في كتابه (مراجعات في عصمة الأنبياء من منظور قرآني) يعرض السيد عبد السلام زين العابدين رأي سماحة السيّد فضل الله حول الآية 24 من سورة يوسف وذلك من الصفحة 175، وقد جاء في هذا الباب بأنّ ما ذهب إليه السيّد فضل الله يرتضيه جميع أعلام التفسير الشيعة على الإطلاق.
إنَّ ما فسّره السيّد فضل الله ما ورد في سورة يوسف (ع) {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]. لا يرى فيه علماء التفسير ـ كما يقول السيّد عبد السلام زين العابدين ـ أيّة منافاة للعصمة، وهتكٍ للحرمة، لا من قريب ولا من بعيد، وحتى الأعلام الذين ذهبوا إلى اتجاه غيره يرتضونه من حيث المبدأ...
فلا المرتضى (علم الهدى) ولا الطوسي ولا الطبرسي ولا الطباطبائي ولا غيرهم من أعلام التفسير يرون ضيراً في الاتجاه الذي اسْتَقْرَبَه (السيّد)، بل إنَّ هؤلاء جميعاً صرّحوا بمقولته، وأكّدوا أنّ ذلك يليق بحال النبيّ يوسف الصدّيق (ع).
رأي السيّد هو السائد
إنَّ السيّد فضل الله يصرِّح بأنَّ همَّ يوسف يمثّل «حالة شعوريّة»، يتحرّك فيها الإنسان «غريزيّاً بطريقة عفوية»، كما يصرّح بأنّ يوسف (ع) «لم يتحرّك نحو المعصية، ولم يقصدها، ولكنّه انجذب إليها غريزيّاً» ويقول: «التفسير الذي نميل إليه ونستقربه هو الانجذاب اللاشعوريّ، تماماً كما ينجذب الإنسانُ إلى الطعام».
أعلام التفسير
الميل الطَّبْعِيّ يليق بحال يوسف الصدِّيق (ع)
أولاً: الشريف المرتضى
في تفسيره لقوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24].
يرى الشريف المرتضى أنَّ الهمَّ ـ لغةً ـ ينقسم إلى وجوه:
ـ الوجه الأول: العزم على الفعل
ـ الوجه الثاني: خطور الشيء بالبال وإن لم يقع العزمُ عليه
ـ الوجه الثالث: المقاربة، فيقولون: همَّ بكذا وكذا أي كاد يفعله.
ـ الوجه الرابع: الشهوة وميل الطباع
وبعد أن يستعرض الوجوه الأربعة ويعطي الأدلة القرآنية والشعرية عليها يقول: «فإذا كانت وجوه هذه اللفظة مختلفة متّسعة على ما ذكرناه، نفينا عن نبيِّ الله ما لا يليق به، وهو العزم على القبيح، وأجزنا باقي الوجوه، لأنَّ كلَّ واحدٍ منها يليق بحاله».
وهذا نصٌّ صريحٌ من السيّد المرتضى في مقوليّة الوجه الرابع «الشهوة وميل الطِّباع» وأنَّه يليق بحال يوسف الصدِّيق، بل إنَّه يؤكّد بأنّ «التجوّز باستعمال الهمّة مكان الشهوة ظاهرٌ في اللغة» (راجع: تنزيه الأنبياء ص 79).
وعلى ضوء ذلك يرتضي الشريف المرتضى (علم الهدى) التفسير القائل: «أمَّا همُّها فكان أخبثَ الهمّ، وأمَّا همُّه فما طُبِعَ عليه الرِّجال من شهوة النساء» ويُعتبر هذا النمط من التفسير أو التأويل لا ينافي العصمة، وليس فيه ما يُسيء إلى يوسف الصدِّيق (ع) (راجع: تنزيه الأنبياء ص 78 ـ 79).
وفي تفسير السيّد المرتضى لقوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} [يوسف:53] يقول: «إنَّما أراد يوسف (ع) الدعاء والمنازعة والشهوة، ولم يُرِد العزمَ على المعصية، وهو لا يُبرِّئ نفسه ممّا لا تَعْرَى منه طباعُ البشر» (تنزيه الأنبياء ص 83).
ثانياً: الشيخ الطوسي
الإخطار أو الشهوة وميل الطِّباع
يذكر الشيخ الطوسي ثلاثة معانٍ للهمّ، وهي:
1 ـ الهمّ: بمعنى العزم
2 ـ الهمّ: بمعنى الإخطار
3 ـ الهمّ: بمعنى الشهوة وميل الطباع
وبعد توضيحه لهذه المعاني الثلاثة، يعقّب الطوسي قائلاً: «وإذا احتمل الهمُّ هذه الوجوه، نفينا عنه (ع) العزم على القبيح، وأجزنا باقي الوجوه، لأنَّ كلّ واحد منها يليق بحاله» (راجع: التبيان/6/121).
إنَّه الموقف ذاته الذي اتخذه أستاذُه (علم الهدى) من قبلُ، بنفي ورفض المعنى الأول «العزم» وقبول المعاني الأخرى في تفسير «الهمّ» اليوسفيّ، ومنها الميل الطَّبْعِيّ..
ولهذا، فإنَّ الشيخ الطوسي يقبل الاتجاه الذي يفسِّر همَّ يوسف في قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} بأنَّه «ما طُبِعَ عليه الرِّجال من شهوة النساء» (راجع: التبيان/6/121).
وهذا هو الاتجاه نفسه الذي ذهب إليه السيّد فضل الله لا يختلف عنه شيء على الإطلاق.
ثالثاً: العلّامة ابن إدريس الحلّي
الإخطار أو ميل الطباع
ينتخب العلّامة ابن إدريس الحلّي في تفسيره المختصر (منتخب التبيان) الوجوه الثلاثة لمعنى الهمّ في اللّغة التي ذكرها الشيخ الطوسي في تفسيره (التبيان)، ويذهب إلى الموقف ذاته في تفسيره لهمّ يوسف (ع) حيث يذكر النصَّ بحذافيره: «وإذا احتمل الهمّ هذه الوجوه، نفينا عنه (ع) العزم على القبيح، وأجزنا باقي الوجوه، لأنَّ كلّ واحدٍ منها يليق بحاله» (راجع: منتخب التبيان/2/22 ـ 23).
ولا يخفى أنَّ الوجه الثالث منها، هو: «الشهوة وميل الطباع».
رابعاً: الشيخ الطبرسي في (مجمع البيان)
مال طبعُه إليها
جعل الشيخ الطبرسي تفسير (الهمّ الطَبْعِي) ـ في تفسيره الكبير (مجمع البيان) ـ أحد الأقوال الثلاثة التي اعتبرها ليس فيها نسبةُ معصيةٍ كبيرةٍ ولا صغيرة إلى يوسف (ع) حيث يقول:
«وثالثها: إنَّ معنى قوله: (هَمَّ بها) اشتهاها، ومال طبعُه إلى ما دعته إليه» ثمَّ قال: «وقد يجوز أن تُسمّى الشهوة همّاً على سبيل التوسّع والمجاز، ولا قُبح في الشهوة، لأنَّها من فعل الله تعالى» (راجع: مجمع البيان/5 ـ 6/354).
خامساً: الطبرسي في (جوامع الجامع)
مالت نفسُه إلى المخالطة ونازعت
في تفسيره المختصر (جوامع الجامع) يقول العلّامة الطبرسي: همَّ بالأمر، إذا قصده وعزم عليه، والمعنى:
«ولقد همَّت بمخالطته وهمَّ بمخالطتها لولا أنْ رأى برهان ربِّه، جوابه محذوف، تقديره لولا أنْ رأى برهان ربِّه لخالطها، فحذف لأنَّ قوله وهمَّ بها يدلُّ عليه، لقولك هممتُ بقتله لولا أنّي خفتُ اللهَ. معناه: لولا أنِّي خفتُ اللهَ لقتلتُه.
والمراد في قوله: (وهمَّ بها) أنَّ نفسه مالَت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب ميلاً يُشبه الهمَّ بها والقصد إليها، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمّى همّاً لشدّته لَمَا كان صاحبُه ممدوحاً عند الله بالامتناع، ولو كان همُّه كهمِّها لَمَا مَدَحه اللهُ بأنّه من عبادنا المُخْلَصين.
ويجوز أن يريد بقوله: (وهمَّ بها) شارف أن يهمَّ بها، كما يقول الرجل: قتلتُه لو لم أخَفِ اللهَ» (راجع: جوامع الجامع/216 ط 3 بخطّ خوشنويس 1404 هـ).
سادساً: ابن أبي جامع العاملي في (الوجيز)
منازعة الشهوة الطبيعيّة
يفسِّر العلّامة المفسِّر العاملي في تفسيره القيّم (الوجيز في تفسير كتاب الله العزيز) قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا}: «مال طبعُه إليها، فهمُّه منازعةُ الشهوة الطبيعية، لا القصد الاختياريّ، فلا قُبْحَ فيه، إذ لا اختيار فيه، وإنَّما معه يُمدَحُ ويُثاب مَنْ كفَّ نفسه عن الفعل» (راجع الوجيز/2/99).
وفي تفسيره لقوله تعالى: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} يقول المفسِّر العاملي: «جواب لولا محذوف دلَّ عليه (وهَمَّ بها) أي: لولا النبوّة المانعة من القبيح لعزَمَ أو لفَعَلَ، وليس المتقدّم جواباً، لأنَّ جوابها لا يتقدّمها» (راجع المصدر نفسه/99).
سابعاً: العلّامة المجلسي في (بحار الأنوار)
الهمُّ بالشهوة
ذكر العلّامة المجلسي صاحب كتاب (بحار الأنوار) ثلاثة وجوه في تفسير (الهمّ)، كان ثانيها «الهمّ بالشهوة»، ليكون نصّ الآية على هذا الوجه: «ولقد اشتهته واشتهاها لولا أنْ رأى برهانَ ربِّه لدخل ذلك العمل في الوجود».
وكان ثالثها «أن نفسِّر الهمَّ بحديث النفس، وذلك لأنَّ المرأة الفائقة في الحُسن والجمال إذا تزيّنت وتهيّأت للرجل الشاب القويّ، فلا بدَّ وأن يقع هناك بين الشهوة والحكمة وبين النفس والعقل مجاذبات ومنازعات، فتارةً تقوى داعية الطبيعة والشهوة، وتارةً تقوى داعية العقل والحكمة».
«فالهمُّ عبارةٌ عن جواذب الطبيعة، ورؤية البرهان عبارةٌ عن جواذب العبودية».
ثمّ يضرب مثلاً توضيحيّاً لذلك، فيقول: «ومثالُ ذلك أنَّ الرجل الصالح الصائم في الصيف الصّائف إذا رأى الجلّاب المبرّد بالثلج، فإنَّ طبيعته تحمله على شُربه، إلاَّ أنَّ دينه وهُداه يمنعه منه، فهذا لا يدلُّ على حصول الذّنب، بل كلّما كانت هذه الحالة أشدّ كانت القوّة في القيام بلوازم العبوديّة أكمل» (راجع: بحار الأنوار/12/332).
ثامناً: العلّامة المشهدي
ميلُ الطبع ومنازعة الشهوة
يذكر العلّامة المشهـدي في تفسـيره (كنز الدقائق) فـي تفسـير قـوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا}، قولين أساسيين، ثانيهما: «المراد بهمِّه ميلُ الطبع ومنازعة الشهوة، لا القصد الاختياري، وذلك ممّا لا يدخل تحت التكليف، بل الحقيقُ بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكفُّ عن الفعل عند قيام هذا الهمّ (راجع: كنز الدقائق/6/294).
تاسعاً: ملا صدرا الشيرازي
الميل النفساني والزاجر الفعلي
يرى الحكيم الربانيّ صدر المتألهين الشيرازي أنَّ الهمَّ اليوسفي يتمثّل بالميل النفسانيّ الذي لا يصل إلى مرحلة الطلب والاستدعاء، ذلك لأنَّ الزاجر العقلي يلعب دوره في عدم إمضاء الهمّ النفسانيّ حتى لا يتحوّل إلى عزم على الفعل، يقول: «فإنَّ شريف النفس بحسب الجوهر الطيِّب الأصل، قلّما يهمُّ بشيء خسيس ممّا ليس في فطرته. ولم يقدر له من الفواحش والرذائل لعدم المناسبة وإذا همَّ ـ نادراً لغلبةِ صفة من صفات نفسه وقواه، واستيلاء هواه، وهيجان شهوة أو غضب فيه ـ بأمرٍ قبيح، ينزجر بأقلّ زاجر من عقله وهداه، وربّما يعود قبل صدور الفعل وإمضاء الهمّ النفساني إلى عقله وتقواه من غير عزم على الفعل، كما قال تعالى في يوسف: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}» [يوسف:24] (راجع: تفسير القرآن الكريم 6/267 ـ 268).
وقد جاء في الهامش منه (قدّس سرّه): «إنَّ المراد: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}، والبرهان هو ما عنده من الصوارف العقلية الزاجرة للنفس عن فعل القبيح، أو المراد من (الهمّ) الميل الشَهَويّ الحيوانيّ الموجود في الطبائع البشرية، ولولا الزاجر الشرعيّ لما انتهى عن كلّ ما يُمكنه من القبائح، ولولا المعرفة الكاملة للقوّة العقليّة المنوَّرة بحقيقة التقوى لوقع منه فعل ما لا ينبغي أحياناً. وليس المراد الهمّ بالمعصية والقصد إليها... وقيل: هو من باب المشارفة، أي: شارف أن يهمّ (راجع: تفسير القرآن الكريم/3/119).
عاشراً: العلّامة عبد الله شبّر
مال طبعُهُ إليها
يقول العلّامة شبّر في تفسيره (تفسير شبّر): «{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} قصدت مخالطته {وَهَمَّ بِهَا} لا القصد الاختياري، والمدح لمن كفَّ نفسه عن الفعل» (تفسير شبّر/241).
حادي عشر: العلّامة الطباطبائي
الميل الطبعي لا ينافي العصمة
يرى العلّامة الطباطبائي أنَّ الهمَّ الطبعي «غير مذموم لخروجه عن تحت التكليف» وبالتالي فإنَّه لا يُنافي العصمة (راجع: الميزان/11/136).
ثاني عشر: العلّامة مكارم الشيرازي
الصراع المرير بين العقل والغريزة
يرى صاحب تفسير الأمثل (المرجع ناصر مكارم الشيرازي) أنَّه قد حصل صراعٌ مريرٌ بين الغريزة والعقل عند يوسف (ع) في تلك «اللحظة الخاطفة الحسَّاسة والمتأزّمة» حتى أنَّه (ع) كاد أن «ينجرَّ إلى حافة الهاوية» بَيْدَ أنَّ «قوّة الإيمان والعقل القصوى» قد هزمت «طوفان الغريزة» (راجع: الأمثل/7/165).
خلاصة تفسير السيّد فضل الله
يقول السيّد : {وَهَمَّ بِهَا} في حالة شعوريّة طبيعيّة، يتحرّك فيها الإنسان غريزيّاً من دون تفكير، لأنَّ من الطبيعي لأيِّ شاب يعيش في أجواء الإثارة أن ينجذب إليها، تماماً، كمن تتحرّك غريزة الجوع في نفسه بكلِّ إفرازاتها الجسديّة عندما يشمُّ رائحة الطعام، وهذا أمرٌ يلتقي فيه المؤمن بغير المؤمن، لأنّه من شؤون الإحساسات الغريزيّة للجسد، ولكنَّ القصّة تتناول الموقف الذي يحدّد للإنسان شخصيّته من واقع الإيمان والالتزام، أو مواقع الكفر والانفلات.
وهكذا نتصوّر موقف يوسف (ع)، فقد أحسَّ بالانجذاب نحوها لا شعوريّاً، وهمَّ بها استجابةً لذلك الإحساس، كما همَّت به، ولكنّه توقّف وتراجع، ورفض الحالة بحزم وتصميم، لأنَّ موقفه ليس متعمّداً، كما هو موقفها، ليندفع به نحو النهاية، كما اندفعت هي، ولكنّ انجذابه الجسديّ كان يُشبه التقلّص الطبيعي والاندفاع الغريزي (راجع: من وحي القرآن/12/186).
ويقول السيّد عبد السلام زين العابدين في كتابه (مراجعات في عصمة الأنبياء من منظور قرآني ص194) تعليقاً على ذلك:
إنَّ جميع الكلمات التي قالها (السيّد) في تفسير الهمِّ اليوسفيّ لا تتعدّى ذلك الاتّجاه المشهور المعروف الذي ارتضاه الجميع. «وخلاصة الفكرة: إنَّ يوسف (ع) لم يتحرّك نحو المعصية، ولم يقصدها».