجدي أن ينهى الشاب عن أن يعيش الكثير من المشاعر والمواقف بنفسه.
هناك فرق بين أن ينهى الشاب عن أنْ يجرِّب، وبين أنْ يُقال له إنَّ لكَ أن تأخذ تجربتي التي تؤكِّد أنّك ستفشل في بعض مواقفك كما فشلت.
ـــ اسمح لي حضرة العلاّمة ختاماً ببعض الأسئلة الشخصية وغير الشخصية في آن. أسألك عن اللّحية التي كانت قديماً قصراً على فئات معيّنة وعلامة على مرتبة دينية واجتماعية، بينما اليوم يطلق جميع النّاس لحاهم. لماذا تطلق لحيتك؟
كانت اللّحية واقعاً طبيعياً يعيشه الإنسان كما شعر رأسه. لكنَّ الغربيّين جاؤوا لنا بهذه الموضة، وكانت المسألة في أجواء علاقة القوي بالضعيف فالتزمناها أكثر ممّا التزموها. وأعتبرها شيئاً طبيعياً. لماذا لا تحلق شعرك؟
ـــ لماذا تقصّ شعرك؟
لأُخفِّف من ضغطه. إنّها قضايا تتّصل بالمزاج.
ـــ هل تتابع مسلسلات تلفزيونية أو أفلاماً سينمائية؟
في بعض الحالات عندما يكون فيها ما هو اجتماعي، لكنَّ وقتي لا يسمح لي بذلك.
ـــ كثر يتابعون في العالمين ـــ العربي والغربي ـــ سينما فيلليني..
قلت لا أملك ثقافة في هذا المجال لأنِّي لا أُتابع.
ـــ مَنْ يلفتك من كبار الغناء العربي؟
كذلك ليس عندي هذا المزاج.
ـــ ألاَ تسمع أغنيات؟
لا، عندي تحفُّظات شرعية.
ـــ ولا حتّى الموسيقى؟
موسيقى هادئة، ولكن لا ثقافة لديّ في هذا الإطار، فأنا أصرف كلّ وقتي في اهتماماتي الأخرى.
مواقف من القضايا البارزة التي تشغل الوطن
العربي والعالَم الإسلامي(*)
أفردت "مجلة الدراسات الفلسطينية" صفحات ملف هذا العدد لحوار شامل مع العلاّمة السيّد محمّد حسين فضل الله، الزعيم الروحي الإسلامي البارز، وأحد المجتهدين المعاصرين الكبار في الفكر الإسلامي. ويتحدَّث العلاّمة فضل الله في هذه المقابلة عن أيّام دراسته في النجف الأشرف(1)، والمؤثّرات الفكرية والسياسية في رؤيته الشاملة، ويبدي رأيه في كثيرٍ من القضايا الفكرية والسياسية التي تشغل اللبنانيين والعرب والمسلمين كافّة، في الوقت الحاضر. ويشرح موقفه من الحوار مع التيّارات الفكرية والسياسية القومية واليسارية العربية، ورؤيته لموقف الغرب ممّا يجري في الوطن العربي والعالَم الإسلامي وسياساته تجاههما، ورأيه في أُسس العلاقة السليمة مع الغرب، والحوار بين الأديان السماوية الثلاثة. كما يوضح السيّد فضل الله علاقته بحزب الله وإيران، ونظرته إلى حاضر لبنان ومستقبله والعلاقات بين الطوائف فيه، وصلته الروحية والسياسية بالقضية الفلسطينية، وموقفه من المفاوضات السلمية مع "إسرائيل" وما يمكن أن تسفر عنه من حلول.
أعطاني الله عقلاً حرّاً
والعدل أساس الديانات
ـــ لديكم الكثير من الدراسات والمؤلّفات، فأيّ منها تعتبرونه أكثر تعبيراً عن صلب تفكيركم، وما الخطوط العريضة لاتّجاهاتكم الفكرية والروحية؟
لديّ مؤلّفات كثيرة وأغلبها، أو كلَّها، إسلامية. إنّني أضع في واجهة المؤلّفات التي أعتز بها كتابي الأوّل "أسلوب الدعوة في القرآن"، فقد اكتشفت فيه الأسلوب الموضوعي المنفتح في مسألة الحوار في القرآن؛ وهناك كتاب "الحوار في القرآن"، ولعلّه من أفضل الكتب الموجودة في المكتبة الإسلامية بشأن هذا الموضوع؛ ثمّ "الإسلام ومنطق القوّة"؛ ثمّ "خطوات على طريق الإسلام"؛ ثمّ كتاب "الحركة الإسلامية: هموم وقضايا"؛ وهناك تفسير قرآني(1) حركي في (25 جزءاً) صدر ونفذ من الأسواق، ونحن نُعِدّ لطبعته الثانية؛ وأعتقد أنّ هذا التفسير فريد في بابه، فهو تفسير حديث منفتح على الحياة، يحاول أنْ يستوحي القرآن في الجانب الحركي الإسلامي في الواقع. أعتقد أنّه من الكتب المهمّة جداً في هذا المجال. وهناك دواوين شعرية ثلاثة: "قصائد للإسلام والحياة"، و"يا ظلال الإسلام ـــ رباعيّات"، و"على شاطئ الوجدان". إنَّني أعتز بكتبي كلّها، فالكتب بالنسبة إلى الإنسان كأولاده. أمّا الخطوط الفكرية التي أنطلق فيها فتتمحور حول الإسلام؛ فأنا أؤمن بأنَّ الإسلام في خطوطه العامّة وفي كثير من تجاربه التشريعيّة، من خلال اجتهادات المجتهدين مع تنوّعاتهم، يُمثّل خطّاً صالحاً لحلّ مشكلات الإنسان في الحياة، لأنَّ المسألة ليست مسألة نصوص ثابتة ليقال إنَّ النصّ ثابت والحياة متغيّرة، فكيف يمكن أن يكون النصّ صالحاً لمعالجة الحياة؟.
في الواقع، إنَّ ثبات النصّ إنَّما هو في الكلمة، أمّا في المعنى، فإنَّ المعنى متحرِّك، لأنَّ المعنى قد ينفتح على قاعدة عامّة تشمل الحياة كلّها. وهكذا، عندما تطلق كلمة العدل، فنحن نقرأ أنَّ العدل هو أساس الرسالات. كما جاء في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد : 25]؛ فالعدل مفهوم لا يختصّ بموقعٍ دون آخر. لكن أعتقد أنَّ القِيَم التي ركّزها الإسلام في خطابه الإنساني العام للنّاس، والتجارب التي قام بها الفقهاء والمفكِّرون الذين حاولوا أن يستوحوا هذه الخطوط العامّة في مفردات الحياة بحسب تجربتهم، يمكن أن تحقِّق الكثير للحياة. إنَّنا نلاحظ مثلاً أنَّ الحديث عن العلمانية في الواقع المعاصر باعتبارها الحلّ لمشكلة الإنسان هو حديث غير دقيق، لأنَّك عندما تُطلق العلمانية، فإنَّ العلمانية ليست شيئاً معلَّقاً في الهواء، إنَّها تجربتي وتجربتك في المفهوم الذي أرتئيه أنا والمفهوم الذي ترتئيه أنت، من خلال التجارب التي أعيشها والتجارب التي تعيشها. إذاً، نحن عندما أطلقنا العلمانية في مواجهة الدّين، فإنَّنا لم نأتِ بحلٍّ سحريٍّ للإنسان يمكن أن يحقّق له السعادة المطلقة والجنّة الموعودة على الأرض.
وعندما أتحدَّث مع أصدقائنا العلمانيّين الذين يعيشون الفكر العلماني، أجد أنَّهم أخذوا من الدّين فكرة المطلق. فكما أنَّ المتدينين يعتبرون الدّين هو الفكر المطلق، أصبح العلمانيون يعتبرون أنَّ العلمانية هي الفكر المطلق، أو أنَّ الماركسية هي الفكر المطلق. لذلك أعتقد أنَّ العلمانيين أصبحوا في هذا التوتُّر الفكري والتوتُّر النفسي أو السياسي يعيشون ذهنية دينية هي الخلفية الدينية ذاتها وإنْ لم يعترفوا بالدّين. لذلك أنا أعتقد أنَّ هذا الحوار، وخصوصاً في العالَم العربي والإسلامي بشأن الإسلام، يمكن أن يؤدّي بنا إلى نتائج كبيرة، لأنَّك عندما تضمّ المفكّرين والمثقّفين الذين أخذوا بأسباب الثقافة الحديثة إلى المفكّرين والمثقّفين الذين أخذوا بأسباب الثقافة الإسلامية، فإنَّهم عندما يلتقون ويجتمعون ويتحاورون.. يستطيع كلّ واحدٍ منهم أن يضيف إلى الآخر شيئاً جديداً من فكره. لكنَّ هذه القطيعة القائمة على معطيات ذاتية مختلفة على أوضاع سياسية معيّنة، هي التي خلقت هذا البعد الشاسع بين العلمانيين والإسلاميين.
أنا أؤمن بالحوار كأساس للانتماء أو الرفض، لذلك حاولت أن أكون إنسان الحوار مع النّاس كافّة في هذا المجال. وهكذا، أؤمن بأنَّ الإسلام لا بدّ له من أن ينفتح على الحياة، فإذا عرفنا أنَّ الأساس في الديانات هو أن يقوم الناس بالقسط، فعلينا إذاً أن نجعل قضية العدل قضيّتنا في حياتنا كلّها، لأنَّني أؤمن بأنَّ مجتمعاً لا يعيش العدل في علاقاته الخاصّة لا يستطيع أن يمارس العدل في علاقاته العامّة، وهذا ما يُفسّره الحديث المأثور: "كما تكونون يُولّى عليكم". وأنا لا أُطالِب بالعدل للمسلمين فقط، وإنّما أُطالِب بالعدل للنّاس أجمعين، لأنَّ قضية العدل لا تتجزّأ. ونحن نروي في أحاديثنا أنَّ الله أوحى إلى نبيّ في مملكة جبَّار من الجبّارين أن أذهب إليه وقل له إنَّما استعملتك، أي أبقيتك في ملكك، لتكفَّ عنّي أصوات المظلومين، فإنّي لن أدع ظلامتهم وإنْ كانوا من الكفَّار. فنحن مع العدل الكافر ضدّ المسلم، لأنَّ قضية العدل ليس فيها كفر وإسلام، بل قضية العدل هي قضية الإنسان.
وهكذا نحن نؤمن بالعدل للنّاس كافّة، ونقف مع جميع قضايا الإنسان في العالَم، حتّى الناس الذين لا يدينون بدين. وهكذا، أنا مع حريّة الإنسان. الإسلام يؤمن بأنَّ الإنسان حرّ أمام العالَم؛ فنحن نقرأ في حديث الإمام عليّ: "لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حُرّاً"(1) وأنا إنسانٌ حرّ، لأنَّ الله أعطاني عقلاً حرّاً يمكنني أن أفكّر به حتّى في ما يتّصل بالخالق، وأعطاني إرادة حرّة يمكنني أن أتحرَّك بها، سواء بصورة سلبية أو بصورة إيجابية، في الخطّ الديني وما إلى ذلك. وقد أراد الله لي أن أتحمَّل مسؤوليّتي تجاه نفسي: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف : 29]، {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة : 256]، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ـــ 8]. فالإنسان يتحمّل مسؤولية نفسه، ونعتبر أنَّ المسؤولية تنطلق من الحريّة، وهكذا نجد أنَّ الحريّة ليست شيئاً يأتي للإنسان من الخارج، بل هي شيء يعيشه الإنسان من الداخل.
ـــ هذا السياق الفكري الذي تعبّرون عنه بالمنطق وبالانفتاح، يبدو لي أنَّ من نتائجه مثلاً في مجتمع مثل المجتمع اللبناني أن يصل إلى الاعتراف بإمكان تنظيم المجتمع على أساس قانون اختياري للأحوال الشخصية إلى جانب القوانين الدينيّة.
هذه المسألة تفصيليّة. ثمّة نقطة في هذا المجال، وهي أنَّ هناك فارقاً بين أن تنطلق الدولة اللبنانية لتشرّع مثل هذا على أساس أنَّ هناك أُناساً لا يريدون أن يلتزموا الأحكام الشرعية الإسلامية أو المسيحيّة في مسألة الزواج والطلاق وما إلى ذلك، والمسألة آنذاك تخصّ الدولة اللبنانية، وبين أن تأتي أنت الذي تلتزم فكراً معيّناً لتقول إنّي أُوافق على هذا. هذا أمر ليس منطقياً، تماماً كأن يُقال للفلسطيني أو للعربي الذي يرفض السلام مع إسرائيل إِنَّ عليه أن يقبل هذا السلام.
هناك فارق، أن ينطلق الآخرون وأنا أعترض على ذلك، لا يجعلني أُواجه القضية بالقمع والقوّة. أنا عندما أؤمن بفكر أعتقد أنَّ هذا الفكر هو للنّاس، فمن حقّي أن أعمل من أجل تأكيده وتعطيل جميع المبادرات الأخرى بالطرق والوسائل الإنسانية الحضارية. لكن أن يطلب منّي الموافقة على ذلك، فأنا أعتقد أنّه طلب غير عادل لأنَّك لا تستطيع أن تطلب من صاحب فكر ملتزم معيّن أنْ يتنازل عن فكره لمصلحة شيءٍ آخر. إنَّ الدولة اللبنانية كدولة تملك الفرصة لذلك، لكنّي أملك أيضاً الفرصة كمواطن لبناني أن أعترض على ذلك بالوسائل الممكنة.
ـــ الحديث الشريف الذي ذكرتم "كما تكونون يولَّى عليكم" كأنَّه يرسي قاعدة الانتخاب الحرّ، أي على المواطن أن ينتخب وأن يكون انتخابه للمسؤولين حرّاً.
إنَّني أتصوَّر أنَّ الحديث يتّجه اتّجاهاً آخر، إنّه يريد أن يقول للمواطن، إذا كنت تريد الحاكم العادل فكن عادلاً مع مواطنيك، وإذا كنتَ تريد الحاكم الصادق فكن صادقاً مع النّاس الذين تعيش معهم. إنَّه لا يتحدَّث عمّا تنتخب، بل يتحدّث عمّا تكون أنت. حتّى إذا انطلقت أنتَ مع الآخرين في خطّ العدل في علاقاتكم العامّة والخاصّة، فإنَّ الإنسان العادل سيكون نتيجة طبيعيّة لكم، لأنَّكم عندما تتحرّكون فإنَّكم تفاضلون بين عادلٍ وآخر ولا تفاضلون بين ظالمٍ وآخر. عندما يكون مجتمعكم مجتمع الظلم فلا خيار لكم إلاّ أنْ تفاضلوا بين الأسوأ وبين الأقلّ سوءاً. أمّا عندما يكون مجتمعاً عادلاً، فإنَّ القضية أن تفاضلوا بين عادلٍ وعادل. أظنّ أنَّ الحديث يتّجه بهذا الاتّجاه.
ـــ ما السِّمات الرئيسية التي تتّصف بها حال المسلمين اليوم عامّة في العالَم؟
إنَّ أفضل تعبير ربّما هو أنَّ المسلمين يعيشون الآن حالة من حالات الولادة الصعبة العسيرة لما يتطلَّعون إليه من وجودهم الإسلامي في العالَم. إنَّ انتماء المسلم لإسلامه ينطلق، كأيّ انتماءٍ آخر، من عمق الوجدان الانتمائي من أجل أن يجسّد هذا الانتماء فكراً وحركة وموقفاً ووجوداً.. ومن هنا، فإنَّ هناك شيئاً ما داخل المسلمين تحصّل بعد التجارب وأتكلَّم بصورة عامّة، والقاعدة تفرض استثناءات. أتصوَّر أنَّهم يريدون شيئاً ما اسمه الوجود الإسلامي في مواقعه ومواقفه، ولاسيّما السياسي منها. إنَّنا نلاحظ أنَّ هناك عمقاً إسلامياً يتحسَّس إسلاميّته حتّى عند العلمانيّين، يستند إلى حالة لا شعورية. وهكذا، لا نزال نعيش القضية الفلسطينية التي تمثِّل جرحاً عميقاً في حياتنا.
إنَّني أعتقد أنَّ هذه الحالة الإسلامية التي تتحرَّك لا شعورياً تارّة وشعورياً تارّةً أخرى، هي التي تمثِّل وحدة المسلمين الشعورية. ربّما نجد أنَّ العبادات الإسلامية، كالصلاة والصوم والحجّ.. التي يشعر المسلمون من خلال الممارسات اليومية بتوحّدهم فيها، ولاسيّما الحجّ الذي يقوّي هذا الواقع، والتحدّيات التي توجَّه إلى المسلمين، سواء ممّا بدأ يتحرّك في الخطاب الأميركي، أو في الخطاب الأطلسي من تصريحٍ هنا وآخر هناك، أصبحت تستثير الشعور الإسلامي، حتّى أنَّني أزعم أنَّه ليس هناك في الخطّ العام مسلم يتحسَّس المسألة الفلسطينية بأنَّها مسألة عربية ـــ صهيونية بل الجميع يتحسَّسونها يهودية ـــ إسلامية. حتّى العروبة عندما كانت تتحرَّك في هذا المجال، نجد أنَّ مضمونها كان إسلامياً.
إنَّ عبد الناصر الذي انطلق بالقومية العربية جعل النشيد المصري ينطق بــ "الله أكبر". والإنسان المسلم الفلسطيني عندما يتحرّك في الانتفاضة، فإنَّ كلمة "الله أكبر" هي التي تتحرَّك فيه وتحرّكه. حتّى أنَّ المسيحيين الذين يعيشون في العالَم الإسلامي يفكِّرون إسلامياً على نحو لا شعوري، لأنَّهم إذا كانوا يفقدون الانتماء الإسلامي، فإنَّهم يعيشون الحضارة الإسلامية كما يتنفَّس الإنسان الهواء، كما يتنفَّس الإنسان العطر من الورد. لذلك، أنا أعتقد أنَّ هذه الحالة الشعورية الإسلامية أصبحت أقوى أمام التحدّيات التي يواجهها الواقع الإسلامي، ولاسيّما أمام الظلم الواضح والصريح الذي تمارسه الولايات المتحدة الأميركية على نحوٍ أقوى، ومعها أوروبا على نحو أضعف، نتيجة مصالحها الاقتصادية وما إلى ذلك.
هناك مشكلات موجودة في العالَم الإسلامي، مثل فقدان الرؤية الواضحة الموضوعية للواقع الإسلامي والفكر الإسلامي، والخطوط الإسلامية ولحركة التطبيق للقِيَم الإسلامية في الواقع، وهذا ما نلاحظه في تنوُّع الحركات الإسلامية وتخلّف بعضها وفوضوية البعض الآخر، فترى أنَّ بعض الحركات الإسلامية يفكِّر كما لو أنَّنا نعيش قبل 500 أو 600 سنة، هذا في مفرداتها وفي تعابيرها مثلاً، وقد تجد حركات إسلامية تلتزم العنف تحت عنوان الجهاد في الوقت الذي يكون مجال الرفق متاحاً، وما إلى ذلك. هناك فوضى إسلامية في الجوّ الإسلامي الحركي، ولذلك فإنَّنا لا نستطيع أن نضع الحركات الإسلامية في العالَم في دائرة واحدة وفي حكمٍ واحد، فهناك حركات إسلامية عقلانية موضوعية تدرس الواقع وتتحرَّك فيه، سواء كان عنفاً أو رِفقاً، من خلال طبيعة الظروف الموضوعية التي تحيط بها. وهناك حركات إسلامية تحدق في اتّجاه واحد، وليست مستعدة لأن تنظر إلى هذا الجانب أو ذاك، ولذلك، فإنّها تعيش مشكلة هذا التخلُّف والابتزاز في الداخل.
إنَّ هذا النوع من الفوضى في المفاهيم والتطبيق والأساليب خلق مشكلة صعبة للحركات الإسلامية، بحيث أصبح الإنسان المسلم الذي يتعاطف معها من الناحية السياسية يشعر بالحرج من تأييدها أو تأييد بعض الأساليب التي لا يرضاها الإسلام، كقتل الأجانب أو تعطيل الدراسة في المدارس بصورة أو بأخرى، أو ما إلى ذلك... ممّا يُنسب إلى الإسلاميين، حقّاً كان أو باطلاً.
هناك أيضاً نقطة نرصدها في الواقع الإسلامي الذي يعيش في هذه المرحلة بالذّات حالة انعدام الوزن السياسي في أغلب مواقعه؛ فنحن نجد أنَّ العالم الإسلامي، ممثّلاً بالمؤتمر الإسلامي، لا يستطيع أن يبتعد عن السياسة الأميركية؛ فهو يحاول دائماً أن ينسجم معها، وإذا كان يعارض فمعارضته كلامية، لكنَّه لا يتّخذ مواقف صلبة أمام الخطّ الأميركي السياسي. أمَّا العالَم الإسلامي من الناحية السياسية، فإنَّ الشعوب الإسلامية أو الأُمّة الإسلامية مصادرة من خلال حكّامها، فنحن نعتبر أنَّ الاستكبار العالمي، وفي مقدّمته الولايات المتحدة، من خلال وكالة الاستخبارات المركزية وأمثالها، وظَّفت ملوكاً ورؤساء وأمراء ليكونوا حرّاساً لسياستها ومصالحها في العالَم الإسلامي، فأصبح المسلمون يُضرَبون بيد إسلامية. وهناك أيضاً مشكلة تنوُّع المذهبية الإسلامية في دائرة العصبية المذهبية بين السُنّة والشيعة؛ الذي تستغلّه أجهزة الاستخبارات الدولية والمحليّة في كلّ بلدٍ إسلامي فتعمل من أجل اتّساع الهوّة بين السنّة والشيعة، وتمنع كلّ تجربة للحوار والوحدة، حتّى في القضايا الإسلامية العامّة في هذا المجال. وأعتقد أنَّ هذه تمثّل مشكلة من أصعب المشكلات التي يعيشها الإنسان المسلم في العالَم. وإلى جانب المشكلة السياسية والثقافية والفكرية، من الطبيعي أن تكون المشكلات الاقتصادية نتيجة ذلك كلّه. فالعالَم الإسلامي عالَم يختزن في داخله ثروات واسعة وكبيرة من سائر المعادن وغيرها، لكنَّ هذه الثروات ليست له إنَّما هي للآخرين، ونجد أنّ النفط أصبح لعنة على المسلمين بدلاً من أن يكون نعمة عليهم. فوجود النفط في أرضنا جعل الآخرين يتقاتلون علينا ويرسمون سياستهم على اعتبار أنَّ النفط يمثّل مصدر رخائهم، وهذا ما جعل العالَم الإسلامي يعيش تحت رحمة النفط في هذا القرن كلّه من دون أن يحصل من النفط على شيء.
ـــ وسط هذه الحال التي وصفتموها، ما رأيكم في ما يسمّى اليوم الأصولية الإسلامية؟
أنا أعتقد أنّه ليس هناك أصولية إسلامية بالمعنى المصطلح للأصولية في المفهوم الغربي، لأنَّ الأصولية تتمظهر في نقطتين: النقطة الأولى هي اعتبار العنف الوسيلة الوحيدة للتغيير، والنقطة الأخرى هي إلغاء الآخر. والإسلاميون لا يقفون عند كلا النقطتين، فهم لا يعتبرون العنف الوسيلة الوحيدة. فنحن نقرأ في القرآن: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34].
فالحسنة أسلوب السلم والرفق، والسيّئة أسلوب العنف. إنَّنا نعتبر حركة العنف وسيلة دفاعية لمن يفرض عليك العنف أو وسيلة وقائية لمن يهدّدك به، لا وسيلة استراتيجية في الخطّ. والله عندما طرح علينا مسألة الحرب، طرح علينا أن نقاتل في سبيل المستضعفين {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة : 193]، بمعنى أن تقاتلوهم بأنْ تأخذوا حريّتكم في ألاّ يضغط الآخرون عليكم في دينكم لتتركوه، قاتلوا في سبيل المستضعفين، قاتلوا الذين يقاتلونكم.
لو درسنا جميع آيات القتال في القرآن، فإنَّنا لا نجد آية تقول: قاتلوهم من دون مناسبة، قاتلوهم لتسقطوا إنسانيّتهم، قاتلوهم لتكونوا الأعلى... بالعكس، إنَّ الله سبحانه وتعالى لا يريد لأيّ إنسان أن يعيش روح الاستعلاء على الإنسان الآخر. لذلك، فنحن لا نعتبر الدعوة إلى الجهاد دعوة إلى العنف كخيار وحيد، بل نعتبر الدعوة إلى الجهاد دعوة لحفظ القضايا المصيرية الأساسية الإنسانية في دائرة النّاس الذين يعتدون عليك. إنَّ الذي يوجّه إليَّ صاروخاً لا أستطيع أن أُقدِّم له وردة، ونحن نشبّه العنف في الإسلام بالعملية الجراحية التي لا تلجأ إليها إلاّ بعد أن تعدم كلّ وسيلة أخرى.
أمّا النقطة الثانية وهي إلغاء الآخر، فنحن نقرأ في كتاب الله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} [آل عمران : 64]. إنَّ هذه الآية تعطينا فكرة اللّقاء بيننا وبين الآخرين على الكلمة السّواء، وذلك في الخطوط العامّة. إنَّه من الممكن أن نلتقي الماركسيين في الكلمة السّواء في مواجهة الاستكبار العالمي، ونلتقي القوميين، حتّى القوميين العلمانيين، في كلمة سواء من خلال القضايا العربية التي هي قضايا إسلامية. نحن نعتبر أنَّ الإسلام يعترف بالآخر، وقد كان مظهر الآخر في عهد الإسلام الأوّل مظهراً دينياً، ويستفاد من ذلك أنَّ الإسلام لا يلغي الآخر بل يدعوه إلى الحوار {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت : 46]. إذاً، نحن الإسلاميين لسنا أصوليين بالمعنى الغربي للأصولية، ونحن نرفض تسميتنا أصوليين بهذا المعنى. نحن حركيون إسلاميون. الأصولية بالمعنى اللّغوي، وهي أن ترجع إلى جذورك وأصولك، فهذا شيء طبيعي، لكنَّ جذورنا هي القرآن والسُنّة الثابتة الصحيحة الواردة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم). أمّا واقع المجتمع آنذاك، كان نتيجة تجربتهم، والله أكَّد هذا المعنى فلم يعتبر تجربة الآخرين السلبية أو الإيجابية مسؤوليتنا {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [البقرة : 141].
إذاً نحن أصوليّون، بمعنى أنَّنا ننطلق من قاعدة فكرية يمثّل خزّانها الفكري القرآن والسنّة، ونحاول أن نستهدي تجارب المسلمين الأوّلين في حربهم وسلمهم وثقافتهم لنفكِّر فيها تفكيراً مستقلاً. كما أنَّ القرآن الكريم عندما عالَج واقعة بدر وواقعة أُحُد والأحزاب، أشار إلى نقاط الضعف التي عاشها المسلمون آنذاك. ولذلك، فإنَّ التاريخ عندنا ليس مقدّساً في شخصيّاته، وإنَّما نعطي كلّ شخصية حقّها من خلال طبيعة التعاليم والقِيَم التي نؤمن بها.
وهكذا، فنحن لسنا أصوليين بمعنى أنّنا نريد أن نعيد النّاس إلى المرحلة الأولى للدعوة، كما كان النّاس في عهد النبيّ أو في عهد الخلفاء الراشدين أو في عهد الأمويين، لأنَّ لنا تجربتنا التي تنطلق من الخطوط العامّة التي انطلقت منها تجربتهم، وقلنا إنَّ القرآن الكريم يؤكّد هذا المعنى ويعتبر أنَّنا لسنا مسؤولين عن تجربة الماضي، وإنَّما نحن مسؤولون عن تجربة الحاضر والمستقبل لأنَّها قضيّتنا التي نعيش.
قد نلاحظ، كما ألمحنا في حديثٍ سابق، أنَّ الإسلاميين الذي يسمَّون أصوليين، يعيش بعضهم تخلُّفاً في بعض المفاهيم وانحرافاً في بعض الأساليب، وقد يعيش مشكلات ونقاط ضعف، لكنّنا نقول: إنَّ نقاط الضعف هذه ليست كلّها منطلقة منهم، بل ربّما تُفرَض عليهم. قد تُحاصرك الضغوط فتفرض عليك أن تخطئ. عندما ندرس مثلاً عملية الخطف، خطف الأجانب التي حدثت في لبنان، علينا ألاّ ننظر هنا على نحو تجريدي مطلق، بل علينا أن ندرس ما هي طبيعة الضغط الذي كان الأميركيون والأوروبيون يمارسونه على الإنسان اللبناني؛ علينا أن ندرس طبيعة الظروف الموضوعية التي كان اللبناني يعيشها عندما كان اللبنانيون يخطفون بعضهم بعضاً، مثلاً، فهو أسلوب يعيشه اللبنانيون كما عاشه الأوروبيون في بعض تجاربهم، كخطف طائرة أحمد بن بلّة، وخطف المهدي بن بركة الزعيم المغربي المعارض، وما إلى ذلك.
إنَّ علينا ألاّ نتحدّث عن القِيَم بالمطلق، إنَّ القِيَم ليست شيئاً معلَّقاً في الهواء، لكنّها تمثّل حركة في الواقع. إنَّني لا أريد أو أدّعي أنَّ عملية الخطف أو غيرها من العمليات التي أُثيرت في الجوّ الإعلامي إيجابية بالمطلق أو سلبية بالمطلق، لكنّي أقول إنَّ العالَم المستكبر يحاول أن يقيّدنا ليستفيد من قيمنا في ما يتعلَّق بقضاياه، لكنّه يهدم قيمنا، وحتّى قيمه، عندما يتعلَّق بقضايانا. هو يتحدَّث عن حقوق الإنسان الأميركي والأوروبي لكنّه يهدر حقوق الإنسان، إنسان العالَم الثالث مثلاً.
إنَّنا نجد في الخطاب الأميركي الآن مثلاً أنَّ إيران تُتَّهم بمساندتها للإرهاب، ويتحدّثون في مفردات هذا الإرهاب عن مشاركتها لــ "حز//ب الله" وهو يقاوم في جنوب لبنان، وعن حركة "حماس" وعن حركة "الجهاد الإسلامي"، إنَّهم يحاولون أن يعطوا حركة الإنسان الفلسطيني ضدّ الاحتلال عنواناً إرهابياً، ويحاولون أن يعطوا حركة "حز//ب الله" في سبيل تحرير جنوب لبنان عنواناً إرهابياً، أو يعطوا أيضاً الواقع العربي الذي يريد أن يحرِّر فلسطين عنواناً إرهابياً. إنَّنا لا نستطيع أن نسكت أمام هذا القاموس السياسي الذي يحاول أن يجعل من حركة الحريّة عندنا حركة إرهاب. لذلك، نحن نقول إنَّ علينا، عندما نستمع إلى الحملة الإعلامية الثقافية الغربية التي تجاوب معها بعض المسؤولين العرب أو المسلمين، بل بعض المثقّفين العرب أيضاً، هذه الحملات المغرضة لا نستطيع أن نواجهها بالكثير من الموضوعية، حتّى لا نقع في السذاجة والبساطة اللّتين تجعلاننا نسقط أمام بعض العناوين التي يطرحها الغرب لإسقاط حركتنا الجهادية وحركتنا الاعتراضية تحت تأثير بعض الكلمات الفضفاضة التي لا تعني شيئاً.
إنّهم يعتبرون أنّ كلّ حركة تواجه السياسة الغربية والصهيونية حركة إرهاب، بينما لو حدث مثل هذه الحركة في موقع يتماشى مع مصالح الاستكبار العالمي فعندها تكون جهاداً. إنَّ لقب المجاهدين الأفغان أطلقته الاستخبارات المركزية الأميركية، بينما نرى أنَّهم يتحدّثون عن الفلسطينيين بأنَّهم إرهابيون وعن اللبنانيين بأنّهم إرهابيون، وما إلى ذلك.
ـــ لكنَّ هناك قاموساً إنسانياً طالما تحدّثتم عنه، واعتبرتم أنّه أحد المنطلقات الأساسية في الفقه الإسلامي. حتّى لو مارس الغرب عملية تفجير طائرة مدنية أو خطف طائرة مدنية فيها أطفال ونساء وشيوخ، حتّى لو مارس هذه الأشكال كلّها، هل يمكن أن نجد تبريراً ـــ ولو أحاطت ظروف صعبة بنضالنا كشعوب تناضل من أجل حريّتها ـــ فهل يمكن أن نجد تبريراً لخطف طائرة مدنية أو تفجير طائرة مدنية أو حجز حريّة مواطن لمجرّد كونه أميركياً أو غربياً؟ هذا موقف أساسي.
نحن عندما تحدّثنا في هذا الجوّ، لم يكن حديثنا محاولة لتبرير كلّ ما يحدث، نحن نعتبر أنَّ علينا أن نمارس قيمنا مع الآخرين كما نمارس قيمنا مع أنفسنا في الخطّ المستقيم لهذه القِيَم، بعيداً عن ردّات الفعل السلبية أو الإيجابية لحركتنا في هذه القِيَم. وإذا قلنا إنَّنا ضدّ أن يُظْلَم الكافر حتّى لو كان الظالم مسلماً وكان المظلوم كافراً، فنحن لا نعتبر قصّة العدل، سواء في الجانب الفردي أو الاجتماعي أو السياسي، قصّة يمكن لكَ أن تفاضل فيها بين مسلمٍ وكافر. لم نكن في هذا الاتجاه، لكنَّني كنتُ أريد أن أقول إنَّ علينا ألاّ نصدر حكماً مطلقاً في جميع المفردات، بل علينا أن ندرس المفردات بدقّة؛ فقد نجد ظروفاً تخفيفيّة، وقد لا نجد. أمّا مسألة خطف الطائرات، فقد أعلنّا منذ البداية فتوى بتحريم هذه الممارسات في جميع المواقع، عندما تتّصل المسألة بالمدنيّين باعتبار أنَّ وسائل النقل هي وسائل إنسانية.
ـــ ما نظرتكم إلى علاقة الإسلام بالديانتين اليهودية والمسيحيّة؟
إنَّ الإسلام كان واضحاً في نظرته إلى الديانات التي سبقته. فهو يعتبر أنَّ جميع هذه الديانات تندرج تحت عنوان كبير هو الإسلام. الإسلام الذي بدأه إبراهيم، وهو أب الديانات التوحيدية، {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة : 131]. الإسلام الشامل الذي يعني أن تسلم أمرك لله سبحانه وتعالى من خلال انسجامك مع رسالته. وفي ضوء هذا، فإنَّ الإسلام الذي جاء به النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يعترف بإسلام موسى (عليه السلام) لله، ويعترف بأنَّ التوراة كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. كما أنّه يؤمن بعيسى (عليه السلام)، بأنَّه عبد الله ورسوله، وبأنَّ الإنجيل هو كتاب الله، وقد كان عنوان دعوة النبيّ أو دعوة القرآن أنَّه مصدق للّذي بين يديه. لم يأتِ لإلغاء الرسالات أو للتنكّر لها، بل جاء من أجل التصديق بها وإكمالها. ولذلك نجد أنَّ القرآن الكريم يقول: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} [البقرة : 136]. فالرسل جميعاً هم رُسُل الله، إذاً نحن نؤمن برسالتهم في النهاية. وعلى هذا الأساس، فالمسلم لا يعيش أيّة عقدة من الديانات الأخرى. فهو لا يستطيع أن يسيء إلى التوراة أو إلى موسى (عليه السلام) وهارون (عليه السلام). والمسلم لا يستطيع أن يسيء إلى الإنجيل أو إلى عيسى (عليه السلام) وأُمّه العذراء مريم (عليها السلام)، لأنَّ هذه كلّها من مقدّسات المسلمين التي تحدَّث القرآن عنها بكلّ إجلال واحترام وإيمان وقداسة.
وهكذا نجد أنَّ الإسلام أكَّد التعايش في مجتمعه مع اليهود والنصارى، فالمجتمع الإسلامي ليس المجتمع الصافي النقي الذي لا يعيش فيه إلاّ المسلمون، بل يعيش فيه اليهود والنصارى أيضاً. ونحن نعتقد ـــ من خلال التجربة ـــ أنَّ اليهود والنصارى الذين لم يدخلوا الإسلام، عاشوا مع المسلمين مدى 14 قرناً ويزيد، من دون أن يفقدوا حريّتهم في عباداتهم ومن دون أن يفقدوا مراكزهم الدينية. وقد أعطاهم الإسلام الحريّة ليعيشوا ويكونوا جزءاً من الواقع الاقتصادي والتربوي والاجتماعي، وربّما اقترب بعضهم من الواقع السياسي لولا أنَّ الواقع السياسي لا بدّ من أن يتحرَّك في الخطّ الذي يؤمن به الذين يعيشون في موقع القيادة. فإذا كانت الدولة إسلامية تنطلق من الإسلام، فليس من الطبيعي أن يكون في مراكز القيادة مَنْ لا يؤمنون بالإسلام.
وهكذا نرى أنَّ الإسلام احتفظ بالوجود اليهودي والنصراني في جميع المناطق التي عاش المسلمون فيها، بينما نجد أنَّ النصارى في الأندلس لم يتحمّلوا الوجود اليهودي ولا الوجود الإسلامي. أمّا في الواقع العملي، وفي الواقع الشعوري، فإنَّنا نجد أنَّ الإسلام يتحدّث عن اليهود والنصارى بطريقة مختلفة: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} [المائدة : 82]. إنَّه لا يتحدّث عن يهوديّتهم كعنوان ديني بل عن سلوكهم العدواني ضدّ المسلمين؛ إنَّه يتحدّث عن سلوكهم التاريخي بأنَّهم يقتلون النبيّين بغير حقّ، وأنّهم {كُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم} [البقرة : 100]، وأنَّهم {قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران : 75]، وما إلى ذلك.
إنَّ الإسلام عندما اتّخذ موقفاً سلبياً ضدّ اليهود من ناحية شعورية، فإنّه اتّخذه من خلال سلوكهم العدواني ولم يتّخذه من خلال انتمائهم الديني كأيّة فئة تنتمي إلى دينٍّ معيّن. وعندما تحدّث عن النصارى أيضاً، تحدَّث عن سلوكهم: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة : 82]. فهو قد انطلق في تقويمه لواقع النصارى في الحياة الإسلامية من موقع قيمهم الروحية وتواضعهم وانفتاحهم على الجوّ الروحي الإسلامي. ونحن عندما نعيش الآن الواقع الإنساني العام، فإنَّنا ندعو إلى حوارٍ بين الديانات الثلاث، وندعو إلى تعاون من جديد على أساس العنوانين الكبيرين اللّذين وضعهما القرآن في علاقة المسلمين بأهل الكتاب على سبيل السّواء، وهي أن ننطلق جميعاً في العالَم لنعمل على أساس توحيد الله، ووحدة الإنسانية، فلا يكون الإنسان ربّاً لإنسان، ولذلك، فإنَّ علينا كمسلمين ومسيحيّين ويهود أن نقف ضدّ المسلمين الذين يريدون أن يجعلوا من أنفسهم أرباباً للشعوب المستضعفة، أو المسيحيّين الذين يريدون أن يجعلوا من أنفسهم أرباباً للنّاس، أو اليهود الذين يريدون أن يسيطروا ويستعلوا ويستكبروا على النّاس. ومن هنا، فإنَّ هذا الحوار اليهودي ـــ الإسلامي ـــ المسيحي لا بدّ من أن يضع في أوّل عناوينه خروج اليهود الطارئين على فلسطين من فلسطين، وعودة الفلسطينيّين إلى بلادهم، وبقاء اليهود الذين كانوا فلسطينيّين إلى جانب المسيحيّين والمسلمين ليعرفوا كيف يديرون التعايش معهم.
نحن نؤكّد مسألة التعايش، وندعو إلى تعايش إسلامي ـــ مسيحي يعزّز الواقع اللبناني الموحّد، وندعو إلى تعاون بين المسيحيين والمسلمين في القضايا المشتركة، ونحن نقول إنَّنا ما دمنا في بلدٍ واحد، فإنَّ علينا أن يحافظ بعضنا على البعض الآخر لأنَّنا محكومون بهذا الوجود، ولأنَّنا نعتبر أنّ المسلمين ـــ حتّى الحركيّين منهم ـــ هم أقرب إلى المسيحيّين ـــ إذا عاشوا المسيحيّة فكراً وروحاً ـــ من غيرهم من النّاس. نحن دعاة حوار إسلامي ـــ مسيحي ودعاة تعايش إسلامي ـــ مسيحي ودعاة علاقات إنسانية بين الناس كلّهم.
ـــ هل يمكن للحوار الإسلامي ـــ المسيحي ـــ اليهودي، أن يكون له نصيب من النّجاح في ظلّ طغيان حدّة الصراع مع "إسرائيل" الصهيونية ومع الغرب الاستعماري؟
من الطبيعي أنَّ الواقع الاستكباري، سواء تمثّل بالاستكبار الغربي الأميركي أو بالأوروبي أو بالاستكبار الصهيوني، من الصعب أن يُفسح في المجال لهذا الحوار الثلاثي الذي يريد أن يعيد المعنى الديني في نفوس المتديّنين إلى القاعدة الإنسانية التي يتطلَّع فيها الناس إلى الواقع الإنساني من نافذة الحريّة والعدالة، وأنَّ الجميع خلق الله، وأنّه لا يجوز لإنسان أن يطرد إنساناً من بلده أو يسيطر عليه بطريقة الظلم والبغي والعدوان أو ما إلى ذلك، لأنَّ قِيَم اليهودية في منابعها الصافية لا في المستحدث منها، والمسيحيّة في ينابيعها الصافية، والإسلام في جذوره العميقة، إنَّ هذه الأديان في عمقها الإنساني وفي الينابيع الصافية التي انطلقت منها أفكارها وشرائعها تقف ضدّ الاستكبار العالمي وضدّ أيّ موقع من مواقعه وأيّة مصلحة من مصالحه وأيّ لون من ألوان ظلمه.
ومن هنا، فإنَّني أعتقد أنَّ الحوار الإسلامي ـــ المسيحي ـــ اليهودي أُطلق من خلال بعض الجهات في العالم من أجل إيجاد نافذة من الانفتاح الإسلامي ـــ المسيحي على الواقع اليهودي الذي يطلّ على "إسرائيل". فالمطلوب كان إزالة هذه الحواجز بين اليهودية في شخصيّتها الصهيونية الإسرائيلية وبين المسلمين والمسيحيّين. ولم تكن دعوة بريئة من هذا الهدف السياسي، ولهذا نحن كنّا متحفّظين من الحوار اليهودي ـــ المسيحي ـــ الإسلامي في الوقت الذي أعطينا كلّ الانفتاح للحوار الإسلامي ـــ المسيحي، لأنَّ هناك أكثر من إيجابية، ولأنَّنا نشعر بأنَّ من الممكن جداً أن ينطلق الحوار من إرادة صافية لا يشوّهها بعض التحفُّظات هنا وهناك.
الإسلام والمرأة
ـــ ما نظرة الإسلام الصحيحة إلى المرأة؟
المرأة في الإسلام إنسان كما هو الرجل إنسان. {الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء : 1] فالرجل والمرأة هما مظهر الإنسان في الكون. والله سبحانه وتعالى لم يعتبر الذكورة قيمة تفضل الأنوثة من ناحية إنسانية، فالله يقول: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} [آل عمران : 195]. ولذلك، فإنَّه يعتبر أنَّ المسؤولية واحدة في الخطّ الإيجابي والخطّ السلبي، فالله يتحدّث عن السارق والسارقة، ويتحدّث عن الزاني والزانية، كما يتحدّث عن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، وإلى آخر ما هنالك، والله يتحدّث عن المرأة الصالحة كنموذج إيجابي للرجال والنساء معاً، كما يتحدّث عن المرأة غير الصالحة كنموذج سلبي للرجال والنساء معاً، فالله عندما يقول: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم : 10].
وعندما تحدّث الإسلام عن بعض نقاط الضعف عند المرأة أنَّ أساسها هو التنشئة {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف : 18]. إنَّه يعتبر أنّ ضعف المرأة إنّما ينطلق من خلال التربية والتنشئة اللّتين تجعلانها في دائرة الضعف. لهذا نستطيع أن نخلص من خلال ذلك أنَّ الإسلام يعتبر المرأة إنساناً مسؤولاً في مستوى مسؤولية الرجل من حيث طاقاتها العقلية والجسدية.. لكنَّ طبيعة التنوُّع في المرأة والرجل، من حيث خصائص كلّ من الذكورة والأنوثة، تفرض وجود تنوُّع في حركة إنتاج الجسد أيضاً، فجعلت هناك تنوّعاً في بعض الوظائف. ولذلك، فإنَّ قوامة الرجل على المرأة ليست قوامة مطلقة في القول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} [النساء : 34]، بل هي قوامة في دائرة الحياة الزوجية، باعتبار أنَّ الحياة الزوجية مؤسّسة، فلا بدَّ لها من مدير يملك أمر الإنفاق ويملك أمر الإدارة، ولذلك قال الله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء : 34]. فالقضية، إنَّما هي أنّ الرجل يتحمَّل مسؤولية البيت الزوجي، والمرأة لا تستطيع أن تتحمَّل هذه المسؤولية بصورة مطلقة، لأنَّ ظروفها، من حيث الحمل والإرضاع.. قد لا تساعدها في أن تتحمَّل بنفسها مسؤولية الحياة الزوجية. لذلك فالقوامة، إنَّما هي في دائرة البيت الزوجي.
ـــ لكنَّ هذا تغيَّر الآن، ويتغيَّر أكثر فأكثر بعد مشاركة المرأة في العمل وفي الإنفاق.
هناك فارق بين أنْ يتغيَّر الواقع الذي تضغط فيه على المرأة أنتَ كنظام وبين واقع اتّساع دور المرأة في حركة الحياة. إنَّ الإسلام يتحدّث عن ذلك ـــ في دائرة النظام ـــ لا من خلال الواقع، فقد كان هناك واقع تعيش المرأة فيه بعض الأعمال، كانت المرأة فلاّحة وكانت خيّاطة.. كان هناك دور للمرأة، لكنَّ الإسلام أراد أن تعيش المرأة من دون أن تتحمّل مسؤولية الحياة الزوجية، لم يمنعها من العمل، لكنّه اعتبرها إنسانة لا تتحمّل مسؤولية الإنفاق، لكن لها أن تنفق ولها أن تتوافق مع زوجها. وعندما يكون التوافق في ما بينهما فليس هناك مشكلة، لكن تبقى المسألة أنّه لا بدَّ هناك من شخص يدير البيت، وليس من الطبيعي أن تكون الإدارة ذات رأسين في هذا المجال.
مشكلتنا مع الغرب أنّه يعتبر
ثروات الشرق حقّاً طبيعيّاً له
ـــ كيف يجب أن تكون علاقة الدول الإسلامية بالغرب أو العكس بالعكس؟
ليست عندنا عقدة من النّاس في الغرب، ليست عندنا عقدة "غرب وشرق" على طريقة الكلمة المشهورة الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا. فنحن نعتبر أنّ الغرب يمثِّل حالة إنسانية معيّنة لها ظروفها التاريخية وظروفها المعاصرة التي ساهمت فيها عدّة عناصر داخلية وخارجية، سواء من خلال الخطّ الفكري أو الخطوط السياسية، أو من خلال المناهج الاقتصادية والثقافية والأمنية.. كما نعتبر أنّ الشرق يمثِّل حالة تاريخية ومعاصرة من خلال كلّ العناصر التي قد يدخل فيها التخلُّف والتقدُّم، وقد تتشابك فيها الخطوط المختلفة في جميع مجالات الحياة. ونحن نعتبر أنّ حركة الشعوب تتحرَّك وتنطلق من خلال التعارف: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات : 13]. والتعارف يمثِّل حركة الإنسان من أجل مواجهة الخبرات المتنوّعة الموجودة عند هذا الشعب أو ذاك.
لكنَّ المشكلة هي أنَّ الغرب تحوَّل إلى قوّة استكبارية كبرى تضطهد المستضعفين في العالَم. ومن بين هؤلاء المستضعفين شعوب العالَم الإسلامي. ومن هنا وُجدت العقدة، فأصبحت شعوب العالَم الثالث أو الشعوب المستضعفة، وفي مقدّمها الشعوب الإسلامية، تنظر إلى الغرب نظرتها إلى قوّة تريد أن تقهر قوّتها، وأن تصادر ثرواتها، وأنْ تمنعها من تقرير مصيرها، وأن تعطّل حركتها من أجل الاكتفاء الذاتي والاستقلال السياسي والأمني والاقتصادي.. ومن الطبيعي أنّ هذا بدأ يصنع الكثير من حالات القلق والخوف والحذر، وأصبحت الممارسات الغربية المستمرة تعمِّق هذا الإحساس بالرفض للغرب لدى الشعوب المستضعفة، حتّى الشعوب غير الإسلامية. ولذلك، فإنَّ مطلب الشعوب الإسلامية والشعوب الشرقية من الغرب هو أن يتوازن في نظرته إلى إنسان العالَم الثالث، وأن ينظر إليه من موقعه الإنساني في حاجاته وتطلُّعاته وقضاياه الحيويّة، بحيث تكون العلاقة بينهما علاقة إنسان بإنسان وعلاقة مصالح متبادلة واحترام متبادل. وهذا ممّا لا يرضى الغرب به لأنّه لا يزال يعتبر أنَّ ثروات الشرق هي حقّ طبيعي له، وأنَّ المواقع الاستراتيجية الموجودة في هذا العالَم الثالث هي مواقعه، وأنَّ هذه الدول أو هذه الشعوب أو سياستها هي على هامش سياسته، لأنّه يعتبر أنّه هو الأصل والآخرون يمثِّلون الهوامش.
أمّا إذا ابتعدنا عن هذا الجانب السياسي ـــ الأمني ـــ الاقتصادي، ودخلنا مضمون الحياة الغربية، فإنَّنا كمسلمين نختلف مع الغرب في كثيرٍ من مفردات حياتهم المرتكزة على قاعدة مادية لا ترى فيه الجوانب الروحية أيّ معنى. ومن الطبيعي أنْ تختلف حضارتنا الإسلامية عن الحضارة الغربية في العمق الفكري والروحي للحضارتين. أمّا عندما ننظر إلى الغرب كقوّة علمية، تكنولوجية، متطوّرة، فنشعر بحاجتنا إليه، ولذلك فنحن نعمل بكلّ ما عندنا من طاقة من أجل أن نرسل أولادنا إلى الغرب، ليتعلَّموا ولينقلوا تجربة الغرب إلى بلادهم. كما أنَّنا نحاول نقل هذه التجربة إلى بلادنا من خلال علاقات علمية وثقافية.. فنحن لا نتنكَّر للغرب أو لشعوبه، نحن عندما نعلن معارضة الغرب، إنَّما نعارض الغرب السياسي ونعارض الغرب الاقتصادي المنطلق من الشركات الاحتكارية، ولا نعارض الغرب الإنساني.
ـــ يقال إنّكم الأب الروحي لــ "حز//ب الله" فما تعليقكم على ذلك؟
أنا لا أفهم أنَّ هناك أباً روحياً وأباً مادياً. فنحن في الإسلام "مدرحيون" نعتبر أنَّ الإنسان هو قبضةٌ من الطين ونفخة من روح الله. لذلك فليس هناك شخص روحي بالمطلق، وليس هناك شخص مادي بالمطلق. لكنَّني أتصوّر أنّني من آباء الحركة الإسلامية في الواقع العربي على الأقلّ، وفي الواقع الإسلامي الشيعي بصورة خاصّة. فقد انطلقت إسلامياً منذ أوائل الخمسينات قبل أن يكون هناك "حز//ب الله" وقبل أن تكون هناك أحزاب كثيرة. لذلك، فإنَّني أعتزّ بأنَّ أغلبية هذا الجيل تربَّت على يدي أو كان لي بعض الدور في تنشئتها الفكرية. لكنَّ الارتباط السياسي، بالمعنى العضوي، لا يتحرَّك في حياتي مع أيّ حزب من الأحزاب، وإنَّما هناك أوضاع سياسية داخلية وخارجية قد تحكم العلاقات في هذه الحركة الإسلامية أو تلك. لست مرشداً روحياً لــ "حز//ب الله" بالمعنى التنظيمي لهذه الكلمة، لكنّني أمارس وأعيش مرجعية دينية إسلامية تنفتح على مواقع "حز//ب الله" وغير "حز//ب الله". فأنا أملك امتداداً واسعاً حتّى في الوسط الإسلامي السنّي. لكن هذا لقب أطلقه عليّ الغرب من أجل أن يحمّلني مسؤوليات كثيرة، وقد رفضت ذلك لأنَّني لا أعترف بهذه الدائرة الضيّقة، وأعتقد أنّني أملك من خلال تاريخي الشجاعة لأنْ أعلن ما أنا عليه في كلّ موقع من المواقع، فأنا لا أخاف إلاّ من الله.
ـــ ما رأيكم في مقولة فصل الدّين عن الدولة؟
إنَّ فصل الدّين عن الدولة هو تماماً كفصل الإنسان عن ذاته. إنَّ هذه المقولة انطلقت من تجربة الدّين في الواقع الغربي، فهي كلمة مستوردة ونحن لسنا معقّدين من استيراد الكلمات، لأنَّنا لا نعتبر أنَّ الفكر يخضع لوزارة الاقتصاد في عالم الاستيراد والتصدير. ليس للفكر وطنٌ معيّنٌ، ولهذا كنّا ضدّ مصطلحات الاستخبارات المركزية الأميركية عندما كانت تعبّر عن المبادئ الماركسية بأنَّها المبادئ المستوردة، لكنَّنا نقول إنَّنا حتّى عندما نأخذ من الأُمم الأخرى بعض الكلمات وبعض المصطلحات، فإنَّ علينا أن ندرسها في عمقها. المفهوم الديني عند الغرب، كما قدّمته المسيحية، هو أنَّه علاقة بين الإنسان وربّه، ويقولون عن لسان السيّد المسيح: "مملكتي ليست في هذا العالَم"، "أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر". أمّا في الإسلام، فإنّه يتحرَّك من خلال أنَّ الله ليس منفصلاً عن العالَم وعن الإنسان، بل هو الله الرحمن الرحيم الذي يرزق ويعطي ويحيي ويميت، بحيث إِنَّك ترى الله سبحانه وتعالى في كلّ شيء يتحرّك في حياتك. فالله ليس شيئاً تجريدياً بعيداً عن عالمك، يجلس في مكان معيَّن ويحلِّق في عالم الغيب الذي لا تستطيع أن تبلغه، بل إنَّك تراه في عقلك وقلبك وحياتك، وفي كلّ وجودك المرتبط بالله.
وعندما نأتي إلى الدّين، فإنَّنا نقرأ قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد : 25]. معنى ذلك أنَّ الأديان كلّها حركة عدل. وهل يمكن أن يكون هناك عدل بلا دولة؟ إنَّ الدولة تمثّل وسيلة الإنسان لتحريك العدل وتحويله إلى واقع. العدل لا بدَّ فيه من حاكم عادل ومن شريعة عادلة ومن مواطن عادل، وهكذا.. ولذلك، فإنَّنا نعتبر أنَّ الدّين إذا كان ينطلق من قاعدة العدل، الذي ليس شيئاً معلَّقاً في الهواء، وإنَّما هو قيمة واقعية، فلا بدّ له من وسائل. فإذا أبعدنا الدولة عن الدّين، فمعنى ذلك أنَّنا أبعدنا الوسيلة عن الحياة. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، من ناحية واقعية، إنَّنا عندما ندرس الفقه الإسلامي منذ اختلاف الفقهاء المسلمين في زمن الخلفاء الراشدين حتّى يومنا هذا، فإنَّنا نجد أنَّ الفقهاء المسلمين عالجوا كلّ ما كان الإنسان المسلم يعيشه من مفردات حياته. فقد عاش المسلمون في مدى ما يقارب الألف سنة في نظام خلافة الأمويّين والعباسيّين وما إلى ذلك، ولم يكن هناك دستور مثل اليوم. كان الفقه الإسلامي هو الذي يدير حياة الخليفة، كما يدير الحرب والسلم والعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والعلاقات السياسية للنّاس. ذلك أنَّ الفقه الإسلامي يمثِّل ثورة تشريعيّة شاملة، ولا يزال يتحرّك في مواجهتها. عندما نريد أن نفصل الإسلام عن الدولة، فماذا نصنع بهذا الفقه، هل نطرحه في الهواء؟ ولماذا نطرحه، لماذا لا ندرسه، لماذا لا نحاكمه، لماذا لا نقارن بين المفاهيم التي طرحها في حلّ مشكلات الإنسان الجزئية أو العامّة مع ما يطرحه الآخرون؟ إنَّ الإنسان المسلم يشعر بأنَّ عليه أن يعيش الشريعة حتّى في غياب الدولة الإسلامية. ومن هنا، فإنَّ الذين يدعون إلى الدولة الإسلامية وإلى تطبيق الشريعة، يريدون أن يخرجوا الإنسان المسلم من هذا التمزُّق بين ما هو القانون وما هي الشريعة. ولذلك، فنحن نرفض فصل الدّين عن الدولة، كما نرفض فصل الإنسان عن ذاته، إنّه أشبه شيء بذلك.
ـــ ما رأيكم في قيادات العالَم العربي الحالية؟
ـــ إنّني أحمل مصباح "ديوجين" لأجد هناك قائداً، ولا أبصر ذلك حتّى في النهار. إنَّ القائد هو الذي يعيش مسؤولية القيادة بحيث يذوب في أُمّته، ومشكلتنا أنَّ العالَم العربي وقياداته تريد للأُمّة أن تنمو في الشخص. وهذه هي المسألة بين أن يكون الإنسان قائداً وبين أن يكون فرعوناً.
ـــ هل يمكن التوفيق بين الإسلام والقومية العربية، وما السبيل إلى ذلك؟
إنَّ علينا أن نحدِّد مفهومنا للقومية العربية. هناك نظرة للقومية العربية أنّها حالة إنسانية يعيش فيها الإنسان العربي إحساسه بعروبته التي تنفتح على الإنسان العربي الآخر انفتاحاً شعورياً وعملياً، من خلال ارتباطه به في عاداته وتقاليده ولغته وتاريخه.. ومن خلال ارتباط قضاياه بقضاياه ومصيره بمصيره، ليعمل على أساس أن يوحّد هؤلاء الناس الذين يعيشون حال الارتباط الإنساني بخصوصيّة إنسانية معيّنة والارتباط المصيري في الواقع السياسي والاقتصادي والأمني، وما إلى ذلك.. عندما نعيش عروبة بهذا الشكل، فإنَّ العروبة لا تنافي الإسلام، لأنَّه يمثّل حالة إنسانيّة شاملة تعترف بخصوصيّات الإنسان وتنوّعاته {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات : 13]. فالإسلام لا يرفض أنْ تتحسَّس عروبتك كخصوصيّة إنسانية لها عناصر معيّنة لتكون نافذة تطلّ على قومية أخرى، وعلى إنسانٍ آخر، والإسلام يقول لك: إنَّني أقدّم برنامجي للحياة على مستوى العقيدة والفكر والواقع لكلّ الناس ومنهم العرب. لذلك لا أجد أيّ نوع من أنواع التضادّ بين القومية وبين الإسلام. إنَّ القوميّين يتحدّثون عن وجود مسيحي يمنعهم من طرح الإسلام، لكنَّنا نتصوَّر أنّ العرب كانوا موحّدين في التاريخ على أساس الإسلام مع وجود الأقليّات المسيحية واليهودية. لم يعِش العرب وحدة في واقعهم كما عاشوا الوحدة في تاريخهم؛ لقد كانت الخلافة هي الإطار الذي وحَّد العرب في دائرتهم، كما وحَّد غيرهم معهم. إنّي أعتبر أنَّ القومية إطار والإسلام مضمون هذا الإطار.
جمهورية إسلامية في لبنان
شعار غير واقعي
ـــ يذكر أنَّكم تقودون الرأي إلى "لبننة" الإسلام في لبنان. فما مغزى هذا التوجّه، وما مقوّماته؟
الواقع أنَّه عندما يطلق هذا التعبير، فليس المقصود به إيجاد حالة إسلامية لبنانية تتمحور حول لبنان وتختنق داخله، لأنّه لا معنى لأنْ يكون لدينا إسلام لبناني وسوري وعراقي أو عربي أو فارسي.. باعتبار أنّ الإسلام هو رسالة الله للبشرية جمعاء. لكنَّني عندما كنتُ أتحدّث عن "لبننة" الحركة الإسلامية في لبنان، كنتُ أقصد أن تدرس الحركة الإسلامية الواقع اللبناني، لتراعي الظروف الموضوعية الموجودة في لبنان حتّى تضع خطّتها في الأسلوب وفي المنهج وفي العلاقات، على أساس مراعاة هذه الظروف التي منها الحساسيّات الطائفية والمذهبية والنظرة اللبنانية إلى محيطها، كي تدرس كيفية معالجة المشكلات اللبنانية من خلال الواقع اللبناني. كنتُ أقصد من هذه الكلمة ألاّ يتحرَّك المسلمون في لبنان في المطلق بحيث يمارسون أساليب الدعوة، وأساليب الحركة، وأساليب الخطّ السياسي والعلاقات.. على الطريقة التي يمارسونها في بلدٍ إسلامي آخر تختلف ظروفه وحساسيّاته ومشكلاته عن الظروف والمشكلات والحساسيّات اللبنانية. هناك تعبير مماثل موجود في الجزائر، وهو حركة "الجزأرة" الإسلامية؛ ويتحدَّث عن إسلام جزائري لا شُغل له في الإسلام خارج الجزائر ولا علاقة له بحركة المسلمين خارج الجزائر، إذا صحّ أنّهم يفكِّرون بهذه الطريقة، نحن لا نفكِّر في هذا، نحن ندعو إلى أن ينطلق المسلمون اللبنانيون، بل اللبنانيون بأجمعهم، ليتوافقوا، لينفتحوا على محيطهم وليتفاعلوا مع محيطهم بطريقة أو بأخرى، لأنَّنا ضدّ انعزال أيّ إقليم إسلامي عن إقليمٍ آخر. ولذلك فإنَّ مسألة "اللّبننة" هي مراعاة ظروف لبنان في حركة العمل لا اختناق العمل داخل لبنان.
ـــ هل يمكن الإشارة إلى مقوّمات أساسية علمية في هذا التوجّه؟
إنَّنا عندما ندرس الواقع في لبنان، فإنَّنا نجد واقعاً مسيحياً معقَّداً قد يختلف عن الواقع المسيحي في أيّ بلدٍ إسلامي آخر أو أيّ بلدٍ عربي آخر. فمثلاً شعار الجمهورية الإسلامية في لبنان، قد يكون شعاراً ثقافياً فكرياً، يشير إلى أنَّ الإسلام يمثّل حالة سياسية دولية، لكنَّ من الصعب جداً أن تفكِّر أنَّ له فرصة في تطبيقه في لبنان، لا من خلال الوضع الداخلي فيه، إذ من الممكن أن يتحدّث متحدّث عن أكثرية إسلامية تطغى على أقليّة مسيحية، لكن من خلال طبيعة المعادلة الدولية الحديديّة التي تمنع ذلك، كما تمنع أيّ تغيير شامل في لبنان لأيّة جهة ماركسية أو قومية أو مسيحية أو إسلامية. من الطبيعي أنَّ على الإسلاميّين أن يستفيدوا من الواقع في لبنان، لا ليفكِّروا في أنْ يتحوَّل لبنان إلى جمهورية إسلامية، لأنَّ هذا ليس واقعياً، بل ليطلقوا أفكارهم في لبنان، باعتبار أنَّ لبنان يمثِّل النافذة التي تطلّ على الغرب والتي يمكن للغرب أن يطلّ منها على الشرق. ومن هنا، فإنّها تمثِّل الساحة التي تعيش إمكانات التفاعل مع جميع الساحات الأخرى كما تملك إمكان إطلاق آرائها في الساحات الأخرى، باعتبار لبنان منبراً من منابر الدعوة، كما أنّه منبر من منابر الحركة السياسية.
إنَّني أقصد بــ "اللّبننة" أن يكون الإسلاميون اللبنانيون واعين للخصائص اللبنانية كافّة، ليصوغوا أسلوبهم ووسائلهم وخططهم بصورة تتوافق مع الواقع اللبناني، على أساس أنَّ الله يريدنا أن ندعو إلى سبيل ربّنا بالحكمة، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه. وقد قرأنا في البلاغة أنَّ البلاغة في الكلام مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومقتضيات الأحوال هي الظروف والحساسيّات والأوضاع والمتغيّرات..
ـــ ما رأيكم في اشتراك "حز//ب الله" في البرلمان اللبناني؟ وكيف ترون مستقبل هذا الحزب على الساحة اللبنانية؟
في تصوّري أنّ اشتراكه ينطلق من شرعية إسلامية ترى أنّ من الضروري جداً أن يشارك الإسلاميون في البرلمان كصيغة من ناحية فكرية، وليس كنتيجة لاعترافهم به، لكن من جهة أنّه يمثِّل الساحة التي يمكن لهم فيها أن يعبِّروا عن آرائهم وعن أفكارهم، ويحشدوا الآخرين للأخذ بها أو للانسجام معها. كما أنّهم يستطيعون أن يُحدِثوا بعض التغيير ولو من خلال بعض المفردات، ويملكوا مواقع سياسية متقدّمة تستطيع أن تحقِّق لهم بعض الأهداف المرحلية. وأعتقد أنّ "حز//ب الله" يعيش رشداً سياسياً معقولاً، وأصبح يمثّل خبرة عسكرية وأمنية وثقافية وسياسية، الأمر الذي يجعل فرص امتداده في لبنان كبيرة على الرغم من التحدّيات التي تواجهه من خلال هذه الهجمة العالمية الأميركية والإسرائيلية المضادّة. لكنَّني أتصوَّر أنّ من الصعب جداً إنهاء دور هذا الحزب، لأنَّه دور متجذّر في الواقع الشعبي من جهة، وينطلق، من جهةٍ أخرى، من خلال عناصر قويّة في تركيبته وأسلوبه وطريقته في التفكير والعمل السياسي، ربّما ينال الآخرون منه، أو يضعفون بعض مواقعه، لكنَّني أعتقد أنّهم لا يملكون إلغاءه.
ـــ كيف ترون الحلّ لوضع الجنوب اللبناني المحتل؟
أنا لا أعتقد أنَّ هناك حلاًّ جنوبياً، لأنَّ المسألة متّصلة بالقضية الفلسطينية في إطارها العربي العام. ومن هنا، فليس هناك حلّ جنوبي خاص، كما ليس هناك حلّ لبناني للمسألة اللبنانية، لأنَّ القضية لا تزال تدور في دائرة ما يسمّى التسوية.
ـــ ما موقفكم من قوات الأمم المتحدة في الجنوب اللبناني؟
إنَّنا لسنا ضدّ وجود قوات الأمم المتحدة، إنّها قد تنفع في إيجاد بعض حالات التوازن في بعض المناطق في الجنوب، والتي قد تمنع الاجتياح الإسرائيلي، لكنّها قد تمارس دوراً سلبياً عندما تقف عقبة في طريق المقاومة. ونحن نتصوّر أنّ وجودها يمثّل شاهد زور، باعتبار أن لا دور لها سوى تقديم التقارير عن عدد القتلى وعن عدد القذائف الإسرائيلية وعن عدد عمليات المقاومة، من دون أن تملك أيّ تأثير في هذا المجال، لأنَّ قوات الأمم المتحدة إنّما دُعيت من أجل حماية الإنسان اللبناني من "إسرائيل". وقد أصبحت لا تستطيع حماية نفسها منها ولا من حركاتها.
ـــ كيف ترون سياسة الولايات المتحدة بالنسبة إلى لبنان عموماً وإلى الجنوب خصوصاً، وما رأيكم في تصنيف الولايات المتحدة لكم ولــ "حز//ب الله"؟
إنَّنا نعتبر أنّ الولايات المتحدة الأميركية لا تملك سياسة أميركية تنبع من المصالح الأميركية الحقيقيّة، بل إنَّ السياسة الأميركية في الشرق الأوسط عامّة، وفي الواقع العربي والواقع اللبناني خاصّة، هي سياسة إسرائيلية. فالذي يحكم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط وفي الواقع العربي هم اليهود من خلال اللوبي اليهودي من جهة، ومن خلال الإدارات الأميركية المتعاقبة التي يسيطر اليهود على أكثر أفرادها. نحن لا نعتقد أنَّ هناك سياسة أميركية في المنطقة، وفي ضوء هذا، فقد عملت أميركا على محاصرة لبنان اقتصادياً، ومنعت كلّ من تملك أن تضغط عليه من مساعدة لبنان، سواء على مستوى الهبات أو القروض؛ ولولا أنَّ الاتحاد الأوروبي يعمل على أساس أن تكون له مواقع مستقلة، أو يعمل على حماية نفسه من الضغوط الأميركية التي تريد أن تطرده من الشرق الأوسط، لولا هذا لكان الاتحاد الأوروبي واقعاً تحت الضغط الأميركي في عدم مساعدة لبنان. كما أنّ أميركا تعمل بكلّ ما عندها من طاقة في سبيل تأليب العالَم ضدّ المجاهدين في الجنوب اللبناني، ولاسيّما المقاومة الإسلامية التي يمثّلها "حز//ب الله" أو المقاومة الفلسطينية في فصائلها التي لا تزال تقاتل "إسرائيل" عبر الجنوب. إنَّ الأميركيين يحاولون الضغط بكلّ ما عندهم من وسائل ضدّ هذه المقاومة، لأنَّهم لا يريدون أيّة قوّة عربية أن تقف في مواجهة "إسرائيل"، وأن تُنزل بها الخسائر، وأن تُربك خططها في الضغط على هذا البلد العربي أو ذاك باحتلال جزء من أراضيه، لتستعمل ذلك ورقة في المفاوضات أو لتحصل على مكاسب جديدة من خلال هذا البلد أو ذاك. ولهذا، فإنَّنا نتصوَّر أنّ أميركا في سياستها بالنسبة إلى مسألة المقاومة في الجنوب هي سياسة إسرائيليّة.
أمّا مسألة التصنيف بأنَّنا إرهابيون أو بأنَّنا نحرّك الإرهاب أو ما شابه ذلك، فإنَّنا نعتبر أنّه وسام شرف، لأنّه عندما يَسِمُكَ الآخرون بهذه الوسمة، ونحن نعرف أنّ مفهوم الإرهاب عند الأميركيين يتمثّل في حركة الحريّة وحركة رفض الاحتلال، ونحن نعتبر أنّ كلمة الإرهابي في القاموس الأميركي هي كلمة تشرّف أصحابها بدلاً من أن تسيء إلى صدقيّتهم.
نحن لسنا إرهابيّين. نحن نحترم الناس جميعاً، من أميركيين وأوروبيين ويابانيين والعالَم كلّه، لأنَّنا نحبّ للنّاس السلام، لكنَّنا نحترم أنفسنا ونحترم أرضنا ونحترم أمّتنا ولا نقبل لأحد أن يفرض عليها ما لا يريدون، ولا نقبل أن يصادر أحد اقتصادها أو حريّاتها أو استقلالها..
ـــ ما أنشطتكم الاجتماعية والخيريّة في لبنان؟
إنّني عملت، بلحاظ الواقع اللبناني، عدّة أنشطة اجتماعية؛ فقد أسّست عدّة مبرّات للأيتام في لبنان: في البقاع، الهرمل، الجنوب وبيروت، وتضمّ ما يقارب الألفي يتيم. كما أنَّنا قمنا بإنشاء معهد للمكفوفين ومعهد للصمّ. وهكذا أنشأنا عدّة مدارس نموذجيّة في المناطق المحرومة، سواء في الجنوب أو الهرمل أو رياق في البقاع الأوسط، وفي الضاحية وفي أكثر من منطقة في بيروت، وغيرها.. وأنشأنا مراكز ثقافية. ونحن الآن في صدد إنشاء مستشفى كبير في الضاحية ومركز إسلامي ثقافي. كما أنَّ لدينا مكتباً للخدمات الاجتماعية يلاحق قضايا العائلات المحرومة في كلّ لبنان، ليقدّم لها مساعدات نقدية أو عينيّة أو خدماتية في هذا المجال. وتبلغ ميزانية هذا المكتب سنوياً ما يقارب الثمانية أو العشرة مليارات ليرة لبنانية. كما نقوم بإيجاد مؤسّسات فقهية ومؤسّسات شرعية من أجل تدريس الفقه في مستوى الدراسات العالي.. نحن نشعر بأنّ طاقة الإنسان ليست ملكاً له وإنَّما هي ملك الناس، لذلك نبذل طاقاتنا للنّاس الذين يحتاجون إليها، وننمّي طاقاتنا. وأحبّأن أؤكّد أنّ مشاريعي بأجمعها ليس لأيّة دولة، سواء كانت إيران أو غيرها، أيّ دور فيها، وإنّما هي من تبرّعات المحسنين ومن الحقوق الشرعيّة من الخُمس والزكاة التي تأتي من المؤمنين عموماً.
ـــ هل يمكن أنْ نتوسَّع قليلاً في مصادر تمويل هذه المشاريع والمؤسّسات؟
هناك واقع موجود في السّاحة الإسلامية الشيعيّة، وهو واقع ارتباط الناس بعلماء الدّين الفاعلين الذين يملكون موقعاً مرجعياً في الأُمّة. فالناس يقدّمون إليهم خُمس أموالهم المفروضة عليهم ولذلك، فإنَّ هذه الأخماس، بالإضافة إلى التبرّعات التي تُقدّم، بالإضافة إلى النذورات والصدقات، تمثّل رصيداً دائماً متحرّكاً يغني علماء الدّين ـــ بحسب مواقعهم المتقدّمة ـــ عن احتياجهم إلى السلطة. كما أنّه يموّل هذه المشاريع دوماً. ولذلك، فإنَّني أعتبر أنّني أقود مشاريع كلّفت ملايين من الدولارات ولم أحتج إلى أيّة دولة من الدول العربية، أو حتّى إلى دولة إيران بالذّات. الدولة الإيرانية لم تشارك في جميع مشاريعي. هناك أشخاص محسنون من الكويت ومن غير الكويت، كويتيّون مؤمنون يثقون بي وبأعمالي ويقومون ببذل أموال طائلة في إنشاء هذه المشاريع، ونحن نصدر كلّ سنة بياناً بهذه المشاريع وبأسماء هؤلاء الأشخاص. كما أنّ هناك إمداداً دائماً للحقوق الشرعية التي تأتينا من سائر بلاد العالَم الإسلامي لتمويل هذه المشاريع وغيرها.
ـــ كيف ترون علاقات الشيعة في لبنان بإيران تاريخيّاً؟
إنّ الواقع الشيعي التاريخي كان واقعاً منفتحاً ومتفاعلاً مع الشعب الإيراني، لأنَّ كثيراً من علماء الشيعة الكبار، ويُذكر في مقدّمهم الشيخ البهائي وعلماء آخرون، ذهبوا إلى إيران، وأصبح لهم مراكز كبرى في إيران. ولذلك، فإنّ الهجرة اللبنانية العلمائية إلى إيران كانت هجرة قديمة نتيجة هذا الاتّفاق في المذهب، وهذا التعاطف الذي يقدّمه الشيعة في إيران تجاه العلماء الشيعة في لبنان، الذين كانوا مميّزين في العصور السابقة. كما أنَّ هناك مقامات دينيّة تتمثّل في مزارات بعض أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين يحترمهم الشيعة ويعتقدون بإمامتهم في إيران، وفي مشهد بالذّات. ولذلك، كانت العلاقات اللبنانية الشيعيّة الإسلامية بإيران تنطلق من هذه الحاجة إلى زيارة هذه المشاهد. ثمّ تطوّرت العلاقات بعد محاصرة النجف من قِبَل النظام العراقي، وأصبح طلّاب العلوم الدينية يهاجرون إلى مدينة قُم للتخصُّص الفقهي فيها، وبذلك اشتدّت العلاقات في هذا المجال. كما أنَّ ولادة الجمهورية الإسلامية والأجواء التي صنعها الإمام الخميني (قدّس سرّه) بالإضافة إلى الأجواء السياسية التي تفاعلت معها سياسة الجمهورية الإسلامية التي أوجدت حالة تشبه الارتباط العضوي في المعنى السياسي أو الجهادي. كلّ ذلك أثّر تأثيراً إيجابياً في علاقة الشيعة بإيران.
ـــ ما طبيعة علاقتكم شخصياً بإيران؟
إنَّني أعتبر أنّ إيران تمثّل قاعدة للحركة الإسلامية الفاعلة التي ألتزم بها. ومن هنا، فإنَّ هناك علاقات عميقة جداً بيني وبين قادة الجمهورية الإسلامية، ولاسيّما آية الله السيّد علي الخامنئي (حفظه الله) الذي ترقى علاقتي به إلى ما يقارب الثلاثين سنة. وهناك علاقات عميقة وعلاقات احترام متبادل في ما بيني وبين القيادات الإيرانية والعلماء الإيرانيين والشعب الإيراني، لكن ليس معنى ذلك أنّني أفقد استقلالي الفكري أمام إيران.
إسرائيل ستبقى وجوداً غير شرعي
والقضية الفلسطينية لم تسقط من ساحة الشعوب
ـــ إلى أين ستؤدّي التسوية الجارية بحسب رأيكم؟ هل ستؤدّي إلى تسوية شاملة للقضية الفلسطينية والصراع في المنطقة؟ إلى حلّ مرحلي مفتوح على أيّ أُفق؟ إلى هدنة؟
إنَّني أتصوّر أنّ الوضعين الدولي والعربي يتّجهان إلى تحجيم القضية الفلسطينية، ومحاصرتها، ومحاولة الإجهاز على جميع مواقع القوّة داخلها، ولاسيّما مواقع الرفض، سواء كان رفضاً إسلامياً أو قومياً أو وطنياً. لكنَّني أتصوّر أنّ القوى الساعية في هذا الاتجاه لن تنجح من ناحية عملية واقعية، وإنْ كان يمكن أن تنجح من ناحية رسمية، لأنَّ "إسرائيل" التي أصبحت تتحسَّس ضخامة دورها وموقعها وقوّتها ستعيد العلاقات العربية ـــ اليهودية إلى نقطة الصفر بما تقوم به من خطط متعسّفة عدوانية ضارّة لكلّ الواقع العربي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي والأمني.. وهو ما يعيد المسألة في المستقبل إلى نصابها الطبيعي.
إنَّ المسألة التي يجب أن نحدّق فيها، هي أنّ المسألة الفلسطينية سقطت في دائرة الأنظمة ولم تسقط في دائرة وساحة الشعوب العربية والإسلامية. لهذا، فإنَّني أتصوّر أنّه حتّى لو تمّت التسوية، فقد يأتي وقت جديد لا بدَّ لنا فيه من أن ندرس، ولا بدَّ لنا من أنْ نملأه بالعمل الجادّ، ولا بدّ لنا أن نبقي مواقع الرفض حيّة في عملية التعبئة الذهنية والروحية بالحقّ الفلسطيني العربي الإسلامي. إنَّني أتصوّر أنّ تجربة اليهود في فلسطين يمكن أن تكون تجربة الفلسطينيّين العرب المسلمين في فلسطين من جديد. لذلك أنا أدعو أن تبقى لنا مواقع النصّ المتطرّف بحسب حسابات الواقع، لأنَّك عندما تكون معتدلاً في البداية، فإنّك ستتحوَّل إلى عنصر مائع بفعل المتغيّرات والمواقف، لكن عندما تكون متشدّداً في البداية، فإنَّ الضغوط لن تأخذ لحمك وعظمك، لكنّها تأخذ بعض شحمك. مشكلة الذين يتحدّثون عن واقعية سياسية وعن اعتدال سياسي أنّهم يريدون للأُمّة أن تخسر من لحمها وعظمها فلا يبقى هناك شيء.
ـــ لكن، في حال قيام صلح مقبول لدمشق وبيروت والقيادات الفلسطينية، وانسحاب "إسرائيل" من الجولان والجنوب اللبناني، فماذا يكون مواقفكم من "إسرائيل" والقضية الفلسطينيّة؟
إنَّنا سنظل نقول إنَّ "إسرائيل" وجود غير شرعي، لأنَّ "إسرائيل" دولة غاصبة لكلّ إنسان فلسطيني طردته من بيته وأقامت مقامه يهودياً. إنَّنا لا نعتقد أنّ السلطة الفلسطينية تملك حقّ توقيع أيّ صلح يعطي اليهود الحقّ في مصادرة أرض الفلسطينيين وبيوتهم، بمن فيهم فلسطينيو الـــ 48. نحن نعتقد أنّ الغصب حرام كما هو الخمر حرام. ولن يأتي وقت يكون فيه الغصب حلالاً. إنَّ مسألة اليهود هي أنّهم غصبوا الأرض وغصبوا السلطة، ونحن لن نعترف بشرعيّتهم إلاّ إذا أرجعوا الأرض وأرجعوا السلطة واتّفق جميع الفلسطينيين، من يهود ومسيحيين ومسلمين، على النظام الذي يريدونه، عند ذلك يكون لكلّ حادث حديث.
ـــ ما رأيكم في دولة فلسطينية تقوم ضمن حدود 67، وتكون عاصمتها القدس الشرعية؟
أن تكون هذه الدولة اعترافاً بإسرائيل أمر مرفوض، أمّا أن يحصل الفلسطينيون على أيّة قطعة من الأرض، بقطع النظر عن لوازمها من الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على باقي فلسطين، فهذا لا نرفضه. إنَّنا نتبنّى الجانب الإيجابي في المسألة ونرفض الجانب السلبي فيها.
ـــ ما وضع الفلسطينيّين في لبنان اليوم كما ترونه؟
من الطبيعي أنّ الوضع الفلسطيني هو وضع مأساوي، ونحن نعمل بما عندنا من جهد في سبيل تخفيف هذه المأساة.
ـــ ما مستقبل الفلسطينيّين في لبنان في حال استحالة عودتهم جميعاً إلى الدولة الفلسطينية؟
إنَّ المسألة خاضعة، بحسب الخطّة الدولية، للمشاريع الدولية في هذا المجال، فهناك مشاريع دولية تعمل على توزيع الفلسطينيين في العالَم في مجاهل استراليا والبرازيل وكندا... وهناك مشاريع تحاول أن توزّعهم على بعض البلاد العربية، كالعراق وأمثاله. هناك فكرة التوطين في لبنان التي هي في دائرة الخطّة الاستكبارية الأميركية والصهيونية، وتحاول الجهات الدولية النافذة أن تضغط من أجل تأكيده في الواقع اللبناني وفي الواقع العربي بصورة عامّة.
الفصل الثاني:
سماحة آية الله العظمى السيّد محمّد حسين فضل الله يحاور حول:
الايديولوجيّة ـــ الوطن ـــ القومية ـــ الوطنيّة ـــ الإسلام ـــ الأصولية ـــ السلطة ـــ التعدُّديّة ـــ الاستضعاف ـــ الاستكبار ـــ الحريّة ـــ المصير
حول مفهوم الوطن والدولة..
والتعدُّديّة والديمقراطيّة والتحالف(*)
ـــ قبل أن نذهب لنلتقيه، ببيته الكائن بمحلّة حارة حريك في ضاحية بيروت الجنوبية، قالوا لنا: لا تحملوا معكم غير الكاميرا والمسجّلة، فالحساسيّة الأمنية ـــ هناك مرتفعة.
وساعة وصلنا، لم يفتّشنا أحد ولم تنبش جيوبنا، على العكس، كان الاستقبال بسيطاً ولائقاً، والأخ هاني عبد الله السكرتير الإعلامي لـــ "السيّد" يبتسم بودّ، إنّما برصانة.
قلنا للشيخ فضل الله: نريد أن نحاورك في الفكر، لا في السياسة، فردّ بأنّه يجد نفسه في هذا، لا لأنَّ السياسة لا تستحقّ الاهتمام، لكنّها استهلكت. وبدأنا، الجلسة حرّة، والأسئلة تتوالَد من... الأسئلة.
ـــ ثمّة أكثر من غامض ـــ مشترك في الأفكار التي يطرحها كلّ أو معظم التيّارات والحركات الإسلامية، القائمة اليوم في العالمين العربي والإسلامي؟
مفهوم الوطن
عندما نريد أن نطلّ على هذه الكلمة وأمثالها من الكلمات، فإنَّنا لا بدَّ أن نستحضر الوطن في معناه الإنساني. فالوطن هو المكان أو البلد أو المنطقة، التي تستطيع من خلالها توفير الشروط الإنسانية الضرورية، التي تعمّق لكَ وجودك الإنساني وتجربتك، بما تستطيع من خلالها أن تغني التجربة الإنسانية في الحاضر والمستقبل.
الوطن ليس مسكناً وإنّما هو كيان قائم بذاته، يشمل الأرض التي تقيم عليها والتي تعطيك من إنتاجها، والنّاس الذين تعيش معهم والآفاق التي تطلّ عليها من خلال هذه الأرض وهؤلاء الناس.
عندما نريد أن نقترب قليلاً من الواقع فإنَّنا نتمثَّل الوطن في النطاق الذي تعارف عليه الناس من وضع الحدود بينهم، أنّه يتّسع حسب اتّساع الفكرة التي تربطك بالنّاس وتشدّك مقارنة بالظروف الموضوعية، التي تمكّنك من الامتداد في حركة الفكرة في الواقع وواقع النّاس في ظروفهم الطبيعية أن تجعل لنفسك حدوداً معيّنة.
هنا يأخذ مفهوم "الوطن" مدلولاً سياسياً محدّداً، ليعني منطقة واحدة محدَّدة جغرافياً، تجمع أُناساً موحدي أو متقاربي الظروف الاقتصادية والأمنية وموحدي أو متعدّدي الثقافات والقناعات السياسية، فقد يتّفق النّاس ـــ أو يفرض عليهم ـــ أن يعيشوا في دائرة قديمة لها بعض الخصائص الجغرافية ولها بعض الحدود التاريخيّة، حيث يفكّر بعضهم بوطن إسلامي يتّسع للمسلمين جميعاً، والبعض الآخر بوطن مسيحيّ يتّسع للمسيحيين جميعاً. لكنَّ المسألة التي تفرض نفسها على الذين يفكّرون بهذه الطريقة أو بالطريقة القومية هي البحث عن الظروف الواقعية التي تمكّنهم ـــ مثلاً ـــ من احتواء العرب أو احتواء الأكراد أو الفرس أو الأتراك أو المسلمين أو المسيحيين أو اليهود في وطن واحد بالمعنى الدستوري لكلمة الوطن. فقد تفرض الظروف السياسية الإيجابية أو السلبية على أيّ فريق من هؤلاء أن يعيش في دائرة أصغر من الدائرة التي يتحرَّك فيها فكره أو التي تنطلق منها انتماءاته. في هذه الحالة عندما يعيش الإنسان في وطن له حدوده من الناحية الدستورية، لا بدَّ له من أن لا يغلق شخصيّته لتكون محدودة بهذه الحدود الجغرافية ـــ الدستورية بل لا بدَّ له، إذا كان يفكّر قومياً، من أن يفكِّر بأنّه يعيش في دائرة صغيرة ضمن الدائرة الكبيرة، بحيث لا يعتبر نفسه لبنانياً، إذا كنّا نتحدّث عن القومية العربية. ولا يعتبر نفسه سورياً أو مصرياً بل يعتبر نفسه يعيش في لبنان أو سورية باعتبارهما جزءين من الوطن العربي.
وهكذا عندما يريد أن يفكِّر إسلامياً، عليه عندما تكون البلاد الإسلامية مقسّمة إلى عدّة دول أو تفرض الظروف ذلك، أن لا يجعل الواقع الدستوري أساساً لخلق شخصية بديلة عن الشخصية الإسلامية، في علاقته بالأرض وبالنّاس وبالواقع السياسي الذي يشمل المنطقة كلّها، بل لا بدّ من أن يعيش دائماً في عملية إيحائية: أنا مسلم أعيش في بعض الوطن الإسلامي ولكنّي أتواصل بشخصيّتي مع كلّ المسلمين.
من خلال ذلك يمكن للذين يفكِّرون إسلامياً ـــ وأنتَ تسأل عن تطلُّعاتي الإسلامية في هذا المفهوم ـــ يمكن للذين يفكِّرون إسلامياً أن يتعايشوا مع الواقع الدستوري الذي جعل المسلمين ينقسمون في أوطانهم ليفكّروا بأنَّهم يعيشون. وبديهي أنّه إذا ما أُتيح للحركة الإسلامية أن تنطلق في ساحة مفتوحة على الحريّة، فإنَّها ستتكامل مع المعادلة وتحاول ـــ بهدوء ـــ الوصول إلى أهدافها. أمّا عندما تتحوَّل الحركة الإسلامية إلى دولة فإنَّ من الطبيعي أن تكون الدولة هي المؤسّسة الكبيرة وهي الحالة الدستورية التي تحمي التحرُّك وتقوده.
هذا في جانب، وفي جانبٍ آخر، ربّما نجد في تاريخنا بعض العناوين التي تجعل مسألة الوطن بالنسبة للإنسان مسألة لا تحكمها الحالة الذاتية، التي تقيّد الإنسان بأرض معيّنة. هناك في نهج البلاغة قول للإمام عليّ (عليه السلام) يرى الوطن تجربة للارتقاء بإنسانية الإنسان في ما يتعلَّق بحاجاته، إنَّه يقول: "ليس بلد أولى بك من بلد. خير البلاد ما حملك". المسألة ليست في أن تتعبَّد للأرض، أن تكون جزءاً منها، أن تكون الأرض جزءاً من وعيك ومن شعورك، أن تكون الأرض شيئاً يحكم علاقتك. الأرض مكان تسكن فيه وتتحرَّك، الإنسان هو الأساس؛ فإذا استطاعت الأرض أن تتأنسن بحيث تعطي للإنسان، فإنّها عند ذلك تصبح وطناً، تصبح بلداً، تصبح حالة في حياته وفي شخصيته؛ أمّا أن تحوِّل الأرض إلى صنم تتعبَّد له، بحيث ترتبط به حتّى على حساب إنسانيّتك، حتّى على حساب مبادئك، حتّى على حساب رسالتك؛ فإنَّ هذا معنى يقترب من الوثنية ولا يتحرَّك في المنطلقات الإنسانية.
إنَّنا نريد أن نقول: إنَّ هناك وطناً إسلامياً يشمل كلّ مكان يسكنه المسلمون ولا بدَّ للإنسان، الذي يلتزم الإسلام، أن ينفتح على كلّ المسلمين حيثما تواجدوا، دون اعتبار واقع الجغرافيا وواقع القومية ودون اعتبار أيّ كابح أو مانع من هذا القبيل، انطلاقاً من الكلمة المأثورة عن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول: "مَن لم يهتمَّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"(1)، و"مَن يسمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"(2). ولكنَّنا في الوقت نفسه لا نسقط أمام التقسيمات الدستورية، بل نحاول أن نجعل الحدود متحرّكة على مستوى الفكر والمشاعر والعلاقات لا أن تكون جامدة، بحيث تخلق هناك عواطف متباينة بين بلدين إسلاميين.
ـــ الحالة الإسلامية إذاً، تقبل بأنْ تكون جزءاً من تعدُّديّة سياسية؟
الحالة الإسلامية ليست بدعاً من الحالات، كلّ حالة فكرية ذات محتوى سياسي وحاملة مشروعاً سياسياً، تعمل على أن تكون هي السلطة، يكون ذلك بطريقة حضارية هادئة أو بطريقة بدائية عنيفة تصل حدّ الإرهاب، قد يكون ذلك بطريقة ثورية أو سلمية.
ـــ من يحدِّد هذا...؟؟
طبيعة الحركة ـــ الحالة ـــ وطبيعة الظروف المحيطة بها. والمسألة نسبية على أيّ حال، فالثورة قد تعتبر حركة إرهابية بالنسبة للذين تتحرَّك ضدّهم ولكنّها تعتبر حركة ثورية عادلة بالنسبة للذين تتحرَّك من أجلهم، كما أنَّ وصف أسلوب التحرُّك بالحضاري أو بالبدائي يخضع لمقاييس متباينة، ومتناقضة أحياناً.
من الطبيعي أنّ أيّة حالة فكرية أو سياسية تعمل لكي يكون عنوانها هو العنوان الكبير الذي يحكم الساحة، وقد تسمح هذه الحالة بوجود حالات أخرى إلى جانبها ولكن في دائرة نظامها وعلى قاعدة حمايتها، وعدم تعريضها للتهديد.
أمّا عندما يكون الأمر متعلّقاً بساحة لا يملك طرف معيّن كلّ مواقعها فمن الطبيعي للحالة الإسلامية أن ترى في التعدُّدية حماية لها؛ لأنَّ أيّ نظام ضاغط متفرّد يحجب الحريّة عن كلّ من يعارضه، سيكون مشكلة للحالة الإسلامية ولغيرها، لذا فالحالة الإسلامية في بعض الظروف قد تأخذ موقف الدفاع عن حريّة الماركسيين في العمل السياسي، لأنَّ ذلك يحمي حريّتها في العمل السياسي، في ظلّ نظام يريد أن يحرم الجميع من العمل السياسي؛ وعند ذلك تتحرَّك الحالة الإسلامية مع التيّارات الماركسية والقومية والوطنية بطريقة الصراع السياسي، لتكون الساحة في النهاية للأجدر والأقدر على خدمة الأُمّة.
لسنا معقّدين إزاء فكرة التعدُّدية، لكنَّنا نتعاطى معها من خلال مصلحة ما نفكِّر فيه في حركة الواقع ونحن نعتقد أنّ ما نفكِّر فيه هو مصلحة الإنسان، كما يعتقد الآخرون ذلك.
ـــ هذا يضع الحالة الإسلامية، أيّة حالة إسلامية، في مرحليّة لا بدَّ لها فيها من تحالفات، فما مقياس هذه التحالفات، وما أساسها ومداها؟
التحالفات مسألة متحرِّكة
إنَّ مسألة التحالفات بين الحركة الإسلامية وبين الحركات الأخرى هي مسألة متحرّكة في دائرة الظروف السياسية للأُمّة، لأنَّ مسألة التحالفات تحكمها القضايا المصيريّة المشتركة الأكثر أهمية على المستوى التكتيكي وعلى المستوى الاستراتيجي. مثلاً، نحن الآن، نشعر بأنَّ علينا أنْ نعمل للدخول في حلف مع كلّ القوى التي تواجه "إسرائيل"، فنحن مستعدون أنْ نتحالف مع القوميّين العرب ومع الشيوعيين ومع الفلسطينيين الوطنيين ومع كلّ حركات التحرُّر في العالم، التي تعتبر أنّ "إسرائيل" تمثّل خطراً على العرب وعلى المسلمين وعلى كلّ المستضعفين في الأرض، لأنَّ طبيعة المسألة الفلسطينية بلغت من التعقيد حدّاً لا تستطيع معه أن تعالجها حركة واحدة أو دولة واحدة، خاصّة عندما نفكّر في الاستكبار العالمي، ولاسيّما الولايات المتحدة الأميركية التي تعمل على أن تكون سيّدة العالم سياسياً واقتصادياً وأمنياً وتلقي ثقلها على كلّ مصالح الشعوب من موقع القهر.
تجاه هذا الواقع، نشعر كمسلمين بالحاجة إلى أنْ نتحالَف مع كلّ القوى والحركات القائمة في خريطة المستضعفين، التي تعمل على التحرُّر من سيطرة الولايات المتحدة وإيجاد قوّة في ذات الخريطة قادرة على مقارعة الطاغوت الأميركي والوقوف في وجهه ولو بدرجة معيّنة، لتعطيل حركته ومشاريعه الهادفة إلى إسقاط قوّة المستضعفين في الأرض.
إنَّنا نشعر بأنَّ علينا أنْ نتحالف مع كلّ حركات التحرُّر، حتّى من بينها تلك التي نتناقض معها أيديولوجياً وفكرياً، لأنَّ هناك موقع لقاء مهمّ بيننا في الواقع السياسي القائم، ونحن كإسلاميين نستوحي من القرآن الكريم أنَّ الله سبحانه وتعالى يريدنا دائماً أن نركّز مع الآخرين على نقاط اللّقاء: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} [آل عمران : 64].
عندما نجرّد المسألة من الخصوصيّة، تكون الخصوصيّة هي أنَّ هناك قاعدة للّقاء مع الآخر في ما تمثّل هذه القاعدة من أهمية. إنَّ القرآن الكريم يقرّ حديث المسلمين مع اليهود فيقول: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} [المائدة : 82] ومع النصارى فيقول لهم: {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء} [آل عمران : 64] فالعنوان الكبير أنّه إذا كان بينك وبين الآخرين كلمة سواء تمثّل طموحاتك وطموحاتهم، أهدافك وأهدافهم فإنَّ ذلك يعني أنّك تستطيع أن تلتقي بهم. قد يكون اللّقاء في موقف، وقد يكون في رؤية أو في ميثاق وقد يأخذ شكل تحالف أو جبهة.
صيغة اللّقاء تحكمها الظروف السياسية، لكنَّنا منفتحون على التكامل أو اللّقاء أو التحالف مع الآخرين، كلّ الآخرين، بقدر ما تلتقي عناويننا الكبيرة مع عناوينهم الكبيرة.
الإعلام والعالَم الثالث
ـــ لماذا إذاً لا يبدي الآخرون حماسة للتلاقي معكم؟
لأنَّ الذهنية الشرقية على الأقلّ، أو ذهنية العالَم الثالث، هي ذهنية يصنعها الإعلام الاستكباري وهي لا تثق بنفسها؛ وإعلامنا هو امتداد لإعلامهم. ومن الطبيعي، في حالة غياب الوعي بالذّات لدى دائرة إنسانية معيّنة، أن يرى الضعفاء في الأقوياء الأساس لكلّ ثقافتهم ولكلّ تصوّراتهم السياسية.
لقد عملت الولايات المتحدة، من خلال تحريك عنوان الإرهاب والتطرُّف، ومن خلال تخويف الأنظمة التي تتولّى حراسة الامتيازات الاستكبارية، وما تزال تعمل على تسخير الإعلام لمبادئها ومخطَّطاتها بما تملك من أموال.
من خلال كلّ هذا، عملت الولايات المتحدة وتعمل على أن تفرض على العالَم الثالث اختزان ذهنية التابع والتحرُّك بتوجيهها من غير أن يرى واقعه، الذي تسحقه أميركا بكلّ ثقلها وبكلّ جبروتها.
إنَّ بعض وظيفة الإعلام الاستكباري هو تصدير إيحاءات إلى شعوب العالَم الثالث، تدفعها نحو الاسترخاء الكاذب، الذي يغريها بالأمن وبالسلامة؛ بحيث يضع الذين يتحرّكون بالثورة ضدّ الاستكبار الداخلي والخارجي في موقع التطرّف والإرهاب، وأنَّ الذين يقومون بالثورة يسيؤون إلى أمن الناس وأنّهم لا يفكِّرون بطريقة واقعية معتدلة.
إنَّنا نلاحظ، حتّى في الحركات القومية التي قامت على أساس التحرُّر من "إسرائيل" أوّلاً ومن الاستعمار ثانياً ولاسيّما في نموذج القومية العربية، إنَّنا نلاحظ ونرى كلّ هؤلاء يصفون الذين يطرحون إعادة فلسطين كلّها ـــ ولو في المستقبل ـــ ويفكّرون بمواجهة "إسرائيل"، بأنَّهم غير واقعيّين ومتطرّفون؛ مثلما يتحدّثون عن المجاهدين الإسلاميين، الذين يقومون بعمليات مقاومة ضدّ "إسرائيل"، أو ضدّ الاستكبار، فيقولون: إنَّ هذا يشوّه صورتنا أمام العالَم ويجعل من شخصيّتنا شخصية إرهابية.
في كلّ ما يتعلّق بالاستكبار العالمي وبالصهيونيّة فإنّك تجد التحفُّظات الفكرية السياسية والأمنية تملأ ساحاتنا، أمّا عندما يكون الأمر متعلِّقاً بأميركا أو "إسرائيل"، فهم يتحدّثون عن الظروف الإقليمية والدوليّة وما إلى ذلك. إنَّ هناك نوعاً من الإحباط ومن السقوط النفسي والروحي والإعلامي، لدى شعوب وأنظمة العالَم الثالث، يؤدّي إلى خلق شعور بالدونية إزاء قوى الاستكبار العالمي ويريد من هذه القوى أن ترضى عنه، إذ منها يأخذ حضاريّته ومعنى عصريّته وتقدّميّته؛ لأنَّ الإعلام الاستكباري أوحى إليه بأنّه متخلِّف في تراثه وفي حضارته وفي تاريخه.
لهذا نلاحظ أنّه عندما تقمع "إسرائيل" الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزّة وتودعهم في سجونها بلا محاكمة، وتمنع عنهم أبسط مقوّمات الحياة الإنسانية وتقتلهم وتغتالهم، وعندما ينطلق المستوطنون اليهود لقتل الفلسطيني بدمٍ بارد، فإنَّ ذلك في منهج الإعلام الاستكباري ولغته ليس إرهاباً، بل مجرّد تفصيل من تفصيلات "العنف اليومي المتبادل"؛ أمّا عندما يقتل إسرائيلي بيد فلسطيني أو عندما ينفّذ الفلسطينيون ـــ من الخارج ـــ عملية فدائية على شاطئ تل أبيب، وكانوا يستطيعون بشهادة مَنْ عايَن العملية، قتل عدد كبير من المدنيّين الإسرائيليين ولم يفعلوا، فإنَّ هذا ـــ عند الإعلام الاستكباري ـــ يصبح عملاً إرهابياً، تتحمّل مسؤوليته منظمة التحرير الفلسطينية ويُطلَب منها أن تدينه وتعاقب مَن قام به.
إنَّني أتحدّث هنا عن عالَم ثالث يختزن في داخله عقلية العبد أمام السيّد ويريد أن يعيش قِيَم عبوديّته، التي يفرضها عليه سيّده؛ لكن إذا استطاع هذا العبد أن يتحرَّر فإنَّه سيجد أنّ كلّ قِيَم السادة هي القِيَم التي يجب أن يواجهها ويسحقها بكلّ عنف ليعيد إلى نفسه السيادة كإنسان.
الخطاب الإسلامي أقلّ خللاً من غيره
ـــ سماحة السيّد، هناك مَنْ يعتقد أنَّ الحالة الإسلامية لم توفَّق في طرح أفكارها، لم توفّق خصوصاً في طمأنة الآخرين.
ومن السذاجة، في ما نرى، أنْ نردّ الخلل الحاصل في علاقات الحالة الإسلامية مع القوى السياسية الأخرى في ساحة ما إلى "مؤامرات" الاستكبار العالمي أو إلى ـــ تأثير الإعلام الغربي على الذهنية الشرقية.
ألاَ تعتقدون بوجود خلل في الخطاب السياسي الإسلامي؟
لا نظنّ أنَّ الخلل هنا يخصّ الحالة الإسلامية وحدها، إنَّ أوّل حركة سياسية ثورية انطلقت بشكلٍ منهجي علمي في عالَم اليوم، هي الحركة الماركسية، كيف كانت طروحات الحركة الماركسية، هل كانت تتحدّث عن طمأنة القوى الأخرى؟ كيف كان موقفها من القوميّة والوطنية؟
ـــ لقد كان موقفاً عنيفاً يوزّع الاتّهامات ويخاصم بطريقة لا تسمح حتّى بإعادة نظر أو تصويب أو حوار، ولهذا كان هناك مَن يُسمَّون بالتحريفيين. وبالنسبة للتجربة القومية العربية، ألَمْ يكن هناك مَنْ يتحدَّث عن "العرب فوق الجميع"، كما أنَّ هناك في الغرب حديث عن ألمانيا فوق الجميع؟!
كيف كان الخطاب السياسي للقوميّين في مواجهة الإسلاميين، وفي مواجهة غيرهم؟
لقد كان هناك خلل كبير جداً، بحيث يضع الحواجز بينهم وبين الآخرين. ربّما كانت بعض المراحل السياسية تدفع الجميع إلى أنْ يلتقوا في ساحة واحدة، لكنّ التناقضات كانت دائماً تربك هذه الساحة.
إنَّني أزعم أنَّ الإسلاميين هم أقلّ الناس خللاً في خطابهم السياسي. أنا لا أنكر أنّ بين الإسلاميّين أُناساً لا يملكون الوعي السياسي؛ ولكن عندما نستعرض الخطاب السياسي للإسلاميين، فإنَّنا لا نرى فيه ما يخيف الآخرين. ولو كان فيه ما يخيف الآخرين، فما هو الحلّ؟ كيف نتصرَّف؟ هل نصدر حكماً على هؤلاء ونبدأ حرباً ضدّهم أم ندعو إلى حوار مفتوح يطرح فيه الإسلاميون أفكارهم، في ما هي العناوين الكبيرة والأسلوب والمنهج والعلاقات والتحالفات والمفردات التفصيليّة في المجال التشريعي هنا وهناك وفي طبيعة المرحلة؟!
إنَّني أجد وأنا أتطلَّع إلى الحملة التي تشنّ على جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر، أنّ الكثيرين داخل الجزائر وفي العالَم العربي، يتحرّكون مع خطّ الإعلام الفرنسي في معاداته السافرة للجبهة. لو راقبنا حملات القوى السياسية القائمة فيالجزائر على جبهة الإنقاذ، لرأينا أنّها لا تنطلق من فكرة الحوار معها، بل من موقع تسجيل النقاط.
إنَّني لا أدّعي أنَّ الإسلاميين يملكون خطاباً سياسياً فاعلاً، مفتوحاً، خالياً من التعقيدات ولكنَّ الإسلاميين لا يتفرَّدون بهذا عن غيرهم. إنَّ القمع الذي واجهته الشعوب من غير الإسلاميين لم تواجهه من الإسلاميين الذين لم يدخلوا بعد التجربة كحاكمين أو كسلطة.
في الجزائر، الكلّ أعلن أنّه مع الديمقراطية، لكن عندما أفرزت هذه الديمقراطية فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية، تراجع الكثيرون وأخذوا يروّجون تفسيرات عجائبية للذي حصل هناك، فردّوا الديمقراطية مرّة إلى تخلُّف الشعوب ومرّة إلى أنّ الناس اقترعوا على قاعدة "لا حبّاً بهذا الطرف وإنَّما نكاية بذاك". الديمقراطية هي هذه: الإسلاميون قد يكونون مقصّرين في إيضاح خطابهم السياسي وقد يختزنون أفكاراً تمنع الحريّة المطلقة، لكنّهم أقلّ الجميع في ما يتعلَّق بتخويف النّاس. غير الإسلاميين يملكون السلطة والإعلام ومعهم الواقع السياسي الاستكباري الذي يدعمهم، فيما لا يملك الإسلاميون غير بعض شعبهم وبعض إيمانهم والتوكُّل على ربّهم.
ـــ إنَّ الخلل في الخطاب السياسي الإسلامي ليس ظاهراً في أيّة حالة مثلما هو ظاهر في حالة جبهة الإنقاذ في الجزائر.
ففيما يقبل الشيخ عبّاس مدني زعيم الجبهة فكرتي التعدُّديّة والديمقراطية يرفض الشيخ علي بلحاج ـــ الرجل الثاني في الجبهة كما يوصف ـــ هاتين الفكرتين بقوّة. على أنَّهما غير موجودتين في ـــ الشريعة ـــ ويطرح بدلاً منهما فكرة ـــ الشورى ـــ ضمن إطار حالة إسلامية تمسك السلطة من كلّ أطرافها.
لا بدَّ أن نعرف أنَّ جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر ليست حزباً سياسياً وإنّما حركة شعبية، تملك التعدُّدية في داخلها في ما هو الفهم الإسلامي لقضية الحريّة ولغيرها من القضايا السياسية.
لنفرض أنَّ هناك تعدُّديّة داخل جبهة الإنقاذ، فلماذا تكون التعدُّدية هنا مشكلة ولا تكون مشكلة داخل حزب المحافظين البريطاني، أو حزب العمّال (البريطاني) أو داخل أحد الحزبين الجمهوري أو الديمقراطي الأميركيّين؟ بل لماذا تكون ـــ عند هؤلاء ـــ مظهراً حضارياً مقبولاً، وعند أولئك تخلُّفاً.
إنَّ وجود تيّارين داخل جبهة الإنقاذ في الجزائر، يختلفان في نظرتهما لمسألة الحريّة أو غيرها، هو دليل على أنَّ الإسلاميين يؤمنون بالتعدُّد حتّى في داخلهم، حتّى الذي يرفض التعدُّد يتعايش معه داخل التجربة الإسلامية. عندما يفكِّر الآخر بغير طريقتك، فلماذا تعمل على منعه؛ إذا كنت تؤمن بالتعدُّديّة فعليك أن تتعايش مع المختلف أو المعارض. وإنَّني أرى في ظاهرة تعدُّديّة الرؤية والآراء داخل الحركات الإسلامية، عامل طمأنة للآخرين لا عامل تخويف؛ فإذا كان الإسلاميون يعيشون التعدُّديّة داخل دائرتهم، فالحري أنّهم يقبلون بها خارج هذه الدائرة.
المسلمون اختزنوا التجربة
ـــ كيف تفسِّرون يا سيّدي، هذا الصعود السريع الحارّ، والخارج إلى حدٍّ ما على قواعد النمو المألوفة، للتيّار الإسلامي، للحركات الإسلامية، خلال السنوات العشر الأخيرة؟
لقد عاش المسلمون مع تجربة الدولة الإسلامية التي مثّلتها ـــ الخلافة العثمانيّة ـــ حالة من الإرباك والتعقيد، بعد أن مارست هذه الدولة محاولة تتريك شاملة للقوميّات الإسلامية الأخرى.
والمسلمون من غير الأتراك، حين قاوموا الخلافة العثمانية، كانوا يرفضون محاولة إلغاء قوميّاتهم، ولم يكونوا يرفضون الإسلام. وفي ما بعد، عملت قوى عالميّة كثيرة على إظهار أنَّ سقوط دولة الخلافة العثمانية، كان فشلاً للتجربة الإسلامية، وأُريد للمسلمين أن يدخلوا تجربة دولة مختلفة، أقيمت على أساس ماركسي أو قومي، أو قطري ـــ وطني ـــ كبدائل عن الإسلام. وعاش المسلمون التجربة الجديدة، التي لم تستطع أن تصمد ولاسيّما بعد أن استولى اليهود على فلسطين وبعد أن ازداد سقوط العالَم الإسلامي ـــ والعربي على الأخص ـــ تحت هيمنة القوى الاستكبارية الغربية ـــ الأميركية تحديداً ـــ، لذلك جاءت الصدمة عنيفة، بالمستوى الذي أيقظت فيه المسلمين من غفوتهم الطويلة واسترخائهم.
من هنا؛ كان دقيقاً وصف البعض لهذا التطوُّر بأنّه صحوة إسلامية. إنّها الصدمة التي أعادت الحياة للمسلمين أو أعادتهم إلى الحياة. وهي بطابعها الصاعق تفسّر التنامي والنموّ السّريعين. لأنَّ ثمّة مخزوناً من القهر والعذاب والحرمان والجوع والآلام والذلّ داخل الشخصية الإسلامية، انفجر فجأة، ليعيدها إلى إيمانها، ليفكّر المسلم بأنّه يستطيع أن يكون عزيزاً وحرّاً من خلال الإسلام، وأن يشبع وأن يستعيد التوازن المطلوب لصنع الحضارة، إنّه يدخل تجربة جديدة بعد عنف الصدمة، التي خلّفتها التجربة السابقة.
ـــ هل تستمرّ هذه الصحوة؟
إنّها، كأيّة صحوة تستطيع أن تستمرّ، بقدر ما يستمرّ القائمون عليها بالتغلُّب على كلّ ما يغري بالسوء. المسألة هي كيفية التعامل مع عناصر اليقظة حين تستيقظ، لأنَّ الحياة لا تخضع للغيب في حركة الإنسان، والله لم يؤسّس الحياة على أساس الغيب وإنْ كان للغيب موقعاً في العقيدة الإسلامية، لأنَّ الله أراد للحياة في تطوُّرها الكلّي أن تخضع للإنسان، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11].
الدولة الإسلاميّة العالميّة
ـــ كأنَّما تداخل في حديثنا مفهوم الوطن بمفهوم الدولة، أو لعلّي حين سألت عن ـــ الوطن ـــ كنتُ أقصد ضمناً ـــ الدولة ـــ
أسأل: أيُّهما الممكن: الوطن الإسلامي، أم الدولة الإسلامية؟
عندما نتحدّث عن دولة إسلامية في حجم الوجود الإسلامي في العالَم، فإنَّنا نستطيع أن نتحدَّث عن واقعيّتها، استناداً إلى التجربة التاريخية، بقطع النظر عن سلامة هذه التجربة في ما هي التفاصيل والجزئيّات والخصائص؛ لأنَّنا نتحدّث عن إمكان قيام أو انبعاث دول إسلامية، لا عن طبيعة هذه الدولة من حيث هي مثالية أو غير مثالية؛ لأنَّ هذا هو شأن كلّ الدول التي تتحرَّك بنسبة عشرين بالمئة أو خمسين بالمئة، تبعاً للظروف المؤثّرة فيها من الداخل والخارج؛ ولكنَّنا نتصوّر أنّ الظروف الموضوعية السياسية، التي يعيش فيها العالَم الإسلامي، تجعل مسألة الدولة الإسلامية الواحدة الشاملة، أمراً غير ذي موضوع من الناحية الواقعية، انطلاقاً من أنّ المسلمين لا يعيشون وحدة، في ما هو الإسلام المنفتح على الحياة السياسية، بل إنَّ طبيعة أوضاع التخلُّف التي عاش فيها المسلمون والتي أغرقتهم في الذهنية المذهبية الضيّقة، التي لا تحاول أن تجعل من اختلاف المذاهب غنى في التجربة الفكرية والفقهيّة، بل اعتبرتها سجناً يسجن المسلم نفسه فيها في زنزانة تعزله عن الآخرين، ثمّ في تطوّر حركة القوميّات في العالَم، التي زحفت إلى العالَم الإسلامي ولم تستطع أن تنفتح على الإسلام بطريقة متحرّكة ـــ حيويّة ـــ، بل حاولت أن تجد لنفسها موقعاً صدامياً مع الإسلام ولو بنسب متفاوتة، حيث اعتبر الكثيرون من المسلمين، والمسيحيّين أيضاً القومية بديلاً عن الدّين وأنّ الدّين قد يكون شيئاً في القوميّة، لكنّه لا يسمح له أن يكون شيئاً في الحياة، يحتوي قوميّات متعدّدة. ثمّ مسألة الأوضاع الدستورية، التي حوَّلت المسلمين إلى شخصيات وطنية تبعاً للتقسيم السياسي للدول الإسلامية، إنّ كلّ هذه الشخصيات الوطنية الجديدة، التي ولدت في جسم العالَم الإسلامي، استطاعت أن تجعل الإسلام عنواناً فضفاضاً تختفي في أعماقه عناوين أخرى، قد تنفذ إلى ساحته فتخرّب كثيراً من مواقعه، خاصّة إذا أضفنا إلى ذلك أنّ هناك سياسة استكبارية تختزن الكفر بالإسلام، تمنع العالَم الإسلامي، الذي يختزن أكثر وأكبر ثروات العالَم الطبيعية ويختزن أهم مواقع العالَم الاستراتيجيّة، من تحقيق وحدته.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى هناك ممنوعات وخطوط حمراء، عندما يتعلَّق الأمر بوحدة العالَم الإسلامي، حتّى على مستوى الوحدة الفكرية الثقافية أو الوحدة السياسية الجزئية. والصيغ القائمة توهم بوجود نوع من الوحدة فيما الهدف الفعليّ من مثل هذه الصيغ هو إدامة واقع الفرقة والتمزُّق الذي يسود العالَم الإسلامي، بحيث لا يمكن لأيّة حركة في الداخل أنْ تنطلق في مشروع أو تجربة وحدة جادّة بالإفادة من ظروف مساعدة تضعها الحركات الإسلامية. وبالإضافة إلى واقع التخلُّف والجهل، الذي يعيشه العالَم الإسلامي اليوم وأخطر مظاهره الأميّة الثقافية وحتّى الأُميّة الإسلامية الروحية، المتمثّلة في الانحلال الأخلاقي والديني خصوصاً على مستوى الحكّام في غالبيّتهم.
إنَّ هذا كلّه يشكّل مشكلة، تجعل الدولة الإسلامية الواحدة في العصر الحديث أمراً يقترب من أن يكون مستحيلاً من الناحية العملية، لكنَّنا في الوقت نفسه نريد أن يبقى هذا العنوان ـــ الهدف الكبير ـــ حيّاً في نفوس المسلمين وفي أذهان العاملين للإسلام، من أجل أن تبقى الشخصية الإسلامية السياسية الحركيّة حلماً كبيراً للمستقبل، عندما تتوافر ظروف وشروط أفضل.
يجب أن يظلّ هذا الحلم حاضراً عندما تصبح الفكرة واقعية. ونحن نستحضر في هذا المجال دائماً الكلمة المأثورة عن الإمام عليّ (عليه السلام) "واعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً"(1). عندما تفكِّر في مشاريع الحياة على أيّ مستوى سياسي أو اقتصادي، فكِّر كما لو كنتَ خالداً، حتّى تستجمع كلّ شروط الأمل وحتّى تطرد كلّ عناصر اليأس. إنَّ فشل التجربة لا يعني فشل الفكرة، جرِّب المرّة تلو المرّة والواحدة بعد الألف.
ـــ مولانا، تحدّثت في ما سلف عن ـــ الفكرة في الواقع ـــ بمعنى أنّ الفكرة تكون صائبة بقدر ما هي قابلة للتحقيق، فإذا كان مشروع الدولة الإسلامية الواحدة الشاملة مستحيلاً، فما المشروع ـــ الواقعي ـــ الذي ينبغي للحركات الإسلامية المعاصرة أن تركّز جهودها عليه؟
كنّا نتحدّث عن مشروع الدولة الإسلامية في كلّ العالَم الإسلامي، ولكن من المعقول جداً الاشتغال على مشروع الدولة الإسلامية في بعض بلدان العالَم الإسلامي. وهذا أمرٌ واقعي أكّدته التجربة، على الرغم من اختلاف الأفكار والتقنيّات والمواقف حول هذه التجربة، وهي تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران. إنّها على الأقلّ، في نظر القائمين عليها، أو الذين يؤيّدونها، تجربة مشروع دولة إسلامية على مستوى العنوان والشريعة والبرامج السياسية، ونحن نعتقد أنّ الحركة الإسلامية في أيّ بلد من بلاد المسلمين تكون قادرة على اجتذاب الأُمّة نحو تأييدها، بقدر ما تكون طروحاتها مستجيبة لطموحات الأُمّة من خلال الإسلام؛ لأنَّ الأُمّة عندما تجد هناك جديّةً في التحرُّك الإسلامي وواقعيةً في التفكير على قاعدة التزام خطّ الرسالة وعدم الخروج عليه، سوف تنشدّ لفكرة الدولة الإسلامية أكثر من انشدادها لأيّة فكرة أخرى؛ إذ إِنّ فكرة الدولة الإسلامية، التي تطبّق الإسلام وتجعل الإنسان يفكّر سياسياً وفق المنهج الإسلامي وينشط اقتصادياً بطريقة إسلامية، تخلِّص المسلم من الازدواجية التي يعانيها اليوم، بين ما هي الشريعة وما هو القانون، بين ما هو الفكر السياسي المطروح على مستوى الدولة وما هو الفكر السياسي المطروح على مستوى الرسالة؟
إنَّنا نلاحظ هذه المسألة في وعي الإنسان المسلم، الذي لا يعتبر الشريعة الإسلامية مجرّد شيء هامشي على مستوى حياته، بل يعتبر أنّ الإسلام دين في ما هي العبادة وهو دولة في ما هي الشريعة. إنّ كلّ مسلم يختزن في وعيه أنّ الإسلام هو حالة مدنية، ـــ حالة حياة، إلى جانب أنّه حالة عبادية، ولذلك فالمسلم يسأل تلقائياً إزاء أيّة حالة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية يبتلى بها: ما الحكم الشرعي في هذا وما الحكم الشرعي في ذاك؟
إنّي أعتقد أنَّ الحركات الإسلامية، عندما تعرف ماذا تريد وتدرس بوعي الخطط العملية الواقعية وتصل إلى ثقة الناس، فإنَّها تستطيع أن تصل إلى ـــ الدولة ـــ التي تستقطب مؤازرتهم. فإذا ما أخفقت بعض الحركات الإسلامية في فهم الظروف السياسية المحيطة بالعالَم الإسلامي وبالمسلمين، واستطراداً في إيجاد الكيفية الناجحة للعمل وتعثّرت في مسارها، فإنَّ ذلك لا يعني فشل فكرة الدول الإسلامية، لكنّه يعني فشل الحركة الإسلامية في هذا الموقع أو ذاك.
إنَّ دور الفكر الديني ـــ الإسلامي ـــ هو أن يرتفع بإنسانية الإنسان، لتنفتح على الله وعلى حركة الحياة من خلال الله، والمسؤولية التي تمثّل هذا النمط من الانفتاح بين الله وبين حياة إنسانية تنظّمها شريعة متكاملة تعطي للاجتهاد المبني على قواعد راسخة عاقلة مجالاً لكي يلبّي كلّ حاجات الحياة الجديّة وكلّ التطوّرات التي تخاطب الإسلام وتطالبه بأن يجد لها حلاًّ.
ـــ سؤالنا، الآن سؤالان. ألاَ يحتاج الفكر الديني، والحالة هذه إلى مؤسّسة تؤطّر جهوده وتنظّمه وتحشده وراء برنامج أو موقف أو حتّى شعار؟
والمؤسّسة إنْ قامت لا بدّ لها من دستور يشرّعها أو نظام يحميها. فماذا لو تصادم البرنامج والنظام؟ أو كيف تتصوّرون توافقهما؟
من الطبيعي أنّ الفكر الإسلامي قد يتحرَّك في دائرتين أو في ساحتين، أولاهما حيث لا يكون دولة، بل يكون حركة تنفتح على الواقع السياسي من خلال خطّة ـــ برنامج ـــ متكاملة تلامس قناعات النّاس وتجتذب تأييدهم؛ وتعمل على إيجاد الظروف السياسية الموضوعية التي تساعد على تحويل الحركة إلى قوّة والقوّة إلى دولة. في مثل هذه الحالة، فالحركة لن تعيش في ظلّ وضع دستوري ـــ نظام ـــ، لأنّها قد تكون ثورة موجّهة ضدّه، ساعية إلى تغييره.
وقد تكون معارضة له فيما هو لا يحتمل معارضة ولا يسمح بها انسجاماً مع طبيعته أو ارتباطاته أو معهما معاً. ومن الطبيعي ألاّ يسمح بالثورة، لذلك فإنَّ الحركة الإسلامية تتحوّل إلى مؤسّسة مفتوحة على الوضع الشعبي العام وتحتمي به، لتواصل عملية الصدام أو الصراع أو التغيير في مواجهة هذا الوضع الدستوري أو ذاك؛ وربّما تلتقي بوضع دستوري يعطي المجال للجمهور، لكي يمارس حريّته في ما يفكِّر فيه من ناحية سياسية.
أجرى الحوار: سعدي مدلل
المزاوجة بين نظرية ولاية الفقيه والشورى
تقلِّل الأخطاء(*)
في مجال البحث عن مفهوم السلطة والدولة، توجَّه الزميل قاسم قصير بجملة من الأسئلة إلى السيّد محمد حسين فضل الله، الذي تناول في إجابته الموقف الإسلامي من قضايا الشورى والديمقراطية وولاية الفقيه ودور الأُمّة في القرار السياسي ومراقبة السلطة. وفي ما يلي نصّ الأسئلة والأجوبة:
ـــ كيف ينظر الإسلام إلى السلطة؟
إذا أردنا أن ندرس النصوص المتنوّعة، التي حدَّدت مواقع السلطة في الإسلام، في نموذج النبيّ والإمام ونموذج الفقيه، من خلال النظريات التي تجعل للفقيه دوراً في السلطة؛ فإنَّنا نجد أنَّ الإسلام يرى في السلطة وظيفة اجتماعية، تنطلق منها القيادة من أجل مواجهة قضايا المجتمع من خلال الشريعة الإسلامية.
النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الحاكم
فنحن عندما نقرأ النصّ الذي ورد عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في موقفه أمام الناس، في آخر لحظات حياته، وهو يحاسب نفسه أمامهم، في الوقت الذي لا تفرض النبوّة فيه على النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يحاسب نفسه أمام الناس، قال لهم في ما روي عنه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "أيُّها النّاس إنّكم لا تعلّقون عليَّ بشيء، إنِّي ما أحللتُ إلاّ ما أحلَّ القرآن وما حرَّمت إلاّ ما حرَّم القرآن".
إنَّ هذا النصّ يوحي بأنَّ القيادة السلطوية في الإسلام تختزن في داخل شخصيّتها وتجربتها ـــ حتّى لو كانت في مستوى شخصية النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ـــ علاقة الأُمّة بالحاكم، بحيث لا ينطلق الحاكم وحده بعيداً عن القيود. وهكذا نلاحظ أنّ فكرة البيعة التي كانت تطلب من المسلمين، سواء بيعة الرجال أو النساء بالنسبة للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، لا تمثِّل أساساً لشرعية الحكم أو النبوّة في الإسلام ولكنّها تمثِّل حالة الالتزام الشعبي بالقيادة، على الأُسس التي تنطلق فيها القيادة في برنامجها الجزئي أو الكلّي. وهذا ما نلاحظه، فالنبيّ عندما كان يأخذ البيعة من النّاس، إنَّما يأخذها على أساس البرنامج لا على أساس الشخص، وهذا ما نلاحظه في النصّ القرآني في بيعة النساء، فإنّه أخذ البيعة منهنّ على أساس البرنامج الإسلامي في حركة المرأة في الواقع الاجتماعي الإسلامي.
من خلال ذلك نفهم أنّ نظرة الإسلام إلى مسألة السلطة القيادية ليست مسألة متمثّلة في شخصانية القائد، علماً أنّ النبيّ أو الإمام لا يأخذ موقعيّته الشخصية من الناس. وهكذا عندما ننطلق في النصّ الوارد عن الإمام عليّ (عليه السلام)، عندما يقول في مناجاته لربّه: "اللّهم إنَّك تعلم أنَّه لم يكن الذي كان منّا منافسةً في سلطان ولا التماس شيءٍ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالِم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك"(1). وهكذا في نصّه الآخر: "لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها"(2). أو في النصّ الذي يقول عن النعل "والله لهِيَ أحبّ إليَّ مِنْ إمْرَتكم إلاّ أنْ أُقيمَ حقّاً أو أدفع باطلاً"(3).
إنَّ هذه النصوص تفيد بأنَّ الحكم هنا هو وظيفة قياديّة، يتحرَّك فيها الحاكم لا لتأكيد ذاته أو برنامجه الذاتي بل لتأكيد الخطّ المرتكز على الإسلام، حتّى لو كان في مثل هذا المستوى العظيم. فالإمام يكون إماماً على أساس البرنامج الإسلاميّ الذي يؤمن به ويتولّى القيادة على أساسه. فالمسألة عنده أن يردّ المعالم في الدّين، وأنْ يظهر الإصلاح في البلاد، وأنْ يحقّق أمن المظلومين من العباد، وأن يقيم الحقّ ويدفع الباطل. ونستوحي من خلال ذلك أنّ الحاكم الإسلاميّ يؤكّد في خطابه للأُمّة وفي حديثه عن مسألة الحكم، مسألة رقابة الأُمّة عليه، حتّى لو كان في الموقع الذي لا يحتاج فيه إلى الرقابة التي تؤكّد شرعية حكمه أو عدالته لأنّه معصوم.
ومن خلال ذلك، نفهم أنَّ الحاكم لا يجامل الأُمّة في أهوائها، حتّى لو كلَّفه ذلك الكثير، لأنّه محكوم للبرنامج. وهذا ما نقرأه في كلمة الإمام عليّ (عليه السلام): "ليس أمري وأمركم واحداً، إنَّني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"(1). وهكذا نجد أنّه يستعدي الناس على حكمه ويطلب منهم أن ينقدوه: "فلا تكلِّموني بما تكلِّمون الجبابرة، ولا تتحفَّظوا بما يتحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنُّوا بي استثقالاً في حقّ قيل لي، ولا التماس إعظامٍ لنفسي، فإنّه من استثقل الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه. فلا تكفُّوا عن مقالة بحقّ أو مشورة بعدل، فإنّي لستُ في نفسي بفوق أن أخطئ"(2)، ونحن نعلم أنَّ الإمام عليّ (عليه السلام) ـــ بحسب عقيدتنا ـــ فوق أن يخطئ ولكنّه أراد أن يشجِّع الأُمّة على انتقاده، حتّى يكون ذلك خطّاً في تعامل الأُمّة مع الحاكم إذا لم يكن معصوماً.
وعندما نريد أن نرسم الخطّ البياني العام في طريقة تعامل الحاكم الإسلامي، وإن كان في مستوى النبيّ أو الإمام، مع الأُمّة في القضايا التي تمسّ حركته، سواء كانت حركة حرب أو سلم أو حركة مشروع من المشاريع العامّة التي تتّصل بحياة الأُمّة السياسية والاقتصادية والأمنية وما إلى ذلك. نستند في ذلك إلى خطاب الله لرسوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران : 159] ممّا يعني أنّ الله يريد للحاكم الإسلامي أو القائد الإسلامي أن يشاور الأُمّة، بقطع النظر عمّا إذا كان ذلك يفرض عليه الانصياع لما ينتج عن الشورى، أو باعتبار الشورى حالة تقويميّة للواقع، في نهاية المطاف: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} [آل عمران : 159].
إنَّ السلطة في الإسلام لا تعني الحكم الإلهيّ الذي عرفه الغرب، باعتبار أنّ الحاكم يحكم باسم الله من خلال مزاجه وذاتيّته. إنّ الحاكم يحكم من خلال الموقع الذي جعله الله له، ولكن ضمن البرنامج الذي وضعه الله والذي لا يستطيع أن يزيد فيه كلمة أو ينقص فيه أخرى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة : 44 ـــ 46]. {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر : 65]. إنَّ معنى ذلك أنّ الحاكم في الإسلام لا يملك حريّة ذاتية بعيداً عن الخطّ العام، حتّى أنَّنا نجد أنّ الله يتحدّث مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بلهجة وأسلوب مميّزين في الصلابة أمام الأوضاع الاجتماعية، التي كانت تحاول أنْ تتحدَّى استقامته في الرسالة والتي تنعكس على استقامته في الحكم، فنجد أنَّ الله سبحانه وتعالى يتحدَّث مع النبيّ عن هذه التجربة الاجتماعية {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً*وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً*إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء: 73 ـــ 75].
فنحن نلاحظ أنّ الإسلام يلاحق تجربة الحاكم والرسول في حركة الواقع أمام الضغوط التي تحاصره، لتحمي له مواقعه ولتقول له إنَّ المسألة ليست مسألة أن يصادقوك أو لا يصادقوك، أن يتقبَّلوك أو لا يتقبَّلوك، ولكنَّ المسألة هي أنّ عليك أن تواظب على البرنامج، أن لا تفتري شيئاً لم يوحَ به الله، أو على خلاف إرادة الله.
من خلال ذلك كلّه، نفهم أنَّ مسألة الحكم في الإسلام ليست مسألة الفرد، وإنَّما هي مسألة الأُمّة في ما هي مسؤولية الفرد الذي لا يحكم الأُمّة من خلال ذاته، وإنَّما يحكمها من خلال البرنامج الذي يلتقي وإيّاها في الإيمان به. فهو أمين على البرنامج وعلى الأُمّة من خلال البرنامج. ومن خلال ذلك، نلاحظ أنّ علينا في الأداء البياني لشخصية القائد في الإسلام ـــ سواء كان نبيّاً أو إماماً أو فقيهاً ـــ أن نملك الدقّة في التعبير عن شخصيّته في الدائرة القيادية وعن موقعه القيادي، لأنَّ بعض الكلمات التي قد تفتح على جوانب العظمة في الشخصية قد توحي بشيء لا يلتقي مع الخطّ الإسلامي في الحكم، ليتصوَّر الناس أنّهم لا يملكون شيئاً أمام الإمام والنبيّ والفقيه، بالمعنى الذي يعني أنّه ليس خاضعاً لبرنامج محدَّد بل يتحرَّك في الجوّ المطلق تماماً.
إنَّنا نعتقد أنّ شخصية النبيّ أو الإمام تملك الانفتاح المطلق، بمعنى الأمانة عن الإسلام وأهله، ولكنَّ هناك فرقاً بين أنْ تتحدّث في المسألة عن الذّات في ذاتيّتها لتعتبر كلّ المسائل ذاتية، وبين أن تتحدَّث عن الذّات في حركتها في خطّ المسؤولية في الإطار الإسلامي الواسع، لأنَّ ذلك قد يوحي بكثير من المفاهيم التي قد لا تلتقي مع الصورة الإسلامية الدقيقة.
المجتمع والسلطة
ـــ كيف يقوم المجتمع بدوره تجاه السلطة؟
إنّ دور المجتمع في الإسلام هو أن يخضع لشرعية الحركة القيادية في السلطة، بالمستوى الذي لا يملك فيه الخيار أمام البرامج التي تقدّم له أو تفرض عليه؛ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء : 65]، أو {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب : 36].
إنَّنا نفهم من ذلك، أنّ على المجتمع أن يطيع السلطة الشرعية، ولكن في الوقت نفسه على السلطة الشرعية أن تنفتح على المجتمع، لتستمع إلى أيّ نقد لأدائها ولتدخل مع المجتمع في حوارٍ حول القضايا المتنوّعة، التي يمكن أن يختلف فيها الرأي. وهذا ما لاحظناه في حركة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في حربه ـــ ولاسيّما في معركة بدر ـــ حيث إِنّه قبل أن يبدأ المعركة جَمَعَ المسلمين واستشارهم في ذلك. كما نلاحظ أنّ الإمام عليّ (عليه السلام) دخل في حوارٍ مع أكثر من جهة من الجهات التي واجهته، حتّى في خطّ المعارضة التي تحوَّلت إلى حرب، كما في حواراته مع طلحة والزبير قبل حرب الجَمَل، ومع الذين تقدَّموه في الخلافة، ومع الخوارج ومع معاوية ومع النّاس من حوله.
لذلك، فإنَّنا نعتقد أنّ من حقّ الجماعة على القيادة أن تستشيرها ـــ كما ألمحنا إلى ذلك ـــ وأن تنفتح القيادة على كلّ مطالبها وقضاياها.
ـــ هل دور المجتمع استشاري، أم هو دور يمكن أن يساهم في تحديد تفاصيل البرنامج أو بعض المعطيات؟
عندما تكون المسألة مسألة نبيّ أو إمام، فإنَّ دور المجتمع قد ينكمش في مسألة التغيير، إلاّ بالمقدار الذي تسمح فيه الخطّة التي يتبنّاها النبيّ أو الإمام في هذا المجال. ولكن عندما لا تكون القيادة على هذا المستوى، فإنَّ المفروض على القيادة أن ترجع إلى المجتمع، من خلال الرجوع إلى أهل الخبرة في هذه القضايا. ربّما تكون هناك قضايا تحتاج إلى خبرة المجتمع كلّه وربّما تحتاج إلى خبرة جماعة مميّزة، ولكن علينا أن نعرف أنّ المجتمع لا يعطي الشرعية للخطّة، ربّما تنطلق بعض الخطوط النظرية في المسألة القيادية، لتعطي المجتمع سلطة في هذا المجال، كما في نظرية الشورى التي تعني أنَّ القائد يأخذ شرعيّته من خلال الشورى، وأنَّ كثيراً من الخطط السياسية أو الاقتصادية، أو ما إلى ذلك ممّا يحتاج إلى استفتاء المجتمع، يأخذ شرعيّته من خلال الشورى.
أمّا على نظرية ولاية الفقيه، فإنَّ الشرعية تنطلق من خلال الفقيه ورأيه في الأمور، ولكنَّنا إذا نظرنا إلى أنّ الفقيه لا يستطيع أن يستبدّ برأيه نرى أنّه لا بدّ من أن يرجع إلى المجتمع، ليستشيره في الأمور التي يحتاج فيها إلى خبرة اجتماعية. إنّ النظرية لا تفرض ذلك، ولكنّ ظروف حركة النظرية في الواقع قد تجعل المصلحة الإسلامية العليا ـــ وهي كذلك في أغلب الحالات ـــ بحاجة إلى الاستفتاء الشعبي. وهذا ما جرت عليه الجمهورية الإسلامية من خلال تخطيط الإمام الخميني (قدّس سرّه)، حيث إنّه لم يجعل ولاية الفقيه منفصلة عن حركة الشّورى الشعبية، فنحن نلاحظ أنَّ الإمام الخميني تحرَّك على أساس أن يستفتي الشعب في كلّ شيء، حتّى في ما لا مجال للاستفتاء فيه من الناحية النظرية، وهي قضية الدستور الذي يمثِّل الخطّ الإسلامي، إذ لا معنى لاستفتاء الناس في أنْ يقبلوا أو لا يقبلوا الإسلام أو المفردات الإسلامية، التي ثبتت شرعيّتها من خلال مصادر فهم التشريع.
ولكنَّ هذه الخطوة انطلقت على أساس أنّ بقاء الفقيه ـــ في مستوى النظرية ـــ الحاكم المطلق، ربّما يؤدّي إلى انحراف الحكم مستقبلاً، لما قد يطرأ من أوضاع ذاتية تجعل الفقيه في موقع القوّة، التي لا يستطيع أن يعارضه فيه أحد، أو قد ينحرف بالمستوى الذي لا يمكن لأحد أن يعارضه في هذا المجال، لأنّه من الممكن جداً أن يوظِّف الخطّ الإسلامي لمصلحته إذا انحرف بطريقة أو بأخرى.
لذلك إنَّ هذه التجربة، التي زاوجت بين نظرية ولاية الفقيه وبين نظرية الشورى واستطاعت أن تدمج بينهما، استطاعت أن تقلِّل كثيراً من الأخطاء التي كان من الممكن أن يقع فيها الحكم الإسلامي، كما في التجارب السابقة التي تحوَّلت فيها الخلافة إلى حكم مطلق، وإنْ كان بعض الناس يقول إنَّ نظرية ولاية الفقيه تشترط أن يكون الفقيه عادلاً بالإضافة إلى اجتهاده الفقهي وعارفاً بأهل زمانه، ممّا يجعل الفقيه يفقد شرعيّته إذا فَقَدَ عدالته السلوكية، كما يفقد شرعيّته إذا فَقَدَ اجتهاده الفقهي، ممّا لا يجعل المسألة في مواقع الخطر.
إنَّ الجواب على هذا هو أنَّ الحديث هنا في مستوى النظرية، أمّا في مستوى الواقع فإنَّ الفقيه المنحرف قد لا يعترف بانحرافه، كما أنّ من حوله يحاولون أن يبرِّروا هذا الانحراف. أمّا عندما تكون المسألة مسألة الأُمّة، فإنَّ من الصعب جداً أن يستطيع الاستمرار بحكمه إذا كانت الأُمّة ضدّه.
ومن خلال ذلك، نفهم بأنَّ حركة النظرية في الواقع تمنع من الحاجة إلى ثورة تصحيحيّة وما إلى ذلك.
الفقيه والمجتمع
ـــ ما رؤيتكم الخاصّة للعلاقة بين الفقيه والمجتمع؟
إنَّني أتصوَّر أنّ من الضروري جداً أن ينفتح الفقيه على المجتمع، بحيث يتّصل به في كلّ القضايا العامّة، لأنَّ ذلك ما يحمي القضايا من الذاتية، ويحمي الفقيه من الخطأ، كما أنَّه يحمِّل الأُمّة مسؤولية قرارها المرتبط بقرار الفقيه. بمعنى أن يعطي للأُمّة الشعور بأنّها تشارك في صنع القرار وإنْ لم يصدر هذا القرار عنها؛ إمّا من جهة أنَّ الفقيه يرى رأياً غير رأيها بعد الاستشارة أو من جهة أنّه التقى برأيها. إنَّنا نتصوَّر أنّ هذه هي الحركة التجريبية، التي سار عليها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والإمام عليّ (عليه السلام) وتحرَّكت فيها الكثير من النصوص؛ الأمر الذي لا يجعل مسألة نظرية الحكم في الإسلام مجرّد نظرية فوقية، تتحرَّك من داخل النصوص؛ ولكنّها نظرية واقعية تتحرَّك من خلال طبيعة تجربة الحكم في حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أو الإمام عليّ (عليه السلام) مقارنةً بالنصوص الشرعية.
إنَّ ذلك لا يعني أنَّنا نعتبر الديمقراطية أساساً للشرعية، لأنَّ هناك فرقاً بين أن تمارس الديمقراطية كوسيلة من وسائل حركيّة الحكم وبين أن تعتبر أنَّ الديمقراطية هي أساس الشرعية. إنَّنا قد لا نناقش في شرعية السلوك الديمقراطي من ناحية ذاتيّته أو طبيعته في ما لم يكن مخالفاً لحكم شرعي ثابت، ولكنَّنا نناقش في الخلفيّة التي تختفي وراءها النظرية الديمقراطية في اعتبار الرأي الشعبي هو أساس الشرعية. إنَّنا لا نعتبر أنّ الرأي الشعبي هو أساس الشرعية ولذلك، فلو فرضنا أنّ الشعب اختار في اللّعبة الديمقراطية حاكماً غير مسلم أو اختار حاكماً مسلماً، بعيداً عن الشروط الإسلامية للحاكم أو اختار غير الإسلام، فإنَّنا لو أردنا أن نجري على الديمقراطية كأساس للشرعية، فإنَّ معنى ذلك أن لا نعتبر الحاكم الجامع للشرائط شرعياً. بينما المسألة على العكس أن تكون شرعية الإسلام لو اختاره الناس على أساس أنّه اختيار الناس لا على أساس أنّه دين الله.
لهذا نحن نتحفَّظ في المسألة الديمقراطية من ناحية خلفيّتها الفكرية، بقطع النظر عن نتائجها هنا وهناك.
النظرية والواقع
ـــ كيف يمكن تطبيق هذه النظرية على الواقع؟
أنا أتصوَّر أنّ التجربة الإسلامية في إيران في الخطّ العام، بقطع النظر عن طبيعة المفردات الصغيرة هنا وهناك، تمثّل أفضل التجارب. هذه التجربة التي زاوجت بين نظرية ولاية الفقيه ونظرية الشورى هي النظرية الأكثر واقعية من خلال المفاهيم الإسلامية، وربّما نجد أنَّ هناك نظرية أخرى أشار إليها السيّد الشهيد الصدر في مداخلاته الأخيرة بعد الثورة الإسلامية والتي تعبّر عن أنَّ للأُمّة دوراً كبيراً في مسألة الحكم وللفقيه دوراً، بحيث لا يكون الفقيه هو رأس السلطة ولكن يكون له دور في مراقبة السلطة أو ما إلى ذلك، بينما يكون للأُمّة ـــ عندما تملك حريّتها ـــ الدور الأكبر في نظرية الحكم، ولكنَّ هذه النظرية لم يقدّمها في نطاق دراسة وإنّما في نطاق عنوانٍ عام، وهي بحاجة إلى الكثير من الدراسة الموضوعية في هذا المجال.
إنَّ الكلمة التي أُريد أن أُلَخِصّ فيها الفكرة، هي أنَّ الحكم الإسلامي ليس حكماً إلهياً مطلقاً بالمعنى الغربي للحكم الإلهي، حتّى لو كان هو حكم النبيّ أو حكم الإمام الذي يملك الولاية المطلقة على الأُمّة، ولكنّ ذلك لا يعني الولاية بالمعنى الذاتي إنَّما بالمعنى الموضوعي، الذي يتحرَّك من خلال البرنامج الموضوع له، فقد أمَرَ الله نبيّه أن يعلن أنّه أوّل المسلمين، بحيث يكون المسلم الأوّل الذي يطبّق الإسلام على نفسه قبل أن يطبِّقه على غيره.
ومن هنا، فنحن نتحفَّظ على الفكرة التي يحاول الكثير من الناس أنْ يتحدَّث عنها، والقائلة بأنَّ للنبيّ تكليفه الخاص أو للإمام تكليفه الخاص، الأمر الذي يجعلنا لا نستطيع أن نأخذ شرعية حركتنا من شرعية حركة الإمام أو النبيّ في حياته، كما يعتبر بعض الناس ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، من خصوصيّات الإمامة وليس لنا أن نستهديها، لنعتبرها وسيلة إسلامية من وسائل الثورة على الحكم الجائر، لأنَّ بعض الناس يقولون إنَّ هذه من أسرار الإمامة، وإلاّ لو أردنا أن نجري على البرنامج الشرعي، لرأينا أنّها لا تنسجم مع البرنامج الشرعي لأنّها إلقاء للنفس بالتهلكة وتعريض النّفس للخطر في معركة غير متكافئة، الأمر الذي يرفض فيه بعض الناس من الفقهاء أن نجعلها نموذجاً من الحركة، وهكذا في بعض ما مارسه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في أحكامه أو بعض قضايا سيرته، على أساس أنّها من الأسرار التي لا نفهمها في شخصية النبيّ، ولكنَّنا نجد أنَّ الله جعل سيرة النبيّ أساساً للشرعية في قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب : 21] ونجد أنَّ مسألة خطّ الإمامة هو امتداد بالمعنى الحركي لخطّ النبوّة وإنْ لم يكن امتداداً للنبوّة. الأمر الذي يعني أنّ النبيّ يتحرَّك كمسلم وأنَّ الإمام يتحرّك كمسلم، وإذا كان معصوماً كما هي الحقيقة في عصمة النبيّ والإمام فإنّ من الطبيعي أن تكون حركته نموذجاً لحركة الأُمّة بعد ذلك، لأنّه يجسِّد الإسلام في حركته ولا يجسِّد خصوصيّته النبويّة والإمامية في ذلك.
كلّ الأيديولوجيّات، من ماركسيّة وقوميّة ووطنيّة، لم تستطع أن تكون بديلاً عن الإسلام(*)
هذا الحديث المسهب الذي أجرته "الضحى" مع سماحة العلاّمة السيّد محمد حسين فضل الله يكتسب أهمية خاصّة، فهو يطلّ على قضايا القلق التي تؤرق المجتمعات الإسلامية، وتجعلها وجهاً لوجه أمام مجموعة من التساؤلات حول الهوية والمصير. وحول الإسلام ووظيفته في المجتمع، وحول الخطاب الديني الذي يشتدّ ساعده وتقوى نبرته، وحول مسائل أخرى من بينها الحوار الإسلامي ـــ المسيحي والمفاوضات العربية ـــ الإسرائيليّة، وكذلك أيضاً الحدث المتمثّل بالمكاسب التي حقَّقتها الحالة الإسلامية في لبنان في نجاحها بالدخول إلى الندوة النيابيّة.
إنَّ العلاّمة السيّد فضل الله، مثلما بدا لنا في الحديث، رجل حوار من الطراز الأوّل. وقد فتح صدره لنا، وأجاب عن تساؤلاتنا بالعمق والرصانة والمعرفة المترامية التي تحيط بمجمل القضايا التي تواجه، اليوم، البقعة العربية ـــ الإسلامية.
وهنا نصّ الحديث
خصوصيّة الإسلام
ـــ في ظلّ السقوط الهائل للأيديولوجيّات في العالَم، هناك من يعتبر ـــ عن قناعة راسخة ـــ بأنّه سيكون للإسلام دور مؤثّر في الفعل السياسي، وأنَّ هناك وظيفة كبرى تنتظره، أو على الأقل ثمّة من يذهب إلى أنَّ الإسلام ربّما كان البديل الحقيقي والملائم عن الأيديولوجيّات التي تتهاوى الواحدة بعد الأخرى، خاصّة في البقعة العربية ـــ الإسلامية، فماذا ترى سماحتك؟
هناك خصوصيّة للإسلام في المنطقة الإسلامية وربّما تطلّ على المنطقة غير الإسلامية، وهي أنَّ الإسلام ليس ايديولوجيّة طارئة، تبحث لنفسها عن موقع في حياة الناس، بل هي حركة في الانتماء الديني للإنسان المنفتح على قضايا الإنسان في الحياة، من خلال المفهوم الإسلامي الشامل للإنسان وللحياة. وقد عاش الإسلام في تاريخه حركةً في العمق، بحيث دخلت من خلال مفاهيمها ومفرداتها التشريعيّة وحركتها الثقافية وحالة الصراع في جدليّات الفكر الإسلامي مع الفكر الآخر أو في داخل الخصوصيّات الإسلامية المتفرّعة.
لقد عاش الإسلام بالمستوى الذي استطاع أنْ يتجذَّر فيه في عمق الواقع، بحيث إِنَّنا نرى الذين يتنكَّرون للإسلام فكراً ـــ من المسلمين أو غير المسلمين، ممّن انحرفوا عن الخطّ الإسلامي ـــ لا يزالون يعيشون في رواسبهم العميقة كثيراً من المشاعر أو الأفكار الإسلامية، التي تفرض نفسها على سلوكهم وعلى مواقفهم بشكلٍ لا شعوري. لذلك لم يكن الإسلام يوماً حالة طارئة، بل كان عنوان حضارة فرضت نفسها على المنطقة الإسلامية وتحرّكت خارج هذه المنطقة لتتفاعل مع الحضارات الأخرى في ما يختلف أو لا يختلف مع مفاهيمها الحضارية ولتؤثّر في الحضارات الأخرى، وهكذا ذكر بعض الباحثين أنَّ الحضارة الإسلامية هي أمّ الحضارات الحديثة، وذلك بإطلالتها الفكرية على الحضارة الأوروبية، من خلال المنهج التجريبي بالإضافة إلى المنهج العقلي وما إلى ذلك من مفردات العلم التي انطلق بها المسلمون في عهد الحضارة الإسلامية.
وقد عاش الإسلام تجربة سياسية من أقوى التجارب في حركة الخلافة الإسلامية في الشرق والغرب. وإذا كان الناس يتحدّثون عن انحرافات في هذه التجربة هنا أو تلك هناك أو في هذا الخليفة هنا أو ذاك هناك، فإنّ الجميع يتّفقون على أنّ أجواء التجربة كانت أجواء إسلامية، وبحيث تؤكّد معنى أن يكون الحكم في الإسلام عنصراً أساسياً في الفكر الإسلامي وفي الحركة الإسلامية، كما أنَّهم يؤكّدون جميعاً أن آثار الفقه الإسلامي كانت إلى وقتٍ طويل ولا تزال إلى الآن متجذّرة في الواقع الفردي للإنسان وفي بعض القوانين في هذا البلد أو ذاك.
إنَّ الفقه الإسلامي يمثّل ثروة قانونية تشريعيّة، تستطيع الإيحاء بأنَّ الإسلام ليس مجرَّد حالة عبادية بل هي حالة مدنية تنفتح على قانون واسع يشرّع للإنسان في كلّ مجالاته العملية. ومن الطبيعي أنّ أيّة حضارة وأيّة حركة وأيّ خطّ فكريّ ـــ سواء كان دينياً أم غير ديني ـــ لا بدّ وأن يمرّ في حالة كفاح في حيويّته وحركيّته، بفعل الأمراض التي تعيش في داخله وبفعل التخلُّف والجهل الذي يطبع صورته في وعي الناس الذين يتمثّلونه وفي موازين القوى التي قد تنشأ من خلال نقاط ضعفه أو من خلال نقاط قوّة الآخرين. من الطبيعي أنّ الإسلام قد انحسر عن الساحة السياسية العامّة، على مستوى الحكم ومستوى حركة الواقع السياسي، بفعل سيطرة الاستكبار الغربي على البلاد الإسلامية بشكلٍ عام من خلال حركة الاستعمار. وقد حاول الغربيّون من خلال المستغربين من مثقّفينا ومن خلال المستشرقين من رجال مخابراتهم أن يوحوا للإنسان المسلم بأنّ الإسلام عامل تخلُّف وأنّ الغرب هو المتفوّق، سواء في الفكر القومي أو الماركسي أو الفكر الوطني أو ما إلى ذلك من أفكار قد تلتقي في بعض ركائزها الفكرية العلمانية وإنْ كانت قد تختلف في خصوصيّاتها.
وهكذا وضع الإسلام خارج نطاق نقطة الضوء، ليتحرّك في داخل المساجد عبادة، قد تكون بعيدة عن الحيوية، وليتحرّك في أخلاقية الإنسان وفي تقاليده وعاداته وفي الأحوال الشخصية الخاصّة من أوضاعه، واندفع الإنسان نحو فكر الغرب فكان الاتّجاه القومي الذي حاول مفكّروه أن يبعدوا الإسلام عن أن يكون عنصراً حيويّاً حتّى في القومية العربية. وانطلق الفكر الاشتراكي والفكر الماركسي والفكر الوطني، الذي يبعد الإنسان المسلم في هذا الوطن عن الإنسان المسلم في ذاك الوطن، لتحلّ الشخصية الوطنية والقومية والعرقية وما إلى ذلك محلّ الشخصية الإسلامية، وعاش المسلمون هذه التجربة بطريقة بعيدة عن اختيارهم، بل كانت منطلقة من التيّار الذي استطاع أن يجرف الواقع كلّه.
وعاش النّاس هذه التجربة فجرَّبنا الفكر الوطني والقومي والماركسي وما إلى ذلك.. وسقطت هذه الأفكار في عنفوانها على الأقلّ، وانفتح الناس على نقاط الضعف التي افترست كلّ عناصر القوّة في الواقع. وإذا كان النّاس يفلسفون بعض هذا وبعض ذاك، من خلال الظروف الموضوعية والمتغيّرات الدولية والقمع الاستكباري، فإنَّ ذلك لا يغيِّر من حجم النتيجة شيئاً وهو أنّ النّاس شعروا أنَّ هذه لم تستطع أن تكون بديلاً عن الإسلام. وانفتح النّاس على الإسلام، الذي تخفَّف من أثقال المفاهيم المتخلّفة التي فرضت نفسها على واقع الفكر الإسلامي، والمضمون الانعزالي الذي حجب الإسلام عن ساحة الواقع وعن دائرة الضوء. وانطلقت الحركيّة الإسلامية، لتطرح الإسلام قاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة ولتتحدّث عن إنسانية الإنسان وعن حقوقه وعن مسألة الحكم في الإسلام وعن مسألة السياسة كعنصر أساسي، يمكن أنْ تستوحيه حتّى من كلمات العبادة.
انفتاح العالَم على الإسلام
وهكذا انطلقت الصحوة الإسلامية، التي لا نستطيع أن نضع لها الآن الحدود الدقيقة، فإنَّ هناك مناخاً إسلامياً جديداً قد يعيشه الناس بشكلٍ ضبابي، كما يعيشون الأحلام، وقد يعيشه بعض الناس بحجم الحركة السياسية أو بحجم الحركة الجهادية، وقد يتصوّره الناس دولةً تقوم هنا وحالةً حضاريةً هناك. ولكنَّ القضية التي تؤكّدها الصحوة الإسلامية ـــ أو الحالة الإسلامية ـــ هي أنّ هناك انطلاقةً جديدة تملك جذوراً عميقة في البعد الواقعي للإنسان، بحيث إِنّها عندما تتكامل مع هذه الجذور فإنّ انفصالها عنها لن يكون أمراً سهلاً. ولذلك فإنَّ الفرص الكبيرة لامتداد هذه الحركة الإسلامية ولنجاحها ولانفتاحها على واقع الإنسان في العالَم هي فرص واعدة، لأنّ الإنسان ـــ حتّى خارج نطاق البلاد الإسلامية ـــ أصبح ينفتح على الإسلام ولو من موقع الرفض له، أصبح يثير الفكر الإسلامي أمامه، كفكر يمثِّل خطراً على مصالحه أو خطراً على ثوابته أو على التزاماته أو على طريقة حياته وما إلى ذلك، ونحن نعتقد أنّ الذين يرفضونك، يؤكّدون وجودك بالقوّة نفسها التي يؤكّده فيها الذين يؤيّدونك، لأنَّ الرفض يدفع نحو الفكر ونحو فهم الإنسان المرفوض، ولذلك يساعدونه، يتحرّكون معاً لتأكيد الصحوة الإسلامية، لتكون مشروعاً إسلامياً للحياة كلّها.
إنَّه حلم ولكنّه بدأ يفرض نفسه على الواقع في بعض مفرداته وبدأ يحمل كثيراً من علامات المستقبل في بعض تطلُّعاته، ليس حلماً ينطلق في الخيال ولكنّه حلم ينمو في واقع.
مهزومون قبل أنْ تقع الهزيمة
ـــ بعض المفكِّرين الإسلاميين طرح في أوائل القرن الحالي سؤالاً يقول: لماذا تأخَّر المسلمون وتقدَّم غيرهم؟ وأدّى هذا السؤال إلى نشوء بضع وجهات نظر مختلفة بالنسبة لتحقيق التقدُّم والتحديث في المجتمعات العربية ـــ الإسلامية. فالبعض رأى أنَّ النهضة لن تتحقَّق ما لم تتمّ العودة إلى الينابيع وإلى الأصول، بمعنى آخر إلى السلف الصالح والاستقواء به، في حين ذهب بعضٌ آخر إلى أنَّ هذا السلف الصالح كان صالحاً في زمنٍ مضى ولم يعد صالحاً في زمننا، والمطلوب هو القطع النهائي معه والاتّجاه غرباً، حيث كلّ عناصر التقدُّم والتطوُّر. وعلى هذا الأساس فقد حَدَثَ الانشقاق في البقعة العربية ـــ الإسلامية وهو انشقاق لا يزال مستمراً إلى هذا الوقت وهو يعبّر عن نفسه حيناً تحت اسم الأصالة والمعاصرة، وحيناً تحت اسم الحداثة والتقليد، وحيناً تحت اسم الاستقلال والتبعية.. هنا نريد أن نطرح السؤال نفسه لماذا تأخَّر المسلمون وتقدَّم غيرهم؟ وهل للإسلام دور في كلّ ذلك؟
عندما تطرح مسألة التقدّم والتأخّر في أجواء الهزيمة فإنَّ خيارات التحليل الفكري تصبح ضيّقة ـــ إنْ لم تكن معدومة ـــ لأنَّك عندما تحدِّق حولك في الواقع، لتلتقط مفرداته فلا ترى إلاّ الواقع المهزوم. من هنا فإنّك هنا قد تندفع من خلال انفعالاتك، لتصبّ جام غضبك على هذا الواقع على أساس أنّه سبب الهزيمة وربّما تبتعد عن عقلانية الوعي والانفعال، لتصبّ جام غضبك حتّى على الإسلام الذي يمثّل عنوان هذا الواقع. وهذه الحالة تعيشها كلّ الشعوب المهزومة، تدفعها هزيمتها إلى حالةٍ من الإحباط النفسي، يؤدّي إلى السقوط أمام حالة الانتماء في مقابل الشعور بعظمة القوي، الفاتح، ممّا يجعل الإنسان يعتقد أنّ نقاط ضعفه هي الأساس، لا نقاط قوّة الآخرين.
وإذا كنّا نريد أنْ نستطرد استطراداً سريعاً في هذا المجال، لنذكّر أنفسنا بالواقع القريب، فقد لاحظنا في نكبة الــ 67 أنّ كثيراً من المثقّفين المستغربين الذين تحدّثوا عن النكبة، تحدَّثوا عن عواملها في شخصية الإنسان العربي، في غيبيّاته والتزامه الدينيّ وتقاليده وعاداته، من دون أن يعطوا الدور الكبير في عملية الهزيمة للّعبة الدولية ولطبيعة القيادات التي تحكم الواقع العربي ولطبيعة الأجهزة التي فرضت نفسها على الواقع. لقد كانت المسألة تنطلق من أنَّ هناك إنساناً عربياً متخلِّفاً وأنّ هناك إنساناً يهودياً متقدِّماً، وأنّ التخلُّف في الفكر العربي هو الذي قاد العرب نحو الهزيمة، في الوقت الذي نجد فيه شعوباً متخلِّفة في المسألة الحضارية تهزم شعوباً متقدّمة، كما في حركة فيتنام أمام الأميركيّين. لماذا فسَّر هؤلاء المسألة بهذه الطريقة؟ لأنَّهم يعيشون الهزيمة أمام القوي قبل أنْ تقع فعليّاً.
لذلك، عندما نحدّق في تحليل مسألة الهزيمة في البلاد الإسلامية، في بداية هذا القرن، فإنَّنا نلاحظ أنّ هناك روحية هزيمة كانت تعيش بشكلٍ تدريجي، من خلال واقع الهزيمة الذي كانت تعيشه الخلافة العثمانية؛ لأنَّها كانت مهزومة قبل أن تقسط بمدى خمسين سنة، ممّا جعل النقاط تتساقط لتؤلّف الخزّان الكبير بعد ذلك. ومن هنا رأينا بعض رجال النهضة يعملون على التوفيق بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، بحيث يؤوّلون كلّ ما هو إسلامي بما هو غربي حتّى يوحوا بأنَّ الإسلام يمثّل انفتاحاً، يتّفق مع هذا الفكر الغربي أو مع هذا الاختراع الغربي.
وهكذا انطلقت المسألة في هذا الخطّ وانطلق في مقابله تيّار آخر، يتمرَّد على المنهج التوفيقي وذلك بالتمرُّد على الأساس: لماذا نتعب أنفسنا في التوفيق بين فكرنا وفكر الغرب. لننطلق إلى الغرب إذا كانت القيمة هي في أن يكون فكرنا متوافقاً مع الفكر الغربي؟ فلتكن المسألة أن ننطلق مع الغرب، لأنَّ مفاهيمه هي التي أطلقت حركة القوّة فيه وهي التي غذَّتْ عناصر الحضارة في داخله. وقد قاد هذا التيّار مفكِّرون مصريون ولبنانيون وسوريون. وامتدّت المسألة بعد ذلك، لتتحرَّك في واقع يختلط فيه الجانب الفكري بالجانب السياسي ويطلاّن معاً على الجانب الاجتماعي، بحيث أصبح هناك تداخل بين جميع هذه الجوانب. فنحن نبحث عن التخلُّف الاجتماعي والسقوط السياسي من خلال المفردات الفكرية، وهكذا انطلقت مسألة الأصالة والحداثة والتبعيّة والاستقلال وما إلى ذلك من الكلمات الفضفاضة، التي انطلقت في أجوائنا الفكرية، لتتحدّث عن طبيعة العقل العربي وضرورة تحديثه، وعن مسألة التراث وضرورة مواجهته بطريقة نقدية، واعتبرت الأصالة عودة إلى جذور التخلُّف، وما إلى ذلك.
ولكنَّنا عندما نواجه هذه الكلمات الفضفاضة، لا بدَّ لنا من أنْ نتحدَّث عن حدود هذه المفاهيم، لأنَّ بعض المفاهيم قد تكتسب إيحاءات معيّنة، تجعلك تعيش معها في حالة ضبابيّة لا تعرف أين تقف. إنَّ الذين يتحدّثون عن العودة إلى الينابيع وإلى الأصول، فإنَّهم لا يتحدّثون عن العودة إلى ينابيع الجاهلية ولا أصول التخلُّف ولا أصالة التقليد، لأنَّ القرآن حارَبَ هذا المفهوم جملةً وتفصيلاً. فالقرآن يؤكّد أنَّ قناعتك تؤكّدها إرادتك وعناصر العقل فيك وعناصر الهدى في تجربتك. إنَّ الذين يقولون بالعودة إلى الينابيع وإلى الأصول وإلى الجذور، يتحدّثون عن ينابيع الفكرة الأساسية باعتبارها وجهاً للحقيقة؛ والأصول التي تمثّل القواعد الفكرية التي أثبتت ولو من وجهة نظر الذين يدعون إليها، صحّتها ومصداقيّتها، ولذلك فإنَّها ليست دعوة لتقليد الماضين وليست اجتراراً، وإنَّما هي دعوة للقواعد الفكرية الأساسية التي يمكن أن تغني الحاضر والمستقبل، كما أغنت الماضي، تماماً كما يتحدّث عن العودة إلى الأصول الأساسية للإنسان أو للحضارة الإنسانية، التي انطلقت من أفكار مفكّرين كانوا في الماضي. هل معنى العودة إلى أصول الحضارة هو العودة إلى الماضي؟ وإذا كنّا نتحدّث عن السَلَف الصالِح فإنَّ السَلَف الصالِح، عندما لا يكون من الأنبياء أو في أجواء الأنبياء فإنَّهم يكونون بشراً كبقية البشر، يخطئون ويصيبون وينحرفون؛ ممّا يجعلنا نواجه تجربتهم، كما نواجه تجاربنا الآن بعمليّة نقد وتمحيص وتحليل.
لذلك أنْ تكون مسألة الأصالة مسألة سلبية فهذا يختلف حسب اختلاف مفهوم هذه الأصالة. فإذا كانت الأصالة تعني جموداً على التجارب الماضية فنحن نوافق أنّها سلبية، لأنَّ الحياة تتقدَّم والإنسان يتقدَّم مع تقدّم الحياة. لكن نحن نؤكّد على الأصالة انطلاقاً من القواعد الثابتة التي أسَّس ثباتها على عناصر الفكر، الذي يفرض هذا الثبات، بقطع النظر عن موافقتك لذلك أو عدم موافقتك له، لأنَّ ما تطرحه أنت من فكرٍ بديل هو فكر يختلف مع الآخر وقد لا يوافق عليه الآخر، يعني ليست هناك فكرة ثابتة تشمل الوعي الإنساني كلّه وعلى هذا الأساس نقول: عندما تتحدّث عن مسألة العودة إلى الغرب وطرح الأصالة، فهل الغرب فكر واحد؟ الغرب فكر متحرّك ومتنوّع، وهل نستطيع أن نقول بأنَّ الغرب يمثّل الإيجابية المطلقة في حركته الحضاريّة؟ أو أنّ هناك سلبيات كثيرة يعترف الغرب بها؟ مشكلة البعض منّا أنّه يؤاخذ صاحب التجربة بالاعتراف بسلبياتها وينظر إلى السلبيات على أنّها إيجابيات.
نحن نقول ـــ كإسلاميين ـــ هناك فكر إسلامي نؤمن به، على أساس الإيمان المنطلق من الحجّة. ونحن نطرح هذا الفكر بانفتاحنا على الحوار بالطريقة التي انفتح فيها القرآن عليه، ليكون حوارنا بدون مقدّسات. فنحن مستعدّون أن نبدأ الحوار في أصل وجود الله وفي توحيده وفي انتماء القرآن إلى الله وفي نبوّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وفي كلّ شيء، لأنَّنا لا نؤمن أنّ الإيمان فوق العقل بل نعتقد أنّ العقل هو الذي يثري الإيمان، هو الذي يغذّيه، لذلك نقول للذين يقولون تعالوا إلى الغرب: أيّ غرب تقصدون؟ وأيّ فكر غربي وأيّ فلسفة غربية؟ وعندما تريدون أنْ تتحدّثوا عن الإسلام بسلبيّة، نقول: ما مفهومكم للإسلام؟ ولذلك نقول: حدِّدوا الكلمات والمفاهيم.
الإسلام في مستوى التحدّي
ـــ نلاحظ أنّ المجتمعات العربية ـــ الإسلامية تشهد اليوم تصاعداً مستمراً في نبرة الخطاب الديني الإسلامي. برأيك هل نستطيع توظيف ذلك بما يؤدّي إلى إيجاد الحلول لمشكلاتنا المعاصرة، من التوحيد إلى التحرير إلى التحديث؟
عندما تحدّثنا عن الصحوة الإسلامية وقلنا إنّها تتحرَّك في ظلّ أكثر من وجهة نظر ـــ وإنْ كانت تلتقي في المناخ العام ـــ فإنَّه من الطبيعي أن يختلف الخطاب الإسلاميّ في عقلانيّته وانفعاليّته، في تقدّميّته وتخلّفه، وطبعاً، باختلاف الذهنية التي تحكم هذا الفريق أو ذاك من المسلمين.
نحن، كإسلاميين، منفتحون على حركة الحياة، ونعتقد أنّ علينا أن نطلق الإسلام من خلال قواعده التي تؤمن بحركة الفكر وحريّة الحوار للوصول بالإنسان إلى التفاهم على القواعد الفكرية المشتركة. ونؤمن بأنَّ علينا أن ننطلق من خلال تكريم الله للإنسان، لنحرّره من كلّ القوى المستكبرة لتكون قضية التحرُّر شأناً يعيشه الإنسان المسلم كما يعيش صلاته. ونحن نعتبر أنّ الجهاد رديف الصلاة ورديف الصوم والحجّ. وهكذا عندما نطرح الإسلام في الواقع فإنَّ المفروض أن ينطلق الإسلام لحلّ مشاكلنا، وأن يدرس كلّ مفردات هذه المشاكل ويجد لها الحلّ. ولذلك فإنَّنا نريد أن نقول للإسلاميين، ونقول لأنفسنا: إنَّ التحدّي هو أن يتحرَّك الإسلام في خطابه السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي من أجل أن يواجه المشاكل التي يعيشها الإنسان في كلّ هذه الدوائر، ليشعر هذا الإنسان أنّ الإسلام، كما يفتح أبواب السماء له إذا كان تقيّاً، فإنَّه يفتح أبوابها له أيضاً من أجل أن يعيش في جنّة مصغّرة كمدخل للحياة في الجنّة الكبرى في الآخرة.
إنَّ هذا التحدّي مطروح أمام الإسلاميين وأتصوَّر أنّ الإسلام في مستوى التحدّي، وإن لم يكن بعض الإسلاميين في مثل هذا المستوى.
العروبة والإسلام: علاقة لا تنفصم
ـــ كتب الكثير عن العلاقة بين العروبة والإسلام، وعن التناقض والتلاقي بينهما، ألاَ ترى أنَّ هذا الحديث مفتعل من أساسه، وأنَّهما مندمجان في ما بينها بحيث لا نستطيع الحديث عن واحد منهما منفصلاً عن الآخر؟
عندما نتحدّث عن العروبة في مفهومها العفوي البسيط ونتحدّث عن الإسلام في خصائصه، فإنَّنا نرى أنّ العلاقة بين العروبة والإسلام هي علاقة الإطار بالصورة. فالعروبة حالة إنسانية تتحدَّد من خلال ظروف موضوعية وهي تحقّق بعض الخصائص للإنسان في لغته وفي عاداته وأرضه وما إلى ذلك. ولكنَّ هذا الإنسان، الذي يتمتَّع بهذه الخصوصيّات، يحتاج إلى فكرٍ في مفهوم الكون والحياة ويحتاج إلى قانون ينظّم له حياته، والإسلام هو الفكر والقانون. وإذا أردنا أن ننفذ أكثر إلى الواقع فنجد أنَّ هناك تداخلاً بين العروبة والإسلام. فأنتَ لا تستطيع أن تتصوَّر الإسلام بعيداً عن العروبة، لأنَّ القرآن نزل باللّغة العربية وبالأسلوب العربي في التخاطب والحوار، ولأنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عربي عاش في بيئة عربية، ولأنَّ الطليعة الأولى للدُّعاة إلى الإسلام وللمجاهدين في سبيله كانوا عرباً، ولأنَّ الثقافة العربية المنفتحة على الثقافة الإنسانية والمنطلقة من الثقافة القرآنية، فرضت نفسها على أكثر الواقع الإسلامي للمسلمين، الذين دخلوا الإسلام فاستطاعت أن تعرّبهم. فنحن نلاحظ أنّ الإسلام استطاع أن يعرِّب فكر ابن سينا وفكر الفارابي وسيبويه، وهكذا فكَّر كلّ الذين أنشأوا القواميس العربية كالفيروز أبادي وغيره.
لذلك أنتَ لا تستطيع أن تفصل الواقع العربي في ثقافته وفي تطلُّعاته وتاريخه عن الإسلام، كما أنّك لا تستطيع أن تفصل العروبة عن الإسلام، لأنَّ العروبة ولدت كحركة في حضارة من خلال حضارة الإسلام، وتحرَّكت كقوّة في العالَم من خلال قوّة الإسلام، واختزلت أكثر مفاهيمها الحيّة وعاشت أكثر رواسبها من خلال الإسلام، لهذا نجد أنَّ كثيراً من غير المسلمين يتعقَّدون من طرح العروبة، باعتبار أنّ طرحها هو طرح للإسلام من خلال هذا التداخل بينهما. هناك حالة واحدة حرَّكت هذا الإحساس والشعور بالمناقشة وهي مسألة العروبة التي عاشت في مفهومها الماركسي وفي مضمونها، فانطلقت كأيديولوجيّة تتبنّى الماركسية وقد خرجت من أن تكون حالة إنسانية، لتكون حالة فكرية تتبنَّى مفهوماً فكرياً يختلف مع مفهوم الإسلام. إنَّ المسألة عند ذاك لم تعد مشكلة العروبة والإسلام ولكن مشكلة الماركسية التي تتبنَّاها العروبة كحركة سياسية وثقافية مع الإسلام. ولذلك فإنَّ الذين يتحدّثون عن تناقض بين العروبة والإسلام، يتحدّثون عن المضمون الجديد الذي أعطي للعروبة كحركة سياسية، والذين يتحدّثون عن التداخل يتحدّثون عن العروبة في طبيعتها وفي تاريخها وفي حركيّتها، وعن الإسلام في طبيعته وحركيّته وفاعليّته.
الحوار الإسلامي ـــ المسيحي
ـــ يجري حديث دائم عن حوار مسيحي ـــ إسلامي، برأيك أين بلغ هذا الحوار، وما الأُسس التي يجب أنْ تعتمد لكي يأتي بالنتائج المرجوّة؟
إنَّني أتصوَّر أنّ المرحلة التي يعيشها ما يسمّى بالحوار الإسلامي ـــ المسيحي هي مرحلة إيجاد المناخ الملائم للّقاء، لأنَّ هناك فترة طويلة من الزمن عاش فيها المسيحيون والمسلمون في حالة تباعد وتنافر وانحراف عن مواطن اللّقاء. ولا يزال الإنسان يختزن، بتلك الذاكرة التاريخية المعبّأة، الكثير من الحساسيّات والسلبيات، ومن الأوضاع التي تجعل شعور الواحد منهم ضدّ الآخر. لذلك كانت المسألة هي أنَّنا بحاجة إلى مناخ نستعيد فيه الأجواء الرساليّة في الإسلام والمسيحيّة، ليشعر المسيحيون والمسلمون أنّه من الممكن لهم أنْ يتنفَّسوا هواءً واحداً وأنّه من الممكن لهم أن يجدوا كلمة سواء، وأنّه من الممكن أنْ ينفتحوا على دربٍ مشترك مع كلّ الخصوصيّات التي تميِّز أحدهما عن الآخر. إنَّني أتصوَّر أنّ مرحلة الحوار هذه هي مرحلة إيجاد المناخ الملائم للقاء مسيحي ـــ إسلامي يزيل الكثير من الحساسيّات ويفتح الكثير من المشاعر الحميمة؛ وأتصوَّر أنَّ الحوار المسيحي ـــ الإسلامي على مستوى العالَم ـــ وعلى مستوى لبنان ـــ قد استطاع أن يحصل على نتائج جيّدة ولو على مستوى الخطاب المجامل. لقد أُزيلت الكثير من الكلمات السلبية الحاقدة العنيفة وحلَّت محلّها كلمات إيجابيّة حميمة، وأعتقد أنَّ النتيجة هي نتيجة واقعية جيدة وعلينا ألاّ نكتفي بهذا المناخ الوحدوي الوفاقي، بل لا بدّ من أن نتابع والطريق طويل، لأنَّ مسألة الحوار المسيحي ـــ الإسلامي تماماً كما هي مسألة الحوار الإسلامي ـــ الإسلامي من بين الممنوعات التي ركَّزها الاستكبار العالمي في خطط أجهزته الثقافية والاستخباراتيّة. ونحن نعتبر أنَّ معركتنا في الحوار المسيحي ـــ الإسلامي أو في الحوار الإسلامي ـــ الإسلامي أو في الحوار الوطني أو القومي، تتّصل بمعركتنا ضدّ الاستكبار العالمي.
الأصوليّات
ـــ العالَم يشهد مجموعة من "الأصوليّات"، فهناك أصولية يهوديّة وأصولية مسيحيّة وأصولية إسلامية، فما الذي يميِّز الأصولية الأخيرة عن سابقتيها، وهل هناك إمكانية للتلاقي بين هذه الأصوليّات، طالما أنّها مجتمعة، تهدف للعودة إلى الينابيع أو الأصول الأولى، أم أنّها ستتصادم؟
إنَّ الأصولية ليست مفهوماً إسلامياً بحسب المفهوم الغربي، إنّها كلمة لا تعني مفهومها اللّغوي ولكنّها تعني مصطلحاً سياسياً وفكرياً. إنَّ الأصولية تعني العنف ضدّ الآخر وإلغاء الآخر وعدم إفساح المجال أمام أيّ فكر يختلف عن فكر الآخر. نحن لسنا أصوليّين بهذا المعنى، لأنَّ الإسلام يقول: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل : 125] ولأنّه يقول لأهل الكتاب: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران : 64] ولأنّه يقول: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ...} [العنكبوت : 46].
إنَّ الإسلام لا يلغي الآخر وهو ليس دين عنف بل دين رفق. والعنف في الإسلام هو حركة وقائية أو دفاعية ضدّ اعتداء الآخر، وليس حركة هجومية ضدّ إنسانية الآخر. ولهذا فإنَّ القرآن ركَّز مواجهته في ساحة الصراع مع الآخرين بين خطّين، حيث لا تستوي الحَسَنَة مع السيّئة. فالحسنة أسلوب رفق والسيّئة أسلوب عنف {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34] حاول أن تتبع الأسلوب، الذي يحوِّل أعداءك إلى أصدقاء ويؤكّد على صعوبة هذا الأسلوب وحاجته إلى أن يعيش الإنسان المعاناة فيه. لذلك نحن لسنا أصوليّين بالمعنى الغربي للأصولية. نحن إسلاميون منفتحون على الآخر ومنفتحون على البعض الآخر بالتعايش وباللّقاء على الكلمةِ السّواء. إنَّ الأصولية اليهوديّة تستعلي على الآخر وتلغيه، لذلك نجد أنَّ اليهود يقولون: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران : 75]، كما يقولون: نحن أبناء الله وأحبّاؤه وأنّهم يمثِّلون الشعب المختار، وأنَّ العالَم كلّه يقف في خدمة اليهودي.
والإسلام لا يقول ذلك. وعندما يتحدَّث بعض الناس من النصارى في الجدل السياسي عن أنَّ القرآن قال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران : 110]، ممّا يعني أنَّ هناك استعلاء على الناس، فإنَّهم لم يكملوا الآية ليقرأوا بعدها: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران : 110]، أنتم خير أُمّةٍ أُخرجت للنّاس، بلحاظ أنّكم تتحمَّلون مسؤولية الحياة، لتملأوا الحياة بالمعروف الذي يغني تجربة الإنسان ولتطردوا منها المنكر الذي يسقط تجربة الإنسان. وهكذا عندما يقول: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران : 139]: فالإعلائية تتحقَّق من خلال الإيمان بالله ومن خلال آفاق الله.
وهكذا نجد أنَّ الأصوليّة المسيحيّة كانت تعمل على إلغاء الآخر وعلى الاستعلاء على الآخر وعلى أنْ تأخذ الامتيازات لنفسها ضدّ الآخر. ونحن لا نعتبر كلّ حركة مسيحيّة في اتّجاه التبشير المسيحي، حركة أصولية بالمعنى الغربي. نحن أصوليون بالمعنى اللّغوي للكلمة التي تعني العودة إلى الينابيع، وينابيعنا تنطلق من أعماق رسالتنا، لتنطلق في السواقي التي تتجمَّع هنا وهناك لتتجمَّع في النهر الكبير. نحن نؤمن بموسى وعيسى ومحمّد ونؤمن بالتوراة والإنجيل والقرآن ولا نفرِّق بين أحدٍ من رسله، ونحن بعون الله مسلمون.
الخطوط العامّة حول لبنان
ـــ نريد أن نعود بالكلام مجدّداً إلى لبنان، فكيف يرى سماحة السيدّ فضل الله الحالة الإسلامية هنا؟ وهل تملك هذه الحالة برنامجاً سياسياً، يسهم في إيجاد الحلول الموضوعية لمشكلات البلد السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟
عندما نتحدّث عن حلول تفصيليّة فإنَّ من الصعب أن نجد أيّ تيّار سياسي آخر يعرف هذه التفاصيل، لأنَّ التفاصيل تنطلق خلال المتغيّرات والظروف الموضوعية والخصائص الواقعية التي تختلف بين مرحلةٍ وأخرى، أمّا عندما نفكّر في الخطوط العامّة فإنّي أعتقد بأنَّ الإسلاميين يملكون الخطوط العامّة لمواجهة هذه المشاكل وأتصوَّر أنَّ تجربتهم التي تمثّل رشداً سياسياً وفكرياً تدلّ على أنّهم لا ينطلقون من فراغ.
الجهاد داخل المجلس النيابي أيضاً
ـــ في الانتخابات الأخيرة حقَّقت الحالة الإسلامية مكاسب مهمّة، بحيث أصبح لها وزن معقول في الندوة اللبنانية. برأي البعض فإنَّ الحالة الإسلامية "تشرعنت" وأنّها ـــ بدخولها إلى الحياة السياسية اللبنانية ـــ سوف تتحوّل إلى جزء من النظام القائم، فهل هذا صحيح برأيكم؟ أم أنّ الحالة الإسلامية، ممثّلة بنوّابها، سوف تسعى إلى إحداث تبديل في بنية النظام اللبناني وتوجّهاته؟
إنَّني أتصوَّر أنّ الكلام على "شرعنة" الحالة الإسلامية يعني أنّ الحالة الإسلامية كانت تعيش فوضى وهذا أمر ليس صحيحاً. أمّا إذا كانت المسألة أنّها كانت ثورة ضدّ النظام فإنَّ دخولها في بعض مؤسّساته لا يعني انسجامها مع مفاهيمه، ليأخذ النظام شرعيّته من خلالها، لأنَّنا نعرف أنّ كلّ حركة معارضة عندما تصبح في داخل النظام ـــ في الوقت الذي لا تملك فيه أن تغيّره بطريقة الثورة ـــ فإنّها تعمل على تغييره بطريقة أخرى، لذلك أعتقد أنّ دخول الإسلاميين إلى المجلس النيابي يلتقي مع حركتهم الجهادية في مواجهة الصهيونية والاستكبار العالمي والظلم الداخلي.
إنَّ هناك تكاملاً بين الحركة السياسية والحركة الجهادية، إنَّ الخوف من الذوبان في داخل النظام يصحّ عندما تبقى الحركة السياسية في الدوائر المألوفة للمسألة السياسية بعيداً عن المسألة الجهادية.
المفاوضات: توقيع على الهزيمة الكبرى
ـــ لا بدّ أخيراً من التوجُّه إليكم بسؤال حول المفاوضات العربية ـــ الإسرائيليّة، ما هو برأيكم الأُفق الذي ستبلغه هذه المفاوضات؟ وما انعكاساتها ونتائجها المفترضة على الساحة اللبنانية؟
إنَّني أتصوَّر أنّ المفاوضات بدأت، لتصل إلى نهايات حاسمة في مسألة الصلح بين العرب و"إسرائيل". ولكن متى وأين؟ هذا لا يمكن تحديده، لأنّه خاضع لمتغيّرات الواقع الدولي. ولكنَّنا نتصوَّر أنَّ النتائج التي سوف تنتهي إليها المفاوضات لن تكون نتائج إيجابية في حسابات العرب أو الفلسطينيّين. بل ستكون النتائج أقرب إلى المصلحة الإسرائيلية، لأنّها تتحرّك من خلال التحالف مع المصلحة الأميركية. لذلك فإنَّني أتصوَّر المفاوضات حركة في خطّ التوقيع على نهاية الهزائم العربية بالهزيمة الكبرى، التي يتحرّك فيها السلام، ليكون حرباً جديدة تشنّ على الواقع العربي الاقتصادي والسياسي والثقافي والأمني من قِبَل "إسرائيل" بالتحالف مع أميركا، لتكون هناك حرب خليج ثانية يقودها الأميركيون مع الحلفاء، ليعيش العرب في حالة انعدام وزن اقتصادي وأمني واجتماعي بعد أنْ عاشوا في حرب الخليج الأخيرة حالة انعدام وزن سياسي. ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك سلباً على الواقع اللبناني الهشّ الذي يستقبل العواصف سواء كانت عواصف حرب أو سلام من أيّ مكانٍ في العالَم.
الإسلام دعوة للحوار(*)
من ميزات زمن التحوُّلات الذي نعيشه، التساؤلات التي يفرضها دور الإسلام ووظيفته في السياسة.
فمنذ هزيع القرن العشرين الأخير هذا، رأت شرائح واسعة في الوطن العربي والعالَم الإسلامي في الإسلام عاملاً تاريخياً وأيديولوجياً من عوامل الخلاص السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وبديهي أنّ دور الإسلام في التكوين التاريخي للوطن العربي، هو الذي أعطى هذه التساؤلات قيمتها المصيرية في نظرية العمل السياسي. وبينما كانت الأحزاب والقوى السياسية تلتزم على التوالي بعوامل الصراع القومي والطبقي والديمقراطي، كانت الظاهرة "الأصولية" تطرح تجاوزها لهذه المحدّدات، وتجعل من نظريّتها إطاراً للاستيعاب ومعادلة توازي كلّ المعادلات الأيديولوجية الأخرى. وكما أنّ القوى السياسية والحزبية هي هبة نظريّاتها الفلسفية، كذلك فإنَّ الأُمم هي هبة رسائلها الدينيّة.
ولكنَّ الأمر في ظلّ تعبيراته اليومية، وفي رحى مفهوم الصراع على السلطة، جعل التساؤلات تنقلب من مشروعيّتها الفكرية، إلى لا مشروعيّتها السياسية. وبقدر ما للإسلام من جذور وعراقة في تكوين مجتمعاته، إلاّ أنّ الآلية التنظيميّة وضعته أحياناً في تعارض مع العامل القومي، وحوّلته من حالة رافعة إلى حالة ضاغطة، ومن عامل اتّصال وتواصل إلى عامل دفع معاكس.
وهكذا فإنَّ الآلية "الحزبية" للأصوليين، التي كان رمزها يظهر كحالة لم تستطع أنْ تتجاوز التعدُّدية السياسية، فراحت تمارس تأثيرها على البنية التاريخية للكيانات القومية وخصائصها، بل وبدأت تفعل فعلها أيضاً في الأُسس الثقافية والحضارية للوجود القومي، وذلك بالاستقطاب "السالب للهويّات" بدلاً من الاستقطاب "الماسك" للقوميّات.
وعلى أيّ حال، يجد سؤال الإسلام والأصولية مشروعيّته السياسية والفكرية، بالأمرين: الواقعي والديمقراطي...
.. بل ويفرض تحدِّياً أيديولوجياً على نظرية العمل السياسي العربي، لأنَّ مفهوم الإسلامية في عمقه مفهوم أشمل باعتباره داخلاً في حقل "إلهي"، ولأنَّ مقاربته تفرض الحذر ـــ قليلاً أو كثيراً ـــ من الاستلابات الفلسفية التي تسلَّلت إلى الأيديولوجيّات القومية.
إذاً هي ظاهرة للتمعُّن والدراسة.. والحوار.
الحوار؟
هذا هو مربط الفرس.
فالسؤال ليس من غير مكوّنات اقتصادية وسياسية وفلسفية وجغرافية.
وأيضاً: ليس من غير دلالة تكتُّليّة في زمن التكتُّلات ومفهوم صراعاتها.
ومن هذه المحدّدات كانت منطلقاتنا، وإلى هذا الهدف: "الحوار" كانت غاياتنا.
والآن، ونحن نواصل فتح هذا الملف، نقيم الحوار مع أحد الوجوه الإسلامية البارزة، العلاّمة السيّد محمد حسين فضل الله، والهدف دائماً فتح الباب على مصراعيه أمام الحوار وتبادل الآراء. فالتساؤلات متعطّشة للرؤى، وعلينا ـــ كما على كلّ وسيلة من وسائل الاتصال الجماهيري ـــ فتح الأذهان لإعطاء هذا التعطُّش فرصة للارتواء الفكري... وليس الغرائزي.
نريد هنا أن نلتزم مهنة الإبداع والابتكار، لا أنْ نقف مع أحد، فالوقوف في هذه الحالة سيكون انعكاساً لحركة الذين يسعون إلى وقف التاريخ.
ويبقى أنَّ هذا الموضوع هو من موضوعات... وهذا الحوار من حوارات.. وهذه الشخصية الفكرية من شخصيّات.
غير أنَّ الثابت في كلّ هذا التعدُّد والتوُّع هو الحوار... وأنّها دعوة مفتوحة إليه.
ـــ التطرُّف والعودة إلى الأصولية حالة عالمية تمسّ الأديان الثلاثة، ما الفارق بين الأصولية الإسلامية وأصولية الأديان الأخرى؟
في البداية أحبّ أنْ أتوقَّف عند كلمة الأصولية الإسلامية، لأنَّنا لم نطلقها من موقعنا الإسلامي العام. ولكنّها كلمة تحرّكت في قاموس المصطلحات السياسية، في الإعلام الغربي، الذي يحاول أن يعطي بعض الكلمات لبعض المواقع حتّى تحمل بعض الإيحاءات الجادّة التي يمكن للنّاس أن يتفاعلوا معها تفاعلاً مضادّاً باعتبار ما يختزنونه في داخل وعيهم لهذه الكلمة، أو لتلك، من أفكار سلبية على مستوى حركة الواقع الإنساني.
إنَّ كلمة الأصولية تعني بما نفهمه، في المصطلح الغربي، الخطّ الذي يعمل على العودة إلى الماضي في حالة تحجر تصادر كلّ تطوّرات الإنسان في نموّه الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، لينطلق هؤلاء عند نقطة معيّنة من الزمن في حفنة من الأفكار التي تحرَّكت حول هذه النقطة ليختصروا كلّ حركة الحياة في داخلها.
وعلى هذا الأساس اعتبروا أنّ الإسلاميّين الذين انطلقوا من أجل إعادة الإسلام إلى الحياة، وعملوا على مواجهة الاستكبار العالمي من خلال ما أطلقوه من عناوين الحريّة والعدالة الإنسانية، حاولوا أن يضعوا هذه الحركة، كلّها، في دائرة الجمود والتمرُّد والتعصُّب والعنف، وما إلى ذلك من كلمات تختزنها هذه الكلمة.
ونحن في الوقت نفسه، لا ننكر أنَّنا عندما نحرِّك الخطّ الإسلامي في الحياة المعاصرة، فإنَّنا ننطلق من الدعوة الإسلامية الأولى التي أطلقها النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بوحيٍّ من الله. ولكن ليس معنى ذلك أنْ نتحجَّر عند تلك المرحلة، فنجمد أمام الأوضاع التي كانت تعيش فيها، ولكن معنى ذلك أنَّنا ننطلق من الدعوة الإسلامية التي تحمل في داخلها الكثير من الملامح الفكرية التي تعطي الإنسان حريّة التقدُّم الحضاري على مستوى حركة الفكر، في مفردات الواقع، وعلى مستوى حركة العلم، في كلّ ما يكتشفه الإنسان من أسرار الكون، وعلى مستوى حركة الواقع من خلال ما يمكن للإنسان أن يصنعه من خلال اكتشافاته للكون، في ما يمكن تصنيعه على هدى القوانين السائدة.
وهكذا فإنَّ الإسلام من خلال مفاهيمه العامّة التي تعمل على تطوير الحياة وعلى إغنائها بكلّ ما يمكن أن يرفع مستواها، والرجوع إلى الأصل في هذا المعنى، لا يعني التوقُّف عند نقطة معيّنة في الزمن، ولكنّه يعني الانطلاق من خلال المبادئ التي تحتوي حركة التطوُّر في الزمن وحركة النمو في الإنسان. وهذا ممّا تكفله حركة الاجتهاد في فهم الإنسان والواقع، وفهم الإسلام في خطوطه العامّة وفي مواجهة كلّ مستحدثات الواقع التي تتّصل بقضايا الإنسان بالتشريعات التي تتلاءم مع الفكر الإسلامي والشريعة الإسلامية بشكلٍ عام.
ولعلَّنا عندما ندرس حركة الفكر والفقه الإسلاميين، وحركة الحضارة الإسلامية من خلال الفكر والفقه وما إلى ذلك، فإنَّنا نجد أنَّ الإسلام قد استطاع أن يطوِّر الحياة بدلاً من أنْ يتجمَّد عندها أو أن يجمّدها في دائرته.
أمّا الحديث عن العنف والتعصُّب وما إلى ذلك من كلمات، فالإسلام ليس دين عنف ولكنّه دين يعطي العنف مواقعه التي تحتاجها الحياة، تماماً كما تحتاج العواصف والزلازل والبراكين من خلال المعطيات التي تتجمَّع حول هذه الظواهر، كما يحتاج إلى الرفق، مثل حاجة الحياة إلى الرياح الهادئة المعتدلة وما إلى ذلك.
إنَّ الإسلام ليس بدعاً من حركة التيّارات الحضارية في العالم، التي قد تعتبر العنف ضرورة في بعض مواقع الحياة، كما تعتبر الرفق ضرورة، في هذا المجال وعلى ضوء هذا فإنَّنا لا نوافق على استعمال هذه الكلمة في مصطلحاتنا الإسلامية.
ومن خلال ذلك، نحن نعتبر أنّ العودة إلى الأصول المسيحية، في ما يسمّى بالأصولية المسيحية، والعودة إلى الأصول اليهودية، ـــ في ما يسمّى بالأصولية اليهودية، ـــ وفق ما نفهم فيه التوراة والإنجيل ـــ هي عودة إلى الينابيع التي يمكن أن تغني تجربة الإنسان في الحياة.
أمّا إذا كانت الأصولية المسيحية، أو الأصولية اليهودية، تعني العنف لإلغاء الآخر ولاضطهاده، ولتخريب الحضارة.. وعدم إفساح المجال للحوار بشكلٍ أو بآخر، فإنَّنا نعتبر أنّ الإسلام يختلف عن مثل هذه الأصوليات، لأنَّ الإسلام في عودته إلى الأصول ينفتح على كلّ قواعد الفكر، وعلى كلّ حركيّته بانفتاحه على الله والحياة والإنسان.
الحالة الإسلامية والواقع
ـــ إلى أيّ الأسباب تظهر الحالة الإسلامية كما هي عليه الآن، وهل أنّ غياب البديل هو الذي يدفعها إلى الواجهة في هذه المرحلة؟
عندما ندرس حركة الحالة الإسلامية في المرحلة التي لا نزال نعيش امتداداتها، نلاحظ أنّها ولدت في مجتمع كان العنف يمثِّل كلّ حركاته وكلّ أجوائه وكلّ ملامحه. فنحن نلاحظ مثلاً أنَّ ما يسمّى بــ "الأصولية" الإسلامية انطلقت في أجواء ولادة "إسرائيل" في المنطقة، وكردّة فعل على ممارسات العنف الصهيوني المجنون ضدّ الفلسطينيّين الذين تمّ تشريدهم من أرضهم في محاولة السيطرة على المنطقة كي تكون قاعدة للتحرّك الغربي الأميركي ضدّ قواها الحيّة. وهكذا كانت "إسرائيل" قاعدة أميركية لمواجهة كلّ سياسات رفض السياسة الغربية، التي تعمل للسيطرة على ثروات الأُمّة وعلى قراراتها السياسية والاقتصادية والأمنية.
وهكذا لاحظنا أنّ الحركة الإسلامية انطلقت في الأجواء التي كانت الأنظمة المتحالفة مع أميركا تتحرَّك فيها من أجل اضطهاد الناس وإسكات كلّ نداءات الحريّة وكلّ صرخات العدالة في واقعهم.
ولذلك انطلقت الحركة الإسلامية بهذا الشكل من العنف والتحدّي والمواجهة للسياسة الأميركية في المنطقة، باعتبار أنّ الحركة التي أثارتها "إسرائيل" التي هي ربيبة الغرب هنا، جعلت أيّة حركة لا تستطيع أن تواجه واقع هذا الضغط المفروض على المنطقة، سواء على مستوى السياسة الداخلية لحلفاء الغرب فيها، أو على مستوى السياسة الخارجية لكلّ دولة، في مواجهة التحدّيات الكبرى المفروضة على هذه الشعوب. إنّ ذلك جعل طريق الوصول إلى الأهداف والنتائج الحاسمة في الواقع الداخلي، وفي تغيير السياسة العامّة في المنطقة لمصلحة قضية الحريّة والعدالة على أساس الإسلام، جعل الطريق محصوراً في هذا الاتّجاه، ونحن نعتقد أنَّ المنطقة لو كانت تعيش حالة من الحريّة في الرأي والعمل السياسي، وطريقة التغيير السلمي للأنظمة والحكّام، لكان من الممكن ألاّ تدخل الحركة الإسلامية في ساحة الصراع على مستوى العنف، لأنَّها كانت قادرة على تغيير الواقع بالطرق السلمية، ولكنَّ الضغط الاستعماري على المنطقة جعلها تشعر بالضرورة السياسية للسير في هذا الاتجاه، كما أنّنا لا ننسى ـــ كما ذكرنا ـــ أنَّ مواجهة "إسرائيل" التي ركّزت كلّ قواعد القوّة العدوانية في المنطقة ضدّ كلّ المواقع العربية والإسلامية، جعلت مسألة العنف تدخل في نطاق الدفاع عن الأرض وعن الحريّة والإنسان، ممّا يكفله كلّ قانون حضاري في العالَم.
إنَّ الحركة الإسلامية لم تخترِ العنف، ولكنّ العنف فرض عليها عندما فرض على المنطقة كلّها. ولذلك رأينا أنّ كلّ التيّارات التي كرّست في المنطقة، سواء كانت تيّارات تدخل في نطاق القومية العربية، أم نطاق الماركسية أم الدائرة الوطنية، قد تحرَّكت نحو العنف، لأنَّ العنف هو سمة الواقع السياسي في المنطقة كلّها.
حالة إسلامية أم حالات إسلامية
ـــ هل هناك حالة إسلامية واحدة أم حالات إسلامية؟ أصوليّة أم أصوليّات؟ وما الذي نراه الآن على السّاحة من تنوُّع وتضادّ بين الحركات الإسلامية؟ وهل يمكن القول بوجود يسار ويمين إسلاميين؟
الحديث عن الإسلام يكون باتّجاهين، هناك حديث عن الإسلام الحركي الذي يعمل من أجل أن يكون الإسلام قاعدة للفكر والعاطفة والحياة حتّى يحكم العالَم، وهناك الإسلام التقليدي الذي يكتفي من حركة الإنسان المسلم، بممارسة العبادات، وبعض الأخلاقيات والالتزامات التقيّة الورعة في اجتناب المحرَّمات وفعل الواجبات على مستوى فردي.
من الطبيعي أنّ للإسلام التقليدي نظريّة تختزن في داخلها المعنى العام للنظرية المتخلِّفة عن الدين، وهي أنّ الدين علاقة بين الإنسان وربّه، وأنّه يمثِّل حالة روحية أخلاقية تعني انضباط الفرد والتزامه واستقامته، وتعطي الحياة بعض الأجواء الروحية التي تتنفَّسها في ساعات الشدّة وفي ساعات الضغط العنيف.
أمّا الإسلام الحركي، فهو يخضع لاجتهادات متنوّعة في فهم بعض الأفكار الإسلامية، أو في فهم بعض الوسائل الإسلامية العملية في حركة الإنسان في الواقع. فهناك من الإسلاميّين الحركيّين مَن يعتبر أنّه من الضروري المرور بمراحل متعدّدة ريثما يبلغ الإنسان المرحلة الجهادية، فهناك مرحلة ثقافية تربّي الأُمّة على ثقافة الإسلام، ثمّ المرحلة السياسية التي تجعل الأُمّة تتحرَّك في مواجهة قضاياها العامّة، ثمّ الحركة الجهادية التي تأتي بعد استكمال القاعدتين الثقافية والسياسية الواسعتين، ريثما تصل إلى مواجهة الآخرين الذين يفرضون عنفهم على الواقع الإسلامي، بطريقة العنف.
هناك تيّارات إسلامية تجتهد في فهم الوسائل الإسلامية بهذه الطريقة، وهناك تيّارات إسلامية أخرى لا ترى مبرّراً للّجوء إلى العنف، وترى الانطلاق لنكون دعاة إلى الإسلام بالوسائل السلمية، ومتحرّكين في الخطّ السياسي، بالوسائل السلمية أيضاً، فإذا فرض علينا العنف فإنَّنا نهرب نحاول أنْ نتخفَّف منه.
وهناك اجتهاد إسلامي ثالث، وهو أنَّ أيّة حركة تعمل من أجل الوصول إلى أهدافها، لا بدّ لها من درس كلّ إمكانات الواقع الذي تعيشه في واقعية هذا الأسلوب وذلك لتختار الأنسب من بينهما، فإذا أمكن للعنف أن يختصر كلّ مراحل المعاناة، فإنَّ المصلحة الإسلامية تفرضه، وإذا كان العنف يؤدّي إلى نتائج أكثر سوءاً من النتائج الحالية فإنَّ علينا أن نتفاداه، وما إلى ذلك.
المسألة تتّصل باجتهادات إسلامية في الوسائل، وربّما هناك اجتهادات إسلامية في نظرية الحكم، فهناك نظرية الشورى، وهناك نظرية ولاية الفقيه، وهناك نظريات ربّما تمزج بين هذا الخطّ وذاك. ولكنَّنا نعتقد أنّه ليس هناك "إسلامات" كما يحاول بعض الناس أن يقولوا، وليس هناك أصوليات، لأنَّ كلّ الإسلاميين الحركيين يتطلَّعون إلى أن يحكم الإسلام الحياة، لكنَّ المسألة هي في الوسائل التي توصل إلى الحكم.
كما أنَّ الإسلاميين قد يختلفون في فهمهم الفقهي لبعض مواقع الفقه الإسلامي، على مستوى حركة الفقه السنّي أو حركة الفقه الشيعي، أو ما إلى ذلك، ممّا يمكن للفقهاء أنْ يتجاوزوا فيه الخطوط الحادّة التي تحصر المجتهد الشيعي في دائرته الشيعيّة، أو تحصر المجتهد السنّي في دائرته السنيّة، ليمكن أن ينطلق من خلال الأُفق الواسع الذي قد يختار فيه السنّي بعض أفكار الشيعة الفقهية، أو قد يختار الشيعي بعض أفكار السنّة الفقهية.
إنَّنا نلاحظ أنَّ الحديث عن أنّ هناك "إسلامات"، وأيّ إسلام نريد، وأيّة أصولية تتحرَّك؛ إنَّ هذا حديث قد يغلب عليه الطابع السياسي الإعلامي المضادّ للحركة الإسلامية. إنَّنا نلاحظ مثلاً، أنّه في الاشتراكيات هناك اجتهادات مختلفة في خطوط الاشتراكية، وهناك في القوميّات خطوط مشتركة في مسألة حركة التيّار القومي ونظريّته الإنسانية، أو نظرته المنغلقة، لهذا فإنَّنا لا نعتبر أنَّ هناك "إسلامات" متعدّدة، هناك إسلام واحد تتنوَّع اجتهاداته وتتنوَّع النظرة إلى مسائله وإلى بعض مفرداته، كأيّ فكرٍ آخر وأيّ دينٍ آخر. إنَّ التنوُّع في دائرة الوحدة لا يلغي هذه الوحدة.
ـــ ما الذي يمنع أن يعيش الإسلام في الأيديولوجيا الإسلامية والسلطة
عصرنا الحديث أزمات تاريخيّة مماثلة في الجانب الاقتصادي، أو في جانب ما نعرفه بمصطلح الديمقراطية أو الشورى، وبالتالي وقوع الطلاق بين الأيديولوجيا الإسلامية والسلطة؟
هناك نقطة في هذا السؤال لا بدّ من إثارتها، وهي أنَّ أيّ تيّار يحمل قاعدة للحكم وخطوطاً للتشريع، ووسائل عملية محدَّدة لبلوغ الأهداف، لا بدَّ له من مواجهة أيِّ واقع مختلف، أو أيّ واقع مضادّ بالطريقة التي يعيش فيها الإحساس بأنَّه ليس واقعاً شرعياً، بمعنى أنّه لا يمثّل الخطّ الذي يعتبر أنّه الحقيقة وأنّه الشرعية. وأعتقد أنَّ الإسلام ليس بدعاً من التيّارات في هذا المجال، فالتيّار الماركسي مثلاً يعتبر أنَّ الرأسمالية هي حالة لا شرعية في حركة الواقع، وفي هذا الجانب نحن نلاحظ أنَّ هناك خصوصيّة في الإسلام وهي أنّ طبيعة الالتزام الإسلامي، ولاسيّما في ما يتّصل بالجانب الفقهي لحركة الإسلام، تفرض على الإنسان المسلم أن يطبّق الالتزامات الفقهية على نفسه ما أمكنه ذلك، حتّى في الساحة التي لا يحكمها الإسلام. فأنا مثلاً عندما أعيش في المجتمع الرأسمالي الربوي، فإنَّني لا أستطيع أن أبرِّر لنفسي كمسلم أن أكون ربويّاً، بل لا بدّ لي من البحث عن أيّة طريقة، حتّى في دائرة الضروريّات، عن عنوان يجعلني أتحرَّك بعيداً عن العنوان الربوي، وهكذا عندما أعيش في مجتمع يستحلّ بيع المحرَّمات، فإنَّ ذلك لا يبرِّر لي ممارسة ذلك لأنَّ القانون يبيحه. بينما نجد أنَّ هناك بعض التيّارات التي ترى أنَّ الإنسان الملتزم بها لا يكلّف في مفردات حياته الجزئية، أن يطبّقها على نفسه خارج الوضع العام. فالماركسي يمكن أن يكون أكبر ربويٍّ في المجتمع الرأسمالي، دون أن يشعر أنّه تنكَّر لماركسيّته، لأنَّه يرى أنَّ حلّ المشكلة الاقتصادية يكون بتطبيق الماركسية في الجوّ العام، وليس بممارسة الماركسي أخلاقه الماركسية في المجتمع الرأسمالي، وهذا ما يدخل حياة الإنسان المسلم في تعقيدات متنوّعة عندما يعيش المشكلة بين ما هو الالتزام الفقهي وبين ما هو الالتزام القانوني.
على هذا الأساس فإنَّ من الصعب جداً أن يشعر الإنسان بالسلام النفسي والسلام العلمي أمام أيّ نظام يحكمه قانون غير إسلامي. ولكن هذا لا يمنع من أن يعمل المسلمون الذين يعيشون في هذه الدائرة القانونية المضادّة أو تلك الدائرة القانونية المخالفة، على أنْ ينسجموا مع المسائل التي يختلفون فيها مع النظام بالوسائل الحضارية التي يؤكّدها الإسلام، ولا يتحرَّكون في العنف إلاَّ إذا فرض عليهم ذلك.
نحن نقول إنَّ مسألة علاقة الإسلام بالسلطة لا بدَّ أنْ يحدِّدها المنهج الفقهي الإسلامي في مواجهة خطوط السلطة التي تتحرَّك في الدائرة القانونية أو في دائرة السياسة العامّة. ومن الطبيعي أن يطرح المسلمون اقتصادهم، وفق نظريّتهم في الحكم على خطّ الشورى أو على خطٍّ آخر، ومن الطبيعي أنْ يعملوا على إيجاد كلّ الظروف الموضوعية الملائمة للوصول إلى أهدافهم، بما في ذلك الأسلوب الديمقراطي الذي قد تعتمده الدولة، أو بأيّة طريقة أخرى في هذا المجال.
التركيز على القانون الجزائي
ـــ بعض الإسلاميين لا يرى في الإسلام غير تطبيق الحدود والبنود الجزائية، في حين أنَّ أوّل أسماء الله الحسنى هو الرحمن الرحيم، وأنَّ الإسلام دائماً يشدِّد على مبدأ التخفيف والرحمة، فما سبب التركيز على جانبٍ واحد وإغفال جوانب جوهرية وأكثر أهميّة؟
إنَّنا نعتبر أنَّ التركيز على جانبٍ دون جانب في الإسلام، هو خطأ كبير لأنَّه يمنع من وضوح الرؤية للإسلام في أبعاده الفكرية والعملية، لاسيّما إذا كانت القضية التي تستأثر باهتمام هذه الحركات الإسلامية، هي قضية الحدود، لأنَّها سوف تجعل النظرة إلى الإسلام، عند الذين لا يفهمون شمولية الحلّ الإسلامي لمشاكل الإنسان، نظرة غير عادلة باعتبار أنَّ الإسلام سيبدو أمامهم بصورة الدّين الذي لا همَّ له إلاّ أن يقطع يد السارق أو رجله، أو أنْ يجلد الزاني أو يرجمه، أو يجلد شارب الخمر، وما إلى ذلك من الحدود.
نعتقد أنَّ هناك نقطتين: الأولى هي ضرورة طرح الإسلام في صورته الشاملة، الكاملة، الواسعة، التي تشتمل على الخطوط الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية التي يمكن أن يتحرَّك بها الإسلام للوصول إلى أهدافه، ومن خلال ذلك نطلّ على القانون الجزائي في الإسلام، وحتّى إذا أُتيحت لنا فرصة تطبيق الشريعة الإسلامية ـــ ولا يمكن تطبيقها دفعة واحدة ـــ فإنَّ علينا أن نعمل على دراسة الأولويات في مسألة التطبيق، فمن الطبيعي جداً أن تكون الأولوية في التطبيق هو لحلّ المشكلة الاقتصادية والاجتماعية للإنسان، باعتبار أنَّ ذلك يجعل من مسألة القانون الجزائي الإسلامي قانوناً يتحرّك لحماية الإنسان من الذين يسيئون للمسألة الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية بشكلٍ عام. إنَّ الناس إذا عرفوا المنهج الاجتماعي والاقتصادي للإسلام، من خلال المنهج الأخلاقي الذي يحكم حركة الاقتصاد والاجتماع، فإنَّهم سيجدون أنّه من الطبيعي أن يعاقب الإسلام من يحاول الإساءة إلى الخطوط الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية التي تتحرَّك لمصلحة الأُمّة.
ولعلّي أجد أنَّ الذين أطلقوا مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية من الحكّام العرب، في بعض البلدان الإسلامية، إنَّما أرادوا من خلال ذلك الإساءة إلى الطرح الإسلامي، عندما يركّزون على هذا الجانب بعيداً عن الجوانب الأخرى. ولعلَّنا نلاحظ أنّه لا معنى لأن تطبّق قانون قطع يد السارق مثلاً، أو القوانين الأخرى في مجتمع يعيش الفقر كأقسى ما يكون الفقر، ويعيش الجوع كأقسى ما يكون الجوع، أو في مجتمع لا يملك أيّة ضوابط للمسألة الاجتماعية والأخلاقية، ممّا يجعل من هذا القانون في النظرة العامّة قانوناً يضطهد الفقير الذي لا يجد ما يأكله، فيضطر إلى السرقة فيبادر القانون إلى قطع يده دون أن يدرس ظروفه في هذا المجال، ولذلك نحن نعرف أنَّ الإسلام أباح للإنسان الفقير في أيّام المجاعة، وعندما تتوقَّف حياته على السرقة، أن يسرق مع الضمان في المستقبل أو بدون ضمان في المستقبل على أساس حاجته، وأنَّ القانون لا يمكن أن يطبّق على الجائع.
النقطة الثانية التي أُريد إثارتها، هي النظرة السلبية للقانون الجزائي في الإسلام، إنَّنا نعتقد أنّه ما من مجتمع إلاّ ويحتاج إلى قوانين جزائية تضبط الأوضاع القلقة والمنحرفة التي تحاول أن تسيء إلى الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية. وبذلك فإنَّ الحديث عن الرحمة وعن التسامح وما إلى ذلك، هو حديث غير ذي موضوع، في طبيعة تشريع القانون الجنائي، أو تشريع القانون الجزائي، لأنَّ قضية الرحمة هي قضية نسبية، فربَّما تحتاج إلى أن تقسو على الإنسان عندما تدفع بمبضع الجرَّاح إلى جسده، رحمة بحياته. وهكذا تقسو على الفرد، ممّا يتنافى مع الرحمة العاطفية الذاتية، لحفظ سلامة المجتمع الذي تعتبر سلامته أساساً لسلامة الفرد. لذلك إنَّنا لا نوافق على إطلاق مسألة العقوبات في الواجهة لتكون التجربة الأولى في تطبيق الشريعة الإسلامية، بل نجد أنّها يجب أن تكون التجربة الأخيرة أو التجربة التي ترافق تطبيق الحلّ الاقتصادي والاجتماعي في الواقع الإنساني.
الحالة الإسلامية وأسئلة الحاضر
ـــ لو تخطَّت الحالة الإسلامية حالة إثبات الوجود، هل تكون بذلك قد تخطَّت أزمتها التاريخيّة، أو تدخل في عمق هذه الأزمة بحاجتها إلى الردّ على أسئلة الحاضر بغير أجوبة الماضي؟
من الطبيعي أنَّ الحركة الإسلامية لا تعمل على إثبات وجودها من ناحية ذاتية، وإنَّما تعمل على إثبات وجودها من خلال القضايا الكبرى التي تنطلق بها، كأيّة حركة أخرى، وكوسيلة من وسائل الوصول إلى حركيّتها التطبيقيّة في الواقع. أمّا قضية أنّها تواجه الحاضر من خلال الأسئلة التي تطرحها المتغيّرات التي يحتويها الحاضر، والتي يمكن أن يختزنها المستقبل، لتجيب عليها بإجابات تقليديّة، فإنّا لا نعتقد أنَّ الحركة الإسلامية تعمل على أن تجيب عن أزمات الحاضر، ومشاكله بأجوبة الماضي، لأنَّ الماضي قد يطلق الأجوبة في نطاق حجم المشاكل التي كانت تتحرَّك في داخله، في حين انطلقت المشاكل في حركة المستقبل بحجمٍ أكبر. ومن الطبيعي أن تكون الأجوبة منسجمة مع كلّ المتغيّرات التي تحكم هذه المشاكل هنا، أو تلك هناك، لأنَّ الحكم الشرعي يتغيَّر حسب تغيّر الموضوع، فالعصير العنبي عندما يتحوَّل إلى خمر يكون حراماً، ولكنَّ الخمرة عندما تتحوَّل إلى خلّ فإنّها تكون حلالاً. وهكذا فإنَّ الإسلام لا يتجاوز ذاته عندما يعطي أجوبة عن مشاكل جديدة ربّما تختلف عن الأجوبة التي أعطيت للمشاكل القديمة على أساس أنّ الموضوع الذي يتحرَّك به الواقع الآن، يختلف عن الموضوع الذي تحرَّك به الواقع في الماضي، ممّا يجعل من الشيء الذي قد يكون حلالاً نتيجة خصائص معيّنة وظروف معيّنة، حراماً نتيجة ظروف أخرى وشروط أخرى.
ـــ في هذه الحالة، هل يكفي طرح شعار "الإسلام هو الحلّ"؟ وما أجوبة الإسلاميّين على مأزق الأيديولوجيّات الأخرى، الرأسمالية والفقر، الماركسية والاستئثار والسلطة الحديديّة، وما ردّ الإسلام ومناعته تجاه ما فشلت به الأيديولوجيّات الأخرى؟
من الطبيعي أنَّ هناك فرقاً بين الجانب النظري عندما تتحدَّث عن المشكلة والحلّ، وبين الجانب العملي عندما تتحدّث عن هذه الدائرة. ربّما يتحدّث الإنسان في المطلق عن أنّ الإسلام يستطيع أن يحلّ مشكلة الفقر والغنى عند الإنسان. من الممكن جداً الحديث في النطاق التشريعي الإسلامي عن الحلّ الكبير لهذه المشكلة في نطاق النظرية الإسلامية، التي يرتكز عليها المذهب الاقتصادي الإسلامي، الذي يبحث عن مسألة التوازن في حياة المجتمع، فلا يغلِّب جانباً على جانب، بل يعطي كلّ الجوانب حقّها في عملية الحلّ، كما أنّه يجد أنّها تجتمع في طريقة إيجاد المشكلة.
ولكن هناك نقطة ثانية، وهي أنَّنا عندما ننطلق في الواقع، واقع التجربة، فإنَّ التجربة تختزن الكثير من المشاكل والتعقيدات التي قد تعطّل لك حلاًّ هنا، لتلجأ إلى حلّ اضطراري أمام الحالة الاضطرارية. وقد تواجه في نطاق هذه المشكلة وضعاً اقتصادياً معيّناً لا يمكّنك من استكمال الخطّة العامّة.
لو كنَّا في بلد محدود الإمكانيّات في طبيعة ثروته الذاتية في الوقت الذي تحاصره أوضاع اقتصادية وسياسية معيّنة تمنعه من تطوير إمكاناته ومن تنفيذ خطّته على هذا الأساس، فإنَّ من الطبيعي ألاّ يكون العجز عن تحقيق الأهداف الكبرى منطلقاً من أنّ الأيديولوجية التي يلتزمها الحلّ لا تحقِّق هذه النتائج، لأنَّ أيّة أيديولوجية، سواء كانت اشتراكية أم رأسمالية أم إسلامية، إنَّما تستطيع أن تجد الحلّ للمشاكل في نطاق الإمكانات التي يحتاجها الحلّ. أمّا في غياب الإمكانات فمن الطبيعي أن تكون النتائج في دائرة محدودة تتعايش مع كثير من مفردات المشاكل الأخرى في انتظار الإمكانات الكبيرة. إنَّ الإسلام يستطيع أن يثبت أمام التحدّي، ولكنَّ الإسلام ليس بدعاً من التيّارات التي قد تتعطَّل حلولها انطلاقاً من طبيعة إمكانات الواقع. قد توجد خطّة للتنمية، لكنّك قد تواجه في بعض الحالات بالجدب أو بظروف اقتصادية عالمية تؤثّر عليك، أو بمشاكل إضافية تحمّلك من الأعباء ما لم يكن في الحسبان، لذلك إنّك قد لا تنجح في تحقيق هذه الخطّة خلال سنواتها المقرّرة، وليس ذلك لأنَّ الخطّة ليست مدروسة أو أنّها لا تحتضن الحلّ، بل لأنَّ الوسائل التي تتحرَّك بها الخطّة لم تتوفَّر انطلاقاً من الظروف المتغيّرة في هذا المجال.
ـــ ... هل تملك الحالة الإسلامية الحلّ في هذه المرحلة، حلاَّ لحركة الإنسان في الحياة ورؤاها، فسؤال الإنسان ليس ما ورائياً فقط، بل هو واقع يرتبط بهمومه اليومية والإنسانيّة؟
الإسلام لا يحدِّث الإنسان عن الغيب، وإنَّما يحدّثه عن الواقع. والغيب إنَّما هو فكرة تنطلق من وعي الحقيقة في الوجود الكوني من خلال كونه جواباً عن كثير من الأسئلة التي لا تستطيع أن تجيب عنها النظرية الماديّة.
أمّا حركة الإنسان في الحياة، فالإسلام يحدّثه عن همومه وعن مشاكله وقضاياه، ويدفع به إلى التحرُّك من أجل أن يتحمَّل مسؤولية الحياة. فأيّ أُفق أعلى من الأُفق الذي يحدّث فيه القرآن الناس عن أنَّ الله سخَّر للإنسان الكون، بحيث جعل كلّ الطاقات الموجودة في الوجود تحت يد الإنسان ولمنفعته، وجعل الإنسان خليفته في الأرض من أجل أن يبنيَ الحياة في المستوى الذي يحوّلها فيه إلى جنّة في الأرض؟
وعلى هذا الأساس فإنَّ الإسلام عندما يحدّث الإنسان عن الآخرة، فإنَّه يحدّثه عن هدف الدنيا بحيث يتحرَّك خلال التوازنات والخطوط العامّة، التي تتمثَّل فيها مصلحة الإنسان التي توصله إلى الآخرة. فالإنسان يصل إلى الآخرة من خلال قضاء حاجات الناس، ويصل إلى الآخرة من خلال مواجهة الظلم وإسقاطه، ومن خلال تحرير الإنسان من كلّ مواقع التخلُّف، وما إلى ذلك من الشرور. وهذا ما نلاحظه في قوله ـــ سبحانه وتعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} [القصص : 77].
إنَّ الحديث يقول: إنَّ الدّنيا مزرعة الآخرة، فأنتَ بمقدار ما تكون إنساناً يتحمَّل مسؤوليته في الدنيا من خلال المصلحة العليا للإنسان وللحياة، بمقدار ما تكون قريباً إلى الله ـــ سبحانه وتعالى، ونحن نعرف الحديث المعروف "الخلق كلُّهم عيال الله فأحبّهم إلى الله عزَّ وجلّ أنفعهم لعياله"(1).
إنَّ النظرية الإسلامية لا تغرق الإنسان في الغيب، بل تجعله يعيش في الواقع ويتطلَّع إلى الغيب كامتداد واسع يمنع الإنسان من السقوط أمام حصار الواقع. حتّى في مسألة التفسير العلمي للكون، بعض الناس قد يفكِّر أنّك عندما تكون مؤمناً متديِّناً فإنَّ عليك أن تختصر كلّ النظريّات العلمية في أنَّ الكون وُجِدَ بإرادة الله.
إنَّنا ننطلق في فكرنا الإسلامي على أساس قانون النسبيّة الذي يقول إنَّ الله أودع في هذا الكون قوانين تحكمه، وأودع حياة الإنسان قوانين تحكم حركيّة الإنسان وهو ما يعبّر عنه بالسُّنّة الكونية والسُّنّة الاجتماعية لله سبحانه وتعالى. لذلك فإنَّ الإنسان المؤمن لا يفسّر الحياة تفسيراً غيبيّاً، ولكنّه يفسِّرها تفسيراً طبيعياً من خلال طبيعة الخصائص والأسرار، المودعة في الكون والتي تتحكَّم في حركته. ولكنّه قد يفسِّر بعض الأشياء تفسيراً غيبياً لأنّه ليس من الضروري أن يكون كلّ شيء خاضعاً للمعادلات الموجودة داخل الكون.
إنَّنا نخرج من هذا العرض إلى القول بأنَّ المسلم يمكن أن يواجه كلّ هموم الإنسان وكلّ أسئلته، من دون أن يدخله في ظلام الغيب، ولكن يتحدَّث معه ويتحرَّك معه على أساس الواقع.
الإسلام والإنسان
ـــ لو نظرنا إلى بعض الكنائس في أميركا اللاتينيّة، على سبيل المثال، نراها متقدّمة في علاقتها بالإنسان على بعض المراكز الإسلامية، برأيك في هذا العصر، هل على الإنسان أن يعيش الثورة في الذّات أم بالذّات؟
إنَّنا نعتقد أنَّ الحديث عن تقدُّم الكنيسة في أميركا اللاتينية، على بعض المراكز الإسلامية قد يكون حقيقيّاً عندما نتحدّث عن المراكز الإسلامية التي تعيش في تكامل مع الاستكبار العالمي، ضدّ تطلُّعات شعوبها وضدّ قضاياهم، إذا كان الحديث عن التميُّز ينظر إلى هذا الجانب. ولكنَّنا نرى في مواقع إسلامية متنوّعة، في أكثر من موقع في العالَم، تقدُّماً في حركة التحدّي على الكنيسة في أميركا اللاتينيّة، فعندما نواجه الحالات الاستشهادية التي ينطلق فيها الإنسان ليتحدَّى الموت وليفجِّر نفسه في وجه العدو انطلاقاً من قضاياه الكبيرة، فإنَّنا نجد أنَّ هذا يمثِّل تفوُّقاً على أكثر الحالات ثورية في العالَم.
أمّا الحديث أنّ على الإنسان أن يعيش الثورة في الذّات بمعنى أن ينقلب الإنسان على ذاته من أجل أن يجعل ذاته منسجمة مع إيمانه وخطّه الفكري ومسؤوليّته في الحياة، أو أن ينطلق في خطّ الثورة بالذّات، عندما تنطلق الذّات في الاتّجاه الذي يمكن أن يحقّق لها الكثير من العناصر المنفتحة على آفاق الثورة، فإنَّه يمكن أن يعيش الثورة في الذّات والثورة بالذّات.
الإسلام والهويّة
ـــ ننطلق إلى أزمة الهويّة. إذا كانت العروبة هويّة والإسلام أيديولوجيا وفق قولك، فلماذا هذا الصراع الذي يفتعله البعض؟
إنَّني أتصوَّر أنَّ الصراع المطروح بين العروبة والإسلام هو صراع يتحرَّك في ما يشبه "حوار الطرشان"، لأنَّه صراع لا معنى له، إلاّ من خلال اختلاف مفهوم الكلمات عند هذا الفريق أو ذاك، فنحن نعتبر أنَّ العروبة إطار إنساني للعرب، تماماً كما هي الذّات إطار للفرد، وكما هي العائلة إطار إنساني للشخص. إنَّ الإسلام لا يلغي للإنسان خصوصيّته الذاتية والعائلية والجغرافية والقوميّة، وهذا ما لاحظناه في قوله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ...} [الحجرات : 13] كما أنَّ الإسلام تحدَّث عن الصفة العربية، عندما قال: {أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} [الرعد : 37]، {قُرْآناً عَرَبِيّاً...} [طه : 113]، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء : 195] وما إلى ذلك، ممّا يعني أنَّ هذه الصفة عندما تطلقها على كتاب أو لسان، أو حكم أو إنسان فإنَّك لا تبتعد عن طهارتك الإسلامية ـــ الفكرية في ذلك.
العروبة إطار يبحث عن صورة، العروبة لغة، والعروبة أرض، العروبة تاريخ ونسب، ولكنَّ المكوِّنات ليست أيديولوجيّة، وقد التقت العروبة في انطلاقتها الحضارية بالإسلام وتفاعلت معه، أعطته في حركيّته بعض خصائصها، وأعطاها في مناهجه الفكرية والتشريعيّة والحركية شخصيّته التي تفاعلت بها شخصيّتها، حتّى أنَّنا نرى أنّ الكثيرين من المسيحيّين العرب الذين عاشوا في الجوّ العربي ـــ الإسلامي، يحملون معاني إسلامية كثيرة في فكرهم وعاداتهم وتقاليدهم. لذلك نحن نريد أن نقول للعرب الذين يبحثون عن خصائص عروبتهم، أو عن مواقع القوّة لقوميّتهم، إنَّنا نقول لهم إنَّ الإسلام يقف ضدّ العرب الذين يختارون لعروبتهم وقوميّتهم أيديولوجية تختلف عن الأيديولوجيّة الإسلامية.
إنَّ القوميين العرب عندما اختار بعضهم الماركسية كأيديولوجيا للحركة القومية، وعندما يقف المسلمون ضدّ الماركسية، فإنَّهم لا يقفون ضدّ القومية والتحرُّر والاكتفاء الذاتي وما إلى ذلك من كلمات لا علاقة لها من ناحية عضوية بالعروبة، إلاّ أنَّ بعض العرب اختاروها. وهذا ما كنّا نقوله للمسيحيين، إنَّ المسيحية عندما لا تلتزم بشريعة في تكوينها الفكري وفي تكوينها الثقافي، وعندما يختار المسيحيون أيديولوجيا معيّنة تختلف عن الأيديولوجية الإسلامية، فإنَّ الإسلام لا يقف ضدّ المسيحية عندما يقف ضدّ هذه الأيديولوجيا، وإنَّما يقف ضدّ فكر شخصي للمسيحيين وليس ضدّ فكر المسيحية في هذا المجال.
ربّما يقول العرب إنَّنا لا نستطيع أن نختار الإسلام لأنّ في العرب غير مسلمين. ولكنَّنا نقول إنَّ الإسلام استطاع أن يكفل لغير المسلمين في ـــ الواقعين الإسلامي والعربي ـــ الحريّة في كلّ خصائصهم الدينيّة. كما أنّ الإسلام استطاع في واقعه العربي أن يكفل لغير العرب إنسانيّتهم وحريّتهم في ممارسة هذه الإنسانية.
لذلك نحن نعتقد أنّ الذين يتحدّثون عن صراع بين العروبة والإسلام يتحدّثون من خلال مفهومين مختلفين، فالذي يتحدّث عن العروبة يقصد الأيديولوجيا، والذي يتحدّث عن الإسلام يقصد الجانب التقليدي في الإسلام.
الإسلام والعروبة
ـــ إذا كانت القومية غير بريئة عندما خرجت عن الإسلام، فهل أنّ بعض "الإسلاميّات" بريئة في عدائها للقوميّة والعروبة بالذّات؟
نحن نرفض عداء الإسلام والإسلاميّين والمسلمين بشكلٍ عام للعروبة، لأنَّ الإسلام لا يعادي العروبة. كيف يمكن أن نعادي العروبة والإسلام عاش في قلب العروبة وتفاعل مع تاريخ العروبة ومع شخصية الإنسان العربي، ولا تزال العروبة تفرض نفسها على الواقع الإسلامي من خلال القرآن العربي ومن خلال الصلاة العربية، ومن خلال الحجّ العربي.. وما إلى ذلك من أمور.
إنَّنا نرفض أن يعادي المسلمون أو الإسلاميّون العروبة، ولكن علينا أن نفرِّق بين معاداة العروبة، التي نرفضها، وبين معاداة الأيديولوجيا التي يختزنها بعض القوميّين، أو معاداة الانغلاق القومي الذي قد يعيشه بعض القوميّين، الذين يحبسون العروبة في قمقم يبعدها عن أن تكون عنصراً إنسانياً منفتحاً على القوميّات والمواقع الإنسانية الأخرى.
الأديان... والتعدُّديّة
ـــ ثمّة ظواهر تخرج عن سيادة أيّ أُمّة والعالَم يعيش قضايا مشتركة، فهل انتهى عصر صراع الأديان وجاء زمن التعايش بينها؟ وما موقفكم من التعدُّديّة خاصّة وأنّ كلّ الأصوليّات تتقاتل على الأرض؟
نحن نعتقد أنّه ليس من المفروض أن يكون هناك صراع بين الأديان بل التقاء على القواعد المشتركة لها، وحوار في القضايا التي تختلف فيها، وأنَّ مسألة الصراع بالشكل الذي يحاول فيه كلّ دين أن ينظر نظرة سلبية مطلقة للدّين الآخر، نحن نعتقد أنّ هذا شيء خاطئ. وعندما ندرس الإسلام نرى أنَّه ركَّز على القواعد المشتركة بين الأديان وأدار الحوار في المواقع التي يختلف فيها مع الأديان الأخرى، ودعى إلى الحوار بالتي هي أحسن وبالحكمة والموعظة الحسنة، ولذلك فإنَّنا لا نتصوَّر أيّة ضرورة في دفاع الإنسان عن دينه، أو في التزام الإنسان بدينه، أن يعيش الصراع مع الأديان الأخرى، بل إنَّنا نتصوّر أنّ على الأديان جميعاً أن تلتقي على أساس وحدانية الله، وعلى أساس وحدة الإنسانية أمام الاستكبار العالمي، الذي يريد أن يضطهد الإنسانية في كلّ حاجاتها وفي كلّ مواقعها.
من هنا، فإنَّنا نعتقد أنّ الإسلام لا يزال قادراً على مواجهة التيّارات الأخرى وقادراً على أنْ يتعاون مع كلّ التيّارات في العالَم، حتّى غير الدينية منها، في القضايا المشتركة كقضية مواجهة الاستكبار العالمي، والظلم العالمي، وما إلى ذلك من قضايا.
تحدّي قدرة الخالق؟
ـــ بعض القوى العالمية امتلكت لا نهائيات كبرى، كالذرّة وغزو الفضاء وما يسمّى الآن بالثورة السبرانية، بحيث نرى أنّ التكنولوجيا أصبحت قادرة على إبادة سكّان الكون خمسين ألف مرّة وهذا ما يراه البعض تحدِّياً لقدرة الخالق عزّ وجلّ، فكيف يمكن للإسلام أن يتعايش مع هذا الواقع؟
إنَّه ليس تحدّياً لقدرة الخالق لأنّ الجميع يتحرَّكون من خلال السنن الكونية في الوجود وفي الإنسان التي أودعها الخالق في الكون. فهم لا يتجاوزون قدرة الخالق بل يتحرّكون في المواقع التي أعطاهم إمكانات الحركة في داخل قدرته.
وعلى هذا الأساس، فإنَّ السؤال لا يستطيع أن يؤكِّد نفسه ممّا يعيشه من الإمكانات اللانهائية لهذا الواقع التدميري على مستوى ما يمكن أن يحدث في العالَم.
أمّا مسألة ماذا يفعل الإسلام أمام ذلك كلّه، فإنَّ مهمّة الإسلام أن ينفذ إلى الإنسان من الداخل ليغيِّر نظرته في علاقته بالإنسان الآخر، من خلال طبيعة انفتاحه على الله خالِق الحياة والإنسان، ليتحسَّس مسؤوليّته عن الحياة وعن نفسه.
من جهةٍ أخرى، فإنَّ الإنسان يتحدّث في بعض مفرداته عن أنَّ نهاية العالَم قد تحمل في داخلها دماراً كبيراً للبشرية، وستبقى بعض البشرية، لكي تتحقّق العدالة الشاملة في الأرض، وهذا ما تتحدَّث عنه الأحاديث عن المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف)، وأنّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً. وهناك أحاديث تقول إنّه يمكن أن تأتي حرب تفني الثلثين ويبقى الثلث الباقي.
ـــ في الواقع هذه الأحاديث تطرح إشكالية خطيرة في الواقع الإسلامي وعلى النطاق العالمي... لأنّها تعطي مصداقية لروايات الحركات الماسونية العالمية، وبالذّات "شهود يهوه" الذين يتحدّثون عن معركة "هرمجدون" ونهاية البشرية بالشكل الذي ورد الآن عن عودة المسيح المخلّص، برأيك ما الرابط بين هذه الطروحات؟
من الطبيعي أنَّ هناك في الأديان حديثاً عن نهاية معيّنة للعالَم، ولكن قد تختلف التفاصيل. وأعتقد أنَّ المسألة ليست مسألة هذا الفريق أو ذاك، أو ما يمكن أنْ يستغلّه فريق معيَّن من خلال فكرة معيّنة. ولكن عندما نقول إنَّ الأديان تتوحَّد في أكثر من قضية وقاعدة، فإنَّ من الممكن جداً أن تكون فكرة نهاية العالَم هي الفكرة التي تلتقي فيها الديانات مع تغييرٍ في الأسماء.
صراع أم تعايش
ـــ إذا نظرنا إلى الوضع العالمي الآن وتَشَكُّل قوى عالمية تُعادي الإسلام في جوهره ومختلف مضامينه، برأيك هل أنّ المستقبل هو مرحلة صراع أكثر ممّا هو حالة تعايش؟
طريقة الإسلام أنّه يتحرَّك في أكثر من اتّجاه، إذ إِنّه في الوقت الذي يصارع دفاعاً عن ساحاته وعن أفكاره، يعمل لينفذ إلى عقل الإنسان وقلبه، ليحوِّل الإنسان الواقف في خطٍّ مضادٍّ للإسلام إلى مسلم، وهذا ما لاحظناه عندما هاجم هولاكو البلاد الإسلامية على رأس جيوش التتر. فاستطاع علماء المسلمين أن ينفذوا إلى عقل أولاده ليحوِّلوهم إلى الإسلام، لتتحوَّل قوّة التتر إلى قوّة إسلامية بدلاً من أن تكون قوّة مضادّة للإسلام.
إنَّنا عندما نسمع في هذه الأيام أنَّ هناك الكثير من المفكّرين الغربيّين، مثل روجيه غارودي وغيره، يدخلون الإسلام، ونجد أنَّ هناك امتداداً للإسلام في أميركا، وأنَّ هناك امتداداً للإسلام في أوروبا وما إلى ذلك، فإنَّ هذا يعني أنَّ نجاح التجربة في هذا المدى المحدود ليس سوى مؤشّرٍ على إمكانات نجاح التجربة في المدى الأوسع. ومن الممكن جداً عندما ينطلق الإسلاميون بطريقة أو بأخرى في الدعوة إلى الله، وفي تجسيد القوّة الحسنة، في أوضاعهم العامّة والخاصّة، فإنَّ من الممكن أن تتحوَّل أميركا إسلامية، ومن الممكن أنْ تتحوَّل أوروبا إسلامية. إنَّ هذا ليس أمراً مستحيلاً، لأنَّ نجاح تجربة صغيرة من خلال ظروف صغيرة قد تعني إمكانات نجاح التجربة الكبرى. لذلك يسخر الكثيرون من الحركة الإسلامية، عندما تتحدَّث عن أسلمة العالَم أمام كلّ هذا الجبروت المادي للقوّة الذي يملكه الاستكبار العالمي، لكنَّنا نقول لهم: إنَّكم تتحدّثون عن الحاضر ولكنَّنا نتحدّث عن المستقبل، ونحن نتصوَّر أنّ مستقبل ماضينا الذي نعيشه الآن والذي يجعل المسلمين يمثّلون خمس العالَم أو ربع العالَم، قد يحمل فرصاً لمستقبل آخر نعيش الآن حاضره ليكون المسلمون كلّ العالَم أو نصف العالَم أو أكثر.
ـــ هل هي حرب باردة جديدة يخوضها الإسلام، أم استمرار للفتح بطرق أخرى؟
إنَّ الإسلام يتحرَّك من أجل أن ينفذ إلى الحياة وإلى الإنسان بكلّ الوسائل التي يكفلها الله للدُّعاة إلى دينه وللسائرين في نهجه، ولذلك فإنَّنا نعمل من خلال الدعوة، نعمل من خلال المواجهة، ونعمل من خلال السياسة، ونعمل على أساس أنّ ننفذ إلى عقل الإنسان وقلبه وإلى واقع حياته. وهناك آية تقول: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً*وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج : 6 ـــ 7].
حوار: عدنان الساحلي
الإنسان... والمسؤولية(*)
لماذا الدّين في كلّ حركة الرسالات؟ هل المسألة التي يطرحها في الدّعوة هي أن نؤدّي الطقوس، بطريقة تقليدية قد نفقد الكثير من الروح فيها، لتكون شيئاً يثقل الروح، بدلاً من أن تكون شيئاً يفتح الروح على رحاب الله وعلى آفاق الحياة؟
قصّة الدّين في عمق الفكر الذي يحرِّكه وفي عمق الإحساس الذي يثيره وفي عمق الحركة التي يطلقها، قيمته أنّه يؤنسن الإنسان، يعمِّق في الإنسان إنسانيّته؛ فلا يتحجَّر في ذاته، ليجعل منها صنماً يتعبَّد له، لتكون ذاته هي المرآة التي ينفتح عليها صباحاً ومساءً. فكما أنّ المرآة لا تعطيك إلاّ وجهك فالذي يحدّق دائماً في ذاته كمرآة، فإنَّ ذاته لا تعطيه إلاّ صورتها لتحجب عنه كلّ الآخرين وحركة الواقع من حوله. فهو يختصر العالَم في ذاته، ويختصر كلّ مشاريع الدّنيا في مشاريعها. فقصّة ذاته هي القصّة التي تمثّل المجتمع من حوله، لأنَّ مَنْ يفرض ذاته على المجتمع من موقع كبرياء وانتفاخ للشخصية وينطلق من حالة الورم، هو إنسان يعيش المجتمع معه في مشكلة، بدلاً من أن يكون الإنسان الذي يحلّ للمجتمع مشكلته.
الأنسنة... قصّة الدّين
قصّة الدّين تكمن في أنْ يؤنسنك، أن يعيدك إلى إنسانيّتك. وإنسانيّتك تكبر كلَّما انفتحتَ على ربّك، لأنَّك عندما تنفتح على ربّ العالمين الرحمن الرحيم، فأنتَ تشعر بأنَّك جزء من العالمين جميعاً، لستَ وحدك؛ أنتَ وكلّ العالمين تقفون في الدُّنيا الآن، من أجل أن تجسِّدوا عبوديّتكم له في حركة إنسانيّتكم تجاه أنفسكم وتجاه الحياة، وأنْ تجسِّدوا إنسانيّتكم في حركة مسؤوليّتكم. وهناك في الآخرة ـــ يوم يقوم النّاس لربّ العالمين ـــ تقف مع العالمين في الآخرة، كما وقفتَ معهم في الدُّنيا. بينما هنا تقف لتتكامل مع العالمين كلّهم في حركة المسؤولية، لأنَّ قصّة الحياة في كلّ مشاريعها وفي كلّ قضاياها هي أنْ تتكامل الطاقات وتتوازَن وتتعانَق، لتكبر الحياة وتقوى.
أمّا إذا ضاعت وتنافرت وتجمَّدت الطاقات، فأيّة حياة هي التي تبقى؟ عندما تنفتح على ربّك، تفقد إحساسك بذاتك كصنم تعبده، لأنَّك تعبد الله، ومَن يعبد الله لا يمكن أنْ ينحني لصنم، حتّى لو كانت ذاته تلك الصنم، وهكذا تعيش الانفتاح مع النّاس ومع الحياة. وعندما تتوجَّه إلى ربّك الرحمن الرحيم، فإنَّك تشعر أنَّ الرحمة ليست مجرَّد نبضة قلب وليست مجرَّد خفقة شعور، ولكنَّهما مشروع يتحرّك فيه عقلك، ليكون فكرك رحيماً، ينطلق في الحياة ليرحم ظروفها وضعفها وقوّتها، وليحرّك طاقاتها في كلّ المجالات. وينطلق قلبك بالرحمة، لا ليخفق فقط ولكن ليحرّك العاطفة في مصلحة الحياة. لأنَّ مشكلة العاطفة، إذا انفتحت على أساس غير متوازن، فإنّها قد تعطي الحبّ لمن لا يستحقّه وقد تعطي البغض لمن لا يستحقّه، لذلك مشكلة العاطفة عند الكثيرين منّا أنّها عمياء، لا تبصر طريقها جيداً، أَلَمْ يقل بعضنا إنَّ الحبّ أعمى؟ ألَمْ يقل بعضنا إنّنا نؤمن بفلان وفلان إيماناً أعمى؟ الحبّ الأعمى يقتل صاحبه وقد يقتل مَن تحبّ، والإيمان الأعمى يُضلّ صاحبه ويضلّ الواقع من حوله.
يريد الله لحبّك أن يكون مبصراً، كما يريد لبغضك أن يكون مبصراً، أن تحبّ بعينين مفتوحتين، وإذا رأيتَ أنّ البغض هو الذي يمثّل مصلحة الحياة في جانب من الجوانب، فعليك أن تواجه البغض بعينين مفتوحتين.
تلك هي المسألة؛ بقدر ما ننفتح على الله، نحبّ عباد الله؛ وبقدر ما نتعبَّد لله ونوحّده في عبادته نضمن لأنفسنا حريّتها، لأنَّ ما يعتبره الناس في كثيرٍ من أوضاعهم حريّة، لا يعدو أن يكون عبودية، لكن لغير الله بل لأشخاص وشهوات. عندما تنسى ربّك وتقول إنَّك حرّ، عندما تعصي ربّك وتقول إنَّك حرّ، هل صحيح ذلك؟ إنَّك تعصي ربّك لتطيع عبد ربّك، إنَّك تنسى ربّك وتتذكَّر شهواتك، هل هذه حريّتك، أم هي عبودية أخرى؟ عبودية خانقة لا تتنفَّس فيها إنسانيّتك؟ لكن كنْ عبد ربّك وأنتَ عبد ربّك شئت أو لم تشأ، لأنَّ ربّك هو الذي خلقك فأنتَ عبدٌ له من خلال أنَّك مخلوقٌ له.
بالعبودية لله يتحقَّق الوجود
لذلك، قصّة أن تكون عبد الله، هي قصّة أن تكون وجودك، أن تفهم وجودك، ثمّ تعطي هذا الوجود حركيّته، في هذا المجال. عندما تكون عبد الله وحده، تكون الحرّ أمام الناس والحياة كلّها، ليس لأحد سيادة عليك مهما كان كبيراً، إلاّ عندما تعطي أنتَ بعهدك والتزامك وميثاقك بعض ما يجعله يمارس المسؤولية تجاهك.
نحن نريد في هذه الحياة أن نعيش إنسانيّتنا. الإنسانية عندما نحرّكها في حياتنا، ليست أخلاقاً تتحرَّك في العلاقات الاجتماعية على مستوى المجاملات. قضيّة إنسانيّتك أوّلاً هي قضية أن تكون الإنسان الذي يملك القرار في ما يريد وما لا يريد، أن تكون الإنسان الحرّ الذي يحرِّك عقله باتّجاه القرار الذي يمثّل مصلحته ومصلحة الحياة، ويركّز إرادته ليثبت قراره في الواقع.
حدَّثنا الله في القرآن الكريم كثيراً عن بعض مشاهد القيامة، وهي إذا كانت تحدث في القيامة فإنّها تمثّل ما كان يحدث في الواقع. الحديث كان في البداية حديث الضعفاء الذين استضعفوا أنفسهم مع الملائكة، الضعفاء الذين انحرفوا في العقيدة أو في مسؤوليات الحياة من حولهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} بالكفر أو بالشرك أو بالانحراف أو بظلم الآخرين.. بأيّ شيء يتحوَّل الإنسان فيه إلى ظالم لنفسه ولربّه وللنّاس من حوله وللحياة، {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} في أيّ وضع وأيّ ظرف كنتم؟ {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} وكان المستكبرون يستضعفوننا فيقهروننا على أن نلتزم ما لا نؤمن به، ونتحرَّك في ما لا نريده، ونقف المواقف التي لا نقتنع بها، ونرفض الأشياء التي نشعر أنّها حقّ، كنّا ضعفاء وكان ضعفنا يضغط على عقولنا وإرادتنا، لذلك كنّا الصدى لصوت الآخرين، وكنّا الظلّ لوجودهم، هل يكفي ذلك عذراً؟ {قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا}؟ إذا ضاقت بكم الأرض ولم تملكوا فيها قوّة فإنَّ أرض الله واسعة، لتبحثوا فيها عن عناصر القوّة التي تملكون معها قرار القبول أو الرفض أو التأييد.. {فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء : 97].
أنْ تستضعف نفسك وأنتَ تجد فرصة للقوّة، أنْ تستضعف نفسك وأنتَ لا تريد أنْ تتحمَّل مسؤولية القوّة، أنْ تستضعف نفسك وتسحق إنسانيّتك، من أجل بعض رغباتك وبعض شهواتك التي قد تفقدها؛ ذلك لا يقبله الله، لأنَّ الله خلقك إنساناً يملك أنْ يحرِّك عناصر القوّة في ذاته، فلماذا أغفلت ذلك؟
بين الضعفاء والمستكبرين... والشيطان
في مشهدٍ قرآنيٍّ آخر نشاهد منظراً من أطرف المناظر، الضعفاء والمستكبرون في منطقة، والشيطان وكلّ الناس في منطقةٍ أخرى، وهناك حوار يدور {وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً} [إبراهيم : 21] وقام النّاس لربّ العالمين وواجَه الجميع المسؤولية، ورأى الذين أجرموا النّار أمامهم ورأى الذين أحسنوا الجنّة أمامهم، وكان وعد الله حقّاً، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ـــ 8]، وحار المستضعفون، هذه أوّل مرّة يحاسبون فيها على أعمالهم، كانت الحسابات في الدُّنيا حسابات الذين يلون أمرهم، لا يسمحون لأحد بأنْ يحاسبهم، كانوا فوق الحساب، لأنَّهم كانوا ممّن لا يدفعون الحساب {فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} [إبراهيم : 21] كنّا ننفِّذ كلّ ما تريدونه وكلّ ما تطلبون من خير أو شرّ، من ظلم أو من عدل، من انحراف أو استقامة، {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ} [إبراهيم : 21] هل يمكن أن تعطونا بطاقة إلى مالك خازن النار، كما كنتم تعطوننا بطاقة إلى هذا المسؤول أو ذاك فنتخلَّص فيها من المسؤولية؟ {قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} [إبراهيم : 21] نحن سواء، المستضعَف والمستضعِف، {سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [إبراهيم : 21].
وأُغلِقَ الملف، لأنَّ القضية أخذت مجالها. الكلّ مسؤولون، المستضعَف يملك عقلاً والمستكبِر يملك عقلاً، فلماذا تحني أيّها المستضعف رأسك لإنسانٍ آخر؟ ولماذا تلغي ذاتك أمام إنسانٍ آخر؟ كن مع الإنسان الآخر تأييداً، حركة، فكراً، كن معه في أيّ موقع، ولكن بشرط أن يكون عقلك مقتنعاً بأنْ تكون معه، عقلك لا رغبتك، عقلك لا مصلحتك، عقلك لا شهوتك، أن يكون عقلك يحتضن موافقاً عقله، وأن يكون موقفك موافقاً لموقفه.
وهنا في هذا المجال آية أخرى تقول: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ*وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166 ـــ 167]. ويأتي الدور لحوار الشيطان والإنسان، ويبدو الشيطان لنا في هذا الحوار مخلوقاً يعفي نفسه من كلّ مسؤولية ويحمِّل الإنسان كلّ المسؤولية: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}، شغلي أن أكذب وأنْ أقوم بدور تجميل الصورة القبيحة أو تقبيح الصورة الجميلة، وقد أخبركم الله عن هذا الدور، وقال لكم: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر : 6]، {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ}؛ فقد قال الله لي: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ} [الحجر : 42]، {فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم} ، فقد أعطاكم الله عقلاً فلماذا لم تحرِّكوه؟ وقد أعطاكم الله حسَّاً فلماذا لم تفتحوه؟ وقد أعطاكم الله إرادة فلماذا لم تركّزوها؟ {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} [إبراهيم : 22].
... قصّتنا مع المسؤولية
قصّتنا مع المسؤولية في الدُّنيا، وإذا كنّا نؤمن بالآخرة فقصّتنا مع المسؤولية في الآخرة، أن نعيش مع عمق القوّة في حركة إنسانيّتنا في العقل والإرادة والحركة والموقف. أنتَ تحترم نفسك عندما تصونها، أمّا عندما تكون ظلَّ الآخرين وصداهم، فأنتَ لا تحترمها. أنتم تعرفون ما قيمة الظلّ، فإنَّ الشمس عندما تأتي تزول كلّ الظلال. وأنتم تعرفون ما معنى الصدى، فإنَّ الصوت عندما يخفت يتلاشى كلّ الصّدى. نحن نريد أن نبقى الصوت الذي ينضم إلى صوت الآخرين، مهما كانوا كباراً، وأن نكون الوجود الذي يتكامل مع وجود الآخرين مهما كانوا كباراً.
إنَّ مشكلة هذا النوع من أنواع استضعاف الإنسان لنفسه، وإيحائه لها بالهزيمة وبالضعف وبالانسحاق وبالذلّ أمام القوّة، هو الذي يحطِّم قضايانا الكبيرة، لأنَّ هذا ما يجعل منّا أُمّة تخاف وتبكي في آفاق اليأس.
كونوا مسلمين، إنَّ علامة إسلامكم أن تكونوا إنسانيّين في إرادتكم، تراقبون الله ولا تراقبون غيره. كونوا مسيحيّين إذا كنتم من أتباع السيّد المسيح (عليه السلام)، لقد كانت قيمة السيّد المسيح (عليه السلام) في روحيّته وأخلاقيّته وإنسانيّته. إنّه كان الإنسان الذي يريد ـــ ومهما قال له المستكبرون ـــ أن يسحب موقع إرادته، كان صاحب الموقف وكان صاحب الإرادة، وبالإرادة نستطيع أن نؤكّد الحياة كلّها. وإذا استطعنا أن ننفتح على الله فإنَّنا ننفتح على الإنسان وعلى الحياة من موقع المسؤولية.
وعلينا أن نعرف أنَّ قصّة الرسالات كلّها هي قصّة عدل. إنَّ الدّين كلّه جاء من أجل أن يكون الإنسان عادلاً مع ربّه ومع نفسه، وعادلاً مع الناس من حوله، وعادلاً مع الحياة كلّها، وهذا مفاد قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد : 25] والقسط هو العدل.
إنَّ قصّة العدل الفردي والعدل الجماعي على جميع المستويات، عدل الحكم وعدل القانون وعدل العلاقات الاجتماعية وعدل الممارسات الفردية والمجتمعيّة. إنَّ قصّة العدل هي قصّة الدّين في كلّ الحياة. ومن هنا نقول، مَنْ لا عدلَ له لا دينَ له، مَنْ كان يعيش الظلم، ممارسة وفكراً وتأييداً؛ فإنَّه لو صلّى آلاف الصلوات وصام آلاف الأشهر، فإنّه لا يستطيع أن يشعر بأنَّ الله يفتح له بابه، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يحبّ العادلين ولا يحبّ الظالمين، ويحبّ الصادقين ولا يحبّ الكاذبين.
لنأخذ بأسباب القوّة
لتكن لكلِّ واحدٍ منّا ساعته التي يفكّر ويتأمَّل فيها ويتدبَّر نفسه وما حوله، لأنَّ مشكلتنا أنَّ هذا الضجيج الذي يحيط بنا، ضجيج التعقيدات والمشكلات واللّهو والعصبيّات والطائفيات والتحدِّيات من الداخل والخارج.. هذا الضجيج يشغلنا عن عقولنا فلا نملك عقلاً صافياً، وعن قلوبنا فلا نملك قلباً طاهراً، وعن حركتنا فلا نملك الحركة في الخطّ المستقيم، ليكن لكلّ واحدٍ منّا وقت يفكِّر فيه مَنْ هو، إلى أين، وكيف؟ حتّى يفهم نفسه، لأنَّني أزعم أنَّ الكثيرين منّا قد يفهمون كلّ الناس من حولهم ولكنَّهم لا يفهمون أنفسهم. مَنْ عَرَفَ نفسه عرف ربَّه، ومَن عرف ربّه عرف مسؤوليّته وعرف من أين يبدأ وإلى أين يسير، بعيداً عن كلّ متاهات الضلال ووحشة الحياة.
إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) جاء من أجل هذا، لم يأتِ من أجل أن نكون أُمّةً مستضعفة، يستضعفها الآخرون وتتجاوب معهم لتستضعف نفسها. لم يرد لنا أن نكون أُمّة ذليلة يذلّها الآخرون، وتصفّق لهذا الذلّ، ليس من أجل أن نكون أُمّة مهزومة تخاف من الانتصار، لأنّها تخاف من أن تكتشف نفسها قويّة. بعضنا لا يتحمَّل أن يكون قويّاً، لأنَّ للقوّة ثمنها وجهدها وتعبها.
فلنأخذ بأسباب القوّة التي نستطيع من خلالها أن نكون قوّة في العالَم، قوّة خير وقوّة عدل وانفتاح وحضارة.. إنَّنا بذلك نشعر بالراحة في العقل وفي القلب وفي الحياة، في الحاضر وفي المستقبل. القصّة قصّة وعي، فهل نبدأ الخطوة الأولى في طريق الوعي؟ القصّة قصّة إبداع إنسانيّتنا من جديد على خطّ الرسالات، فهل نبدأ هذه الخطوة {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة : 105].
ليس هناك شيء اسمه الحريّة المطلقة(*)
من موقع حواري نقدي، التقت "تحوّلات" العلاّمة السيّد محمّد حسين فضل الله في حوارٍ مسهب حول الإسلام والآخر. ردّ خلاله على بعض ما ورد في مقالة الشاعر أدونيس، حول الديمقراطية ومفهوم القمع وحركة الفكر، وتفسيرات النصّ الفقهي ومخالفة الجماعة.
الإسلام لا يلغي الآخر
ـــ كيف تنظر الحركة الإسلامية إلى الآخر المتمثّل على المستوى العالمي بالغربي، وعلى المستوى الإقليمي بالشرقي غير المسلم: المسيحي، اليهودي، الملحد، أو غير العربي؟ وأيّ إسلام هو القادر على توحيد العالَم تحت ظلّه أو على الأقلّ توحيد عالمه، حتّى يستطيع مواجهة الآخرين على مستوى الصراع القومي؟
الآخر هو إنسان مثلنا، يملك فكراً وساحة محدودة، واسعة أو ضيّقة. وفي هذا المجال لا بدَّ لنا، عندما نضع عنواناً آخر أمامنا من أن نلاحظ أيَّ فكرٍ يدعو إلى نشره، فهل هو الفكر الذي يدَّعي حصراً امتلاك الحقيقة ويختزن في داخله مسألة إلغاء فكر الآخر، الذي يقف بنظره عقبة أمام حركته التي يصرّ عليها؟ إنَّ مسألة أنْ تملك فكراً وأن تعطي الآخر حظّاً، كي يُسقط فكرك وأنتَ تقف في حالة الحياد أمام قوّة فكره، هذه مسألة ليست إنسانيّة. حتّى الديمقراطية تحتضن أكثر من فكر في داخلها، باعتبار أنّها تمثّل خطّاً فكرياً، تقمع الديكتاتورية ولا تسمح لها أن تأخذ مجالها في دائرتها، لأنّها تنفي نفسها عندما تفسح لها المجال. من خلال ذلك لا بدَّ لنا من أن نفكِّر أنَّ القضية ليست قضيّة أنّك تحترم الآخر في فكرك، ليكون ضدّك وليلغيك؛ بل المسألة هي كيف تتعايش مع الآخر وأنتَ تصارعه؟ كيف تلغي فكره بالوسائل التي لا تلغي فيها ذاته؟!.. في هذه الدائرة يمكننا الإطلالة على الإسلام من موقعين، الموقع الأوّل: هو موقع الفكر الذي يملك قاعدة وخطوطاً وآفاقاً معيّنة، في مواجهة الفكر الآخر. الموقع الثاني: هو موقع الفكر الذي يحرِّك الواقع ويحكمه ويجرِّب نفسه في الإشراف على حركته.
عندما ندرس الإسلام كفكر يدعو إلى نفسه ويدخل ساحة الصراع، فإنَّه يفعل ذلك من موقع نقد الآخر لا من موقع نفيه باعتبار أنَّه يدعو الآخر إلى الحوار معه.
فالقرآن الكريم في بعض آياته يقول على لسان النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في مواجهة الكافرين الذين لا يلتقون معه بشيء في ما هي العقيدة: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبأ : 24] إنّه لا يقمع الآخر إذ يقول لهم: رأيي صواب يحتمل الخطأ أو رأيكم خطأ يحتمل الصواب. إنّه يقول أنا وأنتم على صعيدٍ واحد. أنا أشكّ في ما هو الهدى والضلال، وعليكم أن تنطلقوا من موقع الشكّ في ما هو الهدى والضلال. إنّه لا يرفع نفسه عن الآخر، حتّى في حركة الحوار، حتّى على مستوى الاحتمال الأكثر نسبة في مواجهة فكر الآخرين. إنّه يساوي نفسه بالآخر: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}. ثمّ ينتقل إلى موقعٍ آخر مع الآخر، الذي يلتقي معه في بعض المواقع، إنَّه يبحث عن مواقع اللّقاء، ليلتقيَ مع الآخر في القاعدة التي ينفتحان فيها على بعض المفاهيم أو بعض التصوُّرات، لينطلق الصراع بعد ذلك من خلال القاعدة الواحدة التي تعطي نوعاً من الجوّ الحميم، في ما هو الصراع الفكري، وذلك عندما يقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} [آل عمران : 64]. إنَّه يفكِّر مع الآخر في ما يلتقي معه فيه ويضع في العنوان الكبير الكلمة السواء. وعندما تتّجه إلى العنوان الكبير فإنَّك تلغي الخصوصيّة. كانت الخصوصيّة أهل الكتاب فأصبحت المسألة كلّ مَن يلتقي معه على الكلمة السّواء. وبذلك يمكنك أن تستوفيَ من هذا العنوان أنَّ القرآن يمكن أن يقول ـــ حتّى للملحدين الذين يتّفق معهم في بعض المواقع السياسية أو المفاهيم الإنسانية ـــ {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}، لأنَّه انطلق من الكلمة ولم ينطلق من خصوصيّة الكتاب.
ثمّ عندما ننطلق خطوة أخرى في أدوات الحوار، فإنَّنا نجد أنَّ القرآن يتّجه إلى بعض الناس ليقول لهم: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} [ آل عمران : 66].
أيُّها الآخر، حاول أن تملك ثقافة ما تؤمن به، وتعال لأناقشك أو لتناقشني، لأنَّ الحوار الذي لا يرتكز إلى موقع ثقافي، يملك فيه كلّ طرف القاعدة الأساسية للحوار، يتحوَّل إلى حالة سطحية من المهاترات.
البرهان
ثمَّ ننطلق في مسألة المواجهة للآخر، إنَّه يستثير الفكر من خلال البرهان والحجّة، {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة : 111]، إنَّه يحاول أن يطلب من الآخر البرهان. أعطني برهانك على ما أنتَ فيه لتقنعني، أو لأردّ برهانك ببرهانٍ مماثل. نستوحي من ذلك أنّه لا موقع للقمع في ما هي مسألة الحوار، أو الصراع مع الآخر. بل قد نلتقي بعنوان كبيرٍ جداً، يمثّل الخطّ العريض للوسائل والروحيات التي يعتمدها الإسلام في مواجهة الفكر الآخر.
عندما نطلّ على الموقع الثاني، موقع الإسلام ـــ الدولة، فإنَّ إسلام الدولة لا ينطلق من حالة فكرية تجريدية، تجعل كلّ فريق يتطلَّع إلى الأفكار التي يؤمن بها، كما لو لم يكن هناك إلاّ فكره وكما لو لم يكن هناك أحدٌ غيره. إنَّ مسألة الدولة هي مسألة النظام الذي يحكم الناس في حاجاتها، وفي قضاياها وفي علاقاتها وفي تحدِّياتها وفي كلّ المواقع التي تواجه المسائل الصغيرة في دائرة المسائل الكبيرة.
في هذا المجال، قد لا نستطيع أن نفكِّر بحريّة مطلقة، كما هي حريّة الفلاسفة، أو كما هي حريّة الشعراء الذين يغيبون عن العالَم ويخيَّل إليهم أنَّ العالَم شيء ليس من الأرض، لأنَّ الأرض تتحوَّل إلى شيءٍ مادي، جامد، صلب، لا يمكن أن يفتح وعي الإنسان وروحه على الأفق الخلاّق المبدع وما إلى ذلك. إنَّ مثل هذه الحريّة لا يستطيع أن يمارسها حتّى مفكِّرو الحريّة وحتّى الشعراء والفلاسفة. الشاعر المتزوّج عندما تريد زوجته أن تتدخّل في بعض أجوائه الخاصّة، التي تعطّل حركة مواقع إلهامه، كيف يكون؟ أو الفيلسوف الذي يعيش في بيته، مع جيرانه الذين يحبُّون أن يلهوا ويغنُّوا ويرقصوا، في اللّيالي التي يستغرق فيها في كلّ الآفاق الفلسفية التي يطوف فيها في المطلق، هل يجد في نفسه شعوراً يحترم حريّة هؤلاء؟ قد تقول إنّها حريّة تلغي الآخر، لكنّ مسألة "إلغاء الآخر" مسألة مشتركة، هؤلاء يحاولون أن يلغوا أجواء الفيلسوف أو الشاعر وهو يحاول أن يلغي أجواءهم التي يريدون أن ينفِّسوا فيها عمّا يعيشون فيه من آلام ومشاكل.. ليس هناك شيء اسمه الحريّة المطلقة، عندما تبدأ في حركتك نحو الآخر.
الإسلام كواقع حيّ متحرِّك
ـــ لذلك نقول: الإسلام عندما ينطلق ليتحوَّل إلى نظام للنّاس، لا بدَّ له أن يرعى مصالح الناس من خلال خطوطه الفكرية، التي يرى أنّها الحقيقة وأنّها الحلّ، تماماً كأيّ فكرٍ آخر غير الإسلام، لو أنَّه تحوَّل إلى واقعٍ حيّ في الحياة. هذا صحيح بعض الشيء، لكن لا ينطلق هذا من خصوصيّة الإسلام، إنَّما ينطلق من خطٍّ عام في الحياة وهو أنّ أيّ فكر لا يستطيع أن يحميَ نفسه من الذين يشرفون عليه، إلاَّ من خلال ضوابط لن تكون مطلقة وشاملة. إنَّ القوانين لا تستطيع أن تحميَ نفسها من صانعيها أو من الذين يتحرَّكون في تطبيقها وهذا أمر مشترك بين الإسلام وغيره.
الإسلام ـــ كما قلنا ـــ ليس بدعاً من الأفكار التي تتحوَّل إلى واقع، لا بدّ من أن تضع حدوداً للحريّة على قياس الفكر الذي يلتزمها وعلى قياس الخطط التي يخطّط لها، فقد يفرض الواقع أو تفرض المصلحة العامّة للناس أن يعطي الحريّة الفكرية بطريقة أو بأخرى وقد تفرض أن يقيّد هذه الحريّة. هذا أمر لا ينطلق من خطّ مطلق، ولكنّه يخضع لطبيعة الظروف الموضوعية، التي يعيش فيها أمام الأخطار التي تواجهه وأمام الواقع الذي يتحرَّك فيه. إنَّه لا يلغي الآخر ولكنّه يضبط حركته. تماماً كما هو الفكر الملتزم. قد تتحدَّث عن الديمقراطية، ولكنَّ الديمقراطية ليست ملتزمة، إنَّما هي واجهة الأفكار الملتزمة، التي إذا استطاعت أن تفرض نفسها على الواقع، فإنَّ طبيعة الأسلوب الديمقراطي هو أن يقول للأفكار الأخرى التي لم تحصل على أكثرية شعبية: ابقي في الظلّ أو على الهامش.. الإسلام لا ينهي الآخر، ولكنّه يضبط مواقعه، كما يضبط مواقع المسلمين أنفسهم من خلال الخطوط العامّة للنظام الذي يحكم.
ثمّ أيّ إسلام هو الإسلام الذي يوحّد الناس، الذين يختلفون في خصوصيّات كثيرة؟ قد تكون طبيعيّة وقد تكون عرقية وقد تكون شيئاً آخر ممّا يختلف فيه النّاس؟ ربَّما يطرح السؤال هذه الفكرة على أساس أنَّ هناك مذهبيات فقهية إسلامية، يتعدَّد فيها المسلمون في خطوطهم الفقهية أو الكلامية، وقد يطرح هذا السؤال فكرة اختلاف شكليّات الحركة الإسلامية بين ما هو العنف والثورة، وبين ما هو الرفق والاعتدال، فأيّ إسلام هو هذا الإسلام؟
المذهبيّة.. عصبيّة
إنَّنا نحاول أن نثير أمام هذا السؤال بعض النقاط، التي يحكمها جوّ واحد وهو أنّ هناك خطوطاً مشتركة بين المسلمين، وبين كلّ هذه المذاهب الإسلامية أو ما يسمّيه بعضهم "الإسلامات المتعدِّدة". إنَّ هناك خطوطاً مشتركة في العقيدة وحتّى في الفقه، فإنَّ المذاهب الفقهية قد تختلف بعض مفرداتها ولكنّها تلتقي بنسبة 80 في المئة على الأقلّ في ما تشترك فيه، سواء في قضايا العبادات أو المعاملات، التي تعني العنوان الكبير لكلّ التشريعات المتعلّقة بالحياة، وكذلك فإنَّ المشكلة ليست في اختلاف المذهبيّات، حتّى في التاريخ الإسلامي الذي كانت تحكمه حكومة واحدة، مع كلّ التحفُّظات على شخصيات الذين كانوا يشرفون على الحكم الإسلامي في التاريخ، ولكن كان المسلمون يختلفون في اجتهاداتهم قبل أن يصدر مرسوم بتجميد الاجتهاد الإسلامي، ولم يشعر المسلمون أنَّ هناك مشكلة كبيرة في هذه المسألة.. ربَّما حدثت بين المسلمين اختلافات مذهبية ولكنّها "مسألة العصبيّات"، تماماً كالقبائل العشائرية. إنَّ الطائفية أو المذهبية الذاتية هي حالة قبلية بدوية، تنطلق في خطّ التعصُّب.
فما هي الحركة الإسلامية، هل هي مسألة الثورة أو هي مسألة الرفق والاعتدال؟ إنَّ هذه المسألة قد تكون من المسائل الفكرية التي يدور فيها الجدل، ولكنّها لن تشكّل مشكلة كبيرة إلاَّ في نقطة الانطلاق للحركة الإسلامية، ليقول هذا: إنَّنا لا نحتاج إلى العنف، أو إنَّنا ضدّ العنف، ويقول ذاك: نحن مع العنف، هذه أمور تتحرَّك في أسلوب العمل. وإذا استطاع أيّ فريق أن يحصل على الساحة، فإنَّ الفريق الآخر يعيش معه ويتكامل. إنَّنا نعتقد بوجود أفكار يختلف فيها المسلمون في ما هي مسائل الخلافة والإمامة، وفي ما هي مسائل الحريّة والجدليّة، وفي ما هي كثير من مشاعر الحُسن والقبح العقليين، أو مشاعر العبادة، ولكنَّنا لا نتصوَّر أنَّ هذه الاختلافات يمكن أن تسقط التجربة بل يمكن أن تغنيها. يبقى أنَّ هناك ظروفاً موضوعية سياسية تحاول أن تستفيد من هذه الخلافات، ومن طبيعة التعصُّب الذي يعيشه المسلمون من خلال تخلُّفهم، هذه المشكلة لا تقتصر على الجانب الإسلامي.
أدونيس والنصّ الفقهي
ـــ حول موضوع الحريّة، يقول الشاعر أدونيس: "إنَّ غياب الحريّة مرتبط بالقراءة الفقهية للنصّ الديني، والحريّة في الفقه العربي الإسلامي لم تكن مفهوماً سياسياً أو مدنياً وإنَّما كانت بالأحرى مفهوماً دينياً. كانت الحريّة نوعاً من ممارسة الطاعة، ومبايعة الخليفة صاحب السلطة، وتفويض الأمر إليه في كلّ شيء. وهكذا نشأت الوحدة بين حقيقة الدِّين والسلطة، أي على نحوٍ تناقضي بين الحريّة والسلطة، بين الفكر والسلطة؛ ولم يكن للفرد بتعبيرٍ آخر وجود إلاّ بوصفه طائعاً، أي بوصفه جزءاً عضوياً من الجماعة، يرى رأيها ويقول قولها. والخروج على الجماعة كان ولا يزال كفراً يؤدّي غالباً إلى النبذ وأحياناً إلى القتل. كان الخروج فكرياً، ولا يزال خروجاً سياسياً شرعياً بل قانونياً في الوقت نفسه، من حيث أنّه خروج على السلطة القائمة للجماعة. عندما يُسلب الإنسان حقّ الكلام فإنَّه سلب حقّ الوجود وحقّ الحياة". ما رأيكم في هذا التحليل؟ وتحديداً ما رأيكم في حريّة الفرد داخل الجماعة الإسلامية؟ وما رأيكم في حريّة الجماعة الإسلامية غير الموافقة على رأي السلطة السائدة في الإسلام؟ وما رأيكم في حريّة الجماعة الإسلامية الموجودة داخل الحاضرة الإسلامية؟
في تصوُّري أنّ الشاعر أدونيس، الذي نحترم مستواه الفنّي، في ما هو الإبداع الشعري في بعض تجاربه على الأقلّ، عندما يطرح هذه الفكرة التي نجد في بعض ملامحها الخفيّة اللاشعورية، بعض العقد من الدِّين نفسه، وهو ربّما يطرح في هذه التعليقة، ما يعتبره حالة من القمع. إنَّك ترمي الآخر الذي يختلف معك، لأنَّه يحمل عقدة ضدّك من دون أن تفهم فكره بالطريقة الفكرية السليمة. إنّي أُحلّل الآن ولا أردّ في هذه الملاحظة، لأنَّ الكثيرين من الناس حتّى المثقّفين الذين قد يشعرون بقيود الواقع التي تمتدّ إلى كثير من أغلال الماضي يتمرّدون عليها، ويتحوَّل ذلك التمرُّد إلى حالة في اللاشعور، تحاول أن تنظر إلى القضية من الجانب الواحد وتبتعد عن الشمولية في نظرتها. إنّه يطرح مسألة الحريّة، من خلال أنَّ هناك شيئاً اسمه النصّ الديني، وأنَّ هناك شيئاً اسمه الجماعة. رأي الجماعة، الذي يعدّ الخروج عنه كفراً وهرطقة وما إلى ذلك، وإنَّ الإنسان حرٌّ في الوسط الإسلامي أو العربي في الدائرة التي ترسم له، حرّ أن يطيع، حرّ أن يخضع وأن يسجد. إنَّنا لا ننكر وجود تجارب كثيرة في الوسط العربي والإسلامي، على مستوى الماضي وعلى مستوى الحاضر، ربّما تعيش هذا الجوّ.
ولكنَّنا عندما نريد أن نؤكّد النصّ الفقهي، فإنَّ النصّ الفقهي لا يمكن أن يكون على خلاف مع النصّ القرآني، لأنَّ النصّ القرآني هو الأساس في كلّ الفقه. ومن المميّزات الأساسية للقرآن أنّه يطرح الفكر المضادّ الذي يواجه فكره في العمق، ويخلّد الفكر المضادّ للأجيال، حتّى في ما يتّصل بشخصية النبيّ وبشخصية القرآن. عندما يطرح القرآن الكريم بأنَّهم قالوا عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بأنّه مجنون، إنّه يثير الشكّ في عقول كلّ الأجيال القادمة. وهكذا عندما يطرح أنّهم يقولون عنه إنّه كاهن، إنّه كاذب، إنّه شاعر {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل : 103] ليس نبيّاً ولكن هناك مَن يعلمه. عندما يطرح أنَّ القرآن {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان : 5]، في كلّ ذلك إنَّما هو يطرح الفكرة المضادّة التي يقدّمها الآخر في مواجهة القرآن، وفي مواجهة النبيّ ويخلّدها في الكتاب المقدّس. إنَّ النصّ القرآني يحترم فكر الآخر ويريد للمسلمين أن يضعوا في حساباتهم أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال كذا، وأنَّ عليكم أن تفكِّروا بالرّد القرآني، وأنّ المشركين قالوا عن القرآن كذا، وأنَّ عليكم أن تفكِّروا بالرّد.
إنَّ المسألة ليست مسألة أنّ النصّ يلغي الآخر، ولكن من الطبيعي للنصّ أن يحتفظ بخصوصيّته في الحكم على الآخر. بعض الناس يتعقَّدون عندما يقول عنهم الإسلام؛ إنّهم كفرة، لماذا عندما يريدون المحافظة على صفة الإيمان إذا كانوا لا يؤمنون؟ صحيح أنّ الذي يخرج من رأي الجماعة هو إنسان كافر، لأنَّ الإيمان والكفر حقيقتان موضوعيّتان في ما هي الحالة الفكرية والنفسية للإنسان. أن تؤمن بوجود الله، أن تؤمن بنبوّة رسول الله، أن تؤمن باليوم الآخر، فأنتَ مسلم؛ أن لا تؤمن بواحدة منها، فأنتَ غير مسلم. إنَّ الإسلام يحترمك عندما يقول عنك إنَّك كافر لأنَّه لا يريد لك أن تتقمَّص شخصية الإيمان وأنتَ لا تحمل مصداقيّتها. إنَّ بعض الناس يتعقَّدون من هذه الكلمة، من خلال طبيعة الحالة الاجتماعية التي قد تواجه بعض الناس بأسلوبٍ معيّن، رافض أو معقّد تجاه ما يحملونه من صفات. إنّي قلت لبعض الماركسيّين المفكّرين: ما معنى أن تذهب لتعقد عقد الزواج عند الشيخ أو في الكنيسة؟ ما معنى أنْ تفكِّروا أنّه لا بدّ أن يأتي كاهن أو شيخ ليصلّي على الميّت الماركسي، ما كلّ هذا؟ إنَّ المسألة هي أنّ الخروج على الجماعة في ما هي المسائل الفكرية الأساسية تجعلك في دائرة معاني المفردات المغايرة وهذا موجود في جميع الأنظمة الفكرية وليس في الإسلام فقط.
بين الكفر والإيمان
ـــ عندما تستخدم جهة معيّنة تعبير "كافر" فهي تضمر نوعاً من الاحتكار للإيمان، يعني قد تكون كافراً إنَّما من وجهة نظر محدّدة، وقد تكون مؤمناً من وجهة نظر أخرى.
عندما تريد أن تكون دقيقاً في المصطلحات، إنَّ كلمة المؤمن ليست كلمة في المطلق بل هي نسبيّة، وكلمة الكافر ليست كلمة في المطلق، بل نسبيّة أيضاً. وعلى ضوء هذا فأنتَ في المسألة الإسلامية لستَ مؤمناً، إذا كنت لا تؤمن بعقيدة الإسلام. ولو فرضنا أنّك كنتَ ملحداً، فأنتَ تؤمن بالإلحاد. المسألة تتحرّك من خلال طبيعة الجوّ الذي تضع في عنوانه مسألة المؤمن والكافر.
ـــ يعني أصبح هناك نوع من الاحتكار للعلاقة بالله؟ قد أؤمن بالله ولكن بطريقة مختلفة؟
قلت في جوابي، ويجب أن أوضح أنَّنا عندما نتحدّث عن مصطلح، أنتَ مؤمن بالإسلام بهذه الطريقة التي يعنيها الإسلام في الإيمان بالله وفي الانفتاح على الله، وربّما تكون مؤمناً بالله بطريقة أخرى، عندما تكون مسيحيّاً فأنتَ مؤمن بالله بطريقة معيّنة، أو عندما لا تكون مسيحياً ولا مسلماً ولا بوذياً وتؤمن بالله المطلق، أنتَ مؤمن من ناحية، ولكنّك كافر بحقائق أو بمفردات فكرية معيّنة من جهةٍ أخرى. عندما نتحدّث في المجتمع الإسلامي عن الكافر والمؤمن، نتحدّث عن الكافر بالإسلام من خلال عقيدته والمؤمن بالإسلام من خلال عقيدته. القضية تعيش في هذا الإطار. ولذلك لا تكون كلمة "الكافر" للّذي لا يؤمن بالإسلام مشكلة من قريب أو من بعيد لأيٍّ كان.
كذلك قد تكون الحريّة في بعض المواقع ـــ وأقصد بالحريّة إظهار الفكر الآخر ـــ أو في الدائرة الواسعة ربّما تكون في بعض الحالات مصلحة للأُمّة أو للنّاس، وربّما لا أن تقمع لأنّك تفكِّر، هذا ليس وارداً في الحسابات، بل ربّما نجد أنَّ الإسلام يفسح المجال لكلّ صاحب فكر أن يأتي ويطلب من المسلمين أن يناقشوا فكره في السّاحات العامّة أو الخاصّة ليقنعهم أو يقنعوه. ربّما يمنع الإسلام ـــ كفكر ملتزم ـــ الحريّة في الحالات التي قد يشعر فيها أنَّها تمثِّل نفياً له وخطراً عليه. وهذا أمر موجود عند كلّ فكر ملتزم، حتّى الذين يؤمنون بالحريّة، كيف يفكِّرون إزاء الآخرين الذين يريدون أن يسقطوا الحريّة؟ إنَّهم لا بدّ أن يقفوا أمامهم، ليمنعوهم من أن يسقطوها.
الخروج عن الجماعة
ـــ لكن ماذا عن الخروج عن رأي الجماعة؟
هناك فرق، هناك خروج عن رأي الجماعة في دائرة الأساسيّات التي تمثِّل القاعدة التي تنطلق منها هذه الجماعة. مثلاً لو أنَّ البلد كان يعيش حالة معيّنة في مواجهة الذين يريدون أن يفرضوا العبودية والتبعيّة عليه وكان هناك جماعة يتعاملون مع العدو، خرجوا عن رأي الجماعة، هل نستطيع أن نعطيهم حريّتهم في هذه الحالة، في الخروج عن رأي الجماعة؟.. ربّما يكون هذا الخروج في قضايا سياسيّة عامّة واجتماعية عامّة، لأنَّ الإسلام لا يمنع أيّ إنسان من أن يقول كلّ فكره في نقد الحاكم والحكم وكثير من الأوضاع وفي الأفكار التي لا ترتبط بالجانب الذي يمثِّل الأساس للنظام وللمجتمع. ولهذا لاحظنا أنَّ الإمام عليّ (عليه السلام) في بعض خطبه، التي كان يتحدّث فيها مع الناس، كان يقول لهم: "لا تظنّوا بي استثقالاً في حقٍّ قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي، فإنّه مَن استثقل الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما عليه أثقل فلا تكفُّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل"(1).
إنَّ الذين يؤمنون بالحريّة، لا يفكِّرون في تجربتهم في مسألة الحريّة بالمطلق، بل إنَّهم يعيشونها في الواقع بطريقة مختلفة تماماً. إنَّنا عندما ندرس القرآن، نجد أنّه لا يربط الناس بالماضي.. فالقول إنَّ القرآن يريد أن يجعل من النّاس امتداداً للماضي حديث غير دقيق. ربّما كان الإسلام شيئاً عاش في الماضي ولكنَّ الإسلام لا يربطك فيه، على أساس أنّك امتداد للماضي بل باعتبار أنّه فكر أو شريعة، تماماً كما هي الأفكار الأخرى الموجودة في الماضي التي تملك إمكانية الامتداد في الحياة.
إنَّ الإسلام عندما يتحدَّث مع الناس، عن كلّ التاريخ وعن كلّ الماضي، يقول {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة : 134]، لهم تجربتهم ولكم تجربتكم، صنعوا التاريخ فاصنعوا أنتم التاريخ. ننطلق من بعض كلمات الإمام عليّ (عليه السلام) حيث يقول: "لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنَّهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم"(2). صحيح أنَّ هناك نصّاً فقهياً ولكنّه يحمل المرونة التي تطلّ على الواقع وتفسح المجال للنقاش الاجتهادي والنقاش الفكري، وإلاّ فبماذا نفسّر اجتذاب الإسلام، حتّى في أصول الخلافة التي يعتبرها بعض الناس منحرفة، اجتذاب الإسلام للفقه اليوناني والفارسي والأفكار الهندية ولكلّ تلك الفلسفات؟ كيف نفهم كلّ هذه الحريّة الفكرية، التي كان يعيشها المسلمون، سواء في بغداد أو في دمشق أو في الأندلس؟ وكيف انطلقت كلّ هذه الأفكار من الفارابي، الذي يستشهد به أدونيس أو ابن سينا أو ابن رشد أو غيرهم؟ كانت هناك حالات قمعيّة، تماماً كما هي الحالات القمعية في أيّ موقع من مواقع الآخر.
القمع في التاريخ لم ينطلق من نصٍّ فقهي أو ديني، حتّى في المواقع الدينية، انطلق القمع من استغلال الموقع الحاكم ومحاولته أن يفسّر النصّ الديني بطريقته الخاصّة، كما يحاول كثيرٍ من الحكَّام أن يفسِّروا القانون بطريقتهم الخاصّة أو يفسِّروا الفكر بطريقتهم الخاصّة. أو حتّى الذين يفكّرون بالحريّة، إنَّهم يفسّرون الحريّة بطريقةٍ خاصّة، بحيث تقمع الذين يواجهونهم في هذا المجال. لذلك إنّي أعتقد أنَّ الشاعر أدونيس لم يكن دقيقاً جداً عندما ربط الواقع السلبي الذي كان يعيشه المسلمون بالنصّ الفقهي، بل إنّه لو كان دقيقاً لرأى حالات الاضطهاد، التي عاشها المجتمع العربي والإسلامي، مماثلة للحالات التي عاشتها المجتمعات الأخرى ـــ سواء المجتمعات المسيحية أو الماركسية أو الديمقراطية ـــ التي انطلق فيها الحاكم مع أجهزته، ليستغلّ سلطته في سبيل فرض ما يريد على الناس باسم القانون او باسم الدّين أو باسم أيّ فكرٍ آخر.
نقد المسلَّمات
ـــ بالنسبة إلى موضوع الحريّة الفكرية، سنتحدّث عن حركة الحداثة. دائماً تتحدَّث حركة الحداثة عن إعادة نقد ودراسة المسلَّمات، وفي محاضرة أخيرة للدكتور محمد أركون، تحدَّث فيها عن ضرورة نقد المسلَّمات في الإسلام فيسأل: ما الوحي مثلاً؟ ولماذا نؤمن به كمسلّمة ومن دون مناقشة وندخل في مصطلحات عدّة طرحها الإسلام كفكر من دون مناقشة؟ فإلى أيّ مدى تقبلون كمفكِّر إسلامي بإعادة النظر بالمسلَّمات الأساسية؟
نحن نعتقد بالإيمان المنفتح ولا نؤمن بالإيمان الأعمى. الإسلام في القرآن الكريم هاجم الذين يقولون {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف : 23]، واعتبر الإسلام كما في بعض أحاديث السُنّة "أنَّ العقل هو رسولٌ من الداخل، كما أنَّ الرسول عقلٌ من الخارج"، واعتبر الإسلام "أنَّ التفكير فريضة إسلامية، وأنَّ تفكُّر ساعة خير من عبادة سنة". إنَّ الإسلام يؤكّد أنّه لا يجوز التقليد في العقائد، إنَّما يجوز التقليد في الشريعة، باعتبار أنَّ الشريعة تحتاج إلى اختصاص. عندما تؤمن بالله يجب أن تجتهد بحجم فكرك في الإيمان بالله. وعندما تؤمن بالرسول أو بالوحي أو بالقرآن أو باليوم الآخر فلا بدّ لك أن يكون عندك شيء من الاجتهاد بحجم فكرك في هذا المجال. لا يجوز التقليد في العقيدة بإجماع المسلمين.
عندما نطرح هذا فإنَّنا نعتقد أنّه ليست هناك محرَّمات في كلّ مجالات الحوار في الإسلام الذي طرح في القرآن الحوار حول وجود الله، وخلَّد أفكار الذين ينكرون وجود الله، الذي طرح في القرآن مسألة توحيد الله وتحدَّث عن أفكار الذين قالوا بالشرك، إنَّه لا يتعقَّد مِن طرح الفكر المخالِف. حتّى هذه المسائل التي طرحها الأستاذ أركون ليست جديدة ولا علاقة لها بالحداثة، هذه طرحت في علم الكلام الإسلامي وفي الأفكار الإسلامية وفي كلّ كتب الجدل الإسلامي، إذا صحّ التعبير، ما الوحي؟ ما طبيعته؟ طرح ذلك في الفكر الإسلامي، حتّى ما هي مصادر المعرفة؟ هل العقل مصدر للمعرفة؟ أم أنَّ التجربة هي مصدر المعرفة؟ أم أنَّ العقل والتجربة يمكن أنْ يتكاملا؟ طرحت مسألة الرسول... هذه أمور طرحت بشكلٍ قويّ وفاعل في تاريخ الثقافة الإسلامية.
إنَّنا عندما ندرس بعض مفردات التاريخ الإسلامي، نجده ينقل لنا عن تاريخ الإمام جعفر الصادق، أنّه كان يجلس في بيت الله الحرام ويجتمع إليه ابن المقفَّع وابن أبي العوجاء، وكثير ممّن يسميّهم الناس "الزنادقة" ويجادلونه في كثير من المفاهيم بدءاً بوجود الله وانتهاءً بالحجّ وغير ذلك وكان يجادلهم، رغم لهجة التحدّي التي يبادرونه بها، بكلّ عقل وقلب منفتح.
حوار: د. أنور خطَّار
الإسلاميون وإشكالية العلاقة مع الغرب(*)
السيّد محمّد حسين فضل الله غنيٌّ عن التعريف، ولن نزيد شيئاً في ما نقدّم به لهذه المقابلة. لكنَّ المعنى البارز في السيّد أنّك تجد لديه المرجعية الحركية الإسلامية، مضافة إلى إبداعات كثيرة يتمتَّع بها، أبرزها: الانفتاح وثبات الموقف العقائدي والسياسي ومواكبة الأحداث اللبنانية والعربية والعالمية، بروحية رجل الدّين المتمكِّن ورجل السياسة المتابع، فضلاً عن رجل الحركة الذي لا يزاحمه في موقعه هذا مزاحم.
ـــ سماحة السيّد، هناك قضية تواجه الحركة الإسلامية في مختلف أقطارها هذه الأيّام، هي إشكالية العلاقة مع الغرب. هناك تيّارٌ إسلامي يرى أنَّ الغرب لا يفهم إلاّ بمنطق القوّة، وأنّ واجب الإسلاميّين أن يواجهوا هذا الغرب المتسلّط المتعجرف بما يُلزمُه بأنْ ينحني للحالة الإسلامية، وأن يتعامل معها بكرامة.. وتيّارٌ آخر يقول بأنَّ الغرب هو في موقع القوّة، وأنّ واجبنا كمسلمين أن نحاول الالتفاف على الوضع الغربي من أجل كسبه إنْ أمكن. كيف ترون هذه الإشكالية، وهل يمكن كسب الرأي العام الغربي إلى جانب القضايا الإسلامية هذه الأيّام؟
إذا أردنا أنْ نحدِّد المسيرة الإسلامية، سواء في مواجهة الغرب أو في مواجهة الأنظمة الملحقة به، فعلينا أن نطرح سؤالاً: مَنْ نحن؟ هل نحن الذين نطالب بأنْ يحكم الإسلام بلاد المسلمين، على الأقل إذا لم يكن لنا حلم كبير بأن يحكم الإسلام العالَم؟ أم أنَّنا المسلمون الذين يريدون للإسلام أن يتحرَّك في العالم عن طريق الدعوة العباديّة والأخلاقية، من دون أن يكون لنا أيّ حلم يتعدّى هذه الدائرة؟ ثمّ مَنْ نحن في حركة الحريّة والعدالة، هل نحن الذين نعمل على أساس أن تكون بلادنا حرّة في ظلّ سياسة عادلة على مستوى الداخل والخارج، أم أنَّنا نقبل بضغط المصالح الغربية بكلّ أبعادها ومتفرّعاتها على مصالحنا؟
هذه الأسئلة لا بدّ لها من إجابة، وعلى ضوء ذلك تتحدَّد حركة الإسلاميّين بين العنف واللّين ـــ إذا صحّ التعبير ـــ لأنَّ القضية المطروحة في الساحة هي أنّ الإسلاميين لم يختاروا في أيّة مرحلة ـــ ولاسيّما عندما انطلق الإسلام كحركة في الواقع ـــ أسلوب العنف الابتدائي، ولكنَّهم واجهوا السياسة الغربية في بلدانهم، من خلال الخطط التي رسمها مخطِّطو المصالح الغربية في المنطقة، ومن خلال تسليط مجموعة من الزعماء على بلاد المسلمين ومن خلال "إسرائيل"، لذلك فإنَّني أتصوَّر أنَّه ما من حركة إسلامية، حتّى تلك التي تتحرَّك بعنف في مواجهتها للغرب اعتمدت العنف ابتداء. لأنَّنا عندما نريد أن نتحدَّث عن هذا العنف، الذي يتّهم به الإسلاميون ضدّ الغرب، فإنّك ستلتقط مسائل الخطف في لبنان، وقد تلتقط مسائل التفجيرات التي اتّهم بها الإسلاميون في أوروبا وفي أميركا اللاتينية وفي الولايات المتحدة في مسألة متفجّرة نيويورك. ونحن نعتقد أنَّ هذه المفردات لا تشكِّل جزءاً من كلّ وإنَّما تشكّل، لو صدق اتّهام الغرب في بعضها، مجرّد ردّ فعل لوضع ضاغط يجد بعض الإسلاميين أنفسهم فيه محشورين في الزاوية. وأنا لا أتصوَّر أنّ الإسلاميين يمكن أنْ يفكِّروا في مواجهة شاملة مع الغرب لأنّه تفكير يفتقد إلى الواقعية.
ندافع عن حريّتنا ومصيرنا
وعلى ضوء هذا، فإنَّني لا أفهم وجود خيارين، لأنَّ الغرب ليس مستعداً لأنْ يتقبَّلك معتدلاً، إلاَّ إذا كان اعتدالك يتحرّك في إفساح المجال له للسيطرة على كلّ مقدّراتك. وأضرب مثلاً في هذا المجال دولة السودان الإسلامية، فنحن نعرف أنّ السودان بدأ منذ اللّحظة التي نجح فيها الانقلاب عام 1989 بالانفتاح بعقلانية وموضوعية على الغرب، حتّى أنَّ الدكتور حسن الترابي، الذي يمثّل منظِّر الحركة الإسلامية في السودان، ذهب إلى الكونغرس ليخاطب الأميركيين والمثقّفين الغربيين بطريقة أو بأخرى، ونلاحظ إلى جانب ذلك أنَّ السودان بذل كلّ جهده من أجل أن يعطي الغرب الشعور بأنّه لا يخطّط للعنف تجاهه، وأعتقد أنَّ قمّة ما قام به الحكم في السودان كان دعوة البابا إلى السودان، في الوقت الذي نعرف فيه كم أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة تعمل بكلّ قوّة لدعم المتمرّدين في الجنوب ولتشويه صورة الحكم الإسلامي في السودان، ومع كلّ هذه الخطوات "الإيحائيّة" التي خطاها السودان نجد أنّ الغرب يسجّل السودان في قائمة الدول الإرهابية.
وهكذا نجد في أكثر من موقع من المواقع، أنّ بعض الغرب يصارع بعضه الآخر، فنحن عندما ندرس خلفيّات الواقع السياسي الدامي في الجزائر القائم بين النظام والإسلاميين على اختلاف فصائلهم، فإنَّنا نلاحظ أنَّ أميركا تنظر إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ نظرة معيّنة تبتعد فيها عن اتّهامها بالإرهاب، في الوقت الذي يقف الغرب الأوروبي المتمثِّل بفرنسا مع النظام، كيف نفسِّر هذا؟ إذا دخلنا إلى مصر فإنَّنا لا نرى موقفاً جادّاً من الإسلاميين الذين يحاربون النظام المصري، بل قد يتراوح الموقف بين أسلوب يبرّر بعض الشيء وأسلوب دافئ تارّة وحادّ تارّةً أخرى، تبعاً للوضع الموجود في الداخل.. إنَّنا نجد أنّ الغرب يدعم بشكل سلبي أو إيجابي أعمال العنف الإسلامي بطريقة أو بأخرى، ممّا يعني أنّ المسألة ليست هي أن تكون عنيفاً أو تكون معتدلاً، بل المسألة هي هل تكون خاضعاً للغرب في سياستك واقتصادك وأمنك، بحيث تمهّد له السبيل للامتداد إلى العالَم الإسلامي، أو لا تكون كذلك؟ هذه هي المسألة التي تطرح نفسها.
إنَّ الذين يقولون بأنَّ علينا أن ننفتح على الرأي العام الغربي لنقنعه بالإسلام ونحاوره، هؤلاء الناس الذين نحترم فكرهم، ينبغي أن يطرحوا قضية واقعنا في العالَم الإسلامي، قبل أن نفكِّر في أنْ نندفع نحو الغرب لنقنع الرأي العام فيه بالإسلام.. كيف تستطيع أن تمنع الغرب من أنْ ينحرف بالإسلام عن مساره الطبيعي وأن يجمّده، وأن يثير فيه كلّ عناصر التخلُّف التي وجدت في مفهوم المسلمين للإسلام وما إلى ذلك في بلاد المسلمين؟ إنَّنا نكون كمن يبحث عن موقع متقدِّم في بلادٍ أخرى في الوقت الذي يفقد فيه بلاده.
إنَّنا نتصوَّر أنّه ليس هناك خطّان في المسألة، فبإمكاننا أن نبقى بحسب الظروف الموضوعية والفرص المتاحة لنا، لتأكيد حريّتنا ولتقوية مواقع إسلامنا في البلاد الإسلامية، ثمّ ننطلق إلى الغرب لنتحرّك فيه في خطّ الدعوة، لنظهر للرأي العام الغربي بأنَّنا لسنا إرهابيين ولسنا متطرّفين، ولكنَّنا شعب يدافع عن حريّته وعن مصيره وما إلى ذلك.
الحريّة لنا وللآخرين
ـــ إذاً نستطيع أن نفهم أنَّكم ترون بأنَّ على الحالة الإسلامية أن تكون قويّة في أقطارها، متمتّعة بحريّتها بحيث تملك قرارها، ثمّ تحاور الغرب بعد ذلك، وتحيّد الرأي العام فيه ما استطاعت؟
هذا هو بالضبط ما أقصده، لأنَّني أعتقد أنَّنا ـــ كمسلمين ـــ دعاة إلى الله في عملنا السياسي والجهادي والأمني والاقتصادي، ومن هنا فإنَّ خطّ الدعوة إلى الله لا ينحصر في بعدٍ واحد، بل لا بدّ أن ينطلق في كلّ الأبعاد، وهذا ما يفرض علينا أن ننفتح على الداخل لنؤصّل الإسلام فيه، وأن نعارض الأنظمة، باعتبار أنَّ مشكلتها ليست مشكلة مفاهيم معيّنة، يختلف فيها الحاكم عن الإسلاميين أو عن شعبه، بل لأنّها مشكلة أنظمة موظّفة لدى الاستكبار العالمي والمخابرات الدولية، لتضطهد شعوبها. ولذلك نرى أنّها كانت تضطهد غير الإسلاميين عندما كانوا قوّة، فأصبحت تضطهد الإسلاميين بعد أن انكفأت قوّة غيرهم. وليست القضية عند هذه الأنظمة وجود طرف تريد أن تقمعه، ولكنَّ القضية أنّ هناك قوى معارضة للغرب، الذي وُظّفت هذه الأنظمة لديه من أجل أن تسقط كلّ الخطوط المعارضة له في هذا المجال. ومن هنا فنحن لا نوافق على الطرح الذي يدعو إلى المصالحة مع الأنظمة، بالشكل الساذج الذي لا يدرس العمق الذي تتحرَّك فيه هذه الأنظمة، ولا يدرس عمق الحركة الإسلامية في وعيها للخلفيات التي تتمثَّل وراءها. نحن نقول: عندما تتصالح هذه الأنظمة مع شعوبها لتعطيها الحريّة في الحركة فنحن يمكن أن ندخل في صلح معها، على أساس الخطوط العامّة للحريّة، وليست المشكلة عندنا أن تعطى الحريّة لخصومنا الفكريين، لأنَّنا مستعدون أن نتقبَّل في مرحلة الصراع أن تكون لنا الحريّة وللآخرين أيضاً.
ـــ تحسبون أنَّ الأنظمة تملك أنْ تتصالح مع جماهيرها؟
إنَّني أتصوَّر أنَّ هذه الأنظمة لا تملك ذلك، لأنَّ بعضها يخاف من جماهيره وبعضها الآخر خاضع للقوى الكبرى التي تهدّده دائماً في أن تلغي له عرشه أو أن تبدّله بشخصٍ آخر.
الحريّة أمام النظام العالمي الجديد
ـــ على ذكر المحاولة السودانية من أجل مدّ الجسور مع الغرب، هناك قطاع من الإسلاميين يقول بأنَّ هذه التجربة أثبتت فشلها، فعندما حاول الدكتور الترابي أن يخاطب الغرب ضربه الغرب وحاول قتله. والإسلاميون في الجزائر عندما حاولوا أن يكونوا فصيلاً ديمقراطياً يمارسون اللّعبة البرلمانية ضربهم الغرب من خلال النظام، وهو الآن يطاردهم في كلّ مكان، لذلك تبدو القضية شائكة أمام الحركة الإسلامية؟
إنَّني أتصوَّر أنّ هناك سلبية مغرقة في التشاؤم في هذا المجال، فقد استطاع الإسلاميون ـــ وهم يتنوَّعون في أساليبهم ــ أنْ يحافظوا على قاعدتهم الشعبية، وأن يعطِّلوا الكثير من الخطط الغربية التي عملت على أن تنفذ إلى داخل جماهيرهم لتسقط الإسلام الحركي في وعي الجماهير. ولهذا فإنّني أُلاحظ أنَّ هناك مشاكل معقَّدة في علاقة الإسلاميين بالغرب، سواء الذين يعنّفون أو الذين "يرقّون" ـــ إذا صحّ التعبير ـــ ولكنَّني أتصوَّر، أنّ هذا النوع من أنواع التحرّك المتنوّع، استطاع أن يحمي الكثير من المواقع الإسلامية، لاسيّما وأنَّ الإسلاميين كانوا أذكياء في اللّعب على التناقضات القديمة الجديدة بين أميركا وأوروبا. ومن الممكن جداً أنّ الخطوط التي تفصل أوروبا عن أميركا في العالم الثالث ليست خطوطاً كبيرة أو واسعة أو عريضة، ولكنَّ الإسلاميين مع ذلك استطاعوا أن يدقّقوا في هذا الموضوع وسجَّلوا بعض النجاحات بطريقة أو بأخرى. إنَّ المسألة التي أفكّر فيها في هذه المرحلة هي أنَّ الإسلاميين نجحوا في الانفصال عن النظام العالمي الجديد، وتأكيد حركيّتهم ومرونتهم في الهرب من ضغوطه تارة بطريقة سياسية أو دبلوماسية أو أمنية، وفي مصادمته أحياناً أخرى. أنا لا أرى أنَّ الإسلام الحركي يعاني صعوبات فوق العادة، ولكنّه يعاني صعوبات طبيعية في حركة الصراع.
ـــ لكن على صعيد مستقبل المنطقة، صحيح أنَّ الحركة الإسلامية استطاعت أن تحافظ على جمهورها وأنْ تحافظ على نقاء الإسلام وعلى تيّار متحرِّر من المسلمين، لكنَّ الإعلام المحكوم من الأنظمة بالكامل ـــ اللّهم إلاّ في لبنان ـــ هو الذي يربّي الجماهير، والحركة الإسلامية تُنْتَزَع من يدها وسائل وأدوات الأداء الشعبي واحدة بعد أخرى. حتّى المساجد تكاد أن تغتصبها الأنظمة وتحتكرها، فما رأيكم بذلك؟
إنَّني أتصوَّر، أنّنا لا نستطيع أن نتحدّث عن المستقبل بهذه الطريقة من التبسيط، لأنَّ مسألة أن تُضطهد الحركة الإسلامية في مساجدها أو في حركة الإعلام ضدّها، هي مسألة تختزن في داخلها اعتراضاً شعبياً جماهيرياً احتياطياً للمستقبل إذا صحَّ التعبير، كما تتحرَّك في سطحها في إطار الحصار الذي يحيط بها. إنَّني أتصوّر أنّ هناك إيجابية لدى الإسلاميين، لا يملكها أيّ تيّار سياسي في العالم، وهي أنَّهم مهما منعوا الإسلاميين من النشاط المسجدي فإنَّ طبيعة الصلاة تمثِّل نشاطاً صامتاً متحرِّكاً.. يعني أنَّ الإسلام مستمرّ، وأنَّ مضمون الصلاة في ما اختاره الله للمسلمين، ممّا يقرأونه من سور القرآن الكريم وآياته ومن تسابيح الصلاة وآذانها، يمثّل حركة إعلامية يعيش المسلم في داخلها بكلّ عمق. ربّما لا تستطيع وأنتَ تخطب في المسجد أنْ تتحدّث عن الأشياء بأسمائها ولكنّك تستطيع أن تتحدّث عنها بعناوينها، تستطيع أن تتحدّث عن إيحاء كلمة "الله أكبر"، لتوحي للمسلمين بأنَّ الآخر مهما كان كبيراً فهو الأصغر.. إنَّك تستطيع أن تركّز المفاهيم الأصيلة في وعظك وخطابك، لأنَّ الخطاب الإسلامي السياسي ـــ وحتّى التقليدي ـــ لا يستطيع إلاّ أن يكون حركيّاً.. كما أنّ القرآن الكريم عندما تنطلق تلاوته في كلّ مجال، فإنّه يتحدَّث عن الذين ظلموا وعن الفراعنة وعن اليهود والمنافقين؛ لذلك أنا أعتقد أنّ الأساس والجوهر في أنَّ الإسلام بقي حيّاً في واقع الجماهير حتّى المتخلّفين منهم، لأنَّه يختزن في داخله معنى الحكم ومعنى الالتزام في الشريعة، في كلّ هذا التاريخ الذي عاش فيه المسلمون التحدّي الكبير مِن قِبَل الصليبيّين ومِن قِبَل هولاكو وغيرهم.. لأنَّ المضمون الإسلامي العبادي والقرآني هو مضمون ينتج في كلّ وقت وعياً إسلامياً، حتّى لو كان جنينيّاً. إنَّهم قد يمنعون خطباء المساجد من أن يتحدَّثوا في السياسة، ولكنّهم لا يستطيعون أن يمنعوهم من التحدُّث في القرآن.. لذلك أنا لا أعتبر أنّ ما نعيشه من حصار في بعض المناطق يمثّل حالة سلبية مطلقة، قد تكون فيه بعض السلبيات، ولكن فيه الكثير من الإيجابيات. وعلى الحركة الإسلامية أن تبدأ أمام أيّ اضطهاد وأمام أيّ حصار في التفكير بالأساليب التي يمكن لها أنْ تخترق هذا الحصار، من دون أن تسجّل على نفسها أيّة نقطة رسمية أو قانونية سلبية.
الشعوب الإسلامية تعيش الرفض لإسرائيل
ـــ دعونا ننتقل إلى مشكلتنا الكبرى وهي موضوع التسوية مع الكيان الصهيوني الغاصب.. واقع هذه التسوية ومستقبلها..
هل ترون أنّ الخطوات التي تمَّت في إطار عقد مصالحات عربية ـــ إسرائيليّة وما يمكن أن تحمله الأيام القادمة، يشكِّل نجاحاً لمشروع التسوية؟ وإلى أيّ مدى تجدون أنَّ أُمّتنا العربية والإسلامية قد اقتُحمت وانتُهكت حرماتها من خلال ما تمّ؟
إنَّني أعتقد أنّ ما تمّ من تسوية لم يكن تسوية بين فصيل عربي وفصيل يهودي، بل كان تسوية بين "إسرائيل" ونفسها. "فإسرائيل" كانت تفاوض نفسها عندما كانت تفاوض الفلسطينيين، لأنَّ الفلسطينيّين كانوا لا يملكون أن يطلبوا شيئاً، ولهذا فإنَّني أتصوَّر أنّ التسوية كانت بين صوت إسرائيلي ينطلق من فم عربي وبين صوت إسرائيلي ينطلق من موقع إسرائيلي.
أمّا في الفصل الباقي من التسوية فإنَّني أتصوَّر الجانب العربي يملك الكثير من الصلابة، وأنّه يعمل بكلّ ما عنده من طاقة في أنْ يتخفَّف من هذا الضغط من خلال التفصيلات من أجل أن يطيل أمد المفاوضات، في أجواء من الضغط الهائل الذي يوجّه إلى هذا الجانب. لذلك أعتقد أنّ الفصل الثاني من التسوية قد يخضع لكثير من الضغوط ومن العمليات القيصرية، لا أقصد حرباً، ولكن أقصد الكثير من التعقيدات التي قد تأتي بها التطوّرات القادمة، سواء على مستوى حركة الانتخابات الإسرائيلية أو الأميركية، أو من خلال إمكانات بعض الانهيارات في الاتّفاق الفلسطيني وربّما في الاتّفاق الأردني. إنَّني لا أنظر إلى حركة التسوية كحركة تنطلق في خطٍّ مستقيم، يمكن أن تجد فيه بعض العقد ولكنّي أعتقد أنَّ هناك الكثير من التعقيدات والتعرُّجات. وأنا لا أُشارك المتفائلين تفاؤلهم، على الأقلّ من خلال المعطيات التي بين أيدينا، ونحن لا نعلم الغيب.
أمّا مسألة اختراق العالَم العربي، فإنَّني أعتقد أنّ الاستكبار العالمي ومعه الاستكبار الصهيوني قد استطاع أن يضغط على هذا العالَم، بالضغط على أنظمته التي قد لا يحتاج بعضها إلى ضغط، لأنّه ينتظر اللّحظة السعيدة التي يحتضن فيها الإسرائيليّين ويعانقهم، لأنّه ليس من العرب في شيء وليس من المسلمين في شيء، بحسب عمق الأصالة العربية والتقوى الإسلامية.
لكنّي لا أجد أنّ هناك ظلاماً دامساً، لأنَّني أُلاحظ أنّ الشعوب العربية والإسلامية لا تزال تعيش في داخلها الرفض "لإسرائيل"، وأنّ هناك أكثر من موقع من المواقع السياسية ـــ ولاسيّما المواقع الإسلامية ـــ لا تزال تملك الصوت العالي للرفض. ونحن نلاحظ أنّ المسؤولين الأردنيّين تحدّثوا في واشنطن عن استفتاء للشعب الأردني، ولكنّهم اقتصروا على استفتاء النوّاب الموالين للنظام واعتبروه بديلاً عن الاستفتاء الشعبي.
وهكذا نلاحظ أنّ أكثر الذين يتحدّثون عن مسألة الصلح، يتحدّثون عن الضغوط وانعدام الوزن العربي وعن النظام العالمي الجديد، حتّى أنّ بعضهم أخضعها لحكم شرعي، فبدأ يتحدّث عن اتّفاق الضّرورة وأنّه ما من شيء إلاّ وقد أحلّه الله وما إلى ذلك من كلمات. إنَّني أعتقد أنّ هناك رفضاً عربياً ـــ إسلامياً قد يكون جنينيّاً في بعض مواقعه وقد يكون متحرِّكاً بطريقة أو بأخرى في مواقع أخرى، وهذا ممّا لا يجعل التسوية حالة نهائية تغلق الملف الفلسطيني ـــ اليهودي، بل إنَّني أعتقد أنّ الإسلام، ولاسيّما من خلال القرآن الكريم، في كلّ مفاهيمه التي تصدح دائماً بأنَّ {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} [المائدة : 82] سوف يصنع شيئاً جديداً في المستقبل. عندما ينفذ اليهود من خلال التسوية لتخريب الكثير من المواقع في العالَم العربي.
مشاكل تنتظر الإسلاميين في لبنان
ـــ إذا حاولنا تنزيل هذه النظرة المتفائلة بمستقبل الصمود الإسلامي والتماسك أمام قطار التسوية، إذا أردنا تنزيل ذلك على واقعنا اللبناني، حيث يجري الحديث عن استحقاقات قادمة في الجنوب تنتظر الحركة الإسلامية في لبنان، أو عن تردّي علاقة الحركة الإسلامية مع النظام، هل ترون أنَّ هناك شيئاً وشيكاً على الساحة اللبنانية؟
إنَّني عندما أتحدّث عن الصمود، فإنَّني لا أتحدَّث عن مسألة لا بدّ أن ننتظر فيها أن ينزل لنا الصمود في سلّة من السماء، بل لا بدّ لنا من أن نعمل ونهيّئ له الأسباب، وأن نبادر إلى تحريك كلّ مفرداته في الوعي الإسلامي في لبنان، وأن ندرس كلّ المتغيّرات وأن نعرف كيف نتعامل معها. من الطبيعي أنَّ هناك مشاكل تنتظر الإسلاميين في لبنان، ولاسيّما المقاومة الإسلامية، ولكنَّني أعتقد أنّ هذه المشاكل لن تكون بالمستوى الذي تؤدّي فيه بالحركة الإسلامية إلى السقوط، لأنَّ هذه الحركة بلغت من الرشد السياسي درجة تستطيع فيها أن تتفادى الكثير من الجبال التي يراد لها أن تُطبق عليها، لأنّها تعرف كيف تتحرَّك في رشدها العقلاني الإسلامي. إنَّني لا أتصوَّر أنَّ المستقبل الإسلامي في لبنان يبعث على التشاؤم، وإن كان لا يبعث على التفاؤل بدرجة كبيرة أو على المستوى الذي يعيشه الواقع الإسلامي الآن، فإنَّ المرحلة القادمة تحتفظ للإسلاميين بالكثير من حريّة الحركة ولو على المستوى السياسي والثقافي. وعلى الإسلاميّين أن يستعدّوا للمرحلة القادمة، لا بمعنى أنَّ عليهم أن يستسلموا لها، بل أن يعرفوا كيف يتعاملون معها.. فتنطلق المقاومة في مواقع أخرى بحسب طبيعة ظروفها إذا أُغلقت عنها بعض المواقع.
ـــ طبعاً نحن نقدِّر هذه النظرة المتفائلة، التي تعتمد على أرضية ثابتة تقف عليها الحركة الإسلامية في لبنان، هل ترون أنَّ الحركة الإسلامية من خلال أدائها المكمّل لعمل المقاومة، أعني على الصعيد السياسي أو الأداء الدعوي على الساحة اللبنانية، هل استطاعت أن تؤصّل موقفاً إسلامياً متقدِّماً خلال فترة السنتين، اللّتين مرَّتا على الممارسة النيابية؟
إنَّني أعتقد أنّ الحركة الإسلامية اللبنانية استطاعت أن تصنع مناخاً إسلامياً في المفردات السياسية والجهادية، ولكنّها لم تستطع أن تجذّر رؤيتها، لأنَّني قد أُلاحظ أنّ الجانب السياسي والجهادي قد استغرقها، بحيث استغرق الكثير من الجانب الثقافي، الذي يؤصّل الإسلام في نفوس المسلمين. ولكنّي عندما أُلاحظ الأداء السياسي في التجربة الإسلامية البرلمانية، فإنَّني أعتقد بأنَّ الإسلاميين كانوا جيّدين في أدائهم السياسي وفي مواجهتهم للقضايا الشعبية بقوّة وبأساليب متنوّعة، وإن كان البعض يأخذ عليهم أنّهم لم يكونوا بالعنف الذي كان يُنتظر منهم، ولكنَّني أعتقد أنّ هذا البعض يختزن بعض "الخباثة" لمحاولته أن يجد الإسلاميين يقفون في مستوى العنف الصدامي، الذي يجعل الآخرين يشعرون بأنّهم لا يفهمون السياسة وأنّهم يريدون أن يحوّلوا المجلس النيابي إلى مظاهرة عنيفة ليس فيها سوى الشعارات. إنَّ الإسلاميين أخذوا بالعنف في الوقت الذي كان العنف ضرورة، حتّى بمستوى ما أطلقوه من شعارات حادّة، لأنَّهم كانوا يعبّرون فيها عن الحالة الشعبية الصادقة، وكانوا ليّنين في المواقع التي يُراد لها أن تحتاج للدراسة، وفي كثيرٍ من اللّحظات التي تحتاج لمواجهة الظروف والتغيّرات لإيجاد حالة التوازن بين الخطاب السياسي للدولة التي احتضنت المقاومة في ما أطلقته من شعارات، بغضّ النظر عن طبيعة الموقف الواقعي وبعض القضايا الأخرى. إنَّني أعتقد أنّهم لعبوا لعبة التوازن بكفاءة.
أجرى الحوار: إبراهيم المصري
لا يوجد إسلام عربي وإسلام غير عربي،
فالإسلام واحد(*)
له حضور كثيف يحوِّل كلّ جلسائه إلى مستمعين، وَأَلَق شخصي يسحر الخصم قبل الصديق والمعجب. حديثه موسوعة فريدة تعجن التراث بالمعاصرة، السمو الديني بالمعاناة الواقعية اليومية، السياسة الذرائعيّة بالعقيدة الصلبة المناضلة.
وهو كالجبل الشامخ، يهزأ بالتهديدات والتحدّيات، ويرفع قبضة يده بجسارة المؤمن الذي لا يهادن، ووداعة المحاور الذي لا يفقد توازنه، ووسامة العالَم الكبير الذي يهتمّ بأدقّ التفاصيل.
قلائل هم الذين يعيشون لغيرهم. هو آية تكشف عن ضلالهم، ومحبّة تساعدهم على تحمّل الصعاب والكوارث، ومجاهدة لا مثيل لها لرفعهم إلى مصاف المؤمنين والمتطهّرين، وعطاء سخيّ يحرج ويجرح بعض الأحيان.
التقيناه في صومعته في الضاحية الجنوبية من بيروت، في غرفته الواسعة التي انقلبت إلى مدرسة صغيرة، يحتشد فيها، طوال اليوم واناء اللّيل، المؤمنون والسائلون والمستفسرون وبعض "المشاكسين" الذين يطلبون النقار لا الحوار، وهو هو: حديث مسترسل هادئ وابتسامة وديعة نافذة، وطهارة مستفيضة.
رحّب بــ "المحرّر" واحة من الوطنية المستنيرة في بلد المهجر، صوتاً جريئاً لا يخشى في القول لومة لائم، ومنبراً للحريّة والعدالة والنظافة.
وكان معه هذا الحديث، المستفيض.
حوار أجراه د. غسّان رفاعي
ـــ يعيش المسلمون في كلّ مكان حالة من الاعتزاز والتمزُّق في آنٍ واحد: الاعتزاز بهذا الدّين الكبير الذي ما زال يعمر قلوبهم، والتمزُّق بسبب النزاعات والتحدّيات التي تعصف بهم. كيف يمكن للمسلمين أن يحتفظوا بالجذوة في قلوبهم، على الرغم من كلّ هذا التمزُّق الذي يعيشونه، وهذه التحدّيات التي تسعى إلى تفجير إيمانهم وإظهاره بمظهر تخلُّف قرن أوسطي. للمرّة الأولى يقال للمسلمين، وبصيغ مختلفة: إنَّ المعاصرة تقتضي التخلّي عن الإيمان، واختيار بديلٍ عنه.
الاجتهادات الفقهية: أديان
في تصوُّري هناك مشكلتان في الواقع الاجتهادي في العالَم أجمع: المشكلة الداخلية المتمثّلة في قضية التصوُّر الوجداني للإسلام، خاصة في بعض أصوله، والمشكلة الخارجية المتمثّلة في حركة القوى المحيطة بالمسلمين والظروف الموضوعية التي تحدق بهم، لتفرض عليهم المزيد من السلبيات.
وفي ما يتعلّق بالمشكلة الداخلية، نلاحظ أنَّ المسلمين المعاصرين ورثوا وجهات النظر المتنوّعة في الاجتهاد الإسلامي التاريخي بطريقة مختلفة، ولذلك كان التعصُّب هو عنوان استنباط الحاضر الإسلامي من الإرث التاريخي. نحن نعرف جميعاً أنّ المذهبية الفكرية، على مستوى علم الكلام وعلم الفقه، هي مسألة طبيعيّة في التصوُّر الإسلامي للفكر والشريعة، وليس الإسلام بدعة من الأديان أو من الأفكار في هذا المجال. نحن نعرف أيضاً أنَّ النصرانية تحتوي عدّة مذاهب في المفاهيم العامّة العقيديّة والطقسية، وكذلك اليهودية. وإذا أردنا أن ننفذ إلى العناوين العلمانية المتحرّكة في عالمي القومية والماركسية، نجد أكثر من خطّ قومي وماركسي يختلف عن الآخر، ويمكن أن يقال الشيء ذاته عن الديمقراطية التي يكثر الحديث عنها اليوم.
لقد انطلقت المذهبية الفكريّة في الإسلام من موقع اختلاف المسلمين في فهم النصّ والتأليف والقواعد العامّة، التي تحكم المتغيّرات الحادثة في الواقع، ممّا لم يكن له نصّ محدَّد حوله، ولذلك كان بالإمكان أن يكون هذا التنوُّع المذهبي في المسألة الفكرية والفقهية مصدر غِنىً للمسلمين، يثري التجربة الاجتهادية الإسلامية ويفتح من خلال الخلاف الفكريّ أكثر من أفق، ممّا قد لا نحصل عليه لو كان الاجتهاد واحداً. وهذا ما لا يسمح بتطوُّر النتائج الفكرية والفقهية في الإسلام، من خلال تصوُّر الفهم وإمكانية تنوّع المذاهب الجديدة في داخل الواقع الإسلامي الفكري.
ـــ ولكن ألاَ تعتقد أنَّ تنوّع المذهبيات وتصارعها في الوقت الحاضر يصدّع الأُسس التي يقوم عليها الإسلام وقد يؤدّي إلى تفكُّكه؟
المشكلة أنَّ المذهبية الفكرية، سواء على مستوى علم الكلام، خاصّة الخلاف بين السنّة والشيعة حول مفهوم الإمامة والخلافة ومسألة حريّة الإرادة والجبر، أو قضية التفويض، وما إلى ذلك من الشؤون الفلسفية في داخل العقيدة الإسلامية، أو الاختلافات الفقهية المذهبية، قد تحوَّلت إلى ما يشبه الدّين المتعدّد؛ لأنَّ أتباع كلّ شخص من هؤلاء الذين يمثّلون عناوين التنوُّع الاجتهادي أو وجهة النظر المختلفة، حوَّلوا التزامهم بهذا المذهب أو ذاك إلى دين يفصل صاحبه عن المذهب الآخر، كما يفصل الانتماء الديني، لدين معيّن، المنتمي للدّين الآخر عن جماع الأُمّة.
وربَّما تطوَّر الأمر إلى موقف أو حالة نفسية أكثر قسوة من اختلاف الدينين، من خلال اختلاف المذهبين. ومن هذا المنطلق يمكن أن نلتقي بمسلم في الدائرة السنيّة أو الشيعيّة ينفتح على أهل الكتاب، باعتبار أنَّ القرآن أكّد على ضرورة التعايش مع أهل الكتاب وفرض لذلك قوانين جعلت التعايش الديني الإسلامي ـــ اليهودي ـــ النصراني عنوان التنوُّع في المجتمع الإسلامي؛ ولكنّك عندما تتحدّث مع بعض المسلمين المتطرّفين من السنّة أو الشيعة، فإنّك تكتشف أنّك أمام مسلم، يتصرَّف على أساس أنْ لا مجال للحديث أو التفاهم مع المسلم الآخر، لأنَّه "كافر ومشرك" ولا يمكن هدايته من قريب أو بعيد.
لقد حوَّلنا التمذهب إلى عقدة نفسية. وبدلاً من أنْ نتوصّل إلى إيمان وجداني وعلمي، فضّلنا الامتناع عن الحوار المباشر بين المسلمين المنتمين إلى عقائد أو اجتهادات مختلفة. وما يحدث هو أنَّ أحد المتعصّبين لمذهب، يصدر كتاباً يحشد فيه كلّ السلبيات عن المذهب الآخر، فيبادر متعصّب آخر من "المذهب الآخر"، فيصدر كتاباً آخر للردّ عليه ويحشد كلّ السلبيات عنه، دون أن يترك فرصة للحوار بصراحة ووضوح وموضوعية، ومن هنا فقد بقي فريق من المسلمين متعصّباً لمواقفه، وأحاط نفسه بسور حديديّ يمنع الآخرين من الاقتراب، لذلك تحوَّلت الدعوات لدى الكثير من هؤلاء للوحدة إلى نفاق سياسي، على طريقة قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة : 14].
نحن قد نلتقي لنخطب في الجماهير، داعين إلى الوحدة الإسلامية، ثم يرجع كلّ واحدٍ إلى قاعدته، ليفكّر كيفما يريد. إنَّ الحسّ الطائفي قوّة حركية وعدوانيّة ضدّ الآخر. إنَّني أتصوّر أنَّ تحوّل المذهبية الفكرية إلى مذهبية طائفية تخطَّت مواقع وسلطات معيّنة، ومنعت المسلمين من العيش إيمانهم بانفتاح، ليكون العنفوان الإسلامي برحابته هو ما يجمع المسلمين، ولتكون خلافاتهم حركة في الحوار، على طريقة القاعدة القرآنية: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء : 59].
ومن المؤكّد أنَّ ما ساهم في الوصول إلى هذه الحالة هو التخلُّف، الذي عاشه المسلمون في عقولهم ومشاعرهم، والمستوى الذي تسرَّب فيه الحسّ القبليّ والعشائريّ داخل الحسّ المذهبي الإسلامي، فإذا بنا نصبح في نطاق المذاهب المتعدّدة عشائر متنافرة.
لا حلّ لهذه المشكلة إلاّ بتطوير أساليب الحوار، بالإضافة إلى ضرورة دراسة الفكرة في ذاتها، بعيدة عن ذاتيّات الإنسان الذي يدرسها؛ بحيث يقف الطرفان في خطٍّ متوازن لمناقشتها، كما لو لم يكن لأحد المتناقشين علاقة بها، سلباً أو إيجاباً. وهذا هو الأسلوب الذي لا تحتاج فيه إلى أن تأخذ بأساليب التطوّر في الموضوعية. القرآن الكريم يؤكّد على ذلك، إذ نقرأ فيه كيف يحاور في ما علَّم الله رسوله المؤمنين والمشركين معاً.
وهذا معناه أنّه يتوجَّب في الحوار الحقيقي أن يطرح المحاور فكرته، كما لو لم يكن مؤمناً بها بشكلٍ حاسم، ليجتذب الآخر إلى الشكّ، وبالتالي فإنَّ الشكّ المنهجي في أسلوب الحوار هو الطريق إلى اليقين. وهذا معناه أيضاً إلغاء الذّاتية في الفكرة، إذ يمكن أن أكون على خطأ، وأن تكون أنتَ على صواب، والعكس صحيح. وعلينا أن ندرس القضايا المذهبية المرتبطة بالتاريخ، كما ندرس أيّ تاريخ لا علاقة لنا به. وهكذا فإنَّنا عندما ندرس خلافاتنا الفلسفية حول حريّة الإرادة بين الأشاعرة والمعتزلة أو الخلافات الفقهية بين الشافعي والحنفي والمالكي والحنبلي والجعفري، وما إلى ذلك، فإنَّنا نسعى، من خلال النصوص التي تحكم الجميع، إلى فهم النصوص من الداخل؛ ومن هنا يتوجّب علينا أن ندرس العقيدة والشريعة كما لو كانت عقيدة الآخرين وشريعتهم، بعيداً عن إحساسنا ومشاعرنا. وفي اعتقادي أنَّ الجيل الجديد يعيش التجربة الموضوعية في القضايا العلمية، ويمكن أن يطبّق المبادئ ذاتها عند دراسة القضايا الإسلامية. إنَّ الجيل الذي عاش الاختناق المذهبي والذي يحاول أن يجدِّد أساليبه لنقلها إلى الجيل الجديد، ليس جديراً بالحوار لأنّه أغلق قلبه وعقله عن رأي الآخرين.
ـــ هذا جزء من المعاناة، ولكنَّ التحدّيات الخارجية هي التي تلعب الدور الأساسي والجوهري.
الوحدة الإسلامية من الممنوعات السياسية
إنَّ الاستكبار العالمي عندما أراد أن يفرض نفسه على الواقع الإسلامي، بهدف السيطرة على سياسته واستنزاف ثرواته وطاقاته وتدمير اقتصاده وأمنه لحساب مصالحه الاستخباراتية، حاول أن يستفيد من كلّ نقاط الضعف في العالَم الإسلامي؛ وقد رأى أنَّ أكثر نقاط هذا الضعف إلحاحاً والتهاباً وإثارة هي نقطة الصراع المذهبي بين المسلمين، باعتباره يمتدّ إلى الخطّ التاريخي الحادّ الذي تزيده الأحداث ضراوة وعدوانية والتهاباً، وهكذا أصبحت الوحدة الإسلامية تضرّ بمصالح المستعمر، عندما يتحوَّل المسلمون إلى وحدة قويّة تعيش وعيها وعنفوانها الإسلامي الطاهر.
وباختصار، أضحت الوحدة الإسلامية من الممنوعات السياسية في نطاق الواقع القومي الاستكباري، وأصبحت الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، حتّى على مستوى الوحدة في الموقف السياسي العام، غير مقبولة. إنَّ أجهزة الاستكبار العالمي، من خلال أجهزة مخابراتها ومن خلال الرموز المسؤولة التي وظّفتها ملوكاً ورؤساء وأُمراء، وما إلى ذلك، لحراسة مصالحها في العالَم الإسلامي تثير قضايا هامشية هنا وهناك، لتمنع المسلمين من الانفتاح على القواسم المشتركة، أو على الوحدة الحقيقيّة.
إنَّ الواقع الاستكباري لا يمنعك من أنْ تتحدّث وتتحاور مع أهل الكتاب، بل يشجّع على الحوار مع "إسرائيل" أيضاً، ضمن مستلزمات سياسة الانفتاح، وما أسرعه إلى عقد المؤتمرات والندوات تحت ستار الحوار بين الأديان للحيلولة دون وحدة المسلمين، وللدعوة إلى التقارب مع "إسرائيل". ولكن حينما تكون المسألة هي مسألة الحوار بين المسلمين أنفسهم، فإنَّ جميع مراكز الدعاية الاستكبارية تعترض وتسعى، بمختلف الأساليب لبثّ التفرقة والشكوك، للحيلولة دون قيام هذا الحوار. وفي اعتقادي أنّ الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، في مثل الظروف التي نجتازها اليوم، هي دعوة مصيرية وهي جزء من الجهاد السياسي ضدّ الاستعمار الجديد.
وقد تطوّرت أساليب المستعمرين الجدد، فهم يعارضون كلّ أنواع الوحدات في العالَم الثالث والعالَم الإسلامي والعالَم العربي. الوحدة العربية ممنوعة، والوحدة الوطنية ممنوعة. ومن المؤكّد أنّ أيَّ نوع من الوحدة يعطي قوّة للدائرة التي تتحرَّك فيها، ولهذا فإنَّ الغرب لا يريد أن تكون لنا قوّة معارضة، وهو على قناعة بأنّ أيّة قوّة في صفوفنا لا بدّ من أن تضعفه. ومن هنا فأنا على ثقة من أن تعثّر الأصوات في العالَمين الإسلامي والعربي ليس عملاً عفوياً، وإنَّما هو مبرمج أو مدروس. وهذا التعصُّب الذي يزحف على المذاهب الإسلامية فجأة، ليفرّق بين المسلم والمسلم ليس صدفة، وإنَّما هو مدروس ومبرمج أيضاً، وقد آن الأوان للتسلُّح بالتسامح والمحبّة، لكي نتحرَّر من ضغوط هذه التحدّيات وإسقاط الشرّ الكبير، الذي يُخطّط لنا بدهاء وكراهية.
ـــ سيّدنا، طبعاً واستطراداً للسؤال الذي طرحناه في بداية هذا اللّقاء، يبدو أنّ هناك قضيّتين أيضاً مرتبطتين بهذا التفريق بين الدّين والتحدّيات، التي تأتي من العالَم الغربي. القضية الأولى هي إظهار الإسلام وكأنَّه حركة متخلِّفة تدعو الناس إلى التمسُّك بالماضي، في حين أنَّ المعاصرة لها تحدّيات أخرى ولها إشكالات أخرى ومن الضروري للإنسان الذي يريد أن ينسجم مع عصره أنْ يتخلّى عن عقيدته الإسلامية؛ وهناك ضغوط كثيرة في هذا الاتّجاه، خصوصاّ هذه الدعوة إلى العلمانية. ومن جهةٍ ثانية هناك محاولة لخلق الخلافات الجوهرية والأساسية بين الإسلام العربي والإسلام غير العربي؟
نعيش عصرنا بالإسلام
أمّا النقطة الأولى، فإنَّني أعتقد بأنّها تنطلق من أنّ الذين يطلقون هذه الدعوات، يعتمدون على أنّ الكثرة الكثيرة في العالَم الإسلامي لا تقرأ، أو أنّها لا تحاول أن تفكّر في ما تقرأ، فضلاً عن أن تدخل في حوار أو نقاش حول ما تقرأ، لأنَّ أطروحة الارتباط بالإسلام هو ارتباط بالماضي وانعزال عن الحاضر والمستقبل، أو أنَّ الإسلام هو من التاريخ الذي صنعه الناس الذين عاشوا مرحلته، وعلينا نحن أن نصنع تاريخنا من جديد، من خلال الفكر الجديد والمنهج الجديد والأساليب الجديدة، لكنَّنا نقول:
إنَّ تاريخيّة ولادة حركة فكر في أيّة أُمّة أو شعب من الشعوب، لا يعني أنّ هذه الفكرة تبقى في دائرة الظروف الموضوعية لزمن الولادة. وهذا عائد إلى أنّ الفكرة تنمو في حركة التفاصيل، من خلال حيويّتها الداخلية، كما تنمو من خلال العناوين الجديدة، التي يمكن أن تأتي من خلال المتغيّرات. ومن هنا فإنَّنا نجد أنَّ أغلب الأفكار الفلسفية التي يلتزم الواقع المعاصر بالكثير منها، هي أفكار قد ترقى إلى مئات السنين، من دون أن نجد في هذا المدى التأريخي لبداية الفكر مانعاً من أن نأخذ به.
إنَّ مسألة أن يكون الفكر فكر الماضي، هو أن تكون المؤثّرات التي صنعت مفردات قاعدته محكومة للفترة الزمنية. أمّا عندما ينطلق، لينفتح على كلّ حركة الحياة وليركّز الفكرة على أساس الأشياء الحيوية، التي لا يختلف فيها زمن عن زمنٍ آخر، فإنَّ ارتباطك بهذا الفكر وأنتَ تعيش هذه المرحلة من هذا الزمن، لا يعني أن تعود في خطٍّ تراجعي للفترة الماضية، لأنَّ الفكر قادر على أن يعطي مرحلتك من العناصر الحيوية ما أعطاه في المرحلة الماضية.
هناك فكر يحتوي الحياة كلّها، لأنّه يستجيب للعناصر الأساسية في الحياة؛ وهناك فكر يعيش في دائرة محدودة ولذلك فإنَّ الكثير من الأفكار تموت بموت أصحابها أو بانتهاء الفترة الزمنية التي عاشوا فيها، فيما نجد أنَّ هناك من الأفكار ما ينطبق على الحياة كلّها لذلك فنحن عندما نلتزم الإسلام وعندما نقرأ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون : 8] في الجانب السياسي، ونقرأ مثلاً: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود : 113] ونقرأ الحديث عن صراع المستكبرين والمستضعفين وما إلى ذلك، ونقرأ في القرآن الكريم: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11] التي توحي بأنَّ الإنسان هو صانع التغيير وهو صانع التأريخ، إنَّنا لا نقرأ شيئاً في الماضي وإنّما نقرأ شيئاً منفتحاً على الحاضر.
ومن هنا فإنَّ الحديث عن وجوب ترك الإسلام، لأنَّنا نريد أن نعيش عصرنا، حديثٌ وطرحٌ متروك لأنَّنا نعيش عصرنا بالإسلام. وإذا كان الإسلام يختلف مع طروحات البعض في عصرنا هذا، فإنَّ علينا أن نعرف أنَّ ما في العصر لم ينطلق من خلال روح العصر وطبيعته ولكنّه انطلق من أفكارٍ أخرى فرضت نفسها على ذهن المعاصر، من خلال عناصر القوّة التي توافرت لها، إمَّا من خلال سلطة قاهرة أو من خلال أوضاع معيّنة. لذلك فإنَّك لا تستطيع أن تتّهمني بالتخلُّف في طروحاتي الفكرية التي قد لا تلتقي مع الذهنية المعاصرة، إذ مَنْ قال إنَّ هذه الفكرة المعاصرة هي الحقيقة؟ ولهذا فإنَّ الناس يخلطون بين ما تقتضيه طبيعة العصر وبين ما تتحرّك به الأفكار الخاصّة، التي تصنع طبيعة العصر. على أساس أنَّ المسألة هي مسألة كيف يقدّم الإسلام حلوله للمسائل؟ وأعتقد أنَّ التراث الإسلامي الحديث ـــ منذ عصر النهضة من أيّام الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ـــ وهذا النموذج الذي انفتح على العصر بعد العصور المظلمة يحتوي ثروة إسلامية هائلة تلاحق كلّ المتغيّرات وكلّ العناوين الجديدة وكلّ المشاكل المطروحة، لتعمل على معالجتها ومناقشتها وتدخل في مقارنة بين الإسلام وبين غيره في هذا المجال، ممّا لو قرأه هؤلاء الناس الذين يدعون إلى العلمانية، لرأوا أنّ هناك عمقاً في المعالجة وفي التحليل ورحابة في الأفق للمفكّرين الإسلاميين، ولا أدَّعي أنّ الإسلام يمثّله واحد منهم ولكن تنوّع الفهم دليل على حيويّة الفكر، لهذا فإنَّنا نجد أنَّ هذا الطرح من هذه الزاوية ليس دقيقاً. وإنَّني أدعو كلّ المثقّفين العلمانيين إلى أن يدرسوا الإسلام في التراث الفكري الحضاري بعقلية علمية موضوعية وأن لا يعتبروا العلمانية هي الحقيقة المطلقة. فالعلمانية هي في مرتكزاتها فكر، كما هو الدّين فكر. ولذلك فإنَّك لا تستطيع أن تفرض عليَّ فكرك، إذا كنت أملك أن أناقشه لتعتبر أنّ فكرك هو الحقيقة وأنّ فكري هو الخرافة.
لا نعتقد بإسلام عربي وآخر غير عربي
أمّا الحديث عن إسلام عربيّ وغير عربيّ، فهذا حديث يتحرّك في دائرة الاستهلاك السياسي، الذي لا يخلو من محاولة إطلاق عناصر الإثارة في النزاعات الضيّقة، التي تنطلق بين بلدٍ إسلامي عربي وبلد إسلامي غير عربي. نحن نعرف أنّ الإسلام انطلق من خلال دعوة النبيّ العربي، لا على أساس أنّ فكره الإسلام ولكن على أساس أنّه الذي اختاره الله رسولاً لأداء الرسالة؛ وقد نزل باللّغة العربية واستطاع العلماء العرب أنْ يعطوا لحركة الإسلام حيوية في حركته، كما أنَّهم أخذوا من الإسلام امتداد الفكر وعمقه وحركته وحيويّته. وقد انطلق الإسلام لدى غير العرب من موقع فهمهم لهذا الإسلام في لغته وفي رسوله، حتّى أنّنا رأينا الإبداع الإسلامي لدى غير العرب، الذين كتبوا في اللّغة العربية أكثر ممّا جاءنا من العرب أنفسهم، فنحن عندما نتحدّث عن الأسماء التي نبغت في علوم اللّغة العربية والفلسفية والطبيعية وما إلى ذلك، فإنَّنا لا نجد أسماء عربية كثيرة، بينما نجد الكثير من الأسماء غير العربية. إنَّنا لا نعتقد أنّ هناك إسلاماً عربياً أو غير عربي، تماماً كما يحاول بعض الناس أن يقولوا إنَّ هناك مسيحيّةً أوروبية ومسيحيّةً أميركية ومسيحيّةً شرقية. قد تكون هناك أحاديث عن المسيحية الشرقية والمسيحية الغربية، من خلال طبيعة بعض المفردات التي تتحدّث ولكنّ الإسلام ليس كذلك.
الإسلام وحدة ونحن لا ننكر أنّه ربّما يتأثّر بعض المسلمين من غير العرب ببعض ثقافاتهم وأوضاعهم ويحاولون إدخالها في التقاليد والعادات الإسلامية؛ أو ينطلق بعض العرب، ليدخلوا في الإسلام بعض الأشياء الجاهلية التي لم يرضَ بها الإسلام. إنَّ هذه الأمور قد تطرأ في أيّ دين وفي أيّ فكر وفي أيّ شعب. ونحن نعتقد أنّها كلمات تدخل في حركة الواقع. إنَّنا نلاحظ مثلاً أنّ بعض الدول غير العربية الإسلامية تتعاطف مع القضية الفلسطينية بشكلٍ كبير، أكثر ممّا تتعاطف معها معظم الدول العربية في هذا المجال، مع أنَّ القضية الفلسطينية في حساباتها القومية قضية عربية. لذلك أنا أعتقد أنَّ هذا الحديث ليس له مصداقية.
ـــ سيّدنا، نحن آتون من بلاد الغرب والمسلمون لهم وضع خاص في الغرب. إنّهم باستمرار متّهمون بأنّهم أصوليّون. كلمة أصولي كلمة أصبح لها مدلول خاص في الفكر الغربي وبالتالي فإنَّ المسلمين متّهمون بالإرهاب، وهي تهمة أشبه ما تكون بسيف معلّق فوق كلّ مسلم، يكفي أن يقول المواطن الفرنسي بأنّه من أصل عربي أو من أصل مسلم، أو بأنّه مسلم، حتّى يُبادر إلى اتّهامه بأنّه إرهابي. طبعاً هذه الكلمة هي كلمة مصطنعة ولكن هذا شيء واقعي يعيشه المسلم في البلاد الغربية ويعاني منه الكثير.
استهلاك سياسي
إنَّني أحبّ أن أُناقش القضية من ناحية موضوعية، لأنَّنا لو أردنا أن ندخل في المسألة السياسية الإعلامية، فإنَّنا نجد أنّ الغرب يحاول أن يحرّك كلّ مفردات القاموس السياسي السلبية، ليوزّعها على كلّ حركة معارضة ـــ سواء أكانت دينيّة أم قومية ـــ وهذا ما لاحظناه في كلّ تاريخ الحرب الباردة، سواء على مستوى العالَم أو على مستوى هذا الإقليم الداخلي. ما هي التّهم التي كان يطلقها الغرب ضدّ الماركسية وضدّ القومية في عهد جمال عبد الناصر وضدّ الحركات الوطنية هنا وهناك حتّى وصلنا إلى الإسلام؟ لذلك فنحن لا نحترم هذا النوع من الاستهلاك السياسي الغربي، لأنَّنا نعتبره سلاحاً في الحرب الدائرة ما بين الغرب وبين الذين يعارضون سياسته الاستعمارية لحماية أنفسهم من الاستكبار. ومن هنا فإنَّنا نتصوَّر أنّ هذه الأساليب تمثّل بعض الأسلحة في الحرب النفسية، تماماً كما هي القنبلة وكما هي الدبّابة والطائرة وما إلى ذلك. ولذلك فإنَّك عندما تواجه أسلحة الحرب فليست هناك فرصة لكي تناقشها، إنَّما عليك أن تعرف كيف تواجهها، نحن نريد أن نتحدَّث إلى المسلم الذي توجَّه إليه هذه التهم حتّى لا يسقط أمامها، كما نريد أن نتحدّث إلى الغربي المعتدل الذي يريد أن يفكِّر بموضوعيّة.
إنَّ كلمة "الأصوليّون" ليست من مفرداتنا في دائرة المصطلحات وإنّما نشأت في الغرب، لأنَّ تاريخ الغرب هو تاريخ الأصولية اليهودية. واليهود هم أصوليون، لأنَّهم يفكِّرون بإلغاء الآخر، فهم شعب الله المختار وهم الشعب الأعلى والأرقى ـــ على حدّ زعمهم ـــ وهم يعملون على مواجهة الآخر بواسطة العنف المتنوّع، تبعاً لقدراتهم. ولعلّ تجربة اليهود في فلسطين أفضل دليل على أنّهم لا يطيقون الآخر.
ثمّ كانت الأصولية المسيحية، التي كانت تلغي الآخر وذلك من خلال السلوك الديني المسيحي ضدّ العلماء والمفكّرين وضدّ كلّ "الهراطقة". أنا لا أنكر أنّ التاريخ الإسلامي عاش بعض الاضطرابات، ولكن هذا المصطلح عاش في الجوّ الغربي ونحن كإسلاميين لا نعتبر أنفسنا أصوليين، نحن لسنا أصوليين بالمفهوم الغربي للأصولية، لأنَّ الأصولية تنطلق من مفهومين: المفهوم الأوّل هو إلغاء الآخر، والمفهوم الثاني هو اعتبار العنف الوسيلة الوحيدة للصراع. ونحن لا نلغي الآخر، فقد انطلق القرآن الكريم من أقصى المواقع حساسيّة وهو موقع الاختلاف الديني الذي يتحرَّك بشكلٍ طبيعي في إلغاء كلّ أتباع الدين الآخرين، نجد أنّ القرآن دعا أهل الكتاب {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [ آل عمران : 64] بالرغم من الخلافات التفصيليّة الكثيرة بين الإسلام واليهودية. وعندما نلاحظ مسألة العنف فإنَّ الإسلام لا يعتبر من العنف رفضك لقضيّة معيّنة، لكنّ الذين يقومون بهذا يعتبرونه نوعاً من الحروب. إنَّ عملية الإرهاب من أجل الابتزاز المالي وما إلى ذلك، لم نعرفها كظاهرة في الشرق ولكنّها موجودة حتّى الآن في الغرب. فإذا كان المسلمون الذين تربّوا في الغرب أو تثقّفوا فيه قد مارسوا بعض الإرهاب، فإنَّهم تلامذة الغرب في ذلك، وعلى هذا لا يجوز أن نصف التلامذة بالإرهابيين ونعفي الأساتذة من ذلك. هم أساتذتنا في هذا وإنْ كانت هذه التلمذة أو الأستذة ـــ إنْ صحّ التعبير ـــ لا تشرّف أحداً.
ـــ المشكلة أنّه عندما كان الحديث يدور حول الإرهاب سابقاً، كان المستهدف هو العنف ضدّ الرعايا الغربيين أو ضدّ مظاهر الحياة الغربية. اليوم بدأ الإرهاب الإسلامي يأخذ منحىً آخر؛ إنَّه إرهاب موجَّه ضدّ الأنظمة العربية ذاتها، وهذا ما يجري مثلاً في الجزائر وفي مصر، حيث ينسب إلى الجماعات الإسلامية المتطرّفة القيام باغتيال شخصيات ثقافية واجتماعية وسياسية عقاباً لمواقف يزعم بأنّها اتّخذتها ضدّ الفكر الإسلامي. وفي الأدبيّات الغربية اليوم حينما يأتي الحديث عن هذا الإرهاب فالمقصود به الإرهاب الإسلامي. هناك معركة داخل البلاد المسلمة بين المتنوّرين والعلمانيين الذين يريدون اللّحاق بالحضارة الحديثة وبين السلفيّين أو "الظلاميين" كما يطلق عليهم، لأنَّهم غير قادرين على الوصول إلى الحكم بالوسيلة المشروعة الديمقراطية، فإنَّهم يستخدمون الإرهاب لتحقيق أهدافهم، وهذا هو الاتّهام الجديد؟
أميركا دفنت العراقيّين أحياء
إنَّنا نريد أن نناقش هذه القضية بعقلٍ راشد، فنقول إنَّ هذه المسألة ليست من المسائل المختصة بالواقع الإسلامي. فنحن نعرف أنّ المخابرات المركزية الأميركية تقوم بذلك، وأبلغ دليل هو متفجّرة بئر العبد التي كانت موجّهة ضدّي؛ فقد انطلقت المخابرات المركزية الأميركية في عهد مديرها وليم كايسي وبتمويل بعض الدول العربية من أجل اغتيالي، إنّي أصبحت كما تقول مذكّرات وليم كايسي "مُتْعِباً للمصالح الأميركية في لبنان وفي المنطقة". وهكذا دبّرت الخطّة واستخدم لها لبنانيون بواسطة خبير بريطاني في مسائل التفجير، وكانت النتيجة أن قُتِلَ ثمانون شخصاً بهذه المتفجّرة، بين جنين وطفل وشيخ وامرأة وشاب، وأعيق مائة شخص، وقدَّر الله لي أن أسلم. وعرفنا أنّ أميركا وراء ذلك، من خلال "الواشنطن بوست" من جهة ومن خلال الكتاب الذي كتبه وليم كايسي من جهةٍ ثانية.
إنَّنا نستطيع أن نتحدّث عن إرهاب إسباني أو إرهاب بريطاني مثلاً، ولكن لا يجوز أنْ نتّهم الإسلاميين وحدهم بالإرهاب. ثمّ إنَّنا نتساءل: لماذا ساعدت أميركا المجاهدين الأفغان ضدّ الاتحاد السوفياتي؟ ولماذا ساعدت أميركا الكثير من الشعوب التي كانت في نزاع بين سياسييها والمعارضين لها؟ عندما ندرس مشكلة رواندا فإنَّنا نعرف أنّ الذين يحكمون الآن والذين قاموا بالفضائح الكبيرة هم جماعة أميركا، ولكنَّ أميركا كانت تشجّع مثل هذا الإرهاب الداخلي، في الوقت الذي تشجّع فيه فرنسا الحكومة السابقة. ثمّ إنَّنا نلاحظ الآن في الجزائر أنّ الصراع في الشكل هو صراع بين الإسلاميين والنظام الجزائري الحاكم ولكنّه في العمق هو صراع بين فرنسا وأميركا. ومن المفارقات أنّ أميركا بدأت تدعم جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية.
إنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34]. إنَّه يقول لك: تصرَّف حتّى تحوِّل أعداءك إلى أصدقاء.
وإذا تحدّثوا عن الجهاد، فإنَّ مسألة الجهاد مسألة موجودة في تاريخ كلّ الحضارات. إنّها حركة العنف، عندما يطبق عليك الآخرون العنف لتدافع عن نفسك، أو لتقوم بعملية وقائية لمنع الآخرين من أن يلغوا وجودك أو يهجموا عليك. لذلك فإنَّ الجهاد في الإسلام ليس بدعة.. إنّه مساوٍ للكفاح والنضال والدفاع وما إلى ذلك.
هذا من جهة، أمّا الحديث عن الإرهاب فإنّه انطلق من خلال مفردات، كمفردة خطف الرهائن ومفردة التفجيرات التي تحدث بين وقتٍ وآخر هنا وهناك. لعلّ هذا هو الذي أغرى الغرب بتقديم المسلمين كإرهابيين، وقد يكون هذا هو ما يحدث في الحروب المحلية بين المسلمين الحركيين والأنظمة، كما في مصر والجزائر. لكنَّنا نلاحظ أنّ هذا الاتّهام يشمل المسلمين وغير المسلمين.
فنحن في لبنان مثلاً، نرى أنّ المسلمين والمسيحيّين شاركوا في الخطف، كما اشتركوا في مسألة التفجيرات في الأماكن العامّة، ممّا يعني أنّ المسألة ليست إسلامية ولا مسيحيّة. إنَّنا تعلَّمنا كشرقيين مسألة العمليات الإرهابية، فنحن نجد أكثر من مفردة من مفردات الخطف في العالم الغربي حتّى على مستوى الأنظمة، ونحن نتساءل دائماً: مَنْ خطف المهدي بركة الزعيم المغربي المعارض؟ لقد خطفه الجيش الفرنسي، وكان ديغول هو الذي اكتشف الأمر. ومَن الذي خطف طائرة أحمد بن بلّة؟ وعندما نريد أن ننطلق بعيداً نسأل: ما هي إحصائيّات عمليات الخطف التي قامت بها الألوية الحمراء في إيطاليا وكلّ أنواع المافيا في الغرب، التي ما تزال تتحرَّك لتخطف طفلَ ثريٍّ، لتقبض فدية عليه أو ما إلى ذلك؟
فمسألة الخطف هي مسألة غربية، نحن لا نملك في تاريخنا العربي المعاصر عمليات خطف بالحجم الموجود في الغرب. وهكذا بالنسبة إلى مسائل التفجير.. ماذا عن مسائل التفجير التي حدثت في إيطاليا؟ وماذا عن مسائل التفجير التي تحدث من قِبَل الجيش الإيرلندي وفي إسبانيا من خلال الباسك؟
وإذا أردنا أن ندرس مفردات الإجرام الموجودة في أميركا فإنَّ حوادث الاغتصاب تمثّل حوادث إرهابية. لذلك فإنَّ الإرهاب الذي يسمّونه إرهاباً لدى المسلمين، لم يكن إرهاباً ينطلق من ابتزاز ماليّ، وإنَّما كان في مجموعه تنطلق من حركة سياسية قد يبرّر أصحابها لأنفسهم ما يقومون به، كوسيلة للضغط على القوّة التي تواجههم، وقد ينظرون إلى أعمالهم هذه وكأنَّ هناك حرباً ضدّ المستكبرين، وأنّ مثل هذه الحرب تأخذ أخلاقيّتها من أهدافها، التيقد تجعل وسائلها وسائل نظيفة باعتبار علاقتها بالأهداف، على أساس أنّ الغاية تبرِّر الوسيلة بشكلٍ ذاتي. ولأنَّ الغاية تبرِّر الوسيلة، فإنَّنا نقرأ في حرب الخليج الثانية، بعد احتلال الكويت، أنّ الأميركيين دفنوا كثيرين من بعض أفراد الجيش العراقي وهم أحياء في التراب. وعندما سئل المسؤول الأميركي العسكري عن صحّة هذه الأخبار، كان جوابه "إنَّ هذه حرب وإنَّ الحرب ليست دائماً في دائرة واحدة بل ربّما تتنوَّع". ولذلك نحن نقول بأنَّ ما يسمّى بالإرهاب الإسلامي ليس إرهاباً، وإنَّما هو حركة مواجهة ودفاع عن القضايا العادلة المشروعة.
ربَّما لا يوافق بعض المسلمين، حتّى من الحركيين، على هذه المسائل. فأنا لم أوافق على الخطف منذ البداية، بالرغم من أنّ اسمي كان يستخدم في هذا المجال. وأنا لم أُوافق مطلقاً على أيّة عملية تفجير، بل كنتُ أستنكرها لأنَّني لا أؤمن بأنَّ أيّ حدث سياسي يبيح لك أن تفجّر الأماكن العامّة، لتقتل النساء والأطفال. على أنّ الزعم بأنّ الإرهاب هو من خصوصيّات الإسلاميين، فهذا حديث غير دقيق، لأنَّ المسألة تنطلق من خلال إرهاب الدولة، الذي يفرض على الشعب أن يدافع عن نفسه. مثلاً، إنَّ جبهة الإنقاذ لم تكن تستخدم العنف قبل الانتخابات ولكن إلغاء نتائج الانتخابات هو الذي أدّى إلى ذلك. إلغاء جبهة الإنقاذ ووقوف الحكم في مواجهة الإسلاميين، هو الذي ولَّد ردّ الفعل عند جبهة الإنقاذ، لقد هبّوا ليدافعوا عن أنفسهم. وفي مصر، القضية مشابهة، لأنَّ الإسلاميين حرموا من العمل السياسي وكانوا يطالبون به وقد قمعهم النّظام وكان ردّ فعلهم أن واجهوا النظام بهذه الطريقة.
أمّا الحديث عن أنّ الإسلاميين يقتلون المثقّفين والفنّيين وما إلى ذلك، لأنّهم يرفضون التعايش مع الفكر الآخر، فأنا لا أنكر أنّ بعض الإسلاميين الضيّقي الأفق قد فعلوها، ولكنّ هذه الظاهرة ليست ظاهرة إسلامية. لماذا لم يحدث ذلك في بلدانٍ أخرى تفشّى العنف فيها؟ هذا عائد إلى أنّ الحرب تحوّلت إلى حالة جنون، ولأنَّ الكثير من المثقّفين تحوَّلوا إلى فريق مع الدولة يحاربون الإسلاميين. عندما تعلن نفسك في فريق، فعليك أن تتحمَّل ذلك بغضّ النظر عن أنّ هناك فرقاً بين أن أُواجهك كمثقّف وبين أن أُواجهك كجندي من جنود العدو. ربّما حمل العدو بندقية سلاح، ولكنّك تحمل في أثناء الحرب بندقية كلمة، ربّما لا تكون للكلمة ـــ البندقية التأثير ذاته في خارج حالة الحرب، لكنّها في حالة الحرب قد تكون أكثر فعالية من الرصاص. أنا لا أُريد أن أُبرِّر ذلك، فأنا لا أؤمن بأنَّ علينا أن ندخل في صراع دموي مع المثقّفين، الذين يختلفون معنا فكرياً، ولكنَّني أقول بأنَّ هناك حالة جنون، يختلط فيها الحابل بالنابل. وعندما تتصرّف أنتَ كمثقّف في حالة الجنون هذه بطريقة غير محسوبة في دراسة الظروف من حولك، فإنّه من الطبيعي أن يحصل لك ما يحصل.
وأخيراً مَنْ قال لنا: إنّ كلّ من قتلوا من المثقّفين قتلهم الإسلاميون؟ من أين نأخذ هذه المعلومة؟ إنّا نأخذها من إعلام النظام ومن إعلام المخابرات. نحن لم نسمع من الإسلاميين وجهة نظرهم في هذا. ولدينا معلومات أنّ النظام قد يقتل بعض الرموز، التي تتمتَّع ببعض الشعبية من أجل أن يتّهم الإسلاميين بذلك. إنَّنا نلاحظ أنَّهم قد يقتلون الكثير من الناس ويزعمون أنّه يشتبه بأنّهم من الإسلاميين. قد ينسبون مثلاً إلى بعض الأشخاص بعض الحوادث، التي لا يعرفون من قام بها، لأنّه ليس هناك تحقيق فيقولون إنّه يخشى أن يكونوا من الإسلاميين. نحن لا نحترم هذه الاتّهامات ونقول لكلّ مَنْ يتحدّث بهذه الطريقة: تعالوا لنضع القضية في النطاق الموضوعي، بعيداً عن العناوين المثيرة.. إنَّني أحترمك كمثقّف ولكنّك عندما تحمل البندقية لتقتلني، فهل أبقى على الحياد أم أتحرَّك؟
إنَّ المثقّفين قد يتحوّلون إلى جنود في المعركة، فهل تريد للفريق الآخر الذي يحمل السّلاح أن يميِّز بين العسكري الذي يوجّه إليه البندقية وبين المثقّف أو خرّيج الجامعة وغيره؟ في المعركة تكون المسألة مَن الذي يحارب لتحاربه؟
ـــ سيّدنا، أُثير لغط كثير حول المرجعية وكنت في صلب هذه المعركة وقد استهدفت ونسبت إليك أقوال ونسبت إلى الآخرين أقوال أخرى، فحبّذا لو تلقي بعض الضوء على هذا الموضوع، الذي قد شوّه أكثر من اللازم وقدّمت عنه صور متباينة ومختلفة، قائمة على اللّغط والغموض، حبّذا لو توضح هذا الأمر؟
الإعلام أثار اللّغط حول المرجعية
لم تكن المرجعية همّاً يُسلّط عليه الأضواء في السابق، إذ كانت تتحرّك بشكلٍ عفوي وطبيعي داخل المجتمع الشيعي من دون ضجّة. ربّما لم تكن هناك أوضاع سياسية تحتاج إلى إثارة مفردات المرجعية لتصفية بعض الحسابات السياسية، لذلك كانت تمرّ بسلام وكانت التعدُّديّة في المرجعية حالة طبيعية. مثال بسيط: توجد عندنا في المرجعية الشيعيّة "مرجعية الفتيا" أوّلاً، أمّا الأمور الأخرى التأثريّة فقد تفرضها طبيعة تحوّل المرجع في "الفتيا" إلى رمز، كما قد تفرضها بعض الخصوصيّات الشرعية.
ويرى أغلب الفقهاء أنّ المرجع في "الفتيا"، لا بدّ أن يكون الأعلم بين الفقهاء بالإضافة إلى استقامته في الدّين. ومسألة الأعلمية تدخل في تقويم العلم لدى أهل الخبرة، وهي من الأمور التي يختلف فيها الناس في أي فنّ من الفنون. فقد يختلف الناس في الطبّ فيقولون: إنّ هذا هو الأعلم، لذا كانت المرجعيات تتعدَّد تبعاً لاختلاف أهل الخبرة في تقويم هذا أو ذاك، وتبعاً لموقع أهل الخبرة من العلماء لدى الناس، ومن هنا فقد نجد أنّ غفيراً من الناس يتبع جماعة معيّنة، باعتبار أنّ هذا المرجع أعلم كما هي الحال مع الإمام الخوئي (قدّس سرّه) مثلاً، أو ذاك أعلم كما مع الإمام الخميني (قدّس سرّه). المشكلة أنّ هناك مرجعيات صغيرة يتبعها الناس على هامش المرجعيات الكبيرة، وقد كان هذا أمراً طبيعياً، ولكن في غياب أيّ مرجع كبير يتقدَّم أشخاص في مستواه يزعمون أنّهم جاهزون لتولّي المرجعية، لأنَّهم يملكون من خلال تأريخهم العلمي والديني شعبية أو ثقة كبيرة.
وفي المراحل الأخيرة برزت هناك مشكلتان: الأولى هي دخول المرجعية في الإعلام السياسي، من خلال خصوصيّة إيران في السياسة الدولية، بحيث أصبح الإعلام السياسي يرصد كلّ شيء في إيران ليستفيد منه سلباً ضدّها، وقد استفاد بعض الناس من هذه المسألة فأصبحوا ممّن يملكون بعض الطموحات المرجعية، أو ممّن قد يسجّل بعض الناس سلبيات عليهم، ليسجّلوا هم سلبيات على إيران، وقد استفادوا من هذا، وبذلك أخذ الإعلام دوره في هذه المعركة، وربّما كنت ضحيةً بعض الأحيان، وهذا ما دفع البعض إلى زج اسمي في المرجعية.
هذه نقطة، وبدأ الجدل يدور حول مرجعية النجف ومرجعية قمّ، وهو صراع لا قيمة له، كما أنَّ الصراع بين المرجعية العربية والمرجعية الفارسية أيضاً لا قيمة له، لأنّ المرجع الموجود في النجف هو شخص إيراني من مشهد. ولذلك فليس هناك مرجع عربي في مقابل مرجع عربي أو فارسي آخر، ومسألة المكان ليس لها دور في حسابات المرجعية عند المؤمنين، فالمكان يتبع المرجع فإذا وجد المرجع في النّجف فتتحوَّل إليه المرجعية، وإذا وجد في قم فينبغي أن تكون المرجعية فيها أو في أيّ مكانٍ آخر. لذلك فإنّ المكان ليس أساسياً، لأنَّ المرجعية ليست كالبابوية لها موقع معيّن وإدارة معيّنة، حتّى يقال إنَّ هناك تنافساً في الإدارة. المرجع هو الشخص فبأيّ مكانٍ كان الشخص كانت المرجعية.
المشكلة الثانية، هي أنَّ الأشخاص المرشّحين للمرجعية حالياً ليسوا من الذين تعمّق حضورهم في الوجدان العام في المجتمع الشيعي. ومن هنا فإنَّ غياب الأشخاص الكبار جداً، الذين يملكون مثل هذا الحضور الواسع كالسيّد الخوئي (قدّس سرّه) والسيّد الخميني (قدّس سرّه)، جعل الناس يشعرون بوجود فراغ، وجعل الكثير من الطامحين يتحرّكون ليؤكّدوا وجودهم. وهذا ما أوجد نوعاً من الاضطراب والفوضى.
ـــ كيف سيحلّ هذا الإشكال؟
إنَّني أعتقد أنّ طبيعة الزمن وطبيعة تحوّله سوف يحجّم كثيراً من الأسماء، التي لا تملك حجماً كبيراً، وقد تتضخّم بفعل بعض الأوضاع ليقتصر الواقع على اسمين أو ثلاثة أسماء، كما هي الحالة في كلّ مرحلة حين تبرز أسماء كثيرة، لكنّها تذوب لتبقى الأسماء الكبيرة التي تملك قدرة على البقاء، لذلك هي مسألة طبيعية على مستوى التأريخ، ولكنّ الإعلام هو الذي بالغ في إظهارها والظروف الأخرى هي التي جعلتها بهذا الحال.
ـــ سؤال أخير لا أستطيع أن أعود إلى باريس دون أن أطرحه: المنطقة تعيش مخاضات التسوية السلمية، وهذه المخاضات بالنسبة للغالبية العظمى من العرب والمسلمين في أوروبا، هي مخاضات مشبوهة وغير سليمة، وهم يعتقدون بأنَّ المنطقة مقبلة على عهد من الاستسلام والخضوع والفساد أيضاً. حبّذا لو نأخذ رأيك حول هذا الموضوع؟
صراع ما بعد التسوية
نحن نعتقد أنَّ هناك مشاكل كثيرة تنتظر المنطقة من خلال التسوية، لأنّها سوف تفتح المنطقة لإسرائيل، هذه الدولة التي تملك خطّة لإفساد كلّ مكان تتحرَّك فيه، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، حتّى تتمكّن من الحصول على ما تريد. ولكنَّنا نعتقد أنّ للأُمّة مناعتها وأنّها سوف تدخل في صراع مع اليهود، من خلال "إسرائيل" بعد التسوية أكثر ممّا كان قبلها، لأنَّ التعامل مع اليهود ومع "إسرائيل"، كان يقتصر على السياسيين والعسكريين، أمّا عندما تدخل إسرائيل داخل صفوف الشعب، الذي يرفض هذه التسوية لأنّه لا يعرف أسرارها، فسيجري صراع بين الشعب والإسرائيليين. ولذلك فإنّي أتصوَّر أنَّ التجربة سوف تكون صدمة كبيرة للناس وسيتصاعد الصراع ضدّ "إسرائيل" بشكلٍ أقصى ممّا كان عليه. ونحن لا نعتقد أنّ سقوط الأنظمة قد يتبعه سقوط للأُمّة. إنَّ الأُمّة كبيرة ولها طاقات قويّة جداً ولن يسقطها أيّ حدث طارئ وأيّة تسوية مذلّة. إنَّ الأنظمة هي التي هزمت وليست الأُمّة، لأنَّ الأُمّة لا وجود لها في ساحة المفاوضات ولأنَّ الذين ينجحون بنسبة 99,99 لا ينجحون بإرادة الأُمّة، ولكن من خلال الأوراق التي تملأ بها أجهزة المخابرات صناديق الاقتراع.
مشكلتنا ليست مع الإنسان الغربي
ولكن مع الإدارات الغربية(*)
أولويّات العمل الإسلامي، الوحدة الإسلامية، الحوار بين الأديان، الفكر الإسلامي المعاصر، الديمقراطية والتعدُّديّة في الإسلام، الموقف من الكيان الصهيوني، كلّ هذه النقاط شكَّلت محاور الحديث في لقائنا مع سماحة السيّد محمّد حسين فضل الله.
ـــ إذا حاولنا إعادة ترتيب أوراق البيت الإسلامي التي ستحظى باهتمامكم بماذا سنخرج؟
مشكلة البيت الإسلامي أنّه يفتقد المرجعية الفكرية التي تلاحق الواقع في جميع تطلُّعاته، ليدرسها وليجمع مفرداتها وليعمل على إيجاد لقاء فكري بين مختلف أفراد العائلة الإسلامية، لتقوّم كلّ جهة أفكارها وتصوّراتها ومشاكلها وقضاياها...، وذلك مقارنة بالقضايا التي تقدّمها الجهة الأخرى، ليخرج الجميع من خلال هذا الحوار الإسلامي المتميّز بدراسة الخصوصيّات العميقة التي تمثّل تنوّع واقع الحركة الإسلامية بعيداً عن الأضواء، وبعيداً عن الشعارات، وليخرج الجميع باستراتيجيّة واحدة تتوزَّع فيها المواقع الإسلامية المتعدّدة الأدوار حتّى يكون لنا خطّ إسلامي واحد في مواجهة التحدّيات التي يطلقها موقع الكفر الواحد والاستكبار الواحد.
إنّ المشكلة التي نواجهها في هذه المرحلة، هي أنّ كلّ فريق إسلامي حركي يعيش مشاكله الخاصّة بعيداً عن الاهتمامات التي تربطه بالآخر، ممّا يجعل من كلّ طرف أو جهة فريقاً، وإن أراد الاهتمام بمشاكل الفريق الآخر، فإنّه يريدها من خلال خدمة خصوصيّته لا من خلال خدمة الجوّ العام. إنَّني أزعم أنّه ليست هناك حركة إسلامية واحدة، هناك حركات إسلامية قد تكون متباعدة في الفكر أو في الخطّ السياسي أو في أساليب العمل السياسي، ومن الضروري لأيّة قيادة إسلامية أن تعمل على تجميع هذه المواقع وتربيتها. والعمل على إيجاد حالة من التعارف في ما بينها.
وعلينا في هذه المرحلة بالذّات، إذا لم نستطع الوصول إلى الأولوية الاستراتيجيّة الأولى، أن نعمل على إيجاد تواصل بين الإسلاميّين يوحّد إعلامهم في مواجهة الإعلام الاستكباري العدواني الواحد، المتعدِّد الأصوات، المتنوّع الأدوار، الذي يشن حرباً عالمية إعلامية سياسية على كلّ المواقع الإسلامية.
إنَّ علينا أن نعمل على إيجاد قاعدة إعلامية موحّدة، يمكن لها أن تواجه هذه الحرب الموحّدة، حتّى نستطيع أن نحمي أنفسنا من هذا الهجوم الصاعق، لتبقى لنا مواقعنا في الوجدان العالمي، ولنتمكّن بعد ذلك من أن نرتِّب أمورنا في وضعٍ طبيعي أو قريب إلى الوضع الطبيعي.
ـــ في هذا المجال، هل يمكن الحديث عن تقريب حقيقي بين المذاهب الإسلامية؟
إنَّ مسألة التقريب تحتاج إلى نوعين من العمل، الأوّل في الحركة الفكرية بمعنى أن يبحث كلّ فريق من المسلمين بالدائرة الفكرية العالية، عقائده وخطوطه الفكرية من جديد، بحيث يعرف الشيعة ما هو خطّ التشيّع في العمق، بالمعنى العلمي الذي يمكن لهم أن يدافعوا من خلاله عن أفكارهم وعقائدهم ومذاهبهم الفقهية ومفاهيمهم الإسلامية استناداً إلى المصادر الإسلامية الأصلية؛ وأن يدرس السنّة كذلك عقائدهم ومذاهبهم الفقهية، بحيث يشعرون أنّ بإمكانهم أن يدافعوا عن المذهب بطريقة إسلامية منفتحة على كلّ المصادر الإسلامية، لأنَّ المشكلة التي تواجهنا هي أنّ كلّ فريق يحاول أن ينطلق بالحجّة مذهبياً لا إسلامياً بالمعنى المنفتح، ولهذا لا نجد هناك لغة للتفاهم بينهم، لأنَّ كلاًّ منهم يتحدّث مع الآخرين باللّغة التي يحرّكها في دائرته الخاصّة بعيداً عن اللّغة الإسلامية الأشمل، لذلك فإنَّنا نلاحظ أنّ ما يتحدّث به السنّة والشيعة في خلافاتهم هو ما كانوا يتحدّثون به قبل أكثر من ألف عام. لم تتغيَّر مفردة واحدة لا على مستوى الإشكالات التي يوجّهها كلّ فريق إلى الآخر.. ولا على مستوى الأسلوب.. ولا على مستوى الحجج التي يقدّمها هذا الطرف أو ذاك بالرغم من أنّ الحياة الفكرية تطوّرت وطرحت أشياء كثيرة يمكن أن نستخدمها في حلّ الكثير من المشكلات.
والمشكلة هي أنّ السنّة لا يريدون أن يتنازلوا عن شيء ممّا ورثوه، الشيعة أيضاً لا يريدون أن يتنازلوا عن شيءٍ ممّا ورثوه، بغضّ النظر عمّا إذا كان ما ورثوه يخضع للبرهان أو للدليل. ومن هنا علينا أن ندرس ما عندنا، وعليهم أن يدرسوا ما عندهم بطريقة علمية موضوعية، بعيداً عمّا إذا كانت هذه المفردات الفكرية السطحية ممّا التزم به الأقدمون أو ممّا لم يلتزموا به، حيث لدينا كمسلمين قاعدة أساسية وهي أن نرجع في كلّ ما نتنازع حوله إلى الله وإلى الرسول، ممّا يجعلنا نحتاج إلى فهم قرآني منفتح وإلى توثيق الأحاديث وفهمها فهماً منفتحاً. هذه هي النقطة الأولى، وإن لم نعالجها فمن الصعب أن يكون هناك تقارب فكري بين السنّة والشيعة، لأنَّ التقارب إنّما ينطلق من خلال الحركة الذاتية مع النفس التي تكون أساساً للحركة الذاتية مع الآخر.
ـــ ألاَ يمكن أيضاً محاولة دراسة قواسم مشتركة يلتقي السنّة والشيعة عليها؟
تماماً، وهذه هي النقطة الثانية التي أشرت إليها، نحن نستهدي القرآن في ذلك، فعندما نقرأ قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} [ آل عمران : 64]، وكذلك عندما نقرأ قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت : 46]، عندما نقرأ هذين النصّين نجد أنّ القرآن أراد أن يدعو أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلى الكلمة السواء، وهي التوحيد والإيمان بالرسالات. ونحن نعرف كم هي المفردات التفصيليّة التي يختلف فيها المسلمون مع النصارى ومع اليهود في ما يتعلّق بعقيدة التوحيد وفي تفاصيل عقيدة النبوّة. ولكنَّ الله سبحانه وتعالى عندما أراد لنا أن نلتقيَ على الأرض المشتركة قال لنا: انطلقوا من الخطّ العام للمبدأ ولا تدخلوا في التفاصيل، فإذا وضعتم أرجلكم على الأرض المشتركة ووقفتم وأطلقتم كلماتكم على أساس الكلمة السواء، فإنَّ بإمكانكم أن تناقشوا المفردات بروح اللّقاء بدلاً من مناقشتها بروح الفراق.
وإذا كانت المسألة هي أن نبحث التفاصيل في البداية، وأن نجعل منها حاجزاً بيننا ليمنعنا ذلك عن اللّقاء، فأيّة تفاصيل بين السُنّة والشيعة بالنسبة للتفاصيل بين المسلمين وبين أهل الكتاب، إنَّنا نستطيع أن نستهدي هذا الأسلوب القرآني في مسألة اللّقاء {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ..} [ آل عمران : 64] إنّه يدعوهم إلى لقاء لا إلى حوار فقط.
ـــ أشرتم إلى مسألة الحوار بين الأديان، والملاحظ ازدياد الحديث في هذا الموضوع في الآونة الأخيرة، فما رأيكم؟
إنَّ الله علَّمنا أنْ نحاور كلّ الناس، ولا توجد مقدّسات في الحوار، فقد حاوَرَ الله تعالى إبليس، فهل هناك من الناس مَنْ هو مثل إبليس؟ كما أنّ القرآن هو كتاب حوار مع المشركين في توحيد الله، ومع الكافرين في وجود الله وفي نبوّة النبيّ، كما حاوَرَ المنافقين، لذلك نعتبر أنّ عظمة القرآن في أنّه كتاب الحوار المقدّس الذي يقول لك إنَّ مسألة أن تؤمن هي أنْ تفكّر وتقتنع، وبالتالي أن تحاور، لذلك عندما تحدَّث الله سبحانه وتعالى عن الدعوة إلى الله تحدَّث عن الحوار.. {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل : 125]، ولكي يتمّ الحوار لا بدّ أن تفهم ما عند الآخر ويفهم الآخر ما عندك. وقد عبَّر القرآن الكريم عن أسلوب الحوار بشكلٍ لم يستطع أيّ تطوّر بشري أن يصل إليه.. وهو اعتبار الشكّ أساساً للحوار {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبأ : 24]، فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قدَّم نفسه أمام الآخرين بتعليم الله له في صورة الشّاك، وهو الذي جاء بالصدق وصدَّق به، ليجيز للآخرين أن يشكّوا كما شكّ.. ومن موقع الشكّ هذا يمكن أن نبدأ الخطوات التي تقود إلى اليقين، وفي ضوء ذلك ننطلق من القرآن الذي فتح باب الحوار مع الأديان: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، فالقرآن يمثّل حركة فكرية في مسألة الحوار مع أهل الكتاب لا في عقائدهم التفصيليّة فحسب، بل حتّى في سلوكهم.
إسلام واحد
ـــ في الآونة الأخيرة بدأنا نسمع مصطلحات كثيرة في السّاحة الإسلامية، مثل "الإسلام السياسي"، "الإسلام التقليدي"، "الفكر الإسلامي المعاصر"، فما مفهومكم للإسلام السياسي وهل لا بدّ له بالضرورة أن يختلف مع الإسلام التطبيقي، إنْ صحَّ التعبير؟
ربّما كانت هذه المصطلحات منطلقة من الواقع المتخلّف مقابل واقع يريد أن يتخلَّص من تخلّفه هذا، لأنّه لا يوجد لدينا إسلامان.. إسلام سياسي وإسلام بعيد عن السياسة، أو إسلام تقليدي وآخر منفتح. إنَّ الإسلام هو دين الله الذي أنزله على رسوله في كتابه، والذي حرَّكه رسول الله بسنّته، والذي عاش الأئمّة والصحابة والعلماء حركيّته في تجاربهم بطريقة أو بأخرى مع اختلاف مواقعهم التي تلتقي بالعصمة في بعضها وقد لا تلتقي بها. والمسألة هي أنّ المسلمين عاشوا فترة من الزمن انعزلوا فيها عن مواجهة القضايا العامّة، وانكفأوا فيها على عباداتهم وطقوسهم وأوضاعهم الأخلاقية الخاصّة بعيداً عن كلّ التحدّيات، وهكذا نشأ واقع يبتعد عن السياسة لا يريد للمسلمين أن ينفتحوا على القضايا السياسية في مواجهة التحدّيات الكبرى، لأنَّ هناك مفاهيم فرضت نفسها على المسلمين وجعلتهم يفكِّرون أنّ مواجهة القوى المتحدّية بمثل إلقاء النّفس في التهلكة، في ظلّ عدم وجود تكافؤ بين حجم القوى لدينا وحجم القوى هناك، ولأنَّ بعض المسلمين كان ينتظر آخر الزمان حتّى يأتي العدل والإصلاح، فهو في يأس عقيدي من أنّه لا يمكن أن يكون هناك إصلاح قبل آخر الزمان.
هناك إذاً واقع متخلِّف انطلق المسلمون الواعون المثقّفون المنفتحون على قضايا الإسلام من أجل مواجهته، لأنّهم رأوا خطأ المفهوم الآخر، فالمسألة تتلخَّص في وجود فهم متقدّم للإسلام مقابل فهم متخلّف. وبالتالي فإنَّ حركة الإسلام التقليدي والإسلام المنفتح تسير في هذا الاتّجاه؛ فالإسلام التقليدي يمثّل حركة ثقافية في فهم الإسلام في الدوائر الضيّقة التي لا تنفتح على الحياة، ولا تعالج مشاكل الواقع، بل تظلّ قابعة تجترّ المفردات الفقهية أو المفردات الفكرية بصيغتها التاريخية، ولا تحاول أنْ تجتهد كما اجتهد الأقدمون، وأن تغيّر في الأساليب والأشكال كما غيَّر الآخرون، لذلك نقول إنَّ المسألة هي كيف نفهم الإسلام؟ وكيف نطبّق هذا الفهم.
ـــ هذا الفهم الصحيح للإسلام هل يمكن القول إنّه فهم واحد في مشرق الوطن العربي ومغربه؟
إنَّ الانفتاح الثقافي على الإسلام في مصادره وفي حركته وتطلُّعاته وأساليبه.. كان حركة اجتهادية، فمن الطبيعي أن يختلف المجتهدون في فهم كلّ هذه المفردات أو كلّ هذا التراث، أو كلّ هذه الحركة للواقع.. وربّما يذهب بعض المفكّرين بعيداً في هذا المجال، فيحاولون أن يفرضوا على الإسلام صيغة التفكير الغربي، ويحمّلوا الإسلام ما لا يتحمّله من عقائدهم وأفكارهم. وقد ينحرف البعض، وقد يستقيم البعض الآخر، ولكنَّنا نرى في هذا التنوُّع الذي يختزن بعض السلبيات، الكثير من الإيجابيات؛ فمعنى أنّك بدأت تفكّر، يعني أنّك تتحرّك في الاتّجاه السليم، حتّى ولو انحرفت أثناء الطريق هنا أو هناك، لأنّ الفكر عندما يتحرّك لا بدّ له أن يصل إلى النتائج الحاسمة وإلى الخطّ المستقيم.
ـــ إذا اتّفقنا أنّ لكلّ حركة إسلامية في العالَم العربي خصائصها وسماتها الخاصّة.. فهل يمكن أن نتحدّث عن خصائص الحركة الإسلامية في لبنان؟
إنَّ قيمة الحركة الإسلامية في لبنان تأتي من معايشتها لتجارب مختلفة، فهي حركة لم يستغرقها أسلوب واحد أو أُفق واحد، بل هي حركة إسلامية تتحرَّك في خطّ العنف عندما يفرض عليها الآخرون العنف، كما أنّها لا تزال تتحرَّك في خطّ المقاومة الإسلامية ضدّ الصهيونية وضدّ الاستكبار العالمي الذي يفرض عليها عنفه، عندما يفرض احتلاله ويفرض وحشيّته وهمجيّته، وهي في الوقت ذاته واقعية تأخذ بالأسلوب الواقعي السياسي فتشارك في العمل السياسي، حيث إِنّها دخلت إلى المجلس النيابي على الرغم من كونها قد لا تعترف بشرعيّته من ناحية الخطّ الفكري، ولكنّها تجد فيه ساحة للتحرّك الإسلامي على مستوى الإعلام، وعلى مستوى تصحيح بعض المواقع القانونية، وعلى مستوى التعارف مع الفئات الأخرى. كما أنّها حركة منفتحة على كلّ الساحة السياسية والساحة الدينية في لبنان. وفي اعتقادي أنّ الحركة الإسلامية في لبنان تمثِّل نوعاً متقدِّماً منفتحاً واقعياً للتحرّك الإسلامي في العالَم.
ـــ أشرتم إلى مسألة الديمقراطية والتعدُّديّة الحزبية، فكيف تفهمون الديمقراطية من موقعكم الإسلامي؟
الديمقراطية مفهوم غربي، لذلك لا نستطيع أن نفرضه على الإسلام دون النظر إلى خلفيّته الفكرية التي تتلخَّص في أنّ الشعب هو مصدر السلطات، وأنّ الشعب هو مصدر شرعية القانون كما هو مصدر شرعية الحكم، ونحن عندما نلتقي مع هذا المفهوم من هذا الخطّ الفكري، فإنَّنا لا نستطيع إلاّ أنْ نناقشه، لأنَّ الإسلام في الجانب الشرعي المتعلّق بالله والرسول لا يستند إلى رأي الأكثرية في شرعيّته، بل هو يمثِّل الشرع الحاسم وإن رفضته الأغلبية وكان هناك إجماع عالمي ضدّه. ولكن يمكن أن نلتقي مع الديمقراطية في بعض الأساليب التي تتّصل بالحكم وبالحاكم.
ونحن نعتقد أنّ التجربة الإسلامية في إيران هي تجربة رائدة في اعتماد رأي الأكثرية الشعبية في كلّ القضايا العامّة، فالإمام الخميني (رضوان الله عليه) الذي رأى ولاية الفقيه العامّة لم يتّخذ من هذه الولاية عنواناً للحكم بشكلٍ استبدادي باعتبار أنّه يملك الشرعية، بل أفسح المجال وأراد للفقيه أن يرجع إلى الشعب في كلّ القضايا العامّة كي ينطلق رأي الفقيه في خطّ رأي الشعب العام. فالفقيه يستشير الشعب ويأخذ برأي الأغلبية فيه، ولهذا كانت الشورى أساساً للشرعية الواقعية ـــ للدستور ـــ مع التأكيد أنّ انطلاقه كان من مصادر الشرعية ومن اجتهاد المجتهدين.
وهكذا كانت الشورى أساس اختيار رئيس الجمهورية، واختيار مجلس الوزراء الذي لا بدّ أن يرجع إلى مجلس الشورى ليوافق عليه، وكذلك في اختيار مجلس الخبراء، وفي اختيار مجلس صيانة الدستور، وفي كثير من القضايا...
فالإسلام ليس غريباً عن الأسلوب الديمقراطي وإنْ كان بعيداً عن الخلفية الفكرية للديمقراطية، وعلى ضوء هذا نلتقي ونفهم التعدُّديّة الحزبية. فهذه المسألة لا بدّ أن تخضع للمصلحة العامّة، لأنَّ قضية الحريّات العامّة هي قضية تتّصل بالمصلحة العامّة أيضاً.
إنَّ الدولة الإسلامية منحت الحريّات الثقافية والفكرية، وقد تمنح الحريّات السياسية بما لا يهدّد القاعدة التي ترتكز عليها هذه الدولة وهي الالتزام الإيديولوجي فيها، فالمسألة متحرّكة وتتبع عناصر المصلحة العامّة في جميع هذه الحالات.
ـــ هل يفهم من هذا أن لا فرق بين نظام الحزب الواحد وبين الدولة الإسلامية؟
هذا ليس صحيحاً، لأنّه من الممكن أن تتعدَّد الأحزاب في داخل الإطار الإسلامي، وربّما تلتقي في بعض الحالات مع أحزاب غير إسلامية تفرض المصلحة الإسلامية السماح لها بالعمل والحركة من دون أن تكون مضادّة للإسلام في الجانب الفكري.
ـــ إذا انطلقنا إلى مساحة أوسع في ظلّ الوضع الدولي الجديد، كيف ترون العلاقة مع الغرب؟
نحن لسنا ضدّ الغرب كشعب وكمستوى علمي وثقافي وتكنولوجي. قد نختلف مع الغرب في بعض المفاهيم التي تتعلَّق بالعقيدة، أو المفاهيم الفكرية أو المناهج الثقافية، كما قد يختلف بعضنا مع بعض في هذه الأمور أو كما يختلف الغرب بعضه مع بعض. إنَّ طبيعة التنوُّع الفكري بيننا وبين الغرب يفرض اختلافاً في ما بيننا وبينهم، ولكنّ هذا الاختلاف يفرض الحوار ولا يفرض العداء.. مشكلتنا ليست مع الغرب الإنسان، وإنَّما مع الغرب الإدارة، إنَّنا نعرف أنّ للغرب مصالح في بلادنا بما نملك من ثروات، ولنا مصالح عند الغرب في ما يملك من الإمكانيّات، ونحن نؤمن بتبادل المصالح وتكافئها، ولكن لا نؤمن أن تسقط مصالحنا تحت تأثير مصالحه.. وهذه هي المشكلة. عندما يقرّر الغرب أن يحترمنا، فإنَّنا لا بدّ أن نحترمه؛ ولكنّه إذا لم يحترمنا، فمن الصعب أن نشعر بأيّ احترام تجاهه، وإذا أطلق علينا صواريخه وقنابله فبالطبع لن نقدّم له عندها باقة ورد.
ـــ السؤال الذي يفرض نفسه، هل يمكن لفكرٍ واحد، هو الفكر الإسلامي في حالتنا، أن يبني حضارتين متماثلتين مع فارق 1400 عام؟ وما الحضارة التي يسعى إلى بنائها الفكر الإسلامي المعاصر؟
لقد استطاع الإسلام أن يبني حضارة واسعة، ولكن في حجم قدرات وإمكانات وأوضاع تلك المرحلة، ومن الطبيعي أنّ الإسلام قادر أن يبني حضارته من خلال القدرات والإمكانات الموجودة في هذه المرحلة. الخطّ واحد ولكن حركة الخطّ في الواقع متنوّعة، لأنَّ الواقع قد تغيَّر. ولذلك فإنّ طريقة إنشاء الحضارة الآن وحجم هذه الحضارة لا بدّ أن يختلف عن طريقة إنشاء الحضارة في ما سبق.. ونحن نعرف أنّ الإسلام منفتح على الحضارات الأخرى يأخذ منها ما لا يتنافى مع مفاهيمه وخطوطه لاسيّما في القضايا العلمية والعملية، وبالتالي فإنّ بإمكاننا ـــ كما استطعنا في الماضي أن نأخذ من الآخرين ونصنع ما أخذناه إسلامياً ـــ أنْ نصنع كثيراً ممّا استحدثه الإنسان في المجالات العلمية والثقافية والعملية.
ـــ ارتبط العنف بالحركات الإسلامية كما ارتبط بالحركات اليساريّة في الوطن العربي، والسؤال: ما هي مسوّغات العنف؟ وكيف تفهمونه؟ وهل يقلّ العنف ضمن دائرة الجهاد؟
ليس صحيحاً أنّ العنف وُلِدَ أو امتدّ مع الحركات الإسلامية أو اليسارية، بل إِنّ الغرب هو الذي بدأ العنف. الغرب هو الذي خاض الحروب الصليبية ضدّ الشرق الإسلامي، وهو الذي استعمر البلاد الإسلامية، وهو الذي استعمر بلدان العالَم الثالث وسلب ثرواتها.. ولذلك فإنَّ الحركات اليسارية والإسلامية كانت تتحرَّك دفاعياً، ولكنّ الغرب الذي يملك إعلاماً متقدِّماً في المواقع الفكرية والسياسية وغيرها حاول أنْ يسلِّط الأنظار على العنف الذي هو ردّ فعل ليقدّمه كفعل، ولم يحاول ـــ بطبيعة الحال ـــ أن يسلِّط الضوء على العنف الذي بدأه..
أمّا بالنسبة للجهاد الذي شرَّعه الإسلام، فهو ليس تشريعاً جديداً في العالَم، فعندما نقرأ الجهاد في الإسلام نراه جهاداً في سبيل المستضعفين الذين يقولون {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء : 75]، وجهاداً ضدّ الذين يقاتلوننا. إنَّ الجهاد في الإسلام هو جهاد وقائيّ في بعض مواقعه، ودفاعيّ في المواقع الأخرى، ولكنّه ليس عدوانياً أبداً. الإسلام هو دين الرفق الذي ينتهي عندما يفرض الآخرون عليك العنف.
ـــ سؤال أخير ـــ سماحة السيّد ـــ ما موقفكم من عملية السلام الجارية مع الكيان الصهيوني، وما حكم التعامل مع الصهاينة؟
نحن لا نعترف بشرعية "إسرائيل"، ونقول إنّ الصهاينة احتلّوا فلسطين بتشريد أهلها، وأتوا باليهود من سائر أنحاء العالَم ليعيشوا في بيوت الفلسطينيين، وأمّا حديثهم عن كون فلسطين كانت لليهود قبل 3000 عام، فهذا حديث لا يمكن أن يقبله أيّ فكر أو أيّ منهج حضاري، لأنَّ قضية البلدان تتطوَّر وتتنوَّع حسب اختلاف الأوضاع في العالَم، وإلاّ إذا أراد كلّ شعب أن يرجع إلى البلاد التي كان فيها أجداده لاختلف العالَم كلّه. لذلك نقول إنّ وجود "إسرائيل" ليس شرعياً، وبالتالي لا معنى للسلام معها، يجب على المسلمين مقاطعة إسرائيل وعدم الاعتراف بشرعيّتها ونحن نقول للمسلمين ما قلناه لبعض الكرادلة المسيحيّين ونحن نناقش معهم موقف الفاتيكان من "إسرائيل"، قلنا لو كان السيّد المسيح (عليه السلام) حاضراً فهل سيعترف "بإسرائيل"؟ ونقول للمسلمين الذين يلهثون وراء "إسرائيل" الآن: لو كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) موجوداً، هل كان يعترف بوجود "إسرائيل" على أنقاض الوجود الفلسطيني؟ وجوابنا على السؤال ينطلق من جواب المسلمين والمسيحيّين على هذين السؤالين.
أجرى اللّقاء في دمشق: وحيد تاجا
كلّ إسلاميّي العالَم لا يوافقون ****
على الصلح مع "إسرائيل"(*)
لا يذكر مرّة "حز//ب الله" إلاّ ويذكر معه اسم العلاّمة السيّد محمّد حسين فضل الله. إلاّ أنّ السيّد يرفض إحداث هذا الربط الذي يقف وراءه الإعلام الغربي، معتبراً أنّه يدعم ويؤيّد كلّ حركة إسلامية ليس في لبنان فحسب، بل في المنطقة كلّها والعالَم بأجمعه. ولكنّه لا يرتبط بعلاقة تنظيميّة بأيٍّ منها. وهو يرفض أن يكون في أيّ مركز رسمي أو شرعي ذي طابع ديني، لأنّه ينهج في حياته وعمله منهج المرجع الذي يقتدي بالرسول والأئمّة. ورأى أن لا مشكلة من قيام السينودوس في لبنان، ولكن يجب مراقبة تحرّكه لحسم الموقف منه. واعتبر أنّ الصلح بين العرب و"إسرائيل" لا يمكن أن يقوم، لأنَّ الصلح يعني التوازن، وهذا التوازن مفقود بين من اغتصب الأرض ومن اغتصبت منه الأرض. وأضاف أنّ المشكلة ليست مع اليهود والنصارى لأنَّهم عاشوا بكرامتهم وكامل حقوقهم في كنف الدولة الإسلامية؛ بل هي بين ظالم ومظلوم ومستكبر ومستضعف. ورأى أنّ في لبنان طائفيّين وليس متديّنين، وأنَّ هناك فرقاً كبيراً بين الطبل المسيحي والطبل الإسلامي من جهة؛ والدّين الإسلامي والدّين المسيحي من جهةٍ أخرى، واعتبر أن لا نظام عالمياً جديداً بل أحادية استكبارية لا تريد للمستضعفين الخروج من نطاق هيمنتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
جاء ذلك في الحديث التالي الذي أدلى به العلاّمة السيّد محمّد حسين فضل الله لــ "الحوادث" وهذه وقائعه:
ـــ سماحتك شكّلت بمواقفك وآرائك وتوجيهاتك مرشداً روحياً لتيّار سياسي وديني واسع، وعلى الأخصّ "حز//ب الله". فهل هذا يعني أنّك مؤيّد كلّ مواقف ونهج هذا الحزب؟
كنتُ ولا أزال لا أتجاوب مع هذه الصفة التي منحني إيّاها الإعلام الغربي، لأنَّني لم أدخل في أيّة صيغة تنظيمية مع أيّ حزب. ولكنّي في الوقت نفسه كنتُ وما أزال منذ ما يقارب الأربعين سنة أو أكثر إسلامياً في تفكيري وخطّي الحركي، الذي يعتبر الإسلام قاعدة للفقه والعاطفة والفكر، ويرى فيه الدّين الذي يجمع الجانبين العبادي والمدني في آنٍ واحد. أعمل في هذا الاتّجاه بشكلٍ منفتح في كلّ ما كتبت وحاضرت ودرَّست. ولهذا فإنَّني كنتُ ولا أزال منفتحاً على كلّ الحركات الإسلامية في العالَم العربي، على الرغم من خلافي مع بعضها في بعض المناهج والأساليب والأفكار. ولكنّي أقف موقف المتعاطف والمدافع عن مواقعها أمام التحدّيات التي تواجهها. وهكذا انطلقت في لبنان، وأطلقت هذا النوع من التفكير الإسلامي الحركي بالطريقة الفقهية في المجال الإعلامي والسياسي منذ ما يقارب الثلاثين سنة، وحينها لم تكن هناك ثورة إسلامية إيرانية ولم يكن هناك "حز//ب الله". ومن الطبيعي أن يكون هذا الجيل قد تأثّر بأفكاري ليس في لبنان فحسب، بل في العالَم العربي، بقدر ما أملك من وجود "وتأثير" في مواقعها. ومن هنا فعلاقتي بـــ "حز//ب الله" ليست علاقة تنظيميّة؛ فله قياداته وله تنظيمه، ولي وجودي المستقلّ. ولكن بما أنَّ "حز//ب الله" حركة إسلامية فإنَّني أنفتح عليه وأدعم مواقفه كما أدعم مواقف أيّة حركة إسلامية، أدعم موقفه في المقاومة الإسلامية، ولكنَّني لستُ مشدوداً إليه كما أنّه ليس مشدوداً إليَّ. وقد نلتقي في بعض المواقف ونختلف في أخرى؛ والمتتبّع لمواقفنا يتّضح له ذلك.
ـــ "حز//ب الله" في السلطة والعلاّمة محمّد حسين فضل الله خارجها، فماذا لو وقَّع لبنان على السلام وحزب الله في السلطة، وإن رفض التوقيع، ألن يحصل تباين في المواقف بينكما؟
إنَّني لا أجد هناك أيّة سلبية في دخول أيّة حركة إسلامية في أيّة مؤسّسة برلمانية أو حكومية إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام وللمسلمين وللمستضعفين. ولذلك فلا أعتقد الموضوع سلبياً، وقد كنت من الذين ينظرون ـــ في الوقت الذي كانت المشاركة في سلطة الأنظمة أمراً مستنكراً لدى الإسلاميين ـــ كنتُ أنظر في دخولهم إلى السلطة ضمن ضوابط وشروط معيّنة. أمّا مسألة ما بعد التسوية فقد كنت وما أزال أقف ضدّ الصلح مع "إسرائيل"، لأنَّني لا أرى له شرعية فقهية ولا قومية ولا سياسية. ولأنَّني لا أفهم كيف يمكن أن يكون هناك صلح بين مغتصِب للأرض ومغتصَب (بفتح التّاء). إنَّ الصلح يعني توازناً، ولكنَّ الصلح العربي ـــ الإسرائيلي، ولاسيّما في ما يتعلَّق بالفلسطينيين، يعني أنّ عليك تقبّل احتلال الآخر لأرضك ومصادرته لبيتك على أساس أن يعطيك السلم.. إنَّني لا أفهم صلحاً من هذا القبيل، ولذلك فإنَّني لو بقيت وحدي في العالَم، سأبقى أقول لا شرعية لإسرائيل في وجودها، ولا أربط موقفي بأيّ موقف، ولا أتصوَّر أنَّ أيّ إسلامي في العالَم يمكن أن يوافق على الصلح مع "إسرائيل". إنَّ المسألة تتّصل بالجانب الشرعي أو الفقهي للموضوع، ولا تتّصل بحالة سياسية طارئة يمكن أن تكون متطرّفاً فيها تارّة أو معتدلاً تارةً أخرى. إنَّ المسألة بالنسبة لنا كالصلاة والصوم، ومسألة إعطاء فلسطين لليهود هي كالخمر والزنى بالنسبة لنا. أمّا في ما يخصّ وجود حز//ب الله داخل السلطة اللبنانية في حال وقَّعت الصلح مع "إسرائيل"، فهو خاضع للضوابط الإسلامية في مقرّرات هذا الوجود ومعارضته للخطّ الأساسي للسلطة.
ـــ بما أنَّ لسماحتك خطّاً ثابتاً تلتزم به وتبيّن من خلاله مواقفك وآراءك ودعوتك، بالإضافة إلى حجم فاعليتك للمرجعية المؤثّرة في المجتمع الإسلامي. فلماذا لم تتبوّأ حتّى الآن أيّ مركز تمثيلي معيّن، أو ترأست مباشرة حركة أو تنظيماً معيّناً، لماذا؟
أسلوبي في العمل هو أسلوب المراجع الدينيّة في الواقع الإسلامي الشيعي. فالمراجع عند الشيعة لم يقبلوا طوال حياتهم أن يكون لهم مركز رسمي ذو صفة دينية، ولم يقبلوا أن يكون لهم مركز ديني حتّى ولو كان إسلامياً. إنَّ المرجع لا بدّ أن يكون للجميع من الناحية العملية كما هو في الجانب الموضوعي. ولذلك فقد كنت في عملي أعيش مع الناس ـــ مع كلّ الناس ـــ وأنفتح على الكلّ حتّى الذين يختلفون معي في الدّين والمذهب والفكر، وكنت في جميع مواقع حياتي أعمل على أساس الانفتاح على جانب علم الفقه وأصوله، وفلسفة الإسلام ومفاهيمه في كلّ المراحل التي عشتها. وأنا لم أنفصل عن الجوّ العلمي والفقهي طوال حياتي، ولذلك فأنا مع كلّ هؤلاء الذين يمثّلون مراكز حزبية إسلامية أو مواقع دينية إسلامية رسمية بقدر ما ألتقي معهم ولكنَّني لست من هؤلاء. وأذكر أنّه قبل تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سعيت للصلح بين العلاّمة السيّد موسى الصدر وبعض مَنْ يختلف معه من العلماء وكان رفيقي في هذه المحاولة الأخ العلاّمة الشيخ محمّد مهدي شمس الدين.
كنّا نسعى في سبيل تقريب وجهات النظر، وكنتُ أقول لكلّ مَنْ ألتقيه: إنَّني لن أنتخب أي إنسان، ليس لعقدة من المؤسّسات الوليدة، وإنّما لأنَّ أسلوب عملي يختلف. وأذكر أنّه في لقائي بالرئيس الأسد تساءل أمامي إنْ كنتُ أُريد دوراً سياسياً، وقلت له: إنَّني لا أريد أن أكون رئيساً للمجلس الإسلامي الشيعي، ولا أريد أن أكون رئيساً للطائفة الشيعيّة، إنَّني أريد أن أكون لجميع هؤلاء الناس والمستضعفين، أعظهم، وأرشدهم، وأنصحهم، وأقف ضدّ الاستكبار العالمي، وأدعم المقاومة وكلّ حركة تحرّر.. ولذلك أرفض أن يكون لي أيّ دور تقليدي سياسي، ليس لأنَّني أكبر من هذه المراكز، وإنَّما لأنَّ الأسلوب الذي أعتمده أقارب من خلاله أسلوب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وأئمّتنا أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، والحمد لله أنَّني استطعت من خلال هذا الأسلوب تحقيق أشياء كثيرة في العالَم الإسلامي الذي يتجاوز العالَم العربي.
لا سلبية مع خصوصيّة السينودوس
ـــ ما موقف سماحتك من "السينودوس" وهل يمكن لهيئات أو مؤسّسات دينيّة كهذه أن تنجح أو أن تخدم لبنان إزاء التنوُّع الطائفي؟
لكلّ طائفة من الطوائف اللبنانية خصوصيّاتها التي تنظّم شؤونها وترسم معالِم وتفاصيل أمورها وعلاقاتها مع الطوائف الأخرى والمواقع الأخرى؛ وميزة الساحة اللبنانية أنّها تحتضن الطوائف في مجال التنسيق الوطني أو الديني أو الثقافي وما إلى ذلك.. إنَّ السينودوس يمثّل حركة في داخل الطائفة المسيحية الكاثوليكية من أجل تنظيم الشؤون الداخلية لهذه الطائفة، ومحاولة مواجهة المتغيّرات السياسية والدينية والأمنية والثقافية الموجودة في لبنان والمنطقة والعالَم.. باعتبار أنّ للمسيحية الكاثوليكيّة دوراً فاعلاً في أكثر من منطقة في العالم. وترى أنّ لبنان يمثّل لها قطاعية متقدّمة في المنطقة؛ ومن هنا فإنَّ السينودوس يمثّل خصوصيّة مسيحية "كاثوليكيّة"، ومن الطبيعي أنّه طرح أسئلة على الطوائف الأخرى حول مدى تصوّرها للبنان والعلاقة معها، ولهذا ينفتح السينودوس على آفاق الطوائف الأخرى في لبنان. ومن الطبيعي أن تكون هناك خلافات في الرأي حول الأسئلة التي طرحها السينودوس. ونحن لا نرى فيه مشكلة للمسلمين كما حاول البعض أن يصوّر ذلك، ولكنَّنا نراقب حركة السينودوس، ولاسيّما أنّنا نعرف أنّ هناك واقعاً حيوياً في المسألة المسيحية، وهي واقع التبشير حتّى في بلاد المسلمين. وطبيعي أن يخلق هذا الأمر تعقيدات ومشاكل كثيرة في أكثر من موقع، ويخلق بعض الحساسيّات تماماً كما هي مسألة الدعوة والتبليغ بالنسبة للمسلمين التي تمثّل الكلمة البديلة عن التبشير. ونعتقد أنَّ على المسلمين والمسيحيين الدخول في مجال الحوار في خطوط التماس بينهما في مسألة التبشير والدعوة، وأن يعملوا على أساس البحث عن موقع لقاء، وهو الذي يعبِّر عنه القرآن الكريم بكلمة السّواء: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [ آل عمران: 64]. وهكذا نجد في الآية الكريمة الأخرى التي يبحث فيها الإسلام عن مواقع اللّقاء بقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت : 46].
فنحن نلاحظ أنّ القرآن يبحث عن الكلمة السّواء مع أهل الكتاب هذا المصطلح الذي يشمل اليهود والنصارى، فنحن لا مشكلة عندنا من اللّقاء مع اليهود كما لا مشكلة عندنا من اللّقاء مع النصارى. أمّا قصّة إسرائيل فهي ليست قصّة يهود ومسلمين بالمعنى الديني للكلمة، وإنّما هي قصّة ظالمين ومظلومين كما لاحظنا كلمة {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا}. فنحن نلاحظ أنّه لو احتلَّ المسلمون فلسطين لوقفنا ضدّهم، ولو احتلّها أيضاً المسيحيّون لوقفنا ضدّهم، تماماً كما كنّا ضدّ صدام حسين عندما احتلّ الكويت دون رضى أهلها، مع أنّه من الناحية الرسمية هو مسلم وأهل الكويت مسلمون. إذن قضيّتنا مع "إسرائيل" هي قضية العلاقة بين الظالم والمظلوم، بين المستكبر والمستضعف، لا العلاقة بين شخصين ينتمي كلّ منهما إلى دين يختلف عن دين الآخر، لأنَّ حوار الديانات ينطلق من خلال القواعد العامّة التي يلتقي فيها هذا الدين بذاك، وقضيّة التعايش لا بدّ أن تقوم على الاحترام المتبادل. ونحن نعتبر أنّ الإسلام قد أثبت صيغته التعايشيّة العادلة في احتضان اليهود والنصارى داخل مجتمعه ودولته في مدى الأربعة عشر قرناً.
ولذلك نجد أنّ جذور النصارى، موجودة في البلاد الإسلامية، ولم يحاول الإسلام إلغاءهم، وإنْ كانت قد حدثت بعض المشاكل بين المسلمين واليهود أو بين المسلمين والنصارى، فإنّها مشاكل طبيعية، كما كان يحدث بين اليهود أنفسهم وبين النصارى أنفسهم. ولذلك نحن أطلقنا رسائلنا الشفوية إلى بعض مسؤولي الفاتيكان، وعرضنا على البابا أن ننطلق في لقاء عالمي على أساس العمل معاً من أجل وحدانية الإيمان بالله الواحد، ومواجه المستكبرين الذين يريدون أن يكونوا أرباباً ـــ من دون الله ـــ للمستضعفين. ونحن نلتقي مع المسيحية في وحدانية الله، وإنْ كنّا نختلف في شخصية الله وفي طبيعة هذه الوحدانية. ونلتقي معهم في مسألة وحدة الإنسانية، فليس لإنسان فضل على آخر إلاّ بالتقوى، ولن يكون إنسان ربّاً لإنسان. ولذلك لا نقف من السينودوس موقفاً سلبياً، لأنّه خصوصيّة مسيحية كاثوليكية، ولكنّنا نراقب حركة هذا السينودوس وقراراته لنعطي موقفاً حاسماً حياله.
ـــ أنتم تؤيّدون إذاً قيام هيئات ومؤسّسات مثل السينودوس داخل كلّ طائفة من الطوائف اللبنانية؟
أنا أؤمن بضرورة انطلاق المسلمين لدراسة مشاكلهم الخاصّة، سواء كانت ثقافية أو اقتصادية أو سياسية أو أمنية أو اجتماعية.. لأنَّ ذلك أقرب للعمل على نظم أمرنا وإصلاح شؤوننا، وأعتقد أنَّ كلّ طائفة أو مذهب إذا استطاع أن يجد وحدته، يمكن أن يواجه الآخرين في مجال التعاون والتنسيق من موقع الوحدة، بدلاً من أن يكون التعاون بين هذه وتلك من موقع الفوضى داخلهما.
يجب أن ننطلق لنتوحّد في الداخل، لتكون حركتنا مع الخارج من موقع هذه الوحدة. هذا هو السبيل الذي يمكن أن يحقّق النتائج الإيجابية على مستوى الطائفة لمن يتحرَّكون طائفياً، أو على مستوى الوطن الذي يجمع هذه المدارس أو المواقع المتنوّعة لتكون وحدة في التنوُّع أو تنوُّعاً في الوحدة.
المشكلة ليست في الدّين
ـــ ولكن تجربة العالَم الغربي وأوروبا تحديداً، جعلت الحياة الدينيّة بعيدة عن التحرُّك والتأثير في الحياة العامّة، لأنَّ تأثير الدّين كان له الانعكاس الأكبر في حروبهم الداخلية، فما حالنا نحن في لبنان؟
أنا لا أعتقد أنّ المشكلة في ما يحدث عندنا من حروب في الشرق هي مشكلة دينية في الأساس. لقد اعتبر الدّين عنواناً يجتذب الانفعال والحماسة وهذا الأمر بعيد عن الحقيقة؛ إذ هل كانت الحرب في لبنان حرباً دينية إسلامية ـــ مسيحية؟ هل كان المسلمون يريدون إثبات إسلامهم في حربهم ضدّ المسيحيين وإسقاط المسيحية؟ وهل كان المسيحيون يريدون تأكيد مسيحيّتهم الدينية مقابل الإسلام الديني؟ هل الذين دخلوا الحرب، حرب السنتين وما بعدها، من فلسطينيين وشيوعيين وقوميين واشتراكيين وغيرهم.. يتحرّكون بذهنية إسلامية؟ وهل كانت الكتائب والقوّات والأحرار وغيرهم يتحرّكون بذهنية مسيحية؟
لم يتحارب البطريرك مع المفتي أو مع رئيس المجلس الإسلامي الشيعي أو شيخ عقل الدروز؛ لم تكن حرباً بين المواقع الدينية، كانت حرباً بين المواقع السياسية التي قد تجعل العنوان الديني شعاراً لاجتذاب أكبر قدر ممكن من البسطاء ليكونوا وقود الحرب. ولذلك أنا لا أعتبر أنّه كانت هناك حرب دينية على مدى التاريخ اللبناني، وإنّما كانت هناك حرب سياسية تتجلبب بجلباب الدّين. ونحن نلاحظ ذلك عندما حصلت حروب داخل الدين الواحد، على سبيل المثال الحرب التي حصلت بين القوات اللبنانية وقوات ميشال عون، والحرب بين حز//ب الله وحركة أمل. لذلك نحن نقول إنّ مشكلة لبنان ليست في الدين وإنّما هي في عدم التديّن. اللبنانيون طائفيّون وليسوا متديّنين، لأنَّ اللبنانيين المسيحيين إذا عاشوا قِيَم المسيحية كما جاء بها السيّد المسيح (عليه السلام)، واللبنانيين المسلمين عاشوا القِيَم الإسلامية كما جاء بها النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فإنّهم يلتقون بنسبة ثمانين بالمئة، بغضّ النّظر عن فلسفة اللاهوت. ولذلك لا أعتبر أنّ المسألة في لبنان دينيّة.
كما أنَّ هناك ملاحظة أخرى ردّدتها أكثر من مرّة، وهي أنّ اللبناني العامل والتاجر والفلاّح المسلم والمسيحي لم يتحاربا، بل كانا متعايشين في أفضل ما يمكن من تعايش في مناطق الشمال والجنوب والبقاع المختلطة. إنّ الذين تحاربوا هم مجموعة من السياسيين، انطلاقاً من خطط خارجية، كانت الخطّة الأميركية التي صاغها كيسنجر في مقدّمتها؛ لذلك إنَّني أعتقد أنّ الحديث عن إلغاء المسألة الدينية في لبنان حتّى يمكن له أن يعيش بسلام تبسيطاً يوحي بالسذاجة في الفهم السياسي. المسألة في لبنان أنّ هناك فرقاً بين أنْ تتحدّث عن الطائفية وأن تتحدّث عن الإسلامية والمسيحية. فهذان هما وجهان للقيمة الروحية التي تجعل الإنسان ينفتح على الله وعلى كلّ عباد الله من خلاله. أمّا الطائفية فهي حالة عشائرية، هي طبل يرن دون أن يحمل داخله شيئاً. هناك طبل مسيحي وطبل إسلامي، وهناك دين إسلامي ودين مسيحي، ويجب أن نفرِّق بين الطبل والدّين.
ـــ ولكن ما يحدث اليوم في العالَم العربي من قبل ما يسمّى بالجماعات الإسلامية الأصولية، هل هو طبل أم دين؟
هناك نقطة لا بدّ من دراستها قبل دراسة الجانب السطحي للمسألة، وهو هل أنّ الإسلاميين في الجزائر هم الذين اختاروا العنف أم أنّه فرض عليهم؟ وهل أنّهم في بلاد أخرى اختاروا ذلك أم أنَّ النظام فرض عليهم ذلك، لأنّه ألغى حريّتهم ولاحقهم إلى داخل مراكزهم؟ إلاّ أنّ المسلمين يحملون كما تحمل الأفكار الأخرى مشروع حكم ومشروع قانون، فالإسلام دين عبادي ومدني في وقتٍ واحد، والفقه الإسلامي أكبر دليل على ذلك؛ لهذا نحن نعتبر أنّ المسلمين يفكِّرون بأنَّ الإسلام لا بدّ أن يحكم داخل المجتمع الإسلامي حتّى ينسجم الإنسان المسلم مع مجتمعه، فلا يعيش مع نفسه ازدواجية بين الشريعة التي يلتزم بها، والقانون الذي يطيعه ويطبّق عليه. إنَّها وجهة نظر. فلماذا لا يُعطَى المسلمون كما الناصريون كما الوطنيّون الآخرون الحريّة في الدعوة إلى أفكارهم وحقّهم السياسي، كما يُعطَى الآخرون الحريّة في داخل الأنظمة.
أنا أعتقد بأنّه لو أُعْطِيَ المسلمون الحريّة في أن يكونوا أحزاباً سياسية مدنيّة في البلاد الإسلامية لما كانت هناك مشكلة؛ فهذا لا يعني تقسيم الأُمّة بأنْ يقال مثلاً: مَنْ كان داخل الحزب فهو مسلم ومَنْ هو خارجه ليس بمسلم، لأنَّ واقع الإسلاميين الحركيين لا يلغي صفة الإسلام عمَّن هو خارج تنظيماتهم، بل كلّ ما عندهم أنّ الفكر الإسلامي هو الأقوى والأكثر انفتاحاً وهم يحاولون أن يضعوا هذا الوعي في الأُمّة؛ وإلاّ إذا أردنا الأخذ بهذا المنطق الذي يتذرَّع به البعض في عدم إعطاء الرخصة لحزبٍ إسلامي لأنّه يقسم الأُمّة، فإنّه ينبغي عدم إعطاء رخصة لحزب وطني، لأنَّ المسألة تصبح أنّ مَنْ هو داخل الحزب وطني ومَنْ هو خارجه ليس كذلك، أو نعطي أيضاً رخصة لحزب قومي، فهل هذا يعني أنّ من داخل هذا الحزب هو قومي ومن خارج ليس كذلك؟! إنّ المسألة تكمن في غباء الأنظمة في معالجة القضايا السياسية. وإنَّني أتصوَّر أنّ هناك أجهزة مخابراتية دولية لا تريد للمنطقة العربية والإسلامية أن تستقرّ، لأنّها إذا استقرّت فسوف تملك نفسها وسياساتها واقتصادها وتخرج عن دائرة مواقع النفوذ الدولية. ولهذا فهم يحاولون الدخول لإيجاد بعض الأجواء السياسية المؤدّية إلى العنف. وهناك نقطة أحبّ إثارتها في هذا المجال، وهي أنَّ كثيراً من مواقع الصراع قد يكون لها صورة داخلية ولكنّها تمثّل مظاهر متنوّعة للصراع الدولي.
ففي الجزائر تحوَّلت القضية إلى صراع نفوذ بين أميركا وفرنسا. وحتّى في الدول الأخرى، نجد أنّ الولايات المتحدة التي تقيم علاقات مع أنظمتها تقيم علاقات أيضاً مع معارضي هذه الأنظمة. أنا لا أقول إنّ كلّ ما في الداخل هو صورة عمّا في الخارج. ليست عندنا هذه العقدة، ولكن أقول إنّ الخارج يحاول أن يلعب على التناقضات الداخلية، وعندما يستغرق الداخل في لعبة الدّم ولعبة العنف، فإنّه يتحوّل إلى حالة جنون يستغرق الإنسان فيها بمفرداته الصغيرة، كما يستغرق الأطفال بلعبهم، وينسى الخلفيات التي تكمن وراء اللّعبة. ولذلك أدعو إلى أن نبسّط الأشياء المعقّدة ولا نعقّد الأشياء المبسّطة، وإنَّما يجب أن نفهم القضايا السياسية والأمنية بحجمها الطبيعي حتّى نستطيع إدراك وضوح الرؤية للواقع. فالمشكلة في كثير من جوانبها تكمن في تصوّراتنا التي تتحرَّك على أساسها مشاريعنا، وهي أنَّنا نعيش ضبابيّة في وعي المشاكل الحقيقيّة في أرض الواقع.
ـــ ولكنَّ الأحزاب الوطنية أو القومية أو اليمنيّة لا تطرح شعارات تصل إلى حدود قيام جمهورية كالجمهورية الإسلامية. ومن هنا ربّما يكون الخوف منها؟
هل طرح الجمهورية الماركسية، من حيث المبدأ، ينسجم مع الواقع المسيحي أو الإسلامي الموجود في هذا البلد أو ذاك؟ ثمّ هل طرح العلمنة التي تلتزمها الأحزاب الوطنية تنسجم مع طروحات المسلمين في التزامهم بالشريعة؟ إنّ المسألة أنّ هناك تصوُّراً لدى الإسلاميين يتلخَّص في أنّ الإسلام يتّسع في قانونه لكلّ مفردات الحياة، وأنَّ مسألة الشريعة هي مسألة التزام ديني كالصوم والصلاة؛ وعندما يكون القانون مختلفاً عن الحكم الشرعي الذي ألتزمه، فإنَّني أعيش إرباكاً بين ما هو القانون وما هي الشريعة. لذلك فإنَّ طرح العلمانية لا يحلّ مشكلة بل يخلق مشكلة جديدة. القانون إنَّما يوضع لحلّ مشكلة النّاس، وأنتَ لست مسلَّطاً على الناس، بل وكيلاً عليهم. وإذا كان الناس يريدون أن يعيشوا الإسلام من خلال التزامهم، فعلى أيّ أساس تعتبر أنّه من حقّك أن تصادر ذلك منهم؟ إنَّني أعتبر العلمانية ديناً لأنَّ لها قاعدتها الفكرية وخطوطها القانونية والمنهجية، أي هناك فرق بين فكرة الدّين في المفهوم الغربي التي هي علاقة بين الإنسان وربّه، وفكرة الدّين الإسلامي الذي يعتبر أنّه يتّسع لكلّ نواحي الحياة؛ والدليل على ذلك الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي الذي يمثّل ثروة قانونية اعترف بها القانونيّون في العالَم. إنَّنا نلاحظ مثلاً ـــ مع اختلافنا في بعض المفردات مع النّظام السعودي ـــ بأنّه يطرح نظام الإسلام دائماً كونه نظاماً غير مكتوب. ولا نعتقد أنّ هذا الطرح أخرج النظام السعودي عن التقدُّم والانفتاح. أمّا حكاية أنّ الجمهورية الإسلامية تجتذب جمهورية مسيحية فهذا غير صحيح. فالمسيحيون لا يقولون إنَّ لديهم شريعة، ولا يرون أنَّ الدّين يتدخَّل في السياسة، "فما لله لله وما لقيصر لقيصر"، و"مملكتي ليست في هذه الدُّنيا".
ولذلك فليس في المسيحيّة أي أساس لفكرٍ يطرح الجمهورية المسيحية. ولكنَّ الإسلام يختزن داخله جمهورية إسلامية. وهناك دليل تاريخي، فلقد عاش اليهود والنصارى تحت سلطة الحكومة الإسلامية في دائرة الخلافة، ولم يفقدوا وجودهم، ولم تُلْغَ شخصيّتهم. حتّى أنّ غوستاف لوبون يقول: "ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب". فلذلك عندما حكم المسلمون لم يضطهدوا المسيحيين ولا اليهود. مثال بسيط وهو أنّ الإسلام يعترف بالإنجيل والتوراة كما يعترف بالقرآن، ويعترف بعيسى (عليه السلام) كما بمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، بينما المسيحيون لا يعترفون بالقرآن وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، واليهود لا يعترفون بالمسيح والإنجيل والقرآن وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ومن هنا فالإسلام قادر على احتضان المسيحية واليهودية في دولته، ويمكن أن يعيش المسيحيون واليهود فيها بسلام. وإذا كنّا نؤمن بالديمقراطية فمن حقّ المسلمين طرح فكرهم كما من حقّ الآخرين ذلك. وإنَّنا نقول للمسيحيين إنَّ الإسلام أقرب إليهم من العلمانية، لأنَّ هذه الأخيرة تقوم على فلسفة مادية، بينما الإسلام يرتكز على قاعدة دينية روحية، لذلك نعتقد أنّ الإسلام المسمّى بالأصولي، ـــ وهو ليس أصولياً ـــ أقرب إلى المسيحية من أيّ اتّجاهٍ آخر، لكنّ المشكلة أنّ المسيحيين يفكِّرون بعصبية والمسلمين يفكِّرون بعصبيّة، ممّا يخلق عصبية تواجه عصبية وليس هناك مسيحية تواجه إسلاماً. أنا لا أعتقد أنّ هناك فرصة واقعية لطرح جمهورية إسلامية في لبنان، لكنَّني أطرحها لأقول إنَّ الإسلام ليس حالة طائفية، إنَّما حالة فكرية قانونية منهجية تنفتح على كلّ مجالات الحياة، وعندما يحدِّثوننا عن حصّة المسلمين في رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة وما إلى ذلك... فإنَّني لا أرى ملامح الجمهورية الإسلامية في هذا الطرح، فهي تمثّل كياناً فكرياً قانونياً سياسياً يشمل كلّ نواحي الحياة ويمكن أن ينفتح على الآخرين في مواقع اللّقاء، ويحاور الآخرين في كلّ ما اختلف فيه معهم.
لا يوجد نظام عالمي جديد
ـــ كيف تنظر إلى ما يسمّى بالنظام العالمي الجديد وموقعنا فيه؟
أنا لا أعتقد أنّ هناك نظاماً عالمياً جديداً، فلم يجلس العالَم لينتظم في خطوط فكرية وسياسية أحادية؛ ولكنَّ هناك واقعاً عالمياً جديداً. كان الاستكبار يتمثَّل بدولتين استكباريتين فأصبح يتمثّل بدولة واحدة تطلّ على الدول الأخرى من خلال المواقع المتدرّجة في القوّة والضعف. هناك واقع ينطلق من الأحادية بعدما كان ينطلق من الثنائية. ولذلك فنحن كعرب وعالم ثالث وإسلاميين، نفهم أنَّ هذا الاستكبار العالمي تتعاون كلّ مواقعه وسلطاته من أجل سرقة ثرواتنا، ومصادرة أمننا وسياستنا واقتصادنا وثقافتنا.. إنّ المسألة ليست مسألة أصولية ونظام عالمي جديد، بل هي مسألة عالَم ثالث يريد العيش حرّاً مستقلاً باقتصاده وسياسته وأمنه، ويريد الآخرون إبقاءه على هامش سياستهم واقتصادهم ونظامهم، ولا يجوز لنا أن نهرب من مواجهة هذا الواقع.
ونتحدَّث عن مثالية عندما نتكلَّم عن هذه المواجهة التي يجب أن يشعر العالَم الثالث بها، سواء كان مسلماً أو عربياً أو غير ذلك، إنَّ المشكلة هي مشكلة المستضعفين مع المستكبرين وليست مشكلة هذه الخلافات الطفولية عندما ننطلق في لعبة الأطفال الذين يتنازعون على بيت من الرّمال هنا وبيت من الرّمال هناك، فيتقاذفون ويتضاربون حتّى تأتي موجة فتأخذ في طريقها كلّ البيوت المزيّفة ويعود كلٌّ إلى بيته يجرّ وراءه أذيال الخيبة.
بيروت ـــ ظريف شمس الدين
أطالب بإعادة إنتاج الأُمّة من جديد(*)
العلاّمة السيّد محمد حسين فضل الله؛ رمز إسلامي ناصع، لا تكتمل زيارتك للبنان، إذا لم تمرّ به محاوراً أو مسلِّماً، إنَّه أحد المفاتيح الفكرية والسياسية الرئيسية للبنان، وهو حالة إسلامية خاصّة؛ في الفهم، والوعي، وعمق الرؤية...
وفي لبنان يجمع المسيحي والعلماني والإسلامي على اختلاف مشاربهم على احترام "السيّد"؛ و"السيّد" لدى الشيعة تعني أنّه ينتهي نَسَباً إلى آل بيت الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فما قدَّمه ولا يزال "السيّد" في شتّى قضايا لبنان والأُمّة العربية والإسلامية يستحق أن يخلق من حوله هذا الالتفاف الإنساني الصادق فعلاً.
فللسيّد، رؤاه واجتهاداته الفذّة في مجالات الحوار مع الآخر ـــ الديني أو السياسي ــ، وله اجتهاداته في قضايا المرأة، والحريّة، والمساواة، والعدل، والعلمانية، والصراع مع العدو الصهيوني، والتجديد الفقهي..
والسيّد يقترب الآن من عامه الثاني والستين؛ لكنَّ روحه اليقظة وانفتاحه الواعي ومتابعته الدؤوبة لأحدث التطوّرات العربية والعالمية، تجعلك في حيرة من عمره الزمني الحقيقي.. إنّه الخبرة، والتاريخ، والعمق، وحدّة الذكاء والأريحيّة الإنسانية، ولطف الكلمة، ورفق الإحساس، عندما تتجسَّد جميعها في بشر.
هكذا هو السيّد محمد حسين فضل الله.. الأب الروحي للحركة الإسلامية في لبنان والمرجع الديني، والمجتهد الفذّ في شتّى أمور المسلمين.
كان لنا هذا الحوار معه، في منزله بالضاحية الجنوبية ـــ موطن الفقراء والشهداء والمقاتلين ضدّ الكيان الصهيوني ـــ ببيروت.. فماذا قال؟
ـــ الواقع العربي والإسلامي الآن يمرّ بمتغيّرات وأحداث عديدة، خاصة في ضوء تطوّرات قضية الصراع العربي ـــ الصهيوني، ما تقييمكم العام لهذا الحال وهذا الواقع في ضوء هذه المتغيّرات؟
عندما نريد أن ندرس حركة المفاوضات التي تعمل على إنهاء هذا الصراع، فإنّنا نرصد مسألة حيوية بارزة في كلّ مفردات المفاوضات، وهي أنَّ هناك قراراً إسرائيلياً ينفتح على قرار أميركي، أو عدم ممانعة أميركية، أو تشجيع أميركي في أنْ يتحوّل العالم العربي إلى حالة سكونية واحدة، لا تتحرَّك فيها أيّة كلمة في مواجهة أيّ فعل صهيوني أو أيّة مصلحة من مصالح الغرب، ولاسيّما الغرب الأميركي، بحيث تتحوَّل مقولة الاعتدال العربي إلى استسلام عربي، يحاول الزعماء أن يخفِّفوا من تأثيره، ليعبّروا عنه بالواقعية التي تنسجم مع النظام الدولي الجديد، باعتبار أنّ العرب يريدون أن يتكاملوا مع هذا النظام أو يلتحموا به.
لقد لاحظنا أنَّ الصهيونية، بالتنسيق مع أميركا، عملت على إذلال المفاوض الفلسطيني وعلى إنهاك الشعب الفلسطيني في مرحلة المفاوضات، بالمستوى الذي خلق فيه حالة من الضياع السياسي لدى المفاوضين، الذين ارتضوا المفاوضات الحكم الذاتي إلى نظام عربي لا يملك عنوان الدولة ولا يملك تأييد الشعب، ويراد له أن يلتحق بكلّ الأنظمة العربية التي تعيش حالة من الانفصام بين مسؤوليها وشعوبها، الأمر الذي يخلق تعقيدات للمسؤولين في الحكم الذاتي بمجرّد بداية هذا الحكم، ليُحدِث هناك اهتزازاً سياسياً وأمنياً لا يملكون معه أن يرتّبوا أوضاعهم، بالمستوى الذي ينجحون فيه بالتجربة التي أعلنت "إسرائيل" أنّها ستراقبها، لأنّ "إسرائيل" ستعمل على الاستفادة من كلّ التناقضات الموجودة في الساحة، لتحريكها بالمستوى الذي يتحوّل فيه الواقع الفلسطيني إلى واقع فوضوي من الناحية الأمنية والسياسية، بحيث يمكن أن تقول "إسرائيل" للعالَم إنَّ الشعب الفلسطيني ليس مؤهّلاً لأن يحكم نفسه.
ولذلك يجب أن نعلم أنّ هناك نوعاً من التخطيط لهذا الضياع الفلسطيني من خلال المفاوضات، وأنَّ هناك تخطيطاً لإذلال الإنسان الفلسطيني، الذي تتحرَّك المجازر في ساحته بشكلٍ أو بآخر ليعيش القتل اليومي من دون أنْ يتحرَّك أيّ كلام أميركي، إلاّ عن العنف المتبادل؛ بينما نجد أنّ العمليات الجهادية التي قام بها الفلسطينيون الإسلاميون أخذت من المسؤول الأميركي بعداً كبيراً جداً، بحيث أصبح يحاسب عرفات على مستوى الرفض لهذه العملية، لأنّه يريدها كلمات قاسية تدين هذه العمليات بكلّ قوّة ولا تكفي بكلمات الأسف، في الوقت الذي تتحرّك فيه أميركا لتستهلك كلمة الأسف على كلّ المجازر التي يرتكبها اليهود ضدّ المسلمين.
إنَّنا نلاحظ أنّ الإسرائيليين ـــ وبتشجيع من أميركا ـــ يعملون على إسقاط الروحية الفلسطينية الرافضة، حتّى لا تفكّر في أيّ موقف رفض، كمقدّمة لإسقاط الروحية العربية والإسلامية عامّة، لذلك نلاحظ طريقة إدارة الصهيونية لمسألة العلاقات مع سوريا، التي لا تزال تقف موقفاً يملك الكثير من مفردات الصمود، من خلال تفاصيل المطالب السورية في مواجهة المطالب الإسرائيلية. فإنَّنا لاحظنا أنّ "إسرائيل" عملت على أن تفرغ القمّة الأميركية ـــ السورية في جنيف من كلّ مضمون يمكن أن يعطي لسوريا أيّة قوّة معنوية لدى الرأي العام الأميركي ولدى الإدارة الأميركية، كما أنّها تعمل من خلال التصريحات المتحرّكة على إذلال الموقف السوري.
إنَّنا نستطيع أن ننتهي من خلال هذا العرض السريع إلى حقيقة سياسية، وهي أنَّ المطلوب أنْ تتمخَّض المفاوضات عن سقوط الروحية العربية أمام الشخصية الإسرائيلية، وذلك من خلال إحاطة الواقع العربي بكلّ الضغوط السياسية والأمنية، التي لا يملك فيها العربي إلاّ أن يقول: لا للحرب، ويقول: نعم للمستوى الذي تتحرَّك فيه الـــ "نعم" في كلّ مواقعه بطريقة استهلاكية لا معنوية.
ونحن نعتقد، إزاء هذا، أنّ الإسلاميين المنفتحين على قضايا الحريّة أمام كلّ القوى في الكون، هم الذين يؤكّدون حركة الحريّة من خلال حركتهم الجهادية ومن خلال خطابهم السياسي، الذي يستهدف إعادة العنفوان إلى الأُمّة بطريقة أو بأخرى.
مأساة الواقع اللبناني
ـــ وصولاً للملف اللبناني ومنذ قدومي إلى بيروت، لاحظت تطوّرات سياسية داخلية في الواقع اللبناني، من بينها فتح الملفّات المسيحيّة القديمة. بحكم خبرتكم ودوركم في بيروت، هل ترون أنّ ما يتمّ وما يحدث الآن مؤشّرات على استعادة لبنان لعافيته من منطلق ومنظور المصالحة، أم هو بدء مرحلة جديدة لصراعات داخلية؟
في تصوُّري أنّ هناك نقطة لا بدّ لنا من رصدها، وهي أنّ القرارات اللبنانية الحادّة أو الخفيفة في شأن الداخل، الذي يتّصل بأكثر من مفصل خارجي، لا تنطلق من واقع لبناني داخلي، حتّى مسألة إعادة بناء الدولة التي تمثّل حاجة شعبية لدى كلّ الشعب اللبناني، بل هي تنطلق ـــ عندما تنطلق ـــ من خلال قرارات خارجية هي التي أطلقت الحرب في لبنان من خلال استفادتها من التناقضات اللبنانية في الدّاخل، وهي التي أطلقت السلم عندما لم تعد الحرب تمثّل أيّة حاجة أو أيّة فائدة لهذا الفريق الدولي أو ذاك الفريق الإقليمي. ولذلك فإنّ هناك قراراً من خلال اتّفاق الطائف، الذي هو أميركي في كلّ مفرداته حتّى مع وجود مظلّة عربية وتوقيع لبناني عليه. إنّ اتّفاق الطائف يضع في حساباته إعادة بناء لبنان وإنَّ الخطّة الأميركية تقضي بتحجيم النفوذ الفرنسي، الذي يتحرَّك في داخل الصف الماروني إضافة إلى المسيحي وبعض المواقع الإسلامية الملحقة بالمارونية السياسية.
إنَّ الخطّ الأميركي ينطلق لكنس النفوذ الفرنسي من كلّ مواقعه، وإن كانت هذه المواقع تفتح عينيها على الجوّ الأميركي الجديد، لأنَّ هناك حالة فرنسية تجد في المسيحية وفي المارونية بالذّات موقعاً متقدّماً، تستطيع أن تحرّك سياستها من خلاله للاستفادة من العاطفة الطائفية، من خلال الأسلوب الفرنسي في إثارة هذه العاطفة؛ ولذلك فإنَّني أتصوَّر أنّ المسألة تتحرّك من خلال خطّة إعادة بناء الدولة، بالطريقة التي يمكن فيها للنفوذ الأميركي أن يجعل مستقبل لبنان متساوقاً مع مستقبل المنطقة في النظام الأمني الإقليمي؛ لتكون هناك دولة تملك من القوّة ما تستطيع فيه أن تقف ضدّ أيّ نفوذ أوروبي وضدّ أيّ نفوذ إسلامي أو عربي إذا صحّ التعبير.
وفي هذا المجال، إنَّ هذه الخطّة ليست نذيراً بأيّة مرحلة جديدة من الاهتزاز اللبناني الداخلي الحادّ الذي يفتح البلد على حرب؛ لأنَّنا نعتقد أنّ الحرب اللبنانية ـــ اللبنانية قد انتهت، لأنّها لم تعد ذات فائدة لأيّ فريق دولي أو إقليمي، ولم تعد ممكنة محليّاً، لأنَّ اللبنانيين قد استنفذوا كلّ طاقاتهم في آتون الحرب.
السوق الشرق أوسطيّة
ـــ وصولاً بالتساؤلات السياسية أيضاً... يعد الآن للمنطقة ومن بينها لبنان بالتأكيد ما يسمّى بالسوق الشرق أوسطية؛ وفي تقديرنا أنّ السوق الشرق أوسطية تعبير عن اكتمال إسرائيل الكبرى، وأنَّ كلمة السوق كلمة مضلّلة غير حقيقيّة. فما تقييمكم لهذا المفهوم ومستتبعاته بصفة عامّة؟
مستقبل التسوية لا يلحظ مشروع إسرائيل الكبرى جغرافياً، أوّلاً: لأنَّ المرحلة القادمة، بحسب طبيعة الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية التي تعدّ للمنطقة، لا تعطي لإسرائيل أكثر ممّا تأخذه في الصلح العربي ـــ الصهيوني. ومن ناحية ثانية فإنَّنا نرصد أميركا التي تعمل على احتواء المنطقة، بحيث لا يمرّ شيء إلاّ من خلالها. ونحن نعرف أنّ "إسرائيل" إذا كانت تملك بعضاً من الضغط على الإدارة الأميركية في مسألة الصراع العربي ـــ الإسرائيلي فإنّها لا تملك مثل هذا الضغط في مسألة الصراع الاقتصادي الإسرائيلي ـــ الأميركي، باعتبار أنّ اللوبي اليهودي لا يستطيع أن يضغط على الإدارة الأميركية كي تقدّم تنازلات أميركية لحساب "إسرائيل"، مع بقاء إمكان تسهيل العمليات الإسرائيلية في موازاة العملية الأميركية.
إنَّ أميركا تعمل على أن تكون يدها مطلقة بشكلٍ مباشر في مناطق النفط، وإذا كانت أميركا تفكّر في أن لا تكون لأوروبا أو روسيا أو اليابان أو الصين أيّة مواقع للعلاقة بالمسألة البترولية، فكيف يمكن لها أن توافق على أن تكون "إسرائيل" شريكتها، و"إسرائيل" تخطِّط للمشاركة مع أوروبا ومع أميركا في هذا المجال؟ لذلك أعتقد أنّ مسألة "إسرائيل" الكبرى كانت حلماً قد انتهى، ولكن هناك مسألة أخرى وهي إثارة مسألة السوق الشرق أوسطية كبديل للعالَم العربي، وذلك لجعل إسرائيل عضواً طبيعياً في المنطقة، ومن الطبيعي أنّ المنطقة عندما تكون عربية فلا يمكن "لإسرائيل" أن تكون جزءاً من العالَم العربي، لكن إذا كانت المنطقة هي منطقة الشرق الأوسط فإنّ "إسرائيل" تعتبر جزءاً من هذا الشرق الأوسط، ولاسيّما إذا لاحظنا أنّ هناك خطّة مستقبلية، تحرِّك النظام الأمني الإقليمي في مفاصل تقف تركيا و"إسرائيل" في مقدّمتها ليأخذ العرب بعض الأدوار التي لن تكون في حجم الدور التركي أو الحجم الدولي العربي؛ وهذا ما يجعلنا نحدّق في السوق الاقتصادي، في الاقتصاد المائي والاقتصاد البترولي والاقتصاد الصناعي والزراعي وما إلى ذلك في دراسة لاقتصاد المنطقة، مقارنةً بالصراع الأميركي ـــ الأوروبي في مسألة الصادرات الاستهلاكية للواقع العربي أو الصادرات العسكرية أو ما إلى ذلك.
إنَّ علينا مراقبة المستقبل، على أساس المسألة الاقتصادية في الشكل الاستراتيجي، ومراقبته في المسألة الأمنية، من خلال مواجهة الحالة الإسلامية أو ما يمكن أن يتمخَّض عنه الواقع من صدمات صعبة.
وعلينا أن نراقب أيضاً الخطّة الجديدة التي يمكن أن تستكملها أميركا في تطويق الجمهورية الإسلامية في إيران، من خلال واقع شرق أوسطي يتحرّك على أساس الاستراتيجية الأميركية المنفتحة على استراتيجيّات دول أخرى في المنطقة.
لسنا حياديّين
ـــ هل تكتفي بالمراقبة فقط أم لدى سماحتكم تصوُّر للمواجهة؟
نتحدَّث عن المراقبة، لأنَّ الذي يثار في المسألة هو محاولة تحليل الواقع في ما يحمله من احتمالات المستقبل، ولكنَّنا في الوقت نفسه لسنا حياديين أمام هذا الواقع، فنحن نعمل كإسلاميين على إثارة كلّ الواقع الإسلامي بكلّ الوسائل الممكنة، ولنا خطّة عاقلة مدروسة للواقع مقارناً بالأهداف بشكلٍ جيّد لإرباك كلّ هذه الخطّة الأميركية ـــ الإسرائيلية، ولذلك نعمل كإسلاميين على أساس التكامل مع القوميين العرب، إذا كانوا لا يزالون يتحرّكون لتحرير إرادة الواقع العربي السياسي والأمني والاقتصادي من القبضة الأميركية.
إنَّ علينا أن ننسّق مع القوميين وحتّى مع الماركسيين، الذين نختلف معهم في العقيدة ومع كلّ الوطنيين؛ ولذلك أطلقت في حديث صحفي نداء قلت فيه: أيُّها القوميون والماركسيون والوطنيون تعالوا إلى كلمةٍ سواء في قضايا التحرير وفي قضايا المواجهة والاستكبار العالمي وفي مقدّمته الاستكبار الأميركي. إنَّ علينا أن ننتج الأُمّة من جديد، لأنَّ الكثير من الأوضاع المخابراتية ومن الضياع الإعلامي ومن التيه السياسي، قد استطاع أن يجعل الأُمّة تعيش في حيرة تمزّق إرادتها وضياع أحلامها، لذلك علينا أن ننتج الأُمّة من جديد بطريقة إسلامية عقلانية موضوعية لا تدفع العقل إلى التجمّد، ولكن تجعله يفكِّر في كيفية تحريك الواقع على الأساس الذي يرتبط بالأهداف. ونحن من الناس الذين يؤمنون بأنّ الحياة لا يمكن أن تخضع لقوّة واحدة، ونؤمن بأنّ الله يقول: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [ آل عمران : 140]، ومن هنا فنحن لا نؤمن، حتّى الآن، بأنَّ أميركا استطاعت أن تكون سيّدة العالَم. فنحن نلاحظ أنّ أميركا تتحرَّك في سياستها من فشل إلى فشل، وأنَّ قدرتها هي في أن تجمد المشاكل لا أن تحلّها. وإذا كان الاتحاد السوفياتي قد سقط، فإنّ أوروبا لم تعد عالماً ثالثاً، كما أنَّ روسيا بدأت تنفتح على العقلية الامبراطورية القيصرية، والمارد الصيني ما يزال يفكِّر كيف يتحرّك، لذلك نقول للذين يتحدّثون عن السيّد الأميركي الأزلي السرمدي، نقول لهم: اتّقوا الله وانفتحوا على الله، الذي هو على كلّ شيء قدير وحاولوا أن تنطلقوا مع القرآن الذي يقول: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [ آل عمران : 26]، إنَّنا لا نريد أن نتحدَّث عن هذه الآيات كمواعظ نعطيها للنّاس من فوق، ولكن كخطّة عمل تفتح قلوبنا على الواقع بطريقة واقعية تنفتح على الله، لتستمدّ منه القوّة لتعود إلينا قوّتنا التي تتحرّك بإيمان إلهي وبإرادة بشرية.
العلاقة بين المسيحيين والمسلمين
ـــ بعد خبرتكم الطويلة في قضية العلاقات الإسلامية المسيحيّة، ماذا تقدّمون للحالة المصرية من توجيهات في هذا المجال؟
أتصوَّر أنّنا لو درسنا تاريخ العلاقات الإسلامية ـــ المسيحية منذ أن انطلق الإسلام، فإنَّنا نجد العنوان الكبير في إشراقة الروح، التي تحكم هذه العلاقة في التجربة الأولى للدعوة الإسلامية التي انطلق فيها النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بوحيٍّ من الله حين أمر المسلمين بالهجرة إلى الحبشة، ليجدوا عند النجاشي المسيحي الملجأ والملاذ والحريّة، باعتبار أنّ ذلك ينطلق من تأكيد العناوين المشتركة بين المسلم والمسيحي.
ولذلك فإنَّنا نلاحظ، من خلال الصيغة المكتوبة، أنّ جعفر بن أبي طالب (رضوان الله عليه) عندما بدأ في موقع الدفاع عن نفسه أمام وفد قريش، الذي أرسل لإثارة النجاشي ورد المسلمين، بدأ يتلو أمام النجاشي سورة مريم، ويحدّثنا القرآن أنّ عيونهم كانت تفيض من الدّمع، ثمّ أكّد القرآن الكريم الواقع السلمي المفتوح على النصارى في الخطّ الإسلامي، وإذا كنّا ندرس قضية الواقع الإسلامي، منذ أن انطلق الإسلام وحتّى الآن، فإنَّ بقاء النصارى وبقاء اليهود الذين هم أشدّ عداوة للذين آمنوا، في كلّ البلاد الإسلامية جنباً إلى جنب إلى جوار المسلمين، يدلّ على أنّ المسلمين لا يعيشون مبدأ نفي الآخر، بل يمتلكون الكلمة السّواء، التي دعا الله أهل الكتاب لأنْ ينطلقوا فيها مع المسلمين؛ وعندما ندرس الحوارات القرآنية مع أهل الكتاب، سواء الحوارات التي كانت تركّز على مناطق اللّقاء أو تلك التي ركّزت على نقاط الخلاف، حتّى لو كان فيها بعض القسوة ـــ لأنَّ طبيعة البحث العلمية يفترض أن تسمّى الأشياء بأسمائها بعيداً عن المجاملة ـــ ندرك أنَّ المسامحة يمكن أن تكون في واقع التعايش بين المسلمين والمسيحيين، وأعتقد أنّ المسلمين نجحوا في مسألة التعايش مع المسيحيين. وإذا كان المسيحيون يتحدّثون عن مسألة أهل الذمّة، فإنَّنا نتصوَّر أنّ الواقع الإسلامي آنذاك، كان ينفتح على هذا النظام على أساس أنّه نظام إنساني، لا يجبر المواطنين المسيحيين أن يقاتلوا أهل دينهم عندما يخوض المسلمون حرباً مع بلدٍ آخر.
كما نلاحظ أنّ الإسلام أعطى المسيحيين الحريّة وتكفَّل بحمايتهم من الأكثرية الضاغطة، ومن الطبيعي أنّ بعض المفردات السلبية التي يتحدّث عنها المسيحيون في تصرُّفات المسلمين أو تصرُّفات بعض الحكَّام المسلمين، قد تكون خاضعة لمزاج بعض هؤلاء الناس أو لذهنية هؤلاء الحكّام، لأنَّنا عندما ندرس النصّ القرآني الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت : 42]، نجد أنّ الأخلاقيات العامّة التي أطلقها الإسلام هي أخلاقية تنفتح على الإنسان كلّه، وإذا كان بعض النّاس يقولون ويتحدّثون عن الآية التي تقول: {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة : 29] فإنَّني أتصوَّر أنّ مشكلة بعض الناس أنّهم لم يدرسوا علم البلاغة، ويحاولون أن يؤكّدوا على المفردات الحرفية، كما هي في القاموس، إنَّك عندما تتحدَّث عن القتال وتتحدّث عن سيطرتك على الفئة الأخرى، فإنَّ من الطبيعي أن تقول: حتّى يخضعوا لشروطنا وهم صاغرون، والصَّغار ليس معناه إذلال الطرف الآخر، ولكنّه يمثّل الخضوع في الحالة الحربية في هذا المجال. إنَّنا لا نحبّ الدخول في هذا السّجال، ولكنَّنا عندما نتحدّث في واقعنا المعاصر فإنَّنا نعتقد أنّ نظام الذمّة إذا كان بعض الناس يرون فيه سلبيات لا نراها نحن، فإنَّ هناك نظاماً آخر يؤكّده الفقهاء بمختلف اجتهاداتهم، التي قد يختلفون في تفاصيلها، وهو نظام المعاهدة. ومن الممكن للمسلمين أن يدخلوا في معاهدة توافقية مع المسيحيين، بحيث يعطون للمسيحيين حقوقهم التي لا تتنافى مع الحقائق الأساسية للتشريع الإسلامي، وعند ذلك يشعر المسيحي من خلال الميثاق، سواء سمّيته ميثاقاً وطنياً أو ميثاقاً اجتماعياً أم سياسياً، لا يشعر فيه المسيحيون أنّهم مواطنون من الدرجة الثانية.
إنَّنا لا نتصوَّر أنَّ إثارة مسألة الأقليّات بطريقة معيّنة وإثارة مسألة المسيحية والإسلام في الواقع العربي والإسلامي، تنطلق من خلال واقع المسيحيين في المنطقة العربية الإسلامية؛ لأنَّ الواقع المسيحي في هذه المنطقة إذا كان يعاني من بعض مشاكل سياسية أو أمنية فإنَّ الواقع الإسلامي، تحت هذا الحكم أو ذاك، يعاني من مشاكل أكثر من هذه المشاكل، فليست مسألة ظلم الأنظمة هي مسألة ظلم المسلم للمسيحي، إذ إِنّ الأنظمة لا تمثّل العنوان الإسلامي. إنَّنا لا نريد أن نكفّر الأنظمة، ولكنَّ هذه الأنظمة لا تلتزم بالإسلام بحسب برنامجها السياسي أو القانوني. وهكذا إذا كان المسيحيون يتحدّثون عن الإسلاميين في مصر أو في غير مصر بأنّهم يعملون على اضطهاد المسيحيين وقتلهم وتهجيرهم، فإنَّنا لا نجد شواهد حقيقيّة موضوعية على هذا الزعم.
إنَّنا عندما ندرس المشاكل التي حدثت بين الأقباط والمسلمين، فإنَّنا نجد أنّ بعضها عبارة عن مشاكل فردية، تنطلق من علاقات اقتصادية أو من حالات ثأرية أو من حالات قبلية، تكون مع المسلم كما تكون مع المسيحي. إنّ المسلم الذي يخطف فتاة من عشيرة معيّنة، سوف يبادر أفراد العشيرة إلى قتله، تماماً كما لو خطف المسيحي فتاة من هذه القبيلة، ولكنّ المشكلة أنّهم حين يتحدّثون عن الحادثة المتعلّقة بمسيحيين فإنّهم يعطونها بعداً سياسياً ودينياً، بينما تبتعد هي عنها.
وهكذا في لبنان، فليست القضية في أنّ المسلمين يريدون أنْ يخرجوا المسيحيين من لبنان أو أنّ المسيحيين يفكِّرون بالطريقة نفسها، ولكنّها لعبة سياسية، انطلق فيها الاستكبار العالمي والاستكبار الصهيوني وبعض المواقع الإقليميّة، من أجل إنتاج الخوف في نفوس المسيحيين هنا والمسلمين هناك؛ ومن هنا فهي أمور تحدث بين المسلمين والمسيحيين، كما تحدث بين المسيحيين أنفسهم، وكما تحدث بين المسلمين أنفسهم.
إنَّنا نواجه الآن في الواقع اللبناني حديثاً عن أنّ فريقاً مسيحياً هو الذي فجَّر كنيسة "سيّدة النجاة"، وهو الذي قد اغتال أحد قادة المسيحيين "داني شمعون"، ولا نريد أن نستبق القضاء، ولكن عندما تطرح هذه المسألة من دون أيّة ردود فعل فهي تحاول أن تلصق هذا الموضوع بالمسلمين(1)؛ ومعنى ذلك أنّ ما يحدث بين المسيحيين أنفسهم، قد يكون أقسى ممّا يحدث بين المسلمين والمسيحيين. ولذلك فإنَّني أتصوَّر أنّ هناك لعبة مخابراتية تريد من المصريين الذين عاشوا الانفتاح المسيحي على المسلمين بشكلٍ جيّد أن يراقبوا حركة المخابرات الدولية وحركة المخابرات المتحرِّكة في أكثر من موقع عربي وغير عربي، لأنَّ المخابرات لا تريد للشعب المصري أن يتوحَّد في القضايا المشتركة، كما لا تريد للشعب اللبناني أن يتوحَّد، ونحن عملنا بكلّ ما عندنا من طاقة من أجل إقامة الحوار، حتّى في القضايا الصعبة وأن نتحرَّك بعقليّة موضوعية في ما نختلف فيه من قضايا الفكر أو السياسة أو الواقع.
نداء إلى مصر الحبيبة
ـــ كلمة أخيرة توجّهها سماحتكم إلى قرّائكم في مصر؟
إنَّني أتوجّه إلى كلّ أهلنا وإخوتنا ومواطنينا ـــ وأنا أتحدّث عن الوطن الإسلامي الكبير في مصر ـــ بأنَّ عليهم الحفاظ على مصر التي تمثِّل القوّة للواقع العربي والإسلامي والأفريقي، والقوّة لكلّ موقع يريد أنْ يتحرَّك في خطّ الحريّة والعدالة. إنَّنا نؤمن بأنَّ الشعب المصري هو من أكثر الشعوب طيبة وصدقاً وانفتاحاً ومحبّة للآخرين، ونحن لا نراهن على النظام ـــ أيّاً كان هذا النظام ـــ ولكنَّنا نعتقد أنّ الشعب المصري بوعيه الإسلامي وبانفتاحه المسيحي وبأصالة إنسانيّته سوف يعطّل اللّعبة المخابراتية التي تريد الإيقاع بين المصريين. إنَّنا نريد أن نقول للمصريين حكماً وشعباً إنَّ هذا النوع من النزف الدموي لن يستفيد منه الحكم حاضراً ولا مستقبلاً، لأنَّ طبيعة اللّعبة الدولية لا تريد له أن يستقرّ. إنَّ الله دعانا إلى الجدال بالتي هي أحسن، وإلى الدّعوة إلى سبيل ربّنا بالحكمة والموعظة الحسنة وإلى أن ندفع بالتي هي أحسن، حتّى نحوّل أعداءنا إلى أصدقاء، وأن نصبر على خلافاتنا ومشاكلنا، حتّى نعرف كيف ندير خلافاتنا لتنطلق نحو الوفاق وندير مشاكلنا لتنطلق نحو الحلّ.
إذا كنتم تقولون إنّ الإسلاميين مخطئون، فهم مخطئون من حيث يريدون الصواب، حاولوا أن تفتحوا الحوار بأوسع مداه وبأفضل أساليبه، لتنبّهوهم إلى الخطأ إذا كان هناك خطأ، وأصالتهم الإسلامية سوف تجعلهم يتراجعون عن الخطأ إذا اقتنعوا بذلك. إنّ الذين يعتبرون أنّ دخول الدولة في الحوار يعني إسقاط هيبة الدولة هم مخطئون، لأنَّ هيبة الدولة هي بمقدار ما تحمي شعبها من نفسها ومن نفسه، وبمقدار ما تقنع شعبها بالتكامل معها، إنَّني أسأل لكلّ أنظمتنا: لقد خضتم حروباً مع "إسرائيل" دمّرت اقتصادكم وأمنكم وسياستكم، وها أنتم تتحدّثون عن السلام مع اليهود، الذين هم أشدّ النّاس عداوة للذين آمنوا، فكيف لا تتحدّثون عن السلام مع المسلمين، الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر؟! قد يخطئون في اجتهاداتهم أو في أسلوبهم، ولكنّهم لم يخطئوا عندما انطلقوا ليشهدوا أنْ لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله وأنّ القرآن حقّ وأنّ الآخرة حقّ وأنّ مَنْ لم يهتمَّ بأمور المسلمين فليس مسلماً، تعالوا إلى كلمةٍ سواء بينكم وبين المسلمين، وإلى كلمةٍ سواء بينكم وبين أهل الكتاب، وإلى كلمةٍ سواء بينكم وبين كلّ الذين يعملون من أجل الحريّة من مستضعفين في مواجهة كلّ المستكبرين.
حاوره في بيروت:
د. رفعت سيّد أحمد
مستقبل المقاومة وخصوصيّة الحركة
الإسلامية في لبنان(*)
مقدِّمة الحوار:
عندما كتب صاموئيل هونتنغتون بحثه حول "صدام الحضارات" (1993)، معتبراً أنّ صراع الغرب في عالَم ما بعد الحرب الباردة إنَّما هو أساساً صراع مع الإسلام وأنّ "حدود عالَم الإسلام هي حدود أمنية"، ترك تحليله هذا بصمات انطبعت في ذهنية المجتمع الغربي، الأوروبي والأميركي، من طبقات حاكمة ومثقفيّن جامعيّين.
وثمّة إسلام عنفوي، رجعي، نشأ في أرض مصر والجزائر وتطعَّم بعضه بنفحات سعودية يثبت تلك النظرية، بَيْدَ أنّه يفتك بروح وثقافة الإسلام قبل أن يصطدم بالغرب.
إنَّ مفردات "الموجة الأصولية" و"التحرُّك الإسلامي" باتت مرادفة في المصطلح العام والإعلامي، للإرهاب والجهل والظلم والتخلُّف، بفعل ممارسات تتنافى ورسالة الإسلام من قِبَل بعض المجموعات الطامحة للسلطة. وقد باتت هي تتصدَّر صفحات الصحف ونشرات الأخبار المتلفزة في العالَم كلّه. فترسّخ في الأذهان الغربية والشرقية على حدٍّ سواء كأنَّها النموذج المعبِّر عن طبيعة الإسلام وأهدافه.
ويأتي ذلك في زمن المساومات والتسويات التي تعيشها المنطقة، زمن "السلم العربي ـــ الإسرائيلي الذي تعيشه الأنظمة العربية بينما يتآكلها العنف من الداخل أو يهدّد بالانتشار في كيانها.
فأين هو الإسلام الحقيقي؟ ما هي معاني وأبعاد ما يسمّى بالأصولية الإسلامية؟ أين تقع المعادلة الدولية الجديدة و"النظام العالمي الجديد" من التسوية في الشرق الأوسط؟ ما علاقتها مع الأنظمة العربية، والإسلامية "التقليدية"؟ ما مواقفها من كلّ من أميركا وإسرائيل في ظلّ التحوُّلات المقبلة على العالَم العربي والإسلامي؟ وأين تندرج مواقفها من سوريا وإيران والمملكة العربية السعودية، وهي دول لها تأثيرها المباشر على الحركة الإسلامية؟
بماذا تتميَّز الحركة الإسلامية في لبنان عن سائر الحركات الإسلامية في العالَم العربي؟ ما مستقبل المقاومة في الجنوب اللبناني، وقد أضحت تلك المقاومة من أبرز سمات الوعي الإسلامي في لبنان؟
أين يقع موضوع المشاركة في الحكم والدخول في اللّعبة البرلمانية وقبول النظام ككلّ، في الاستراتيجية الإسلامية؟
أسئلة متشعّبة تلج إلى صميم القلق الذي يراود نهاية القرن العشرين في فراغ عقائدي عالمي، وفوضى دولية ومزاحمات اقتصادية تجعل التكهُّن بالمستقبل صعباً.
أسئلة يجيب عنها العلاّمة السيّد محمد حسين فضل الله برحابة صدر وسعة تحليل، وبُعد النظرة التي يتميَّز بها، والتي تفتح الباب للإسلام الآخر، ولعلَّه الإسلام الحقيقي، اسلام التسامح والتحاور والثراء الإنساني والعقل والفقه، "إسلام اللاعنف"، كما يصرّ على تأكيده هو "إلاّ متى اضطر للدفاع عن النّفس".
ومع السيّد فضل الله يرتدي الإسلام ثوب "البراغماتيّة" والواقعية ليضمن إسلاماً مشبعاً بالانفتاح على الآخر، وجدلية الحوار والتعاطي السياسي مع النظام والتفاعل مع أرضيّته، وإنَّ ارتكاز الحركة الإسلامية على البعد التجريبي يكشف أنْ ليس هناك حركة إسلامية واحدة، بل حركات تتفاوت بينها درجات نضوجها، والبعض ـــ الأكثرية ـــ لم تبلغ "الرشد السياسي" حسب قول العلاّمة فضل الله، وقد دخلت تلك المفردات القاموس الإسلامي اللبناني.
فالتجربة الجزائرية تدلّ كم أنّ "الحركات الإسلامية تختلف بدرجة وعيها وتمثُّلها للإسلام"، على حدّ قوله.
ولعلَّ أبرز ما أحرزته الحركة الإسلامية في لبنان من خلال تجربتها، هو أنّها باتت مؤهّلة لأن تلعب دوراً رائداً، على الصعيد الإقليمي، كنموذج يحتذى به لصالح تطوُّر المجتمع الإسلامي وتحسين صورة الإسلام المشوّهة في الغرب، وخاصّة أنّ مشروعيّتها تنهل من معين المقاومة في الجنوب ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، فتكسبها شعوراً بالاعتزاز والتفوُّق، وهي وضعت المعركة في إطارها الصحيح بدل أن تنقلب ضدّ الداخل، في حركة تدميرية تستنزف المجتمع وتقضي على روح الإسلام فيه.
هذا ما يؤكّده السيّد فضل الله عندما يعتبر "أنَّ التجربة الجديدة التي تعيشها المقاومة الإسلامية سواء في لبنان أو في فلسطين، تصلح لأنْ تكون نموذجاً لمثل هذه التوتّرات الحركية المستقبليّة، باعتبار أنَّنا نلاحظ أنّ المقاومة الإسلامية في لبنان كفَّت عن أن تقف في مواجهة النظام اللبناني ووجّهت كلّ قوّتها نحو إسرائيل".
وهو حريص على أن يذكِّر بأنّ "الهزالة العربية أمام إسرائيل وسقوط فلسطين في يد اليهود هي العمق الفكري للحركة الإسلامية"، فالمسألة الفلسطينية بكلّ خطوطها الترسانية، بكلّ مواقع الإحساس فيها، وبكلّ الظروف التي واكبتها، هي أساس الحركة الإسلامية". لذا، فعلى الحركة الإسلامية ألاّ تضيِّع نفسها في متاهات الصراع الداخلي، وعليه فإنَّ "البراغماتية" أدّت بها في لبنان إلى أنْ تتفهَّم طبيعة النظام اللبناني وتنوّع مجتمعه الطائفي والثقافي، وأنْ تقتحم ساحة الحوار الديني والسياسي والحزبي والمؤسّساتي.. فتراها كأنّها باتت إحدى مكوِّنات هذا النظام الذي درست تفاصيله بدقّة.
إنَّ هذا التحوُّل تمليه على الحركة فردية الواقع الوطني التي قد تؤدّي بها إلى نوع من "الإسلامية الوطنية"، إذا جاز التعبير، "فليس معنى كوننا إسلاميين أنْ نتنكَّر لوجودنا الوطني"، كما يقول السيّد فضل الله: "فنحن نقول إنّ كلّ حركة إسلامية يجب أن تعيش مشاكل وطنها (...) فالإسلام عملي عندما يحاول أن يهتمّ بشؤون أتباعه الوطنية، ولكنَّنا لا نعتبر الوطن سجناً نسجن طموحاتنا أو حركتنا فيه".
وهذا التبدُّل الحاصل في المصطلح الإسلامي إنّما يعكس تبدُّلاً آخر على الصعيد الإقليمي، وهو ما ظهر في خطاب المرشد الروحي الإيراني خامنئي (حفظه الله) من انكفاء عن سياسة تصدير الثورة الإسلامية. يعلِّق السيّد فضل الله على ذلك قائلاً: "إنَّ هذه الكلمة (تصدير الثورة) هي مصطلح غربي ولم تكن مصطلحاً إسلامياً".
ولعلَّ التحوُّل الكبير الذي فرضته البراغماتية والواقعية على الحركات الإسلامية هو الذي يؤدّي اليوم إلى "التقبّل الضمني" لواقع التسوية مع "إسرائيل"، خاصّة بعد الإعلان عن تقدّم مسيرة المفاوضات السورية ـــ الإسرائيلية، ويؤدّي هذا التقبُّل القسري إلى الاعتراف بتحقيق أهداف المقاومة مع انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان؛ "فإنَّ مسألة سقوط مبرّرات الحرب في الجنوب عندما يتحرَّر الجنوب هو أمر طبيعي بعد الانسحاب الإسرائيلي"، يقول السيّد فضل الله، وهو يعتبر أنّ هذا السّلام ليس سوى "هدنة واقعية تفرضها الظروف". وهو يبعد شبح الصدام المسلّح بين عناصر "حز//ب الله" والدولة اللبنانية عبر الجيش، تحت عنوان سحب السلاح، "فالدولة أعقل من أن تصطدم بالمقاومة كما أنّ المقاومة تملك رشداً سياسياً يجعلها ترفض مغامرة الاصطدام بالدولة"، لكنّه يعتبر أنّ "إلحاح الإسرائيليين لحماية عملائهم في المنطقة الحدودية والإصرار على أنْ يدخلوا في صفوف الجيش وداخل التركيبة اللبنانية سوف يعقّد الحلّ". وهو لا يتصوَّر أنّ مسألة المفاوضات اللبنانية ـــ الإسرائيلية سهلة، حيث إِنّ "الجنوب والبقاع الغربي سوف لن يكونا جزءاً لبنانياً". "فقد تكون هناك انسحابات ولكنَّ المسألة هي أنّه قد لا يسمح للجيش اللبناني بأنْ يتواجد في المنطقة الحدودية بكثافة كبيرة، وقد لا يسمح لسلاح الجوّ اللبناني بأنْ يأخذ حريّته عندما يريد أن يطير فوق الجنوب أو حتّى للطائرات المدنية".
ويعتبر السيّد فضل الله أنّه لن يحدث تطبيع كبير بين سوريا و"إسرائيل" من خلال عملية توقيع الصلح وأنّ "لبنان سوف يكون أقلّ انفتاحاً من الدول الأخرى في هذا المجال".
وعن مصير العلاقات السورية ـــ الإيرانية يقول العلاّمة فضل الله: إنَّه في حال تمّ توقيع صلح بين سوريا وإسرائيل، فإنّ "إيران تقدّر لسوريا وضعها العربي والضغوط التي تفرض عليها، والتي تجعلها تتحرَّك في بعض الحالات بما قد لا تريده". وبطبيعة الحال، فإنَّ التفاهم العميق بين القيادة السورية والقيادة الإيرانية يمنع تحوّل هذا الاختلاف بالمواقع إلى صدام يتّخذون لون الصراع السياسي".
أمّا في ما يتعلّق بأميركا، "فإنَّنا نزعم أنّ أميركا الشرق ـــ أوسطية هي ليست أميركا بل هي "إسرائيل"، إذ إِنّ أميركا التي تنحني "لإسرائيل" بهذه الطريقة لا يمكن أن تكون أميركية في الشرق الأوسط".
ويعتبر السيّد فضل الله أنّ الولايات المتحدة "أخطأت في فهم الثورة الإسلامية في إيران"، وهذا ما يفسّر تخلّيها عن نظام الشاه، ظنّاً منها أنّ "ثورة مشايخ ورجال دين يمكن احتواؤها".
وإذ يؤكّد أنّ موقع إيران أصعب من أن تعزل، ويتكلّم عن المحور الروسي ــ الإيراني الحالي، خاصّة بعد أن "أصيبت روسيا بالخيبة من الوعود الأميركية والأوروبية في تحسين اقتصادها وفي إبقاء موقعها في مواقع القوّة"، يتكلَّم السيّد فضل الله عن "الواقع العالمي الجديد"، ومفاده حماية مصالح الغرب، رافضاً تسميته "بالنظام العالمي الجديد".
عندما يستقبلك العلاّمة السيّد محمد حسين فضل الله في بيته في الضاحية الجنوبية، وهو جالس في مقعده بهيبة ورصانة، يتفحّصك بعينين ثاقبتين لا تخلوان من الدهاء وهو يرحّب بك بأرقى كلمات الضيافة، وسرعان ما يكتشف زائره أنّ العلاّمة، سيّد الحديث كما هو سيّد المكان. وقد خوّلته تجربته الشخصية، من لبنان إلى العراق إلى إيران، وانفتاح أُفقه من لبنان حتّى الخليج مروراً بسوريا وإيران، أن يمارس سلطة إقليمية وليس فقط لبنانية، فيطلّ على العالَم الإسلامي اليوم كوجه إصلاحي مميَّز وكشخصية إسلامية نيّرة، قادرة أن تضفي "القماش النوعي" على حركة إسلامية باتت معالمها مشوّهة ومرعبة في كثيرٍ من الأحيان، في مختلف الأقطار العربية، بفعل العنف الجسدي والمعنوي الذي تلجأ إليه. وهو إذ يفنّد بلهجته الخاصّة وبقدرته الجدليّة الفائقة، الأفكار المسبقة المنتشرة حول "الأصولي"، يرفض هذه التسمية ويعتبرها "مصطلحاً غربياً لا ينطبق على خطّ الحركة الإسلامية في واقعها، ولاسيّما في لبنان"، لأنّ المصطلح هذا يتّسم بالعنف وإلغاء الآخر و"الإسلام لا يلغي الآخر".
وقد درجت العادة على أن يطلق على السيّد فضل الله لقب "المرشد الروحي لحزب الله"، إلاَّ أنّه يربط نفسه بالحركة الإسلامية الأشمل، نظراً لآفاقه الإقليمية.
وإذ تدخل معه في الحديث المستفيض الذي تنشره "السفير" على حلقتين، يلقي العلاّمة الضوء على زوايا ومنطق التيّار الإسلامي، مستقبله في المنطقة، وعلاقته مع الأنظمة القائمة في العالَم العربي ومع إسرائيل في عهد التسوية..
يعيد العلاّمة السيّد محمد حسين فضل الله جذور العنف الذي تتّسم به بعض الحركات الإسلامية إلى كون المنطقة عاشت عنفاً سياسياً وأمنياً وحتّى عنفاً ثقافياً، ممّا أدّى إلى صدام بين التيّارات الماركسية والقومية (العربية والسورية) وكذلك الإقليميّة، فكان العنف اللبناني والعنف الفلسطيني، وبالتالي فمن الطبيعي أن ينتقل العنف إلى بعض الحركات الإسلامية كظاهرة تنطلق من واقع يفرض عليها هذا المنحى.
ويعتبر السيّد فضل الله أنّه "قبل الحركة الإسلامية للإمام الخميني (قدّس سرّه)، كانت هناك حركات إسلامية (الأخوان المسلمون، حزب التحرير الإسلامي، حزب الدعوة في العراق...) ولدت في ظروف هادئة، بينما العنف كان أسلوب المرحلة التي انطلقت خلالها الثورة الإيرانية، "بحيث إِنَّ الظروف لم تكن توحي بالعقلانية"؛ فقد كان التحدّي ضدّ "الاستكبار العالمي"، و"كان الغرب لا يزال يخوض قضية الحفاظ على مواقعه في المنطقة" في مواجهة الاتحاد السوفياتي، وقد استخدم كلّ من الغرب والاتحاد السوفياتي كلّ إمكاناته للتصدّي للآخر "إذ كان الجوّ العالمي جوّ عنف. وعندما دخلت إسرائيل إلى المنطقة أضافت إلى العنف الغربي عنفاً، قابله الاتحاد السوفياتي بأن دخل في تحالفات مع أنظمة المنطقة التي أرادت أن تهرب من الغرب، لتستقوي بالاتحاد السوفياتي، أو حتّى لتحصل على استقلالها من خلال التوازن بين الاتحاد السوفياتي من جهة، والولايات المتحدة والغرب من جهة أخرى، فأصبح هناك عنف يقابل عنفاً".
وقد حاول الاتحاد السوفياتي تعبئة شعوب المنطقة ضدّ الغرب، "وذلك بالإيحاء لها أنّها تملك قوّة الاتحاد السوفياتي، حتّى يخيّل إليها أنّها تستطيع أن تنتصر على "إسرائيل" بالاتحاد السوفياتي، كما أنّ "إسرائيل" استطاعت أن تنتصر على العرب بالغرب".
وهكذا دخل بعض العرب، كما قال عبد الناصر، في لعبة التوازن بين الغرب والشرق. ولكن يبدو أنّ الغرب والشرق، حتّى ولو كانا مختلفين، فإنّهما يقفان عند حدود معيّنة عندما تكون المسألة تتعلَّق بالعالَم الثالث.
لقد فوجئ العرب بأنَّ الاتحاد السوفياتي كان عندما يتحرَّك ضدّ الغرب، إنَّما يتحرّك بدواعي مصالحه، بعيداً عن المصالح العربية، ولذلك فقد كان يقف عند حدود معيّنة، وكان غير مستعد لأنْ يصل إلى الخطوط الحمراء التي يمكن أنْ يؤدّي تجاوزها إلى زيادة فرص الحرب بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. "وهذا الذي لاحظناه في موقف الاتحاد السوفياتي من "إسرائيل"، ومن حرب قناة السويس وحرب 1967 وما إلى ذلك، حيث إِنّه وقف موقف الخائف من وصول الأمور إلى المستوى الذي يجعله يواجه الغرب وجهاً لوجه".
صدام الحضارات
ـــ هل تتّفق مع فكرة صدام الحضارات بين الغرب والإسلام، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، في الوقت الذي نرى فيه الحركات الأصولية في العالَم العربي تحارب الأنظمة العربية، وهي أنظمة إسلامية؟
أنا أعتقد بأنّ الغرب لا يستطيع أن يحتفظ بمصالحه، إلاّ إذا استطاع أن يستثير الرأي العام في داخله إلى درجة متقدّمة حادّة من التوتُّر، بحيث يملأ ذهنية هذا الرأي العام بالإحساس بخطر ما، لكي يملك حريّة الحركة في سياسته واقتصاده وأمنه كما لو كان يدافع عن شعبه.
وهذا ما لاحظناه عندما أثارت أميركا الرأي العام الأميركي والأوروبي ضدّ العراق، بينما نجد أنّ الكويت لا تمثّل أيّ موقع يبعث على الاهتمام لدى الشعوب الغربية؛ ولكنَّ المسألة أنّه استطاع أن يثير مسألة آبار النفط وسيطرة صدّام عليها وما إلى ذلك، بحيث أصبح كلّ الأميركيين أو كلّ الأوروبيين يفكِّرون بأنّهم سوف يفقدون لقمة عيشهم.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي لم يبقَ للغرب عدوّ، وهو بحاجة إلى عدوّ كي يتمكّن من تبرير سياسته ضدّ العالَم الثالث، وكي يتمكَّن من الاحتفاظ بمواقعه داخل ذلك العالَم؛ لأنَّ انهيار الاتحاد السوفياتي، أفقد الغرب مبرّر الوقوف ضدّ الشعوب التي تريد الحصول على العدالة في بلدانها وأصبح من الطبيعي أن يطرحوا على هذا العالَم عدوّاً جديداً، هو الإسلام.
ـــ هل أنّ مواقع الغرب داخل العالَم الثالث هي هذه الأنظمة العربية ـــ الإسلامية؟
عندما ندرس شخصيات هذه الأنظمة، فإنَّنا نرى أنّ غالبيتها مرتبطة بالمخابرات المركزية الأميركية. هناك رموز من الملوك والرؤساء وحتّى من الرسميين المهيّئين لأنْ يصبحوا رؤساء أو ما شابه ذلك، عاشوا في أجواء المخابرات المركزية الأميركية وتحرَّكوا سياسياً من خلال تربية الغرب ورعايته لهم وتحمّله مسؤولية وصولهم إلى هذا الواقع أو ذاك.
إنَّ المسألة التي تعيشها هذه الشعوب هي أنّ هناك أنظمة يسيطر عليها أشخاص يمثّلون الحرس الاحتياطي للسياسات الغربية والأميركية بالذّات، هذا ما نلاحظه في طريقة مواجهة أميركا للحركات الإسلامية، فهي تعمل على أن تضربها بيد إسلامية من خلال الأنظمة. وعلى خطٍّ آخر، وبرغم التوجّه السابق أخذت الولايات المتحدة تفكِّر بطريقة واقعية لاحتواء بعض الحركات الإسلامية إلى جانبها، باعتبار أنّه من الممكن جداً أن تسقط هذه الأنظمة تحت تأثير الضغط الشعبي. ولذلك، فإنّ الغرب وأميركا بالذّات تقوم باحتياطات مثل صنع حركات إسلامية أو الاستفادة من حاجة الحركات الإسلامية أمام الضغط القوي عليها، فتوحي لها بأنّها تدعمها، مثلما حدث بالنسبة للجزائر، حيث نلاحظ أنّ الصراع تحوّل أو كان في عمقه الأساسي وبخلفيات الواقع ـــ وإنْ كان الذين تحرَّكوا لا يشعرون بذلك ـــ صراعاً أميركياً ـــ فرنسياً، لأنَّ أميركا تعمل على إخراج النفوذ الفرنسي من الجزائر، وفرنسا تحاول تأكيد هذا النفوذ. ومن هنا، فإنَّ النظام أصبح يتغذّى من التشجيع الفرنسي، بينما "جبهة الإنقاذ" تنال عطفاً أميركياً وإنْ كان بدرجات متفاوتة، وهكذا بالنسبة إلى مصر.
في الاتّجاه العام نحن نعتبر أنّ الغرب صنع عدواً. وهو يحاول أن يضخّم هذه الحركة الإسلامية كما لو كانت تستطيع الآن ـــ وفي إمكاناتها الحالية ـــ إسقاط الحضارة الغربية. أنا لا أعتبر أنّ المرحلة وصلت إلى حرب حضارات بالمعنى الفكري الدقيق لهذه المسألة.
من الواضح أنّ هناك حضارة إسلامية تؤكّد نفسها وهي تعيش في حالة طوارئ، وهناك حضارة غربية تختلف عن الحضارة الإسلامية، حتّى أنّها تختلف عن الحضارة المسيحية، لأنّ الغرب ينطلق من جذور ماديّة في حضارته لا من جذور مسيحيّة.
على أنَّ القضية الواقعية التي يعيشها الغرب ضدّ الحركات الإسلامية لا تتّصل بالمعنى الحضاري للفكر الإسلامي أو المعنى الغربي، بل هي تتّصل بواقعها بالمعنى السياسي والمعنى الاقتصادي والأمني للمصالح الغربية. إنَّنا نجد أنّ الغرب ينسجم انسجاماً كاملاً مع المواقع العربية ـــ الإسلامية التقليدية بحيث يدافع عن تخلُّفها وعن كثير من أوضاعها، ويتحفَّظأمام كلّ تطوُّر يمكن أنْ يغيّرها بطريقة إسلامية فاعلة أو مؤثّرة.
لذلك لو كانت المسألة حضارات: حضارة الغرب وحضارة الإسلام، لما كان الغرب يحافظ على كلّ هذا الإسلام التقليدي الذي يعيشه المسلمون في البلدان العربية أو في العالَم الثالث. فنحن نرى أنّ أكثر المسلمين تقليدية في العالَم العربي، هم الذين يعيشون في نطاق دول الخليج وأمثالها، وهم حلفاء الغرب.
المسألة إذاً لا علاقة لها بحضارة غربية تخشى من حضارة إسلامية بالمعنى الحادّ للصراع الحالي، بل إنَّ المسألة تتعلَّق بصراع المصالح الغربية مع مصالح العالَم الثالث. إنَّها حرب مصالح. ولأنَّ العالَم الثالث، بما فيه العالَم الإسلامي، يعمل على امتلاك حريّته السياسية وإمكانات تطوير موارده الاقتصادية والحصول على استقلال اقتصادي، وهكذا أن يكون له أمنه الخاص، فإنَّ الغرب لا يوافق على ذلك.. إنّه يريد أن يبقى أمن العالَم الثالث على هامش أمنه، وسياسته على هامش سياسته، واقتصاده على هامش اقتصاده..
لذلك فإنَّ المسألة قد تغلَّف مِن قِبَل الغرب بغلاف الحصار على الحضارة الغربية، لكنّ الواقع ليس كذلك.
روسيا وإيران
ـــ هل يدخل موقف الولايات المتحدة من إيران ضمن هذا المنطق؟
نحن نجد أنّ الولايات المتحدة تحاول أن تثير الدنيا ضدّ إيران بحجّة خطرها النووي، في الوقت الذي لا تملك فيه إيران أيّة إمكانات اقتصادية وأيّة إمكانات علمية تستطيع من خلالها أن تحصل على السلاح النووي.
ـــ حتّى مع مساعدة روسيا؟
حتّى مع مساعدة روسيا، لأنَّ لروسيا ضوابط معيّنة في هذا الاتّجاه. فهي قد تشعر بالخطر من أنْ تتحوّل إيران، التي تملك أيديولوجية إسلامية مؤثّرة على المناطق الإسلامية التي كانت ملحقة بالاتحاد السوفياتي سابقاً، إلى دولة نووية غنيّة كبيرة واسعة، تطلّ على أكثر من دولة في المنطقة من خلال حدودها، بحيث سوف تتحوَّل إلى خطر على النفوذ الروسي.
لذلك نحن نقول إنَّ الاتحاد السوفياتي السابق يعيش ظروفاً اقتصادية صعبة، ولا يجد ما يقدّمه لدول العالم الثالث إلاّ الخبرة النووية وبعض الأجهزة العسكرية وما إلى ذلك، لأنَّ اقتصاد الاتحاد السوفياتي ليس اقتصاداً يغري بالاستيراد بالنسبة للدول الأخرى.
من هنا، فأن تملك إيران سلاحاً نووياً هذه مسألة غير ذات موضوع في المستقبل المنظور، لاسيّما عندما ندرس القضية دراسة واقعية؛ ولكنَّ أميركا تريد أن توهم العالَم بأنَّ إيران خطر. وفي مسألة ما يسمّى بدعم الإرهاب، يُعمل على تشويه صورة إيران علماً أنّها لا تدعم إلاّ "حز//ب الله" الذي يقاتل لتحرير الجنوب، و"حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وكلّها هذه ليست منظّمات إرهابية وإنّما منظّمات تحريرية لا إرهابية، لأنَّ "حز//ب الله" يحاول أن يحرِّر لبنان من الاحتلال، و"حماس" و"الجهاد" تحاولان تحرير فلسطين من الاحتلال نفسه. لذلك ليس هناك أيّة حجّة لاتّهام إيران بأنّها دولة إرهابية، وهي لا تملك أيّة مواقع أخرى في العالم بالمستوى الذي يجعلها قادرة على إرباك الأمن العالمي بواسطة منظّماتها أو مواقعها المتقدِّمة.
الموقف من أميركا
ـــ من ناحية الحدث، فإنَّ الثورة الإسلامية في إيران قامت على استعداء أميركا. الوعي الشيعي الإسلامي في لبنان قام ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، انطلاقاً من سنة 1982. ما طبيعة الربط، بنظركم بين أميركا وإسرائيل وعلاقتهما مع...
(مقاطعاً): إنَّني أعتقد أنّ الإنسان لا يستطيع أن يفصل بين "إسرائيل" وأميركا في مسألة الشرق الأوسط. إنَّنا نزعم أنّ أميركا الشرق ـــ أوسطية هي ليست أميركا بل هي "إسرائيل".
ـــ على الرغم من أنّ مصالحها تختلف عن المصالح الإسرائيليّة...
أعتقد أنّه في الواقع الحاضر الذي يطلّ على مستقبل قريب، لم تبتعد المصالح الأميركية عن المصالح الإسرائيلية، بل إنّها تتقارَب. أنا لا أقول بأنّ هناك مصالح موحّدة، ولكن هناك مصالح متقاربة على الأقلّ.
ومن هنا، فإنَّني أتصوَّر أنّ أميركا هي التي تضغط على البلدان العربية من أجل أن تقوِّي علاقاتها مع "إسرائيل"، لأنّ الهدف الأميركي إنَّما هو تأكيد الأمن الإسرائيلي بالمستوى الذي تتفوَّق فيه "إسرائيل" على العالَم العربي، حتّى لا تشعر بأيّ خوف ولو في المدى البعيد (...) وإذا عرفنا أنّ الإدارة الأميركية تخضع للّوبي اليهودي الذي يعتبر أنّ مهمّته هي إبقاء "إسرائيل" كقوّة كبرى في الشرق الأوسط، فإنَّ معنى ذلك أنَّ الإدارات الأميركية سوف تبقى خاضعة للتأثير الإسرائيلي في سياستها الشرق أوسطية أو سياستها العربية.
وهذا ما لاحظناه في الخطوات الأخيرة التي قامت بها أميركا لإبعاد الضغط الدولي عن "إسرائيل" بسبب امتناعها عن التوقيع على معاهدة حظر السلاح النووي، أو من خلال الفيتو الأميركي الذي قُدِّم في مجلس الأمن ضدّ قرار يتعلَّق بمصادرة "إسرائيل" لقسم من الأراضي الفلسطيني في القدس.
لذلك فإنَّ وقوف الرئيس الأميركي في مؤتمر "إيباك" (AIPAC) في أميركا، وهو يرتدي القلنسوة اليهودية ويقول: "إنَّني أتشرَّف بأن أكون أوّل رئيس أميركي يحضر بينكم" ويقول متوجِّهاً إلى رئيس "إيباك" (AIPAC): إنَّكم تملكون التجربة الضخمة، ولذلك أنظر من مؤسّستكم أن توجّهني وأن تدلّني على أخطائي في هذا المقام". إنّ أميركا التي تنحني لإسرائيل بهذه الطريقة لا يمكن أن تكون أميركية في الشرق الأوسط؛ لذلك نحن نعتبر أنّ الحديث عن "إسرائيل" هو حديث عن أميركا.
ـــ ماذا عن مصالح أميركا النفطية في الخليج؟
إنّي أتصوَّر أنّ "إسرائيل" تملك بعض المرونة في سياستها التي تستطيع من خلالها أن تطمئن أميركا على مصالحها، لاسيّما وأنّ أميركا لا تمانع في أن تكون لإسرائيل مشاركة في مسألة النفط بطريقة أو بأخرى، خصوصاً إذا عرفنا أنّ الكثير من الشركات الاحتكارية النفطية الأميركية يملكها يهود.
ـــ هل هذا ما يبرّر إذاً نوعاً من العدوانية الإيرانية تجاه أميركا مساواة بـــ "إسرائيل"؟
إنَّني أعتقد، من دراستي للموقف الإسلامي في إيران، أنّه موقف انطلق من عدوانية أميركا. ولذلك كان شرط الإمام الخميني (قدّس سرّه) في إعادة العلاقات مع أميركا هو أنْ تكفّ الأخيرة عن سياستها العدوانية تجاه إيران وتجاه المسلمين. ولذلك كان أوّل شرط هو أن تفرج أميركا عن الأرصدة الإيرانية التي تحتجزها والتي تبلغ أكثر من عشرة مليارات دولار. وهكذا فالعداء الإيراني لأميركاهو ردّ فعل للعداء الأميركي ضدّ المصالح الإسلامية الموجودة في إيران وفي المنطقة.
ـــ ولكنّ هناك انتقادات وجّهت للولايات المتحدة بأنّها تخلَّت عن نظام الشاه وأنّ الغرب شجَّع قيام الثورة الإسلامية...
من الممكن أنّ أميركا التي هالتها محاولة الشاه العمل لحسابه في المنطقة عندما فكَّر بالسوق الآسيوية أو ما إلى ذلك، فكّرت بأنَّ ثورة مشايخ رجال دين يمكن احتواؤها بشكلٍ أو بآخر، ممّا يفسح المجال لنظام يمكن أن يرعى المصالح الأميركية بشكلٍ أفضل، خصوصاً إذا كان الغطاء دينياً على الطريقة السعودية.
كانت أميركا تفكِّر بأنَّ النظام الإسلامي الذي سوف يقوم في إيران هو مماثل لنظام الباكستان والسعودية، ولكنَّ أميركا أخطأت في فهم الثورة الإسلامية في إيران.
ـــ لكنّها بقيت الشريك التجاري الأوّل حتّى منذ بضعة أشهر، عندما قطعت..
(مقاطعاً): إنَّ هناك فرقاً في واقع الدول بين علاقات تجارية وعلاقات سياسية. لقد كنّا نجد أنّ هناك نوعاً من العلاقات التجارية بين أميركا والاتحاد السوفياتي أو أيّ بلدٍ آخر كالصين، لكنَّ المسألة السياسية تختلف. إنَّ العلاقات التجارية الاقتصادية شيء، والعلاقات السياسية الدبلوماسية التي تُبنى على إيجاد قاعدة سياسية للعلاقات شيءٌ آخر.
الحركات الإسلامية المدعومة
من المملكة السعودية
ـــ ما الفرق بين الحركات الإسلامية في مختلف أنحاء العالَم العربي، بما فيه لبنان، وخاصّة تلك التي موّلتها وشجّعتها المملكة العربية السعودية في العالَم العربي، لاسيّما في مصر وفي المغرب العربي؟ هل من تباين أو تقارب بينها؟
في تصوُّري أنّ هناك اختلافاً في هذه المسألة، حيث إِنّ الحركات التي تتّصل مالياً أو سياسياً بالمملكة العربية السعودية لا يمكن أن تعيش حالة الحركة الثورية المنفتحة على قضايا الحريّة والعدالة في مواجهة الاستكبار العالمي الذي تمثّله أميركا أوّلاً والغرب ثانياً.
ـــ لكنّ الشعارات والأهداف ذاتها...
إنّ السعودية عملت على أن تدجّن هذه الحركات الإسلامية بأن تساعدها أوّلاً، ولتعيش على الحاجة لمساعدتها ثانياً، ولتفرض عليها شروطها ثالثاً، ولتوجّهها حيث تريد رابعاً، وبذلك تسقط الحركة الإسلامية في دائرة حاجاتها للمملكة أو غيرها. لذلك نجد أنّ الحركات الإسلامية الفاعلة هي التي تحرَّرت من هذه الوصاية السعودية أو غير السعودية.
ـــ أيّ حركة مثلاً؟
إنَّني أتصوَّر أنّ حركة "حماس" التي شجّعتها السعودية استطاعت أن تنفلت الآن، في كثيرٍ من خططها ومواقعها من هذا الطوق الذي كانت تعيشه. وهكذا نجد أنّ حركة "الجهاد" ليست مرتبطة في أمرها وما إلى ذلك.. حتّى أنَّنا نجد أنَّ هناك حركات إسلامية أخرى لا تتحدّث عن السعودية بشكلٍ إيجابي. فنلاحظ أنّ حكمتيار في أفغانستان يقف موقفاً غير حميم على الأقلّ من السياسة السعودية. وكذلك "جبهة الإنقاذ الإسلامية" في الجزائر التي لا تتعاطف مع السياسة السعودية.
التجربة الجزائرية
ـــ كيف تقيِّم التجربة الجزائرية الدامية؟
إنّي أتصوَّر أنّ النظام الجزائري هو الذي قاد الجزائر إلى الوقوع في هذه الحرب الجنونيّة. ولا شكّ في أنّه تمّ تشويه صورة الإسلام. ولكنَّنا نسمع من القادمين من الجزائر أنّ الشعب الجزائري يتّهم الحكومة بالكثير من الأمور التي يُتّهم بها الإسلاميون (...).
على أيّ حال، فإنّ التجارب قد تفشل في بعض نقاطها. إنَّني لا أعتقد بأنّ الجزائريّين انطلقوا من موقع الرغبة في العنف.
ـــ ولكنَّ الحركة الإسلامية هناك اتّسمت بالعنف...
نحن ذكرنا أكثر من مرّة أنّ الحركات الإسلامية تختلف بدرجة وعيها وتمثّلها للإسلام. ولكنَّني أتصوَّر أنّ الحركة الإسلامية في الجزائر بعد أنْ قطعت أشواطاً في عملية الصراع استطاعت الآن أن تنفتح على الآخر، واستطاعت من خلال مؤتمر روما أن تتقبَّل وأن تتعايش مع الآخر وأن تنطلق في حوارٍ معه. أنا أعتبر أنّ الجبهة الإسلامية تمثّل عمق الحركة الإسلامية في الجزائر.
ثمّ إنّ مسألة الجزائر تقترب من المسألة اللبنانية.
ـــ ليس في عنفها ولا في طرح الثورة الإسلامية...
أنا لا أقصد أنّها تقترب في مفرداتها، بل في واقعها؛ حيث إِنَّ الجزائر أصبحت تعيش جنوناً أمنياً يشترك فيه الجميع، لأنَّ الواقع حاصر الجميع. وهكذا كنّا في لبنان من حيث الخطوط العامّة، فقد كانت بعض الأوضاع التي عشناها تحاصر الفئات المتسارعة، فيشعر المسيحيون مثلاً بأنّهم إذا لم يبادروا للعدوان على الآخر فإنّهم لا يملكون حماية أنفسهم وهكذا بالنسبة للمسلمين.
إنّ المسألة في الجزائر هي أنّ كلاًّ من النظام والحركة الإسلامية يعيش في مأزق. والصراع الأميركي ـــ الفرنسي هو الذي يجعلهما مستمرين في هذا المأزق.
ـــ هل تتصوَّر حلاًّ قريباً؟
لا أتصوَّر أنّ هناك حلاًّ قريباً، إلاّ من خلال متغيّرات على مستوى دولي.
ـــ أي أنّ القرار ليس في يدهم..
على الأقل لا يسمح لهم بأن يكون في يدهم إذا أرادوا.
حوار شامل مع سماحة آية الله العظمى
السيّد محمد حسين فضل الله
عن المفاوضات والمقاومة والمشاركة
في الحكم: (2)
لا أتوقَّع انفتاحاً سورياً ولبنانياً كبيراً
على "إسرائيل" بعد الصلح
في الجزء الثاني من الحوار الشامل الذي أجرته "السفير" مع العلاّمة السيّد محمد حسين فضل الله حول موقع الحركة الإسلامية ومستقبلها وموقف الغرب منها، يتحدّث السيّد فضل الله عن المفاوضات مع إسرائيل، والمقاومة في جنوب لبنان، ومسألة المشاركة في الحكم. ويعدّد السيّد فضل الله العراقيل الكثيرة التي تعقّد مسألة الانسحاب الإسرائيلي من الجولان، بما فيها الأجواء الانتخابية داخل إسرائيل، وقضيّة الاستثناء في مسألة الانسحاب من الجولان، وإبطال قرار ضمّ الجولان، الذي يحتاج إلى ثلثي الأصوات في الكنيست الإسرائيلي ورفض العسكريين الإسرائيليين للانسحاب الكلّي والفصل بين الحدود الدولية وحدود 4 حزيران 1967 التي تطالب سوريا إسرائيل بالانسحاب إليها، ومسألة المياه وهي حيويّة بالنسبة "لإسرائيل".
ثمّ أساساً، قدرة أميركا في الضغط على "إسرائيل"، "لاسيّما وأنّها خاضعة في سياستها الشرق أوسطية للوبي اليهودي"، على حدّ قول السيّد فضل الله.
تخطّي العراقيل
ـــ لو افترضنا أنّ الفرقاء استطاعوا أن يتخطّوا هذه العراقيل، نحن إذاً في اتّجاه سلام أو صلح بين سوريا و"إسرائيل". وفقاً للشروط الموضوعيّة، أي الانسحاب التام من الجولان وبالتالي من جنوب لبنان. كيف ترى مستقبل العلاقة بين سوريا ولبنان من جهة، وإسرائيل من جهةٍ أخرى؟
من الطبيعي أنّ سوريا هي الدولة العربية التي لا تدخل في الصلح انفتاحاً على معطيات الصلح، لأنّ سوريا في العمق، في شخصية الرئيس الأسد التاريخية، هي سوريا الرافضة للصلح مع "إسرائيل". ولكنَّ الظروف الصعبة التي وصلت إليها المنطقة فرضت على سوريا أن تقبل بذلك، حتّى لا تتحرَّك الضغوط ضدّها من خلال اتّهامها بأنّها دولة ضدّ السلام وبالتالي فهي دولة إرهابية وما إلى ذلك من الكلمات الموجودة في القاموس الأميركي.
لذلك فإنّي أعتقد بأنّ سوريا لن تنفتح انفتاحاً كبيراً على "إسرائيل" وإنْ تمّ الصلح. وهذا ما يجعل "إسرائيل" تلحّ إلحاحاً كبيراً على تقديم التطبيع على الانسحاب، لأنّها لا تشعر بأنّ سوريا جادّة في التطبيع بالطريقة الإسرائيلية التي تحاول أن تجعل سوريا على صورة الفلسطينيين أو على صورة الأردنيين، لاسيّما وأنّ الرئيس صرَّح في بعض الكلمات بأنّ مسألة التطبيع هي مسألة متروكة للشعب السوري، وأنّه لا يستطيع أن يتحدَّث بالنيابة عن الشعب السوري من دون الرجوع إليه.
فلذلك لا أتصوَّر بأنّ هناك تطبيعاً كبيراً سيحدث من خلال عملية توقيع الصلح.
وهكذا نتصوَّر أنّ ظروف المنطقة، إذا بقيت على حالها ولم تحدث متغيّرات كبيرة تسقط الهيكل على رؤوس الجميع، فإنَّ لبنان سوف يكون أقل انفتاحاً من الدول الأخرى في هذا المجال، وربّما كانت التعقيدات الموجودة في لبنان تفرض أن يكون التوازن اللبناني في الداخل منطلقاً من عدم اللّهاث وراء العصر الإسرائيلي بالشكل الذي يتصوّره البعض.
المفاوضات اللبنانية ـــ الإسرائيلية
ـــ هل تتوقَّع أن تنطلق المفاوضات اللبنانية ـــ الإسرائيلية قريباً وتصل إلى حلّ بين البلدين؟
من الطبيعي أنّ الحل بين لبنان و"إسرائيل" لا يمكن أن يقارن، ولا يمكن أن يتقدَّم على الحلّ بين "إسرائيل" وسوريا.
ـــ طبعاً، إنّما وزير الخارجية اللبنانية صرَّح بأنّه من الممكن أن تنطلق عملية المفاوضات بين "إسرائيل" ولبنان خلال شهرين، انطلاقاً من التقدُّم الحاصل على المسار السوري ـــ الإسرائيلي؛ فكيف تتصوَّر هذه الانطلاقة في المفاوضات وما شروط الحلّ بنظرك؟
نحن لسنا في موقع التنظير للحلّ لأنَّنا نرفضه من الناحية المبدئية. ولكنّي أتصوَّر أنّ المفاوضات بين لبنان و"إسرائيل" لن تكون بالأمر اليسير، وذلك نظراً لحجم الملفّات التي يمكن أن تشملها، والمتّصلة بقضايا معقّدة مثل المياه والأمن والجغرافيا. كما أنّ إلحاح الإسرائيليين على حماية عملائهم في المنطقة الحدوديّة، والإصرار على إدخالهم في بنية الجيش اللبناني وتركيبته سوف يضيف تعقيداً آخر.
من هنا، فإنَّ قضية بمثل هذا التعقيد لا يمكن للإنسان أن يتحدَّث عن مستقبلها ببساطة.
ـــ بالعكس، يعتبر الأميركيون وكذلك الإسرائيليون أنّ المسار اللبناني ـــ الإسرائيلي أقلّ تعقيداً من كلّ المسارات، لأنَّ الموضوع هو موضوع احتلال، وأنّ الإسرائيليين مستعدون للانسحاب من جنوب لبنان، وهم لا يطمعون لا بأرضه ولا بمياهه حسب أقوالهم، وأنَّ المسألة كلّها لديهم هي قضية أمن حدود...
إنَّ تجربة اتّفاق 17 أيار، الذي كان مجرّد اتّفاق أمني وليس صلحاً، تدلّ على أنّ الجنوب والبقاع الغربي سوف لن يكونا جزءاً لبنانياً حرّاً.
قد تكون هناك انسحابات، ولكنّ المسألة هي أنّه قد لا يسمح للجيش اللبناني بأنْ يتواجد في المنطقة الحدودية بكثافة كبيرة، وقد لا يسمح لسلاح الجوّ اللبناني بأن يأخذ حريّته عندما يريد أن يتحرَّك في سماء الجنوب.
من الصعب جداً أن تترك "إسرائيل" مسألة المياه، ولو أنّها يمكن أن تلتفّ عليها من خلال المفاوضات المتعدّدة الأطراف، والتي تنطلق على أساس أنَّ مياه المنطقة كلّها شراكة بين كلّ الدول الموجودة فيها. فـــ "إسرائيل" إذا كانت لا ترغب في مياه لبنان من الناحية الإقليمية أو من ناحية المفاوضات، إلاّ أنّها ترغب في مياه لبنان كحصّة لها في مياه المنطقة، باعتبارها إحدى الدول المحتاجة فيها إلى الماء. إنّ "إسرائيل" تصرّفت إلى الآن في المياه اللبنانية فقد بَنَت الكثير من مشاريعها على تلك المياه، فكيف يمكن أنْ تستغني عنها بالطريقة التي تعطّل كثيراً من مشاريعها المعتمدة على هذه المياه، إنَّ المياه اللبنانية الآن تتحرَّك في عروق الاقتصاد الإسرائيلي في المنطقة الحدودية.
ـــ إحدى النقاط الأساسية التي تثار على المسار السوري ـــ الإسرائيلي واللبناني ـــ الإسرائيلي هي قضية المقاومة في الجنوب، أو ما يعتبره الأميركيون والإسرائيليون إرهاباً. فكيف ترى مستقبل هذه المقاومة في ظلّ عودة المفاوضات اللبنانية ـــ الإسرائيلية؟
إنَّ المقاومة أعلنت أنّها سوف تستمر حتّى يتحرَّر لبنان. ولذلك فإنّها تتابع حركتها من خلال استراتيجيّتها في التحرير داخل الظروف الموضوعية التي تسمح لها، واقعياً، بالاستمرار.
ـــ إذاً مبدئياً، في حال حصل انسحاب إسرائيلي من جنوب لبنان، هل تعتبر المقاومة أنّها حقَّقت أهدافها؟
من الطبيعي، أنّ المقاومة طرحت مسألة تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، وزوال الاحتلال يعني تحقيق هذا الهدف. ولكن تبقى للمقاومة، كما يبقى لكلّ الذين يفكِّرون بفلسطين عربية إسلامية، الأُفق المستقبلي الذي يركّز على استراتيجية تحرير فلسطين من "إسرائيل". وهذا أمر لا يمكن أن يقوم به فريق واحد بمفرده.
ـــ البعض يعبِّر عن القلق من أن يحصل صدام داخلي بين الدولة اللبنانية والمقاومة عندما يطرح موضوع الانسحاب الإسرائيلي لاسيّما في ما يتعلَّق بسحب السلاح من "حز//ب الله"..
أنا لا أجد أنّ هناك وفي ظلّ أيّة ظروف مستقبليّة، حتى في داخل المفاوضات اللبنانية ـــ الإسرائيلية، صراعاً مسلحاً أو صداماً بين الدولة والمقاومة، لأنَّ الدولة، وخصوصاً في ظروفها الإقليمية أعقل من أن تصطدم بالمقاومة كما أنَّ المقاومة تملك رشداً سياسياً يجعلها ترفض، مغامرة الاصطدام بالدولة.
ـــ يعني أنّه في حال انتشار الجيش في الجنوب ولملمة السلاح...
(مقاطعاً) إنّ المقاومة منفتحة وبحوارٍ دائم مع الدولة، ولذلك إذا كان هناك حوار حقيقي وموضوعي، لاسيّما من خلال بعض الظروف الإقليمية التي لا تريد للمقاومة أن تسقط مجاناً أو بسهولة، فإنَّني أعتقد بأنّ واقع التوازن الذي نعيشه الآن في علاقة الدولة بالمقاومة سوف يبقى إلى وقتٍ طويل وسوف يمنع الكثير من المغامرات العسكرية.
الانعكاسات على سوريا وإيران
ـــ على الصعيد الإقليمي، وفي حال الصلح مع "إسرائيل"، كيف ستكون مواقع كلّ من سوريا وإيران والعلاقة بينهما؟
إنّي أتصوَّر أنّ هناك عمقاً استراتيجياً، نظراً إلى الواقع السياسي في المنطقة بين سوريا وإيران يمنعهما من أن تصطدما إذا اختلفتا في طبيعة الأوضاع التي قد تشعر كلّ واحدة منهما بأنّ لها خصوصيّتها في دائرتها الخاصّة. فسوريا تقدّر لإيران موقعها الجغرافي، سواء كدولة إسلامية أو كدولة محاطة بـــ 16 دولة متنوّعة، ممّا يفرض عليها أن تخوض علاقات سياسية معيّنة أو وضعاً اقتصادياً معيّناً، كما أنّ إيران تقدّر لسوريا وضعها العربي والضغوط التي تفرض عليها، والتي تجعلها تتحرَّك في بعض الحالات بما قد لا تريده لولا الظروف المحيطة بها.
لذلك فإنَّ هذا النوع من أنواع التفاهم العميق بين القيادة السورية والقيادة الإيرانية يمنع تحوّل هذا الاختلاف بالمواقع إلى صدام يتّخذ لون الصراع السياسي.
ـــ ألاَ تخشى من عزلة إيران، على الأقل سياسياً، بعد عقد الصلح بين سوريا وإسرائيل؟
من الصعب جداً أن تكون إيران معزولة، لأنّ موقعها الجغرافي ودورها الإسلامي يمنعان أيّة فئة في العالَم من أن تعزلها.
من الممكن جداً أن لا تتوافق معها أيّة دولة في رفض هذا الصلح مع "إسرائيل"، ولكنّها منفتحة في السياسات الأخرى مع الدول في قضايا تفصيليّة.
لو كانت المسألة مسألة "إسرائيل" كقطب في الوجود السياسي فقط، لكان من الممكن أن تكون إيران معزولة سياسياً، لأنّها لم توافق على الصلح معها؛ ولكنَّ هناك أكثر من قضية تحتاج الدول الأخرى في تعقيداتها إلى موقعها.
نلاحظ مثلاً أنّ روسيا التي أصيبت بالخيبة من الوعود الأميركية والأوروبية في تحسين اقتصادها وفي إبقاء موقعها بين مواقع القوّة، أصبحت تحتاج إلى أن تتمدَّد سياسياً وأن تؤكّد موقعها الدولي في منطقتها. ولذلك نجد أنّها بدأت تمدّ جسوراً مع إيران التي تقع على حدودها وعلى حدود الدول المتحالفة معها.
لذلك أتصوَّر أنّ إيران تملك كثيراً من الفرص التي تستطيع من خلالها أن تساهم في عزلة الدول التي تعزلها بدل أن تكون هي معزولة.
نحن عندما ندرس الآن الحصار الأميركي التجاري على إيران، وندرس حركة أميركا مع أوروبا ومع اليابان ومع الكثير من دول المنطقة الهادفة لعزل إيران، فإنَّنا نجد أنّ هذا الموضوع عزل أميركا بدل أن يعزل إيران، لأنّ الدول الأوروبية أخذت تحاول الدخول في حوار مع إيران حول سدّ هذا النقص الذي حصل بفعل ابتعاد الشركات الأميركية عن شراء النفط الإيراني. وقد رفضت اليابان صراحة أن تلتزم بهذا الحصار، كما رفضت أكثر من دولة.. حتّى أنّ دولة مثل الأردن ـــ التي هي أميركية جملةً وتفصيلاً ـــ قامت أخيراً باتّفاقات اقتصادية مع إيران.. من الصعب أن تعزل دولة بمستوى إيران، لاسيّما أنّنا نجد أنّ قادة إيران يملكون رشداً سياسياً، بحيث يعرفون كيف يسيرون بين الألغام. فهم لا يتنكَّرون لعناوينهم السياسية الكبرى، ولكنّهم عندما يتحرّكون على الأرض، فإنّهم يتحرّكون بطريقة حذرة، يمكنهم من خلالها أن يستفيدوا من مواقعهم ومن التناقضات الموجودة في مصالح الدول، لاسيّما المصالح الاقتصادية.
ـــ كيف تقيِّم بعض علامات التقارب بين إيران والعراق، ثمّة دول يقلقها تقارب كهذا، لاسيّما الإدارة الأميركية؟
من الطبيعي جداً أنّ إيران والعراق يواجهان ضغطاً أميركياً كبيراً تحت شعار سياسة "الاحتواء المزدوج"، كما أنّ إيران تواجه مشكلة مِن قِبَل العراق، باعتبار أنّه يقع على حدودها، بعد الحرب الطويلة التي دمّرت البلدين، ومع إمكانية أن تستغلّ أميركا العراق مرّة ثانية للإضرار بإيران، ولأنَّ هناك مصالح حقيقيّة مشتركة بين الشعبين الإيراني والعراقي، فقد تحاول إيران أن تدفع الضرر من خلال المفاوضات مع العراق، وتجعل العلاقات طبيعيّة ولا أعتقد بأنّ هناك أيّة فرصة لأن تكون هذه العلاقات مميّزة، ولا أتصوَّر أنّ هناك فرصة لأيّة علاقة استراتيجية، لأنّي لا أعتقد أنّ إيران يمكن أن تشهد للقائد العراقي وللقيادة العراقية ولو بنسبة واحد في المئة.
عقلانية الحركة الإسلامية في لبنان
ـــ بِمَ تتميَّز الحركة الإسلامية في لبنان عن سواها في العالَم العربي؟
إنّ الحركة الإسلامية في لبنان تتميَّز بأنّها حركة عقلانية واقعية، تطرح شعاراتها بشكلٍ مبدئي ولكنّها تفكِّر بطريقة سياسية، تدرس المتغيّرات في المنطقة، وتدرس واقع الأرض التي تتحرَّك عليها، وتحاول أن تصوغ أسلوبها السياسي، وتحرّك وسائلها السياسية بما يتناسب مع الظروف المحيطة بالمنطقة من جهة، والأرضية اللبنانية من جهةٍ أخرى... ولذا استطاعت على مدى سنوات قليلة أن تحصل على مواقع متقدّمة في المجلس النيابي من جهة، وأن تحصل على علاقات طيّبة حتّى مع حزب الكتائب من جهةٍ ثانية، ممّا يعني أنّها لا تفكّر بطريقة انفعالية، حماسية، عدوانية..، بل تفكِّر بطريقة عقلانية واقعية تواجه المسائل بما تقتضيه طبيعة المتغيّرات التي تحصل هنا وهناك، وهي في الوقت نفسه تقف بوجه "إسرائيل" لتقاتل بطريقة لا تبتعد عن الواقع، فهي تقاتل تحت عنوان تحرير البلد، وأعتقد بأنّ أيّة حركة ـــ وطنية كانت أو قومية ـــ عندما تواجه مشاكل الاحتلال، فإنَّها ستتصرَّف كما تتصرَّف الحركة الإسلامية.
ـــ عناوين الحركة براغماتيّة؛ عسكرياً، تتحرَّك على أساس المقاومة، وسياسياً، على أساس المشاركة في الحكم، فهل تسقط مبرّرات هذه الحركة عندما تنسحب "إسرائيل" من الجنوب وعندما تتحقَّق المشاركة في الحكم؟
إنَّ مسألة سقوط مبرّرات الحرب في الجنوب عندما يتحرَّر الجنوب هي أمر طبيعيّ بعد الانسحاب الإسرائيلي، ولكنَّ الحركة الإسلامية، كأيّة حركة أُمميّة، كأيّة حركة عالمية إنسانية، تختار أساليبها في المدى الأبعد من لبنان من خلال الظروف والمتغيّرات التي تسمح لها بحريّة الحركة وبتنوُّع الأساليب، كما أنّه ليس من الضروري أن تكون حركتها مسلّحة، فقد تكون حركتها سياسية أو ثقافية أو ما إلى ذلك.
ـــ وما هدفها؟ هل هو الجمهورية الإسلامية؟
إنَّ مسألة الجمهورية الإسلامية في لبنان ليس هدفاً واقعياً للحركة الإسلامية، ولكنّه هدف سياسي ـــ ثقافي بمعنى أنّه يقدّم الإسلام كدين يختزن في داخله بعداً مدنياً يتّصل بالإنسان بشكلٍ عام، وينفتح على الواقع السياسي والأمني والاجتماعي والاقتصادي، إلخ.. إنّ المدى الذي تتحرَّك فيه الحركة الإسلامية في المستقبل ـــ بعد أنْ تنتهي مسألة مواجهة إسرائيل في لبنان ـــ أمر تفرضه طبيعة الظروف الموضوعية التي تتحرَّك في المنطقة وفي العالَم.
ـــ أنتَ قلت منذ فترة إنّه يبقى هدفنا أسلمة العالَم، فما معنى ذلك؟
إنَّ مقصدي بأنّنا نريد أسلمة العالَم وليس إلغاء الآخر. ولكنَّني صاحب فكر يريد أن يقنع الآخرين بفكره، كما أنّ أصحاب الفكر الآخر، بما فيه الفكر الديني المسيحي، يطمحون إلى إقناع العالَم كلّه بفكرهم، وإلاّ فما معنى التبشير؟
ـــ انطلاقاً من التحوّلات داخل إيران، ومن خطاب المرشد الروحي خامنئي الأخير الذي توقّف عن الدعوة إلى تصدير الثورة. هل نستطيع أن نقول إنّ الحركة الإسلامية تطرح كحلّ، بناء على البراغماتية، الأخذ بواقع كلّ بلد؟
أنا لا أفهم مسألة تصدير الثورة منذ البداية. أن يصدّر الإنسان الثورة في بلد...
ـــ ولكن كانت مطروحة...
إنّ هذه الكلمة هي مصطلح غربي ولم تكن مصطلح الإسلام. إنّ الإسلام هو دين عالمي يطرح مفاهيمه على كلّ العالم. كما أنّ النصرانية، من جانبٍ ديني، تطرح مفاهيمها على كلّ العالَم.
ـــ أنتَ تتكلَّم عن الدّين، ولكنّ الثورة..
(مقاطعاً) نحن نقول إنّ الثورة في قلب الدّين. هناك فرق بين أن نصدّر الثورة وبين أنْ نستفيد من عناصر الثورة الموجودة في هذا البلد أو ذاك لندعمها.
إنّ إيران حاولت أن تدعم الشعور بالثورة الموجود لدى العالَم المستضعَف، لتحرّكه ولتستفيد من ذلك. ولا تزال تفعل ذلك، ولكنّ حركتها أصبحت أقلّ حريّة من السابق. لذلك فإنّ مسألة تصدير الثورة هو مصطلح غير دقيق، وغير واقعي. إنَّنا لا نستطيع أن نصدّر الثورة إلى بلد ليست فيه أيّة بذور ثورية. ولكن إذا كانت هناك عناصر للثورة في أيّ بلد، فإنّها قد لا تحتاج إلاّ إلى بعض اللّمسات أو بعض التشجيع المعنوي في هذا المجال.
المشاركة في الحكم والنظام
ـــ المشاركة في الحكم والدخول في النّظام، بعد أنْ كان هذا النظام عرضة للانتقاد من قبلكم، ما أبعادها؟
من الطبيعي أن يكون موقفنا سلبياً إزاء هذا النظام من ناحية المبدأ.. ولكن هذا شيء والمشاركة في النظام شيءٌ آخر، إذ نرى فيه فرصة عملية من فرص تأكيد الموقع، وتحريك الموقف، وإيجاد ساحة يمكن من خلالها تحقيق بعض الأهداف المرحلية أو بعض المطالب الحيوية كتحرير البلد من الاحتلال الإسرائيلي لأنّنا لا نؤمن بأنْ يقف الإنسان بين خيارين: إمّا أن يحصل على كلّ شيء أو لا شيء...
ولذلك، فإنَّ قضية المشاركة في النظام، إنْ في الساحة النيابية أو في الساحة الحكومية أو في المواقع الإدارية...، هي مسألة متحرّكة تتبع مدى المصلحة العامّة التي يحقّقها دخول إسلاميين ومشاركتهم هنا وهناك.
ـــ في نظرك، ما مستقبل الفكر الإسلامي والحركة الإسلامية عندما تتوفّر لها شروط المشاركة على الصعيد السياسي وشروط الرخاء والاندماج على الصعيد الاقتصادي؟
إنَّ الشرق الأوسط الذي يقف على سطح بحر من البترول الذي يحتاجه الغرب في القرن 21 أكثر من حاجته إليه في هذا القرن، سوف يبقى في دائرة لعبة الأُمم.ومن هنا، فإنَّ المصالح الغربية التي ربّما تدخل عليها في المستقبل مصالح أخرى صينيّة، أو يابانيّة، أو صينيّة ويابانية معاً، تبعاً لتطوّر الصراع الاقتصادي، قد تشتدّ في داخلها التناقضات، لاسيّما مع إمكانية بروز صراع أوروبي ـــ أميركي على السطح، لأنَّ هذا الصراع لا يزال جنينيّاً في العمق. إنّ كلّ هذا التصوّر للمتغيّرات المستقبليّة يجعل هذا الشرق في حالة اهتزازٍ دائم، يستفيد من الاهتزازات الداخلية الموجودة في عمق تكونيه، ومن الخلافات المذهبية والطائفية والقومية وما إلى ذلك...، الأمر الذي لا يجعل العمران لو تحقَّق، أو لا يجعل بعض القفزات السياسية لو تحقَّقت، في موقع المرحلة، ممّا يجعل حركة الاتجاه الإسلامي، على المستوى التقليدي وعلى المستوى الحركي، أمراً مطلوباً في المستقبل الطويل.
السلام مع إسرائيل
ـــ قلتَ سابقاً إنَّ القضية الفلسطينية كانت عمق الثورة الإسلامية. مع "السلام" الذي وُقِّع مِنْ قِبَل الفلسطينيين مع "إسرائيل"، هل سقطت حجّة الثورة أو فكرة الثورة، أم أنّها تفاقمت؟
إنّي أتصوّر أنّها تفاقمت، لسببٍ بسيطٍ جداً، وهو أنّ المشكلة التي كانت تطفو على السطح هي مشكلة الرفض الرسمي "لإسرائيل"، والذي كان قد بدأ يتآكل من الداخل إلى أن أصبح مجرّد رفض يجتلب في داخله التأييد.
ومن الطبيعي أنّ المتغيّرات التي حدثت في المنطقة، والأعباء التي أرهقت كاهل كثيرٍ من الأنظمة فيها والكثير من الصراعات السياسية التي حدثت بينها..، عجلت في خضوع الأنظمة للصلح العربي ـــ الإسرائيلي في ظروف غير ملائمة، لأنّها ظروف عاشها العرب في انعدام الوزن بعد معركة الخليج التي قدّمت العربي للعالَم بأنّه الثقة المهزومة حتّى في الساحة التي كان فيها منتصراً أو مهزوماً بالمعنى الشكلي.
وهكذا تمّت بعض تجارب الصلح العربي ـــ الإسرائيلي بطريقة لا يشعر فيها العربي الذي يملك في ذهنيّته العنفوان وبعض العزّة والتاريخ وما إلى ذلك..، بأنّ ما حدث لا يمثّل أيّ شيء من طموحه، وحتّى أنّه لا يمثّل بعض طموحه، لأنّ ما حدث هو بعثرة القضية الفلسطينية وتمزيق أوصالها والاتّجاه بها إلى متاهات سياسية واقتصادية وأمنية لا يعرف أحد مداها. إنَّ المسألة كانت أنّ هناك قضية فلسطينية يراد لها أنْ تتجذَّر في أرض فلسطين وواقعها، أمّا الآن، فلا يعلم ماذا هناك. هناك كلمات تطرح أنَّ المستقبل النهائي لفلسطين سوف يتقرَّر بعد سنة أو سنتين مثلاً لكن ما هي الأوراق التي يملكها الفلسطينيون؟ ماهي الأوضاع العربية التي يمكن أنْ تساهم فيمنح الوضع الفلسطيني قوّة يحتاجها، ماذا عن المشكلات الطويلة التي يعيشها اتّفاق أوسلو؟ لذلك فإنَّني أزعم أنّ الصلح العربي ـــ الإسرائيلي في هذه الدوائر التي حدثت على الأقلّ، أوجد حالة قهر عميق لدى الإنسان العربي ككلّ، وحتّى لدى الذين عاشوا تجربة الصلح. وقد كنّا نقرأ قبل شهرين أو أكثر تصريحات عرفات وهو يعترف بالخطأ ويشعر بالإحباط، كما كنّا نسمع سفير الأردن في تلّ أبيب وهو يتحدّث عن أنّ غالبية الشعب الأردني لم توافق على الصلح.
معنى ذلك أنَّ الذين تحرَّكوا نحو الصلح ليسوا مقتنعين به، وإنَّما المسألة أنّهم كانوا في داخل المأزق وحاولوا أن يخرجوا منه ولكنَّهم دخلوا في مأزقٍ آخر.
أما الشعوب العربية، فلا تزال تعيش هذا القهر. ربّما استسلمت للاسترخاء أو السكون بفعل التعب الفوضوي الذي عاشته الطفلة، وبفعل أنظمة المخابرات التي صادرت الشعب العربي بشكلٍ أو بآخر، ولكنَّني أعتقد أنّ هناك ثورة جنينيّة قد لا يقدر لها أن تتحرّك وتظهر على السطح بشكلٍ قوي فاعل في هذه المرحلة أو في مستقبلٍ قريب، ولكنّها قد تبدأ رحلة الثورة والتحرير بعد أن تقوم "إسرائيل" بخططها في المنطقة لو تمّ السلام بشكلٍ شامل، لأنَّني أعتقد بأنّ "إسرائيل"، بتعقيدات خططها وبطبيعتها الاستعلائية التي تمارسها الآن في المفاوضات مع سوريا، سوف تصنع للشعب العربي مفردات كثيرة تجدّد فيه حركة الثورة.
ـــ أيّ نوع من المفردات؟
محاولة السيطرة السياسية على الواقع العربي، ومحاولة بعثرة الاقتصاد العربي، واختراق أمن الإنسان العربي من خلال "الموساد" لاسيّما إذا حاول أن يتحالَف مع بعض أجهزة الأمن العربية.. إنَّنا نتصوَّر أنّ كلّ هذه التراكمات التي سوف يحفل بها المستقبل، سوف تضغط على وجدان الإنسان العربي بطريقة أو بأخرى. ونحن نعرف ـــ ولا نطلق شعارات ـــ أنَّ وجدان الإنسان يبقى يختزن ويختزن، وثمّ تحصل الانتفاضة أو الثورة.
ـــ تلك الانتفاضات أو الثورات، دلَّت التجربة على أنّها تنتهي دائماً بثورات ضدّ الأنظمة القائمة، أي ثورات ضدّ الأنظمة العربية، وفي النهاية يغرق البلد في حرب أهلية...
إنَّ التجربة الجديدة التي تعيشها المقاومة الإسلامية، سواء في لبنان أو في فلسطين، تصلح لأنْ تكون نموذجاً لمثل هذه التوتّرات الحركية المستقبلية، باعتبار أنَّنا نلاحظ أنّ المقاومة الإسلامية في لبنان كفَّت عن الوقوف في مواجهة النظام اللبناني ووجّهت كلّ قوتّها نحو "إسرائيل". وهكذا نجد أنَّ الانتفاضة في فلسطين المتمثّلة بحركة "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، في غياب أيّ عمل مقاوم فاعل للمنظّمات الأخرى، نجد أنّها عندما تقف أمام النظام "العرفاتي"، فإنّها تقف بحذر وبعقلانية وبرشد سياسي، حتّى لا تقع في الخطأ المميت الذي وقع فيه الكثيرون من الثائرين العرب، ليحوّلوا صراعهم من صراع مع الموقع الإسرائيلي إلى صراع مع الموقع العربي.
أعتقد أنّ هناك نجاحاً جزئياً في هذه التجربة في لبنان وفلسطين. ومن الممكن جداً أنّ الاتجاه الإسلامي الذي يتمثّل في الموقعين معاً، من الممكن له أن يربّي الإنسان العربي بالطريقة التي يخطّط بها لمواجهة "إسرائيل" في الصراع ومحاولة الابتعاد مهما أمكن عن الصراع مع الأنظمة.
أشعر بأنّ هذه المسألة ليست من البساطة بحيث يمكن للإنسان أن يرسمها بقلم على ورقة، لأنّه من الطبيعي أنَّ للأنظمة العربية التزامات معيّنة تجاه "إسرائيل" عندما تدخل معها في حال صلح، لكنَّني أتصوَّر أنّ تجمّع هذه التوتّرات داخل الشعوب يمكن لها أن تقوم بشيء في المستقبل.
ـــ انطلاقاً من النظرة البراغماتية والواقعية التي تتّسم بها الحركة الإسلامية، ولاسيّما في لبنان، أي نوع من السلام الممكن أو العادل يجوز التوافق عليه مع إسرائيل؟
أنا لا أعتقد بأنَّ كلمة العدالة يمكن أن يكون لها موقع في هذا "السلام" الذي يصنع ـــ وأؤكّد أنَّ كلمة السلام لا يمكن إلاَّ أن توضع بين هلالين ـــ لأنَّ مسألة السلام انطلقت من وجود مشكلة هذه الحروب التي حكمت كلّ واقع المنطقة في الماضي وهي تحكم واقعها في المستقبل. ونحن نعتبر أنّ هذه الاهتزازات التي حدثت في المنطقة كانت بفعل سيطرة اليهود على فلسطين، على أساس أنّها الوسط القومي الذي اجتذب كلّ اليهود بشكلٍ عام من سائر أنحاء العالَم، ليأتوا إلى فلسطين بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ممّا أوجب طرد العرب ـــ من مسلمين ومسيحيين ـــ بفعل تمثيليّة الحرب التي حدثت سنة 1948، والتي أرادت أن تعطي اليهود عنواناً شرعياً لتأسيس الدولة على أرض فلسطين، على أساس أنّهم انتصروا في الحرب. وهكذا حصلت "إسرائيل" على اعتراف الدول الكبرى وبعض الدول الصغرى. لذلك فإنَّ هذه الدولة وُجدت من حالة غصب وقهر، ومن الطبيعي أنّ امتداد هذا القهر وتشريعه على أساس أن تقهرني ثمّ تثير مشكلة بيني وبينك، ثمّ تأتي بعد ذلك لتقول: "تعال لنحلّ المشكلة على أساس أنْ تبقى مقهوراً بشرط أن لا أقهرك في موقعٍ آخر". إنَّني أشبّه السلام المطروح الآن كمثل إنسان يحتلّ بيتي ثمّ يفسح لي المجال لأنْ أسكن في بعض غرفه، من دون أن يملّكني هذه الغرفة بل يعطيني بعض الحريّات، وهو الحكم الذاتي، ليقول: "تعال نتصالح على هذا الأساس؛ على أساس أن يكون بيتك لي بشرط أن أفسح لك المجال في غرفة من غرفه، تمارس فيه أكلك وشربك ونومك...".
لذلك فنحن نعتبر أنّه ليس هناك عدالة. وحيث لا يكون هناك عدالة في الحلّ، لا يمكن أن يكون هناك سلام. إنَّ العدالة عند ذلك تكون أنّ السلام هو بمثابة مخدّر، يخدّر الجرح وقتاً ما ريثما ينتهي التخدير فيصرخ الجرح بقوّة.
ـــ أين العدالة؟
العدالة هي أن يرجع الفلسطينيّون بأجمعهم إلى فلسطين وأن يخرج اليهود الذين جاؤوا من سائر أنحاء العالَم، ويلتقي الفلسطينيّون، من يهود ومسيحيين ومسلمين، ليختاروا طريقة حياتهم، تماماً كما هو الوضع في لبنان.
ـــ هذا حلّ مثالي وغير واقعي...
إنَّ هذا مثالي، نعم. أمّا الحديث عن لا واقعية هذا الحلّ، فأنا أقرّ بأنّه ليس واقعياً في نطاق الظروف الدولية الموجودة الآن وربّما بعدها. لذلك أنا أتصوَّر أنَّ المسألة ليست مسألة سلام، بل هي مسألة إغلاق أبواب الحلّ في وعي الشعب الذي يبحث عن استرداد أرضه. إنّها هدنة، قد تمتدّ طويلاً وقد تخرقها بعض الأوضاع. إنَّ الإسلاميين لا يعتبرون أنفسهم في حالة صلح مع اليهود ما داموا في فلسطين. ولذلك فإنَّهم يملكون حريّة أنْ يفعلوا ما يشاؤون في داخل فلسطين حتّى بعد السلام، وانتهاز أيّة فرصة تسنح لهم لاسترداد الحقّ.
ـــ إذاً يكسرون "الهدنة" متى شاؤوا...
عندما تتوفَّر لهم الظروف المستقبليّة.
ـــ هذا السلام ليس، في نظرك، إلاّ هدنة يفرضها الواقع وعدم التوازن...
إنّها هدنة واقعية تفرضها الظروف، ولكنَّنا لا نعترف بها. نحن نعيشها. لديّ شعار كنت أقوله سابقاً: "إنَّنا نتعايش مع الباطل ولا نعترف بشرعيّته".
ـــ لكنّ التعايش على المدى الطويل يؤدّي إلى شرعنة أو شرعية الوضع.
كلا عندما يكون هناك وعي لباطلية الباطل في حالة التعايش، فالانفصال يبقى.
ـــ هذه الهدنة، هل يدخل في تكوينها التبادل التجاري والاقتصادي والتفاعل على الأرض؟
الإسلاميون يرفضون ذلك شرعياً، إلاّ إذا وصلت القضية إلى حدّ الضرورات، على قاعدة "أنَّ ما من شيء إلاَّ وقد أحلَّه الله لمن اضطر إليه".
إنَّ المسألة إذاً تتبع عنوان الاضطرار الذي له مدى مرحلي ومدى مكاني.
هناك صليبيّة جديدة في مواجهة الإسلام
تعمل لاستثارة العنصرية الأوروبيّة(*)
بيروت ـــ من محمد عنان
ـــ طالب العلاّمة السيّد محمد حسين فضل الله، المرشد الروحي لـــ "حز//ب الله"، أميركا بالكفّ عن دعم صدّام حسين وتقديم المعلومات الأمنية لحمايته، وبترك الفرصة أمام الشعب العراقي لإسقاط الطاغية.
ورأى فضل الله أنّ تحقيق التسوية العربية ـــ الإسرائيلية سيصيب المنطقة بزلزال في أنظمتها ورموزها وخطوطها السياسية، مشيراً إلى أنّ ولادة "إسرائيل" هيّأت الجوّ العربي لانقلابات وحروب وفتن... وأنَّنا نعيش اليوم جوّاً مشابهاً.
وقال فضل الله: إنَّ ثمّة صليبيّة جديدة في مواجهة الإسلام، تعمل لاستثارة العنصرية الأوروبية. مواقف فضل الله هذه جاءت في حوارٍ أجرته معه "السياسة"، وهنا وقائعه.
لتكفّ أميركا عن دعم صدّام وتقديم المعلومات الأمنية لحمايته
ـــ قلتم في خطاب جماهيري: إنَّ الأرض تهتزّ تحت أقدامنا. ماذا تقصدون بهذا القول؟
كنتُ وأنا أتحدّث بهذا الحديث أتطلَّع إلى واقع المنطقة ككلّ، مقارنةً بالصراعات الدولية الخفيّة التي تتحرَّك في خلفيات سياسة المنطقة، لسبب بسيط جداً ولفكرة واقعية ميدانية، وخلاصتها أنَّ التسوية إذا تمَّت، فإنَّ هناك زلزالاً سيصيب المنطقة في نوعية أنظمتها ورموزها وخطوطها السياسية.. أمّا المرحلة المقبلة فستزرع في الذهنية العربية العامّة مفاهيم جديدة، وتحرّك وسائل جديدة، وتطلّ على آفاق جديدة.. ممّا يعني أنّ هناك عملاً ما لم تظهر خفاياه في سبيل إيجاد أوضاع جديدة، تماماً كما هي الحال قبل ولادة "إسرائيل" في المنطقة وبعد ولادتها. لقد تغيَّر العالَم العربي بعد ولادة إسرائيل بفعل اللّعبة الدولية، سواء في دائرة الصراع السوفياتي ـــ الأميركي ـــ الغربي من جهة، أو من خلال طبيعة الأوضاع الأميركية في حركتها الخفيّة في صراعها مع أوروبا بشكلٍ أو بآخر.
لقد تغيَّر العالَم العربي بنسبة 180 درجة عمّا كان عليه قبل ذلك، لأنَّ طبيعة الحدث تفرض هذا التغيير؛ وهذا ما هيَّأ الجوّ للانقلابات وللكثير من الحروب والفتن التي استطاعت أن تجعل العالَم العربي يفقد وضوح الرؤية للأشياء، ويعيش في دوامة لا يعرف كيف يخرج منها. والآن بعد سقوط الاتّحاد السوفياتي، والنشاط الأميركي الاقتصادي في العالَم الذي يريد أن يعزل أوروبا عن المواقع النفطية أو الأسواق الاقتصادية في المنطقة وفي كلّ العالَم الثالث؛ ومع انطلاق الحركات الإسلامية التي يطلق عليها اسم الأصولية الإسلامية، وبعد هذا النوع من أنواع الحركة الإسرائيلية في عمق العالَم العربي في ظلّ التحالف الاستراتيجي مع أميركا...، فإنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الوضع لن يبقى كما كان في العالَم العربي. وإنَّني أزعم أكثر من ذلك، فأقول: إنَّ الوضع في "إسرائيل" سيتعرَّض إلى اهتزازٍ معيّن، لأنَّ "إسرائيل" التي كانت تعيش في حالة الحرب تختلف عن "إسرائيل" التي تعيش في حالة السلم، بحيث أنّ كلّ التناقضات الراكدة في العمق الإسرائيلي ستظهر.
إنَّ هذا كلّه يوحي إلينا بأنَّ هناك عملاً ما يدبّر في هذا الاتّجاه، وإنَّني لا أستطيع أنْ أعتبر محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أثيوبيا إلاّ رسالة معيّنة لمن يهمّه الأمر بأنَّ وقوف أيّ زعيم ـــ عربي حتّى المتحالِف مع إسرائيل ـــ في وجه أيّة مسألة من المسائل التي تخصّ السياسة الدولية سيلقى النتيجة نفسها.
العلاقات بين عمليات الاغتيال
ـــ هل يمكننا أن نربط بين عمليات الاغتيال التي بدأت بالرئيس كيندي، ثمّ اغتيال الرئيس الباكستاني ضياء الحقّ، ثمّ اغتيال أنور السادات، والآن محاولة اغتيال حسني مبارك؟ فما علاقة هذه الاغتيالات بعضها ببعض؟
إنَّني أتصوَّر أنّ الاستخبارات المركزية الأميركية وراء أكثر هذه الاغتيالات، لكنّها تحاول أن تستفيد من بعض الظروف السلبية، ومن بعض الجهات التي تحمل أفكاراً أو مشاريع معيّنة للوصول إلى ما تريد. إنَّني أعتقد أنّ أميركا ـــ الشركات الاحتكارية لا يريحها أن يكون هناك رئيس شاب ككيندي يمكن له أن يقوم بحركة سياسية أو اقتصادية تعطّل مشاريعها، وهكذا بالنسبة إلى العالَم الثالث، لأنَّ أميركا تستمرّ في حماية حلفائها أو عملائها، حتّى إذا رأت أنّ بقاءهم يعطّل كثيراً من مشاريعها، فإنّها تبادر إلى إبعادهم عن السّاحة بطريقة أو بأخرى، إمّا بالاغتيال أو بالسجن أو بالتشريد أو التهجير..
التسليح الروسي لإيران
ـــ مَن يصدِّق أنّ دولة كروسيا تسلِّح دولة إسلامية كإيران، ما تفسير ذلك؟
هناك نقاط لا بدّ لنا من أن ندرسها في سياسة روسيا التي لا تزال تعيش أحلام الإمبراطورية، والدليل على ذلك هو أنّه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عمل الرئيس الروسي الحالي على إيجاد كومنولث روسي يجمع كلّ هذه الجمهوريات التي كانت جزءاً من الاتّحاد السوفياتي السابق، ممّا يعني.
أوّلاً: أنّه ليس مستعداً للعيش داخل حدوده الروسية في المسألة الاقتصادية والأمنية والسياسية.
ثانياً: أنّ الاتحاد الروسي الذي كان يفكِّر أنَّ أميركا ستجلب له السمن والعسل، رأى أنّ هذه الأخيرة لن تجلب له إلاّ المزيد من المشكلات، وأنّ المساعدات الأميركية والغربية مربوطة بسلاسل من حديد من خلال شروط سياسية واقتصادية، ممّا لا يشعر الرئيس الروسي بالقدرة على الاستجابة لها أو لبعضها في الوقت الذي يعاني منه من سقوط اقتصادي عنيف جداً، وليس لروسيا ما تصدّره الآن بحيث يمنحها عملة صعبة إلاّ السلاح، ولاسيّما النووي أو الخبرة النووية التي أصبحت غير ذات موضوع بالنسبة إليها في الداخل، مقارنةً بالمستوى الذي كانت تتمثَّل فيه في الماضي.
لذلك فإنَّ بيع الخبرة النووية أو المفاعلات النووية لإيران وبيع الغوّاصات الروسية لها، إنَّما يعود لأسباب محض اقتصادية تنطلق من حاجة روسيا إلى العملة الصعبة، لاسيّما أنّ إيران كانت مستعدة أن تدفع العملة الصعبة نقداً في هذا المجال، ممّا لا يتيسَّر لأيّة دولةٍ أخرى، فالمسألة هي اقتصادية قبل أن تكون سياسية.
ثالثاً: أنّ إيران دولة كبرى في المنطقة وهي تقع على حدود الاتحاد الروسي وعلى حدود ست عشرة دولة في المنطقة، لذلك فإنَّ قيمة إيران أنّها تمثّل عمقاً استراتيجياً يمكن أن تقيم روسيا علاقات سياسية معها، بحيث تأمّن هذه الأخيرة كلّ السلبيات المستقبليّة التي يمكن أن تتحرَّك من إيران من جهة، ثمّ يمكن أن تستغلّ العلاقة السلبية بين إيران وبين أميركا لتزيد نفوذها في الداخل من جهةٍ أخرى كما تستفيد روسيا من ورقة إيران لتواجه بها ورقة تركيا التي قد تخاف روسيا من سيطرتها، باعتبار أنّ هناك امتداداً للعنصر التركي في جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً ـــ وربّما في داخل روسيا بالذّات ـــ لذلك فإنَّ علاقة روسيا بإيران تمثّل علاقة لها أبعاد استراتيجيّة لا يمكن إغفالها أبداً.
البوسنة والهرسك
ـــ الموقف الروسي في حرب البوسنة والهرسك مغاير لمواقف معظم الدول المعنية خصوصاً أوروبا وأميركا، هل تعتقدون أنّ هذه الحرب قد تتوسَّع لتطال أوروبا كلّها في حال استمرارها؟
أنا لا أتصوَّر أنّ هناك أيّة فرصة لأيّة حرب عالمية من خلال البوسنة والهرسك لسببٍ بسيطٍ جداً، وهو أنّ روسيا لا تملك أيّة فرصة لأنْ تتحرَّك عسكرياً في مواجهة الغرب أو في مواجهة أميركا بالذّات، باعتبار أنّها لا تملك أيّة قوّة اقتصادية أو عسكرية بالمعنى الفنّي للمسألة العسكرية، لأنَّ تجربة الشيشان دلَّت على هشاشة القدرة العسكرية الروسية أمام حركة شعبية بالوسائل التقليدية العسكرية، وإذا كانت روسيا تملك السلاح النووي، فلا مجال لاستعماله بشكلٍ أو بآخر، كما أنّ دول الغرب وفي مقدّمتها أميركا، ليست مستعدة لأن تخوض أيّة حرب واسعة من أجل دولة البوسنة والهرسك على أساس أنّ أميركا تتحرَّك من خلال مصالحها.
لماذا لم ترسل أميركا جنوداً في عداد القوّة الدولية إلى البوسنة والهرسك؟ لأنَّ الرئيس الأميركي صرَّح بأنّنا نتحرَّك من خلال مصالحنا، وليست عندنا أيّة مصلحة استراتيجية داخل البوسنة والهرسك. بل إنَّني أتصوَّر أنّ أميركا تحاول أن تخفّف من ضغطها على الصرب، على أساس التوازن مع الاتحاد الروسي الذي يرتبط بالصرب ارتباطاً دينياً من خلال الأرثوذكسية الروسية التي تتحمَّل مسؤولية أيّ موقع أرثوذكسي في العالَم.
لذلك، أعتبر أنّ قضية البوسنة والهرسك لا تمثّل موقع تضادّ للمصالح الغربية ـــ الروسية حتى يمكن أن تحدث حرباً إقليمية أو عالمية شاملة.
إنَّ الكبار يضعون لأنفسهم خطوطاً حمراء ترتبط بمصالحهم؛ فإذا وقفت هذه الخطوط ضدّ مصالحهم، فإنّهم يعملون على إيجاد حالة من التوازن تمنع وقوع حرب. ولعلَّنا عندما ندرس التاريخ، وكيف تطوَّرت أزمة الصواريخ الكوبية بين كنيدي وخروتشوف ثمّ أدّت إلى تراجع الاتحاد السوفياتي السابق أمام الموقف الأميركي، لرأينا أنّ الأزمة عندما تصل إلى الخطوط الحمراء فإنّها تتجمَّد، ولذلك فإنَّ الجميع وقفوا من أجل إيجاد التوازن.
صليبية سلطوية ضدّ الإسلام
ـــ الإسلام السياسي يمرّ حالياً بمرحلة سيّئة جداً، هل هذا الوضع سيقودنا إلى أندلس جديدة؟
لا أتصوَّر أنّ هناك أندلس جديدة ستتكرَّر في المنطقة الإسلامية، لأنَّ تاريخ الأندلس استطاع أنْ يتجسَّد في فلسطين؛ ولا أتصوَّر أنّ هناك فلسطين ثانية في العالَم الإسلامي، لأنّ الأندلس الفلسطينية قد تمّ ترويج السيطرة عليها بفعل ذهنية صهيونية استطاعت أن تفرض نفسها على التفكير المسيحي البروتستانتي، وأن تمدّ خيوطها في العالَم من خلال الأخطبوط اليهودي حتّى استطاعت أن تقود الواقع إلى أندلس جديدة، ومع ذلك فهي لم تستطع أن تستكمل مشروعها لأنَّ هناك أكثر من موقع في فلسطين لا تستطيع "إسرائيل" ابتلاعه ولا حتّى مصادرته.
أمّا في العالَم الإسلامي الآخر، فلا أتصوّر أنّ هناك أندلس جديدة، بل هناك صليبية جديدة ليست من الضروري أن تكون مسيحيّة، لأنَّ الصليبية أصبحت اسماً لا يراد منه المعنى المسيحي، بل يراد منه المعنى الاستكباري السلطوي.
هناك صليبية جديدة في مواجهة الإسلام، تحاول أنْ تستثير العنصرية الأوروبية ضدّه من خلال التاريخ الذي تختزنه الحالة الطائفية من دون وعي المسألة الدينية. إنّ هناك حملة صليبية، وأعتقد أنّ أيّ ضغط على العالَم الإسلامي، أو ما يسمّى بحركة الإسلام السياسي الحركي أو الأصولية، لن يسقطها أو يضعفها، لكنّ صمودها سيفرض على العالَم المستكبر أن يتوازن معها وأن يلتقي معها، وهذا ما نراه في العلاقات الطبيعية بين أميركا وجبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر، وهذا ما نلاحظه في العلاقات الأميركية مع الحركات الإسلامية في مصر، ولذلك فإنَّني أتصوّر أنّه من الصعب جداً القضاء على الحركات الإسلامية في العالَم الإسلامي، لأنّها استطاعت الانطلاق بحيث أصبحت ثورة جنينيّة في كلّ منطقة إسلامية، قد يحاصرونها أو يضعفون بعض مواقعها، ولكنّ عملية إلغائها هي مسألة لا تجد في الواقع أيّ عنصر من عناصر نجاحها.
الوضع الاقتصادي واشتداد الأصولية
ـــ هناك معلومات تقول إنّ الوضع الاقتصادي في ظلّ السلام سيتدهور، ومن شأن ذلك أنْ يؤثّر سلباً على العملية السلمية، وسيؤدّي إلى اشتداد الأصولية في العالَم، ما رأيكم بذلك؟
أعتقد أنّ لهذا الكلام جانباً كبيراً من الصحّة، لأنّ العالَم العربي لا يزال يعيش هشاشة في اقتصاده، فهو عالم لا يملك أيّ تخطيط اقتصادي، وهذا ما عبَّر عنه المؤتمر الاقتصادي الذي عقد في المغرب، حيث جاءت "إسرائيل" بعشرات المشاريع الاقتصادية للعالَم العربي وللمنطقة، في الوقت الذي لم يقدّم فيه أيّ بلد عربي مشروعاً واحداً في مواجهة هذه المشاريع، ممّا يعني أنّ حركة التسوية تتيح "لإسرائيل" فرصة كبيرة في الانقضاض على الاقتصاد العربي. وأتصوَّر أنّ اقتصاد العالَم العربي سيسقط تحت تأثير الهجمة الإسرائيلية، ولكنّ ذلك قد يحدث له مشكلات كبيرة. ولست من الذين يقولون بأنّ "إسرائيل" تمثّل "السوبرمان" العالمي الذي يملك أن يسيطر على المنطقة من خلال العبقريات الإبداعية الاقتصادية التي يملكها الإسرائيلي، بل أعتقد أنّ هناك عبقريات إبداعية اقتصادية حتّى في منطقة الخليج، بحيث أنّ الأمور عندما تتحرَّك على الأرض وتبدأ الحسابات الدقيقة في العمليات التجارية، فلا أعتقد أنّ التاجر الإسرائيلي أكثر ذكاء وأكثر معرفة في اللّعبة الاقتصادية من التاجر العربي.
لكنَّ المشكلة في الواقع هي في هذه الفوضى السياسية أو عدم الاستقرار الذي يعيشه العالَم العربي، وهذه هي نقطة الضعف التي يمكن أن تترك تأثيرها على واقع الاقتصاد العربي. ومن هنا فإنَّني مع الفكرة التي تقول: إنّ "إسرائيل" ستهيّئ الفرصة الذهنية لكلّ الذين يرفضون التسوية، ولاسيّما الإسلاميين، في إنتاج حالة الرفض العربي والإسلامي "لإسرائيل"، لأنَّ هذه الأخيرة سوف لا تثير في العالَم العربي اقتصادياً وأمنياً وسياسياً إلاّ السلبيات، وهذا ما يمكن أن يهيّئ لواقع جديد تتنامى فيه حركة الرفض للوجود الإسرائيلي. إنَّنا عندما ندرس الآن علاقة "إسرائيل" بمصر على الصعيد الاقتصادي بعد الصلح معها، وقد كانت التصريحات والوعود الأميركية والغربية أنّ مصر ستدخل الجنّة الموعودة عندما تصالح "إسرائيل"، وأنّ الغرب سيغدق عليها كلّ شيء، نرى أنّ مصر تنتقل من اقتصاد سيّئ إلى اقتصاد أسوأ، حتّى أنّ المساعدات الأميركية لا يسمح لها أنْ تتحرّك في مصر بالطريقة التي تحقّق للاقتصاد المصري نموّه وازدهاره، بالمستوى الذي يستطيع فيه أنْ يحقّق الاكتفاء الذاتي.
الوضع الإسرائيلي الداخلي
ـــ هناك مَن يؤكّد أنّ إسرائيل لن تنهار من الخارج بل ستنهار من الداخل بسبب العنصرية والفساد في جميع المجالات، ما رأي سماحتكم بذلك؟
إنَّني دائماً أحاول ألاّ أتحدّث في المطلق في المسائل السياسية، ومن الطبيعي كما أشرت في بداية الحديث أنّ "لإسرائيل" مشكلات داخلية كبرى، بحيث قد تصلّ إلى مستوى تصغر عندها المشكلات العربية في الانقسامات وفي الخلافات التي بدأت تظهر، وقد سمعنا أخيراً بوجود حزب جديد عماده المهاجرون الروس الذين شعروا بأنّهم الفئة المسحوقة في المجتمع اليهودي الجديد، فهؤلاء لم تتوفّر لهم أعمال يستطيعون أن يدخلوا المجتمع اليهودي بواسطتها؛ إنَّ مثل هذه العقد التي تجمع أكثر من نصف مليون مهاجر روسي لا شكّ أنّها تؤثّر في توازن الأحزاب السياسية، وقد تتبعها حالات أخرى من حالات الاسترخاء.. لكنّ علينا ألاّ نراهن دائماً على الانتصار من خلال مشكلات العدو في الداخل، لأنَّ العدو في الوقت الذي يعاني فيه من هذه المشكلات، فإنّه يملك ذهنية لمواجهتها كمشكلات واقعية يعمل على معالجتها واحتوائها. إنّ "إسرائيل" حسب التجربة لم تسقط أمام مثل هذه المشكلات، بل كانت تعمل على معالجتها، لاسيّما مع وجود الغطاء الأميركي الذي يعمل على بقاء "إسرائيل" مستقرّة، لذلك هناك مشكلات ستحدث داخل المجتمع اليهودي وعلينا مراقبتها من أجل الاستفادة منها، ولكن علينا في الوقت نفسه ألاّ نراهن عليها لأنَّنا راهنّا دائماً في الإعلام العربي على نقاط الضعف في "إسرائيل" وتبين أنَّنا في استغراقنا في نقاط الضعف عندها ونسياننا لنقاط الضعف عندنا، فقدنا الفرصة في الوصول إلى نتائج كبيرة.
أنظمة بديلة جغرافياً وسياسياً
ـــ الشرق الأوسط في كياناته الراهنة هو نتيجة اتّفاقات دولية وقعت في الماضي. هل ترون أنّ السلام المقبل يؤدّي إلى قيام أنظمة بديلة جغرافياً وسياسياً؟
لا أجد هناك فرصة لجغرافيا جديدة، لأنَّ الجغرافيا الجديدة تنطلق من خلال تضارب المصالح. وإذا كانت أميركا هي التي تعمل على احتواء المنطقة، فما حاجتها إلى عملية إرباك جديدة في المنطقة، فلا تطوّرات فوق العادة، ولا وجود لمعسكر كبير آخر منظّم يمكن له أن يستفيد من هذه الدويلات الموجودة ليحارب بها أميركا لتعود هذه الأخيرة إلى خلط الأوراق من جديد وتسقط الهيكل على رؤوس الجميع لحماية مصالحها.
لذلك فإنّ المسألة كما قال أحد زعماء لبنان عندما قسّم الجنوب إلى دوائر بعد أن كان دائرة واحدة هي "كالكبّة في الصينيّة"، فمهما قسّمت الكبّة فإنّها تبقى في الصينية، والقضية هي من يملك صينية الشرق الأوسط وليست المشكلة هل تكون ـــ الكبّة ـــ مقسّمة أو غير مقسّمة.
الهوّة بين الحاكم والمحكوم
ـــ من المتغيّرات الملحوظة في الدراسات السياسية الحديثة القول بأنَّ الحكّام العرب يتحرّكون بعقلية الوصاية على شعوبهم، بإبعادهم عن شؤون الساعة والمصير ممّا يوسع الهوة بين الحاكم والمحكوم في العالَمين العربي والإسلامي؟
لعلّ هذا صحيح بنسبة تسعين في المئة، لأنَّنا نشعر أنّ هناك فرصة للشعوب العربية أن تعبّر عن تطلُّعاتها وحاجاتها ومطالبها.. إنَّ أكثر الحكّام في البلاد العربية يعتبرون أنّ أيّة معارضة لقانون أو لسياسة أو لأيّ وضع اقتصادي سيّئ... يمثّل أسلوب عداوة ضدّ الحاكم وتهديداً له، ولهذا فإنَّ كثيراً من الحكّام يختصرون شعوبهم بأشخاصهم، بحيث يرون أنّ بقاءهم في مواقعهم يعني سلامة البلد وتقدّمه، ويعتبرون أنّ أيّة حركة شعبية منطلقة من خلال آلام الشعب وحرمانه هي مسألة مرتبطة بالجهات الخارجية. إنّ الحاكم الذي لا يعترف بأنّ هناك مشكلة بطالة عنده، أو أنّه بات من الضروري تغيير بعض القوانين التي لم تعد صالحة لشعبه، والذي لا يسمح بوجود مجالس برلمانية تمثّل شعبة، كيف يمكن ألاّ يقال أنّه يعيش في عالم، والشعب يعيش في عالَمٍ آخر؟!.
فالحاكم الذي يحترم شعبه، هو الحاكم الذي ينظر إلى نفسه على أنّه ليس وصيّاً على شعب هو من فئة القاصرين الذين يحتاجون إلى وصي، بل عليه أن يعتبر نفسه وكيلاً عن الشعب وراعياً له وأميناً على ثروته وقضاياه وآرائه المتنوّعة في هذا المجال، وأعتقد أنّ التجربة الشعبية الكويتية تمثّل شيئاً من عنوان الاعتراف بالواقع الشعبي بطريقة أو بأخرى ممّا يمثّل رسالة إلى مَن يهمّه الأمر في البلاد الأخرى.
صَدَّام حاجة أميركية
ـــ كيف تنظرون إلى ما جرى في العراق؟
إنَّني أقول كلمة للمستقبل وقد قلت أمثالها: لتترك أميركا الشعب العراقي يمارس حركته في إسقاط حاكمه، ولتترك أميركا حماية حاكم العراق وتقديم المعلومات الأمنية لحمايته، ولتكفّ عن دعم الحاكم العراقي الذي يمثّل لها حاجة حيويّة لتهديد وابتزاز دول الخليج ولإرباك إيران ولتهديد من يراد تهديده ولإسكات الأصوات المعارضة التي لا تخدم السياسة الأميركية.
إنَّ الشعب العراقي كفيل بالتغيير، ولكنَّ أميركا التي أسقطت وأسكتت الانتفاضة في بداياتها بعد تحرير الكويت تعمل على إسقاط كلّ انتفاضة مهما كان حجمها، لأنّها لا تجد أنّ الوقت ملائم لسقوط النظام الطاغي في العراق.
لذا أقول: ادرسوا الساعة الأميركية وتوقيتها، وادرسوا التقويم الأميركي لحركة السياسة الأميركية في إسقاط هذا الحاكم أو رفع ذاك.
لذلك لا أعتقد أنّ المشكلة الموجودة في العراق هي مشكلة المعارضة في عدم اتّحادها وتضامنها، ولكنَّ المشكلة هي مشكلة الحماية الخارجية الأميركية بالذّات، والتي تحاول أن تبقي العراق في مجاعة لتبقي حاكم العراق متمكِّناً من القيام بما تريده من عملية ابتزاز تفقر دول الخليج، وتربك الواقع في إيران، وتهزّ استقرار سورية.
الفصل الثالث:
سماحة آية الله العظمى يحاور حول لبنان:
المواطنيّة ـــ الطائفيّة ـــ التعايش ـــ المقاومة ـــ الطائف ـــ الصّيغة ـــ الأقليّات ـــ حقوق الإنسان ـــ التطبيع ـــ الحرب والسلم
الحوار الإسلامي ـــ المسيحي آفاق وتصوّرات(*)
من الضروري دائماً أن نعيش إنسانيّتنا في حركة يقظة وامتداد وعمق وتجدُّد، لأنَّ مشكلة كلّ هذه الضوضاء، سواءً كانت ضوضاء سياسية أو اجتماعية أو أمنية، أنّها تجعلنا نستغرق في كهوف شخصيّتنا، بدلاً من أن ننطلق إلى الينابيع المنفتحة على كثير من تطلُّعات السواقي والأنهار، التي تتّجه لتكوّن البحر الكبير. ولذلك صغرنا وأصبحت القضايا الكبرى غريبة عنّا، فإذا تناولناها صغّرناها.
نفتقد الفكر المنفتح
علينا أن نفكِّر معاً، لأنَّنا هنا لنفكّر بصوتٍ مسموع لا لنستهلك الكلمة متكلِّماً وسامعاً، بَيْدَ أنّنا في كثيرٍ من حالاتنا ولاسيّما في هذا الشرق، أصبحنا لا نطيق أن يكون لدينا فكر منفتح، يتنفَّس الهواء الطلق ويعيش في صحو الشروق، هذا الفكر أصبحنا نعيش غرابته. عندما ينطلق الفكر ـــ أي فكر ـــ دينياً كان أو علمانياً، وأخشى القول بأنّ كلّ واحد يبحث عن خصوصيّة الفكر فيه بدلاً من أن يبحث عن شموليّته في حركة شخصيّته.
لذلك نحن فرضنا خصوصيّاتنا على الفكر، حزّبناه وطيّفناه وأقلمناه ووطنّاه، حتّى أدخلناه في حسابات الاقتصاد عندما نتحدّث عن أفكار مستوردة، كأنَّ الفكر يمكن أنْ تستورده ويمكن أن تصدّره، لأنّه نتاج بلدٍ معيّن أو خصوصيّة معيّنة. ربّما نحتاج أمام كلّ هذا الضجيج، الذي شغلنا عن أنفسنا حتّى لم نعد نفكِّر بصفاء، أن نعطي أنفسنا إجازة من كلّ هذه المفردات الكهوفية الصغيرة ليسلّط عليها الضوء. نحن نعيش معنى الإنسان ـــ كما نقول ـــ في داخلنا، فقد تجاوزنا الحيوانية عندما عرَّفَنا المناطقة أنّ الإنسان حيوانٌ ناطق، والنطق يفسّره البعض بالإدراك والفكر أو يمثّله البعض باللّفظ. أخذنا خصوصيّاتنا في هذا المجال ولكن مَنْ نحن في إنسانيّتنا؟ هل هي الجسد؟ والجسد ليس شيئاً خارج القيمة، ولكنَّ إنسانيّتنا عندما يقول أيّ إنسان: "أنا"، هذه "الأنا" هي فكر، هي روح وإرادة، والحركة تشمل ذلك كلّه. الفكر يفسّر لك الحياة، والروح تفسّر لكَ إحساسك، شعورك، تطلُّعاتك، ويمكن أن تذهب بك إلى الغيب، والإرادة تصلّب لكَ وجودك وتجعله حضوراً يتأكّد، حضوراً يسلّط الأضواء على الفكر، ليجعله يعيش من خلال عناصر الشخصية في الواقع، ويسلّط الأضواء على الروح ليبعدها عن الوقوع في التجريد، لتكون قيمة في حركة الإنسان في الواقع. إنّك إنسان عندما تكون صاحب الحركة المتنوّعة الأبعاد، لأنّ الفرق بينك وبين أيّ شيء متحرّك في الكون هو أنّ لكلّ شيءٍ متحرّك في الكون بُعْداً واحداً يمثّل وجوده، أمّا أنتَ فإنّ لك أكثر من بعد في عقلك وروحك وإرادتك وكلّ نشاطك في الحياة.
هل نستحضر القول المعروف:
"وتحسبُ أنّكَ جُرْمٌ صغيرٌ وفيكَ انطوى العالَمُ الأَكْبَرُ"
نحن عندما نبدع، عندما ننتج، نتأنسن، عندما نكون ذلك كلّه نحن نكون العالَم، لأنَّنا نحن الذين نصنع حركية العالَم وإنتاجيّته وإبداعيّته في ما أعطانا الله، بعد أن صنع لنا مفردات هذا العالَم.
معنى التنوُّع في الإنسان
من خلال ذلك إذاً، نحن نريد إنسانية الفكر وإنسانية الروح وإنسانية الإرادة فينا، لنكون الإنسان القوّة، القوّة في حركة الفكر والروح والحياة، لأنَّك عندما تكون ضعيفاً تكون الإنسان الذي يأخذ من الحياة ولا يعطيها شيئاً، وأنتَ لا بدّ من أن تكون الإنسان المنتج، بقدر ما تكون الإنسان المستهلك.
عندما نكون فكراً وروحاً وإرادة متحرّكة يمكننا أن ننطلق. الإنسان هو هذا، الذي يسمّيه المناطقة "نوعاً"، هذا الإنسان متنوّع في مفردات وجوده، تماماً كما هو متنوّع في أبعاده. الفكر ليس شيئاً جامداً، هو طاقتنا التي تلتقط، التي تتطلَّع، التي ترصد، التي تتأمَّل وتنتج.. الفكر هو هذا وإذا كان لكلٍّ منّا موقعه وكانت لكلّ منّا تجربته فمن الطبيعي، في كلّ هذا، أنْ نتنوَّع في الفكر والروح والإرادة. وإذا انطلق التنوُّع فإنَّ غرائزنا قد تفرض نفسها على هذا التنوُّع هنا وهناك، لتحوّله إلى أشياء سلبية؛ بدلاً من أن نتنوَّع في الفكر لنغنيه، ونتنوَّع في الروح لنوسع آفاقها، ونتنوَّع في الإرادة لنوسع مواقعها أو نتاجها، بدلاً من ذلك يكون التنوُّع حركة تتّصل بأنانيّتنا، بذاتيّتنا، بالمعاني المختنقة في داخل غرائزنا. وعند ذلك ينفصل الإنسان عن الإنسان، لأنَّ الغريزة عند ذلك تغطّي العقل والروح والإرادة ويتباعد الناس وتكون المشكلة الإنسانية التي قد تجعل كلّ إنسان يفكِّر في ذاته، حتّى وهو يخاطب الآخر فإنّه يخاطب ذاته في الآخر ولا يخاطب الآخر في ذاته.
أنا عندما أسمعك، لا أحاول أن أعيش معك ولكنّي أظلّ ـــ في عملية إيحاءات داخلية ـــ أُفكّر في نفسي، حتّى أستطيع أن أحمي نفسي من فكرك، لأنّي أخاف أن ينفذ فكرك إلى عقلي فأتعقلن معك ومع فكرك، ولذلك ننصب حواجز تمنعنا من التفكير مع الآخر، نسمعه من دون أن نفكِّر معه، لأنَّ كلّ واحدٍ منّا يُخيّل إليه أنّه لا بدّ من أن يفكِّر للنّاس، لا أنْ يفكِّر معهم. وهذه هي مشكلتنا في كلّ حركة الفكر، عندما يتحوّل إلى شيء في الذّات وفي حركة الروح، عندما تتحوّل إلى شيء في أنانية الإحساس والشعور ومشكلة الإرادة، عندما تتحرّك في خطّ عدوانيٍّ يلغي الآخر.
الحياة حركة حوار
لذلك قصّة الحوار هي قصّة الحياة، الحياة كلّها حركة حوار. نحن الآن في فصل الربيع فصل الحياة؛ عندما نتطلّع إلى السهل، نشهد حواراً بين المطر الذي يهطل وبين الأرض وبين كلّ البذور. وهناك حوار بين كلّ الورود والأزهار، التي تتحاور لتبدع الجمال المتنوّع في ألوانه وأشكاله. راقبوا أيّة ظاهرة في الكون، ليس هناك شيء في الحياة وحده، فالشمس تنسجم مع أفلاكها وتأتلف مع كلّ الواقع الذي تشرق عليه، الشمس في دفئها وحرارتها مع الحياة في الإنسان ومع الحياة في الأرض ومع الحياة حتّى في الجماد، إنّها تُكسِب بعض الجماد شيئاً من الحياة التي يمكن له من خلالها أن يستمرّ.
على هذا الأساس، الحياة كلّها تتحاور ولكن بصمت، وقد نجد هناك حواراً لا نفهمه ولكنَّنا نحسّه في كلّ غناء البلابل وكلّ شدو الطيور، إنَّنا نشعر أنّ هناك حواراً. لكنَّ المشكلة هي أنّ الإنسان وحده، هذا المخلوق الذي لا يعيش هذه العفوية والطبيعيّة في الحوار، ينصب ذاته ليفرضها على الآخرين. نحن نريد أن نجرّب التعلُّم من كلّ الطبيعة، أن نتعلَّم منها كيف نستطيع أنْ نتكامل وأنْ نتوازن، لأنّ أَيَّ واحدٍ منّا لا يملك بعداً واحداً، ولا يمكن ـــ لما يعيشه من حركة الأبعاد في شخصيّته ـــ أنْ يعطي الحياة ما تريد. الحياة تحتاجنا جميعاً، تحتاجنا حتّى عندما نختلف، حين ينظر كلّ واحدٍ منّا إلى المسألة من زاوية معيّنة. نحن نعدِّد الزوايا ومن خلال ذلك، يمكن أن نفتح زاوية على أخرى حيث يُكوّن الأفق الكبير. نحن نعرف أنّ السواقي هي التي تبدع الأنهار، وأنَّ الأنهار هي التي تكفل للبحر أن يستمرّ، ونحن في تنوّعنا علينا أن يكون كلّ واحدٍ منّا الساقية التي تتّجه إلى النهر الكبير، وأن نكون النهر الذي يتّجه إلى البحر.
من خلال ذلك قد نفكِّر أنَّ الحوار هو معنى إنسانية الإنسان فينا، عندما يعيش عمق إنسانيّته ويلتقي بإنسانية الآخر، ليثري نفسه بقدر ما يُثري الآخر؛ وعند ذلك لا يكون الخلاف في الفكر مشكلة للإنسان بل قد يكون حلاًّ لجمود المشكلة في داخل ذاته. على هذا الأساس لماذا لا نقبل بفكرة أنّ أيّ واحدٍ منّا من حقّه أن يفكِّر بطريقة مختلفة؟ لماذا أفرض عليك ـــ أيُّها الإنسان ـــ أن تفكِّر بطريقتي؟ مَنْ أنا حتّى أفرض عليك أن تكون على صورتي؟ أو تفرض عليّ أن أكون على طريقتك؟ إنَّك لستَ الله، حتّى تفرض عليّ أن أكون على الصورة التي تريدها أو تحبّها. إنّك إنسان مثلي انطلقت في فكرك، من خلال خصوصيّاتك ومن خلال تأمُّلاتك. وإذا كانت لك خصوصيّاتك وتأمُّلاتك فلماذا تحرمني خصوصيّاتي وتأمُّلاتي؟ قد لا ترضى عمّا أُفكّر، لأنّك تتصوَّر أنّ الحقيقة في جانبك، وقد لا أرضى عمّا تفكِّر للسبب نفسه؛ لكن أن لا ترضى وأن لا أرضى ليس معناه أن تلغيني أو ألغيك. إنَّ وجودي من الله لا منك ووجودك من الله لا منّي. إنَّك لا تملك أن تفرض عليَّ موت فكري وروحي وإرادتي، كما لا أملك أن أفرض عليك ذلك. هناك الحوار الذي يحلّ المشكلة، مشكلة أن لا أرضى بما تفكِّر ولا ترضى بما أُفكِّر، لا تفرض أن تكون حالة الرضى أو عدمه مسألة عدوانية وإنَّما تكون مسألة واقعية عملية. أنْ تنطلق لتطرح فكرك بكلّ عناصره ولتعرف كيف تهندس الطريق إلى عقلي وأعرف كيف أهندس الطريق إلى عقلك، {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء : 53] جادل بالتي هي أحسن، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34].
إذا كنّا نعتبر أنّ اختلاف الفكر يمثّل عداوة الفكر للفكر، فلماذا نجعل عداوة الفكر عداوة للذّات؟ ذاتي تحتضن اليوم فكراً وقد تحتضن غداً فكراً آخر؛ وذاتك كذلك. لنجعل من ذواتنا هذه الأرض التي يمكن أن تزرع فيها شوكاً أو ورداً، لذلك لن تكون هذه الأرض شوكاً كلّها أو ورداً كلّها.
الأسلوب القرآني للحوار
قصّة الحوار هي قصّة أن نحرِّك إنسانيّتنا في اتّجاه الغنى الإنساني. إذاً أن نكون مسيحيين ومسلمين تلك خصوصيّات انطلقت من خلال تجربة فكرية وروحية، أن نكون ماركسيين أو اشتراكيين أو ليبراليين أو قوميين أو أيّ شيء من هذه الصفات التي تتحرَّك في الخطّ العلماني؛ هي خصائص عشناها من خلال ثقافة معيّنة ومن خلال تأمُّل معيّن وما إلى ذلك.
إنّ المسألة هي أن نفكِّر إنْ كنّا نريد أنْ نتجمَّد أم نريد أن نتحرّك؟ أن أُحرِّك فكري في اتّجاه فكرك، بشرط أن لا تكون ذاتي تمثّل أيّ حاجز بيني وبينك، وهكذا أنت. في الأسلوب القرآني للحوار هناك آية، أتصوَّر أنّها تمثّل أعلى الأساليب الحضارية في الحوار والتي لم يستطع ـــ حسب ما أعرف ـــ أيّ أسلوب في الحوار أن يتجاوزها، فالأسلوب الحواري المعروف: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، أن تعتبر أنّ هناك نسبة للخطأ في رأي الآخر ونسبة كبيرة للصواب في رأيك، فللّذات دور في حركتك مع الآخر، أنتَ تصيب بنسبة 70% وأنا أخطئ بنسبة 30%، لكنَّ الأسلوب القرآني يقول: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبأ : 24]، ليست هناك ذات تخاطب ذاتاً، وليست هناك ذات تزعم لنفسها أنّها تملك الحقيقة تجاه الآخر بنسبة 70% أو 80%، بل هناك 50% هنا و50% هناك، حتّى لو كنت في داخل نفسك، قد تصل إلى 100% في قناعاتك، لكنّك عندما تحاور الآخر فعليك أن تحترمه وأنْ لا تفرض قناعتك لتكون الأعلى قبل أنْ تحاور ولتكون قناعاته الأسفل عندما يتحاور معك {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، شكّ هنا بالمستوى نفسه من الشكّ هناك، هناك فكرتان وليس هناك ذاتان. وهذا هو الأسلوب الحضاري للحوار؛ أن يكون هناك فكر قلق، يواجه فكراً قلقاً، ليتعاون القلق هنا والقلق هناك للوصول إلى الطمأنينة من خلال الحوار.
هذا ما نحبّ أن نعيشه، هذه آية تعيش في أجواء كتاب ديني، نقولها للذين يعتبرون أسلوب الدين أسلوب الأسطورة، في الوقت الذي ينطلق فيه الاتّجاه الآخر العلماني في أسلوب العقل. المسألة هي هذه؛ أن ننطلق على أساس أن نجعل أفكارنا تتحرَّك في الهواء الطلق.
مشكلتنا في لبنان
ونحن في لبنان، قبل أيّ بلدٍ آخر، عشنا مشكلة المسيحية والإسلام بطريقة لاعقلانية، لأنَّنا أطلقناها في اللّعبة السياسية، قبل أن نطلقها في الحركة الفكرية أو الروحية. ومن خلال ذلك أصبحت مسألة المسيحيين والمسلمين حركة في غرائزيّاتنا، نحن نصلّي إسلامياً أو مسيحياً بطريقة غرائزية، ولذلك لم تستطع الصلاة، التي تمثّل معراج روح المؤمن إلى الله وانفتاحها في كلّ الفيضان الإيماني والإحساسي والشعوري على الإنسان كلّه وعلى الحياة كلّها، لم تستطع الصلاة أن تؤنسنا، حتّى أنَّنا عندما نتحدّث عن الله وكلّنا يقول عن الله إنّه الواحد، لكنَّنا نحاول أن نُدخِل الله في طائفيّاتنا؛ فلكلّ منّا ربّه الذي يرتّب له حركته في الواقع بطريقة معيّنة. ونحن عندما نلتفت إلى طريقتنا في إدارة علاقتنا بالله في حياتنا، نجد أنّ كلّ واحدٍ منّا يفرض على الله برنامجاً معيّناً، بشرط أن لا يستفيد الآخر منه. وهكذا حبسنا الله في وعينا في قمقم ولم تعد مسألة الإيمان بالله شيئاً يوحّدنا، أصبحت مشكلتنا ـــ وقد اختلفنا في الله ـــ كيف يمكن أن نتنازع ونتباعد باسم الله ونحن جميعاً خلق الله. إنَّ حركة التفكير التي تحجّرت في عقولنا، حاولت أن تبعدنا عن كلّ هذه الوحدة.
لذلك عندما نتحدّث ـــ وفينا حتّى في هذه القاعة المسلمون والمسيحيون ـــ ليسأل كلّ واحدٍ منّا نفسه: لماذا أنا مسلم ولماذا أنا مسيحي؟ ربّما نكتشف أنَّنا في جوابنا نقول، كما حدَّثنا القرآن عن أهل الجاهلية: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف : 23]، الكثيرون منّا لم يختاروا إسلامهم أو مسيحيّتهم وإنَّما اختارته لهم بيئتهم، عشيرتهم، منطقتهم... ولذلك أصبح الكثيرون ممّن يتحدّثون في مسألة المسيحيين والمسلمين أو المسيحية والإسلام، يتحدّثون على أساس أنَّنا لماذا نختلف باسم المسيحية والإسلام وكلّ منّا لم يختر دينه؟ فتعالوا ننطلق إلى ما اخترناه من فكر هنا وفكرٍ هناك، لأنَّنا لم نختر مسيحيّتنا وإسلامنا، فلم نحاول أن نفهم عمق المسيحية في الفكر والروح والحياة، كما لم نحاول أن نفهم عمق الإسلام في الفكر والروح والحياة.
أصبح كلّ من الإسلام والمسيحيّة طقوساً وعادات، لا نفهمها ولا نتجاوب معها، إلاّ من خلال ما يعطينا جوّ المسجد وجوّ الكنيسة من بعض التهاويل وبعض الأجواء الحميمة هنا وهناك، قد ننفعل بصوت قارئ القرآن أكثر ممّا ننفعل بصوت القرآن، وقد ننفعل بصوت الموسيقى الكنسيّة أكثر ممّا ننفعل بالكلمة التي تختزنها هذه الموسيقى أو تتضمّنها، أصبحت لدينا صنمية المسيحية والإسلام، تحوّلت إلى صنم حجّرناه في داخل أنفسنا وبدأ كلّ واحدٍ منّا يحمل الحجارة ليرمي بها الآخر. الإيمان لا يرمي إيماناً آخر ولكنَّ الوثنية في تحجُّرها ترمي الوثنية الأخرى.
لذلك علينا أن نفهم الإسلام والمسيحية، أنْ نفهمهما لأنَّ هناك حديثاً ولو في المطلق عن أنَّ هناك شيئاً اسمه الروح وأنَّ هناك شيئاً اسمه اليوم الآخر وأنّ هناك مصيراً يتجاوز حياتنا وأنّ الإسلام قد يكون طريق الخلاص أو المسيحية قد تكون طريق الخلاص، قد يكون خلاص الروح بهذه الطريقة أفكاراً، احتمالات، فرضيّات، ألاَ تتابعون الكثير من الاحتمالات في تجاربكم الأدبية عندما تريدون أن تفهموا نصّاً أدبيّاً، أو في تجاربكم العلمية عندما تنطلقون من أجل أن تواجهوا تجربة علمية؟! لماذا لا نجرِّب وعي كلّ من المسيحية والإسلام في مضمونهما؟ إنَّنا نعيش تحت تأثير الإسلام والمسيحية شئنا أم أبينا، ولن يستطيع أيّ فكر في المدى المنظور أن يلغي المسيحية والإسلام من حياتنا، لأنَّنا حتّى لو ألغاها البعض من عقله فإنّها تقتحم عليه رواسبه. لماذا أُضحّي عندما تكون حياتي الفرصة الأولى والأخيرة؟ أجوع ليشبع الآخرون. لماذا؟ أموت ليحيا الآخرون لماذا؟ التضحية معنى ديني والشهادة معنى ديني، لأنّها توحي إليك بطريقة شعورية أو لا شعورية، أنّ هناك تعويضاً تكسبه أنت. بعض الناس يتحدّث عن الذكر الخالد. قولوا لي عن كلّ هؤلاء العظماء ما مدى إحساسهم بكلّ الكتب التي ألِّفت عنهم؟ ما مدى إحساسهم بكلّ الكلمات التي قيلت عنهم؟ إذا فكّرت ماديّاً فما معنى أن أكون عظيماً بعد أن أفقد كلّ إحساس بالحياة؟ لذلك نقول: إنَّها لا تزال تفرض رواسبها علينا، إذا لم تفرض فكرها علينا. لذلك إذا استطعنا أن ننفتح على ما في الإسلام من مضمون وما في المسيحية من مضمون، فإنَّنا قد نستطيع أن نُحرِّكها في اتّجاهٍ ما يبني لنا حياتنا بدلاً ممّا نفعله من تحريكها في اتّجاه ما يسقط حياتنا. أن يكون لديك وعي الانتماء، حتّى تستطيع أن تحمي نفسك من انتمائك وتحمي الآخرين من انتمائك، لأنَّ الانتماء عندما لا يكون واعياً فإنَّه يتحوّل إلى حالة عدوانية، بقدر ما يتحوَّل إلى حالة ذاتية متحجّرة.
لذلك، ليكن لدينا وعي الانتماء، وإذا انطلقنا في حركة الوعي، لتكن مسألة المسيحية والإسلام عندنا فكراً وإيماناً، لماذا نكون موضوعيين في الجغرافيا وفي التأريخ وفي النظريّات الهندسية والكيميائية والفيزيائية وغير ذلك، ونتحرَّك على أساس دراسة الظاهرة، ولا نكون موضوعيين في فكر ديني هنا أو فكر ديني هناك؟ لماذا دائماً نتحرّك على أساس الفكر الحارّ، الذي يثير الدخان ونحن نعرف أنّ الحرارة عندما تشتدّ تثير الدخان فتحجب وضوح الرؤية.
لا إيمان فوق العقل
لذلك وأنتم الطليعة، لأنَّكم تنطلقون في الجامعة من خلال ما تملكونه من حريّة الفكر واستقلاليّته، لأنَّ الفرق بين المرحلة الثانوية والمرحلة الجامعية هو أنّ الجامعي يبدأ التفكير والتحليل بما يأخذه من أفكار ومعطيات. كنتم تستهلكون نظريّات الآخرين وأنتم الآن تناقشون هذه النظريات وتتحرّكون لتكون لكم نظريّاتكم على هذا الأساس. لذلك أنتم سوف تكونون المستقبل المفكّر والمستقبل المسؤول، لذلك أدعوكم إلى أنْ تفكِّروا في هذا الانتماء، الذي فرض نفسه عليكم وأن تخضعوه للنقاش، أن تفكِّروا بعقلانية وأنْ تتحاوروا بموضوعية.
بعض الناس يقول: إنَّ الحوار يعني حركة العقل في الإنسان، والدين لا علاقة له بالعقل. الدين فعل إيمان والإيمان فوق العقل!! ليس هناك إيمان فوق العقل، العقل يصنع إيمانك من خلال وجدانك والوجدان حركة عقل، حتّى الإحساس هو حركة عقل، لأنَّ قضية العقل هي حركة إنسانيّتك التي تجمّع المفردات لديها في الوجدان أو في الفكر أو الإحساس والشعور. لماذا نريد أن نحصر العقل في المعادلات؟ أَلَسْنا نقول إنَّ هناك عقلاً بديهياً وعقلاً نظرياً؟ لذلك أن يكون الشيء عقلياً، أنّه ينطلق منك، من شيء يعيش في داخل عناصر شخصيّتك. عندما أُحرِّك إحساسي في اتّجاهٍ معيّن وينطلق إحساسي ليجمّع كلّ المفردات التي تمدّه من الداخل؛ فإنَّ إحساسي يكون حركة عقلية ولكنّها ليست معقّدة، وهكذا الوجدان. ونحن عندما نتحرَّك حسِّياً في ما يرتّب لنا الحسّ في كثيرٍ من قضايانا هل نتحرَّك بعيداً عن العقل؟ لا أريد أن أدخل في مسألة تبسيط العقل، لكنّي أُريد أن أقول: قد لا يكون الغيب في مضمونه عقلياً، ولكنَّ الإيمان بوجود شيء اسمه الغيب قد لا تجد الطريق إليه إلاّ باكتشافه بعقلك.
نحن لا نستطيع أن نعرف الله في ذاته، لأنَّ الله هو المطلق الذي لا نملك التجارب للإمساك به بطريقة حسيّة، ولكنَّنا نستطيع أن ندرك أنَّ هناك خالِقاً نسمّيه الله، من خلال طبيعة الكون، على أساس علاقة المسبَّب بالمسبِّب أو ما إلى ذلك ممّا يتحدّث به الفلاسفة. في كثيرٍ من الحالات ألاَ ندرك ـــ ولست في بحث لاهوتي ولكنّها إشارة طارئة ـــ وجود شيء ما في داخل ظاهرة معيّنة من دون أن ندرك طبيعة هذا الشيء؟ إذاً هناك غيب، حتّى فينا، نحن إذا لم نؤمن بأنَّ لنا روحاً فنحن لا نؤمن بأنَّ لنا عقلاً. مَنْ منَّا لا يتحدّث عن عقله؟ ما هو العقل؟ أين هو؟ من أين أدركت أنَّ لكّ عقلاً وأنتَ لم تستطع أنْ تتحسَّس، بحواس الشمّ والذوق واللّمس والسمع والبصر، وجود شيء اسمه العقل؟ إذاً العقل الذي يعيش فينا هو غيب لا نفهم طبيعته، نشير إليه بكلمات لا تعطي المعنى، العقل صورة الواقع أو أنّ الواقع نتيجة العقل، والعقل هو حركة الدماغ، لكن ما هو؟ أين هو العقل؟ هل هو هذه الأعصاب؟ ليس هذا هو العقل. إذاً، نحن نؤمن بغيب اسمه العقل، ندركه بفكرنا وبإحساسنا من دون أن نتحسَّسه، إذاً يمكن أن نؤمن بالغيب من طريق التجربة ومن طريق العقل من دون أن نتفهَّم طبيعة الغيب ومضمونه، ليس كلّ ما توصَّل إليه الإنسان ـــ من نتائج في فهم الحياة وفي اكتشاف أسرار الحياة ـــ هو شيء محسوس، لذلك ليس معنى أن يكون الإنسان مسيحياً أو مسلماً، أن يؤمن بعيداً عن عقله. نحن لا نفهم معنى الإيمان الأعمى ولا نفهم معنى إيمان فوق العقل. قد تكون بعض مفردات الإيمان التي اكتشفنا وجودها بعقلنا فوق العقل، صحيح ذلك، ولكن هذا لا يجعل من قضية الإيمان قضية لاعقلانية.
لهذا، فإنَّ الحديث عن أنّ الدين يساوي في حركته الأسطورة، هذا حديث عن إنسان لا يفهم ما معنى الأسطورة، أن يكون الشيء أسطورة، أن يقوم الدليل عندك على استحالته، ما دام الشيء يمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون فهو ليس أسطورة، أَلَمْ يقل ابن سينا: "كلّ ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان حتّى يذودك عنه واضح البرهان"؟.
المفاهيم المعلَّبة
لذلك أقول لكم؛ فكِّروا في الإسلام والمسيحية، وليكن إسلامكم مثقَّفاً، مفكِّراً، واعياً ولتكن مسيحيّتكم مثقّفة، مفكّرة، واعية، وعند ذلك لا يحاول كلّ واحدٍ منكم أن يحسب انتماءه الإسلامي جزءاً من ذاته وإنَّما عليه أن يحسبه فكراً ارتآه وإيماناً التزمه في مقابل فكرٍ ارتآه الآخر وإيمان التزمه الآخر.
من خلال ذلك تستطيعون أن تحلُّوا مشكلة الانتماء المسيحي والإسلامي فيكم، لتجعلوها قضية فكر وفكر لا قضية غريزة وغريزة، في ما هي قضية طائفة وطائفة. ناقشوا كلّ شيء، لا مقدّسات في الحوار، الحقيقة هي بنت الحوار، ليست الحقيقة شيئاً يملكه واحد منّا، إنَّنا ننطلق جميعاً لنزحف حتّى نلتقط الحقيقة، وقد يلتقط بعضنا بعض الحقيقة ليلتقط الآخر بعضها الآخر. تعالوا لنتحاور فلعلَّنا نكتشف أنّ البعض الذي عندنا يتكامل مع البعض الذي عندكم. وهذا ما تحاول الرسالات أن تطلق فكره، أن تؤمن بالكتاب كلّه، في القرآن الكريم كلمة تقول أنْ تؤمنوا بالكتاب كلّه وتقول أنْ تؤمنوا بالرسل كلّهم.
لذلك كونوا المثقّفين المسيحيين والمسلمين، تحدَّثوا عن المسيحية والإسلام في اللاهوت، وتحدّثوا عن المسيحية والإسلام في المسألة الأخلاقية، وتحدَّثوا عنهما في المسألة الاجتماعية، حتّى أنَّني أدعوكم إلى أنْ تتحدَّثوا عن الإسلام والمسيحية في المسألة السياسية. لا تقبلوا شيئاً يُقال لكم من دون مناقشة "لا دخل للدّين بالسياسة ولا دخل للسياسة بالدين"، هذه وجهة نظر، ولكن هل ناقشناها؟ هل درسنا مضمون السياسة في حياة الناس ومضمون القيمة الروحية الإسلامية والمسيحيّة في حياة النّاس، لنعرف أنّ هذه القيمة تختلف عن تلك؟ لو دُعِيتم إلى أنْ تتحدَّثوا عن مسألة الدين والسياسة بطريقة عقلانية علمية موضوعية فكم منّا ممّن يملك رأياً في هذا المجال، ينطلق من خلال البحث والتحقيق وما إلى ذلك؟ لأنَّنا ـــ في ما أخشى ـــ جاءتنا مفاهيم معلَّبة ولم نحاول نحن أنْ نفتح العلبة جيداً، لنفهم ماذا فيها وأنتم تعرفون أنّ الكثير من الأشياء المعلّبة، قد لا تحمل العناصر التي يمكن أن تغذِّي لنا فكرنا وعقولنا.
بين المواطنيّة والطائفيّة
كنّا نتحدَّث الآن في الفكر والقيمة والخطّ والمفهوم وما إلى ذلك، وهناك حديث في لبنان عن الحوار المسيحي ـــ الإسلامي الذي يعني الحوار بين المسيحيين والمسلمين. المسيحيون بصفتهم كائنات لبنانية تملك انتماءً معيّناً ومناطق معيّنة ومصالح معيّنة وامتيازات معيّنة، والإسلام الذي يعني المسلمين الذين يملكون مثل ذلك. الحديث عن الإسلام والمسيحية بالمعنى البشري للكلمة، هو حديث عن عشائرية إسلامية وعشائرية مسيحية. عشيرة المسيحية التي تشتمل على أجباب متعدّدة ـــ كما تقولون في هذه المنطقة ـــ والعشيرة الإسلامية التي تمثّل أيضاً أجباباً متعدّدة. هناك عشائرية، مواقعنا، امتيازاتنا، وظائفنا، كلّ هذه الأشياء التي لا دخل لها في أن تكون مسيحياً بما للمسيحية في ذاتك، ولا دخل للإسلام في ذلك. نحن نعرف وأنتم تعرفون أنّ كثيرين من الطائفيّين المسلمين والمسيحيين ملحدون، لا يؤمنون بالله ولا بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ولا بالرسالة ولا بعيسى (عليه السلام) ولا بموسى (عليه السلام) ولا بأحد، لكنَّهم مسيحيون أو مسلمون... لذلك إذا تحدّثتم عن المسيحية كعشائرية وعن الإسلام كعشائرية، عند ذلك فلنتحدّث عن طريقة لعبة العشائر وكيف يمكن أنْ ننظّم واقع العشائر، كيف نصنع التوازن بين العشائر وكيف تتمّ المصالحات بينها وكيف نقسّم الأدوار والمناطق عليها؟ هل تريدون أن تبقوا عشيرة مميّزة ويبقى الآخرون عشيرة مميّزة؟ إذا لماذا تتحدّثون عن لبنان؟ أنتم لستم لبنانيين ـــ لا أتحدّث عنكم ـــ بل عن كلّ مَن يختزن هذا الفكر. أن تكون لبنانياً، أن تفكّر بامتيازاتك من خلال ما هي امتيازات البلد كلّه وبحقوقك بمقدار ما هي حقوق البلد كلّه، لأنَّك مهما عملت فأنتَ لن تستطيع أن تركّز اقتصاداً مسيحياً، فضلاً عن أن تركّز اقتصاداً مارونياً أو كاثوليكياً أو أرثوذكسياً أو ما إلى ذلك، أو سنيّاً أو شيعياً أو تعمل اقتصاداً إسلامياً. عندما نعيش في بلدٍ له صفة معيّنة، من الناحية الرسمية، فمعنى ذلك أنَّ هناك اقتصاداً واحداً وأمناً واحداً ومصيراً واحداً، وأنّ المحتلّ عندما يحتلّ منطقة لدينا فإنَّه يحتلّ البلد كلّه، لأنّه يفرض نفسه، في خطوط الاحتلال وفي إيحاءاته وفي طبيعة علاقاته، على البلد كلّه. ولهذا فعلينا أن نختار بين عشائريّتنا الدينيّة وبين وطننا، هل نحن مواطنون أم نحن طائفيّون؟ من خلال ذلك ينبغي أن يكون الحوار.
إنَّ الكثيرين يتحدّثون عن الحوار الإسلامي ـــ المسيحي في إطار الواقع الإسلامي والمسيحي بطريقة استهلاكية، ولذلك لم يصل المتحدّثون إلى أيّة نتيجة وبقي الحديث: مَن يحاوِر مَن، ومَن هي الجهة الصالحة للحوار هنا والجهة الصالحة للحوار هناك؟ هل من الضروري أن تكون جهة رسمية أو تكون جهة حزبية أو شعبية أو دينية؟ إنَّني أزعم أنّ المواطنين اللبنانيين العاديين من العمّال والفلاحين والمثقّفين قد تحاوروا وأخذوا النتائج، والدليل على ذلك هو اجتماعكم هذا في جامعة واحدة، في معمل واحد، في مزرعة واحدة، في مجتمعٍ واحد، تتبادلون كلّ التقاليد والعادات، التي تتّصل بحقوق الإنسان وواجباته. إنَّني أزعم أنّ الشعب اللبناني حاوَرَ بعضه بعضاً وبقي السياسيون وبقي البعض من رجال الدين، هؤلاء هم الذين يريدون أن يعقّدوا مسألة الحوار، لأنَّهم لا يريدون للحوار أن يتنفَّس الهواء الطلق.
استهلاك السياسة أم دراسة الخلفيات
لذلك أقول: حافظوا على هذا الحوار الإسلامي ـــ المسيحي، الذي تعيشونه وفكِّروا في حقيقة المسألة السياسية في لبنان، في خطوطها العامّة وفي كثيرٍ من تفاصيلها. إذا كنتم تتحدّثون عن المسيحية والإسلام في المسألة السياسية فإنَّني أحبّ أن أقول لكم ما أعتقده ـــ وقد أكون مخطئاً ـــ لم تُصنع سياسة لبنان في لبنان منذ الاستقلال وحتّى الآن. اللبنانيون يتحرّكون في الدوائر التي تُصنع لهم، حتّى أنّ اللبنانيين لم ينطلقوا ليصنعوا حربهم، صُنِعت لهم الحرب وكانوا وقودها. لذلك عندما تتكلَّمون بالسياسة لا تستهلكوا السياسة، ادرسوا خلفيّاتها، لماذا كانت المسألة في وقتٍ ما حديثاً في لبنان عن صراع فرنسي ـــ بريطاني؟ أتدرون الآن أنّ كثيراً من مفردات السياسة اللبنانية، في حركة الصراع في داخل المسيحية نفسها وفي داخل الإسلام نفسه وفي داخل الواقع، هي حركة الصراع بين أميركا وفرنسا. أنا لا أُريد أنْ أعتبر الدول الكبرى هي القضاء والقدر ولكنَّنا اخترنا قضاءنا وقدرنا، عندما انحنينا لهذا الذي يُخيّل أنّه يمثّل القضاء ولذلك الذي يخيّل أنّه يمثّل القدر. القضاء والقدر في حركة الإنسان الفاعلة هما صنع الإنسان: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11]، ولكنَّ المسألة هي أيّ قضاء هو الذي نصنعه نحن؟ الكثيرون منّا يسألون متى تهتمّ بنا أميركا، كما كانوا يسألون متى تهتمّ بنا بريطانيا ومتى تهتمّ بنا فرنسا؟
حدّثني أحد سفراء فرنسا في حديثٍ طويل، قال: مشكلتنا مع اللبنانيين أنّهم يحدّثوننا عمّا نريد ولا يحدّثوننا عمّا يريدون. ماذا يريد هذا وماذا يريد ذاك؟ عندما نكون لبنانيين، عرباً، شرق أوسطيين، إنسانيين، نصنع أشواكنا بأيدينا ونزرع ورودنا بأيدينا، عندما نعرف أنّ الجراح التي تصنعها أشواكنا، هي جراحنا نحن لا جراح الآخرين، لا الجراح التي يصنعها الآخرون، نعرف عند ذلك كيف نضمّد الجراح. أمّا عندما يصنع الآخرون لنا جراحاتنا فإنَّ قضية تضميد الجراحات تبقى تابعة لإرادتهم، تلك هي المسألة.
تكامل الإسلام والمسيحيّة
لذلك لا تصدِّقوا أنّ الواقع الذي نعيشه، هو أنّ المسلمين سرّ مشكلة المسيحيين الآن أو أنّ المسيحيين في الماضي كانوا سرّ مشكلة المسلمين في ذلك الوقت. نحن كلّنا ضحايا الذين صنعوا لنا المشكلة والذين يريدون لنا أنْ لا نعيها، ولا نفهم جذورها أو امتداداتها أو نتائجها، لأنَّنا إذا انطلقنا على أساس أنّ الذين يصنعون لنا مشكلاتنا هم الذين يصنعون لنا حلولها؛ فستكون الحلول على طريقتهم. لنعش إنسانيّتنا في مسيحيّتنا وإسلامنا، ولنعش مواطنيّتنا في إسلامنا ومسيحيّتنا، ليُغنِ المسيحي وطنه بمسيحيّته بقيمها الروحية، وليغن المسلم وطنه بإسلامه بقيمه الروحية والأخلاقية، فسنكتشف عند ذلك أنّ المسيحية تتكامل مع الإسلام وأنّ هناك ـــ إذا ابتعدنا عن الخلافات اللاهوتية ـــ 80% من المسيحية يحتضنها الإسلام وأنّ هناك 80% من الإسلام تحتضنها المسيحية. لذلك حاولوا لَأْمَ كلّ هذه الجراحات التي عشناها في هذا البلد والتي ما زال الكثيرون يعملون على صناعتها وإنتاجها من جديد.
وحدة المصير
لقد وحّدَنا الجرح ووحّدنا الألم وكلّ هذا الاهتزاز الذي نشعر به في المصير، ووحّدنا كلّ هذا القلق الذي نعيشه ونحن نحتضن أطفالنا بأيدينا، ليفكّر كلّ منّا ـــ آباءً وأُمّهات ـــ أيّ مستقبل هو مستقبل هذه الطفلة وهذا الطفل؟ عندما توحّدنا الجراح فسنفهم مَن نحن، وعندما توحّدنا الآلام ويوحّدنا القلق المنتج المبدع فسنصنع مِنَ القلق طمأنينة ومن الخوف أمناً ومن الاهتزاز صلابة، وعند ذلك نستطيع أن تحتضن عقولنا وقلوبنا بعضها البعض، لتحتضن حياتنا بعضها، ولن نتحرَّك بعد ذلك بطريقة استهلاكية في حوارٍ إسلامي ـــ مسيحي، لينطلق نداء هنا: مَن يحاور مَن، وفي أيّ مكان يكون الحوار، وما هو برنامجه؟ قولوا لهم: إنَّ الحياة هي حركة الحوار فينا، ونحن حركة الحوار في الوطن، والوطن حركة الحوار في المنطقة كلّها والإنسانية كلّها. نحن لا نتعلَّب ولكنَّنا ننفتح وكلّ موقع يغني موقعاً آخر، فهل تريدون غنى المواقع أم تريدون فقرها؟.
أسئلة الحضور
ـــ ما دام الأولياء من هنا والأولياء من هناك يعملون للتعاون والذوبان باسم الله فلماذا يتقاتل هذا الجيل وكلّ الأجيال باسم الله؟
إذا كان المقصود بالأولياء هم رجال الدين، فأتصوَّر أنّه مهما كان البعض منهم سيّئاً فلا يملك أن يجعل الناس يتقاتلون، وإذا كان المقصود رجال سياسة فقد بيَّنا أنَّ اللّعبة الدولية في لبنان تعمل على أساس تحريك بعض الأشخاص وتحريك بعض التناقضات وبعض عناصر التخلّف فينا، لننطلق نحو التقاتل. لذلك عندما كنت أُركِّز على الوعي وأن يفهم كلّ واحدٍ منّا الآخر وأن يفهم كلّ واحد منّا موقعه وظرفه وكلّ حركة المتغيّرات في المنطقة والعالَم؛ عند ذلك لن يستطيع أحد أنْ يستغلّ نقاط ضعفنا، لأنّها سوف تكون نقاط قوّة.
ـــ ما موقع الإسلام من الديانات غير السماوية كالبوذيّة مثلاً؟
إنَّ الإسلام ينفتح على البوذية، من خلال القِيَم الأخلاقية والروحية فيها يختلف معها في مسألة العقيدة، لأنَّ هناك حديثاً ممّن يؤرّخون للبوذيّة أنّها لا تؤمن باليوم الآخر أو لا تؤمن بما تؤمن به الديانات.
بين إلغاء الطائفية السياسية والعلمنة
ـــ هل تعتبرون إلغاء الطائفية السياسية حلاًّ للمعضلة اللبنانية، يكفي لجعله بلداً مستقراً على المدى المنظور، وهل ترفضون العلمنة بالمطلق؟
إنَّ إلغاء الطائفية السياسية، قد يساهم في إبعاد الطائفية عن تأثيراتها في إنتاج الإحساس الطائفي لدى الإنسان، لأنَّ المشكلة في الطائفية السياسية، أنّها تجعل الإنسان مضطراً إلى العيش في دائرة طائفية، لأنَّ كلّ حقوقه وكلّ الخدمات التي يتطلّبها تتحرّك من خلال موقع الطائفية، ولذلك فإنَّ طبيعة الطائفية السياسية تمثّل حركة إنتاج للإحساس الطائفي دائماً، هي ليست حلاًّ بالمعنى المطلق ولكنّها قد تحقّق بعض المفردات في طريق الحلّ.
أمّا بالنسبة لرفض العلمنة، فلا بدّ من تحديد معنى العلمنة ومعنى الدين. عندما يكون الدين علاقة بين الإنسان وربّه فمن الطبيعي أنّ الدين لا علاقة له بالحياة ولا علاقة له بالدستور ولا بالقانون، ولكن عندما يفكِّر بعض الناس كما يفكّر بعض المسلمين بأنّ الدين يمثّل قاعدة للفكر والعاطفة والحياة، وأنّه يختزن في داخله مفاهيم ونظريّات للحكم وللسياسة وللاقتصاد ـــ بقطع النّظر عمّا إذا كان هذا خطأ أم صواباً، لأنَّنا نريد أن نعطي عنواناً للفكرة ـــ فمن الطبيعي أنّه ينظر إلى العلمنة كدينٍ آخر. لأنَّ العلمنة عندما تمتلك مفاهيم تختلف مع مفاهيم هذا الدين أو ذاك، فمن الطبيعي أنّها تكون بمثابة دينٍ جديد.
لذلك لا بدّ من حوارٍ بين العلمانية وبين الدّين في تنوُّع النظرة للدّين، حتّى نستطيع أن نعرف إذا ما كانت العلمنة هي عملية إلغاء للدين، عندما يكون مفهومه مفهوماً واسعاً. تماماً كما نقول إنّ حلّ المشكلة القومية في هذا البلد هو أنْ ننطلق لنجعله ماركسياً مثلاً أو ما أشبه ذلك. إنَّ القومية عند ذلك تكون مفهوماً مقابلاً للماركسية، بلحاظ ما هو مفهوم الماركسية عن القومية. لهذا، لا بدّ أن نحدِّد الألفاظ، حتّى نستطيع أن نحدِّد طبيعة الحوار حولها أو الحكم عليها.
مَنْ المسؤول عن العداوة بين الإسلام والمسيحيّة
ـــ كيف انقلبت حالة المودّة بين الإسلام ـــ من أوّل نشأته ـــ وبين المسيحيّة إلى عداوة؟ ومَن المسؤول عن ذلك، مع العلم بأنَّ المسلمين حزنوا لما خسر الروم تجاه الفرس ثمّ بشرَّهم القرآن بنصر الروم ويومئذٍ يفرح المؤمنون؟
هي نفسها القضايا التي أنتجت العداوة بين المسيحيين أنفسهم وبين المسلمين أنفسهم: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [الشورى : 14]، عندما تتحرَّك الغرائز، ليكون الدين غريزة أو يكون زاوية مغلقة ضدّ الآخر فمن الطبيعي أنّ المسألة ستؤدّي إلى هذه النتائج. إنَّ المسألة ليست في مشكلة المسيحيين والمسلمين، ولكنّها مشكلة المسلمين أنفسهم ومشكلة المسيحيين أنفسهم. وقد لاحظنا في تجربتنا التي نرجو أن لا تتكرَّر في لبنان وهي تجربة الحرب اللبنانية، لاحظنا أنّ القتال عندما يدور في دائرة الدين الواحد يكون أكثر شراسة منه عندما يدور بين طائفتين. هناك حرب السنتين مثلاً وهناك الحرب التي دارت بين المسيحيين أنفسهم وبين المسلمين أنفسهم، إنَّنا نرى أنَّ الدمار الذي حصل وأنّ العُقَد التي حصلت في قتال المسلمين في ما بينهم وقتال المسيحيين بعضهم مع بعض أكثر شراسة من قتال السّنتين.
إنَّ هناك حالة غريزية، وعندما يتحوَّل الدين إلى غريزة فإنّه يتحرَّك من دون عقل أو وعي أو دين.
ـــ لماذا لا يكون الحوار بين المسلمين والنصارى في موضوع عقيدي عن طبيعة السيّد المسيح (عليه السلام) ثمّ بعد ذلك عن ربّانية القرآن؟
نحن تحدّثنا في الخطّ العام وقلنا: من الضروري في المجالات الفكريّة أن يكون هناك حوار حول الجوانب الفكرية، سواء الجوانب العقيدية التي تتّصل باللاهوت أو الجوانب التي تتّصل بالقِيَم وما إلى ذلك.
ـــ في أوّل إطلالة لكم على الجسم الجامعي في البقاع، هل ترون إمكانية نشأة نشاط سياسي اجتماعي ثقافي وحتّى اقتصادي، ينطلق من الجامعة ليشمل المجتمع بدل أن تنعكس غرائز المجتمع وعلاقاته على الجامعة؟
الجامعة تصنع للأُمّة عقلها
من الطبيعي أنّ الجامعة هي التي تصنع للأُمّة عقلها، ولذلك فإنَّ المفترض بالعقل الجامعي أن يحاول التحرُّر من كثير من المفردات، التي تجعله ينطلق في زوايا مغلقة ليزيد الواقع انغلاقاً. إنَّ هذا يتوقّف على طبيعة حركة الجامعة في برامجها وأساتذتها وطلاّبها. نحن نريد لكلّ الناس أنْ ينطلقوا ليتمرَّدوا على واقع التخلّف الذي جعلنا نندفع إلى المصير الأسود ونحن نصفِّق ونفرح ونهتف.
إنَّ الوعي الذي نستطيع أن نصنعه في عقولنا وفي قلوبنا، نستطيع أن نحرِّكه في اتّجاه قضية المصير، ليتحوّل إلى إنتاج اقتصادي وسياسي واجتماعي فاعل.
ـــ بما أنّ الإسلام يؤمن بالحوار، فلماذا دعا النبيّ (عليه الصلاة والسلام) القبائل بعد فتح مكّة إلى الإسلام وأعطاهم مهلة الإعلان إسلامهم وإلاّ سوف يقع الصدام بينه وبينهم؟ وأين يوجد الحوار في غزو الإسلام وفتحه للبلاد بالقوّة؟
للدولة الإسلامية أن تحمي نفسها
الواقع أنّ المشكلة التي كانت بين النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وبين المحيطين بمكّة لم تكن مشكلة خلاف فكري، حتّى ينطلق الإسلام ليدعوهم إلى حوار فكري؛ مع أنَّنا، عندما ندرس طريقة دعوة الإسلام الناس إليه، نجد أنّ الطريقة الأولى هي أنْ يدعوهم إلى الحوار ثمّ بعد ذلك تتعقَّد الأمور أو ما إلى ذلك. كانت المسألة هي مسألة بسط سلطة الدولة، هناك مسألة تتعلَّق بسلطة الدولة وهناك مسألة تتعلَّق بمسألة الفكر. أمّا قضية الفتوحات فلو درسناها فإنَّنا نجد أنّ لكلّ فتح من هذه الفتوحات ظروفه الموضوعية، وعندما ندرس حركة الإسلام في العالَم بشكلٍ دقيق، فسنجد أنّ امتداد الإسلام في العالَم، من خلال الدعوة، كان بنسبة 70% أو 80% وامتداده بالفتوحات كان بنسبة 20%.
من الطبيعي أنّ الإسلام عندما يتحوّل إلى دولة فللدولة أن تحمي نفسها وأن تفكّر في مصالحها. ولكن نحن نقرأ في كلمة (غوستاف لوبون) يقول: "ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب" لم يكن فتحاً همجياً أو وحشياً، وكان خاضعاً لظروف لو درسناها فقد نجد أنّها مبرّرة. وليس من الضروري أن نقول، إنّ كلّ الفتوحات الإسلامية تمثّل شرعية إسلامية، لأنَّنا قد نسجّل بعض علامات استفهام أو تحفُّظ على بعض المسؤولين المسلمين الذين كانوا في هذا الجانب أو ذاك.
واقعنا في ظلّ عملية السلام
ـــ كيف تقوِّمون حاضر لبنان في ظلّ العملية السلمية؟
هناك بيت من الشعر لنزار قبّاني في أوّل قصيدة اجتماعية يسمّيها "أوعية الصديد" يقول:
"يا وَيْلَ أوعية الصديد هي ليس تملك أن تريد ولا تريد"
ـــ وكيف تقوِّمون مستقبل لبنان في ظلّ اتّفاق غزّة ـــ أريحا؟
المشكلة في لبنان أنّه لم يصل إلى مرحلة، يحاول فيها أن يحدّد مستقبله بنفسه، وعندما يفكِّر اللبنانيون أنْ يحدِّدوا مستقبلهم بأنفسهم ولو بالتعاون مع الآخرين ـــ ليس معنى ذلك أنْ ننعزل ـــ عند ذلك يمكن أنْ نتحدَّث عن مستقبل لبنان على صورة ما يحبّ اللبنانيون.
ـــ تطالبون بإلغاء الطائفية السياسية وتنادون بإقامة دولة إسلامية، كيف توفِّقون بين الاثنتين مع أنّهما متعارضتان؟
نحن عندما نؤمن بالإسلام على أنّه نظام حكم فإنَّنا نطلقه في العالَم، ليؤمن به أو ليفكّر به الآخرون. ونحن نعرف أنّ لبنان لا يملك أيّة ظروف، سواء من ناحية داخلية أو من ناحية خارجية، لقيام أيّة دولة إسلامية أو مسيحيّة، وحتّى أيّة دولة ماركسية أو اشتراكية أو ما إلى ذلك... لكنَّنا عندما نطرح الفكر، نطرحه كفكر كما يطرح الآخرون فكرهم على أساس حضاري، ليدخل الآخرون في مناقشته. ونحن نعتقد أنَّنا عندما نحرِّك الإسلام بالطريقة الفكرية ولو بهذه الطريقة فإنَّنا نُخرج الإسلام عن أنْ نفكِّر فيه طائفياً، ليكون مسألة فكر يناقشه الآخرون ونحن ندعو إلى الحوار حول ما نقدّمه من فكرٍ إسلامي.
إمكانية التعايش بين اليهود والفلسطينيّين
ـــ بعد أن وُضعت البنود الأخيرة للانسحاب الإسرائيلي من غزّة وأريحا، هل ترون أنّ هناك أُسُساً للعيش المشترك بين الشعبين؟
لا أتصوَّر أنّ هناك إمكانية للعيش المشترك بين الشعبين، إنَّ الشعب العربي أو الشعوب الإسلامية استطاعت أن تؤكّد العيش المشترك، فلقد استطاع اليهود والنصارى والمسلمون في مدى الزمن أن يعيشوا مع مشكلات تحدث بينهم، تماماً كما هي المشاكل التي تحدث داخل كلّ منهم، ولذا فنحن لا نرى في الشرق العربي المسلم أيّ إلغاء لليهود وللنصارى أو حتّى لفئات أخرى مثل اليزيديين وغيرهم. مشكلة اليهود أنّهم عندما يعيشون مع أيّ شعب فإنَّهم يعملون على التمايز عن هذا الشعب وعلى التحرُّك من أجل ما يفكِّرون به من منطلق عنصري فوقي.
لذلك نحن نعتقد أنَّ الصلح إذا تمّ بين العرب وبين اليهود فسيصنع اليهود مشكلات لا عدّ ولا حصر لها في اقتصادنا وسياستنا وأمننا، لتنطلق الثورة الجديدة في أجيال جديدة، لأنّ طموحات هؤلاء وأطماعهم هي في أن يحصلوا بالسياسة على ما لم يستطيعوا الحصول عليه بالحرب.
عدم نضوج تجربة الدولة الإسلامية، لماذا
ـــ في مقابلة سابقة لكم مع الأستاذ غسان تويني قلتم إنَّ تجربة الدولة الإسلامية لم تنضج بعد، ما السبب في ذلك؟
طبعاً كنت أتحدَّث عن مسألة إيران، لأنَّ قضية أن تُنشئ دولة، ليست هي أن تدعو للدولة أو تعلن قيامها، لأنَّ المشاريع الاقتصادية تحتاج إلى اقتصاد مركَّز مستقرّ غني وكذلك بالنسبة إلى المسائل الأمنية وغيرها. ونحن نعرف أنّ إيران مرَّت بحرب مدمّرة في مدى ثماني سنوات، حطَّمت كلّ بنيتها التحتية، كما أنَّ الحصار الأميركي الذي يواجه إيران من أكثر من جانب، خلق مشكلات كثيرة. لهذا، الدولة ليست مجرّد مشاريع على الورق ولكنّها مشاريع على الأرض، لذلك لا بدّ أن نعمل على أساس تحضير الأرض ـــ والإنسان هو من أرض الدولة أيضاً ـــ حتّى يمكن لنا أن ننجح أو نفشل. أنا أتصوَّر أنّ الدولة الإسلامية لم تنضج بعد، كما أنّ الدولة القومية الآن في بلادنا العربية لم تنجح. كلّ ذلك من جهة الظروف، بقطع النظر عمّا إذا كان البرنامج الموجود لدى الإسلام والبرنامج الموجود لدى القومية أو الماركسية برنامجاً صحيحاً أم غير صحيح، هل يستجيب لحاجات الشعب أم لا؟ هذه مسألة أخرى، لكنَّ هناك شروطاً واقعية في المسألة، والشروط الواقعية قد تُنجح الثائرين في قلب النظام السابق ولكن قد تخلق أمامهم مشكلات عندما يريدون أن يصنعوا النظام الجديد.
ـــ هل يمكن أن نؤمن بالمسيحيّة والإسلام وأن يحبّ بعضنا بعضاً كمسلمين ومسيحيين من الناحية الأخلاقية؟
القرآن كان واضحاً: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة : 82] والقرآن تحدَّث: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [ آل عمران : 64]. إنَّنا نستطيع أن ننطلق من عمق الإسلام وعمق المسيحيّة، لنحبَّ بعضنا بعضاً ولنتكامل ولنقف على الكلمة السّواء.
بين الجرح ومبضع الجرَّاح
ـــ إذا كان الجرح وحَّدنا فهل سيوحّدنا مبضع الجرّاح؟
لا بدّ من معرفة ما هو المبضع ومَن هو الجرَّاح؟
تابع السؤال: وأيّة جدوى للحوار المسيحي ـــ الإسلامي إذا كان قرار البناء معلَّباً وخارجاً عن إرادتنا..؟
إنَّنا أخرجناه عن إرادتنا. عندما نحرِّك إرادتنا ونكتشف كلّ مضمون هذه الإرادة ونستطيع أن نُمسِك بها ونصنعها، عند ذلك نستطيع أن نصنع قدرتنا وقضاءنا. المهمّ أن لا نتطلَّع إلى الآخرين كيف يحلُّون بنا مشكلتنا، أن نفكِّر كيف نحلّ المشكلة وأن نجمع كلّ الأدوات التي يمكن أن تحلّها، ثمّ نقول للآخرين تعالوا لنتفاهم ولنتكامل، لكم مصالح عندنا ولنا مصالح عندكم فلنوفّق بين هذه المصالح. المهمّ أن نكون نحن أنفسنا، وعند ذلك يمكن أن نعرف كيف نحدِّد موقفنا من الآخر.
ـــ نحن شكَّلنا حواراً من دون وساطات فنحن كمواطنين في سهل البقاع الزراعي نتحاور وتتحاور المسيحية والإسلام بدون جامع وبدون كنيسة، ما رأيكم لو اتّبع رجال الدين المسيحيون والمسلمون المسيَّسون الحوار الطبيعي بين الناس؟
تستخدم لفظة "القمّة" في الكثير من كلمات الإعلام عندنا، ولكن مَن هم هؤلاء "القمّة" هم رؤساء الطوائف ورؤساء الأحزاب ورؤساء المواقع الرسمية، أليس كذلك. هؤلاء هم القمم، ولذا يقولون اجتماع قمّة روحية وقمّة سياسية وقمّة رئاسية وما إلى ذلك، أنا قلت كلمة سابقة: إذا أرادت القمّة أن ترتفع فعليها أن ترتفع إلى مستوى القاعدة، لأنَّ القاعدة تملك من عناصر السمو ما لا تملكه القمّة. لذلك إنَّنا نقول للذين يتحدّثون عن الحوار الإسلامي ـــ المسيحي، تعالوا إلى البقاع وتعالوا حتى إلى بعض مناطق الجنوب والشمال وحتّى في بيروت، لتتعلَّموا كيف انطلق الحوار بعفوية وبشكلٍ واقعي وطبيعي واستطاع أن يحقِّق النتائج.
طريق التطبيع مع اليهود
ـــ قال تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة : 120]، {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ}، [البقرة : 217] {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران : 73]، من خلال قراءة الآيات الكريمة السابقة نلاحظ أنّ القرآن الكريم ربط العلاقة بين الإسلام والنصارى والعلاقة بين الإسلام واليهود فجعلهم في المرتبة نفسها بالعلاقة مع الإسلام، ومن هنا كيف يمكن أن يكون هناك تقارب بين الجهتين، الإسلامية من جهة، واليهود والنصارى من جهةٍ أخرى، ومنه ألاَ تعتقد أنّ التطبيع بين المسلمين والنصارى طريق ممهّد للتطبيع مع اليهود أعداء الأُمّة؟
الواقع أنّ السائل لم يتعمَّق في دراسة المضمون الإيحائي لهذه الآيات. إنّ هذه الآيات تتحدّث عن أنّ بعض الناس ربّما يجاملون بعض الناس في دينهم فيتنازلون عن دينهم، حتّى يقبل الآخرون، أمّا كلمة اليهود والنصارى، باعتبار أنّهما الجهتان الموجودتان، يمكن أن نقول أيضاً ولن يرضى عنك الماركسيون حتّى تتبع ملّتهم، أيضاً، يمكن أن يقال للنصارى ولن يرضى عنكم المسلمون، حتّى تتبعوا ملّتهم. المسألة هي أنّك لا تقدّم تنازلاً للآخر من مبادئك ومواقفك طلباً لرضاه، لأنَّ الآخر إذا كان ملتزماً مبدأه فمن الطبيعي، أنّه لا يرضى عنك الرضى الكامل، إلاّ إذا اتّبعت ملّته. وهذا أمر حياتي وإنساني. ليس المقصود في هذه الكلمة خصوصيّة اليهود والنصارى ومسألة قضية الحوار والتطبيع وعدم التطبيع، المقصود من هذه الكلمات، أنّه عندما يكون هناك تعدُّديّة مرتكزة على أساس الذات، سواء كانت طائفية أو غيرها؛ فمن الطبيعي أنّك إذا أردت أن تنطلق مع هؤلاء، فهناك طريق الحوار والإقناع، أمّا أن تقدِّم تنازلاً من دينك أو من سياستك أو من مواقفك، ليرضى عنك فاعرف أنّه لن يرضى عنك، إلاّ إذا اتّبعت ملّته وطريقته وسياسته، لأنَّ طريقته لا تتجزّأ فلا يمكن أن يرضى عنك، إذا قدّمت جزءاً وأغفلت جزءاً آخر. هذا بعيد عن الموضوع في ما نفهم من الآيات.
الحلول الفردية تضعف الموقف العربي
ـــ هل برأيكم الحلّ الفردي مع الجانب الصهيوني إضعاف للموقف العربي ككلّ، وما توقّعاتكم للآثار المترتّبة على هذا الحلّ؟
الواقع أنّ الحلول الفردية تضعف الموقف العربي وقد أضعفته، ونحن نعرف أنّ السياسة الأميركية مع السياسة الإسرائيلية وبعض السياسات العربية، تعمل على إيجاد تطبيع سياسي أو اقتصادي يهودي خليجي أو غير خليجي، كما في بلاد المغرب من أجل تطويق سوريا ولبنان وربّما الأردن، حتّى يشعروا بوجود طوق عربي يمثّل قوّة لـــ "إسرائيل" بالإضافة إلى الطوق الإسرائيلي. إنَّنا نعتقد أنّ هناك خطّة لإسقاط العنفوان العربي، من خلال تطبيع عربي ـــ يهودي.
ـــ إلى أيّ مدى نستطيع التوفيق بين الدين الإسلامي والدين المسيحي أو بمعنى أوسع، ما النقاط المشتركة بين الديانتين؟
عندما ندرس النصوص الواردة عن السيّد المسيح (عليه السلام) أو النصوص الواردة في القرآن وعن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) نجد أنّ القِيَم الإسلامية الأخلاقية والروحية والقِيَم المسيحية الأخلاقية والروحية تلتقيان في مدى 80% بعيداً عن مسألة اللاهوت.
ـــ أُناس كثيرون متأثرون بك لفضائلك وأخلاقك ـــ أنا آسف أن أُقرّ، لكنّ المفروض أن أُعلِّق لأنَّ فيها ذاتية ـــ وهذا شيء جيّد، ولكن البعض متأثّرون إلى حدّ القداسة وفي اعتقادي هذا مبالَغ فيه، فهل أنتَ ترضى بهذا الشيء؟
أنا بشر كبقيّة البشر أُخْطِئ وأُصيب، لي أخطائي في أفكاري وإصاباتي، وقد يكون لي أخطائي في سلوكي وإصاباتي، لهذا أحبّ من كلّ الإخوان وأنا أُقدِّر محبّتهم أن يتعاملوا معي، كما يتعاملون مع أيّ بشر يخطئ ويصيب و"أحبّ إخواني إليَّ مَن أهدى إليَّ عيوبي"(1).
انتشار الإسلام بالسيف أم بالحوار؟
ـــ هل كان سبب انتشار الإسلام الحوار أم السيف؟
قلنا الحوار هو الذي يمثّل الأساس الأكبر لانتشار الإسلام.
ـــ {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف : 6] ما المقصود من هذا؟
طبعاً القرآن يتحدّث عن أنّ البشارة بالنبيّ كانت رسالة الأنبياء السابقين. موسى (عليه السلام) وعيسى (عليه السلام)...
ـــ ما برأيكم ـــ دور الشباب المثقّف في إلغاء الطائفية السياسية وإعادة اللّبننة إلى لبنان؟
نحن نقول: إعادة الإنسانية والمواطنية إلى لبنان، لأنَّ مسألة اللّبننة نخشى أنّها أصبحت تمثّل مصطلحاً، يخاف منه العالَم فكيف لا نخاف منه نحن.
حدود الصداقة بين الشاب والفتاة
ـــ ما حدود الصداقة والزمالة بين الشاب والفتاة ضمن نطاق محلّهما؟
كطلاّب جامعة أن تكون صداقة طالب مع طالبة، لا صداقة شاب مع فتاة أو أنثى مع ذكر، إذا أريد للصداقة أن تأخذ خطّها الطبيعي في المسألة الإنسانية، لا في المسألة الغريزية. أمّا إذا أريد المسألة الغريزية فلها مكان غير الجامعة كما أعتقد.
ـــ يسيء البعض إلى الآخرين باسم الإسلام فيردّ هؤلاء بجهلهم بأنّ الإسلام دين ناقص أو ينقصه الكثير، ماذا توجّه لهؤلاء جميعاً وكيف يُردّ على هذه المسألة، مع العلم بأنَّ المشكلة ليست في الإسلام كرسالة سماوية؟
هناك مَن يقول: الإسلام شيء والمسلمون شيء آخر. علينا عندما نعيش في مجتمع، سواء كان إسلامياً أو مسيحياً، ينتمي إلى دين معيّن، أن ندرس طبيعة الدين ثمّ نقارن بين خطوطه العامّة وبين الواقع الذي يعيشه المنتمون إليه، وعند ذلك نستطيع أن نقول: هل أنّ هؤلاء هم صورة الدين أم أنّهم صورة مخالفة له؟
بين الروح والنفس
ـــ ما الفرق بين الروح والنفس؟
النفس بالمصطلح تعبّر عن الذّات: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء : 35]، الروح ليست هي التي تذوق الموت، النفس بحسب المصطلح اللّغوي يراد بها الذّات، الروح هي التي تعطي الذّات حياتها وحيويّتها و...
ـــ ممّا لا شكّ فيه أن ندواتكم ومثيلاتها مفيدة جداً، إنَّما نجد أنّ تلك الأحاديث والمحاضرات لا تلبث أن تُنسى، إذ أنّها تنبع من المثاليّات البحتة، فلِمَ لا تقام أعمال مشتركة أو نشاطات مشتركة ويتبادل فيها الطرفان التعارف والأفكار؟ إنَّ مثل هذه النشاطات كفيلة بأن تنشر أواصر الصداقة.
لا نتحدَّث مثالياً بل واقعياً
أوّلاً: نحن لم نكن نتحدَّث مثالياً، كنّا نتحدَّث عن الواقع وأعتقد أنَّنا لامسنا بعض جراحات الواقع وبعض مفرداته. أمّا لماذا لا تكون هناك نشاطات مشتركة؟ هناك نشاطات ثقافية مشتركة بين المسيحيين وبين المسلمين، هناك نشاطات اجتماعية مشتركة واقتصادية مشتركة، لذلك ليس شيئاً نتطلَّبه ولكنّه شيء نعيشه وعلينا أن نوسع ما نعيش.
ـــ ورد في حديثك أنّ التضحية مفهوم ديني بحت ولا يمكن لأصحاب الأفكار المادية أن يضحُّوا، ماذا إذاً عن الذين قدَّموا أرواحهم في سبيل الفكرة الماديّة؟
أظنّ أنّ السائل أو السائلة لم يلتفت إلى كلامي، قلت: إنَّ الماديين ينطلقون من رواسب دينية وهم يتحرَّكون في التضحية من خلال الرواسب الدينية، ولو ابتعدوا عن هذه الرواسب وجفَّت هذه الينابيع الدينية في أنفسهم وتحوَّلوا إلى ماديّين في عقولهم وفي أفكارهم وفي إحساسهم، فإنَّ التضحية تصبح شيئاً لا معنى له.
أُسس دولة الإنسان
ـــ على ماذا ترتكز أُسس بناء دولة الإنسان، التي تنطلق من خلال الحوار الإسلامي ـــ المسيحي؟
أن تكون إنسانية الإنسان هي التي تحرِّك الواقع من خلال حقوقه وواجباته لا طائفيّته.
ـــ هل يمكن أن يكون لنا رجاء عندكم في وضع مؤلّف يوضح ويحدِّد كلّ مواضيع الحوار ويدخل في تفاصيلها؟
آية الله فضل الله: أظنّ أنَّني متخصّص بالحوار، عندي كتاب "أسلوب الدعوة في القرآن" صدر قبل 34 سنة وعندي كتاب "الحوار في القرآن" كُتب قبل 20 سنة، ونشر في هذه الأيام ـــ وهذا ليس من قبيل الدعاية ـــ وكتاب "في آفاق الحوار الإسلامي ـــ المسيحي".
ـــ هل يمكن أن تلتقي الحركات الوجودية المنادية بالمادية مع الروحانيّات؟ وهل يمكن أن يكون الإنسان وجودياً ومؤمناً في آنٍ واحد؟
هذا يتوقّف على فهم معنى الوجودية وفهم طبيعة المادية، عندما يكون الإنسان مادياً بالمعنى الفلسفي للمادية؛ فإنَّ من الطبيعي أن لا يؤمن بالغيب، وقضية الإيمان هي الإيمان بالغيب، ولذلك هناك فرق بين الإيمان بالطبيعة وبما وراء الطبيعة.
حول قضايا الفكر وشؤون السياسة(*)
استطلاع آراء العلماء والمفكّرين أمر ليس سهلاً وخاصّة مع شخص كالعلاّمة محمّد حسين فضل الله، الذي برز علماً من الأعلام وسياسياً محنَّكاً ومدرسة ثقافية وأدبية، أصبحت أفكاره وآراؤه تحظى بإعجاب الجميع، حيث يتحوّل منزله كلّ يوم إلى منتدى يشارك فيه علماء دين وسياسة ومثقّفون يقصدونه من بعيد، حتّى يستمتعوا بالتحدُّث إليه والسّماع لما يقوله... التقاه مؤخّراً زميلنا علي مشكوري خلال زيارته للبنان ودار معه حوار مطوَّل شمل قضايا إسلامية وثقافية وسياسية، وإليكم نصّ الحوار:
الانفتاح اللبناني
ـــ إلى أيّ حدٍّ يؤثّر الوضع الثقافي اللبناني الحالي على الوحدة اللبنانية، وما تأثير الخارطة الثقافية التاريخية لجبل عامل من ناحية العلماء والمفكّرين على خصوصيّة الثقافة اللبنانية حالياً؟
بسم الله الرحمن الرحيم. لعلَّ موقع لبنان كقاعدة للحركة الثقافية في العالَم العربي، كان بحكم احتكاكه بالثقافات العالمية والغربية قبل أيّ بلدٍ عربي آخر، حتّى قبل مصر التي كانت السبّاقة في علاقاتها بالغرب منذ أوّل ما يسمّى بعصر النهضة، حيث كان اللبنانيون أحد العناصر التي استطاعت أن تفتح مصر على الآفاق الثقافية فنجد مثالاً على ذلك صاحب دار الهلال والمقتطف وغيرهما كانوا من اللبنانيين؛ لذلك فإنَّ انفتاح لبنان على الغرب جعل الغرب ينفتح على الشرق من خلاله، وبالنظر إلى الحريّة الفكرية والسياسية والثقافية الموجودة في لبنان من جهة تعدُّد الطوائف، ومن جهة وجود الطائفة المسيحية بالذّات، باعتبارها الأسبق للانفتاح على الغرب ومن خلال اعتبار نفسها قاعدة أوروبية في الشرق، لوثوق العلاقات الثقافية والسياسية بين الغرب والطائفة المسيحية؛ كلّ ذلك جعل لبنان يتحرّك في موقع ثقافي مميَّز في العالَم العربي، بحيث كان لبنان ينافس مصر في الكتاب العربي والمجلاّت الأدبية الثقافية العربية وحتّى العلمية، وكان لبنان سوق المنطقة العربية. وأعتقد أنّ هذا الدور الثقافي لم يبتعد عن لبنان كثيراً في أيّام الحرب فكلّنا نلاحظ أنّ المطابع اللبنانية كانت تعاني أزمة طباعة لكثرة الكتب التي تطبع فيها. وإذا كانت الحرب قد تركت بعض التأثيرات على صدور بعض الصحف وبعض المواقع الثقافية فإنَّ العنوان الكبير للدور الثقافي في لبنان كان موجوداً. وأعتقد أنّ لبنان لا يزال يملك هذه القاعدة الثقافية وهذا ما نلاحظه في كثرة المجلاّت المتخصّصة في الجانب العلمي والسياسي والأدبي والثقافي بشكلٍ عام.
ومن الناحية الفكرية نلاحظ أنّ أغلب التيّارات الفكرية الموجودة في العالَم تجد صدىً لها في كلّ المواقع الثقافية أو الإعلامية في لبنان، لكن هناك نقطة لا بدّ من أن نرصدها وهي أنّه ليس من الضروري أن يكون كلّ الذين يديرون هذه الحركة الثقافية والذين يكتبون من موضوعات هم من اللبنانيّين، فنحن نجد أنَّ المجلات اللبنانية الكبرى تُنشر فيها أبحاث لغير اللبنانيين، لذلك نستطيع القول: إنَّ لبنان يملك الساحة الثقافية التي تتحرَّك فيها الثقافة العربية، لا الساحة التي تنتج الثقافة العربية؛ فاللبنانيون الذين ينتجون الثقافة العربية قلّة، سواء في الجانب الإسلامي أو المسيحي. هناك كُتَّاب ولكنَّنا لا نستطيع أن نقول إنّ هناك مبدعين في الجانب الثقافي بشكلٍ عام وإنْ كانت الساحة لا تخلو..
إنَّنا نتصوَّر أَنّ الدور الثقافي للبنان لا يزال موجوداً ومتحرّكاً ولكن ليس بالقوّة التي كان لبنان يتحرّك فيها سابقاً، لأنَّ الدول العربية، التي كان لبنان يزوّدها بالثقافة، أصبحت فيها مواقع ثقافية متقدّمة وأصبحت منفتحة على الثقافات العالمية. وربّما نجد أنّ هناك بعض المجلات أو الكتب الصادرة في هذا البلد العربي أو ذاك قد تتفوَّق على بعض ما يصدر في لبنان أو مصر.
أمّا تأثير الوحدة الوطنية على الجانب الثقافي فقد يكون إيجابياً، باعتبار أنّ الوحدة التي جمعت اللبنانيين من جديد في مواقع ثقافية موحّدة أو متقاربة، هيّأت الجوّ للبنانيين كي يتفاعل بعضهم مع البعض الآخر بالشكل الذي هيّأ الجوّ لتعاون ثقافي بين كلّ النوادي الثقافية والمواقع الثقافية إلى أيّة جهةٍ انتمت. فمن الطبيعي أنّ البلد عندما يكون موحّداً فإنَّ الطاقات تتكامل وتتجمَّع فيه ولكن إذا لم يكن موحّداً فمن الطبيعي أن لا يحصل هذا التفاعل والتداخل بين الثقافات والمثقّفين.
أمّا دور جبل عامل فأعتقد أنّه دور مهم ولكنّه لم يترك تأثيره على الساحة اللبنانية الثقافية بشكلٍ قوي فاعل، وربّما كان السبب أنَّ النظرة الطائفية للمثقّفين اللبنانيين ـــ والذين كان أكثرهم من المسيحيين ـــ كانت نظرة سلبية إلى المناطق الإسلامية وربّما كانت الثقافة اللبنانية العاملية يغلب عليها الطابع الفقهي أو الديني، ممّا لا يعيره الآخرون انتباهاً. ولكن أتصوَّر أنّ الطابع الأدبي والسياسي لا يزال مهمّاً وقد أصبح للخطوط الثقافية ـــ ولاسيّما الأدبية منها ـــ دور في الساحة اللبنانية، ذلك أنّ الكثيرين من المثقّفين العامليين أصبحوا في مراكز ثقافية وحزبية متقدّمة وأصبح البعض من الشعراء يملك امتداداً ثقافياً، لذلك أعتقد أنّ الساحة الثقافية بدأت تستقبل المثقّفين العامليين بشكلٍ جيّد وأفضل من السابق.
مواجهة الهجمة الغربية
ـــ هل هناك هجمة ثقافية غربية على لبنان؟
من الطبيعي أنّ الثقافة الغربية تعمل على تأكيد مراكزها ومواقعها في أكثر من بلد، لأنَّ السيطرة الثقافية هي أساس السيطرة السياسية، باعتبار أنّ أيّ شعب يأخذ ثقافة شعبٍ آخر فإنّه يشعر بالحاجة للارتباط بذلك الشعب وبالخضوع له في حاجاته الثقافية. وهذا ما نلاحظه في صراع الدول الاستكبارية في ما بينها في المنهج التربوي، فنلاحظ أنّ منهج المنطقة التربوي كان أوروبياً وأصبح الآن يقترب من المنهج الأميركي، باعتبار أنّ أيّ منهج يركّز في أيّ موقع سوف يصنع ذهنية المجتمع والجيل الجديد حسب مفاهيمه وبرامجه، لذلك فإنَّ الغرب يعمل على تركيز ثقافته؛ ولهذا نجد أنّ هناك هجمة ثقافية غربية على حركة الثقافة الإسلامية المستقلّة لأنّها تقف في مواجهة المفاهيم الغربية الثقافية. ولكنَّنا نلاحظ إلى جانب ذلك أنّ أغلب مثقّفي لبنان أو البلاد العربية أو البلاد الشرق أوسطية عموماً أخذوا ثقافتهم من الجامعات الغربية أو من جامعات الشرق الأوسط التي تتحرَّك في البرامج الثقافية الغربية، كالجامعة الأميركية وغيرها، لذلك فإنّ الغرب لا يحتاج للقيام بهجمة ثقافية على المنطقة التي أصبحت تتأثَّر بهؤلاء المثقّفين من جامعات الغرب الذين أخذوا يستوردون الثقافة الغربية ويتفاعلون معها وينشرونها. إنَّني أجد أنّ الجوّ الثقافي العام في المنطقة هو جوّ الثقافة الغربية، حتّى أنّ الثقافة الإسلامية لا تزال تعيش في دوائر ضيّقة في هذا المجال. فنحن نلاحظ مثلاً أنّ أجواء الثقافة والعلم في الجامعات الإيرانية هي أجواء غربية ولم تستطع الحوزة أن تترك تأثيرات قويّة وواسعة عليها وإنْ كان لها بعض التأثير، لذلك فنحن نعاني في الواقع من مشكلة الثقافة الغربيّة وهذا قد يشكِّل عنوان هجوم، ليس من الضروري بمبادرة غربية، ولكن بحسب طبيعة هجمة الثقافة الغربية من خلال التأثيرات الغربية على حياتنا منذ بداية هذا القرن في السيطرة على كلّ مواقعنا الثقافية.
ـــ ما السبيل لمواجهة الهجمة الغربية؟
إنَّ أوّل خطوة في طريق الحلّ هو أنْ نتحرَّك في تعميق الثقافة الإسلامية وصياغتها بلغة العصر، وأنْ يتحرَّك المفكِّرون المسلمون ليفهموا ذهنية العصر وطريقته في تقديم القضايا وتحريكها ومعالجتها بطريقة أو بأخرى، ولا بدّ أن نركّز أن نطلق أفكارنا الإسلامية لندرسها في الداخل، لأنَّ المشكلة في الواقع الإسلامي هي سيطرة قوى التخلُّف والجمود على المواقع الثقافية في الحوزات العلمية بشكلٍ عام وفي كثير من المواقع، بحيث لا يستطيع الكثيرون من النّاس أن يناقشوا أيّة فكرة من الأفكار التي تعاكس التفكير العام. ولعلَّنا نلاحظ أنَّ العامّة أصبحت تسيطر على الخاصّة؛ ولهذا فإنَّنا بحاجة إلى ثورة فكرية، بمعنى أن نعمل على مناقشة أفكارنا من الداخل، قبل أن يناقشها الآخرون، لنطرد الغثّ منها ونبقي السمين، ونتحرَّك بمناهج ثقافية في الفكر والأسلوب والجوّ والخطط، بحيث تتحرَّك المواقع الثقافية على طريقة مبادرات الشهيد السيّد محمد باقر الصدر أو الشهيد مطهري أو غير هؤلاء من المفكّرين، الذين فهموا طبيعة العصر واستطاعوا أنْ يقتحموا بالإسلام مواقعه. إنَّني لا أجد الكثير من أمثال هؤلاء في الواقع الإسلامي، لذلك أنا أعتقد أنّه عندما نريد للثقافة الإسلامية أن تدخل العصر وأن تواجه الثقافة الغربية في ساحة الصراع فلا بدَّ لها من ترتيب أوضاعها بالطريقة التي يمكن لها أن تثبت في هذه الساحة. أمّا أن نتحدّث بلغة القرون الوسطى، لنقنع من يعيش في القرن الحاضر، فهذا تماماً كما تتحدّث مع جماعة بلغة غير لغتهم، لأنَّنا نعتبر أنّ الذهنية لغة. وقد روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إنّه قال: "إنَّا معاشِرَ الأنبياء أُمِرْنا أنْ نُكَلِّم الناس على قدر عقولهم"(1) العقل هو لغة، لا تستطيع أن تتفاهم مع عقلٍ آخر بطريقةٍ أخرى لا يعرفها هذا العقل.
المفاوضات مع الصهاينة
ـــ إحدى المسائل المهمّة في لبنان والشرق الأوسط هي ما يسمّى بمفاوضات السّلام مع "إسرائيل"... كيف ترون مستقبل المفاوضات؟ وما دور لبنان في هذه المفاوضات؟
أوّلاً أعتقد أنّ لبنان هو البلد الذي تتحرّك فيه ثقافة المفاوضات بشكلٍ أوسع من أيِّ بلدٍ آخر، لأنَّ لبنان يجمع الخطوط المتناقضة في هذا الموضوع، بين فئةٍ تؤمن بالصلح بشكلٍ مطلق وفئة ترفضه بشكلٍ مطلق وفئة تحاول أن تقبله بشروط وترفضه بشروط. لذلك فإنَّني أتصوَّر أنّ الذي يتابع حركة الثقافة السياسية في لبنان، في موضوع الصلح وفي أكثر المواضيع الأخرى المتحرّكة في الساحة العربية أو الشرق أوسطية، فإنّه يجد في لبنان غنىً كبيراً في هذا الموضوع. أمّا ما مستقبل المفاوضات؟ إنَّني أتصوَّر أنّ المفاوضات لا تمتلك عناصر كبيرة في الوصول إلى نتائج حاسمة في وقتٍ قريب، لأنَّ المشاكل العربية الإسرائيلية قد تعيش كثيراً من التعقيدات الصعبة، التي لا يمكن حلّها بسنة أو سنتين، ولكنَّني أتصوَّر في الوقت نفسه أنّ المفاوضات سائرة إلى الصلح، باعتبار أنّ طبيعة الظروف الدولية والإقليميّة في العالَم تعمل بكلّ ما لديها من وسائل للضغط الموجّه على العرب أكثر من الضغط الموجّه على "إسرائيل".
إنّ هذا الواقع السياسي والأمني الموجود في المنطقة، أصبح يعرض المصالح الدولية الكبرى ـــ ولاسيّما المصالح الأميركية في المنطقة ـــ للخطر ولذلك سوف يعملون بكلّ ما عندهم من جهد، ولاسيّما مع انعدام الوزن السياسي والأمني والاقتصادي العربي، في سبيل الضغط على العرب، ليقبلوا بأيّ شيء يفرض عليهم من قِبَل أميركا أو "إسرائيل". هذه هي الصورة التي تتحرّك فيها الأحداث ولكنَّني لا أعتبرها تمثّل القضاء والقدر، الذي لا يمكن الهروب منه؛ لأنَّنا نؤمن بالقرآن وبما حدَّثنا الله سبحانه في القرآن أنّ الإنسان يصنع قدره من خلال ما أوكل الله إليه أمره: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال : 53].
لذلك فإنَّ هذه القضية تتبع موقف الشعوب العربية والإسلامية، هل تعمل على أن تقف بقوّة في مواجهة المخطَّطات الاستكبارية؟ أم أنّها لن تتحرَّك في هذا الاتّجاه بل سيضعف بعضها ويخوِّف بعضها الآخر؟ أم أنَّ التوازنات السياسية الدولية قد يلحظها هذا الموقع أو ذاك أو هذه الدولة أو تلك، بحيث يتحوَّل الاعتراض على المفاوضات إلى مجرّد كلمات في الهواء من دون أيّة خطّة، وتبقى المقاومة الإسلامية في لبنان والانتفاضة الإسلامية الفلسطينية مجرّد نقطتين من الضوء محاصرتين بكلّ الظلام، بحيث لا يسمح لهما بالتوسُّع؟ ولذا نلاحظ أنَّ الانتفاضة لا تزال في دوائرها المحدودة.
إنَّ العالَم العربي والإسلامي إذا استطاع أن يستيقظ من هذه الرقدة الطويلة، فإنّه يمكن أن يخرِّب المخطّطات الأميركية والإسرائيلية؛ ولكنَّ المشكلة أنّنا لا نجد هناك ثورة سياسية. هناك أحاديث سياسية ومجرّد خطوات سياسية وحتّى الذين يرفضون الصلح لا يملكون خطّة على مستوى المراحل، يواجهون بها مسألة الصلح بطريقة منظّمة. هناك أفكار في الهواء وشعارات ومشاريع ومواقف لا ترتبط بعضها ببعض.
لذلك إنَّنا عندما ندرس الواقع الدولي وواقع الضعف الموجود في الشعوب العربية فإنَّنا نشعر أنّ المفاوضات سوف تتحرَّك في الخطّ المرسوم لها بسنة أو سنتين أو أكثر من ذلك حسب طبيعة التعقيدات الداخلية والخارجية في المنطقة. ربّما يفكّر بعض الناس أنّ المفاوضات إذا لم تصل إلى نتيجة في نهاية 1994، بحيث يحدث اختراق ـــ كما يقول رئيس الولايات المتحدة ـــ في سوريا فإنّه من الممكن أن تتأخَّر المفاوضات ولكن لا أن تصل إلى نتائج حاسمة بشكلٍ سريع، حتّى يأخذوا ما يريدون من المفاوضات. أمّا دور لبنان في المفاوضات فهو ليس دوراً أساسياً، ذلك أنّ لبنان لا يزال يتحرّك في مسألة العلاقات مع "إسرائيل" أو في مسألة المفاوضات مع الخطّ السوري. ولا يخفى أنّ الشأن اللبناني مرتبط بالشأن السوري في هذا المجال ومن الطبيعي أنّ هذا قد يحمي لبنان من السقوط تحت تأثير المخطّطات الداخلية والخارجية، التي يراد فيها للبنان أن يدخل الصلح منفرداً مع "إسرائيل" وهو على هذا الضعف.
تحوُّلات في لبنان
ـــ ما رأيكم بالتحوُّلات الأخيرة في لبنان والإعلان عن مرتكبي حادث التفجير(1) تصميم الدولة على حلّ أو إلغاء قوّة سمير جعجع؟
من الطبيعي وجود خطّة أميركية في لبنان تتجلّى في أن يمسك الجيش المواقع الأمنية وبذلك يستطيع أن يضغط على المواقع السياسية، وكانت أميركا تعمل لذلك بكلّ قوّة. إنَّ خيار أميركا في لبنان هو الجيش اللبناني، فهو القوّة التي تعمل أميركا بكلّ ما عندها من طاقة في سبيل أن تتحرَّك في لبنان من خلاله. وأعتقد أنَّ الخطّة التي رسمت في حركة الجيش اللبناني، كانت تتناسب مع الخطّة الأميركية في هذا المجال ولا نعتقد أنّ هذه الخطّة بعيدة عن نوع من التوافق السوري في هذا المجال وليست سلبية في المطلق، لأنَّ الفوضى ليست في مصلحة لبنان ولكنّ المشكلة أنّ الكثيرين من السياسيين في الداخل والخارج يستغلّون كراهة اللبنانيين للفوضى فيفرضون عليهم قيوداً جديدة قد لا تكون في مصلحة حريّاتهم، كما نلاحظه في الموقف ضدّ الحريّات في لبنان.
ـــ هل من المنتظر أن تخطو الدولة اللبنانية خطوة أخرى مع فصائل لبنانية أخرى؟
هناك حديث في الصحف والأجواء السياسية وبعض الأجواء الحكومية أنّ الجهة الثانية التي يراد الضغط عليها هي حز//ب الله، باعتبار أنّه يمثّل القوّة المعارضة والتي يقال إنّها موالية لإيران وإنّها تأتمر بأمرها، والقوّة المسلّحة الوحيدة التي لا تزال تحتفظ بسلاحها بحجّة أنّه سلاح المقاومة للاحتلال الإسرائيلي، ممّا قد يمنع الحكومة من الضغط عليه بطريقة أو بأخرى. ولكنَّني أتصوَّر أنّ الظروف الحاضرة في المستقبل القريب لا تسمح بضرب حز//ب الله والمقاومة الإسلامية، لأنَّ حركة المقاومة الإسلامية تملك شرعية سياسية محليّة وإقليمية وقد تكون دولية، فهي تمثّل إحراجاً للدول لأنّها مقاومة شعب يريد أن يخرج المحتل من أرضه، وإنَّ هذه لا تزال تمثِّل حاجة كبيرة للواقع السياسي. ومن هنا فإنّ الحكومة اللبنانية المتحالفة مع الحكومة السورية لا يمكن أن تقوم بعملٍ مثل هذا، لأنَّ سوريا لا توافق على ذلك ولأنَّ دخولها في صدام مع المقاومة قد يخلق لها مشاكل ربّما تعيد الحرب إلى لبنان، ولكنّ ذلك لا يمنع من القيام ببعض الخطوات التي تساهم في إضعاف حركة حز//ب الله بطريقةٍ أو بأخرى من دون المساس بالمقاومة.
دور المقاومة
ـــ كيف تنظرون إلى دور المقاومة الإسلامية اللبنانية في الحاضر والمستقبل؟
إنّ المقاومة الإسلامية، في المرحلة الحاضرة، تملك كلّ الظروف الملائمة التي تجعلها تتحرَّك بحريّة من الناحية السياسية أو العسكرية، إلاَّ أنّ مستقبل المقاومة سوف يواجه صعوبات كبيرة جداً إذا نجحت المفاوضات وتحقَّق الصلح مع "إسرائيل"، لأنَّ الواقع العربي سوف يضغط على المقاومة الإسلامية، وربّما يستغلّ الواقع الشعبي الذي لا يملك الكثيرون ـــ ممّن يقوم عليه الضغط الآن ـــ أن يضغطوا في المستقبل، وربّما يعمل الواقع السياسي في لبنان على إدخال المقاومة في خلافات ونزاعات محليّة، تماماً كما حدث سابقاً في الصراع بين حز//ب الله وحركة أمل. أتصوَّر أنّ المقاومة سوف تعاني صعوبات مستقبلاً ولكن ليس من الضروري أن تسقط فيها، لأنَّها قد تجد خيارات أخرى في مقاومة "إسرائيل" تختلف عن الخيارات الموجودة الآن...
المرجعية في العالَم الإسلامي
ـــ ما الفرق بين دور المرجعية الدينية ماضياً وحاضراً؟ كيف هي العلاقة بين المرجعية الدينية وبين موضوع ولاية الفقيه وقيادة النظام الإسلامي وما الضرورات الواجب دراستها في ما يخصّ المرجعية في العالَم الإسلامي؟
بالنسبة إلى مسألة المرجعية في الماضي والحاضر أعتقد أنّ الموضوع مختلف جداً، بحيث أنّ الشروط التي كانت توضع للمرجع في الماضي، لا بدّ من إضافة شروط إليها في الحاضر. لأنَّ الواقع الشيعي كان خارج التاريخ وكان الشيعة يمثّلون مجرّد جماعات منفصلة عن الواقع السياسي والثقافي في العالَم، باعتبار أنّهم عزلوا أنفسهم أو أنّ الآخرين عزلوهم عن حركة الحياة. أمّا الآن فقد أصبح المسلمون الشيعة في قلب التجربة السياسية والثقافية والأمنية في العالَم، بحيث نجد أنّ العالم يعمل على دراسة الفكر الشيعي وكلّ حركات الشيعة وكلّ خطوطهم السياسية، ممّا يفرض وجود قيادة للعالَم الإسلامي الشيعي تختلف عن القيادة السابقة؛ بحيث لا بدّ أن تكون ـــ بالإضافة إلى معرفتها الواسعة بالشريعة وتقواها ـــ أن تكون واعية للواقع السياسي العالمي ومنفتحة على الواقع الثقافي العالمي ومنطلقة في سبيل التخطيط للأوضاع الجديدة قبل أن يفرضها الآخرون علينا.
ونحن نلاحظ أنّ الذهنية العامّة لدى الشيعة في العالَم لا تزال هي الذهنية التقليدية، التي تنظر إلى الفقيه الذي يراد تقليده باعتباره الأعلم في الفقه والأصول وهو الأروع وما إلى ذلك. وهذا ما لاحظناه في التجربة التي عشناها، سواء في الذين رجعوا إلى المرجع الموجود في النجف أو المرجع الموجود في إيران، فإنَّنا لا نجد في هذا الجانب أيّة أفكار جديدة أو تطلُّعات جديدة بالمستوى الذي يحتاجه الواقع الشيعي، لأنّه ليست هناك أيّة مبادرات هنا أو هناك ممّا يعني أنّ الواقع الشيعي ـــ حتّى واقع الحوزات ـــ لا يزال يفكّر بأنّ المرجع الشيعي هو المرجع الذي يتميَّز بثقافة فقهية أصولية، من دون أن يلاحظ وجود ثقافة سياسية ومعاصرة أو انفتاح على الواقع المعاصر. إنَّ هذا يعني أنّ الواقع الشيعي ـــ حتّى في عالَم الحوزات ـــ لا يزال واقعاً تقليدياً فلا فرق بين موقعٍ وآخر ونحن نعتقد أنّ هذا من الأمور التي هي ضدّ مصلحة حركة التشيّع، لأنّ دور المرجع بقي محصوراً في إصدار الفتاوى وقبض حقوق وترخيص أخرى ولا دور في خارج نطاق هذا الموضوع.
... الجديد الذي حصل في واقع التشيّع هو مسألة الولاية، باعتبار أنّ الولي الفقيه هو الإنسان الذي لا بدّ أن يكون ـــ بالإضافة إلى اجتهاده وعدالته ـــ عارفاً بأمور زمانه ومحيطاً بها ومنفتحاً على كلّ قضايا الواقع الإسلامي في العالَم، لا الواقع الشيعي فحسب بل واقع المستضعفين في العالَم.
الاقتصاد الإقليمي
ـــ فيما لو تمّ الصلح فإنّه يمكن أن يتمخّض عنه اتّفاق اقتصادي إقليمي بين العرب وإسرائيل، فما تقييمكم لدور إيران في هذا السياق؟ وما التأثيرات الأمنية لمثل هذا الاتّفاق على الحالة الإسلامية الراهنة؟
من الطبيعي أنّ "إسرائيل" تعمل على أساس أن تجعل اتّفاق غزة/أريحا مدخلاً للعالَم العربي عبر الفلسطينيين، الذين سوف يكونون جسراً يربط العالَم العربي بإسرائيل من خلال الاتفاقات الاقتصادية بين "إسرائيل" والفلسطينيين، لذلك نجد أنّ "إسرائيل" تهتمّ بالمفاوضات الاقتصادية، الفلسطينية ـــ الإسرائيلية، أكثر من اهتمامها بالمفاوضات الفلسطينية السياسية أو الأمنية؛ لأنَّ هدف "إسرائيل" أن تخترق العالَم العربي والعالَم الشرق أوسطي على المستوى الاقتصادي. وهناك خطّة أميركية تحاول إلغاء مقولة العالَم العربي، ليحدث واقع سياسي أمني اقتصادي شرق أوسطي، يتوافق مع المصالح الأميركية في الواقع الأميركي الجديد في العالَم، ولذلك فإنَّ أميركا بدأت تتحدّث عن الشرق الأوسط ولا تتحدّث عن العالم العربي، وهذا ما يفسّر دخول تركيا كعنصر قويّ في الواقع الأمني والسياسي والاقتصادي في المنطقة.. وأتصوَّر أنّ وضع الجمهورية الإسلامية سوف يكون وضعاً صعباً، لأنَّ المسألة المطروحة أميركياً هي محاصرة الجمهورية الإسلامية حتّى تقبل بشروط أميركا.
ليس من الضروري أن يسقط النظام الإسلامي في الخطّة الأميركية، بل المطلوب أميركياً هو أنْ يتحرَّك النظام الإسلامي ليتوافق مع الخطّة الأميركية في المنطقة وليقدّم تنازلات لسياستها فيها، وهذا ما لا تقبل به إيران حتّى الآن. لذلك أتصوَّر أنّ الواقع الاقتصادي الجديد سوف يضغط على الجمهورية الإسلامية من خلال العلاقات الاقتصادية الكبرى بشكلٍ كبير، كما أنّ الواقع الأمني سوف يضغط. وهذا ما يجب أن تستعدّ له الجمهورية الإسلامية بطريقة فوق العادة، لأنَّ المسألة تملك عناصر الحظر ونحن لنا ثقة بقيادة الجمهورية الإسلامية، لأنّها تدرس هذه القضايا من خلال مجلس الأمن القومي أو الأجهزة الأخرى بدقّة؛ ولكن لا بدّ للشعب الإيراني المسلم أن يقف مع قيادته، حتّى يمنع هذه الخطّة الجديدة في محاصرة أميركا لإيران اقتصادياً وسياسياً وأمنياً.
الجمهورية في العهد الاستقلالي الأوّل
كانت أكثر تقدُّماً(*)
يقرأ السياسة في كتاب واقعي. مثاليّته الدينية تجد ترجمتها في فعل القراءة الفكرية المتأنّية المشدودة إلى غاية إنسانية... القشور التي تغلّف الحياة السياسية ينتزعها بهدوء، بتلمّس ورفق، كي يرى ويقول في لبنان ما لا يقوله السياسيون.
العلاّمة السيّد محمد حسين فضل الله في حديثه الذي تنشره "نداء الوطن" اليوم، يعود إلى لبنان البداية، حيث للتاريخ أمثولة لمن يعتبر. فلبنان "أسّس في شكل دولة ليبقى في حالة الاهتزاز الدائم"، إلاّ أنّ رجال الاستقلال في العهد الاستقلالي الأوّل والجمهورية في ذلك الوقت، كانوا "أكثر تقدُّماً في الوعي المنفتح وفي الإحساس بالمسؤولية". ويؤكّد على مقولته هذه، من خلال الممارسة السياسية والخطاب السياسي الذي تندهش أمام كثافة المضمون الطائفي فيه لاسيّما في مرحلة ما بعد الطائف.
ورقة ورقة، وكلمة كلمة، وفكرة فكرة، يسوق الكلام على ما هو حاصل اليوم، فيكشف بلا مواربة، ويدلّ بموضوعية؛ فالطائف "صناعة أميركية وليست لبنانية... ولبنان يعيش في مرحلة دراسية تجريبيّة واقعية لتعميق الإحساس بالطائفة في وعي اللبنانيين"، إذ إِنّ الطائفية أُعيد إنتاجها بشكلٍ فظّ ورهيب، ودخلت في مفاصل الحياة السياسية والإدارية والمعيشية في لبنان.. وليس لأحد أن ينافس الآخر في الإحباط، لأنّه لغة مشتركة بين الفئات والطوائف اللبنانية. فالمحرومون محرومون من كلّ الطوائف، والذين في فمهم ملاعق من ذهب موزّعون على كلّ الطوائف... ثمّ ماذا حقَّق الرؤساء الموارنة؟ ماذا حقَّق الرؤساء السنّة؛ وماذا حقَّق الرؤساء الشيعة؟!. هذا الوهم الطائفي، لا يطعم أحداً، لذلك يقول السيّد فضل الله: "إنَّ اللبنانيين لا يستطيعون أنْ يأكلوا، من مائدة الطوائف بل من مائدة الوطن".
إنَّ "الطائف" ألزم اللبنانيين بالطائفية ولذلك يقول: "أزعم أنّه ليس هناك لبنان في لبنان".
ماذا بعد؟
يرسل السيّد فضل الله رسالة اطمئنان. فالحالة الإسلامية، ليست حالة طائفية، فالإسلاميون ليسوا طائفيين، ولكنَّ الإعلام الغربي يحبّ أن يضخِّم هذه الحالة عبر تشويهها وربطها بالعنف دائماً، لذلك يوجّه رسالة إلى اللبنانيين "كي يفهموا أنّ الإسلاميين لم يصنعوا العنف في لبنان إنَّما كانوا ضحاياه. وأنَّهم عندما انطلقوا في حركة العنف، فإنَّما انطلقوا في حالة الدفاع عن أنفسهم من جهة ولتحرير البلد من جهةٍ أخرى".
وعلى الرغم من صعوبة نقل الرسالة وقراءتها جيّداً، بسبب الضجيج الإعلامي والصخب السياسي، وعدم قدرة المتلقّي على استيعاب صياغة تفّهم موحّد لهذه المسائل؛ فإنَّ السيّد فضل الله يلقي اللّوم على الذين يسجنون لبنان في خصوصيّة متزمّتة من دون أُفق إقليمي ودولي، ذلك أنّ مشكلة لبنان "إنّه إحدى ساحات اللّعبة الدولية التي ليس للبنانيين شأنٌ فيها من قريب أو من بعيد".
وهذا نصّ الحوار:
أتحفَّظ على إطلاق اسم "دولة" في لبنان
ـــ هل لبنان دولة بكلّ ما للكلمة من معنى، أم أنّه نظام سياسي في مرحلة ما قبل الدولة؟
الجواب عن هذا السؤال يتنوَّع بحسب فهمنا لمصطلح الدولة؛ فإذا كنّا نقصد بالدولة هذا النوع من التنظيم الدستوري والتنفيذي، وهذه الأجهزة المتنوّعة، التي تتكامل في مهمّاتها المتّصلة بالقضايا العامّة أو الخاصّة، فإنَّ لبنان دولة، باعتبار أنّ هناك قانوناً وسلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية إلى غير ذلك...
أمّا إذا كنّا نقصد بالدولة العنوان الذي يتحسَّس مسؤوليته عن الشعب بحيث يرى نفسه وكيلاً يتحرَّك في كلّ مواقعه من خلال إدارة المصلحة الشعبية العامّة، بعيداً عن أيّة مداخلات خارجية أو طموحات ذاتية، تنبثق عن بعض أنواع العلاقات الخاصّة، فإنَّنا قد نتحفَّظ في إطلاق اسم الدولة على لبنان؛ وذلك لأنَّنا نلاحظ أنّ الدولة اختصرت على أن يختصروا شعبهم في أسمائهم، وهذا يعني أنّ قضايا الأُمّة تتحرّك من خلال قضايا الشخص، فالشخص هو المقياس وهو الذي يجد حقوق طائفته مصانة عندما يكون شخصه مصوناً. أو يرى أنّه يمثّل جهة خارجية يتحرّك على أساس تحقيق ما تريده تلك الجهة بعيداً عمّا يريده الشعب.
إنَّنا عندما نلاحظ، أيّ جهاز من أجهزة الدولة، سواء على مستوى هذه المديرية أو تلك، أو على مستوى هذا الوزير أو ذاك، نجد أنّه لا يمكن أن يحلّ مشكلة أيّ مواطن في أيّة قضية قانونية، إذا لم تتوافق مع مصالح هذا الرئيس أو ذاك، كما نلاحظ أنّ المواقع في الإدارات العامّة، والمفاصل الحيوية في البلد تخضع لحرّاس كبار يسهرون على مصالح هذا الشخص أو ذاك، ويحرسون تعقيداته ضدّ زميله الآخر في المواقع المنافسة، ممّا يؤدّي إلى سقوط حقوق المواطنين في ما يملكون من حقوققانونية، لتكون كلّ قصّة المواطنين أن يتعبّدوا لهذا أو لذاك في موقعه الرئاسي، وليتحرَّكوا مع العلاقات العائلية أو الشخصانية والسياسية لهذا أو لذاك.
إنَّني أتصوَّر أنّ لبنان لعبة سياسية لها أبعاد خارجية وداخلية تأخذ صفة الدولة من أجل تشريع ما يراد تشريعه لحساب هذه الجهة أو تلك، ومن أجل الضغط على من يراد الضغط عليه حسبما تقتضي الظروف.
اتّفاق الطائف والإنتاج الطائفي
ـــ كيف يمكن تطوير هذا الواقع كي يتحوَّل إلى عامل اطمئنان للشعب، لجهة الانتماء الوطني؟
أخشى أن نكتشف بأنَّ لبنان أُسّس في شكل دولة ليبقى في حالة الاهتزاز الدائم، الذي يراد توظيفه لحساب مواقع دولية وإقليمية، ولإنتاج بعض المشاكل الداخلية التي لها علاقة بواقع المنطقة كي تترك تأثيراتها السلبية في بعض الحالات، أو الإيجابية في البعض الآخر، والهدف تثقيف المنطقة بالخطوط اللبنانية، سواء مذهبياً في صراع سنّي وشيعي، أو طائفياً في الصراع الإسلامي المسيحي، أو سياسياً في صراعات هذا الاتّجاه السياسي القومي أو الاشتراكي أو غيرهما.
ومن هنا لا يسمح بسقوط هذا اللّبنان بهذا الشكل، باعتباره يمثّل معادلة جديدة للمصالح الدولية، ولا يسمح باستقراره في هذا المجال، وهذا ما لاحظناه عندما أريد إغلاق ملف الحرب من خلال اتّفاق الطائف، الذي ركَّز على إلغاء الطائفية السياسية، التي أُعيد إنتاجها بشكلٍ صارخ ورهيب حيث دخلت في كلّ مفاصل الدولة، حتّى الصغيرة منها، من خلال الذين صنعوا الطائف، أو الذين أشرفوا على صناعته، علماً أنَّ صناعة "الطائف" هي صناعة أميركية وليست لبنانية. نحن نجد أنّ من الصعب جداً أن توظّف أيّ موظّف صغير ــ مهما كان موقعه في الدولة ـــ إلاّ على أساس انتمائه الطائفي الذي ينفتح على انتمائه الشخصاني لزعيم هذه الطائفة أو تلك.
ممّا يعني أنّ البلد يعيش في مرحلة دراسية تجريبية واقعية، لتعميق الإحساس بالطائفة في وعي اللبنانيين، يمنعهم من التفكير لا طائفياً، لأنَّهم يرتبطون بواقع يجعل كلّ حياتهم متّصلة بانتمائهم الطائفي لتبقى أفكارهم الطوباوية اللاطائفية مجرّد أفكار، إذا عاشوها في عقولهم فإنَّهم يرفضونها في واقعهم لأنَّ الواقع هو واقع أن تكون إنسان الطائفة لا إنسان الوطن.
صلاحيات الرئيس أم صلاحيات الطائفة
ـــ ينصّ الدستور اللبناني على أنّ رئيس الجمهورية هو الحكم والرمز، فكيف يمكن لهذا الرئيس أن يكون الحكم والرمز، وهو في الوقت نفسه ممثّل لطائفة من الطوائف؟
من الصعب جداً أن يتجرَّد الإنسان من ذاته، نحن نعرف أنّ طائفة رئيس الجمهورية ترصد خطواته على أساس مصلحتها، كما أنّها ترصد امتيازاته على أساس امتيازاتها. وهذا الذي أدّى إلى اتّخاذ مواقف سياسية سلبية من التحوُّل الذي طرأ على موقع الطائفة المارونية أو المسيحية في البلد، وذلك من خلال تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، باعتبار أنّ صلاحياته هي صلاحيات الطائفة المارونية أو المسيحيّة، الأمر الذي يعني أنّ المسلمين تغلَّبوا على المسيحيين، وحصلوا على نقطة مميّزة.
وهكذا عندما نجد أنّ الطائفة السنيّة تتحسَّس من بعض المفردات التي يمكن أن يفهم منها الأخذ من صلاحيات رئيس الوزراء، أو أنّ الطائفة الشيعية تتحسَّس ما قد يؤخذ من صلاحيات رئيس المجلس النيابي وهذا يعني أنّ اللبنانيين ينظرون إلى هذه المواقع على أنّها طائفية، وليست مواقع لبنانية. ومن هنا إنَّني أزعم أن ليس هناك لبناني في لبنان.
العهد الاستقلالي أكثر تقدُّماً من العهد الحاضر
ـــ بناء على هذا الواقع، كيف تنظرون إلى تطوُّر الجمهورية في لبنان منذ الاستقلال ولغاية اليوم، وما أبرز مشاكل العهود الفائتة، والتي أثّرت على حركة تطوّر الدولة؟
إنَّني أتصوّر أنّ الجمهورية في العهد الاستقلالي الأوّل، كانت أكثر تقدُّماً في الوعي المنفتح وفي الإحساس بالمسؤولية بعيداً عن أدواتها مقارنةً بالعهد الحاضر، إنَّ الخطاب السياسي الذي كان متداولاً في ذلك العهد لم يكن خطاباً طائفياً، بينما نجد أنّ الخطاب السياسي الراهن أصبح خطاباً طائفياً، إنَّني أتكلَّم عن العهد الأوّل من الاستقلال.
ـــ إنَّما العهد الأوّل من الاستقلال قام على أساس تسوية هشّة؟
صحيح، ولكنّ بعض رموزه كانوا يعيشون أُفقاً أكثر انفتاحاً من الرموز الحاضرة، وحتّى أنّ السياسة كانت تتميَّز بأخلاقية معيّنة، قد تناقش في مفرداتها، ولكنّك لا تستطيع أن تناقش في طبيعة القيمة التي تختفي وراءها، لأنَّ مشكلة الواقع السياسي الذي نعيشه، هو أنّه واقع يفتقد أيّ نوع من القيمة الأخلاقية، حتّى الأخلاق الذاتية التي تمثّل فضائل الإنسان ذاته.
فالجيل الذي عاش في العهود الأولى كان يملك تربية أخلاقية، ولو من خلال الفضائل الذاتية، لأنَّ طبيعة البيئة التي عاشوا فيها كانت قريبة من بيئة الضيعة، ومن بيئة القِيَم الإنسانية التي كان يعيشها الإنسان، وكانت تلك المرحلة، مرحلة إحساس الإنسان بوطنه أمام المحتل، ومن الطبيعي أنّك كلّما أحسست بعمق الحريّة في أرضك كلّما تطوَّر إحساسك بمعنى المواطنية في وجودك.
لقد كان المجتمع آنذاك يحدِّق بالاحتلال الفرنسي ليتخلَّص منه، أمّا المجتمع الآن فإنّه يحدّق في مصالح الأفراد ليتمحور حولها، الأمر الذي جعل الإنسان اللبناني يحوّل مسألة الاحتلال الإسرائيلي إلى مسألة محليّة وطائفية، فالاحتلال الإسرائيلي هو مشكلة الشيعة، وليس مشكلة اللبنانيين، حتّى ولو كان هناك مسيحيون وسنّة ودروز في تلك المنطقة.
وهكذا نجد أنّ أيّة مشكلة من المشاكل التي تحدث في هذا البلد أو ذاك تأخذ عنوان طائفتها، من هنا أعتبر أنّ الإحساس بالوطن في بداية عهد الاستقلال كان أكثر عمقاً منه الآن، لأنَّ الإحساس بالطائفة هو صورة لبنان السياسي الحاضر.
حرب أميركية وسلام أميركي
ـــ هل شكَّلت ثورة العام 1958 عامل انقسام داخلي أدَّت إلى زعزعة الانتماء الوطني؟
من الطبيعي أنّ العهد الثاني ـــ عهد الرئيس كميل شمعون ـــ كان عهد صراع الخطوط السياسية الدولية على لبنان. كان هناك النفوذ الفرنسي، ثمّ كانت هناك محاولة لنقل لبنان إلى النفوذ البريطاني المتمثّل في بعض الشخصيات المحسوبة سياسياً على بريطانيا، ثمّ اتّجهت المحاولات نحو إبعاد النفوذ البريطاني لحساب النفوذ الأميركي.
ومن الطبيعي أنّ حركيّة هذا الصراع الدولي، الذي يستهدف نقل النفوذ من موقع إلى موقع يحتاج إلى وضع داخلي مؤاتٍ ليفرز مفردات تعيد خلط الأوراق والمواقف بالنحو الذي يجعل الصورة ضبابية حتّى عند الشعب، فيخيّل إليهم أنّهم يتحرّكون في القضايا الكبرى، في الوقت الذي تكون فيه الخطّة موضوعة على أساس أنّهم يتحرّكون من أجل تنفيذ هذا المخطَّط الدولي أو ذاك.
وهكذا كان صراع الخمسينات الذي أطلَّ على الستينات، كان صراعاً بين النفوذ الفرنسي والبريطاني من جهة، والسياسة الأميركية من جهةٍ أخرى، ونحن نعيش الآن في لبنان مشكلة حركية السياسة الأميركية التي بدأت بالفتنة اللبنانية، من خلال الخطّة الكسينجيريّة، ثمّ انطلقت في اتّفاق الطائف.
نحن نعتبر أنّ حرب لبنان ـــ كما السلم فيه ـــ كانا حرباً وسلماً أميركيين، ومن يعي مخطَّط أميركا التي تتحفَّز من أجل أن تحوّل المنطقة كلّها إلى مزرعة أميركية، وساحة لنفوذها، وأنّها تسعى من أجل تجنيد "إسرائيل" كعضو فاعل في المنطقة الشرق أوسطية ـــ بديلاً عن المنطقة العربية ـــ فإنّه يعرف أنّ كلّ ما يحدث في داخل لبنان، إنَّما هو جزء من خلط الأوراق لمصلحة السياسة الأميركية. وهذا ما ينبغي أن تعرفه بعض المواقع السياسية في لبنان والتي تتحدَّث عن الإحباط، وعن اختلال التوازن السياسي، وما إلى ذلك... فإنَّ عليهم أن يفكّروا أنّ القضية، ليست منطلقة من خطّة بعض مواطنيهم من الطوائف الأخرى، ولا حتّى من وضع إقليمي عربي، إنّما المسألة هي أنّ هناك خطّة أميركية تريد ضرب كلّ بقايا السياسة الفرنسية، وكلّ رموز المواقع الفرنسية، والأوروبية، في لبنان لحساب السياسة الأميركية.
وعليهم أيضاً أن يقرأوا الواقع جيّداً، وأنْ يتفهّموا المتغيّرات جيداً، لأنّ "أبريل غلاسبي" عندما جاءت إلى لبنان، قبل "اتّفاق الطائف"، كانت تطرح إلغاء الطائفية السياسية بشكلٍ أكثر تقدُّماً ممّا في هذا الاّتفاق الذي جاء ليركّز إلغاء الطائفية السياسية، بمعنى أن لا امتيازات للمسيحيين في لبنان، كما لا امتيازات للمسلمين في لبنان. إنَّنا نعتقد أنّ المسيحيين إذا كانوا يتحدّثون عن إحباط سياسي في مواقعهم، فإنَّ المسلمين يتحدّثون عن هذا باللّغة نفسها، لأنَّنا لا نفهم بأنَّ هناك امتيازات إسلامية بالمعنى العميق لهذه الكلمة، في مقابل سقوط الامتيازات المسيحيّة.
إنَّنا جميعاً نعيش في أزماتنا الاقتصادية، والسياسية، والأمنية، وفي مسألة الاحتلال الإسرائيلي... مشكلة هذا الاهتزاز المصنوع أميركياً من خلال المفردات اللبنانية التي يلعب عليها الأميركيون، كما كان يلعب عليها الفرنسيون والبريطانيون.
ومشكلة اللبنانيين أنّهم مستغرقون في الماضي لا يحاولون أن يدرسوا الحاضر بعناصره الحيويّة، وبالتالي فإنّهم يفقدون رؤية المستقبل، وأحبّ أن أقول للكثيرين منهم: إنَّ مشكلتهم أنّكم عشتم في داخل حدودكم، حتّى أنّ بعضكم في خطابه السياسي يحاول أن يجعل من الحدود أسواراً حديدة، أو جبليّة شامخة تحجب الأُفق، وإنَّ هذا الاستغراق في الخصوصيّة اللبنانية، التي كانت تفصل لبنان عن أُفقه العربي، وعن المتغيّرات الموجودة، وتضخّم حجم القدرة اللبنانية أمام الواقع العالمي، جعلنا نعتبر أنّ خصوصيّاتنا الصغيرة هي حركة مستقبلنا، ونحن نعرف أنّ كلّ الخصوصيّات اللبنانية من خلال الأسلوب اللبناني في التعاطي مع قضاياه المصيرية، لا يمكن أن تتقدَّم بلبنان خطوة واحدة أو تؤخّره خطوة واحدة، إنّ مشكلة لبنان أنّه إحدى ساحات اللّعبة الدولية التي ليس للبنانيين شأن فيها من قريب أو بعيد، إنّ على اللبنانيين أن يدرسوا جيّداً كيف يفهمون مواقعهم مقارنة بما يحيط بهم، وبمن يحيط بهم، ليس فقط في الساحات القريبة إنّما في الساحات البعيدة أيضاً.
ـــ إذا كان اتّفاق الطائف هو السلم الأميركي، فهل يتأثّر الوضع الداخلي، ويهتزّ مجدداً إذا أصبحت كلفة هذا السلم أكثر من فائدته؟
إنّ الذين يصنعون بعض الخطوط العامّة في أي بلدٍ من خلال مصالحهم الكبرى، يعملون على إعطاء هذه المواقع عناصر قوّة يصعب أن تنحرف عن مداها الذي أطلقت فيه، إلاّ إذا حصلت عواصف عالمية، أو إلاّ إذا أعاد الشعب الذي توضع له الخطط، إنتاج حركته في وطنه، وإحساسه في وطنه، وإنسانيّته، ومن الممكن للشعب أن يغيّر كثيراً من قواعد اللّعبة، إذا أراد ذلك.
المشكلة إذاً هي أنّنا هل نريد أو لا نريد.
الصيغة العجائبيّة اللبنانية
ـــ هناك مخاوف لدى العديد من اللبنانيين منبعها الهدف النهائي للتيّارات الإسلامية، أي الوصول إلى رئاسة الجمهورية، وفرض نظام سياسي ينسجم تماماً مع توجّهات هذه التيّارات. هل تعتقدون أنّ التركيب الاجتماعي اللبنانيّ، والتراث السياسي يسمح بهذا التغيّر الجذري في تركيبة النظام اللبناني؟
إنَّ الكثيرين ممّن يتابعون حركة التيّار الإسلامي، يعيشون أوهاماً كثيرة، من خلال تضخيم خطورة التيّار الإسلامي الذي يعرف جيّداً طبيعة الواقع اللبناني، سواء من خلال تركيبة لبنان الطائفية والسياسية، أو من خلال موقع لبنان في المعادلة الدولية والإقليمية، ممّا لا يسمح بوجود نظام آخر غير هذه الصيغة العجائبية اللبنانية.
إنَّ لبنان لا يمكن أنْ يتحوّل إلى دولة قومية عربية، أو قومية سورية، أو اشتراكية، أو أيّ شيء من هذه العناوين، وبالتالي فإنّ لبنان لن يتحوَّل إلى دولة إسلامية، إذ هناك ثقالات حديدية تمنع من حركة التغيير في لبنان، وهناك أكثر من موقع من مواقع القوّة الخفيّة، ومن غرف سوداء في داخل لبنان، تحاول أنْ تمتصّ كلّ انفعال جديد، وكلّ حماس جديد.
لا أتحدّث عن القضاء والقدر، وإنّما عن واقع يتحرّك في مفاصل الذهنية اللبنانية، ممّا اختاره اللبنانيون لأنفسهم، لذلك فإنّ الإسلاميين، قالوا منذ البداية بأنّهم يملكون تصوّراً للدولة الإسلامية في كلّ مكان، كأيّ صاحب فكر يرى في فكره الحلّ لمشاكل الناس، تماماً كما يتصوَّر الماركسيون أنفسهم، أو القوميون العرب، أو القوميون الاجتماعيين، أو الاشتراكيون... ولكنّهم لا يفكِّرون بأنّ هناك واقعية في المستقبل المنظور للوصول إلى هذا الهدف، فهم يفهمون جيداً عناصر الساحة، ويفهمون جيداً الظروف الموضوعية، الإقليمية والدولية التي تحيط بالساحة؛ ولهذا فإنّ الإسلاميين لا يفكِّرون في ذلك، إنَّما ينطلقون كقوّة سياسية لها أفكارها، وعقيدتها ومناهجها السياسية، التي تحاول الاستفادة من أيّ موقع قوّة لها، سواء من خلال طبيعة الموقع أو من خلال المواقع الأخرى التي يطلّ عليها هذا الموقع.
فنحن نعرف، أنّ لبنان هو بلد الحريّة الوحيد في المنطقة، والذي يمكن أن يطلّ فيه أي تيّار على العالَم بشكلٍ لا يتمكّن فيه من ذلك في أيّ بلدٍ آخر، ربّما كان الإسلاميون يتصوَّرون أنّه يمثّل منطلقاً، ولا يمثّل ساحة ذاتية في هذا المجال، وهم قد يطرحون فكرة الجمهورية الإسلامية، لا على أساس أنّ الإسلام حالة طائفية، بل حالة سياسية مدنية، إضافة إلى الجانب الديني العبادي، تماماً كما يطرح الماركسيون جمهورية ماركسية، أو القوميون جمهورية قومية.
إنّها ليست عناوين لحركة الواقع في الساحة اللبنانية، لذلك يعمل الإسلاميون على تعميق التعايش اللبناني بين المسلمين والمسيحيين، وهم الأكثر إخلاصاً لقِيَم المسيحية التي تلتقي مع القِيَم الإسلامية بنسبة 80%، إنّ الإسلاميين ليسوا طائفيين، وهم يرفضون العقلية الطائفية التي تقوم على التعصُّب وعلى الذهنية العشائرية، إنّهم منفتحون لأنَّهم يقدّمون الإسلام فكراً، ينفتح على الفكر الآخر ويحاوره، وقانوناً ينفتح على القوانين الأخرى ويحاورها، وحالة مدنية بالمنحى القانوني.
ولذلك فهم لا يحكمون بطريقة ما يسمّى بالحكم الإلهي، الذي يضخّم شخصية العالِم الديني ليجعله ظلّ الله على الأرض، إنّهم لا يفكّرون في هذا، إنّما يفكّرون بأنّ القيادة الإسلامية هي إنسانية، وأنّها تتحرَّك كما يتحرّك الإنسان، وتنفتح على الناس، وتعيش معهم بشكلٍ طبيعي.
لذلك أختصر الجواب، بالقول: إنّ على اللبنانيين أن يفهموا أنّ الإسلاميين لم يصنعوا العنف في لبنان وإنَّما كانوا ضحاياه، وأنّهم عندما انطلقوا في حركة العنف، فإنَّما انطلقوا للدفاع عن أنفسهم من جهة، ولتحرير البلد من جهةٍ أخرى، وهم لا يملكون أيّة خطّة لأيّ عنفٍ داخلي.
طائفيّون وملاعق من ذهب
ـــ للتيّارات الإسلامية موقف من الحكم، في الوقت الذي يمكن أن تكون المشاركة في السلطة مساعدة على تطوير الدولة، وعلى إزالة المخاوف لدى الآخرين ما ردّكم على ذلك؟
نتصوَّر أنّ الإسلاميين ليسوا سلبيين في هذه الناحية، لكن لهم تصوّراتهم وشروطهم حتّى يكون دورهم فاعلاً في الحكم، إنّهم لا يتعقَّدون من الدخول في مؤسّسات الدولة، ولذلك دخلوا إلى البرلمان، ولكنّ المسألة هي أنّ لهم تحفُّظات على بعض الطروحات، كما أنَّنا نعتقد أنّ الدولة بشكلٍ أساسي ـــ ومن خلال الخلفيات الدولية ـــ ترفض أن يدخل الإسلاميون في الحكومة.
ـــ ما موقفكم من اقتراح ترسيخ التوزيع الطائفي للرئاسات الثلاث، كضمانة لإلغاء الطائفية السياسية، وجعل لبنان دائرة انتخابية واحدة؟
إنَّ مسألة إلغاء الطائفية السياسية هي مسألة إلغاء شيء لا حاجة لأحد به، لأنّنا نفهم بأنّ كلّ هذه الرئاسات لا تستطيع أن تكون ضمانة للبنانيين، ولا ضمانة للطوائف التي تمثّلها هذه الرئاسة أو تلك. فهل حقَّقت رئاسة الجمهورية الأمن للمسيحيّين؟ إنّ المسيحيين عاشوا حروباً متلاحقة، من جهة هذا الجدل حول الامتيازات والضمانات. وماذا حقَّقت رئاسة الوزارة للسنة، ورئاسة المجلس النيابي للشيعة؟
إنَّ الطائفية تمثّل عنواناً وهمياً يعيشه اللبنانيون، فاللبنانيون لا يستطيعون أن يأكلوا من مائدة الطوائف، وإنَّما يأكلون من مائدة الوطن، مشكلة اللبنانيين أنّ كلّ هذه المواقع الطائفية جعلت كلّ لبناني مشدوداً إلى طائفته، لأنَّ مصالحه مرتبطة بطائفته، ولأنَّ حقوقه مرتبطة بزعيم هذه الطائفة أو تلك، وبالتوازنات بين زعيم هذه الطائفة السياسي، وزعيم تلك الطائفة السياسي.
ولذلك أعتقد أنّ الطائفية خسَّرت اللبنانيين جميعاً، ولم تحقّق لتجمّعاتهم أيّ شيء. ماذا حقَّق الشيعة، من خلال رئاسة المجلس النيابي؟ وماذا تحقَّق للسنّة؟ وماذا تحقّق للموارنة؟ إنَّ الموارنة المحرومين في مناطق الحرمان تماماً كالشيعة المحرومين، وكالسنّة المحرومين. وإنّ الموارنة الذين في أفواههم ملاعق من ذهب، هم كالسنّة والشيعة الذين في أفواههم ملاعق من ذهب.
إنّ مشكلة لبنان ليست مشكلة طائفة تحرم طائفة، وإنَّما هي مشكلة طبقة تحرم طبقة، وهذا هو واقع لبنان، ولهذا أعتقد أنّ إلغاء الطائفية السياسية لن يخلَّ في التوازن من خلال الجانب التطبيقي، إنَّ الطائفية تعطي للطوائف أوهاماً سياسية أو أوهاماً معنوية ليس لها أيّ واقع، في هذا المجال.
أمّا مسألة الدائرة الانتخابية الواحدة، فهي مسألة تتّصل بطبيعة التمثيل الشعبي، لأنّه من الممكن جداً أن يكون هذا المرشح عن لبنان كلّه غير معروف من قِبَل الكثير ممن الجهات، ولذلك فإنَّ اللبنانيين لا يتحمّسون لانتخاب هذا أو ذاك، وربّما يضطر هذا المرشّح أو ذاك للسقوط تحت تأثير مواقع في هذه المنطقة التي لا تعرفه، أو يقدّم تنازلاتٍ لزعيم في هذه المنطقة أو تلك، حتّى يصار إلى انتخابه، لذلك أعتقد أنّ الدائرة الانتخابية الواحدة لا تلغي بالضرورة الطائفية السياسية، بل تعقد مسألة التمثيل الشعبي، وتجعله تمثيلاً غير متوازن.
ـــ لكن يمكن أن يكون لبنان دائرة انتخابية واحدة، على أساس التمثيل الحزبي، وتلغى طائفية الأحزاب؟
من الصعب جداً في المستقبل المنظور أن تكون هناك حياة سياسية حزبية على المستوى المنظور في الشرق العربي.
حاوره: حسن أحمد عبد الله
الانتخابات ومستقبل لبنان والمقاومة(*)
في أوّل تقويم استراتيجي لأبعاد الانتخابات اللبنانية في العام 1992، قال المرجع الإسلامي السيّد محمّد حسين فضل الله: إنَّ انحسار دور الطائفة المارونية ودور المسيحيين إلى حدٍّ ما، هو نتيجة طبيعيّة للمتغيّرات الدولية التي تفرض متغيّرات على مستوى موازين القوى وأدوات اللّعبة في لبنان، مشيراً إلى أنّ المسيحيين كانوا ضرورة سياسية غربية في مواجهة إفرازات الاتحاد السوفياتي، التي طبعت حركة الواقع اليساري والقومي والوطني والاشتراكي.
وأوضح السيّد فضل الله في حوارٍ خاص مع هيئة تحرير "شؤون الأوسط"، أنّ الحاجة إلى المسيحيين ورقة سياسية تقلَّصت غداة انهيار النموذج السوفياتي وتفكُّك الكتلة الاشتراكية، وخصوصاً بعد انفتاح الأميركيين على معظم بلدان العالمين الإسلامي والعربي. وذهب السيّد فضل الله إلى أنّ "إسرائيل"، التي كانت تعتبر الموارنة، ومعهم الكثير من المسيحيين في لبنان، ضرورة لتوازن الخطّ الإسرائيلي في مقابل الخطّ العربي أو الخطّ الإسلامي، لم تعد تراهم كذلك بعدما استطاعت دخول النادي السياسي العربي بطريقة واقعية.
وعن الظاهرة الإسلامية في البرلمان اللبناني، قال إنّ الإسلاميين لا يريدون لأنفسهم أن يكونوا خارج نطاق الواقع، مؤكّداً أنّ هذا الحضور السياسي يعزّز "حضورهم الجهادي" في مواجهة "الاستكبار العالمي".
واستبعد احتمال وصول الإسلاميين إلى السلطة في لبنان، لكونه أمراً غير واقعي في دائرة المسلمين ودائرة المسيحيين في آنٍ معاً، وإنْ كان الإسلاميون يحبُّون أن يجعلوا في لبنان "شيئاً من ملامح صورتهم" عبر العمل على تحقيق بعض أهدافهم السياسية والاجتماعية والثقافية.
وبالنسبة لطريقة القوى الإسلامية في التعامل مع واقع جديد يغيب فيه الخيار العسكري، نتيجة لتسويات مؤقّتة في سياق عملية المفاوضات بين العرب والإسرائيليين، لاحظ السيّد فضل الله أنّ غياب المواجهة العسكرية في مرحلة ما بعد التسوية، لا يجعل الإسلاميين يعتقدون أنّ هذا الغياب سيكون أبديّاً، وشرح أنّ الإسلاميين يدركون بحكم "وعيهم الإيماني الإسلامي أنّ الحياة لن تبقى خاضعة لقوّة واحدة، وأنّ الكون لن يبقى سائراً على خطٍّ مستقيم في اتّجاهٍ واحد، إنَّنا نفهم هذه المسألة سياسياً مثلما نفهمها سُنَّة من سنن الله في الكون. بيد أنّ تجميد الإسلاميين نشاطهم العسكريّ ضدّ "إسرائيل" لا يعني أنّهم أدخلوا السيف في الغمد، لكن يعني أنّهم يعملون على إيجاد أيّة فرصة، مهما كانت، لإبقاء هذه المواجهة، ولو في "دائرةٍ ضيّقة"، في انتظار أن تنطلق حركة التغيير بشكلٍ آخر.
ورأى أنّ هناك مواجهة من نوعٍ آخر، لأنَّ المعركة التي ستفتح عقب عملية الصلح مع "إسرائيل" هي معركة "التطويع"، بمعنى تطويع الإنسان العربي والإنسان المسلم للانفتاح على "إسرائيل" سياسياً وثقافياً واقتصادياً وأمنياً. أمّا الردّ الذي سيعتمد الإسلاميون فهو تحريك "الثقافة القرآنية والفقهية والمسألة الاجتماعية، في سبيل مواجهة عملية التطبيع التي يمكن أن يطلقوا فيها الفتاوى التي تحرّم الانفتاح على الإسرائيليين". ومن شأن أسلوب الممانعة هذا "أن يعطّل الكثير من الحركة التي تحاول "إسرائيل" أن تنطلق فيها، لاستيعاب المنطقة والدخول في جسمها عضواً طبيعيّاً".
وهذا نصّ الحوار مع السيّد فضل الله:
ـــ سماحة السيّد فضل الله، دخول الإسلاميين إلى البرلمان في لبنان يحمل أكثر من تفسير، منها على سبيل المثال محاولة استيعابهم وبقبول منهم إلى حدٍّ ما، ويطلق على هذه المحاولة نظرية "الاستيعاب"؛ يقابلها تفسيرٌ آخر يقول إنَّ ثمّة خطّة ينتهجونها للوصول إلى السلطة، فالحضور في البرلمان قد يكون خطوة على هذا الطريق "من الداخل"، وهنا يطلقون عليها نظرية "القضم". كيف يمكن النظر إلى هذا "الجدل"؟
الحضور السياسي يدعم الحضور الجهادي
إنّ الذين يطلقون النظريّات يتحرّكون من موقع الذهنية التي تخضع لها ممارساتهم أو وعيهم للواقع الذي يتحرّكون فيه. فالنظرية الأولى التي تتحدّث عن "الاستيعاب"، قد يختزن في داخلها الفكرة التي تعتبر أنّ القوى المسيطرة على الساحة السياسية ـــ سواء أكانت إقليمية أم دولية ـــ هي التي تسمح أو لا تسمح بأيّ تحرُّك لأيّ فريق في أيّ موقع من المواقع، الأمر الذي يعني أنّ وصول أيّ فريق إلى هذه الدائرة أو تلك، يوحي بأنَّ هناك شروطاً معيّنة وتسويات محدّدة في هذا المجال أو ذاك.
إنَّني أتصوّر أنّ الخطّ الإسلامي، المنفتح على المسألة العالمية في مواجهة الاستكبار العالمي، بكلّ مظاهره الدولية والإقليمية والمحليّة، لم يصل إلى مستوى من الضعف ينتظر فيه إشارة خضراء أو حمراء أو صفراء في حركته السياسية. ليس معنى ذلك أنّه لا يدرس الظروف ولا يحاول أن يستفيد من الثغرات الموجودة فيها، ولكنّه في جميع الحالات، ليس مستعدّاً لأنْ ينفصل عن قاعدته الفكرية تحت تأثير أيّة جهة من الجهات. وربّما يتحرّك هذا الخطّ في تكتيكه بما لا يبتعد عن الاستراتيجيّة، وربّما يعطي بعض الإيحاءات التي لا تكون دلائلها عميقة في الوقت الذي قد يفهم الناس منها شيئاً عميقاً لا واقع له.
لكنَّ المسألة التي تحكم حركة الإسلاميين في هذا المجال، هي أنّهم لا يريدون لأنفسهم أن يكونوا خارج نطاق الواقع. ففي الوقت الذي فرضوا أنفسهم على الواقع الجهادي، من خلال مواجهتهم الاستكبار العالمي في أكثر من موقع وبأكثر من أسلوب، ممّا يقبله الناس أو لا يقبلونه، تحرَّكوا من أجل أن ينطلقوا في الحضور السياسي، الذي يدعم حضورهم الجهادي ويحدّد له هدفه ويعمل على تحقيق نوع من الحماية في الموقع الذي يستطيعون أن يبلغوه، ولو بقدر ما يتّسع له واقع المرحلة. لذلك أعتقد أنّ المسألة انطلقت من موقع تفكير واع، يدرس الحسابات وبشكلٍ جيّد، من أجل أن ينطلق إلى الواقع.
وليس معنى الانطلاق إلى الواقع، أنّك تكون جزءاً منه أو أنّك تنحني لضغوطه، بل معناه أن تملك حريّة الحركة في ساحته بما يتلاءم مع خطوطك، وبما يمكِّنك من أن تدفع بالكثير من القوى، التي تلتقي معك في بعض أهدافك، للوصول إلى مواقع مشتركة. وهناك أكثر من قوّة لا تجد لنفسها القدرة على التحرُّك وحدها في هذا الاتّجاه أو ذاك. فمن الطبيعي جداً للإسلاميين، عندما يحملون شعار مقاومة "إسرائيل" ومقاومة السياسة الأميركية الاستكبارية أو أيّة سياسة استكبارية في العالَم ومقاومة الظلم المحلي، أن يقتحموا الساحة السياسية، من أجل جمع أكبر قدر ممكن من النّاس الرّافضين، الذين عاشوا تحت تأثير الصدمة الكبيرة التي تتحدّث ـــ بمناسبة أو دون مناسبة ـــ عن النظام العالمي الجديد أو النظام الإقليمي الجديد وما إلى ذلك من كلمات. ومن الطبيعي ألاّ يقتصر ذلك على التعاون أو التحالف أو الحوار في الساحة السياسية الحركية، بعيداً عن ساحات العمل السياسي الفاعل من الداخل. ففي الوقت الذي تستطيع أن تتحالف أو تتعاون حركياً مع الجهات التي تلتقي معها في بعض مراحل الطريق، يمكنك أن تزيد هذا النوع من التحالف في داخل البرلمان أو في داخل المواقع السياسية الأخرى.
ربّما لا تكون مسألة الوصول إلى السلطة، بالمعنى الشامل لهذه الكلمة، واقعية في لبنان. لأنَّ وصول الإسلاميين إلى السلطة في لبنان، ليصبح هذا البلد جمهورية إسلامية، هو أمر غير واقعي، سواء في دائرة المسلمين، الذين يعارض الكثيرون منهم هذه الفكرة، أو في دائرة المسيحيين مثلاً، أو العلمانيين الذين هم ليسوا من المسلمين ولا من المسيحيين. إنَّ المسألة ليست مسألة الوصول إلى السلطة، ليقال إنّ هذه المسألة خيالية وإنّها تمثّل حركة في الأحلام غير الواقعية، لأنَّنا نعرف جميعاً أنَّ أيّاً من التيّارات الحزبية الموجودة في لبنان، بما فيها التيّارات التي انطلقت لبنانياً في خطّها السياسي، لا تستطيع أن تجعل لبنان على صورتها، لأنَّ الوضع اللبناني بطبيعته، في المستقبل المنظور على الأقل، لا يخضع لخطّ سياسي مستقيم، سواءً أكان يمينيّاً أم يسارياً، وإنّما يبقى لبنان هذا المزيج من الخطوط الملتوية والمنحرفة والمستقيمة، التي يتداخل بعضها ببعض، لتؤلّف شيئاً مشوّهاً في معنى الدولة، لأنّه لا يراد للبنان أن يكون وطناً، كما لا يراد له أن يكون دولة تحمل عمق معنى الدولة في داخلها.
لكنَّ الإسلاميين، كغيرهم، يعملون لتحقيق بعض أهدافهم السياسية والاجتماعية والثقافية والأمنية في لبنان، بالطريقة التي يستطيعون من خلالها إحراز مواقع متقدّمة، وهم ليسوا بدعاً من النّاس في هذا، فهم لبنانيون لا يستطيع أحد أن يزايد على لبنانيّتهم، وهم يحبُّون أن يجعلوا في لبنان شيئاً من ملامح صورتهم، إذا لم يكن على صورتهم بالكامل، كما يحبّ الآخرون ذلك.
من هنا كان التعبير بكلمة "استيعاب" هو تعبير غير واقعي والتعبير بكلمة "قضم" هو تعبير غير دقيق، لأنَّ المسألة تنطلق في مدى الأُفق الواسع، الذي يفكّر الإسلاميون فيه بما يمكن أن يطلّ على الآفاق اللبنانية بطريقةٍ أو بأخرى.
الخصوصيّة اللبنانية
ـــ يلاحظ أنّ هذا الحدث هو جزء من ظاهرة تعمّ المنطقة، وهي ظاهرة المدّ الإسلامي: نموذج الجزائر ونموذج السودان وما بينهما نموذجا الأردن والكويت.
ولكون لبنان مرآة عاكسة وحصيلة حسابية لتفاعلات المنطقة بكلّ تلاوينها، ومن ضمنها حركة الإحياء الديني، هل ما حدث في الانتخابات اللبنانية يعكس سمة خاصة محليّة أم يعكس هذه الحصيلة؟ وما حصّة كلّ من هذين المستويين في تكوين ما جرى؟
إنَّ الخصوصية اللبنانية تختلف عن كلّ هذه الخصوصيات، لسببٍ بسيطٍ جداً، هو أنّ الجزائر والسودان والأردن والكويت تعدّ بلداناً إسلامية، يغلب عليها الطابع الإسلامي؛ إذ إِنّ الوجود غير الإسلاميّ لا يستطيع أن يفرض طابعه على هذه البلدان، الأمر الذي يجعل خطورة دخول الإسلاميين إلى المجلس النيابي وسيطرته عليه أكبر ممّا هي في لبنان. لأنَّ المسألة في الجزائر انطلقت عبر استلام الإسلاميين الحكم وفق اللّعبة الديمقراطية. كما أنّ المسألة في الأردن تحرَّكت، لولا بعض الضغوط لوصول الإسلاميين إلى موقع متقدّم، ولولا الخصوصية الداخلية للسياسة الأردنية وخصوصيّة الإسلاميين في الأردن.
أمّا في الكويت، فهناك وجه سياسي تحاول أميركا أن تجعله الوجه المستقبلي لمنطقة الخليج، حيث تفكّر في تجديد هذه الأنظمة في المستقبل، عندما تتهيّأ الظروف. ولذلك فإنَّ هذا الخلط بين الإسلاميين والقوميين والمحليّين والبدو ورجال الأعمال... وما إلى ذلك، يراد منه إعطاء صورة للمجالس النيابية المستقبلية في الخليج، بالطريقة التي تحول دون غلبة أيِّ فريق على فريقٍ آخر، وبحيث لا تخلّ بتوازن البلد، الأمر الذي يجعل وجود الإسلاميين في البرلمان الكويتي أشبه بالديكور منه بالتيّار. إنَّني أعتقد أنّ المسألة الكويتية كانت مسألة مدروسة ومضبوطة، ولم تكن مجرّد حالة شعبية، كما هي الحال في السودان أو في لبنان أو في الجزائر، إذ يمكن القول إنّ المسألة في الجزائر هي مسألة هذه الظاهرة الإسلامية الطاغية؛ كما يمكننا التحدّث عن السودان بحيث نقول إنّ الظاهرة الإسلامية انطلقت فيه من خلال عمقٍ إسلامي شعبي، يبحث عن هويّته وعن ملامحه التفصيلية، فجاءت الجبهة الإسلامية القومية وأعطته هذه الملامح.
أمّا في لبنان، فالوضع يختلف عن الوضع في كلّ هذه البلدان، فهناك في لبنان حالة إسلامية تتّصل بالظاهرة الموجودة في المنطقة. وقد استطاعت هذه الحالة أن تعبّر عن نفسها بهذه الحركة الإسلامية، التي استطاعت أن تقتحم الواقع السياسي اللبناني في أثناء الحروب، وما زالت تفرض نفسها عليه من خلال الحركة الجهادية والشعارات السياسية والنشاط الاجتماعي والثقافي والسياسي بحجمٍ معيّن؛ الأمر الذي يعني أنّ هذا العنوان الإسلامي، الذي يتّصل بالعنوان العام في المنطقة، يملك مواقع متقدّمة وساحة واسعة في لبنان. وهناك، إلى جانب هذه المسألة، أسلوب الناخب اللبناني في التعاطي مع الانتخابات، فنحن نعرف أنّ الخدمات الاجتماعية تدخل في حساباته، كما أنّ ردّ الفعل ضدّ الآخر يدخل في هذه الحسابات، وهناك أيضاً ميزان التغيير في موقع أو في آخر، وما إلى ذلك من العناصر المحليّة، التي تحكم واقع الإنسان اللبناني، ممّا قد يتحرَّك لتأييد شخص انطلاقاً من جانب من جوانبه. ونحن نعرف مثلاً، أنّ هناك بين الذين انتخبوا الإسلاميين فئات غير ملتزمة كليّاً، لأنَّ هناك شعوراً بصدق هؤلاء المرشّحين وإحساساً بالمقاومة الحقيقيّة لإسرائيل. فالكثيرون من الناس تجتذبهم عناوين معيّنة لا يربطونها بعناوين أخرى، وهناك من الناس من يرتاح للمقاومة ضدّ إسرائيل، وهناك من يرتاح للموقف الصلب ضدّ أميركا، وهناك أُناس يرتاحون لبعض الأخلاقيات التي يتّسم بها فريق معيّن... إنَّني أتصوَّر أنّ نجاح الإسلاميين في لبنان كان مزيجاً من العنصر العام، الذي يجتذب كثيرين من الناس، إمّا اجتذاباً انتمائياً أو اجتذاباً عاطفياً، أو من خلال الرواسب التي تحكم حركة بعض الناس، إلى جانب بعض المسائل والمفردات التي يرصدها لبعض الناس في الإسلاميين ويعزلونها عن الخطّ العام لهم. ومن هنا، فإنَّ الوضع في لبنان يختلف عن الوضع في أيّ موقعٍ آخر، وإنْ كان يقف، بحسب النتيجة، إلى جانب الخطّ العام الذي يحكم القضية الإسلامية في المنطقة.
خطوط سياسية
ـــ ثمّة مَنْ يقول إنّ محطة الانتخابات اللبنانية تنتمي إلى عالم "المناورات" و"الشطارة" السياسية في الإفادة من الوضعيتين المحليّة والإقليمية ـــ نظرية الانقلاب ـــ، معطوفة على ما يعمل له من جهود التسوية، في مقابل من يرى أنَّ نتائج الانتخابات عكست تحوّلات جذرية ديموغرافية/سياسية في بنية المجتمع في لبنان: توازنات الطوائف في ما بينها، صعود طائفة، تدهور طائفةٍ أخرى.. إلخ. كيف تنظرون إلى هذه المسألة؟
من الطبيعي أنّ الحديث عن نظرتين في المسألة، ليس دقيقاً في رصدنا لحركة الواقع. لأنّنا نعرف أنّ لبنان ليس بلداً معزولاً عن كلّ الأوضاع الإقليمية والدولية في حركته السياسية. فهو منذ أن وجد كان ساحة للتجاذب السياسي الإقليمي والدولي في كلّ مؤثّراته وصراعاته وحيثيّاته، الأمر الذي يعني أنّ الساحة المسموح بها لكلّ العاملين السياسيين في لبنان، هي مساحة تتحرّك في تأكيد كلّ شخصٍ أو كلّ فريقٍ لذاته في الدوائر التي توضع للبنان، بحيث تكون عملية الشطارة التي تحدّث عنها السؤال ـــ الشطارة السياسية أو المناورات السياسية ـــ مسألة تفصيلية وليست مسألة رسم خطوط. إنَّك تستطيع أن تضع نقطة هنا ونقطة هناك، ولكنّك لن تستطيع أن تضع الخطّ. إنّك قد تستطيع أن تستفيد من ثغرة هنا لتُوسّعها وثغرة هناك، ولكنّك لن تستطيع أن تصنع الثغرة.
إنَّ الوضع اللبناني يتحرّك في هذا الاتّجاه، وفي داخل هذا الوضع تكون مسألة صعود طائفة ونزول أخرى ومسألة المتغيّرات، مسألة تتحرّك ضمن طبيعة هذه الدورة. فنحن نلاحظ مثلاً، أمام الحديث عن المتغيّرات السياسية، التي فرضتها الانتخابات اللبنانية أو التي فرضت منذ أنْ تحرَّكت الفتنة سنة 1975، أنّ هذه المسألة لم تنطلق بشكلٍ عفوي وفق ظروف محليّة، وإنّما انطلقت على أساس أنّ لبنان كان يخضع للسياسة الأوروبية التي صنعت لبنان والتي حاولت أن تستفيد من ضعف المجموعات الطائفيّة لمواجهة التيّارات التي فرضت نفسها على المنطقة، كتيّار القومية العربية الذي قاده جمال عبد الناصر أو التيّار اليساري؛ أو لمواجهة الاتحاد السوفياتي وما إلى ذلك.
وقد شكّلت بعض الطوائف في لبنان حاجة سياسية للغرب، الذي كانت أوروبا تتقدَّم واجهته في المنطقة. ولكنَّ تطوّر الأحداث، التي انتهت بانحسار القومية العربية وسقوط الخطوط اليسارية وسقوط الاتحاد السوفياتي، جعل الأمور تتحرّك في ما يشبه الفراغ بالنسبة إلى هذه الطوائف. فقد كانت الطائفة المارونية أو المسيحيون بشكلٍ عام، حاجة سياسية في المنطقة. وكان من المفروض لهذه الحاجة أن تجعلهم في الواجهة، التي تخلق المزيد من التعقيدات في الداخل اللبناني، لتوظيفها في دور لبنان في المنطقة، من أجل إرباك الكثير من الأوضاع السياسية فيها. كان المسيحيون ضرورة غربية سياسية، في مواجهة إفرازات الاتحاد السوفياتي التي طبعت كلّ حركة الواقع اليساري والقومي والوطني والاشتراكي... أمّا عند انحسار هذه الموجة، لم يعُد المسيحيون حاجة كبيرة من الناحية السياسية، لأنَّ أوروبا انحسرت عن الواقع السياسي في المنطقة وفي العالَم، مقابل انفتاح أميركا على ذلك. لذلك فإنَّ كلّ الإفرازات الأوروبية أصبحت تبتعد عن الواجهة في المواقع السياسية. لذلك أتصوَّر أنّ الأميركيين ينظرون إلى المسيحيين في لبنان، أو إلى الموارنة بالذّات، على أنّهم حالة أوروبية وإن "تأمركوا". فالأميركيون بعدما استطاعوا الانفتاح على معظم بلدان العالَم الإسلامي وعلى كلّ بلدان العالم العربي، فأيّة حاجة لهم إلى أقليّة صغيرة تحمل عقداً تاريخية، فيها الكثير من التخلُّف والإرباك لأصدقائهم. لذلك إنَّ انحسار دور الطائفة المارونية، ودور المسيحيين إلى حدٍّ ما، هو نتيجة طبيعية للمتغيّرات الدولية التي تفرض متغيّرات على مستوى موازين القوى وعلى مستوى أدوات اللّعبة، حتّى أنّ "إسرائيل"، التي كانت تعتبر الموارنة في لبنان، ومعهم الكثير من المسيحيين، حاجة من أجل إيجاد التوازن في الخطّ الإسرائيلي مقابل الخطّ العربي أو الخطّ الإسلامي، لم تعد تراهم كذلك في هذا المجال، بعدما استطاعت دخول نادي السياسة العربي بطريقة واقعية، وهي تستعدّ للإمساك بهذا النادي في المستقبل.
لهذا أتصوَّر أنّ الانتخابات في لبنان كانت حركة سياسة تستمدّ حيويّتها، كما تستمدّ نتائجها المحلية، من طبيعة الأجواء الجديدة التي فرضتها المتغيّرات الدولية. وهذا ما لاحظناه في حركة الانتخابات، التي وقف أكثر المسيحيين ضدّها، في مواقعهم السياسية والدينية. ولكنّ ذلك لم يغيّر أيّ شيء من حركة اللّعبة، حتى بنسبة 1% على مستوى النتائج. وقد لاحظنا أنّ الدول الكبرى، التي كانت تمثّل الخلفية السياسية لما يسمّى "المارونية السياسية"، كانت وراء هذه الانتخابات أو أنّها وقفت إلى جانب نتائج هذه الانتخابات، الأمر الذي يعني أنّ هذه المسألة ليست من المسائل التي تتحرَّك في دائرة الشطارة السياسية أو المناورة السياسية، بل تتحرَّك في دائرة الخطوط السياسية الدولية، التي فرضت المسار السياسي الجديد على الوضع الإقليمي وعلى الوضع المحلي.
تنوُّع الوضع اللبناني
ـــ إذاً، برأيكم أنّ هذا البرلمان الجديد، أي النتائج التي تمخَّضت عنها الانتخابات، يعكس بأمانة ما آلت إليه الحصيلة اللبنانية؟
ليس من الضروري أن تكون كلّ مفردات البرلمان هي كذلك. ولكن ربّما يكون الجوّ السياسي الجديد يحتاج إلى إبقاء الواقع اللبناني في تنوّعاته، ولكن من دون فاعلية، في المستوى الذي لا يستطيع فيه أن يخرق قواعد اللّعبة. وربّما لم يُمارس ضغطٌ على بعض الفئات، كما ليس من الضروري وجود ضوء أخضر بشكلٍ مباشر يساعد هذه الفئة أو تلك الفئة، لكنّ المطلوب من البرلمان اللبناني أن يكون مجموعة من الاتّجاهات العامّة، التي لا يملك الكثيرون فيه حريّة الحركة في الخطوط التفصيليّة لهذه الاتجاهات. وليس ضرورياً أن يكون هذا البرلمان هو برلمان التسوية، بالمعنى الشرق أوسطي، وبمعنى الأزمة الفلسطينية، باعتبار أنّ هناك الكثيرين من الناس يؤمنون بالوحي البرلماني، في هذا المجال، ممّا جعل تاريخ لبنان يحفل به، وليس هناك مانع أن يكون هناك بعض الديكور للديمقراطية المعارضة.
المواجهة ستستمر
ـــ نعرف أنّ هناك عملية مفاوضات جارية على قدمٍ وساق، يفترض أن تؤدّي في مرحلةٍ أولى إلى تسويات جزئية مؤقّتة على جميع الجبهات. إذا تطوّرت هذه التسويات إلى صيغ أكثر تقدُّماً، بدءاً من فكّ الاشتباك حتّى التطبيع، كيف يجب أن تتعامل القوى الإسلامية، في تقديركم، مع واقع جديد يغيب فيه الخيار العسكري، علماً أنّ هذه القوى ترفض الاعتراف والتفاوض؟
هناك مسألة تفرض نفسها على الإسلاميين في خطّ المبادئ التي يؤمنون بها، وهي أنّه لا مجال للاستسلام للأمر الواقع، بحيث تتجمّد أمامه لتقتنع به بعد ذلك، من خلال طبيعة ما يفرضه الواقع من ضغوط أو من إغراءات. لذلك أتصوَّر أنّ غياب المواجهة العسكرية في ما بعد التسوية، لا يجعل الإسلاميين يفكّرون أنّ هذا الغياب سيبقى إلى الأبد، لأنَّ الإسلاميين يختزنون في داخل وعيهم الإيماني الإسلامي فكرة تقول: إنَّ الحياة لن تبقى خاضعة لقوّة واحدة، وإنّ الكون لن يبقى سائراً على خطٍّ مستقيمٍ في اتّجاهٍ واحد. الله يقول: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [ آل عمران : 140]، ونحن نقرأ {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [ آل عمران : 26]. إنَّنا نفهم هذه المسألة سياسياً، كما نفهمها سُنّة من سنن الله في الكون، التي يخضع لها أكثرية الناس. من خلال ذلك إنّ تجميد المسلمين نشاطهم العسكري ضدّ "إسرائيل" لا يعني أنّهم أدخلوا السيف في الغمد، لكن يعني أنّهم يعملون على إيجاد أيّة فرصة، مهما كانت، لإبقاء هذه المواجهة، ولو في دائرة ضيّقة، حتّى تنطلق المتغيّرات بشكلٍ آخر.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، هناك مواجهة أخرى، لأنَّ المعركة التي ستُفتح بعد عملية الصلح مع "إسرائيل" هي معركة التطويع، تطويع الإنسان العربي والإنسان المسلم على الانفتاح على "إسرائيل" سواء كان التطويع سياسياً أم ثقافياً أم اقتصادياً أم أمنياً. إنَّ الإسلاميين يملكون في مُفرداتهم القرآنية الكثير ممّا يمكن أن يحرِّكوه سياسياً في وعي الإنسان المسلم، كلَّما قرأ نصّاً من القرآن، لأنَّ القرآن يتحدَّث عن اليهود بطريقةٍ سلبية، من خلال سلوكهم التاريخي أو من خلال مخطَّطاتهم المستقبليّة. لذلك سوف يحرّك الإسلاميون الثقافة القرآنية والفقهية، والمسألة الاجتماعية في سبيل مواجهة عملية التطبيع التي يمكن أن يطلقوا فيها الفتاوى التي تحرّم شراء البضائع الإسرائيلية، كما تُطلَق الآن الفتاوى التي تحرّم الانفتاح على الإسرائيليين بطريقةٍ أو بأخرى. ربّما لا ينجح الإسلاميون نجاحاً كاملاً في هذا المجال، لأنَّ المسلمين ليسوا كلّهم ملتزمين من الناحية الإسلامية، ولكنّ ذلك يعطّل الكثير من الحركة التي تحاول "إسرائيل" أن تنطلق بها لاستيعاب المنطقة وللدخول كعضو طبيعي في جسمها. لذلك إذا لم يستطع الإسلاميون الانتصار في هذه المعركة، فهم يستطيعون إرباك الكثير من الخطط التي ترسمها الأنظمة، والتي تحرّكها "إسرائيل" والاستكبار العالمي في هذا المجال، ريثما تأتي متغيّرات جديدة يصنعون بعضها وينفتحون على البعض الآخر، للوصول إلى الأهداف الكبيرة. نحن نتحرَّك دائماً في هُدى الكلمة المأثورة عن الإمام عليّ (عليه السلام) "اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً"(1). إنَّنا نواجه المسألة الإسرائيلية والمسألة الاستكبارية في العالَم، التي أفرزت الحالة الإسرائيلية في حجم إرادته، ولذلك فإنَّ كلّ جيل يحاول نقل الأهداف إلى الجيل الآخر، من خلال ما يعيشه من إيمان ويتطلَّع إليه من آفاق واسعة في حجم القضايا ككلّ.
الحرب والسلم
ـــ هذا الأمر يحيلنا إلى مسألةٍ أخرى: متى يحمل الإسلاميون السلاح ومتى يناضلون بالوسائل السلمية؟
في البدء، المسألة هي أنَّ الإسلاميين ليسوا بدعاً من الناس في هذا المجال. فقضية أن تحمل السلاح أو تتحرّك بالوسائل السلمية هي من القضايا التي تفرضها حركة الظروف التي تحرّكها في خطّ استراتيجيّتك. فالإسلاميون ليسوا انتحاريين في المسألة الجهادية. قد تفرض المسألة الجهادية القيام بعمليات استشهادية، التي تعتبر جزءاً من أساليب العمل الجهادي، الذي يُقتل فيه الناس في المعركة بطرائق متعدّدة ومنها هذه العملية، ولكنّهم ليسوا انتحاريين، بمعنى انفتاحهم على الفراغ، على أساس أن يعيش الإنسان مزاج الشهادة. فالشهادة ليست مزاجاً، وإنّما هي وعي للهدف في خطّ الوسائل التي تملكها. وهذا يعني أنّ عليك أن تحدّق دائماً بالظروف الموضوعية التي تحيط بك، لتعرف أنّ الهدف يستفيد من حركتك الجهادية أو أنّه يستفيد من حركتك الثقافية أو السياسية أو الاقتصادية أو ما إلى ذلك. هذا أمر لا تستطيع أن تحدّده في المطلق، ولكنّك لا بدّ من أن تحدّده بحجم الأرض التي تقف عليها. فالمسألة الأساسية هي أنّ الجهاد خطّ من خطوط الحركة، كما أنّ الوسائل السلمية خطّ من خطوط الحركة. ولكن كيف لك أن تحرِّك هذا أو ذاك؟ عندنا في القرآن الكريم حديثٌ عن الحكمة إلى جانب الكتاب {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة : 129]، والحكمة هي الحركة التطبيقيّة للنظرية، بحيث إنّك تضع الشيء في موضعه، الأمر الذي يجعل حركة الواقع مسألة تتّصل بالخطّ الفكري كما تتّصل بالخطّ العملي.
ممانعة التطبيع
ـــ إذا أضفنا إلى مسألة التطبيع وخطورتها، كلّ ما يسوق وكلّ ما يطرح في مسألة "النظام العالمي الجديد"، فالمنطقة في هذه الحالة ستواجه أوضاعاً جديدة، والممانعة الثقافية، التي تحدّثت عنها، ستأخذ كذلك أشكالاً جديدة، هل يمكن تناول هذه المشكلة بشكلٍ أكثر تفصيلاً؟
من الطبيعي أنّ أسلوب الممانعة الثقافية، لا بدّ من أن يخضع لطبيعة النتائج التي يمكن أن تبلغها في حركة الوصول، لأنَّ المسألة الثقافية في حركة الفكرة ليست من المسائل المطلقة، بل هي العملية التي تعمل فيها على أن تهندس الطريق إلى عقول الناس وإلى قلوبهم وإلى مشاعرهم، من أجل الوصول إلى حياتهم. من هنا من الممكن لك أن تستفيد من كلّ الوسائل في هذا المجال. نحن في الإسلام نختزن، حتّى في الصلاة، حركة الذهنية السياسية. فنحن عندما نتحدّث عن كلمة "أشهدُ أنْ لا إله إلاّ الله"، فإنَّنا نستوحي منها أنّ الإنسان حرٌّ أمام الكون كلّه وعبدٌ لله وحده، وعندما نقول "أشهدُ أنَّ محمّداً رسول الله" نفهم منها معنى الانتماء الذي ننفتح فيه على الإسلام، ونحدّد فيه خطوطنا مع الاتّجاهات الأخرى أو الأفكار الأخرى، وهكذا عندما نقول "الله أكبر" فذلك يعني أنّ كلّ ما عدا الله أصغر، وبذلك تستطيع أن تستحضر الدول الكبرى أو العظمى، وما إلى ذلك من قوى قد توصف بهذه الصفة، بطريقةٍ أو بأخرى. لذلك لن يستطيع الآخرون أن يحاصروا أسلوبنا المتنوّع، لأنَّ طبيعة الصلاة وطبيعة القرآن، وحتّى مسألة الوعظ والإرشاد التي توجّه الناس لحركة الآخرة في الدنيا، يمكنك أن تحوّلها إلى حالة سياسية من دون جهد، لأنَّ المسألة السياسية عندما تنطلق من وعي القيمة، تمتزج بالجانب الديني ولا تنفصل عنه بأيِّ حال من الأحوال. لذلك نحن نملك الوسائل الكثيرة، التي نستطيع أن ننوّع فيها قضية الممانعة في التطبيع، ونحن لا ننكر أنّ هناك مشاكل كثيرة في الحجر على الحريّة الفكرية وعلى طريقة الإعلام الثقافي، لكنّ ذلك لن يجعلك تعيش في زنزانة لا تملك فيها الحركة، فالإنسان يستطيع أن يتحرَّك بطريقةٍ أو بأخرى.
مجتمع الولاية والشورى
ـــ عن هذه النظرة الحركية للإسلام في التعامل مع حركة الواقع، يتصدّى بعض حاملي لواء التجديد في الإسلام لمسائل معاصرة شديدة الحساسية والأهمية، مثل الموقف من الديمقراطية كنظام سياسي هو نتائج تجربة حضارية عالمية، وما يتفرَّع عن ذلك من عناوين، مثل شعار "الشعب مصدر للسلطة"، "التعدُّدية السياسية الثقافية"، "تداول السلطة، "حقوق الإنسان"، "حقوق الأقليّات"... إلخ.
أين يقف السيّد فضل الله، باعتباره أحد كبار المجدّدين في الفكر والممارسة الإسلاميين، من هذه المسائل؟
هناك فرقٌ بين أن تطوّر حركتك على حساب فكرك، بحيث تعمل على الاستغناء عن بعض عناصر الأصول الفكرية لمصلحة المتغيّرات الفكرية أو الواقعية في العالَم، وبين أن تتطوّر في وعي فكرك في عملية اجتهاد، فتنزل إلى أعماق الفكر لتستخرج منه الكثير ممّا يمكن أن يواكب تطوّر حياتك، أو ترصد حركة الفكر في الواقع بالطريقة التي تجعلك تستفيد من كثير من مفردات الواقع التي يستهلكها الناس، من دون أن تستغرق في خصوصيّاتها التي قد تختلف معها من ناحية الدين.
مثلاً "الشعب مصدر السلطة"، هذه فكرة قد تبدو غريبة عن الخطّ الإسلامي الفكري، لأنَّ السلطة في الإسلام يفرضها الله، فالله هو الذي فرض النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو الذي يفرض الخطوط العامّة للسلطة. ولكنّك في الوقت نفسه، تستطيع أن تجعل للنّاس دوراً في هذا المجال، إذ لاحظنا أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يكتفِ بأنّه نبيّ مرسل من الله عندما انفتح على الناس، بل إنّه أكَّد هذا المعنى في وعي الناس، ولكنّه عندما أراد أن يحكم الناس أو أراد أن يحرّك التزام الناس بقيادته، أفسح المجال للبيعة. فالبيعة لا تعطي النبيّ شرعية، ولكنّها تعطي القيادة للمسلمين وتؤكّد التزام الناس بها، بحيث تكون عملية الحكم منطلقة من رضى الناس، الذي انطلق من إيمانهم في العمق وتحرّك في التزامهم في الممارسة. وهكذا، نجد أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي أرسله الله للنّاس بالوحي، ينطلق مع الناس ليسمع قول الله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [ آل عمران : 159]، بحيث يجعل لرأي الناس قيمة في حساباته، فلا ينطلق في أمر من أمور الحرب والسلم، إلاّ بعدما يجمع أصحابه ليشاورهم. وعند ذلك، يرى رأيه: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} [ آل عمران : 159]. وقد أكَّد القرآن أنّ مجتمع المسلمين هو مجتمع الشورى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى : 38]، بحيث أنّ الشورى تحكم كلّ المواقع الصغيرة والكبيرة في الإسلام. حتّى أنَّنا نلاحظ في آخر حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في ما تتحدَّث عنه السيرة النبوية الشريفة، أنّه وقف أمام الناس وهو في حالة المرض الشديد الذي توفي فيه فقال: "أيُّها الناس أنا لا أحلّ لكم إلاَّ ما أحلَّ القرآن ولا أُحرِّم عليكم إلاّ ما حرَّمه"(1). إنّه هو النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) غير المسؤول نبويّاً أمام الناس، يقدّم حسابه للنّاس. فعليهم أن يدرسوا كلّ حياته وكلّ سيرته، فهو لم يبتعد عن الخطّ الذي رسمه لهم والذي هو شريعة الله مثلاً.
وهكذا نجد أنّه، حتّى مسألة ولاية الفقيه، التي طرحت في هذه الأيام من خلال الثورة الإسلامية، لم تنطلق لتفرض على الناس حكماً إلهياً، يجعل الفقيه حاكماً مطلقاً يعمل بمزاجه وبأفكاره، بل انطلقت لتستفتي الناس في كلّ شيء. نحن نعرف أنّ الدستور الإسلامي في إيران انطلق من خلال الاستفتاء الشعبي، وكذلك مجلس الشورى، ومجلس الخبراء. الناس هم الذين يختارون الخبراء الذين ينتخبون بدورهم الوليّ الفقيه ومجلس صيانة الدستور، كما ينتخبون النوّاب، كما ينتخبون رئيس الجمهورية. لقد اتّسعت نظرية الشورى، بحيث استطاعت أن تلائم بين نظرية ولاية الفقيه وبين نظرية الشورى. لذلك إنّ في الفكر الإسلامي حركية تجعل من الممكن جداً الانسجام بين نظرية النصّ ونظرية الشورى، كما نلاحظها الآن في واقع الجمهورية الإسلامية التي تلتزم المذهب الإسلامي الشيعي، الذي يعتبر الإمامة بالنصّ ويعتبر ولاية الفقيه من خلال القواعد الفقهية. ومع ذلك انفتحت على واقع الناس، لذلك كلمة "الشعب مصدر السلطات" التي قد يفهم منها أنّ الله لا دور له في السلطة، هذه تبتعد عن الخطّ الإسلامي. والمسألة تختلف عندما تنطلق من أنّ للشعب دوراً في السلطة، من خلال الخطوط العامّة التي تحدّد له سيرة، تماماً كما هي الخطوط العامّة الموجودة في القانون، عندما تحدّد للشعب طريقته في اختيار مَن يمثّله أو اختيار الحكومة أو ما إلى ذلك.
أمّا بالنسبة إلى قضية التعدُّدية السياسية والثقافية، فهي من المسائل التي قد تفرضها طبيعة الظروف التي يعيش فيها الناس. فربّما كانت المسألة في العصور السابقة بعيدة عن الخطوط الحاسمة في مسألة حماية الفكر، وربّما كانت التعدُّدية السياسية أو الثقافية تُسقط الفكرة وتبتعد بها من مواقع القوّة. ومن الطبيعي أنّ لكلّ حكم يرتكز على فكرة الحقّ في أن يحمي الفكرة التي هي أساس حكمته، تماماً ككلّ إنسان يعمل على حماية فكره. ولكن عندما يكون المناخ الذي يحكم الواقع في حياة الإنسان هو مناخ التعدُّدية ـــ بحيث تكون فردانية الموقع السياسي أو فردانية الثقافة مصدر خطر على الفكرة ـــ تكون هذه التعدُّدية فرصة كبرى لنمو الفكرة ولانفتاحها ولقوّتها، عندما تضع لها الضوابط الخاصّة.
عند ذلك يمكن أن تكون التعدُّدية السياسية منسجمة مع حركيّة الإسلام في الواقع، لأنَّك عندما تلغي التعدُّدية على أساس أنّ إلغاءها هو الذي يحمي لك فكرك ـــ وهنا نلاحظ أنّ الدول التي ألغت التعدُّدية، كالاتّحاد السوفياتي، سقطت تحت تأثير إلغاء التعدُّدية السياسية من دون أن تترك أيّة فرصة كبيرة لالتزام الناس فكرها ـــ فإنَّنا نعرف أنّ إلغاء التعدُّدية السياسية قد يعطي عكس المطلوب، إذا كان المطلوب هو حماية الفكرة. ولذلك لا مانع، انطلاقاً من طبيعة المفردات، أن يفسح المجال إسلامياً للتعدُّدية السياسية، من ضمن الضوابط التي تحمي الخطّ الإسلامي ولا تسيء إلى حريّة الناس.
تداول السلطة
أمّا مسألة تداول السلطة فهي من المسائل التي تخضع لموازين القوى، لأنّ أيّ فكر ينطلق معتبراً نفسه الفكر الأكثر صلاحاً للناس، لا يترك السلطة مختاراً، بل إنَّ ابتعاده عن السلطة ينطلق من اختلال موازين القوى ضدّ مصلحته. لأنّه في الواقع، لو أراد أن يحتفظ بالسلطة بطريقة العنف المجنون، فربّما يكون سقوطه أقرب من بقائه في هذا الجوّ، كما لاحظنا في كلّ الدول الديكتاتورية، حيث لم تستطع أن تحافظ على نفسها بالعنف. ومن هنا فإنّ هذه المسألة تعدّ من المسائل التي قد تواجه فيها تدارس خطّة، لا لأنّك تنفتح على هذا الفكر ـــ لأنَّ من الطبيعي ألاّ يقبل الإنسان أن يُسقط فكره أو أن يترك الساحة ـــ لكن عندما تفرض عليك الظروف ذلك أو يكون المناخ العام هو ذلك، فإنَّ من الطبيعي أنّك عندما تترك السلطة، يكون ذلك باعتبار أنّ الظروف لا تسمح بذلك، كما أنّ الملاحظ أنّ الذين يتركون السلطة في اللعبة الديمقراطية لا يتركونها مختارين، وإنَّما لأنّهم لا يستطيعون البقاء فيها، لأنَّ وسائل العنف ليست متاحة، فالشعب يرفضها ولا يتقبّلها في هذا المجال. لذلك قد تكون بعض هذه القضايا ممّا يفرضه الأمر الواقع، لا ممّا يختاره الإنسان. إنَّ عدم اختيار الإنسان البقاء في السلطة دائماً، قد ينطلق من خلال الظروف التي تمنعه من ذلك وقد تنطلق من اختياره، لأنّه يعرف أنّه لو لم يختر هذا، لسقط نتيجة عنف أقوى قد يسقطه بشكلٍ لا يستطيع معه أن يقوم من سقطته هذه. لذلك، فنحن لا نواجه هذه الفكرة مواجهة حادّة، بل مواجهة متحرّكة.
حقوق الإنسان والأقليّات
وهكذا بالنسبة إلى "حقوق الإنسان"، نتصوَّر أنّ حقوق الإنسان ليست شيئاً مطلقاً معلَّقاً في الهواء، ونحن لا نعتقد أنّ الثورة الفرنسية أو هيئة الأُمم المتّحدة هي التي تقرّر حقوق الإنسان، فللإسلام نظرية معيّنة في حقوق الإنسان. ولذلك فهو يؤكّد حقوق الإنسان بحسب نظريّته، تماماً كما يؤكّد الآخرون حقوق الإنسان بحسب نظريّاتهم. ويمكن أن يكون هناك حوار بين حقوق الإنسان لدى الإسلاميين وحقوق الإنسان لدى الآخرين. والإسلام لا يمانع في عالَم الحوار.
أمّا مسألة "حماية الأقليّات"، فلا أتصوَّر أنّ هناك نظاماً يحمي الأقليّات كما في الإسلام. أمّا نظام أهل الذمّة، الذي يصوّره بعض الناس نظاماً قمعياً لا إنسانياً، فهو نظامٌ حضاريٌ، لأنّه عندما ينطلق الحكم على أساس إسلامي في ظلّ وجود يهود ونصارى لا يؤمنون بالإسلام، فإنّه لا يفرض عليهم ضرائبه التي تفرض، من خلال تشريعه الذي يلتزمه المسلمون، كما لا يفرض عليهم أن يكونوا جنوداً في حرب لا يؤمنون بها، لكنّه لا يمنعهم من التطوُّع في هذه الحرب، كما حدث في إيران عندما تطوَّع الكثيرون من الأرمن في الحرب ضدّ العراق، إبان الحرب العراقية ـــ الإيرانية. وتؤخذ الضريبة للتعويض عمّا تقوم به الدولة لرعايتهم وحمايتهم من القوى الخارجية وحمايتهم من الناس الذين يعيشون معهم. لذلك عندما تُدرس هذه المسألة دراسة جيّدة فإنَّنا سنرى أنّها لا تختزن هذه السلبيات الاستهلاكية التي يتحدّثون عنها.
الذمّة والمعاهدة
وهكذا نجد أنّ هناك بديلاً عن نظام أهل الذمّة، ألاَ وهو نظام المعاهدة. فهناك في الإسلام نظام المعاهدة بين الأكثرية والأقليّة، وهذا الذي تمارسه الجمهورية الإسلامية في علاقتها باليهود وبالنصارى الموجودين في داخل إيران، وهو يقوم على علاقة المعاهدة بين الدولة وبين هذه الأقليّات. أمّا الأقليّات الأخرى، مثل أقليّة كردية في نطاق مجتمع عربي أو أقليّة تركية في نطاق مجتمع فارسي، فإنَّ الإسلام يتعهَّد بإعطائها حقوقها الثقافية والأدبية، وما إلى ذلك ممّا يحترم عاداتها وتقاليدها.. وتبقى مسألة العلاقات السياسية بحيث تخضع للمصلحة العليا، لأنَّ الإسلام لا ينطلق من خلال حالة عرقية، حتّى يقسّم المجتمعات إلى أعراق متعدّدة. لكنّه يحتفظ لكلّ عرق من هذه الأعراق بثقافاتها وعاداتها وتقاليدها التي تبتعد عن الإسلام. إنَّنا نعتقد أنّ هناك الكثير ممّا يمكن الحوار حوله في حركة الإسلام في الواقع، لأنَّ هناك الكثير ممّا يختزنه الإسلام في ركائزه الفكرية، ممّا يمكن أن يطوّر حركة الإسلام في الواقع من دون أن يبتعد عن أصوله الأساسية.
ـــ هل يمكن التوسُّع أكثر في نظام المعاهدة؟
من الممكن جداً أن يوجد هناك أو يعقد هناك ميثاق، مثلاً، بين المسلمين الذين يحكمون البلد ـــ إنَّ القيادة الإسلامية تحكم البلد باعتبار وجود أكثرية إسلامية ـــ وبين النصارى أو اليهود، على أساس أن يقدم هؤلاء ما يريدونه في علاقاتهم بالدولة أو علاقاتهم بالمسلمين، ويقدم المسلمون أيضاً ما يريدونه منهم، شرط ألاّ يبتعد ذلك عن الخطوط الإسلامية، بحيث يكون فيه تحريماً لحلالٍ أو تحليلاً لحرام، بمعنى ألاّ يكون على خلاف القانون العام أو النظام العام. وبذلك يمكن أن يعيش غير المسلمين مع المسلمين في نظام هذه المعاهدة، لينفتحوا على كلّ مواقع الدولة على أساس نصوص هذا الميثاق، ما عدا أن يكونوا في رأس القرار، لأنَّ الجهة التي تكون رأس القرار لا بدَّ من أن تؤمن بفكرة الدولة. أمّا الذين لا يؤمنون بفكرة الدولة فليس من الطبيعي أن يكونوا في الهيئة العليا لمصادر القرار. وهذا أمرٌ معترف به في كلّ الدول التي ترتكز على أساس فكري. إنَّ الذين يقفون في موقع القرار هم الذين يؤمنون بفكر الدولة، أمّا الذين لا يؤمنون بفكر الدولة، فلا معنى لأنْ يكونوا في مصادر القرار المرتكزة على الجانب الفكري.
ـــ هل يوجد نماذج تاريخيّة عن نظام المعاهدة؟
لعلَّ أوّل وثيقة للمعاهدة في المنطقة، هي الوثيقة التي أصدرها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما جاء إلى المدينة وركّز المعاهدة بين المهاجرين والأنصار وبين اليهود، وهذه تمثّل أوّل انطلاقة لنظام التعاقد والتعاهد الذي انطلق فيه الإسلام. وإذا كان المسلمون قد أساؤوا استعمال بعض الأنظمة الإسلامية مع الأقليّات، فإنَّ الإسلام لا يتحمَّل مسؤولية ذلك.
ـــ هل هناك نماذج أحدث في التاريخ المعاصر؟
الواقع أنّ إيران هي الآن النموذج في هذا المجال.
ـــ تحدَّثتم عن خصوصية معيّنة للحالة الإسلامية في لبنان، لكونه سيبقى هذا "المزيج من الخطوط الملتوية والمنحرفة والمستقيمة".
ولكون العالَم الإسلامي هو جزء من العالم الثالث، ولكون هذا العالَم يخضع لعلاقة غير متكافئة مع الغرب؛ وفي ظلّ سقوط العديد من الأيديولوجيّات التي كانت تحتلّ موقع الصدارة في "مواجهة سياسة الاستكبار التي يمارسها الغرب علينا"، وبعدما بات الخطاب الإسلامي يرى نفسه في موقع الصدارة في الردّ بشكلٍ أو بآخر على هذه السياسة... هل هذا الموقع الأمامي للخطاب الإسلامي هو مؤشّر لمرحلة تاريخيّة جديدة ترسم مستقبلاً إسلامياً للمنطقة؟ وما هو موقع لبنان ـــ بتركيبته الملتوية ـــ في هذا المستقبل؟
إسقاط الاستكبار العالمي
من الطبيعي أن يفكِّر الإسلاميون أنّ فرص إسقاط الاستكبار العالمي، الذي يُعطي لنفسه فرادة في حكم العالم، وهو الاستكبار الأميركي، أصبحت فرصاً واقعية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وإذا كان الاتحاد السوفياتي قد سقط بفعل الانهيار الاقتصادي، الذي استطاعت أن تستفيد منه الاستخبارات الدولية ومنها الأميركية، فإنَّ هناك وضعاً يتّجه في هذا الاتّجاه في الواقع الأميركي، إضافة إلى الواقع الذي يتحرّك باتّجاه تمزيق الشعب الأميركي إلى قطع متناثرة، ممّا يبدو بين وقتٍ وآخر عندما تتحرَّك الأزمات والزلازل أو غير الزلازل، الأزمات العرقية وما إلى ذلك. إنَّ هناك فرقاً بين الاتحاد السوفياتي وبين الولايات المتحدة الأميركية، ولكنَّ المسألة هي أنَّ الضخامة، ضخامة الجسم السياسي أو الجسم العسكري، قد تخفي في داخلها أمراضاً قد تقضي على الجسد كلّه. لذلك نحن نعتقد بإمكانية إسقاط الاستكبار العالمي. ولذلك فإنَّ الإسلام ينطلق على أساس الإيحاء الدائم، للمستضعفين وللمسلمين بالذّات بأنَّ هؤلاء الأقوياء يختزنون في داخلهم الكثير من نقاط الضعف، في مقابل ما يختزنه الضعفاء في داخلهم من نقاط القوّة، مع إغراء الضعفاء بأن يعملوا على توجيه نقاط قوّتهم في مواجهة نقاط الضعف الموجودة في الاستكبار العالمي.
إنَّني أعتقد أنّ اتّساع الحركة الإسلامية، في العالَم الإسلامي على الأقلّ، يمكن أن يعطيها فرصاً كبيرة للتجدُّد، ولاسيّما أنّ الاضطهاد الذي أصبح يواجه الحركة الإسلامية قد خدمها كثيراً في تعميق جذورها لدى الشعوب المظلومة والمضطهدة، لأنّها برزت كعنصر وحيد في هذه المرحلة في مواجهة الاستكبار العالمي. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى نلاحظ أنّ الإسلام قد بدأ يقتحم مواقع هذا الاستكبار من الداخل، فهناك مواقع إسلامية متقدّمة في أميركا وفي أوروبا وفي كثير من أنحاء العالَم، حيث أصبحت تمثّل مشكلة كبيرة في الدول الاستكبارية، في سبيل المحافظة على أوضاعها وعلى طابعها وما إلى ذلك. إنَّنا نستذكر تاريخياً أنَّ هولاكو استطاع أن يجتاح البلاد الإسلامية، ولكنَّ الإسلام اجتاح عقول أولاد هولاكو، فحوَّلهم إلى مسلمين. وبذلك تحوّلت كلّ هذه القوّة إلى قوّة إسلامية. وأعتقد أنّه من الممكن جداً للإسلام أن يقتحم كثيراً من المواقع التي تمثّل خطراً على الإسلام، لتتحوَّل لمصلحة الإسلام على أساس الفكرة التي ننطلق بها "غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون".
الفصل الرابع:
سماحة آية الله العظمى يحاور حول:
القضية الفلسطينيّة ـــ الصراع العربي ـــ الإسرائيلي ـــ الانتفاضة ـــ مؤتمر مدريد ـــ المفاوضات ـــ قطار السلام ـــ ما بعد السلام
القضية الفلسطينية هي القضية الأُم
في المرحلة الراهنة(*)
تقديم العميد رفعت النمر:
يسعدنا جداً ويشرّفنا أن يكون سماحة العلاّمة المجاهد السيّد محمد حسين فضل الله معنا اليوم. فمنذ عام تقريباً كان لقاؤنا الأوّل، أمّا اليوم وأمام سرعة الأحداث التي تجرف حياتنا، فحاجتنا لسماحته أقوى، نندفع إليه بكلّ ما تختزنه نفوسنا من تقدير وإجلال لشخصه، متوجّهين إلى فكره وعلمه وتجاربه وإلى روحه وإيمانه ومبادئه، يلامس أعماق قلقنا، ويشبع في نفوسنا تلك الحاجة لدينا لأن تُقال لنا الحقيقة على قساوتها، وبعزيمته المتجدّدة يضاعف عزيمتنا ويشحذ القدرة لدينا على الثقة بالذّات وتحصينها.
يقرأ الحاضر لنا ببصيرة متيقّظة ويرسم ملامح المستقبل، فيقول رأيه بأمانة المؤمن وشجاعته وتفاؤله بتجاوز المحن وصدّ الأخطار، فهو الذي يعطي دون انقطاع انطباعاً بالهدوء والثقة اللذين يميّزان المؤمن الواثق بنفسه وبإيمانه وبالقِيَم التي يحملها، وبعدالة قضيّته وحتمية انتصاره، وهي فعلاً صورة حقيقيّة أمام الصديق والعدوّ معاً.
ثقة أساسية يمتلكها سماحته وإيمان راسخ يدفعه للصديق عضداً، وللعدوّ يقاتله بجرأة وبسالة. من إنسانٍ حرّ تنطلق الكلمات على هدى: "متى استعبدتم الناس وقد وَلَدَتْهُم أُمّهاتهم أحراراً"(1)، وقد كرَّمه العليّ القدير، بالعقل الذي به تندفع المواقف صاعدة نحو حياة كريمة وحضارة أفضل، يشكّلها، متى توافرت له في وطنه، سعادة أكثر وتحريراً من العوز ومن الاستغلال.
من ساحة المؤسّسات على أنواعها، من العمل المنتج والتمويل الذاتي بدون ارتهان، يمكن للصوت اليوم أن يرتفع معلناً، في ما يعلنه، التزامه بمقاطعة التطبيع حقاً وطنياً مقدَّساً، ومحذّراً من رفع المقاطعة الاقتصادية عن الكيان الصهيوني، فالمرحلة عملية استدراج وتطويع لخطوة إثر خطوة، تستهدف استباحة الأُمّة عن طريق روحها وعقلها وضميرها ومشاعر أبنائها وثوابتهم.
من هنا، ننظر بإجلال إلى سماحتكم تؤكّدون قناعة تتحكَّم بنا بأنّ الصراع في المنطقة صراع تاريخي بين الحقّ والباطل، وهو باق ليس لمصلحتنا اليوم، ولكن كيف لنا سيّدي، والتهاون من حولنا، أن نجد أرضاً صلبة تشكِّل منطلقاً إلى مستقبل، نكون فيه أحراراً مشاركين لا تابعين ولا مرتهنين، من خلالها نعيد إلى هذه الأُمّة، وهي خير أُمّة أُخرِجت للناس، دورها التاريخي الرائد وإنسانها السويّ السليم، ولتتفضَّل سماحتكم، وشكراً سيّدي.
التفكير بصوتٍ مسموع
ربّما أفضِّل لنفسي دائماً أن أكون مستمعاً أكثر ممّا أكون متحدِّثاً، لا لرهبة في الحديث، ولاسيما مع أُناس يغتني الحديث بهم ومنهم، ولكنّي أتصوَّر أنّ على الإنسان الذي يتحرّك في الشأن العام وفي الأُفق الكبير أن يظلّ يحدّث ويستمع ويلامس ليفكّر، لأنَّ معنى أنْ تتحرّك هو أن تفكِّر لحركتك وللنّاس من حولك، وأن تجعل الحاضر إنتاجاً بدل أن يكون استهلاكاً؛ وإذا حاصرك الحاضر في الاستهلاك فلا يجوز أن يكون المستقبل استهلاكاً. ولذلك فإنَّني في حديثي هذا، الذي يشرّفني أن أُثيره أمامكم، أحبّ أن يكون عنوانه: التفكير بصوتٍ مسموع.
في الأجواء التي نعيشها الآن في هذه المرحلة، ربّما يخيّل إليَّ أنّ خطورتها ليست في أنّ العدوَّ يتقدَّم ويخترق الكثير من الحواجز التي نصبناها في الساحة؛ ولكنّي أتصوَّر أنّ هناك مرحلة جديدة بدأت. كانت المشكلة في البدايات هي كيف يؤكّد العدوّ وجوده كيفما كان في الساحة، ليكون شيئاً سياسياً، وعندما انطلقت حركة العدو بالتحالف مع أكثر من قوّة عالمية ومع أكثر من خلفية عربية، كانت تنطلق حيّة تارةً وخفيّة أخرى، استطاع أن يؤكّد شيئاً من وجوده واستطاعت الحروب المدروسة أن تشرّع الكثير من أنحاء وجوده، حتّى استطاع أن يخترق العالَم بشكلٍ عام ليأخذ الشرعية الدولية.
الخطة... تفريغ العقل العربي
وبدأت الخطّة، التي هي خطّة دولية واسعة شاملة، لها أكثر من تقاطع مع المسألة الإسرائيلية، ولها أكثر من هدف في تمزيق الواقع العربي أو واقع المنطقة بشكلٍ عام، واستطاعت أن تشرّع وجود "إسرائيل" في المنطقة وبقيت المسألة كيف تُشرِّع عربياً، وتحرَّكت في خطّين: في الخطّ الذي يحاول إثارة الانفعال العربي بعيداً عن عقلانيّته، وانطلق الانفعال من أجل أن يحقِّق الكثير لهذا الوجود الجديد، كما استطاع أن يفرغ الوجدان العربي من الأفكار القويّة التي تعمل على إعطاء قوّة في العمق، لأنَّ الواقع كان مشغولاً بالقوّة في الشعار، وفي الاستعراضات التي كانت ترضي الكثير من حماستنا.
كانت المسألة هي أن يفرغ العقل العربي في المسألة السياسية وحتّى في عمق المسألة الفكرية، ومن هنا كانت المرحلة مرحلة تراشق بين الأفكار في السطح لا في العمق، وأصبحت القضية تتحرَّك على أساس أنّ المشكلة الإسرائيلية، التي يجب أن نواجهها ليست في فلسطين، بل هي في الواقع العربي. هكذا أوحى بعضنا إلى بعض وشُغلنا عن فلسطين وبدأت الخطوط السياسية الدولية تتحرَّك في المنطقة في عملية إضعاف منظَّم. وهكذا رأينا كيف كانت حرب الخليج الأولى، التي عملت على إثارة الكثير من التناقضات في الواقع العربي والإسلامي وعلى إثارة الكثير من الأوضاع، التي كانت تتّجه من الناحية الاقتصادية إلى مستقبل الإفلاس الاقتصادي العربي.
وهكذا جاءت حرب الخليج الثانية، للمزيد من الإضعاف وللإيحاء بأنَّ قضية العرب هي أن يُهزموا، وإنْ كانوا يحملون شعارات الانتصارات. إنَّ حرب الخليج الثانية في كلّ الإعلام السياسي الغربي وغير الغربي ـــ في ما نستهلكه من إعلامنا ـــ كانت تركّز على أساس أنَّ الانتصار ليس لدول الخليج وليس للدولتين اللّتين دخلتا الحرب من غير دول الخليج، بل كانت تعتبر أنّ الانتصار أميركي وغربي، حيث لم يُعطَ العرب الذين كان الانتصار لحسابهم شكليّاً، أو العرب الذين دخلوا تحت شعار عربي من أجل إنقاذ العربي من العربي، لم يُعطوا شيئاً حتّى ما يحفظ ماء الوجه ويوحي بالانتصار، لأنَّ المطلوب كان هو أن لا يعيش العرب معنى وجودهم القومي، وأن لا يختزنوا في داخلهم أيّة أحاسيس لمعنى المنتصر، بل أُريدَ لهم أنْ يتعمَّق معنى المهزوم في داخلهم. وهكذا رأينا أنّه لم يُسمح للأمن العربي ـــ ولو بطريقة شكلية ـــ بأن يشارك في الأمن العربي الآخر، بل كانت المسألة هي أن يكون الأمن العربي تحت تأثير الأمن الدولي، للإيحاء بأنّ الأرض العربية ليست عربية ولكنّها أرض دولية وعلى العرب أن يستعدّوا كي لا يفكِّروا بعالَم عربي، ربّما شعر الآخرون بأنَّ شعاراته أربكت الكثير من خططهم.
وتقدَّمت المسألة والعرب يلهثون مع أميركا، لماذا لا تتكرَّر تجربة الكويت، أي ما يسمّى بتحرير الكويت مع مسألة فلسطين؟ لماذا لا يُطبَّق البند السابع؟ ومن الطبيعي أنّها كانت سذاجة عربية، لأنَّهم كانوا يفهمون أنَّ البند السابع لو طُبّق على العالَم كلّه حتّى على أميركا، فإنّه لن يطبّق على "إسرائيل".
... وكانت مدريد
إنَّ القضية التي كانت مطروحة هي أنّه لا بدّ من أن يُستكمل الضعف والهزال العربيّين، ولا بدّ من أن يصل العرب إلى حالة انعدام الوزن، لتبدأ مسألة التسوية. وكانت مدريد، وبدأت المسألة بتغييب العالَم العربي، فلا يُسمح للجامعة العربية بأن تكون مراقباً في المؤتمر، كان المطلوب أن لا يكون العرب في السّاحة؛ وحتّى عندما أراد العرب، الذين يملكون اتّصالاً مباشراً بالقضية الفلسطينية، أن يدخلوا المؤتمر بعنوان عربي اسمه دول الطوق العربية، لم يُسمح لهم بأن يدخلوا المؤتمر بهذه الصفة، أدخلوا أسماء لا يُراد ـــ حتّى للصفة العربية ـــ أن تلحقها ولو في الاسم.
وهكذا رأينا أنّ "إسرائيل" كانت تصرّ على أن لا يكون المؤتمر في بناية واحدة، حتّى لا يضبط العرب متلبّسين بالتشاور بين كلّ جلسة وجلسة. كان المطلوب هو إيجاد المزيد من الضعف العربي، حتّى يمكن تشريع الوجود الإسرائيلي عربياً على مستوى الأنظمة، فشُرِّع، وهكذا كان الوجود الإسرائيلي عربياً على مستوى الأنظمة، حتّى قبل انتهاء المفاوضات وقبل العلاقات الدبلوماسية، فهناك الكثير من المظاهر الخفيّة والمعلنة التي كانت تتحرَّك على أساس دراسات مكثّفة في الخطط الاقتصادية العربية ـــ الإسرائيلية وفي الخطط الأمنية العربية ـــ الإسرائيلية. واستهدفت المسألة إيجاد مناخ عربي مباشرة، يعمل على تشريع "إسرائيل" في السياسة العربية الواقعية، وكان الحديث عن السياسة الواقعية التي انطلقت في العالَم، من خلال ما يسمّى بالنظام العالمي الجديد ومن خلال بعض الأحداث التي سقط الاتحاد السوفياتي تحت تأثيرها. وبدأ الكثيرون يتحدّثون عن وجود نهاية للتاريخ، وسقوط للأيديولوجيّات، وأنّ على العالَم أن يتحرَّك في سياسته على أساس التفاصيل، وأن لا تكون هناك مبادئ. وبدأ الكثيرون منّا ينظّرون لذلك، لا ينظّرون من خلال قناعة أصيلة ولكن من خلال أنّهم تعبوا من أنّ التفكير بشيء اسمه القوّة، أصبحنا نخاف من القوّة حتّى في فكرنا، وأصبحنا نتحدَّث عن مسألة القوّة على أساس أنّها عنوان تطرُّف، وأصبحنا نتحدّث عن مسألة المقاومة على أساس أنّها عنوان إرهاب، وأصبحنا نتحدّث عن العناوين الكبرى في الواقع، على أساس أنّها مثال للمثالية السياسية وأنّها ابتعاد عن الواقعية السياسية.
لذلك أصبح الجوّ مهيّأ لتنازل على مستوى الضربة القويّة وعلى مستوى الصدمة، لأنَّ قصّة أن نتنازل في الواقع هي أن نتنازل في الفكر، أن نرجم كلّ مبادئنا بالحجارة، أن نطلق كلّ الكلمات السلبية على مفاهيمنا، حتّى أنّ بعضنا أصبح يهزأ من كلمة الأُمّة، وأصبح ينكر مسألة أن تكون هناك أُمّة عربية، أصبحنا نتحدّث عن أُمّة عراقية وسورية ولبنانية إلى آخر ما هناك..
إنهاء الصراع الفلسطيني ـــ الإسرائيلي
وصدَّق العالم العربي أنّه لا يملك صفة العالَم العربي في داخله، فانطلقت "غزّة ـــ أريحا"، لتكون هناك فلسطين لا تمثّل فلسطين، بل لتنهي الصراع الفلسطيني ـــ الإسرائيلي، الذي انطلق من خلاله الصراع العربي ـــ الإسرائيلي، ولتنهي هذا الصراع من خلال شيء لا يمثّل شيئاً، من خلال سجن كبير للفلسطينيين يأخذ عنوان الحكم الذاتي.
وأحبّ في إشارة سريعة أن أُثير مسألة أنّ "إسرائيل"، التي تحدّثت عن ضرورة أن يبقى السجناء الذين أطلقتهم في غزّة وأريحا، في عملية إيحائية، أرادت أن تقول إنَّ عليهم أن يكملوا مدّة سجنهم في هذا السجن الجديد فيقضوا مدّة عقوبتهم، حتّى من دون أن تتحمَّل "إسرائيل" مسؤولية مصاريفهم أو مشكلاتهم أو ما إلى ذلك.
لهذا بدأ العالَم العربي يطبّق السياسة المرسومة بأن لا يكون هناك عالم عربي، وها نحن نرى أنّ الأردن دخل في اللّعبة من جديد، تحت عناوين تحاول أن تخفِّف من طبيعة ما يقدم عليه وما يتحرَّك فيه؛ وما زال كلّ سوريا ولبنان يعانيان من الضغوط الهائلة، التي يُراد لها أن تعمل على المزيد من إسقاط أيّ نوع من الصلابة والعنفوان والتماسك. المسألة التي نواجهها الآن هي أنّ هناك تشريعاً للوجود الإسرائيلي في الذهنية العربية قبل الواقع السياسي العربي، وذلك لكي تتحرَّك المسألة العربية ـــ الإسرائيلية في السياسة الواقعية بشكلٍ طبيعي جداً. إنّ المطلوب الآن هو إنهاء مرحلة التشريع العربي الرسمي، وأخشى أنّ الساحة أخذت تحتوي الكثير من المفردات التي يُراد لها أن تشرّع "إسرائيل" في داخل الشعوب العربية.
الشرق الأوسط ... وأبناء العمّ
إنّ المطلوب الآن، بعد أن وضعت اللّمسات الأخيرة على مسألة التشريع العربي الرسمي ولم يعد هناك إلاّ الشكليّات، تشريع "إسرائيل" في الواقع العربي الشعبي، حتّى يتقبَّل العالَم العربي معنى وجود "إسرائيل"، لأنَّ صفة العالَم العربي قد استهلكت وأسقطت وأصبح مكانها اسم الشرق الأوسط، وعندما تكون "شرق أوسط" فليس هناك "أحد أحسن من أحد"، نحن جزء من السامية، وهؤلاء ساميون، ونحن أبناء عمّ في المسألة السامية، ونحن أبناء منطقة واحدة في الشرق أوسطيّة، وكلّ نضال وأنتم بخير.
هذه إشارات سريعة وكلّكم تعرفون تفاصيلها. إنَّ المسألة التي نواجهها الآن في هذه المرحلة هي: هل انتهت المسألة وأصبحنا ننتظر التفاصيل، وننتظر الفصل الأخير للقضية الفلسطينية، أو لشيء اسمه الكفاح أو الجهاد أو ما إلى ذلك؟ هل أصبحنا ننتظر الفصل الأخير، ليسدل الستار على هذه المسألة، ليبدأ هناك تاريخ جديد نتمزَّق فيه أكثر؟ أم أنّ هناك فرصة في الواقع العربي، وأكاد أقول حتّى في واقع المثقّفين العرب، المثقّفين النخبويّين الذين يتحدّثون عن العروبة من خلال النظريات التي يقرأونها في بلدانٍ أخرى. أنا لا أدَّعي ـــ توضيحاً للتعبير ـــ أنّ النظرية لها وطن، ولكن هناك فرقاً بين أن تفهم مَنْ أنت من خلال ما أنت، وبين أن تفهم مَنْ أنت من خلال ما هم الآخرون.
القصّة هي أنّ علينا أن نفهم أنفسنا أوّلاً: بلدنا، قضايانا، نقاط ضعفنا، نقاط قوّتنا، من خلال ما نعرفه من أنفسنا في وجداننا الوجودي. ثمّ لا مانع من أن ننطلق مع الآخرين، لندرس الخطوط العامّة التي لديهم في تفسير نشوء المجتمعات أو تقدّمها المجتمعات، لندخل في مقارنة بين ما يفكِّرون من خلال ما هو تجربة عندهم، لا من خلال ما هو المطلق في المعرفة عندهم، فقد يكونون مخطئين وقد تكون تجربتهم تختلف عن تجربتنا. لذلك أخشى أن أقول إنَّ هناك نوعاً من ثقافة السقوط التي لا يحاول الإنسان أن يوحي لنفسه بمعناها، ولكنّه يحاول أن يبدّلها، بمعنى آخر يرضي العنفوان ويحفظ ماء الوجه على طريقة بدوي الجبل الذي قال في بعض قصائده "تأنَّقَ الذلّ حتّى صار غفرانا"؛ بمعنى أن تستهلك الذلّ وتسمّيه غفراناً. وهكذا استهلكنا الهزيمة والسقوط وأصبحنا نعطيه معنى الواقعية السياسية والواقعية الاقتصادية وما إلى ذلك، وأصبحنا ننظر كيف ندخل إلى العالَم الجديد، وكيف نتكامل مع النظام الدولي الجديد؟ في الوقت الذي نعرف جميعاً أنّه لم يولَد هناك نظام دولي جديد، ولم يتحرَّك نظام عالمي جديد، إنَّما الذي حدث هو واقع دولي جديد. واقع ينطلق من خلال طبيعة توازن القوى. أن يكون مجلس الأمن هو المرجع في القضايا وهو الذي يحاصر اقتصادياً هنا، ويحاصر سياسياً هناك، ليس معنى ذلك أنَّ هناك نظاماً مبرمجاً مدروساً لدى الواقع الدولي ـــ حتّى واقع الدول الكبرى ـــ يفسح في المجال لنظام دولي جديد يصنع عالَماً جديداً.
لا نريد أن ندخل في تفاصيل المصطلح، لكنّي أقول إنَّنا نعتبر ـــ على الأقل ممّا يوحى به هنا وهناك ـــ أنّ مسألة شخصانيّتنا التي تمثّل خصوصيّاتنا الإنسانية قد فُقدت، ولا أقصد بالشخصانية هنا الجانب الذاتي الذي يضخّم للإنسان شخصيّته، ولكنَّ الجانب الإنساني الذي يركّز للإنسان مفرداته الإنسانية، التي يتميَّز بها عن إنسانٍ آخر، حتّى يستطيع أن يغني الإنسان الآخر ويغتني به. إنَّني أخشى أن نكون قد بدأنا ننظّر للهزيمة لنتخفَّف من تأثيراتها في أنفسنا ولنعرف كيف نلحق ـــ كما يعبّر بعض الناس ـــ بالقطار الأميركي الذي يضع "إسرائيل" في المقدّمة، كيف نلحق به، أيّاً كانت القاطرة هنا وهناك ممزّقة مكسّرة.. أيّ شيء؟ المهم أن نلحق بالقطار الأميركي، لأنَّنا فقدنا تفكيرنا وأنفسنا.
قد تكون الصورة مأساوية تشاؤميّة، ولكنّي أقول إنّ الشعب الذي يعيش في الواقع العفوي البسيط العادي هو أكثر فهماً للواقعية من الذين ينظّرون للواقعية.
لا بدَّ من الاستنفار
إنَّنا نجد أنّ الشعب ـــ حتّى في مشكلاته الخاصّة ـــ عندما يصطدم بحائط مسدود فإنّه يبدأ في التقاط كلّ المفردات، التي يمكن أن ينفذ منها إلى ثغرة أو يصنع منها ثغرة. إنَّنا نلاحظ أنّ الفلاّح واقعي وأنّه لا يستسلم لكلّ المشكلات وأنّ العامل واقعي وأنّ الإنسان الذي يحفر في الصخر واقعي، لذلك أنا أتصوَّر أنّ قضية الواقعية لا تنحصر بواقعية موقع معيّن أو محور معيّن، ربّما يصنع لك الآخرون واقعية من خلال ما يجمّعونه من مفردات واقعهم، ولكنَّ المسألة هي أنّك قد تكون لك بعض المفردات التي تمثّل خصوصيّة واقعك. لا بدّ لنا في المرحلة القادمة، المرحلة التي يُراد بها تشريع "إسرائيل" في المنطقة شعبياً، ويُراد لها أيضاً، في الوقت نفسه، تشريع شخصانية الشرق الأوسط، حتّى لا يبقى لكَ تاريخ عندما تتحدّث عن العروبة أو عندما تتحدّث عن الإسلام أو عن أيِّ شيءٍ يوحي بالقيمة، إنَّ هناك شرقاً أوسط، إنّ هناك خطوطاً قد لا يكون لها علاقة بالتاريخ وبالقِيَم، بل إنّ علاقتها بالجغرافيا أكثر من علاقتها بالقيمة، عندما تتحدّث عن عالَم عربي فإنّك لا تستطيع أن تفصل تاريخك عن هذا المصطلح، لا تستطيع أن تفصل قِيَمك عن هذا المصطلح. وعندما تتحدّث عن عالَم إسلامي أو مسيحي فإنّك لا تستطيع أن تفصل هذا المصطلح عن كلّ ما يمثّله الإسلام أو المسيحية، لكن عندما تتحدّث عن الجغرافيا، فالجغرافيا ليس لها مضمون؛ الجغرافيا أرض تحدّها أراض أخرى أو بحار أو ما إلى ذلك، إنَّك بذلك تكون مجرّد ذرّة من تراب ولا تكون ينبوعاً من الينابيع.
لذلك لا بدّ لنا أن نستنفر من جديد، أن لا نعتبر أنّ هذه نهاية العالَم وأن لا نصدّق أنّ التاريخ سقط، لأنَّ قصّة التاريخ لا تمثّل مصطلحاً محَّدداً يمكن أن ينطلق، ليأخذ حجماً صغيراً في هذه الجامعة أو تلك، أو في هذه الدراسة أو تلك.
إنَّ قضية التاريخ هي نحن، التاريخ والوجود وحركة الإنسان في هذا الوجود، قد يختلف التاريخ في قاعدته، وقد يختلف في معطياته، ولكن ما دام هناك وجود في الكون، وما دام هناك كون يؤثّر بالإنسان ويؤثّر به الإنسان، فهناك التاريخ المتحرِّك الذي قد يصغّر وقد يكبّر تبعاً لهذا الإنسان.
إنّ بإمكاننا أن ننطلق من حيث انطلق التاريخ، لا أقول إنَّ علينا أن نرجع إلى التاريخ في عملية استغراق فيه، لنهرب من الحاضر إلى الماضي، ولكن أن ندرس تجاربه الغنيّة التي نجحت. التاريخ الذي عاشه الناس في هذه المنطقة من العالَم أو في غيرها، كانت القِيَم هي التي تؤكّد له مساره، وكانت الخطوط الكبرى المنطلقة من إنسانية الإنسان هي التي تحدّد له مواقعه، برغم أنّ بعضنا قد ينطلق ليفكِّر مادياً في المسألة الفلسفية، وقد ينطلق بعضنا ليفكّر في دائرة الشكّ، وقد ينطلق بعضنا في دائرة الإيمان.
الحاجة إلى صدمة روحيّة
إنَّني أزعم أنّ الكثير من العناوين التي استحدثناها في واقعنا المادي، أعطيناها شيئاً من الروح. إنَّ القومية أعطيت شيئاً من الروح، حتّى أنَّني أزعم أنّ الماركسية عندما تحرّكت في واقع الماركسية السياسي والاجتماعي أخذت شيئاً من الروح؛ الماركسي يفكّر روحياً بطريقة لا شعورية، وهكذا كلّ الاتّجاهات الأخرى.
إنَّنا نحتاج الآن إلى صدمة روحية مستمدّة من قِيَمنا، من دياناتنا بعيداً عن الخوض في تفاصيل هذا الدين أو ذاك، هذه القيمة أو تلك. إنَّنا نريد شيئاً نمتلئ به بعد أن أدَّت التطوّرات التراجعيّة ـــ إذا صحّ التعبير ـــ إلى أن نُفرَّغ من كلّ شيء، لو أراد كلٌّ منّا أن يرجع إلى داخله، لرأى أنّ الفراغ يفترسه، لماذا؟ كلّ علامات الاستفهام لا تجد جواباً عند الإنسان، وعندما تسقط علامات الاستفهام أمام الفراغ فسيكون اليأس، وفي الوقت الذي تجد فيه جواباً عن كلّ سؤال ـــ مهما كان الجواب ـــ فإنَّ معنى ذلك أنّ هناك شيئاً من الأمل، لأنَّ الجواب يفتح ثغرة ويطلق أفقاً ويوسّع فكرة.
لذلك، إنَّني لا أتحدّث الآن في المسألة الدينية حديثاً لاهوتياً، ولكنَّني أريد أن أتحدّث في المسألة الدينيّة في مرحلتنا الحاضرة حديثاً، إنسانياً، روحياً، يتحرَّك في الخطوط السياسية بعيداً عن المسألة الطائفية، لأنَّ المسألة الطائفية ليست ديناً؛ هي صنميّة، وثنيّة. الدّين الذي حوَّلناه إلى صنم تحوّل طائفة، الدّين لا يتعلَّب من خلال العلب التي نحبسه فيها. إنَّنا نحتاج إلى هذا الدّين الذي يتنفَّس في الهواء الطلق والذي يوحي لك باللانهاية وبالمطلق. قد نحتاج في كثيرٍ من الحالات ـــ حتّى لو أنكرنا المطلق وشككنا فيه ـــ أن نستوحي المطلق، أن نتطبَّع فيه، أن نحرّكه في وجداننا، حتّى نستطيع أن نتجاوز كلّ الحواجز التي أرادوا أن ينصبوها لنا أمام المستقبل.
إنَّني أدعو إلى أنّ العمل من الناحية الثقافية والنفسية والاجتماعية والروحية على استعادة روحنا لنثبت، لأنَّنا ما لم نثبت فلن نستطيع أن نفكّر، ولن نحسّ بوجودنا، أنتَ موجود، لأنَّ قدميك مرتبطتان بالأرض ولأنّ رأسك يرتفع إلى السماء، أمّا عندما ينطلق رأسك، ليميل هنا وهناك تحت تأثير الرياح وتتحرَّك قدماك تحت تأثير الهزّات، فأيّ شيء يمكن أن ترتكز إليه لتتحسَّس وجودك؟
الانتفاضة والمقاومة.. نقطتان مضيئتان
إنَّني أتصوَّر أنّ لدينا في الساحة الكثير من العناصر الإيجابية. الانتفاضة في فلسطين دليل على أنَّنا لا نزال نملك معنى القوّة لا بالكلمة ولكن بالسلاح. عندما يسقط أيّ إسرائيلي جريحاً أو قتيلاً، عندما نثير أيّ إرباك نفسي في داخل المجتمع الإسرائيلي، عندما نثير أيّة مشكلة سياسية في الداخل؛ فمعنى ذلك أنَّنا أقوياء، لا نريد أن نعيش "عنترة" القوّة ولكن أن نشعر بأنَّنا نملك واقع القوّة. من يستطع أن يهزم جندياً إسرائيلياً بسلاح ليس له أيّة قيمة، يستطع أن يهزمه إذا طوّر ذلك السلاح. إنَّ معنى ذلك أنّ عمليات الانتفاضة لا تستطيع أن تحرّر فلسطين إذا بقيت في هذه الدائرة، إنَّ المقاومة لا تستطيع أن تحرّر لبنان، ولكنّها تستطيع أن تحرّر عقليّتنا من أنّ الإسرائيلي إنسان لا يُهزَم، وأنّ الجندي الإسرائيلي هو إنسان لا يُقهر، وأنّه لا يمكن لك أن تزعج "إسرائيل" أو تُسقِط شيئاً منها.
إنَّ قيمة الانتفاضة والمقاومة في واقعنا العربي، هي أنّهما استطاعتا أن تقولا لنا: إنّ العربي ليس هو الإنسان المقتول دائماً، بل هو الإنسان القاتل والمقتول، وهذا ما نلاحظه في التعبير القرآني: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة : 111]، الخطّ الثقافي يريد أن يقول لنا: أنتم المقتولون دائماً، أنتم المهزومون دائماً. الانتفاضة والمقاومة تنطلقان من خلال هذا الخطّ القرآني، لتقولا: إنَّنا إذا كنّا المقتولين في بعض الحالات فنحن القاتلون في حالات أخرى؛ وعندما تكون القاتل تارّة والمقتول أخرى، فإنَّ معنى ذلك أنّك تتوازن مع الآخر في حركة الحياة، قد لا يكون التوازن محفوظاً من ناحية الحجم ولكنّه محفوظ من ناحية المبدأ، وإذا ثبت على المبدأ فإنَّ من الممكن أن تزيد في حجم التفاصيل، من خلال حيويّتك وحركيّتك.
لذلك علينا أن نحدّق بهاتين النقطتين من الضوء في هذا الظلام العربي، وأن نفهم أنّ الانتفاضة والمقاومة أثبتتا لنا واقعية الاستمرار في الجهاد، وواقعية القوّة الموجودة لدينا، وأنّ بإمكاننا أن نرصد المستقبل من خلال شيء عميق في الحاضر.
هناك فرق بين أن ترصد المستقبل، من خلال الأحلام ومن خلال الخيالات والأفكار الطوباوية، وبين أن ترصد المستقبل، من خلال واقع يتحرَّك في الأرض استطاع أن ينتصر على ماضٍ من الهزيمة في حاضر من القوّة ليبدع القوّة في المستقبل.
علينا أن ننتج روحنا من جديد وأن نعمل على تعميق هذه الروح وأن نستبدل بمصطلح الواقعية السياسية، الذي يقول لك إنَّ عليك من أجل أن تكون واقعياً، أن تستسلم للأمر الواقع، أن نقول إنَّنا نعمل للواقعية السياسية ولكن بطريقة أنّ تغيير الواقع بأدوات الواقع وتكثير أدوات الواقع وتكثيفها.
فلسطين لم تسقط
في تصوُّري ـــ ولا أطلق كلمة شعاراتية ـــ أنّ فلسطين لم تسقط، لأنَّ فلسطين لا تزال في وعي الكثيرين من المجاهدين حقيقة قائمة، ولا تزال في وعي الكثيرين من المفكّرين الذين يعيشون مع الناس، لا المفكّرين الذين يعيشون في الأبراج العاجية بالعقلية الغربية بشكلٍ مجرّد، إنَّني أعتقد أنّ فلسطين لا تزال باقية، إنّها تحتاج إلى كثير من الماء وتحتاج إلى كثير من الفلاحة السياسية والثقافية والاقتصادية، وتحتاج إلى كثير من هذا الصحو المبدع الذي نملك الكثير منه. نحن لسنا في بلد الضباب، لنعيش في الضباب. إنَّنا في البلد الذي قد يزداد فيه إحساسنا بالشمس بدفئها وبإشراقها، حتّى أنّنا نحاول أن نقلِّل من هذا الدفء أو الإشراق.
لذلك أعتقد أنّ هناك الكثير من الإمكانات، التي نستطيع من خلالها أن نتجدَّد. إنَّ مشكلتنا أنَّنا شعب اللّحظة الحاضرة في السياسة، تماماً كما هي العشائرية تُغلب اليوم وتفكّر أن تثأر غداً، لكن أن تُغلب اليوم وتفكّر أن تنتصر بعد مئة سنة، عند ذلك يمكن أن تكون المنتصر بعد خمسين سنة. لذلك علينا أن نتحرَّر من فكر اللّحظة وسياسة اللّحظة وشعارات اللّحظة، لننطلق في فكر المستقبل وشعاره.
"اعمل لدنياك"، نحن نملك قِيَماً كبرى تجعلنا نتحرّك في الدنيا في حجم الإحساس بالخلود، لنتحرّك في الآخرة في حجم الإحساس بالمسؤولية. إنّنا استبدلنا المسألة بالعكس فجعلنا قضية الدنيا قضية لحظة، وقضية الآخرة قضية المستقبل. والقضية الواقعية "اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً"، وازن بين الإرادة التي تفكّر بالحياة، كما لو لم يكن هناك موت، وبين المسؤولية التي تفكّر بكلّ معطياتها، كما لو لم تكن هناك حياة. عندما نفهم الحياة والموت بهذه الطريقة، نستطيع أن نكون واقعيّين، لأنَّ الواقعية تقول لك إذا لم تنتصر اليوم فستنتصر غداً {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87].
الأسئلة والأجوبة
رفعت النمر:
لا شكّ في أنّ سماحته أفاض في ما يتعلَّق بالإيمان والعقيدة، بأنّنا إذا استمرينا على أنّ فلسطين هي بلد عربي موجود في نفوسنا وفي أفئدتنا وفي أعمالنا؛ فلا شكّ من أنّ هذا الحقّ سيعود وإن طالَ الزمن.
ولا أريد أن أتحدَّث عن الماضي الغابر في حرب الفرنجة، الذي تفضّل به سماحته بأنّه إذا وُجِدَت الإرادة ووجِدَت العزيمة فلا بدّ من أنّ السعي سيستمر وأنّ الوصول إلى النجاح محقّق بإذن الله. وكلّ ما أرجوه أن يزيد من أبناء هذه الأُمّة أمثال سماحته، من أجل أن يغذّي تلك الفئة التي استكانت ولانت مع العدوّ، سواء بانفعالاتها أو بمصالحها أو بتصوّراتها غير الحقيقيّة.
إنَّنا في مثل هذا الظرف نكرِّر الشكر لسماحته ونرجو أن يزوّدنا دائماً ـــ وبصورة مستمرة ـــ بتلك الانفعالات والهواجس التي تثور في النفوس، من أجل الاستمرار في توكيد أنّ فلسطين عربية وستبقى عربية، برغم المؤامرات وبرغم التراجعات التي حقّقها بعض ممّن يسمّون أنفسهم بأنّهم أبطال حريّة وأبطال ثورة. وشكراً لسماحته.
الضفّة وغزّة... والأوّلي
جابر سليمان:
أذكر قبيل الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنن، الذي حصل ـــ من جرّاء ضغط عمليات المقاومة اللبنانية ـــ تصريحاً لأحد القادة الإسرائيليين يقول فيه: "إنَّنا ندافع عن الضفّة وقطاع غزّة عند حدود نهر الأُوّلي"، فكيف تفسّر هذه العلاقة؟
تصوّري أنّ "إسرائيل" ترى أنّ فلسطين هي الأساس في استراتيجيّاتها وتبقى المناطق الأخرى هوامش من أجل تقوية الموقع الإسرائيلي في فلسطين. وكما تلاحظون، "إسرائيل" تعتبر أنّ المنطقة الحدودية في لبنان هي "حزام أمني"، بمعنى أنّ "إسرائيل" تعتبر أنّ كلّ المناطق هي لحماية المواقع التي احتلتها داخل فلسطين.
الأساس.. أن لا تضيع القضية الأُم
إيلي بوري:
نعيش في مرحلة وكأنّ هناك دوراً يبحث عن بطل، لقد وصلنا إلى وضع من التردّي لا حاجة لوصفه، فهناك دور للانطلاق وللاقتراب من الحلم وللامتلاء بالمطلق وللامتلاء بالله، ولكنّ جيلنا عاش شعارات التحرير على حساب الحريّات.
إنّ معركة تحرير فلسطين هي معركة الأُمّة العربية كلّها وحلفائها من أحرار العالم وبصورة خاصّة الأُمّة الإسلامية. ولكن هل تستطيع هذه الأُمّة أن تخوض معركة التحرير في غياب الحريّات؟! كيف يستطيع هذا الشعب المكبّل بالترغيب والترهيب، إمّا بأموال النفط أو ببعض الأساليب القمعية، أن يساهم في عملية تحرير فلسطين؛ وكأنَّ هناك لازماً بين معركة التحرير ومعركة الحريّة؟
كلّنا يعلم أنّ المشكلة الحاضرة للإنسان العربي، حتّى في كثير من المواقع التي قد تختزن في انتماءاتها بعض شعارات الحريّة، هي أنّه إنسان مصادر وأنّ الذي يحكم العالَم العربي هو أجهزة المخابرات، التي استطاعت أن تسيطر على الإنسان العربي حتّى في درجة اللاوعي، حيث قد يخاف بعض الناس أن يُضبط متلبِّساً بأنّه يفكّر بطريقة مغايرة.
من الطبيعي أن يكون الشعب العربي حرّاً وأن تكون كلّ شعوب العالَم الثالث التي تفكّر بالحريّة حرّة، حتّى تستطيع أن تتحرَّك؛ ولكن أنا أعتقد أنّ هذه الجدلية بين حركة الحريّة وحركة القمع أساسية، لأنَّني أتصوَّر أنّ الواقع الذي يعيشه العالَم العربي والذي يمكن أن يزداد سوءاً لو تمّت التسوية فإنَّ "إسرائيل" سوف تدخل كعنصر يُربك العالَم العربي من الداخل ويضغط عليه، وهذا سوف يحبل بالكثير من التوتّرات وسوف يختزن الكثير من الآلام، التي لا بدّ لها من أن تعبّر عن نفسها في المستقبل.
نحن لا نريد أن نكرِّر التجربة التي عاشها واقع النضال في المنطقة، عندما كنّا نقول إنّ طريق فلسطين تمرّ بــ "جونيه" أو تمرّ في هذا المكان أو ذاك، فإنَّنا انشغلنا بالأشياء الصغيرة عن القضية الكبرى. أنا أرى أنّه علينا في ما نملك من مؤثّرات أن نوجّهها للقلب، لأنَّك كلّما وجّهت التحدّي للقلب، كلّما قلَّلت من التناقضات التي يستفيد منها الطرف الآخر ليعطّل حركتك. مثلاً الآن، الانتفاضة والمقاومة، كلّ منهما وجّهت إلى قلب "إسرائيل"، لذلك استطاعتا أن تثيرا إرباكاً في داخل "إسرائيل" من جهة، واستطاعتا أن تثيرا كثيراً من التساؤلات في العالَم كلّه.
لذلك أنا أقول إنّ العنوان الذي تفضّلت به حقيقي، ولكن علينا أن نملك الوسائل التي نلامس فيها قضايا حركة الحريّة في الواقع، أن لا نضيّع القضية الأُم بالدخول في تفاصيل هذا المجال، لأنّه عندما تحكم أجهزة المخابرات عالمنا العربي أو العالم الثالث فإنَّ معنى ذلك أنّ أجهزة المخابرات سوف تستعدّ لنا لإدخالنا في التفاصيل، ليبقى كلّ موقع مشغولاً بنفسه. قد نحتاج في كثيرٍ من الحالات أن نقوِّل بعض الأنظمة ما لا تقول ممّا يمكن أن يعطيها الزهو والعنفوان، حتّى نستطيع أن ننفذ إليها بطريقةٍ أو بأخرى.
مستقبل غزّة ـــ أريحا
صلاح صلاح:
لا شكّ في أنّنا في لقائنا مع سماحة السيّد فضل الله كالعادة، نتعلَّم شيئاً جديداً ونكتسب معرفة جديدة، ومن الصعب بحضوره أن نشارك التفكير بصوتٍ مرتفع والتعبير عن قلقنا الذي تفرضه هذه الأحداث وتطوّراتها، لكن لا بأس بأن يشارك التلميذ أستاذه ومرشده في محاولة التفكير بصوتٍ مرتفع. وهنا تحضرني نقطتان: النقطة الأولى، وهي كحصيلة للعرض الذي قدّمه سماحة السيّد، أنّ هناك مسرحاً، كان يجري إعداده بشكلٍ كامل وسُخّرت له كلّ الأدوات من المال والضغط السياسي والمفكّرين، لتهيئة الوضع العربي ليقبل بالهزيمة الآن مدخل هذه الهزيمة هو القضية الفلسطينية، واستمراراً لها إخضاع كلّ وضع المنطقة العربية.
إحدى الخطوات قد أنجزت باتّفاق غزّة ـــ أريحا، السؤال: هل هذا الاتّفاق "غزّة ـــ أريحا" برغم أنّ المفاوضات ما زالت جارية لاستكماله، يمكن أن يؤدّي لتكريس هزيمة نهائية للمنطقة العربية، أم ـــ برغم أنّ الاتّفاق قد وقّع وتلاه اتّفاق آخر على الجبهة الأردنية ـــ ما زالت الآفاق مفتوحة لإفشال هذا الاتّفاق ولبدء مرحلة جديدة من النضال، يفرضها التناقض الذي سيخلقه هذا الاتّفاق مع كثير من حقائق الواقع؟
النقطة الثانية: لا شكّ في أنّ ما شخّصته دقيق جداً: إنّ كلّ شخص منّا ـــ حتّى الذي عاش عمراً مديداً في النضال والعمل الوطني ـــ في هذه اللّحظة بالذّات يعيش نوعاً من الفراغ في داخله، هذا الفراغ ـــ إلى حدٍّ ما ـــ سببه الأساس أنّه انتهاء مرحلة لبدء مرحلة جديدة، كيف نبدأ هذه المرحلة الجديدة؟
في أجواء السؤالين أحبّ أن أشير إلى نقطة وهي أنّ المرحلة، التي عشناها في السنوات الأربعين الماضية أو تزيد لم ننطلق كعرب من خلال خصوصيّاتنا من خلال حجمنا، كنّا نتحرّك على هامش الاتحاد السوفياتي، لم تكن ضخامة الحركة هي ضخامة الحركة العربية، بل كانت الحركة العربية ـــ وأزعم حتّى في عهد عبد الناصر ـــ كانت تتغذّى وتنمو وتنطلق من مناخات الحرب الباردة، ولم تكن "إسرائيل" في ذلك الوقت ـــ في وعي الحركة السياسية في العالم ـــ دولة يهودية تحارب عالماً عربياً، بل كانت دولة متحالفة مع الغرب لتعمل على تعقيد حركة الاتحاد السوفياتي في المنطقة من خلال حلفائه أو المتعاونين معه.
لذلك أنا أعتبر أنّ الكثير من الواقع الذي عشناه لم يكن واقعنا الطبيعي. أوّلاً، الأنظمة لم تكن تمثّلنا، وثانياً أنّنا كنّا جزءاً من حرب كبيرة عالمية، هذا يعطينا فكرة أنّنا لم نهزم بحجمنا، هُزِمنا لأنّنا أحد تفاصيل المعسكر الذي وقفنا معه. الآن نحن عندما ننطلق هذه الانطلاقات المحدودة: انتفاضة، مقاومة، حركة تحرّر هنا، فإنَّنا ننطلق بحجمنا، وندلّل على أنّ حجمنا يستطيع أن يؤثّر في واقع الصراع، بدأنا بالانتفاضة والمقاومة نتحرّك كعرب، كنّا نتحرّك كسوفيات، كجزء من العالَم السوفياتي. ليس معنى ذلك أنَّني أجد التحالف أو التكامل مع قوّة كبرى شيئاً سلبياً، لكنّنا في ذلك الوقت لم نكن ننطلق من عناصرنا الذاتية، كنّا مشغولين بالجوّ العام، حتّى كان بعضنا يتكلَّم أنّه لماذا يقيم الاتحاد السوفياتي علاقات مع "إسرائيل" من دون أن نفكّر أنّه لا يحارب بالنيابة عنّا ولا عن مصالحنا؟
بالنسبة إلى اتّفاق "غزّة ـــ أريحا" أتصوَّر أنّه محاولة إسرائيلية لاختراق العالم العربي من خلاله، لكنّ "إسرائيل" قد لا تكون مستعدّة لأن تنجحه. ثمّ هي وقعت تحت ضغط العالم الذي يريد أن يرتاح من القضية الفلسطينية بأيّ شكلٍ كان. لذلك أعتقد أنّه من الممكن جداً أن تسعى "إسرائيل" إلى إفشال اتّفاق غزّة ـــ أريحا، من أجل إيجاد تناقضات بين الفلسطينيين أو من أجل إدخال الفلسطينيين في الجزئيات، كما تخلق لهم قضية تحتاج إلى اجتماعات. وأتصوَّر أنّ هذه الإرهاصات الموجودة، إذا استطاعت أن تتحرَّك بشكلٍ جيّد، فإنّها تستطيع أن تفشل هذا، ولكنّها تحتاج إلى خطّة مبرمجة وطويلة الأجل.
البداية من نقطة الصفر
النقطة الثانية كيف نبدأ المرحلة الجديدة؟ أقول: إنَّ علينا أن نبدأها كما لو كنّا في نقطة الصفر. هناك مسألة التوعية أو حماية ما هو موجود عندنا من هذا العمل الجهادي الثقافي والسياسي والعسكري والأمني، نحاول أن نقوّي هذه المواقع ونحميها بما يمكن في هذا المجال، وأن نبدأ عملية التوعية فلا ننطلق فيها من اللّون الواحد، بل نجمع كلّ الألوان التي عندنا ونمازجها ونحاول أن نجعل هناك شخصية تشعر بأنّها بحاجة إلى الانتصار. وعندما كنتُ أتحدّث عن العنصر الديني الذي أنكره بعضنا، فإنَّنا لا نزال نعيش رواسبه، إذ ما معنى: أموت ليحيا الآخرون، ما دامت حياتي هي واحدة؟ "يحيا الآخرون" هذه حالة روحية. التضحية هي تجاوز الذّات، وتجاوز الذّات ليس شيئاً مادياً بل هو شيء روحي. أموت حتّى تنطلق الأُمّة. أموت حتّى يكون لي ذكر خالد. لهذا أتصوَّر أنّه لا تزال فينا بقيّة من رواسب روحية، تنطلق من خلال هؤلاء الشهداء المسلمين والمسيحيين وما إلى ذلك. نستزيد من هذا الجانب الروحي من دون الدخول في التفاصيل والمنازعات وندرس الواقع ونبدأ كما لو كنّا في نقطة الصفر.
في تصوُّري أنّ أفضل درس نستفيده هو درس اليهود. اليهود خطَّطوا كحلم ألفي سنة أو أكثر، وانطلقوا من اللاواقع، لم يكن بأيديهم شيء، ونحن ما زال في أيدينا شيء، نتمسَّك به ونخلق منه شيئاً جديداً. كما قلت، علينا أن لا نفكّر كيف نُهزم اليوم، لننتصر غداً. فالغدّ يتّسع لنا، ليكن خمسين سنة. من قبيل ذاك الفلاّح الذي قال: "غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون"، قد يكون كلام خيال ونحن نعرف أنّ العلم كلّه كان خيالاً والفتوحات خيالاً والمبادئ خيالاً، لكنّ الخيال عندما ينطلق من العقل ومن القلب ومن الملاحقة، يصبح واقعاً.
رفعت النمر:
ـــ أريدأن أُعلِّق على نقطة واحدة في ما تفضَّل به سماحته، وهي اعتباره أنّنا تهالكنا وارتبطنا مع الشيوعية في ما يتعلَّق بقضايانا. الواقع أنّ القضية الفلسطينية تعود إلى أزمان الدول الاستعمارية سنة 1897، هرتزل رسم الخطّة، وسنة 1917 بدأ اللّورد بلفور بالتنفيذ، وسنة 1948 سيطروا على فلسطين ولم تكن للعالَم العربي أيّة صلة مع الدول الشيوعية، ولم تكن الشيوعية موجودة في وقت إعلان بلفور. العدو الأساس في ما يتعلَّق بهذا الموضوع هو الدول الغربية التي أوجدت هذا المأزق.
أنا أُقدِّر هذه الملاحظة، لكنّي كنت أتحدَّث عن المرحلة التي تحرّكنا فيها في مسألة النضال والمواجهة والمعارضة بمجرّد أن دخلنا سنة 1952 أو قبلها. عندما دخلنا في الواقع المباشر الحيّ، التقينا بالحرب الباردة وعشنا ضجّة، ولذا نحن كنّا ضحيّة الحرب الباردة حيث وقفت الدول الغربية ضدّنا، فدعمت ـــ واقعاً ـــ "إسرائيل" من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإنّ الواقع العربي صار يُعتبر واقعاً سوفياتياً، كنت أحبّ أن أُركّز على هذه النقطة مع تقدير، أنّ الغرب هو الأساس في ولادة "إسرائيل" سواء في الحاضر أو الماضي.
ـــ كامل قسطنطين: تعقيباً على ما تفضّلتم به، هل قصدتم سماحتكم أنّ إنجاح غزّة أريحا من قبلنا كفلسطينيين وعرب قد يفشل خطّة صهيونية؟
أنا كنتُ أجيب على سؤال الأخ، كنتُ أريد أن أقول: إنَّنا نريد أن نفشل غزّة ـــ أريحا ولكن قد يقول بعض الناس إنَّ واقعنا السياسي ـــ في الضعف الذي نعيشه ـــ لا يسمح لنا بالقدرة على إفشاله. فأنا كنتُ أقول إنّ "إسرائيل" سوف تقوم عنّا بهذا ونحن نكمل الباقي. لم أعتبر أنّ إنجاح غزّة ـــ أريحا هو حلم لنا، حتّى نسقط الخطّة الإسرائيلية في إفشاله، بل إنّ بعضنا قد يقول: إنَّنا غير قادرين على إفشال غزّة ـــ أريحا، لأنّه أخذ مظلّة دولية فوق العادة. نحن نقول إنّ "إسرائيل" لم تُنجز غزّة ـــ أريحا ليبقى، وإنّما حتّى تستطيع أن تستفيد منه، لتثبت فشل الفلسطينيين في إدارة الحكم الذاتي، بالمستوى الذي سوف يبقى الفلسطينيون في داخل دولة "إسرائيل" ولكن هذا لا يمنع من أنّنا، من ناحية المبدأ، نريد أن نفشله.
بين التوعية العامّة والعمل التنظيمي
أحمد اليماني:
انطلاقاً من إيماننا بأنّ فلسطين بكلّ مقدّساتها، ليست ملكاً لأبناء فلسطين، وأنّ مسؤولية تحريرها ليس واجباً محدّداً على أبناء فلسطين، وقد أثبت التاريخ خلال ثلاثة أرباع القرن الماضية هذه الحقيقة، فالمرحوم الشهيد الشيخ عزّ الدين القسَّام لم يكن فلسطينياً ولكنّه قاد ثورة، جاءت بعده مراحل الانتفاضات.. الشيخ كامل القصّاب الشهيد ليس فلسطينياً وكذلك الشهيد سعيد العاص وغيره من القادة الذين أسهموا دفاعاً من عروبة فلسطين، وأيضاً الثورة المعاصرة تثبت أنّ عدد الشهداء من غير الفلسطينيين لا يقلّ عن عدد الشهداء الفلسطينيين، وقد وصلت الأمور إلى هذا الحدّ وخرج نفر من القادة الفلسطينيين عن الطريق القويم وفرَّطوا بجزء من هذه المقدّسات، واتّفقوا مع العدو. وهناك فصائل فلسطينية، مع الأسف الشديد، لم تضع البديل للمواجهة. بما عُرف عن سماحة السيّد العلامة، وكلّنا يشهد ويقرّ بهذا الدور التاريخي في توجيه الأُمّة، وللإخوة أقول لقد حضرت مؤتمراً في طهران، بعد أن تحدَّث السيّد العلامة، كلّ من جاء بعده من علماء المسلمين، ليس في المنطقة العربية بل في العالَم، كانوا يستندون إلى مقولته.
أليس بالإمكان الآن أن نطالب سماحة العلاّمة بأن يضع برنامجاً للخلاص الوطني، يدعو له الفلسطينيين المناهضين لهذه المؤامرة، ومن ثمّ نسعى لجبهة خلاص شعبي على الصعيد الأوسع، هذا البرنامج يحتاج إلى همّة سماحة العلاّمة ليدعونا، إلى النقلة من عملية التوعية العامّة إلى عمل تنظيمي يواجه المؤامرة.
أشكر الأستاذ على عواطفه التي أخجلت تواضعي، الواقع أعتقد أنّ القضية هي أكبر من جهد فرد، وأنا أشعر بالمسؤولية في هذا المجال. ولذلك، بهذا الجهد الصغير جداً، أحاول دائماً الحديث والتكامل والعمل في سبيل إيجاد أرضية جديدة لمرحلةٍ جديدة. وأحبّ أن أقول إنّه كان عندي بحث نشرته في العراق بل ما يقارب الثلاثين سنة، كنتُ أتحدّث فيه عن الصراع الذي كان يدور حول القضية الفلسطينية، هل هي فلسطينية أو عربية أو إسلامية؟ كنتُ أقول: لينطلق الفلسطينيون بفلسطينيّتهم، والعرب بعروبتهم، والمسلمون بإسلامهم، لنلتقِ جميعاً عند فلسطين، ولنتكامل على أرض فلسطين ولا نتناقش في جنس الملائكة، هل القضية إقليمية أو عربية أو غير ذلك؟
لذلك، أنا أتصوَّر أنّ علينا الاستفادة في البرنامج المستقبلي من كلّ العناصر، ومن الأخطاء التي وقعت في أكثر العمل العربي وحتّى بعض العمل الفلسطيني، عندما حدثت الحرب العراقية ـــ الإيرانية، وإيران لم تخترِ الحرب ـــ حسب معلوماتي ـــ ولسنا في مقام تحليل هذا الموضوع، كان ذنب إيران عند الغرب ـــ وعند أميركا بالذّات ـــ هو تأييدها للقضية الفلسطينية. عندي معلومات دقيقة اطّلعت عليها مؤخّراً تفيد بأنّ أميركا بعثت إلى إيران بأنّها مستعدّة لتجميد قصّة الجزر الثلاث، وقصّة أسعار النفط، مستعدة أيضاً لإعطائها كلّ شيء، شرط أن تسحب إيران تأييدها للقضية الفلسطينية. ولا يزال الجماعة مصرّين على هذا، قد تكون قدرتهم على الحركة أقلّ ولكنَّ الشعار يبقى والخطوط السياسية تبقى. في ذاك الوقت، رأينا أنّ أكثر الواقع العربي ـــ وحتّى على مستوى الواقع الشعبي الذي استُغِلّ فيه الجانب المذهبي والقومي وما إلى ذلك ـــ انطلق كلّه ليحارب الدولة التي اخترقت كلّ الحاجز الذي هو غير العربي، والذي كان مُطبقاً في السياسة الأميركية، وأبدل سفارة "إسرائيل" بسفارة فلسطين. وكانوا يعتبرون في مؤتمر في عمان أنّ المسألة مع إيران مسألة صراع والمسألة مع "إسرائيل" مسألة نزاع.
ضرورة التخطيط والعمل معاً
علينا أن نستفيد من كلّ العناصر؛ فالمسألة الفلسطينية حيّة وأساسية بالعمق، فالفلسطينيون عندما لا يتحرّكون فلن يستطيع أحد أن يتحرّك في القضية. الفلسطينيون هم القاعدة، ثمّ يأتي العنصر العربي، ثمّ الإسلامي، ثمّ كلّ الناس الذين ينطلقون في حركات التحرُّر في العالَم. في تصوُّري أنّ علينا أن نجمع كلّ التيّارات، ولا نسمح بوجود حواجز في ما بينها. المشكلة أنّنا كنّا ننصب الحواجز، كخلاف قومي ـــ إسلامي، أو فلسطيني ـــ إقليمي...، هذه المسألة من الضروري أن نركّزها في واقعنا الثقافي والسياسي. وكما قلت، في هذا الجهد المتواضع جداً، لا أزال أسعى مع القوميين العرب، وحتّى في بعض الحالات أسعى مع غير القوميين من الذين يملكون خطوطاً تحرُّريّة، ومع الإسلاميين، في سبيل أن نبدأ في القضية الفلسطينية بداية برنامج التكامل بعدما كان برنامج التحالف. أعتقد أنَّنا إذا استطعنا ـــ مجتمعين ـــ أن نخطِّط في هذا الاتجاه، بحيث نجعل القضية الفلسطينية تتجاوز المسألة الفلسطينية والعربية إلى المسألة الإسلامية وحتّى إلى مسألة الحريّة في العالم، عندها نستطيع أن نبدأ خطوة. المشكلة أنّ العالم الإسلامي عُزِل عن القضية الفلسطينية عزلاً كاملاً، وبدأ في وقت ما عزل العالم العربي عن الفلسطينيين. إنَّني أعتبر أنّ إحدى نتائج حرب الخليج السلبية على القضية الفلسطينية أنّها عقدت كثيراً من مواقع العالَم العربي من الفلسطينيين، نتيجة موقف عرفات من مسألة صدام أو من حرب الخليج، وكان يُراد أن يصير هناك عقدة وأن يُخلق للفلسطينيين في داخلهم مشكلة اقتصادية وسياسية ونفسية.
لهذا نحن نعتقد أنّ علينا أن ننطلق معاً ونبرمج معاً، وأعتقد أنّنا إذا استطعنا تقوية خطّ المقاومة مهما أمكن وإخراجه من الدائرة الضيّقة التي حوصر بها ليكون مقاومة شاملة، وخطّ انتفاضة، أعتقد أنّنا نستطيع أن نخطو الخطوة الأولى إنْ شاء الله.
ميشال جحا:
ـــ أريد أن أتوجَّه بالشكر إلى صاحب السماحة لهذا الأُفق الواسع وهذه الرؤية الصحيحة، وأريد أن يسمح لي بإبداء ملاحظة، أنا أُقدِّر وأدعم المقاومة المسلّحة التي هي الشعلة المضيئة اليوم في عالم الهزائم، ولكنّي أرى أنّ المقاومة يجب أن تكون مقاومة شعبية من كلّ الشعب. نحن هنا نستطيع أن نقاوم، وأعطي مثلين: أوّلاً غاندي، الذي قاوم ولم يكن عنده سلاح وهزم أكبر امبراطورية في التاريخ، والمثل الآخر هو الشعب الفيتنامي، الذي هزم أميركا ويقولون إنّها الهزيمة الأولى والأخيرة التي قد تحصل لأميركا.
أرى أنّ هزيمة أميركا ستأتي من داخل أميركا، من السود ومن المحرومين ومن الذين سيعون وسيعتقدون ويقتنعون في ما بعد بأنَّهم كانوا مغشوشين بهذه الديمقراطية المزيّفة وحريّة الإنسان التي هي كلام فارغ، لو كانت هناك حريّة فكيف يُسمح بسحق الشعب الفلسطيني ورمي اللبناني واعتقاله وخطفه من بيته، وهذه الأشياء لا تسمح بها أيّة دولة؟
وأعتقد أنّ المقاومة يجب أن تذهب بالعمق إلى الشعب، وأُريد أن أعطي مثلاً أخيراً هو في الاعتقادات الريفية الشعبية أنّ "الحرذون" أو "الضب" باللّغة الفصحى يضع عوداً في فمه لكي لا تبتلعه الأفعى، الذي يوحي له بذلك هو الغريزة، غريزة حبّ البقاء. نحن بحاجة إلى قائد مثل غاندي وغيره إلى مرشد وإلى عود نضعه في أفواهنا، لكي لا تبتلعنا الأفعى الإسرائيليّة.
لا تستهلكوا هذا الحديث
أشكر الأستاذ على ملاحظته، وأحبّ أن أعلِّق على هذه النقطة، أنا معك في أن تكون المقاومة مسلّحة، وثقافية، وسياسية واقتصادية. هذا أساس، أن يكون الشعب كلّه مقاوماً، كلٌّ بطريقته، ولكن أحبّ أن لا نستهلك هذا الشعار الأساسي كثيراً بالمطلق، لأنّ هذا قد يكون مبرّراً للكثيرين من الناس، لأن يبتعدوا عن المقاومة المسلّحة في حال احتياجنا لها وهي مظهر المقاومة الحقيقية، لأنَّني أتصوّر أنّ المقاومة ـــ التي تتفضَّل بها ـــ تحتاج إلى إنتاج الشعب من جديد، أن تُنتج له قضية. أنا أزعم أنّ حركة الضياع السياسي، التي عشناها في المنطقة، جعلت الشعب يضيع أمام فوضى الشعارات وتساقطت الكثير من الرموز القيادية في هذا المجال.
لذلك أعتقد أنّ علينا إطلاق هذا الفكر وتثقيف الشعب ليكون مقاوماً؛ والشعب لن يكون مقاوماً، إلاّ من خلال القضية. الشعب الهندي كانت له خصائصه الأساسية، فعملية اللاعنف ليست قضية غاندي بل كانت ترتبط بذهنية الشعب الهندي، فهو شعب اللاعنف في ذاك الوقت. وقضية فيتنام هي قضية الشعب المقاتل، لذلك كلّ شعب له خصوصيّته، المهم نحن كعرب كيف نستطيع تحديد خصوصيّاتنا التي يمكن أن تقاوم، وكيف يمكن أن نستنفرها في هذا المجال؟ وأعتقد أنّ المقاومة المسلّحة تبقى هي الملهم الذي يلهم الآخرين ليقاوموا بطريقةٍ أخرى، حتّى لا نقع في مسألة بعض الملوك الخليجيين، عندما تحدّث عن الجهاد وضُبط في هذا الحديث فقال: مقصودي الجهاد السياسي، وصاحبنا عندما تحدّث عن الجهاد أيضاً قال مقصودي الجهاد بطريقةٍ أو بأخرى.
كلمة شكر
رفعت النمر:
ـــ أيُّها السادة، لا يسعني إلاّ أن أتقدَّم بالشكر العميق للأخ الدكتور أنيس، الذي أتحفنا بسماحة الأستاذ المجاهد، الذي كلّمنا الكثير، وغرس في نفوسنا حبّ النضال وإعادة النضال الفلسطيني المكتسب من أرض فلسطين بالذّات، فشكرنا لسماحته، ونرجو منه أن يتحفنا بما تقدّم به بعض الأخوة من أن يرسم لنا الأرض الصلبة، التي نستطيع معها أن يكون هو قائدنا السياسي والروحي ومرشدنا، فلعلّنا نستطيع أن نظهر بالشكل الصحيح القويم، من أجل إعادة المسجد الأقصى المبارك وقبر السيّد المسيح ونشأته إنْ كانت القدس أو بيت لحم أو الناصرة، وهو بمشيئة الله سيكون أستاذنا دوماً. هو رائدنا ومرشدنا. ولا يسعني في هذه اللّحظة إلاّ شكر أخي الدكتور أنيس الذي يفكّر دائماً بالطريق السليم الصحيح، متمنياً أن يكون سماحة الأستاذ الكبير هو المرشد لهذه الجماعة. وشكراً.
في النهاية ـــ ولا نودّ لها أن تكون نهاية ـــ أشكر كثيراً الأخوة والأخوات على هذه الفرصة التي أتاحوها لي، وأرجو أن لا أكون أتعبتهم وأضعت وقتهم فيها، وأعتقد أنّي اغتنيت من خلال الأسئلة، وأكون سعيداً جداً بلقاءات متقاربة مماثلة، حتّى نستطيع أن نشعر بآفاق الأمل ـــ ولا أقول نوافذ الأمل ـــ تتّسع أمامنا. لنبدأ من جديد الحركة التي تنطلق نحو المستقبل الذي سنصنعه إنْ شاء الله بإيماننا وبإرادتنا وبقوّتنا وحركتنا.
القضيّة الفلسطينيّة
صراع الهويّات وضياع الأرض(*)
تقديم العميد رفعت النمر:
إنَّ الصدفة أحياناً تفعل فعلها بصورة غريبة، حيث لا ينتبه الإنسان إلى معانيها إلاّ لاحقاً. فقد عرفنا الدكتور صايغ، شخصية تفرض احترامها بسمو نظرتها، ونبل شيمها وبقيمة نضال مخلص مشرف، يخوضه برؤية قومية لا إقليميّة لقضية فلسطين وكفاح شعبها. ولكنّني، بعفويّة مجرّدة، تنبّهت للتطابق الغريب بين اسم الدكتور صايغ وممارسة العمل لديه، عندما طلب منّي، وبكلّ تقدير وامتنان وفخر لي، تقديم سماحة العلاّمة السيّد محمد حسين فضل الله. فالدكتور صايغ ينتقي كنوز الفكر في مجتمعنا، هم نعمة من الله لهذه الأُمّة، ويصوغهم فرصاً غالية في لقاءاتنا الأخوية هذه، حيث يدخلون معنا في تفاصيل الواقع ويحاولون، برغم التشاؤم في أعماقنا، استنهاض قيمنا الروحية وإعادة صقل مبادئ أُمّتنا العظيمة، لإعادة النور إلى قدراتها الكاملة وإمكانيّاتها المتنوّعة الهائلة والتفاؤل لبث إشراقات في أجوائنا الملبّدة المكفهرّة، ولشحذ همّتنا على الاستمرار في النضال والسعي الدائم في سبيل حياة حرّة، عزيزة كريمة.
فأهلاً بسماحة العلاّمة المجاهد السيّد محمّد حسين فضل الله. أهلاً بكم كلمة حرّة، جريئة صادقة في السياسة والأخلاق والمجتمع، وفي الحرب والسلم مع العدو الغاصب المتكبّر. أهلاً بكم أسلوباً راقياً تميّزتم به، وعبارات شامخة، تنقل إضافةً إلى سعة العلم وعمق التجربة ورجاحة الفكر، حالة من السكينة النفسية والتحرُّر الروحي من العصبية والمذهبية ومن كلّ أشكال العبودية، حالة مصالحة بين الإنسان وخالقه ونفسه، وبينه وبين الآخرين، حالة إيمان راسخ يعطي النفس البشرية بعداً روحياً وإحساساً داخلياً بقوّة كامنة فيه لو فعلت لغيَّرت وجه التاريخ.
أمامكم يا صاحب السماحة ندرك الفارق الكبير بين الكبرياء والتواضع، بين القسوة والتعاطف، كما أمام كلماتكم، نشعر بالتقارب الكبير بين الإنسان وأخيه، بها تخاطب الذّات فيه، وتقدّر فكره وتحترم كيانه، فيبادلكم الإحساس بالتواصل الفكري وبالمتابعة المستمرة والتقدير للمواقف الأصيلة، والخطب الحكيمة. ونحن، باعتزاز، ممّن يقدّرون سماحة العلاّمة ويعتبرون أنفسهم طلاّباً أمامه وأصدقاء له ـــ عن بعد كنّا أو عن قرب ـــ فأنتَ سيّد في مواقفك، عربي، مسلم، مرشد في أمّتك العربية وفي العالَم الإسلامي، قائد، مفكّر، مجاهد، شاعر أديب. نلتقي أيُّها الأخوة، بسماحته اليوم، ليعرض ما يحدث معنا وما يحدث لنا، في فلسطين الحبيبة وفي أُمّتنا وفي العالَم الإسلامي من حولنا، فنستنير من توقد ذهنه سبيل الخروج من واقع الوهن والخضوع والخنوع، والسير في طريق العمل، لاستنهاض أبناء الأُمّة الأبرار في نضال يوحّد الشعب الفلسطيني البطل مع مجاهدي المقاومة الإسلامية وكلّ المجاهدين الأشاوس وكلّ المناضلين الأحرار في أُمّتنا، لنستعيد حقوقنا ولنعز كرامتنا وإنسانيّتنا، قبل استفحال حالة الاستهانة والمهانة من جانبنا بحجّة سلام آتٍ إلى المنطقة، وليتفضّل سماحته ليزوّدنا بآرائه القيِّمة وأفكاره الثاقبة، ونشكر هذه السويعة السعيدة التي نجلس بها مع سماحة الأستاذ ليزوّدنا بمعارفه، فليتفضَّل.
قيمة هذا اللّقاء
باعتزازٍ كبير، أشعر بقيمة هذا اللّقاء الذي أغتني به فكراً وروحاً وانفتاحاً على أكثر من موقع للفكر وللحركة وللجهاد، لأنّ الأخوة الذين ألتقي بهم هم الذين واجهوا،كلٌّ في موقعه، المسألة بجديّة. وقصّة الجديّة ليست قصّة بندقية فحسب، وإنّما أيضاً قصّة كلمة تُقال بصعوبة، قضية فكر يُقال بمعاناة، وقضية حوار يُخاض بموضوعية لا يتعرَّف الناس عليها، وبعقلانية قد يرجمها الناس بالحجارة.
والصعوبة في هذا الحديث، الذي أردته تأمّلات وملاحظات ندير الحوار حولها، لا حديثاً يحاول أن ينظّر بالطريقة المألوفة لحركة التنظير؛ أنّه يتناول القضية الفلسطينية التي تختصر تاريخنا في نصف قرن أو يزيد. فنحن، كما نعلم جميعاً، نشعر أنّ منطقتنا هذه وربّما المناطق القريبة منها كانت، في كلّ أحداثها، تنطلق من عمق التعقيدات التي تحيط بالقضية الفلسطينية دولياً وإقليمياً ومحلياً، ومن عمق التحدّيات التي أطلقتها هذه القضية التي هزَّت أعماق إنساننا بشكلٍ لم نألفه حتّى في عهود الاستعمار الأولى. إنَّ الاستعمار لم يستطع أن يهزّ عمق إنسان المنطقة، بأيّة صفة انطلق فيها هذا الإنسان. فنحن عندما ندرس حركة الجهاد والنضال ضدّ الاستعمار، نجدها على الرغم من الصعوبات التي كان يتمرَّد عليها المجاهدون، شيئاً خارج الذّات أو شيئاً يلامس الذّات ملامسة بسيطة لا ينفذ فيها إلى العمق.
كانت هناك كلمات جهاد، كانت هناك كلمات حريّة، وكان الكثيرون يقدّسون أجواء هذه الكلمات، لأنَّ التخلُّف كان لا يزال يفتك بالفكر والروح والحركة، حتّى أنَّنا، في تلك المرحلة، عندما انطلقنا بكلمة الحريّة أو بكلمة الجهاد، كنّا نقولها ونحن نختزن عقلاً أوروبياً في داخل منطقة اللاشعور ـــ إنْ كان للاشعور منطقة ـــ كنّا نختزن مفهوم الحريّة القادم من بعيد، وكنّا لا نجد لكلمات الجهاد مكاناً في ساحاتنا، لأنَّ الآخرين يجدون في إيحاءاتها بعض ما ينقد مسألة الحركة الحضارية في الواقع المعاصر.
كانت مسألة حركة التحرُّر من الاستعمار مسألة مهمّة، لكنّها لم تهزّ أعماق الذّات. حتّى جاءت القضية الفلسطينية، فكانت الزلزال الذي استطاع أن يحدّثنا ـــ من خلال حركته ـــ عن تاريخ ما قبل حركة الصراع الفلسطيني ـــ اليهودي أو الإسرائيلي وما بعد ولادة "إسرائيل". فنحن نعرف أنّ العالَم العربي انطلق بعد العدوان الإسرائيلي على فلسطين، ليفتح كلّ الأبواب على كلّ التيّارات وعلى كلّ المواقع، وليهزّ أكثر من فكر كان يرقد في الأعماق ليتحرّك بقوّة. ونحن نعرف أنّ الثورات ـــ إنْ كانت لنا ثورات ـــ أو الانقلابات أو الوعي السياسي استطاعت بمجملها أن تصل إلى واقع ربّما أدخلنا في الفوضى بعض الوقت، لكنّه استطاع أن يعطينا بعض الغنى ولو من قلب هذه الفوضى.
واقع القضية الفلسطينية
إنّ الحديث عن قضية استهلكت أكثر من نصف قرن من الزمن، قد لا يكون بسيطاً أو قد لا يجد الإنسان فيه شيئاً جديداً، لاسيّما أنَّنا شعب يحبّ الكلام كثيراً ويحبّ التنظير الذي يختنق في الكلمات. ولهذا يشعر الإنسان في المرحلة المعاصرة التي نعيشها بالحرج الكبير، عندما يريد أن يتحدّث عن فلسطين. من الطبيعي أنَّنا لن نتحدّث عن كلّ التاريخ، لأنّكم تملكون معرفة هذا التاريخ وربّما كنتم من الذين عاشوا معاناة هذا التاريخ ـــ لا المعاناة الجسدية ـــ ولكن المعاناة الروحية والسياسية والاجتماعية والثقافية وما إلى ذلك. لن نتحدّث عن كلّ التاريخ، لكنّي أحبّ أن أُشير إلى نقطة، ربّما كانت بعض السرّ في كلّ هذا التخطيط، الذي لا نزال نعيشه، على مستوى الواقع الفلسطيني والعربي والإسلامي، وربّما الواقع الشرقي كلّه.
أذكر أنَّني كتبت قبل أكثر من خمس وعشرين سنة مقالاً في إحدى المجلات ـــ عندما كنت في العراق ـــ كنتُ أناقش فيه الجدل الدائر في الواقع العربي حول القضية الفلسطينية، هذا الجدل الذي كان يتمحور حول طبيعة هذه القضية، وما إذا كانت قضية فلسطينية، أم قضية عربية، أم إسلامية، أم قضية تتّصل بصراع الطبقة العاملة مع الطبقات الأخرى؟ لأنَّ هناك جدلاً كان يأكل الكثير من حيوية الساحة في هذا المجال، فكلٌّ يريد أن يعلّب القضية الفلسطينية في العلبة التي صنعها أو اتّخذها لفكره ولحركته. كنت أقول آنذاك: إنّ القضية الفلسطينية فلسطينية في جغرافيّتها وفي شعبها، وعربية في قوميّتها، وإسلامية في عمق المعاني التي تحكم شعبها، حتّى المسيحيين منهم الذين إذا كانوا لا ينتمون إلى الإسلام ديناً فهم ينتمون إلى الإسلام حضارة وفكراً وتاريخاً. وكنت أقول: إنَّنا يمكن أن نتحدّث أيضاً عن القضية الفلسطينية، كقضية تمثّل قضية الطبقة العاملة الفلسطينية التي تريد أن تتحرَّر من كلّ هذا الاضطهاد، لاسيّما إذا اعتبرنا أنّ الاستعمار هو أعلى مراحل الرأسمالية كما يقولون. كنت أقول إنّ القضية الفلسطينية هي كلّ ذلك، فلنطرحها بكلّ هذه العناوين ولنبحث عن الخيوط التي تربط في ما بينها، ليكون هناك تنسيق إذا لم يكن بالإمكان توحيدها في رؤية واحدة.
ولكنَّنا شعرنا آنذاك، كما نشعر اليوم، بأنَّنا لا نزال نتناقش في الهوية، في الوقت الذي لم يعد لنا فيه أرض؛ ولا نزال نتناقش في الهوية، في الوقت الذي بدأت اللّعبة الدولية تعمل، على أساس خطّة تزيد فيها كلّ مفردة من مفردات هذه الهويّات. الهوية الأخيرة سقطت ـــ أو هكذا يُخيّل ـــ بسقوط الاتحاد السوفياتي، فليست هناك اشتراكية بمعنى المحور الدولي الذي يحتضن حركة الصراع، بالحجم الذي كان يطلّ فيه على كلّ موقع من المواقع، ولذلك ابتعدت هذه الهوية جانباً، وربّما رأينا أنّ بعض الذين كانوا يفلسفون الواقع من خلال هذه الهويّة، استرخوا وشعروا بالرعب أمام هذا الزلزال الذي أفقد هذه الهوية الموقع الكبير.
ومن هنا، رأينا أنّ تلك الحيويّة التي كانت تشدّ الماركسيين إلى النضال والمواجهة والتضحية، أصبحت تعيش الكثير من حالات الرعب والخوف. وحلَّت الواقعية ـــ بمعنى سياسة الأمر الواقع، لا بمعنى تغيير الواقع من خلال أدوات الواقع ـــ بدلاً من الاشتراكية أو الماركسية.
القضية الفلسطينيّة... ومؤتمر مدريد
وهكذا رأينا، عندما انطلق مؤتمر مدريد لم يسمح للفلسطينيين بالمشاركة فيه بصفتهم الفلسطينية، حيث لم يُسمح أميركياً وإسرائيلياً ـــ وبفعل الخضوع العربي ـــ بأن يكون لهم مقعد مستقلّ في المفاوضات إلى جانب المقاعد العربية الأخرى، لأنَّ معنى أن يكون للفلسطينيين مقعد مستقلّ في مؤتمر مدريد، هو أن يكون لهم موقع في الواقع السياسي الذي يتحرَّك في المنطقة. والذي لا يملك موقعاً في مقاعد المؤتمر، فإنّه لن يملك موقعاً في المستقبل الذي يمكن أن تطلّ عليه نتائج هذا المؤتمر. إنّه هامش قد يُطرح في الصورة وقد يطرح في صدر المكان، من أجل السيطرة عليه، ريثما يُقال له لقد استطعت أن تؤدّي دورك ولكنّ النتيجة هي أن يكون دوراً على الهامش. ورضي الفلسطينيون أن لا تكون لهم هويّة فلسطينية، بالمعنى السياسي للهويّة الفلسطينية، وإنْ كانت لهم هويّة فلسطينية في الدائرة الأردنية. ونحن عندما نفكِّر عربياً أو إسلامياً أو إنسانياً، لا نتوقّف عند الكلمات. ولكنَّ الكلمات عندما يتوقّف عندها الآخرون، فإنَّ معنى ذلك أنّ هناك شيئاً في وجدان الآخرين يراد له أن يتحوَّل إلى واقع، يمكن أن يقرّر أكثر من مصير لنا.
ثمّ نلاحظ، ونحن لا نزال في مقاعد مؤتمر مدريد، أنّه كان هناك مراقبون في ذاك المؤتمر، مراقبون لا يشاركون ولكنّهم يتابعون ويراقبون. ما هي مناسبة أن يكون مجلس التعاون الخليجي أحد المراقبين؟ ما علاقة مجلس التعاون الخليجي، بالمعنى الدقيق الحركي، بالمسألة الفلسطينية، ما هي اهتماماته الحقيقيّة في هذا المجال؟ ثمّ المراقب العربي الثاني الاتحاد المغاربي، وهذا الأخير أيضاً ما هي علاقته بالقضية الفلسطينية بالمعنى الخاص، وإن كانت له علاقة بالمعنى العام للقضية الفلسطينية؟ نحن لا نتحدّث عن شعب الخليج ولا عن شعب المغرب العربي، لأنَّ الذي تمثّل ليس شعب الخليج ولا شعب المغرب العربي، ولكنَّ الذي تمثّل هو "المجلس" الذي لا يمثّل شعبه، و"الاتحاد" الذي لا يمثّل واقعه.
لذلك ما معنى هذا؟ لماذا لم تكن الجامعة العربية، التي أسّست من خلال إرهاصات القضية الفلسطينية والتي انطلقت من أجل أن تُعَقِّل القضية الفلسطينية وأن تحتويها بطريقةٍ أو بأخرى، بلحاظ ما يُستقبل على أساس الخطّة البريطانية التي كانت وراء تأسيس الجامعة العربية. ما معنى أن لا تكون الجامعة العربية مراقباً؟ إنَّ معنى ذلك يا أيّها العرب أنَّنا نقول لكم: ليس هناك عالم عربي في اللّعبة السياسية الجديدة. العالَم العربي هُزِم، حتّى الذين خُيِّل إليهم أنّهم مارسوا نصراً في حرب الخليج، لأنّهم انضموا إلى المنتصرين، قيل لهم: هذا دوركم في المعركة ولكنّكم في نتائج المعركة مع المهزومين، ولذلك فإنَّ عليكم أن تتحرَّكوا بعقلية الهزيمة.
نَعيُ العالَم العربي
وهكذا بدأت اللّعبة الدولية تنعى العالَم العربي، في بعض كلمات ومفردات وورقة نعي، ولكنّ التوقيع كان ينتظر ـــ ولا يزال ينتظر ـــ نهاية المفاوضات. ثم بدأت مسالة الهوية الإسلامية، وهذه يتنازعها طرفان أو تيّاران، هناك تيّار يتنازع الهوية الإسلامية وهو التيّار التقليدي "العاقل"، الذي يريد إسلاماً "مهذّباً"، يعطي لأصحاب الجلالة والسّموّ والسيادة في كلّ يوم فتوى بالحرب إذا كانت الحرب تتحرّك مع الخطّة المرسومة، أو فتوى بالسلم إذا كانت الخطّة تقتضي السلم، أو أنّه يحاول أن يعطي هذا لقب أمير المؤمنين وذاك لقباً آخر وثالثاً ورابعاً، حتّى يغلّف كلّ هذا الواقع الأميركي. ولا أستهلك الكلام عندما أتحدَّث عن هذا، ولكنّي أشير إلى جراحنا الحقيقيّة، حتّى نعطي هذه الأوضاع الأميركية صفات مقدّسة، إذا وقف الناس أمامها وحاولوا أن يخدشوها أو أن يشيروا إليها ولو بعلامات استفهام. قالوا: إنّكم تهرطقون وإنّكم تتزندقون وإنّكم تكفرون بالله، لأنَّكم تكفرون بظلّ الله على الأرض.
ولذلك قيل في الحجّ الذي يعتبر مؤتمراً عالمياً للمسلمين: ممنوع أن تتحدّثوا عن قضاياكم، ممنوع أن تتحدّثوا عن آلامكم، ممنوع أن تتحدّثوا عن كلّ شيء يتّصل بالواقع الاستكباري في العالم، ممنوع أن تتحدّثوا عن كلّ الشرك الواقعي، سواء كان شركاً سياسياً أو اقتصادياً أو أمنياً، ممنوع ذلك. اعبدوا الله بشرط أن لا تكتشفوا الله في وعيكم، يشير إليكم أنّ الوحدانية تعني أن تعبدوني وأن تكونوا الأحرار أمام كلّ العالم وأمام الكون كلهّ، حتّى مسألة أن نفكّر في الله بطريقة توحي بالحريّة وبالعدالة ممنوعة أيضاً. هذا الإسلام هو إسلام مريح عاقل مهذَّب، يحافظ على كلّ القوانين ويحافظ على كلّ الواقع الأمني الداخلي.
هناك نوعٌ آخر من فهم الإسلام ولا أريد أن أقسّم الإسلام إلى إسلامَيْن، كما يقسّمه البعض إلى إسلامات وما إلى ذلك ويتحدّث: أيّ إسلام تريدون، هناك الإسلام الذي قد يناقشه البعض في بعض مفرداته: مفردات شريعته أو المفردات التي تتّصل بواقع حقوق الإنسان هنا أو بمسألة تفاصيل الحريّة هناك، ولكنَّ القصّة الأساس فيه هو أنّه إسلام يرفض استعباد الإنسان للإنسان ويرفض الاستكبار العالمي ويدعو إلى العدالة ويتحدّث في قرآنه أنّ كلّ الرسالات وكلّ الكتب تختصرها كلمة العدل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد : 25]، إنَّ معنى ذلك أنّ حركة الأديان وحركة الرسالات تختصرها كلمة القسط، وكلّكم تعرفون أنّها كناية عن العدل.
إنَّ الإسلام الذي يُراد له أن يتحدّث عن العدل، هو إسلام يرفض الاستكبار العالمي، سواء كان استكباراً سياسياً أو اقتصادياً أو أمنياً أو اجتماعياً ـــ إذا صحّ التعبير ـــ كما أنّه يدعو إلى العدالة في كلّ مواقع الإنسان. هذا الإسلام الذي يدعونا إلى أن لا نقبل بشرعية وجود "إسرائيل". كنتُ أتحدَّث بالأمس ـــ في حديث خطابي نشر بعضه في بعض الصحف ـــ فأقول: إنَّنا استهلكنا الشتائم بالنسبة إلى "أحمد الشقيري" وإلى "أحمد سعيد". إنَّ هؤلاء هم سرّ نكبتنا وسرّ هزيمتنا، لماذا ذلك؟ لأنّ "أحمد الشقيري" قال: إنَّنا نريد أن نرمي اليهود في البحر، وربّما لم يكن يقول هذه الكلمة بدقّة، ربّما كان يقول: إنَّنا نريد أن نرجع اليهود فيركبوا البحر، ليرجعوا إلى بلادهم. و"أحمد سعيد" لأنّه كان يتحدّث من "صوت العرب" في حملة تعبويّة، يريد من خلالها أن يفرغ الروح العربية من كلّ تهاويل الخوف، ومن الطبيعي أنّ "أحمد سعيد" كان لا يمثّل نفسه، ولكنّه يتحرّك من خلال فكر "عبد الناصر" أو خطّه.
بين الإسلام الحركي... والإسلام التقليدي
كنتُ أقول: لماذا لا يكون من الواقعية أن نقول لليهود: ارجعوا إلى بلادكم بينما يكون من الواقعية أن نقول للفلسطينيين: لا ترجعوا إلى فلسطين؟! أو نقول ليهود العالم: تعالوا إلى فلسطين؟! إنّ الذهنية العربية أصبحت تتقبَّل هذا. إنّها تعتبر هؤلاء الذين أرادوا تعبئة الرأي العام العربي، سبباً في الهزيمة، ونحن لا نشجّع الانفعال ولكنَّنا نعتبر أنّ للانفعال مرحلة، لا بدّ من أن تمرّ بها الأُمّة، ريثما تتخفَّف من كلّ أثقال الإحساس بالهزيمة والخوف وما إلى ذلك.
إنَّ إسلاماً يرفض "إسرائيل" وإسلاماً يرفض الاستكبار العالمي وإسلاماً يرفض الحكّام الذين وضعتهم المخابرات المركزية الأميركية حرّاساً لمصالحها ولنفوذها على حساب مصالح الأمّة هو ـــ في نظر البعض ـــ إسلام متطرِّف متعصّب ظلاميّ، إسلام يحاربه حتّى الذين يعيشون الجراح الإسرائيلية أو الأميركية أو ما إلى ذلك، لذلك يُراد القضاء عليه.
إنَّ أميركا لم تناقش مفاهيم الإسلام الحركيّ في مفردات الحريّة، لأنَّ مفردات الحريّة التي يتحرّك فيها الإسلام التقليدي هي أخطر بكثير ممّا يمكن أن ينسب إلى الإسلام الحركي. لذلك أميركا حاربت هذا الإسلام وحاولت أن تجعل منه عدوّاً جديداً عالمياً، تستنفر كلّ الشعوب ضدّه باعتبار أنّه يمثّل التطرُّف والتشدُّد والإرهاب وما إلى ذلك؛ لأنَّها لا تريد إسلاماً يتحدّث عن مصالحها بطريقة سلبية ويتحدّث عن مصالح الشعوب بطريقة إيجابية. وهكذا بدأت الحملة لإلغاء الهوية الفلسطينية، حتّى أنَّنا رأينا أنّ الحديث عن الحركة الإسلامية الفلسطينية ـــ ونحن لا ندّعي العصمة لأيّة حركة ولأيّة قيادة، سواء كانت إسلامية أم قومية أم فلسطينية ـــ إنّ الحديث عنها ـــ حتّى في الدائرة الفلسطينية، أصبح حديث تطرّف، وربّما يستعمل بعض الناس كلمة "الإرهاب" محاكاة للّغة اليهودية وثمّ تكرّ الكلمات الأخرى: التعصّب، الظلاميّة، وما إلى ذلك.
إنَّ هناك عملاً لإلغاء كلّ هذه العناوين، التي تمثّل كلّ واحد منها شيئاً يمكن أن يبني لنا شيئاً في القلب وشيئاً في الفكر وشيئاً في الروح وشيئاً في حركتنا في الحياة. إذا تركنا الهويّات الفلسطينية والعربية والإسلامية جانباً وتركنا مسألة التحرّر من الاستعمار، فمن نحن عند ذلك؟ نحن ضائعون، وبذلك فإنَّ من الممكن لكلّ شعب ضائع أن يُقال له: هذه استراليا تتّسع للشعب الفلسطيني كلّه، وهذه أميركا الجنوبية أو اللاتينية أو حتّى الولايات المتحدة تتّسع لك، لأنَّك شعب لا تعيش فلسطينيّتك ولا عروبتك ولا إسلامك، ولا قضية الحريّة في العالم، وإنَّما شعب يريد أن يعيش وها نحن سنؤمن لك أفضل فرص العيش.
ما زلنا نعيش في الجدل
إنَّ هناك عملاً لإلغاء كلّ هذه الهويّات، من أجل أن نكون الشعب الضائع والأُمّة الضائعة. وأنا أتصوَّر أنّنا، من حيث نريد أو لا نريد، من خلال كلّ هذا الجدل البيزنطي حول ما إذا كانت القضية الفلسطينية فلسطينية أم عربية أم إسلامية أم قضيّة تحرّر، إنَّنا ما زلنا في هذا الجدل ـــ ولا أتحدّث فقط عن الواقع الفلسطيني ـــ لأنّه يختصر الواقع العربي والإسلامي، لماذا هناك أكثر من منظّمة؟ لأنَّ هذه تفكّر ماركسياً، وتلك تفكّر قومياً وهذه تفكّر في تفاصيل الماركسية أو ما إلى ذلك. إنَّنا لا نزال نتناقش في النظريّات. ولو أردنا أن ندرس كلّ الأدبيات التي تصدر عن هذه المنظّمة أو تلك في جدل قد لا يفهمه الكثيرون منّا، من خلال مصطلحاته المعقّدة، لأدركنا كم نحن مستغرقون في هذا الجدل. إنَّ القضية التي نحتاج إلى إثارتها هي مسألة أن تكون لنا أرض. أمّا هندسة الأرض، أمّا الخريطة، هل هي على الطريقة الشرقية أم الغربية أم العربية فهذا يحتاج إلى وعي لجراح القضية. وأخشى أن أقول إنَّنا شعب لم تستطع الجراح أن تحرّكه، لأنَّ الذين يشرفون على صنع الجراح، يعملون على تقديم أكثر من مخدّر يخدّر الألم، حتّى لا نتحسَّس جراحنا. هذه نقطة أحببت أن أُثيرها، وأخشى أن تكون استهلكت الوقت، لكنّي أحبّ أن أُشير إلى نقطة أخرى تتحرَّك في واقع القضية الفلسطينية وربّما في مستقبلها.
إنَّ الذعر الذي يواجهنا في نظرتنا أو في ملاحقتنا لحركة هذه القضية، هو أنّ هذه القضية حشرت في الزاوية وأنّ الخطّة يتعاون في صنعها وفي تحريكها العالَم الغربيّ بدرجات متفاوتة، تتقدَّمه أميركا وتنسّق معها أوروبا وتتبعها اليابان وغير اليابان، إلى جانب المحور العربي، مع اختلاف درجاته في نظرته إلى القضية الفلسطينية.
إنَّ المسألة المطروحة الآن هي أنّ العرب هُزموا في حرب الخليج وعليهم أن يدفعوا ثمن الهزيمة من قضاياهم. وأنّ الفلسطينيين هُزِموا مرّتين: هُزموا من خلال تعاطفهم مع النظام العراقي فجُعلوا من الفريق المهزوم بشكلٍ مباشر، وبهذا واجه الفلسطينيون في العالم العربي حملة وحشية قاسية، تستهدف اقتلاعهم من الأرض التي كانوا يعيشون فيها وتستهدف إضعافهم اقتصادياً، وإيجاد عقدة لدى ساحة واسعة من العالم العربي مفادها أنّ الفلسطينيين هم الذين يعملون على تخريب العالَم العربي من الداخل. وبذلك انضمّت الخطّة الخليجية، في محاربة الفلسطينيين، إلى الخطّة المصرية، ونحن نعرف ماذا كانت تكتب الصحف المصرية أثناء حرب الخليج في ما يتّصل بالفلسطينيين. ثمّ انضمّت بعد ذلك إلى أكثر من موقع عربي آخر، وبدأ الناس يستذكرون الواقع الفلسطيني في لبنان، وبدأوا يجدون هناك مبرّراً لحرب المخيّمات ولأكثر من موقع، حتّى أنّ مسألة التوطين تُطرح في لبنان، لا على أساس أنّها مسألة تسيء إلى التوازن الطائفي في لبنان فحسب، وإنّما من أجل تعقيد الواقع الشعبي ضدّ الفلسطينيين كما لو كان الفلسطينيون، هم الذين يريدون التوطين.
إنّ كلّ الانعكاسات السلبية التي وُجّهت نحو العراق أو النظام العراقي، أخذ الفلسطينيون قسماً منها، هذه هي الهزيمة الأولى. وأمّا الهزيمة الأخرى فهي باعتبار أنّ الفلسطينيين جزء من العالم العربي الذي حمل عنوان الهزيمة، حتّى الذين خُيِّل إليهم أنّهم انتصروا فيه.
المفاوضات استراتيجيّة أميركية إسرائيليّة
لذلك، إنّ الشعب الفلسطيني داخل المفاوضات من موقع الشعب المهزوم، مهزوم في داخل الأُمّة العربية التي بدأت تجد فيه عبئاً عليها، كما بدأت تجد في القضية الفلسطينية عبئاً عليها، ومهزوم من خلال كونه عنصراً من عناصر العالَم العربي. وعلى هذا الأساس كان المطلب العربي في أثناء حرب الخليج وبعدها من أميركا أن ترعى المفاوضات. وكان يُخيَّل إلى العرب أنّ أميركا يمكن أن تصنع مع "إسرائيل" ما صنعته مع النظام العراقي ولكنّ أميركا أرادت لهم أن يفاوضوا بمنطق الأُمّة المهزومة أمام "إسرائيل"، لأنّ العرب لم يُهزموا أمام أميركا والحلفاء، ولكنّهم هُزموا أمام "إسرائيل" في العمق، باعتبار أنّ أميركا واجهت العراق، لا على أساس خطره على الكويت والسعودية ولكن واجهته بعد أن ورّطته في حرب الخليج الأولى وأصبح قوّة لا يستهان بها. لقد كان الحديث أنّ هذه القوّة لا بدّ أن تسقط ولم تكن القضية أن يسقط النظام ورأس النظام، ولكنَّ القضية كانت أن تسقط قوّة الشعب العراقي مع النظام.
لذلك، أتصوَّر أنّ المفاوضات لم تتمّ استجابة للرغبة العربية بل لأنّها تمثّل استراتيجية أميركية تتحرّك في خطّين: الخطّ الأوّل أنّ أميركا تريد للمنطقة استقراراً في خطّ سياستها، لأنّها تفكّر في النفط كعنوان للمنطقة وتريد أن تضع نظاماً أمنياً إقليمياً، تدخل فيه "إسرائيل" كعنصر حيوي فاعل وربّما يكون عنصراً قائداً، حتّى لو لم يأخذ صفة القائد. إنَّكم لا بدّ تتذكّرون كيف تحدّث وزير خارجية أميركا السابق "جيمس بيكر" عندما خرج من مقابلة الرئيس الأسد للصحافيين عن خطّة أميركا قبل حرب الخليج لنظام أمني إقليمي لكلّ دول المنطقة وقيل له: حتّى "إسرائيل"، فقال: قلت كلّ دول المنطقة. إنّ معنى ذلك أنّ فكرة النظام الأمني الإقليمي، لا يمكن أن تتحقَّق إلاّ من خلال الصلح بين العرب و"إسرائيل" ولترتّب أميركا المنطقة أمنياً وفق مصالحها واستناداً إلى وجهة نظرها، حتّى تستطيع أن تستفيد منها في الإطلالة على المنطقة الأخرى، لأنّها تضع في حساباتها في المرحلة الثانية الواقع الإيراني، كما تضع في حساباتها المسألة التركية والمسألة الكردية وكلّ هذا الواقع المستقبلي الذي تريد أن تصنعه. وهناك مَن يقول بأنَّ المسألة الأمنية في الواقع العربي المستقبلي ليست أمنهم بأنفسهم، هناك قوى ثلاث، قوّتان جاهزتان الآن، وقوّة يُراد لها، باعتبار التطوّرات التي تفكّر بها أميركا مستقبلاً ـــ وهي القوّة الإيرانية ـــ أن يكون الأمن الإقليمي العربي خاضعاً للخطّة الثلاثية التركية والإسرائيلية والإيرانية لو قُدِّر للخطّة الأميركية أن تنجح في احتواء إيران أو في إسقاط النظام الإسلامي فيها.
إنَّنا نعتقد من خلال هذه البداية في المعاهدات الأمنية بين دول الخليج وبين أميركا وبريطانيا وفرنسا وربّما روسيا، أنّ معنى ذلك أنّ دور العرب أن يشتروا السلاح ولكن ليس دورهم أن يخطِّطوا لأمنهم. إنّ المسألة تتحرّك من خلال المصلحة الأميركية من هذه الجهة، ومن جهةٍ أخرى، فإنّ من الممكن ولو بدرجة معيّنة، لأنَّنا لا نريد أن نستفيض في الحديث عن المأزق الأميركي في مسألة المساعدات الإسرائيلية، أن تعيش أميركا بداية المأزق الذي يمكن أن ينفتح فيه الشعب الأميركي على أكثر من سلبية في المساعدات الأميركية "لإسرائيل"، التي يتحمّلها دافع الضرائب الأميركي. كانت هناك أصوات خافتة بدأت تصعد ولكن أجهِزَ عليها، وربّما تتحرَّك في المستقبل، لذلك أميركا تريد للعرب أن يقوموا بالنيابة عنها بدفع المساعدات "لإسرائيل" بطريقةٍ أو بأخرى.
إنَّ الاقتصاد الأميركي يريد أن يتخفَّف من ضغط الاقتصاد الإسرائيلي. وإذا نظرنا للمسألة من ناحية أخرى، فسنجد أنّها مصلحة إسرائيلية. إنَّنا نقرأ في التحليلات السياسية كثيراً من الحديث الذي يقول: أن لا مصلحة لإسرائيل في السلام. وأنا أؤكّد من خلال ملاحظات طويلة أنّ "إسرائيل" تلهث وراء السلام لسببٍ بسيط، أوّلاً: لأنّ "إسرائيل" ضاقت بمشكلاتها الاقتصادية الداخلية ولم تستطع أن تستوعب اليهود من العالَم، ولذلك توقّفت مسألة الهجرة اليهودية إلى فلسطين بشكلٍ كبير، لا من جهة توقّف عملية الاستيطان ولكن لأنَّ الواقع اليهودي في فلسطين لا يستطيع احتواء ذلك اقتصادياً واجتماعياً وما إلى ذلك. لذلك فإنّ "إسرائيل" بدأت تعيش مشكلة داخلية تخشى أن تجمّدها.
هناك نقطة ثانية، هي أنّ "إسرائيل" المعزولة عن محيطها، لا تستطيع أن تتطوَّر اقتصادياً وسياسياً بالشكل الذي تخطّط له. ثالثاً: كانت "إسرائيل" قضية كبرى عندما كانت الحرب الباردة وكان العالم آنذاك مشدوداً لعنوان واحد وهو الاتحاد السوفياتي. كانت كلّ مشكلات الغرب هي مشكلة الأمن في مواجهة الاتّحاد السوفياتي. ولذلك إذا كنتم تلاحقون الأخبار، لعرفتم أنّ المشكلات الاقتصادية الصعبة التي كان يتخبَّط فيها الاقتصاد الغربي، لم تكن تطفو على السطح بشكلٍ كبير في تلك المرحلة، ولذلك فقد كان الغرب يهتم "بإسرائيل" ويخطّط معها ولها، ويتعاطف معها بشكلٍ غير عادي، باعتبار أنّها تتّصل بالمسألة السوفياتية التي تتّصل بالمصالح الغربية في المنطقة. ولكن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، أصبحت كلّ دولة في العالَم ـــ بما فيها أوروبا واليابان ـــ مشغولة بنفسها، بحيث لم تعد متفرّغة للاهتمام الكبير "بإسرائيل" على أساس ما تواجهه من مشكلات. لا أقصد أنّها أصبحت حياديّة بين العرب و"إسرائيل"، ولا أقصد أنّها أصبحت تتعاطف مع العرب ضدّ "إسرائيل"، ولكن لم يعد لها طاقة يمكنها من خلالها أنْ ترعى "إسرائيل" الرعاية التي كانت سابقاً. كما أنّ "إسرائيل" تفكّر أنّ من الممكن للواقع الأميركي أن ينقلب ضدّها في المستقبل ولذلك فإنَّ "إسرائيل" تعتبر ـــ سواء كانت "إسرائيل" "الليكود" أو كانت إسرائيل "العمل" ـــ أنّ الصلح مع العرب يمثّل مصلحة حيوية استراتيجية وهي تضغط وتعمل لتعطّل اللّعبة، ولكن من أجل أن تأخذ أكثر ومن أجل أن لا تقدّم ما تعتبره تنازلات أكثر.
الخروج من المأزق
لذلك أعتبر أنّ الصلح مع "إسرائيل" مصلحة أميركية ـــ إسرائيلية حيويّة. وأميركا و"إسرائيل" تخطِّطان استراتيجياً من أجل أن لا يأخذ العرب شيئاً كبيراً وتعملان معاً على أن لا يأخذ الفلسطينيون أيّ شيء خارج نطاق الحكم الذاتي، الذي يمكن أن يطلّ في المستقبل على بعض العلاقات مع الأردن أو مع ما أُثير من اتّحاد فلسطيني ـــ إسرائيلي ـــ أردني كما أطلق في بعض البالونات السياسية في هذا المجال. فالمسألة الفلسطينية في التخطيط السياسي هي مسألة أقلّية كبيرة في داخل "إسرائيل" يُراد لها أن تأخذ الحكم الذاتي على طريقة ما كان يُطرح ـــ أو أقلّ ممّا كان يُطرح ـــ في الحكم الذاتي للأكراد في داخل النظام العراقي، ولهذا فإنَّ علينا أن نلاحظ عدّة نقاط:
أوّلاً: إنَّ أميركا رفضت رسمياً رفضاً قاطعاً الدولة الفلسطينية، وإنّ الكونغرس الأميركي صوَّت منذ زمن على أنّ القدس هي العاصمة الموحّدة الأبدية "لإسرائيل". كما أنّه بدأ يتحدّث بطريقةٍ أو بأخرى أخيراً عن أنّ هناك ثوابت في السياسة الأميركية في ما يتّصل بالمسألة الفلسطينية ـــ الإسرائيلية، كما نلاحظ أنّ أميركا ـــ حتّى الآن ـــ لم تبدِ رأيها في مسألة الجدل القائم حول العبارة الواردة في القرار 242، والمتعلّقة بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة، لجهة ما إذا كان المقصود "من أراضٍ عربية محتلّة"، أو من الأراضي العربية المحتلة، فكما هو معروف، هناك اختلاف بين النصّين الانكليزي والفرنسي حول المقصود من هذه العبارة، انسحب خلافاً في وجهات النظر العربية الإسرائيلية. هذا على الرغم من أنّ الفلسطينيين لا يملكون فيه أيّة قوّة.
من هنا كانت المشكلة في المسألة الفلسطينية تكمن في المواقع القيادية. لقد ضاعت القضية الفلسطينية عند قيادة تجمع مواصفات النظام العربي، فهي تفكّر بطريقة الأنظمة العربية وفي الوقت نفسه تضع لنفسها صفة الثورة، التي تريد أن تتحرَّك بطريقة ثورية، يمكن أن تتّخذ لنفسها أكثر من شكل وأكثر من لون. هذه الحيرة بين القيادة ـــ النظام وبين القيادة ـــ الثورة، هي التي أربكت كلّ حركة الثورة الفلسطينية، ولذلك فإنّها استطاعت أن توقع الشعب في حيرة بين ما هو النظام وبين ما هي الثورة؟ ولذا لم يستطع الشعب الفلسطيني أن يجد وحدته ولم تستطع التنظيمات أن تدخل في حوار واقعيٍّ جادّ. من هنا نجد أنّ التراشق بالتهم، بالخيانة، بالانحراف وبالعمالة هو حديث السبعينيّات، كما هو حديث التسعينيّات. وإنَّني لا أتفاءل أبداً في مستقبل القضية الفلسطينية، مع بقاء بعض ماء الوجه لها من خلال من لا زال يحسن شروط الصلح ونتائجه. هذه الأنظمة التي تقول لم ندخل الصلح إلاّ بعد اتّفاق مع الفلسطينيين. ولكنَّنا نعرف أنّ مصر، الدولة العربية الكبرى، تعمل على الضغط على الفلسطينيين أكثر ممّا تضغط عليهم أميركا و"إسرائيل" في هذا المجال.
مسؤوليّتنا... إيقاف الانهيار
من هنا، إنّ مسؤوليّتنا أن نوقف هذا الانهيار، مسؤوليّتنا إذا اندفعت القيادة ـــ النظام في مسألة التسوية ـــ أيّاً كانت هذه التسوية ـــ أن يبقى لدينا شعب يرفض، لأنَّ هذا الرفض وإن لم يستطع أن يعبّر عن نفسه بقوّة إذا ضاق به الحاضر، وكان ضعيفاً في بداياته بفعل أنواع الحصار التي يمكن أن تضرب من حوله لإخماد أنفاسه، فإنّ المستقبل يمكن أن يتّسع له. ونحن في هذا المجال، علينا أن نتعلَّم من اليهود. اليهود كانوا يقولون: "إلى أورشليم". ووصلوا إلى أورشليم، بل إلى كلّ منطقة أورشليم. فلماذا لا نقول نحن إلى القدس؟ إنَّني أخشى أن يكون المشروع الأميركي للحلّ هو على طريقة اللّعب بالكلمات. ونحن كعرب نحبّ تنويع الكلمات ونحبّ تلطيف الكلمات، لقد قتلتنا الكلمات لأنَّنا لم نعِ ما وراء الكلمات.
المستقبل في ظلّ الشرذمة والتشتُّت
متّى سمعان بولس:
ـــ من الثابت أنّ "إسرائيل" لا تريد السلام ولا تعرف معناه إلاّ وفق وجهة نظرها فهي كيان قام على الحرب والمجازر واغتصاب الأرض وتشريد الإنسان. والولايات المتحدة، انسجاماً مع ذاتها ومصالحها وتمشّياً مع سياستها المنحازة لـــ "إسرائيل"، تحاول الضغط على الفلسطينيين بشتّى الوسائل لإرغامهم على قبول الطروحات والشروط الإسرائيلية المتقلّبة، التي لن تؤدّي إلى السلام بل إلى الاستسلام. وهي تلوّح لهم بحكم ذاتي مقيّد وتمنعهم من التحدّث عن القدس باعتبارها عاصمة أبديّة لليهود كما صرَّح "رابين".
أمّا الدول العربية فهي غارقة في الانقسامات والتباعد في ما بينها وقد تعمَّقت هذه الانقسامات والتباعد إثر حرب الخليج، حيث أصبح العرب في حالة تفكُّك وتشرذم. الفلسطينيون يعانون من هذه الحالة الشاذّة التي جرفتهم آثارها وشلَّت نشاطهم وأدّت إلى طمس قضيّتهم وإهمالها وتجاهلها وأصبحوا يحاربون على جبهتين: "إسرائيل" من الداخل، وغير "إسرائيل" من الخارج. في هذا الخضم، تبقى إرادة الشعب الفلسطيني ووعيه وتصميمه ثابتة ومستمرّة، وهم يبرهنون للعالَم أنّهم شعب لن يتخلّى عن أرضه وقضيّته وسيادته.
السؤال يا صاحب السماحة: إلى أيّ حدّ أو مدى باعتقادكم يستطيع الفلسطينيون، ومَن تهمّهم قضيّتهم، أن يتحمَّلوا أوزار وأثقال هذه الانقسامات والخلافات، التي تنعكس سلباً على قضايانا المصيرية وعلى مستقبل الأُمّة العربية؟
إذا سلَّمنا بأنَّ "السلام" هو مصلحة حيويّة أميركية إسرائيلية، وأَنّ هذا "السلام" لا يمكن أن يتحقَّق بين العرب والكيان الغاصب بدون الفلسطينيين، على الرغم من أنّه قد يخيّل للبعض من خلال بعض التهديدات العربية الخفيّة، أنّ العرب يمكن أن يصالحوا ويتركوا الفلسطينيين وحدهم، وعلى الرغم من التعب الشديد الذي أضنى الشعب الفلسطيني كثيراً، الذي ـــ حسب تصوّري ـــ سيتعرّض لضغوط جديدة بشكلٍ كارثي بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، ولاسيّما الفتنة التي يمكن أن تحدث في داخله والتي رأينا بعض ملامحها في وقتٍ سابق، عندما حدثت بعض المشاكل في نابلس وغيرها، فإنّه يجب أن نصرّ، شعباً وقيادات، على السلبية إلى أبعد مدى يمكن لنا أن نكون فيه سلبيين؛ ذلك أنّ أميركا و"إسرائيل" تريدان توقيع الفلسطينيين على ورقة الطابو، ولذا من الأهمية بمكان أن لا نوقّع على ورقة الطابو هذه. فعدم التوقيع هو الذي يمكن أن يجعل الشعب الفلسطيني يأمل بمستقبل، تبقى فيه القضية الفلسطينية حيّة.
إذا كان اليهود يفكِّرون في أن يعقِّدوا الأمور، حتّى لا يتنازلوا فلنفكّر في أن نعقِّد الأمور بكلّ ما عندنا من طاقة، والجميع يحتاجون إلينا، حتّى إذا كنّا لا نستطيع الحصول على الكلّ فعلينا أن نعمل للحصول على أكبر قدرٍ ممكن، بشرط أن نُبقي الرافضين في تفاهم دقيق، أن يبقوا راضين حتّى لو رُجِموا بالحجارة وبالخيانة، لأنّ اليهود يفكِّرون مرحليّاً، فهم يريدون الصلح الآن ليشنّوا حرباً بعد مدّة من خلال المتغيّرات ليتوسّعوا أكثر. لماذا لا نفكّر واقعياً لا فكرياً بهذه الطريقة "لا ينتشر الهدى إلاّ من حيث انتشر الضلال"؟.
ـــ د. شفيق امبرجي ـــ فلسطيني مقيم في أميركا ـــ: أحبّ أن أقول لسماحتكم: إنَّني لم أسمع حديثاً لا في أميركا ولا هنا، بمثل هذا العمق والشمول والفهم للسياسة الخارجية الأميركية في ما يتعلّق بالمنطقة.
"مارتن انديك" يهودي صهيوني استرالي في غاية الذكاء والاطّلاع، أصبح أميركياً في يومٍ واحد وذلك قبل أن يعيّنه كلينتون مستشاراً له، "مارتن انديك" هذا، ألقى محاضرة في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط، وهذا المعهد متفرّع عن "إيباك" التي هي بمثابة لوبي لـــ إسرائيل" في أميركا، أتى فيها على خمس نقاط رئيسية، أذكر منها هاتين النقطتين:
النقطة الأولى: إنّ أميركا لها مصلحتان أساسيّتان في منطقة الشرق الأوسط، هما النفط و"إسرائيل". وهناك دولتان تهدِّدان هاتين المصلحتين، هما: العراق وإيران.
النقطة الثانية: إنّ انديك لا يعبّر عن رأيه الشخصي وإنّما يتكلّم عن الطريقة، التي تنظر فيها السياسة الخارجية الأميركية في عهد كلينتون إلى المنطقة. وأنا إذ أعرض هذه المعطيات، فإنَّما أعرضها من باب تأييد فهم السيّد لسياسة أميركا، ولأؤكّد أهمية عدم إغفال الدعاية للمؤسّسات مثل اتّحاد الكنائس وغير ذلك.
ضرورة النفاذ إلى الجاليات العربية والإسلامية
أنا أتصوّر أنّه من الضروري جداً أن ننفذ إلى الجاليات العربية والإسلامية بطريقةٍ أو بأخرى، حتّى نستطيع أن نصنع منهم قوّة، خصوصاً الذين يملكون الجنسية الأميركية للتأثير ـــ ولو جزئياً ـــ في المرحلة الحاضرة بانتظار ما يأتي، حتّى لا نقع تحت تأثير الدعاية التي تحاول أن تركّزها "إسرائيل": أنّ أميركا تعني "إسرائيل" وأنّ اللّوبي اليهودي الموجود في أميركا لا يمكن أن تواجهه أيّة جماعة أخرى، أنا أقول: إنَّنا أغفلنا الواقع العربي الأميركي، أغفلناه ربّما من بعيد، لكن لم ندخل إلى عمقه، قد نحتاج ولو من نقطة الصفر أن ندخل إلى عمقه.
المستقبل بعد "السلام"
ـــ د. يوسف شبل: ثمّة سؤال لديّ، لا أجد جواباً عليه ويتعلَّق بالأخطار التي يحملها الاقتصاد الإسرائيلي على لبنان لو حصل التطبيع. لو أدّت الضغوطات إلى توقيع معاهدة سلام مع "إسرائيل"، ما هو تصوُّر سماحتك للوضع المستقبلي، هل سيكون كما في مصر، حيث امتنع الشعب المصري عن التعامل مع "إسرائيل" برغم معاهدة "كامب ديفيد"، أم أنّ الوضع الاقتصادي المهترئ في البلد سيؤدّي إلى اختراقات إسرائيلية خطيرة؟
أعتقد أنّ المسألة الاقتصادية سوف تكون معقّدة، عندما ندرس التطبيع المصري ورفض المصريين للتطبيع. أنا أخشى أن ينهار هذا الرفض أو يسقط تحت تأثير الصلح العربي. المصريون قد يشعرون بأنَّ الواقع العربي الرافض يحمي لهم رفضهم، فإذا انهارت الساحة العربية كلّها فمن الصعب جداً أن يبقى هذا الرفض في قوّته وسيبدأ بالخطّ التراجعي.
في المسألة اللبنانية في تصوّري أنّه ربّما تكون الطبقة التي تحكم لبنان تعمل على احتواء الواقع اللبناني لمصلحة "إسرائيل" بطريقة أو بأخرى. وأعتقد أنّ الحيويّة التجارية للإنسان اللبناني الذي سيواجه في المستقبل منافسة خطرة من قبل الاقتصاد الإسرائيلي، سوف يحاول أن يحسب حساب هذه المسألة. لو لاحظتم شيئاً، فسوريا شقيقة عربية للبنان وتأثيرها معروف، ونتيجة المعاهدات بين سوريا ولبنان بدأت البضاعة السورية تأتي إلى لبنان، وكذلك بعض العمّال السوريين. وصارت هناك منافسة على أثرها وأخذنا نسمع أصواتاً عالية ترتفع في وجهها، متجاوزة بعض الأوضاع السياسية في الحديث عنها. في تصوّري أنّ "إسرائيل" يمكن ـــ عندما تدخل ـــ أن تحصل على شيء كبير، ولكنّها عندما تبدأ بالتحرُّك أعتقد أنَّ هناك ضمانات في الواقع العربي تنشأ أوّلاً من ناحية المصلحة الاقتصادية. ثمّ علينا أن لا نغفل حتّى المسألة الروحية الدينية، أعتقد أنّ في الإسلام الكثير ممّا يمكن استعماله وتحريكه وتوظيفه للموقف ضدّ "إسرائيل"، كإصدار فتاوى بتحريم البضائع الإسرائيلية وما إلى ذلك من أشياء. نحن قد نواجه وضعاً معقَّداً، ولكن لا أعتقد أنّه وضع ميؤوس منه.
الحوار الإسلامي ـــ المسيحي
ـــ د. إبراهيم صهيون: يحدّثنا "سفر الرؤيا" في الإنجيل عن وحش نهاية العالم. تقديري الشخصي أنّ "إسرائيل" هي هذا الوحش، ومن موقع هذا الاعتقاد، فأنا كمسيحي مؤمن بنهاية الأزمة، أرى وجوب محاربة "إسرائيل".
وبهذا الاعتبار، فإنّ "إسرائيل" عدوّ مشترك للمسيحيين والمسلمين، وعلى الرغم من ذلك لم يحدث أيّ تقارب مسيحي ـــ إسلامي على قاعدة العداء المشترك لـــ "إسرائيل". بتقديركم، لماذا لم يحدث مثل هذا التقارب، على الرغم من أنّه سلاح قويّ جداً في مواجهة هذا العدوّ؟
في مداخلاتي حول مسألة الحوار المسيحي ـــ الإسلامي، كنت أقول للمسيحيين وللمسلمين: لا تجعلوا الإسلام أو المسيحية طبلاً تدقُّون عليه، ليكن المسلم مسيحيّاً في إسلامه، من حيث ما يختزنه الإسلام من قِيَم المسيحية، وليكن المسيحيّ مسلماً بمعنى إسلامه لله في ما تختزنه المسيحية من القِيَم الروحية الإسلامية. عندما تكون مسيحياً تفكّر وتقرأ الإنجيل بعمق، كما يفكِّر المسيح وكما ينفتح على العالَم، وأُفكِّر أنا كمسلم أسْلَمَ كلّ حياته لله وأفكّر أيضاً في حجم العالَم، كما كان يفكِّر النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، عندما نفكّر بهذه الطريقة، نستطيع أنْ نشعر بالقِيَم الروحية التي تتحوّل إلى قِيَم سياسية واجتماعية ونفسية وما إلى ذلك. مشكلتنا أنَّنا مسيحيون بدون مسيحيّة ومسلمون بدون إسلام، هذا ما يحوّل الإسلام والمسيحية إلى خطر على الواقع كما هما خطر الآن، لأنّه إسلام يمكن أن يختزن كلّ الظلم في داخله، ومسيحيّة يسكن أنْ تختزن كلّ الخرافة في داخلها، وعند ذلك يحكمنا الإسلام والمسيحيّة باسم الظلم والخرافة.
ـــ إذاً سماحة العلاّمة، أريد أن أدين تقصيراً عربياً هائلاً في المجال الدولي في أميركا وتقصيراً من الدول الإسلامية وتقصيراً من الكنيسة العربية؟
أنا التقيت، لأشهر خلت، في الشّام وبحضور البطريركين: هزيم وحكيم، والسفير البابوي في لبنان بابلو بوانتي، كاردينالاً نيجيرياً مسؤولاً عن الحوار الإسلامي ـــ المسيحي وقد كان اجتماعاً جيّداً جداً، وبادرت أثناءها هذا الكاردينال بالسؤال التالي: ما هي موضوعات الحوار التي تعمل عليها؟ قال: مثلاً، نظرية المسيحيّة والإسلام في المرأة والحريّة. قلت له: هذه المسألة يمكن أن تنتظر، هناك قضية حارّة نحتاج أن ندير الحوار حولها وهي قضية نظرة المسيحية والإسلام للقضية الفلسطينية، وفي هذا الإطار، أنا أريد أن أسألك سؤالاً: لو كان السيّد المسيح (عليه السلام) موجوداً فمع من تراه يكون؟ أمع الفلسطينيين المشرّدين والمضطهدين بالداخل، أم مع اليهود؟ أتراه يفكِّر بإجراء التسوية بين اليهود والفلسطينيين، وفق الصيغة المطروحة الآن؟ قال: هذا ليس من اختصاصي، يمكن أن تتحدّث مع صديقك السفير "بوانتي" وهو ينقل نظريّتك للفاتيكان. قلت: أنا أسألك هذا السؤال، لا بالصفة الرسمية لزيارتك الحالية وإنَّما بصفتك إنساناً مسيحياً، وبناء عليه أعود وأقول لك: إنَّ الفاتيكان ممثّل السيّد المسيح (عليه السلام) من ناحية رسمية وكلمته كلمة السيّد المسيح، كيف يمكن للفاتيكان أن يعقد علاقات مع "إسرائيل" في الوقت الذي طرد فيه السيّد المسيح (عليه السلام) اللّصوص من ساحة الهيكل، وهؤلاء أخذوا كلّ ساحة الهيكل؟! عندها تدخّل السفير البابوي قائلاً: "إسرائيل" أمر واقع. قلت: الشيطان أمر واقع أيضاً، فهل نتبع الشيطان على أساس أن نستسلم للأمر الواقع؟!!.
إنَّ في الواقع الإسلامي والمسيحي الآن، هذا النوع من التنظير الديني للعلاقات مع "إسرائيل". لقد بتنا نشرف على واقع يُراد من خلاله التحرُّر من القضية الفلسطينية دينياً وسياسياً وأمنياً وما إلى ذلك. ثمّة حديث شريف يصوّر لنا كيف يمكن أن تتطوَّر الأمور في مسألة من المسائل باتّجاه السقوط التّام. يقول هذا الحديث: "كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم؟ ولم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر؟ قيل: ويكون ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم، وشرّ من ذلك، فكيف بكم إذا أتيتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول الله، ويكون ذلك؟ قال: نعم، وشرّ من ذلك؛ كيف بكم، إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً"؟(1) ذلك يا رسول الله؟!قال: هكذا تتّجه الأمور نحو السقوط التّام: فساد ـــ تخلٍّ عن الالتزام المسؤول والإيجابي ـــ تبدّل سلبي في الرؤى والمفاهيم ـــ الاستغراق في فعل الخطأ... منتهى الانحدار يكون مع تبدُّل المفاهيم حول السلبية والإيجابية، حيث يأخذ كلّ مفهوم دور الآخر.
ومن الواضح، أَنّ كلّ مرحلة من مراحل الانحدار نحو الهاوية، تمهّد وتؤسّس للمرحلة التي تليها. لذلك، أنا أقول: إذا نحن لم نستطع أن نرفض الرفض العملي المطلوب، فلنرفض الرفض القلبي، بحيث يبقى لدينا عقدة ضمير، لأنَّ بقاء هذه العقدة يمكن أن يفسح في المجال أمام انفتاح مستقبلي في هذا المجال.
ـــ أديب قعوار: سماحة العلاّمة قلت في مداخلتك إنّ "إسرائيل" تلهث وراء السلم. لكن هل تعتقد أنّ هذا السلم ممكن التحقيق، ولاسيّما إذا لاحظنا أنّ الشعب العربي لن ينجرف وراء الفئات الحاكمة في الوطن العربي وسيبقى هنالك رفض. ولنا في الشعب العربي المصري نموذج، يمكن القياس عليه، فهذا الشعب على الرغم من كلّ تداعيات الصلح الرسمي مع العدوّ الصهيوني، بقي رافضاً انجراف حكّامه إلى بوتقة التبعيّة الأميركية. هذا في جانب، وفي جانبٍ آخر، في تقديري إنّ "إسرائيل" ستبقي قوّتها المسلّحة على ما هي عليه، وهي إذا كانت تسعى إلى السلم، فإنّ ذلك للتخفيف من مصاريفها التي ترهقها، وحتّى تتمكَّن من استيعاب المهاجرين اليهود أكثر فأكثر. ألاَ تعتقد ـــ سماحة العلاّمة ـــ أنّ "إسرائيل" قد لا تتمكّن من التقليل من مصروفها الحربي، حتّى في مجال السلم، لأنَّ قوّة الرفض الشعبي أقوى من استسلام الحكَّام؟
نخشى من حالة الهزيمة
عندما كنت أتحدّث عن حركة النتائج التي يمكن أن تصل إليها لعبة المفاوضات، كنتُ أتحدّث عن واقع الأنظمة وأنّ الأنظمة سوف تعمل متعاونة مع "إسرائيل" وأميركا للضغط على الشعب الرافض، ولكنَّني أوافقك على ما ذهبت إليه بشرط أن نتمكّن من تحريك كلّ العناصر التي يمكن أن تبقي الرفض حيّاً وواقعياً لدى قطاعات الشعب الواسعة. وهذا في تقديري، يستلزم أمراً رئيسياً هو أن تنطلق في مقدّمة هذا الشعب قيادات واعية، رائدة، منفتحة، تستطيع أن تمنحه الثقة بنفسه وبالحركة. وفي تقديري أيضاً، هذا أمر صعب الآن، إذ نلاحظ أنّ البلاد العربية، بشكلٍ عام، تحكمها أجهزة المخابرات. وأستطيع أن أقول إنَّ الأنظمة العربية استطاعت أن تصادر الشعب العربي، ما خلا بعض النوافذ الصغيرة التي تطلّ على بعض الكلمات أو جوانب الرفض هنا، أو هناك، أو هنالك.
وأسوق في هذا الإطار، مثلاً هو: لبنان. لبنان، الآن، البلد الوحيد الذي نملك فيه حريّة الكلمة والفكر وحريّة العمل السياسي ـــ لا لحسابنا بل لحساب المخابرات التي تريد معلومات من دون أن تدفع شيئاً كثيراً أو ما أشبه ذلك ـــ نملك هذا الشيء، وهذا خير لو كان الجماعة هم الذين يفعلون ذلك. وعلى الرغم من ذلك، دعنا نتساءل أين هي حركات الرفض اليوم؟ أين الشيوعيون، أين القوميون العرب؟ أين القوميون الاجتماعيون؟ أين الاشتراكيون؟ أين الوطنيّون؟ أنا لا أريد أن أعطي حكماً سطحياً شمولياً مطلقاً، لكن أقول إنّ هناك رعباً أصاب الجميع ولذلك لم يعد هناك شيء، ـــ حتّى في المسألة الداخلية ـــ اسمه الحركة الوطنية اللبنانية التي كنّا نعرفها في السبعينيّات أو الثمانينيّات.
أنا أخشى من وجود حالة هزيمة نفسية تُغذّي وتُشغل الناس ببعض الفتن الصغيرة، التي لا تنتج حرباً ولكنّها تمنع الإنسان من أنّ التفكير بالأفق الواسع لهذه المسألة. نحن علينا أن نعمل على تغذية وتنمية حركة الرفض، ولكن علينا أن لا نستسلم للأحلام، لأنَّنا في الشرق، وبكلّ أسف، يمكن أن يصيبنا الاسترخاء، إذا ما استعمل الحاكم قبضته الحديديّة. لذلك، نحن إذا كنّا نعتبر أنفسنا من الذين يحاولون أن ينتجوا المستقبل أو يواكبوه، فعلينا أن ننتبه للعبة، نحن نؤمن بالشعب، ولكن علينا أن نعرف كيف نحرّكه.
ردّة الفعل العربية على السلام؟
ـــ إبراهيم الطرزي: سماحة السيّد: سؤالي هو لو ـــ لا سمح الله ـــ قُدِّر للمفاوضات أن تصل إلى نتيجة، ماذا تعتقد ستكون ردّة الفعل في العالَم العربي؟
في المرحلة الحاضرة، لا أعتقد أنّه ستكون هناك ردّة فعل سلبية كبيرة. نعم، قد ترتفع بعض الأصوات وأظنّ أنّ الصوت الإسلامي سيكون الأقوى من بينها، ذلك أنّ الأصوات القومية، مع الأسف، أصبحت مقتصرة على النخبة دون الجماهير. لقد سبق لي القول لبعض أصدقائنا الذين يرعون المؤتمر القومي العربي، إنّ كلّ مؤتمر تعقدونه ينتج عنه كتاب، لكنّه لا يصنع لنا واقعاً. لذلك في تصوّري أنّه ستندفع كلّ حركة الإعلام العربي والسياسي في وصف الرافضين للسلام العربي ـــ الإسرائيلي بالمتضرّرين من هذا السلام، وسوف يرجم المعارضون بـــ "الحجارة السياسية".
وعلى الرغم من ذلك، أعتقد أنّه من الممكن جداً أن يستيقظ العرب من هذه الصدمة، وذلك من خلال درس العناصر الحيّة والعملية التي يمكن أن تنتج وتستنفر كلّ ما عندنا من عناصر روحية وقومية ومادية في سبيل هذا المعنى. في تصوّري أنّ مسألة الصلح مع "إسرائيل" تسير بسرعة قياسية، وأنّها متكيّفة مع آلية تطبيع الذهنية العربية والذهنية اليهودية، حتّى يلاحق الناس التفاصيل. في الجولة العاشرة في المشروع الأميركي ذكرت كلمة القدس أوّلاً ثمّ الولاية الجغرافية في الحكم الذاتي ـــ ما هي؟ يلاحق وينشغل الشعب الفلسطيني ويبعث الموفد كذا، ذُكرت كلمة القدس. وهذا انتصار لنا كما يقولون، وعلينا أن نستمرّ ونعتاد، ففي البداية تكون القضية هي الأساس ثمّ تصير التفاصيل هي الأساس.
جورج منصور:
ـــ بكلامٍ بسيطٍ جداً، برأيك آخر المطاف، تحت الضغط العربي وغير العربي، هل يوقّع الفلسطينيون على ورقة الطابو التي ذكرتها؟
الفلسطينيون الرسميون يوقّعون، ولكنّ الشعب الفلسطيني سوف يعيش أزمة، وأخشى من نتائج هذه الأزمة أن تُستغلّ لغير الاتّجاه الذي تنطلق منه.
بسّام:
ـــ الآن هناك معضلة في المفاوضات في ظلّ زوال الاتّحاد السوفياتي، وفي ظلّ تفكُّك وتمزّق العالمين العربي والإسلامي. في تقديرك سماحة السيّد، كيف يمكن أن تكون صورة الحلّ المرحلي العملي الذي يمكن أن يكون مقدّمة لحلّ فعلي لمصلحة العرب والمسلمين؟
أنا لا أؤمن بوجود حلّ مرحلي، يمكن أن يخدم مصلحة العرب. والموقف المناسب في هذه المرحلة هو تجميد الحلّ وعدم المضي قدماً في أيّ مشروع حلّ. بشكلٍ مبسّط، أقول: على فرض أنّ الفلسطينيين مُنحوا شكلاً من أشكال الحكم الذاتي، فكيف ستكون عليه صورة الوضع بعد ثلاث سنوات؟ أي بعد أن ينخرط العرب جميعاً في مشروع الصلح مع الكيان الغاصب، وتقام معه علاقات دبلوماسية وغير دبلوماسية، ولاسيّما من قبل دول الخليج اللاهثة وراء هذا الكيان ـــ لأنّها تعتبر أنّ هذا الكيان قد يحميها من بعض الدول العربية الأخرى ـــ وباختصار بعد أن تفوز "إسرائيل" بثمرات السلام ويقوى عددها أكثر فأكثر، فهل من الممكن أن تعطي "إسرائيل" الفلسطينيين ما لم تعطهم إيّاه الآن؟ إذا لم يستطيعوا أن يحصلوا على قرار بالقدس الآن فلن يأخذوا ذرّة تراب من القدس بعد الآن، لأنّه الآن ما زال هناك شيء من وهم القوّة وهو الحاجة إلى أن يوقّعوا وإلى أن يقبلوا وإلى أن يتدجَّنوا، فإذا لم يأخذوا الآن شيئاً فما هي المعطيات؟ إذا كانت أميركا الآن تعمل لحساب "إسرائيل" ولا تلاحظ العرب، وإذا كانت، مصر تضغط على الفلسطينيين من وراء الكواليس، وكذلك دول الخليج من خلال اعتماد سياسة العصا والجزرة، المتمثّلة بحجب المساعدات أو إرسالها إلى القيادة الفلسطينية الرسمية، إذا كانت هذه صورة الوضع، فكيف يمكن أن يأخذوا شيئاً؟
في تصوّري أنّ الفلسطينيين إذا أرادوا أن يوقِّعوا الآن، فمعناه أنّ عليهم القبول بما يُعطى لهم الآن، لأنّه لن يُعطى لهم شيء في المستقبل.
سعيد بركة:
ـــ هل ترون من الحكمة تجميد المسيرة الرجعية لمنظّمة التحرير الفلسطينية، من خلال محاربتها علناً أم نصبر لنصل إلى مرحلة أخطر، تكون التواقيع قد تمَّت وبعد ذلك نترك الأمر للشعب الفلسطيني، سواء في قطاع غزّة أو في الضفّة الغربية؟
الخطّة... احتواء منظّمة التحرير
هناك نقطة يجب أن نلاحظها ـــ عندما نريد أن ندخل حرباً أو أن نمارس هدنة ـــ وهي أنّ الحرب ليست مجرّد حالة احتجاجيّة؛ إنَّما هي خطّة عملية للوصول إلى النتائج. في تصوُّري أنّ الواقع الفلسطيني الداخلي، لا يتحمّل معركة حول شرعية منظّمة التحرير أو عدم شرعيّتها. أنا من الذين لا يوافقون على سياسة منظّمة التحرير، لكنّي لم أصف قيادة المنظّمة بالخيانة أو العمالة، لأنّي أعتبر الممارسة الخاطئة عبارة عن خطأ في الاجتهاد. فهم لأنّهم عاشوا ذهنية الأنظمة، استغرقتهم الأنظمة حتّى انطبعوا بطابعها وأصبحوا يفكِّرون تفكيرها. لقد كان هناك خطّة أوروبية ـــ أميركية عملت على احتواء منظّمة التحرير والثورة الفلسطينية وذلك بغية تدجينها. كانت قيادة منظّمة التحرير تتصوَّر أنّها تحمل على كتفها مهمّة المصالحات العربية، فكان أن غرقت في الرّمال العربية، لأنّه أُريد لها أن تنشغل عن القضية الفلسطينية، ولذلك لاحظنا أنّها شُغلت بكلّ شيء عربي إلاّ القضية الفلسطينية. والتجربة اللبنانية ما زالت تجربة حيّة في هذا المجال. جميعنا يعرف أنّ لبنان لم يولد ليكون وطناً لبنيه وإنّما وُلد من أجل أن يربك المنطقة ويغذّيها طائفياً بالحروب الطائفية ومذهبياً بالحروب المذهبية، ويكون الأرض التي تتحرَّك فيها كلّ مخابرات العالَم، التي لن يكون شغلها فقط جمع المعلومات وإنّما صناعة الواقع. في تصوّري، كانت الفتنة اللبنانية من أجل دفن القضية الفلسطينية، فكان أن دُفِن نصفها في حرب المخيّمات ودُفن الربع الثالث في الاجتياح الإسرائيلي ومع خروج البندقية الفلسطينية من لبنان، ولولا الانتفاضة لما كانت هناك قضية فلسطينية.
وفي تصوُّري أيضاً، أنّ دخول قيادة (م.ت.ف) في مسألة الخليج كان من أكبر الأخطاء. فهي بهذا الخطأ، أعطت العرب ذريعة لكي يضربوا الفلسطينيين، لا منظّمة التحرير فقط، من دون أن يشعروا أنّهم بفعلهم هذا يبتعدون عن عروبتهم وعن إسلامهم.
وثمّة خطأ آخر، في نظري، أيضاً ارتكبته قيادة (م.ت.ف) هو إعلان الدولة الفلسطينية، لأنَّ دولة بلا أرض هو طرح بلا سقف، دولة قيمتها أنّ رئيس الدولة يُستقبَل استقبال رؤساء الدول، أن تكون من قبيل: "ألهى بني تغلب عن كلّ مكرمة" وذلك أن تتحوّل الثورة إلى دولة معناه إبطال تأثيرها بأن تكون حركة، فتصبح بالتالي خاضعة لمنطق الدولة، الذي يخضع بدوره لمنطق التوازنات في الحسابات السياسية وسواها، والذي من شأنه أن يضيّق من هامش الحركة، إن لم يكبّلها ويمنعها مطلقاً. هناك أخطاء كبيرة، لكنّ الخطأ الأكبر هو أن ندخل في حرب حول شرعية أو عدم شرعية (م.ت.ف)، لأنّه لو وُلِدَت شرعية أخرى وثانية وثالثة فسيكون التعاطي الإسرائيلي والأميركي معها بالطريقة نفسها.
تقصير الكنيسة العربية
د. إبراهيم صهيون:
ـــ أعود للسؤال الذي تفضّل به الزميل، أنّ الكنيسة العربية مقصّرة كثيراً، فهناك السينودوس اللبناني بالنسبة للكنيسة مهمّ جداً، فالأب بشارة الراعي تحدّثت معه حول هذا الموضوع نفسه، وأرجو أن يظلّ الحوار مهمّاً بهذا المستوى.
أنا تحدّثت معه، لكنّ المشكلة أنّ الكنيسة اللبنانية ـــ وأنا لا أريد أن أدخل في موضوع الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية، حتّى لا تعتبر على الطريقة اللبنانية تدخُّلاً في الشؤون الداخلية ـــ لكنّ الحقيقة أنّ الكنيسة الغربية لا تمثّل القضية الفلسطينية لها شيئاً ولو واحد في المئة. مع الأسف هذا فكر تختزنه الكنيسة بالعمق كخطّ سير، لذلك إذا كنتم تلاحظون في اجتماعات مجلس المطارنة دائماً وربّما في بعض تصريحات البطريرك، عندما يتحدّث عن الجنوب يتحدّث عن آلام الجنوب الناتجة من المقاومة وليس من "إسرائيل"، ويتحدّث عن التوطين لا باعتباره مشكلة تمسّ الشعب الفلسطيني، لأنّه سوف يستقرّ خارج نطاق أرضه، وإنّما من ناحية الوضع الطائفي.
لذلك أنا أعتقد ـــ طبعاً السينودوس فيه علمانيون ودينيّون ـــ أنّ مهمّة العلمانيين المنفتحين والفلسطينيين بالذّات، هو الدخول مع المثقّفين المسيحيين، سواء في الكنيسة الغربية أو الشرقية، في حوارٍ دقيق ينطلق من المفاهيم المسيحية ومن الواقع، من أجل تغيير الواقع بأدوات الواقع.
فرصة غنيّة
أنيس الصايغ:
ـــ الواقع أنّ سماحة العلاّمة موسوعة في أمور كثيرة وليس كتاباً مختصّاً في موضوع واحد، إنّه بالنسبة لنا جميعاً موسوعة في الفكر والثقافة والحضارة والمجتمع وفي كلّ أمور الحياة. حبَّذا لو تلطَّف سماحته وسمح لنا بجلسة أخرى في موعدٍ قادم، يحدّد في ما بعد نستفيد منه ونستقي منه المعلومات والإرشادات كما استقينا اليوم معلومات وإرشادات في موضوع فلسطين.
إنَّ سماحة العلاّمة خطفنا ويخطفنا بمحبّته دائماً، ومن هذا الواقع نأمل أن يلبّي دعوة الأخوة في يومٍ قادم ويسمح لنا بأنْ نلتقيه ونستمع إليه حول أمورٍ أخرى.
إنَّني أشكر الأخ الدكتور صايغ والدكتور رفعت نمر وأشكركم جميعاً، لأنّها فرصة غنيّة بالنسبة لي، وأحبّ أن أقول إنّي استفدت كثيراً منها وأنا أشعر بأنّ هذه الجلسات مع مثل هذه النخبة تغني عقل الإنسان، ولذلك أقول: إنّي سعيد جداً باللّقاء معكم أكثر من مرّة. إنْ شاء الله.
هل دجّنت الاتّفاقات الإسلاميين؟!(*)
للحديث مع سماحة العلاّمة السيّد محمد حسين فضل الله سمات قلّما وجدت في شخصيات سياسية ودينية، فهو عالِم دين من الطراز الأوّل وفي الوقت ذاته رجل سياسة من الطراز نفسه، يتمتَّع بوقار عالِم الدين وحنكة عالم الدنيا، تَحَار من أين تبدأ الحديث معه، يداهمك الوقت لتكتشف أنّ الوقت المخصّص للمقابلة وضعفه قد انتهى وأنت لم تطرح أسئلتك كلّها، فتودّ وأنتَ تطمح بمقابلة جديدة وتعذره لتعدّد مهامه ومتابعاته لشؤون محبّيه ومراجعيه.
ـــ تشهد منطقتنا العربية حالة انهيارات وتوقيع اتّفاقات مع العدوّ الصهيوني، وبصفتكم أحد المراجع الدينيّة، ما الحكم الشرعي لمثل هذه الاتّفاقات من وجهة النظر الدينيّة؟
إنَّ العنصر الأساسي في المشكلة هو أنّ الاعتراف بشرعية وجود "إسرائيل" كدولة يهودية على أرض فلسطين هو أمر محرَّم شرعاً لنقطتين:
الأولى: فقهية بالمعنى القانوني للمسألة، فإنَّ الفقهاء مجمعون على أنّه لا يجوز التصرّف في مال امرئٍ مسلم إلاّ برضاه ولا يجوز تملّكه إلاّ بموافقته، ومن هنا فإنَّ استيلاء اليهود على أرض المسلمين وغير المسلمين الداخلة في عهد المسلمين بالقوّة، هو أمر غير شرعي، حتّى ولو دخل اليهود في الإسلام، لأنَّ هذا ما لا نقبله من المسلمين فكيف نقبله من غير المسلمين؟! فلا يجوز لمسلم أن يتصرّف في مال مسلم إلاّ بإذنه.
الثانية: هي سيطرة غير المسلمين على بلاد المسلمين، فنحن نقرأ في القرآن الكريم: {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء : 141]، وقد فسّرت هذه الآية بأنّها تشمل أيّ سبيل، بمعنى السلطة والحقّ الذي يجعله الكافر لنفسه على المسلمين، فإنّ ذلك مرفوض إسلامياً، وإذا كان المسلمون يخضعون لغير المسلمين في بعض البلدان فإنّ ذلك لا يمثّل حالة طبيعية في منهج السلوك الإسلامي، بل يمثّل حالة اضطرار؛ ولذلك فإنّ سيطرة اليهود على المسلمين في فلسطين ومصادرتهم لأرض المسلمين لحسابهم، هو أمر مرفوض من ناحية القاعدة الإسلامية.
على هذا الأساس، لا يمكن لأيِّ مسلم أن يعترف بشرعية هذا الوجود، لأنّه لا يمكن لمسلم أن يحلِّل الحرام، كما لا يمكن لمسلم في العالَم أن يعترف بحليّة الغصب، غصب الأرض وغصب السلطة. هذا بالإضافة إلى العناوين الأخرى، التي يمكن أن تحدث من خلال شرعية الوجود الإسرائيلي وهو سيطرة اليهود على مقدّرات المسلمين في المنطقة العربية والإسلامية، باعتبار أنّ هذه الاتّفاقات تتحوَّل بفعل الضغط الأميركي، الذي يريد للصلح أن يسير جنباً إلى جنب مع التطبيع، الذي يشمل كافّة العلاقات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية والأمنية.
ما تقدَّم بفعل الواقع الذي يعيش فيه العالَم العربي يمثّل حالة انعدام الوزن أمام التحالف الأميركي ـــ اليهودي الاستراتيجي، ممّا يربك كلّ الواقع العربي والإسلامي ويؤدّي في النتيجة إلى إذلال المسلمين. وهذا أمر غير مسموح به في الخطّ الإسلامي، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون : 8] وقد فسَّره الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) بقوله: "إنَّ الله فوَّض إلى المؤمن أموره كلّها ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً"(1).
وفي ضوء ذلك فإنَّنا كمسلمين، لا يمكن لنا أن نعترف بشرعية الوجود الإسرائيلي، سواء من حيث السلطة أو من حيث السيطرة على الأرض وعلى المسلمين الذين يعيشون هناك. والقضية لا ترتبط بالإسلاميين الحركيين، بل إنّها تتّصل بكلّ مسلم يحترم إسلامه إذ لا يجوز لأيِّ مسلم أن يقرّ بشرعية الغصب، كما لا يجوز أن يقرَّ بشرعية الزنى.
مشروعيّة السلم... متى؟
ـــ هناك مَن يفسّرون التصالح مع العدوّ الصهيوني ببعض الآيات القرآنية، ومنها {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال : 61] فهل هذه التفاسير صحيحة؟
إنَّ هذه الآية تتحدّث عن مسألة إنهاء الحرب، عندما يكون إنهاء الحرب في مصلحة القوّة الإسلامية أو في مصلحة التوازن الواقعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي للحياة الإسلامية، من دون أن يقدّم المسلمون أيّة تنازلات حيويّة استراتيجيّة لمصلحة العدو، لأنَّ معنى ذلك أنّ العدو سوف يربح بالسلم ما لا يربحه بالحرب. إنَّ السلم مشروع في الإسلام كعنوان لإنهاء الحرب، عندما يكون هناك مصلحة في السلم، لا في وجود مفسدة فيه. ولا يمكن لأيّة قيادة إسلامية أن تقدّم التنازلات للأعداء، وهذا كان وعي الصحابة في عهد الرسالة، عندما كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقدّم بعض التنازلات التكتيكيّة لمصلحة الخطّة الاستراتيجية، فإنّ المسلمين كانوا يقفون ويقولون: إنَّنا لا نعطي الدَّنِيّة في ديننا، وإنَّنا كنّا لا نتنازل لهم قبل الإسلام فكيف نتنازل لهم بعد أن أعزَّنا الله بالإسلام؟! لذلك فإنّ هذه المقولة ليست دقيقة في هذا المجال، باعتبار أنّ السلم هنا يعطي "إسرائيل" الحقّ في امتلاك الأرض الفلسطينية وفي تشريد الشعب الفلسطيني وفي الضغط عليه داخل ما يسمّى بالأراضي المحتلة، بالمستوى الذي يبقى فيه تحت احتلاله من الناحية السياسية والاقتصادية، لتبقى له حريّة إدارة شؤونه البلدية، لأنّ "إسرائيل" تصرِّح علناً أنّها لا توافق على الدولة الفلسطينية، كما أنّ أميركا تصرِّح بالمعنى نفسه.
إنَّ الجنوح للسّلم، إنّما يكون في الحالات التي يؤدّي فيها السلم إلى توازن الحياة الإسلامية، من دون تقديم أيّة تنازلات لمصلحة العدو، بالمستوى الذي يمثّل هزيمة المسلمين أمام العدوّ.
حرب الاستكبار على الإسلام الحركي
ـــ بوصفكم المرشد الروحي للمقاومة الإسلامية في لبنان، والآن تشكّل الحركات الإسلامية رأس الحربة في التصدّي لمشاريع التنازل والتسوية وكانت آخر نشاطاتها قيام مجاهدي حركة حماس بتنفيذ عملية تل أبيب البطولية، والتي قام لها العالَم ولم يقعد تضامناً مع قتلى العدو، فما رؤيتك لمستقبل المعارضة الإسلامية للتسوية؟ وما تقييمكم لأنشطة حركة حماس الجهادية ضدّ العدو؟
بالنسبة لمستقبل المعارضة الإسلامية، فإنَّنا قد نلاحظ أنّ هناك مشاكل وتعقيدات سوف تواجهها في أكثر من موقع ولاسيّما في مواقع جهادها الطبيعية في الدائرة الفلسطينية واللبنانية المنفتحة على الدائرة الفلسطينية، لأنَّ هناك حرباً عملية ضدّ الإسلام الحركي المنفتح على قضية الحكم الإسلامي وعلى واقع يعيش فيه المسلمون العنفوان الإسلامي، في كلّ موقع يمكن أن تتحرَّك فيه القضايا الإسلامية في الشؤون العالمية. وهذا ممّا لا يقبله الاستكبار العالمي المتحالف مع الكفر العالمي والاستكبار الصهيوني، لأنَّ الإسلام في المفهوم الأميركي هو الدين الذي يسترخي، ليمنعهم من مواجهة الاستكبار والكفر والظلم والطغيان وما إلى ذلك، والذي يستسلم للأمر الواقع ويتحرّك في خطّ الاعتدال، الذي يمثّل التحرّك بالطريقة الهادئة العاقلة، التي لا تزعج مستكبراً ولا ظالماً ولا طاغية، ولا تدعو لتغيير الواقع لمصلحة الإسلام، ولا تفكّر في تطبيق الشريعة الإسلامية وما إلى ذلك من الكلمات الدائرة في الإعلام الاستكباري، التي تصنّف الإسلاميين الحركيين في خانة المتطرّفين أو المتعصّبين والإرهابيين بفعل نشاطهم الجهادي هنا وهناك.
إنَّني أعتقد أنّ هناك مشاكل كثيرة سوف تواجه الإسلاميين في كلّ مواقع العالَم، ولاسيّما في الموقع الفلسطيني، لأنّ الموقع الفلسطيني يمثّل الموقع الاستراتيجي، الذي يمكن للولايات المتحدة المتحالفة مع "إسرائيل" أن تضرب ضربتها القاضية لكلّ المنطقة من خلال سقوطه، لترضخ تحت النفوذ الأميركي ولتتحوَّل المنطقة إلى مزرعة للسياسة والمصالح الأميركية، لأنَّ القضية الفلسطينية كانت تختصر كلّ الصراع ضدّ الاستكبار العالمي والصهيوني في النصف الأخير من هذا القرن، ممّا يؤدّي إلى شدّ حركة الصراع. وهذا ما عبَّر عنه أحد قادة العدو عند توقيع اتّفاق غزّة ـــ أريحا، بانتهاء الصراع الفلسطيني ـــ الإسرائيلي الذي هو قاعدة الصراع العربي ـــ الإسرائيلي: "إنَّ الصراع العربي الإسرائيلي يسقط بسقوط الصراع في دائرة فلسطين".
لذلك نجد هذه الشراسة وهذه الوحشية على المستوى الإعلامي والسياسي والأمني ضدّ الإسلاميين، الذين ما يزالون يقفون بكلّ قوّة في فلسطين وفي لبنان، ممّا يجعل وزير خارجية العدوّ يتحدّث قبل أيّام على أساس دعوة العالَم لمحاربة حز//ب الله وحركة حماس ونجد أنّ رئيس أميركا كلينتون بعث برسائل في هذا الإطار إلى قادة العالَم.
إنّ المسألة تمثّل خطورة فوق العادة، لأنّهم شعروا في الآونة الأخيرة أنّ الاتّفاقات قد استطاعت أن تدجّن الإسلاميين أو تجعلهم يسترخون ويتراجعون أو يتعبون أمام الأوضاع الجديدة، التي فرضت على الفلسطينيين في هذا المجال. ولذلك كانت المفاجأة الكبرى في العمليّتين النوعيتين، اللّتين قامت بهما حركة المقاومة الإسلامية حماس من خلال خطف الجندي الإسرائيلي، بحيث أصبح الجنود الإسرائيليين لا يشعرون بالأمن مخافة أن يُخْطَفوا مِن قِبَل المجاهدين الفلسطينيين في أيّ وقت، وفي العملية الاستشهادية في تل أبيب التي استطاعت أن تخترق الواقع الأمني الإسرائيلي، لتنفّذ هذه العملية الجريئة البطولية وفي قلب السلطة الإسرائيلية، ممّا يعني أنّه ليس هناك مكان آمن في "إسرائيل".
إنَّنا نشعر بأنَّ هذه العملية قد زادت الضراوة الوحشية، التي كان يتحرّك بها المستكبرون؛ لذلك فإنّنا نعتقد أنّ على الإسلاميين أن يدرسوا الواقع بكلّ عمق وبكلّ دقّة وأن يستشرفوا المستقبل، حتّى يستطيعوا التحرُّك من خلال خطّة تتحرَّك في الحاضر، لتنفتح على المستقبل مع الأخذ بالاعتبار كلّ الاحتمالات، التي يمكن للاستكبار العالمي وربيبته "إسرائيل" ولحلفائه من الرجعية العربية أن يقوموا بها.
إنَّني أعتقد أنّه من الضروري في هذه المرحلة أن ينطلق الإسلاميون، ولاسيّما في فلسطين ولبنان، في عملية وحدويّة؛ ولا أقصد المعنى المصطلح في الوحدة ولكنّ الوحدة في الموقف والخطّة والتخطيط وما إلى ذلك. وفي الوقت نفسه لا بدّ من التحرُّك على أساس وحدة الحركة الإسلامية في مواجهة التحدّي، حتّى لا تنطلق حركة إسلامية بمفردها في هذا الموقع أو الموقف، لتضعف الحركة الإسلامية في الموقع الآخر، من خلال الأخطاء التي قد تقع فيها؛ أو أن تنطلق الحركة الإسلامية هنا بما يضرّ الحركة الإسلامية هناك، لأنَّ الساحة لا تقتصر على الجانب الجهادي على مستوى القوّة، بل تنطلق من المسألة السياسية والإعلامية والأمنية.
إنَّني أعتقد أنّهم لم يستطيعوا إسقاط الإسلاميين وإنْ كانوا يملكون الكثير من وسائل الضغط، لأنَّ الإسلاميّ الحركيّ قد انطلق من القمقم ولن يرجع من جديد إليه. وهذه العملية، التي نفّذتها حماس في تل أبيب، تدلّل على الرشد الأمني، الذي أصبحت حركة المقاومة الإسلامية حماس تتميَّز به وأعتقد أنّ "إسرائيل" تشعر بخطورة الخبرة الأمنية أكثر ممّا تشعر بخطورة الخبرة العسكرية، لأنّها تعرض عضلاتها الأمنية من خلال الموساد على العالَم، لتوحي للعالم بأنّها قادرة على اكتشاف كلّ شيء قبل حدوثه من خلال مخابراتها. وها هي المقاومة الإسلامية في فلسطين والمقاومة الإسلامية في لبنان تتفوّقان بكثيرٍ من العمليات، التي تختزن وعياً ورشداً أمنياً بالدرجة التي تفاجئ "إسرائيل" في كلّ موقع من مواقعها.
المستقبل الصعب
ـــ مع تتالي التوقيعات على معاهدات مع العدو، ما رؤية سماحتك لمستقبل المنطقة؟
أتوقّع مستقبلاً صعباً للمنطقة، لأنَّ الذهنية التي انطلقت منها هذه التوقيعات كانت ذهنية الشعور بالضعف أمام الموقع السياسي الضاغط على كلّ الواقع العربي، وبالتالي فإنّ ذلك قد تحوَّل إلى ضعف أمام الصهيونية. وعلى ضوء هذا، فإنَّ "إسرائيل" في برنامجها التوسّعي على مستوى الساحة السياسية والاقتصادية والأمنية، سوف تعمل على العبث بكلّ المواقع الحيوية للواقع العربي والإنسان العربي والمسلم، لذلك فإنّنا سوف نصادف مشاكل كثيرة في داخل هذا الواقع. وإذا كان لهذه المشاكل سلبية معيّنة من جهة، فإنّنا نجد أنَّ لها إيجابية بأنّ الناس يفهمون الآن "إسرائيل"، عن بعد. أمّا بعد التسوية فإنّهم سوف يفهمونها عن قرب وسوف ينتج لنا هذا الواقع الصعب الحركة الجديدة في الصراع مع الصهيونية لجولةٍ جديدة ولمستقبلٍ جديد {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87].
مجتمعون على كتاب الله وسنّة رسوله
ـــ لتحصين الحركة الإسلامية في كلّ المواقع وجعلها أكثر فعالية هناك ثغرة قد تحاول القوى المعادية النفاذ منها لزرع الشقاق والفرقة بين المسلمين وهي الاختلاف المذهبي بين الحركات الإسلامية، فما رؤية سماحتكم لمشاريع التقريب بين المذاهب الإسلامية السُنّة والشيعة؟
عندما نريد أن ندرس قضية الاختلاف المذهبي، سواء بين المسلمين بشكلٍ عام أو بين الحركات الإسلامية المتحرّكة في الساحة، فإنَّنا نجد أنّ الاختلاف المذهبي لا يمثّل مشكلة حركية واقعية كبيرة للمسيرة الإسلامية، من خلال الواقع الإسلامي العام أو من خلال الواقع الإسلامي الحركي، لأنَّنا عندما ندرس المسألة بمفرداتها الحقيقيّة الواقعية، فإنَّنا نجد أنّ المسلمين لم يختلفوا على توحيد الله فكلّهم موحّدون بالله؛ وإذا كانت هناك بعض المشاكل الكلامية، التي ربّما يتّهم فيها بعض المسلمين البعض الآخر بالشرك، كما في مسألة التوسُّل بالأنبياء والأولياء أو مسألة الاستشفاع بهم أو مسألة زيارة القبور، فإنَّ هذه أوّلاً لا تمثّل حالة مذهبية، لأنَّ الشيعة والسُنّة يأخذون بذلك؛ وربّما يجد بعض الشيعة تحفُّظات في هذا، كما يجد بعض السُنّة تحفُّظات. وهي على كلّ حال لا تتّصل بالتوحيد من خلال المبدأ وإنّما تتّصل بالتوحيد بملاحظة بعض الجوانب الفلسفية للتوحيد لا الجوانب الشعورية والإيمانية له. فنحن لا نجد أنّ هناك مسلماً واحداً يدّعي أنّ أي نبيّ أو أيّ وليّ هو شريك لله. فالألوهية غاية العبادة حتّى في مثل هذه الطقوس، التي لا توجّه إليهم بالذّات وإنّما توجّه إليهم لقربهم من الله، بعد أن شرّع الله بالشفاعة ولكن على أساس {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء : 28]. وعلى كلٍّ فهو بحثٌ فكري يمكن للمسلمين أن يفكّروا فيه بطريقة علمية. ولم يختلف المسلمون في القرآن وفي الرسالة، فكلّنا نؤمن بأنّ محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم). وما من مسلم في أيّ مكان في العالَم، إلاّ وهو يشهد بالشهادتين. وهكذا لا يختلف المسلمون في القرآن. وإذا كان قد أُثير في بعض الكلمات، انطلاقاً من بعض ما ينقل من أحاديث في هذا الكتاب أو ذاك، فإنَّنا نعتقد أنّه منذ عهد الرسالة حتّى الآن لم يجد المسلمون في أيديهم قرآناً غير هذا القرآن وقد يتحدّث النّاس عن مصحف فاطمة، وقد يرى بعض الناس أن هناك تحريفاً أو ما أشبه ذلك ولكنّه حديث في الكتب، وليس هناك شيء اسمه مصحف فاطمة في العالَم، حتّى عند الشيعة أنفسهم. وليس هناك قرآن غير هذا القرآن، حتّى يقولوا إنّ القرآن حرّف أو زيدت كلمة في هذه الآية أو نقصت آية، ليس لهم في بيوتهم غير هذا القرآن، والشيعة مجمعون على الأقلّ من ناحية علمية على أنّ هذا الكتاب هو كتاب الله، الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت : 42] ونحن نروي في أحاديث كثيرة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّهم قالوا: "كلّ شيء مردود إلى كتاب الله والسُنّة وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"(1). وهذه موجودة في كلّ كتب الشيعة في هذا المجال.
أمّا الشيعة فلا يضمنون صحّة كلّ أحاديثهم الموجودة في الكتب، فليس عندنا ما يشبه صحيح البخاري أو صحيح مسلم فكلّ الكتب المحتوية على الأحاديث قابلة للنقاش. ومن هنا تجد حتّى كتاب الكافي، لو أنّك اطّلعت على شرحه من قبل المسمّى بمرآة العقول للمجلسي، لرأيت أنّه يشير إلى أنّ هذا الحديث مرسل وهذا ضعيف وهذا حَسَن وهذا صحيح وما إلى ذلك، لذلك فإنَّني أعتقد أنّ هذا الجدل، الذي يتكرَّر دائماً بأنّ الشيعة يقولون بتحريف القرآن وأنّ لهم قرآناً غير هذا القرآن وما إلى ذلك، هذا الجدل لا بدّ أن يأخذ مجاله من الحوار المباشر بين الشيعة والسُنّة وأن تؤخذ الصورة من كلّ الواقع الموجود في العالَم الشيعي. لم يصحّ أنّ أحداً اكتشف أنّ هناك قرآناً يختلف عن هذا القرآن في هذا المجال. وإذا كان بعض الناس يقولون بأنّ الشيعة يتّخذون سبيل التقيّة من خلال هذا المصحف فأعتقد أنّ كلّ تراث الشيعة قد طبع بكلّ ما فيه من سخافات أو إصابات أو أخطاء، ليس هناك كتاب ألّفه أيّ شيعي، حتّى الكتب التي يتقزَّز منها الواعون من الشيعة، إلاّ وقد طبعت: لذلك ليس هناك تقيّة الآن عند الشيعة، لأنَّ التقيّة كانت حركة تنطلق من واقع معيّن، لأنَّ الوضع السياسي كان لا يسمح للشيعي بأن يعبّر عمّا في نفسه، أمّا الآن فليس هناك مجال للتقيّة كليّة ولعلّ ملاحظة الإنسان للمطبوعات الشيعيّة والتي فيها الغثّ والسمين موجودة في بيروت وفي كلّ مكان في العالَم.
في قضايا الحيويّة لا فرق بين السُنّة والشيعة
أمّا في الفقه الإسلامي فإنَّ الشيعة يعتمدون على كتاب الله وسُنّة رسوله، كما يعتمد السُنّة على كتاب الله وسنّة رسوله. وقد يختلفون كما يختلف السنّة في أنّ هذا الحديث وارد عن النبيّ أم غير وارد عنه. قد يختلفون في فهم هذه الآية، كما يختلف السُنّة في فهم هذه الآية القرآنية بطريقة معيّنة أو فهمها بطريقة أخرى. لذلك أعتقد أنّ الحوار العلمي الموضوعي، الذي ينطلق من خلال العلماء، هو الذي يحلّ المشكلة الشكليّة بين السُنّة والشيعة. قد يختلف الشيعة والسنّة ـــ وهذا هو الأساس في الخلاف ـــ في مسألة الخلافة، هل هي لأبي بكر أم لعليّ؟ وهذا أمر طواه الزمن من حيث الأشخاص وبقيت النتائج. هل قول عليّ حجّة يملك أن نأخذ به مثلاً، هل قول أبي بكر ومن بعده حجّة أم لا؟ إنّه بحث في الحجّية لأنّ أبا بكر والخلفاء من بعده انتقلوا إلى رحاب الله، وعليّ انتقل إلى رحاب الله، فليست هناك مشكلة ـــ الآن ـــ فيمن هو الخليفة، إنّما هي المشكلة في الجانب الفكري، الذي يمثّله عليّ أو يمثّله الخلفاء الآخرون. وتبقى المسألة مسألة فكرية في هذا الجانب. ربّما يقدّس بعض المسلمين بعض الشخصيات الإسلامية بطريقة لا يقدّسها بها الآخرون ولكن هذا لا يوجب كفراً، قد يوجب حالة غير طبيعية من الناحية الشعورية لدى هذا أو ذاك، مثلاً إذا كان المسلمون الشيعة لا يقدّسون الصحابة بالطريقة التي يقدّسهم بها المسلمون السُنّة، فالمسلمون السُنّة لا يقدّسون أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بالطريقة التي يقدّسونهم بها الشيعة، ولذا فإنَّ هذه المسألة تتّصل بجوانب بعضها فكري في الأسس، التي انطلق فيها تقديسنا أو عدم تقديسنا أو في الخطوط التي انطلقت من هنا أو هناك.
إنَّنا عندما نريد أن ننطلق من الواقع، نجد أنّ المسألة السياسية التي تتّصل بالمسألة الإسلامية في كلّ القضايا الإسلامية الحيويّة، لا تجعل هناك فرقاً بين السُنّة والشيعة في مسألة التحدّيات، التي يواجهها المسلمون جميعاً من الاستكبار العالمي والاستكبار الصهيوني والظلم الداخلي، وليس هناك فرق بين السُنّة والشيعة الحركيين في أنّهم جميعاً يدعون إلى تمكين الإسلام وإن اختلفوا في بعض المفردات. ليس هناك فرق بين السُنّة والشيعة في مسألة شروط الجهاد، التي لا بدّ من الأخذ بها، ليس هناك فرق بينهم في المسألة اليهودية وفي المسائل الأخرى.
إنّا نعتقد أنّ الخلاف المذهبي بين السُنّة والشيعة لا يمكن أن يؤثّر سلبياً على الحركية السياسية والجهادية، التي يأخذ بها المسلمون الحركيّون، لأنّ المسلمين ـــ سواء أكانوا من مدرسة أهل البيت أو مدرسة الصحابة ـــ لا يختلفون في القضايا الأساسية في هذا المجال. وإذا أردنا أن ندرس الفقه الإسلامي لدى السُنّة والشيعة فإنَّنا لا نجد رأياً سنيّاً إلاّ وإلى جانبه رأي شيعيٌ يوافقه، والعكس صحيح لذلك فإنَّني أدعو كلّ المسلمين من السُنّة والشيعة ـــ ولاسيّما الحركيين منهم ـــ إلى أن يتخلَّصوا من الانفعال الشعوري في نظرتهم إلى الجانب الفكري من الخلافات وإلى أن يواجهوا الواقع، الذي تهتزّ فيه الأرض تحت أقدامنا وليفهموا أنّ الواقع في التحدّيات هو واقع التحدّيات ضدّ الإسلام وأهله، وليس ضدّ المسلمين السُنّة أو الشيعة؛ وفلسطين وأفغانستان لا نستطيع أن نعتبرهما قضيّة سنيّة بينما إيران قضيّة شيعيّة، لأنَّنا عندما ندرس موقف الاستكبار العالمي من هذه المواقع فإنَّنا نجد أنّه موجّه ضدّ الإسلام الحركي، الذي تتحرَّك فيه هذه الفصائل أو هذه المواقع. إنَّنا عندما استمعنا في الأيام الماضية إلى وزير الخارجية الأميركي، فإنّه كان يتحدّث عن المقاومة الإسلامية ـــ حماس ـــ وعن المقاومة الإسلامية ـــ حز//ب الله في لبنان ـــ والمفروض أنّ أكثرية المقاومة الإسلامية في لبنان شيعيّة، وأكثرية أو كلّ المقاومة في فلسطين هي سنيّة، ومع ذلك فإنّ الاستكبار العالمي لم يفرّق بين حركة إسلامية شيعيّة جهادية هنا، وحركة إسلامية سنيّة، جهادية هناك. هذا يعني أنّ التحدّي واحد وأنّ الحرب المعلنة لا تأخذ الخصوصيّة السنيّة أو الخصوصيّة الشيعيّة في هذا المجال وإنّما تأخذ الخصوصيّة الإسلامية.
لذلك لا بدّ لنا من أن نعيَ هذه المسألة ولا نشغل أنفسنا في خلافات فرعية وغيرها. ويبقى لنا بعد أن نربح في فلسطين وبعد أن نقيم حكم الله في الأرض، يمكن لنا أن نختلف على المذهب الحنبلي أو الشافعي أو الجعفري أو غيره، يمكن لنا عندما نحصل على الأرض وعلى الموقع، يمكن لنا بعد ذلك أن نختلف على ما اختلفنا فيه.
حاوره: مصلح الهباهبه
الفصل الخامس:
سماحة آية الله العظمى السيّد محمّد حسين
فضل الله يحاور في الدائرة الشيعيّة حول:
التراث ـــ القيادة ـــ الخلافة ـــ الإمامة ـــ الولاية ـــ الثابت والمتغيّر ـــ الخطاب الإسلامي ـــ الانفتاح والانغلاق ـــ الاجتهاد ـــ المرجعيّة ـــ تعدُّد المرجعيّة ـــ ولاية الفقيه
بين ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل(*)
تميَّز النتاج والفكر الإسلامي الشيعي ـــ عبر التاريخ ـــ بالنضج والغزارة والإبداع، وشكَّل بذلك تراثاً ضخماً لعموم الفكر الإسلامي، غير أنّ هذا التراث وتاريخ المسلمين الشيعة ودور علمائهم ومراجعهم لم يكتب كما ينبغي ولم يجرِ تطويره، تماماً، بما يتلاءم وروح العصر ومستجدات الحياة ومتطلِّباتها.
لذا ارتأت "الموسم" أن تلتقي سماحة العلاّمة السيّد محمد حسين فضل الله، أحد كبار العلماء المسلمين الشيعة في لبنان، لتستوضح منه الرأي حول تلك القضايا المهمّة فكان الحوار التالي:
ـــ بماذا تفسِّرون التراث؟
التراث كمصطلح يمثّل النتاج الفكري، بمختلف مدارسه وأساليبه، وهو ما تركه السابقون كإرث للأجيال. والتراث يمثّل مجمل التاريخ الفكري، بمختلف مدارسه وأساليبه وبكلّ سلبياته وإيجابيّاته، في ما هي عناصر ومظاهر التخلُّف أو التقدُّم الفكري وما يمثّله من الإبداع في المجالات الفكرية العامّة، ولذلك فإنَّنا عندما نريد أن ننظر إلى تراثنا فإنَّنا نراه يمثّل جزءاً من تاريخنا، وجزءاً من المؤثّرات التي استطاعت أن تترك تأثيراتها السلبية أو الإيجابية في وعينا وفي شعورنا وفي الرواسب الكامنة في أعماقنا تجاه القضايا والأشخاص والأوضاع، ومن هنا تأتي أهمية النظرة الإيجابية إلى التراث، كموقع من مواقع الدراسة العامّة النقدية على أكثر من صعيد.
ـــ ما موقفكم الخاص من التراث، وهل كلّ قديم يُعَدّ تراثاً؟
من الطبيعي، أنّنا عندما نريد أن نقف عند مصطلح الكلمة، فإنّ كلّ ما تركه الآخرون يمثّلُ تراثاً. أمّا قيمة هذا التراث فإنَّ القِدم لا يصلح أساساً لتقديره إيجابياً، على أساس أنّ كلّ قديم يمثّل قداسة خاصّة في وعينا، ولكنّ الله علَّمنا أن ندرس كلّ شيء، من خلال ما نملكه من المقاييس العقلية والإسلامية، التي تميّز بين الصحيح والفاسد.
إغفال التراث أو الاستغراق فيه خطأ كبير
ـــ ما رأيكم في التراث من حيث قيمته، وهل يحقّ لأحد مصادرة التراث؟.. وفي تقديركم ماذا نأخذ منه وماذا نترك؟
هناك اتّجاهان متطرّفان في هذه المسألة؛ فهناك مَنْ يدعو إلى مصادرة هذا التراث وإهماله كليّاً، باعتبار أنّه يعطّل نموّنا وتقدّمنا الفكري، لأنّه يجعلنا مشدودين إلى فكر الماضي وأسلوبه وآفاقه، بحيث يخلق لنا شخصية تاريخيّة، تنظر للحاضر بعين الماضي وتعتبر التاريخ أساساً لكلّ النظرة العامّة للأحداث والمتغيّرات وبذلك يضع التراث شخصيّتنا في قالب جامد، تحاصرنا فيه كلّ أفكاره وكلّ قواعده وكلّ أوضاعه وأساليبه؛ ولذلك فإنّ هؤلاء يقولون إنّ علينا أن ننطلق إلى جوّ الحداثة، الذي ينفتح على تطوّرات العصر، ليشنأ لدينا فكر جديد ينطلق من المعاناة الفكرية المعاصرة وينشأ عندنا أسلوب جديد في ما استحدثه التقدُّم الفكري في دائرة الأساليب. وهكذا تولد لدينا شخصية جديدة تملك الحداثة في قاعدتها الفكرية وفي تطلُّعاتها الروحية، لنستطيع أن نعيش عصرنا من خلال خصائص هذا العصر ونستطيع أن نواكب حركة التطوُّر في العالَم من حيث أخذنا بكلّ وسائل هذا التطوّر، ولذلك فإنَّ علينا أن نعتبر التراث، فكر الماضين، الذين عاشوا خصائصهم الفكرية وأخلصوا لها وعلينا أن نحقِّق نتاجاً جديداً لفكرنا، من خلال ما نعيشه في عصرنا.
وهناك رأي آخر متطرِّف يدعو إلى الاستغراق في التراث، وذلك بأن نعتبر الذين تقدَّمونا من علماء ومفكّرين وفلاسفة هم أقرب إلى الحقيقة، باعتبار أنّهم أقرب إلى مصادرها ومنابعها في الرموز الروحية والفكرية، التي كانت تجسّد لنا الحقيقة ـــ ولاسيّما الحقيقة الإسلامية ـــ وهكذا نجد أنّ هذا الاتّجاه يقول: إنّه كلَّما كان الصحابة أو العلماء أو المفكّرون أقرب إلى العصر الأوّل للإسلام أو العصر الثاني للإسلام، الذي عاش فيه الأئمّة (عليهم السلام)، كلّما كانوا أقرب إلى الحقيقة؛ ولذلك فإنَّ علينا أن ننفتح على التراث وأن ننظر إلى الواقع من خلال المفاهيم التي يُؤكّدها هذا التراث ـــ سواء في نظرته الفقهية أو الكلامية أو الفلسفية أو السياسية أو الاجتماعية ـــ وعلينا أن نرفض كلّ ما جاءت به المعاصرة والحداثة من أفكار وأساليب، لأنّها انطلقت من مواقع كافرة، تعتبر المادّة أساساً وقاعدة فكرية وتتحرَّك في مفاهيم الضلال التي تغفل دور الحقائق الدينية، ولاسيّما الإسلامية، وذلك في دائرة العلمانية، ولهذا فلا بدّ أن يحكم الماضي الحاضر. وهناك فكرة في تأكيد هذا الاتّجاه تقول: "ما ترك الأوّل للآخر من شيء" في مقابل من يقول: "كم ترك الأوّل للآخر".
نحن عندما نواجه هذه المسألة بطريقة علمية واقعية فإنَّنا لا نقف مع الذين يهملون التراث بالكليّة ولسنا مع الذين يؤكّدون أنّ التراث هو كلّ شيء، بحيث يقف التقدُّم عنده. إنَّنا ننظر إلى التراث على أساس أنّه يمثّل الخطوط الفكرية المتنوّعة في قواعدها وأساليبها ومضمونها، من خلال اجتهادات الذين حرَّكوها، سواء كان ذلك في المجال الكلامي أو الفقهي أو الفلسفي أو السياسي، أو في المجالات الأدبية والفنيّة المتنوّعة.. إنّه جهد الآخرين الذين عاشوا في الماضي؛ وجهد الآخرين لا يمثّل الحقيقة إلاّ من خلال قناعاتهم، في ما يرونه. إنَّنا كمسلمين، نرى الحقيقة في كتاب الله، من خلال أنّه النصّ الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت : 42]، فليس هناك شكّ في أنّ القرآن كتاب الله ولكنّ كلمات القرآن تبقى خاضعة لاجتهاد المفسّرين والعلماء، ممّا لا يسمح لنا التوقّف عند ما اجتهد به العلماء وما فسَّر به المفسّرون القرآن باعتباره يمثّل الحقيقة الكاملة، فقد نستطيع أن نكتشف كثيراً من الأخطاء في هذا التراث، كما اكتشف الذين عاشوا في داخل حركة هذا التراث في الماضي أخطاءَ بعضهم البعض، وهكذا فإنَّنا لا نستطيع أن نعتبر الأفكار، التي انطلقت من خلال الاجتهاد في أحاديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، تمثّل الحقيقة؛ فهناك نقطتان لمعالجة مسألة السُنّة النبويّة الشريفة، هناك منطقة الصدور هل هي من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)؟ والمنطقة الثانية هي منطقة المضمون، كيف نفهم مضمون كلام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من خلال أحاديثه؟ وهكذا بالنسبة إلى الأئمّة (عليهم السلام) في دائرة الشيعة الإمامية، الذين يرون أنّ الأئمّة (عليهم السلام) هم خلفاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وأنّهم معصومون عن الخطأ، فإنّ المسألة هنا هي هل صدر هذا عن الإمام، أو لم يصدر؟ وكيف يصدر؟ وكيف نفهم ما صدر منه؟
ونحن نعتقد، من خلال ذلك، أنّ كلّ ما جاءنا من تراث فقهي وكلامي وفلسفي هو نتاج المجتهدين والفقهاء والفلاسفة والمفكّرين، من خلال معطياتهم الفكرية ولا يمثّل الحقيقة إلاّ بمقدار ما نقتنع به من تجسيده للحقيقة، على أساس ما نملكه من مقاييس الحقيقة؛ وبهذا فإنَّنا نعتبر أنّ كلّ الفكر الإسلامي ـــ ما عدا الحقائق الإسلامية البديهيّة ـــ هو فكر بشري، وليس فكراً إلهياً، قد يخطى فيه البشر في ما يفهمونه من كلام الله وكلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وقد يصيبون. وعلى هذا الأساس فإنَّنا نعتقد أنّه من الضروري جداً أن ننظر إلى التراث المنطلق من اجتهادات المفكّرين ـــ أينما كانت مواقع تفكيرهم ـــ نظرة بعيدة عن القداسة في حياتهم ومؤهّلاتهم الروحية والعملية في حياة الناس الآخرين فيمن قد يكونون على مستوى المراجع أو الأولياء في تقواهم لله سبحانه وتعالى، لأنَّ ذلك شيء ومسألة الفكر شيء آخر. ولذلك فإنَّنا ندعو إلى دراسة التراث دراسة ناقدة، نعيش فيها شخصيّتنا الفكرية ونعيش فيها انفتاحنا الفكري الذي عاشه الأقدمون في ما مارسوه من تجربتهم الفكرية.
ونعتقد أنّ إغفال التراث هو خطأ كبير، كما هو الحديث عن الاستغراق في التراث خطأ كبير. فمن الضروري أن ننفتح على كلّ معطيات عصرنا، سواء تلك التي انطلقت في دائرة الفكر المادي أو التي انطلقت في دائرة الفكر الديني أو في أيّة دائرة من الدوائر الحائرة بين ما هو الدين وما هو الكفر، حتّى ندرس كلّ ركائزها وقواعدها ومعطياتها من موقع الحريّة الإنسانية، التي تبحث عن الأصالة من موقع القناعات الأصيلة للفكر، ومن خلال ذلك لا بدّ من الدخول في المقارنة بين ما لدينا من تراث، استطاع أن يُؤثّر تأثيراً لا شعورياً في تركيبتنا الذهنية والشعورية والعملية، وبين ما عندنا من معطيات فكرية جديدة في الواقع المعاصر، لنستخلص من خلال هذه المقارنة المنهج الجديد الذي يملك الأصالة في مواقعه الفكرية ويملك الحداثة في أساليبه وتطلُّعاته.
إنَّنا ننطلق من فكرة حاسمة، في هذا المجال، وهي أنّ القداسة تكون للحقائق، التي لا يختلف فيها الناس؛ وكلّ شيء يمكن أن يقع فيه الخلاف فلا بدّ للناس أنْ يدرسوه من قاعدة الاستقلال الفكري، الذي يبحث عن الحقيقة من خلال قناعته، وبذلك فإنَّ كلّ شيء قابل للنقد وكلّ شيء قابل للدراسة، وكلّ شيء قابل للانفتاح ـــ سواء كان قديماً أم حديثاً ـــ ونحن عندما ندرس القرآن الكريم، فإنَّنا نجد فيه دراسة لكلّ الماضي ونقداً للكثير منه، وتأكيداً على الحقائق الجديدة وتوجيهاً للإنسان لأن يبقى في حالة انفتاح فكري دائم متحرّك، وتأكيداً لكلّ الناس بأنَّ الجيل الحاضر لا يتحمّل مسؤولية الجيل الماضي، كما أنّ على كلّ جيل أن يكسب فكره وعمله بنفسه، وذلك ما توحي به الآية الكريمة {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة : 134] هنالك إيحاء في الآية أنّ لكلّ أُمّة كسبها، وعليكم أن تكسبوا أنتم كما كسبت تلك الأُمّة وتتحمَّلوا مسؤولية كسبكم، كما تتحمَّل تلك الأمم مسؤولية كسبها ـــ سواء كان الكسب كسباً فكرياً أم عملياً ـــ نحن نعتقد أنّ الذين يتحدّثون عن مصادرة التراث هم المنبهرون بمظاهر الحضارة الحديثة، التي هي نتاج حضارات قديمة، استطاعت أن تركّز لها قواعدها حتّى أمكنها أنْ تتحرَّك وأن تنطلق، وإنّ الذين يتحرّكون في دائرة الاستغراق في التراث هم أناس يعيشون قداسة الماضي ويغفلون عمّا حفل به الحاضر من تطوّرات إنسانية، وإنْ كان للماضي دخل فيها، ولكن كان للطاقات الإنسانية المنفتحة على الله وعلى الحياة وعلى الإنسان الدور الكبير في هذا المجال.
لا بدّ من كتابة تاريخ إسلامي شيعي جديد
ـــ ألاَ تعتقدون أنّ تاريخ الشيعة بحاجة إلى إعادة كتابة بما يتلاءم وروح العصر؟
عندما نتحدّث عن تاريخ الشيعة فإنَّنا نتصوَّر أنّ هناك مشكلة كبيرة في هذا التاريخ، لأنّه لم يكتب بطريقة علمية موضوعية، تراعي موازين الصحّة والخطأ والصواب في هذا الاتجاه. إنَّنا نلاحظ أنّ هناك نوعاً من أنواع الخلل في هذا التاريخ، بحيث أنّنا عندما ندرس تاريخ الأئمّة (عليهم السلام) فإنَّنا نجد أنّ الذين كتبوه كانوا يتحدّثون عن المواقع الغيبية في شخصية الأئمّة (عليهم السلام) في ما هي المعجزات التي ينقلونها، أكثر من الخصائص الذاتيّة لهم، وأكثر من الجوانب الحركية التي تحكم مسيرتهم وعلاقتهم بالأحداث والأوضاع أو الذين كانوا يعيشون في ساحات الأئمّة (عليهم السلام) قريباً منهم. مثلاً عندما ندرس تاريخ الزهراء (عليها السلام) فإنَّنا نجد كتاباً في (بحار الأنوار) يفرد لموضوع زواجها وزفافها في السّماء والأرض حجماً كبيراً من الصفحات. وعندما ننطلق إلى حياة الزهراء، مثلاً كيف كانت مع النبيّ في المدينة أو مكّة، وكيف كان نشاطها؟ فإنَّنا لا نجد إلاّ أحاديثاً صغيرة وصغيرة جداً، وهكذا عندما نواجه أحاديثاً كثيرة عن الأئمّة (عليهم السلام) في تاريخهم الشخصي وفي تاريخهم الحركي والعملي. وهذا ما نلاحظه في محاولتنا لدراسة حياة الأئمّة المتأخّرين، كالإمام الجواد والإمام الهادي والإمام العسكري (عليهم السلام) فإنَّنا نجد نقصاً فوق العادة في المعطيات، بحيث إِنّنا لا نستطيع أن نتمثّل الصورة التفصيليّة لشخصيّاتهم، من خلال ما يكتب في التاريخ، ممّا يجعلنا نشعر بفراغ كبير في هذا المجال. وعندما ندرس أيضاً هذا التاريخ فإنَّنا نجد فيه ركاماً هائلاً لا يميّز بين القضايا التي تمثّل الصورة المضيئة المشرقة للأئمّة (عليهم السلام)، في ما هي خصائصهم الحقيقيّة وبين الصورة الأخرى التي تسيء إلى شخصيّاتهم. فنحن عندما ندرس مثلاً بعض مواقف الأئمّة مع بعض الخلفاء ـــ ولاسيّما العباسيّين ـــ في ما تمثّله سيرة الإمام الصادق أو الإمام الكاظم (عليهما السلام) فإنَّنا نجد هناك أحاديثاً لا تتناسب مع مقام الأئمّة ولا تتناسب حتّى مع أسلوب التقيّة، لأنَّ للتقيّة كما علَّمنا الإمام مواقع معيّنة، وقد نلاحظ بأنّ ما تنقله الأحاديث التي هي غير مؤثّقة غالباً، تبتعد عن هذا المقياس بل تمثّل حالة من الضعف، لا يستطيع الإنسان أن يواجهها بطريقة محترمة، لهذا إنَّني أدعو إلى تنقية تاريخ الأئمّة الذي يمثّل عمق التاريخ الشيعي، باعتبار أنّه يمثّل أساس الفكرة الشيعيّة التي أفسحت المجال للمرجعية التي تحرّكت في دائرة الواقع الشيعي، على هدى واقع الأئمّة (عليهم السلام).
إنَّنا ندعو إلى تنقية هذا التاريخ، بالطريقة التي يختفي فيها التنافر بين ما يحمله الشيعة عن الأئمّة (عليهم السلام) من عقائد وأفكار وبين ما يتمثّل في حياتهم من قضايا وأوضاع، ثمّ نحاول أن نلاحق القضايا التفصيلية الحياتية في حياتهم التي تعطينا صورة حقيقيّة عمّا هي شخصية الإمام (عليه السلام) في ذاته بعيداً عن الجانب الغيبي.. ونحن لا نريد أن نتحدّث عن إهمال الجانب الغيبي ولكنَّنا نتصوَّر أنّ الجانب الغيبي ليس الجانب الأساس في هذه الشخصيات، ولذلك نجد أنّ القرآن لم يتحدّث عن شخصيات النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والأنبياء (عليهم السلام) من الناحية الغيبيّة، بل تحدَّث عن شخصيّاتهم من الناحية العملية الواقعية، في ما كانوا يفكِّرون به وما كانوا يتحرّكون فيه وما كانوا ينطلقون فيه من خلال الدعوة. إنَّنا ندرس القرآن كلّه الذي نزل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ـــ وهو معنيٌّ بأن يؤكِّد شخصية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في ذهنية الناس ـــ باعتبار أنّه يمثّل الرسول الذي أقام دعائم الإيمان بالرسالة على عناصر شخصيّته من خلال علاقته بالله، فإنَّنا لا نجد أيّ شيء غيبيٍّ في هذا المجال، ونحن لا نريد أن نهمل الغيب، كما قلنا فنحن قوم نؤمن بالغيب ولكنّنا نعتبر أنّ الله أعطى الغيب هامشاً صغيراً، حتّى في حياة الأنبياء والأئمّة وليس الهامش الشامل المستغرق في ذلك كلّه.
هذه النقطة لا بدّ أن نلاحظها بشكلٍ دقيق، وإذا أردنا أن نبحث عن إمكان سدّ هذا النقص فقد يقول قائل: ماذا نفعل؟ فالتاريخ لم يترك لنا سوى هذه القضايا المحدودة في حياة الأئمّة، ولم يعطنا فكرة، ربّما لأنّ المؤرّخين كانوا يهتمون بهذا الجانب ولم يهتموا بالجوانب الأخرى، لأنّ المؤرّخين ـــ خصوصاً من الشيعة ـــ كانوا يهتمون بتأكيد مسألة الغيب في حياة الأئمّة، لتأكيد إمامتهم باعتبار تلاقيها مع ذلك الخطّ.
قد يقول قائل هذا، فكيف لنا أن نكمل هذا النقص؟
أتصوَّر، أنّ علينا أن ندرس كلّ كلمات الأئمّة (عليهم السلام) الفقهية والفلسفية والأخلاقية، إضافةً إلى أحاديثهم الخاصّة مع الناس، ممّا تمثّله كتب الحديث الأربعة وغيرها من الكتب التي استطاعت أن تنقل كلّ تراث الأئمّة الفقهي والفكري وما إلى ذلك.. إنَّنا نلاحظ أنّ هذه الأحاديث لم تدخل في الوعي التاريخي الشيعي، بحيث تمثّل نقاطاً تعالج شخصيات الأئمّة (عليهم السلام). إنَّنا عندما نريد أن ندرس مثلاً أحاديث الإمام زين العابدين (عليهم السلام) فإنَّنا نجد أنّ تاريخه (عليه السلام) يتحدّث عن المأساة في كربلاء وعن الدعاء وعن بعض النقاط الأخلاقية، وعن قضية عتقه للعبيد وتنتهي القضية عند هذا الحدّ، أمّا الإمام زين العابدين، كشخصية استطاعت أن تدخل تاريخ الثقافة الإسلامية في تلك المرحلة، من خلال دراسة أسماء الذين درسوا على الإمام زين العابدين وتتلمذوا عليه. إنَّنا نستطيع أن نخرج من خلال دراسة هؤلاء فنجد أنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان أستاذ المرحلة الإسلامية، في ذلك الوقت، بالنظر إلى الذين درسوا عليه في تلك الفترة. وكذلك نجد أنّ للإمام زين العابدين (عليه السلام) كلمات مضيئة تعالج كثيراً من القضايا التي تتحرَّك فيها دائرة الصراع الفكري في واقعنا المعاصر، في مسألة القومية أو الوطنية وما إلى ذلك.
إنَّنا نستطيع أن ندخل كلمات الأئمّة في تاريخهم، باعتبار أنّها تمثّل فكرهم ونظرتهم إلى الأمور، وتُفَسِّر كثيراً من تصرّفاتهم ومواقفهم مع كلّ الناس الذين كانوا يتحرّكون في عصرهم.
وعندما ندرس مثلاً تاريخ الإمام الباقر (عليه السلام)، فإنَّنا نجد أنّ الذين يكتبون هذا التاريخ مثل (الشيخ المفيد) وغيره، يتحدّثون عن الإمام الباقر كمصدر من أوسع مصادر التاريخ فحين نقرأ تاريخ الطبري مثلاً، نرى أنّ كثيراً من الأحداث التاريخية التي كان يرويها الطبري عن المرحلة التي سبقت الإمام الباقر (عليه السلام)، كان ينقل فيها الأحاديث عن الإمام الباقر، باعتباره مصدراً تاريخياً من أوثق المصادر، بينما لا يشير الناس إلاّ إلى الطبري ولا يشيرون إلى مصادر الطبري.
هناك نقاط نستطيع أن نلتقطها، عندما نريد أن ندرس كلمات الأئمّة وأحاديثهم في كلّ المجالات، لنعتبرها في مضمونها، مجسّدة للخصائص الفكرية التي تمثّلها شخصية الأئمّة. ولا مانع أن تكون هذه الخصائص خصائص الرسالة. وعندما نقول إنَّ الأئمّة (عليهم السلام) ينطلقون من الله وينطلقون من الغيب هذا لا يعني أن لا خصائص فكريّة لديهم، غاية ما هنالك أنّهم يختلفون عن الآخرين في أنّ خصائصهم الفكرية هي خصائص الإسلام، وليس فيهم شيء من غير الإسلام، ولكن هذا لا يمنع أن تكون لهم خصائصهم الفكرية والشخصية الذاتيّة.
إنَّنا في دراسة واسعة لكلمات الأئمّة (عليهم السلام) وأحاديثهم، نستطيع أن نكمل بها تاريخهم. هذا من جهة، وعندما نريد أن ندرس أيضاً التاريخ الشيعي في هذا المجال فعلينا أن ندرس حركة التشيُّع، وكيف انطلقت؟ وما المؤثّرات التي استطاعت أن تترك تأثيرها في تكوين شخصيّاتهم ونظرتهم للأمور؟
عندما نريد أن ندرس تاريخ الشيعة وأحاديث الأئمّة (عليهم السلام) مثلاً، حتّى في مسألة الحديث عن آخر الزمان، نستطيع أن نأخذ من ذلك الانطباع بأنّ هناك نوعاً من الانفعال الشيعي، الذي كان يسيطر على بعضهم فيحاولون أن يثوروا قبل نضوج الثورة ويشعرون باليأس في بعض الحالات وبالإحباط في حالاتٍ أخرى، وبذلك نستطيع أن نفسّر كلمات الأئمّة (عليهم السلام) التي كانت تتحدّث عن الإمام القائم (عليه السلام) قبل ولادته وعن آخر الزمان وعن الانتصار؛ بأنّها تمثّل نوعاً من أنواع الأسلوب السياسي العملي، الذي كان يريد أن يرفع الروح المعنوية عند الشيعة. وهناك كلام أدركه عليّ بن يقطين عندما يقول: "ما زالت الشيعة يترجَّحون بالأماني" ولكنّها ليست أماني خياليّة ولكنّها أمانٍ حقيقيّة، تعتمد على ما كان يريد الأئمّة (عليهم السلام) أنّ إثارته من تثبيت الشيعة في مواقعهم وعدم انهيارهم أمام الواقع الذي كان يسيطر على الساحة الإسلامية آنذاك، ليستطيعوا تكوين قوّة في المستقبل ينطلقون منها.
لا بدّ لنا من دراسة كلّ خصائص المواقع الشيعيّة في أيّة منطقة من المناطق وتفاعلاتها مع مجتمعها وتأثيرها على المجتمع والحركات التي انطلقت منها في خطّ التشيُّع ـــ أو عنوان التشيّع ـــ ثمّ محاولة دراسة مسألة المرجعية وعلاقتها ـــ في وعي الشيعة ـــ بالإمامة مثلاً وكلّ حركة المراجع في تأثّرها بعوامل التخلُّف أو في تأثُّرها بالعوامل الأصيلة والرسالية: إنَّنا نعتقد أنّه لا بدّ من كتابة تاريخ إسلامي شيعي جديد، نحاول من خلاله أن ندرس معنى التشيُّع في حركة هذا التاريخ، حتّى لا يكون التشيُّع مجرّد عنوان يوضع في الواجهة ونجد كلّ الواقع بعيداً عنه، حتّى في تأثير التشيُّع سلباً أو إيجاباً في وعي الشيعة، من خلال السلبيات التي تواكب تاريخ كثير من المجتمعات الشيعيّة في العالَم، التي ربّما انطلقت في مسيرتها التاريخيّة في الأحداث، على أساس أن يكون التشيُّع مجرّد انفعال بمآسي أهل البيت أو بفضائلهم، بعيداً عمّا هو الإسلام، وبعيداً عمّا هي الحركة الإسلامية والواقع الإسلامي. فإذا استطعنا أن ندرس التاريخ الشيعي بهذا الحجم وبهذه الطريقة وبهذا المنهج فإنَّنا نستطيع أن نكتشف كثيراً من نقاط الضعف، لنحوّلها إلى نقاط قوّة، إذا كانت لا تزال تترك تأثيرها على الذهنية المعاصرة ونستطيع أن نستزيد من نقاط القوّة في الماضي، لتتحوّل إلى حجم كبير من القوّة في الحاضر والمستقبل.
متّى يكتب الشيعة تاريخهم
لعلّ المشكلة هي أنّ كلّ التجارب التي انطلقت لكتابة التاريخ كانت تجارب فرديّة، وقد لا نجد في هذه التجارب شيئاً من الإبداع فالكثير منها كان يتحرَّك وينطلق، على أساس محاولة تغيير بعض أساليب التاريخ الماضي. ولكنّ المشكلة أنّ الشيعة لم يتحوَّلوا ـــ حتّى الآن ـــ إلى مؤسّسة، تؤكِّد الجانب التاريخي والثقافي والسياسي بطريقة منهجية وعلى أساس التخطيط.
الواقع الشيعي أكبر من واقع المرجعيّة
ـــ وأين هو دور المرجعيّة؟
في تصوُّري أنّ مشكلة المرجعية، في كلّ تاريخها، أنّها لم تكن مؤسّسة وإنّما كانت شخصاً، ـــ وإلى الآن ـــ هي تعتمد على مستوى هذا الشخص وعلى مبادراته وعلى سعة أفقه والظروف المحيطة به والأشخاص المحيطين به. ومن هنا فإنَّنا في الوقت الذي نؤكّد أنّ المرجعية، في كلّ تاريخها، قامت بمبادرات مهمّة في الدائرة الشيعيّة وأنّها حفظت التشيّع بطريقة أو بأخرى، ولكنّها لم تبادر إلى تحمّل مسؤولية التشيّع أمام كلّ المتغيّرات الواقعية، على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي وعلى مستوى التطوّرات التي انطلقت في العالَم، ولذلك فإنَّنا نعتقد أنّ المرجعية لم يعد باستطاعتها أن تقوم بما يفرضه عليها موقعها القيادي الكبير، بمسؤوليّاتها اتّجاه الشيعة على الأقل ـــ إذا لم نقل باتّجاه المسلمين كلّهم ـــ لأنَّ التشيُّع ليس طائفة وإنّما هو خطّ في الإسلام، ولذا فإنَّنا لا ننغلق على أنفسنا كشيعة، بل ننفتح على الإسلام كلّه، باعتبار أنّنا نتصوَّر بأنّ التشيُّع يمثّل منهجاً في الإسلام.
إنَّنا نعتقد أنّ المرجعية، مع كلّ احترامنا للأشخاص الذين يتحرّكون في دائرتها أو يشرفون عليها أو يقودونها، لا تستطيع أن تواجه تطوّرات العصر ولذا فإنَّنا نعتقد أنّها تعيش انكماشاً في دائرتها الخاصّة في نطاق الفتاوى أو في نطاق بعض الأعمال التي تتحرَّك هنا وهناك.
هناك مرجعيّة واحدة استطاعت أن تتجاوز كلّ هذا الواقع وهي مرجعية الإمام الخميني (قدِّس سرّه) الذي استطاع أن يقود ثورة ويؤسّس دولة، ولكنّ المسألة هي أنّه لم يمارس المرجعية كمؤسّسة وإنّما انطلق بها من خلال عناصره الذاتية، في ما هو فكره وحركته وانطلاقاته وظروفه التي أحاطت به ولذلك نجد أنّه عندما غاب، فإنّه لم يترك شيئاً للمرجعية بل عادت المرجعية إلى انكماشها وربّما تراجعت أكثر. لهذا نحن نقول إنّ علينا التفكير في ضرورة أن تتحوَّل المرجعية إلى مؤسّسة، دون أن تفقد العناصر الذاتية التي تفرضها الخطوط الشرعية، فيمن يجب أن يكون المرجع وفي طبيعة ارتباط الأُمّة بالمرجعية.
الواقع أخطر ممّا يتصوّره الكثيرون
ـــ ألاَ يكمن السبب في تعدُّد المرجعيات؟
إنَّ تعدُّد المرجعيات هو نوع من أنواع الواقع المؤسف بالنسبة إلى المرجعية ولكنّه ليس سبباً. إنَّ السبب يكمن في طريقة إدارة المرجعية في المسألة الشيعيّة. وهنالك نقطة لا بدّ أن نثيرها في هذا المجال وهي أنّ الواقع الشيعي، في تاريخه السابق، كان يجعل مسألة علاقة الشيعة بالمرجع تتمثّل في مسألة الفتاوى التي يحتاجون فيها إليه، بحيث كان دور المرجع هو دور المفتي ودور القاضي ودور الشخص الذي يشرف على الأمور الحسيّة التي يعيشها الشيعة آنذاك، في فقدان الإمكانيات المتطوّرة التي يستطيعون فيها أنْ ينفتحوا على العالَم ويشاركوا في قضايا المسلمين بشكلٍ فاعل. كانت المسألة تمثّل التطابق بين الحاجة الشيعيّة إلى الفتاوى الشرعية وبما يعوز الناس في ممارساتهم الشرعية وبين المرجعية في ذهنيّتها، ولهذا كانت المسألة هي أنّ المرجع لا بدّ أن يكون هو الأعلم في مسألة الفقه والأصول، وإنْ لم يكن الأوعى، وإنْ كان من الذين لا يستطيعون إدارة بيوتهم ـــ كما نعرف عن بعض المراجع العلماء الكبار جداً أنّه لا يستطيع أن يدير بيته ولكنَّ تقدّمه في الفقه والأصول جعله في هذا الموقع ـــ. إنَّنا نلاحظ أنّ العصر قد تطوَّر وأنّ المراكز الدينية في العالَم ـــ سواءً على مستوى المسيحية أو على مستوى اليهودية أو على مستوى المسلمين من غير الشيعة ـــ أصبحت تملك مواقع متقدّمة في الإطلالة على الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي في دوائرها الخاصّة وحتّى في الدوائر الأخرى، كما أنّ الشيعة بفعل التطوّرات والمتغيّرات التي حدثت في مواقعهم وبفعل الآفاق الجديدة التي انفتحت عليهم والتي انفتحت لهم، أصبحوا يمثّلون حجماً كبيراً يستطيع المشاركة في كثير من القضايا، وأصبح لديهم حاجات سياسية واقتصادية وثقافية وما إلى ذلك، ممّا كان يفرض على المرجعية أنْ تتطوَّر في انطلاقاتها وحتّى في شروطها، تبعاً لتطوُّر الواقع الذي تتحرَّك فيه، ولكنَّ الواقع الذي نعيشه أصبح أكبر من المرجعية في طبيعة خصائصها وطبيعة ظروفها وطريقة تكوينها بكثير، حيث إِنّ المرجع الذي يراد له، من خلال عنوانه، أن يُشرف على كلّ شؤون الشيعة، تحوَّل إلى مجرّد شخص مفتٍ لا يتصرّف في الشؤون الشيعيّة إلاّ بطريقة حييّة خجولة متواضعة.
إنَّنا نلاحظ أنّ الواقع الشيعي هو أكبر بكثير من واقع المرجعية، وإنَّنا نخشى أنّ هذا الواقع قد يتطوّر إلى مجال أوسع، بحيث تفقد المرجعية معناها عنده، لأنَّ المرجعية لم تستطع أن ترجع هذا الواقع إلى الوراء، ولهذا لا بدّ من التفكير بهذه المسألة بكثير من الخطورة، لأنَّ المسألة ـــ في ما نلاحظه بالواقع ـــ أخطر ممّا يتصوّره الكثيرون.
ـــ كيف تمارس المرجعية دورها الإعلامي؟
عندما نلاحظ أنّ المرجعية تعيش حالة شخصية وليست مؤسّسيّة نرى أنّ الذين يعاونونها، يلتفّون حول الشخص، بحيث تكون القضية في وعيهم هي خدمة الشخص ولا يكون الشخص في خدمة القضية؛ ولهذا يكون الاهتمام ـــ لدى كثير ممّن يحيطون بالمرجع ـــ بالمرجع نفسه وإذا كانت مسألة المرجعية هي مسألة فتاوى وحقوق فإنَّ النظرة إلى كلّ المواقع الشيعيّة تتأثَّر بهذا الخطّ.. ما هو الرصيد من الحقوق الذي تقدّمه هذه المنطقة أو تلك؟ وما هي مسألة الارتباط بالفتوى؟ ولهذا فإنَّنا لا نجد اهتماماً خارج صعيد تأكيد شخصية المرجع، من قبل الذين يحيطون به، في ما هي المبادرات لمسألة الدعوة إلى التشيّع وحماية التشيّع وتهيئة الكوادر التي يجب أن تنطلق في هذا المجال وذاك، وهذا الخطّ وذاك، وفي دراسة نقاط ضعف التشيّع الفكرية وما إلى ذلك. إنَّنا نعتقد أنّ المراجع يمثّلون قيمة روحية كبيرة، ولكنَّ مشكلتهم أنّهم قد يعيشون في ظروف تبتعد بهم عن الإمكانات الكبيرة التي يستطيعون فيها أن ينفّذوا ما كانوا يفكّرون فيه قبل المرجعية.
ـــ ألاَ يمكن المبادرة بنشرة أو مجلّة، تعبّر عن آراء المرجعية وأفكارها وآخر ما تصدره من الفتاوى؟
إنَّ المسألة تعيش في الدائرة التي تحيط بالمرجع، وهي دائرة ـــ غالباً ـــ ما لا تعيش هموماً إعلامية، على مستوى القضايا الحديثة وعلى مستوى القضايا الفكرية الكبيرة، حتّى أنّنا لا نجد هناك لدى المراجع ـــ من خلال الدوائر المحيطة بهم ـــ أيّة مبادرة لتحديث لغة الفتوى وتحديث تنظيم الفتاوى، على أساس الحاجة المعاصرة التي يعيشها الناس، ولهذا فإنَّنا في ما ندرسه من ذهنية الإدارة المدرسية ـــ ولا نتحدّث عن المراجع ـــ نلاحظ أنّ هناك تخلّفاً فوق العادة في المسألة الإعلامية، خارج نطاق الإعلام لاسم المرجع ولشخصيّته.
ـــ كيف يستطيع الجيل الشيعي المثقّف مواجهة هذا الواقع؟
إنَّنا نتصوّر، أنّه من الضروري للفئات المثقّفة الإسلامية أن تنطلق في دائرة معيّنة، في ما هي الطاقات الثقافية لتنظيم نفسها وتقوم بالتحرُّك في نطاق المرجعية من أجل إدارة هذه المسألة وذلك من خلال تلمّس بعض الثغرات في الإدارة، لكي يُفسح المجال لتمويل مثل هذه الأمور ولرعايتها والإشراف عليها.
ـــ لو أسّست هيئة للإشراف على إحياء التراث فماذا ستكون أولى مهمّاتها؟
إنَّنا نعتقد أنّه من الضروري جداً محاولة دراسة التراث، من حيث أنّه يمثّل الواجهة الثقافية للفكر الشيعي في كلّ نقاط الضعف الموجودة في التراث أو نقاط القوّة. ولذلك فإنّ علينا، عندما نريد أن نقدّم التشيّع في صورته المشرقة التي لا تبتعد عن الحقائق الإسلامية الأصيلة، فإنّه لا بدّ لنا من التدقيق في كلّ ما تركه لنا الآخرون من هذا التراث، باعتبار أنّ بعضاً ممّن كتب في هذا التراث، كانوا متخلّفين في فكرهم وكانوا منحرفين في بعض خطوطهم الفكرية والروحية، وقد يكون بعض هذا التراث، يمثّل دليلاً على جهل الذين كتبوه، ولهذا فإنَّنا نتصوّر أنّه لا بدّ أن تكون لنا هيئة تدرس انعكاسات هذا التراث على الصورة التي يقدّمها عن التشيّع. من الممكن جداً أن يقول بعض الناس إنّ مسألة التراث الشيعي ليست مُلكاً للشيعة وإنّما نجد هناك كثيراً من الناس غير الشيعة ممّن يملكون هذه الكتب، كما في مكتبات أوروبا وأميركا وغيرها من المكتبات، التي يبادر فيها بعض المستشرقين أو غير الشيعة إلى نشر مثل هذه الكتب. إنَّ علينا في مثل هذا المثال أن نفكِّر بإيجاد دراسة أمام كلّ كتاب من هذه الكتب فمثلاً كتاب ـــ بحار الأنوار ـــ نجده يشتمل على الصدف واللؤلؤ والحجارة والرمل وعلى كلّ شيء، لأنّ صاحبه الذي نحترمه كثيراً، لم يلتزم بصحّة كلّ ما فيه، بل سعى فيه إلى جمع كلّ التراث الذي يتصوّره مفيداً ونافعاً.
إنَّني كنت آمل أن يكتب بعض الدارسين مقدّمة لكتاب بحار الأنوار، بحيث يشرح فيها ما هي موازين الصحّة أو عدم الصحّة في الحديث؟ ما هي موازين الفكر الشيعي؟ وأن يقول للناس: هذا تراث شيعي يمثِّلُ كثيراً من المواقع الفكرية التي تمثّل أصحابها، تماماً كما هو التراث السنّي في كثير من أمثال هذا الموضوع؛ ولذلك فإنّ عليكم أن لا تعتبروا أنّه يمثّل الحقيقة الشيعيّة، في ما هي ركائز الحقيقة الشيعيّة، وإنّما يمثّل كلّ ما يفكّر به المجتمع الشيعي، وكلّ ما وضعه الآخرون على الشيعة وكلّ ما وضعه المنحرفون أيضاً.
إنَّنا عندما نكتب مقدّمة في كتاب الكافي، الذي يتّخذ الكثيرون منه أداة للقول إنّ الشيعة يقولون بتحريف القرآن أو يقولون باللّغو أو ما إلى ذلك، عندما نكتب مقدّمة في هذا المجال وفي كتاب البحار، فإنَّنا نستطيع أن نقوم بجهدٍ نوضح فيه المسألة ونخفّف من العوامل السلبية، التي قد تنتج من خلال ما يشتمل عليه هذا الكتاب أو ذاك من نقاط الضعف.
ـــ هل حاولتم تحديث الحوزات العلمية التي تشرفون عليها ومنها حوزتكم في بيروت؟
لعلّ مشكلة الحوزات، التي تعيش خارج نطاق الحوزات الكبرى، أنّها تفتقد للطاقات العلمية التي نستطيع التعاون معها، في سبيل تنمية الحوزة من الناحية الثقافية. فنحن نلاحظ أنّ الطاقات العلمية موجودة ومكدّسة بشكلٍ غير منتج في الحوزات الكبرى كــ "قم والنجف" سابقاً، وبالنسبة إلى الحوزات التي توجد في لبنان أو غير لبنان فإنّ العلماء، المعول عليهم، لا يشاركون في هذه الحوزات، لأنَّ لهم مراكز متقدّمة قد لا يناسبهم موقع الحوزة أو المشاركة فيها؛ وقد تكون المسألة أنّهم مشغولون بأعمال كثيرة، إنَّنا نحاول تحديث الحوزات التي نشرف عليها ونحاول دراسة الإمكانات التي حولنا والتي يمكن أن تتكامل فيها المسألة الثقافية للطالب الحوزوي ومنها المسألة التاريخيّة.
التراث الشيعي حافظ على خصائصه الأساسية
ـــ ما الإنجازات التي حقَّقها التراث الشيعي عبر التاريخ؟
إنَّنا نتصوَّر، أنّ التراث الشيعي استطاع أن يحفظ الفكر الشيعي في خصائصه الأساسية في مسألة الإمامة واستطاع أن يحقّق الخطّ الشيعي في مسألة الرفض للواقع الظالم، كما أنّه استطاع أن يعطي الآخرين انطباعاً عن عمق الفكر الفلسفي الشيعي، وعن امتداد الخطّ الفقهي الشيعي، ممّا جعل كلّ المثقّفين في العالَم، من المسلمين وغير المسلمين، يشعرون بأنَّ التشيّع يتميَّز بعمق قواعده الفكرية وبشمولية ساحاته الفقهية والأخلاقية وما إلى ذلك.
إنَّ التراث الشيعي، على الرغم من وجود السلبيات، استطاع أن يحفظ أصالتهم في ما هو الفكر الشيعي، واستطاع أن يعطي انطباعاً كبيراً عن ضخامة الفكر الشيعي وأصالة التاريخ والعقيدة الشيعيين.
ـــ هل للتراث الشيعي خصوصيّة تميّزه عن غيره؟
قلنا إنَّ خصوصيّته هي العمق وخصوصيّته هي مسألة الرفض للواقع الظالم، ممّا جعله يعيش العقدة أمام كلّ حالات الظلم وإنْ كان لذلك بعض السلبيات، التي جعلته معزولاً في نشاطاته عن كثير من الواقع، لأنّه لم يواجه الواقع بالطريقة التي يستطيع من خلالها أن يتحرَّك بواقعية.
ـــ ما تصوُّركم لمستقبل الشيعة في العالَم؟
في تصوّري أنّ الشيعة، كفريق كبير من المسلمين يملك خصائص مميّزة في الساحة الإسلامية، ويملك وجوداً كبيراً في أكثر من موقع إسلامي، الشيعة يستطيعون أن يقوموا بدور كبير، إذا لم يعتبروا أنفسهم مجرّد أقليّة في الدائرة الإسلامية الواسعة بل هم جزء أساسي يتكامل مع المسلمين في العالم في نطاق خطّة موضوعية تعمل على أساس إيجاد جوّ من الوحدة الإسلامية، لا يلغي التنوُّع ولا يبعد المسلمين عن خصائصهم في دوائرهم المتنوّعة. إنَّنا نعتقد أنّه من الممكن جداً أن يحصلوا على دور كبير جداً في المستقبل، وهذا ما عاشته التجربة الأخيرة التي خاضتها الثورة الإسلامية في إيران، حيث استطاعت أن تؤكّد واقع الشيعة في العالَم، بالمستوى الذي استطاعت أن تخلق للشيعة مشاكل كثيرة في العمل. ولكنّك عندما تنطلق لتؤكّد قوّة فلا بدّ لك من مواجهة مشاكل هذه القوّة عندما تهيّئ قوّتك للآخرين، إنّك تصبح خطراً عليهم بطريقة أو بأخرى، لاسيّما إذا كان الآخرون من المستكبرين.
إنَّنا نعتقد أنّ دور الشيعة يكبر، كلّما كانوا مسلمين أكثر، وكلّما كانوا منفتحين على الإسلام أكثر، وكلّما كانوا متكاملين مع المسلمين بشكلٍ أفضل، ونعتقد أنّ هذا يكلّف الكثير من الجهد ومن الصبر ومن المتابعة والبحث عن كلّ مواقع الانفتاح في الساحة الإسلامية الواسعة، لمواجهة الكثير من العقبات والصدمات في هذا الاتجاه.
ـــ كلمة للمشتغلين في إحياء التراث الإسلامي...
إنَّنا نريد أن نقول لكلّ شبابنا، الذين يتحرّكون في الدائرة الثقافية في نطاق إحياء هذا التراث الإسلامي المتحرّك في خطّ أهل البيت (عليهم السلام) في ما هي الدائرة الإسلامية الشيعية. إنَّنا نريد أن نقول لهم: ليتكامل بعضهم مع بعض، حتّى لا تتكرَّر الجهود التي قد تتحرَّك في دائرة واحدة من دون أيّة فائدة.
نحن لسنا ضدّ أن تتكرَّر التجربة في موضوع واحد ولكن بشرط أن تكون للتجربة الجديدة خصائص تختلف عن خصائص التجربة السابقة، ونحن نعتقد أنّ على المؤسّسات، التي يتحرّك فيها كلّ هذا الجيل، الذي يقوم بعملية التحقيق أو بعملية الإحياء، أنّ عليها أن تعمل على الاختيار الصائب المميَّز للكتب التي تنشرها ولا يكون الربح هو كلّ شيء في المسألة وأنّ عليها عندما تجد أنّ هناك مصلحة لنشر كتاب معيّن، قد يشتمل في بعض مواضيعه على بعض السلبيات؛ فإنّ على هذه المؤسّسات أو على المثقّفين الشباب، الذين يقومون بعملية الدراسة أو عملية التحقيق، أن يقدِّموا أمام هذا الكتاب دراسة تتحدّث عن سلبياته وعن إيجابياته وتتحدّث عن كونه لا يمثّل الحقيقة المطلقة لما عليه الشيعة في العالم.
ـــ هناك مَنْ يعمل لإيجاد الحواجز بين الشيعة وبقيّة المسلمين
إنَّنا نؤكّد على هذا المعنى في هذا النداء، كما أكّدنا عليه في الحديث، انطلاقاً من أنّ هناك هجمة ضدّ المسلمين الشيعة تقوم بها دول معيّنة في المنطقة الإسلامية، بالتعاون مع دول استكبارية في العالم، من أجل إسقاط الشيعة لدى أنفسهم قبل إسقاطهم لدى غيرهم، ومن أجل إيجاد الحواجز بين الشيعة وبين المسلمين اعتماداً على بعض ما كتب الشيعة من سلبيات ولأجل اجتذاب السنّة كي يكتبوا عن الشيعة بالطريقة التي يكتب فيها الشيعة عن السُنّة، حتّى يسقط كلّ الواقع الإسلامي. إنَّنا عندما نجد هذا الواقع فإنّ علينا أن نبحث عن الضوابط التي يمكن أن تضبط حركتنا الثقافية في إحياء التراث، بالمستوى الذي نواجه به هذه الأمور بطريقة علمية موضوعية.
ـــ هل من كلام حول المرأة والتراث؟
المرأة إنسان في الدائرة الإسلامية كما هو الرجل، ومسألة فكر المرأة تعتبر مسألة إنسانية تماماً كما هو فكر الرجل. ونحن لا نجد هناك أيّ نصّ قرآني أو نبوي يتحدّث عن كون فكر المرأة أدنى من فكر الرجل، بل ربّما تستطيع المرأة أن تتغلَّب في فكرها على بعض أفكار الرجال، كما نجد أنّ هناك كثيراً من الرجال يعيشون في المواقع المتخلِّفة عن تطوُّر بعض النساء.
إنَّ هناك حديثاً عن عقل المرأة في بعض النصوص، التي قد يختلف الرأي في طبيعة الظروف، التي صدرت فيها والإيحاءات التي يُراد من خلالها إيجاد نوع من الإثارة لمصلحة تلك الظروف، بعيداً عن هذه المسألة في الذّات، تتحدّث عن نقصان عقل المرأة ولكن عندما نحاكم هذه الظروف فإنّها تقول:
(وإنَّ نقصان عقولهن فشهادة امرأتين في مقابل شهادة رجل واحد) إنّ هذه المسألة لا تعالج الجانب الفكري للمرأة كعنصر ناقص، إنّها تتحدّث عن وجود جانب عاطفي للمرأة، يمكن أن يترك تأثيره في مواجهة المرأة لبعض القضايا التي تتميَّز بالجانب المأساوي. ومن المفارقة أنّ الله عندما تحدّث عن هذه المسألة، اعتبر أنّ المرأة تسدّد المرأة {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] يعني أنّ امرأة عندما تنحرف عن خطّ العدالة في هذا المجال فإنّ امرأة أخرى تسدّدها وترجعها إلى الصواب. إنّ المسألة ليست من خلال العناصر الذاتية الناقصة في ما هو عقل المرأة بل هي مسألة الاحتياط بالعدالة في ما يكمن أن يحقّق للعدالة سلامتها ولو من خلال الاحتمالات القليلة. وبهذه المناسبة فإنَّنا إذا كنّا نتحدّث عن أنّ الله جعل امرأتين في مقابل رجلٍ واحد، فهل نستطيع أن نستفيد أنّ البيّنة عندما تقوم برجلين، أنّ الرجل يمثّل نصف إنسان وأنّ الرجل الثاني يمثّل النصف الآخر فيكونان إنساناً واحداً. لا نستطيع أن ندخل في هذه المتاهات. إنّ مسألة المرأة هي مسألة الرجل في تكوينها الفكري وفي إمكاناتها العقلية، كما هي إمكانيّاتها العملية، ولكنّ المسألة هي أنّ الله جعل في الحياة الزوجية للمرأة دوراً في مسألة الأمومة ولكنّه لم يجعل دورها كلّ هذا الدور، بل أطلق لها الدور في نطاق المساحة الأخلاقية وعلى هذا الأساس فإنَّنا نعتقد أنّ المرأة تستطيع أن تقوم بدور كبير في مواجهة هذا التراث بالمسألة النقدية، كما تستطيع أن تنتج تراثاً جديداً. ولكنَّ المشكلة أنَّنا في التاريخ، كما هو في الحاضر، أبعدنا المرأة عن الساحة الثقافية وأبعدناها عن ساحة العطاء السياسي والاجتماعي وما إلى ذلك وحصرناها في دائرة ـــ ومن الطبيعي أنّك عندما تحصر إنساناً في دائرة معيّنة فإنَّ آفاقه تظلّ تعيش في هذه الدائرة ـــ ولذلك نقول: فلنجرّب أن نطلق المرأة المسلمة في المجالات المنتجة فإنَّنا سنجد أنّ المرأة قد تقوم في مرحلة متطوّرة بنتاج كبير، ربّما يكون مثل نتاج الرجل إنْ لم يكن أفضل منه في بعض التجارب.
ـــ وختاماً...
إنَّنا نقدِّر هذا الجهد الثقافي الإعلامي الجديد "الموسم" ونجد فيه الكثير من النقاط المضيئة من الناحية الموضوعية والشمولية ونسأل الله أن يوفّقكم في سبيل أن يتحرَّك "الموسم"، ليحقّق "مواسم" ثقافية تصاعدية، تحقّق لنا الكثير في المستقبل، كما حقّقت لنا الكثير في الحاضر.
القيادة الفكريّة هي للوحي ودور
الإمام استنطاق هذا الوحي(*)
لكلِّ مقامٍ مقال.. وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) مقام شامخ يتنوَّع في حضرته الكلام ويتشعَّب، ليتحدّث بلغة التلميح لا بلغة التصريح، بلغة عمق الوحي بلغة سطح المعنى...
ولنا ـــ بمناسبة ولادة أمير المؤمنين (عليه السلام) ـــ لقاء مع الكلمة الموجّهة والسلوك المربّي، مع الفكر الذي يتحرَّك على أرض الواقع بوعي الرسالة، مع العلاّمة الجليل، آية الله السيّد محمّد حسين فضل الله.. في حوار حول الخلافة والرسالة والإمامة والولاية.
الخلافة: إدارة الكون في خطّ المسؤولية.
ـــ قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً...} [البقرة : 30] ما المقصود بالخلافة هنا، ما حدودها، أهي ماديّة أم معنوية، أم الإثنان معاً، وهل هي سياسية تتعلَّق بتصريف أمور الناس، أم هي فكرية تربوية، تتعلَّق بقيادة الناس على طريق الكمال؟
هناك اتّجاهان في فهم آفاق هذه الكلمة، اتّجاه ينطلق من فكرة أنّ المراد بالخليفة هو الإنسان، فالله أراد للأرض أن تتحرَّك، من خلال عقل يتحرّك فيها ويدير أمورها بشكلٍ مباشر، لذلك خلق الإنسان الذي زوّده بالعقل بالإضافة إلى الأجهزة، التي قد يلتقي بها مع الحيوان، من أجل أن يرى بعقله الذي يتحرَّك في داخله، ليعطي كلّ طاقة من طاقاته وعياً وانفتاحاً وامتداداً وعمقاً كلّ بحسب دوره. وهكذا نجد أنّ الله سخَّر له السموات والأرض والجبال والأنهار وما إلى ذلك. وقد يراد من كلمة الخليفة ما يفتح المجال لحركة الإنسان كلّه في الأرض، ويلاحظ أنّ الملائكة فهموا من الكلمة هذا المعنى، لذلك قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة : 30] الملائكة هم الذين يمثّلون مجتمع السماء. وهكذا فهم الملائكة أنّ الله سبحانه يريد أن يخلق في الأرض خليفة، يقوم بالدور الملائكي في أن يسبّح لله وأنّ يقدّس له سبحانه وتعالى، لذلك تساءل الملائكة، ولم يعترضوا، لأنَّهم لا يمكن أن يعترضوا على الله سبحانه وتعالى، فهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول. تساءلوا من خلال ما قد يصاغ في بعض الروايات، أنّ هناك تجربة سابقة لإنسان من نوعٍ آخر وشكل آخر في الأرض أو لما استقرأناه في تفسيرنا من أنّ القرآن يختصر الحوار.. فكأنّهم عندما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً...}، سألوا، ما شكله؟ ما دوره؟ ماذا يحدث له؟ فأجابهم الله سبحانه وتعالى بما يعلمه من مستقبل الإنسان وعند ذلك تساءلوا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ...} من هنا كان الجواب، أنّ الله أمر آدم (عليه السلام) بعد أنْ علّمه الأسماء كلّها، بأن يتحدَّث إليهم بما لا يعلمون، ليعرفوا أنّ هذا المخلوق يتميَّز عنهم ببعض من المعرفة، ممّا لا يملكونه.
من خلال ذلك، إذا أردنا أن نتبنّى هذا التفسير ـــ وهو قريب جداً ـــ من خلال ما ندرسه من آيات قرآنية تتحدّث عن تسخير الكون للإنسان وتسخير كلّ الأجواء له وعن دور العقل والعلم، هاتين النافذتين اللّتين تطلَّان على حركة الحياة وعلى حركة الإنسان في الكون، فإنَّ الخلافة تعني عند ذلك، انسجام بإدارة الكون، في خطّ المسؤولية المفروضة على الإنسان، عندما نستوحي من قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب : 72]، حيث تفسّر الأمانة بالمسؤولية، والمسؤولية، لا تعني إلاّ مسؤولية الإنسان عن نفسه وعن الحياة من حوله، باعتبار أنّ مسؤوليته عن نفسه تعني مسؤوليته عن كلّ الساحات والمواقع والآفاق والتطلُّعات التي يتطلَّع إليها؛ فالخلافة إذاً تعني الوكالة عن الله سبحانه بإدارة شؤون الكون. ونحن نعرف أنّ الوكيل قد يسيء إلى وكالته وقد يحسن.
هناك تفسير آخر، وهو أنّ المقصود بالخليفة هو آدم، وربّما كان سؤال الملائكة من خلال ما يحدث من وجود آدم، بلحاظ أنّه نبيّ بقطع النظر عن الجدل في أنّ آدم هل هو نبيّ أم لا؟ وقد يستفاد ذلك من قوله {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} [البقرة : 31] وكأنّه تعالى قال لهم هذا هو الخليفة، وها أنتم ترون أنّه يملك المعرفة، عند ذلك تكون مسألة الخلافة في حركة الرسالة وفي حركة تنظيم الكون هي تنظيم الواقع الاجتماعي للإنسان بكلّ تطلُّعاته ممّا يكون النبيّ خليفة، بحيث إِنّ المسألة تفتح له آفاق الحياة كلّها، سواء في داخل مجتمعه الإنساني أو في داخل المجتمعات الأخرى، وفي مثل هذه الحالة لا نستطيع أن نستنطق الكلمة بوضوح في مجال هذه الخلافة. يمكن لإنسانٍ ما أن يستوحي منها إرادة الإنسان، الذي يكون وكيلاً عن الله في رعاية أمور الناس وأمور الحياة. وإذا عرفنا أنّ هذه الرعاية لا تتّصل بحركة الوعي في الذكر ولكنّها تتّصل في حركة الوعي بالوضع وحركة الواقع في خطّ الوعي، عندها يمكن أن نستوحي من ذلك أنّ هذا الخليفة يملك الخلافة، بمعنى الرعاية والإدارة والولاية وما إلى ذلك. ولكن إذا كان الإنسان يعمل على استيحاء مثل هذه المسألة، من خلال ما يثيره في نفسه من أفكار أو أخيلة، فإنَّ هذه الاستيحاءات لا تعطينا وضوحاً على مستوى تركيز القاعدة. إنَّنا نميل إلى التفسير الأوّل، خلافة الإنسان، أي خلافة الأجيال.
ـــ إذا كانت الخلافة عامّة، أي خلافة الإنسان، فالرسالة خاصّة باعتبار أنّ الرسول يُصْطَفَى من بين النّاس، ما حقيقة التمايز بين الرسول والخليفة؟
الرسالة هي خلافة من الله، والله سبحانه وتعالى يصطفي إنساناً ما من بين خلقه، ليبلّغ رسالاته ويقوم بهذه المهمّة بتكليف من الله، من خلال ما يعطيه الله من صلاحية لنوعية هذا الإنسان وتحريك طاقاته في اتّجاه الأهداف الكبرى، التي يرضاها الله للإنسان والحياة. ولكن تُرى، ما حجم هذه الرسالة؟ إنَّنا نستطيع أن نستوحي من قوله سبحانه وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [الأحزاب : 6] دليل حاكمية النبيّ، لأنَّ للنبي صفتين: صفة التبليغ وصفة الحاكمية. صفة الحاكمية التي تجعله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، بمعنى أنّه يستطيع أن يتصرَّف بكلّ تفاصيل حياتهم، ممّا يحتاجون فيه إلى الولاية، بالمستوى الذي يتقدَّم فيه على سيطرتهم على أنفسهم، وربّما كان هذا دليل الحاكمية.
وبهذا يكون للرسول دور الحاكم في الجانب الثاني من شخصيّته، لا من خلال الرسالة، فالرسالة وحدها لا تعني الحاكمية، وبهذا يفسّر قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ*لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 ـــ 22] والآيات التي تتحدّث: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد : 7] كلّ هذه الآيات تدلّ على أنّ دور الرسول هو دور التوعية ودور الإقناع. أمّا دور الحاكمية، فإنّه دور آخر، قد يترافق مع دور الرسول وقد لا يترافق.
نجد أنّ هناك نصّاً في القرآن يوحي بأنّ الله لم يجعل لبعض الأنبياء هذا الدور، وهذا ما نستنطقه في الآيات التي تحدّثت عن قضية طالوت وجالوت، فالقوم طلبوا من نبيّهم أن يجعل لهم ملكاً ليقاتلوا في سبيل الله. ومعنى ذلك أنّ دور النبي، ليس دوراً تنفيذياً، لهذا كان الناس يشعرون بوجود فراغ، عندما انطلقت مسألة القتال في سبيل الله، بمعنى أنّ النبي لا يقود الجيش ولا يقود حركة القتال، وإنّما دوره دور رسالي، قد يستوحي بعض الناس ذلك، وقد يستوحي بعضهم الآخر حركة بعض الأنبياء واقتصارهم على جانب التبليغ، إلاّ في الآية الواردة في إبراهيم (عليه السلام) {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة : 124] إذا فسّرناه بالإمامة التنفيذيّة.
وفي قضيّة موسى (عليه السلام) فإنّ مهمّته كانت من خلال الآيات التي تتحدّث عن المهمّات التي كان يتطلَّع إليها، أن ينقذ هؤلاء المستضعفين وأن يقودهم إلى الحياة والعزّة التي يريدها لهم. فموسى (عليه السلام) كان له دور قيادي، ولكنّه دور لم يستطع أن يحقّقه بشكلٍ فاعل في بني إسرائيل. أمّا عندما ندرس حياة بقيّة الأنبياء، فالقرآن يتحدّث عنهم، بأنّهم كانوا مبلّغين ولم يكونوا في خطّ الولاية على الناس والأُمّة. قد يكون ذلك لأنَّ المجتمعات التي عاشوا فيها، لا تختزن في داخلها مسألة الحكومة والولاية، وقد تكون ناشئة من أنّ مهمّاتهم لا تتّسع لأكثر من ذلك. وهذا ما نلاحظه عند بعض الأنبياء الذين عاشوا في مهمّات صغيرة، مثل لوط (عليه السلام) الذي أرسل إلى قريته، وشعيب (عليه السلام) الذي أرسل إلى أهل مدين.
فالنبوَّات الخاصّة توحي بأنّ هناك مهمّة تبليغيّة خاصّة بهذا النبيّ. والمهم أنّ طبيعة النبوّة لا تختزن في داخلها مهمّة الولاية، ولكن قد نستطيع أن نفهم من القرآن الكريم أنّ دور النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) هو دور الرسول ودور الحاكم، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أراد منه أن يجاهد ويقاتل ويحكم، وهذه الأمور نلاحظها في النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، أكثر من أيّ نبيٍّ آخر، حتّى أنّنا عندما نلتقي بمسألة داوود (عليه السلام) {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [صـ : 26] قد نستوحي منها الحكم بمعنى القضاء، لأنَّنا لم نعرف أنّ داوود (عليه السلام) كان يملك سلطة تنفيذية في هذا المجال، أمّا سليمان (عليه السلام) فكان ملكاً، وكان دوره القرآني دور الذي عاش هذا الملك الواسع وسيطر على الجنّ وما إلى ذلك، ولكنَّ دوره الرسالي لم يكن بارزاً بشكلٍ عام، والمهمّ أنّ حركية الرسالة وحركية الولاية نجدها عند النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في القرآن أكثر من أيّ نبيٍّ آخر، إمّا لأنَّ الأنبياء الآخرين كانوا لا يعيشون هذه الحركية في الولاية أو لأنَّ الله لم يجعل لهم هذا الدور، أو لأنَّ المجتمعات كانت لا تختزن ذلك، أو أنّ هناك جوانب لم يشرحها القرآن لنا، لأنَّ اهتماماته بتاريخ النبوّات كان اهتماماً بالإيمان بالله وتوحيد الله وما إلى ذلك.
وتبرز هنا نقطة لا بدّ من الإشارة إليها لأنّها قد تلقي ضوءاً على المسألة وإنْ لم تكن كاملة التفاصيل، وهي الآية الكريمة التي تقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد : 25]، فهذه الآية قد توحي بأنّ القيام بالقسط، وهو إقامة العدل، هو سرّ كلّ النبوّات وسرّ كلّ الكتب والرسالات. ولكن يا ترى، إذا كان الله قد أرسل الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط، فهذه المهمّة هل هي من دور الأنبياء أو هي دور آخرين، هل مهمّة الأنبياء أن يواجهوا الناس إلى القيام بالقسط، أم أنّ دورهم أن يمارسوا عملية القيام بالقسط، بالمستوى التنفيذي الذي يعني الحكم؟ هذا ممّا يمكن أن يفتح لنا أُفقاً للتفكير، حتّى نستطيع أن نتعرَّف على صيغة الموضوع.
الإمامة متنوِّعة المعاني
ـــ تطرَّقتكم إلى الآية القرآنية التي تقول: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة : 124] إبراهيم (عليه السلام) رسول، هذه الإمامة هل جاءت بعد النبوَّة؟
الإمامة بمعنى الحاكميّة. أي جاعلك حاكماً، باعتبار أنّ الإمام هو الذي يتقدَّم الناس الذين يسيرون أو يقفون وراءه، يتحرَّك فيتحرّك الناس من خلال حركته. هذه المسألة قد تكون كناية عن الإمامة العامّة، التي تعني الولاية العامّة للنّاس، ممّا يمكن أن تنفتح على حاكمية إبراهيم للناس، ولكنَّنا في الوقت نفسه، عندما نحدّق بالكلمة، قد تتّسع كلمة الإمامة لكلمة الرسالة، لأنَّ الرسول يتولّى مهمّة القيادة الفكرية الملزمة للنّاس، باعتبار أنّ ما يأتي به هو وحي من الله سبحانه وتعالى. ومن هنا فإنّه من الممكن أن توحي هذه الآية بالإمامة، التي تعني القيادة الرسولية الفكرية وتكون من آيات النبوّة، باعتبار أنّ الله سبحانه وتعالى كان يتحدّث مع إبراهيم عن دوره بأكثر من أسلوب، فيمكن أن يكون هذا حديثاً عن دوره القيادي الرسولي بما هو نبيّ، لأنَّ كلمة الإمامة تتّسع للنبوّة، كما تتّسع للإمامة بالمعنى المصطلح عند الشيعة، وقد يؤيّد هذا الاستيحاء، إنَّ الله تحدّث عن ذريّة إبراهيم كرسل وتحدّث عن إسحاق ويعقوب (عليهما السلام) {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ} [العنكبوت : 27] ولم يستخدم كلمة الإمامة أو كلمة الحاكمية. فكلمة الإمامة قد ترادف كلمة النبوّة، باعتبار النبوّة هي حالة من حالات الإمامة، لأنَّ إمامة كلّ شيء بحسبه. فهناك إمامة في الفكر وإمامة في العلم وإمامة في الصلاة، فليس ضرورياً أن يكون المصطلح القرآني مصطلحاً خاصّاً في كلمة الإمامة، بالمعنى الذي يتّسع لقضية الحكم. وإنَّني أحاول في إثارة هذه الاحتمالات أن أُركِّز الفكرة التي تقول: بأنَّ الكلمة لا تعني معنىً واحداً في احتمالاتها ولا نستطيع أن نستنطقها في دائرة معيّنة، فهناك أكثر من دائرة يمكن استنطاقها فيها ولكلّ دائرة شواهد من القرآن الكريم، وربّما كان الشاهد، الذي يتحدّث عن مسألة أنّ المراد من الإمامة هو النبوّة، أكثر من الاحتمال الآخر.
الولاية وحقّ الطاعة الكاملة
ـــ قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة : 55] هذه الآية كما يقول المفسِّرون، لم تشرح ولاية الإمامة، ولم تحثّ على زكاة، إنّما هي إمارة لشخص قام بعملٍ معيّن، تريد أن تحدِّده وتعينه كولي.. وهو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فما هي ولاية عليّ (عليه السلام) وما المضامين التي تتحمّلها؟
من الطبيعي، أنّه عندما يتحدّث قرآن عن ولاية شخص ما في سياق حديث عن ولاية الله وولاية الرسول، لا بدّ أن يكون هناك قدر جامع تعنيه صفة الولي {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ} بمعنى أنّ كلمة الولاية تختزن معنى في داخلها، يمكن أن تنسبه إلى الله وإلى رسوله وإلى رسوله وإلى {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} المفسّرة بالإمام عليّ (عليه السلام)، فمن الطبيعي أنّ الولاية هنا لا تعني النصرة ولا تعني المحبّة ولا تعني أيضاً الولاية التكوينيّة، لأنَّ الله سبحانه وتعالى هو وحده الولي التكويني، فالله سبحانه أعطى الأنبياء في بعض مواقع التحدّي بعض القدرات المحدودة بحدودها الخاصّة، أعطى موسى (عليه السلام) أن يحوّل العصا أفعى، وأعطى عيسى (عليه السلام) أن يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، أما علم الغيب فلم يعطه الله لأنبيائه أو لأوليائه، وإنّما أطلعهم على بعضه، فهم لا يعلمون الغيب ذاتيّاً. الله {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} [الجن : 26]، يعطيه الشيء، كما ورد عن الإمام عليّ (عليه السلام) عندما أخبر عن بعض المغيّبات، قالوا يا أمير المؤمنين هل هذا علم غيب؟ قال (عليه السلام): لا، ولكنّه علم عن ذي علم. لذلك فليس المراد الولاية التكوينيّة، ولاية التدخّل في شؤون الكون. الله قادر على أن يعطي لأيّ من عباده المهمّات الكونية بإذنه، ولكن لم يثبت ذلك بشكلٍ علمي دقيق.
دور الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) هو دور حاكمي، دور الانتماء، دور الطاعة، دور الذي يقابل دور الآخرين، {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة : 257]، فهناك ولاية تتحرَّك في خطّ الوعي وخطّ الطاعة، بشكل إيجابي من خلال الله، وبشكلٍ سلبي من خلال الطاغوت.
إنَّنا نستوحي أنّ المراد من الولاية هنا، تلك التي تختزن في داخلها الطاعة، ونستشهد على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء : 59] فيمكن أن نستوحي منها من يكون لهم الأمر، وتكون لهم ولاية الأمر، باعتبار أنّ لهم حقّ الطاعة، وإذا أخذنا بكلمة حقّ الطاعة، بإطلاقها، فإنّها تعني حقّ الطاعة بكلّ أشكالها ـــ سواء في المسائل التشريعيّة أو في المسائل التنفيذيّة، وبهذا يمكن أن نقول إنّ المراد من قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ} هو ولاية الطاعة التي تنطلق من خلال القيادة ومن خلال موقع الحكم التنفيذي إلى جانب موقع الحكم التشريعي.
الولاية حركيّة الخلافة الشرعية في الواقع
ـــ لو اعتبرنا أنّ هذه الولاية التكوينية بقدر من الأقدار، ليس بقدرها المطلق الذي هو ولاية الله سبحانه وتعالى، وبشكلٍ لا يخلّ بالتوحيد، على اعتبار كثير من الظواهر كالموت مثلاً فالذي يقبض الأرواح هو ملك الموت، ولكنّ الذي يتوفّى الأنفس هو الله سبحانه وتعالى؟
ملك الموت موظّف، كما أنّ جبرائيل موظّف وميكائيل موظّف، فهو أي ملك الموت، لا يملك قدرة الموت، ولكنَّ الله أعطاه هذه الوظيفة، فهناك فرق بين أن يملك هذه القدرة وبين أن يقوم بهذه الوظيفة. إنَّنا عندما ندرس الآيات التي يتحدّث بها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن نفسه في القرآن الكريم، عندما كانت قريش أو غيرها تطلب منه أن يقوم بأعمال خارقة للعادة، فإنّه كان يقول لهم {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء : 93] أنا لا أملك هذه الطاقة، إنّ الله لم يعطني القدرة على التدخُّل في الكون، وهكذا نجد {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف : 110]، إنّ كلّ الإيحاءات القرآنية تدلّ على أنّ الله لم يمنح أيَّ نبيّ من أنبيائه قدرة تكوينيّة، بالمعنى الذي يتصرّف فيه بشكلٍ طبيعي بالأمور. إنَّ الله، كما أشرنا، وضع الأنبياء في محطّات وعيَّن أقدارهم فيها على وضع معيّن وترك لهم أن يعيشوا إنسانيّتهم بالقضايا. ولذلك نحن نختلف مع كلّ الذين يتحدّثون عن الولاية التكوينيّة، فحين ندقّق في الأخبار التي جاءت بهذا الشأن، فقد نكتشف أنَّ أكثر هذه الأخبار غير صحيحة، أو أنّ لها معنى يختلف عن ذلك، مع كلّ الاحترام لمن يرى ذلك.
إنَّ مسألة الولاية هي مسألة تتّصل بالحكم وهذا ما نستوحيه من خطبة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عيد الغدير، حين قال: "ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا: اللّهمَّ بلى، قال: مَنْ كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه" يعني مَن كنتُ أولى به من نفسه، إنَّ هذه الحاكمية التي أملكها جعلتها لعليّ (عليه السلام)، لأنَّني أملك أن أعيّن للناس حاكماً، من موقع ما أعطاني الله من حاكميّتي على الناس؛ وهو أنَّني أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم، لذلك يمكنني أن أفرض عليهم الحاكم من خلال الصلاحيات التي أعطاني الله إيَّاها فموقع الحكم التنفيذي في حركة الإسلام يتّصل بواقع الإنسان والحياة، الخليفة هو الإنسان الذي يملك شرعية الموقع ويملك إعطاء الشرعية لبقيّة المواقع في الخطّ التنفيذي، من خلال الموقع الذي جعله الله له، والخلافة تختزن الولاية، كما أنّ الإمامة تختزن الولاية. الولاية هي حركة الخلافة في الواقع، من خلال عمق الشرعية التي يملكها الخليفة أو الإمام. الإمام يملك عمق الشرعية في منصبه، بحيث يعطيه ذلك الولاية على الناس، تماماً كما يملك الأب في شرعيّة أبوّته موقع الولاية على ولده، بحيث يتصرَّف في أموره في ما يحتاج فيه إلى الولاية والرعاية بما يصلح أمره. والولاية هي حركة الخلافة من خلال شرعية الموقع. ومن الطبيعي أنّ الولاية عندما تكون عامّة، فإنّها تعطي القيادة الفكرية ولكن في الدائرة الإسلامية للوحي. ودور الإمام أو دور الولي هو أن يستنطق هذا الفكر ويتحدّث إلى الناس عنه، لا على أساس أنّه فكره ولكن على أساس أنّه فكر الوحي ـــ إذا صحّ التعبير ـــ فهو يملك المعرفة المعصومة. إذا أردنا أنْ نتحدّث عن الإمام في المصطلح الشيعي، للشريعة، في آفاقها الواسعة وفي تفاصيلها وفي مفرداتها الفكرية والقانونية وفي تطبيقاتها الواقعية، فالولاية تمثّل حركة الولي في الجانب التنفيذي.
حوار: حسن حسين
حسان بدير
أسلوب الدعوة في سيرة أهل البيت (عليهم السلام)(*)
لقاء أجرته مجلة "رسالة الثقلين" مع سماحة السيّد محمّد حسين فضل الله بعد انعقاد المؤتمر الأوّل للمجمّع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) في 15 شعبان 1414 هــ في الجمهورية الإسلامية في إيران.
ـــ لقد تناولتم موضوع أسلوب الدّعوة في القرآن الكريم بالبحث والدراسة، وخرجتم بنتائج أغنت المدرسة الإسلامية في هذا الجانب الحسّاس، ولمّا كان أهل البيت (عليهم السلام) هم الثقل الثاني بعد القرآن الكريم، والترجمان الوافي له، فهل تسمحون ببيان المعالم الرئيسيّة لأسلوب الدّعوة في سيرة أهل البيت (عليهم السلام)؟
عندما نريد أن نثير الدراسة المعمّقة في أسلوب أهل البيت (عليهم السلام) في الدعوة، فإنَّ المسألة لا يمكن أنْ تتحدَّد في جواب عن سؤال، ولكنَّنا نستطيع أن نعكس معالِم ذلك، في أكثر من نصٍّ من النصوص التي انطلق بها الأئمّة (عليهم السلام) في بعض المفردات التي تُنقَل عنهم.
فنحن مثلاً نلتقي بالقصّة التي تنقل عن الإمامين الحسنين (عليهما السلام) في موقفهما من ذلك الشيخ الذي لم يكن يحسن الوضوء، حيث إِنّهما لم يبادراه بالحديث عن وضوئه الفاسد، بل بادرا إلى القيام بالوضوء، ليجعلا الشيخ حكماً بينهما في أيُّهما أحسن وضوءاً، وكانت النتيجة أنّ الشيخ انتبه إلى المسألة وعرف خطأه(1)، واستطاع الإمامان أن يعطيانا خطّاً في مسألة الدعوة، في أن لا نهدر كرامة الإنسان الذي يخطئ أو الذي ينحرف، عندما نريد أن نجلبه إلى الحقّ أو إلى الصواب، لأنَّ مسألة أنّ احترام كرامة إنسان وإنسانيّته هي مسألة مهمّة في انفتاح عقله عليك، لأنَّك عندما تفتح قلب الإنسان الآخر فإنَّ القلب هو أقرب طريق إلى العقل، وهذا ما نلاحظه في أكثر من موقع من مواقع أهل البيت (عليهم السلام).
وهكذا نلتقي مع الإمام زين العابدين (عليه السلام) في حديثه مع ذلك الشيخ، الذي عاش تحت تأثير الإعلام الأموي، فبادر الإمام زين العابدين وهو في السبي بقوله: "الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وأراح البلاد من رجالكم.." ولم يقف الإمام سلام الله عليه موقفاً سلبياً من الرجل، بالرغم من قسوة الجوّ النفسي الذي كان يعيشه الإمام (عليه السلام) في تلك الحالة. وإنَّما بادره بالقول: "يا شيخ هل قرأت القرآن؟ واستغرب الشيخ، لأنَّ الدعاية الأمويّة كانت تحاول الإيحاء بأنَّ هؤلاء ليسوا مسلمين، وعندما أجاب الشيخ بالإيجاب، قال له: هل قرأت هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب : 33] واستغرب الشيخ ثانياً، عندها قال له الإمام: مَنْ هم أهل هذا البيت؟ وكان الشيخ ـــ كما تقول الرواية ـــ يعرف أنّ أهل البيت هم محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، وسكت الإمام، وبدأ الشيخ يفكِّر، ما معنى هذا السؤال؟ وتقول الرواية إنّه أعاد عليه السؤال ثانياً: هل قرأت هذه الآية: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى : 23] وسأله: مَن هم القربى يا شيخ؟ وكان الجواب: أنّ القربى هم أهل البيت، ثمّ فاجأه الإمام بالتعليق الصدمة: نحن أهل البيت، ونحن ذوو القربى. وهذا هو رأس الحسين (عليه السلام) وهؤلاء سباياه، وعند ذلك استطاع الإمام سلام الله عليه بهذا الأسلوب اللّبق الحكيم أن يقلب فكر الشيخ رأساً على عقب، ويحوّله من شخص عدواني إلى شخص يعيش الولاء بأعمق ما يكون الولاء(1).
وقبل ذلك نجد أسلوب الإمام الحسن (سلام الله عليه)، عندما وقف أمامه ذلك الشامي وبدأ يسبّه، حين عرف أنّه الحسن بن عليّ، تحت تأثير غسل الدماغ الأموي، في ما كان يوحي به معاوية لأهل الشام بما يتّصل بالإمام عليّ (عليه السلام)، إنَّنا نرى أنّ الإمام (سلام الله عليه) قال له: أظنّك غريباً.. فإن كنتَ جائعاً أشبعناك، وإن كنتَ عرياناً كسوناك، وإنْ كنتَ محتاجاً أغنيناك.. إلى آخر ذلك، ثمّ قال: يا غلمان، اذهبوا به إلى المنزل فأحسِنوا ضيافته، وخرج الرجل وهو يقول "الله يعلم حيث يجعل رسالته"(1).
إنَّنا أمام هاتين القصّتين، نحاول أن نستوحي الأسلوب العملي، الذي انطلق به الإمامان (سلام الله عليهما) في هذه المسألة. لنلاحظ أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) فكَّر لماذا يقف هذا الشامي ـــ الذي لا علاقة بينهما ـــ ليسبّه؟ وهكذا فكَّر الإمام زين العابدين (عليه السلام) لماذا يقف هذا الشيخ ليتحدّث بهذا الأسلوب القاسي الوحشي ضدّ أهل البيت (عليهم السلام)؟ إنّ الفكرة التي لاحظها الإمامان (سلام الله عليهما) هي أنّ هذا الشيخ أو هذا الشامي كانا خاضعين لتأثير الدعاية الأموية، التي كانت تعمل على توجيه هؤلاء الناس ضدّ أهل البيت (عليهم السلام)، في الواقع ليست هناك أيّة فرصة لدعاية مضادّة، وأيّة فرصة لمعرفة القضية من الجانب الآخر، ولذلك لم تكن القضية المطلوبة هي أن يُقتل هذا الشامي الذي سبّ الإمام الحسن (عليه السلام) من قِبَل أهل بيته أو أولاده، ولم تكن القضية أن يعنّف الإمام السجّاد (عليه السلام) هذا الشيخ على ذلك، كانت القضية هي أن يفسح المجال لهذا الشامي ولهذا الشيخ لاكتشاف الحقيقة بنفسه، ليتحوّل إلى داعية للقضية، بدل أن يكون عدواً لها.
وهكذا رأينا أنّ ذلك الشامي، عندما ذهب إلى بيت الإمام الحسن (عليه السلام)، وهو بيت النبوّة وموضع الرسالة، ورأى طبيعة الأجواء الروحية التي تغمر هذا البيت، ورأى طبيعة الخطّ الأخلاقي الذي يتمثّل في كلّ معاني هذا البيت، ورأى طبيعة العلم الذي كان يحمله أهله كانت انطلاقته طبيعية عندما قال: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".
وهكذا كانت المسألة بالنسبة إلى الشيخ الذي تحوَّل من إنسان يسبّ أهل البيت إلى إنسان يسبّ يزيد وأصحابه وما إلى ذلك.
إنَّنا نستطيع أن نأخذ من هذا أسلوباً أساسياً في الدّعوة، وهو أنّنا عندما نقابل الناس الخاضعين لتأثير دعاية سياسية أو اجتماعية معيّنة، فإنَّ علينا أن لا نتحرَّك نحوهم بانفعال عندما ينفعلون بالإساءة إلينا، وإنّما نحاول أن نترك لهم فرصة، ليتعرَّفوا على الحقيقة من أقرب طريق، لنربحهم ولنحوّلهم أصدقاء بدلاً من أن يكونوا أعداء.
وهذا هو الأسلوب الذي ركَّزه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ*وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصّلت: 34 ـــ 35].
الفكرة القرآنية هي أنْ نحوِّل أعداءنا إلى أصدقاء بالأسلوب الأحسن وبالكلمة الحسنى. وهكذا نجد أنّ الإمام الصادق (عليه السلام)، في بعض أساليبه في حركة الدعوة، كان يتحدَّث مع بعض الناس عن ذلك النصراني الذي أدخله إنسان ما في الإسلام، ثمّ جاء به إلى المسجد وبدأ يضغط عليه في العبادة وفي النوافل وفي الأدعية، حتّى أخذ منه وقته كلّه، بحيث لم يدع له فرصة ليذهب إلى أهله ليرتاح من هذا الجهد، وعندما جاءه في اليوم الثاني ليأخذه معه، قال له النصراني: اطلب لهذا الدِّين من هو أفرغ منّي، أنا إنسان مسكين وعليَّ عيال.
يقول الإمام: "أدخله من مثل هذه وأخرجه من مثل هذا"(1).
إنَّنا نفهم، من خلال هذه الفكرة، أنّ على الداعية عندما يريد أن يدعو الآخرين أن لا يثقل عليهم بكلّ الالتزامات الإسلامية، حتّى الواجبة منها، فكيف بالمستحبّات وما إلى ذلك؟ فالمسألة هي أن نحاول العمل معه بشكلٍ تدريجي يهيّئ عقله ونفسه وحياته للنتائج التي نريد الوصول إليها، أمّا أن نثقل عليه فإنَّ هذا الإنسان قد يواجه المسألة بفعل الصدمة، ليجد أنّ هذا الدين ليس الدين الذي يمكن أن يمنح الإنسان الحياة الطبيعيّة، باعتبار أنّه يلغي له كلّ حياته وكلّ التزاماته.
وهذا ما نستوحيه من الحكمة الإلهية في إنزال القرآن على دفعات وإنزال الشريعة على دفعات أيضاً، لأنَّ الله كان يريد أنْ يهيّئ الناس لقبول هذه الالتزامات بالطريقة التي يكون فيها كلّ التزام معدّاً لالتزام آخر، بحيث أنّك إذا التزمت بالتزام معيّن، فإنّك تكتسب بذلك قوّة في الاتّجاه الإيجابي، لتستطيع بعد ذلك أن تلتزم التزاماً ثانياً وثالثاً إلى آخر الالتزامات.
وإذا كان بعض الناس يقولون بأنّ هذا كان في أوّل الدعوة، أمّا بعد استكمالها فعلينا أن نعطي للإنسان الإسلام جملة واحدة.
فنحن نقول: إنّ القضية ليست هي قضية أن نحدِّث الناس بقطع النظر عن النتائج، ولكنَّ القضية هي أنَّنا إذا أردنا أن نهدي الناس، ودار الأمر بأن نهديهم بطريقة تعقّدهم من الإسلام، وبين أن نهديهم بطريقة تقرّبهم منه، فإنَّ من الطبيعي أنّ الطريقة الثانية أفضل وإنْ كان ربحنا فيها سيكون مرحلياً بشكلٍ جزئي يتبعه جزئي آخر..
وهكذا نجد أنّ هناك حديثاً يقول إنّ الإمام الصادق (عليه السلام)، عندما كان يحدِّثه بعض أصحابه عن الموقف السلبي من بعض الناس، الذين لا يبلغون من الدرجة ما يبلغ هذا الشخص، عند ذلك قال له الإمام (سلام الله عليه): إذا كانت المسألة عندك بهذا الشكل فها نحن أعلى منكم درجة وأفضل منكم درجة، فهل يعني ذلك أن نلقيكم أو نترككم؟! ثمّ قال له: "إذا رأيت مَن هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنّه مَن كسر مؤمناً فعليه جبره"(1).
إنَّنا ننطلق من هذا لنفهم أنّ الإمام (عليه السلام) يريد أن يعطينا فكرة في مسألة الدّعوة، هي أنّك عندما تكون الداعية، الذي يملك موقعاً ثقافياً متقدِّماً أو موقعاً رسالياً متقدِّماً فلا يجوز لك أن تشعر بالفوقية تجاه الإنسان الآخر، لتُلغي موقعه ولتضطهد إنسانيّته، بل لا بدّ لك من أن تدرس كلّ فكره وكلّ أجوائه، حتّى تستطيع أن ترفعه إليك بطريقة حكيمة تهيّئ له الصعود إلى المستوى الذي تريده أن يبلغه برفق وبهدوء وبشكلٍ طبيعي، لأنَّك إذا أردت أن ترفعه بقوّة، فإنَّ من الممكن أن تكسره بفعل الصدمة القويّة التي تمثّل الحدّ الفاصل بين مستواك ومستواه. إنَّ معنى ذلك أنّ علينا أن لا نجعل الناس يقفزون في الفضاء، عندما نريد أن نرفعهم إلى مستوى معيَّن، وإنّما يجب أن نرفعهم درجات درجات.
يروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: "إنَّ هذا الدّين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربّك، إنَّ المنبت لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع"(1).
قد يكون هذا حديثاً عن طبيعة حركة الإنسان في ممارسة تكاليفه الشرعية، ليتخفَّف من الضغط الكبير في حركة الممارسة، ولكنَّنا نستوحي منه أسلوباً في الدّعوة أيضاً، هو أنّنا عندما نريد مواجهة أنفسنا أو الدخول إلى الدين بالطريقة التدريجيّة، التي لا تبغّضه إلى أنفسنا بفعل الثقل الذي نفرضه عليها بالدخول فيه بقوّة، فإنَّ ذلك سوف يكسر الحالة النفسية والروحية، تماماً كالذي يركب الدّابة ويواصل بها اللّيل والنهار فتنقطع به في الطريق، "فلا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع". إنَّنا نستوحي من ذلك أنَّنا إذا أردنا توجيه الآخرين فعلينا إدخالهم إلى الدّين برفق، ولا نبغّض إليهم الدّين بالطريقة الثقيلة الضاغطة.
إنَّنا نفهم من ذلك كلّه، ومن خلال كثير ممّا نراه نقرأه في سيرة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، أنَّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يجسّدون الأسلوب القرآني الحركي في الدّعوة في كلّ مفردات حياتهم، على مستوى الدّعوة إلى الله في خطّ العقيدة أو في الخطّ الأخلاقي وفي كلّ المجالات الحياتية، لذلك فإنَّنا نتصوّر أنّ الأئمّة (عليهم السلام) لم يكن لهم أسلوب خاص في الدّعوة، فإذا أردنا أن نقرأ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فعلينا أن نقرأ القرآن، وإذا أردنا أن نقرأ أهل البيت فعلينا أن نقرأ القرآن، لأنَّ أهل البيت يمثّلون التجسيد العملي للقرآن، كما كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وكما قالت إحدى أزواجه عنه: "كان خلقه القرآن".
النظريّة الإماميّة في الدّعوة
ـــ نحن نعلم أنّ ما وصلنا عن أهل البيت (عليهم السلام) من طرق وأساليب في الدعوة للإسلام هو جزء متناثر ممّا صدر عنهم (عليهم السلام) فهل تستطيعون بلورة هيكل عام لمنهجهم في ذلك يحدّد لنا المعايير الرئيسية لنظريّتهم في الدّعوة؟
ربّما كان حديثنا في الجواب عن السؤال الأوّل يُطلّ بنا على الحديث في الجواب عن السؤال الثاني، لسببٍ بسيط جداً، وهو أنّ أهل البيت (عليهم السلام) لم يتحرَّكوا في كلّ حياتهم من خلال منطلقاتهم الذاتية، لتكون هناك ذاتيّةٌ تتحرَّك في خطّ إمام، وذاتية أخرى تتحرّك في خطّ إمام آخر، وإنَّما كانت المسألة في كلّ المواقع هي أنّهم أصحاب رسالة، وأنّهم الأُمناء على الرسالة، وأنّهم الذين اصطفاهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من خلال اصطفاء الله لهم، ليكونوا الحافظين للرسالة فكراً، عندما تكون المسألة مسألة الفكر، ومنهجاً عندما تكون المسألة مسألة المنهج، وأسلوباً عندما تكون المسألة مسألة الأسلوب للدعوة. ومن هنا فإنَّنا نلاحظ في كلّ ما جاء عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّهم كانوا ـــ من خلال ما يؤكّده القرآن ـــ يرون أنّ من أولى عناصر الدّعوة إلى الله، هي احترام إنسانية الإنسان، لأنَّ قضية أن تفتح عقل الإنسان على فكرك، فلا بدّ لك من أن تفتح إنسانيّته على إنسانيّتك، لأنَّ مسألة التقاء الإنسانية بالإنسانية الأخرى في حركة المشاعر والأحاسيس، هي التي تهيّئ الجوّ النفسي للانفتاح على ما تريد أن تطرحه عليه، بينما يكون العكس وسيلة من وسائل انغلاقه عليك، لأنَّنا عندما نريد أن نطلق الدّعوة في عقل إنسان، فإنَّ علينا أن نعرف الطريق الذي يمكن أن نسلكه في الوصول إلى مواقع عقله ومواقع وجدانه. وهذا ما يحتاج إلى شعوره بأنّك تحترمه، وأنّك تحترمُ فكره وقناعاته، وأنّك تفتحُ له قلبك، وأنّك لا تتعقَّد من اختلاف وجهة نظرك مع وجهة نظرِه. وهذا ما قد نلمحه في كلمة الإمام عليّ (عليه السلام): "احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"(1).
إنَّه يقول: عندما تريد أن تنفتح على الإنسان الآخر فإنَّ عليك أن تقتلع من قلبك كلّ الحساسيّة، كلّ السلبيات التي يمكن أن تعقّد علاقتك به وعلاقته بك، وإذا أردنا أن ننطلق بعد ذلك إلى الخطّ العام، فإنَّ أسلوب أهل البيت (عليهم السلام) ـــ المنطلق من الأسلوب القرآني ـــ يتحرّك في اتّجاه أنّ اختيار الإنسان الجوّ الذي يريد أن يثير فيه مفردات الدّعوة، والأسلوب الذي يريد أن يحرّك هذه المفردات في خطّه والكلمات التي يريد أن يستعملها. وهذا ما نراه بارزاً بشكلٍ جليٍّ في حوارات الإمام الصادق (عليه السلام) مع الزنادقة، حيث كان يفتح لهم عقله، وقلبه ويتحمّل كلّ سلبياتهم، حتّى الأساليب التي كانوا يحاولون فيها أنْ يسخروا من الحجّ وأهله، وأن يسخروا من كثير من الحالات، وكان الإمام الصادق يقابلهم بكلّ محبّة، ويتحمَّل سخريّتهم بكلّ هدوء، لأنَّ المسألة عنده لم تكن مسألة انفعال بالكلمات اللامسؤولة، بل كانت مسألة خطّة لفتح قلوبهم وعقولهم عليه، بالكلمة التي هي أحسن، والأسلوب الذي هو أحسن، والجوّ الذي هو أحسن.
ويمكن أن نثير نقطة أخرى في هذا المجال: هي التجربة التي عاشها أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) في أجواء الإمام، عندما جاء إليه بعض الناس، الذين يريدون أن يجادلوه في بعض العقائد أو بعض الأمور الحسّاسة، وهنا رأينا الإمام (عليه السلام) يوجّه أصحابه إلى مجادلته ثمّ يتوجّه لنقدهم، فيقول لبعض أصحابه وقد تغلب على ذلك الإنسان ناقداً له إنّك "تمزج الحقّ بالباطل، وقليل الحقّ يكفي عن كثير الباطل"(1) فكأنّه يقول له: ما الفرق بينك وبينه؟ إنّه جحد حقاً وجحدت مثله؟ لأنّه جحد الحقّ في النتائج، وجحدت الحقّ في الطريق.
إنَّ الإمام يريد أن يركِّز في خطّ الدعوة على مجانبة الأسلوب الجدلي، الذي يحاول أن يستفيد من الباطل، في سبيل إسكات الطرف الثاني. إنّه يريد أن يؤكّد ويُعلِّم هذا الإنسان بأنَّ الدعوة إلى الحقّ يفترض أن تعتبر الحقّ العنصر الأساس في الوسيلة والعنصر الأساس في النتيجة، لأنّك عندما تأخذ من الباطل حجّة على حقّك، فإنّ معنى ذلك أنّك توحي بضعف الحقّ عن مواجهة التحدّيات التي توجَّه إليه، بحيث يضطر إلى الاستعانة بالباطل في مقام التأكيد على نفسه. وهكذا فإنَّ الإمام يريد أن يقول بأنَّ على الإنسان أن لا يظلم الآخر عندما يستعين بأشياء غير حقيقة في سبيل تركيز الفكرة، لأنَّ القضية الأساس هي أن نعطي الإنسان الحقّ كلّه، لينطلق الحقُّ بكلّه في عقله وفي وجدانه. هذه قاعدة من قواعد أسلوب الدعوة عند أهل البيت (عليهم السلام)، وكم لهم من أساليب كثيرة تتمثَّل في كلّ حواراتهم وفي كلّ حياتهم.
ونستطيع أن نقول كلمة حاسمة: إنَّ أهل البيت (عليهم السلام)، عندما يتحرّكون في الحياة فإنَّ كلّ حركتهم تمثّل الخطّ العملي لأسلوب الدعوة في القرآن، الدعوة في أخلاقيّتها والدعوة في حركيّتها والدعوة في قضايا الصراع، وهذا ما يريده القرآن الكريم ويتحرَّك فيه أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وهو أن يكون كلّ واحدٍ منّا داعية بكلّ شخصيّته، لتكون كلّ حياته دعوة في سبيل الله وتجسيداً للخطّ الأخلاقي الإسلامي في مسألة الدعوة إلى الله.
تنوُّع ظروف ووحدة رسالة
ـــ تتميَّز سيرة أهل البيت (عليهم السلام) بأنَّ لكلّ منهم دوراً محدَّداً، يبدو بالنظرة الأولى أنّه مستقلّ بنفسه ومنفصل عن غيره من الأدوار، إلاّ أنّ هناك محاولات قام بها بعض علمائنا الأعلام ومفكّرينا العظام، لاكتشاف الارتباط والتواصل بين هذه الأدوار، بشكل يحكي وحدة الهدف فيها رغم تنوّعها، فكيف تنظرون إلى طبيعة هذا الارتباط والتواصل؟ وما هي في نظركم الأدوار الكليّة لسيرتهم (عليهم السلام)؟
لقد ناقشت هذه الفكرة، التي أحمل كلّ التعظيم والتقدير لصاحبها الرائد في الفكر الإسلامي كلّه(1)، وقد تحدّثت عن ذلك في الكتاب الذي صدر أخيراً: "تأمُّلات في آفاق الإمام الكاظم (عليه السلام)". إنَّني قد أُلاحظ أنّ هذا الطرح الذي يركّز على الترابط في المرحلة بين إمام وإمام، يمثّل فكرة وطرحاً مثيراً للاهتمام، ولكنّي في قراءتي لتاريخ الأئمّة (عليهم السلام) كنتُ أُلاحظ أنّ هناك رسالة واحدة ـــ كما هو معلوم ـــ وأنّ حركة الأئمّة، في مفردات هذه الرسالة وفي أساليبها وفي طبيعة الخطوط التي تتحرَّك فيها، كانت خاضعة للظروف الموضوعية التي لا يدَ لهُ فيها، ومن هنا فقد كان تحرُّكهم ينطلق من العناوين الشرعية العامّة، التي تضع لكلّ ظرف من الظروف أحكامه. ومن هنا نجد أنّ التقيّة التي كانت تحكم حركة الأئمّة (عليهم السلام)، منذ الإمام الباقر (عليه السلام) حتّى آخر الأئمّة الحاضرين، كانت تتنوَّع حسب تنوُّع الظروف وقضية التوجيه العلمي والثقافي والتنظيم الحركي ـــ إذا صحَّ التعبير ـــ للواقع الشيعي، كان ينطلق على أساس ضغط الظروف في هذا الموقع وسعتها في موقع آخر. إنَّني لم أجد هناك علامات واضحة على وجود نوع من أنواع المرحلية المنظّمة، التي كان كلّ إمام يترك للآخر أو يهيّئ للإمام الآخر ما يتناسب ومرحلته. قد نجد هناك كثيراً من الخصائص الموجودة في حياة الإمام الباقر (عليه السلام) أو الإمام الصادق (عليه السلام) وهكذا.
لذلك ـــ مع كلّ تقديري لهذه النظرية في طبيعة مفرداتها وفي بعض الاستدلالات عليها ـــ لم أستطع أن أوافق على هذا المعنى. إنَّني أستوحي من القراءة الدقيقة لسيرة الأئمّة (عليهم السلام)، أنّهم كانوا يواكبون الظروف الموضوعية، ليحرّكوا أساليبهم وفقاً لهذه الظروف، تماماً كما هو الخطّ الإسلامي في حركة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فنحن نجد أنّ المسألة لم تكن مسألة المرحلية، بالمعنى الدقيق الذي حاول بعض الناس أن يركّزه في المرحلية، عندما يقال إنّ مرحلة مكّة هي مرحلة الدعوة ومرحلة المدينة هي مرحلة الدولة. إنَّنا نلاحظ أنّ مرحلة المدينة كانت تمثّل تزاوجاً بين الدولة والدعوة، فقد كانت المدينة قاعدة الدولة. ولكنّ المنطقة المحيطة بالمدينة، التي كان يتحرَّك فيها الإسلام، كانت منطقة الدعوة؛ ممّا لا يمكننا أن نقول إنّ هناك تخطيطاً لمرحلة مكّة، فلم تكن هناك أيّة ظروف موضوعية تمكّن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من أن يدخل في معركة حتّى مع قريش، باعتبار أنّ الدخول في معركة مع قريش كان يلغي الرسالة من الأساس كليّاً.
فلذلك أنا أعتبر أنّ الظروف الموضوعية هي التي تحكم الأسلوب وهي التي تحكم الوسائل، وهي التي تحكم طبيعة المفردات التي تتحرَّك في هذا الجانب أو ذاك. وهذا ما لاحظناه في الأسلوب العملي لأوّل الأئمّة، الإمام عليّ (عليه السلام)، في حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي أسلوبه في ما قبل خلافته وأسلوبه في ما بعد خلافته. إنَّنا نجد أنَّ الأسلوب كان يتحرَّك من خلال حركة الظروف ولم تكن للإمام (عليه السلام) يدٌ في صنع هذه الظروف، لنقول بأنَّ هناك تخطيطاً للمرحلة ـــ بالمعنى المصطلح للتخطيط ـــ لو كنت تصنع الظروف التي تحكمها هذه المراحل، أمّا إذا كانت المسألة هي مسألة الظروف التي تصنع من خلال الآخرين فإنّك لا بدّ أن تُخضع خطّتك للواقع الذي ينسجم مع هذه الظروف. هذا ما نستفيده نحن في حركتنا في الدعوة الإسلامية وفي كلّ الواقع الإسلامي في العالَم. إنَّنا نواكب الظروف الموضوعية، لنحدّد رسائلنا المستمدّة من الخطوط العامّة في الشريعة، تبعاً للظروف الموضوعية، ولذلك لا يمكن للفكر الإسلامي أن يكون متجمّداً ـــ وأقصد الفكر الإسلامي الحركي الواقعي ـــ ولا يمكن للحركة الإسلامية أن تتجمَّد.
ومن خلال هذا، نفهم أنّ الذين يحاولون مواجهة المتغيّرات الواقعية، التي يعيشها العالَم الإسلامي من خلال المتغيّرات الموجودة في العالَم، لا يتجمَّدون على الفكر الذي كان قبل أربعين أو خمسين سنة، من خلال تجارب أشخاص مخلصين في دورهم القيادي، ولكنّهم أطلقوا أفكارهم الحركية من خلال تجربتهم المحدودة بحدود ظروفهم من الزمان والمكان والأوضاع السياسية. لذلك ما نستوحيه من هذا، هو أنّ على الحركة الإسلامية أن تواكب حركة الظروف والمتغيّرات، لتركّز خطّها على هذا الأساس، لا بمعنى أن تكون منفعلة بالظروف، بحيث تقع تحت تأثيرها، بل تعمل على تغيير الواقع بأدوات الواقع.
الحسن والحسين (عليهما السلام) خطٍّ واحد لا خطَّان
ـــ نرى خطّين في سيرة وتاريخ أتباع أهل البيت (عليهم السلام): خطّ يدعو لنهج طريق الإمام الحسن (عليه السلام) في الصلح والمسالمة كأسلوب في الدعوة للإسلام، وخطّ يدعو لنهج طريق الإمام الحسين (عليه السلام) في الثورة والجهاد والاستشهاد كأسلوبٍ آخر. فهل هنالك ضوابط وأُسس معيّنة تحدِّد لنا المواضع الصحيحة لكلّ أسلوب، والدوافع الشرعية والموضوعية لانتهاجه؟
لا أُوافق على هذا النوع من التقسيم، أي أن يقال إنَّ هناك أسلوباً حَسَنيّاً، ينطلق من الشخصية الذاتية للإمام الحسن (عليه السلام)، وإنّ هناك أسلوباً حسينياً، ينطلق من الشخصية الذاتية للإمام الحسين (عليه السلام). لا يمكن أن نفكّر بأنَّ الحسين (عليه السلام) يعيش ذهنية العنف وأنّ الحسن (عليه السلام) يعيش ذهنية اللّين. إنَّ الأسلوب الحسني (عليه السلام) ـــ إذا صحَّ التعبير ـــ كان أسلوباً حُسينياً، وإنَّ الأسلوب الحُسيني كان أسلوباً حسنياً، كيف نفسِّر ذلك؟
إنَّنا عندما نواكب مسألة حركة الإمام الحسن (عليه السلام) في خلافته فإنَّنا نجد أنّه كان ثورياً كأعلى درجات الثورة في خطابه السياسي، وعندما ندرس وندقِّق في مفردات كتبه إلى معاوية فإنَّنا نجد أنّه كان يعيش عمق العنف، في ما يمثّله الجهاد في هذا المجال، وعندما صالَح فإنّه صالَح على أساس أنّ الظروف الموضوعية كانت تقف به بين خطّين: إمّا أن تسقط المعارضة كلّها، فلا يبقى هناك صوت للحقّ يعارض الباطل، وإمّا أن يحتفظ ببعض المعارضة، التي يمكن أن تمثّل استمراراً للخطّ في مواجهة الباطل، الذي استطاع أن يفرض نفسه على مساحة كبيرة من الواقع، هذا من جهة.
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الحروب التي دارت بين المسلمين في خلافة الإمام عليّ (عليه السلام) قد أتعبت المسلمين، ولذلك أتعبوا عليّاً (عليه السلام) بأسلوبهم في السير معه، وحجبت الرؤيا عن فضائح الأمويّين وعن سيّئاتهم ووحشيّتهم وضلالهم وما إلى ذلك، لأنَّنا نعرف أنّ أيّة أُمّة لا يمكن أن تميِّز بين اللّون الأبيض واللّون الأسود في حالة الحرب، لأنَّ حالة الحرب تمثّل الحالة الرمادية، في ما هو الوعي المنفتح على قضايا الواقع؛ فالناس في حالات الحرب يفقدون الخطوط الواضحة للمبادئ، ويستغرقون في مفردات الحرب، ليسجِّلوا نقطة على هذا ونقطة على ذاك، وليستغرقوا في هزيمةٍ هنا ونصرٍ هناك وما إلى ذلك. ومن هنا كان من الصعب جداً توعية الناس بالواقع الذي يمثّله الحكم الأموي، لذلك كانت المصلحة الإسلامية العليا، التي تحكم مسيرة الإمام الحسن (عليه السلام)، هي حفظ البقيّة الباقية من المعارضة، لتمثِّل الامتداد في خطّ المواجهة للباطل وليعطي الناس فرصة ليتفهَّموا من خلال التجربة الواسعة مَنْ هم بنو أُميّة وما هو الحكم الأموي؟ لذلك كان يهيّئ المجال لثورة الحسين (عليه السلام).
وقد لاحظنا أنّه عندما ثارت ثائرة المتحمّسين من أصحاب الإمام الحسن (عليه السلام)، كان الإمام الحسين (عليه السلام) يدافع عن موقف الإمام الحسن (عليه السلام) ويتحدَّث عن شرعيّته بكلّ قوّة، وإذا صحّ أنّ الحسين (عليه السلام) وقَّع وثيقة الصلح عندما طولب بذلك، كما وقَّعها الحسن (عليه السلام) فإنَّ معنى ذلك أنّ الحسين كان يسجِّل موافقته مباشرة على الصلح.
وربّما كان هذا ما يفسِّر أنّ الحسين (عليه السلام) لم يطلق الثورة في وجه معاوية ما دام معاوية حيّاً، لأنَّ الالتزام بهذا الصلح كان بحكم موقفه، إذا صحَّت الروايات. وهكذا نرى أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) أعطى للمسلم إمكاناته، ولو من خلال إقامة الحجّة، وكان يعمل على أساس تقديم الحجج التي كانت بيده على شرعيّته في أحاديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكان يطلب من الناس أن يشهدوا على ما سمعوا به وكان يحاول أن يطرح بعض الحلول السلمية، ولكنَّ القضية وصلت إلى الحدّ الذي عبَّر عنه الإمام الحسين (عليه السلام): "ألاَ وإنَّ الدَّعيّ ابنَ الدعيّ قد تركني بين اثنتين: بين السّلّة والذلّة، وهيهات له ذلك، هيهات مِنِّي الذلّة"(1) عندما طُلِبَ منه أن ينزل على حكم ابن زياد ويزيد بن معاوية، ومعنى ذلك إلغاء الرسالة وإلغاء كلّ الشرعية، لأنَّ النزول على حكمهم معناه إعطاء كلّ شيء لهم. لذلك كانت المسألة الحسينية تتحرَّك من خلال الظروف، التي أوحت للحسين (عليه السلام) بالقاعدة الشرعية لحركته، كما كانت الظروف الموضوعية هي التي حرَّكت الإمام الحسن (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام) معه، لتطبيق الخطّ الشرعي على مسألة الصلح؛ ولذلك كان الحسن حسينيّاً وكان الحسين حَسَنيّاً.
ليس في الإسلام شيء اسمه العنف المطلق أو شيء اسمه اللّين المطلق. فالعنف يختزن اللّين في ما ينفتح به على كلّ واقع الحياة، واللّين يختزن العنف في ذلك، باعتبار أنَّ لكلٍّ منهما حدوداً معيّنة وظروفاً معيّنةً.
وهذا ما ينبغي أن نستفيده في فهم مسألة الحركة الإسلامية، باعتبار أنّ هناك خطّاً يشمل الساحة الإسلامية في الحديث عن الثورة بالمطلق أو الحديث عن الجمود في المطلق، وكلاهما خطأ. الثورة موضوع شرعي يخضع لظروف الحكم الشرعي، والوقوف عن الحركة يمثّل موضوعاً شرعياً؛ وعلينا أن نستهدي الأحكام الشرعية في حركة الواقع، من خلال الموضوعات التي يقدّمها الواقع في انطباق الأحكام الشرعية عليها. وهذا ما أحبّ أن أُنبِّه عليه كلّ العاملين.
إنَّ تثقيف الشباب بالعنف كأساس للحركة السياسية، يعني أنَّنا نثقّفهم بطريقة قد يقفون فيها حائرين أمام أساليب الأئمّة (عليهم السلام) وقد يقفون فيها حائرين أمام أسلوب الإمام عليّ (عليه السلام) قبل الخلافة، وقد يجعلهم يعيدون النظر بشكلٍ لا شعوري عندما يكتشفون أنَّ ما تعلَّموه من الأسلوب الثوري ـــ كخطٍ وحيد ـــ لا ينسجم مع أسلوب الأئمّة (عليهم السلام) في حركتهم. ولذلك فعندما نريد أنْ نثقّف الجيل بأيّة ثقافة في الخطّ السياسي والجهادي، لا بدّ أن نثير نقاط الحذر هنا وهناك، حتى لا نبتلى بإسقاط تاريخنا من خلال الانفعال في حاضرنا.
الولاية حركة في الخطّ
ـــ هنالك مبدأ يعتقد به أتباع أهل البيت (عليهم السلام) ويعتبرونه أحد أُسُس الإيمان بالإسلام وهو مبدأ الولاية للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وأهل بيته (عليهم السلام) والبراءة من أعدائهم، فما هي في نظركم الرؤية السليمة والصيغة العملية الواقعية لهذا المبدأ؟
من الطبيعي أنّ قضية الولاية لا تمثّل حالة حبّ منفعل ولكنّها تمثّل حالة موقف واعٍ عاقل، يعتبر أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) خلفاء الرسول وأوصياءه الذين يجب على الناس أن يطيعوهم، كعنوان من عناوين الامتداد لطاعة الرسول، باعتبار أنّ قولهم قوله وفعلهم فعله، لاسيّما إذا عرفنا أنّ الله أذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً، ولذلك نقول: إنَّ قولهم شريعة وفعلهم شريعة، لا بمعنى أنّهم يشرّعون لنا ما لم يشرّعه الرسول، فالتشريع انتهى بموت الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ولكنّهم كما يقول أبو عبد الله (عليه السلام): "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين وحديث أمير المؤمنين، حديث رسول الله، وحديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، قول الله عزَّ وجلّ"(1). كما قال الشاعر:
أوالي أُناساً قولُهُمْ وَحديثُهُمْ روى جدُّنا عن جِبْرَئيل عَنِ الباري
أمّا شرعيّتهم المتحرّكة في خطّ عصمتهم فإنّها تنطلق من أنّ كلماتهم هي كلمات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأنّ أفعالهم هي أفعال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم). فالولاية حركة في الخطّ وليست مجرّد لفظة في القلب، ولذلك جاء الحديث المروي في الكافي عن الإمام الباقر (عليه السلام): "حسب الرجل أن يقول: أُحبُّ عليّاً وأتولاه، ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً؟! فلو قال: إنّي أحبّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) خيرٌ من عليّ (عليه السلام)، ثمّ لا يتبع سيرته، ولا يعمل بسنّته؟.." ثمّ قال: "مَن كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ. ولا تُنال ولايتنا إلاّ بالورع"(1).
ومن هنا فإنَّ معنى الالتزام بولاية البيت (عليهم السلام) هو الالتزام بالإسلام الأصيل، الذي تمثّله رؤيتهم وفهمهم وتوجيهاتهم في هذا المجال. وعندما تلتزم ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، التي تمثّل الالتزام بالإسلام، فعليك العمل على مواجهة كلّ الخطوط المضادّة التي تُضاد شرعية ولايتهم، أو أنّها تغتصبها فلا تلتزم بها؛ كما وأنّ عليك في هذا المجال أن تقف ضدّ الخطوط الفكرية والحركية والمنهجية، التي تختلف عن الخطوط، التي اعتبروها الخطوط الأساسية في الخطّ الإسلامي والعمل الإسلامي.
إنَّنا من خلال ذلك نقول: إنَّ حركة البراءة تتحرَّك في كلّ موقع كان مُضاداً لأهل البيت (عليهم السلام)، في كلّ تفاصيل التاريخ في الأشخاص، وفي كلّ تفاصيل الخطوط التاريخية في الحركة، أن تكون الولاية لأهل البيت (عليهم السلام) هي القاعدة المركزية، التي نستطيع أن نقيس بها الأشخاص والأوضاع والمواقف، على طريقة الكلمة التي قالها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور حيثما دار"(2). وهكذا كلمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح مَن ركبها نجا ومَنْ تخلَّف عنها غرق"(3).
ذلك هو الخطّ العريض الكبير، الذي لا بدّ لنا أن نتابعه ولا بدّ لنا أن نعمل على توثيقه في عالَم التطبيق، وعلى تطبيقه في عالَم الحركة وعلى تحريك الحكمة التي تحمي القضايا الكبرى عند الدخول في التفاصيل.
ولاية أهل البيت (عليهم السلام) في خطّ النظريّة والتطبيق(*)
للولاية، في الخطّ العقيدي الإيماني الإسلامي، دور القاعدة الفكرية الحركية في معنى القيادة، التي تختصر كلّ المفردات الإسلامية في حركة الواقع على الخطّ المستقيم.
إنَّ مضمون الولاية، سواء كانت ولاية الله والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أو الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)، ينفتح على الله من حيث هو الربّ الخالق الرازق المهيمن المالك، وعلى الرسول من حيث هو الحامل لرسالة الله العامل على تأكيدها في الوعي والواقع، وعلى الأئمّة من حيث هم الأُمناء على الرسالة في حمايتها من الانحراف في خطّ النظرية والتطبيق، وتحريكها في صعيد الواقع على أكثر من اتّجاه.
بهذا المضمون، نجد أنّ القضية تلتقي مع حاجة الإنسان، الذي قد يتخبَّط في المتاهات وقد يبتعد عن عمق الصفاء في إنسانيّته، إلى الشعور العميق بوجود القوّة المهيمنة الهادية، التي تحميه وتقوّيه وتوحي إليه بأنّها معه دائماً حتّى في أشدّ الحالات صعوبة. وهذا ما يحسّه الإنسان في ولاية الله الذي يخرجه من الظلمات إلى النور ويرعاه في كلّ مواقع حياته ويهديه إلى الصراط المستقيم.
أمّا ولاية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فإنَّ دورها هو تحديد الخطّ الواضح، الذي تلتقي فيه البداية بالنهاية في وضوح كامل، يتميَّز بالصفاء والصّدق، وينفتح على الحقّ الذي لا ريب فيه، من خلال الإيمان بأنّه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ـــ 4] فقوله هو الحقّ، وفعله هو الخطّ، ومنهجه هو المنهج الصحيح الذي يقود الإنسان إلى السعادة والنجاة، وشريعته هي الشريعة المشتملة على كلّ حاجات الإنسان الروحية والحياتية وعلى كلّ تطلُّعاته الخيّرة في الحياة، وقيادته هي القيادة الحكيمة التي تحرّك التطبيق الدقيق في خطّ النظرية.
أمّا ولاية الأئمّة (عليهم السلام) فلكونهم الدُّعاة إلى الله، الأدلاء على سبيله والمرجعيات المعصومة عن الخطأ والانحراف، الذين يطمئن الإنسان إلى الحقّ في كلماتهم وسيرتهم، ليجد فيها المنقذ من الضلال، وليتحرَّك معها في الخطّ الإسلامي الأصيل.
قيمة الولاية
إنَّ قيمة الولاية، في خطّ الرسالة والإمامة، أنّها تلاحق الإنسان في مفاهيمه وحركيّته، لتمنحه الوضوح في الخطّ، والسداد في الرأي، والسلامة في الحياة، والاستقامة في الطريق، والرعاية في الحركة في خطواته السائرة إلى الله، ولذلك فإنَّ الارتباط بها يحمي الإنسان من الانحراف ويقوده إلى الصراط السويّ ويمنحه الحنان، الذي يتخفَّف فيه من أثقال الحياة التي تثقل روحه وترهق نفسه؛ فيحسّ معها بالحاجة إلى القيادة، التي تربطه بكلمات الله وتوحي له بالحقيقة في كلّ متاهات الشبهات.
أحبُّونا حبّ الإسلام
ـــ والآن كيف نفهم ولاية الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) في خطّ التطبيق، من خلال الارتباط الولائي لهم في التزام اتباعهم؟
إنَّ هناك نقطة لا بدّ لنا أن نفهمها جيداً، وهي أنّ الولاية ليست حالة عاطفية تربط الإنسان بالشخص في عملية حبّ، ينبض لها القلب وتنفتح عليها الروح ويخفق فيها الشعور، تماماً كما هو الحبّ الذاتي عندما يحبّ إنسان إنساناً فيستغرق في صفاته الذاتية، بعيداً عن خطّه الفكري أو العملي في حركة الرسالة، كما يتحرَّك الكثيرون من الناس، الذين كانت علاقتهم بالنبيّ وبالأئمّة علاقة حبّ مستغرق في الذّات، فهم ينفتحون على أشخاصهم وفضائلهم وشؤونهم في دائرة العظمة الذاتيّة، بحيث تكون الرسالة جزءاً من أمجادهم. فالرسالة صفة ذاتية في الرسول ترفع مكانته في النفوس، والإمامة عنصر حيوي في ارتفاع درجة الإمام، فلا ينظرون إلى الرسالة في حياة الرسول والإمام من حيث هي المسألة الموضوعية الأصيلة، التي ارتفعت بالرسول في روحيّته وفكره وحياته، وفتحت للإمام آفاق المعرفة الواسعة والروح القدسي المنفتح على وحي الله، فكانت حركة النبيّ في دعوته، وقضيّته في حركته، وخطّه في كلّ مسيرته الممتدّة في حياة الإنسان في الزمن كلّه، وكانت حركة الإمام في تأهيل الفكر الإنساني على أساس تأكيد المفاهيم الإسلامية الرساليّة، وتقويم خطواتها في الطريق، وفي الإشراف القيادي على امتداد الرسالة في حياة الناس وسط التيّارات المضادّة في الأجواء المحيطة بالإسلام والمسلمين، لتمنعها من التأثير على الفكر الإسلامي وعلى الصورة، التي يتمثّلها المسلمون في وعيهم الثقافي وحركتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، وفي مسؤولياتهم في مواجهة مهمّاتهم الكبيرة على خطّ الإسلام.
إنَّ الولاية الرسولية أوّلاً والإمامية المنطلقة من ولاية الرسول ثانياً، هي الأساس في دور الرسول والإمام، بالمعنى الذي يجعل الرسالة محور كلّ الدور، فهي التي تحكم معنى الذّات في وجودهما، فلا وجود لهما إلاّ من خلال مضمون الرسالة في الفكر الرسالي الذي يحملانه والأسلوب العملي الذي يحرِّكانه، والقضايا الكبرى التي يثيرانها، فلا حساب للنبي أو للإمام في علاقتهما بالنّاس، إلاّ من خلال حركة الرسالة في حساب القياديّين الرساليّين. ولذلك لا بدّ من أن يكون الارتباط بالرسول والإمام، من خلال الارتباط بالإسلام كقاعدة أساسية في مضمون الحبّ ومعنى الاتباع وامتداد العلاقة، بحيث يتحدَّد مستوى الحبّ بالحدود التي تضعها الرسالة في ارتباط العاطفة بالرموز الدينية، فلا غلوّ بالدرجة التي تصل إلى الحدّ الذي يقترب فيه من صفات الألوهية التي ترتفع بالرّمز ليكون إلهاً من الدرجة الثانية.
ولعلَّنا نستوحي هذا الرفض من هذا التأكيد الحاسم، المتكرِّر في أكثر من آية على بشرية الرسول، بحيث ترتكز على بعض نقاط الضعف الإنساني، بما لا يتنافى مع موقع العصمة في شخصيّته ولا يسيء إلى مكانة النبوّة في دوره. وقد جاء في الحديث عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) "أحِبُّونا حبَّ الإسلام"(1). ومعنى ذلك أنّ الحبّ للرسول وللأئمّة (عليهم السلام) لا بدّ أن يكون منطلقاً من الإسلام في مضمونه العاطفي فلا يبتعد عن حدوده، ومتحرِّكاً في خطّ الإسلام من حيث إِنّهم يمثّلون فكره وخطّه ومنهجه، ليكون الارتباط بهم لوناً من ألوان الارتباط بالإسلام، فلا نفصل بينه وبينهم، ولا نبتعد عنه في التزامنا بهم.
تمثّل الولاية عملياً
ـــ وفي ضوء ذلك كلّه يبرز السؤال، كيف يمكن أن نتمثّل الولاية في حياتنا العملية في المرحلة المعاصرة، التي تتحرَّك فيها حياتنا؟
هل يكفي التشديد على إثارة ذكرياتهم والفرح في مناسبات أفراحهم أو الحزن في مناسبات أحزانهم والتركيز على الحديث عن فضائلهم وكراماتهم والاستغراق في الأجواء العاطفية المرتبطة بهم، ليكون ذلك كلّه هو المظهر الحيّ لارتباطنا بهم؟
إنَّنا نتصوَّر أنّ الولاية، في علاقتنا بأهل البيت (عليهم السلام)، تتمثّل في الالتزام بالإسلام كلّه، عقيدة وشريعة، ومنهجاً لحركتنا في الحياة، وذلك باعتباره رسالتنا التي نحملها إلى العالَم، لنعمِّق الالتزام الإنساني به في مواجهة التيّارات المضادّة، التي تقف من الإسلام موقفاً سلبياً في ساحة الصراع الثقافي والاجتماعي والسياسي، كما تقف من قضايا المسلمين موقفاً استكبارياً محارباً؛ فذلك هو الذي يمثّله النهج الرسالي للرسول وأهل البيت (عليهم السلام)، لأنَّ قضية الإسلام والمسلمين هي قضيّتهم الأولى والموقع الأساس، لأنَّ دورهم هو أن يربطوا الناس برسالة الله، لا أن يربطوهم بأشخاصهم في عملية استغراق في الذّات، بعيداً عن أصالة الإسلام في الوعي، وليكون الله كلّ شيء في العمق الوجودي للإنسان. فقيمة الرسول في وعينا أنّه رسول الله، وقيمة أهل البيت أنّهم أولياء الله، حتّى لا ننسى الله عندما نذكرهم ولا ننسى الإسلام عندما نلتفت إلى خطّهم. فليس هناك خطّ للولاية خارج نطاق الإسلام في قيمه الفكرية والروحية والأخلاقية.
وهناك نقطة حيويّة أخرى، وهي أنّ علينا أن ننفتح على أصالة التراث الإسلامي الفكري، الذي تركه أهل البيت (عليهم السلام)، لنقوم بدراسته وتوثيقه وتنقيته من كلّ الشوائب العالقة به، ممّا وضعه الوضّاعون وكذب فيه الكذّابون. فلا نتبنّى أيّ حديث منقول في الكتب الحديثة أو التاريخيّة، فلعلّ بعضها غير صحيح، لأنَّ البعض كانوا يضعون الأحاديث وينسبونها إليهم زوراً وبهتاناً. وقد حذَّرنا الأئمّة من ذلك ودعونا إلى عرض الأحاديث على كتاب الله، وقالوا لنا: إنَّ ما خالَفَ قول ربّنا لم نقله وما خالَفَ كتاب الله فهو زخرف، لأنَّ القرآن هو كتاب الله الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت : 42].
الولاية: الإسلام الأصيل
وعلى هدى هذا المنهج في الأخذ بالمفهوم الإسلامي الأصيل، الموثوق في سنده ومضمونه، لا بدّ لنا من دراسة أساليب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، التي تنوَّعت حسب تنوُّع الظروف الموضوعية التي أحاطت بهم، فقد تكون الثورة هي الأسلوب في الخطّ الجهادي، وقد تكون الحركة في الخطّ الفكري، وربّما تكون المهادنة للواقع القائم هي الأسلوب العملي، الذي تفرضه طبيعة المرحلة من دون إضعاف الخطّ، وقد يكون التخطيط المستقبلي للحركة التغييرية، التي تفرض الكثير من الأساليب الواقعية التي تحفظ الخطّ من الاهتزاز، فتمنع من الوقوع في الحركة الانفعالية المنطلقة من الحماس الذاتي.
ولهذا لا بدّ لنا من المقارنة الدائمة بين مرحلتنا والمراحل التي عاشها الأئمّة من أهل البيت، لنتعرَّف أسلوب المرحلة الحاضرة من خلال مقارنتها بالمرحلة التاريخية التي عاشوها ـــ عليهم السلام ـــ في ظروفهم العامّة والخاصّة، لنأخذ الأسلوب العملي الذي يتناسب ومرحلتنا، لأنَّ العمل الإسلامي ليس حماساً وانفعالاً واندفاعاً في المجهول، بل هو منهج وخطّة وحركة ووعي للواقع في كلّ خلفيّاته وظروفه وقضاياه. وهذا ما يفرض علينا الانفتاح على الوعي الثقافي الفكري والوعي السياسي العملي، لأنَّ ذلك هو السبيل لمعرفة كلّ حركة الأرض التي نقف عليها، وكلّ الخطط المضادّة التي توجّه ضدَّنا، وكلّ خلفيات وسلبيات وإيجابيات أوضاعنا الإسلامية في حركة مجتمعاتنا في هذه المنطقة أو تلك، حتّى لا نتحرَّك في طريق لا نعرف نهاياتها.
إنَّ العنوان الكبير للحركة الإسلامية السائرة في منهج أهل البيت (عليهم السلام) هو الدّعوة إلى الإسلام، والجهاد في سبيل الله بالكلمة والحركة والموقف، الأمر الذي يفرض علينا أن نملك ثقافة الإسلام، ووعي مسألة الجهاد ومعرفة الأساليب التي تتنوَّع تبعاً لتنوّع الظروف والأوضاع، فلا بدّ لنا من دراسة الأرض والجوّ والناس والحركة والحاضر والمستقبل، وحجم القوى المضادّة في إمكاناتها الإعلامية والسياسية والاقتصادية والأمنية، لنعرف كيف نستعدّ لها من خلال إمكاناتنا الذاتية في جميع مجالاتنا.
إنَّ الإنسان المؤمن، في حياته الفردية أو الاجتماعية، لا بدّ أن يكون الإنسان الواعي المنفتح على ربّه وعلى عصره وعلى كلّ القضايا المصيرية أو الحيويّة في الحياة، ليكون له الدور الفاعل في حركة الإنسان المعاصر، من حيث هو صاحب رسالة شاملة للعالَم كلّه وللزمن كلّه، ولن يستطيع أن يصل إلى هذا المستوى، إلاّ من خلال الانفتاح الواسع على كلّ الأمور العامّة في المرحلة الحاضرة والمستقبلة، وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في حديثه عن المؤمن قال: "المؤمن حسن المعونة، خفيف المؤونة، جيّد التدبير لمعيشته، لا يلسع من جحرٍ مرّتين"(1).
وهذا يوحي بأنّه يستفيد من تجاربه فلا يكرِّر التجربة الفاشلة، ولكنَّه يتعلَّم منها ليدخل في تجربة جديدة يكفل لها كلّ عناصر النجاح. إنَّ خطّ الولاية، في خطّ أهل البيت، هو خطّ الإسلام الأصيل في فكره وأسلوبه العملي وحركته في اتّجاه التغيير، لذلك لا بدّ لكلّ أتباعهم من أن يعيشوا الالتزام الإسلامي فكراً وعملاً في قضاياهم العامّة والخاصّة.
عناوين في العمل الإسلامي(*)
في الواقع الحركي الإسلامي، الذي انطلق فيه المسلمون العاملون كإسلاميين يصنعون للإسلام حركته ويحاولون استيحاء الخطوط العامّة التي انطلقت في الكتاب والسُنّة، لاكتشاف الخطوط التفصيليّة التي تتحرَّك في كلّ الواقع على اختلاف المراحل التي يعيشها الحركيّون الإسلاميون وعلى اختلاف المواقع التي يتحرّكون في داخلها، ربّما كانت المشكلة في انطلاقة الفكر الإسلامي الحركي، أنَّه مرَّ في بعض الفترات بالخطوط التجريديّة، التي تتحدَّث عن المبادئ بطريقة تحاول أن تحاصر الواقع وتحاصر الإنسان الحركي، بحيث يبقى مجمَّداً أمام كلّ المتغيّرات وكلّ المعطيات، لأنّه عندما يقترب من هذا الدرب فإنّه يرى مشاكل شرعية أمامه؛ وعندما يريد أن يلتقي مع هذه الجهة فإنّه يرى عناوين كبيرة فضفاضة تمنعه من أن يلتقي بها لقاء تعاون أو لقاء تحالف، لأنَّ هذا كافر لا يجوز لك أن توادّه ولأنَّ هذا ضالّ لا يجوز لك أن تمنحه شرعية من خلال ذلك. حتّى انطلقنا في طريقنا لنفاجأ بأنَّنا بقينا جماعة تتمحور حول نفسها وانطلقت القوى الكافرة والقوى الضالّة لتأخذ الشارع كلّه. ربّما كان بعضنا يقول إنَّ أكثر الناس لا يؤمنون وإنَّ أكثر الناس لا يعلمون، ليبرّر للواقع الذي حاصر نفسه فيه أو حاصره من خلال فكره. هذا ما نريد أن نعالجه أو نفكِّر فيه كإسلاميين، انطلق الواقع ليجعلهم في قلب السّاحة العالمية في كلّ مجالاتها وفي كلّ صراعاتها وفي كلّ حربها.
الثابت والمتغيّر
هناك عنوان "الثابت والمتغيّر". قبل كلّ شيء نحن مسلمون، لا نستطيع أن نبتعد عن الإسلام الأصيل قيد شعرة، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب : 36] حتّى لو قال العالَم ما يقول {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 ـــ 46]، فكيف بنا نحن؟
الثابت هو الحكم الشرعي القطعي، الذي لا مجال للاجتهاد فيه ولا مجال للخلاف حوله، كالضرورات العامّة التي، بالإيمان بها، يكون الإنسان مؤمناً وبإنكار بعضها يقترب من الكفر أو يكون كافراً من باب إنكار الضروري. أمّا ما عدا ذلك، كلّ حكم شرعي اجتهد فيه من اجتهد من فقهائنا فهو ثابت، من حيث حجّيته حتّى يثبت خلافه. إنَّ المسألة التي تواجهنا أنّ لدينا أحكاماً اجتهد فيها المجتهدون من قبلنا، وليس ضرورياً أن يكون اجتهاد المجتهدين مثل الحقيقة الحاسمة النهائية التي لا مجال فيها للجدل، فقد انطلق اجتهادهم ـــ مع كلّ احترامنا وتقديرنا وتعظيمنا لهم ـــ من خلال تجربتهم الفكرية؛ وربّما يكون لقرب عهدهم بمرحلة الرسالة بعض الحقيقة، التي قد لا نستطيع أن نتمثّلها في مرحلتنا هذه. لكن يمكن لنا أن نقول: إنَّ الحكم الذي اجتهد فيه المجتهدون ـــ أيّاً كانوا في أيّ مذهب تحرَّكوا من مذاهب الإسلام ـــ يمكن لنا أن نجتهد فيه من جديد، أن نفهم ما فهموه، أن نفهم وجهة نظرهم وأن ندير النظر في ذلك.
ومن هنا، فإنَّنا نعتقد أنّ حركية الإسلام الفكرية في المجال الكلامي أو الفقهي أو المفهومي، في ما هي المفاهيم الإسلامية عن الإنسان وعن الكون وعن الحياة، تتطلَّب أن نفتح باب الاجتهاد بأصول الاجتهاد، لا الاجتهاد المزاجي، لا الاجتهاد الانفعالي، لا الاجتهاد الذي ينطلق تحت وطأة ضغوط الناس الذين ينتقدون حكماً شرعياً أو ينتقدون لنا مفهوماً إسلامياً. الاجتهاد الذي ينطلق من مسؤولية الإنسان أمام الله والذي يريد أنْ يتحرَّك في الخطوط الاجتهادية، التي تحرّك فيها المجتهدون من قبل، من خلال مصادر الشريعة الأصيلة ومن خلال ما استوحوه من هذه المصادر التي ضمّوها إلى الكتاب والسُنّة.
القابل للاجتهاد متغيّر
إنَّنا إذا استطعنا أن نفتح باب الاجتهاد بأصوله فقد نستطيع أن نكتشف كثيراً من الأخطاء، التي كانت ناشئة من بيئة هذا المجتهد أو من بيئة ذاك أو من ثقافة هذا أو ذاك. لذلك نحن لا نستطيع أن نعتبر أنّ ما جاء به المجتهدون من الثابت الإسلامي، ولا نستطيع في الوقت نفسه أن نطرحه، بل لا بدّ أن نبحث فيه، لنعرف النتائج من خلال ذلك؛ فإذا ما كان قابلاً للاجتهاد فهو متغيّر، من خلال الخطّ الإسلامي في الاجتهاد وليس من خلال المتغيّرات التي حدثت هنا وهناك. وهكذا نجد أنّ المتغيَّر في الدائرة الواسعة هو الوسائل والأساليب. الحكم الشرعي لا يتغيَّر في دائرة الحكمية، إنَّما يتغيَّر في دائرة الموضوع. عندما يقال إنَّ الأحكام تتغيَّر بتغيّر الأزمان فإنَّ الأزمان قد تعطي الموضوع عنواناً لم يكن موجوداً سابقاً، فيتبدَّل الحكم حسب تبدّل العنوان. الشيء قد يكون مباحاً في نفسه، الماء مباح في نفسه ولكنّه يحرم إذا أضرَّك وتحوَّل إلى خطر على حياتك، الماء الذي يكون ضارّاً يكون محرَّماً بينما هو مباح في نفسه.
وهكذا تتغيَّر الأحكام بتغيّر الأزمان، لأنَّ الأزمان تغيّر الموضوعات والحكم تابع للموضوع فإذا تغيّر الموضوع تغيَّر الحكم.
أمّا في ما يتعلَّق بالوسائل والأساليب، فإنَّنا عندما ندرس السيرة النبويّة الشريفة وندرس حركة الصحابة وحركة كلّ من يكون قولهم حجّة لنا بما ثبت من حجيّة قولهم، قد نجدهم مارسوا أساليب في الدعوة أو مارسوا أساليب معيّنة حسب المرحلة، وقد اعتبر بعض المفكّرين الإسلاميين أنّ هذه الأساليب من الثوابت فأخذ يتبنّى المرحلية، على أساس أنّ هناك مرحلة الدّعوة في مكّة وهناك مرحلة الدولة في المدينة وَأَنَّ علينا أن ننهج مثل هذا النهج دائماً، وهكذا في أساليب الحرب والسلم، حارَبَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في مجال وسالَمَ في آخر، فهل نستطيع أن نعتبر هذه الأساليب ثوابت يجب علينا أنْ نتجمَّد حولها؟ أو أنَّنا نعتبرها نماذج تؤكّد لنا شرعية الأسلوب وشرعية الوسيلة في دائرة الظروف الموضوعية، التي تحيط بهذه المسألة أو بهذا الأسلوب؟
إنَّ كلّ الفقهاء الذين يعتبرون أنَّ السُنّة هي قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وفعله وتقريره، يقولون الفعل لا يدلّ على وجوب، كما أنّ الترك لا يدلّ على تحريم. الفعل يدلّ على الشرعية، عندما يفعل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) شيئاً فمعناه أنَّه مشروع وعندما يترك شيئاً فمعناه أنّ تركه مشروع، أمّا أنّ هذا الفعل واجب أو مستحبّ، أمّا أنَّ هذا الترك حرام أو مرجوح فهذا ممّا لا ينطق الفعل والترك فيه.
لذلك نحن في كلّ الأساليب التي تحرّكت بها السُنّة في طريقة إدارة الحرب، وأساليب الحرب وإعلانها، وفي طبيعة الناس الذين نحاربهم، وكذلك في مسألة السلم، أو المعاهدة، لا نستطيع أن نأخذ ذلك كخطّ بياني مستمرّ يحكم كلّ مسيرتنا، بل إنَّنا ندرس ظروف هذا الأسلوب. فعندما نلتقي "بصلح الحديبيّة" هناك كثير من الناس في هذه الأيام يحاولون أن ينظِّروا للصلح مع إسرائيل "بصلح الحديبيّة" ويحاولون أن ينظروا للمعاهدة مع إسرائيل بمعاهدة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) مع اليهود. ولكنَّنا لا نستطيع أن ننطلق في هذا الاتّجاه، لأنَّ "صلح الحديبيّة" كان محاطاً بالظروف التي كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يعمل من خلالها بهدف فتح مكّة، فكان يريد أن يجمّد كلّ نشاط وكلّ مشكلة يمكن أن تعطّل خطّته بالوصول إلى هذا الاتّجاه. كما أنّ قضية المعاهدة مع اليهود، تختلف عن المعاهدة مع اليهود الآن. اليهود الآن أُناس غصبوا أرضاً وغصبوا سلطة وطردوا شعباً، بينما معاهدة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) معهم، كانت لأنّه يريد أن يتجنَّب شرّهم ويريد أن يحيّدهم وأن يجعل السّاحة كلّها بعيدة عن الصراع، حتّى يفرغ للدعوة ويفرغ للحرب مع قريش وما إلى ذلك.
لذلك نحن نقول: إنَّ الوسائل متغيّرة. الوسائل كانت شرعيّتها من خلال ظروفها المحيطة بها وربّما نلتقي بظروف أخرى ونلتقي بتحدّيات أخرى، تفرض علينا أساليب أخرى وقد تفرض علينا وسائل أخرى. لذلك نحن لا نتجمَّد أمام الأساليب، نحن نؤمن بشرعيّتها ونحاول أن ندرسها في داخل ظروفها ونحاول أن ندرس ظروفنا، هل تلتقي مع الظروف التي عاشت فيها هذه الوسيلة أو هذا الأسلوب أو ليس كذلك؟
الموقف المبدئي والموقف المصلحي
عندما نلتقي بالعنوان الثاني: "الموقف المبدئي والموقف المصلحي"، فإنَّنا نرى أنّ الموقف في كلّ الحالات يجب أن يكون مبدئياً، ولكن هناك موقف مبدئي ثابت وهناك موقف مبدئي متحرّك. الموقف المبدئي الثابت هو الهدف. نحن إسلاميون نريد أن يحكم الإسلام العالَم ولكن حركتنا نحو هذا الهدف، تطلب مواجهة قضايا أساسية من قبيل العمل على تحرير بلد إسلامي من احتلال، أو تحرير مجتمع إسلامي من ضغط أو من ظلم واستكبار، وما يتطلّبه هذا الأمر من حشد لكلّ الطاقات، هذه المسائل يمكن أن نتحدَّث فيها عن المصلحة، لا على أساس أن تكون المصلحة شيئاً غير المبدأ، لأنَّ المصلحة لا بدّ أن تتحرَّك في طريق المبدأ. فقد يفرض علينا المبدأ في بعض الحالات أن نرتكب حراماً وقد يفرض علينا المبدأ في بعض الحالات أن نترك واجباً، لأنَّ أهمية حركة المبدأ في هذه الدائرة أقوى من حركة الحرام في ذاته. مثلاً يتّفق المسلمون جميعاً أنّه لو تترَّس الكفَّار بأسرى المسلمين وتوقّف النصر على أن نقتل أسرانا، ربّما يجب علينا أن نقتلهم، ويختلف الفقهاء بين أن تُدفع ديّتهم من بيت المال أو لا، هذا كلام آخر. إذا كان الهدف أن ننتصر أو أن نمنع العدوَّ من أن ينتصر، ففي مراعاة حياة الأسرى في الجبهة وحمايتهم، سوف يأخذ العدو حريّته في هذا المجال.
ولعلَّنا نستطيع من خلال ذلك أن نطلّ على العمليات الاستشهادية، فالكثير من الفقهاء التقليديّين يشكِّكون في شرعية العمليات الاستشهادية، على أساس أنّها إلقاء للنفس بالتهلكة وأنّها انتحار ولكنَّنا نقول إنّها جهاد، أيّ فرق بين أن ينطلق المجاهد إلى المعركة وهو يعرف أنّه سيُقتل في المعركة، نتيجة توازن القوى الموجود أو نتيجة بعض الظروف الموضوعية وبين أن يذهب ليفجِّر نفسه؟! إنّ هذه حركة جهاد وتلك حركة جهاد. أن يقتل الإنسان نفسه هو أمر محرَّم ولكن أن يقتل نفسه، لأنَّ الجهاد يفرض عليه ذلك ولأنَّ النّصر يفرض عليه ذلك ولأنَّ إيقاع الضرر بالعدوّ كخطّ من خطوط تخفيف ضغط العدوّ تارة أو الانتصار أخرى، فإنَّ العملية تكون عملية شهادة وليست عملية انتحار.
قبل ربع قرن تقريباً، كتبت بعض الأبحاث حول الغاية والوسيلة وقلت إنَّ الغاية في الإسلام ـــ الغاية الكبرى طبعاً ـــ تبرِّر الوسيلة، وهذه تنطبق على الغايات الكبرى أمّا الغايات الصغرى الشخصية فلا تبرّر الوسيلة عندنا، أضرب لكم مثالاً، أوّلاً مثال تترّس الكفّار بالأسرى المسلمين، مثال آخر لو أنّ أيّ واحدٍ منّا أسره العدو ـــ وأسأل الله أن يجنّبكم ذلك جميعاً ـــ وكان يعرف أسراراً يمكن أن تؤدّي إلى اعتقال إخوته ويمكن أن تؤدّي إلى إسقاط الحركة ويمكن أن تنزل بالمسلمين ضرراً كبيراً وقال لك العدوّ: احلف بالله العظيم أنّك لا تقول إلاّ الحق. وحلفت وبدأ التحقيق، فهل يمكن لك أن تقول: إنّي حلفتُ بالله العظيم وعليَّ أن لا أكذب، لأنَّني مسلم ملتزم ولا بدّ لي من أن أتحدَّث له عن كلّ أسرار الحركة وعن كلّ أسرار المسلمين، حتّى لا أكون من الكاذبين؟! الكذب هنا واجب والصدق حرام، لأنَّ الكذب إنَّما حرَّمه الله من أجل المفاسد التي تترتَّب عليه، فإذا كانت مصالح الكذب أكثر من مفاسده فعند ذلك يكون الصدق حراماً والكذب واجباً.
نحن نروي في بعض الأحاديث: "احلف بالله كاذباً ونجّ أخاك من القتل"، لذلك نحن نقول إنَّ الغاية الكبرى تنظّف الوسيلة، تبرّرها، تُخرجها من أن تكون حراماً، لتجعلها واجبة أو لتجعلها جائزة. علماء الأصول يمثّلون لهذه المسألة، كما لو كان هناك إنسان يغرق وكانت هناك أرض مغصوبة ولا يجوز المرور في الأرض المغصوبة، هل لكَ أن تتجمَّد وتقول يحرم عليَّ أن أمرَّ في الأرض المغصوبة فتترك إنقاذ الغريق؟ إنّ نفس الإنسان أهمّ من هذا المحرَّم.
أو لو كان هناك حريق وتوقَّف الحريق على أن تهدم بيت هذا الإنسان، لتنقذ أطفاله أو لتنقذ المنطقة، هل تقول لا يجوز التصرّف في مال امرئ مسلم إلاّ بإذنه؟ وأمثال ذلك كثيرة. الغاية في الإسلام تبرِّر الوسيلة. لا بدَّ لنا أن نقارن دائماً بين الغاية في أهميّتها وبين الوسيلة في طبيعتها، فإذا رأينا أنّ الغاية أكثر أهمية من المفسدة الموجودة في الوسيلة فإنَّنا في هذه الحالة نجمّد مفسدة الوسيلة، لتتحرَّك مصلحة الغاية. ولهذا نستطيع أن نقول ـــ كما قلنا ـــ الغاية تبرِّر الواسطة.
لذلك قضية المصلحة تنطلق من هنا، كلّ موقف وكلّ حركة وكلّ أسلوب وكلّ وسيلة تلتقي مع المصلحة الإسلامية العليا، عند ذلك يكون الموقف شرعياً من خلالها، ويفقد الموقف الشرعي الذاتي ـــ الذي يفرض الحرام أو يفرض الوجوب في ذاته ـــ يفقد وجوبه ويفقد حرمته أمام أهمية الغاية. ولكن مثل هذه المسألة، إدراك المصلحة الكبرى المهمّة، لا يمكن للإنسان أن يصل إليه بنفسه بل لا بدّ أن يكون الأمر شورى بين أهل الخبرة {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى : 38]، أن يفكِّروا في ما هو الأصلح هنا وفي ما هو الأصلح هناك. وهذا خطّ عريض طويل يمكن له أن يحلّ لنا المشاكل الكثيرة، وهذا يُسمّى في فقه الإسلام السنّي بالاستصلاح، وفي فقه الإسلام الشيعي يُسمّى بالتزاحم بين المصلحة والمفسدة، فالأهمّ يحكم المهمّ في هذا المجال، وكلاهما يسيران في خطٍّ واحد.
لذلك الموقف المصلحي في خدمة الموقف المبدئي، فلا يمكن أن يكون هناك تعارض بين الموقف المبدئي والموقف المصلحي، لأنَّ الموقف المبدئي لا يتحرَّك بالطريقة التي يلغي فيها المصلحة الإسلامية العليا، بل هو الذي يؤكّد مصلحة الإسلام ومصلحة المسلمين الكبرى في هذا المجال.
الموقف الفقهي... والمسائل السياسيّة
العنوان الثالث: كيف يُتّخذ الموقف الفقهي في المسائل السياسية؟ من الطبيعي أنَّنا عندما نعيش أيّة قضية سياسية، فقد يكون لنا نصّ من خلال كلمة قالها الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ أو قالها رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) تحدِّد لنا الموقف فعلينا أن ننطلق منها، وإذا كانت لنا سيرة فعلينا أن نوازن بين ظروف المسألة السياسية في إطار الظروف الموضوعية التي عاشتها السيرة وبين ظروفنا، فإن التقت هذه الظروف مع تلك الظروف فلا بدَّ لنا أن نسير، لتكون السيرة هي شرعيّتنا. أمّا إذا وصلنا إلى موقف لم يكن للمسلمين عهد به، ولم يعيشوا أيّة تجربة مماثلة في مرحلة الدعوة أو مرحلة الدولة أو ما إلى ذلك، فإنَّ علينا هنا أنْ نتّخذ الموقف الفقهي في المسألة السياسية، من خلال دراسة ما هي المصلحة الإسلامية العليا في الموقف السلبي السياسي أو في الموقف الإيجابي السياسي، لنحدِّد ذلك تبعاً لما ندركه من مصلحة. المصلحة الإسلامية من خلال كلّ الظروف الموضوعية والمعطيات هي التي تحدِّد لنا هذا أو تحدِّد لنا ذاك.
فالموقف الفقهي ينطلق من النصّ أوّلاً ومن السيرة في نصّها اللّفظي وفي نصّها العملي ـــ إذا صحَّ التعبير ـــ فإذا لم تكن لنا نصوص خاصّة، بل كانت الخطوط العامّة، التي تأمرنا بالمعروف والتي تطلب منّا أن ندعو إلى الخير وأن ننهى عن المنكر وأن نواجه المستكبرين، عند ذلك يكون الخطّ العام هو أنْ نتقدَّم ولكن كيف نتقدَّم؟ ما هي وسائلنا للتقدُّم؟ ما هو أسلوبنا في حركة هذا التقدّم؟ لا بدّ أن ندرسه من خلال المصلحة الإسلامية العليا في هذا الموقف أو ذاك الذي يحدِّده أهل الخبرة في عملية الشورى في ما بينهم، لأنَّ قول أهل الخبرة الموثوقين هو حجّة شرعية برأي جميع الفقهاء، في ما لا يختلف أهل الخبرة فيه مع النصّ أو مع أيّ شيء ثابت شرعياً.
مسألة التحالفات
بالنسبة للتحالفات مع الأنظمة ومع القوى الأخرى أو العلاقات مع الأنظمة والحكومات، نتوقَّف أوّلاً عند كلمة التحالف، حيث إِنّ لها مدلولين: مدلول نفسي ومدلول عملي، نحن لا نتحالف مع الكفر نفسياً، الكفر ليس حليفنا بالمعنى النفسي لكلمة الحليف، بحيث أشعر في نفسي بالانفتاح عليه. نحن نتحالف عملياً، لتكون المسألة مسألة تحالف موقف مع موقف، لا تحالف جماعة مع جماعة، ليس تحالف المؤمنين مع الكافرين في وجداننا الذي وقّع على التحالف، بل تحالف الموقف الذي يتّخذه الكافرون، الذي يلتقي مع موقفنا، لأنَّنا نسير في طريق واحد لا مانع من أن نلتقي معهم في الطريق، حتّى نصل إلى موضع الافتراق ليأخذ كلّ منّا طريقه.
التحالف مع القوى ومع الأنظمة، من حيث المبدأ، جائز في نطاق المصلحة الإسلامية العليا وفي نطاق خدمة قضايانا، فإذا كان فيه خدمة لقضايانا فليست هناك مشكلة في التحالف مع أنظمة أو التحالف مع قوى، لكن علينا في هذا المجال أنْ لا ننطلق في الخطّ العام، بل لا بدّ لنا من أن ندرس التفاصيل ولا بدّ لنا من أن نحمي أنفسنا من قوّة هذه الجهات، ليكون تحالفنا تحالفاً ينطلق من موقف مساوٍ لموقفهم، لا أن يكون من قبيل تحالف الضعيف مع القوي؛ لأنَّ تحالف الضعيف مع القوي، وغياب شروط توازن القوى، سوف يؤدّي إلى عملية تشريع لسيطرة القوي على الضعيف باسم التحالف، كما يحدث بين الدول الكبرى والصغرى في معاهداتهم. إذاً المسألة من ناحية المبدأ، تتحرَّك شرعيّتها في نطاق المصلحة الإسلامية العليا المنسجمة مع الخطوط الإسلامية العامّة. لكن لا بدّ لنا من أن ندرس التفاصيل، لأنَّ الآخرين ربّما يطوّقوننا من خلال التفاصيل، ولا بدّ لنا أن ندرس كلّ مرحلة، لأنَّهم ربّما يستغلُّون حركتنا معهم في البداية، ليخطِّطوا لنا ما يريدون في النهاية أو في حركة السير أو ما إلى ذلك. إنَّ هذه هي شروط التحالف ولذلك لا بدّ لنا من أن تكون موجودة في كلّ خطوط التحرُّك.
وتصبّ العلاقات مع الأنظمة والحكومات في المسار ذاته، فنحن لا نستطيع أن نتحالف مع نظام أو حكومة تملك القوّة التي لا نملك أنْ نتوازن معها، لأنَّنا سوف نكون مجرّد هامش من هوامش هذه الحكومة أو من هوامش هذا النظام، ولكنَّنا يمكن أن نستفيد منها، يمكن أن نقترب منها وأن نلتقي بها، أن تكون علاقاتنا معها علاقات نملك فيها حريّة الحركة، لا أن تكون علاقاتنا معها علاقات تضغط علينا أو تشوّه صورتنا. من الممكن جداً عندما نقوم بتحالف مع دولة تضطهد المسلمين، لأنَّ مصلحتنا الإقليمية تفرض علينا أن نتحالف مع هذه الدولة أو أن ننشئ علاقات مع تلك، هنا لا بدّ من دراسة الظروف الموضوعية بشكلٍ دقيقٍ جداً، حتّى لا نكون قوّة على إخواننا من خلال هذا التحالف. ومن الطبيعي، لا بدّ من ملاحظة الأولويات وقضايا الأهمية في هذا المجال. إذاً التحالف مع القوى ومع الأنظمة أو العلاقة مع الحكومات، هذه أيضاً تحكمها المصلحة الإسلامية العليا، بشرط أن لا تحلِّل حراماً أو تحرِّم حلالاً.
التعامل مع المرأة
"التعامل مع المرأة"، أنا أحبّ أن أقول إنّ علينا أن نأخذ فكرة الإسلام عن المرأة من القرآن الكريم، فنحن عندما ندرس حركيّة المرأة في المسألة السياسية والاجتماعية نلتقي بقول الله {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة : 71]، فإذا عرفنا أنّ كلمة المعروف تتّسع لكلّ النشاطات الإنسانية التي يحبّها الله، وكلمة المنكر تتّسع لكلّ النشاطات الإنسانية التي يبغضها الله، فمعنى ذلك أنّ المؤمنين والمؤمنات يتحرّكون، ليكون بعضهم وليّاً لبعض، ناصراً له، مساعداً له، معاوناً له، محبّاً له، أيّاً كان معنى الولاية في كلّ مضمونها اللّغوي، ليتحرَّكوا معاً في عملية تكامل وتعاون وترابط بالمستوى الذي يحقِّقون فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقول والعمل، أي ليتحرَّكوا في خطّ التغيير. فالمرأة إذاً عنصر أساسي يتكامل مع الرجل في مسألة تغيير الواقع، من واقع يرفضه الله إلى واقع يحبّه الله.
عندما ندرس نظرة القرآن إلى المرأة وما هي نظرته لعقلها هل يمكن أن تكون المرأة في مستوى عقل الرجل؟ أو يمكن أن تكون المرأة أقوى من عقل الرجل؟ لقد واجهتُ في أبحاثي حول المرأة قصّة ملكة سبأ التي قدَّمها الله لنا امرأة تفْضُلُ الرجال، الرجال يتحرّكون بعاطفة، والمرأة هنا تتحرَّك بعقل، الرجال يتحمَّسون والمرأة تفكِّر وتخطِّط {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ*إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ*أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 29 ـــ 31]، {يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32]. إذاً امرأة وَرَدَها الكتاب وفيه دعوة وتهديد وفي الوقت نفسه لم تستبدّ وهي قادرة على أنْ تستبدّ فجمعت وجوه قومها تستشيرهم في ذلك، ماذا كان ردّ فعل الرجال؟ {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} لكنَّهم خذلوها في الفكر: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33]، وفكَّرت وخطَّطت: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ*وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 34 ـــ 35].
امرأة تخطِّط وعندما وصلت إلى سليمان (عليه السلام) وأسلمت معه، لا من خلال ضغط سليمان، اقتنعت وأسلمت. لو كانت المرأة على الصورة التي نفكِّر بها نحن ـــ البعض يقول بربع عقل والبعض بنصف عقل إلى آخر ما هناك ـــ كيف قدّمها القرآن إلينا، ضَرَبَ الله مثلاً للذين كفروا امرأتين، والمرأة إيجابية هنا في هذا المجال امرأة تملك الإرادة القويّة، التي تستطيع من خلال إيمانها أن ترفض كلّ الترف وكلّ الثراء وكلّ الملك وكلّ السلطة وهي امرأة فرعون، والمرأة الثانية وهي مريم بنت عمران (عليها السلام) التي انطلقت في خطّ الإيمان وأكّدت موقفها على خطّ الإيمان وصدَّقت بالله وبكتبه وكانت من القانتين.
وهكذا نجد أنّه عندما تحدّث عن المرأة السلبية، تحدّث عن الرجل السلبي معها وعندما تحدّث عن الرجل الإيجابي، تحدّث عن المرأة الإيجابية، المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات... في التقييم الإسلامي لا فرق بين الرجل والمرأة، {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} [النساء : 34] في المسألة الزوجية لا مطلقاً. النبيّ قوَّام على الرجال والنساء. الخليفة أو الإمام قوَّام على الرجال والنساء. وليّ الأمر قوَّام على الرجال والنساء. ليست هناك حالة يكون الرجل فيها قوّاماً على المرأة إلاّ في الحالة الزوجية، ثمّ {بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء : 34]. المفسِّرون يقولون بما فضَّل الله بعضهم من العقل والحكمة، مَن قال ذلك!! هذا اجتهاد، قد يكون من خلال دور الرجل، لأنّه يملك حريّة الحركة لأنَّ الأُبوّة لا تكلِّفه شيئاً في جسده، بينما أُمومة المرأة تكلّفها الكثير من جسدها. قد يكون ذلك، أنا لا أجزم، فهذا كلام الله.
لذلك فإنَّنا نجد أنّ الإسلام لم يفرِّق في القيمة بين الرجل والمرأة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات : 13] تشمل الرجال والنساء، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر : 9]، {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ} [السجدة : 18] هذه وإن ذكرت بصيغة المذكَّر، لكنَّنا نعرف باب التغليب في علم البلاغة، المرأة العالمة أفضل من الرجل الجاهل والمرأة المؤمنة أفضل من الرجل الفاسق وهكذا.
نعم هناك وظائف للمرأة في داخل الحياة الزوجية تقتضيها طبيعة تنظيم الواقع الإنساني، ولذا {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} ثمّ {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة : 228] بعض الناس يعتبر هذه الدرجة ناطحة سحاب. لا ليست كذلك إذ عندما ندرس القرآن نجده لا يفرِّق بين رجل وامرأة {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء : 1]، لذلك نحن نستطيع في العمل الإسلامي، أنْ نتعامل مع المرأة كعنصر فاعل أساسي في الحركة الإسلامية. غاية ما هناك لقد فرض الإسلام على المرأة قيوداً أخلاقية وفرض على الرجل قيوداً أخلاقية، قد يكون الحجاب ـــ والرجل لا يجب عليه أن يتحجَّب والمرأة يجب ـــ ولكنَّ الحجاب للمرأة لا يمنعها من العمل، ونحن نعرف الداعيات إلى الإسلام، اللاّتي كنَّ في بدايات عهد الدّعوة أم سُليم وغيرها.
فلذلك نقول: ليست هناك أيّة سلبية في التعامل مع المرأة وأن تُعطى مسؤوليات. الحديث الذي يقول ـــ لا أحفظ نصَّه الآن ـــ "ما أفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة" هذا الحديث، ربّما يمكن للإنسان أن يجتهد في فهمه، ذلك أنّ طريقة التولية في ما سبق، تختلف عن الطريقة الآن، كان الشخص الذي يلي أمور الناس مطلق الصلاحية، أمّا الآن فإنّه يعتمد على أجهزة وعلى خبراء وعلى شورى وما إلى ذلك، ولهذا فإنَّ المسألة قد تدخل في الاجتهاد في فهم هذه الرواية، لاسيّما أنّها انطلقت تعليقاً على ما حدث في بلاد فارس، عندما ولّوا امرأة عليهم تملك الصلاحية المطلقة وهذا أمر سلبيّ. كما أنَّ تمليك الرجل الصلاحية المطلقة سلبيّ إذا لم يكن في مستوى المسؤولية، أمّا الآن فالأمر مختلف، وعلى كلٍّ، يمكن للإنسان أن يحتاط في الولاية، نحن لا ندّعي أن تكون المرأة وليَّة أمور المسلمين ولكن نقول: لا مانع من أن تولَّى مهمّات حركية أو مهمّات عملية، مع إحاطتها بالوسائل التي تمنعها من أن تخضع لعاطفتها فتفسد في الأرض، كما نحتاج إلى وسائل تحيط الرجل، لتحمي الناس من انحرافه لو انحرف أو من عاطفته السلبية لو تحكَّمت به.
أنا لا أجد من خلال قراءاتي القرآنية، وأنا أعتبر أنّ القرآن أساس في فهم السُنّة وليست السُنّة أساساً في فهم القرآن، القرآن هو الذي يعطي للسُنّة إشراقها، نحن نأخذ العناوين من القرآن ونفهم السُنّة من خلال انطباق هذه العناوين عليها، لتحدّد لنا التفاصيل. ولكن يبقى العنوان الكبير هو عنوان القرآن، ولذا أراد الله لنا أن ننطلق إلى القرآن، والسُنّة هي شارحة القرآن ولكنّها تنطلق منه، ونحن نعرف أنّ الله أدَّب نبيَّه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بالقرآن وأنَّه ثبَّت فؤاده بالقرآن.
حول الخطاب الإسلامي
أمّا في نقطة غلبة اللّغة العقائدية على الخطاب السياسي، ففي تصوّري ينبغي أن تبقى لنا لغتنا الإسلامية ولكن بشكلٍ تكون لغة مرنة، تتحرَّك مع أحدث الأساليب المعاصرة. نحن لسنا جيل ما قبل 500 سنة وحتّى لسنا جيل ما قبل أربعة عشر قرناً في المسألة الأسلوبية "إنَّا معاشِرَ الأنبياء أُمِرْنا أنْ نُكَلِّمَ النّاس على قدرِ عقولهم"(1) {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل : 125]، {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء : 53]. إنَّ قضية الأسلوب في مخاطبة الآخر، في طرح قضاياه في الصراع مع الآخر، هذا أسلوب لا بدّ أن ننطلق فيه من خلال أسلوب العصر. نحن نريد أن ندخل إلى عقول الناس ونريد أن ندخل إلى قلوبهم، ولذلك فأنا أعتقد أنّ من الضروري أن يعيش الداعية المسلم حسّ المعاصرة، أن يفهم عصره، لا أن يسقط تحت تأثير قِيَم عصره ولكن أن يفهم عصره جيّداً، أن يفهم لغته، أن يفهم ذهنيّته وحساسيّته ونقاط ضعفه ونقاط قوّته، حتّى نكلِّم الناس بلغتهم، فالذهنيّة لغة والأسلوب لغة والجوّ لغة.
لذلك نقول نحن مسلمون، خطابنا إسلامي ولكن علينا أن نطوِّر هذا الخطاب، بحيث نُبقي له مضمونه الإسلامي الذي يطلّ على القضايا المعاصرة، من دون أن نبتعد عن لغة العصر وعن أسلوبه. ليس من الضروري أن نسترجع مقامات "بديع الزمان الهمداني" أو نتكلَّم بلغة السجع مثلاً أو نتكلَّم بالأساليب التي يخاطب بها الخلفاء مجتمعهم. هم كانوا منسجمين مع أنفسهم، باعتبار أنّهم كانوا منفتحين على ما يحتاجه الناس، وقد يكون ما يحتاجه الناس من أساليب مختلفاً عمّا كان الناس يحتاجونه هناك. ونحن جميعاً نقرأ في علم البلاغة "أنَّ البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال"، لا بدّ أن نفهم مقتضى الحال جيّداً ومن مقتضى الحال أن تراعي الإنسان الذي تخاطبه والظرف الذي تحرِّك خطابك فيه والأجواء التي تتحرَّك بها. لذلك أعتقد أنّنا نستطيع أن نخرج من هذه الإشكالية، ليبقى خطابنا السياسي خطاباً يتضمّن اللّغة العقائدية ولكن مع الأسلوب المعاصر.
الانفتاح والانغلاق
وبعد ذلك وفي نهاية المطاف، يبرز عنوان "الانفتاح والانغلاق"، نحن لسنا منغلقين على أحد، نحن نحاور كلّ الناس وندعو كلّ الناس، نحن لا نريد أن نكون سامريين. إنَّني أعبِّر عن الأشخاص الذين يقولون: إنَّنا لا نريد أن نتحالف مع أحد ولا ننفتح على أحد مثل السامري، يقول لكلّ شخص يأتيه "اسمح لي لن أصافحك"! لا، نحن ننفتح على كلّ الناس، بشرط أن يكون انفتاحنا لا يعطي شرعية في بعض الحالات لمن لا شرعية له. عندما يكون الانفتاح يمنح الآخر الذي ننفتح عليه شرعية فنحن لا ننفتح عليه. نحن الآن منغلقون على الصهاينة، لأنَّ حوارنا معهم ولأنَّ انفتاحنا عليهم ـــ وقد تختلف الموارد ـــ يعطيهم شرعية نحن لا نريدها، ولكنَّنا نتحدَّث مع كلّ الناس. أنا قلت في بعض محاضراتي: إنَّه لا مقدَّسات في الحوار، لا مقدّسات في أيّ موضوع، نحن مستعدّون أن نحاور الناس في وجود الله وقد علَّمنا القرآن أنّه فتح الحوار حول وجود الله وحول توحيده وحول شخصية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وحول الدار الآخرة وحول كلّ القضايا. كما أنّ الله حاور إبليس فإذا كان الله حاور إبليس فيمكن لنا أن نحاور الأبالسة وأن ننفتح على الأبالسة من دون أن ننفتح على الشيطان، ننفتح على الأبالسة بمنطق الله وبمنطق الرسالة.
نحن نستطيع أن نكون إسلاميين حركيّين منفتحين، نعيش في قلب ساحة الصراع ونطلق خطابنا السياسي في كلّ قضايا الصراع، من دو أن نفقد أيّ شيء من إسلامنا ومن طهارتنا ومن نقائنا، بشرط أن نكون المسلمين الواعين الذين يعيشون حالة طوارئ في فكرهم وفي أسلوبهم وفي وعيهم للواقع وفي حركتهم من أجل الواقع.
خالفتُ المشهور في كثير من الموضوعات
واستعنت بالخبراء(*)
كتب: إبراهيم بيرم
قبل نحو ثلاثة أشهر أصدر العلاّمة السيّد محمد حسين فضل الله الجزء الأوّل من كتابه الذي يحمل عنوان: "المسائل الفقهية" (صفحة 338) وتضمَّن إجابات عن نحو ألف ومئتي مسألة في كلّ أبواب الفقه: من صلاة وصوم وخُمس وتجارة وزواج وجنس وفنون وآداب وسواها..
والمطَّلعون على الفقه الشيعي يعرفون أنّ هذا النوع من الكتب هو بمثابة رسالة عملية يطلقها عادةً المرجع المطلق إلى مقلّديه. وهذا يعني أنّ العلاّمة فضل الله أشْهَرَ أخيراً مرجعيّته على مستوى العالم الشيعي كلّه، وهي المرتبة القصوى التي يطمح إليها العالِم الذي يبلغ مرحلة الاجتهاد المجتزأ ثمّ الاجتهاد المطلق، إذ يكون في إمكانه أن يفتي في كلّ شاردة وواردة تصل إليه من أمور الدنيا والآخرة. ويسبق ذلك عادة إصدار الرسالة العملية التي ترسم للمقلّدين حدود كلّ أمورهم.
وأهمية المرجع عند الشيعة تنبع من أنّ المرجعية ترتبط ارتباطاً عضوياً بفكرة الإمامة، التي هي واحدة من أبرز معالِم الفكر الشيعي تأتي بعد النبوّة مباشرة، ومن أنّه تبطل صلاة أيّ مكلّف شيعي وصومه وكلّ واجباته الدينيّة ما لم يسمِّ بينه وبين نفسه مرجعاً ما، ويجعله موضع تقليده، ويعمل بوحي من رسالته العملية أو بواسطة الوكلاء الذين يسمّيهم المرجع.
والمقرّبون من فضل الله يعرفون أنّه لم يظهر مرجعيّته ويبثّ رسالته إلاّ بعد ضغط مريديه وأنصاره الكثر، وقد اشتدّ الضغط بعد وفاة آخر المراجع الشيعيّة الكبار في حاضنة المرجعيّة في النجف السيّد أبو القاسم الخوئي، وقبله الإمام الخميني. لذا شرع يطرح للنّاس نظرته إلى المرجعية ورؤيته التطويرية بل التثويريّة لها، لجعلها أكثر فاعلية، ولربطها أكثر فأكثر بحياة الإنسان الشيعيّ وخصوصاً جيل الشباب. وباختصار أراد السيّد أن يحرّر المرجعية من كثير من "الجمود" الذي أحاطها طوال القرون الماضية وينقلها إلى طور المؤسّسة الفاعلة على غرار الفاتيكان.
وهذه الرؤية التطويريّة للمرجعية طبَّقها العلاّمة فضل الله، أوّل ما طبّقها، في مضامين الرسالة العملية نفسها التي تميَّزت عن رسائل أسلافه من المراجع، كونها عبارة عن أسئلة وأجوبة قصيرة صيغت بلغة عصريّة سهلة خالية من التقعير اللّغوي لا تتضمَّن كثيراً "الأحوط وجوباً" فيمكن أيّ قارئ أن يستوعبها أيّاً كانت درجة ثقافته.
والتجديد والتطوير في رسالة السيّد لم يكن في الأسلوب فحسب، بل إنَّ مسائل الرسالة وإشكالاتها دخلت أدقّ تفاصيل الحياة اليومية العصرية من حبّ وجنس وزواج وعلاقة المسلم بأبناء الديانات الأخرى التي تنزع أيّة نظرة تحريميّة أو تكفيرية أو "تنجيسيّة" عن غير المسلم.
ولقد خالَف في هذه الرسالة اجتهادات وفتاوى مشهورة لسواه كانت عند الشيعة ثوابت لا تمسّ، من مسألة حلق اللّحية إلى العادة السريّة عند المرأة، إلى استهلال هلال رمضان، إلى اللّعب بالورق والشطرنج..
ـــ السيّد فضل الله
رحلة العلاّمة فضل الله بدأت من النجف، حيث ولد (عام 1936) فكان بكر عائلة من 10 أولاد، والده علاّمة سليل عائلة دينية معروفة الأصل من عيناتا قضاء بنت جبيل، ووالدته شقيقة النائب والوزير الراحل علي بزّي من بنت جبيل.
في النجف حاضرة المرجعية الشيعيّة، ومكان المدرسة العلمية والفقهية التاريخيّة للشيعة، ومرقد الإمام عليّ تلقَّى علومه الحوزوية على يد مراجع عظام أمثال السيّد أبو القاسم الخوئي، والسيّد محسن الحكيم وسواهم، وزامل كباراً أمثال السيّد محمد باقر الصدر، الذي كان أيضاً رفيق نضال سياسي، غاياته الأولى أن يخرج رجل الدين الشيعي من كونه مرشداً في القضايا الحياتية فقط والابتعاد عن العمل السياسي والسلطة في انتظار الحجّة المنتظر، إلى لعب دور في الحياة السياسية عبر مواجهة الأفكار غير الإسلامية أوّلاً، ومن ثمّ طرح الإسلام عقيدة دينيّة ودنيويّة.
وفي الستينيّات كانت عودته إلى بنت جبيل ثمّ إلى منطقة النبعة، حيث التجمّع الشيعي النازح من الجنوب والبقاع، وهناك أَسس إلى جانب المسجد والحسينيّة "أسرة التآخي" التي كانت نقطة الانطلاق لعمل سياسي مختلف.
وبعد تهجير النبعة عام 1976 كانت عودة أخرى إلى بنت جبيل ثمّ إلى بئر العبد. والبروز الأكبر كان بعد عام 1982 ثمّ في أعقاب الانفجار الضخم في بئر العبد عام 1984 الذي جعله محطّ الأنظار.
والمحطّة الأخيرة كانت في حارة حريك في فيلا مستقلّة محاطة بحرس خاص يحمي حياة السيّد المستهدف، الذي تسمّيه وسائل الإعلام العالمية المرشد الروحي للجماعات الأصولية.
خطيب مُفوّه، وباحث مدقّق، ومجتهد كبير، وسياسي بارع، وشاعر رقيق، ومحاضر جلود، وفوق هذه الصفات صبر على العمل اليومي قلَّما تتوافر لسواه. فهو يعمل في حدود الــ 15 ساعة يومياً ويتنوَّع العمل بين استقبال الشخصيات، ومعالجة قضايا الناس على تنوّعها، وإدارة مؤسّسات علمية، ومحاضرات وخطب جمعة، ودروس علمية لرجال دين وصلوا إلى مرحلة البحث في الخارج، وزيارات شبه أسبوعية إلى دمشق للقاء علماء شيعة يقطنون هناك.
وإلى ذلك كلّه يدير مكاتب ثلاثة: المكتب الشرعي الذي يتلقّى يومياً نحو عشرين شكوى، والمكتب الاجتماعي الذي يتصرّف بأموال خمس تصل سنوياً إلى نحو ملياري ليرة، والمكتب الإعلامي؛ ومن أبرز المؤسّسات التي يديرها جمعية المبرّات الخيرية التي تضمّ مبرّات ومدارس ومعاهد مكفوفين وصم وبُكم ومراكز دينية ومستشفيات تنتشر على كلّ الأراضي اللبنانية وترعى نحو 3 آلاف يتيم وتصرف كلّ عام نحو مليوني دولار أميركي.. وهو إلى ذلك قارئ من الدرجة الأولى ومتابع للإصدارات الأدبية والثقافية كلّها.
وللعلاّمة فضل الله نحو 20 مؤلّفاً بين مجلّد وكرّاس، أبرزها: "قضايا الحركة الإسلامية"، "الحوار في القرآن"، "دنيا الشباب"، وحوارات في "قضايا شبابية معاصرة" وديوانان هما "على شاطئ الوجدان" و"يا ظلال الإسلام".
أفتي باقتناعي وإنْ خالَفَ المشهور
ـــ كتاب "المسائل الفقهية" الذي أصدرته أخيراً كان بمثابة رسالة عملية كتلك التي تصدر عادة عن مراجع التقليد، وإنْ كان بأسلوب ومنهج جديدين، فهل أشهرت مرجعيّتك؟
في الواقع لم أعلن هذا الأمر بالمبادرة، ولكنَّ الإعلان كان نتيجة ضغط من أكثر من جماعة في كلّ أنحاء العالَم لإصدار هذه الرسالة، انطلاقاً من حديثهم المتنوّع في اختيارهم الرجوع إليَّ في التقليد على أساس ما كانوا يقولونه من اقتناع بذلك. من هنا كان إصدار هذه الرسالة الفقهية العملية استجابة لطلبات هؤلاء وتسجيلاً للاستفتاءات الموجّهة منهم في أكثر موارد الرسالة. ومن خلال ذلك اعتبر اسمي من بين الأسماء المتداولة. فأنا أتلقّى يومياً الكثير من الأسئلة الفقهية التي يطلب فيها رأيي لعمل المقلّدين من افريقيا والخليج وأوروبا وكندا والولايات المتحدة ولبنان ومن إيران.
ـــ إذا كان يفترض أن تحمل كلّ رسالة عملية يصدرها المرجع لمقلّديه جديداً، فما العناوين والنقاط التي تعتبرها جديدة مميّزة في رسالتك؟
هناك فرق في الأسلوب الذي أتبنَّاه في الفتاوى الفقهية والأسلوب الذي يتبنَّاه الكثيرون من فقهائنا المعاصرين، وممَّن تَقَدَّمَهم في المرحلة السابقة. وهو أنَّني إذا ثبت لديّ دليل حكم شرعي من الكتاب والسُنّة والقواعد الاجتهادية، فإنَّني أفتي به على أساس اقتناعي به حتّى لو كان مخالِفاً للمشهور ومثيراً للجدل، بينما نجد أنّ الكثيرين من فقهائنا إذا لم يقتنعوا بحكم اقتناعاً كاملاً وكان مشهور الفقهاء السابقين يتّخذ رأياً، فإنَّهم يلجأون إلى الاحتياط، ويطلبون من الناس الاحتياط في هذا المجال. مثلاً في حلق اللّحية، نجد أنَّ كثيراً من علمائنا، ومن بينهم أستاذنا السيّد أبو القاسم الخوئي (رحمه الله) كان لا يرى من ناحية الدليل الاجتهادي وضوح حرمة حلق اللّحية، لأنّه يناقش الأدلّة المطروحة في السّاحة، ولكن لأنَّ الفقهاء الذين كانوا تقدَّموه لم يفتوا بالحلّية، لذلك فضَّل الفتوى بالاحتياط، فذكر أنَّ الأحوط وجوباً ترك حلق اللّحية إلاّ في حالات الضرورة.
طهارة كلّ النّاس
وأضاف: كذلك مثلاً هناك الرأي الذي يقول بنجاسة الكافرين من أهل الكتاب، فإنَّ السيّد الخوئي (رحمه الله) كان يفتي بالاحتياط في النجاسة ولم يفتِ بالطهارة على الرغم من وضوح أدلّة الطهارة عنده، بينما كان بعض معاصريه وهو السيّد محسن الحكيم يفتي بالطهارة عن أهل الكتاب.
أمّا بالنسبة إليَّ، فإنَّني أرى أنّه ليس هناك إنسان نجس، سواء أكان مسلماً أم كافراً، كتابياً أم غير كتابي، فأنا أرى طهارة كلّ إنسان، وقد كان السيّد الشهيد، السيّد محمد باقر الصدر يرى هذا الرأي، ولكنّه يحتاط احتياطاً وجوبياً بالنسبة إلى الكافي غير الكتابي، فلا يفتي بالنجاسة، ولا يفتي بالطهارة انطلاقاً من تحفُّظات تنطلق من أنَّ آراء العلماء الذين سبقوه كانت على النجاسة، وهو لم يقتنع بها ففضَّل أنْ يحتاط، ولكنّي لما ثبت لديّ هذا الحكم الشرعي أفتيت بالطهارة، وكان هذا غير مألوف في الساحة. وربّما كنتُ أوّل مَنْ أفتى بالطهارة المطلقة للإنسان.
أمّا وجهة نظري في هذا المجال، فهي أنَّ الله سبحانه وتعالى شرَّع أحكامه لتحلّ مشاكل الناس، والأحكام هي بين يديّ المجتهدين حسب فهمهم الاجتهادي للنصوص الواردة في هذا المضمون.
وإنَّني أتصوَّر أنّه إذا ثبت لنا حكم شرعي يمكن أن يحلّ مشكلة الناس، فلماذا نبقي حياتهم في دائرة التعقيد؟! وأذكر أنّ المرحوم السيّد محسن الحكيم (رحمه الله) عندما أراد أن يفتي بطهارة أهل الكتاب بعدما كان رأيه السابق النجاسة، تحدَّث إليه بعض معاونيه ومستشاريه أنَّ هذه الفتوى قد تثير ضدّه جدلاً كبيراً من المخالِفين له، لأنّه أوّل مجتهد شيعي يفتي بالطهارة، وكان جوابه: لديَّ الكثير من المقلّدين الذين يواجهون مشكلات عامّة وخاصّة نتيجة اختلاطهم بالآخرين، ولما كنت مقتنعاً بهذه الفتوى، كان عليَّ أن أطلقها لأحلّ مشكلات هؤلاء الناس.
أرى أنَّ الاحتياط يكون في الفتوى بالأمور التي تثير الجدل، أو الأمور التي تخالف فيها الفتوى، فمشهور الفقهاء ينطلق من حالة تحفُّظ تُقَوية يقف الإنسان فيها أمام نفسه، ليحتاط لنفسه حتّى لا يفتي بفتوى يمكن أن تحمّله مسؤولية ولو بنسبة 10% أمام الله، ممّا يمكن أن يكون قد أخطأ فيه في الواقع، ولكنَّني لا أُمانع أن يعيش الإنسان هذا النوع من التحفُّظ التُقوي، وفي الوقت عينه أجد أنّ القضية سلاح ذو حدّين، فنحن في الوقت الذي نتحفَّظ على ملاحظة لحماية أنفسنا من احتمالات في مخالفة الواقع، نجد أنَّ هناك مشكلة عامّة في الناس تفرض علينا أن نواجه حاجاتهم من موقع المسؤولية في المجالات التي نستطيع فيها أن نخلّصهم من الأزمات التي يعيشونها نتيجة فتوى سلبية في مجال أو آخر.
إنَّني أقول إنَّ الإنسان إذا أراد أن يعيش اجتهاده لنفسه من خلال تحفُّظاته الذاتية، فعليه أن لا يبرز للمجتمع كمرجع في الفتوى. بل عليه أن يحتفظ بفتاويه واحتياطاته لنفسه، أمّا إذا كنت الإنسان الذي يقف لينوب عن المجتمع في اجتهاداته وفي اكتشاف الحكم الشرعي، فعليك أن تحمل مسؤولياتك الاجتماعية، فإذا تمَّت لديك الأدلّة الشرعية التي تستطيع أن تقدّمها أمام الله لو حاسبك، فليست هناك مشكلة في أن تطلق الفتوى، ولن يحاسبك الله على ما لا يد لك ولو كان هناك خطأ غير مقصود.
الاستعانة بأهل الخبرة
ـــ كيف يتمّ استنباط الفتوى عند مراجع الشيعة؟ وهل يمكن الاستعانة بأطباء وأصحاب خبرة علمية في مواضع معيّنة مثلاً؟
هناك بعض الأبحاث التي يمكن أن تختلف فيها الفتاوى نتيجة اختلاف في فهم النصّ، ولا بدّ لك أن تلجأ فيها إلى استنطاق النصّ.
مثلاً، الفقهاء الذين يفتون بنجاسة الكافرين حتّى من غير أهل الكتاب، يعتمدون على الآية الكريمة التي تقول: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا} [التوبة : 28]. فهم عندما استنطقوا هذه الآية قالوا إنَّ ظاهر كلمة نجس هي المبالغة في النجاسة وهي القذارة البدنية، معناه إنَّما المشركون يمثّلون عنوان القذارة في ما تتمثَّل به أجسادهم من النجاسة. فلو أنّ الإنسان مسَّ جسد المشرك برطوبة لتنجَّس العضو الذي مسّه من بدنه. وعلى هذا الأساس كان المشركون الذين يؤمنون بالله ويشركون بغيره محكومين بالنجاسة بطريق أولى، لأنَّ ذاك يؤمن بالله ويشرك به، بينما ذاك لا يؤمن بالله أكثر، وهذا هو دليلهم على نجاسة الكافر الملحد والكافر المشرك.
هكذا فهموا الأمر، فقد استنطقوا كلمة النّجس وفهموا منها النجاسة المادية التي يصطلح عليها في الفقه بالنجاسة الخبيثة.
أمّا أنا، وفاقاً لكثير من الفقهاء، فقد استفدت من كلمة النجس، أنَّ المراد بها النجاسة المعنوية، نجاسة الفكر، ونجاسة العقيدة باعتبار أنّ الشرك يمثّل شيئاً قذراً في العقيدة وفي الفكر، لأنَّه يمثّل عبادة إنسان يعيش إنسانيّته في كلّ أجوائها الفكرية والروحية، ويسقط أمام عبادة حجر لا يحمل أيّ معنى من القداسة التي تجعله في مستوى الألوهية أو الربوبيّة التي تجعلك تعبده وتنحني له. فهي نوع من القذارة الروحية، القذارة الفكرية التي لا علاقة لها بالجسد، تماماً كما يطلق في اللّسان العربيّ أن تقول إنَّ فلاناً من "أنجس النّاس". إنّك لا تقصد أنّه من أنجس الناس في جسده، بل تقصد أنّه من أنجس الناس في فكره، في طباعه، في أخلاقيّته، في سلوكه.. وهكذا انتهيت بنتيجة أنَّ النجاسة هنا هي نجاسة الشرك في مقابل طهارة التوحيد، فهي نجاسة معنوية وليست ماديّة، فلا تترك آثارها على جسد الإنسان بحيث يكون محكوماً بالقذارة الماديّة إذا مسَّه إنسان انتقلت النجاسة إليه. وقد استوحيت ذلك أيضاً من قوله تعالى في الفقرة الثانية: {فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة : 28]، فإنَّني قلت إنّه إذا كانت النجاسة هنا هي نجاسة البدن، يعني النجاسة الماديّة، فهذا التفريع يفرض علينا أنّ كلّ نجس لا يمكن أن ندخله المسجد الحرام، لا يمكن أن ندخل قنينة دم مغلقة المسجد الحرام، لا يمكن أن ندخل جلداً ميّتاً نجساً المسجد الحرام، مع أنَّ الفقهاء بأجمعهم يقولون لا مانع من إدخال النجاسة الماديّة المسجد الحرام إذا لم تؤثّر في تقذير أرضه، أي لا نسكب الدم على أرض المسجد أو تكون الميتة رطبة وما إلى ذلك.
من هنا عرفنا أنْ لا علاقة بين النجاسة المادية والمسجد الحرام، لذلك لا بدّ أن تكون المسألة هي أنّ المسجد الحرام بناه إبراهيم (عليه السلام) بأمرٍ من الله {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة : 125]، ليطهّره من الأصنام، ولذلك فإنَّ المشركين عندما وضعوا الأصنام، وعندما كان دخولهم المسجد الحرام وسيلة من وسائل عبادة هذه الأصنام في داخل المسجد، أراد الله أن يطردهم من المسجد حتّى يكون المسجد مسجد توحيد لا مسجد شرك.
المرأة وماؤها
وأضاف: هذا نموذج من نماذج الاختلاف في استنطاق النصّ.
وربّما بعض القضايا تحتاج فيها إلى الرجوع للخبراء، مثلاً هناك جدل في مسألة، وهذا الجدل ينطلق من فكرة أنّ الرجل إذا خرج منه المني فعليه أن يغتسل، كما أنّه لا يجوز له الاستمناء، أي ممارسة العادة السرّية لإخراج المني، هذا أمر لا شكَّ فيه، هنا وقع نزاع: هل حكم المرأة كحكم الرجل؟ هل المرأة إذا وصلت إلى قمّة الشهوة من دون عملية جنسية كاملة، من دون دخول كما يقولون، عليها الاغتسال أم لا؟ وهل يحرم على المرأة العادة السرّية، بقطع النظر عن النتائج السلبية النفسية وغيرها؟ هل يحرم هذا العمل في ذاته بقطع النظر عن النتائج السلبية التي تجعله حراماً بالعنوان الثانوي؟
هنا ينطلق البحث من حيث ما كان متوفراً لدى القدماء، ولكنّهم لم يصلوا فيه إلى نتيجة: هل للمرأة منيّ أم ليس للمرأة منيّ؟ هل يخرج من المرأة عند وصولها إلى قمّة الشهوة ماء كماء الرجل، أم أنَّ المسألة هي مسألة توتّرات وتشنّجات نفسية من دون أن يكون هناك أيّ ماء عند وصولها إلى اللّحظة الحاسمة؟ هناك ماء يخرج في بداية الشهوة، ولكن هنا الماء ليس هو المني، هو بمثابة المني، هو مظهر الشهوة وليس قمّتها. والسؤال عندما تصل إلى منتهى اللّذة في شكل سطحي من دون دخول، هل يخرج منها شيء أم لا؟
كانت الذهنية الفقهية من خلال بعض النصوص أو غيرها تقول إنَّ للمرأة ماء كما للرجل. وكما أنّ الرجل إذا خرج منه الماء يحكم عليه بوجوب الغسل ويحرم عليه إخراجه بطريقة ذاتية، كذلك المرأة.
حاولت أن أرجع إلى أهل الخبرة في هذا المجال، لأنَّنا لا نملك الوسائل التي نستطيع أن ننهي فيها هذا الجدل. هل للمرأة ماء أم لا؟ لأنَّ المسألة متّصلة بالجانب التشريعي. ولذلك حملت أسئلتي هذه إلى بعض المختصين في أميركا ليرجعوا فيها إلى أهل الاختصاص الكبار. وجَّهت سؤالاً إلى عميد كليّة الطبّ في الجامعة الأميركية سابقاً الدكتور عدنان مروة، وكانت النتيجة أنّ المرأة لا منيّ لها، وأنَّ هناك ماء يخرج في بداية الشهوة يعادل عملية الانتصاب للرجل، فهو مظهر الشهوة وليس نهايتها، وهذا ليس هو المنيّ. أمّا عندما تصل المرأة إلى قمّة اللّذة، فإنّه لا يخرج منها شيء، وليست هناك غدّة تفرز الماء. وبعدما وصلت إلى هذه النتيجة، والتي رأيت أنّها من الأمور البديهيّة لدى الأطباء، تقرَّرت لدي الفتوى بأنَّ المرأة إذا لم تدخل في عملية جنسية كاملة لا تحكم بالجنابة، حتّى لو وصلت إلى قمّة الشهوة. فليس عليها الغسل. وهكذا فإنَّ العادة السريّة بالنسبة إلى المرأة ليست محرَّمة من هذه الجهة، لأنَّ العادة السريّة تحرّم مع حصول الإمناء كما يقول السيّد الخوئي في بعض أجوبة استفتاءاته. فإذا لم يكن هناك منيّ فليس هناك إمناء.
لكنَّنا في الوقت نفسه لا نشجِّع على ممارسة هذه العادة، ليس من ناحية الحرمة الذاتية بل من ناحية الأضرار النفسية وغير النفسية التي قد تؤثّر على الحياة الجنسية للمرأة في المستقبل، وقد تؤدّي إلى أزمات نفسية في ذاتها. لكنَّنا كنّا نعالج الأمر من خلال ذاتية العمل، لا من خلال العناوين السلبية الأخرى التي يمكن أن تنعكس على العمل، في الجانب النفسي من حياة المرأة، أو في الجانب الجسدي الآخر الذي قد يؤدّي إليه إدمان هذه العادة مثلاً.
مسألة الهلال
واستطرد العلاّمة فضل الله: في موضوع الهلال كنّا نرجع إلى أهل الخبرة. ومثال ثان أثار الجدل ولا يزال، وهو الفتوى بأنَّ مسألة بداية الشهر هي في الهلال الفلكي لا في الهلال الرؤيوي إذا صحَّ التعبير، فقد لاحظت أنّ الله سبحانه وتعالى جعل الصيام منوطاً بعنوان الشهر {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} إلى أن يقول: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ} شهد معناه حضر، وليس رأى، وكان حاضراً غير مسافر، {فَلْيَصُمْهُ} [البقرة : 185]. فعلق وجوب الصوم على تحقّق عنوان الشهر. وقلت إنَّ الشهر ظاهرة كونية وكلّ الظواهر الكونيّة تخضع لأسبابها الطبيعية المودعة في الكون، كما أنّ اللّيل ظاهرة كونية طبيعية، والنهار ظاهرة كونية طبيعية. فاللّيل يبدأ بالغروب والنهار يبدأ بالشروق، سواء أرأينا الغروب أم لم نره. فالرؤية وعدمها لا دخل لها في مسألة تحقّق الظاهرة الكونية. الرؤية حال ذاتية في الرائي، وليست حالة موضوعية في الظاهرة.
إنَّ الظاهرة تحدث بأسبابها الطبيعيّة سواء أشاهدتها أم لم تشاهدها، فلماذا نريد أن نربط الظاهرة بالرؤية؟ هكذا كنت أفكِّر، ولذلك قلت إنَّ مسألة الشهر هي ظاهرة كونيّة تتكرَّر في السنة اثنتي عشرة مرّة. ووجّهت السؤال إلى نفسي: ما الذي يجعل الشهر شهراً مختلفاً عمّا بعده وعمّا قبله؟ الزمن مستمرّ. وما قسمه هو دخول القمر المحاق في نهاية الشهر وخروجه منه بداية الشهر. فإذا أخبرنا أهل الاختصاص الذين يوجب قولهم اليقين بأنَّ القمر خارج من المحاق يكون معناه أنَّ الشهر قد بدأ. فلا أحتاج إلى أن أجمع الناس لأطلب منهم الرؤية ونحن نعرف أنَّ الرؤية ليست دقيقة حتّى للرّائي، لأنَّ الإنسان الذي يستغرق في فكرة القمر قد يرى آلاف الأقمار أمامه من خلال هذا الاستغراق في الفكرة، ومن خلال التخيُّلات التي تحفل بها تموّجات الفضاء، وخصوصاً في تموّجات النور والظلمة وما إلى ذلك.. حتّى أنّ البعض يدّعي رؤية الهلال قبل غروب الشمس.
هنا وقفت أمام نصّ شرعي هو الذي اعتمده الفقهاء من السُنّة والشيعة في مسألة اعتبار الرؤية أساساً في الحكم في بداية الشهر أو نهايته: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"(1). فقد يستفاد من هذا الحديث أنَّ الصوم معلّق على الرؤية. وأنَّ الإفطار معلّق على الرؤية. فما لم نرَ الهلال فليس لنا أن نصوم في البداية، أو أن نفطر في النهاية حتّى لو قرَّر الفلكيّون أنّ الشهر بدأ.
هنا انتبهت إلى ملاحظة كانت في بعض أبحاث السيّد الخوئي (قدّس سرّه) وإنْ لم ينته إلى النتيجة التي انتهيت إليها، فالسيّد الخوئي (قدّس سرّه) يقول إنّ الرؤية هي وسيلة إثبات وحركة في المعرفة، ولذلك ليس لها موضوعية المسألة. ليست موضوع الحكم ولكنَّها تمثّل طريقة إلى الحكم، يعني الطريق إلى الموضوع.
وفي ضوء هذا إذا كانت الرؤية مجرّد وسيلة، فلماذا أطلقها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ولم يحدّثنا عن الهلال الفلكي؟ لسببٍ بسيطٍ جداً وهو أنَّ الوسائل التي كان يملكها الناس في ذلك الزمن لليقين بدخول الشهر أو خروجه لم تكن وسائل متطوّرة، بحيث توجب اليقين بدخول الشهر أو خروجه. لقد كانت الوسيلة اليقينيّة الوحيدة هي الوسيلة الوجدانية من خلال الرؤية. ولذلك اقتصر عليها ولم يتحدّث عن الوسائل الأخرى، اعتماداً على أنّ الموضوع هو شهر رمضان، فلا بدّ أن نتيقّن من دخول شهر رمضان أو خروجه. فإذا حدثت لدينا وسائل يقينية أخرى نعتمدها.
ومن جهةٍ أخرى، ورد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في الحديث عن الحساب في مسألة الشهر، قال: "إنَّنا أُمّة أُمِيَّة لا تحسب". ويعني أنّ الحساب لم يكن موجوداً عندهم بالدقّة التي يمكن أن نصل فيها إلى نتيجة قطعية حاسمة في هذا المجال، ولهذا لم ينكر الحساب كمبدأ إنَّما أنكر واقعيّته في حياة الأُمّة في هذا المجال. وربّما يستوحي هذا الكلام.
ولاحظت أيضاً أنّ هناك فقرة تسبق هذه الفقرة، اليقين لا يدخله الشكّ، صوموا للرؤية وأفطروا للرؤية. ويعني لا تعتمدوا على الشكّ في مسألة شهر رمضان ولكن اعتمدوا على اليقين وتفريع الصوم للرؤية والإفطار للرؤية على هذه الفكرة، معناه أنّ القضية تدور مدار اليقين والشكّ؛ فإذا حصل لنا اليقين ـــ سواء أكان من خلال الرؤية أم غيرها ـــ فيمكن أن نصل إلى النتيجة الحاسمة، وإذا لم يحصل لنا اليقين فلا بدّ لنا من أن نتوقّف حتّى يحصل.
ومن هنا كانت دراستي لمسألة الهلال كظاهرة كونية ودراسة عناصر هذه الظاهرة ومقارنة ذلك بالنصوص؛ بحيث استفدت أنّ دور النصوص هو دور الوسيلة للمعرفة وليس دور العنصر الذاتي للموضوع. فبذلك كانت الفتوى أنّه يكفي في دخول شهر رمضان وخروجه خروج القمر من المحاق ودخوله فيه. وهذا ممّا يعتمد فيه على أهل الخبرة الذين وصلوا في التجربة إلى مستوى يستطيعون من خلاله أن يحدِّدوا هذه القضية.
تعدُّد المراجع
ـــ لدى الشيعة في العالَم أكثر من مرجع للتقليد الآن، فهل هذا الأمر جديد طارئ أم قديم؟
تعدُّد المراجع أمر معروف في عالَم الشيعة، فقبل مئة وخمسين عاماً لم تكن هناك مرجعية شاملة للشيعة؛ كان الناس يرجعون في كلّ منطقة إلى علمائهم الموجودين في تلك المنطقة من دون أن ينتظروا وصول رأي المجتهد الكبير الموجود في المراكز العلمية كالنجف وغيره. فكان أهل جبل عامل يرجعون إلى فقهائهم ومراجعهم، وجبل عامل كانت مدرسة علمية فقهية واسعة فيها العلماء الكبار الذين لا يزال يتغذّى فقهاء الشيعة من فقههم، كالشهيد الأوّل والشهيد الثاني والمحقّق الكركي وغيرهم.. فكان الناس يرجعون إلى هؤلاء العلماء ولا ينتظرون علماء النجف أو علماء إيران. وهناك علماء في البحرين، التي نعرف أنّها كانت تضمّ مدارس علمية. وكان الشيعة في البحرين يرجعون إلى العلماء الموجودين بينهم وربّما يرجع إليهم مَنْ كان قريباً من المنطقة، لذلك لم تكن هناك مرجعية شاملة، ربّما بدأت المرجعية الشاملة عندما بدأت البلاد تتقارب، في مدى مئة سنة أو أكثر، وفي هذه الحال لم تكن المرجعية ناشئة من وجود قرار جماعي يعتمد على التصويت وعلى نسبة الأصوات، بل كانت تنطلق عفوياً، إذ يبرز من بين العلماء الموجودين في حاضرة النجف أو في غيرها علماء مجتهدون يبدعون في تقاريرهم وفي دروسهم ويبرزون على سواهم، عندئذٍ يصبح هؤلاء تدريجاً موضعاً للثقة العلمية والتُقَوِيَّة، وتضرب شهرتهم الآفاق؛ وكان طبيعياً أن يرجع البعض إلى مرجع ما يرونه الأكفأ ويعود غيرهم إلى سواه للأسباب نفسها، فتمشي الأمور على هذا النحو. وقد يموت مجتهد فينصرف التقليد إلى المجتهد الذي بدأت مرجعيّته في السابق.
وربّما تتوحَّد المرجعيات في مرجعٍ واحد كما حصل بالنسبة للميرزا محمد حسن الشيرازي صاحب الفتوى المشهورة ـــ فتوى تحريم التنباك ـــ وبالنسبة إلى السيّد أبي الحسن الأصفهاني والسيّد محسن الحكيم وما إلى ذلك.
والتعدُّديّة في المرجعية هي ظاهرة طبيعية في تاريخ المرجعية الشيعيّة وليست حدثاً جديداً، ولكنَّ الفرق أنّه في المراحل السابقة كان هناك مراجع كبار متجذِّرون في ذهنية الأُمّة، فإذا مات مرجع تتوجَّه الأُمّة تلقائياً إلى مرجعٍ غيره سابق، كما هي الحال عندما توفي السيّد محسن الحكيم، فإنَّ الأُمّة عموماً توجَّهت إلى السيّد أبي القاسم الخوئي، لأنَّ مرجعيّته كانت متجذّرة سلفاً وتتلمذ عليه الكثير من الطلاّب وعرفوه أهل ثقة وعلم.
وفي المرحلة الأخيرة وتحديداً بعد وفاة آية الله الأراكي ـــ أحد المراجع الكبار في قم ـــ كانت الأسماء المطروحة لخلافته متقاربة، ولذلك أثارت المسألة جدلاً وانفتح الإعلام على هذه المسألة ولم يكن قد انفتح عليها سابقاً. أمّا من جهة خصوصيّة إيران التي يحاول الإعلام أن يثير الجدل حولها في كلّ جانب من جوانبها، فهناك ربّما ظروف معيّنة جعلت الإعلام ينتبه إلى هذه المسألة في الواقع الشيعي، لأنَّ الخصوصيّة الشيعيّة أصبحت تمثّل مشكلة عالمية لربطها بالإرهاب أو لربطها بأكثر من موقع سياسي في المنطقة.
ـــ المرجعيّة الشيعيّة ارتبطت دوماً بالنجف تاريخاً ثمّ بالنجف وقمّ في المئة عام الأخيرة، فهل للمكان علاقة بالمرجعيّة والمرجع؟
المكان ليس أساسياً في الفقه المرجعي، لأنَّ الفقه كان يتّصل بكفاية المرجع، إمّا على مستوى نظرية الأعلم ووجوب تقليده، وإمّا على المستويات الأخرى. وقد كان الغالب أن يبرز المرجع من الحاضرة العلمية الدينية، لأنَّ المرجعية تتمثَّل امتداداً في كلّ مواقع الوجود الإسلامي الشيعي في العالَم، والحواضر الدينية تشمل طلاّباً من سائر مواطن الشيعة في العالَم. ولذلك كان هؤلاء الطلاّب الذين يرجعون إلى هذا المرجع أو ذاك ويبلغون مناطقهم باسمه، بينما لا تتوفّر هذه المسألة، وخصوصاً في غياب الوسائل الإعلامية الواسعة، في مناطق أخرى بعيدة عن الحواضر العلمية، لأنَّه حتّى لو وجد هناك عالِم كبير يمكن الرّجوع إليه، لا يعرفه الناس ولا العلماء. فالحاضرة العلمية كانت تتيح فرصة معرفة هذه الأسماء من طلاّب الحوزة وبالتالي تنعكس هذه المعرفة على مناطقهم.
ولكن كانت هناك اختراقات في هذا المجال. فنحن نعرف أنّ مرجعية السيّد الحسين البروجردي التي كانت تعيش جنباً إلى جنب مع مرجعية السيّد محسن الحكيم، وكانت مرجعية واسعة، كان يسكن في قم في إيران قبل أنْ تتوسَّع قم لتكون الحوزة العلمية الكبرى بعد ضعف النجف كحوزة نتيجة السياسات القائمة في العراق.
المرجعية لم تبلغ ولاية الفقيه
وتابع: لذلك نرى أنّ علاقة المرجعية بالمكان ليست قضية فقهية، بل هي قضية ناشئة من الظروف الموضوعية التي تتيح لهذا المرجع أو ذاك أن ينتشر اسمه في الآفاق. ويمكن القول إنَّ التطورات الأخيرة في المرجعية جعلت إيران تنتبه إلى هذه القضية، لتفكّر في أنّ غياب المرجعية عنها ووجودها في النجف أو في أيّ مكانٍ آخر يمكن أن يضعف مصداقية الجمهورية الإسلامية في العالَم الشيعيّ، لأنَّ هذا العالم لا يزال منفتحاً على المرجعية، كعنوان تاريخي متّصل بكلّ مفاصل الوجود الشيعيّ؛ ولم تبلغ ولاية الفقيه هذا الموقع النفسي والفكري في حياة الواقع الشيعي، في وقت رأت إيران أنّ الاستكبار العالمي بدأ يشنّ حملة عليها في هذا الجانب، من أجل أن يثير الخلاف ويشوّه الصورة ويعزلها عن المرجعية، فتضعف علاقة الوجود الشيعي بها وعلاقتها به، ولتبقى المرجعية في النجف المحكوم للنظام العراقي، والحوزة في النجف ضعيفة ممّا ينعكس في نهاية المطاف على ضعف المرجعية ككلّ. فالمرجعية إذا انتقلت من إيران التي تعطيها القوّة ووجدت في النجف التي تعيش الضعف، فستكون ضعيفة، حتّى لو كان المرجع إيرانياً، ونرى أنّ السيّد السيستاني هو إيراني من محافظة خراسان وليس عربياً، وإن أمضى معظم حياته في النجف.
لهذا أصبحت إيران تفكّر في خصوصيّة وجود المرجعية في قم. وأن يكون علماء قم هم المرجع في تعيين المرجعية من المسائل الحسّاسة التي تمسّ قوّة الجمهورية الإسلامية، وبالتالي قوّة خطّ التشيُّع الذي تمثّله الجمهورية الإسلامية في موقع القوّة.
ـــ في أكثر من محاضرة ولقاء خاص ناديتم بتحويل المرجعية الشيعيّة مؤسّسة واسعة مثل الفاتيكان بدل أن تكون مرجعية الشخص فأين أنتم الآن من هذا المشروع؟
لقد طرح السيّد محمد باقر الصدر مشروع المرجعية الرشيدة، وهو مشروع يحاول أن ينظّم المرجعية تنظيماً إدارياً ويحقّق لها العطاء الرسالي أكثر.
وفي الوقت الذي كنت ألتقي فيه مع المرحوم الشهيد السيّد محمد باقر الصدر في هذا الموضوع، كنتُ أفكّر في أنّ المرجعية لا بدّ من أن تكون شاملة، وأن تخرج من مرجعية الشخص الذي يدير أموره أولاده وأصحابه وأحفاده وأصدقاؤه، لتكون مؤسّسة يترأسّها المرجع، ولكنّها تتمثّل في نظام كامل يضع الدراسات ويركّز العلاقات، بحيث إذا مات المرجع وجاء غيره يستطيع أن يرى كلّ تاريخ سلفه في كلّ علاقاته ونشاطاته ومشاريعه وأفكاره، بدل أنْ يتحوَّل كلّ تراثه إلى أولاده كما يحدث الآن. وكنتُ أعطي مثلاً الفاتيكان وأرى أنّ المرجع لا بدّ من أن ينتخب انتخاباً من علماء الشيعة وأهل الخبرة في العالم، تماماً كما ينتخب كرادلة العالم البابا، وأن تكون المرجعية مؤسّسة ذات فروع واختصاصات وأجهزة متنوّعة.
وقد أثار هذا الموضوع جدلاً كبيراً على الساحات الحوزويّة وغيرها، بعدما صدر في كتاب بعنوان "المعالم الجديدة للمرجعية الشيعيّة". وأقيمت ندوة في لبنان في إذاعة "صوت الإيمان" حوله وصدر في الموضوع نفسه كتاب "المرجعية وحركة الواقع". إنَّني أطرح هذا الطرح لأنَّني أعتقد أنّه السبيل الكفيل لإيجاد مرجعية فعّالة متحرّكة، تستطيع أن تطلّ على العالَم، وتواكب طموحات كلّ الجيل الشاب الذي يريد من المرجع أن يعطي رأيه في أيّة قضية عالمية وأيّة مشكلة اجتماعية، وأن يحرِّك الأجهزة من أجل احتواء كلّ المشكلات العالقة في هذا الوسط بطريقة أو بأخرى حسب الإمكانات الموجودة بين يديه. لكنَّ هذا المشروع ليس للحاضر، لأنَّ الأمر يقتضي أوّلاً أن يتبنّى الرأي العام الشيعي ـــ ولاسيّما منه الحوزات ـــ هذه الفكرة، وأعتقد أنّ هناك تطلُّعات نحو هذا المستوى من التفكير وأنّ هناك جدلاً ونقداً للواقع، ولكنَّ الأمر يحتاج إلى ظروف أوسع وإلى حوارٍ أشمل؛ كما يحتاج إلى تطوّرات ومتغيّرات، لذلك طرحت أن يكون مشروع المستقبل. أمّا الحاضر فيمكن أن يحدث فيه بعض التغييرات الشكلية أو بعض التغييرات في الأساليب والمناهج وما إلى ذلك، وهذا ما نسعى إليه.
الفصل السادس:
آراء لسماحة آية الله العظمى في شخصيات
إسلامية رائدة:
ـــ الشهيد الصدر والفكر الإسلامي
ـــ قبسات من تجربة المرجع السيّد محسن الأمين
الشهيد الصدر والفكر السياسي الإسلامي(*)
لو أردنا أن نلخّص الشهيد الصدر في فكره وحركته ونشاطه وجهاده، لكانت هذه الكلمة: "لقد كان الإسلام كلّه"، ليس فيه شيء غير الإسلام، لم يكن إلاّ مسلماً في الاستراتيجيّة وفي التكتيك. إذا انطلق بعض الناس بالتكتيك، ليبتعدوا عن الإسلام أو حاولوا أن يجدوا في الاستراتيجية ما يعفيهم من الالتزام بها فكراً وحركة، فإنَّه كان في كلّ أحواله، في السلم وفي الحرب، في حال الشدّة والرخاء، في الفقه وفي الفلسفة وفي السياسة، كان مسلماً. كان الإسلام الهاجس الذي عاشه منذ بدأ طفولته وهو يقرأ الفقه، لا ليستهلكه ولكن من خلال عمق لا شعوري في داخله أن يُنتج الجديد فيه. ولذلك فإنَّ تجديده كان مبكراً، فقد نلاحظ أنَّ الذين انطلقوا بالفكر الإسلامي تنظيراً وحركة، انطلقوا به بعد أن عاشوا تجارب كثيرة وبعد أن انطلقت الحياة من حولهم بالكثير من التحدّيات، ولكنَّنا نعرف أنّه عندما انطلق بالإسلام قاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة، كان في شبابه الأوّل، يعمل على أساس هذا الهاجس الذي بقي يهزّ فكره وشعوره ويحرّك عاطفته، هذا الهاجس الذي يقول له: إنَّ الإسلام انطلق حركيّاً ولا يمكن له أن يجد أيّ موقع في الفكر أو في الواقع، إلاّ إذا عاد حركيّاً.
البحث عن إسلام حركي
أمّا أن يبقى الإسلام فقهاً يجترّ نفسه، وفلسفة تحلّق في التجريد ومجتمعاً ينطلق به أفراده، ليبحث كلّ واحدٍ منهم عن نقاط الضعف، ليبرّر بها قعوده وانكفاءه؛ أمّا أن يبقى الإسلام في هذا الجوّ وفي هذا المجال، فإنَّه قد يمنحك أفراداً يعرفون كيف يتعبَّدون الله بطريقة أو بأخرى، ولكنّه لن يمنحك حياة تنفتح على الإنسان كلّه، من خلال الإسلام كلّه، لينطلق الإسلام في عمق الإنسان بكلّ قضاياه. لذلك كنّا معه وكان يبحث، في بدايات الأجواء الأولى التي انطلق بها إسلاماً يتحرّك، حتّى عن المصطلحات الحركية كيف يمكن لها أن تتحرَّك في الأجواء الإسلامية، من دون أن يسيء ذلك إلى المضمون الإسلامي والمفهوم الإسلامي. كان يعيش قلق الإسلام الحركي وكان فكره الفكر الذي يعمل على أن يلاحق كلّ تجربة سابقة، بدأت تنطلق في الواقع الإسلامي وكان ينقد تلك التجارب، من خلال مضمونها تارّة ومن خلال شكلها أخرى، وبذلك اكتملت لديه التجربة، تجربة تنطلق من فكر، ينظّر للإنسان كيف يكون الإسلام، ولا نقول إنّه ينظّر للإسلام لأنَّ القضية هي أنّنا لا ننظّر للإسلام عندما نفكّر، بل نحاول أن نفهمه من خلال النظرية الثابتة المنطلقة في حركة الوحي.
"السيّد".. سبق مجتمعه
لذلك كان الإنسان الذي سبق مجتمعه. لم تكن تجربته في الحركة الإسلامية التي بدأها أوّل تجربة، ولكنّها كانت في مجتمعه تجربة أولى، وربّما كانت في طبيعة كثير من المفردات التي اغتنت بها هذه التجربة تجربة أولى. وأستطيع أن أقول، ونحن نعيش في ملامح شخصيّته في طبيعة الواقع الذي كان يملأه، إنّه لم يأت عندنا، في تاريخنا الإسلامي الفقهي الحركي السياسي الفلسفي، شخص يجمع في عناصر شخصيّته فقهياً، يتحدّى كلّ عمق الفقه التقليدي ليتفوَّق عليه، وفيلسوفاً استطاع أن ينطلق من خلال دراسته للفلسفة الإسلامية القديمة، ليدخل في عمق الفلسفات الحديثة ويبدع في كتابه الأخير "الأُسس المنطقية للاستقراء"، وحركيّاً ينطلق بالفقه بطريقة حركية وينطلق بالحركة بأسلوب فقهي، ومجاهداً أعطى كلّ حياته لفكره، لأنّه كان الإنسان الذي لا يعيش الازدواجية بين ما هو الفكر وبين ما هو الواقع، بل كان الواقع لديه تجسيداً للفكر وكان الفكر انطلاقة في خطّ الواقع. قد نجد في تاريخنا الإسلامي فقهاء في حجم الثورة وثوّاراً في حجم الحركة، أمّا أن تجد إنساناً يجمع ذلك كلّه، إنساناً قيمته، في الوسط الفقهي كلّه، هي أنّه عندما واجه التحدّيات الكبرى التي عاشها الإسلام وعاشها المسلمون، طرح السؤال الكبير: إنَّكم تقدّمون لنا إسلاماً بلغة تجمّدت مع الزمن وربّما مات الكثير منها مع الزمن، وإنّكم تحدّثوننا عن مفردات فقهية ليست هي مشكلاتنا التي نعيش ولكنّها مشكلات عالم آخر، ماذا عن كلّ التجديد الذي فرض نفسه على الواقع؟ ماذا عن كلّ الجديد في الاقتصاد؟ وماذا عن كلّ الجديد في الإدارة؟ وماذا عن كلّ الجديد في حركة السلم والحرب؟ ماذا عن الجديد في ذلك كلّه؟ إنَّ هناك إنساناً آخر وإنَّ هناك حياة أخرى، لذلك ليست المسألة أن تطرحوا لنا الإسلام ولكن كيف تواجهون التحدّيات التي يطرحها الواقع؟.
اقتحام التحدِّيات
إنَّ قيمة السيّد محمد باقر الصدر أنّه كان في مستوى التحدّيات، كان الإنسان الذي تستطيع أن تناقشه في كلّ شيء من دون أن يتعقَّد، حتّى في المسلّمات، لأنَّه انطلق في تجربته الفلسفية الأخيرة من مواجهة البديهيّات، على أنّها ليست بديهيّات وأنّ كلّ شيء قابل للمناقشة. والقليلون من العلماء ومن الإسلاميين مَن يعيشون هذه الرحابة في الفكر. إنَّ الكثيرين من المفكِّرين يخشون من طرح فكرهم، حتّى لدى الذين يملكون الفكر، لأنَّ الغوغائية هي التي تصدم الواقع وليس الفكر. كان السيّد محمد باقر الصدر الإنسان الذي يستجيب لكلّ سؤال ولكلّ فكر من دون أيّة عقدة. كان الإنسان الذي يقتحم التحدّيات. اقتحم الفلسفة الماركسية والفلسفات الأخرى ولم يكن في مستواها بل في المستوى الأعلى منها بشهادة الكثيرين. وعندما كان الإسلاميون يقدّمون في الاقتصاد مجرّد أحكام في التجارة وفي الإجارة وفي المضاربة، أحكام لا يجمعها جامع، انطلق ليقول إنّ في الإسلام مذهباً في الاقتصاد، يقف بكلّ عنفوان أمام المذهب الاقتصادي الرأسمالي والمذهب الاقتصادي الاشتراكي.
وهكذا انطلق ليواجه الفراغات التي لم يأتِ بها التشريع بشكلٍ تفصيلي والفراغات التي تنطلق من خلال الواقع المتحرّك الذي لا يمكن لك أن تعطيه خطّاً شرعياً محدَّداً، لأنّه يتحرّك مع الحياة في كلّ ما تحتاجه في تطوّرات، وبذلك كانت نظريّته في منطقة الفراغ، النظرية الفقهية الجديدة التي كانت تجديداً في المسألة الفقهيّة.
لا أريد أن أتحدَّث عنه في شمول فكره، فنحن في الفكر السياسي نتحدّث، لكنّي أحبّ أن أقول: إنَّ جريمة النظام العراقي في اغتيال هذا الإنسان الكبير، هي أنّه أفقد الثورة الإسلامية فكراً كان من الممكن أن يسدّ كلّ فراغاتها وكان من الممكن أن يعالج الكثير من مشكلاتها، لأنّه الإنسان الذي انفتح على الثورة الإسلامية بكلّه، وكان يحاول أن يفكّر لها وهي لا تزال في البدايات، ليملأها في كلّ المجالات التي تحتاجها. كانت خسارة السيّد الشهيد الصدر هي خسارة للثورة الإسلامية وللجمهورية الإسلامية وللحركة الإسلامية، لأنَّنا لا نجد هذه الشمولية التي تتميَّز بها شخصيّته في إنسانٍ آخر، مع احترامنا لكلّ الناس الذين يتحرّكون في أجواء الحركة الإسلامية والثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية.
وهناك نقطة أخرى تمثّل وحشية هذه الجريمة وخطورتها وهي أنّنا لا نتألَّم على الشهيد الصدر الماضي فحياة الشهيد الصدر إلى آخر عمره موجودة عندنا. نحن لم نخسر حياته تلك، لأنَّه أعطى الكثير منها ولكنّ خسارة المستقبل الذي ينتظر الشهيد الصدر: مستقبل الفكر والحركة الإسلامية والفقه الذي يمتزج بالحركة، المستقبل الذي يعد بإبداعات كبيرة جداً، والرجل كان يعيش قلق التجديد، حتّى ولو أحدث التجديد في الشكل إذا لم يستطع التجديد في المضمون.
الخطّ السياسي للإنسان... هو الإسلام
عندما نريد أن نتحدّث عن الفكر السياسي الإسلامي، الذي انطلق به السيّد الشهيد الصدر فإنَّنا قد نجد في البداية الخطّ العام وهو أنّ الإسلام هو الخطّ السياسي للإنسان، الذي يغطّي كلّ جوانب حركية الإنسان في الحياة، ويحمل في داخله عمق المعنى الروحي الذي يمثّله الإسلام كدين، كما يحمل في داخله كلّ الخطوط التفصيليّة للواقع التشريعي من جهة والواقع الحركي من جهةٍ أخرى والواقع السياسي في هذا وذاك كلّه. إنّه لم يحتج إلى كثير من التنظير، ليكون الإسلام هو الخطّ الحركي الذي يدعو المسلمين وغير المسلمين إليه، لأنّه في وعيه للإسلام واكتشافه للكنوز الدفينة في الإسلام، من خلال ما يقدّمه من الحلول المتنوّعة لمشكلات الإنسان المختلفة، كانت القضية عنده في مستوى البداهة، ولذلك لم يدخل في أيّ جدل مع الكثير من الكلمات التي كانت تتحدّث هل في الإسلام نظام حكم، هل الإسلام يلتقي بالسياسة أو ما إلى ذلك؟ لأنّه اعتبر المسألة من القضايا، التي يقول المنطقيّون عنها أنّها من القضايا التي قياساتها معها. فالإسلام كان تجربة حكم لا ينغلق على فترته الزمنيّة، والإسلام كان تجربة شريعة وقانون، قد يختلف الناس في تقويمها ولكنّهم لن يختلفوا في أنّها، على الرغم من كلّ الإرباكات التي حدثت في داخلها، قد ملأت فراغ الإنسان المسلم. فالمسلمون في مدى أكثر من ألف سنة لم تكن لديهم شريعة إلاّ شريعة الإسلام، على اختلاف الاجتهادات والتطبيقات وعناوين الحكم فيها، لم يكن هناك شيء غير الإسلام فلم يشعر المسلمون بأيّ فراغ من خلال ذلك. لذلك أن يكون الإسلام حكماً ينفتح على كلّ قضايا الإنسان، هو من الأمور التي تنطلق فيها النظرية ويتحرّك فيها التطبيق، فهي ليست نظرية تبتعد عن الواقع ولكنّها كانت واقعاً يغني النظرية، كما يغتني بها بطريقة أو بأخرى.
من هنا كانت المشكلة لديه هي مشكلة المستعمرين، كيف حاولوا بكلّ ما عندهم من وسائل أن يُبعدوا الإنسان عن وعيه للإسلام من جهة، وعن إحساسه بالحاجة إليه وعن شعوره بالمعنى الموجود في داخله. كانت المشكلة التي عايشها ولا نزال نعايشها؛ أنَّ هناك مفاهيم جديدة تنطلق في عمقها من مفاهيم قديمة ولكنّها أخذت شكلاً جديداً، حاولت أن توحي للإنسان المسلم بأنَّ هناك فراغاً في حياته، لأنَّ ما كان يملأ حياته، كان ينطلق من خلال طبيعة تلك الحياة. أمّا وقد انطلق الإنسان لينفتح على واقع الغرب في كلّ جديده فإنَّ هناك فراغاً لا يملأه فكر الغرب. لذلك كانت كلّ تجربته أن يقول للمسلمين، من موقع الفكر تارّة، ومن موقع الفقه أخرى، ومن موقع الخطوط السياسية الحركية ثالثة، إنَّ هذا الفراغ ليس هو الفراغ الذي تملأه العلمانية في كلّ فروعها ولكنَّ الإسلام هو الذي يملأه.
تكامل الأدوار
ولذلك كانت القضية عنده أن يفلسف للمسلمين إسلامهم، وأن يُمذهب للمسلمين إسلامهم، وأن ينوّع للمسلمين مسألة الفكرة والتجربة، النظرية والتطبيق. واستطاع أن يدخل المعركة بكلّ قوّة، في وقت كانت التحدّيات تنطلق في خطّين: كان هناك التحدّي الذي يمثّله الحكم الطاغي المنحرف، الذي أخذ شكل الثورة التي تجتاح مشاعر النّاس، باعتبار أنّ الثورة عندما تنطلق من واقع عاش الناس تحت تأثير قسوته فإنّها ترتكز في هذا المجال على أساس أنّها تثير للنّاس مشاعرهم وعواطفهم وتمنعهم من التفكير. كان هناك حكم يأخذ بقلوب الناس، حتّى أنّنا رأينا في ذلك الوقت المنشورات التي تصدر عن جماعة العلماء في النَّجَف الأشرف، رأينا أنّها تعمل على مجاملة ذلك الحكم، لأنّها لا تستطيع غير اتّباع هذا الأسلوب بفعل الواقع الشعبي، أو هكذا خُيّل للذين عاشوا التجربة. وكان هناك مدٌّ شعبي انطلق من خلال ما سميّ بالمدّ الشيوعي الأحمر إلى جانب التيّارات الأخرى، بحيث إِنّك عندما تنطلق في هذا التحدّي فقد يخيّل إليك أنّك لا تجد لنفسك موطئ قدم فيه عندما يسيطر عليه الانفعال، ولكنّه مع الطليعة الواعية من إخوته ومن العلماء الكبار المنفتحين على قضايا الإسلام في الواقع، كان يفكّر بطريقة أخرى، وكان يتمثّل بقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران : 173].
وهكذا فكَّر، أنّه لكي يكون هناك إسلام في واقع الناس فلا بدّ أن تكون هناك حركة إسلامية. ليس معنى ذلك أن يتحوَّل الإسلام بكلّه إلى حزب ولكن أن ينطلق الحزب، من أجل أن يربّي للحركة وللواقع الإسلامي الطلائع المثقّفة المنفتحة على الحياة كلّها وعلى الإنسان كلّه، وأن يعرفوا كيف يواجهون التحدّيات وكيف يدرسون المتغيّرات وكيف يعملون على حماية الواقع الإسلامي من خطّة مخابراتية هنا وخطّة سياسية هناك وفتنة طائفية هنالك.. القصّة هي أنّ الآخرين عندما يخطِّطون فإنَّ عليك أن تخطِّط، وعندما يتحزَّب الآخرون فإنّ عليك أن تتحزَّب، لا أن يكونوا الصورة التي تريد أن تجعل نفسك على شاكلتها ولكن أن تنطلق، على أساس الكلمة المعروفة "لا يمكن لك أن تبني الحقّ وأن تتحرّك مع الحقّ، إلاَّ من حيث تحدّيات الضّلال". ولذلك لم يكن السيّد محمد باقر الصدر مفكِّراً إسلامياً، يريد حبس الإسلام في قمقم الحزب أو يريد جعل أفراد الحزب أُناساً يحاولون التفكير بأنّهم هم المسلمون وأنَّ بقيّة الناس غثاء؟ بل كان الحزب تجربة انطلق بها من خلال أنْ يُمنهج للمسلمين حركتهم وأن يخطّط لهم انطلاقتهم، ليواجهوا المسألة من موقع متقدّم، ينطلق من خلال وعي الواقع في كلّ مجالاته. وبذلك بقيت ـــ في وعي السيّد الشهيد ـــ الحزبية في حركيّتها الإسلامية إلى جانب المرجعية، لم تلغِ المرجعية الحزبية ميزات طبيعة فكره ولم تلغِ الحزبية المرجعية ميزات طبيعة خطّه، وبذلك كان يفكّر أن يتكاملا معاً، أن تكون المرجعية هي الحركة الفكرية والفقهية التي تحمي الحركة وتحمي الواقع من الانحراف. وكان يفكِّر أنّ الأُمّة عندما تتحرَّر وتنطلق فإنّها تتكامل مع المرجعية، ولهذا كانت نظريّته الأخيرة ـــ في مسألة الحكم عندما تنتصر الأُمّة في أيّ موقع ـــ هي الجمع بين ولاية الفقيه وبين الشورى، فكان يرى أنّ للفقيه دوراً يتحرَّك في موقع الشهادة وأنَّ للأُمّة دوراً يتحرّك في موقع الخلافة، لأنَّ الشهادة والخلافة إنّما تجتمعان للمعصوم، ولكنَّهما لا تجتمعان لدى غير المعصوم بهذا الشكل الشمولي. ومن هنا لم تكن نظريّته نظرية الشورى بالمطلق، ولم تكن نظريّته نظرية ولاية الفقيه بالمطلق، ولكنّها كانت مزيجاً من ولاية الفقيه والشورى، التي قد نجد بعض ملامحها في التجربة الإسلامية في إيران وإن لم تكن بهذه الدقّة التي كان يطرحها السيّد الشهيد.
الدولة الإسلامية العالمية
لذلك كانت مسألة الدولة الإسلامية العالمية، هي الطرح الذي طرحه في كلّ مجال، ميزته في كلّ ما كتبه وفي كلّ ما تحرّك فيه وفي كلّ ما تحدَّث عنه، أنّه كان يطرح الإسلام على أساس أنّه فكر يقول للنّاس، تعالوا للحوار، وعلى أساس أنّه منهج يواجه المناهج الأخرى. كان المسلم الذي لا يضغط عليه الواقع، ليجامل الواقع بالانسحاب من الإسلام، كان المسلم الذي يشعر بأنّه عندما يقدّم الإسلام إلى الناس فإنّه لا يجد هناك أيّ فكر آخر يجامله ولا يجد أنّ هناك أيّ وضع آخر يهادنه. كان يعتبر أنّك تستطيع أن تجامل في كلّ علاقاتك الاجتماعية، ولكن لا مجال لأنْ تجامل في خطّك الفكري. خطّك الفكري لا بدّ أن ينطلق على أساس أنّك مقتنع به وأنّك تريد أن تقنع الآخرين. وهذا ما قد نحتاجه في كلّ الواقع الذي عشناه ونعيشه الآن وسوف نعيشه في المستقبل.
إنَّ هناك واقعاً يضغط علينا في كلّ العالم، واقعاً يقول لنا بأنّ مسألة الإسلام هي مسألة تدخل في دائرة التطرُّف والإرهاب والتعصُّب والتخلُّف وما إلى ذلك. لهذا فقد انطلق الواقع الإسلامي بين فئات تحاول أن تنظِّر لهذا الإعلام الغربي بطريقة أو بأخرى وتعمل على أن تعقّد المسلمين من كلّ الحركيين الإسلاميين إذا أخطأوا. إذا أخطأ غير الإسلاميين فإنَّ كلّ الظروف يمكن أن تكون مبرّرة لهم ولكن إذا أخطأ الإسلاميون ولو في الصغائر فإنَّ السّماء تطبق على الأرض، وأنّ هؤلاء يخرّبون الإسلام ولا يفهمونه وما إلى ذلك من كلمات تنطلق هنا وهناك.
التحدِّي.. والحركة الإسلامية العالمية
لذلك تظهر تجربة السيّد الشهيد الصدر، في طرحه الفكري من جهة وفي ممارسته العملية من جهة، أنَّ التحدّي قد أطلق في مواجهة الحركة الإسلامية العالمية، وعلى الحركة الإسلامية العالمية أن تكون في مستوى التحدّي، ممّا يتطلَّب منّا العمل على أن ندعو للإسلام، حتّى في بلدٍ ليس فيه مسلم واحد، أن ندعو للإسلام كمنطلق للوعي وكتجربة للحركة. إنَّني أتساءل أمام كلّ الذين يحدِّثوننا عن ضرورة مراعاة الواقع في ما نطرح من شعارات، إنَّني أتصوَّر لو كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) موجوداً الآن، فهل يحدّثنا عن الاشتراكية وعن الديمقراطية وعن الليبرالية أو ما إلى ذلك؟ إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) كان في مجتمع ليس فيه مسلم واحد وكان الواقع كلّه يضغط وكان الشعار الذي أطلقته قريش: "لقد فرّقت الناس وهم جميع"، الشعار الذي أطلق في وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والشعار الذي أطلق في وجه الإمام الحسين (عليه السلام). إنَّ القضية لو كانت، أنّ الأمر الواقع يصلح لأن يكون مبرّراً، لأنْ نتنازل عن خطّنا وعن شعاراتنا فأنا أقول لكم: لن يأتي وقت يمكن أن نطرح الإسلام فيه. لذلك علينا أن ننسحب من كلّ الأبحاث الإسلامية، التي تبقى في الكتب؟! إذا كانت المسألة الواقعية تفرض علينا أن لا نجرِّب الحركة الإسلامية هنا ولا هناك، بحجّة خطرٍ هنا، ومشكلةٍ سياسية هناك أو مشكلة اجتماعية وما إلى ذلك، فأين السّاحة التي ليس فيها مشكلات؟!.
السيّد الشهيد الصدر لو كان في الواقع الذي نعيش فيه فإنّه كان يتصرَّف كما تصرّف وكان يتحرّك كما تحرّك. في تجربته، عندما يتحدّث عن أسلوب العمل، كان يقسّم الدول إلى أقسام: الدولة التي تقوم على أساس عقيدة الكفر، والدولة التي لا تقوم على أساس عقيدي، والدولة التي تقوم على أساس بعض الإسلام، والدولة التي تقوم على أساس الإسلام كلّه. وكان يرى أنّ علينا أن نعمل على أساس أن نكون في مواجهة الدولة التي تقوم على أساس فكري يناقض الإسلام أو يضادّه، باعتبار أنّ هذا هو الموقع الذي يمكن أن نضع أمامه كلمة الجهاد. فالمسألة في هذا المجال لا بدّ فيها من مواجهة القضايا بالعنف. أقرأ لكم بعض هذا النصّ في الأسس التي كتبها في بداية تجربته الحركية، إنّه يقول عن هذه الدولة: "وحكم الإسلام في حقّ هذه الدولة أنّه يجب على المسلمين أن يقضوا عليها وأن ينقذوا الإسلام من خطرها، إذا تمكّنوا من ذلك، بمختلف الطرق والأساليب التبشيرية والجهادية، لأنَّ الإسلام في هذه الدولة، حتّى بصفة عقيدة، موضع للهجوم وموضع للخطر فتكون الحالة معها حالة جهاد لحماية بيضة الإسلام، غير أنّ وجوب جهاد هذا العدو، لا يعني بطبيعة الحال القيام بأعمال تُعرّض العاملين للخطر دون نتيجة إيجابية".
المواجهة هي المبدأ، أمّا أسلوب المواجهة فهو، إذا كان العاملون يتعرّضون للخطر وكانت النتائج إيجابية فعليهم أن يواجهوا الخطر، أمّا إذا لم تكن النتائج إيجابية، بحيث تكون المسألة مسألة حركة انتحارية فإنَّ المسألة لا تشجّع على انتحار العاملين؛ بل عليهم أن ينتظروا فرصاً أخرى وظروفاً أخرى.
أمّا الدولة الأخرى التي لا تملك لنفسها قاعدة فكرية معيّنة، كما هو شأن الحكومات القائمة على إرادة حاكم وهواه، فإنَّه يتحدّث عن الحكم الإسلامي في حقِّقها، فيقول: "والإسلام في هذه الدولة وإنْ كان لا يُجابه منها حرباً مركّزة على عقيدته وأفكاره، إلاَّ أنّه حيث أقصي عن قاعدته الرئيسية، أصبح يفقد ضمان الدولة بكلّ وجه من الوجوه وأصبح وجوده خطراً. والحكم الشرعي في حقّ هذه الدولة أنّها ليست دولة شرعية ويجب على المسلمين هدمها وإبدالها بدولة إسلامية، وكذلك فإنَّ وجوب إبدالها لا يعني القيام بأعمال تعرّض العاملين للخطر دون احتمال نتيجة إيجابية، كما أنَّ الطرق التي تستعمل في سبيل هدمها وإبدالها، تقدّم من حيث درجة العنف والقوّة طبقاً لمدى الخطر الذي يتهدَّد الإسلام منها وطبقاً لإمكانات العاملين واحتمال عود جهادهم بنتيجة على الإسلام". وهناك الدولة الإسلامية التي تنطلق من الإسلام كلّه فلا بدّ من دعمها، أو من بعض الإسلام دون بعض فلا بدّ من الدخول في حوارٍ معها.
لننتج عمقه الفكري
إذاً، السيّد الشهيد (رحمه الله) ينطلق على أساس أنّ تكليفنا الشرعي هو الدعوة إلى الدولة الإسلامية في العالم، بحيث نواجه كلّ حكم غير إسلامي بالوسائل التي يمكن لها أن تؤدّي إلى نتائج إيجابية؛ بحيث يمكن لها أن تعطي الإسلام خطوة متقدِّمة أو تعطي المشروع الإسلامي انطلاقة جديدة في هذا المجال.
إنّه كان يفكّر في هذا الأُفق، وأعتقد أنّنا في هذه المرحلة من حياتنا الإسلامية، نحتاج إلى أنْ ننتج هذا الفكر من جديد. ولا أقصد من كلمة "إنتاج هذا الفكر من جديد" أنّه ليس هناك فكر بهذا الشكل في واقعنا، فنحن في عصر الصحوة الإسلامية والثورة الإسلامية والحركة الإسلامية، لكنّي أقصد أن ننتج عمقه الفكري في عقلنا السياسي وفي عقلنا الاقتصادي والاجتماعي، فنعمل على أن نكون إسلاميّين بكلّنا، لأنَّ المشكلة هي أنّ هناك عناوين تُطرح في السّاحة ولها مفاهيم فكرية في داخلها وربّما تلتقي مفاهيمنا الإسلامية ببعض خطوطها، ولذلك فقد يبادر الكثيرون منّا، ليتخفَّفوا من ضغط الحاضر على أوضاعهم أو على كثير ممّا يفكِّرون فيه، بطريقة جزئية هنا أو هناك.
إنَّ هناك حملة ثقافية سياسية عالمية على الإسلام والمسلمين، تركّز على أنَّ الإسلام ضدّ الديمقراطية وأنَّ المسلمين لا يتحرَّكون في أوضاعهم ديمقراطياً، وقد بدأ الحديث في أكثر من موقع إسلامي على أنّ علينا أن نصالح بين الديمقراطية والإسلام في بعض الطروحات، وحديث آخر يعتبر أنّ علينا أن نصالح بين الديمقراطية والشورى في طرح آخر، وحديث ثالث يطالبنا بالانطلاق لنطوّر الإسلام ليكون ديمقراطياً، ويستشهد هذا بآية هنا وآية هناك.. لكنّ للكلمات مدلولاً فكرياً فلسفياً، إذا استعملت الكلمة فلا بدّ من أن تخضع له. قد نمارس اللعبة الديمقراطية كما تمارسها الجمهورية الإسلامية في إيران، لكنَّ هناك فرقاً بين أن تمارس اللعبة الديمقراطية، من خلال التزامك بالديمقراطية وبين أن تمارسها، من خلال أنّها وسيلة من الوسائل التي تستطيع أن تحقّق بها عنوان شورى من جهة أو عنواناً آخر من جهةٍ أخرى.
نحاور العالَم ولا نسقط أمامه
إنّك عندما تلتزم الديمقراطية، أتعرف ما معنى ذلك؟ لو أنَّ الإسلام نجح من خلال الديمقراطية فإنَّ معنى ذلك أنّ الإسلام شرعي، لأنَّ الأكثرية الشعبية صوَّتت له، وبذلك يفقد الإسلام شرعيّته إذا صوّتت الأكثرية ضدّه. إنَّ الديمقراطية لا تعطي شروطاً في العناوين الني تتقدَّم إلاَّ الشروط الإدارية، لأنَّها ضدّ التمييز الديني، فلا تشترط أن يكون الحاكم مسلماً، كما أنّها ضدّ التمييز العرقي، وضدّ أيّ تمييز. لذلك أن تمارس الديمقراطية وأن تدعو لها من حيث التزامك بالديمقراطية كخط، معنى ذلك أنّك لا تنطلق من الإسلام، على أساس أنّه دين الله ولكن على أساس أنّه اختيار الشعب. هل نستطيع كمسلمين أن نلتزم بهذا، حتّى في القضايا المتحرّكة؟ بعض الناس يقولون لا ديمقراطية في مسألة التعبديّات ولكن في المسائل الأخرى، يمكن أن ننطلق مع الديمقراطية، نقول: حتّى في المسائل المتحرّكة ننطلق بالديمقراطية، من خلال انطلاقها مع العناوين الشرعية ومضمونها أو أن ننطلق بها كعنوان كبير.
وهكذا في الاشتراكية وفي كلّ المجالات، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة : 3] مصطلحات الإسلام مصطلحاتنا ولا حاجة بنا إلى مصطلحات أخرى. المصطلحات الأخرى نواجهها، قد نجد فيها ما يتّفق مع الإسلام وقد نجد فيها ما يختلف معه. علينا أن نحاسبها على أساس ما نجتمع فيه معها وما نختلف فيه، ليبقى المفهوم في دائرته العلمية الدقيقة. ولعلَّكم إذا قرأتم الشهيد الصدر في كلّ نتاجه منذ أن كتب بيانات "جماعة العلماء" في النجف الأشرف إلى "الأُسس".. لرأيتم أنّه كان الإنسان الأمين على المصطلحات الإسلامية، وكان الدقيق تماماً، كما هي الدقّة الأصولية التي يتميَّز بها.
ولهذا فإنَّ الآخرين يريدون أن تسقط مصطلحاتنا تحت ضغط مصطلحاتهم وأن تسقط سياستنا تحت ضغط سياستهم. إنَّنا ننفتح على العالَم ونحاوره ولكنَّنا لا نسقط أمامه. هناك فرق بين أن ينحني فكرك لفكرٍ آخر وإرادتك لإرادة أخرى وبين أن تتوازن في بعض الحالات مع هذه النقطة أو تلك.
تسمية الأشياء بأسمائها
عندما نقترب إلى ممارسته، نراه قد درس المسألة العراقية، التي كان يعيش تحت ضغطها، ودرس الحكم العراقي وفهم جيّداً أنّه الحكم الذي يريد أن يجتثّ جذور الإسلام من كلّ واقع المسلمين، ولهذا كانت مبادرته الأولى أن يصدر فتوى بتحريم الانتماء إلى حزب البعث في العراق، حتّى يعرّف المسلمين بأنّ الخطّ الذي ينطلق به الحكم هناك يختلف عن الخطّ الإسلامي، لأنَّ الكثيرين من المسلمين هناك قد لا يفهمون الأمور فهماً شعورياً يدخل في وجدانهم وإحساسهم، عندما تكون المسألة مسألة تحليل وتنظير، ربّما نجد بعض الناس لا يحبُّون أن يقرأوا التحليلات أو لا يفهمونها. لذلك الفتوى عميقة الجذور في تأثيرها في وعي المسلمين ولاسيّما إذا صدرت من إنسان يؤمن المسلمون بأنّه يملك الكفاءة، التي تجعله في موقع الفتوى.
ومن هنا فإنَّنا نجد في بعض نداءاته بياناً، لا أظنّ أنّه صدر من أيّ مجتهد مسلم شيعي في أيّة حالة، ممّا يدلّ على أنّه كان يعيش الفكرة في موقع المسؤولية، لأنّه كان يدرك الخطورة التي تدفعه إلى أن يسمّي الأشياء بأسمائها، دون أن يخاف من تعصُّب المتعصّبين ومن تشويهات الجاهلين. إنّه يقول: "إنّي، منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأُمّة، بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسنّي على السّواء ومن أجل العربي والكردي على السّواء، حيث دافعت عن الرسالة التي توحّدهم جميعاً وعن العقيدة التي تهمّهم جميعاً"، لاحظوا كيف يركّز أنّ الخطّ السياسي، هو خطّ إسلامي ولذلك فإنّه يخاطبهم من خلال الإسلام. "ولم أعش بفكري وكياني، إلاَّ للإسلام طريق الخلاص وهدف الجميع، فأنا معك يا أخي وولدي السُنّي، بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي. أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام وبقدر ما تحملون هذا المشعل العظيم، لإنقاذ العراق من كابوس التسلُّط والاضطهاد. إنَّ الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يوحوا إلى أبنائنا البررة من السُنّة، أنَّ المسألة مسألة شيعة وسُنّة وليفصلوا السُنّة عن معركتهم الحقيقيّة ضدّ العدو المشترك. وأريد أن أقولها لكم يا أبناء عليّ والحسين وأبناء أبي بكر وعمر، إنَّ المعركة ليست بين الشيعة والحكم السُنّي، إنَّ الحكم السنّي الذي مثَّله الخلفاء الراشدون والذي كان يقوم على أساس الإسلام والعدل حمل "عليّ" السيف للدفاع عنه، إذ حارب جندياً في حروب الردّة تحت لواء الخليفة الأوّل "أبي بكر" وكلّنا نحارب عن راية الإسلام وتحت راية الإسلام، مهما كان لونها المذهبي. إنّ الحكم السُنّي الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة، قبل نصف قرن، بوجوب الجهاد من أجله وخرج الآلاف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصاً، من أجل الحفاظ على راية الإسلام. إنّ الحكم الواقع اليوم ليس حكماً سنيّاً" وهذا موجّه إلى كلّ الذين يتعصَّبون لملك سنّي أو ملك شيعي، كما كان في أيّام رضا شاه، أو رئيس وزراء سنّي أو رئيس شيعي في مجالٍ آخر، على أساس أنّ هذا شيعي أو سنّي وأنّ في هذا دعماً للتشيُّع وفي ذاك دعماً للتسنُّن. لاحظوا كيف يعالج السيّد الصدر هذه المسألة: "إنَّ الحكم الواقع اليوم ليس حكماً سنيّاً وإنْ كانت الفئة المتسلِّطة تنتسب تاريخاً إلى التسنُّن، فإنَّ الحكم السنّي لا يعني حكم شخص ولد من أبوين سنيّين، بل يعني حكم أبي بكر وعمر الذي تحدَّاه طواغيت الحكم في العراق اليوم في كلّ تصرُّفاتهم وهم ينتهكون حركة الإسلام وحرمة عليّ وعمر معاً في كلّ يوم وفي كلّ خطوة من خطواتهم الإجرامية". ثمّ يقول بعد ذلك: "إنّي أُعاهدكم بأنّي لكم جميعاً ومن أجلكم جميعاً وأنّكم جميعاً هدفي في الحاضر والمستقبل، فلتتوحَّد كلمتكم ولتتلاحم صفوفكم تحت راية الإسلام ومن أجل إنقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلِّطة، حتّى يشعر المواطنون جميعاً على اختلاف قوميّاتهم ومذاهبهم بأنّهم إخوة".
قضيّة الإسلام لا قضية مذهب
أوّلاً: كانت فكرة الوحدة الإسلامية على أساس الإسلام ـــ لاسيّما في المسألة السياسية ـــ قضية تتمرَّد على كلّ المشاعر والانفعالات الطائفية والمذهبية، من دون أن يعني ذلك أن يصبح السُنّي شيعيّاً من دون مناسبة أو يصبح الشيعي سنيّاً من دون مناسبة ولكن أنْ يتّفقا على الإسلام، عندما يتعرَّض الإسلام للخطر وعندما يتعرَّض الواقع الإسلامي للخطر، لأنَّ القضية لن تكون قضية سنّة وشيعة بل قضية الإسلام كلّه في هذا المجال.
ونحن نعرف ـــ في نهاية المطاف ـــ أنَّ الطاغية قد حاول أن "يخيِّره بين السِّلة والذّلة"، فقد نقل أحد تلاميذه أنّه جاء إليه موفد من قِبَل طاغية العراق الحالي يعرض عليه أموراً، أوّلاً: أن يسحب تأييده للجمهورية الإسلامية وللإمام الخميني، لأنَّ الشهيد السيّد الصدر أعطى الجمهورية الإسلامية كلّ تأييده وأعطى الإمام الخميني كلّ مواقفه، حتّى أنّه عندما أمر الناس أن يذوبوا في الإمام الخميني، كما ذاب في الإسلام نراه هو ذاب وذوَّب حياته في هذا الاتّجاه.
ثانياً: أن يؤيّد بعض مشاريع الحكم هناك، ليس من الضروري أن يؤيّد الحزب ولكن أن يؤكّد بعض مشاريعهم كتأميم النفط مثلاً، حتّى يعرف الناس أنّ السيّد الشهيد ينظر بعطف إلى هذا النظام.
ثالثاً: أن يسحب فتواه في تحريم الانتماء إلى حزب البعث.
رابعاً: أن يفتي بتحريم الانتماء إلى حزب الدعوة الإسلامية.
خامساً: أن يُجري بعض الصحفيّين الأجانب معه حديثاً يقول فيه ما يشاء، ليعرف الناس أنّ المسألة بين الحكم وبين "السيّد" هي مسألة طبيعية. عندما انتهى هذا الشخص من عرضه قال له: وإن لم أفعل. أجاب الموفد: إنّهم يقولون إنَّ الإعدام هو البديل من ذلك. عند ذلك قال كلمته "إذاً بلِّغ صدّام عندما يريد إعدامي فإنّي مستعدّ لذلك". وهكذا كانت المسألة في نهاية المطاف، كان يملك أن يتخفَّف من ذلك كلّه، كان يملك أن يستعمل التقيّة وقد يجد الكثيرون من النّاس أنّها في أعلى درجات التبرير كتقيّة "عمّار بن ياسر"، ولكنّه كان يعيش هاجس الشخصية الحسينيّة والمرحلة الحسينيّة، كان يفكّر بين وقتٍ وآخر أن يصدم الواقع، حتّى لو كان ذلك على حساب حياته ولكنّه كان يطلب من إخوانه أن يفكِّروا معه في تحديد النتائج الإيجابية. هل هناك نتائج إيجابية من اختياره للتضحية؟ وكان يفكّر أن يخرج هناك في ساحة حَرَم الإمام عليّ (عليه السلام) ويعلن الثورة ويتكلَّم بكلام قاسٍ ضدّ الحكم وكانت المسألة عنده كيف يحدّد تكليفه الشرعي للمسألة، من خلال تقويمه للنتائج التي يمكن أن تنطلق في هذا الاتّجاه؟
ويبدو أنّه رأى أنّ النتائج الإيجابية هي في هذا الاتّجاه، ونحن نرى النتائج الإيجابية هي في كلّ هذا الجيل الإسلامي، الذي عاش معه والذي عاش بعده وفي كلّ هذا الجوّ الإسلامي الذي لا يزال يُصنع وهو عند ربّه بفكره وجهاده. لذلك فالسيّد محمّد باقر الصدر هو القيمة الإسلامية الكبرى، التي ينبغي لنا جميعاً كإسلاميين، مع اختلاف مناهجنا الفكرية وآرائنا الفقهية، أنْ نستوحي فكره في الالتزام بالإسلام، أن نصرّ عليه إصراراً يجعل العالم يفهم أنّنا لن نتنازل عن حكم إسلامي صغير وعن شعار إسلامي، ليس معنى ذلك أن ندخل في الفوضى ولكن أن يكون التخطيط في هذا الاتّجاه، لأنَّنا نؤمن بالتخطيط.
ننقد ولا نخذل الحركة الإسلامية
إنَّ ذكرى الشهيد الصدر تعني أن نكون مع أيّة حركة إسلامية، ولو اختلفنا معها، أن نكون مع الحركة الإسلامية في الجزائر، ولو كانت لنا علامات استفهام على كثير من الأشياء، أن نكون مع الحركة الإسلامية في مصر، أن نكون مع الحركة الإسلامية في تونس ومع الحركة الإسلامية في كلّ مكان، أن نكون معها لأنّ الإسلام يجمعنا. وإذا أردنا أن نركّز على الخلافات فإنَّ علينا أن نعمل على أساس أن نركّزها من الداخل لا من الخارج. لا يجوز تحت أيّ اعتبار أن نخذل حركة إسلامية؛ ربّما نحتاج إلى أن ننقد بعض أوضاعها بطريقة علمية، لا توحي بالاستهانة بها ولا توحي بخذلانها، لذلك الإسلام الآن ـــ وأقصد الإسلام الحركي ـــ موقف واحد وإن اختلفت مواقعه، فلا يجوز لنا أن نخذل أو نحمل أو نشوّه أو نتعامل مع أيّ نظام ضدّ هذه الحركة الإسلامية أو تلك، يكفينا من الحركات الإسلامية أنّها تقف في وجه الاستكبار العالمي الفكري والسياسي، وأنَّ الاستكبار العالمي يقف ضدّها. الدليل على صحّتها أنّ أميركا وأوروبا وروسيا تقف ضدّها، وأنَّ الكفر كلّه يقف ضدّها، وأنّ المسلمين المنفتحين على خطط الكفر يقفون ضدّها وأنّ المؤمنين الطيّبين هم الذين يقفون معها. أن نختلف معها، هذا أمر لا بدّ أن يبقى، أمّا أن نسقطها وأن نخذلها، هذا ما لا يجوز.
نحو تكامل الحركات الإسلامية
أن ننطلق مع الشهيد السيّد الصدر، لا أن نقف عند مرحلته. أن ننطلق في هذا الخطّ، خطّ أن نبدع وأن نجدِّد وأن يكون الإسلام إسلام الفكر، وهذا ما ركَّز عليه الشهيد الصدر. أن يكون إسلامنا قاعدة فكرية يتحرّك فيها الإنسان المسلم حتّى في عاطفته، لا بدّ أن تكون عاطفتنا منطلقة من خلال قاعدتنا الفكرية، لأنَّ العاطفة التي لا تنطلق من قاعدة فكرية، سوف تضيع في متاهات الأشياء التي توحي بالعاطفة.
لذلك نحن مع السيّد الشهيد الصدر، أن يكون الإسلام قاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة وأن تتكامل الحركات الإسلامية في ما بينها وأنْ يتكامل المسلمون في ما بينهم. حذار أن تنطلق حركة إسلامية، لتهاجم حركة إسلامية أخرى، لمجرّد أنّ هناك خلافاً في بعض تفاصيل الأسلوب وبعض تفاصيل المنهج. لا وقت لنا لأن يختلف بعضنا مع بعض، ولا يجوز لنا أن نختلف مع بعضنا، لأنَّ الكفر توحّد ضدّنا فعلينا أنْ نتوحَّد ضدّه. لقد برز الكفر كلّه إلى الإيمان كلّه فعلى الإيمان كلّه أن يبرز إلى الكفر كلّه.
{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة : 105].
قبسات من تجربة المرجع الإسلامي
السيّد محسن الأمين (رحمه الله)(*)
عندما تودِّع الأُمّة هذا الجيل من الرجال، الذين تحرّكوا ليصنعوا من الماضي حاضرها وليفتحوا لها من موقع القِيَم الكبيرة أبواب المستقبل، عندما تفقد الأُمّة هذا الجيل، أو تشعر أنّه بدأ يودّع السّاحة؛ فإنَّ عليها أن تعمل بكلّ ما عندها من طاقة لِتلملم كلّ ما تناثر من آثاره: كيف كان يفكّر، وما حجم فكره، وكيف كان تأثير هذا الفكر في الجيل الذي جاء بعده؟ كيف كان يعيش القِيَم، وكيف كان يفهمها، وكيف كان يحرّكها في واقع النّاس؟ كيف كان أسلوبه في الحياة؟ لأنَّ لكلّ جيل أسلوبه وطريقته وحركته وفهمه وتعامله مع الظروف التي تحيط به..
استلهام التاريخ لصناعة الواقع
وقيمة التاريخ ليست في أن نستغرق فيه لنتجمَّد عنده، ولكنّ قيمته أنّ نأخذ من الذين صنعوا التاريخ ـــ سواء كانوا صغاراً أو كباراً في حركة التاريخ ـــ الفكرة التي تخلّد، ونبدأ في صنع تاريخنا، التاريخ الذي لا ينطلق من السطح بل من الجذور في الأعماق، في أعماق الزمن وفي أعماق الفكر والتجربة. لأنَّ أيّة أُمّة تطلق تاريخها الذي تريد صنعه من خلال تنكّرها للتاريخ الذي أعطاها الكثير من جذورها وحيويّتها وحركيّتها؛ هي أُمّة لا تستطيع أن تصنع التاريخ.
كما أنَّ الأُمّة التي تظلّ غارقة في كهوف التاريخ، ولا تتطلَّع إلى الشمس الجديدة التي تشرق عليها، هي أُمّة سوف تعيش في قبور التاريخ ولن تستطيع أن تتحرَّك على سطح الواقع.
عندما يحدّثنا الله عن تاريخ الأنبياء وتاريخ الفراعنة والطّغاة، والأمم التي آمنت هنا وكفرت هناك، فإنّه لا يريد لنا أنْ نتوقّف هناك {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} في ما صنعته من خير أو شرّ {وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة : 134]. نحن لسنا مسؤولين عن كلّ ما صنع الأوّلون ـــ سواء كان الذي صنعوه خيراً أو شرّاً ـــ ولكنَّنا مسؤولون عمّا نصنع.
السيّد الأمين مربّي العلماء
لقد كان فقيدنا الإنسان الذي عاش مع الإسلام في خطّ أهل البيت (عليهم السلام)، فقد عاش أهل البيت (عليهم السلام) في طفولته حبّاً، وعاشهم في شبابه وعياً وثقافة، وعاشهم في حركته قراءة، يتلو فضائلهم ويتحدّث عن مآسيهم. وهنا تأتي قصّة الرجل الكبير؛ الذي ربّى هذا الجيل، والذي استطاع أن يحوّل كلّ هذا الضعف الذي كان يعشّش في هذه المناطق الفقيرة المحرومة، وكلّ هذا الانسحاق الذي كان يعيش في هذه المجتمعات الصغيرة، تنمو بهدوء، وتتحرَّك بتعقّل، وتنفتح بطريقة النموّ الطبيعي للأشياء، إلى قوّة عاقلة بعقله وحكمته وجهده وعلمه وتقواه وصدقه وإخلاصه وتواضعه.. هذا هو السيّد محسن الأمين (رحمه الله).
السيّد محسن الأمين، كان الإنسان الذي يفكّر بأنّ أيّ شخص ـــ ولاسيّما إذا أراد أن يكون عالِماً دينياً أو مبلِّغاً إسلامياً ـــ لا بدّ أن يتميَّز بصفات ثلاث: لا بدّ أن يكون له تقوى تمنعه من الانحراف وأن يعطي انحرافه قداسة، لأنَّ بعض الناس قد يعملون على توجيه الناس إلى أنْ يجعلوا من الأخطاء مقدّسات؛ وأن يكون له علم يستطيع به أن يملأ عقول الناس بالفكر لكي تتمكَّن من التفكير بمنهجية منفتحة متوازنة، تستطيع أن تلتقط الفكرة من هنا وتطلق الفكرة إلى هناك، بطريقة لا تبتعد عن المبادئ ولا تتنكَّر للواقع؛ وأن يكون له عقل يدير به الأشياء. لا يكفي أن يكون الإنسان تقيَّاً ليصلح أن يكون مرشداً للناس، ولا يكفي أن يكون عالِماً ليتحرَّك ليكون قائداً للناس، بل لا بدّ من أن يكون عاقلاً، والعقل هو الحكمة في التعبير القرآني: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة : 2].
الحكمة ـــ كما يقول اللّغويون ـــ أنْ تضع الشيء في موضعه، الكلمة في موضعها، الحركة في ظروفها، العمل في داخل ساحته.. أن تضع الشيء في مواضعه، وأن تتحرَّك لتجعل القبيح في دائرة قبحه وتتعرَّف هذه الدائرة في حدودها، وأن تجعل الحَسَن في دوائر حسنه وأن تعرف ذلك.
كان يُعلِّم تلاميذه ذلك: أن يكونوا الأتقياء، العلماء، العقلاء. والعقل ينطلق من نافذتين؛ نافذة التأمُّل ونافذة التجربة. والتجربة عقل وحركة التأمّل عقل، ولذلك كان يعلِّمهم أنّ عليهم أن يستفيدوا من تجاربهم، أن يحفظوا تجاربهم تأسِّياً بعليّ (عليه السلام) في كلماته القصار، التي كان يقول فيها: "العقل حفظ التجارب"(1)، أنْ تحفظ تجربتك، ولا تنساها، أن تحفظ تجربة الآخرين ولا تنساها.
قد تحتقر تجربتك، ولكنَّ غيرك عندما يطّلع على هذه التجربة، يستطيع أن يأخذ منها درساً قد لا تأخذه أنت. نحن الآن ـــ مثلاً ـــ نقرأ في التاريخ أشياء كثيرة، ربّما كان يصنعها أصحابها بطريقة عفوية لا يدركون أهميّتها أو خطورتها، ولكنَّنا بعد مدّة طويلة، أصبحنا ندرك كم هي هذه الفكرة كبيرة في إغناء واقعنا، أو كم هي حقيرة في إرباك واقعنا.
لذلك لاحظنا أنّ السيّد محسن الأمين (رحمه الله) كان يكتب سيرة حياته، يكتب حتّى القضايا الصغيرة جداً، عن أساتذته كيف كانوا يتحرّكون، كيف هو أسلوبهم مع تلاميذهم، كيف هي حياتهم الخاصّة؟ كان يتحدّث عن تجربته هو، عندما كان في جبل عامل، وعندما كان في النجف، وعندما جاء إلى الشّام. كان ينقل لنا هذه التجارب، لأنّه كان يشعر بأنَّ تجربته ليست ملكه، لأنَّ ما كان ملك الإنسان هو ما يختصّ به. أمّا ما يستفيد منه الآخرون، فهو ملك الآخرين.
لذلك أنْ تحدِّث الناس بتجربتك، حتّى لو كنتَ إنساناً عادياً، كن تاجراً، كان عاملاً، كن موظّفاً، كن عالِماً دينياً، كن أيَّ شيء... لكلّ إنسان خصوصيّته في الحياة، ولكلّ إنسان منّا ميزة يتميَّز بها عن الآخرين، قلها لا تعاظماً، ولكن قلها درساً لعلّ الآخرين يستفيدون منك. كان يعلِّمهم ذلك. وقد استطاع أن يعيش تجربة هذه الطريقة في علاقته ببعض تلاميذه.
المنبر الحسيني المتوازن
كان من رسالته إصلاح المنبر الحسيني، وذلك بأن يبعد الأكاذيب والخرافات عنه، ممّا لا تستسيغه العقول أو يثبت بشكلٍ موثوق، لأنّه كان يرى أنّ في سيرة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي سيرة الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) ممّا هو حقّ وصدق، ما يغني المنبر والكتاب والخطاب، دون حاجة إلى أن نكذب لنزيد في مآسيهم مآسي، أو نكذب لنزيد في فضائلهم فضائل أو نكذب من أجل أن نثير بعض الأشياء في المسائل المتعلّقة بالذين كانوا يعارضونهم.
الحقّ أكبر من ذلك، للإمام الصادق (عليه السلام) كلمة، كان (عليه السلام) في مجلس يضمّ أصحابه، وكان هناك شامي قادم، ليناقش الإمام الصادق في مسألة الإمامة. وعهد الإمام (عليه السلام) إلى بعض تلاميذه أن يناقشوه، لأنّه كان يريد لتلاميذه أن يتحدَّثوا ويحاوروا ويجادلوا أمامه لينقدهم بعد ذلك ـــ نقد الإيجاب في ما ينجحون فيه ونقد السلب في ما يخطئون فيه ـــ وانطلق هذا وذاك ليناقشه، وبدأ الإمام (عليه السلام) يرصد تجربتهم، قال لبعضهم "إنَّك أخذته بالحقّ والباطل" ناقشته بالحقّ وبالباطل لتتغلَّب عليه، مستغلاًّ غفلته عن أن يكتشف الباطل في ما حدّثته من الباطل و"قليل الحقّ يكفي عن كثير الباطل"(1).
إنَّ للحقّ قوّة في ما يملكه من عنصر قهر الباطل، ومواجهته لا يحتاج فيها الحقّ إلى أن تضيف له شيئاً من الباطل، فالحقّ لا يحتاج إلى بهارات بل هو لذيذ في عمقه.
ولذلك فإنَّ القصّة هي أن نثير تاريخنا، لننقده ولنكتب من خلال النقد تاريخاً جديداً، لأنَّ التاريخ كان يكتب للسلاطين ولم يكتب تاريخ الشعب، وقد يختلط تاريخ السلاطين بتاريخ الشعوب، وقد ينطلق بعض الناس ليبالغوا بأشياء كثيرة. يُنقل أنّ بعض الرواة كان يروي أنّه من قرأ سورة الفاتحة، فله سبعون ألف غرفة في الجنّة، وله سبعون ألف حورية، وله سبعون ألف نهر وهكذا.. قيل له إنّك تكذب على رسول الله، أو ما سمعت قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) "من كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوّأ مقعده من النار"(1)، قال: سمعته لكن كذبت له لا عليه، باعتبار أنّه يشجِّع الناس على قراءة القرآن. بعض الناس يقولون: نحن لا نكذب على أهل البيت ولكن نكذب لحسابهم. أهل البيت (عليهم السلام) يقولون، كما روي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، "أحِبُّونا حُبَّ الإسلام"(2). الحبّ الذي ينطلق من الموقع ويتجسَّد في موقف، والحبّ الذي يتحوّل إلى ولاية، والولاية تعني الالتزام، والالتزام يعني الاستقامة في الخطّ.
"والله ما شيعتنا، إلاّ من اتّقى الله وأطاعه، وكانوا يُعرَفون بالتواضع والتخشّع وصدق الحديث وأداء الأمانة، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء. أفيكفي من ينتحل التشيُّع أن يقول: إنّي أحبّ عليّاً (عليه السلام) وأتولاّه ثمّ لا يكون فعّالاً، فرسول الله خير من عليّ، أفيكفي الرجل أن يقول أحبّ رسول الله ثمّ لا يعمل بسنّته؟ مَنْ كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومَن كان عدوّاً لله فهو لنا عدوّ. والله ما تُنال ولايتنا إلاّ بالورع"، والصدق من الورع، صدقك في نقل التاريخ ورع، وصدقك في نقل الحاضر ورع، لأنَّ الورع أنْ تجتنب الحرام، وكلّ كذب حرام.
ولذلك كان السيّد محسن الأمين معنياً ـــ ما أمكن ـــ بأن يكشف الكثير من الأكاذيب، ممّا لو سمعته الآن من بعض خطباء المنبر أو من بعض المحدّثين لرأيته من الحقائق، وهو يشير في بعض كتبه ومنها كتاب "التنزيه" إلى أنَّ هذا الحديث وُضع في بعض بيوت العائلة الفلانية في النّجف، ولذلك كتب "المجالس السنيّة"، من أجل أن يقدم مجالس للمنبر الحسيني لا ينكرها أحد ولا يكذّبها التاريخ ما أمكنه ذلك. وقد أعطى تلاميذه هذا التوازن، فلذلك عندما تسمع تلاميذه الذين مارسوا مهمّة المنبر الحسيني، فإنّك تجد أنّ هناك توازناً، يختلف عمّا يتعارف عليه لدى الكثير من الناس.
الأسلوب العاشورائي المشرق
وكان أستاذ هذا الجيل، السيّد محسن الأمين، يؤكّد أنّ علينا عندما نريد تقديم عاشوراء إلى الناس، أنْ نقدِّمها بالأسلوب المشرق الذي يمثّلها قوّة في ساحة الصراع، وحركة في طريق الجهاد، ووعياً لقضية الإسلام. أن نقدِّمها على أساس أنَّنا إذا أردنا التأسّي بالإمام الحسين (عليه السلام)، لنجرح أو لنقتل، فإنَّ علينا أن نعمل على أن نجرح في الخطّ الذي نواجه فيه أعداء الله. أن تواسي الحسين لتتألَّم كما تألَّم، لتجرح كما جرح، ليس أن تحمل السيف بيدك لتضرب رأسك بعقلٍ بارد لتثير انتباه الناس؛ بل أن تحمل السيف، البندقية والسيف، المدفع والسيف، العبوة.. لتنطلق لتُجرح في مواجهة "إسرائيل" والطغيان والاستكبار العالمي. إنَّك بذلك تواسي، لأنَّك تُجرح في المجال الذي جرح فيه الحسين (عليه السلام). جرح وهو يطلب الإصلاح في أُمّة جدّه. جُرح وهو يرفض الذلّة من الآخرين. جُرِح وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر... ولذلك إذا أردت أن تواسيه، فليست مواساته باليد الباردة، والسيف البارد، والرأس البارد، والدم البارد.. ولكن باليد الحارّة التي تعرف كيف تطلق الرصاصة بكلّ طاقتها في وجه الذين يحاولون إسقاط عزّة الأُمّة وعنفوانها ورساليّتها، كما يحدث في فلسطين.
إذا أردت أن تواسي السيّدة زينب (عليها السلام) في مأساتها، لأنّها جُلِدت بالسّياط، فليس عليك أن تحمل السياط بيدك، لتجلد ظهرك، لتوحي إلى نفسك أنّك واسيتها بل جاهد ليعتقلك العدو، ليجلدك في الزنزانات. إنَّك بذلك مع زينب في طريقٍ واحد. وكان السيّد محسن الأمين (رضي الله عنه) يريد أن يجعل الوجه العاشورائي، في أسلوب الاحتفال به وفي أسلوب الذكرى، وجهاً لو انطلق الزّمن كلّه في حركة أساليبه، لاستطاع أن يظلّ خالداً مع الزمن، لا أن يكون أسلوباً يتحرّك اليوم ليمثّل التخلُّف.
قد تكون بعض الأساليب التي تعارَف عليها الناس ذات فائدة في مرحلتها، ولكنَّها ذات ضرر كبير جداً في المراحل التي نعيشها من المستقبل، ولذلك وقف السيّد محسن الأمين ليحارب ذلك، وأثار الكثيرين من المتخلّفين ومن الطيّبين الساذجين، حتّى كفّروه وزندقوه، ولكن أين هؤلاء وأين السيّد محسن الأمين؟ انتصرت قضية الحقّ وتساقطت كلّ الكلمات.
وهكذا انطلق، ربّما جاء بعض النّاس من بعده يحاولون أن يُحيوا المسألة، ولكنّه استطاع أن يطلق القضية. والقضية عندما تكون قضية حقّ، سوف تمتدّ وتبقى حتّى لو زرعت في طريقها مئات الألغام، وحتّى لو رسمت كلّ الحواجز أمامها. إنَّ قضية الحقّ نتمثّلها في رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، كان وحده وكان العالَم كلّه ضدّه، وقالوا عنه إنّه مجنون وساحر وكاذب وكاهن وشاعر.. وقالوا عن القرآن {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان : 5] وقالوا {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ...} [النحل : 103]، وقالوا وقالوا.. أين الذين قالوا وأين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)؟.
لذلك، القضايا الكبرى تحتاج إلى إنسان كالسيّد محسن الأمين، يتأسّى بأجداده، يكون قويّاً في عقله، وقوياً في قلبه، قويّاً في كلمته ومواقفه، حتّى لو تساقطت كلّ الكلمات السلبية على رأسه، لأنَّ رأسه أصلب من كلّ تلك الكلمات.
الفهم الحقّ للوحدة الإسلامية
نتذكّره، عندما نرى الكثيرين ممّن يريدون أنْ ينتجوا مثل هذا التخلّف في واقع الذكريات، نتذكّره وهو يدير مسألة الوحدة الإسلامية بحكمته ووعيه للإسلام كلّه وللمجتمع من حوله. جاءه شخص وقال له: "إنّي أريد أن أكون شيعيّاً"، قال له: لا فرق بين الشيعة والسُنّة. الشيعة مسلمون والسنّة مسلمون. إنَّ الإنسان عندما يريد أن ينتقل من دين إلى دين، يمكن له أن يسأل ماذا يقول وماذا يعمل؟ ولكنّا كلّنا مسلمون. أصرَّ الرجل، وربّما كانت للرجل خلفيات، تريد أن تثير فتنة من خلال توريط السيّد الأمين في كلمة قد تشعل ناراً. وخضع السيّد الأمين لإلحاحه، وقال له "تريد أن تكون شيعيّاً، اجلس بين يديّ، قل أشهد أنْ لا إله إلاّ الله، فقال الرجل، ثمّ قال له قل: أشهدُ أنَّ محمّداً رسول الله، فقال الرجل، قال له أصبحتَ شيعيّاً، لأنَّ التشيُّع ليس إلاّ هذا".
إنَّنا عندما نختلف في قضية الخلافة والإمامة، وهذا الفقه وذاك الفقه، فنحن نختلف فيه، لا على أساس أنّه شيء فوق الإسلام أو شيء زائد عن الإسلام؛ ولكن نحن نختلف في فهم ما قاله الرسول وفي وعي ما تحدَّث به. القضية ليست قضية أنّ هناك شيئاً زائداً عن الشهادتين. الشهادتان هما التعبير الحيّ عن كلّ ما في الإسلام من عمق. وإذا كنّا اختلفنا في الخلافة، فهو اختلاف في ما قاله رسول الله، هو جزء من تفاصيل حركة الرسالة في ما بيَّنه الله. وقد دلَّنا الله على أنَّنا إذا تنازعنا في شيء فنردّه إلى الله والرسول. إذا تنازعنا في الخلافة والإمامة فنردّ ذلك إلى الله والرسول، وإذا تنازعنا في بعض الجبر والتفويض وحريّة الإرادة فنردّ ذلك إلى الله والرسول، وإذا تنازعنا في هل نسبل في الصلاة أو نتكتَّف فنردّه إلى الله والرسول.
إذاً، قصّة المذهبية ليست شيئاً خارجاً عن معنى الرسالة، ولكنّها شيء ينطلق من خلال الحديث عمّا هو موضوع الرسالة. وذلك هو الفهم الحقّ للوحدة الإسلامية. الوحدة الإسلامية أن نتّفق على أساس أن نؤمن بالكتاب والسُنّة، كتاب الله الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت : 42]، وسُنّة الرسول {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر : 7]. عندما نضمن هذين العمودين ونتمسَّك بهما، عند ذلك، نقرأ ماذا قال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في أهل البيت (عليهم السلام)، وما موقع أهل البيت من الرسول، وما موقعهم من الإسلام؟ ماذا قال الرسول في هذا، وماذا فسَّر الرسول هذه الآية أو تلك؟ عند ذلك، إذا عشنا مسؤولية وعقلانية وروحية الإسلام وواقعية الواقع الإسلامي، نستطيع أن نصل إلى نتيجة.
لماذا يتعصَّب بعضنا لموروثاته؟ الفكر ليس نحن، الفكر شيء ورثناه أو شيء اقتنعنا به، عندما تقتنع بشيء ويقتنع الآخر بشيء، إذا كنت واثقاً أنك على الحقّ، لماذا تخاف أن تحاور الآخر؟ وإذا أقنعك الآخر، لماذا تخاف أن تلتزم قناعتك الجديدة؟ إنّ قضية العقيدة لا بدّ أن تنطلق من عمق القناعة، وذلك كلّما كنّا موضوعيّين أكثر، وكلّما كنّا عقلانيّين أكثر، وكلّما كنّا مسؤولين عن سلامة الإنسان أكثر؛ عرفنا كيف نتحاور بالحكمة والعقل والحجّة والبرهان. وكلّما عشنا المسؤولية، استطعنا أن نقدِّم التنازلات عندما تكون الأزمة تسقط الأُمّة.
عليّ (عليه السلام) مبدع فكر وقائد مسيرة
وهذا ما نتعلَّمه من عليّ (عليه السلام)، مشكلتنا أنَّنا حوّلنا عليّاً إلى ضرَّاب سيف، ولكنَّنا لم نفهمه كمبدع فكر، وكقائد مسيرة، وكإنسان يعيش لله وبالله ومع الله. إنّ سيف عليّ (عليه السلام) جزء من رسالته، ولذلك كان يحرّكه عندما تريد الرسالة أن يحرّكه، ويغمده عندما تريد الرسالة أن يغمده "لأُسلمن ما سَلِمَت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة"(1)، وقال: "فما راعني إلاّ انثيال النّاس على فلان يبايعونه فأمسكت بيدي، حتّى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فخشيتُ إنْ لم أنصر الإسلام وأهله، أنْ أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنَّما هي متاع أيَّامٍ قلائل يزول منها كما زالَ السّراب وكما ينقشع السحاب فنهضت في تلك الأحداث، حتّى زاح الباطل وزهق واطمأنَّ الدِّين وتنهنه"(2).
ومن خلال هذه التجربة، سمعنا قائلاً يقول "لولا علي لهلك عمر"(1)، وسمعنا قائلاً يقول "لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن"(2). عندما يكون الإسلام في خطر، عند ذلك لا مجال للسلبيات ولا مجال للتحفُّظات؛ علينا أن نندفع، لأنَّ الذين يكيدون للإسلام يستغلُّون خلافات المسلمين في الأوقات الصعبة.
وهذا ما تنبَّه إليه السيّد محسن الأمين (رضي الله عنه)، الذي أحبَّ لجيلكم وللأجيال من بعدكم أن تدرسوا سيرة هذا الرجل الكبير. لأنَّ هذا الرجل ـــ يمكن أن نقول ـــ هو الذي صنع تاريخ هذه الجماعة بكلّ عمق. جاءه فرنسيون في عهد الاستعمار الفرنسي وقالوا له: إنَّنا نريد أن ننشئ مجلساً مليّاً للشيعة، ونريد أن نجعلك رئيس هذا المجلس. ونحن مستعدون لأن نؤمّن لك كلّ المصاريف. قال لهم: "أوّلاً ليس هناك فرق بيننا وبين المسلمين. نحن لا نفصل أنفسنا عن المسلمين في سوريا، لنا ما لهم وعلينا ما عليهم، نشاركهم الآلام والأفراح ويشاركوننا، لن نميِّز أنفسنا عنهم، حتّى لو اختلفنا في بعض النظريات كما يختلف السُنّة بعضهم مع بعض وكما يختلف الشيعة بعضهم مع بعض".
وقال لهم وهم يحدِّثونه عن المال وعن الرئاسة "إنَّني موظّف عند الله، فلا يمكن أن أكون موظَّفاً عند المندوب السامي الفرنسي". هذا الرجل كبير في مواقفه، ونعرف أنّ كلّ قادة الرأي والسياسة في هذا البلد من غير طائفته ومذهبه من صحافيين وسياسيين، كانوا يأتون إليه ويستشيرونه وكان يشارك في دفع الكثير من الحركات في وجه الاستعمار الفرنسي.
ولذلك فإنَّ تجربته هي التجربة الرائدة، التي لا بدّ لنا من درسها جيداً، لا ندرسها لنشيد باسمه ولا لنعظّمه؛ ولكن ندرسها لندخل في تجارب جديدة، لأنَّ قضية الطائفية لا تزال تتحرّك من خلال الاستعمار العالمي والأعداء الذين يستغلُّون نقاط ضعفنا، ويستغلُّون كلاماً حادّاً قاله شخص من هنا، ليكون الردّ كلاماً حادّاً يقوله شخص من هناك؛ ويستغلُّون سباباً وتكفيراً من هنا لينطلق سباب وتكفير من هناك. ونسبُّ ويسبُّون، ونكفِّر ويكفِّرون، وماذا تكون النتيجة؟ إنَّ الاستكبار يقهقه عندما يرانا مشغولين بتكفير بعضنا بعضاً وبلعن بعضنا بعضاً، وهو يأخذ كلّ ثرواتنا ونفطنا وكلّ بلادنا، وهو يصادر كلّ عنفواننا ويفرض علينا كلّ ما عنده من الاستكبار.
التخطيط للحاضر والمستقبل
المرحلة التي نعيشها هي من أصعب المراحل التي مرَّ بها المسلمون في كلّ تاريخهم، لأنَّها المرحلة التي يراد من خلالها إسقاط كلّ روح ـــ أن لا تكون لنا روح ـــ ويراد لنا إسقاط كلّ عنفواننا كما يراد لنا أن ننطلق في الحديث عن الواقعية في السياسة، بمعنى أن نخضع للأمر الواقع. ونحن نفهم أنّ الواقعية هي أن تغيّر الواقع بأدوات الواقع، لا أن تسقط أمام الواقع.
علينا أن نعي جيّداً طبيعة اللّعبة الدولية واللّعبة الصهيونية، وأن ندرك جيداً كلّ التطوّرات وكلّ المتغيّرات القادمة، لأنَّ هناك كهوفاً ومغاور وزلازل لا يُعرف إلى أين تنتهي، لذلك فلنعمل على تدريب أقدامنا على الثبات، ولندرّب رؤوسنا على الارتفاع، وإرادتنا على التصلّب، ومواقفنا على الحسم... ولننطلق لنكون مع المجاهدين.
هؤلاء الذين عندما يُسقطون في كلّ يوم قتيلاً للعدو فإنّهم يُسقطون روح العدو، وعندما يدمّرون دبّابة لــ "إسرائيل" فإنَّهم يدمّرون قوّة من قواها. إنَّهم يريدون نزع سلاح المقاومة، لأنّهم لا يريدون للأُمّة أن ينطلق فيها أناس لا يخافون. لقد أنتجوا لنا سياسة الخوف، ولذلك علينا أن ننتج سياسة القوّة {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران : 175] لنكن الأقوياء بعقل، ولنكن الأعزّاء بثبات، ولنكن الرافضين بوعي. نحن لا ندعو إلى التحرّك عشوائياً، ولكنّهم يخطِّطون فعلينا أن نخطِّط، ويستعدون فعلينا أن نستعدّ، ويعملون لتنامي قوّتهم فعلينا أن ننمّي قوّتنا.
نحن أقوياء كأُمّة، لسنا ضعفاء. أنا لا أتّفق مع الذين يقولون إنّه لو تمَّت التسوية فسوف تصادر "إسرائيل" سياستنا واقتصادنا وأمننا. هذا كلام يوحي بأنَّ الأُمّة ليس لها ما تستطيع أن تتمسَّك به. في الاقتصاد لنا عقول اقتصادية ولنا تجارب اقتصادية، وفي السياسة نملك الكثير ممّا نفهم به طبيعة اللّعبة وحركتها. المهم أن نريد. مشكلة الكثيرين منّا أنّهم يخافون أن يريدوا، إذا ضاق بنا الحاضر فلن يضيق بنا المستقبل.
مشكلة الكثيرين منّا أنّهم يفكِّرون كأفراد. وأنا أقول لكم إنّ الفرد لا يستطيع أن يحمي نفسه إذا لم تكن أُمّته قويّة، لا يستطيع أن يكون قويّاً اقتصادياً إذا لم تكن أُمّته قويّة اقتصادياً. إنَّ قوّتنا من قوّة أُمّتنا، لنجمع كلّ قوانا لنوحّدها في قوّة الأُمّة ولنحرّك كلّ طاقاتنا، لننطلق بها لتكون طاقة للأُمّة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء : 92] إنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال : 46] لا تتنازعوا على مستوى العائلة والمحلّة والطائفة والوطن والأُمّة.
تعلَّموا كيف تديرون خلافاتكم إذا كان لا بدّ من الاختلاف، حتّى لا تسقط خلافاتكم كلّ كيانكم. قالها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده محمّد بن الحنفيّة عندما انطلق في حرب الجمل، "أعِر الله جمجمتَك تدْ في الأرض قدمك، ارمِ ببصرك أقصى القوم"(1) انظر في الأفق الواسع ولا تنظر في الأُفق الضيّق.
هذه هي قصّتنا وهذه هي قصّة هذا الجيل، الذي كان فقيدنا أحد نماذجه الطيّبة الخيّرة، فقد عاش إنساناً متواضعاً، طيّباً، بسيطاً في غير سذاجة، واعياً، منفتحاً خَدَم الناس بكلّ طاقته ولقي ربّه.
أيُّها الشباب، إنَّنا لا نريد للساحة أن تعيش الفراغ، عندما نفقد هذه النماذج التي تمثّل القِيَم. إنَّ عليكم أن تملأوا هذا الفراغ. أنا لا أقول لكم كونوا مثلهم، أنا أقول لكم كونوا أفضل. تعلَّموا منهم كلّ عناصر الخير والقِيَم الروحية والقوّة، وحاولوا أن تنتجوا لأنفسكم شيئاً جديداً في الخير والقِيَم الروحية والقوّة، ولا تقولوا كم ترك الأوّل للآخر، ولا تسقطوا أمام هيبة الماضين. إنَّ هناك كلمة للسيّد محسن الأمين، وهو يتحدّث عن بعض الناس في الماضي الذين يختلف معهم في الحاضر "هم رجال ونحن رجال" {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} صنعت تاريخها {وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ} اصنعوا تاريخكم {وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة : 134]، بل ستُسألون عمّا عملتم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات : 24]، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ـــ 8].
الفصل السابع:
سماحة آية الله العظمى السيّد محمّد حسين
فضل الله يحاور حول:
السكان ـــ التنمية ـــ تحديد النسل ـــ التزايد السكّاني
ورأي الإسلام في الإجهاض ومنع الحمل
التنامي السكّاني
في العالَم الثالث يرعب الغرب(*)
بيروت: محمد عنان
السيّد محمد حسين فضل الله مرجعيّة دينيّة كبيرة في لبنان، لِمَا يمثّله من ثقل على السّاحتين العربية والإسلامية، ولمواقفه الوطنية التي بلغت حدّ الإرشاد الروحي لجميع الملتزمين بالقضايا العادلة وبضرورة التصدّي لإعداد الأُمّة والدّين.
ويتمتَّع العلاّمة فضل الله برؤية واضحة لمجريات الأمور المحليّة والعربية والدولية، إضافة إلى علو شأنه في الثقافة والرأي الثاقبين. وقد أسهم إلى حدٍّ كبير في كسر الجمود، الذي كان قائماً بين إيران ودول خليجيّة، تمهيداً لبعث التضامن الإسلامي في وجه الاستكبار العالمي وهجمته الشرسة ضدّ دول العالَم الثالث وضدّ جميع المستضعفين في العالَم ـــ كما يقول ـــ.
"السياسة" التقت العلاّمة فضل الله، وكان حوارها معه شموليّاً تعدَّى حدود الساعة، ليطال قضايا أساسيا. وهنا وقائعه:
ـــ نبدأ سؤالنا لكم بالحدث اليوم، أي مؤتمر السكّان المنعقد في القاهرة، حيث يبدو أنّ هناك عاصفة سياسية ودينية تلفّ المؤتمر، ويبدو أنّ هناك عناوين تهتم بمستقبل الإنسان حيال ذلك نرغب في سماع رأيكم حول هذا المؤتمر؟
لعلّ العواصف التي يشير إليها السؤال، تنطلق من فقدان الثقة بالغرب في قيمه وفي خلفيات مشاريعه، ممّا يجعل أي مشروع يحرّكه ـــ ولو كان بعده إنسانيّاً ـــ يثير أكثر من علامة استفهام حذرة حول ماذا يريد الغرب من خلال هذا المشروع؟ فنحن لا نستطيع أن ننظر ببراءة إلى العناوين الإنسانية الكبرى للمشاريع الغربية، لأنَّه عوَّدنا أنّه يعمل من خلال ذلك للوصول إلى نتائج ليست في مصلحة العالَم الثالث. من هذه المسائل مسألة السّكان أو مسألة زيادة السكان في العالَم. إنَّ العنوان الكبير الذي يوضع أمام هذه المسألة، هو أنّ العالَم مقبل على فقدان التوازن بين النمو الإنساني في الجانب العددي، من خلال فوضى النسل والإمكانات الغذائية التي يختزنها العالَم؛ الأمر الذي يفرض السعي لتنظيم النسل في العالَم الثالث ـــ ولاسيّما في الدول التي تسرع في طريقة مرعبة في عملية تكاثر النسل، كما في الهند والصين وافريقيا ـــ إنّ المسألة في العنوان الساذج، هي من المسائل التي لا يمكن لإنسان أنْ يتنكَّر لها، عندما يدرس واقعية الواقع العالمي. ولكنَّ المشكلة هي أنّ الغرب، عندما يطرح هذه المشكلة، فإنّه يختصر الحلّ بعدد السّكان أو بتنظيم واقعه السكّاني، لكنّه لا يطرح الحلّ الواقعي وهو مسألة تنمية العالَم الثالث، التي تعني توظيف ثرواته في حركة نموّه ورخائه، لأنَّ الغرب يعتبر ثروات العالَم الثالث هي ثرواته وليس للعالَم الثالث منها إلاَّ الفتات، فهو يعطي هذا العالم الثمن البخس لهذه الثروات بيد ويأخذها بيدٍ أخرى، من خلال الضغوط الاقتصادية والأمنية والسياسية التي يستخدم فيها كلّ وسائل القوّة التي يملكها، حتّى يحاصر هذا العالم بالدرجة التي لا يستطيع فيها أن يقول لا. وهذا ما نلاحظه في الكثير من الصفقات: صفقات الأسلحة وصفقات المشاريع غير الضرورية، التي يفرضها على هذه الدولة أو تلك التي تحتاج إلى بناء البنية التحتيّة، التي تؤمّن للمواطن غذاءه وكساءه ومسكنه، ناهيك عن فقدان أنواع التقنيّة الحديثة التي قد نجد الكثير منها لدى المواطن الأوروبي والأميركي، انطلاقاً من الواقع الاقتصادي الذي يعيش فيه الفرد هناك.
نلاحظ أنّ هناك حذراً من أنّ الغرب يسعى لمحاصرة تكاثر عدد السّكان في العالَم الثالث، لأنّه يخشى من تحوّل هذه الفوضى السّكانية إلى فوضى عالمية، تزحف إلى داخل العالَم الغربي لتفسد عليه الكثير من خططه ولتربك الكثير من أوضاعه. فالمسألة ليست هي مسألة اهتمام الغرب بالعالَم الثالث ولكنّها مسألة خوف الغرب من هذا العالم، لأنَّ الغرب يعتبره البقرة الحلوب والسوق الاستهلاكية له؛ فإذا تعاظمت ضخامة هذا العالَم العدديّة فإنّها قد تنعكس سلباً على حركة الغرب في داخل هذا العالَم، لأنَّ الوقت الذي يمكن فيه لأيّة قارّة أن تستقلّ عن المؤثّرات السلبية والإيجابية لأيّة قارّة أخرى قد مضى. ونحن نعرف أنّ الاقتصاد الأميركي عرضة للتأثُّر بأيّ وضع يمكن أن يحدث في أيّة منطقة في العالَم وهكذا الاقتصاد الياباني ولا ننسى صراع الاقتصاد بين هذه الدولة وتلك.
إنَّنا نتصوَّر أنّ الغرب لو كان جادّاً في المسألة، لعمل على تنمية هذا العالَم وتطوير طاقاته وعناصره وتحريكه من أجل أن يستفيد من ثرواته بشكلٍ جدّي، لكنَّنا نعرف أنَّ المسألة السياسية، المرتبطة بالجانب الاقتصادي والأمني، تجعل العالَم الثالث يدفع مئات البلايين من الدولارات للتسلّح والحرب العبثية، التي لا نستطيع أن نقول بأنَّ الغرب بعيد عنها، هذا من جهة، ولا أريد أن أطلق حكماً حاسماً على الغرب لكنَّنا من خلال مسار حركة تنظيم النسل وطريقة الغرب في التعامل مع العالَم الثالث ومع ثرواته، تجعلنا نواجه المسألة بكثير من الاحتمالات الغربية السيّئة فيها.
هل المشكلة في التزايد السكّاني؟
ـــ العالَم يعاني من التزايد السكّاني. فلو أخذنا مصر مثلاً، فكلّ سنة يولد فيها مليون طفل. وهناك ألوف البشر يسكنون المقابر في جوار القاهرة. وإنّ تحديد النسل شيء وتنظيم السكّان شيء آخر، فكيف يمكن إيجاد صيغة لإقناع العالَم الثالث بضرورة التقيّد بالنظم السكّانية؟
إنَّنا لا نرفض ذلك من حيث المبدأ، ولكنَّنا نقول إنَّ التخطيط، الذي تنطلق فيه مسألة الدعوة لتنظيم النسل في العالَم، لا ينطلق من قاعدة تملك المسألة من جميع جوانبها. إنّه يعتبر أنّ المشكلة وحدها هي كثرة عدد السّكان. وهنا لا بدّ من التساؤل: لو فرضنا أنَّنا قلَّلنا نمو العالَم العربي من الناحية السّكانية واستطعنا أن نضبط مسألة هذه الفوضى في التناسل، يبقى السؤال: ما الذي ينقذ العالم العربي من الفقر؟ هل أنّ مشكلة العالَم العربي في الفقر الذي يعانيه هي مشكلة التزايد السّكاني أم أنّ ثروات العالَم العربي تصرف في حروب الآخرين على أرضه؟ هل أنّ حركة تنظيم السّكان تحلّ المشكلة؟ ثمّ لو فرضنا أنَّنا سيطرنا على المسألة، فالقضية هي كيف يمكن أن نحقِّق التوازن بين مناطق لا تملك شيئاً وبين مناطق تملك الكثير. لهذا علينا أن ندرس الثروات الموجودة في العالم هل هي ثروات العالَم أو ثروات خاصّة؟ لذلك فإنَّ توزيع الثروات من جهة وتنظيم حركة هذه الثروات في مسألة التصنيع والمكننة الزراعية وما إلى ذلك هي من المسائل الحيوية. وإنَّني أتصوَّر لو أنّ العالَم العربي وصل إلى 300 مليون نسمة، فإنَّ ثرواته المختزنة ـــ كعالم عربي ـــ تزيد عن حاجته. ولكنّ المشكلة أنّه عالَم يصرف البلايين من الدولارات على السلاح، من دون أن يكون له أيّة حاجة حقيقيّة.
ولو أردنا أنّ الانطلاق من الاجتهاد الإسلامي، فهناك نقطة لا بدّ أن نضعها أمامنا وهي أنَّنا كمسلمين لا نستطيع أن نفكّر دائماً في الحسابات المادية، وإنْ كنّا لا نغفلها، فالله سبحانه وتعالى يحدّثنا عن أنّ الرزق بيده وهناك حالة من الإيمان في حركة الرزق، فنحن نقرأ: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق : 2 ـــ 3]، {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء : 31]. إنَّ هناك شيئاً ما في عمق العقيدة يتّصل بالجانب الغيبي ويجعل الإنسان المؤمن يشعر بأنَّ مسألة الرزق مرتبطة بالله، من الجهة التي تخرج عن الحالات الطبيعيّة العادية وهذا ما تعبّر عنه كلمة: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} ونحن نجد أيضاً أنّ القرآن الكريم يحدّثنا عن الحسابات ويحدّثنا عن الله سبحانه وتعالى جعل الحياة خاضعة للحسابات: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر : 49]. نحن لا نستطيع أن نفكّر في مسألة الرزق أمام الحائط المسدود، بل هناك جانب من الغيب لا بدّ لنا بأن ننفتح عليه وكلّها في رعاية الله، ولا يمنع ذلك من أن نأخذ بالأسباب التي جعلها الله سبحانه وتعالى بين أيدينا، لنواجه بها النتائج العامّة التي تخضع لها حياتنا. فنحن نروي في بعض أحاديثنا: إنَّ من الذين لا يستجيب الله دعاءهم، رجلُ جالس في بيته ويقول لله: ارزقني. فيقول له: ألَم آمرك بالطلب؟.
والنقطة الثانية التي أحبَّ الله التأكيد عليها، أنّ الاجتهاد الإسلامي يختلف عن الاجتهاد المسيحي ـــ إذا صحَّ التعبير ـــ فنحن لا نمانع من استعمال وسائل منع الحمل بالطريقة العادية، وكلّ الوسائل المطروحة من استعمال العازل وحبوب منع الحمل، وحتّى اللّولب، لولا بعض التحفُّظات. وهناك تحفُّظ في الاجتهادات الإسلامية من مسألة تعقيم الرجل وتعقيم المرأة وينطلق هذا الاجتهاد من الفكرة التي تقول: إنَّ بإمكانك أن تجمّد الطاقة ولكن ليس لكَ الحريّة في أن تقتل طاقتك. فقتل الطاقة الإنسانية هو قتل للإنسان بالتدريج، لأنَّنا إذا أبحنا قتل طاقة فإنَّ الطاقة الثانية مثلها، فعلينا أن نبيحها. هناك تحفُّظ في مسألة التعقيم، ولكنَّ وسائل منع الحمل العامّة مباحة من ناحية شرعية، حتّى أنّ بعض العلماء يقول: إذا توقّف الجانب الصحّي على التعقيم بحيث لا وسيلة لمنع الحمل إلاّ في التعقيم وإذا تعرّضت المرأة لمرض كبير أو لخطر، فإنّه يجوز لها اعتماد التعقيم. أمّا مسألة الإجهاض، فهناك رأي يقول: إنّه لا يجوز في أيّة حال من الأحوال، فيما يقول رأي آخر: إنَّ الحمل إذا كان في بداياته ولم ينفخ فيه الروح، حسب التعبير الفقهي واستلزم بقاء الحمل ضرراً صحيّاً بالغاً ولو لم يصل إلى درجة الخطر، فإنَّ على الأم أن تسقطه، وهذا رأي يتبنَّاه كثير من المجتهدين. أمّا إذا نفخت الروح فيه فإنّه لا يجوز الإجهاض، إلاّ في حالة واحدة هي حالة الخطر أيضاً؛ لأنَّ المسألة تكون بالنسبة للأم في مرحلة الدفاع عن النفس، باعتبار أنَّ إبقاء الطفل سيتسبَّب بقتلها تماماً كما لو كان هناك إنسان عاقل يريد أن يقتلها وعليها أن تدافع عن نفسها. وهنا أريد أنْ أؤكّد أنّ المسألة من الناحية الفقهية ليست بعيدة عن مفهومنا ولا نضع حواجز في مسألة تنظيم النسل، ولكنَّنا نريد أن ندرس القضية بواقعية، لنخرج بنتيجة محدَّدة، وهي أنَّ زيادة النسل ليست هي القيمة مطلقاً، وكذلك فإنَّ تقليل النسل ليس هو القيمة، فقد تجد في بلد قليل السّكان حاجة إلى أن تزيد السكان كما نجد الآن في أوروبا وهم يعطون الأب الذي يزيد عدد أولاده امتيازات تختلف عن غيره. "إسرائيل" دولة تنهج سياسة تعمل على إنجاب المزيد من اليهود، باعتبار أنّ لذلك علاقة بالوضع السياسي وهم يعملون على إضعاف عملية إنجاب الفلسطينيين، لأنّهم يخافون من الكثرة الفلسطينية. وقد أصبحت مسألة التكاثر السّكاني، تلعب دوراً مؤثّراً في حسابات القوّة بين اليهود والفلسطينيين. ونحن لا نستطيع أن نعطي رأياً حاسماً في أنَّ الكثرة قيمة سلبية وأنّ القلّة قيمة إيجابية، ولا بدّ أن نقوم بعملية توازن بين بلدٍ وآخر أو بين مرحلة وأخرى.
الغرب والواقع الإسلامي
ـــ ما تتعرَّض له الأُمّة الإسلامية بحدودها الجغرافية يكشف أنّ الغرب ضالع في استهدافها، فهل تعتقدون أنّ المسألة ثأرية أم أنّ هناك خطأ من الأنظمة والقائمين عليها أوصلنا إلى هذا الدرك؟
مشكلة الواقع الإسلامي، هي أنّه عاش في تاريخه نتيجة الأوضاع المعقّدة التي أحاطت به وتحرَّكت في داخله فعل الجهل والتخلُّف. وقد استطاع الاستكبار العالمي الاستفادة من عناصر هذا الجهل والتخلّف، إذ راح يثير الكثير من الحساسيّات الطائفية والمذهبية والعرقية والإقليمية، بالمستوى الذي حوَّل فيه العالَم الإسلامي إلى مجموعة من التناقضات التي تتحرّك، حتّى لا تبقى ساحة هادئة يمكن فيها لهذا العالَم أن يبني نفسه، وقد انطلق ذلك من خلفيّات تاريخيّة معقّدة لدى بعض السياسيّين، لكنّ الغرب أصبح يفكّر لحساب مصالحه الاقتصادية والسياسية والاستراتيجيّة، لذلك فإنّه يعمل بكلّ ما عنده من طاقة على منع العالَم الإسلامي من التوحيد، سواء في الدائرة العامّة للوحدة التي هي الوحدة الإسلامية أو في الوحدات الكثيرة مثل الوحدة العربية. وحتّى الوحدات الوطنية، أصبح يتدخّل فيها ليجعل هذا البلد أو ذاك منطقة اهتزاز دائم.
إنَّنا نتصوَّر أنّ الغرب لا يرتاح لأيّة خطّة تنمية في العالَم الإسلامي، بحيث تكفل له الاكتفاء الذاتي والانطلاق في عالَم الانتاج، لأنَّ العالَم الإسلامي والعالَم الثالث بشكلٍ عام يمثّل السوق الاستهلاكية للغرب. إنَّنا عندما ندرس صفقات الأسلحة الكبيرة، التي يعمل الغرب على إبرامها مع العالَم الإسلامي والتي تمثّل ثروة العالَم الإسلامي، نجد أنَّ هذه الصفقات من الأسلحة تتحرَّك، لأنَّ هناك بطالة في هذا البلد الغربي وأنّ هناك ضعفاً اقتصادياً في هذا البلد، لذلك كان بعض الرؤساء يتحدّث مع بعض السفراء ويشكره لأنَّ بلاده ساهمت في تقوية اقتصاد بلاده أو لأنَّ هذه الصفقة التي تعتبر هنا وهناك صفقة العصر، استطاعت أن تشغل آلاف العمّال في هذه الدولة الأوروبية أو تلك.
إنَّ المسألة التي تفرض نفسها على واقع تعامل الغرب مع العالَم الإسلامي، هي التخطيط المستمر لإبقاء العالَم الإسلامي يتخبَّط في مشاكله وفتنه وحروبه، حتّى يفقد أيّة فرصة تسمح له باتباع إنتاج القوّة وحتّى يبقى مصدراً لإنعاش كلّ مشاريع الشركات المنتجة للسلاح في هذا البلد أو ذاك، ونحن نعرف أنّهم يتصارعون لتقويم المشاريع التي لا تمثّل لنا حاجة ضرورية، ومن الممكن أن ينتظر العالَم الإسلامي مدّة طويلة لكي يأخذ بها، لأنَّ الأولوية هنا هي إيجاد البنية التحتيّة التي تكفل للمجتمع ضروراته، ونحن لسنا في مرحلة الحصول على الكماليات وإنَّما في مرحلة بناء الوجود الاقتصادي، الذي ينفتح على مواقع القوّة في المستقبل.
المقاطعة والحضور
ـــ بالعودة إلى مؤتمر الإسكان، لا شكّ بأنّه صدرت مواقف متحفّظة ورافضة لهذا المؤتمر من أكثر من دولة إسلامية وأنّ هناك دولاً إسلامية تمنّعت عن حضوره، لكنَّنا لاحظنا حضور إيران لهذا المؤتمر، فكيف تفسِّرون ذلك؟
إنَّني أحبّ أن أطلّ على الحيثيّات، التي قاطعت بها بعض الدول العربية والإسلامية هذا المؤتمر إذ اعتبرت أنّ هذا المؤتمر يطرح قضايا يرفضها الإسلام، من خلال تشريعاته بشكلٍ حاسمٍ جداً، لا مجال فيه للدخول في المناقشة، لأنَّ تحريمها من بديهيّات الإسلام، مثل الشذوذ الجنسي. فالمؤتمر يشير في بعض مواده إلى مسألة حريّة الشاذّين جنسياً ـــ سواء أكان شذوذاً مذكّراً أم مؤنَّثاً ـــ وأنَّ علينا أن نعمل على حلّ مشكلاتهم، في الوقت الذي نعرف فيه أنّ الإسلام يمنع منعاً باتّاً الشذوذ الجنسي. كذلك المؤتمر يطرح بطريقة أو بأخرى مسألة الحريّة الجنسية وأنّ على الآباء والأُمّهات ألاّ يعترضوا على المراهقين، الذين يمارسون الجنس خارج نطاقات الحياة الزوجية، لأنّه من الحريّات الإنسانية الطبيعية. وهناك حديث عن الإجهاض قد لا يكون بهذه الشمولية ولكنَّ هناك تخوّفاً من أنْ يتّجه المسلمون لإقراره بطريقة تبتعد عن الضوابط الإسلامية، ممّا يفرضه مستقبلاً على الواقع الإسلامي كلّه. ومن هنا فإنّهم يعتبرون أنّ حضورهم هذا المؤتمر يعني بطريقة أو بأخرى أنّ هناك مجالاً للبحث في هذه الأمور، وهذا يتنافى مع الحسم الإسلامي للحكم الشرعي في هذه القضايا. إنَّهم يقولون بأنَّ الإسلام يرفض هذا فكيف تجعلونه موضعاً للمناقشات؟
لقد رأينا وقبل أن تعلن الجمهورية الإسلامية موقفها أنّنا نعيش في عالَم ليس للمسلمين أكثرية فيه وهذا العالَم أصبح يطرح قضايا كثيرة قد تخالف الخطوط الإسلامية وقد لا تخالفها. فإذا أردنا مقاطعة المؤتمر، لأنَّ فيه بعض القضايا التي نرفضها، فمعنى ذلك أنّنا نعزل أنفسنا ولن نستطيع أن نؤثّر بأيّ شيء، إلاّ عندما تملك بمقاطعتك هذه ما تمنع المؤتمر من الانعقاد أو تترك تأثيراً سلبياً كبيراً جداً يحقّق لكَ ما تريد. أمّا أنْ تقاطع لتسجيل موقف من دون أن تحقّق أي شيء، بل ربّما تحقّق أشياء سلبية، لأنَّ الرأي المخالف للإسلام سيطرح ولن يعلّق عليه أحد، فإذا حضر المسلم ممّن يملك فكراً وأسلوباً حكيماً، فإنّه يمكن أن يناقش المؤتمر بخطأ هذا الاتّجاه نحو تشريع الشذوذ الجنسي أو تشريع الحريّة الجنسية، إمّا من ناحية العناصر الذاتية السلبية الكامنة فيه أو من خلال النتائج المأساوية الناتجة عن الحريّة الجنسية أو الشذوذ الجنسي كما هو السائد في العالَم، وإذا لم نستطع إقناع المؤتمرين في ذلك فإنَّنا نملك تقديم رأي الإسلام ونملك الضغط من الداخل لإضعاف هذه القرارات، وإذا لم نتمكَّن من جعلها في مصلحة القرارات الإسلامية فإنَّنا نضعف قوّتها في هذا الاتّجاه. لذلك نحن نعتقد أنّ حضور هذا المؤتمر سيشارك في تقوية الموقف الإسلامي وإعطاء الآخرين وجهة النظر الإسلامية بطريقة ليست فيها أيّة سلبيات، وإذا كانت هنالك سلبيات فإنّها قليلة جداً، لذلك كنّا نحن مع حضور هذا المؤتمر، ربّما نرى أنَّ هناك ضرورة للحضور مع احترامنا للرأي الآخر فيه.
طموحنا عدم التقاتل العربي الإسلامي
ـــ أين أصبح مشروع التضامن العربي والإسلامي بنظركم وماذا تفعلون من أجل تحقيق هذا الهدف؟
في تصوُّري أنّ العالَمين العربي والإسلامي يعيشان في مرحلة فوضى سياسية، لأنَّنا عندما ننفذ إلى عمق هذين العالمين، فإنَّنا نجد كلّ دولة مشغولة بنفسها وفي مشاكلها، حتّى أنّ التجمُّعات الاقليمية لا تمثّل في العمق أي نوع من معنى التجمّع، لأنَّ التعقيدات العالمية والمتغيّرات الدولية والمخطَّطات الاستكبارية استطاعت أن توزّع الألغام السياسية والأمنية والاقتصادية ؟؟ معقول في العالم الثالث وفي العالم الإسلامي بالتحديد، لذلك فإنَّني أتصوَّر أنّ من الصعب جداً الوصول إلى عناوين التضامن الإسلامي والعربي. إنّه ليس طموحنا الواقعي على مستوى المرحلة، إنَّ طموحنا الآن هو عدم التقاتل العربي والإسلامي. طموحنا هو ألاّ تقف دولة عربية لتخريب دولة عربية أخرى أو أن تعمل دولة إسلامية لتمزيق دولة إسلامية أخرى. طموحنا هو في هذه الدائرة، لأنَّ مسألة التضامن أصبحت تحتاج إلى شروط صعبة جداً، لاسيّما وأنَّنا نلاحظ أنّ الكلّ لا يحرِّكون ساكناً الآن بانتظار الحدث الكبير وهو التسوية في المنطقة، بحيث أنَّني أُلاحظ أنّ هناك جموداً سياسياً لدى أغلب الدول العربية والإسلامية، لأنّهم ينتظرون ماذا سيحدث باعتبار أنَّ هناك كلاماً يطلق في الساحة السياسية عن تحوّل التسوية إلى زلزال يشمل المنطقة كلّها ليتحدّث الناس عمّا بعد التسوية بطريقة تختلف عمّا قبلها، كما كانوا يتحدّثون قبل ولادة "إسرائيل" وبعد ولادتها. إنَّ هذا الواقع جعل كلّ نظام يفكّر كيف يستطيع أن يحمي قواعده؟ فإذا كنّا نرى أنّ هناك بعض المصالحات، التي كانت غير واردة سابقاً ووردت الآن، فإنَّ علينا أن لا نحدّق بهذه الخصوصيات الاقليمية أو تلك، وإنَّما علينا أن نحدِّق بالضغوط الدولية التي فرضت هذا أو ذاك.
من المأساة السياسية أنّ أي تطوّر إيجابي في العلاقات العربية والإسلامية أصبح يحتاج إلى علاقة وثيقة بإسرائيل، لأنَّ رابين قال كلمة قبل ذلك: "إنّ على جميع العرب أن يعرفوا أنّ طريق أميركا تمرّ بإسرائيل"، ولذلك فإنَّ عليك عندما تلاحظ بعض التطوّرات في حركة العلاقات في المنطقة، فإنَّ عليك أن تعرف ما هو حجم العلاقات مع إسرائيل، لتعرف ما هو حجم العلاقات مع أميركا.
الحوار الإسلامي ـــ اليهودي
ـــ بعد العداء الإسرائيلي للمسلمين، كما هو حاصل اليوم هل يحاور الإسلام اليهوديّة؟
هناك فرق بين اليهودية وإسرائيل، فالإسلام حاور اليهودية والنصرانية من خلال القرآن والحديث مع أهل الكتاب هو حديث مع اليهود والنصارى. والإسلام ليس معقَّداً من اليهودية والنصرانية في الخطّ العام، فقد توجّه إلى اليهود والنصارى بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران : 64] لكنَّ مسألتنا مع اليهود ليست مسألة موقفنا، بل هي مسألة ظلم اليهود لنا، فالله قال في بعض آياته: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [العنكبوت : 46] إنَّ موقفنا من إسرائيل لم ينطلق من موقفنا من اليهودية، فها نحن عيش في لبنان، والنصارى ليسوا مسلمين، وليس عندنا موقف سلبي منهم بل نتعايش معهم كما كنّا نتعايش مع اليهود في لبنان وفي العراق وفي مصر وفي أي مكان إسلامي آخر، فاليهود استمروا في الحياة مع المسلمين منذ جاء الإسلام وحتّى الآن. وحتّى أنّ المسلمين كانوا يحضنون اليهود أكثر من احتضان الغرب لهم، لكنّ المشكلة أنّ اليهود أخرجوا الفلسطينيين من أرضهم، ولهذا فإنَّنا نعتقد أنّ موقف اليهود هو موقف ظلم، ولا بدّ لنا من أن نحارب الظالمين، ولو كان الظالم مسلماً، لماذا كان موقفنا واضحاً من صدام حسين عند احتلال دولة الكويت، مع أنّ صدام عربي وينطق بالشهادتين؟ بنظري لأنّه ظلم شعب الكويت ويجب علينا أن نقف بوجه الظالم وإنْ كان مسلماً. ومن هنا يجب أن يتّضح أنّ موقفنا ضدّ اليهود في فلسطين ينطلق من أنّنا ضدّ الظلم اليهودي. كنّا نقول ولا نزال نقول لليهود: إنَّكم إذا تحوّلتم إلى الإسلام، لقلنا لكم اخرجوا من فلسطين "لأنّه لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفسه"، ونحن مستعدّون أن نحاور اليهود، لكن بشرط ألاّ تكون خلفية هذا الحوار هي الانفتاح على "إسرائيل"، ولذلك نحن أطلقنا الحوار مع المسيحيين على المستوى العالمي، أمّا الحوار مع اليهود فإنَّنا نعرف أنّ الكثير من المؤسّسات في العالَم تتّخذه وسيلة لإيجاد مناخ في العالَم الإسلامي يقبل اليهود، لتقبل "إسرائيل" في المنطقة وليتعايش اليهود في المنطقة كقوّة متحرّكة على مستوى الارتباط العضوي.
موقف من الخيانة
ـــ هناك فتوى صدرت بحقّ من ساهم بمساعدة العدو الإسرائيلي بإلقاء القبض على الحاج مصطفى الديراني، هذه الفتوى أباحت هدر دمه، هل برأي سماحتكم أنّ ذلك يتناقض مع سلطة القانون اللبناني؟
إنَّ الإعلام الذي تحدّث عن وجود فتاوى ليس دقيقاً، لأنَّني من موقع مسؤوليّتي الشرعية واطّلاعي على الواقع، أعرف أنّه لم تصدر من أيّة مرجعية شرعية إسلامية أيّة فتوى خاصّة في هذه القضية الخاصّة. هناك فتاوى عامّة موجودة في العالَم الإسلامي ضدّ الذين يتعاونون مع العدو ومع المستعمر وقد تكون فتاوى سياسية في بعض الحالات. من الفتاوى الشرعية، أنَّ الخيانة العظمى لدى كلّ الشعوب تهدر دم الخائن، وبذلك ليست المسألة إسلامية لتضعها في دائرة التطرّف الإسلامي والتعصّب الإسلامي وما إلى ذلك، لكنّني أستطيع أن أؤكّد أنّه لم يصدر أيّ شيء من هذا القبيل والذي حدث في ما قرأناه جميعاً، هو أنّ عائلة هذا الرجل ووالده هما اللّذان هدرا دمه، على الطريقة المعروفة في بعلبك عندما يخرج شخص عن شرف العشيرة وقيمها فإنّها تهدر دمه، فالقضية لم تنطلق من مصدر شرعي وإنّما انطلقت من مصدر عشائري؛ ولكنّ الإعلام يحاول أن يتعلّق بحبال الهواء، في سبيل تسجيل أيّة نقطة سلبية ضدّ الإسلاميين.
ـــ ما نشهده اليوم هو أنّ المسلمين يتعرّضون لحملات قاسية جداً، العنف إسلامي، الإرهاب إسلامي، وما يجري على الأرض العربية من الجزائر، وعدن، ومصر، وكلّ ما يجري يكون التطرّف الإسلامي وراءه. كيف نحمي الإسلام من المسلمين.
إنَّ علينا أن نحمي الإسلام أوّلاً من الإعلام الغربي الظالم، ثمّ بعد ذلك يمكن أن ندرس المسألة بهدوء، لأنَّ الإعلام العربي يحاول أن يلتقط الأشياء الصغيرة في أيّ موقع إسلامي، ليشهرها على الواقع الإسلامي. فلماذا لا يتحدّث أحد من الناس عن الإرهاب الايرلندي البروتستانتي والكاثوليكي؟ أليست هناك عملية تفجيرات واغتيالات وما إلى ذلك؟ لماذا لا يتحدّث أحد عن الإرهاب الارثوذكسي في مسألة الصرب؟ لماذا لا يتحدّث أحد عن إرهاب الأولوية الحمراء في ايطاليا؟ أو الإرهاب الأوروبي؟ لماذا لا يتحدّث أحد عن الإرهاب الموجود في أميركا الذي اضطر رئيس الولايات المتحدة إلى أن يستصدر قانوناً لمكافحة الجريمة وهو ما اعتبره نصراً لسياسته ولدولته؟ فلو أردنا أن نجمع مفردات الإرهاب والجريمة والعنف الموجود في الغرب أو في المناطق التي يدعمها الغرب، فإنَّنا نجد أنّ المفردات الموجودة في العالَم الإسلامي لا تصل إلى هذه التهديدات ولكنّ الغرب يتحدّث عن الإرهاب الإسلامي إذا كانت هناك مسألة سياسية، ولا يتحدّث عن الإرهاب المسيحي. أمّا النقطة الثانية فهي أنَّنا عندما نريد أن ندرس حركة العنف في العالم الإسلامي في الجزائر ومصر وأفغانستان واليمن، هل نستطيع أن نبرّئ الغرب من الخلفيات السياسية لهذه المشاكل؟
إنَّني أعتبر أنّ المسلمين ضحايا العنف الغربي، فماذا يجري في الجزائر؟ هناك صراع بين النفوذ الفرنسي والنفوذ الأميركي. فأميركا التي تتحدّث عن الإرهاب الإسلامي في العالَم تتحدّث عن جبهة الإنقاذ الإسلامي وإنّها ليست متطرّفة، وهي التي تتحدّث عن الإرهاب الإسلامي تعطي اللّجوء السياسي لمن تعتبرهم الأنظمة ارهابيين. إنّ أغلب الأشخاص الذين يتحرّكون في دائرة العنف، يعيشون في أميركا، عندما ندرس مسألة أفغانستان فإنَّنا لا نعتقد أنّ المسألة الأفغانية هي مسألة داخلية، فهناك أكثر من دولة إقليمية وغربية تتدخّل فيها مستفيدة من مواقع التخلّف في هذه الدول لذلك فإنَّ أميركا تعمل من أجل تعدُّديّة سياسية في العالَم كخطّ فكري أو سياسي في استراتيجيّتها العالمية، ولكنَّنا نتساءل: لماذا لا تضغط أميركا على حلفائها، الذين يتحرّكون في خطّ سياستها من أجل إعطاء الحريّة السياسية لهؤلاء الإسلاميين؟ إنَّني أتصوَّر أنّه لو أعطيت الحريّة السياسية للإسلاميين بالطريقة التي أعطيت لغيرهم، فإنَّ الإسلاميين سوف يتحرَّكون بطريقة معتدلة. إنَّنا نعيش التجربة في لبنان، فلقد أعطى النظام اللبناني الحريّة السياسية للإسلاميين فما الذي حدث؟ إنَّ الإسلاميين سواء كانوا من "حز//ب الله" أم من "الجماعة الإسلامية" دخلوا المجلس النيابي وأصبحوا يتحرّكون دبلوماسياً من خلال منطلقاتهم كما يتحرّك الآخرون، وإنّ القتال مع إسرائيل يستند إلى قاعدة وطنية وعربية وإسلامية، لذلك فإنَّ أميركا، في الوقت التي تتحدّث فيه عن الحريّة فإنّها تساهم في دعم الذين يقهرون هذه الحريّة. وأنا أتخوَّف لأنَّ كثيراً من المشاكل التي يتحرّك فيها العنف لو أديرت بطريقة متوازنة حضارية، لما رأيت هناك أيّ أثر لهذا العنف. إنَّ مشكلتنا هي أنّهم لم يتركونا لحظة واحدة لنتفرَّغ لأنفسنا وواقعنا وعلاقاتنا؛ ولذلك فإنَّ الأُمّة التي تعيش الدوّامة الدائمة، لا تستطيع أن تحمي نفسها من كلّ ما يجري في الدوّامة.
قطار "السلام" يسير ببطء
ـــ قطار السلام متى يصل إلى محطّته النهائية؟
عندما نريد أن ندرس المعطيات الموجودة في الساحة، بعيداً عن الخفايا التي يمكن أن تتحرّك في الأعماق وقد لا نعرفها، فإنّي أتصوَّر أنّ المسألة ستطول إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية وقد ترافق الانتخابات الأميركية(1)، لأنَّ هناك أموراً لم تنضج من الناحية النفسية والسياسية في الجانب الصهيوني ولأنَّ هناك تفاصيل كثيرة في الجانب السوري، وأتصوَّر أنّ أيَّ تفصيل يحتاج إلى وقتٍ طويل، وإذا كانت مسألة طابا احتاجت إلى سنة، فكيف يمكن لقضية الجولان أن تختصر في أشهر عدّة من هذه السنة؟
إنَّ الجميع يتحدّثون الآن عن أنّ سورية قبلت مبدأ السلام وأنّها جادّة فيه وأنّ إسرائيل قبلت مبدأ الانسحاب وأنّها جادّة في المسألة، وهما قبلا القضية من حيث المبدأ، فهل تستطيع حلّ التفاصيل التي تعد بالمئات أو بالآلاف وعشرات الألوف بسرعة؟ لا أتصوَّر أنّ المسألة منتهية في الواقع الإسرائيلي. وعندما تقرأ في صحف اليوم أنّ شارون يحاول أن يظهر أنّ الأمور قاربت النهاية في المحادثات السورية ـــ الإسرائيلية، لولا بعض التفاصيل الصغيرة جداً، فإنّه لا يقول ذلك إلاّ ليسجّل نقطة ضدّ حكومة العمل، كي يثير الواقع الإسرائيلي. إنَّ علينا أن نرصد نقطة وهي قول رابين في بداية حركة المفاوضات السورية ـــ الإسرائيلية إنّ الانسحاب من الجولان يحتاج إلى استفتاء شعبي، ومعنى ذلك أنّه لا يملك أن ينسحب من دون استفتاء شعبي، ومن الطبيعي أنّ هذا الاستفتاء في المرحلة الحاضرة لا معنى له، في الوقت الذي يقترب فيه موعد الانتخابات الإسرائيلية؛ لذلك نجد المسألة لا تزال في حالة التجاذب ولعلَّنا نلاحظ حركة الاستفتاءات الشعبية بين وقتٍ وآخر، 20% أو 30% مع الانسحاب، إنّها تدلّ على أنّ هناك شيئاً عميقاً في المجتمع الإسرائيلي، ممّا لا يسمح لإسرائيل أن تستعجل الموضوع. وإذا عرفنا أنّ أميركا تعمل على المحافظة على حزب العمل، فعلينا أن نعرف أنّ المسألة ليست بهذه السرعة ثمّ لا بدّ أن نضع في حسابنا أنّ سوريا ليست مستعدّة لتقديم تنازلات، إنَّ طبيعة الأمور تفرض انتظار الرئيس الأميركي الجديد، وإنْ كنّا لا نعلم غيب السياسة في أعماقها.
ـــ هناك غزل تركي ـــ عراقي واضح، وهناك غزل عراقي ـــ إسرائيلي سرّي، وإنَّ المطّلعين على هذين الغزلين يقولون إنّ هذا التدبير هو لرفع الحظر عن العراق. فما هو رأي سماحتكم بذلك؟
هناك إيحاءات وإشارات وإيماءات حول تركيا، توزّعها أميركا تارّة من خلال تركيا وتسمح بها من خلال روسيا وفرنسا. وعندما تتحدّث عن العراق في أيّة علاقة له في المنطقة أو في الخارج فتّش عن أميركا، لأنَّ تركيا وغيرها تفاصيل، إنَّ هناك عملاً أميركياً لتهيئة المناخ لوضع عراقي تمسك أميركا بجميع تفاصيله، لأنَّ النفط هو عنوان السياسة الأميركية كلّها في القرن العشرين، ومسألة العراق هي مسألة نفط العراق، التي يراد للشركات الأميركية أن تمسكه ولا يسمح لفرنسا أو لبريطانيا أن تبقى لها أيّة حصّة فيه ولو بشكلٍ هامشي.
"آفاق المؤتمر الدولي للسكان والتنمية"(*)
عميد المعهد: الدكتور أسعد ذبيان
في رَطيب الملتَقى، وطيْبِ المنتَقَى، وبَيْنَ رَحابةِ الرِّحابِ، وصَحابةِ الصِّحابِ، والبِشْرِ اللَّوّاح، والنَّشْر الفَوّاح، والمجلِس المكتَمِل، وشَمْلِنا المجتمِعِ وجَمْعِنا المشتملِ، من الطَّلَبةِ المُحاطِينْ، بالأساتذة الأَسَاطِينْ، وأُولي النُّهَى والأَحْلام، العلماءِ الأَعلامْ، المتوَّجِينَ بالعَمائم، المعلِّمينَ المُعَلَّمِينَ بغيرِ عَلائم، لدى ذلك كُلِّه ـــ وإنْ لامَ لائمْ، يَوَدُّ المرءُ لو يَنْثُر الكَمَائِمْ، ويُطْلِقُ الحمائمْ، ويَزِينُ بالشِّعْرَى ويُظَلِّلُ بالغَمائمْ، ولَعَلَّهُ يَطْمَعُ بالمنتَهَى، وأنْ يَبْلُغَ من الحفاوةِ المشتَهَى، فكيفَ به إذا أَعْجَزَهُ الطَّلَبْ، وضاقَ المُنْقَلَب، وأَعْوَزَهُ نَداه، وصَفِرَتْ يَداه، فَلَمْ يَجِد سِوَى رَيْحانِ السَّلامْ، وَرَيْعانِ الكلام.
لا خيلَ عندكَ تُهْدِيها ولا مالُ فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لم تُسْعِدِ الحالُ
وما أَمْلِكُ غيرَ التَّرحيبِ والتحِيَّةْ، وشُكْرِ البَادِرَةِ الوَحِيَّةْ، وإطلاقِ العِنان، بالاعتزازِ والامْتِنان، لمن وَسِعَتْهُمْ دارَتُهم للاستِماعْ، فَشَرَّفوا معهد عُلومِ الاجتماعْ، فَبِعَزْمهم يُبْنَى وعليه يُثْنَى، وإليهم ترحيبُنا مرفوعٌ ولا مُسْتَثْنَى، فإنَّما المَعْهَد، لِمَن يُلَبّي ويَشْهَدْ، وإِنَّما أُفْرِدَ لجلِيلِ الفِكْر، وجَميل الذِّكْر، وشَأْنُنا الغِيَاصَةُ في اليَّم، والفوزُ بِدُرّ القِيَم، بنحو المحاضَرَةِ الباهرةْ، الزاهيةِ الزاهرة، المتَّصِلَةِ بمؤتمرِ القاهرة، ذي العنوانِ والتسمية، "مؤتمر السُّكّانِ والتنمية".
وما لَنا لا نَعْمِدُ إلى ذلكْ، ونَسْلُكَ جَوَادَّ المَسالِك، في عصرِ الضَّوْضاءِ والجَلَبَةْ، والمبادئِ المجتَنَبَةِ المجتَلَبة، وأَوَان: "شَتَّى تَؤُوبُ الحَلَبَة"، أَوَلَيْسَ في الزّمَنِ العصِيبْ، للنّوع الإنسانيِّ نصِيرٌ ونصِيبْ، وأَيٌّ يُقَدَّم البِناءُ أم البَنّاء، والهَزارُ أم الرّوضةُ الغَنّاء.
إنَّما الدارُ قَبْلُ بالسُّكَّانِ ثُمّ بَعْدَ السُّكّانِ بالجِيرانِ
فإذا ما الأرواحُ شَرَّدَها الحَتْــ ـــفُ فماذا يُرادُ بالأبدانِ
لهذا الأمرِ الجَلَلْ، نُدِبَ النِّطِّيسُ البصيرُ بالعِلَلْ، مَنْ عَلَتْ هِمَّتُهُ القُلَل، وجَلَّى هَدْيُهُ الضِّلَلْ، وَللهِ مِنْ خَلْقِهِ آيةٌ وآياتْ، ورِجالٌ تُنْصَبُ من علومهم راياتْ، وتعلو بِهمُ الأَسانيدُ والرِّواياتْ، وإنَّ مِنْ بَسَماتِ الزّمانْ، وقَسَماتِ الأمانْ، أنْ يَزهوَ المَعْهَدُ بمن حَلَّهُ وحَلاَّه، وبالفَضْلِ لفظاً ومَعْنىً فأَعْظِمْ بِفَضْلِ الله، والسَّيِّدِ المسوَّد، ذي المنطِقِ المجوَّد، المعوَّد تِبْيانُهُ ولكلِّ امرئٍ من دهرِهِ ما تَعَوَّد، مَنْ أقَدِّمُهُ وَهُوَ المُقَدَّمُ أَصْلاً، فقد زُكِّيَ حَسَباً ونَسَباً وفَرْعاً وفَصْلاً.
نَسَبٌ كأنَّ عليه من شمسِ الضُّحَى نُوراً ومِنْ فَلَقِ الصَّباحِ عَمُودا
ولولا الزّمانُ لأَطَلْتُ في وَصْفِهْ، فإنّي لم أَبْلُغْ مِعْشارَ نِصْفِهْ، وقد أَنَى أن يُنْصَتَ إِلَيْه، إِذْ جَنابُهُ المعوَّلُ عَلَيْهْ، فإليهِ تنصرِفُ الحِداقُ اللّوامعْ، وتشرئبُّ المطامحُ والمطامعْ، وتُصْغِي الأفئدة قَبْلَ المَسَامِعْ، وهُنا تُحَطُّ الرِّحالُ، ويُنْشِدُ لِسانُ الحالْ.
فَلَمّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُهُ وَضَعْنَ عُصِيَّ الحاضِرِ المتخيِّم
سيّد السماحة، سماحة السيّد
المنبر عيلَ صبره هلا تفضّلت محموداً مشكوراً، أرجو ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم
عندما يجلس الإنسان في معهد للعلوم الاجتماعية، ليتحدّث فإنَّ الحديث يصبح مسؤولية تجعلك تقف بخشوع أمام العلم وأمام المجتمع وتلك هي المشكلة التي لا يزال الناس في حركتهم العلمية والثقافية يعيشون أزمتها، كيف يمكن للعلم أن يتوازن من أجل أن يكون خيراً للإنسان الفرد، والإنسان المجتمع، بدلاً من أن يكون خيراً وشرّاً في موقع هنا وموقعٍ هناك؟
قد لا يكون هذا مصطلح العلوم الاجتماعية ولكنّه يمثّل إيحاءاتها، عندما يستنطق الإنسان الكلمة ليستوحيها، ونحن نعرف أنّ الكلمات ليست معانٍ في القاموس ولكنّها إيحاءات لا أوسع ولا أغنى، فقد تكون هناك كلمة في معنى محشورة في القاموس ولكنّ الإنسان يستطيع أن يطوف بها في آفاق العالم، ليجد إيحاءاتها النفسية والإنسانية والاجتماعية تغنيه حتّى يكتب فيها الكثير.
لماذا نحن هنا؟
نحن هنا من أجل أن نتحدّث حول مؤتمر السكان والتنمية الذي أثار الكثير من الضجّة، وربّما فكَّر الناس هناك بأنَّ المسألة تمثّل بعضاً من مفردات هذا الصراع بين العلم والدين أو بين العلمانية والدينيّة؛ ومن هنا استعدّ الكثيرون، ليقفوا في الساحة بعيداً عن فهم المفردات، علماً كانت في هذا الجانب أو ديناً كانت في الجانب الآخر، كعادتنا في شرقنا عندما تُطرح العناوين فإنّها تجذبنا دون أنْ ندقِّق في طبيعة مضمون هذا العنوان أو ذاك. ولذلك رأينا الكثير ينفون ما لا يثبته الآخرون وهكذا يثبت الآخرون ما لا ينفيه أولئك. وتلك هي مشكلتنا، أنّنا نعيش ذهنية حوار الطرشان، لأنَّ كلاًّ منّا يريد أن يتحدّث دون أن يفكّر كيف يتحدّث الآخرون وكيف يسمعون؟
ربّما تكون مشكلتنا في الشرق ـــ ولا نزال في المدخل ـــ أنَّنا أناس لا نعرف كيف نسمع ولكنَّنا قد نعرف في كثير من الحالات كيف نتكلّم وربّما كانت المشكلة في حياتنا هي هذا الفارق بين السّماع والاستماع. أن تسمع، أن تأتي الكلمة طائرة تدخل أذنك دون وعي، أن تستمع هو أن تنطلق الكلمة، لتدخل عقلك من خلال أذنك ثمّ لتدخل في كلّ ثقافتك وتتحرّك في قناعاتك ثمّ لتفسح لها المجال في حركة الحياة.
المشكلة السكانية... الخطّ العريض
تحرّكت الكثير من المفردات في مسألة السكان والتنمية، وذلك حسبما أثير في برنامجها، لكن ربّما كان الخطّ العريض في هذه المسألة هي المشكلة السكانية في العالَم. مشكلة التكاثر السكاني في العالم هذا التكاثر الذي يتمّ بشكلٍ غير مدروس وغير منظَّم، في الوقت الذي تتحرّك فيه مسألة التنمية بحجم معيّن أو بطريقة معيّنة، قد يرى بعض الناس أنّها لا تتناسب مع حجم هذه الكثرة الجنونية للسكان. وبذلك عندما نواجه هذا الخلل بين ما هي التنمية التي تتحرّك سلحفاتيّاً ـــ سواء في جانب الكمّ أو النوع ـــ وبين كثرة السكان التي تتحرّك بشكلٍ جنوني ـــ إنْ على مستوى النوع أو الكمّ ـــ نجد أنّ المسألة تحوّلت إلى مشكلة الإنسان المعاصر أو مشكلة المرحلة ولهذا بدأت الإحصائيات التي تتحدّث عن حجم السكان في سنة 2005 إذ قد يبلغ عدد السكان في العالم تسعة مليارات أو أكثر، في الوقت الذي لا تستطيع التنمية أن تتحرّك طرداً.
وهنا برزت الكثير من الأفكار، التي تحدّثت دينياً بطريقة غير مسؤولة وتحدّثت علمانياً بطريقة غير دقيقة. فالكثيرون من الناس يقولون وهم يمثّلون المسألة الدينية؛ ما همّنا؟ الله خلق الخلق وتكفَّل بالرزق والله هو الذي يصنع لنا المشكلة وهو الذي يحلّها لنا، فلماذا نحسب وندقّق ونتحدّث عن الإحصاءات هنا وعن كلّ النظريات الاقتصادية والاجتماعية هناك؟ وهناك مَنْ يتحدّث في الجانب الآخر بطريقةٍ أخرى، ليقول: لماذا تقحمون الله في الاقتصاد وفي مشاريع التنمية؟ سواء وُجِد الخلق صدفة أو أوجدته الطبيعة أو ما إلى ذلك. نحن موجودون في هذا العالم وهناك قوانين وشروط موضوعية، لا تُدخِلوا الله ولا تُدخِلوا لنا الإيديولوجيا ولا الفلسفة في المسألة، إنَّ هناك حسابات قد تكون على طريقة 1+1=2 فكيف يمكن أن نتنكَّر؟ إنَّ العملية محسوبة بطريقة بسيطة، عندما ننتج لما يكفي عشرة أشخاص ويوجد عندنا عشرون شخصاً، فمن الطبيعي أن يحصل الخلل، بين عدد العشرين وبين ما تمثّله العشرة من غذاء وما إلى ذلك.
بين النسبي والمطلق
وتتّخذ القضية شكل المطلق هنا وهناك، ومشكلتنا في حركة الفكر هي الحديث عن المطلق، فنحن دائماً نتحدّث عن السلبية المطلقة في هذا الجانب والإيجابية المطلقة في ذاك الجانب. الكثيرون منّا لا يتحدّثون عن سلب يختزن إيجاباً وعن إيجاب يختزن سلباً، وعن خير يختزن شرّاً وعن شرّ يختزن خيراً، ونحن نعرف حتّى في العقيدة الدينية أن لا مطلق إلاّ الله، كلّ ما عدا الله محدود، والمحدودية تعني أنّ الوجود في داخل حدوده، هو أن يفق شيئاً من بعض خصائص وجوده، الخير يختزن بعض الشرّ، والشرّ يختزن بعض الخير، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة : 219]، أن يكون الشيء خيراً، أن تكون نسبة الخيرية في داخله أكثر من نسبة الشريّة، والمسألة في الشرّ صحيحة، وهكذا في السلب والإيجاب.
وبهذا نعرف أنّه ليس هناك في الحياة بياض لا سواد فيه، وسواد لا بياض فيه. اللّون في الحياة هو اللّون الرمادي، الذي يأخذ البياض فيه بعضاً من السواد وإنْ غلبه السواد في الصورة، وأن يأخذ السواد شيئاً من البياض وإن غلبه البياض في الصورة أيضاً.
من خلال ذلك نحتاج أن ندخل في الموضوع، هل يمكن أن نقول إنَّ كثرة السكان هو ضدّ القيمة مطلقاً؟ هل يمكن أن نختصر العالَم في مشروع واحد، ليس مشروع فكر ولكنّه مشروع خصوصيات حياة وعناصر حياة؟ العالم متنوِّع، متنوِّع في إنسانيّته وفي أرضه وفي ما تختزن أرضه، وفي شمسه، إنّ كلمة التنوّع تختصر صورة العالم ومضمون العالم. ومن الطبيعي أنّه عندما يكون هناك تنوّع في الكمّ أو في الكيف ـــ كما يقولون ـــ فإنّ من الطبيعي أن تختلف الخصائص وأن تختلف الخطوط التي تتحرَّك هنا وهناك. ومن الطبيعي أن تختلف المشاريع أيضاً. لهذا هل يمكن أن نعطي قاعدة للعالم تصوّت عليها الأمم المتحدة مفادها أنّ على الناس كلّهم في هذا العالم أن ينظّموا عددهم، في أنْ يقلِّلوا هذا العدد؟ هل يمكن أن نقول للعالم كلّه إنّ على الأسرة أن تختصر عددها، لتكون ثلاثة أو أربعة أشخاص دون زيادة أو نقصان؟ هل يمكن أن نفرض ذلك على كلّ البلدان والمجتمعات في العالَم؟
إنَّنا نعرف أنّ عدداً من مجتمعات العالم تشكو من قلّة عدد السكان ولذلك فهي تستورد السكان من بلدان أخرى. في عالمنا العربي، عندما نستثني مصر وبعض بلدان الغرب، قد لا نجد هناك خللاً في المسألة السكانية، بالطريقة التي يتحدّث فيها الكثير من الناس، بل ربّما نجد أنّ منطقة الخليج تعاني من قلّة عدد السكان ولذلك عندما ندرس عدد السكان المقيمين في الخليج، نرى أنَّ عدد الأجانب القادمين من بلدان أخرى يزيد على عدد أبناء البلاد الأصليين. ونحن نعرف أنّ الخليج في ثرواته المختزنة يمكن أن يوزّع ـــ بقطع النّظر عن اللّعبة السياسية الدولية أو غير الدولية ـــ الثروة على أكبر عدد ممكن من الناس في المنطقة على الأقل. وهكذا نلاحظ أنّ هناك بلداناً تملك الكثير من السكان ولكنّها لا تملك الكثير من فرص التنمية من الناحية السياسية، لأنّه عندما ندرس ـــ ولستُ خبيراُ بالاقتصاد ولكنَّنا ندرس القضية من خلال بعض الملاحظات أو بعض الخبراء ـــ أنّ المنطقة التي يُتحدَّث فيها عن جنون السكان وهي مصر ووجود الخلل بين حركة التنمية وحركة السكان، نجد أنّ القضية ليست قضية كثرة السكان بل القضية ـــ في كثير من عناصرها ـــ تنطلق من فقدان مشاريع التنمية أو من عدم توازنها، في الوقت الذي يمكن فيه لهذه المشاريع أن تغطّي ذلك.
التنمية واللّعبة السياسية الدولية
إنَّني لا أريد أن أُهوِّن من هذا الموضوع، ونحن في مقام عرضٍ الآن، لكنّي أريد أن أقول: إنَّ اعتبار كثرة السكان هو المشكلة، بحيث إذا استطعنا أن نسيطر عليها فإنَّنا نستطيع أن نمسك بعنف المشكلة لنخنقها أو لنحلّها، هذا كلام غير دقيق، هي بعض المشكلة ولكنّ بعضها، ينطلق من عدم التركيز أو عدم توفّر مسألة التنمية. وعندما نريد أن ندرس مسألة التنمية، فإنَّ القضية ليست هي في ذاتية العناصر السلبية، التي تحول دون هذا الشعب أو ذاك، بل هي مشكلة اللّعبة السياسية الدولية، التي تعمل على إخلال التوازن في هذا البلد أو ذاك.
لا نقول ذلك لأنَّنا نعيش عقدة الغرب، لنعتبر أنّ كلّ شيء غربي هو سلبي وكلّ شيء شرقي هو إيجابي! بل إنَّنا نعتبر ـــ كما قلنا أكثر من مرّة ـــ أنّ للغرب إيجابياته وسلبياته وأنَّ للشرق الكثير من سلبياته وإيجابياته. إنّ المسألة ليست عقدة غرب، لنكون من الناس الذين يتحدّثون عن مشاكلهم، ليحمّلوها للغرب وينسون عناصر المشكلة في داخلهم؛ لكنَّنا نعتبر أنّ السياسة الموجودة في الدول الكبرى ـــ سواء كانت في الغرب أو في الشرق ـــ تعمل على تحقيق الرخاء الاقتصادي لبلدانها على حساب رخاء البلدان الأخرى التي تختزن الثروات الطبيعية وذلك بمصادرة هذه الثروات أو بمحاصرتها، سواء من ناحية حركة التصدير أو حركة التسعير أو ما إلى ذلك، أو من ناحية إثارة المشاكل والحروب التي تنطلق من بعض الأوضاع التاريخية والحاضرة، التي يمكن إثارتها في ما يعيشه هذا البلد أو ذاك، حتّى يمكن لها أن توفّر لبلادها الاقتصاد الجيّد.
كنّا نسمع أخيراً رئيس وزراء بريطانيا عندما ذهب إلى بعض بلدان الخليج الكبرى وعقد صفقة أسلحة تقدّر بأربع مليارات دولار يقول: إنَّني استطعت أن أحصل على العمل لعشرين ألف عامل بريطاني. وهكذا نجد أنّ أميركا عملت ولا تزال تعمل على أن تفرض على بلدان الخليج شراء أكثر من الأسلحة، والمشاريع التي لا تحتاجها من أجل أن تشغل العمّال الأميركيين وما إلى ذلك. هذا واقع موجود ونحن نعرف أنّ الصراع الأميركي ـــ الأوروبي الآن أو الصراع الأميركي ـــ الياباني يحمل في داخله بعضاً من الصراع حول ثرواتنا. لمن البترول ومَن الذي يسيطر عليه وعلى طريقه، حتّى أصبحت حركتنا السياسية والاقتصادية والأمنية خاضعة للصراعات التي تعيش هناك في ما بينهم.
لذلك نقول إنَّ القضية لا بدّ أن تدرس من خلال اعتبار مشاكل التنمية عناصر حقيقيّة في المشكلة، كما أنّ علينا أن ندرس موضوع تكاثر السكان الذي قد يحمل في داخله بعض المشكلة، وبهذا لا يمكن لنا أن نواجه المسألة بهذا التبسيط الذي أراد أن يواجهه مؤتمر السكان، من أجل أن يجعل هذه المواد التي يقدّمها في مشروعه قانوناً في الأُمم المتحدة يحكم كلّ بلدان العالم.
المشكلة بين النظرية والتطبيق
إنَّ المشكلة التي تتحرَّك، سواء كانت في كثرة السكان أو في قضايا التنمية، ليست في النظرية وإنّما في التطبيق، لو أنَّنا في العالم العربي ـــ ونحن نعيش في هذا العالم أو في العالم الثالث ـــ لو أنَّنا استطعنا أن نقلِّل عدد السكان على ما تريده لجان تنظيم النسل، لو أنَّنا فعلنا ذلك ولم يمكِّننا الآخرون من أن نحقِّق سياسة الاكتفاء الذاتي، فهل يمكن أن نحلّ المشكلة؟! إنَّ قضية التنمية ليست منطلقة من مسألة ذاتية وإنَّما هي منطلقة من مسألة الظروف الموضوعية، التي تحيط بحركة التنمية هنا. لذلك عندما نريد أن نؤسّس مشروعاً يتوازن فيه الناس في إنتاج النسل والحاجات أو عناصر الحاجات فإنَّ علينا أن نفكِّر بعالم يعيش إنسانيّته، بحيث لا يمكن لقوّة كبرى أن تضغط على قوّة صغرى ولا يمكن أن تستغلّ أيّة دولة كبرى مصالح دولة صغرى.
ومن خلال التجارب نعرف أنَّ مثل هذا العالم ليس موجوداً حتّى في الخيال، لذلك فإنَّ المسألة التي ينبغي لنا أن ندقِّق في بحثها، ليست هي مسألة الإحصائيات الجنوبية هنا والإحصائيات المتواضعة هناك، بل لا بدّ أن نلاحظ في هذا المجال أنّ المشكلة التي يعيشها الإنسان الآن، مشكلة المجاعة في بعض مناطق الهند وفي بعض مناطق افريقيا. هل المشكلة الموجودة هي مشكلة تكاثر السكان أم هي مشكلة عدم توازن توزيع الثروة في العالم أم عدم توازن توزيع الثروة في هذا البلد أو ذاك؟ المشكلة تكمن ما بين الإنتاج والتوزيع، تماماً كما يُنقل عن الأديب "برنارد شو" عندما سُئِلَ عن العالم كيف تصوِّره؟ قال: "كلحيتي وصلعتي كثرة في الإنتاج وسوء في التوزيع". المشكلة هي هذه أنّ القضية هي هذا النوع من التوازن بين الإنتاج والتوزيع ـــ سواء كان إنتاج البشر أو كان إنتاج الغذاء أو ما إلى ذلك ـــ فقد ترى هناك بلداً يملك كثيراً من البشر ولكنّه لا يملك الكثير من إنتاج الحاجات الاستهلاكية، كما قد ترى أنّ هناك بلداً يملك الكثير من إنتاج الحاجات الاستهلاكية ولا يملك بشراً.
إنَّنا نعرف كيف تدار اللّعبة الاقتصادية، فأميركا كانت في وقت من الأوقات تحرق آلاف الأطنان من القمح، من أجل أن يبقى سعر القمح العالمي محافظاً على مستواه. وهذا ربّما نجده في بلدان أخرى. نحن الآن في الشرق الأوسط، في البلاد العربية، في لبنان نملك ثروة مائية، تستطيع أن تحوِّل لبنان إلى أرض خضراء في كلّ جباله وسهوله، ولكنَّنا في الوقت نفسه من خلال المسألة السياسية ومن خلال الضغوط الإسرائيلية التي تلتقي مع الضغوط الأميركية، نحن نُمنع من القيام بأيّة عملية تسمح بالاستفادة من مياه نهر الليطاني وغيره وتنفيذ مشاريع إنمائية في كلّ بلادنا، ولذلك نحن نعيش في الجنوب والليطاني يصبّ في البحر ونحن (كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول)، المسألة تعيش في هذا الإطار.
خلفيّات سياسية
لهذا، نحن لا نريد أن نرجم الذين يتحدّثون عن ضرورة تنظيم النسل في العالم وأن نتحدّث عن الزندقة وأن نتحدّث حتّى عن المشاريع الاستعمارية الكامنة وراء ذلك، لا نريد أن نتحدّث بهذه الطريقة الاستهلاكية في الحديث وإنْ كنّا نجد من الممكن جداً لبعض الدول الكبرى أن تفكِّر بهذه الطريقة، لأنَّ مشكلة الهجرة من العالم الثالث بفعل المشاكل الاقتصادية والسياسية الموجودة فيه ـــ هجرة الكثير من شعوب العالم الثالث إلى أوروبا ـــ أصبحت تمثّل مشكلة تضغط على اقتصاد هذا البلد وذاك، ونحن نعرف أنّ فرنسا تعيش هذه المشكلة وربّما بدأ بعض الناس في بريطانيا يتحدّثون عن هذه المشكلة أيضاً.
لذلك نحن لا نعفي بعض الدول من بعض الخلفيات السياسية التي يعيشون فيها الخوف من أخطار الفقر، الذي يمكن أنْ تتحسَّسه شعوب العالم الثالث، عندما ينفّس عن ذلك بالهجرة لتلك البلدان أو بالثورات التي تجعل القوى المتحالفة أو المتعاملة معها في وضع حرج. نحن لا نعفي بعض الدول من ذلك ولكنَّنا نريد أنْ نتحدّث عن المسألة من الناحية الموضوعية وهي أنّ علينا أن لا ننظر إلى القضية بشكلها المطلق، فربّما نجد أنّ بعض البلدان تحتاج إلى تكثير عدد السكان، كما أنّ بعضها الآخر قد تحتاج إلى تقليله.
من المفارقات أنّ الكيان الصهيوني، عندما حضر مؤتمر السكان، قدَّم مطالعة بأنَّ عليكم أنْ تعذرونا، لأنَّنا بحاجة إلى زيادة عدد السكان ونحن نقوم بكلّ الخدمات الصحيّة والاجتماعية وما إلى ذلك في هذا المجال، باعتبار أنّ اليهود يعانون الآن في داخل فلسطين من إمكانية فقدان التوازن بينهم وبين الفلسطينيين ولذلك هم يعملون على زيادة عدد السكان.
حتّى أنَّنا قرأنا أنّه في فرنسا يتمّ التعويض على كثير من العائلات، التي يمكن أن تنجب عدداً من الأفراد أكبر من العدد الطبيعي، لأنَّهم شعروا أنّ أوروبا بفعل الأفكار المطروحة أصبحت تعيش ضموراً في عدد السكان وأصبحت المسألة تمثّل مشكلة في هذا الجانب لا في ذلك الجانب.
لكلّ بلد ظروفه
لذلك لا يمكن أن ننظر إلى العالم نظرة واحدة، والقضية أنّ العالم أصبح يعيش حركة اقتصاد واحدة. فنحن نتأثّر اقتصادياً بالأزمة الاقتصادية التي قد تعيش في أميركا أو في أوروبا أو في أيّ بلدٍ من البلدان، وهكذا هم يتأثّرون بالقضايا السياسية والاقتصادية التي تحدث، ونحن نعرف أنّه عندما هُدِّد بالحصار البترولي، تأثّرت كلّ الأوضاع في أميركا وأوروبا. قد يقول قائل: إنَّنا نتحدّث عن العالم كوحدة اقتصادية، لكنَّنا نقول: إنّ الحديث عن وحدة اقتصادية في العالم ليس حديثاً واقعياً، لو كان العالم يمثّل وحدة قانونية وسياسية واقتصادية على طريقة الحكومة العالمية التي كانت تفكّر بها بعض التيّارات فيمكن أن يُقال: لتجمع ثروات العالَم كلّه وينظم عدد الناس بهذه الطريقة وعند ذلك لا تحتاج المسألة إلى أبحاث كثيرة، لأنَّ القضية تعتمد على الحسابات الدقيقة في هذا المجال، ولكنَّنا نملك عالماً يعيش الصراع الاقتصادي ويعيش الاستكبار الاقتصادي والاستضعاف الاقتصادي ويعيش الحركة الاقتصادية التي تتحوَّل إلى فوضى في هذا البلد أو ذاك، بفعل المسائل الأمنية والسياسية وما إلى ذلك، فكيف يمكن لنا أن نختصر ذلك كلّه في حلٍّ واحد، نفرضه على العالَم كلّه؟ إنَّ المسألة ليست دقيقة في هذا المجال.
ولذلك فإنَّنا نقول: علينا أن ندرس المسألة دراسة واقعية في حركة تقليل عدد السكان أو تكثيرهم، من خلال ظروف هذا البلد وظروف ذلك البلد، سواء في دائرة وطنية أو في دائرة قومية أو اقليمية أو ما إلى ذلك.
الرأي الإسلامي
في هذا المجال، كيف نفهم رأي الإسلام في المسألة؟ لا بدّ لنا قبل أن ندخل في تفاصيل الرأي الإسلامي في مسألة كثرة عدد السكان وقلّته، من أن نلاحظ شيئاً وهو أنَّ هناك اختلافاً حقيقياً بين مفهوم الغرب أو المفهوم المادي بشكلٍ عام للإنسان وللكون، وبين المفهوم الإسلامي أو الديني بشكلٍ عام، لأنَّ مسألة المفاهيم ـــ في ما يختزنه الناس ـــ تتحوَّل إيجاباً أو سلباً في حركة الواقع، وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11]، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال : 53].
في النظرية الإسلامية، الإنسان هو صانع حركة الحياة ضمن السنن الكونية والاجتماعية التي تمثّل القوانين التي أودعها الله في الكون، وفي حركة الإنسان في المجتمع، وبهذا نحبّ أن نؤكّد على حقيقة ـــ بشكلٍ سريع جداً ـــ وهي أنّ النظرية الإسلامية لا تتنافى مع نظرية السببيّة، فنحن عندما نقول: إنَّ الله أنزل المطر، ليس معناه أنّ الله أنزل المطر بطريقة مباشرة، أو عندما نتحدّث عن أيّة ظاهرة كونية أو عن أيّة ظاهرة تاريخيّة في حركة الحضارات أو عن أيّة ظاهرة إنسانية في حركة الإنسان في بعده النفسي وفي بعده الخارجي، ليس معنى ذلك أنّ الله يتدخّل في الأمور بشكلٍ مباشر، تماماً كما نقول خلق الله الإنسان، مع أنَّ الله خلقه من خلال نظام التناسل، أو أنَّ الله خلق الزرع ليس معناه أنّه قال للأرض: انبتي فنبتت ولكن من خلال طبيعة القوانين التي أودعها الله في الأرض وفي البذور وفي الهواء وفي الشمس وما إلى ذلك من الأمور.
لذلك لا فرق أن يكون الإنسان مسلماً وأن يكون إنساناً يفسِّر كلّ الظواهر الاجتماعية والتاريخية والكونية تفسيراً علمياً دقيقاً، فذلك لا يخرجه عن إسلامه قيد شعرة.
ولذلك نقول: عندما يجلس المادي والإلهي ـــ إذا صحّ التعبير وهو غير دقيق جداً ـــ عندما يجلسان أمام المختبر ويدرسان حركة العناصر التي تؤدّي إلى النتائج العلمية فإنّهما لا يختلفان في ذهنيّتهما أبداً في المرحلة الأولى. فكلّ منهما يرصد الظاهرة، ليعرف سببها، الفرق بين المادي وغير المادي يبرز في المرحلة الثانية أي في مرحلة بنيان العلاقة السببيّة عن الظواهر ومرجعيّتها.
وهنا أحبّ أنْ أُبيِّن أنّه ليس في العالم ملحد ـــ باعتبار الكلام يجرُّ الكلام ـــ كلّ الملحدين الذين يقولون عن أنفسهم إنّهم ملحدون هم مشكِّكون، لأنّ النفي يحتاج إلى إثبات، كما هو الإثبات يحتاج إلى إثبات. عندما تقول: ليس هناك إله، لا بدّ أن تطوف كلّ الكون في كلّ أبعاده، لترصد المسألة لتقول: هل هناك إله أو ليس هناك إله. حتّى الغيب أنتَ لا تستطيع أن تنفيه، بعض الناس يقولون: هذا غير معقول، هذا تعبير غير علمي، لأنَّ العقل كما يقول ابن سينا: "كلّ ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان حتّى يذودك عنه واضح البرهان". العقل يقول: لا طريق لي إلى هذا ولكنّه يقول: يمكن هذا. وأنتم تعرفون أنّ حركة العلم كلّها انطلقت من الخيال العلمي، من إمكانية تحقّق الفَرَضيّة، ولذلك ليس في العالم ملحدون، في العالم مؤمنون ومشكِّكون ولكنّ المشكّكين قد يغفلون عمّا في أنفسهم فيتحدّثون عن الإلحاد في هذا المجال، والإلحاد حركة إيجاب وهم لا يعيشون إيجاب الإلحاد ولكنّهم يعيشون سلبية الإيمان.
المفاهيم الروحية... وحلّ المشكلة
على هذا الأساس نحن كمسلمين وكمؤمنين نعتبر أنّ المشاكل الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية والأمنية والنفسية ليست مجرّد بلاء نزل علينا من الله بلا مناسبة أو من دون ارتباط عضوي. قد تحدث هناك أشياء خارج نطاق المألوف ولكنّ حركة العالم ركّزها الله على حسب الواقع الطبيعي، حتّى أنّ بعض الفلاسفة المسلمين يقول: حتّى المعجزة الخارقة للعادة، هي لا تخرق قانون السببيّة ولكنّها تنطلق من سبب خفي في مقابل الأسباب، لأنَّ قانون السببية هو قانون أشبه بالقانون الحتمي، هكذا يقولون.
لذلك يمكن أنْ نتحدّث عن المشكلة في العالم بأنَّ الإنسان يمكن أن ينحرف، ويمكن أن يستقيم. الإنسان يتحرّك في حياته من خلال أفكاره، وحركة الأفكار هي التي تمثّل حركة الحياة، لأنَّ حركة الحياة هي صورة ما نفكِّر به.
من خلال ذلك نقول: إنَّ الخطّ الفكري المادي يقول: إنّ قضية الإنسان، تماماً كأيّ شيء من الأشياء الموجودة، لا بدّ أن تخضع للأشياء المادية من حوله، فعندما نريد أن ندرس سعادة الإنسان فإنَّ علينا أن ندرس مسألة اللّذّة، مسألة الاكتفاء، ندرس هذه الأمور المادية في حياته. لكن عندما نعيش نحن ـــ مثلاً ـــ المفهوم الديني الذي يتحدّث عن القناعة ـــ ونحن لا نريد أن نفلسف معنى القناعة سلباً أو إيجاباً ـــ يعيش معنى الرضى بما قسم الله، نعيش معنى التضحية هذه المفاهيم الروحية التي يمكن للإنسان أن يختزنها في داخل شخصيّته، تجعله يستطيع أن يوازن حركة المشاكل في حياته بطريقة لا يستطيع الآخر أن يوازنها، لأنّي عندما أحتاج عشرين بالمئة ولكنَّني أكتفي بعشرة بالمئة فإنَّني لا أعتبر نفسي غير سعيد، باعتبار أنّ القيمة التي أحملها والتي قد تنعكس إيجاباً على إنسانٍ آخر، قد تجعل عندي سعادة روحية تعوّض ما أفقده من السعادة المادية.
إنَّ المفاهيم الروحية يمكن أن تدخل في حركة الحلّ للمشكلة الاقتصادية. لا أدَّعي أنّ المفاهيم الروحية هي الحلّ ولكنّها إحدى العناصر الواقعية للحلّ. عندما نريد أنْ نخطِّط لاقتصاد في مجتمع يؤمن بالله فإنَّ هذا التخطيط يختلف عن الاقتصاد في المجتمع الذي لا يؤمن بالله، لأنَّ مثل هذا يمكن أن تفرض عليه بعض التضحيات، من دون أن تفقده الشعور بإنسانيّته وبسعادته، بينما يعيش الطرف الآخر حالة اليأس والسقوط وما إلى ذلك.
الإجهاض ومنع الحمل
عندما نعيش في الحياة على أساس أنّ الإنسان ليس مجرّد بضاعة أو قطعة من أثاث، ليس صخراً وليس شيئاً جامداً وإنّما هو شيء متحرّك، وهذه الحركة تنطلق من المكوّنات الفكرية والروحية ومن المفاهيم التي تنفتح على كثير من قِيَم السعادة في الحياة، عند ذلك لا بدّ لنا أن نوازن القضية من هذه الجهة. وهناك نقطة ثانية وهي أنَّنا كمسلمين أو كمؤمنين نؤمن بأنّ الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ خلق الكون، خلقنا ولم ينفصل عنّا، هو الرازق وإنْ كان يرزقنا بالوسائل الطبيعية وعندنا نصّ يقول: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق : 2 ـــ 3]، يظلّ الإنسان يفكّر بأنّ ما حوله ليس كلّ شيء، هو يعمل في دائرة ما حوله ولكنّه، عندما يقف أمام المشاكل الصعبة أو أمام الطريق المسدود، لا يشعر بأنَّ الطريق مسدود أمامه، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} ـــ حيث لا مخرج {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}.
على ضوء هذا فإنَّ الإنسان المؤمن، الذي يؤمن بأنَّ الله هو مدبّر الكون وراعيه وهو الرازق: { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل : 53] سواء كان بشكلٍ مباشر أو بشكلٍ غير مباشر، فإنَّ الإنسان الذي يختزن هذه الفكرة في داخل شخصيّته فمن الطبيعي أنّ حاله في النظر إلى طبيعة المشاكل الاقتصادية أو غيرها تختلف عن نظرة الإنسان الآخر في هذا المجال.
ومن هنا نجد أنّ الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ لا يريد لنا في إيحاءات القرآن أن نقوم بعملية عبّر عنها: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء : 31] ربّما كان هذا في الوأد وبعضهم يعتبر رفض وسائل المنع كالعزل الذي كان موجوداً سابقاً كالوأد الخفي، الله يقول أنتم لستم مكلّفين: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء : 31] من الناحية الإيمانية عليك أنْ لا تحسم المسألة في هذا الجانب، على أساس أنّ هناك طريقاً مسدوداً لا يمكن أن تخترقه، لكن لو فرضنا أنّك أردت أن تفكِّر في القضية من خلال الأخذ بالأسباب العادية، ربّما تفكّر من ناحية الراحة، من ناحية بعض الأوضاع والرفاهية من جهاتٍ أخرى، الإسلام لا يحجر عليك ذلك، هناك تحفُّظات في هذه المسألة التي أُثيرت، على أساس أنّ تنظيم النسل يلتقي بوسائل منع الحمل وبمسألة الإجهاض، ومن هنا كانت الضجّة التي قادها الفاتيكان وقادتها الكثير من القيادات الإسلامية. نحن ربَّما نختلف مع الفاتيكان لأنَّ وسائل منع الحمل في النظرة الإسلامية ليست محرَّمة، إلاَّ أنَّ هناك تحفُّظاً في وسيلتين: الوسيلة الأولى التعقيم باعتبار أنَّ التعقيم يمثّل قتل الطاقة، والله رخّصنا في أنْ ننظِّم طاقاتنا ونجمّدها ولم يرخِّصنا في قتل الطاقة التي تمثّل جزءاً من الحياة فقتلها قتل لجزء من حياتك. أنتَ قادر أن تغمض عينك مدّة طويلة ولكن لا يجوز لك أن تفقأ عينك. أنتَ قادر أن تغلق سمعك ولكنّك لستَ حرّاً في أن تقتل سمعك وهكذا. التعقيم سواء كان تعقيم الرجل أو تعقيم المرأة، محرَّم لأنّه قتل لجزء من حياة الإنسان والله لم يسلّط الإنسان على أن يقتل نفسه بالتقسيط في هذا المجال، وبعض الفقهاء يقولون: إذا كانت المرأة في وضع صعب جداً مرضي أو ما شابه ذلك وليس هناك طريق إلاّ التعقيم فيجوز التعقيم في هذه الحالة. هذه نقطة.
النقطة الثانية هي الإجهاض. قضية الإجهاض تصوَّر بالنسبة إلى المرأة بطريقة مأساوية، هناك حمل لا ترغب به المرأة، لماذا تريدون أن تفرضوه عليها؟! أو لا يرغب به الأبوان، لماذا لا تكونون إنسانيّين؟ هذا هو الكلام الذي يُطرح لدى هؤلاء، لماذا لا تكونون إنسانيّين؟ لماذا تفرضون على المرأة أنْ تتحمّل هذا الولد الذي جاء خطأ ـــ سواء من علاقة مشروعة ـــ أو من علاقة غير مشروعة، لماذا ذلك؟! كأنَّ المسألة تتّصل بالجانب الذاتي للمرأة أو للمرأة والرجل في وليدهما! لكن هناك شخص ثالث وهو الحمل، يمكن للمرأة أن لا تحمل، هذه حريّتها، يمكن أن تستخدم كلّ وسائل منع الحمل هذا شأنها؛ ولكن عندما يكون هناك حمل فهناك حياة جديدة. قد تكون هذه الحياة بدأت رحلتها في اليوم الأوّل أو في الشهر الأوّل أو في الشهر الثاني، لكنّ هناك إنسان آخر، قد لا يكون إنساناً متكاملاً ولكنّه مشروع إنسان. عندما نفكّر بهذه الطريقة ـــ وأحبّ أن تفكِّروا معي ـــ أنّ المرأة إذا لم ترغب في الحمل فمن حقّها أن تستغني عنه، لماذا لا نقول: إنَّ المرأة إذا لم ترغب في الولد بعد إنجابه يمكن لها أن تقتله؟ إنَّه الجانب الإنساني المأساوي نفسه، والنظرة المأساوية الشاعرية الخياليّة نفسها في هذا المجال، الآن إذا كان المبرّر أن نقتل حياة عمرها شهر أو حياة عمرها أربعة أشهر، أو أن نقتل حياة عمرها عشرة أشهر، أي فرق إذا كانت المسألة هي عدم الرغبة، إذا كانت المسألة أنّ الإنسان حرٌّ في أن يقتل الجنين الذي لا يرغب فيه؟!
كما أنَّ هناك بعض الاجتهادات تقول: إذا فُرِض أنّ الحمل كان يضرّ المرأة ضَرَراً بالغاً جداً، وإن لم يصل إلى الخطر على الحياة يجوز ذلك ـــ ولكن حسب التعبير الشرعي ـــ قبل نفخ الروح أي قبل الأربعة أشهر.
فالمسألة تعيش في هذا الإطار، فأنا أحبّ أن نفكّر في هذه النقطة عندما تثار أمامنا المأساة، كيف يمكن أن نفرض على المرأة شخصاً لا ترغب فيه؟ لم يفرض أحد عليها، لكن هي فرضت على نفسها أو أنّ الظروف الاجتماعية فرضت عليها فأصبح هناك شخص ثالث، لهذا لا بدّ أن نفهم المسألة على هذا الأساس. فالقضية من الجانب الديني هي أنّ الإسلام ليس ضدّ تنظيم النسل، بل ضدّ الذهنية التي تنطلق في تنظيم النسل من عدم الثقة بالله ومن اليأس من وجود أيّة فرص، هذا يسيء إلى الروحية الدينية. أمّا بالنسبة إلى الجانب الآخر فيمكن للإنسان أن يفكّر بتنظيم النسل، إذا خرج عن هذين التحفّظين: التعقيم والإجهاض مع الملاحظات التي ذكرناها حول الإجهاض.
ومن الطبيعي، عندما نفكّر في المسألة في تنظيم النسل فعلينا أن لا نستغرق في هذه المسألة، تحت تأثير دعوات لجان تنظيم النسل، بل علينا كشعب، كأُمّة، كمجتمع، علينا أن نتحرك من أجل مواجهة قضايا التنمية في مجتمعنا ـــ سواء كانت هذه القضايا تتّصل بالمسألة الاجتماعية في حركة المجتمع أو كانت تتّصل بالمسائل السياسية الداخلية والخارجية ـــ لا بدّ لنا أن نوازن لتكون المسألة موازنة بين مشاكل السّكان ومشاكل التنمية فلا نعيش في المطلق ولا نعيش في الأحكام غير المدروسة، بل نواجه كلّ موقع من مواقع الواقع، تبعاً لطبيعة المشكلة والظروف الموضوعية التي تحيط بهذا الموضوع أو ذاك.
والحمد لله ربّ العالمين
أسئلة الحضور
ـــ هل أنّ غاية أو هدف وأد البنات في الجاهلية كان بسبب الرغبة في تحديد النسل إضافة إلى الأسلاب الأخرى التي نعرفها؟
الظاهر أنّ الأساس حسب القرآن، الذي هو مصدرنا في تصوير الواقع الجاهلي، الظاهر أنّه يتحدّث عن مسألة الوأد من جهة النظرة الدونية إلى البنت، باعتبار الواقع الاجتماعي الذي يجعل البنت تؤسر أو تنحرف فتتحوّل إلى عار على العشيرة فهم يربطون شرف العشيرة بشرف البنت، وهذا أمرٌ جاهليٌ. ولكن من الممكن أن نستفيد من قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء : 31] أنّ هناك ظاهرة في هذا الجانب وهو أنّ البعض كان يقتل الولد سواء كان ذكراً أو أنثى.
ـــ هل من الممكن أن تفسِّر لنا بوضوح تقاطع الدين مع العلمانية وهل هناك من ارتباط؟
الواقع أنّ العلمانية لا تنفي الدين، على خلاف النظرة التي تقول "إنَّ العلمانية تساوي الإلحاد". العلمانية هي نظرة إلى حركة القانون وحركة الحياة، فالعلمانية ترى أنَّ الدين يختصّ بعلاقة الإنسان مع ربّه فلا شأن له بالتشريع وبحركة الحياة، سواء من الجانب السياسي أو الاقتصادي. فهي لا تنفي الدين ولكنّها تضعه في دائرة معيّنة من العبادات أو الأخلاقيات الغائمة وما إلى ذلك.
من هذه الناحية ليس هناك تضادّ بين العلمانية وبين الدين، بمعنى أنّ العلمانية تنفي الدين. من جانب ثانٍ عندما نفهم أنّ العلمانية تختزن في داخلها مضموناً مدنياً، ينظِّم للناس حياتهم الشخصية والاقتصادية والمدنية بشكلٍ عام فإنَّنا نجد أنّ الإسلام، من خلال ما فيه من شريعة ينظّم حياة الناس في العلاقات الشخصية أو في العلاقات السياسية أو الاقتصادية أو ما إلى ذلك، بقطع النظر إلى رأي الآخرين في طبيعة هذه التشريعات؛ ولكنَّنا نقول إنَّ الإسلام هو دين مدني، في الوقت الذي يحمل الإسلام فيه معنى الألوهية، أي الدين الذي يؤمن بالغيب، لكنّه في واقع الحياة هو دين مدني تماماً كما هي القوانين الأخرى، ولذلك يلتقي الدين مع العلمانية في أنَّ العلمانية تحاول أن تعالج الإنسان في حياته المدنية والإسلام أيضاً يحاول أن يعالج حياة الإنسان في الجانب المدني من خلال تشريعاته. وتبقى المسألة أنّ العلمانية تعتبر أنّ الإنسان هو الذي يُصدر التشريع. الدين يعتبر أنّ الله هو الذي يُصدر الخطوط العامّة وبعض الخطوط التفصيلية للتشريع ويبقى للمجتهدين أن ينطلقوا في الخطوط التفصيليّة من خلال الخطوط العامّة؛ وهذا ما يسمّى بالاجتهاد.
المسألة في الخطوط الكبرى لا تمثّل تضادّاً ولكنّها تمثّل اختلافاً في بعض العناصر هنا وبعض العناصر هناك. هناك نقطة أحبّ أن يلتفت إليها الأخوة والأخوات؛ دائماً يتمّ الحديث، خصوصاً في لبنان ـــ ونحن لا نتحدّث الآن سياسة ـــ بعض الناس يقولون إنّ حلّ مشكلة لبنان هي في العلمنة، لأنَّ الدين هو سرّ مشكلة لبنان. الواقع أنّ العلمنة قد تكون حلاًّ بمعناها الواقعي لغير المسلم، لأنَّ غير المسلمين لا يملكون ـــ ولو في الجانب الرسمي ـــ شريعة تفصيلية في نظام الإنسان المدني في الحياة، لكنّ المسلم يملك نظاماً تفصيلياً على الأقل بحسب وجهة نظر الكثيرين من المسلمين والإسلاميين، والفقه الإسلامي دليل على ذلك. فنحن عندما نفرض نظاماً معيّناً علمانياً على المسلم فإنَّ المسلم سوف يعيش الازدواجية بين ما هي الشريعة، التي تلزمه بأن يطبّق دينه بشكلٍ ملزم في مثل نظام الزواج والمعاملات، وبين القانون الذي يلزمه بذلك؛ فإذا اختلف الجانب القانوني عن الجانب الشرعي فإنَّ الإنسان عند ذلك سوف يعيش مشكلة الازدواجية بين ما هو الدين وبين ما هو القانون.
لذلك هي ليست حلاًّ بالمعنى الذي يلتقي عليه كلّ الناس بل هو حلّ لجماعة دون جماعة، وعندما تحلّ المشكلة بهذه الطريقة فإنّك لن تستطيع أن تحلّها بشكلٍ أساسي.
ـــ تعليقاً على أنّ مشكلة لبنان هي الدين...
في عقيدتي مشكلة لبنان ليست في الدين بل عدم احترام الدين، فاللبنانيون طائفيون وليسوا متديّنين.
ـــ في ظلّ ظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية ضاغطة وفي ظلّ نظام سياسي مهتزّ بجميع ما يحيطه من كذب وخداع يبقى الحلّ الوحيد هو الهجرة، ما رأيكم؟
مَنْ قال بأنَّ الحلّ هو الهجرة؟ إنَّ الذين يهاجرون هم المهزومون، هم الذين لا يقبلون التحدّي، هم الذين لا يتحمّلون المسؤولية، هم الذين يعيشون ذهنية الهروب. نحن في بلد: الأرض أرضنا والإنسان إنساننا والمستقبل مستقبلنا، كما أنَّ الحاضر حاضرنا، علينا أن لا نستسلم للأمر الواقع الذي فرض علينا أو نحن فرضناه على أنفسنا "كما تكونون يولَّى عليكم" نحن فرضناه على أنفسنا وعلينا أن نجابهه ونغيّره. ثمّ مَن قال إنّنا معصومون؟ المجتمع فيه كذب فهل نحن صادقون؟ المجتمع فيه ظلم، والنظام فيه ظلم، فهل نحن عادلون في ما بيننا؟ لذلك قبل أن ترجموا النظام بالحجارة، حاولوا أن تنظروا إلى حجم سماكة زجاجكم.
ـــ لو شارك لبنان مشاركة رسمية، ما هي برأيك المواضيع التي يناقشها والتي قد تكون أهمّ بكثير من موضوع السكان بحدّ ذاته والإجهاض؟ وماذا سيكون موقفه من المؤتمر بشكلٍ عام والمواضيع المدرجة على جدول الأعمال؟
نحن كنّا ضدّ المقاطعة وأعلنت ذلك في الصحف وفي عدّة محاضرات. أنا لا أفهم السلبيات، حتّى المؤتمر الذي يمكن أن يطرح طروحات ضدّ ما أفكّر به، عليَّ أن أملك شجاعة الرأي وأقف فيه، لأُبيِّن رأيي وإذا لم يقتنع برأيي فأكون قد أوصلته إلى آذانهم فعرفوا أنَّ هناك وجهة نظر أخرى. أنا لا أؤمن بالسلبية أبداً، هناك بعض الظروف أو المراحل السياسية الخاصّة تجعلنا نقاطع بعض المؤتمرات، لأنَّ وجودنا يعتبر اعترافاً بشرعية بعض الجهات ولكن القضية، خصوصاً بمثل هذه النواحي التي قد تتحوَّل في المستقبل إلى نظام عام، تجعل الأمم المتحدة تتدخّل في حياتك في داخل هذا البلد فتفرض عليك هذا القرار وعليك أنت أن تعمل بكلّ جهدك حتّى تستطيع أن تصلح أو تغيِّر. إنَّ حضور الفاتيكان وحضور بعض الدول الإسلامية استطاع أن يؤثّر تأثيراً إيجابياً في هذا المجال.
ولذلك أنا أعتقد أنّ مقاطعة لبنان لم تكن مقاطعة عن اقتناع ولكنّها مقاطعة من أجل مماشاة بعض الدول العربية التي أصبح لها ممثّل في بلدنا.
ـــ لماذا نستسلم للضغوط الأجنبية للاستفادة من خيراتنا؟
من قال بأنَّ علينا أن نستسلم؟ إنّ علينا أن نعمل، أنْ نتوحّد في قضايانا الحيوية وإن اختلفنا في تفاصيل هذه القضايا. القضية ليست أنّ الآخرين أقوياء ولكنَّ المسألة أنّنا ضعفاء. عندما نستضعف أنفسنا فإنَّنا نعطي الآخرين قوّة، فعلينا أن نأخذ بأسباب القوّة ما أمكننا ذلك.
ـــ هل ندعو إلى نظام اشتراكي لتوزيع الخيرات بين البشر؟
مَن قال أنَّ النظام الاشتراكي هو الحلّ الوحيد في هذا المجال؟ علينا أن ندرس المسألة وخصوصاً أنّ التجارب الموجودة، سواء للنظام الاشتراكي أو للنظام الرأسمالي أو للنظام الفوضوي كما هو عندنا، علينا أن ندرس التجربة ويمكن لنا أن نتناقش على أساس التجربة لا على أساس الفكرة الكليّة.
ـــ "لا خير إلاّ ويختزن قدراً من الشرّ والعكس صحيح"، هل هي قاعدة مطلقة؟ وفي أيّ سياق نفهمها؟
هي قاعدة مطلقة في المحدود، لأنَّ المحدودية لا بدّ أن تفقدك الشيء. فإذا خرجنا الآن إلى الفضاء سنجد أنَّ كمية الهواء الموجودة هناك أكثر من كمية الهواء الموجودة في القاعة وكمية الشمس أكثر وكمية الإحساس بجمال الطبيعة أكثر، ولكن كمية الدفء أقلّ أو في بعض الحالات كمية البرودة أقلّ في أيّام الصيف مثلا. وهكذا عندما نبني هذه القاعة فإنَّنا نفقد شيئاً من مستوى النظرة إلى جمال الطبيعة ونفقد الكثير من الهواء والكثير من الشمس، إذاً شمس أقلّ وهواء أقلّ وإحساس بالجمال أقلّ ولكنّه دفء أكثر وبرودة أكثر وحماية أكثر وما إلى ذلك. نحن الآن مثلاً في حياتنا نطلب العلم، نسهر الليل، ندرس، نهاجر، نترك كثيراً من لذّاتنا ولكنَّنا نفقد شيئاً من ضوء عيوننا، نفقد شيئاً من قوّتنا، نفقد شيئاً من لذّاتنا وشهواتنا، لذلك ليس هناك خير إلاّ وفيه شيء من شرّ، لأنَّ المحدودية تعني أنّك تفقد شيئاً ممّا يمكن أن يكون مطلقاً نسبياً هنا ومطلقاً نسبياً هناك.
ـــ صوّرتم في مدخل المحاضرة الضجّة أو الخلافات التي حرَّكها المؤتمر، كما لو كانت محكومة بخلفيات محض فلسفية، نرجو التوضيح؟
طبعاً، لأنَّ هذا المؤتمر انطلق ارتكازاً على قاعدة غربية، أي قاعدة التفكير الموجود في الغرب، وطبيعة الحال إنّهم يفكِّرون في الأشياء من خلال الخلفيّات الفلسفية ـــ وليس بالضرورة بالمعنى المصطلح للفلسفة ـــ بل من خلال كونها نظرة للحياة وللإنسان وما إلى ذلك. فهم يفكِّرون من خلال ذلك، ولا يراعون المعاني الروحية الموجودة في الشرق أو الموجودة في الأديان، حتّى في غير الشرق.
ـــ ركّزتم على الخلفيات السياسية التي كانت تحكم توجُّهات المؤتمر وجاء حديثكم في هذا السياق سياسياً أيضاً، هل من رؤية إسلامية للمشكلة السكّانية في علاقتها بالتنمية؟
أنا لم أُركِّز على المسألة السياسية، نحن لا نريد أن نتحدّث في الخلفيات السياسية ولكنَّ هناك جانباً سياسياً يحكم بعض الدول الكبرى في نظرتهم إلى مسألة السكّان، باعتبار أنّ التنمية عندما تتحرَّك في العالَم الثالث، من خلال استثمار الثروات الطبيعيّة ومن خلال تحقيق الاكتفاء الذاتي فإنَّ من الطبيعي أن يفقد الغرب سوقاً استهلاكية كبيرة، كما يفقد فرصاً كثيرة في استغلال ثرواتنا. وإذا لم تتحقَّق التنمية فستحصل هناك ردّة فعل شعبية، لتواجه الغرب بالثورات وما إلى ذلك ممّا يحدث في عالمنا الثالث.
وقد ذكرنا، بالنسبة إلى النظرة الإسلامية في مسألة المشكلة السكّانية والتنمية، أنَّ الإسلام يشجِّع التوازن في هذا المجال، لأنّه يشجِّع على الأخذ بسنن الكون سواء في المسألة الاقتصادية أو الاجتماعية كما هي في الظواهر الكونية.
ـــ "أسر الدّين" مشكلة نصطدم بها في حال انفتاحنا على الآخرين، فلماذا لا نطلق عنان هذا الدّين، لكي نصل إلى المشروع الذي نطمح إليه نحن كشباب المستقبل؟
هذا سؤال غامض، ما القيد الذي يفرضه علينا الدّين فيمنعنا من الانفتاح على الآخرين؟ إنْ كان المقصود أنَّ علينا أنْ نتخفَّف من الخطوط الدينية حتّى نلتقي مع الآخرين، فيمكن أن نضع في مقابله: إنَّ علينا أن نتخفَّف من خطوط الاشتراكية ـــ إذا كنّا اشتراكيين ـــ لنلتقي مع الآخرين، إنَّ علينا أن نتخفَّف من خطوط القومية، لنلتقي مع غير القوميّين. إنَّ المسألة ليس في أن تخرج أنتَ من فكرك لتلتقي مع الآخرين، بل عليك أن تُقنع الآخرين بفكرك أوّلاً أو تبحث عن نقاط اللّقاء بينك وبينهم. لا ينحصر انفتاحك على الآخرين بأنْ تلغي نفسك، إنَّ اللّقاء مع الآخرين هو لقاء إنسان من خلال عناصره الذاتية في مقابل إنسان آخر. ونحن نقرأ في القرآن: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران : 64] أن نبحث عن نقاط اللّقاء وأعتقد أنَّنا إذا التقينا حول نقاط اللّقاء فإنَّنا نستطيع بعد ذلك أن نتفاهم على نقاط الخلاف. أنْ نناقش خلافاتنا من موقع الوحدة، لأنَّ الإنسان عندما يعيش الوحدة في بعض النقاط فإنّه يعتبر اللّقاء في النقاط الأخرى التي نختلف عليها أمراً واقعياً، لأنَّنا إذا التقينا هنا فهناك إمكانية أن نلتقي هناك.
ـــ في ظلّ الأوضاع الاقتصادية والسياسية العالمية الآن وفي ظلّ سرعة رهيبة في تواتر الأحداث تبرز مسألة مهمّة وهي مشاركة المرأة في القرار السياسي وعملها في التمثيل النيابي والنقابات العماليّة، ما رأيكم من خلال الشريعة الإسلامية في عمل المرأة وخروجها من البيت؟
نحن لا نجد هناك نصّاً إسلامياً حاسماً يمنع المرأة من أن تشارك، لتكون ممثّلة للشعب أو لتكون عضواً في النقابات العماليّة أو في الحركة السياسية العامّة، لكن غاية ما هناك قد يتحدّث الناس عن بعض القيود المفروضة على المرأة، الواقع أنّ المسألة الأخلاقية تنطلق على المرأة والرجل على حدٍّ سواء، ليست لدينا أخلاق للمرأة تختلف عن أخلاق الرجل، وإذا كان هناك حديث عن الحجاب فهو متّصل بالمسألة الأخلاقية في جانبٍ معيّن منها، وأظنَّ أنّ الوقت لا يتّسع لبحث هذا الجانب. في الإسلام ليس هناك أيّ تمييز بين الرجل والمرأة في المسألة الأخلاقية: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور : 2]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة : 38]، {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} [آل عمران : 195].
لذلك المسألة الأخلاقية تحكم سلوك الرجل في السياسة والاقتصاد والاجتماع، كما تحكم سلوك المرأة في هذا الجانب أو ذاك. ونحن نعرف أنّه في إيران، التي هي جمهورية إسلامية يقودها علماء الدّين، هناك نساء يشاركن في مجلس الشورى، كما أنَّ هناك نساء يشاركن في الدوائر وفي كثير من النشاطات الاجتماعية والسياسية وغيرها.
ـــ هل برأيك يجوز إنجاب الأطفال بالأنابيب (طفل الأنبوب)؟
ليس هناك ما يحرّم طفل الأنبوب؛ أي عندما تؤخذ النطفة من الزوج والبويضة من الزوجة ويوضع في الأنبوب وينقل إلى الرحم ضمن تحفُّظات شرعية خاصّة. أصل المسألة من الناحية الشرعية ليس هناك مانع من طفل الأنبوب.
ـــ تقولون إنَّ باستطاعة المرأة استعمال وسائل منع الحمل ولكن في حال حصول الحمل، لا يجوز برأيكم الإجهاض؟
نعم، أنا أقول ذلك، لأنَّ هناك طرفاً ثالثاً وهو الحمل، إنَّ المرأة لا تملك حريّتها بعد أن تحمل. تملك حريّتها في أن لا تحمل، كذلك المرأة قبل أن تتزوَّج هي تملك كلّ حريّتها أمام أي شخص ولكنّها عندما تتزوّج فلا بدّ أن تلتزم بشروط التعاقد الزوجي. والرجل كما المرأة في هذا المجال، وهناك كلمة للإمام عليّ (عليه السلام): "الكلام في وثاقك فإذا تكلَّمت به صرت في وثاقه". المسألة هي أنَّ كلماتنا تحكمنا كما تحكمنا أعمالنا. عندما ننطلق في عمل ينتج شيئاً فعلينا أنْ نتحرَّك من خلال ذلك الإنتاج لندرس حريّتنا في مواجهته.
ـــ إذا أراد الأهل الاكتفاء بأربعة أولاد أو خمسة نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة والمورد المادي الذي بالكاد يكفي حاجة الموجودين فهل يجوز...؟
قلنا إنّه يجوز بالوسائل الشرعية لمنع الحمل.
ـــ في حال كان الحمل نتيجة علاقة غير شرعية، هل يجوز للمرأة الإجهاض، باعتبار أنّ احتفاظها بالجنين يشكِّل عليها خطراً من المجتمع؟
هناك نظريّات فقهية تقول: إنَّ المرأة عندما يكون حملها غير شرعي تحت الضغوط يشكِّل خطراً على حياتها، كما لو كانت تعيش في مجتمع عشائري يمكن أن يقتلها، في هذه الحالة يمكن في الشهور الأولى أن تجهض نفسها، أمّا بعد نفخ الروح ـــ كما هو التعبير الفقهي ـــ فلا يجوز ذلك، لأنَّ الإسلام يحترم حياة الولد غير الشرعي، كما يحترم حياة الولد الشرعي.
ـــ هل هناك كلام موجَّه لطبقة المثقّفين وكلام آخر موجَّه لعامّة الناس، لأنَّ الكلام الذي سمعناه منكم كلام مقنع وعقلاني. إنَّما نسمع كلاماً آخر من رجال دين آخرين، يختلف تماماً خاصّة في المسائل الفقهية وبالأخص في مسألة منع الحمل والإجهاض وغيره، وأنا عندي رزنامة دينيّة قرأت مسألة فقهية في هذا الحديث الذي نتداوله وكان التفسير يختلف تماماً عن الأمر الذي سمعناه؟
لا أريد أن أُعلِّق على آراء العلماء الآخرين، لا أحبّ أن أستعمل صفة رجل الدين، لأنَّ كلّ إنسان رجل دين. الدين ليس له طبقة مميّزة، كلمة رجل الدين منطلقة من حالة كهنوتيّة ونحن في الإسلام كلّنا ـــ كمسلمين ـــ رجال دين ونساء دين ـــ إذا صحَّ التعبير في هذا المجال ـــ يمكن أن نقول علماء دين، نحن لا نريد أن نحوِّل علماء الدين إلى طبقة كهنوتية، تنظر إلى الناس من فوق وتتمتَّع بامتيازات خارج نطاق علمهم وإنسانيّتهم، لكنّي أحبّ أن أقول لو أنَّكِ تستمعين إلى محاضراتي في المسجد وخطب الجمعة ـــ لا أريد أن أعمل دعاية ـــ عندي درس تفسير كلّ مساء ثلاثاء يُذاع من إذاعة (صوت الإيمان) على الهواء وفيه أسئلة وستستمعين أكثر من هذا الحديث، وربّما أنا أعاني في مجتمعي من بعض الأفكار التي لا يألفها المجتمع. لذلك أنا أعتقد أنّ كلامي مع المثقّفين لا يختلف عن كلامي مع غيرهم سواء كانوا عمّالاً أو فلاحين أو غير ذلك، لأنّي أحترم الإنسان كلّه ولذلك أريد الحقيقة التي أؤمن بها أن تصل للإنسان كلّه.
ـــ مولانا، يفتّش الإنسان ليختلف معك.
أنا جداً يهمّني أن تختلف معي، حتّى تغنيني بخلافك.
ـــ حقيقة أنا أُشاطرك الرأي حول 90% من محاضرتك حول السّكان والتنمية، أريد أن أقول إنَّ مؤتمر التنمية والسّكان أتى من ظروف محدَّدة عالمياً، هناك نظام عالمي واحد وهناك تقريباً إملاء لسياسات معيّنة، كان من الممكن أن تختلف طروحاته في ما لو كنّا ما زلنا في نظام العالمين. وأنا شخصياً أؤمن بالكثير من المبادئ الاشتراكية، لأنَّني أرى فيها كثيراً من العدالة والتوزيع الأفضل للدخل..
المسألة الثانية: نعرف من التجارب أنّ طروحات التنمية في هكذا مؤتمرات ليس فيها شيء زجري وقتلي لسياسات الدول، في حين يجري على المستوى العربي، مثل سياسات البنك الدولي، يجري إملاء سياسات أخطر بكثير على دول العالم الثالث، بما فيها قضايا تجبرهم بطريقة غير مباشرة على تنظيم أمورهم بالنسل وغيرها.
المسألة الثالثة والأخيرة، أنا من الذين يؤمنون بالعلمنة، لكن ليست العلمنة بالمفهوم الذي ذكر الآن، فهل هناك من خير في فصل الدّين عن الدولة في لبنان أم لا؟
النقطة الأولى: أوّلاً أنا لا أشجّع إطلاقاً هذه التسمية تسمية النظام العالمي الجديد، هناك واقع عالمي جديد، النظام العالمي كمصطلح يحتاج أن يكون له قواعده وعناصره. هناك واقع عالمي جديد، النظام العالمي كمصطلح يحتاج أن يكون له قواعده وعناصره. هناك واقع عالمي جديد، ينطلق من أنّ هناك قوّة عالمية أصبحت في موقع أكبر للقوّة ممّا كانت عليه، عندما كانت هناك تعدُّديّة عالمية. قرأت مرّة أنّ محمّد حسنين هيكل يقول: أنا ذهبت إلى أكثر من مكان في العالم، وما رأيتهم يردِّدون كلمة النظام العالمي الجديد إلاّ في البلدان العربي، البلاد العربية بمناسبة وبغير مناسبة يتحدّثون عن النظام العالمي الجديد.
لكنْ أتصوَّر، أنّه لو فرضنا وجود تعدُّديّة، لا أظنّ أنّ القضية كانت تختلف كثيراً، لأنَّ المفاهيم التي طُرِحت وأثارت الكثير من الجدل لا أظنّ أنّها تختلف بين النظام الرأسمالي وغيره. نعم النظرة التي تحدّثنا عنها هي قضية مصادرة الدول الاستكبارية مثلاً لثروات الشعوب، هذه يمكن أن تختلف وتتوقَّف عليها مسألة التنمية.
وأمّا مسألة أنّه ليس ملزماً، الواقع أنّه لو قُرِّرَ هذا بشكلٍ حازم لكان من قوانين الأمم المتحدة التي يمكن أن تشكِّل عنصر ضغط، تتدخَّل فيها الأُمم المتّحدة لتفرض هذا الشيء بطريقة أو بأخرى على هذه الدولة أو تلك، كما هي مسألة حقوق الإنسان والتمييز العنصري وما إلى ذلك، ومثل مقاطعة هذه الدولة أو تلك كمقاطعة افريقيا مثلاً والعراق وليبيا، فالقوانين التي تصدر عن الأمم المتحدة سوف تتحوَّل إلى قوانين ملزمة، بشكل يكون فيه فرض الحصار على الدول فرضاً شرعياً.
أمّا حكاية فصل الدين عن الدولة، فأين هو لقاء الدين بالدولة في لبنان؟ هناك الأحوال الشخصية، هل يوجد غيرها؟ نعم الطائفة ليست مفصولة عن الدولة أمّا الدين في لبنان فهو مفصول عن الدولة. حتّى نظام الأحوال الشخصية الموجود في القانون اللبناني علماني، غاية الأمر أنّه يمكن للإنسان أن يأخذ بالأحوال الشخصية في المحاكم الشرعية. يبقى الزواج المدني، هذا هو عروس الشعر الذي دائماً يُطالَب بها، وهي أنّ البعض يقول إنّ الزواج المدني لا بدّ أن يكون اختيارياً. فقضية فصل الدين عن الدولة موجودة في لبنان. والمشكلة الموجودة إذا كان يُقصَد أنّ لبنان فيه أحوال شخصية دينية، فهل مشكلة لبنان أنّ المسلمة لا تتزوّج مسيحياً أو المسيحي لا يتزوّج غير المسيحية وهكذا؟ هل مشكلة اللبنانيين أن يتزوّج الإنسان زواجاً مدنياً أو عند الكاهن أو عند الشيخ؟ كثير من الناس يذهبون إلى قبرص ويتزوّجون فلم تحل مشكلة لبنان بهذه الطريقة. هذا نوع من تصغير المشكلة اللبنانية وتحجيمها في الواقع.
ـــ عندي تعليق على العلمانية، نحن نعتقد أنّ العلمانية صيغة لا يمكن فهمها إلاّ في الغرب، لأنَّ العلمانية نشأت في الغرب كردّ على المسيحية ـــ ودون أن نطيل الشرح ـــ هذه مسألة مهمّة جداً بالنسبة إلى معايير الحياة المتعلّقة بالولادة والجنس والعلاقات الجنسية، والمسيحية مختلفة جداً عن الإسلام في هذا الإطار. والعلمانية كانت ردّة فعل ضدّ أي تحريم للّذة خارج إطار الزواج وتحديد العلاقات الجنسية بشكلٍ صارم ومنع اللّذة وتحديد أُطر الزواج هو الذي أدّى إلى التفلُّت، أمّا في الإسلام فشيءٌ آخر لا يمكننا أن نفصل الدين عن الدولة ولا نفصل الجنس عن الزواج، فلا يمكن لنا أن نستورد الأفكار ونسحب الأفكار المسيحية والعلمانية على الإسلام. من الممكن أن يكون هناك مشاكل في الإسلام ولكن يجب أن ندرس أصول هذه المسألة من بدايتها.
في الواقع، العلمانية تنطلق من عزل الدين عن الحياة، لماذا يُعزَل الدين عن الحياة من خلال تجربة دينية معيّنة لمصلحة فكرة أخرى معيّنة مثلاً. طبعاً نحن قلنا في الإسلام دين مدني فمعناه لا نستطيع أن نفصله عن الدولة، لأنَّه يمثّل نظام الدولة. عندما يكون هناك قانون فلا يمكن أن تؤمن بالقانون ولا تؤمن بدولة تطبّق هذا القانون.
ـــ في البداية أُرحِّب بسماحة العلاّمة فضل الله في معهدنا، معهد العلوم الاجتماعية، وهو أحد الأمكنة القليلة في لبنان التي ما زالت تسبح ضدّ التيّار الجارف وما زالت تطرح هموم الفهم والتفسير عليها. في الحقيقة قبل طرح السؤال، لا بدّ من رسم السياق الذي أنتج السؤال ودفعي إلى طرحه، وأبدأ بالإشارة إلى الواقع التالي اللافت للنظر، حين تجتمع الهيئات والمؤتمرات الدولية، لتعالج المسائل المتعلّقة ببلداننا العربية وبالبلدان الشبيهة بها، فإنَّها تفصل ذلك على أساس المنهج القائم على عزل عاملي السّكان والإنتاج والمقارنة بينهما أساساً للمعالجة وركيزة وحيدة لها.
أمّا حين تجتمع الهيئات والمؤتمرات الدولية، لتعالج المسائل المتعلّقة بالبلدان الرأسمالية الغربية فيغيب هذا المنهج كليّاً والخلاف لا يدور في هذه المؤتمرات والهيئات على قاعدة عاملي السّكان والإنتاج والمقارنة بينهما وإنّما يدور حول الأزمة البنيويّة التي تنتج الخلل في التوازن المفترض بين عاملي المال والسّكان.
وهكذا بالرغم من ملايين العاطلين عن العمل في البلدان الرأسمالية الغربية وبالرغم من البطالة الشديدة التي تعيشها أسواق عملها فنحن لا نجد مؤتمراً دولياً واحداً أو هيئة دولية واحدة أو قمّة واحدة من قمم رؤساء الدول الصناعية تقع ـــ بمعالجتها لوضع تلك البلدان ـــ أسيرة الفهم الذي يكتفي بالمقارنة بين حجم السّكان وحجم الإنتاج بعد عزلهما. وكأنَّ الهيئات والمؤتمرات الدولية قد خصّصت بلداننا بهذا المنهج في الرؤية إلى الفهم وإذا كنّا لم ندرِ وظيفة هذا التخصيص فينبغي أن ندريه وأن نعيه.
أمّا إذا حملنا هذا الواقع اللافت للنظر ـــ الذي نشير إليه ـــ وأتينا به إلى مؤتمر القاهرة الدولي للسّكان فماذا نجد؟ لقد كانت حدّة المواجهة السياسية مرتفعة جداً في المؤتمر، فقد جرت المواجهة السياسية داخل المؤتمر وحول المؤتمر وقبل المؤتمر وفي مناسبة انعقاد المؤتمر. وقد اتّخذت المواجهة السياسية أشكالاً متعدّدة تقاطعت عند رفض النمط الغربي الذي يحاول منظّمو المؤتمر أن يفرضوه على مجتمعاتنا عن طريق الحدّ من الولادات والإجهاض والشذوذ الجنسي. ولكن في مقابل حدّة المواجهة السياسية، وإذا وضعنا المواجهة السياسية جانباً للحظة، يبقى لدينا أنّ الحقل النظري الذي جرت فيه المواجهة السياسية كان حقلاً نظرياً واحداً، وهذا ما أتاح التوصّل في نهاية المؤتمر إلى تسوية تحمل الطابع السياسي، أكثر ممّا تحمل الطابع النظري. لقد جرت المواجهة السياسية في حقل نظري ومنهجي واحد وبقي المؤتمر أسيراً لتقسيم الفكر الدولي الذي أشرنا إليه قبل قليل. ولا ينتقل النقاش إلى حقل نظري ومنهجي مختلف، كما يمكن للبعض أن يظن، عن طريق مواجهة تركّز على الأمور التالية:
ـــ التشديد على دور التقدُّم العلمي والتكنولوجي في جعل الإنتاج يتضاعف عشرات أو مئات المرّات والقول بالتالي أنّ المشكلة ليست سكّانية.
ـــ التشديد على عدم وجود عدالة في توزيع الموارد والثروات والقول بالتالي أنّ المشكلة ليست سكّانية.
ـــ الوقوف في وجه من يرى في التزايد السّكاني متغيّراً مستقلاً وفي النمو الاقتصادي متغيّراً تابعاً وقلب الوجهة، واعتبار النمو الاقتصادي متغيّراً مستقلاً والتزايد السّكاني متغيّراً تابعاً.
إنَّ هذا النوع من النقاش يدور ضمن النموذج النظري الواحد، حيث يكون عزل السّكان والإنتاج في جميع الحالات السابقة عزلاً لهما عن سياق بنيوي واحد، يحدّد العاملين المعزولين معاً، كما يحدّد التوازن أو عدم التوازن بينهما. وإنّ أقصى ما يمكن لهذا النمط من المواجهة أن يصل إليه هو وضع إمكانية الحدّ من الولادات وإمكانية زيادة حجم الموارد الاقتصادية، وإمكانية العدالة في توزيع الثروات على قدم المساواة النظرية. وفي هذه الحالة، يكون الخلاف منحصراً في اختيار إمكانية بين إمكانيات نظرية متاحة وموجودة كلّها على قدم المساواة النظرية، ولا يبقى في هذه الحالة أيضاً إلاّ الخلاف السياسي بين الخيارات السياسية التي تحصل في الإطار العام من التوافق النظري والمنهجي، فهل كان الوضع كذلك في مؤتمر القاهرة؟ وهل كان الخلاف في المؤتمر سياسياً ويدور في إطارٍ عام من التوافق النظري والمنهجي أم أنّ الخلاف في الخيارات السياسية يتضمَّن اختلافاً في النظرية والمنهج؟ وأين يكمن الاختلاف النظري والمنهجي بالتحديد في ما يتعلّق بالمسألة السّكانية؟ هل هو في المشروع الحضاري وأين موقع المسألة السّكانية من المشروع؟
أشكرك على هذه المداخلة، ولكن أحبّ أن أقول: من الطبيعي أنّه ما من مشروع يُطرَح في أكثر المؤتمرات التي تشرف عليها الأمم المتحدة أو كثير من المنظّمات الإقليمية، إلاّ وله بعد سياسي أو خلفية سياسية. ومن الطبيعي أنّه ما من بعد سياسي أو اقتصادي، إلاّ وينطلق من نظرية شاملة لها قاعدتها الفلسفية ولها امتداداتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لذلك نحن كنّا ننظر إلى هذا المؤتمر بشيءٍ من الحذر ولكنّ التعبير عن هذا الحذر لا يحلّ مشكلة، عندما يكون هذا المؤتمر مشتملاً على كثير من القضايا التي لا بدّ من معالجتها. نحن لا نؤمن بالتجزيئيّة في دراسة أيّ وضع اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي، أو لا نؤمن بأن يكون كلّ موضوع مستقلّ في نفسه، لذلك فإنَّ قضية ارتباط موضوعات المؤتمر أو ارتباط القضايا التي أُثيرت في المؤتمر في نظرة شاملة تختزن في داخلها بعض الأبعاد السياسية، هذا شيء أساسي جداً كما أنّه من الطبيعي أن يكون المنهج ـــ إذا صحّ التعبير ـــ الرأسمالي في التفكير يختلف عن المنهج الاشتراكي، والمنهجان يختلفان عن المنهج الوسطي في هذا الموضوع.
لكن نحن كنّا نريد أن نعالج علاقة السّكان بالتنمية، أمّا علاقة توزيع السّكان وتوزيع التنمية وبعدهما السياسي والخلفيات والامتدادات هنا وهناك، في تصوّري لم تكن القضية مطروحة من هذا الجانب وإنْ كان من الممكن أن تطرح عندما يُراد دراسة المسألة من الناحية الشمولية. عند ذلك يقتضينا أن ندرس كلّ عنوان من عناوين المؤتمرات؛ ندرس النظرية الاشتراكية والرأسمالية والنظريات الأخرى، حتّى نربط هذا الرأي بهذا، وذاك بذاك، أعتقد أنّ الجماعة كلّهم فارغون عن الجانب الأيديولوجي في هذه المسائل وإنَّما يتكلَّمون بالمفردات التي تلحق كلّ واحدة منها أيديولوجيّتها.
(*) المقابلة التي أجراها تلفزيون المنار مع سماحة آية الله العظمى السيّد محمّد حسين فضل الله في برنامج "مرايا الأحداث" بتاريخ 2/1/1995.
مسجد في الضاحية الجنوبية لبيروت، يؤم فيه سماحة آية الله العظمى السيّد محمّد حسين فضل الله المصلِّين.(1)
"اليوم المفتوح" هو تقليد سنوي في الجامعة الأميركية في بيروت يسمح فيه للشباب بزيارة الشّابات في مساكنهنَّ الجامعية في الحرم الجامعي نفسه.(1)
موعد إسقاط الحكومة اللبنانية التي كان يترأسها الأستاذ عمر كرامي.(1)
(1) الحقيقة العلمية غير النظرية العلمية. فالإسلام لا يختلف مع الحقائق العلمية بل هو أكَّد وأرشد إلى العديد منها منذ نزل الوحي إلى اليوم، لكنَّ الإسلام لا يؤوّل نصّه بما يتوافق مع النظريات العلمية قبل أن ترتقي هذه النظريات إلى مراتب الحقائق العلمية التي لا ينافيها الإسلام.
وسائل الشيعة: ج1، باب2، ص21، رواية8.(1)
(*) أجرى الحوار محمود سويد بتاريخ 16 و17 أيار/مايو 1995.
مجلة الدراسات الفلسطينية/ العدد 23/ صيف 1995.
(1) اقتطعنا من هذه المقابلة ما له صلة بحياة آية الله العظمى الشخصية لأنَّ المعلومات الواردة فيها سبق أن تناولتها مقابلة تلفزيون المنار بشيءٍ من التفاصيل.
ابن أبي حديد: شرح نهج البلاغة، ج:16، باب:31، ص:93.(1)
الشاهد ـ العدد 85 ـ أيلول 1992.(*)
الحوادث ـ الجمعة 18 آب 1995 ـ العدد 2024.(*)
(1) لقد جرت محاولات حقيقية من قِبَل مدبّري هذه العمليات لإلصاق التهم بالمسلمين، إلاَّ أنّ الحقيقة قد ظهرت بعد أن كشف القضاء اللبناني عن الجناة والمتورّطين.
مقابلة مع جريدة السفير بتاريخ الاثنين 19 حزيران 1995، العدد 7109، السنة الثانية والعشرون.(*)
(*) المحاضرة التي ألقاها سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله في كليّة الآداب والعلوم الإنسانية ـ البقاع بدعوة من مجلس فرع الطلاب بتاريخ 5/5/1994.
(*) كيهان العربي ـ العدد 2402 ـ 22 محرّم 1415 هــ ـ 2 تموز 1994م.
(1)إشارة إلى التفجير الذي تعرّضت له كنيسة "سيّدة النجاة" في شرق بيروت وذهب ضحيّته عدد من القتلى والجرحى وأشارت أصابع الاتهام في هذا التفجير إلى "القوات اللبنانية" المحظورة التي يتولّى قيادتها سمير جعجع.
(*) المقابلة التي أجرتها مجلة "شؤون الأوسط" مع سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله بتاريخ 5 كانون الأول 1992. حاوره انطوان حدّاد وفارس أبي صعب وميشال نوفل.
(1) البحار، ج:44، ص:139، رواية:6، باب:22.
(1) البحار، ج:28، ص:111، رواية:3، باب:3.
(1) ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة، ج:11، باب:209، ص:98.
(*) المحاضرة التي ألقاها سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله في نادي خريجي الجامعة الأميركية ـ بيروت 12 تموز 1993.
(1) البحار، ج:97، ص:91، رواية:82، باب:1.
(*) السبيل ـ عمان ـ العدد:56ـ22 تشرين الثاني 1994م.
(1) الوسائل، ج:11، باب:12، ص:424، رواية:1.
(1) بحار الأنوار، العلامة المجلس، ج:2، ص:242، رواية:37، باب:29.
(*) ـ العهد ـ 1994.
(*) رسالة الثقلين العدد:10 ربيع الثاني ـ جمادى الثانية 1415هـ.
(1) راجع: بحار الأنوار، ج:43، ص:318، باب:13، رواية:2.
(1) انظر، بحار الأنوار، ج:45، ص:129، رواية:1، باب:39.
(1) انظر، م.ن، ج:43، ص:343، رواية:16، باب:16.
(1) الكليني، أصول الكافي، ج:2، ص:44، رواية:2.
(1) راجع بحار الأنوار، ج:66، ص:168، رواية:4، باب:32.
(1) بحار الأنوار، ج:68، ص:213، رواية:8، باب:66.
(1) بحار الأنوار، ج:72، ص:213، رواية:10، باب:64.
(1) م.ن، ج:23، ص:13، رواية:12، باب:1.
(1) هو المرحوم آية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر، في كتابه: "أهل البيت (عليهم السلام): وحدة في الأهداف وتنوُّع في الأساليب".
(1) بحار الأنوار، ج:45، ص:83، رواية:10، باب:37.
(1) بحار الأنوار، ج:2، ص:178، رواية:28، باب:23.
(1) الكافي، ج:2، ص:74، رواية:3.
(2) بحار الأنوار، ج:10، ص:432، رواية:12، باب:26.
(3) م.ن، ج:23، ص:105، رواية:3، باب:7.
(*) العهد ـ27 رجب 1415 هـ ـ 20 كانون الأول 1994م.
(1) البحار، ج:46، ص:73، رواية:58، باب:5.
(1) البحار، ج:64، ص:362، رواية:67، باب:14.
(*) ألقيت بتاريخ 26/1/1995.
(1) البحار، ج:1، ص:85، رواية:7، باب:1.
(*) النهار ـ الخميس 27 تموز 1995 ـ السنة 62 ـ العدد 1994.
(1) البحار، ج:55، ص:355، باب:13.
(*) الكلمة التي ألقاها سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله في الندوة التي أقامها مركز الشهيد السيد محمد باقر الصدر الثقافي ـ بيروت ـ قاعة الجنان في ثانوية البتول بتاريخ 20/3/1994 .
(*) نصّ الكلمة التي ألقاها سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله، في الذكرى السنوية الأولى لوفاة أحد تلامذة السيّد محسن الأمين، خطيب المنبر الحسيني، الشيخ عباس قاسم شرف.
(1) العلاّمة المجلسي، البحار، ج:74، ص:230، رواية:2، باب:8.
(1) البحار، ج:23، ص:13، رواية:12، باب:1.
(1) م.ن، ج:20، ص:160، رواية:10، باب:21.
(2) م.ن، ج:46، ص:73، رواية:58، باب:5.
(1) ابن أبي حديد، شرح نهج البلاغة، ج:6، باب:73، ص:166.
(2) م.ن، ج:17، باب:62، ص:151.
(1) البحار، ج:23، ص:163، رواية:118، باب:7.
(2) م.ن، ج:40، ص:149، رواية: 54، باب:93.
(1) نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج:1، د باب:11، د ص:241.
(*) السياسة ـ العدد:9370 ـ 6 ربيع الآخر 1415 هـ/ 12 أيلول 1994م.
(1) الحديث هنا كان قبل إجراء الانتخابات النيابية في "إسرائيل" وفوز بنيامين نتنياهو على بيريز. وكذلك قبل إعادة انتخاب الرئيس الأميركي بيل كلينتون لولاية ثانية.
(*) المحاضرة التي ألقاها سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله في معهد العلوم الاجتماعية ـ الجامعة اللبنانية ـ الفرع الأول ـ بتاريخ 12 كانون الأول 1994م.