آية الله العظمى
السيّد محمد حسين فضل الله
في رحاب
أهل البيت (عليهم السلام) 1
الجزء الأوّل
إعداد: سليم الحسيني
دار الملاك
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الرابعة
1425 هــ ـــ 2005م
دار الملاك للطباعة والنشر والتوزيع ش.م.م
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة الطبعة الثانية
يمثّل أهل البيت (عليهم السلام) في المفهوم الإسلامي قيمة إنسانية وإسلامية كبرى، وتسمو هذه القيمة في الوجدان الإسلامي ـــ الشيعي إلى مرتبة القداسة المستمدّة من مقامهم المعصوم وتكريم الله سبحانه وتعالى لهم، والذي تجلّى في تحمّلهم أمانة الحفاظ على الدين والاستقامة على نهج الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
وتشهد سيرة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) أنّهم كانوا القرآن الناطق، فحمل قولهم وفعلهم وتقريرهم معاني كبيرة ودلالات غنيّة وإيحاءات خصبة تبقى ما دام الزمن حقلاً واسعاً يذخر بكنوز عظيمة، الأمر الذي يلقي على عاتق العلماء والمفكّرين مسؤولية دائمة لاستثمارها في تكوين الرؤية وتصويب الموقف ونصب المعايير الحاكمة في ميزان التقويم والتقييم.
انطلاقاً من هذه النظرة لموقع أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم، أنشأ سماحة آية الله العظمى السيّد محمّد حسين فضل الله (رضوان الله عليه) خطاباً مميّزاً حول أئمّة الهدى (عليهم السلام) نستهدي به في تأسيس العقيدة وبناء التشريع، ونستلهمه في صياغة الشخصية وتكاملها المعنوي والروحي، ونتعلَّم منه أسلوب الدعوة والحوار وكيفية خوض الصراع وتحمّل الشدائد والصبر على التحدّيات، وكلّ ذلك قائم على ركائز حكيمة تقدّم سيرتهم (عليهم السلام) كنموذج للأسوة الحسنة والقدوة القائدة حتّى لا تتجمَّد في التاريخ، بل لتتحوّل إلى مفاهيم وخطط عملية ترسم معالم الطريق وتوجّه حركة الواقع.
وما أحوجنا في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ أُمّتنا إلى التعلُّم من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، والذي ينتمي هذا الكتاب "في رحاب أهل البيت (عليهم السلام)" وبجدارة إلى أبرز صفوفها، فهو يعلّمنا أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أو الإمام (عليه السلام) أو الزهراء (عليها السلام) ليسوا كلمة نهتف بها، بل رسالة نعيشها وموقفاً نلتزمه ونوراً نستضيء به في مواجهة جحافل الظلم والكفر والجهل المطبقة على الأُمّة، وفي الواقع، فإنَّ من لا يفهم التشيّع وفق هذه الصورة، فقد أخطأ الطريق وأضلّ الهدف.
وهذه الطبعة الثانية للكتاب تأتي مع بعض الإضافات، التي وإنْ نشرت سابقاً في أماكن متفرّقة، فإنَّ ضمّها إليه، لأنَّها تنتمي إلى الموضوع نفسه ومتناسبة معه مضموناً وشكلاً.
وإذا كانت هذه الإضافات استهدفت توسيع دائرة معارفنا بعظمة هذه الشخصيات، فإنَّها رمت أيضاً إلى إلقاء المزيد من الحجج التي لا تبقي عذراً لأحد لم تتوفّر له القراءة الوافية لما يطرحه سماحته من أفكار ومواقف، وهو ما يجنّبه الوقوع أسيراً في فخّ افتراءات الأجهزة المخابراتية التي تستهدف النيل من مقام علمائنا وفقهائنا الأبرار، رغم أنَّ الصوت الإلهي الهادر {اقْرَأْ} [العلق:1] أوّل ما أطلقه الوحي، لكنَّه لم يَلْقَ من أُمّة القرآن الاستجابة المطلوبة.
الناشر
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدّمة
حفظ لنا علماء الشيعة منذ القرن الأوّل الهجري تراث أهل البيت (عليهم السلام)، رغم الصعوبات المتنوّعة التي كانت تفرض على التدوين التاريخي من قبل الحكَّام. ومع ضياع قسم كبير من المدوّنات التاريخية ذات القيمة العالية في مجالات السيرة والتاريخ ـــ إضافة إلى الحقول المعرفية الأخرى ـــ إلاَّ أنَّ ما وصل إلينا من تراث يُعدّ كمّاً ضخماً يغطي مساحات واسعة وأساسية من تاريخ أهل البيت (عليهم السلام).
وقد بذل علماء الشيعة على امتداد التاريخ جهوداً علمية جبّارة من أجل استنطاق سيرتهم المعصومة، وتأصيل المفاهيم الإسلامية التي حرَّكوها في الحياة الإسلامية العامّة، بحيث شكَّلت الكتابة عن أهل البيت (عليهم السلام) تراثاً هائلاً تميّز بالعمق والأصالة والشمولية.. وساهم في إثراء الفكر الإسلامي في مختلف المجالات المعرفية.
وإذا ما تأمّلنا النشاط الشيعي في مجال الكتابة، فإنَّنا نلاحظ أنّ أهل البيت (عليهم السلام) كانوا العنوان الأكثر تداولاً في الدراسة والبحث والتحقيق، وليس ذلك منطلقاً من حالة طائفية، إنَّما هو محاولة لطرح المفهوم الإسلامي وتعميقه في عالم المسلمين، فأهل البيت (عليهم السلام) هم الأُمناء على الرسالة... الأدلاّء على دين الله، لذلك فإنَّ دراسة حياتهم وسيرتهم، إنَّما هي دراسة الإسلام في عقائده ومفاهيمه.
وعلى هذا الأساس لا نجد على امتداد فترات التاريخ، أنَّ هناك جيلاً من الأجيال لم يتناول سيرة أهل البيت (عليهم السلام) في نتاجه الثقافي. هذا إضافة إلى المجال الأدبي حيث القصائد الشعرية الرائعة التي أغنت مجال الأدب من خلال استعراضها لجوانب مختلفة من تاريخ أهل البيت وسيرتهم العطرة.
وقد بدأت النتاجات الشيعية في دراسة سيرة أهل البيت (عليهم السلام) بالتسجيل التاريخي، وهو ما نلاحظه في أقدم النصوص المدوّنة التي وصلتنا، مثل كتابات أبي مخنف لوط بن يحيى (المتوفّى سنة 157 هــ)، ونصر بن مزاحم المنقري (المتوفّى سنة 212 هــ). حيث كانت تعتمد هذه الكتابات على التجميع الروائي، أو ما يمكن أن يصطلح عليه أيضاً بعملية تشكيل التاريخ الخاص لأهل البيت (عليهم السلام).
وقد تميّزت الكتابات القديمة بأنّها كانت في معظمها تركّز على جانب من حياة كلّ إمام، مثل كتب الوقائع والمغازي... كما كتبت وعلى نطاق محدود كتب المناقب والفضائل، وذلك لأنَّ طبيعة الحكم الأموي كانت تمنع انتشار مثل هذا النشاط، وتعرّض مصنّفيها إلى السجن والقتل.
ثمّ واصل رجال الشيعة بعد ذلك جهودهم التاريخية حول أهل البيت، فكانوا يعتمدون تجميع الروايات التي وصلتهم من خلال المدوّنات والأحاديث المنقولة، وإعادة كتابتها كسيرة خاصّة لكلّ إمام.
وقد تحوَّل هذا النمط من الكتابة إلى منهج عام انتمى إليه معظم النتاج الشيعي وصولاً إلى مرحلتنا الحاضرة. وكان من الطبيعي أن يزداد حجم التأليف كلَّما تقدَّم الزمن، باعتبار أنّ النتاجات السابقة ستتحوّل إلى مراجع تاريخيّة يعتمدها الجيل اللاحق. كما كان من الطبيعي أن يحتضن هذا الجهد منهجية التوثيق التي كانت تفرضها اعتبارات الأمانة العلمية، بعد أن دخلت المختلقات والموضوعات في التراث الإسلامي نتيجة دوافع عديدة.
وقد حقَّق هذا المنهج من الكتابة خدمة جليلة لتاريخ أهل البيت (عليهم السلام)، فهو من جهة حفظ تراثهم الضخم، ومن جهةٍ أخرى شكَّل مصدراً تاريخيّاً هامّاً لكلّ البحوث العلمية التي ظهرت في الفترات المتأخّرة.
إنَّ طبيعة الكتابة وتأسيس مناهج البحث، تتأثَّر إلى حدٍّ بعيد بالظروف العامّة التي تحيط بالنتاج، كما أنَّها تحقّق التطوّر المطلوب والخدمة العلمية إذا كان صاحب النتاج ينطلق من خلال نظرية واضحة ومشروع محدَّد يسير وفق منهجيّته.
ومن هنا نلاحظ أنّ المرحلة المعاصرة شهدت محاولات علمية جادّة ومؤثّرة في منهج دراسة أهل البيت (عليهم السلام)، حيث انطلقت من المادّة التاريخيّة الضخمة لتراث الأئمّة، باتّجاه تأسيس نظريّات علمية خاصّة حول سيرتهم وحياتهم وتجاربهم. وبذلك لم يعد السَّرد التاريخي وَحْدَهُ هو الذي يشغل الكتاب الشيعي ـــ مع التأكيد على أهمية هذا الجانب ـــ بل ظهرت مناهج استنطاق المادة التاريخيّة بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث.
وقد ساهمت هذه المنهجية في ظهور كتابات معاصرة لها قيمة علمية عالية، من خلال كونها حاولت إعادة تفسير الحدث التاريخي وفق رؤية جديدة... أعطته أبعاداً أخرى لم نقرأها في النصوص القديمة، مع محافظتها على الواقعة، والالتزام بالمعلومة التاريخية الموثقة. وبذلك أصبحت هذه النتاجات متحرّكة في حياتنا العامّة بصورة أغنت الساحة الثقافية، إلى جانب كونها قدَّمت أبعاداً جديدة من تجارب أهل البيت (عليهم السلام)، يجد فيها القارئ والدَّارس أنَّ سيرة أهل البيت (عليهم السلام) لا تزال ممتدة في واقعه.
وفي هذا السياق نلاحظ المشروع الرائد الذي قدّمه السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر حول الترابط الاجتماعي في حياة الأئمّة (عليه السلام)، والذي طرحه في سلسلة محاضراته التي طبعت فيما بعد تحت عنوان (أهل البيت تنوُّع أدوار ووحدة هدف).
كما أنَّ العلاّمة السيّد مرتضى العسكري قدَّم نظريّته في هذا المجال على أساس وحدة الدور العام للأئمّة في إحياء سنّة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ومواجهة التحريف الذي تعرّضت له بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وقد طرح العلاّمة نظريّته هذه منذ أكثر من نصف قرن، في كتاباته العلمية الرائدة، ثمّ كثّفها في سلسلة محاضراته التي طبعت تحت عنوان (دور الأئمة في إحياء السنّة).
ومنذ منتصف هذا القرن الميلادي، طرح آية الله العلاّمة السيّد محمّد حسين فضل الله، المنهج الحركي؛ وينطلق هذا المنهج من أجل توظيف سيرة أهل البيت بما يخدم واقع المسلمين، وتحريك مضامين ودلالات المواقف التي سجَّلوها (عليهم السلام) في مختلف الأجواء والحالات، بحيث تعالج الإشكالات الاجتماعية والثقافية والعملية التي يعيشها المسلمون حاضراً. وقد طرح آية الله السيّد فضل الله، الفكر الحركيّ في الساحة الثقافية من أجل التصدّي لتيّار الماركسية والعلمانية الذي كان يغزو الساحة يومذاك، ومن أجل تقديم المنهج العملي للعاملين في طريق الإسلام.
وفي الحقيقة فإنَّ المنهج الذي اعتمده السيّد العلاّمة، يأتي كجزء ثابت من مشروعه الإسلامي في التثقيف الحركيّ الشامل، وفي المعالجة الحركية للواقع الإسلامي، بالاستناد إلى حقائق التاريخ الإسلامي ومفاهيم العقيدة الإسلامية.
إنَّ مراجعة نتاجه الفكري ودراسة منهجيّته العامّة التي يعتمدها، تعطي بوضوح أنّه يلتزم منهجاً ثابتاً يقوم على أساسيين:
الأوّل: تحريك المفهوم الإسلامي بالشكل الذي يخدم واقع المسلمين المعاصر، ومحاولة تغطية كافة المشاكل والاحتياجات التي تواجه مسلم اليوم، بالرجوع إلى النصوص والمفاهيم الإسلامية الأصيلة. وقد استطاع سماحته من خلال هذا المنهج أن يلبّي حاجات الأُمّة الثقافية والاجتماعية على مدى فترة طويلة زادت على نصف قرن من الزمن، بدأت من النجف الأشرف ولا تزال مستمرّة من لبنان لتصل عطاءاتها إلى مختلف الساحات الإسلامية.
الثاني: استنطاق المضامين الحركية لسيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وأهل البيت (عليهم السلام) بما يخدم واقعنا المعاصر، فالحادثة والموقف والرواية، لا تتجمَّد في معالجات السيّد فضل الله في حدود التاريخ، إنّما ينطلق بها في امتداد الزمن، ليحوّلها إلى مفهوم إسلامي يوجّه حركة الواقع، وإلى قاعدة عملية تخطِّط للعاملين حياتهم وترسم لمسيرتهم معالِم الطريق. ولهذا فهو يؤكّد دائماً على أنَّ سيرة المعصومين (عليهم السلام) حتّى في جوانبها الشخصية الخاصّة، إنّما هي مادّة للدراسة والتأمّل والاستلهام من قبل المسلمين، على أساس أن ليس في سيرة الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) أيّ جانب ذاتي، بل كلّ ما حوته من مواقف في أيّ مجال واتّجاه ودائرة، كانت في خطّ الإسلام، ولها دلالاتها العقيدية والمفاهيميّة والحركية. فهم (عليهم السلام) التجسيد العملي للإسلام في ما قالوه وفعلوه، وأنّ تجربتهم لا يمكن أن تعيش في نطاق التاريخ فقط، بل لا بدّ أن تأخذ مساراتها الحقيقيّة في واقع المسلمين في كلّ زمان وعلى كلّ الساحات. وهذا ما يستدعي النظر إلى حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وأهل بيته (عليهم السلام) على أنّها حياة ممتدة متواصلة، لم تتوقّف عند حدّ زمني معيّن، لأنّها فكر أصيل ومفهوم متحرّك ومصدر ثابت.. إنَّها رسالة الإسلام وخطّه ومنهجه.
ونتيجة التزامه بهذا المنهج نلاحظ أنّ كلّ أعماله الفكرية تضمّنت استنطاقاً لتجارب المعصومين (عليهم السلام)، فلا تخلو كتبه التي تناول فيها مواضيع حركية متنوّعة، من تأمّلات كثيرة في حياة المعصومين، حيث حاول أن يجعل تجاربهم (عليهم السلام) متحرّكة في حياتنا العامّة والخاصّة، وهذا ما يمكن ملاحظته عند الرجوع إلى نتاجاته المختلفة منذ ما يقرب من نصف قرن من الزمن.
ولم تقتصر محاولة إعطاء المفاهيم الحركية والمضامين الرسالية، على النتاج المطبوع لسماحته، بل أنّه تناول حياة المعصومين (عليهم السلام) وفق المنهج الحركي، في محاضراته الجماهيرية على امتداد تلك الفترة الزمنية الطويلة من حياته الفكرية، وقدَّم للأُمّة الإسلامية صورة أهل البيت (عليهم السلام) بالشكل الذي يغطّي احتياجات الساحة في ظروفها المعاصرة، ويدفع الأُمّة إلى الالتزام بمدرستهم وخطّهم على النحو الذي أرادوه، بحيث يكون الالتزام بهم مسؤولية، والارتباط بهم منهج، والانتماء إليهم رسالة، وهو ما يريده الإسلام منّا في علاقتنا بأهل البيت (عليهم السلام)، فالعاطفة وحدها لا تكفي لتحديد هُويّة المنتمي لمدرستهم، إنَّما العاطفة الرسالية الموجّهة التي تنطلق من ارتباط واع بخطّهم الإسلامي.. والموقف الرسالي الملتزم الذي يتحرَّك من خلال الإيمان الراسخ بولايتهم.. إنّه الانتماء الواعي الذي يرى فيهم (عليهم السلام)، الإسلام كلّه بتشريعاته ومفاهيمه وعقائده... ويفرض على المنتمي أن يلتزم بمدرستهم في عاطفته وعقله.. في فكره وسلوكه.
لقد ظلَّ سماحة السيّد فضل الله على امتداد حقبة زمنية طويلة، يحاول أن يربط الناس بأهل البيت ارتباطاً عقائدياً واعياً، وأن ينظروا إليهم على أنّهم الخطّ الإسلامي الممتد في حياتهم وواقعهم، وليسوا قضية تاريخيّة من الماضي، أو حالة نظرية مجرّدة. فحقيقة التشيّع ليست شعاراً أو رغبة، إنَّما الانتماء الثابت الذي لا يمكن أن يتغيَّر مهما تغيَّرت الظروف، ولا يمكن أن يخضع للمساومة مهما كانت الظروف، لأنّه بعبارة واحدة الإسلام الأصيل لا غير.
والسيّد فضل الله في هذا الاتّجاه، يرى أنّ أيّ خلل في الارتباط بأهل البيت (عليهم السلام)، إنّما هو خلل في الارتباط بالإسلام.. وأنّ أيّ فهم خاطئ لمنهج أهل البيت (عليهم السلام)، إنَّما هو خطأ في فهم الإسلام، لذلك جهد في التعريف بأهل البيت (عليهم السلام) وفق الرؤية الإسلامية الأصيلة، استناداً إلى تعاليم الأئمّة وتوجيهاتهم في طريقة التعامل معهم وفهم سيرتهم ومنهجهم.
كما أنّه بذل جهوده التثقيفيّة من أجل أن يجعل تجربة أهل البيت (عليهم السلام) حالة تعيشها الأُمّة في كلّ واقعها ما دامت الحياة، فليس الأئمّة مناسبة تاريخيّة سنوية، إنّما هم فكر وعقيدة ومنهج، يتجاوز حدود الزمن ليتّصل بالواقع الإسلامي والإنساني في كلّ لحظة وموقف... في كلّ ساحة وقلب.
والسيّد فضل الله، من خلال تقديمه هذا المنهج في فهم أهل البيت (عليهم السلام) والارتباط بهم، أكَّد على أنّ دورهم (عليهم السلام) يتّسع باتّساع مجالات الحياة، وأنَّ الاستهداء بسيرتهم لا تقتصر على مجال محدود، بل تتّسع لتشمل كلّ دائرة الاهتمام الإسلامي.. وكلّ قضايا المسلمين، في الاجتماع والسياسة والتربية، إضافة إلى العقيدة والتشريع وغيرها من المجالات العامّة التي تتّصل بحياة الفرد والمجتمع.
وعلى العموم، فإنَّ نصف قرن من العطاء في هذا الاتجاه، هو الزمن الذي استغرقه السيّد العلاّمة فضل الله في طرح استيعاب نظرية واضحة المعالم حول أهل البيت، هي في متناول كلّ قارئ ومستمع.. نظرية تنطلق بالأساس من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، لترسم المنهج وتحدّد الموقف وتقدّم الفكرة، كلّ ذلك وفق المفهوم الإسلامي الأصيل.. لكنَّ المشروع لم ينته بعد، لأنَّ منهج أهل البيت (عليهم السلام) وفكرهم لا يقف عند حدّ، ولا ينتهي في مجال، إنّه يتواصل مع كلّ زمان.. يرفد كلّ حركة.. ويوجّه كلّ موقف.. ويشير لكلّ المسلمين أنّ طريق الإسلام من هنا. لكنَّ المطلوب هو تحريك مضامين الخطّ المعصوم لأهل البيت (عليهم السلام) في حياتنا العامّة والخاصّة، وهو ما نسمعه ونقرأه في فكر سماحة السيّد فضل الله الذي ما يزال يقدّم لجماهير الأُمّة المزيد من الدروس الفكرية والعملية من خلال مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من أجل أنْ تتفهَّم الأُمّة أكثر آفاق هذه المدرسة التي تمثّل الرسالة والرسول.. ومن أجل أن تلتزم بهم عملياً وفكرياً في حاضرها ومستقبلها.
لقد وجدنا في نتاج السيّد العلاّمة، عطاءً غنيّاً بخصوص أهل البيت (عليهم السلام)، فكان لا بدّ من طرحه للأُمّة لأنّه انطلق أساساً من أجلها، لكنّ طبيعة طرحه من خلال المحاضرة والندوة والكتابة، وعلى فترات طويلة، لم يسمح للجميع أن يقرأوه بشكل مجتمع، فعمدنا إلى إعداده في صيغة كتاب في متناول القرّاء. حيث سيجدون فيه آراء آية الله العظمى السيّد محمّد حسين فضل الله، حول أهل البيت (عليهم السلام) ويقرأون معالجاته لمشاكلهم وفق مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وفوق هذا وذاك ينطلقون مع أهل البيت في عالم الإسلام بالشكل الذي أرادوه من كلّ مسلم.
وفي الختام... ندعو إلى التأمُّل في آراء سماحة السيّد فضل الله حول أهل البيت وفي تقديرنا أنَّنا عرضنا بشكل أمين في هذا الكتاب، من خلال محاضراته وبعض كتاباته والتي تنتمي إلى فترات زمنية مختلفة، تزيد على أربعة عقود من الزمن.. وقد اخترنا عنوان (في رحاب أهل البيت)، لأنَّ الكتاب ليس كتاب سيرة، إنَّما هو دراسات وتأمُّلات في حياتهم وتجاربهم (عليهم السلام)، وفق رؤية حركية تهدف إلى تحريك التجربة في مختلف الأبعاد والآفاق.
إنَّنا ندعو إلى قراءتها بموضوعية علمية، لأنَّ طبيعة الموضوع تتّصل بأهمّ جانب من العقيدة الإسلامية، ذلك هو أهل البيت (عليهم السلام)، حيث لا مجال للارتجال والتشنُّج والانفعال.
والله من وراء القصد
سليم الحسني
شعبان 1418 هــ
المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ
للتاريخ في حياة كلّ أُمّة، تريد أن تتقدَّم وتنطلق في الركب الحضاري الصَاعد، دوره الحيوي في نموّها وتطوّرها، كونه يجنِّبها كثيراً من المزالق والمخاطر والأخطاء، بما يقدّمه لها من تجاربها الماضية في مراحل نموّها الأولى، وما تحمله ـــ تلك التجارب ـــ من دروس عملية كثيرة، تستطيع بها أن تضع يديها ـــ بوعي ـــ على مواطن الضعف ومواطن القوّة في شخصيّتها التي عاشتها في تلك الأدوار. وهناك يكون الطريق أكثر إشراقاً، وأرحب آفاقاً ممّا لو انطلقت فيه على غير هدى التاريخ.
أمّا إذا انعكست القضية، فحاولت أن تحتقر تاريخها، وترفضه ولا تنظر إليه إلاّ كما تنظر إلى الآثار البالية، وانطلقت، بروح انفعالية حماسيّة تحاول التمرُّد عليه والتحرُّر منه، والتحوّل إلى حاضرها، لتجعل منه مبدأ نموّها ومنطلق حياتها.. فإنّها ـــ لا شكّ ـــ ستتعرّى وتفقد شخصيّتها الأصيلة لفقدانها الركيزة التي ارتكزت عليها حياتها، والمنطلق الذي انطلقت منه. وبذلك فهي لا تملك ـــ حينئذٍ ـــ إلاَّ التذبذب والاتّكاء على تجارب الآخرين، وتناول فتات موائدهم.
ولا يجهل أحد بعد هذا ما في ذلك من ضياع وانهيار لكيانها وشخصيّتها الأصلية.
على ضوء هذه الفكرة، نحاول الانطلاق إلى تاريخنا، فندرسه من خلال وجودنا الإسلامي، كأُمّة إسلامية واعية أنشأت حضارة عظيمة تعتبر أم الحضارات الحديثة.
إنَّنا نحاول الانطلاق إلى هذا التاريخ، لنقرأه على هدي من وعي وعمق ومعرفة في هذه المرحلة التي نحاول فيها العودة إلى الشّوط من جديد ـــ بعد أن غبنا عنه مدّة طويلة ـــ لنحمل مشعل الكرامة والعدالة الإنسانية في رسالة السّماء إلى الأرض.
وليست تلك المحاولة التي ندعو إليها، مجرَّد ترفٍ ذهني، ودراسة مجرّدة، وإنَّما هي ضرورة حتمية، وواجب حيوي لمرحلتنا الحاضرة، بل نستطيع القول إِنّه من أبرز الواجبات الملقاة على عاتق المسؤولين عن قضية الإسلام، بالنظر إلى أنّه سجَّل للمعركة التي خاضها الإسلام ضدّ خصومه وأعدائه، وقد علق به، ما علق بكثير من مفاهيم الإسلام، من شوائب وألوان دخيلة بسبب ما حلّ بالمسلمين من ارتباك واضطراب.
ولذلك فقد وصل إلينا وهو يجرّ خطواته في وهنٍ وضعف.. حاملاً أثقال الفترة المظلمة، والعهود السّود.
وهذا ما ساعد كثيراً من متفلسفي التاريخ، على تلوينه بالألوان الكثيرة المختلفة، حسب اختلاف لون التفكير الذي يعيشه أولئك المفكّرون.. فأصبحنا نقرأ الأسلوب المادي للتاريخ الذي يحاول أن يفلسف تاريخنا على أساس من الاقتصاد فحسب. كما بدأنا نسمع عن كثير من الحركات والدعوات الاشتراكية في تاريخنا، وعن دور الصحابيّ الجليل أبي ذرّ الغفاري فيها، وعن ثورة صاحب الزّنج التقدميّة، وغير ذلك من الألوان التي انتشرت في البحوث التاريخيّة التي تتناول تاريخنا بالدرس، بأسلوب بعيد عن الجوّ الإسلامي وواقعه.
وهذا ما يجعلنا نتساءل عمّا يجب علينا عمله إزاء هذا الواقع الذي يعيشه تاريخنا في عصرنا الحاضر، لنستطيع أن نقدّمه إلى الجيل المسلم الواعي في إطاره الإسلامي الخالص، بعيداً عن المفاهيم الغريبة عنه، ليعيش جيلنا الصّاعد في جوّ إسلامي نقي، كسبيل من سبل المحافظة على شخصيّتنا الإسلامية المستقلّة.
ملاحظات أوّلية
1 ـــ ويبدو لنا أنّ علينا ـــ قبل كلّ شيء ـــ أنْ نتخلّى عن الهالة القدسيّة ـــ باستثناء ما ثبت من سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والمعصومين (عليهم السلام) التي نحاول أن نحيط بها هذا التاريخ بكلّ ما فيه من انحرافات وأخطاء، لأنَّنا لن نحصل على فائدة من دراستنا له بدون ذلك.. بل القضية تكون عكسيّة، لأنَّ هذا الأسلوب يؤدّي إلى تقديس الأخطاء، وفي هذا ما فيه من الانحراف عن الغاية التي نسعى إليها، والهدف الذي نهدف إليه.
إنَّ تاريخنا ـــ ككلّ تاريخ ـــ كان حصيلة أدوار مختلفة من حياة الأُمّة بين ارتفاع وانخفاض، فهو الصّورة التي تنعكس عليها الحياة بما فيها من ارتباكات، فإذا أردنا أن نفهمه على أساس واقعي، فيجب علينا تعريته عن كلّ لون من ألوان الخيال والدعاية والزّهو، وملاحظته كمادّةٍ خام لدراسة عملية واقعية عميقة.
2 ـــ وشيء آخر يلزمنا ملاحظته عند دراستنا لهذا التاريخ، هو أنَّ كثيراً من القضايا والملابسات، التي حدثت في الصّدر الأوّل في الإسلام والانقسامات التي ابتلي بها المسلمون، أثّرت على سير هذا التاريخ في عصر الرسالة، لأنَّ تلك القضايا خلقت عندنا كثيراً من المؤرّخين والمرتزقة، الذين كانوا يعيشون على موائد الملوك، ليخلقوا لهم المآثر والفضائل والأحاديث، ويصوّرها بصورة جذّابة تلفت الأنظار في أيِّ موضوع شاؤوا وأرادوا، حسب الحاجة السياسية والشخصية.
ولذلك فلن نستغرب إذا قرأنا كثيراً من الوقائع التاريخيّة، في صورتين متناقضتين، تعكسان الانقسامات الموجودة بين المسلمين، وتبرز كلّ منهما الواقعة التاريخيّة على ضوء من اتّجاهاتها وغاياتها، تماماً كما يحدث في عصرنا الحاضر عندما تتضارب الصحف السياسية في تصوير بعض القضايا، التي نعيشها بأنفسنا نتيجة تضارب الرأي أو الاتّجاه الذي تمثّله هذه الصحيفة أو تلك.
إنَّ على الباحث الإسلامي أن يراعي هذا الواقع الذي عاش فيه التاريخ الإسلامي، ليسير في بحثه بهدوء وحذر ويقظة متناهية، لئلاّ يقع في الخطأ من حيث لا يعلم وينحرف عن الدرب من حيث لا يريد.
3 ـــ وناحية ثالثة يلزمنا الانتباه إليها وتأكيد شجبها، لأنّها تمسّ جوهر الإسلام في الصميم، فقد دأب كثير من الباحثين ولاسيّما المستشرقين منهم على اعتبار كثير من التصرّفات ـــ التي تقوم بها الجماعات التي تدين بالإسلام ـــ ممثّلة لوجهة النظر الإسلامية، مهما كان لون تلك التصرّفات ومهما كان نوعها. وهذا خطأ.. فإنَّ الجماعات الإسلامية والمسؤولين المسلمين ـــ الذين عاشوا في التاريخ الإسلامي ـــ ليسوا إلاّ أُناساً كبقيّة الناس، لهم أخلاقهم الخاصّة، ولهم طباعهم وأذواقهم المعيّنة، ولهم أخطاؤهم البشرية كبقيّة البشر، وليست تصرّفاتهم إلاّ كتصرّفات بقية إخوانهم من بني الإنسان، وليس لها علاقة بالإسلام إلاّ بمقدار قربها من مبادئ الإسلام ومفاهيمه. ولهذا فإنَّنا لا نستطيع اعتبار أيّ تصرّف من تصرّفات المسلمين ـــ باستثناء المعصومين (عليهم السلام) ـــ مرتبطاً بالإسلام إلاّ بعد مقارنته بالمفاهيم والمبادئ الإسلامية، لنعلم مدى موافقته لها.
إنَّ مبادئ الإسلام ومفاهيمه هي المقياس الصحيح الذي نقيس به تصرّفات المسلمين، لا العكس..
وهذه هي بعض النقاط التي حاولنا أن نعرضها ــــ بصورة إجمالية ـــ في سبيل الوصول إلى أفضل الطرق لدراسة تاريخنا الإسلامي بروح علمية عميقة، على ضوء من هدى الإسلام وأسلوبه.
البداية المطلوبة لدراسة التاريخ الإسلامي
علينا أن نقرأ تاريخنا من جديد قراءة واعية، تحاول أن تدرسه وتفلسفه وتتعرَّف على جذوره الأصلية، ومعطياته الخصبة.
هذه هي القضية التي تواجهنا في طريقنا نحو العمل في بناء الحاضر الإسلامي، وتلحّ علينا بقوّة وإصرار. لأنّها تتّصل بالمرحلة الأوّلية من مراحل العمل والبناء، وهي مرحلة الإعداد والتكوين، إعداد الخطط التي يسير عليها العمل، وتكوين الأُسس والمبادئ العامّة التي يرتكز عليها البناء.
أمّا كيف تمثّل هذه القضية مرحلة البداية للعمل وكيف تساعد على إعداد الخطط وتكوين الأُسس فهذا ما نتعرّفه، إذا وعينا طبيعة المعرفة التاريخيّة التي تقدّمها لنا دراسة التاريخ، وعلاقتها بالواقع الحياتي الذي نعايشه.
وفي سبيل الوصول إلى هذه النتيجة، علينا أن نفهم طبيعة المشكلات الحاضرة التي يتخبَّط فيها الواقع الإسلامي، انطلاقاً من المشاكل العقيدية التي تتمثّل في اختلاف المذاهب والمدارس الفكرية الإسلامية، في تفاصيل العقيدة وفروعها، وفي نوعية الطرق التي تصلنا بها، وتوصّلنا إليها.
إنَّ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تتمثّل في التمزّق الداخلي والخارجي الذي يعيشه المسلمون في ظلّ واقعهم العلمي المنهار المتمثّل في تخلّفهم الحضاري عن الركب العلمي، الأمر الذي جعلهم في عزلة تامّة عن الإسهام في عملية صنع التاريخ الحاضر.
ولن نستطيع التعرُّف على طبيعة هذه المشاكل، وعلى الحلول العلمية التي نقدّمها أمامنا لمعالجتها، وبالتالي، لن نصل إلى نتيجة ذات جدوى، إذا حاولنا الوقوف أمام المظاهر السطحية البارزة، من دون أن ننفذ إلى أبعد منها، لأنَّ ذلك لن يهيّئ لنا الوقوف أمام واقع المشكلة، وبالتالي لن يستطيع أن يخطو بنا خطوة واحدة نحو الحلّ الجذري الصحيح.
لذلك فلا بدّ لنا من النفاذ إلى الأعماق، لنتلمّس بأيدينا جذورها وأسبابها البعيدة والقريبة التي تمتد إليها هذه المشكلة أو تلك، لأنَّ لكلّ مشكلة، وكلّ قضيةٍ، مؤثّراتها وعللها، وجذورها الأصلية في حياة الأجيال السابقة، الأمر الذي يجعلنا ـــ ونحن في سبيل البحث ـــ نضع علامات استفهام عميقة، أمام كلّ مرحلة سابقة، وحول كلّ حركة من الحركات الثورية والإصلاحية التي عاشتها الأُمّة الإسلامية في الماضي عن طبيعتها الذاتيّة، من حيث هي إسلامية أو غير إسلامية، عن الجوّ الذي نشأت فيه ونمت في أرضه، من حيث هو ديني ينبع من واقع العقيدة الدينية، أو دنيوي ينطلق من المنافع والأطماع الذاتية العامّة والخاصّة، عن المؤثّرات الداخلية والخارجية التي شاركت في نموّها، وتطويرها، من حيث ارتباطها بالواقع الداخلي والخارجي لحياة المسلمين وعدمه، وعن نوعية النتائج التي حصلت من هذه الحركة أو تلك، من حيث اتّصالها بالمفاهيم والقِيَم الإسلامية وابتعادها عنها، وأخيراً عن مواطن النجاح، ومواطن الإخفاق من حيث تمثُّل عناصر القوّة التي دفعت إلى النجاح، ومعرفة عناصر الضعف التي أدّت إلى الفشل والإخفاق، كسبيل من سبل استفادتنا منها، ومدى إمكانية هذه الفائدة وعلاقتها بالمشاكل الآنية التي نعيشها، وارتباطها من قريب أو بعيد.
تلك هي علامات الاستفهام التي تواجهنا، ونحن ندرس التاريخ، في طريق التعرّف على مشاكلنا الحاضرة.
وتلك هي الأسئلة، أو بعض الأسئلة التي يطالعنا في كثير من الأجوبة عليها، الوجه الحقيقي لطبيعة مشاكلنا الحاضرة.
وهذه هي إحدى الأسباب التي تضطرنا إلى الوقوف وجهاً لوجه أمام التاريخ، لندرسه ونتعمّق في معطياته وآثاره لأنّه لم يعد ـــ من خلال هذه النظرة ـــ مجرّد تسجيل حرفي لقضية من قضايا الماضي، بل أصبح أداةً فاعلة تسهم في عملية صنع الحاضر، وتؤثّر فيه، بطبيعة ارتباطه بها وارتباطها به، تماماً كارتباط الشجرة بجذورها وعروقها الضاربة في أعماق الأرض.
اتّجاهات لفهم التاريخ
وثمّة ناحية أخرى تجعلنا على صلة وثيقة بالمعرفة التاريخيّة في مرحلتنا الفعلية، وتحتّم علينا إعادة النظر في تاريخنا من جديد، في سبيل التعرّف على القاعدة التي ينطلق منها، وعلى العوامل التي شاركت في وجوده ومدى علاقتها بهذا الوجود، وعلى علاقة هذا التاريخ بالإسلام، وعلاقة الإسلام به، وما الذي قدّمه الإسلام لهذا التاريخ، وماذا كان دور الإسلام في حركته الصاعدة، أكان تأثيره فيه كدين قدَّم للحياة مفاهيم جديدة شاملة للكون والحياة والإنسان فساعدها على أنْ تخطو هذه الخطوات الجبّارة، أم أنّ تأثيره فيه، كحركة ساعدت على تغيير الواقع الاقتصادي للمجتمع الذي عاشت فيه، أو بالأحرى نشأت على أساس الواقع الاقتصادي لذلك المجتمع، ولذا فهي جزء من الحركة التاريخيّة الحتمية، التي تخضع للعامل الاقتصادي.
أم ليس الأمر في هذا وذلك.. وإنَّما القضية، أنَّ الإسلام كان وليد الأُمّة التي عاش في أرضها، وربيب البيئة التي نشأ فيها وتأثَّر بها وأثَّر فيها، ولذا فإنّه يحمل رسالة هذه الأُمّة وعبقرية هذه البيئة ويمثّل آمالها وآلامها أصدق تمثيل، وبهذا كان دور الإسلام في هذا التاريخ ـــ من خلال هذه النظرة ـــ هو دور الأُمّة التي كان الإسلام أصدق تعبير عنها، وأصفى مرآة لروحيّتها وتطلُّعها وظمئها إلى السموّ والإبداع.
علينا أن نتعرَّف على كلّ هذا، لنتعرّف على موقفنا من كلّ ذلك، فقد تعدَّدت الاتجاهات النظرية في دراسة هذا التاريخ، واختلفت التيّارات الفكرية في ذلك.
فقد حاول أتباع المادية التاريخيّة وضع قاعدة عامّة للتاريخ ضمن الفلسفة المادية الشاملة في تعليل الكون والإنسان والتاريخ، والتي تُخضع كلّ التطوّرات التاريخيّة والحياتيّة للعامل الاقتصادي الذي يتمثّل في تطوّر وسائل الإنتاج، والذي يعيّن طبيعة العلاقات الاقتصادية في كلّ مرحلة من المراحل، التي تعيّن بدورها كلّ الأوضاع الفكرية والروحية والاجتماعية التي يعيشها المجتمع البشري بشكلٍ عام. وهكذا يصبح التاريخ خاضعاً لحتمية هذا التطوّر ـــ الذي يزعمونه ـــ من دون أن يستطيع الفكاك عنه.
أمّا طبيعة ارتباط هذه النظرة بمعرفتنا التاريخية فتتمثّل في أنّها تحاول إخضاع تاريخنا لهذا المنطق وفرض تلك المراحل الحتمية على هذا التاريخ، كما شاهدناه في بعض الدراسات التي حاول فيها بعض الباحثين الذين يتبنَّوْنَ هذه النظرة، حيث حاول أن يفسّر التطوّرات الحياتية التي حدثت قبل الإسلام وبعده بالتفسير الذي ينسجم وهذه النظرية.
وهناك اتّجاه آخر يعيش في نطاق التاريخ الإسلامي فيحاول أن يجعل منه مرحلة من مراحل تاريخ أُمّة معيّنة أو شعب معيّن حتّى كأنَّ في انطلاق هذا التاريخ في حياتها ما يبرّر اعتباره تراثاً قومياً ينبع من طبيعة العوامل والمؤثّرات القوميّة. وامتدّ هذا الاتجاه في هذا المجال حتى حاول أن يجعل من الإسلام مجداً من أمجاده القومية الخاصّة، فقد كان وليد آلام العربية، لا رسالة إلهية تمتدّ من السماء، لتحتضن البشرية جمعاء في آلامها وآمالها.
وقد أصبح لكلّ من هذين الاتّجاهين دراساتهما المعيّنة، ومناهجهما المحدّدة، حتّى عاد القارئ العصري يلتقي بكلّ منهما في أكثر من كتاب وفي أكثر من محاضرة.
أمّا الاتّجاه الثالث الذي يحاول أن يفسّر هذا التاريخ من خلال دور الإسلام فيه ـــ كدين ـــ فلا تجد له خطّاً معيّناً، ولا منهجاً محدَّداً وإنّما هي كلمات وآراء متناثرة تلتقطها من هنا وهناك، ممّا يكتبه بعض الكتّاب المسلمين، من حيث يقصدون، ولا يقصدون. إنّها كلمات عابرة وآراء سريعة، ولذا فإنّها لن تترك في نفس القارئ أي أثر لو التفت إليها، ولذا فلا تبدّل في ذهنيّته أيّ شيء.
وقد يبدو غريباً أن ندرس التاريخ من خلال تأثير الإسلام فيه كدين أو أن نعتبر ذلك اتّجاهاً آخر في دراسته.
ولكن هذه الغرابة ترجع إلى غموض هذا المنهج الذي ندعو إليه ونحاول التعرّف إلى ملامحه وآثاره ولذلك فإنّها ستزول ـــ حتماً ـــ عندما نوفّق إلى رسم الصورة المضيئة لما نحاوله.
صورة مشوّشة
حتّى الآن لا نزال نقرأ التاريخ الإسلامي، في صورة حوادث معيّنة متعاقبة، تعيش في نطاق معيّن، هو الشعوب التي تدين بالإسلام. فنقرأ الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي تسود تلك المجتمعات، كما نقرأ العلاقات والارتباطات، التي حدثت بينها وبين المجتمعات الأخرى، وطبيعة التفاعلات والتأثيرات التي نشأت من خلال هذه العلاقات والارتباطات.
كلّ ذلك نقرؤه ـــ في ما لدينا من كتابة التاريخ ـــ ونقرأ أشياء كثيرة غير ذلك. ولكن ما هي الصورة التي نخرج بها من كلّ ذلك.
أحسب أنّ الجواب لهذا التساؤل، لن يكون إلاّ بمعرفة حياة أُناس نرتبط معهم برباط الدين، تماماً كما يعرف الإنسان حياة أقربائه وعشيرته.. ونعني بذلك أنّ هذه المعرفة التي نحصل عليها ترتبط بذوات هؤلاء الناس، وبما تحمله من رغبات ورواسب وتأثّرات، ولذا فلن يغيّر إطلاق أيّة صفة عليهم، طبيعة هذه المعرفة، لأنَّ هذه الصفة لا تمثّل ـــ في هذا المجال ـــ إلاّ مهمّة الإشارة إلى هؤلاء الناس، من دون أن يكون لها أيّ أثر في حياتهم ـــ من خلال هذا التاريخ ـــ وإذاً، فلا فرق بين أن نطلق عليهم صفة المسلمين أو غيرها من الصفات، لأنَّ الصفة غير دخيلة في حركة هذا التاريخ الذي نقرؤه.
تل هي الصورة التي نخرج بها من قراءتنا لما كتب من هذا التاريخ، صورة الناس الذين يدينون بالإسلام.
أمّا صورة الناس المسلمين الذين ترتبط حياتهم بالإسلام وتتأثّر به، فهذا ما لا نلمحه في هذا التاريخ، ولذا فقد عادت المعرفة التاريخيّة لدى القارئ المسلم غير ذات أثر، إلاّ من خلال إثارة الزّهو الذاتي، تثيره فيه قراءة هذا التاريخ وما فيه من أمجاد، نتيجة ارتباطه بأشخاص هذا التاريخ برابطة الدين تماماً كما يحسّ الإنسان بالزَّهو عندما يُعرض أمامه، أمجاد آبائه وأجداده، ولا شيء آخر غير الزّهو.
مهمّة الباحث المسلم
أمّا ما نحاوله، فهو أن يرتبط هذا التاريخ بالإسلام. فقد عاد من الأمور المسلمة الواضحة أنّ الإسلام قد غيَّر حياة الشعوب التي دانت به وانتسبت إليه، وحاول أن يطبعها بطابعه، ويربط حركتها وأفكارها وعلاقاتها العامّة والخاصّة بمفاهيمه العامّة التي جاء بها لتنظيم الحياة.
ولكن ما هو الحدّ الذي وصل إليه هذا التفسير، وما هو مقدار نجاح هذه المحاولة التي حاولها الإسلام.
إنَّنا لا نستطيع ـــ بطبيعة الحال ـــ أنْ ندّعي استيعاب هذا التغيير لجميع نواحي الحياة، ولا المحاولة بالحدّ الذي يجعل حياة تلك الشعوب صورة صادقة عن الإسلام وتجسّداً حيّاً لمفاهيمه.
إنَّنا لا نستطيع هذه الدعوة ولا هذا الزّعم، لأنّنا واجدون في هذا التاريخ ما يضع أيدينا على كثير من الانحرافات عن مفاهيم الإسلام وخطوطه العامّة، وهنا تبدأ مهمّة البحث، وتتجلّى طبيعة المنهج الذي نحاوله في دراستنا لهذا التاريخ.
فقد وضح لنا من خلال العرض الموجز الذي قدّمناه، أنّ هناك حقيقتين عاشهما هذا التاريخ، من خلال دخول الإسلام في حياة الشعوب.
الأولى: أنّ الإسلام قد أحدث تغيّراً كبيراً في لون الحياة ومفاهيمها لدى الشعوب التي دخلها.
الثانية: أنّ هذا التغيير لم يكن كليّاً بالقدر الذي يجنّب تلك الشعوب الانحراف عن مبادئ الإسلام وتعاليمه، ويجعل من حياتها تجسيداً حيّاً للإسلام.
وهنا تبدأ مهمّة البحث الذي نحاوله. فنبدأ، مثلاً، بدراسة نوعيّة هذا التغيير الذي حدث، ونوعية الظروف التي هيّأت له، وطبيعة الأساليب التي استخدمت في سبيل الوصول إليه.
ثمّ نحاول التعرّف على تلك الانحرافات التي حدثت، والأخطاء التي ارتكبت، ودوافعها ونتائجها، ثم نسير مع التاريخ في حوادثه وحركاته فنلاحظ مدى علاقاتها وارتباطها بالمفاهيم الإسلامية، وعلاقة تلك المفاهيم بها، وكيف تمثّلت الناحية التطبيقيّة للإسلام في هذا التاريخ، ومدى التأثير الذي أحدثه هذا الاختلاف أو الانسجام، في تمثّلها الحياتي لدى الناس، لنصل بعد ذلك إلى معرفة النكسات التي تعرّض لها التاريخ وعلاقتها بالإسلام ومفاهيمه، من حيث بعدها عنه وقربها إليه وعياً وتجربة. وبكلمة موجزة أن نحاول دراسة التاريخ الإسلامي من حيث هو تجربة عملية للإسلام وامتحان لقدرة مفاهيمه وتعاليمه، على أن تعيش في حياة الناس وتؤثّر فيهم، وملاحظة عوامل الضعف في هذه التجربة من حيث نشوئها داخل هذه المفاهيم ـــ كما يدّعي الأعداء ـــ أو عن الظروف التي أحاطت بالتجربة الزمنية منها والاجتماعية، أو عن الوعي القلق لواقع هذه المفاهيم وحقيقتها الأصيلة.
تلك هي الصورة الاجتماعية لما نريده من هذا الاتجاه الذي نعتقد أنّه سيساعدنا إلى حدٍّ بعيد على وعي موقف الدين من هذه المرحلة، بمقارنته من المراحل السابقة، التي قد نجد فيها الكثير من التجارب التي تعيننا على فهم هذه المرحلة.
وإلى جانب ذلك، فإنَّ هذا المنهج، يجعلنا نحسّ ـــ بعمق ـــ أنَّنا جزء من تاريخ هذا الدين، لأنَّ حياتنا ـــ ستكون ـــ جزءاً من الحياة الواسعة التي عاشت التجربة العملية للدين.
تجنب الانحرافات والأخطاء
ونحبّ أن نشير ـــ ونحن في سبيل التعرّف على ملامح هذا المنهج ـــ إلى قضيّة قد تتبادر إلى ذهن الكثيرين عند قراءة هذا اللّون من الكلام، هي أنّنا نحاول تعمّد إغفال الدور الذي قامت به الأُمّة ـــ التي نشأ هذا التاريخ على يديها ـــ في صنع هذا التاريخ وبنائه، وتجاهل القوى والإمكانات الذاتية التي لدى هذه الأُمّة في عملية البناء والإبداع.
نحبّ أن نشير إلى خطأ هؤلاء في ما يزعمون وفي ما يفهمون، فلسنا في محاولة إلقاء نظرة انفعالية حماسية تتأثّر بالعواطف والنوازع الذاتية وإنّما نحن في محاولة بحث ومنهج يعتمد على الموضوعية وعلى التجرّد.
إنَّ هذا المنهج الذي نحاوله يهدف إلى أن يجعل من وصف التاريخ الإسلامي وصفاً حقيقياً، لا مجرّد إشارة لمرحلة من مراحل الأُمّة العربية ـــ كما يحاول بعض الباحثين ـــ ولا يمنعنا في الوقت ذاته من استكشاف طبيعة الدور الذي قامت به هذه الأمة في التاريخ، والحكم عليه من خلال قربه للمفاهيم الإسلامية وبعده عنها.
وبكلمة موجزة، إنَّ محاولتنا هذه، تستهدف إثارة وعي القارئ للتاريخ ـــ وهو يقرأ ـــ بحركة الدين في هذا التاريخ، بحركة مفاهيمه، بحيوية روحه، بأصالة حلوله.
ومن الطبيعي لهذا الوعي أن يلتقي بالأُمّة التي كانت أوّل مجال عملي لاختبار قدرة الدين على التأثير، وأوّل رائد عاش هذا الدين في أفقه، وانطلق يتحدّث إلى العالم بلغته.
ذلك هو هدفنا من هذه المحاولة وذلك هو غرضنا منها، فلسنا نريد اختراع تاريخ جديد، وإنّما نحاول فهم هذا التاريخ من حيث هو تجربة عملية للدّين، وبالتالي حفظ هذا التاريخ من الفهم المزوّر، والمنهج الخاطئ الذي وقع فيه الكثيرون من القارئين والدارسين له، والابتعاد به عن طبيعة السّرد الحرفي إلى الطريقة التي تجعل منه معنى يتحرّك في داخل حياتك ليحرّك الحياة من حولنا.
علينا أن نحاول ذلك ونبدأ الدرب، بسرعة وحذر، لنجنّب جيلنا الإسلامي الطّالع الانحرافات التاريخيّة، وأخطاء المناهج المتعدّدة التي تدرس هذا التاريخ.
الفهم الخاطئ
وما دمنا في مجال البحث عن الاتجاه الديني في دراسة التاريخ ومحاولة تركيزه على أُسس متينة ثابتة، فقد نجد أنّ من الخير لنا، أن نعرض لبعض الأخطاء التي وقع فيها بعض الكتّاب المعاصرين في تفسيرهم للطريقة التي يعلّل بها الاتجاه الديني حوادث التاريخ.
يتحدّث الأستاذ قسطنطين زريق في كتابه "نحن والتاريخ" ص 29 ـــ 30، عن المميّزات التي تميّز التيّار التقليدي ـــ في ما يعبِّر ـــ فيعتبر أنّ إحدى هذه الميزات هي: إنَّ تعليل نشوء الأحداث وتطوّرها هو، بحسب هذه النظرة، تعليل إلهي، فدوافع التاريخ ليست، أو على الأقل ليس أهمّها وأبلغها فعلاً، في يد الإنسان، بل تحكمها المشيئة الإلهية والقوانين السماوية. وحياة السعادة الدائمة أو الشّقاء الدائم في العالَم الآخر. فمن العبث إذاً أن نحاول تعليل الأحداث الإنسانيّة بإعادتها إلى الجنس أو المحيط أو أيّ عامل من العوامل الطبيعية أو البشرية الأخرى. إنَّ محور التاريخ ليس في هذا العالم بل في العالَم الأعلى.
ثمّ يتحدّث في صفحة 31، عن المنطلق الذي انطلق منه في وصفه لهذا الاتّجاه: ويلاحظ القارئ أنّنا في وصفنا لهذا المجرى التقليدي، لم نجد غنىً عن توجيه النظر رأساً إلى المفاهيم الدينية الإسلامية والمسيحية. فهذه المفاهيم هي، عند الذين لا يزالون ضمن هذا المجرى، الدليل الأمين إلى حقائق الحياة الأساسيّة، وإلى معنى الأحداث المتعاقبة في الزّمن وإلى العلّة الفاعلة في هذه الأحداث.
وهكذا نجد أنّ هذا الوصف ـــ في زعمه ـــ يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمفاهيم الإسلاميّة، لأنّه ينبع منها ويتأثّر بها. وهنا تصبح الدراسة التاريخيّة لدى أصحاب هذا الاتجاه عبثاً لا طائل منه، وتكراراً مملاًّ لتفسير واحد وتعليل مكرّر لكلّ حادثة من الحوادث، أو حركة من الحركات. فكلّها جارية على سنّة القضاء والقدر ومشيئة الله وإرادته، ولا رادَّ لقضاء الله ولا مبدّل لإرادته.. وهكذا تلتقي الحوادث التاريخية بهذا التعليل. وهكذا يتمثّل إغفال النظام الطبيعي الجاري في هذه الحياة، والسُنّة الكونية الحياتيّة، وإبعاده عن تعليل حوادث الكون وتفسيرها.
تصحيح النظرة
إنَّنا لا ننكر أنَّ هناك مفهوماً دينياً يسمّى بالقضاء والقدر، ولا ننكر أيضاً أنّ العقيدة الدينية ترتكز على أساس تبعيّة الحياة، بجميع حوادثها وحركاتها لمشيئة الله وإرادته.
نحن لا ننكر ذلك، ولا يسعنا مناقشته، كما لا يسعنا الوقوف عند هذا المفهوم في محاولة بحث وتحقيق، لأنَّ بحثنا لا يسير في هذا الاتجاه ولا يقف في هذا الموقف. فلسنا في معرض بحث تاريخي يحاول أن يرسم النظرة الدينية والتفسير الديني للتاريخ ومدى ارتباطها بالمفاهيم العامّة للدين.
فمن المفيد ـــ إذاً ـــ أن نكشف عن حقيقة هذا الارتباط وواقع هذه العلاقة.
فما الذي يحاوله المفهوم الديني للحياة؟
هل يحاول تجاهل العلاقات الطبيعيّة، بين الحوادث ومؤثّراتها، وإنكار قانون السّببيّة والعليّة العامّة، في اعتباره الحياة مرتبطة بالله، فلا صلة للأحداث الإنسانية بأيِّ عامل طبيعيّ من العوامل الطبيعية والبشرية، ولا علاقة لها بها، وإنّما هي مرتبطة بإرادة الله مباشرة ومنطلقة منها، فهي السّبب الأوّل والأخير لوجودها في الواقع الخارجي؟
هل يحاول المفهوم الديني ذلك، فنستطيع أن نربط ـــ على أساس ذلك ـــ بينه وبين النتيجة التي خرج بها الأستاذ زريق.
يبدو لنا أنّ الجواب لن يكون إيجابياً على هذا التساؤل، كما نحسب أنّ هذا المفهوم الخاطئ الذي عرضناه له، ينطلق من جذور بعيدة تمتدّ من (الفلسفة الماديّة) التي اعتبرت مسألة الاعتقاد بالله نابعة من حاجة الإنسان إلى إيجاد سبب معقول للحوادث الطبيعية وظواهرها ومبرّر يبرّر وجودها، وبهذا اعتبرت إنكار الدين للتفسيرات الطبيعية التي تحاول ربط الأشياء بمؤثّراتها الكونية أمراً مفروغاً منه، فالظواهر الكونية والأحداث البشرية، كلّها تستند إلى إرادة الله ومشيئته، من دون أن يكون لها أيّ سبب مادّي معقول.
وهكذا نشأت التهمة التي اتُّهم بها الدين من وقوفه أمام العلم ومصادمته له، لأنَّ العلم يربط بين كلّ حادثة وأسبابها الطبيعية، بينما لا يعترف الدين ـــ بحسب مفهومهم ـــ بهذه الأسباب، ولا بعلاقتها بالأحداث.
قلنا إنَّ الجواب لن يكون إيجابياً على ذلك التساؤل، لأنَّ المسألة الدينية لا ترتكز على الاستغناء عن الأسباب الطبيعية، ولا تنكر قانون العليّة العامّة وإنّما ترتكز على اعتبار الله سبباً أعمق، تنتهي إليه سلسلة العلل والأسباب، فلا يعتبر المادة هي السّبب الأخير، بل يعتقد أنّ هناك سبباً أعلى وأعمق منها هو الله، الذي أودع فيها خواصها وآثارها العامّة.
وهكذا نرى أنّ هذا المفهوم لا يستند إلى افتراض تعلّق الإرادة الإلهية بالأشياء مباشرة، فتغيّر وتبدّل ما شاءت تغييره أو أرادت تبديله من دون سبب خارجي، لنخلص منها إلى الفكرة الخاطئة التي خرج بها الماديّون في تفسيرهم لفكرة الدين.
بل نستطيع أن نجزم بأنّه صدق قانون العليّة العامّة الذي يربط بين كلّ حادث وسببه، وبين كلّ معلول وعلّته، فالحوادث والأحداث الحياتية ـــ بأجمعها ـــ خاضعة للنظام الكوني والسُنّة الطبيعية التي أودعها الله في هذا الكون.
ويذهب بعض الباحثين الإسلاميين إلى أبعد من ذلك فيعتبر أنّ قانون العليّة لم يتخلَّف في أيّ حادثة من الحوادث الحياتية حتّى في ما نسمّيه بالمعجزات أو الخوارق للعادة التي جاء بها الأنبياء كدليل على صحّة نبوّتهم ورسالتهم. فيحاول إرجاعها إلى أسباب طبيعية لم نطّلع عليها كما لم نطّلع على تفسير الكثير من الحقائق الكونيّة والظواهر الطبيعيّة.
ولكي نعطي القارئ صورة جليّة عن الفهم الديني الذي عرضناه، نودّ أن ننقل حديثاً للعلاّمة السيّد الطباطبائي تحت عنوان تصديق القرآن لقانون العليّة العامّة. فيقول:
(إنَّ القرآن يثبت للحوادث الطبيعية أسباباً ويصدق قانون العليّة العامّة كما يثبته ضرورة العقل وعليّة الأبحاث العلمية والأنظار الاستدلاليّة، فإنَّ الإنسان مفطور على أن يعتقد لكلّ حادثٍ مادّي علّة موجبة من غير تردّد وارتباك. وكذلك العلوم الطبيعية وسائر الأبحاث العلمية تعلّل الحوادث والأمور المربوطة بما تجده من أمور أخرى صالحة للتعليل، ولا نعني بالعلّة إلاّ أن يكون هناك أمر واحد أو مجموعة أمور إذا تحقَّقت في الطبيعة مثلاً تحقّق عندها أمر آخر نسمّيه المعلول بحكم التجارب كدلالة التجربة على أنّه كلّما تحقّق احتراق لزم أن يتحقَّق هناك قبله علّة موجبة من نار أو حركة أو اصطكاك أو نحو ذلك. ومن هنا كانت الكليّة وعدم التخلّف من أحكام العليّة والمعلولية ولوازمها.
وتصديق هذا المعنى ظاهر من القرآن في ما جرى عليه وتكلّم فيه من موت وحياة ورزق وحوادث أخرى علوية سماوية أو سفليّة أرضية على أظهر وجه وإنْ كان يسندها جميعاً إلى الله سبحانه لغرض التوحيد.
فالقرآن يحكم بصحّة قانون العليّة العامّة، بمعنى أنّ سبباً من الأسباب إذا تحقّق مع ما يلزمه ويكتنف به من شرائط التأثير من غير مانع لزمه وجود مسبّبه مترتّباً عليه بإذن الله سبحانه، وإذا وجد المسبّب كشف ذلك عن تحقيق سببه لا محالة)(1).
وهكذا نجد أنَّ بإمكاننا تعليل الحوادث التاريخيّة، بإعادتها إلى الجنس أو البيئة أو المحيط أو أيّ عامل من العوامل الطبيعيّة أو البشرية الأخرى ـــ من دون أن يكون ذلك عبثاً ـــ كما يقول زريق ـــ نظراً إلى أنّ الحادثة التاريخيّة ــــ كبقيّة الحوادث الجارية في الحياة ـــ مرتبطة بجذورها البعيدة وبظروفها الزمنية وبمجتمعها الإنساني، وطبيعة تكوينه وطبيعة نظم الحياة يسير عليها، والعقائد التي يعتنقها والرواسب التي ترسّبت في ذهنيّته من ماضيه القريب والبعيد، من دون فرق في ذلك بين أيّ حادثة تاريخيّة حتى الحوادث التي رافقت نشوء الإسلام ونموّه، فإنّها لم تجرِ إلاّ على وفق السّنن العادية للكون، وبذلك اضطُهد واستُشهِد من استُشهِد وأخفقت الدعوة في بعض مراحلها ونجحت في البعض الآخر.. كلّ ذلك لأنّ الله أراد للحياة، التي خلقها وأودعها نظامه العظيم، أن تجري على وفق هذا النظام ولا تتخلَّف عنه في كلّ مرحلة من مراحلها وحادثة من حوادثها.
مع المؤرّخين في قصّة المبعث
نموذج تطبيقي
ليست صلتنا بقضية المبعث النبويّ صلة ذكرى نعيشها فتستوقفنا قليلاً ثمّ لا تلبث أن يلفّها الصّمت في غمار النسيان، وإنّما هي صلة العقيدة بمولدها، والرسالة بمنطقها، والإنسان بانطلاقة كيانه وبداية مجده.
إنّها الحدث الذي هزّ كيان الإنسانية، بعد أن غفا مدّة من الزمن، وفتح كلّ جانب من جوانب الحياة على الحقّ والخير والجمال، وانطلق بالإنسان إلى حياة مُثلى يسودها العدل والأمن، بينما تنفجر أعماقها بالفكر النيّر والروحيّة الخلاّقة المبدعة، في عملية خصب وعطاء. وهي ـــ بعد ذلك ـــ قضيّة الحياة الكبرى التي تنطلق لتبلغ بنا شاطئ الأمن والسّلامة.
تلك هي قصّة المبعث كما نتمثّلها في أعماقنا، وكما يعيها الفكر الناقد الذي يلائم بين البداية والنهاية، فلا يتصوَّر البداية إلاّ بالعظمة التي تسير بها النهاية، لاسيّما إذا كانت البداية بداية نبوّة ورسالة، تستهدف إعداد إنسان ما لحمل فكرة السماء على الأرض، ولتبديل القِيَم الجاهلية، بقِيَم إسلامية جديدة، لتهزّ الضمير الإنساني في عملية تجديد وإيداع.
لا بدَّ لهذه البداية من أن تكون رائعة في جوّها وتفاصيلها ولا بدّ لهذا الإنسان من أن يكون عظيماً في وعيه وتفكيره وقوّته، لأنَّ قضية النبوّة تختلف عن أيّة قضية أخرى من حيث طبيعة المرسل والرسول والرسالة.
أمّا أن تكون تلك البداية مسرحاً لتفصيلات مسرحية وقصصيّة يراد منها خلق جوّ من الرعب في نفوس الجمهور.. فهذا ما لا نستطيع أن نصدّقه بالنسبة إلى قضية عادية، فكيف بقضية الحياة الكبرى.
والآن ماذا يقول التاريخ في قضية المبعث وماذا يصوّر. إنَّنا لن نتدخّل في تفكير القارئ فنعلّق على هذه القصّة التاريخية، وإنَّما نعرضها له أوّلاً ـــ كما وردت في تاريخنا القديم ـــ ليحتفظ بذوقه وتفكيره.
مشهد مضطرب
جاء في الدرّ المنثور للسيوطي:
(أخرج عبد الرزّاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وابن جرير، وابن الأنباري في المصاحف وابن مردويّة والبيهقي من طريق ابن شهاب عن عروة ابن الزّبير عن عائشة أم المؤمنين أنّها قالت: أوّل ما بُدِئَ به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من الوحي الرؤيا الصّالحة، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصّبح، ثمّ حبّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنَّث فيه وهو التعبّد في اللّيالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها، حتّى جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فجاء الملك فقال: إقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني: فقال {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}(1).
فرجع بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يزحف بها فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زمّلوني فزمّلوه حتّى ذهب عنه الرَّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقرّب الضعيف، وتعين على نوائب الحقّ. فانطلقت به خديجة حتّى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عم خديجة، وكان امرأً قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عميَ، فقالت له خديجة: يا بن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: ما ترى يا بن أخي فأخبره رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا والله الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني أكون فيها جذعاً، يا ليتني أكون فيها حيّاً إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): أو مخرجيّ هم. قال: نعم. لم يأتِ رجل بمثل ما جئت به إلاّ عودى، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً)(1).
هذه إحدى الصور التي رويت في قصّة مولد البعثة. وأنت إذا تأمّلت فيها فلن تجد أمامك الجوّ الذي يسوده الهدوء والطمأنينة والوداعة التي تنسجم مع طبيعة القضية التي يناط بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أمر القيام بها والدعوة إليها، وإنَّما تجد بدل ذلك جوّاً يسوده الرعب والخوف والترويع، كأنَّ الغرض منه بثّ الرعب والخوف في قلب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وإظهار القوّة والرهبة أمامه من قبل الملك.
ولن تجد في الوقت نفسه النبيّ الذي يثق بنفسه، ويعي ما حوله، ويفكّر في ما رأى ـــ وقد رأى حقاً كما تقول الرواية ـــ وإنّما ترى أمامك الإنسان الخائف الوجل الذي يرجف فؤاده، ويخفق قلبه، ويخشى على نفسه أن يكون قد عرض له عارض من مسّ، لولا أن تثبته خديجة بكلامها. وهكذا يتمثّل لنا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ـــ في هذه الرواية ـــ في موقف الحائر الذي لا يدري ماذا يصنع، وماذا يُفعل به، فتقوده خديجة إلى ورقة الذي فرضته القصّة نصرانياً يكتب الانجيل بالعبرانية، فلا يلبث بعد سماعه كلام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) حتّى يجزم له بأنّه نبيّ، كأنّه يدري بتفاصيل البعثة قبل ذلك، وكأنّ التفاصيل مذكورة في الكتب المقدّسة السابقة، لا مجرّد الإشارة إلى نبوّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وصفاته، ثم لا نعرف قوله (وإن يدركني يومك..) بعد أن كان يومه قد حان في ذلك الوقت نفسه.
والواقع أنَّنا لا نعقل أن يبعث الله النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهو أفضل أنبيائه، بأفضل رسالاته، ثمّ يحوجه إلى أن يثبت نبوّته لنفسه ـــ لا للآخرين ـــ بواسطة خديجة أو ورقة، من دون أن يظهر له البرهان الواضح من قبله تعالى شأنه.
غرابة الموقف
ولن يقف بك المؤرّخون عند هذا اللّون من القصّة، وإنّما يعرضونها لك بلونٍ آخر يزيد دهشة، كما يزيد الموقف غرابة وإثارة للفضول. يروي ابن مردويه عن عائشة: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) اعتكف هو وخديجة شهراً فوافق ذلك رمضان، فخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وسمع السّلام عليكم، قالت: فظننت فجأة الجنّ. فقال: أبشروا فإنَّ السّلام خير. ثمّ رأى يوماً آخر جبريل على الشّمس له جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، قال: فهبَّت منه فانطلق يريد أهله، فإذا هو بجبريل بينه وبين الباب، قال: فكلّمني حتّى أنست منه، ثمّ وعدني موعداً فجئت لموعده، واحتبس عليّ جبريل، فلمّا أراد أن يرجع إذا به وبميكائيل، فهبط جبريل إلى الأرض وميكائيل بين السّماء والأرض فأخذني جبريل فصلقني لحلاوة القفا، وشقّ عن بطني، فأخرج منه ما شاء الله، ثمّ غسله في طست من ذهب، ثمّ أعاد فيه، ثمّ كفأني كما يكفأ الإناء، ثمّ ختم في ظهري حتّى وجدت مسّ الخاتم، ثمّ قال لي: إقرأ باسم ربّك الذي خلق ولم أقرأ كتاباً قط، فأخذ بحلقي حتّى أجهشت بالبكاء، ثمّ قال لي: إقرأ باسم ربّك الذي خلق، إلى قوله تعالى ما لم يعلم، قال: فما نسيت شيئاً بعده، ثمّ وزنني جبريل برجل فوازنته، ثمّ وزنني بآخر فوازنته، ثمّ وزنني بمائة فقال: تبعته أُمّته وربّ الكعبة، ثمّ جئت إلى منزلي فلم يلقني حجر ولا شجر إلاّ قال: يا رسول الله، حتّى دخلت على خديجة فقالت: السلام عليك يا رسول الله.
هذا هو اللّون الآخر يعرضه لك المؤرّخون لقصّة مولد الرسالة، وهو يختلف عن اللّون الأول بالطريقة التي ابتدأ النبيّ بها أمره، فقد كان السّلام أوّل ما بدأ به الملك، وهو تمهيد جميل للتعارف، وليأمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) جانب جبريل فيستطيع أن يأتي به إلى موعده حيث أجرى له تلك العملية الجراحيّة، فأخرج من بطنه ما شاء الله ما لا نعرف كنهه، كأنَّ النبوّة تتوقّف على عملية جراحية تطهّر الجسد من بعض الأشياء التي لا تتناسب ومقام النبوّة، أو لا تتّفق مع بعض مقتضياتها، ولا نعرف ما هو السبب لطريقة العنف هذه التي اتّبعها جبريل مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) (فكفأني كما يكفأ الإناء)، ألم يكن بإمكانه أن يطلب منه أن يكشف عن ظهره ليختم عليه، بدلاً من هذه الطريقة التي اتّبعها مع النبيّ ليقرأ حتّى أجهش بالبكاء.
وتأتي في النهاية عملية الوزن والمكيال، فلا ندري ما معناه، وهل أنّ القضية كانت قضية اختبار لمدى نجاح النبيّ في دعوته، واتباع أمّته له... كأنّهما لا يدريان عن ذلك شيئاً إلاّ إذا بلغ النبيّ وزناً مخصوصاً، حتّى إذا بلغه صاح ميكائيل فرحاً (تبعته أمّته وربّ الكعبة) كأنَّ الأمر مفاجأة طيّبة له.
صورة اللامعقول
ويمضي المؤرّخون في قصصهم، ويعرضون لوناً آخر من ألوان اختبار خديجة للنبوّة، لتعطي للنبيّ رأيها في ما إذا كان نبيّاً أو لا، ليعمل بعد ذلك على أساسه.
فقد روى ابن الأثير في كامله الرواية المتقدّمة (ج2، ص41) وزاد فيه: (وقالت خديجة لرسول الله في ما تثبته في ما أكرمه الله به من نبوّته: يا بن عمّ أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك قال: نعم. فجاءه جبريل فأعلمها، فقالت: قمّ فاجلس على فخذي اليسرى فقام فجلس عليها، فقالت: هل تراه، قال: نعم، قالت: فتحوّل فاقعد على فخذي اليمنى فجلس عليها، فقالت: هل تراه، قال: نعم، فتحسّرت، فألقت خمارها ورسول الله في حجرها، ثمّ قالت: هل تراه، قال: لا. قالت: يا بن عمّ أن أثبت وأبشر. فوالله إنّه ملك وما هو بشيطان).
ورواه الطبري في تاريخه وفي الاستيعاب أيضاً.
إنَّ هذا اللّون يمثّل لنا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في دور الرجل السّاذج، الذي لا يعرف ماذا يصنع، ولذا هو يستسلم لخديجة لتدلّه على الدرب الذي يتعيَّن عليه سلوكه، كأنّها تعلم من دلائل الوحي وعلائم النبوّة وطبائع الملائكة وعاداتهم ما لا يعلم، ولذا بادرت إلى إخبار النبيّ بأنَّ ما يأتيه ملك وليس بشيطان، لأنّه اختفى عندما حسرت عن رأسها، لأنَّ الملائكة لا تحضر عند كشف المرأة كما تقول الرواية.
محاكمة التاريخ بدقّة
ولن يقف الأمر بنا عند هذا الحدّ، في معرفة أوجه الاختراع في هذه القصص، فهناك رواية أخرى تناقض هذه الرواية التي تثبت أنّ سورة {اقْرَأْ} هي أوّل ما أنزل.
فقد روى البخاري في تفسير سورة المدثّر عن أبي سلمة قال: (سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل أوّل فقال: يا أيُّها المدثّر. فقلت: أنبئت أنّه اقرأ باسم ربّك الذي خلق(1) فقال: لا أخبرك إلاّ بما قال رسول الله. قال (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): كنت في حراء، فلمّا قضيت جواري هبطت فاستنبطت الوادي، فنوديت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي، فإذا هو جالس على عرش بين السّماء والأرض، فأتيت خديجة فقلت دثّروني وصبّوا عليَّ ماءً بارداً، وأنزل: يا أيُّها المدثّر قمّ فأنذر وربّك فكبِّر)(1).
وفي رواية ـــ كما في مجمع البيان ـــ: (فحييت منه فرقاً حتّى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي فقلت زملوني فصبّوا عليَّ ماءً بارداً فنزل يا أيُّها المدثّر).
وهذه الرواية كسابقتها في الاختراع. ونكتفي بنقل كلام الشيخ الطبرسي في مجمع البيان تعليقاً عليها إذ قال ـــ بعد أن نقلها ـــ: (وفي هذا ما فيه، لأنَّ الله تعالى لا يوحي إلى رسول إلاّ بالبراهين النيّرة والآيات البيّنة الدالّة على أنّ ما يوحي إليه إنّما هو من الله تعالى فلا يحتاج إلى شيء سواه ولا يفزع ولا يفرق).
تلك هي الألوان التي يرويها المؤرّخون لقصّة مولد البعثة، وقد عرضناها عليك، لتعرف كيف غزا الارتباك والوضع والاختراع تاريخنا الإسلامي وكيف يلزمنا الوقوف طويلاً عند ما ينقله من أحاديث وقضايا قبل أن نصدّق منها حرفاً واحداً، ومحاكمة تاريخنا محاكمة دقيقة، لنستطيع جلاء مقوّماتنا التاريخيّة بوضوح واتّزان.
حول دراسة
حياة الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)
إنَّ دراسة حياة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) من الأمور التي نحسّ ويحسّ كثير من المسلمين بضرورة العمل على تحقيقها بدقّة ووضوح، لأنَّ لها صلة كبيرة بالجانب العقائدي من حياتنا، وبالجوانب الفكرية والروحية من ثقافتنا وديننا وتاريخنا.
ونستطيع أن ندرك جيّداً مدى ضرورة هذه الدراسة، ومدى صلتها بحياتنا إذا لاحظنا: أنَّ الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) ـــ في ما نراه ـــ يمثّلون الامتداد الرسالي للدعوة الإسلامية.
فقد كانت مهمّتهم بعد إقصائهم عن موقعهم القيادي الذي وضعهم الله تعالى فيه توضيح القضايا الإسلامية التي اعتراها الغموض والإبهام بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بسبب الظروف والملابسات الكثيرة التي رافقت الإسلام في تلك الفترات، والقيام بدور الحارس الأمين للقِيَم والمفاهيم الإسلامية، حذراً من أن تُشوَّه أو تحرّف وفقاً لمقتضيات الظروف السياسية للحاكمين، الذين تحيط بهم فئة من المرتزقة، تتملَّق للحكم في كلّ نزوة من نزواته وشهوة من شهواته، فتعد لها تفسيراً يتلاءم معها، ومبرّراً يستر فضائحها، على حساب المفاهيم العامّة التي تشوّه وتحرّف كما يشاء الحكم، وكما يريد الحاكم.
وهنا نشعر بثقل المهمّة الملقاة على عواتقهم وهم يتحدّثون عن كلّ هذه المؤثّرات، وكلّ هذه العقبات، ليوجّهوا وليوضحوا وليحدّدوا تلك المفاهيم، فلا يبقى هناك مجال للتشويه وللتحريف.
كلّ ذلك بأساليب عديدة كانت الثورة منها، كما شاهدناه في نهضة الحسين (عليه السلام) العظيمة.. وكان الدعاء الموجّه من بعضها، كما رأيناه في حياة زين العابدين (عليه السلام).
وكان التوجيه والتثقيف والبحث والمناظرة من جملتها، كما نقرؤه في حياة الإمام الباقر وولده الصادق وبقيّة الأئمّة (عليهم السلام)، حسب الظروف الزمنية التي قد تسمح لبعضهم بأكثر ممّا تسمح به للبعض الآخر.
وقد اجتمع لدينا من ذلك كلّه ثروة علمية دينية، حصلنا منها على الشيء الكثير في مختلف مجالات الحياة بفضل الدراسة الموضوعيّة الحرّة.
رسالة الأئمّة
وكان الخلفاء من بني أُميّة ومن بني العبّاس، يتحيّنون الفرص للوقوف أمام الأئمّة في تأدية رسالتهم، ويتفنَّنون في اختراع أساليب الاضطهاد والتعذيب للأئمّة وأصحابهم، حتّى كان أهون على الإنسان في بعض تلك الفترات أن يقال له يهودي من أن يقال عنه إنّه يتشيَّع لأهل البيت (عليهم السلام).
لماذا كان هذا؟ مع أنَّ الأئمّة (عليهم السلام) لم يعلنوا الثورة ضدّ أيّ شخص من هؤلاء، منذ ثورة الحسين (عليه السلام).
ولو دقَّقنا النظر، لعرفنا أنَّ السبب في ذلك يعود إلى أنّ الثورة التي حمل الحسين (عليه السلام) لواءها، تحوّلت نتيجة الظروف إلى ثورة فكرية وروحيّة يقودها الأئمّة (عليهم السلام) ضدّ الظلم والطغيان والتفسّخ الخلقي الذي كان يمثّله الكثيرون من هؤلاء.
وتتمثَّل هذه الثورة في الرسالة التي يحملها الأئمّة من أهل البيت، وهي قيامهم بعرض الإسلام للناس بحقيقته وواقعه، بعيداً عن تحريف المحرِّفين وتشويه المشوِّهين.
الإسلام: الذي يلعن الظلم والظالمين ويصرخ بهم مهدّداً ومتوعّداً، ويدعو إلى محاربتهم ومقاطعتهم ويلعن من يتعاون معهم.
الإسلام: الذي يعتبر الأُمّة مسؤولة عن تولّي الظالمين للحكم، لأنّها تقدّم لهم الطاعة والمعونة على إدارة شؤون الدولة، ممّا يسهّل لهم مهمّة التحكُّم في رقاب العباد ومقدّراتهم. وإلاّ فما عسى أن يفعل فرد أو جماعة أمام إرادة الملايين من أبناء الأُمّة، الذين لو قاموا بمقاطعته فقط فلا يلبث حكمه أن ينهار ويتلاشى، ليُفسح المجال أمام حكم عادل يعمل للمصلحة الإسلامية العليا، قبل كلّ شيء.
الإسلام: الذي يقدّم العدالة الاجتماعية بأروع صورها للنّاس، متمثّلة في مساواة الحاكم للمحكوم أمام القانون العادل.
ومن الطبيعي أنّ عرض الإسلام بهذه الصورة المضيئة يتعارض والمصالح الشخصيّة، لأولئك الذين كانت أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم معلّقة بكلمة تصدر منهم أو شهوة تعرض لهم، من دون أن يحاذروا رقيباً أو حسيباً بسبب الضغط والإرهاب، بالإضافة إلى ما دفعوا إليه المجتمع الإسلامي من الانحدار الخلقي والروحي والفكري.
لذلك كنّا نجد كلّ فرد منهم، لا يكاد يتولّى الحكم حتّى يكون موقفه من الإمام الذي يعاصره أوّل ما يفكّر فيه، وفي الطريقة التي يمكنه أن يقضي على الأصوات الخيِّرة التي تنطلق من الدعوة الإسلامية الصريحة، وعلى التفكير الثوري الذي كانت تعاليم الأئمّة تركّزه في أعماق الأُمّة.. فكان القتل بالسمِّ وبغيره، وكان الاضطهاد، وكان التعذيب، وكان السّجن، وغير ذلك من الأساليب التي تعرَّضَ لها الأئمّة (عليهم السلام) من جبابرة زمانهم.
ولكن.. متى كانت هذه الأساليب تقتل فكرة أو تخنق ثورة، ومتى كان الظلم يستطيع أن يحجب الشّعاع الخيِّر المنطلق من نفوس المصلحين وعقولهم مهما أثار من الغبار، ومهما حشد من الضباب.
نحن بحاجة ماسّة إلى دراسة حياة الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)، لأنَّ مثل هذه الدراسة تلتقي بآفاق جديدة في العلم والدين والأخلاق، والسلوك والنفس والمجتمع، كما إنّها تستطيع أن تعطينا حلولاً كثيرة لما نجابه من مشاكل فكرية وروحيّة، وتبعدنا عن جوّ السطحية والسذاجة اللتين لا نزال نعالج مشاكلنا على أساسهما.
علينا أن نضع أيدينا على المعين الصافي الذي انطلق منه الإسلام وعاش فيه، ولن نجد إلاّ الريّ لظمأ المعرفة، الذي يملأ أرواحنا وأفكارنا، ولن نحصل إلاّ على الراحة والطمأنينة، والتخلُّص من القلق النفسي الذي يعصف بحياتنا ويبعثر خطواتنا في دربنا الطويل.
الينبوع الصافي
ونجد أنّ من الإخلاص لحديثنا، أن نرجع قليلاً لحديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والملابسات التي تعرَّض لها، لاسيّما أنّ حديث الأئمّة (عليهم السلام) يعتبر امتداداً لحديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ومتفرّعاً عنه ومستمدّاً منه، فإنّهم أمناؤه على شريعته وخلفاؤه في أُمّته، يوضحون للناس دينهم، ويقرّبونه إليهم بأساليب متعدّدة، ومهما اختلفت فإنّها لن تنفصل عن الينبوع الصافي الذي يتفجَّر من حديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وكلامه، ولهم من عصمة الله في ما يقولون وفي ما يفعلون، ما يرفع عنهم الخطأ في القول، أو الغفلة في الحكم.
وقد صرَّحوا بذلك في ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال: "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وحديث رسول الله قول الله تعالى"(1).
وكان أحمد بن حنبل إذا روى عن الإمام موسى بن جعفر قال: حدّثني موسى بن جعفر، قال: حدّثني جعفر، قال: حدّثني أبي أبو جعفر، حدّثني أبي محمد بن عليّ، حدّثني عليّ بن الحسين، حدّثني أبي الحسين بن عليّ، حدّثني أبي عليّ بن أبي طالب، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
ثمّ قال أحمد: وهذا إسناد لو قرئ على المجنون لأفاق(1).
وإذا عرفنا ارتباط حديثهم بالسنّة النبويّة المطهّرة، عرفنا سرّ التشابه بين ظروف السُنّة وظروفه، في ما يتعرّض له كلّ منهما من وضع وتحريف وتشويه.
أسباب التزوير
وقيمة الحديث أو السُنّة في حياتنا كبيرة وعظيمة، لأنّها تتكفَّل بشرح المبادئ الإسلامية العامّة التي نزل بها القرآن، وتخطيط المفاهيم الواسعة التي أجملها كتاب الله.
لذلك فلن يكون غريباً أن نرى المسلمين يدأبون على حفظه وضبطه، ولاسيّما بعد اتّساع رقعة الدين الجديد، واحتياج الناس إلى مبلّغين ومرشدين، ليعلّموهم مبادئ الإسلام وتعاليمه، ولن يكون ذلك إلاّ عن طريق القرآن والسُنّة، وهنا بدأ المسلمون يتلمّسون قيمة ما يحفظون وما يحدّثون.
وكان من بين الداخلين إلى الدين الجديد، من جذبته الرغبة في المغانم التي بدأ المسلمون يغتنموها من وراء الفتوحات، ومن كانت الرهبة والخوف من قوّة هذا الدّين هما الحافز له على الدخول فيه، وقد اندسّ هؤلاء بين الجماهير الواعية المخلصة، التي دخلت عن وعي وهدي وبصيرة، ليلعبوا ويخرِّبوا ويعملوا على الإساءة إليه بكلّ ما أوتوا من قوّة.
وكان من الطبيعي أن يستغلّ هؤلاء الراغبون، هذه الأهمية للحديث وهذه الحاجة إليه، فابتدأت الأكاذيب، وابتدأ الوضع ينتشر أمام سمع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وبصره، وإذا بنا نسمع أحكاماً جديدة، ومفاهيم جديدة ما أنزل الله بها من سلطان، حتّى اضطر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى أن يتوعَّد هؤلاء وكلّ إنسان تُسوِّل له نفسه الكذب على الله وعلى رسوله بعقاب النار، لأنَّ ذلك يعرِّض الإسلام ومفاهيمه للارتباك والاضطراب والتشويه والتحريف، الأمر الذي قد يهيّئ لأعدائه فرصة الإجهاز عليه وهو في مهده.
ولبّى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) نداء ربّه، وبدأت أهمية الحديث تزداد، وبدأ المحدّثون عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يتّخذون صفة الحفظة للدين، والحاملين له، والحارسين للشريعة، وبدأوا يجنون ثمار ما حفظوه وما نقلوه، فقد أصبح لهم على القائمين بالأمر حقّ المشورة في أمور الدّين عندما تعرض مشكلة أو تحدث حادثة وليس فيها حكم واضح وصريح.
وتنفَّس الوُضّاع الصّعداء، فقد اتّسع لهم المجال بعد أن خفَّت رقابة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عليهم، وتسلّلت الأحاديث المكذوبة إلى الناس وتداولتها الألسن، ولم يمضِ زمان قليل حتى أصبحت حديثاً يحدث به ليُحفظ، ورواية تروى لتنقل ويعمل بها، كما يعمل بأيّ حديث صحيح صادر من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
وتوسَّع الأمر بعد أن بدأت الفتن الداخلية تغزو حياة المسلمين، وأصبح على الانتهازيين والوصوليين أن يُلَفِّقوا الحديث ويضعوه لتأييد بعض المفلسين الذين ليس لهم سابقة في إيمان ولا جهاد في الإسلام، ممّن استولوا على مقدّرات المسلمين ظلماً وعدواناً كمعاوية وأشباهه.
وكان أن دخلت إلى الحياة الإسلامية طائفة جديدة من الأحاديث ما لبثت أن نشأ عليها الأطفال وشاب عليها الكبار، بسبب السياسة التي اتّبعتها السلطة الباغية آنذاك في تركيزها في نفوس المسلمين.
ولم تكن الفتن والحروب وما أخذ به المسلمون من أسباب اللّهو والترف في حياتهم الجديدة، لتسمح لهم أو لتترك لهم مجالاً لأن يلتفتوا إلى هذا الزيف، فضلاً عن أن يحاولوا فضحه وإنقاذ الإسلام منه.
وهكذا اختلط الحابل بالنابل والجيد بالردئ ـــ كما يقولون ـــ وأصبح تمييز الحديث الصحيح من الفاسد والصادق من الكاذب يحتاج إلى علم وخبرة ودراية ووعي ديني عميق.
جلاء المفاهيم
وبدأ الأئمّة يعانون أشدّ المشاقّ والعقبات، في سبيل إنقاذ الإسلام من هذه التركة الثقيلة التي خلّفتها الأوضاع الشاذّة التي قدّمنا الإشارة إليها، فقد كانت مهمّتهم هي المحافظة على نصاعة الإسلام وإشراقه وجلاء مفاهيمه بوضوح مهما كلّفهم الأمر، وكانت الظروف تشتدّ حيناً وتنفرج حيناً، وكانت لحظات الانفراج، أو فتراته، هي المجال الوحيد لنشر توجيهاتهم وبثّ تعاليمهم المقدّسة.
وجاء عصر الصّادق (عليه السلام) في فترة انفراج واسعة نسبياً، بسبب الظّرف الذي كان فترة انتقال الحكم من الأمويين إلى العباسيين، واشتغال كلا الطّرفين بشؤونه وملكه عن الإساءة للإمام (عليه السلام) أو منعه عن ممارسة نشاطه في الدعوة إلى الحقّ وتعريف الناس، وبدأ الإمام (عليه السلام) ثورته التثقيفيّة بين المسلمين بأساليب متعدّدة، تختلف حسب اختلاف عقلية السائلين والمجادلين.
وانتشرت أحاديثه انتشاراً هائلاً، وكثر الرواة لها في جميع الطّبقات من شيعته وغيرهم، لاسيّما وقد أصبح الحديث والرواية علماً مستقلاً بذاته في ذلك الوقت.
وقد أفرد الحافظ أبو العبّاس أحمد بن عقدة الكوفي الزّيدي كتاباً فيمن روى عنه (عليه السلام) جمع فيه أربعة آلاف رجل وذكر مصنّفاتهم، ولم يذكر جميع من روى عنه. ويقول الحسن بن عليّ الوشاء في ما روي عنه (أدركت في هذا المسجد ـــ يعني مسجد الكوفة ـــ تسعمائة شيخ كلٌّ يقول حدّثني جعفر بن محمد).
وأعطت هذه الثورة ثمارها فقد بدأت المفاهيم الإسلامية تأخذ طريقها إلى الوضوح بسبب ما أُثير حولها من جدل وسؤال، وبدأت الحركة العلمية تزدهر وتنمو، وبدأ الجمود الذي سيطر على أذهان المسلمين وتفكيرهم يتلاشى تدريجاً. كلّ ذلك بفضل الحركة التي أثارها الإمام الصادق في مجتمعه في تلك الفترة الانتقالية في شتّى الجوانب والقضايا في إطار إسلامي رائع.
مواجهة جديدة
ولم يعجب ذوي النفوس المريضة هذا الإشراق الذي بدأت تتجلَّى فيه المبادئ الإسلامية، وهذا التفكير الجدّي المرن الذي بدأ يغزو حياة المسلمين في طريق مستقيم لاحبٍ، ولم يرضَ الحاكمون أن يكون للإمام الصادق (عليه السلام)، أو الأئمّة بوجهٍ عام، هذه المكانة وهذه المنزلة في نفوس المسلمين، أو يكون لحديثهم هذه المرتبة من القدسية والتقدير، ولم يكن في حياة الأئمّة أيّ مغمز أو ملمز أو مجال ينفذون منه إلى أغراضهم وأهدافهم العدوانية تجاههم، إذ ليس في حياتهم ما يؤاخذون به أو يُنقدون عليه، لأنّها كانت المثال الحيّ للحياة الإسلامية الناصعة في مثاليّتها وروحيّتها.
فلم يبقَ إلاّ الكذب.. وبدأ الوُضّاع يختلقون الأحاديث عنه وينسبونها إليه، ممّا يتنافى وأصول العقيدة الإسلامية، الأمر الذي سبب ارتباكاً واضطراباً للمخلصين الذين يحاولون المحافظة على قدسية هذا التراث ونصاعته، ممّا اضطرّ الإمام الصّادق (عليه السلام) لأن ينبّه المسلمين إلى خطر هذه الأكاذيب، وإلى أن يجعل لهم قياساً يقيسون به ما يأخذون عنه وما يدعون.
فقد جاءنا الحديث الصحيح عن هشام بن الحكم أنّ أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: "لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسُنّة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة، فإنّ المغيرة بن سعيد ـــ لعنه الله ـــ دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي، فاتّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالَف قول ربّنا تعالى وسنّة نبيّنا"(1).
وقوله (عليه السلام) لمحمد بن مسلم: "ما جاءك من رواية من برّ أو فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك من رواية من برّ أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به"(2).
وفي كثير من الروايات عنه: "وما خالَف قول ربّنا لم نقله أو زخرف، أو باطل".
وهكذا التقى الأئمّة (عليهم السلام) بجدّهم (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في مشكلة الكذب والكذّابين والوضع والوضّاعين، فلم يكن منهم إلاّ تحذير المسلمين منهم ومن حبائلهم وكيدهم الذي يكيدون الذي يكيدون به للدّين الإسلامي، وإرجاعهم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّهما المقياس الذي تقاس به صحّة ما ينسب إليهم وكذبه، لأنّهم حفظة الكتاب والسُنّة والقائمون عليهما، فلا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يكون حديثهم مخالفاً لهما، بل هو مستمدّ منهما، وراجع إليهما في كلّ أمر من أمور الكون والحياة.
وماذا بعد ذلك:
تنقية التراث
إنَّنا الآن أمام تركة ضخمة من الأحاديث الواردة عن نبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وعن أئمّتنا (عليهم السلام) في شتّى القضايا والشؤون الخاصّة والعامّة، من تقييم لشخصيات إسلامية أو بيان لأحكام الإسلام وتعاليمه، أو شرح لمفاهيم الإسلام وموقف المسلم من حياته، وما يعرض فيها من حوادث وقضايا لا بدّ للمسلم أن يحدّد موقفه منها وأن يكوِّن له نظرة فيها.
وفي هذه الأحاديث الكثير من الغثّ والسّمين، وفيها الكثير من الكذب والموضوع، فماذا سيكون موقفنا منها؟
هل نقتصر على محاكمة الأحاديث التي تتعلَّق بالأحكام الفقهية في الواجبات والمحرَّمات، فندقّق في صحّتها من حيث سندها ومحتواها ـــ كما فعلنا ـــ فقد أجهد الفقهاء رحمهم الله، أنفسهم في تمييز الصحيح من الضعيف في هذه الأحاديث في ما يتعلَّق بالأحكام الشرعية، وما يحتاج الفقيه إليه في الاستنباط، فأخذوا الصحيح وتركوا الضعيف.
ويعتذر الكثيرون عن ذلك وعن عدم التعرّض لأخبار الفضائل والمناقب والمواعظ وغيرها، بأنَّ تلك ليست محلاًّ لأثر شرعي، فلا مانع من أن تبقى على ما هي عليه من دون تنقيب أو تفتيش.
ولكن يخطئ هؤلاء عندما يظنُّون هذا الظنّ أو يزعمون هذا الزّعم، فإنَّ قيمة هذه الأحاديث لا تقلّ عن قيمة الأحاديث التي تتعرَّض للحلال والحرام في بعض النواحي، لأنّها تتّصل اتّصالاً وثيقاً بسلوك المسلم وتربيته وتوجيهه في مجاله العائلي والاجتماعي.
فربّ نظرة واحدة مدسوسة في بعض هذه الأحاديث تكون كافية لتهديم مجتمع كامل، لأنّها توجّه هذا المجتمع إلى وجهة قد يكون نصيبه فيها الهلاك والدمار.
وربّ فكرة واحدة تُعرض على أنّها فكرة إسلامية خالصة، تكون سبباً لتشويه الإسلام، وإظهاره بالمظهر السيّئ في معالجته للمشاكل الحياتية وفي نظرته للكون والحياة، والإسلام بريء من ذلك كلّه.
إنَّنا بحاجة ماسّة إلى تنقية تراثنا الإسلامي الخالد من الطفيليّات التي نشأت في أحضان الدسّ والتحريف، وإلى التشدُّد في محاكمة هذا التراث في كلّ ناحية من النواحي، سواء ما يتعلّق منها بالنواحي العقائدية أو العملية أو التربوية وغيرها، نظراً إلى أنّ التهاون والتساهل في ذلك يعرِّض المصلحة الإسلامية العليا للخطر، ويعرّض الإسلام للتشويه، من قِبَل الساذجين والمغرضين، الذين يهمّهم قبل كلّ شيء أن يضرب الحديث على الوتر الحسّاس، ولا يهمّ بعد ذلك إنْ كان الحديث صادقاً أو كاذباً، أو كان مضرّاً بالإسلام أو غير مضرّ.
إنّ الأئمّة (عليهم السلام) قد وضعوا لنا مقياساً نقيس به قيمة ما للحديث من صحّة من حيث صدوره ومن حيث محتواه، فعلينا أن نراعيه في كلّ ما نقرؤه ونراه، لنكون قد أدّينا رسالتنا كاملة بين هذه التيّارات المتضاربة التي تحيط بالإسلام من كلّ جانب.
مقاييس تنقية التراث
ونودّ أن نختم حديثنا بتوضيح المقياس الذي وضعه لنا الأئمّة (عليهم السلام)، لتمييز الصحيح من الفاسد، والمقبول من المردود من حديثهم وحديث جدّهم الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ونكتفي بعرضٍ سريع للشروط التي يلزم توفّرها في الخبر لكي يكون مقبولاً ـــ فيما إذا كان سنده ظنيّاً غير قطعي ـــ وهي كما يلي:
1 ـــ أن يكون متّفقاً والضرورة العقلية.
فإذا اتّفق أن جاءنا حديث يصادم الدليل العقلي القطعي، فإنَّنا لا نتوقّف عن رفضه وطرحه أو تأويله، إذ لا يمكن بأن يتفوَّه نبيّ مرسل أو إمام معصوم بما يصطدم والضرورة العقلية.
2 ـــ أن يتّفق والمحتوى القطعي لكتاب الله وسنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أو لا يختلف معه ـــ على الأقلّ ـــ. أمّا إذا فقد هذا الشرط فإنّه يطرح أو يلتزم بتأويله ـــ فيما إذا كان هناك مجال للتأويل ـــ وقد تقدّم عن الإمام الصادق (عليه السلام) ما يدلّ على ذلك.
3 ـــ أن يكون الراوي موثوقاً به، مأموناً من الخيانة والكذب، أو عدلاً على بعض الآراء، وربّما يكتفي بعضهم بوثاقة الخبر بدون التفات إلى وثاقة الراوي، فمتى فقد هذا الشرط كان الخبر غير معتبر أيّاً كان مضمونه ومحتواه.
4 ـــ أن لا يكون له معارض يكافئه في شروط الصحّة ويصادمه في محتواه ومضمونه، وإلاّ فلا نستطيع قبولهما معاً، لأنّه التزام بالمتناقضين أو المتضادّين، وهو ممّا لا يمكن صدوره عن عاقل فضلاً عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والإمام (عليه السلام)، ولا نتمكّن من الأخذ بأحدهما بعينه، لأنَّه ترجيح بلا مرجّح وهو قبيح بحكم العقل.
5 ـــ أن يكون له أثر شرعي، فإذا كان الخبر الظنّي متعلّقاً بأمور أخرى بعيدة عن أمور الشريعة، كما في الأخبار المتعلّقة بالسماء والعالم وغيرهما، فلا يقبل إلاّ أن يحصل القطع بمضمونه أو بصدوره من جهةٍ أخرى، إذ لا دليل لنا على الاعتناء بالظنّ في غير الأمور الشرعية.
هذه هي الشروط ـــ التي لا بدّ من توفّرها في الخبر ليكون مقبولاً ـــ نقدّمها لقرّائنا الكرام، أملاً في أن تكون باعثاً للكثيرين، ممّن يبحثون القضايا الإسلامية ورأي الإسلام في قضايا الحياة، كي يدقِّقوا كثيراً في ما يقرؤونه وفي ما يسمعونه من أحاديث منسوبة إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أو الأئمّة (عليهم السلام)، قبل أن يكوّنوا فكرة عن القضايا التي تعالجها هذه الأحاديث، أو الأشخاص الذين تتحدَّث عنهم.
وإلاّ، فإنّهم يسيؤون إلى الروح العلمي المتّزن والفكر الإسلامي، وإلى المصلحة الإسلامية العليا، نظراً إلى أنّ إهمال هذه الناحية الحيويّة قد يؤدّي إلى تشويه كثير من الآراء الدينية وتحريفها، والإساءة إلى فئات إسلامية لها قيمتها ولها وزنها في مجال العلم والدّين، وبالتالي الإفساح في المجال أمام العدوّ، ليمارس دوره المفضّل في تحطيم قوّة المسلمين ووحدتهم كما حدث في الماضي البعيد والقريب.
ولاية أهل البيت في خطّ النظرية والتطبيق
للولاية في الخطّ العقيدي الإسلامي دور القاعدة الفكرية الحركية في معنى القيادة، التي تختصر كلّ المفردات الإسلامية في حركة الواقع على الخطّ المستقيم.
إنَّ مضمون الولاية، سواءً كانت ولاية الله والرسول والأئمّة من أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، ينفتح على الله من حيث هو الربّ الخالق الرازق المهيمن الذي يملك، وعلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من حيث هو الحامل لرسالة الله سبحانه العامل على تأكيدها في الوعي والواقع، وعلى الأئمّة (عليهم السلام) من حيث هم الأُمناء على الرسالة في حمايتها من الانحراف في خطّ النظرية والتطبيق، وتحريكها في صعيد الواقع على أكثر من اتّجاه.
في هذا المضمون، نجد القضية تلتقي مع حاجة الإنسان الذي قد يتخبَّط في المتاهات، وقد يبتعد عن عمق الصفاء في إنسانيّته، لاسيّما في خطوات الشيطان التي تعمل على إغراقه في الوساوس الشيطانية التي تؤدّي به إلى الاهتزاز والقلق والحيرة والانحراف.
فقد يسقط إذا لم يعش الشعور العميق بوجود القوّة المهيمنة الهادية التي تحميه وتقوّيه، وتوحي إليه بأنّها معه دائماً حتّى في أشدّ الحالات صعوبةً، وهذا ما يحسّ به الإنسان في ولاية الله الذي يخرجه من الظلمات إلى النور ويرعاه في كلّ مواقع حياته ويهديه إلى الصراط المستقيم.
أمّا ولاية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فإنَّ دورها هو تحديد الخطّ الواضح الذي تلتقي فيه البداية بالنهاية في وضوح كامل يتميَّز بالصفاء والصدق، وينفتح على الحقّ الذي لا ريب فيه من خلال الإيمان بأنّه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ـــ 4]. فقوله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) هو الحقّ، وفعله هو الخطّ، ومنهجه هو المنهج الصحيح الذي يقود الإنسان إلى السّعادة والنجاة، وشريعته هي الشريعة المشتملة على كلّ حاجات الإنسان الروحية والحياتية، وعلى كلّ تطلُّعاته الخيّرة في الحياة، وقيادته هي القيادة الحكيمة التي تحرّك التطبيق الدقيق في خطّ النظرية.
أمّا ولاية الأئمّة (عليهم السلام) فهم الدُّعاة إلى الله، الأدلاّء على سبيله، والمرجعيات المعصومة عن الخطأ والانحراف التي يطمئن الإنسان إلى الحقّ في كلماتهم وسيرتهم، ليجد فيها المنقذ من الضلال، وليتحرّك معها في الخطّ الإسلامي الأصيل.
إنَّ قيمة الولاية في خطّ الرسالة والإمامة أنّها تلاحق الإنسان في مفاهيمه وحركيّته لتمنحه الوضوح في الخطّ، والسّداد في الرأي، والسلامة في الحياة، والاستقامة في الطريق، والرعاية في الحركة في خطواته السّائرة إلى الله سبحانه. ولذلك فإنَّ الارتباط بها يحمي الإنسان من الانحراف، ويقوده إلى الصراط السّوي، ويمنحه الحنان الذي يتخفَّف فيه من أثقال الحياة التي تثقل روحه وترهق نفسه، فيحسّ معها بالحاجة إلى القيادة التي تربطه بكلمات الله، وتوحي له بالحقيقة في كلّ متاهات الشبهات.
فكيف نفهم ولاية أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في خطّ التطبيق من خلال الارتباط الولائي بهم في الالتزام بهم واتّباعهم؟
إنَّ هناك نقطةً لا بدّ لنا أن نفهمها جيداً، وهي أنَّ الولاية ليست حالةً عاطفية تربط الإنسان بالشخص في عملية حبّ ينبض بها القلب، وتنفتح فيها الروح، ويخفق فيها الشعور، تماماً كما هو الحبّ الذاتي عندما يحبّ إنسان إنساناً فيستغرق في صفاته الذّاتية بعيداً عن خطّه الفكري أو العملي في حركة الرسالة.
كما يتحرّك فيه الكثيرون من الناس الذين كانت علاقتهم بالنبيّ وبالأئمّة علاقة حبّ مستغرق في الذّات، فهم ينفتحون على أشخاصهم وفضائلهم وشؤونهم في دائرة العظمة الذاتيّة، بحيث تكون الرسالة جزءاً من أمجادهم، فالرسالة صفة ذاتية في الرسول ترفع مكانته في النفوس، والإمامة عنصر حيوي في ارتفاع درجة الإمام.
فلا ينظرون إلى الرسالة في حياة الرسول والإمام من حيث هي المسألة الموضوعية الأصيلة، التي ارتفعت بالرسول في روحيّته وفكره وحياته، وفتحت للإمام آفاق المعرفة الواسعة والروح القدسي المنفتح على وحي الله.
فكانت حركة النبيّ في دعوته، وخطّه في كلّ مسيرته الممتدة في حياة الإنسان، في الزّمن كلّه من بعده، وكانت حركة الإمام في تأهيل الفكر الإنساني على أساس تأكيد المفاهيم الإسلامية الرسالية، وتقويم خطواتها في الطريق، وفي الإشراف القيادي على امتداد الرسالة في حياة الناس، وسط التيّارات المضادّة في الأجواء المحيطة بالإسلام والمسلمين، لتمنعها من التأثير على الفكر الإسلامي، وعلى الصوّرة التي يتمثّلها المسلمون في وعيهم الثقافي وحركتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، وفي مسؤولياتهم في مواجهة مهمّاتهم الكبيرة على خطّ الإسلام.
إنّ الولاية الرسولية أوّلاً، والإمامية المنطلقة من ولاية الرسول ثانياً، هي الأساس في دور الرسول والإمام؛ بالمعنى الذي يجعل الرسالة كلّ شيء في الدور، فهي التي تحكم معنى الذّات في وجودهما.
ولذلك لا بدّ من أن يكون الارتباط بالرسول والإمام من خلال الارتباط بالإسلام كقاعدة أساسية في مضمون الحبّ، ومعنى الاتّباع، وامتداد العلاقة، بحيث يتحدَّد مستوى الحبّ بالحدود التي تضعها الرسالة في ارتباط العاطفة بالرموز الدينيّة، فلا غلوّ بالدرجة التي تصل إلى الحدّ الذي يقترب من صفات الألوهية، التي ترتفع بالرمز ليكون إلهاً من الدرجة الثانية.
ولعلَّنا نستوحي هذا الرفض من هذا التأكيد الحاسم المتكرّر في أكثر من آية على بشرية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بحيث تركّز على بعض نقاط الضعف البشرية في الرسول بما لا يتنافى مع موقع العصمة في شخصيّته، ولا يسيء إلى مكانة النبوّة في دوره.
وقد جاء في الحديث عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام): "أَحِبُّونا حبّ الإسلام".
ومعنى ذلك أنّ الحبّ للرسول وللأئمّة (عليهم السلام) لا بدّ أن يكون منطلقاً من الإسلام في مضمونه العاطفي فلا يبتعد عن حدوده، ومتحرِّكاً في خطّ الإسلام من حيث أنّهم يمثّلون فكره وقيمه وخطّه ومنهجه، ليكون الارتباط بهم لوناً من ألوان الارتباط بالإسلام، فلا نفصل بينه وبينهم، ولا نبتعد عنه في التزامنا بهم.
وفي ضوء ذلك كلّه يبرز سؤال، كيف يمكن أن نتمثّل الولاية في حياتنا العملية في المرحلة المعاصرة التي تتحرَّك فيها حياتنا؟
هل يكفي التشديد على إثارة ذكرياتهم والفرح في مناسبات أفراحهم؟ أو الحزن في مناسبات أحزانهم؟ والتركيز على الحديث عن فضائلهم وكراماتهم، والاستغراق في الأجواء العاطفية المرتبطة بهم؟ ليكون ذلك كلّه هو المظهر الحيّ لارتباطنا بهم.
إنَّنا نتصوّر أنّ الولاية في علاقتنا بأهل البيت (عليهم السلام) تتمثّل في الالتزام بالإسلام كلّه، عقيدةً وشريعةً، ومنهجاً في حركتنا في الحياة، وذلك باعتباره رسالتنا التي نحملها إلى العالم، لنعمّق الالتزام الإنساني به في مواجهة التيّارات المضادّة التي تقف من الإسلام موقفاً سلبياً في ساحة الصّراع.. على مستوى الصراع الثقافي والاجتماعي والسياسي، كما تقف من قضايا المسلمين موقفاً استكبارياً محارباً. فذلك هو الذي يمثّله المنهج الرسالي للرسول وأهل البيت (عليهم السلام).
لأنَّ قضية الإسلام والمسلمين هي قضيّتهم الأولى في موقع الأساس، لأنَّ دورهم هو أن يربطوا الناس برسالة الله، لا أن يربطوهم بأشخاصهم في عملية استغراق في الذّات بعيداً عن أصالة الإسلام في الوعي، بحيث يشمل الكيان كلّه في انفتاحه على الله ليكون الله كلّ شيء في العمق الوجودي للإنسان.
لتكون قيمة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في وعينا أنّه رسول الله، وقيمة أهل البيت (عليهم السلام) أنّهم أولياء الله، حتّى لا ننسى الله عندما نذكرهم، ولا ننسى الإسلام عندما نلتفت إلى خطّهم، فليس هناك خطّ للولاية خارج نطاق الإسلام في قيمه الفكرية والروحية والأخلاقية.
وهناك نقطة حيويّة أخرى، وهي أنَّ علينا أن ننفتح على أصالة التراث الإسلامي الفكري الذي تركه أهل البيت (عليهم السلام) لنقوم بدراسته وتوثيقه وتنقيته من كلّ الشوائب العالقة به ممّا وضعه الوضّاعون، وكذب فيه الكذّابون، فلعلّ بعضها يكون مكذوباً عليهم من قبل بعض الناس الذين كانوا يضعون الأحاديث على لسانهم، فينسبونها إليهم زوراً وبهتاناً.
وقد حذّرنا الأئمّة (عليهم السلام) من ذلك ودعونا إلى عرض الأحاديث على كتاب الله، وقالوا لنا: إنَّ ما خالَفَ قول ربّنا لم نقله وما خالَفَ كتاب الله فهو زخرف. لأنَّ القرآن هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلم يقترب إليه التحريف، ولم يستطيع المحرّفون أن يفرضوا كلمة واحدة عليه في مدى التاريخ، لذلك نرى القرآن واحداً لدى المسلمين جميعاً، فليس لأيّة طائفة من المسلمين قرآن مختلف عن قرآن طائفة أخرى، فهو مظهر الوحدة الإسلامية في الكتاب الواحد، بالإضافة إلى الربّ الواحد والرسول الواحد والعقيدة التوحيديّة والشريعة الشاملة.
وعلى هدى هذا المنهج في الأخذ بالمفهوم الإسلامي الأصيل الموثوق في سنده ومضمونه، لا بدّ لنا من دراسة أساليب الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)، التي تنوَّعت حسب تنوّع الظروف الموضوعية التي أحاطت بهم، فقد تكون الثورة هي الأسلوب في الخطّ الجهادي، وقد تكون الثورة حركة في الخطّ الفكري، وربّما تكون المهادنة للواقع القائم هي الأسلوب العملي الذي تفرضه طبيعة المرحلة من دون إضعاف الخطّ، وقد يكون التخطيط المستقبلي للحركة التغييرية التي تفرض الكثير من الأساليب الواقعية التي تحفظ الخطّ من الاهتزاز فتمنع الحركة الانفعالية المنطلقة من الحماس الذاتي الذي يستعجل الأمور.
ولهذا لا بدّ لنا من المقارنة الدائمة بين مرحلتنا والمراحل التي عاشها الأئمّة من أهل البيت، لنتعرَّف أسلوب المرحلة الحاضرة من خلال مقارنتها بالمرحلة التاريخيّة التي عاشها الأئمّة (عليهم السلام) في ظروفهم العامّة والخاصّة، لنأخذ بالأسلوب العملي الذي يتناسب ومرحلتنا.
لأنَّ العمل الإسلامي ليس حماساً وانفعالاً واندفاعاً في المجهول، بل هو منهج وخطّة وحركة ووعي للواقع في كلّ خلفياته وظروفه وقضاياه، وهذا هو الذي يفرض علينا الانفتاح على الوعي الثقافي الفكري والوعي السّياسي العملي.
ولأنَّ ذلك هو السبيل لمعرفة كلّ حركة الأرض التي نقف عليها، وكلّ الخطط المضادّة التي تُوَجَّه ضدّنا، وكلّ خلفيات وسلبيات وإيجابيات أوضاعنا الإسلامية في حركة مجتمعاتنا في هذه المنطقة أو تلك، حتى لا نتحرّك في طريق لا نعرف نهاياته، ولا نقف في موقف لا نعي نتائجه، ولا نندفع في مشروعٍ حركي، سواء كان اجتماعياً أو سياسياً أو أمنياً، قبل أنْ نتعرَّف طبيعة تأثيره في الحركة الإسلامية العامّة في واقع المسلمين في ساحة الصراع كلّه.
إنَّ العنوان الكبير للحركة الإسلامية السّائرة في منهج أهل البيت (عليهم السلام) هو الدعوة إلى الإسلام والجهاد في سبيل الله بالكلمة والحركة والموقف، الأمر الذي يفرض علينا أن نملك ثقافة الإسلام، ووعي مسألة الجهاد، ومعرفة الأساليب التي تتنوَّع تبعاً لتنوّع الظروف والأوضاع.
فلا بدّ لنا من دراسة الأرض والجوّ والناس والحركة والحاضر والمستقبل وحجم القوى المضادّة في إمكاناتها الإعلامية والسياسية، والاقتصادية والأمنية، لنعرف كيف نستعدّ لها من خلال إمكاناتنا الذّاتية في جميع مجالاتنا حتّى لا نخطو أيّة خطوةٍ غير مدروسة أو غير محسوبة، لأنَّ ذلك قد يدخلنا في الكثير من متاهات الواقع السياسي الأمني.
إنَّ الإنسان المؤمن، في حياته الفردية أو الاجتماعية لا بدّ أن يكون الإنسان الواعي المنفتح على ربّه وعلى عصره، وعلى كلّ القضايا المصيرية أو الحيوية في الحياة، ليكون له الدور الفاعل في حركة الإنسان المعاصر، من حيث إِنّه صاحب رسالة شاملة للعالم كلّه وللزمن كلّه.
ولن يستطيع أن يصل إلى هذا المستوى إلاّ من خلال الانفتاح الواسع على كلّ الأمور العامّة في المرحلة الحاضرة والمستقبلية، وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في حديثه عن المؤمن قال: "المؤمن حسن المعونة، خفيف المؤونة، جيِّد التدبير لمعيشته، لا يلدغ من جحر مرّتين".
ممّا يوحي بأنّه يستفيد من تجاربه فلا يكرّر التجربة الفاشلة، لكنّه يتعلَّم منها ليدخل في تجربةٍ يكفل لها كلّ عناصر النّجاح.
إنَّ خطّ الولاية في خطّ أهل البيت (عليهم السلام) هو خطّ الإسلام الأصيل في فكره وأسلوبه العملي وحركته في اتّجاه التغيير، ولذلك لا بدّ لكلّ أتباعهم أن يعيشوا الالتزام الإسلامي فكراً وعملاً في قضاياهم العامّة والخاصّة.
أهل البيت والقرآن
إنَّ للحديث عن أهل البيت والقرآن خصوصيّة مميّزة تختلف عن أيّة خصوصيّة لأيّة جهة إسلامية، بعد النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وذلك من خلال الحديث المتواتر عن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: "أيُّها النّاس أنّي تركت فيكم ما أن أخذتم به لن تضلّوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي"(1).
وقال (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنّي تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي كتاب الله حبل ممدود ما بين السّماء والأرض أو (ما بين الأرض والسّماء) وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتّى يرِدا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما"(2).
فقد نستوحي من هذا الحديث ـــ بمختلف تعابيره ـــ أنّ العلاقة بين الكتاب وبينهم ليست علاقة مقارنة بين موقع وموقع، لينفرد كلّ واحدٍ منهما بذاتيّاته في دوره وحركيّته، بل العلاقة علاقة ارتباط عضوي ينفتح فيه أحدهما على الآخر، لينطلق أهل البيت (عليهم السلام) في عملية تفسير وتوضيح وتطبيق للقرآن، وتحريك لمفاهيمه في الواقع الإنساني في الحياة، من خلال الوعي الذي عاشوه في معانيه وانفتحوا فيه على آياته، في خطّ العلم النبويّ الذي علَّمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) للإمام عليّ (عليه السلام) الذي قال: "علَّمني رسول الله ألف باب من العلم يُفتَح لي من كلِّ باب ألف باب".
فقد استوعب عليّ (عليه السلام) علم القرآن وعلم السُنّة بكلّ عقله وروحه، وتحرَّك بها إلى الآفاق الواسعة التي تلتقي في ساحاتها كلّ مواقع المعرفة، في المشاكل الفكرية والعملية، التي تتمثَّل فيها التحدّيات المتنوّعة الموجّهة إلى الإسلام وأهله.
وقد جاء في حديث سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: "ما نزلت آية على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إلاّ أقرأنيها وأملاها عليّ فأكتبها بخطّي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ودعا الله لي أنْ يعلّمني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علماً أملاه عليّ فكتبته منذ دعا لي وما ترك شيئاً علّمه الله من حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي، كان أو يكون من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه وحفظته، فلم أنسَ حرفاً واحداً، ثمّ وضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكمةً ونوراً لم أنسَ شيئاً ولم يفتني شيء لم أكتبه"(1).
وجاء في حديثٍ آخر عن سليمان الأعمش عن أبيه، قال: قال عليّ (عليه السلام): "ما نزلت آية إلاّ وأنا أعلم فيمن أنزلت وأين أنزلت وعلى مَن نزلت. إنَّ ربّي وهَبَ لي قلباً وعقلاً ولساناً ناطقاً"(2).
وجاء عن حفص بن قرط الجهني، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: "كان عليّ (عليه السلام) صاحب حلال وحرام وعلم القرآن ونحن على منهاجه".
وهكذا نجد في هذه المقارنة بين الكتاب والعترة كيف تحفظ العترة القرآن من خلال ما تسلّمت من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) علم القرآن كلّه، وممّا ألهمها الله من وعي حركة العلم في ساحة المعرفة الإنسانية ممّا يحتاجه الناس من شؤونهم العامّة والخاصّة في خطّ الإسلام.
وهكذا ينطلق الموقع القيادي من امتداد المعرفة بالقرآن كلّه وعمق الانفتاح على حلاله حرامه، وسعة الأفق في استخراج أسرار علم الكتاب منهم، حتّى جاء عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) ممّا رواه عليّ بن إبراهيم، بإسناده عن عمرو بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: "إنَّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلاّ أنزله في كتابه وبيَّنه لرسوله، وجعل لكلّ شيءٍ حدّاً وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً"(1).
وفي ضوء ذلك كانت قيمتهم أنّهم كانوا ينطقون بالقرآن ويتمثّلون معانيه ويوضحون مفاهيمه، ويستخرجون حلاله وحرامه، ويستوحون آياته.
وقد جاء عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر (عليه السلام) أنّه قال لأصحابه: "إذا حدَّثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله".
ثمّ قال في بعض حديثه: "إنَّ الله نهى عن القيل والقال وكثرة السؤال" فقيل له: يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله، قال: إنَّ الله عزّ وجلّ يقول: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء : 114]، وقال {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء : 5]، وقال: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة : 101](2).
وقد تحدَّث القرآن عن أهل البيت (عليهم السلام) في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب : 33].
فقد تظافرت الروايات لدى المسلمين على أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، كما وردت أكثر من رواية في نزول العديد من الآيات في عليّ (عليه السلام) ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة : 55].
ومنها قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة : 207].
وهكذا نجد كيف انفتح القرآن على العترة وتحرّكت العترة في خطّ القرآن دعوةً وتفسيراً وتوضيحاً وعملاً، فهم التجسيد الروحي والفكري والعملي لكلّ آياته ومعانيه ومناهجه وحركته في الحياة.
القرآن... القاعدة الفكرية الأساسية للإسلام
وقد أكّدت العترة الطاهرة على أنّ القرآن هو القاعدة الأصلية المعصومة التي ينطلق منها كلّ فكر إسلامي، وكلّ حكم شرعي في أيّ مفهوم من المفاهيم الإسلامية وفي أيّة حركة ينطلق بها الواقع الإسلامي.
وهو الميزان الفصل لكلّ ما يروى من أحاديث السنّة عن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وعنهم (عليهم السلام). فقد رَوَوْا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فيما جاء عن السّكوني عن أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام) قال: قال عليّ (عليه السلام): "إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافَقَ كتاب الله فخذوه وما خالَفَ كتاب الله فدعوه"(1).
وعن أيوب بن الحرّ قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسُنّة، وكلّ حديثٍ لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"(2).
وعن عبد الله بن يعفور قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومن لا نثق به، قال: "إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله عزّ وجلّ أو من قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به"(1).
وعن سدير قال: كان أبو جعفر وأبو عبد الله يقولان: "لا يصدّق علينا إلاّ بما يوافق كتاب الله وسنّة نبيّه"(2).
وفي ضوء هذه الأحاديث نقف على القاعدة الفكرية للحكم على كلّ الأحاديث المشتملة على بعض المفاهيم والأحكام التي تتنافى مع روح القرآن في خطوطه العامّة، بحيث تكون العناوين القرآنية في ظواهرها المفهومية هي الأساس في قبول مضمون هذا الحديث أو ذاك ورفضه.
فإذا قرأنا في كتاب الله تعالى قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة : 229] فإنّنا لا بدّ أن نتحفَّظ حول الأحاديث أو الفتاوى التي تتنافى مع هذين الخطّين في علاقة الزوج بزوجته، كما في حقّ الرجل منع زوجته من الخروج من البيت مطلقاً من خلال مزاجه الذاتي، بلحاظ العنوان الأوّل.
وإذا قرأنا قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة : 228] فإنَّنا لا بدّ أن نثير التساؤل حول الأحاديث أو الفتاوى التي قد تصل إلى مستوى شبيه بإلغاء حقّ الزوجة في الجنس، ليكون ذلك حقّ للرجل وحده بحيث لا تحصل المرأة منه إلاّ على شيء ضئيل جداً.
وهكذا يمكن استيحاء قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء : 70] التي تؤكّد الكرامة الإنسانية للإنسان من موقع إنسانيّته، لنتحفَّظ في قبول الأحاديث المتضمّنة لمنع الزواج ببعض الأعراق البشرية تحت تأثير إسقاط إنسانيّتهم، كنتيجة للعرق أو للقومية أو لغير ذلك.
وهذا هو الخطّ الذي يحمي لنا المفاهيم الإسلامية من الانحراف من خلال ما يضعه الوضّاعون من أحاديث الغلوّ والكفر والانحراف، بما لا يتلائم مع ظاهر القرآن وروحه ممّا يوحي به من أفكار وأبعاد.
وهذا هو الذي ينبغي لنا أن نترسّمه في دراستنا لكلّ الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) لنعرف بذلك صحيح الحديث من فاسده.
وفي ضوء ذلك لا بدّ من رفض كلّ الأحاديث المتضمّنة لتحريف القرآن وزيادته ونقصانه، لأنَّ ذلك يخالف ظاهر الكتاب في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر : 9].
ولذلك ذهب علماء المسلمين جميعاً ـــ إلاّ من شذّ ـــ إلى سلامة القرآن من التحريف ورفض كلّ الأحاديث الواردة في ذلك لضعف في سندها أو في دلالتها ولمخالفتها للقرآن.
وهذا ممّا ينبغي لكلّ الباحثين أن يعتبروه ميزاناً صادقاً لتقويم كلّ ما جاء من حديث عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وعن أهل البيت (عليهم السلام) في الرفض والقبول، من خلال مشابهة الحديث لكتاب الله وسنّة نبيّه، فذلك هو الذي يمكن من خلاله تمييز كذب الحديث أو صدقه، الأمر الذي ينكشف فيه كذب الكذّابين ووضع الوضّاعين الذين أربكوا الثقافة الإسلامية بأكاذيبهم وأحاديثهم الموضوعة.
القرآن حيٌّ لا يموت
وهناك مسألة مهمّة أثارها الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)، وهي مسألة أسباب النزول، فقد تنزل الآية في واقعةٍ معيّنةٍ أو شخصٍ معيّن، فهل تجمد عند هذه الواقعة أو ذلك الشخص؟ أو تمتدّ إلى كلّ النماذج المماثلة التي تتحرَّك في مرحلة نزولها وفي الأبعاد الزمنية الممتدة في الحياة؟
فقد جاء عن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر ـــ كما ورد في تفسير العياشي ـــ مخاطباً عبد الرحيم القصير: "يا عبد الرحيم إنَّ القرآن حيٌّ لا يموت والآية حيّة لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في أقوام ماتوا ماتت الآية لمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين"(1).
وقال أبو جعفر الصادق (عليه السلام): "إنَّ القرآن حيٌّ لا يموت وأنّه يجري كما تجري الشمس والقمر ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا"(2).
وهكذا تزول المنافاة بين الأحاديث التي تدلّ على نزول الآية في حالة خاصّة أو شخص خاص، وبين شمول القرآن للواقع كلّه، والإنسان كلّه، وللزمن كلّه، لتكون الخصوصية المنطلق الذي تتحرَّك فيه الآية، وليست المضمون الذي تتجمَّد فيه.
ومن خلال ذلك يمكننا استيحاء القرآن لكلّ الواقع المتحرّك الذي يسير في حياة الإنسان، في كلّ النماذج المماثلة للمورد الذي كان السبب في نزول الآية. وهذا هو الذي جرى عليه أهل البيت (عليهم السلام) في تفسيرهم، حيث كانوا يستوحون أسباب النزول ليمتدوا بنماذجها في الموارد المماثلة، في كلّ القضايا التي وقعت مثاراً للجدل، وفي مقدّمتها قضيَة الإمامة وموقع الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) منها، ممّا يقدم للإنسان المسلم الخطوط العامّة في ذلك.
ظواهر القرآن
وإذا لاحظنا الطريقة التي جرى عليها أئمّة أهل البيت في التفسير، فإنَّنا نرى أنّها تسير على النهج العام في تفسير الكلمات بظواهرها، ورفض التفسيرات التي لا تنسجم مع الظهور اللّفظي في المفردات والتراكيب، إذا لم تكن هناك قرينة حالية أو مقالية تصرف اللّفظ عن ظاهره، بما ينقله من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي أو الكنائي. فقد ورد في بعض أحاديثهم: "إنَّ الله لا يخاطب عباده بما لا يفهمون".
التفسير التطبيقي
وقد يتحرّك المنهج التفسيري في طريقة التفسير بالمصداق، التي يسمّيها بعض المفسّرين بــ (الجري)، على أساس تطبيق العنوان القرآني على الواقع الحيّ الذي اختلف الناس عليه، كما في مسألة الإمامة، للإيحاء بالجانب التطبيقي للفكرة، بحيث يتمثّلها الناس في الآية الكريمة في نطاق الواقع.
وهذا ما يفسّر الأحاديث التي تتضمّن الكلام عن علاقة هذه الآية أو تلك بأهل البيت كما لو كانت نزلت فيهم، بلحاظ انطباقها عليهم من خلال العنوان العام المتجسّد فيهم، لأنَّ نزول الآية في المورد لا يختصّ باعتبار المورد هو مناسبة النزول، بل يكفي فيه أن تتمثَّل فيه بنحو التجسيد الحيّ. للفكرة التي تمثّلها الآية.
ولعلّ من أبرز خصائص المنهج هو الطريقة الاستيحائية، التي تنتقل من الجانب المادي في دلالة الآية إلى الجانب المعنوي، للإيحاء بالأفق الواسع الذي يمكن أن ينفتح عليه القرآن في الجوانب الروحية، من خلال المقارنة بينها وبين الجوانب المادية، باعتبار الأهمية التي تمثّلها هذه الجوانب.
وقد ورد هذا في حديث الإمام جعفر الصادق، ممّا رواه علي بن إبراهيم بإسناده إلى سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له قول الله عزّ وجلّ {مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة : 32] قال: "من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنّما أحياها، ومن أخرجها من هدى إلى ضلالة فقد قتلها"(1).
وقد ورد في رواية فضيل بن يسار، قال: قلت لأبي جعفر محمّد الباقر (عليه السلام) قول الله عزَّ وجلّ في كتابه {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} قال: "من حرق أو غرق، قلت: أخرجها من ضلال إلى هدى قال: ذلك تأويلها الأعظم"(2).
ونستوحي من هذا التعبير عن التفسير الإيحائي بكلمة (وتأويلها الأعظم) إنَّ مسألة التأويل لا تتمثّل أو لا تنحصر بحمل اللّفظ على خلاف ظاهره، من حيث دلالته على المعنى، بل تتّسع لاستيحاء معنى الألفاظ في المعاني المماثلة التي يريد الله للإنسان أن يعيشها في حياته.
فإذا كان الله يريد للناس أن يتحرّكوا في حماية الناس من الأخطار المادية التي تواجههم في الحياة، فإنَّ الله يريد لهم بطريقة أكثر فاعلية وأهمية في حمايتهم من الأخطار الروحية المعنوية، التي تدفعهم إلى الانحراف في العقيدة والسّلوك العملي على مستوى الواقع الفردي والجماعي، لأنَّ ذلك يؤدّي إلى الفساد العام الذي يجعل الحياة، كما لو كانت شيئاً لا معنى له ولا قيمة له.
وقد جاء في الرواية عن الإمامين الباقر والصّادق (عليهما السلام) في قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس : 24]، فيما رواه زيد الشّحام عن أبي جعفر وأبي عبد الله قال: "علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه"(1).
فنحن نلاحظ أنّ المراد بالطعام في الآية ـــ بمقتضى سياقها ـــ هو الطّعام الغذائي، ولكنَّ الإمامين (عليهما السلام) استوحيا منها الغذاء الروحي، وهو العلم الذي ينبغي للإنسان أن يعرف عمّن يأخذه، لأنَّ للمصدر دوراً كبيراً في ثقافة الإنسانية الإسلامية، من حيث وعيه للعقيدة وللشريعة وللمنهج وللمفاهيم العامّة، ومن حيث ثقافته وأمانته في نقل ذلك وتحريكه في الخطّ الثقافي.
وهذا هو الذي ينبغي للمسلمين أن يعيشوه في مصادرهم الثقافية، فليست المسألة أن يتجمَّدوا على الأخذ من مصادرهم الخاصّة ليبتعدوا عن الثقافات الأخرى، بل المسألة هي أن يعتمدوا في ثقافتهم الإسلامية على المصادر الأمينة الناقلة للمفردات الفكرية والعملية الإسلامية، ليأخذوا الإسلام من ينابيعه الصّافية، ليكون ذلك هو الحجّة لهم وعليهم، في أبحاثهم ودراساتهم وأقوالهم وأفعالهم.
فإنَّ البعض من الباحثين المسلمين استندوا إلى المصادر غير الإسلامية في ثقافتهم، حتّى أصبحوا يتحدّثون عن الإسلام من وجهة نظر المستشرقين وأمثالهم، ممّن كانوا في كثير من نماذجهم يتحرّكون في خطّةٍ ثقافية سياسية، تعمل على تحريف الإسلام في مفاهيمه العامّة، وتشكيك المسلمين في دينهم، وإرباك الثقافة الإسلامية في قضاياه العقيدية والشّرعية.
إنَّ علينا دراسة موضوع القرآن وأهل البيت (عليهم السلام) بالكثير من الدقّة التوثيقيّة، والتحليليّة المبنية على المنهج الموضوعي، الذي ينطلق من التركيز على المادّة الفكرية المنقولة في طبيعتها الذّاتية، وفي مقارنتها بالقرآن الكريم في ظواهره، وفي حقائقه العقيدية والشّرعية.
ولا ننطلق من أفكار مسبقة خاضعة للحالة العاطفية سلباً وإيجاباً، فهو القاعدة التي انطلقت منه السُنّة، وهو الأصل الذي ترجع إليه كلّ ثقافة إسلامية، والذي يتكامل مع السنّة الثابتة التي تفصّل ما أجمله الله فيه، وتوضّح متشابهه، فلا يختلف أحدهما مع الآخر.
لذلك فلا بدّ من طرح كلّ ما يخالف الكتاب، والقبول بكلّ ما يوافقه، لأنَّ ذلك هو الميزان الحقّ لوثاقة ما يردنا من السنّة، ولتأكيد كلّ المفاهيم الآتية من هنا وهناك.
محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)
كانت حياة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) رسالة كلّها، تتمثّل فيها معالم الرسالة ومفاهيمهما، لتكون التجسيد الحيّ الذي يتحرّك، فيجد الناس الرسالة في صورة إنسان. ولهذا كانت حياته قدوة وشريعة، فكانت أفعاله كأقواله دروساً إسلامية عملية.
وقد جاء في الحديث المأثور أنّ خُلُقَهُ القرآن، ولذلك كانت تجربته كإنسان لا تختلف عن تجربته كرسول، إذ لا ازدواجية بين الشّخصيّتين في ذاته، بل هي شخصية واحدة، تؤكّد على الخصائص الإنسانية في الرسالة من خلال حركة الإنسان في حياته، وتبلور جانب الرسالة الواقعي في حركة الإنسان الرسالي.
وبهذا فإنَّنا سنجد في القرآن كلّ عناصر تجربة محمّد الإنسان الرسول، الذي تمتزج فيه شخصيّتان، لأنّهما كانتا ممتزجتين في خُلُقِ الإسلام كدين.
فلا بدّ للإنسان المسلم من أن يلاحق التجربة المعاصرة.. وقد نجد في السّيرة النبويّة الشريفة اللّمحات التي تستطيع أن تغنينا في حركة العمل الإسلامي.
ففي التجربة السّابقة على الهجرة، نجد أنّ بداية الدعوة ـــ فيما تحدّثنا السيرة ـــ تتمثّل في نقاط مهمّة، فقد أطلق النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الدعوة في مجتمعه بشكلٍ أقرب إلى السّرية منه إلى العلنية، فكان يتّصل بالأفراد واحداً واحداً، ويطلب منهم أن يتّصل كلّ واحد منهم بغيره في سريّة وخفاء، لأنّه كان يريد أن يوجد قاعدة متماسكة ولو صغيرة، ينطلق منها العمل بقوّة، حتى لا يزول العمل لدى أيّ ضغطٍ مفاجئ.
وقد نستطيع أن نفهم من خطوات بعض هؤلاء الذين خاطبهم النبيّ بالدّعوة، أنّ إسلامهم قد بقى في إطار السّرية إلى نهاية حياتهم، حتّى خيّل للكثيرين أنّهم لم يدخلوا الإسلام، وذلك مثل (أبي طالب) عمّ النبيّ، الذي كفله وربّاه وآواه ونصره.
فقد كانت الرسالة بحاجة إلى شخصية قويّة تدعمها وتدعم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، من دون أن تكون طرفاً في المعركة.. فكان أبو طالب هو هذا الرجل وتلك الشّخصية الفذّة. ولولا ذلك لم نستطع أن نفسّر كلّ المصاعب التي لاقاها في سبيل حماية النبيّ ورسالته، أو إقراره ولده عليّاً على دخوله في الإسلام، معلّقاً على ذلك بأنّه لم يدعك إلاّ إلى الخير.. أو كلماته التي تبدر منه في بعض الحالات بما يشفّ عن تلك الروح المؤمنة الصّافية..
أمّا التفسير الذي يضعه البعض، من إخضاع ذلك إلى الحميّة، وغيرها من الجوانب العائلية والعاطفية، فلا نحسب أنّه يثبت للنقد، لأنَّ الإنسان الذي يختلف مع إنسانٍ آخر في العقيدة، لاسيّما إذا كانت العقيدتان متباينتين متنافرتين، لا يمكن أن يقف موقف الحياد إلى آخر الشّوط، دون أن تبدر منه كلمة تأفّف أو تذمّر، أو غير ذلك من كلمات الرفض والاحتجاج، كما وجدنا ذلك في عمّه الثاني (أبي لهب).
ولسنا بصدد التحدّث عن هذا الجانب من حياة أبي طالب، ولكنَّنا نريد الإشارة إلى هذا الجانب من حياة الدعوة.. حسب اجتهادنا.. وكلّ ما نريد قوله: هو أنّ على الباحث أن يضع في حسابه المرحلة السّرية للدعوة في البداية، وحاجة الرسالة إلى الشخصية القويّة اجتماعياً لتدعم وتفاوض من مركز قوّة، لتكون سبيلاً إلى إعطاء الدعوة حريّة في الحركة بأقلّ قدر ممكن من الضغط.. ممّا يجعل بقاءها على حالة السّرية ضرورة رسالية، حتّى بعد خروج الدعوة إلى العلن.
فإذا وضع الباحث ذلك كلّه في حسابه ودرس حياة أبي طالب كلّها بدقّة وموضوعية، استطاع أن يفهم كيف يكون إسلام هذا الرجل حقيقة تاريخيّة لا مجال للشكّ فيها.
بدايات الدّعوة
إنَّ الدعوة قد مرَّت في المرحلة الأولى، بالدور المسالم الذي لا يثير في وجه الآخرين أيّ نوع من أنواع التحدّي والمجابهة والعداء. فقد كانت الدعوة للإيمان بالله الواحد وللشهادة برسالة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، من دون أن تعلن الحملة على عبادة الأصنام وعبادة القوم لها.
ولم يكن هذا الأمر مثيراً لأيّ نوع من أنواع الحساسيّة ضدّ الرسالة، لأنَّ القوم لم يكونوا ملحدين حتّى يتنكَّروا لدعوة التوحيد، ولم يكونوا مشركين بالله بالمعنى الفلسفي للإشراك، الذي يتمثّل في الإيمان بقوّتين خالقتين ـــ فيما يبدو ـــ، بل كانوا مشركين بالمعنى العبادي للكلمة في تقديسهم للأصنام وعبادتهم لها، لأنّها تحمل من المعاني القدسية ما يجعل لها قرباً إلى الله ودالّة عليه، فتكون بمثابة القوى الشّافعة، التي تقرّبهم إلى الله زلفى، كما تعبّر الآية الكريمة(1).
أمّا الدعوة إلى الإيمان بالرسالة فلم تكن مشكلة كبيرة بالنسبة إليهم. وربّما كانت باعثة على التندّر والتفكّه واللامبالاة لديهم، كما يوحي إلينا بذلك النصّ التاريخي الذي جاء في السّيرة النبويّة الشريفة ـــ كما ورد في طبقات ابن سعد ـــ قال: أُمِرَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يصدع بما جاء من عند الله، وأن ينادي الناس بأمره، وأن يدعوهم إلى الله، فكان يدعو من أوّل ما نزلت عليه النبوّة ثلاث سنين مستخفياً إلى أن أمر بظهور الدُّعاء.
وقال في روايةٍ أخرى: دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى الإسلام سرّاً وجهراً، فاستجاب لله مَن شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس، حتّى كثر مَن آمن به، وكفّار قريش غير منكرين لما يقول، فكان إذا مرَّ عليهم في مجالسهم يشيرون إليه أنَّ غلام عبد المطّلب ليكلّم من السّماء، فكان ذلك حتّى عاب الله آلهتهم التي يعبدونها من دونه، وذكر هلاك آباءهم الذين ماتوا على الكفر، فشنفوا لرسول الله عند ذلك وعادوه(1).
قد يكون السّبب في ذلك: هو أن يعطي الرسالات مجالاً للانطلاق من ضغوط مباشرة، ليكون لها حريّة الحركة في بداياتها الأولى، من أجل تركيز القاعدة الرئيسية في ظروف طبيعيّة.
وهكذا كان كما صرَّح به النصّ السابق.. في دخول الكثيرين من أحداث الرجال وضعفاء الناس، الذين لا يجدون أيَّ مانع لديهم في الدخول في الإسلام من ناحية ذاتيّة، بل كلّ ما هناك أنّهم يخشون من الاضطهاد ويخافون من العذاب، فإذا لم يكن الجوّ خانقاً أو ضاغطاً من هذه الجهة، كانت قضية دخولهم في الإسلام، طبيعيّة جداً، لأنَّ الأحداث يلتقون فيه بالفطرة، ولأنَّ الضعفاء يجدون في عقيدته ومفاهيمه وتعاليمه، الشعور بالكرامة، والاحترام لإنسانيّتهم، والحلّ المستقبلي لمشكلتهم.
هجرة المسلمين إلى الحبشة
بدأ الاضطهاد القرشي الكافر للمسلمين بشكلٍ عنيف وغير محتمل، بحيث وقف المسلمون بين خيارين: الخضوع للضغط الكافر في خروجهم عن دينهم، أو الهجرة إلى أيّ بلدٍ آخر، يأمنون فيه على دينهم.
وكان الخيار الثاني هو الموقف الطبيعي لقوّة الإيمان وثباته وعمقه، إذ لا يمكن لهؤلاء الذين ذاقوا حلاوة الإيمان وعرفوا الطريق الحقّ، وانفتحوا على النور المتدفّق من قلب الرسالة على الحياة، أن يتراجعوا عن ذلك، أو ينحرفوا عنه، أو يستسلموا إلى أيّ اضطهاد أو إغراء.
ولكنّهم كانوا يريدون أن يعيشوا إسلامهم في أنفسهم، وفي حياتهم، وفي حياة الآخرين ممّا لا يتوفّر لهم، لو قدِّر لهم البقاء في مكّة، لأنّهم سوف يظلُّون يمارسونه في سريّة خانقة.. مع خوفهم من نقاط الضعف التي قد تقتحم على الإنسان حياته من دون شعور.
وكانت المبادرة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) تأكيداً على واقعية الرسالة في وعيها لموضوع الصّبر والصّمود.. فقد يصبح شيئاً مثالياً أو خياليّاً لو كانت الدعوة إليه في مجال لم تجتمع فيه مقوّماته أو شروطه، بل كانت في مصلحة الموقف المضادّ وهو الانهيار والاستسلام، وبذلك يكون تكليفاً بغير المقدور، وهو قبيح بحكم العقل والعقلاء، كما يقول علماء الكلام.
فلا يمكن أن يصدر من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي ينطق عن الله، فيما يأمر به أو ينهى عنه والله يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة : 286]، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج : 78].
ولهذا كان الموقف الطبيعي أن يصمدوا في رسالتهم، ويصبروا على دينهم في أرضٍ أخرى، يمكن لهم أن يتنفَّسوا فيها هواء الحريّة.. فينمّوا إيمانهم، كطريق للوصول إلى إيمان الآخرين.
ولهذا قال لهم رسول الله ـــ فيما ترويه السّيرة ـــ تفرَّقوا في الأرض، فقالوا: أين نذهب يا رسول الله.. قال: ههنا، وأشار إلى الحبشة ـــ وكانت أحبّ الأرض إليه أن يهاجر قبلها ـــ فهاجر ناس ذوو عدد من المسلمين، منهم من هاجر بأهله، ومنهم من هاجر بنفسه، حتّى قدموا أرض الحبشة.
"وخرجت قريش في آثارهم حتّى جاؤوا البحر حيث ركبوا، فلم يدركوا منهم واحداً، وقالوا: وقدمنا أرض الحبشة فجاورنا بها خير جار، أَمِّنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذي ولا نسمع شيئاً نكرهه"(1).
في مواسم الحجّ
كانت طريقة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في الدعوة منذ إعلانه الرسالة في تحركّه العلني، في مكّة أنّه يوافي المواسم كل ّعام، يتبع الحاج في منازلهم في المواسم بـــ (عكاظ) و(ذي المجاز)، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتّى يبلّغ رسالات ربّه ولهم الجنّة، فلا يجد أحداً ينصره ولا يجيبه.
حتّى أنّه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول: "يا أيُّها الناس قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتذلّ لكم العجم وإذا آمنتم كنتم ملوكاً في الجنّة. و(أبو لهب) وراءه يقول: لا تطيعوه فإنّه صابئ كاذب، فيردون على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أقبح الردّ ويؤذونه ويقولون: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك، ويكلّمونه ويجادلونه ويكلّمهم ويدعوهم إلى الله ويقول: اللَّهم لو شئت لم يكونوا هكذا..
إنَّنا نستوحي من هذه الطريقة عدّة جوانب:
الأوّل: إيصال الدعوة إلى كلّ مكان وجماعة بشكلٍ شخصي ومباشر، لأنَّ الأسلوب الذي يتبع الدعوة العامّة لا يحقّق الهدف المطلوب، وهو الدخول في المبدأ والتفاصيل معاً، وإثارة أجواء الحوار من خلال إثارة علامات الاستفهام التي تبحث عن وضع النقاط على الحروف، ممّا يعطي وضوحاً في الرؤية واستعداداً طبيعياً ـــ ولو بعد حين ـــ لتفاعل القضايا المطروحة في نفوس الناس، عندما ترتفع الحواجز عن الساحة، ويزول الضغط عن النفوس والعقول، ولهذا كانت زيارة الحجّاج في منازلهم، ومحاولة التعرّف عليها مسبقاً بشكلٍ يقرب من الإلحاح سبيلاً طبيعياً لتحقيق ذلك.
الثاني: محاولة التعرّف على قبائل العرب ورؤسائهم عن كثب، ليأخذ فكرة واضحة عنهم وعن عقليّاتهم وأوضاعهم، هذا من جهة.
ومن جهةٍ ثانية: محاولة تعريفهم بنفسه ليأخذوا عنه الصورة الصحيحة، من خلال دعوته وطريقة تفكيره، وطبيعة القضايا التي يثيرها ويدعو إلى الإيمان بها، وأسلوب حديثه وكلامه، وسعة عقله وفكره.. ليكون ذلك خطّة عملية لتحطيم الدعايات التي أثارتها قريش ضدّه من نسبة الجنون والسحر والشعر إليه.. من دون أن يخشى على خطّته تلك من موقف عمّه أبي لهب وغيره، ونسبته إلى الكذب.
لأنّه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يكن ـــ فيما يبدو ـــ يفكّر باللّحظات الآنية، بل كان يفكِّر بالمستقبل عندما يرجع هؤلاء إلى بلادهم، ويبتعدون عن أجواء مكّة المحمومة بالعداوة له، فيجلسون في نواديهم، ويتحدّثون عمّا رأوه وعمّا شاهدوه في رحلتهم ليتناقشوا في ذلك كلّه، أو ليفكّروا فيه بينهم وبين أنفسهم... حيث يسترجعون ملامح الصورة تدريجياً فتتّضح لهم حقيقتها بشكلٍ كامل واضح.
الثالث: أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يفتّش ـــ من خلال ذلك ـــ عن قاعدة اقليمية وبشرية للإسلام، لأنَّ مكّة لم تكن صالحة للانطلاق منها إلى العالم، نظراً إلى القوّة المضادّة، فقد كانت قاعدة للشرك والطغيان، وليس من المستطاع ـــ من وجهة عملية ـــ تفجيرها وتحطيمها من الداخل، بل يجب البحث عن مكان آخر يحشّد فيه القوّة، التي يقاوم بها هذه القوّة الطاغية.
لهذا كانت محاولاته الدائبة المجهدة تتحرّك في هذا الاتّجاه دون تعب أو كلل، حتّى نجحت هذه المحاولات عند لقائه بأهل يثرب في نهاية المطاف (كما سنرى فيما يأتينا من حديث).
وقد نستطيع القول بأنَّ بقاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في مكّة مدّة ثلاث عشر سنة لم يكن أمراً يجري مجرى الصّدفة، بل كانت لحكمة كبيرة وهي استثمار مركز مكّة الديني والثقافي والتجاري، الذي كان يجمع إليه الناس من كل ّمكان، في سبيل إيصال صوت الدعوة إلى كلّ مكان، في الجزيرة العربية وغيرها، ممّا لا يمكن الحصول عليه في أيّ بلدٍ آخر، فيوفّر على الرسالة جهوداً كبيرة، ومصاعب كثيرة، تستدعي كثيراً من الأسفار والرّسل والأموال.. ثمّ في العمل على الوصول إلى هدف إيجاد القاعدة القويّة للمجتمع الإسلامي الجديد، من أجل تحقيق الانطلاقة الإسلامية نحو العالَم. حتّى إذا استكملت الخطّة مراحلها ووصلت إلى هدفها، كانت الهجرة من مكّة إلى يثرب.
خروجه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى الطّائف
جاء في طبقات ابن سعد: (لمّا توفي أبو طالب تناولت قريش من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) واجترأوا عليه، فخرج إلى الطّائف ومعه زيد بن حارثة، وذلك في ليال بقين من شوّال سنة عشر من حين نبئ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فأقام بالطائف عشرة أيّام لا يدع أحداً من أشرافهم إلاّ جاءه وكلّمه، فلم يجيبوه وخافوا على أحداثهم، فقالوا: يا محمّد اخرج من بلدنا والحق بمجابك من الأرض. وأَغْرَوْا به سفهاءهم فجعلوا يرمونه بالحجارة، حتّى أنَّ رِجْلَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لتدميان وزيد بن حارثة يقيه بنفسه.
فانصرف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من الطّائف راجعاً إلى مكّة وهو محزون، لم يستجب له رجلٌ واحد ولا امرأة، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم ـــ يعني قريشاً ـــ وهم أخرجوك.. فقال: يا زيد إنَّ الله جاعل لِما ترى فرجاً ومخرجاً وإنَّ الله ناصر دينه ومظهر نبيّه)(1).
ويروي ابن هشام في سيرته: أنّه اطمأن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى حائط لعتبة ابن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وقال ـــ فيما ذكر له: "اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك"(2).
ونقف مع هذه القضية وقفة التقديس لهذا الموقف الرسولي الذي يبقى مع الرسالة في تجربة المواقف، وفي إقامة الحجّة، فلا مجال للهدوء، ولا مكان للراحة ولحبّ السلامة.. فإنَّ هاجس الدعوة في قلبه وفي دمه لا يتركه لحظة في نومه وفي يقظته.. إنّه يدعوه للبحث عن منطلق جديد وموقع جديد، يتحرَّك فيه من مركز القوّة.
وليست القضية أن يستكمل عناصر النّجاح منذ البداية سلفاً، بل يكفيه أن يلاحق احتمالات النجاح، حتّى إذا تمَّ له ذلك، كان هو الذي أراده، وإذا لم يتمّ له ما يريد، فحسبه أنّه أدّى الرسالة، وأقام الحجّة.. وتلك هي قضية الرسالة وقضية الرُّسل.
فهم يلاحقون التجربة لتنتج موقفاً، أو لتفتح قلباً، أو لتسمع أذناً.. لأنَّ مهمّتهم أن يشقّوا الطريق للحقّ، ويصنعوا أجواء الرسالة، ويفتحوا العقول على مبادئ الدعوة ومفاهيمها.. لتبدأ رحلة التفكير، لها أو عليها، كمرحلة من مراحل الإيمان الذي ينتظر المستقبل من خلال مواقف الحاضر.
وهذا هو ما أكّده القرآن في تأكيده على أنّ مهمّة الأنبياء هي الإبلاغ والبلاغ.. لأنَّهم لا يملكون السبيل إلى قلوب الناس إلاّ بذلك.
وهكذا اندفع النبيّ إلى الطّائف وهو يحسب حساب الفشل على مستوى تحقيق الإيمان، لأنَّه قد عرف طبيعة مواقفهم في محاولاته في مكّة، ولكنّه أراد أن يثير الفكرة في داخل مجتمعهم، ليثير أحداثهم وشبابهم الذين يتطلَّعون إلى المستقبل بعقلية منفتحةٍ واعية تتطلَّع إلى المستقبل من خلال الشّعور بالحاجة إلى التجديد في الفكر والموقف والأسلوب، خلافاً للأجيال القديمة المحافظة التي لا تريد أن تترك ما يعبد آباؤها، أو تغيِّر ما تألفه من تقاليدها، وكانت تحسّ بخطر الدّعوة الجديدة على الأحداث.
ولهذا كان الحلّ الوحيد عندهم أن يخرجوه من بلدهم، حيث لم يكن لهم سبيل إلى منع شبابهم عنه، ولم يكن لهم قدرة على مناقشته في دعوته..
وقد حصل للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ما أراده، فقد أحدث لديهم جوّاً من التوتُّر والتساؤل والعنف، بما استعملوه ضدّه من أساليب القهر والتنكيل والإهانة، وقد استوفى ما أراده من دعوتهم إلى الإسلام وإبلاغهم حاجته إلى النصرة والمعونة في رسالته، ممّا يجعلهم يفكِّرون به أيّاماً طويلة سيظهر أثرها العملي فيما بعد.. عندما ترتفع الحواجز، وتزول الضغوط وتنطلق قوّة الإسلام، لتحقّق للإنسان حريّته في الإيمان بالله دون خوف من القوى المضادّة له.
أمّا ما عاناه من عذاب وتنكيل وسباب، فهو قدر الرسالات والرسل في كلّ زمان ومكان.. وهو نقطة البداية في ولادة الفجر الجديد من بين الآلام والدموع.
ويبقى الأمل، كمثل أحلام الصّباح، في ظلمة الليل الطّويل.. لأنَّ الله وعد الرسل بالنصر. وَمَن أصدق مِنَ الله وعداً، وَمَن أعظم من الله قدرة على تنفيذ ما يريد {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق : 3].
وذلك هو ما أراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يقوّي به موقف زيد بن حارثة لما خاف عليه من دخول مكّة بعد إخراج قريش له منها.. فإنَّ زيداً كان ينظر بمنظار اللّحظة الحاضرة أمّا النبيّ فهو كالأنبياء في كلّ زمان ومكان، ينظرون بعين الإيمان بالله، إلى المستقبل الذي يصنعه الله للحياة بقدرته ورحمته وهدايته، كما صنع الماضي والحاضر.
ومهما كان الأنبياء أقوياء في أنفسهم.. فإنَّهم يستمدُّون قوّتهم من الله خالق القوّة وصانعها.
وهكذا وقف النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ليناجي الله بعد تلك التجربة القاسية التي خاضها مع الكافرين، وتحمل فيها ما تحمل من العذاب الشّديد من هؤلاء، بعد أن أخرجه قومه، ولم يبقَ له قاعدة للقوّة يستند إليها إلاّ قوّة الله العظيمة، التي يلجأ إليها الضعفاء ليعطيهم قوّة جديدة وروحاً جديدة، فيواصلوا ـــ من خلالها ـــ رسالتهم ودعوتهم في سبيله.
ولعلّها من أروع الأدعية التي تعبّر عن الحبّ كلّه، والإخلاص كلّه.. التي تطلب من الله ما تريد، وترجو منه ما تحبّ.. ثمّ تترك الأمر إليه ليفعل ما يشاء، ويقضي ما يريد، لأنّه مالك الأمور كلّها، لأنَّ الهدف كلّه هو رضاه، فهو الهدف في حالة الشدّة، وهو الهدف في حالة الرّخاء، وهو الهدف في الحالة التي يقف فيها بين حالات الشدّة وبين حالات الرخاء.. فهو حسبنا ونعم الوكيل.
رفض المساومات المستقبليّة
قال ابن هشام في سيرته: (أتى النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ وعرض عليهم نفسه، فقال لهم رجل منهم ـــ يقال له بيحرة بن فراس: ـــ والله، لو إنّي آخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب.
ثمّ قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثمّ أظهرك الله على مَن خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): الأمر لله يضعه حيث يشاء. قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه..
فلمّا صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم، قد كانت أدركته السّن حتّى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فلمّا قدموا عليه ذلك العام سألهم عمّا كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطّلب يزعم أنّه نبي يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا (قال: فوضع الشيخ يديه على رأسه ثمّ قال: يا بني عامر هل لها من تلاف.. هل لذناباها من مطلب، والذي نفس فلان بيده ما تقوَّلها إسماعيلي قط، وإنّها لحق، فأين رأيكم كان عنكم).
إنَّنا نستوحي من هذه القصّة:
أوّلاً: الروح الرسالية القدسية التي لا تريد أن تجمع الناس إلى كلمة الإيمان من خلال الوعود المعسولة الكاذبة، تعطى بغير حساب، على حساب المستقبل الذي لن يحقّق لهم الوعد، لأنّه يمثّل القوّة التي تستطيع أن تنكث من دون أن تخشى العقاب، لأنَّ الآخرين يكونون قد أصبحوا في موقع الضعف، كما يفعل الكثيرون من أصحاب الدعوات السياسية مع كثير من الأتباع، عندما يجعلون من الوعود التي تغرق الناس بالأحلام طريقاً للوصول إلى مآربهم من تأييدهم في مواقفهم وحملاتهم السياسية.
ولكنَّ الأنبياء جاؤوا بالصدق وآمنوا به، وانطلقوا برسالتهم من موقع الصّدق مع ربّهم، ومع أنفسهم، ومع أُمَمِهم.. ومع الحاضر والمستقبل.. ولهذا فهم يواجهون الناس بالحقيقة كلّ الحقيقة دون مواربة، فلا يعطون أيّة كلمة للمستقبل ما لم يعرفوا، من أنفسهم ومن الله، أنّهم يستطيعون تحقيقها والوفاء بها.. حتّى لو كانت هذه الكلمة تحقّق لهم الربح الكبير على مستوى الحاضر.
وذلك هو موقف النبيّ العظيم الذي جسَّد حقيقة الصدق كأروع ما يكون، مع أنّه بحاجة إلى تأييد هذه القبيلة الكبيرة في موقفه الضعيف بشرياً، الذي كان ينتظر أيّة بادرة نصرة من أيّ فرد، فكيف بالقبيلة الكبيرة التي تبدي استعدادها للموت دونه إذا أعطاها وعد شرف ـــ مجرَّد وعد شرف ـــ على أن يكون لها الأمر من بعده.. فما كان منه إزاء هذا العرض، إلاّ أن صارحهم بالحقيقة الحاسمة، فهو ليس ملكاً يملك السّلطة من خلال قوّة ذاتية، ليستطيع أن يجعلها لكلّ من يريد من بعده، كما يفعل الملوك عندما يصدرون تعليماتهم وإرادتهم الملكية بتعيين أولياء عهدهم، بل هو نبيّ يستمدّ سلطاته من الله، ولم يجعل له الله إلاّ النبوّة التي يتحمّل مسؤوليتها، لإبلاغ كلمة الله إلى الناس وهدايتهم إلى الحقّ، ليخرجهم من الظلمات إلى النور... وتنفيذ ذلك ما استطاع إليه سبيلا... أمّا الخلافة من بعده، فهي لله يضعها حيث يشاء، وليس له مع أمر الله أمر.
وهكذا ابتعد هؤلاء عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لأنّهم أرادوها عملية تجارية يتبادلون فيها المنافع، وأرادها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) رسالة ينطلق فيها الإنسان للتضحية رغبة فيما عند الله، ورجاءً لثوابه ورضوانه.
وثانياً: إنَّ هذه القصّة تؤكّد ما أشرنا إليه من أنَّ الأشخاص الذين يقصدون مكّة، يرجعون إلى بلادهم وأهلهم، فيسألون عمّا رأوه وعمّا سمعوه فيحدّثونهم بذلك، ويخبرونهم عن موقفهم من هذا الموضوع أو ذاك، أو من هذا الشخص أو ذاك، فقد يوافقونهم على موقفهم، وقد لا يوافقونهم.
وفي كلا الحالين.. يصبح الموضوع الذي يدور حوله الحديث قضية مثيرة للجدل ومجالاً للتفكير.. كما رأيناه في موقف هذا الشيخ، الذي استطاع أن يعرف ملامح الحقيقة فيما نقله إليه قومه الذين اجتمعوا بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وطلبوا منه ولاية الخلافة من بعده.. فأنكر ـــ الشيخ ـــ عليهم ذلك أشدّ الإنكار، حتّى أنّه أطلق كلمته فيما يشبه الاستغاثة والاستشارة لهم في تلافي ما حدث منهم، لأنَّ ذلك هو الحقّ كلّ الحقّ.. واعتبر موقفهم هذا من المواقف البعيدة عن الرأي الصائب الذي يكتشف الحقّ من خلال الفكر النيّر، لا من خلال المطامع.
وقد كان هذا هو أحد الأهداف التي أرادها النبيّ من زيارته للقبائل في منازلهم، ودعوتهم إلى الإسلام وعرض موقفه عليهم، من خلال طلبه الإيمان به ونصرته على قومه من موقع هذا الإيمان.
وربّما كان لنا أن نقرّر أنَّ وفود العرب التي قدمت على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في المدينة بعد انتصاره على قريش، لتعلن له إسلامها تبايعه على الوفاء والنصرة، لم تندفع بوحي الانتصارات فقط، بل كان اندفاعها نتيجة تفاعل الدعوات السّابقة، واللّقاءات الماضية، التي حقّقت لهم انطباعاً جيّداً عن الرسالة والرسول، وما لبث أن تحوَّل إلى إيمان بعد ارتفاع الموانع التي كانت تقف حائلاً بينهم وبين التنفيذ.
المواقف المضادّة لقريش
لقد حاولت قريش بكلّ أساليبها التهديدية والإغرائية على أن تجعل النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يتنازل عن شيء من مواقفه، لاسيّما الموقف الذي عاب فيه الأصنام، وتسفيه عقولهم وتخطئة آبائهم في تقاليدهم وعاداتهم.
لأنّها ـــ فيما يبدو لنا ـــ كانت تخشى من ظهور أمر النبيّ وتعاظم دعوته، أن يقضي على امتيازاتهم القبلية التي كانت مصالحهم التجارية والمالية والسياسية تخضع لها وترتبط بها.. لأنَّ المجتمع القرشي ـــ في دراستنا لأوضاعه ـــ لم يكن مجتمعاً متديّناً حتى بالمعنى الوثني للتديّن، فلم نجد في سلوكهم العملي ما يوحي بالتصوّف الديني للأصنام، بل كان مجتمعاً تجارياً، تحكمه مصالحه المالية.. ولهذا بدأوا بإعلان الحرب على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بعد هجرته إلى المدينة، عندما شعروا بأنّه يهدّد تلك المصالح، بسيطرته على الطريق التجاري الذي كانت تمرّ عليه قوافلهم من مكّة إلى الشّام.. ممّا يؤكّد لنا هذه الفكرة.
ويواجهنا في هذا المجال موقفان:
الموقف الأوّل:
في حديثهم مع عمّه أبي طالب في شأنه، وإنكارهم ما يقوم به رسول الله من مواقف مضادّة لآلهتهم وتقاليدهم، ومحاولتهم الضغط عليه ليجبره على التراجع عن موقفه، أو تقديم بعض التنازلات في ذلك.
ثمّ حوار أبي طالب مع النبيّ وجوابه له، ووقوفه معه بقوّة مهما كان الثمن.
قال ابن هشام في سيرته: (لمّا بادى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قومه بالإسلام وصدع به، كما أمره الله، لم يبعد منه قومه ولم يردّوا عليه ـــ فيما بلغني ـــ حتّى ذكر آلهتهم وعابها، فلمّا فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلاّ من عصم الله منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون، وحدب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عمّه أبو طالب ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) على أمر الله مظهراً لأمره لا يردّه شيء.
فلمّا رأت قريش أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه، من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أنَّ عمّه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه، فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إنَّ ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا وعابَ ديننا وسفَّه أحلامنا وضلَّل آباءنا، فإمّا أن تجفه عنّا، وإمّا أن تخلي بيننا وبينه، فإنّك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه.
فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً وردّهم ردّاً جميلاً فانصرفوا عنه.
ومضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه، ثمّ شرى الأمر بينه وبينهم حتّى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بينها، فتذامروا فيه وحضّ بعضهم بعضاً عليه، ثمّ إنّهم مشوا إلى أبي طالب مرّةً أخرى، فقالوا: يا أبا طالب، إنَّ لك سنّاً وشرفاً ومنزلةً فينا، وإنّا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنّا، وإنَّا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتّى تكفّه عنّا، أو ننازله وإيّاك في ذلك حتّى يهلك أحد الفريقين، أو كما قالوا له. ثمّ انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله لهم ولا خذلانه.
قال ابن هشام: قال ابن اسحاق: إنَّ قريشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال له: يا بن أخي إنَّ قومك قد جاؤوني، فقالوا لي كذا وكذا للذي كانوا قالوا له، فابق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمّلني مِنَ الأمر ما لا أطيق.
قال: فظنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه قد بدا لعمّه فيه بدءاً وأنّه خاذله ومسلّمه وأنّه قد ضعف على نصرته والقيام معه، قال: فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "يا عمّ والله لو وضعوا الشّمسَ في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته".
قال: ثمّ استعبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فبكى ثمّ قام فلمّا ولّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا بن أخي قال: فأقبل عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لن أسلمك لشيء أبداً..
أمّا قيمة هذه القصّة، فتتمثَّل في الموقف الحاسم الحازم الذي وقفه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من عرض التنازل عن دعوته أمام تهديد قريش له أو لعمّه، فيما نقله إليه أبو طالب.
فقد بدا لنا في موقف العظمة الرسولية التي تضع الرسالة في جانب، والشّمس والقمر في جانب.. ثمّ لا يترك القضية تحتمل وقتاً طويلاً في عملية التوازن والاختيار، بل يعطي الموقف حقّه من الحسم الفوري ليقرّر فيما يشبه الاستشهاد: إنّه لن يترك الرسالة.. أو يموت.. فإمّا الرسالة وإمّا الموت. فأين التهديد وأين الإغراء فذلك هو شأن الرسل عندما تكون القضية قضية رسالتهم في كلّ مجال.
وإنَّنا نتحفَّظ ـــ فيما ذكرته السّيرة ـــ من أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قد استعبر أمام عمّه، ليفسّر تجاوب عمّه معه بالهزّة العاطفية التي حصلت لديه أمام هذا الموقف العاطفي الفريد.. لأنَّنا لا نجد هناك أيّ انسجام بين هذا الموقف القويّ الذي لا يخلو من شدّة وحزم وتصميم، وبين الموقف الباكي الذي يجسّد الشّعور بالضعف والوحدة. بل نجد تنافراً بين هذا وذاك..
ونحن ننطلق في هذا التحفُّظ من طبيعة الموقف لأنَّنا نشعر ـــ من خلال هذه الكلمة الخالدة ـــ بعظمة النبوّة من خلال الشّعور بالعزّة والكرامة التي تهزّ الأعماق في لحظة استشهاد، لتحضن الرسالة في قوّة وحزم دونها قوّة الأبطال الأسطوريين.
ونستشعر أنّ موقف أبو طالب كان فعل إيمان وهزّة انفعال بروعة موقف الرسول أمام كرامة الرسالة، وهذا هو ما يؤكّد نظرتنا إلى شخصية أبي طالب كشخصية تلبس لبوس الحياد، لتدعم موقف الرسالة من خلال مركزها الاجتماعي الكبير الذي لم يتأثّر بالمعركة الدائرة كطرف، ممّا جعل أسلوبه في مستوى الحكمة والمرونة الاجتماعية التي توحي بموقف ولا تصرّح به لتنفذ إلى ما تريد.
الموقف الثاني
موقف النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من عتبة، وحواره معه.. قال ابن هشام: (قال ابن اسحاق: وحدّثني يزيد بن زياد عن محمّد بن كعب القرظي، قال: حدّثت أنّ عتبة بن ربيعة، كان سيّداً قال يوماً، وهو جالس في نادي قريش ورسول الله جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألاَ أقوم إلى محمّد فأكلّمه وأعرض عليه أموراً لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيّها يشاء ويكفّ عنّا، وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلّمه.
فقام إليه عتبة حتى جلس إلى الرسول فقال: يا بن أخي إنّك منّا، حيث قد علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منّي أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منّا بعضها.
قال: فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قل يا أبا الوليد أَسمع.
قال: يا بن أخي، إنْ كنت إنّما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالاً، وإنْ كنت تريد شرفاً سوّدناك علينا حتّى لا نقطع أمراً دونك، وإنْ كنت تريد به ملكاً ملكنّاك علينا، وإنْ كان الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطّب وبذلنا فيه أموالنا حتّى نبرئك منه، فإنّه ربّما غلب التابع على الرجل حتّى يداوى منه، أو كما قال له، حتّى فرغ عتبة، ورسول الله يستمع منه.
قال: فرغت يا أبا الوليد قال: نعم، قال: فاسمع منّي، قال: افعل، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم: {حم*تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ*كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ*بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ*وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) [فصّلت: 1 ـــ 5].
ثمّ مضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقرؤها عليه، فلمّا سمعها عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما ليستمع منه، ثمّ انتهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى السّجدة فسجد، ثمّ قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك".
فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلمّا جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد، قال: ورائي إنّي سمعت قولاً، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسّحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإنْ تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإنْ يظهر على العرب فملكه ملككم وعزّه عزّكم، وكنتم أسعد الناس به.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.
قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم(1).
وقد نجد في هذا الموقف بعض الإيحاءات الواقعية بالأسلوب العملي للدعوة الإسلامية.. ففي بداية الأمر نلاحظ وجود أصوات عاقلة هادئة في حياة الرسالات تدعو إلى الوقوف أمام الرسالة موقفاً موضوعياً، يفكّر فيما تدعو إليه بهدوء، ويواجه صاحبها بمحبّة، ويطلب من خصومها أن يفتّشوا عن الحلّ بإلحاح، ولو بالتركيز على التجميد العملي للصراع.
ونلاحظ إلى ـــ جانب ذلك ـــ ارتفاع الأصوات الصاخبة التي تشير إلى هذه الأصوات بإنكار، وإلى أصحابها باتّهامهم بأساليب الإرهاب الفكري التي تكيل الاتّهامات بلا حساب، لتمنع الأصوات الطيّبة أن تنفذ إلى عقول الطيّبين الذين يفتّشون عن الأجواء الهادئة التي تتيح لهم التفكير بهدوء، وتحصيل القناعة الفكرية والروحية بحريّة ومعرفة.
هذا من جهة... ومن جهةٍ ثانية، تؤكّد قيمة الأسلوب النبويّ الذي واجه به النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) هذا الرجل، فقد استمع إليه بهدوء حتّى ظنَّ أنّه سيناقش معه العروض التي عرضها عليه ليصل إلى النتيجة المطلوبة في حلّ المشكلة بينه وبين قريش.. ولكنّ النبيّ طلب من الرجل أن يستمع إليه، كما استمع هو إليه، وفاجأه بالآيات الكريمة التي قرأها عليه لينقله من جوّ العروض الماديّة إلى جوّ روحي بعيد كلّ البعد عن ذلك، ينطلق فيه الإنسان إلى آفاق الله الفسيحة، مروراً بقضايا الحياة في صراع الحقّ والباطل والخير والشرّ، وأصناف الناس بين مَن يفتح قلبه للإيمان وبين من يغلق قلبه عنه.
وترق المشاعر وتهدأ الانفعالات، وتصفو النفس، وتنساب الآيات في هدوء الوحي ووداعته، كمثل الصّباح الوديع في طهره وصفائه... ويدخل عتبة في هذا الجوّ الروحي اللّذيذ الطّاهر الذي لم يكن له عهد به... وينتهي الجوّ بالوصول إلى القمّة الروحية التي ترتفع إليها المشاعر، فتعبّر عن نفسها بالسجود لله.
ويترك النبيّ الرجل.. ليقول له، بعد أن سمع ما سمع وعاش ما عاش.. أنتَ وذاك فهذا ما أريده منك ومن غيرك.. إنّه الانفتاح على أجواء الإيمان بالله.. بأرواحكم وقلوبكم.. ثمّ بالإيمان المنفتح المبصر الواعي، لا الإيمان الأعمى، من دون التقاء بينابيعه، وانطلاق مع آفاقه، وانسجام مع آياته الكبيرة في الحياة.
وفارق عتبة النبيّ.. وانطلق إلى قومه، ليفتح عيون قومه على المستقبل الذي ينتظرهم بالتحدّي العظيم الصارخ، فقد عرف الرجل ملامح هذا المستقبل وخطواته، من خلال الجوّ الذي تثيره هذه الآيات في عمق التأثير وقوّته وصفائه، فقد عاش هذه الانفعالات الروحية في نفسه، وعرف كيف يمكن أن يعيشها الآخرون، وكيف يمكن لها أن تثير الناس الذين يلتقون بها في أجواء حياديّة متطلّعة إلى كلّ جديد.
وطلب من قومه أن يوفّروا على أنفسهم جهد هذا الصّراع وقساوته، وخطورة المستقبل المظلم عليهم وتحدّياته، فيجمّدوا إعلان الحرب عليه.. لأنّه سيتركهم ما تركوه، فهو صاحب الرسالة، الذي يعمل على أن تصل إلى كلّ قلب، وتدخل في كلّ فكر، وتقتحم كلّ باب.. فليس من هدفه أن يقاتل، بل كلّ هدفه أن يهدي ويبلّغ ويقيم الحجّة البالغة على الناس، انطلاقاً من مسؤوليّته الرساليّة، أمام الله.
ولم يقبل منه قومه ذلك، لأنَّهم كانوا لا يتطلَّعون إلى المستقبل القوي في موقع الرسالة، بل كانوا ينظرون إلى الحاضر من خلال عنجهيّاتهم وكبريائهم في بلاهة وصلف، فيحسبون أنّ الحاضر والمستقبل بيدهم، فهم الذين يقرِّرون مصير الرسالة والرسول، فكيف يمكن لهم أن يسالموه أو يهادنوه، بعد أنْ كان في قبضة أيديهم، وهكذا كان.. وأسدل الستار عن الموقف.
لقاء النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بأهل يثرب
نجحت محاولات النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في جولته على جماعات الحجَّاج، في نهاية المطاف، فكان اللّقاء الأوّل بجماعة صغيرة من هذا البلد التقاهم بمنى، وعددهم ثمانية نفر، فعرض عليهم الإسلام فأسلموا، وقال لهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): تمنعون لي ظهري حتّى أبلِّغ رسالة ربّي.
فقالوا: يا رسول الله نحن مجتهدون لله ورسوله.. نحن فاعلم، أعداء متباغضون، وإنّما كانت وقعة بعاث عام الأوّل، يوم من أيامنا، اقتتلنا فيه، فإن نقدم ونحن كذا لا يكون لنا عليك اجتماع، فدعنا حتّى نرجع إلى مشاعرنا لعلّ الله يصلح ذات بيننا، وموعدك موسم العام المقبل.
ثمّ قدموا إلى المدينة فدعوا قومهم إلى الإسلام، فأسْلَمَ مَنْ أسْلَم، ولم يبقَ دار من دور الأنصار إلاّ فيها ذكر من رسول الله.
فلمّا كان العام المقبل، لقيه اثنا عشر رجلاً بعد ذلك بعام، فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء، على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، قال: فإن وفيتم فلكم الجنّة ومن غشي من ذلك شيئاً كان أمره إلى الله إنْ شاء عذّبه وإنْ شاء عفا عنه، ولم يفرض يومئذٍ القتال.
ثمّ انصرفوا إلى المدينة، فأظهر الله الإسلام، وكتب الأوس والخزرج إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ابعث إلينا مقرئاً يُقرؤنا القرآن، فبعث إليهم مصعب بن عمير العبدري.
فلمّا حضر الحجّ مشى أصحاب رسول الله الذين أسلموا بعضهم إلى بعض يتواعدون المسير إلى الحجّ، وموافاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والإسلام يومئذٍ فاش في المدينة.. فخرجوا وهم سبعون يزيدون رجلاً أو رجلين في غمرة الأوس والخزرج وهم خمسمائة. حتّى قدموا على رسول الله مكّة، فسلّموا على رسول الله، ثمّ واعدهم منى وسط أيّام التشريق ليلة النفر الأوّل إذا هدأت الرجل، إن يوافوه في الشّعب الأيمن إذا انحدروا من منى بأسفل العقبة حيث المسجد اليوم، وأمرهم أنْ لا ينبّهوا نائماً ولا ينتظروا غائباً.
فخرج القوم بعد هدأة يتسلَّلون الرجل والرجلان وقد سبقهم رسول الله إلى ذلك الموضع، ومعه العبّاس بن عبد المطّلب، ليس معه أحد غيره. ثمّ توافى السّبعون ومعهم امرأتان، فكان أوّل من تكلَّم العبّاس بن عبد المطّلب، فقال: يا معشر الخزرج أنّكم قد دعوتم محمّداً إلى ما دعوتموه إليه، ومحمّد أعزّ الناس في عشيرته، يمنعه والله منّا مَن كان على قوله، ومَن لم يكن منّا على قوله يمنعه للحسب والشّرف، وقد أبى محمّد الناس كلّهم غيركم، فإنْ كنتم أهل قوّة وجلد وبصر بالحرب واستقلال بعداوة العرب قاطبة ترميكم عن قوس واحدة، فارتأوا رأيكم وأتمروا بينكم، ولا تفترقوا إلاّ على ملأ واجتماع، فإنَّ أحسن الحديث أصدقه.
فقال البراء بن معرور: قد سمعنا ما قلت وإنّا والله لو كان في أنفسنا غير ما تنطق به لقلناه، ولكنّا نريد الوفاء والصّدق وبذل مهج أنفسنا دون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
قال: وتلا رسول الله القرآن، ثمّ دعاهم إلى الله ورغّبهم في الإسلام، وذكر الذي اجتمعوا له، فأجابه البراء بن معرور بالإيمان والتصديق، ثمّ قال: يا رسول الله بايعنا فنحن أهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر، وقالوا: نقبله نقبله على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ولغطوا: فقال العبّاس بن عبد المطّلب: أخفوا جرسكم فإنَّ علينا عيوناً وقدموا ذوي أسنانكم، فيكونون هم الذين يلونا كلامنا منكم، فإنَّا نخاف قومكم عليكم، ثمّ إذا بايعتم فتفرّقوا إلى حالكم.
ثمّ ضرب السّبعون كلّهم على يد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وبايعوه.. فقال لهم: "إنَّ موسى أخذ من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً فلا يجدنَّ منكم أحد في نفسه أن يؤخذ غيره، فإنّما يختار لي جبريل، فلمّا تخيرهم قال للنقباء: أنتم كفلاء على غيركم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم وأنا كفيل على قومي.. قالوا: نعم، فقال لهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): فانفضوا إلى رحالكم، فتفرَّقوا إلى رحالهم".
فلمّا أصبح القوم غدت عليهم جلّة قريش وأشرافهم حتّى دخلوا شعب الأنصار، فقالوا: يا معشر الخزرج إنّه بلغنا أنّكم لقيتم صاحبنا البارحة وواعدتموه أن تبايعوه على حربنا، وإيم الله ما حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب بيننا وبينه الحرب منكم.
قال: فانبعث من كان من الخزرج من المشركين يحلفون لهم بالله ما كان هذا وما علمنا، فلمّا رجعت قريش من عندهم رحل البراء بن معرور فتقدّم إلى بطن ياجج وتلاحق أصحابه من المسلمين، وجعلت قريش تطلهم في كلّ وجه ولا تعدوا طرق المدينة، وحزبوا عليهم، فأدركوا سعد بن عباده، فجعلوا يديه إلى عنقه بنسعة، وجعلوا يضربونه ويجرُّون شعره، وكان ذا جمة، حتّى أدخلوه مكّة، فجاءه مطعم بن عديّ والحارث بن أميّة فخلَّصاه من بين أيديهم)(1).
إنَّنا نستفيد من هذه القصّة عدّة أمور:
الأوّل: إنّ المحاولات الفاشلة المتكرّرة التي واجهت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في دعوته القبائل القادمة إلى مكّة للإسلام، لم تدفعه إلى اليأس والاستسلام للفشل، واجترار أحزان الهزيمة.. بل كانت حافزاً للإلحاح على مواصلة التجربة ما كان له إلى التجربة سبيل. كإخوانه من الأنبياء الذين تقدَّموه وواجهوا الفشل بروح الأمل الممتد على أساس من الإيمان بالله والثقة بوعده بالنصر.
وهكذا التقى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بالطليعة الأوّل من أهل يثرب الذين كانوا يترقّبون خروج نبيّ من مكّة.. من خلال إخبار اليهود لهم بذلك، فيما كانوا يقرأونه عليهم من التوراة من صفات النبيّ الذي يخرج من مكّة ومهاجرته إلى يثرب، ممّا جعلهم يعيشون الأجواء النفسية المتطلِّعة إلى ذلك، المستعدّة للإيمان من خلال الإذعان به، أو انتهاز الفرصة السّانحة لربح الموقف على اليهود.
وقد حدَّث بعض الرواة بذلك فيما رواه ابن إسحاق، قال: (وكان ممّا صنع الله بهم في الإسلام أنّ يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا هم أهل الشرك وأصحاب أوثان وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم إنَّ نبيّاً مبعوثاً الآن قد أطلَّ زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عادٍ وإرم.
فلمَّا كلَّم رسول الله أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله أنّه النبيّ الذي توعّدكم به اليهود، فلا يسبقنَّكم إليه فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدَّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنَّا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم، فعسى الله أنْ يجمعهم بك فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدّين، فإنْ يجمعهم الله عليه فلا رجل أعزّ، منك)(1).
وبهذا نفسّر هذا المدّ الإسلامي السّريع الذي شاهدناه في التجاوب الشامل مع الدعوة الإسلامية، ونؤكّد على استيحاء الدروس العملية في التركيز على مواصلة التجربة في حركة الإنسان في الدعوة إلى الله، مهما كانت قيمة البوادر الكثيرة للفشل، وفي ملاحقة الأجواء التي تتمتَّع بأرضية خصبة صالحة للعمل، من خلال دعوات سابقة، أو من إعداد نفسي خاص منبثق من بعض الظروف والأوضاع الاجتماعية الدينيّة، ممّا يجعل النفوس حاضرة للالتقاء بالدعوة الإسلامية، في أوّل تجربة للدعوة من قِبَل أصحابها العاملين.
الثاني: مواجهة النبيّ للموقف بعقلية هادئة واقعية، تتعامل مع طبيعة الواقع وحاجته ـــ في حركته الرسالية ـــ إلى ضمانات عملية للمستقبل، من حيث مصارحتهم بالصعوبات الشديدة التي تواجههم، وبالمعارك العنيفة التي تفرضها القوى الكافرة على المسلمين، وما يستتبع ذلك من دمار وتشريد وهلاك للنفوس والأموال، وغير ذلك من عواقب الحرب ونتائجها التي يعرفونها جيّداً لأنّهم أبناء الحرب العشائرية التي كانوا يخوضونها فيما بينهم، في النزاع القبلي المرير بين الأوس والخزرج.. ومن حيث إمكانات وصول الموقف إلى أن تكون جبهتهم الإسلامية، وحدها في مقابلة العرب قاطبة، لأنَّ الإسلام لم يكن قد بلغ أيّ مركز من مراكز القوّة، آنذاك فقد كانوا هم القوّة الوليدة الجديدة التي تمثّل بداية القوّة الإسلامية.
لقد كان هذا هو الأسلوب الواقعي الذي يمثّل الصدق والأمانة اللّذين يعتبرهما الإسلام مفتاح شخصية الإنسان المسلم، لترتبط المواقف بين القاعدة والقمّة، بالثقة المبنية على الصراحة فيشعر الناس في دخولهم في الإسلام، أنَّ ذلك ليس نزهة يعيش فيها الإنسان أحلامه في هدوءٍ واسترخاء لذيذ، بل هو الجهاد في أصعب مراحله.
فقد أراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يصارحهم بذلك كلّه ولا يغرقهم بالوعود المعسولة، فيستغلّ اندفاعهم الروحي في سبيل إدخالهم في المأزق، ليكون الحساب بينه وبينهم بعد فوات الأوان.. لأنَّ ذلك ليس من خلقه، وليس من خلق الإسلام، ولأنَّ هذا الأسلوب هو الذي يضمن ثباتهم وصمودهم واندفاعهم الواقعي، ومواجهتهم للموقف بقوّة، ما دام الموقف خاضعاً للرؤية الواضحة للحاضر والمعرفة الشاملة للمستقبل، والإيمان العميق بالنتائج المترقّبة في الدنيا والآخرة.
وهكذا انسجم القوم مع كلّ ذلك، وأعلنوا للنبيّ أنّهم لا يجهلون النتائج المستقبلية ولا يخافون منها، لأنّهم أبناء الحرب، فلا يخافون من عواقبها بشكلٍ طبيعي، فكيف إذا كان ذلك في سبيل الله.
ولم يقتصر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) على ذلك، بل حاول أن ينظِّم العلاقة بينه وبينهم، على أساس تحديد مسؤوليّتهم في هذا الالتزام العقدي بالنسبة إلى أصحابهم، فيكون هناك كفلاء منهم، إزاء كفالته هو لأصحابه المسلمين في مكّة، ليشعروا بأنَّ القضية ليست مجرّد اتّفاق كلامي، بل هي خاضعة لالتزامات متبادلة محدّدة، يشعرون معها بالجدّية والواقعية.
لأنَّ إبقاء المسؤوليات في إطارها العام الذي يخضع الموقف للحالات النفسية والخطوات الذاتية، يترك الوضع عرضة للاهتزاز والارتباك.. وبالتالي للفوضى والانفلات.
الثالث: التأكيد على الجانب السرّي للتحرّك، سواء في التحضير للاجتماع، أو في موعد عقده، أو في طريقة الحديث أو في طريقة التفرّق.. ممّا يلفت النظر إلى انسجام الإسلام مع واقع الأمور، من أجل المحافظة على سلامة العمل في الظروف الصعبة، التي يملك فيها الكفر أو الباطل كلّ مقوّمات القوّة المادية، التي لا يملكها الإيمان والحق.
ويدلّل على رفض الفكرة القائلة إنّ على الحقّ أن يجهر بدعوته مهما كانت الظروف، ولا يلجأ إلى السرّية، لأنّها مظهر ضعف وتخاذل.. ولعلَّ الذي يدعو إلى الإعجاب، هو هذه الدقّة في السرّية التي اتّبعها الأنصار بحيث لم يشعر بهم رفاقهم، الذين أنكروا حدوث مثل هذا الشيء عندهم، عندما سألتهم قريش عن ذلك.
الرابع: أسلوب قريش القَلِق في ملاحقة المؤمنين بالدين الجديد، حتّى الذين هم من غير أهل مكّة، ممّا يدلَّ على أنّها بدأت تعتبر نفسها مسؤولة عن حرب الإسلام في الداخل والخارج، نظراً إلى ما تحسّ به من خطورة على مركزها وامتيازاتها المالية والسياسية.
الأمر الذي يعرّفنا مدى العنف الذي كانت تواجه به قريش إيمان المؤمنين في مكّة، وما تقوم به ضدّهم من تعذيب واضطهاد، ويكشف لنا، في الوقت ذاته، عظمة الصّمود الذي كان يقابل به المؤمنون ذلك العنف كلّه.
التجربة النبويّة بعد الهجرة
تتميَّز التجربة النبويّة بعد الهجرة بسعتها، وتنوّعها، وامتدادها، بالنسبة للتجربة قبل الهجرة، بالنظر إلى الظروف التي تحكم التجربة، والمجال الذي تتحرَّك فيه، والأوضاع التي تلاحقها.
فقد كانت للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في مكّة شخصية الرسول الداعية الذي كان يفتّش عن مكان تتركَّز فيه الرسالة كقاعدة وعن مجتمع يتحرَّك من أجل تحقيق أهداف الإسلام في الحياة.. ولذا فقد كانت التجربة محكومة لهذا الهدف المحدود.
أمّا في المدينة فقد انطلقت الأهداف من حيث انتهت تلك، فقد وجدت القاعدة وولد المجتمع، وبدأ النبيّ يعمل، والمسلمون معه، في سبيل إغناء تلك التجربة التي أنتجت ذلك الواقع، بتجاوب جديدة في أسلوب الدّعوة، وفي طريقة الحكم، وفي تنظيم الحياة على أساس قانون جديد متوازن، يرعى جانب المادّة كما يرعى جانب الروح، وينظِّم حقوق الفرد كما ينظّم حقوق المجتمع، ويعمل لتركيز العدالة على أساس من الحقّ، ويدعو للمحبّة على أساس الرحمة، ويعمل للعزّة والكرامة، كما يدعو للتسامح وللعفو وللصبر الجميل، ويشرّع للحرب كما يشرّع للسلم.. ويحمّل المسلمين مسؤولية حمل الدعوة إلى العالَم كلّه.
وقد كان من الطبيعي أن يهتمّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بتنظيم هذا المجتمع الرائد الذي يحمل المسؤولية الإسلامية في قلبه وكيانه، فكانت هناك بعض التجارب التي نتحدّث عنها كنموذج يحتذى ويقتدى به في كلّ حركة إسلامية معاصرة.
مع التجربة النبويّة في المدينة
1 ـــ مؤاخاة الرسول للمسلمين:
جاء في طبقات ابن سعد: قالوا: لمّا قَدِم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) المدينة آخى بين المهاجرين بين بعضهم البعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بينهم على الحقّ والمساواة، ويتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام..(1).
ماذا نفهم من هذه القصّة؟
إنّنا نفهم من دلالاتها طريقة عملية في توثيق العلاقات بين أتباعد الدّين الجديد، فقد كان من الطبيعي أن تبدأ الرواسب النفسية، والعقد التاريخيّة التي يختلف فيها المهاجرون مع بعضهم البعض، ويختلف فيها الأنصار مع بعضهم البعض، ويختلف فيها المهاجرون والأنصار فيما بينهم، في التعبير عن نفسها بالخلافات المتنوّعة والمنازعات المختلفة، وقد لا يمكن السيطرة عليها بالمشاعر العاطفيّة التي يولّدها الإيمان.
فكانت هذه التجربة ـــ فيما يمكن أن يكون قد قصده النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ـــ محاولة لإيجاد رابطة عضوية، بين الأنصار أنفسهم، وبين المهاجرين أنفسهم، وبينهم وبين الأنصار، لتعمّق المشاعر الإيمانية، فلا تتركها طافية على السطح، وتركّز العلاقات الروحية فلا تبقى عرضة للاهتزاز، ليتحقَّق للمجتمع الجديد التوازن والتماسك والارتباط، ولتبدأ عملية المواساة في إطارٍ محدود، يشعر فيها الإنسان بحدود المسؤولية، التي لا تبتعد عن حدود قدرته، ولا تتركه ضائعاً أمام عمليات الاختيار في المجتمع الكبير.
وبهذا تحوّلت المواساة الأخوية إلى طريقة تربوية رائعة، للترابط الإيماني في المجتمع الجديد، حتّى إذا استطاعت هذه الطريقة أنْ تحقّق نتائجها العملية، فيما حصل عليه المجتمع الإسلامي الأوّل من قوّة وتماسك ومواساة.. واستطاع المسلمون أن يكتشفوا ـــ بفضل هذه التجربة ـــ قيمة الأخوّة في الله، التي تعتبر بديلاً عن الأخوّة في النَسَب والرّضاع، فيما عاشوه من حياة رائعة في حالة الحرب والسّلام، وبدأوا يجرّبون المبدأ في إطاره العام، فتجاوز كلّ واحدٍ منهم الرابطة الخاصّة، إلى الرابطة العامّة، لأنّه عرف أنّ ما حدث كان طريقة تجريبيّة، يتعرَّف فيها إلى طبيعة العلاقة الجديدة، وليست مجرّد شيء خاص يقتصر على مورده.
وانطلق الإسلام بعد ذلك في الصّورة التي حاول أن ينظّم فيها علاقات المجتمع الجديد، ليفسح المجال للأخوّة الإيمانية ـــ بشكلٍ عام ـــ فحمل فيها المؤمنين مسؤولية هذه الأخوّة، في الإطار العملي للعلاقات الإيجابية والسلبية للمجتمع... وبقيت الأخوّة الإسلامية شعاراً إسلامياً في جانب المشاعر والأعمال، يضمّ المسلمين في المشرق والمغرب، في وحدة شعورية رائعة، ليصل العاملون من خلالها إلى المجالات العملية الأخرى من الوحدة.
2 ـــ بناء المسجد:
كان من أوّل الأعمال التي بدأها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في المدينة، بعد وصوله إليها بناء المسجد، ويروي ابن هشام في سيرته الجوّ الرائع الحميم الذي كان يهيمن على المسلمين في عملية البناء.. قال: (.. فعمل فيه (أي المسجد) رسول الله ليرغب المسلمين في العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار، ودأبوا فيه فقال قائل من المسلمين:
لئن قعدنا والنَّبِيُّ يَعْمَلُ فذاكَ منَّا العملُ المُضَلّلُ
وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون:
لا عيشَ إلاَّ عيشُ الآخِرة اللَّهمَ ارْحَمِ الأنصارَ والمهاجرة
قال ابن هشام: هذا كلام وليس برجز
قال ابن إسحاق: فيقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): لا عيش إلاّ عيش الآخرة، اللّهم ارحم المهاجرين والأنصار.
قال: فدخل عمّار بن ياسر، وقد أثقلوه باللّبن، فقال: يا رسول الله قتلوني، يحملون عليّ ما لا يحملون، قالت أم سلمة زوج النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): فرأيت رسول الله ينفض وفرته بيده، وكان رجلاً جعداً، وهو يقول: ويح ابن سميّة ليسوا بالذي يقتلونك، إنّما تقتلك الفئة الباغية.
وارتجز عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ:
لا يستوي من يعمُرُ المساجدا يدأبُ فيه قائماً وقاعدا
ومن يُرى عَنِ الغمارِ حائدا
قال ابن هشام: سألت غير واحد من أهل العلم بالشعر عن هذا الرّجز، فقالوا: بلغنا أنّ عليّ بن أبي طالب ارتجز به فلا يدري أهو قائله أم غيره.
قال ابن اسحاق: فأخذها عمّار بن ياسر فجعل يرتجز بها.
قال ابن هاشم: فلمّا أكثر، ظنَّ رجل من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه تعرّض به: فيما حدَّثنا زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق، وقد سمّى ابن إسحاق الرجل.
قال ابن إسحاق: قال: قد سمعت ما تقول منذ اليوم يا بن سميّة، والله إنّي لأراني سأعرض هذه العصا لأنفكّ قال: وفي يده عصا.
قال: فغضب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ثمّ قال: ما لهم ولعمَّار.. يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار، إنَّ عمّار جلدة ما بين عيني وأنفي. فإذا بلغ ذلك من الرجل فلم يستبق فاجتنبوه)(1).
إنَّ القيام ببناء المسجد، كأوّل عمل قام به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في المدينة، يدلّ على ما كان يفكّر به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من تخطيط لبناء المجتمع المتماسك، الخالي من الحساسيّات والعقد الذاتيّة والقبليّة.
فقد قدم إلى هذا البلد المتنافر المنقسم على نفسه، في تاريخه الدامي المملوء بالحروب والمنازعات القبليّة، بين عشيرتي الأوس والخزرج، بالإضافة إلى اليهود الذين كانوا حلفاء لكلا الجانبين، فتحارب فئة منهم مع الأوس، وفئة مع الخزرج.. وكانوا حديثي عهد بالإسلام ولم يدخلوا جميعاً في الإسلام، فقد بقيت بقيّة منهم ـــ على شركها ـــ حتّى ذلك الحين.
فربَّما أراد النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يفسح المجال لهم للتعايش الأخوي، في ظلّ المعاني الروحية والمشاعر القدسية التي يوحيها الإيمان بالله، بعيداً عن كلّ ما له صلة بالتاريخ الدامي القبلي، ليمتصّ بذلك كلّ المعاني والأحاسيس المضادّة.
فكان المسجد الذي يجتمع فيه المسلمون للوقوف بين يديّ الله، والخضوع له والإقبال عليه في مناجاة روحية خاشعة، هو المكان الذي أريد منه أن يحقّق هذا الهدف، ويشارك في خلق هذا الشعور الرائع.
وهو المكان الذي يلتقون في رحابه ليتحدَّثوا فيه بما ينفعهم ويفيدهم، فيما ينبغي لهم أنْ يتعلَّموه، وفيما يجب عليهم أن يعرفوه من شؤون المعرفة بالله ورسالته، ومن شؤون المعرفة بالحياة في علومها العملية، التي تبني للإنسان حياته، على أساس من وعي وعمق وإيمان، ويستقبلون به الوفود التي تأتيهم، للعلم، أو الدين، أو للحياة، ويثيرون فيه قضايا الحرب وقضايا السّلم، وما يستتبعهما من شؤون الدّين والدنيا، وغير ذلك من الأمور التي أريد من المسجد أن يكون مجمعاً لها، كسائر المجامع التي اعتاد الناس اللّقاء فيها، لمعالجة شؤونهم العامّة والخاصّة.
ولكنَّ قيمة المسجد في هذا الإيحاء الدائم بالله، وبالمعاني الخيّرة التي يثيرها بالنفس، ممّا يجعل كلّ هذه الأمور متّصلة بالله، خاضعة لإرادته، مسيّرة لأوامره ونواهيه.. فلا يستسلمون فيها لنوازع الشرّ والعدوان، فإذا غفلوا عن أنفسهم واستسلموا لشيءٍ من ذلك، ردّهم إلى الله جوّ طاهر، ووحي خاشع، وعبادة توحي للنفس دائماً، بما يعيدها إلى الله، ويربطها به من جديد.
وذلك هو شأن المسجد، فيما أراده الإسلام له، وهو أنْ يحقِّق معنى العبادة الشامل الذي يشمل الصّلاة، فيما تشتمل عليه من تكبير وتهليل، وشهادة وركوع وسجود، وغيرها من أجواء وشروط، ويشمل العلم الخالص لله، النافع للنّاس، والحرب التي تدفع العدوان وتهاجمه، والسّلم الذي يثير الخير وينشر الخصب والرّخاء، والجدال والحوار، الذي يراد به الوصول إلى الحقّ وردّ الباطل، والتعارف بين الناس، الذي يراد به التعاون والتكافل الاجتماعي.
ومن هنا، كان للمسجد دوره في كلّ شؤون الحياة في الإسلام، وكانت له فعاليّاته في قضايا الناس.. وكانت له ندواته الممتدّة المستمرة التي تعطينا في كلّ يوم علماً جديداً وروحاً جديدة.
حتّى إذا تقلَّص دور المسجد وابتعدت عنه الحياة، حتّى في الصّلاة التي أريد لها أن تنفتح على الحياة، لتطهّر للإنسان ضميره ووجدانه، فتطهّر من خلالها حياته.. حتّى الصلاة انعزلت عن وظيفة الوسيلة التي تشدّ الإنسان إلى الله، ليبقى لها دور الفريضة التي لا يقصد منها، إلاّ الخروج عن العهدة، وإبراء الذمّة، وامتثال الواجب، ليحصل بذلك جلب الثواب ودفع العقاب.. ولا شيء غير ذلك.
ويطيب لنا في ها هنا، أن نعايش الجوّ الرائع، الذي نشاهده في رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو يعمل في بناء المسجد، لا ليرغب المسلمين في العمل، كما يقول ابن هشام، بل لأنّه يريد أن يكون قدوة لهم، في الشّعور بالمسؤولية وممارستها، فلا يكتفي بإصدار الأوامر، فيما هو من شؤون الإسلام، بل يبادر إليه بنفسه، ليدلّل لهم من موقع الممارسة، أنّ العمل يقف في المستوى الذي يحبّ، ويرغب فيه من كلّ واحد، حتّى منه نفسه، وهو من هو في مستوى المسؤولية الرسالية.
ثمّ تجد المسلمين يعملون في هذا الجوّ الرائع، الذي يطرحون فيه الشّعار ـــ الهدف ـــ، فهم لا يعملون في الدنيا، لعيش الدنيا وإنْ كان له من الأهمية المقام الكبير، بل يعملون في الدنيا لعيش الآخرة، الذي وعد الله به عباده المتّقين.. ثمّ يبتهلون إلى الله، في الموضع الذي يبنونه، ليكون موضعاً للابتهال، في أن يرحمهم أنصاراً أو مهاجرين.
ونلتفت فجأة لنرى عمّار بن ياسر الذي عذّب واضطهد من أجل عقيدته، وكاد أن يموت تحت التعذيب كما مات أبواه.. فنرى هذا الرجل مثقلاً بحمله، حتّى ليكاد أن يسقط صريعاً تحت وطأة هذا الحمل الثقيل، فيشكو أمره إلى رسول الله، فيتحدّث إليه بالغيب الذي أعلمه الله إيّاه، بأنّه تقتله الفئة الباغية.
وينظر عليّ (عليه السلام) ناحية، فيرى بعض المسلمين يحيدون عن الغبار، ويبتعدون عن المشاركة، فيرتجز الرجز المتقدّم، ويتلقّفه عمّار ويكرّره، ويلتفت ذلك البعض إلى نفسه ويشعر بأنّه مقصود به، فيثور على عمّار بما يشبه التهديد.. ويقف النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من جديد، مع عمّار ليعبّر عن حبّه له، وعلاقته به وتقديره له، لما قدَّم من تضحية، ولما تحمّل من عذاب، لأنّه لا يريد للمجاهدين المخلصين أن ينالهم أحد بسوء، لاسيّما إذا كان مثل هذا، ممّن لم يقدّم للإسلام شيئاً، من جهده ومن جهاده.
وهكذا عشنا في جوّ بناء المسجد الأوّل، في الأجواء النفسية التي كان يعيشها المسلمون يومئذ، واستطعنا أن نعرف كيف كانوا يفكِّرون، ويتجادلون ويتنازعون، وكيف كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يدير هذه الخلافات ويحلّها، أو يعلّق عليها بأسلوبٍ رسالي حازم.
وربّما نأخذ من ذلك درساً عملياً في الاهتمام الشديد، برعاية المجاهدين الذين يعذّبون ويضطهدون في سبيل العقيدة، وتقييم مواقفهم في كلّ مناسبة، والوقوف بحزم ضدّ الأشخاص الذين يسيئون إليهم، لتبقى للجهاد قيمته في حياة النّاس، عندما يرونه قيمة كبيرة تجعل أصحابه في مقدّمة المجتمع، قوةً ومكانةً، انسجاماً مع قول الله تعالى: {فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء : 95].
3 ـــ كتبه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى الملوك وغيرهم
قام الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فيما ترويه كتب السّيرة النبوية الشريفة.. بإرسال وفود وكتب إلى ملوك زمانه، وإلى زعماء البلاد ووجهاء القوم، وإلى كثير من الناس، يدعوهم فيها إلى الدخول في الإسلام، بأساليب متنوّعة، تأخذ بالإيجاز تارة، وبالتفصيل أخرى. وقد يغلب على بعضها الرفق، وقد يقرب بعضها الآخر من العنف، تبعاً لما تقتضيه المصلحة، ويفرضه الموقف.
وكتب إلى كثير من الناس من العرب في أمور متعدّدة تتمثَّل فيها شخصية الرسول الداعية، كما تتمثَّل فيها شخصية الحاكم الذي يهدّد ويتوعّد، ويهب ويعطي ويمنع، ويقطع الأراضي، ويحدّد لكلّ شخص حدوده.. وقد نلمح فيها شخصية المشرّع الذي يشرّع أحكام الشرائع المالية والعبادية، وغيرها.
وقد نجد في دراسة هذا الجانب من سيرة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فوائد كثيرة، على مستوى الأسلوب والمحتوى والروح، وقد نتعرّف من خلال ذلك على نظرة الإسلام لأهل الأديان الأخرى، وطريقة مخاطبتهم، وأسلوب التعامل معهم على أساس العقود والمواثيق والالتزامات.
فمن ذلك ما رواه صاحب الطبقات الكبرة، فقد روى أنّهم قالوا: (وكتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لأسقف بن الحارث بن كعب، وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم، أنّ لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانيّتهم وجوار الله ورسوله، لا يغيّر أسقف عن أسقفيّته، ولا راهب عن رهبانيّته، ولا كاهن عن كهانته، ولا يغيّر حقّ من حقوقهم ولا سلطانهم، ولا شيء ممّا كانوا عليه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم، غير مثقلين بظلم ولا ظالمين).
فقد نفهم من هذا الكتاب، أو نستوحي منه ما نسمّيه بالحريّة الدينيّة، وعدم التدخّل في شؤونهم العامّة والخاصّة، وعدم تغيير أيّ شيء ممّا كانوا عليه، شريطة أن ينصحوا ويصلحوا فيما عليهم، من دون أن يظلمهم أحد أو يظلموا أحداً.. وأحسب أنّنا لا نجد أروع من هذا الأسلوب، النابض بروح المحبّة والرحمة والإنسانية السّمحة، الذي يعبّر عن نظرة الإسلام، إلى أسلوب التعايش السّلمي بين أهل الأديان المختلفة، عندما يعيش أحدهما في ظلّ الحكم الإسلامي.
قالوا: (وكتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى ضغاطر الأسقف: سلام على من أمن. أمّا على إثر ذلك فإنَّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم الزكيّة، وإنّي أؤمن بالله وما أنزل إلى إبراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيُّون من ربّهم، لا نفرّق بين واحدٍ منهم ونحن له مسلمون. والسّلام على مَن اتّبع الهدى).
وقد نلاحظ في هذا الكتاب التواضع النبويّ عندما يبدأ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) رسالته بالعقيدة الإسلامية في عيسى، إيذاناً باللّقاء بينه وبينهم في احترام عيسى بما يرفع من مقامه ومنزلته، ثمّ يتبع ذلك ببيان ما يؤمن به من وحدة الرسالات وتآخي الرسل من دون أن يضيف إلى ذلك شيئاً من دعوته، أو بعضاً من مواطن الاختلاف بين الدينين، ليترك الأمر له، ليفكِّر فيقنع ويؤمن، أو لا يؤمن فيكون قد أقام عليه الحجّة، وأهاب به أن يفتح باب الحوار، من دون أن ينتقص من قيمة مقدّساته، بل حاول أن يعطيها حقّها من القداسة بما أضفاه عليها من الألفاظ القرآنية الرائعة.. وفي هذا الأسلوب الدلالة على التهذيب الإسلامي، في الشّكل والمضمون والروحية السّمحة.
وقد نلتقي في هذا المجال بالتعليمات التي كان يوجّهها إلى الدّعاة الذين يرسلهم إلى الناس.. فقد روى بعض الرواة، أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال لأصحابه: وافوني بأجمعكم بالغداة.
وكان (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إذا صلّى الفجر حبس في مصلاّه قليلاً يسبّح ويدعو، ثمّ التفت إليهم فبعث عدّة إلى عدّة وقال لهم: "انصحوا الله في عباده، فإنّه من استرعي شيئاً من أمور الناس، ثمّ لم ينصح لهم حرَّم الله عليه الجنّة انطلقوا ولا تصنعوا كما صنعت رسل عيسى بن مريم، فإنّهم أتوا القريب وتركوا البعيد، فأصبحوا ـــ يعني الرسل ـــ وكلّ رجل منهم يتكلَّم بلسان القوم الذين أرسل إليهم، فذكر للنبيّ، فقال: هذا أعظم ما كان من حقّ الله عليهم في أمر عباده".
ونلاحظ في هذه الوصية الموجزة التأكيد على جانب عظيم الأهمية في حياة العمل الإسلامي، والعاملين له، وهو أنّ بعض هؤلاء يختارون الأماكن القريبة إلى بلادهم لئلاّ يتجشَّموا عناء الغربة البعيدة، أو متاعب السّفر الطويل، وقد أراد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من هؤلاء الدّعاة أن لا يلجأوا إلى هذه الطريقة في ممارستهم للمسؤولية، لأنَّ الانسجام مع متطلّبات الدعوة في كلّ مكان من بين الشروط الأساسية لمبدأ النصيحة لله في عباده، التي يجب عليهم أن يقوموا بها بعد أن استرعاهم الله أمور الناس في شؤون الدّعوة والحياة.. فمن لم يقم بواجب النصيحة ويتحمَّل المتاعب، وهو قادر على ذلك، فإنَّ الله يحرّم الجنّة عليه، ويبعده من ساحة لطفه ورضوانه ورحمته.
ثمّ ضرب لهم مثلاً بالرسل الذين كانوا ينطلقون بالرسالة من قبل عيسى إلى الناس، فكانوا يتركون البعيد ويأتون القريب، فكان من بلاء الله لهم أصبحوا بمعجزة من الله، وكلّ واحد منهم يتكلّم بلسان القوم الذين أرسل إليهم ليضطر، بسبب ذلك إلى القيام بمسؤوليته كاملة غير منقوصة.
4 ـــ وفود العرب عليه
لقد كانت قوّة الإسلام العسكرية أمام تحدّيات الكفر الكثيرة وعدوانه المتكرّر، وثبات المسلمين في كلّ تلك الحروب التي خاضوها مع الكافرين، سبباً في اندفاع العرب بشكلٍ لا نظير له في الوفادة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والدخول في الإسلام، لاسيّما بعد فتح مكّة... لزوال القوّة الضخمة التي كان الناس يخشون سطوتها فيمتنعون عن الإسلام لذلك.
وهكذا جاءت الوفود تتتالى.. وكانت لرسول الله أساليبه المتنوّعة في محاورتهم وإكرامهم بمختلف ألوان الإكرام، ودعوتهم إلى الإسلام.. وقد تمثّلت فيها أخلاق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) العظيمة أصدق تمثيل.
وربّما كان من الخير، أو من الواجب، للدّعاة المسلمين أن يتوفّروا على دراسة هذا الجانب من حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لأنّه يحتوي على كثير ممّا نحتاج إليه من غنى التجربة الروحي، وعطائها العملي.. وقد نحتذيه في كثير من اللّقاءات التي تحصل بين العاملين للإسلام وبين الناس الآخرين.. في الحالات المماثلة أو القريبة منها، ولا بأس بأن نقدّم بعض هذه النماذج التي يمكن أن يحتذيها العاملون في عملهم الإسلامي.
روى صاحب الطّبقات الكبرى، قال: بعثت بنو سعد بن بكر في رجب سنة خمس، ضمام بن ثعلبة، وكان جلداً أشعر ذا غديرتين، وافدا إلى رسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فسأله فأغلظ في المسألة، سأله عمّن أرسله وبما أرسله، وسأله عن شرائع الإسلام، فأجابه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في ذلك كلّه، فرجع إلى قومه مسلماً قد خلع الانداد وأخبرهم بما أمرهم به ونهاهم عنه، فما أمسى في ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلاّ مسلماً، وبنوا المساجد وأذنوا بالصلوات(1).
فقد نستفيد من هذا النموذج، أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) استطاع أن يعرف من إلحاح هذا الرجل في المسألة، ملاحقة كلّ علامات الاستفهام التي تتلاحق في ذهنه والتشديد على الدقّة في الجواب عليها، أنّ هذا الرجل جاد في قضية الإيمان بالرسالة، لأنَّ طبيعة الأسئلة لا تنطلق من حبّ التحدّي، أو من طبيعة التباهي بما يملك من معلومات، فاستقبله ـــ بكلّ رحابة صدر ـــ وأجابه عن كلّ سؤال مهما يكن محرجاً أو مضحكاً. حتّى إذا استقام له أمر الإيمان، واطّلع على دقائقه انطلق إلى بلده، فاقتنع الجميع بقناعته، أو أنّهم اقتنعوا بما أخبرهم به من أوامره ونواهيه، وطبيعة الرسالة والرسول، وهكذا كان النبيّ مدركاً لقيمة هذا الشخص من ناحية ذاتية، ومن ناحية تأثيره على الآخرين.
وفي الطّبقات، قالوا: وقدم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وفد بني عبد بن عديّ، وفيهم الحارث بن أهبان وعويمر بن الأخرم وحبيب وبيعة ابنا ملّة، ومعهم رهط من قومهم، فقالوا: يا محمّد نحن أهل الحرم وساكنه وأعزّ من به ونحن لا نريد قتالك، ولو قاتلت غير قريش قاتلنا معك ولكنّا لا نقاتل قريشاً، وإنّا لنحبّك ومن أنت فيه، فإن أصبت أحداً فعليك ديته، وإذا أصبنا من أصحابك فعلينا ديته، فقال: نعم فأسلموا.
ونلاحظ في حوار النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) مع هذا الوفد الذي جاء ليسلم، ولكنّه يريد أن يستثني من مسؤولياته الإسلامية المفروضة على كلّ مسلم، في المشاركة في الجهاد الإسلامي ـــ حرب النبيّ مع قريش ـــ لأنّهم يعيشون معهم في منطقة واحدة، ولا يريدون لأنفسهم أن يدخلوا معهم في حرب أو قتال.
واستجاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لهذه الرغبة، انسجاماً مع أسلوبه الواقعي الذي سار به في أكثر من حادثة، في الاستجابة لبعض المطالب والرغبات التي يتقدَّم بها بعض الراغبين في الإسلام، نظراً لصعوبة الالتزام بها سلباً أو إيجاباً، لأنَّ عدم الاستجابة لهم يعطّل هذه الرغبة، ويعوق عملية الدخول في الإسلام لما لهذه القضية من الأهمية لديهم، لعلاقتها بمصالحهم الحيوية، لاسيّما في مثل هذه الحالة التي تتّصل بخروجهم من ديارهم أو بقائهم فيها، إذا خاضوا الحرب ضدّ قريش، أو لم يخوضوها..
ولعلَّ السرّ في هذا الأسلوب، أنّ الداخلين في الإسلام ـــ غالباً ـــ لا ينطلقون ـــ عادة ـــ من إيمان عميق بالإسلام، بالمستوى الذي يدفعهم إلى التضحية بكلّ شيء ـــ في البداية ـــ لأنّهم لا يفهمونه فهماً حقيقياً كاملاً، فقد يريد النبيّ أن يتسامح معهم في ذلك، على أساس خطّة الرسالة في التدرّج في الدّعوة، ليكتشفوا بعد إسلامهم ما يشتمل عليه أو يحتويه من روحية وانفتاح وقوّة، فينفتحوا عليه انفتاحاً كاملاً، ويلتزموا به التزاماً شاملاً في نهاية المطاف.
وفي الطّبقات: عن رجل من عنس بن مالك بن مذحج، قال: كان منّا رجل وفد على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فأتاه وهو يتعشَّى، فدعاه إلى العشاء فجلس، فلمّا تعشّى أقبل عليه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال: أتشهد أن لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً عبده ورسوله.. فقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً عبده ورسوله.. فقال، أراغباً جئت أم راهباً.. فقال، أمّا الرغبة فوالله ما في يديك مال، وأما الرهبة فوالله إنّني لببلد ما تبعته جيوشك، ولكنّي خوفت فخفت، وقيل لي آمن بالله فآمنت، فأقبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) على القوم فقال: ربّ خطيب من عنس(1).
فقد نفهم من هذه القصّة، أنّ هناك فئات من العرب، كانت تعيش التفكير في الإسلام وفي شريعته، أو في مفهومه للدّنيا والآخرة.. فإذا أقبلت عليه أقبلت عن قناعة، لا عن رغبة ولا عن رهبة، كما نجده في هذا الرجل الذي أعلن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّ خوفه من الدار الآخرة دعاه إلى التفكير ثمّ الإيمان... ونستفيد منها أنّ الصّراحة لا المجاملة، كانت شأن العرب وطريقتهم في حديثهم مع كبار القوم، كما هي مع صغارهم.
وقد نلتقي ببعض النماذج الحيّة، في هذه الوفود التي كانت تفد على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) كما يحدّثنا ابن سعد في طبقاته، عن وفد (تجيب) فقال: قدم وفد تجيب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) سنة تسع، وهم ثلاثة عشر رجال، وساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسرّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بهم وقال: مرحباً بكم، وأكرم منزلهم وحباهم، وأمَرَ بلالاً أن يحسن ضيافتهم وجوائزهم، وأعطاهم أكثر ممّا يجيز به الوفد، وقال: هل بقي منكم أحد، قالوا: غلام خلفناه على رحالنا وهو أحدثنا سنّاً، قال: أرسلوه إلينا.
فأقبل الغلام إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال: إنّي امرؤ من بني أبناء الرهط الذين أتوك آفناً فقضيت حوائجهم فاقضِ حاجتي. قال: وما حاجتك.. قال: تسأل الله أن يغفر لي ويرحمني ويجعل غناي في قلبي.
فقال (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): اللّهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه.
ثمّ أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثمّ وافوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في الموسم بمنى ستّة عشر فسألهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عن الغلام، فقالوا: ما رأينا مثله أقنع منه بما رزقه الله، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): أنّي لأرجو أن نموت جميعاً(1).
فقد يلفت نظرنا هذا الغلام الطيّب الذي لم يشأ أن يطلب لنفسه شيئاً ماديّاً، ممّا طلبه قومه، أو اعتاد الناس أن يطلبوه، بل طلب غفران الله ورحمته، أن يحقّق له غنى نفسه الداخلي، ممّا يوحي لنا بالروح الكبيرة التي تتجسَّد في هذا الغلام الذي أدرك أنّ مطالب النّفس لا تنتهي، وأنّ فقر النّفس أشدّ من فقر المال، لأنّه يجعل الإنسان لاهثاً أمام أطماعه وأشواقه ورغباته، ويحطّم له عزّته وكرامته، ومبادئه، أمام أيّ حاجة إلى غيره، إذا فرض عليه، غيره، في مقابلها الذلّ والانحراف.. أمّا الغنى الداخلي، فإنّه يملأ النفس بالشعور العميق وبالاكتفاء بأقلّ شيء، وبذلك يملك نفسه وكرامته ومبادئه، بعيداً عن أيّ ضغط وعن أيّ ابتزاز، لأنّه يشعر في هذه الحالة بأنّ الآخرين ليسوا قوّة فوقه، بل هم مثله له حاجاته ولهم حاجاتهم، فإذا كان هو محتاجاً إلى بعض ما لديهم، فإنّهم محتاجون إلى كثير ممّا في أيدي الآخرين، فلماذا يضع نفسه تحت رحمتهم إزاء بعض رغباته، ليشعروا بالفوقية في مقابل شعوره بالدونية، ما دام قادراً على أن يصبر على نفسه، من أجل أن تبقى له نفسه، كما ورد في الحديث عن الإمام عليّ (عليه السلام) في بعض كلماته: "اكرم نفسك عن كلّ دنيئة وإن ساقتك إلى الرغائب فإنّك لن تعتاض بما تبذله من نفسك عوضاً...".
وهكذا قضى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لهذا الغلام حاجته، فقد دعا له النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بما طلب، واستجاب له الله دعاءه، حتّى أصبح مضرب المثل في قناعته بما رزقه الله... ومات على ذلك.
ويظهر من القصّة.. أنَّ مثل الغلام النموذج قد ملأ قلب النبيّ إعجاباً وتقديراً، ولذلك بدأ النبيّ قومه بالسؤال عنه، عندما قدموا عليه مرّة ثانية في الموسم بمنى.. وتلك هي بعض عظمة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فقد كان لا ينسى مثل هذه النماذج الحيّة، التي ترتبط بالحياة من خلال المبادئ، لا من خلال الأطماع، فيبادر بالسؤال عنها، حتّى يشعر الناس بقيمة المعاني الكبيرة التي يجسّدها هؤلاء، ليقتدوا بهم في ذلك كلّه.. وتلك هي دروس السّيرة النبويّة التي تواجهك في كلّ موقف وفي كلّ مكان.
وقد نجد في بعضها المثل الحيّ من أخلاق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) كما نجد ذلك في قصّة عدي بن حاتم، عندما قدم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) مسلماً، قال فيما يرويه ابن هشام في سيرته: خرجت حتّى أقدم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) المدينة، فدخلت عليه، وهو في مسجده، فسلّمت عليه، فقال: من الرجل، فقلت: عديّ بن حاتم، فقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنّه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تكلّمه في حاجتها، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك.
قال: ثمّ مضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) حتّى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من ادم محشوة ليفاً فقذفها إليّ، فقال: اجلس على هذه، قال: قلت بل أنت فاجلس عليها، فقال: بل أنت. فجلست عليها وجلس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بالأرض، قال: فقلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، ثمّ قال: ايه عديّ بن حاتم ألم تكن ركوسيا.. قال: قلت بلى، قال: أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع.. قال: قلت بلى، قال: فإنّ ذلك لم يكن يحلّ لك في دينك، قال: قلت أجل والله. وقال: وعرفت أنّه نبيّ مرسل، ثمّ قال: لعلّك يا عديّ إنّما يمنعك من الدخول في هذا الدّين ما ترى من حالتهم، والله ليوشكنّ المال أن يفيض فيهم حتّى لا يوجد من يأخذه، ولعلّك إنّما يمنعك من دخولٍ فيه ما ترى من كثرة عددهم وقلّة عهدهم، فوالله ليوشك أن تسوع بامرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتّى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلَّك إنّما يمنعك من دخول فيه أنّك ترى أنّ الملك والسّلطان في غيرهم، وأيم الله ليوشكنَّ أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم، قال: فأسلمت.
وكان عديّ يقول: قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكوننَّ، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتّى تحجّ هذا البيت، وأيم الله لتكوننَّ الثالثة، ليفيض المال حتّى لا يوجد من يأخذه(1).
إنَّنا ننقل هذه القصّة لا لنؤكّد عظمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من خلال إخبار النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لعديّ بن حاتم بالمغيبات، لأنّنا لم نألف من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) محمّد هذا الأسلوب في دعوة الآخرين إلى الإسلام، فيمنّيهم بالمال والجاه والسّلطان، لأنَّ هذا كلّه ليس هدفاً للإسلام، من حيث كونه موجباً للرغبة الذاتية لدى الناس، وقد يؤكّد هذا التحفُّظ أنّ صاحب الطّبقات الكبرى لم ينقل هذه التفاصيل عند نقله لهذه القصّة، بل إنَّنا ننقل هذه القصّة لنؤكّد عظمته في وقوفه الطّويل مع المرأة الضعيفة التي استوقفته في الطريق طويلاً من أجل حاجتها، وفي تواضعه الرائع في بيته مع عديّ بن حاتم الذي جاء ليدخل في الإسلام، حيث جلس على الأرض، وأجلس ضيفه على الفراش، ممّا أوحى لعديّ بعظمة النبوّة التي تتعاظم وتستطيل على عظمة المال والملك والشّرف.
إنَّ كثيراً من هذه اللّفتات الرائعة، التي تعبّر تعبيراً رائعاً عن الإسلام وعن أخلاقه وتعاليمه وعن شخصية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في حياته العامّة والخاصّة، جديرة بالدراسة الدقيقة الواعية، التي تكشف الكثير من جوانب الدعوة الإسلامية، والعلاقات الإسلامية بين الحاكم والمحكومين، في إطار التنظيم الإسلامي للحياة.
أسئلة وأجوبة حول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)
إنّنا عندما نريد أن نتحدّث عن رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لا نحتاج إلى من يذكّرنا به، ولا نحتاج إلى أي مناسبة تربطنا به، فنحن في صلاتنا نبدأ يومنا بالشهادة له بالرسالة، كما نبدأه بالشهادة لله بالوحدانية، نعيش في صلاتنا مع اسمه عندما نصلّي عليه في كلّ ركوع وسجود استحباباً.. لا نحتاج إلى مَن يذكّرنا به عندما نذكره في تشهّدنا وتسليمنا، فكلّ مسلم يتذكّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في كلّ صلاة وفي كلّ صوم وفي كلّ حجّ.. يذكره في كلّ ما يريد أن يمارسه من أفعال على أساس حكم الله في هذا الفعل أو ذاك.
إنَّنا نتذكّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في كلّ سيرة حياتنا الخاصّة وحياتنا العامّة، فعندما نوحي لأنفسنا أو يوحي إلينا الآخرون.. أو ننبّه أنفسنا أو ينبّهنا الآخرون أنّ هذا الأمر حلال، نتذكّر أنّ رسول الله هو الذي جاء بحلّيته، أو أنّ هذا الأمر حرام نتذكّر أنّ رسول الله هو الذي جاء بحرمته.
ولهذا فإنَّنا في كلّ حياتنا كمسلمين نشعر أنّ الرسول ما يزال معنا يدعونا، كلّما سمعنا آية، وكلّما سمعنا حديثاً عنه، وأنّه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقودنا كلّما أردنا أن نسير على خطّه.
لهذا فنحن لن ننتظر مولده وإسراءه ومعراجه لنتذكّره، ولن ننتظر أيّة مناسبة من المناسبات التي تتّصل بحياته لنتذكّره، لأنَّنا نتذكّره بالإسلام كلّه وبالحياة كلّها.
مع معطيات ولادته (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)
ـــ اعتاد المسلمون في كلّ ذكرى سنويّة لولادة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يحتفلوا بها بشكلٍ خاص يعبّر عن فرحتهم بهذه المناسبة الكبرى، كيف ترون سماحتكم المعطيات الحركية لولادة الرسول؟
في كلّ مرة تمرّ فيها الذكرى العطرة لولادة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يطيب للمؤمن أن يشعر أنّه يولد من جديد، يولد على أساس وحي الله، وعلى أساس رسالة الله ونهجه في الحياة، لأنَّ الله يريد لكلّ إنسان منّا أن يعيش حياته ليولد كلّ يوم ولادة جديدة، على أساس أنّ كلّ يوم من أيّام حياتنا يمثّل عمراً جديداً، له قضاياه ومشاريعه وعلاقاته وأجواؤه.
يريد الله سبحانه وتعالى في كلّ يوم أن نقف أمامه، لنشعر أنَّنا ولدنا من جديد، وأنَّ علينا أن نواجه كلّ ما حولنا بطريقة من التأمُّل والتدبُّر والتفكير. فنراجع كلّ حسابات الأيام الأخرى، لنعتبر أنّ تلك الأيام قد ماتت وبقيت لنا حساباتها ومسؤولياتها.
عندما نعيش ولادة يوم جديد، نحاول من خلاله أن نضبط حساباته، وأن نركّز مشاريعه، وأن نستقبل الله بعقلٍ جديد في حيويّة ونشاط وشعور بالمسؤولية.
هكذا يريدنا الإسلام أن نكون، أن لا نشعر بثقل الزّمن علينا، لأنّ ذلك يجعلنا نسقط أمام الحياة، ونتقاعد عنها، ونهرب منها، ونتخلّى عن مسؤوليّتها.
في الإسلام لا يتقاعد الناس عن المسؤولية، ولكنّهم يتقاعسون عن بعض الأعمال التي تثقل أجسادهم، فلا يستطيعون أن يقوموا بها، ثمّ يختارون بعد ذلك عملاً يتناسب مع إمكاناتهم ليواجهوا المسؤولية من خلال ذلك العمل، لأنّه ليس في الإسلام أُناس يجلسون بدون عمل، وبدون فكر، وبدون ممارسة للمسؤولية، لينتظروا الموت فقط!
إنَّ الله سبحانه لا يرضى أن ينتظر الإنسان الموت وهو بعيد عن المسؤولية، بل يريد له أن ينتظر الموت وهو مسؤول، يعمل ويتبنى الحياة بكلّ جهده.
على الإنسان أن يفكِّر أنّه يموت، ولكن فليفكّر أنّه لا بدّ أن يبقى بعده شيء من الحياة يتّصل به، فهو قد عاش حياته والآخرون هيّأوا له هذه الحياة، وعليه أن يهيّئ من بعده شيئاً من حياته، يبقى لهم يعينهم على استمرار الحياة.
وفي ضوء هذه المعطيات، عندما نريد أن نستقبل ذكرى مولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) نريد أن نولد ولادة إسلامية جديدة، نشعر فيها بأن نتخلّص من كلّ التأريخ الذي أثقلنا بالجاهليات الآتية من الشّرق والغرب، ونحاول أن نولد من جديد على أنقاض ما نتخلّص فيه من كلّ التخلّف والجهل الذي عشنا.. فيما أخذناه من عصور التخلّف، ومن مواقع التخلّف في الحياة.
إنَّ علينا أن نقف أمام العالم لنقول: بأنَّنا بالإسلام نولد، وبه نعيش ونتجدَّد، لأنَّ الإسلام يريد للإنسان أنْ يتجدَّد في فكره ونشاطه وطاقاته، ليجدّد الحياة من حوله، وليعطيها نشاطاً جديداً، وقوّة جديدة.
الإسلام لا يرحّب بالكسالى، الذين يظلُّون في كلّ يوم ينتظرون اليوم الثاني ليعملوا، فإذا جاء اليوم الثاني فإنّهم ينتظرون اليوم الثالث، وهكذا..
الإسلام لا يحترم الذين يريدون الرزق وهم جالسون، ويريدون النصر وهم نائمون، ويريدون الحياة وهم ميّتون في داخل أنفسهم أمام الحياة.
إنَّما الإسلام للعاملين المجدّين والمتحرّكين، للمجاهدين في سبيل الله، في كلّ واقع ينتظر حريّتهم وجهدهم وحركتهم.
فبمقدار أن يكون الإنسان عاملاً في الحقل الذي يحمل مسؤوليّته، بمقدار ما يكون حبيباً لله وقريباً منه.
فعندما يعيش الإنسان في عمله، ويطلب الرزق له ولعياله فهو حبيب الله.. وعندما يعلّم الناس من علمه فهو حبيب الله، وعندما ينظّم حياة الناس الاقتصادية والأمنية والسياسية، وعندما يجاهد بكلّ ما عنده من طاقة، فهو حبيب الله.
إنَّ الله سبحانه يريد من الإنسان أن يعبده من خلال توجيه عقله فيما يريده، وأن يعبده من خلال تحريك علمه فيما يرضاه.
إنَّ الذين يحتفلون برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) هم الصّامدون في مواقع الجهاد، والثابتون في مواقع الدعوة، وهم المتحرّكون في مواجهة التحدّي، الذين يتحرّكون باتّجاه رسول الله، لكي يكونوا في كلّ مرحلة يمرّون بها أمناء على دعوته وإسلامه {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران : 31].
هذه طريقة الاحتفال بالمولد، أن يتبع الناس الرسول في كلّ ما أمرهم به عن الله سبحانه وتعالى، وفي كلّ ما نهاهم عنه بأمر الله.
على المرء أن يعرف إيمانه وإسلامه، وليحاول أن يجعل من ذكرى رسول الله أساساً ليفكِّر أنّ هناك هجمة على الإسلام، تفوق الهجمة التي وجّهت إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما بدأ الإسلام، وأنّ هناك نوعاً من التسويات التي يراد من المسلمين أن يدخلوا فيها حتّى يخلطوا بين الإسلام وبين الكفر.
إنَّ ما نريده في العقلية الجديدة هو أن يعيش رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في فكرنا وواقعنا وحياتنا، لتكون أفكارنا هي أفكار رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)... وأن تكون مشاعرنا تُحِبّ مَن يُحِبّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وتُعادي مَن يعادي.
وهكذا تكون خطواتنا العملية هي خطوات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فعندما يلين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) مع الناس الذين يعيش معهم ويرقّ لهم ويعطف عليهم ويتسامح معهم، نحاول أن نلين في النماذج التي لانَ لها رسول الله، ونسامح الناس الذين يمثّلون الناس الذين سامحهم رسول الله، وعندما يعنف رسول الله، نتحرَّك في الطريق الذي تحرَّك فيه، فنعنّف حيث نراه يعنّف.
وهذا ما أرادنا الله سبحانه وتعالى أن نعيشه مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، يقول سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21].
لقد كان رسول الله الأسوة الحسنة لنا، لذا يجب علينا أن نجعل من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قدوة لنا، نتأسّى به ونتعلَّم منه، فذلك هو الذي يربطنا به، ويجعل علاقتنا به علاقة وثيقة من خلال رسالته وحياته، لكي تكون حياتنا حياة رسول الله، ويكون مماتنا مماته (صلّى الله عليه وآله وسلَّم). لأنَّ الله يريد لنا أن نمضي مع رسول الله في طريقه.. نستهدي به ونتّجه معه إلى هدفه.
محاولات القضاء على الأصالة الإسلامية
ـــ ما هي الرؤية التي تقدّمها سماحتكم للمحاولات المضادّة التي تستهدف أصالة العقل الإسلامي، وتحاول تسطيح رؤيته للخطّ والمنهج الأصيل الذي جاء به الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)؟
في مرحلتنا الحاضرة وفي كلّ مراحلنا التي سبقت ولحقت، يراد لنا أن نخلط بين الإسلام والكفر، ليقولوا لنا إذا أمسكتم بالإسلام كلّه من أصوله فأنتم متطرّفون.. إنّهم يقولون اتركوا الجذور، لا تأخذوا محمّداً في دعوته، ولكن خذوا محمّداً في اسمه فقط.
يقولون: خذوا الإسلام صلاة لا تفهمونها، وخذوا الإسلام صوماً لا يمتدّ إلى أن تكون لكم إرادة الرفض في المسألة السياسية، وخذوا الحجّ فريضة لا تستفيدون منها في أيّ مجال من مجالاتكم العامّة.
طوفوا بالبيت بشرط أن لا تفهموا معنى الطّواف، واسعوا بين الصّفا والمروة بشرط أن تعتبروها مجرّد سباق بين الصّفا والمروة.. وهكذا ارجموا الشيطان بحجارتكم بلا معنى، بشرط أن لا ترجموا الشيطان في الواقع بسياستكم، وبكلّ وسائلكم في رجم الشيطان.
خذوا الإسلام شكلاً واتركوه مضموناً، خذوا الإسلام طقوساً واتركوه خطّاً وجهاداً، حتى تريحوا كلّ مواقع الكفر ومواقع الاستعمار ومواقع الاستكبار، لأنَّ الاستكبار لا يزال منذ الجاهلية يفكّر كيف يقضي على الإسلام في نفوس المسلمين، قبل أن يقضي عليه في حياتهم.
لم يدعونا رسول الله إلى نفسه أو زعامته.. ولم يدعونا إلى عشيرته أو أي شيء يخصّه، إنّما دعانا إلى الله، كما دعا نفسه إلى الله، آمن بالرسالة ودعانا إلى الإيمان بها، وصدّق الرسالة ودعانا إلى التصديق بها، وعَبَدَ الله ودعانا إلى عبادته.
كان أوّل المؤمنين، وأوّل العابدين، وأوّل السائرين على الخطّ، فهو المسلم الأوّل في إيمانه، والأوّل في جهاده وصبره، وإخلاصه لله سبحانه وتعالى، داعياً إلى الله بإذنه، يقول للنّاس: أيُّها الناس إنَّ الله خلقكم من نفسٍ واحدة وإنَّ الله هو الذي يميتكم ويبعثكم، ما بكم من نعمة فمن الله، لا تملكون شيئاً إلاّ ما يملّككم الله إيّاه.
يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال : 24].
فالله لا يدعوكم إلى أن تموتوا في الحياة، بل يدعوكم إلى أن تحيوا حياتكم كأفضل ما تكون الحياة، وأن تتحمّلوا مسؤولية الحياة كأفضل ما تكون المسؤولية. إنَّ الله يدعونا إليه والرسول يدعونا إلى الله ليحرّر إرادتنا من الخضوع لأيّ عبدٍ مثلنا، ليجعل لنا حريّة الفكر، وحريّة الروح، وحريّة الحركة، وحريّة الشعور، لنبقى عبيد الله وحده.
لقد بدأ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الخطوة الأولى وشقّ لنا الطريق، فكيف نقف الآن، وكيف نتحرّك، وكيف نواجه التحدّيات في السّاحة الإسلامية، هناك مشكلة نعيشها الآن كما كنّا نعيش مشكلة سابقة في الفترة الماضية.
في الماضي كان هناك إسلام بلا سياسة، كان هناك إسلام يتحدّث فيه القادة المسلمون عن الفكر، وعن الروحانية، وعن الأخلاق، وعن كلّ هذه الجوانب التي تمثّل الإسلام فكراً وشريعة ومنهجاً، ولكن لم تكن هناك سياسة بمعنى الحركة التي تواجه الواقع من أجل تغيير الواقع على أساس الضغط عليه، ولهذا كان الإسلام يمثّل جوّاً فكرياً يختلف عمقه وسطحيّته باختلاف المفكّرين.
أمّا في الوقت الحاضر فنحن نعيش حركية الإسلام، الحركة التي تتحدّى والتي تواجه، وتفجّر السّاحات، والتي تقتحم الموانع، والتي تتعرَّض للأخطار، والتي تواجه الكثير من المشاكل.
إنَّنا نريد أن نركّز الإسلام من القمّة إلى القاعدة، أن نجعل كلّ حياتنا في خدمة دين محمّد وشريعته ونهجه.. والالتزام بكلّ خطّه.
علينا أن لا نأخذ من محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) صلاته وصيامه وحجّه، ونترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وجهاده في سبيل الله، علينا أن لا نأخذ من محمّد تسامحه ولينه في كلامه، ونترك صلابته في دينه وشدّته في مواجهة التحدّيات... علينا أن لا نأخذ بعض صفاته ونترك بعض صفاته الأخرى.
موقعنا من الرسول ومن الإسلام
ـــ خلال الفترات السابقة ظهرت محاولات فكرية أرادت أن توجد علاقة ارتباط مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بصفته العربية كما في الاتجاه القومي، وكذلك هناك محاولات تريد التنظير لعلاقة ثقافية مع الرسول بدون التركيز على القيمة العقيدية، ما هو الموقف الإسلامي من هذه المحاولات؟
لقد جاء رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بالصدق الذي هو الإسلام كلّه، وأرادنا أن نصدّق به كما صدَّق هو به، لهذا فنحن نعيش معه كلّما عشنا مع الإسلام، وهذا ما يجعل ارتباطنا برسول الله ارتباطاً بالإسلام، لأنَّ رسول الله ليس له صفة تربطنا به إلاّ صفة أنّه رسول الله، ولذلك فإنَّ علينا أن نؤكّد هذه الصفة التي أكّدها الله سبحانه وتعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب : 40].
هو رسول الله في وعينا، لهذا لم يحبّ أحد رسول الله، إذا لم يحبّ الإسلام، ولم يخلص أحد لرسول الله إذا لم يخلص لخطّ الإسلام، ولم يطع أحد رسول الله إذا لم يتحرّك في حركة الإسلام.
ليس ارتباطنا به ارتباطاً شخصياً، ولكنّه الارتباط الرسالي، لأنَّه أن نؤمن برسول الله، وأن نحبّه ونخلص له، هو أن نقف حيث وقف، وأنْ نتحرّك حيث تحرّك، وأن ندعو حيث دعا.
لقد جاء الرسول من أجل أن يركّز في حياة كلّ منّا إخلاصاً لله، أراد أن يربطنا بالله قبل أن يربطنا بشخصه، وعندما ربطنا بشخصه فإنّه فعل ذلك من خلال ارتباطه بالله سبحانه وتعالى، لم يرد لنا أن نعظّمه مع الله، بل أراد لنا أن نعظّمه من خلال أنّه عبد الله، لذا أرادنا أن نقول أشهدُ أنَّ محمّداً عبده ورسوله، لكي نشعر بأنَّ رسول الله يرتفع كلّما ارتفع في عبوديّته لله وفي طاعته، حتّى نأخذ ذلك درساً، وهو أن لا نجعل أحداً مع الله مهما كانت عظمته، من أولياء الله، ومن العلماء ومن المجاهدين، ومن الأبطال، لأنَّ كلّ عظيم في خطّ الإسلام فإنَّ عظمته تبدأ حيث تبدأ عبوديّته لله.
إنَّ عظمة رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه كان عبداً مخلصاً لله، وعظمة الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه كان عبداً مخلصاً لله، وعظمة كلّ الأئمّة (عليهم السلام) أنّهم كانوا عباد الله المخلصين.
لا قيمة لمسلمين يرتبطون بمحمّد ولا يرتبطون برسالة محمّد، إنَّ رسول الله يرفض أن ترتبط الناس به من خلال اسمه فقط، فنحن مسلمون ننطلق من خلال رسول الله، لا من خلال ذاته.
قد يتحدّث البعض إلى الناس عن محمّد كعبقري، وعن محمّد كمصلح، وعن محمّد أنّه عاش آلام العروبة واختزن كلّ مشاعرها، وثار من أجل أن يؤكّدها.
أجل.. محمّد عبقري، مصلح، ثائر عظيم، ولكن ليست تلك الصّفات صفاته الذاتية عندنا، لأنَّ صفة محمّد عندنا هي رسول الله يوحى إليه من ربّه، فمن أنكر الوحي أنكر الإسلام.. ومَنْ أنكر رسالة رسول الله الآتية من الله فقد أنكر الإسلام.
مع شهادته (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) علينا
ـــ تحدَّث القرآن الكريم عن الرسول الشّاهد والمبشّر والنذير.. كيف نستوحي هذه المفاهيم القرآنية في حياتنا الخاصّة والعامّة؟
إنَّ من قِيَم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه الشاهد علينا، شاهد بحضوره عندما كان حاضراً، وشاهد برسالته، وشاهد بكلّ الناس الذين جعلهم أوصياء له ونوّاباً له وخلفاء له {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً*وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [الأحزاب: 45 ـــ 46].
يقدّم الشّهادة أمام الله عن كلّ العالم الذي تحمّل مسؤوليّته، وعن كلّ الأُمّة التي وجّه إليها رسالته شاهداً عليها، يقدّم لله الشهادة عمّا صنعه في حياته، وعمّا صنعته الأُمّة بعد حياته، هل انسجمت الأُمّة مع رسالته؟ هل سارت مع شريعته؟ هل حملت مفاهيمه؟ هل حملت أهدافه وتطلُّعاته؟ أم أنّها سارت مسار ما كان قبلها من الأُمم، أخذت القشور، وتركت الباب، وأخذت الشّكل وتركت المضمون، وتحرّكت في السّطح وتركت العمق!
فلننظر كيف نواجه شهادة رسول الله، فهو الشّاهد علينا! {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ...} [الحج : 78].
نحن حملة الرسالة الذين ننتمي إلى الله ومن خلال رسالاته، ومن خلال شريعته، نحن أيضاً علينا أن نعيش الشّهادة على الناس من خلال رسالاته وشريعته، فهل نحن في مستوى الشهادة؟ وهل نحن في مستوى المسؤولية؟ هذا ما يريده الله أن نعيشه {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً..}.
يبشّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الناس برضا الله إذا أطاعوه، وبجنّته إذا ساروا على منهاجه، ويبشّرهم بحياة طيّبة رضيّة، إذا عملوا بما يريده من أحكام ومن واجبات، لكلّ حكم من الأحكام يبلّغه رسول الله إلينا.. وكلّ طاعة من طاعات الله، يدعونا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إليها، فهي بشارة لنا في حياة نعيشها كأسعد ما يعيش الإنسان من حياة، وبآخرة ينطلق فيها الإنسان كأفضل ما ينطلق الإنسان في آخرته.
هكذا بشّرنا رسول الله، ويريدنا رسول الله، ويريدنا الله دائماً أن نستحضر البشارة في وعينا وأفكارنا.
على الإنسان في كلّ عمل أن يفكّر بأنّ رسول الله بشّره بالجنّة، فإذا كان الإنسان طيّباً وصالحاً، يكون بركة على نفسه وعلى الآخرين.
على الإنسان أن لا ينسى بشارة الله لنا بالجنّة، ولا ينسى بشارة الله لنا بالحياة الطيّبة، ولا ينسى الله له برضاه.. أن لا ينسى ذلك لأنّه إذا ذكر ذلك، ذكر كيف يوفّق بين أعماله وبين البشارة.
أمّا إذا نسي الآخرة ونسي الجنّة، ونسي رضا الله، ونسي مصيره فإنّه سيتحرّك عشوائياً؛ يسقط في حفرةٍ هنا ويخرج منها ليسقط في حفرة ٍأخرى كالأعمى، يصدمه جدار هنا وجدار هناك، ولا يهتدي السّبيل {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل : 32].
وهكذا فليفكّر الإنسان.. أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) جاء مبشِّراً لنا بالجنّة وبرضا الله، وبالحياة السعيدة الطيّبة الرضيّة.
وعندما يذكر الإنسان البشارة، فليذكر العمل الذي يجعله بمستوى البشارة يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 ـــ 2].
لقد أنذرهم الله من خلال رسوله ومن خلال القرآن، وأنذرنا إذا كفرنا وإذا عصينا، وأنذرنا إذا انحرفنا، وأنذرنا إذا عبدنا الطاغوت أو اتّبعناه، وأنذرنا إذا عبدنا الشّيطان، أو اتّبعنا الشيطان وأولياء الشيطان، فإنَّ الله أنذرنا عذاباً شديداً {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار : 19].
لقد أنذرنا رسول الله بكلّ ما أمر الله أن ينذرنا به، لم ينذرنا بالآخرة فقط، بل أنذرنا بنتائج عملنا في الدّنيا:
{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل : 112].
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم : 41].
أنذرنا عذاب الدّنيا من خلال ما نفعله من أعمالنا، كما أنذرنا عذاب الآخرة. وفي يوم القيامة يأتي النداء من الله شعار يوم القيامة:
{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر : 17].
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل : 118].
إنَّ الله أعطاهم عقلاً وعيناً وإرادة. دلَّهم على طريق الخير وشجّعهم عليه، ودلَّهم على طريق الشرّ وأبعدهم عنه، ولكنّهم ساروا مع شهواتهم فأنكروا الحقّ وهم يرونه، وساروا مع الباطل وهم يعرفونه.. فظلموا أنفسهم لأنّهم سيَّروا أنفسهم في الطريق الذي يهلكهم في الدّنيا ويهلكهم في الآخرة.
ومن هنا فليذكر الإنسان إنذارات الله إليه إذا دعي إلى معصيته أو الكفر والإشراك به.. وليذكر الإنسان إنذارات الله إذا دعاه إنسان إلى أن يقتل الناس أو يسرقهم أو يعتدي على أعراضهم أو يؤذي الناس فيما لا حقّ له فيه، ليذكر إنذارات الله وليذكر قوّة الله التي لا يمكن أن يثبت أمامها.
من الولادة إلى النبوّة
ـــ نلاحظ أنّ القرآن لم يحدّثنا عن ولادة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، كيف ولد وأين ولد وفي أيّ الأجواء الروحية أو الغيبيّة، في حين تحدّث عن ولادة السيّد المسيح في أكثر من آية، ما هو تفسيركم لهذه المسألة؟
عندما تحدّث القرآن عن ولادة السيّد المسيح (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إنّما تحدَّث عنها لأنّها تمثّل مظهراً من مظاهر قدرة الله، لا على أساس خصوصيّة في ذكر الولادة. إنَّ القرآن لم يحدّثنا عن ولادة إبراهيم ولا عن ولادة موسى، ولا عن ولادة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، حدّثنا فقط عن خلق آدم، وحدّثنا فقط عن ولادة عيسى، لأنَّ الله أراد أن يعطينا من خلال ولادة عيسى الفكرة في قدرة الله سبحانه وتعالى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران : 59].
يريد الله أن يعطينا الفكرة عن قدرته، وهو أنّه قادر على أن يبعث الحياة في النطفة فيكون الولد من خلال الزوجين، وهو قادر على أن يخلق إنساناً بدون أب وأُم، وقادر أن يخلق إنساناً من دون أب.
عندما وُلِدَ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وُلِدَ وهو طفل يتيم، مات أبوه قبل أن يولَد، وكان فقيراً يعيش الضعف من خلال ظروفه المالية، تكفّله عمّه أبو طالب بوصيّة جدّه عبد المطّلب، فأصبح الناس ينادونه يتيم أبي طالب. كان الله سبحانه وتعالى يربّيه بلطفه وبرحمته فيلقي في قلبه كلّ إشراقات الإيمان، فيحرّك الإيمان في قلبه من خلال تأمّلاته ومن خلال أفكاره ومن خلال ابتهالاته لربّه. فقد التقى بربّه قبل أن يبعث نبيّاً رسولاً، وقد اعتزل الناس في غار حراء قبل أن يبعث نبيّاً ورسولاً.
وقد ربَّى نفسه وألزمها بأن يكون الصادق في القضايا الصغيرة والكبيرة، حتّى لم يستطع أحد أن يحصي عليه كذبة حتّى في حالة مزاح، كما ألزم نفسه أن يكون الأمين الذي يشعر من خلال روح الأمانة في حياته، أن يكون الإنسان الذي يعيش في المجتمع فيحمل نفسه مسؤولية أن يكون أميناً على المجتمع من حوله، أميناً على ماله، لا يأخذ مال أحد حتّى لو كان مشركاً أو كافراً، أميناً على أرواح الناس وأميناً على أعراضهم.. وهكذا انتقل اسمه من كلمة يتيم أبي طالب إلى كلمة الصادق الأمين.
كان يعيش ويعيش الصّدق معه.. عندما يلتقي أيّ شخص ويحدّثه فيرى ذلك الشخص أنّ الصّدق يتحدّث له، وكان يسير والأمانة تسير معه، كان قدوة للناس في صدقه وأمانته قبل أن يدعو الناس من خلال رسالته إلى الصّدق وإلى الأمانة. لأنَّ الله أراد أن يعدّه للرسالة التي ترتكز على الحقّ. وهل يمكن أن يكون الحقّ لا صدق معه؟ وهل يمكن أن يكون الحقّ لا أمانة معه؟ إنَّ الكاذبين يتحرّكون مع الباطل وإنَّ الخَوَنَة يطعنون الحقّ في قلبه. كان (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الصّادق الأمين.
كان يتعلَّم من خلال الفكرة ويتعلَّم من خلال تأمُّلاته، وكان الله يفيض عليه علماً من علمه، ولطفاً من لطفه، ورحمة من رحمته، حتّى استطاع أن يتأدَّب بأدب الله قبل أن يبعث رسولاً لله.. قال (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "أدَّبني ربّي فأحسن تأديبي".
بعث الله سبحانه وتعالى محمّداً رسولاً.. كان في غار حراء وجاءه الملك: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 ـــ 5].
سيعلِّمك الله وستكون أنتَ محمّد بن عبد الله المعلِّم الأكبر للحياة كلّها من بعدك {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً*وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [الأحزاب: 45 ـــ 46].
انطلق رسول الله وانطلقت الدعوة معه وانطلقت الرسالة معه.
انطلق رسول الله وتجمَّع المؤمنون معه، تجمَّعت القوّة من خلاله في حركيّة الرسالة، جاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من أجل أن يصنع الفكر المتعقّل الواعي، والمجتمع الذي ينشئ الحضارة ويواجه الحضارات بكلّ قوّة.
التجربة الاجتماعية للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)
ـــ احتلَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) موقعاً مميّزاً في المجتمع المكّي ممّا يفرض أن يكون تأثيره الرسالي سهلاً في ضوء ذلك، لكنَّ التجربة النبويّة كانت على العكس فقد واجَهَ الرسول تصلُّباً مغلقاً من قِبَل قومه، كيف نستطيع في ضوء الموقف القرشي أن نستوحي التجربة الإسلامية يما يخدم الحركة الرسالية المعاضرة؟
عندما جاء رسول الله إلى الناس كان النّاس يؤمنون بالخرافات، كانوا لا يفكِّرون ولا يتفكَّرون في عقولهم بما ورثوه من آبائهم، دون أنْ يناقشوا ما كان آباؤهم يتحدّثون به، كانوا يسمعون الأشياء، كانت عقولهم في آذانهم يحكمون بما يسمعون ولم يكونوا يحكمون بما يفكِّرون، ولهذا قال سبحانه: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج : 46].
كانت مشكلتهم أنَّ قلوبهم في عمى، أنَّ لهم قلوباً لا يعقلون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، كان رسول الله ينفتح على الكافرين فيتألَّم لأنَّهم يغلقون قلوبهم عن الله ويبتعدون عن شريعته، ويتمرَّدون على أحكامه.. وكانوا يضطهدونه جسدياً، فكانوا يلقون عليه الأوساخ وكانوا يرمونه بالحجارة حتّى تدمى رجلاه، ويتبعون كلّ الوسائل في سبيل أن يقهروا شخصيّته.
حاصروه وقاطعوا معه كلّ بني هاشم، وتعاقدوا أن لا يزوّجوهم ولا يتزوّجوا منهم، وأن لا يؤاكلوهم أو يشاربوهم، وما إلى ذلك حتّى ضاق الأمر بهم كثيراً.. كانوا في الوقت نفسه يتحدّثون عنه بلغةٍ تريد أن تسيء إلى مقامه، فإذا تحدّث الناس عن القرآن كرسالة موحى بها من الله، كانوا يقولون هذا شعر، وإذا قدَّم لهم بعض آيات الله قالوا هذا سحر وكهانة، وإذا اعوزتهم الكلمات قالوا عنه أنّه كاذب، والكلّ يعرف أنّه الصّادق.
قالوا عنه أنّه مجنون... وكان أبو لهب يسير وراءه والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يعرض نفسه على القبائل في دعوته، وكان عمّه أبو لهب يقول: لا تصدِّقوا ابن أخي فإنّه مجنون.
كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يسمع ذلك كلّه.. يسمع الشتائم والتَّهم بأُذنيه وكان يلاقي ما يلاقي.. فهل ضاق صدره؟ هل تعقَّد من الناس؟ هل وقف ليدعو على النّاس؟
كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول: "اللّهم اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون". لا تعذّبهم لأنَّ هؤلاء القوم قد عاشوا فترة طويلة من الزّمن في ظلام الجهل والتخلُّف، لهذا فقد تحجّرت قلوبهم، وتجمَّدت عقولهم وابتعدوا عن الصّراط المستقيم.
يا ربّ.. إنّي أصبر عليهم، سأدعوهم في الصباح والمساء وفي كلّ وقت حتّى أستنفد كلّ التجارب لينفتح قلب هنا وينفتح قلب هناك.. وينطلق إنسان هنا وإنسان هناك إلى النصر بعد ذلك.
كان (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يصبر على ذلك كلّه ويدعو الله أنْ لا يعاجلهم العقوبة.. فأيّ قلب أكبر من هذا القلب!!
قالوا إنّه ساحر.. وقالوا كاهن، المهم أنّهم يريدون أن لا يعتقد الناس أنّه نبيّ، قالوا عنه شاعر ومجنون، اتّهموه في عقله واتّهموه بالكذب وقالوا عن القرآن أنّه {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان : 5].
لقد أخبرنا الله عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه عندما كان يسمع قومه يهاجمونه بكلمة مجنون كان يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ : 46].
كان يريد أن يقول لهم: أنتم تقولون عنّي إِنّي مجنون، لكنّي لا أردّ عليكم كلمة في مقابل كلمة، لكن أقول لكم إِنَّكم مضلّلون، إنّكم مجتمعون على العصبيّة، يقودكم شخص يطلق لكم شعاراً فتهتفون دون أن تعرفوا ما معنى الشّعار، يثير أمامكم تهمة فتتبعون هذه التهمة دون أن تعرفوا خلفياتها، لأنَّ العقل الجماهيري الذي يسمّى العقل الجمعي يفقد فيه الإنسان عقله وتركيزه الشّخصي، ويصير جزءاً من الجوّ العام.
لهذا قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لهم: ما دمتم في هذا الجوّ الانفعالي فلن يفيد الكلام معكم لا تستطيعون أن تفهموا منّي شيئاً، لكن تفرَّقوا اثنين اثنين، قوموا لله.. فرِّغوا قلوبكم لله: لا تفكِّروا بفلان زعيماً وفلان حكيماً، وفلان وجيهاً، فكِّروا بالله فأنتم عبيده الذين يطلبون الحقيقة.
اجلسوا اثنين اثنين وتكلَّموا مع بعض، أو واحداً واحداً يريد أن يفكِّر، وعندما تجلسون بهذه الطريقة وتتأمّلوا المسألة.. هل أنا مجنون أم لا؟ عند ذلك سوف لا تفكِّرون بالانفعال، ستقرأون كلماتي وستشاهدون أفعالي وستجدون في النتيجة أنّني عندما أُحدِّثكم عن جهّنم فلست أُحدِّثكم في لحظة جنون، وعندما أُحدِّثكم عن الجنّة فلست أُحدِّثكم في لحظة جنون، وإنَّما بالعقل كلّه والوعي كلّه.
هذه الحروب النفسيّة التي تعرَّض لها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) تحدَّث عنها الله سبحانه وخاطب بها رسوله.. يقول له: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام : 33].
إذا كنتَ داعية لله ووقف الناس ضدَّك لأنَّك تدعو إلى الله وتقف الموقف الصّلب في هذا المجال، فلا تحزن.. لا تنزعج حتّى لو سبّوك، لستَ أنتَ الوحيد: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام : 34].
هذا هو خطّ التحمُّل والصّبر حتّى يأتي نصر الله..
كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يشعر أنَّ الأُمّة لا تستطيع أن تنفتح على الرسالات إلاّ بعد وقتٍ طويل، لأنَّ ظلمات ماضيها وحاضرها سوف تمنعها من رؤية النور القادم من بعيد، ولهذا كان يطلب من الله أنْ لا يعاقبهم مهما أساؤوا إليه، لأنَّه كان يعرف أنّهم سيأتون لله إنْ عاجلاً أو آجلاً.
لقد عاشوا في ظلمات التخلُّف وظلمات الآباء والأجداد وظلمات الحقد، عاشوا ظلمات بعضها فوق بعض، ولا يمكن لكلّ هذه الظلمات المتراكمة أن تزول بمجرَّد إشراقة نور.
عندما ينطلق الفجر لا يولَد بإشراقته الكبيرة.. الشمس ترسل إشراقة صغيرة من بعيد، وترسل إشراقة ثانية وثالثة ويلتمع الفجر، ثمّ تقترب الشمس وتفرض نفسها على الظّلام تدريجياً. حتّى لا يبقى هناك شيء من الظّلام في الأُفق.
انطلق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في الدعوة وتقدَّم وثار القوم في وجهه بعد أن سمعوا ما يسفّه أحلامهم ويسفّه أصنامهم ويتحرَّك، وبدأوا يغرونه ولم يجدوا هناك مجالاً للإغراء في حياته، بدأوا يخوّفونه ولكنّهم لم يجدوا فيه أيّ مجال للخوف في حياته.
سبُّوه وشتموه ولم ينطلق لسانه بشتيمة واحدة، لأنَّ الله أمره وأمر المؤمنين من حوله، أنْ لا تسبّوا فإنَّ السبّ يعطي ردّ فعل مماثلاً لأنّه يثير غريزة الآخرين فيثورون ضدّك فلا تسبّ، ولكن ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة.
لقد أغلقوا قلوبهم عنه، وفتح قلبه الكبير لهم، أغلظوا الكلمات له وألان كلماته لهم، عاشوا في قلوبهم الحقد، وعاش في قلبه الرحمة لهم.
كانوا يقابلونه بالخُلق السيّئ، وكان يقابلهم بالخلق العظيم {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
كانوا يتمنّون له الموت وكان يدعو الله لهم بالحياة (اللّهم اغفرْ لقَومي فإنَّهم لا يعلمون).
وهكذا انطلق رسول الله يمتصّ الشتيمة ويمتصّ التهمة ويمتصّ الكلمات اللامسؤولة، ويمتصّ النظرات الحاقدة، ويمتصّ المشاعر المعادية، ويمتصّ كلّ ذلك ثمّ يطلق الكلمة، كأنْ لم يسمع شيئاً، وكأنّه لم يرَ شيئاً، يطلق الكلمة وهو يبتسم، لأنَّه يعرف أنَّ الابتسامة تدخل إلى قلوب الناس لتهيّئ الأرضية للكلمة.. لم يكن رسول الله يعيش أيّ عبوس قلبي حتّى يعبس في وجه الآخرين.
من خلال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) نتعلَّم أنَّ القيادة ليست امتيازاً يشعر فيه الإنسان بالعلوّ على الناس الذين يقودهم ليعلِّمهم ويدبِّر أمورهم.
يقول الراوي عنه: كان فينا كأحدنا لا يميِّز نفسه في شيء حتّى كان يأتي الأعرابي وهو يقصد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ويقول: أيّكم محمّد. لأنَّه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يكن يميِّز نفسه عن قومه وعن المؤمنين بأيّ شيء.
كان يشعر أنّ رسالته لا تخوّله أن يرتفع عليهم، كان يقدّرهم ويحترمهم على أساس أنَّهم آمنوا بالرسالة وعلى أنّهم إخوة الرسالة، ولهذا كان يخفض جناحه لهم ويعيش معهم كأحدهم.. كان إذا صافح شخصاً لا يجذب يده منه، وإذا سار في الطّريق لا يترك أحداً يبدأه بالسلام، بل هو الذي يبدأ الناس بالسلام قبل أن يسلِّموا.
كان يسير في إحدى المرّات في شارع من شوارع مكّة أو المدينة ورأته امرأة عرفت فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فارتعدت، قال لها: لا عليك، لماذا ترتعدين ما أنا إلاّ ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكّة!
القِيَم الحضارية للهجرة
ـــ مثّلت هجرة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى المدينة المنوّرة بداية مرحلة أساسية في حركة الإسلام التاريخيّة، كيف ترسمون سماحتكم القِيَم الحضارية للهجرة النبويّة؟
مضى على هجرة رسول الله من مكّة إلى المدينة أكثر من أربعة عشر قرناً، واجهت الهجرة عنوان السّنة الإسلامية التي يؤرّخ المسلمين كلّ وقائعهم وكلّ حركة تاريخهم بها، لأنَّ قضية الهجرة تعني الخطّ الفاصل بين حركة الإسلام في ساحة الدّعوة، وبين حركة الإسلام في ساحة الدولة، فقد أراد الله لرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يعيش فترة من الزّمن بعد البعثة في مكّة ليدعو الناس إلى الله بشكلٍ يربّي فيه الأفراد على مفاهيم هذه الدعوة الجديدة، التي تمثّل دين الله، ليكونوا مشروع قيادات مستقبليّة، وليستفيد من موقع مكّة باعتبارها العاصمة الثقافية التي يلتقي فيها مثقّفو العرب من أجل أن يعرض كلّ واحد منهم ما لديه من نتاج أدبي على مستوى الشّعر أو النثر في سوق عكاظ.
كما كانت مكّة العاصمة الدينية التي يحجّ إليها الناس منذ إبراهيم (عليه السلام) الذي يرتبط به الكثيرون من الناس في مكّة برباط بقيت لديهم بقاياه، وكانت مكّة إلى جانب ذلك عاصمة تجارية باعتبارها المركز الاقتصادي لقريش. وبذلك كانت مكّة المكان الطبيعي لانفتاح الدعوة إلى الناس، باعتبار أنّها لا تكلِّف الداعية الكثير من الجهد في قطع المسافات من أجل الانفتاح على العبادات العامّة في المنطقة سواء كانت قيادات ثقافية أو كانت قيادات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، إذا كان لهذا المصطلح عرف في ذلك الزّمان.
وهكذا كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يربّي المسلمين أفراداً على مفاهيم الإسلام، وكان يذهب إلى الوافدين إلى مكّة من شيوخ العرب ليتحدَّث إليهم عن الإسلام، ويدعوهم للدخول فيه ويطلب منهم مناصرته.
تحرّك النّبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بشكلٍ مكثّف بحيث شعرت قريش بخطواته وخطورتها على مصالحها.. وهكذا كانوا ينطلقون على أساس الشّعور بالخطر، وانطلقت الحرب النفسية التي تحاول أن تتحدَّث عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بطريقة تفقده معنى القداسة في نفوس الناس.
تجرّأوا وقالوا عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه كاذب وهم يعرفون أنّها كلمة تطير في الهواء لأنّه كان معروفاً بأنَّه الصّادق الأمين، ولكنَّ الذين يعملون على إثارة الحرب النفسية في تشويه صورة الأنبياء وفي تشويه صورة العاملين في سبيل الله، أولئك يعيشون حالة الإرباك بحيث يتلفّظون بالألفاظ التي لا يمكن أن تتحرَّك في حياة الناس، لأنَّ الناس سيرفضونها عندما يواجهون الواقع بهذه الطّريقة، وقالوا عنه إِنّه مجنون.
سقطت كلّ تلك الكلمات واندفع الناس إليه.. ثمّ مارسوا الضغوط عليه بكلّ الوسائل وسقطت كلّ الضغوط. ثمّ حاولوا أن يحاصروا دعوته ليقولوا للقبائل أنّ مَن يتبع محمّداً ويناصره فإنَّ قريشاً تتّخذ منه موقفاً صلباً يسيء إلى مصالحه الاقتصادية أو غير الاقتصادية، حتّى يتجنَّب الناس محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من خلال حرصهم على مصالحهم لدى قريش، كما يفعل الكثير من الناس في هذا العصر وفي غير هذا العصر.
ولكنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) استطاع أن ينفذ إلى قلوب الناس وإلى عقولهم وأن يخترق هذا الحصار.. واستطاع أن يؤسِّس أوّل قاعدة للمجتمع الإسلامي في يثرب التي كان يأتي إليه الكثيرون منها ليبايعوه على السّمع والطّاعة، وعلى أن ينصروه بما ينصرون به أنفسهم وعيالهم وأموالهم.
بدأ المجتمع الجديد في يثرب ينمو، وبدأ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يرسل الدّعاة الذين يعلّمون الناس القرآن وأحكام الإسلام.
لقد استطاع النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يفتح ساحة جديدة تملك قوّة اقتصادية، كما تملك قوّة عسكرية وثقافية، لهذا شعرت قريش بالخطر.
ماذا تفعل قريش فهي مقتنعة بأنّه لا يمكن أن يبقى محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في مكّة يتّصل بمن يشاء ويتحرّك كيف يشاء.. اجتمعت قريش في دار الندوة، ويحدّثنا الله عن ذلك: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال : 30].
قال بعض الذين أعطوا الرأي: تعالوا نختر من كلّ عشيرة شاباً.. عشرة أشخاص ليقفوا في موقع نومه بأسيافهم ثمّ يندفعوا بكلّ أسيافهم ليقضوا عليه، فلا يعرف من قتله فيضيع دمه بين القبائل، ولا تستطيع بنو هاشم أن يواجهوا كلّ قبائل قريش، فيرضون بالفدية وتنتهي المشكلة.
ولكنّهم وهم يمكرون عرَّف الله نبيّه بذلك، وأراد له أن ينسحب وأن يغطّي انسحابه، لقد انتهى عهد الدّعوة في مكّة لأنَّ الدعوة سوف لن تستطيع أن تتحرَّك بحريّة.
وهكذا رسم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الخطّة وجاء إلى عليّ (عليه السلام) وهو ابن عمّه، الذي ربَّاه وعلَّمه وأعدَّه ليكون الإنسان الذي يحمل الإسلام من بعده بكلّ قوّة ووعي وانفتاح وامتداد، طلب منه أن يبيت في فراشه.
وهكذا انطلقت الهجرة وانفتح الإسلام على مجتمع المدينة، حيث انطلق هذا المجتمع ليؤسّس أوّل قاعدة إسلامية تلتزم بالإسلام على مستوى الشريعة، وتنفتح من خلال الإسلام على مستوى الدّعوة، وتتحرَّك من خلال التحدّيات على مستوى الجهاد.
كانت الهجرة تعني في أحد معانيها أنّ المسلمين كانوا ضعفاء فصاروا أقوياء. في الهجرة كان المسلمون أذلاّء فصاروا أعزّة، وكانوا يعيشون الاستعباد من خلال واقع المستكبرين فأصبحوا الأحرار في قرارهم وفي حركتهم.
من هنا فإنَّ علينا في كلّ تاريخ نؤرّخ به قضية أو أيّ حدث يمرّ بنا، يجب أن ننتبه للسنة الهجرية لتعطينا هذه السّنة إيحاءً دائماً قبل 14 قرناً كيف كانت المسألة؟ هل نتذكّر الذّين سبقونا في الصّدر الأوّل من الإسلام؟ وكيف استطاعوا أن يحوّلوا ضعفهم إلى قوّة؟ استطاعوا أن يحوِّلوا عبوديّتهم إلى حريّة.
لهذا نريد أن يؤكّد المسلمون التاريخ الهجري في كلّ ما يكتبونه وفي كلّ ما يتحدّثون به، أن يؤكّدوه لا من موقع عصبيّة تريد أن تتعصّب لتاريخ ضدّ تأريخ، ولكنَّنا نريد أن نجعل من التاريخ إيحاءً يومياً يتحرّك في وعينا وفي أعماقنا، لتتأصَّل فيه شخصيّتنا الإسلامية على مستوى التأريخ، كما تتأصَّل شخصيّتنا الإسلامية على مستوى العقيدة وعلى مستوى المفاهيم.
دلالات الهجرة على واقعنا المعاصر
ـــ سماحة السّيد... في ضوء حديثكم عن الهجرة نودّ أن ترسموا لنا الدلالات الحركية لظاهرة الهجرة بالرجوع إلى التجربة النبويّة.
إنَّ القضية في مسألة الهجرة هي أنّها كانت انطلاق المستضعفين لمواجهة المستكبرين دون أن تكون هناك حالة ضعف، الهجرة لم تكن حالة خوف أو حالة ضعف، ولكنّها كانت نتيجة خطّة وصلت نهايتها وجاءت التحدّيات لتمنحها ظروفها الطبيعية.
وهكذا انطلق المسلمون من أجل أن يحاربوا قريشاً في مواقع التحدّي.. فكانت بدر وكانت أُحُد وخيبر والأحزاب وحنين وغيرها من المعارك، التي خاضها المسلمون من أجل تأكيد كلمة الله على أساس أنَّ التحدّي لا بدّ أن يواجَه بتحدٍّ مماثل، وأنَّ المستكبرين عندما يقفون من أجل أن يضغطوا على المستضعفين، فإنَّ على المستضعفين أن يحاولوا استنفار كلّ قوّتهم وكلّ طاقاتهم، ومحاولة تربية قوّتهم وتدريبها على المواقع والآفاق والأوضاع الجديدة حتّى تتوازن القوى في ساحة التحدّي. وهكذا استطاع المسلمون أن ينتصروا {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران : 123].
إنَّ الله تعالى يحدِّثهم أنَّ الضعف لا يعني الهزيمة، قد يكون الإنسان ضعيفاً، ولكنّه عندما يستنفر مواقع القوّة في داخل شخصيّته، ويعمل على أن لا يعطي الحريّة لضعفه، فإنَّه يستطيع أن ينتصر. لقد كانت المسألة مسألة أن يقول الله للمستضعفين أنَّ عليكم أن تأخذوا المبدأ، وهو أنَّ الضعف لا يعني الهزيمة، وأنَّ الضعف قد يلتقي بالنصر وأنّ القوّة قد تلتقي مع الهزيمة.
لذلك فلنجرّب أن نتحرَّك دائماً في خطّ المواجهة، ولنجرّب دائماً أن نكتشف مواقع القوّة. وها نحن رأينا أنَّ المسلمين في مكّة اضطروا إلى الهجرة ليتخلَّصوا من ذلك الضعف.. فإذا هم القادة الأقوياء الذين يتسلَّمون الحكم ويندفعون إلى بلاد أخرى وإلى مواقع أخرى، من خلال هذا المفهوم للهجرة.. مفهوم حركة المستضعفين الذين يقاتلون من أجل أن لا يفتنوا عن دينهم، هذا المعنى الذي تعطيه حركة الهجرة، أُريدَ له أن يظلّ مع التاريخ.
الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والأخلاق الرساليّة
ـــ تكثر الآيات في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ عن دعوته وأسلوبه وإخلاصه وثباته في كلّ مواقع الدعوة، وعن جهاده في سبيل الله وحركته القويّة الصّلبة في مواقع هذا الجهاد، وعن أخلاقه، وكيف كان يسع الناس كلّهم بأخلاقه، يسع أعداءه كما يسع أصدقاءه، وكانت أخلاقه هي إحدى الدعائم التي ركّزت قواعد دعوته.. على أساس هذه الحقائق الكبيرة في شخصية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، كيف يجب أن نحرِّك ذلك في حياتنا العملية؟
يقول الله سبحانه وتعالى وهو يوجّه خطابه إلى الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107].
ويقول سبحانه وتعالى موجِّهاً خطابه للمسلمين: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة : 128].
يحدِّثنا القرآن الكريم كثيراً عن خصوصيّاته في حياته الخاصّة وفي حياته العامّة ليعرّفنا أنّه كان الرسول الذي ينفتح على الناس كلّها من موقعٍ واحد، فلم تكن له خصوصيّات تبتعد عن الشّأن العام في كلّ حياته.
نحن بحاجة إلى أن نستنطق القرآن الكريم فيما يقدّمه إلينا من صورة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما بعثه بالرسالة وكيف كانت دعوته، وكيف كان ردّ فعله على الذين وقفوا في وجه الدّين وتمرَّدوا عليه وآذوه واضطهدوه وحاربوه وشرَّدوه.. كيف كان المجتمع الذي عاش فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من أجل أن يصنعه، وكيف صنعه، وكيف كان أصحابه معه وما هي أخلاقه.
وهذه أمور لا بدّ أن نتعرّف إليها عندما نريد أن نثير ذكرى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في وعينا الإسلامي ووعينا الإنساني، لأنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) جاء للنّاس كلّهم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107].
وجاء للإنس والجنّ، كما حدَّثنا عن ذلك، ولا بدّ للمسلمين دائماً أن تكون صورة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) صورة واضحة في أذهانهم.
نريد أن نعيش مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من خلال حديث الله عنه في القرآن الكريم، وأيّ حديث أصدق من حديث الله! وأيّ جهة تعرف من رسول الله ما يعرفه الله عنه، فهو الذي خلقه وأدَّبه، وقال له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 4].
قدَّمه لنا بأخلاقه ولم يبيِّن لنا أيّ خلق من أخلاقه بشكلٍ خاص، لأنَّه أراد أن يعطينا أنَّ جوانب العظمة التي تتمثَّل في رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) تحيط بكلّ أخلاقه، كلّ خلقه عظيم، خلقه في نفسه وخلقه مع عياله وخلقه مع النّاس الذين يعيش معهم ويعيشون معه، وخلقه مع الناس الذين يدعوهم إلى الله، وخلقه مع النّاس الذين يسالمهم أو مع الناس الذين يحاربهم.. إنّه عظيم في كلّ خلقه، وإذا كان رسول الله عظيماً في كلّ خلقه فإنَّ علينا أن نتلمَّس جوانب العظمة في هذا الخلق، لأنَّ الله أرادنا أن نقتدي به، وأن نقترب من شخصيّته ومن جوّه.
انطلق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ليكون التجسيد الحيّ لكلّ الأخلاق الإسلامية، حتّى قالت إحدى زوجاته وقد قيل لها صفي لنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قالت: هل تريدون أن أطنب أو أختصر، أو أوجز؟ قالوا لها: أوجزي. قالت: كان خُلُقه القرآن.
عندما نقرأ القرآن في كلّ شرائعه وفي كلّ أحكامه وفي كلّ مفاهيمه، فإنَّنا سنجد صورة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في القرآن كلّه، لأنَّه كان يجسّد القرآن كلّه، فلم يكن ليبلّغ آية في القرآن، إلاّ ويكون أوّل من يعمل بها، وأوّل من يجسّدها في سلوكه، فكان الناس يستمعون إليه عندما يحدّثهم في القرآن عن الصّدق فيرون فيه الصّادق الذي لا أحد أصدق منه، وعندما يحدّثهم عن الأمانة فيرونه الأمين على أموال الناس وعلى دمائهم وعلى أعراضهم وأسرارهم، وعلى كلّ المسؤوليات التي يتحمّلها تجاههم.
وإذا حدَّثهم عن التسامح فلا تجد أحداً مثله يعيش التسامح كأفضل ما يعيش هو التسامح، وعندما كان يحدّثهم أنّ على الإنسان أن يكون خيراً لزوجته وأولاده وأهله كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول لهم: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي.
إنَّ الذين يعدّون أنفسهم للمسؤوليات العامّة في الحياة لا بدّ أن يربُّوا أنفسهم تربية تحمّل هذه المسؤوليات العامّة، لأنَّ الكثير من الناس يملكون العلم الكبير ولكنّهم يغلقون عقول الناس عن علمهم، لأنَّهم لا يملكون الأخلاق التي تفتح الطريق إلى قلوب الناس لهذا العلم ولا يملكون الروحية لذلك، ولهذا كانت الأخلاق أساساً في رسالة الإسلام، وهكذا قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخلاق".
إنَّ الأخلاق الإسلامية تتحرَّك في كلّ حكم شرعي، فالله يريد لنا أن نحفظ عقولنا ولذا حرَّم علينا كلّ شيء يذهب العقول، والله يريد لنا من أخلاقنا أن نحمي الحياة من حولنا، ولذا حرَّم علينا أن نكون خطراً على حياتنا وحياة الآخرين، والله أراد لنا أن نتحرَّك إلى الناس من أجل أن ندخل إلى قلوبهم وعقولهم، لهذا أراد لنا أن نتحرَّك بالأساليب التي يمكن أن تفتح قلوب الناس على الحقّ.
كان قلب الرسول الكبير يتّسع للنّاس كلّهم، لأنَّه كان يريد أن يدخل الناس إلى دين الله من خلال فتحه قلوب الناس على الله سبحانه. فلا يمكن لأيّ إنسان مهما كان علمه وثقافته أن يدخل إنساناً إلى دعوته إلاَّ إذا كان قلبه مفتوحاً على قلب هذا الإنسان، لا يكفي أن تكون الكلمات كلمات حقّ قويّة، بل لا بدّ أن يفتح قلبه على الناس. لهذا فمن لا يحبّ الناس لا يستطيع أن يفتح قلوب الناس على الحقّ.
يخاطب الله رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران : 159].
أمير المؤمنين الإمام عليّ (عليه السلام)
هناك مَن إذا ذكرت اسمه شعرت بنفسك تدخل في كهوف التاريخ، لتبحث عنه، لتحمل شمعة هنا وشمعة هناك حتّى تستطيع أن تعرفه وتتعرَّف على فكره وحياته.
وهناك مَن إذا ذكرته شعرت أنَّ اسمه يتجاوز الزّمن، ويحلِّق في الآفاق الواسعة التي تطلّ بك على المطلق، ويطوف بك في كلّ موقع من مواقع الحياة، حتّى أنّك تفتّش عن شيء لم يتحدّث عنه تصريحاً أو إيحاءً أو إيماءً، فلا تجد هناك شيئاً من ذلك. وعندما تدخل عقله فإنَّك ترى العقل الذي كلّه شروق، خلافاً لكثير من العقول التي إذا دخلتها، فقد تحتاج إلى كثير ممّا يمكن أن يجعلك تتلمَّس هذا الفكر أو ذاك الفكر.
هناك أشخاص إذا ذكرتهم تشعر أنّهم ينطلقون بك في التجريد، حتّى لتتحسَّس في نفسك معهم أنّك تبتعد عن الحياة.. وهناك أُناس إذا ذكرتهم شعرت أنّهم إذا أمسكوا المجرّد بفكرهم، أعطوه حركيّته وأنزلوه إلى الواقع.
ذلك هو عليّ (عليه السلام) الذي إذا حاصره التاريخ ليبحث عن بعض الحواجز التي كانت تنتصب أمامه، وعن الدوائر التي أُريد له أن يُحاط بها، وعن الآفاق الصغيرة التي حُشِر اسمه فيها، وعن العصبيّات التي أُريد له أن يُكتب في عنوانها.. فإنَّك لن ترى عليّاً في كلّ ذلك.
لأنَّ عليّاً (عليه السلام) هو الإنسان الذي عاش حياته كلّها مع الله تعالى، لا صوفية تختزن المشاعر، ولكن انفتاحاً يجعلك تعيش مع عباد الله لتتحسَّس آلامهم ومشاكلهم، ولتبدع لهم من خلال الله في عقولهم عقلاً، ولتُبدع لهم من خلال وحي الله في فكرهم فكراً، وعاش كلّ قلبه مع الله.
ولذلك كان يعيش مع الناس بقلبه الذي يشعر وهو في قمّة السلطة "لعلَّ بالحجاز أو باليمامة مَن لا طمع له بالقرص".
شخصيّة الإمام عليّ (عليه السلام)
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة : 207].
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة : 55].
هاتان الآيتان، نزلتا في الإمام عليّ (عليه السلام).. نزلت الآية الأولى ليلة الهجرة، عندما بات الإمام عليّ (عليه السلام) على فراش الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ليغطّي انسحاب رسول الله ـــ من مكّة ـــ، وليشهد الله على إخلاصه لرسوله، لأنَّ الإخلاص للرسول إخلاص لله.
والآية الثانية نزلت عندما كان الإمام (عليه السلام) يصلّي في المسجد، ودخل سائل فلم تشغله صلاته عن أن يتصدَّق بخاتمه على السائل.
كان كلّ شيء في شخصيّته (عليه السلام) في خدمة الله، وهكذا كان سيفه وبطولته وشجاعته، لا في خدمة الذّات وإنَّما في خدمة الله.
كان الإمام عليّ (عليه السلام) يشعر أنّه لا يملك شجاعته ولا يملك بطولته ولا يملك سيفه، بل كان يشعر أنّها ملك لله.
لم تكن الشجاعة والبطولة عنده حالة ذاتية، ولم يكن السلاح ملكاً شخصياً له، فهو يعتبر ذلك ملكاً لله، لهذا كان لا يحرِّك سلاحه إلاّ في المواقع التي يريد الله منه أنْ يحرِّك سلاحه فيها، كان ينتظر أمر الله وينتظر المعركة التي يشعر أنّ الله يرضى بها، ولا يسمح لنفسه أن يدخل في أيّة معركة يمكن أن لا تكون في رضا الله، أو يمكن أن تسيء إلى الإسلام.
وهكذا إذا درسنا كلّ حروب الإمام عليّ (عليه السلام) منذ الحرب التي بدأها في بدر مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى الحرب التي انتهت بها حياته بعد ذلك مع الخوارج.
كان الإمام عليّ (عليه السلام) يبحث عن الأساس الشرعي للحرب، وكان يريد أن يعرف كيف تتحرَّك الحرب في طريق الله وفي طريق الإسلام، ولا تتحرَّك في طريق الذّات وطريق الشهوات.
وهكذا رأينا عليّاً (عليه السلام) في سلمه وحربه، فهو يسالِم لا لأنَّ مصلحته الشخصية تفرض عليه السلم، ولكن كان يسالِم إذا كانت مصلحة الإسلام تفرض عليه السلم، حتّى لو كان السلم على حساب قضاياه الخاصّة، ولهذا كان يقول: "لَأُسْلمَنَّ ما سَلِمَت أمور المسلمين".
كان يسالِم عندما يرى أنّ قضايا المسلمين تفرض عليه أن يسالِم، ويحارب عندما يرى أنّ حياة المسلمين ومصلحة الإسلام تفرض عليه أن يحارب، كانت حربه منطلقاً في طريق الله، وكان سلمه متحرِّكاً في طريق الله.
عندما انطلق الإمام (عليه السلام) في حياته كان يستصغر كلّ مَن حوله أمام الله، ولهذا لا يخاف من أحد، لأنَّ خوف الله قد شغله، ولأنَّ شعوره بعظمة الله جعلته ينشغل عن النظر في عظمة الآخرين.
ولهذا كان عليّ البطل الذي لا يخاف، كان الكرَّار غير الفرَّار، قالها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو يفتح للمسلمين سرّ شخصية الإمام عليّ (عليه السلام).. يقول: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله ، كراراً غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه".
يحبّ الله فيكرّ على أعداء الله، ويحبّه الله فيستمدّ القوّة من محبّة الله فيثبت في المعركة، لأنّه يشعر أنّه برعاية الله يتحرّك. هذه الروح التي أراد الإمام عليّ (عليه السلام) أن يجعل الناس يتحرّكون من خلالها، لأنَّ أيّة قضية وأيّة مشكلة وأيّة معركة إذا لم تكن منطلقة من عمق الإيمان وفي روحيّته، فإنَّها تظلّ معركة على السطح وتظلّ معركة لا تثبت فيها الأقدام.
الإمام عليّ (عليه السلام) قبل البعثة
لقد احتضن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عليّاً (عليه السلام) قبل البعثة، إذ أخذه من عمّه أبي طالب ليخفّف عنه ثقل العيال، وبذلك كان ربيب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، الذي كان يتأمَّل في آفاق الله وفي آفاق الكون، وينفتح في ذلك على الله قبل الرسالة، وكان يشرك عليّاً في أجواء هذه التأمُّلات ويركّز في نفسه كلّ أخلاقه التي ميّزت شخصيّته. فكان رسول الله الصادق الأمين، وربّى عليّاً على أن يكون الصادق الأمين.
وهذا ما أشار إليه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عندما قال له بعض أصحابه: أريد أن تعلِّمني شيئاً أبلغ به المنزلة العليا عندك، قال: "انظر إلى ما بلغ به عليّ من المنزلة عند رسول الله فافعله، فإنَّ عليّاً بلغ ما بلغ لأنّه كان الصّادق الأمين".
كان صدقه هو الذي ربطه بالحقّ، فلم ينحرف عليّ (عليه السلام) عن الحقّ أبداً في الأمور الصغيرة والكبيرة.. وكانت أمانته هي التي تربطه بالمسؤولية، لأنّه كان يشعر بأنَّ المسؤولية الإسلامية تمثّل أمانة الله عنده، في علاقته بكلّ الواقع الذي حوله، وفي حركته في كلّ المراحل التي عاشها، وفي كلّ المواقع التي تحرَّك فيها.
ذلك هو عليّ (عليه السلام) الذي عاش مع الله سبحانه، حتّى إذا بُعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، دعاه إلى الإسلام فاستجاب له وهو في التاسعة أو العاشرة من عمره.
ويذكر بعض المؤرّخين أنَّ عليّاً كان أوّل مَن أسلم من الصبيان، يريدون من ذلك أن يوحوا بأنَّ عليّاً كان إسلامه إسلام صبيّ. ولكنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما دعاه كان يجد في عقله عقل رجل كبير، وإلاّ كيف يدعوه؟ وكيف يخاطبه؟
عليّ (عليه السلام) بعد البعثة
أسلم عليّ (عليه السلام) وانطلق مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكان معه في بيته، يسمع حفيف أجنحة الوحي عندما ينزل إلى رسول الله، وكان يعيش مع رسول الله، ليسمع منه كلّ آية تنزل عليه، وكلّ حكم يوحي به الله إليه.
وكان يتعلَّم من رسول الله كيف يكون الصابر عندما تحتاج الرسالة إلى صبر، وكيف يكون المتحرّك عندما تحتاج الرسالة إلى حركة، وكيف يكون الشديد عندما تحتاج الرسالة إلى شدّة، وكيف يكون المتسامح عندما تحتاج الرسالة إلى التسامح. فكانت أخلاقه صورة لأخلاق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم). حتّى إذا جاء نصارى نجران ليباهلوا رسول الله، نزلت هذه الآية: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران : 61].
وجاء رسول الله بابنيه الحسن والحسين وابنته فاطمة الزهراء، وجاء بعليّ.. كأنّه يقول: إنَّ عليّاً هو نفسي، وليس ذلك امتيازاً لقرابته، فلرسول الله أبناء عمّ كثيرون، ولكنّه امتياز لعمق شخصية عليّ، لأنَّ رسول الله ربّى نفس عليّ (عليه السلام) من عمق نفسه، وأطلق خطّ الأخلاق عند عليّ من خلال أخلاقه.
التجارة مع الله
كان عليّ المسلم المطيع لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في كلّ مواقع الحياة، وانطبع بالإسلام في كلّ فكره وفي كلّ مشاعره وفي كلّ عواطفه. ونحن نفهم من سيرته ومن كلماته ومن كلّ أجوائه: أنَّ معنى الإسلام عنده هو بيع النفس لله، فلا يكون الإنسان مسلماً إذا كان يحسب لنفسه حساباً غير حساب الله، أو يرى لها مصالح غير مصالح رسالة الله، أو علاقات غير العلاقات التي يحبّها الله، أي أن تكون حياته كلّها لله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة : 131]، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام : 162 ـــ 163].
باع عليّ (عليه السلام) حياته عندما أكَّد إسلامه ليخطّط لنا الطريق. وقد حدَّثنا الله عنه في الآية الكريمة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ...} [البقرة : 207].
كان عليّ (عليه السلام) يريد أن يربح نفسه، وعرف أنّه لن يربحها عند الله إلاّ إذا جعلها في خدمته وبذلها في سبيله.
ولذلك عندما طلب إليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يبيت في فراشه ليلة الهجرة، فإنّه لم يتردّد في القبول، على الرغم من كلّ الخطر المحدق به، ولم يسأله عمّا يلحق به من أذى، بل سأله عن شيءٍ واحد، ليطمئن على حياة الرسول ومستقبل الرسالة، إذ قال له: أَوَتَسْلَم يا رسول الله؟ قال: بلى. قال: إذاً اذهب راشداً مهديّاً.
وهكذا بات في فراش رسول الله، ولولا ذلك لم يستطع رسول الله أن يغطّي انسحابه، فقد كان يُخيَّل إلى القوم، وهم يجدون شخصاً نائماً في الفراش، أنَّ ذلك هو الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
الهجرة إلى المدينة
انطلق عليّ (عليه السلام) إلى المدينة، ولم يكن الرسول قد دخلها حتّى التحق به عليّ، وبدأ عليّ يتحرّك مع رسول الله، يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه، ويندفع لتنفيذ كلّ ما يريد منه.
وجاءت المعارك وكان عليّ فارسها، وقد ذكر المؤرّخون أنّ عليّاً قتل في بدر نصف قتلى قريش، وشارك المسلمين في قتل النصف الآخر.
وينقل هو عن نفسه، أنّه كان في أثناء المعركة يقاتل، ثمّ يأتي ليطمئن على رسول الله فيجده ساجداً، يدعو في سجوده، فكان يعيش في أجواء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) حتّى وهو يقاتل، وكان هو الذي دافع عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
وعندما دارت الدائرة على المسلمين في أُحُد، كان هو الذي يدافع عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى حماه بنفسه، فقد كان الرسول يقول له: ادفع عنّي هذه يا عليّ، كلّما هجمت عليه كتيبة من قريش.
وكان في جميع معارك رسول الله الفارس البطل، حتّى أنّ الرسول قال عنه حينما برز في معركة الأحزاب لعمرو بن عبد ودّ العامري، قال: "بَرَزَ الإيمانُ كلُّه إلى الشِرْكِ كلّه"(1).
وقد وقف عليّ (عليه السلام) إزاء عمرو، فقال الأخير: لقد كان أبوك نديماً لي صديقاً، فارجع فإنّي لا أحبّ أن أقتلك. فقال عليّ (عليه السلام): ولكنّي أحبّ أن أقتلك.
لم يكن مهماً لديه أن يحافظ على صداقات أبيه أو صداقات قومه، بل كان كلّ همّه أن يحافظ على موقفه أمام الله.
منزلة عليّ (عليه السلام) من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)
انطلق عليّ (عليه السلام) مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، الذي كان يدفعه إلى كلّ المعارك، حتّى كانت وقعة تبوك، فأبقاه في المدينة، واحتجّ عليّ (عليه السلام) احتجاج الشكوى لا احتجاج الاعتراض. فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم):
"أما ترضى أن تكون مِنّي بمنزلةِ هارونَ من موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي"(1) إشارة إلى قوله تعالى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي*هَارُونَ أَخِي*اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي*وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29 ـــ 32].
وهكذا رضي عليّ (عليه السلام) بما رضي به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
علم عليّ (عليه السلام)
كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يريد للمسلمين أن يتعرَّفوا عمق المعرفة عند عليّ (عليه السلام)، وسعة العلم لديه.
فقد كان المسلمون يتطلَّعون إلى رسول الله باعتباره يحمل كلّ علم الإنسان، لأنَّ الله أوحى إليه بالقرآن، وأوحى إليه بالإسلام وألهمه علم ذلك كلّه. فكان المسلمون يتطلّعون إليه، ويحارون كيف يستطيعون أن يأخذوا العلم منه، والوقت قد لا يتّسع لذلك. فقال لهم: "أنا مدينةُ العلم وعليّ بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها"(2). ذلك لأنّ عليّاً (عليه السلام) عاش علم رسول الله كلّه، ومن ثمّ كان الوحيد من بين الصحابة الذي لم يُسأل عن مسألة إلاّ وأجاب عنها. وكان الوحيد الذي لم يحتج أن يسأل أحداً عن مسألة، بل كان المرجع الذي يرجع إليه الصحابة في كلّ أمورهم.
حتّى قيل للخليل بن أحمد الفراهيدي أستاذ "سيبوية" في النحو ومخترع علم العروض ومؤلّف أوّل قاموس في اللّغة العربية. قيل له: لِمَ آثرتَ عليّاً (عليه السلام) على غيره؟ وكان الخليل يلتزم ولاية عليّ (عليه السلام). فقال: احتياج الكلّ إليه (أي لم نجد أحداً لم يحتج لعليّ) واستغناؤه عن الكلّ.. (لم نجد عليّاً (عليه السلام) محتاجاً لأحد) فذلك دليل على أنّه إمام الكلّ.
وقد بلغ عليّ (عليه السلام) ما بلغ من العلم، لأنّه كان يستمدّ علمه ـــ مباشرة ـــ من النبع الذي كان يعيش في أجوائه دائماً. حتّى قالت بعض نساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إنَّهنَّ كنّ يغرن من عليّ (عليه السلام)، لأنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يعطيه الكثير من وقته، على أساس أنّه يعطيه في كلّ ليلة علماً من عِلمه، ويذكر له محلّ نزول كلّ آية قرآنية، وما هي مواقعها وما هي آفاقها.
من هنا فإنَّ علم عليّ (عليه السلام) مُستمدّ من الإسلام، وليس له فكر غير فكر الإسلام، حتّى أفكاره في تجاربه كان يستمدّها من الخطّ الإسلامي العام، ففكر عليّ (عليه السلام) هو فكر الإسلام بعينه.
لقد أراد الإمام عليّ (عليه السلام) أن يكون حركة تتعمَّق، وتفكّر وتخطِّط وتجادل وتنطلق في كلّ المجالات، على أن يكون ذلك كلّه لحساب الله.
وهكذا رأى الإمام عليّ (عليه السلام) أنَّ علمه ليس له، فهو ليس كبقيّة الذين يحملون العلم من أجل أن يجمِّدوه في ذواتهم، أو ليحصلوا على امتيازات من خلاله، كان يشعر أنَّ علمه ليس ملكاً له، لأنَّه ملك الله، والله يريد منه أن ينفقه على خلقه، ولهذا كان الإمام عليّ (عليه السلام) يطلب من النّاس حتّى وهو مسجّى على فراش الموت أن يسألوه، كان يقول لهم: "سَلُوني قبلَ أنْ تفقدوني"..
كان لا يترك فرصة يشعر فيها أنّ النّاس بحاجة إليه إلاّ وبادر إليها، من أجل أن يزيل عنهم شبهة، أو يفتح لهم باباً إلى الحقّ، أو يخطِّط لهم طريقاً للهدى، أو ينقذهم من طريق الضلال.
عليّ (عليه السلام) وتوعية الأُمّة
كان الإمام (عليه السلام) يعمل على تثقيف الناس بالإسلام، ويبدو ذلك واضحاً من خطب نهج البلاغة، حيث كان يستفيد من كلّ المناسبات لتوعية الناس بكلّ قضايا الساحة، فكان الحاكم الذي يريد أن يرفع المستوى الثقافي لشعبه، وليس الحاكم الذي يريد أن يستثير عواطف شعبه ليربطه به.
وهذه هي مسؤولية المسؤولين في الساحة الإسلامية، إذ عليهم أن يثقِّفوا الأُمّة في كلّ ما تحتاجه، من ثقافة سياسية أو اجتماعية أو دينية، لأنَّ الله فرض على كلّ عالِم يملك علم الإسلام ويدرك حاجة الناس، لأن يلاحق الناس ليعلِّم ويقتحم عليهم بيوتهم، ليعلِّمهم وينتهز كلّ الفرص في ذلك ليرفع مستواهم، ولاسيّما في المواقع التي يتحرّك فيها أهل البِدَع وأهل الكفر والضلال، ليضلِّلوا المسلمين، إذ لا يجوز ـــ حينئذٍ ـــ لإنسان أن يبقى في بيته، ليكتب ويخطب ويتحدّث ويناقش ويحاور، سواء كان في مستوى المسؤولية الرسمية أو لم يكن.
فقد ورد في القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة : 159].
وفي حديثٍ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي أُمَّتِي فَعَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُظْهِرَ عَلِمَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ"(1).
ذلك لأنَّ الإسلام لا يريد للأُمّة أن تبقى جاهلة وساذجة ومغفّلة.
فالأُمّة إذا كانت جاهلة بقضاياها السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، فإنَّ الأعداء يستطيعون أن يستغلُّوا جهلها، فيورِّطوها في مشاكل كثيرة.
وقد أولى الإسلام مسألة التعليم أهمية خاصّة. ومن هنا يقسّم الإمام عليّ (عليه السلام) الناس، في حديثه لكميل بن زياد: "النّاس ثلاثة: عالِم ربّاني، ومتعلِّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع: أتباع كلّ ناعق، يميلون مع كلِّ ريح، لم يستضيؤوا بنور العِلم، ولم يلجأوا إلى ركنٍ وثيق"(1).
ثمّ يقول: "يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنتَ تحرس المال. والمال تُنْقِصهُ النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق"(2).
ثمَّ يحدِّد الإمام (عليه السلام) للنّاس قيمة الإنسان فيقول: "قيمةُ كلِّ امرِئٍ ما يُحْسِنه"(3).
وقد ورد في القرآن الكريم: {... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر : 9].
نعرف من كلّ ذلك أنَّ الله يريدنا أن نكون الواعين، ويريد من العلماء أن يوعوا النّاس في كلّ أمورهم، ويعظوهم ويذكّروهم بالله، ويذكّروهم بعذابه وثوابه، ويعرّفوهم أحكامه، ويوجّهوهم نحو ما يحبّ، ويعرّفوهم كلّ قضاياهم، ولا يجاملوهم في الحقّ، بل يقفوا ليقولوا كلمة الحقّ، حتّى لو رجمهم الناس بالحجارة.
هذا ما يجب أن نستذكره في حديثنا عن الإمام عليّ (عليه السلام)، الذي وُلِدَ في بيت الله، وجعل حياته كلّها في خدمة الله. فكانت شهادته بين يديه وفي بيته.
ولذلك قال حين ضربه ابن ملجم: "فُزْتُ وَرَبّ الكعبة"(1) لأنّه رأى أنّ حياته كلّها كانت على حقّ، ولهذا كان يبتسم في هذا المجال، على الرغم من أنّه عانى الكثير وتألَّم وواجَه المشاكل، ولم يمكّنه أهل الجمل وصفّين والنهروان من أن ينفّذ برنامجه، ولم يمكّنوه من أن ينفّذ ما عنده.
وحين كان يشعر بأنَّ الموت يدنو منه، كان يفكِّر بتعليم الناس، فكان يقول: "سلوني قبل أن تفقدوني"(2) وهو يكاد يلفظ أنفاسه، ذلك لأنّه كان يحبّ أن ينشر الوعي في حياة الناس.
هذا هو عليّ (عليه السلام) الذي نعتزّ به من خلال جهاده العظيم، وعلمه الجمّ الذي يخشع أمامه المسلم وغير المسلم، وعدله الذي أكّده في كلّ مواقع حياته، وإخلاصه لله وللإسلام.
الإمام عليّ والحق
في عودة الرسول من حجّة الوداع، أنزل الله عليه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ...} [المائدة : 67].
وبلَّغ رسول الله الرسالة، وقال للمسلمين، وقد رفع يديّ عليّ (عليه السلام) حتّى بان بياض إبطيهما للنّاس: "أَلاَ مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ (عليه السلام) مولاه. اللَّهمَّ والِ مَنْ والاه وعادِ مَنْ عاداه... وَأَدِرْ الحقَّ معهُ حيثما دار"(3).
كان يقول ذلك للمسلمين وهو أعرف النّاس بعليّ (عليه السلام) وهو الذي يعرف أنّ عليّاً (عليه السلام) لم ينطق بكلمة باطل، ولم يقف موقف باطل منذ أنْ كان طفلاً، ولم يتحرَّك حركة باطل، أو علاقة باطل. بل "عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ، يدور حيثما دار"(4).
كانت مشكلة عليّ (عليه السلام) في حياته، أنّه مع الحقّ، وكان الماس يريدون منه أن يمزج الحقّ بالباطل، ويقولون له: إنّ عليك إذا أردت أن تعيش في المجتمع، أن تأخذ من الباطل قليلاً وتأخذ من الحقّ قليلاً وتمزجهما، حتّى يستطيع الناس أن يتقبَّلوا الحقّ الذي فيه شيء من الباطل. وكان يرفض ذلك، ويقول: "ما تَرَكَ لي الحقّ من صديق".
"عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ". لأنَّ عليّاً كان التجسيد للحقّ، ولأنّه لا يتحرَّك خطوة نحو الباطل، فإذا كان عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ، فكيف لا يقترب الإنسان من عليّ (عليه السلام)؟.
إنَّ الإمام عليّ (عليه السلام) يرفض أن يحبّه الناس على حساب المبادئ، كان يقول: ما ترك لي الحقّ من صديق. كانت مشكلته أنّه يتحرّك من موقع الحقّ، ولهذا عاداه الناس لأنّه وقف مع الحقّ، فكيف يمكن أن نقترب إليه بعيداً عن الحقّ؟
كان الإمام عليّ (عليه السلام) يواجه النّاس من حوله فهو يقول: "هلَكَ فِيَّ اثنان: محبٌّ غالٍ، وعدوّ قالٍ".
كان يحارب الذين يغالون فيه حتّى يقتربوا به من الألوهية، كان يعاقبهم لأنّه كان يحافظ على الحقّ، ولا يريد أن يشجّع الناس على أن يحبُّوه ويقدِّروه ويقدِّسوه خارج نطاق الحقّ، كما كان لا يريد للنّاس أن يبغضوه، لأنَّهم إذا أبغضوه فإنَّهم يبغضون الحقّ الذي يمثّله.
لقد سبَّ النّاس عليّاً (عليه السلام) ما يقارب المئة سنة، ولكن أين عليّ، وأين الذين سبّوه؟
عليٌّ (عليه السلام) الذي لم يساوم بقي في مشرق الشمس نوراً، ينير الحياة كلّها للنّاس، أمّا غير عليّ فأينه في التأريخ؟ وأينه في الواقع؟
أين عليّ، وأين معاوية.. أين الحسين، وأين يزيد؟
كان الإمام عليّ (عليه السلام) لا يريد أن يرتفع به الناس عمّا هو في نفسه.
كان إذا جاءه متزلّف من الذين ينافقون يمدحه وهو يعرف أنّه لا يعتقد فيه ذلك، كان الإمام عليّ (عليه السلام) يقول له: "أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك".
إنَّ الإمام (عليه السلام) أراد أن يقول له: أنا أقلّ من مديحك الكثير هذا، ولكن أعظم ممّا في نفسك، لأنَّني أعرف أنّك لا تعتقد فيّ، وإنّما تعتقد في عقيدةٍ أخرى.
كان الإمام (عليه السلام) لا يشجِّع الناس على أنْ يحبُّوه فوق الحدّ، بل كان يتواضع لله سبحانه وتعالى، وكان يدعو الناس إلى أن يحاسبوه وينقدوه وهو الإمام المعصوم، كان يريد أن يعوِّد الأُمّة على أن تنقد قياداتها وعلى أن تحاسبها، عندما يتحدّث الناس إليه بذلك، كان يصارحهم بالحقيقة، كان يقول لهم: "وَلاَ تَظُنّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي، وَلاَ الْتمَاسَ إِعْظَام لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوْ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ".
إنَّ الإنسان إذا كان في موقع المسؤولية، وقال له النّاس كلمة حقّ حتّى لو كانت في غير ما يحبّ فعليه أن يقبل، وأن يشرح للنّاس ما هو الحقّ في المسألة، وإذا طلب منه الناس العدل فإنّه لا بدّ أن يفهم النّاس ذلك، لأنَّ الإنسان الذي لا يحبّ أن ينتقده النّاس بالحقّ، أو ينتقدوه بالعدل، كيف يمكن له إذن أن يعمل على أساس الحقّ والعدل، وهو لا يطبّق كلمة الحقّ، ولا يطيق نتائج الحقّ على السّاحة؟
هكذا أراد الإمام عليّ (عليه السلام) أن نكون.. ولأنَّ عليّاً (عليه السلام) في كلّ حياته كان مسلماً ليس فيه شيءٌ زائداً عن الإسلام.
لذا كان عليّ (عليه السلام) في أخلاقه وزهده وشجاعته، وفي حربه وسلمه، كان صورة عن الإسلام، لأنّه كان تلميذاً للقرآن.. كان يريد منّا أن نثبت على الإسلام، وأنْ نتخلَّق بأخلاق الإسلام، وأن نلتزم بالإسلام مهما تغيَّرت الظروف والأوضاع.
إنَّ قيمة الإمام عليّ (عليه السلام) وعظمته أنّه باع نفسه لله، فلا يتكلَّم بكلمة، ولا يتحرّك بحركة، ولا ينشئ علاقة، ولا يقطعها، حتّى يدري موقعها من رضا الله.
ولاية الإمام عليّ (عليه السلام)
يوم الغدير هو يوم الولاية، ولهذا اليوم معنى يتّصل بالخطّ الإسلامي الذي يؤكّد على قضية القيادة والولاية، كأساس من أُسس توازن المجتمع الإسلامي وصلاحيّته وصحّة مسيرته.. ولهذا كانت الآية الكريمة التي نزلت على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في يوم الغدير بعد رجوعه من مكّة بعد حجّة الوداع، تؤكّد عليه أن يبلغ هذا الأمر: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ...} [المائدة : 67].
لا تخف ممّا قد يتحدّث به الناس عنك، لأنَّ هذه القضية من القضايا الأساسية التي لا بدّ لك من أن تواجهها بقوّة، لأنَّ مسألة أن يكون هناك ولي للمسلمين يقول ما تقول.. ويفعل ما تفعل.. ويسير على النهج الذي تسير عليه.. ويفهم الإسلام كما تفهمه أنت، هذه القضية ليست من القضايا التي تحتمل الجدل أو التنازل، بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى.
وجمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) المسلمين في مكان يقال له (غدير خم) ورفع يد عليّ (عليه السلام) حتّى بان بياض أبطيهما وقال: "مَن كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللَّهمَّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وأدِر الحقّ معه حيثما دار".
وبعد أن قالها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، نزلت الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة : 3].
كان هذا الموقف خاتمة المواقف التي كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقدِّم عليّاً (عليه السلام) للنّاس، حتّى يجعله في ضمير كلّ مسلم كإنسان يعيش في مركز القيادة، كأكفأ ما يكون القائد. كان يريد أن يجعل المسلمين يشعرون أنَّ عليّاً (عليه السلام) يملك من العلم ما يستطيع أن يغني الساحة الإسلامية كلّها، وفيما تحتاجه في مواجهة التحدّيات التي تأتيها من الخارج عندما يتّسع الإسلام في العالَم.
كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يريد أن يؤكّد للأُمّة، أنّ الإسلام يحتاج إلى شخص يدرك العلم كأوسع ما يكون العلم، فكان يقول: "أنا مدينةُ العِلْمِ وعليٌّ بابها".. وكان يريد أن يعمق في وجدان النّاس كلّهم، أنّ القائد ينبغي أن يكون في مواقع الحقّ بحيث لا ينفصل عن الحقّ مهما كانت الظروف، ومهما كانت الأوضاع، ومهما كانت التحدّيات. لأنَّ القائد يمثّل الأُمّة كلّها في مسيرتها، ويحفظ رسالتها ومبادئها.. ولأنَّ القائد هو الذي يحرِّك الساحة بالطريقة التي تحفظ توازنها.. ويتحرَّك بالأُمّة نحو أهدافها الكبيرة.
كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يريد أن يؤكّد، أنَّ عليّاً (عليه السلام) يمثّل الحقّ على نحوٍ لا يبقى هناك للباطل أيّ دور في حياته، ولهذا فإنّه إذا انطلق، فسينطلق الحقّ معه، وإذا وقف فسيقف الحقّ معه، وإذا حارَبَ فسيحارب الحقّ معه، وإذا عارض فسيعارض الحقّ معه، لأنّه لن ينفصل عن الحقّ.. ولن ينفصل الحقّ عنه في أيّ مجال.
كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يريد للناس أن يفهموا أنَّ عليّاً (عليه السلام) هو الإنسان الذي يراه هو (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في أعلى موقع من مواقع الإسلام والرسالة.. كان يريد أن يؤهّل عليّاً في ضمير الأُمّة ووجدانها، وكان يؤخّر الحديث عن ولاية الإمام عليّ (عليه السلام) حتّى نزلت الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ...}.
تلك هي قصّة يوم الغدير.. يوم الولاية.
وهناك نقطة نودّ إثارتها وهي أنَّنا عندما نتحدّث عن يوم الغدير، فإنَّنا لا نريد أن نتحدّث عن حكاية للتاريخ، ليتحدّث المتحدّثون من خلال ذلك أنّ هذه قضية انتهت، وعلينا أن لا نحاول إثارتها من جديد، لأنَّ إثارة مثل هذه القضايا ـــ كما يقولون ـــ قد تترك تأثيرات سلبية في واقع المسلمين، وفي وحدتهم التي يمكن أن تؤثّر عليها مثل هذه الحساسيّات التاريخيّة.
ولكنَّنا نختلف مع كلّ هذا التيّار، حيث نعتقد أنّ قضايانا الإسلامية التي تمثّل مفاصل أساسية في تراثنا الإسلامي، تعتبر خطوطاً عملية للمسيرة الإسلامية كلّها، فعندما نفكّر بالإمام عليّ (عليه السلام) ونؤمن بموقعه كرمز أوّل بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) للمسيرة الإسلامية، فإنَّنا لا نستغرق في ذاته كشخص... ولا نتعصَّب له كشخص... ولكنَّنا عندما نثيره في وعينا كرمز أوّل للإسلام، فإنَّنا ننطلق من أنّ الإمام عليّ (عليه السلام) وعى الإسلام كأفضل ما يعيه مسلم؛ فقد وعاه من خلال التربية التي انطبعت فيها شخصيّته بشخصية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فكان صورة حيّة عن شخصية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، حيث عاش كلّ أجوائه الروحية.. وكلّ أجوائه النفسية.. وكلّ خطواته العملية.
وعندما نريد أنْ نتحدّث عن جهاد عليّ (عليه السلام)؛ فإنَّنا نقرأ ذلك من خلال كلمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "بَرَزَ الإيمان كلّه للشّرك كلّه" و"لأعطيَنَّ الرّاية غداً رجلاً يحبَّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله"... ونتمثّل وعي الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لموقع عليّ (عليه السلام) منه، في كلمته التي دعا بها ربّه عندما اندفع الإمام عليّ لمبارزة عمرو بن عبد ودّ، عندما قال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "ربّ لا تذرني فرداً وأنتَ خيرُ الوارثين"، قال هذا والمسلمون كلّهم حوله.
وعندما نريد أنْ نتمثَّل خطّ عليّ (عليه السلام) في الواقع، تكفينا كلمة: "عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ"، لنعرف منها أنّه ليست هناك مسافة تتّصل بين عليّ (عليه السلام) والحقّ، فهو يمثّل التجسيد الواقعي للحقّ، كما يمثّل الحقّ التجسيد الواقعي لكلّ منطلقات الإمام عليّ، ولكلّ واقعه في كلّ مجالات الحياة.
عندما نثير كلّ هذه القضايا في حياتنا، فإنَّنا نأخذ خلاصة فكرة وهي: أنّ قضية القيادة في الإسلام تفرض أن يكون هناك الإنسان الذي يتمرَّس في وعي الفكرة التي تنطلق القيادة من خلالها.. وفي ممارسة الفكرة التي تتحرَّك القيادة في خطواتها أو في طريقها.
لهذا لا يمكن أن يكون الإنسان الذي يقود المسلمين، جاهلاً بالإسلام... ولا يمكن أن يكون الإنسان الذي يقود المسلمين، إنساناً لا يعيش روحية الإسلام، ولا يعيش حركية الإسلام، ولا يعيش تقوى الإسلام في حياته، لأنَّ القضية هي قضية قيادة المسلمين في إسلامهم لا قيادة المسلمين في أمورهم الماديّة بعيداً عن المبدأ... إنّما قيادتهم في إسلامهم، فلا بدّ أن يعطيهم القائد من فكره، ومن قلبه، ومن روحه، ومن عمله إسلاماً يملأ حياتهم، ويوجّه كلّ حياتهم في طريق الإسلام.
لهذا فإنَّ الإمام عليّ (عليه السلام) هو الإنسان الذي تتمثّل فيه كلّ هذه العناصر، ليكون القائد الأوّل للإسلام بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم). لا نقول هذا من موقع تعصّب أعمى، ولا من موقع تمذهب تقليديّ، ولكن من موقع الوعي لما هو الإسلام في فكره وفي حركته، والوعي لما هو الإمام عليّ (عليه السلام) في فكره وحركته، حيث نجد كلّ التطابق فيما بينهما.
وهناك نقطة أخرى نحتاج أن نترسّمها في هذا الاتجاه؛ وهي أن لا نحصر المسألة في التاريخ فقط، بل نعمِّمها إلى حياتنا العملية، بحيث لا يرتبط الفرد بعليّ (عليه السلام) كخليفةٍ في الإطار الزمني الذي عاش فيه فحسب، إنّما يرتبط به في إطار إمامته التي تقتحم الزمن، تماماً كما تنطلق النبوّة.. ولا يمحوره في زمنٍ خاص، بل ليتحرّك في نطاق الزمن كلّه، حتّى يرث الله الأرض ومَن عليها.. فالإمامة التي تمثّل خلافة عن النبوّة، تعيش في تفسير أحكام النبوّة وتخطيط مفاهيم الإسلام.
إنَّ إمامة عليّ وإمامة الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)، تمثّل القيادة المعنوية التي نعيشها الآن في وعينا، لتقودنا إلى القيادة الفعلية التي تتحرّك: (ألاَ مَن كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالِفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فعلى العوام أن يقلِّدوه). وهكذا نجد أنّ الارتباط بالإمامة هناك، هو الذي يجعل الارتباط بالقيادة هنا.. وهو الذي يجعلنا نتحرّك في سلسلة تصلنا بالمبدأ، لتتحرَّك في هذا الاتجاه.
من خلال هذا نفهم أنّ قضية الإمامة ليست شيئاً يعيش في التاريخ ليتجمَّد فيه، وإنّما هو شيء يتّصل بنا ليكون السؤال الذي نتمثّله الآن:
مَن هو الذي نترسَّم كلّ فكره من خلال أنّه فكر الإسلام؟ ومن هو الذي نتمثَّل روحيّته، من خلال أنّها روحية الإسلام؟
إنَّ قضية إمام عليّ (عليه السلام) هي قضية الارتباط بخطّ عليّ.. وبفهم عليّ للإسلام.. وبحركيّته في سبيل الإسلام، لنكون نحن امتداداً له في حركيّة الإسلام التي انطلقت منه. تلك هي الفكرة التي تجعلنا نرتبط بعليّ الخطّ.. وبعليّ الإسلام.. وبعليّ الرسالة.
موقفه (عليه السلام) من الخلافة
يقول ابن عباس: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال: "وَاَللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلاَّ أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً"(1).
حتّى الحكم وظَّفه عليّ (عليه السلام) في خدمة الموقف والأسلوب الحقّ، لأنّه كان يريد حكم الرسالة ولا يريد حكم الذّات.
ولهذا فإنّه انفتح على الواقع من خلال الرسالة، وكان كلّ همّه هو الله، وكلّ فكرة هو سلامة الإسلام وسلامة المسلمين. ومن ثمّ نراه يقول: "فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ"(1).
ويقول في حديثٍ آخر: "لأسلمنَّ ما سَلُمَتْ أمور المسلمين"(2).
من هنا لم تكن معارضته ـــ وقد أبعد عن حقّه ـــ معارضة عقدة في الذّات، بل كانت معارضة موقف في الحقّ. فكان يستجيب لهؤلاء الذين تقدَّموا عليه وأبعدوه عن حقّه، فيقدّم لهم المشورة والنصيحة والتعاون، لأنَّ الإسلام يفرض ذلك. حتّى قال قائلهم: لولا عليّ لَهَلَكَ عمر(3).
عليّ (عليه السلام) في الحكم
عندما بايعه المسلمون ومارس الإمام (عليه السلام) الحكم، فإنَّ حكمه كان يمثِّل الحكم الذي يريده رسول الله، يقف حيث وقف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويتحرَّك من خلال شريعة الله، ولهذا كان قوياً وشديداً وحاسماً.
ولكنَّه كان يؤمن بمنطق الحوار، ويفتح قلبه للذين أعلنوا الثورة عليه، ليعيدهم إلى الحقّ. ففي حوار له مع طلحة والزبير قال لهما: "لقد نقمتما يسيراً، وأرجأتما كثيراً. فاستغفرا الله يغفر لكما. ألا تخبراني، أدفعتكما عن حقّ وجب إيّاه؟ قالا: معاذ الله. قال: فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشيء؟ قالا: معاذ الله. قال: أفوقع حكم أو حقّ لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه؟ قالا: معاذ الله. قال: فما الذي كرهتما من أمري حتّى رأيتما خلافي؟ قال: خلافك عمر بن الخطّاب في القسم إنّك جعلت حقّنا في القسم كحقّ غيرنا، وسوّيت بيننا وبين من لا يماثلنا، فيما أفاء الله تعالى بأسيافنا ورماحنا، وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا، وظهرت عليه دعوتنا، وأخذناه قسراً وقهراً ممّن لا يرى الإسلام إلاّ كرهاً.
فقال (عليه السلام): أمّا ما ذكرتموه من الاستشارة بكما فوالله ما كانت لي في الولاية رغبة ولكنّكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها، فلمّا أفضت إليَّ نظرت إلى الكتاب وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما استنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فاقتديته، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلت، فأستشيركما وإخواني من المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما. وأمّا ما ذكرتما من أمر الأسوة فإنَّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه رأيي، ولا وليته هوىً منّي، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قد فرغ منه، فلم أحتجّ إليكما في ما قد فرغ الله من قسمه، وأمضى فيه حكمه، فليس لكما، والله، عندي ولا لغيركما في هذا عتبي، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحقّ وألهمنا وإيَّاكم الصبر"(1).
ثمّ قال: "رَحِمَ اللَّه رَجُلًا رَأَى حَقّاً فَأَعَانَ عَلَيْه، أَوْ رَأَى جَوْراً فَرَدَّه، وكَانَ عَوْناً بِالْحَقِّ عَلَى صَاحِبِه."
هذا هو منطق عليّ (عليه السلام) عندما وقف هذان الشيخان الصحابيان ليطلبا منه أن يعطيهما امتيازات في الخلافة، وقف وقفة حاسمة، وتحدَّث إليهما بهذا المنطق الهادئ.
وعندما أعلنا عليه الحرب وجاءا بأُم المؤمنين عائشة، حاول بكلّ الطرق أن يتفادى الحرب، ولكنّه اضطر لدخولها ـــ في ما بعد ـــ لحفظ نظام الأُمّة.
وهكذا كانت مسألته مع معاوية، فهو لم يدخل الحرب إلاّ بعد أن استقلّ معاوية بالشام، ليقف ضدّ السلطة التي يمثّلها الإمام عليّ (عليه السلام) من خلال موقعه عند الله، ويمثّلها من خلال بيعة المسلمين له.
وحين احتجَّ عليه الخوارج لدخوله التحكيم، لم يتعرَّض لهم بسوء لمجرّد أنّهم تكلَّموا عليه، ولم يتعرَّض لهم بالقتال لمجرّد أنّهم عارضوا أو سبّوه.. بل دخل لقتالهم عندما اعترضوا لبعض المؤمنين وهو خَباب، فقتلوه وقتلوا زوجته، بعدما بقروا بطنها. عند ذلك تدخَّل عليّ (عليه السلام) وحاربهم ليعيد النظام إلى نصابه، لأنَّهم تحوّلوا إلى قطّاع طرق.
من هنا فإنَّ عليّاً (عليه السلام) لم يحارب أحداً لمجرّد كونه معارضاً، بل إنّه أعطى معارضيه الحريّة في أن يسألوا وأن يعارضوا. ولكن عندما يسيؤون إلى النظام فإنّه يتدخّل. وقد روى أنّ بعض الخوارج كان جالساً في مجلس عليّ (عليه السلام) وهو يتحدّث، فقال الخارجي: "قاتله الله كافراً ما أفقهه"، فوثب القوم ليقتلوه، فقال لهم الإمام عليّ (عليه السلام): "رويداً إنّما هو سبّ بسبّ، أو عفو عن ذنب!"(1).
كان الإمام (عليه السلام) يلتزم حكم الله حتّى في مسائله الخاصّة، فكانت كلّ حياته التزاماً بالحقّ بكلّ ما لكلمة الحقّ من معنى، والتزاماً بالإسلام بكلّ ما يحتاجه الإسلام من دعم ومن قوّة، والتزاماً بالله في كلّ أموره، وإدارة أمور المسلمين بمسؤولية لا مهادنة فيها. وهو يقول في ذلك: "الذليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقّ له، والقويّ عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه"(2).
فعليّ لا يعترف بالطبقية في الحكم ويرى الشريف والضعيف سواء أمام الحقّ. وقد تعلَّم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي يقول: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ".
ليس في الإسلام فرق ـــ أمام الحقّ ـــ بين مَن كان في أعلى الدرجات الاجتماعية وبين مَن كان في أسفلها، لأنَّ قضايا الحقّ والباطل ليست متعلِّقة بمراكز الأشخاص، بل هي متعلّقة بمواقع الحقّ، في حركة هؤلاء الأشخاص وواقعهم.
آفاق الإمام عليّ (عليه السلام)
لقد باع الإمام عليّ (عليه السلام) نفسه لله.. لقد أحبَّه كما لم يحبّه إلاّ الأنبياء، يقول (عليه السلام): "هَبْني صَبَرْتُ على عذابك، فكيفَ أصْبِرُ على فراقك. وَهَبْني يا إلهي صَبَرْتُ على حرِّ نارِك، فكيفَ أصْبِرُ على النّظر إلى كرامتك..".
هكذا يتحدَّث الإمام عليّ (عليه السلام) في دعاء كميل مع ربّه، وهكذا يريد أن يعيش مع الله سبحانه وتعالى.
كان (عليه السلام) يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يجعل كلّ أوقاته عامرة بذكره وخدمته. "حتّى تكون أعمالي وأورادي كلّها وِرْداً واحداً وحالِي في خدمتِكَ سَرْمَدا..". إنه يطلب من الله أن يعطيه القوّة لا ليرتاح بالقوّة ولكن ليخدم الله.. "قَوِّي على خدمتِكَ جوارحي، واشْدُد على العزيمةِ جوانِحي، وَهَبْ لي الجدَّ في خشيتك والدّوام في الاتّصال بخدمتك".
إنّه كان يعتبر الحياة ساحة للسّباق، يتسابق فيها كلّ إنسان مع الآخر إلى الله، لا إلى المال. "أُسْرِعُ إليكَ في المُبادِرِين، وأشتاقَ إلى قُرْبِكَ في المُشْتاقين، وأَدْنو مِنْكَ دُنُوّ المُخلصين، وأخافَكَ مَخافَةَ الموقِنين..".
هكذا كان الإمام عليّ (عليه السلام) يعيش مع الله، ولهذا كان لا يلتفت إلى النّاس من حوله.
عندما كان يسجد وينسجم في صلاته، كان يُخَيَّل للّذي يمرّ عليه أنّه ميّت، حتّى جاء شخص ورأى الإمام في بعض الأماكن ساجداً، حرَّكَه فلم يتحرّك، جاء إلى فاطمة وقال لها: عظَّمَ الله أجركِ في عليّ، قالت (عليها السلام): كيف رأيته؟ فحدَّثها كيف رآه، قالت: إنّها غشية تغشاه عندما يسجد بين يديّ الله سبحانه وتعالى.
يقال إذا نبتت السِّهام في جسد الإمام عليّ (عليه السلام) كانوا يخرجونها منه وقت الصلاة، لأنّه يكون مندمجاً مع الله، مشغولاً عن الألم.
وهو لا ينسى الله في أشدّ الأوقات حراجة، ففي ليلة الهرير وهي أشدّ اللّيالي في معركة صفّين، افتقده أصحابه، وخافوا أن يكون قد أصابه سوء، فرأوه وقد اعتزل بين الصفّين، وهو يصلّي، قالوا له: يا أمير المؤمنين أهذا وقت صلاة؟ قال: علام قاتلناهم؟
على ما تمثّله الصلاة من اللّقاء بالله، ومن العيش مع الله، ومن السير في طريقه، وفي عروج المؤمن بروحه إلى الله.
مبادئ الوصيّة الخمسة
في التّاسع عشر من شهر رمضان، وفي محراب مسجد الكوفة، ضرب عبد الرحمن بن ملجم، الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو يصلّي في محرابه.
بقي الإمام (عليه السلام) ثلاثة أيّام وهو يعاني من جرحه، حتّى كانت شهادته في الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك، وقد أراد الإمام في هذه الأيّام الثلاثة أن لا يحرم أمّته من وصاياه، فلم تشغله جراحاته عن التفكير في شأن الأُمّة، ليربطها بالله، ويربطها بكلّ القواعد الأساسية في علاقاتها مع بعضها البعض، في وصيّته التي أوصى بها (عليه السلام) ولديه الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) وجميع ولده وجميع من بلغه كلامه.
ومن المناسب الإشارة إلى أنّ الحسن والحسين (عليهما السلام) إمامان معصومان، وأنَّ المقصود بالوصية الأُمّة الإسلامية.. قال (عليه السلام) في هذه الوصيّة: "أوصيكما بتقوى الله وأنْ لا تبغيا الدُّنيا وإنْ بغتكما".
المبدأ الأوّل:
"أُوصيكما بتقوى الله...".
أن تراقبا الله في كلّ شيء، وأن تعملا على أن تحسبا حساب الله في كلّ شيء، وأن لا تطلبا الدّنيا حتّى لو جاءت الدّنيا لتقديم نفسها إليكما.. ولا تأسفا على شيءٍ منها زوي عنكما.
عندما تخسرون شيئاً من الدّنيا في مال أو غير مال فإنَّ عليكم أن لا تعيشوا روح الأسف والألم والحسرة على فوات ذلك، بل اعتبروا أنَّ الدّنيا حسب طبيعتها تعطيكم شيئاً اليوم وقد تسلبكم إيّاها غداً، قد تعطيكم شيئاً من جانب وتسلبكم إيّاه من جانبٍ آخر.
فعلى الإنسان أن يتقبَّل الدّنيا بشكلٍ طبيعي، بحيث إِنّه لا يفرح بما آتاه الله من الدّنيا، ولا يأسف أو يتألَّم على ما فاته من الدّنيا، بل يتقبَّل ما أتاه من الدنيا بشكلٍ طبيعي، ويتقبَّل أيضاً ما خسره من الدنيا بشكلٍ طبيعي، ويعتبر أنّ قضيّته في الدنيا هي أن يطيع الله سبحانه، وليست قضيّته أن يحصل على مال ليحقِّق ربحاً أو يعوِّض خسارة.
المبدأ الثاني:
"وقولا بالحقّ"
وهذا المبدأ يعني أن يعمل الإنسان على أنْ يتحدّث بالحقّ والصدق، وأن يلتزم أيضاً بالحقّ والصدق، فلا يقول الكذب في كلّ موقع من مواقع حياته، ولا يلتزم الباطل في أيّ موقع من مواقع حياته.
هكذا كانت سيرة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) حتّى قال: "ما تَرَكَ لي الحقّ من صديق". كانت قولة الحقّ في كلّ القضايا هي شعاره في كلّ مجالات حياته. وقد ورد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في تأكيده علاقة عليّ بالحقّ وعلاقة الحقّ بعليّ أنّه قال: "عليٌّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ، يدور معه حيث ما دار".
فإذا كنّا نريد أن نكون شيعة عليّ (عليه السلام) وأتباعه، في الدائرة الإسلامية التي التزمها عليّ (عليه السلام) فعلينا أن نعمل على أساس أن نبحث عن الحقّ أينما هو: سواء في حياتنا الخاصّة، في داخل بيوتنا، أو حياتنا العامّة في كلّ مجتمعاتنا، وأن لا نصدر حكماً في أيّ جانب، ولا نتبنّى موقفاً في أيّ جانب، إلاّ إذا عرفنا أنّه الحقّ.
يجب أن لا تكون العداوة والصداقة هي الأساس في تأييدنا للمواقف، بل يكون الحقّ هو الأساس في التزامنا بالمواقف، فإذا قال عدوّنا الحقّ وكان الحقّ معه، فعلينا أن نقول الحقّ معه، وإذا كان صديقنا مع الباطل والكذب، فعلينا أن نواجهه لنكون ضدّه في هذا المجال.
تلك وصيّة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لأنَّنا إذا خسرنا شيئاً على أساس الحقّ فإنَّنا سنربحه في مجالٍ آخر.
قد يرى بعض الناس أنّ الحقّ يعرّضهم للخسارة، ولكنّ الواقع أنّ الحقّ يكسبهم الرّبح في الدّنيا وفي الآخرة.
المبدأ الثالث:
"واعملا للأجر..."
في كلّ عمل من أعمال الإنسان يجب أن يفكّر هل هناك أجر من الله على هذا العمل، أو ليس هناك أجر، إنَّ الله يريد الإنسان المسلم دائماً، في كلّ موقع من مواقع حياته، أن يفكّر برضا الله سبحانه وتعالى، وأن يفكِّر بثواب الله، فالله لا يريد للإنسان أن يقوم بأيّ عمل على أساس العبث، أو على أساس المزاج.
إنَّ الإنسان عندما يعمل في أيّ موقع من مواقع العمل، ليجلب الرزق لعياله، فإنّه إذا أتى بالعمل قربة إلى الله، وسار على أساسه في طريق الله، فإنَّ الله سيجعل عمله في سبيل عياله عبادة.
وعندما يزور الإنسان مؤمناً من رفقائه، أو من أقاربه، فإذا قصد وجه الله، في زيارته له وإدخال السرور عليه، فإنَّ ذلك يعتبر عبادة تقرّبه إلى الله سبحانه وتعالى.
المبدأ الرابع:
"كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"
هذا المبدأ يشمل الجانب الاجتماعي في علاقات الناس ببعضهم البعض، أو الجانب السياسي في علاقة الحاكم بالمحكومين، والمحكومين بالحاكم، وعلاقة الناس ببعضهم البعض.. أن يكون الأساس في أن يعاون الإنسان شخصاً على شيء، أو أن يكون ضدّ شخصٍ على شيء، هو أن يكون الشخص الذي تعاونه مظلوماً، وأن يكون الشخص الذي تقف ضدّه ظالِماً.
ولهذا لا بدّ للإنسان دائماً أن يحدِّد في مستوى الحياة الاجتماعية، مَن هو الظالِم ومَن هو المظلوم، وذلك بالتدقيق فيما يعمله هذا ويعمله ذاك، وفيما يقوله هذا ويقوله ذلك، لا أن يكون تحديدنا للظالِم والمظلوم، منطلقاً من الإشاعات، أو من الكلمات غير الموثوقة، أو من القضايا التي تحمل أكثر من وجه، بل أن نحدِّد الظالم من موقع اليقين، ومن موقع الثقة، ومن موقع الاطمئنان، حتّى نواجهه على أساس متين، لا على أساس منهار.
وهكذا عندما نريد أن نحدِّد المظلوم، أن لا يكون تحديدنا للظالمين والمظلومين ناشئاً من هوى النفس، أو ناشئاً من العاطفة، أو ناشئاً من الصداقة، أو القرابة أو المزاج. فبعض النّاس، يعتبر كلّ شيء يتحرَّك ضدّ بعض أقاربه، فيعتبر أقاربه مظلومين على طول الخطّ، ويعتبر أنّ البعيدين عنه ظالمين على طول الخطّ.. لا بدّ لنا أن نحدِّد مسألة المظلوميّة والظالمية من غير جهة العداوة والصداقة، ومن غير جهة القرابة والبعد، ومن غير جهة التحزّب.
المبدأ الخامس:
"أوصيكما وجميع ولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم"
عندما نستمع إلى وصيّة الإمام عليّ (عليه السلام) في آخر أيّامه، فنحن معنيّون بهذه الوصيّة، لأنَّ الإمام يقول كلّ من سمع هذا الكتاب فأنا أوصيه بهذه الوصيّة، وعليه أن يتحمّل مسؤوليّته في تطبيق هذه الوصيّة، على واقعه وواقع النّاس من حوله.
تقوى الله هي الأساس، لأنَّ تقوى الله هي مراقبة الله، وكلَّما راقبنا الله أكثر كلّما ضبطنا مواقع خطواتنا في الحياة أكثر. يقول الإمام عليّ (عليه السلام): "أوصيكم بتقوى الله ونظم أمركم".
إنَّ الإمام (عليه السلام) يخاطب الناس: حاولوا أن تنظّموا أموركم وعلاقاتكم ووضعكم في القضايا التي تختلفون فيها، وأن تنظِّموا وضعكم في القضايا التي تتّفقون فيها حتّى تستطيعوا أن تواجهوا علاقاتكم ببعضكم، من موقع التنظيم الواعي لأموركم، في كلّ ما تلتقون عليه، وفي كلّ ما تفترقون فيه.
وهذا هو الأساس في سلامة كلّ مجتمع من المجتمعات، هو أن تكون علاقاته ببعضه، علاقات ترتكز على أساس القواعد التي تنظّم للمجتمع دوره، في حركة أفراده، ودوره في علاقات أفراده ببعضهم البعض.
وهذه هي المشكلة التي لا يزال المسلمون يعيشون فيها على مستوى كلّ مجتمعاتهم، فإنّهم يتحرّكون كأفراد، ولا يتحرّكون كمجتمع، بحيث إِنّ كلّ فريق يتصوَّر نفسه كلّ شيء، أو كلّ شخص يتصوَّر نفسه أنّ الحياة له، وليس لأحدٍ حقّ الحياة معه، وأنّ السّاحة له وليس لأحد غيره.
هذا على مستوى الأفراد، وعلى مستوى العشائر، وعلى مستوى الأحزاب، وعلى مستوى الطوائف.. الكلّ يريد أن يلغيَ وجود الطرف الآخر، وبذلك يتصرّف كما لو كان الطرف الآخر ليس موجوداً.
نحن والإمام عليّ (عليه السلام)
هناك أشياء كثيرة تتغيَّر بتغيّر الزّمان، فيما يتحدّثه الناس من طريقة اللّباس، والأكل والشرب، والتدفئة والتبريد، وطريقة الحياة، وطبيعة العلاقات التي يتحرّك فيها الناس، هذه أمور تتغيَّر.. هذا ما يؤكّده الإمام عليّ (عليه السلام) عندما قال: "لا تخلّقوا أولادكم بأخلاقكم، فإنَّهم خلقوا لِزَمانٍ غير زمانكم".
ليس من الضروري للأب أن يعوّد ابنه على كلّ عاداته وطريقته وعمله. فالإنسان لديه طريقة في اللّباس وفي الأكل، لأنَّه عاش في زمنٍ يحتاج إلى ما هو فيه، ولكن ولده يحتاج إلى طريقة مختلفة في الكلام والتخاطب، وفي العلاقات وفي الحياة. ليس من الضروري أن يكون الأبناء على صورة آبائهم في الأشياء المتحرّكة في الحياة.
لكنَّ الأمر يختلف مع المبادئ، لأنَّ المبادئ لا تتغيَّر، فحرام الله لا يتغيَّر، لأنّه لم ينطلق من حالة زمنية محدودة، حتّى إذا تقدَّم الزمن انتهت تلك الحالة، وكذلك الحلال لم ينطلق من حالة زمنية محدَّدة، حتّى إذا تغيَّر الزمان تغيّرت تلك الحالة.
يقول الإمام عليّ (عليه السلام) في نهج البلاغة: "لا تكن عبدَ غيرِك وقد خَلَقَكَ الله حرّاً".
يجب على الإنسان أن يؤكّد حريّته كشيء يعيش في ذاته، ممّا لا حقّ أن يتنازل عنه لأحد، أن يتمسَّك بحريّته أمام كلّ الناس، إلاّ النّاس الذين أراد الله سبحانه وتعالى أن يتنازل الإنسان عن حريّته لإرادتهم، لأنّ إرادتهم مستمدّة من إرادة الله.
من لا يكون حرّاً لا يكون شيعياً، لأنَّ الحريّة هي عمق خطّ عليّ (عليه السلام) في حركة الواقع السياسي، فيما هو الإنسان الحرّ في الحياة.
وعندما يقول الإمام عليّ (عليه السلام): "قيمة كلّ امرءٍ ما يحسنه".
فهذا يعني أنَّ قيمة كلّ إنسان بمقدار ما يكون صاحب فكر وعلم ووعي وثقافة.
إنَّ الإمام عليّ (عليه السلام) يريد لشيعته أن تكون، الجماعة التي تتحرّك في خطٍّ تصاعدي مع كلّ حركة التطوّر العلمي، لا يريد لشيعته أن يكونوا الجاهلين الذين يلتقطون فتات موائد الآخرين فيما يريدون أن يأخذوه أو يتعلَّموه.
قيمة الإنسان بمقدار ما يحسن، وبمقدار ما يعلم، لذلك يعتبر الشيعيّ العِلَم عنواناً له، ويعتبر العِلَم خطّاً له في كلّ ما يتحرّك فيه من الحياة، هذا هو المفهوم الذي يختزنه معنى التشيّع فيما يختزنه التشيّع من معنى الإسلام.
أن يكون الإنسان شيعياً فمعناه أن يحمل في قلبه الإسلام من خلال ما عاشه عليّ (عليه السلام) فيما فهمه من القرآن.. ومن خلال ما عاشه عليّ (عليه السلام) فيما فهمه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأن يتحرَّك معه في خطّ جهاده.
لهذا يجب تحديد خطّ التشيُّع حتّى لا يكون التشيّع، مجرّد التزام بشخص ورفض شخص، بل يكون التشيّع التزاماً بنهج ورفض نهج، التزاماً بخطّ ورفضاً لخطّ. أن تكون حركة الإنسان في داخل التشيُّع حركة تشمل الحياة كلّها، حتّى لا تتجمَّد الرموز في التأريخ.. أن لا تكون شيعياً يعيش في قلب التأريخ دون أن يسحب التشيّع إلى حركة الحاضر.
الانتماء لعليّ (عليه السلام) مسؤولية
إنَّ انتماءنا لعليّ (عليه السلام) يفرض علينا أن نكون الصادقين، أن نكون الأُمناء، وأن نكون المحقّين، الذين يتحرّكون مع أهل الحقّ.
فعليّ (عليه السلام) ليس كلمة نهتف بها، بل هو موقف ورسالة، لا بدّ أن نلتزمها ونتبعها.
وعلى هذا الأساس، فإذا أردنا أن نقف مع عليّ (عليه السلام) فلا بدّ أن نواجه الباطل كلّه، كما واجه الباطل كلّه.
لقد واجه عليّ (عليه السلام) الباطل في الكفر، فوقف ضدّ الكفر، وحارب كلّ الكافرين، وواجَه عليّ (عليه السلام) الباطل في داخل المسلمين، فوقف ضدّ أهل الباطل منهم، في ما كانوا يتحرّكون فيه من فكر، ومن ممارسات ومناهج.
وقف عليّ (عليه السلام) ضدّ ذلك كلّه، فكيف يمكن أن يكون موقفنا في كلّ ما يثار حولنا من قضايا، وفي كلّ ما يتحرّك عندنا من أوضاع؟
أسئلة وأجوبة حول الإمام عليّ (عليه السلام)
عليّ (عليه السلام) والإسلام
ـــ كيف كانت شيعيّة الإمام عليّ (عليه السلام)؟ ولا نقصد من شيعيّته المعنى المصطلح، وإنَّما نقصد فهمه للإسلام في الخطّ الذي يمثّله عنواناً له، من خلال ما يمثّله من عنوان الإسلام؟
كان فهمه (عليه السلام) لكلّ ذلك، ما جاء في قوله سبحانه وتعالى، فيما أنزل الله على رسوله في ليلة الهجرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة : 207].
إنَّ فهم المسألة أن يبيع الإنسان نفسه لله، أن يكون الله كلّ شيء في حياته، بحيث يقترب من الرسول، باعتبار أنّه رسول الله الذي بلَّغ رسالات الله، ويقترب من كلّ الناس من خلال أنّهم أولياء الله، ويبتعد عن الناس من خلال أنَّهم أعداء الله.
أن لا تكون للإنسان، كمسلم يلتزم خطّ عليّ (عليه السلام)، أن لا تكون له مسألة خاصّة فيما تمثّله شخصيّته الخاصّة، لأن تكون مسألة الإنسان في الحياة هي ماذا يرضي الله؟ ومَن يرضي الله؟ ماذا يبغض الله؟ ومن يغضب الله؟
هذا هو الخطّ الفاصل في خطّ التشيُّع، أتريدون كلمة من رموز الإمامة من التشيّع؟
في حديث الإمام أبي جعفر محمّد الباقر (عليه السلام) يقول: "مَن كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومَن كان عدوّاً لله فهو لنا عدوّ، والله ما تنال ولايتنا إلاّ بالورع".
ومن ذلك نفهم معنى الحبّ، كلّنا نتحدّث أنّنا نحبّ عليّاً ونتولاّه، ونحبّ الأئمّة من أولاد عليّ (عليه السلام)، وأنّنا ننتظر القائم بالأمر من آل محمّد من أولاد عليّ (عليه السلام).
كلّنا نتحدّث عن ذلك وننظِّم الشعار في ذلك. نكتب الكتب في ذلك وكأنَّنا قد وفّينا قسطنا لعليّ.
ولكن نحبّ عليّاً بشكلٍ عظيم ونحبّ ألف معاوية في الحاضر، نحبّ الحسين (عليه السلام) ونحبّ ألف يزيد في واقع السياسة العالمية والإقليمية والمحليّة، نحبّ الأئمّة (عليهم السلام) ونتحرّك في كلّ خطّ سياسي وثقافي أو اجتماعي نحارب به كلّ الخطّ السياسي والاجتماعي والثقافي الذي جاء به أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).
سيرة الإمام وواقعنا المعاصر
ـــ سؤال كيف يمكن أن نستلهم حياة الإمام عليّ (عليه السلام) في واقعنا المعاصر؟
كان عليّ (عليه السلام) الصلب في مواقفه أمام الانحراف، لا تأخذه في الله لومة لائم، كان عليّ يتحرّك ليكون القويّ العزيز عنده ضعيفاً ذليلاً حتّى يأخذ منه الحقّ، وليكون الضعيف الذليل قويّاً عزيزاً حتّى يأخذ له بحقّه.
مَن منّا يدخل في مقارنة فكريّة.. أين أنا من عليّ؟ ما هو الخطّ الذي أتحرَّك فيه بالمقارنة مع الخطّ الذي تحرَّك فيه عليّ (عليه السلام).
نحن نتحرَّك من خلال مأساتهم (عليهم السلام) ولكنَّنا لا نحاول أن ندرك الذين يصنعون مثل مأساة عليّ (عليه السلام) في حياتنا ومن يلتزمهم، كم من ابن ملجم نلتزمه لأنَّ هناك عاطفة عائلية أو حزبيّة أو قوميّة أو وطنيّة تربطنا به؟
مشكلتنا أنَّنا نتجمَّد في التأريخ عند الأشخاص كأشخاص، ولا ننطلق في حياتنا معهم كنماذج بالعنوان الذي يتحرّكون فيه.
موقفنا من الفتن
ـــ عاش الإمام عليّ (عليه السلام) فترة حسّاسة ومضطربة، ومن هنا فهي غنيّة بالمعطيات المتنوّعة على أكثر من مجال، كيف يرى سماحتكم إمكانية دراسة حياة الإمام عليّ (عليه السلام) إذا أردنا أن نحرِّك معطياتها في الأجواء المعقّدة التي يعيشها الواقع الإسلامي؟
الحديث عن عليّ (عليه السلام) للذين ينفتحون على الآفاق العالية في الحياة، هو حديث عن الحياة كلّها، ولذلك فإنَّنا نريد أن نعيش معه في قضايانا المتحرّكة، لأنَّ القضية ليست قضية دراسة أكاديمية تحاول من خلالها أن تتعمَّق في الفلسفة أو ما إلى ذلك، ولكنَّ المسألة أنّنا عندما نريد أنْ نستقدم التاريخ إلينا، فإنَّ علينا أن نشعر في كلّ هذا التاريخ، بقضايانا تتحرَّك من خلاله.
نحن نريد أن نعيش مع عليّ (عليه السلام) قضايانا في حركة الصراع في الحياة.
نحن نعيش في عالَم يضجّ بالصراع، والصراع يفرض الكثير من المشاكل ومن المنازعات، ومن الخلافات ومن الصدامات. هل تقف أمام الصراعات التي توجِع رأسك وتُثقل قلبك وقد تأخذ منك رأسك وقد تقيِّدك وقد تحبسك؟
هل تعيش في حركة الصراع على أساس أن تكون الإنسان الحيادي، الذي ينفصل عن ساحة الصراع، ليكون الإنسان الذي ليس مع فلان وليس مع فلان، لا يدخل في هذا الجوّ ولا في ذاك الجوّ؟ أو أنّك تتحرَّك لتكون جزءاً من الصراع، أو لتدرس مضمون هذا الصراع، ما هو في طبيعته، وما هو في علاقته بالحياة وما هو في علاقته بالمصير وبالمستقبل؟ أن ندرس مضمون الصراع، قبل أن نتّخذ موقفاً حيادياً تارّة، أو إيجابياً هنا، أو سلبياً هناك.
هناك كلمة للإمام عليّ (عليه السلام) ربّما يفهمها بعض الناس بطريقة خاطئة: "كُنْ في الفتنة كابن اللّبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب".
وابن اللّبون هو ولد النّاقة الذكر، لم يقوَ ظهره على الركوب، وليس له ضرعٌ يُحلَب منه، كن مثله، لا تجعل أحداً يتّخذك جسراً يصل من خلاله إلى أطماعه، ولا أن يستفيد من طاقاتك، لتحلب طاقاتك لتطعمه طاقة يقوى الشرّ في داخلها.
بعض الناس يفهمون الفتنة أنّها تمثّل حركة الصراع، أن يقتتل الناس، ففي هذا فتنة! أن يختلف الناس هذه فتنة!.. ولذلك كثر الحياديون في مجتمعاتنا، وأصبح الكثيرون من الناس يتفرَّجون على السّاحة.
لكنَّ الفتنة فيما نفهمها هي الحركة التي تنطلق لتفتنك، لتدخلك في متاهات، أو لتدخلك في موقع ليس لك دورٌ فيه، من خلال ما تعيشه، إنَّهم يحدِّدون كلمة الفتنة بالموقع الذي لا يُعرَف فيه الحقّ من الباطل، أو الموقع الذي يتنازع فيه فئتان من أهل الباطل، وقد عبَّر الإمام عليّ (عليه السلام) عن الفتنة كيف تنشأ:
"إنَّما بدء وقوع الفتن: أهواء تُتَّبع وأحكام تُبتدع. يُخالَفُ فيها كتاب الله ويتولّى عليها رجال على غير دين الله. فلو أنَّ الباطل خلُص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين. ولو أنَّ الحقّ خلُص من لبس الباطل لانقطعت عنه ألسن المعاندين. ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى".
الفتنة هي أن تنطلق القضية أو الفكرة التي تُعطي من ملامح الحقّ بعض الشيء، وتخفي من عمق الباطل بعض الشيء، فتتحرَّك وأنتَ تشعر أنّها الحقّ، ولكنّها في الواقع ليست هي الحقّ.
وهكذا نجد في كلمةٍ أخرى للإمام:
"إنَّ الفتن إذا أقبلت شبَّهت، وإذا أدبرت نبَّهت، ينكرن مقبلات، ويعرفن مدبرات، يحمن حوم الرّياح، يصبن بلداً، ويخطئن بلداً".
تلك هي المسألة. إنَّ الإمام (عليه السلام) يريد أن يؤكّد المسألة، عندما لا تكون الساحة واضحة لديك، لا تقتحمها، ولكن حاول أن تفهمها، أن تعرفها، "كن في الفتنة كابن اللّبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب" إنّها تعبّر عن عملية الاقتحام غير المدروس، أمّا أن تقف لتدرسها، تلك مسؤوليّتك، لأنّك لا تستطيع أن تكون حيادياً أمام ما يحدث في ساحتك، لأنَّ ما يحدث في ساحتك ليس مجرَّد شيء يخصّ الذين يتصارعون، ولكنّه يشمل الواقع كلّه.
ولذلك فإنَّ عليك أن تدرس الفتنة لتستوضحها، حتّى أنّه عندما تكون هنالك فئتان من أهل الباطل، لا دور لك في طرح هذا، ولا دور لك في طرح ذاك.. عندما تكون المسألة كذلك، فإنَّ عليك أن لا تقتحم المعركة لتكون فريقاً لهذا أو ذاك، لكن عليك أن تدرس ما هو دورك أمام هاتين الفئتين المتصارعتين من أهل الباطل، سواء كان ذلك في بلدك، أو في منطقتك، أو في العالَم كلّه.
قد يقول بعض الناس هذه سياسة تبتعد عن المثاليات، وهل تريد أن تنزلنا إلى جزئيات الواقع؟ لكنّ هناك فرقاً بين أن نعيش الحياة أحلاماً ومثالاً تجريدياً، وبين أن نعيش الحياة واقعاً يتّصل بحياتنا الثقافية والسياسية والاقتصادية والأمنية.
عندما تكون المسألة مسألة إنسانية يُراد لها أن تعيش في كلّ مواقعها التي تركّز وجودها وحركتها وامتدادها. إنَّ عليك في هذا المجال أن لا تذرف دموعك على المأساة، لأنَّ هناك مأساة تواجهك في جزئيات الأمور، فإذا سقطت أمام المأساة الصغيرة فستسقطك المأساة الكبيرة.
بعض الناس يحاولون دائماً أن يسقطوا القضايا الكبرى، من خلال حديثهم عن مفردات المآسي التي تُنتجها القضايا الكبرى، أن يحدِّثوك عن ضرورة الابتعاد عن الصراع وهو مفروض عليك.
لا حياديّة بين الحقّ والباطل
عليٌّ (عليه السلام) لا يريد للإنسان أن يكون حيادياً، عندما تكون المعركة معركة الحقّ والباطل.
والحياديّون بين الحقّ والباطل يخونون إنسانيّتهم، ويخونون الحياة ويسقطونها. إنَّه يتحدّث عن هؤلاء الذين يبتعدون عن السّاحة حتّى لا تتحرَّك نحوهم شرارات السّاحة، قال وهو يحدّث بعض الناس عن بعض مَن اعتزلوا القتال في معاركه، قال (عليه السلام): "إنَّ سعيداً وعبد الله لم ينصرا الحقّ ولم يخذلا الباطل".
لم ينصرا الحقّ لأنّهما أبعدا طاقتهما عن نصرة الحقّ، ولم يخذلا الباطل لأنّهما عندما حجبا قوّتهما عن الحقّ أعطيا قوّة سلبية، والباطل لا يقوى بأتباعه فقط ولكنّه يقوى بالحياديّين الذين يؤمنون بالحقّ ولكنّهم لا يتحمّلون مسؤوليّته. وهذا هو الذي تمثّله الكلمة التي استهلكناها "الأكثرية الصامتة".
ويحدّثنا الإمام (عليه السلام) عن نتائج هذه المواقف المتخاذلة: "أيُّها الناس لو لم تتخاذلوا عن نصر الحقّ، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم مَنْ ليس مثلكم، ولم يقوَ مَن قوي عليكم. لكنّكم تهتم متاه بني إسرائيل، ولعمري ليُضْعِفنَّ لكم التيه من بعدي أضعافاً، بما خلَّفتم الحقّ وراء ظهوركم، وقطعتم الأدنى، ووصلتم الأبعد".
إنَّ المسألة هي أنَّ أكثر هزائمنا على كلّ المستويات التي تتحرَّك في الواقع، أنّها هزائم المتخاذلين، وليست هزائم الذين يُقاتلوننا.
إنَّنا في كلّ تاريخنا الحديث، في كلّ حركة الصراع التي عشناها مع الاستكبار العالمي، أو مع الصهيونية العالمية، أو مع كلّ المواقع التي تتحرَّك هنا وهناك، لم تنطلق من قوّة مطلقة هناك، وضعف مطلق هنا. كانت المسألة قوّة كبيرة هناك متحرّكة، وقوّة محايدة هنا جامدة.. ضعفنا هو الذي أعطى الآخرين كثيراً من قوّتهم، ولا أقول كلّ قوّتهم.
إنَّ المسألة التي تتحدَّى إنسانيّتنا، في كلّ قضايا الصراع في الواقع، هي أن يعيش الإنسان دوره في حركة إنسانيّته في الواقع.
إنَّ الإنسان الذي لا يشارك في أيّ موقع من مواقع الصراع، التي تمثّل القضايا الكبرى في الحياة، هو إنسان ميّت يتنفَّس.. وميّت يتحرَّك، لأنَّ قضية أن تموت، ليس أن يموت جسدك، ولكن قضية أن تموت أن يموت دورك، أن لا يكون لك غنى في الحياة، وهذا ما ينبغي لنا أن نفكِّر فيه.
ورد عن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام): "أبلِغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمَّعة فإنَّ رسول الله نهى أن يكون المرء إمَّعة، قالوا: وما الإمّعة؟ قال: أن تقول أنا مع النّاس وأنا كواحد من النّاس، إنَّما هما نجدان نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير".
جاء رجل إلى عليٌّ يقول له: "أتراني أظنّ أنّ أصحاب الجمل كانوا على ضلالة وإنَّنا على حقّ؟
قال: يا هذا ـــ أو يا حارث ـــ إنَّك نظرت تحتك ولم تنظر إلى فوقك فحرت، إنّك لم تعرف الحقّ فتعرف مَن أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف مَن أتاه. اعرف الحقّ تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله".
المنهج، المضمون، الفكرة، القضية لا تنظر إلى أحد، الحقّ لا يُعرَف بالرجال، إلاّ الرجال الذين يجسّدون الحقّ من خلال عصمتهم هؤلاء هم الحقّ مجسّداً.
فاطمة الزّهراء (عليها السلام)
لماذا القدوة
في البداية، لماذا القدوة في حركة الإنسان في الحياة؟ لماذا لا تكفي الفكرة التي تدخل في وعي الإنسان لتقوده نحو الحركة؟ لماذا يبحث الناس في كلّ حركة الإنسان في الحياة، عن النموذج الكامل أو الأكمل للفكرة.
إنَّ المسألة... هي أنّ الفكرة قد تنطلق خيالاً يشكّ الناس في واقعيّته، وقد تنطلق الفكرة لتوحي للنّاس في حالات التساؤل والشكّ أنّها لا تملك كلّ عناصرها في حركة الواقع الإنساني إذا كانت تملك بعض العناصر.
لذلك كان الإنسان في كلّ تساؤلاته، عن واقعية الفكرة وعن حركيّتها، يبحث عن تجسيد الفكرة في الواقع، وعن أنسنة الفكرة في الإنسان، لأنَّ الفكرة تبقى شيئاً في العقل، فإذا تحرَّكت في الواقع صارت إنساناً يتحرَّك.
والذين يمثّلون حركيّة الفكرة في الواقع هم الذين يمنحوننا، في حركتنا الفكرية، الثقة بالفكرة كشيء يمكن أن يدخل في حركتنا في الحياة، كما دخل في عقولنا في الوعي.
هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية يواجهنا السؤال الآخر: هل نستطيع أن نفصل في الحاجة إلى القدوة بين المرأة والرجل؟ وهل تجاوز الرجل مسألة الحاجة إلى القدوة، حتّى نقدّم المرأة كإنسان يركض وراء هذه الحاجة وهل نحن في كلّ ما يعيشه إنسانٍ ما من غنى في الفكر، أو في الروح، أو في الحركة، أو في كلّ عناصر الشخصية، هل نستطيع أن نفصل بين هذا الإنسان وبين الإنسان الآخر ليكون نموذجاً لفريق دون أن يكون نموذجاً لفريقٍ آخر أيضاً؟
إنَّ المرأة عندما تختزن حيوية الفكرة الكبيرة من داخل شخصيّتها، فإنَّها لا تنطلق من خلال شخصيّتها كامرأة، ولكن من شخصيّتها كإنسانة تحمل بعض العناصر التي تميّزها عن الإنسان الآخر الرجل، ولكنّها تشترك معه في القاعدة العامّة التي تنتج الفكر وتنتج الحركة.
إنَّ المرأة النموذج هي الإنسان النموذج الذي يمثّل قدوة للرجل والمرأة على السّواء، والرجل النموذج هو الإنسان النموذج الذي يمثّل القدوة للمرأة والرجل على السّواء.
إنَّنا نجد أنّ المسألة التي تفرض نفسها علينا، في كلّ واقعنا الفكري الذي يبحث عن أرض ينغرس فيها، أو عن إنسان يتجسَّد فيه، وعن أُفق ينطلق معه، إنَّنا نشعر أنّ الرجل والمرأة سواء في الحاجة إلى ذلك.
وقد لاحظنا في القرآن الكريم أنّه جعل المرأة في واقعها السلبي، والمرأة في واقعها الإيجابي، مثلاً للرجال والنساء معاً، لم يجعل المرأة مثلاً للمرأة ليجعل الرجل مثلاً للرجل، لأنّهما لا يفترقان في عناصر الإنسانية العميقة التي تعيش في كلّ حركيّتهما في الحياة. {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم : 10].
فالإنسان عندما يتحرَّك في الموقع السلبي في الحياة، فلن يستطيع أن يستفيد من علاقته بالإنسان الذي يملك الموقع الإيجابي في الحياة، لأنَّ الإنسان يتحرَّك من خلال مسؤوليّته الفرديّة، ولا يمكن لإنسان أن يعطي إنساناً قيمة من خلال العلاقة إذا كان الإنسان يفتقد القيمة الذاتية في ذاته.
وهكذا نجد في الجانب الآخر الإيجابي: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم : 11].
هذه الإنسانة القويّة في إيمانها، القويّة في موقفها، المتمرّدة على كلّ السلبيات التي تعيش في ساحتها، الرافضة لكلّ الظلم الذي يمارسه زوجها الظالم في موقعه وفي موقفه ضدّ الناس المستضعفين. عندما كان الناس يحدِّقون بزوجها في عظمته.. كانت تحدّق بالله في إيمانها، وكانت تتحرّك على أساس أن تطلب من الله أن يعطيها العون على أن تتحرَّر من فرعون وعمله، وأنْ تتحرَّر من كلّ المجتمع الظالم، وأن يرضى الله عنها، لأنَّ قصّتها في إيمانها هي أن يرضى الله عنها، ذلك هو وعي إيمانها.
وليست المشكلة أن يرضى زوجها عنها أو يرضى الظالمون عنها، لأنَّ القضية هي أنّها أخلصت لإنسانيّتها في إخلاصها لإيمانها. ولم تشعر أنَّ زوجيّتها لهذا الإنسان الذي تألَّه واستكبر، يجعلها تعيش دور المنفعلة في كلّ أجوائه، ولكنّها أرادت أن تكون شخصيّتها القويّة قوّة إيمانها، الإنسان الفاعل في حركتها في الحياة.
وبذلك أثبتت أنّ المرأة عندما تعيش الإيمان العميق، الذي يتحرّك في عقلها، وينبض في قلبها، ويعيش في حركتها، لن تكون الإنسانة المنفعلة بغرائزها وشهواتها وواقعها، ولكنّها تكون الإنسانة الفاعلة من خلال إرادة تتصلَّب، ومن خلال موقف يثبت، ومن خلال قضية تنطلق. {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
إنَّ الاستعانة بالله سبحانه هي حركة قوّة في الإنسان، وليست حركة ضعف، لأنَّ الله يريد من الإنسان أن يتحسَّس ضعفه بين يديه، لأنَّ ضعفه أمام الله هو حقيقة وجوده، ولكنّه في الوقت نفسه يريد منه أن ينطلق ليستمدّ منه قوّة. {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة : 40].
وبذلك فإنَّ موقف الضعف بين يدي الله لا يهدم معنى القوّة في الإنسان، ولكنّه يرجع الإنسان إلى طبيعته التي لا تملك كلّ عناصر القوّة أمام النظام الكوني، وأمام كلّ الأشياء الخارجة عن القدرة، حتّى إذا تحرَّكت عناصر ضعفها لتشدّها إلى الأسفل، انفتحت على الله ليعطيها القوّة الروحية ليرتفع بها إلى الأعلى.
والإنسانة الثانية التي ضربها الله مثلاً للذين آمنوا: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم : 12].
مريم الإنسانة التي امتلأت روحها بكلمة الله، قبل أن تأتيها كلمة الله.. وامتلأ عقلها بحبِّ الله وبكتاب الله قبل أن ينزل على ابنها كتاب الله، وكانت من القانتين، ثمّ في تجربتها الحيّة، تجربة الإنسانة التي جعلها الله مظهر قدرة مميّزة، لا تعرف البشرية في كلّ تاريخها مثالاً لها، ولذلك كانت هذه التجربة الحيّة تجربة تتحدّى كلّ ضعف مريم، ضعف الإنسان في عناصر إنسانيّتها، وضعف الأنثى في عناصر أنوثتها، ولذلك {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} [مريم : 23].
ولكن عندما انطلقت كلّ ألطاف الله عليها.. وعندما تلقَّت التعليمات واستنفرت إيمانها عندما قيل لها {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} [مريم : 26].
إنّها تقف لتعبّر عن موقفها بالصمت ولذلك {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً*يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً*فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ...} دون أن تسقط ودون أن تهتزّ ودون أن تضعف، أشارت إليه بكلّ عظمة الرافض لكلّ هذه الكلمات، المطمئنّ بأنَّ كلّ كلماتهم اللامسؤولة ستتساقط أمام قوّتها وعظمتها. {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً*قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً...} [مريم: 27 ـــ 30] إلى آخر الآيات.
إنّها مَثَلٌ للرجال والنساء على السّواء، الذين ينطلقون من خلال إيمانهم لينفتحوا على الله، ولينفتحوا على ألطاف الله، وعلى رسالة الله، وليتحرَّكوا في الحياة عندما يستوحون القوّة من الله، ليواجهوا المجتمع بكلّ قوّة.
وذلك هو مثل لكلّ إنسان يملك البراءة ممّا يتّهمه به الناس، ويملك الموقف الطاهر الأبيض أمام كلّ ما يراد أن يحاط به من تهاويل.
إنّه المثل من خلال مريم أن يقف الإنسان في قوّة براءته، وفي قوّة طهارته، وفي قوّة واقعيّته، ليواجه الموقف المضادّ بكلّ ثقة، بعد أن يكون قد استعدّ للإجابة عن كلّ سؤال، واستعدّ للتحرّك في كلّ موقع يحتاج إلى الحركة.
في ضوء ما تقدَّم، فإنَّ المرأة تكون قدوة للرجل وللمرأة على السّواء، كما هو الرجل قدوة للمرأة والرجل على السّواء.
وهكذا ننطلق لنتحدّث عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) على أساس حاجتنا إلى القدوة الصالحة كرجال وكنساء. ما هي قصّة الزهراء في وجداننا الإسلامي أو في وجداننا الروحي أو الإنساني، ما هي قصّتها؟
إنَّنا نريد أن ننطلق بها كقدوة من خلال تنوّع الأبعاد: كانت الزهراء زوجة وكانت أُمّاً، ويحدّثنا تاريخها أنّها عاشت مع زوجها كأفضل ما تكون الزوجة، محبّة ووفاء وطاعة ورعاية، ولذلك ينقل تاريخها أنّها في أيّامها الأخيرة عندما أوصت عليّاً (عليه السلام) بوصاياها قالت له: "ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عرفتك"، فقال لها: "أنتِ أبرّ وأتقى وأعرف بالله من أن أوبِّخكِ في شيء من ذلك".
كانت ترعى زوجها، وزوجها مثقل بمسؤولية الجهاد، كان يخرج من حرب من حروب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ليدخل في حربٍ أخرى، ولم تتأفَّف من ذلك بكلّ ما يمكن أن يفرضه ذلك من ضريبة قاسية على كلّ نساء المجاهدين، وكانت مثقلة بالأولاد ولكنّ ذلك كلّه لم يمنعها من أن تخلص لدورها في البيت كزوجة وأُم، ترعى أولادها، كما ترعى أباها بأفضل ما تكون الرعاية.
أدوار من حياة الزهراء (عليها السلام)
عندما ندرس الزهراء (عليها السلام) فلا نجد في حياتها أنّها عاشت طفولة الأطفال الذين يلهُون ويعبثون ويلعبون. كانت طفولتها لا تحمل أيّة فرصة للّعب وللّهو كما يلعب أو يعبث أو يلهو الأطفال.. فتحت عينيها على الحياة وإذا بأبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يأتي بين وقتٍ وآخر، مُثقلاً بكلّ ما يُلقيه عليه المشركون من ضغوط ومن أعباء، ومن مشاكل، وحتّى من الأقذار التي كانت تُلقى على ظهره وهو يصلّي.
فنقرأ في تاريخ الزهراء (عليها السلام) أنّها رأت أباها (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو قادم من المسجد الحرام، والمشركون قد وضعوا الأوساخ على ظهره، فلم تملك إلاّ أن تعبّر عن حزنها ومواساتها لأبيها (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بالبكاء. كانت الطفلة التي لا يتجاوز عمرها السنتين أو الثلاث أو الأربع، كانت تعيش الألم وكانت لا تملك إلاّ أن تواسي أباها (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بذلك.
كانت تتحسَّس أنّ آلامه آلامُها، فتختزن في طفولتها آلام الرسالة وآلام الرسول، ومَن يختزن في وعيه الطفولي المبكّر آلام الرسول وآلام الرسالة، كيف يَفسحُ له الوقت أن يعبث أو أن يلهو أو أن يلعب. إنَّ اللّهو والعبث واللّعب يتحرّكُ في حياتنا من موقع الفراغ، فنحاول أن نملأه باللّهو أو بالعبث أو باللّعب، ولكنَّ الإنسان الذي يشعر بأنَّ هناك فكرة تملأ عقله، وأنَّ عاطفةً تملأ قلبه، وأنّ هناك واقعاً يملأ حياته، لا يجد فرصة للّهو وللعبث وللّعب.
وهكذا نشأت الزهراء (عليها السلام)، لا كما ينشأ الأطفال.. نشأت رساليّة في مشاعرها.
عاشتِ الزهراء (عليها السلام) حياةً قصيرةً في سني العمر، إذ يقول بعض المؤرّخين إنّ عمرها عندما توفيت كان دون العشرين، وبعضهم يقول إنّها كانت دون الثلاثين.. هذا العمر القصير، كان مليئاً بكلّ ما يجعل منها امرأة حيّة بشكلٍ كامل، في كلّ الأجواء الرسالية والروحية والعملية للرجال والنساء معاً.
كان كلّ ما يشغلها في طفولتها ـــ فيما ينقله التاريخ إلينا ـــ هو رعايتها لأبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) حتّى قال عنها "إنَّها أُمّ أبيها"(1).
كان يعتبرها أُمّاً له لأنّه فَقَدَ حنان الأم في طفولته، فجاءت ابنته فاطمة (عليها السلام) لتقوم بمسؤولية الأم في عاطفتها وحنانها، فتملأ حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بالحنان.
وعندما انتقلت الزهراء (عليها السلام) إلى المدينة، بعد أن هاجر رسول الله إلى المدينة، تزوّجت عليّاً، وكان عليّ (عليه السلام) كفؤ فاطمة، فقد روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه قال: "لو لم يكن عليّ لما كان لفاطمة كفؤ" والنبيّ لا يتحدّث عن كفاءة النسب، لأنَّ هناك أكثر من ابن عمّ له، ولكنّه كان يتحدّث عن كفاءة الروح.. وكفاءة العقل والفكر.. وكفاءة الزهد.
فقد كانت فاطمة بعقلها وفكرها وروحها وطهرها وجهادها، كفوءً لعليّ الذي كان في المستوى الأعلى والأكبر من كلّ هذه الصفات والمعاني.
وهكذا عاشت فاطمة (عليها السلام) حياةً متعدّدة في وقتٍ واحد، أخلصت لدورها مع عليّ (عليه السلام) فكانت تُهيِّئ له الجوّ الذي يحتاجه الزوج المسلم المجاهد في مستوى عليّ (عليه السلام).
ثمّ تحمّلت دورها (عليها السلام) كأُم، فكانت ترعى أولادها لتربّيهم التربية الإسلامية الرائعة، وكانت تتحمّل مسؤوليّتها كربّة بيت، فكانت تجهد نفسها في إدارة كلّ شؤون البيت، دون أن تنسى مسؤوليّتها مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي لم يقبل أن تفترق فاطمة عنه حتّى بعد زواجها، فلم يقبل أن تسكن في بيتٍ آخر بعيد عنه، بل ضمّها إلى البيت الذي يقارب بيته، أو يدخل منه إلى بيته.
مصحف الزهراء
لقد كانت الزهراء (عليها السلام) ترعى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) نتيجة العلاقة الروحية بالإضافة إلى العلاقة النسبيّة مع أبيها، وهي في ذلك كلّه، في دورها كأُمّ وكزوجة وكابنة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وكربّة بيت، لا تغفل دورها كامرأة مسلمة، تشعر بأنّها مسؤولة عن أن تُعلِّم النساء في المجتمع الإسلامي الذي كان يحتاج إلى تعليم، ويُنقل في تاريخها أنّها كانت تجمع نساء أهل المدينة، لتلقي عليهنَّ ما تسمعه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكانت تُوجّههنَّ بكلّ ما تستطيع من وسائل التوجيه التي تملكها.
كانت (عليها السلام) تكتب ما تسمعه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) واستطاعت أن تترك بعد وفاتها كتاباً سمّي بمصحف الزهراء (عليها السلام).
وقد حاول الكثيرون من الذين لا يتحمّلون مسؤولية الكلمة من بعض علماء المسلمين، اتّهام الشيعة، فهم عندما يتحدّثون عن مصحف الزهراء، يتحدّثون عن قرآن آخر غير القرآن الذي يلتزمه المسلمون، لأنَّ كلمة المصحف أصبحت كلمة مرادفة لكلمة القرآن في العرف الإسلامي. ولكن هذا عرف متأخّر، لأنَّ كلمة المصحف تطلق على كلّ كتاب له صفحات وله أوراق، فكلّ كتاب يسمّى مصحف.
والقرآن إنَّما سمّي مصحفاً لأنّه يشتمل على صحف، فكلمة المصحف لا ترادف في المصطلح الإسلامي كلمة القرآن وإنّما هي من مصطلحات المسلمين.
ومصحف الزهراء هو كتاب كتبته الزهراء (عليها السلام) ممّا كانت تسمعه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من شؤون التشريع وغير التشريع وقد تداوله أهل البيت (عليهم السلام).
وكان الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ينقل منه بعض الأحكام الشرعية، وعندما يُسأل: أين يوجد هذا؟ يقول أنّه موجود في مصحف جدّتي فاطمة الزهراء (عليها السلام).
إيثار الزهراء (عليها السلام)
كانت الزهراء (عليها السلام) تشعر بأنّها يجب أن تجعل كلّ ما تملك، من الطاقات التي أعطاها الله إيّاها، في خدمة الدور الذي أراده سبحانه وتعالى لها أن تقوم به، وفي خدمة الناس الذين أراد الله أن تخدمهم بما تملك من طاقات.
وكانت في ذلك الجوّ كلّه تأخذ من وقتها الكثير، لتقف بين يديّ الله لتدعو ولتبتهل إليه، ولتسجد بين يديه. وثمّة حديث عن عائشة تقول فيه: "ما كان أعبد في هذه الأُمّة مثل فاطمة إنّها كانت تقوم في اللّيل حتّى تتورَّم قدماها".
ويُحدِّث ولدها الإمام الحسن (عليه السلام): "رأيت أُمّي فاطمة (عليها السلام) قامت في محرابها ليلة جمعتها، فلم تزل راكعة ساجدة حتّى اتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وتسمّيهم، وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أُمّاه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك فقالت: يا بنيّ الجار ثمّ الدار"(1).
كانت من أهل هذا البيت الذي يعيش العطاء في كلّ ما يملكه.. عطاء العلم، والمال والجاه والقوّة، ويعيش العطاء للناس، لا على أساس أن يطلب مقابلاً لذلك {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً*إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً*إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان: 8 ـــ 10].
كانت من أهل هذا البيت الذي يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
الأبعاد الرساليّة لموقف الزهراء (عليها السلام)
كان للزهراء (عليها السلام) الدور الكبير في الوقائع التي حدثت بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم). وهي تعطينا من خلال ذلك الفكرة الإسلامية التي تقول إنّ المرأة عندما تحتاجها الأُمّة، وتحتاجها المرحلة من أجل أن تقف وتواجه كلّ الحالات المعقّدة، التي تستطيع من خلالها أن تعطي رأياً، أو تشارك في إسقاط واقع خاطئ، أو في بناء واقع صحيح، فيجب أن تعتبر ذلك من مسؤوليّتها الإسلامية.
ولهذا كانت فاطمة (عليها السلام) تعيش دورها كأعظم ما يكون الدور، وكانت في حياتها توازن أيضاً بين مصلحة المسلمين، وبين ما تعيشه في نفسها من حالات تتعلَّق بطبيعة قناعاتها في السّاحة.
ويُنقَل عنها أنّها كانت تتحدّث مع عليّ (عليه السلام) في حقّه في الخلافة، وفي حقّها من فدك، ولكنّها عندما وجدت أنّ الموقف العام لا يتحمَّل أكثر ممّا صنعت، وممّا صنع الإمام عليّ (عليه السلام) من خلال الإعلان عن حقّهما الإسلامي أمام المسلمين، قرَّرت (عليها السلام) السكوت، لكنّه ليس السكوت السلبي المهزوم، إنّما سكتت لتعبّر عن موقفها الرافض، ولقد أدركت الأُمّة المعنى الكبير لسكوت الزهراء (عليها السلام).
لقد بدأت الزهراء (عليها السلام) حركة المعارضة في الإسلام ضدّ المواقف الخاطئة التي ظهرت منذ وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، لم يعارض قبلها أحد. وكان المسلمون يعظِّمون الزهراء (عليها السلام) من خلال إحساسهم بعظمتها عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم). ولذلك اضطر الخليفتان اللّذان اضطهداها أن يأتيا إلى بيتها تحت تأثير الضغط الاجتماعي، ليطلبا من عليّ (عليه السلام) أن تستقبلهما حتّى يسترضياها، فقالت لهما: أنشدكما بالله هل سمعتما النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول: "فاطمة بضعةٌ منّي وأنا منها، مَن آذاها فقد آذاني ومَن آذاني فقد أذى الله ومن آذاها بعد موتي فكان كمن آذاها في حياتي ومَن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي" قالا: اللّهم نعم، فقالت: الحمد لله.
ثمّ قالت: اللّهم إنّي أشهدك فاشهدوا يا مَن حضرني أنّهما قد آذياني في حياتي وعند موتي..(1).
لقد استطاعت أن تعبّر عن معارضتها بخطبتها السابقة، والتي تمثّل وثيقة حيَّة في الفكر الإسلامي وفي التشريع الإسلامي وفي المفردات السياسية، كما أنّها أكملت احتجاجها بعد موتها عندما أوصت عليّاً (عليه السلام) أن يدفنها ليلاً، وأن لا يحضر جنازتها هؤلاء الذين ظلموها حقّها واضطهدوها. إنّها أرادت أن تعبّر عن معارضتها واحتجاجها وغضبها بعد الموت كما عبَّر عن ذلك قبل الموت ليتساءل الناس: لماذا أوصت أن تُدفَن ليلاً؟ وما هي القضية وهذا أمر لم يسبق له مثيل في الواقع الإسلامي؟
إنَّ الجميع كانوا ينتظرون أن يشاركوا في تشييع الزهراء (عليها السلام) ولكنّها دُفنت ليلاً وقيل لهم: إنّها أوصت بذلك، وبدأ التساؤل بين المسلمين: لماذا؟ ولماذا؟ وكانت تريد أن تثير التساؤل حتّى يتحرّك الجواب، وحتّى يعرف الناس طبيعة المسألة بطريقة وبأخرى.
كانت الزهراء (عليها السلام) لا تعيش الانفعالات، كما كان عليّ (عليه السلام) لا يعيش الانفعالات، كان عليّ مخلصاً للإسلام لأنّه جعل كلّ حياته لله وللإسلام، وكانت فاطمة مخلصة للإسلام، لأنَّ حياتها كانت في خدمة رسول الإسلام وفي خدمة الإسلام، ولهذا فإنَّهما وازنا المرحلة، ووازنا الموقف، ولم يتحرَّكا من خلال الانفعالات.
إنَّ قضية أن تطالب بحقّك ليست قضية مطلقة، بل هي من القضايا التي تحتاج أن تدرس فيها طبيعة المشاكل التي يمكن أن تُثيرها مطالبتك بحقّك، أو المشاكل التي تحدث من خلال عدم مطالبتك بحقّك، فلا يكفي أن يكون لك حقّ لتحارب من أجله، بل لا بدّ لك من أن تختار الوقت الذي تطالب فيه بحقّك، وأن تختار الساحة التي تحرّك فيها حقّك، وأن تدرس الظروف المحيطة التي يمكن لها أن تستقبل حقّك.. هذه هي الدروس التي نستلهمها من حياة فاطمة (عليها السلام) ومن حياة أهل البيت (عليهم السلام).
آفاق الزهراء مع ربّها
كانت الساعات التي تقضيها الزهراء (عليها السلام) مع الله سبحانه، تستمدّ فيها الطاقة على كلّ المعاناة التي تعيشها. ويُنقل عنها (عليها السلام) دعاء كانت تدعو به في أوقات جلوسها بين يديّ الله، كانت تقول فيه:
"اللّهم قنّعني بما رزقتني".
اجعلني فيما ترزقني من رزق قانعة به، فلا أمدّ عيني إلى الناس ولا أشكو من رزقك، وإنّما أدرس هذا العطاء الذي أعطيتني إيّاه من خلال ظروفي الطبيعيّة.. أدرسه وأقنع به، واجعلني أصبر على نفسي لأنَّ الناس لا يصبرون عليّ.
"وعافني أبداً ما أبقيتني، اللّهم ارزقني العافية يا ربّ واغفر لي ذنوبي".
كانت الزهراء (عليها السلام) معصومة عن الخطأ والزلل والسّهو والنسيان، فلم ترتكب في حياتها أي ذنب أو معصية مهما كان حجمها صغيراً، وهي (عليها السلام) إنّما تقول هذا في دعائها لتربّي الناس على الاستغفار عندما يدعون بدعائها.
"وارحمني إذا توفَّيتني"
فإذا جاءتني الوفاة ولم يبقَ لي إلاّ أنت، فارحم في ذلك البيت الجديد غربتي حتّى لا أستأنس بغيرك.
"اللّهم لا تعنني في طلب ما لم تقدر لي"
تقول يا ربّ هناك بعض الأشياء التي أنتَ تعرف بعلمك أنّي لن أحصِّلها، فلا تجعلني أتعب في السعي وراء شيء تعرف أنَّني لا أحصل عليه.
"اللّهم فَرِّغني لما خلقتني له"
لقد خلقتني لعبادتك وخلقتني لطاعتك، وخلقتني للقيام بالمسؤوليات التي حمّلتني إيّاها في الحياة، اللّهم فرِّغني لما خلقتني له، لا تشغلني عن طاعتك، لا تشغلني عن مسؤولياتي التي قدّرتها لي، لا تشغلني عن عبادتك يا ربّ بشيءٍ آخر.
"اللّهم فرِّغني لما خلقتني له.. ولا تشغلني بما تكفّلت لي به"
لا تشغلني بالرزق الذي تكلّفت لي به، وليس معنى لا تشغلني أي لا تجعلني أعمل، بل لا تجعله همّي الأكبر الذي يُشغل فكري ويعطّل طاقاتي وعملي.
"ولا تعذِّبني وأنا أستغفرك"
فإذا استغفرتك يا ربّ، فإنَّ استغفاري أطلب منك أن تعفو عنّي ولا تعذّبني ولا تحرمني، وأنا أسألك لأنّك تعطي كلّ مَن سألَك.
"اللّهمَّ ذلِّل نفسي في نفسي"
ولا تجعلني أعيش الغرور، ولا تجعلني أعيش التكبّر، ولا تجعلني أعيش الاستعلاء على الناس، اجعلني ذليلاً في نفسي.
"اللّهمَّ ذلِّل نفسي في نفسي، وعظِّم شأنك في نفسي، وألهمني طاعتك، والعمل بما يرضيك، والتجنّب لما يسخطك يا أرحم الراحمين"
هذه آفاق الزهراء (عليها السلام) مع الله، وتلك هي آفاقها مع الناس، وتلك هي حركتها في الحياة.
لقد عاشت (عليها السلام) الآلام كأقسى ما تكون الآلام.. وعاشت الاضطهاد كأقسى ما يكون الاضطهاد، وكانت الإنسانة التي أذهب الله عنها الرّجس وطهّرها تطهيراً، كانت المعصومة في سلوكها، ولذلك لا بدّ للمرأة المسلمة أن تجعل من الزهراء قدوتها في كلّ منطلقاتها، وفي كلّ حركتها، وفي كلّ قيامها بالمسؤولية، وذلك هو الذي يعطينا المعنى الكبير في تأمّل ذكرى الزهراء (عليها السلام).
نفحةٌ من ذكرى الزّهراء (عليها السلام)(*)
الحاجة لاستعادة الذكريات
قد يقول البعض: لماذا هذا الإلحاح على استعادة الذكريات الدينيّة في كلّ سنة والتركيز على شخصيات إسلامية معيّنة؟
وربّما يتساءل آخرون: ألاَ يوجد عندنا في حياتنا الحاضرة، الزاخرة بالأحداث، المتطلِّعة أبداً نحو كلّ ما هو جديد؟ أليسَ فيها ما يشغل بال الإنسان، ويستثير فضوله ويغنينا عن تلمُّس الفكرة في أعماق التاريخ؟
هل قصّة التقاليد الدينية التي تفرض علينا التعبير عن مشاعر القداسة وعواطفها في احتفالات تقليدية نمارسها كما نمارس عاداتنا المتكرّرة، دون أن نحصل على شيء، إلاّ ما يحصل عليه الإنسان الذي يعيش في ضباب الأحلام؟
هل هذا هو كلّ شيء في القضية؟
ولنا أن نجيب أنَّ القصّة ليست قصّة تقاليد ثابتة وعادات متأصّلة، وليست قضية تعبير عن شعور مبهم بقداسة التاريخ.
المثل الأعلى
وإنّما قصّتنا نحن.. جيل القرن العشرين، الذي افتقد مَثَله الأعلى ليشغل نفسه بأبطال الأفلام الإجرامية والعاطفية، ليقلِّدهم ما شاء من التقليد، وليجري وراءهم في كلّ مجال، تاركاً وراءه كلّ مُثُله وكل قِيَمه.. في عادة هستيرية صاخبة.
إنّها قصّة هذا الجيل الذي ضاع منه مَثَله الأعلى، لأنَّ طبيعة الحياة المادية التي نعيشها بكلّ ما فيها من قسوة وجحود وحرمان، لم تعد له البطولات الروحية التي تستهوي الروح وتمتلك القلب.
إنَّها قصّتنا نحن الذين افتقدنا المَثَل الأعلى للإنسانية الكاملة في واقعنا المعاصر.. فرجعنا إلى التاريخ لنتلمَّس فيه مَثَلنا الأعلى الذي تتجسَّد فيه أريحيّة الإنسان، إلى جانب طهر الملائكة، وتتمثَّل في حياته الداخلية والخارجية أصدق معاني العقيدة، وأسمى مواقف التضحية، وأروع القِيَم الإنسانية التي تحتضن كلّ ما في الحياة من إشراق وصفاء.
وهكذا نلتقي بالذكريات التاريخيّة، وفي شعورٍ عميق بالحاجة إلى أن نتمثَّل ذلك الواقع الذي عاشت شخصياتنا الإسلامية في إطاره، ومثّلته أصدق تمثيل.
وهنا التقت حاجتنا إلى المَثَل الأعلى الذي نقتدي به ونسترشد بخطواته ونستنير بأنواره، بالصفوة الصافية من أهل البيت، لتكون حياتهم مَثَلاً أعلى لنا يرعى واقعنا بالحق، ويصونه بالروح، ويشدّ خُطاه بالإخلاص.
حبّ الإسلام
وأهل البيت (عليهم السلام) في تقديسنا لهم وتعظيمنا لشخصيّاتهم، لا ينطلقون من صلتهم بالرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وإنْ كانت هذه الصلة تمثّل الشرف الرفيع في مقياس النسب وطبيعة الوراثة، وإنّما ينطلقون من واقعهم الأصيل الذي تتمثّل فيه كلّ معاني الرسالة وكلّ ملامح الرسول.
وهم لا يريدون لنا أن نقنع بحبّهم وولايتهم عن العمل بسيرتهم والأخذ بتعاليمهم، بل يريدون لنا أن نعمل لنحقّق بعملنا أهداف الإسلام الكبرى وغايته المثلى.
من هنا كان الإلحاح على استعادة ذكرياتهم.. يمثّل الإلحاح الواعي على استعادة القِيَم التي يُمثّلونها والمعاني الحيّة التي يحملونها، والطهارة الخالية من كلّ دنس يشوّه وجه الإنسانية ويلوّث ضميرها، كما أراد لهم الله أن يكونوا، فكانوا كما أراد {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب : 33].
فاطمة الطهر
أمّا فاطمة الزهراء (عليها السلام) التي نحتفل بذكراها اليوم، فهي مظهر حيّ لفضائل أهل البيت (عليهم السلام) في كلّ كلماتها وأعمالها، وفي زهدها وعبادتها، وفي أخلاقها ومشاعرها، وفي إيمانها وتقواها، فقد فتحت عينها على قصة الرسالة الإسلامية، وهي تدعو الإنسانية إلى السير في طريق الله، وانطلقت بعد ذلك لتشاهد مظاهر الصراع بين الإسلام والوثنيّة، وهو يزداد حدّة وضراوة، وترقبه وهو يتعاظم ويطغى.
وكانت في كلّ ذلك تتلفَّت إلى أبيها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهو يقابل الموقف بوداعة الرسالة المطمئنّة إلى سلامة موقفها، وهدوء الرسول الواثق بربّه وبرسالته، فلا يكلّ ولا يملّ ولا يتراجع.. وإنّما يتلقّى المصاعب والعقبات بابتسامته الرساليّة السمحة، التي تشرق وتمتدّ في إشراقة حتّى لتكاد تزرع صفاء الإيمان ونقاءه في قلوب التائهين.
صاحبة الرّسول
وكانت الزهراء (عليها السلام) مع أبيها (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في كلّ موقف.. تحسّ بحزنه على قومه فتتألَّم، وتستمع إلى ابتهالاته في جوف اللّيل، وهو يسأل ربّه الغفران لقومه لأنّهم لم يطَّلعوا على الجانب المشرق من الدعوة في دعاء خاشع رحيم "... اللّهمَّ اغفِر لقومي فإنَّهم لا يعلمون"، فتخشع لروعة الدعاء وروحيّة الدّعوة.
ودرجت الزهراء (عليها السلام) في مرابع الوحي ومشارق الرسالة تتغذّى بالإيمان المتدفّق من روح أبيها (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وتحتضن في قلبها وروحها خطوات الوحي وآياته، حتّى لتفيض روحها بروحانيّته إشراقاً وصفاءً، وتتلمَّس أخلاق النبوّة وقيمتها في أخلاق النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وصفائه. فتنطبع بطابعها الأصيل، في وعي وأصالة.. وشهدت قصّة الهجرة، في هجرة أبيها إلى المدينة ليضع قواعد المجتمع الإسلامي الجديد، وفي تضحية ابن عمّها عليّ (عليه السلام) المنقطعة النظير في مبيته على فراش النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، غير عابئ بالخطر المحقّق المحدق به، وبدأت في المدينة حياة جديدة تختلف عن كلّ ما عاشته في مكّة.. فقد بدأ المجتمع الجديد ينفتح على تعاليم القرآن وآياته في إقبال منقطع النظير.
عاطفة بحنان
وأحسَّت بمسؤوليتّها تجاه أبيها، وهو ينهض بعبء قيادة الدعوة الجديدة إلى النصر، فمضت تعطيه كلّ ما تملك من حنان الأمومة والنبوّة، وترعى حياته بروحها وقلبها ومشاعرها الرقيقة الفيّاضة، حتّى انطلقت كلمة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لتخلِّد لها هذا الحنان، ولتمجّد هذه العاطفة، فتعطيها كُنية مميّزة على مدى إحساس النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بروعة هذا الحنان، فكان يقول عنها إنّها "أُمّ أبيها".
وبهذا نعرف الدور الصامت الذي قامت به الزهراء (عليها السلام) في الجهاد.. برعايتها لأبيها، وهو في أشدّ الأوقات حراجةً وأعظمها قسوةً، وقد حفظ لها النبيّ هذا الدور والتقت عاطفته بحنانها فكان إذا أراد السفر سلَّم على مَن أراد التسليم عليه من أهله.. ثمّ يكون آخر من يُسلِّم عليه فاطمة.. فيكون وجهه إلى سفره من بيتها، وإذا رجع بدأ بها.. لقد كانت تشعر أنّ أباها (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يمثّل كلّ شيء في حياته كأب، ونبيّ، ولذا فقد كانت تحسّ أنّ عليها أن تبذل له كلّ شيء.
كانت ترقب انفعالات وجهه وخلجات نظراته، لتفهم منها كلّ ما يريده وما لا يريده، دون أن يقول شيئاً أو ينهاها عن شيء.. فتبادر لامتثال أوامره ونواهيه دون إبطاء أو تردُّد، مدفوعة إلى ذلك بعامل المحبّة له والتقديس لشخصه كنبيّ.
ما أحدثنا بعدك
وتُحدّثنا سيرتها أحاديث متنوّعة عن ذلك. فقد قدم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من سفره ذات يوم فرآها وقد اشترت ستاراً لبيتها وسوارين من الفضّة، فتجاوز عنها وقد عرفت الغضب في وجهه.. وعرفت فاطمة (عليها السلام) ماذا يثقل روح النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ممّا رأى، فنزعت الستار عن بابها، وخلعت السوارين من يديها وبعثت بهما مع ولديها (عليهما السلام) وقالت: "أقْرِئا أبي عنّي السّلام، وقولا ما أحدَثْنا بعدَك غيرَ هذا فشأنك به".. فانفجرت أسارير النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لهذه الالتفاتة الروحيّة من ابنته وهذه الاستجابة الواعية لدعوته، وما كان منه إلاّ أن قسَّم ذلك بين الفقراء الذين لا يملكون ثوباً ولا يجدون قوتاً وقال: "قد فَعَلَتْ.. فِداها أبوها.. ثلاث مرّات ما لآلِ محمّدٍ وللدّنيا فإنّهم خُلِقوا للآخِرة"(1).
وفي حديثٍ آخر.. أنّه وجد في عنقها قلادةً فأعرض عنها، فقطعتها ورمت بها فقال لها: "أنتِ منّي ائتيني يا فاطمة".. ثمّ جاء سائل فناولته القلادة(2).
تلك هي بعض الشواهد التاريخيّة التي تعطينا المَثَل على أنّ شخصية الزهراء (عليها السلام) كانت منطبعة بطابع شخصية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فليس بينها وبين أن ترفض الدنيا إلاّ إشارة النبيّ ورغبته لها في الترفُّع عن كلّ ما يربطها بها ويشدّها إليها.
وهكذا كانت الزهراء (عليها السلام) منسجمة كلّ الانسجام روحيّاً وعاطفيّاً مع الخطّ الإسلامي الأصيل الذي انطلق في الحياة من خلال تعاليم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ فلم تستسلم إلى صلتها الوثيقة بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وتسكن إلى هذا الشرف العظيم.
ابنة الرسول
كانت تريد أن تكون ابنة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) روحاً وأخلاقاً وتقوىً وعبادةً وصلةً بالله وانسجاماً مع تعاليمه، قبل أن تكون ابنة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) جسداً وقرابة.
كانت تريد لأبيها (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يجد في بيتها المتواضع زهد الرسالة، وروحانيّة الإيمان، وبساطة العيش، وقناعة النفس، وصفاء الروح كمَثَلٍ حيٍّ للبيت المسلم الذي يعيش الأجواء الإسلامية، ويتنفَّس في جوٍّ إسلاميٍّ خالص، وهكذا انطلقت لتكون مَثَلاً أعلى للمرأة المسلمة، في قداستها، وطهرها، وعبادتها المنقطعة النظير.
وتنطلق السيرة لتحدّثنا عن الحسن البصري، حول عبادة الزهراء النموذجيّة فيقول: ما كان في هذه الأُمّة أعبد من فاطمة (عليها السلام)، إنّها كانت تقوم حتّى تتورَّم قدماها.
وتمتدّ القضية إلى أبعد من ذلك، فهي لا ترضى بعبادتها أن تختصّ نفسها بالدعاء أو تحتكر لذاتها القربى إلى الله.. كانت تتضرَّع لربّها من أجل الآخرين.. وتحاول أن تطلب الخير للمؤمنين والمؤمنات، قبل أن تطلبه لنفسها.
هذا هو ما يحدّثنا به ولدها الإمام الحسن بن عليّ (عليه السلام) قال: "رأيتُ أُمّي فاطمة (عليها السلام) في محرابها ليلةً، فلم تزل راكعةً ساجدةً حتّى اتّضح عمودَ الصبح، وسمعتُها تدعو للمؤمنينَ والمؤمناتِ وتُسمِّيهم وتكثرُ في الدّعاءِ لهم، ولا تدعو لنفسها بشيءٍ.. فقلت لها: يا أُمّاه لِمَ لا تَدعينَ لنفسكِ كما تَدعينَ لغيرِك؟ فقالت: يا بُنَيَّ الجارُ ثمَّ الدّار".
سيرة الزاهدة
كانت وهي ابنة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وزوجة عليّ (عليه السلام) تعيش في بيتها أقسى أنواع العيش، فلم يكن لها إلاّ جلد كبش حدَّثت عنه أباها محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وقالت له: "والذي بعثكَ بالحقِّ نبيّاً ما لي وبَعلي منذُ خمس سنينَ إلاّ جِلْد كبشٍ نَفترشُه باللّيلِ ونعلُف عليه بعيرَنا في النهار، وأنَّ مخدَّتَنا حشوُها ليف".. كانت تحدّث أباها (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بذلك وهي راضية مطمئنة قانعة بما قسم الله.. وقد شاهدها أحدهم وبين يديها شعير وهي تطحن فيه وتقول: "وما عِندَ اللهِ خيرٌ وأبقى".
ذلك هو بعض من سيرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) التي انطلقت في مرتبة القداسة بعلمها وعبادتها وإخلاصها ورعايتها لرسوله.. وارتفعت إلى مرتبة العصمة، لا تدنّسها الآثام، ولا تعلق بها الذنوب، تاركةً لنا المَثَل الأعلى للمرأة التي عاشت حياتها من أجل الله.. وفارقت عيناها الحياة وهي تلهج بذكر الله.
والآن هل لنا أن نعرف أنّنا عندما نقدِّس الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) فإنَّنا لا نقدِّس فيها انتسابها إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فحسب، وإنّما نقدِّس فيها الصفات المُثلى التي تجعلها قدوةً نقتدي بها، ونبراساً نستنير بضيائه.
كانت الزهراء (عليها السلام) ابنة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) روحاً وأخلاقاً وتقوىً وعبادة، قبل أن تكون ابنة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) جسداً وقرابة.
انطلقت الزهراء (عليها السلام) في مرتبة القداسة وارتفعت إلى مرتبة العصمة، لا تدنّسها الآثام ولا تعلق بها الذنوب.
الزهراء (عليها السلام) تمثّل النموذج الكامل للإنسانيّة المسلمة، التي انفتحت على الله تعالى بكلّ عقلها وروحها وحركيّتها ومسؤوليّتها.
الزهراء (عليها السلام) قطعة من عقل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وإحساسه وحركيّته ورسالته لأنّها كانت صورته.
عندما نذكر الصدّيقة الطاهرة(*)
عندما نذكرها سواء في ذكرى ولادتها وهي تنفتح على الحياة، أو في ذكرى وفاتها وهي تنفتح على رحاب الله لتلتقي في أقرب موعد بأبيها رسول الله، عندما نتذكّرها وهي لم تتخطَّ شبابها، بل ربّما فارقت الحياة وهي في وسط الشباب، عندما نتذكّرها وهي الإنسانة التي كانت رسالة متحرّكة في عقلها، وفي روحها، وفي فكرها، وفي علمها وزهدها، وعبادتها وصلابتها، وقوّتها في الحقّ، عندما نتذكّرها نتذكّر هذه الصدّيقة الطاهرة التي كانت الطهر كلّه، وكانت العصمة كلّها، وكانت الحقّ كلّه.
هذه الإنسانة التي عاشت المعاناة منذ طفولتها الأولى كأقسى ما تكون المعاناة وانفتحت على المعاناة حتّى وهي زوجة لعليّ (عليه السلام) في كلّ متاعبها في بيتها وفي مجتمعها، وعاشت المعاناة في فقدها لأبيها التي كانت منه العقل من العقل، والروح من الروح، والحياة المنفتحة على حياة الرسالة، بحيث تمتزج الحياتان معاً في خطّ الإنسانية في روح الرسالة، وعاشت المعاناة كذلك في بيتها وفي نفسها، وفي القضية الكبرى التي دافعت عنها كأقوى ما يكون الدفاع.
لم تعش لنفسها
إنَّ خلاصة حياة هذه الإنسانة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في أنّها لم تعش لنفسها لحظة واحدة، وإنَّما عاشت لأبيها رسول الله، ولزوجها وليّ الله، ولولديها اللّذين هما إمامان إنْ قاما وإنْ قعدا، ولم تعش لهم قرابة فقط، ولكنّها عاشت لهم رسالة، ولذلك كانت الرسالة تجري معها وتسير معها، وكانت تطلّ على الناس كلّهم لتفكِّر بآلام الناس قبل أن تفكِّر بآلام نفسها. وهكذا كانت ابنة رسول الله في رسالته كما هي ابنة رسول الله في نسبه. فتعالوا لنتحدَّث من خلال حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في شأنها ممّا رواه الفريقان من المسلمين. ولعلَّ أفضل من نظم في الزهراء (عليها السلام) هو أمير الشعراء "أحمد شوقي"، حيث قال:
ما تمنّى غيرَها نسلاً ومن يلدِ الزّهراءَ يزهدْ في سواها
لماذا الاهتمام بالزّهراء (عليها السلام)
وهذا هو الذي يجعلنا ـــ أيُّها الأحبّة ـــ نهتمّ بذكرى الزهراء (عليها السلام)، لأنَّنا عندما نذكرها نذكر قضيّة الرسالة، وكيف كانت الزهراء (عليها السلام) فيها، ونذكر خطّ الحركة الإسلامية في القضايا المتحرّكة في داخل الإسلام التي كانت الزهراء عنصراً حيويّاً فيها، إنَّنا نتذكّرها في ذلك كلّه لأنَّ هناك أشخاصاً في التاريخ ينتهون عندما يموتون لأنَّ حياتهم تختصر في داخل ذاتهم، وهناك أُناس يبقون في الحياة حياة تنفتح على رسالتهم ليبقوا ما بقيت رسالتهم، وفاطمة الزهراء (عليها السلام) من هؤلاء، ذلك أنّك لا تستطيع أن تذكر رسول الله إلاّ وتذكرها، ولا تستطيع أن تذكر عليّاً (عليه السلام) إلاّ وتذكرها، ولا تستطيع أن تذكر طفولة الحسن والحسين وزينب (عليهم السلام) إلاّ والزهراء هي سرّ الطهر في طفولتهم. لذلك ندعو إلى أن تبقى الزهراء في عقولنا وفي قلوبنا رسالة وفكرة لا مجرَّد دمعة، لأنَّنا لا نملك إلاّ أن ننفتح عليها بدموعنا، ولكن الأكبر من ذلك أن ننفتح عليها برسالتها، لأنَّها عاشت كلّ دموعها للرسالة ولم تعشها لنفسها طرفة عين، وهذا هو سرّ أهل البيت (عليهم السلام) في أنّهم عاشوا للإسلام كلّه، ومن هنا فإنَّ علينا أن نوظِّف كلّ ذكراهم من أجل الإسلام كلّه.
الزهراء (عليها السلام) في كلمات الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)
عندما نريد أن نستنطق الزهراء (عليها السلام) في كلمات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فنحن نلتقي أوّلاً بــ "البخاري" في سنده عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "فاطمة بضعةٌ منّي مَن أغضَبَها فقد أغضَبني"، ونلتقي بمسلم صاحب الصحيح، "إنَّما ابنتي فاطمة بضعةٌ منّي يُؤذيني ما آذاها"، وفي روايةٍ أخرى لمسلم: "إنَّما ابنتي بضعةٌ منّي يُريبُني ما رابَها، ويؤذيني ما آذاها".
عندما نريد أن نستنطق هذه الأحاديث، ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) كما عرَّفنا الله إيّاه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ـــ 4].
وحيٌ في القرآن يُنزله الله آيات، ووحيٌ في عقله يركّزه الله بالحقيقة في المفاهيم، ووحيٌ في سنّته عندما يحرّك سنّته لتكمل خطّ الكتاب، وهو الصادق الذي لا يتقوَّل على الله {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 ـــ 46].
لذلك عندما يتكلَّم فإنّه لا يتكلَّم عاطفةً ليعطي القيمة من خلال العاطفة، ولكنّه يتكلَّم رسالةً ليعطي القيمة من خلال الرسالة، هو بشرٌ يحضن ابنته كما يحضن أيّ بشر ابنته، ولكن عندما يعطي القيمة من خلال الرسالة، فإنّه بشر يوحى إليه.
ولذلك عندما يقول: "بضعةٌ منّي" فما معنى أن يكون إنسان ما قطعة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)؟ معناه أنّه يرتبط برسول الله ارتباطاً عضويّاً كما لو كان جزءاً حيّاً في جسده، وعندما يكون شخص قطعة من رسول الله فإنَّ عقله يختزن بعضاً من عقل رسول الله، وإنَّ روحه تختزن بعضاً من روح رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وإنَّ حياته تختزن الطهر والنقاء والصفاء والروحانيّة والصدق والأمانة من كلّ حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وعندما يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "مَن أغضبها فقد أغضبني، ومَن آذاها فقد آذاني"، فإنَّ أصحاب الرسالات لا ينفعلون عاطفياً عندما يُغضِب الناس أولادهم بالحقّ، فإذا كنت أباً صالحاً وأغضب الناس ولدك لأنّه أساء ولأنّه أذنب فهل يجوز لك بأن تتحدّث عن أن من يُغضب ولدك يُغضبك؟ لا يمكن ذلك.
إذاً فمعنى ذلك أنّ فاطمة (عليها السلام) هي المرأة التي لا يمكن أن تسيء إلى أحد، ولا يمكن أن تسيء في قول أو في عمل، حتّى يكون للنّاس الحقّ في إيذائها، وحتّى يكون للنّاس الحق في إغضابها، بل هي الإنسانة التي لا يملك أحد أن يُغضِبها من خلال ما تثيره من غضب على أساس الانحراف ـــ تقدَّست عن ذلك ـــ، ومعنى ذلك إنَّ فاطمة (عليها السلام) هي الإنسانة التي لا تسيء، والإنسانة التي لا تذنب ولا تنحرف، ولذلك فمن أغضبها فإنّه يُغضِب الحقّ ويُغضِب الخطّ المستقيم.
هكذا أفهم كلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "مَن أغضبها أغضبني، ويؤذيني ما آذاها"، وهي لا تتأذّى إلاّ عندما يُعصى الله ولا تتأذّى إلاّ عندما ينحرف الناس عن طريق الله، ولذلك يتأذّى رسول الله بأذاها، وإلاّ كيف يمكن أن يتأذّى رسول الله بأذاها إذا كان أذاها ليس مبرّراً من جانب الحقّ أو من جانب الرسالة؟!
أشبه الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)
ثمّ نتابع في كتاب "الاستيعاب" وهذه ليست مصادر شيعيّة، لنبيِّن من خلال ذلك أنّها تمثّل مصادر حياديّة، لأنَّ بعض الناس قد يتّهم الشيعة بأنَّهم يتحدّثون بعاطفتهم، ففي "الاستيعاب" لابن عبد البرّ بأسانيده كما يقول، عن عائشة أمّ المؤمنين أنّها قالت: "ما رأيتُ أحداً كان أشبهَ كلاماً وسَمْتاً وهَدْياً ودلاً برسول الله من فاطمة، وكانت إذا دخَلتْ عليه قامَ إليها فأخذَ بيدِها فقبَّلها وأجْلَسها في مجلِسه، وكانت إذا دخَلَ عليها قامتْ إليه فأخذَت بيدِه فقبَّلها وأجلَسَتْه في مجلسها".
عندما ندرس هذا النصّ سواء ممّا ورد عن عائشة في الاستيعاب أو في سنن أبي داود ماذا نفهم؟ إنّه يوحي بعمق العلاقة الروحية بين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وبين فاطمة (عليها السلام)، لأنَّ رسول الله لم يفعل ذلك مع غيرها، ولم تفعل ذلك مع غيره، ولكنّه فعله معها وفعلته معه، لماذا؟ لأنَّ العلاقة بين فاطمة الزهراء (عليها السلام) وبين رسول الله بدأت منذ طفولتها الأولى، ربّما لم تحدّثنا السيرة عن طفولتها مع رسول الله في حياة أُمّها ولكنَّ السيرة النبويّة الشريفة حدَّثتنا عن طفولتها بعد وفاة أُمّها وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وحيداً في بيته، مات عمّه "أبو طالب" الذي كان يرعاه ويحميه من عنف قريش، وماتت زوجته "خديجة" أُمّ المؤمنين التي تعيش معه وله بكلّ وجودها، وأصبح يعيش الوحدة تماماً.
أُمّ أبيها
كما عاش الوحدة عندما افتقد أُمّه وهو رضيع، والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو الممتلئ بمحبّة الله كان بشراً يحتاج إلى الحنان والعاطفة والمحبّة كما يحتاجها البشر، وليس ذلك نقصاً في ذاته، وليس ضعفاً في ثقته بنفسه وامتلائه بربّه، ولكن ـــ أيُّها الناس ـــ إنَّ النبيّ يجوع كما نجوع ويعطش كما نعطش، ونحن نجوع إلى الحنان عند حاجتنا إلى الحنان، ونحتاج أن نشبع منه، كما نجوع إلى الغذاء ونحتاج أن نشبع منه، وكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يريد اللّمسة الحلوة والاحتضان الرقيق، وتفرَّغت الزهراء (عليها السلام) بكلّ ما في قلبها من حنان وعاطفة، وطهر ونقاء وصفاء واحتضنت حياته، واحتضنت كلّ متاعبه في رسالته، حتّى اكتشف النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّ أُمّه قد بُعِثَت من جديد وانطلقت كلمته الخالدة "إنَّها أُمّ أبيها".
ربّما حاول البعض أن يُصوّر حديثنا عن هذه الأمومة التي انفتحت فاطمة من قلبها وروحها على أبيها من خلالها، أنَّنا نتحدّث عن ضعف في النبيّ، وقد يحمل ذلك كالذين يحملون الكلام على الأسوأ، أنّها تسيء إلى كماله وعصمته، ولكن أيُّها الناس هل تنافي العصمة أن يجوع النبيّ ويربط حجر المجاعة على بطنه، أن يظمأ النبيّ ويشرب الماء ليستقي به، فكذلك جوع الحنان وشبع الحنان وظمأ العاطفة وارتواء العاطفة، وقد لا يعي الناس هذه المعاني التي أكّدها الله سبحانه وتعالى عندما تحدّث عن حزن النبيّ، وتحدّث عن ذهاب نفسه حسرات من أجل قومه، وتحدّث عن كثير ممّا يعانيه من مشاعره التي تبقى مشاعر الإنسان. وهذا ما يفسّر عمق هذه العلاقة التي امتدّت حتّى وفاته (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فلقد كان هناك عشق روحي متبادل، وربّما نستطيع أن نؤكّد أنّ هناك وحدةً تمثّل هذا الاندماج الروحي بين الزهراء (عليها السلام) وبين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
ثمّ نتابع في نفس الجوّ وفي عدّة روايات "إنَّ فاطمة أقبلَتْ ما تخطئ مشيتُها مشيةَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)"، تأثّرت به حتّى في طريقة مشيه، لأنّه كان أستاذها وكان المربّي لها وكان المعلِّم لها، وكان الذي يعطيها في كلّ يوم خُلُقاً من أخلاقه وروحاً من روحه، وعقلاً من عقله، كانت معه في مكّة في اللّيل والنهار يناجيها وتناجيه، ومن هنا كان علم فاطمة من علم رسول الله، كما كان علم زوجها من علم رسول الله، لم يتحدّث التاريخ عن أستاذ لفاطمة (عليها السلام) غير رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) كما لم يحدِّثنا التاريخ عن أستاذ لعليّ (عليه السلام) غير رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
عندما نقرأ عليّاً وفاطمة نقرأ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)
ومن هنا كان زواج عليّ من فاطمة بعد ذلك، كان زواج التلميذ الذي تلقَّى من نفس المصدر من التلميذة التي تلقّت من نفس المصدر، وكان هذا هو الذي جعلهما يعيشان الانسجام في عقلَيهما، وفي روحَيهما، وفي أخلاقيَّتهما، وفي كلّ سلوكهما الروحي، لأنَّ الأستاذ واحد، ولذلك فإنَّنا عندما نقرأ عليّاً إنَّما نقرأ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في عليّ، وعندما نقرأ فاطمة فإنَّنا نقرأ شيئاً من رسول الله في فاطمة (عليها السلام).
روى الحاكم في "المستدرك" وهو الذي استدرك على الصحيحين بسنده عن أبي ثعلب قال: كان رسول الله إذا رجع من غزاة أو سفر أتى المسجد فصلّى فيه ركعتين شكراً لله على أنّه أرجعه من سفره، ثمّ ثنّى بفاطمة ثمّ يأتي أزواجه"، ممّا يعني أنّ فاطمة تقف في المركز الأوّل في علاقته بالناس حتّى في علاقته بزوجاته.
وبسنده أي سند الحاكم في "المستدرك": "أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) كان إذا سافر كان آخر الناس به عهداً فاطمة"، أي آخر من يلتقيه هو فاطمة، لتبقى صورة فاطمة وليبقى حنان فاطمة، وعاطفة فاطمة التي تفيضها عليه معه في سفره يعيش فيه ويرتاح له، "وإذا قَدِم من سفرٍ كان أوّل الناس عهداً به فاطمة"، لأنّه كان يعيش الشوق إليها كما لم يعش الشوق إلى أيّ إنسانٍ آخر، ولذلك كان يعبّر عن حرارة هذا الشّوق باللّقاء بها، أوّل من يلتقيه من الناس.
وفي "الاستيعاب" بسنده: سُئِلت عائشة أم المؤمنين: "أيّ الناس كان أحبّ إلى رسول الله؟! قالت: فاطمة"، يقول الراوي: "قلت: من الرجال؟ قالت: زوجها، إن كان ما علمته صوّاماً قوّاماً"، وهذه شهادة منها لعليّ (عليه السلام).
الصدّيقة
وروى أبو نعيم في "الحلية" بسنده عنها: "ما رأيتُ أحداً قطّ أصدق من فاطمة غير أبيها"، إنّها الأصدق التي لم يقترب أحد من المسلمين ليكون أفضل منها، وهذه درجة توحي بأنّها اندمجت برسول الله في الصفة المميّزة لرسول الله، فلقد كان الصدق صفة رسول الله التي هيّأت الأجواء لنبوّته في نفوس الناس وركّزتها على قاعدة الصدق والأمانة، والصدق يجتذب الأمانة وتعيش الأمانة في داخله، لأنّك عندما تكون صادقاً فإنّك لا يمكن أن تكون خائناً، لأنَّ الخيانة تمثّل نوعاً من غشّ الناس أو غشّ الحياة والغشّ هنا وهناك، لذلك فقد انفتحت على صدق أبيه، وارتفعت بهذا الصدق حتّى كانت الأصدق في الدرجة الثانية، كان أبوها الأصدق في النّاس كلّهم، وكانت الأصدق في الناس كلّهم ما عدا أبيها، لأنّ صدقها مستمدّ من صدق أبيها الذي زرع الصدق في عقلها ليكون فكرها فكر الصدق، وزرع الصدق في قلبها لتكون عاطفتها عاطفة الصدق، وزرع الصدق في حياتها لتكون حياتها صدقاً كلّها.
وكانت وهي الطفلة تتابع أباها وهو يأتي من المسجد، كانت تشعر بمسؤوليتها عنه تماماً كمسؤولية الأُم لولدها، وتذكر السيرة النبويّة الشريفة "إنَّ قريشاً ألقت سلا الجزور على ظهر النبيّ وهو ساجد فجاءت فاطمة"، والظاهر أنّها كانت تتحرّك معه عندما كان يذهب إلى صلاته في المسجد الحرام، "فطرحته عنه"، قد تكون تلك قصّة صغيرة، ولكنّها توحي بكمّ الاهتمام من هذه البنت الطاهرة لأبيها الرسول، بحيث كانت تتابع وضعه وتتابع كلّ ما يقوم به المشركون معه.
معه حتّى في معاركه
وهكذا نتابع متابعتها له بأنّها كانت تخرج معه في بعض معاركه؛ فمن أخبارها بالمدينة: يقول المؤرّخون بأنّه "لمّا جُرِحَ النبيّ يومَ أُحد جعل عليّ ينقل له الماء في ورقته من المهراس وينسك فلم ينقطع الدم"، وهنا كان دور فاطمة (عليها السلام) دور الممرّضة "فأتت فاطمة ـــ فأعطته أوّلاً جرعة من الحنان ـــ فجعلت تعانقه وتبكي وأحرقت حصيراً وجعلت على الجرح من رماده فانقطع منه الدم" وهذا ممّا يوحي بعمق العلاقة والمتابعة منها لأبيها وأنّها هي التي كانت ترعاه، وكان له أكثر من زوجة في ذلك الوقت، لكنّها كانت تشعر أنّها المسؤولة عنه وعن رعايته وتضميد جراحه أكثر من زوجاته المسؤولات عنه.
قصّة زواجها بعليّ (عليه السلام)
وفي الحديث عن زواجها من عليّ (عليه السلام)، وكان عليّ الفقير كأفقر ما يكون الناس، ولقد خطب فاطمة الكبار من المهاجرين، وكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول كما تقول الرواية "أنتظرُ أمرَ ربّي" وقيل لعليّ "لِمَ لم تخطب فاطمة" وكان يستحي من ذلك، وجاء إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وحدّثه عن ذلك وانفرجت أسارير رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فكأنّما كان ينتظر ذلك، وكأنّه كان يُعدّ لذلك، وقال له ماذا عندك؟ وهو يعرف كلّ ما عنده، لأنّه هو الذي ربَّاه، وهو الذي يعرف كلّ ميزانيّته المالية كما يعرف كلّ فضائله العلمية والروحية والحياتية، كان معه في بيته، ولم يكن له بيت منفصل عنه، وكان معه في اللّيل والنهار "وكم من سائل عن أمره وهو عالمٌ".
"ما مَعْك؟ قال معي دِرعي وسَيفي، وهذه الثيابُ التي ألبسُها، وأنتَ تعرِفُ ذلك، قال: "أمّا سيفُك فلا تَستغني عنه، لأنّه السيف الذي تذبُّ به عن الإسلام، وعن وجهِ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ولكن أعطِني دِرعَك"، وبِيعَ الدّرعُ بــ (500) درهم، وكان ذلك مهرُ الزهراء (عليها السلام)، وعاشا كأفقر الناس، حتّى أنّ الزهراء (عليها السلام) كانت تعاني من الفقر ومن الجهد والتعب والمشقّة في بيتها ما لم تعانه امرأة سواها.
هنا نأتي إلى الحديث عن زواجها وعن قيمته، ففي "كشف الغمّة": روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) جعفر الصادق، قال: "لولا أنَّ الله تبارك وتعالى خلقَ أميرَ المؤمنينَ (عليه السلام) لفاطمةَ ما كانَ لها كُفْؤٌ على وجهِ الأرض"، فلو كانت الكفاءة بالنسب فما أكثر أبناء عمّ النبيّ، ولو كانت الكفاءة في هذا الجانب في الإسلام فما أكثر المسلمين، ولكن هناك سرٌّ في عليّ (عليه السلام) وسرٌّ في فاطمة (عليها السلام)، لا يعلمه إلاّ الله فهو شيء من غَيبه.
ولكنّ هناك شيء يلتقي به عليّ بفاطمة، وهو ما أشرنا إليه وهو أنّهما عاشا معاً مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) علماً وروحاً وأخلاقاً بما لم يعش به أي صحابي أو صحابية، لأنَّ عليّاً وفاطمة كانا معه في اللّيل وفي النهار، وكانا يعيشان معه تماماً كما يعيش الإنسان الذي يستلهم كلّ ما عنده، وكان ينطلق هو أيضاً ليربّيهما على صورته استجابة لنداء الله {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء : 214]. وعندما انكفأت عنه عشيرته كان أقرب عشيرته إليه إيماناً وروحاً عليّ وفاطمة، ولذلك فإنَّ ما يعيشه عليّ من روح ومن انفتاح على الله ومن معرفة بالله، كانت تعيشه فاطمة (عليها السلام).
ومن هنا فإنّنا إذا درسنا عبادة عليّ (عليه السلام) ودرسنا عبادة فاطمة (عليها السلام)، فإنَّنا نجد نفس القوّة والجهد والانفتاح على الله سبحانه وتعالى، ممّا يعني أنّهما يعيان معنى القرب إلى الله سبحانه وتعالى معاً، في هذه الدرجة من معرفة الله ومن الانفتاح على كلّ أسرار قدسه وعلى كلّ صفات غَيبه.
وروى "الصدوق" في "عيون أخبار الرّضا (عليه السلام) بسنده، عن أبي الحسن الرّضا، عن أبيه موسى الكاظم، عن آبائه، عن عليّ (عليه السلام)، وهذه هي سلسلة السند الذي قال عنها الإمام "أحمد بن حنبل": "إِنَّها لو وُضِعت على المجنون لأفاق"، لأنّها من إمام إلى إمام إلى إمام إلى عليّ (عليه السلام) إلى رسول الله، عن عليّ (عليه السلام) أنّه قال: "قالَ لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): يا عليّ لقد عاتَبَني الرِّجالُ منْ قُريش في أمرِ فاطمةَ وقالوا خَطِبناها إليكَ فَمنعتَنا وزوّجْتَها عليّاً، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): ما أنا مَنعتُكم وزوّجتُه بل اللهُ منعَكُم وزوَّجها، ليس الأمرُ أمري في ذلك ولكنّه أمرُ الله سبحانهُ وتعالى".
الإخلاص لزوجها
وهكذا عاشت الزهراء (عليها السلام) حياتها كأيّة زوجة تخلص في كلّ مسؤوليتها الزوجية، لم تميّز نفسها عن أيّة زوجة مسلمة مع زوجها من خلال أنّها ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، كانت مسلمة كأفضل ما تكون المسلمات في مسؤولياتها الزوجية، كانت تطحن وتعجن وتخبز، وكانت تربّي أولادها، وكان أولادها يتتابعون وهي ما هي عليه من الضعف منذ بداية حياتها كما ينقل الذين كتبوا سيرتها، وكانت هناك نقطة مهمّة في هذا البيت الذي ضمّ عليّاً وفاطمة، وهي أنّ الزهراء (عليها السلام) أعطت عليّاً من روحها، ومن استقامتها، ومن عبادتها، ومن زهدها، أعطت عليّاً (عليه السلام) الجوّ الإسلامي للبيت، بحيث كان عليّ يدخل البيت ويرى الإسلام يحيط به من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، لأنَّ الزهراء (عليها السلام) كانت تملأ البيت بذلك كلّه، فكان عليّ يتنفَّس الإسلام في المسجد مع رسول الله، وكان يتنفَّس الإسلام في البيت مع ابنة رسول الله، وكان عليّ أيضاً الزوج المسلم الذي كان مع الحقّ وكان الحقّ معه، كان يُعطي فاطمة (عليها السلام) من عقله، ومن روحه، ومن استقامته، ومن عبادته، ومن زهده هذا الجوّ الإسلامي، فكانت تتنفَّس الإسلام في بيتها من خلال عليّ، وكانت ابتهالاتهما لله، وعبادتهما له، وسجودهما بين يديه، وتنّهداتهما في المحبّة لله والخوف منه، كانت تمتزج ببعضها البعض.
الجار ثمّ الدار
وكانت الزهراء (عليها السلام) تعيش هذا الجوّ الروحي في هذا البيت، حتّى أنّ أولادها كانوا يتنفّسون في طفولتهم ذلك، ويحدّث ولدها الإمام الحسن (عليه السلام) بعد حين وقد كان طفلاً، وكانت تقوم اللّيل، وكان يراقبها، وكان يراها تعبد الله ليلة وليلة، حتّى قال إِنّها كانت تقوم اللّيل حتّى تتورَّم قدماها، ومن الطبيعي أنّ ذلك يكون من خلال طول قيامها، لأنَّ طول القيام هو الذي يضغط على القدمين، وطول القيام يوحي بطول المناجاة وطول الانفتاح على الله، ويصغي إليها ولدها بكلّ طهر طفولته، وفي ركعة الوتر كانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وينتظر هذا الطفل الإمام أن تدعو لنفسها، وهي الضعيفة بدنيّاً والتي عاشت المعاناة في كلّ أوضاعها، فلا يسمع ذلك فيسألها بعد أن تفرغ من صلاتها: "أُمّاه لِمَ لا تَدعِينَ لنفسكِ؟" وأنتِ الأحوج إلى الدعاء، وصلاتك تفيض بالروحانية وهو الجوّ الذي يحقّق استجابة الدعاء من الله لأنَّ الإنسان كلّما أقبل على الله بروحه وقلبه، كلّما أفاض الله رحمته عليه أكثر واستجاب دعاءه أكثر. قالت: "يا بُنَيّ الجارُ ثمّ الدّارُ".
نحن نفكِّر بالمسلمين قبل أن نفكِّر بأنفسنا ولذلك نتحسَّس آلام المسلمين فندعو الله أن يخفِّف آلامهم، ونتحسَّس أحلام المسلمين فندعو الله أن يحقّق أحلامهم، ثمّ بعد ذلك، لعلّ الله يرحمنا عندما يرانا ندعو للمسلمين فيعطينا مثلَ ما نطلب لهم.
وقد خلَّد القرآن هذه الروح التي امتاز بها أهل البيت (عليهم السلام)، فلم تكن وحدها في ذلك، بل كان كلّ أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً، فعاشوا الطهر في الروح والعقل والحياة {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً*إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 8 ـــ 9]. نطعمكم ونبقى جائعين، نطعمكم ونبقى صائمين لم نتناول فطورنا لأنّكم قبلنا ونحن بعد ذلك "الجار ثمّ الدار" {لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً*إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً*فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان: 9 ـــ 11].
وانطلقت فاطمة (عليها السلام) وقد عاشت المعاناة في بيتها من أثر التعب والمرض، فقال لها عليّ (عليه السلام) ماذا لو جئتِ أباك لنطلب منه خادماً يريحك بعض الشيء ويخفّف متاعبك، لكنّها امتنعت لأنّها تعلَّمت أنّ رسول الله هو الذي يبادر، وتعلَّمت أن تعيش مع رسول الله في كلّ أجوائه حتّى أنّها ـــ كما تقول كتب السيرة ـــ لبست قلادة أو إسوارة أهداها إليها عليّ (عليه السلام)، أو أنّها وضعت ستاراً على بيتها جديداً، وجاء رسول الله من سفر فلما رآها أو رأى السوار ـــ حسب اختلاف الرواية ـــ رجع، وفوجئت الزهراء (عليها السلام) أنّها لم تتعوَّد من النبيّ أن يرجع حينما يؤوب من سفره، فتساءلت: ماذا حدث؟ وما الذي تغيَّر؟ فنظرت إلى السوارين أو إلى القلادة أو إلى السوار، ففي رواية أنّها أخذت السوارين أو القلادة وباعتهما واشترت عبداً وأعتقته لوجه الله، وفي رواية أنّها جمعت الستار وأعطته لولديها الحسن والحسين (عليهما السلام) وهما طفلان، وقالت: اذهبا إلى أبي وقولا له: "ما أحْدَثْنا بَعدَك غيرَ هذا فاصنعْ به ما شِئتَ".
فجاءا يدرجان والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) على المنبر، فصعدا المنبر وقدَّما إليه هذا الستار وبلَّغاه رسالة أُمّهما، وهنا ـــ كما تقول الروايات في السيرة ـــ اهتزّت أريحيّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال: "فِداها أبوها، فِداها أبوها.. فِداها أبوها، ما لِآلِ محمَّدٍ ولِلدُّنيا، إنّهم خُلقوا للآخرة".
تسبيح الزهراء (عليها السلام)
ولذلك استجاب عليّ (عليه السلام) على أساس أن يتحدّث هو لا هي عن الخادم ووصلا إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فتحدَّث عليّ (عليه السلام) قائلاً: "إنَّها طَحَنت بالرّحى حتّى مَجِلَت يَداها ـــ أي اخشوشنت ـــ وأثّر في صَدرِها، وكَنَستِ البيتَ ـــ أو كسحت البيت ـــ حتّى اغبرّت ثيابها ـــ وكأنّه قال: وهي تعاني من تربية أولادها ـــ"، وطلب منه خادماً فيما يأتيه من بعض الأسرى.
فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو يخاطب روحيّتهما ليرتفع بهما وليربطهما بالله سبحانه وتعالى لتتخفَّف متاعبها الجسدية من خلال ذلك، قال: "ألا أُعلِّمكما شيئاً إذا فَعلتُماه كانَ خيراً من الخادم، إذا أخذتُما منامَكما فكبِّرا الله (34) مرّة، واحمداه (33) مرّة، وسبّحاه (33) مرّة فهو خيرٌ لكما مِنَ الخادم، فقالا: رَضِينا بالله"!!
وخلَّد الإسلام تسبيح الزهراء الذي نتذكَّر معه متاعب الزهراء (عليها السلام)، ونتذكّر معه أنَّ الزهراء ابتعدت عن متاعبها من خلال تكبير الله وتحميده وتسبيحه، لنعرف كيف هو العيش مع الله وكيف هو ذكر الله عندما يعيش الإنسان آلامه.
وفي رواية رواها "الكافي" بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "لمّا جاءت فاطمة تَشكُو إلى رسولِ الله بعضَ أمرِها أعطاها كربة ـــ أصل السعفة العريض وكان يُكتب عليها، فكان يربّيها على أن تنفتح على العلم والروح أكثر من الانفتاح على الجوانب المادية، قال: "تعلَّمي ما فيها.. فإذا فيها: مَن كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فلا يُؤذِ جارَه، ومَن كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليكرمْ ضيفَه، ومَن كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليقُلْ خَيراً أو يسكُتْ".
وكان هذا هو ما أراده الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لفاطمة (عليها السلام) في تخفيف آلامها، من خلال الانفتاح بآلامه في أجواء القِيَم الإسلامية التي تشغل فكرها فيما تبلّغه للنّاس، ليكون ذلك انتصاراً على كلّ ما تعانيه من قسوة ومن ألم، ومعنى ذلك فيما نستوحيه أنّ على الإنسان أن يكون وعيه لرسالته أقوى من وعيه لآلامه لينتصر برسالته على آلامه، لأنَّ الإنسان إذا عاش الاهتمام بالشيء الكبير فإنّه ينسى الشيء الصغير.
دورها في تعليم المسلمات
ولقد عاشت الزهراء وانطلقت، وكانت ـــ كما ينقل بعض المؤرّخين ـــ تعلّم المسلمات ما تتعلّمه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وينقل صاحب "دائرة المعارف الإسلاميّة": أنّها أضاعت بعض الأوراق التي كانت تكتبها، فقالت لخادمتها "فضّة" وهي التي قامت على خدمتها في أواخر حياتها: "إبحَثي عنها.." لأهميّة هذه الكلمات التي اكتسبتها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ممّا يعني أنّها مع كلّ هذه المعاناة كانت تعيش المسؤولية الإسلامية في تثقيف المسلمات، وكنَّ ـــ أي المسلمات ـــ يأتينها بين وقتٍ وآخر.
وتنقل لنا أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ لها كتاباً يطلق عليه "مصحف الزهراء"، وقد ظنَّ بعض الناس من خلال كلمة المصحف أنّه قرآن غير هذا الذي يقرأه المسلمون، لكنّه قد عبَّر عنه في بعض الأحاديث ـــ كما في الكافي في باب الزكاة ـــ بأنّه كتاب فاطمة، لأنَّ المصحف مأخوذ من الصحف وهي الأوراق، ففي القرآن يقول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18 ـــ 19]، أو كما في قوله: {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} [عبس:13].
فهي الأوراق التي يُكتب فيها، وقد اختلف الناس فيما يشتمل عليه مصحف الزهراء بين قائل أنّه يشتمل على وصيّتها مع بعض الأحكام الشرعيّة، وبين قائل أنّها تشتمل على بعض الغيبيّات، وما إلى ذلك.
وعلى أيّة حال، فإنّه ليس موجوداً بين أيدينا، ولذلك فإنَّ الجدل فيما يتضمّنه وماذا يحويه ليس له أيّة ثمرة، لأنّه ليس موجوداً بين أيدينا حتّى نختلف فيه، وإنّما نأخذ منه ما حدَّثنا أهل البيت (عليهم السلام) عنه، كما نأخذ من كتاب عليّ (عليه السلام) ـــ وهو ليس بين أيدينا ـــ ما حدَّثنا الأئمّة (عليهم السلام) عنه وهكذا بالنسبة إلى "الجامعة"، وإلى "الجفر"، ممّا أثر عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّها مصادرهم.
دراسة خطبة الزهراء (عليها السلام)
ومن هنا كانت الزهراء (عليها السلام) ـــ من خلال كلّ ما تقدَّم ـــ تمثِّل الإنسانة العالِمة، الداعية التي تنفتح على القضايا الإسلامية من موقع الغنى العلمي والروحي، ولعلّنا عندما نقرأ خطبتها في المسجد عندما انطلقت لتطالب بحقّها في "فدك" لا من خلال الناحية المادية، ولكن لأغراض أخرى تتّصل بالقضية العامّة التي كانت تدافع عنها، كانت تنطلق من خلال الدفاع عن حقّ أمير المؤمنين الذي تعتقده ونعتقده في مسألة خلافة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
وعندما ندرس خطبتها فإنَّنا نجد الفصل الأوّل من الخطبة يمثّل شرحاً للقِيَم الإسلامية وللفرائض الإسلامية ولكثير من الخطوط الإسلامية، ممّا يدلّ على غنىً علمي وثقافي يمكن للإنسان أن يجعل منه متناً لشرح كبير يبيِّن أكثر التعاليم الإسلامية، وهكذا أيضاً عندما دخلت في الجدل القرآني حول إرثها والآيات التي تحدّثت بها كأساس لتأكيد أنّ لها الحقّ في الإرث من أبيها ورفض ما روي عن "أنَّنا معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة"، ذلك يعبّر أيضاً عن ثروة فقهيّة كبيرة تعتمد على القرآن في استنطاقه في الجوانب الفقهيّة.
وعندما نلاحظ حديثها مع المهاجرين والأنصار، فإنَّنا نجد أنّه يمثّل الصلابة في الموقف، ويمثّل القوّة في تحميل المسؤولية، بحيث أنَّنا لا نتصوّرها تلك الإنسانة الضعيفة البدن المنهدَّة الركن، التي يُغشى عليها ساعة بعد ساعة ـــ كما يقولون ـــ ولكنَّنا نتصوّرها المرأة التي تقف أمام الرجال كلّهم مع اختلاف درجاتهم، للتحدّث معهم بالمنطق القوي الذي يقيم الحجّة والذي يردّ الشبهة بما لم نعهده في امرأة قبلها.
ظلامات الزهراء (عليها السلام)
وكانت تعيش آلامها وتعاني الكثير من الظلامات التي يرويها السنّة والشيعة ومنهم "ابن قتيبة" في الإمامة والسياسة.. أنّهم جاؤوا بالحطب ليحرقوا بيت عليّ (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) تهديداً لمن يعتبرونهم معارضة اجتمعت عند عليّ (عليه السلام) كما يقول المؤرّخون، فلقد قيل لقائد الحملة: يا هذا إنَّ فيها فاطمة!!
وفاطمة هي الإنسانة التي التقى كلّ المسلمين على حبّها وعلى احترامها وعلى تعظيمها، لأنّها البنت الوحيدة التي تركها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من بعده، ولأنّها بضعة منه يغضبه ما أغضبها ويؤذيه ما آذاها، فكيف تأتي بالنار لتحرق بيت فاطمة (عليها السلام)، ولكنّه قال: "وإن!!"، ونحن نعتبر هذه الكلمة من أخطر الكلمات التي عبَّر الشاعر المصري "حافظ إبراهيم" في قصيدته العمريّة عن خطورتها، لأنّها تعني فيما تعنيه أنّه لا مقدّسات في هذا البيت فلا مانع من أن يُحرق على أهله.
ولذا فإنَّنا نعتبر أنّ هذه الكلمة تعبّر عن أبشع الظلم على الزهراء (عليها السلام) هذه الكلمة تشير إلى الروحيّة وإلى ما كان القوم يهيِّئون له، وإنَّني أتصوّر لو أنّهم فتحوا باب الحوار الإسلامي والكلمات الطيّبة فإنَّ عليّاً كان إنسان الحوار في كلّ حياته حتّى عندما أصبح خليفة، وإنَّ فاطمة (عليها السلام) هي إنسانة الحوار لأنّ القرآن هو كتاب الحوار الذي تعلَّما منه، ولكنّ الجوّ كان لا يوحي بأيّ حوار.
وعليه، فقد عانت الزهراء (عليها السلام) من ذلك كلّه ولكنّها لم تتحدّث عن ذلك، وإنّما تحدَّث عليّ (عليه السلام) عندما تحدَّث مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بعدما دفن فاطمة وذلك بقوله: "وستُحدّثك ابنتُك عمّا نالَها وما أصابَها بعدَك".
ولقد لاحظنا أنّ ما كان يشغل فاطمة هو القضية الإسلامية العامّة التي كانت تعتقد أنّها القضية الحيويّة التي تمثّل خطّ الإسلام، باعتبار أنَّ عليّاً (عليه السلام) كان يمثّل الإنسان الذي علّمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ألف باب من العلم، يفتح له من كلّ باب ألف باب، وأنّه مع الحقّ والحقّ معه، وأنّه منه بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعده، وأنّه الإنسان الذي عاش حياته كلّها جهاداً في سبيل الله، وكانت ضربته تعدل عبادة الثقلين، وكان الإنسان الذي تربّى مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في كلّ شيء، فكانت ترى فيه الإنسان المؤهّل الذي يقود المسلمين إلى الخير وإلى الانتصار.
حوارها مع الأنصار والمهاجرين
ولقد جاء في "الاحتجاج"، و"معاني الأخبار"، و"شرح النهج" لابن أبي الحديد، وأمال الشيخ، وفي "كشف الغمّة" عن صاحب كتاب "السقيفة": أنّها لمّا مرضت المرضة التي توفّيت فيها، واشتدّت علّتها، اجتمعت إليها نساء المهاجرين والأنصار ليعدنها فسلَّمن عليها، وقلن لها: كيف أصبحتِ من علّتكِ يا بنتَ رسول الله؟ فحَمِدَت اللهَ وسلَّمت على أبيها، ثمّ قالت: "أصبحتُ واللهِ عائفةً لدنياكُنّ قاليةً لرجالكنَّ، لفظتُهم بعد أن عَجمتُهم، وشنئتهم بعد أن سَبرتُهم، فقُبحاً لفُلولِ الحدّ واللّعب بعد الجدّ، وقرع الصفاةِ وصدع القناة، وخَطلِ الآراءِ وزَلَلِ الأهواء".
إلى أن قالت: "وما الذي نَقِموا منَ أبي الحسن، نَقِموا منهَ واللهِ نَكيرَ سيفِه وقلّةَ مبالاتِهِ بحتَفِه وشدّةِ وطأتِه ونَكال وقعتِه، وتَنمُّرَه في ذات الله عزّ وجلّ" إنّها لا تتحدّث عن زوجها ولكنّها تتحدّث عن إمامها الذي يختزن في ذاته كلّ هذه الصفات، "وتاللهِ لو مالُوا عن الحجّةِ اللائحة وزالُوا عن قَبولِ الحجّةِ الواضحةِ لردّهم إليها وحملهم عليها".
قال سويد بن غفلة: فأعادت النساء كلامها إلى رجالهن، فجاء إليها قوم من المهاجرين والأنصار معتذرين وقالوا: يا سيّدة النساء لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن يُبرَم العهد ويُحكمَ العقد لما عَدِلْنا عنه إلى غيره، فقالت: "إليكُم عَنّي"!! فلقد بقيت على صلابة الموقف "فلا عُذرَ بعدَ تعذِيرِكم ولا أمرَ بعد تقصيرِكم".
فعلى هذا الأساس كانت كلّ قضيّتها هي هذه، حتى يقال في بعض الروايات أنّها كانت تطوف على جموع المهاجرين والأنصار لتحدّثهم عن حقّ عليّ (عليه السلام) ونستفيد من هذا بقطع النظر عن خصوصيّات القضايا أنّها كانت تعيش للقضايا الكبرى ولم تعش للقضايا الصغرى، أنّها كانت تعيش الإسلام كلّه، وكانت تعيش الحقّ كلّه، حتّى أنّها كانت قويّة صلبة في هذا المجال؛ لم تُحابِ ولم تُداهِن، ولم تتراجع ولم تضعف في ذلك كلّه.
حوارها مع الخليفتين
وينقل "ابن قتيبة" في "الإمامة والسياسة" حواراً بينها وبين الخليفتين أبي بكر وعمر، قال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما فأتيا عليّاً فكلَّماه فأدخلهما عليها، فلمّا قعدا عندها حوَّلت وجهها إلى الحائط، فسلَّما عليها فلم تردّ عليهما السلام، فتكلَّم أبو بكر، فقال: يا حبيبة رسول الله، والله إنّ قرابة رسول الله أحبَّ إليَّ من قرابتي، وإنّك لأحبّ إليّ من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أنّي متُّ ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقّك وميراثك من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)؟ إلاّ أنّي سمعت أباك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول: "لا نورّث ما تركناه فهو صدقة".
فلم تعلّق على هذه الناحية لأنّها عالجت المسألة في خطبتها، ولأنَّ المفارقة التي تقف أمام هذه المسألة هي أنّه لم يروِ هذا الحديث أحد غير أبي بكر، وثانياً: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي كان يحبّ فاطمة أعظم الحبّ وكان يقيها من كلّ سوء، كيف لم يخبر فاطمة بهذا الحكم الشرعي إذا كان تخصيصاً للقرآن؟ مع أنّ الكتاب الكريم صريح في مسألة الإرث، كيف لم يخبرها ولو على نحو الإشارة ليجنّبها أن تقف هذا الموقف الذي تعترض فيه على رواية تُروى عن رسول الله؟!
حتّى أنّ عليّاً (عليه السلام) جاء وشهد بحقّ فاطمة لكنَّ شهادته لم تقبل، فكأنَّ الزهراء (عليها السلام) قد فرغت من المسألة ولم تُرِد أن تعالجها من جديد بعد أن عالجتها فيما سبق، ولكنّها أرادت أن تقيم الحجّة فيما عرض لها من أذى ومن ظلامة في الأوضاع التي أحاطت بها، فقالت: "أرأيتكُما إنْ حدّثتكُما حديثاً عن رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم، فقالت: نَشَدتُكما اللهَ أَلَمْ تسمعا رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول: رضا فاطمة من رضاي وسَخَطُ فاطمةَ من سَخطي، فمن أحبَّ ابنتي فاطمة أحبّني، ومن أسخطَ فاطمة أسخطني، قالا: نعم سمعناه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فقالت: فإنّي أُشهدَ اللهَ وملائكتَه أنَّكما أسخطتُماني وما أرضيتماني، ولَئِن لقيتُ النبي لأشكوَّنكُما إليه، فقال أبو بكر: وأنا عائذ بالله من سخطِه وسخطِك يا فاطمة، وهي تقول: والله لأدعونَّ عليكَ في كلِّ صلاةٍ أُصلِّيها".
حزنها على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)
كانت تعيش الصلابة في كلّ مواقفها، وكانت تعيش الحزن الكبير على أبيها، وبكت من فراقه وهو حيّ عندما اعتنقته وهو في حالة الاحتضار، فبكت ثمّ اعتنقته ثانية فضحكت، فسئلت بعد ذلك ـــ كما تقول الرواية ـــ فقالت: إنّه أخبرها أوّلاً بوفاته فبكت، وأخبرها ثانية بأنّها أوّل أهل بيته لحوقاً به فضحكت، وانظروا إلى هذه الإنسانة الشّابة، الأُم، الزوجة التي لم تأخذ الكثير من الحياة، كيف هو اندماجها بحبّ رسول الله؟ إنّها تفرح لأنّها لن تفارق حياة رسول الله كثيراً، بل ستلتقي به في أقرب وقتٍ بعد وفاته.
وينقل الرواة في حزنها على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ما رواه "الكليني" بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: "عاشت فاطمة بعد رسول الله خمسةً وسبعينَ يوماً لم تُرَ كاشِرةً ولا ضاحكةً، تأتي قبورَ الشهداءِ في كلّ أسبوع مرَّتين، الاثنين والخميس، فتقول: هاهنا كان رسول الله، وهاهنا كان المشركون"، وفي رواية عن الصادق (عليه السلام): "أنّها كانت تُصلّي هناك وتدعو حتّى ماتت".
وهكذا ـــ أيُّها الأحبّة ـــ عاشت الزهراء حياتها كلّها، وهي الإنسانة التي نعتقد أنّها المعصومة في كلّ ما قالته وكل ّما فعلته.
أوّلاً: لأنّها سيّدة نساء العالمين، ومَن كانت بهذه المنزلة لا تخطئ في قول أو فعل.
ثانياً: أنّها من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجسَ وطهّرهم تطهيراً.
ثالثاً: لأنّنا في دراستنا لحياة الزهراء (عليها السلام) منذ طفولتها حتّى لاقت وجه ربّها لم ترَ أيّ باطل، فكانت المعصومة بإرادتها وبلطف ربّها وإفاضته عليها الكثير من اللّطف، والروحانية والرعاية وما إلى ذلك، عاشت الألم كلّه، والجهاد كلّه، والإسلام كلّه، والقوّة كلّها في خطّ مواجهة القضايا الكبرى، حتّى أنّها أوصت بأنْ تُدفَن ليلاً وأن لا يحضر جنازتها الذين واجهتهم في الموقف، والذين اعتبرتهم لم يقفوا مع قضايا الحقّ.. ليكون دفنها في اللّيل الاحتجاج الأخير بعد وفاتها امتداداً للاحتجاج قبل وفاتها، كما أرادت أن يسوّى قبرها، من أجل أن يكون ذلك دليلاً على كلّ هذه المأساة التي كانت لله، وفي سبيل الله، ومع رسول الله.
وهكذا بقيت فاطمة عليها السلام سيّدة النساء قدوة المؤمنين والمؤمنات في الموقف وفي مواجهة القضايا الكبرى لتقول للجميع: أنّ هناك أكثر من قضية تنتظركم في سبيل الإسلام، وأنّ هناك أكثر من قضية تنتظركم في سبيل وحدة المسلمين، وأنّ هناك أكثر من قضية تنتظركم من أجل الدعوة للإسلام والعمل في سبيله، ليكون الأقوى والأعزّ والأرفع من خلال كلّ ما تملكونه من فكر ومن روح، وفي كلّ ما تتحرَّكون به من خطوات.
كونوا للإسلام.. هذا هو نداء فاطمة (عليها السلام): كونوا للإسلام كما كنتُ للإسلام.. واعملوا من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى.. وإذا كان الموقف يفرض أن تقفوا وتتوحّدوا وتجمّدوا الكثير من القضايا بالرغم من آلام التاريخ ومآسيه، فليكن الإسلام هو الهدف الكبير والعنوان الكبير.
سلام الله عليها يوم ولدت ويوم توفّيت ويوم تبعث حيّة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسئلة وأجوبة حول الزهراء (عليها السلام)
موقع الشخصيات التاريخيّة من واقعنا المعاصر
ـــ هناك مَن يقول إنّ الحديث عن التاريخ وشخصيّاته عملية تحجم دورنا المعاصر في حدود الماضي، في حين أنّ المطلوب هو أن نعيش الواقع بظروفه وأن نكيّف تطلُّعاتنا على أساسه، فيما هو الدور المعاصر للمرأة؟ فما هو تعليقكم على ذلك؟
الماضي على قسمين: فهناك ماضٍ يموتُ.. وهناك ماضٍ يحمل عناصر الخلود والبقاء. لأنَّ الحقيقة التي تعيش في الحياة واحدة، ولذلك ليس للحقيقة عمر، ليس لها ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل.
والأشخاص الذين يعيشون في قلب الحقيقة، والذين تنطلق حياتهم من مواقع القِيَم الروحية والأخلاقية، التي تمتدّ في الزمن، هؤلاء لا يموتون. وهؤلاء لا يشعر الإنسان بأنّهم جزء من الماضي الذي ذهب، بل يرى أنّهم مظهر للزمن الذي يتجدَّد، لأنّهم يتجدَّدون مع الزمن، ويجدّدون الزمن.
ونحن عندما نعيش حياتنا هذه المتحرّكة المتطوّرة التي تضجُّ بالمتغيّرات على كلّ المستويات، نحن في هذه الحياة، قد نحتاج إلى أن نبحث قضية المرأة كإنسان، كيف يمكن أن تعيش المرأة في الواقع، هل في ذاتها نقص في إنسانيّتها وبذلك فإنّها تعيش نقصاً في دورها؟ أو أنّ الإنسانية تتكامل في الرجل والمرأة. فللرجل معنى يغني الإنسانية في خصائصه الذاتية، وللمرأة معنىً يغني الإنسانية في خصائصها الذاتية. وأنّ الإنسانية تتكامل في الرجل والمرأة على أساس أن يحرّك الرجل إنسانيّته ليُغني بها تجربة الحياة، وأن تحرِّك المرأة إنسانيّتها لتغني بها تجربة الحياة.
فالله سبحانه لا يريد للمرأة أن تتحرَّر من أنوثتها، لأنّها جزء من شخصيّتها ويمكن أن يحقّق الكثير من الإيجابيات في حركتها في الحياة. والله لا يريد للرجل أن يلغي ذكوريّته، لأنّه جزء من ذاته، ويمكن أن يحقِّق الكثير من إيجابيات الحياة.
على هذا الضوء سنذكر السيّدة الزهراء (عليها السلام).. هذه الإنسانة التي لم تعش في الحياة إلاّ مرحلة الطفولة والشباب، فهي لم تقترب من مرحلة الكهولة، وإنّما بقيت في ريعان الشباب، على مختلف الروايات التي تتحدّث عن زمان ولادتها. لكنّها عاشت في طفولتها إنسانيّتها كأغنى ما تكون إنسانية الطفل. وعاشت في شبابها إنسانيّتها كأغنى ما تكون إنسانية الشباب.
لم تعبث كما يعبث الأطفال، ولم تَلْهُ لهوهم. عاشت طفولتها مع أُمّها وكان البيت مثقلاً بكلّ أعباء الرسالة.
كانت ترى أباها يأتي من المسجد، وترى أثار التعسّف الذي يمارسه القوم ضدّه، فكانت تُلقى أباها وهي طفلة لتخفّف عنه.. لتزيل عنه بعض الآثار الذي كان يلقيها عليه مردة قومه.
وعندما ماتت أُمّها وهي في الخامسة من عمرها، تكفّلت أن تعطي أباها كلّ شيء يملأ فراغه.
وإذا كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لا يعيش الفراغ الإنساني في شخصيّته من خلال امتلاء شخصيّته بنبوّته، فإنَّ النبيّ بشر عاش كما يعيش البشر الحاجة إلى الأحاسيس العاطفية، إلى حنانِ الأُم، وإلى رعاية الزوجة الممثَّلة بخديجة (عليها السلام)، وكانت فاطمة طفلة آنذاك، واعية وعي الكبار، وشعرت أنّها لا تستطيع أن تعطي أباها، إلاّ كلّ هذا الدفق من الحنان، ومن العاطفة، وعرفنا تأثيرها في أباها آنذاك، عندما كان يتحدّث عنها ليقول عنها أنّها أُمّ أبيها.
ولاحظنا أنّ الزهراء (عليها السلام) عاشت زوجة كأفضل ما تكون الزوجة. لم تحتقر دورها كزوجة تخدم زوجها في البيت، على أساس أنّ ذلك لا يتناسب ومكانتها، بل اعتبرت أنّ عطاءها في داخل البيت يمثّل مسؤوليتها الطوعية لا الإلزامية، لأنّ الإسلام لم يكلّف المرأة بشكلٍ شرعي أن تخدم بيتها، لكنّه أرادها أن تعيشه روحية الرسالة في حركة البيت.
وهكذا رأيناها في أمومتها، ورأينا قساوة الدور بالنسبة إلى جسدها الضعيف، قساوة دورها كزوجة على جسدها، وقساوة دورها كأُمّ على جسدها، لكنّها تحمّلت ذلك واعية صابرة.
ثمّ رأيناها (عليها السلام) تقوم بمسؤولياتها الرساليّة المتنوّعة، فقد حرَّكت الحقّ في ضمير الأُمّة، وقدّمت الدرس الأكبر في التعامل مع الواقع الذي أحاط بالأُمّة بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكانت صاحبة الموقف الذي امتدّ عبر الزمن وظلَّ حيّاً إلى الآن، وسيظلّ كذلك.
إنَّ دراسة تجربة الزهراء (عليها السلام) ليس هو عودة إلى الماضي تريد أن تتحجَّم فيه، إنّما هو استيحاء الماضي من خلال تجربة رائدة صنعتها شخصية معصومة، وإنَّ هذه التجربة لم تكن في يوم من الأيّام مقتصرة على الماضي، بل هي ممتدّة مع الزمن حيّة متجدّدة.
الزهراء قدوة للرجال والنساء
ـــ من خلال دراسة دور الزهراء الرسالي وهي ابنة الرسول وزوجة الإمام عليّ، كيف ترسمون الدور المطلوب من النساء أن يتمسَّكن به في ضوء ذلك؟
في أجواء الزهراء (عليها السلام) لا بدّ من استيحاء فكرة هامّة.. فكرة تنطلق للرجال وللنساء معاً، وهي أنّ الإنسان الذي يملك طاقة ـــ أيّ طاقة من الطاقات ـــ ويعيش دوراً في أيّ مهمّة يريد الله منه أن يقوم بها، لا بدّ أن يقوم بدوره كاملاً غير منقوص، ولا بدّ أن يحرّك طاقاته ليخدم بها الله، ويخدم الناس والإسلام.
إنَّ فاطمة (عليها السلام) وهي ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، كانت في الوقت نفسه، لا تترك دقيقة من وقتها إلاّ وتحرّكها من أجل القيام بمسؤوليّتها، ولهذا فإنَّ علينا أن نفكّر في الحياة، بأنَّنا مخلوقون للعمل وللمسؤولية، لنجعل كلّ عمل وطاقة من طاقاتنا في خدمة الله وفي خدمة الناس، وفي خدمة الحياة.
من فاطمة (عليها السلام) نتعلَّم أنّه عندما يكون الإنسان في موقع متقدّم في المجتمع، فليس له أن يعيش بعيداً عن مسؤوليّته، "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته"(1) وسيُحشر غداً كلّ إنسان أمام الله، ويحاسب على كلّ دقيقة صرفها في بطالة، وعلى كلّ طاقة أضاعها، وعلى كلّ جهد بدّده في غير منفعة.
غداً عندما نقف أمام الله سنعرف قيمة كلّ الوقت الذي نصرفه، وقيمة كلّ الجهد الذي نبدّده، وكلّ الطاقات التي نتركها في الفراغ.
نتعلَّم من خلال فاطمة (عليها السلام) التي عاشت كلّ وقتها، وصرفت كلّ جهدها، وعاشت كلّ دورها، وانفتحت على ربّها، وعلى الإسلام، وعلى الرسالة، وعلى حياتها الخاصّة، ولم تدع جانباً يطغى على جانب.. نتعلَّم كيف نكون قريبين إلى الله.. وكيف نكون منفتحين عليه.. وكيف نجعل حياتنا في خدمة الله.. وفي خدمة الإسلام.
نموذج القدوة ودوره في التثقيف الجماهيري
ـــ لماذا الحديث دائماً عن القدوة وكيف يمكن أن نحرِّك القدوة في تثقيف الواقع لاسيّما فيما يتعلّق بالمرأة، وبالعودة إلى تجربة الزهراء (عليها السلام)؟
المسألة الهامّة في كثير من العناوين الكبيرة، التي تجتذبنا للساحة أو تجتذب الساحة، تتمثّل في: ما هو مدى حركة العنوان الكبير في الواقع، حتّى نؤمن بأنَّ العنوان يمكن أن يتمثَّل حياة متحرّكة في حياتنا.
من هنا قد نحتاج إلى القدوة من خلال الناس، الذين يمنحوننا الإحساس بواقعية القيمة، من البقاء في العنوان الفكري.
لذلك نحن دائماً نبحث في السّاحة، أيّة ساحة، عن الإنسان الذي لا يطغيه المال، لينحرف عن مبادئه من خلال ضغط المال عليه، والإنسان الذي لا يطغيه الجاه، والإنسان الذي يمكن أن يحقّق التوازن في حياته، بين ما هو روحي وما هو مادّي، وما هو اجتماعي، لأنَّ الكثيرين من الناس، قد يحدّثونك عن سقوط هذا التمازج بين المال والروح، أو هذا التمازج بين الشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية، ليستشهدوا لك عن روحيّ عاش وحول المادة، حتّى لا تجد شيئاً للروح في حياته، وشخصية اجتماعية عاشت الفرديّة في كلّ تطلُّعاتها ونشاطاتها، حتّى لا تجد هناك للعنوان المجتمعي شيئاً في شخصيّتها وفي حركتها. لذلك نحن بحاجة إلى أن نرصد واقع القيمة في واقع الناس، الذين يتحرَّكون في خطّ القيمة.
وفي الرجال الكثيرون، ممّن لا تزال الإنسانية تغترف من القِيَم التي عاشوها، بحيث أنّك لا تحتاج إلى أن تقرأ كلماتهم، بل تحتاج إلى أن تستغرق في حركتهم في الواقع، لأنَّ حركتهم هي التي تغني كلماتهم، بدلاً من أن تكون الكلمات هي التي تغني الحركة.
وهكذا نجد في النساء في كلّ التاريخ نقاطاً مضيئة، تستطيع أن تعرّفنا ما يمكن للمرأة أن تختزنه في حياتنا، من غنى في الروح، ومن امتداد في الحركة، ومن انطلاق في الفكر، ومن صلابة في الموقف.
ربّما نحتاج إلى أن نستقدم من التاريخ بعض النماذج النسائية التي تجسّد بعض القِيَم إنْ لم تجسّدها كلّها، لأنَّ هناك حديثاً لا زال التخلّف يردّده ولا زالت الأوضاع المتخلّفة تحرسه، وهو أنّ المرأة إنسان من الدرجة الثانية أو الثالثة، وأنّ التاريخ للرجل، والإبداع للرجل، والقوّة للرجل.
فالمرأة هي عنوان الضعف ـــ هكذا يتحدّثون ـــ وهي عنوان الإنسان المنفعل، وهي عنوان الإنسان الذي لا يستطيع أن يقف في قلب السّاحة.
ربّما نحتاج إلى بعض النماذج الحيّة في التاريخ، لنتمكَّن من أن نواجه مثل هذه الأفكار، من خلال التجربة، لأنَّ الإنسان في كثير من الحالات، إذا أراد أن يعالج المسألة بطريقة تحليليّة، في أكثر من موضوع، فإنّه قد يغرق في متاهات الجدل، الذي يمكن له أن يصوّر الفكرة بأكثر من صورة، من دون أن ينزل إلى عمقها.
ولكن التجربة الحيّة، تعطيك الواقع الذي يبدع الفكرة، فأنتَ لا تحتاج لأن تؤصّل الفكرة في الوعي، إلاّ من خلال أن تقدّم الفكرة، وهي تعيش واقعاً حيّاً متحرّكاً في الأرض، وفي الإنسان.
ونحن نعرف أنّ التجربة هي إحدى المنهجين في عملية المعرفة، فإذا كان العقل التأمّلي يمثّل نافذة على المعرفة، فإنّ التجربة تمثّل نافذة واسعة، وربّما يستطيع العقل أن يُبدع الحقيقة إلاّ في تفاعله مع التجربة، كما أَنّ التجربة لا تستطيع أن تحقّق امتداد للفكرة، إلاّ من خلال العقل.
وفي ضوء ذلك نحن نجد أنّ الزهراء (عليها السلام) عاشت في أبعاد متنوّعة من حركتها، في داخل نفسها، وفي خارج نفسها، وأنّ البعد الروحي لم يُغلق الأبواب، عن البعد الاجتماعي والسياسي والتربوي والعائلي.
إنَّ الإنسان يمثّل طاقة واسعة متنوّعة، يمكن له أن يتحرَّك من خلال عدّة أبعاد في الحياة، فلا يحصر نفسه في بعدٍ واحد، فيمكن أن تكون أنت، أو تكوني أنتِ، يمكن أن نكون شخصية تتحرَّك في أكثر من بُعد، لأنَّ تنوُّع طاقاتنا، يفرض علينا تنوّع عطاءاتنا وأبعادنا في الحياة.
لذلك إنَّنا عندما نتحدّث عن الزهراء القدوة، فإنَّنا نتحدّث عن الروح عندما يسمو، وعن الإنسان عندما يتحمّل المسؤولية، في الدائرة الصغيرة وفي الدائرة الكبيرة، ويخلص للمسؤولية هناك، لا تشغله الدائرة الصغيرة عن الدائرة الكبيرة، ولا تجعله الدائرة الكبيرة يفكّر بتفاهة الدائرة الصغيرة.
لأنَّ الحياة في دوائرها الصغيرة والكبيرة تتكامل، لأنَّ طبيعة الوجود هو ذلك، صغارٌ ينفتحون على كبار، وكبار ينفتحون على صغار، القضايا الصغيرة هي الأساس للقضايا الكبيرة، والقضايا الكبيرة هي التي ترعى القضايا الصغيرة.
لذلك ليست القضية فقط، الزهراء القدوة والمرأة الكاملة، إنّما القصّة الزهراء القدوة، والإنسان الكامل.
إنَّنا نتصوّر أنّ المرأة في إنسانيّتها، كما نتصوّر الرجل في إنسانيّته، الأنوثة والذكورة حالة في الجسد، من خلال التنوُّع الإنساني، ولكنَّ الإنسانية حالة في العقل، وفي القلب، وفي الروح.
وفي حركة الحياة، يتكامل الرجل والمرأة في مسألة بناء المعرفة الإنسانية، وبناء حركة الإنسان، وبناء روحية الإنسان، أنْ نتطلَّع إلى الله، فلا يشغلنا التطلُّع إلى الله عن التطلّع إلى الناس، وأن نتطلَّع إلى الناس فلا يشغلنا التطلّع إلى الناس عن التطلّع إلى الحياة. إنّ كلّ أُفق يمكن له أن يفتح لنا أُفقاً آخر.
أحبُّوا الله لتحبّوا خلقه، وأحبُّوا الناس لتحبّوا الحياة: "الخلق كلُّهم عيال الله فأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله".
موقف الزهراء على المستوى السياسي
ـــ كيف يمكن أن نستوحي مسألة الممارسة النسوية للعمل السياسي من خلال موقف الزهراء (عليها السلام) من الخلافة؟
عندما ندرس حياة السيّدة الزهراء (عليها السلام) فأنّنا نجد أنّها انطلقت لتواجه الموقف من موقع التحدّي وردِّ التحدّي، ولم تقف موقفاً سلبياً حيادياً.
فلقد شعرت (عليها السلام) أنَّ مسألة الخلافة ليست مسألة عليّ (عليه السلام) بل إِنّها مسألة الأُمّة ومسألة الرسالة. وكانت تشعر أنّها مسؤولة أن تحميَ الأُمّة، وأن تحميَ الرسالة.
ولذلك اندفعت في أوّل موقف خطابي لها إلى المسجد، لتتحدّث للمسلمين عن الإسلام، وعن أسرار الإسلام، وعن الواقع الذي عاشه المسلمون، والمصاب الذي حدث في غياب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
ثمّ تحدّثت لهم عن مسألة "فدك"، التي لم تكن تمثّل بالنسبة إليها مسألة مال تريده، ولكنّها تمثّل بالنسبة إليها مسألة منطلق للحقّ، تريد أن تحرّكه هناك.
وتحدّثت عن المسألة الأساسية كما لم تتحدّث امرأة قبلها. ولم تكتفِ بذلك، بل إِنّها واجهت المسؤولين عن هذا الموضوع، بطريقة حاسمة، ثمّ بعد ذلك طافت على المهاجرين والأنصار، لتذكّرهم بحقّ عليّ (عليه السلام). ثمّ جمعت نساء المهاجرين والأنصار في بيتها، وتحدّثت إليهن حديثاً قاسياً عن أزواجهنّ، وكما قلنا أنّها أوصت أن تدفن ليلاً كجزءٍ من الاحتجاج.
هذا الموقف الفاطمي الذي يمثّل الموقف الإسلامي المتحدّي، الذي تقف فيه المرأة لمواجهة الموقف السياسي، وبالطريقة التي تعارض من أجل قضية التغيير.
هذا الموقف يعطينا شرعية حركة المرأة في المجال السياسي، فالزهراء (عليها السلام) من أهل البيت (عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، ولذلك فإنَّ سلوكها في أيّ موقع، يعطينا الفكرة بأنّه يمثّل السلوك الإسلامي الحقّ.
والزهراء عندما وقفت هذا الموقف، لم تقفه من خلال خصوصيّتها الذاتية، ليقال كما يقول بعض الناس هذا تكليف، والزهراء لها تكليف خاص.
فالزهراء تصرّفت كمسلمة مسؤولة. حتّى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يتصرَّف كمسلم مسؤول، وحتّى أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يتصرّفون كمسلمين مسؤولين.
لذلك، فعندما نرى الزهراء تتحرّك في هذا الموقف، فمعنى ذلك أنّ كلّ مسلمة تعيش مثل هذا الموقع، من التحدّي الذي يصيب الواقع الإسلامي، يمكن لها أن تقف موقف الزهراء، ويمكن لها أنْ تتحرَّك في هذه الساحة.
وكما وقفت الزهراء (عليها السلام) نجد أنّ ابنتها السيّدة زينب (عليها السلام) وقفت نفس الموقف لأنَّ المسألة واحدة.. فهناك موقف إسلامي يحتاج إلى دور المرأة، من خلال شخصية المرأة التي يمكن أن تضغط على الواقع، وهنا دور إسلامي يمكن أنْ تتحمّله المرأة، وقد تحمّلته زينب (عليها السلام) باعتبار حاجة الموقف الإسلامي.
موقف السيّدة زينب في كربلاء وبعدها
ـــ ثمّة تصوّر سائد بأنّ العاطفة الفيّاضة عند المرأة تمنعها من القيام بالأدوار المؤثّرة في المواقف الصعبة، كيف نقيم هذه الفكرة في ضوء تجربة السيّدة زينب (عليها السلام)؟
نحن عندما نلتقي بالسيّدة زينب (عليه السلام) فنحن لا نريد أن ندخل في قداسة النسب في نسبها، ولا نريد أن ندخل في فيض العاطفة الذي نحمله لها في قلوبنا، نريد زينب الإنسانة المرأة بعيداً عن كلّ التهاويل، وبعيداً عن كلّ الصفات، نريد أن نتمثّل فيها العناصر الحيويّة، التي يمكن لنا أن نجد من خلالها في هذه الإنسانة، عنصر القدوة التي تجسّد الفكرة.
لا نريد أن نتحدّث كيف كانت طفولتها، وكيف انفتحت على أبيها، فتغذَّت من كلّ فكره وروحه، وشجاعته وصلابته، وكيف انطلقت مع أخويها، تعيش كلّ الأخلاق الإنسانية التي جعلت منهما نموذجين للإنسان الكامل. ولكنَّنا نريد أن نلتقط مواقفها.
في كربلاء كانت زينب (عليها السلام) رفيقة الحسين (عليه السلام) يحدّثها وتحدّثه، فنحن لم نقرأ أنّ هناك حالة مناجاة، بين الحسين وبين أيّ شخص من أصحابه ومن أهل بيته، يفتح فيها عقله وقلبه وشعوره إلاّ مع زينب (عليه السلام).
في ليلة عاشوراء عندما بدأ يحدّثها عن طبيعة المعركة، وعن النتائج الصعبة التي سوف تنتج عن المعركة، وكيف يجب عليها أن توازن عاطفتها فلا تندفع فيها، لأنَّ المستقبل القريب الدامي المأساوي، لا يسمح لزينب أن تعطي عاطفتها حريّتها، العاطفة في الإسلام لها قداسة إنسانية، إنسان بلا عاطفة هو حجر، وعقل بلا عاطفة حالة لا يمكن أن تنفذ إلى وجدان الإنسان.
لكنَّ القضية أنّ هناك موقفاً، إذا تحرَّكت العاطفة فيه، مع كلّ المأساة التي تحيطه، عند ذلك تؤثّر العاطفة تأثيراً سلبياً، لأنَّ القصّة عند ذلك تكون تفصيلاً من تفاصيل العاطفة، فلا يكون هناك شيء جديد.
لذلك عندما ندرس حركة السيّدة زينب (عليها السلام) في كربلاء، في أثناء المعركة، وبعد المعركة، فإنّنا نجد أنّها كانت تعيش صلابة الموقف، كأقوى ما تكون الصلابة.
كانت الإنسانة التي تعيش صلابة الموقف، وعندما كانت تتدخَّل بأسلوب عاطفي، فلكي تحتضن موقف الحسين (عليه السلام) في كبرياء الموقف.. إنساناً أكبر من الألم.
وبعد واقعة الطفّ، ينقل تاريخ السيرة الحسينيّة، أنّها وقفت بكلّ شموخ الإنسان القويّ، الذي يشعر أنّه لا يعيش حالة ذاتية، بل يعيش حالة رسالية.
ولذلك وقفت موقف القوّة إلى جانب موقف العبادة، ووضعت كفّيها تحت جسد الإمام الحسين ـــ كما تروي الرواية ـــ وقالت: "اللَّهمَّ تَقَبَّلْ منّا هذا القربان"، إنّه قربان الرسالة، وقربان القضية في كلّ تفاصيلها، لأنَّ الإنسان الذي يعيش إشراقة الرسالة في قضيّته، لا يفقد إحساسه بالقضية، عندما يعيش في تفاصيل حركة القضية في ساحة الصراع.
وهكذا رأيناها عند ابن زياد في الكوفة، عندما وقفت وهو يحاول أن يتكلَّم بطريقة سلبية، عن الإمام الحسين، وهو يقول لها: كيف رأيتِ صنع الله بأخيك ومرد العتاة من أهل بيته، قالت له: "هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وستقف غداً معهم، وستحاجّ وتخاصم، فانظر لمن الفلج، ثكلتك أُمّك يا بن مرجانة".
إنَّني أتصوّرها وهي تختزن كلّ آلام المأساة.. تقف لتُشعِر هذا الإنسان ـــ الذي يطلّ على النّاس بسطوته ـــ بأنّه حقير، أرادت أن تحقّره من حيث أراد أن يعظّم نفسه، ولذلك لم يجد جواباً إلاّ أنّه أمر بأن يقتل، لولا أنّ بعض أصحابه نصحه بغير ذلك.
وعندما وقفت في مجلس يزيد، وقفت بكلّ كبرياء المرأة الرسالية، وبكلّ عنفوان الإنسانة التي تعيش آفاق الرسالة في الحياة كلّها، وصلابة القوّة في موقفها، وهي المسبيّة ورأس الحسين أمامها، والأطفال والنساء حولها، قالت له: "فَكِدْ كَيْدَك، وناصِبْ جهدك، واسْعَ سَعيك، فإنَّك لن تميت وحينا".
قالت له: إنَّنا أصحاب الرسالة لا أنت، وإنَّ الموقع الذي تجلس عليه ليس موقعك ولكنّه موقعنا.. والله عندما حجب عنّا النصر، لم يحجبه مهانة بنا، ولكنّها سُنّة الله في الحياة، في موازين حركة القوّة والضعف.
من خلال هذه اللّقطات الصغيرة، نستطيع أن نستوحي زينب: المرأة التي تنتصر على ضغط العاطفة على مشاعرها، فتملك أن توازن عاطفتها، حتّى لا تتحرَّك عاطفتها لإسقاط موقفها. وزينب الإنسانة القائدة التي إذا لم يكن لها في مسيرة السبي، من كربلاء إلى الكوفة إلى الشام، لم يكن لها مَن تقوده من الرجال، ولكنّها كانت تقود القضية.
وهناك فرق بين مَن يقود الناس بدون قضية، وبين مَن يقود القضية ليفتح عقول الناس عليها. فالقيادة ليست حركة قوّة يسيطر فيها الإنسان على الناس، ولكنّ القيادة حركة عقل ووعي وانفتاح على الواقع، من أجل أن تمنع الواقع من أن يسقط وينهار، أمام ضغط الذين يريدون أن يصادروه.
لو قتل الحسين (عليه السلام) في كربلاء وأغلق الملف لما حدث هناك شيء. ولكنّ زينب التي كانت تتحرّك بكلّ دراسة للموقف.. وبكلّ وعي وبكلّ صلابة، كانت تعطي القضية من عقلها ووعيها، وإحساسها وقوّتها الشيء الكثير.
ثمّ نتمثّل زينب المعارضة، الإنسانة المؤمنة المحجّبة العابدة الخاشعة، التي تقف في نادي الرجال لتتحدّث بأقوى أساليب المعارضة السياسية، في موقع كانت المعارضة فيه شيئاً غير معهود.
فنحن عندما نلاحظ تلك الفترة، نلاحظ أنّ الناس كانوا لا يملكون أن يعارضوا الشخص الأوّل في المجتمع.
عندما بويع ليزيد وقف من يبايع وحمل سيفاً بيمينه، وصرّة من الدراهم في شماله، وقال من بايع له هذا ومن لم يبايع فله هذا، ولم يعترض أحد!!.
إنَّ هناك فرقاً بين معارضة في موقع لا يجرأ الناس على أن ينبسوا أمامه ببنت شفة، وبين معارضة استهلاكية يمكن لك أن تتحدّث فيها بأيّ شيء.
نحن لا نريد فقط أنْ نتحدّث عن الموقف السياسي المعارض للسيّدة زينب (عليها السلام) عند ابن زياد، أو عند يزيد، لا نريد أن نتحدّث عن هذا كموقف استهلاكي، من مواقف المعارضة الاستهلاكية في البلاد التي تملك فيها حريّة الكلمة، ولكن إذا أردتم أن تعرفوا قيمة الكلمة القويّة المؤنّبة ليزيد ولابن زياد، تصوَّروا كثيراً من أنظمتنا العربية، أن يقف إنسان أمام ملك مطلق السلطة، أو رئيس مطلق السلطة في واقعنا العربي، أو واقعنا في العالَم الثالث.. تصوَّروا كيف تكون المعارضة، حتّى تفهموا قيمة معارضة السيّد زينب (عليها السلام) في الواقع.
منزلة المرأة في الإسلام
ـــ من خلال مراجعة الأدوار التي قامت بها الزهراء (عليها السلام)، كيف تتصوَّرون حركتها بما يقدّم صورة عملية لدور المرأة في الحياة؟
هناك فرق بين ما أعطاه الله في تشريع الإسلام للرجال، وفي ما أعطاه للمرأة في القضايا التنظيمية، على مستوى العلاقة الزوجية، وعلى مستوى باقي العلاقات العامّة في الحياة، باعتبار أنّه راعى دور الأمومة عندها، فلم يحمّلها من المسؤوليات الكثير، وراعى في الرجال مجالات السّعة فأعطاهم بعض الشيء {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة : 228].
ولكن في المجالات العامّة للمسؤولية، كالقرب من الله، والفضل عند الله، والفضل في العلم، والفضل في الكفاءة، وفي كلّ المجالات التي يمكن أن تقوم بها المرأة، فحينئذٍ لا يكون الرجل أفضل من المرأة، على العكس قد تكون أفضل من الرجل إذا كانت أكثر علماً منه، وقد تكون أفضل من الرجل إذا كانت أكثر جهاداً منه، وإذا كانت أكثر تحمُّلاً للمسؤولية منه، والرجل أيضاً يفضل على المرأة بذلك وقد يتساويان.
ونرى أنّ الله سبحانه وتعالى عندما حدّثنا عن نشأة الخلق وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء} [النساء : 1].
وعندما أطلق المسؤولية في الحياة، لم يفرّق بين امرأةٍ وبين رجل {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} [آل عمران : 195].
وهكذا نجد أنّ الله يحدِّثنا في مجال ثوابه: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب : 35].
لم يفرِّق الله في ذلك بين النساء وبين الرجال، بل جعل الرجال كالنساء، عندما ينطلقون معاً في الإخلاص للإسلام والإيمان، والقنوت لله، والصدق في القول والموقف، والصبر في الشدائد، والخشوع لله، والتصديق، والصيام، والعفّة.
وهكذا عندما أراد الله للرجل أن يخضع لحكم الله، أراد للمرأة بنفس المستوى أن تخضع لحكم الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب : 36].
وهكذا الأمر عندما حدّثنا الله تعالى عن المسؤولية في الحياة العامّة، وفي الدعوة إلى الله، وفي الوقوف ضدّ الانحراف، وفي الوقوف أمام التحدّيات: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ...} [التوبة : 71].
ليس هناك فرق في المسؤولية إذا احتاج الإسلام إلى المرأة، فهي مسؤولة أن تتحرَّك، وإذا احتاج إلى الرجل، فهو مسؤول أن يتحرَّك. وهكذا عندما يراد للإسلام أن يُدعى إليه، فالمرأة لا بدّ أن تكون داعية، كما لا بدّ للرجل أن يكون داعياً، وهذا ما نثيره في كلّ الأجواء العامّة.
قد نحتاج إلى كثير من المراحل حتّى تتحمّل المرأة مسؤوليّتها، كما يتحمّل الرجل مسؤوليته، في كلّ جوانب الحياة التي يُراد أن يُقاوم فيها معروف أو يُراد أن يُهدَم فيها منكر. فعندما حدَّثنا الله عن المسؤولية في الحالات المنحرفة، قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا...} [المائدة : 38]، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ...} [النور : 2].
ولم يفرّق بين المرأة وبين الرجل في جريمة الزنى. الرجل والمرأة يجلدان إذا كانا غير محصنين، ويرجمان إذا كانا محصنين. والسارق والسارقة تقطع أيديهما عندما يكون الحكم الشرعي هو قطع يد السارق، فلم يفرِّق الله بين المرأة وبين الرجل في ذلك.
كما أنَّ الله سبحانه قد جعل المرأة مثلاً.. فالمرأة الكافرة مثلٌ للذين كفروا من الرجال والنساء، والمرأة المؤمنة مثلٌ للّذين آمنوا من الرجال والنساء {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ*وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ*وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 10 ـــ 12].
إنَّ الله ضرب المرأة الصالحة مثلاً لكلّ الناس، والمرأة غير الصالحة مثلاً لكلّ الناس، فالمرأة يمكن أن تكون مثلاً للمجتمع كلّه، وقدوة في كلّ المجالات الحياتيّة.
إنَّنا نأخذ من خلال ذلك فكرة أنّ المرأة كالرجال في المسؤولية، ولكنّ الله نوَّع المسؤولية في بعض مجالات حياة المرأة، ونوَّع المسؤولية في بعض مجالات حياة الرجل.
والله سبحانه وتعالى عندما جعل شهادة امرأتين في مقابل شهادة رجل واحد، لم يكن ذلك لنقص في عقل المرأة أو إنسانيّتها، بل لزيادة في عاطفتها، ولذا قال: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282].
وهكذا نجد من خلال ذلك أنّ المرأة يمكن أن تبلغ عند الله من المنزلة ما لا يبلغه الرجل، ويمكن أن تبلغ بعملها وكفاءتها وجهودها وجهادها ما لا يبلغه الرجل، لأنَّ قيمة كلّ امرئٍ ما يحسنه. إذا كانت المرأة أكثر جهاداً من الرجل، كذلك هي أفضل في هذا الجانب {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر : 9] من الرجال أو من النساء.
إنَّنا نستوحي هذه الفكرة الإسلامية من خلال شخصية الزهراء (عليها السلام) التي انطلقت لتكون سيّدة نساء العالمين، لا من خلال نسبها فحسب، ولكن من خلال عملها وشخصيّتها التي تنطلق من عصمتها (عليها السلام).
مسؤولية المرأة في المجتمع
ـــ في المجتمعات الشرقية ينظر إلى المرأة على أنّها تحتلّ موقعاً ثانوياً، ما هي نظرة الإسلام لموقع المرأة، في ضوء دراسة دور فاطمة الزهراء (عليها السلام)؟
المرأة ليست عنصراً هامشياً في حياة الرجل، وإنّما هي إنسان كما هو إنسان، لها حقوق وعليها واجبات، كما له حقوق وعليه واجبات، في داخل الحياة الزوجية، وفي خارج الحياة الزوجية، ولكلّ دور ومجال وساحة في الحياة، وعلى الجميع أن يقفوا، كما قلنا، من أجل أن يواجهوا مسؤوليّتهم أمام الله سبحانه، فيما حمّلهم من مسؤولية، على جميع المستويات، في القضايا الكبرى، وفي القضايا الصغيرة.
فقد يكون من واجب كلّ القائمين على شؤون المسلمين أن يعملوا على توعية المرأة، كما يرفعوا المستوى الثقافي والإسلامي لدى الرجل، لأنَّ المسؤولية عندما تنطلق من كلّ المجتمع، فإنَّ المجتمع يستطيع أن يحلّق بجناحين قويّين، يستطيعان الانطلاق في كلّ الأجواء.
هذا ما نحتاجه... أن لا يكون الرجل متخلِّفاً، وأن لا تكون المرأة متخلِّفة، ولعلّ مشكلتنا كانت هي أنّ الرجل متخلّف، ولذا فرض تخلّفه على المرأة، والمرأة متخلّفة ولذا فرضت تخلّفها على أولادها! وهذا التخلّف المزمن الذي عشنا فيه والذي جعلنا نعيشه في الحياة، بعيداً عن مواقع المسؤولية، وبعيداً عن مواقع مواجهة التحدّيات، بالطريقة التي يريدنا الله فيها أن نواجه التحدّيات، وأن نكون واعين لكلِّ ما حولنا، ولكلِّ حكم شرعي كلّفنا الله به {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب : 36].
لو جاءك الناس كلّهم وقالوا لك: انحرف عن حكم الله، وقال لك الله: استقمْ على حكمي، فعليك أن ترفض الناس كلّهم وتكون مع الله سبحانه وتعالى، لأنَّ على الإنسان أن ينفتح على الله سبحانه وتعالى في كلّ أحكامه.
هذا ما نريده، فأساس الوعي: أن تكون إنساناً مسلماً لا يغشّك الناس بإسلامك، ولا يحرّكونك بعيداً عن خطّ إسلامك، وأنْ لا تخضع للانفعالات إذا ملأ الناس الجوّ من حولك انفعالاً، وأن لا تخضع للعصبية إذا أراد الناس منك أن تقاتل على أساس العصبية، أو تسالم على أساسها، وأن تنفتح على الحياة لتفهم جذور الأشياء، دون الوقوف عند وجهها وظواهرها. وأن تكون إنساناً يفهم عمق المشاكل، ولا يكتفي بالوقوف على سطحها.
هذا أمر نحتاج أن نعيشه على مستوى المرأة، ولهذا لا بدّ لنا من وعي إسلامي.. وعي اجتماعي نفهم فيه المجتمع الذي نعيش فيه، بكلّ علاقاته وبكلّ أوضاعه، فهماً دقيقاً.
دور المرأة في الواقع العام
ـــ دور المرأة في الحياة الزوجية لا يسمح لها بأن تمارِس دوراً في الحياة، كما هو الأمر بالنسبة للرجل الذي يستطيع أن يقدّم الكثير، فما تعليق سماحتكم على ذلك؟
إنَّ الإنسان الذي يعيش دوراً في خصوصيّاته، لا يجب أن يستغرق في هذا الدور لينسى أدواره الإنسانية الأخرى، فالرجل يتحمَّل في حياته المسؤولية عندما يكون أباً وزوجاً، يتحمّل مسؤولية دور الزوج في رعاية زوجته ودور الأب في رعاية أولاده، ولكن هل رأيتم أباّ يقتصر في كلّ حياته على دوره كزوج أو دوره كأب؟ إنّه ينطلق في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، لأنَّ إنسانيّته لا تنحصر في أبوّته، تلك بعض مسؤوليّته. ولكنّ إنسانيّته كجزء من مجتمع وإنسانيّته كطاقة، لا بدّ أن يعطي لهذه الحاجات الإنسانية دوراً في مسؤوليّته، كما يعطي لحاجات الأبوّة أو الزوجية.
وهكذا المرأة زوجة.. والمرأة أم، ولكن الزوجيّة ليست كلّ دورها، والأُمومة ليست كلّ دورها، كما أنَّ الأمومة والزوجية ليست شيئاً ينتقص من شخصية المرأة.
هذا دور يتّصل بمعنى وجودنا الإنساني في حركة التكامل الإنساني، وفي حركة النمو الإنساني، ليس شيئاً غريباً عن إنسانيّتنا ينتقص من إنسانيّتنا، بل هو شيء يمثّل بكلّ متفرّعاته وبكلّ جوانبه، يمثّل العطاء الإنساني بمختلف عناصره، وبمختلف أبعاده، ليس دور المرأة كزوجة هو دور هامشي، وليس دورها كأُمّ هو دور هامشي، بل هو دور في عمق إنسانيّتها.
ولذلك فإنَّ الإسلام اعتبر حركة المرأة في رعاية زوجها، وفي رعاية أولادها، اعتبره جهاداً، كما هو الجهاد، هناك مَن يجاهد على ثغور الوطن، وهناك مَن يجاهد على ثغور الحاجات الإنسانية في داخل الوطن.
وهناك نقطة لا بدّ أن نثيرها أمامنا، وهي أنَّ أغلب الفقهاء يقولون: إنَّ الله لم يفرض على المرأة من ناحية إلزامية حتّى إرضاع أولادها. ولم يفرض عليها خدمة البيت، ولكنّه أراد لها أن تقوم بذلك من خلال حريّتها في إنسانيّتها في حركة العطاء، فالمرأة في الإسلام ليست ملزمة أن تكون ربّة بيت، ولكنَّ روح العطاء في شخصيّتها هو الذي يجعلها تتحرَّك لتؤدّي هذا الدور.
لذلك نقول: إنَّ دور المرأة في بيتها أساسي، ولكنّ دورها في المجتمع أساسي أيضاً.
إنَّ الإسلام لم يرد للمرأة أن تنكفئ بعيداً عن حركة المجتمع، فالمجتمع الذي يحتاج إلى الكثير من الطاقات، يحتاج إلى طاقة المرأة كما يحتاج إلى طاقة الرجل، ويفرض على المرأة أن تنمّي طاقاتها كما يفرض على الرجل أن ينمّي طاقاته.
إنَّ الله سبحانه عندما يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. إنّه لا يتحدّث عن الرجال فقط، بل يتحدّث عن الذين يعلمون من الناس والذين لا يعلمون من الناس رجالاً ونساءً.
وهكذا عندما تواجه المجتمع التحدّيات الكبرى في داخله، في حركة الانحراف في داخله، سواء كان انحرافاً في الحكم أو في السياسة، أو في الاجتماع أو في الأمن، عندما يواجه المجتمع التحدّيات الداخلية، أو عندما يواجه التحدّيات الخارجية، لا بدّ للمرأة أن يكون لها دور في مواجهة التحدّي، بكلّ ما عندها من طاقة، عندما يحتاج المجتمع إلى طاقات التحدّي في شخصيّتها، كما يفرض على الرجل ذلك.
إنَّنا نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة : 71].
وإذا عرفنا أنّ العلم هو أعلى أنواع المعروف، وأنّ العدل هو أعلى أنواع المعروف، وأنَّ التخلُّف والجهل والظلم هو أشدّ أنواع المنكر، فالمرأة مدعوّة إلى أن تتحرَّك في خطّ العلم والثقافة وفي خطّ العدل، كما أنّها مدعوّة لأنْ تتحرَّك ضدّ خطّ الظلم والجهل والتخلُّف والانحراف وما إلى ذلك.
إنَّ الإسلام يعتبر من خلال هذه الآية أنَّ هناك في المجتمع تكاملاً بين دور المؤمنين والمؤمنات في خطّ الإيمان، تكاملاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثورة حركة من أجل المعروف بمعناه الذي يرفع مستوى الناس، والثورة حركة من أجل إسقاط المنكر، بما هو خطّ ينزل بمستوى الناس.
لذلك لا بدّ للمرأة أن يكون لها وعيها الثقافي في كلّ ما يمكن أن تأخذ به من أسباب الثقافة، ووعيها السياسي في كلّ ما يمكن أن تأخذ به من أسباب السياسة، ووعيها الاجتماعي في كلّ ما يمكن أن تأخذ به من أسباب المعرفة الاجتماعية أو الحركة الاجتماعية، حتّى تستطيع أن تكون العنصر الفاعل في حركة المجتمع، وحتّى تستطيع أن تكون الإنسانة التي تتحرَّك إيجاباً في خطّ المجتمع، كما هو الرجل كذلك.
وإذا كان الإسلام يفرض بعض الضوابط الأخلاقية في حركة المرأة في نفسها، وحركتها في الحياة، وحركتها مع الإنسان الآخر، باعتبار أنّ الإسلام ينطلق من قاعدة أخلاقية فيما يحمي الإنسان من نفسه، وفيما يحمي الإنسان من الإنسان الآخر، فإنَّ ذلك ليس مفروضاً على المرأة فحسب، ولكنّه مفروض على الرجل أيضاً.
فالله سبحانه وتعالى عندما تحدّث عن المسلمين، تحدّث عن المسلمات، وعن الصادقين والصادقات، والصابرين والصابرات، وعن الصائمين والصائمات، إنّه تحدّث عن القيمة الأخلاقية والعملية هنا وهنا في الجانب الإيجابي، عن الجنسين معاً.
وهكذا عندما تحدَّث عن القيمة السلبية {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا..}، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ..}، ليس هناك فرق في القيمة الأخلاقية الإيجابية أو السلبية بين الرجل وبين المرأة.
لذلك إذا كانت الأخلاق تمثّل في وجدان بعض الناس قيوداً على المرأة، فإنّها تمثّل قيوداً على الرجل، وهي القيود التي لا تضطهد مَن يتقيَّد بها أو يقيّد بها، ولكنّها تحرِّره من كلّ العناصر السلبية التي تجرّه إلى الأسفل أو تقوده إلى الفوضى.
وهذا هو معنى القِيَم الأخلاقية في الإسلام، وليست القِيَم الأخلاقية في الإسلام فحسب، بل هي القِيَم الأخلاقية في الرسالات كلّها.
الإمام الحسن (عليه السلام)
في الخامس عشر من شهر رمضان نلتقي بالإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) الذي وُلِدَ في السنة الثانية من الهجرة في المدينة، وكان أوّل وليد لفاطمة ولعليّ (عليهما السلام)، وقد حضنه رسول الله، كما حضن بعده الحسين (عليه السلام).
إنَّ الحديث عن الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) سرُّ الروح في آفاقها الواسعة الصافية النقيّة المنفتحة على الله.. وعمق الإنسانية المتحرّكة بالخير كلّه والحقّ كلّه والعدل كلّه.. ومعنى الحكمة في مواجهة حركة الواقع في سلبياته وإيجابياته.. وشمولية العطاء في رعاية المحرومين من حوله.. وسمو الأخلاق التي تحتضن كلّ مشاعر الناس بكلّ اللّهفة الحانية في مشاعرها، وتتحرَّك في مواقع العصمة في سلوكه في نفسه ومع ربّه ومع الناس ومع الحياة.
مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)
عاش الإمام الحسن (عليه السلام) مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في طفولته الأولى ليحتضنه الرسول، فيُلقي إليه في كلّ يوم من عقله عقلاً ومن روحه روحاً ومن خُلقه خُلقاً ومن هيبته وسؤددهِ هيبةً.
تذكر كتب السيرة أنَّ الحسن (عليه السلام) كان يحضر في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وعمره سبع سنين، وكان يستمع إلى جدّه ويحفظ ذلك كلَّه، ويأتي إلى أُمّه فاطمة (عليها السلام) يحدّثها بذلك، وكان عليّ (عليه السلام) يأتي إلى البيت ويجد كلَّ ما تحدّث به رسول الله إلى المسلمين في المسجد عند فاطمة، فيقول لها: من أين لكِ ذلك؟ فكانت تقول: إنَّه من ولدي الحسن (عليه السلام). ممّا يدلُّ أنّه كان ينفتح على علم رسول الله، ويعيش اهتماماته به.
وتحدّثنا السيرة أيضاً أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يلاعب الحسن والحسين ويحملهما على ظهره، ويرفق بهما بكلِّ محبّة واحتضان، لذلك عاشت كلّ روحيّة رسول الله في روحيّتهما.
وجاء في كتب السيرة أنَّ الحسن (عليه السلام) كان أشبهَ النّاس برسول الله خَلْقاً وخُلُقاً، وكان الناس إذا اشتاقوا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بعد غيبته، فإنَّهم ينظرون إلى الحسن (عليه السلام) ليجدوا فيه شمائل رسول الله.
وتذكر كتب السيرة أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يفصل بينهما في الفضل والمحبّة، فقد كان (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول ـــ فيما رواه رواة السُنّة والشيعة: "الحسنُ والحسينُ سيِّدا شبابِ أهل الجنّة". وكان يقول وهو يشير إليهما: "اللَّهم ابغضْ مَن يبغضهما". وهكذا كان يقول: "مَن أحبَّهما فقد أحَبَّني ومَن أبغضهما فقد أبغضني".
وهذا ما انطلق في وجدان المسلمين، فقد كانوا يرون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يرعاهما ويحضنهما ويصبر عليهما، وحين كان إحداهما يصعد على ظهره وهو ساجد كان يطيل السجود، فيقال له: يا رسول الله هل نزل عليك الوحي؟ فيقول لهم: لا ولكنّي أحببت أن لا أزعج ابني في ذلك حتّى ينزل عن ظهري. إيحاءً بالعاطفة التي تشدّه إليه.
ويروي رواة السنّة والشيعة أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: "الحسن والحسين سَيِّدا شبابِ أهل الجنّة"، وعندما نستنطق هذه الكلمة فإنّها تعني أنّ كلّ ما قام به الإمام الحسن (عليه السلام) فإنّه يمثّل الشرعية الإسلامية بكلّ مفرداتها، وأنّ كلّ ما قام به الإمام الحسين (عليه السلام) يمثّل الخطّ الإسلاميّ بكلّ استقامته، لأنَّ مَن كان سيِّداً لشباب أهل الجنّة لا بدّ أن يكون معصوماً في فكره وفي حركته وفي كلّ منطلقاته، وفي الجنّة يوجد الذين اصطفاهم الله تعالى للقرب منه.
ومن هنا فإنّنا لا نحتاج إلى الكثير من التحليل لنعرف شرعية صلح الإمام الحسن (عليه السلام) في دائرة الظروف التي عاشها، وثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في دائرة التحدّيات التي واجهها.
في هذا الجوّ نستطيع أن نطلّ على هذين الشخصين اللّذين لم تنطلق كلمات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من إحساس عاطفي في احتضان الجدّ لسبطيه، لأنّه كما قال الله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ـــ 4].
فللنبيّ إحساسه العاطفي، والعاطفة هي من صفات الإنسان في عمق إنسانيّته، ولكنّ تقييم الأشخاص لا يمكن أن ينطلق من عاطفة نبيّ أراد الله أن يقول الحقّ حتّى في أقرب الناس إليه، وقد قال الحقّ ممّا أوحاه الله إليه في عمّه أبي لهب {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد : 1].
لذلك فعندما يتحدَّث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عن سبطيه بحديث فيه القيمة كأرفع القيمة، وفيه المحبّة كأعمق المحبّة، فإنَّنا لا نجد في ذلك إلاّ معنى الحقيقة في معناه، وإلاّ عاطفة الحقّ في عاطفته.
مع أُمّه الزهراء (عليها السلام)
وعاش الحسن (عليه السلام) مع أُمّه فاطمة الزهراء (عليها السلام) المعصومة بشخصيّتها، وبالإيمان العميق، وبالمعرفة الواسعة، وبالأخلاق العالية، وبالروحانية الصافية، والإرادة الصلبة، والشجاعة الجريئة.. فأخذ منها ذلك كلّه ممّا كانت ترضعه إيّاه من لبن الروح والجسد، وكان يناجيها وهو يتطلَّع إليها بكلّ صفاء طفولته ونقاء روحه وهي تقوم اللّيل حتّى تتورَّم قدماها، وكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وينطلق الحسن ليقول لها: يا أُمّاه لِمَ لا تدعين لنفسك؟ فتقول: يا بُنيّ الجار ثمَّ الدار.
ويختزن الحسن (عليه السلام) هذه الروح المنفتحة على الناس في كلّ همومهم وفي كلّ آلامهم، وفي كلّ أحلامهم وفي كلّ قضاياهم، قبل الانفتاح على النفس.. وذلك هو سرُّ الزهراء (عليها السلام)، وذلك هو سرُّ أهل البيت (عليهم السلام) الذين يعيشون للنّاس قبل أن يعيشوا لأنفسهم.
مع أبيه الإمام عليّ (عليه السلام)
وانطلق مع أبيه (عليه السلام) القمّة في العلم والفكر والروح والإيمان والزهد والتقوى والشجاعة والرساليّة الممتدّة في كلّ مجالات حياته، والمحبّة لله ولرسوله، والانفتاح على الإسلام والمسلمين بكلّ عناصر شخصيّته، أمين الله في أرضه وحجّته على عباده، في كلّ ما عاشه وفي كلّ ما انطلق فيه، فقد باع نفسه إلى الله، وكان يقول للنّاس: "ليس أمري وأمركم واحداً. إنّي أُريدكم لله وتريدونني لأنفسكم".
وكان يقول وهو يحدّق في حركة المسلمين في كلّ أوضاعهم المعقدّة: "لأسلمنَّ ما سلِمَتْ أُمور المسلمين ولم يكن بها جورٌ إلاّ عليَّ خاصّة"، وكان يقول: "ما تَرَكَ لي الحقّ مِن صَدِيق".
وهكذا عاش الحسن معه ابناً يتعهّده بكلّ وصاياه ويرعاه بكلّ روحانيّته، ويتحرّك معه بكلّ ما ينفع مستواه وينمّي عقله، ويغذّي روحه ويركّز موقعه ويثبت موقفه، وصديقاً يسير معه أينما يسير، ويناجيه بكلّ أسراره في اللّيل والنهار، ويدفعه إلى أن يتحمَّل المسؤولية معه في خارج الحكم وداخله، ويعتمد عليه في إفتاء الناس بكلّ ما يشكل عليهم أمره من أحكام الله تعالى، لأنّه يريد أن يعرِّف الناس بأنّه الحجّة بعده، والعالِم بالإسلام كلّه، فلا يخطئ في حكم، ولا ينحرف في فتوى، لأنَّ قوله قوله وفعله فعله.
وكان يعيش عظمة أبيه (عليه السلام) من خلال التجربة الحيّة التي عاشها معه.. ومن خلال المعرفة الواسعة التي استطاع أن يحصل عليها في كلِّ تحديقه وفي كلّ انفتاحه عليه.
فنحن نجده يتحدَّث لأهل الكوفة عن أبيه عندما بعثه لحلّ المشاكل المعقّدة فيها فقال: "أيُّها النّاسُ، إنّا جِئنا ندعوكُم إلى اللهِ وكتابِه وسُنّةِ رسولِه، وإلى أفقه من تفقَّه من المسلمين، وأعدل من تعدلون، وأفضل مَن تفضلون، وأوفى مَن تبايعون، مَن لم يعيه القرآن، ولم تجهله السُنّة، ولم يعقد به السابقة إلى من قربه الله تعالى ورسوله قرابتين، قرابة الدين وقرابة الرحم، إلى من سبق الناس إلى كلّ مأثرة، وإلى مَن كفى الله به رسوله والناس متخاذلون، فقرب منه وهم متباعدون، وصلّى معه وهم مشركون، وقاتل معه وهم منهزمون، وبارز معه وهم محجمون، وصدقه وهم يكذّبون، إلى مَن لم تُرد له ولا تكافأ لهُ سابقة".
لقد عاش الإمام الحسن (عليه السلام) مع أبيه حياةً استطاع من خلالها أن يأخذ كلّ عليّ في عقله، وأن يأخذ كلّ عليّ في قلبه، وأن يأخذ كلّ عليّ في روحه وفي شجاعته وفي أخلاقه، حتّى مضى عليّ (عليه السلام) إلى رحاب ربّه، وتسلَّم الخلافة في ظروف من أصعب الظروف التي تمرّ على إنسان.
فلقد كانت السّاحة مزروعةً بالألغام كما يقال في هذه الأيام، وكانت الساحة النفسية والساحة الاجتماعية والساحة السياسية لا تملك الكثير من عمق الوعي المسؤول، ولا تملك الكثير من الرساليّة المنفتحة على الله، بل كانت ساحة استطاعت أن تزحف إليها كلّ الطفيليّات، وأن تسيطر عليها كلّ الانحرافات، فواجه الموقف بكلّ قوّة.
فقد جاء عن السيوطي في تدريب الراوي أنّه كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كبير في كتابة العلم، فكرههُ كثيرٌ منهم وأباحها طائفة وفعلوها، منهم عليٌّ وابنه الحسن (عليهما السلام).
إنَّ المشكلة التي أُثيرت في عهد عمر بن الخطّاب أنّه منع الناس من كتابة حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بحجّة الخوف من الخلط بينه وبين القرآن، وبذلك خسر الناس الكثير من تراث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ممّا ضاع في صدور الناس الذين فارقوا الدنيا دون أن يُدوِّنوا ما حفظوه عنه.
ولكنَّ عليّاً وولده الحسن (عليه السلام) رأيا أنَّ في ذلك خطراً على الإسلام والمسلمين، لأنَّ سُنّة الرسول تمثّل عدل كتاب الله في القاعدة الإسلامية على مستوى العقيدة.. ففيها تفصيل ما أجملهُ القرآن وفيها توضيح ما أبهمه، لذلك كانت كتابة السُنّة الثابتة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) تمثّل توثيقاً للإسلام في عقيدته وشريعته، بالدرجة التي يمكن أن يجد فيها المسلمون ما يعينهم على حلّ الخلافات والمنازعات الناشئة من ضياع بعض أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهذا هو الخطّ الإسلامي في حركة الثقافة في حياة الإنسان المسلم.
فلا بدَّ للنّاس من الكتابة والتوثيق لكلّ النصوص والأفكار والآراء التي ترتكز عليها العامّة في أصالتها وحركيّتها وامتدادها، ليرجع الناس إليها في الصراع الفكري، ولتنطلق في نطاق المنهج، لأنَّ ضياع الكثير ممّا فكَّر به المفكِّرون وبحثه الباحثون يعطّل الكثير من عملية النمو العلمي والثقافي، لاسيّما في الواقع الإسلامي الفكري الذي قد يكون بحاجة ماسّة إلى الكثير من الثروة العلمية التي يعتني بها العلماء، فإذا ماتوا ماتت بغيابهم.. بينما تبقى بالكتابة والتوثيق زاداً للمستقبل بما تثيرهُ من النقد والتحليل والإبداع.
وهكذا انطلق الإمام الحسن (عليه السلام) مع أخيه الحسين (عليه السلام)، في انفتاحٍ روحي وفكري وعملي، في كلّ قضاياهما ومشاعرهما وتطلُّعاتهما وحربهما وسلمهما، فهما يمثّلان معنىً واحداً في وجودين، وخطّاً واحداً في اثنين، وروحاً واحدةً في شخصيّتين، وذلك من خلال هذه الوحدة الرسالية الروحية التي انطلقت مع جدّهما وأُمّهما وأبيهما (عليهم السلام)، في ذلك البيت الذي هو بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الوحي والتنزيل، وتحت ذلك الكساء الطاهر الذي جلَّلهم به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ودعا ربّه قائلاً: "اللَّهمَّ هؤلاء أهلُ بيتي فأذهِبْ عنهمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرهُم تطهيراً"، فنزلت الآية الكريمة: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب : 33].
وانطلقت كلمة أهل البيت (عليهم السلام) من خلال هذه الآية لتبقى عنواناً لهذه الفئة الطاهرة من خلال ما تعنيه من القاعدة التي تنطلق منها، من حيث هو بيت الرسالة الذي يعيش فيه الرّساليون الأُمناء على وحي الله وسُنّة رسوله، المعصومون في معنى الحقّ في خطّ الرسالة في الفكر والكلمة والمنهج والموقع.
في مواقع المسؤولية
قلنا إِنَّ الحسن (عليه السلام) كان يتقلَّب في أحضان عليّ وفاطمة (عليهما السلام)، وعندما يكون الأستاذان المربّيان مثلَ عليّ وفاطمة، فإنَّنا نعرف طبيعة الإنسان الذي يعيش في حضنيهما، فعاش مع أُمّه فترة صباه الأوّل، ورأى كلّ الأحداث التي حصلت في بيت أُمّه وأبيه وذاق مرارتها.
ثمّ عاش مع أبيه عليّ، ورأى كيف أُبْعِدَ (عليه السلام) عن موقعه الذي جعله الله فيه، وكيف صَبَرَ صَبْرَ الأحرار من أجل قضية الإسلام والمسلمين، حيث كان يسمع أباه يقول: "لأسلمنَّ ما سَلمَتْ أمور المسلمين ولم يكن فيها جَوْرٌ إلاَّ عليَّ خاصّة".
فاختزن الحسن (عليه السلام) كلَّ ذلك، حتّى إذا انطلق شابّاً في خطِّ المسؤولية مع أبيه، أرسله ـــ وهو يثق بعقله وعلمه وروحيّته وإخلاصه ولباقته ـــ إلى الكوفة من أجل أن يَحِلَّ المشاكل التي حدثت على أيدي بعض الناس المعارضين لعليٍّ (عليه السلام)، وقام بالمهمة خير قيام.
وكان الناس يسألون عليّاً عن كثير من أُمور الإسلام في مفاهيمه وأحكامه، فكان يقول لهم: اسألوا ابني الحسن، فإنَّ لديه ما يحلّ مشاكلكم ويعرِّفكم الحقَّ كما هو.
العلاقة مع الله سبحانه
لقد مثَّل الإمام الحسن (عليه السلام) الكمال النبويّ والعَلوي والفاطمي، بحيث كان روحاً تتحرَّك في الواقع.. وتعالوا نستمع إلى بعض حالاته الروحية التي يحدِّثنا بها بعض المؤرّخين، فورد عنه أنّه كان إذا توضّأ ارتعدت فرائصه واصفرّ لونه، وقيل له في ذلك، فقال: حقٌّ على كلِّ مَنْ وقَفَ بين يديّ ربِّ العرش أن يصفرَّ لونه وترتعد فرائصه.
وكان إذا دخل المسجد ووقف ببابه مستأذناً رفع رأسه وقال: "إلهي، ضيفُك ببابك، يا محسنُ قد أتاكَ المسيء، فتجاوزْ عن قَبيحِ ما عندَنا بجميلِ ما عندَك يا كريم".
وكان (عليه السلام) عندما يرى الناس يتطلَّبون الهيبة بالاستعراضات، باستعراض عضلاتهم، واستعراض الناس الذين يمشون خلفهم، أو الذين يريدون العزّة بالكافرين والمنافقين، والقُربَ من الطغاة والمستكبرين، كان يقول لهم: "مَنْ أرادَ عِزّاً بلا عشيرة وهيبةً بلا سلطانٍ، فلينتقلْ من ذلّ معصيةِ الله إلى عزِّ طاعته"، أي كن المطيع لله، ليعطك الله هيبةً من هيبته، وكن المتّقي لله ليعطيك الله عزّاً من عزّته.
هذا ما عبَّر عنه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) حيث علمهم واحد وخطُّهم واحد، فكان يقول: "واعصمني يا ربّ من أن أظنَّ بِذي عَدَم ـــ أي فقير ـــ خَسَاسةً، أو أظنَّ بصاحب ثروة فَضْلاً، فإنَّ الشّريفَ من شرَّفَته طاعتك، والعزيز مَنْ أعَزَّته عبادتُك".
فالذي يطيعك يقرُب إليك، ويكون عزيزاً عندك، وأيّ عِزٍّ أعظمُ من أن تكون قريباً لربِّ العالمين، وأيُّ شَرَفٍ أعظمُ من أن تكون حبيباً لربِّ العالمين، فالله تعالى يحبُّ الذين يطيعونه {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي ـــ في رسالة الله وطاعته ـــ يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران : 31].
ومَنْ حصل على حبِّ الله ربِّ العالمين المهيمن على الأمر كلّه الذي هو على كلِّ شيءٍ قدير، فأيُّ عزيز أعزُّ منه، فالبعيدون عن حبِّه ورحمته، قال فيهم تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً*الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} [النساء : 139] فلا عزَّ إلاّ من خلال عزَّ الله.
لننظر إلى صورة موجزة عن الإمام الحسن (عليه السلام) حيث يصوّره ابن أخيه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) من خلال ما رواه الصادق، عن أبيه الباقر، عن أبيه عليّ بن الحسين (عليه السلام)، ومن الطبيعي أنّ الإمام زين العابدين عندما يصف عمّه فإنّها الصورة الصادقة التي تجعلك تتصوّره كما لو كنتَ تراه، فكيف وصَفَه؟
يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): "كانَ أَعْبَدَ النّاسِ في زمانِه وأزهَدَهم وأفضلَهم، كان إذا حجَّ حجَّ ماشياً، وربّما مشَى حافياً، وكان إذا ذَكَرَ الموتَ بكى، وإذا ذَكَرَ القبرَ بكى، وإذا ذَكر البعثَ والنشورَ بكى، وإذا ذَكَر الممرَّ على الصراط بَكى، وإذا ذَكَرَ العَرضَ على الله تعالى ذِكرُه شَهقَ شَهْقَةً يُغشى عليهِ منها. وكان إذا قامَ في صلاتِه ترتعدُ فرائِصُهُ بينَ يدي ربِّه عزَّ وجلَّ، وكان إذا ذَكر الجنَّةَ والنارَ اضطربَ اضطرابَ السليمِ وسألَ اللهَ الجنَّةَ وتعوَّذَ من النارِ. وكان لا يقرأ من كتابِ اللهِ عزَّ وجلّ: {يَا أَيُّها الّذينَ آمنوا}، إلاّ قال: لبّيك اللَّهمَّ لبّيك ـــ لأنَّه يتحسَّس أنّ الله يناديه كما لو كان يلقي النداء إليه الآن ـــ ولم يُرَ في شيءٍ من أحوالِهِ إلاّ ذاكِراً للهِ سبحانه".
إنَّ هذه الصورة المتمثّلة في هذا الحديث تنفتح بنا على عمق الجانب الروحي في علاقة الإمام (عليه السلام) بالله، بحيث تتحوَّل العبادة لديه في معناها الواسع العميق الذي يمتدّ إلى كلّ حياة الإنسان لتكون ذكراً لله، في الكلمة تارّة، وفي الصلاة والصوم والحجّ تارّة، وفي المواقف الصعبة التي تجسّد التضحية في سبيل الله بكلّ شيء، والمواجهة الصلبة لكلّ التحدّيات المتحرّكة ضدّ الإسلام بكلّ قوّة، والعطاء الذي يشمل كلّ ما يملك حتّى أنّه خرج من ماله مرّتين، وقاسم الله تعالى ماله ثلاث مرّات.
وكذلك التحرُّك في حلِّ مشاكل الناس وقضاء حاجاتهم وهداية ضالهم، وتعليم جاهلهم وتقوية ضعيفهم، فإنَّ ذلك كلّه يمثّل معنى العبادة في سرِّ الخضوع لله في كلِّ شيء، بحيث يرى الله أمامه ليطيعهُ فيما يأمره به، أو ينهاه عنه وليبلغ بذلك رضوانه.
لقد كان الإمام الحسن (عليه السلام) يريد أن يعرف الناس من خلال البكاء هنا والبكاء هناك، أنّ على الإنسان إذا تذكَّر الموت أن لا يتذكّره تذكّر الغافلين، وإذا ذكر القبر أن لا يتذكّره تذكّر اللامبالين، وإذا ذكر المرور على الصراط والوقوف بين يدي الله والجنّة أو النار أن لا يمرّ على ذلك مرور الكرام، أن يبكي بكاء الوعي لا بكاء السقوط.
كان (عليه السلام) يريد للنّاس أن يعيشوا مع أنفسهم عندما يتذكّرون النهاية والمصير، وهذا ما علَّمنا الله إيّاه وذكّرنا به: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 ـــ 2].
وهكذا علينا إذا قرأنا القرآن في "يَا أَيُّها الذّينَ آمنوا، أو يا أَيُّها النّاس، أنْ نتصوَّر أنَّ الله يخاطبنا كما لو كان ينزل الوحي علينا.
لنتصوَّر أنَّ الله ينادينا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
لنقل لربّنا بكلّ وعي عقولنا ونبضات قلوبنا: لَبَّيكَ اللَّهمَّ لَبّيكَ، لبّيكَ لا شريكَ لكَ لبّيكَ، إنَّنا سوف نستجيب لك قولاً وعملاً ومنهجاً في كلّ ما تنادينا به، ذلك هو ما يريدنا أهل البيت أن نعيشه في أنفسنا وحياتنا، وذلك هو خطّ أهل البيت (عليهم السلام).
وهكذا كان الإمام الحسن (عليه السلام) يتمثَّل رحلة الإنسان إلى الآخرة في وجدانه، ليذكّر الناس من حوله بها، ابتداءً من الموت الذي يمثّل نهاية الحياة، والتي تجسّد نهاية العمل الذي يعني انتهاء الفرصة التي كان الإنسان يملكها في خطّ الحصول على رضا الله.. ومن ثمّ النشور في يوم الحشر، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ*وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ*وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ*لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 ـــ 37]، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 ـــ 89]، {يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان : 33]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار : 19]. إلى المرور على الصراط الذي يمثّل الامتحان في القدرة على اجتيازه من خلال الصالحات من أعماله.. إلى العرض على الله فينطلق النداء من قبل الله تعالى في ذلك الموقف: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات : 24]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [النحل : 111].
فيبكي أمام هذه المواقع التي تقرّر مصير الإنسان ليتحوّل البكاء إلى حالة من التأمُّل، والتدبُّر في مصيره يوم الآخرة، ليستعدّ لذلك بالإيمان والعمل الصالح والجدّ والاجتهاد في طاعة الله والانفتاح عليه، فلا يُرضي مخلوقاً بسخط الخالق، ولا يطيع أحداً في معصية الله، بل يكون كلّ شعاره ما قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنْ لم يَكُنْ بكَ غضبٌ عليَّ فلا أُبالي".
ثمّ ينطلق ليعيش معنى عمق النداء الإلهي للمؤمنين {يَا أَيُّها الّذينَ آمَنوا} فيشعر بأنَّ النداء موجَّه إليه، فيدخل في عقله وقلبه وحياته ليصرخ بكلّ أعماقه: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، في عملية إيحائية نفسية بالعزم على الاستجابة العملية في حركة الحياة، في الخطّ الإلهي المستقيم، في قراءته للقرآن في حالة وعي وتدبُّر وانفتاح على آياته، بالدرجة التي يتجسَّد فيها القرآن في كلِّ كيانِه، فكراً وعملاً وامتزاجاً في كلّ الخطوط القرآنية في الإنسان والحياة، ويبقى ذكر الله تعالى في الوعي وفي اللّسان هو الهاجس في كلّ حياته.
إنَّ الإمام الحسن (عليه السلام) ينطلق في ذلك كلّه، من أجل الإيحاء للنّاس جميعاً، بأنَّ الحياة لا بدّ أن تتحرّك في واقع الإنسان المسلم، بحيث يعيش الإنسان مسؤوليّته في الدُّنيا والآخرة كَهَمٍّ دائمٍ مستمرٍّ، وينطلق مع الله في حالة إحساسٍ بحضوره وبوجوده كما لو كان يراه ويتحسَّسهُ أمامه، ليكون ذلك وسيلة من وسائل الارتباط به، في كلّ حياته، ليكون الله الأوّل والآخر في كلّ مجالاتها وأوضاعها الخاصّة والعامّة.
وفي هذا الجوّ نعرف أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) لم يكن الإنسان الذي تشغله لذائذ الحياة وشهواتها، بل كان الإنسان الذي يعيش التوازن الأخلاقي الإسلامي في الحياة، فلا يحرم نفسه طيّبات الحياة الدنيا، ولا يستغرق فيها، بل يأخذ منها بالمقدار المتوازن.
وعلى ضوء هذا فإنَّنا لا نتّفق مع بعض الرّواة الذين تحدَّثوا عن كثرة زوجاته بشكلٍ خيالي، من هؤلاء الذين لا يملكون الوثاقة في السلوك ممّن يستغلّهم السلطان لتشويه الصورة بطريقة وبأخرى، كما كان الحكم الأموي الذي أراد أن يصوِّر الإمام الحسن (عليه السلام) بالشخص الذي يستسلم للشهوات، بحيث يعيش حياته ليتزوّج هذه ويطلِّق تلك بشكلٍ عشوائي مزاجي، ليقدّم معاوية في مقابله شخصاً جادّاً في الموقع القيادي المميَّز الذي يتحرّك من أجل إدارة شؤون الناس.
لقد كان الإمام الحسن (عليه السلام) يعيش في الموقع الأعلى من السلوك الإسلامي، المشغول بالله وبرضوانه وبالانفتاح عليه وبالدعوة إليه، وكانت زيجاته في هذه الدائرة الطبيعيّة التي كانت محدودة بحدود الظروف التي عاشها الواقع آنذاك، ممّا يسير عليه الناس بشكلٍ طبيعي. ولو كان الأمر كما يقولون لكان أولاده بالمئات، بينما لم يُذكر من أولاده إلاّ ثلاثة عشر ممّن يمكن أن يولدوا من أُمٍّ واحدة.
ومن خلال ذلك كلّه، لا بدّ من التدقيق في الروايات التي يرويها لنا المؤرّخون، فقد تكون من وضع الرواة غير الموثوقين، الذين كانوا يضعون الحديث لإرضاء شهوات السلطات الحاكمة، من خلال ما يدفعونه من أثمان، تماماً كما هي الأخبار التي تنقلها الوكالات الإعلامية التي تخضع لأكثر من سلطة أو جهاز مخابرات.
السلوك التربوي الرفيع
روي أنّ الحسن والحسين (عليهما السلام) مرّا على شيخ يتوضّأ ولا يحسن الوضوء، فأظهرا تنازعاً يقول كلّ منهما للآخر: أنت لا تحسن الوضوء، قال: أيّها الشيخ كنْ حَكَماً بيننا، أيّنا يحسن الوضوء؟ فقال الشيخ: كلاكما يحسن الوضوء لكنّ هذا الشيخ الجاهل ـــ وهو يشير إلى نفسه ـــ هو الذي لم يحسن الوضوء وقد تعلَّم منكما، وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على أُمّةِ جدّكما.
إنَّنا نلاحظ في هذه الحادثة أنّ الإمامين الحسنين (عليهما السلام) كانا يفكِّران عند رؤيتهما هذا الشيخ الذي لا يحسن الوضوء مع كِبَرِ سنّه، أنّ هذا الرجل لم تسنح له الفرصة للتعلُّم بحكم ظروفه البيئيّة. فأرادا أن يعلِّماه وهو لا يعرفهما في البداية من دون إساءةٍ إلى مشاعره، فلم يعنِّفاه على إهماله للتعلّم، كما يفعله البعض من الناس في مثل هذه الحالة، فما كان منهما إلاّ أن يوحيا له بالاحترام، وذلك باختياره حَكَماً بينهما في الأفضل منهما في طريقة الوضوء، ممّا جعله في ملاحظته الدقيقة من خلال شخصية الحَكَم، يفهم أنَّ المسألة ليست مسألة خلاف بينهما، بل هي مسألة الأسلوب الحكيم المنفتح على احترام إنسانية الإنسان الآخر في مشروع التربية.
إنَّ علينا أنْ نتعلَّم من هذا الأسلوب التربوي الإسلامي في كلّ مشاريعنا التربوية مع أطفالنا وطلاّبنا، ومع الناس الذين نتولّى وعظهم وهدايتهم وإرشادهم في المسألة الدينيّة العقيدية والسلوكية، وفي المسألة السياسية والاجتماعية والثقافية، باعتبار أنَّ الإساءة إلى كرامة الإنسان، تجعله يعيش العقدة التي تمنعه من الانفتاح على الفكرة التي يُراد هدايتهُ بها.
وروي أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) مرَّ على فقراء وقد وضعوا كسيرات على الأرض وهم قعود يلتقطوها ويأكلونها، فقالوا له: هَلُمَّ يا بن بنت رسول الله إلى الغذاء، فنزل وقال: "إنَّ الله لا يُحبُّ المُتَكَبِّرين"، وجعل يأكل معهم، ثمّ دعاهم إلى ضيافته وأطعمهم وكساهم.
إنَّنا نجد في هذا السلوك الأخلاقي الحسنيّ القمّة في التواضع، فقد كان الإمام الحسن (عليه السلام) في الواقع الاجتماعي في الدرجة العالية من الشرف. فقد روى محمّد بن إسحاق قال: ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ما بلغ الحسن بن عليّ، كان يُبسط له على باب داره فإذا خرج وجلس انقطع الطريق، فما يمرّ أحدٌ من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بيته فيمرّ الناس.
قال الراوي: ولقد رأيته في طريق مكّة نزل عن راحلته فمشى، فما من خلق الله أحدٌ إلاّ نزل ومشى، حتّى رأيت سعد بن أبي وقاص قد نزل ومشى إلى جنبه.
ومن خلال هذه الصورة التي تمثّل مهابة الإمام في نفوس الناس بشكلٍ عام، نعرف كيف كان الإمام يجسّد القيمة الإسلامية العليا في التواضع للفقراء، فيجلس معهم على الأرض ليأكل معهم احتراماً لهم في إيمانهم وإنسانيّتهم، تحت تأثير الفكرة الإسلامية التي ترى في الشعور بالعلوّ على أمثال هؤلاء من خلال الموقع الاجتماعي، لوناً من ألوان التكبُّر، الذي لا يحبّ الله الذين يعيشونه في روحية الاستعلاء على الناس. ثمّ يدعوهم (عليه السلام) إلى بيته بكلّ إكرامٍ وإعزازٍ للإيحاء إليهم بأنّهم لا يفقدون معنى القيمة من خلال فقرهم، بل يتحرَّكون فيها من خلال إنسانيّتهم وإيمانهم، وصفاتهم الطيّبة في أوضاعهم الخاصّة، فيطعمهم ويكسوهم ليدفع عنهم ضائقة الحرمان.
إنَّ علينا أنْ نتعلَّم ذلك من الإمام (عليه السلام) لنعيش القيمة الإسلامية في الإحساس بإنسانية الإنسان، لاسيّما إذا كان فقيراً مستضعفاً مؤمناً، لأنَّ ذلك هو الذي يجعل المجتمع ينتفع بإحساسه بالإنسان الآخر، وابتعاده عن الطبقيّة الاجتماعية الاستكبارية، التي تضطهد الإنسان لفقره ولوِضاعة نسبه وحقارة موقعه، فَتُسقط إنسانيّته وتُسيء إلى روحه، وتدفع به إلى الضياع والسقوط.
إنَّ علينا أنْ نتعلَّم أنّ ذلك التواضع في قيمة الإنسانية لا ينزل بموقع الإنسان، بل يرتفع به، لأنَّه يوحي إليه بأنّه في قيمته الروحية أكبر من المال والجاه والنسب من حيث إنّه يعيش العمق الإنساني في خصائصه الذاتية.
سَعَة الصدر
وممّا ترويه السيرة عن أخلاقه (عليه السلام)، أنَّ شاميّاً ممّن ثقّفهم معاوية على بُغض عليّ وأهل بيته (عليهم السلام)، وركّز في نفوسهم سبَّ ولعنَ أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفرضَ على أئمّة الجمعة التابعين له هذا الأمر، حيث كان من تقاليد صلاة الجمعة أن يبدأ الخطيب وينتهي بسبِّ عليِّ (عليه السلام) ليقتلوا حبّه من قلوب الناس، ولكنّهم لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً.
وقد قال بعض أئمّة المذاهب الأربعة: ما أقول في رجل جَهِد محبُّوه في إخفاء فضائله خوفاً، وجَهِد مُبْغضُوه في إخفاء فضائله حَسَداً، فظهر من بين ذَيْنِ ما ملأ الخافِقَين.
من هؤلاء المبغضين، هذا الشاميُّ الذي رأى الإمام الحسن (عليه السلام) في الطريق فجعل يلعنه ويشتمه، والحسن (عليه السلام) لا يردُّ عليه، فلما فَرغَ من سبابه وشتائمه، أقبل إليه الحسن وهو مملوء بخطاب الله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان:63].
فسلَّمَ عليه وتبسَّم في وجهه، وقال له: "أيُّها الشيخ ـــ ويبدو أنّه كان كبيراً بالسنّ ـــ لو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنتَ طريداً آويناك، وإن كنتَ جائعاً أشبعناك، وإنْ كنتَ عرياناً كسوناك، وإن كانت لكَ حاجةٌ قضيناها لك، فلو حرَّكت رَحْلَكَ إلينا وكنتَ ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعودَ عليك، لأنَّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً".
فلمَّا سمع الرجل كلامه بكى، ثمّ قال: أشهدُ أنَّك خليفة الله في أرضه، والله أعلم حيثُ يجعل رسالته، وحوَّل رحله إليه، وكان ضيفَه إلى أن ارتحل.
لم ينطلق الإمام مع هذا الرجل من موقع ضعف لأنّه كان في موقع قوّة، وكان الرجل في موقع ضعف، وعرف الإمام أنّ هذا الرجل هو من الناس الذين غُسِل دماغهم. لأنَّ بعض الناس قد يسبُونك ويشتمونك ويعادونك وليس لديهم عداوة شخصية معك، ولكنّ بعض الناس قد نقلوا لهم كلاماً كاذباً عنك وشوَّهوا لهم فكرتهم، كما كان معاوية يقول لأهل الشام نحن نقاتل عليّاً لأنّه لا يصلّي.
والتاريخ يعيد نفسه في كثيرٍ من الحالات عندما يتحدَّث أهل السوء أو الحاقدون أو المعقّدون، عن كثير من الناس الذين يتحرَّكون في خطّ الهدى، بالكلمات التي تشوّه الصورة، حتّى يعاديه الناس باسم القربى إلى الله.
لذلك كان من ديدن الأئمّة (عليهم السلام) أن يصبروا على هؤلاء الناس حتّى يصحِّحوا لهم الصورة التي في ذهنهم، وعندما يكتشف الناس الصورة جيّداً سيتراجعون عن كلّ سبابهم وحقدهم وعداوتهم.
وهذا أسلوب من أساليب السلوك الأخلاقي الذي لا يستهدف العفو عمَّن أساء إليك فحسب، ولكنّه يستهدف أيضاً تربية وتوعية مَن أساء إليك وجعله يترك ما هو فيه.
هذه هي الروح الرسولية النبويّة القرآنية: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34]. فلا نردّ السُّباب والشتائم بالسُّباب والشتائم والمقاطعة، قد يكون لك حقٌّ في ذلك: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة : 194]، ولكنَّ الله تعالى يقول: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة : 237].
وقد قال عليٌّ (عليه السلام): فلا يكن أفضلَ ما نلت في دنياك بلوغَ لذّةٍ وشفاءَ غيظٍ ـــ لا يكن كلّ طموحك في الحياة البحث عن شفاء غيظك ـــ ولكن إطفاء باطل وإحياء حقٍّ.
فإذا ربحتَ عدوَّك وحوَّلته إلى صديق، أو ربحت إنساناً منحرفاً فحوَّلته إلى مستقيم، فأيُّ ربحٍ أفضل من هذا الربح، وهذا هو خطُّ الإسلام في البرنامج الأخلاقي، وهذا هو خطُّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين نحبّهم ونواليهم، لأنَّهم جسَّدوا الإسلام فكراً وسلوكاً في كلِّ مجالٍ من مجالات الحياة.
وإذا كنّا نتّبع أهل البيت (عليهم السلام)، فإنَّ اتّباعنا لهم يجب أن ينطلق على أساس أنْ نتحرَّك كما تحرَّكوا، وننفتح على الله كما انفتحوا..
هل الحسن (عليه السلام) مسالِم؟
وقد يتحدّث الناس، ونحن في هذا الموقف قبل أن نطلّ على مسألة الصلح، عن أنَّ الحسن (عليه السلام) كان الإنسان المسالِم الذي لا يعيش في شخصيّته معنى التحدّي، وربّما تطرَّف بعض الناس فقالوا، وبئس ما قالوا، أنّه كان يعيش الضعف في شخصيّته، لأنَّ هؤلاء درسوا مسألة الصلح ولم يدرسوا ما قبله.
إنَّني أدعو كلّ الباحثين من أجل أن يتعرَّفوا على شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) في إرادة القوّة في كلّ كيانه وفي العنفوان الإسلامي في كلّ عقله.
وعندما نقرأ الرسائل التي تبادلها الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية، ونقارن بينها وبين الرسائل التي دارت بين الإمام عليّ (عليه السلام) وبين معاوية، فإنَّنا لا نجد أيّ فرقٍ في كلمات القوّة والمسؤولية، والوعي والرساليّة، والتحدّي والعنفوان الإسلامي، ولو أنَّك أزلت كلمة الإمام الحسن عن هذه الرسائل ووضعت بدلها كلمة الإمام عليّ، لرأيت أنّ الرسالة هي رسالة عليّ ممّا يجعلنا نكتشف في شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) الشخصية القويّة بالحقّ والشخصية المتحدّية للباطل، والشخصية التي تعرفُ أن تحرّك أسلوب العنف في الجدال من دون أن تبتعد عن الخطّ الإسلاميّ في كلّ مفرداتها، لأنَّ الإنسان إذا عاش العنف ينسى الخطوط الهادئة.
ولكنّك ترى الإمام الحسن (عليه السلام) يعنف في الموقف في الوقت الذي تراه مسؤولاً في كلماته، بحيث لا تشعر أنَّ هناك أيّة حالة من الانفعال، لذلك لم يكن الإمام الحسن (عليه السلام) ضعيفاً، ولم يكن مسالِماً، من خلال طبيعة هذه الحالة النفسية التي تمثّل المسالمين الذين لا يحبُّون الدخول في ساحة الصراع.
ونحن نعرف أنَّ الحسن (عليه السلام) دخل ساحة الصراع بكلّ قوّة، وعمل على أن يستكمل من أجل الحقّ ما بدأه أبوه عليّ (عليه السلام)، ولكنَّ المشكلة التي واجهت عليّاً في آخر أيّامه من خلال هذا الاهتزاز في جيشه عادت لتتمثّل في أقسى ما يكون في جيش الحسن (عليه السلام).
طبيعة جيش الإمام الحسن (عليه السلام)
فلقد كان قسم من جيشه من (الخوارج) الذين اندفعوا معه لا حبّاً به، ولكن لأنّهم يريدون قتال معاوية بأيّة وسيلة ومع أيّ شخص، ولقد كان بين جيشه الأشخاص الذين دخلوا من أجل الغنائم، وكان بينهم الأشخاص الذين عاشوا مع عصبيّات عشائرهم التي كان يحرّكها زعماؤهم، الذين كانوا يبحثون عن المال وعن الجاه، وكانوا يريدون أن يفسدوا على الحسن جيشه.
وكان بين جيشه ومن قيادته بعض أقربائه الذين أرسل إليهم معاوية مالاً فتركوا الجيش من دون قيادة، وكانت رسائل الكثيرين تذهب إلى معاوية إن شئنا سلَّمناك الحسن حيّاً أو ميتاً، وكان معاوية يرسل بذلك إليهم، واختبر جيشه ورأى كيف حاولوا أن يقتلوه.
لذلك لم تكن للحسن (عليه السلام) ظروف الحسين (عليه السلام)، من خلال المرحلة، ومن خلال طبيعة الجيش، ولم تكن الأجواء تسمح بأيّة حركة مشابهة لحركة الحسين، لأنَّ المعارضة سوف تسقط 100%، وكان الإمام الحسن يريد للمعارضة أن تبقى من أجل أن تفتح وعي الأُمّة على الحقّ، ولذلك لم يكن الصلح اعترافاً بشرعية معاوية، وإنَّما كان واقعاً درسه الإمام الحسن (عليه السلام) من خلال السّاحة كلّها، ومن خلال المرحلة كلّها، ومن خلال طبيعة جيشه، ومن خلال النتائج التي لو استمرّ الإمام الحسن (عليه السلام) في الحرب فسوف لن تكون في مصلحة القضية بل ضدَّها.
ونحن نعرف أنّك إذا أردت أن تدخل في عملية استشهادية أو ما يشبه ذلك فلا بدَّ لك من أن تفكِّر بالنتائج الإيجابية في عمليّتك، أمّا إذا كانت النتائج سلبية فإنَّ السير مع هذه العملية يكون ضدّ الرسالة والقضيّة.
وهكذا قيل بأنَّ ثورة الحسين (عليه السلام) كانت صدىً لصلح الحسن (عليه السلام)، ونحن ضدّ من يطرح أنَّ هناك أسلوباً حَسَنيّاً في السلم وأنَّ هناك أسلوباً حُسينيّاً في الثورة، فالأسلوب الحَسَنيّ هو أسلوب حسينيّ في مرحلة الحسن، والأسلوب الحسينيّ هو أسلوب حسنيّ في مرحلة الحسين، لأنّهما يغرفان من نبعٍ واحد، ولأنّهما ينطلقان من خطٍّ واحد.
ونحن نعرف أيضاً بأنَّ حركة الإنسان الرساليّ لا بدّ أن تدرس الظروف الموضوعيّة لتختار سلماً هنا أو حرباً هناك، لأنَّ للحرب نتائجها الإيجابية أو السلبية، وللسلم نتائجه الإيجابية أو السلبية.
الصلح في الواقع الإسلامي
إنَّ القضية تعطينا وعياً سياسياً في كلّ مراحل حياتنا، فلندرسها في الواقع الإسلامي فحسب، لا في الواقع غير الإسلامي، فعندما يكون هناك صراع وخلاف في السّاحة الإسلاميّة فقد تكون المصلحة الإسلامية العليا أن تُسالِم، لأنَّ الحرب قد تسقط الهيكل على رؤوس الجميع، كما يقولون.
وهذا ما نستوحيه من كلمة عليّ (عليه السلام): "لأسلمنَّ ما سَلِمَتْ أُمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلاَّ عليَّ خاصّة" إنَّ السلام والتسليم ينطلق من المصلحة العليا للمسلمين، لا من خلال الحالة النفسية للإنسان.
وهكذا نلاحظ أنّك لا بدّ من أجل إصلاح الواقع الإسلامي من أن تعنّف أحياناً ولا بدّ من أن تثور، وعند ذلك تكون الثورة هي الحلّ للمصلحة الإسلامية في هذا المجال.
وقد قلنا أنَّ المسألة تدور في السّاحة الإسلامية، لأنَّ بعض الناس استغلَّ مسألة صلح الإمام الحسن (عليه السلام) ليتحدَّثوا عن الصلح مع إسرائيل، كما استغلَّ بعض الناس ومنهم بعض وعَّاظ السلاطين من الفقهاء صلح الحديبيّة ليشرِّعوا بذلك الصلح مع إسرائيل، في حين أنَّ صلح الحديبيّة لم يكن تنازلاً من لدن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عن موقفه، لكنّه كان يريد أن تبقى حالة السّلم بينه وبين المسلمين، ليهيّئ للفتح الكبير وهو فتح مكّة.
ولو أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) دخل في معركة مع قريش في تلك المرحلة لما استطاع أن يتحرَّك نحو مكّة ليفتحها، لذلك كان صلحاً قدَّم تنازلاً مرحلياً ليس بذي شأن إلاَّ من الناحية المعنوية، ليربح فتحاً كبيراً ينهي الصراع تماماً مع قريش، لأنّه يسقط كلّ عنفوان قريش.
أمّا صلح الإمام الحسن (عليه السلام) فهو صلح في الساحة الإسلامية من أجل مصلحة المسلمين الذين أتعبتهم الحروب، ولم تعد الحرب تنتج شيئاً في واقعهم، جرّاء التعقيدات والظروف الصعبة هنا وهناك، ولأنّه كان يريد أن يخطّط لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، ولو حارب الإمام الحسن (عليه السلام)، آنذاك لقتل هو وقتل الحسين (عليه السلام) وقتل كلّ أهل بيته وقتل كلّ أصحابه، ولم يعد هناك صوت ينطق بالحقّ.
وصايا الإمام الحسن (عليه السلام) ومواعظه
لنستمع إليه (عليه السلام) كيف كان يعظ الناس، وكيف يحدِّد الصفات التي ترتفع بالإنسان إلى ربّه: "يا بن آدم عفّ عن محارم الله تكن عابِداً، وارضَ بما قسم الله تكن غنيّاً ـــ لأنَّ الغنى غنى النفس، والقناعة مال لا ينفد ـــ، وأحسن جوار مَن جاورك تكن مسلماً ـــ لأنَّ علامة المسلم هو الإحسان لمن جاوره ـــ، وصاحب النّاس بمثل ما تحبّ أن يصاحبوك به تكن عادلاً ـــ والعدالة هي أن تُعامِل الناس بما تحبّ أن يعاملوك به ـــ، إنّه كان بين أيديكم أقوام يجمعون كثيراً ـــ فلهم الأرصدة الكبيرة من المال ـــ، ويبنون مشيداً ويأملون بعيداً ـــ أي أحلامهم طويلة فأين هم الآن ـــ، أصبح جمعهم بوراً وعلمهم غروراً ومساكنهم قبوراً...
يا بن آدم لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أُمّك ـــ لأنَّ الإنسان أكبر ما يكون يوم وُلد ـــ، فخذ ممّا في يدك لما بين يديك ـــ، فما بين يديك هو مصيرك ووقوفك أمام ربّك، فحاول أن توظّف هذا المال والجاه والقوّة التي بيدك لما بين يديك من المصير غداً من الله سبحانه ـــ، فإنَّ المؤمن يتزوَّد والكافر يتمتَّع".
الوصيّة الأخيرة
وهكذا هو الحديث عن الإمام الحسن (عليه السلام) في خلافته، وفي صلحه مع معاوية وما هي ظروفه فيه، وفي كلّ ما أصابه بعد ذلك، وفي السمّ الذي دسَّه إليه معاوية على يد زوجته جعدة بنت الأشعث التي كان أبوها معادياً لأهل البيت (عليهم السلام)، وفي محاولة بني أُميّة عندما انطلق الإمام الحسين (عليه السلام) بجنازة الإمام الحسن ليجدِّد له عهداً بزيارة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، هناك حديث كثير، ولكنَّنا نذكر هنا وصيّة الإمام الحسن (عليه السلام)، هذا القلب المفتوح على محبّة الناس لأخيه الحسين (عليه السلام): "أُوصيك يا حسين بمن خلفت من أهلي وولدي وأهل بيتك أن تصفح عن مسيئهم وتقبل من محسنهم، وتكون لهم خلفاً ووالداً، وأن تدفنّي مع رسول الله فإنّي أحقّ به وببيته، فإن أبوا عليك فأنشدك الله بالقرابة التي قرّب الله عزّ وجلّ منك والرحم الماسّة من رسول الله أن لا تهريق في أمري محجمة من دم حتّى نلقى رسول الله فنختصم إليه ونخبره بما كان من الناس إلينا...".
وهكذا وقف مروان ومن معه، وجاءت معهم أيضاً زوجة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ليمنعوا دفن الحسن عند جدّه، عند ذلك حاول بنو هاشم الدخول معهم في صراع مسلّح وبيدهم أسيافهم، ولكنَّ الحسين (عليه السلام) منعهم من ذلك، وخاطب القوم: "لولا عهد الحسن ـــ بحقن الدماء ـــ أن لا أهريق في أمره محجمة دم لعلمتم كيف تأخذ سيوف الله منكم مأخذها، وقد نقضتم العهد بيننا وبينكم وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا".
وهكذا دُفن الحسن (عليه السلام) في البقيع إلى جنب قبر جدّته فاطمة بنت أسد.
إنَّنا عندما نتذكَّر الإمام الحسن (عليه السلام) ونتذكّر أهل البيت فإنَّنا نريد أن نجدِّد التزامنا بهم وبإمامتهم وبخطّهم، وبكلّ ما نصحونا ووعظونا، وأوصونا وعلَّمونا، لأنَّ ذلك هو معنى أن نكون معهم.
الموعظة الأخيرة
إنَّ آخر موعظة أطلقها الإمام الحسن (عليه السلام) في مرضه الذي توفّي فيه نتيجة السمّ، فقد ذكر الرّواة أنّ جنادة بن أبي أُميّة قال له: عظني يا ابن رسول الله، قال: "استعدّ لسفرِك وحصِّلْ زادَك قبلَ حُلولِ أجلِك.
واعلم أنَّكَ تطلبُ الدُّنيا والموتُ يطلبُك، ولا تحملْ همَّ يومِك الذي لم يأت على يومِك الذي أنتَ فيه.
واعلمْ أنّك لا تكسبُ من المالِ شَيئاً فوقَ قُوتِك إلاّ كنتَ فيه خَازناً لغيرك. واعلم أنَّ الدُّنيا في حلالِها حسابٌ، وفي حرامِها عقابٌ، وفي الشّبهاتِ عتابٌ.
فأنزلِ الدنيا بمنزلةِ الميتةِ، خُذْ منها ما يَكفِيكَ، فإن كانت حَلالاً كنتَ قد زَهدتَ فيها، وإنْ كانت حَراماً لم يكنْ في وزرٍ، فأخذتَ منهُ كما أخذتَ مِن الميتة، وإنْ كان العقابُ فالعقابُ يسيرٌ.
واعملْ لدُنْياكَ كأنَّكَ تعيشُ أبداً واعمَلْ لآخِرَتكَ كأنَّكَ تموتُ غَداً.
وإذا أردتَ عِزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سُلطان، فاخرج من ذلِّ معصيةِ اللهِ إلى عزّ طاعةِ الله عزَّ وجلَّ.
وإذا نازعَتْكَ إلى صحبةِ الرجالِ حاجة فاصحَبْ من إذا صحُبتَه زانَك، وإذا أخذت منه صانَك، وإذا أردتَ منه معونةً أعانَك، وإنْ قُلتَ صدَّقَ قولَك، وإن صلت شدّ صولتك، وإنْ مددت يدكَ بفضلٍ مدّها، وإنْ بدَتْ منكَ ثلمةٌ سدّها، وإنْ رأى منكَ حسنةً عدّها، وإنْ سألتَه أعطاكَ، وإنْ سكتَّ عنه ابتدأكَ، وإن نزلَتْ بكَ إحدى المُلِمَّاتِ واساكَ، مَن لا تأتيكَ منه البوائقُ، ولا تختلف عليك منه الطرائق، ولا يخذلُكَ عندَ الحقائقِ، وإنْ تنازعتما منقسماً آثرك"(1).
إنّها كلمات الحقّ والحكمة والخير والسداد، التي لا بدّ لنا من أن نحرّكها في حياتنا، لتكون برنامجاً للموعظة، وخطّة للسير، ومنطلقاً للحركة، لنحصل منها على خير الدُّنيا والآخرة.
وهذه هي ذكرى الإمام الحسن (عليه السلام) التي تربطنا بالله، وبالحياة، وبالإنسان، وبكلّ ما يحقِّق لنا السعادة في الدنيا والآخرة.
وتلك هي سيرة أهل البيت (عليهم السلام) في كلّ مواقفهم، وفي كلّ تطلّعاتهم، وفي كلّ دعوتهم إلى الله، وفي كلّ سلوكهم في الحياة، إنّهم يجسِّدون الإسلام كلّه، في كلِّ ما قالوه، وفي كلّ ما فعلوه.
لقد كانوا ثورة على الظلم، وثورة على الاستكبار كلّه، وكانوا منفتحين على المستضعفين كلّهم.
الإمام الحسين (عليه السلام)
عندما نحاول أن نقف متأمّلين في القضية الحسينيّة، فإنَّ علينا، بدايةً، أن نحدِّد صورة الحسين (عليه السلام) في وعينا الإسلامي. هل هو رجل العنف الرافض لمنطق الحوار الهادئ والرصين، وبالتالي لا يجد وسيلة للتفاهم إلاّ لغة القوّة والسيف حول القضايا التي تفرض نفسها على الواقع الإسلامي، ويختلف المسلمون حولها؟ أو إنّ الحسين (عليه السلام) يملك صورة غير هذه الصورة.
عندما نريد أن نفهم الإمام الحسين (عليه السلام) جيّداً، فإنَّ علينا أن لا نفهمه في كربلاء فحسب، بل علينا أن نفهمه في الكوفة عندما كان مع أخيه الإمام الحسن (عليه السلام).
كان الإمام الحسن (عليه السلام) هو الإمام في عصره، والإمام الحسين (عليه السلام) كان عليه أن يطيعه. وكان الإمام الحسن يرى في الحسين (عليه السلام) الأخ المنفتح على الإسلام كلّه الذي عليه أن يستشيره. وكانا معاً في مواجهة المشكلة، حرباً عندما شنَّ الإمام الحسن (عليه السلام) الحرب، وسلماً عندما اختار الإمام الحسن (عليه السلام) السلم، بفعل الظروف الموضوعية الصعبة التي أحاطت بالواقع الإسلامي.
ولذلك فإنَّ من الخطأ الحديث عن أسلوب حَسَنيّ وأسلوب حُسَيْنيّ. لأنَّ الحسن (عليه السلام) كان الإنسان المحارب العنيف، ولكنّه واجه الظروف التي لم تجعل امتداد الحرب أمراً واقعياً من خلال مصلحة الإسلام العليا في ذلك، كما كان المسالم عندما رأى مصلحة الإسلام تقتضي ذلك.
وهكذا كان الإمامان الحسن والحسين (عليهما السلام) شريكين في السلم والحرب معاً. وقد تعلَّما من أبيهما أمير المؤمنين (عليه السلام) الكثير من الأمور في الفترة التي كانت بين وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وبين خلافته، فحين كان يسالِم، بالرغم من كلّ الصعوبات التي كانت تفرضها عليه مسالمته، كان يقول: "لأسلمنَّ ما سلمتْ أمور المسلمين ولم يكُن فيها جَوْرٌ إلاَّ عليَّ خاصّةً"(1).
وكان يقول وهو يشير إلى دوره في النصح والمشورة والمساعدة خلال فترة الخلفاء الذين تقدَّموه: "فَخَشِيتُ إنْ أنا لم أنصرِ الإسلامَ وأهلَه أن أرى فيه ثَلْماً أو هَدْماً تكونُ المصيبةُ به عليَّ أعظمَ من فوتِ وِلايتِكُم، التي إنَّما هي مَتَاعُ أيّامٍ قلائل يزولُ منها ما كان، كما يزولُ السّرابُ أو كما يتقشَّع السّحاب، فنهضتُ في تلك الأحداثِ حتّى زاحَ الباطلُ وزهقَ واطمأنَّ الدّينُ وَتَنَهْنَه"(2).
كان عليّ (عليه السلام) الإنسان الذي يتحرّك في السلم والحرب من موقع حاجة الإسلام إلى نوعية حركته، لا من خلال مزاج عسكري يفرض عليه أن يهاجم. كان عليّ (عليه السلام) أكثر الناس هدوءاً في إحساسه وهو يدخل الحرب، كما قد يكون أكثر الناس ثورة وهو يمارس السّلم.
وهكذا كانت مسألة الإمام الحسين (عليه السلام)، كمسألة أخيه، تنطلق من خلال عنوانٍ واحد: ما مصلحة الإسلام في هذا؟ وما مصلحته في ذاك؟
أمّا السّلم في حياة الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)، وأمّا الحرب والعنف في حياة الإمام الحسين (عليه السلام)، فالمرحلة هي التي تحدّد. كانت المرحلة والتحدّيات وطبيعة الحصار الذي فرض على الإمام الحسين (عليه السلام)، ولم يفرض مثله على الإمام الحسن (عليه السلام)، هي التي حدَّدت وجعلت الأسلوب يتحرّك باعتباره الوحيد. ليست المسألة رفضاً للخيارات التي تنسجم مع مصلحة الإسلام، وإنّما ركّزت المسألة بين هذا الخيار وذاك، فكان الخيار الكربلائي هو الخيار الوحيد.
وعندما نقرأ سيرة الحسين (عليه السلام) في انطلاقته، فإنَّنا نجد أنّ العنوان الذي كان يحكم مسيرته هو عنوان الإصلاح في أُمّة جدّه، الإصلاح الفكري في مواجهة الانحراف الفكري، والإصلاح السياسي في مواجهة الانحراف السياسي، والإصلاح الاجتماعي في مواجهة الانحراف الاجتماعي.. وهذا ما لخّصه في كلمتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللّتين تمتدان إلى كلّ معروف أو منكر في خطّ الإسلام.
واقعيّة الحركة
وكانت واقعية حركته تنطلق من أنّ هناك قوماً بايعوه عبر سفيره مسلم بن عقيل. وكانت المسألة هي أنّ هناك وضعاً في الواقع الإسلامي في المنطقة الحجازية يأخذ شكل ثورة جنينيّة، عبّرت عن نفسها في واقعة الحرّة بعد ذلك، وفي المنطقة العراقية من خلال هذا الضجيج السياسي الرافض الذي كان يتمثّل في أكثر من موقع، ولاسيّما في الكوفة.
كانت واقعية حركته تنطلق من أنّ الحجّة قد قامت عليه. لأنَّهم كتبوا إليه: "فقد اخضر الجناة(1) وأينعت الثمار وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار. فإذا شئت فأقبل على جندٍ لك مجنّدة"(2)، ولم يستطع أن يرفض، لأنَّ صاحب الرسالة لا يملك حقّ الرفض عندما تقوم عليه الحجّة، ولو في الشكل، في مرحلة من المراحل، بحيث تكون الوقائع المحيطة بالتحرُّك تمثّل مسألة واقعية في الوصول إلى الهدف.
وعندما ندرس السيرة الحسينيّة كما رواها رواة كربلاء، فإنَّنا نجد أنَّ هناك عدّة محاورات كانت تدور بين الإمام الحسين (عليه السلام) وبين ابن سعد حول تسوية الأمور بالطريقة التي لا توصل المسألة إلى الحرب، ولا تفرض على الإمام الحسين (عليه السلام) أن يبتعد عن خطّه أو أن يخضع للحكم الأموي.
ولكنّ ابن زياد تدخّل في المسألة، فأرسل إلى الإمام الحسين (عليه السلام) ـــ كما حدَّث ابن سعد ـــ الحرّ بن يزيد الذي طرح عليه فكرة أن يكون هناك حلٌّ سلمي، فقال له: إنَّ أميرك لا يقبل إلاّ بأن ينزل الحسين (عليه السلام) على حكمه وحكم يزيد بن معاوية. والحسين (عليه السلام) يرفض ذلك لأنّه يرفض الذلّ، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) يعمل بكلّ مواعظه وحواراته، على اجتذاب هذا الجيش، حتّى أنّ الشمر بن ذي الجوشن عندما دعا العبّاس وإخوته، باعتبار أنّ هناك خؤولة بينه وبينهم من خلال أُمّهم، وامتنع العبّاس وإخوته من الاستجابة لشمر على أساس أنّه فاسق لا يريدون أن يكلِّموه.. قال لهم الحسين (عليه السلام): كلّموه فإنّه بعض أخوالكم وانظروا ماذا يريد.
إنَّنا نستطيع أن نعرف من كلّ ذلك أنّ الحسين (عليه السلام) كان بمختلف الأساليب يطرح مسألة حلّ المشكلة بالطريقة التي لا توصل إلى حرب، ولكنّه عندما فرضت عليه المسألة في حجم الخضوع لحكم ابن زياد ويزيد، عند ذلك أصبحت القضية تمسّ الاستراتيجية وتمسّ القضايا الأساسية.
إنَّ الموقف الحسيني كان الموقف الرافض للحالة الجديدة التي أُريدَ لها أن تفرض عليه، لذلك نلاحظ أنّ الكلمات التي صدرت من الإمام الحسين (عليه السلام): "لا والله لا أُعطيكُم بيَدي إعطاءَ الذليلِ ولا أُقِرّ إقرارَ العبيدِ"(1)، كانت رفضاً للطرح الذي فُرِض عليه، والذي يؤدّي إلى سقوط الرسالة تحت تأثير الاعتراف بحكم يزيد وبحكم ابن زياد. من هنا، رأى أنّ الحوار انتهى إلى طريق مسدود وإلى غير نتيجة. لأنّه في كلّ مسألة تفاوضية يمكن أن يبقى التفاوض مستمراً، ما دام لا يمسّ القضايا الأساسية التي يراد لها أن تسقط في نهاية المطاف، وعند ذلك لا معنى للحوار.
وعلى هذا الأساس نفهم قول الحسين (عليه السلام): "ألاَ وإنَّ الدعيَّ ابن الدعيّ قد رَكَزَ بين اثنتين، بين السّلّة والذِّلّةِ. وهيهاتَ منّا الذلّة. يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُه والمؤمنونَ، وحُجورٌ طابَت، وجُدودٌ طهرت، من أن نُؤثَرَ طاعةَ اللئامِ على مصارعِ الكرام"(1).
ومن خلال ذلك، نفهم الإيحاء الذي نستطيع أن نعيشه في المسألة الحسينيّة، وهو أنَّنا عندما نواجه القضايا الصعبة والشائكة في المجتمع الإسلامي من أجل القضايا الكبرى، فعلينا أن نفسح المجال في البداية للوصول إلى نتائج إيجابية ما أمكننا ذلك، من خلال الوسائل الموجودة بين أيدينا. حتّى إذا أُريدَ لنا أن نرضخ لوضع يلغي الخطّ كلّه أو يسقط العزّة كلّها، عند ذلك يغلق باب الحوار لينفتح باب العنف، أو باب الجهاد، أو باب القوّة وما إلى ذلك من كلمات تترادف أو تتنوَّع في خصائصها.
وهذا التحليل الذي نطرحه، هو الذي يجعلنا نصل إلى الفكرة الواحدة في كلّ سيرة الأئمّة (عليهم السلام)، وإنَّ كثيراً من الناس يتساءلون: لماذا انطلق الإمام عليّ (عليه السلام) ليسالم في مسألة الإمامة، والحق له في فترة معيّنة ثمّ ليحارب في فترة أُخرى؟ لماذا بدأ الإمام الحسن (عليه السلام) الحرب ثمّ وافَقَ على السّلم؟ لماذا انطلق الإمام الحسين (عليه السلام) مع الإمام الحسن (عليه السلام) في حركة السلم وفضَّل في موقفه في نهاية المطاف الحرب؟ لماذا لم يحارب الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)؟ هل الأئمّة لا يوافقون الإمامَ الحسينَ (عليه السلام) في حركته؟ أو أنّ المسألة التي تحكم الخطّ كلّه هي: ما هي مصلحة الإسلام وما هي طبيعة المراحل في تأكيد الأسلوب؟ وما هي النتائج السلبية أو الإيجابية هنا وهناك؟
الحركة الحسينيّة لم تكن انتحارية
ومن هنا، فإنَّنا لا نعتبر أنّ حركة الإمام الحسين (عليه السلام) تمثّل حركة انتحارية، كما يحاول بعض الناس السذَّج أن يصوّروها، بل كانت حركة منطلقة من خطّة تتمحور حول مسألة المحافظة على عنفوان الرسالة، وعلى عزّة الرساليّين، وعلى سلامة الخطّ.. وعلى رفض إعطاء شرعية الحكم الظالم، عندما يريد أن يفرض نفسه كمصدر للحكم، بحيث يأخذ شرعية الحكم من الرساليّين عندما يحكمهم. هذا هو المحور الذي تدور حوله ثورة الإمام الحسين (عليه السلام).
ولذلك، فإنَّ علينا عندما نريد أن ننفتح في كلّ مسيرتنا الإسلامية على المسألة الحسينيّة، أن ننطلق من خلال هذه الخطوط التي ترتكز على خطّ فاصل بين الظروف التي تفرض فيها مصلحة الإسلام العليا الأسلوب السلمي، وبين الظروف التي تفرض فيها أسلوب العنف. فالعنف الإسلامي لا ينطلق إلاَّ من خلال مصلحة الإسلام، فإذا كان العنف ضدّ المصلحة، فإنَّ الذين يعنّفون يسيئون إلى الإسلام.
وهكذا، فإنّ الرفق ينطلق من مصلحة الإسلام في المرحلة التي تفرض الظروف فيها ذلك. فالذين يختارون الرفق في موقع العنف، أو الذين يختارون العنف في موقع الرفق، لا يختارون مصلحة الإسلام في ذلك. ولذلك فالإسلام الثوري ليس مزاجاً أو حالة نفسية، ولكنّها خطّة مدروسة من خلال كلّ العناصر المتناثرة في الواقع على مستوى الحاضر والمستقبل، والتي تنتج لنا الرفق هنا والعنف هناك.
ومثل هذا الفهم للمسألة لا ينفي الإيحاءات المباركة الثورية المنفتحة على الشهادة من حسابات القضية. لأنَّ النتيجة لا تختلف في هذا المجال، باعتبار أنّ النهاية التي أوصلت الأمور إلى الطريق المسدود، جعلت المصلحة الإسلامية في أن ينطلق الحسين (عليه السلام) وأصحابه، ليجسِّدوا الإسلام في جهاده في عنفوانه، وليؤكّدوا الثبات على العَهد.
وهذا ما كان الإمام الحسين (عليه السلام) يتمثّل فيه بالآية المباركة، عندما يطلب منه كلّ شخص من أصحابه أو أهل بيته البراز للحرب: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب : 23].
وهذا ما يجب أن نواجهه في كلّ حالة لا نجد فيها مجالاً إلاّ للمواجهة، باعتبار أنّ أيَّ حلٍّ آخر في مصلحة الإسلام لا يكون له واقعية. هذا ما ينبغي لنا أنْ نتحرَّك فيه في خطّ الجهاد الإسلامي، الذي لن يكون جهاداً حسينيّاً بالمعنى الذاتي للإمام الحسين (عليه السلام) ولكنّه جهاد محمّدي ـــ علوي ـــ حسني ـــ حسيني، حتّى ينفتح على كلّ حركة الإمامة في الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)، باعتبار أنّ الجهاد عنوان ينطلق من أحكام إسلامية تقول للإنسان: قف هنا، وتقول له في مواقع أخرى: تحرَّك هنا.
صلة العاطفة بالذكرى الحسينيّة
ربّما يثير البعض الجدل حول طريقة إثارة ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام)، من خلال التأكيد على العنوان الذي تخضع له هذه الذكرى في امتداداتها الفكرية والعمليّة في مدى الزمن، وتأثيراتها الإيجابية في وعي الإنسان المسلم والتزاماته، وفي حركيّتها الإسلامية في المضمون الإسلامي الحركي في علاقته بعناصر القوّة للإسلام وأهله.
فقد طرح هذا البعض مسألة العاطفة في الذكرى، سواء في المضمون الفكري للمأساة، على مستوى تحريك كلّ العناصر المثيرة للحزن في مفردات قضية عاشوراء بالطريقة التي تستنزف الدموع بشكلٍ مثير، أو في الأسلوب الفنّي البكائي الذي يستغرق في اللّحن الحزين الشجيّ، ويوزّع عناصر الإثارة في كلّ أنغامه وتقاطيعه، أو في الممارسات الحادّة المعبّرة عن صراخ الذّات في تأثّرها بالمأساة وانفعالها بقضاياها المؤلمة، وذلك بالبكاء العنيف، أو لطم الصدور، أو ضرب الظهور بالسلاسل، أو جرح الرؤوس بالسيوف، أو غير ذلك ممّا اعتاد عليه فريق من الناس.. وأثار الجدل في مشروعية هذه الطريقة من جهة، وفي جدواها على مستوى علاقتها بالأهداف الإسلامية للذكرى من جهةٍ أخرى، فكانت هناك عدّة اتّجاهات فكريّة في هذا الموضوع:
الاتّجاه الأوّل
هو الاتّجاه الذي يضع مسألة العاطفة في درجة كبيرة من الأهمية، بحيث يلاحظ أنّ الخصوصية الذاتية للذكرى لا يمكن إبعادها عن العنصر الحزين للمأساة في أيّ موقع من مواقع الإثارة، الأمر الذي يجعل من العمق العاطفي مسألة حيويّةً في هذه القضية، فلا مجال للفصل بين إثارة الذكرى في وعي النّاس، وبين الأسلوب العاطفي، لأنَّ ذلك يعني إبعاد الشيء عن ذاته.
ويلاحظ ثانياً: أنّ العاطفة تتيح للذكرى الاستمرار في خطّ الحياة من خلال تأثيرها في الشعور الإنساني، ممّا يوصل علاقةً عاطفيةً للناس بأهل البيت (عليهم السلام) تماماً كما هي العلاقة بين الإنسان وبين من يحبّ في انفعاله العفوي بالمآسي التي تصيبه في نفسه وأهله، الأمر الذي يحقّق النتائج الإيجابية الكبيرة في البعد الإنساني الذاتي في انفتاحه على البعد الحركي في المسألة الشعورية، ممّا يؤدّي إلى نتائج مماثلة في البعد الإسلامي الحركي.
ويرى هذا البعض أنّ الاكتفاء بالمضمون الفكري للذكرى يجعل القضية جامدةً جافّة في الوعي الإنساني، ككلّ القضايا التاريخيّة المتّصلة بالصراع بين الحقّ والباطل التي يتجاوزها الزمن. لأنَّ قضايا الصراع الكثيرة في الواقع الإنساني في المراحل الحاضرة، قد تحمل الكثير من المشاكل الضاغطة على الفكر والشعور، بالمستوى الذي لا يجد فيه الإنسان فراغاً للاستغراق في التاريخ، لأنَّ ضغط الحاضر لا يسمح بالتفرّغ لاستعادة الماضي، فيؤدّي ذلك تدريجياً إلى نسيان القضية وإهمالها، إلاّ في الحالات الطارئة التي قد تدفع ببعض قضايا التاريخ إلى الواقع، في عملية إثارة سريعة لا تلبث أن تذوب ـــ بعد ذلك ـــ في غمار الواقع الخطير الضاغط على الإنسان.
بينما يمثّل الأسلوب العاطفي، لوناً من ألوان التربية الشعورية، الذي يحوِّل القضية إلى قضية متّصلة بالذّات، تماماً كما لو كانت قضية من قضايا الحاضر. وهذا ما نلاحظه في المسيرة التقليدية لحركة الإنسان في ارتباطه بالمعاني الدينيّة.
فإنَّنا نجد الجانب الشعوري هو الذي يترك الإنسان في حالة استنفار دائم لحمايتها وتحريكها في الواقع، ومواجهة كلّ التحدّيات المثارة ضدّها من قبل الآخرين، تماماً كما لو كانت التحرّكات المضادّة موجّهة نحو مسألة شخصية. وهذا ما يجعل من المسائل الدينية والمذهبية مسائل حسّاسة في ساحة الصراع، بحيث تتحرَّك الحساسيّات في داخلها بالطريقة التي يتغلَّب فيها الإحساس على جانب الفكر، وتتطوّر في العمق الإنساني لتكون من القضايا السريعة في الإثارة والالتهاب، والشديدة التأثير على مستوى الحوار والمواجهة.
ويتابع هذا البعض: إنَّ التجربة الواقعية تؤكّد هذا الاتجاه، فإنَّنا نرى تأثير قضية عاشوراء في الواقع الإسلامي، لاسيّما في الوسط الإسلامي الشيعي، بالدرجة العليا التي لا ترقى إليها أيّة قضيّة أخرى من قضايا التاريخ الإسلامي المأساوي، على الرغم من مفرداتها الحزينة وعلاقتها ببعض الشخصيّات التاريخيّة التي يحترمها المسلمون ويقدّسونها.
ولم يكن الفرق إلاّ في أنّ عاشوراء تحمل، في أسلوب الإثارة للذكرى، الأسلوب العاطفي بالإضافة إلى الأسلوب الفكري، بينما كان الجانب الفكري هو الذي يحرّك القضايا الأخرى، حتّى أنَّنا نرى الكثير من المسلمين الشيعة غير الملتزمين بالإسلام من الناحية العملية، يجدون في عاشوراء قيمة روحية وفكرية تتجاوز كلّ المفردات الأخرى التي يختزنها وعيهم الإسلامي. فهم يتحرّكون فيها كما لو كانت قضيّة ذاتية، وكما لو كانت شخصيّاتها متّصلة بأوضاعهم الذاتية العاطفية، الأمر الذي يجعل أيّ مساس بها مساساً بالذّات.
وهناك نقطة أخرى متّصلة بالجانب الشرعي للمسألة، فإنَّنا نلاحظ في النصوص الكثيرة الواردة عن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وعن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) على مستوى التوجيه والممارسة العملية، أنّها تؤكّد على البكاء وتدعو إليه، وتخطِّط للتربية العامّة للأُمّة في اتّجاه إبقاء هذا الأسلوب في خطّ الذكرى في امتداداتها الزمنيّة.
فقد كان الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) يشجِّعون المسلمين الشيعة من أتباعهم على إقامة الذكرى بالطريقة العاطفية الشجيّة، ويستدعون الشعراء لإثارة التجربة الشعرية بالطريقة الفنيّة المثيرة للعاطفة، بحيث يريدون حشد المفردات المأساوية في داخلها، وتحريك الوسائل الحزينة في إنشاد الشعر، وكان الشعراء يقصدونهم لذلك الغرض، والأئمّة يجلسون للاستماع إليهم مع عوائلهم التي تجلس وراء الستار.
إنَّ كلّ ذلك يدلّنا على أنّ تحريك المسألة العاطفية في الذكرى ليست مسألة عادية، بل هي من المسائل المهمّة في التخطيط الإسلامي لإبقاء هذه القضية حيّةً في المنطقة الشعورية للإنسان المسلم على امتداد الزمن، بحيث تتحوَّل إلى مسألة تتّصل بالضمير الإنساني في علاقة الحاضر بالتاريخ.
الاتّجاه الثاني
وهناك الاتجاه الآخر الذي يجرِّد المسألة من العنصر العاطفي ليضعها في دائرة الجانب الفكري، فهو يرى أنّ قضية الإمام الحسين (عليه السلام) ليست من القضايا الإنسانية الذاتية التي تتمحور حول الذّات، بل هي من القضايا الإسلامية الكبيرة الخاضعة للعناوين العامّة، المتّصلة بالمسؤولية الشرعية من جهة، وبالخطّ السياسي الثوري من جهةٍ أخرى.
وعلى ضوء ذلك، فإنَّ التركيز على العاطفة ـــ في رأي هؤلاء ـــ يبتعد بها عن الطابع الإسلامي العام، ويحوّلها إلى الطابع الذاتي. وأنّ الاستغراق في المأساة بالطريقة البكائية يملأ النفس بالكثير من الدخان العاطفي الذي يمنع وضوح الرؤية في النظر إلى العناصر الحقيقية المتمثّلة في طبيعتها العامّة، حتّى أنّ الارتباط بالشخصيات القيادية الإسلامية يتحوّل إلى ارتباط شخصي متّصل بالجوانب الذاتية في صفاتها الخاصّة، ومستغرق بالتقليد الجامد الذي قد يبدو فيه البكاء، وأمثاله من الأساليب العاطفية، شيئاً يتكلَّفه الإنسان ليكون نوعاً من أنواع التباكي الذي قد يلتقي بالصورة في معنى الحزن، أكثر ممّا يرتبط بالمضمون. وقد يتحوَّل إلى حالة من التنفيس عن الآلام الذاتية التي يختزنها الإنسان في حياته الخاصّة، أكثر من التفاعل الجدّي بالقضية التاريخية، فيجد الإنسان نفسه باكياً على مأساته لا على مأساة الإمام الحسين (عليه السلام)، باعتبار أنّ الجوّ العام قد يمنح الإنسان فرصة للتنفيس الذاتي بما يتجاوز معه اللّياقات الاجتماعية.
وهذا ما يلاحظ في الجمهور الشيعي العام، حتّى على مستوى الوسط العلمي الديني، فإنَّنا نجد أنّ الغالبية منه تعيش الاهتمام بالإيحاءات التاريخية الحزينة، أكثر ممّا تعيشه من الاهتمامات بالإيحاءات الثورية السياسية في الواقع الإسلامي الحاضر، فيما يواجهه من المشاكل الكبيرة الضاغطة على كلّ حاضر المسلمين ومستقبلهم.
حتّى أنَّنا نرى البعض منهم يعبّر عن ضيقه بالأحاديث التي تتجاوز الحزن إلى الفكرة، ويعتبرها خروجاً عن موضوع الذكرى وابتعاداً عن طبيعتها، وانحرافاً عن خطّها الدينيّ الأصيل. وقد لا يكتفي بالتعبير عن الضيق النفسي، بل يتجاوزه إلى الرفض العملي الذي يضغط فيه على السّاحة كلّها.
وربّما يلاحظ ـــ في هذا الجوّ ـــ أنّ العنصر التقليدي البكائي قد حوَّل المسألة إلى مسألة تقليدية، على مستوى اعتبارها من الطقوس الدينية العادية التي لا تحمل أيّ مضمون سياسي ثوريّ أو أيّ بعدٍ حركيٍّ إسلامي.
ويتابع أصحاب هذا الاتجاه، بأنّ هذه الطريقة قد جعلت الارتباط بالإمام الحسين (عليه السلام) ارتباطاً ذاتياً يتّصل بشخصه ولا يتّصل برسالته، حتّى أنّهم يرون في صفته الإمامية الرسالية امتيازاً ذاتياً، لا حركةً قيادية في المجرى الإسلامي العام للنهج القياديّ الذي تستغرق فيه الشخصية القيادية في الرسالة في حركة الذّات، بحيث تفقد شعورها بالذّات في غمار حركة الرسالة، ولا تستغرق في ذاتيّاتها في أوضاع الزهو النفسي بالعناصر الحيّة في الذّات.
وقد نلاحظ ـــ في هذا المجال ـــ أنّ هؤلاء العاطفيّين لا يوافقون على اعتبار النهج الحسيني، في مواجهة الباطل والحاكم المنحرف، نهجاً إسلامياً عامّاً يتحرّك به المسلمون فيما يستقبلونه من أوضاعهم التي يسيطر فيها الكفر أو الباطل عليهم، أو يتحكَّم فيهم الظالمون المستبدُّون المنحرفون على خطّ الإسلام المستقيم.
بل يعتبرونه نهجاً حسينياً خاصّاً ينطلق من الخصوصيات الحسينية الذاتية، فيما هي الشخصية الخاصّة للحسين (عليه السلام) في صفته الإمامية، التي تحمل من الأسرار التي قد تسوِّغ له من الأعمال ما لا يمكن تسويغه للنّاس كافّة، الأمر الذي يجعلنا ننحني أمام القرار الحسيني بالشهادة، ونسلّم له ذلك من باب التسليم للإمام فيما لا نفهم معناه الشرعي في التكليف العام، في الوقت الذي نثور على الطليعة الإسلامية المجاهدة التي تنطلق من خلال الانفتاح على أجواء عاشوراء الجهاديّة، لتواجه الكفر والاستكبار بقوّة حتّى الشهادة، لنصدر إليهم النصائح والتعليمات بحرمة ذلك لأنّ فيه إلقاءً للنفس بالتهلكة، ولأنَّ عاشوراء لا تحمل الأساس الاجتهادي الشرعي للثورة، ولا تصلح قاعدة عامّة، بل هي حالة حسينيّة خاصّة، فلنُرجِع أمرها إلى صاحبها من دون أن نتدخّل في حركة الأسرار الإمامية.
الاتّجاه الثالث
وهناك اتّجاه آخر، وهو الموازنة بين الجانب الفكري والعاطفي، فلا يطغى فيها جانب على آخر، وذلك باعتبار أنّ المسألة الفكرية مرتبطة بالشرعية الإسلامية في المسألة الثورية، وبالهدف الكبير في قضية التغيير والحياة والإنسان، وذلك من خلال العناصر المتنوّعة التي تختزنها الثورة الحسينية في هذا وذاك، ممّا يجعلها منفتحة على الحاضر والمستقبل، بحيث تحقّق الغنى الكبير للإسلام في مسيرته الحركية.
وفي ضوء ذلك لا بدّ من التأكيد على هذا الجانب، من خلال تحديد الخطوط الفكرية والحركية والفقهية المتّصلة بالسيرة الحسينيّة في الشكل والمضمون، واعتبار المنبر الحسيني موقعاً متقدّماً من مواقع التثقيف الإسلامي.
فهو المنبر الذي يجتذب الجماهير الإسلامية اجتذاباً تقليدياً، الأمر الذي منحنا الفرصة للنفاذ إلى عقولهم وقلوبهم من خلال العنوان الإسلامي الكبير للذكرى، فيدفعهم إلى الانفتاح على إسلام الفكرة والحركة والثورة، من خلال انفتاحهم على الإمام الحسين (عليه السلام) الذي يمثّل التجسيد الحيّ لذلك كلّه، فتكون الذكرى مدرسة إسلامية شعبية متنوّعة الأبعاد والأساليب، ووسيلة من وسائل الدّعوة إلى الإسلام.
المسألة العاطفية
أمّا المسألة العاطفية، فهي مسألة إنسانية الأبعاد، إسلامية الروح، غنيّة المؤثّرات، كثيرة المعطيات. إنّها تمنح الفكر حرارته وحيويّته، وتُخرجه من جموده، وتقوده إلى النشاط والحركة، وتخرجه من حالة فكرية ليدخل في حالة إيمانية. وهي تزيد الإنسان ارتباطاً بمواقعها، واتّصالاً بقضاياها، ممّا يجعل الحالة الفكرية ـــ في خصوصيّات المبدأ والشخص والموقف ـــ حالة قريبة من الشعور، منفتحةً على الوجدان، بحيث يمنحها ذلك بعضاً من القوّة والانفتاح والثبات في النّفس والامتداد في الواقع.
ويتّفق هذا الاتّجاه مع الاتّجاه الأوّل الذي يركّز على ضرورة الارتباط العاطفي بالحسين (عليه السلام) والصفوة الطيّبة من أهل بيته وأصحابه، تماماً كما هو الارتباط العاطفي بالنبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والطاهرين من أهل بيته وأصحابه. لأنَّ ذلك ما يمنح المؤمنين الصلة الروحية بهم، والحرارة في الالتزام الرسالي بالخطّ الذي يلتزمونه والنهج الإسلامي الذي يدعون إليه.
لأنَّ المعادلات العقلية لا تعطي الإنسان حيويّة الرابطة الإسلامية الإيمانية بالقيادات الإسلامية التاريخيّة، لاسيّما الذين ابتعد التاريخ بهم على مستوى القرون والأجيال، ممّا يجعل من مسألة استعادتهم إلى الذاكرة التاريخيّة قضيّةً متّصلةً بالحيوية الذاتيّة بالإضافة إلى الحيوية الفكرية، ليتكاملا في تحقيق عودة التاريخ إلى الواقع.
ولكنَّ أصحاب الاتّجاه الثالث يضيفون المسألة الفكرية إلى المسألة العاطفية، لأنَّ الفكر المنفتح على العاطفة يجعل لها هدفاً كبيراً تتّجه إليه، وتذوب فيه، وتتمحور حوله.. لئلاّ تكون العاطفة مجرّد فقاعات انفعاليّةً تنفتح في الشعور ثمّ تنفجر في الهواء، أو حالة دخانيّةً تختنق فيها الذّات ثمّ تقذفها في الفراغ، أو تكون انفعالاً نفسياً لا يلبث أن يهدأ ويبرد عندما يعبّر عن نفسه بطريقةٍ تنفيسيّة بكائية.
إنَّ هذا التزاوج بين الحالة العاطفية والحالة الفكرية هو الذي يحقِّق للرسالة مضمونها العميق في وعي الإنسان وحركته، وبذلك تتطوَّر الفكرة إلى إيمان من خلال الفكر المنفتح على الشعور، ويتطوَّر الإيمان إلى حبّ أو بغض من خلال انفتاح العقل على القلب.
وهذا ما نستوحيه من الحديث عن الحبّ لأولياء الله والبغض لأعدائه، في المسألة الإسلامية في الالتزام الإيماني للمسلم، باعتبارها دليلاً على الجديّة والإخلاص. فإنَّ الملحوظ أنّ الغاية هنا تلتقي بالوسيلة، وأنَّ المضمون يتحرَّك في دائرة الالتزام في الواقع.
ولكنْ هناك نقطة مهمّة في المسألة العاطفية التي نؤكّد ضرورتها في الذكرى الحسينيّة، ونتبنّى التركيز عليها انطلاقاً من إنسانيّتها الذاتية من جهة، ومن الاقتداء بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والأئمّة من أهل بيته (عليهم السلام) من جهةٍ أخرى، ونخطّط ـــ من خلال تخطيطهم ـــ لإقامة الذكريات المعبّرة عن هذه المأساة الحزينة، بمختلف الوسائل والأساليب.
وهذه النقطة، هي مسألة تطوير أساليب الإثارة العاطفية تبعاً لتطوُّر وسائل الإثارة الإنسانية في المؤثّرات النفسية العامّة والخاصّة. فإذا كانت أساليب التعبير عن الفكرة متطوّرة في قضية الإبداع الفنّي، فلا بدّ أن تتطوَّر أساليب التعبير عن الشعور العاطفي في قضية الإبداع التعبيري.
فربّما كانت بعض الإثارات خاضعةً لمرحلةٍ معيّنة، فلا تصلح لتحريكها في الواقع في مرحلةٍ أخرى. وقد تكون المسألة متّصلةً بالمستوى الثقافي لمجتمع ما في تأثّره بأسلوب معيّن، فلا يكون عنصراً للإثارة في مستوى ثقافي آخر.
وهذا ما نلاحظه في بعض مفردات الشعر الحسيني، العاميّ والفصيح، التي تنطلق من العادات العشائرية في حثّ النساء للرجال لتحريك حماستهم ونخوتهم وحركتهم. فإنَّنا لو طرحنا مثل هذه المفردات في مجتمع ثقافيٍّ متطوّرٍ، فإنَّنا لا نجده يتأثّر بذلك، لأنَّ الحالة الثقافية قد طوّرت حركة عاطفته كما طوّرت حركة فكره.
وعلى ضوء ذلك، فلا بدّ لنا من دراسة كلّ الوسائل الشعبية المتّبعة في هذه الذكرى، مقارنةً بالانطباعات الإيجابية أو السلبية التي قد تثيرها هذه الوسيلة أو تلك، في النظرة العامّة في الواقع الإسلامي أو غير الإسلامي، وبالعناوين الثانوية التي قد تنطبق عليها في هذه المرحلة أو تلك.
لأنَّ العناوين الأوّلية إذا كانت تقتضي إباحتها في ذاتها، فإنَّ العناوين الثانوية قد تقتضي حرمتها بلحاظها، كما لاحظنا ذلك في جواب بعض الاستفتاءات من قبل بعض المراجع الكبار حيث علَّق إباحة بعض هذه الوسائل، كجرح الرؤوس وضرب الظهور، على عدم استلزامها لهتك حرمة المذهب، من خلال النظرة العامّة التي قد تختزن في داخلها السخرية، فإذا استلزمت ذلك كانت محرَّمةً بسبب حرمة ما يوجب هتك الحرمة للمذهب أو للمسلمين.
وإذا كان بعض الناس قد يعترض على ذلك بأنَّ الكافرين والمنافقين قد يسخرون من بعض الواجبات العبادية أو غير العبادية، ممّا لا يمكن الالتزام بحرمتها بلحاظ ذلك، فإنَّ الجواب عنه بأنَّ هناك فرقاً بين السخرية بالإسلام ذاته وبالأحكام الإلزامية الواجبة أو المحرَّمة، وبين السخرية في المباحات أو المستحبّات التي قد تمنح الفعل أو الترك عنواناً محرَّماً، قد تمنحه عنواناً آخر، ممّا يمكننا فيه الابتعاد عن عنوان الحرام إلى العنوان الآخر من دون أن نفقد الموضوع الأساس.
إنَّ المشكلة في حديث الكثيرين عن الحكم الشرعي في هذه الأمور، هي أنّهم يثيرون القضايا بعنوانها الذاتي، من حيث حرمة الضرر مطلقاً، أو من حيث حرمته بانطباق عنوان التهلكة عليه، أو بالمناقشة في الموضوع من حيث صدق عنوان الضرر أو الخطر أو ما إلى ذلك.. ولا يناقشونه من الجوانب الأخرى التي تتّصل بالعناوين العامّة للخطّ الإسلامي، في نطاق مسألة المصلحة والمفسدة في هذا الموقف أو ذاك.
وأخيراً:
إنَّنا ندعو إلى دراسة الأساليب المثيرة للعاطفة، من حيث تأثيرها على الذهنية الجماهيرية الانفعالية تبعاً لتطوّر وسائل التعبير والإثارة، كما ندعو إلى دراسة المفاهيم التي يجب أن نؤكّدها في مضمون الكلمات والأشعار والمواقف.
لأنَّ القضية المهمّة تتّصل بإبقاء الذكرى الحسينيّة حيّة على مدى الزمن في عقل الأُمّة وضميرها وشعورها وحركتها في الحياة، الأمر الذي يجعلنا نواجه الموضوع بمسؤولية إسلاميةٍ واعيةٍ لكلّ ما حولنا ومن حولنا في حركة التطوّر، من دون الابتعاد عن الخطّ الأصيل.
ويجب أن نؤكّد ـــ في نهاية المطاف ـــ على حيويّة الدموع الداعيّة، والمشاعر المنفتحة، والندبيّات الموجّهة، لتكون ذكرى الحسين مغسولةً لدموعنا في عناصرها المأساوية الحيّة، وممزوجة بدمائنا في مواقع الإحساس ومواقف الشهادة، ومفتوحة على عقولنا في حركة الفكر الباحث في الدعوة الإسلامية، من خلال عاشوراء، عن كلّ جديد يغني عقولنا ويفتح المستقبل لفجرٍ جديد على خطّ الإسلام في خطّ الحسين (عليه السلام).
كربلاء من جديد
في كلّ سنة لنا ذكرى مع أجواء عاشوراء، وفي كلّ سنة نستعيد في وعينا وحياتنا كربلاء. لكن قيمة عاشوراء وكربلاء الذكرى أنّ لها لقاء في كلّ زمن مع الأُمّة، تمدُّها وتعطيها من حيويّتها، وتدفعها إلى المواقع المتقدّمة في مسيرة الحياة الكريمة.. فكنّا نراها شاخصةً في السابق، ونراها الآن تتحرَّك في حياتنا لتمنح عطاءها لكلّ بلاد العالَم الإسلامي في واقعها الجديد، ومعاناتها الجديدة.
فلم تعد كربلاء متّصلةً بقصّة جغرافية في نطاق بلد معيّن أو دولة معيّنة، بل راحت تتفاعل مع كلّ أرض يعيش فيها المسلم الصراع ضدّ الكفر والظلم والاستغلال والاستكبار، وبدت لنا أكثر من كربلاء، لنا كربلاء في لبنان، ولنا كربلاء في العراق، ولنا كربلاء في أفغانستان، ولنا كربلاء في كلّ بلد يقف فيه الإسلام والمسلمون ضدّ الكفر. ولم تعد عاشوراء ـــ عاشوراء الحسين وعاشوراء الشهداء ـــ مجرّدة في التاريخ، وإنّما تحوّلت لتكون منطلقاً في كلّ زمن، وكلّ جيل تتمثَّل فيه المجالات التي يقف فيها الإنسان المسلم في كلّ مرحلة من مراحل الجهاد من أجل العزّة والكرامة في سبيل الله.
عاشوراء في صميم الواقع
ولكن عندما نتمثَّل كربلاء في كلّ أرض يتحرَّك فيها الجهاد، وفي كلّ زمن ينطلق فيه خطّ الجهاد، لا بدّ لنا من أن نعيش هذه الروح، وهذه القضية، وهذا التحرّك بعمق المعاني التي عاشتها تلك الأرض، وبعمق الأهداف التي عاشها أولئك الشهداء.
كي لا تصبح عاشوراء مجرّد زمن يتحرّك فيه الجهاد، لا بدّ أن يكون الجهاد الذي نمارسه بحجم فكر الإمام الحسين (عليه السلام)، بحجم تطلُّعاته ووعيه لدوره وإخلاصه لربّه، وبحجم الأهداف الكبيرة التي يستهدفها للحياة. كذلك لا بدّ لنا أن نعيش في أنفسنا وفي حياتنا أجواء أولئك الشهداء الذين قال الإمام الحسين (عليه السلام) فيهم: "واللهِ ما رأيتُ أبرَّ ولا أوْفى من أصحابي، إنَّهم يستأنِسونَ بالمَنِيَّة استئناسَ الطفلِ بحالب أُمِّه".
لا بدّ أن نعيش هذه الروح المخلصة لله سبحانه وتعالى. فكربلاء ليس فيها شيء للذّات أو للفئة، كربلاء كلّها لله سبحانه وتعالى. القتال كان فيها لله، والسلم كان فيها لله، والصلاة كانت فيها لله، وكلّ العلاقات كانت منها في سبيل الله، لهذا إذا كنّا نفكِّر في أيّ مرحلة من مجالاتنا العملية في آفاتنا الضيّقة، كما كنّا نفكِّر سابقاً.
إذا كنّا نفكِّر أنْ يتعلَّب كلّ واحدٍ منّا في إطار معيّن أو في شخصيّته أو في ذاته، وأن يتعقَّد من أخيه المؤمن لمجرّد أنّه ينتسب إلى ما لا ينتسب إليه، فإنَّ عاشوراء ترفضنا وترفض جهادنا الذي سوف لا يكون لله، وإنّما يكون للإطار الذي يعيش فيه، وللذّات التي نختنق فيها.
وفي الظروف التي تريد منّا أن نعيش فيها الإخلاص لله تعالى، علينا أن لا نترك الشيطان مجالاً ينفذ فيه إلى أفكارنا ومشاعرنا وعلاقاتنا.. فلا نتحاور حوار الذين يعيش كلّ واحدٍ منهم الحذر والتحفُّظ من الآخر.
إنَّ علينا أن نشعر بأنَّ المعركة والمرحلة تصهرنا وتجعلنا أكثر وعياً لدورنا ولساحتنا، وأشدّ إخلاصاً في علاقتنا بالله سبحانه وتعالى. وعندما نستحضر ذكرى الآلام التي خلّفها الاضطهاد، والكفر والطغيان في عاشوراء التاريخ، علينا أن نرتبط بهذه الآلام التي يعيشها الناس هنا وهناك، وفي كلّ بلد من بلدان العالَم الإسلامي.
عندما نستقبل عاشوراء، علينا أن نستقبلها على أساس ما نحمل من مسؤولية تجاه الله سبحانه وتعالى، أن نعيش التقوى في الفكر عندما نفكِّر، وفي العمل عندما نعمل، وفي علاقاتنا وكلّ أوضاعنا العامّة.. وأن نشعر، أيضاً، أن لا صفة لنا إلاّ أنَّنا مسلمون، وعلى أساس هذه الصفة يجب أن نتصرَّف في أوضاعنا وعلاقاتنا وحربنا وسلمنا.. يجب أن لا نحرِّك رِجْلاً نقدِّمها أو نؤخِّرها إلاّ بعد أن نعلم ما هو حكم الله هنا، وما هو حكم الله هناك.
في ذكرى عاشوراء علينا أن نتطلَّع إلى الإمام الحسين (عليه السلام) في تلك الأرض التي واجه فيها الضلال والطغيان بكلّ قوّة، وواجه فيها الآلام بكلّ فرح روحي. "هَوَّنَ عليَّ ما نزل بنا أنّه بعين الله"، عندما تتألّمون، وعندما تجرحون.. لا تتخاذلوا ولا تهنوا، وإنّما قفوا وقفة الإمام الحسين عندما أخذ دم ولده الرضيع، وقال، وهو يرفع وجهه إلى السماء: "هَوَّنَ عليَّ ما نزَلَ بنا أنّه بعينِ الله"(1).
لنقل جميعاً: هوّن ما ينزل بنا من كلّ الآلام أَنّها في سبيل العزّة والكرامة والنصر في مواجهة الكفَّار.
لماذا إقامة عاشوراء؟
لماذا أراد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أن نقيم عاشوراء في كلّ بلد وفي كلّ جيل؟ حتّى أصبحت قاعدة أساسية من قواعد حركتنا الإسلامية في خطّ أهل البيت (عليهم السلام)، بحيث لو ذهبتَ إلى شرق الأرض وغربها لرأيت ذكرى عاشوراء تُقام وإن بشكلٍ متنوِّع.
لماذا إصرار أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) على الخطّ العاشورائي في العلاقة مع الإمام الحسين (عليه السلام)؟ لقد أرادوا لنا ذلك لأنَّ هذا الخطّ هو خطّ الرفض، الرفض للوثنيّة وللانحراف وللجاهلية وللظلم ولكلّ الذين يستعبدون وينهبون الناس، بكلمة واحدة ولكلّ أعداء الله، ولكلّ المناهج التي تبتعد عن الله.
وهذا الخطّ هو خطّ الموالاة لكلّ أولياء الله، ولكلّ المناهج التي تنطلق من الله، وتتحرّك في خطّ الله الذي انطلق فيه الإسلام من خلال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وانطلق فيه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمّة من خلاله. على أنّ هذا الخطّ يحتاج إلى قوّةٍ حركيةٍ تهزّ السائرين عليه في كلّ جيل وفي كلّ وقت، ليقول للنّاس كلّهم: إنَّ الدماء التي سالت في كربلاء هي سرّ شخصيّتكم التي ركّزت القاعدة الإسلامية المنطلقة في خطّ الله ورسوله وأوليائه من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام). لذلك تذكّروا دماء الحسين، لتتذكّروا الإسلام الذي انطلق الحسين (عليه السلام) في نهضته من أجل التضحية في سبيله.
تذكّروا كلّ الشهداء من الأطفال والرضّع، من الشباب والشيوخ، لتعرفوا أنّ التزامهم الإيماني بأهل البيت (عليهم السلام) لم يكن مجّاناً، وإنّما ثمنه كان دم الحسين (عليه السلام) ودم أولاده وأنصاره وأهل بيته، بحيث تبقى هذه الدّماء النهر الذي يتدفَّق ويتفجَّر في كلّ مرحلة تشعرون فيها بأنَّ للحريّة قضية وللوحدة ضرورة في صفوفكم.
لقد كان أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) من عشائر تتوزَّع على مجمل الجزيرة العربية، وكانوا ـــ قبل أن يجتمعوا في كربلاء ـــ متفرّقين حتّى في خطوطهم وانتماءاتهم السياسية. ولكن صوتَ الحسين (عليه السلام) هو الذي دعاهم وربطهم بالحقيقة الواحدة وبالرسالة الواحدة، فتوحَّدوا بالحسين، واجتمعوا على اسمه حتّى بعد أن جعلهم (عليه السلام) في حلّ من بيعته، لكنَّهم شعروا أنَّ البيعة ليست الأمر الذي يربطهم به، إنّما الرسالة التي يؤمنون بها من خلال قيادة الإمام الحسين، والخطّ الذي يتحرّكون فيه على أساس إمامته.
إنَّهم توحّدوا بالحسين (عليه السلام)، وتوحّدت مواقفهم ودماؤهم وكلماتهم، وتوحّد الصدق في عهدهم، ولذلك كان الإمام الحسين (عليه السلام) عندما يستأذنه أيّ شخص من أصحابه يتلو هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب : 23].
كأنّه يريد أن يقول لهم: يا أصحابي إنَّ وحدتكم هي وحدة الصادقين مع الله في عهدهم له.
ماذا طرح الإمام الحسين (عليه السلام) من شعارات في كربلاء:
1 ـــ "إنَّما خرجتُ لطلبِ الإصلاحِ في أُمّةِ جدّي أُريدُ أن آمرَ بالمعروفِ وأنهى عن المنكر"(1).
2 ـــ "لا واللهِ لا أُعطيكُم بيدي إعطاءَ الذّليلِ ولا أُقرُّ لكُم إقرارَ العبيد"(2).
3 ـــ "أَلاَ وإنَّ الدعيّ ابن الدعيّ قد تركني بين اثنتين: بينَ السّلةِ والذلّةِ، وهيهاتَ له ذلك، هيهاتَ مِنّا الذلّة، أبى اللهُ ذلكَ ورسولُه والمؤمنون"(3).
4 ـــ "وإنّي لا أرى الموتَ إلاّ سعادةً والحياةَ معَ الظالمينَ إلاّ بَرَماً"(4).
هذه هي بعض شعاراته، إلاّ أنّها ليست شعارات المرحلة التي كان يعيش فيها، لتكون المسألة مجرّد مسألة غارقة في التاريخ، لكنّها شعارات الحياة كلّها، وشعارات الإسلام في كلّ مواقعه. مَن منّا لا يلمح الإفساد والفساد السياسي على مستوى الحاكم والمحكوم وحركة الحكم.
مَن منّا لا يرى الإفساد والفساد على مستوى الاستكبار العالمي، والاقليمي والمحليّ في كلّ ما يريده الاستكبار من مصادرة لقضايانا المصيرية على مستوى الأُمّة وعلى مستوى البلاد؟
مَن منّا لا يجد أنّ الواقع يعمل على إفساد الأخلاق الفردية والاجتماعية في داخل الفرد المسلم والمجتمع والأُمّة المسلمة، من خلال من يريدون المتاجرة بالأخلاق؟
مَن منّا لم يرفض الواقع الذي يترك فيه الكثيرون من المسلمين عبادة الله، في الوقت الذي يقولون فيه: أشهدُ أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله، دون أن يصلّوا أو يصوموا أن يحجّوا لبيت ربّهم، ودون أن يعملوا على إخراج الحقّ المعلوم الذي فرضه ربّهم للسائل والمحروم في أموالهم وممتلكاتهم؟
مَن منّا لا يرفض هذا الواقع الذي ترك فيه المسلمون المعروف في العبادة والصدق والأمانة والعفّة والوفاء وما إلى ذلك من أصول الأخلاق الإسلامية؟
مَن منّا لا يرفض الكثير من مظاهر الانحراف في حياتنا، والعلاقات الممزّقة، والفتن التي تتحرّك على مستوى الأفراد والعوائل والأحزاب والطوائف الإسلامية وما إلى ذلك؟
إنَّ مثل تلك المشاكل قد تكون أخطر من المشاكل التي عاشها الإمام الحسين (عليه السلام)، وقال فيها: خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.
كانت المشكلة السياسية في زمن الإمام الحسين هي مشكلة الحاكم المنحرف الذي يحاول إعطاء حكمه صورة الإسلام، دون أن يمثّل في عمقه حكم الإسلام، أمّا في واقعنا الحاضر، فنلتقي بالحكّام الذين ينتمون إلى الإسلام، ولكنّهم يرفضون إعطاء حكمهم حتّى صورة الإسلام في الدول الإسلامية.
فالإسلام فيها يتمثّل غالباً في مناسبات الأعياد والعطل الإسلامية، أمّا القوانين فهي قوانين (الكفر) وما إلى ذلك وما يستحدثه الناس في مجالسهم النيابية. وإذا تحدَّث إنسان عن حكم الإسلام، وُصِفَ بأنّه متطرّف، وعلامة تطرّفه أنّه يريد تطبيق الشريعة الإسلامية والقوانين الشرعية. هذا متزمّت، وعلامة تزمّته أنّه لا يريد لنوادي القمار، ولا لحانات الخمور، ولا لأماكن البغاء أن تأخذ حريّتها.
من دروس عاشوراء
منذ أربعة عشر قرناً من الزمن تقريباً، ونحن نحيا هذه الذكرى في حياتنا، حتّى تحوّلت إلى عادةٍ متأصّلة متجذّرة في وجداننا الديني، ينشأ عليها الصغير، ويهرم عليها الكبير. وما زالت تتنامى وتتّسع وتمتدّ في كلّ ساحة يتحرّك فيها الإسلام في خطّ أهل البيت (عليهم السلام). وربّما نجدها تتمثّل حتّى في بعض الساحات التي لا تلتزم خطّ أهل البيت (عليهم السلام) مذهباً. على أنّ الطابع الذي أخذته هذه الذكرى في تقاليدنا وفي عاداتنا هو طابع الحزن الذي تسيل معه الدموع، وربّما تحترق فيه القلوب.
وعندما يعيش الإنسان الحزن على قضية مرَّت عليها القرون المتقادمة، يحتاج إلى تسويغ هذا الحزن، ليكون عنصراً فاعلاً في حياته. فما معنى أن تبكي على مأساة حصلت في التاريخ لأُناس تحبّهم من خلال عقيدتك وإيمانك وولائك؟ وأنتَ تعيش في أكثر من موقع من مواقع حياتك آلاماً قد تكون أقسى من آلامهم وفظائعها، وقد تكون وحشية ما يلقاه الناس الذين ترتبط بهم برابط العقيدة، والولاء، والإنسانية في الوقت الحاضر أشدّ فظاعة، فتشعر أنّك تعيش اللاّمبالاة أمام حركة المأساة في الحاضر.
إنَّ ذلك يعني أنّ حزنك على الإمام الحسين (عليه السلام) ليس حزناً إنسانياً رسالياً، ولكنّه حزن انفعالي جامد لا يتحرّك ليثير فيك حزناً مماثلاً في كلّ صورة شبيهة بصورة كربلاء. لذلك لا بدّ لنا أن نفسّر هذا الحزن لأنفسنا، حتّى نوحي لها بأنّ هذا الحزن ليس حزناً ذاتياً، بل هو حزن ينفتح على كلّ مواقع المأساة في الحياة، عندما تتحرَّك المأساة في ساحاتنا من خلال الذين يضطهدون الناس على أساس الإسلام، ويقتلون الناس على أساس التزامهم بالحريّة التي يقدّمها الإسلام، أو من خلال التزامهم بالعدالة التي هي سرّ حركة الإسلام.
نحن نحبّ الإمام الحسين (عليه السلام)، نحبّه ونحبّ أخاه، ونحبّ أُمَّه، وأباه، وجدَّه، والأئمّة المعصومين من ذريّته، وننتظر حفيده لنكون من جنوده، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً.. نحبّه لأنّه أحبَّ الله، ونحبّ آل بيته جميعاً لأنّهم أحبّوا الله. نحبّه ونحبّهم لأنّهم حملوا رسالة الله، ولأنّهم جاهدوا في سبيل الله، وأعطوا كلّ شيء يملكونه لله، من هنا فحبّنا لهم ليس ذاتياً، وليس حبَّ قرابة، أو حبّ صداقة، ولكنّه حبّ يفرضه علينا انتماؤنا إلى القاعدة التي انطلق منها الإمام الحسين (عليه السلام) وتحرَّك في اتّجاهها.
لقد أراد الإمام الحسين (عليه السلام) الإصلاح في الأُمّة، لا الإصلاح في العائلة أو القرية. الإصلاح على مستوى الأُمّة كلّها، لا على مستوى الوطن الذي يتأطَّر فيه الإنسان.
لقد انطلق (عليه السلام) ليقول لنا: فكِّروا في قضايا أُمّتكم من خلال الإسلام الذي حمله جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأصلحوا ما فسد فيها. فكِّروا في قضايا الأُمّة، حتّى يكون كلّ واحدٍ منكم مسلماً يحمل همَّ الإسلام كلّه، وهمّ المسلمين كلّهم. لا تعيشوا عصبية الذّات أو العائلة أو الوطن أو عصبية القوميّة. عيشوا رساليّة الإسلام في كلّ المساحات الإنسانية التي للإسلام فيها قضية، وللرسالة فيها خطّ، وللإنسان فيها انفتاح.
وعندما نفكِّر في حجم الأُمّة، سينطلق تفكيرنا في قضايانا الصغيرة على أساس مقارنتها بالقضايا الكبرى. فإذا ما أردنا أن نتحدّث عن قضية الحريّة ـــ على سبيل المثال ـــ فيجب أن نثيرها على أساس علاقتها بقضية الحرّة في العالم الإسلامي والعالَم بأسره، بحيث لا نجعل خطّ الحريّة حركةً قد نربح فيها شيئاً ويخسر العالَم الإسلامي من خلالها أشياء.
بمعنى أنّ هناك ضرورةً للتكامل مع العالَم الإسلامي في هذا المجال، حتّى نفهم دورنا تماماً كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "مَثَلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتراحُمهم كَمَثَل الجسدِ إذا اشتكى بعضُه تداعى سائرُه بالسّهرِ والحُمّى"(1) تماماً كما هو كلّ عضو في جسدك لا يطلب الراحة والشفاء لنفسه إلاّ من خلال راحة بقيّة الأعضاء.
فلا يمكن للإنسان أن يعالج يده إذا كان المرض يدبّ في كلّ أجزاء جسمه، كما لا يمكن أن يعالج يده بدواءٍ ينقلب إلى داءٍ في جميع أجزاء جسمه. بل لا بدّ ـــ حين أخذ الدواء ـــ من التحقّق من أنّ هذا الدواء لن تنتج عنه مضاعفات سلبية على الأجزاء الأخرى في جسد الإنسان، ولهذا قد يذهب شخص ما إلى بعض الأطباء، فيقولون له: إنَّ هذا الدواء يفيد في معالجة المرض، ولكنّه يضرّ المعدة، أو القلب، أو جهازاً عصبياً، أو ما إلى ذلك.. فلا بدّ من البحث عن دواءٍ يشفي المرض ولا يخلق أمراضاً أخرى لبقيّة الجسد.
هكذا عندما نريد أن نفكِّر في قضايا الأُمّة، فإنّ علينا أن نفكّر بحلّ المشكلة في بلدنا أو في إقليمنا أو في أيّ موقع يتّسع ويضيق من مواقعنا، بحيث لا ينعكس سلباً على قضايا الأُمّة. وهذا ما نواجهه في المرحلة الحاضرة في أكثر من قضية من قضايانا العامّة التي تتّصل بواقعنا كلّه.
لقد أصبحنا في كلّ بلدٍ نفكِّر بحلٍّ لمشاكله، كما لو كان هذا البلد منفصلاً عن البلدان الأخرى. نفكّر ـــ مثلاً ـــ بحلّ مشكلةٍ لبنانية بعيداً عن مشاكل العرب أو مشاكل المسلمين كلّهم، أو نفكّر بحلّ المشكلة العراقية مثلاً بعيداً عن المشكلة العربية أو الإسلامية المتّصلة بمواقع الاستكبار العالمي لتلك المشاكل.. وهذا وهم كبير، إذ لا يمكن أن تحلّ مشكلة في بلد وتستأصل من جذورها، إلاّ إذا استطعنا ربطها بالمشكلة الأُم التي توزّع مشاكلها على المواقع كلّها، وإلاّ فقد يكون ما يصوّر لنا حلاًّ، قد يكون مجرّد تخدير. هناك فرق بين أن تحلّ المشكلة، وبين أن تخدّرها. وهناك فرق بين أن تشفي المرض، وبين أن تخدّره.
قد يستيقظ الألم عند الشروع بعلاجه، لكنّه سوف يبرأ بعد ذلك. لهذا فإنَّ ما نودّ قوله في مرحلتنا الحاضرة، ضرورة استيحاء كلمة الإمام الحسين (عليه السلام) خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي.
إنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان ينظر في ثورته إلى السّاحة الإسلامية الواسعة، وإلى الخطّ الإسلامي الممتد في حياة المسلمين جميعاً. لهذا فإنَّ معارضته ليزيد لم يعقها كون يزيد خليفةً يعيش في الشّام. الإمام الحسين (عليه السلام) كان يعيش في الحجاز وبالتالي فإنّه لم يفكّر أنّه لا دخل لأهل الحجاز بأهل الشام وعلى كلّ فريق تدبير أمره ومشاكله، أليس هذا هو المنطق الذي نعيشه الآن في أكثر من بلدٍ إسلاميّ حيث يعتبر كلّ بلد أنّ له قضاياه ومشاكله التي يريد حلّها ولو على حساب قضايا الأُمّة؟
الإمام الحسين (عليه السلام) لم ينظر إلى القضية من هذا الجانب، ولم ينظر إلى يزيد باعتباره مجرّد والٍ على الحجاز يمكن أن يعزل فَتُحَلّ المشكلة، ولا باعتباره والياً على الشام، إنّما نظر إلى يزيد كونه (خليفة المسلمين)، فسلوكه ينعكس سلبياً على السلوك الإسلامي كلّه، وطريقته في إدارة المسؤولية تنعكس سلبيّاً على كلّ مواقع المسؤولية في العالَم الإسلامي.
وعلى أساس ذلك، فقد اعتبر الإمام الحسين (عليه السلام) مشكلة يزيد مشكلة تمسُّ الأُمّة كلّها، لا فريقاً معيّناً، لأنّه في موقع حاكم واسع الصلاحيات، في الوقت الذي لا يملك فيه أيّة مؤهّلاتٍ فكريةٍ وأخلاقيةٍ وروحيةٍ تسوّغ له أن يكون في هذا الموقع.
وعلى هذا الأساس وجد الإمام الحسين (عليه السلام) أنّ عليه أن يطلق الصوت، ولو ليسمعه بعض الناس، فالأصوات كانت قد خفتت، وأصبح هناك أمر واقع، كلٌّ يقول للآخر: ماذا نفعل وقوّة الدولة أقوى من قوّة الأفراد! كأنَّ عليهم الاستسلام للدولة. فهذا يخوّف صاحبه بانقطاع راتبه ـــ إذا ما قام بعمل ضدّ الحاكم ـــ، وذاك يخوّف صاحبه بتهديم بيته. وبذلك استطاع الحاكم أن يستقطب السّاحة كلّها من المؤيّدين له، ومن المعارضين الساكتين، ومن الحياديين الذين يجلسون على التلّ.. لهذا فالمسألة كانت بحاجة لصوتٍ ينطلق، يحرّك ويدوّي، ليربك السّاحة، وليخلق فيها ذهنيةً جديدةً، ليشجّع الذين لا يملكون أيّة إمكانياتٍ لحركة شجاعتهم، لأنّهم لا يرون أحداً يتحدّث أو يتكلَّم أو يثير المسألة.
إنَّ حركة الإمام الحسين لم تكن حركةً نحو الفتح الكبير على مستوى الواقع العسكري، ولكنّها كانت حركةً نحو الفتح الكبير على مستوى الذهنية الإسلامية التي يريد أن يطلقها باتّجاه قضايا الحريّة والعدالة، والمنهج الإسلامي القويم. لهذا نبّههم إلى أنّهم أُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأنّ هناك فساداً في الأنظمة، وأنّه (عليه السلام) انطلق ليُصلح، وأنّ عليهم أن يتبعوه.
وهكذا طرح مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أساس أنّه يمثّل الرقابة الاجتماعية التي يتحوّل فيها كلّ مسلم إلى خفير، فكلّ مواطن في الإسلام هو حارسٌ للقِيَم وللنهج الشرعي في حياة الناس.
أجل، إنّ كلّ مسلم هو حارسٌ للقضايا الكبرى التي يمكن أن يتحرَّك ضدّها هذا الفريق أو ذاك. وهذا ما يسمّى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي دعا الله سبحانه وتعالى الناس إليه، ليهيّئوا من أنفسهم جماعةً قويّةً بحجم الحاجة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران : 104].
على أساس أنّ سلامة المجتمع هي في الدعوة إلى المعروف ومواجهة المنكر، الذي يمكن أن يساهم في إسقاط حياة الناس فكرياً وسياسياً وأمنياً واجتماعياً واقتصادياً.
وعندما طرح الإمام الحسين (عليه السلام) هذه المسألة، طرحها بفرض أن تفتح عقول الناس على هذه العناوين، وأن تفتح أرواح الناس على تحسّس مثل هذه الأمور. ولم يكن في أسلوبه يتحرّك من موقع العنف، فقد خاطب الناس قائلاً: "فَمن قَبِلَني بِقَبولِ الحقِّ فاللهُ أوْلى بالحقّ"(1)، كأنّه يريد أن يقول للنّاس: فكِّروا في كلماتي وفي طروحاتي ومواقفي، ولا تستغرقوا في ذاتي، ولكن استغرقوا في الخطّ الذي أطرحه عليكم، وفي الواقع الذي أُنبّهكم إلى كلّ ثغراته وسلبياته. ومن ردّ عليَّ ولم يقبلني، فإنَّما يكون رافضاً للحقّ الذي جئتُ به، وانطلقت فيه صابراً حتّى يأتي الوقت الذي ينفتح الناس فيه على الحقّ دون أن أتراجع أو أن أسقط أو أتعقَّد، ولكنّني أُتابع قول كلمة الحقّ الآن وبعد الآن.
ولذا فعندما جاءت الجيوش لتقتل الإمام الحسين ولتحاربه، كان يقف في كلّ يوم ليخطب فيهم ليسمعهم كلمة الحقّ حتّى تُخرجهم من عصبيّاتهم، فيجعلهم يعيشون التوافق والانسجام بين الفكر والممارسة، لأنّه (عليه السلام) وجدهم كما وصفهم الفرزدق: قلوبهم معه وسيوفهم عليه، فحاول أن يجعل سيوفهم في اتّجاه ميل قلوبهم، وحاول أن يوفّق بين حركتهم في الواقع، وبين حركتهم في العقل وفي الفكر. لأنَّ هذه هي مشكلة أغلب الناس الذين يحبّون الله، ولكنّهم يحبُّون الشيطان معه. فعندما تنفتح مصالحهم على الخطّ الآخر، يحتفظون بمحبّهم كعاطفةٍ في قلوبهم، ويتحرّكون في خطواتهم لمحاربة الله ورسوله عملياً على أساس أنَّ مصالحهم تتّجه في ذاك الاتّجاه.
لقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) يعمل على فتح القلوب، فيما كانت قيادات يزيد تعمل على إغلاقها، ولذلك رأينا شمر بن ذي الجوشن يقف أمام الحسين (عليه السلام) وقد فرغ الحسين (عليه السلام) من خطابه ليقول له: ما ندري ما تقول، ولكن انزل على حكم بني عمّك(1)، بمعنى أنّنا لسنا مستعدين أن نسمع أو نفكّر بما تقول، لأنَّ مسألتنا محسومةٌ، فهي ليست مسألة قناعةٍ، ولكنّها مسألة منفعةٍ. وليست القضية أن تكون مسيرتنا حقّاً أو باطلاً، خيراً أو شرّاً.. بل القضية هي أن نقبض في مسيرتنا هذا المال أو ذاك، أو نحصل على هذا الموقع أو ذلك.
ولذلك فلا بدّ من دراسة قضايانا كلّها لا على مستوى الحاضر، بل على صعيد الحاضر والمستقبل. وهو ما نستوحيه من كلمة الإمام الحسين (عليه السلام) "وَمَنْ ردّ عليّ هذا أصْبر"(2). فلنقل الكلمة وليرفضها العالم، فلا بدّ أن يأتي وقت يمكن للنّاس أن يواجهوا فيه قضاياهم من موقع متقدّم. لأنَّ الحاضر إذا ضاق عن قضاياكم، فإنَّ المستقبل يمكن أن يفتح لكم أكثر من ثغرة.
فلا بدّ إذن من قول كلمة الحقّ دائماً مهما كانت الصعوبات، فالحق كالجنين تماماً، فكما أنَّ الجنين لن يستطيع بلوغ تكامله ونموّه إلاّ في الشهر التاسع، كذلك الحقّ قد يحتاج إلى سنوات، وقد يحتاج لأجيال. المسألة، كلّ المسألة، هي أن نعمل على أساس أن لا يفقد الحقّ نموّه في فكرنا وروحنا ووحدتنا وقوّتنا، وفي كلّ صرخات الدعوة إلى الله، والدّعوة إلى الحقّ.
وإذا ما أردنا عاشوراء إسلامية متحرّكة، فيجب الانطلاق على أساس أن تبقى عاشوراء لله ولرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وللإسلام، وأن تبقى عاشوراء في كلّ الأجيال صرخة الحرية والعدالة، عندما ينطلق الذين يستعبدون الناس ليفرضوا عليهم العبودية، أو الذين يظلمون الناس ليفرضوا عليهم الظلم. فإنَّ هذا هو طريق عاشوراء.
عاشوراء والعهد
من الآيات القرآنية الكريمة التي كان يردِّدها الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء، كلّما استقبل صحابياً من أصحابه أو فرداً من أهل بيته وهو يستأذنه للقتال، كان يتمثّل بهذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب : 23].
وكأنّه بذلك كان يريد أن يقارن بين هؤلاء الذين ثبتوا معه وبين أولئك الذين حاربوه. فالذين حاربوه كانوا قد عاهدوه من خلال رؤسائهم وفعاليّاتهم، ومن خلال الأفراد الذين بايعوا مسلم بن عقيل في الكوفة باسمه، وعاهدوه على أن ينصروه ويواجهوا الحكم الظالم معه، وأن يكونوا الجنود المجنّدة في موقفه من ذلك الحكم الظالم.
ولكن عندما خوّفهم الطغاة، واستيقظت نقاط ضعفهم في داخلهم ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وأخذوا يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ومشوا في خطّ الفساد في الأرض، فانطبقت عليهم الآية الكريمة: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة : 27].
لأنَّ الله سبحانه وتعالى جعل العهد في كلّ موقعٍ يعاهد فيه إنسانٌ إنساناً، سواء كان عهداً بين القيادة والنّاس، أو كان عهداً بين الناس أنفسهم، أو بين القادة أنفسهم. فإنَّ هذا العهد يمثّل عهد الله، لأنَّ الله أمر بأنْ يفي الناس بعهودهم في قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 34].
وهكذا أعطى هؤلاء العهد من أنفسهم أمام الله على أساس أن ينصروا الإمام الحسين (عليه السلام)، وألزموا أنفسهم بأن يصلوا ما أمَرَ اللهَ به أن يوصَل، وهم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجسَ وطهّرهم تطهيراً، وقد كان الحسين (عليه السلام) هو البقيّة الباقية من أهل البيت (عليهم السلام) آنذاك.
لقد انطلقوا وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل وأفسدوا في الأرض، باعتبار أنّ كلّ فئةٍ تساند ظالماً وتقاتل معه وتنضمّ إليه، تكون من فئة المفسدين في الأرض. لأنَّ حكم الظالم يمثّل حكم الفساد في الأرض، وأوضاع الظالم تمثّل أوضاع الفساد في الأرض. لأنَّ حكم الظالم يمثّل حكم الفساد في الأرض، وأوضاع الظالم تمثّل أوضاع الفساد في الأرض. والحسين (عليه السلام) هنا أراد أن يقول: أيُّها الناس قارنوا الموقف بين المعسكرين، بين معسكر النار والظلم في الأرض، وبين المعسكر الذي انضمّ إلى الإمام الحسين (عليه السلام). وقد تحدَّث الله عنهم في كتابه المجيد، في قوله: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ*الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ*وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} [الرعد: 19 ـــ 21].
الالتزام بالحسين إماماً
وهكذا أراد الإمام الحسين (عليه السلام) تركيز هذه القيمة الإسلامية من خلال الناس الذين وقفوا معه واتّبعوه وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، ذلك أنّهم عندما جاءتهم المشاكل وأراد منهم الآخرون تغيير موقفهم، رفضوا التبديل وأصرّوا على البقاء مع الإمام الحسين (عليه السلام)، حتّى عندما وقف الحسين (عليه السلام) ليحلّهم من بيعته، إذ قال لهم: "إنّي قد أذِنْتُ لكُم فانطلِقوا جميعاً في حلٍّ، ليسَ عليكُم حَرَجٌ منّي ولا زِمام، هذا اللّيلُ قد غَشِيَكم فاتّخِذُوه جَمَلاً"(1).
ولكنّهم لم يغيّروا ولم يبدّلوا، بل قالوا: لا نتخلّى عنك يا بن رسول الله حتّى لو قُتلنا وقُطّعنا وأُحرقنا، لأنّنا ننطلق في الوقوف معك والالتزام بخطّك من خلال كونك ولي الله وابن وليّه، ومن خلال كونك إمام هذا الدين وقائد المسلمين.
قالوا له: يا بن رسول الله لقد التزمنا بالإسلام ـــ بكلّ أحكامه ومفاهيمه ـــ، والتزمنا بقيادتك على أساس أنّها القيادة الإسلامية التي ركّزها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بقوله: "حُسينٌ مِنّي وأنا من حسين"(1)، وبقوله: "الحسنُ والحسينُ سَيِّدا شبابِ أهلِ الجنّة، الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"(2). فالتزمنا قيادتك لأنَّ رسول الله أراد لنا أن نلتزم قيادتك في إمامتك.
وحين صرختَ: "إنّي لم أخرُجْ أَشِراً ولا بَطِراً ولا مفسداً ولا ظالِماً، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جَدّي"(3)، وحدّدت طبيعة ثورتك الإصلاحية كونها تسعى لإصلاح ما أفسده الظالمون والمنحرفون من الواقع الإسلامي الذي تحرّك في أُمّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
سرنا معك لأنَّ الله أراد منّا أن نُصلِح أمور أُمّتنا أيضاً، فلست وحدك المسؤول عن ذلك، بل نحن أيضاً مسؤولون عن دعم حركة الإصلاح وتقويتها بالانطلاق معك تثبيتاً لموقفك، لأنَّ كلّ مسلم ومؤمن مسؤول عن طلب الإصلاح في أُمّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لأنَّ رسول الله قال للأُمّة كلّها: "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعِيَّتِه"(4).
الإصلاح مسؤولية الجميع
إنَّ الإصلاح في أُمّة رسول الله هو مسؤولية كلّ فرد من أفراد هذه الأُمّة، كلٍّ بحسب دوره وإمكاناته في كلّ المجالات، لذا قالوا: له يا بن رسول الله لقد قلت: "أُريدُ أن آمُرَ بالمعروفِ وأنهى عن المنكَر"، لأنّك رأيت المعروف الذي يتمثّل في طاعة الله في كلّ قضايا الإنسان والحياة يُترَك، ورأيت أنّ الناس يتركون طاعة الله في عباداتهم ومعاملاتهم، وفي حربهم وسلمهم وفي كلّ علاقاتهم. ورأيت المنكر هو كلّ ما حرَّمه الله، وأنكر أن يُفعَل، قد عمّ. فالناس يرتكبون المحرّمات ويلتزمون الظالمين ويدعمون المنحرفين، ولا يرفعون في وجوههم صوتاً.
لذلك قلت: أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وكنّا يا بن رسول الله معك، لأنَّ الله حمَّل كلّ مسلم مسؤولية أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر، ولأنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) حذَّر المسلمين من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنذرهم أنّهم في هذه الحال سيقعون في مصائب كثيرة وبلايا عديدة، وقال في ما قال: "لَتَأْمُرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهُنَّ عن المنكر أو ليُسَلِّطَنَّ اللهُ شرارَكُمْ على خياركُم فيدعو خياركُم فلا يُستجابُ لهم"(1).
وأمر رسول الله هذا موجّه للجميع، ولهذا فنحن مأمورون بأن نأمر بالمعروف وأن ننهى عن المنكر، كما أنتَ يا بن رسول الله مأمور بذلك. مأمورون بأن ندعم الذين يأمرون بالمعروف إذا كانوا في موقع القيادة أو المسؤولية وأن نثور معهم على الظّلم إذا ثاروا، وأن نكون معهم في خطّ العدل، وقد قلتَ: "فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أوْلى بالحقّ"(2).
الانقياد للحقّ
لم تُرِد للنّاس أن تقبلك لشخصك، إذ قلتَ لهم: أيُّها الناس اقبلوا الحقّ، فإذا قبلتم الحقّ ورأيتم أنّي على الحقّ فاقبلوني، وإذا قبلتموني باسم الحقّ فهذا من مسؤولياتكم وواجباتكم أمام الله. إنَّما أنتم تقبلون الحقّ الذي هو أمر الله سبحانه وتعالى وصنعه، فمن قَبِلَني بِقبولِ الحقّ فاللهُ أوْلى بالحقّ، إنّ الله هو الذي يكافئ مَن يقبل الحقّ.
لقد قال الإمام الحسين (عليه السلام) ذلك لأنّه قيادة تريد للنّاس أن لا تلتزم بشخصها، بل بالحقّ الذي تمثّله في شخصيّتها وفي واقعها. لقد قلت ذلك يا بن رسول الله ونحن معك فيه. لقد قالها أصحاب أبي عبد الله لأبي عبد الله بموقفهم، وإنْ لم يتفوَّهوا بها بألسنتهم. قالوا يا بن رسول الله لقد قبلنا بالحقّ، الذي رأيناك إمامه، لذا سنقبلك لأنّ الحقّ يتجسَّد فيك والقيادة كذلك، ولأنَّ رضاك رضا الله وسخطك سخط الله، ولأنّك لا تنحرف عن طريق الله كما لم ينحرف عنه جدُّك وأبوك وأخوك، لأنَّ الحقّ عنوان شخصياتكم ودعوتكم وحركتكم.
الثبات في موقع الحقّ
هذا ما قالوه له. ولقد ثبتوا على القول عندما جاءتهم كلّ التهاويل، وتجمَّعت العساكر الكثيرة في وضع غير متكافئ، وكانت جماعة الحسين (عليه السلام) من سبعين إلى ثلاثمائة رجل ـــ على اختلاف الأخبار ـــ، بينما كانت جماعة ابن زياد أربعة آلاف رجل على أقلّ تقدير، وهناك إحصاء يقول: إنَّهم كانوا ثلاثين ألفاً، فلم يكن هناك أيّ نوع من أنواع التوازن بين هذه الفئة القليلة وتلك الفئة الكثيرة.
ووقفت جماعة ابن زياد تستعرض قوّتها، وتعمل على هزّ قوّة أولئك المؤمنين السائرين مع الحسين (عليه السلام)، ولكنّهم لم يُفْلِحوا في إسقاط عزيمتهم، وبقيت هذه القلّة ثابتةً في مواقعها. وبدأت تتحرَّك في الخطّ الإسلامي الذي انفتح على الله فانفتح على الحسين (عليه السلام) من خلال الله، والذي انفتح على شريعة الله فانفتح على الثورة في خطّ هذه الشريعة، وهكذا وقفوا، وكانوا يستأذنون الحسين (عليه السلام) في القتال.
وكان الحسين يستقبل كلّ واحدٍ منهم بهذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} صدقوا بالكلمة وبالموقف {فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ} ـــ ويشير الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الذين استشهدوا معه ـــ {وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ} ـــ ويشير إلى الذين يتحرَّكون في خطّ الشهادة ـــ {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب : 23].
وتلك هي قضية المجاهدين مع الحسين (عليه السلام).
علينا أن نتساءل: هل هناك عهد بيننا وبين الله أم لا؟
هل هناك عهد بيننا وبين الحسين عبر رسول الله أم لا؟ تلك هي المسألة.
الإنسان المسلم والصفة الإسلامية
عندما ندرس المسألة بصفتنا مسلمين.. سنجيب عن تلك الأسئلة بسهولة، لا بالصفة العائلية أو الإقليمية أو القومية أو غير ذلك من الصفات الطارئة، لأنَّ الصفة الإسلامية هي التي تحدِّد المواقف الإقليميّة والقومية للمسلمين.
إنَّ العائلية والقومية والإقليمية والوطنية رموز قد تتحرّك مع الإنسان في الدُّنيا. أمّا في يوم القيامة: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون : 101].
فيُسأل عن موقفه من ربّه ومن رسوله وكتابه وشريعته.
وهكذا علينا تأكيد صفتنا الإسلامية، التي يجب أن تحدّد صفاتنا الأخرى على ضوء الإسلام.
الشهادة التزام بالعهد
إنّ قول أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله معناه الالتزام بعهد الله. لأنَّ قول أشهد أن لا إله إلاّ الله يعني يا ربّ إنّي ألتزم بوحدانيّتك في الألوهية ولا ألتزم بغيرك، إذا كان ذلك يبعدني عن التزامي بك. وقول: أشهدُ أنَّ محمّداً رسول الله يعني الالتزام برسول الله من خلال الرسالة التي حملها من الله، لأنَّ طاعته من طاعة الله، {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء : 80].
فالتزام عهد الله هو في توحيده وعدم الشرك به في شيء. وفي العقيدة: بعدم الاعتقاد بوجود إله غيره، وفي العبادة بعدم إطاعة أيّ مخلوق أو شيء إلاَّ فيما يتّفق مع طاعته، هذا هو الالتزام برسول الله، الذي أردنا أن نطيعه فيما يأمر.
إذاً: نحن في عهدٍ مع الله، ومع رسوله، وفي عهدٍ مع الحسين باعتباره سار في خطّ التزامنا بعهد الله ورسوله، ولأنَّنا في احتضاننا للحسين (عليه السلام) في كلّ سنة في مجالس عاشوراء نعبّر عن الالتزام بخطّه والالتزام بثورته. ولكن نتساءل: هل صدقنا الله عهده أو نقضنا عهد الله؟
إنَّ مَن يلتزمون بغير الإسلام خطّاً للعقيدة وللشريعة وللحياة هم ممّن نقض عهد الله، لأنَّ الله أراد أن نلتزم بشريعته. فالالتزام بأيّة شريعة أخرى هو مخالِف لالتزامنا ذاك. وإنَّ الالتزام بقيادة لا تعبّر عن شريعة الله وأمره ومنهجه هو التزام بغير عهد الله.
وهكذا عندما نسيء إلى من أراد الله لنا أن نحسن إليهم ونرحمهم ونعزّزهم ونحترمهم، نكون ممّن يقطع ما أمر الله به أن يوصل، وعندما نخذل العادلين، ونلتزم جانب الظالمين بتسويغ ظلمهم، ومهاجمة العادلين في عدلهم، عندما نخذل الصادقين، ونتّبع الكاذبين، عندما نسكت عن الحقّ، ونحن قادرون على أنْ نتكلَّم به.. فنحن نخون عهد الله. عندما نكون مع الذين ينقضون عهد الله، إنّما نسوّغ لهم ظلمهم وفسادهم، ونكون في غير خطّ عهد الله.
هذا الوعي لمسألة أنّ بيننا وبين الله عهداً، من الأمور التي لا بدّ أن يعيشها المرء في كلّ حياته الخاصّة والعامّة، وفي كلّ المجالات التي يتحرّك فيها. وقد قال الله سبحانه وتعالى لليهود من بني إسرائيل، عندما أرادوا منه أن يعطيهم ما وعدهم به: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة : 40] إذ ليس من المعقول أن ألتزم بعهدي مع إنسان لم يلتزم بذاك العهد.
عهد الله بالجنّة
لقد أعطانا الله العهد أن ندخل الجنّة إذا سرنا في الطريق الحقّ.
المسألة ليست مسألة تمنّيات ولكنّها مسألة مواقف. والله عندما أرسل رسولَه، إنّما أرسله من أجل أن يغيِّر العالَم، ومن أجل أن يغيّر الإنسان ليتحرَّك من خلال الحقّ، والخير والعدل.
وإذا لم نستطع أن نغيّر الواقع، فعلينا أن نعمل من أجل إرباك الخطط التي تسعى لأن تفرض علينا ما لا نريده، وأن نتابع السير حتّى لا يُشرِعن الآخرون ظلمنا وعبوديّتنا. لأنّ المجتمع الذي يسترخي أمام قوّة الأقوياء، سوف تسحقه أقدام أولئك الأقوياء. لا يكفي أن يكون لدينا تاريخ مشرق يرتبط به واقعنا الحاضر، بل يجب أن نعرف هل أنّ هذا الواقع الحاضر يتحرّك في خطّ ذلك التاريخ، أو ينحرف عنه.
"إنَّ المؤمنَ لا يلدغُ مِن جُحْرٍ مرّتين"(1)، وقد لُدِغنا في كثير من المواقع أكثر من مرّة، فعلينا أن نعرف طبيعة ما هناك من عقارب ومن جحور تختبئ فيها العقارب، وطبيعة ما هناك من غطاء يمكن أن يحجب عنّا بعض الأفاعي والعقارب.
الأبعاد الرساليّة لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)
كيف نستطيع استيحاء ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) في حركتنا الإسلامية الصاعدة؟
هل نحصر حضورنا فينا في إطار الأمجاد التاريخية التي تزهو بها الأُمم والشعوب تأكيداً على كونها ذات جذور عميقة في الماضي؟
أو ننطلق بها، في كلّ مفرداتها الفكرية والروحية والحركية، لنعيش إيحاءاتها المتنوّعة، كما لو كانت حدثاً مفتوحاً على الحاضر في تطلُّعاته المستقبليّة؟
إنَّ الجواب عن هذا السؤال ينطلق من القاعدة القرآنية الإسلامية التي تركّز على أنّ الماضي هو مسؤولية الذين عاشوه وصنعوه، في الدوائر السلبية والإيجابية، وذلك قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة : 134].
فليس المجد التاريخي مجداً لنا بالمعنى الحركيّ للمجد، بل هو مجد الأبطال الذين صنعوه. فنحن لم نصنعه، ولا علاقة لنا به، حتّى لو كنّا أبناء هؤلاء، ولن نحصل على أيّ ثواب عليه، {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى*وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى*ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 39 ـــ 41].
إنَّ قيمة التاريخ ـــ في الإسلام ـــ هي قيمة العبرة التي تفتح الحدث على الفكرة، وترصد الثوابت التي لا تخضع في خصوصيّاتها للفترة الزمنية، بل تشمل كلّ خطوط الزّمن، لأنّها خصوصيات الحياة كلّها، وهذا ما يجعلنا نرتبط بالشخصيات الإسلامية القيادية في مستوى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والأئمّة (عليهم السلام)، لأنَّ حركتها ليست حركة اللّحظة التي عاشت فيها، بل هي حركة الرسالة المتجسّدة في خطواتها الفكرية والروحية والعملية.
فنحن نرى أنّ قول المعصوم وفعله وتقريره، يمثّل الخطّ الشرعي الذي يؤكّد لنا شرعية الخطّ الذي ينطلق منه ويتحرّك فيه. وبهذا كانت الرسالة حركةً في وعي الرسول وفي سلوكه، كما كانت انفتاحاً على الآفاق العامّة والخاصّة في ذهنية الإمام وكلماته وخطواته.
وفي ضوء ذلك، لم تكن حركة الإمام الحسين مجرّد حركةٍ سياسيةٍ، بالمعنى التقليدي للكلمة، بل هي حركةٌ إسلاميةٌ في معنى الإسلام في الثورة، بحيث نلتقي فيها بالأبعاد الرسالية في خطوطها التفصيليّة التي تحدّد لنا شرعية النهج الثوري المتحرّك في نطاق التضحية حتّى الاستشهاد، وفي طبيعة الظروف الموضوعية المحيطة بالحدث الكبير في تلك المرحلة، وفي الظروف المماثلة لها في المراحل الأخرى، الأمر الذي يجعلها حالةً تطبيقيّة للخطّ الإسلامي النظري في الصراعات الداخلية التي يعيشها الواقع الإسلامي بين الاستقامة وخطّ الانحراف، في الموقع القيادي الشرعي أو في الموقع المتمرّد على الشرعية.
فلم يكن الحسين (عليه السلام) ثائراً ينتفض على الذلّ من موقع إحساسه الذاتي بالكرامة، أو التزامه العائلي بالعزّة، ولم يكن إنساناً متمرّداً على الواقع في المزاج التمرّدي الذي يرفض الأوضاع الخاصّة التي لا تنسجم مع مزاجه، كبعض الثائرين أو المتمرّدين الذين ينطلقون في ثورتهم وتمرّدهم من حالة انفعال عامّة، لا تملك أيّ نهج في الخطوط التفصيليّة للسلوك العملي في هذا الاتجاه. بل كان مسلماً في ثورته وانتفاضته على خطّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يفرض على المسلم الثورة على واقع الانحراف من أجل أن يغيّره نحو واقع الاستقامة.
وهذا ما يفرض علينا أن ندخل في عملية مقارنة بين ظروف المرحلة التي عاشها الإمام الحسين، وظروف المرحلة التي نعيشها، في طبيعتها، وفي مفرداتها، وفي خطوطها التفصيليّة، وفي تحدّياتها الفكرية والعملية.. لنتعرّف من خلال ذلك على معنى الشرعية في حركتنا في الظروف المماثلة. وهذا هو ما نلاحظه في الكلمة الأولى التي بدأ بها الإمام الحسين حركته فيما يتحدّث به الرّواة من سيرته أنّه خطب في أصحابه فقال: "أَيُّها النّاس إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قالَ: مَن رأى منكُم سلطاناً جائِراً مُسْتحِلاًّ لِحُرَم الله، ناكثاً بعَهدِه، مُخالِفاً لسُنّةِ رسولِ الله، يعملُ في عبادِ اللهِ بالإثْمِ والعدوانِ.. فلم يغيّر ما عليه بقول ولا بفعل، كان حقّاً على الله أن يُدخلَه مَدخلَه. وقد عَلمتُم أنَّ هؤلاء القومَ قد لَزِموا طاعةَ الشيطانِ وتَولّوا عن طاعةِ الرحمن، وأظهروا الفسادَ وعطَّلوا الحدودَ واستأثَروا بالفيء، وأحَلُّوا حرامَ الله وحَرَّموا حلاله"(1).
الثورة بداية التغيير
إنّها الثورة على السلطان الجائر، المستحلّ لحرمات الله في عباده، والذي لا يرى لأحد حرمةً أمام طغيانه واستبداده، الناكث لعهده، فلا يعاهد أحداً إلاّ لينقض عهده معه على أساس انتهاز الفرص التي يستفيد منها لمصالحه، لينتقل بعد ذلك إلى فرص أُخرى لمصالح أخرى، بعيداً عن أخلاقية الإنسان الذي يحترم كلمته ويلتزم بعهده. لأنّ الالتزام بالعهد لا ينسجم مع خططه الذاتية وأطماعه المادية وشهواته الغريزية.. الأمر الذي يجعل إسلامه شكلاً كلامياً لا يقترب من الصدق في الالتزام ولا في الاستقامة في خطّ السير.
العامل في عباد الله بالإثم والعدوان، هو الرجل الآثم في تعامله مع الناس، العدواني في تصرُّفاته معهم. لأنّه لا يعيش مسؤولية الحكم على أساس العدل، ولا يحترم الناس في علاقته بهم على أساس المسؤولية، فهو الوحش في صورة الإنسان.
هذا هو الإنسان الذي يجب أن تقوم الأُمّة بالثورة عليه، لتغييره واستبداله بإنسانٍ آخر من خلال الكلمة الثائرة والموقف القويّ الحاسم. فلا عذر للقادرين على عملية التغيير، أن يبتعدوا عن ساحة الصراع ضدّه، والثورة عليه، ولا مجال للحياد بينه وبين الحاكم العادل.
وهكذا كان الحسين يتحدّث عن الخطّ العريض للجانب الفكري من خطّ الثورة. أمّا الجانب التطبيقي في ساحة الواقع، فهو فريق الحكم الذي عاش في عصره. فهؤلاء الناس، في صورة الحاكم وأتباعه، هم الذين تركوا طاعة الرحمن ولزموا طاعة الشيطان، فابتعدوا عن الله سبحانه في حياتهم واقتربوا من الشيطان في ذهنيّاتهم وخطواتهم، وبدَّلوا الشريعة في نهجهم وطريقتهم، فإذا بالحلال يتحوّل إلى حرام عندهم، وإذا بالحرام ينقلب حلالاً في سلوكهم.
ثمّ كان من أمرهم أن استأثروا بثروة الأُمّة فحوّلوها إلى ثروة شخصية، وعطَّلوا الحدود التي أراد الله للعباد أن يقفوا عندها ولا يتجاوزوها، فأضاعوا الناس والحياة والدين كلّه.
وكانت الثورة الاستشهادية هي بداية التغيير من أجل أن تطلق الصرخة المدويّة، المضرّجة بالدّماء، المنفتحة على كلّ الحقّ والعدل والعزّة والكرامة والإنسان والحياة في حركة الحاضر نحو المستقبل.
تلك هي صورة التحدّي الحسيني في مواجهة الواقع المنحرف في داخل الواقع الإسلامي، لأنَّ الحركة كانت حركة داخلية فيما يعانيه الوضع الإسلامي العام للأُمّة على مستوى الحكم والحاكم.
إيحاءات عاشوراء في خطّ الدعوة إلى الله
هذه بعض إيحاءات عاشوراء في خطّ الثورة، فما هي إيحاءاتها في خطّ الدعوة إلى الله في نطاق الإسلام؟
إنَّنا نفهم أنّ كلّ حركةٍ للثورة هي حركة في اتّجاه الدعوة. لأنَّ الثورة تعمل على سدّ الثغرات التي ينفذ منها الكفر والضلال في واقع المؤمنين، وإغلاق النوافذ التي تتحرّك من خلالها رياح الانحراف في أجواء المسلمين، كما تعمل على إثارة اليقظة في العقول النائمة، وتحريك الوعي في الأحاسيس الجامدة، وفتح القلوب على المفاهيم الخيّرة في الأجواء الشّريرة... وبذلك يجد الناس فيها حياةً جديدةً للإسلام، تجدّد له شبابه، وتعيد إليه حيويّته، وتُسرع به إلى الهدف الكبير. فهي تختصر المراحل البعيدة، لتجمعها في حركة فاعلة في اتّجاه النتائج الحاسمة في الحياة.
لذلك كانت إيحاءات عاشوراء تنطلق في اتّجاه الدعوة، من خلال انطلاقها في عنوان الإصلاح في أُمّة رسول الله الذي يحمل في داخله إصلاح الخطّ الفكري والعملي، لتفتح الناس على الإسلام كلِّه حتّى لا يثقلهم الانحراف الواقعي فيبعدهم عن الاستقامة الفكرية.
إنَّنا نحتاج إلى عدم الاستغراق في المعنى السياسي في الثورة، الذي قد يبعدنا ـــ في النظرة الساذجة ـــ عن الدعوة، بل لا بدّ لنا من أن نعيش التكامل في خطواتنا، ليكون العنوان الفكري حركة في العنوان الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري.. من أجل أن يكون الدين كلّه لله، فلا يكون فيه نافذة تطلّ على غير الله. هذا هو بعض الحديث عن معنى كربلاء في حركة الإسلام في الدعوة والثورة معاً.
الحسين (عليه السلام) وارث الأنبياء
إنَّ العلاقة بعاشوراء تنطلق من خلال شخصية الإمام الحسين (عليه السلام)، فالحسين بالنسبة إلينا ليس مجرّد كونه ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى نرتبط به على أساس القرابة، ولكنّ الحسين (عليه السلام) هو الإمام المفترض الطاعة الوارث للأنبياء. ألاَ نقرأ في زيارته: السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوحٍ نبيّ الله، السلام عليك يا وارث إبراهيم صفوة الله، السلام عليك يا وارث موسى كليم الله، السلام عليك يا وارث عيسى روح الله، السلام عليك يا وارث محمّد حبيب الله، السلام عليك يا وارث عليّ وليّ الله.
إذاً الإمام الحسين (عليه السلام) بالنسبة إلينا هو الذي ورث الإمامة عن أبيه بنصّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهو الذي انطلق بإمامته ليرث رسالات الأنبياء كلّها، ورسالة الإسلام التي أُوكل إليه أمر حمايتها ورعايتها وتصحيح كلّ ما يريد الآخرون أن يحرّفوه منها. فنحن إذاً نرتبط بالإمام الحسين، باعتبار أنّه إمامنا الذي نأخذ منه شرعية الكلمة، وشرعية الموقف، وشرعية الحركة، وشرعية المواجهة.. لأنَّ الإمام ينطلق في خطّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويمثّل في كلّ سلوكه روح رسول الله ووعيه، وكلّ منطلقاته في الحياة.
لقد وقف في آخر حياته ليودّع المسلمين، فقال لهم: "أيُّها النّاس إنَّكم لا تُمسِكونَ عليَّ بشيءٍ، إنّي ما أحللتُ إلاّ ما أحلَّ القرآنُ وما حرَّمتُ إلاّ ما حرَّمَ القرآن".
لكأنَّ النبيّ يقول لهم: ليس عندي شيء خفيّ، وليست لديّ أوضاع باطنية خارج نطاق الرسالة، فأنا رسول الله إليكم، وأنا أوّل المسلمين الذين يتحرّكون بالإسلام على أساس ما أقوله لكم، ولذا تستطيعون أن تطالبوني بكلّ ما فعلته في حياتي العائلية والاجتماعية والسلمية والحربية.. هل أحللتُ ما أحَلَّ اللهُ وهل حَرَّمتُ ما حرَّم الله؟
الأُسس الشرعية لمعارضة الظالمين
وهكذا فكلّ المنطلقات، هي منطلقات الحلال والحرام في الإسلام، وليس لدى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) شيء خفيّ يقوله خارج نطاق الرسالة، وكذلك عندما نلاحظ أمير المؤمنين (سلام الله عليه) عندما يتحدّث عن الخلافة، ولماذا انطلق ولماذا صارَع، ولماذا جاهَد، ولماذا قاتل، فإنّه يقدّم حسابه لله فيقول: "اللَّهمَّ إنَّكَ تعلمُ إنّه لم يكن ما كانَ منّا تنافساً في سلطانٍ ولا التماساً من فضولِ الحطامِ، ولكن لِنُرِيَ المعالمَ مِن دينِكَ، ونُظهرَ الإصلاحَ في بلادِكَ ويأمنَ المظلومونَ من عبادِكَ ويُعمَلَ بفرائِضِكَ وسُنَنِكَ وأحكامِك"(1).
إنّه يعلّل حركته بالعناوين الإسلامية الكبيرة التي هي إظهار معالِم الدّين، وإصلاح واقع الناس، وتأمين المظلومين من عباد الله سبحانه وتعالى.
وعندما نأتي إلى الإمام الحسين (سلام الله عليه) لندرس شرعية حركته، فنرى أنّه بدأها بالبيان الأول الذي أُطلق من خلال حركته، قال لهم: "أيُّها النّاسَ إنّ رسولَ الله قال: مَن رأى منكُم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحُرَمِ اللهِ، ناكثاً بِعَهْدِهِ، مخالِفاً لسنّة رسولِ الله، يعملُ في عبادِ الله بالإثمِ والعدوانِ فلم يُغرْ عليهِ (أو فلم يُغيِّر ما عليه) بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِلَه مَدخَلَه. وقد عَلمتُم أنَّ هؤلاء القومَ قد لزِموا طاعةَ الشيطانِ وتولّوا عن طاعةِ الرحمن، وأظهّروا الفسادَ وعطَّلوا الحدودَ واستأثروا بالفيء وأحلُّوا حرامَ الله وحرَّموا حلالَهُ، وإنّي أحقُّ بهذا الأمرِ"(2).
إنَّه قال للنّاس ما معناه: إنّني أنطلق من حيث انطلق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ومن حيث أمر بالثورة وبالتحرّك وبالعمل في خطّ التغيير.
ثمّ بعد ذلك قال: "إنّي لم أخرجْ أَشِراً ولا بَطِراً ولا مُفْسِداً ولا ظالِماً، وإنّما خرجتُ لطلبِ الإصلاحِ في أُمّة جدّي. أُريدُ أن آمُرَ بالمعروفِ وأنهى عن المنكرِ وأسيرَ بسيرةِ جَدّي وأبي عليّ بن أبي طالب. فمن قَبِلَني بقبولِ الحقّ فاللهُ أولى بالحقّ، ومن ردّ عليَّ هذا أصبر"(1).
وقال بعد ذلك أيضاً: "ألاَ ترون إلى الحقِّ لا يُعْمَلُ به وإلى الباطلِ لا يُتناهى عنه"(2) وقال: "لا واللهِ لا أُعطيكم بيدي إِعطاءَ الذليلِ ولا أُقرُّ لكم إقرارَ العبيد"(3).
إنّ كلّ هذه الكلمات وكلّ هذه البيانات تعني أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد انطلق في حركته على أساس عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أساس إعادة الحقّ في الحياة إلى مواقعه، من أجل أن يعمل الناس بالحقّ، وإبعاد الباطل عن الواقع حتّى يبتعد الناس عنه، وأن يقف المسلم على أساس أن يجسّد العزّة في كلّ مواقفه، وأن يرفض الذلّ في كلّ مواقفه، كأنَّ الإمام الحسين (سلام الله عليه) يريد أن يقول لكلّ الأجيال من بعده: إنّني وقفت هذا الموقف من موقع إمامتي، ومن موقع تحرّكي في خطّ الرسالة. فإذا عشتم تجربةً كتجربتي، وإذا واجهكم حكمٌ للتحرّك وللانطلاق، فإنّكم تستطيعون أن تتحرَّكوا في الخطّ الذي تحرّكت فيه، لأنّكم بذلك تنطلقون من حيث انطلقتُ، وترتبطون بالحكم الشرعي من حيث ارتبطت.
وهكذا فعندما نتطلَّع إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنَّنا نأخذ منه شرعية التحرُّك عندما يقول لنا الناس ـــ كلّ الناس ـــ: لماذا تعارضون الحكم الظالم؟ وما الأساس الشرعي لمعارضة الحكم الظالم لماذا تريدون أن تغيّروا الواقع الاستكباري؟ لماذا تتحرَّكون في مواجهة الباطل وفي مواجهة الظلم والانحراف؟ لماذا تتحرّكون في هذا الاتّجاه وأنتم مسلمون؟
نقول: لأنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال لنا ذلك، وأنَّ علياً قال لنا ذلك عن رسول الله، ولأنَّ الإمام الحسين ـــ المفترض الطاعة ـــ قال لنا ذلك بموقفه بعد أن قاله بلسانه، وقاله لنا بدمائه بعد أن قاله لنا بمواقفه، وقاله لنا بكلّ آلامه بعد أن قاله لنا بكلّ مشاعره.
إنَّ الإمام الحسين يعطينا الشرعية والقدوة للانفتاح على كلّ الواقع الذي نعيشه مع رفض حالة الحياد بين الخير والشرّ. لأنَّ الظالمين يستفيدون من الأكثرية الصامتة أكثر ممّا يستفيدون من جنودهم، ومن أتباعهم، لأنَّ جنودهم يتحرّكون ضدّ المستضعفين، فيما لا يعطي المتفرّجون قوّتهم للمستضعفين، وبذلك يتغلّب المستكبرون على المستضعفين. فالأكثرية الصامتة هي التي يمكن أن ترجّح الكفّة عندما تتحوّل من صامتة إلى ناطقة، ومن ساكنة إلى متحرّكة، تلك هي المسألة. ولهذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) يهدّد كلّ الذين استنصرهم، فلم ينصروه وابتعدوا عن المعركة بغضب الله سبحانه وتعالى وبعذابه.
إنَّنا نستطيع أن نأخذ من موقف الحسين (عليه السلام) شرعية التحرّك، سواء كان في سلوك خطّ المعارضة السياسية أو المعارضة المسلّحة الثورية. فلقد عارض (عليه السلام) سياسياً في البداية، وأعلن رفضه للحكم بمختلف الوسائل، وبعد ذلك عارض من منطق الرفض العسكري. وإذا كانت المسألة عند الإمام الحسين (عليه السلام) هي مسألة الحكم المنحرف في داخل المجتمع الإسلامي الذي يأخذ شكل الإسلام، ولكنّه يعيش قِيَم الكفر ومخطَّطاته، إذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) يرفض مثل هذا الحكم ويقاتله، فلأنّه لا يمثّل الشرعية الإسلامية ولا العدالة الإسلامية في حكم المسلمين.
إذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) يثور ضدّ يزيد الذي كان يصلّي ويصوم ويحجّ في الشكل، فكيف يمكننا أن نرضى ونسكت ونؤيّد من لا يؤمن بالإسلام كلّه ومن يريد أن يفرض على المسلمين شريعة الكافرين، ويضغط عليهم ليبتعدوا عن طاعة الله.
إذا كان الحسين يرفض أن يضع يده في يد يزيد، فهل يقبل منّا أن نضع أيدينا في أيدي اليهود أو في أيدي الاستكبار العالمي؟
في كربلاء أفكار تنبض بالحياة
حين نستعيد أجواء عاشوراء، فإنّما نستعيدها لنعتبر بها ونتعلَّم منها، ونعيشها من أجل أن نكون في المرحلة التي تكمل تلك المراحل، لأنَّ الحسين (عليه السلام) كان خطوةً متقدّمة في المسيرة الإسلامية الطويلة، التي لن تنتهي حتّى يرث الله الأرض ومَن عليها، إنّه كان يتمثّل بهذه الآية الكريمة: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب : 23].
هناك من انتهت مرحلته ولاقى وجه ربّه، وتلك هي قصّة عاشوراء.
عهد مع الله
قصّة كلّ أبطال عاشوراء أنّهم عرفوا الحقيقة، وعاهدوا الله. اعتبروا أنّ بينهم وبين الله عهداً، وأنّ الإنسان الذي يعاهد الله لا بدّ له أن يصدق مع الله عهده. ومعنى أن يصدق مع الله في عهده، أن ينظر ـــ في كلّ مرحلة من مراحل حياته ـــ إلى كلّ ما يعمله، وإلى كلّ ما يريد أن يسير فيه، ليجد هل هو منسجمٌ مع عهده مع الله أو لا؟
والآن، كيف نفهم عهد الله هذا الذي أشارت إليه الآية، وهذا الذي تمثّل به الإمام الحسين (عليه السلام) في كلّ وقفة من وقفات الشهادة التي كان يقفها أصحابه وأهل بيته (عليهم السلام)، ما هو عهد الله؟ عهد الله هو الإسلام، وهو الإيمان، معنى أنّك مسلم، هو أن تعاهد الله سبحانه وتعالى، وأن تسلم كلّ حياتك له وفي سبيله، أن تجعل كلّ خطواتك في طريقه، أن تواجه كلّ التحدّيات، وكلّ الأخطار، وكلّ العقبات في سبيل الله، ومن أجل الله.. ذلك هو عهد الله، أن تُسلِم له أمرك وحياتك. لا أمر لك مع أمره، ولا كلمة لك مع كلمته. تقول في كلّ مرحلةٍ من مراحل حياتك وفي كلّ يوم تصبح فيه وتُمسي: طاقاتي كلّها لك وحياتي كلّها لك.
جون: العبد الأسود
ولا يبقى لنا إلاّ أن نفهم موقفنا الذي يمتدّ من مواقف أصحاب الحسين (عليه السلام)، وهو موقف الإنسان الذي يشعر بالمسؤولية أمام الله، فيجعل حياته منسجمة مع خطّ المسؤولية. إنَّنا نلتقي بهم في موقف (جون) العبد الأسود مولى أبي ذرّ الغفاري. ولقد عاش بعد أبي ذرّ مع الأئمّة، ومع الحسين (عليه السلام) وأهل بيته، يخدمهم بكلّ طاقته. وعندما انطلقت المعركة في كربلاء خاطبه الإمام الحسين وقال له: "يا جون أنتَ في إذنٍ منّي فإنَّما تَبِعتَنا طَلَباً للعافية، فلا تَبتلِ بطريقتنا"(1). أنتَ كنتَ خادماً لنا، تخدمنا لتعيش وتضمن حياتك معنا، ونحن الآن في موقف لا يغري إنساناً بالربح، ليس فيه إلاّ الموت، فحاول أن لا تبتلي بطريقتنا.
موقف حرّ
ماذا كان جوابه؟ قال: يا سيّدي أنا في الرّخاء ألْحسُ قصاعكم وفي الشدّة أخذُلُكُم. والله إنَّ ريحي لمُنْتنٌ وإنّ حَسَبي للَئيمٌ ولوني لأسْوَدٌ. فتنفَّسْ عليَّ بالجنّةِ، فتطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض وجهي(2)...! وتحرَّك هذا الإنسان في خطّ الشهادة، لأنَّه شَعَرَ أنّ هناك عهداً بينه وبين الله، وهو عهد الإيمان والإسلام، وأن لا تكون علاقته مع أهل البيت، علاقة خبز ومال، وإنَّما هي علاقة الإيمان حتّى الشهادة.
حبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة
وهكذا عندما نقترب من هؤلاء الذين كانوا يتحسَّسون المسؤولية، ويصدقون بالتزاماتهم، نقف أمام حبيب بن مظاهر، ومسلم بن عوسجة، كانا صديقين وجاءا للمعركة، وجاهدا بين يديّ الإمام الحسين، وعاشا مع الحسين (عليه السلام) الالتزام بخطّ الإسلام.
وصُرع مسلم بن عوسجة، فمشى إليه الإمام الحسين (عليه السلام) ومعه حبيب بن مظاهر وجلسا عنده وهو في حالة الاحتضار، قال له حبيب: والله لولا أنّي أعلم أنّي في الأثر لأحببت أن توصي إليّ، فإنَّ الصديق يوصي صديقه في حالة الاحتضار، يوصيه بأهله وبعياله. ولكن مشكلتي أنّي سأموت من بعدك وسأسير في نفس الطريق. كنتُ أُحبّ أن توصيني لأُنَفِّذ وصيّتك، فقال له: لي وصيّة تستطيع أن تنفّذها الآن. قال: وما وصيّتك؟ قال: أُوصيك بهذا ـــ وأشار بيده للإمام الحسين (عليه السلام) ـــ جاهِدْ دونه حتّى تموت.
وصيّة الشهداء: لا نبالي أن نموت على الحقّ
هذا هو الالتزام بالخطّ والصدق في الإيمان، فقد كان يفكِّر في القائد وهو في حلاوة الاحتضار، وكان يوصي بالجهاد، ويفكّر بأصدقائه أن يسيروا حيث سار هو وأن ينطلقوا حيث انطلق.
عليّ الأكبر يقول لأبيه الحسين (عليه السلام) بعدما استرجع قائلاً: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة : 156]، يا أبتاه، لِمَ استرجعت؟ قال: عنَّ لي فارسٌ، وأنا في المنام، يقول: القومُ يسيرونَ والمنايا تسيرُ خلفَهم. فعلمتُ أنَّ نفوسَنا نُعِيت إلينا".
قال عليّ الأكبر: يا أبتاه أَلَسْنا مع الحقّ؟
قال الحسين: "بلى، والذي نفسي بيده.
قال عليّ: والله لا نبالي أَوَقَعْنا على الموت أم وقَعَ الموت علينا(1).
تلك هي القضية، أن يفكّر الإنسان في هذا الاتجاه في كلّ ما يعمل وفي كلّ ما يقول. لا بدّ أن يكون الهاجس عندك، أنّك على حقّ أو على باطل، عندما تتكلَّم، هل كلمتك كلمة حقّ أو كلمة باطل وعندما تعمل، هل عملك يسير في طريق الحقّ أو في طريق الباطل؟ وعندما تنتمي، هل انتماؤك حقّ أم باطل؟ عندما تؤيّد وترفض، القضية أن نكون محقّين. وعندما نكون محقّين ليس هناك مشكلة في أن نموت أو نحيا. عندما نكون محقّين نبقى في الحياة، فستكون حياتنا كلّها خطوات متحرّكة في طريق الحقّ. وعندما نكون محقّين ونقدم على الله سبحانه وتعالى، فإنَّ الله سيقبلنا برحمته وبلطفه.
قضايا الثورة مسؤولية الحاكم
لعلَّ السؤال الأكثر إلحاحاً عند كلّ وقفة مع ذكرى عاشوراء، هو ما القضايا التي طرحها الإمام الحسين (عليه السلام) كأساس لحركته وكمسوّغ لثورته؟ ما هذه القضايا بالتفصيل؟
هناك نوعان من القضايا، نوع يتّصل بشخصية الحاكم الذي يريد الحسين (عليه السلام) للأُمّة أن تثور عليه، ونوع يتّصل بموقف المسلم من الضغوط والتحدّيات والعروض التي توجّه إليه.
شخصية الحاكم
كان الإمام الحسين يعيش في نطاق الجوّ الإسلامي الذي كان يتزعّمه حاكم يتظاهر بالإسلام. ولكن كيف طرح الإمام الحسين قضية المسؤولية؟ لقد طرحها من خلال كلمة قالها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويقال إنَّ أوّل بيان صدر من الإمام الحسين في تحرّكه هو هذا البيان: "أيُّها الناس، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: مَن رأى منكُم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لِحُرَم الله، ناكِثاً بعهده، مُخالِفاً لسنّةِ رسول الله، يعمل في عبادِه بالإثمِ والعدوان فلم يُغِرْ (وفي رواية فلم يُغيّر ما) عليه بقولٍ ولا بفعل، كان حقاً على الله أن يُدخِله مَدخَله". ثمّ طبَّق: "وقد عَلمتُم أنّ هؤلاء القومَ ـــ ويشيرُ إلى بني أُميّة وأتباعِهم ـــ قد لَزِموا طاعةَ الشيطانِ وتولّوا عن طاعةِ الرحمن، وأظهروا الفسادَ وعطَّلوا الحدودَ واستأثروا بالفيء، وأحلُّوا حرامَ اللهِ وحرَّموا حلالَهُ، وإنّي أحقُّ بهذا الأمر"(1)، هذا بيانه الأوّل.
نريد هنا أن نقف وقفات قصيرة حول هذه الدعوة التي رواها الحسين (عليه السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وحول التطبيق الذي طبّقه الحسين (عليه السلام) على الواقع، ثمّ بعد ذلك ندخل في عملية مقارنة بين ذلك وبين الواقع الإسلامي في البلاد التي يحكمها مسلمون، أو في البلاد التي يحكمها غير المسلمين. ماذا قال رسول الله؟
إنَّ رسول الله يدعو المسلمين إلى أن يواجهوا مسألة الحاكم مواجهة المسؤولية، لا مواجهة اللامبالاة. يعني ليس لك أن تقول كما يقول بعض الناس: ما لنا وللدخول بين السلاطين، فليكن الحاكم كيفما كان فنحن معه. هذا منطق يردّده البعض في مجتمعنا.
الأُمّة مسؤولية الحاكم
لقد حمَّل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الأُمّة مسؤولية الحاكم. إذا كان الحاكم عادلاً يحكم بما يراه الله وبما أنزله، وبما جاء به رسوله ويعدل بين الناس، فيجب على الأُمّة أن تسانده وأن تخضع له وتطيعه. ومن ابتعد عن طاعته، فإنّه ابتعد عن طاعة الله ورسوله. فإذا كان هناك حاكمٌ عادلٌ، فمن مسؤولية الأُمّة أن تطيعه وأن تخضع له. لأنَّ الحاكم في الإسلام ـــ فرداً كان أو هيئة ـــ إنّما يمثّل توازن المجتمع وتوازن الأُمّة في آنٍ معاً. فهو يمثّل السلطة العليا الضاغطة على كلّ السلطات المتدرّجة في المجتمع.
فإذا كانت السلطة العليا سلطةً عادلةً، فإنّها تجعل كلّ السلطات التي تخضع لها وتتحرَّك من خلالها تسير في خطّ العدل. وإذا كانت هذه السلطة جائرة، فمن الطبيعي أن يكون الناس على دين ملوكهم ورؤسائهم. وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
إذا كانَ ربُّ البيتِ بالطّبْلِ ضارِباً فَشِيْمَةُ أهلِ البيتِ كلِّهِمِ الرّقْصُ
إنَّنا نفهم من هذا أنّ قضية الحاكم في الإسلام ليست قضية تعيش خارج اهتمامات الأُمّة، بل يتحمّل كلّ فردٍ من أفرادها مسؤولية الحاكم العادل بطريقة إيجابية، ومسؤولية الحاكم الجائر بطريقة سلبية.
ارتباط المبدأ بالسياسة
حين يشير الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى ارتباط قضية الحكم بالمبدأ، فإنّه يشير إلى عمق الارتباط بين المبدأ والسياسة، ومن دون أن يرى الناس مانعاً لرسول الله أن يتكلّم بذلك، مع أنّهم يرون حديث الساعة غربياً عن العلماء، حتّى أنّ امتياز العالَم ومصداقيّته لدى البعض يعود إلى عدم تدخّله في الواقع السياسي، فعمله واضح جداً وبسيط جداً، فمن المسجد للبيت، ومن البيت للمسجد.
ولعلَّ هذا المثل الأعلى في مجتمعنا اليوم هو الإنسان المؤمن البعيد جداً عن هذا الجوّ، فلو تقاتل أهل البلد أو تصالحوا، فالأمر سواء لديه. إنَّ هذا مقياس خاطئ دون شكّ. فإذا كان لا يصحّ تدخّل العلماء بالسياسة، فكيف تدخّل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بالسياسة.
الحسين (عليه السلام) يتكلّم عن سياسة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم). والإمام الحسين (عليه السلام) بنفسه يشير إلى منهج مستقرٍّ في السياسة. إذن على حسب هذا المقياس، فأساليب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ينبغي أن نغيِّرها.
كلّ الذين يشتغلون بالسياسة التي تؤيّد النظام الجائر، هؤلاء يزحفون وراء الظلمة، ووراء الزعماء الفسقة، ووراء كلّ هؤلاء الذين يعيثون في الأرض فساداً.. هؤلاء هم وعّاظ السلاطين، علماء السوء. أمّا العالم الذي يريد أن ينطلق في حياة الناس بالصدق وبالإخلاص، لكي يقول للظالم يا ظالم، ويحدِّد مواطن الفساد ليدفع الناس في الحياة إلى خطّ القرآن الذي يقول: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل : 90].
كلّ من يدعو للعدل إنّما يسير في خطّ الله سبحانه وتعالى. على كلّ إنسان في المجتمع أن يتحمَّل مسؤوليّته كبيراً كان أم صغيراً.
وتحمّل المسؤولية يتمثّل في بعض جوانبه بقيام الإنسان بتخفيف آلام المجتمع ومحاربة الظلمة والفساد فيه. لو صلّى الإنسان ألف ركعةٍ في اليوم، ثمّ انطلق ليطوف ببيوت الظالمين، فإنَّ الله يضرب بصلاة هذا الإنسان بوجهه ويقول له: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت : 45].
التخلُّف أنتجَ مقاييس خاطِئة
إنَّ الطواف ببيوت الظالمين وتأييدهم هو من أشدّ أنواع المنكر. على هذا المقياس يجب أن نقيس واقعنا وحياتنا، فلدينا مقاييس خاطئة تعلّمناها من عهود التخلُّف وذهنيّته، وبهذه الطريقة حاول الاستعمار أن يبعد الطاقات الخيّرة عن المجتمع، بالإيحاء بأنّ الإنسان الروحي هو الذي لا يتدخّل بالسياسة. وكيف لا يتدخّل، أي لا يحارب المستعمر، لا يحارب الظالم، بل يسير في حياته على أساس أن لا شُغلَ له بكلّ هذا الواقع. وحين لا يكون للطاقات الخيّرة دور بقضايا الأُمة، فإنَّ الناس تتهالك وراء الحاكم. حيث ينخذل الواعون من الأُمّة.
إنَّ من واجب العالم الواعي أن يقف ليبيّن للناس الحقّ حتّى لو رجمه الناس بالحجارة، أو لعنوه أبداً.
إنَّ الإنسان الذي يمشي في طريق الحجّ، لا يحتاج إلى رضا الناس، وإنَّما يحتاج إلى رضا الله سبحانه وتعالى. من أراد رضا القاعدة الشعبية فإنّه يعمل ليُقنع هذا، ويرضي ذاك. لكنّ الإنسان المؤمن هو الذي لا ينظر إلاَّ إلى رضا الله وشعاره: "صانِعْ وجهاً واحداً يكفِكَ الوجوهَ كلَّها".
هذا هو الخطّ، وهذا هو المفهوم الصحيح. ثمّ نتبع كلمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، كلمة قالها، ومن الراوي لتلك الكلمة؟ إنّه الحسين (عليه السلام): إنّه يتابع الحديث عن الحاكم الجائر الذي يستحلّ حرم الله.
فهو يعمل على أساس تحقيق مطامعه ومطامحه وشهواته، ويحاول أن يقتل، أن يسجن، أن ينتهك كلّ حرمة، أن ينتهك كلّ عِرض.. أن ينتهك كلّ الأقداس في سبيل أن يحقّق مطامعه ومطامحه وشهواته في الحياة مستحلاًّ لحرم الله كلّها: حرمة المؤمن هي من حرمات الله، عزّة الأُمّة هي من حرمات الله، كرامة الأُمّة هي من حرمات الله، مستقبل الأُمّة، استقلالها، حريّتها.. كلّ ذلك هو من حرمات الله، وتحضرني هنا قصّة عن قيمة المؤمن في حساب الإسلام.
حرمة المؤمن
يروى أنّ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) التقى في أحد الأيام برجل إلى جانب الكعبة ومعه بعض أصحابه، فالتفت إلى أحدهم قائلاً له: "أتَرى إلى هذه الكعبةِ، كم هي عظيمةٌ ولها حرمةٌ عندَ اللهِ".
قال: بلى، إنّها الكعبة. ومن يستطيع هَدْم الكعبة، فالدنيا تنهدم لتبقى الكعبة.
قال: إنَّ حرمةَ المؤمنِ عند الله أعظمُ من حُرمةِ الكعبةِ بسبعينَ مرّة".
إذا هَدَمَ أحدٌ حَجَراً من أحجارِ الكعبة، فماذا يحدث في العالَم الإسلامي؟
إذا أراد أحدٌ أن يلطّخ الكعبة بالقاذورات، ماذا يحدث في العالَم الإسلامي؟
لكن أن يضرب أحدهم مؤمناً أو يهينه أو يسجنه أو يعذّبه أو يقتله.. هذا عند الله أعظم من حرمة الكعبة سبعين مرّة.
فالإنسان المؤمن في الإسلام أعظم من المسجد، وأعظم من المؤسّسة. الكعبة في نظر الإسلام إنّما هي للنّاس حتّى يتعبَّدوا الله من خلالها، أمّا المؤمن فهو عند الله أعظم من الكعبة. هذه هي حرمات المؤمن. فكلّ من يستحلّ حُرمةً من حرمات المؤمن، يصدق عليه القول: مُسْتَحِلاًّ لِحُرَم الله. ثمّ يتابع الإمام الحسين (عليه السلام) الصفات: ناكثاً لعهده، مُخالِفاً لسنّة رسول الله، سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أيّ شريعته، الخطّ الذي خطّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في الحياة.
الحلال والحرام نظام حياتنا
إنَّ شريعة الله تتمثّل في الحلال والحرام الذي هو حياة الإنسان. وإذا رفض الإنسان الحلال والحرام الذي جاء به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فمعنى ذلك أنّه يرفض كلّ نظام جاء من عند الله.
فقصّة حلال الله وحرامه هي نظام حياتنا الذي أنزله الله على رسوله، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أعرب بما يُصلحنا وما يُفسدنا. فالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول: مَن رأى منكم سلطاناً جائِراً مُسْتَحِلاًّ لِحُرَم الله مُخالِفاً لسنّة رسول الله ناكثاً بعهده.
والصفة الثالثة للسلطان الذي يجب على الأُمّة أن تثور عليه هو الذي يقف في أوّل ولايته، ليبيّن للناس أنّه قادم لنشر الأمن، فيعطي الناس التزاماً ومواثيق، ثمّ ينكث ليعمل في عباد الله بالإثم والعدوان والظلم، يعتدي على الأبرياء الآمنين، والمعذّبين المضطهدين.
إنّه السلطان الجائر، حياته هي العدوان بكلّ ما لديه من قوّة، هذا الشخص، وقلنا بأنّ هذا لا يعنينا، ما لنا وللدخول بين السلاطين، هنا يأتي الإنذار من مقاومتك ومعارضتك لهذا الإنسان بما تملك من قول أو فعل، فاستعدّ غداً عندما ينادي الله: {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود : 18].
فإنّك ستكون تابعاً من أتباعهم أيضاً، لأنَّ الساكت عن الحقّ شيطان أخرس. حتّى الحيادي لا يَسلَم، فليس هناك حياد بين حقّ وباطل. فالإمام عليّ (عليه السلام) قيل له عن اثنين، عن عبد الله بن عمر، وعن كعب بن مالك، أنّهما اعتزلا المعركة التي جرت بينه وبين معاوية.
قال: "لم يَنصُرا الحقَّ ولم يَخذُلا الباطلَ"(1)، لا يكفي أن لا تنصر الباطل، إذ يريد منك الإسلام أن تقاومه. ولا يكفي أن لا تنصر الظلم، بل لا بدّ لك من أن تقف في وجهه بمقدار ما تستطيع. فلم يغر عليه بقول ولا بفعل كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله، هذا إذن الحاكم الذي يجب أن يُثار عليه.
تطبيق الفكرة
كيف طبَّق الإمام الحسين (عليه السلام) هذه القضية. لقد كانت ذريعته في الثورة على هذا الأساس، قال: ألاَ وإنَّ هؤلاء القوم، طبعاً يقصد الحكم الذي كان موجوداً آنذاك، وكان في قمّته: يزيد بن معاوية وبعض رموزه ـــ عبيد الله بن زياد وما إلى ذلك ـــ "ألاَ وإنَّ هؤلاء القومَ قد لَزِموا طاعةَ الشيطانِ وتركوا طاعةَ الرحمن". الخطّ الذي يسيرون فيه في الحياة هو خطّ الشيطان، وهم يبتعدون عن خطّ الرحمن. لماذا؟ لأنَّ خطّ الشيطان إنّما هو خطّ الظلم والفسق، واللّهو والعربدة والفجور وما إلى ذلك.. وقد قال الإمام الحسين (عليه السلام) عن يزيد: "رجلٌ فاسقٌ شارِب الخمر قاتل النّفس المحترمة"(2).
إنَّ يزيد وأتباعه قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأحلُّوا حرام الله وحرَّموا حلاله، باعتبار تلاعبهم بأحكام الله، فقد كانوا إذا ما وجدوا هناك حديثاً لا يتّفق مع مزاجهم ومع أوضاعهم، يحاولون البحث عن تخريج له، بأن يأتوا إلى بعض رواة الحديث ويقولون له: اصنع لنا حديثاً يحلّل هذا الشيء. اصنع لنا حديثاً يبيح لنا هذا الفعل. أمّا ما كانوا يريدون أن يمنعوا الناس عنه وهو حلال، فقد كانوا يحرّمونه.
"واستأثروا بالفيء"، والفيء يعبّر عن ميزانية الدولة الإسلامية، أي ما يفيء به الله على المسلمين وعلى الناس. إنَّهم كانوا يستأثرون بما يفيء به الله على المسلمين وعلى الناس، فيعطونه لأصحابهم ولمحاسبيهم ولأزلامهم.. وعطَّلوا حدود الله أي: القوانين التي أعدَّها الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ من أجل ضبط حياة المجتمع في جميع الحالات. يقول الإمام الحسين: وإنّي أحقّ بهذا الأمر، لأنّي أحمل مسؤولية الإسلام، ومسؤولية المسلمين بالوقوف أمام الأوضاع والأجواء التي تنطلق في الخطّ الذي يسيء إلى مستقبل الإسلام ومستقبل المسلمين.
إذن، نعرف من خلال هذا، أنَّ المسوّغ الشرعي لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) هو في كونها ثورة على الحاكم الجائر، المستحلّ لِحُرَم الله، المخالِف لسنّة الله، الناكث بعهده، العامل في عباد الله بالإثم والعدوان.. هذا الواقع كم من مثيل له اليوم.
لا أعطيكم إعطاء الذليل
إنّ لقضية الحكم في الإسلام ولشخصية الحاكم فيه دوراً كبيراً في حركة الأُمّة من أجل مواجهة مسيرة هذا الحاكم. فإن كانت المسيرة مسيرة عدل وحقّ، فعلى الأُمّة أن تسانِد المسيرة وتدعم هذا الحكم. وإذا كانت المسيرة مسيرة باطل وظلم، فعلى الأُمّة أن تواجه هذه المسيرة بالرفض، وتواجه هذا الحاكم بالثورة عليه، سواء كان الحاكم مسلماً ينتمي إلى الإسلام، أو كان غير مسلم. لأنَّ موضوع العدل موضوع لا يقبل المساومة والمجاملة والتسويات... لأنَّ الله يريد للحياة كلّها أن تقوم على أساس العدل على الصعيد الفردي والاجتماعي، وعلى صعيد الحكم كلّه.
وقد أثار الإمام الحسين (عليه السلام) القضية من جانبٍ آخر، من خلال شعارات طرح فيها قِيَماً أراد للإنسان المسلم ـــ فرداً أو جماعة ـــ أن يتبنّى هذه القِيَم في حياته ومسيرته. وهناك كلمات عديدة في هذا المجال.
الكلمة الأولى: "لا واللهِ لا أعطيكُم بيدي إعطاءَ الذليلِ ولا أُقِرُّ إقرارَ العبيد"(1).
الكلمة الثانية: "ألاَ وإنَّ الدّعيَ(2) ابن الدّعيِّ قد رَكَزَ بينَ اثنتينِ بينَ السلّةِ والذلَّةِ. وهيهاتَ له ذلك، هيهاتَ منّي الذلّة، أبي الله ذلكَ ورسولُهُ والمؤمنون"(3).
الكلمة الثالثة: "إنّي لا أرى الموتَ إلاّ سعادةً والحياةَ مع الظالمينَ إلاّ برماً"(4).
بين عزّة المؤمنين وإقرار العبيد.
هل هذه الكلمات التي تكلَّم بها الإمام الحسين (عليه السلام) تمثّل انفعالات ذاتية للإمام الحسين (عليه السلام)؟
هل كان الإمام الحسين (عليه السلام) يعبّر عن حالة نفسية متأزّمة في داخله، عندما كان يقول: "وإنّي لا أرى الموتَ إلاّ سعادةً والحياةَ مع الظالمين إلاّ بَرَماً"(5).
لمن تعطي يدك؟
الحسين (عليه السلام) لا يتكلَّم ذاتياً، بل يتكلّم عن خطٍّ للحياة، للعمل، للحركة. إنّه يقول للإنسان المسلم: إذا أردت أن تضع يدك في يد أيّ إنسانٍ آخر، فيجب أن تضعها من موقع العزّة والكرامة. لأنَّ معنى ذلك أنّك تعاهده وتتعاقد معه وترسم خطّةً مشتركةً بينك وبينه، وتعرف ما يمثّله هذا الإنسان من فكرٍ وعقيدةٍ وسلوكٍ. إذ إنّ وضع اليد بيعةٌ، وعهدٌ، وعقدٌ.
مَن تبايع أنت؟
مَن تعاهد؟
مع مَن تتعاقد؟
قبل أن تضع يدك في يد إنسانٍ ما أُدرس شخصيّته، ادرس خطّه، ادرس موقفه منك، ادرس أدوات الضغط التي يملكها ضدّك.. ثمّ بعد ذلك حاذر أن تضع يدك في يد إنسان يملك كلّ أدوات الضغط، وتكون قضية المعاهدة بينك وبينه قضية صيغةٍ يستغلّ فيها القويّ الضعيف.
لا تضع يدك في يد إنسان إذا كانت يده تريد أن تكون فوق يدك، من أجل أن تفرض عليك شروطاً لا تؤمن بها. أمّا إذا كانت القضية كذلك، فعليك أن تسحب يدك. لأنَّ القضية أن تكون لك عزّةٌ أو لا تكون. أن تكون ذليلاً أو لا تكون.
ولقد قالها الحسين (عليه السلام) لهم، لأنَّهم قالوا: انزل على حكم بني عمّك، انزل على حكم يزيد يحكم فيك ما يشاء، انزل على حكم ابن زياد يحكم فيك ما يشاء. ونحن نعدك أنّك سوف تحصل على حكم منصف.. إنّ بني عمّك لن يتصرَّفوا معك إلاّ خيراً، عند ذلك قال: "لا واللهِ لا أُعطيكُم بيدي إعطاءَ الذليلِ ولا أقرُّ لكم إقرارَ العبيد"، لا يمكن أن تصافحكم يدي.. أو تعاهدكم. ولا يمكن أن أسير معكم في أيّة قضية، ما دامت القضية هي قضية إذلال المؤمن وإذلال مسيرة المؤمن، ولا أُقرّ لكم إقرار العبيد.
على أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) يريد أن يوحي لكلّ الناس حين يقول ما معناه أنّك إذا ما أردت أن تقرّ بشيء أو أن تعترف به، فلا بدّ أن تعترف من موقع حريّة إرادتك. ومن موقع قناعتك. أن تعترف بما تعترف به لأنّك مؤمن به، ولأنّك مقتنع به لأنّك تجد أنّه الحق، فتقول: نعم في الوقت الذي تستطيع فيه أن تقول لا. لو كانت القضية في غير قناعتك، وفي غير الاتجاه الذي تقتنع به، إمّا أن تقرّ لأنّ الآخرين يقولون لك: حاول أن تُوَقِّع، حاول أن تقرّ تحت تأثير الضغوط والتهديد والوعيد... إنّ ذلك هو إقرار العبيد الذي لا يملك من خلاله الإنسان أن يريد، لماذا؟
لأنَّ الآخرين يريدون له ذلك، أو لا يريدون، لماذا؟
إنَّ الحسين (عليه السلام) يرفض ذلك، ويريد أن يقرّ ما يريد أن يقرّ به على أساس إقرار الأحرار لا إقرار العبيد. هل هذه مجرّد كلمة، لا، إنّها كما قلنا خطّ. خطّ لا بالتاريخ فقط، لا يخصّ الحسين (عليه السلام) وحده، وإنّما هو خطٌّ يتحرّك في حياتنا العملية في كلّ ما يراد لنا في الداخل وفي الخارج.
ماذا يراد بنا كمسلمين هنا وهناك؟ إنّها الفكرة نفسها، لا بدّ لكم أن تعطوا أيديكم وتبايعوا، ليس من الضروري أن تكون البيعة في صيغة البيعة أو شكلها كما كان يحصل في السابق. أصبحت لدينا اليوم صيغ عصرية لا تحتاج فيها أن تأتي إلى إنسان تضع يدك في يده، بل يمكن لك أن تسجّل كلمة (نعم) على ورقة وتضعها في صندوق الاقتراع، ويمكن لك أن تعترف بسلطةٍ ما فتخضع لها، ويمكن لك أن تضع على باب محلّك صورة، تريد من خلالها أن تبرز إخلاصك لصاحب الصورة، وأن تبرز لافتة في شارعك، وتحاول من خلال ذلك أن تعبّر أنتَ والآخرين عن خضوعك وإخلاصك لهذا الإنسان الذي تكون اللافتة تزلّفاً له.. لقد أصبح للبيعة أشكال عصرية جاءت بها نظريّات (الديمقراطية) وغير (الديمقراطية).
ماذا يراد من المسلمين اليوم؟
يراد لهم أن يعطوا أعداءهم بأيديهم إعطاء الذليل، ونتساءل هنا: ما معنى أن تكون ذليلاً؟
هو أن تشعر بانسحاق قرارك، وإرادتك، وعملك.. فالقرار لهم، والإرادة لهم، والخطّ العملي لهم. ليس لك من الأمر شيء. يعطونك نوعاً من أنواع الاعتراف الشكلي بشخصيّتك. يأتون بشخص يحمل هويّتك الطائفية أو الاقليمية أو القومية.. ويضعونه كدُمية على أساس أن يوقّع ما يريدون، وعند ذلك يقال لكم: إنّكم تشاركون في صناعة مصيركم، ولكن هل صحيح ما تقولون عن مشاركتنا؟ وأنّنا نشارككم في التوقيع على الخطّ الذي رُسِمَ من قِبلِكم؟ صحيح هذا، ولكنّ من يتمرّد على القرار فسوف يكون خارج الهيكل.
الحسين (عليه السلام) لا يتحدّث عن نفسه فقط، ولم يقل لبني أُميّة بصفته الشخصية: "لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذّليلِ ولا أقرّ لكُم إقرارَ العبيد". بل كان يقول: (أنا) كمسلم وكإنسان يعيش الإسلام في روحه، وفي فكره، وفي حركته في الحياة.. (أنا) لا بصفتي الشخصية بل بصفتي الإسلامية، "لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذليل".
وعلى هذا، فإنّ كلّ مسلم يمكن أن يحمل هذا الشعار أمام كلّ القوى الغاشمة التي تريد أن تسحق إرادته، وتأخذ قراره، وتشلّ حركته، وتمنعه من أن يختار.. إنّ كلّ مسلم يقول من موقع إسلامه: "واللهِ لا أُعطيكُم بيدي إعطاءَ الذليل".
نقولها في كلّ البلاد الإسلامية أمام الهيمنة الداخلية والخارجية. نقولها بكلّ ما عندنا من شعور بالعزّة الإسلامية، والكرامة الإسلامية: والله لا نعطيكم بيدنا إعطاء الذليل. نقولها من موقع حريّة القرار في داخل أنفسنا حتّى لو هزمنا وظلمنا وسجنّا.. يبقى قرارنا هو قرار الحقّ، كما قال عمّار بن ياسر (رضوان الله عليه) عندما كان يقاتل إلى جانب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وهزم الجيش في بعض مراحل المعركة، وبدا على بعض الناس حالة من الشكّ، فقال لهم عمّار وهو في سنّ التسعين آنذاك: والله لو هزموا حتّى يبلغوا بنا سعفات هجر(1) لعلمنا أنَّنا على الحقّ وأنّهم على الباطل(2).
إنَّ الهزيمة لا تجعلنا نفقد ثقتنا بأنفسنا أو بقرارنا وإرادتنا، وبأنَّنا على الحقّ. والإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يقول: "إنَّ الحرَّ حرٌّ في جميع أحواله، إنْ نابَتْهُ نائبةٌ صَبَرَ عليها، وإن تداكَّت عليه المصائبُ لم تَكْسِره، وإن أُسِرَ وقُهِرَ واستبدل باليسر عسراً"(1).. إنَّ حرية الإنسان في المفهوم الإسلامي الذي يمثّله مفهوم أهل البيت (عليهم السلام) تنبع من حريّة إرادته، بمعنى أن يكون رافضاً حتّى لو لم يتحرّك لسانه، أن يرفض بقلبه، وأن يعطي قراره وقناعته بقلبه حتّى لو منعه الآخرون من أن يتكلَّم أو يتحرَّك. هذه هي الحريّة الحقيقية التي لا يمكن أن يطالها ضعف، ولا يمكن أن تكسرها هزيمة.
قضايا طرحتها الثورة
الوضوح مع القاعدة
مع الحسين (عليه السلام) نطوف في آفاق ثورته، نتابع خطوات مسيرته، لنتعلَّم منه كيف تكون الثورة، وكيف يكون خطّ السير من البداية؟
الحسين (عليه السلام) كان في شتّى المجالات التي تحرّك فيها في خطّ الثورة. لقد اعتمد الصراحة كأساس للعمل، إذ كان لا يؤمن بأنّ الإنسان الذي يحمل الرسالات يمكن له أن يلفّ ويدور، وأن يحجب القناعات عن الناس. لأنَّ الحقيقة في نظر الرساليين ليست ملك القيادة لتحفظ القيادة لنفسها بسرّ الحقيقة، وتحجبها عن الناس.
الحقيقة مِلك الناس كما هو الماء والهواء، بمعنى أنّ من حقّ الناس معرفة الحقيقة في الفكر الذي يريدون أن يؤمنوا به. إنّ القيادة التي تعطي للنّاس نصف الحقيقة، سوف تجعلهم يتحرّكون في الظلام، لا بدّ للنّاس أن يفهموا كلّ شيء عن موقف القائد.
لماذا الرفض
لهذا رأينا الحسين (عليه السلام) يقول لوالي يزيد في المدينة: "إنّا أهلُ بيتِ النبوّةِ وموضعُ الرسالةِ.. ويزيد رجلٌ فاسقٌ، شاربُ الخمر، قاتلُ النّفسِ المحرّمة معلنٌ بالفسقِ، ومِثلي لا يبايعُ مِثلَه"(1). لقد أعطى الحسين (عليه السلام) الخطّ الواضح في هذا الموقف: إنّك تدعوني أن أُبايع، أن أعترف بشرعية هذا الحكم. والإنسان الذي يبايع أيّ حاكم، لا بدّ أن يكون اعترافه بشرعية الحاكم منطلقاً من اعترافه بقيادته، وخطّ سيره. أمّا أن تكون مبادؤك في خطٍّ ومبادئ الحاكم في خطٍّ، فالاعتراف بشرعيّته لا يجوز، لأنَّ الشرعية تؤخذ من خلال الخطّ والفكر والإيمان.
ما معنى أن تؤمن بشيء وتعترف بشيء؟ إنَّ ذلك يعني النفاق. لهذا أراد الحسين (عليه السلام) أن يقول بكلّ صراحة: نحن الذين نحمل الرسالة، والرسالة لا يمكن أن يأخذها الحاكم الفاسق. لأنَّ الفاسق يبيع الأُمّة في مقابل شهواته، ولا يمكن أن يكون الحاكم فاجراً.. لا يمكن أن يكون شارباً للخمر. فربّما يُلقي الأُمّة في الهاوية وهو سكران، ولا يمكن أن يكون قاتلاً أو منتمياً إلى القتلة، ولا يمكن أن يكون مجرماً أو منتسباً للمجرمين. لهذا قال الحسين: مِثْلي لا يُبايع مِثْلَه.
وإذا أردنا أن ننسجم مع الحسين (عليه السلام)، علينا أن نعيش هذه الصراحة، فنكون واضحين في رفض الحاكم الذي لا ينسجم مع واقعنا، وإلاّ كنّا مُزَيّفين. هذا موقف من المواقف الصريحة التي واجه الحسين (عليه السلام) بها واقع الحكم. وقد أعلن موقفه من خلال معارضته التي بدأها من مكّة إلى المدينة، ثمّ في كربلاء.
كان الحسين (عليه السلام) صريحاً مع الناس. وعندما أراد أن يسير تبعه خلق من النّاس.. كانوا يعتقدون أنّ الحسين سينتصر ويحصل على المغانم وسوف يغنيهم بالوظائف. وعَلِمَ الحسين (عليه السلام) أنّهم ساروا معه من أجل الأطماع لا من أجل المبادئ، لذلك أراد أن ينعي نفسه ليبيِّن لهم أنّ النهاية هي الموت والشهادة.
عند ذلك عرفوا أنّ الحسين ليس طالب ملك بالمعنى الذاتي للكلمة، ولكنّه كان يعيش مسؤولية الرسالة، فتفرَّق عنه خلقٌ كثير بعد هذه الخطبة. كان يريد أن لا يعيش الناس في الظلام أو يغرقوا في التشاؤم.
الامتحان الأخير
الحسين (عليه السلام) يريد أن يقول للناس الحقيقة حتّى يتبعه من يؤمن بالحقيقة.
وهناك موقف ثالث في ليلة العاشر من شهر محرَّم الحرام، فقد جَمَعَ كلّ أصحابه وأهل بيته، وكان اللّيل ظلاماً، قال لهم: "اللَّهمَّ إنّي لا أعرفَ أهلَ بيتٍ أبرَّ ولا أزكى ولا أطهرَ من أهلِ بيتي، ولا أصحاباً هم خيرٌ من أصحابي، وقد نَزَلَ بي ما قد ترون، وأنتم في حِلٍّ من بيعتي، ليست لي في أعناقِكم بيعةٌ ولا لي عليكُم ذِمَّة، وهذا اللّيلُ قد غَشِيَكم فاتّخذوه جَمَلاً"(1).
ولكن أولئك الناس لم يكونوا طلاّب حياة، بل كانوا طلاّب رسالة، فقالوا بصوتٍ واحد: لا نتركك. وقال قائلهم: لوددتُ أنّي قُتِلتُ ثمّ نُشِرْتُ ثمّ قُتِلتُ حتّى أُقتل هكذا ألف مرّة، وأنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك(2).
لقد صارحهم الإمام الحسين (عليه السلام) بحقيقة الأمر، وأعطاهم الحريّة وأوضح لهم الرؤية، وذلك هو أُسلوب الحسين (عليه السلام) الصراحة التي لا تعرف غير وجهٍ واحد.
ولنا أنْ نتساءل: هل نجد في واقعنا الذي نعيشه اليوم مثل هذه الصراحة مع من نسير معهم؟ هل نفهم طبيعة المخطَّطات التي ترسم لنا في هذه الساحة؟ ولو أجرينا استفتاءً شعبياً لنرى: مَن هو الذي يفهم؟ على أيّ أساس تقوم التحالفات وتحدث الانقسامات؟ ولماذا تتمّ الموافقة على هذا الموقف أو يرفض ذاك؟ لكانت النتيجة بائسة، يقال للنّاس: إنَّنا نعارض، ولكنّهم في الواقع يوالون. ويقال لهم: نحن نوالي، وهم يعارضون في حقيقة الأمر.
إنَّ الأُمّة التي لا تعيش الوضوح ستظلّ مترنِّحة بين القيادات والخطوط، لأنّها تخدع بالكلمات.
إنَّ الله علَّمنا النظر إلى المواقف وليس إلى الكلمات. علينا أن نكون واعين جيّداً، فنرتبط بالمواقف لا بالكلمات. لأنَّ الكثيرين عندنا يتّقنون فنّ التمثيل بالكلمات. علينا أن نميّز بين البطل والبهلوان، والمتنبّي يقول:
إذا اشتبكت دموعٌ في خُدودٍ تبيَّنَ مَن بكى ممّن تباكى
عيشوا الوعي، وعيشوا النقد للأشخاص والكلمات: النقد والوعي للخطوات السياسية.. حتّى نستطيع أن نمسك أرضنا من الاهتزاز والضياع. فالقضية مصيريّة دون شكّ.
هذا هو أحد مواقف الإمام الحسين (عليه السلام).
حوار اللحظة الأخيرة
وهناك موقف آخر هو موقف الحوار، عندما انطلق الإمام الحسين (عليه السلام) كان صاحب رسالة. لم يكن همّه أن يقاتل، أو يحصل على الشهادة المزاجية، لم يكن يعجب الإمام الحسين (عليه السلام) أن يقتل الإنسان كيفما كان، كان يعتبر أنّ من واجبه هداية الناس إلى الحقّ، وأن ينهيَ المشكلة. كان يؤمن بالحوار الإيجابي المنتج، لا بالحوار الذي يتحوّل إلى جدلٍ وإلى نتائج سلبية ومَضْيَعَةٍ للوقت. كان يؤمن بالحوار الذي يفتح قلوب الناس على الحقّ.
كان يُلقي الحجّة على الذي جاء يقاتله ويفتح الحوار مع أعدائه. لأنّه يريد أن يجعلهم يواجهون القضية من موقع التفكير، وأن يقدّم لهم الحجج. ثمّ بعد ذلك احتجّ عليهم بأشياء كثيرة، ولكن كان هناك نوع من أنواع الحجر الفكري على الجيش الأموي، يقول له الشمر: ما ندري ما تقول يا بن فاطمة، بمعنى أنّ الحوار مرفوض معك. ولم ييأس الحسين، لأنّه كان يشعر بأنّه يحمل مسؤولية توضيح الحقيقة. ولعلّ كلمة (الفرزدق) تعطي نموذجاً عن ذلك، فقد سأله (عليه السلام) عن خبر الناس بالكوفة، فقال له: قلوبُهم معنا وإنَّ سيوفَهم لمشهورةٌ علينا(1)، ورفضوا الحوار، ولكنّ الحسين (عليه السلام) لم يتراجع حتّى استنفد كلّ الوسائل التي يمكن أن تؤدّي بهم إلى الإيمان بما يريد لهم أن يؤمنوا به.
لقد اعتدنا هذه الأيام أن نعيش الصراعات على أساس طائفي وسياسي وغير ذلك. كربلاء عَرَّفتنا الفرق بين الإنسان الذي ينطلق من عقدة، تتفاعل العقدة في نفسه فتتحوَّل إلى حقد وبغضاء، وبين الإنسان الذي ينطلق من فكرة تتحوَّل لديه إلى انفتاح.
المشكلة التي نعيشها هنا، وفي كثير من البلاد الإسلامية، أنَّ كثيراً من الناس يعيشون العقدة الطائفية، ولا يعيشون قضية البلد. إنَّ لدى بعض الناس عقدة الاستعلاء. يحاورك ليسجّل عليك نقطة، لا من أجل أن تفهم ما يريد ويفهم ما تريد، بمعنى أنّ كلّ إنسان يريد أن يحاور من موقع عقدة، ويحاول أن يلتفّ على الواقع والكلمات، دون أن توجد هناك قضية أو رسالة.
كيف نبني شخصيّتنا من خلال عاشوراء
في عاشوراء نتعلَّم أيضاً: كيف نركّز شخصيّتنا على أساس الإسلام، لأنَّ الإسلام يريد منّا أن نبني شخصيّتنا على الصورة التي يريد الله لنا أن نعيش عليها، لا يجوز للإنسان، عندما يريد أن يربّي نفسه أو يربّي ولده، أن يشعر بالحريّة في أن يختار المفاهيم التي يربّي عليها نفسه كما نفعل الآن. بل علينا أن نتربّى على صورة القرآن في عاداتنا ومفاهيمنا وسياستنا وأفكارنا ومشاعرنا.
إنَّ علينا أن نميِّز بين ما هو إسلامي وما هو غير إسلامي. إنَّنا نستمدّ ملامح الشخصية من الصحيفة والإذاعة والتلفزيون والسينما.. من الأحزاب العلمانية والمدارس التي تتنوَّع مناهجها وأساليبها، من مناخ غير سليم لتكوّن إنساننا المسلم، ولذلك نجد المسلم يناقض نفسه، وقد يشعر بأنّ هناك جملة أشياء غير منسجمة بسبب التقاط المفاهيم من دون دراسة.
فنحن نحفظ أحكام الصلاة على سبيل المثال، ولكنَّنا عندما نتحرَّك في الحياة لا يكون تحرّكنا من خلال صلاتنا. أخلاقنا نستمدّها من مجتمعنا الذي نعيش فيه، وتصبح شيئاً أساسياً في شخصيّتنا. نحن الآن نحاول أن نعطي أفكاراً، لأنَّ دور المحاضرات ليس في أن تتعرَّض لكلّ تفاصيل القضايا التي نعيشها، إنّما يكمن في أن توجّه التفكير نحو الأسلوب الذي يجب أن يتّبعه الإنسان في حياته.
على كلٍّ منّا أن يوجّه حياته في هذا الاتجاه عبر القراءة والحوار والندوات الإسلامية وغيرها.. حتّى نتمكّن من تصحيح نماذج وجوانب من التفكير والسلوك السائد بيننا، ونتساءل هنا: ما مقوّمات العناصر الإسلامية التي تحكم شخصية المسلم؟
مقوِّمات أساسية للشخصية الإسلامية
لا شكّ في أهمية العنصر الروحي الذي يتمثّل في علاقة الإنسان بالله، وخاصة بحضور الله في حياته، بالمستوى الذي لا يترك أيَّ فراغ في حياته إلاّ ولله فيه مكان. وهذا المعنى هو تعبير أساسي في شخصية المسلم.
إنَّ المسلم الذي لا يشعر بالله في حياته، لا يمكن أن يكون مسلماً أثناء ممارسة سلوكه وأخلاقه، ولهذا نجد الحديث النبوي يقول: "الصلاةُ عمودُ الدّين، وإنّها أوّلُ ما يُحاسَبُ عليه العبدُ يومَ القيامة من الأعمال، وأوّلُ ما يسألُ عنه العبدُ بعد المعرفة. فإنْ قُبِلَتْ قُبِلَ ما سِواها وإنْ رُدَّت رُدَّ ما سِواها"(1).
باعتبار أنّ الصلاة تفتح قلبك على الله، وتجعلك تشعر بوجوده في كلّ جوانب حياتك، في علاقةٍ حميمةٍ وارتباط بينك وبينه، ولهذا فإنَّ الإنسان الذي لا يصلّي، لا يعيش حضور الله، ولا يكون مرتبطاً بالدّين في حياته.
الصلاة تعطي عمق الارتباط بالله. في الصباح ينبّهك الله، وفي بقية أوقات الصلاة تقدّم حساب عملك أمام الله، وتشعر أنّك مهما عَمِلْتَ فإنَّ الله معك في ذلك كلّه. عندما تنام، وعندما تستيقظ، وعندما تدخل في أيّ نشاط.. فإنّ الله مطّلع عليك.
إنّ الإحساس هو عمق إيمان المؤمن. لأنَّ الإيمان ليس فكرة رياضية أو علمية فقط، بل هو الحضور الوجداني الفاعل الذي تشعر معه بالله كأنّه يعيش في نفسك.
على أنّ الواقع الذي نعيشه الآن هو علاقة رسمية بالله، قد نلتقي بالله في الصباح والمساء أثناء الصلاة، لكن لا يوجد لله دور في السياسة والمعمل والمدرسة وغيرها.. هذا هو التفكير الاستعماري الكافر. ألاَ تسمعون دائماً: نحن ضدّ تسييس الدين، وإنّ لله المسجد، وممنوع على الله أن يخرج من المسجد، وكان للمستعمرين قانون لا يجيز تدخّل الله في السياسة.
يقولون لا نريد أن نحوِّل المدرسة مسجداً، هذا الواقع تدرّب عليه تفكيرنا وشخصيّتنا، وأصبح دور الله في حياتنا مقتصراً على الصلاة والصوم والحجّ فقط.
الدين يبني الحياة
يجب أن يدخل الدين في كلّ حياتك، وأن يبدأ دور الله معك منذ ولادتك وحتّى تموت. علاقتك مع زوجتك وأولادك وزبائنك وأصحاب عملك والناس الذين تحكمهم.. كلّها يجب أن تطابق شرع الله.
الله علَّمنا أن نفكّر به من خلال خلقه ونِعَمِه، فنعرف مقدرته في ذلك، لذلك يجب أن تذكر (اسم الله) قبل أن تبدأ في أيّ عمل حتّى في ممارسة شهواتك. هذا الجانب الروحي في الإسلام هو الذي يحمي الجانب السياسي. الفصل بين الجانب الروحي والسياسي، هو الذي يجعل الحياة السياسية تسير في طريق الضلال، لأنّك عندما تبعد الجانب الروحي عن حياتك، فمعنى ذلك أنّ حياتك ستنطلق من خلال مزاجك وأهوائك، عندما لا تبدأ السياسة من الله، فإنَّك تكون قد بدأتها من الشيطان.
هناك خطّ لله وخطّ للشيطان، وعندما لا تكون مع الله حتماً تكون مع الشيطان. الإنسان الذي يخاف الله، لا يخاف أحدٌ من ظُلمِه. الروحيّة الإسلامية هي أن يكون الإنسان مع العدوّ والصديق على حدٍّ سواء، لا يظلم عدوّه ولا صديقه. على أنّنا لو عشنا هذه المفاهيم في حياتنا السياسية، فكم تستطيع تلك المفاهيم أن تخدم قضايانا.
إذا كنّا نريد أن لا يظلمنا أحد، فيجب أن لا نظلم أحداً. هكذا قال أئمّة أهل البيت (عليهم السلام). هذا هو الإسلام، إذا تربّينا على هذه الروحية في حياتنا السياسية والاجتماعية، نستطيع أن ندفع حياتنا السياسية والعملية في الاتجاه الصحيح.
من أيّ شيء نشكو في المجتمع؟ إنَّنا نعيش الروح العشائرية، ولا نعيش روحية الإسلام. إنَّ مشكلة السياسة هي أنّ الذين يمارسون السياسة يعيشون التمييز والحقد على الناس، بعض الناس يقولون: إذا أدخلنا الجانب الروحي في السياسة، فإنّ هذا البلد أو ذاك سيتعرَّض للفتن الداخلية إذ يوجد طوائف متعدّدة في كلّ بلد، وحفاظاً على وحدتها وتآلفها يجب عدم تدخّل الدين بالسياسة.
فرق بين الدين والطائفية
ولكن يجب أن نفهم حقيقة أساسية، وهي أنّ هناك فرقاً بين الدين والطائفية. أن تكون متديِّناً أي أن تكون عقيدتك وأخلاقك وروحيّتك هي التي تحكم علاقتك مع الآخرين، فتنتفح على الآخرين من خلال ذلك. أمّا أن تكون طائفياً، فهو أن تكون حاقداً أو متعصِّباً وغاصباً لحقوق الآخرين. عندما تكون متديِّناً، فإنّك تساوي بين عباد الله جميعاً. أمّا الطائفيّون فيتحوّلون إلى طبول منفوخة.
إنَّ علينا أن نقتل الشرّ في الشرّير قبل أن نقتل الشرّير، والكافر يجب قتل كفره قبل التفكير بقتله، الإسلام لا يحبّ القتل، إنّه يحبّ احترام الناس: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء : 33]، هكذا يعلِّمنا الإسلام، القتل ليس مزاجاً.
الروح حجر الزاوية في البناء
إنَّ علينا أن نبني أنفسنا البناء الروحي، واعلموا أنّ طريق الدين يمرّ في طريق العلم. اقرأوا جميع الكتب العلمية فسيزداد إيمانكم، ادرسوا كلّ العلوم لتعرفوا الله من خلال ذلك، جرِّبوا صداقة الله، جرِّبوا كيف تحبُّون الله وتفتحون قلوبكم لله، تكلَّموا مع الله ولكن بوعي.. وستجدون كيف تنفتح لكم الحياة. فلنعش روحية عاشوراء، ففي ليلة العاشر من محرَّم كان أصحاب الحسين (عليه السلام) بين قائمٍ وقاعد، وراكعٍ وساجد. وكان لهم بكاؤهم ودعاؤهم الذي يدويّ كدويّ النحل، لأنَّهم كانوا يعيشون الأُفق الروحي.
إنَّ تقرُّبكم لله لا يعزلكم عن الحياة بل يقرّبكم منها، إنَّ كلّ السدود والحواجز التي تنصب بيننا، فإنّما انطلقت من خلال الشيطان. إنَّ قضية الله هي قضية المصير في الدنيا والآخرة، علينا أن نتقرَّب إلى الله.. نذكر حياتنا من خلال الله سبحانه وتعالى. وهذا هو الخطّ الذي يهدي للتي هي أقوم.
مسيرة الحسين (عليه السلام) في الأسلوب والهدف
عندما نريد الانطلاق مع الحسين (عليه السلام) في مسيرته، فعلينا أن نأخذ الحسين (عليه السلام) ككلّ: عندما سالَم، وعندما حارَب. وفي كلا الحالين، في حال السلم كان الحسين ثائراً، وفي حال الحرب كان الحسين كذلك، فأن تكون ثائراً، ليس أن تحارب بطريقة مباشرة فقط. لأنَّ للحرب مظهرين، فقد تحارِب وأنت تغمد السيف، وقد تحارب شاهراً سيفك.
وفي كثيرٍ من الحالات قد تكون حربك بتحضير الساحة التي تضغط على العدو، وبتهيئة الظروف التي يمكن أن تتحرَّك ضدّ العدوّ، وبتركيز القاعدة التي يمكن أن تثبت أمام تحدّيات العدوّ. قد تكون هذه الحرب أكثر قوّة وأكثر فاعلية من حرب السيف في البداية. وربّما نجد أنّ الحروب التي تتحرّك في عالمنا الحاضر تتحرَّك بنسبة 75% في خطّ إعداد الساحة وتحضير الجوّ أكثر ممّا تتحرّك في خطّ الصراع الحار الذي تتحرَّك فيه الأسلحة من كلّ مكان.
حربٌ من خلال السلم
كيف بدأ الإمام الحسين (عليه السلام) حربه من خلال سلم الإمام الحسن (عليه السلام) ومعه الإمام الحسين (عليه السلام)، هادنا معاوية بن أبي سفيان لأنَّ الجيش كان متعباً، والصورة كانت غير واضحة للنّاس، بسبب الحروب التي امتدّت من أوّل خلافة الإمام عليّ (عليه السلام) حتّى استشهاده، بحيث حجبت عن الناس آنذاك الصورة المنحرفة التي يمثّلها الحكم الأموي وبعده عن الخطّ الإسلامي، ومن تحرّك في طريق الخطّ الجاهلي.
كان الناس يفقدون الرؤية الواضحة، فالحرب تشغل الناس ـــ عادة ـــ بالحديث عن هذا الفريق أو ذاك، تشغلهم بالأوضاع المتحرّكة، عندما ينتصر أحد هذين الفريقين. ولهذا لا يستطيع الإنسان أن يأخذ الصورة الواضحة في حالة الحرب. وكان المحاربون متعبين يخرجون إلى الحرب متثاقلين، وبهذا استفادت الرئاسات العشائرية التي كانت تعمل لمصالحها الخاصّة من هذا التعب، واستطاعت أن تحوّل ذلك لمصلحة أطماعها وشهواتها، فكانت المعركة خسارة على مستوى القضية لا على مستوى الشخص فحسب.
ولهذا أراد الإمام الحسن (عليه السلام) أن يعطي الناس فرصة يعيشون فيها مع حكم (بني أُميّة) ليتعرَّفوا على خصائص هذا الحكم، ولتكون الثورة عند ذلك حالةً طبيعيّة يعيشها الناس من خلال مفردات حياتهم الخاصّة.
وهكذا كان، فقد بدأ الحكم الأموي يأخذ حريّته في الحركة، وبدأ الناس يعرفون في ذلك الوقت معنى الطبقيّة بين المسلمين، ويعرفون معنى الأثرة، ويعرفون كذلك معنى أن يُقرَّب الإنسان لا لكفاءته، ولكن لعصبيّته، وأن يبعد عن المسؤولية حتّى لو كان كفوءاً، لأنّه بعيد عن حركة العصبية التي تسيطر على الواقع.
حتّى إذا كانت نهاية المطاف وكان معاوية قد أعطى الحسن (عليه السلام) عهداً أن يكون له الأمر من بعده، دسّ معاوية للإمام الحسن (عليه السلام) السمّ فاستشهد. وعندما أراد معاوية بعد هذا أن يأخذ البيعة ليزيد، حاول أن يطرح القضية بطريقةٍ حاسمةٍ، ووقف هناك شخص وبيده صُرَرٌ من المال، وبالأخرى سيفٌ قائلاً: مَن بايع فله هذا، مشيراً إلى المال. ومن رفض فله ذاك.
وانطلق الحكم في هذا الاتجاه وكثرت المظالم، حتّى لقد قُتِلَ (حجر بن عديّ) الصحابي الجليل ومعه ابنه وعدد من أصحابه الخُلَّص، لأنَّه رفض أن يتبرّأ من عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عندما عرض عليه البراءة من عليّ (عليه السلام). وقد احتجَّت (عائشة) آنذاك احتجاجاً عنيفاً، لأنَّ حِجراً كان معروفاً بالصلاح بأعلى درجة بين المسلمين. وهكذا فُرِضَ سبّ عليّ (عليه السلام) على المنابر وفي كلّ يوم جمعة وفي كلّ مناسبة عيد، بل حُدِّد هذا بمرسوم في سائر المناطق الإسلامية.
الأوضاع المؤاتية
وانطلق الحكم في هذا الاتجاه حتّى ضجّ الناس من هذا الحكم، وأصبحت الثورة حالة طبيعية يتحدَّث فيها كلّ الناس نتيجة فساد الحكم، وابتعاده عن خطّ الإسلام وعن خطّ الله ورسوله. حتّى إذا كانت بيعة يزيد، كانت القضية قد تفاقمت فوق العادة.
وتهيّأت الأوضاع في الكوفة للثورة، وأرسل زعماؤها للحسين (عليه السلام) الكتب الكثيرة التي تدعوه أن يأتي إلى العراق ليقود الثورة. وعندما دعي الإمام الحسين (عليه السلام) لمبايعة يزيد وقف تلك الوقفة الحاسمة التي أعطى فيها للقضية حجمها الطبيعي، عندما قال لوالي المدينة آنذاك: "إنَّا أهلُ بيتِ النبوّةِ ومعدنُ الرسالةِ، ومُختلَفُ الملائكة. وبنا فتح الله وبنا خَتَم الله. ويزيدُ رجلٌ فاسقٌ، شاربُ الخمرِ، قاتلُ النّفسِ المحترمةِ، معلنٌ بالفسقِ، ومِثلي لا يبايعُ مِثلَه"(1).
وهكذا انطلق الحسين (عليه السلام)، وأعلن معارضته ووقوفه ضدّ هذا الحكم. وانطلق بعد ذلك من أجل أن يهيّئ الأجواء النفسية لخروجه من المدينة، وذهب إلى مكّة. وعندما انطلق الناس إلى منى يوم التروية قبل التاسع من ذي الحجّة، أبدل الحسين حجّته بعمرة وترك الناس، في حين كان الناس بانتظار الحسين أن يقف معهم في يوم عرفة على جبل عرفات. الناس يتّجهون إلى منى، والحسين (عليه السلام) يتّجه إلى العراق.
لماذا؟
حتّى يعيش الناس التساؤل: لماذا لم يسافر الحسين (عليه السلام) من المدينة للعراق مباشرة مع أنّ المسافة أقرب؟
لماذا انطلق من المدينة إلى مكّة، وحوَّل حجَّه إلى عمرة، وترك مكّة في اليوم الذي يتجمَّع فيه الحجّاج للذهاب إلى عرفات لماذا؟
حتّى يعطي الإمام الحسين (عليه السلام) الجوّ الإعلامي الذي يتحرَّك فيه الناس متسائلين، وبذلك يحصل على تغطية إعلامية تستفيد منها القضية في ما بعد، لكي يعرف الناس أنّ الحسين (عليه السلام) قد ثار وأنّه قد تحرَّك. ويرجع الناس كلّ إلى بلده، أهل اليمن إلى يمنهم، وأهل الشام إلى شامهم، متحدّثين عن أنّ الحسين بن عليّ (عليه السلام) قد ذهب إلى مكّة، ورجع منها في اليوم الذي يتحرّك فيه الناس لعرفات، وانطلق بالثورة ضدّ يزيد، وضدّ الحكم الأموي.
كانت انطلاقة الحسين (عليه السلام) بهذه الطريقة ملفتة للنظر، فالثائر لا يخرج معه عياله وأطفاله، ولا يخرج معه عيال أصحابه، ولكنّ الحسين (عليه السلام) أخرج كلّ هذه النماذج معه.
لماذا؟
لكي يكون هذا الواقع واقعاً احتجاجياً أمام كلّ من يراه، ليشعر بأنّ الحسين (عليه السلام) في حركته هذه أصبح مهدَّداً من قِبَل هذا الحكم حتّى بأطفاله ونسائه، ولذا فإنّه لا يأمن من هذا الحكم على أطفاله ونسائه أن يتركهم في المدينة بعد أن يثور. ثمّ بعد ذلك كان يهيّئ لوضعٍ آخر حتّى يضمن استمرار الثورة بعد استشهاده.
وتقدَّم الحسين (عليه السلام) في الطريق وتبعه أُناس كثيرون. بعضهم تبعه على أساس أنّ الحسين (عليه السلام) جاء كغيره من الثائرين الذين يثورون على الحكم، والذين يمكن أن يحصلوا على نتائج إيجابية، وبذلك سيحصلون على النتائج والوظائف والمراكز التي يتمنّاها كلّ المتزلّفين.
الإمام الحصين فهم هذه القضية وعرف أنّ هناك أُناساً كثيرون ممّن هم معه لا يخلصون للثورة، ولا يخلصون لقضيّتها ولهذا التحرّك، وتقف في خطّ المواجهة.
لذلك وقف، وخطب بهم وعرَّفهم بالمصير المحتوم الذي ينتظره، فقال لهم: "وخيرٌ لي مصرعٌ أنا لاقيه.. كأنّي بأوصالي هذه تُقطِّعها عِسلانُ الفلواتِ بين النواويس وكربلاء"(1).
لماذا أعلن ذلك؟ ليعرف كلّ هؤلاء الناس الذين اتّبعوه للدنيا أنّه صاحب رسالة وليس صاحب ملك، وأنّه كأبيه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لم يطلب الملك أو يطلب الإمرة كطموح شخصي يسدّ به فراغ ذاته، وإنّما طلبه على أساس أن يقيم به حقّاً أو يدفع به باطلاً.
لماذا تراجع أهل الكوفة عن نصرة الحسين (عليه السلام)؟
وبقي الحسين (عليه السلام) متقدِّماً، لأنَّه مصمِّم على الوصول إلى النهاية في ثورته، ولم يكن إنساناً حائراً كما قد يصوِّر بعض قرَّاء مجالس العزاء، لا يعرف إلى أيّ بلد أو أيّ مكان يذهب. كان يعرف طريقه جيداً من البداية إلى النهاية، ويعرف أنّ القضية قضية ثورة للشهادة، وليست قضية ثورة للملك. لأنَّ الواقع الإسلاميّ كان يحتاج إلى هزّة عميقة بحجم استشهاد الحسين (عليه السلام) وبحجم مأساته.
ولكن ما بال أهل الكوفة الذين كانوا بين ثمانية عشر وثلاثين ألفاً يبايعون مسلم بن عقيل على السمع والطاعة، ويتراجعون بعد ذلك؟
لكنّ الذي حدث في العراق وفي الكوفة تحديداً ينطلق من عنصرين لا بدّ لنا أن ندرسهما جيداً:
العنصر الأوّل أنّ عبيد الله بن زياد كان قد اعتقل قادة الثورة.. اعتقل العقول المفكّرة التي كانت تقود الناس نحو الثورة وتهيّئ الناس للانتفاض على الحكم القائم. وعندما تنطلق الثورة الجماهيرية بدون عقول مفكِّرة تخطّط لها، أو بدون قيادات فاعلة تستطيع أن تحرّكها وتحرّك مسيرتها، فإنَّ من الممكن لأيّ فريق من فرقاء الحكم أو غير الحكم أن يتلاعب بها كما يشاء، لأنَّ دور الجماهير هو دور عاطفي وانفعالي في الغالب، لذلك كانت تستجيب للمواقف الانفعالية من الترهيب والترغيب، في الوقت الذي ندرك فيه كيف فعل الترهيب والترغيب في كثير من الذين كانوا يسيرون باتجاه القضايا الكبيرة، بَيْدَ أنّهم أمام الخوف تركوا ذلك وهربوا، وأمام الترغيب تركوا ذلك واندفعوا.
الارتباط العاطفي بالثورة
فالقيادات التي قادت الثورة كانت في السجون، والجماهير كانت مرتبطة ارتباطاً عاطفياً مركّزاً. كانت القضية قضية حبّ لأهل البيت وتألّم من الواقع، ولكنّ القضية كانت محتاجة إمّا إلى قيادة تواكبها، وإمّا إلى تحذير دائم حتّى تستطيع أن تثبت وتستطيع أن تنطلق، ويبدو أنّ أهل الكوفة في ذلك الحين كانوا يعيشون الجوّ العاطفي الانفعاليّ في علاقتهم بالحسين، وفي رفضهم للحكم الأموي. ولهذا عندما جاء ابن زياد حاملاً السوط بيد وصرر الدراهم والدنانير بيد، استطاع أن يجمّد تلك الحالة العاطفية. ولهذا كان موقفهم يعبّر عمّا أخبر به الشاعر الفرزدق عندما قال للحسين (عليه السلام): إنَّ قلوبهم معك وسيوفهم عليك.
هذا ما يجب أن نتمثّله في حياتنا المعاصرة، وحياتنا في الواقع كمسلمين وكمؤمنين وكرافضين لكلّ كفر، ولكلّ طغيان، ولكلّ ظلم في حياتنا.. إذا أردنا أن نكون منسجمين مع الخطّ الإسلامي القرآني الإيماني، فحياتنا يجب أن تكون ثورة مستمرّة تتحرّك في إطار تغيير الواقع، قد تكبر هذه الثورة وقد تصغر، لكنّها في الأحوال كلّها يجب أن تستمرّ. ذلك هو شأن الإنسان المسلم المؤمن بالله.
وإذا كان هذا هو هدفنا في حياتنا، فإنَّ معنى أن نتحرَّك في الحياة هو أن تكون حياتنا جهاداً مستمرّاً. من أجل إقامة الحقّ ومن أجل إزهاق الباطل. فلا بدّ إذن أن نقف أمام هاتين الظاهرتين اللّتين شاركتا في ابتعاد جماهير الحسين (عليه السلام) عنه في نهاية المطاف.. هما: القيادة ـــ إذ لا بدّ للجماهير من قيادة أمينة على دينها ومصيرها، ووعي الأُمّة للواقع.
القيادة هي الأساس
نعم إنَّ القيادة هي الأساس في الإسلام، ونحن نفهم من الآية الكريمة التي نزلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما قال الله له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة : 67].
نفهم بأنَّ الله جعل قضية القيادة وإهمالها تعادل عدم تبليغ الرسالة، فكأنَّ الله عزّ وجلّ يقول لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): إنَّك إذا تركت الدنيا من دون أن تُنَصِّبَ للأُمّة قائداً في مستوى قضاياها، وفي المستوى الكبير من الإخلاص للقضايا، فكأنّك لم تبلّغ الرسالة، لأنّها قضية حركة الرسالة في الحياة. وعندما يراد للرسالة أن تستقيم على مستوى الفكر والواقع، لا بدّ من قيادة تحمي الطريق من الزلل والانحراف. وقد ورد في بعض الأحاديث: بُنيَ الإسلام على خمس: الصلاة والصوم والحجّ والزكاة والولاية، ولم يناد بشيءٍ كما نُودي بالولاية.
لماذا؟ لأنَّ الولاية تمثّل القيادة التي يمكن أن تحفظ الفكر من الانحراف والطريق من الزلل. لهذا لا بدّ للأُمّة في كلّ مرحلةٍ من مراحل حياتها أن تبحث عن القيادة الأمينة. والقيادة الأمينة هي القيادة التي تحمل فكر الأُمّة، بحيث لا معنى لأن تأتي قيادة لا تحمل الرسالة التي تتديَّن بها الأُمّة، أو لا تحمل الإيمان بالخطّ الذي تتحرَّك من خلاله تلك الأُمّة.
لا بدّ إذن من قيادة واعية أمينة مخلصة تستطيع أن تثبت، وأن تكون حاسمة، وتستطيع أن تحمي للأُمّة أهدافها على مستوى الفكر والواقع. ولهذا قال الإمام عليّ (عليه السلام) وهو يحدِّد لنا مَن يقيم أمر الله: "لا يقيمُ أمرَ الله إلاّ مَن لا يُصانِعُ ولا يُضارِعُ ولا يتبعُ المطامعَ"(1)، أي مَن لا يجامل، لا يداهن، لا يذلّ ولا يضعف، ولا يعتبر القيادة امتيازاً يزهو به.. وإنَّما يعتبر القيادة مسؤولية يجب أن يكون في مستواها كما كان عليّ (عليه السلام).
كان يقول لابن عباس، وهو يشير إلى نعله: "واللهِ لَهيَ أحبُّ إليَّ مِن إمْرَتِكُم، إلاّ أن أُقيمَ حَقّاً، أو أدفعَ باطلاً"(2)، إنَّ القيادة مسؤولية وليست امتيازاً.
إذاً لا بدّ للأُمّة أن تواجه مسؤوليّتها على أساس القيادة الواعية المؤمنة المخلصة التي تعرف للأُمّة ما يفيدها وينفعها في دنياها وآخرتها.. وعندما تريد أن تقود أُمّة معناه أنّك تقودها لتبلغ بها أهدافها دنيوية كانت أم أُخروية.
القيادة هي في مستوى مسيرة الأُمّة في الحياة. وعلى هذا الأساس، فإنَّنا نعتبر أنّ القيادة الحقّة إنّما هي للفقهاء المجتهدين الذين يعرفون رسالة الله، والذين يعيشون المعاناة في حياة الأُمّة، ويفهمون قضاياها ومشاكلها في مجالاتها كافّة.
وعي الأُمّة للواقع
لا بدّ لنا أن نعمل بكلّ ما لدينا من طاقة في سبيل أن تكون الأُمّة واعيةً لقضاياها ولرسالتها، وللساحة التي تتحرّك فيها، لأنَّ الأوضاع التي نعيشها في هذه المرحلة من حياتنا الآن وفي المستقبل تتحرّك لتلبس الحقّ بالباطل، وتحاول أن تخاطب عقول الجماهير وعواطفها بكثير من الأفكار التي تلتقي مع نوازعها الذاتية، ولكنّها لا تلتقي مع مصالحها وأهدافها الحقيقيّة.
في شرعية الثورة وشروطها من خلال
ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)
قد يتساءل البعض عن سبب الإصرار على استعادة ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وصحبه الأبرار في كلّ عام حقّاً وكي تكون الإجابة وافية، لا بدّ أن ندرس المسألة على ضوء صفتنا الإسلامية.
أوّلاً: فنحن مسلمون تواجهنا في الحياة وفي كلّ جيل من أجيالنا مشاكل وتحدّيات في مجال الحريّة والكرامة، فقد نُبْتلى بالذين يريدون فرض العبودية علينا، وبمن يريدون فرض الذلّ علينا في حياتنا العامّة والخاصّة، وقد تواجهنا في الحياة قضية العدالة في مسألة الحكم والحاكم الذي يفرض علينا الظلم، في ما يُشَرِّع من قوانين، أو ما يتحرَّك به من مشاريع، أو ينشئه من علاقات ويقيمه من معاهدات وتحالفات مع من يريدون فرض الفقر والتخلُّف على أُمّتنا.
إنّ كلّ أجيال المسلمين قد عاشت مثل هذه المشاكل دون شكّ، ولكنّ الظروف كانت تختلف بين جيلٍ وآخر. فقد تجد بعض الأجيال نفسها في حالة اختناق بحيث لا تستطيع أن تتنفَّس بالثورة، وقد تجد بعض الأجيال نفسها في حالة حصار لا تستطيع فيه أن تتحرَّك بحرّيتها، وقد تجد بعض الأجيال نفسها في سعة من الحال على أساس السِّعة في ظروفها.
وهنا نريد أن نواجه المسألة نحن كمسلمين، فما هو تكليفنا الشرعي أمام مثل هذه القضايا؟ هل يجوز لنا أن نثور من أجل القضايا التي تتّصل بعزّتها؟
هل يجوز لنا أن نثور في القضايا التي تتمثّل بمسألة العدالة فينا؟ أو أنّه لا يجوز لنا ذلك.
ربّما يفكِّر بعض الناس بأنّ على المسلمين أن لا يُلقوا بأيديهم إلى التهلكة، لأنّهم عندما يثورون في وجه الظالِم القوي أو المستكبر الطّاغي الجائر، فإنّهم يعرِّضون أنفسهم للتهلكة، والله يقول: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة : 195].
وربَّما يفكِّر آخرون بأنّ الله لا يريد للمسلم أن يكون عبداً لغيره، ولا يريد له أن يكون ذليلاً لأيّ شخص، ولا يريد له أيضاً أن يقبل بالظلم، وأنَّ عليه أن يواجه هذه الأمور بطريقة التحدّي والمواجهة، حتّى لو أدّى ذلك إلى أن يسقط جريحاً أو صريعاً في المعركة.
كيف نستطيع أن نختار بين هذين الرأيين؟
وكيف نستطيع أن نجد الأساس الشرعي لأيٍّ من الخيارين؟
هناك طريقتان تتكاملان في هذا المجال:
الطريقة الأولى: هي أن نبحث في الكتاب والسُنّة، باعتبارهما المصدرين اللّذين نأخذ منهما كلّ أحكامنا الشرعية لنجد أنّ الكتاب الذي قال: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة : 195]، قال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج : 78].
فنفهم من ذلك أنّ الجهاد لا يمثّل حالة إلقاء النفس في التهلكة التي تمثّلها الحالات الانتحارية أو الحالات الذاتية التي يخشى فيها الإنسان الخطر على نفسه، دون أن تكون هناك قضية كبيرة تقف وراء حركته.
أمّا مسألة الجهاد، فإنَّ الله اعتبره خطّاً من أجل إقامة العدل، ومن أجل تحقيق الحريّة للناس الذين لا يريد الله لهم أن يكونوا عبيداً إلاّ له.
ومن تأكيد العزّة والكرامة التي يريدها الله للمؤمنين، نجد أنّ القرآن الكريم يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8].
ويفسّرها الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) فيقول: "إنَّ الله فَوَّضَ إلى المؤمن أُمورَهُ كلَّها ولم يُفَوِّضْ إليهِ أن يُذِلَّ نفسه"(1).
معنى ذلك أنَّ الإنسان ليس حرّاً في أن يُذلَّ نفسه، والله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يكون حرّاً بمعنى أن لا يرضخ لعبودية المستكبرين، ولهذا قال الله للمستضعفين الذين فضَّلوا العبودية على مواجهة المستكبرين:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97].
{وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً} [النساء:75].
{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء:100].
إنَّ المسألة أنّ الملائكة تقول للمستضعفين الذين فضَّلوا أن يقعوا تحت تأثير الضعف فيستسلموا للمستكبرين: إنَّ الله يقول لكم: إنّكم في جهنّم، لأنّكم إن لم تستطيعوا مواجهة الكفر في هذا المكان، عليكم أن تخرجوا إلى مكانٍ آخر تستجمعون فيه القوّة {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [النساء : 98].
فأولئك أمرهم موقوف عسى الله أن يعفو عنهم.
فالله لا يريد لنا البقاء في حالة الاستعباد إذا كنّا نقدر على مواجهة الظلم والكفر. وهكذا نستطيع أن نأخذ من كلّ آيات الجهاد، ومن كلّ آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن كلّ آيات رفض الظالمين وعدم الركون إليهم شرعية التحرّك في مواجهة الظالم، والتصدّي لكلّ قوى الاستكبار والاستعباد والذلّ في العالم.
ثمّ قد نحتاج إلى القدوة. وقدوتنا في الحياة هي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في مواجهة المشركين، حيث نأخذ منها ومن آيات الله التي تحرَّكت متحدّثة عن كلّ حروب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وانطلقت لتشرّع القتال للمسلمين: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج : 39].
في الإسلام عندما يكون الحكم جائراً وظالِماً، فللمسلمين أن يثوروا على الحاكم الجائر. وإذا لم ينسحب الحاكم من الحكم ولم يستسلم للشرعية الإسلامية فمن حقّ المسلمين أن يزيلوه بالقوّة حتّى لو قتلوه.
عندما تكون المسألة مسألة الحكم الإسلاميّ والعدالة في المسلمين، وحريّتهم وعزّتهم ومستقبلهم.. فلا حريّة لأحد في مقابل ذلك.
وقد يُثار موضوع ما إذا كان الحاكم مسلماً ينطلق بالشهادتين، ولكنّه ظالم ويعطي البلاد الإسلامية للمستكبرين، وللكافرين وللطغاة، ويمكِّن الكافرين من رقاب المسلمين، ويشرّع للمسلمين غير شريعة الله.. فهل يجوز مواجهته؟
ربّما يقول البعض أنّه: لا يجوز لنا أن نقاتل المسلمين. هذا حاكم مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله، والقرآن يأمرنا بإطاعة أُولي الأمر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء : 59].
وهناك من يقول: لا يجوز القتال فيما بين المسلمين، حتّى لو كانت المسألة مسألة إقامة العدل وهدم الظلم، ويستشهدون بقول الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): إذا التقى المسلمانِ بسَيفَيهِما على غير سُنّة فالقاتلُ والمقتولُ في النار. فقيل يا رسول الله: هذا القاتِلُ، فما بالُ المقتولِ؟ قال: لأنّه أرادَ قَتْلاً(1).
ومن وجهة إسلامية، فإنّ من حقّ المسلمين، في أَيّ بلدٍ إسلاميّ يتحرّك فيه الحاكم ليفرض سياسة الكفر والطغيان على المسلمين، أن يقاتلوه.
ولكن من أين نعرف شرعية هذه الثورة داخل الحياة الإسلامية.
إنَّ قتال المسلمين لبعضهم البعض لا يجوز في القضايا الخاصّة، أو الأوضاع المبنية على العصبيّة، أو على الحزبية القائمة على العصبيّة، أو على الحالات العشائرية أو على الخلافات الخاصّة.
أمّا عندما تتعلَّق المسألة بوجود فئة تلتزم خطّ الكفر وتدافع عنه وتعمل للضغط على المسلمين في حريّتهم، فإنَّ لوليّ الأمر أن يتدخَّل ليلاحظ مصلحة المسلمين في ذلك، كما تدخَّل الإمام عليّ (عليه السلام) وحارب الباغين أمام خلافته بعدما حارب المشركين مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وذلك من أجل أن يجعل كلمة العدل في داخل الحياة الإسلامية، ويجعل قضايا المسلمين مرتكزة على الخطّ الأصيل.
إنَّ هناك خطّاً يُراد منه حفظ الحياة الإسلامية. كما نحتاج إلى سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) الذي خاض المعركة داخل الحياة الإسلامية، فإنَّنا نحتاج أيضاً لسيرته (عليه السلام) وهو يسوّغ استمراره في الخلافة إذ يقول: "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألاّ يُقارّوا على كِظّة ظالِمٍ ولا سَغَبِ مظلوم لألْقَيْتُ حَبْلَها على غارِبها. ولَسَقَيْتُ آخِرَها بكأسِ أوَّلِها، ولَألْفَيْتُم دُنياكُم هذه أزهَدَ عندي من عِفْطَةِ عَنز"(1).
يمكن للإمام (عليه السلام) أن يتحرَّك معهم في مواجهة الواقع الفاسد، ولولا أنّ الله فرض على كلّ العلماء التحرُّك، من موقع علمهم بالله، أن لا يقارّوا على حالة مظلوم يجوع ويُسْلَب ويُنْهَب ويُذَلّ.. وعلى حالة ظالم يتحرَّك لأجل أن يفرض ذلك على المظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتُم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز.
لقد ثار الإمام الحسين وأعلن أنَّ الأساس في ثورته هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمعنى قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران : 104]، أنَّ من الأمر بالمعروف أمرَ الظالم بالمعروف، وأنّ من النهي عن المنكر نهي الظالم عن المنكر، وأنّ من الأمر بالمعروف مواجهة الظالم، مواجهة التحدّي، وإجباره على ذلك بالثورة في وجهه، لأنَّ الأمر بالمعروف قد يكون بالكلمة، وقد يكون بالموقف، وقد يكون بممارسة القوّة.
كما أَنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) أكّد موقع العزّة عندما قال: "ألَا وإنَّ الدَّعيّ ابنَ الدَّعي قد تركني بين السِلَّة والذِّلَةِ وهَيهاتَ له ذلك، هيهاتَ مِنّي الذّلة: أبى اللهُ ذلك ورسولُه والمؤمنون، وجدودٌ طَهُرَتْ وحُجورٌ طابَتْ أن نؤثِرَ طاعة اللِّئامِ على مصارِعِ الكرامِ"(2).
لقد تحرَّك الإمام الحسين (عليه السلام) في المعركة تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي معركة خاسرة من الناحية العسكرية، لكنّه يرى أنّه لا بدّ أن يصدم الواقع حتّى يستطيع أن يهزّ قواعده لتتحرَّك الثورات من بعده، لأنَّ الواقع وصل إلى مرحلة استرخى فيها تحت تأثير حكم يزيد، ولذلك انطلق الناس وهم يحبُّون الحسين ليحاربوه.
لقد كان الوضع الإسلامي مُهَيّأً لأن يستمرّ الظلم، بحيث يحرّك الناس كلّهم في مواجهة كلّ دعوة للحقّ، وبذلك يستطيع التخطيط الكافر في داخل الحياة الإسلامية أن يقدّم الكفر للنّاس باسم الإسلام، ولذلك كان الحسين يشعر بالحاجة إلى صدم الواقع، ولذلك استعدّ للمأساة حتّى أنّه جلب نساءه وأطفاله معه من أجل أن تمتدّ الثورة، وتتّسع دائرة صداها لتصلّ إلى كلّ الناس.
ومن الضروري في كلّ تحرّك وفي كلّ ثورة أن نتعرَّف ما هي شرعية حركتنا الإسلامية هنا وهناك، حتّى نواجه الله من موقع شرعي في كلّ ما عملناه.
لهذا: فحاجتنا في كلّ سنة أن نستعيد ثورة الحسين (عليه السلام)، باعتبار أنّها ثورة لتحريك الواقع الإسلامي الفاسد ضدّ الحاكم الجائر، ولدرء التخطيط الكافر لعملاء الكفر في داخل الحياة الإسلامية، حتّى نقول لكلّ الأجيال الإسلامية القادمة: هذا هو الإمام الحسين (عليه السلام)، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، وهو إمام من أئمّة المسلمين، لا يتحرّك إلاّ من خلال الخطّ الذي رسمه الله.
إذاً نستطيع أن نأخذ من ثورة الحسين (عليه السلام) في كلّ سنة نستعيدها، شرعية الثورة في وجه الحاكم الظالم. وإذا أُجيزَ لنا أن نثور في وجه الحاكم الظالم وهو مسلم، فيجوز لنا بطريق أولى أن نثور في وجه الحاكم الظالم وهو كافر. لأنَّه إذا جاز لك أن تثور بوجه المسلم فكيف بالكافر.
نعم عندما نريد أن ندرس ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) علينا أن نعرف الظروف التي كان يعيش فيها الحسين (عليه السلام) من حيث الإمكانات وطبيعة الجوّ والوضع القائم، وندرس ظروفنا ونقارن، فلربّما تكون مرحلتنا مرحلة الإمام الحسين (عليه السلام)، ولربّما تكون مرحلة أخرى. لكنَّ القضية لا بدّ أن تُدرَس دراسة دقيقة، فمن حيث المبدأ: الإسلام لا يريد للإنسان المسلم أن يسترخي أمام الظلم وأن يخضع له، ما دام يستطيع أن يتحرَّك في وجهه.
إنَّ الأحكام الشرعية لا تتجمَّد، فكما قال الله سبحانه وتعالى: صلُّوا، صوموا.. فإنّه قال: جاهدوا. غاية الأمر أنّ للجهاد شروطاً، في طبيعته وفي حركته وأوضاعه وفي كلّ مواقعه، تماماً كما للصلاة وللصوم شروطها.
إنَّنا نبحث عن ثائر تمنحنا حركتُه شرعيةً لحركتنا، وهذا ما لا نجد إلاّ بالحسين (عليه السلام)، وفي أمثال الحسين (عليه السلام)، فلنتحرَّك في هذا الخطّ، وعلى هذا الطريق، حتّى نركِّز المسألة على أساس ثابت متين في كلّ المجالات العملية.
عاشوراء في قلب الحركة السياسية
هل إنَّ عاشوراء في مدلولها الثوري والروحي تمثّل حالة دينية بالمعنى التقليدي للحالة الدينية أو أنّها تمثّل حالة إسلامية سياسية؟ وبعد هذا التساؤل: ما علاقة الإسلام بالسياسة؟ وهل يمكنك أن تكون مسلماً دون أن تكون لك علاقة بالسياسة، أو أن يكون لك خطّ سياسي تستوحيه من الإسلام؟
في الجواب عن السؤال الأوّل هناك مَن يتصوَّر أنّ عاشوراء تمثّل حالة دينية تقليدية، يجتمع إليها الناس، ويتذكّرون جانب المأساة بعيداً عن جانب الحركة، ويفتّشون عن عناصر الألم بدلاً من التفتيش عن عناصر الانطلاق. ومن هنا يفكّر هؤلاء الناس بأنَّ قصّة الحسين (عليه السلام) في الذكرى، هي قصّة الدمعة التي نستنزفها من عيوننا لتعبّر عن حزننا وألمنا. ولهذا يهتمّ الناس بالدموع ويتحرّكون على أساس أن لا تكون الدموع حالة عميقة في النفس، بل تكون حالة إيمانية يستنزفها الإنسان ليحصل على الثواب.
وربّما فكَّر بعض الناس أنّه يكفيه ليحصل على غفران الله من كلّ ذنوبه أن يبكي قليلاً في مآتم الإمام الحسين (عليه السلام)، أو أن يلطم صدره، أو أن يجرح رأسه، أو ظهره.. فيكون قد وفّى الحسين حقّه. ويقول هؤلاء الناس: إنَّ الذين يتحدّثون عن قصّة الحسين (عليه السلام)، من الموقع السياسي، يسيئون إلى قداسة القصّة، وإلى قداسة الحسين (عليه السلام). ولأنَّ القضية قضية دينية، والقضايا الدينية يجب أن لا ترتبط بالقضايا السياسية.
وهناك جمهور كبير من الناس يحاولون الاقتراب من الحسين (عليه السلام) من موقع مأساته لا من موقع ثورته. ونلتقي في هذا النموذج من الناس بالكثيرين من الملوك الذين يتشيَّعون لأهل البيت (عليهم السلام) رسمياً، كما كان حال شاه إيران (محمد رضا بهلوي)، الذي كان يقيم العزاء على الحسين (عليه السلام) ويتحرّك فيما هو أخطر من خطّ يزيد. لأنّه كان يتحرّك ليعيد إيران إلى التاريخ الكسروي الذي يعتبر الإسلام حالة عدوانية في تاريخ الشعب الإيراني، على اعتبار أنّها حالة جاءت من الغزاة الذين غزوا إيران فبدَّلوا حضارتها وسياستها.
وهناك نماذج من السياسيين الذين يلتزمون الخطّ الاستعماري في سياستهم، وينفتحون على إسرائيل وعلى غير إسرائيل من أعداء أُمّتنا، ويركّزون قواعد الحكم الظالم.. وهم يقيمون مجالس عاشوراء بطريقة احتفالية مأساوية، ويشترطون على قارئ التعزية أن لا يبتعد عن المصيبة.
وهكذا نجد نماذج كثيرة من الناس، سواء كانوا من الشخصيات الدينية أو الاجتماعية أو الاقتصادية الموجودة في المجتمع، تنكر على القارئ أن يتحدَّث عن الثورة بطريقة تواجه السياسة القائمة، أو تواجه الأوضاع السياسية الدولية أو الاقليمية التي تنعكس سلباً على واقع الناس.
لأنَّ عاشوراء مناسبة دينية ـــ حسب رأيهم ـــ فعلينا أن لا نُسيء إليها بالسياسة. وينزعجون إذا وقف إنسان ليتحدّث عن عاشوراء ـــ الثورة، وعن عاشوراء ـــ الخطّ، وعن عاشوراء ـــ الهدف، وعن عاشوراء التي تتحدَّى كلّ جيلٍ، تقول له أمام كربلاء: أين أنت؟ أين موقعك؟ وهل موقعُكَ مع الحسين في أفكاره وفي طروحاته، وفي شعاراته، أو مع يزيد في أفكاره وفي أطماعه، وفي خطوطه العملية؟
كربلاء.. نهج وشرعية..
إنَّ حركة الحسين هي نهجٌ لحركتنا وشرعية للحركة الإسلامية. في الحديث الشريف: "مَنْ أصْبَحَ وأمْسَى ولم يَهْتَمّ بأُمورِ المسلمينَ فليس بمُسْلِم" ما معنى "ولم يهتم".
هناك اهتمام قلبي بأن تعيش الهمّ في قلبك، واهتمام عقلي بأنْ تفكِّر في عقلك كيف يمكن لك أن تنقذ المسلمين من أمورهم المعقّدة والصعبة، واهتمام حركي عملي وهو أن تفكِّر كيف يمكن لك أن تتحرَّك حتّى تنقِذ قضايا المسلمين وأمورهم.
هذا في الجانب السلبي، وفي الجانب الإيجابي نقرأ الحديث المعروف عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "مثل المؤمنين في تَوادِّهم وتراحُمهم كَمَثَل الجسدِ، إذا اشتكى بعضُه تَداعى له سائرُه بالسَّهرِ والحُمَّى"(1).
هذه نظرية إسلامية تريد أن توصل الحالة الشعورية في الواقع الإسلامي إلى أن يختزن كلّ مسلم في داخله مفهوم الأُمّة ـــ الجسد الواحد ـــ وأن يعتبر واقع الأُمّة من الناحية الشعورية كواقع الجسد. فكما أنّ أعضاء الجسد لا يمكن أن تنام إذا ما كان أحد الأعضاء متألِّماً، فلا بدّ أن نتألَّم كذلك إذا ما تألَّم أيّ شعب في أيّ منطقة إسلامية من العالَم.
عندما نؤكّد أنّ عاشوراء حركة سياسية إسلامية، فإنَّنا نؤكّد معناها الديني في ما هو المعنى المنفتح على الحياة كلّها، ونؤكّد على أنّ الحسين (عليه السلام) في الوقت الذي يمثِّل الإمامة بمعناها الديني الروحي العبادي، فهو ينفتح من موقع إمامته على كلّ المعاني السياسية في الواقع. والإمامة هي حركة في معنى الحكم وفي معنى القيادة.
الإمامة ليست حالة منغلقة بعيدة عن التحدّي وعن الضوضاء، ولولا ذلك لما واجَه أهل البيت (عليهم السلام) التحدّيات والنكبات العظام.
إنَّ حكاية أنّ الدين يبتعد عن السياسة، جعلت السياسة في يد الذين يواجهون الإسلام وجهاً لوجه بفكر الإلحاد، وجعلت السياسة في يد الخائنين والفاسقين والظالمين. لقد آن الأوان لتكون السياسة في يد العادلين المتّقين الواعين، حتّى نستطيع أن نغيّر الواقع على كلمة الله.
إنَّ كربلاء ليست منطقة في العراق، ولكنّها ساحة من ساحات الجهاد. والحسين ليس شخصاً في التاريخ، ولكنّه كلّ قائد ينطلق من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى.
حركة كربلاء وواقعنا المعاصر
في موسم عاشوراء، وفي غيره من المواسم، نحتاج إلى أن نتفهَّم حركة الإمام الحسين (عليه السلام) فهماً واعياً منفتحاً على القضايا الأساسية كلّها، التي تماثل القضايا التي انطلق منها الإمام الحسين. لأنَّ المسائل التي كان يفكِّر بها الحسين (عليه السلام) لم تكن من المسائل الفريدة في الحياة، بل كانت نموذجاً لقضايا تسير الزمن كلّه وتوجه في كلّ مكان. لذلك لا بدَّ أن نتطلَّع إلى كربلاء لندرس كيف كان موقف الإمام الحسين (عليه السلام)، ثمّ لا يكون لنا أيّ موقف مماثل من القضايا التي تكون في نفس الدرجة من الأهمية لما ثار الإمام الحسين من أجلها.
الحسين ومبايعة يزيد
لقد دعي الإمام الحسين (عليه السلام) في المدينة إلى أن يبايع على خلاف قناعته، لأنّه كان لا يجد فيه الأهليّة للخلافة، وكان يجد نفسه هو المؤهّل الشرعي لأن يكون خليفة المسلمين. وأرادوا أن يفرضوا عليه الموقف ليبايع من خلال القوّة التي يهدِّدونه بها. ولم يشأ الإمام الحسين (عليه السلام) أن يدخل أيّة معركة في المدينة أو مكّة، فخرج من مكّة قاصداً العراق، بعد أن أرسل إليه أهل العراق رسائلهم الكثيرة.
وانطلق إلى كربلاء، وطُرِحَ عليه أن يخضع ليزيد، وأن يضع يده في يده، وأن ينزل على حكمة ليتصرَّف كما يشاء. ولم تقتصر المسألة في عقدة تولي ابن زياد الكوفة من قبل يزيد، بل طلب منه هذا الأخير أن ينزل على حكمه بالإضافة إلى نزوله على حكم يزيد بن معاوية، وهكذا أُريد للإمام الحسين (سلام الله عليه) أن يقول لابن زياد: أُحكم عليّ بما تريد.
إنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) لا يمكن أن يقبل ذلك، كأيّ إنسان حرَّ الذّات يأبى أن يخضع للآخرين. والمسألة إلى جانب ذلك أنّه (سلام الله عليه) لا يريد الخضوع للانحراف، ولا للظلم ولا للطغيان. وعلى هذا الأساس، كانت المسألة بالنسبة إليه مسألة الموقف العزيز للحقّ وللعدل، في مواجهة الموقف الذليل لحساب الباطل والظلم. ولهذا علَّل الإمام الحسين (سلام الله عليه) رفضه لذلك في قوله: "يأبى اللهُ لَنا ذلكَ ورسولُه والمؤمنون"(1)، كأنَّه يريد أن يقول: إنَّ الإنسان عندما يتصرَّف أي تصرّف في الحياة، فلا بدَّ له من أن يحصل على الشرعية في التصرُّف.
فإذا أردت أن تخضع لأيّ شخص، فلا بدّ لك أن تعرف هل أنّ خضوعك هذا شرعي يقبله الله ورسول الله في شريعته، أو أنّ خضوعك ليس شرعياً، فلا بدّ للمسلم من أن يجعل كلّ مواقفه في خطّ إسلامه، فلا يتحرّك إلاّ بما يريد الله له أن يتحرَّك فيه، ولا تقف إلاّ حيث يريد الله له أن يقف فيه.
لقد رفض الإمام الحسين (عليه السلام) الخضوع ليزيد الذي يمثّل سلطة الانحراف عن خطّ الله ورسوله، ويمثّل السلطة الظالمة، وكان يزيد يحاول أن يظهر بمظهر المسلم، فهو يصلّي الجمعة والجماعة بالمسلمين، ويصوم شهر رمضان، ولكنَّه يمثّل الإنسان المنحرف في فكره، وفي سلوكه، وفي عمله في جانب الحكم العام للأُمّة، وفي جانب الانحرافات الشخصية في لذّاته وشهواته.
لقد تمرَّد الإمام الحسين (عليه السلام) على يزيد، ورفض أن يخضع له، وصمَّم أن يواجهه بكلّ قوّة حتّى الاستشهاد وهو المحاصر من جميع الجهات. ورغم أنّه عاش حالة العطش ومشكلة الأجواء المأساوية التي تحيط به من خلال النساء والأطفال، فإنّه لم يخضع، لأنّه أراد أن يبقى عزيزاً كما أراد الله له أن يبقى.
بين كربلاء والواقع الإسلامي المعاصر
لننفصل عن كربلاء ولنأت للواقع الإسلامي كلّه. ففي الواقع الإسلامي في كلّ بلد إسلامي هناك أكثر من حكم يماثل حكم يزيد، ويفوقه طغياناً وانحرافاً وكفراً. فالمسلمون يخضعون في غالبية بلدانهم لحكم لا يطرح الإسلام حتّى بالمستوى الذي كان يطرحه يزيد، وإنّما يطرح غير الإسلام من خلال العناوين الجديدة للحكم التي جاءت بها الفلسفات الأوروبية، والتي تعمل على أن لا تجعل للدين أيّة علاقة بحياة الناس وواقعهم. حتّى أنّ الإنسان لا يسمح له أن يتحدّث عن الإسلام. وإذا تحدّث عن الشريعة الإسلامية وتطبيقها، قالوا: هذا أُصوليّ متطرّف، وقالوا: هذا رجعي متزمّت، وهذا سلفي يريد أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
بعض الناس لا يكلِّفهم الحسين (عليه السلام) شيئاً، لأنَّهم يكتفون من الحسين أن يبكوا عليه، ولكنّهم يقتلون في كلّ يوم ألف حسين في العالَم الإسلامي من خلال خضوعهم للكفر والكافرين.
هل الخضوع ليزيد بن معاوية أكثر ذلاًّ، أو الخضوع للذي يحكم باسم الكفر حيث يتحرَّك الاستكبار العالمي، ليسحق كلّ مقدّراتنا السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية يمثّل الذلّ الأكبر؟
إذا كان الحسين يقول: يأبى الله أن نصافح يزيد وابن زياد، فهل يرضى الله لنا أن نقبّل اليد الأميركية، أو نقبّل اليد التي تعمل على أساس أن تقبّل اليد الأميركية؟
إنَّ مَن يرفض خضوع الحسين (عليه السلام) ليزيد وابن زياد، لا بدّ أن يرفض خضوع أبناء الحسين وأتباعه وجنده لأميركا ولعملاء أميركا. وربّما لا نجد في الواقع الإسلامي مناسبة أخذت تأثيرها وحجمها في العقل وفي القلب وفي التقاليد وفي حركة الواقع وفي الشعارات.. التي تتّسع في مسيرة الواقع منذ الماضي وحتّى الحاضر وانطلاقاً بالمستقبل، كما هي قضية الإمام الحسين.
الإسلام وحركة المسؤولية
إنَّ هناك روحاً إسلامية يشعر بها كلّ مَن سمع بالحسين (عليه السلام) وعاش حركته وتعمَّق بثورته، بحيث يجد حركيّة الإسلام في تلك الحركة، وفاعليّته ومسؤوليّته وإمكانية أن يبقى ليمدّ كلّ جيلٍ إسلامي بالجديد ممّا يمكن أن يحقّق له الأهداف الكبيرة في الحياة. فالإسلام ليس مجرّد فكر نختزنه في عقولنا، وليس مجرّد كلمات نردِّدها على ألسنتنا، ولكنّه يمثّل بالإضافة إلى ذلك حركة في مسؤولية الحياة. والذي يعيش مسؤوليّته هو الذي ينسى ذاته ويفكّر أنّ علاقاته بالناس وبالأحداث، بل وحتّى علاقاته بأهله الأقربين، تتحرَّك سلباً أو إيجاباً في خطّ المسؤولية.
وهذا ما عشناه فيما حدَّثنا الله سبحانه وتعالى عن النبيّ نوح (عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام) عندما قال: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ*قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 45 ـــ 46].
إنَّ مَنْ كان قريباً لرسالتك فهو أقرب الناس إليك، وأبعد الناس عنك هو من كان بعيداً عن رسالتك. وهذا المعنى يجسّده الشاعر أبو فراس الحمداني:
كانت مودّةُ سلمانٍ لهم رَحِماً ولم يكن بينَ نوحٍ وابنِهِ رَحِمُ
هكذا يعيش الإنسان المسؤول مسؤوليّته بحيث تتدخّل في عمق علاقاته، وفي كلّ مواقع الحركة في الحياة، بحيث يتقدَّم عندما يجد أنّ مصلحة مسؤوليّته الرسالية في أن يتقدَّم حتّى لو كانت الأخطار تواجهه، ويتأخّر عندما يرى أنّ المصلحة هي في أن يتأخَّر حتّى لو رماه الناس بالضّعف والجبن.
المسؤولية في حركة الحسن والحسين (عليه السلام)
هناك مَن يتحدّث عن وجود فرق بين شخصية الإمام الحسن وبين شخصية الإمام الحسين (سلام الله عليهما)، فيعتبرون أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) كان شخصيةً مسالِمة، فيما كان العنف هو الذي يطبع شخصية الإمام الحسين (عليه السلام).
لقد كانت المسألة تماماً كما هي مسألة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قبل الهجرة وبعدها، وكما كانت قضية الإمام عليّ (عليه السلام) قبل الخلافة وبعدها.
لماذا لم يأذن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) للمسلمين الذين كانوا يستطيعون التحرُّك بصفةٍ فردية في مكّة ليواجهوا الضغط الذي كان يفرضه عليهم عتاة قريش؟ ربّما كان بعض المسلمين يعانون الضعف، لكنَّ آخرين كانوا يملكون القوّة، وربّما كان بعضهم مرهوب الجانب لدى أهل مكّة، ومع ذلك لم يأذن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لهم بالقتال، لأنَّ المرحلة تطلَّبت أن يفتح الإسلام طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في العقول والقلوب في ساحة مكّة، حيث كان (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لا يريد إثارة خلاف ليقال: إنَّ محمّداً وقريشاً قد اختلفا، فتضيع الرسالة.
لقد كان (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يريد للرسالة ـــ آنذاك ـــ أن تكون الرسالة المضطهدة، حتّى يتحرّك الناس ليعيشوها من خلال طبيعة الاضطهاد الذي تعانيه، حتّى إذا ما استطاعت أن تصل إلى آذان كلّ الناس الذين يأتون إلى مكّة لأسباب تجارية أو ثقافية أو دينية، انطلق النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ليواجه قريش، وليهدِّد مصالحها.. فكانت واقعة (بدر) وكانت كلّ الحروب.
لماذا؟ لأنّ المرحلة الثانية كانت مرحلة صنع القوّة في المنطقة، باعتبار أنّها لا تخضع إلاّ للقوي. فالحقّ وحده لا يخضعها. لقد كانت المرحلة الأولى هي أن يسمع الناس الكلمة. وكانت المرحلة الثانية أن تخضع المنطقة للقوّة التي تعمِّق التزام الناس بها.
وهكذا فليس هناك خطأ في أنّ المسلمين لم يحاربوا في مكّة أو في المدينة، ولكنّها كانت مرحلة تهيّئ لمرحلة أُخرى. ويتحرّك في المرحلتين أسلوبان إسلاميّان: أسلوب اللّين حيث يكون اللّين هو مصلحة الإنسان في الحياة ومصلحة الرسالة في الحياة، وأسلوب العنف عندما يكون العنف في مصلحة الإنسان في الحياة ومصلحة الرسالة في الحياة.
إنَّ العنف حالةٌ طبيعية يحتاجها الإنسان في بعض مواقعه، والرفق حالةٌ طبيعيةٌ كذلك يحتاجها الإنسان كذلك. فالكون يختزن الاثنين معاً. وفي الحياة الطبيعية نجد العواصف العاتية التي تدمِّر الأشجار، وتهدِّد الديار، وبعد ذلك نجد النسيم العليل الذي ينعش الهواء والحياة. وفي ذلك كلّه تحتاج الحياة إلى العواصف، كما تحتاج إلى النسيم العليل. لأنَّ لكلّ فصل حاجاته في طبيعة ما يحيط به، فالمسألة ليست مسألة مزاج.
إنَّ الإمام الحسن كان عنيفاً في رسائله التي كان يرسلها إلى معاوية. وعندما اندفع (عليه السلام) في الحرب، اندفع بعمق وأراد من الناس أنْ يتحرَّكوا نحوها بجديّة. لكنّ الأُمّة كانت قد تعبت منها ومن آثارها، في الوقت الذي كانت تعيش الفوضى في مشاعرها وأفكارها، حتّى أنّها خالفت رأيه ومنعته من أن يستكمل خطبته، لأنّها كانت تتحرَّك في أجواء غير سليمة.
وهكذا انطلق الإمام الحسن (عليه السلام) بعسكر لا يملك أيّة فرصة للثبات أو للانتصار. قد يقول بعض الناس: ليس من الضروري أن ينتصر الإمام الحسن، لماذا لم ينطلق في خطّ الاستشهاد كما انطلق الإمام الحسين (عليه السلام)؟
لو أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) انطلق بالحرب لما بقي الإمام الحسين (عليه السلام)، ولما بقيت كلّ تلك المعارضة، ولأصبح الجوّ كلّه من خلال عنوان واحد وخطٍّ واحد.
إنَّ صلح الإمام الحسن (عليه السلام) لم يكن حالة ضعف أو حالة هروب من الشهادة. لقد كانت القضية أن يفسح الإمام الحسن (عليه السلام) بهذا الصلح المجال للنّاس ليدرسوا الأمور على الطبيعة، لتتحرَّك المعارضة من خلال أنّ هناك واقعاً يُنمّيها، ويُنمّي قواعدها مع إمكانية أن يسمح المستقبل بالحركة، وهكذا كان. إذ لم تمضِ سنون على ذلك إلاّ وكانت هناك قاعدة تنتقد، وتعترض، وتشير.
وكانت انطلاقة الإمام الحسين (عليه السلام) هي الصدمة التي أراد (عليه السلام) من خلالها أن يصدم الواقع حتّى يهزّه هزّة عنيفة من الأعماق، من أجل أن تؤثّر تلك الصدمة في المستقبل عندما ينفتح الناس على قضية الحسين (عليه السلام) ليفكِّروا:
كيف انطلقت وكيف عاشت وكيف تحرَّكت؟
لهذا: فإنَّ أُسلوب الإمام الحسن (عليه السلام) كان أسلوب المرحلة في حركة الإسلام، وأسلوب الإمام الحسين (عليه السلام) كان أسلوب المرحلة أيضاً.
إذ ما قيمة أن يقف المرء ضدّ التيّار دون الاستعداد الكافي لذلك؟
الجهاد ودفع العدوان
إنَّ هناك مَن يفكِّر بأنَّ قصّة الجهاد انتهت باستشهاد الحسين (عليه السلام)، وعلينا أن ننتظر إلى أن يأتي صاحب العصر والزمان المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه الشريف) ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً. المسألة ليست كذلك. المسألة أنّ لكّ الحقّ في أن تدفع العدوان عن نفسك، وإذا دفعت العدوان عن نفسك فلست معتدياً، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة : 194].
إنَّ هناك خطّة تريد أن تحيِّد المسلمين والمستضعفين من غير المسلمين عن المعركة ضدّ الاستعمار وضدّ اليهودية، بداعي أنَّ السلام هو الذي يخدم الناس.
نحن مع السلام، ولكنَّ السلام الذي لا يأكل حريّتنا، ولا يضطهد عدالتنا، ولا يخنق إنسانيّتنا.
بين الحبّ والموالاة
بعد مرور قرون طويلة على ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، ماذا يعني إثارة تلك القضية؟ إنَّه يعني أنَّنا لا نزال (نلتزمه) في حين نجد بعض الناس يقولون: لا نزال (نحبّه). ولكنّي لا أُريد أن أتوقّف عند هذه الكلمة، فعلينا أن نضيف إلى كلمة (الحبّ) كلمة الموالاة.
وهناك فرق بين أن تحبّ أهل البيت، وأن تواليهم. أو أنْ تتعصَّب لأهل البيت، وأن تلتزمهم. فالحبّ يمثّل حالة عاطفيةً، فيما يفرض عليك ولاء أهل البيت أن يكون الله وليّك. مَن هم أولياء الله؟ إنَّهم ليسوا أولياءنا بأشخاصهم، ولكنّهم أولياؤنا برسالتهم، وبحبّهم لله سبحانه وتعالى، ولذلك كانت ولايتنا لهم حركة في خطّ ولايتنا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وفي خطّ ولايتنا لله سبحانه وتعالى، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة : 55].
ومعنى أن تكون وليّاً لله، أن تكون مخلصاً لله بقدر ما كان أهل البيت (عليهم السلام) مخلصين له، وتتحرَّك في خطّ الله بقدر ما كان أهل البيت (عليهم السلام) متحرّكين في خطّه.
إنّ الحبّ وحده لا يكفي فيما الولاية تعني الالتزام بالموقف، والموقف فكرٌ تلتزمه وعاطفةٌ تعيشها وخطواتٌ تتحرَّك فيها.. أجل: فما معنى أن تحبّ أهل البيت (عليهم السلام)، وأنتَ تلتزم خطّاً غير خطّهم، ونهجاً غير منهجهم، وفكراً غير فكرهم، وهدفاً غير هدفهم.
لقد وقف أكثر المسلمين يومئذٍ بين المبادئ وبين العاطفة، بين الفكرة غير المستقرّة وبين المال والجاه. وفضَّلوا المال على الفكرة، وعلى العاطفة، هذه تجربة عاشها الناس بالماضي.
وإذا أردنا إثارة مسألة الإمام الحسين (عليه السلام)، فلا نستغرب كيف قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وكيف قُتِلَ أخوه العبّاس (عليه السلام)، وكيف قتل ولده عليّ الأكبر، هذه مسألة يمكن لنا أن نعيشها، لكن لنحدِّق بأنفسنا من خلال كربلاء، فلو كنّا في ساحة كربلاء، فهل تكون شخصيّتنا شخصية عمر بن سعد أو شخصية الحرّ بن يزيد الرياحي؟
إنَّ استيعاب الإجابة عن تلك التساؤلات إنّما تكون من خلال الموقف.. مع مَنْ، وفي أيّ خطّ لو جاء الحسين (عليه السلام) وليس معه إلاّ القلّة، وجاء عمر بن سعد ومعه الرجال والسلاح والمال، ودارت أنظارهم بين الحسين (عليه السلام) وبين خصومه، فهل يمكن القطع بالوقوف إلى جانب الإمام الحسين؟
إنَّ التزام قضية الإمام الحسين (عليه السلام) تحمّلنا مسؤولية أن نقف حيث وقف، وأن نتحرَّك حيث تحرَّك. إنّه كان يتحرّك من أجل طلب الإصلاح في أُمّة جدّه، فهل نتحرّك في خطّ الإصلاح في أُمّة جدّ الحسين (عليه السلام)؟ كان يتحرَّك في خطّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلنتحرَّك في هذا الخطّ. الحسين كان ينفتح على الله بكلّ حياته، ويضحّي في سبيل الله بكلّ حياته، فهل نحن كذلك؟
يجب أن لا نعتبر العظماء الذين نقدّسهم ونتقرَّب إلى الله بهم أشخاصاً انتهوا إلى صفحات التاريخ، بل يجب أن يستمروا إشراقات في كلّ طرقنا المظلمة، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب : 33].
وأهل البيت يحتاجون إلى أتباع أطهار يعيشون طهر أهل البيت الفكري في طهرهم الفكري، وطهر أهل البيت العاطفي في طهرهم العاطفي، ويعيشون طهر أهل البيت الحركي في طهرهم الحركي.. إنّه الطريق الذي يتّبع الحقّ، وينتهي بالجنّة.
بالمعرفة والإرادة نصنع التاريخ
ولكن كيف نوظِّف عاطفتنا نحو كربلاء باتّجاه قضايانا المعاصرة؟
حين نريد أن ننطلق في حياتنا كما أراد الله لنا أن ننطلق، فلا بدّ أن نتوازن في عاطفتنا، فنعطي العقل جرعةً من العاطفة حتّى لا يبقى العقلُ جامداً، ونعطي العاطفة جُرْعة من العقل حتّى لا تكون العاطفة مائعة. لهذا فعندما نستقبل قضية الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنَّ عنصر المأساة يجتذبنا، على أنّ كلّ إنسان يتأثّر بعناصر المأساة عندما يواجهها أو عندما تُذكر أمامه.
ولهذا فمن الطبيعي لنا ـــ ونحن نحبّ أهل البيت (عليهم السلام) ـــ أنْ تتحرّك عواطفنا وتسيل دموعنا عندما نتذكَّر مآسيهم.
إنَّنا مسؤولون أن نكسب ما يريدنا الله أن نكسبه في حركتنا في الحياة. فلدينا عقلٌ، ولا بدّ للعقل أن يكتسب المعرفة ويتحمّل مسؤولية المعرفة، ولنا إرادةٌ، ولا بدّ لهذه الإرادة أنْ تتجلَّى في الحياة، ولنا طاقات، ولا بدّ لهذه الطاقات أن تعبّر عن نفسها في كلّ المواقف التي تتطلَّب ذلك.
إذاً فالله يسألنا: كيف يمكن أن نكسب رضاه، وكيف يمكن أن نكسب القضايا الكبيرة التي يحبّها؟ ولذلك لا بدّ أن نحرِّك عقولنا، حتّى لا نكون من الذين يملكون عقولاً لا يعقلون بها، وأنْ نحرِّك أسماعنا وأبصارنا حتّى لا نكون من الذين يملكون أعيناً لا يبصرون بها وآذاناً لا يسمعون بها.
إنَّ الله يريد من الإنسان اكتساب المعرفة والثقافة.
إنَّنا مسؤولون أن نصنع تاريخاً، وأن نُبْدِعَ حياةً، وأن نحرِّك طاقة، وأن نجسِّد موقفاً في الحياة.. تلك هي مسؤوليّتنا.
فما علاقة كربلاء بنا وما علاقتنا بكربلاء؟
بين التاريخ والواقع
عندما نريد أن ننفتح على الحسين (عليه السلام) في عاشوراء، فإنَّ هذا الانفتاح لا يجب أن يكون استغراقاً في التاريخ لننسى الواقع، كما يفعل كثير من الناس، فيلعنون يزيد ألف مرّة وهم يحتضنون ألف يزيد. في كلّ يوم ألف مرّة يلعنون الذين قتلوا الإمام الحسين (عليه السلام) "فلَعَنَ اللهُ أُمَّةً قَتَلَتْكَ وَلَعَنَ اللهُ أُمّةً ظَلَمَتْكَ ولَعَنَ اللهُ أُمّةً استحَلَّتْ مِنْكَ المحارمَ وانْتَهَكَتْ حُرْمَةَ الإسلام"(1).
إنَّ رفض ذلك الواقع في التاريخ يستلزم رفض الواقع المماثل الذي نعيشه، أو الواقع الأكثر خطورة الذي نواجهه. إنَّنا نواجه اليوم مشاكل كثيرة أكثر خطورة من المشاكل التي واجهها الإمام الحسين (عليه السلام) في عصره، ونشهد حالة ظلم أكثر من الظلم الذي واجهه الإمام الحسين في عصره، ولكنَّنا لا نتحرَّك خطوة واحدة في هذا الاتّجاه.
إنَّنا نتطلَّع إلى شيء في التاريخ، ولكنَّنا نتطلَّع إلى واقع هذه الأجيال المسلمة التي تربّت على كربلاء، والتي عاشت في مشاعرها وأحاسيسها وأفكارها أحاسيس الكربلائيين ومشاعرهم. أنّها استطاعت أن تصنع لنا الثورة، ولذلك كانت كلمة الإمام الخميني (رضوان الله عليه): كلُّ ما عندَنا من عاشوراء، لأنَّ عاشوراء هي التي ربَّت كلّ ذلك الجيل الذي تحرّك مع الإمام الخميني في ثورته قبل انتصار الثورة، وتحرّك معه بعد انتصار الثورة. وهو الذي خاض الحروب معه في إيران، وضدّ الاستكبار العالمي في لبنان وفي أفغانستان، وفي كلّ مجال.
إنَّها كربلاء. وكربلاء استطاعت أن تصنع جمهوراً للحسين (عليه السلام) يتحرَّك في كلّ زمان ومكان، ليصنع لنا أكثر من كربلاء وأكثر من موقع في خطّ الإمام الحسين (عليه السلام).
عاشوراء لكلّ العصور
عندما نعيش في كلّ سنة ذكرى عاشوراء، فإنَّنا نبحث عن جمهور عاشوراء في كلّ مرحلة من مراحل حياتنا المعاصرة، لأنَّ الهدف من بقاء هذه الذكرى على مدى الزّمن، هو أن تُنتج لنا حالة حسينيّةً في كلّ مرحلةٍ من مراحل حركتنا الإسلامية في العالم، فإنَّ المسألة هي أنّنا لا نريد أن نجمِّد التاريخ كما يفعل الكثيرون من الناس الذين يعملون على أن يسكنوا في الماضي، من دون أن يواجهوا مسؤوليّاتهم في الحاضر. وهذا أمر مرفوض في التفكير الإسلامي، لأنَّ الخطّ الإسلامي الذي ركَّزه الله سبحانه وتعالى في كتابه، هو أنَّ لكلّ أُمّة كتابها، ولكلّ أُمّة عملها نتيجة مسؤولياتها وواجباتها.
وهذا يعني أنَّنا لسنا مسؤولين عمّا حدث في زمان الإمام الحسين (عليه السلام)، إذ إِنّ المسؤولين هم الناس الذين عاشوا هناك، سواءٌ منهم الذين تحرَّكوا في خطّ المسؤولية فكانوا مع الحسين (عليه السلام)، أو الذين ابتعدوا عن خطّ المسؤولية فوقفوا على الحياد، أو الذين ضاعت مواقفهم أمام عواطفهم، فكان أمامهم مصالحهم، إذ كانت قلوبهم مع الحسين (عليه السلام) وسيوفهم عليه.
الموقف المطلوب أمام حقائق التاريخ
وعندما نستمع، بعد هذا الوقت الطويل من التاريخ، إلى سيرة الإمام الحسين (عليه السلام)، وجماعة الذين يلتزمون الباطل، وجماعة الذين يتعاطفون مع الحقّ ولكنّهم يقفون مواقف الباطل، عندما نواجه هؤلاء، فعلينا أن نعيش في داخل نفوسنا موقفاً نفسياً تجاههم، فنرفض الذين التزموا الباطل، وننفتح على الذين عرفوا الحقّ فانطلقوا معه.
وعندما تعيش حالةً نفسية أمام التاريخ، فعليك أن تحدِّد موقفك أمام النماذج الموجودة في الواقع، هل أنا من هؤلاء الناس الذين يقفون مع الحقّ ويواجهون التحدّيات؟ أو من الذين يتجنَّبون الدخول في ساحة الصراع، فيجلسون على التلّ عندما تزدحم ساحات الصراع بالمواقف الصعبة؟ أو من الذين يقولون إنَّنا لا نحبّ المشاكل لأنفسنا، ليتغلَّب هذا الجانب على ذاك ويتغلَّب ذاك الجانب على ذلك، إذ ليس لنا مصلحة هنا ولا هناك، وبذلك نكون حياديين بين الحقّ والباطل فلا نتّخذ موقفاً محدَّداً؟
بعض الناس على عهد الإمام الحسين (عليه السلام) كانوا يفكِّرون بهذه الطريقة، كما كان بعض الناس في زمان الإمام عليّ (عليه السلام) يفكِّرون بالطريقة نفسها. وهذا موقف مرفوض، لأنَّ معنى أن تكون حياديّاً هو أن تكون مع الباطل. بعض الناس قد يفكِّر بهذه الطريقة، فيقول: أنا لستُ مع هذه الفئة ولا مع تلك. لا مع فلان ولا مع فلان. تارّة تكون الفئتان من أهل الباطل. صحيح، عندها عليك أن ترفضهما معاً. وهذا ما قاله الإمام عليّ (عليه السلام): "كُنْ في الفتنةِ كابنِ اللّبونِ لا ظَهْرٌ فيُركَب ولا ضَرْعٌ فيُحْلَب"(1).
الفتنة هي التي لا يعرف فيها وجه الحقّ من الباطل. هنا لا تدع أحداً يركب عليك، ولا تدع أحداً يحلب مواقفك، كُنْ كابن اللّبون ـــ وهو ابن الناقة الذكر في السنة الثانية من العمر ـــ، هذا في الفتنة، لكن عندما تكون المسألة مسألة أنّ هناك حقّاً وباطلاً، فإنَّ عليك أن تكون مع الحقّ ضدّ الباطل.
يقول الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام): "أبْلِغْ خَيْراً وقُلْ خَيراً ولا تكُنْ إمَّعَةً". قلت: وما الإمَّعة؟ قال: "لا تَقُلْ أنا مع الناسِ، وأنا كواحدٍ من الناس"(2).
أمّا النموذج الثالث، فهو نموذج النّاس الذين يتعاطفون مع الحقّ كمن يُحبّ أهل الخير، ولكنّه ليس مستعداً أن يلتزم مسؤولية الخير. يحبّ أهل العدل، ولكنّه ليس مستعداً أن يلتزم خطّ العدل. يحبّ أهل الحقّ، ولكنّه ليس مستعداً أنْ يتحمَّل مسؤولية الحقّ معهم.. بل كلّ ذلك وفق حساباته الخاصّة وعلى أساس مصالحه المادية، بحيث يلاحظ ما هي مصالحه المادية فيحاول أن يتحرَّك فيها.
وهناك حالة الذين يلتزمون الحقّ ويتحرَّكون من خلاله. هنا علينا ـــ ونحن نقرأ ذلك التاريخ وننفعل به ـــ أن نحدِّد مواقفنا: مَنْ نحن؟ هل نحن من فريق الحياديّين؟ هل نحن من فريق الذين يُغلِّبون مصالحهم على مبادئهم؟ هل نحن من فريق الذي يؤمنون بالباطل أو نحن من فريق الذين يؤمنون بالحقّ؟
مَن نحن؟ وعلى أساس تحديد الشخصية يتحدَّد الانتماء.
هل نحن ممّن يتحرَّك في خطّ إصلاح الأُمّة على خطّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، أو نحن ممّن لا يهتمّون بذلك؟ ما هو الخطّ؟
أُريدُ أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.
إنَّ الحسين (عليه السلام) يقول: أُريد أن أدرس واقع الأُمّة كلّها في سلبياته وفي إيجابيّاته، ما هي السلبيات، هي مواقع السلوك الذي يتحرَّك في مواقع غضب الله ممّا حرَّمه الله على الناس. وما هي الإيجابيات؟ هي مواقع السلوك فيما يرضاه الله في الواجبات التي أراد الله لنا أنْ نتحرَّك فيها.
الحسين (عليه السلام) كان يريد لحركته أن تكون صدمةً قويةً للواقع الفاسد، أراد أن ينتقي لها الذين يعيشون الرسالة بكلّ معانيها في عقولهم ومشاعرهم وخطواتهم العملية في الحياة. لهذا أن تكون حسينيّاً، يعني أن تكون آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر في خطّ الإسلام، وأن ترفض كلّ ما عدا الإسلام.
بعض الناس يقول: هل تريدنا أن نعادي الناس كلّهم ونقول: نحن مسلمون ونرفض الخطّ الماركسي، والخطّ الاشتراكي، وطريقة التفكير من خلال بعض النظريات على أساس قومي، ونرفض الليبرالية وما إلى ذلك؟ هل تريدنا أن نعادي الناس؟ بعض أولادنا ينتمون إلى هذا الخطّ، وبعضهم الآخر ينتمون إلى ذاك الخطّ. لماذا تريد أن تضيّق الإسلام؟
بعض الناس يفكِّرون بهذه الطريقة أو يردّون على هذا الطرح بهذه الطريقة، وبذلك يعتبرون ما نطرحه تطرُّفاً ويصنّفوننا في دائرة المتطرّفين.
الحسين كان مسلماً وليس عنده شيء زائد عن الإسلام. انطلقت شخصيّته من موقع إسلامه حين قالها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "حُسينٌ مِنّي وأنا مِنْ حُسين"(1). كيف هذا التفاعل بين الحسين (عليه السلام) وبين النبيّ؟ هل هو تفاعل النسب؟ إذا كان الحسين من رسول الله لأنَّه جدّه، فكيف يكون رسول الله من الحسين، والحسين ابن بنته؟ إنَّ هذا التفاعل هو بتجسّد الإسلام فيهما. ولهذا كان كلّ واحدٍ منهما من الآخر لكونهما معاً في خدمة الإسلام.
لهذا لنتّفق على أن تكون لنا عاشوراء إسلامية نؤكّد فيها خطوط عقائدنا ومواقفنا ومواقعنا ومناهجنا وسياستنا في الحياة.. وعندما نقول ذلك، لا نقول إنَّنا ننغلق على الآخرين، بل إنَّنا مسلمون ومستعدون أن نتعايش ونتعاون حتّى مع غير المسلمين، على أساس الخطوط المشتركة التي تقتضيها طبيعة الحياة، ولذلك نعيش مع الحسين (عليه السلام) لنكون من جمهوره ومن أتباعه.
لنفكِّر في قضية الحقّ
القضية هي قضية الحقّ والباطل، ذلك لأنَّ الله هو الحقّ، وأنّ ما يدعون من دونه هو الباطل. هذا هو الأساس الذي ينبغي أن يكون أساس كلّ تحرّكنا في الحياة، أن يكون التحرّك الذي يخدم خطّ الله. وهكذا عندما نريد أن نصدق الله ما عاهدنا عليه، فإنَّ الصدق يكلّف الكثير، أن تخاف وأن تخسر بعض الأصدقاء والمواقف، فإنَّ الإنسان عندما يتحمّل ما يتحمّل من مسؤولية، لا بدّ من أن يوحي لنفسه بالثمن الذي يستطيع من خلاله أن يخسر بعض الأشياء والأوضاع.
لا بدّ أن نعمّق الجانب الروحي
قد علَّمنا الله أن نفكّر أنّ خسارة الدنيا قد يعوّضها الله في الدنيا، وقد تكون لحساب المستقبل. والمؤكّد أنّ الله يعوّضها على الإنسان في الآخرة. لا بدّ أن نفكّر في الآخرة، وفي الله، وفي الجانب الروحي في حياتنا الذي يجعل كلّ واحدٍ منّا يعيش الهمّ الكبير في حياته: أن يرضى الله، ذلك هو الهمّ الكبير. إذا استطعنا أن نعيش هذا الهمّ الكبير في حياتنا، فسوف نواجه المشاكل بقلب مفتوح، كما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
ماذا كان يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)؟ يرفع طرفه إلى السماء ويقول: "أنتَ رَبّ المسْتَضْعَفِينَ وأنتَ رَبِّي إلى مَنْ تَكِلُني"(1) ثمّ يقول بعد ذلك: "إنْ لَم يَكُنْ بِكَ عليَّ غَضَبٌ فلا أُبالي"(2).
إذن فالهمّ الكبير أن لا يغضب الله.
وعلى هذا، فمن الضروري أن يكون لنا شعب يعيش الوعي السياسي. فالشعب الواعي سياسياً، والذي يحمل في قلبه رسالته وخوفه من الله وحبّ الله سبحانه وتعالى، إنَّ شعباً كهذا لا يمكن أن يسيطر عليه أحد.
وعلينا أن نعرف ماذا وراء الشعار، وكيف ينطلق في حياتنا بحيث لا نبقى مجرّد أُناس نشغل حناجرنا وأفواهنا بالهتافات، بل أن نشغل عقولنا حتّى نفكّر فيما هناك من الخطط التي تُدَبَّر لنا في الخفاء.
هذا الواقع نعيشه نحن اليوم، ولا بدّ من علاجه حتّى لا يكون واقعنا ـــ عندما نتحرّك ـــ واقع أولئك الناس، الذين كانت قلوبهم مع الحسين (عليه السلام) ولكنَّ سيوفهم عليه، حتّى لا تكون قلوبنا مع القادة الطيّبين ومع الناس المخلصين ولكنَّ سيوفنا عليهم، عندما تتحرَّك الدنانير أو اللّيرات أو الدولارات أو غير ذلك من العملات الصعبة وغير الصعبة، التي لا يزال الناس يلهثون وراءها ليبيعوا مبادئهم، وخططهم، وحياتهم.
الإرادة الصلبة تحسم المعركة
إنَّ الشعب الذي يحمل قراره في داخل نفسه، والذي يؤمن بأنّه على الحقّ، ويؤمن بحقّه في الحياة الكريمة حتّى لو عاش تحت نير الاستعباد والاستعمار عشرات السنين.. إنَّ شعباً كهذا تستظلّ حريّته الكامنة في داخله، تخترق كلّ الحواجز والسدود ولو بعد حين. لأنَّ قضية القوّة والضعف ليست قضية خالدة. الأقوياء لا يخلدون في قوّتهم، والضعفاء لا يخلدون في ضعفهم: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26]، {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
لنأخذ (بريطانيا) مثلاً، قبل أربعين سنة كانت الدولة العظمى التي لا تغيب عنها الشمس. أين بريطانيا الآن؟ إنّها الدولة الرابعة، أو الخامسة في حسابات القوّة في العالَم!!
كيف كانت أميركا قبل مئتي وخمسين سنة؟ كانت مستعمرة من مستعمرات بريطانيا فيما يقولون عنها اليوم: إنَّها الدولة العظمى. وهكذا {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 40].
علينا أن نعرف أن لا شيء ـــ من تلك الدول ـــ اسمه قوّة مطلقة، وأنّ ليس هناك قوّة خالدة.
عندما تكون ضعيفاً، فكِّر أن تعمل على أساس أن تكون قويّاً، يجب أن لا نيأس ويجب أن تكون لدينا إرادة. فالإرادة ولو بعد خمسين سنة هي التي تحسم المعركة.
عندما نقول: هل نستطيع أن نقف أمام إسرائيل؟ وهل نستطيع أن نقف أمام أوروبا؟ ونقول: هل نستطيع أن نقف أمام أميركا ونحن لا نملك أيّ شيء!! نصبح مثل أولئك الناس الذين بعثهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى قلعة خيبر فرجع الأوّل وهو يُجَبِّن أصحابه، وأصحابه يُجَبِّنونه.
هذا مرحب والأبطال من حوله، من الذي يقدر عليهم؟ لقد كانوا يقولون للأوّل لا نقدر من موقع ضعفهم، وهو يقول لهم: لا أقدر. عند ذلك رجعوا منهزمين، وبعث النبيّ شخصاً ثانياً ورجع يُجَبِّن أصحابه وأصحابه يُجَبِّنونه. عند ذلك قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "لأعطيَنَّ الرّايةَ غداً رَجُلاً يُحبُّ اللهَ ورسولَه ويحبُّه اللهُ ورسولُه، كَرّاراً غيرَ فرَّار لا يرجعُ حتّى يفتح اللهُ على يديه"(1).
لاحظوا هذا التسلسل: يحبّ الله ورسوله. الذي يحبّ الله، ويحبّ الرسول، يعطي كلّ طاقته لله وللرسول. وعند ذلك فإنّه يتحوَّل إلى قوّة مضاعفة. فَمَن لديه قوّة ويمتلك إرادة داخلية تحرّك هذه القوّة، فإنّها تصبح قوّة مضاعفة، ولكن عندما تكون لدى فلان بين الناس قوّة وإرادة مهزومة داخل نفسه، فإنَّها ستتحوَّل إلى صفر.
إنَّ الإرادة هي الأساس، صاحب الإرادة هو الذي يربح المعركة. هناك حديث للإمام عليّ (عليه السلام): "مَنْ أحدّ سنانَ الغضبِ للهِ قَويَ على قتل أشدَّاءِ الباطل"(1).
أن تحدّ سنان الغضب أي أن تغضب لله، والغضب لله أن تغضب لكلّ قضايا الناس التي يحبّها الله سبحانه وتعالى. إذا كنت تعيش التوتّر الداخلي الواعي لله، فإنَّك تقوى على قتل أشدّاء الباطل.
وهناك كلمة تقول: "ما ضَعُفَ بدنٌ عمّا قَوِيَت عليه النيّة"(2). فبمقدار ما لديك من نفسية قويّة داخلية، وهذا شيء واقعي نعيشه في الحياة.
فالإمام عليّ (عليه السلام) كان يحبّ الله ورسوله. ولهذا كان يحبّ أن يحقّق كلّ ما يملك من الطاقة في سبيل أن يرضى الله ورسوله في سبيل أن يحبّه الله ورسوله. لا قرابة عند الله مع أحد، والنبيّ كذلك حيث قال الله عنه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3ـــ4].
في نطقه ومواقفه
إنَّ الله عندما يحبّ إنساناً، فإنّه يحبّه وفق حسابٍ معيّن. والنبيّ عندما يحبّ إنساناً، فإنّه يحبّه وفق حسابٍ معيّن أيضاً.
وحسابات النبيّ هي حسابات الله، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف : 4].
والله يحبّ المحسنين.. والله يحبّ المتّقين.. الله يحبّ المجاهدين.. الله لا يحبّ الخائنين.. الله لا يحبّ الفاسقين.. الله لا يحبّ الكافرين.
إذن فمحبّة الله لها إطار معيّن. عندما يحبّ الله إنساناً يحبّه من خلال عمله، وعندما يبغض إنساناً يبغضه من خلال عمله. ولهذا يحبّه الله ورسوله، لأنَّ عليّاً كان تقيّاً {فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران : 76].
ولأنَّ عليّاً كان مخلصاً. والله يحبّ المخلصين، ولأنَّ عليّاً كان مجاهداً والله يحبّ المجاهدين، لأنَّ عليّاً كان زاهداً والله يحبّ الزاهدين. وهكذا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله. والنتيجة أنّ هذا الحبّ المتبادل يجعله كرّاراً غير فرَّار، لأنَّ الإنسان الذي يفرّ إنّما هو الإنسان الذي يخاف على نفسه من الموت. والذي يحبّ الله ورسوله يبيع نفسه لله ولرسوله، إذا عرف أنّ الطريق التي يسير فيها طريق الله ورسوله: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [التوبة : 111].
ولهذا انطلق الإمام عليّ على هذا الأساس، أي على أساس أن يعيش القوّة في نفسه، القوّة من خلال إيمانه لا من خلال جسده. هو يقول فيما يروى عنه: "واللهِ ما قَلعتُ بابَ خَيبر بقوّةٍ جسمانيّةٍ بل بقوّةٍ ربّانية"(1).
وفي هذا الاتجاه علينا أن نعمل دائماً، بأن لا نشعر بالضعف والهزيمة، فإذا ما رأى أيّ منّا أنّه في حالة ضعف فليفكِّر أنّه يملك أن يكون قويّاً، فغيره كان ضعيفاً وصار قوياً، وغيره لا يملك عقلاً أفضل من عقله، ولا يملك جسماً أقوى من جسمه.. القضية هي أن تكون لكلّ فرد منّا إرادة القوّة. وإرادة القوّة هي التي تعين المرء على صنع القوّة في حياته.
قوّة العلم.. وقوّة السلاح
لا بدّ للأُمّة أن تتدرَّب جيداً لا لتقتل كيفما كان، ولكن استعداداً لأيّ معركة داخلية أو خارجية تكون مستعدة لها، على هدى الآية الكريمة: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال : 60].
لا بنيّة أن نعتدي على أحد، لكن نقول: إذا أراد أن يعتدي علينا، فإنَّنا نكون في مستوى التحدّي. فلسنا عدوانيّين، لكنّنا نرفض أن يعتدي علينا أحد، أن لا نعطي بيدنا إعطاء الذليل، ولا نقرّ إقرار العبيد، بل نعطي أيدينا لمن يعطينا يده، الندّ للند.. عندما نقرّ لأيّ إنسان، إنّما إقرار الأحرار، ولن يكون ذلك إلاّ إذا عملنا على صنع القوّة.. قوّة العلم وقوّة السلاح، والقوّة التي لم نكتشفها بعد حتّى الآن، وهي قوّة وحدة الصفّ التي نتمنَّاها لأُمّتنا دائماً.
علينا أن نكتشف العلم كقوّة، والسلاح كقوّة، والتدريب كقوّة، وتقوى الله كقوّة، والشعور بالمسؤولية كقوّة، والوحدة كقوّة، الوحدة على أساس الحقّ لا الوحدة بأيّ ثمن، لنلتقي بكلمته: "والله لا أُعطيكُمُ بيدي إعطاءَ الذَّليلِ ولا أُقرّ لكم إقرارَ العبيدِ". نلتقي به في خطّ الممارسة لا في خطّ القول فقط.
الشعارات الحسينيّة مصدر إلهام لتحرُّكنا الجهادي
إنَّنا عندما نتابع الشعارات التي رفعها الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، وجعلها أساساً لثورته، وقاعدة لانطلاقته، ومسوّغاً لتحرّكه، فإنَّما نريد أن تلهمنا تلك الشعارات سلوك الخطّ الجهادي الإسلامي، خلافاً لكلّ أولئك الذين يشجّعون الاستسلام والاسترخاء، والانهزام، والخضوع. حتّى نجدهم يطرحون علامات الاستغراب أمام موقف الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، كونه ألقى بنفسه في التهلكة دون أن يفوتهم الاستشهاد بالآية الكريمة التي تقول: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة : 195].
ومن خلال هذا الخطّ، نعرف كيف استطاع الاستعمار أن يجمّد الإسلام في نفوس الذين أصبحوا اليوم رموزاً للإسلام، وكيف استطاع هذا المنطق أن يحوّل الإسلام إلى شعور بالذلّ والخضوع.
حساب القادة
هناك فكرة يجب أن نعرفها، أنَّ النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ليس لديهم تكاليف خاصّة، قد تكون هناك تكاليف معيّنة في موقع مسؤوليّتهم كمسؤولين، ليس عندهم تكاليف سريّة، وما من شيء إلاّ قد بيّنه الله لرسوله، وما من شيء إلاّ بيَّنه الرسول للنّاس. النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وقف أمام أُمّته في أواخر لحظات حياته، حتّى يعلِّم القادة والأُمّة معاً أنّه ما دام الإنسان قائداً للأُمّة، فلا بدَّ له أن يقدّم تفسيراً للأُمّة في أفعاله كلّها، حتّى لو لم يكن مسؤولاً أمام الناس، وقد كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يفعل ذلك، فقد وقف (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وقال: "أيُّها النّاسُ إنَّكم لا تُمسِكُونَ عليَّ بشيءٍ، إنِّي ما حَلَّلْتُ إلاّ ما حَلَّلَ اللهُ، وما حرَّمتُ إلاّ ما حَرَّم اللهُ".
الرسول يقول: ادرسوا تاريخي منذ بدأت الرسالة حتّى الآن واعرضوه على القرآن، إنّي لم أُحلِّل إلاّ ما حلَّل الله، ولم أُحَرِّم إلاّ ما حرَّم الله. ولهذا رأينا رسول الله يبيّن للأُمّة كلّ شيء، وكذلك الإمام عليّ (عليه السلام) يبيّن كلّ شيء. إنَّ (نهج البلاغة) يمثّل خلاصة تفكير الإمام الذي استوحاه من القرآن في جوانب العقائد والشريعة والحكم والسياسة والصراع وما إلى ذلك.
ووصل الأمر به أنّه قال للنّاس: "فلا تُكَلِّموني بما تكلّمُ به الجبابرَة"(1).
فقد شرح للنّاس سياسته وطريقته، وكان يسوغها ليثبت لهم أنّه يسير على خطّ الشريعة في كلّ سيرته وأعماله. لأنَّ دور الإمام والقائد والحاكم أن يثقِّف الناس فيما يدعوهم إليه، ولهذا نعتقد أنّ سيرة النبيّ تمثّل الشريعة على أساس ما أنزل الله، كذلك الله قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب : 21].
وعليه فالشعارات التي طرحها الحسين (عليه السلام) في كربلاء تعتبر أُسساً شرعية حول الحكم، ويبقى دور القادة أن يدرسوا هل أنَّ مرحلتنا هي مرحلة الحسين (عليه السلام) أو لا، هل أنَّ الشروط نفسها موجودة الآن؟
فعلينا في كلّ مرحلة من مراحل حياتنا أن ندخل في عملية مقارنة بين الظروف التي كانت تحيط الإمام الحسين (عليه السلام)، والظروف الموجودة لدينا حالياً. فإذا وجدنا تطابقاً بالظروف، فعلينا أن نستلهم من ثورة الحسين (عليه السلام) ومن أوضاع جميع الأئمّة (عليهم السلام) ما نواجه به واقعنا ومرحلتنا.
العزّة لا تصدر بمرسوم
إنَّ موضوع العزّة في مقابل الذلّة يمثّل الإطار العام الذي يلتقي بكلّ الأمور المقدّسة. فالله جعل العزّة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين، ومعنى ذلك أن لا خيار للمؤمنين بأن يكون أذلاّء. ليس من حقّك أن تتنازل عن عزّتك. إنَّ الإمام جعفراً الصادق (عليه السلام) استوحى من الآية الكريمة التي تقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون : 8].
وقال: "إنَّ اللهَ فَوَّضَ للمؤمنِ أمرَهُ كُلَّه، ولم يُفَوِّضْ إليهِ أن يكون ذَليلاً"(1).
بعض الناس يفهم كلمة العزّة أن يملك المال والراحة والجاه الخ. ولا مانع لديه من أن تكون كلّ الأوضاع والنشاطات في حياته منطلقة من خضوعه لسلطة معيّنة. هناك فرق بين أن تملك قرارك وفكرك، وأن تكون عبداً لله فقط. فإذا سيطرت وأنتَ تملك قرارك، تكون قد سيطرت من موقع إرادتك الذاتيّة. أمّا إذا كنت تأخذ السيطرة من مكان خضوعك لأُناس آخرين، فتكون السيطرة هي سيطرتهم وتحرّكهم. إنَّهم يتحرّكون من خلالك وأنتَ الأداة. والأداة هنا على قسمين: أداة تسمع وتتكلَّم، وأداة لا تبصر ولا تتكلَّم.
{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً*الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ} [النساء : 138 ـــ 139].
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران : 26].
وهنا لا بدّ أن نشير إلى وجود فرق بين أن تأخذ العزّة بمرسوم، وبين أن تأخذها بقناعة وإرادة... الذين يأخذون العزّة بمرسوم هم عبيد أذلاّء. عندما تفكِّر بالعزّة، فإنَّ معنى العزّة بالإسلام أن تكون ذليلاً أمام الله وعزيزاً في حياتك.
التزامنا بالحسين لا يعني أن نكون انفعاليّين
قال الإمام عليّ (عليه السلام): "لا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وقَد جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً".
أنتَ ذليل لله فقط، وأمام الناس حرٌّ وعزيز. على هذا الأساس إذا أردنا أن نكون أعزَّاء، علينا أن نقف موقف الحسين (عليه السلام) في واقعنا الحاضر.
عندما يراد لنا الخضوع للاستعمار والاستكبار، علينا أن نقول كما قال الحسين في كربلاء: "هيهات منّا الذلّة".
لا بمعنى أن تنطلق بشكلٍ حماسي وانفعالي. إنَّ معنى الثورة أن نقف على سلاحنا، ونخطِّط ونناوِر، ونفعل كلّ ما بوسعنا كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ} [آل عمران : 200].
لهذا علينا أن نأخذ من الحسين (عليه السلام) هذا الخطّ الذي يحمل فيه كلّ إنسان حالة الرفض العملي لكلّ المخطّطات التي تريد أن تذلّه، فالمهمّ أن يتحرّك كلّ منّا. أمّا متى يصل إلى الهدف فهذا يخضع للأوضاع.
السعادة انسجام الحياة مع المبادئ
هناك من الناس من يفكِّر بالحسين، وكأنّه يئس من الحياة، وهذا ما يفهمه من كلمة: "لا أرى الموتَ إلاَ سعادة والحياةَ مع الظالمينَ إلاّ برماً"(1).
الحسين علَّمنا من خلال سيرة حياته أنَّه هادئ، ويفكِّر بالحساب، ولا يعيش التأزُّم. وأراد أن يقول للنّاس الذين يعتبرون الموت شقاء، على أساس الأمن والخوف: إذا كان خائفاً فهو شقي، وإذا كان آمناً فهو سعيد، بعض الناس يعتبرون الأشخاص الذين يعيشون مع الظالمين سعداء.
الإمام الحسين (عليه السلام) حدَّد لك السعادة حسب فهمك للحياة وإيمانك، فقال: إنّ السعادة انسجام الحياة مع المبادئ، والراحة أن يكون الناس الذين تعيش معهم منسجمين مع خطّك، الإنسان الذي يعيش بعيداً عن مبادئه تكون حياته شقاء، لهذا كانت قضية الحسين (عليه السلام) خطّاً، وليست حالة نفسية.
لنتساءل في كلّ موسم من مواسم عاشوراء، وفي كلّ الأوقات: لماذا كانت جراحات وآلام الحسين (عليه السلام)؟ إذا أردتم أن تشاركوا الحسين بعض جراحه، فإنَّ مشاركة الحسين (عليه السلام) هي بالوقوف مع الحقّ ضدّ الباطل.
الساحة جاهزة، والمعركة طويلة، معركة الحقّ ضدّ الباطل، معركة العدل ضدّ الظلم.
الحسين كان مرحلة تشير إلى بقيّة المراحل، يريدنا الحسين أن نكون في مستوى مرحلتنا. الجواب ليس بالهتافات، وإنّما بالعمل نحو الهدف.
الإمام الحسين (عليه السلام)
في مواجهة الواقع المنحرف
كيف نستطيع استيحاء ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) في حركتنا الإسلامية الصاعدة؟
هل نبقى لنحرّكها على أساس الأمجاد التاريخيّة التي تزهو بها الأُمم والشعوب، لنؤكّد بأنّها ليست منفصلة عن الجذور العميقة في التاريخ، إذ إِنَّ هناك أكثر من إشراقة مضيئة في ظلام الماضي السحيق؟
أو ننطلق بها، في مفرداتها الفكرية والروحية والحركية، لنعيش إيحاءاتها المتنوّعة، كما لو كانت حدثاً مفتوحاً على الحاضر في تطلُّعاته المستقبليّة؟
إنَّ الجواب على هذا السؤال ينطلق من القاعدة القرآنية الإسلامية التي تركّز على أساس أنّ الماضي هو مسؤولية الذين عاشوه وصنعوه، في الدوائر السلبية والإيجابية، وذلك في قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة : 134].
فليس المجد التاريخي مجداً لنا بالمعنى الحركي للمجد، بل هو مجد الأبطال الذين صنعوه. فنحن لم نصنعه، فلا علاقة لنا به، حتّى لو كنّا أبناء هؤلاء فلن نحصل على أيّ ثواب عليه: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى*وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى*ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 39 ـــ 41].
إنَّ قيمة التاريخ ـــ في الإسلام ـــ هي قيمة العبرة التي تفتح الحدث على الفكرة، وترصد الثوابت التي لا تخضع في خصوصيّاتها للفترة الزمنية، بل تشمل كلّ خطوط الزمن لأنّها خصوصيّات الحياة كلّها. وهذا ما يجعلنا نرتبط بالشخصيات الإسلامية القيادية في مستوى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والأئمّة (عليهم السلام)، لأنَّ حركتها ليس حركة اللّحظة التي عاشت فيها، بل هي حركة الرسالة في التجسيد الحيّ الذي يتمثّل في خطواتها الفكرية والروحية والعملية.
فنحن نرى أنّ قول المعصوم وفعله وتقريره، يمثّل الخطّ الشرعي الذي يؤكّد لنا شرعية الخطّ الذي ينطلق منه، ويتحرّك فيه، وبهذا كانت الرسالة حركة في وعي الرسول وفي سلوكه، كما كانت انفتاحاً على الآفاق العامّة والخاصّة في ذهنية الإمام وكلماته وخطواته.
وفي ضوء ذلك، لم تكن حركة الإمام الحسين (عليه السلام)، مجرّد حركة سياسية ثورية، بالمعنى التقليدي للكلمة الذي يستغرق في الذّات والحدث والمرحلة.. ليعيش الجانب الإنساني الحركي التجريدي فيها، بل هي حركة إسلامية بالمعنى الثوري للإسلام، بحيث تلتقي فيها الأبعاد التفصيلية الرسالية، التي تحدّد لنا شرعية النهج الثوري المتحرّك في نطاق التضحية حتّى الاستشهاد، مع طبيعة الظروف الموضوعية المحيطة بالحدث الكبير في تلك المرحلة، وفي الظروف المماثلة لها في المراحل الأخرى، الأمر الذي يجعلها حالةً تطبيقيّة للخطّ الإسلامي النظري، في الصراعات الداخلية التي يعيشها الواقع الإسلامي بين خطيّ الاستقامة والانحراف، في الموقع القيادي الشرعي أو في الموقع المتمرِّد على الشرعية.
كان الإمام الحسين (عليه السلام) مسلماً في ثورته وتمرّده، متمسِّكاً بخطّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يفرض على المسلم الثورة على واقع الانحراف من أجل أن يُغيِّره نحو واقع الاستقامة.
وهذا ما يفرض علينا أن ندخل في عملية مقارنة بين ظروف المرحلة التي عاشها الإمام الحسين (عليه السلام)، وظروف المرحلة التي نعيشها، في طبيعتها، وفي مفرداتها، وفي خطوطها التفصيليّة، وفي تحدّياتها الفكرية والعملية... لنتعرَّف من خلال ذلك على معنى الشرعية في حركتنا في الظروف المماثلة. وهذا ما نلاحظه في الكلمة الأولى التي بدأ بها الإمام الحسين (عليه السلام) حركته فيما ما سطَّره الرواة من سيرته، أنّه خاطب أصحابه قائلاً: "أيُّها النّاس إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: مَنْ رأى سُلطاناً جائِراً مستحِلاًّ لِحُرَمِ الله، ناكثاً لعهدِ الله، مخالِفاً لِسُنّةِ رسول الله، يعملُ في عبادِ اللهِ بالإثمِ والعدوانِ، ثمّ لم يُغيِّر بقول ولا فعل، كان حَقيقاً على الله أن يُدخِلَه مَدخَلَهُ. وقد عَلِمْتُم أنَّ هؤلاءِ القومَ قد لَزِموا طاعةَ الشيطانِ، وتوَلّوا عن طاعةِ الرحمنِ، وأظهروا الفسادَ، وعطَّلوا الحدودَ، واستأثروا بالفيء، وأَحَلُّوا حرامَ اللهِ وحرَّموا حلالَه، وإنّي أحقُّ بهذا الأمرِ لِقَرابتي من رسول الله"(1).
إنّها الثورة على السلطان الجائر المستحلّ لحرمات الله في عباده، فلا يرى لأحد حرمةً أمام طغيانه واستبداده، الناكث لعهده، فلا يعاهد أحداً إلاّ لينقض عهده معه على أساس انتهاز الفرص التي يستفيد منها لمصلحته، لينتقل بعد ذلك إلى فرصٍ أخرى لتحقيق مصالح أخرى، بعيداً عن أخلاقية الإنسان الذي يحترم كلمته ويلتزم بعهده، المُخالِف لسنّة رسول الله ونهجه في خطّه وشريعته، لأنَّ الالتزام بها لا ينسجم مع خططه الذاتية، وأطماعه المادية، وشهواته الغريزية... الأمر الذي يجعل إسلامه شكلياً كلامياً لا يقترب من الصدق في الالتزام أو الاستقامة في خطّ السير.
العامل في عباد الله بالإثم والعدوان، فهو الرجل الآثم في تعامله مع الناس، العدواني في تصرُّفاته معهم. لأنّه لا يعيش مسؤولية الحكم على أساس العدل، ولا يحترم الناس في علاقته بهم على أساس المسؤولية، فهو الوحش في صورة الإنسان.
هذا هو الإنسان الذي يجب أن تقوم الأُمّة بالثورة لتغييره واستبداله بإنسانٍ آخر، من خلال الكلمة الثائرة، والموقف القوي الحاسم. فلا عذر للقادرين على عملية التغيير أن يبتعدوا عن ساحة الصراع ضدّه، والثورة عليه، ولا مجال للحياد بينه وبين الحاكم العادل.
وهكذا كان الحسين (عليه السلام) يتحدّث عن الخطّ العريض للجانب الفكري من خطّ الثورة. أمّا الجانب التطبيقي في ساحة الواقع، فهو فريق الحكم الذي عاش في عصره. فهؤلاء الناس في صورة الحاكم وأتباعه هم الذين تركوا طاعة الرحمن، ولزِموا طاعة الشيطان، فابتعدوا عن الله سبحانه في حياتهم، واقتربوا من الشيطان في ذهنيّاتهم وخطواتهم، وبدَّلوا الشريعة في نهجهم وطريقتهم، فإذا بالحلال يتحوّل إلى حرام عندهم، وإذا بالحرام ينقلب حلالاً في سلوكهم.
ثمّ كان من أمرهم، أنّهم استأثروا بثروة الأُمّة فحوَّلوها إلى ثروة شخصية، وعطَّلوا الحدود التي أراد الله للعباد أن يقفوا عندها ولا يتجاوزوها، فأضاعوا الناس والحياة والدين كلّه.
ولا بدّ للحسين (عليه السلام) أن يغيِّر بقوله وبفعله.
وكانت الثورة الاستشهادية هي بداية التغيير، من أجل أن تطلق الصرخة المدوية، المضرجة بالدماء، المنفتحة على كلّ قِيَم الحقّ والعدل والعزّة والكرامة والإنسانية والحياة في حركة الحاضر نحو المستقبل.
تلك هي صورة التحدّي الحسيني في مواجهة الواقع المنحرف في داخل الواقع الإسلامي، لأنّها حركة داخلية فيما يعانيه الوضع الإسلامي العام للأُمّة على مستوى الحكم والحاكم.
فماذا عن مرحلتنا في ظروفنا المعاصرة؟
إنَّنا نواجه التحدّي الكبير في الاستكبار العالمي، الذي يطبق على الواقع الإسلامي كلّه في ثقافته وسياسته واقتصاده وحربه وسلمه... من خلال إطباقه على الواقع الإنساني كلّه.
كما نواجه التحدّي الآخر في الانحراف الداخلي في الحكم، الذي لا يأخذ الإسلام عنواناً له، ولا ينطلق من العدل في حركته تجاه المحكومين.
الأمر الذي يجعل الواقع أكثر خطورة، في طبيعته وفي نتائجه السلبية، على كلّ مسيرتنا، من الواقع الذي عاشه الإمام الحسين (عليه السلام) في مرحلته، فقد كان الحكم في عصره يجعل الإسلام شعاراً له، ولكنّه كان ينحرف عنه في خطّ السير ونهج الحركة.
فهل نستطيع أن نبتعد عن خطّ الثورة في ذهنية المسلم الثائر؟ وهل نملك أن نتنكَّر لحركة التغيير في وعي الواقع العملي لروحية التغيير؟
لا بدّ أن يكون كلّ واحدٍ منّا مشروعاً ثائراً في الخطّ والحركة والمعاناة.
أمّا حركية الثورة في الفعل، وشرعية التغيير في النهج، فقد نحتاج فيها إلى رصد ظروف الواقع العملي من حيث القدرة والإمكانات والنتائج، لنخطِّط من موقع الدراسة الدقيقة الحيّة، لنعرف كيف نواجه التحدّي في الفعل وردّ الفعل، وكيف تنتصر القضية فينا، لنهيّئ الظروف لتقريب موعد النصر، أو لتحريك خطواته في اتّجاه المستقبل.
ليس من الضروري أن يكون الأسلوب الحسيني في الشكل المأساوي الاستشهادي هو أُسلوبنا، لأنَّ من الممكن أن يكون لهذا الأسلوب ظرفه الخاص الذي فرضته حركة الأحداث في تلك المرحلة، ممّا قد لا تتوفَّر فيه خصائص الظروف التي تعيشها مرحلتنا الحاضرة.
ولكن لا بدّ أن تكون الروحية الحسينيّة هي التي تمثّل معنى روحيّتنا. فقد واجَهَ الإمام الحسين (عليه السلام) الموقف على أساس الاستمرار فيه وعدم التراجع مهما كانت الاحتمالات. وهذا ما عبَّر عنه بقول: "فَمَنْ قَبِلَني بقَبولِ الحقّ فاللهُ أولى بالحقِّ، ومَنْ ردَّ عليَّ هذا أصْبر حتّى يقضِيَ اللهُ بيني وبين القوم بالحقّ"(1).
فإنَّ من المعروف أنّ الصبر هنا ليس صبر المنهزمين، بل هو صبر الواثبين المتطلِّعين الذين يرصدون المستقبل في الأُفق الواسع، ليجدوا فيه إشراقة النور الذي يشقّ الظلمات.
إنَّ المسألة هي أن يبقى الهدف حيّاً في أفكارنا، وفي تطلُّعاتنا، وفي خططنا الثورية، وفي خطواتنا العملية.. لنجعل الحياة كلّها، فيما نملكه من الطاقات، حركة نحو الهدف الكبير، لتكون الوسائل العملية المتنوّعة خاضعة للظروف الموضوعية التي تحكم واقع الحياة والإنسان في نطاق المراحل القريبة والبعيدة.
هذه بعض إيحاءات عاشوراء في خطّ الثورة، فما هي إيحاءاتها في خطّ الدعوة إلى الله في نطاق الإسلام؟
من نافل القول أنّ كلّ حركة للثورة هي حركة في اتّجاه الدعوة إلى الله. لأنَّ الثورة تعمل على سدّ الثغرات التي ينفذ منها الكفر والضلال في واقع المؤمنين، وإغلاق النوافذ التي تتحرّك من خلالها رياح الانحراف في أجواء المسلمين. كما تعمل على إثارة اليقظة في العقول النائمة، وتحريك الوعي في الأحاسيس الجامدة، وفتح القلوب على المفاهيم الخيِّرة في الأجواء الشرّيرة.
وبذلك يجد الناس فيها حياة جديدة للإسلام، تُجَدِّد له شبابه، وتعيد إليه حيويّته، وتسرع به إلى الهدف الكبير.. فهي تختصر المراحل البعيدة لتجمعها في حركة فاعلة في اتّجاه النتائج الحاسمة في الحياة.
لذلك كانت إيحاءات عاشوراء تنطلق في اتّجاه الدعوة، من خلال انطلاقها في عنوان الإصلاح في أُمّة رسول الله، الذي يحمل في داخله إصلاح الخطَّين الفكري والعملي، لينفتح الناس على الإسلام كلّه، حتّى لا يثقلهم الانحراف الواقعي فيبعدهم عن الاستقامة الفكرية.
إنَّنا نحتاج إلى عدم الاستغراق في المعنى السياسي في الثورة الذي قد يبعدنا ـــ في النظرة الساذجة ـــ عن الدعوة إلى الله، بل لا بدّ لنا من أن نعيش التكامل في خطواتنا ليكون العنوان الفكري حركة في العنوان الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري، من أجل أن يكون الدّين كلّه لله، فلا يكون فيه نافذة تطلّ على غير الله.
هذا بعض الحديث عن معنى كربلاء، في حركة الإسلام في الدعوة والثورة معاً.
ملحق
آراء في العصمة
ـــ يتردَّد في بعض الأوساط أنّ لكم رأياً مخالِفاً للمشهور في موضوع العصمة، فهل لكم أن توضحوا لنا رأيكم حول هذا الموضوع؟
الواقع أنّني ليس لي رأيٌ سلبي في العصمة بل إنّي أتصوَّر أنّ نهجي في الاستدلال على العصمة أكثر سلامة ودقّة من المنهج الذي اعتمده الآخرون. فنحن نلاحظ أنّ من أدلّة القدماء على العصمة أنّ غير المعصوم يفقد ثقة الناس به فلا يقبلون عليه ولا يستمعون إليه ممّا يلغي دور النبيّ أو دور الإمام إذا لم يكونا معصومين. إذاً فالعصمة تكون لاحتواء واقع الناس لأنّ الناس تتبع مَن تثق به ولا تتبع من لا تثق به فلو أنّ الله أرسل أنبياء غير معصومين أو أنّ النبيّ عين بأمر من الله أئمّة غير معصومين فإنَّ الناس لا تثق بهم وبالتالي فإنّ أثر النبوّة أو أثر الإمامة يكون قد فقد.
إنَّنا نتصوَّر أنّ هذه المسألة لا تسلم أمام النقد، لأنَّ العقل إنّما يحكم في هذا الاتّجاه من العصمة في حالة التبليغ لأنّه لا معنى لأن يرسل الله نبيّاً أو أنّه يعين إماماً لا يستطيع أن يضمن استقامته في خطّ الصدق أو في خطّ الوعي والالتفات إلى ما يبلغه عن الله وعن رسوله لأنَّ الناس إذا فقدت ثقتها بكلام الولي باحتمال أنّه ينسى أو يسهو ويحرِّف الكلام عن مواضعه أو يغفل أو ما إلى ذلك فإنَّ الناس لا تثق بأنّ ما يقوله هو من عند الله سبحانه وتعالى، وبذلك تفقد الرسالة وثاقتها في نفوس الناس فلا يعود لها معنىً في عملية الإيمان وفي عملية الهداية.
أمّا بالنسبة إلى العصمة في غير هذا الجانب كما لو فرضنا أنّ النبيّ أو الإمام يخطئ في أمور حياتية أو أنّه ينسى بعض الأشياء العادية، يسهو في صلاته. فإنّ العقل لا يحكم بامتناع الخطأ أو النسيان أو السهو في هذا المجال، بل إنّنا نرى أن بعض فقهاء الشيعة وهو الشيخ الصّدوق أو أبوه أو شيخه رضوان الله عليهم، يرون أنّ أوّل علامة من علامات الغلوّ هو نفي السهو عن الأئمّة، ونرى أنّ بعض علمائنا ومنهم السيّد الخوئي (رحمة الله عليه) يتحدّث بأنّه ليس من الممتنع أن يسهو النبيّ أو الإمام في غير موقع التبليغ ولكن الممتنع فقط هو أن يسهو في التبليغ.
وعلى ضوء هذا، فإنَّ العقل لا يحكم بضرورة أن يكون معصوماً في القضايا الأخرى، كما أَنَّ النبيّ أو الإمام لا يفقد ثقة الناس به لمجرّد خطأ هنا أو خطأ هناك، ممّا لا يتّصل بالقضايا الحيوية الأساسية التي تمسّ خطّ الاستقامة في الإيمان والإسلام وما إلى ذلك ونحن نلاحظ في الواقع الخارجي أنّ الناس ترتبط بكثيرين في المسألة السياسية والمسألة الدينية والاجتماعية فتنجذب لأشخاص بشكل فوق العادة مع إيمانها بأنَّ هؤلاء الناس يخطئون في غير الموقع الذي يتبعونهم فيه أو أنّهم لا يتعمّدون الخطأ حتّى في المواقع التي يتبعونهم فيها، بحيث يتراجعون عن الخطأ في حال اكتشافه، فإنَّ الناس لا تفقد ثقتها فيهم.
لذلك فإنَّنا قلنا إِنّ هذا المنهج في الاستدلال لا يصلح أن يكون أساساً عقلياً بالقول بالعصمة لاسيّما إذا أردنا أنْ نتحدّث عن العصمة بشكلٍ شامل بحيث تشمل التبليغ وغير التبليغ.
ومن هنا، فإنَّنا حاولنا ولا ندري كم تصدق هذه المحاولة من الناحية الفكرية أن ندرس طبيعة النبوّة، فإنَّ النبوّة ليست مهمّة (ساعي بريد) ينقل الرسالة ليبلّغها للنّاس وتنتهي مهمّته عند هذا الحدّ، بل نحن نقرأ في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(1)، ونحن نقرأ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً*وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً}(2) فهو بالإضافة إلى كونه مبشِّراً ونذيراً يمثّل الشاهد على الناس كما يمثّل السّراج الذي يضيء للنّاس، ومن المعلوم أنّ المقصد أنّه يضيء للنّاس درب الحقّ وهكذا كان موقع النبيّ أن يحكم بين الناس بالحقّ وأن يقيم الحياة على أساس الحقّ ومن الطبيعي أنّ الإنسان الذي يراد له من خلال موقعه أن يغيِّر العالَم على أساس الحقّ لا يمكن أن يكون في عقله شيء من الباطل أو في قلبه شيء من الباطل، أو في حركته شيء من الباطل والإنسان الذي جاء ليكون السراج المنير لا يمكن أن يكون في عقله شيءٌ من الظلمة أو في إحساسه أو في حركته شيئاً من الظلمة، الأمر الذي يجعل مسألة النبوّة هي مسألة نور يشرق في عقول الناس وقلوب الناس وحياة الناس، لاسيّما أَنّ الله جعل الكتاب الذي يحمله النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) نوراً واعتبر النبيّ تجسيداً للكتاب فهو القرآن الناطق إلى جانب القرآن الصامت.
إنَّنا نعتقد بأنَّ فهمنا لدور النبوّة وهو دور المهمّة التي يراد لها أن تغيِّر العالم على أساس الحقّ يفرض أن يكون النبيّ حقّاً كلّه وأن لا يكون فيه شيء من الظلمة والإمامة هي امتداد للنبوّة من دون نبوّة "يا عليّ أنتَ منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ من بعدي"، لذلك لمّا كان دور الإمام هو دور حارس الشريعة ودور الإنسان الذي يعمل على امتداد خطّ النبوّة في حياة الناس على أساس تركيز الحقّ في الفكر وفي العمل والقول وفي حركة الواقع فلا بدّ أن يكون معصوماً تماماً كما هو النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في هذا المجال.
وهناك نقطة أخرى نثيرها أمام مسألة شمولية العصمة جوانب التبليغ وغير التبليغ أنّ الشخصية لا تعيش ازدواجاً في واقع الإنسان، فالإنسان الذي لا ينسى في مسألة التبليغ لا ينسى في المسائل الأخرى، والإنسان الذي ينطلق بالحقّ في التشريع وفي التبليغ لا بدّ له أن ينطلق بالحقّ في الجوانب الأخرى لأنّه لن يكون كذلك إلاّ إذا كان الحقّ أساسياً في شخصيّته.
وهناك نقطة أثرناها في مسألة العصمة وهي أنّ العصمة حينما تكون بهذا الشكل غير العادي، الذي لا يمكن أن يملكه الإنسان، ليس من خلال تجربته الخاصّة بحيث يمتنع عليه ولو امتناعاً وقوعياً أن يخطأ أو أن ينحرف بل لا بدّ أن يكون هناك فيض من الله على نفس هذا النبيّ أو هذا الإمام بحيث يمتنع عن الانحراف وصدور الباطل منه، وهذا ما ربّما يتحدّث عنه الآخرون بشكلٍ سلبي باعتبار أنّه يوحي بالجبرية ولكنَّنا نحاول أن نناقش هذه السلبية التي يتّخذها بعض الناس بطريقة موضوعية علمية:
أوّلاً: إنَّ مسألة حتمية العصمة قد تبطل الثواب برأي هؤلاء، لأنّك عندما تندفع إلى عمل الخير بعصمتك فأنتَ لم تبذل جهداً في ذلك، فعلى أيّ أساس تستحقّ الثواب؟.. ولهذا يقول هؤلاء إِنّ حتمية العصمة تبطل الثواب.
ولكنَّنا نجيب على ذلك أنّ علماء الكلام يرون أنّ الإنسان المؤمن العامل بالصالحات لا يستحقّ الثواب من خلال عمله لأنَّ عمله ملك الله وعقله الذي فكَّر به واهتدى به خلق الله وأعضاؤه التي عَبَدَ الله بها والتي استخدمها في سبيل العمل هي ملك الله فليس هناك شيء إنسانيّ بعيداً عن الله في حركة الإنسان ليستحقّ عليه الثواب فعمله وفكره وحركته لله، لذلك قالوا إِنّه يستحقّ الثواب بالتفضُّل. فالله تفضَّل على عباده وجعل لهم الثواب على عملهم من خلال اختيار له.
تقول فما المانع أن يختصر الله المسألة فيجعل لعبده الثواب تفضُّلاً منه من دون ربطه بالجهد العملي باختيار الإنسان لأسباب تتعلَّق بالاصطفاء ولمصالح تتعلَّق بالرسالة الإلهية، إنّه أمرٌ ليس مستحيلاً.
ثانياً: ربّما يثار سؤال أمام هذا الموضوع من الآخرين أَنّ الله إذا عصم الإنسان بطريقة حتمية فما هو فضله على بقيّة الناس؟ بل ربّما يكون الناس الآخرون أفضل من المعصوم ولا فضل للمعصوم على الناس لأنَّ الله قد عصمه ولم يعصمهم فلا فضل له على الناس في عصمته.
إنَّنا نقول إنَّ الفضل من الله، والله هو الذي يعطي الفضل، والله هو الذي يعطي القيمة، والله هو الذي يصطفي في الناس رسلاً ومن الملائكة رسلاً فالقيمة للإنسان المعصوم إنّ الله قد اصطفاه وعصمه واختاره فلا بدّ أن يكون اختيار الله واصطفاؤه له لحكمة. أمّا ما هي الحكمة ولماذا اصطفى هؤلاء دون غيرهم نقول {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(1) لا بدّ أن تكون هناك حكمة في اصطفائه ولو كانت الحكمة لأنّ الله صنعه بطريقةٍ ما، أراد له أن يكون نوراً يشرق في الناس تماماً كما صنع الشمس وجعلها نوراً كلّها لتشرق على الناس، فالشمس تفضّل القمر وتفضّل الكثير من الظواهر الكونية، ولكنَّ فضلها من الله والله أعطاها الفضل، لماذا إذاً لا يمكن أن يكون الفضل للإنسان؟ لأنَّ الله عصمه ولأنَّ الله اصطفاه، إنَّ المسألة في هذا المقام ليس من الضروري دائماً أن تكون مسألة قيمة تنطلق من عمق الذّات بل إنَّ القيمة تنطلق من الله سبحانه وتعالى الذي يجعل في الذّات أسراراً تجعل هذا التراث ذا قيمة من ناحية موضوعية تماماً، كما يجعل الجمال فضلاً ولكنَّ الجميل لم يَخلِق جماله، والله خلق الإنسان في أحسن تقويم وبهذا فضّل على الحيوان، ولكنَّ التفضيل لم يكن منطلقاً في هذا الجانب في اختيار الإنسان وإرادته، إنَّنا نعتقد أنّ الفضل هو من اختصاص الله له وتميّزه بهذه الميزة أو تلك.
ثالثاً: إنَّ القدوة تبطل، لأنَّ الناس عندما يرون هذا معصوماً من خلال خلق الله له وهو معصوم فيقال بأنّه ليس بإمكان الناس الوصول إلى مستوى المعصوم لكي يُقتدى به، ولكن هذا كلام لا يثبت أيضاً أمام النقد، لأنّه يكفي في القدوة أن يكون عمله جيّداً وأن يكون مقدوراً في الناس، وليس من المفروض في القدوة أن يكون مستوى المقتدي في مستوى المقتدى به فالنّاس تقتدي بالعلماء والعلماء في درجة عالية من العلم والفضيلة، فإذا كان المطلوب بالقدوة أن يكون مساوياً للمقتدي لما اقتدى إنسان بإنسان، نعم عندما يقوم النبيّ بمعجزة فإنَّنا لا نستطيع أن نقوم بها لأنَّنا نقول بأنَّ النبيّ قد زوّد بطاقات معيّنة لم نزوّد بها، وهذا أمرٌ مقدورٌ له، وليس باقتدارنا القيام به.
وهناك نقطة لا بدّ أن نثيرها في هذا الموضوع هي أنّ المعصوم ينطلق بإرادته نحو الطاعة، ولكنّه إذا أراد أن يعصي فإنَّ الله يعصمه في ذلك عندما تتوفَّر له ظروف المعصية فإنَّ الله يخلق له حواجز تصدّه عن هذه المعصية، فليس معنى حتمية العصمة أنّه هنا لا يملك الاختيار، بل هو يملك أن يفعل ولكنّه عندما يتوجَّه الضعف البشري في نفسه فإنَّ الله يتدخَّل، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}(1) أو في قول يوسف (عليه السلام) {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}(2). فالله قد يعصمه من ناحية داخلية وقد يعصمه من ناحية خارجية، لذلك فإنَّ الحتمية التي تقول بها لا تسلب عنصر الاختيار، لأنَّ الحتمية إنّما تأتي في الجانب السلبي فهو يندفع إلى الطاعة بكلّ إرادته وبكلّ إيمانه وبكلّ معرفته بالله سبحانه وتعالى، ولكن إذا انطلقت نقاط الضعف البشري في نفسه فإنَّ الله يعصمه منها إمّا بطريقة وقائية بأن يزرع في نفسه ما يعتصم به أو أن يحدث هناك شيئاً يعصمه من الوقوع في الخطأ، بحيث ينطلق فيه بشكلٍ إرادي فهو معصوم دائماً، يعني أنّه تحت رعاية الله وتسديده دائماً.
ولعلَّ هذا هو الذي ينسجم مع العقيدة المشهورة عند الشيعة وهو أنّ النبيّ يُخلق معصوماً فهو معصوم قبل البعثة كما هو معصوم بعدها، وأنَّ الإمام أيضاً هو معصوم قبل الإمامة كما هو معصوم بعدها، وهذا هو الرأي المشهور عند الشيعة.
إنَّنا نتساءل أنّه إذا كانت العصمة تنطلق من حالة اختيارية ذاتية فكيف يمكن أن يكون معصوماً وهو في بداية الطفولة؟ إنَّ البعض يقول إنّ الله يعطيه مرتبة من العلم بحيث إِنّه إذا عاش في داخلها فإنَّ نفسه لا تتوجَّه إلى المعصية كما تلاحظه في الإنسان الذي يجسّد قبح بعض الأشياء في نفسه بحيث لا يندفع نحوها كما في قضية الصدود النفسي في التعرُّض جنسياً نحو المحارم كالأُم والأخت أو العمّة أو الخالة لأنَّ معرفته بقبح هذا قد بلغت حدّاً بحيث تمنعه من الإقدام نحو هذا الشيء، إنَّنا نشبه بذلك ونقول إنّ الله أعطى المعصوم علماً بحيث إذا أشرق هذا العلم بعقله وفي قلبه وفي إحساسه وشعوره فإنّه يمنعه عن المعصية، إنَّنا نقول أيّ فرق بين الحتمية حينما تكون بشكلٍ مباشر أو تكون بواسطة بأن يعطيه الله شيئاً لم يعطه لغيره ممّا يمنعه من المعصية، إنَّ هذا يعني أنّ العصمة حتمية ولكنّها من خلال أنّ الله أودع فيه شيئاً يجعله يمتنع عن المعصية باختياره أو بدونه، لكنَّ المسألة ليست اختيارية في الأساس باعتبار أنّه عندما أودع الله فيه هذا العلم الذي لم يودعه في غيره فإنّه لا يستطيع أن يعصي في هذا المجال.
ولهذا فإنَّنا في الوقت الذي لا نريد أن نؤكّد هذه المسألة لكنّنا نعتقد أنّ مسألة العقيدة، عقيدة الشيعة الإمامية في أنّ النبيّ واجب العصمة وأنّ الإمام واجب العصمة. إنَّ عملية الوجوب التي تمثّل الحتمية لا تتماشى مع عملية الاختيار الذاتي التي تتماشى مع الإنسان، وإذا كان بعضهم يفرّق بين الإمكان الذاتي وبين الإمكان الوقوعي فإنَّني أعتقد بأنَّ المسألة لا تختلف بهذا المعنى، لأنَّ كون الشيء ممكناً ذاتّاً إذا كان ممتنعاً وقوعاً بحسب كلّ القضايا وليس ممتنعاً وقوعاً في قضية خاصّة من خلال حالة اختيارية محدودة ولكنّها ممتنعة من جميع القضايا، فالقضية لا تختلف بين الإمكان الذاتي والإمكان الوقوعي لأنّه إذا كان ممتنعاً وقوعاً فلا قيمة للإمكان الذاتي لأنّه يصبح مجرّد حالة تجريدية لا علاقة لها بعالَم الاختيار الذي هو حالة واقعية للإنسان.
لذلك نحن لا نعتبر أنّ الحديث عن اختيارية العصمة وعن حتميّتها من القضايا المهمّة في مسألة العقيدة، سواء سلّمنا بهذا، أو لم نسلِّم، فإنَّ العقيدة الإمامية في العصمة تفرض أن نعتقد بأنَّ النبيّ معصوم وأنّ الإمام معصوم.
أمّا كيف انطلقت عصمته؟.. ما هو اللّطف الإلهي الذي يعبّر عنه بعض الناس؟.. ما هو تأثير العلم الذي يعطيه الله إيّاه؟ هذا وذاك لا يعتبر من القضية شيئاً من قريب أو بعيد.
وعلى ضوء هذا فإنَّنا من خلال فهمنا لدور النبوّة ودور الإمام نعتقد بأنّه لا بدّ للنبيّ أو للإمام أن يكون معصوماً في جميع الأمور سواء في القضايا التي تتّصل بالتبليغ أو القضايا التي تتّصل بحركة الفكر في واقع الحياة.
ـــ ما هو رأيكم بمسألة عصمة الزهراء (عليها السلام) باعتبار أنّها لم تكن لا إمامة أو نبيّة؟
إنَّنا نرى عصمة الزهراء (سلام الله عليها) وذلك من خلال نقاط ثلاث:
الأولى: هي أنّنا لو درسنا حياتها منذ ولادتها إلى وفاتها في حياتها مع أبيها ومع زوجها ومع أولادها ومع الناس فإنَّنا لا نجد لها أَيّ خطأ في فكر أو في قول أو في فعل فقد كانت حياتها (عليها السلام) تجسِّد العصمة.
الثانية: إنّها من أهل البيت (عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً فتشملها آية التطهير {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(1) فيما تشتمل من أهل البيت (عليهم السلام) وهم: عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، الذين كانت الآية [آية التطهير] دليلاً على عصمتهم.
الثالثة: إنَّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي سيّدة نساء العالمين حسب ما جاء في الحديث المشهور، ولا يمكن أن تكون امرأة في مستوى (سيّدة النساء) إلاّ وأن تكون الإنسانة التي تعيش الحقّ كلّه في عقلها وفي قلبها وفي حركتها.
ـــ هل إنّ مسألة العصمة هي من المسائل التي يجب على المكلّف الاعتقاد بها؟ وما هي أُطر وحدود المسائل العقائدية الملزمة الاعتقاد بالنسبة للمكلّف؟
إنَّ العقائد التي بها يكون الإنسان مسلماً وبإنكار إحداها يكون كافراً بالمعنى المصطلح للكفر بالقرآن هي: الإيمان بالله الواحد، والإيمان بالنبيّ وبالرسل والكتب والإيمان باليوم الآخر، فإذا آمن بها كان مسلماً وإذا أنكرها أو أنكر إحداها كان كافراً.
أمّا الأمور الأخرى كالإمامة والخلافة والعصمة بالنبيّ أو بالإمام أو ما إلى ذلك فهي من الأمور التي لا تتّصل بمسألة الكفر أو الإسلام فيمكن للإنسان الذي يعتقد بأنَّ العصمة في التبليغ دون بقيّة الأشياء أن يكون مسلماً، وبهذا فإنَّنا نرى أنّ الذين قالوا من علمائنا بسهو النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أو نسيانه في صلاته أو في بعض الأشياء، هم مسلمون فقهاء محترمون بكلّ ما للكلمات من معنى، وهكذا فنحن لا نعتبر أنّ المسلمين من غير الشيعة هم كفّار بل هم مسلمون، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
لكن هناك نقطة هي أنّ المسلمين يخطِّئون بعضهم فيما اختلفوا فيه، الشيعة تعتقد أنّ تفاصيل عقيدتهم في الإمامة أو في النبوّة تنطلق من أدلّة قطعية بحيث لا مجال للشكّ فيها من وجهة نظرنا، والسُنّة يعتقدون بأنَّ ذلك الإيمان بما يرونه هم، أنّ كون الشيء نظرياً وكونه غير دخيل في قاعدة الإسلام وكفره شيء وقضية كونه حقّاً أو باطلاً شيء آخر، فقد ينطلق الإنسان الذي يتبيَّن وجهة نظر في هذا المجال من موقع قطع ويقين في وجهة النظر هذه ولكنّ كونه يقيناً عنده لا يعني أنّه يقين عند الآخر وإنْ كان يعتقد بأنّ الآخر لم يلتفت إلى عناصر اليقين في ذلك أو أنّه تنكَّر لعناصر اليقين هذه على أساس {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}(1).
ـــ ألاَ يعتبر إنكار هذا الأمر كالإمامة والعصمة إنكاراً لضروريات الدين؟
نعم هناك فرق بين كون الشيء من ضروريات الدين التي يلزم إنكارها بشكل طبيعي تكذيب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وهذا ممّا يكون في بديهيّات الدين التي لا يختلف فيها المسلمون كلّهم مثل الصلاة ووجوب الصوم، أمّا قضية أنّ الإنسان يسجد أو لا يسجد على ما يُلبس أو ما يؤكل أو يسبل في صلاته أو يتكتَّف مثلاً؟، هل يغسل قدميه في الوضوء أو يمسحها؟ أو هل أنّ النبيّ معصوم في غير التبليغ أو غير معصوم؟.. أو غيرها من الأمور، فإنّ هذه ليست من الضرورات التي تعتبر بديهيّة بحسب طبيعتها وإنْ كانت تلازم البداهة عند من يعتقد بها مثلاً، لهذا فنحن لا نحكم بكفر الأشاعرة الذين يقولون بالجبر والذين ينكرون القبح والحسن العقليين، بل نعتبرهم مسلمين، غاية ما هناك فإنّهم مسلمون مخطئون أو مسلمون منحرفون تبعاً لطبيعة ما يراه الإنسان في سلوك هذا أو ذاك.
فهناك فرقٌ بين إنكار الضروري وإنكار اللاضروري والمراد من الضروري هو الشيء البديهي الثابت بشكلٍ طبيعي جداً وعفويّ جداً من دون حاجة إلى الاستدلال بين المسلمين مثل وجوب الصلاة ووجوب الصوم ووجوب الحجّ ووجوب الزكاة كما ذكرنا، أمّا تفاصيل الصلاة وتفاصيل الصوم أو الحجّ أو الزكاة فهذه أمور يختلف فيها المسلمون ويحتاج فيها إلى أن يُستدلّ فيها بعضهم على بعض ليثبت قناعته من خلال ذلك وكلّ شيء يحتاج فيه إلى الاستدلال بحسب طبيعته أو بحسب طبيعة الواقع العام باعتبار أنّ الناس يختلفون فيه فهو أمرٌ نظري وإنكار الأمر النظري لا يوجب تكذيب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ممّا يؤدّي إلى الكفر لأنّ إنكار الضروري إنّما يؤدّي إلى الكفر باعتبار التلازم بينه وبين تكذيب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ولذلك لكي تحكم بكفر من أنكر الضروري فلا بدّ أن تعرف أنّه ملتفت إلى الملازمة بينه وبين ذاك.
ـــ برأيكم ما الدور الموكَل إلى أهل البيت (عليهم السلام) في مجالات الهداية والقيادة والإمامة الفكرية والسياسية؟
دورهم (عليهم السلام) هو تأصيل القواعد الإسلامية وحراسة المفاهيم الإسلامية من الانحراف، وقيادة الواقع الإسلامي لتحقيق الأهداف الكبرى. وهذا ما عبَّر عنه أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): "اللَّهمَّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منَّا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيءٍ من فضول الحطام، ولكن لِنَرِدَ المعالِم من دينك ونُظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعَطَّلة من حدودك"(1).
ويقول إمام الحقّ والهدى أيضاً: "أما والذي فَلَقَ الحبّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألاَّ يقاروا على كظّة ظالم ولا سَغَب مظلوم، لألقيتُ حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز"(2).
وقال (عليه السلام) في كلمةٍ أخرى: "أيُّها الناس، ليس أمري وأمركم واحداً، إنّي أُريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"(3).. وقال أيضاً: "والله لأسلِّمن ما سَلِمَت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلاَّ عليَّ خاصّة"(4).
إنَّهم أئمّة الإسلام وقادته، ولذلك لا يريدون للنّاس أن يتشيَّعوا لهم من خلال الحبّ الذاتي وحسب، فقد قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): "أحِبُّونا حبَّ الإسلام"(5).. وقال أبو جعفر (عليه السلام) وهو يخاطب جابر: "يا جابر، أيكتفي مَن ينتحل التشيّع أن يقول بحبِّنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلاَّ مَن اتَّقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلاَّ بالتواضع، والتخشُّع، والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم، والصلاة، والبرّ بالوالدين، والتعهّد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة وللغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس إلاَّ من خير، وكانوا أُمناء عشائرهم في الأشياء"(1).
هذا هو خطُّ أهل البيت (عليهم السلام) "رضى الله رضانا أهل البيت" فهم (عليهم السلام) يرضون بما يُرضي الله ويغضبون لما يغضب الله. فليس التشيّع خطّاً مزيداً في الإسلام، بل هو في طول خطّ الإسلام، يتحرَّك الأئمّة (عليهم السلام) فيه من خلال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في أقوالهم وأفعالهم ومواقفهم.. وينطلقون على أساس الإسلام كلّه لا يزيدون فيه حرفاً ولا يُنقصون منه حرفاً، لأنَّهم مؤتمنون عليه في كلّ مجالاته العامّة والخاصّة، وهم حجج الله على عباده ـــ بعد رسول الله ـــ وخلفاؤه في أُمّته وأُمناء الله في أرضه، وذلك لما يملكون من المعرفة والانفتاح على الله ورسوله، تماماً كما هي صفة عليّ (عليه السلام) في كلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في واقعة خيبر "لأعطيَنَّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله"(2)، وهي صفة كلّ إمام من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).
ـــ تقولون ــ وبحسب عقيدتنا الإمامية ـــ إنَّ نسبة الشيعة إلى المذهب الجعفري غير دقيقة، كيف تفسِّرون ذلك؟
تعرفون أنّ هناك مذهباً شافعياً وحنبلياً ومالكياً وحنفياً، ويقولون أيضاً عن المسلمين الشيعة إنّهم ينسبون إلى المذهب الجعفري. وبحسب عقيدتنا نحن الشيعة الإمامية أنّ الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) ليسوا مجتهدين كبقيّة المجتهدين. فأبو حنيفة مثلاً ـــ حتّى عند مَن يقلِّده ويتبعه ـــ يُصيب ويُخطئ. وكذلك ابن حنبل وغيرهما، وبعض المسلمين من غيرهما من المجتهدين يقلِّدونهم ـــ كما نقلِّد نحن السيّد الخوئي (قدِّس سرّه) والسيّد الخميني (قدِّس سرّه) ـــ فأئمّة المذاهب يقلّدهم مَن يرى أنّهم مجتهدون، أمّا نحن عندما نتبع أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) إنّما نفعل ذلك لاعتقادنا بعصمتهم وأنّهم لا يُخطئون أبداً، ولذا فإنَّهم (عليهم السلام) ليسوا أصحاب مذهب، فمذهب أبي حنيفة يسمّى وجهة نظر، ولكن مذهب الإمام الصادق (عليه السلام) ليس وجهة نظر يمكن أن تخطئ ويمكن أن تصيب، بل هي على صواب دائماً، فهو يقول (عليه السلام): "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله، وحديث رسول الله عن قول الله عزَّ وجلَّ"(1) فنحن عندما نستمع إلى رأي الإمام الصادق (عليه السلام) في مسألةٍ ما، فكأنَّنا نستمع إلى رأي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي لا يُخطئ مطلقاً.
ولذلك ليس مذهب الشيعة مذهباً اجتهادياً يخضع كغيره للصواب والخطأ، بل هو مذهب الإسلام الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت : 42] في المصادر الأصيلة الثابتة ـــ بشكلٍ موثّق ـــ عن الأئمّة (عليهم السلام).
هذا هو المقصود من كلمة أنّ "الأئمّة رواة" التي ربّما انطلقت في أحاديثي العامّة والخاصّة ـــ كما تحدَّث بهذه الطريقة العلاّمة السيّد محمد تقي الحكيم في كتاب الأصول العامّة للفقيه المقارن ـــ فليس المقصود من ذلك أنَّهم نَقَلة حديث كالرواة العاديين، بل المقصود أنّهم يروون عن سول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) حديثه في كلّ أقوالهم سواء بطريقة الرواية أو بطريق الحديث العام؛ فليس لديهم شيء شخصي يمكن أن يخضع للآراء الذاتية، بحيث قد تختلف عمّا قاله الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
إنَّهم يأخذون من الينبوع الأصيل، بكلّ صفاء الإسلام ونقائه ولا مصدر لهم غيره، ولا اجتهاد ـــ خاضع للخطأ والصواب ـــ فيه.
ـــ كيف نصَّب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عليّاً خليفةً له، هل هو مجرَّد ترشيح ـــ كما يقول بعض الكتَّاب ـــ أم أنّه عيَّن عليّاً للخلافة بأمر من الله سبحانه وتعالى؟
عقيدتنا في هذا المجال أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) للخلافة في يوم الغدير بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى، باعتبار الآية التي نزلت {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة : 67] فهذه الآية بحسب التفاسير الواردة نزلت في يوم الغدير، ومعناها أنّك ـــ يا رسول الله ـــ إنْ لم تبلِّغ ما أنزل الله إليك في عليّ (عليه السلام) فكأنَّك لم تفعل شيئاً، وهذا أسلوب ليس فيه تهديد لرسول الله ولكنّه أسلوب يختزن الكثير من القوّة لأنّ قضية ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) باعتباره الأفضل والأعلم والأصلح تشكِّل الضمانة الكبرى والسليمة لاستمرار المسيرة الإسلامية على النهج الإسلامي الذي بدأه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، علماً أنّ عليّاً هو نفس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وأخوه وهو منه بمنزلة هارون من موسى.
والأمر الثاني أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال للمسلمين: "ألستُ أَوْلى بكم منكم بأنفسكم"(1) أي أنّني أملك السلطة على المؤمنين أكثر ممّا يملكونها على أنفسهم، قالوا: اللَّهمَّ بلى، فقال لهم: اللَّهمَّ اشهد، ثمّ قال: "فمن كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه"(2)، والولاية تمثّل أحد عناصر حاكمية الحاكم، وقد جعل الله للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) هذا الأمر، أي أنّه أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم، والرسول جعله لعليّ، أي مَن كنتُ أولى به من نفسه فعليٌّ أولى به من نفسه، فهل هذا ترشيح أو هو تعيين؟! إنّه تعيين قطعاً، ثمّ نزلت الآية الكريمة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3] والمروي أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) نصب لعليّ (عليه السلام) خيمة وطلب من المسلمين أن يحيّوه بصفته أميراً للمؤمنين، وقد نقل عن الخليفة الثاني أنّه قال: "بخٍ.. بخٍ لكَ يا عليّ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة"(1)، فقضية الولاية كانت تعييناً من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى.
ولعلَّ دراستنا لكلّ أحاديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في حقّ عليّ (عليه السلام) تفيد أنّها تمحورت حول تعميق الذهنية الإسلامية العامّة في اعتبار الإمام (عليه السلام) الشخص المتعيّن للخلافة، وذلك بسبب كفاءته وقابليّاته ومؤهلاته. ومن هذا المنطلق كان تعيين الله سبحانه وتعالى والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) له، فليس دور النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يمارس الترشيخ في مثل هذه القضية الحيويّة والحسّاسة المتّصلة بمستقبل الإسلام في حركته، بل دوره أن يعيّن ويخطِّط للمسلمين طريق المستقبل في خطّ القيادة.
{لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى}
جاء في تفسير "من وحي القرآن" لسماحة آية الله العظمى، السيّد محمّد حسين فضل الله، وفي سياق تعليقه على أسباب النزول الخاصّة بالآيات (90 ـــ 92) من سورة المائدة التي تتناول موضوع حرمة الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، والخاص بالرّواية التي نسبت شرب الخمر إلى الإمام عليّ (عليه السلام)، ما يلي:
لعلَّ من الطريف أنَّ بعض الرواة روى عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قوله: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منّا وحضرت الصلاة، فقدموني فقرأت: "قل يا أيُّها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون" فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43].
ورويت هذه الرواية بطريقةٍ أخرى، قال عكرمة: نزلت في أبي بكر وعمر وعليّ وعبد الرحمن، صنع عليّ لهم طعاماً وشراباً، فأكلوا وشربوا، ثمّ صلَّى عليّ بهم المغرب فقرأ {قُلْ يَا أَيُّها الكَافِرون} حتّى خاتمتها، فقال: "ليس لي دين وليس لكم دين"، فنزلت: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى}.
والمتأمِّل المتدبِّر في هاتين الروايتين وأمثالهما، لا يسعه إلاّ أن يخلص إلى كونها مختلقة موضوعة، وذلك لجملة أسبابٍ تأخذ بعنق بعضها البعض:
أوّلاً: إنَّ التضارب ظاهرٌ بين عناصر الرّوايتين، ففي الوقت الذي تُنسب الرواية الأولى إلى عليّ (عليه السلام) وصنع الطعام والصلاة إلى عبد الرحمن، تُنسب الرواية الثانية إلى عكرمة وصنع الطعام والصلاة إلى عليّ (عليه السلام).
وفي جانبٍ آخر، تجعل الرواية الأولى الاختلاق على الشكل التالي: "ونحن نعبد ما تعبدون"، فيما تجعله الرواية الثانية بشكلٍ آخر وهو: "ليس لي دين وليس لكم دين".
ثانياً: ثمّة رواية أخرى على النقيض تماماً بين هاتين الروايتين مضموناً، وأوثق سنداً ومتناً وواقعاً، وهي الرواية المروية عن ابن شهراشوب عن القطان في تفسيره عن عمر بن حمران، عن سعيد بن قتادة، عن الحسن البصري، قال: اجتمع عليّ وعثمان بن مظعون وأبو طلحة وأبو عبيدة ومعاذ بن جبل وصهل بن بيضاء وأبو دجانة الأنصاري في منزل سعد بن أبي وقاص، فأكلوا شيئاً ثمّ قدَّم إليهم شيئاً من الفضيخ(*)، فقام عليّ وخرج من بينهم قائلاً: لعن الله الخمر، والله لا أشرب شيئاً يذهب بعقلي، ويضحك بي من رآني، وأزوّج كريمتي من لا أريد. وخرج من بينهم فأتى المسجد، وهبط جبرائيل بهذه الآية: {يَا أَيُّها الّذين آمَنُوا} يعني هؤلاء الذين اجتمعوا في منزل سعد، {إِنَّمَا الخَمْرُ والمَيسرُ} الآية، فقال عليّ (عليه السلام): يا رسول الله لقد كان بصري فيها نافذاً منذ كنتُ صغيراً، قال الحسن "البصري": والله الذي لا إله إلاّ هو ما شربها قبل تحريمها ولا ساعة قط(1).
وهذه الرواية أوشج ارتباطاً وتعلّقاً بواقع شخصية عليّ (عليه السلام) من الرّوايتين السابقتين، وذلك لأنّه (عليه السلام) نشأ في أحضان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وتخلَّق بأخلاقه، وأخذ بعاداته حتّى كان صورة منه في خلقه وهديه وعقله والتزامه السلوك المستقيم.
ومن الطبيعي ـــ جداً ـــ أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) كان بعيداً عن الخمر التي تُسيء إلى العقل والروح والاتّزان، ممّا لا يمكن للإنسان الذي يتميَّز بالسمو الروحي والصفاء العقلي والطهارة السلوكية أن يمارسه، ولم يُعهد منه ذلك حتّى في حديث أعدائه، فكيف يمكن لعليّ (عليه السلام) الذي كان يقول: "كنتُ أتبعه اتّباع الفصيل أَثَرَ أُمّه"، أن يشرب الخمر فتغلبه على صلاته؟ هذا وينقل التاريخ عن أخيه جعفر بن أبي طالب أنّه كان لا يعاقر الخمرة لأنّها تفقد الإنسان عقله، وعليٌّ كما هو معروف أفضل من جعفر للنسب الآنف ولغيره من الأسباب، فكيف يمكن لجعفر أن يترك شرب الخمر بعيداً عن مسألة تحريمها، ويمارسها عليّ (عليه السلام) بهذه الطريقة؟!.
كما أنَّ هناك روايات أخرى، ذكرها صاحب تفسير الميزان، تؤكّد ما سلف، وممّا ورد فيها، أنَّ عليّاً وعثمان بن مظعون كانا قد حرَّما الخمر على أنفسهما قبل نزول التحريم، وقد ذُكر في "الملل والنحل" رجالٌ من العرب حرَّموها على أنفسهم في الجاهلية، منهم عامر بن الظرب العدواني، وقيس بن عامر التميمي، وصفوان بن أُميّة بن حرث الكتابي، وعفيف بن معدي كرب الكندي، وسلوم اليماني قد حرّم الزنا والخمر معاً.
من هنا، وبناءً على ما تقدَّم، نستطيع الجزم بأنَّ الروايتين مدار البحث، هما من الأحاديث الموضوعة للنيل من عليّ (عليه السلام) ومنزلته ومقامه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) خاصّة، والمسلمين عامّة.
ويمكن تفسير وضعها بالصراعات الشديدة التي تمحورت حول قضية الخلافة، وما تناسل عنها من مشاكل وأوضاع وعصبيّات وأحقاد.
ولولا أنَّنا رأينا مثل هذه الرواية متداولة في بعض كتب المتأخّرين، كسيّد قطب في "ظلال القرآن"، لما تحدّثنا عنها لأنَّها أسخف من أن تقع مجالاً للنقاش.
الزهراء تمثّل موقع الإنسانة المعصومة
بمناسبة أسبوع الزهراء (عليها السلام)، أجرت إحدى المجلات الإيرانية حواراً مع سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله (رضوان الله تعالى عليه) الشريف (1993م ـــ 1414هـــ)، وممّا جاء في المقابلة:
ـــ يحاول البعض أن يصوِّر أنّ مواجهة الزهراء للأوضاع التي حدثت بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، كانت حركة ذاتية للمطالبة بحقوقها الشخصية، فما ردّ سماحتكم بهذا الخصوص؟
لم يكن للزهراء ـــ وهي الرسالية التي عاشت في بيت النبوّة، المعصومة في طهر الفكر والعمل ـــ أيّ حالة شخصية بالمعنى الذاتي للمسألة، بل كانت القضية عندها هي قضية الخلافة، وهي حقّ عليّ (عليه السلام)، بنصّ الغدير. لأنّها تتّصل بالمستقبل الإسلامي في خطّ القيادة الشرعية الصالحة المبدعة المتمثّلة في الإمام عليّ (عليه السلام)، فقد كانت مسؤوليّاتها الإسلامية أن تقف معه بكلّ قوّة وهذا ما تمثَّل في خطبتها، وفي حديثها مع نساء المهاجرين والأنصار ورجالهنّ في الحديث عن حقّ عليّ (عليه السلام) في الخلافة من دون أن يكون لعلاقتها الشخصية ـــ الزوجية والنَسَبيّة ـــ أيّ دخل في ذلك.
أمّا مطالبتها بفَدَك، فقد كان لتأكيد الحقّ في مواجهة خطر الانحراف لإظهار الخطأ في ذلك، وربّما، كما ينقل ابن أبي الحديد عن أستاذه، أنّها كانت مقدّمة للمطالبة بالخلافة لعليّ (عليه السلام).
ونقرأ في قصّة ذهابها مع الإمام عليّ (عليه السلام) للمطالبة بالخادم الذي يريحها من تعب أشغال البيت، أنّ الطلب لم يكن منها، بل كان من عليّ (عليه السلام) ورأفة بها وشَفَقَة عليها، ممّا يوحي بأنَّ مسألة الدنيا في حاجتها الطبيعية لم تكن هدفاً لها.
ـــ بعد ما تعرَّضت له الزهراء من مظلومية، جلست في دارها حتّى رحيلها إلى بارئها، كيف نفهم هذا الموقف في حركة الحياة من حيث المواقف السلبية والإيجابية.
إنَّنا نقرأ في سيرتها أنّها استقبلت نساء المهاجرين والأنصار ورجالهن في حوارها معهم حول قضية الخلافة كما استقبلت الشيخين أبا بكر وعمر، عندما جاءا يسترضيانها، وتتحدّث سيرتها أنّها كانت تطوف على المهاجرين والأنصار لتحدِّثهم حول حقّ عليّ (عليه السلام)، ممّا يوحي بأنّها لم تعش العزلة الذاتية في هذه الفترة التي سبقت وفاتها (سلام الله عليها).
ـــ ما هو الموقع الذي تحتله الزهراء (عليها السلام) في دنيا الإسلام والمسلمين؟
إنَّ الزهراء تمثّل موقع الإنسانة المعصومة في الدرجة العليا من موقع سيّدة نساء العالمين، هذه الصفة التي تختزن في داخلها كلّ الفضائل الإنسانية الإسلامية، باعتبار أنّ السيادة على النساء من حيث القيمة الروحية والأخلاقية تفرض المستوى الأفضل في ذلك كلّه.. وهكذا نجد في موقعها القرآني بأنّها من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً، الصورة المشرفة للإنسانة المعصومة التي تمتلك الطهارة والصفاء الروحي، وتبتعد عن كلّ قذارة فكرية وعملية، وهذا يوحي بأنّها تمثِّل خطّ الحقّ في كلّ ما تقول وتفعل.
ـــ هل للعزاء الحسيني أصالة تاريخيّة، وما هو دوره في خطّ الثورة الحسينيّة والرسالة الإسلامية بشكلٍ عام؟
لقد كانت المجالس الحسينية في أصالتها التاريخية منطلقةً من تخطيط الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) من أجل امتداد القضية ـــ قضية كربلاء ـــ في التاريخ لإبقاء خطّ الثورة الحسينية والرسالة الإسلامية في وجدان الأجيال بحيث يتحوَّل إلى تقليد عميق التأثير في الواقع الشيعي لينتقل من كلّ جيل إلى الجيل الآخر، وهكذا رأينا تأثيرها الإيجابي في الكثير من النتائج الحركية المؤثّرة في قضايا الإسلام والمسلمين.
ـــ كيف نقارن بين دور زينب في الثورة الحسينيّة ودور الزهراء (عليها السلام) في الواقع الذي عاشته؟
الدور هو الدور في جهاد المرأة المسلمة من أجل قضية الحقّ، في بداية الإمامة مع الزهراء (عليها السلام)، وفي امتدادها مع زينب (عليها السلام)، والموقف هو الموقف في صلابته وقوّته في الله، والتحدّي هو التحدّي في مواجهة القوّة الحاكمة، ويبقى الإسلام مع الزهراء الرائدة وزينب المجاهدة يمدّنا بالمواقف الكثيرة التي تقدِّم الدروس والعِبَر للمرأة المسلمة لتأخذ منها الشرعية في كلّ عمل سياسي أو جهادي من أجل القضايا الحيويّة الكبرى.
ـــ كيف نفهم المودّة لأهل البيت (عليهم السلام).. وكيف يجب أن نتعامل معهم كانتماء وموقف؟
الظاهر أنّ المراد بالمودّة هو معناها الحركي المتمثّل بالمحبّة في قداسة الموقع وبالاتّباع في دائرة الولاية العامّة، والالتزام بالخطّ المرسوم للمسيرة الإسلامية في القاعدة وفي التفاصيل، والموقف الصلب في دائرة الانتماء، وليست مجرّد حالة عاطفية كما لو كانت نبضة قلب أو حالة إحساس.
خطبة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله ـــ 24 تشرين الأوّل 1997 ـــ 22 جمادي الثانية 1418 هــ ـــ مع الزهراء (عليها السلام) النموذج الأكمل للمرأة المسلمة في كلّ العصور: الصدِّيقة المعصومة.. صلة الوصل بين النبوّة والإمامة
طهر الحقيقة
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب : 33]، لا نزال نعيش مع السيّدة الطاهرة المعصومة، سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام)، التي هي من أهل هذا البيت، وهي التي ربطت بين النبوّة والإمامة، فكانت زوجة أوّل إمام وكانت أُم الأئمّة الباقين، وهي ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ومنها وحدها نسله، وفي بعض التفاسير أنّ "قريش" قالت عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إنّه أبتر لا عقب له، فنزلت هذه السورة: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ*فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ*إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 1 ـــ 3]، أعطيناك النسل الكثير من خلال فاطمة (عليها السلام).
هذه المرأة التي هي النموذج الأكمل للمرأة، وهي التي أعطاها الله ـــ كما أعطى أباها وزوجها وابنيها ـــ الطهر كلّه، وعندما يتحدّث الله عن الطهر وعن إذهاب الرّجس، فإنّه يريد بالطهر طهر الحقيقة، فالباطل لا يقترب من هؤلاء، ففكرهم فكر الحقّ وطهر القلب، والعاطفة في نبضات قلوبهم لا تنفتح إلاّ على ما يحبّه الله ويرضاه ومن يحبّه ويرضاه، وهي تنفتح على النّاس كلّهم ولا تنغلق على إنسان، تنفتح على المؤمن من أجل أن تتحرَّك معه في خطّ الإيمان في مواقع الحركة والقوّة، وتنفتح على غير المؤمن لتهديه إلى سواء السبيل.
والطهر في القول والعمل، فلا يتقذّرون في القول بأيّة كلمة باطل، ولا يتقذّرون بأيّ عمل محرَّم.. رضاهم رضى الله وغضبهم غضب الله، ومن هنا كانت الآية دليلاً على عصمة أهل البيت (عليهم السلام).
وعندما ندرس حياتها (عليها السلام)، نجد أنّها كانت حياة المعاناة كلّها، لأنّها عانت كلّ الآلام مع أبيها في مكّة، عندما رأت المشركين يضطهدونه ويحاصرونه ويتكلّمون عليه بالسوء ويقفون ضدّ دعوته، وعاشت مع أبيها في المدينة وهي ترى القوم يحاربونه من كلّ جانب ليُسقِطوا رسالته وليُضعِفوا قوّته، وليمنعوه من أن يجعل رسالة الله منفتحة على الإنسان كلّه، وعاشت مع زوجها الفقر كلّه في كلّ المعاناة، وعاشت معه جهاده وهو يجاهد في سبيل الله، وكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يخرجها بين وقتٍ وآخر في بعض مواقع الجهاد لتعاون وتساعد في ذلك كلّه. وعاشت المعاناة كأقسى ما تكون المعاناة بعد وفاة أبيها (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في حزنها الكبير عليه وفي حزنها الكبير على الأُمّة، وفي ما لاقته من اضطهاد الأُمّة لها ولحقّ زوجها بطريقةٍ وبأخرى، ولكنّها مع ذلك كلّه، كانت القويّة في نفسها والقويّة بربّها والقويّة في منطقها، والمسؤولة في كلّ ما تعلَّمته من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي ما ألهمها الله إيَّاه.
الصادقة المصدّقة
ونحن في هذه الوقفة، نحاول أن نقرأ ما رواه الرّواة عنها، في ما كانت تحدّث به عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ونحن نقرأ أنّ الرجال كانوا يروون عنها الحديث، كما كنَّ النساء يروين عنها الحديث، ممّا يدلّ على أنّها كانت تنفتح في عملها على الجميع من أجل أن تعطيهم علم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم). ففي حديث يرويه صاحب "ينابيع المودّة" عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) قالت: "سمعت أبي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في مرضه الذي قُبض فيه يقول، وقد امتلأت الحجرة من أصحابه" ـــ لم يقله همساً ولا سرّاً بل كان يقوله علناً لأصحابه: "أيُّها الناس، يوشك أن أقبض قبضاً يسيراً، وقد قدّمت إليكم القول معذرة إليكم" ـــ أطلقتُ إليكم هذه الكلمة لأعذر إلى الله بأنّي بلّغت قومي ذلك في ما يستقبلونه من أمر ـــ "إلاّ أنّي مخلّف فيكم كتاب ربّي عزَّ وجلّ وعترتي أهل بيتي، ثمّ أخذ بيد عليّ (عليه السلام) فقال: هذا عليٌّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لا يفترقان حتّى يَرِدا عليَّ الحوض فأسألكم ما تخلفوني فيهما"؟ كيف حفظتم كتاب الله وكيف حفظتم علياً الذي يجسّد ويحمل كتاب الله كما حملته، لأنّه "أنتَ منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي". وقال "القيدوزي": وفي "الصواعق المحرقة" روى هذا الحديث ثلاثون صحابياً وأنَّ كثيراً من طرقه صحيح وحسن".
تربية النبوّة
ونحن نعرف أنَّ الزهراء (عليها السلام) هي الصادقة المصدّقة، وقد قالت عنها زوجة أبيها عائشة: "ما رأيتُ أصدق منها إلاَّ أباها". وعلى ضوء هذا، فإنَّ معنى هذا الحديث أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يكتفِ بالتنصيص على عليّ (عليه السلام) بعيد الغدير، بل إنّه أضاف إلى ذلك، التنصيص عليه كعدلٍ للقرآن وكنموذج من أهل بيته في آخر لحظات حياته.
وهكذا، كانت الزهراء (عليها السلام) تتحدَّث عن بعض الأمور التي تتّصل باستحباب أن لا ينام الإنسان بين طلوع الفجر وبين طلوع الشمس، فيروي "السيوطي" في "مسند فاطمة" عن الزهراء (عليها السلام) أنّها قالت: "مرَّ بي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وأنا مضطجعة متصبّحة فحرَّكني برجله وقال: يا بنية قومي، فاشهدي رزق ربّك ولا تكوني من الغافلين، فإنَّ الله يقسِّم أرزاق الناس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس"(1).
وعن فاطمة (عليها السلام) كما في "خلاصة الأذكار" أنّها قالت: "دخل عليَّ أبي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وإنّي قد افترشت الفراش وأردت أن أنام، فقال: يا فاطمة، لا تنامي حتّى تعملي أربعة أشياء: حتّى تختمي القرآن وتجعلي الأنبياء شفعاءك وتجعلي المؤمنين راضين عنك وتعملي حجّة وعمرة، ودخل في الصلاة، فتوقّفت على فراشي حتّى أتمّ الصلاة، فقلت: يا رسول الله، أمرتني بأربعة أشياء لا أقدر في هذه الساعة على أن أفعلها، فتبسَّم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وقال: إذا قرأت "قل هو الله أحد" ثلاث مرّات، فكأنّك قد ختمت القرآن" ـــ لأنَّ القرآن كلّه ينطق من خلال توحيد الله في العقيدة والعبادة والطاعة ـــ "وإذا صلّيت عليّ وعلى الأنبياء من قبلي فقد صرنا لك شفعاء يوم القيامة" ـــ لأنَّ الصلاة عليه وعلى آله وعلى الأنبياء تمثّل معنى الانفتاح على كلّ رسالتهم وحركيّتهم الرسالية، لأنَّ الإنسان عندما يطلب من ربّه أن يصلّي عليه وعلى آله وعلى الأنبياء، فإنّه يتذكَّر في كلّ كلمة صلاة عليهم كيف عاشوا الرسالات وكيف أخلصوا لله وكيف صبروا على الأذى في جنب الله، فينفتح للنّاس باب طويل عريض على كلّ الرسالات، فيزدادون بذلك إيماناً ـــ "وإذا استغفرت للمؤمنين، فكلّهم راضون عنك" ـــ أن يستغفر الإنسان للمؤمنين والمؤمنات قبل أن ينام ـــ "وإذا قلت سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر" فقد حججتِ واعتمرتِ"(2)، لأنّه يسبّح الإنسان الله في مواقع عظمته، ويوحّده في مواقع ربوبيّته ويحمده في مواقع فضله، ويكبّره في مواقع عظمته وكبريائه، فكأنّه اختصر كلّ نتائج الحجّ والعمرة، لأنَّ قيمة الحجّ والعمرة بمقدار ما يتعرَّف الإنسان على ربّه أكثر وبمقدار ما يكبّره ويهلِّله ويحمده ويسبّحه أكثر.
وكانت (عليها السلام) تنبّه على أن ينام الإنسان نظيف اليد، فتقول وهي تروي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في الحديث كما جاء في "الذرّية الطاهرة" عن "فاطمة بنت الحسين عن أبيها عن فاطمة بنت رسول الله قالت: "قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "لا يلومنّ إلاّ نفسه مَن بات وفي يده غَمَر"(1)، والغَمَر هو الوسخ من اللّحم أو من الشحم وما إلى ذلك. ونجد الزهراء (عليها السلام) تتحدَّث عن خيار الناس ومَنْ هم، ففي الحديث أيضاً كما في "دلائل الإمامة" عن "فاطمة بنت الحسين، عن أبيها، عن فاطمة بنت رسول الله" قالت: "قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): خياركم ألينكم مناكبه أكرمهم لنسائه"(2)، يعني خير الناس مَن كان أرفق بالناس، الذي يخفض جناحه والذي يحمل الناس في قضاياهم على منكبيه من دون أن يتعقَّد من ذلك، وخيرهم أيضاً أكرمهم لنسائه، سواء كنَّ بناته أو زوجته أو أُمّه أو ما إلى ذلك.
المدافعة عن حقّ الإمامة
وهكذا نجد أنّ الزهراء (عليها السلام) تروي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وتعلّم، ممّا جعلها ـــ وهي في مقتبل العمر ـــ تنفتح على ما يرفع مستوى المرأة ويعطيها المثل، ويجعلها المثل الحيّ للإنسانة المتحرّكة في علمها والخاشعة في عبادتها والمجاهدة في مواقفها، كانت، وهي الضعيفة في بدنها، قويّة في منطقها ومواقفها، لم تأخذها في الله لومة لائم، كانت تقف لتدافع عن حقّها وعن حقّ الأُمّة في حقّ عليّ (عليه السلام)، كانت تقف لتدافع بالكلمة والموقف والاحتجاج حتّى اعتُبرت أوّل مسلمة وأوّل امرأة في التاريخ العربي تقف هذا الموقف، من خلال إيمانها بالقضية وصلابتها أمام القضية، كانت تعنّف الكبار منهم وكانت تلين مع الصغار منهم، كانت تجمع النساء حولها لتحدِّثهم عن عليّ (عليه السلام) وعن جهاده وعن حقّه، وكانت تحدِّث الرجال عن عليّ (عليه السلام) وعمّا مارسوه في ابتعادهم عنه. وبذلك كان يومها يوم المرأة المسلمة العالمي، لأنَّ المرأة تحتاج إلى القدوة في الحقّ والعفّة والحركة والموقف والإخلاص لبيتها ولزوجها ولأولادها ولمجتمعها. لذلك نريد أن نقول للرجال وللنساء: خذوا من فاطمة (عليها السلام) الطهر كلّه والخير كلّه والحقّ كلّه والعصمة كلّها، لأنّها كانت التجسيد العملي لكلّ هذه الصفات الكبرى، لا تستغرقوا فقط في جانب المأساة، وإنْ كانت مأساتها كبيرة، ولكن اذكروا أنّ مأساة الزهراء (عليها السلام) كانت في سبيل الله وفي سبيل الحقّ والمسلمين.
لذلك، لا بدّ لكم من أن ترتفعوا إلى مستوى ما عاشته الزهراء (عليها السلام) عندما رُوي أنَّ عليّاً (عليه السلام) قال لها، وقد شعر بحزنها على ما واجهته من ظلم: إنَّني لو خرجت وجاهدت وأطلقت سيفي فإنَّ الإسلام سوف يضعف ويسقط، كأنّه كان يقول لها: هل تريدين لي أن أنطلق ليضعف الإسلام أو أن أصبر وتصبرين ليرتفع الإسلام وليجتاز كلّ هذه الصعوبات؟ وقالت له: اصبر. وقال للنّاس: "لَأُسَلِّمَنَّ ـــ وأنا صاحب الحقّ ـــ ما سَلِمَت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليَّ خاصّة"(1).
القدوة
وهكذا، كانت فاطمة (عليها السلام) مع وحدة الإسلام حتّى لو كانت المظلومة في ذلك، وحتّى لو كان زوجها المظلوم في ذلك، لأنَّهم أهل بيت النبوّة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة، وهم الأُمناء على الإسلام والمسؤولون عن قوّته. وهذا ما يجب أنْ تتعلَّمه المرأة المسلمة والرجل المسلم، أنْ نتعلّم جميعاً أن ننظر دائماً إلى مصلحة الإسلام والمسلمين في كلّ ما نتكلّمه ونمارسه، وفي كلّ موقف نقفه، قلناها مراراً: ليس معنى الوحدة الإسلامية التي ندعو إليها، والتي دعا إليها العلماء الكبار في خطّ الأئمّة (عليهم السلام)، ليس معناها أن تترك ما تعتقد به أو يترك الآخر ما يعتقده، ولكن أيُّها الناس إنّ الكفر قد أعلن حرباً عالمية على الإسلام، فعلينا أن نقف في مواجهته صفّاً واحداً. إنَّنا نختلف في الإمامة والخلافة، ونختلف في شكل الصلاة وفي الوضوء، ولكن هل نختلف على أنّ علينا أن نشهد أن "لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله"، وأن نحفظ هاتين الشهادتين لتنطلقا في كلّ موقع من مواقع الإسلام لنحفظ المسلمين على هاتين الشهادتين وعلى كتاب الله وعلى عترة أهل البيت (عليهم السلام).
إنَّ علينا أن نعيش الوحدة بالمحبّة، وأن نعيش المحبّة بالحوار في ما اختلفنا فيه، وبالاتّفاق في ما نواجهه. إنَّ الاستكبار العالمي من جهة والكفر العالمي من جهةٍ أخرى يريدان أن يجعلانا في دوّامة من الخلافات المذهبية الإسلامية، ليلعن بعضنا بعضاً ويقتل بعضنا بعضاً، من دون أيّة نتيجة للشيعة ولا للسُنّة في ذلك. وإنّ الاستكبار العالمي والكفر العالمي يريدان منّا حتّى في داخل المذهب الواحد أن نتنازع ونتحاقد وأن نتعادى وأن يلعن بعضنا الآخر ويكفّر بعضنا الآخر ويضلِّل بعضنا الآخر، أتعرفون ما معنى ذلك؟ معناه أنّنا نريد أن نطعن الإسلام في الصميم، لأنَّ قوّتنا عندما تكون ضدّ بعضنا البعض، ولأنَّ كلماتنا عندما تكون ضدّ بعضنا البعض، فإنَّ معنى ذلك أن يقتل بعضنا الآخر من دون أن يحتاج الاستكبار إلى أن يقتلنا ويهزمنا، والله يقول: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال : 46].
الحذر والوعي
لذلك، علينا أن نكون واعين لطبيعة اللعبة ولطبيعة المؤامرة، إنَّ الأرض تهتزّ تحت أقدامنا، وإنَّ العدوّ المستكبر ـــ وفي مقدّمته أميركا وإسرائيل ـــ يريد إذلالنا وإضعافنا وإسقاط قوّتنا وسياستنا، فهل نبقى نتحدّث كما كان أهل "قسطنطينيّة" يتحدّثون عندما كان الفاتح يدقّ الأبواب ـــ والفاتح الغاشم عندنا كَسَرَ الأبواب ودخل حتّى غرف النوم ـــ ويتنازعون هل البيضة أصل الدجاجة أو الدجاجة أصل البيضة؟ هل الملائكة ذكور أو إناث؟ ويختلفون ويتنازعون في هذه السهرة وفي تلك السهرة، ويدخل الفاتح ولا يزالون يتنازعون في أصل البيضة والدجاجة وفي جنس الملائكة، أليس بعض ما نتنازع فيه هو من هذا القبيل؟ أليس بعض ما نتحاقد فيه ونتعادى فيه هو من هذا القبيل، والعدو دخل البيوت وصادر ثرواتنا وصادر البحر والجوّ، ونحن نتناقش في هذه الأمور، ونظلّ نتناقش ويمتد العدوّ في إضعافنا ونسقط دون حرب؟ هل يعجبكم هذا الواقع؟
كونوا الواعين الذين يدرسون القضايا الكبرى في الآفاق الكبرى، لا تكونوا في موقع "ضيعوي" صغير صغير جداً، والله يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} ـــ من أمور دينكم وشريعتكم ـــ {فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ} ـــ ليحكم الله من خلال كتابه بأن تفهموا كتابه ـــ {وَالرَّسُولِ} [النساء : 59]، من خلال سنّته لتفهموا سنّته بكلّ عقلانية وموضوعية واحترام أحدكم للآخر حتّى لا تُشغِلكم عصبيّاتكم باسم الدين عن كلّ ما يواجهكم من خطر كبير كبير داهم على الإسلام والمسلمين.
ج:92، ص:82.(2)
بحار الأنوار، ج:92، صفحة:84.(2)
البحار، ج:32، ص:76، رواية:50، باب:1.(1)
البحار، ج:44، ص:330، رواية:2، باب:37.(1)
سعفات هجر: في آخر القطيف، فيما يقال: الجيش بمنطقة بين العراق والشام.(1)
البحار، ج:67، ص:205، رواية:14، باب:53. (2)
البحار، ج:44، ص:330، رواية:2، باب:37.(1)
بحار الأنوار، للمجلسي، جـ: 67، ص:97، رواية: 4، باب: 47.(1)
الفضيخ: عصير العنب. وهو أيضاً شرابٌ يتّخذ من البسر المفضوخ وحده من غير أن تمسّه النار.(*)
م.ن، ص:220.(1)
م.ن، ص:221.(2)