المرجع الديني
آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله (دام ظلّه)
الجمعة
منبر ومحراب
توثيق لخطب الجمعة
1988
دار الملاك
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدّمة
خطبة الجمعة
تأصيل الخطاب وتصويب الحركة
تعد خطبة الجمعة عند المسلمين، بمختلف اتّجاهاتهم ومذاهبهم من أهم المنابر العامّة. ففي رحابها، يجتمع المسلمون مرّة كلّ أسبوع ليؤدّوا فريضة أكّد الباري عزَّ وجلّ على الحرص عليها، لأهميّتها، ولِما لها من وظيفة سياسية وأخلاقية ومسلكية في حياة أبناء الدين الإسلامي الحنيف.
ويعود اهتمام المسلمين بصلاة الجمعة إلى عهد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فهو الذي ترجم النصّ القرآني الداعي إليها، سلوكاً ونهجاً دأب عليه الأوّلون، وسار على سنّته السَلَف الصالح، وتمسَّك به الأشياع والأتباع إلى يومنا هذا.
وأوّل ما بادر إليه الرسول محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، بعد هجرته من مكّة إلى المدينة، هو بناء المسجد. للمسجد في الإسلام وظيفة أساسية، تفوق بأهميّتها كلّ الأمكنة العامّة والخاصّة على حدٍّ سواء، ولهذا الصرح الإسلامي العام وظيفة كبرى في الاجتماع الإسلامي، كونه يمثّل المكان الجامع لمختلف جمهور المسلمين؛ وله رمزية خاصّة، باعتباره المساحة التي تأتلف فيها عناصر الاجتماع الإسلامي، وتذوب في رحابها الفروقات على اختلافها وتباينها. ففي المسجد يتجسَّد مصداق القول الشريف "لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى"، وفي هذا المكان المبارك يتحقَّق التمازج الرسالي وتردم الهوة بين أبناء المجتمع الإسلامي الواحد. إنّه باختصار أرفع المؤسّسات الإسلامية على الإطلاق، لأنّه مركز العبادة والرعاية والقيادة، كما كان مركزاً لتخطيط وبحث ومناقشة مختلف شؤون وشجون المسلمين، ومن رحابه انطلقت حركة الدعوة ومشاريع الدفاع ومبادرات السلام.
فالمسجد، بهذا المعنى، ساحة الاتصال المركزي باتّجاهين: باتجاه الله بما تمثّله العبادات التي ينشئوها المسلمون مع خالقهم وبارئهم وراعي شؤونهم، وباتّجاه الناس، حيث ينبغي إدارة أمورهم ورعايتها على هدي رسالة السماء.
هذه الأهمية الاستثنائية للمسجد في الإسلام تعكسها روح المسؤولية التي يبديها العاملون والعابدون إذا ما حضروا بين جنباته، وأرادوا أمراً من أمور دينهم ودنياهم تحت سقفه وقبّته، ففي المسجد ينحصر الكلام بين همّين: إمّا دعاء وصلاة لله أو تداول في شؤون الأُمّة، كلّ شؤونها. وهذا ما أعطى لهذا الجامع مضموناً معنوياً مميّزاً، وحركة متّصلة بحركة أعمال الذين يؤمّونه.
وللدور الذي يؤدّيه إمام المسجد علاقة وثيقة بهويّته ودوره، فالإمام له رمزية تماهي أهمية المسجد نفسه، وصيغة هي من نوعها وسنخها، ولدوره ذلك الانعكاس الحيّ والتخلّي الظاهر لما تنطوي عليه رسالة المسجد، كمؤسّسة جامعة للمسلمين ومساحة تدار من عليها شؤونهم. من هنا كانت خطبة الجمعة عملية اتّصال وتواصل بين مَن يمثّل هذه الرمزية لهذا الصرح وبين من يستلهمها من المسلمين المرتبطين بالمسجد وإمامته.
وهكذا فإنّ إمام المسجد محفوف بالمسؤولية من جوانبها كافّة، بل هو يتقوَّم بها، فعليه تقع مسؤولية قيادة المرتادين للعبادة. وهو من خلال اتّصاله بهم يسهم في إنتاج وعيهم وسلوكهم، وحتّى نمط حياتهم. وأكثر ما يتجلّى هذا الدور الفعّال في خطبة الجمعة، حيث يقوم الإمام بتزويد المسلمين بما يحتاجونه من أمور دينهم وإرشادهم إلى ما ينفعهم من أمور دنياهم.
من هنا كانت خطبة الجمعة صورة حركيّة عن حقيقة وجوهر الإسلام نفسه. فالإسلام دين ينظّم العلاقة بين الإنسان وربّه وبين الإنسان ومحيطه، لذا كانت الخطبة الأسبوعية (خطبة الجمعة) تشتمل على شقّين، واحد عبادي مسلكي أخلاقي، وآخر اجتماعي ـــ سياسي. ويعتبر الأوّل مدخلاً للثاني ومؤصّلاً له، فيما الثاني يُمثّل صرحاً من صروحه وباباً لانتشار المصلّين بعد الصلاة في أرجاء الأرض {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة : 10].
لذا فإنَّ بنية خطبة الجمعة تتقوَّم بجزئين، واحد إرشادي تربوي عقائدي، يسعى إمام الجمعة من خلاله إلى توضيح المسائل الاعتقادية والتعبُّدية. وآخر سياسي حيث يتناول الإمام كلّ التطوّرات والمستجدّات المتّصلة بشكلٍ مباشر بالحياة العملية للمكلّفين. ويتطرَّق من خلالها إلى كافّة المعطيات التي تهمّ المسلمين في بلدهم وفي العالم الإسلامي بشكلٍ عام. ويتحقَّق من ذلك هدفان الأوّل يُعنى بإعادة تصويب حركة الاجتماع الإسلامي في بلدهم، والثاني يفتح وعيهم على شؤون إخوانهم في الدين، ليشبك بعد ذلك ما هو محلّي بالإطار العام لحركة الاجتماع العالمي برمّته.
وانطلاقاً من ذلك، يمكننا أن نفهم أداء سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله، لخطب الجمعة التي أفردها للشأنين الأساسيين المتّصلين بموضوعات العقيدة والسياسة، مستخدماً طريقة الربط المنطقي بين المقدّمات الاعتقادية الإرشادية وصولاً إلى الموقف من الأحداث والمجريات السياسية، لاستخلاص الاستفادات التي تعين المكلّفين على استبصار طرقهم العملانية، ما يتّصل منها بالسّماء ـــ علاقة الإنسان بالله ـــ وما يتّصل منها بالأرض ـــ علاقة الإنسان بمحيطه الإنسان الخاص والعام.
وفي هذا الكتاب محاولة للإطلالة على أهمية ودور خطبة الجمعة، من خلال ما تمّ جمعه من خطب أحد أعلام الإسلام الكبار؛ وهي محاولة جادّة لتقديم نموذج شاهد على وظيفة هذه الخطبة ورمزية دورها في واقع المسلمين، عدا عن كونها تاريخاً لمرحلة زمنية هامّة وحسّاسة، رافقت تطوّر مسار الحياة الاجتماعية والسياسية في لبنان، بل سبقتها أحياناً كثيرة، باعتبار أنّ إمام الجماعة يرسم خطوات الطريق المتقدّمة في نفس الوقت الذي يصوّب فيه حركة السالكين في الحاضر.
وقد ألقى سماحته هذه الخطب في مسجد بئر العبد ـــ الضاحية الجنوبية ـــ بيروت، هذه المنطقة قد تحوّلت مع الزمن إلى منطقة مفعمة برمزية مسجدها وإمامته، فباتت الأنظار تتطلَّع أسبوعياً إلى هذا الصرح الكبير لاستجلاء الموقف الديني والسياسي من مختلف المواضيع العبادية والسياسية على حدٍّ سواء؛ فتحوّل بذلك محجّاً للمؤمنين، وملاذاً للمستوحشين، ومنطلقاً للمقاومين، ومصدراً للباحثين عن المعرفة والعلم اليقين.
لقد طوَّر سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله وظيفة خطبة الجمعة فجاوز بها الدور التقليدي كمناسبة لاجتماع المسلمين في مساجدهم، ومعالجة شؤونهم الخاصّة، إلى دور إسلامي شامل ووطني واسع، فهو لم يوجّه خطابه للمسلمين الذين يؤمُّون المسجد أو يستمعون له من خلال وسائل الإعلام فحسب؛ بل باتت خطبته موضوعاً يتجاوز الجغرافيا والمذهب، ليمتدّ إلى سائر مناطق الوطن بمختلف تنوُّعات أبنائه الدينية والسياسية.
كما أنّها باتت موضوعاً يرصد من مختلف أجهزة الدول المعنية بالشأن الإسلامي واللبناني، بما فيها أجهزة الدول الصغرى والكبرى، لما تحتلّه من أهمية في تظهير الموقف الإسلامي من مختلف شؤون وشجون العالم من أدناه إلى أقصاه.
بين دفّتي هذا الكتاب خطب حَوَت تنوُّعاً غنيّاً بالموضوعات العبادية والاعتقادية والسلوكية إضافة إلى سيرة الأنبياء والصالحين من الأئمّة والأولياء؛ وتضمّنت العديد من الوقفات أمام المناسبات العامّة ـــ إسلامية ومسيحية ووطنية ـــ واشتملت على مواقف الشرع الإسلامي من مختلف القضايا السياسية التي حصلت في العام 1988.
وأهمية هذا الكتاب، أنّه واكب سنة حارّة من سنوات الأزمة اللبنانية، فهو يؤرّخ، بحيوية القلب الذي تدفّق بكلماته والعبارات، لمرحلة شهد فيها لبنان بداية عدد كبير من الفتن الطائفية والمذهبية والمناطقية، كما أنّها زامنت اشتعال وهج الانتفاضة الفلسطينية الكبرى والمراحل الأخيرة للحرب العراقية الإيرانية، إضافة إلى انتخابات الرئاسة في لبنان، وما جرى خلالها من تدخّلات أميركية واستكبارية إضافة إلى بروز إرهاصات الظاهرة العونية التي ساقت مسلسل الأحداث اللبنانية باتّجاه الطائف.
لا شكّ أنّ القارئ سيجد من مجمل هذه الأحداث، مواقف هامّة لسماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله، لن نستفيض في الحديث عنها تفصيلاً، بل نترك للقارئ ولمن أراد دراسة خطبة الجمعة أن يعمل نظره في محتواها، وهو سيجد كيف درس سماحته المعضلات السياسية، واستجلى أبعادها وغوامضها، وفنَّد تفرّعاتها والتشعُّبات؛ وكيف اعتمد المواقف من كلّ الأحداث، محليّة وإقليمية ودولية، بعد أن شخَّصها بعين المشاهد والمراقب والدارس، وقبل كلّ ذلك المعايش والمشارك. فجاءت هذه الخطب لتصوّر نموذج القائد الذي يواكب الأحداث، ويرافع بها، ويرشد بالموقف المسؤول إلى ما يضيء الطريق، ليس للمسلمين فقط، بل لكلّ الحريصين على الحقيقة والكلمة الهادفة والمسؤولة، في أيّ منطقةٍ كانوا، ولأيّ دينٍ أو وطن انتموا.
المركز الإسلامي الثقافي
مقدّمة الطبعة الثانية
حين صدر كتاب "الجمعة منبر ومحراب" للعام 1988 لم يكن سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله قد بدأ بإقامة صلاة الجمعة في مسجد الإمامين الحسنين (عليهما السلام) ـــ في حارة حريك ـــ في الضاحية الجنوبية من بيروت، ولعلَّ المتابع لتطوّر حركة صلاة الجمعة خلال الأعوام التي سبقت انتقال إمامها ومأموميها إلى المسجد الكبير يدرك بوضوح مدى رسوخ هذه الفريضة في وجدان جمهور المسلمين وتعلُّقهم بمعانيها السامية، ولعلَّه من المفيد القول إنَّ صغر مسجد بئر العبد حيث كانت تقام صلاة الجماعة من كلّ يوم جمعة وازدحام المصلّين في مساحته الضيّقة نسبياً حدت بالخيّرين إلى توسيع المسجد القديم ليصبح قادراً على استيعاب أعداد المصلّين المتزايدة بالأضعاف لكن ومع الوقت ضاقت أيضاً أرض المسجد في بئر العبد بما رَحبت وباتت عاجزة عن احتضان الأجيال المتراصّة في الصفوف المتطاولة فارتحل الإمام بخشوعه يحمل بين راحتيه دعاء.
وارتحلت معه الألوف تنوف على الألوف وسرعان ما تحوَّل الجمع المبارك عشرات الألوف يشدّ بعضها أزر بعض وتتناغى صدى لصوت صدح بالحقّ من تحت قبّة أشرقت باللّقاء الحميم فاتّسع مداها حتى نهاية الأرصفة وأطراف الشوارع.
هو "مشهد من مشاهد الأقصى" هكذا وصف الإعلام اللبناني باكورة مشاهد صلاة الجماعة الجامعة في أوّل يوم جمعة أقيمت فيه الصلاة في المسجد الجامع الكبير، عشرات الألوف غصَّت بها جنبات المسجد وباحاته ففاضت جموع المصلّين، وانسابت ممسكة بأطرافه إلى حيث أطراف الباحات العامّة. حقّاً إنّه مشهد فريد لم يألفه لبنان وظاهره تعدَّدت حولها الآراء والتحليلات لكن كلّ ما قيل ويقال وسيقال يبقى عاجزاً عن الإحاطة بعمق هذه الظاهرة وأبعاد دلالاتها وكما ردَّد بعضهم أنّها من الظاهرات الملفتة التي تستحقّ الدرس.
في المقدّمة الأولى استغرقنا في الحديث عن خطبة الجمعة ومضمونها وفي المقدّمة الثانية أفضنا عن ظاهرة الجمعة ومشهديّتها وبين الخطبة ومشهدية الصلاة يقف إمام خطيب يكمن فيه سرّ الخطبة وسرّ المشهد في بلد قلَّما يجتمع فيه الناس وبهذه الأعداد لأداء صلاة، وقلَّما يخاطب فيه إمام جموع المصلّين المحتشدة "أيُّها الأحبّة".
وحيث تكون الجماعة تحلّ الرحمة الإلهية و"يد الله مع الجماعة".
والحمد لله ربّ العالمين
المركز الإسلامي الثقافي
20 جمادي الأولى 1418 هـــ
"عيسى" (عليه السلام) مرحلة تاريخيّة
من مراحل الرسالات(*)
في هذا اليوم، يبدأ الناس سنة جديدة يتحرّكون فيها، ليتطلَّعوا إلى المستقبل الذي تمثّله هذه السنة، في أيّامها وشهورها ويتنبَّأ المتنبّئون كثيراً بما سيحدث فيها من أحداث وما يواجه فيها الناس من استحقاقات، على مستوى محلي أو إقليمي أو دولي. ويعيش كثير من الناس في بدايات السنة حالة من الفوضى النفسية.. يسمّونها فرحاً ولكنّها ليست الفرح الحقيقي، وإنّما هي حالة الهروب من النفس، التي تثير أمام الإنسان كثيراً علامات الاستفهام. ويحاول الكثير من الناس أن يهربوا من أنفسهم وممّن حولهم. ومن الناس مَن يحاول أن يختصر كلّ أوضاعه المستقبلية بلعبة قمار أو بساعة سكر أو بلحظة عربدة، لأنّه يريد أن يواجه المستقبل بطريقة لا تعتمد التخطيط والعقل، ولهذا يهرب من فهم المستقبل بالتخطيط ليكون مستقبل لعبة حظ. ولا يريد أن يواجه المستقبل بالعقل لتكون بداية المستقبل حالة سكر وغياب عن الوعي. ولا يريد أن ينطلق نحو مستقبله من موقع ثبات واستقامة وتركيز. ولهذا فإنّه ينطلق من حالة عربدة وفوضى. بعض الناس يبدؤون زمانهم بهذا، والبعض الآخر لا يزالون يعيشون في حالات التخلُّف.. التخلّف الذي يمثّل عبثيّة تعيش الجهل وتعيش التصرّفات التي لا معنى لها.
إطلاق الرصاص مظهر تخلّف
عندما تبدأ عقارب الساعة ينطلق الرصاص. لا ينطلق نحو العدوّ ولكنّه ينطلق في الهواء. ماذا في الهواء؟ هل تريد أن تطلق الرصاص على سنة مضت أم تريد أن تحتفل بالرصاص لسنة تأتي؟... ما معنى هذا؟
معناه أنّنا لا نزال متخلّفين، نحاول أن نطلق الرصاص بالهواء، ولا نحاول أن نطلقه أمام الأعداء!
نحن نتناقش كثيراً: هل نطلق الرصاص على أعدائنا أم لا نطلقه عليهم؟ وبعضنا يتحدّث عن حبّ السلام، وبعضنا يتحدّث عن التسويات، وبعضنا يتحدّث عن أمور كثيرة أخرى. ولكنّنا مستعدون لأن نطلق الرصاص في الهواء، وأن نطلق الكلام في الهواء، وأن نطلق المستقبل في الهواء، وأن نطلق كلّ عمرنا في الهواء.
لتكن لنا شخصيّاتنا المستقلّة
إنَّنا مشدودون إلى ما أخذناه من الآخرين، وحاولنا أن نجعل تقاليدنا وعاداتنا تحت تأثير تقاليد الآخرين وعاداتهم. نحن ندرك أنّ الشعوب تتفاعل. ولكن عندما تريد أن تتفاعل مع عادات شعب آخر، عليك أن تدرس طبيعة هذه العادات.. ماذا فيها من خير حتّى تأخذه، وماذا فيها من شرّ حتّى ترفضه؟ أمّا أنّنا نعيش العادات كما نعيش العدوى، فإنَّ هذا قد لا يكون في مصلحة حاضرنا أو مستقبلنا. لهذا لا بدّ من وقفة فكر ووعي وعقل وإيمان، حتّى نستطيع أن نغربل كلّ ما يأتي إلينا لنختار الصالح من الفاسد، ولنكون كالطير عندما يطرح الحَبَّ أمامه فإنّه لا يلتقط إلاّ الحَبَّ الجيّد. جرِّب أن تقنع طيراً أو دجاجة أو حشرة على أن تتناول حبّة لا ترى فيها مصلحة لغذائها؛ إنّها ترفض ذلك وتهرب منه ولا تلتقط الحَبَّ الذي يسيء إلى جسمها أو الذي لا يمثّل غذاءها الطبيعي ولكنّنا نلتقط كلّ شيء؛ الحَبَّ الجيّد والرديء، العادات الجيّدة والرديئة، ما دام القويّ هو الذي يأتي إلينا بهذه العادات. والله جعل شعار المؤمن "الأحسن.. أن يختار الأحسن وأن يتبع الأحسن". كم مرّة وردت كلمة الأحسن في القرآن {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...} [الإسراء : 53]، {... وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...} [النحل : 125]، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...} [العنكبوت : 46]، {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم...} [الزمر : 55]. وهكذا نجد أنّ الأحسن هو الذي يريد الله من المسلم أن يختاره. حتّى إذا وقفت بين الحَسَن والأحسن اختر الأحسن، فكيف إذا وقفت بين السيّء والحسَن؟.
لماذا خلق الله لنا عقولاً؟.. ولماذا أرسل الله لنا رسالة؟
لتكون عقولنا هي التي تميِّز بين الحَسَن والقبيح، وبين النافع والضارّ. ولتكون رسالتنا هي الأساس التي نقبل ما يتوافق معها ونرفض ما لا يتوافق معها.
هل المسألة هي مسألة تعيش على الهامش أم تعيش على طبيعة العمق الذي يعيش فيه الناس؟
حاولوا ولو ساعة تجلسون فيها في عملية جرد لا لحساباتكم المالية، بل لحساب عاداتكم وتقاليدكم. فكِّروا أنّ لكم عادات في ما تأكلون، وفي ما تشربون، وفي ما تلبسون، وفي ما تنشئون من العلاقات وفي ما تلعبون وتلهون.. لكم عادات كثيرة. لماذا لا تفكِّرون كيف زحفت هذه العادات إلى واقعنا؟ ومن أين جاءت؟ وهل استطعنا أن نختارها على أساس القناعات أم لأنَّ الآخرين اختاروها لنا فاتّبعناها؟
ادرسوها جيّداً لأنّكم إذا فعلتم ذلك فستعرفون أنّ كثيراً من العادات فرضت علينا فرضاً، وقد فرضتها غفلتنا وظروفنا الصعبة التي تحكَّم فيها القويّ بنا فأراد أن يلغيَ لنا شخصيّتنا، لأنّنا نعرف أنّ من بين ملامح الشخصية هي العادات، لأنّ لكلّ شعب عاداته، ولكلّ شعب تقاليده المستمدّة من أصوله الفكرية، والتاريخية، ولهذا فإنَّ أصالة الإنسان أن يجعل كلّ عاداته وتقاليده وكلّ أفكاره وانتماءاته خاضعة للقاعدة التي ينطلق منها.
هذا ما نريد أن نؤكّده في كلّ شيء، حتّى نستطيع أن نقف على أصالتنا ولا يستطيع أحد أن يلغيَ لنا شخصيّتنا، لأنّنا إذا ما ألغيناها فإمّا أن نتقمَّص شخصية الآخرين وإمّا أن نعيش بلا شخصية.
فبعض الناس يستعير شخصيّته من الظروف الطارئة فيتقمَّص شخصية الجهة الأقوى حسب الظروف والزمن. ومعنى ذلك إذا كنت تعيش بلا شخصية فستسحقك الأرجل وستصادر حريّتك كلّ القوى التي تريد أن تستعبدك. لهذا لا بدّ أن تكون لك شخصيّتك فحدِّد مَن أنت. وعندما تقول عن نفسك بأنّك مسلم، فلتكن شخصيّتك، التي هي قاعدتك في الحياة، تنطلق من إسلامك.. على هذا الأساس ندخل مسألة التاريخ.
الإسلام حلقة في السلسلة التاريخيّة
نحن الآن في تاريخ السنة 1988م.. كيف كان هذا التاريخ؟
لقد جاء من ولادة السيّد المسيح (عليه السلام)، وكان قبل السيّد المسيح تاريخ آخر قد تعيش فيه شخصية موسى (عليه السلام) وقد تعيش فيه شخصية إبراهيم (عليه السلام) ولكنّنا كمسلمين، مع كلّ إيماننا واعتزازنا بالسيّد المسيح (عليه السلام) الذي كان عبد الله ورسوله وكلمته وروحاً منه ألقاها إلى مريم، إنّنا نعتقد بأنَّ السيّد المسيح (عليه السلام) ـــ في تاريخه ـــ هو مرحلة من تاريخ مرحلة الرسالات وليس النهاية التي ينتهي إليها هذا التاريخ.
الآخرون لا يؤمنون برسالة بعد السيّد المسيح، ولهذا يعتبرون أنّ هذا التاريخ يمثّل نهاية تاريخ الرسالات وأنّ عيسى هو الأخير، لأنَّ محمّداً ليس بنبيّ من بعده، ولكنّنا نعتبر أنّ عيسى (عليه السلام) مرحلة تاريخيّة من مراحل الرسالات، كما كان موسى مرحلة تاريخيّة وكما كان إبراهيم وكان نوح، وكانت مراحل تاريخ الإسلام تتحرَّك.
على هذا الأساس فإنّنا نريد أن نؤكّد التاريخ، حتّى يكون لنا تاريخنا الذي نشعر فيه بشخصيّتنا المنفتحة على كلّ التاريخ. وليس هناك تناقض بين تاريخنا كمسلمين وتاريخ السيّد المسيح (عليه السلام). ولكنّنا نريد أن نؤرِّخ آخر مرحلة نبويّة وآخر مرحلة رسالية، لأنَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) جاء وجمع كلّ الرسالات في قرآنه، وجمع كلّ الشرائع في شريعته. وبهذا كانت رسالته خلاصة الرسالات في ما أنزله الله فيها من ذلك وكانت شريعته خلاصة الشرائع، وجاءت لتكمل ما احتاجت الحياة لإكماله. ولهذا فإنّ علينا أن نرتبط بالتاريخ الإسلامي، لا ارتباط تعصّب وانغلاق، بل ارتباط الشخصية بتاريخها وبملامحها، لتتذكَّر عندما تؤرّخ بالتاريخ الهجري كيف هاجَرَ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
التاريخ الهجري.. إحياء للهجرة
في كلّ مرّة تذكر التاريخ الهجري فإنّك تتساءل: ما هذا التاريخ؟ وكيف بدأ؟ عند ذلك تتصوّر أنّ هذا التاريخ بدأ من هجرة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). لماذا هاجر رسول الله؟ لأنّه عاش الاضطهاد لدعوته في مكّة ولأنّه أراد أن ينتقل من موقع إلى موقعٍ آخر. ثمّ بعد ذلك عندما تتحرّك سنو التاريخ تدرس كيف كان هذا التاريخ؟ كيف عاش المسلمون الصراعات؟.. كيف كانت التحدّيات؟ وهكذا فأنتَ في كلّ يوم تؤرّخ بالتاريخ الهجري تتذكَّر كلّ تاريخك الإسلامي وتشعر أنّك جزء منه، وأنّ عليك أن تصنع التاريخ في مرحلتك، كما صنعه المسلمون الآخرون في مرحلتهم.
من هنا فإنَّ مسألة التاريخ الهجري الإسلامي لا تمثّل مجرّد إحصائية للسنين، ولكنّها تمثّل جزءاً من ملامح الشخصية الإسلامية. إنّ تاريخ السيّد المسيح يوحي إليك بولادته، ولكنّ تاريخ الهجرة يوحي لك بحركيّة الإسلام في قيادة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي الصحابة وفي الأئمّة وفي كلّ العلماء والمجاهدين الذين انطلقوا في شرق الأرض وغربها، ليؤكِّدوا كلمة الإسلام على أساس أنّها كلمة الله. ولهذا حاولوا أن تستذكروا تاريخكم وأن تضعوه في مراسلاتكم وفي كلّ مناسباتكم، حتّى تعتبروا أنفسكم جزءاً من هذا التاريخ وحتّى تشعروا دائماً بأنّكم عندما تكونون جزءاً من تاريخ الإسلام، فإنّكم تحملون مسؤوليّتكم عن الإسلام.. كيف تدعون إليه؟ وكيف تعزّزونه؟ وكيف تقوّونه؟ وكيف تعطون الإسلام من قوّتكم ومن إرادتكم ومن خبرتكم ومن علمكم في ما يحتاجه الإسلام في كلّ حركته وفي كلّ واقعه وتطلُّعاته؟
تأكيد الميثاق مع الله
المسألة هي أن نرتبط بملامح تاريخنا. ولهذا فنحن عندما نبدأ هذا التاريخ في السنة الهجرية، لا نبدأ بجلسة سكر، لأنَّ الإسلام يرفض السكر في كلّ وقت ويريد من المسلم أن يحتفل في بداية سنته في جلسة طاعة وتأمُّل وفكر وعمل نافع، لا يريد من المسلم أن يبدأ رأس سنته بلعبة قمار مهما صغرت، لأنَّ الله حرَّم القمار كما حرَّم الخمر، ولا يريد له أن يحتفل في بداية سنته بحالة فوضى وعربدة وميوعة لأنَّ الإسلام حرَّم ذلك، والمسلمون الذين يفعلون ذلك ليسوا مسلمين في العمل، قد يكونون مسلمين في الكلمة ولكنّهم فاسقون، عابثون، كافرون في أعمالهم. وهناك من الناس من يكون مسلماً في الكلمة، ولكنّه كافر عندما يعمل عمل الكفَّار وعندما يتحرّك في طريقهم. وعلينا أن لا نتعاطف مع هؤلاء في ما هم فيه، بل عليهم أن يعرفوا أنّنا ننكر ذلك منهم، حتّى لو كانوا من الشخصيات الاجتماعية التي تملك المال، أو التي تملك الموقع الاجتماعي والسياسي.. ننكر عليهم ذلك، لأنّهم يمثّلون المرض الذي يتحرّك ليعدي المجتمع. هؤلاء اللاّهون، العابثون، المنحرفون عن خطّ الإسلام، ينبغي لنا أن نعمل على أن يعيشوا العزلة عن المسلمين في ما هم فيه، ممّا يضرُّون فيه الصورة الحيّة المشرقة، التي تتمثّل في الإسلام المشرق الحيّ.
الفرح ضمن حدود العقل
بعض الناس يقولون نحن نحبّ الفرح ونريد أن نفرح عندما تكون عندنا مناسبات فرح في عرس أو غير عرس.. فهل يريدنا الله أن نقضي الحياة بكاءً؟
ليست المسألة كذلك.. افرح ولكن افرح الفرح الذي لا يسيء إلى عقلك، ولا يسيء إلى أخلاقك، ولا إلى مجتمعك هل ينحصر الفرح في أن تسكر، أن تغيب عن الوعي، أن تفقد عقلك، أن تتحوَّل كمجنون، أن تجعل من نفسك نموذجاً يضحك عليه الناس؟!
ما الذي يوحي به السكران المعربد؟ هل يوحي بالاحترام؟
إنّك تعتبر أنّ الآخرين يسيئون إلى كرامتك إذا سخروا منك أو "نكَّتوا" عليك. ما رأيك أنّك عندما تسكر، فإنّك تجعل من نفسك أضحوكة مجانيّة لكلّ من حولك؟.. إنّهم يسخرون منك وقد تسخر أنتَ من نفسك والله يمنعك من أن تعطيَ عقلك إجازة وتجعل نفسك أضحوكة لمن حولك. وتعيش في قلب المجتمع وأنتَ سكران.
إنَّ الله يحرّم ذلك كلّه، وقد ورد في الحديث الصحيح: "شارب الخمر كعابد الوثن لا تزوِّجوه"(1)، "ومَن زوَّج ابنته شارب الخمر فقد قطع رحمه"(2).
الله يريد منك أن تفرح فافرح واجلس مع أهلك، والهُ معهم اللّهو البريء.. العب كلّ ما تحتاجه من حالات اللّعب. أعطِ نفسك حريّتها في اللّعب، ولكن على أن لا يكون لعبك مضرّاً بنفسك وبمجتمعك. انطلق في كلّ لذّاتك وشهواتك، فالله لم يحرّم عليك لذّة ولم يحرّم عليك الأخذ بشهوة ولكن حرَّم عليك من الشهوات ما يضرّك كفرد أو كمجتمع، ويجلب لكَ الألم، وقال لك انطلق في الحياة: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ...} [الأعراف : 32].
لقد أرادوا أن يحصروا لنا الفرح في دائرة خاصّة تسقط أخلاقيّتنا، والله يريدك أن تفرح الفرح الكبير. افرح في ما ذكرناه، وافرح حين تقضي حاجات الناس، وافرح الفرح الروحيَّ الذي تدخل فيه السرور عليهم، وافرح الفرح الكبير حين تستطيع أن تحلّ مشاكل الناس، أو ترفع مستواهم أو تحقّق حريّتهم وكرامتهم وعزَّتهم في جهادك.
الفرح ليس مجرّد حالة انفعال شخصية، بل إنّه يمتدّ ليكون حالة إنسانية، ينفتح فيها قلب الإنسان ويضحك فيها عقله وشعوره وحياته، عندما يستطيع أن يحلّ مشكلة أو يمسح دمعة وعندما يستطيع أن يؤكّد حريّته، وأن يتحمّل مسؤولية.. فلماذا انحصر فرحنا في أكلة نأكلها أو سكرة نسكرها ولا نجعل فرحنا يتّسع للحياة كلّها؟
إنّ الشمس تعيش الفرح، لأنّها تعطي النور لكلّ الحياة. وأنتَ إذا أعطيت كلّ طاقتك لكلّ الناس الذين يحتاجون إليها، فأنتَ كالشمس تتّصل بنفس عملك.. عملك يبتسم لك وللنّاس من حولك. ليست البسمة فقط ما ينطلق على شفتيك ولكنّ البسمة هي ما يتحرّك في كلّ نشاطك وعملك، لهذا حاول أن تفهم إنسانيّتك جيداً، لنحاول جميعاً ـــ أنا وأنتم والآخرون ـــ أن نفهم مسألة الزمن بالنسبة إلينا.. هل هو عبء علينا أم هو فرصة لنا؟
استثمار الوقت
بعض الناس يعتبرون الزمن عبئاً ثقيلاً عليهم، يأتي الليل فيثقل عليهم إذا كان طويلاً فلا يصدّقون متى يطلع الصباح، ويأتي النهار ـــ إذا كان طويلاً ـــ فلا يصدّقون كيف يأتي إليهم الليل. ولكنّ الليل عمرك، والنهار عمرك. ما الليل والنهار؟ إنّ بعض الناس يقولون نريد أن نقتل الوقت لماذا؟.. ما هو ثأرك مع الوقت؟.. بماذا أساء إليك الوقت حتّى تقتله.. حتّى تضيّعه.. حتّى تقطّعه إرباً إرباً؟ والوقت يمكن أن يحملك إلى رضوان الله ويمكن أن يحقّق لكَ السعادة في جنّة الله؟ قد تفعل فعلاً في ساعة فتستطيع أن تأخذ به خير الدنيا والآخرة. ولهذا قال الله لنا في الكتاب الكريم {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران : 133]، سارع لأنَّ الوقت الذي عندك الآن قد لا يأتي غداً، وعندما تستقبل سنة لا تستقبلها باسترخاء، بل استقبلها بحالة طوارئ لأنّك في أوّل السنة.
فكِّروا جيّداً؛ كم كان لكم أصحاب وأقرباء وجيران ومعارف عشتم معهم زمناً فأين هم الآن؟.. كانت عندهم فرصة وضاعت.. ألاَ يمكن أن تضيع منكم فرصة هذه السنة، كما ضاعت فرصة في السنة الماضية على كثيرين؟ هل يمكن ذلك أم لا؟
إنَّنا نؤمن باليوم الآخر وبأنَّ العمر هو الجسر الذي نعبر عليه إلى رضوان الله أو إلى سخطه، وفي ذلك فرصة لا تُعَوَّض. إنّك لا تستطيع أن تكرِّر عمرك ولن يسمح الله لكَ بذلك، ولهذا ورد في القرآن الكريم: {... قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 99 ـــ 100].. إنَّ العمر لا يتكرَّر، وساعتك لا تتكرَّر، ويومك لا يتكرَّر. لهذا إذا كنتَ واثقاً بأنّ الحساب ينتظرك، فلا بدّ أن تفهم كيف تدقّق في الحسابات، فإن لم تدقّق فيها فإنّك لن تستطيع أن تواجه الله بثقة، لأنّك لا تعرف ماذا لك وماذا عليك. ولكنّك إذا كنتَ دقيقاً في حساباتك فإنّك تستطيع أن تقف بثقة أمام الله في الدنيا وفي الآخرة.
يقول الإمام عليّ (عليه السلام) في بعض كلماته: "كُنْ على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك"(1) عندما يأتيك إنسان ويطلب منك مالاً والمال عندك محدود، ألاَ تحاول أن تحافظ على مالك حتّى لا يذهب؟.. وعندما يأتيك إنسان يريد أن يسرق مالك، ألاَ تكون بخيلاً شحيحاً على مالك وتخاف أن يسرق؟ كُنْ على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك. لا تجعل عمرك بدون أساس. لا تجعل أحداً يسرق عمرك فيضيّعه في غير خير وفي غير طاعة وفي غير ما يبني لك سعادة الدُّنيا والآخرة. ثمّ يقول في حديثٍ آخر: "بادِر بأربع قبل أربع: بشبابك قبل هرمك وصحّتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وحياتك قبل موتك"(2).. فقد يأتي وقت لا تستطيع فيه المبادرة. وهناك حديث آخر يقول: "إنَّ اللّيل والنهار يعملان فاعمل فيهما".. يكون الإنسان ضعيفاً في صغره، ثمّ يكبر فيصبح قويّاً، ثمّ يضعف بعد أن يرد إلى أرذل العمر. مَن الذي يجعله يصغر ويكبر ويقوى ويضعف؟ إنّه اللّيل والنهار.
فكما يتعاقب اللّيل والنهار على جسدك، حاول أن تعمل فيهما ما تستطيع به أن تربح عمرك، كما تصنع من الفاكهة عصيراً لتستفيد منها بعد انقضاء موسمها. أي أن تستفيد منها في موسم وتستفيد من روحها في موسمٍ آخر. ونحن نستطيع أن نأخذ عصير العمر، عندما نُحوِّل عمرنا إلى علم نترك للآخرين وإلى عملٍ نخلّده في الحياة وإلى نتائج عملية تجعلنا نقف في غنى عند الله سبحانه وتعالى. لهذا علينا أن نعتصر كلّ الطاقات لنحبسها ونعصرها في أعمالنا. فهناك علماء لا نزال نقرأ كتبهم وخبراء لا نزال ننتفع بتجربتهم، وأغنياء لا نزال نعيش على مشاريعهم، وأقوياء لا نزال نعيش على نتائج جهادهم. ماتوا وأخذهم الزمن ولكنّ عمرهم بقي.
من هنا يقول الإمام (عليه السلام): "إنَّ الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما".. يأخذان منك قوّتك فخذ منهما ما فيهما من عناصر القوّة ثم يقول: "ما أسرع الساعات في اليوم وأسرع الأيّام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة وأسرع السنين في العمر!" ويقول: "مَن كان مطيّته اللّيل والنهار فإنّه يسار به وإن كان واقفاً"(1).. اللّيل يمشي وأنتَ واقف، لكنّ حياتك تمشي معه وتنقضي.
الدُّنيا مزرعة الآخرة
هناك حديث جميل يمثّل عدد ساعات اللّيل والنهار بـــ 24 خزانة، أي لكلّ ساعة خزانة معينّة.. تأمَّلوا هذا الحديث: "يفتح للعبد يوم القيامة على كلّ يوم من أيام عمره 24 خزانة عدد ساعات اللّيل والنهار، يفتحونها للإنسان يوم القيامة فخزانة يجدها مملوءة نوراً وسروراً، فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما لو وُزِّع على أهل النار لأذهلهم عن الإحساس بألم النار. ما هي هذه الساعة المملوءة فرحاً وسروراً؟ إنّها الساعة التي أطاع فيها ربّه. ثمّ يفتح له خزانة أخرى فيراها مظلمة منتنة مفزعة، فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو وُزِّعَ على أهل الجنّة لنغصَّ عليهم نعيمها. ما هي هذه الساعة؟ إنّها السّاعة التي عصى فيها ربّه؟ ثمّ يفتح له خزانة أخرى فيراها فارغة، ليس فيها ما يسرّه ولا ما يسوؤه وهي الساعة التي نام فيها أو اشتغل فيها بشيء من مباحات الدنيا فينال الغبن والأسف، حيث كان متمكِّناً من أن يملأها حسنات"؟. ومن هذا قوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن : 9]، أي يشعر فيه بالغبن، لأنّه قضى تلك الساعة باللّعب وبالضحك واللّهو والنوم.. وهكذا فيناله من الأسف ما لا يعلمه إلاّ الله. فهذه خزانات ثلاث يملؤها الإنسان في الدنيا، لأنَّ الله سبحانه وتعالى جعل الدنيا مزرعة الآخرة.
وقد ورد في بعض الأحاديث: "أيُّها الناس الآن الآن" أي لا تسوِّفوا، لا تقولوا غداً أو بعد غد".. "أيُّها الناس الآن الآن من قبل الندم، ومن قبل أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرَّطتُ في جنب الله"(1) سيأتيك وقت تحوّل حياتك إلى حسرات، فحاول أن تعيش وأنتَ تفهم عمرك وتفهم كيف تقتنص الفرصة منه.
يجب أن تفكِّر في هذا المجال ويجب أن نفكّر أيضاً بأنَّ علينا أن ندرس حياتنا بشكل، يمكن له أن يجعل عمرنا عمراً مباركاً في الدنيا ومباركاً في الآخرة. وهذا ما عبَّر عنه الإمام زين العابدين (عليه السلام) عندما كان يتحدّث عن مسألة تمنّي طول العمر أو انقضائه في دعاء مكارم الأخلاق: "وعمِّرني ما كان عمري بِذْلَةً في طاعتك".. إذا كان عمري يا ربّ مبذولاً في طاعتك في كلّ قضايا الحياة فاجعلني أعيش عمراً طويلاً "فإذا كان عمري مَرْتَعاً للشيطان.."، "فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليَّ أو يستحكم غضبك عليَّ" لأنّي لا أُطيق غضبك ولا أُطيق مقتك. وقد ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي: "واجعلني ممّن أَطَلْتَ عمره وحَسَّنْتَ عمله وأَتْمَمْتَ عليه نعمتك ورضيتَ عنه وأَحْيَيْتَهُ حياةً طيّبة في أدْوَمِ السرور وأسبغ الكرامة وأَتَمّ العيش، إنَّك تفعل ما تشاء ولا يفعل ما يشاء غيرك". خطِّط لعمرك حتّى تجعله حركةً دائمة في طاعة ربّك وذلك بأن تضع خطّة لعمرك في كلّ ما تحتاجه.
فقد وهبنا الله سبحانه وتعالى هذا العمر، لنتاجر به معه. لم يمنعنا من أن نعيش ما نحتاجه في الحياة، ولكنّه أرادنا أن ننظِّم عمرنا. وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ينبغي أن يكون للمؤمن ثلاث ساعات: "ساعة يُناجي فيها ربّه وساعة يرِّم فيها معاشه (الذي يكاد ينهدم أنت محتاج إلى التكسّب لنفسك ولعيالك وللنّاس من حولك ولتحفظ ماء وجهك عن الناس، كلّ ذلك أمر يحبّه الله ويرضاه إذا كان من حلال) وساعة يخلّي فيها بين نفسه وبين لذّتها في غير محرم، فإنّها عونٌ على تينك الساعتين" (يعني التي نسمّيها باللّغة الشعبية ساعة الفرفشة مع عائلته مع أولاده ومع أصحابه مع إخوانه، له كلّ الحرية في أن يريح نفسه ويجدِّد نشاطه، لكن بشرط أن لا يكون في حرام، وساعة يُخَلّي بين نفسه وبين لذّتها في غير محرم فإنّها عونٌ على تينك الساعتين، هي عون على ساعة العبادة وساعة العمل. بعض الناس يقضي وقته من الصباح إلى اللّيل في الصلاة والركوع والسجود، ولا يعطي الوقت لعمله وأهله؛ والبعض الآخر يقضيه في العمل لا يصلّي ولا يعبد الله ولا يفرغ لأهله، وهناك مَن يقضي وقته باللّهو والعربدة ولا يعمل في شيء غير ذلك، ولكن هذا كلّه خطأ؛ قضاء اللّيل والنهار في العبادة أو في العمل، أو في اللّهو كلّ ذلك خطأ، فلربّك عليك حقّ ولجسدك عليك حقّ ولأهلك عليك حقّ فاجمع بين هذه الحقوق ولا تضيِّع حقّ أحد. هكذا ينظّم الإنسان وقته بحيث يتفرَّغ في بعض الساعات لأهله ولعبادات ربّه ولعمله. كثير من الناس يعيشون مشاكل عائلية ـــ سواء بالنسبة إلى زوجاتهم أو أولادهم ـــ لأنّهم يهملون أولادهم وأزواجهم، وهذا الإهمال قد يخلق كثيراً من المشاكل المعقَّدة الصعبة وقد يوجب انحراف الأولاد أو انحراف الزوجة أو ما إلى ذلك. لهذا، لا بدّ أن يتحمَّل الإنسان في كلّ موقع من مواقع الحياة مسؤولية؛ عندما تكون زوجاً اعتبر أنّ زوجتك من مسؤوليّتك ليست مجرّد كمية مهملة في الحياة، عندما تصيرُ أباً اعتبر أنّ أبوَّتك تجعل من أولادك مسؤوليّتك، لا مسؤوليّتك فقط أن تطعمهم وتسقيهم، بل مسؤوليّتك أن تُوجِّههم وترعاهم وتفتح قلوبهم عليك وتفتح قلبك عليهم. ولهذا يجب أن نتعلَّم كيف نكون أزواجاً جيّدين، ونكون آباءً جيّدين، ونكون مؤمنين جيّدين في ذلك كلّه، وأن نكون مواطنين جيّدين مع الناس كلّهم، أن لا تستغرقنا حالة بحيث تقضي على جميع الحالات. كنّا نتحدَّث كلّ الحديث عن الجانب الفردي في ما نريد أن نحرِّكه، وعلينا أن نفكِّر أيضاً أنّنا جزء من مجتمع وأنّ السنة التي نريدها أن تكون سنة جيّدة، لا بدّ أن تكون سنة جيّدة لنا كأفراد وللمجتمع كلّه، فلنفكِّر بالقضايا الاجتماعية، ونفكِّر بقضايا الأُمّة في المواقع السياسية والاقتصادية، وفي كلّ ذلك. كما أنّك تتحدَّث هل هذه السنة رابحة أم أنّها خاسرة، على مستوى رصيدك المالي وعلى مستوى مواقعك الفردية؟ وهل هذه السنة رابحة أم خاسرة على مستوى ربح الأُمّة أو خسرانها؟ لأنَّ أيَّ ربح للأُمّة سوف ينعكس عليك، وعلى الآخرين إيجاباً، وأيَّ خسارة لها سوف تنعكس عليك وعلى الآخرين سلباً.
أهميّة الوقت في حياة الأُمّة
أيُّها الأخوة لنحمل الهمّ العام كما نحمل الهمّ الخاص، لأنَّ الذين يحملون الهمّ الخاص فقط، سوف يأتيهم الذين يعملون على إسقاط الأُمّة، ليشجِّعوا اهتماماتهم الخاصّة وليلبّوا حاجاتهم الخاصة على حساب حاجات الأُمّة واهتماماتها، ونحن نتساءل لماذا ينحرف الكثيرون من الناس في دوائر المخابرات وفي دوائر الحياة؟ لأنَّ بعض الناس جاؤوا إليهم من خلال حاجاتهم واهتماماتهم الخاصّة، وأعطوهم ما يرضيهم ووظّفوهم ضدّ أُمّتهم وضدّ مجتمعهم، لماذا ينحرف كثير من المسلمين، ممّن يقفون في المواقع الرسمية من الموقع السياسي أو في المواقع الحزبية، أو في أيّ موقع من المواقع، لماذا ينحرفون؟ لأنَّ كلّ واحدٍ منهم يفكِّر بنفسه وبأولاده، وبطموحاته الشخصية. ويأتيهم المستعمرون ورجال المخابرات من خلال طموحاتهم الشخصية، ويقولون له: نحن مستعدّون لأن نجعلك شخصاً مهمّاً، ألاَ تحبّ أن تكون نائباً؟ نحن نحقّق لك ذلك بشرط أن توقِّع لنا على المشروع الفلاني وعلى المعاهدة الفلانية وعلى الاتّفاق الفلاني، أو يقولون: نجعلك وزيراً بشرط أن ترتِّب لنا هذا الوضع أو ذاك، وتمضي لنا على هذا المشروع أو ذاك، نجعلك رئيساً للجمهورية أو نجعلك ملكاً أو أميراً بشرط أن ترتِّب لنا وضع البلد، على حسب ما نريده من الخطوط السياسية، أو ما إلى ذلك. يأتون إلينا من طموحاتنا الشخصية، ليلبّوا هذه الطموحات، لأنّنا نكون مشغولين عن الطموحات والقضايا الهامّة، وبهذا ينحرف مَن ينحرف ويسقط مَن يسقط. وهذه هي المشكلة التي أراد الإسلام فيها من كلّ مسلم أن يجاهد نفسه، لأنَّ النفس أمّارة بالسّوء إلاّ ما رَحِمَ الله. أن تجاهد نفسك، عندما تدعوك نفسك إلى أن تنحرف لحساب مَن يلبّي لها شهواتها ولذّاتها وطموحاتها الشخصية.
اهتماماتنا الشخصية واهتمامات الأُمّة
لهذا لا بدّ لنا أن نعمل على أساس أن تكون لنا اهتماماتنا العامّة، ومعنى ذلك أنّنا إذا أردنا أن نفكّر بالسّلم أو الحرب، أو نفكِّر بالمعارضة أو بالموالاة، أو نفكِّر بالصلح أو بعدمه، فإنَّ علينا أن نضع حسابات الأُمّة في دائرة هذه المشاريع، لا أن نضع حساباتنا الخاصّة. قد نتعب فنحبّ أن نرتاح ولكن على حساب راحة الأُمّة. ولهذا يعرف المستعمرون جيّداً، والطغاة من الحاكمين، يعرفون هذه المسألة في حياة الشعوب، فيعملون على أن يخلقوا لها مآزق ومطبَّات ومشاكل، حتّى تعمل على أن تطلب الخلاص من هذه المشاكل كيفما كان، وبذلك يأتون بالمخطّطات والمشاريع التي لا تكون في مصلحة الأُمّة، بل في مصلحة الطغاة والمستكبرين. وهذا ما نلاحظه في ما حدث من كلّ هذه الفتنة اللبنانية، التي صنعت في الدوائر الغربية. فنحن نعرف جميعاً ـــ من بديهيّات السياسة ـــ أنَّ الفتنة اللبنانية بكلّ عناصرها كانت من تخطيط وزير الخارجية الأسبق كيسنجر، وكلّ الذين كتبوا في المسألة اللبنانية يقولون ذلك. خطّطت الفتنة اللبنانية، لتأكل أكثر قضايا المنطقة ولتتعب الناس فيها، حتّى تستريح "إسرائيل" من كلّ المعارضين لها، ومن كلّ الذين لا يوافقون على مخطَّطاتها وعلى مصالحها. صنعت الفتنة اللبنانية لتأكل القضية الفلسطينية ولتسقط المنطقة. ولهذا أنتم تلاحظون منذ سنين عديدة ـــ منذ الفتنة اللبنانية وحتّى الآن ـــ أنَّ المسألة السياسية في البلاد العربية ميّتة، ليست هناك حركة سياسة في أيّ بلد عربي إلاّ ما يريد الحاكمون أن يؤكِّدوا. حتّى المعارضة يصنعها الحاكمون، لتكون معارضة رسمية ولكي تعطي البلد الشكل الديمقراطي، يعني المعارضة بحساب لمصلحة اللّعبة الموجودة في البلد.
ممنوع أن تعيَ الأُمّة قضاياها!
أنتم تلاحظون أنّه يحدث في لبنان وفي فلسطين الكثير من الأوقات ومن المشاكل دون أن تقوم تظاهرة واحدة أو معارضة، حتّى إِنّنا نعرف أنّه في بعض الدول الخليجية فإنَّ بعض الناس من العمَّال، الذين يعملون هناك يخافون من الأمن. إذا قاموا بجمع مال وتبرُّعات للمجاهدين في جنوب لبنان، يخافون من أن تأتيَ المخابرات إليهم، لأنّه يمنع أن يعيَ الشعب قضيّته، وأن تعيَ الأُمّة قضاياها. يريدون أن يفصلوا بين الناس. ولهذا نعتبر أنّ السياسة الأميركية في المنطقة وبعض سياسات الدول الكبرى جمَّدت الواقع السياسي في المنطقة كلّها وجعلت الأُمّة كلّها في سجنٍ كبير. البلد الوحيد المتحرّك سياسياً هو لبنان، وعندما بدأ يزحف إلى مخطَّطاتهم ومصالحهم صنعوا له الفتنة، حتّى يستطيعوا أن يحرِّكوا مصالحهم من خلالها. ولكن عندما انقلب السحر على الساحر وبدأ الذين حفروا البئر بالتساقط فيها، وانطلق لبنان الإسلامي ـــ لبنان الذي يتحرّك مسلموه السائرون من قيادة الإمام الخميني (حفظه الله) ـــ عندما بدأ يربك كثيراً من المعادلات ويسقط كثيراً من الحسابات ويشاغب في كثير من المواقع، بَدأوا يفكِّرون بطريقةٍ أخرى؛ كيف يمكن أن يحاصروا هذا التيّار؟ وكيف يمكن أن يخفّفوا من موقع المشكلة؟ ولهذا بدأت الكلمات في مسألة الانفراج ـــ انفراج لا حلّ ـــ ولكن علينا أن نفهم حقيقة أنّ بعض الذين يراهنون على الانفراج، يراهنون على مسألة استحقاقات رئاسة الجمهورية، ولا بدّ أن يترتَّب الوضع بشكلٍ يتنفَّس فيه الناس، وبعض الذين يراهنون على الانفراج، يراهنون على القمّة القادمة في موسكو بين الاتحاد السوفياتي وأميركا، وبعضهم يراهن على أساس أنّ المؤتمر الدولي سوف يعقد وسينعكس على المسألة الفلسطينية، التي تنعكس على المسألة اللبنانية وهكذا فإنَّ الناس سيرتاحون ولكن بدون حلّ.
مواجهة الواقع اللبناني
لكنّ هذه المسألة يجب أن نواجهها بطريقتين أو نقطتين:
النقطة الأولى، هي أنّه لا تتوفّر ضمانات لكلّ هذا الكلام الذي يقال، مع استمرار اللّعبة في لبنان. وهي لعبة معقّدة جدّاً، أي أنّها ليست من المشاريع التي يمكن أن تبدأ من نقطة وتنتهي إلى أخرى. نحن نعرف أنّه في المعادلة المعروفة 1+1=2. في لبنان لا، واحد زائد واحد يساوي خمسة، لأنَّ المسألة سائرة في الجوّ الذي ترتبط فيه البداية بالنهاية بخطّ متعرّج ومعقَّد. لهذا فإنّ في لبنان حسابات متعدّدة وهناك حسابات دولية تعمل.. كلّ منها يريد موقعاً.. وهناك حسابات دولية أيضاً وأيضاً ولهذا في كثير من الحالات، لا ينطبق حساب الحقل على حساب البيدر لهذا لا تستسلموا للأحلام، بل أعطوا أحلامكم جرعة من التحفّظ والحذر، حتّى إذا سقطت الأحلام عند الذين يريدون أن يسقطوا للأُمّة أحلامها، لا تصابون بصدمة كبيرة. هذه نقطة في تاريخ الــ 13 سنة، لقد سمعتم الكثير من التصريحات تؤكّد حدوث انفراج في السنة الثانية. وعندما تتحقّق القصّة الفلانية يحدث الانفراج وإذا بنا نواجه قضايا تقلب الأمور رأساً على عقب.
وعلينا أن لا ننسى وجود "إسرائيل"، التي قد تتحرّك مستغلّة الانتخابات الأميركية التي تفعل فيها بطريقة معيّنة، والانتخابات الفرنسية التي تؤثّر فيها بطريقة معيّنة. وقد تستغلّها في سبيل أن تقوم ببعض الأمور والمشاريع في لبنان، بحيث تقلب الطاولة. لا يمكن أن ننام على حرير. ونقول إنّ "إسرائيل" لن تنطلق لاستغلال الأوضاع الدولية وغيرها. علينا دائماً أن ننتظر المفاجآت والتغيّرات والغدر الإسرائيلي لمجمل السياسة، لأنَّ "إسرائيل" عندما لا تجد أنّ فريقها اللبناني، الذي يشتغل لحسابها في لبنان، يمكن أن يحقّق نتائج لمصلحتها، فإنّها قد تدخل مباشرة في اللّعبة، لتهدم اللّعبة بأكملها. هذا شيء يجب أن نلاحظه. لهذا لا تناموا على حرير في لبنان. فهناك أشواك ومطبَّات كثيرة، حتّى لو فرشت الحرير، لأنّك إذا فرشت الحرير على الحجارة هل يفيدك الحرير؟ يجب أن تفرشها على أرض حريرية وإلاّ لن تشعر بنعومة الحرير الذي تنام عليه.
هذه نقطة، وهناك نقطة ثانية، صحيح أنّه يحكى عن انفراج وعن ضبط الأمور، لكن علينا أن نفهم، أنّ الأمور التي تضبط ليست هي أمورنا، لأنّ الجميع أعطوا الأوراق للكثير من القوى الإقليمية أو الدولية، ولهذا فإنَّ هؤلاء قد يضبطون نوعاً من السلم، كما رأيتم أنّ خطوط التماس كانت تلتهب بقرار ثمّ تجمّد وتبرّد بقرار. والتبريد إنّما كان لأنّه يحقّق مصالح القوى الإقليمية والدولية، التي تقف وراءه، تماماً كما يكون تسخين خطوط التماس لخدمة مصالح هذه القوى، وذلك عندما خافوا أن يؤدّي التهاب خطوط التماس إلى نتائج لا تكون في مصلحة الذين يطبخون الفتنة اللبنانية.
ثمّة نقطة أخرى يجب أن نعرفها وهي أنّ المارونية السياسية ليست فقط من السياسيين الموارنة، المارونية السياسية فيها سياسيون شيعة وسُنّة ودروز. هي ليست حالة طائفية، وإنّما هي حالة سياسية تعمل على خدمة الأهداف المارونية في لبنان. نحن نعتبر أنّ المارونية السياسية فشلت في حكم البلد، وفي إيجاد حكم متوازن يمكن أن يعيش فيه كلّ الناس ـــ مسيحيين ومسلمين ـــ حياة طبيعية، متوازنة، عادلة. ولهذا يجب أن تسقط المارونية السياسية لمصلحة إطلاق تجربة جديدة. طرحنا هذه الرؤية وصدرت تعليقات اعتبرت أنّ هذا الطرح يؤدّي إلى الإساءة إلى الوحدة الوطنية، وكأنَّ هذه الوحدة متوقّفة على كون الرئيس مارونياً فإذا كان مسلماً فإنّها لن تكون. ولا ندري كيف يمكن أن يسيء طرحنا إلى التعايش وإلى وضع لبنان الخاص. والأدهى من هذا كلّه أنّ أصواتاً أخذت تدعو علماء السُنّة إلى إصدار فتوى ترفض إقامة دولة إسلامية أو حكم إسلامي في لبنان. نعم، لقد بلغت الوقاحة بالبعض إلى هذه الدرجة، إلى درجة أنّهم أخذوا يطالبون بأن يصدر إجماع من المجتهدين الشيعة ومن علماء السُنّة ـــ والإجماع حجّة ـــ يفيد أنّه في لبنان لا يجوز أن يكون الإسلام مصدراً من مصادر التشريع. فلا مانع لدى هؤلاء من أن يكون القانون الفرنسي أو الأميركي أو الروسي أو أيّ قانون آخر مصدراً من مصادر التشريع، لكن أن يكون القانون الإسلامي كذلك في بعض الموارد القانونية فذلك من المحرَّمات. في الحقيقة، لم يعد ناقصاً، إلاّ أن يدعو هؤلاء ـــ ولعلَّ هذا ما يريدونه أصلاً ـــ إلى عدم دخول الإسلام كلّه إلى لبنان.
ولنا أنْ نتساءل: لماذا هذه العقدة من الإسلام فقط، والإسلام يقول: {... تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...} [آل عمران : 64]، ويقول أيضاً {... وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى...} [المائدة : 82] والإسلام يؤكّد التعايش؛ لماذا هذه العقدة من الإسلام؟ نحن لا نطرح الإسلام ليثير عقدة، وإنّما نطرحه ليثير فكراً وحركة وتطلُّعاً. نحن نريد أن نقول للمسيحيين: افهموا الإسلام جيّداً، ونقول للمسلمين: افهموا المسيحيّة جيّداً. لأنَّ جهل المسيحيين بالإسلام، وعزلتهم عن المسلمين، هي التي جعلتهم يتصوَّرون الإسلام بُعْبُعاً، في المقابل فإنَّ جهل المسلمين بالقِيَم المسيحية، جعلهم أيضاً يتصوّرون القضايا في غير صورتها. إنّنا نريد أن نقول لهؤلاء الذين يتباكون على وضع لبنان الخاص: أنتم عقدته وأنتم مشكلته. اعزلوا أنفسكم عن الساحة، وسيلتقي اللبنانيون من مسيحيين ومسلمين، ليفهموا كيف يتعاونون ويتفاهمون ويتعايشون، لأنّكم أنتم الذين أفسدتم التعايش، وأنتم الذين عزلتم الناس بعضهم عن بعض. نحن نطرح فكرنا كما طرحه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكما علَّمه الله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ...} [الكهف : 29]. أَلَسْتُم أنتم من يقول بأنّ لبنان بلد الحريّة؟. نحن نريد أن نأخذ حريّتنا في لبنان لنطرح ما نشاء. وأنتم أحرار أيضاً في أن تقبلوه أو لا تقبلوه. نحن لسنا معقّدين من الحلول المرحلية أو من اللّقاء على أُسس معيّنة، وقد قلنا لكم: تعالوا إلى كلمةٍ سواء لنحارب "إسرائيل" والاستعمار ولنحارب الظلم معاً. إذا تعلَّمنا أن نحارب الأعداء الذين يريدون أن يسقطوا إنسانية الإنسان في لبنان وفي المنطقة، عند ذلك يمكن لنا أن نكتشف كثيراً من القضايا التي يمكن أن نتفاهم عليها في كلّ أمور الحياة.
إنَّنا ندعو الشعب اللبناني كلّه إلى أن لا يغرق في الانفعالات الطائفية، بل عليه أن ينفتح على المواقع الفكرية. وعندما يريد الشعب اللبناني أن يعيش على أساس وجود مسلمين ومسيحيين، إنَّنا نقول للمسلمين أن يفهموا المسيحية، ونقول للمسيحيين أن يفهموا الإسلام. وإذا استطاع الجميع أن يفهموا بعضهم البعض، فإنَّ أحداً لا يستطيع أن يخوِّف الآخر ولا يستطيع أحد أن يثير الأحقاد، لأنّهم سيجدون أنّ هناك أكثر من أرض مشتركة يقفون عليها، وأكثر من هدف مشترك يلتقون عليه، وربّما يتفاهمون على فكرة واحدة في نهاية المطاف.
والحمد لله ربّ العالمين
جحيم الهوى وجنّة العقل(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} [محمد : 14] وقال سبحانه في آيةٍ أخرى {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم : 29] وفي آية أخرى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان : 43].
في هذه الآيات وفي غيرها، يتحدّث الله سبحانه وتعالى عن الناس في ما يتحرَّكون به من أعمالٍ وفي ما يتكلّمون به من كلمات، وفي ما ينتمون إليه ممّا ينتسب إليه الناس من عقائد وأحزاب ومنظّمات وحركات وما إلى ذلك.
اتّباع الهوى
إنَّ الله يتحدّث عن السلوك العام للإنسان، كيف يجب أن ينطلق وعن أيّة قاعدة؟ فيحدّثنا عن وجود نماذج من الناس ـــ وهم الكثرة ـــ يتحرّكون في الحياة، من خلال أهوائهم ومن خلال شهواتهم وغرائزهم؛ فهم عندما يريدون أن يتكلّموا بكلمة فإنّهم يراقبون أنفسهم ماذا تشتهي، وماذا تحبّ، ولا يراقبون عقولهم فيما تناقش وفي ما تفكِّر. وإذا أرادوا أن ينشئوا علاقة مع أيّ إنسان، سواء كانت علاقة شخصية أو كانت علاقة عامّة، فإنّهم يفكِّرون في ما يتواصلون به وفي ما يتقاطعون فيه، يفكِّرون في هوى أنفسهم: هل أنّ نفسي تشتهي أنْ أبني علاقة مع فلان أو مع فلانة، أم أنّها لا تشتهي ذلك؟ فتكون علاقات أحدهم خاضعة لهوى نفسه ولمشتهياتها. وهكذا عندما يتّخذ أيّ موقف في الحياة، سواء كان الموقف اجتماعياً أو سياسياً أو أيّ موقف من المواقف، فإنَّ الأساس عنده هو ما تحبّه نفسه وما تشتهيه. هؤلاء هم نماذج موجودة في كلّ زمان وفي كلّ مكان. وهؤلاء الذين يعتبرون أنّ أقصى طموحاتهم في الحياة، هو أن يحصلوا على تلبية رغباتهم وشهواتهم؛ فالسعيد عندهم مَن حصل على ما يشتهي، والشقي عندهم هو الذي لا يحصل على ما يشتهي. والحياة عندهم تتحرّك في هذا الاتّجاه.
اتباع العقل
وهناك نماذج أخرى في الناس ـــ وقد تكون هذه النماذج هي الأقليّة ـــ تتحرّك في الحياة من موقع علم، ودراسة، وفكر. فهؤلاء يفكّرون أنّ النفس قد تشتهي شيئاً، ولكن قد يكون هلاكها في ما تشتهي؛ وقد تهوى أمراً، ولكن قد يكون حتفها في ما تهواه، لأنَّ النّفس عندما ترتبط بالأشياء فإنّها ترتبط بها من خلال غرائزها وانفعالاتها. ولهذا فإنَّ النّفس تتحرّك نحو الشيء من خلال سطحه لا من خلال عمقه.
راقبوا أنفسكم عندما تشتهون شيئاً تأكلونه أو شيئاً تشربونه أو شيئاً تمارسونه في مجال لذّاتكم. راقبوا أنفسكم هل تُقبلون على الشيء لتدرسوا عواقبه، أم أنّ النفس تقبل عليه من بداياته؟
غالباً ما نأكل الأكلة التي نشتهيها، دون أن نفكّر ما هو موقعها في حياة الجسد وفي صحّته. وهكذا عندما نمارس الشهوة التي نشتهيها فإنّنا ندرس أحاسيسنا ولا ندرس النتائج العامّة أو الخاصّة التي تنتهي إليها هذه الشهوة أو هذه اللّذة. أَلَسْنا نرتبط بشهواتنا من هذه الجهة؟ هذا النموذج يرى ذلك، ولذلك فهو يفهم جيداً قول الله سبحانه وتعالى في ما حكاه عن امرأة العزيز، وهو يريد أن يركّز حقيقة إنسانية {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} [يوسف : 53].. لماذا تكون النّفس أمّارةً بالسوء؟.. لأنّ النّفس تتحرّك في كلّ نشاطاتها، من موقع غرائزها ومن موقع سطح الأشياء، لا من موقع عمقها. والإنسان إذا أراد أن يواجه المسألة على السطح، فإنّه لا يواجه إلاّ الغرائز التي تقوده إلى الانحراف، والمعصية، وإلى ما يورّطه في أشياء كثيرة من خلال النتائج. فالله يقدّم لنا هؤلاء على أنّهم لا يخضعون لهوى أنفسهم، بل يدرسون المسألة عندما يشتهون شيئاً يأكلونه.. يدرسون موقعه من تغذية الجسد، ومن سلامته، ومن مسألة الحلال والحرام، وفي سلامة الموقف أمام الله. وبعد أن يدرسوا ذلك ويعرفوا عمقه ويعرفوا نتائج الغذاء، فإنّهم يتناولونه إذا كان صالحاً، ويرفضونه إذا كان فاسداً. وهكذا إذا اشتهت أنفسهم شراباً فإنَّهم يفكّرون في المسألة من ناحية علاقته بجسدهم، وبعقلهم، وبحياتهم، وبإيمانهم.. وفي كلّ المجالات الأخرى. وهكذا ـــ أيضاً ـــ عندما ينطلقون في أيّة شهوة، سواء كانت شهوة جنس أو كانت شهوة جاه أو أيّ نوع من أنواع الشهوات؛ فإنّهم يراقبون نتائجها ولا يراقبون بداياتها فحسب. ولهذا فإنَّ هؤلاء يتحرّكون في الحياة من موقع علم، فيدرسون المسألة ويعلمون طبيعتها، ويعلمون حقيقتها ثمّ يتحرّكون فيها. أمّا أولئك فإنّهم لا يتحرّكون من موقع علم، بل يتحرّكون من موقع جهل، لأنّهم يرتبطون بالأمور الحسيّة ولا يرتبطون بالأمور العقلية والفكرية. ومن هنا فإنَّ الله سبحانه وتعالى عندما عرَّفنا هؤلاء، قال: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} [محمّد : 14].. أي هل يمكن أن يستوي هذا الإنسان، الذي إذا أراد أن يسير في أيّ طريق، فإنّه يحاول أن يدرس إذا كان عنده بيّنة واضحة من ربّه تبرّر له سلوك هذا الطريق أو تناول هذا الشيء أو ممارسة هذه اللّذة، مع مَن ليس عنده بيّنة واضحة من ربّه على صلاح هذا الأمر، بل ينطلق من خلال انفعالاته وشهواته وأهوائه.
وهكذا يقدّم الله لنا المسألة. وأيضاً عندما يتحدّث الله لنا عن الظالمين، سواء هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر وبالمعصية، أو الذين ظلموا الناس بطغيانهم، فإنّه يحدّثنا عنهم بأنَّ مشكلتهم هي: كيف صاروا ظالمين؟ وكيف ظلموا أنفسهم؟ وكيف ظلموا الناس؟ إنّ الله يقول إنّهم اتّبعوا أهواءهم {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم : 29].. اتّبعوا أهواءهم لأنّهم انطلقوا مع أهوائهم ومع انفعالاتهم فكفروا بالله، ليرضى عنهم الناس من حولهم أو لئلا يلتزموا الالتزامات الصعبة في الحياة. وهكذا أيضاً عندما يتحدّث عنهم، يذكر أنّهم طغوا في البلاد حتّى يعوّضوا عن عقدة الضعف التي يعيشونها ضدّ المظلومين، وحتّى يحاولوا أن يحصلوا على بعض اللّذات وبعض المشتهيات.
لنختر أحد السبيلين
هذان نموذجان من الناس؛ لنا أن نختار أحدهما في الحياة. والله يريدنا أن نختار النموذج الذي يتحرّك في الحياة من موقع دراسة ومن موقع فكر ومن موقع وعي، على أساس أن يدرس الإنسان كلّ مسألة وكلّ قضية من موقع علاقتها بحياته، وأن يدرسها على أساس موقعها من ربّه ومن قضية إيمانه وآخرته.
الله يخاطب المؤمنين: إذا كنتم تؤمنون بحياتين، فإنَّ عليكم أن تدرسوا سبل السلامة في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة، وأن تناقشوا الأمور على أساس ما يحقّق لكم هذه السلامة هنا، وتلك السلامة هناك، حتّى تستطيعوا أن تعيشوا في صحّة وعافية في الدنيا، وتحصلوا على صحّة وعافية في الآخرة. وهذا ما نلاحظه في بعض الأدعية التي ينطلق فيها الإنسان إلى ربّه، لا ليسأله عافية الدنيا فحسب، بل ليسأله عافية الدنيا والآخرة؛ العافية في الدنيا من البلاء والعافية في الآخرة من العذاب ومن العقاب.
مراقبة النّفس
لا بدّ للإنسان من أن يدرس كلّ مشتهيات نفسه، فيحدِّث نفسه حديثاً هادئاً، حتّى يستطيع أن يركّز فيها القضايا التي يمكن لها أن تسير فيها على هدى وعلى بيّنة. فالمشكلة في كثيرٍ من الناس أنّهم لا يجلسون مع أنفسهم، بقدر ما يجلسون مع الآخرين.
راقبوا أنفسكم من بداية اليوم إلى نهايته. إنّكم تجلسون مع زوجاتكم ومع أولادكم، وتتحدّثون مع زبائنكم ومع الناس الذين تعملون معهم ومع أصدقائكم. ولكن مَنْ منكم جَلَسَ مع نفسه ساعة، يفكِّر فيها ويتحدّث فيها لنفسه. إنّي أزعم أنّ أكثر الناس لا يطيقون الجلوس مع أنفسهم ولا يطيقون الحديث معها. ولهذا فإنَّ أنفسهم لا تتربّى على أساس إرادتهم، وإنّما تتربّى على أساس البيئة التي تحيط بهم.
من أين نأخذ عقليّاتنا؟ إنّنا نأخذها من البيت الذي نعيش فيه، من أصدقائنا، من أصحابنا ومن أقربائنا. فالبيئة تفرض علينا انفعالات وعصبيّات وشهوات وخطاً نسير فيه. وإذا بنا نشعر أنّنا نلتزم بعض الخطوط السياسية أو الاجتماعية، من دون أن نختارها من خلال عقولنا، ولكن لأنَّ عوائلنا اختارتها، ولأنَّ أصحابنا اختاروها، ولأنَّ أقرباءنا اختاروها. وهكذا فإنّنا عندما نختار طريقاً أو عقلية نتحرّك فيها، فإنّنا نأخذها من الناس من دون اختيار، من خلال أحاديثهم ومن خلال أوضاعهم، ونشعر أنّ عقليّاتنا لم نصنعها نحن باختيارنا ولم نُناقشها مع أنفسنا، وأنَّ انتماءاتنا ـــ عندما ننتمي إلى موقع سياسي أو اجتماعي أو أيّ موقعٍ آخر ـــ لم تكن وليدة قناعاتنا، إنّما هي وليدة قناعات الآخرين ورغباتهم.. وهكذا في كثير من مجالات الحياة.
قد نكتشف أنّنا لم نصنع انتماءنا أو عقليّتنا أو رغباتنا أو أحلامنا، بل تركناها تتحرّك في نفوسنا من خلال تأثّرها بمن حولها. ونحن نقول إنّ الإنسان لا يستطيع أن ينعزل عن مجتمعه، لأنّه لا يستطيع أن يعيش وحده. لكن لا مانع من أن تستقبل تأثُّرات مجتمعك وتناقشها مع نفسك.. فناقش مع نفسك ما يقوله أبواك، وناقش ما يقوله أصدقاؤك، وناقش عادات وتقاليد مجتمعك، وناقش الأوضاع التي تتحرّك في المجتمع من حولك، في أيّ محور من محاور المجتمع.. ناقش: هل هذا صحيح؟ وكيف أثبت صحّته؟ أم هذا خطأ؟ وكيف أثبت خطأه؟ لا تلتفت إلى رغبات نفسك، ولكن التفت إلى حركات عقلك. التفت إلى العقل وهو يحاكم الأشياء ولا تلتفت إلى المشاعر وهي تشتهي الأشياء، فإنَّ الشهوة إذا لم تُدْرَسْ دراسة حقيقيّة قد تنقلب على صاحبها، لتعطيه آلاماً في المستقبل أكثر ممّا حصل فيه على لذَّات. ولذا يريد الله منّا أن نناقش شهواتنا وأهواءنا، لنبقي الأهواء التي يشرّعها العقل المتحرّك في خطّ الشرع، ونطرد الأهواء التي يقول لنا العقل، ويقول لنا الشرع إنّها أهواء ليست في مصلحتنا. وهذا إنّما لاحظناه في الآية الكريمة: {فَأَمَّا مَن طَغَى*وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى*وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 ـــ 41] إنَّ معنى ذلك ـــ ونحن نريد أن ننفذ القرآن ـــ أنّ الفاصل بين الجنّة والنار، هو اتّباع الهوى أو عدم اتّباعه. فمن اتّبع هواه ولم يوقفه على قاعدة، فانطلق مع الدنيا تبعاً لهواه، فإنَّ الجحيم ستكون مأواه، ومَن خاف مقام ربّه فجعل علاقته بالله ومقام الله منه، هما الأساس في كلّ حياته {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} ومعنى ذلك أنّنا لا بدّ أن ندرس أهواءنا من خلال أفكارنا، وندرس شهواتنا من خلال شريعة الله ووحيه، لنحدّد ما نفعله وما لا نفعله، ولنحدّد ما نتبعه وما لا نتبعه، لنستطيع أن نحدِّد طريق الجنّة وطريق النار.
عبادة الهوى
لقد اعتبر القرآن الكريم اتّباعَ الهوى عبادةً له. أن تجعل كلّ طموحك في الحياة أن ترضي هوى نفسك، يعني جعلت هواك إلهاً تعبده من دون الله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان : 43] اتركه لنفسه، عظه وأرشده وتحدَّث معه، ولكن إذا لم يقبل أن يتبع ربّه وفضَّل أن يتبع هواه، فاتركه لهواه فسيلاقي ثمرة اتّباعه هذا عندما يلاقي إلهه الحقّ، الله الواحد القهَّار.
ثمّ يقول في آيةٍ أخرى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية : 23]. يحدّثنا الله عن نموذج من الناس يفهم الأمر تماماً، يفهم أنّ هذا حرام وأنّ في هذا الشيء ضرراً ومفسدة، ولكنّه لا يملك إرادته ولا يملك أن يثبت وعيه في الموقف الصعب، فينطلق مع شهوات نفسه فتغلبه على حساب خطوات عقله. هذا الإنسان هو الذي يبيّن الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ أنّه يضلّه. وليس معنى ذلك أن يوقعه في الضلال، ولكنّه عندما اختار الهوى وعندما جعل إلهه هواه ولم يَخَفْ مقام ربّه، فإنَّ نتيجة ذلك أنّه سيضيع، لأنَّ الهوى ليس له خطّ مستقيم، فاليوم يمكن أن يمشي بك إلى الشرق وغداً إلى الغرب وبعد غدٍ إلى طرقٍ أخرى وأخرى. ولذلك فإنَّ الذي يتبع هواه فإنّه يضلّ. وقد يضلّ الإنسان من غير علم وقد يضلّ بعلم عندما لا يستطيع أن يحكِّم إرادته {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} لأنَّ الهوى إذا سيطر على الإنسان، فإنّه يمنعه من أن يسمع فكأنَّ أذنه مغلقة، وإذا سيطر على قلب الإنسان ـــ وقلبه وعقله ـــ فإنّه يمنعه من أن يفكّر ويمنعه من أن يرى الأشياء على حقائقها. ولهذا فإنَّ الله تعالى ـــ يقول: {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ} لأنَّ الله جعل له سبيل الهدى، فخالفه واتّبع سبيل الهوى. وهكذا فإنَّ نتيجته أن يظلّ سائراً في الضلال، حتّى يلاقي الله غداً وهو ضالّ في حياته.
إنَّ الله يجعلنا نواجه المسألة على هذا الأساس، فيحدّثنا عن بعض الناس الذين كانوا يتبعون أهواءهم، ويذكر شخصاً كان موجوداً في بعض الأزمنة.. شخصاً لديه العلم ويعرف آيات الله ويعرف حقائق الإيمان وحقائق الأشياء، ولكنَّ علمه لم يتحوّل إلى قضية تعيش في ذاته، فكان علمه في عقله، ولكنَّ شهوته هي التي كانت تسيطر عليه فلم يستفد شيئاً. ولهذا لا يكفي العلم، بل لا بدّ من الإيمان ولا بدّ من الإرادة التي تجعل الإنسان يتحرّك في علمه من خلال إيمانه وإرادته. يقول الله لرسوله في ذلك: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا..} أي لم يرتبط بها وهو يعرفها ويعيها {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف : 175]، {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} يعني لو شئنا لجعلناه يرتفع إلى الدرجات العليا من آياتنا، ولكنّنا لا نجبر الناس على الهدى إنّما ندلّهم على الطريق، فإذا ساروا فيه فإنّنا نرفعهم {وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ..} أي التصق بالأرض ولم ينفتح على السماء، التصق بشهواته ولم ينفتح على ربّه {وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث..} لأنّ هناك مَن إذا تكلَّمت معه لا يستمع إليك وإذا تركته لا يستمع إليك، فحاله كحال الكلب إذا ما وقفت أمامه صار ينبح وإنْ تركته ظلّ ينبح. وهذه هي حال مَن يتبع هواه، لماذا؟ لأنّه ليس لديه عقل؛ إذ تحوَّل الهوى عنده إلى حالة مسعورة في داخل نفسه، تجعله يواجه القضايا من خلال شهواته ومن خلال انفعالاته ومن خلال عصبيّاته. ولذا أصبحت المسألة بمثابة الغريزة، فالنباح هو غريزة الكلاب، وكذلك هذا الإنسان عندما اتّبع هواه صار الضلال غريزة عنده {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} [الأعراف : 176] كلّ الذين كذَّبوا بآيات الله مَثَلهم هذا المثل، لأنّهم أخلدوا إلى الأرض، واتّبعوا أهواءهم فالله يقول لك: لا تلتصق بالأرض.. لا تلتصق بكلّ شهواتها وبكلّ مشاعرها، بل خذ من الأرض ما يبني لك حياتك على الخطّ الذي يريده الله منك، وانفتح على الله سبحانه وتعالى، لتسموَ نفسك وليكبر عقلك ولتنطلق أحلامك لتشمل الدنيا والآخرة، ولا تقتصر على الدنيا وحدها.
دعوة الحقّ
ثمّ يقول الله تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف : 176] يريد الله أن يقصّ علينا ما جاء من قضايا الآخرين أو من الأمثال، حتّى نفكّر وحتّى نجتنب الطريق المنحرف، الذي لا يريدنا الله أن نسير عليه في كلّ حياتنا.
ويريد أن يقول لنا: أيُّها الناس، ستتعرّضون في حياتكم لمشاكل كثيرة من الناس، الذين يريدون منكم أن تنطلقوا بعيداً عن الله، ولكن {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} [النساء : 27].
إنَّ الله يناديكم إذا أخطأتم وإذا انحرفتم وإذا ضللتم عن الطريق بقوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر : 53] يقول الله لكم: يا عبادي إذا ابتعدتم عنّي، فتعالوا إليَّ {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة : 186] الله يريد أن يتوب عليكم، ويقول لكم إذا أخطأتم صحِّحوا خطأكم، وإذا انحرفتم فاستقيموا في طريقكم، وإذا أخطأتم فتوبوا إليَّ لأُصحِّح خطأكم. إنّه يريد أن يتوب عليكم لذلك يدعوكم إلى التوبة وإلى الرجوع إليه. أمّا الذين يتبعون الشهوات من زعمائكم وأصدقائكم وأقربائكم وأزواجكم وكلّ الناس من حولكم، فإنّهم يريدون منكم أن تميلوا عن الطريق ميلاً عظيماً.. فماذا تختارون؟ هل تسيرون مع الله، أم مع الذين يَتَّبِعون الشهوات؟
الله يقول لك: إبدأ الطريق المستقيم من جديد، وأولئك يقولون لك: لا تعش وحدك.. إمشِ مع الناس، خض مع الخائضين، واكذب مع الكذّابين، وانحرف مع المنحرفين، واظلم مع الظالمين، وخذ حصّتك مع الذين يأخذون حصصهم من كلّ حرام، ومن كلّ ظلم وما إلى ذلك. الذين يَتَّبِعون الشهوات يتحدّثون بهذه اللّغة ولا يريدون لكم أن تستقيموا. قد يأتي آباؤكم ويقولون لكم إذا رأوا منكم استقامة على طريق الله وهم يخافون عليكم من كثير من أجهزة المخابرات، ومن بعض الحكومات، ومن بعض الأحزاب والحركات والمنظّمات، ومن طغاة قريتكم أو منطقتكم.. يأتي آباؤكم إليكم ليقولوا لكم: اتركوا ما أنتم عليه.. لا تذهبوا إلى المساجد، ولكن اذهبوا إلى الملاهي، لأنَّ الأجهزة إذا رأتكم في الملاهي فسوف لا تحاسبكم، لكنّها إذا رأتكم في المساجد فسوف تراقبكم. يخافون عليكم ذلك لأنّهم يريدون أن يتَّبعوا الشهوات، ويريدون منكم أن تتَّبعوها، والله يريد أن يتوب عليكم ويقول لكم: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام : 153] يريدكم الله أن تأتوا إلى المسجد، لا لتنغلقوا فيه عن حركة الحياة، ولكنّه يريد منكم أن تتطهَّروا في المسجد؛ أن تطهِّروا عقولكم من كلّ كفر وشرك، وأن تطهِّروا عواطفكم من كلّ انحراف، وأن تطهِّروا مواقفكم من كلّ زلل.. يريد الله منكم ذلك ويقول لكم: كما أنّكم إذا توسَّخ جسدكم، تذهبون إلى الحمّام لتتطهَّروا، فإذا توسّخت عقولكم وأرواحكم ومشاعركم فتعالوا إليَّ في المسجد، لتتطهَّروا ولتعيشوا طهر الفكر وطهر الشعور وطهر الحركة والحياة.
إنَّنا نجد الكثيرين من الناس لا يكتفون بأن يتَّبعوا الشهوات، بل يحاولون أن يجعلوا أولادهم وأصدقاءهم وأقرباءهم معهم. هؤلاء هم الذين يخسرون: {... قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر : 15]. يريد أن يتَّبع الشهوات ويشرب الخمر ويريد من أولاده أن يشربوا الخمر معه، ويتعقَّد من أولاده وزوجته وبناته إذا وقفوا ضدّه في ذلك. ويلعب القمار ويريد منهم أن يلعبوا، وينصر الظالمين ويريد منهم أن ينصروهم.. وهكذا في كلّ المجالات، بل إنَّ بعضهم يقدّم أولاده للشيطان ليموتوا في سبيله حتّى يحصل على مال، كما يفعل الكثير من الناس في المنطقة الحدودية، باعتبار أنّ "إسرائيل" تشترط أنّ الذي يريد أن يعمل في داخل فلسطين، في مزارع "إسرائيل" ومصانعها، لا بدّ أن يكون له ولد أو أخ يحارب أو ما إلى ذلك، فيأتي الآباء ليضغطوا على أبنائهم، ليتجنَّدوا مع الشيطان وليقاتلوا أهلهم وإخوانهم، حتّى يحصلوا على فرصة عمل. يموت ابنه ويذهب إلى النار وبئس القرار ليحصل على مال. لا مانع عندهم أن يقاتل أولاده مع الشيطان وفي سبيل أهدافه، ولكن عنده ألف مانع من أن يقاتل أولاده مع الله وفي سبيله. والناس كما يقول عمر بن سعد ـــ وهم في أغلبهم مع منطق عمر بن سعد:
يقولون إنَّ الله خالق جنّةٍ ونارٍ وتعذيبٍ وغلِّ يدينِ
فإن صدقوا في ما يقولون إنَّني أتوبُ إلى الرحمنِ في سنتينِ
ثمّ يقول آخر الأمر: "وما عاقل باع الوجود بدين".
هذا هو منطق الساحة ومنطق اتّباع الهوى، الذي يجعلك ترتبط بهواك فتبتعد عن الحقّ. ألسنا نتعصَّب على الإنسان الذي ليس معنا حتّى لو كان مع الحقّ؟ ألسنا نقف ضدّه ولا ندرس، هل هو مع الحقّ أم لا؟ قد لا يكون معك، ولكن قد يكون على حقّ، في الوقت الذي تكون فيه أنت في سلوكك على باطل. لماذا لا تناقش الأمور؟ ولماذا لا تعرف موقع رضى الله سبحانه وتعالى؟
الانفتاح منهج إلهي
هناك خطّ إلهي واضح يحدِّده قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...} [الحجرات : 10] فاختلاف أحدكم مع أخيه لا يجعله كافراً، ولا يخرجه عن خطّ الإيمان العام. فعلى أيّ أساس تقاتله وهو يقاتلك، وتتعصَّب ضدّه وهو يتعصَّب ضدّك؟ أيّ معنى لذلك؟
إنَّ عصبيّة الشيطان هي من الأهواء والأنانية؛ أنانية الذّات والحزب والطائفة والحركة والمنظّمة والعشيرة. فالأنانية هي التي تسجن الإنسان في داخلها، ولا تسمح له بأنْ يتنفَّس الهواء الذي يتنفَّسه الناس الآخرون.
كن ابن نفسك وابن عشيرتك وابن حزبك وابن حركتك وابن طائفتك، ولكن لا تجعل هذه الأمور سجناً تسجن فيه ذاتك، بل عش في دائرة واترك فيها باباً ينفتح على الناس، حتّى تحاورهم ويحاوروك وحتّى تتفاهم معهم ويتفاهموا معك، لتكتشف خطأك من خلال ذلك، أو يكتشف الناس خطأهم. إنّ اتّباع الهوى لدى المجتمع، هو الذي يمنعه من أن يمارس عملية الانفتاح في ما بين أفراده. والله أرادنا أن نتعلَّم الانفتاح، فنتحاور إذا اختلفنا ونتناقش إذا تنازعنا، ونتحرّك في الحياة من موقع أنّنا عباد الله وأنّ غايتنا أن نكتشف مواقع رضى الله سبحانه وتعالى، سواء كانت مواقعه في المواقع الصعبة أو في المواقع السهلة، لأنَّ المسألة هي أن نكون على بيّنة من ربّنا، وأن نحفظ سلامة الدُّنيا وسلامة الآخرة.
لنغتنم فرصة الحياة
لنفكِّر بهذه الطريقة، فقد يأتي علينا وقت لا نستطيع أن نفكِّر فيه، وقد يأتي علينا وقت لا نستطيع أن ننفِّذ ما نفكِّر به. نحن في هدنة من الموت، سنذهب جميعاً إلى قبورنا وسنحشر جميعاً إلى مواقفنا بين يديّ ربّنا. هل منكم من يشكّ في ذلك؟ هل منكم من يعتقد بأنّه خالد؟ ليس منكم من يعتقد ذلك، وقد قالها الله لرسوله {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر : 30] إذا كنّا جميعاً سنحشر إلى قبورنا وسنقف بين يديّ ربّنا، فلنفكِّر: هل أنّنا نحشر إلى قبورنا مع الحقّ أم مع الباطل؟ هل نقف بين يديّ ربّنا مع إيماننا أم مع شهواتنا؟ وهل تبقى لنا شهوات؟ وهل يدخل في قبورنا شيء ممّا نأكل وممّا نشرب وممّا نستمتع وممّا نجمع من مال أو ما نعيشه من جاه؟ فكِّروا في ذلك بعمق، واسألوا أنفسكم: ما هي أصناف الطعام أو الشراب أو الشهوات التي تقدّم لنا هناك؟ هل يقدّم لنا شيء؟ أم تقدّم لنا فاتورة الحساب: كيف أكلت؟ وكيف شربت؟ وكيف استمتعت؟ وكيف حاربت؟ وكيف سالمت؟.. وفي ذلك يقول الإمام عليّ (عليه السلام): "وإنّ اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل"(1) وهكذا نجد أنّ علياً (عليه السلام) يقول: "شتَّان ما بين عملين: عمل تذهب لذّته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤنته ويبقى أجره"(2). ويقول أيضاً: "ما لعليٍّ ولنعيم يفنى، ولذّةٍ لا تبقى!"(3). والله ـــ كما قلنا ـــ لم يحرّم علينا طيّبات الحياة الدنيا واتّباع أهوائنا في ما لا يصطدم مع إيماننا ومع مسؤوليتنا.
الزهد في حقيقته
جاء شخص إلى أحد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وقال له: ما الزهد في الدنيا؟ هل نترك الطعام.. هل نترك الشراب.. هل نترك اللّباس الجيّد؟ فأجابه الإمام بأنَّ الأمر ليس كذلك، بل اترك الحرام وكل ما تشاء، واشرب ما تشاء، والبس ما تشاء، واسكن ما تشاء، واستمتع بما تشاء، بشرط أن يكون كلّ ذلك حلالاً، لا حقّ لله فيه، ولا حقّ للنّاس فيه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف : 32].. لا بدّ أن تعيش بهذه الروح؛ فافعل ما تحبّ، ولكن ليكن ذلك بالحلال. فإنَّ الله لم يرخّص لك في الحرام، سواء على مستوى الأمور المادية أو على مستوى الأمور المعنوية. وهذا ما يجعلنا نشعر بالحاجة إلى أن تكون مواقفنا وانتماءاتنا طوعاً لله. فكما أنّ الله لا يريدك أن تشرب خمراً، كذلك لا يريدك أن تؤيّد ظالماً؛ وكما أنّه لا يريد منك أن تلعب قماراً، فإنّه لا يريد منك أن تكون مع الذين يلعبون في مصائر أُمّتك، كما ورد في كتابه الكريم: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود : 113]. وهكذا يريدنا الله أن نواجه أعداءنا الذين قال عنهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ...} [المائدة : 82] وقد يكون هوانا أن نكون مع اليهود ومع الذين أشركوا.
التجرُّد عن العصبيّة
يريدنا الله أن لا نعيش العصبية، فقال في كتابه الكريم: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ...} [الفتح : 26] حرَّم الله علينا عصبية الجاهلية وأراد لنا أن نلتزم كلمة التقوى، كما التزمها النبيّ وأصحابه وكانوا أحقّ بها وأهلها. وكما حرَّم علينا اتّباع أهوائنا في مواقفنا السياسية والاجتماعية وفي كلّ مجالاتنا الاقتصادية والأمنية والعسكرية. ولهذا ورد في الحديث الشريف: "لا تحرِّكوا بأيديكم سيوفكم في هوى ألسنتكم" فعندما تمتلك سلاحاً لا تحرّكه من خلال مزاجك، بل حرّكه في خطّ مسؤوليّتك أمام الله. فالسلاح أمانة الله عندك عليك أن تحميَ به نفسك وعيالك، وأن تحميَ به الضعيف ولا تحميَ به هوى نفسك، ولا تحمي به ظالماً أو منحرفاً. إنّه أمانة الله عندك وسيسألك الله عن هذه الأمانة. والمال أمانة عندك فلا تسخِّر مالك في إفساد حياة الناس وفي اجتذاب الناس إلى الباطل، أو تقويته.. إنَّ الله لا يرضى أن تتبرَّع به للمبطلين وتمنعه عن المحقّين أو توظّفه في خدمة الظالمين وتمنعه عن خدمة العادلين. إنّه لا يريد منك ذلك، لأنّ المال أمانة عندك فانظر أين تضع هذه الأمانة؟
وكذلك مواقفك عندما تُحارب أو تُسالم أو تؤيّد وترفض؛ فإنَّ الله لم يطلق حريّتك إلا أن تؤيّد الحقّ وتخذل الباطل، وإلاّ أن تحارب الكفر والظلم وتسالِم الإيمان والعدل في كلّ مجالات الحياة. فقد ورد في الأحاديث الشريفة: "مَن لم يهتمَّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"(1) و"مَن سَمِعَ رجلاً ينادي يا لَلْمُسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"(2) وحتّى اهتماماتك يريد الله منك ألاّ تخضعها لانفعالاتك ولأنانيّتك. فلا بدّ لك من أن تتفاعل نفسياً مع كلّ موقع من المواقع ولا بدّ من أن تحمل في فكر وفي وعيك وفي إحساسك همَّ المسلمين جميعاً وأن تلاحق كلّ قضاياهم، وأن تفكِّر معهم، وتفكّر لهم، وأن تخطِّط في نفسك كيف تستطيع أن تنصرهم بكلّ ما عندك من إمكانات النصر في الحياة. لأنَّ الإنسان المسلم لا بدّ أن يشعر بأنّه جزء من أُمّة، فكلّ ما يصيب الأُمّة يجب أن يعيش اهتماماته.
الأُمّة... جسد واحد
لا بدّ من أن نعرف حقيقة واقعية وهي أنّ المسلمين إذا ضربوا في بعض مناطقهم، فإنَّ مناطقهم الأخرى تضعف بضعفهم. كما إذا ضُرِبَ الجسد في بعض أعضائه، فإنَّ بقية الأعضاء ـــ مهما كانت قويّة ـــ تضعف بضعف هذا العضو. ومن استطاع أن يتسلَّط على جزء من الأُمّة فسيكون تسلّطه على هذا الجزء أساساً لتسلّطه على الجزء الآخر. وبهذا نعتبر أنّ مسألة المسلمين في العالم هي مسألة متكاملة، سواء في مجال قوّتها أو مجال ضعفها. إنَّ أيّة قوّة لأيّ موقع إسلامي في العالم هي قوّة للمسلمين في كلّ مكان، يأخذون منه كلّ بقدرٍ معيّن. كما أنّ ضعف المسلمين في أيّ مكان في العالم، هو ضعف للمسلمين في بقيّة المجالات.
علينا أن ننطلق في هذا المجال، بعيداً عن كلّ الأهواء الوطنية القومية، التي تحاول أن تفصل ـــ في ما فيه مصلحة المسلمين ـــ بين موقعٍ وآخر وبين شخصٍ وآخر أو جهةٍ وأخرى. نعم، من حقّنا أن نهتمَّ ببلدنا وبالناس الذين يعيشون معنا، ولكن أيضاً من حقّ كلّ إخواننا من المسلمين في العالم أن نهتمَّ بهم، كما نطلب منهم أن يهتموا بنا، حتّى نستطيع أن نُضْعِفَ الذي يريد أن يغتنم فرصة ضعف المسلمين في بعض المواقع. وهذا هو الذي يحدِّد لنا مواقفنا مع كلّ الناس ومع كلّ الحكَّام.
إسرائيل والنظام المصري
ثم نعيش الخطر الإسرائيلي في المنطقة، هذا الخطر الذي خطَّطت له المنظّمات اليهودية منذ ما يقارب المئة سنة، والتي تعاونت معها كثير من المنظّمات غير اليهودية، وكثير من الدول الاستعمارية التي لم تستطع أن تسيطر على كلّ العالم الإسلامي، فحاولت أن تربك كلّ مواقعه بطريقةٍ وبأخرى. فجاءت بــ "إسرائيل" وزرعتها في قلب العالم الإسلامي والعالم العربي، من أجل أن تمنعه من أن يتَّحد بعضه مع بعض أو أن يلتقيَ بعضه مع بعض، لتكون "إسرائيل" هي الدولة التي يمكن أن تربك كلّ المنطقة، وتمنعها من أن تعمل على أن تكون قويّة وعلى أن تستفيد من كلّ ثرواتها، في سبيل بناء مستقبلها وبناء قوّتها. لهذا كنّا نقول: إنَّ ما يحدِّد علاقتنا بالناس، هو قربهم من مسألة الجهاد ضدّ "إسرائيل" وبعدهم عنها. ولهذا اتّخذنا الموقف ضدّ النظام المصري، على أساس أنّه عطَّل الحرب مع "إسرائيل" في العالم العربي. وعندما حيَّد مصر عن ساحة الصراع، استطاع أن يحيِّد كلّ العالم العربي ـــ على مستوى الأنظمة ـــ عن ساحة الصراع. ولهذا كنّا نرى أنّها الجريمة الكبيرة، التي لا تمثّل انسحاباً من ساحة الصراع وحسب، ولكنّها تمثّل إيجاد خلل في البنية العسكرية التي تواجه "إسرائيل".
وهكذا رأينا أنّ هذا النظام عمل على أن يكون الجسر، الذي يمكِّن "إسرائيل" من أن تكون جزءاً من المنطقة وأن تفعل ما تريد فيها، لأنّه نظام يرتبط بأميركا التي تكفل لــ "إسرائيل" كلّ قوّتها كفالة مطلقة وتكفل لها كلّ أمنها. إنّه نظام لأميركا، ولهذا فإنّه يسهل لها كلّ ما تريد، حتّى أنّه يجري مناورات معها.. تلك المناورات التي تسمّى "بالنجم الساطع" التي تحاول فيها أميركا أن توجد قوّة من الجنود الأميركيين، الذين يستطيعون أن يقمعوا أيّ حركة تحرّر موجودة في المنطقة، بتسهيل من النظام المصري.
وأخيراً عندما انطلقت تظاهرات من الجامع الأزهر ومن بقيّة الجوامع ومن الجامعات، كان دور هذا النظام هو ضرب التظاهرات، التي كانت تنادي بالموت لــ "إسرائيل" وبالاحتجاج على ما قامت به "إسرائيل" من قتل وتدمير الفلسطينيين في الضفّة الغربية وفي غزّة واعتقالهم بكلّ وحشية. أراد المصريون أن ينطلقوا من صلاة الجمعة ليحتجُّوا في تظاهرة، وصدرت الأوامر بقمع تلك التظاهرات وذكروا أنّ هؤلاء استغلّوا صلاة الجمعة لرفع شعارات لا تتناسب مع الأمن!.
ما هو دور صلاة الجمعة أساساً؟
إنّها الصلاة السياسية التي فرضت، ليبحث فيها المسلمون كلّ قضاياهم السياسية والاجتماعية وليست مجرّد صلاة عادية. لا معنى للقول بأنّهم استغلّوا صلاة الجمعة؛ فدور صلاة الجمعة هو هذا الدور، ولهذا كان الحكّام يعملون على أن يوظِّفوا خطباء جمعة، ويعطوهم الخطبة ليقرؤوها كما يقرأ الطالب ما يعطيه الأستاذ، لأنّهم يخافون من الروح الإسلامية الجماعية التي يجتمع فيها المسلمون في مساجدهم بين يديّ الله... يخافون منها أن تجدّد في المسلمين شعورهم بالحريّة والعزّة والكرامة والاستقلال وبضرورة مواجهة كلّ الذين يريدون أن يصنعوا مشاكلهم. ونحن نواجه الآن في أكثر العالم العربي صلاة جمعة لا روح فيها ولا معنى لها، لأنّها صلاة تعمل على التسبيح بحمد الظالمين والطغاة والكافرين من جهة، وتعمل على تخدير الأُمّة من جهةٍ ثانية، وتعمل على إبعاد الشعب عن الشعور بمشاكله وقضاياه من جهةٍ أخرى. ليست هي الصلاة التي يريدها الله سبحانه وتعالى في يوم الجمعة.
جهاد العلماء
يحدث بين وقتٍ وآخر أن ينطلق علماء مجاهدون لا يكترثون بقرار النظام، بل يحترمون قرار الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ في ما حمّلهم من مسؤولية كي يقولوا كلمة الحقّ، حتّى لو كلّفتهم كثيراً من حريّتهم ومن حياتهم. ومن هنا فإنّنا ننظر بإكبار وتقدير واحترام إلى كثير من علماء الضفة الغربية وغزّة، الذين استطاعوا أن يثيروا هذه الانتفاضة من مواقعها الإسلامية، حين قالوا كلمة الحقّ أمام "إسرائيل" وأمام احتلالها وضغطها، حتّى بدأت تخطّط لإبعادهم عن الضفّة الغربية وعن غزّة.
الأنظمة العميلة وأميركا
إنَّ المشكلة هي أنّ حكَّام هذا النظام وبقيّة الأنظمة عملوا على أن يكوِّنوا مع "إسرائيل" قوّة في وجه كلّ الذين يريدون أن يتحرَّر المسلمون من سيطرة الاستعمار، لأنَّ هؤلاء الحكَّام وظَّفهم الاستعمار وهيَّأ لهم وضعاً شعبياً معيّناً، حين جعل الشعب يعيش حالة الغشّ في ما ينطوي عليه أمرهم.
لقد التزم هؤلاء أميركا. فهل تعرفون كيف تتعامل أميركا مع قضايا العرب؟
لقد هلَّل العالم العربي كلّه، لأنَّ أميركا صوَّتت مع قرار مجلس الأمن بإدانة "إسرائيل" لأنّها تريد أن تبعد جماعة من الفلسطينيين، ولم تستعمل حقّ الفيتو. لكن ماذا حدث؟.. حدث أنَّ المسؤولين الأميركيين أرادوا أن يقولوا لكلّ العرب حتّى لجماعتهم: لا تفهموا القضية خطأ، فنحن نلتزم "إسرائيل" التزاماً مطلقاً من جميع الجهات، لأنَّ "إسرائيل" هي الدولة الديمقراطية الوحيدة الموجودة في المنطقة ـــ والكلام لوزير الخارجية الأميركية ـــ وربّما تحدث بيننا خلافات ولكنّ علاقتنا هي من العلاقات، التي لا يمكن أن تهتزّ مهما فعلت "إسرائيل" ولا نقبل أن يسيء إليها أحد. وهم يتحدّثون عن مسألة الضفة الغربية وغزّة على أنّها العنف، والعنف يستدعي العنف. وأكثر من ذلك حينما جاء على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية لفظ الأراضي العربية، عاد واستدرك قائلاً: "نحن لا نقصد بالأراضي الفلسطينية أو الأراضي العربية أنّ السيادة فيها للفلسطينيين أو العرب، إنّما نشير بذلك إلى أكثرية سكّان هذه الأراضي"، معنى ذلك أنّ أميركا غير مستعدّة للاعتراف بسيادة العرب على الضفّة الغربية وغزّة والجولان وجنوب لبنان، وتريد أن يبقى الجوّ متحرِّكاً في خدمة "إسرائيل"، حتّى تستوليَ على ما بيدها من البلاد.
وهذا شامير يقول: نحن لا ننسحب من الضفّة الغربية وغزّة، وإنّما هي أرضنا، هي أرض "إسرائيل" ولا يمكن أن ننسحب من أرض "إسرائيل" ولهذا يأتي ممثّل الأمم المتحدة فلا يسمحون له بأن يدخل الضفّة وغزّة ليطلع على المخيّمات. معنى ذلك أنّ أميركا تلتزم بأمن "إسرائيل" وبسيادتها وبكلّ ما تقوم به. وهي تعرف مقدَّماً أنّ أغلب العالم العربي لن يحرِّك ساكناً، لأنَّ أغلب الحكّام يريدون الستر من أميركا ومن "إسرائيل". وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، حتّى نستطيع أن نربك كلّ الخطط الأميركية ـــ وحتّى الأوروبية ـــ التي تريد أن تضطهد وتصادر حريّته ومستقبله. وقد يتعبنا ذلك كثيراً، وقد يكلّفنا كثيراً، ولكن لا خيار لنا إلاّ أن تكون لنا إرادة الصمود أمام المستقبل، الذي يراد لنا فيه أن نعطيَ بأيدينا إعطاء الذليل ونقرّ إقرار العبيد. والأمور كلّها تسير من هذا الاتجاه.
الأصوليّة الإسلامية
في خطابه السنوي، أمام الدبلوماسيين، لم يجد الرئيس اللبناني مشكلة يثيرها في لبنان سوى الأصولية. إذ ليس في لبنان مشكلة اسمها مشكلة "إسرائيل" ولا مشكلة القوّات اللبنانية، ولا مشكلة الجيش الذي قصف الضاحية ودمّرها. المشكلة في لبنان هي هذه الأصولية، التي تريد أن تقف أمام الحضارة اللبنانية التي هي من أعلى الحضارات في المنطقة. إنَّ المشكلة في لبنان لدى رئيس الجمهورية هي الإسلام والإسلاميون الذين يلتزمون الإسلام بعمق!
ما سبب ذلك؟؟.. السبب في ذلك هو أنّ المسلمين لا يقرُّون الظلم الطائفي الذي تمارسه المارونية السياسية، وهم لا يقرّون الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فضلاً عن جبل عامل والمناطق الأخرى؛ ولأنّهم لا يسمحون بأن يكون لبنان مزرعة أميركية أو إسرائيلية أو أوروبية، بل يريدون أن يكون لبنان لبنيه.. لكلّ بنيه، لأنَّ المسلمين لا يتحرّكون من موقع سياسة اللّف والدوران، وإنّما يريدون للشعب أن يعيش القضايا بوضوح. ولعلَّ السبب في الارتباك العربي بالنسبة إلى انتفاضة الضفّة الغربية وغزّة هو أنّها انتفاضة إسلامية، تريد أن تتكامل مع الانتفاضة الإسلامية في لبنان، لتتكامل مع الانتفاضة في مصر وفي غيرها. ولهذا فإنَّهم يحاولون أن يحتووها ويدجّنوها ويطلقوا شعارات تريد أن تستلب هذا الوهج، الذي استطاعت أن تأخذه.
إنّهم يحاولون أن يمنعوا أيَّ تواصل إسلامي، لأنَّ التواصل الإسلامي يعمل على أساس أن يواجه المسلمون قضية حريّتهم، كقضية لا مجال للتحدّث فيها؛ ولهذا فإنّهم يعملون الآن على إظهار المسألة في الضفّة الغربية وغزّة على أنّها مجرّد مسألة أمنية داخلية. وتقول مصر: لا بدّ أن تتعاملوا مع هذه الانتفاضة بغير هذه الطريقة. وحتّى مجلس الأمن يتحدّث عن القضية كقضية إسرائيلية داخلية تسيء فيها "إسرائيل" للنّاس هناك، لا على أساس أنّها قضية شعب يريد أن يتحرَّر، وقضية حريّة ضدّ "إسرائيل" وضدّ احتلالها.
وهكذا الأمر في لبنان؛ إذ نرى أنّ محاصرة قرية لبنانية في الجنوب ومنع دخول الأغذية والأدوية إليها لا تشكّل مشكلة بالنسبة إلى الساحة السياسية اللبنانية.
وليس هناك مَن يتحدّث عن قصف "إسرائيل" لإقليم التّفاح في جبل عامل أو قصفها لمناطق من صيدا وقتلها العديد من العوائل فيها؛ ولو أنّ طفلاً إسرائيلياً قتل على الحدود، لاهتزّ العالم وتوالَت برقيات رؤساء الدول مستنكرة وحشية قتل الأطفال!!
نقول في الختام: إنَّ المسألة الفلسطينية طويلة، والمسألة اللبنانية طويلة، ومسألة الخليج طويلة.. هذه مسائل طويلة. وإذا أراد البعض أن يخدّرنا بالقول: إنّ المشكلة ستُحلُّ غداً أو بعد غد، فعلينا أن نعرف أنّ الوقت طويل طويل، وأنّ علينا أن نتعايش مع المشكلة، وأن نقلِّع شوكنا بأظافرنا، وأن نظلّ مع قرار الحسين (عليه السلام) حين قال: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد"(1).
والحمد لله ربّ العالمين
الكلمة الطيّبة والكلمة الخبيثة(*)
قال الله تعالى في كتابه الكريم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ*وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ*يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 24 ـــ 27] في هذه الآيات يريد الله سبحانه وتعالى أن يقدّم الفكرة، في ما نعيشه في الحياة من سلوك ومن خطوط ومن مناهج ومن علاقات، بطريقة ضرب المثل حتى نفهم الجانب المعنوي من الأشياء من خلال الجانب الحسّي، لأنَّ الإنسان عادة يفهم القضايا الفكرية من خلال القضايا الحسيّة.
إنَّ الله سبحانه وتعالى يريد منّا أن نتمثّل هذه الصورة في ما نشاهده في الأرض، فنتصوَّر شجرة طيّبة تضرب جذورها في أعماق الأرض وتمتدّ فروعها في آفاق السماء، وهي تُنتج في كلّ وقت، ليس لها موسم معيّن، وليس لها وقت معيّن، بل إنّها تعطي ثمرها كلّ حين بما جعله الله لها من حيويّة الإنتاج ومن ديمومته. نتصوَّر هذه الشجرة ثمّ نتصوّر شجرة أخرى؛ شجرة خبيثة لأنّها ليست ممتدة في جذورها تحت الأرض، وإنَّما تنبت في السطح ولا تمتد في الأعماق. ومن الطبيعي عندما لا تنفذ إلى الأعماق فإنّها لا ترتفع إلى الفضاء، لأنّها لا تملك قوّة الامتداد في الفضاء وهي لا تملك ثمراً إلاّ الثمر الخبيث. إنَّنا نتصوَّر هذه الشجرة وتلك، ثم بعد ذلك نتصوّر الفكر من خلال ذلك.
الشجرة الطيّبة
إنَّ الله سبحانه وتعالى ـــ يقدّم لنا الكلمة الطيّبة لنفهمها من خلال الشجرة الطيّبة، ليقول لنا إنّ الكلمة الطيّبة تمثّل الكلمة التي تمتد جذورها في أعماق مصلحة الإنسان وحياته، وتنطلق من خلال عمق الحقّ الثابت في الحياة. فلها ثبات من خلال أنّها تمتدّ في أعماق حياة الإنسان، وفي أعماق الحياة كلّها في ما تمثّله من الارتباط بعمق الحقّ. ثمّ هذه الكلمة الطيّبة، تماماً كما هي الشجرة الطيّبة ترتفع في السماء، لأنّها تعطي للإنسان وللحياة من نتاجها على مستوى الفكر، وعلى مستوى حركة الحياة وغذائها وعلى مستوى العلاقات الإنسانية، فهي تؤتي ثمارها ونتائجها في كلّ وقت. إذ ليس للحقّ موسم معيّن، وليس للخير زمان معيّن وليس للصلاح وقت معيّن. فنحن نحتاج إلى الخير في كلّ وقت ليغذّي حياتنا، ونحتاج إلى الصلاح في كلّ وقت ليقوّمها، وفي كلّ موسم نحتاج إلى الحقّ ليركّز حياتنا في كلّ المجالات.
الشجرة الخبيثة
أمّا الكلمة الخبيثة فلا جذور لها، لأنّها لا تنطلق من مواقع الحقّ في الفكر، بل هي حالة انفعال. فحين تشتهي شيئاً تدفعك شهوتك إلى الكلمة، وحين تغضب يدفعك غضبك إلى الكلمة، وحين تعادي أو تحبّ يدفعك عداؤك أو محبّتك إلى الكلمة.. فهي كلمة تنطلق من الحالات الطارئة في شخصيّتك ولا تنطلق من الحالات الثابتة فيها. ولهذا فإنّها سرعان ما تتبخَّر وتنتهي ولا يبقى منها شيء.
مصداق الكلمة الطيّبة
إنَّ الله يريدنا أن نتذكَّر حياتنا جيّداً من خلال هذا المثل. فكيف نفهم الكلمة الطيّبة في ما أراده الله منها؟ وكيف نفهم الكلمة الخبيثة في ما أراده الله منها؟
إنَّ أوّل مصداق للكلمة الطيّبة هو كلمة التوحيد، أي الإيمان بالله والإيمان بوحدانيّته، فهو وحده الإله، وحده المعبود، وحده المطاع، وهو وحده الذي تتوجّه إليه الأفكار والقلوب.
والكلمة الطيّبة ثابتة، لأنّ ثباتها ينطلق من أزليّة الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ فهو الأول وهو الآخر. الأوّل لا من عدم، والآخر الذي لا ينتهي إلى عدم. فهو الأزلي وهو المطلق الذي شملت قدرته كلّ شيء، واتّسع علمه لكلّ شيء، وتدخل تدبيره في كلّ شيء. وهو الذي أعطى كلّ شيء وجوده وحركته، وغذاءه. ومن هنا فالإيمان بالله هو الكلمة الطيّبة التي تمتدّ جذورها في أعماق الحياة، لأنَّ الله وحده الحقّ، وحده الثابت وكلّ ما عداه زائل، وحده الباقي وكلّ ما عداه فان، وهو وحده الحيّ وكلّ ما عداه ميّت. فهو الله الذي لا إله إلا هو. وهذه هي الكلمة الطيّبة.
مصداق الكلمة الخبيثة
أمّا الكلمة الخبيثة فهي الشرك والإلحاد، لأنَّ الإلحاد لا يستمدّ مواقعه الفكرية من العلم، بل يستمدّها من خلال الجهل. والشرك يستمدّ مواقعه من استغراق الإنسان في قوّة مَنْ حوله، ممّن يملكون قوّة وهمية يخترعها الإنسان من نفسه، أو يملكون قوّة حقيقية لا ثبات لها في الحياة، لأنّها قوّة مستمدّة من خالق القوّة، ولأنّها قوّة مستعارة. فكلّ الأقوياء يملكون قوّة مستعارة، كما أنّ حياتهم مستعارة، وكما أنّ أجسادهم مستعارة، وكما أنّ كلّ شيء عندهم هو مستعار، لأنَّ الله يستردّ رعايته في أيّ وقت يريد: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ...} [الحج : 62]. لنتساءل عن أيّ شخص يراد له أن يُعبَد؛ كم يمكن له أن يعمّر؟! وعن أيّ قوّة يراد لها أن تهيمن كم يمكن لها أن تدوم؟!
إنَّ قوّة الله وحدها التي تدوم، وكلّ قوّة سواها ستزول، وبذلك فكلّ ما يتعلَّق بها سيذهب، وكلّ عبادتها وطاعتها ستذهب وستذهب معها كلّ التهاويل التي تحيط بها ويبقى الله هو الحقيقة.
الشرك هو الكلمة الخبيثة في العقيدة وكذلك الإلحاد، لأنّه لا يملك عمقاً في الوجود، ولا عمقاً في الحقيقة. أمّا الله فهو العمق في كلّ شيء لأنّه هو عمق كلّ شيء، وكلّ شيء يستمدّ عمقه من الله.
الإسلام والكلمة الطيّبة
والإسلام ـــ بعد ذلك ـــ هو الكلمة الطيّبة التي أصلها ثابت، لأنّه يستمدّ كلّ شرعيّته من الله، فهو ليس فكر بشر؛ حتّى لو كان البشر رسول الله، لأنّ الله عندما أوحى إليه برسالته قال له: لا تزد حرفاً ولا تنقص حرفاً في ما أوحيت إليك، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 ـــ 46] أي لا تزد حرفاً ولا تقل أيّ شيء إلاّ ما أوحى الله به إليك، فلستَ حرّاً في أن تقول للناس ما تنفعل به أو ما تحبّه وتهواه، ولكنّك تتحدّث إلى الناس في ما أوحى الله به إليك: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ـــ 4] فإذا كان الإسلام كلمة الله ووحيه، وإذا كانت شريعة الإسلام ـــ في كلّ حلالها وحرامها ـــ هي شريعة الله فعليك أن تسلم لكلّ حلال الله ولكلّ حرامه.
لكَ حريّة في أن تعترض، لأنّك قد تعترض على كلمات مخلوق يمكن أن يخطئ أو يصيب، ولكن كيف تعترض على كلمة ربّك بعد أن تؤمن بأنّها كلمته: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ...} [الأحزاب : 36]. ليست لك الحريّة في ذلك، بل حريّتك أمام الناس أن ترفض هذا إذا لم تقتنع به، وتلتزم بذاك إذا اقتنعت به. ولكن طأطئ الرأس لكلمات ربّك. وإذا فهمتها فاحمد الله على الفهم الذي يتحوّل إلى طاعة، وإذا لم تفهمها فقل: الله أعلم بأسرار أحكامه وآياته: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 ـــ 163].
قول الله هو الثابت، وكلّ شيء غير قوله فهو إلى زوال. قول الله هو الطيّب الذي تحلو ثمرته وهو الذي يتأكّد في حياته. وكلّ شيء لا يتّصل به فهو الخبث كلّه والاهتزاز كلّه. من هنا فحين يقول الله: {... وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم : 25] فإنّه يقول: التزموا الإسلام بكلّ عمقه، لأنَّ الإسلام عميقٌ عمقَ إرادة الله، ولأنّه ممتد في الكون كلّه امتداد قدرة الله، ولأنّه يعطيك الثمر الطيّب في الدنيا وفي الآخرة كما يعطيك الله غذاءه ونعمته في الدنيا والآخرة، فالتزموا كلمة الإسلام ولا تلتزموا كلمة الكفر.
القرب من الله وسكينة النّفس
حاول ألاّ تهتزّ في انتمائك، ولا تستبدل بكلمة الإسلام كلمة، حتّى لو أغراك الناس، ولا تفقد شجاعة الالتزام بالإسلام حتّى لو انصبَّت كلّ اتّهامات الدنيا على رأسك، لأنّك عندما التزمت بالإسلام فإنّك تلتزم بالله، وإذا لم تلتزم بالإسلام فإنّك انفصلت عن الله وعن رحمته، وكذلك إذا انفصلت عن إسلامك فإنّك تفقد الحياة الروحية، التي تبعث الطمأنينة والرضى والأمن في كلّ حياتك. إذ يريد الله لك أن تشعر بأنّك مطمئن في حياتك، تفعل ما تفعل على أساس أنّ في عملك رضى الله، وحينئذٍ تعرف أنّك سائر في طريق الله، فلا تهمّك النتائج لأنَّ هناك نتيجة واحدة تصل إليها وهي الله. وهذا ما عبَّر عنه الإمام الحسين (عليه السلام) في ما روي عنه:
ولستُ أُبالي حين أُقْتَل مسلماً على أيِّ جنب كان في الله مصرعي
وعندما تنطلق لتنتهي حياتك في طريق الله، وأنتَ تشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله؛ فإنَّك تموت على ما مات عليه محمّد وتحيا على ما حيي عليه محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
انظروا إلى الفرحة التي كانت تهزّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ودماؤه تسيل من رأسه وهو يعاني كلّ الآلام حين قال: "بسم الله وبالله وعلى مِلَّةِ رسول الله فزتُ وربّ الكعبة"(1).
الإسلام وشموليّته
لعلَّ الكثيرين يريدون أن يوجدوا فصلاً بينكم وبين الإسلام، وقد يعملون على أن يفصلوكم عن الإسلام في بعض الجوانب، إذا لم يستطيعوا أن يفصلوكم عنه في كلّ الجوانب. فهم يقولون لكم كونوا مسلمين في الصلاة والصوم، وكونوا كافرين في العادات والتقاليد الاجتماعية.
كونوا مسلمين في دعائكم وابتهالكم وخشوعكم، وكونوا كافرين في اقتصادكم وسياستكم وأوضاعكم. إنّهم يريدون أن يفصلوكم عن الإسلام في الحياة، ليبقى إسلامكم إسلام المسجد الذي يغلق كلّ أبوابه عن الحياة؛ والله يريدكم أن تدخلوا المسجد لتنفتحوا عليه في كلّ رحابه وآفاقه وفي كلّ عظمة أخلاقه، حتّى إذا دخلتم المسجد أخذتم من الله تلك الرحابة وتلك القِيَم الأخلاقية، وانطلقتم من المسجد مُطَهَّرين في أفكاركم وفي مشاعركم وفي حياتكم، ليكون المسجد هو الباب الذي ينفتح على الحياة لا الباب الذي ينغلق دونها.
وعندما تلتزمون الإسلام ككلمة طيّبة في الانتماء والعقيدة، والحركة، والنهج، والحياة، فإنَّ عليكم أن تنفذوا إلى داخله، لتجعلوا حلاله حلالكم وحرامه حرامكم وأخلاقه أخلاقكم.
فإذا قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119]. فعليكم أن تبحثوا عن علاقاتكم وعن أنفسكم: هل أنّكم تؤمنون بالصدق في الحياة أم تؤمنون بالكذب؟ وهل تنطلقون من موقع الحقّ عندما تؤيّدون أو ترفضون، أم تنطلقون من موقع الباطل في ذلك؟ وهل تبيعون مواقفكم للظالمين وللمستكبرين، أم تكون مواقفكم كلّها لله لأنّكم بعتم أنفسكم له كما باع عليّ نفسه؟ {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة : 207] فإذا كنتم قد بعتم أنفسكم لله، فليس لكم بعد ذلك أن تحبُّوا إلاّ ما يحبّه الله، أو تخوضوا في عمل إلاّ في ما يرضي الله، لأنَّ كلّ وجودكم هو ملك لله تعالى.
رضى الله هو المعيار
ومن هنا ينبغي أن نجاهد أنفسنا، وننزع من حياتنا فكرة الاهتمام برضى فلان أو فلان، لأنَّ هذا هو المقتل الذي تسقط فيه مبادئنا ومواقفنا وأوضاعنا. ولنكن من الذين يفكّرون برضى الله.
وإذا كنّا نفكّر برضى الناس، فليكن ذلك على أساس ارتباطه برضى الله وانفصاله عنه. وهذا هو الذي يريدنا الله أن نؤكّده في حياتنا بأن يكون الله وحده الذي نهتمّ برضاه وإنْ غضب الناس كلّهم. وهذا ما نتعلَّمه من سيرة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) خلال دعوته، فبينما كان يهاجمه الناس ويسبُّونه ويشتمونه ويلقون القذارات عليه، لم يكن يلجأ إلى بعضهم ليدافعوا عنه أو ليخفّفوا عنه الضغط، إنّما كان يلتجئ إلى الله فيحدّثه عن ضعفه طالباً منه القوّة، ويحدّثه عن وحدته التماساً لنصرته، وكان يخاطب الله ـــ تعالى ـــ بعد كلّ ما يلاقيه من كيد الناس وعدائهم قائلاً: "يا ربّ المستضعفين إنْ لم يكن بكَ عليَّ غضبٌ عليَّ فلا أُبالي" وتلك هي الروح التي أراد الإسلام أن يجعلها روحنا، وتلك هي الثقة العميقة التي أراد أن يؤكّدها في نفوسنا، ليكون أحدنا الإنسان الذي يواجه العالم، لا من خلال انتفاخ الشخصية، أو عنتريّة القوّة ولكن من خلال الإحساس القويّ بأنَّ الناس لو أرادوا به سوءاً ولم يرد الله ذلك فلن يقدروا على النَيْلِ منه، ولو أنّ الناس أرادوا أن ينصروه ولم يرد الله نصرته فلن تجديه رغبة الناس نفعاً.
من هنا فإنّك تشعر بالقوّة تشمل كلّ كيانك، ما دمت تعرف أنّك على الحقّ، فتقف لتقول لصاحبك لا تحزن إنَّ الله معنا وتلتفت إلى الذين يخوّفونك من الناس لتقول لهم: حسبنا الله ونِعْمَ الوكيل. لأنّك تعلم أنّ الله هو الكافي، الذي يكفي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء؛ وهو وكيلك، يدبّر أمرك ويرعى حياتك وينظّم لك موقفك وأنتَ تسير في طريقه.
نحن نحتاج أن نعيش روح البدريين الذين ثبتوا، وروح الكربلائيين الذين انطلقوا في خطّ بدر ووقفوا على هذا الأساس، وروح عمّار بن ياسر الذي كان يرى الهزيمة في بعض المواقع وهو مع عليّ (عليه السلام)، والناس يرتابون لأنّهم يُهزَمون.. فقال لهم: "والله لو هزمونا حتّى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ وأنّهم على الباطل"(1).. ذلك لأنَّ الحقّ لا يتعامل مع الأشياء الطارئة في الحياة، بل يتعامل مع نهايات الحياة وعواقبها.
عدوّ الله ... عدوّنا
يتبيَّن من هذا أنّ الكلمة الطيّبة تعني الروح الطيّبة، التي ترتبط بالله سبحانه وتعالى، فإذا انفصلنا عنها فإنّنا ننفصل عن كلّ ثبات في الحياة {... وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج : 31]. هذه هي الكلمة التي نريد أن نعيشها في كلّ حياتنا العامّة والخاصّة وننطلق على هذا الأساس، لنحدِّد في الحياة الكلمة الطيّبة من خلال تحديد المفاهيم التي أرادنا الله أن نعيشها في الحياة حتّى نحدِّد أعداءنا وأصدقاءنا، باعتبار أنّ أعداءنا هم أعداء الله.. أعداؤه في العقيدة وفي الحركة وفي الأخلاق، وفي السياسة، وأعداؤه في كلّ مواقع الحياة الأمنية والاقتصادية والعسكرية. وقد قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام) وهو يتحدّث عن هؤلاء الناس الذين يريدون أن يتقرَّبوا إلى أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) على أنّهم شيعتهم.. قال: "والله ما شيعتنا إلاّ من اتّقى الله وأطاعه وكانوا يعرفون بالتواضع والتخشّع والصدق وكانوا أُمناء عشائرهم في الأشياء أفيكفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟! أيكفي أن يقول الرجل أحبّ عليّاً وأتولاّه ثمّ لا يكون فعّالاً لما عرفه عن عليَّ (عليه السلام)؟ أفيكفي الرجل أن يقول أحبّ رسول الله ثمّ لا يعمل بسنّته؟!" ثمّ قال لهم خذوا القضية على مستوى العلاقات؛ فليس الشيعي من رفع شعار حبّنا فقط، لأنّنا لم نفتح حساباً مستقلاًّ عن الله، إنّما الشيعي هو من يطيعُ الله ويتّقيه. فمن لم يطعه ولم يتّقه فليس بشيعي، وإن هتف بحبّ أهل البيت، ومن عاش في الخيانة وخان الأُمّة في حياتها وفي كلّ واقعها، وعمل مع الظالمين فليس بشيعي وإنْ كان ينحدر من مئة أب في هذا الاتجاه، إذ ليست المسألة انتماءً أو كلمة أو عاطفة. إنّما تكون شيعياً بقدر ما تكون مسلماً تقيّاً، وتكون شيعياً بقدر ما يسلم الناس من يدك ولسانك لأنّك ـــ حينئذٍ ـــ تكون مسلماً، وليس التشيّع شيئاً زائداً عن الإسلام، بل هو عمق الإسلام في صفائه ونقائه وشريعته. وقد قالها الإمام الباقر: "مَنْ كان وليّاً لله فهو لنا وليّ ومَنْ كان عدواً لله فهو لنا عدوّ، والله لا تُنال ولايتنا إلاّ بالورع"(1) فليس الولاء لأهل البيت مجرّد عاطفة، إنّما هو التزام وموقف.
وأهل البيت ليس لديهم إلاّ الإسلام، وليس لديهم إلاّ الحقّ. وقد قالها الإمام عليّ (عليه السلام): "ما ترك لي الحقّ من صديق" وقالها الإمام زين العابدين: "أَحِبُّونا حبّ الإسلام لا حبّ الذّات والعاطفة". من خلال ذلك لا بدّ أن نفهم أنّ حبّ أهل البيت هو العبودية لله والالتزام بشريعته، والسير معها بكلّ مجالاتها، فلا تغرَّنا العناوين والاصطلاحات، فمن كان عميلاً للظالمين والخائنين والمستكبرين أو كان مناصراً للمنحرفين فليس بشيعي.
الاستعداد ليوم الحساب
لنفكِّر دائماً كيف يكون موقفنا أمام الله؟ وكيف نجيبه إذا سألنا؟ وكيف نتوجّه إليه إذا خاطبنا؟
ربّما كان بإمكاننا ان نقول لله تعالى: يا ربّنا لقد آمَنَّا بك وبرسولك.. وأطعناك واتّقيناك في حياتنا، ولكن سيطر الشيطان علينا في بعض ذلك، فاغفر لنا، لأنَّنا أحببناك ولأنَّنا أطعناك في مواضع أخرى. أمّا إذا كانت حياتنا كلّها كفراً ونفاقاً وضلالاً ودجلاً ومحاولة للاجتماع بفلان والانتماء إلى فلان والسير في ركاب فلان والابتعاد عن الله وعن أوليائه، فكيف يكون موقفنا أمام الله؟!.
لقد كان زين العابدين (عليه السلام) في بعض ابتهالاته يقول: "ويلي كُلَّمَا طالَ عمري كَثُرَتْ خطاياي ولمْ أتب، أَمَا آنَ لي أنْ أستحي من ربّي"(2). لذلك علينا أن نفكّر في الوقوف أمام الله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين : 6]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار : 19]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل : 111].
قد نحتاج أن نبحث عن الكلمة الطيّبة التي نستطيع أن نخاطب الله بها، فالتوبة كلمة طيّبة والندم على ما مضى كلمة طيّبة، والاستعداد لتصحيح الموقف كلمة طيّبة، والسير مع العادلين ومع المتّقين ومع المتّقين ومع المؤمنين كلمة طيّبة أيضاً، ذلك لأنّه يعطيك الأساس في النجاة والثبات في الدنيا والآخرة: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ...} [إبراهيم : 27] لأنَّ الظالمين يتركون الله، ومَنْ ترك الله ضاع.
الدخول في عمق الحياة
لا بدّ أن نستشعر وجود الله في كلّ شيء ونخطِّط لحياتنا من خلال ذلك، لأنَّ الحياة فرصة والفرصة قد لا تعود. ولستُ أدعو ـــ بذلك ـــ إلى الهروب من الدنيا والانهزام من المسؤولية والاختباء في زاوية من زوايا الحياة، إنّما أدعو إلى دخول الحياة بكلّ أعماقها، وتحمّل المسؤولية في كلّ مواقعها، وأقول لكم: كونوا المسؤولين أمام الله عندما تعبدونه وعندما تتحرّكون في حياتكم المادية والعملية، وعندما تتحرّكون في المواقع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والأمنية.
وحاولوا أن تستحضروا ذكر الله معكم في كلّ موقع من مواقع المسؤولية.. اذكروا الله قبل أن تذكروا الشخص الذي يشرف عليكم واهتموا برضى الله أكثر من رضاه. ولستُ أدعوكم إلى التحرّك في اللامسؤولية، إنّما أدعو إلى عدم طاعة المسؤول إذا كانت أوامره تستدعي معصية الله، فإذا كان خداع المسؤول ممكناً، فخداع الله غير ممكن، لأنَّ الله ـــ تعالى ـــ لا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف : 49] في هذا الاتّجاه ينبغي أن نفكِّر ليستقيم مجتمعنا وحياتنا وليستقيم اقتصادنا وسياستنا، ولننطلق في الحياة من خلال قاعدة الإسلام، وقاعدة رضى الله في كلّ أمر من أمورنا، في الحياة العامّة والخاصّة. وعندما نحصل على ذلك وننفتح فيه فسوف نستطيع أن نثبت في المواقف وسوف لا تهزمنا القوى ولا ننحرف عن الطريق.
ثقة المجاهدين بأنفسهم
وهذا ما لاحظناه في التجربة الجهادية التي عاشها المجاهدون في جنوب لبنان، في جبل عامل وفي البقاع الغربي وقبل ذلك في بيروت. عندما اكتشف المجاهدون طريق الله في جهادهم، صاروا يُخوِّفون العالم، وعندما تحرَّكوا من موقع يعتمد على أنّ الله هو الذي يجب أن يرضى وأنّه لا مشكلة إذا لم ترضَ أميركا وأوروبا و"إسرائيل"، عند ذلك اكتشفوا مواقع القوّة أمام كلّ هؤلاء، واكتشفوا كثيراً من نقاط الضعف في مراكز هؤلاء ومواقعهم. فأنتَ لا تستطيع أن تكتشف مواقع الضعف في خصمك، عندما تستطيع أن تثبت في موقفك وعندما تعطي نفسك الحريّة في أن تهدأ لتراقب ولترفض ولتخطِّط ولتكتشف. أمّا إذا كنت مبهوراً بخصمك ومهتزّاً في مواقفك، فكيف تستطيع أن تبصر في خصمك مواقع ضعفه؟ إنّك لا تستطيع إلاّ أن تبصر مواطن قوّته ومواطن ضعفك وهذا ما يجب أن نتفاداه. من هنا عندما اكتشف المجاهدون ما اكتشفه البدريّون والأحدويّون وكلّ المسلمين الذين عاشوا مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكلّ الذين عاشوا مع الحسين (عليه السلام) عندما اكتشفوا ذلك، ووضح الطريق أمامهم ووضحت القوّة، استطاعوا أن يفعلوا الكثير وأن يحصلوا على الكثير.
قد يسمّيهم العالم متطرّفين، وقد يسمّيهم مجانين، وقد يسمّيهم إرهابيين، وقد يسمّيهم متعصّبين، ولكنّ الله سمّاهم المسلمين المؤمنين. ليس مشكلة أن يسمّيك الناس بأيّ اسم، لأنَّ الناس كلّهم سيفقدون كلّ أسمائهم يوم القيامة ويبقى اسمٌ واحد أنّك عبد الله. وبمقدار ما تتأصَّل عبوديّتك لله في روحك وفي موقفك، يتأصّل انتماؤك إلى الله، لتكون العبد المخلص له يوم القيامة. لهذا ليس مشكلة ما يطلقون من الأسماء فليقولوا ما يشاؤون فإنّنا لا نستعير الثقة بأنفسنا من إعلانهم ولكنّنا نستعير الثقة بأنفسنا والقوّة في موقفنا من إيماننا بالله وحده.
وهكذا رأينا أنّ الانطلاقة الإسلامية تحرَّكت منذ أن تحرَّكت في إيران بقيادة الإسلام، الذي قاده وقاد حركته الإمام الخميني ـــ حفظه الله ـــ واستطاع أن يبعث في العالَم روحاً جديدة هي روح الإسلام. إنّه حدَّث الناس عن الإسلام ولم يحدّثهم عن الفرس، أو عن أيّة قضية جغرافية أو محورية. ولكنّه حدَّثهم عن الإسلام وعن أحكامه وروحه وعن عرفانه وتقواه.
وكان في حديثه ينقل الفكرة والتطبيق معاً، لأنّه حرَّك الفكرة من خلال التجربة، ولم يحرِّكها فقط من خلال التنظير.
الجهاد يخلق الانتفاضة
وهكذا لاحظنا أنّ المسألة الفلسطينية لم تُخف "إسرائيل" ولم تُخف الاستكبار العالمي، لأنّها كانت تتحرّك في ملاعب أروقة الأنظمة التقليدية التي صنعها الاستعمار، ولأنّها كانت تستمدّ قوّتها من أصحاب الجلالة والفخامة والسموّ والسيادة لا من الله، لأنّها تخاف عندما تطلق اسم الله أن يتعقَّد منها من لا يؤمنون بالله، ولهذا كان العنوان أنّ كلمة الله ممنوعة في حركة الجهاد والمقاومة. واكتشف الشعب الذي عاش تحت الاحتلال ولم يعش في المكاتب الفخمة، اكتشف هناك في الضفة الغربية وفي غزّة أنّه لن يحميه شيء من مصادرة إنسانيّته ومن مصادرة حريّته، إلاّ الإسلام. ولهذا انطلق من خلال الإسلام بكلّ بساطة، فتحوَّلت الجامعة في غزّة إلى جامعة إسلامية، والساحة إلى ساحة إسلامية، وانطلقت كلمة الجهاد بعد أن استبدلوها بكلمة الكفاح وكلمة الثورة. ولكن رأى المسلمون أنّ هذه الكلمات قد تكون كلمات معبّرة ولكن كلمة الجهاد تختزن كلّ تاريخ الإسلام، فهي تحمل القرآن في مضمونها، وتحمل محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في عنوانها، وتحمل كلّ شهداء الإسلام من بدر حتّى الآن، وهي توحي وتتحرَّك وتعطي وتعمق في الإسلام روحه، فاستبدلوا كلّ الكلمات بكلمة الجهاد، وحدّدوا الجهاد الإسلامي الذي يعرف كيف يبدأ ويعرف خطّ السير ويعرف كيف ينطلق. وهكذا رأينا أنّه عندما انطلق الإسلام في أعماقهم فقدوا الخوف من الموت في مواقفهم. وبهذا كانت الحجارة تواجه دبّابة، وكانت السكّين تواجه البندقية والرشّاش، وكانت العيون الغاضبة تحدّق في كلّ الرصاصات الحاقدة. لقد كانوا يريدون أن يعملوا ليخيفوا العدوّ، حتّى بعيونهم التي ينظرون بها. فبورك الإسلام الذي صنع هذه الانتفاضة، التي لا نريد أن ندخل مع الآخرين في جدل انتمائها، لأنّها فرضت نفسها على كلّ الواقع العالمي. ولهذا استمرّت في هذا الخطّ الذي يتحرّك على أساس أن يصل إلى نهاية كبيرة بكلّ ما عنده من طاقة. ونحن لا نتصوّر أنّهم يملكون قوّة غير واقعية ولكنّهم يعطون كلّ قوّتهم، لأنَّ الإسلام يريد منهم ذلك.
وهذا ما نريد أن نعيشه في كلّ حياتنا، أن نشعر بأنّنا جزء من هذا العمل الإسلامي الكبير، فلا نفكِّر بموقع الجهاد في لبنان منفصلاً عن موقع الجهاد في فلسطين، أو في مصر، أو في تونس، أو في إيران، أو في العراق أو في أيّ بلدٍ آخر. فنحن مسلمون تتكامل مواقعنا في الجهاد، وفي السياسة، وفي كلّ مجال. فكلّ موقع قوّة يعطي للآخر قوّة جديدة وكلّ موقع ضعف ينطلق الجميع من أجل أن يعطوه قوّة جديدة، وهكذا تتكامل الروح الإسلامية.
من هنا نحن نعتقد أنّ علينا ـــ وقد عاد الإسلام إلى فلسطين وعادت الروح الإسلامية من جديد إلى هذه الجماهير المسلمة ـــ أنّ علينا أن نشعر بأنّنا جزء من هذه الجماهير الإسلامية نتعاون معهم، ونتعاطف معهم ونتكامل معهم بكلّ ما عندنا من قوّة. وعندما يعلن الإضراب في هذا اليوم، ونحن نعتبر أنَّ الإضراب هو التعبير البسيط الذي هو أضعف الإيمان، ولكن لا بدّ أن نفكّر أنّ المسألة لن تنتهيَ عندما ينتهي يوم الإضراب، بل علينا أن لا نفهم الإضراب بطريقة استهلاكية، كما يفهمه كثيرٌ من الناس. فالإضراب جزء من موقف، فمن أضرب وترك عمله على أساس تأييد الانتفاضة فإنّه يؤمن بها ويلتزمها، يلتزم فكرها وسياستها وموقعها. ولهذا لا نريد أن يتحوّل الإضراب في أيّ عمل إلى حالة انفعالية أو عاطفية. بل ينبغي أن يكون جزءاً من العمل الكبير، لكي تشعر الأُمّة الإسلامية التي تريد أن تعبّر عن تأييدها بالإضراب بأنَّ المسألة ينبغي أن تتحرّك في اتّجاه دراسة الواقع كلّه، وأنّ الذين يؤيّدون الانتفاضة في فلسطين لا بدّ أن يؤيّدوا الانتفاضة في جبل عامل والبقاع الغربي باعتبار أنّهما تتكاملان، وأنّ تلك كانت من بعض أصداء هذه في حركتها الإسلامية الفاعلة، والكلّ بعض أصداء الثورة الإسلامية الكبيرة التي انطلقت في إيران. من هنا فإنَّ تأييد الانتفاضة هو تأييد للإسلام الذي قاد الانتفاضة، وتأييد للروح التي تتحرّك فيها الانتفاضة.
الازدواجية الأميركية
وعلى هذا الأساس يجب أن نعرف جيّداً أنّ الذين يلتزمون المسألة الفلسطينية في مواجهة المسألة الإسرائيلية، لا يمكن أن يلتزموا السياسة الأميركية، لأنَّ السياسة الأميركية قد انطلقت على أساس أنّها صنعت المشكلة الفلسطينية، عندما صنعت "إسرائيل" وأعطتها كلّ طاقتها العسكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية، والتزمت العدوان الإسرائيلي فوقفت أمام العالَم كلّه، لتمنع أن تدان "إسرائيل" ولو بالكلام. وآخر شاهد على ذلك هو "الفيتو" الأميركي على القرار، الذي يريد أن يمنع "إسرائيل" من عدوانها اليومي على أطفالنا ونسائنا وشيوخنا ومستشفياتنا وعلى كلّ بلادنا. إنَّ المندوب الأميركي يتكلَّم بكلّ وقاحة، فيقول إنّ القرار غير متوازن، لأنَّ العنف على حدود "إسرائيل" من الجانب اللبناني، هو الذي يجتذب العنف الإسرائيلي. لهذا لا بدّ أن ندين العنف هنا والعنف هناك. ولكن لا أدري هل يستغفلون العالَم أم أنّهم هم المغفَّلون؟ ليسوا مغفّلين، ولكن مَنْ يشعر بقوّته يعتقد أنّه يستطيع أن يضحك على الناس!
كيف نساوي بين مَن يريد أن يحرّر بلده وبين مَن يحتلّ بلد الآخرين؟
كيف نساوي بين هذا العنف وذاك؟
لماذا إذاً تتحدّث أميركا عن أفغانستان، وحرب المجاهدين الأفغانيين ضدّ الاتحاد السوفياتي؟ أليس هو عنفاً متبادلاً؟!
ثمّ هناك مسألة نريد أن نثيرها مع أميركا بهدوء، وهي أنّنا عندما نتحدّث عن العنف فإنّنا نتحدّث عن عنف المقاتلين هنا وعنف المقاتلين هناك، ولكنّ "إسرائيل" لا تضرب المقاتلين فقط، بل هي تلجأ إلى ضرب المدنيين في بيوتهم الآمنة، وتلجأ إلى ضرب سيارات الإسعاف والمستشفيات وما إلى ذلك كلّما ضربها المقاتلون. هل إنَّ المدنيين هم الذين قادوا العنف؟!
موقف الحكّام العرب من الانتفاضة الفلسطينية
المشكلة هي أنّ أميركا تعرف أنّ الدوائر السياسية في المنطقة العربية وفي لبنان ليست مستعدّة لأن تردّ عليها منطقها إلاّ بالكلمات، لأنّهم التزموا السياسة الأميركية بالمطلق، فهذه السياسة الأميركية هي التي تحمي لهم عروشهم ومواقعهم. من هنا لاحظنا أنّ المصريين المسلمين، عندما خرجوا في تظاهرة تأييداً للانتفاضة الفلسطينية، قمعتهم السلطة المصرية بحجّة أنّهم يستغلّون هذه المسألة في أعمال سياسية أخرى أو شعارات سياسية أخرى. ولكنّ الحقيقة أنّهم يخافون من أن يتظاهر الناس، لأنَّ أيّة تظاهرة تخرج في مصر ضدّ "إسرائيل" فهي بطبيعة الحال ـــ حتى لو كانت صامتة ـــ ضدّ النظام المصري الذي تعاون مع "إسرائيل" وتحالَف معها.
وهكذا رأينا بالأمس أنّ تظاهرة خرجت في المغرب وقوبلت بالرصاص، فقتلت شابّة من المتظاهرين من قِبَل رئيس لجنة القدس، الذي يعمل ـــ على زعمهم ـــ على تحرير القدس ولكنّه يضرب الذين يؤيّدون القدس ويثورون وينتفضون لتحريره، لأنّه يعرف أنّ هذه التظاهرة التي وقفت لتأييد الانتفاضة، هي تظاهرة بشكلٍ غير مباشر ضدّ تعاطف ملك المغرب مع المسؤولين الإسرائيليين، وهو لم يستحِ من أن يعقد مؤتمر القدس أخيراً في المكان الذي استقبل فيه شيمون بيريز في المغرب.
الحقيقة أنّهم التزموا السياسة الأميركية، ولهذا فإنّهم لا يوافقون على أيّ موقف يمكن أن يشكّل خطراً على المصالح الأميركية، أو يمكن أن يثير عنفاً في مواجهة السياسة الأميركية، لأنَّ علينا أن نسبِّح ونقدّس بحمد أميركا ولا مانع من أن ننتقدها انتقاداً خفيفاً كي نحفظ ماء وجهنا من قبيل عتب الصديق على الصديق وعتب الحبيب على الحبيب، واعتبار أنّ العتاب صابون القلوب ودليل المحبّة.
إنَّ معنى التزامنا بالمسألة الفلسطينية، من خلال الجماهير الفلسطينية، يعني الالتزام بواجهة السياسة الأميركية في كلّ مجال من المجالات، وبالوقوف مع كلّ الذين يقفون ضدّ الهيمنة الأميركية.
المخيّمات الفلسطينية
والنقطة الأخرى التي نريد أن نثيرها أيضاً ونباركها، هي مسألة إغلاق ملف المخيمات في بيروت.. إنّنا نحبّ أن نؤكّد هذا الموقف الذي دَعَوْنا إليه قبل أسبوعين وطلبنا من الجميع أن ننتهي من هذه الحرب أمام إشراقة هذه الحرب المشروعة ضدّ "إسرائيل". لكن عوَّدتنا الأحداث أن نقلق وأن لا نؤمن بالحلول إلاّ بعد أن تتكامل عناصرها. لقد أغلِقَ ملف حرب المخيمات في شاتيلا وفي برج البراجنة، ويبدو أنّ الأمر سائر بشكلٍ معقول وطبيعي، لكن لا تزال مسألة مخيّمات الجنوب ومحيطها في صور وصيدا من دون حلّ. ونحن نتمنّى أن يشملها الحلّ، وندعو الجميع كلّهم إلى أن ينطلقوا بواقعية ودراسة عميقة، من أجل الوصول إلى حلّ يمنع تجدُّد هذه الحرب، كما ندعوهم إلى أن يغلقوا الملف كليّاً من خلال دراسة متوازنة بين المخيّمات وبين محيطها، على أساس أن لا تكون المسألة مجرّد مسألة أمنية طارئة ومجرّد مسألة عسكرية. إنّنا في الوقت الذي نؤيّد هذا الحدث الذي نتمنَّاه جميعاً وندعو إليه، نريد أن نسرع في إغلاق ملف المخيّمات في الجنوب، وندعو كلّ الفعاليات وكلّ العناصر الطيّبة إلى أن تعمل على ذلك، حتّى لا نصاب بصدمة، أو يصاب الحلّ بانتكاسة. لنكن واقعيّين في فهم المسألة ولا نحاول أن نكون انفعاليّين نبارك ربع الحلول التي يمكن أن تهزمها الثلاثة الأرباع الأخرى.
اغتيال السيّد مهدي الحكيم
وأخيراً لا بدّ لنا من أن نطلّ على مسألة الجريمة البشعة الوحشية، التي قام بها النظام العراقي في اغتياله العلاّمة السيّد محمد مهدي الحكيم (رضوان الله عليه) ـــ نجل المرجع الإسلامي السيّد محسن الحكيم (رضوان الله عليه) في الخرطوم ـــ مستغلاًّ فقدان الأمن والتآمر مع بعض القوى هناك، حيث كان شهيدنا الذي عاش حياته مشرّداً في سبيل الإسلام وفي سبيل القضية العراقية، قضية الشعب المسلم الذي يعاني ما لا يعانيه شعب في المنطقة.. عاش مشرَّداً مجاهِداً محاضِراً في كثير من المواقع في العالم، حيث كان يتنقّل من مؤتمر في بريطانيا إلى مؤتمر في فرنسا وفي أميركا وكندا والهند وافريقيا، من أجل أن يقوم برسالته ومن أجل أن يواجه الطاغية في سلطته الغاشمة حتّى يُسقطها.
إنّنا نعبِّر عن استنكارنا لهذه الجريمة، التي لم نستغربها من هذا النظام الذي كان ولا يزال الاغتيال هو النهج السياسي الذي يقوم به ضدّ كلّ الناس الذين يعارضون حكمه. وهو لم يغتل السيّد مهدي الحكيم فقط، بل يُمعن في اغتيال الشعب العراقي في هذه الحرب المجنونة المفروضة على الجمهورية الإسلامية.
إنّنا في الوقت الذي نشجب فيه هذه الجريمة، نتساءل أمام النظام الموجود في السودان، كيف يفسِّر لنا ما حدث، وكيف يمكن أن ينطلق هؤلاء بكلّ اطمئنان وبكلّ عقلٍ بارد وبكلّ هدوء، ليدخلوا إلى هذا الفندق الذي تجتمع فيه كلّ الوفود الرسمية هناك، من دون أن يتحرّك رجل أمنٍ واحد، وقد سمع الرصاص لأنّه لم يُستعمل كاتم صوت؟ كيف لم يحدث هناك أيّ شيء؟!
إنَّنا نتساءل وندعو الحركة الإسلامية في السودان إلى أن تعبّر عن موقفها وأن تتابع ذلك، لأنَّ هذا ليس مجرّد إساءة لشهيدنا، ولكنّه إساءة للإسلام كلّه وللحركة الإسلامية كلّها.. رحمه الله رحمة واسعة وعوَّض الأُمّة عن فقده.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وحدة الأُمّة من خلال
القيادة الصالحة(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً*أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً*وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} [النساء: 59 ـــ 61].
الانقياد لأوامر الله
هذا النداء الإلهي يريد أن يحدِّد للمؤمن طريقه، في ما يلتزمه في كلّ مواقع الحياة، وما هي حدود الطاعة في حياته وما هو خطّه، وما هو منهجه؟ وكيف يمكن له ـــ كمؤمن ـــ أن يُحدّد مواقعه في الحياة، ومَن يُطيع، ومَنْ يَعصي؟..
هناك الكثيرون من الناس، الذين ترتبط معهم برابطة القرابة أو الصداقة، أو ترتبط معهم برابطة الوطن أو القومية أو ما إلى ذلك، وقد يطلبون منك أن تطيعهم في ما يملكون من مواقع عاطفية في نفسك، أو في ما يملكون من مواقع سياسية أو اجتماعية في حياتك، فعليك ـــ كمؤمن ـــ أن تحدّد لنفسك مساحة الطاعة التي تتحرّك فيها، ويحدّد الله لك ذلك ليقول لك: عندما آمنت بالله ورسوله فإنَّ إيمانك يحدِّد لك ساحة الطاعة. وبعد أن صرت مؤمناً وعاش الإيمان في قلبك وفي فكرك، فلستَ حرّاً في أن تطيع من تشاء أو أن تعصيَ من تشاء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ} فالله ربّك، وهو الذي خلقك وأنعم عليك ورتَّب لك كلّ وجودك وسهَّل لك كلّ ما حولك وسخَّر لك ما في السموات وما في الأرض، فله عليك حقّ الطاعة؛ فأنتَ عبده وهو السيّد المطلق. وليس هناك شيء يمكن أن تجعله حاجزاً بينك وبين الله. وليس لك حقّ في أن تعترض على حكم من أحكام الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ...} [الأحزاب : 36]، إذا قال الله في كتابه شيئاً فعليك أن تحنيَ حياتك ووجودك لله، ولا يكفي أن تحنيَ ظهرك فقط.
أطيعوا الله في كلّ ما أمركم به وفي كلّ ما نهاكم عنه {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} في كلّ ما بيَّنه من تشريعات تتعلَّق بحياة الناس في عباداتهم وفي معاملاتهم وفي علاقاتهم، فالكتاب والسُّنّة هما المصدران الأساسيان في بيان كلّ ما أراد الله لنا أن نفعله أو نتركه.
أولو الأمر
ويأتي بعد ذلك: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}.. أطيعوا أولي الأمر، الذين جعلهم الله أولياء للأُمّة في حياتها، يركّزون لها الخطّ في الأجواء التي أراد الله لها أن تعيشها، وفي المنهج الذي أراد الله لها أن تتبعه. وأولو الأمر هؤلاء هم الأُمناء على حلال الله وحرامه، الذين هم ورثة الأنبياء. وليس كلّ مَن يلبّي أمر الأُمّة يجب أن يطاع، بل لا بدّ أن يكون ممّن يلتزم عقيدة الأُمّة وشريعة الله وخطّ رسول الله فيها، وممّن ينتمي إلى ما تنتمي إليه، ويخلص في عمله وفي علاقاته للإسلام: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة : 55]. ومن هنا قلنا إنَّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) هم أولو الأمر، لأنّهم انطلقوا في خطّ الله وفي خطّ رسوله، ولم يبتعدوا في كلّ مواقع حياتهم، في ما يأمرون الناس به وفي ما ينهونهم عنه، عن خطّ الله وعن خطّ رسوله. فكلامهم من كلام الله ومن كلام رسوله، وممّا يستوحونه في ذلك من عملية التطبيق. فهؤلاء هم أولو الأمر الذين أمرنا الله بطاعتهم. ويأتي من بعدهم من سار في هذا الخطّ من الفقهاء، الذين هم أُمناء الرسل والذين يتحرّكون ليؤكّدوا التزامهم بالله ورسوله، وليرفضوا أيّ التزام غير هذا الالتزام. وهؤلاء هم الذين لا بدّ للمؤمنين أن يلتزموهم وأن يطيعوهم، حتّى إذا سألهم الله غداً يوم القيامة: كيف أطعتم فلاناً؟ قالوا: قد اطعناه، لأنّه وليّ أمرنا من خلال شريعتك ومن خلال خطّك الذي رسمته لنا في كتابك. وقد قلت لنا: {أَطِيعُواْ... أُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} كما قلت لنا: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}.
من هنا فمسألة القيادة في المنطلق الشرعي لأيّة حركة في حياة الناس لا بدّ أن يهتمّ بها المؤمنون، حتّى يدرسوا جيّداً كيف هي شخصية القائد وما هي أفكاره وانتماءاته وارتباطاته، وما هو سلوكه في نفسه، وفي أهله وفي المجتمع؟ حتّى إذا استقام للأُمّة الفهم الكامل لشخصية القيادة، سارت معها على أساس أنّها تسير على الخطّ الذي تنتمي إليه وتخلص له. وهذا ما يجب أن ننطلق فيه في كلّ حياتنا العملية، من خلال خطّ الله ورسوله ومن خلال الالتزام بولاية أولي الأمر الذي يسيرون في خطّ الله وفي خطّ رسوله.
التحاكم إلى الله
ثمّ يقول الله للمؤمنين: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ} [النساء : 59].. أي إذا حصلت بينكم خلافات في وجهات النظر، على مستوى فهم الإسلام أو على مستوى تطبيقه أو على مستوى الواقع السياسي والاجتماعي الذي تتخبَّطون فيه وتتنازعون فيه، فتحاكموا إلى الله ليكون كلامه هو الحكم بينكم، ولا تتحاكموا إلى أحد ممّن يلتزم خطّ الشيطان وممّن انحرف عن خطّ الرحمن.
التزموا القرآن التزام وعي وفهم وتدبُّر، واجعلوه النور الذي تستضيئون به في ظلمات الحياة، واقرؤوه وتدبَّروه حتّى لا تختلفوا، وإذا اختلفتم فارجعوا إليه واقرؤوه وتدبَّروه وفَسِّروه، حتّى يُنهيَ ـــ بآياته وأفكاره ـــ كلّ خلافاتكم.
إنَّ الله أمرنا أن نتحرّك في هذا الخطّ كأُمّة واحدة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء : 92]. وإذا اختلفت الأُمّة الواحدة في داخلها، فعليها أن ترجع في خلافاتها إلى الله لتعرف كيف يحلّ كلام الله خلافاتها؟ وترجع إلى رسول الله، لتعرف كيف يحلّ بكلامه خلافاتها؟ وهذا ما نريد أنْ نتعلَّمه في حياتنا عندما نختلف.
الحوار بين المسلمين
من هنا نريد أن نقول للمسلمين، الذين يتنوّعون في مذاهبهم ويجعلون لأنفسهم دوائر مغلقة تحجز بعضهم عن بعض: إنَّ المذاهب اجتهادات في فهم القرآن وفي فهم السُّنّة، وإنّ المذاهب وجهات نظر في الإسلام، سواء في الكتاب أو في السُّنّة. فاستمعوا إلى قول الله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}. لا تقفوا بعيدين بعضكم عن بعض، ليراشق كلّ واحدٍ منكم صاحبه بحجارة الاتّهامات أو الكلمات، بل اجلسوا حول طاولة واحدة، وادرسوا كلام رسول الله وتحاوَروا فيه، وحاولوا أن تتوحَّدوا من خلال نتائج الحوار؛ لأنَّ التخاطب من بعيد ربّما يعقِّد كثيراً من الأمور، ويضيِّع كثيراً من الأفكار. وإذا كان التخاطب والحوار من مواقع الوحدة أكثر منه من مواقع الخلاف والابتعاد، فلماذا يخاف بعضكم بعضاً فلا تجتمعون؟! ولماذا يحذر بعضكم بعضاً فلا تلتقون؟ هل هناك أكثر من فكر يصارع فكراً؟ هل هناك أكثر من وجهة نظر تختلف عن وجهة نظر أخرى؟.
إذا كنتم تخلصون للفكر، فإخلاصكم له يفرض عليكم أن تحرِّكوا فكركم مع فكر الآخرين، وأن تجادلوا الآخرين بالحقّ وبالحكمة. وقد علَّمنا الله أنّ الأنبياء كانوا يجادلون الكافرين من شعوبهم، كما ورد في الآية الكريمة: {قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا...} [هود : 32] إذ كان نوح يجادل الكافرين حتّى ملُّوا من مجادلته، وهكذا بالنسبة إلى بقيّة الأنبياء. وقد أمرنا الله أن نجادل الناس بالحقّ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...} [العنكبوت : 46]، {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...} [النحل : 125]، وإذا كان الله يريد منّا أن نجادل الكافرين وأن نجادل أهل الكتاب، فإنّه ـــ تعالى ـــ يريد من المؤمنين والمسلمين أن يجادل بعضهم بعضاً، لأنّهم يلتقون على كتاب الله؛ فلماذا نهرب من ذلك؟ ولماذا يقول بعضنا لبعض: لا تتحدَّثوا في المسائل المذهبية ولا في المسائل الخلافية، لأنّنا نخاف من الحساسيّات ومن المشاعر الملتهبة، ولا تحاولوا أن تصلوا إلى نتيجة؟!
لماذا يخاف العلماء أن يتحاوروا وأن يجتمعوا وأن يعرض كلّ واحدٍ منهم وجهة نظره؟ فلعلَّنا نصير إلى وحدة في الرأي في الاجتهاد وفي الموقف.. ولماذا نُصِرُّ على أن يكون لكل واحدٍ منّا دائرته ومصالحه وامتيازاته الخاصّة، ليمارس الكفرُ والاستعمار دوره من خلال ذلك في فصل مصالح المسلمين السُّنّة عن مصالح المسلمين الشيعة، بينما يريد الله منّا أن نجتمع ولا نتفرَّق؟
حكم الله وحكم الطاغوت
إنَّ الأساس هو أن يكون ارتباطنا بالقيادات وبالناس وبالحياة وبكلّ المواقع.. من خلال شريعة الله ورسوله، ومن خلال حكم أولي الأمر المؤمَّنين على شريعة الله ورسوله. وعلى المسلمين ـــ جميعاً ـــ أن ينطلقوا في هذا الخطّ وفي هذا الاتجاه، ويرفضوا كلّ حكم الطاغوت وكلّ شريعته وكلّ سياسته وكلّ الموازين الاجتماعية لمجتمع الطاغوت، لأنَّ هناك حكم الله وهو ولي المؤمنين: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة : 257]، فكيف يكون الطاغوت ولياً لك من دون الله؟
عندما تلتزم الحاكم الذي يفكّر بغير ما يريد الله من فكر، ويحكم بغير ما يريد الله من حكم، ويتحرّك بغير ما يريد الله من حركة، فإنّه ـــ حينئذٍ ـــ وليٌّ لك من دون الله. ولستَ حرّاً ـــ إذا كنتَ مؤمناً ـــ في أن تلتزم من تشاء؛ فالإيمان خطّ أحمر يمنعك من الاندفاع إلى الطاغوت، كما قال تعالى مخاطباً نبيّه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء : 60].. لا ينبغي أن نلجأ إلى حكم الله إذا كان إلى جانبنا، ثمّ ننصرف عنه إلى حكم الطاغوت إذا لم يكن كذلك.
علينا أن نعرف أنّنا إذا توحّدنا بالشريعة وبكلام الله وكلام رسوله، فنستطيع أن نصل إلى نتائج كبيرة في حياتنا العامّة وفي حياتنا الخاصّة؛ لأنّنا نملك ـــ حينئذٍ ـــ أساساً نرتكز عليه. وهذا هو الأساس الذين استطاع المسلمون أن ينطلقوا فيه وهم في مواقع الضعف: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ...} [آل عمران : 123].. أي أنتم ضعفاء لا طاقة لكم ولكنّ الموقف الرسالي والطاعة لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هي التي استطاعت أن تدفع بكم إلى مواجهة القوّة الغاشمة على الرغم من كلّ ضعفكم.
عندما استشار رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الأنصار والمهاجرين، انطلق القول الإسلامي الحاسم: "يا رسول الله إنّها قريش وخيلاؤها وقد آمَنَّا بك وَصَدَّقْنا وشهدنا أنّ ما جئت به حتّى، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك والله لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة : 24] ولكنّا نقول امض لأمر ربّك فإنّا معك مقاتلون"(1) هذا الترابط بين القيادة الشرعية في خطّ الله وخطّ رسوله وبين الأُمّة، هو الذي يحقّق للأُمّة المسلمة قوّتها ومنعتها، لأنَّ أعداء الله ورسوله وأعداء الإنسانية لا يستطيعون أن ينفذوا بين القيادة والقاعدة، ليفتحوا ثغرة يستطيعون من خلالها أن يحقِّقوا ما يريدون. وهذا هو سرّ انتصار المسلمين وسرّ موقفهم الحاسم الذي أعطاهم القوّة والمنعة.
الثورة الإسلامية
هذه العوامل بعينها هي التي خلقت انتصار الثورة الإسلامية في إيران. ونحن نعيش ـــ في هذه الأيام ـــ أجواء السنة العاشرة لهذه الثورة، التي استطاعت أن تثبت وهي في جوّ العواصف القاسية الشديدة في جوّ الزلازل، التي يشعر الإنسان فيها بأنَّ الأرض تميد من تحته.
هل المسألة هي مسألة القيادة فقط؟
للقيادة دور كبير، ولكنّ القيادة وحدها لا تستطيع أن تفعل شيئاً. ولنأخذ قيادة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وقيادة أمير المؤمنين (عليه السلام) على ذلك مثلاً: لماذا انهزم المسلمون في أُحد، وقد كان رسول الله قائدهم؟.. ذلك لأنّهم لم يطيعوا القيادة في بعض مواقع المعركة، وعندما وجدت الثغرة بين القيادة وبين الأُمّة، وتركت الأُمّة طاعتها للقيادة، تغلَّب الأعداء عليها. ثمّ أيّة قمّة شامخة بعد رسول الله أعظم من عليّ؟ لقد كان القِمّة في الفكر والبطولة والتضحية والتخطيط، فلماذا لم يستطع أن يصل إلى ما يريد؟.. لأنّه كان يأتي إلى قومه في الصيف، فيقولون: انتظر حتّى تخفَّ الحرارة، وفي الشتاء حتّى يذهب البرد. قال لهم: "لَوَدَدْتُ والله ـــ أنَّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ منّي عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم"(1).
ليس لدينا قيادة بمستوى قيادة عليّ (عليه السلام)، ولكنّ القيادة والأُمّة هما سرّ الانتصار؛ وهما كذلك عندما يكون هناك رابط أساس يربط الأُمّة بالقيادة، لا أن يكون الرابط مجرّد علاقة شخصية مع القائد، بأن تحبّه الأُمّة أو تخلص له أو تنتفع من ماله، بل تكون هناك علاقة أساسية تربط الأُمّة بالقيادة، بحيث لا تنفصل عنها مهما كانت الظروف إلاّ أن تنحرف. وعندما تشعر الأُمّة بأنّ كلام القيادة ينطلق من كلام الله ورسوله، وأنّ تعليماتها تنطلق من خلال تعاليم الله ورسوله، وأن تطبيقاتها تنطلق من الوعي لكلام الله ورسوله، فإنّها تدرك ـــ حينئذٍ ـــ أنّها تسير في خطّ النجاة وخطّ الوصول إلى الله سبحانه وتعالى. وبذلك تكون المسألة كما قال الشاعر:
ولستُ أُبالي حينَ أُقتلُ مسلماً على أَيِّ جنبٍ كانَ في اللهِ مَصرعي
وهذا هو الشيء الذي استطاعت القيادة أن تربّيَ الأُمّة عليه، حيث ربّتها على أن تلتزم بحكم الله، على أساس أن ترتبط بشريعة رسول الله، على أساس أن تحبّ الله ورسوله، تحبّ أهل بيت رسوله وتحبّ كلّ المجاهدين من المسلمين. واستطاعت القيادة أن توجد في الأُمّة قاعدة تتحرّك في صلاتها من موقع الخطّ الفقهي، لتسأل الفقيه عن أحكام الصلاة، وتتحرّك في حجِّها وصومها وزكاتها وخمسها لتسأل الفقيه عن ذلك. ثمّ تتحرّك في سياستها وحربها وسلمها وأمنها لتسأل الفقيه عن ذلك.
الدين والسياسة
كان الفقهاء يحدّثون الناس عن الطهارة والصلاة والصوم والحجّ، ويتركون السياسة للزعماء وللطغاة والحاكمين ولغير أولئك، فشكَّلت المسألة انفصاماً في الأُمّة حين تصلّي في المسجد ثمّ تتحرّك لتحارب مع الكفر والضلال والفسق والفجور، لأنَّ الزعيم فاسق وفاجر ويتحرّك مع الكافرين في خططه. كانت الأُمّة تعيش ازدواجية، ولهذا كانت لا تندفع ولا تتحمَّس وكان الطغاة يثيرون عصبيّاتها. والمعروف أنّ الزعيم إذا أراد أن يسيطر على قرية، قسَّمها إلى قسمين وجعل كلّ قسم يحارب القسم الآخر، ليتعصَّب هذا لهذا وهذا لذاك، فكانت تُثار العصبية حتّى يجتمع الناس على الطاغية، وتثار الأطماع حتّى يتعلّق الناس به، ويُضلَّل الناس حتى يرتبطوا به. وجاء الفقيه العدل ليقول للناس: تعالوا إلى الإسلام كلّه.. ففي الصلاة سياستكم وفي السياسة روح صلاتكم، وفي الحرب جهادكم، وفي السلم الخطّ الذي يحفظ لكم مواقعكم.. وليس هناك انفصال بين الصلاة والجهاد، وبين العبادة والسياسة. فعندما تقول: "الله أكبر" فإنَّك ترفض أن يحكم كلّ الصغار بغير ما أنزل الله، وعندما تقول: "لا إله إلا الله" فإنّك تسقط كلّ الآلهة، ليبقى توحيدك لله وحده. وحتّى الصلاة تستطيع أن تفسّرها تفسيراً سياسياً، كموقف من المستكبرين وموقف من الطغاة ومن كلّ الظالمين.
القيادة الصالحة
من هنا، قال بعض العلماء، قبل الثورة الإسلامية، ليربّى الشعب المسلم في إيران على هذا الخطّ.. قال: ديننا سياسة وسياستنا دين؛ لأنّنا لا نبتعد في خطّ السياسة عن الدين. وهذا ما استطاعت الأُمّة أن تحقّقه، لأنّها كانت ترى في القيادة المتمثّلة بالإمام الخميني ـــ حفظه الله ـــ التقوى والمعرفة بالله، والوعي لشريعته، والوعي للساحة والبصيرة بالأمور.
كان الإمام يلاحق الساحة؛ ليدرسها على أساس قول الله وقول رسوله؛ ثمّ يتّخذ الموقف على أساس ما يرضي الله ورسوله. وهذا ما استطاعت الأُمّة أن تجده في شخصيّته وفي سلوكه وفي قيادته وانفتاحه على الله سبحانه وتعالى وفي اهتمامه بأمور المسلمين ـــ كلّ المسلمين ـــ وقد استطاع أن يحصل على ثقة المسلمين في خارج إيران؛ لأنّه لم يتحدّث للمسلمين عن المجتمع الفارسي أو عن المجتمع الإيراني، وإنّما تحدَّث لهم عن المجتمع الإسلامي وعن الإسلام. وعندما أراد للمسلمين أن يواجهوا أميركا قال لهم: واجهوها لا من خلال عملائها في إيران فحسب، بل واجهوها من أجل أن تكون الحريّة للمسلمين وللمستضعفين، حتّى لا تستطيع أن تبقى في مواقع الاستكبار الذي يضغط على حريّة الشعوب واقتصادها.
وقال لهم: إنَّ الله جعلكم أُمّةً واحدة وجعل العزّة والحريّة لكم. فلماذا تريدون أن تذلّوا للشرق أو تذلّوا للغرب؟.. لا تكونوا دولة ملحقة بالشرق أو بالغرب. بل التحقوا بقرآنكم لتكونوا دولة إسلامية، لأنَّ الله يريد أن نرجع إليه وإلى الرسول، ولا يريدنا أن نرجع إلى الطاغوت. وكلّ التزام بغير الخطّ الذي يرضاه الله والرسول، فهو التزام بالطاغوت.
وعندما خوَّفه الناس بالناس وأطلقوا كلّ التهاويل، كان يدعو الأُمّة إلى الاعتماد على الله، فكانت قيمته ولا تزال أنّه لا يربط الناس بشخصه وإنّما يربطهم بالله، وكان لا يحاول أن يعطيَ الأمجاد لشخصه وإنّما يعطي الأمجاد للأُمّة.
لقد سمعناه وهو يتحدّث في يوم الثورة، أمام كلّ قيادات الدولة وأمام كلّ ممثّلي الدول وهم يجلسون على الأرض، كان يقول لهم: إنّكم تهتمّون بالشخص ـــ شخصه ـــ بينما ليس لي في الأمر إلاّ دور صغير فقط، فالأُمّة هي التي قامت بذلك كلّه. وبعد ذلك الأمر لله.. فالله هو الذي نصر، وهو الذي أيَّد، وهو الذي أعطى.. وكنّا نتحرّك على أساس أن نتَّجه في اتّجاه معيّن، وإذا بالله يحوّلنا لاتّجاهٍ آخر، ونرى النصر في هذا كلّه.
كان الشرق والغرب يلتقيان في حسينية جمران(1) وكان كلّ القادة هناك، فكان يحدِّثهم عن الله، ويقول لهم: بلِّغوا دولكم بأنّنا نتحرّك لأنَّ الله معنا، وأنّنا نحارب من خلال ما أعطانا الله من قوّة ومن خلال استلهامنا في ذلك كلّه. وكان يقول لكلّ القيادات في الدولة هناك: لا تنسوا الله ولا تعتبروا أنفسكم كباراً، لأنّكم في موقعٍ كبير، بل فكِّروا أنّكم تتحرّكون بإرادة الله وتنطلقون في مشيئته، وأنّه ـــ تعالى ـــ أكبر منكم. فتواضعوا لله وتواضعوا لعباده.
التلاحم بين الأُمّة وقائدها
هذا الترابط الوثيق بين القيادة والأُمّة، هو الذي ركَّز قواعد الثورة؛ فليست القيادة وحدها التي خلقت الثورة وليست الأُمّة وحدها التي خلقتها، بل الأُمّة التي ترتبط بالقيادة الفقهية الورعة الواعية البصيرة بأمور الدين والدنيا. وهذا هو الذي يجب أنْ نتحرّك فيه، حتّى نستطيع أن نُثبِّت أقدامنا ولا ننهزم أمام كلّ التهاويل.
لاحظنا أنّ أميركا جاءت إلى الخليج ـــ ومعها دول من أوروبا ـــ ليضعفوا الشعب الإيراني المسلم، وليتحرّك المنافقون ليعملوا ما يريدون، وأعطى الإعلام لأميركا صفة الاستعراض المسلّح. ولكنّ الإمام قال للشعب: عبِّئوا أنفسكم لمواجهة هذا التحدّي. إنّي أريد تعبئة شعبية بمستوى العشرين مليوناً. فانطلق الناس من قراهم ومدنهم، حتّى ضاقت القيادة ـــ بما عندها من وسائل ـــ بهذا الجمع الغفير الذي انطلق عفوياً ليقول له: إنَّنا معك لأنّك مع الله، ولن نسمح لأيّ جندي من جنود أميركا بأن يطأ تراب بلدنا، لأنّنا سنكون هناك على طول خطّ الحدود على الخليج الذي يبلغ ألف كيلو متر.
وقف الشعب وتحدَّى، وكانت أميركا تراهن على أن يتحرّك المعارضون والمنافقون ليسقطوا الثورة، لأنّهم يعتبرون أنّ أميركا تستطيع أن تحميهم. ولكنّ الشعب الإيراني المسلم كان يفكّر ـــ من خلال قيادته ـــ أنّ الله يحميه: {... إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا...} [التوبة : 40] وها هي أميركا تبدأ انسحابها من الخليج بتخفيف مواقعها المسلّحة.
هذه التجربة التي انطلقت من خلال الارتباط بالله والإسلام، هي التي يجب أن نستفيد منها وندرسها، حتّى لا نرتبط بأحد إلاّ إذا كان يؤدّي عن الله، وحتّى لا نتحاكم إلى أيّ طاغوت ـــ سواء كان كبيراً أو صغيراً ـــ بل نتحاكم إلى الله سبحانه وتعالى، لأنَّ ذلك هو شرط الإيمان: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء : 65]. وهذا ما استلهمه المؤمنون في كلّ مكان، من خلال قيادة الإمام الخميني الشاملة لكلّ موقع من المواقع.
الإمام ومجاهدو لبنان
إنّ الإمام يتابع بدقّة ما يحدث، وقد جلستُ إليه عندما كنتُ في إيران وحدّثته عن جهاد المجاهدين في لبنان وعن معاناتهم وعن المقاومة الإسلامية، ورأيته يتابع ذلك كلّه ويعرفه كلّه. قلت له إنّ المؤمنين يبعثون لك بسلامهم ويعبّرون لك عن احترامهم وعن مبايعتهم لك في خطّ الإسلام. فقال إنّني أُقدِّر للمؤمنين المجاهدين في لبنان موقفهم الإسلامي الصلب، الذي استطاع أن يطرد أميركا من بيروت ومن لبنان وأن يطرد "إسرائيل" ويُربكها. ولكنّ الأمر يحتاج إلى استمرار وثبات، وإلى اعتماد على الله سبحانه وتعالى في ذلك كلّه. ثمّ قال لي: إنّني أدعو لهم وبلِّغهم سلامي وتحياتي، لأنّنا معهم وهم معنا في الخطّ الإسلامي العالمي.
الإمام والانتفاضة الفلسطينية
وقد حدَّث الحاضرين في الاجتماع عن فلسطين، وكان قبل ذلك قد توجَّه بالخطاب إلى الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزّة قائلاً: إنّكم قد بدأتم في خطّ المستقبل، من أجل مواجهة "إسرائيل" في العمق. وإذا كان العالم كلّه يريد منكم أن تتراجعوا، فإنّي أقول لكم لا تتراجعوا، بل أكملوا الطريق كما أكملناه، حيث لم يكن لدينا سلاح عندما حاربنا الشاه، بل كانت الحجارة والسكاكين وأشياء صغيرة هي أسلحتنا.. وسقط منّا الكثيرون، ولكنّنا استطعنا في النهاية أن نُسقط الطاغوت.
أكملوا المسيرة، لأنّكم إذا رجعتم إلى الماضي وعملتم على أساس أن تنتظروا وعود أميركا وأوروبا، أو وعود الساسة العرب فسوف تفقدون كلّ شيء، حتّى الأرض.
إنّه يريد لهم أن يتقدَّموا ويرفضوا الواقع العربي، الذي يريد أن يحتوي الانتفاضة، ليجمّدها أو ليجعلها هامشاً من هوامش السياسة العربية الخاضعة للسياسة الأميركية، التي تتحرّك على أساس المصالح الإسرائيلية.. كان يريد لهم ذلك، لأنّهم في المستوى الكبير الذي استطاع أن يعيد المسألة الفلسطينية إلى الصدارة، بعد أن قطع الحكَّام العرب شوطاً كبيراً في إيصالها إلى هذا المستوى من الانحطاط، حيث إِنَّ أكثر هؤلاء الحكَّام الذين اجتمعوا في عمَّان، لم يخجلوا من أن يجعلوا من قضية فلسطين القضية الثانية التي لا تثير اهتمامهم وأن يجعلوا منها قضية نزاع بينهم وبين "إسرائيل" لا قضية صراع الوجود. ولكنَّ المجاهدين المسلمين وهؤلاء الأطفال الطاهرين، الذين يحملون الحجارة في أيديهم ليرموا بها الدبّابات، وهؤلاء الشباب الذين ينطلقون بكلّ عزمهم وقوّتهم ليواجهوا الجيش الإسرائيلي بالحجارة وبالسكين وبغير ذلك ـــ حتّى إِنّهم أرعبوا الجنود الإسرائيليين، وخلقوا لهم عقداً نفسية ـــ لا يزال الكثيرون منهم يعانون منها.
إنّ الشعب إذا وثق بربّه ووثق بنفسه من خلال ذلك، وصمَّم على أن يواجه التحدّي بتحدٍّ أكبر، فإنّه لا بدّ أن يُربك أعداءه أوّلاً، ثمّ بعد ذلك يُضعفهم، حتى يقضيَ عليهم في نهاية المطاف.
أميركا والعرب
إنَّ الاستكبار العالمي يعمل بكلّ ما عنده من طاقة، ليفرض علينا كلّ ضغوطه وكلّ خططه الاستكبارية، من أجل أن نتحرّك في خطّ سياسته ونخضع لكلّ مصالحه. وأميركا عندما تتحرّك في المسألة الفلسطينية الآن، فإنّما تتحرّك من أجل خدمة مصالحها.
هل يريد كلّ هؤلاء المبعوثين الأميركيين أن يحلُّوا لنا المشكلة لمصلحتنا، أم أنّهم يريدون أن يُعَقِّدوا مشاكلنا لمصلحتهم؟
إنّهم يأتون وقد تعلَّموا أنّ العرب يدمنون تصريحات الأميركيين، ويفتحون قلوبهم وينطلقون ليحلِّلوا ويدرسوا، ثمّ يسحب الأميركيون التصريحات بعد إتمام الخدمة العربية. ولهذا فإنَّ أميركا تعطي العرب تصريحات ومبادرات وتعطي "إسرائيل" مواقف وأسلحة. وعندما تريد أن تعطيَ بعض العرب أسلحة، فإنَّ الشرط الأساس في هذا السلاح أن لا تُقاتل "إسرائيل"، بل يُقاتل به العرب والمسلمون، ويُقاتل به من تريد أميركا مقاتلته. أمّا السلاح الذي يعطى لـــ "إسرائيل"، فإنّها حرّة في أن تقتل به أطفال العرب والمسلمين وشيوخهم ونساءهم وتُدمِّر كلّ بيوتهم ومناطقهم.. وهذا هو التوازن الأميركي بين العرب و"إسرائيل". أتعرفون أنّ الاجتياح الإسرائيلي الذي وصل بيروت عام 1982م كان بتخطيط أميركي ـــ إسرائيلي، انطلاقاً من استراتيجية سياسية تجمع بين "إسرائيل" وأميركا؟
والآن يريد شولتز(1) أن يأتي ـــ والانتفاضة قائمة، والأطفال والنساء والشيوخ يقفون بكلّ قوّة من أجل أن يدافعوا عن حريّتهم، وأن يطردوا المحتلّ من أرضهم ـــ يأتي ليعطي أفكاراً، وليس مستعداً لأن يضغط على "إسرائيل"، بينما المسلمون الفلسطينيون يقتلون ويجرحون وتكسَّر أضلُعهم ويُضيَّقُ عليهم ويمنعون من التجوّل ولا تتحرّك أميركا لتدافع عن حقوق الإنسان، أمّا حين يَمنع الاتحاد السوفياتي بعض اليهود من مغادرته، فإنَّ قضيّتهم تشغل البند الثاني من محادثات ريغان وغورباتشوف في القمّة التي عقدت في واشنطن!
شعب يريد أن يتحرَّر؛ هذه مسألة تحتاج إلى أفكار وإلى بحث! أمّا إنسان يُمنع من أن يخرج من بلده إلى بلدٍ آخر، لا بدّ أن يبحثها العالم، لأنّها تتعلَّق باليهود!
في الحقيقة إنّهم يريدون أن يجمِّدوا الانتفاضة، وأن يستنفروا كلّ السّاسة العرب، الذين يتحرّكون في خطّهم، ليحتووا الانتفاضة، حتى ترتاح "إسرائيل" وترتاح أميركا فلا وقت كافياً لديها للتحرّك كثيراً في هذا الموضوع، لأنَّ انتخابات الرئيس الأميركي القادم على الأبواب، وهي تحتاج إلى الأصوات اليهودية.
إنَّ المساعي الأميركية تحاول حلَّ مشكلة "إسرائيل" أمام الانتفاضة، لا حلّ مشكلة الفلسطينيين المسلمين أمام "إسرائيل".
هذه هي نظرتنا إلى الموقف الأميركي في المنطقة وإلى كلّ التهديدات وكلّ المبادرات الأميركية، ولن نثق بها على الرغم من أنّ الكثيرين عندنا في الداخل وكلّ المرشحين لرئاسة الجمهورية في هذا البلد يزحفون إلى واشنطن، من أجل أن يقدِّموا الامتحان، باعتبار أنّ هؤلاء الذين يتحدّثون عن الحريّة وعن الاستقلال لا مانع عندهم من أن يقبِّلوا أقدام أميركا، لتهتمَّ بهم وتلتفت إليهم، فالمهمّ عندهم أن ينجحوا في الامتحان. ومن شروط النجاح في الامتحان أن يقدّم كلّ مرشّح استعداده لأن يطرد من لبنان كلّ من لا يوافق على السياسة الأميركية، وأن يواجه في لبنان كلّ الذين يريدون للبنان أن لا يكون ممرّاً للاستعمار أو مقرّاً له، وأن يطردوا الإسلاميين. وأميركا تعمل على أن تجعل سياستها وسياسة دول المنطقة تتحرّك على هذا الخطّ، فمن يقبل بأن يضرب الإسلام الحركيّ، فإنَّ أميركا ستعطيه الكثير، ومن لا يقبل ذلك فإنَّ أميركا ستضغط عليه.
قضايا الأُمّة
من هنا نريد أن ننطلق لتتكامل التجربة مع القيادة الإسلامية، فهناك قيادة إسلامية واحدة هي قيادة إمام الأُمّة، التي تعطي الخطوط للموقف السياسي، على أساس مواجهة الاستكبار كلّه. وهذه القيادة تريد منّا ـــ نحن المسلمين الملتزمين في لبنان ـــ أن نتكامل مع المسلمين الملتزمين الفلسطينيين ومع الشعب الفلسطيني، وأن ندافع عنه وأن نقف معه بكلّ ما عندنا من طاقة. لأنّه ليست هناك قضية فلسطينية أو قضية بقاعية أو لبنانية، بل هناك قضيّة إسلامية، وهناك قضية حريّة أمام الاستكبار كلّه. ولهذا فإنّهم منّا ونحن منهم، في هذا الخطّ الإسلامي الذي يريد أن يتجمَّع لينطلق المسلمون جميعاً فيه وفي ضوئه.
لا بدّ لنا أن نواجه مسألة العملية الجريئة التي قامت بها المقاومة الإسلامية أخيراً في منطقة جزِّين(1)، بعد أن انطلقت كثير من الأصوات، لتتحدّث عن المنطقة الهادئة التي تمثّل التعايش في البلد، وهي منطقة جزّين، باعتبار أنّ هؤلاء العسكريين الموجودين هناك يعملون على حماية المنطقة.
إنَّنا نريد أن نقول لهم: لا تلعبوا بالمسألة الطائفية، لتقولوا إنّ جيش لحد يمثّل حالة مسيحيّة، وإنَّ المقاومة الإسلامية تمثّل حالة إسلامية، وإنّ الصراع والقتال هو بين المسلمين والمسيحيين، لتستثيروا العواطف المسيحية في مواجهة المواقف الإسلامية، كما كنتم تفعلون في ما كان يدور بين الشرقية والغربية. فنحن لا نعتبر الذين يقاتلون مع هذا العميل يمثّلون حالة مسيحية، كما أنّنا لا نعتبر المسلمين ـــ من شيعة وسُنّة ـــ الذين باعوا أنفسهم للشيطان في هذا الجيش.. نحن لا نعتبرهم حالة إسلامية، بل نعتبرهم حالة إسرائيليّة. فإذا أردتم وأنتم تتحدّثون عن المنطقة هناك، أن تتحدَّثوا عن حماية إسرائيلية لجزّين أو لغير جزّين، فإنّنا نعتبر أنّنا نملك الحرية في أن نواجه أيّ موقع إسرائيلي، سواء كان الموقع يختزن أُناساً ينتمون إلى الإسلام بالاسم أو إلى المسيحية بالاسم، أو ينتمون إلى أيّ موقعٍ آخر. إنّنا نعتبر أنّ "إسرائيل" تعمل بكلّ ما عندها من طاقة، في سبيل أن تجعل من الحالة في الجنوب حالة من مفردات الصراع الإسرائيلي ـــ المسيحي في لبنان. وعلينا أن نعمل بكلّ ما عندنا من طاقة لنزيل القناع عن هذه الخطّة الإسرائيلية من أجل أن يسقط كلّ هذا الجيش بكلّ أفراده، الذين أرادوا أن يجعلوا من أجسادهم متاريس تحمي جنود "إسرائيل". لهذا لا حرمة لهم عندنا، فليكونوا شيعة ـــ والتشيُّع يرفض هؤلاء ـــ وليكونوا سُنَّة وليكونوا موارنة أو كاثوليك أو أيّ شيء، إنّهم جميعاً إسرائيليون. ونحن نحمِّلهم مسؤولية تثبيت أقدام "إسرائيل" في المنطقة الحدودية لتخطّط "إسرائيل" لمستقبل، تكون فيه المنطقة الحدودية وما بعدها جزءاً من دولتها العدوانية.
إنَّنا نبارك هذه العملية الجريئة ونقول: إنَّ المسألة ليست مسألة التوازنات المناطقية، ولكنّها المسألة الوحيدة التي تتحرّك في سبيل الحريّة. إنّنا نريد أن نكون أحراراً وأعزّة، وكلّ مَن يقف أمام حريّتنا ليكون حاجزاً يحجزنا عن العدوّ؛ فإنّنا نعتبر أنفسنا أحراراً في أن نواجهه بالموقف نفسه الذي نواجه به العدوّ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
لا تتَّبِعوا خطوات الشيطان(*)
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله ربّ العالمين، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {... وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ*إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 168 ـــ 169] وقال سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ*وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: 60 ـــ 61] في أكثر من آية يحدّثنا الله عن الشيطان في بدء الخليقة، يحدّثنا الله عن إبليس الذي هو النموذج الغيبيّ للشيطان وكيف أخرج أبوينا من الجنّة في خداعه، الذي كان يتحدّث فيه إليهما بأسلوب النصيحة، وقال لهما: إنّي لكما من الناصحين، ولكنّه كان يخفي في داخله معنى، يريد من خلاله أن يوقعهما في البعد عن إرادة الله.
وقد أرادنا الله أن نكون واعين لهذه المسألة {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف : 27].
وحدَّثنا الله في سورة الأعراف عن الشيطان، عندما أمهله الله إلى يوم الوقت المعلوم وأنظره وأمدَّه في حياته، وقف أمام الله وقال له {...لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ*ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 ـــ 17] وهكذا أرادنا الله أن نكون حذرين من كلّ تسويلاته وتهويلاته ومن كلّ تزيينه وحيله وخدعه، وأرادنا دائماً في كلّ أمر أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وأن نستحضر دائماً في نفوسنا كلّ مواقعه وكلّ جنوده وكلّ حيله وكلّ خدعه وكلّ أمانيه وغروره وخيله ورجاله وشركه وأحزابه وأتباعه.. وفي كلّ دعاء علَّمنا الله أن نستعيذ من الشيطان، وأرادنا في الأدعية أن نستحضر كلّ المواقع وكلّ الوسائل وكلّ المجتمعات وكلّ القيادات التي يتحرّك فيها الشيطان، على أساس أنّها مواقعه وعلى أساس أنّ هؤلاء جنوده، لأنّه حدّثنا عن جنود الشياطين وجنود إبليس أجمعين.
لماذا ذلك؟ لأنّ الله يريد أن يثير في وعينا الداخلي، في عقلنا وفي مشاعرنا وفي مواقعنا، أراد الله أن يثير فينا، أنّ هناك معركة دائمة مستمرّة بيننا وبين الشيطان، لأنَّ الشيطان أصرّ على أن لا ندخل الجنّة التي أخرجنا منها، أصرَّ على ألاّ نعبد الله لنكون قريبين منه. لقد تعقَّد من تقريب الله لآدم باعتباره مظهر الإنسان الذي جعله الله خليفته في الأرض، وتحوّلت هذه العقدة إلى أن رفض السجود له من موقع العصبية {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [صـ : 76] ومن خلال هذه العقدة عمل على أن يستغلّ بساطة آدم وعدم دخوله في تجربة تجعله واعياً لما يدبّر له، فأخرجه من الجنّة.
الشيطان عدوّ
ثمّ بعد ذلك، أعلن أنّه يريد أن يكيد لكلّ أبنائه ولكلّ الناس الذين يتناسلون منه في كلّ المجالات، فهو ـــ في ما يصوّره لنا القرآن ـــ هو شخصية معقّدة من الإنسان، تدفعه عقدته إلى أن يمنع الإنسان من أن يكون قريباً من الله، ليمنعه من دخول الجنّة. وهذا ما عبَّر الله عنه في كتابه المجيد {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر : 6].
ولقد حدَّثنا الله في القرآن الكريم أنّ هناك شياطين الإنس وشياطين الجنّ، كما ذكر الله في بعض آياته {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً...} [الأنعام : 112] بمعنى أنّهم يجتمعون من أجل أن يرتّبوا الكلمات التي تثير الحقد والفتن والأضغان والشرور في ما بين الناس.
وهكذا رأينا الله في سورة الناس، يدعو كلّ شخص إلى الاستعاذة بالله من هؤلاء الذين يوسوسون للنّاس ويربكون تفكيرهم ويضلّلون مشاعرهم وعواطفهم وينحرفون بهم إلى الطريق الذي يؤدّي إلى النار {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ*مَلِكِ النَّاسِ*إِلَهِ النَّاسِ*مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ*الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ*مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ} [الناس: 1 ـــ 6] يعني هناك من يوسوس للإنسان في صدره، ليثير فيه الأجواء التي تنحرف به عن الخطّ المستقيم.
لذلك أراد الله منك أن تقرأ هذه السورة، عندما تعيش مع رفاقك ومع أصدقائك ومع أقربائك ومع كلّ الناس الذين تتعامل معهم ويتعاملون معك، لتنتبه إلى أنّه من الممكن أن يكون هناك وسواس خنّاس في داخل هؤلاء، فلا تستسلم لأصحابك كلّهم فتقبل كلّ ما يقولون، ولا تستسلم لأقربائك فتوافق على كلّ ما يقرّرونه، ولا تعمل على أن تغمض عينيك عمّا حولك لتتبع كلّ ما يخطِّطون.لأنّ من الممكن أن يكون هناك وسواس خنّاس في المجتمع ولا يعرفه الإنسان، لذلك لا بدّ أن تكون حذراً في المجتمع إلاّ مَن ثبت عندك أمانته وصدقه وإيمانه.
لو أنّك عرفت أنّ هناك عدواً لك فهل تقف موقف الاسترخاء؛ أم أنّك تحتاط لنفسك؟ من الطبيعي عندما تعرف أنّ هناك عدواً يريد أن يقتلك أو يريد أن يقضيَ على مصالحك، سواء في المواقع السياسية أو التجارية أو الثقافية أو الاجتماعية أو الأمنية، فإنّك كإنسان تحتاط لنفسك في كلّ مواقع الاحتياط، ولا تستسلم للواقع من حولك حتّى تستطيع أن تكتشفه.
وهكذا عملية الاستعاذة من الوسواس الخنّاس هي أسلوب قرآني، يريد الله من الإنسان أن يثق بربّه ويستجير به ممّا لا يعلم، وأن يكون واعياً لا يواجه ما حوله بعقلية ساذجة وبسيطة.
هناك فرق بين أن تكون طيّب القلب طاهراً، وبين أن تكون ساذج العقل. كن الإنسان الذي يحسب حساب كلّ الكلمات التي يسمعها، وحسابات كلّ المواقف التي يريد أن يقفها، وحسابات كلّ الأوضاع التي يعيشها الآخرون. كن الإنسان الحذر وانفتح بقلبك الطيّب على الناس، ولكن لا تدع أحداً يستغلّ طيبتك، من أجل أن يتحرّك لأهداف الشرّ أو من أجل أن يستغلّك ويستغلّ موقفك بما لا يرضي الله.
هذا هو الخطّ؛ أن تكون واعياً أمام خطوات الشيطان، سواء كان شيطان الإنس أو شيطان الجنّ. كيف نتعرّف على خطوات الشيطان أو نتعرَّف على الشيطان؟ ما هو الخطّ إذا أردنا أن نميِّز بين حالة شيطانية أو حالة غير شيطانية، لأنَّ الله يقول: {... وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: 168]؟ كيف نستطيع أن نتعرَّف على خطوات الشيطان؟ {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء...} [البقرة: 169] السوء هو كلّ سيّئة من السيّئات، التي تسيء إلى حياة الناس في واقعهم الفردي أو الاجتماعي، في السياسة والاقتصاد والحرب والسلم وما إلى ذلك. والفحشاء هي الأعمال التي تتعدَّى الحدود التي وضعها الله للأشياء. فقد تكون فحشاً في مسألة العرض أو في السياسة أو في الاجتماع {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] يعني أن تنسبوا إلى الله حكماً لم يشرّعه، أو كلمة لم يقلها، أو مفهوماً لم ينزله في رسالاته وفي شرائعه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ...} [النور : 21]، الذي هو كلّ ما حرَّمه الله في الحياة، ممّا يتّصل بحياة الناس الفردية أو الاجتماعية.
الالتزام بشرع الله
كيف نحدِّد الأمور في مفردات حياتنا التحديد الأساسي؟ نحدِّدها بأن نرجع إلى الشريعة {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ*وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: 60 ـــ 61] عبادة الله طاعته، طاعة الله أن تلتزم بأوامر الله فتفعلها، وتواجه نواهيه فتتركها. معنى ذلك أنّ أيّ محرم تفعله في مأكل أو في مشرب أو في لعب أو في علاقة أو في موقف، فإنَّ ذلك يعتبر من خطوات الشيطان، لأنّه ممّا حرَّمه الله، الذي هو من المنكر والسّوء، فأنتَ عندما تفعل ذلك فإنّما تكون قد اتّبعت خطوات الشيطان.
أعطيكم مثلاً من القرآن، عندما يتحدّث الله سبحانه وتعالى عن موضوع الخمر والميسر أي القمار {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90 ـــ 91]. هل تتركون هذه الأمور أو هذا السير؟ إذاً الله يقول لنا: إنَّ من يشرب الخمر فقد عَبَدَ الشيطان وأطاعه والتزم أمره، وكذلك من يلعب القمار فقد عَبَدَ الشيطان وأطاعه والتزم أمره، أيضاً من يحقّق وسائل الشيطان في إثارة العداوة والبغضاء بين الناس، فإنّه يكون قد أطاع الشيطان وعبده، ومن يصدّ الناس ويشغلهم ويلهيهم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهو يتحرّك في خطّ الشيطان. وهكذا في كلّ المجالات العملية، ما يتعلَّق منها بالأكل الحرام والشرب الحرام واللّبس الحرام واللّعب الحرام واللّهو الحرام والعلاقة الحرام والموقف الحرام.
إذاً، عندما يقول لك الله هذا ما أُريد، فإنَّ هذه إرادة الله. وعندما تجد مواقع ما حرَّمه الله فإنَّ هذا ما يريده الشيطان.
لهذا لن تستطيعوا أن تعلموا أعمال الشيطان، إلاّ عندما تعرفوا أحكام الله في حلاله وفي حرامه، حتّى تستطيعوا أن تميِّزوا بين الحلال والحرام، ولن تستطيعوا ذلك إلاّ إذا رجعتم إلى الأُمناء على حلال الله وحرامه، ممّن يملكون علم الإسلام، ووعي الإسلام في الواقع، لأنَّ المسألة النظرية في هذا المجال لا تكفي. بعض الناس قد يقولون كلمات الحقّ ولكنّهم يريدون به الباطل، كما واجه الخوارج الإمام عليّ (عليه السلام) عندما دخل في التحكيم من خلال الظروف الصعبة في معركة صفّين، قالوا له لا حكم إلاّ لله قال لهم: صحيح، لا حكم إلاّ لله، لكنّها كلمة حقّ يريدون بها باطلاً. إنّهم يقولونها، ولكنّهم يطبّقونها تطبيقاً سيّئاً، ليعتبروا أنّ ما حدث في التحكيم هو خلاف حكم الله والمسألة ليست كذلك.
ولهذا لاحظنا أنّ الإمام (عليه السلام)، عندما رفع عمرو بن العاص المصاحف، قال لهم: نحن أعرف منهم بالمصاحف، نحن قاتلناهم حتّى يؤمنوا بالشّعار ولكن في كثيرٍ من الأحيان، يكون الشعار برّاقاً يرضي كثيراً من الناس الطيّبين، ولكن قد يكون التطبيق سيّئاً. لهذا لا بدّ في مسألة تحريك الحلال والحرام في حياة الناس وتطبيقها على واقع الحياة، لا بدّ من أن يكون الإنسان عارفاً بالواقع حتّى يستطيع أن يدرسه، ليعرف كيف يطبّق الحكم الشرعي على الواقع، ولا بدّ أن يكون بصيراً بأهل زمانه، ليعرّف الناس على واقعهم في ما يراد لهم أن يحرِّكوه في الواقع.
ولهذا جاء في الحديث: أنّ وليّ أمر المسلمين لا بدّ أن يكون عارفاً بصيراً بأهل زمانه، لا يكفي أن يكون إنساناً عارفاً بالأحكام، بل لا بدّ أن يكون عارفاً بحركة الأحكام في الواقع، ليعرف كيف ينظّم حياة الناس، وكيف يمكن له أن يحميَ المسلمين والمستضعفين من الكلمات، التي قد يكون ظاهرها حقّاً ولكنّ باطنها في خطّ الباطل.
لهذا لا بدّ للحاكم الذي يدير حياة الناس ويتحرّك فيها من أن يملك وعياً فقهياً، ليعرف أحكام الله، كما لا بدّ له أن يتمتَّع بوعي سياسي واجتماعي، ليعرف كيف تتحرّك أحكام الله في الحياة.
وهكذا نجد أنّنا في كلّ مسيرتنا الإسلامية، لا بدّ لنا من أن ندقّق في جانب التطبيق، كما ندقّق في جانب النظرية، ولا بدّ من أن نعرف مواقع حكم الله في الأرض، كما نعرف مواقع حكمه في الكتاب والسُنّة.
ومن هنا كان لا بدّ من أن يكون الذين يلتزمون أمور المسلمين واعين وعياً حياتياً عامّاً، حتى لا يخدعهم الناس، ولا يضلّلوهم، وحتّى لا يُستغلُّوا على أساس ما يقدّم لهم من أشياء ومن أوضاع.
وعي الواقع ضرورة
في تاريخنا الإسلامي عشنا مشاكل كثيرة من خلال بعض العلماء، سواء في العراق أو في إيران أو في غيرهما من بلاد العالم الإسلامي، الذين لا يشكّ الناس في طيبتهم وإخلاصهم وطهارتهم. لكنَّ مشكلتهم أنّهم كانوا معزولين عن الواقع، لا يستطيعون أن يدركوا الواقع، فجاءهم المستعمرون من خلال بعض الأوضاع التي كانت تعيش في دائرتهم، على أساس أنّهم جاؤوا منقذين في الوقت الذي جاؤوا فيه مستعمرين، لأنَّ هؤلاء الطيّبين لم يستطيعوا أن يكتشفوا عمق اللّعبة السياسية التي تحرّك فيها المستعمرون ولم يستطيعوا أن يفهموا طبيعة اللّغة التي يتكلّم بها المستعمرون، ولهذا استطاع المستعمرون أن يستغلُّوا هذه الطيبة في اتّجاه مصالحهم.
ولعلَّ الجوّ الثقافيّ الذي أراد أن يخدّر الأُمّة، حاول أن يبيّن للناس أنّ الإنسان يكون عالِماً موثوقاً بقدر ما يكون ساذجاً وبقدر ما يكون بعيداً عن أمور الناس وحياتهم وبعيداً عن فهم الواقع والحياة. ولكنَّ الله علَّمنا أنّ علينا أن نقتديَ بالعالِم العامل، الذي لا يكون هناك مَن هو أفضل منه، وهو رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). وقد قال الله لنا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21]. رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يعرف كلّ مجتمعه، وكان يخاطب كلّ إنسان بما يعرف أنّه يصل به إلى القناعة، وكان يحرّك الأمور من خلال دراسته لعمقها لا لسطحها، كان لا يدخل حرباً إلاّ بعد أن يحسب حسابها، وكان لا يواجه مشكلة إلاّ ويدرسها دراسة تامّة. كان أعرف الناس بالناس، وكان قريباً في الحياة، لقد دخل رسول الله حياة الناس كلّهم، وكان يعمل على أن يطّلع عليها. وكان القرآن يثقّفه ثقافة سياسية، فيثقّف المسلمين من خلاله عندما كان يُحدّثه عن المشركين، كيف يتحرّكون، وكيف يجب أن يتحرّك معهم، وكان يحدّثه عن اليهود وكيف يواجه مؤامراتهم، ويحدّثه عن نفسيّاتهم وتاريخهم وأوضاعهم وأساليبهم، وعن النصارى ويميّز بينهم وبين اليهود. هكذا كان يستفيد من كلّ ما قال الله حتّى قال: "أدَّبَني ربّي فأحسن تأديبي"(1). وكان يثقّف المسلمين ليصنع عندهم وعياً سياسياً. في بعض الحالات، كان المسلمون يستسلمون بفعل الطيبة. كان اليهود يعيشون في مجتمع المدينة والمسلمون يشترون ويبتاعون منهم، وكانوا يتصادقون وربّما يستسلمون لهم ويعطونهم أسرارهم. فأنزل الله في ذلك آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران : 118] وهؤلاء لا تحبُّونهم ولا يحبُّونكم، {... وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران : 119] وهكذا كان القرآن يعطي المسلمين وعياً سياسياً، أن ادرسوا الناس من حولكم في كلّ أوضاعهم السياسية والاجتماعية، حتى تستطيعوا أن تتعرَّفوا على الواقع، ولا تستسلموا إليهم، عندما تعرفون أنّ واقعهم عدواني.
هذه المسألة من المسائل الأساسية التي يريدها الله من علماء المسلمين ومن المسلمين أنفسهم. ولهذا لا بدّ من أن يكون الإنسان المسلم واعياً للواقع، فقد يصبر لكثير من الأوضاع من أجل قضية، وقد يجمد كثيراً من الشعارات لمصلحة الشعار الأكبر.
الركون إلى العدو
نحن نعرف مثلاً في بلادنا الإسلامية والعربية بشكلٍ عام، أنّ كلّ طائفة من الطوائف تختزن في داخلها المشاعر الذاتية تجاه الرموز التي تؤمن بها في التاريخ أو في الواقع، وقد تتّخذ لنفسها مشاعر عدائية ضدّ طائفةٍ أخرى ـــ نجد ذلك في المسلمين وفي غير المسلمين ـــ وهنا عندما يحمل الإنسان المشاعر الملتهبة في موقعه الطائفي ضدّ طائفة أخرى، فإنّه إذا لم يكن واعياً فسيأتي الآخرون ليحرِّكوا المشاعر الطائفية السلبية لديه أو لدى الطائفة الأخرى. وهذا ما عانيناه في بلادنا الإسلامية في كلّ الحروب التي حدثت بين السُنّة والشيعة، ذلك أنّ التاريخ غذَّى السُّنّة بأحقاد وأكملها الواقع، كما غذَّى الشيعة بأحقاد وأكملها الواقع. وتأتي بريطانيا للشيعة تارّةً وتقول لهم: إنّا معكم، السُّنّة يسيؤون إليكم ونحن نريد أن ننصركم عليهم. وعندما يجدون أنّ بريطانيا معهم فمن الطبيعي أنّ ذلك يشعرهم بالقوّة لالتزامهم بمواقفهم العصبيّة. وتأتي أيضاً بريطانيا ـــ عندما كانت سيّدة المنطقة ـــ لتقول للسُنّة: إنّ الشيعة يسبّون ويشتمون، تعالوا نحاصرهم ونضيّق عليهم من خلالكم. وهكذا استطاع الاستعمار أن يصنع مصالح سنيّة، يجد السُّنّة فيها أنّ الشيعة يريدون أن يقفوا أمامها، ومصالح شيعية يرى الشيعة أنّ السنّة يريدون أن يقفوا أمامها، مع أنّنا نعرف أنّ بريطانيا لا تخلص للإسلام أبداً، وأنّها لا يهمّها السنّة والشيعة إلاّ من خلال المشاعر والتوتُّرات التي تحرّكها، لتحمي مصالحها عندما تشغل المسلمين بعضهم ببعض.
هنا الواعون من المسلمين يقولون للمستعمرين ـــ في السابق للبريطانيين، وفي الحاضر للأميركيين، الذين يمارسون استعماراً جديداً غير مباشر ـــ يقولون لهم كما قال عليّ (عليه السلام) "لأسلمنَّ ما سَلِمَت أمور المسلمين"(1). المسألة كيف تسلم قضايا المسلمين، وكيف تسلم أمورهم. لأنَّ الواعين يعرفون أنّ بريطانيا أو أميركا أو فرنسا أو أيّة دولة من هذه الدول، التي تعمل على مصادرة حريّات المسلمين وأمنهم واقتصادهم وثقافتهم، يعرفون أنّ هذه الدول تمثّل الشيطان في المفهوم القرآني، لأنَّ الشيطان دوره أن يزرع العداوة والبغضاء، وأن يأمر بالسوء والفحشاء، وأن يقود الناس إلى عذاب السعير في الدنيا والآخرة. لهذا فإنَّ الواعين لا ينخدعون بأساليبه ووسائله، وإنّما يقولون كما قال عليّ (عليه السلام)، عندما كانت الحرب مشتعلة مع معاوية في صفّين، وجاءه من يقول إنّ ملك الروم قد يستغلّ هذه الحرب، حتّى يهجم على بلاد المسلمين، فقال: عندها نكون أنا ومعاوية عليه. هذه الخلافات داخلية، ولكن عندما تكون المسألة مسألة المسلمين، فنكون أنا ومعاوية عليه. هذا هو الوعي، بينما يندفع الناس في اللّعبة الطائفية ويستغرقون فيها، ليهيِّئوا للاستعمار الأجواء التي تساعده على أن يعمّق مواقعه ويركّز مواقفه ويهدم مصالحنا من حيث لا يدرون. هم طيّبون، ولكن طيّبون لا عن وعي، طاهرون لا عن فهم في مسألة اللّعبة السياسية، لهذا فالذي يريد أن يتسلَّم أمور المسلمين في أيّ موقع، لا بدّ أن يكون واعياً للّعبة السياسية والاجتماعية والثقافية. وإلاّ فعليه أن ينسحب، لأنّه عندما يضع نفسه في موقع لا يستطيع أن يديره فإنّه يسيء إلى الموقع نفسه. ولهذا يجب أن نواجهه في كلّ القضايا العامّة. وهذا ما يجب أن تعيه الأُمّة في كلّ مواردها وكلّ مصادرها في الحياة.
الاستخبارات وبثّ الفتن ـــ الفتنة بين الشيعة
في هذا الخطّ، نريد أن نقترب من واقعنا أكثر، سواء كان الواقع محليّاً أو إقليمياً أو دولياً. في الواقع المحلي هناك "همروجة" في حياة الناس ـــ ولاسيّما في جبل عامل العزيز وهو بلد العلم والجهاد والتحدّي لكلّ المشاريع الاستعمارية ـــ إذ يحاول الكثيرون أن ينفخوا في النار التي أوقدوها، ليثيروا الجوّ من خلال كلمات أو انفعالات أو ممارسات. وتأتي جماعات إلى هنا لتحرّك القضية في هذا الاتجاه، حتّى عاش الناس وضعاً غير طبيعي في هذا المجال، وبدأت المسائل والأوضاع تتحرّك في الخارج عند أجهزة المخابرات الأميركية والأوروبية وأجهزة المخابرات اللبنانية الرسمية والحزبية وأجهزة المخابرات العربية، وبدأ جمع الحطب وأعواد الثقاب بحجّة أنّه قد حدثت هناك حرب مسيحية إسلامية وحرب شيعية سنيّة أو سنيّة درزية. وبقيت المسألة الأخيرة، هؤلاء الشيعة كبروا أكثر من اللازم، وأصبحوا يشكِّلون خطراً على المعادلة، وأصبحوا ثوريين أكثر من اللازم، وأصبحوا إسلاميين أكثر ممّا نريدهم. لهذا تعالوا إلى الحرب الشيعية ـــ الشيعية. هكذا نواجه أجهزة الإعلام التي تكذب كثيراً وتحاول أن تثير الأعصاب والمشاعر، سواء كانت إذاعات أو صحفاً ومجلات. نريد قبل الدخول في تحليل الأمور أن نقول: تلك أمانيّكم، لن تحدث هناك حرب شيعية. إنّنا بأجمعنا مهما اختلفت الأساليب أو الأفكار السياسية، سننزل جميعاً إلى الأرض لنمنع ذلك كلّه، ونحن نعمل في الليل والنهار على ألاّ يكون ذلك، وسوف لن يكون إنْ شاء الله. هذا ما نقوله لكلّ الذين يراهنون على حرب شيعية ـــ شيعية: ستخسرون الرهان إنْ شاء الله. ثم نريد أن نقول لكلّ أهلنا وأخوتنا وللنّاس كافّة وللمسؤولين أينما كانوا وفي أيّ طرف وُجِدوا: لا تطيعوا أحداً في أيّ موقع من مواقع القتال، أسقطوا كلّ القيادات التي تريد أن يقاتل بعضهم بعضاً، أسقطوهم، واعزلوهم، تمرَّدوا على كلّ الأوامر التي توجَّه إليكم عندما يُراد لكم أن تُقاتِلوا إخوانكم. إنّنا نقولها من موقع مسؤوليتنا الشرعية، لكلّ أبنائنا في حركة أمل وفي حز//ب الله، لا يجوز شرعاً أن يحمل إنسان مؤمن سلاحاً على إنسان مؤمن، القاتل والمقتول في النار. ونريد أن يسمعها كلّ شبابنا في الجنوب في هذه الدائرة أو في تلك كما نريد أن يسمعها شبابنا هنا. إذا كان هناك في الساحة مَن استطاع الشياطين أن يضلّلوه ويجعلوه يعمل مع أيّ جهاز مخابرات، سواء إسرائيلية أو أميركية أو أيّ دولة مضادّة للإسلام والمسلمين، فعلينا أن نحاصره ونطوّقه ونجعله بعيداً عن مواقعنا.
لا يجوز القتال من أجل ضابط جاسوس
لن نتحدّث طائفياً، عندما نتحدّث عن الوقوف ضدّ حرب الشيعة والشيعة، فقد وقفنا قبل ذلك ضدّ حرب الشيعة والسُّنّة، ولكنّنا نريد أن نقولها لكلّ الشباب المؤمن: أنتم خزّان الجهاد في هذا البلد، وأنتم الساحة التي تقاتل "إسرائيل"، لا يجوز أن يكون هناك قتال بين السُنّة والشيعة من أجل ضابط أميركي. بعض الأخوة يقولون إنّها مسألة الأمن في الجنوب. نحن مع أمن الجنوب لأنَّ الجنوب بدون أمن لا يستطيع أن يقاتل "إسرائيل"، لكن نريد أن ندرس المسألة بهدوء. لا نعرف مَن هم الخاطفون بشكلٍ دقيق، المنظّمات التي تعمل بهذا الأسلوب هي منظّمات لا تعمل بالدوائر السياسية المطروحة في العلن، ولكنّها منظّمات لها خطّ ثوري خاص، ثمّ علينا أن نميّز بين جهة تعيش في الجنوب من قوّات دولية أو غير دولية، جهة تعمل من أجل أن تؤدّيَ مهمّاتها بشكلٍ معقول وطبيعي، وبين جهة تتّخذ من موقعها في المؤسّسات الدولية غطاءً للعمل بكلّ جهودها، في سبيل أن تتحرّك لمصلحة المخابرات الأميركية أو الأوروبية، للتخطيط للسيطرة على الجنوب لحساب أميركا و"إسرائيل". إذا كانت المسألة كذلك فكيف تقولون إنَّ التعرّض لهؤلاء، بقطع النظر عن الأسلوب، يعتبر ضدّ الأمن أو مع الأمن؟ "وَشَهِدَ شاهدٌ من أهله"، نحن لا نعرف هذا الضابط الأميركي، لكن جريدة "الواشنطن بوست" قالت: إنّه ضابط كان يعمل ليجمع المعلومات لحساب أميركا و"إسرائيل" عن حز//ب الله، شغله مراقب في الهدنة، وهو ليس من القوات الدولية. بل إنّه من الأشخاص الذين لهم دورٌ كبير في المسألة العسكرية الأميركية ويختزن أسراراً تؤثّر على كثير من أوضاع المنطقة. حتّى إِنَّ "ريغان" اليوم يصرّح بأنّ هذا الشخص لن يفشي الأسرار الموجودة عنده تجاه الأوضاع المتعلّقة بـــ "إسرائيل" وبغيرها. كيف ننظر إلى هذه المسألة، وعندنا معلومات سابقة بأنّ بعض ضبّاط القوات الدولية عملاء ـــ ولسنا هنا بصدد تحريك مسألة القوات الدولية ومسألة الوقوف ضدّها، قد نختلف مع الآخرين في فائدتها الكبيرة ولكن لسنا في وارد أن يقف أحد ضدّها ـــ لكن نحن نعرف أنّ بعض فصائل القوّة الدولية من الدول الكبرى في الجنوب، كانت تذهب إلى كلّ قرية من قرى منطقة صور وتدخل كلّ منطقة وتستخبر كم يوجد فيها من حز//ب الله ومن حركة أمل ومن عناصر كامل الأسعد، وهذه العائلة وعلاقتها مع هذه العائلة؟ وما إلى ذلك من معلومات. ما دخل القوّات الدولية بهذا العمل؟ لماذا ندفن رأسنا كالنعامة؟ هل نقول كما قال الشاعر:
يا ضيفنا لو جئتنا لَوَجَدْتنا نحنُ الضيوف وأنتَ ربُّ المنزلِ
يجب أن يبقى الضيف ضيفاً، بشرط أن يحفظ حقوق المضيف. لهذا نحن نقول: إنّه يجب أن يكون هناك وعي، نحن لا نريد أن ندخل في معركة مع القوات الدولية، ولا حتى مع المراقبين الدوليين، مع العلم بأنَّ المراقبين وُجِدوا لا ليراقبوا "إسرائيل" كيف تقوم بالاعتداء على الجنوب، ولكن ليراقبوا المجاهدين كيف يحاولون أن يضربوا اليهود. أصل سياسة المراقبين كانت القيام بهذه المهمة. عندما تصل المسألة إلى هذا المجال، يجب أن نعيد النظر بدراستنا للموضوع، وبهذا أنا أقول لكلّ الأخوة ليدرسوا هذه الأمور بالعمق، لأنَّ إطلاق هذه الأمور والتحاور فيها من خلال الصحف أو من خلال الحفلات، لا يؤدّي إلى نتيجة، لأنَّ كلّ فريق يسجّل نقطة على الفريق الثاني. الحوار العميق الذي يحفظ للبلد أمنه ويحفظ للأمن الأمن الجهادي كما الأمن الاجتماعي والسياسي، يحفظه من كلّ المؤامرات التي يصبو إليها المستعمرون. عندما تقول "الواشنطن بوست" إنّه يتجسَّس فهل ندافع عنه ونقول إنّه ليس جاسوساً؟ ثمّ ما عمل المراقبين الدوليين في منطقة صور، وشغلهم يجب أن يكون على الحدود؟ لماذا يأتون إلى القرى؟ لا نريد أن ندخل في جدل قانوني في هذا الموضوع، لكن نريد أن نقول: إنَّ علينا أن نواجه القضايا بوعي عميق، لأنَّ معركتنا مع "إسرائيل" ليست بالرصاص فحسب، وإنّما بالأمن أيضاً، لأنَّ "إسرائيل" تحاول أن تدخل في صفوفنا لتزرع جواسيسها في داخلنا وفي واقعنا. ريغان صرَّح في وقتٍ من الأوقات بأنّنا، إن لم نستطع أن نوقف هؤلاء المتطرّفين، فإنّنا سوف ندخل إلى مواقعهم من خلال المخابرات.
متفجّرة بئر العبد كانت عملية مخابراتية أميركية ـــ إسرائيلية ـــ لبنانية بتمويل سعودي، وهذا يعني أنّ عمل المخابرات ليس أخذ المعلومات فقط، بل هي عملية منسّقة ومرتّبة باتّجاه قتل المؤمنين والمؤمنات.
يجب أن نواجه هذه المسألة من خلال طبيعتها الواقعية. نحن ذكرنا أنّ هذه المنظّمات، التي تعمل في الخفاء تنطلق في الساحة الكبيرة الاقليمية والدولية. لهذا، كلّ أساليب الدَّهم والحواجز من الصعب جداً أن تحلّ هذه المسألة، لا بدّ أن تدرس المسألة بواقعية. وإذا كان الجميع يُبرّئون أميركا من عمليات الخطف فإنّنا نلاحظ أنّ أميركا تقوم رسمياً بعمليات الخطف، من خطف فواز يونس؟ كيف تمّت العملية؟ إنّهم أوكلوا إلى بعض مخابراتهم أمر خطفه من المياه الإقليمية اللبنانية إلى المياه الدولية. وهم على لسان بعض قضاتهم ومحاميهم يعترفون بأنَّ الاعترافات أخذت منه بالقوّة ولا تزال تؤخذ بالقوّة، وأخذوه إلى أميركا وأوحوا للعالم بأنّهم استطاعوا أن يقبضوا على أحد المسؤولين عن خطف الطائرة. هل هذه عملية خطف أم لا؟ لماذا لم يتبرَّع الكثيرون في العالم ويقولوا هذه عملية خطف وقرصنة؟ لأنَّ هذا لبناني وليس أميركياً، واللبناني سعره بالليرة اللبنانية، والأميركي سعره بالدولار. لماذا يقولون إنّه مطلوب للعدالة الأميركية باعتبار أنّه أساء إلى الأميركيين؟ هذه المنظّمات تقول أيضاً إنّ (هيغنز) مطلوب للعدالة الاستضعافية. الأمر ذاته؛ هذا أسلوب، وذاك أسلوب لماذا نفرّق بين أسلوب ابن الست وابن الجارية، أم أنّ ضخامة الهيبة الأميركية تجعل الجميع ينحنون أمامها؟!
ابن الست وابن الجارية
المسألة لا بدّ لها من وعي، لأنَّ القوم يعملون لمصلحة "إسرائيل"، هذا كلامهم، شولتس منذ أن جاء إلى المنطقة قال: الأساس هو ضمان أمن "إسرائيل"؛ وريغان يتحدّث عن الانتفاضة الفلسطينية بأنّها حالة شغب، وأنّها جاءت من إرهابيين في الخارج. طبعاً شولتس، الذي يريد أن يسوّق مشروعه، يعتبر أنّ الفلسطينيين يعانون من إحباط من جهة وضعهم الداخلي والاحتلال، واليوم تبرَّعوا بالقول إنّه لا يوجد فرق بين كلام شولتس وكلام ريغان. وشولتس هنا يحتاج لأن يقدّم للعالم العربي عواطف ـــ والعرب أغلب شعرهم عاطفي، ويحبُّون الحديث العاطفي ـــ إنّها أعمال شغب، وهو نفسه يقول إنّ عمل المجاهدين الأفغان ضدّ روسيا جهاد، أيّ فرق بين هذا وذاك؟ إذا كان هؤلاء يعملون لتحرير بلادهم، فهؤلاء أيضاً يعملون لتحرير بلادهم. لكن لأنَّ المسألة هذه تخصّ "إسرائيل" فأميركا مستعدّة لأن تضرب كلّ المصالح في المنطقة على أساس مصلحة "إسرائيل"، وعندما سئل لماذا لم تحتجّ على قتل الجنود الإسرائيليين الأطفال والشيوخ والنساء، وعلى تدمير هؤلاء الناس، ارتبك لأنّك لا يريد أن يدين "إسرائيل". وإذا كانت المسألة هي هذه، فكيف نستطيع أن نحترم هذه الإدارة، وكيف نستطيع أن نحترم رموزها وممثّليها؟ وكيف يمكننا مع هؤلاء الذين ينظرون إلى أعمال مجاهدينا وهم يعيشون مسألة الحريّة على أنّها مسألة شغب، وأنّها أعمال إرهاب؟ إنّه لا يطيق أن يفهم أنّ من الممكن أن يقوم فلسطيني في الداخل ضدّ الهيمنة الإسرائيلية، لا يريد أن يعطيَ "إسرائيل" دور الدولة، التي تقمع الذين يريدون أن يحافظوا على مكانهم ووجودهم. هذا هو الخطّ الأميركي في المنطقة؛ إنّه يريد أن يقتلنا وأن يدمّرنا.
العمل على محاصرة الجمهورية الإسلامية
إنّ الخطّ الأميركي يعمل الآن في العالم، على أساس أن يطوّق الجمهورية الإسلامية في إيران، ويفرض عليها العقوبات الاقتصادية والسياسية والعسكرية.. ولكن نقول: هم يتكلَّمون عن المخطوفين بأنّهم أبرياء، فكيف يُعاقَب الأبرياء بذنب المجرم؟ لو أنّ السلطة الإيرانية الآن، كما يعبّرون، كانت غير بريئة فكيف يجوز لهم أن يحاصروا الشعب الإيراني كلّه، ألاَ يكون هذا أخذ البريء بذنب غير البريء؟ أيّ فرق بين هذا وذاك، أو كما يقول الشاعر:
قتلُ امرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تغتفرْ وقتلُ شعبٍ آمنٍ مسألةٌ فيها نظرْ
إيران لم تطلب منهم إلاّ أن يدينوا النظام العراقي باعتدائه على إيران وهجومه عليها، وأن يرغموه على إعلان وقف إطلاق النار. لكنّهم ليسوا مستعدّين لذلك، لأنّهم إذا أدانوا العراق فهم يدينون أنفسهم، لأنّهم أيّدوه ودعموه بكلّ الدعم السياسي والعسكري وما إلى ذلك. ولهذا يجب أن نواجه هذه الأمور بعقلٍ منفتح، لأنَّ المسيرة طويلة، فأميركا لا يمكن أن تترك هذه المنطقة إلاّ بعد أن تحوّلها إلى مزرعة أميركية بالكامل. ومعنى أن تكون المنطقة أميركية هو أن تكون المنطقة إسرائيلية وأن تسيطر "إسرائيل" على كلّ مقدّرات البلد، على أساس أنّ هناك مصالح استراتيجية بين أميركا و"إسرائيل". وإذا كانت هناك خلافات بين أميركا و"إسرائيل" في بعض القضايا التكتيكيّة، فليست هناك اختلافات في الأمور وفي القضايا الاستراتيجية. إذا كانت أميركا تؤمن بالحريّة وتضع نصب الحريّة في قلب واشنطن، فلماذا لا تدعو "إسرائيل" بصراحة وتجمع مجلس الأمن لينفّذ عقوبات حقيقيّة ضدّها، وتبدأ هي بتنفيذ هذه العقوبات؟!
لماذا لا تقف أميركا وتواجه "إسرائيل" وتطلب لها عقوبات من مجلس الأمن، لتنسحب "إسرائيل" من الضفّة الغربية والقطاع وتترك الفلسطينيين يدبّرون أنفسهم بأيديهم؟ لماذا لا تواجه أميركا "إسرائيل" بالانسحاب من جبل عامل والبقاع الغربيّ من لبنان؟ هل هناك وضع قانوني يسمح "لإسرائيل" بأن تبقى هنا أو تبقى هناك أم أنّ مسألة الحريّة مسألة مختلفة المواقع؟ فإذا كانت مسألة حريّتنا فإنّها قضية فيها نظر، وأمّا إذا كانت حريّة الآخرين ممّن يرتبطون بالمصالح الأميركية، فالمسألة عند ذلك تخضع لكلّ حقوق الإنسان.
الأمم المتحدة منحازة
إنّنا نريد أن نقول للأمم المتحدة: إذا أردتم أن يفتح الناس قلوبهم لمؤسّساتكم الدولية فعليكم أن لا تدخلوا الأميركيين في هذه المؤسّسات، لأنّ الناس لا يستطيعون أن يثقوا بالمؤسّسات التي يديرها أميركيون، لأنّ الأميركيين يعملون ضدّ مصلحة الشعوب ولمصلحة استراتيجيّتهم بأسلوب المخابرات تارّة، والسياسة تارة أخرى. وفي المناسبة يحاول كثير من وسائل الإعلام أن يضع مسألة خطف موظّفي الأونروا في دائرة الإسلاميين، لأنَّ هناك إحراجاً في هذه المسألة. إنّنا من خلال معلوماتنا الدقيقة نعرف أنّ هذه القضية تعيش في دائرة بعض الفصائل الفلسطينية، هناك معلومات دقيقة مئة في المئة، ولكنّهم أرادوا أن يتخفَّفوا من الإحراج فأطلقوا التصريحات في هذا الاتجاه، لأنَّ السوق سوق الاتّهامات الموجّهة للإسلاميين في أيّ شيء الذين أصبحوا المسؤولين عن أيّة عمليّة إرهابية أو عملية خطف والكلّ يتبرَّع بذلك بدون تحقيق.
إنّنا نريد أن نؤكّد من خلال مسؤوليتنا الشرعية أنّ المسألة ظلم، وليست مسألة حقيقية لأنَّ المعلومات دقيقة في هذا المجال.
دعوة إلى التعقّل والوعي
نتوجَّه إلى كلّ إخواننا في الجنوب وندعوهم إلى أن يجلسوا معاً، ليواجهوا هذه المسائل بعقلية سياسية أمنية واعية في إطار الشرع، لأنّه لا يجوز لنا أن ندخل بيوت الناس بالقوّة، ولا يجوز لنا أن نستعمل القوّة إلاّ في دائرة محدودة جداً، وإلاّ في عناوين شرعية محدودة جداً.
إنّنا نريد أن نقول للجميع {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا...} [آل عمران : 103]. فلا تعودوا إلى ذلك لأنَّ عذاب الله شديد {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 ـــ 2].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
منهج وانتماء(*)
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة : 207]، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة : 55].
تذكر الروايات الواردة عن طريق السُنّة والشيعة أنّ المقصود بذلك هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، الغلام، الذي ربَّاه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تربية روحية تنفتح على الله كما كان هو ينفتح على الله.
عليّ (عليه السلام) في بيت النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)
احتضن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عليّاً (عليه السلام) قبل البعثة، إذ أخذه من عمّه أبي طالب ليخفّف عنه ثقل العيال، وبذلك كان الولد الروحي لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، الذي كان يتأمَّل في آفاق الله وفي آفاق الكون، وينفتح في ذلك على الله قبل الرسالة، وكان يشرك علياً في أجواء هذه التأمّلات ويركّز في نفسه كلّ أخلاقه التي ميَّزت شخصيّته. فكان رسول الله الصادق الأمين، وربّى عليّاً ـــ وهو طفل ـــ على أن يكون الصادق الأمين.
وهذا ما أشار إليه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عندما قال له بعض أصحابه: أريد أن تعلِّمني شيئاً أبلغ به المنزلة العليا عندك قال: "انظر إلى ما بلغ به عليّ من المنزلة عند رسول الله فافعله، فإنَّ علياً بلغ ما بلغ لأنّه كان الصادق الأمين" وكان صدقه هو الذي ربطه بالحقّ، فلم ينحرف عليّ عن الحقّ أبداً في الأمور الصغيرة والكبيرة. وكانت أمانته هي التي تربطه بالمسؤولية، لأنّه كان يشعر بأنَّ المسؤولية الإسلامية تمثّل أمانة الله عنده، في علاقته بكلّ الواقع الذي حوله، وفي حركته في كلّ المراحل التي عاشها وفي كلّ المواقع التي تحرَّك فيها.
ذلك هو عليّ الذي عاش مع الله، حتّى إذا بُعث رسول الله، دعاء إلى الإسلام فاستجاب له وهو في التاسعة أو العاشرة من عمره. ويذكر بعض المؤرّخين أنّ علياً كان أوّل مَن أسلم من الصبيان. يريدون من ذلك أن يوحوا بأنّ عليّاً كان إسلامه إسلام صبي. ولكن عندما دعاه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يجد في عقله عقل رجل كبير، وإلاّ كيف يدعوه؟ وكيف يخاطبه؟
وعندما قيل لعليّ: كيف تدخل في الإسلام قبل أن تستشير أباك؟ قال لهم: إنَّ الله لم يستشر أبي عندما خلقني، فكيف أستشيره عندما أؤمن برسالة الله؟ إنَّ مسألة الآباء والأجداد والأُمّهات تتعلّق ببعض شؤون الحياة، في العلاقات العامّة والتصرّفات الخاصّة من حياة الإنسان، أمّا عندما يتعلّق الأمر بالله فلن يكون هنالك دور للآباء أو الأُمّهات، بل للنّاس جميعاً، إذ لا معنى للناس أمام الله، لأنّنا نرتبط بالناس من خلال أمر الله. فنحن نحسن إلى آبائنا وأُمّهاتنا، ونحسن إلى أرحامنا وجيراننا وكلّ الناس من حولنا، لأنّ الله أمرنا أن نحسن إليهم.
عليّ (عليه السلام) بعد البعثة
أَسْلَمَ عليّ وانطلق مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكان معه في بيته يسمع حفيف أجنحة الوحي عندما ينزل إلى رسول الله، وكان يعيش مع رسول الله، ليسمع منه كلّ آية تنزل عليه وكلّ حكم يوحي به الله إليه. وكان يتعلَّم من رسول الله كيف يكون الصابر عندما تحتاج الرسالة إلى صبر، وكيف يكون المتحرّك عندما تحتاج الرسالة إلى حركة، وكيف يكون الشديد عندما تحتاج الرسالة إلى شدّة، وكيف يكون المتسامح عندما تحتاج الرسالة إلى التسامح. فكانت أخلاقه صورة لأخلاق رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). حتّى إذا جاء نصارى نجران ليباهلوا رسول الله، نزلت هذه الآية: {... فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران : 61]. وجاء رسول الله بابنيه وابنته، وجاء بعليّ كأنّه يقول: إنَّ علياً هو نفسي وليس ذلك امتيازاً لقرابته، فلرسول الله أبناء عمّ كثيرون، ولكنّه امتاز لعمق شخصية عليّ، لأنّ رسول الله ربّى نفس عليّ من عمق نفسه، وأطلق خطّ الأخلاق عند عليّ من خلال أخلاقه.
التجارة مع الله
كان عليّ المسلم المطيع لرسول الله في كلّ مواقع الحياة، وانطبع بالإسلام في كلّ فكره وفي كلّ مشاعره وفي كلّ عواطفه. ونحن نفهم من سيرته ومن كلماته ومن كلّ أجوائه أنّ معنى الإسلام عنده هو بيع النفس لله، فلا يكون الإنسان مسلماً إذا كان يحسب لنفسه حساباً غير حساب الله، أو يرى لها مصالح غير مصالح رسالة الله، أو علاقات غير العلاقات التي يحبّها الله، أي أن تكون حياته كلّها لله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة : 131]، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 ـــ 163].
باع عليّ حياته لله عندما أكّد إسلامه ليخطّط لنا الطريق. وقد حدَّثنا الله عنه في الآية الكريمة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ...} [البقرة : 207] وفي رأي بعض المفسّرين أن {يَشْرِي} تعني يبيع.
وهناك تفسيرٌ آخر يقول: إنّ الإنسان إذا سار في خطّ الله فقد شَرَى نفسه لأنّه يربحها في الجنّة، بينما مَنْ يمضي في غير خطّ الله يخسر نفسه {... قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر : 15]. عندما تطيع الله فقد اشتريت نفسك، لأنّك ربحتها؛ وعندما تعصي الله وتكفر به فقد فقدت نفسك وخسرتها.
وكان عليّ (عليه السلام) يريد أن يربح نفسه، وعرف أنّه لن يربحها عند الله إلاّ إذا جعلها في خدمته وبذلها في سبيله. ولذلك عندما طلب إليه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يبيت على فراشه ليلة الهجرة، فإنّه لم يتردَّد في القبول، على الرغم من كلّ الخطر المحدق به، ولم يسأله عمّا يلحق به من أذى، بل سأله عن شيء واحد ليطمئن على حياة الرسول ومستقبل الرسالة، إذ قال له: "أَوَتَسْلَم يا رسول الله؟ قال: بلى. قال: إذاً اذهب راشداً مهدياً".
هكذا بات على فراش رسول الله، ولولا ذلك لم يستطع رسول الله أن يغطّي انسحابه، فقد كان يُخيّل إلى القوم وهم يجدون شخصاً نائماً في الفراش أنّ ذلك هو الرسول.
الهجرة إلى المدينة
وانطلق عليّ (عليه السلام) إلى المدينة، ولم يكن الرسول قد دخلها حتى التحق به عليّ، وبدأ عليّ يتحرّك مع رسول الله، يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه ويندفع لتنفيذ كلّ ما يريد منه.
وجاءت المعارك وكان عليّ فارسها. وقد ذكر المؤرّخون أنّ عليّاً قتل في بدر نصف قتلى قريش، وشارك المسلمين في قتل النصف الآخر. وينقل هو عن نفسه، أنّه كان في أثناء المعركة يُقاتِل ويقتُل ثمّ يأتي ليطمئن على رسول الله فيجده ساجداً، يدعو في سجوده فكان يعيش في أجواء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حتّى وهو يقاتل، وكان هو الذي دافع عن رسول الله.
وعندما دارت الدائرة على المسلمين في أُحُد، كان هو الذي دافع عن رسول الله، حتّى حماه بنفسه، فقد كان الرسول يقول له: ادفع عنّي هذه يا عليّ، كلّما هجمت عليه كتيبة من قريش.
وكان في جميع معارك رسول الله الفارس البطل، حتّى إِنّ الرسول قال عنه حينما برز في معركة الأحزاب لعمرو بن عبد ود العامري، قال: "بَرَزَ الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه"(1). وقد وقف عليّ (عليه السلام) إزاء عمرو، فقال الأخير: لقد كان أبوك نديماً لي صديقاً، فارجع فإنّي لا أحبّ أن أقتلك. فقال عليّ (عليه السلام): ولكنّي أحبّ أن أقتلك.
لم يكن مهمّاً لديه أن يحافظ على صداقات أبيه أو صداقات قومه، بل كان كلّ همّه أن يحافظ على صدقيّته أمام الله. لعلَّكم تستغرقون في معركة الخندق فتبتهجون لانتصار عليّ (عليه السلام) على عمرو بن عبد ودّ، وتبتهجون لبطولته. ولكن ليكن ابتهاجكم بدروسه أكثر من ابتهاجكم بشجاعته، لأنَّ شجاعته كانت في دائرة المعركة، أمّا درسه فهو في دائرة الحياة كلّها. ومن ثمّ فإنَّ دفاعكم عن الصديق إذا كان عدوّاً لله، أمر لا ينسجم مع التزامكم بخطّ عليّ، الذي هو خطّ الإسلام.
إذا كنتم تحبُّون عليّاً (عليه السلام) فأحبُّوا خطّه وأحبُّوا أخلاقه وأحبّوا فكره وجهاده؛ فهذا هو عليّ (عليه السلام)، وليس هو مجرّد إنسان تلتزمون بحبّه وتتنكَّرون لمواقفه ولخطّه.
منزلة عليّ (عليه السلام) من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)
وهكذا انطلق عليّ (عليه السلام) مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، الذي كان يدفعه إلى كلّ المعارك، حتّى كانت وقعة تبوك فأبقاه في المدينة واحتجّ عليّ (عليه السلام) احتجاج الشكوى، لا احتجاج الاعتراض. فقال له رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): إنَّ السفرة ليست سفرة حرب، ولن يكون فيها حرب. ثم قال له: "أمَا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي"(1) إشارة إلى قوله تعالى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي*هَارُونَ أَخِي*اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي*وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29 ــ 32] وجعل الله عليّاً (عليه السلام) وزيراً لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ولم يجعله نبيّاً كما جعل هارون. وهكذا رضي عليّ (عليه السلام) بما رضي به رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
علم عليّ (عليه السلام)
كان رسول الله يريد للمسلمين أن يتعرّفوا عمق المعرفة عند عليّ (عليه السلام)، وسعة العلم لديه. فقد كان المسلمون يتطلّعون إلى رسول الله باعتباره يحمل كلّ علم الإنسان، لأنَّ الله أوحى إليه القرآن وأوحى إليه بالإسلام وألهمه علم ذلك كلّه. وكان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يحاذر أن ينسى فطمأنه الله، أنّه سيجمع له علم ذلك كلّه: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ*إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16 ـــ 17] فكان المسلمون يتطلَّعون إليه وَيَحَارون كيف يستطيعون أن يأخذوا العلم منه، والوقت قد لا يتّسع لذلك. فقال لهم: "أنا مدينةُ العِلْم وعليٌّ بابها(1)، فمن أرادَ دخول المدينة فليدخلها من بابها"، ذلك لأنَّ عليّاً عاشَ علم رسول الله كلّه ومن ثمّ كان الوحيد من بين الصحابة الذي لم يُسأل عن مسألة، إلاّ وأجاب عنها. وكان الوحيد الذي لم يحتج أن يسأل أحداً عن مسألة، بل كان المرجع الذي يرجع إليه الصحابة في كلّ أمورهم. حتّى قيل للخليل بن أحمد الفراهيدي أستاذ "سيبويه" في النحو ومخترع علم العروض ومؤلّف أوّل قاموس في اللّغة العربية.. قيل له: لم آثرت عليّاً (عليه السلام) على غيره؟ وكان الخليل يلتزم ولاية عليّ (عليه السلام). فقال احتياج الكلّ إليه (أي لم نجد أحداً لم يحتج لعليّ (عليه السلام) واستغناؤه عن الكلّ.. (لم نجد عليّاً (عليه السلام) محتاجاً لأحد) فذلك دليل على أنّه إمام الكلّ. وقد بلغ عليّ (عليه السلام) ما بلغ من العلم، لأنّه كان يستمدّ علمه ـــ مباشرة ـــ من النبع الذي كان يعيش في أجوائه دائماً. حتى قالت بعض نساء النبيّ إنَّهن كنَّ يغرن من عليّ (عليه السلام)، لأنّه كان يأخذ الكثير من وقت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، على أساس أنّه يعطيه في كلّ ليلة علماً من علمه، ويذكر له محلّ نزول كلّ آية قرآنية وما هي مواقعها وما هي آفاقها.. ويستلهم عليّ ذلك كلّه.
من هنا فإنَّ علم عليّ (عليه السلام) مُستمدّ من الإسلام وليس له فكر غير فكر الإسلام، وحتّى أفكاره في تجاربه كان يستمدّها من الخطّ الإسلامي العام ونستطيع أن نقول: إنَّ فكر عليّ (عليه السلام) هو فكر الإسلام بعينه.
عليّ (عليه السلام) مع الحقّ
وفي عودة الرسول من حجّة الوداع أنزل الله عليه {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ...} [المائدة : 67] وبلَّغ رسول الله الرسالة، وقال للمسلمين وقد رفع يَدَيْ عليّ (عليه السلام) حتّى بانَ بياض إبطيهما للناس: "أَلاَ مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللَّهمَّ والِ مَنْ والاه وعادِ مَن عاداه، وأَدِر الحقَّ معه حيثما دار"(1). كان يقول ذلك للمسلمين وهو أعرف الناسَ بعليّ (عليه السلام) وهو الذي يعرف أنَّ عليّاً (عليه السلام) لم ينطلق بكلمة باطل، ولم يقف موقف باطل منذ أن كان طفلاً، ولم يتحرّك حركة باطل، أو علاقة باطل. بل "عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور حيثما دار"(2).
من هنا نعرف أنّ من يُرِد الارتباط بعليّ (عليه السلام) فعليه أن يرتبط بالحقّ، ومن يتحرّك مع الباطل ليحصل على بعض أطماعه، ومن يتكلَّم بكلمات الباطل حتى يرضى عنه أهل الباطل ثمّ يقول: أنا مع عليّ (عليه السلام) فإنَّ الحقّ الذي يمثّله عليّ (عليه السلام) يقول له: لست مع عليّ (عليه السلام) لأنّك مع الباطل، وليست هناك مساحة بين عليّ (عليه السلام) وبين الحقّ يمكن أن ينفذ الباطل منها.
كانت مشكلة عليّ (عليه السلام) في حياته، أنّه معه الحقّ وكان الناس يريدون منه أن يمزج الحقّ بالباطل ويقولون له: إنَّ عليك إذا أردت أن تعيش في المجتمع، أن تأخذ من الباطل قليلاً وتأخذ من الحقّ قليلاً وتمزجهما، حتى يستطيع الناس أن يتقبَّلوا الحقّ الذي فيه شيء من الباطل. وكان يرفض ذلك، ويقول: "ما تَرَكَ لي الحقّ من صديق".
كان عليّ (عليه السلام) مُتعباً لأصحابه، ولكلّ الناس من حوله؛ لأنّه كان يريد أن يسيّرهم على المحجّة البيضاء، على الطريق الأبيض الواضح ولأنّه كان الإنسان الرافض للباطل الذي يلتزم الحقّ في كلّ مجالات الحياة. حتّى إذا وقف بين الحكم والحقّ، رَكَلَ الحكم برجله وفضَّل أن يقف مع الحقّ.
يقول ابن عبّاس: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلت: لا قيمة لها: فقال: "والله لهي أَحَبّ إليَّ من إمْرَتِكُم، إلاّ أنْ أُقيم حقّاً، أو أدفع باطلاً"(3)، حتّى الحكم وظَّفه عليّ (عليه السلام) في خدمة الموقف والأسلوب الحقّ، لأنّه كان يريد حكم الرسالة ولا يريد حكم الذّات. ولهذا فإنّه انفتح على الواقع من خلال الرسالة، وكان كلّ همّه هو الله وكلّ فكره هو سلامة الإسلام وسلامة المسلمين. ومن ثمّ نراه يقول: "فَخَشِيتُ إنْ لَمْ أَنْصُرِ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرضى فيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكونُ المُصيبةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلايَتِكُمُ التي إِنَّما هِيَ مَتَاعُ أَيّام قَلائِلَ يَزولُ مِنْها ما كانَ كَما يزولُ السَّرابُ، أَوْ كَما يَتَقَشَّعُ السَّحابُ"(1) ويقول في حديثٍ آخر: "لَأُسْلِمَنَّ ما سَلِمَتْ أُمورُ المسلمين"(2).
من هنا لم تكن معارضته ـــ وقد أُبعِد عن حقّه ـــ معارضة عقدة في الذّات، بل كانت معارضة موقف في الحقّ. فكان يستجيب لهؤلاء الذين تقدَّموا عليه وأبعدوه عن حقّه، فيقدّم لهم المشورة والنصيحة والتعاون، لأنَّ الإسلام يفرض ذلك. حتّى قال قائلهم: لولا عليّ لهلك عمر(3). وكان عليّ لا يشعر بأنّ هناك مشكلة في هذا المجال؛ لأنَّ قضية الحكم لم تكن قضية ذاتية يحجب من خلالها موقفه الذي يحتاجه الإنسان، لمجرّد أنّ الذين يقفون على الحكم هم أشخاص أبعدوه عن الحقّ ولأنَّ المسألة هي مسألة الإسلام كلّه.
مواجهة الخلافات بأسلوب عليّ (عليه السلام)
هذا ما يجب أن نتعلّمه؛ فعندما نواجه المواقف في الدائرة الإسلامية فعلينا أن ننظر مصلحة الإسلام، قبل أن ننظر مصلحة الأشخاص أو مصلحة الطائفة؛ لأنَّ عليّاً (عليه السلام) علَّمنا ذلك. وإذا كنّا نتنازع من خلال عليّ (عليه السلام)، فقد علَّمنا عليّ (عليه السلام) كيف نقف مع حقّنا عندما تفرض الساحة ذلك، وكيف نحرِّك الساحة بطريقة متوازنة، حتّى نحميها من الأعداء الذين يحاولون استغلال خلافاتنا، ليقضوا على الإسلام كلّه. وهذا يحمّلنا مسؤولية كبيرة ـــ ولا سيّما في الدائرة الإسلامية ـــ عندما يعمل الكفر كلّه والاستكبار كلّه على الاستفادة من الخلافات المذهبية أو الخلافات الخاصّة في سبيل إسقاط الإسلام كلّه، ليربطونا بطوائفنا بعيداً عن الإسلام، ولتكون الطائفة هي الأساس وليس الإسلام. ولكن لا قيمة لشيعي لا يلتزم الإسلام خطّاً له، ولا قيمة لسنّي لا يلتزم الإسلام خطّاً. كلّ المسلمين يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله، ولكن قد يفهم فريق من المسلمين القضية بطريقة ويفهمها فريقٌ آخر بطريقة أخرى. فإذا اختلفنا في المفردات فعلينا أن نردّ الأمر إلى الله ورسوله، كما علَّمنا القرآن.
وحدة المسلمين
إذا كنتم تفكِّرون كمسلمين فإنّكم تستطيعون أن تلتقوا مع المسلمين الآخرين، ولكن عندما تفكِّرون من مواقعكم الطائفية، فإنّ كلّ الواقع السياسي يبعد بعضكم عن بعض، لأنَّ كلّ طائفة تعمل على أن تكون مستقلّة عن الطائفة الأخرى في كلّ قضاياها وتعمل على أنْ تتقوَّى على الطائفة الأخرى، حتّى بالكافرين. وهذا ما يحدث في داخل اللّعبة اللبنانية وفي داخل واقع العالَم الإسلامي، الذي يتحرَّك فيه المستعمرون ليثيروا المسألة المذهبية، على أساس أنّ الشيعة يريدون أن يُسقطوا السنّة، وأنّ السنّة يريدون أن يسقطوا الشيعة. حتّى ينشغل المسلمون بعضهم مع بعض، وينطلق المستعمرون من أجل أن يصادروا كلّ ثرواتهم وكلّ مواقفهم. فإذا كنّا نلتزم عليّاً (عليه السلام)، فإنّه لم يكن يفكّر إلاّ بالإسلام ووحدة المسلمين، حيث يقول: "فَخَشِيتُ إنْ لَمْ أَنْصُرِ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرضى فيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكونُ المُصيبةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلايَتِكُم هذه...".
إنَّ معنى التزامنا عليّاً (عليه السلام) هو أن نلتزم الإسلام ومصلحته، وإلاّ فقد نلتقي بعليّ (عليه السلام) يوم القيامة، وقد عبثنا بوحدة المسلمين وأَعَنَّا المستعمرين عليهم، وناصرنا الكافرين ضدّهم نتيجة عقدة. فنقول له: يا عليّ لقد حاربنا من أجلك وسببنا الناس من أجلك وعملنا كلّ ما عملنا من أجلك فأعطنا جائزتنا، فيقول عليّ (عليه السلام): مَنْ قال لكم إنّكم عملتم من أجل عليّ (عليه السلام)، لأنَّ عليّاً (عليه السلام) باع نفسه لله ولم يبعها لنفسه. ولم يكن يعمل لذاته بل كان يعمل للإسلام، فإذا كنتم تعملون لعليّ (عليه السلام) فاعملوا للإسلام من خلال خطّه.
عليّ (عليه السلام) في الحكم
وإذا كان عليّ (عليه السلام) متسامحاً خارج الحكم فإنّه كان شديداً حين أمسك به، على عكس الواقع السياسي، حيث يكون المعارضون ـــ عادة ـــ أشدَّاء خارج الحكم، ثم يكونون متسامحين داخله، لأنّهم يعارضون بشدّة حتى يصلوا إلى الحكم، فإذا وصلوا انتهى الأمر وأصبحوا يتسامحون مع مَنْ كانوا يتشدَّدون بشأنه. ولكنَّ عليّاً (عليه السلام) كان في خطّ المعارضة ينظر مصلحة الإسلام، ولذا لم يقاتل بل أعطى كلّ النصيحة. وعندما حكم كانت المسألة عند ذلك هي مصلحة الإسلام والمسلمين، فكان يمثّل الحكم الذي يريده رسول الله، فيقف حيث وقف رسول الله ويتحرّك من خلال شريعة الله. ولهذا كان قويّاً وشديداً وحاسماً.
ولكنّه كان يؤمن بمنطق الحوار ويفتح قلبه للذين أعلنوا الثورة عليه ليعيدهم إلى الحقّ. ففي حوارٍ له مع طلحة والزبير قال لهما: "لقد نقمتما يسيراً، وأرجأتما كثيراً. فاستغفرا الله يغفر لكما ألا تخبراني، أدفعتكما عن حقّ وجَبَ إيّاه؟ قالا: معاذ الله. قال: فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشيء؟ قالا: معاذ الله. قال: أفوقع حكم أو حقّ لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه؟ قالا: معاذ الله. قال: فما الذي كرهتما من أمري حتّى رأيتما خلافي؟ قالا: خلافك عمر بن الخطّاب في القسم إنّك جعلت حقّنا في القسم كحقّ غيرنا وسويت بيننا وبين مَن لا يماثلنا فيما أفاء الله تعالى بأسيافنا ورماحنا وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا وظهرت عليه دعوتنا وأخذناه قسراً وقهراً ممّن لا يرى الإسلام إلاّ كرهاً. فقال (عليه السلام): "أمّا ما ذكرتموه من الاستشارة بكما فوالله ما كانت لي في الولاية رغبة ولكنّكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها، فلمّا أفضت إليّ نظرت إلى الكتاب وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به فاتّبعته، وما استنَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فاقتديته، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلت، فأستشيركما وإخواني من المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما. وأمّا ما ذكرتما من أمر الأُسوة، فإنَّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي ولا وليته هوىً منّي، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد فَرَغَ منه، فلم أحتج إليكما في ما قد فرغ الله من قسمِهِ، وأمضى فيه حكمه، فليس لكما، والله، عندي ولا لغيركما في هذا عتبي. أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحقّ وألهمنا وإيَّاكم الصبر"(1).
ثم قال: "رَحِمَ الله رجلاً رأى حقّاً فأعان عليه، أو رأى جوراً فردّه، وكان عوناً بالحق على صاحبه"(2). هذا هو منطق عليّ (عليه السلام) عندما وقف هذان الشيخان الصحابيّان ليطلبا منه أن يعطيهما امتيازات في الخلافة، وقف وقفة حاسمة، وتحدَّث إليهما بهذا المنطق الهادئ.
وعندما أعلنا عليه الحرب وجاءا بأمّ المؤمنين عائشة، حاول بكلّ الطرق أن يتفادى الحرب، ولكنّه اضطر لدخولها ـــ في ما بعد ـــ لحفظ نظام الأُمّة.
وهكذا كانت مسألته مع معاوية، فهو لم يدخل الحرب إلاّ بعد أن استقرّ معاوية بالشام، ليقف ضدّ السلطة التي يمثّلها الإمام عليّ (عليه السلام)، من خلال موقعه عند الله ويمثّلها من خلال بيعة المسلمين له.
وحين احتجّ عليه الخوارج لدخوله التحكيم وكفّروه، لم يعرض لهم بسوء لمجرّد أنّهم تكلَّموا عليه، ولم يعرض لهم بالقتال لمجرّد أنّهم عارضوه أو سبّوه.. بل تدخّل لقتالهم عندما عرضوا لبعض المؤمنين وهو خَبابُ فقتلوه، وقتلوا زوجته بعدما بقروا بطنها. عند ذلك تدخّل عليّ (عليه السلام) وحاربهم ليعيد النظام إلى نصابه، لأنّهم تحوَّلوا إلى قطَّاع طرق.
من هنا فإنَّ عليّاً (عليه السلام) لم يحارب أحداً لمجرّد كونه معارضاً، بل إنّه أعطى معارضيه الحريّة في أن يسألوا وأن يعارضوا ولكن عندما يسيئون إلى النظام فإنّه يتدخّل. وقد روي أنّ بعض الخوارج كان جالساً في مجلس عليّ (عليه السلام) وهو يتحدّث، فقال الخارجي: "قاتله الله كافراً ما أفقهه" فوثب القوم ليقتلوه، فقال لهم الإمام عليّ (عليه السلام): "رويداً إنّما هو سبٌّ بسبّ، أو عفوٌ عن ذنب!"(3).
عليّ (عليه السلام) والمساواة الاجتماعية
كان الإمام يلتزم حكم الله حتّى في مسائله الخاصّة، فكانت كلّ حياته التزاماً بالحقّ، بكلّ ما لكلمة الحقّ من معنى، والتزاماً بالإسلام بكلّ ما يحتاجه الإسلام من دعم ومن قوّة، والتزاماً بالله في كلّ أموره وإدارة أمور المسلمين بمسؤولية لا مهادنة فيها. وهو يقول في ذلك: "الذليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقّ له، والقويّ عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه"(1).. فعليّ لا يعترف بالطبقيّة في الحكم ويرى الشريف والضعيف سواء أمام الحقّ. وقد تعلَّم ذلك من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي يقول: "إنَّما أهلك مَن كان قبلكم أنّهم كانوا إذا سرَقَ الشريف تركوه وإذا سرقَ الضعيف أقاموا عليه الحدّ، والله لو سرقت فاطمة بنت محمّد لقطعت يدها".
ليس في الإسلام فرق ـــ أمام الحقّ ـــ بين مَن كان في أعلى الدرجات الاجتماعية وبين مَن كان في أسفلها، لأنَّ قضايا الحقّ والباطل ليست متعلّقة بمراكز الأشخاص، بل هي متعلّقة بمواقع الحقّ في حركة هؤلاء الأشخاص وواقعهم.
عليّ (عليه السلام) وتوعية الأُمّة
كان الإمام (عليه السلام) يعمل على تثقيف الناس بالإسلام، ويبدو ذلك واضحاً من خطب نهج البلاغة، حيث كان يستفيد من كلّ المناسبات لتوعية الناس بكلّ قضايا الساحة؛ فكان الحاكم الذي يريد أن يرفع المستوى الثقافي لشعبه، وليس الحاكم الذي يريد أن يستثير عواطف شعبه ليربطه به، وهذه هي مسؤولية المسؤولين في الساحة الإسلامية، إذ عليهم أن يُثقّفوا الأُمّة في كلّ ما تحتاجه من ثقافة سياسية أو اجتماعية أو دينية؛ لأنَّ الله فَرَض على كلّ عالمٍ يملك علم الإسلام ويدرك حاجة الناس، أن يلاحق الناس ليعلم، ويقتحم عليهم بيوتهم ليعلّمهم، وينتهز كلّ الفرص في ذلك ليرفع مستواهم، ولاسيّما في المواقع التي يتحرّك فيها أهل البِدَع وأهل الكفر والضلال ليضلّلوا المسلمين، إذ لا يجوز ـــ حينئذٍ ـــ لإنسان أن يبقى في بيته ليكتب ويخطب ويتحدّث ويناقش ويحاور، سواء كان في مستوى المسؤولية الرسمية أو لم يكن.
فقد وَرَدَ في القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة : 159]. وفي حديثٍ عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إذا ظهرت البِدَع في أُمّتي فليُظهر العالِم علمه فَمَنْ لم يفعل فعليه لعنةُ الله"(1)؛ ذلك لأنَّ الإسلام لا يريد للأُمّة أن تبقى جاهلة وساذجة ومغفّلة.
فالأُمّة إذا كانت جاهلة بقضاياها السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية فإنَّ الأعداء يستطيعون أن يستغلُّوا جهلها فيورّطوها في مشاكل كثيرة.
وقد أوْلى الإسلام مسألة التعلُّم أهمية خاصّة. ومن هنا يقسّم الإمام عليّ (عليه السلام) الناس في حديثه لكميل بن زياد: "النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ"(2).
ثم يقول: "يا كميل، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، والْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْعَمَلِ"(3)، ثمّ يحدِّد الإمام (عليه السلام) للناس قيمة الإنسان فيقول: "قيمة كلّ امرئٍ ما يحسنه"(4). وقد ورد في القرآن الكريم: {... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر : 9].
نعرف من كلّ ذلك أنّ الله يريدنا أن نكون الواعين، ويريد من العلماء أن يوعوا الناس في كلّ أمورهم، ويعظوهم ويذكّروهم بالله، ويذكّروهم بعذابه وثوابه، ويعرّفوهم أحكامه، ويوجّهوهم نحو ما يحبّ، ويعرّفوهم كلّ قضاياهم، ولا يجاملوهم في الحقّ بل يقفوا ليقولوا كلمة الحقّ، حتّى لو رجمهم الناس بالحجارة.
هذا ما يجب أن نستذكره في ذكرى ولادة هذا الرجل العظيم الذي ولد في بيت الله، وجعل حياته كلّها في خدمة الله. فكانت شهادته بين يديه في بيته. ولذلك قال حين ضربه ابن ملجم: "فزتُ وربّ الكعبة"(1) لأنّه رأى أنّ حياته كلّها كانت على حقّ، ولهذا كان يبتسم في هذا المجال على الرغم من أنّه عانى الكثير وتألَّم وواجَه المشاكل، ولم يمكّنه أهل الجمل وصفّين والنهروان من أن ينفّذ برنامجه، ولم يمكّنوه من أن ينفّذ ما عنده.
وحين كان يشعر بأنَّ الموت يدنو منه، كان يفكِّر بتعليم الناس، فكان يقول: "سلوني قبل أن تفقدوني"(2) وهو يكاد يلفظ أنفاسه. ذلك لأنّه كان يحبّ أن ينشر الوعي في حياة الناس.
هذا هو عليّ (عليه السلام) الذي نعتزّ به من خلال جهاده العظيم، وعلمه الجمّ الذي يخشع أمامه المسلم وغير المسلم، وعدله الذي أكّده في كلّ مواقع حياته، وإخلاصه لله وللإسلام.
الانتماء لعليّ (عليه السلام) مسؤولية
من هنا، فإنَّ انتماءنا لعليّ (عليه السلام) يفرض علينا أن نكون الصادقين، أن نكون الأمناء وأن نكون المحقّين، الذين يتحرّكون مع أهل الحقّ. فعليّ (عليه السلام) ليس كلمة نهتف بها، بل هو موقف رسالة لا بدّ أن نلتزمها ونتبعها. وعلى هذا الأساس فإذا أردنا أن نقف مع عليّ (عليه السلام) فلا بدّ أن نواجه الباطل كلّه كما واجَه الباطل كلّه. لقد واجَه عليّ (عليه السلام) الباطل في الكفر فوقف ضدّ الكفر وحارَبَ كلّ الكافرين. وواجه عليّ (عليه السلام) الباطل في داخل المسلمين فوقف ضدّ أهل الباطل منهم في ما كانوا يتحرّكون فيه من فكر ومن ممارسات ومناهج.. وقف عليّ (عليه السلام) ضدّ ذلك كلّه، فكيف يمكن أن يكون موقفنا في كلّ ما يثار حولنا من قضايا، وفي كلّ ما يتحرّك عندنا من أوضاعٍ؟.
أميركا والانتفاضة الفلسطينية
نحن نجد في الدائرة الدولية العالمية التي تطلّ على مواقعنا الإسلامية تحرُّكاً أميركياً، ينطلق فيه المندوبون الأميركيون من وزير خارجية أميركا إلى آخر مبعوث لهم في رحلات مكوكيّة؛ فلماذا هذه اليقظة الأميركية الجديدة التي تأتي في آخر سنة من سنوات الإدارة الأميركية التي يعرف الجميع أنّ أميركا عادة ما تكون مشغولة فيها بالانتخابات، وأنّها لا تستطيع أن تنتج مشاريع أساسية في الخطّ السياسي الدولي أو الإقليمي، لأنّها تترك ذلك كلّه للإدارة الجديدة، ما عدا القضايا الأساسية التي تمثّل السياسة القومية لأميركا؟.
لماذا هذه اليقظة أو الصحوة أو الاهتمام الأميركي الجديد بقضايا المنطقة والقضية الفلسطينية بالذّات؟
الحقيقة هي أنّ أميركا تشعر ـــ ومعها كلّ دول أوروبا ـــ بأنَّ القضية الفلسطينية سائرة على الخطّ، الذي رسم لها من قِبَل السياسة الأميركية. وهو الخطّ الذي يضغط على الفلسطينيين وعلى العرب من أجل أن يقدّموا تنازلات، تبدأ بالاعتراف بــ "إسرائيل" واقعياً أو رسمياً، حتى تنتهيَ بالتنازل "لإسرائيل" عن أكثر فلسطين أو كلّها إنْ أمكن ذلك.
وإذا كانت السياسة الأميركية تتحرّك في هذا الاتجاه، فإنَّ الوضع العربي يتحرّك في الاتجاه نفسه من قمّة إلى أخرى، حتى كانت قمّة عمان، التي اتّفق فيها الزعماء العرب على أنّ القضية الفلسطينية هي قضية ثانوية وأنّها قضية نزاع مع "إسرائيل" وليست صراعاً! وبذلك ارتاحت أميركا وأخمدت الوضع كلّه؛ لأنَّ الذين اعتبروها قضية ثانوية سوف يصلون بها إلى مستوى أنّها ليست قضية وليست مشكلة.
ولكن جاءت الانتفاضة الإسلامية في فلسطين، لتربك الوضع وتنسف كلّ تلك المخطّطات، حيث إِنّها فاجأت العرب وفاجأت الفلسطينيين الذين يتحرّكون في دائرة الحلول الأميركية العربية وفاجأت الواقع الدولي كلّه.
وكانوا ينتظرون لهذه الانتفاضة أن تتحرّك يوماً أو يومين أو أسبوعاً، ولكنّها وصلت إلى الشهر الثالث ولا تزال قويّة لا تجمد في مكان، حتّى تتحرّك في مكانٍ آخر. واستطاعت أن تُثقل الضمير العالمي حيث أصبح مثقلاً أمام تأييده "لإسرائيل". ثمّ تحوَّلت فعملت على أن تثير كلّ تلك الطاقات الإسلامية في البلاد العربية، وفي غيرها، لتتحرّك من جديد بعدما استطاع الحكّام المرتهنون لأميركا أن يجمدوا الروحية في شعوبهم ويضغطوا عليها.. تحرّكت الانتفاضة، فبدأت التظاهرات تنطلق في مصر وفي المغرب وهما البَلَدان المخلصان كلّ الإخلاص "لإسرائيل" ضدّ الإسلام والمسلمين، فقمعت التظاهرات فيهما، ولم يُسمح للتظاهرات في بقيّة البلدان العربية بأن تنطلق تأييداً للانتفاضة أو رفضاً للمؤامرات.
وأوجدت الانتفاضة إرباكاً في داخل فلسطين المحتلّة، في المجتمع الإسرائيلي، وبدأت توقظ ضمائر ومشاعر كثير من الجنود والطلاّب أمام هذه الوحشية التي يمارسها الجندي الإسرائيلي، من خلال أوامر قادته بكسر أذرع الشباب وقتل الأطفال والنساء ودفن بعضهم أحياء، فأصبحت تُثقل الضمير الداخلي عندهم وتربك أميركا التي تلتزم "إسرائيل" بالكامل.
جاء شولتز إلى المنطقة كداعية سلام، ولكنّه في الواقع جاء ليجمّد الانتفاضة وليحاصرها من خلال الحكّام العرب، ومن خلال الذين لا يزالون يراهنون على الحلّ الأميركي في الدائرة الفلسطينية، ويعمل على تطويقها بكلّ الوسائل لمصلحة الساحة الانتخابية التي تحتاج إلى الأصوات اليهودية في أميركا، ولمصلحة إنقاذ "إسرائيل" من هذا الواقع، ولكنّه كان يتكلّم بغباء عن الماء والكهرباء في الضفّة الغربية وغزّة وعن تعبيد الطرقات وعن تقديم المساعدات الغذائية، ثمّ يتصدّق عليهم بانتخابات بلدية؛ وكلّ ذلك يتمّ تحت المظلّة الإسرائيلية، ويُسْكِتَ هؤلاء الجائعين الذين لا يعيشون في النور.
ثمّ بدأ يتحدّث داخل "إسرائيل" بلغة العواطف. ونحن نعتبر أنّ رفض الفلسطينيين الاجتماع به يمثّل موقفاً حادّاً، ولكنّنا نجد أنّ هناك مسؤولين فلسطينيين يعملون على أن يجتمعوا به، وقد أعلن هو عن عدم استعداده للاجتماع بمنظّمة التحرير إلاّ إذا اعترفت بــ "إسرائيل" واعترفت بالقرار 242 على أساس أن يحوِّلوا قضية الفلسطينيين إلى قضية لاجئين يطلبون المساعدات الإنسانية، بعد أن كانت قضية شعب يطلب الحريّة.
لا للمفاوضات مع أميركا
إنّنا نقول لكلّ المجاهدين هناك، ولا نريد أن نقدِّم لهم مواعظ، لأنّهم استطاعوا أن يقدِّموا لكلّ الأُمّة المواقف، التي تعظّ كلّ الذين يراهنون على الحلّ الأميركي الإسرائيلي.. نقول لهم: إنّكم استطعتم أن تعدموا بعض العملاء وتحاصروا البعض، فحاصروا كلّ مَن يحاول أن يتحرّك لمخاطبة هذا الشخص الذي جاء من أجل أن يحاصر الانتفاضة وينقذ "إسرائيل"، ولم يأتِ من أجل أن ينقذ الشعب الفلسطيني.
لا بدّ من وقفة تواجه الواقع كلّه على هذا الأساس، لأنّ الإدارة الأميركية لا تختلف عن الإدارة الإسرائيلية في المسألة الفلسطينية، وإن كانت تختلف عنها في طريقة الإخراج وتوزيع الأدوار.
إنَّ المطروح هو أن تتحوَّل المسألة الفلسطينية إلى مسألة العلاقات بين "إسرائيل" والدول العربية لا مسألة الشعب الفلسطيني.
أنموذج المقاومة
إنّ الشعب الفلسطيني المسلم قد أمسك الآن بقضيّته، وعليه أن لا يعيد الكرة فيسلّم قضيّته لهؤلاء الحكّام الذين باعوها. فعندما انطلقت مصر، كانت تفكّر بأنَّ مسألتها مع "إسرائيل" هي مسألة مصريّة، ولهذا صالحت "إسرائيل" وتركت المسألة الفلسطينية والآن يأتي دور الأردن، ليعتبر أنّ هناك مشكلة أردنية ـــ إسرائيلية وليست مشكلة فلسطينية، ولهذا فإنّه سوف يبيع القضية الفلسطينية كما سيبيعها غيره من الحكّام العرب.
وعلينا أن نعرف أنّ استمرار الانتفاضة يُحرج السياسة الأميركية، لأنّها بدأت في إعادة الروح الإسلامية إلى المسلمين في المنطقة وإلى كلّ المستضعفين حتّى من غير المسلمين. وقد امتدّت الذهنية الجديدة وهي الذهنية الإسلامية التي تقف في الخطّ الثابت من أجل مواجهة "إسرائيل"، وهم يخافون من هذه الذهنية وهذه الروحية الجديدة، ولهذا يريدون أن يقمعوها.
لقد انطلقت هذه الروحية من إيران الإسلام ومن اللبنانيين المسلمين الملتزمين، الذين يتحرّكون مع الخطّ الإسلامي الذي يقوده الإمام الخميني ـــ حفظه الله ـــ في فلسطين. وعلينا أن نحافظ على هذه الروحية التي تخلق النموذج الذي يقول لكلّ مسلم في العالم إنَّ بإمكانه أن ينتصر، إذا أصرَّ على الثبات وعلى الوقوف وعلى الإرادة الواقعية الواعية مهما كانت الظروف، كما تقول الآية الكريمة: {... كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ...} [البقرة : 249].
ثمّ هناك مسألة القصف الإجرامي المجنون للشعب الإيراني المسلم في طهران، حيث يطال القصف المستشفيات والمراكز العلمية، وقد قصف الطاغية صدام مدينة قم العلمية المقدّسة ـــ ولم تمنعه قداستها من قصفها ـــ ثم قصف الأبرياء في كلّ المدن الإيرانية الأخرى بصواريخ، قالت الجمهورية الإسلامية عنها إنّها سوفياتية الصنع، وهي صادقة في ما تقول. وبذلك فإنّها خطّة أميركية تنفّذ بأسلحة سوفياتية.
نريد أوّلاً أن نسأل الدول الكبرى: كيف تتحدّثون عن حقوق الإنسان وعن الحقوق المدنية للناس، ثمّ تسلِّمون الأسلحة الفتّاكة المدمّرة لطاغية مجنون، تعرفون أنّه يتحرّك عسكرياً من خلال جنونه المتأصّل في شخصيّته، كما يعرفه كلّ الذين عاشوا معه. إنّ معنى ذلك أنّكم أنتم الذين تقصفون الشعب الإيراني المسلم.
قد يقول البعض إنَّ الحرب تقتضي الردّ بالمثل، فإذا قصفت الآخرين، فمن الطبيعي أن يردّوا عليك. ولكن مَن يتابع الأخبار يعرف أنّ الإيرانيين لم يبادروا بقصف مدني، بل إنّ الذي بادر هو هذا الطاغية، الذي لم يبرّر فعله بردّ الفعل، وإنْ لجأ أخيراً إلى ذلك، بعد أن حدثت ضجّة في الرأي العام. قال: إنَّنا سنظل نقصف المدن الإيرانية ونبيدها، حتّى يقبل الإيرانيون بوقف إطلاق النار في الحرب. إنّه يريد أن يحلّ المشكلة بخلق مشكلة أخرى. ذلك لأنّه رأى أنّ الوضع السياسي في العالم قد انشغل بمسألة الانتفاضة في الضفة الغربية وغزة، وبدأت دول الخليج تعمل على أساس أن تتكامل أو تتعاون أو تتحاور مع إيران، وبدأت أميركا تسحب بعض بوارجها من الخليج. ولذلك كان هذا التصرّف منه من أجل أن يعيد الاهتمام العالمي إلى قضيّته. والإيرانيون يقولون لا خيار لنا، إنّ الشعب العراقي هو شعب مسلم، ولا فرق عندنا بين الشعب العراقي والشعب الإيراني، ولذا امتنعوا مدّة عن ذلك، ولكنّ هذا الجوّ استُغلّ، فأخذوا يوجّهون النداء للشعب العراقي قبل 24 ساعة، لينطلق بعيداً عن المواقع العسكرية حتّى لا يبتلى بهذه الحرب.
وقد عبَّر الإمام الخميني ـــ حفظه الله ـــ عن الموقف، بأنّ إطلاق الصواريخ لن يخيف الشعب الإيراني المسلم، الذي يسعى إلى الاستشهاد ويعتبر الشهادة شرفاً له.
من هنا، لا بدّ من أن نواجه المسألة من خلال وعينا لطبيعتها، التي تتحرّك من خلال السياسة الدولية التي تعمل على محاصرة الشعب الإيراني المسلم، من أجل محاصرة الثورة الإسلامية.
الأزمة اللبنانية
وأخيراً عندما نواجه واقعنا الذي نعيشه، علينا أن نعرف أنّ الموقف في المسألة الداخلية لا يزال على حاله، وليس هناك حلّ للمسألة اللبنانية في المستقبل المنظور. فكلّ الحديث عن الإصلاح يتحرّك في دائرة معقّدة، لأنّ كلّ فريق يعمل على أن يثير المشاكل بوجه الفريق الآخر، فتبقى المسألة تراوح مكانها في كلّ الحوار اللبناني ـــ اللبناني الذي يمرّ بوساطة سورية من خلال وساطة أميركية.
كلّ ذلك من أجل أن يُنتخب رئيس جمهورية، حتّى يستطيع أن يدير الأزمة، أو يصرف الأعمال، لأنَّ الطبخة اللبنانية لم تنضج بعد، فهي مرتبطة بالطبخة الفلسطينية ومرتبطة بالطبخة الخليجية على حسب التعبيرات السياسية.
من هنا ينبغي أن لا نضع أنفسنا في أجواء الأحلام، بل علينا أن نتعايش مع المشكلة وأن نحدّق في الساحة جيداً. ولا بدّ أن نفكّر بأنّ القضية تتحرّك في الدائرة الصغيرة، وهي دائرة الشخص الذي سينتخب رئيساً. وقد دخلت "إسرائيل" على الخطّ علناً لتقوّيَ فريقاً ولتحرّك الصراعات اللبنانية. فعلينا من خلال التصريح الإسرائيلي أن نحدّق بالساحة، لنعرف مَن هو الفريق الإسرائيلي، وأين يتحرّك، وكيف ينطلق؟
هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية نلاحظ أنّه حتّى الفريق الآخر، الذي يعتبر نفسه في مواجهة الفريق الإسرائيلي، لم يستطع أفراده أن يجتمع بعضهم مع بعض حيث كان اللّقاء بهم في دمشق كلاًّ على حِدَة.
وختاماً نعرج على ساحة المشاكل الإسلامية، التي نحمد الله على أنّها استطاعت أن تصل إلى حدّ التعقُّل والاتّزان. ونحن نسجِّل لساحتنا ولشعبنا ولكلّ أهلنا في الجنوب أنّهم استطاعوا بوعيهم واتّزانهم أن يمنعوا المشكلة، التي كان الجميع يعملون على إثارتها، ليقاتل المؤمن أخاه. ونحن نقول لجميع مَنْ في السّاحة إنَّ عليهم إذا اختلفوا سياسياً، أن يتحاوروا ويجلس بعضهم مع بعض؛ لأنَّ ذلك هو السبيل للوصول إلى نتائج إيجابية، وليس السبيل إلى ذلك هو التقاتل أو التراشق بالاتّهامات أو إطلاق التصريحات.
إنَّ علينا أن نكون الصادقين الأمناء الواعين، الذين يتحرّكون من خلال خطّ الإسلام وفي طريق الإسلام، حتّى نلتقيَ بالله ونحن مسلمون.
والحمد لله ربّ العالمين
كيف نتمثَّل
الإمام الكاظم (عليه السلام) في واقعنا(*)
تمرّ في هذه الأيام ذكرى استشهاد الإمام السابع من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو الإمام موسى بن جعفر الذي عاش حياته ـــ كما عاش آباؤه وأبناؤه ـــ من أجل الإسلام والمسلمين، فاستطاع أن يملأ عصره تقىً وحركة في سبيل وعي الأُمّة لمواقفها ولمواقعها، وفي سبيل مواجهة الأُمّة لحكّامها الذين يضغطون على حريّتها والذين يعملون على أساس الانحراف عن خطّ الرسالة.
قبسات من حياة الإمام الكاظم (عليه السلام)
من ألقابه "كاظم الغيظ" وهذه الكلمة تعني الإنسان الذي يحبس غيظه إذا أغاظه أحد، ويفكّر كيف يحلّ هذه المشكلة، التي تواجهه من الذين يكيدون له أو يسعون لأذيّته أو يحقدون عليه.
كان لا ينفعل ولا يمارس ردّات الفعل السريعة إزاء الذين يخاصمونه أو يتكلّمون عليه بشكلٍ غير لائق، في الوقت الذي كان يستطيع أن يقمعهم بالقوّة، لأنّه كان يفكّر من خلال خطّ الإسلام.
إنَّ الإنسان إذا وقف أمام أسلوبين؛ أسلوب يستطيع أن يحوِّل فيه العدوَّ إلى صديق، وأسلوب يقتل فيه عدوّه أو يزيد عداوته، فإنّ الإسلام يقول للإنسان: إنَّ عليك أن تتصرّف بالأسلوب الذي يتحوّل فيه عدوّك إلى صديق، لأنَّ مشكلتك في عدوّك ليس في شخصه، وإنّما في عداوته، ولذا فإن استطعت أن تقتل عداوته، وانحرافه وتبقي على شخصه، فإنّك الرابح في ذلك.
تنقل سيرة الإمام (عليه السلام) أنّه كان هناك شخص في المدينة يسبّه بمختلف الكلمات السيّئة، حتى إِنّ طريقته في السبّ وفي التكلُّم، أثارت أصحاب الإمام وأثارت أقرباءه، حتى قالوا للإمام: ائذن لنا أن نقتله. فمنعهم من ذلك.
ثمّ في يوم من الأيام ذهب الإمام إلى هذا الرجل ـــ بعد أن سأل عنه وقيل له إنّه في بستانه ـــ فذهب إليه في البستان ودخل عليه وهو جالس، فقال الرّجل: إنّك تفسد عليَّ زرعي، تابع الإمام سيره حتّى وصل إليه فقال له: كم تؤمّل في زرعك. قال له: لا أعلم الغيب، قال له: لم أقل لك كم تخرج وكم تحصّل في زرعك بل كم تؤمّل، قال: أؤمّل أن يخرج بمئتي دينار. قال هذه ثلاثمائة دينار وزرعك على حاله. ثم بدأ يتحدّث معه بكلّ الكلام الذي يفتح قلبه وعقله وعاطفته، حتّى ودّعه بكلّ ما يملك من الاحترام، ثمّ سبقه الإمام إلى المسجد، وعندما دخل والناس جالسون ـــ هؤلاء الناس الذين اعتادوا أن يسمعوا السبّ من هذا الشخص ـــ بادر هذا الرجل إلى الإمام وهو يقول للناس: الله أعلم حيث يجعل رسالته. والتفت الإمام إلى أصحابه قائلاً لهم فانظروا أيّ أسلوب أفضل؛ أن تذهبوا لقتله فتخلقوا ألف مشكلة من خلال قتله أم أن نحتوي عداوته من خلال الأساليب التي يمكن أن تسقط عداوته. وهذا ما حصل {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ*وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 ـــ 35]، والله قال، وأئمّة أهل البيت يجسِّدون لنا ما قاله الله، لأنَّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) هم الذين عاشوا القرآن في حياتهم، كما عاشوه في فكرهم. والتزامنا بأهل البيت هو التزامنا بالإسلام وقِيَمه، لأنّنا لا نرتبط بهم إلاّ من خلال الإسلام، باعتبار أنّهم الأُمناء عليه وعلى حلال الله وحرامه، كما قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): "أحِبُّونا حبّ الإسلام". وهكذا قال الله تعالى: {... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران : 134]، اكظم غيظك ولا تندفع إذا أغاظك أحد إلى ردّ الفعل، بل حاول أن تدرس مسألة الغيظ؛ من أين انطلق هذا الشخص؟ وفي أيّ ظرف؟ وما هي المناسبة؟ وما هي الخلفيّات؟ وما هي الأفكار التي يمكن أن تواجه بها هذه المشكلة؟ وهذا ما أرادنا الإسلام أن نعيشه في حياتنا، أن نعيش على أساس أن نجعل عقلنا أمام كلامنا، أن لا نتكلَّم قبل أن يقول لك عقلك ماذا تتكلَّم، وأنْ لا تتحرّك قبل أن يقول لك عقلك كيف تتحرّك، وأنْ لا تحرِّك سلاحك قبل أن يقول لك عقلك المنفتح على إيمانك كيف تتحرّك بدون غضب. الغضب من عمل إبليس.
هكذا جاءت الأحاديث: "الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم"(1). أيّ شيء أشدّ من الغضب؟ "إنَّ الرجل ليغضب فيقتل النفس التي حرَّم الله"(2).
هذا هو الجوّ؛ أن تكظم غيظك لتفكّر وتفكّر لتعرف كيف تتحرّك. وقد يقودك الفكر إلى أن تواجه الموقف بقوّة، أو بلين، المهمّ أن تتحرّك من خلال إيمانك، لا من خلال عصبيّتك؛ وأن تتحرّك من خلال عقلك، لا من خلال غضبك وعاطفتك.
هذا ما علَّمنا إياه الله وعلَّمنا إيّاه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وعلَّمنا إيّاه أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في كلّ مجالات حياتهم. وكانوا يعلّمون الناس أن لا يكونوا حياديين بين الحقّ والباطل. لأنَّ هناك أُناساً في المجتمع يريدون أن يتركوا ساحة الصراع وينعزلوا عنها، لأنّهم لا يريدون أن يتّخذوا مواقف، في ما يختلف فيه الناس من مواقف الحقّ والباطل.
الحياد بين الحقّ والباطل
هناك أشخاص يقولون دائماً: إنَّنا حياديون، لا مع هذا ولامع ذاك، أو يقولون: إنَّنا لا نريد أن ندخل بين السلاطين أو بين المختلفين. المسألة في نظر الإسلام وفي نظر الإمام الذي يستمدّ ذلك من الإسلام مختلفة: قل لنفسك مَن أنت؛ هل أنتَ مسلم، هل أنتَ مع الحقّ، هل أنت على طريق القرآن؟ أم أنّك كافر، وعلى طريق الشيطان، ومائع الشخصية؟ {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء...} [النساء : 143]، منافق تماماً، كبعض الناس الذين يقولون الطعام عند معاوية أدسم، والصلاة وراء عليّ أقوم، والجلوس على التلّ أسلم. مَن أنت؟ إذا كنتَ مسلماً حاول أن تطرح على نفسك سؤالاً آخر، ما هو الإسلام؟ هل هو أن أُصلّي وأصوم وأحجّ وأُخمِّس وأُزكّي وتنتهي القصّة عند هذا الحدّ، أم أنّ الإسلام هو الموقف في الحياة، وجهاد للكفّار وللمنافقين وللطاغين، وموقف مع الحقّ ضدّ الباطل؟ هل أنتَ تفهم الإسلام عزلة عن الحياة، أم تفهمه موقفاً في الحياة؟ إذا كنتَ مسلماً وإذا كنت تتحرّك في خطّ الإسلام وكنتَ ترى أنّ الإسلام يشمل الحياة كلّها، فلا بدّ لك أن تكون إنساناً ملتزماً، أن لا تكون حيادياً، وأن لا تنعزل عن ساحة الصراع.
تارةً يكون الصراع بين باطلين وبين ظلمين وبين شرّين وبين كفرين، وأخرى يكون الصراع بين حقّ وباطل، بين كفر وإيمان، بين خير وشرّ، بين عدل وظلم. في هذا المجال إذا كان الصراع بين كفرين وباطلين كانت المسألة فتنة، والفتنة لا بدّ لك أن تقف أمامها حيادياً، لتترك الباطلين يتصارعان في ما بينهما ليضعفا ولتكون القوّة لك بعد ذلك. وإذا رأيت أنّ بعض الباطل قد يخدم أهدافك وقتاً ما أكثر من ذلك في وقت لا تكون فيه أنتَ البديل، أدعِم من يكون أقرب إلى هدفك، أو أضعِف من يكون بعيداً عن هدفك، حتّى تستطيع أن تقطع شوطاً في ذلك من دون أن تلتزم شرعية الباطل. هذا الذي عبَّر عنه أمير المؤمنين في ما عبَّر عنه من كلمات: "كُن في الفتنة كابن اللّبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب"(1) ـــ فابن اللّبون هو ولد النّاقة الذّكر الذي لم يبلغ السنة الثانية من العمر بحيث لم يقوَ لكي يُنتفع بركوبه وهو ليس أنثى حتى تحلب منه ـــ كن حيادياً في الفتنة التي يتنازع فيها أهل الباطل ولا تنتفع منها في موقفك بشيء، كما يقول المثل الشعبي "فخَّار يكسِّر بعضه" لأنّ الباطل يكسّر باطلاً والكفر يكسّر كفراً، إلاّ إذا كان في هذا الصراع انعكاس سلبي على واقع المسلمين، عند ذلك لا بدّ أن تدرس موقفك كيف يمكن أن تحفظ الواقع الإسلامي العام من خلاله. ولكن قد تكون المسألة وجود صراع بين خطّ يحمل الحقّ وخطّ يحمل الباطل، في هذا المجال لا بدّ أن تدقّق، لا تكن حياديّاً وتقول لا أعرف الحقّ مع مَن والباطل مع مَن: {... فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل : 43] اسألوا مَن يملكون العلم والأمانة في حركة العلم والوعي في السّاحة، حتى تستعينوا بهم لمعرفة الحق أين يكون، وخطّ الباطل أين يكون؟ فإذا عرفتم خطّ الحقّ فقفوا معه، وإذا عرفتم خطّ الباطل فقفوا ضدّه؛ فإذا لم تلتزموا ذلك فمعناه أنّكم لم تلتزموا بالإسلام، لأنَّ الله يريدكم أن تتحرَّكوا في خطّ الحقّ كلّه، سواء كان حقّاً في العقيدة أو في العمل، وسواء كان العمل في الواقع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الأمني أو أيّ جانب من الجوانب الأخرى، أن تلتزم الحقّ على أساس أنّ التزامك بالإسلام يفرض عليك ذلك، وإلاّ كنتَ منحرفاً عن خطّ الحقّ.
وهناك نقطة لا بدّ أن نفهمها في مجرى الحياة العملية في الواقع العسكري أو السياسي أو الأمني، وهي أنّ معنى أن يكون الإنسان حياديّاً بين الحقّ والباطل ـــ وهو من جماعة الحقّ ـــ معنى الحياد أنّك تعين الباطل بأن تنسحب من موقف الحقّ، لأنَّ الباطل يقوى بطريقتين: الطريقة الأولى، هي أن يملك قوّة أكثر ممّا يملكها الحقّ، والطريقة الأخرى، هي أن يسحب الباطل من الحقّ جماعة ليحيدهم فلا ينصروا الحق. هنا لا يوجد فرق بين أن تذهب وتحارب مع الباطل ومع الظلم ضدّ الحقّ وبين أن تكون حيادياً بين الحقّ والباطل وتنسحب من الساحة. أنتَ حاربت الحقّ بأن منعته قوّتك فأصبح الباطل يقوى عليه.
الوقوف مع الحقّ
أنتم تستمعون دائماً في ذكرى عاشوراء إلى قصّة مسلم بن عقيل، الذي كان معه 18 ألف رجل، وابن زياد ليس معه أحد، حتّى إِنّه يقال عندما جاء ابن زياد إلى الكوفة، أغلق عليه باب القصر، لأنّه لم يكن يملك القوّة التي تستطيع أن تواجه القوّة التي كانت عند مسلم بن عقيل، ولكن عندما دسّوا المخابرات التي كانت مهمّتها أن تخذل الحقّ أو تكسب للباطل جماعة. ولقد استخدموا العنصر النسائي، فكانت المرأة تأتي إلى ابنها أو زوجها أو أخيها وتبكي أمامه ـــ والدموع في كثير من الحالات تسقط الموقف ـــ وتقول له: يكفيك بقيّة الناس، ماذا تريد بكلّ هذه "اللّبكة"؟ يكفيك كلّ هؤلاء، هم 18 إذا نقصوا واحداً فما المشكلة؟ وهكذا وصلت الحال إلى أنّ مسلماً يمشي داخل المسجد ومعه ثلاثون وصلَّى المغرب ومعه عشرة وصلَّى العشاء وليس معه أحد.
شجاعة الموقف
هذا واقع موجود الآن، الذين يسمُّون الأكثرية الصامتة، والأكثرية الصامتة هي الأكثرية التي يكون صمتها صمتاً عن الحقّ، لأنَّ الساكت عن الحقّ شيطانٌ أخرس، في الوقت الذي يحتاج الحقّ إلى هذه الأكثرية. والأكثرية الصامتة قد تتحوّل إلى أكثرية منافقة وقد تتحوّل إلى أكثرية معادية. بعض الأشخاص كانوا على الحياد في زمان الإمام عليّ (عليه السلام)، عندما دخل المعركة مع معاوية في صفّين. هؤلاء اعتزلوا القتال فنقل أمرهم إلى الإمام عليّ (عليه السلام) فقال: "إنَّهم خذلوا الحق ونصروا الباطل" لم ينصروا الباطل مباشرة، ولكنّهم نصروه بخذلان الحقّ، لأنّ الحقّ كلّما كان الناس معه أكثر وكلّما كانت الطاقات معه أكثر، كان أقوى. فكِّروا في هذه المعادلة، على أيّ مستوى من المستويات؛ عندما يكون عدوّك عنده عشرون شخصاً وأنتَ عندك مئة، أنتَ تستطيع أن تغلب عدوّك، لكن إذا تحيّد هؤلاء المئة وأصبحوا عشرة، فسوف يغلبك عدوّك بعد ذلك. هم لم يقاتلوا مع عدوّك، لكنّهم نصروا عدوّك عليك بانسحابهم من نصرتك.
لهذا في الإسلام لا يجوز أن يكون هناك موقف مائع، فيقف الواحد ليقول: أنا لستُ مع هذه الجهة، ولا مع تلك، ماذا يقول الناس؟ ماذا تقول العائلة؟ ماذا يقول أهل البلد؟ هذا خطأ، لأنَّ الله لن يحاسبك على أقوال هؤلاء بل سيحاسبك على ما قلت أنتَ وعلى أيّ أساس قلت: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا...} [النحل : 111]، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم : 95]، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ...} [الأنعام : 94]، أنت تبرز أمام الله من خلال عقلك ليحاسب الله عقلك، وبإرادتك ليحاسب إرادتك، وبموقفك ليحاسب موقفك، أمّا موقف الآخرين فسيحاسب الله الآخرين عليه، قد يتّصل بك وقد لا يتّصل، الإمام قالها كلمة لبعض أصحابه وهو يريد أن يتحدّث عن هذا الجوّ: "أبلغ خيراً، وقل خيراً ولا تكن إِمَّعَة"(1)، قالوا وما الإِمَّعَة، قال: أن تقول أنا مع الناس. ولكن ما هو رأيك وما هو موقفك؟ ليس لي موقف. أن تقول أنا مع الناس، وأنا كواحد من الناس، فإنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: "إنَّما هما نجدان نجد خير ونجد شرّ، فما بال نجد الشرّ أحبَّ إليكم من نجد الخير"(2).
لهذا لا بدّ لنا من خلال ما يعلّمنا الإمام (سلام الله عليه) من خلال الإسلام، لا بدّ لنا من أن نحدّد مواقفنا في كلّ شيء ابتداءً من القضايا الجزئية إلى القضايا الكليّة، لأنَّ الله يريد للأُمّة أن تفكّر وأن تقرِّر على أساس ما تفكّر، ويريد لها أن تركِّز إرادتها على أساس فكرها وقرارها وأن تتحرَّك وأنْ تتحمَّل مسؤوليّتها تجاه كلّ الواقع الذي تعيشه، وأن تناقش قادتها، وأن تطيعهم إذا كانوا مؤتمنين على الأُمّة. ولكن من حقّ الأُمّة على قادتها أن يبيِّنوا لها أمورها، ويحرِّكوا لها وعيها في الاتجاه السليم. لا بدّ لنا من أن نأخذ هذا الدرس في ذكرى الإمام الكاظم (عليه السلام).
اعرف نفسك جيّداً
هناك درسٌ آخر نحتاجه في حياتنا العملية، سواء كانت حياة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، وهي أنّ على الإنسان أن يعرف نفسه جيّداً؛ في ما يملكه من فكر وما يملكه من مواقف وما يملكه من قيمة. أن يعرف نفسه بنفسه، إذا كان يستطيع أن يدرك أبعاد نفسه؛ وأن يعرف نفسه من خلال أهل الرأي والخبرة، ليعرِّفوه قيمته ودرجته في مجال العلم أو في أيّ مجالٍ آخر. أن تثق بنفسك من خلال دراستك لنفسك ومن خلال معرفتك لنفسك، لا أن تثق بنفسك من خلال ما يقوله الناس عنك ومن خلال ما يحكم به الناس لك وعليك، لأنّه ليس من الطبيعي أن يفهمك الناس أكثر ممّا تفهم نفسك.
جاء شخص إلى الإمام الحسن بن عليّ (عليه السلام) وقال له: إنّي أُريد أن أصحبك. قال له: عندي ثلاث شروط، وأهلاً وسهلاً بك. قال: ما هي. قال: أن لا تكذّبني. فإنّه لا رأي لمكذوب، وأن لا تغتاب عندي أحداً، وأن لا تمدحني، فأنا أَعْرَف بنفسي منك. كان الإمام عليّ (عليه السلام) إذا مُدح يقول: "اللّهم اجعلني أفضل ممّا يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون"(1). حتّى يوحي إليهم بأنّه يفهم نفسه أكثر ممّا يفهمونه، فعلى الإنسان أن لا يستعير ثقته بنفسه من الآخرين، لأنّ الآخرين قد يغشُّونك في نفسك، عندما يضخّمون لكَ شخصيّتك بطريقة غير صحيحة، أو ربّما يسقطونك عند نفسك عندما يحاولون أن يهزموك نفسياً، ليثيروا مواطن الضعف في نفسك بدل أن يثيروا مواطن القوّة فيها.
بعض الناس يسمع كلمة مدح فينتفخ، أو يسمع كلمة ذمّ فيسقط؛ إذا سار الناس معه يشعر بضخامة الشخصية وإذا انكفؤوا عنه وابتعدوا يشعر بضعف الشخصية. هؤلاء الذين يستعيرون ثقتهم بأنفسهم من الآخرين، هم الذين يستطيع الآخرون أن يسيطروا عليهم. وهذه من الأساليب التي استخدمها الاستكبار العالمي والكفر العالمي بجميع ممثّليه في مواقع الحكم والسياسة والاجتماع والثقافة، واستغلّها في هزيمة الشعوب المستضعفة نفسياً فيثير نقاط الضعف في داخلها ليحدّثها عنها ليسقطها.
الغرب والإسلام
الآن نلاحظ أنّ هناك كثيراً من الذين تثقَّفوا بثقافة الغرب، يتحدّثون عن المجتمع الإسلامي أو المجتمع المستضعف بأنّه مجتمع جاهل، متخلّف، متعفّن، لا يستطيع أن يسوس نفسه ويقود نفسه بنفسه. وعندما يتحدّثون عن الإسلام يقولون هذا الحكم الشرعي متخلّف، وهذه العادة الإسلامية عادة غير حضارية، وهذا الحكم الإسلامي أو القاعدة الإسلامية بعيدة عن الحضارة. وهكذا يحاولون أن يفقدوا المسلمين ثقتهم بدينهم، ثم يعملون على استثارة نقاط الضعف في أنفسهم وفي مواقفهم التي يخوضون فيها في مسألة الحرية والعدالة، عندما يقفون ضدّ الذين يريدون أن يصادروا حريّتهم أو عندما يقفون ضدّ الذين يريدون أن يظلموهم فيأتون إلى الناس من خلال جماعتهم، سواء كانوا في الجامعات أساتذة جامعيّين، لأنّهم عاشوا الانبهار من خلال الاستعمار، وعاشوا الهزيمة النفسية من خلال واقع الاستضعاف، أو من خلال كلّ الذين زرعهم الاستكبار العالمي والكفر العالمي في مواقعنا السياسية والثقافية والاجتماعية، يأتون إليك ويقولون ما هذا العمل؟ ما هذه العنترية التي لا معنى لها؟ أنتم تريدون أن تقاتلوا أميركا و"إسرائيل" التي تعتبر العنصر الأساس في سياسة أميركا. وتريدون أن تواجهوا المارونية السياسية في لبنان، أو هذا الحاكم الذي يظلم ويضطهد شعبه في هذا البلد العربي أو ذاك؟ ما قيمتكم؟ ما هي أسلحتكم؟ ما هي إمكاناتكم؟ يقولون ذلك حتّى يفقد الناس ثقتهم بأنفسهم، وحتّى يهزمهم الذين يصادرون الحريّة ويركّزون الظلم من دون معركة.
نقاط القوّة والضعف
في هذا المجال قد يقول بعض الناس: ألاَ توافق معنا على أنّ هناك نقاط ضعف فينا؟ ألاَ توافق على أنّ هناك جهلاً وتخلُّفاً في كثير من المواقع الإسلامية؟ ألاَ توافق معنا على أنّ هناك ضعفاً في السلاح وفي التخطيط وفي فنون الحرب، وأنّ هناك خللاً في العادات الاجتماعية الإسلامية؟ كلّ هذا صحيح. ولكن ألا توافقون معي على أنّنا نملك نقاط قوّة في مواجهة نقاط الضعف، وعادات حسنة في مقابل العادات السيّئة، وطاقات علمية في مقابل مواضع الجهل، وعناصر تقدّم في مقابل عناصر التخلُّف.
نحن لسنا فوق النقد ولسنا القوّة المطلقة، ولكنّنا لسنا الضعف المطلق. المسألة هي أنّ الاستكبار العالمي، من خلال رموزه الثقافية والسياسية والاقتصادية، يريد أن يثير أمامنا نقاط ضعفنا ونقاط قوّة الآخرين لنسقط أمام الآخرين. وما نريده هو أن نثير نقاط ضعفنا إلى جانب نقاط قوّتنا، لنستطيع أن نهزم نقاط الضعف بنقاط القوّة، ولنستطيع أن نواجه الآخرين في نقاط ضعفهم بنقاط قوّتنا.
لهذا، المسألة هي في المفهوم الإسلامي، أن تعرف نفسك في نقاط ضعفك وقوّتك كفرد، كمجتمع وكأُمّة، أن تعرف ما هي نقاط ضعفك وما هي نقاط قوّتك، حتّى إذا مَدَحَكَ الآخرون وقالوا لك: إنّك مثال القوّة المطلقة، قل لهم: لا أنا عندي ضعف. وإذا قال لكَ الآخرون: إنّك تمثّل الضعف المطلق، قل لهم: إنّ عندي قوّة. لا توافق الآخرين على رأيهم.
يقال إنّه جاء شخص من المدّاحين بأشعاره إلى عليّ (عليه السلام) ومدحَه مدحاً عظيماً، وعليّ (عليه السلام) في مستوى المدح العظيم من خلال عناصر العظمة الذاتية، لكنَّ عليّاً (عليه السلام) أراد أن يعطيَ درساً بعد أن فرغ الإنسان من مدحه، قال: يا هذا، أنا دون ما تقول، مدحتني أكثر ممّا أستحق، ولكنّي أعرف أنّك تضحك على نفسك من هذا المدح وليس عليّ أنا. فأنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك، أنا أعظم ممّا في نفسك، لأنّني أفهم نفسي في مواقع الضعف وفي مواقع القوّة.
هذا هو التوازن؛ أن تعرف نفسك حتّى لا يغشَّك الناس. قالوا لهشام بن الحكم: يا هشام لو كان في يدك جوزة وقال الناس إنّها لؤلؤة ما نفعك، ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس إنّها جوزة ما ضرّك، وأنت تعلم أنّها لؤلؤة؟
التطرُّف والاعتدال
لهذا نحن لا نريد أن نسقط أمام كلّ كلمات الإعلام، الذي يحاول أن يثير المسألة ليعطينا ألقاباً من صنع أجهزة مخابراته، لنسقط أمام هذه الألقاب ولنندفع حتّى يرضى عنّا الاستكبار.
وهذا ما استعمله في كثير من الحالات في كلمات التعصّب والتطرّف والإرهاب والتزمّت وما إلى ذلك من كلمات، علينا أن نقول لأنفسنا، في ما نسمع من كلمات من الإذاعة أو في ما نقرؤه في الصحف، هل صحيح أنّنا متطرّفون؟ ما هو الخطّ الفاصل بين التطرّف والاعتدال؟ وندرس المسألة لنفحص أنفسنا ونقرّر الواقع لأنفسنا من خلال الدراسة.
قالوا لنا إنّنا إرهابيون، ما هو الفرق بين الإرهاب والعمل من أجل الحريّة؟ هل نحن إرهابيون، أم نحن طلاّب حرية؟ عندما يقولون عنّا إنّنا متعصّبون، نجلس ونفكّر؛ ما هو الفرق بين التعصّب والالتزام؟ فكّر حتّى لا يهزمك الآخرون بإعلامهم، الذي يريد أن يضعف موقفك. وهذه نقطة استعملت مع المقاومة الفلسطينية سابقاً، وتستعمل مع الشخصيات السياسية، وأيضاً مع بعض المنظّمات أو الأوضاع السياسية الآن، والإعلام عندما يضخّم لك شخصيّتك فإنّك تنتفخ، ليوقعك في الخطأ من خلال انتفاخ الشخصية.
لهذا، التوازن في فهم الشخصية هو الأساس؛ التوازن في المواقف وفي خطّ المواجهة ضروري للتماسك.
هذه نقاط فكرية، لا بدّ لنا من أن نواجهها بالوعي والتفكير عندما نستثير ذكرى أئمّتنا، لأنَّ الالتزام بالأئمة ليس معناه أن تذهب لزيارتهم، أو أن تقف لتقرأ مئات الزيارات على أضرحتهم. هذا أمر قد يجعلك تدرك شخصيّتهم أكثر، ولكنّك إذا ارتبطت بمنهجهم الذي هو منهج الإسلام، وخطّهم الذي هو خطّ القرآن، فإنّك تستطيع أن ترتبط بهم أكثر، وأن تفهم حياتك من خلالهم أكثر، وهذا هو الذي نريد أن نعايشه؛ أن ننطلق لنفهم فكر أئمّتنا، ونفهم سيرة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ونفهم نهج القرآن، حتّى نفهم أنفسنا؛ هل نحن نتحرّك في خطّ الإسلام، أم في خطّ الضلال؟
قلنا إنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) عاش في مواجهة الظلم الذي كان يلبس لبوس الإسلام، لأنَّ الخلافة التي كان يمثّلها هارون الرشيد قد تحوّلت إلى ملك، ومنطلق لإخضاع الناس بالطرق غير الشرعية، والأخذ بكلّ أسباب اللّهو والفجور وغير ذلك. في هذا المجال كان دور الإمام أن يوجّه الأُمّة في كلّ المواقع، حتّى في مواقع الظلم.
في جلسة للإمام (عليه السلام) مع هارون الرشيد، قبل أن تسوء العلاقات بينهما، قال الرشيد للإمام، فدك هذه التي كانت تقول الزهراء (عليها السلام) إِنّها لها من رسول الله وصارت مشكلة بعد وفاة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أنا مستعد لأن أرجع لكم فدك، قال له الإمام: إذا عرفت حدودها فلن تستطيع أن ترجعها إلينا. فدك التي عندنا لها حدود غير التي عندك. قال: ما حدودها؟ قال: الحدّ الأوّل عدن، الحدّ الثاني سمرقند، الحدّ الثالث افريقيا، الحدّ الرابع أرمينيا، وساحل الخزر. قال له: إنّ هذا معناه ملكي كلّه، قال له: نعم، فدكنا هذه، فدك التي نعتبر أنّها الحق الذي نريده. فتغيَّر وجه الرشيد من خلال ذلك.
معاناة الإمام (عليه السلام) مع الرشيد واستشهاده
كان الرشيد يعتبر نفسه قريب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، جاء إلى قبر النبي، وقال له: السلام عليك يا رسول الله. إنّي أُريد أن أعتذر إليك من أمرٍ أُريد أن أفعله. إنّي أُريد أن أحبس موسى بن جعفر، لأنّه يريد أن يشتّت أُمّتك ويسفك دماء المسلمين، والإمام لم يقم بثورة ولم يقم بأيّ حركة من الحركات التي نفهمها. ولكنّه كان يوجّه الأُمّة، وكانت الأُمّة ترتبط به ارتباطاً عفوياً، حيث كانت توجّه إليه حقوقها الشرعية وغيرها، ممّا أخنق الرشيد آنذاك. وهذا ما جعل الرشيد ينقله من سجن إلى سجن. وكان الذين يحبسونه يشعرون بعقدة لفعلتهم هذه. فأحد أقرباء الرشيد أرسل إليه يطلب إذناً، لينقل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) من سجنه، وإلاّ سوف يطلق حريّته لأنّ الإمام (عليه السلام) كان مشغولاً بنفسه، لا يدعو على السجَّان ولا على الرشيد، بل يقول: اللّهم إنّي طلبتُ منك أن تفرّغني لعبادتك، لأنّي كنت في أيام الشغل والعمل مشغولاً مع الناس، وقد فعلت ذلك، فلك الشكر يا ربّ، فاستجاب لطلبه ونقل الإمام إلى سجنٍ آخر.
ينقل أحد الأشخاص، فيقول: كنّا جالسين في الطابق الأعلى، التفت إليّ صاحب السجن، وقال لي: أنظر ماذا ترى في أرض الدار؟ قلت: أرى ثوباً، قال حدِّق. حدَّقت، فرأيت رجلاً ساجداً. قلت له: إنّي أرى رجلاً ساجداً، قال له: هذا موسى بن جعفر (عليه السلام). قال له: عندما يصبح الصباح يتوضّأ ويصلّي ثم يعقّب ثم يسجد فلا يزال ساجداً حتى يأتي الزوال. ثم عندما يأتي الزوال ويسمع الآذان يقوم ويصلّي من دون أن يتوضّأ، فأعرف أنّه لم يغفُ في منامه، فيصلّي الظهر ثم بعد ذلك يتمثّل ويعقّب ثمّ يصلّي العصر، بعد ذلك يسجد حتى تأتي العتمة، ثمّ بعد ذلك يفعل ذلك، ثمّ يأخذ نوماً خفيفاً فيقوم ليصلّي، ويمتد ذلك حتّى الفجر، هذا هو ديدنه في الليل والنهار. هكذا كان المستوى الذي يعيشه الإمام في علاقته بالله سبحانه وتعالى، ويقال إنّه أرسل إلى الرشيد رسالة يقول فيها: لن ينقضي عنّي يوم من البلاء حتّى ينقضي عنك يوم من الرّخاء، وهكذا حتّى نقضي جميعاً إلى يوم لا انقضاء له، يوم يخسر المبطلون.
وفي نهاية المطاف، دسَّ له الرشيد السمّ، ثمّ جاء بكلّ القضاة والفقهاء والوجهاء، قال السجَّان لهم، انظروا إلى موسى بن جعفر، ليس هناك خدش في جسمه أو أيّ شيء. ولكنَّ الإمام التفت إليهم وقال لهم إنَّني سقيت السمّ، وإنّني سأقضي بعد أيّام، وهكذا استشهد الإمام (سلام الله عليه) بعد أن قضى أربع عشرة سنة في سجون الرشيد.
وفي عصرنا نرى أنَّ الحكّام الذين يريدون أن يتحرّكوا ويمتدّوا في حكمهم، غالباً ما يقومون بالإيحاء للمجتمع وللأُمّة بأنَّ فلاناً قد اعتقل، لأنّه يريد أن يسيء إلى وحدة الأُمّة ويريد أن يلقي الفتنة بينها، ويريد أن يسفك دماء الأُمّة. لاحظوا ما جرى في تونس، عندما واجَه الحكم الظالم الإسلاميين، قال إنّهم يريدون الفتنة، وإِنّهم ينطلقون على أساس الخارج. لا يستطيع أن يواجه المسألة بالواقع، إنَّ هؤلاء يحاربون الحكم الظالم الطاغي على أساس الإسلام، يريد أن يهرب من هذه الحقيقة. كذلك نجد في مصر الآن، عندما انطلق المسلمون المصريون للتظاهر تأييداً للانتفاضة الفلسطينية في الضفّة الغربية وغزّة، قمعهم النظام المصري بعنوان أنّ هؤلاء يستغلّون الانتفاضة الفلسطينية لإثارة الفتنة وما إلى ذلك، إنّه لا يستطيع أن يواجه الحقيقة. وهذا ما نواجهه في كلّ مواقع الظلم في العالَم الثالث الذي يحكمه حرَّاس مصالح الاستعمار.
الطغاة وألاعيب الباطل
كذلك نعيش هذا الواقع، عندما نلاحظ أنّ أميركا بلسان رئيسها ريغان تتحدّث عن مسألة الانتفاضة الفلسطينية الإسلامية، على أساس أنّها أحداث شغب وفتنة تأتي من الخارج، نرى أنّ هذا هو المنطق نفسه الذي يواجه به الحكّام الظلمة أبناء شعبهم داخل الدول التي يتسلَّطون عليها.
لذلك نرى أنّ المسلمين والمجاهدين وكلّ طلاّب الحريّة، يُضطهدون باسم مواجهة الفتنة، وباسم مواجهة التفرقة، ولكنَّ الواقع هو أنّهم يُضطهدون لأنّهم يعارضون الطاغية هنا، ويقاتلون الطاغية هناك، ويعارضون النظام هنالك، حتّى يستبدلوه بنظام أكثر عدالة وأكثر انسجاماً مع مصالح الشعب، وبحكم أكثر انسجاماً مع عقيدة شعبة ومع الشريعة التي يؤمن بها الشعب.
لا بدّ لنا من أن نواجه ذلك لأنّنا لا نجد الحقيقة إلاّ في هذا الاتجاه، وعلى هذا الأساس ينبغي أن يفهم الشعب في كلّ مكان ـــ سواء في البلاد العربية التي تحكمها أنظمة بوليسية أو في افريقيا، أو في أيِّ بلد تحكمه الأنظمة المخابراتية ـــ إنّ على الشعب أن يفهم جيّداً طبيعة الظروف، التي يُسجَن فيها هؤلاء المجاهدون، أو هؤلاء الذين يطالبون بالحريّة، وأنّ المسألة ليست أنّهم يسيؤون للنظام من خلال إساءتهم للشعب، ولكن هم يحسنون إلى الشعب من خلال مواجهتهم للنظام، الذي يظلم الشعب ويصادر حريّته.
لا بدّ أن نفهم القضية على هذا الأساس، ولا بدّ أن نواجه مسألة السجناء المسلمين والأحرار في كلّ بلاد العالم، على أساس أن يكون الشعب معهم ومع قضيّتهم، وعلى أن يواجه كلّ الأساليب التي تحاول أن تفسد سمعتهم، وأن نعمل بكلّ الوسائل التي نستطيع من خلالها أن نفرِّج عنهم.
الإمام السجين والمجاهدون السجناء
في هذا المجال، نقف أمام قضية السجناء الموجودين في سجن الخيام، وفي عتليت، وفي المنطقة الشرقية عند القوّات والكتائب، وكلّ السجناء الأبرياء في كلّ سجن عربي يضطهد الأحرار ويضطهد المسلمين الملتزمين.
لا بدّ لنا عندما نذكر الإمام السجين، لأنّه أراد أن يقول كلمة الحقّ، من أن نتذكَّر كلّ السجناء الذين سجنوا من أجل الحقّ وفي سبيل الحقّ وعلى أساس الحقّ كلّه. وإذا ذكرنا السجناء فإنَّ علينا أن نذكر كثيراً من البلاد المسجونة من خلال السجن الكبير الذي فرضه حكّامها عليها.
لا بدّ لنا من أن نتذكَّر فلسطين التي يُسجن فيها الشعب الفلسطيني المسلم والمستضعف من قبل "إسرائيل". ولا بدّ لنا أن نذكر كلّ الأنظمة الرجعية التي تجعل من بلادها سجناً كبيراً لشعوبها، حيث لا تستطيع هذه الشعوب أن تملك حريّتها في أيِّ موقف سياسي أو أيّ موقف مناقض للحكم، لأنَّ المخابرات تعمل على أن تسقط حريّتها بكلّ ما تملك من وسائل القمع والتعسّف والوحشية.
لا بدّ من أن نقف مع كلّ قضايا الشعوب، سواء كانت الشعوب إسلامية، أو كانت شعوباً مستضعفة تجهد في طلب الحريّة، لأنّنا نعتبر أنّ علينا أن نقف مع المستضعفين، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين في كلّ مكان.
الانتفاضة إرادة الأُمّة
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ علينا أن نظلّ نحدِّق بالانتفاضة الإسلامية الفلسطينية، التي استطاعت أن تصل إلى الشهر الرابع، ممّا يدلّ على أنّ الإرادة، عندما يملكها الشعب وعندما تتعمَّق في وعي الأُمّة وفي حياتها، فإنّها تستطيع أن تواجه كلّ أدوات القمع والتدمير، ولو كان سلاحها في المواجهة الحجارة، ولو كانت المواجهة بالسكاكين، لأنَّ المسألة هي أن تخترق الأُمّة حاجز الخوف، فلا تخاف من القوّة المضادّة أو المعادية، مهما كانت الظروف ومهما كانت الأوضاع. وقد عبَّر بعض الصهاينة ممّن يملكون موقعاً متقدّماً في فلسطين المحتلة وهو يتحدّث عن هذه الانتفاضة بقوله: إنّهم استطاعوا أن ينتصروا على الخوف، وكأنّهم يريدون أن يثأروا من كلّ ذلك الشلل، الذي عاشوه على أساس الخوف سابقاً. ولهذا فإنّهم أصبحوا يملكون الإرادة، وعندما ملكوا الإرادة استطاعوا أن يربكوا الواقع السياسي والأمني كلّه. واستطاعوا أن يفرضوا أنفسهم على عقلية العدوّ وتفكيره، حتّى قال وزير دفاع العدوّ: إنّنا لم نشاهد في تاريخنا ولم نتعوَّد على مثل هذا التحرّك الشعبي غير الإرهابي وعندما يعترف بذلك فمعناه أنّ العدوَّ بدأ يعتبر أنّ هذا نذير ثورة، وبدأ العدوّ يتحدّث ليستوعب الإعلام العالمي، بدأ يتحدّث عن أنّ هذه الحرب في داخل فلسطين تمثّل جزءاً من المؤامرة على "إسرائيل". أصبح اليهود يفكِّرون بقلق على مستقبلهم، لأنَّ هناك شعباً يحمل الحجارة مقابل الدبّابة.
ونحن في كلّ الواقع الذي يعمل على أن يخدِّرنا ويضعفنا ويسقطنا، نريد أن نتعلَّم منهم كيف نقف الوقفة الصلبة، كما تعلَّموا منّا سابقاً عندما وقفنا الموقف الصلب، لأنَّ الأُمّة بحاجة إلى من يلهمها فيتقوّى شعب بآخر، ويستلهم شعب من آخر.
لهذا عندما نستمع إلى أخبار التحرّك المستمرّ، الذي ينتقل من قرية إلى قرية والذي استطاع بكلّ قوّته أن ينقل المواجهة من المدينة إلى الريف لتتّسع الثورة، فإنَّ علينا أن نتعلَّم من ذلك وأن نتحرّك في هذا الاتجاه من خلال كلّ قضايانا، سواء كانت هذه القضايا في الداخل أو الخارج.
في الداخل هناك عمل لتمييع المسألة الإصلاحية أو المسألة التغييرية، وهناك لغو تتحرّك فيه المفاوضات في المسألة اللبنانية بين اللبنانيين وبين الحكم تحت المظلّة الأميركية؛ هذا يطرح نقطة سلبية وآخر يطرح نقطة نصف سلبية، ثم يعود الآخر ليطرح نقطة سلبية ونصف سلبية ليبقى الموضوع في إطار الملهاة. ثمّ نتحرّك لنقرِّر أو لا نقرِّر أنّ إلغاء الطائفية السياسية سيأتي بعد عشر سنين وبعد عشرين سنة، ويتخدَّر الناس وتذهب كلّ دماء الشهداء، وكلّ نتائج هذه الثورة، ويعود الناس ليقولوا جميعاً: ربّنا أعطنا خبزنا كفاف يومنا، ولا نريد شيئاً بعد ذلك.
إنَّنا نحتاج إلى هذه الصلابة التي تتحرّك بهذا الجسم، لنواجه كلّ التمييع الذي يتحرّك في هذا البلد، الذي يريد أن يصادر كلّ الدعوات ويريد أن يخلط الأوراق بطريقة لا يبقى من المطالب شيء.
مراقبة الموقف الأميركي
وعلينا أيضاً في الوقت نفسه أن نراقب موقفين: الموقف الأوّل هو الموقف الأميركي، الذي يعمل من خلال وزير خارجية النظام الأميركي، ليصادر الانتفاضة الفلسطينية، وذلك من خلال تحريك المسألة الفلسطينية في أجواء يُراد من خلالها تصفية القضية الفلسطينية، مستعيناً بالحكّام الذين عملوا على أن يميِّعوا القضية ويصادروها. إنَّ المسألة لا تزال تعيش في نطاق الحكّام العرب والتمثيليّة الإسرائيلية في الصراع، ولا تزال المسألة تعمل على محاصرة الانتفاضة التي لم يستطع أحد أن يحاصرها حتّى الآن. لهذا فإنَّنا نقول لكلّ إخواننا هناك في فلسطين من هؤلاء المجاهدين المسلمين: إنَّكم عشتم أربعين سنة من الهزيمة، وقد بدأتم عصر النصر، الذي قد يحتاج أربعين سنة أخرى، فلا تبدّلوا عصر النّصر الذي بدأتموه بعصر الهزيمة، التي تريدها الجامعة العربية ويريدها مجلس الأمن وهيئة الأمم، حتى تسقط روحكم وحتّى تكون "إسرائيل" هي الدولة الأقوى في المنطقة. أنتم القوّة التي تستطيع أن تزلزل قوّة "إسرائيل" من الداخل، لأنَّ أيّة انتفاضة في الداخل توازن أكبر انتفاضة في الخارج، باعتبار أنّ الداخل هو الذي يخلخل الأساس، أمّا الخارج فهو الذي يخلخل الجدران فحسب.
لهذا علينا أن نظلّ محدّقين في هذا الواقع، حتّى نستطيع أن نواجهه كلٌّ بحسب إمكاناته وكلٌّ بحسب قدرته.
وحشية النظام العراقي
النقطة الثانية هي نقطة القصف الهمجي الوحشي، الذي يقوم به النظام العراقي الطاغي ضدّ المدنيين في طهران وفي قم وفي بقيّة مدن إيران(1)، من أجل أن يسقط الموقف الإسلامي هناك، ومن أجل أن يُخضع إيران من دون قيد أو شرط للقبول بوقف إطلاق النار، دون أن يحاسب المعتدي ودون أن يسجّل أيّ عقاب عليه، ممّا يجعل المسألة مسألة هزيمة سياسية، ليست في مصلحة الإسلام والمسلمين، على الرغم من أنّنا جميعاً نتمنّى أن تتوقّف هذه الحرب التي تُراق فيها دماء المسلمين. ولكنّنا نريدها أن تتوقّف على أساس المصلحة الإسلامية، لا على أساس المصلحة الاستكبارية. إنّهم يريدون أن يسقطوا الروحية التي يعيشها المسلمون المجاهدون هناك، ولكنّ الشعب المسلم المجاهد الذي يقوى كلّما اشتدّ الضغط عليه، ويثبت كلَّما كَثُرَت الهزائز من حوله، استطاع أن يفوّت هذه الفرصة، واستطاع أن يقول لأميركا التي تقف وراء هذا النظام: إنَّنا ما زلنا في الساحة، وسنبقى في الساحة مهما قصفت الطائرات ومهما قصفت الصواريخ، لأنَّ الخطّ الإسلامي الذي يقوده الإمام الخميني ـــ حفظه الله ـــ الواعي فقهياً وسياسياً لكلّ مصالح الأُمّة، يريدنا أن نتابع المسيرة لأنَّ المسألة ليست مسألة طهران وقمّ ولكنّها مسألة العالم الإسلامي. مسألة أن ينطلق المسلمون، ليمسكوا قرارهم بأيديهم من خلال قرآنهم، لا لتمسك قرارهم أميركا أو روسيا أو أوروبا أو أيّ جهةٍ أخرى.
المسألة هي أنّنا نريد أن نثبت، حتّى نستطيع أن نواجه كلّ الهزّات والعواصف، لأنَّ العالم المستكبر قرَّر أن يقضي على كلّ الحركات الإسلامية، التي تريد أن تعيد الروح للمسلمين ولكنّ الروح الإسلامية لن يستطيع أحد أن يصادرها، لأنّها من الله بدأت وفي طريق الله تسير، وإلى الله تعود. الله وحده هو الذي يحرِّك هذه الروح وهو الذي يستطيع أن يجمّد روحنا بعدما عادت إلينا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
دروس من الإسراء والمعراج والمبعث(*)
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ*وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ*ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:2 ــ 3 ـــ 4]، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء: 1]، {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى*فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8 ـــ 9].
قضايا ثلاث
تتحدّث هذه الآيات عن قضايا ثلاث في انطلاقة الإسلام وفي حركته في عالم الغيب فقد صادفنا قبل يومين ذكرى اليوم السابع والعشرين من شهر رجب، الذي يرى فريق من المسلمين أنّه كان يوم مبعث رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، كما يرى بعض المسلمين أنّه كان يوم الإسراء والمعراج. ونحن لا نريد أن ندخل في التدقيق في أيّ الروايتين أصحّ، لأنّه ليست عندنا مشكلة في أن يكون المبعث في هذا اليوم أو ذاك اليوم، أو يكون الإسراء والمعراج في هذا اليوم أو ذاك، ولكنَّ المسألة أن نظلّ نقف دائماً مع المناسبات الإسلامية التاريخيّة الحيّة التي تحمل لنا معنىً يمتدّ في امتداد الحياة، وتختزن مضموناً روحياً وفكرياً وحركياً نشعر بأنّنا بحاجة إليه كما كان المسلمون الأوّلون، لأنَّنا مجتمع الرسالة في جيلنا كما كان المسلمون الأوّلون مجتمع الرسالة في جيلهم، ونحن نأخذ على عاتقنا مسؤولية حمل الرسالة والدعوة إليها وتحريكها في المجتمع والجهاد في سبيلها تماماً كما كان المسلمون الأوّلون يعيشون هذا الدور.
أيُّها المسلمون، لا تعتبروا أنّ مسؤولية الرسالة كانت مسؤولية أولئك المجاهدين من الصحابة، ودوركم هو دور التلقّي والاتّباع من دون أن تكون لكم مسؤولية.. الله سبحانه وتعالى جعل مسألة الدعوة إلى الله والدعوة إلى الخير مسؤولية كلّ المسلمين {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت : 33]، {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران : 104] هذا نداء لكلّ مؤمن ولكلّ مسلم. وعلى هذا الأساس فإنّنا نواجه هذه المناسبات أو الذكريات الإسلامية بالروح نفسها التي واجهها المسلمون آنذاك، فكيف نتمثّلها في حياتنا في هذه المرحلة، وفي ما نستقبل من مراحل؟
في البداية، في المبعث عندما بعث رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وتلقّى النداء من الله على لسان جبرائيل حسب رواية المبعث {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 ـــ 5] عندما سمع هذا النداء الذي يقول له إنّ هذا المجتمع الأُمّي يحتاج أن يقرأ ويحتاج أن يتعلَّم بالقلم، ويحتاج أن يتعلَّم بالفكر، ويحتاج أن يتعلَّم بالتأمّل ليبدأ دور جديد للإنسانية من خلال ذلك حتى تنطلق الإنسانية في هذا الجزء من العالم الذي يتحرّك نحو العالم كلّه في رسالة تفتح عقل الإنسان على الحقيقة من خلال الفكر، وتفتح قلب الإنسان على المسؤولية من خلال الإيمان.
المسؤولية والظروف الصعبة
كان النبيّ وحده، وكان العالم يعيش الشرك والكفر في أكثر مواقعه، كان وحده ولم يضعف وكان القرآن يعزّيه وينمّيه ويقوّيه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} كان البرد يأخذه يرتجف من البرد ويتدفّأ بالصوف ونزلت الآية: لا مجال لأن تعيش الاسترخاء أمام الحرّ والبرد، بل لا بدّ أن تتحمّل البرد في حركة المسؤولية ولا بدّ أن تتحمّل الحرّ في حركة المسؤولية {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ*قُمْ فَأَنذِرْ*وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ*وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ*وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثّر: 1 ـــ 5] ونزع النبيّ كلّ دثاره وتحرّك، تحرّك ليدعو إلى الله ولم يقل كما نقول نحن وقبل الآن وبعد الآن، لا يقول لو دعوت إلى الله وإلى الإسلام فسوف يكرهني الناس وسوف لا يرضى عنّي الناس، لو واجهت المعادلة الشركية والمعادلة الجاهلية لقال الناس عنّي كلاماً غير مألوف.. لم يقلّ ذلك، وإنّما قال الكلمة بقوّة، ودعا إليها بحكمة، وتحرّك من خلالها بتخطيط، وقرَّر أن يتحمّل مسؤولية الكلمة بكل ما يمكن أن ينتج عنها من سباب وشتائم واتّهامات وما إلى ذلك من كلمات. قرَّر أنّ عليه أن يصبر أمام كلّ ذلك، وقرَّر أن يتحمّل الإيذاء ويتحمّل الضرب بالحجارة ويتحمّل الحصار والتهديد بالقتل ويتحمّل كلّ الأخطار لأنّه يعلم أنّه جاء للقوم برسالة تلغي كلّ امتيازاتهم الطبقية وتلغي كلّ أطماعهم الذاتية، جاء ليوحّد بين السيّد والعبد وبين الأبيض والأسود وبين كلّ القوميات: "كلّكم من آدم وآدم من تراب"(1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات : 13] كان يريد أن يلغي امتيازاتهم، امتيازات الطبقة المسيطرة بغناها والمسيطرة بمواقعها والمسيطرة بقوّتها وما إلى ذلك، كان يريد أن يلغي ذلك لتكون الأرض للمستضعفين لا للمستكبرين {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص : 5] كانت الرسالة تتحرّك في هذا الاتجاه، فكيف يقبلها المستكبرون وكيف يقبلها الأغنياء وكيف يقبلها المتجبّرون والطغاة؟ وقرَّر أن يتحمَّل، ولم يضعفه التصوّر أنّه وحده وأنَّ الأكثرية ليست معه، كان يستمع إلى آيات الله {... كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ} [البقرة : 249] ولهذا كان لا يخاف من الأكثرية التي تقف ضدّه وتسبّه وتلعنه وتتَّهمه في عقله وفي صدقه وتتّهمه في كثير من مواقع حياته وتحاصره. واستمرّ يجمع الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والعشرة، وكان يدير الأمور بكلّ حكمة وبكلّ قوّة، وكان يقال عنه كذّاب بعد أن كان الصادق الأمين، ويقال عنه الساحر عندما رأوا تأثير كلامه في الناس، وكانوا يقولون عنه إنّه كاهن من خلال ما كان يحدّثهم عن الغيب ليبطلوا تأثير كلامه على الناس، كانوا يريدون أن يبطلوا قداسته في وعي الناس وأرواحهم، ورأوا أنّه مستمرّ لا يأبه بذلك، قالوا عنه إنّه مجنون، وانطلقوا، وانطلق أبو لهب الذي تبَّت يداه، انطلق وراءه لأنَّ تأثير الأقربين على الناس أكبر من تأثير الأبعدين، كان أبو لهب يقول: لا تصدِّقوا ابن أخي، نحن أعرف به، نحن أعمامه، لا تصدّقوا ابن أخي فإنّه مجنون، وقال الله له أن يقول لهم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ : 46] واندفعوا إلى القرآن الذي كان يريدهم أن يؤمنوا بأنّه وحي الله بالبيّنات التي قدَّمها إليهم، وبالتحدّي الذي أطلقه في وجوههم {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل : 103]، وصَبَرَ واستمرّ وثبَت، وكانت أخلاقه العالية جزءاً من أسلوبه الرسالي {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ...} [آل عمران : 159]، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة : 128]، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 4]. كانت أخلاقه تمثّل جزءاً من حركة رسالته؛ أخلاقه في ذاته، أخلاقه في بيته وعائلته، أخلاقه مع أصحابه، أخلاقه مع أعدائه، وأخلاقه المنفتحة على الله في كلّ ما يريد الله منه.
وهكذا انطلق الإسلام من موقع النبيّ القائد الذي وقف وحده أمام العالم ولم يخف، واستطاع أن يتقدَّم على أساس سياسة النفس الطويل، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وهكذا نأخذ من المبعث أنّ علينا أن لا نخاف من الآخرين الذين يقفون أمامنا ليبطلوا دعوتنا إلى الله وإلى الإسلام، وليخوِّفونا بالقوى المسيطرة التي تحكم العالم، وليهزمونا بالقوى المسيطرة التي تحكم المنطقة، وليسقطونا باسم القوى المهيمنة التي تحكم البلد... كلّ ذلك كان يواجهه رسول الله ولم يسقط ولم يضعف ولم يحزن، وكان يقول للمسلمين ما قاله الله له {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...} [آل عمران: 139 ـــ 140] وكان يقول لهم ما قال الله له أيُّها المسلمون إذا كنتم ضعفاء فإنّكم تستطيعون أن تكونوا أقوياء {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ...} [الأنفال : 60] كونوا القوّة الكبيرة التي ترهب الآخرين من موقع قوّتها ليحذر الآخرين من الاعتداء عليها، لأنّكم إذا أبقيتم أنفسكم ضعفاء وإذا أوحى بعضكم إلى بعض بالضعف وإذا استسلمتم لهذا الضعف وإذا لم تأخذوا بأسباب القوّة في ما أعطاكم الله من عناصر القوّة في الثروات المخزونة في أرضكم والثروات التي يمكن أن تتحرّك في طاقاتكم والطاقات التي تملكون أن تبدعوا فيها القوّة، إذا لم تأخذوا بذلك كلّه فسوف تسحقكم الأرجل وسوف تكونون الأذلاّء.
كان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يفكّر في أنّ المسألة ليست هي أن ترضى قريش أو ترضى القبائل عنه؛ كان يفكِّر في أن يرضى الله عنه: "إنْ لم يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عليَّ فلا أُبالي" وعندما اصطدم باليهود والنصارى لم يفكّر أن يكون هدفه أن يرضوا عنه لأنَّ الله قال له، وأمره أن يقول للمسلمين {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة : 120] وقال للمسلمين كونوا الأعزّة، إنّكم إذا كنتم مؤمنين فالإيمان يمثّل قوّة وقيمة تربطكم برسول الله وتربطكم بالله لتكون العزّة صفتكم كما هي صفة رسول الله ولتكون العزّة صفتكم كما هي صفة الله فإنَّ الله لا يريد لعباده المؤمنين أن يكونوا الأذلّة أمام الكافرين والمستكبرين {... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...} [المنافقون : 8] كونوا الأعزّاء من موقع عزّة الله ورسوله في ما تؤمنون به بالله وبرسوله وبخطّ الله ورسوله. وهكذا انتصر لأنّه كان يخاف من الله وحده، وانتصر لأنّه كان يراقب الله وحده، وانتصر لأنّه كان يستمدّ ثقته بنفسه وبحركته وبرسالته من موقع إيمانه بالله وثقته بالله. كان يشعر بأنَّ الله معه في الحالات التي ليس فيها أحد معه، {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا...} [التوبة : 40] قال للمسلمين ما قاله الله له وهو يحدّثه عن دين الله الذي ليس فيه نقص لا في العقيدة ولا في المفاهيم ولا في التشريع ولا في المنهج {... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة : 3]، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران : 85] أكمَلَ الدين بلاغاً وأكملَهُ قوّة وأكمله منهجاً، وقال له ربّه {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر : 30]، ولحق بالرفيق الأعلى، وكان الله قد قال للمسلمين قبل أن يموت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): إنَّ مسألة إسلامكم ليست حدودها حدود حياة رسول الله، فرسول الله بشر يحيا كما يحيا البشر، ويموت كما يموت البشر، ولكنّ الإسلام رسالة الله فاحملوه بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وتحمَّلوا مسؤوليّته بعد رسول الله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران : 144] هذه قصّة المبعث في حركة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في اتّجاه الرسالة التي يمثّلها المبعث.
ذكرى المبعث وتحمّل المسؤولية
ما هو دورنا الآن، مرَّت ذكرى المبعث، بعض الناس يقيمون مهرجاناً خطابياً، وبعض الناس يقيمون مسيرة إيمانية، وبعض الناس يكتب كلمة هنا وحديثاً هناك. ولكنَّ المسألة ليست أن نقيم مهرجاناً لبعثة الرسول بل القصّة أن نتحرّك في اتّجاه أن نعرف مسؤوليّتنا في جيلنا وفي مرحلتنا عن المعنى الذي بعث به الرسول؛ كيف نحرّك القرآن في الحياة كما حرَّكه، وكيف ندعو إلى الإسلام في الحياة كما دعا إليه، وكيف نقوّي مواقع الإسلام في كلّ ساحات الصراع كما قوَّاه، وكيف نطلقه دعوة للعالم كلّه كما كان دعوة للعالم، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً...} [سبأ : 28]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107].
أيُّها الإخوة المؤمنون، تحمَّلوا مسؤوليّتكم عن الإسلام، فإنَّ الله سيسألكم عن دوركم في الحياة، سيقول الله لكم عندما انطلق كلّ واحدٍ منكم إلى الحياة، كانت قوّة الإسلام بنسبة 20% فهل تحرّكتم لتكون نسبة القوّة 25%؟ ماذا أعطيتم من فكركم للإسلام؟ ماذا أعطيتم من مالكم للإسلام؟ وقد كان المسلمون الأوّلون، كان منهم من يعطي ماله وكانت خديجة صاحبة مال كثير وماتت فقيرة لأنّها أعطت كلّ مالها للإسلام، ومنهم من يعطي جهده وفكره وقوّته، فماذا أعطيتم أنتم، إنّ بعضكم قد يعطي ماله للكفر وللفسق والفجور وليس مستعداً لأن يعطي الإسلام قرشاً واحداً. إنَّ بعضكم يعطي فكره للكفر وللشرك وللطغيان وليس مستعداً لأن يعطي من فكره للإسلام شيئاً، إنَّ بعضكم يعطي جهده للظلم وللطغيان والبغي والانحراف ولا يعطي الإسلام شيئاً من ذلك. كيف تكونون مسلمين وتبخلون على الإسلام بما أعطاكم الله من النِّعَم التي أرادكم أن تشكروها بأن توجِّهوها في ما أحبَّ الله.
عندما نتذكَّر المبعث، فلنتصوّر أنّ رسول الله الآن بيننا: فبِمَ يتحدّث لو كان رسول الله في لبنان؟ هل يتحدّث عن الخطّ الوطني أو القومي أو الاشتراكي أو الديمقراطي أو التقدّمي أو ما إلى ذلك، أم يتحدّث عن الإسلام؟ سيقول له بعض الناس: يا رسول الله، إنَّ وضع لبنان وضع خاص، نحن لا نريد أن نتحدّث عن الإسلام لأنَّ الإسلام يثير الحساسيّات الطائفية ويثير المشاكل الداخلية، فلنغطِّ الإسلام بألف غطاء، ماذا يجيبكم رسول الله {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران : 19]، {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ...} [النجم : 23]. فكِّروا في ما كان يطرح رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وحاولوا أن تحكموا على كلّ الطروحات وكلّ الأشخاص من خلال ذلك، لأنَّ رسول الله هو الميزان الذي نعرف به الحقّ والباطل، والقرآن هو الفرقان الذي يفرّق بين الحقّ والباطل، وليس هناك أحد أو مؤسّسة أو جهة يمكن لها أن تحدّد لنا الخطّ، وحده رسول الله كلمته كلمة الله، وحركته حركة الله، منهجه منهج الله، سياسته سياسة الله، نعرفها من خلال ما بيّنه في كتاب الله، ونعرفها في ما بيَّنه في سُنّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
هذا هو الخطّ، فإذا أردتم أن تحتفلوا بالمبعث فاحتفلوا به في بيوتكم عندما تعلِّمون أولادكم وبناتكم وزوجاتكم الإسلام، واحتفلوا به في مواقع عملكم عندما تدعون زملاءكم في العمل إلى الإسلام، واحتفلوا به في مدارسكم عندما تعملون على دعوة زملائكم إلى الإسلام، أدعوهم إلى الإسلام إذا كانوا لا يؤمنون به، وادعوهم إلى الالتزام بالإسلام إذا كانوا مسلمين لا يلتزمون به.. تلك مسؤوليّتكم التي سيسألكم الله عنها. كلّ شخص يستطيع أن يهدي شخصاً ويقول لا أريد أن أُتْعِب رأسي فقد عصى ربّه. كلّ شخص يستطيع أن يهديَ جماعة من الناس ويقول لا أريد أن أُثير المشاكل من حولي، فقد أخطأ وعصى ربّه، لأنَّ الدعوة واجبة على كلّ من يستطيعها، والهداية واجبة على كلّ من يستطيعها. كان الوجوب كفائياً في مرحلة، أمّا الآن، فالوجوب عيني على كلّ قادر على الدعوة بنسبة قدرته والله لا يكلِّف نفساً إلاّ وسعها، فكما الصلاة واجب عيني على كلّ مسلم ومسلمة فالدعوة إلى الله والهداية إلى طريق الله واجبة على كلّ مسلم ومسلمة. حاولوا أن تحافظوا على الإسلام في عنوانه، لا يخدعكم أحد بأن ترتبطوا بغير الإسلام أو تعطوا أنفسكم صفة غير الإسلام، الله أعطاكم الإسلام صفة ولا قيمة لكلّ التنظيمات ولكلّ الحكومات ولكلّ الأحزاب أمام الإسلام. قولوا لكلّ الناس الذين يريدونكم أن تسيروا معهم سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو عسكرياً، قولوا لهم ما هو موقع الإسلام من نهجكم وحركتكم ومسيرتكم ودعوتكم، وقولوا لهم إنّنا نريد أن نموت على اسم الإسلام، وتحت راية الإسلام ولا نريد أن نموت تحت أيّ رايةٍ أخرى. قيمة لبنان أن يكون مسلماً، وقيمة العرب أن يكونوا مسلمين، وقيمة الإيرانيّين والأتراك وغيرهم أن يكونوا مسلمين، تلك هي الصفة التي نريد أن نحرّكها في حياتنا. فسوف لن يسألكم الله غداً عندما تقفون بين يديه من أيّة قرية أنت، ومن أيّة محلّة أنت، ومن أيّ بلدٍ أنت، ومن أيّ وطنٍ أنت، ومن أيّة قومية أنت، ومن أيّ حزب أو حركة تنظيم أنت؟ سيسألك الله هل آمنت بالله وبرسوله وبكتابه وباليوم الآخر، أم لم تؤمن بذلك؟ {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ...}، [المؤمنون : 105]، {... أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا...} [الأنعام : 130] هذا هو السؤال فابحثوا في أنفسكم وفي حركتكم وفي علاقاتكم وفي انتماءاتكم عمّا يجيب على هذا السؤال.
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ...} [الإسراء : 1].
وتأتي مناسبة الإسراء قبل الهجرة بسنة أو سنتين، ويأتي جبرائيل إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ليسير به ليلاً في مثل اللّمحة واللّحظة ويقطع تلك المسافات ليصل إلى بيت المقدس ليلتقي إبراهيم الخليل (عليه السلام) وليلتقي موسى وعيسى (عليهما السلام) وليتشاور معهم وليأخذ تجربتهم ويلتقي مع بقيّة الأنبياء ويعيش تلك الروح التي اختصر فيها كلّ التاريخ الذي سبقه، فاجتمع بالأنبياء الذين سبقوه ورأى آيات الله في ذلك وتوسّعت آفاقه، كانت التجربة التي أراد الله من خلالها وهو يعد النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لإبلاغ الرسالة إلى العالَم ليكون رسوله إلى العالم كلّه، وليعد النبيّ ليكون خاتم الأنبياء، ولتكون رسالته خاتمة الرسالات، لهذا أراد أن يعطيه الفكرة الحيّة من خلال ذلك، وذلك غيب الله، وعندما حدَّث قومه بذلك ارتدّ قوم عن الإسلام لأنّهم كانوا لا يفهمون الغيب جيّداً ولكنَّ النبيّ أعطاهم ما أثبت لهم صدقه.
الانطلاق باتّجاه المسجد الأقصى
وعندما نلتقي بالإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، معنى ذلك أنّ القرآن يريد أن يجعل في حياتنا مسألة المسجد الحرام والمسجد الأقصى رمزين وعنوانين لما يقدّسه المسلمون وما يتحمّل مسؤوليّته المسلمون وما يجاهد في سبيله المسلمون {... مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء : 1] أن ننطلق كما انطلق النبيّ من هناك من مكّة إلى بيت المقدس ليرى آيات الله في كلّ ما أراد الله له أن يراه، وليجمع الرسالات في وحدة يختزنها الإسلام في مفاهيم الرسالات الخالدة. أيضاً لا بدّ لنا أن نسير من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى دائماً، خطّ السير هذا بدأه رسول الله وقال للمسلمين أن يسيروا فيه، وبعد رسول الله سار المسلمون من المسجد الحرام ومن المدينة، ساروا إلى المسجد الأقصى واستطاع الإسلام أن يدخل إلى المسجد الأقصى، وحكم المسلمون المسجد الأقصى والأرض المباركة من حوله، وكانوا أفضل الحاكمين المنفتحين بالرحمة على كلّ الناس الذين بقوا على دينهم من أهل الكتاب، فلم يتعرَّضوا لهم بسوء بل أعطوهم كلّ ما يمكن للإسلام أن يعطيَ الفئات التي يختلف معها من أهل الكتاب، من إنسانية ورعاية وعدالة في كلّ المجالات.
"إسرائيل" والجلاء عن المنطقة
ثمّ مرَّت سنون، ومرَّ التاريخ، وجاءت القوى المستعمرة الأوروبية تحت عنوان الصليب من أجل أن تسيطر على المسجد الأقصى(1)، ولكنّ المسلمين لم ييأسوا ولم يضعفوا بل فكّروا في أن يحرِّروا المسجد الأقصى من الصليبيين ولو بعد مائتي سنة، وتحرَّر المسجد الأقصى... وعادت أميركا وعادت أوروبا من خلال الاستعمار البريطاني من أجل أن يقدّموا المسجد الأقصى وما حوله لليهود في وعد بلفور ليركّزوا دولتهم، ولم يكن هذا قراراً بريطانياً فقط ولكنّه كان قراراً أوروبياً يأخذ البركة من أميركا ولا يغضب روسيا آنذاك.
وتذكر بعض المذكّرات التاريخيّة أنّ مسألة الجلاء عن لبنان وعن سوريا لم تكن مسألة أن يكون لبنان مستقلاًّ أو تكون سوريا مستقلّة بل كانت، كما نقل عن ديغول، أن تجلو فرنسا عن سوريا ولبنان لتهيّئ لبريطانيا، أن تجلو عن فرنسا عن سوريا ولبنان لتهيّئ لبريطانيا، أن تجلو عن فلسطين وتسلّم فلسطين لليهود، كانت من أجل أن تكون المسألة في ضمن سياسة واحدة يكون الجلاء فيها هنا مقدِّمة للجلاء هناك من أجل المصلحة اليهودية.
هذا معنى الاستقلال اللبناني، الذي لم يكن استقلالاً ينطلق من واقع المشكلة اللبنانية السياسية بل كان حركة في الاتّفاق الموجود لإعادة تمركز اليهود في فلسطين ضمن صورة سياسية باسم الجلاء عن المناطق المستعمرة مِن قِبَل الدول الأوروبية.
والمسألة حسب كثير من المذكّرات التاريخية كانت قبل عام 48 اتّصالات بين المنظّمات الصهيونية وبين الدول الأوروبية على طريقة إعداد المسألة السياسية والأمنية مِن قِبَل الأوروبيين في فلسطين حتّى يمكن أن تسيطر الصهيونية على فلسطين، كانت معدّة بالأرقام، وحسب هذه المذكّرات التاريخية التي ترقى إلى 70 أو 71 سنة كانت الحدود المتّفق عليها في الدولة الإسرائيلية من الجانب اللبناني أن تكون حدود "إسرائيل" إلى ما يقرب من مدينة صيدا، ولهذا فإنّ "إسرائيل" تعمل على تنفيذ هذه الخطّة بالتنسيق مع أوروبا ومع أميركا بطريقة تدريجيّة، ولهذا ليست مسألة بقائها في المنطقة الحدودية مجرّد مسألة أمنية بل هي تعدّ لمسألة سياسية دستورية مستقبليّة تماماً كما تفكّر بالنسبة للضفّة الغربية وغزّة، وكما عملت بالنسبة إلى الجولان، قد تضطر "إسرائيل" للانسحاب كما اضطرت في ما سبق، ولكنّها تعدّ الأرض والطرقات والمواقع الاستراتيجية والعملاء والجواسيس والسياسيّين بطريقة تمكّنها من العودة عند حدوث أيّة متغيّرات سياسية في الساحة. لهذا فنحن عندما نريد للناس أن ينتبهوا إلى "إسرائيل" كخطر مستقبلي على وجودنا داخل جبل عامل أوّلاً وعلى وجودنا الإسلامي في المنطقة كلّها ثانياً، فلأننا نفكِّر بهذه الطريقة، ولأنّنا نرى أنّ أميركا تعلن بكلّ هيئاتها أنّها تدعم أمن "إسرائيل" وتدعم قوّتها دعماً مطلقاً وأنّها ليست مستعدّة لأن تضغط على "إسرائيل" أو تعاقبها وليست مستعدّة لأن تسمح لمجلس الأمن بأن يدينها.
عندما تكون المسألة كذلك، فإنَّ علينا أن نتصوّر أنّ الوجود اليهودي في فلسطين كما هو الوجود الأوروبي الذي جاء تحت لافتة الصليب في فلسطين سابقاً ليس مسألة حدود بيننا وبين "إسرائيل" ليتحدّث الناس عن اتّفاقية الهدنة أو يتحدّثوا عن الترتيبات الأمنية أو غير ذلك، المسألة أخطر من ذلك، هذه عناوين تريد أن تطرحها "إسرائيل" في السّاحة السياسية أو الأمنية حتّى تستطيع أن تحصل على بعض المواقع أو على بعض الأوضاع السياسية التي تريد في هذا الاتجاه. وقد درجت أميركا وأوروبا أن تقدّم للعرب الكلمات وأن تقدّم لهم عروض التنازلات "لإسرائيل" وتسعى لإقناعهم بأنْ يقدِّموا المزيد من التنازلات بحجّة أنّ ذلك من شأنه أن يقوّيَ السياسي المعتدل في "إسرائيل"، قدّموا لنا بعض التنازلات حتّى نستطيع أن نضغط بعض الضغط على سياسة "إسرائيل"، وهي مسألة اتّفاقية بينهم وبين "إسرائيل" تعطي العرب المبادرات والعرب يشعرون بالبركة عندما يتنازل وزير خارجية أميركا ليطوف عليهم، ويشعرون بالإحراج لأنَّ العرب مضيفون جيّدون باعتبار:
يا ضيفَنا لو جئتنا لَوَجَدتنا نحن الضيوف وأنتَ ربُّ المنزلِ
الضيافة العربية تفرض أن تقول لأميركا هذه بلادنا بلادكم، أنتم ضيوفنا تفضّلوا خذوها وتصرَّفوا بها كيفما شئتم، هذه الضيافة العربية لا تمثّل العرب وإنّما تمثّل هؤلاء الذين أرادهم المستعمرون أن يكونوا حرّاساً لـــ "إسرائيل".
ادرسوا جيّداً حركة الواقع السياسي العربي واعرفوا جيّداً كيف أنّ الملوك والرؤساء والمنظّمات والأحزاب كلّهم يعملون على أساس أن لا تمسّ "إسرائيل" بسوء؛ لا تمسّوها بسوء من خلال الأردن، ولا تمسّوها من خلال مصر، ولا تمسّوها بسوء من خلال الجولان، ولا تمسّوها بسوء من خلال لبنان، المسألة هي أنّه يراد حتّى لقوات الأمم المتحدة أن تحرس "إسرائيل" قبل أن تحرسنا، بعيداً عن كلّ الكلام الذي يقال، فلذلك علينا أن لا نفكّر باللحظة الحاضرة.
مستقبل هزائم لمنطق الانهزام
اقرؤوا جيّداً الكتب التي تتحدّث عن كيفية ولادة "إسرائيل" وعن كيفية حركة الواقع السياسي لضمانة واقع "إسرائيل"، لماذا يفكّر كلّ العالم السياسي في الساحة العربية أنّ المشكلة هي مشكلة هؤلاء الإسلاميين الأصوليين أو الذين يعبّرون عنهم أخيراً بالإسلاميين الإيرانيين وغير ذلك؟ لأنَّ هؤلاء يريدون أن يعيشوا حريّة أرضهم كما يفعل المجاهدون المسلمون في داخل الضفّة الغربية وغزّة، فهؤلاء هم الذين أعادوا المسألة الفلسطينية بعد أن قطعت أشواطاً في المسألة الأميركية والإسرائيلية إلى نقطة البداية، والبداية هي أنّ شعار "زحفاً زحفاً نحو القدس" وتحرير فلسطين لأنّ مسألة وعيهم لـــ "إسرائيل" هي أنّها ليست مجرّد دولة نعيش معها بعض النزاعات ولكنّها دولة تريد أن تأخذ أرضنا في المستقبل كما أخذت أرضنا في الماضي، ولهذا فإذا لم نستطع أن نواجهها بالقوّة لنربك وضعها الآن فلنعمل على إعداد القوّة لهزيمتها في المستقبل، فسوف يتحوّل كلّ مستقبلها إلى هزائم، ولهذا لاحظوا أنّ المشكلة كانت في لبنان ولا تزال هي مشكلة المقاومة الإسلامية والمقاومة المؤمنة.
العنوان الإسلامي ممنوع!
المشكلة هي أن لا ينطلق للإسلام وللإيمان صوت، لأنّهم لا يريدون للمسلم أن يشعر بأنّه مسلم، أو أنّه مؤمن، حتى يستثير إسلامه وجهاده وحركته في خطّ الجهاد، يريدون أن يعطوه عنواناً يخضعه للخطوط السياسية التي تخضع للمعادلات الدولية. حتّى العنوان الإسلامي، وحتّى العنوان الإيماني ممنوع في الساحة العربية واللبنانية لأنّه عنوان لا يخضع لمعادلة أميركية أو أوروبية أو إسرائيلية أو غير ذلك، ولهذا يريدون أن نخضع للعناوين التي تتحرّك في دائرة المبادرات ودائرة المعادلات الدولية. وهكذا نجد أنّهم يواجهون الانتفاضة الإسلامية التي يشهد الجميع أنّها انتفاضة انطلقت من داخل المساجد وأنّها انطلقت تحت شعار "الله أكبر" وشعار "لا إله إلاّ الله"، انطلقت من خلال هذه الشعارات التي يشعر فيها المسلم بالأصالة من خلال خطّ التوحيد لله وعدم الإشراك بغيره، ليفهم مسألة توحيد الله أن لا يشرك به غيره حتّى لو كان أميركياً أو أوروبياً أو إسرائيلياً أو غير ذلك. لهذا كانوا يريدون أن يطوّقوها ولا تزال الساحات العربية الآن لا تفكّر في دعم الانتفاضة ومساعدتها، بل المسألة هي كيف يفكِّرون بمبادرة (شولتز)(1) وكيف يستطيعون أن يحرِّكوا المسألة العربية لتتكامل مع المسألة الإسرائيلية تحت المظلّة الأميركية، لأنّ الأميركيين قالوا لهم اعتبروا الانتفاضة مسألة داخلية تعالجها "إسرائيل"، لأنّكم إذا لم تعتبروها كذلك فسوف تزحف الانتفاضة إلى بلادكم، وسوف تتحرّك الانتفاضة نحو عروشكم التي يعرف المسلمون المجاهدون جيداً أنّها عروش صنعت في المعامل الأميركية والأوروبية ولم تصنع في الساحة الإسلامية أو العربية.
إنّهم يريدون أن يحاصروها ويطوِّقوها، ولهذا أعطوا "إسرائيل" الحرية في أن تضغط، قال لها "كيسنجر"(2) أن تضغط حتّى لو كلَّفها ذلك أن تبيد الشعب المسلم في فلسطين، وأميركا لا تتحرّك خطوة في اتّجاه أن تمنع "إسرائيل" من أن تكسر أذرع الأطفال، وأن تدفن الناس أحياء، وأن تطلق الرصاص على كلّ الناس هناك، وأن تحاصرهم حصاراً اقتصادياً، إنّهم لا يتحرّكون لأنّهم لا يريدون للانتفاضة الفلسطينية الإسلامية أن تخرج عن الحدود المرسومة للمسألة الفلسطينية في الساحة، لا يريدون لها أن تخرج عن الخطوط الحمر التي فرضوها. ولهذا فإنَّ هناك حلفاً أميركياً عربياً(1) إسرائيلياً يعمل بكلّ ما عنده من طاقات ومن إمكانات في سبيل الضغط على الانتفاضة وفي سبيل محاصرتها، حتى يمكن تعديل مواقفها لمصلحة المواقف السائدة في العالم العربي والسياسة العربية.
إنَّ المسألة تعيش في هذا الاتجاه، ولكنّنا نعرف أنّهم {... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال : 30]، {... وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج : 40] إنَّ الله سينصر هؤلاء ولو بعد حين عندما تستمرّ هذه الروح الإسلامية في كلّ أعماقهم.
فلنعمل لتحرير القدس
وهكذا نشعر بأنَّ علينا أن ننطلق لنتكامل مع كلّ الذين يعملون على تحرير القدس وعلى إنقاذ المنطقة من "إسرائيل". ومن هنا نعرف قيمة التكامل والارتباط بالقيادة الإسلامية في الثورة الإسلامية التي يمثّلها الإمام الخميني (حفظه الله)(2)؛ أن نتكامل معها ومع المسلمين المجاهدين في فلسطين ومع كلّ الإسلاميّين في العالم من أجل أن نصل إلى الهدف الكبير الذي يتحرّك فيه الإسلام من أجل أن يؤكّد مواقعه ويؤكّد حركته من أجل الحرية في كلّ مجال. إنَّ رفض "إسرائيل" ومقاومتها ليست مجرّد كلمة تقال وحتّى ليست مجرّد عمليات في وجه "إسرائيل"، ولكنّها تمثّل نهجاً سياسياً يتدخّل في كلّ مواقع حركتنا السياسية حيث إِنّنا عندما نؤيّد أيّ موقف فعلينا أن نفحص أين توجد "إسرائيل" فيه، أو أيّ قرار فعلينا أن نشعر كيف تختبئ "إسرائيل" في داخله. ومن هنا كانت نظرتنا إلى كثير من قرارات الأمم المتحدة في القضية الفلسطينية، كانت نظرتنا نظرة حذر وشكّ وريبة لأنّها تنطلق من خلال اعتبار "إسرائيل" أساساً في مسألة الأمن في المنطقة والسياسة في المنطقة، ودقِّقوا في ذلك تعرفوا ذلك بعيداً عن كلّ الاستعراضات الكلامية والاستهلاكية في البلاد.
سياسة و"مِنَ الحبّ ما قَتَل"
وعلى ضوء هذا أيضاً نقول: إنَّ المسألة التي تدور الآن في لبنان والتي تتحرّك بين التفاؤل تارّة وبين التشاؤم أخرى، والتي يحدّثنا فيها بعض المسلمين أنّ علينا أن نغتنم الفرصة، أيّة فرصة، فرصة أنّ أميركا أعطتنا بركتها وبدأت تهتمّ بنا، أرسلت لنا شولتز ومورفي وأرسلت لنا أيضاً غلاسبي وغيرهم حتّى يقولوا هنا إنّ أميركا تحبّنا جيّداً، ولكنّ هناك كلاماً يقول: "ومِنَ الحبّ ما قتل". هذه المحبّة فيها نظر، إنّها جاءت على أساس أن تكون موظّفة في وزارة البرق والبريد اللبنانية حتّى تنقل ما يقوله المسلمون المسمّون فريقاً إسلامياً في الغربية إلى السياسيين الذين يسمّون فريقاً مسيحياً في الشرقية، أن تنقل الرسالة هنا وهناك عبر دمشق من أجل أن تجعل اللبنانيين يتحاورون بالمراسلة التي تشرف عليها أميركا وهي تملي على الذي يكتب الرسالة الجوابية هناك أن يكتب بطريقة معيّنة تحرّك اللّعبة بطريقة تتناسب مع المصالح الأميركية. لماذا الفريقان اللّذان يحملان الرسائل فريق أميركي وفريق سوري عربي؟ على أساس أنّ الفريق الأميركي يمثّله أولئك وأميركا تمثّل هذا الفريق، وسوريا تمثّل الفريق الآخر حتّى تعتبر المسألة في الرأي العام الدولي مسألة سورية أميركية وليست مسألة لبنانية ـــ لبنانية من أجل أن تضغط أميركا على سوريا من خلال الورقة اللبنانية وأن ينطلق الحكم في كلّ أجوبته وفي كلّ كلماته على أساس النظرة الأميركية التي تحاول أن لا تظهر في الواجهة.
حوار داخلي أم إقليمي ودولي؟
ولهذا فإنَّ الحوار الداخلي لو نظرنا إليه نظرة عميقة، لوجدنا أنّه في الواقع ليس حواراً داخلياً، ولكنّه حوار إقليمي ودولي بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، ونحن نشكّ ونحذر، لا نشكّ فقط أو نحذر بل نعرف أنّ أميركا تعمل على أساس تمييع القضايا التي انطلق الناس ليثوروا من أجلها، وتعمل على أساس أن تحلّ المشاكل في لبنان لحسابها، كما كانت هي التي أوجدت المشاكل في لبنان لحسابها، ولهذا فإنّنا لن نعتبرها فرصة أن تأتي أميركا لتدبّر أمرنا ولتميّع قضايانا ويكون هناك إخراج لإلغاء الطائفية السياسية، أن تجتمع هناك لجان وتبحث الموضوع لتجتمع مرّة كلّ سنة ويضيع الموضوع مع كلّ الأجواء السياسية المستقبليّة، إذا لم تستطع حرب دامت ثلاث عشرة سنة وقبلها هناك حرب متحرّكة حُضِّر لها، إذا لم تستطع أن تحقّق مطلب إلغاء الطائفية السياسية، أو مطلب المشاركة في الحكم وإنّما تطرح هذين المطلبين على المستقبل بعد انتخاب مجلس نيابي جديد وبعد أن تنطلق، فهل تستطيع لجان أو مجالس نيابية خاضعة للعبة الأميركية وغير الأميركية أن تحقّق لنا ذلك أم أنّنا نحتاج إلى جولة جديدة بعد عشر سنين لِيُقْتَلَ فيها اللبنانيون لحساب الآخرين باسم مطالبهم الإصلاحية؟ إنَّ المطالب الإصلاحية هي الطعم الذي يقدّم في الفتنة، ولكنّهم لا يسمحون له بأن يأخذ دوره ويصل به إلى النهايات ثمّ يجمِّدونه لوقتٍ آخر.
إنَّنا نتصوَّر أنّ المسألة لا تزال تدور في المجالات الدولية والإقليمية التي تعمل على تحريك ضغوط وضغوط أخرى، وإنَّ المسألة هي أن تمسك أميركا بكلّ الساحة اللبنانية في الموقف السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري والأمني من أجل أن تتكامل الساحة اللبنانية مع الساحة الإسرائيلية في خدمة أهداف "إسرائيل" من جهة، وخدمة أهداف الاستعمار العالمي من جهةٍ أخرى، هذه هي نظرتنا إلى المسألة، وسوف تجدون القضية في المستقبل الذي نرجو أن لا يحمل لنا ذلك، وإنَّ علينا أن نعمل في سبيل أن نقف في وجه ذلك، لأنَّ المشكلة لن تكون أكثر ألماً وأكثر تأثيراً في هزيمة واقعنا من الحلّ الذي يراد له أن يعيش على صورة الذين صنعوا المشكلة. هذه نقطة يجب أن نواجهها جيّداً.
تخطيط للفتنة
وهناك في ساحتنا العامّة تخطيط للفتنة، يتحرّك في اتّجاه أن ينطلق المجاهدون والمقاومون من أجل أن يعيشوا الأحقاد في ما بينهم، وأن يعيشوا الخلافات التي تجعل من الأخ عدوّاً لأخيه، وتجعل من السّاحة ساحةً للأوضاع السلبية في حركة الموقف الواحد(1). إنَّنا ندعو كلّ إخواننا وكلّ أهلنا إلى أن يواجهوا أيّة مفردة من مفردات الفتنة بالأسلوب الإسلامي {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34] وأن يواجهوها عندما تكون أيّ قضية من القضايا التي يتّهم فيها فريق فريقاً آخر أو هذا الفريق فريقاً آخر، أيّة قضية من القضايا التي تثير الاجتهادات والخلافات، ارجعوا إلى كلام الله {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 36] وإلى كلمة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): "أمّا أنّه ليس بين الحقّ والباطل إلاّ أربع أصابع، فسئل (عليه السلام) عن معنى قوله هذا فجمع أصابعه ووضعها بين أذانه وعينه ثمّ قال: الباطل أن تقول سمعت والحقّ أن تقول رأيت"(2)، وعليكم أن تنتبهوا إلى أنّ المخابرات المتنوّعة سواء كانت مخابرات أميركية أو صهيونية أو رسمية لبنانية أو عربية مناوئة للاتجاه الإسلامي التحرّري أو لبنانية حزبية، تجد في كلّ مواقع الخلاف والنزاع مجالاً لبث الإشاعات ومجالاً لتوتير الأعصاب ومجالاً لإثارة العصبيّات، لهذا ارجعوا إلى كتاب الله عندما تسمعون شيئاً عن أيّة جهةٍ كانت، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات : 6] لا تجعلوا عقولكم في آذانكم بل اجعلوا عقولكم في قلب إيمانكم وعلى خطّ قرآنكم، استمعوا إلى الناس ثمّ قولوا لهم لقد سمعنا وعلينا أن ندقِّق في ما قلتموه، وعلينا أن نحقّق في ما سمعنا لأنَّ الله يقول لنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ...} [الحجرات : 12] ولأنّ رسول الله قال لنا ما قاله لبعض أصحابه وهو يقول له: يا رسول الله قد أدعى للشهادة، قال: "على مثل هذه ـــ وأشار إلى الشمس في وقت الضحى ـــ على مثل هذا فاشهد أو دع الشهادة. عندما نلتزم خطّ القرآن، علينا أن لا نحكم بغير علم، وأن لا نقبل قولاً بغير علم، وأن لا نأخذ انطباعاً عن غير علم، فسنعرف كيف نتفاهم، وسنعرف كيف نواجه كلّ مخطّطات المخابرات، وسنعرف كيف نضبط الساحة، وسنعرف كيف نصل إلى الحقّ لنقول الحقّ ضد كلّ مَنْ سار في طريق الباطل أنّى كانت صفته حتّى لو كان من أقرب الناس إلينا أو من أحبّ الناس إلينا، لأنَّ الله يقول: {... وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام : 152] لننطلق من موقع العدل الذي يحمل أدواته الحقيقيّة، وبذلك نستطيع أن نمنع الفتنة. القضية كلّ القضية أن لا تكونوا وقوداً للفتنة التي يريد أن يثيرها الكثيرون من صانعي الفتنة ومن موظّفي الفتنة ومن حرّاس الفتنة.
أيُّها المسلمون، أيّها المؤمنون، إنَّ وحدة الساحة في مواجهة الكفر والاستكبار والصهيونية أمانة الله في أعناقكم، فعليكم أن تحفظوا هذه الأمانة بالكثير من الإيمان وبالكثير من الوعي وبالكثير من الصبر وبالكثير من دراسة الموقف على أساس ما يحبّه الله ورسوله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
الحسين (عليه السلام) تاريخاً وأمثولة(*)
عندما نستذكر الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم ولادته، فإنّنا نستذكر هذا الطفل الذي كان الولد الثاني لعليّ وفاطمة، وكان السبط الثاني لرسول الله. نستذكر هذا الطفل الذي عاش في أحضان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والذي عاش في كلّ الجوّ الروحيّ الذي كان يعيشه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وبهذا فقد كان يأخذ من رسول الله من خلال الجوّ، ومن خلال العاطفة، ومن خلال الروحية، ومن خلال ما كان يحدّق فيه برسول الله؛ كيف ينطلق في مواعظه وكيف يبتهل في صلاته وكيف يخرج إلى الجهاد ويرجع إلى الجهاد. طفل كانت سنواته محدودة ولكنّ عقله كان يختزن ذلك كلّه، وكان الناس يستمعون إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو يهدهد هذا الطفل ويمنحه ويمنح أخاه كلّ الرعاية، وكلّ العناية، كانوا يستمعون إلى رسول الله وهو يقول عنه وعن أخيه: "الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنّة"، "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، "حسين منّي وأنا من حسين، أَحَبَّ الله مَنْ أَحَبَّ حسيناً"، كانوا يستمعون إلى ذلك وكان الناس يتطلَّعون إلى مستقبل هذين الطفلين، ورسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يخبرهم عن مستقبلهما وكانوا يركّزون على الحسين (عليه السلام).
الحسين (عليه السلام) وصدام الواقع
ومرَّت الأيام، وانتقل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى الرفيق الأعلى، وانتقلت فاطمة إلى رحاب الله، وانتقل الإمام عليّ (عليه السلام) من خلال الشهادة في محراب الله إلى رحاب الله، ومرَّت ظروف الإمام الحسن (عليه السلام) ولاقى وجه ربّه، وجاء الحسين (عليه السلام) بعد أن كان الإعداد لثورته مخطّطاً بدقّة، وكان يريد أن يهزّ الواقع، الذي كان واقعاً منحرفاً لا يحمل أيّة صورة مُشرقة عن الإسلام، بل كان يحمل صورة مشوّهة عن واقع الحكم آنذاك وواقع الشخصية التي تتربَّع على سدّة الحكم وواقع النظام وهو يتحرّك بطريقة لا تنطلق من خطّ الإسلام ومن هدي الإسلام. وشَعَرَ الحسين (عليه السلام) وهو الإمام، الذي ركَّز رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إمامته في كلماته، شَعَرَ بأنّه مسؤول عن الانطلاق بالثورة من أجل أن يصدم ذاك الواقع، ولم يكن الحسين يجهل أنّ القوى المسيطرة الموجودة في السّاحة، هي قوى متجمِّعة حول الحكم وحول غنائمه وملذّاته. كان يشعر بأنّها تمثّل قوّة كبيرة في السّاحة، وكان يعرف أنّ الذين يثبتون أمام الإغراء فلا يسقطون أمامه، والذين يثبتون أمام التخويف فلا يسقطون أمامه، هم قليلون وأنّ الأكثرية من الناس هم التي تشغلها ملذّاتها وشهواتها عن ربّها وعن دينها وعن القيادة الصالحة في السّاحة. كان يعرف أنّ هؤلاء الذين يتحرّكون على أساس أن يلبُّوا حاجاتهم كثيرون، وأنَّ الذين يصمدون لمصلحة الرسالة قليلون. قالها الإمام الحسين (عليه السلام)، الكلمة التي لا تزال تتحرّك على مدى الأجيال لتشير إلى أنّ الأكثرية غالباً ما تكون مع الدنيا، وأنَّ الأقليّة تكون مع الآخرة، وأنّ الناس متديّنون إذا لم يقترب الدين من أموالهم، ومتديّنون إذا لم يقترب الدين من شهواتهم، ومتديّنون إذا لم يقترب الدين من امتيازاتهم، ومتديّنون إذا لم يقترب الدين من عواطفهم، ومشاعرهم وعلاقاتهم. فإذا جاء الدين واقترب من ذلك كلّه رفضوا الدين أو أوّلوه لمصلحتهم، أو انحرفوا به عن خطّه، أو حرَّفوا الكَلِمَ عن مواضعه. قالها الحسين (عليه السلام): "النَّاس عبيد الدُّنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم"(1)، الناس مع الدين ما دامَ الدين يعطي سمناً وعسلاً وزبدة وما إلى ذلك. ولكن للدين طعماً مرّاً، فالصبر مرّ، والتضحية مُرّة، والتعقيدات والمشاكل مُرّة، وكثير من الناس يرفضون الدين على هذا الأساس لأنّهم يكتفون بالشكليّات، "النَّاس عبيدُ الدنيا والدينُ لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت معايشهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديَّانون"(1).
التديّن في وقت الشدّة
ولهذا المسألة ليست هي أن تكون متديِّناً في وقت الرّخاء بل أن تكون متديِّناً في وقت البلاء، الحسين تلميذ القرآن وتلميذ رسول الله وتلميذ عليّ وفاطمة، القرآن يقول: {ألم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 ـــ 2 ـــ 3]. الله يعلم، لكنّه يظهر الصادقين من الكاذبين. كان الحسين (عليه السلام) يدرك المسألة جيّداً، ولهذا لاحظنا في ما ترويه سيرته (عليه السلام) أنّه كان يغربل، خرج من مكّة ومعه خلقٌ كثير، حتّى إذا كان لبعض المواقع في الطريق حدَّثهم، "خُطَّ الموت على وُلْد آدم مخطَّ القِلادة على جِيد الفتاة". ثمّ قال لهم في ما يُرْوى: "خُيِّل لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي هذه تُقَطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء"، وفهموا أنّ القضية ليست رحلة مُلْك يُطلَب ليفكِّروا كيف يحصلون على مغانم الملك، ولكنّها رسالة تضحية وتحرّك في خطّ التضحية، وإمام يضحّي ويتحرّك في خطّ الشهادة، وتفرّق عنه الكثيرون ممّن ينطلقون مع القيادات عندما تكون لهم أطماع في القيادات. ثمّ قال لهم: "إنِّي لم أخرُج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مُفْسِداً ولكن خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمَّةِ جدّي، أُريدُ أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، فَمَن قَبِلَني بقبول الحقّ فالله أولى بالحق، ومَن ردّ عليّ أصبر حتى يحكم الله وهو خيرُ الحاكمين"(2).
وانطلق في الطريق، وصَدَقَ ظنّه، وكان أهل الكوفة قد أرسلوا إليه رسائل تُعدّ بالآلاف، أنْ "أَقْدِم فقد أينعت الثِّمار واخْضَرَّ الجناب، وإنّما تقدَّم على جنودٍ لكَ مجنَّدة"(1) وكان خبر مسلم بن عقيل لم يبلغه، والتقى بالفرزدق وقال له الفرزدق وقد سأله الإمام (عليه السلام): كيف تركتَ الناس في الكوفة؟، قال له: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك". عندما تدعوهم القيادات المنحرفة إلى أن يحاربوك ـــ القيادات التي تعطيهم مالاً وتعطيهم جاهاً وتعطيهم شهوات ـــ فإنّهم يغلقون قلوبهم، ولا يفتحونها على حبّك، ويجرِّدون سيوفهم من أجل أن يقتلوك بها، وتلك قصّة الناس في كلّ زمان ومكان. وهناك الكثير من النماذج، قصّة الناس أنّهم يحبُّون أهل الخير ولكنّهم يحبُّون المال أكثر من ذلك. يحبّون الله ورسوله، ولكنّهم يحبّون الأطماع أكثر من ذلك.
وانطلق الحسين (عليه السلام) في درب الشهادة، وأغفى إغفاءة كان يقول بعدها إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ويسأله ولده الشاب علي الأكبر: لِمَ استرجعت يا أبتاه، قال: عنَّ لي فارس وأنا في إغفاءتي يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير خلفهم، فعلمتُ أنّها نفوسنا نُعِيَتْ إلينا. فقال عليّ الأكبر (عليه السلام): يا أبتاه وما همّ، أَلَسْنا على الحق؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده إنّ طريقنا طريق حقّ لا مجال فيها للباطل، لسنا في شكٍّ من أمرنا، نحن متيقّنون بأنَّ الطريق هي طريق الله وطريق رسول الله وطريق الحقّ، قال: إذاً لا نُبالي أن نموت محقّين. القصّة هي ليست أن تموت أو لا تموت، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر : 30]، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ...} [الأنبياء : 35]، ليست المشكلة أن تفكِّر متى تموت، وبأيِّ أرضٍ تموت، ولكن فكِّر كيف تموت. هل تموت وأنتَ في طريق الله، أم تموت وأنتَ في طريق الشيطان؟ هل تموت على الحقّ، حتّى إذا متَّ استقبلتك الملائكة كما تستقبل كلّ المؤمنين {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد : 24]، أم تموت على الباطل فتسمع الكلمة لهم اللّعنة ولهم سوءُ الدار؟ حدِّد لنفسك الخطّ الذي تتحرّك فيه وأنتَ تموت، هل تموت على أساس الباطل أم على أساس الحقّ؟ مع مَنْ تريد أن تحشر؟ هل تريد أن تُحْشَر مع أولياء الله أم مع أعداء الله كما في دعاء كميل "فلئن صَيَّرْتني للعقوبات مع أعدائك وجمعت بيني وبين أهلِ بلائك وفَرَّقْتَ بيني وبين أحِبَّائك وأوليائك"؟، فكِّر مع مَنْ كنتَ معه، لأنّك ستُحشر مع مَنْ كنت، إذا كنت مع الكافرين ومع الفاسقين ومع الظالمين ومع الطاغين فستُحشر معهم، وإذا كنتَ مع المؤمنين العادلين الطيّبين الصادقين فإنَّك ستُحْشَر معهم. هل تحبُّون عليّ الأكبر؟ تحبُّونه في قلوبكم، لكن وجِّهوا لأنفسكم سؤالاً، هل تحبُّونه في مواقفكم؟ عليّ الأكبر كان يؤكّد أنّه على الحقّ بعدما درس المسألة، ودقَّق، وعَرَفَ ماذا هناك، عرَفَ الباطل، وعَرَفَ الحقّ، فاستطاع أن يعرف الحقّ من الباطل، لا أن تستغرق في موقفك من دون بحث، ولا تدقيق وتقول: أنا على حقّ، لأنَّ مسألة الحقّ مسألة مُشكِلة، لأنَّ كثيراً من الناس يمزجون الحقّ بالباطل.
الجهل يخلق العصبيّة
لهذا فكِّروا في النتائج، ولنفكّر جميعاً مع رسول الله "ما خير بخير بعده النار، وما شرّ بشرّ بعده الجنّة" وسار الحسين (عليه السلام) ووصل كربلاء وتجمَّعت الجيوش حوله ممَّن بعث إليه أنّك سترى منّا جنوداً مجنَّدة، وكان الحسين صاحب رسالة، لم يتعقَّد منهم ولكنّه وقف معهم المرّة والمرّتين والثلاث والأكثر، وهو يخطب فيهم ويعظهم ويذكّرهم بعذاب الله، ولكنَّ القوم ككثير من القوم في زمانٍ آخر، أغلقت عقولهم عن التفكير، لم يُسمَح لهم بأنْ يفكِّروا، لأنّهم وُضِعوا في دائرةٍ يُراد لهم أن لا يفكِّروا فيها، يعني: لا تفكِّر فقط، إمشِ على هذا الخطّ وممنوع أن تفكِّر، لو تكلَّم معك أحد وقال يا فلان تعالَ نتفاهم قل له: لا، ليس هناك تفاهم. إنّك عندما تلتزم أيّ موقع من خلال قناعتك ومن خلال فكرك فستستمع إلى الآخر الذي يلتزم موقفاً آخر من خلال قناعته ومن خلال فكره، لأنَّك أنتَ طالب حقّ، والتزمت بهذا الموقف على أساس أنّك تطلب الحقّ، وعندما يأتي أحدهم ويقول لك: يا صاحبي هناك وجهة نظر أخرى يمكن أن يكون الحقّ فيها، اسمعني، عند ذلك تسمع بقلبٍ مفتوح وعقلٍ مفتوح وأُذن مفتوحة، وعند ذلك لا تتعصَّب، لأنَّك طالب حقّ، لكن إذا كنتَ شخصاً لا تعي شيئاً "سَكَّروا لك بالمفتاح باب عقلك" قالوا لك فكِّر هكذا، والتزم هذا، ثمّ شحنوا قلبك بالبغض والعداوة، ثمّ وضعوك في ساحة محدودة، فإنَّ الجهل هو الذي يخلق العصبية، المتعصّبون جاهلون، أمّا العالمون فهم ملتزمون لا يتعصّبون، وفرق بين الالتزام والعصبية، أنتَ متعصّب إذا كنت غير مستعد لأن تسمع وجهة النظر المخالفة، أمّا وأنتَ ملتزم فإنّك تلتزم استماع وجهة النظر الأخرى وتحدِّد بعدها إنْ كنت على قناعة بها أم لا.
الإمام الحسين (سلام الله عليه) عندما واجَه هؤلاء القوم واجَهَ قوماً، أغلقت الأموال عقولهم وقلوبهم ومواقفهم، لهذا كان يحاورهم ويدعوهم إلى الحوار، وهم يقولون: لا نفهم ما تقول، إنزِل على حكم من بني عمّك. لو تكلّمت صبحاً ومساءً لن تجد عندنا غير هذه الكلمة، فنحن غير مستعدّين للتفاهم وغير مستعدّين لأن نتحاور. هذا موقف؛ وهناك مواقف مماثلة تحتاج أن تدرسوها، مشكلتكم أنّكم جمّدتم كربلاء، أصبحت مجرّد قارئ عزاء أُمّيٍّ أو شبه أُمّيٍّ، المهمّ أنّ عنده صوتاً جيّداً يُبكي الناس، ولكنّه لا يعرف أن يعطيك دروساً لتفهم واقعك من خلال ما كان يعيشه الحسين (عليه السلام)، ولكن عندما نفهم فلسفة موقف الحسين نعرف عظمة الحسين، وعندما نفهم عمق الثورة الحسينية نفهم عظمة الحسين (عليه السلام). عند ذلك قال لهم: "لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد"(1)، أنا الحسين الحرّ، سيّد الأحرار، لا يمكن أن أوَقِّع لكم على شيء لا أرتضيه، "ألاَ وإنَّ الدّعيّ ابن الدعيّ قد رَكَزَ بين اثنتين بين السِلَّةِ والذلّة وهيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجورٌ طابَت وأرحام طَهُرَت من أن تؤْثَر طاعة اللّئام على مصارع الكِرام"(2).
خيار العزّة
هذا هو الخطّ الحسيني، إنّك عندما تقف أمام الخيار بين أن تكون ذليلاً أو عزيزاً، بين أن تكون ذليلاً مع الحياة أو أن تكون عزيزاً مع الموت، عليكَ أن لا تختار الذلّة لأنَّ الله أرادك أن تكون عزيزاً، وهكذا بقي الحسين (عليه السلام) في موقفه، وكان يعرف كما قلنا في البداية أنّ النصر بالمعنى المادي ليس وارداً في حساباته، لهذا حدَّث أخته العقيلة زينب (عليها السلام) وبكت ليلة العاشر وحدَّث أصحابه وحدَّث أهل بيته (عليه السلام) ـــ في ما يروى ـــ جَمَعَهُم ليلة العاشر، وأخبرهم وقال لهم: إنَّ القوم لا يريدون غيري فانطلقوا في هذا اللّيل واتّخذوه جَمَلاً، اركبوا اللّيل كما تركبون الجمل لا يراكم أحد. وليأخذ كلّ واحدٍ منكم بيد رجل من أهل بيتي لأنَّ أهل البيت لا يعرفون البلاد هناك باعتبارهم حجازيّين، فإنَّ القوم لا يريدون غيري، أنا سأموت، فلماذا تموتون معي؟ ووقف أولئك، وقفت الأقليّة التي كانت تجابه الأكثرية ولكنّها أقليّة الإيمان والإسلام والتقوى والإخلاص والتضحية في سبيل الله، أمام الأكثرية التي تختزن الضلال والفساد والأطماع والعمل في سبيل الشيطان، ووقفوا وقال له العباس: ولماذا نبقى بعدك يا أبا عبد الله، وقال له زهيرُ بن القَيْن: لَوَدَدْتُ أنّي قُتِلْت ثمَّ أُحْرِقْت ثمّ أحييتُ يُفْعَلُ بي ذلك ستّين أو سبعين مرّة وأنَّ الله يرفع عنك القتل ما توانيتُ عن ذلك. وهكذا عاشوا وهم يترقَّبون الموت في اليوم التالي، وكانوا يعيشون مع الله كما كان الحسين (عليه السلام) يعيش مع الله، باتوا ليلة عاشوراء بين قائمٍ وقاعدٍ وراكعٍ وساجدٍ وقارئٍ للقرآن، كان هذا جوّهم، هذا جوّ الجيش المسلم، هذا جوّ المقاتِل المسلم الذي لا ينفصل عن الله في أيّ وقت. وهكذا عندما حان وقت الصلاة، وقد سَقَطَ بعض أصحاب الحسين، جاء شخص إلى الحسين (عليه السلام) وقال له: يا بن رسول الله لقد حانَ وقت الصلاة وإنّي أحبّ أن لا ألقى الله إلاّ وقد صلّيت هذه الصلاة، أريد آخر عمري أن أعرج إلى الله بصلاتي، ثمّ أعرج إليه بروحي، هكذا هم أصحاب الحسين (عليه السلام) هم المصلُّون، وأمّا الذين لا يصلّون فليس الحسين ولا أهل بيته ولا أصحابه منهم في شيءٍ حتّى لو عملوا ألف مجلس عزاء، وقال الحسين: نعم ذكرتَ الصّلاة جَعَلك الله من المصلّين، وصلَّى، والسِّهام من كلِّ جانبٍ تَتْرَى عليه، وسَقَطَ الذي كان يقف أمامه وأكمل الحسين المسيرة، وعندما أراد أن يلقى وجه ربّه قال آخر كلماته: "بسم الله وبالله وعلى مِلَّةِ رسول الله"، هذه الكلمة التي لا بدّ أن نعيشها، لن يقولها الإنسان بصدق إلاّ إذا كانت حياته باسم الله وفي سبيل الله وعلى مِلَّةِ رسول الله، سيقولها قبل أن يموت وسيقولها في قبره، ولكنّ الإنسان الذي كانت حياته بعيدة عن الله وعن رسول الله حتّى لو جاء الملقّن ليقول له اسمع يا فلان إذا جاءك المَلَكان وسألاك مَنْ ربّك؟ قل الله ربّي، لن يسمع ذلك لأنّه لم يكن يسمع ذلك في الحياة الدنيا، ليست كلمة يقولها الملقّن ولكنّها موقف تقوله حياتك، أن تبدأ كلّ حياتك باسم الله، وأنْ تتحرّك في كلّ حياتك على ملّة رسول الله، عند ذلك تكون مثل عليّ عندما قالها، ومثل الحسين (عليه السلام) عندما قالها، وقبل ذلك مثل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما قالها، وهكذا رأينا أنّ الحسين (عليه السلام) واجَهَ الشهادة، لأنّه أراد أن يصدم الواقع ليحرّك الواقع الذي عاشه وليحرّك قواعد المستقبل، كان يقول لهؤلاء الذين وقف أمامهم من الطغاة، إذا كنتم تسيطرون على الحاضر فسأنسف المستقبل الذي تتطلَّعون إليه، وكان يقول للأجيال اللاحقة: ستمسكون ذلك المستقبل وستصنعون في وعي الأُمّة روحاً جهادية مصبوغة بالدّماء وستسقطون كلّ العروش الظالمة. وسقطت العروش بعد ذلك. هذا هو درس الحسين (عليه السلام)؛ أن لا يسقطكم الحاضر، فكِّروا أنّكم مسؤولون عن الحاضر ومسؤولون عن المستقبل بمقدار ما تستطيعون أن تهيّئوا للمستقبل من قوّة من خلال مواقفكم في الحاضر، في مقابل الناس الذين يهدمون المستقبل للأُمّة على أساس أن يحقِّقوا لأنفسهم راحة في الحاضر.
الحسينيّون هم الذين يفكّرون أن يعطوا الكثير من جهدهم وجهادهم في الحاضر، من أجل أن يرسموا لأولادهم مستقبلاً لا يضطرون فيه لأن يقبّلوا أعتاب الطغاة.
والحمد لله ربّ العالمين
كيف ننتظر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف)(*)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ*وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص : 5 ـــ 6] في هاتين الآيتين حديث عن وعد الله للمستضعفين ووعد الله للمؤمنين. وهناك أكثر من حديث عن وعد الله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور : 55] وعد الله للمؤمنين العاملين بالصالحات ووعد الله للمستضعفين الذين يعيشون حياتهم على أساس الضغوط التي يمارسها المستكبرون عليهم، سواء كانت ضغوطاً ثقافية أو سياسية أو أمنية، أو ما إلى ذلك من ألوان الضغوط. إنَّ الله يعدهم بأن يمسكوا زمام الأرض. وأن يمسكوا بحكم الحياة، وأن تكون لهم القوّة الكبيرة في كلّ الواقع الذي يعيشون فيه.
إمكانية حدوث الغيبة الطويلة
في هذه الأجواء، نطلّ على العقيدة الإسلامية التي ارتكزت على أساس الاعتقاد بالإمام المهدي(1) (عجَّل الله فرجه الشريف) الذي حدّثنا رسول الله وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) عنه أنّه "يخرج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً"، وعند ظهور الإمام سينتشر الإسلام في كلّ الأرض وفي كلّ الحياة. والمسلمون في أغلبيّتهم متّفقون على عقيدة المهدي وليس هناك خلاف بينهم حول هذه المسألة وإنْ حَدَثَت بعض الخلافات أخيراً من ناحية تسييس المسألة في دائرة بعض الأوضاع السياسية المعيّنة في المنطقة. يتّفقون على الإمام المهدي، ولكنّ هناك خلافاً على شخصيّته، مَنْ هو، وهل وُلِد أم لم يولَد. هذه هي المسألة التي وَقَعَ الجدل حولها في الدائرة الإسلامية، فالمسلمون الشيعة أتباع آل البيت (عليهم السلام) يَرْوون عن أئمّتهم أنّه وُلِدَ وأنّه الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، ويستنتجون من حديث رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في ما يرويه المسلمون جميعاً، وهو حديث الثقلين، "إنّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنَّهما لن يفترقا حتّى يَرِدا عليَّ الحوض"(2)، وهو ما يعني أنّ الكتاب ما دام موجوداً فهناك شخص من العترة موجود، ولهذا فلا بدّ أن يستمرّ ذلك وأن لا تنقطع الحالة الزمنية بين فترةٍ وأخرى في هذا المجال.
هناك كلمات تقال في قضية طول العمر وفي بعض الجوانب الأخرى، ولكنّنا نريد أن نؤكّد المسألة من ناحية مبدئية، وهي أنّ المسألة عندما تثبت عندنا من طريق رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومن طريق أوصيائه الذين هم أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بطريق قطعي، لا شكّ فيه ولا ريب، فلا بدّ أن نعتبر أنّ المسألة تمثّل الحقيقة في العقيدة على هذا الأساس. ثمّ بعد ذلك عندما نجد في المسألة بعض الغيب ممّا قد لا يدرك الإنسان تفاصيله في مسألة حكمة الله في ذلك، فإنّنا نلتزم بذلك، ونحاول أن نلاحق الاحتمالات التي توصلنا إلى النتائج الحاسمة إنْ أمكننا ذلك. هذا من جهة ما ثبت من رسول الله سواء كان في دائرة الغيب أو كان في دائرة الحضور والحسّ، فلا بدّ من أن نؤمن به على أنّه حقيقة إيمانية، لأنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ـــ 4] فما يبلّغه ويثبت عنه بطريقة قطعية فهو الحقيقة، فإذا كانت غيباً فإنّنا نؤمن بالغيب، وإذا كانت حضوراً فإنّنا نواجه هذا الحضور. هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، إنَّ مسألة العمر الطويل هي من المسائل التي لا يرفضها العقل، فالعقل لا يمنع أن يعيش الإنسان وقتاً طويلاً إلى ما شاء الله ما دامت أجهزته تستطيع أن تستمرّ، والنظريّات العلمية التي تبحث الآن في المسألة الإنسانية وفي مسألة طول العمر لا ترى مانعاً مبدئياً من أن يعيش الإنسان مدّة طويلة إلى ما شاء الله، ولكنّ العلم يقول لم نستطع حتّى الآن أن نصل إلى الأُسس أو النظريّات التي نستطيع من خلالها اكتشاف سرّ تجدُّد الخلايا واستمرارها، وإذا اكتشفنا ذلك، فيمكن أن يطول عمر الإنسان، إلى أَمَد طويل، فالعلم لا يمنع، ولكنّه يقول لم أستطع أن أصل إلى السرّ الذي يمكنني من خلاله أن أتحرّك في اتّجاه تحويل الموضوع إلى أمرٍ واقعي في هذا المجال. العقل لا يمنع والعلم لا يمنع والقرآن يثبت لنا عمراً لأحد أنبياء الله أنّه لبث في قومه ألف سنةٍ إلاّ خمسين عاماً، قبل الطوفان كانت ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ولا ندري كم عاش بعد ذلك، الذي يمكن أن يعيش ألف سنة إلاّ قليلاً، يمكن له أن يعيش الألف الثاني وما إلى ذلك، لأنَّ الأشياء إذا بدت ممكنة في هذه الدائرة فإنّها تكون ممكنة في الدائرة الأخرى. فالقرآن الكريم يؤكّد أنّ مسألة طول العمر ليست من المسائل المستحيلة، وحتّى إنّها ليست من المسائل البعيدة في ما حدَّثنا به عن نوح، ونحن في عصرنا هذا نسمع كثيراً من الأحاديث عن أُناس عاشوا مئتي سنة، أو عاشوا ثلاثمائة سنة. عندما يمكن حصول ذلك في هذا الحجم، تصبح المسألة ممكنة. وقدرة الله فوق ذلك كلّه. المسألة إذاً تعتبر من الحقائق الإسلامية التي يمتزج فيها الجانب الغيبي بجانب الحضور والحسّ.
وُلِدَ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) كما يولَد كلّ الناس، وغاب بإرادة الله وبعلم الله، وأخبرنا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والأئمّة من بعده بأنّه سيظهر ليملأ الأرض قِسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً، وعندما نريد أن نؤكّد المسألة الغيبية في العقيدة فإنَّ علينا أن نفهم أنّنا عندما نؤمن بالغيب فإنَّ الغيب يرتكز على العقل، ويرتكز على النقل، يعني كيف نؤمن بالغيب، نحن الآن مثلاً نؤمن بالجنّة والنار، نؤمن بالآخرة من دون أن نشاهد الآخرة، ونؤمن بالملائكة من دون أن نراهم، ونؤمن بكثير من الأشياء المحسوسة لدينا، كيف آمنّا بها؟ آمنّا بها في البداية من خلال أنّنا بحثنا: هل هذا الأمر ممكن، أم غير ممكن؟ هل هو مستحيل أم ليس مستحيلاً؟ مثلاً هل يمكن أن يعيد الله الإنسان بعد أن يصير تراباً، هل يمكن أن يخلقه الله أم هذا مستحيل؟ الله القادر على الإيجاد قادر على الإعادة {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ*قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ...} [يس: 78 ـــ 79] إذا كان إخراج الحياة من العدم أمراً ممكناً ومقبولاً فإعادة الحياة بعد أن تتحوّل إلى عدم أمر ممكن أيضاً، لأنَّ القادر على هذا قادرٌ على ذاك. بل إنَّ عملية الإعادة أهون من عملية الخلق لأنَّ عملية الخلق هي عملية إيجاد من دون نموذج، من دون مثال، بينما عملية الإعادة هي عملية خلق على أساس النموذج الذي كان. فعملية الإيجاد عملية إبداع وعندما يعيدها، يعيدها بعد أن صَنَعَ المثال.
بعد أن أثبتنا أنّ المسألة ممكنة من الناحية العقلية وأنّ العقل لا يرفض ذلك، قلنا من يثبت لنا ذلك، هذا ممكن لكن ليس كلّ ممكن يصير موجوداً. هناك أشياء ممكنة لكنهّا لم توجد، كيف نثبت اليوم الآخر، كيف نثبت أنّ هناك جنّة وناراً. نقول: جاءنا الأنبياء وحكَّمنا عقلنا في تصديقهم، أيضاً النبي ليس مجرّد إنسان نؤمن بنبوّته من خلال صداقتنا له، أو محبَّتنا له، نؤمن بنبوّته من خلال الأدلّة القاطعة على نبوّته، إمّا من طريق المعجزة، التي هي على شكل معجزات الأنبياء السابقين موسى ـــ عيسى وإبراهيم (عليهم السلام)، أو بالنسبة إلى معجزة القرآن أو الأشياء الأخرى التي تمثّل صدق رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). فبعد أن أثبتنا أنّ رسول الله هو رسولٌ من الله وأنّه صادق في ما يخبرنا، جاء رسول الله وأخبرنا أنّ هناك جنّة وناراً من خلال كتاب الله، وأخبرنا رسول الله من خلال كتاب الله أنّ هناك ملائكة، وأخبرنا أيضاً أنّ هناك مهدياً يخرج آخر الزمان، فنحن آمنا بالغيب على أساس أنّ الإيمان بالغيب ارتكز على الإيمان بالحسّ من خلال تصديق رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ومن خلال الدليل الذي دلَّنا على أنّه نبيّ من عند الله. لهذا مسألة الغيب ليست مسألة معلَّقة بالهواء، أو نؤمن بها افتراضاً، بل لا بدّ أن يرتكز الإيمان بالغيب على حقيقة علمية أو عقلية على الطريقة التي بيَّناها، ونحن آمنّا بالغيب لأنّنا آمنّا برسول الله وصدَّقناه وأخبرنا رسول الله عن ذلك. ولما كان هذا الأمر ممكناً، فقد آمنّا به.
هذه نقطة يجب أن تكون مفهومة عندنا في العقيدة الدينية، لأنَّ كثيراً من الناس مثلاً يقولون: نحن لا نستطيع أن نفهم، كيف نؤمن بالغيب لأنَّ الإيمان بالغيب لا أساس له. نقول: لا، الإيمان بالغيب له أساس من العقيدة نفسها. ولهذا فالعقيدة الإسلامية تحتاج إلى عملية تدرُّج، والإيمان بالله لا يحتاج إلى أن يأتي نبيّ ويقول لك آمن بالله وانتهى. الإيمان بالله تعرفه من خلال تفكيرك بالكون كلّه، وتفكيرك بنفسك. الإيمان برسول الله يكون من خلال الأدلّة التي تدلّ على أنّه رسول الله من عند الله. إذا آمنت برسول الله فقد آمنت بالله وهذا رسول الله وهو يطّلع على ما أطلعه الله عليه، يخبرنا عن الله، فلا بدّ لنا أن نصدّق الله في ما أخبرنا به رسوله وبكلّ الأشياء التي نراها وبكلّ الأشياء التي لا نراها، وبهذا نعتبر الإيمان في العقيدة الإسلامية إيماناً عقلانياً وليس إيماناً أعمى، بل هو إيمان ينطلق من حقيقة ومن قاعدة.
التمسُّك بالقرآن
نقطة ثانية نريد أن نعالجها، هي أنّ مسألة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) في ما قُدِّمت لنا في كلام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ننطلق فيها في خطّين لأنَّ هناك خطّين لأنَّ هناك كلمتين لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، الكلمة التي يحدّثنا فيها عن التمسّك بالقرآن وعن التمسّك بالعترة، والكلمة التي أخبرنا فيها عن المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف). الكلمة الأولى التي يحدّثنا فيها عن الثقلين الكتاب والعترة. "إنّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنَّهما لن يفترقا حتّى يَرِدا عليَّ الحوض"(1)، هذه المسألة تعطينا فكرة أنّنا على مدى التاريخ كمسلمين لا بدّ لنا أن نلتزم بالقرآن، لا نستبدل به غيره، وأن نلتزم بأهل البيت (عليهم السلام) الذين لا يفترقون عن القرآن في فكرهم وفي سيرتهم وفي حياتهم، فدائماً هناك الخطّ وهناك القيادة، القرآن يمثّل الخطّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يمثّلون القيادة الأمينة الصالحة التي ترعى حركة القرآن في حياة الناس، والتي تحفظ المفاهيم من الانحراف ومن الزيغ والزلل. على هذا الأساس لا بدّ لنا في خطّ السير دائماً من أن ندقِّق في كلّ مسيرتنا الفكرية والعملية: هل نحن متمسِّكون بالقرآن أم لا، إنَّ التمسّك بالقرآن هو التمسّك بكلّ ما فيه من مفاهيم، ومن شرائع، ومن مناهج، ومن وسائل ومن أهداف ومن تخطيط للعلاقات، هذا معنى التمسّك بالقرآن، ليس معنى التمسّك بالقرآن هو أن تحمله على صدرك كرمز أو تضعه في بيتك كواجهة أو تقرأه قراءة غير مركّزة؛ الله أرادك أن تتمسّك بالقرآن بأن تجعله الهدى الذي تهتدي به إذا ضلَّ الناس وضاعوا، وأن تجعله النور الذي تستضيء به إذا أطبقت الظلمات عليك، وأن تجعله الإمام الذي تأتمر به، بأن تجعل القرآن أمامك وتسير وراءه، فلا تتكلَّم بكلمة إلاّ إذا وافقت كلام القرآن، ولا تنطلق في عملٍ إلاّ إذا وافَقَ القرآن.
قيادة أهل البيت (عليهم السلام)
ثمّ بعد ذلك لا بدّ لك أن تلتزم بالقيادة الثانية وهي قيادة أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم أُمناء الرسل وأُمناء الله في حلاله وحرامه، لتكون قيادتك منطلقة في خطّ قيادتهم، فإذا كانوا في حضورهم فالتَزِمْهُم، وفي غيبتهم التَزِم مَنْ يمثِّلونهم "مَن كان مِنَ الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالِفاً هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يُقلِّدوه"(1). أو الأحاديث التي تقول، "وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حُجَّةُ الله عليهم"(2)، أو الأحاديث العامّة، "العلماء وَرَثَةُ الأنبياء"(3)، "الفقهاء أُمَنَاء الرسل ما لم يدخلوا في الدُّنيا، قيل يا رسول الله وما دخولهم في الدُّنيا، قال: "اتّباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على أديانكم"(1)، "إذا رأيتم العالم محبّاً للدُّنيا فاتّهموه على دينكم فإنَّ كلّ محبّ يحوط ما أحبَّ"(2).
إذاً، في غيبة الإمام (عجَّل الله فرجه الشريف) العلماء المجتهدون العدول الورعون المنفتحون على الرسالة الإسلامية والذين يتحرّكون على أساس خطّ الإسلام، هم الذين ينبغي أن نركّز القيادة في وجودهم، وفي حركتهم، وفي عملهم بالمستوى الذي يتطابق مع القرآن، لتسير القيادة مع القرآن فتتكامل عندنا النظرية التي يقدّمها إلينا القرآن، فلا نظرية لنا في الجانب الفكري والجانب السياسي والجانب الاجتماعي والجانب الاقتصادي والجانب الأمني، إلاّ النظرية القرآنية، بل الحقيقة القرآنية التي هي كلام الله. وكذلك لا قيادة لنا إلاّ القيادة التي تجعلنا نعمل على أساس أن يكون الإسلام هو خطّنا وعلى أساس أن يكون رضى الله هو هدفنا، ليكون التكامل مع أولياء الله والتنافر مع أعداء الله هو الواقع الذي يحدِّد لنا علاقاتنا في الحياة. وهذا ما نستوحيه من كلام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ليس معنى التمسّك بالأئمّة أن تتمسّك بهم تمسُّكاً عصبياً، أن تهتف باسمهم أو تتحرّك فقط لتحدّث الناس عن فضائلهم، بل أن تتحرّك في خطّهم، الإمام عليّ (عليه السلام) في حضوره حدَّد للناس في زمانه معنى الارتباط به كإمام، "ألاَ وإنَّ أمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، إلاّ وإنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفّة وسداد"(3). هذا هو الخطّ؛ أن يكون عليّ (عليه السلام) إمامك، أن تكون وَرِعاً كما كان عليّ (عليه السلام) ورعاً، أن تكون عفيفاً، عفيف اليد وعفيف البطن، وعفيف الفرج، كما كان عليّ (عليه السلام) عفيفاً، أن تكون سديد الرأي كما كان عليّ (عليه السلام) سديد الرأي، وأن تجتهد في طاعة الله، وفي الدعوة إلى الله، وفي الجهاد في سبيل الله، كما كان عليّ (عليه السلام).
أهل البيت قادة الإسلام
أن تقول إنَّ عليّاً إمامي معناه أن تجعل فكر عليّ (عليه السلام)، الذي هو فكر الإسلام وسيرة عليّ (عليه السلام) التي هي سيرة الإسلام وكلام عليّ (عليه السلام) الذي هو كلام الإسلام، أن تجعل كلّ ذلك أمامك وأنْ تتحرّك معه، هذا هو معنى التمسُّك بالعترة، التمسُّك بقيادتهم ومنهجهم وسيرتهم وفكرهم وخطّهم في الحياة، لا التمسُّك بأسمائهم والزيارة لقبورهم والبكاء عند مآسيهم، هذه أمور تندرج في العلاقات الشخصية، أن تزور الأئمّة كما تزور قبور مَن تحبّ من أهلك أو أحبائك، أن تهتف باسم الأئمّة كما تهتف باسم الذين تحبّهم، المسألة ليست كذلك، الأئمّة (عليهم السلام) انطلقوا من خلال أنّهم أوصياء رسول الله في الخطّ الإسلامي. فبقدر ما تكون قريباً من الله أنتَ قريب منهم، وبقدر ما تكون بعيداً عن الله أنتَ بعيد عنهم. قالها الإمام الباقر (عليه السلام): "مَن كان مطيعاً لله فهو لنا وليّ، ومَن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، ولا تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع"(1)، أن تكون ورعاً عمَّا حرَّم الله، هذه نقطة لا بدّ أن نفهمها فهماً جيّداً وواقعياً وإيمانياً.
إنَّ التشيّع عندما تحوَّل إلى حالة من المزاج، وإلى نوع من العصبيّة، وإلى لون من العشائرية الطائفية من دون أن نبحث عن مضمون التشيّع. أهل البيت (عليهم السلام) ليسوا رؤساء عشيرة وليسوا قادة جماعة بالمعنى الشخصي لقيادة الجماعة، أهل البيت (عليهم السلام) هم قادة الإسلام، يتحرّكون حيث يريد الله لهم أن يتحرّكوا في خطّ الإسلام، ويقفون حيث يريد الله لهم أن يقفوا في خطّ الإسلام، ولذا سالَم عليّ (عليه السلام) عندما رأى أنّ الإسلام يفرض عليه أن يُسالِم، وحارَب عندما رأى أنّ الإسلام يفرض عليه أن يحارِب، والإمام الحسن سالَم ووافقه الحسين (عليه السلام) عندما رأى أنّ المصلحة الإسلامية تفرض ذلك، والإمام الحسين (عليه السلام) قاتل وثار وضحَّى عندما رأى أنّ المصلحة الإسلامية تقتضي ذلك. المسألة هي أنّهم يبحثون عن رضى الله كيف يكون ليكون ذلك رضاهم، وعن سخط الله كيف يكون ليكون ذلك سخطهم، ولهذا فعلينا أن نحدِّد المسألة على هذا الأساس، أن لا نأخذ الإسلام أو التمذهب بالتشيّع إطاراً ليفتقد الداخل، بل نأخذه مضموناً يتحرّك على أساس السير في كتاب الله، والسير مع أولياء الله، هذه الكلمة الأولى.
الكلمة الثانية التي جاء بها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو يحدّثنا عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) هي أنّه "يخرج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً". ما معنى ذلك؟ معناه أنّ الحديث يريدنا أن نتطلَّع إلى أنّ الظلم شيء مرفوض، وأنّه يمثّل مشكلة للحياة، ويمثّل مشكلة في الإسلام، وأنّ العدل هو الذي يحلّ المشكلة، وهو الذي يمكن أن يحقِّق النموَّ للإنسان وللحياة. يريدنا أن نتطلَّع دائماً: إذا كانت مسألة المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) هي مسألة أنْ يتحرّك ليقمع الظلم ويبقى العدل هو الأساس في الحياة، لينشر العدل في العالَم وليمحو الظلم في العالَم بإرادة الله وبجهاده وجهاد المجاهدين معه، فكيف يمكن لنا أن نحدِّد موقفنا منها؟ أن نحدِّد موقفنا إذا كنّا ننتظره، فإنّنا ننتظره من أجل أن يحقّق لنا العدل لأنَّنا قوم نحبّ العدل، وإذا كنّا نحبّ العدل ونريده فلا بدّ أن يتحوّل هذا الحبّ للعدل إلى واقع في حياتنا... إذا كنت تحبّ شيئاً وتريد أن تحقِّقه فمن الطبيعي إنّك تعمل على أن تحقّقه في حياتك وفي حياة الناس من حولك، فإذا كنت تحبّ العدل فلا بدّ أن تكون أنت عادلاً في نفسك في ما لك وما عليك، عادلاً مع ربّك في ما لك وما عليك، عادلاً مع أسرتك مع زوجتك في ما لها وما عليها، عادلاً مع أولادك وجيرانك وإخوانك ومَن تتعامل معهم، أن لا تظلمهم في كلمة ولا تظلمهم في ضربة ولا تظلمهم في مال تأخذه منهم ولا تظلمهم في حقّ يستحقّونه عليك؛ هذا معنى أن تكون عادلاً، وإذا كنت غير ذلك فعلى أيّ أساس تنتظر المهدي (عليه السلام)؟ إذا كنتَ رمزاً للظلم في شخصيّتك فأنتَ ممَّن يقمعهم لأنّه يقمع الظلم كلّه، فإذا كانت حياتك تعبّر عن الظلم فكيف يمكن لك أن تنتظره؟ وهكذا أن تتحرّك خطوة ثانية لتكون مع العادلين لا مع الظالمين، لأنّك إذا كنت مع الظالمين؛ تؤيّدهم، تصفّق لهم، تنفّذ خططهم، تقاتل معهم، تعمل أعمالهم، إذا كنتَ كذلك كانوا هم جماعتك وكانوا هم حزبك وكانوا هم الجهة التي تتحرّك فيها. إذا كانت جماعتك من الظالمين فكيف تنتظر ظهوره وهو يريد أن يقمع جماعتك وأن يقمعك باعتبار التقائك معهم في هذا المجال؟ لهذا انتظار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) يعني أنّك تتّخذ لنفسك موقفاً يجعلك في الدائرة التي تتحرّك فيها معه وفي الطريق التي تجاهد فيها معه. أنتَ تريد أن تكون معه؛ ألاَ نقول اللّهم اجعلني من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه، أعوانه أعوان العدل وأعوان الإسلام، أنصاره أنصار العدل وأنصار الإسلام المستشهدون بين يديه هم الذين يستشهدون على أساس رسالة الله وعلى أساس دين الله وعلى أساس ما أراده الله من حماية أوليائه والمستضعفين من عباده، فإذا كنتَ عوناً للكافرين، وإذا كنتَ نصيراً للظالمين، وإذا كنت مقاتلاً مع المنحرفين، فكيف يمكن أن تكون من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه. فكِّروا في المسألة جيّداً، لأنّكم إذا كان تفكيركم على السطح ولم يكن في العمق فقد تفاجؤون بأنّكم من أعدائه ولستم من أنصاره.
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف)
أَلَسْنا كلّنا الآن من جماعة الإمام عليّ (عليه السلام)، ألسنا نقول ذلك؟ لو أنّ الإمام عليّ سلام الله عليه جاءنا في هذا العصر لحاربناه بحسب الواقع الموجود.
كثيرٌ من الناس الذين يلتزمون إمامة عليّ (عليه السلام) حاربوا الإمام الخميني وحاربوا الأشخاص الذين يحملون فكر الإسلام ويواجهون الطغاة ويواجهون الكفر والاستكبار، كثير من الناس يرفضونهم باعتبار أنّهم متطرّفون، ويرفضونهم باعتبار أنّهم متعصّبون ومتزمّتون.. هكذا أغلب الناس.
الآن لو أنّ المسيحيين الذين يقيمون في هذه الأيام الاحتفالات الكثيرة للسيّد المسيح (عليه السلام) بالمناسبات التي يؤمنون بها، لو جاء السيّد المسيح وشاهد كلّ هذا الواقع، واقع الظلم أو واقع الانحراف الأخلاقي الموجود في الساحة أو هذا الجوّ العبثي والانحراف الموجود، لا إشكال في أنّهم سيقفون ضدّ السيّد المسيح وسوف يقولون إنّه جاء من أجل أن يحدِّد حريّاتنا، وجاء من أجل أن يقف أمام حضارتنا وأمام تطلُّعاتنا وما إلى ذلك، ولو جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي يحتفل المسلمون بمولده وبإسرائه وبمعراجه ومبعثه، لو جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الآن ودعا الناس إلى الإسلام لَوَقَفَ الكثيرون من الذين يؤمنون به أمامه وقالوا له إنّ الإسلام "موضة" قديمة، وإنَّ الإسلام حالة رجعية، وإنَّ الإسلام لا يتناسب مع الوضع هنا أو الوضع هناك، لهذا نحتاج إلى أن نفحص أنفسنا.
طريق الخلاص
إذا كنّا نؤمن بحقيقة أنّ طريق الخلاص هو بالسير في هذا الخطّ، إذاً علينا أن نفحص أنفسنا، أنّه لو جاءنا رسول الله ونحن على هذه الحالة فكيف يكون موقفنا معه، لو جاءنا المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) ونحن على هذه الحالة فهل نكون معه أم نكون من أعدائه؟ هذه النقطة يجب أن نفحصها فحصاً دقيقاً.. عندنا آية أخاف منها كثيراً أدرس نفسي في كثيرٍ من الحالات {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 ـــ 104] نحن نقول إنّنا مع أهل البيت، ولكن قد نكتشف أنّنا مع أعدائهم، ونقول إنّنا مع رسول الله وقد نكتشف أنّنا مع قريش التي تتلوَّن بكلّ لون. إذاً لا بدّ أن نلتزم خطّ العدل ونلتزم رفض الظلم، أن نكون في مجتمع العادلين وأن نعمل لتكوين المجتمع العادل، وتكوين المجتمع العادل إنّما هو العمل على تطبيق أُسس العدالة وشريعة العدالة وهي الشريعة الإسلامية، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أراد للعدل أن يتمثّل في رسالات أنبيائه، ولأنَّ الله أرسل رسله بالبيّنات ليقوم الناس بالقسط، وهذا معناه أنّ رسالات الرسل تمثّل خطّ العدل في الحياة؛ فالإسلام هو الذي يمثّل حركة العدل في الحياة وهو الذي يمثّل شريعة العدل، الأحكام الإسلامية هي أحكام العدل، إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان فكلّ أوامر الله هي عدل وكلّ نواهي الله إنّما هي عدل، يريد الإمام المهدي أن يقمع الظلم على هذا الأساس، والله يقول لرسوله {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ*إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18 ـــ 19] إذا كانت المسألة كذلك فعلينا عندما نحرّك العدل وننادي بالعدل؛ أن لا نجعل العدل مجرّد عنوان لا حركة له في الواقع، بل أن نطرح العدل على مستوى النظرية وندعو إلى العدل على مستوى الخطّ والتطبيق، ولهذا فنحن عندما ندعو إلى الإسلام ليلتزمه الناس وليؤمنوا به، فلأنّنا نعتقد أنّ الإسلام هو خطّ العدل الذي أراد الله للنّاس أن يعيشوا عليه من خلال ذلك.
ذكرى تأسيس الجمهورية الإسلامية
نلتقي في هذا اليوم، وهو اليوم الأوّل من نيسان، بذكرى تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران من خلال الثورة الرائدة الحكيمة التي قادها الإمام الخميني (حفظه الله) الذي فَهِمَ الإسلام فهماً واسعاً شاملاً؛ فهمه في عقيدته انفتاحاً على الله، وفهمه في عباداته تربية للنفس بين يدي الله، وفهمه في شريعته حركة من أجل الحريّة والعدالة للإنسان في الكون، ولهذا دعا له أوّلاً وثانياً وثالثاً، واضْطُهِد وشُرِّد ونفي وتعرَّض للأخطار وتعرَّض لكلّ الكلمات السيّئة التي يسوقها الاستكبار العالمي هذه الأيام، واستطاع بكلّ هذه الصلابة الإسلامية والوعي الإيماني والحركيّة التي وجَّهها لترتبط بالإسلام في كلّ جانب النظرية والتطبيق، استطاع بكلّ ذلك أن يصل ليسقط الطاغوت، ثمّ بعد ذلك ليرفع حكم الإسلام على أساس الدولة الإسلامية، لأنّه منذ أن كان في النجف كان يتحدّث عن الحكومة الإسلامية. ربّما استمرّت مسيرته ربع قرن حتى وصل إلى الدولة، وتحمّل مع كلّ إخوانه ومع كلّ تلاميذه ومع كلّ المؤمنين من أتباعه، الكثير من السجن والتشريد والجرح وما إلى ذلك، ولكنّه من خلال الوثوق بالله ومن خلال الإيمان بالله ومن خلال الوقوف أمام الطاغوت سواء كان داخلياً أو خارجياً استطاع بكلّ قوّة أن يصل إلى الهدف، ثمّ تكالَبَ العالَم عليه. وظنُّوا أنّ الإسلام مجرّد عنوان كما كانت باكستان إسلامية، وكما كانت الدول الموجودة في المنطقة إسلامية، أنّه تبديل من حكم إلى حكم، خيِّل لهم ذلك وانتظروه أن يرجع إليهم، انتظرته أميركا أن يقيم علاقات، وكانت المسألة أنّ الطلاّب المؤمنين السائرين في خطّه انطلقوا إلى وُكر الجاسوسية في السفارة الأميركية ليبعثوا رسالة إلى أميركا بأنّ المسألة ليست بالطريقة التي تعتقدون بها. إنَّ هذه الثورة هي ثورة تريد أن تقتلع النفوذ الأميركي من قلوب الناس فلا يبقى هيبة لأميركا في نفوس الناس، كما تريد أن تقتلعها من واقع الناس كمقدّمة لاقتلاعها من نفوسهم، ووجدوا أنّ القضية أصبحت مشكلة وحاولوا أن يحلُّوا المشكلة، حاولوا أن يقتربوا من مسؤول هنا أو مسؤول هناك، حاولوا أن يخلقوا المشاكل في داخل الجمهورية. حاولوا أن يثيروا الضوضاء في داخلها حتّى يسقطوها من الداخل، وسقط كلّ الذين في الداخل من الذين وجّهتهم أميركا وغير أميركا لخلخلة الدولة. وبقيت الدولة صامدة، حاصروها إعلامياً؛ فالصحف في أوروبا وفي أميركا وفي غيرهما وحتّى في عالمنا عندما تتحدّث عن الإمام الخميني (حفظه الله) أو عندما تتحدّث عن الجمهورية الإسلامية فإنّها تحاول أنْ تتحدّث بطريقة سيّئة جداً؛ بطريقة السخرية والاستهزاء، وبطريقة تصوير المسألة كما لو كانت إيران مجرّد بلد من البلدان التي يعيش فيها الإنسان تحت تـأثير الظلم والتقتيل والتشريد وما إلى ذلك ممّا لا نجد له أيّ أثرٍ هناك. حاصروها إعلامياً، وحاصروها سياسياً، وحاصروها اقتصادياً، ثمّ حاصروها عسكرياً من خلال وكلائهم في المنطقة الذين تقدّمهم النظام العراقي، ثمّ بعد ذلك وقفت معه كلّ الأنظمة التي كانت تشتري له سلاحاً وكانت تعطيه مالاً، ودعماً، ثمّ حاولوا أن يتحرَّكوا في الدائرة الإسلامية في الدول المسمّاة إسلامية ليطبقوا على إيران من كلّ جانب في مؤتمراتهم المسمّاة إسلامية وليست من الإسلام في شيء، أو في مؤتمراتهم العربية أو ما إلى ذلك، وبقيت الدولة ثابتة {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ...} [لقمان : 30]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24 ـــ 25]. المسألة لا تزال صامدة على الرغم من أنّ الحصار الذي تحاصر به والقوى التي تتحرّك من أجل أن تهزّ ثباتها وصمودها هي قوّة غير عادية، ومع ذلك لا تزال باقية. لماذا؟ لأنَّ هناك قيادة حكيمة مؤمنة واعية، ولأنَّ هناك شعباً يرتبط بهذه القيادة في الخطّ الفقهي لا في الخطّ السياسي المائع على أساس أنّ القيادة تتكلّم عن الله فلا بدّ أن يطيعها الناس في كلامها عن الله سبحانه وتعالى لأنّهم يطيعون الله، مَنْ أطاع الرسول فقد أطاعَ الله، ومَن أطاع أُولي الأمر الذين ينطلقون من خلال الرسول فقد أطاع الله في ذلك {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ...} [آل عمران : 31] ولا يزال هذا الشعب القوي المسلم يقف مع ثورته على الرغم من كلّ الضغوط الصعبة التي تتحدَّاه في كلّ جانب.
ونحن عندما نستعيد ذكرى الجمهورية الإسلامية، ونحن خارج إيران، فإنّنا في الوقت الذي نستفيد فيه من تجربة الجمهورية الإسلامية للثبات أمام القوى التي تريد أن تسقط حريّتنا ومواقعنا ومواقفنا؛ نرى أنّ الشعب عندما تُهَيَّأ له القيادة المسلمة الواعية المؤمنة الشجاعة ويكون الشعب أيضاً مسلماً مؤمناً شجاعاً يتحرّك حتّى يحقّق أمر الله ونهيه وحتّى يطلب رضى الله، فإنّه لا بدّ أن يكون هنا نصر... كانت مشكلة الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه كان القائد العظيم، ولكنّ المجتمع الذي كان معه لم يكن مرتبطاً به بالمستوى الذي ترتبط فيه الأُمّة بالقيادة، وهكذا بالنسبة إلى الحسين (عليه السلام) وهكذا بالنسبة إلى الكثيرين من الناس.
ثمّ نحن نستفيد من تجربة هذه الثورة التي تحوَّلت إلى دولة من دون أن تفقد روح الثورة، نستفيد منها أنّ الإسلام يصلح لأنْ يحرِّك الدولة، وأنّه ليس مجرّد أحكام شرعية فردية وليس مجرّد عبادات روحية.. ها هو الإسلام انطلق إلى إيران ثمّ بعد ذلك انطلق مجلس الشورى هناك ليحوّل القواعد الإسلامية والنصوص الإسلامية في الكتاب والسُنّة إلى قوانين في الاقتصاد وإلى قوانين في الأوضاع الاجتماعية وإلى قوانين في الدبلوماسية وإلى قوانين في الحرب والسلم حتّى أصبح لنا قانون يشمل الدولة كلّها أو يقترب من شموله للدولة كلّها. قانون إسلامي مئة في المئة. هذا معناه أنّنا نتحدّى بنجاح التجربة الإسلامية في الدولة الإسلامية في إيران تجربة تقنين الشريعة وتحويلها إلى قانون، نفهم منها أنّ الإسلام يستطيع أن يعيش في القرن العشرين وأن يحرِّك قانونه ودستوره في كلّ الحاجات التي فرضها تطوّر الأوضاع الإدارية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية في الحياة، ولا يشكو أيّ فراغ ولا أيّة مشكلة على الصعيد العام. وعلى هذا الأساس فإذا نجحت تجربة الثورة الإسلامية في إيران وإذا نجحت تجربة القانون الإسلامي في إيران وإذا نجحت النظرية السياسية في إيران بصفتها دولة إسلامية، فما الذي يجعلنا نتلفَّت تجاه غير الإسلام، لماذا لا ندعو إلى الإسلام، والإسلام أثبت جدارته في العصر الحديث؟ كانت الفكرة قبل قيام الدولة الإسلامية الموجودة حتّى عند كثير من المسلمين وعند الكثير حتّى من علماء المسلمين الذين يملكون إطاراً معيّناً، هي أنّ الإسلام ظهر في مجتمع بدويّ، بدائيّ، لا يملك فيه الإنسان أيّ موقع من مواقع التطوّر، مجتمع كان الإنسان يركب فيه البعير إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلاّ بشق الأنفس، فأصبح الإنسان يركب الصاروخ ويصعد إلى القمر.
كانوا يقولون، كيف تريدون لأحكام شرعية خطَّطت لمجتمع بدائي أن تخطِّط لمجتمع عصري في القرن العشرين؟ وكان الكثيرون من الناس يطالبون الذين يدعون للإسلام بالانسحاب لأنّهم لا يستطيعون أن يواجهوا حاجات الحياة المتطوّرة ولا يستطيعون أن يواجهوا تحدّيات الواقع الكبيرة. وعندما انطلقت الثورة الإسلامية كنّا نراقب؛ نجحت الثورة، ليس دائماً كلّما تنجح الثورات يستطيع الذين ينجحون فيها أن يقيموا الدولة. بعض الناس كان يقول عن كلّ الثورات الإسلامية، من السهل أن تهدم ولكن من الصعب أن تبنى... كنّا نراقب الثورة الإسلامية، وكان العالم يراقبها: هل تستطيع أن تبنى الدولة على أساس الإسلام ـــ الإسلام الذي أنزله الله قبل ألف وأربعمائة سنة ونيّف ـــ أم لا؟ وتحرّكت الثورة في خطّ الدولة، واستطاعت أن تشرّع من تشريعات الإسلام للدولة ما تحتاجه، وعاش الناس هناك في خطّ التشريعات الإسلامية من دون أن يشعروا بفراغ، ومن دون أن يشعروا بمشاكل. نعم هناك مشاكل تعيش ويتحدّث فيها الكثيرون على أساس أنّها مشاكل الحريّة في إيران، ليست هناك دور للبغاء، هذه مشكلة، في إيران ليست هناك دور للخمر ليس هناك ما يماثل كازينو لبنان... هذه النِّعَم التي نعيش فيها وتعيش فيها الحضارة الحديثة لم تستطع إيران أن توفّرها للناس لأنّ الإسلام يرفض أن نوفّرها للناس بل يطلب منّا أن نمنع الناس منها. في إيران هناك حريّة الكلمة، هناك حريّة المعارضة.. القيادات نفسها قد تختلف في ما بينها وتنطلق الخلافات في الصحف وفي النوادي وفي الجوامع، ويترك الإمام للجميع حريّة أن يختلفوا وأنْ يعبِّروا عن آرائهم ثمّ يتدخَّل عندما تصل المسألة إلى درجة الخطر ليحسم الموضوع. وهكذا مجلس الشورى في إيران، يجتمع ويسمع كلّ الشعب كلّ ما يدور في المجلس لأنَّ هناك قناة بالراديو تنقل المناقشات في المجلس ما عدا الجلسات السريّة، ولهذا نستطيع أن نقول إنَّ في إيران حرية فكر وحريّة رأي وفي إيران حريّة معارضة، شرط أن تبقى في حدود القانون وأن لا تسيء إلى نظام الناس، ولهذا لم تقمع إيران المعارضين إلاّ الذين حملوا السلاح ضدّ الثورة ليُسقِطوا الثورة، لم تحبس إنساناً لأنَّ فكره لا يتّفق مع فكر الثورة، هناك كثيرون الآن من المعارضين على كثير من المستويات.
الخوارج كفَّروا الإمام عليّ (عليه السلام) وانعزلوا عنه وشكَّلوا لأنفسهم مجتمعاً خاصّاً منفصلاً عن مجتمع المسلمين، ولم يتعرَّض لهم الإمام بشيء، بل كان يبعث لهم مَن يحاورهم حتّى إذا قطعوا الطرق وقتلوا خبّاب وهو عبدٌ صالح وبقروا بطن زوجته الحامل، عند ذلك تحرَّك الإمام عليّ (عليه السلام) وقضى عليهم.
هناك فرق بين أن تقف ضدّ إنسان لأنّه معارِضٌ لك وبين آخر لأنّه يريد أن يخلّ بأمن الدولة أو بأمن الناس. ما دامت التجربة قد نجحت، لا نريد أنْ نتحدّث بالمطلق أنّها نجحت بنسبة خمس وسبعين في المئة أو سبعين في المئة، وهذا ما يجعلنا وكلّ المسلمين في موقع لا يجوز لنا أن نتحرّك فيه في أيّ موقع في العالم إلاّ بالدعوة إلى الإسلام، الإسلام في الحكم وفي السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع، إسلام الشريعة كلّها، ندعو ونقول دائماً كما قال الحسين (عليه السلام) "فَمَن قبِلَني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ومَن ردّ عليّ هذا أصبِر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين"(1).
الاعتراض مشروع
للآخرين أن يعارضونا في فكرنا كإسلاميين، ولهم أن يحاورونا في ما نعتقد به من مسلمين ومن غير مسلمين، ولهم أن ينقدونا، ولكن من حقّنا أن نقول كلمتنا ومن حقّنا أن نحرّك رأينا ومن حقّنا أن نتحرّك في الواقع السياسي على أساس ما نفهمه من الإسلام وعلى أساس ما نحرّكه من نظريّات الإسلام. ومن حقّ الإسلام علينا، أن نرفع شعاراته وأن نقف مواقفه، عندما حذّرنا الإسلام من اليهود أراد منّا أن نقف ضدّ اليهود الذين يقتلون الأنبياء بغير حقّ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، والذين عملوا كلّ ما عملوه في سبيل تخريب الحياة وفي سبيل العقلية العنصرية.
لا تنازل في المسألة الإسرائيلية
نحن نعتبر أنّ المسألة الإسرائيلية هي من المسائل الأساسية التي لا مجال فيها لأيّ تنازل ولا مجال فيها لأي تراجع، لأنّنا ندرك من خلال وعينا للإسلام ومن خلال وعينا للواقع، أنّ "إسرائيل" تمثّل خطر الحاضر وخطر المستقبل وأنّها تخطّط على أساس أن تحتوي مستقبلنا ليكون مستقبلنا على فُتات مستقبلهم أو في دائرة مستقبلهم أو لا يكون لنا مستقبل. "إسرائيل" خطَّطت، ووصلت إلى الكثير، وهي تخطّط وتريد أن تصل إلى الكثير، وهي تعمل على أساس الاستفادة من اللّعبة الدولية ومن دعم الدول الكبرى لها، تعمل على أساس أن تجعل الواقع السياسي يتحرّك في خدمة أطماعها وفي خدمة واقعها، ولهذا لا بدّ لنا من أن نكون حذرين جدّاً أمام أيّة خطّة من خططها سواء كانت أمنية أو سياسية.
جيش لحد امتداد للجيش الصهيوني(1)
ونريد أن نؤكّد في هذه الدائرة الإسرائيلية حقيقة وهي أنّنا ندعو كلّ أهلنا هناك في المنطقة الحدودية إلى أن يخرجوا من هذا الجيش العميل جيش لحد، الجيش العدوّ الذي نعتبره من خلال قاعدته السياسية ومن خلال حركته وعلاقاته، امتداداً للجيش الإسرائيلي.. كلّ جندي في الجيش المسمّى بالجنوبي، نعتبره جندياً إسرائيلياً بكلّ معنى هذه الكلمة، وتترتَّب عليه كلّ الأحكام الشرعية التي تترتَّب على الجندي الإسرائيلي، لا مجال في هذا الصدد لأيّة تقيّة ولا مجال لأيّ ضعف أو تخاذل. بعض الناس يقولون إذا لم نتجنَّد فسيخرجوننا، أخرجوا أفضل من أن تقتلوا أهلكم وأفضل من أن تعاونوا عدوّكم، أخرجوا واقتلوا أعداء الله لأنّكم إذا لم تقاتلوهم فسوف تُقتلون بأيدي إخوتكم وأهلكم، لأنّكم وضعتم أنفسكم متراساً للعدوّ.
في هذا الظرف الذي تضغط فيه قوّات العدوّ الإسرائيلي على كثير من أهلنا في المنطقة الحدودية لتجنّدهم في جيشها العميل، نقول لهم: ارفضوا مهما كانت الظروف، مَن كان في هذا الجيش فليخرج، ومَن لم يكن في هذا الجيش يحرم عليه أن يدخل. إذا كنتم تتحدّثون عن الضعف فإنّ مجتمع ثورة الحجارة يمكن أن يحمل الكثير الكثير من النموذج الذي يستطيع أن يسقط "إسرائيل".. لا أتكلَّم في هذا المجال بأسلوب الانفعال، ولكنّني أتكلَّم بلغة المستقبل، إنّ العدوَّ يريد أن يجعلنا في جيشه ليحاربنا بأولادنا وبإخواننا وبأهلنا، وليحتلَّنا بأهلنا وبإخواننا وأولادنا، وليدمّر بيوتنا من خلال هؤلاء. مَن الذي جعل العدوّ في "كفر رمّان"(2) يتّجه ليقتل الشيوخ والعُجَّز وليهدم بيوت الناس الآمنين بكلّ فظاعة ووحشية، مَن هو غير هذا الجيش؟ كلّ مَن يؤيّده فإنّه يحمل مسؤولية هذه المجازر، كلّ مَن يدخل فيه فهو شريك في ذلك كلّه، ونحن لا نقبل أن يكون أيّ إنسان من أهلنا شريكاً للعدوّ في قتل أولادنا بطريقة مباشرة وبطريقة غير مباشرة. إنّنا نقول إنَّنا براءٌ منهم، ليسوا منّا ولسنا منهم إلاّ أن يرجعوا إلى الله وإلاّ أن يرجعوا إلى السّاحة التي تريد أن تنتصر على "إسرائيل" وتريد أن تقف في وجه الاحتلال الإسرائيلي. إنَّنا نقول لهم قد تكون "إسرائيل" لكم اليوم، ولكن حذار؛ لن تكون "إسرائيل" لكم غداً فكِّروا في غد، لا أتحدَّث عن غد الآخرة ولكنّي أتحدّث عن غد الدنيا الذي قال الله فيه {... وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...} [آل عمران : 140] هذه نقطة.
عودة أميركية
النقطة الثانية هي أنّ هناك في السّاحة الدولية والسياسية عودة أميركية على أعلى مستوى، ونحن في الوقت الذي نؤكّد أنّ السياسة الأميركية التي تتحرّك من أجل اضطهاد الشعوب ومن أجل ظلم الشعوب، هذه السياسة مرفوضة منّا جملةً وتفصيلاً ولاسيّما السياسة المتعلّقة بالمسألة الفلسطينية والتي تعمل لحساب "إسرائيل" بكلّ ما هناك من إمكانات عسكرية وأمنية وغير ذلك. إنَّ السياسة الأميركية والمبادرة الأميركية جاءت من أجل أن تلوّح للعرب أو للفلسطينيين أو للمسلمين بغصن الزيتون الإسرائيلي الذي يعني سلام "إسرائيل" ولا يعني سلام العرب أو الفلسطينيين أو المسلمين، ولكنّها تريد أن تستفيد من الضعف العربي على المستوى الرسمي، وتريد أن تستفيد من التعقيدات الدولية الموجودة في الساحة حتّى تستطيع أن تحرّك الواقع السياسي من أجل الوصول إلى أهدافها الإسرائيلية، تريد أن تخرج "إسرائيل" من مأزق الانتفاضة، وتريد أن تجعل من كثير من الرسميين من حكَّام العرب أعداءً للانتفاضة يحاربونها، وتعمل أيضاً في الوقت نفسه على احتواء السّاحة اللبنانية لخدمة سياستها التي تريد أن تبقي لبنان كما كان، مزرعة أميركية لكلّ السياسة الأميركية ولكلّ الأمن الأميركي ولكلّ الثقافة الأميركية. إنَّنا نعتقد أنّ من واجبنا أن نرصد الموقف بعمق وبدقّة وأن نواجه هذه المسألة بالكثير من الوعي وبالكثير من الحذر. هناك أُناس "يرشّون" في السّاحة السياسية أحلام التفاؤل ويعملون على أساس أن يصوِّروا للناس أنّ الجنّة الأميركية قادمة من خلال المبعوثين الأميركيين من النساء والرجال الذين يريدون أن يزرعوا لنا لبنان على الطريقة الأميركية، ولكن علينا أن نفهم أنّه ليست هناك أحلامٌ حقيقية في الساحة، وأنّ المسألة تتحرّك في أكثر من موقع حتى في المواقع العربية الأميركية أو اللبنانية ـــ اللبنانية. لا تزال المسألة تعيش في دائرة ما صرَّح به بعض الذين يملكون مواقع متقدّمة في البلد: أنّ المسألة ليست مسألة التفاؤل الحذر ولكنّ المسألة هي مسألة التشاؤم الحذر، تشاؤم فيه حذر أن يشرب جرعة من التفاؤل من الصعب أن يكون هناك حلّ في الداخل على مستوى الإصلاح للنظام في ما يتحدّث به الكثيرون لأنّ مسألة الداخل لا تزال مرتبطة بمسائل الخارج، ولأنّ من الصعب أن تفصل الأزمة اللبنانية عن المشاكل الموجودة في المنطقة، وقد تعوَّدنا، طويلاً أن ننام على فراش الشوك وأن ننام على مخدَّات الشوك ربّما يأتينا بعض القطن مع هذا الشوك ولكنَّ الأشواك تبقى تنطلق من تحت قطنة هنا وقطنة هناك حتّى القطن يحمل في داخله أشواكاً. والربيع ليس ربيع الورود، ولكنّه أيضاً ليس ربيع الحرائق.
والحمد لله ربّ العالمين
دور الصوم في تصويب قضايانا(*)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة : 183]، هذه الفريضة التي فرضها الله على كلّ عباده في كلّ رسالاته، كانت تتنوَّع وتختلف في ما يلزم الله به عباده بين تعاليم نبيٍّ وآخر. ولكنَّ المسألة أنّ الله أراد للنّاس أن يصوموا حتّى يستطيعوا من خلال الصوم أن يحصلوا على التقوى، ليكون الصوم طاعة لله في نفسه باعتباره امتثالاً لأمر الله، وليكون طاعة لله من خلال أنّه يحقِّق للإنسان روح التقوى في روحه وعقلية التقوى في فكره وحركة التقوى في حياته ليكون الإنسانُ من خلال الصوم، الإنسانَ التقيّ الذي يخاف الله في نفسه فيراقبها في ما يعيش في نفسه من أفكار ويراقب الله في نفسه في ما يتحرّك به من أعمال ومشاريع. وهكذا يريد الإسلام من خلال العبادات وفي مقدّمتها الصوم أن يصنع الإنسان التقيّ الذي يعيش في الحياة ولا يحتاج إلى سلطة تفرض عليه النظام والالتزام والاستقامة، بل إنَّ شعوره بسلطة الله عليه وعلى الحياة كلّها يجعله يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الناس، ويجعله يحاكم نفسه قبل أن يحاكمها الناس، ويجعله يمنع نفسه ويضغط عليها بأنْ لا تعتدي وأن لا تظلم وأن لا تسيء قبل أن يضبطها الناس.
التقوى هي الأساس، فإنَّ الله يريد من الناس عندما يعيشون الحياة كلّها وعندما يتحرّكون في كلّ قضاياهم، أن يقدِّموا بين أيديهم عند لقاء ربّهم زاداً يتزوّدون به حتّى يستطيعوا أن ينالوا رضوان الله وأن يعيشوا جنّة الله {... وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة : 197]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 ـــ 2]. التقوى هي العنوان الذي يريد الله للإنسان أن يعيشه في حياته، ليكون الإنسانَ التقيّ اجتماعياً وسياسياً وعسكرياً وفي جميع مجالات الحياة، لأنَّ لكلّ شيء تقواه؛ فللسياسة تقواها وللحرب تقواها ولحالة السّلم تقواها ولكلّ مجالات الحياة في الاقتصاد والاجتماع، لكلّ منها تقوى، لأنَّ التقوى تعني أن يجدك الله حيث أمرك ويفقدك الله حيث نهاك، فما دام أنّ في كلّ شيء تشريعاً ولكلّ شيء أمراً ونهياً فإنَّ التقوى تكون حيث يكون الأمر الإلهي، والتقوى تكون حيث يكون النهي الإلهي.
وهكذا مَن صام واستطاعَ أن يحصل على التقوى فقد حصل على عمق الصوم في شخصيّته، أمّا مَن صام ولم يحصل على التقوى فإنّه يصدق عليه القول المأثور الشريف المروي عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) "ربَّ صائمٍ حظّه من صيامه الجوع والعطش، وربَّ قائم حظّه من قيامه السهر"(1) ولهذا فإنَّ علينا أن نراقب أنفسنا عندما نصوم، أن نعرف أنفسنا في كلّ يوم: هل استطعنا أن نتقرَّب إلى الله أكثر أم أنّنا ابتعدنا عن الله أكثر؟ هل استطعنا أن يكون التزامنا بما أحلَّ الله وبما حرَّمه أكثر، أم هو أقلّ من ذلك؟ افحصوا أنفسكم يومياً حتّى تعرفوا هل تتحرّكون في خطّ التقوى، أم في الخطّ المضاد تتقلَّبون؟ راقِب نفسك في علاقتك مع نفسك، هل تحجم نفسك عن الحرام لتمنعها أم أنّك تتركها؟ وراقِب نفسك في بيتك، هل تسيء معاملة زوجتك نتيجة سلطتك عليها بدون حقّ؟ هل تسيء معاملة جارك؟ هل تسيء معاملة الناس الذين يعيشون معك ممّن تربطك بهم العلاقات على المستوى العام أو على المستوى الخاص؟ راقِب نفسك يومياً حتّى ترى أنّك تتحرّك في خط ٍّتصاعدي نحو الله، أو أنّك تتحرّك في خطّ تنازلي إلى الشيطان؟
وهكذا يريد الله سبحانه وتعالى من خلال الصوم أن يحقّق لنا كلّ هذا المعنى من التقوى، يمكن تصوّر الصوم على أشكال معيّنة؛ هناك الصوم المادي وهو أن تمتنع عن الأكل وعن الشرب وعن اللّذات الجنسية وما إلى ذلك ممّا يحيط بهذه الأمور الأساسية، هذا الصوم المادي الذي إذا فعلته فقد امتثلت الأمر بالصوم وسقط عنك الواجب، ولكنْ هناك نوع آخر من الصوم وهو أن تصوم عن الكذب، وأن تصوم عن الغيبة، وأن تصوم عن النميمة، وأن تصوم عن الشتم، وأن تصوم عن إيذاء الناس، وأن تصوم عن ظلم الناس، وأن تصوم عن الاعتداء على أرواح الناس وأحوالهم وأعراضهم.. هذا نوعٌ آخر من الصوم، أن تصوم صوماً أخلاقياً يجعلك تراقب نفسك في ما تريد أن تتكلَّم، كما تراقب نفسك في ما تريد أن تأكل أو تشرب، وهكذا تراقب نفسك في ما حرَّمه الله عليك من الأفعال والأعمال الأخرى، لأنَّ الله جعل للإنسان صومين، صوماً صغيراً، وصوماً كبيراً. أمّا الصوم الصغير فهو صومك في شهر رمضان عمّا أرادك الله أن تمسك عنه وأمّا الصوم الكبير فهو صوم العمر كلّه عن كلّ ما حرَّم الله عليك ممّا تقول وممّا تفعل وممّا تتحرّك فيه من مواقف ومن علاقات على كلّ المستويات، والصوم الصغير مقدّمة للصوم الكبير، المعركة الصغيرة مع النفس في شهر رمضان هي مقدّمة للمعركة الكبيرة مع النفس ومع الآخرين في غير شهر رمضان.
ولهذا لا بدّ أن نعيش هذا الصوم من خلال ما نتحرّك فيه في حياتنا اليومية، وقد ورد أنّ الإنسان الذي يمارس الغيبة والكذب وأمثال ذلك، لا صوم له، يعني أنّه يفقد معنى الصوم وروحيّته لأنّه لم يستفد من الصوم في ذلك كلّه، وهكذا نريد للإنسان عندما يعيش الصوم في نفسه أن يمنع نفسه من الأفكار السيّئة والنوايا السيّئة والدوافع السيّئة، لأنَّ مشكلة كلّ واحدٍ منّا هي في أفكاره وفي نيَّاته وفي دوافعه، لأنَّ أفكارنا هي التي تصنع لنا مواقفنا ولأنّ نوايانا هي التي تتحرّك في خطّ علاقاتنا، ولهذا إذا أردت أن تكون الصائم التقيّ المنفتح على الله فإنَّ الله يريد أن يقول لكَ ليست المشكلة أن تكون أعضاؤك صائمة عن الشرّ وعن الجريمة وعن الحرام ولكنّ المفروض أن تكون أفكارك صائمة ومشاعرك صائمة وأن تكون نيّاتك صائمة، لأنَّ للفكر صوماً، فإنَّ الإنسان إذا أراد أن يفكِّر فقد يفكِّر بعض الناس تفكير الخير الذي يبني للحياة سلامتها ويبني للحياة قوّتها ويبني للنّاس قوّتهم، وأنّ للفكر أيضاً طريقاً شرّيراً يخطّط فيه الإنسان للشرّ عندما يفكّر في إيذاء الناس وفي العدوان عليهم وفي ظلمهم وفي انتهاب أموالهم وفي الاعتداء على أعراضهم وحياتهم، هذا فكرٌ شرّير، الذين يفكّرون بهذه الطريقة، الله يقول لهم ليصمّ فكركم عن كلّ فكر الشرّ وليبقَ الفكر متحرِّكاً من خلال غذاء الخير كلّه ومن خلال حركة الخير كلّه والله يقول لكم أيضاً إنَّ لأفكاركم كفراً وإيماناً وإنَّ لأفكاركم عدلاً وظلماً، فلا تظلموا الناس في أفكاركم عندما تحقّقون الانطباع في أنفسكم عنهم من خلال قضايا غير دقيقة ومن خلال مصادر غير موثوقة. لذلك لا بدّ لك أن تكون العادل في انطباعاتك في ما تحمل من انطباعات عن هذا وعن ذاك.
وهكذا لا بدّ أن تكون نيّتك نيّة خالصة لله سبحانه وتعالى.. أنتَ تصوم قربةً إلى الله، وتصلّي قربةً إلى الله، وتحجّ قربةً إلى الله، والله يريد منك أن تتعلَّم من خلال ذلك أن تعيش حياتك في كلّ أفعالك وفي كلّ علاقاتك لتحصل من خلال ذلك على درجة القرب من الله سبحانه وتعالى، فإنّها الدرجة التي لا درجة فوقها في الدنيا وفي الآخرة، وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ...} [الرعد : 11]، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ...} [الأنفال : 53]. وقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "فإنَّما الأعمال بالنيَّات لكلّ امرئٍ ما نَوَى"(1)، "إنَّ الله يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة"(2).
من هنا، لا بدّ من أن نصوم صوماً جسديّاً، ونصوم صوماً أخلاقياً، ونصوم صوماً فكرياً روحياً شعورياً في مشاعرنا، فالله يريدنا أن نصوم عن محبّة أعداء الله وأن نصوم عن بغض أولياء الله، أن لا نحبّ إلاّ الطيّبين المؤمنين الذين ينفتحون على الله في حياتهم وأن لا نبغض إلاّ أعداء الله في كلّ ما يخطِّطون له ويعملون له، أن لا نُوالي إلاّ المؤمنين ولا نُعادي إلاّ الكافرين المستكبرين؛ ذلك هو صوم المشاعر، كما هو صوم العقل والجسد وما إلى ذلك.
الصوم: دروس للحياة
في هذا الجوّ، نتعلَّم من الصوم درساً للحياة، الدرس الأول الذي نتعلَّمه من الصوم هو التمرُّد على العادات التي نعتادها في حياتنا، فلكلٍّ منّا في حياته عادة، قد تكون العادة محلَّلة وقد تكون محرّمة، هناك عادات ننطلق بها في حياتنا الشخصية وهناك عادات ننطلق بها في حياتنا الاجتماعية، وعلينا أن نستفيد من الصوم، أن نتحرَّر من عبودية العادة، أن لا نكون عبيداً لعاداتنا لأنَّ عاداتنا قد تضغط علينا فتشلّ كلّ قدراتنا على المستوى الصحي وعلى المستوى الاجتماعي وعلى المستوى الشرعي في ذلك كلّه. في الصوم أنتَ تنتصر على عادتك يومياً، في الصباح أنتَ معتاد على أن تشرب القهوة أو الشاي أو أن تفطر في وقتٍ معيّن، وفي الظهر أنتَ معتاد على تناول الغداء، وهناك عادات غذائية في الأكل والشرب، هناك أشياء تعتادها، ويأتي شهر رمضان ليقلب كلّ عاداتك فيأتي الصباح ولا فطور هناك، ويأتي الزوال ولا غداء، وتأتي كلّ مناسباتك الاجتماعية، لا تقدّم شيئاً لأحد ممّا اعتدت أن تقدّمه، ولا يقدّم إليك أحد شيئاً ممّا اعتاد أن يقدّمه لأنَّ الله قال لك: غيِّر عاداتك، افطر في وقتٍ معيّن، غيِّر وقت الإفطار إلى الغروب وغيِّر وقت الغداء إلى السحور، انتصر على إلحاح العادة، لا تخضع لما اعتدته في هذا اليوم، خذ من هذا درساً لحياتك في ما بعد ذلك، أو لحياتك في وقت الإفطار. إذا كانت عندك عادات سيّئة تضرّ بصحّتك وتضرّ عقلك وتضرّ دينك وتضرّ حياتك وأوضاعك الاجتماعية، فاستعِنْ بالقوّة التي حصلت عليها في محاربة عاداتك اليومية، لتكون أساساً للانتصار على عاداتك الأخرى التي قد تكون عادات محرَّمة وقد تكون محلَّلة. الله يريد منك كمؤمن أن تكون حرّاً، أن لا يضغط عليك أحد إلاّ إيمانك، أن لا تضغط عليك عاداتك، وأن لا يضغط عليك الناس من حولك، لأنَّ الله يريد للإنسان المؤمن دائماً إذا جاءه أمر الله ونهي الله أن يكون حرّاً في الامتثال لأمر الله ونهيه، وإذا أراد الناس منه أن يتحرّك يميناً ويساراً في غير مصلحته، وفي غير ما يريده الله، أن يقول لا من موقع الحريّة، وأن يقول نعم من موقع الحريّة، لأنَّ الذين يعيشون العبودية لعاداتهم، يعيشون معنى العبودية في شخصيّتهم وبذلك فإنّهم مؤهّلون لأنْ يكونوا عبيداً للطغاة ولأنْ يكونوا عبيداً للمستكبرين ولأنْ يكونوا عبيداً للكافرين.
لهذا، إنَّ الله يريد منك أن تكون الحرّ لتستطيع أن ترفض من موقع إرادة وتستطيع أن تقبل من موقع إرادة، لهذا علينا أن ننتصر على عاداتنا من خلال ما نتعلَّمه في صومنا من الانتصار على العادة.
الصوم: صبر
ثمّ الدرس الثاني الذي نأخذه من الصوم هو الصبر، كلّنا في يوم الصبر نعيش الحرمان ونصبر، نعيش الحرمان في ما نحبّ من مأكولات ومشروبات وملذَّات وشهوات، ولكنّ النفس تلحّ علينا ونحن نتحمّل الحرمان في ذلك كلّه، نصبر، نضغط على أنفسنا، نضغط على إرادتنا، نصبر ونحن نتألَّم، نتألّم لأنّ الأكلة أمامنا ولم نأكلها، ولأنّ الشراب أمامنا ولم نشربه، نتألّم والجوع يفتك بكلّ أجهزتنا الجسدية، والعطش يفتك بنا في ذلك كلّه، والشهوة تحرقنا في بعض المجالات. لهذا نحن نصبر في شهر رمضان، ولا بدّ لنا أن نتعلَّم الصبر في الحياة كلّها، ليكون شهر رمضان المدرسة التدريبية التي نتدرَّب فيها على أن نمنع أنفسنا عن بعض شهواتها، ونصبر على كلّ المشاعر المضادّة لما نريد، كلّ المشاعر التي تفترض حياتنا.
والصبر على أقسام: صبر على البلاء؛ إذا جاءك البلاء من كلّ جانب سواء كان بلاءً في خطّك العقيدي أو في خطّك الشرعي أو في خطّك الجهادي أو في خطّك السياسي، إذا جاء البلاء اصبِرْ وتعلَّم من الصوم كيف تضغط على نوازعك الذاتية في ذلك كلّه، تعلَّم كيف تكون الصابر في مواقع البلاء كما أنت الصابر في مواقع الحرمان في الصوم، وتعلَّم أيضاً أن تصبر على طاعة الله، وطاعة الله قد تكلِّف الإنسان الكثير من جهده، قد تخسرك طاعة الله مالاً في ما يريدك الله أن تدفع المال فيه، وقد تحرمك طاعة الله جاهاً في ما يريدك الله فيه أن تتنازل عن جاهٍ محرَّم، وقد تخسرك طاعة الله جهداً وقوّة، وقد تخسرك طاعة الله حياتك في بعض الحالات. عليك أن تتعلَّم من صبرك على الصوم كيف تصبر على كلّ مواقع طاعة الله في العبادات وفي المعاملات وفي كلّ العلاقات وفي كلّ أوضاع الناس من قريب ومن بعيد. ثمّ أن تتعلَّم الصبر عن المعصية، عندما تأتيك المعاصي لتخاطب غرائزك ولتخاطب شهواتك ولتخاطب أطماعك ولتخاطب كثيراً من نوازعك الذاتية. عندما تأتيك المعاصي وتلحّ عليك وتحرق كيانك بشهواتها وبكلّ ذلك، اصبر عن معصية الله كما كنت تصبر أيُّها الصائم عن معصية الله وأنتَ في حال الصوم. الصبر هو الدرس الثاني الذي نتعلَّمه من الصوم، ولذلك فإنَّ علينا أن نجعل الصوم صوماً واعياً ننتقل فيه من موقعٍ إلى آخر، ومن مرحلةٍ إلى أخرى.
الصوم يحرِّك الضمير الشرعي
الدرس الثالث الذي نتعلَّمه من الصوم هو درس الحالة الروحية التي تجعل الإنسان يعيش الضمير الشرعي، الوازع الديني، أن يكون لك ضمير شرعي يحاسبك، بعض الناس يتحدّثون عن الضمير بعيداً عن الخطوط التي يتحرّك فيها الضمير. والله يريد منك أن يكون لك ضمير ديني، أن يكون لك ضمير شرعي، بحيث أنّك إذا أقبلت على ما حرَّم الله فإنَّ ضميرك الشرعي يؤنّبك ويحاسبك، ليقول لك يا عبد الله إنّك أسأْتَ إلى الله في ذلك، وإذا أردت أن تترك واجباً شرعياً فإنَّ ضميرك يحاسبك ويؤنّبك. أن يكون عندك ضمير شرعي بمعنى أن تكون لك ذهنية شرعية تقيّة منفتحة على الله سبحانه وتعالى لتمنعْك ولتحاسبك ولتهمس إليك في كلّ مشاعرك، يا عبد الله اتقِ الله، يا عبد الله أطع الله يا عبد الله لا تعصِ الله، الذهنية الشرعية تقول لك ذلك في كلّ موقع من مواقع حياتك، لأنّك في الصوم تعيش هذا الجوّ، تشعر أنّك وحدك، لا يراك أهلك ولا يراك الناس من حولك، وتجوع، وقد تقول لك نفسك: إنَّ لك أن تأكل وليس هناك من أحد، ولكنّك لا تأكل، وليس هناك أحد تخافه، لماذا، لأنّك تقول لنفسك عندما تدعوك إلى الأكل ولا أحد هناك، وعندما تدعوك إلى الشرب ولا أحد هناك، وعندما تدعوك إلى الأخذ باللّذّات ولا أحد هناك، تقول لنفسك صحيح، لا أحد هناك ولكنَّ الله هو الذي يملك السموات والأرض وما بينهما وما فوقهما وما تحتهما يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إذا كان الله يعلم ما قد لا أعلمه من نفسي فكيف أتَسَتَّر مِنَ الله، وهل يمكن أن أتَسَتَّر مِنَ الله الذي لا ساتر يحجبه عن خلقه أو يحجب خلقه منه، يبصر من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين لا تغشى بصره الظلمة؟. أَلاَ تدعون ذلك في أدعية النهار في شهر رمضان؟ لا تغشى بصره الظلمة ولا يستتر منه بستر، ولا يواري منه جدار ولا يغيم منه ما في برٍ ولا بحر لأنَّ عينه النافذة تنفذ إلى كلّ شيء، هذه الروح التي تحصل عليها وأنتَ صائم لا تستر لأنّ الله يراقبك في غير وقت الصوم، حاوِل أن تستفيد من ذلك إذا جاءك الشيطان وطلب منك أن تكون جاسوساً للظالمين وقالَ لك: لا أحد يسمعك، لا أحد يعرفك، لا أحد ينظر، اتفاقنا بيننا وبينك سرّي، قل: هل تضمن لي أن يكون الاتّفاق سريّاً عن الله، إذا دعاكَ الناس من حولك إلى أن ترتكب أيّ محرم لأيّ حساب، وقالوا لك: إذا كنتَ تخاف الناس فليس هناك مَن يبصرك سنذهب إلى مكانٍ لا يرانا فيه أحد، قل لهم: إذا كنتم تضمنون لي أن لا يبصرني الله فأنا معكم. كما قالت تلك المرأة العفيفة لشخصٍ أراد أن يعتدي عليها بالحرام ولم يكن هناك أحد، وكانت الجزيرة خالية من كلّ أحد، وارتعبت المرأة فقال لها: لماذا ترتعبين وتخافين وليس هناك إلاّ الكواكب، قالت صحيح ولكن أين مكوكبها، أين الذي خلقها، وكوكبها؟ إنَّ الله يرانا برغم عدم وجود أحد.
لنحاول جميعاً أن نزرع في أنفسنا هذا الوازع الديني، وهذا الضمير الشرعي الذي يجعلنا نشعر برقابة الله علينا وبحضور الله في حياتنا {... مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا...} [المجادلة : 7].
هكذا نستفيد من الصوم، تربية الضمير الديني، الضمير الشرعي، الوازع الديني الذي يحمينا من شهواتنا ويحمي الناس منّا في ما نريد أن نسيء به إلى الناس.
الصوم: جوع وعطش واعٍ
ثمّ الدرس الرابع الذي نستطيع أن نتعلَّمه هو أن يكون جوعنا جوعاً واعياً وعطشنا عطشاً واعياً، إذا جعت وأحسست بالجوع، وربّما ليست عندك فرصة في حياتك أن تحسّ بالجوع لأنّك من الناس الذين إذا أردت شيئاً وجدته، إنّ الله يريد للنّاس أن يحسُّوا بالجوع ليفكِّروا أنّ هناك جائعين، ليفهموا لسعات الجوع في مشاعر الجائعين، ليعرفوا معنى الجوع، فإذا عرفوا معنى الجوع وأحسُّوه وذاقوه استطاعوا أن ينفتحوا على مشكلة الجوع من موقع الحسّ، لا من موقع الفكرة التي تبتعد عن الحسّ.
وهكذا إذا عطشت فإنّك تفكّر أنّ هناك ناساً يعطشون ويظمؤون فتفكّر فيهم كيف تحلّ مشكلة جوعهم وكيف تحلّ مشكلة عطشهم؟ لأنَّ المشكلة في الكثيرين من الناس أنّهم لا يصدّقون أنّ هناك جائعين، لأنّهم لم يعيشوا مشكلة الجوع، ولم يصدّقوا أنّ هناك عطاشى، لأنّهم لم يعيشوا مشكلة العطش، وهكذا في كلّ مجالات الحياة التي يعيش فيها بعض الناس الحرمان بطريقةٍ وبأخرى.
هذا هو الجوّ الذي ينبغي لنا أن نعيش فيه مع الصوم من أجل أن نعيش التقوى في كلّ مجالاتها العملية.
ثمّ قال الله في هذه الأجواء يا محمّد قد لا يعرفني عبادي، يا محمّد قد يسألك عنّي عبادي، لأنّهم لا يعرفون قربي منهم، قد يتصوَّرونني بعيداً عنهم، قد يتصوّرونني في واقع لا أستجيب لهم {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة : 186] لماذا يبتعدون عنّي، لماذا يبتعد عبادي عنّي وقد خلقتهم، لماذا يبتعد عبادي عنّي وقد رزقتهم، لماذا يبتعد عبادي عنّي وأنا أتعهّدهم {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قـ : 16]، لماذا يبتعد عبادي عنّي، هل يتصوّرونني بعيداً عنهم هناك في السّماء، وهل الذي في السماء إلهٌ وفي الأرض إلهٌ، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} [البقرة : 186] عندما أُناديهم، أكون قريباً أجيب دعوتهم، لماذا لا يدعونني؟ لماذا تقدمون كلّ دعواتكم وكلّ عروضكم للآخرين من عبادي الذي يحتاجونني كما تحتاجونني أنتم؟ لماذا تقدِّمون طلباتكم إلى الذين يذلُّونكم وإلى الذين قد لا يستجيبون لكم؟ أنا ربّكم {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة : 186] هذه هي الروح التي يريد الله لنا أن نعيشها عندما نعيش معه، أن نقترب إليه بكلّ حياتنا وبكلّ آلامنا وبكلّ مشاكلنا وبكلّ قضايانا وبكلّ خطوطنا، أن نجلس بين يديه. أيُّها الناس إنّكم تجلسون إلى كلّ الناس من حولكم فلماذا لا تجلسون إلى ربّكم وقد دعاكم إلى أن تجلسوا إليه، إنّكم تتحدّثون بعضكم إلى بعض حديثاً كثيراً وتتناجون في ما بينكم مناجاة كثيرة، فلماذا لا تتحدّثون إلى ربّكم، ولماذا لا تناجونه في كلّ ما يهمّكم؟ اجلسوا إلى الله، تعلَّموا محبّة الله، تعلَّموا أن تكونوا أصدقاء الله، هل غريب أن يكون بشر صديقاً لله {... وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء : 125]، إبراهيم جعله الله صديقه، لماذا جعله الله صديقه، لأنَّ إبراهيم {قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة : 131]، وعندما أسلم لله كلّ حياته، وأعطى لله كلّ وجوده وكلّ ما عنده اتّخذه الله خليلاً لأنّه عَرَفَ منه صدق النيّة وصدق العبودية وصدق المحبّة في ذلك كلّه.
مناسبة لإعادة النظر بالأحقاد
في هذا الجوّ لا بدّ أن نطلّ على كلّ واقعنا الذي نريده أن يكون واقعاً تتحرّك فيه الروحانية التي تجعلنا نفكِّر روحياً كما نفكّر مادياً، وأن نفكّر في حسابات الله كما نفكِّر في حسابات الناس، فلعلَّ بعض مشاكلنا أنّ كلّ تفكيرنا يستغرق في النظر إلى حساباتنا المادية ولا يستغرق في النظر إلى حساباتنا الروحية، هل فكَّرنا ونحن نتنازَع ونختلِف ونتقاتَل ونتحاقَد، هل فكّرنا كيف يكون موقفنا من الله، أم فكَّر كلّ إنسان كيف يكون موقفه من هذا الإنسان أو ذاك؟ لماذا نستغرق فيمن نعبدهم من دون الله وهم لا يستطيعون أن ينصرونا، ولماذا لا نفكِّر بالله، إنَّ حسابات الدنيا البعيدة عن الآخرة تموت في الدنيا، أين الأغنياء الذين تملأ دفاترهم دوراً وأماكن واسعة، أين ذهبت كلّ تلك الدفاتر؟ هل أخذوها معهم ونتائجها إلى قبورهم، نتائجها الإيجابية ونتائجها السلبية، أين كلّ الملوك وكلّ الطغاة وكلّ الجبابرة وكلّ هؤلاء الذين طغوا وبغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، أين كلّ ما عندهم؟ تركوه وراءهم واستقبلوا الله بكلّ نتائج الحسابات.
ونحن في شهر رمضان الذي أفاض الله فيه روحيّته علينا جميعاً وجعله شهره وجعلنا ضيوفه وجعلنا من أهل كرامته، في هذا الجوّ الروحي، لماذا لا نجعل روحيّتنا تتفايض على علاقاتنا؟ لماذا لا نعيد النظر في كلّ ما انطلق فيه المستكبرون والضالّون والمضلّلون والفاسقون ليملؤوا قلوبنا بالحقد بعضنا على بعض. الله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات : 10] وأنتم تقولون لبعضكم إنّهم أعداء، كيف يمكن أن نجمع هذا مع هذا، لماذا نصرّ على الخطأ؟ ولماذا نصرّ على الفتنة؟ ولماذا نصرّ على أن نكون أدوات وقطع شطرنج بيد الآخرين ممّن يكيدون للإسلام وأهله وللإيمان وأهله؟ فلنرجع إلى الله ولنجلس في حساب مع الله، ولنعرف أنفسنا هل نحن سائرون أم راجعون، هل نحن متقدّمون أم متأخّرون؟ هل نحن في طريق الله أم في طريق الشيطان نسير؟ فكِّروا في {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...} [البقرة : 185]، تعالوا إلى القرآن فاحتكموا إليه، وتعالوا إلى القرآن فاهتدوا به، وتعالوا إلى القرآن ولينفتح بعضكم على بعض من خلاله، إنَّ الشيطان يعمل على أن يكيد، وإنَّ الشياطين تتحرّك لتكمل اللّعبة وتتحرّك من أجل أن تسقط الإسلام والمسلمين ومن أجل أن تهاجم الإيمان والمؤمنين بكلّ الوسائل، فإذا كان لكم شغل بإسلامكم، وإذا كان لكم شغل بإيمانكم فانطلقوا حتّى تنفتحوا على الله وتنغلقوا على الشيطان. لقد قال الله لنا عن الشيطان: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة : 91]. أقولها لكلّ إخواني المؤمنين والمؤمنات ممّن عبثت بهم الفتنة، وممَّن كانوا وقودها، وممَّن يعمل الآخرون من أجل أنْ يحرِّكوها ويمدّوها على أساس العصبيّة لا على أساس الإيمان؛ لنترك العصبية جانباً ولننفتح على كلام الله ولنرتبط بأحكام الله ولنعرف أين مواطن طاعة الله وأين مواطن معصية الله، لنستفد من شهر رمضان، لنرجع إلى ربّنا ولنرجع إلى إيماننا ولنرجع إلى وعينا في ذلك كلّه. إنَّ الأعداء يحيطون بنا من كلّ جانب، على مستوى الداخل والخارج، وإنَّ الأحزاب قد تجمَّعت، أحزاب دولية ولا أتحدَّث عن أحزاب محليّة، تماماً كما هي الأحزاب تجمَّعت على رسول الله، وأرادت أن تحاصر المدينة، فالأحزاب الأميركية والأوروبية والسوفياتية تجمَّعت على الإسلام من أجل أن لا تُمكِّن المسلمين من أن يأخذوا حريّتهم ويربحوا قضاياهم وأنْ يتحرّكوا من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، إنّهم يحيطون بنا من كلّ جانب ويخطّطون لنا في كلّ مجال ويعملون على أن يعقدوا حلفاً غير مقدَّس، حلفاً دولياً أو حلفاً إقليمياً يتحرّك من خلال أدوات محليّة.
صفّاً واحداً أمام الكفر
في هذا المجال، لا تستغرقوا في خصوصيّات اللعبة ولكن استغرقوا في الأجواء التي تتحرّك فيها كلّ هذه الخيوط التي يُراد تحريكها في حياتنا من أجل أن يكون بأسنا شديداً بيننا، ومن أجل أن نكون رُحَماء على الكفَّار أشدَّاء في ما بيننا. المسألة هي هذه، ونحن نريد أن نذكّر كلّ أهلنا هنا وفي البقاع وفي الجنوب بأنَّ الجمهورية الإسلامية قد أرسلت وفداً برئاسة آية الله جنّتي(1)، الرجل العاقل المستقيم العالِم المنفتح، من أجل أن ترأب الصدع ومن أجل أن تجمع الشمل ومن أجل أن تصلح بين المؤمنين والمسلمين على أساس العدل، وعلى أساس الحقّ، وعلى أساس الأبوّة للجميع، ولهذا فإنّنا ندعو الجميع، كلّ الجميع، سواء كانوا في مستوى المسؤولية أو كانوا في مستوى القاعدة، إلى أن يتعاونوا مع هذا الوفد الذي نال بركة إمام الأُمّة الإمام الخميني (حفظه الله) من أجل أن تعود الأمور إلى واقعها وينطلق الجميع للوقوف صفّاً واحداً أمام الكفر كلّه وأمام الظلم كلّه وأمام الاستكبار كلّه على أساسٍ من مصلحة الإسلام والمسلمين وعلى أساس من مصلحة المستضعفين، ولا عذر لأحد في أيّ موقع من المواقع في الابتعاد عن رسالة هذا الوفد وعن مهمّته لأنّها تتحرّك في الإطار الشرعي الذي ينبغي لكلّ الناس أن يلتزموه في هذا المجال.
هجمة أميركية على المنطقة
ونحن في الدائرة الواسعة التي نعيشها في هذه المرحلة من تاريخنا الإسلامي، نجد أنّ هناك هجمة أميركية على المنطقة كلّها وعلى كلّ القضايا المرتبطة بكلّ مسائل الحريّة في المنطقة، فنحن نجد مثلاً أنّ أميركا عملت منذ اللحظة الأولى على أساس أن تكون السند القوي لـــ "إسرائيل"، تحفظ أمنها وتخدم سياستها وتحرّك كلّ خيوط اللّعبة السياسية والأمنية في المنطقة لمصلحتها، وإذا جرَّب أحد أن يدينها إدانة كلامية في مجلس الأمن فإنّها تبادر إلى منع ذلك، لأنّها تريد لـــ "إسرائيل" أن تكون القوّة الكبرى في المنطقة لتحميَ مصالحها الذاتية ومصالح أميركا الاستكبارية في المنطقة، لتكون شرطي المنطقة، ولتكون الذراع الذي تضرب به أميركا. وقد لا يكون من المصادفة أنّ أميركا توقِّع حلفاً واتّفاقاً استراتيجياً في كلّ المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية في ذكرى مرور أربعين سنة على تأسيس الكيان الصهيوني ويقف رئيس الولايات المتحدة ليقول: إنَّنا نضمن أمن "إسرائيل" بالمطلق، كم يتصدّق على العرب بأنْ يفكِّروا في السلام، ولكن أيّ سلام هو سلام ريغان(1)، إنّه سلام "إسرائيل"، السلام الذي يخدم "إسرائيل" مئة في المئة. وهكذا نجد أنَّ "إسرائيل" تأخذ من أميركا كلّ شيء، أمّا العرب فإنّهم يأخذون الفتات وبشروط تجعل كلّ سلاح يدخل إلى أيّ أرض عربية يكتب عليه ممنوع استعماله ضدّ "إسرائيل"، وعندما أعطت أميركا مصر السلاح فإنّها فعلت بعد أن أصبحت مصر تمثّل إحدى القواعد الاستراتيجية للمصالح الأميركية في المنطقة تماماً كما هي "إسرائيل". ولذا فإنَّ أميركا في المنطقة تتحرّك على دعامتين أساسيّتين استراتيجيّتين هما مصر من جهة و"إسرائيل" من جهةٍ أخرى، إنَّ أميركا انطلقت قبل مدّة في مبادرة وقالت: إنّها أفكار للسلام ومبادرة للسلام، ولكنّها انطلقت في ذلك على أساس أنّها تريد أن تُفشِل الانتفاضة المجاهدة في فلسطين، وأرادت أن تشغل العالَم عنها، وأرادت أن تقدّم لكلّ الأنظمة العربية بعض الطعم في ما يطالبون به، وبعض التهديد في ما يخافون منه، حتّى لا يمتدّوا كثيراً في تأييد الانتفاضة ولو شكليّاً، إنّها رأت أنّ العالَم شُغِل بالانتفاضة، وأنّ مصداقية "إسرائيل" التي كانت تقدّم نفسها على أنّها الدولة الديمقراطية الحضارية في المنطقة أصبحت تمثّل الدولة المتعسّفة النازية في المنطقة، وأصبح الكثيرون في الغرب يقارنون بينها وبين النازي في ما تفعله في فلسطين، عند ذلك خافت أميركا على مصداقية "إسرائيل" وعلى مصداقيّتها هي، ولذا أطلقت المبادرة، وجاء وزير خارجيّتها في جولات ورحلات مكوكيّة يعرف أنّها لن تؤدّي إلى نتيجة، ولكنَّ النتيجة التي كانت تريدها، هي أن يشغل العالَم عن الانتفاضة بالمبادرة الأميركية. ولهذا أصبح الحديث في الواقع السياسي عن المبادرة الأميركية وأصبحت الانتفاضة على هامش المبادرة، وأصبح بعض حكَّام العرب ومنهم مبارك غير المبارك، الذي كان يطلب هدنة ستّة أشهر لوقف الانتفاضة حتّى يدبّروا الأمر، كأنَّ المسألة الفلسطينية لم تدبّر كليّة ولم يعرفها أحد أو لم يفهمها أحد، ولهذا كان كلام وزير خارجية أميركا في البداية عندما قالوا له: ألاَ تخاف من الفشل قال: إنَّ الفشل صناعتي، يعني هو يعرف أنّه سيفشل، ولكنّه يريد أن يسوّق الفشل بنجاح.
وهكذا رأينا أنّ العالَم سَكَتَ الآن، بدأ يسكت عن فظائع "إسرائيل" في الانتفاضة في الوقت الذي انطلقت "إسرائيل" لتزيد من فظاعتها ووحشيّتها وهمجيّتها أكثر بكثير من بداية الانتفاضة. أميركا لا تريد أن تحلّ المشكلة الفلسطينية إلاّ لحساب المصالح الإسرائيليّة.
ورقة أميركية
وهكذا انطلقت أميركا هنا في لبنان، وبدأت تتحدّث عن حلّ، وبدأ الكثيرون يهلِّلون ويصفّقون ويقولون: وأخيراً تنازلت أميركا وبدأت تهتمّ بنا، وبدأ السياسيون يتحدّثون عن التفاؤل وعن الآمال الكبيرة التي سنجنيها من خلال ذلك، فماذا حدث؟ إنَّ طبخة البحص هذه انطلقت هنا وهناك وبدأوا يقولون: إنّها تعسَّرت وإنَّ الأمر يتحرّك الآن بطريقة ضبابيّة وبدأ الكلام، إنَّ أميركا لم تأتِ إلى لبنان لتفصل بين الأزمة اللبنانية وبين مشكلة الشرق الأوسط التي هي المسألة الفلسطينية وإنّما جاءت لتزيدها ارتباطاً ولتجعلها ورقة تلعب بها عندما يأتي المؤتمر الدولي. إنّها خافت أن تسقط الورقة اللبنانية من يدها، ولهذا جاءت لتعقِّد المشكلة وتجعل الجميع يتحدّثون عن المشاركة وغير المشاركة، ولكن من دون طائل، وهي تعرف كيف تخلق الطرق المسدودة والأبواب المسدودة. ولهذا فإنَّ المحادثات التي قامت بها أميركا في هذا المجال ليست هي المحادثات اللبنانية في الدائرة اللبنانية، بل كانت في المحادثات الإقليمية في مصالح أميركا في المنطقة لا في مصالح اللبنانيين في لبنان وإنّما كانت تلك المحادثات مجرّد غطاء لأشياء أخرى في هذا المجال. ومن هنا فإنَّ اللبنانيين يقفون الآن بعد كلّ تلك الجولات أمام الجوّ الضبابي الذي لا يعرفون فيه ماذا حدث وماذا هناك، لأنَّ المسألة اللبنانية ليست مسألة محليّة في بدايتها وإنّما هي مسألة خارجية، إنَّ الفتنة اللبنانية تدخل في دائرة السياسة الخارجية اللبنانية وللدول الإقليمية والدولية ولا تدخل في دائرة السياسة المحليّة لكنَّ السياسة المحليّة اعتبرت طعماً لحركة السياسة الخارجية، ولهذا فقد لا نستطيع أن نقول للناس أنْ يناموا على حرير لأنَّ حرير أميركا هو شوك ينخز كلّ وجودنا وكلّ مستقبلنا.
ولهذا فإنَّ علينا أن نفهم القضية على هذا الأساس، لأنَّ أميركا لا تريد خيراً بكلّ الشعوب إلاّ بما يخدم مصالحها من قريب أو من بعيد.
أميركا وعدوانها على الخليج
إنّنا نريد في هذه الدائرة أيضاً أن نفهم أميركا جيّداً من خلال ما قامت به في الخليج من ضرب المنصّتين الإيرانيّتين اللّتين لا تحملان أيّ طابع عسكري بل لهما طابع اقتصادي نفطي، وفي الوقت نفسه ضربت بعض السفن والزوارق الإيرانية على أساس أن توحي لإيران بأنَّ عليها أن لا تخربط مواقعها وأن لا تسيء إلى وجودها في الخليج باعتبار أنّها سيّدة الخليج، ولم تقتصر على ذلك بل إنّها أعطيت الضوء الأخضر لاحتلال الفاو بطريقةٍ وبأخرى، ربّما لم يكشف النقاب عن تفاصيلها، ولكنَّ الجميع يجمعون على أنّ الجوّ في المنطقة وفي المعركة كان جوّاً أميركياً، قد يكون بشكلٍ مباشر وقد يكون بشكل غير مباشر، وهلَّل الكثيرون لهذه الهجمة الأميركية وتساءلوا بإشفاق أنّ إيران تريد أنْ تنتحر عندما تقف في وجه أميركا، ولكنّهم لا يعرفون أنّ الجمهورية الإسلامية تنطلق من قاعدة شعبية واسعة تدعم كلّ مواقفها وكلّ مواقعها حيث إِنّ الشعب هناك يشتدّ أكثر ويقوى أكثر كلَّما وجّهت إليه الصدمات أكثر وكلّما وجّهت إليه التحدّيات أكثر، لهذا كانت إيران الإسلام تعمل على أساس أن توحي لأميركا بأنَّ الضربة لا بدّ أن ترد بضربة، وإنَّ أيّ موقف لا بدّ أن يقابله موقف، لأنَّ المسألة الآن ليست مسألة الحرب العسكرية الشاملة أو الحادّة بين إيران وبين أميركا، بل إنَّ المسألة المطروحة في السّاحة الآن هي الحرب النفسية التي تريد أميركا من خلالها أن تضغط نفسياً على إيران وعلى الشعب الإيراني حتّى يسقط أمام الجبروت الأميركي، ولهذا ربّما استطاعت أميركا أن تؤذي إيران أكثر ولكن أن تقف إيران أمام البوارج الأميركية لتسقط طائرة أميركية ولتغرق فرقاطة أميركية؛ هذا في الحسابات العسكرية النفسية يعتبر انتصاراً كبيراً، لأنَّ المسألة أنّ المنطقة قد اعتادت أنّ أميركا إذا أرادت شيئاً أن ترفع لها كلّ الأيدي خضوعاً وانقياداً في كلّ المجالات، أمّا أن يبقى هناك أحد يقف ليؤكّد شعاراته من موقع أن يقابل الضربة بضربة بقطع النظر عن النتائج السلبية، إنَّ هذه رسالة تؤكّد أنّ الإسلاميين لن يستسلموا وأنّهم عندما رفعوا شعاراتهم في العالَم فإنّهم لم يرفعوها من موقع الانفعال والحماسة ولكنّهم رفعوها من موقع التخطيط والدراسة الدقيقة الواعية. إنّنا نريد أن نقول دائماً كما كنّا نقول في أكثر من مجال، إنَّنا لسنا ضدّ الشعب الأميركي ولسنا ضدّ الشعوب الأوروبية ولسنا ضدّ شعوب العالَم الآخر وإنْ كنّا نختلف مع هذه الشعوب في كثيرٍ من المواقع والمواقف الفكرية والسياسية لأنّنا لا نعتبر أنَّ علاقات الشعوب في ما بينها يمكن أن تنطلق من خلال أنّ الاختلاف يعني الحقد ويعني العداوة، لكنَّنا ضدّ الإدارات السياسية التي تعمل على العبث بقضايانا وعلى مصادرة حاضرنا ومستقبلنا وعلى تحويلنا إلى حيوانات للتجارب. إنّهم يخترعون الأسلحة ويعطونها لـــ "إسرائيل" ولغير "إسرائيل" من أجل أن يجرِّبوا الأسلحة بنا ومن أجل أن يجعلوا ساحاتنا مختبراً للتجارب لأسلحتهم.
أميركا مسؤولة عن قتل الأطفال
لهذا إنَّنا نعتبر أميركا مسؤولة عن كلّ طفل يسقط وعن كلّ امرأة وعن كلّ شيخ وعن كلّ بيت يدمَّر، لأنَّ ذلك يحدث من خلال السلاح الأميركي ومن خلال السياسة الأميركية ومن خلال الدعم الأميركي. إنَّ أميركا تتحدّث عن الإرهاب وعن العمليات الإرهابية، لكنّها لا تتحدّث بكلمة واحدة عن العمليات الإرهابية الإسرائيليّة، كيف نفسّر عملية اغتيال أبو جهاد التي نفَّذها كومندوس إسرائيلي يذهب بطريقة معيّنة ويهجم على بيت شخص بطريقة أمنية دقيقة ويقتله بهذه الطريقة التي عرفها الناس من خلال الإعلام، ماذا نسمّي ذلك؟ أليسَ هذا، حتّى في المصطلح الدولي، عملية إرهابية؟ لأنّك عندما تهجم إلى بيت شخص وتقتله، أيّ إرهاب غير هذه الصورة، أيّ إرهاب غير ما تعطيه هذه الصورة؟ كيف أنّ أميركا لم تستنكر هذا الإرهاب وهي عملية إرهابية مئة في المئة، قد يكون عذر أميركا أنّ هذا القائد الفلسطيني يعتبر في موقع المقاتِل لـــ "إسرائيل". فالعملية عملية قتال وعملية حرب. إذاً لماذا لا تقولون: إنَّ كلّ الذين يقومون بعمليات مماثلة أو غير مماثلة يفهمون أنّ المسألة مسألة حرب، لماذا عندما يكون الإرهاب إسرائيليّاً يكون دفاعاً عن النفس، وعندما يكون من جهةٍ أخرى يكون جريمة، وما إلى ذلك، نحن لا نريد للإرهاب أن يفرض نفسه على العالَم، وقد قلنا مراراً: إنّنا لا نوافق على الإساءة إلى الأبرياء، ولكن لماذا يكون هناك صيف وشتاء تحت السقف الأميركي في السّاحة العامّة في الحياة. من هنا إنّنا نريد أن ننبّه إلى أنّ أميركا تريد أن تظلِّل العالَم وتجعله يتبنّى كلّ شعاراتها وكلّ لافتاتها. إنّنا نريد أن نقول: إنَّ علينا أن نحدِّق بكلّ هذه اللافتات الأميركية لنعرف المسألة تماماً؛ لنعرف أنّ أميركا تنسّق مع "إسرائيل" في مصادرة الشعب الفلسطيني وفي إذلاله، وفي مصادرة الشعب اللبناني وفي إذلاله بكلّ ما عندها من طاقة، ولكنّها أرادت من خلال ذلك أن تسقط انتفاضة هذا الشعب وأن تعتبر المسألة مسألة إحداث شغب وإحداث فوضى وما إلى ذلك، لكنَّ ثقتنا بالشعب المجاهد في فلسطين وبالشعب المجاهد في لبنان، إنَّ ثقتنا بشعبنا المنفتح على الإسلام والمنفتح على الإيمان تجعلنا نشعر بأنَّ الشعلة لم تنطفى، وأنّ المسيرة سوف تتقدَّم، وأنّ الشهداء سوف يصنعون النصر عاجلاً أو آجلاً، وأنَّ المسألة في كلّ حركات الشعوب هي أن تعرف الشعوب كيف تواصل المسيرة ولا تسقط أمام الآلام ولا تسقط أمام التحدّيات والمشاكل. إنَّنا نقول للمجاهدين الفلسطينيين: تابعوا مسيرتكم، لن تخسروا إلاّ أغلالكم وقيودكم، تابعوا المسيرة لتنطلق منكم القدوة كما انطلقت القدوة من هنا، من لبنان الإسلامي المقاوم، لتنطلق القدوة إلى المنطقة كلّها لتحرق كلّ هذه الأوضاع التي أرادت أن تحاصركم وأن تحاصر كلّ قضايا الحريّة وكلّ قضايا الإسلام في المنطقة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
بالوعي والإخلاص نصون عزّة الأُمّة(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد مخاطباً رسوله محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومخاطباً كلّ المؤمنين وكلّ العاملين في خطّ الإسلام من خلال خطابه لرسوله {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً*وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً*وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً*يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً*هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً*وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً*وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً*وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [النساء: 105 ـــ 112].
أساس العدل
هذه الآيات، هي من الآيات التي أراد الله سبحانه وتعالى من خلالها أن يركّز في المجتمع الإسلامي كلّه أساساً من أُسس العدالة التي جعلها الله للنّاس جميعاً، فليس هناك في كلّ ما يختلف الناس فيه تمييز في العدالة بين شخصٍ وآخر، فأنتَ لا بدّ لك أن تعدل حتّى مع الكافر إذا كان له حقّ عندك فليس لك أن تضيّع على الكافر حقّه إذا جعل الله له الحقّ، وليس لكَ أن تضيّع الحقّ على عدوّك إذا كان له عليك حقّ، كن الإنسان الذي يحكم بالحقّ لأنّك تلتزم الكتاب الذي أنزله الله بالحقّ، وإذا أردت أن تحكم بين الناس في ما يختلفون فيه أمامك وكنتَ في موقع الحكم، فعليك أن تحكم بما أراك الله من خلال فهمك للحقّ، وسيسألك الله غداً على أيّ أساس حكمت، وعلى أيّ أساس عرفتَ أنّ الحقّ مع هذا وأنّ الحق ليس مع هذا، وفي جميع الأحوال، لا يجوز لك أن تكون مدافعاً عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله والذين خانوا أماناتهم وخانوا عهودهم وخانوا الناس من حولهم، ليس لكَ ذلك، لأنَّ الله يقول: {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً}، لا تكن مدافعاً عن الخائنين حتّى لو كان الخائن أباك أو ولدك أو من عائلتك أو من بلدك أو من طائفتك، لأنَّ المسألة ليست مسألة الأشخاص في ما يتميَّزون به من قربهم إليك ومن بعدهم عنك، ولكنَّ المسألة هي مسألة قرب الحقّ إلى موقفك وبُعد الباطل عن موقفك، لأنَّ الحقّ أقرب إليك من كلّ إنسان، {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً*وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ} إذا صدرت منك بادرة تعاطف مع الخائنين أو صدرت منك بادرة تأييد أو مساعدة للخائنين أو حكم لمصلحة الخائنين، فاستغفر الله إذا أردت أن تتراجع عن خطّك وعن مبادرتك فإنَّ الله كان غفوراً رحيماً، سيغفر الله لكَ ذنبك إذا عرف منك صدق النيّة، وسيرحم الله موقفك إذا عرف أنّك ستتراجع عنه.
الله لا يحبّ الخائنين
ثمّ بعد ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} لا تجادل عن هؤلاء الذين يخونون أنفسهم عندما يسيرون في خطّ الخيانة وفي خطّ المعصية وفي خطّ الجريمة، لا تدافع عنهم حتّى لو كانوا جماعتك حتّى وعشيرتك أو أولادك أو إخوانك، لا تجادل عنهم، لا تقف مع الخائنين في موقف دفاع عندما يتحرّكون في الحياة من موقع الخيانة لأنفسهم إذا عملوا بمعصية الله وإذا عملوا بالبغي على عباد الله {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً}، لأنَّ الله لا يحبّ الخائنين ولا يحبّ الآثمين، لا يحبّ الذين يخونون أنفسهم ويخونون الحياة من حولهم ويخونون الله سبحانه وتعالى في جميع مجالات حياتهم. إنَّ الله لا يحبّ الآثمين الذين يرتكبون المحرَّمات فيتحرّكون في حياتهم على أساس أن يأخذوا بكلّ ما حرَّم الله ويتركوا كلّ ما أوجب الله، هبهم من الأغنياء، هبهم من أصحاب الوجاهة، هبهم من السياسيين، إذا أردت أن تجادل عن شخص فكِّر: هل هو في خطّ الله يسير، أم في خطّ الشيطان؟ تلك هي قصّتك كمسلم، إذا أردت أن تدافع عن شخص بأيّ أسلوب من أساليب الدفاع، وإذا أردت أن تجادل عن شخص بأيّ أسلوب من أساليب الجدال.
{وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} فإذا كان الله لا يحبّ هؤلاء الخوّانين الآثمين فكيف تحبّهم أنت، إنَّ المؤمن هو الذي يحبّ مَن يحبّ الله، ويبغض مَن يبغض الله، قال بعض أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) لبعض أصحابه وقد سأله عن موقع الحبّ والبغض في مسألة الإيمان قال له: "وهل الدين إلاّ الحبّ والبغض"، أن تحبّ مَن أحبّ الله وأن تبغض مَن أبغض الله، أن يكون حبّك سائراً في اتّجاه ما يحبّه الله وأن يكون بغضك سائراً في اتّجاه ما يبغضه الله. ثمّ يقول الله سبحانه وتعالى: {هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، في المحكمة كنتم المحامين الذين يدافعون عن الخونة ويدافعون عن الباطل، في داخل المجتمع، كنتم المدافعين عن المجرمين وعن الخونة، وكانت لكم قوّة تستطيعون من خلالها أن توجّهوا الأمر إليهم وكانت عندكم إمكانات تستطيعون أن تبرِّئوهم من خلالها، يمكن أن يكون لكَ بعض القوّة من مال وجاه وما إلى ذلك لتفرض رأيك على الناس، لكن تمرّ الدنيا، تعيش أنتَ زمناً ويعيش هؤلاء الخونة زمناً، ثمّ تلتقون غداً عند الله سبحانه وتعالى: {إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس : 53] ووقفتم أمام الله ووقف الخونة هناك، ووقف المجرمون هناك، هل تستطيعون أن تجادلوا، هل عندكم حجّة، هل عندكم إمكانات، {هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}، مَن يكون الوكيل، المحامي، هل هناك مكاتب للمحاماة، هل هناك مكاتب للشفعاء، حتّى الشفعاء الذين يشفعهم الله بالناس ليست لهم مكاتب مستقلّة وليست لهم بطاقات مستقلّة، الله يعطيهم البطاقة لمن يشفعون له والله يعطيهم الإذن لمن يشفعون له {... وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء : 28]، {هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، إنّك عندما تجادل عن الخونة فإنَّك انطلقت في خطيئتين: الخطيئة الأولى؛ أنّك جادلت عن خائن وهو حرام، والخطيئة الثانية أنّك خدعت الناس عندما صوَّرت لهم هذا الخائن بصورة المخلص، أو هؤلاء الآثمين بصورة المطيعين. الله يريد منّا أن نحافظ على صورة الحقّ في أفكارنا فلا نحمل أيّة صورة مزيّفة، بل لا بدّ أن تكون الصورة حقيقية مضيئة واقعية. ثمّ يريد الله لك أن لا تشوّه للنّاس الصورة من حولك، ليس من حقّك، هذا يسمّى عدواناً على الناس، أنتَ عندما تدخل شخصاً أو جماعة في قناعات الناس على أنّهم طيّبون وهم ليسوا بطيّبين فمعنى ذلك أنّك اعتديت عليهم عندما استفدت واستغللت قدرتك على الإقناع في أنْ تجعلهم عاطفياً وشعورياً في قبضة أُناس ليسوا في مستوى المسؤولية.
ولهذا فإنَّ الله سبحانه وتعالى يريد لنا أن لا نحمل الصورة المزيّفة وأن لا نحرّك هذه الصورة في حياة الناس ليبقى الناس مع الحقّ في كلّ حدوده وفي كلّ مواقعه. أتعرفون كيف نزلت هذه الآيات، نزلت لتبرّئ يهودياً، ومعروفة آنذاك طبيعة علاقات اليهود بالإسلام، وقد عبَّر عنها قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} [المائدة : 82] ومع ذلك الله أنزل آيات كثيرة ليبرّئ يهودياً ممّا أُريد أن يُلصَق به من تهمة وهو بريءٌ منها، سرق بعض الناس في المدينة، وكان السارق من بعض العائلات المهمّة، وكان مسلماً، فتجمَّع قومه وتدبَّروا في أمرهم وكيف يدبّرون هذه الفضيحة وماذا يفعلون. في الليل، اجتمعوا دون أن يسمعهم أحد، وجهاء العشيرة أو وجهاء العائلة شعروا بالعار، أخذوا هذا المال المسروق، أو عملوا طريقة ليظهر وكأنَّ اليهودي هو السارق وقالوا إنَّ اليهودي سوف يحكم عليه بشكلٍ سريع لأنَّ يهوديّته تمنع من التدقيق في أمره، وكانت المعطيات تتّجه إلى أن يكون اليهودي هو السارق لأنَّ هناك أشياء، شكليّات، قد تتجمَّع حول بريء فيخيَّل إليك أنّه المجرم، وكاد الحكم أن يصدر على اليهودي لأنَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يحكم بحسب المعطيات عنده لا بعلم الغيب، نزلت هذه الآية، {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ} يجتمعون في اللّيل ويتداولون، ماذا نقول بحقّ هذا اليهودي، كيف نرتّب أمر اتّهامه، كيف نرتِّب التهمة له، كما يفعل بعضنا في كثيرٍ من الحالات عندما نختلف ويكون واحد من أصحابنا أو من عشيرتنا أو من طائفتنا أو من بلدنا مُداناً بشيء ونحاول أن نبرِّئه، كيف نجتمع على أساس عائليّ أو على أساس حزبيّ أو على أساس بلديّ أو على أساس طائفيّ، كيف نستطيع أن نبرّئ صاحبنا ونلصق التّهمة بإنسانٍ آخر، ألاَ نفعل ذلك كثيراً ونبرّره كثيراً، والوسط السياسي غالباً، يأخذ بمثل هذا، والوسط العشائري غالباً يأخذ بمثل هذا، والوسط الطائفي غالباً يأخذ بمثل هذا، لأنَّ المسألة لا تنطلق من خلال الارتباط بالحقّ ولكنّها ترتبط من خلال الارتباط بالعصبية في ذلك كلّه {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} [النساء : 108] نزلت هذه الآية لتبرّئ هذا اليهودي على الرغم من يهوديّته لأنَّ العدالة في الإسلام لا تنظر إلى دين الشخص، أيّ دين يلتزم، ولكنّها تنظر إلى حقّ الشخص في أيّ مجالٍ من المجالات لتعطيه مهما كان دينه ومهما كان موقعه. وعلى هذا الأساس تابعت الآية {وَمَنْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} تقول إذا صدر منكم شيء من هذا القبيل نتيجة عاطفة أو نتيجة حزبية أو نتيجة طائفية، إذا صدر منكم مثل هذا الشيء وتبتم فإنَّ الله يتوب عليكم {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} إذا تراجعت وقلتَ يا ربّ لقد أخذت بالعاطفة فدافعتُ عن مجرم على حساب بريء، يا ربّ لقد ظلمتُ نفسي ولقد عملت سوءاً وأنا أستغفرك من ذلك، فالله يقول لك إذا صدقت نيّتك في التوبة فإنّي أغفر لك {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً*وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} يعني عندما يسيء شخص من العشيرة أو من العائلة أو شخص من الطائفة أو من حزب أو من أيّة جهةٍ كانت من التجمُّعات الموجودة في المجتمع، إذا كسب إثماً فلماذا تشعر العشيرة أو الطائفة أو الحزب أو الجماعة بأنَّ هذا الأمر مشكلة كبيرة لها، إنّه لا ينال العشيرة شيءٌ من إثم فرد من العشيرة، ولا ينال العائلة شيءٌ من إثم فرد من أفراد العائلة {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} لأنَّ المسؤولية في الإسلام فردية، أبوك لا يتحمّل إثمك، أنتَ تأثم، أمّا أبوك فإنسان طاهر لا يجوز لإنسان أن يتعرَّض له بكلمة سوء، وهكذا عندما يخطئ إنسان فهو مَن يتحمّل مسؤولية خطئه، هذا الشيء المتعارَف عند الناس، إذا انحرفت امرأة أو فتاة من العائلة فإنّهم يشعرون بأنَّ شرف العائلة قد تلطَّخ، ولهذا فإنّهم يعملون على قتل هذه الإنسانة من دون دراسة الظروف، الإسلام يقول: لكلّ إنسان شرفه الخاص، ليس هناك شيء اسمه شرف العائلة، أمّا إذا انحرف فرد من العائلة أو أخطأ، فشرف العائلة لم يدنَّس لكنّ شرفه هو الذي يُدَنَّس، ولهذا لا بدّ أن يعامَل معاملة على أساس المسؤولية الفردية في هذا المجال. هذه العقلية الإسلامية العادلة التي تجعلك تواجه المسألة على أساس أنّ هذا الإنسان هو مَن كَسَبَ الإثم، إذاً هو يعاقَب، ثمّ مَن الذي يعاقِب وكيف يكون العقاب؟ هذه الأمور لا بدّ أن تخضع لحدود ولا تنطلق في دائرة العصبية. ولعلَّ العصبية هي مجال عصبيّات ظالمة والسبب أنّ المجتمع العشائري الآن يعتبر أنّ شرف العشيرة يدنّس إذا أخطأت الفتاة، ولكنّ شرف العشيرة لا ينبغي أن يدافع عنه إذا أخطأ الشاب، إذا أخطأت الفتاة فمعناه أنّ هناك العار، ولكن إذا أخطأ الشاب فعلينا أن نوكل له محامياً، وعلينا أن نخوض في معركة للعشيرة ضدّ العشيرة الثانية حتّى نحميه من اعتداء أهل البنت التي اعتدى عليها، أليس كذلك؟ لأنَّ المرأة ضعيفة ولأنّ الشاب يخدم العشيرة، المرأة لا تُقاتل فإذا خسروا امرأة فإنّهم لا يخسرون بندقية ولكنَّ الشاب يخسرون معه بندقية، إذا كانت المسألة مسألة الشرف، فأيّ فرق بين أن يسيء أحد إلى شرفك أو تسيء إلى شرف الآخرين؟ لكن إذا كانت المسألة مسألة جاهلية فإنَّ الجاهلية تفرض نفسها على عقولنا حتّى لو كنّا مسلمين، يقال إنّ أبا العلاء المعرّي كان لا يأكل لحم حيوان، عنده فلسفة في الموضوع، مرِضَ ذات يوم فوَصَفَ له الطبيب دجاجاً، فجيء له به، وهو لم يكن يرى، أخذه بيده، قال له: استضعفوك فوصفوك، ألاَ وصفوا شبل الأسد، لماذا لم يطلب الطبيب أن يأتوا له بلحم ابن الأسد؟ لأنّهم لا يستطيعون أن يطالوه، لكن أنتَ ضعيف يستطيعون أن يطالوك في أيّ وقت.
وهكذا نجد في حياة الناس السياسية والاجتماعية عندما تخطئ شخصية كبيرة فإنَّ كلّ الناس يتبرّعون للدفاع عنه ولحمايته حتّى لو كان في مستوى الجريمة، وعندما يخطئ عنصر بسيط فإنّ كلّ قوانين العالَم تنزل على رأسه لتدافع عن الحرية وعن العدالة وعن الحقوق، "إِنَّما أهلك مَن كان قبلكم أنّهم كانوا إذا سَرَقَ الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ، والله لو سَرَقَتْ فاطمة بنت محمّد لَقُطِعَت يدها".
هذا هو منطق الإسلام {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} أنتَ تفعل فعلتك، أو قريبك، ثمّ تلصقها ببريء مستغلاً قوّتك المالية أو قوّتك الإعلامية أو قوّتك السياسية أو قوّتك العشائرية لأنَّ الناس يقبلون منك ولا يقبلون من الآخر فتلصق التهمة به {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً} البهتان هو أن تنسب إلى إنسان ما لم يفعله {وَإِثْماً مُّبِيناً} إثماً واضحاً يعاقبه الله عليه يوم القيامة. فهناك حقَّان؛ حقّ خاص وحقٌّ عام، حقّ هذا الإنسان لأنّك اتّهمته بدون حقّ، والحقّ العام هو حقّ الله لأنّك كذبت وظلمتَ إنساناً في ما لا يجوّز لكَ الله ذلك.
التوازن في مصلحة المجتمع
هذه المسألة نواجهها في حياتنا لأنَّ التوازن في أيّ مجتمع من المجتمعات هو في مصلحة المجتمع، ومعنى التوازن أن يكون الناس عندك على حدٍّ سواء، من يحبّك ومَن لا يحبّك، مَن يكون معك ومَن لا يكون معك، مَن يكون قريبك ومن لا يكون قريبك، لأنّك بهذا تستطيع أن تحقّق مصلحتك ومصلحة الآخرين، لأنّك في هذا اليوم عندما تتّهم بريئاً فقد تكون في الغد أنتَ من الأبرياء ويتّهمك الآخرون. ما رأيك إذا كان بعض الناس قد اتّهموك بما أنتَ بريءٌ منه، ماذا تفعل؟ ألا تستنكر ذلك، لماذا لا تقبل أن يستنكر الناس عليك أن تتّهمهم وهم أبرياء وممّا عملته أنتَ ممّا عمله بعض أصحابك، هذا الخطّ العادل علينا أن نتعلّمه. ولعلَّ مسألة تعلّمه والعمل به من أصعب المسائل في حياتنا لأنّنا نتربّى على أساس أن يكون عدلنا وظلمنا خاضعين لحبّنا وبغضنا، أن نقول في من نحبّ ما لا يستحقّ، وأن ننسب إلى مَن لا نحبّ ما لا يستحقّ، هذا أمرٌ يجب أن نواجهه. وعلينا أن نكون ضدّ الخائنين، والخيانة ليست محصورة في دائرة خاصّة لأنّ الناس غالباً يتحدّثون عن خيانتين، خيانة سياسية وخيانة الأمانات والودائع، ولكنّ الخيانة تمتدّ في كلّ موضع تمتدّ فيه الأمانة، فهناك الذين يخونون أنفسهم، أنتَ تخون نفسك لأنّ نفسك جعلت ذاتها في تصرُّفك، في تصرّف إرادتك، ولهذا فأنتَ عندما تعصي ربّك فقد خنت نفسك، لأنّك عرَّضت نفسك لعذاب ربّك سواء عصيت الله في تصرُّفاتك الذاتية أو عصيت الله في تصرّفاتك مع الناس، أَلَم يتحدّث الله عن الذين يظلمون أنفسهم، {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء : 110] ربّما لا نستطيع أن نغيِّر هذا الإنسان، لكن علينا أن لا نعذره، وأن لا نبرِّر له عمله، وأن لا ندافع عن عمله. بعض الناس يملكون المال، ولكنّهم غارقون في الخمر وغارقون في القمار وغارقون في العبث وفي المجون وغارقون في ما حرَّم الله سبحانه وتعالى، ولكنّهم وجهاء، ويتحدّث بعض الناس عنهم ويندفع المؤمنون من أصحابهم وأقربائهم ليجادلوا عنهم، فلان صحيح أنّه لا يصلّي ولا يصوم، يشرب الخمر، يلعب القمار يتاجر بالمحرّمات، لكن فلاناً تبرَّع لحسينيَّة البلد، وفلان تبرَّع لهذا الموضوع فهو من أهل الخير، ويقف الناس من مشايخ وغير مشايخ ويتحدّثون عن هؤلاء الأغنياء المحسنين الذين يعطون المشاريع الاجتماعية (1%) ويعطون القمار (99%) ويعطون الظَّلَمة (99%) علينا أن لا نغرهم بأنفسهم على الأقلّ {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} [النساء : 107] هذا صريح كلام الله سبحانه وتعالى.
لقد اعتبر الإسلام مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المسائل الأساسية في سلامة المجتمع، وفي حياته، هذا نوع من الذين اختانوا أنفسهم والله لا يريدنا أن ندافع عنه، وهكذا عندما تكون المسألة مسألة أن يخون الإنسان حقوق الناس من حوله، عندما يكون للنّاس حقوق عنده سواء كانت هذه الحقوق حقوقاً مالية، أو كانت حقوقاً معنوية، ونحن نعمل على أن نبرّئه وندافع عنه ونعذره في كلّ ذلك.
إذا كنّا نريد الإسلام وهذا هو الأساس في توازن المجتمع، وفي نموّ العمل الصالح الخيِّر في المجتمع، لأنّه إذا، كان المحسن والمسيء عندنا بمنزلةٍ سواء وإذا كان الفاسق والمؤمن عندنا بمنزلةٍ سواء، فكيف يمكن أن يتشجَّع المؤمن، وكيف يمكن أن يتراجع المسيء، أو الفاسق، الله قال لكم: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ} [السجدة : 18] فكيف تساوون بينهما، وكيف تفضّلون الفاسق في بعض الحالات على المؤمن، وتفضِّلون المسيء في بعض الحالات على المحسن {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ*مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ*أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} [القلم: 35 ـــ 37] دلّوني على هذا الكتاب، إذا كان يبرّر لكم هذا الشيء. لهذا، في الواقع الذي تعيشه، الله يقول لك كن مع المسلم ولا تكن مع المجرم، والمسلم هو الذي يلتزم الإسلام في قوله وفي عمله وفي خطّه وفي نهجه بالحياة، والمجرم هو الذي يمارس الجريمة على مستوى العقيدة وعلى مستوى العمل. الله يقول إنّ هذا الحكم الذي يساوي بين المجرم والمسلم هو حكم سيّء لا يجوز لكم، بنص القرآن، أن تعملوا عليه.
أيُّها الإخوة، قد نعتبر هذه المسائل صغيرة بسيطة، لأنّها تدخل في ثرثرتنا الاجتماعية وفي حرتقاتنا السياسية وفي كثيرٍ من أوضاعنا العامّة والخاصّة، ودائماً عندما نتحدّث على أساس عاطفتنا لا على أساس مبادئنا نبرِّر المسألة بأنّ الجوّ هكذا، وقد يقول بعض الناس إنّ الكلام ليس عليه "جمرك" أليس هذا هو حديث الكثيرين؛ لكنَّ الكلام قد يشوّه صورة إنسان، وقد يوقع إنساناً في خطر، عندما تتّهم إنساناً بما فيه فأنتَ تعرّضه للخطر، وعندما تتحدّث عن إنسان بما ليس فيه فأنتَ تشوّه صورته، مَن أجاز لك أن تشوّه صورة إنسان؟ ومَن أجاز لك أن تعرّض إنساناً للخطر؟ ثمّ قد تتكلَّم كثيراً لأنّك تملك حريّة أن تتكلَّم، ولكنّك غداً لا تملك حريّة أن تتكلَّم، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ*إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ*مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 16 ـــ 18]، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} ليس هناك كلام، ثرثر ما تشاء الآن، تكلَّم ما تريد، أخطب بما تريد، صرِّح بما تريد، ولكن {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس : 65] وخشعت الأصوات للحيّ القيُّوم، ليس هناك كلام، ليس هناك ضوضاء، لهذا لا بدّ أن نتعوَّد أن نكون العادلين في كلامنا فذلك هو الأساس في ما نقبل عليه عند الله سبحانه وتعالى، {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء : 107] في أيّ مجالٍ كانت الخيانة حتّى عندما تكون مع مجتمع، ومع جماعة، قد ترى أنّهم على خير، ولكن إذا رأيت منهم ظلماً فقل إنَّهم ظلموا، وإذا رأيت منهم انحرافاً فقل إنّهم انحرفوا، وإذا رأيت منهم خيانة فقل إنَّهم خانوا، لا تجعلك العصبية في أيّ موقعٍ من الذين يتعصَّبون للباطل لأنّهم يتعصَّبون لمحور من محاوره الاجتماعية أو السياسية. هذا خطّ الله وهذا طريق الله، وهذا هو الذي قد يوقعنا في نار جهنَّم، "وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم"(1)، يعني ما يحصده لسانك من كلام باطل، لهذا لا بدّ أن نراقب ألسنتنا فلا نؤيّد فيها مجرماً ولا نتكلَّم فيها على بريء، ولا نعمل على أساس العصبية بل نعمل على أساس الحقّ.
وهكذا لا بدّ لنا من أن نواجه كلّ الذين يعملون على خيانة الأُمّة في قضاياها المصيريّة، وذلك عندما يتحرّكون في خطوط المشاريع السياسية التي تضغط على حريّة الأُمّة وعزّتها، أو الذين يحرّكون المشاريع العملية الاجتماعية التي تعمل على إفساد الأُمّة وعلى نشر الفوضى الأخلاقية في حياتها، كالذين يتاجرون بالمخدرات أو يتاجرون بالخمور، أو يفتحون مقاهي ومطاعم تقدِّم ما حرَّم الله سبحانه وتعالى في أيّ مجال، هؤلاء يخونون أخلاق الأُمّة ويخونون توازن الأُمّة.
شكر لإمام الأُمّة
نحن في هذا المجال، نريد في خطّ الأمانة على مصلحة الناس والمسلمين نريد أن نشكر باسمكم إمام الأُمّة الإمام الخميني (حفظه الله) الذي أرسل ممثّله ضمن وفد من أجل أن يطوِّق الفتنة التي حدثت بين الإخوة(2) والتي حاول الكثيرون ولا يزالون يحاولون في الداخل والخارج أن يعملوا على إعادتها من جديد، وقد استطاع وفد الجمهورية الإسلامية التي تتحسَّس آلام المسلمين ولاسيّما في لبنان والتي لم تمنعها مشاكلها الكثيرة التي تواجه فيها تحدّيات الاستكبار العالمي وجهاً لوجه من أن تهتمَّ بأمور المسلمين هنا، وقد استطاعت أن تصل إلى نتيجة جيّدة، فقد استطاعت أن تجمع الإخوة وتدفعهم إلى الحوار وإلى التعهُّد أمام الله بأن يمتنعوا عن أيّ قتال بينهم مهما كانت المشاكل، وأن يعملوا على حلّ المشاكل بطريق الحوار وأن يمتنعوا عن كلّ الحرب الإعلامية المضادّة وأن يعملوا على تأكيد المقاومة ضدّ "إسرائيل" بكلّ طاقاتهم، وأن يتحاوروا في سبيل الوصول إلى قواسم مشتركة، وما أكثر القواسم المشتركة في ما بينهم، وقد تحقَّقت هذه الروح ولا تزال الاجتماعات منعقدة في سبيل الوصول إلى نتائج إيجابية في أكثر من مجال، وقد رأيتم أنّ الإعلام الذي يهمّه أن نظلّ مختلفين وأن تظلّ الساحة كلّها مختلفة، كيف يبحث عن بعض الأشياء السلبية الصغيرة ليقول لقد فشلت المبادرة الإسلامية. المبادرة الإسلامية لم تفشل ولكنّها وضعت القطار على الخطّ. ونعتقد أنّ هناك إيجابيات كبيرة في هذا المجال ونحتاج من خلال الأُمّة التي تتحسَّس الأخطار التي يمكن أن تطبق عليها إذا حدثت أن تكون القلوب المفتوحة التي تنفتح على ما يجمع الشمل ولا تنفتح على ما يعقّد. لهذا نقول: لا بدّ للكلمات في هذه المرحلة أن تكون كلمات مسؤولة على مستوى القيادات وعلى مستوى القاعدة حتّى نتحرّك جميعاً في موقع المسؤولية من أجل أن نكون المسؤولين عن حاضرنا وعن مستقبلنا في كلّ مجال من مجالات الحياة.
دعوة إلى التكامل
إنَّنا ندعو الجميع إلى التكامل في هذا المجال حتّى يمكننا أن نحافظ على كلّ مكتسباتنا وحتّى نتمكّن من أن نعمل على تأكيد المقاومة والجهاد ضدّ "إسرائيل" حتّى نطرد المحتل من أرضنا وحتّى نتكامل مع العالم الإسلامي عندما يتحرّك العالَم الإسلامي لمواجهة "إسرائيل" من أجل أن تتحرَّر القدس ونتخلَّص من هذا السرطان الذي يطبق على كلّ مقدّراتنا وعلى كلّ واقعنا.
لعدم التمييز في قضية المهجّرين
ونحبّ أن نطلّ على قضية أخرى أُثيرت بالأمس قبل أيام وهي قضية المهجرين(1)؛ فهناك حديث وتظاهرات لعودة المهجرين، مهجّري الجبل ومهجّري شرق صيدا ومهجّري الضاحية كما يقولون، هناك حديث يضع هذه القضية كقضية أساسية مصيرية قبل أيّ حلّ للبنان، بحيث لا يمرّ حلّ للبنان إلاّ من هذه القضية. إنَّنا نحبّ أن نعلّق تعليقين على هذه المسألة.
أوّلاً: أنّ مسألة المهجرين هي مسألة إنسانية على أساس أنّ هناك اضطهاداً لإنسانية أيّ إنسان تقتلعه من بيته على أساس ما تملك من القوّة، ولهذا فإنَّ قضية المهجرين إذا أُريدَ لها أن تطرح بجديّة، بعيداً عن التسويق السياسي، وبعيداً عن الإثارات الطائفية، نتمنّى أن تنطلق تظاهرة من الشرقية إلى قصر منصور لتطالب بعودة مهجّري النبعة وسنّ الفيل وغيرهما من كلّ المناطق الشرقية. كنتم تقولون إنّ مهجّري الجبل وشرق صيدا يملكون بيوتاً وأرضاً هناك، إنّ مهجّري النبعة وبرج حمود وسنّ الفيل وغيرهما يملكون بيوتاً وأرضاً هناك، ويحملون الجنسية اللبنانية كما تحملون. إذا كنتم تريدون أن تطرحوا قضية المهجّرين فطالِبوا بعودة مهجّري المنطقة الشرقية، ونحن نطالب بعودة مهجّري الجبل وبعودة مهجّري شرق صيدا وبعودة مهجّري المريجة وحارة حريك، كيف يمكن أن تحلّ مشكلة المهجّرين من هذه المنطقة وبيوتهم يسكنها أُناس لهم بيوت... أين يذهبون.
إذاً لن تحلّ مشكلة المهجّرين من طرفٍ واحد، بل لا بدّ أن نطرح جميعاً المسألة كقضية إنسانية لبنانية، وعند ذلك يمكن أن يتّفق الجميع، كلّ المهجّرين يسيرون في تظاهرة واحدة ولن يستطيع أحد أن يطلق عليهم الرصاص.
ثانياً: إنَّ مسألة المهجّرين كما نعلم هي جزء من المسألة اللبنانية، ولهذا فإنَّ من الخيال والوهم أن نفكّر أنّ من الممكن حلّ مشكلة المهجّرين بدون حلّ المشكلة اللبنانية، لأنّ أيّ مُهَجَّر لا يستطيع أن يرجع إلى بيته إذا لم تكن هناك دولة تحميه، كيف يمكن ذلك، لو قيل الآن لمهجّري الجبل ارجعوا ولكن من دون أن ترجع الدولة ومن دون أن ترجع الضوابط القانونية فما هي أُسس حمايتها، لا تجعلوا قضية المهجّرين تدخل بالحرتقات السياسية ولكن اجعلوها تتّجه لتكون العنصر الضاغط على أن تحلّ المشكلة اللبنانية بطريقة يتساوى فيها الناس في الحقوق وفي الواجبات.
لا تفاؤل ولا تشاؤم
ثالثاً: هي أنّ المرحلة الحالية التي يمرّ بها البلد لا تزال مرحلة ضبابية يُراد من خلالها تصعيد التوتّر السياسي ومحاولة تحريك التوتّر الأمني في سبيل اتّخاذ مناخ صالح لكثير من اللاعبين السياسيين على مستوى إقليمي وعلى مستوى دولي مع هامش صغير للاعبين على المستوى المحلي. ولهذا فإنَّ المسألة لا تزال تراوح مكانها؛ كانت هناك كلمات التفاؤل وأصبح الذين أطلقوا كلمات التفاؤل يتحدّثون بكلمات التشاؤم، ولكنَّنا نقول: ليست المسألة مسألة تفاؤل أو تشاؤم، المسألة هي أنّ المرحلة السياسية سواء على مستوى لبنان أو على مستوى المنطقة من أكثر المراحل صعوبة، ومن الطبيعي أن يكون لبنان هو الساحة التي تتحرّك فيها هذه المشاكل، وأن يكون اللبنانيون هم الوقود الطبيعي، لذلك لن نستطيع أن نحدّث الناس عن تفاؤل كبير وعن تشاؤم كبير، ولكنّنا نحبّ أن يعيشوا جوّ الحذر الكبير، أنّ هناك دخولاً إسرائيلياً على الخطّ في أحاديث المسؤولين الصهاينة عن مسألة جزّين(1) وأحاديثهم عن مسألة الإرهاب الذي لا يستطيعون أن يقضوا عليه في الساحة اللبنانية لأنّه متجذّر في هذه الساحة. وهناك تجارب في هذه المسألة، فهناك دعوة من بعض المنظّمات في المنطقة الشرقية للمسيحيين وللمهجّرين ليكونوا جزءاً من جيش لبنان الجنوبي، على أساس أن يكون هناك تصعيد يعمل على إثارة المسألة الإسرائيلية من جديد في الساحة اللبنانية لتتكامل المسألة الإسرائيلية مع المسألة الأميركية. ونحن نريد أن نقول لهم ولكلّ الناس: لن تبقى لكم "إسرائيل" ولن تفيدكم "إسرائيل" لأنّها لا تفكِّر إلاّ بنفسها، حاولوا أن تلتقوا مع الناس الذين تعيشون معهم في البلد فإنّهم أبقى لكم من أيّ عنصرٍ آخر. سواء كان إسرائيلياً أو أميركياً.
لن نوافق على رئيس تسمّيه أميركا
إنّنا في هذا المجال نريد أن نعلن، والناس يتحدّثون حديثاً طويلاً عن الاستحقاق الرئاسي(1)، إنّنا لن نوافق على أي رئيس يأتي إلينا على العربة الأميركية والإسرائيلية، ولن نوافق أيضاً، بكلّ ما نملك من إمكانات، على أن تعود هيمنة المارونية السياسية إلى هذا البلد، وحتّى الهيمنة الطائفية المسيحية في هذا البلد على المسلمين من جديد. إنّ الآخرين جرَّبوا فليجرِّب المسلمون حظَّهم في أن ينطلقوا من أجل أن يأخذوا حقوقهم كاملة في هذا البلد حتّى الحقّ الذي يتمثّل في أن يكونوا في أعلى مواقع المسؤولية. إنَّنا نريد في هذه المرحلة عزّة المسلمين وحريّتهم وأن يكونوا في الحجم السياسي الذي يمثّله حجمهم الواقعي والعددي والسياسي والاجتماعي. لقد سقطت مقولة الخوف، ولا بدّ أن تأتي مقولة الثقة المتبادلة التي يمكن أن تحلّ بها القضايا على أساس دراسة كلّ شيء بالصراحة وبالوعي وبالحوار.
الانتفاضة.. الثورة
عندما نريد أن نتّجه إلى الشأن الخارجي فإنَّ أمامنا الانتفاضة الإسلامية المباركة في فلسطين التي أثبتت أنّها تعمل على أن تتحوّل إلى ثورة، وأنّها الانتفاضة الشعبية العفوية التي تعيش الإيمان بالله والإيمان بحريّتها على أساس إيمانها الإسلامي وصلابتها في هذا الموقف، إنّ هذه الانتفاضة قد أكّدت صلابتها وقوّتها واستمرارها من خلال أطفالها ونسائها وشبابها وشيوخها، ولا يزال الكثير من الأنظمة العربية يتحرّك في عجلة السياسة الأميركية التي طرحت المبادرة السيّئة الذكر من أجل تطويق هذه الانتفاضة ومن أجل إبعاد الأنظار للعالم عن حركة هذه الانتفاضة وعن الوحشية الإسرائيلية، وقد عملت حتّى الآن على أن تسقط وهجها، ولكنَّ الانتفاضة تثبت وتؤكّد نفسها في كلّ وقت. إنَّنا نعتبر أنّ الانتفاضة تمثّل الانطلاقة الجديدة في كلّ هذا العالَم العربي الذي يعمل على أساس أن يزيد الناس خوفاً وهزيمة وجبناً بكلّ ما عنده من أساليب الإعلام وأساليب السياسة، وقد استطاعت أكثر الأنظمة العربية أن تسجن شعوبها في السجن الكبير الذي يمنعها حتّى من أن تتظاهر دعماً لهذه الانتفاضة ولغيرها من القضايا الأساسية. إنَّ الانتفاضة بدأت تثقّف الشعوب العربية وغير العربية، تثقّفها ثقافة الحريّة وتثقّفها على الجرأة وعلى أن تسقط الخوف من حساباتها من أجل أن يأتي الزلزال إلى كلّ هذه المنطقة كما جاء الزلزال في إيران الإسلام التي استطاعت أن تسقط الطاغوت عندما تمرّدت على حاجز الخوف. إنَّنا نواجه في هذه المسألة التي أقولها للفلسطينيين من إخواننا المجاهدين في الداخل ولكلّ الفلسطينيين في أيّ مكان، لقد أثبتت تجربة الانتفاضة أنّ حجراً واحداً في الداخل يقف أمام ألف صاروخ في الخارج، ويمكن ان يزلزل قواعد النظام هناك، ولهذا فلا بدّ من العمل بكلّ ما عندنا من قوّة وإمكانات من أجل أن نقويَ الانتفاضة في الداخل ثمّ إذا حدثت هناك أيّة انطلاقة في أيّ موقع من مواقع الصراع مع "إسرائيل" فإنّها تتكامل مع الانتفاضة لتقويها ولتتقوّى بها.
ومن هنا ننظر إلى الواقع السياسي الجديد الذي يتحرّك الآن في جوّ الابتعاد عن كامب ديفيد وعن الأنظمة التي تريد أن تدخل المسألة الفلسطينية في دائرة السياسة الأميركية المترابطة مع السياسة الإسرائيلية، إنّنا ننظر بجدّ وباهتمام إلى هذه العلاقات الجديدة مع سوريا، لأنّنا نجد أنّ سوريا لا تزال في كلّ الواقع العربي تطرح الاستراتيجية المواجهة للسياسة الأميركية في المنطقة، ولا تزال تطرح السياسة المواجهة للواقع الإسرائيلي والخطر الإسرائيلي في المنطقة. ولهذا فإنّنا نعتقد أنّ تقوية هذا الاتّجاه وتقوية هذه الطروحات، على أساس واقعي حقيقي لا على أساس تكتيكي، يمكن أن يفيد القضية في كلّ خطوات الاستكبار العالمي للصهيونية في المنطقة، ونحن نعتبر أنّ حركة الواقع السياسي هي حركة مواقف وليست حركة أشخاص. لهذا نقول إنّنا نبحث عن الخطوات الجهادية في المجرى السياسي وفي المجرى العسكري الأمني، لا على أساس أن يكون نقطة في دائرة المفاوضات بل أن يكون انطلاقة في خطّ التحرير الكامل. هذا من جهة.
أميركا وتطويق حركات التحرُّر
ومن جهةٍ أخرى، إنّنا نتطلَّع في هذه المرحلة بالذّات إلى خطوات السياسة الأميركية في المنطقة التي تعمل بكلّ ما عندها من إمكانات على أساس أن تطوّق كلّ حركات التحرُّر في المنطقة، ولاسيّما حركة التحرّر في داخل فلسطين المتمثّلة بالانتفاضة، ولاسيّما في مواجهتها أيضاً للجمهورية الإسلامية في إيران من خلال الخطوات التصعيدية التي تعمل فيها على تصعيد الأوضاع العسكرية في الخليج لمحاصرة الجمهورية الإسلامية بكلّ ما تملكه من إمكانات الضغط السياسي والضغط العسكري إضافة إلى الضغط الاقتصادي، ونحن نعتبر أنّ هناك مخطّطاً أميركياً يعمل على تطويق الحالة الإسلامية في كلّ مكان من أجل أن يُفسَح في المجال للمستقبل الذي تكون السياسة الأميركية فيه سيّدة الواقع السياسي في المنطقة.. ولكنَّ المسألة ليست في ما يخطِّطون، بل في ما نعمل نحن في كلّ مكان نستطيع فيه أن نتحرّك ضدّ هذا اللّون من السياسة الاستكبارية، لنقف جميعاً صفّاً واحداً، لندعم الانتفاضة الجهادية في فلسطين ضدّ الخطوات الأميركية وغير الأميركية، ولندعم الجمهورية الإسلامية ضدّ كلّ الخطوات التي تعمل أميركا من خلالها للضغط على الجمهورية الإسلامية، لأنّنا بمقدار ما نؤيّد فإنّ ذلك يعني إضعاف الباطل، وبمقدار ما نكون حياديّين في معركة الحقّ والباطل معنى ذلك أن نعطي الباطل قوّة ولو من ناحية سيّئة، لهذا نعتبر أنّ حماية الجمهورية الإسلامية كقاعدة إسلامية لكلّ الحركات الإسلامية في العالَم هي مسؤوليّتنا جميعاً، ونعتبر أنّ أيّ عبث وأيّ كلام وأيّ عمل يتحرّك من أجل إضعاف هيبة الجمهورية الإسلامية ومواقعها السياسية في أيّ مكان، هو إضعاف للإسلام نفسه، وعلى الجميع أن يتحمَّلوا مسؤوليّتهم في هذا المجال، لأنَّ أميركا عندما تضعف الجمهورية الإسلامية فإنّ إضعافنا يُصبح أمراً سهلاً في أيّ موقع وفي أيّ مكان، وإنّنا نتساءل عن معنى قطع العلاقات مع الجمهورية الإسلامية في هذا الوقت بالذّات، إنّهم يتحدّثون عن أنّ الجمهورية الإسلامية تعبث وتخرّب وتؤذي وتعمل ما تعمل... لكن ماذا حدث الآن، لم يحدث هناك أيّ شيء، الأشياء التي يتحدّثون عنها كانت قبل سنة أو قبل سنتين، لماذا قطع العلاقات الآن؛ فهل سعة الصدر وصلت الآن إلى الطريق المسدود، أم طبيعة التحرّك الأميركي في المنطقة تحتاج إلى بعض الواجهات الإسلامية، وتحتاج إلى بعض الأوضاع المعنوية التي تضغط على الجمهورية الإسلامية؟ فجاء التوقيت توقيتاً يعتمد على طبيعة الخطّة الموضوعة ليكون قطع العلاقات نقطة أو خطاً في هذه الفكرة. إنّنا نفهم القضية في هذا الاتجاه، ونفهم حقيقة أخرى هي أنّ قطع العلاقات لا يمكن أن يؤدّي إلى أيّة نتيجة إيجابية، بل نخشى أن يؤدّي إلى نتائج سلبية على أكثر من مستوى، ولهذا فإنّنا ننصح بالتراجع عن هذه الخطوة وإنْ كانت نصيحتنا كما نعلم لا تمثّل قوّة وستذهب في الهواء ولكنّنا نقول ما نعتقد به ونؤمن به، إِنَّ هناك الكثيرين من الذين ركبوا الموجة الأميركية في الصحف اللبنانية وفي الإذاعات وهم يتحدّثون عن المأزق الذي تعيشه إيران الإسلام ويتحدّثون عن الهزائم أيضاً، ولهذا فإنّهم يطالبونها بتصحيح مسارها، ولكنّنا نريد أن نقول لهؤلاء: إنَّ معنى أن تسقط في معركة ليس دليلاً على أنّك مخطئ في معركتك هذه أو في أسلوبك هذا، وإلاّ لكان كلّ الثائرين في العالَم ولكان كلّ الأبطال الذين يتحرّكون على مستوى وطني أو قومي أو سياسي أو ديني فاشلين، لأنّهم لم ينتصروا دائماً في معاركهم. إنَّ مسألة المعارك لا تخضع دائماً للنتائج.. الهزيمة لا تعني أنّك على باطل، ولكنّها تعني أنّ الظروف الموضوعية التي تحيط بك لم تعطك موقع قوّة في معركتك هذه، ولكنّها قد تعطيك أكثر من موقع قوّة في المستقبل لتنتصر كما انتصرت في الماضي. لقد قال عمّار بن ياسر (رضوان الله عليه) في معركة صفّين عندما كان جيش الإمام عليّ (عليه السلام) يصاب بنكسة في بعض مراحل المعركة، وكان بعض الناس قد شكوا في المسألة، قال: "والله لو هزمونا حتّى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ وأنّهم على الباطل"(1). إنَّنا نريد أن نقول لكلّ هؤلاء الذين يتحدّثون للإسلاميين عن ضرورة تصحيح خطّهم سواء كانوا في إيران أو في غير إيران، نقول: مِنَ الطبيعي للإسلاميين أن ينقدوا أنفسهم دائماً سواء خاضوا معركة أو لم يخوضوا لأنَّ المؤمن لا بدّ من أن يلاحق كلّ تصرّفاته لينقدها حتّى يصحّح المسيرة لأنّ مسيرته ليست مسيرة شخصية ولكنّها مسيرة الإسلام.
إنَّ من واجبنا دائماً على المستوى الفردي وعلى المستوى الاجتماعي والسياسي والعسكري، أن نلاحق كلّ خططنا وكلّ خطواتنا وكلّ أعمالنا في العالَم كلّه لندرسها جيّداً ولنتعرَّف نقاط الضعف فيها، ولنتعرّف نقاط القوّة فيها، حتّى نستطيع أن نقوّي ما عندنا من نقاط الضعف وأن نزيد القوّة في ما عندنا من نقاط القوّة، ولكنّ خسارتك لمعركة لا تعني أنّك على باطل، فنحن في إيران وفي العراق وفي مصر وفي كلّ مكان، عندما نواجه هزيمة المسلمين في معركة أُحُد هل نقول إنّ المسلمين كانوا على باطل، كانت طبيعة المعركة وبعض المشاكل التي حدثت فيها هي التي أدَّت إلى ذلك، وهكذا في معركة حنين، وهكذا في كلّ المعارك التي لم يكسب فيها المسلمون كثيراً. عندما نريد أن نعرف الحقّ والباطل فعلينا أن ندرس معطيات الحقّ في كلّ المواقع التي نستطيع أن نتعرَّف فيها عناصره وأن نتعرَّف الباطل أيضاً من خلال عناصر الباطل وأن نتابع السير في خطّ الله وأن نعمل دائماً كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ...} [الحشر : 18] انظر من خلال خطّك ومن خلال جهدك ومن خلال عملك وصحِّح كلّ شيء على أساس تقوى الله، حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا وزِنوها قبل أن توزن، إنَّ الإنسان الذي لا يحاسب نفسه ربّما تغلبه نفسه حتّى يعيش في اتّجاه الهلاك وفي اتّجاه النار. وهكذا لا بدّ من أن نحاسب أنفسنا دائماً، ولا بدّ من أن نرصد خطواتنا دائماً، ولا بدّ من أن نرصد ساحتنا دائماً، ولا بدّ من أن نرصد أعداءنا دائماً، ولا بدّ من أن نراقب ربّنا دائماً في ذلك كلّه، ومَن يراقب الله يَسِر في طريق الله، ومَن ينصر الله فإنَّ الله ينصره {... إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد : 7].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
الانفعالية في حركة الحرب والفتنة(*)
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء : 1].
هذا اليوم الذي يصادف آخر جمعة من شهر رمضان المبارك، هو اليوم الذي أراده قائد الأُمّة الإمام الخميني (حفظه الله) يوم القدس العالمي، اليوم الذي ينطلق فيه الناس في كلّ أنحاء العالم، من أجل أن يعبّروا عن غضبتهم على احتلال اليهود فلسطين وتحوّلهم من خلال ذلك إلى خطر على كلّ مواقع الإسلام والمسلمين، لا في المنطقة فحسب، ولكن في كلّ موقع من مواقع العالَم، حيث أصبحت كلّ الساحات في العالم ساحات صراع بين الصهيونية وبين الإسلام.
واختياره لهذا اليوم كان من خلال الاستراتيجية الإسلامية، التي تعرف جيّداً مدى خطورة الواقع الذي يمثّله الاحتلال اليهودي لفلسطين ولبعض ما حولها، باعتبار أنّ كلّ تاريخ المنطقة الحديث سواء كان هذا التاريخ تاريخاً سياسياً أو كان تاريخاً أمنياً، يراد له أن يجعل كلّ المواقع الموجودة في المنطقة في دائرة الصراع ضدّ "إسرائيل" وفي دائرة كلّ المخطّطات الدولية التي تعمل على أساس أن تعطي "إسرائيل" قوّة، بحيث لا تسمح بتوحّد المنطقة في كيانٍ واحد وفي مصالح واحدة، وحتّى تمنع المنطقة الإسلامية من أن تتكامل ومن أن تتحرّك من أجل أن تحقِّق الاكتفاء الذاتي، ومن أجل أن تفسح في المجال لكلّ دول العالم، من خلال هذه القضية، أن تتدخّل في كلّ الشؤون الداخلية والخارجية، من اقتصادية وسياسية، بغية ضرب وحدتها وقوّتها.
القدس مسؤولية إسلامية عامّة
ولهذا فإنَّ القدس، في ما تمثّله هذه الكلمة، ليست مجرّد بلد قدَّسه الله سبحانه وتعالى، وجعله في مقابل البيت الحرام، إنّما هو في العمق دلالة على هذا الترابط بين المسجدين في مسؤولية المسلمين عن حمايتهما وعن رعايتهما ودراسة كلّ الأخطار التي تتوجَّه إليهما.
في هذا اليوم، يوم القدس، نستطيع أن نبصر المؤامرة الكبيرة التي خطَّط لها الاستكبار العالمي في كلّ بلاد المسلمين وفي كلّ واقعهم وذلك كي يمنع نموَّ المسلمين، سواء على مستوى الحريّة أو على مستوى العدالة. وعندما ندرس كلّ المشاكل الموجودة في المنطقة فإنَّنا نرى فيها فرعاً من هذه المشكلة الأُم، وعندما نرى كلّ ما يحصل من القتل والدمار والفتن في هذه المنطقة فإنَّنا نستطيع أن نعرف المدخلية الكبيرة للوضع الإسرائيلي في حركة الوضع السياسي في المنطقة. إنَّنا نريد أن يحتفل المسلمون وكلّ طلاّب الحريّة بهذا اليوم العالمي، ولاسيّما بعد أن انطلقت الانتفاضة الإسلامية المجاهدة في فلسطين والتي بلغ عمرها ما يقارب الستّة أشهر، وهي تقدّم في كلّ يوم الشهيد تلو الشهيد، وتتحرّك في كلّ يوم في مواقع الجهاد. كنّا نريد أن نتكامل مع هذه الانتفاضة في خطّ المقاومة الإسلامية وفي خطّ المقاومة المؤمنة وفي كلّ خطوط المقاومة، سواء كانت وطنية أو أيّ خطٍّ آخر يسعى مخلصاً لمقاومة العدوّ. كنّا نتمثَّل ذلك وكنّا نتمنّى أن تنطلق صيحات الجهاد في الجنوب في مثل هذا اليوم، كما تنطلق صيحات الجهاد هناك في الضفّة الغربية وفي غزّة؛ كنّا نريد أن تتجاوب كلّ صرخات المسلمين، التي تحمل شعار الجهاد وعنوانه في مساجد بيروت والجنوب والبقاع والشمال، لتتلاقى مع صرخات المسلمين هناك في المسجد الأقصى وفي كلّ المساجد الموجودة في فلسطين. كنّا نتمنّى ذلك وكنّا نعمل لذلك، لأنّنا نشعر بأنّنا نتكامل مع كلّ الأحرار في العالم ونتكامل مع كلّ المسلمين المجاهدين هناك، ونشعر بأنَّ الخطر هناك والخطر هنا واحد، باعتبار أنّ الخطّة هي أن يسقط كلّ صوت ينادي بالحريّة وأن يخرس كلّ صوت ينادي بالحقّ وأن يسقط كلّ عمل ينطلق من خلال الإسلام.
صوت الفتنة
كنّا نريد للسّاحة أن تتكامل ولكن ماذا حدث؟ لقد دخلت الفتنة في الساحة التي تمثّل خزّان المقاومة، وانطلقت الدماء لتجري أنهاراً هنا وفي الجنوب على أساس ما تخطِّط له الفتنة(1) وتتحرّك فيه، ولذلك تعمل الفتنة على إسقاط الموقف وعلى إسقاط القضية وعلى إسقاط الخطّ وعلى جعل الناس، كلّ الناس، ينظرون إلى السّاحة الجهادية على أنّها ساحة تخلق المشاكل، بدلاً من أن تنأى عن هذه المشاكل، لأنَّ المشاكل الداخلية عندما تتحرّك في حياة الناس فإنَّ الناس لا يبصرون غالباً لمن الحقّ وعلى مَن الحقّ؟ ومن أين انطلقت الفتنة؟ وأين دخلت؟ الناس يتحرّكون دائماً من خلال قضاياهم وإحساساتهم ولا يطيقون الدخول إلى عمق الأشياء. ومن هنا فإنَّنا نلاحظ أنّ الفتنة دخلت الجنوب واستطاعت أن تحجّم المقاومة وعمودها الفقري، المقاومة الإسلامية، وانطلقت الفتنة وكنّا نقول ونراهن على أنْ لا تتحرّك الفتنة في الضاحية، التي هي ضاحية الجهاد والبؤس والحرمان، والضاحية التي تمثّل خزَّان المقاومة في كلّ مجال من مجالات العمل المقاوم. كنّا نراهن على أن لا ينطلق الانفعال في الضاحية، كما انطلق في الجنوب وأن لا تكون المشاكل الصغيرة تتحرّك من أجل أن تحرق القضايا الكبيرة، وأن نتحلّى بالوعي وبالصَّبر في ذلك كلّه. كنّا نراهن على أن لا تدخل الفتنة، لتحرق الناس الذين أُحْرِقوا بفعل أكثر من فتنة، والناس الذين قُصِفوا من أكثر من موقع في تاريخ هذه الفتنة، والناس الذين شرّدوا ولا يزالون يشرّدون من مكانٍ إلى مكان؛ كنّا نتمنّى ونعمل على أن لا تكون، ولكن لا أدري لِمَ حَدَث ذلك؟ لقد قلنا في ما سبق إنَّ هناك عناصر في طبيعة هذه الأحداث، تنطلق من مواقع العقلية التي تدار بها أمور الناس في الساحة السياسية. إنّنا لا نفهم كيف يتحوّل خلاف فردي أو إشكال أمني في مكان ما بين اثنين وبين آخرين إلى قضية فتنة كبيرة(1)؟ قد يكون هذا مذنباً وقد يكون ذاك مذنباً، وقد يكون الجميع مذنبين. إنَّنا نواجه في كلّ هذه الغابة المسلّحة مشاكل، تتحرّك على أساس أنّ القضايا الصغيرة يمكن أن تحلّ في دائرتها الخاصّة ولا نجعل منها مشكلة كبيرة مسلّحة، ولكنَّ الأسلوب الذي تربَّت عليه القيادات السياسية في لبنان والتي لا تتحلَّى بالتقوى ومخافة الله، تحوِّل دائماً الحرائق الصغيرة إلى حرائق كبيرة. وهكذا رأينا أنّ إشكالاً حدث في حاروف(2) أدَّى إلى حرب الجنوب، وأنَّ إشكالاً حَدَثَ في الضاحية أدّى إلى حرب الضاحية. كنّا نقول هناك ونقول هنا وعملنا بكلّ ما عندنا من طاقة من أجل أن تُحْصَر هذه القضية في دائرتها الخاصّة. كنّا نقول لا تتحرَّكوا بأيّ عمل سلبي ولا تعملوا على أساس أن يتوتَّر الجوّ لمجرّد أنّ هناك حادثة فيها عدّة ضحايا، ثمّ لم نعرف كيف انطلقت هذه القضية. كنّا نقول انطلقوا من أجل أن يكون الحكم الشرعي هو الأساس في هذا المجال، ولكن ماذا حدث؟ الذي حَدَث أنّ هناك تصرُّفاً انطلق، ليطلب إغلاق المدارس وليتحرّك في الجوّ على أساس أنّ هناك عملاً ما، وبدأت الفتنة وبدأت القضايا، التي كان الإعلام يحضّر لها وكانت التحليلات السياسية تحضّر لها وكانت الخطط الإقليمية والدولية تحضّر لها، كان هناك شيء ما يقول إنَّ هناك عملاً يراد للحالة الإسلامية أن تسقط بين يديه، كان هناك كلام يقال في التحليلات الصحافية وفي المواقف السياسية وفي التعليقات الدولية، وبذلك انطلقت هذه الأجواء وتحرَّكت مع الأجواء التي صارت على الأرض، وبدأت المسألة تتحرّك على أساس أن ينطلق الحريق هنا وينطلق الحريق هناك، وبذلك كانت الفتنة وكانت الفاجعة وكانت الكارثة.
هذا النوع من التخلُّف في تحريك العمل الأمني والسياسي، الذي ينطلق من مواقع العقلية التي لا تصبر على الصغير فتهرب منه إلى الكبير وتعمل ما لا يعمل، وتتحرّك في ما لا يتحرَّك.
العنصر الثاني الذي نلاحظه، هو أنّ هناك عقليات قيادية انفعالية تتحرّك من موقع الانفعال وبذلك تثير الانفعال في كلّ من حولها وما حولها وتنطلق من أجل أن توتّر الأعصاب وتثير الحماسة وتخاطب غرائز الناس وتحرّك الذين لا يخافون الله في عباده وفي بلاده، من أجل أن يتحرّك الناس في غرائزهم دون أن يتحرَّكوا في عقولهم: الكلمات غير محسوبة والتصرُّفات غير محسوبة والعلاقات غير محسوبة، وعندما يضيع حساب العقل وحساب الوجدان وحساب التقوى، فإنَّ معنى ذلك أنَّ الخراب سيعمّ البلد.
إنَّ الله سبحانه وتعالى علَّمنا في كتابه وفي سنّة نبيّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن نفكّر بعقولنا ولا نفكّر بغرائزنا، وعلَّمنا أن لا نعيش الانفعال في حياتنا بل نعيش التفكير فيها. هذا ما أراده الله لنا، وأرادنا الله أن نكظم غيظنا وأن نعفو عن الناس، وقال لنا إنّه يحبّ المحسنين؛ ولكن هناك مَن لا يريد أن يكظم غيظه، وينفعل ويجعل السّاحة ساحة انفعال من قريب أو بعيد. إنَّ السياسي الكفؤ الناجح هو، الذي يعرف كيف يتفادى الحروب لا الذي يعمل على أساس أن ينتقل من حرب إلى حرب. تصوَّروا أنتم، يمكن لكلِّ واحدٍ منكم أن يخرج من المسجد ويفتعل مشكلة مع إنسانٍ آخر، من السهل أن تصنع حرباً ومن السهل أن تخلق فتنة، ولكن ليس من السهل أن تمنع الحرب. إنَّ ذلك يحتاج إلى إيمان وإلى تقوى وإلى عقل. لا ندري كيف دخلت هذه الحروب المتحرّكة من مكانٍ إلى مكان في عمق واقعنا، لماذا لم تمنع الحرب؟ هذا من فريق يقتل أربعة وذاك من فريق يقتل أربعة، كان بإمكاننا أن لا نزيد على الأربعة واحداً، عندما نفكِّر بأعصاب هادئة وبعقلية شرعية، وعندما نحصر المسألة في دائرتها الخاصّة، كان من الممكن ذلك، ولكن تتحوّل الأربعة إلى مئة وأكثر، وتكرّ السبحة في عدد القتلى والجرحى وفي الدماء والخراب والتشريد. ماذا استفاد الذي حرَّك الفتنة، هل استفاد شيئاً؟ إنَّ عليه أن يراجع حساباته جيّداً. هذه نقطة.
ضرورة إيجاد قواعد مشتركة
وهناك عنصر ثالث، هو أنّنا ندّعي تمثّلنا وحدانية الله. ولكنّ المشكلة أنّ هناك في الساحة مَن يتمثّل بوحدانية الزعامة ووحدانية المحور السياسي ووحدانية الموقع؛ إنَّ هناك مَن تتضخَّم شخصيّته، بحيث لا يستطيع أن يتحمَّل الآخرين معه في الساحة نفسها، وعندما يقال له إنّك موجود والآخرون موجودون والسّاحة يمكن أن تتّسع لكما معاً، لماذا تريد أن تلغي دور الآخر ولماذا يريد الآخر أن يلغي دورك؟ لماذا لا تنسّقان وتتكاملان وتتعاونان؟ لا تحصل على الجواب الذي يقنعك ويكون فيه رضى الله. فالسّاحة ساحة العقلية الوحدانية، الله واحد وأنا واحد. الله واحد وهذا المحور واحد ولا مجال للآخر؛ فكما أنّه لا مجال لشراكة الله فكذلك لا مجال لشراكة الزعامة والسياسة والواقع. هذا المعنى هو الذي جرَّ علينا كثيراً من الحرائق في الماضي ويجرّ علينا الحرائق التي سنبقى نعيش في داخلها، ولا ندري ماذا يخبّئ لنا المستقبل. لماذا تكون وحدك وأنتَ لا تستطيع أن تملك الساحة كلّها؟ الله وحده، لأنّه هو الذي خلق السموات والأرض، لم يشاركه أحد في خلق السموات والأرض ولم يشاركه أحد في تدبير السموات والأرض، الله وحده لأنّه الخالق وحده، ولكن مَن أنت، سواء كنتَ شخصاً أو حزباً أو حركة أو منظّمة أو مؤسّسة أو أيّ شيء، مَن أنت حتّى تتصوَّر نفسك بحجم كلّ السّاحة؟ الآخرون موجودون، يمكن لك أن تتفاهم معهم وأن تتعاون معهم، ولكنَّ المشكلة هي أنّ الذي يعيش أنانية الموقع، لا يمكن أن يرى أنّ هناك غيره في هذا الموقع، وبذلك تتحوّل الأنانية السياسية وغير السياسية إلى حالة عدوانية، وتتحوّل الحالة العدوانية إلى حالة قتالية. وهذا ما نعيش في دائرته السياسية، وهذا ما جعل كلّ الأطراف في هذه المنطقة تتقاتل على أساس أنّ أحداً لا يريد أن يعترف بوجود الآخر.
وهناك عنصر آخر في هذا المجال، وهو أنّ الناس لا يحبُّون أن يتفاهم بعضهم مع بعض. عندما يكون هناك اثنان مختلفان في البيت، زوج وزوجته، أو يكون هناك جماعة مختلفون في حارة أو في بلد وهم محكومون بأن يبقوا في هذه الحالة أو في هذا البيت، إذا كانت هناك خلافات في ما بينهم ولا يمكن لأيّ واحد من الطرفين أن يترك مكانه للآخر، لأنَّ ظروفه لا تساعده على ذلك فما الحلّ؟ الحلّ هو أن يقال للطرفين إنّكما تتّفقان في عدّة أمور وتختلفان في أمورٍ أخرى، اتّفقا على ما تلتقيان عليه، والتقيا على ما تتّفقان فيه، وحاولا أن ترتِّبا طريقة الخلاف بالحوار وبالمناقشة وبمحاولة تجميد بعض الخلافات في حالة وتحريكها في حالة بشرط أن لا يسقط البيت. إنَّ طبيعة الاختلاف في كلّ مواقع التعايش، تفرض على الناس أن يضعوا لأنفسهم ضوابط وقواعد، يمكن لهم أن يرجعوا إليها وأن يتحرّكوا من خلالها، بحيث يقول كلّ فريق للفريق الآخر: تعال لنتفاهم كيف نتحرّك هنا وكيف نقف هناك وكيف نثير هذه المسألة وكيف نجمّد هذه المسألة؟ أليست هي الحالة الطبيعية في كلّ المواقع التي يكون فيها الجميع محكومين للتعايش؟ المسألة كذلك، لماذا لم ينطلق الموقع في هذه الساحة التي يتّخذ فيها الطرفان خطوط تماس في كلّ المجالات؟ إنَّ هناك خطوط تماس في البيت الواحد وفي المحلّة الواحدة وفي البلد الواحد، هذا من جهة وذاك من جهة، لماذا لم يفكّر أحد باللّقاء على ما يُتّفق عليه وبالحوار في ما يختلف فيه، ما دامت الشعارات التي تتحرّك شعارات واحدة في أغلب الأمور، وما دامت القضايا التي يُختلف فيها من القضايا التي يمكن أن يتحرّك الاجتهاد السياسي من خلال الاجتهاد الشرعي فيها، ليجمع الفريقين عليها أو لينظّم خلافاتهما؟ المسألة هي أنّ الساحة كانت لا تحمل هذه الضوابط وقد عملنا مع كلّ المخلصين منذ أكثر من ثلاث أو أربع سنوات على أن نوجِد لجاناً أساسية لهذه الغاية، وعملت الجمهورية الإسلامية على أساس أن يوجد هناك نقاط اتّفاق أساسية تحكم الساحة كلّها، حتّى إذا اختلفنا في أيّ شيء فإنّهما يرجعان إلى نقاط الاتّفاق وإلى قاعدته. ولكن كانت هناك أيدٍ كثيرة ومداخلات كثيرة وخلفيات سياسية وأنانيّات ذاتية جمَّدت هذه الاتّفاقات وجعلتها حبراً على ورق، وانطلق الناس يشحنون التعصُّب ويشحنون الغرائز ويتحرّكون في غير اتّجاه التقوى. وقد قلنا ولا نزال نقول بعد كلّ هذه الأحداث المفجعة الدامية، التي عاش الناس المستضعفون كلّ آلامها وعاش الناس الفقراء كلّ مشاكلها، كنّا نقول ونحن نعيش الآن في قلب المشكلة وفي قلب المأساة وفي داخل حركة الفتنة، حيث يقتل الأخ أخاه ويقتل الجار جاره، وحيث يتحرّك المتصارعون ليربح هذا موقعاً على أساس ضحايا هنا وضحايا هناك، كنا نقول منذ البداية عندما حدثت أحداث الجنوب وعملنا مع المخلصين، قبل أن تحدث أحداث الضاحية، عملنا على أن نجمع الأطراف في سبيل حوار، يضع ضوابط معيّنة تعمل على أساس أن لا تتجدَّد المشاكل في غير الجنوب. كنّا نعمل على هذا الأساس، وكانت هناك مشاكل وعقبات في الطريق، وكان من الممكن في يوم الجمعة الماضي الذي انطلقت فيه الفتنة الجديدة، كان من الممكن أن يصار إلى اتّفاق، ولكن لا ندري كيف انطلقت الفتنة في الصباح وكان المفروض أن يكون التوقيع في المساء؟ كيف حدث ذلك؟ ما هي الخفايا والخبايا؟ الله أعلم بذلك، لا نعلم الغيب، ولكن نعرف كثيراً من ملامح حركات الغيب في الساحة، عندما تنطلق الأجهزة في كلّ مكان لتخرّب كثيراً ممّا يريد المصلحون أن يعمّروه. إنَّنا نتحدّث إليكم بذلك حتّى نقول لكم إنّنا كنّا مع مسؤوليّتنا، لم نجلس على الحياد ولم نقف لنتفرَّج. كنّا في اللّيل والنهار نعمل مع كلّ المخلصين، على أساس إيجاد علاقات متوازنة بين الطرفين، من أجل أن ينطلق الطرفان في غرفة عمليات مشتركة في الجنوب ضمن شروط تحفظ للمقاومة الإسلامية وللمقاومة المؤمنة ولكلّ مقاومة أخرى سلامتها وقوّتها وصلابتها، وكان هناك اتّفاق على ذلك. وكنّا نعمل أيضاً على دراسة ما هي حدود أمن الجنوب وما هو معناه وما هي طبيعته وما هي الضوابط الشرعية له؟ كنّا نعمل على الحوار في ذلك، وكاد الحوار أن يصل إلى نتيجة حسنة، لهذا لم تكن هناك حالة حياد، ولكن يبدو أنّ الأجهزة الخفيّة التي تعمل بإيعاز الاستخبارات تارة وعلى أساس العصبيّة تارةً أخرى في داخل البلد وخارجه وتزرع في كلّ موقع من مواقعنا حرَّاساً للفتنة وزرَّاعاً لها وتوظّف الكثيرين ليخدموا مخطَّطاتها، شعرنا بأنَّ هذه الأجهزة أقوى منّا في ذلك، لأنَّنا عملنا على أن نمنع الفتنة واستطاعت أن تغلبنا بكلّ أجهزتها الموجودة في صفوفنا وخارج صفوفنا، استطاعت أن تصنع الفتنة وتحرقنا جميعاً.
إنَّنا نريد أن نقول بعد كلّ هذه المصائب والكوارث، إنَّ علينا في هذه الفتنة التي نعمل على أن تكون نهائية إنْ شاء الله، وعلى أساس أن لا تكون الحلول حلولاً طارئة علينا وارتجالية وانفعالية.
إنَّ هذا الخلل الذي كان موجوداً والذي توسَّع الآن، وهذه المشاكل النفسية التي كانت تثيرها العصبيّات الذاتية فأصبحت تثيرها الأنهار الدموية، لا بدّ من أن نشعر بأنّها تواجهنا جميعاً على مستوى قضايا الاستحقاق الداخلي وعلى مستوى القضايا المصيرية في الخارج. لهذا نقول إنّ المسألة هي أن يتكامل الناس بعضهم مع بعض. إذا كانت هناك خلافات في الساحة السياسية فلا يجوز أن يكون ثمن هذه الخلافات ومظهرها كلّ هذه الأنهار من الدماء، بل لا بدّ لنا من أن نعمل على إيجاد قواعد متوازنة للعلاقة بين الفريقين، وإذا أمكننا أن نوجِد علاقات بين كلّ الفئات الموجودة في الساحة فإنَّ هذا أفضل وأقرب، وعند ذلك لن تحتاج إلى قوى أمنية داخلية أو خارجية، لأنَّ الضوابط التي تحكمنا تحفظ لنا التنوّع في الوحدة؛ لأنَّ الوحدة في التنوّع يمكن أن تحمي هذا المجتمع كما حمته في السابق. لقد عشنا زمناً طويلاً ولم تحدث هناك مشاكل وكنّا نقول إنَّ هذه الحرب خطّ أحمر، ولكن يبدو أنّ الخطوط الحمراء تتحوّل فجأة إلى خطوط خضراء في هذا اللبنان الذي لا نعرف خضرته من حمرته.. إنَّنا يجب أن نعمل على هذا الأساس، لينطلق الجميع ليبحثوا كلّ القضايا وليبحثوا الموقف في الضاحية وفي الجنوب وفي البقاع وفي لبنان كلّه، من أجل أن يكون هناك اتّفاق على أساس معيّن، ومن أجل أن تنفتح القلوب ليعرف كلّ إنسان ما في قلب الآخر. لقد قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "لو تكاشفتم ما تدافنتم"(1) لأنَّ المسألة التي لا تزال تعيش هي أنّ الفريق هنا يخاف من الفريق هناك، وأنّ فريقاً هناك يخاف من فريق هنا، وأنَّ هناك نوعاً من عدم الثقة في هذا المجال.
المسألة في جوّ الخطر
من هنا، فإنَّ المسألة لا تزال تتحرّك في جوّ الخطر، إنّنا نقول للجميع: اجلسوا في ساحة واحدة وافتحوا قلوبكم فليس لدى كلّ منكم ما يربحه إذا خسِرَ أخاه، وليس لكلّ منكم ما ينتصر به إذا انطلقت الفتنة لأنَّ الفتنة تهزم الجميع، فليس هناك منتصر ومهزوم. لقد قيل بعد الجنوب إنَّ هناك انتصاراً ولكنّنا لا نريد لكلّ الأخوة هنا في الساحة أن يعيشوا جوّ الانتصار، لأنَّ المسألة أنّك تنتصر على مَن، وتهزِم مَن؟ ليس هناك انتصار إلاّ على العدوّ، الذي يجب أن ننطلق لنقف في وجهه، لا أن يوجّه بعضنا رصاصه إلى صدور البعض الآخر.
لا بدّ من علاقات متوازنة حتّى يمكن لنا أن نتجاوز ذلك، ولا بدّ لنا من أن نرجع إلى أخلاقيّاتنا الإسلامية التي علَّمنا الله إيَّاها. عندما قال لنا {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء : 53]. وعندما قال لنا: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ*وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 ـــ 35].
إنَّ علينا كأفراد وكمجتمع وكقيادات أن ننفتح على تقوى الإسلام وعلى أخلاقيّة الإسلام، وعلينا أن نشعر، على أساس ثابت، بأنَّ الحالة الإسلامية التي انطلقت لتكون الامتداد لدعوة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى الإسلام في قوّته وفي دعوته وفي جهاده وفي حكمه وفي تقواه، ليست حالة سياسية يمكن لك أن تلبسها اليوم وتخلعها غداً، بل معنى أن تكون جزءاً من الحالة الإسلامية، هو أن يكون الإسلام كلّ عقلك وكلّ شعورك في كلّ حكم إسلامي وفي كلّ مفهوم من مفاهيم الإسلام.
الإسلام هو المستهدف
وإنَّنا نقول لكلّ الإخوة المؤمنين الذين يشعرون بالإيمان كحقيقة في قلوبهم وفي حياتهم، إنَّ الحالة الإسلامية أمانة الله في أعناقكم وإنَّ هناك حديثاً لا يزال يدور، ولا تزال التحليلات السياسية تعمل على خلفيّات ما حدث في الضاحية، من خلال أنّ هناك وضعاً إقليمياً ووضعاً دولياً يعمل من أجل أن يحاصر الحالة الإسلامية وأن يجمّدها وأن يضربها وأن يقضي عليها. ولكن ما الثمن؟ أيّ ثمن يعطى في ذلك؟ الخلاف الآن على الثمن، فإذا اتّفق الجميع على الثمن فمعنى ذلك أنّ الحالة الإسلامية ستواجه وضعاً أصعب من الوضع الذي تعيشه، وستواجه مشاكل أكثر، لماذا؟ لأنّهم يقولون إنَّ هؤلاء متطرّفون، لا ينطلقون على أساس التسويات ولا يتحرّكون في ما وراء الكواليس ولا يقولون شيئاً من أجل خدمة واقع استكباري هنا وواقع استكباري هناك. إنَّ المسألة ليست مسألة حزب سياسي؛ إنَّ المسألة هي مسألة خطّ إسلامي، في هذا المجال نحن لا نعتبر أنّ الإسلام حزب، الإسلام هو لكلّ الناس. الإسلام هو للأُمّة. ليس الإسلام حزباً وليس الإسلام تنظيماً فالله سبحانه وتعالى خاطَبَ المسلمين كأُمّة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء : 92]، {... وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون : 52]. وإذا كان الله سمّى في قرآنه حز//ب الله فإنّه أراد لحزبه أن يكون كلّ المؤمنين، الذين يتحرّكون على أساس مفاهيمه وعلى أساس عقائده، لا أن يكون في دائرة ضيّقة تفصل نفسها عن الأُمّة، وتتحرّك بعيداً عنها، كلّ مسلم يؤمن بالله ورسوله وكتبه واليوم الآخر ويلتزم الخطّ الإسلامي في كلّ ما شرّعه الله، هو إنسان يتحرّك على أساس أنّه حز//ب الله، باعتبار أنّ الإنسان يكون حز//ب الله، تماماً كما يكون الإنسان عبد الله، تماماً كما يكون الإنسان وليُّ الله، يعمل بطاعة الله من دون بطاقة ومن دون انتماء ومن دون تنظيم، لتنطلق الأُمّة كلّها على أساس هذه المفاهيم الكبيرة.
ونحن نعتقد أنّ الإسلام ليس مقبولاً من المستكبرين في هذه السّاحة، لأنّه يسير عكس التيّار، لهذا يعمل الكثيرون على أساس مواجهة الإسلام في إيران، ويعمل الكثيرون الآن، وفي هذه الدائرة التي تتحرّك فيها الفتنة، على الإساءة إلى الجمهورية الإسلامية وإلى رموزها وعلى محاولة الحديث عنها بطريقة غير مسؤولة وغير إسلامية، كلّ ذلك لأنَّ الخطّة هي أن يسقط الإسلام في مواقعه القياديّة في نفوس الناس. هذا ما يجب أن ننتبه إليه عندما ننتبه إلى حركة الفتنة.
مواجهة حرب الإشاعات
وهناك نقطة لا بدّ لنا من أن نعيها جيّداً؛ إنَّ هذه الفتنة انطلقت من مواقع الإشاعات والتشنُّجات غير المسؤولة والتعقيدات والكلمات في دائرة الواقع الذي تتحرَّك فيه الصحف وتنطلق فيه أجهزة المخابرات لتعتبره كوضع يتحرّك في طريق الإشاعة، إنَّ هناك كلمات تدور وإشاعات تتحرّك في الساحة حول بعض الأوضاع وحول بعض التصرُّفات؛ هذا فعل كذا وهذا مثل بكذا وهذا انطلق كذا، وعلى أساس أن تشوّه صور بعض الرموز الإسلامية بطريقةٍ أو بأخرى(1). إنَّ هناك حرباً جديدة هي حرب الإشاعات، ولهذا فإنَّ علينا جميعاً أن نقف في وجه هذه الحرب، ونقولها لكلّ الأُمّة ولكلّ الأطراف، إنّ الله يقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 36].
إذا نقلت قصّة عن شخص أو إذا تحدّثت عن موقف لشخص أو إذا نقلت صورة عن أي وضعٍ معيّن، ولم تره بعينك، ولم تسمعه من ثقة فإنَّ الله يقول لكَ هل رأيت؟ تقول: لا يا ربّي، لم أرَ فلاناً يقتل فلاناً ولم أرَ فلاناً يشوِّه صورة فلان، ولم أرَ فلاناً يضرب بالساطور رأس فلان، لم أرَ هذا ولم أرَ ذاك. فيقول لك: إذا كنت لم ترَ فهل سمعت؟ تقول: سمعت. يقول لك: ممَّن سمعت هل حدَّثك ثقة، أم حدّثك إنسان موتور أم حدَّثك إنسان فاسق أو كاذب؟ حاول أن تجد جواباً، لأنَّك إذا استطعت أن تعطي من حولك جواباً فهل تستطيع أن تعطي الله جواباً؟!
فكِّروا في ذلك، عندما تتحدّثون بالإشاعات وعندما تتّهمون الناس هنا وهناك وعندما تتحدّثون عن المؤمنين بطريقة غير مسؤولة، إنَّ الله سيحاسبنا جميعاً على ذلك إذا لم نحسن أن نأخذ المصدر من مواقع الثقة. هذا ما يجب أن نلتفت إليه في هذا المجال.
كما أنَّ هناك نقطة أحبّ أن أُنبِّه إليها، أنّنا في كلّ مساعينا مع كلّ المخلصين، الذين يتحرّكون في الساحة، علينا أن نمتنع عن كلّ الكلمات التي تثير الأحقاد والبغضاء وتشحن العواطف وتبعث على التوتُّر، علينا أن نختزن هذه الآلام في صدورنا وأن نعمل على أن نقلِّل من الكلام الانفعالي الذي يثير كلّ طرف على الطرف الآخر، ليوتّر أعصابهم وليدفعهم إلى العصبية. لأنَّ هذه الأساليب قد تدفع الإنسان غير المتعصّب لأن يكون متعصِّباً. ولهذا فإنّ علينا أن نعمل على ضبط ألسنتنا وأن ننقذ الواقع، هناك ضرورة لأنْ ننقد الناس ولكن بطريقة عقلانية موضوعية وهادئة. إنَّ علينا أن نواجه المسألة على هذا الأساس بكلّ مسؤولية، حتّى لا نزيد على النار ناراً وحتّى لا نزيد على الفتنة فتنة، لأنَّ واقعنا الذي نعيش فيه هو واقع الناس الذين يعملون على إطفاء الحرائق، لا الذين يعملون على إثارة الحرائق. واعملوا بكلّ ما عندكم من جهة في سبيل أن تسيطروا على كلّ هذه الفتنة التي تتحرّك في ساحاتكم بكلّ طريقة عقلانية هادئة. وإنّنا في الوقت نفسه نقول لكلّ المسؤولين أن لا يطلقوا الكلمات بطريقة انفعالية في الحديث عن وجود خطّة، تريد أن تعمل على إنهاء فريق معيّن كما تتحرّك به بعض المؤسّسات. إنَّ علينا أن نفهم أنّ الفتنة أحرقت الجميع، لم يكن هناك في قصد الحالة الإسلامية أن تعمل على تصفية أيِّ فريق مهما كان وضعه، ولم يكن في فكر الحالة الإسلامية أن تدخل في أيّ حرب مسلّحة في هذا المجال. هذا ما أعرفه من خلال ما أعرفه من الخلفيات، لذلك فإنَّ الأحاديث في كلّ الاجتماعات عن أنّ المسألة تتحرّك من أجل تصفية فريق معيّن كان موجوداً في الساحة، هذا كلام غير مسؤول. ونريد من القيادات أن تتحدّث بطريقة مسؤولة ونريدها أن تتكامل مع كلّ الفعاليات في السّاحة، لأنَّ المسألة ليست أن تكون أنت أو أن يكون ذاك، ولكنّ المسألة هي أن تكون الأُمّة وأن يكون الناس المستضعفون. قد تطلق دعايات في هذه الساحة أن يخرج كلّ المسلّحين من الضاحية، هذا أمر نتمنَّاه؛ أن يعيش أهل الضاحية بوضع لا سلاح فيه وبشكل يعيش الأمن فيه، لأنَّ السلاح مشكلتنا جميعاً، مشكلة الناس الذين يملكونه ومشكلة الناس الذين يحرسهم، هو مشكلتنا جميعاً... قد يتحدّث بعض الناس بأنّني أقود حرباً أو أنّني أقود ميليشيا أو أقود حزباً أو ما إلى ذلك ممّا يتحدّث فيه الإعلام، أنا غير مرتاح، لأنّني أحتاج إلى حرَّاس يتحرّكون معي من مكان إلى آخر فأنا لا أحبّ السلاح، لأنّني كنت أحبّ ـــ ولا أزال ـــ أن أعيش في حياتي تماماً كما كنت أعيش في النبعة، أن أركب بسيارات الأجرة بطريقة عفوية شعبية مع الناس كلّهم؛ لكنّ المشكلة هي أن تتمنّى شيئاً وأن يكون الواقع في هذا المجال شيئاً آخر.
لبنان غابة مسلّحة، وفي ظلّ واقع لا دولة فيه وفي ظلّ دولة تمثّل فريقاً ضدّك، ما معنى أن تعطي سلاحك؟ السلاح ليس حالة طبيعية في حياتنا، لأنّ السلاح خطر على حامله، كما هو خطر على الناس من حوله. لقد عرفناه في كلّ الأوضاع الفردية، ولكن عندما يكون للناس الآخرين أنياب من مدافع وأنياب من قذائف وأنياب من دبابات وهم يتربَّصون بك الدوائر، عندما يكون للآخرين أنياب بهذا المستوى، فهل تعمل على أن تكون أنيابك حليبيّة؟ السلاح مشكلة للجميع، ولكن يا ترى ما البديل في هذه الحالة؟ هل البديل أن تأتي القوّة التي قصفتنا قبل سنين وقصفتنا قبل أيام؟ كيف يمكن أن يحميك مثل هذا السلاح الذي يقصفك بأمر من اليرزة تارةً وبأمر ممّن لا ندري أخرى؟ إنَّنا نتمنّى أن تكون هناك أوضاع سياسية معقولة متوازنة، تحفظ للأُمّة حريّتها وكرامتها وتحميها ممّن يكيد لها، عند ذلك لا مشكلة لنا مع أحد.. ولكن كيف يكون ذلك؟
هناك فرق بين التمنّيات وبين حركة الواقع. إنّنا نريد أن نكون واقعيّين ونريد أن نقول لكلّ الناس من حولنا: إنَّ هذا السلاح أمانة الله عندكم أن توجّهوه إلى صدور أعدائكم، لا أن توجّهوه إلى صدوركم؛ وإذا حاول أعداؤكم أن يستغلّوا بعضكم في ذلك فحاولوا أن لا تواجهوا المسألة بطريقة انفعالية، ولكن اعملوا على أساس مواجهة القضية بكلّ مسؤولية وبكلّ إيمان. إنَّنا ندعو الله سبحانه وتعالى وقد عشنا في كلّ هذه الليالي المباركة في هذه الأجواء الصعبة، ونحن نستقبل عيد الفطر، ندعو الله أن يكون عيد فطرنا، عيد المصالحة وعيد التعاون وعيد الموقف الواحد. المهم أن نتّقي الله في ذلك كلّه وبعد ذلك ليست هناك مشكلة.
والحمد لله ربّ العالمين
"حركة الإيمان في مواجهة الفتنة"(*)
{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل : 112]، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 ـــ 157].
في هذا الجوّ القرآني الذي يريد الله سبحانه وتعالى أن يؤكّد للناس ـــ كلّ الناس، ولاسيّما المؤمنين منهم ـــ أنّ الحياة التي يعيشون فيها أوضاعهم وعلاقاتهم وتحرّكاتهم، ليست نزهة يتلذَّذون فيها ويعيشون فيها حياة الرّخاء وحياة الطمأنينة من دون أيّة صدمة، ودون أيّ بلاء، ودون أيّة مشكلة. فهناك في الحياة إلى جانب الفرح حزن وهناك إلى جانب اللّذة ألم، وإلى جانب الأمن خوف، وإلى جانب الغنى فقر وإلى جانب الحياة موت. ولهذا فإنَّ عليهم أن يستعدّوا في حياتهم لمواجهة ذلك كلّه ليعرفوا أنّ عليهم أن يواجهوا حالات السرور والأمن والغنى وغير ذلك، بطريقة معقولة هادئة، كما أنّ عليهم أن يواجهوا ما يصادفهم من الخوف والفقر والحرمان والألم والحزن بطريقة معقولة؛ ألاّ يغطّيك الفرح عندما تكون الحياة من حولك تضجّ بالفرح، وألاّ يسقطك الحزن عندما يأتي الحزن إلى قلبك ويستولي على كلّ حياتك، ادرس أسباب الفرح في حياتك وحاول أن تستفيد منها وتعلَّم كيف تكثّر فرصها، وادرس أسباب الحزن في حياتك واعرف كيف تستطيع أن تقلِّل منها، أن تواجه الحياة بطريقة عقلانية هادئة، وتعرف أنّ الله نظَّم الحياة على أساس وجعل لكلّ شيءٍ سبباً، وجعل نتائج الواقع في حياة الإنسان خاضعة لأعمال الإنسان؛ فكما تزرع تحصد، وكما تتحرّك في الحياة تجد، من يزرع الريح فلا بدّ أن يحصد العاصفة، ومن يزرع الجريمة فلا بدّ أن يحصد المشكلة، ومَن يزرع الفوضى فلا بدّ أن يحصد الدمار، ولهذا فلا بدّ للناس من أن يدرسوا سبب مشاكلهم في طبيعة أعمالهم وفي طبيعة أوضاعهم، لأنَّنا إذا حاولنا أن نجلس حول المأساة لنبكي نتائجها من دون أن ندرس أسبابها وطبيعة الظروف التي تحيط بها، فإنَّ معنى ذلك أنّ الذين يصنعون المأساة في وقتٍ ما سوف يصنعون مآسي أخرى في أوقات أخرى. ولكنَّنا إذا درسنا المأساة وحاولنا أن نتعاون على أساس أن نقضي على الجذور التي تخلق الألم والمأساة، عند ذلك، لن يستطيع المغامرون والمفتنون والمجرمون أن يصنعوا مأساة جديدة، هذا ما يريدنا الله أن نتعلَّمه في البلاء، وهكذا قال الله {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ}، أيّة قرية كان فيها من الاطمئنان في الحياة ولكنّ أهل القرية ـــ أيّاً كانوا ـــ تحرَّكوا من أجل أن يصنعوا لأنفسهم المشاكل وتحرّكوا من أجل أن يكونوا حياديّين أمام المنكر وحياديين أمام المفسدين، وحياديين أمام المجرمين أو أنّهم يخافون المجرمين، والمفسدين فيعملون على أن يغطّوهم وأن يجاملوهم وأن يعملوا كلّ ما يريدون في سبيل إعطائهم غطاءً شرعياً تارًة أو غطاءً سياسياً أخرى أو غطاءً اقتصادياً أو اجتماعياً، لأنَّ لهذا مصلحة عند ذاك ولأنَّ لهذا قضية عند ذاك. وعندما يمتنع الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، "لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر أو ليسلّطنَّ الله شراركم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم"(1)، عندما يصنع الناس ذلك فسيأتي الخوف بعد الأمن، وسيأتي الجوع بعد الشبع {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} ويقول الله سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]. في كثيرٍ من المصائب قد يكون المجتمع هو الذي يحرّكها وهو الذي يثيرها في كلّ حياة الناس العامّة والخاصّة عندما ينطلق المجتمع ليعيش المصيبة، فيتعصَّب كلّ إنسان لفريقه حتّى لو كان فريقه مخطئاً، فإذا كان فريقك مع الحق فأنتَ مع الحقّ لأنّه من خلال فريقك، وإذا كان فريقك مع الباطل فأنتَ مستعد لأن تسير مع الباطل ولستَ مستعداً لأن تنقد فريقك أو قيادتك، لأنَّ المسألة هي أنّك تلتزم الأشخاص وتلتزم المحور ولا تلتزم الحقّ في ما يريده الله لك أن تلتزمه من حقّ، المسألة كانت ولا تزال أنّ العصبية تجعل الإنسان يتعصَّب للباطل ويحاول أن يوحي أنّه الحقّ، وهكذا نشأت عندنا العصبية للعائلة والعصبية للطائفة والعصبية للحزب والعصبية للحركة والعصبية للأشخاص وللقيادات، على أساس أنّ الإنسان يلتزم الشخص ويلتزم الإطار ولا يلتزم المعنى والمضمون في ما يوحي به الإيمان من خلال ذلك، عندما تتحرّك العصبية يهرب الحقّ، وعندما تتحرّك العصبية تسقط العدالة وعندما تتحرّك العصبية تنطلق الفوضى في الناس ويعيش الناس في عمىً عن الحقيقة، لأنَّ الإنسان المتعصّب، أيّاً كان الشيء الذي يتعصَّب له، هو إنسان لا ينظر إلاّ بعينٍ واحدة، ولا بدّ للمؤمن أن ينظر بعينين حتّى يستطيع أن يعرف ميزان الحقّ كيف يتحرّك وميزان العدل كيف يتحرّك.
جوٌّ محكوم بالعصبيّة
ولعلَّ المشكلة في كلّ الواقع الذي نعيشه في هذه الفتنة اللبنانية المدمّرة على مستوى الطوائف وعلى مستوى الأحزاب وعلى مستوى القيادات، أنّ الجوّ تحكمه العصبية ولا تحكمه المبادئ وأنّ الجوّ تحكمه الغرائز ولا تحكمه العقول، لهذا فإنَّ ذلك سينعكس على حياتنا {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] والله يبتلي الناس كلّهم ولاسيّما المؤمنين، يبتليهم ليكون البلاء صدمة لهم، يبتليهم حتّى يظهر الإيمان الثابت المستقرّ من الإيمان المستودع القلق، يبتليهم حتّى يقوّي فيهم المعاناة في مواجهة التحدّيات {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] ليست الجنّة مجّاناً للذين يريدون أن يدخلوها، ليست الجنّة مجرّد ركعات تؤدّيها وصوم تصومه وحجٍ تسعى إليه، ولكنّ الجنّة موقف؛ أن تأتيك البأساء لتجعلك تنحرف عن طريق الله ويهجم عليك الحرمان ليزحزحك عن موقفك وتظلّ ثابتاً في موقفك، أن تأتيك الضرّاء حتّى تزحزح صمودك وروحك وقوّتك، تضر في جسدك وفي أهلك وفي مالك وفي حريّتك، تسجن، تعذّب، تشتم، تُسب، وتظلّ ثابتاً، وإذا جاءك الزلزال تلجأ إلى الله {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ} والله يقول لهم إذا ثبتّم وإذا وقفتم وإذا عانيتم وإذا تحمّلتم وإذا صبرتم وإذا صمدتم، فإنَّ النصر ليس عطية تُعطاها، ولكنَّ الله يعطيك النصر عندما تكون في مواقع النصر ويعطيك النتائج الكبيرة عندما تكون في المواقع الكبيرة، وهكذا ولنبلونّكم حتّى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخياركم، إنَّ الله يريد أن يقول للمؤمنين، إنَّ الإيمان الذي تلتزمونه بكلّ معانيه، الذي يحمل في البداية وحدانية الله لتقول كمؤمن في كلّ مواقف الحياة: ربّي الله وحده وكلّ أرباب الأرض لا يمثّلون عندي شيئاً، أن تلتزم الإيمان لتقول إنَّ أمر الله وحده هو الذي أنفّذه، نهي الله وحده هو الذي انتهي به، أمّا أوامر الطغاة، أمّا أوامر الذين يعتبرون أنفسهم آلهة وينظر إليهم الناس كآلهة، فليس لي شغل بهم من قريب أو بعيد. أن تكون مؤمناً؛ تلتزم الإيمان، أن تلتزم قضايا الحريّة في الحياة لأنّ الله خَلَقَ الإنسان حرّاً ولا يرضى له أن يكون عبداً إلاّ له، أن تلتزم الإيمان لأنّه على أساس أنّك تحمل قضية العدالة في الحياة في كلّ مواقعها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، لأنَّ الله أنزل الرسالات ليقوم الناس بالقسط، أن تكون مؤمناً؛ أن تلتزم خطّ الإيمان والإسلام ليكون الإسلام عنواناً لكلّ حياتك في كلّ مجالات حياتك وأن تحرّكه وتسير عليه حتّى لو رَجَمَكَ الناس بالحجارة، حتّى لو قال الناس عنك ما قالوا، حتّى لو شَتَمَكَ الناس، تقول {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 ـــ 163]، {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة : 131].
الصبر في الشدّة وعلى البلاء
إنَّ المسألة هي أنّك عندما تكون مؤمناً فمعنى ذلك أنّك تقف ضدّ التيّار؛ تيّار العبودية الذي يراد له أن يفرض على الناس، وتقف ضدّ تيّار الظلم عندما يُراد فرضه على الناس، وتقف ضدّ تيّار الانحراف عندما يراد فرضه على الناس، معنى أن تكون مؤمناً أنّك تسبح ضدّ التيّار، التيّار الذي يتحرّك في نطاق الشهوات، والتيّار الذي يتحرّك في نطاق الأطماع، والتيّار الذي يتحرّك ضدّ القوى الظالمة هنا وهناك. ما معنى أن تكون مؤمناً؟ أن تكون حالة شاذّة في المجتمع، حالة شاذّة لا تنطلق من أنّك شاذ عن حركة الحياة، ولكنّك شاذ عن حركة الواقع السيّئ الذي يحاول أن يجعل الانحراف طبيعة والظلم طبيعة والعبودية طبيعة. من الطبيعي جداً أن يكون الحقّ في كلّ مكان شذوذاً عن كلّ حالة الباطل التي قد تسيطر على أساس وضعٍ معيّن أو على أساس قوّة معيّنة.
هناك حديث مرويّ إمّا عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أو عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين ينطقون عن النبيّ، يتوجّه إلى المؤمنين الملتزمين الواعين الصامدين "لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً، وَلَتُسَاطُنَّ سَوْطَ اَلْقِدْرِ حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ وَأَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ وَلَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا وَلَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا"(1)، الفتن والمشاكل والأحداث التي تأتي هنا وهناك سوف تكون غربالاً لكثير من الناس الذين كانوا في زمن الرَّخاء وفي زمن الطمأنينة أبطالاً وثوّاراً.. وكانوا وكانوا.. حتّى إذا جاء الغربال، كان الكثير من الناس يعيشون في الأعالي وتأتي الفتنة لتسقطهم، وكثيرون من الناس كانوا يعيشون في الأسافل وتأتي الفتنة لترفعهم..
إذا اشتبكتْ دموعٌ في خدودٍ تبيَّنَ مَن بكى ممَّن تباكى
إذا أردت أن تميِّز بين الذين يبكون من قلوبهم وبين الذين يتباكون من عيونهم، انظر إلى الدموع كيف تجري، مَن كانت الدموع تملأ وجهه وتنزل على جسده فهو الذي يبكي من قلبه وهو الصادق في بكائه، أمّا الذي يعتصر عينيه لتسقط دمعة هنا ودمعة هناك، فهو المتباكي، اسمعوا حديثاً آخر، ماذا ينتظر المؤمنون {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء} [البقرة : 214] لقد كان قبلكم قومٌ يُقتَلون ويُحرَقون ويُنشَرون بالمناشير وتضيق عليهم الأرض برحبها فما يردّهم في ما هم عليه شيء ممّا هم فيه من تِرَة (من غير ذنب) وتروا بها من فعل ذلك بهم ولا أذى {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج : 8] تلك هي تهمتهم؛ أنّهم مؤمنون وملتزمون، وأنّهم يريدون أن يطيعوا الله ولا يطيعوا غيره، "فاسألوا ربّكم درجاتكم، واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيكم"، عندما تريد أن تلتزم الحياة كرسالة وعندما تريد أن تكون قريباً من الله ومن رحمته ورضوانه، وعندما تسعى من أجل أن تستحقّ جنّته، لا بدّ لك من أن تصبر بكلّ ما للصبر من معنى، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 ــ 157].
المسألة هي أن تصبر على الإغراء وعلى الترهيب وأن تصبر أيضاً على نوازع نفسك وأن تصبر على الشياطين الذين يريدون أن يحرفوك، لأنَّ المشكلة أنّك قد تصبر أمام عدوّ في الخارج ولكنّك لا بدّ أن تصبر على عدوّك في داخل كيانك حتّى تستطيع أن تقف أمام نوازع نفسك وأمام شهوات نفسك؛ فقد ورد في بعض الأحاديث، "المؤمن بين خمس شدائد: مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه، وكافر يقاتله، ونفس تنازعه، وشيطان يضلّه". لهذا لا يكفي أن تكون المؤمن في ساحة القتال، بل لا بدّ أن تكون المؤمن في ساحة الإيمان والصراع الداخلي، وهو الجهاد الأكبر، أن تجعل الإيمان عنواناً لتصرّفاتك مع الآخرين، أن تحمي الناس من نفسك، ألاّ تظلم الناس وأنتَ تحارب ظلم الحكم أو ظلم الطغاة، ألاّ تؤذي الناس، ألاّ تعمل على أساس إذلال الناس عندما تكون لك سلطة وقوّة، ألاّ تعمل على أساس أن تتصرّف بما لا يجوز لك بأموال الناس عندما تكون أموالهم تحت تصرّفك، أو أعراضهم تحت تصرّفك، أو نفوسهم تحت تصرّفك، أن تتّقي الله في ذلك. إنَّ البطولة في هذا الجانب أعظم من البطولة في ذاك الجانب، وإنَّ الانتصار على النفس حتّى تتوازن النفس في طاعة الله وحتّى تثبت النفس في مواقع المزالق، هي أعظم من البطولة في معركة الحرب الحارّة الساخنة.
هذا ما نريد أن ننطلق فيه، عندما نواجه كلّ الواقع الذي يريد أن يجعل من المؤمنين شيئاّ شاذّاً، ويجعل منهم حالة عدوانية، ويجعل من المؤمنين حالة تآمرية، ويتحدّث عن أصحاب المسابح والجباه المعفّرة بطريقة السخرية، لا أدري كيف يتحدّث الناس في هذا المجال، لا بدّ للمؤمن من أن يثبت عندما يكون إيمانه حقيقياً وعلينا أن نفهم جيّداً أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يواجه هجمة إعلامية حاصرته من كلّ جانب، كان يقدّم نفسه للنّاس كنبي وقالوا إنّه ليس نبيّاً، بل هو ساحر، عامله أهل مكّة كما يعاملون السحرة، وقالوا عنه عندما لم تنجح هذه التهمة، قالوا عنه وهو يريد أن يعطيهم كلمة الصدق، إنّه كاذب فلا تصدّقوه في ما يقول، وعندما سقطت هذه التهمة قالوا عنه إنّه كاهن يفعل ما يفعله الكهَّان من الحديث عن بعض الغيب من دون أن يكون له عمق في وحي السماء، قالوا عنه ذلك وسقطت التهمة، بعد ذلك قالوا إنّه مجنون، في عقله خلل، لا يفكّر باتّزان، ولا يتحرّك باتّزان، وقال لهم بكلّ وداعته وبكلّ محبّته التي يفيض بها على الناس كلّهم، قال لهم ما قاله الله له: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ : 46] هذا هو الزاد الذي نتزوَّد به، قالوا عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): إنّ فيه دعابة، وكان معاوية في ما يروى يقول لأهل الشام: إنَّنا نقاتِل عليّاً لأنّه لا يصلّي ونحن نقاتله حتّى يصلّي، ورأى أنّ المسألة لا تنطلي، ماذا يفعل؟ كان يربّي الناس على سبّ عليّ (عليه السلام) وفرضها في خطبة الجمعة وفرضها على كلّ المنابر، على كلّ الذين يصلُّون في المساجد من خلال دائرته التي يعيّن فيها أئمّة المساجد، ليحبسهم في دائرة ضيّقة، كان يريد لهم أن يسبُّوا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وكان يحبس ويضيق هو وغيره على كلّ مَن يلتزم ولاية عليّ، وكان يضطهد كلّ مّن يحبّه وكلّ مَن يتحدّث عن فضائله، وجاء الحديث عن الإمام أحمد بن حنبل عندما قال: "ما أقول في رجل جهد محبُّوه في إخفاء فضائله خوفاً وجهد مبغضوه في إخفاء فضائله حسداً فظهر بين ذين ما ملأ الخافقين" لأنَّ المسألة أنَّ عليّاً كان مع الحقّ، وكان الحقّ معه، ولذلك فمهما اشتدّ الباطل ليحارب عليّاً فإنّ الحقّ لا بدّ أن يفضح الباطل في أيّ وقت. لهذا ليست المشكلة هي ما يقول الناس في خطّ الإيمان والإسلام، بل المشكلة كيف يحفظ المؤمنون إيمانهم في أنفسهم، لا تشغلوا أنفسكم في الحديث عمّا يقوله الناس عنكم.
يُراد إسقاط روحيّة الإيمان
أيُّها المؤمنون، أيّاً كنتم إنّني لا أتحدّث عن حالة حزبية، ولكنّي أتحدّث عن حالة إيمانية في كلّ مواقع الإيمان، لأنَّ الإيمان أصبح تهمة في كلّ موقع سياسي، فكلّ مَن كان مؤمناً فلا بدّ أن يُزال ولا بدّ أن يُبعد عن الساحة، لا تنشغلوا بكلام الناس، أقولها لكلّ المؤمنين، المؤمنين في حز//ب الله والمؤمنين في حركة أمل والمؤمنين خارج النقطتين إذا كانا تنظيمين، إنَّ المسألة هي أنّ الجو السياسي والإعلامي يُراد له أن يسقط روحية الإيمان وصحوة الإيمان ويراد له أن يفصل بين المؤمنين وبين قيادتهم الإسلامية التي يمثّلها الإمام الخميني (حفظه الله)(1)، إنَّنا نقول لكم جميعاً، انشغلوا في أنفسكم إذا كان هناك نقص في إيمانكم فأكملوه، وإذا كان هناك نقص في التزامكم فتمِّموه، وإذا كان هناك انحراف في سلوككم أو في كلامكم فقوّموه، إنَّ انتصاركم هو أن تنتصروا على كلّ نقاط الضعف في شخصيّتكم، إنَّ قوّتكم هي أن تكونوا مسلمين كما هو الإسلام ومؤمنين كما هو الإيمان، ألاّ تكونوا حالة حزبية تتحرّك في نطاق المكاتب وتتحرّك في نطاق العصبيّات، بل أن تكونوا حالة إسلامية كما كان المسلمون في مكّة حالة إسلامية، وكما كان المسلمون في المدينة حالة إسلامية، أن يكون الإسلام هو الهواء الذي تتنفَّسونه والماء الذي تشربونه، والغذاء الذي تتغذّون به لتكون حياتكم كلّها إسلاماً، فإذا رآكم الناس رأوا الإسلام في عيونكم وهي تحدّق، ورأوا الإسلام في شفاهكم وهي تتكلَّم، ورأوا الإسلام في أيديكم وهي تتحرّك، ورأوا الإسلام في أرجلكم وهي تسير، ليكون كلّ واحدٍ منكم كما كان رسول الله أُسوةٌ حَسَنة، لا تكونوا الدُّعاة بالكلمة ولكن كونوا الدُّعاة بالقدوة، فقد كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو القدوة التي أراد الله للنّاس أن يتأسّوا بها {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب : 21] افعلوا كما يفعل، قولوا كما يقول، تحرَّكوا كما يتحرّك، أنشئوا العلاقات كما ينشئ العلاقات. انتصاركم أن تكونوا مسلمين كما هو الإسلام(1)، قوّتكم أن تكونوا مؤمنين كما هو الإيمان، لأنَّ المسألة هي أنّكم إذا كنتم تريدون الدنيا فالدنيا موجودة، ولكن إذا أردتم الدنيا المرتبطة بالآخرة والآخرة التي تطلّ على الدنيا، فإنَّ عليكم أن تقولوا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة : 201]، ألاّ تستغرقوا في خصوصيّاتكم وفي أوضاعكم التنظيميّة ولكن استغرقوا في أجوائكم الرساليّة.
عندما تضيق بكم الحياة، ارجعوا إلى الله فستجدون السعة كلّ السعة والرحابة كلّ الرحابة، عندما يراد أن يفرض عليكم اليأس انطلقوا إلى الله لتجدوا الأمل الكبير بالله سبحانه وتعالى: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87]، إذا خوَّفكم الناس في كلّ مجال فقولوا حسبنا الله ونِعْمَ الوكيل، إذا أراد الناس أن يهوِّلوا عليكم بكلّ شيء، قولوا {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر : 36] كونوا مع الله قلباً وروحاً وعقلاً وضميراً وحركة وسلوكاً في كلّ مجالات الحياة، فإنّ مَن كان مع الله كان الله معه {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ...} [آل عمران : 160]، {... إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد : 7] وليقل كلّ إنسان لصاحبه كما قال رسول الله لصاحبه: {... لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وسينزل الله سكينته على كلّ المؤمنين الذين يخلصون في إيمانهم والمسلمين الذين يخلصون في إسلامهم، سينزل الله سكينته عليهم كما أنزلها على رسوله لأنَّ المسيرة واحدة، ولأنَّ الخطّ واحد، ولأنّنا عندما نريد أن نحرّك الإسلام في حياتنا ونريد أن نتآخى مع كلّ المسلمين في العالم ونريد أن ننطلق مع القيادة الإسلامية الواعية، فإنَّنا نسير حيث سارَ رسول الله ونجاهد حيث جاهَدَ رسول الله ونعمل حيث عمل رسول الله.
الفتنة نتيجة لضعف المواقع
وفي هذا المجال نحبّ أن نطلّ أمام الأحداث التي لا تزال تطبق علينا من كلّ جانب والفتنة التي لا نزال نحترق فيها جميعاً ممّا لم يكن نتوهّمه ولم نكن نتصوّره ولم نكن نفكِّر أن يحدث، ولكنّه حدث من خلال الضعف الذي يعيش في كثير من مواقعنا في أيّ جانب من الجوانب، ومن خلال الأجهزة التي دأبت منذ انطلقت المسيرة الإسلامية الحاسمة على أن تشحن النفوس حقداً وعداوة وبغضاء وتمنع كلّ لقاء بين القيادات وتمنع كلّ لقاء بين القيادات وتمنع كلّ لقاء بين الناس، لأنَّ المسألة هي أنّهم كانوا يلعبون على النعرات وكانوا يلعبون على الأحقاد وكانوا يلعبون على العصبيات، ولبنان هو مطبخ المنطقة الذي يحتاج إلى كثير من الوقود ولم ينجحوا في تجميع الوقود للطبخة إلاّ إذا أشعلوا دواخل النفوس بالنار، عندما تكون طرياً مع أخيك فلن تستطيع أن تحرقه أو يحرقك، ولكن عندما تكون ملتهباً ويكون هو ملتهباً عندما يغذّيك الحقد ضدّه وعندما يغذّيه الحقد ضدّك، فإنَّ معنى ذلك أنّ اللّهيب عندما يدنو من اللّهيب فسوف لا ينتج إلاّ الحريق الكبير، المسألة أنّه كانت كلّ الأجهزة وكان الذين زرعتهم الأجهزة في صفوفنا والذين حرّكتهم الأجهزة ليتّخذوا مواقع متقدّمة في السّاحة، كانوا يعملون على إشعال النار بالعصبيّات وبغير العصبيّات، وكانت الاختراقات من كلّ مكان من أميركا إلى أوروبا إلى "إسرائيل" إلى العناصر المحليّة والإقليمية، الاختراقات تدخل من أجل أن تخترق الساحة لينطلق هذا الجهاز حتّى يزرع في داخل الساحة فريقاً له، هكذا كانت المسألة. ويبدو أنّهم استطاعوا أن يتغلَّبوا على كلّ الضمانات واستطاعوا أن يتغلَّبوا على كلّ المحرّمات، واستطاعوا أن يعلنوا إسقاط كلّ المحرّمات، ووصلنا إلى ما وصلنا إليه، ونحن لا نصدّق أعيننا ولا نصدّق واقعنا، هل نحن في حلم أم نحن في يقظة؟ الإخوان يتقاتلون، الرصاص هنا يُسَدَّد من مؤمن إلى صدر مؤمن، مسلم إلى مسلم، مستضعف إلى مستضعف، منكوب إلى منكوب، محروم إلى محروم، كيف حدث ذلك؟! إنَّ الذين أوقدوا النار عرفوا كيف يحدثونها، كنّا نقول قبل الفتنة للقيادات كلّها: اطردوا كلّ هؤلاء الذين سخّرتهم الأجهزة المخابراتية من أن يكونوا مسؤولين ومن أنْ يحرِّكوا الفتنة ومن أن يعيشوا كلّ هذا الواقع، ولكن كانت الأوضاع تحتاج إلى هيبة، والذين يصنعون الجريمة يعطون الهيبة، كانت المسألة هي هذه، ولهذا كان الوضع يتحرّك على أساس المجتمع قاهراً ومقهوراً، قاهراً يفرض عليك أن تسجن من دون أن تعرف لماذا سجنت، أو تُضرَب من دون أن تعرف لماذا ضُرِبت، أو تُنهب من دون أن تستطيع أن تدافع، لأنَّ المسألة هي أنّك إذا تحرّكت ضدّ مجرم أو سارق أو لص فمعنى ذلك أنّك تحرّكت ضدّ هذه الجهة وعليك أن تدخل في حرب مع هذه الجهة التي تغطّي هذا اللّص وتغطّي هذا القاتل وهذا المجرم أو تلك الجهة. كانت المسألة هي أنّ هناك واقعاً كان يختزن القهر، لأنّه ليست هناك ضوابط تربط العلاقات.
وكنّا نقول للجميع وقد سمعتموها منّي مراراً وتكراراً قبل أن تحدث مشكلة الجنوب وقبل أن تحدث مشكلة الضاحية، لقد سمعتم مراراً أنّي كنتُ أتوجَّه إلى الإخوة في حز//ب الله والإخوة في حركة أمل، إنّكم تعيشون في مكانٍ واحد وفي بيتٍ واحد وساحة واحدة، نظَّموا قضاياكم وأوجدوا صيغة للتلاقي وللتعاون في ما بينكم، كنّا نقول لهم إنّنا نطمح في تعاونكم وفي لقائكم أن تتحوّلوا في المستقبل إلى أن تكونوا حالة واحدة بدلاً من أن تكونوا حالتين متصارعتين، أن تتَّفقوا على ما تتّفقون عليه وأن تتحاوروا في ما تختلفون فيه، كنّا نقول ذلك، ولكن "على مَن تتلو مزاميرك يا داود"، كانت هناك أوضاع تدخل هنا وتدخل هناك لتعطّل هذا المسير ولتعطّل هذا الاتفاق ولتعطّل هذا الحوار على أساس أنّه لا يراد للساحة أن تكون موحّدة، ولا يراد للساحة أن تنطلق بقوّة، لأنَّ هذه القوّة تخيف الآخرين في الميزان الطائفي وتخيف الآخرين في الميزان السياسي كقوّة تحرُّريّة، وتخيف الآخرين في الميزان الجهادي كقوّة تقاتل "إسرائيل"، أُريد لهذه الساحة أن تختلف وأن تتناقض، وأريد لهذه الساحة أن تتوكَّل عن هذه الجهة أو تلك، وأريد لهذه الساحة أن تضعف حتّى لا تستطيع أن تطالب بحقّ من حقوقها وحتى تسقط كلّ قضاياها، أريد لها ذلك ولن تنفع كلّ تلك الكلمات.
لقد عملنا ـــ منذ أن انطلقت الفتنة في الجنوب، وبعد ذلك مع كلّ المخلصين ومع وفد الجمهورية الإسلامية ـــ على أن نصير إلى لقاء واتّفاق بين الإخوة، وانطلقت كثير من الأوضاع لتعطِّل ذلك، وعملنا منذ أن انطلقت الفتنة على الرغم من كلّ ما يقال، على أساس أن نغلق ملف الفتنة وعلى أساس أن نمنع الحرائق بكلّ ما عندنا من طاقة، عملنا في السرّ وعملنا في العلن، ولكنَّ المسألة كانت أكبر من جهدنا وكانت المسألة أكبر من قوّتنا، لأنَّ العوامل الخفيّة التي كانت تدفع الساحة إلى المحرقة، كانت كبيرة كبيرة وكانت صعبة صعبة، ربّما شعرنا أنّها فوق طاقتنا. لهذا نتوجّه إلى كلّ الناس في الساحة، وإلى كلّ الإخوة في الساحة، ونحن نرجو ألاّ يكون هذا القتال قد ألغى أُخوّتهم التي ترتكز على الإسلام، قد يتّهم هذا الأخ أخاه بأنّه بدأ، وقد يتّهم ذاك بأنّه بدأ، ولكنّ ذلك لا يمنع أن الجميع لا يزالون مسلمين، مسلمين قد يخطّئ بعضهم بعضاً، ولكنّهم مسلمون. ما نريد أن نقوله لكلّ الإخوة في هذه الساحة العامّة.
أوّلاً: إنَّ الامتداد في هذا الجوّ الإعلامي السياسي سوف يحرق كلّ القضايا، إنّكم تتحدّثون عن استحقاق رئاسة الجمهورية وتتحدّثون عن حقوق الطائفة وتتحدّثون عن مواقع القوّة، إنَّ إثارة الحقد والبغضاء بمختلف الأساليب التي قد تحمل كثيراً من الأكاذيب وكثيراً من الافتراءات وكثيراً من الظلم؛ لن تنفع أحداً، فقد جرّبت الفتنة اللبنانية في كلّ الطوائف وفي كلّ الأحداث هذه الأساليب الاستهلاكية التي تريد أن تشحن غرائز الناس وعواطفهم وتريد أن تضلِّل الناس، ولكنّها لم تستطع أن تسقط أحداً، بل إنّها أسقطت القضايا وجعلت الساحة تتنفَّس بالحقد والبغضاء، لهذا نقول: وفِّروا على أنفسكم الجهد، جهد المزيد من الأكاذيب، لأنَّ الناس قد يسمعون الكثير الآن، ولكنَّ الناس عادة يتطلَّعون إلى ما يحدث بعد ذلك. ولكن برغم ذلك، قولوا كلمة المحبّة أمام كلمة البغض، قولوا كلمة الرحمة أمام كلمة القسوة، قولوا كلمة العقل أمام كلمة العاطفة، قولوا كلمة الوجدان أمام كلمة الغريزة، قولوا كلمة الله بدلاً من كلمة الشيطان، انفتحوا على المستقبل بدلاً من أن تحشروا أنفسكم في زوايا الحاضر، لن ينفعكم أحدٌ إذا لم تنفعوا أنفسكم، لن ينصركم أحد إذا لم تنصروا أنفسكم، لن يتوكّل أحد لحسابكم بل كلّ وكيل يتوكّل لحسابه، لهذا أعيدوا نداء العقل بعد أن لَعْلَعَ صوت الرصاص حتّى يسكت العقل الرصاص، هذا من جهة.
اتّقوا الله في الهجمة الإعلامية الشرسة
ومن جهةٍ ثانية أريد أن أتوجّه للناس كلّهم، لكلّ الناس هنا ولكلّ الناس في الجنوب ولكلّ الناس في البقاع، إنّكم مسلمون بحمد الله وعليكم في هذه الهجمة الإعلامية الشرسة أنْ تتّقوا الله في ما تسمعون وأن تتَّقوا الله في ما تقولون، اعملوا بقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات : 6] وقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 36]. الأذن وما سمعت والبصر وما رأى والفؤاد وما وعى، سيسألكم الله عن ذلك كلّه، قد تجلسون في سهراتكم وفي جلساتكم وفي نواديكم ليتحدّث هذا بحديث ضدّ إنسانٍ بريء ويُزايد عليه إنسانٌ آخر ليرضى عنه فلان وفلان، ولكنّكم إذا أجلستم إلى قبوركم كيف تتحدّثون، وإذا وقفتم أمام ربّكم كيف تتحدّثون، سيقف كلّ بريء مظلوم ليقول يا عدل يا حكيم، احكم بيني وبين فلان فإنّه سبّني بدون حقّ وشَتَمَني بدون حقّ وتحامَل عليَّ بدون حقّ، وإذا كنتم تستطيعون أن تجيبوا الله فتكلَّموا كما تشاؤون، اتّقوا الله في ما تتحدّثون وتتكلَّمون واذكروا يوماً تشخص فيه القلوب والأبصار {... وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان : 33].
ثمّ أريد أن أقول لكلّ الفعاليات التي تتحدّث على كلّ المستويات سواء كانت مستويات سياسية أو كانت مستويات دينية أو كانت مستويات إعلامية، ليس هذا الوقت وقت إيجاد حالات التشنُّج، وليس هذا الوقت وقت الاتّهامات غير المسؤولة، وليس هذا الوقت وقت الكلام الذي ليس فيه تقوى من الله، ستتحدّثون كثيراً وستحكمون على الناس كثيراً، وستنطلقون مع عواطفكم ومع انفعالاتكم كثيراً، ولكنَّ المسألة أنّ الجوّ يهدأ وسيظهر الحقائق فكيف تواجهون الحقائق؟ عندما تلهبون النار لفريق ضدّ فريق، على ماذا تحصلون من ذلك كلّه؟ اتّقوا الله في كلماتكم، اتّقوا الله في تصريحاتكم، اتّقوا الله في اتّهاماتكم، اتّقوا الله في ذلك كلّه. إذا أراد الناس أن يعرفوا الحقيقة: مَن البادئ ومَن المعتدي، إنّي أقول لا بدّ أن تكون محكمة شرعية مسؤولة حيادية ينطلق فيها أُناس من السّاحة نفسها لتحدّد المسألة كيف حدثت ولماذا وأين؟ لماذا نهرب من أن ننطلق إلى الله وإلى رسوله؟ كانت مشكلة إيران ولا تزال: أنْ حدِّدوا المعتدي وإنّني مستعدّة لكلّ شيء ونحن نقول إذا أردتم أن تحكموا لفريق على فريق أو لجهة على أخرى، وأنتم لم تحضروا كلّ الأمور أو إذا حضرتم كونوا الشهود وإذا كنتم الشهود، كونوا الشهود العدول، لتنطلق محكمة شرعية سياسية أمنية من خلال أشخاص يؤتمنون على حياة الناس وعلى حقيقة الناس ثمّ لنحدِّد ذلك كلّه وليأخذ كلّ فريق بدأ الجريمة حسابه وتقف الأُمّة كلّها ضدّه. أمّا أن تتبادل الاتّهامات عشوائياً بإمكانك أن تتّهم الآخرين وبإمكان الآخرين أن يتّهموك، وبإمكانك أن تكذب وبإمكان الآخرين أن يكذبوا، ما الحصيلة في ذلك كلّه؟ مزيد من المهاترات ومزيد من السباب ومزيد من الشتائم، وماذا يفيد ذلك كلّه والأرض كلّها تهتزّ تحتنا. فلننطلق في هذا المجال على أن نواجه الواقع المأساوي على أساس أن نكون جميعاً الإطفائيّين الذين يريدون إطفاء النار، أن نعمل جميعاً على تثبيت وقف إطلاق النار ليتحدّث الجميع في حلّ المشكلة بطريقة ليس فيها الكثير من التشنُّج، أن ننطلق ليرجع الناس إلى بيوتهم في غير مواقع القتال، لماذا تطلق الصواريخ على المواقع التي ليس فيها قتال، إنَّ الناس لا يستطيعون أن يعيشوا خارج بيوتهم، الفتنة في لبنان موجودة في كلّ مكان، والمشاكل السياسية هي التي تحلّ المشاكل الأمنية، والناس ليسوا مستعدّين لأن ينتظروا طويلاً خارج بيوتهم حتّى تحلّ المشكلة السياسية أو تحلّ المشكلة الأمنية.
في هذا المجال، قلنا مراراً إنّنا لسنا ضدّ أيّ أمن متوازن يحاول أن يحقّق للناس الأمن قبل أن يحدث القتال، كنّا نتحدّث مع كلّ الفعاليات أيّ أمن هو هذا الأمن؟ أمن الضاحية الذي ينطلق فيه المسلَّح ليخطف ويدخل على المرأة في بيتها ليسلب حليّها في وضح النهار وليعبث هذا ويعبث ذاك؟ كنّا نقول لكلّ الناس ـــ وقد سمعتموه منّي مراراً ـــ إنَّ هذا الفلتان الأمني لا يطاق، أَلَم تذكروا ما قلته لكم مرّة: إنّكم إذا دخل عليكم اللّص إلى بيوتكم ولم تستطيعوا أن تقمعوه بطريقة الرّفق أطلقوا عليه الرصاص، لماذا كنّا نقول ذلك، لأنَّ الأمن كان سائباً بكلّ ما للكلمة من معنى، كان الذين يتحمّلون مسؤولية الأمن لا يحفظون الأمن كما يجب أن يحفظ.
مَن يحفظ الأمن في الضاحية
ولهذا كان الجميع يشكون بطريقةٍ أو بأخرى، ليست عندنا مشكلة أن تحكم أيّ جهة تحفظ الأمن، ولكن على أساس ألاّ تأتي هذه الجهة في جوّ نفسي لا يحاول أن يثير الانفعالات وردود الفعل. ما المشكلة؟ إنّهم يتحدّثون عن مسألة دخول السوريين إلى الضاحية(1)، قلنا من البداية إنّ الناس يتعايشون مع الجيش السوري في البقاع ولا مشاكل، والناس يتعايشون مع الجيش السوري في بيروت وليست هناك مشاكل، لكن عندما طرحت مسألة الضاحية خرج تصريح بأنّ هناك حالة شاذّة ويجب أن نقمعها من جذورها، طرحت القضية على أساس أن يوحى لبعض الناس بأنّ سوريا تدخل لمصلحة فريق دون فريق، طرحت المسألة سياسياً من خلال الإعلام الدولي والمحلي؛ أنّ هناك ثمناً يدفع في قبال ضرب الحالة الإسلامية، هذه التهاويل هي التي خلقت المشكلة وإلاّ أيّة مشكلة هي هذه المشكلة، إنَّ الحالة الإسلامية تتعايش مع الإخوة السوريين في البقاع وليست هناك مشاكل إلاّ المشاكل الصغيرة، وفي بيروت أيضاً الناس يتحرّكون ويعيشون ويخطبون ويعظون ويتجمَّعون من دون مشكلة، لهذا قلنا للمعنيين إنَّ عليكم أن تعالجوا المسألة نفسياً قبل أن تعالجوها ميدانياً لأنَّ المسألة النفسية ربّما تحرّك أوضاعاً تجعل الكثيرين يصطادون في الماء العكر، ونحن لا نريد لأحد أن يصطاد في الماء العكر، نحن لا نؤمن بالفوضى، ولكنّنا نريد الأمن العادل المتوازن الذي ينظر إلى الجميع بعينين متساويتين ويزن الواقع بميزانٍ واحد ليعاون الجميع على أن يلتقوا بدلاً من أن يستثيرهم ليتفرَّقوا، ولهذا قلنا ليست هناك مشكلة وليست هناك عقبة، وقلنا إنَّ القضايا عندما تدرس بطريقة واقعية عادلة فمن الممكن أن يحلّ كلّ شيء وليست هناك مشكلة في عداد أيّ شيء، نحن نريد للنّاس الأمن ونريد للمجرمين كلّهم في كلّ مكان أن يعزلهم المجتمع، ولكن إذا لم يستطع المجتمع أن يعزلهم فلا مانع عندنا من أن تأتي أيّة قوّة على أساس أن تعزلهم أو تجمّدهم في كلّ مجال من المجالات، ونحن نعتقد أنّ طبيعة المحادثات التي تتحرّك على المستويات بين القيادة الإسلامية الإيرانية والقيادة العربية السورية في سبيل توفير الجوّ النفسي الذي يجعل المسألة مسألة لا تحمل أيّ نوع من أنواع التشنُّج، إنّنا نعتقد أنّها تمثّل ضمانة كبيرة إذا أُريد للقضية أن تصل إلى نهاياتها، إنّنا نفكّر بهذه الطريقة، ولاسيّما ونحن نعرف شيئاً أساسياً هو أنّ سوريا لا تزال تطرح مقاومة الانعزالية الطائفية في لبنان، ولا تزال تطرح مقاومة "إسرائيل" ولا تزال تطرح مقاومة الاستكبار الأميركي. ولذا، فنحن عندما نطرح هذه القضايا فإنّنا نطرحها ونحن نستطيع أن نؤكّد أنّ هناك تسهيلات كبيرة سابقة كانت من قِبَل القيادة السورية للمقاومة الإسلامية في أكثر من موقع من المواقع على مستوى تسهيل عملية وصول السلاح وعلى مستويات أخرى، ولهذا فإنَّنا، في ضمن وضع متوازن مدروس، ليست عندنا مشكلة من هذه الناحية.
لن أدخل في مهاترات
وهناك ناحية أخرى أحبّ أن أتحدَّث عنها، أمرّ بها مرور الكرام، إنَّ هناك كثيراً من الناس، من الفعاليات ومن الصحافة ومن الناس المضلّلين، يتحدّثون عنّي بطريقة غير مسؤولة عن فتاوى هنا وعن تحليل وتحريم هناك(1)، وقد واجهت هذه الحالة فإنَّ هؤلاء ومن وراءهم صبّوا كلّ حقدهم عليَّ بمختلف الوسائل وقصف بيتي بعشرات القذائف ولولا لطف الله لكانت الكارثة، وكان القصف مركَّزاً، وكانت هناك اعترافات من جهات مسؤولة وغير مسؤولة بأنَّ البيت كان مستهدفاً وأنَّ هجوماً ما، كان يهدف لاحتلال البيت، وهذه أمور تثبت عندي بطريقة كبيرة من الصحّة، إنّني أريد أن أقول أمام كلّ هؤلاء الذين يتحدّثون بهذه الطريقة من فعاليات دينية، أو فعاليات سياسية، أو فعاليات تنظيمية، أو فعاليات حزبية أقول لهم: لن أردّ عليكم بكلمة، لن أُكلِّف نفسي أن أردَّ عليكم، لن أُكلِّف نفسي أن أدخل في نقاش، لن أكلِّف نفسي أن أدخل في مهاترات، لن أكلِّف نفسي أن أقف لأبرّئ نفسي، الله وحده هو الذي يعلم ما تخفي الصدور وهو يعلم كلّ شيء، إنّني أترك حسابكم على الله. لقد واجهت الهجمة الأميركية على سمعتي وعلى حياتي، وقد واجهت الهجمة الإسرائيلية على سمعتي وعلى حياتي، وقد واجهت الهجمة الكتائبية على سمعتي وعلى حياتي، وقد واجهت هجمات عربية على سمعتي وعلى حياتي، ما ضرّ أن نضيف إلى كلّ هؤلاء جماعة هنا وجماعة هناك... سأترك حسابكم لله وسأتأسَّى برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما واجهوه بكلّ الكلمات، سأقول كما قال وسأضرع إلى الله كما ضرع، اللّهم اغفر لقومي فهم لا يعلمون، سأستغفر لكم في اللّيل والنهار وسأطلب من الله ألاّ يعاقبكم على ذلك، أمّا قضية الموقع وأمّا قضية كلّ ذلك، دائماً أقرأ معكم وتقرؤون معي، "إلهي إنْ وَضَعْتني فَمَن ذا الذي يرفعني، وإن رفعتني فمن ذا الذي يضعني".
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خراب
أريد أن أقول لكلّ الفاعليات ولكلّ الناس المستضعفين ولكلّ الناس الطيّبين في الجنوب وفي البقاع وفي بيروت، لقد عشت معكم منذ النبعة، لم أُفارقكم لحظة؛ لقد عشت معكم في النبعة حتّى سقطت النبعة، وعشت الخوف معكم كما عشتموه، وقد عشت معكم في الضاحية أيّام الاجتياح وقد عشت معكم في كلّ الأوضاع، لأنّي لم أتطلّب في هذا البلد موقعاً سياسياً ولم أتطلّب في هذا البلد موقعاً رسمياً ولن أتطلّب، سأظلّ معكم... اشتموني وسأظلّ معكم، سبّوني وسأظلّ أخدمكم وأعظكم، إنّي أحبّكم من كلّ قلبي، إنّي أتحمّل كلّ الأخطار من أجل قضية الحريّة التي أحملها وأحمل خشبتي على كتفي، ليقل كلّ الناس ما يقولون، سأظلّ معكم أيُّها المؤمنون المستضعفون حتّى لو رجمتموني بالحجارة، لأنّني أعرف أنّكم ستكتشفون غداً مَن الذي يريد أن يستغلّكم، ومَن الذي يريد أن يبلغ بكم، حيث يريد الله أن تبلغوا، رضوان الله ومحبّة الله في ذلك كلّه.
أغلقوا هذا الملف
وأخيراً، أريد أن أقول لكم أيُّها الإخوة، اغلقوا هذا الملف، أتوسَّل إلى كلّ المقاتلين أن يعملوا بكلّ طرقهم إلى قياداتهم أن يدرسوا المسألة دراسة واعية وأن يخفّفوا هذا النزف، إنَّ قلبنا يدمى كلّ يوم عندما يسقط قتيل من هذا الطرف أو قتيل من ذاك الطرف، أو جريح من ذاك الطرف أو جريح من هذا الطرف، إنَّنا نريد أن تريحونا من ذلك، ادرسوا المسألة جيّداً، عجِّلوا، نقول لكلّ المتفاوضين عجِّلوا في المفاوضات حتى نصل إلى نتيجة وحتّى نستطيع أن نمنع هذا الدم من الجريان، إنّنا ونحن نريد أن نقول للنّاس خارج الضاحية من موقع مسؤول، ارجعوا للضاحية فليست هناك مشكلة أمنية خارج خطوط التماس الحالية التي نرجو أن تغلق، لا تعيشوا التشريد، إنّكم إذا رجعتم إلى الضاحية فستحرجون الجميع وستستطيعون أن تحلُّوا المشكلة قبل أن تحلّها المفاوضات، لا تستمعوا إلى كلّ الذين يريدون لكم ألاّ ترجعوا، لأنَّ المسألة أنّهم يريدون أن يجعلوا منكم ورقة في اللّعبة السياسية ونحن لا نريد للشعب أن يكون ورقة في اللّعبة السياسية، إنّكم أيُّها الذين ستعيشون في الضاحية، تعيشون بدون مشاكل، إنّهم يقولون للنّاس أشياء كثيرة ولكنَّنا نريد لكم أن تأتوا إلى الضاحية لتعرفوا أنّ كلّ ما تسمعونه هو أوهام وأنَّ كثيراً ممّا تسمعونه أكاذيب، إنّنا ندعوكم من موقع المسؤول، وندعو أيضاً الذين يجلسون وراء المدافع ألاّ يجرّبوا أن يقصفوا الآمنين حتّى يمنعوهم من أن يستقرّوا في الضاحية، إنَّنا لا نعتبر خروج الناس من الضاحية ـــ كما يحاول الإعلام أن يقول ـــ موقفاً سياسياً، ولكنَّنا نعتبره موقفاً أمنيّاً حاولت جهات كثيرة أن تحشد الخوف في نفوس الناس، وعلى الناس أن يأتوا ليروا أنّه ليست هناك إلاّ مشاكل بسيطة في هذا المجال.
نسأل الله أن يكشف هذه الغمّة عن هذه الأُمّة وأن يغيِّر سوء حالنا بحسن حاله، وأن ينصر الإسلام والمسلمين وأن يجمعنا على الخير والهدى وكلمة التقوى إنّه أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
معركتنا مع الاستكبار العالمي
في مواجهة معركة حنين والأحزاب(*)
الاستعمار وسياسة الفتن
نلتقي هذه الأيام بذكريات إسلامية في ما كان يخوضه رسول الله من معارك وحروب لمواجهة التحدّيات التي كان يفرضها الشرك عليه بكلّ ما للشرك من أحقاد وأضغان ضدّ المسلمين، وبكلّ ما يعيشه الشرك من قِيَم شرّيرة في السيطرة على حياة الناس وتضليلهم والبغي عليهم. وفي هذا الشهر شهر شوّال، نقف مع معركة حنين التي حدثت في السادس منه، ومعركة الخندق التي حدثت في العاشر منه، وكلتا المعركتين تعطينا دروساً عملية في طريقة مواجهتنا للتحدّيات وفي طريقة نظرتنا إلى الأمور وتقييمنا لموازين القوّة في حركة التحدّي، لأنّنا عندما نواجه هذه المعارك التي خاضها الإسلام ضدّ الشرك وكان موقفه موقف الدفاع وموقف ردّ التحدّي نجد أنّنا في مرحلتنا الحاضرة كمسلمين في كلّ المواقع في العالم نواجه شركاً عملياً من نوعٍ آخر، وهذا الشرك هو الاستعمار والصهيونية والذين يعملون معهما من أجل أن يسقطوا الإسلام فكراً وحركة، وأن يسقطوا الإسلام جهاداً، وأن يعبثوا في بلاد المسلمين فساداً ويعملوا على إثارة الفتن في داخل كلّ بلد إسلامي من خلال بعض الأوضاع القلقة التي تعيش في هذا الموقع وفي ذلك الموقع من أجل أن تستمرّ حروب المسلمين في ما بينهم وأن يكونوا رحماء على الكفَّار وأشدَّاء بعضهم على بعض، حتّى لا يبقى هناك للمسلمين قوّة ولا يبقى لهم قاعدة يستطيعون أن يواجهوا من خلالها الظلم كلّه والاستعمار كلّه في العالم في أكثر من صعيد ومستوى.
فنراهم في بعض المواقع يشغلون المسلمين بالخلافات الطائفية بين السُنّة والشيعة ليقاتل السنّة والشيعة وليقاتل الشيعة السُنّة، كما يحدث في هذه الأيام في باكستان، ونراهم في كثير من المواقع يثيرون النعرات الإقليمية والعصبيات العرقية حتّى يتصادم المسلمون على أساس إقليمي أو قومي أو على أيّ أساس من الأُسس التي يخضع لها الناس في غرائزهم وفي عصبيّاتهم. وهكذا نجد من خلال الحروب التي خاضها المسلمون في لبنان طيلة هذه الفتنة بعضهم ضدّ بعض، نجد أنّ الأوضاع السياسية القلقة والعصبيّات الحزبية المتخلِّفة والأجهزة المخابراتية التي تتوزَّع الأدوار عندما تنفذ في هذا المجتمع لتعمل لحساب قوى محليّة إقليمية أو دولية فتثير العصبيّات وتنشر الإشاعات وتشوّه الأوضاع وتحرّك الكلمات القاسية وتدعو فئة من الناس في المجتمع لتقهر فئة أخرى ولتصوّر للمجتمع أنّ المشكلة ليست "إسرائيل" بل هي هذا الفريق أو ذاك، وأنَّ المشكلة ليست الاستعمار ولكنّ المشكلة هذا الخصم أو ذاك حتى يضيع الناس ويضلُّوا وينسوا ربّهم وينسوا رسلهم وقرآنهم ووحدتهم الإسلامية والإيمانية لتنطلق المسألة أنّ هذا يريد أن يدافع عن نفسه ضدّ ذاك، وذاك يريد أن يدافع عن نفسه ضدّ هذا، وعند ذلك ما الحصيلة؟ أنّ الأعداء يقهقهون وأنّنا نستنزف دماءنا في الفتنة التي تحاصرنا من كلّ جانب والتي تتحرَّك في كلّ موقع. وكنّا قد حذّرنا مراراً من هذا الجو الذي نعيش فيه إلحاداً سياسياً وشركاً سياسياً وتحدّيات على مستوى العالم الذي يشغله هذا الإسلام الحركي الذي يريد أن يعيش نقاء الإسلام وصفاءه والذي لا يتحرّك في بلاطات أصحاب السيادة والجلالة والسموّ والفخامة، والإسلام الذي لا يكون موظَّفاً في دوائر الاستخبارات الدولية والإقليمية، والإسلام الذي لا يريد أن يكون أداة لظلم الناس وقهرهم.
الوسط السياسي يتحدّث عن الإسلاميين كمشكلة؛ ويعملون على أن يحاصروهم في كلّ المجالات وأن يدفعوهم إلى غير ساحاتهم الحقيقية ويعزلوهم عن ساحاتهم الحقيقيّة لتكون الحريّة كلّها للاستعمار وللصهيونية وللظلم الداخلي ولا يكون للإسلام أيّة حريّة في مواجهة ذلك كلّه، لأنَّ مواجهة الصهيونية في العمق تعتبر تطرُّفاً، ومواجهة الاستعمار في العمق تعتبر إرهاباً، ومواجهة الرجعية العربية وغير العربية في العمق تعتبر تدخُّلاً في الشؤون الداخلية وإثارة للفتنة وللضوضاء. هذه هي الشعارات المطروحة في وجه الذين يريدون أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى.
في الإعداد الجيد نصرٌ أكيد
في هذا الجوّ وفي المعارك الذي يُراد للمسلمين أن يدخلوها في الصراعات الصغيرة الداخلية لتشغلهم عن الصراعات الكبيرة، نلتقي بمعارك رسول الله وقد قال لنا الله عنه: {... لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21] ونلتقي في كتاب الله وهو يحدّثنا عن معركة حنين التي خاضها رسول الله ضدّ العشائر المشتركة التي أرادت أن تقضي على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وعلى الإسلام كلّه، وانطلق النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى هؤلاء ومعه اثنا عشر ألف رجل، ولكنّ المسلمين واجهوا هذه المعركة باسترخاء لأنّهم كثر، وكانت الكثرة في جانب المسلمين تمثّل نقطة ضعف نفسية لأنّهم لم يعبؤوا لتخطيط العدوّ ولدقّة تحرّكه في المعركة، ولهذا سيطر هؤلاء المشركون على المسلمين في الجولة الأولى وانهزم المسلمون أمامهم وكانوا اثني عشر ألفاً حتّى إِنّ رسول الله بقي وحده في جماعة صغيرة من أصحابه، وهناك مَن كان يريد قتل رسول الله، واندفع البعض يتحدّث إلى المسلمين بطريقة عاطفية حتّى يتجمَّعوا من جديد وعندما عرفوا طبيعة الخطأ الذي ارتكبوه وانتبهوا إليه نصرهم الله بعد ذلك ليعرّفهم أنّ الكثرة لا تعطي نصراً وأنّ المعركة تحتاج إلى حركة وتخطيط وحذر يرصد الساحة كلّها، وإلى ثبات وصبر يركز الأقدام، تحدَّث الله عن معركة حنين {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} في بدر وفي خيبر وفي غيرها {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ*ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا}، هل أنزلهم ليقاتلوا أو أنزلهم ليجعلوا السكينة في قلوبهم؟ المهمّ أنّه أوحى لهم بذلك {وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ*ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة : 25 ـــ 27].
معركة حنين تعطينا فكرة ونحن نواجه كمؤمنين مسلمين ملتزمين في كلّ مكان من مواقع الإسلام وفي كلّ موقع يتحرّك فيه التحدّي عندما يخوِّفوننا بالكثرة ليؤكّدوا أنّ المسلمين في العالم هم القلّة وأنّ الاستعمار والصهيونية والظلم يمثِّلون الكثرة... الله يريد أن يقول إنَّ المسلمين عندما غرَّتهم كثرتهم سقطوا في الهزيمة، لهذا إذا أراد المسلمون أن يخوضوا التحدّيات الكبيرة ضدّ كلّ الذين يريدون أن يسقطوا الإسلام في كلّ رحابته فعليهم أن يعتمدوا على النوعية لا على الكميّة وأن يعتمدوا على التخطيط لا على الفوضى، وعليهم أن يثقوا بالله ولا يثقوا بما هو دون الله مهما كان شأنه لأنَّ الله سبحانه وتعالى يصدق المؤمن بالنصر عندما يصدقه المؤمن بالإخلاص والتقوى في كلّ حياته.
في معركة الخندق برز الإيمان ضد الكفر
أمّا معركة الخندق التي سمّيت معركة الأحزاب لأنّ كلّ المحاور الموجودة في شبه الجزيرة تجمَّعت بكلّ عصبيّاتها من أجل أن تهجم هجمة واحدة على المركز الإسلامي في المدينة لتقضي عليه فلا يبقى للإسلام قائمة، فقد انطلق فيها اليهود إلى قريش وقالوا لهم إنّا نعاونكم على محمد فنحاصره من الجانبين نحن وأنتم، وعقدوا معهم عهداً ونقضوا عهدهم مع رسول الله وتجمَّعت مع قريش كلّ أحلاف قريش، وشعر المسلمون بالحصار وأرادوا أن يأخذوا وقتاً ليستعدّوا فحفروا الخندق بإشارة من سلمان الفارسي واندفعت قريش وأحلافها واليهود وحاصروا المدينة شهراً، وحانت التفاتة من عمرو بن عبد ودّ إلى الخندق فرأى مكاناً ضيّقاً فاندفع مع رهط من أصحابه بشكلٍ مفاجئ وإذا هم أمام أصحاب رسول الله، وبدأ ينادي ويقول: هل من مبارز؟ ولم يردّ عليه أحد، ونادى رسول الله: مَن لهذا وأنا أضمن له على الله الجنّة وقام عليّ (عليه السلام) ولكنَّ الرسول أجلسه، ثمّ يأتي النداء ثانية ولا يقوم غير عليّ (عليه السلام) وفي المرّة الثالثة قام عليّ (عليه السلام) وحده كالعادة، وهكذا قال له أنتَ له واندفع عليّ (عليه السلام) ورسول الله يدعو في سرّه "ربِّ لا تذرني فرداً وأنتَ خيرُ الوارثين"، وقال: "بَرَزَ الإيمان كلّه إلى الشِّرك كلّه"، لأنّ الموقف كان حاسماً؛ فلو انتصر عليّ (عليه السلام) لسقطت كلّ الأحزاب ولو انتصر عمرو لسقط الإسلام، وهكذا اندفع عليّ (عليه السلام) وقال له: يقال عنك إنّه لا يدعوك أحد إلى خصلتين، وفي رواية ثلاث خصال إلاَّ أجبت إحداها، قال: قل قال: أدعوك إلى الإسلام، قال: دع هذا قال له أدعوك إلى أن ترجع بالجيش من حيث أتيت، قال له: إذاً تتحدّث عنّي نساء قريش أنّي جئت بهذا الجيش ورجعت دون أن أنتصر فلن أحتمل حديث قريش. قال له: إذاً انزل إلى القتال لأقاتلك وتقاتلني، قال له: ما دعاني إلى ذلك أحد قبلك وإنّي لا أحبّ أن أقتلك لأنَّ أباك كان صديقاً لي، قال عليّ (عليه السلام): ولكن أحبّ أن أقتلك لا لأنّني أحبّ قتل الناس، ولكن لأنّك عدوّ لله وتريد أن تقف عثرة في طريق رسالة الإسلام، ولذلك ليست المسألة أن يكون أبي صديقاً لك أو لا يكون، إنّ مسألة الله تتقدَّم على كلّ القرابات والصداقات، وإنَّ الله أقرب إليَّ من أبي ومن أصدقائه، وأقرب إليَّ من أصدقائي وعواطفهم، عندما تكون الكلمة لله فلا مجال لأحد. فتجادلا وتصاولا ورد الله كيد عمرو وسقط قتيلاً، وقالها رسول الله: "ضربة عليّ يوم الخندق تعادل عبادة الثَقَلَيْن"(1) وأرسل الله بعد ذلك ريحاً عاتية ودبَّ الرُّعب في قلوبهم وانكفؤوا من حيث جاؤوا.
الله يحدّثنا عن معركة الخندق ليعرِّفنا كيف يمكن أن تزلزل التحدّيات إن لم يكن إيمانهم ثابتاً، وكيف يتحرّك الكافرون في كلّ مكان ليخذلوا المسلمين ويجنّبوهم وليخوِّفونهم وليسقطوا مواقعهم بالتهديد وبإثارة التهاويل هنا وهناك. استمعوا إلى الله كيف يتحدّث لنا ويؤرّخ لنا معركة الخندق والله أصدق من حدَّث بذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً*إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا*هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً*وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً*وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً*وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً*وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً*قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً*قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً*قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً*أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [الأحزاب: 9 ـــ 19] ثمّ بعد ذلك يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21] عندما يثبت رسول الله أثبتوا حيث يثبت، وقفوا حيث يقف، وتأسّوا به {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب: 22] لقد حدَّثنا الله عن التحدّيات الكبيرة، وقد عشنا بعضها، وقد حدَّثنا الرسول عن ذلك وصدق الله ورسوله، إنَّنا نرى ما حدَّثنا الله ورسوله أمامنا، وما زادهم كلّ هذا الوضع وكلّ هذا الخوف وكلّ هذا الزلزال وكلّ هذا التحدّي، إلاّ إيماناً بالله وتسليماً له في كلّ الموقف، فكيف تعامل معهم الله، يقول سبحانه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23] المسيرة طويلة والمؤمنون الصادقون يعتبرون أنَّ لهم دوراً في المسيرة. عندما نأخذ العهد من الله وعندما نثق بالله ونستقيم في طريقه فكيف نبدّل من الأحسن إلى الأسوأ، فكيف نبدّل من الله إلى غير الله، وماذا يملك لنا غير الله؟ ثمّ بعد ذلك {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً*وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب: 24 ـــ 25].
معركة الأحزاب مستمرة
هذه معركة الأحزاب، وفي كلّ جيل للمسلمين معركة أحزاب، وفي كلّ موقع من مواقع المسلمين في العالم معركة أحزاب، فالذي يحدث في إيران معركة أحزاب دولية ومعركة أحزاب إقليمية ومعركة أحزاب سياسية وما إلى ذلك.
عندما انطلقت كلّ التهاويل لتطبق على المؤمنين هنا وهناك قال المؤمنون هذا ما وَعَدَنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله.
القضية هي أن نبقى مع وعد الله لأنّه الحبل الذي نعتصم به. ونحن نريد أن نقول لكلّ الناس الذين يلتزمون عليّاً (عليه السلام) كإمام وكبطل وكعظيم من عظماء الإسلام: لقد كان الإيمان كلّه مجتمعاً في عليّ (عليه السلام) وكان الحقّ كلّه يعيش في عمق شخصيّة عليّ (عليه السلام)، فتعالوا يا من تلتزمون عليّاً (عليه السلام) من موقع الإسلام، لأنَّنا لا نريد أن تلتزم عليّاً (عليه السلام) من موقع الطائفة بعيداً عن الإسلام، أن نتّفق على عليّ (عليه السلام) عندها نتّفق على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، لأنَّ عليّاً (عليه السلام) كان تلميذ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والمسلم الأول، تعالوا إذا اختلفنا على زيد أو على عمرو، تعالوا نتّفق على عليّ (عليه السلام)، على فكره على عقله، على واقعيّته، على قوّته، على انفتاحه على ذات الله، على أخلاقه للإسلام والمسلمين، على جهاده في سبيل الله، على موقفه الصلب الذي لا يهادن ولا يجامل أمام كلمة الله، عليّ (عليه السلام) الذي كان يقول "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين"(1).
لننطلق في ما نلتقي عليه من أفكار ولنكن معه، وإذا اختلفنا فتعالوا إلى فكر عليّ (عليه السلام) كيف كان يقاوم الباطل وكيف حارَبَ اليهود وكيف كان حاسماً في حرب اليهود.
عليّ (عليه السلام) يمثّل ورقة قويّة في واقع الإنسان في كلّ حركة التحدّي من أجل الله ومن أجل الإيمان بالله، فلماذا لا نلتقي عليه ونتحرّك في هذا المجال مع وحدتنا مع عليّ الإسلام وعليّ القرآن وعليّ الحقّ هل نحتاج أن نقول: {... تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...} [آل عمران: 64] لأنَّ الله أرادنا أن نقولها لأهل الكتاب، ليقل بعضكم لبعض ذلك، فلماذا لا يقولها المسلمون بعضهم لبعض، ولماذا لا يقولها المسلمون الشيعة؟
ندعو للحوار بين أمل وحزب الله
إنّكم ترون أنّ "إسرائيل" تقصف هذا وتقصف ذاك وتحتلّ بلد هذا وبلد ذاك، وتعمل على إضعاف هذا وإضعاف ذاك... ما الأرباح والمكاسب في أن يكون لك مكتب وأن يكون لذلك مكتب؟ لماذا تقهر أخاك أو يقهرك أخوك؟ لقد قلنا مراراً إنَّ مسألة القهر تمثّل الخوف ومسألة الخوف تزرع العقدة، ومسألة العقدة تفتح الحياة على كلّ ما هو شرّ، لماذا نحمل عقداً في أنفسنا تجاه الآخرين، وأتساءل أين حلاّلو العقد، ولماذا لا نرى إلاّ الذين يعقّدون الأمور أكثر ممّا هي معقّدة؛ كلمة غاضبة هنا وكلمة منفعلة هناك.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "النّاس صنفان؛ إمَّا أخٌ لكَ في الدِّين وإمّا نظيرٌ لكَ في الخَلْق"(1)، الله جعل الساحة للجميع وجعل الحياة تتّسع للجميع، فإذا كنتَ تملك فكراً في الساحة فإنَّ غيرك يملك فكراً أيضاً، وإذا كنتَ لا تريد الآخرين أن يلغوا فكرك فلماذا تريد أن تلغي فكر الآخرين؟ الله قال لنا لا تجادلوا إلاّ بالتي هي أحسن لماذا يتحدّث بعضنا مع بعض وعيوننا يملؤها الحقد؟ لماذا نختار من القاموس أقسى الكلمات الخبيثة، والكلمات الطيّبة كثيرة؟! {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإسراء : 53]. قتلتنا الأنانية الشخصية والحزبية والقيادية والطائفية، فلماذا نظلّ متمسّكين بها؟ اترك الناس يعرفوا حجمك وليس من الضروري أن تحدِّث الناس عن حجمك... رسول الله ـــ مَن يقترب في العظمة من رسول الله ـــ قال له الله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} فالله لا يريد من محمّد أن يلغي الذين معه؛ بل يريد منه أن يعايش مَن معه قال له: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ...} حتّى لو كان رأيك من الوحي، علِّمهم أن يفكِّروا {... فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} [آل عمران : 159].
الاقتتال أسقط الكثير من قضايانا
إنَّنا نريد في هذا المجال، بعد كلّ هذه الدماء العزيزة علينا، وبعد كلّ هذا النزف الذي عملنا بكلّ ما عندنا من طاقة على أن يتوقّف، والذي لم ندَّخر جهداً في سبيل أن لا يكون، وعندما حدث لم ندّخر جهداً مع الجميع في سبيل أن يتوقّف، مهما قال القائلون ومهما افترى المفترون ومهما كذب الكاذبون، كنّا للجميع لأنَّ الله أَمَرَنا أن نكون للجميع، ولكن على أساس خطّ الإيمان والإسلام. لقد عملنا على أن يتوقّف النزف، ولكنَّ الساحة التي يعيش فيها الخوف لن يستطيع أحد أن يوقف النزف فيها، كانت الساحة محكومة لكثير من أفكار القهر والخوف ومن أفكار النظرة للمستقبل، والآن حدث ما حدث وقد سقطت كثير من قضايانا السياسية في هذا البلد من خلال هذا الاقتتال، وقد انعكست كثير من الطباع والنظرات على طبيعة الموقف، لا نريد أن ندخل في تقييم المسألة لأنَّنا مشغولون الآن بإطفاء النار وإيقاف النزف وإيقاف الاقتتال، لهذا لا بدّ لنا أن نعمل جميعاً على هذا الأساس، وأن نعمل جميعاً أيضاً على أن نثبّت الأرض الصلبة التي نقف عليها جميعاً، ونبحث عن الأُسس التي تمنعنا من أن نبدأ جولة جديدة في قتالٍ جديد في أوضاع سياسية تريد لنا أن نكون وقوداً للفتنة.
الحوار سبيل الحلّ
لقد قلنا ونكرِّر ما قلناه قبل أشهر؛ إنَّ المسألة تفرض أن يكون هناك حوار بين حز//ب الله وحركة أمل، لأنّهما يعيشان في بيتٍ واحدة في ساحة واحدة. قد يكون أخ ينتمي إلى الحزب وأخ إلى الحركة، قد يكون الأب ينتمي إلى جهة والابن إلى جهةٍ أخرى، لا يمكن أن تدوم حياة معقولة واقعية إلاّ إذا استطعنا أن نصل إلى قاعدة تضبط العلاقات في ما بينهم ليكون هناك أساس للتعاون وأساس للخلاف ـــ إذا كان هناك خلاف ـــ حتّى لا يتحوّل الخلاف إلى قتال. ونحن عملنا وفتحنا قلوبنا لكلّ الفاعليات وقلنا لهم تعالوا لنوقف هذا النزف ونتحدّث بلغة هادئة لا بلغة انفعالية، ولكن "على مَن تتلو مزاميرك يا داوود"، لقد عملت بكلّ طاقتي في أن أتَّصل بالجميع، ولكن لا أدري ماذا يملكون من ظروف تمنعهم من ذلك، كنّا نقول للنّاس وللقيادات ولكلّ الفاعليات؛ امتنعوا عن الكلمات المتشنِّجة والتي تدعو إلى التعقيد، ولكنَّنا نعيش في السّاحة رصاصاً يتفجَّر، ونعيش في الصحف وفي الخطب كلاماً يتفجَّر، فإذا هدأت الحرب في ساحة القتال انطلقت الحرب في الصحف والبيانات. ماذا يفيدنا الحقد والبغضاء، قد تسجّل نقطة على أخيك ويسجّل أخوك عليك نقطة، ولكن ما قيمة النقاط التي يسجّلها بعضكم على بعض إذا جاءت "إسرائيل" وأخذت كلّ النقاط لحسابها.
مع إيران الإسلام ضدّ الخطر الإسرائيلي
المسألة هي أنّه لا يجوز أن نعقّد القتال ضدّ "إسرائيل" ونسهِّل القتال في ما بيننا. لقد جاءت "إسرائيل" قبل المعركة إلى ميدون(1) وقالت إنّها تحتاج أن تقتلع جذور المقاومة الإسلامية، كانت تعمل لكي لا تكون مقاومة إسلامية، واستشهد أكثر من 18 شهيداً وجرح مَن جرح وفي الإعلام الذي بثّته الإذاعات الأميركية، لا مجرّد إعلام المجاهدين، قتل من "إسرائيل" ما يزيد على العشرين رجلاً... وبعد أن غرقنا في وحول الفتنة جاءت "إسرائيل" لتذكّرنا من جديد بأنَّ المعركة هناك، جاءت لتقول إنّها حطَّمت قواعد المجاهدين في ميدون وأنّها تريد أن تحطِّم قواعد المجاهدين في اللويزة وفي جبل صافي(2) وفي غيرهما من المواقع، وقد سمّت المقاومة الإسلامية بالاسم، ونحن نحترم كلّ أنواع المقاومة، لكن ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أنّ "إسرائيل" تعتبر أنَّ المقاومة الإسلامية تمثّل الرقم الصعب في حياتها، لأنّها مقاومة حاسمة، وكما يقول الآخرون، مقاومة متطرِّفة، تملك فكراً وخطّاً وتملك رؤية في المستقبل، جاءت لتحطّم وغرقت في وحول اللويزة. وإذا كان الإعلام يتحدّث عن 25 قتيلاً و25 مفقوداً وما إلى ذلك، فإنَّ المعلومات الدقيقة جداً تقول لم يسقط للمقاومة الإسلامية على الرغم من كلّ شراسة القتال الجوي والبري إلاّ شهيد واحد وخمسة جرحى، وكلّكم يعرف صعوبة تلك المناطق. عندما أعلن عن مقتل 15 أو 16 كان الشباب مفقودين، ولكنّهم عندما رجعوا اكتشفوا أنّه ليس هناك إلاّ شهيد واحد أمام ألف جندي إسرائيلي ولحدي مع كلّ أسلحة الدبابات وأسلحة الطيران. ونحن عندما نريد أن نسجّل للمقاومة الإسلامية بطولتها، فإنَّنا أيضاً نريد أن نسجِّل للمقاومة المؤمنة أيضاً في حركة أمل موقفها الذي انضم إلى موقف المقاومة الإسلامية وانضمّت المقاومة الإسلامية إليه ليتشاركا في الموقف وليقولا إنّ الحرب الحقيقيّة هناك. إنَّ هذا التلاحم بين المجاهدين يؤكّد قضية أساسية وهي أنّ "إسرائيل" هي الخطر. ونقول للذين يتحدّثون عن الجمهورية الإسلامية في إيران بطريقة غير مسؤولة ويحمّلونها مسؤولية ما حصل في السّاحة من قتال، لا تخلطوا الأمور، ليست إيران الخطر، ولكنّ "إسرائيل" هي الخطر، لماذا تتحدّثون عن الجمهورية الإسلامية بهذه اللّغة ولا تتحدّثون عن "إسرائيل" بمثل هذه اللّغة، إنَّ إيران جاءت من موقع مسؤوليّتها لتؤكّد لنا أنّها معنا في قتال "إسرائيل" وقتال الاستعمار وقتال الظلم الداخلي، إنَّ الجمهورية الإسلامية في ما نعلمه من عمق قيادتها ترفض أيّ تقاتل بين الإخوة وتعمل على أن يصل الجميع إلى صيغة يتوحَّدون فيها فلا يبقى هناك أثنية بل يصبح هناك وحدة، ليس لإيران الإسلامية أيّ مطمع في لبنان أو في اللّعبة السياسية التقليدية داخل لبنان إذاً لا تخطئوا وتقولوا من خلال الانفعالات إنَّ معركتنا مع إيران(1). إذا كانت معركتنا مع إيران فما البديل عن الإمام الخميني وعن جهاده وعن إسلامه؟ لقد نادى مؤتمر ما سمّي بعلماء المسلمين في مكّة "أيُّها الشيعة ابرؤوا من الإمام الخميني" فقلنا إذا أردنا أن نبرأ من الإمام فمعنى ذلك أن نبرأ من الإسلام، لأنّه يمثّل الإسلام في نقائه وجهاده، إنَّ بعض الناس يتحدّث عن الإمام الخميني بفعل العصبيّة وبطريقة غير إسلامية، لهذا نقول: عودوا إلى ربّكم وإلى إسلامكم واعرفوا أنّ المسألة خطيرة عندما تكون بهذا الحجم، مَن هم الذين يتحدّثون عن إيران بالطريقة التي تحاول أن تُشوِّه صورتها من أميركا وأوروبا والرجعية العربية و"إسرائيل". مَن يتحدّث عن إيران ليسقط الخطّ السياسي الإسلامي في حركة الإسلام، فإنَّ عليه أن يضمّ كلامه إلى الكلام الذي يثور في السّاحة، إذا أردت أن تعرف نفسك فانظر قلبك فإذا كان قلبك يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله ففيك خير والله يحبّك، وإنْ كان قلبك يعادي أولياء الله ويحبّ أعداء الله فإنّه ليس فيك خير والله لا يحبّك، والمرء مع مَن أحبّ. إنَّنا نعلن... لسنا مع إيران الفارسية ولسنا مع إيران الإيرانية بل إنّنا مع إيران الإسلام، ونحن مع الإمام الخميني بصفته الإنسان الذي يدعو إلى الإسلام كما دعا النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى الإسلام وكما دعا عليّ (عليه السلام) إلى الإسلام، ليست لنا علاقة شخصية مع الإمام الخميني (قدِّس سرّه) بالمعنى الذاتي، وليست لنا علاقة سياسية مع إيران بالمعنى الفئوي؛ ولكن علاقتنا مع الإسلام المقاوم والمجاهد، ومع الإسلام الصافي أينما ذهب وأينما وقف وأينما سكن وأينما يتحرّك، لأنَّ الله أرادنا أن نكون أوّل المسلمين في هذا الاتجاه.
العلاقة الاستراتيجيّة بين إيران وسوريا
وعندما نتحدّث عن ساحة التحدّيات السياسية في المنطقة، فإنّنا نريد أن نقول لبعض الناس الذين يريدون أن يصوِّروا الصورة السياسية في السّاحة على أنّها صراع بين سوريا وإيران، وأنّ القتال بين جماعة إيران وجماعة سوريا، إنّنا نقول لهم لا تلعبوا بهذه اللّعبة و"لا تخيطوا بهذه المسألة" إنَّ مسألة ما بين إيران وسوريا تنطلق من نظرة استراتيجية في محاربة الصهيونية ومحاربة الاستعمار ولاسيّما الاستعمار الأميركي، وفي مواجهة كثير من خطوط الرجعية العربية. وعلى هذا الأساس، فإنَّنا عندما نواجه المسألة ونسمع أيضاً من القيادة العليا في سوريا أن لا يلعب أحد بعلاقتنا الاستراتيجية مع إيران، قد نختلف معهم في شيء ويختلفون معنا، قد ننظر إلى شيء وينظرون معنا بذلك، لكنَّ استراتيجيّتنا في القضايا المصيرية واحدة، لهذا فإنَّنا في الوقت الذي نتحرّك فيه في الخطوط الإسلامية التي تتحرّك فيها الجمهورية الإسلامية ويتحرّك فيها كلّ العاملين للإسلام في العالم، نشعر بأنّنا في القضايا الاستراتيجية نلتقي مع سوريا الأسد في ما يطرحه وفي ما يحرّكه من هذه القضايا. ونريد أن نقول في هذا المجال إنَّ الرئيسين السيّد خامنئي(1) والرئيس الأسد انطلقا من أجل أن يتعاونا ولكلٍّ منهما ممثّل في سبيل إيقاف هذا النزف، ونحن اعتبرنا ذلك ضمانة ما دام الوفاق على المسألة موجوداً. لهذا، نحن في هذه المرحلة نريد من كلّ أهلنا وكلّ إخواننا أن يتعاونوا من أجل إنجاح الخطّة ومن أجل إيجاد خطّ أمني متوازن يكون للجميع ولا يكون لفريق دون الآخر، وأن ينطلق ليجمع الجميع على قاعدة واحدة حتى لا يعود هناك قتال. في هذا الإطار الذي أعلن، ندعو كلّ الفرقاء في المنطقة الإسلامية إلى أن يلتقوا حتّى يستطيعوا أن يدرسوا طبيعة كل ما تختزنه الاستحقاقات الأساسية في هذا البلد، ونحن عندما نريد أن نثير المسألة، نشعر بأنَّ على الجميع أن يتعاونوا في سبيل إيجاد القواعد التي تحفظ للمسلمين قوّتهم وعزّتهم وكرامتهم، ونحن لا نريدها على حساب الآخرين، لكنّنا لا نريد أن نكون ضعفاء في هذا المجال.
الحرائق المتنقّلة على الساحة اللبنانية
هذه الحروب تضعف الموقف كلّه، ونحن لا بدّ من أن نكون واعين لكلّ أوضاع اللّعبة المعقّدة المخابراتية التي تتحرّك في الساحة اللبنانية في مسألة انتخابات رئاسة الجمهورية وفي ما بعد انتخابات رئاسة الجمهورية، لأنَّ هذه الرئاسة لن تكون رئاسة حلّ ولكنّها قد تكون رئاسة حلحلة، أو قد لا تكون كذلك أيضاً، لهذا لا بدّ من أن نواجه المسألة بوعي، لأنَّ هناك في داخل الواقع الذي يعيش في الساحة السياسية في لبنان حرائق جديدة متحرّكة لا ندري أين تكون، لم نكن ننتظر الحرائق عندنا وإذا بنا نفاجأ بها ونرى أنّ المؤامرة أكبر منّا، ولا ندري أين يكون الحريق الثاني والثالث.. لأنَّ المسألة اللبنانية والإقليمية لا يمكن أن تنضج إلاّ على وقود الإنسان في لبنان الذي توافق الجميع على أن يكون الحطب لكلّ طبخاتهم.
هناك قمّة كبرى تنعقد يوم الأحد في الجزائر، يضعون خريطة العالم أمامهم، ثمّ يحرِّكون النقاط كما يشاؤون، ماذا يقرِّرون في ما يسمّى بأزمة الشرق الأوسط، ولبنان ملحق أساس في مسألة الشرق الأوسط، ثمّ ماذا يقرِّر العرب "الأكارم" في قمّة الجزائر في السابع من حزيران، كيف يتصرَّفون أو ماذا يتحدّثون، هل يدعمون الانتفاضة أم يقتلونها أم يدجّنونها؟ ماذا يتحدّثون عن الواقع هنا في جبل عامل أو هنا في لبنان؟ لا بدّ من الوعي أمام كلّ هذا الواقع الذي ننتظره ولا ننتظر منه خيراً سواء في القمة الأميركية الروسية أو القمّة العربية في الجزائر، لأنَّ تاريخ القمم السابقة لم يُعْطِنا شيئاً.
ولا بدّ لنا من أن نحدِّق بالخطوات الإسرائيلية التي دخلت على الخطّ اللبناني السياسي والتي يمكن أن تحرّك آلاتها العسكرية بطريقةٍ وبأخرى في أجواء الانتخابات الأميركية التي تعطيها مزيداً من الحريّة لتلعب في لبنان أكثر من ورقة.
لهذا، لن نستطيع أن ننام على حرير، لأنَّ الفراش الذي ننام عليه الآن مملوء بكلّ المسامير الحادّة. علينا أن نتعلَّم كيف نصلّب أجسادنا حتى لا تخرقها المسامير، وعلينا أن نتعلّم كيف نثبّت إيماننا حتّى لا تهزّه الفتن، وعلينا أن نتعلّم كيف نحدِّد أصدقاءنا وأعداءنا حتى لا تنطلق الرؤية الضبابيّة لتجعل العدوّ صديقاً عندنا والصديق عدوّاً. كونوا الواعين على أكثر من مستوى، وانتفعوا من دروسكم، انطلقوا إلى الله من جديد لتشعروا أنَّ الله الرحيم يريد منكم أن تكونوا رحماء، وانطلقوا مع الله القويّ لتعرفوا أنّ الله القويّ يريدكم أن تكونوا الأقوياء، وانطلقوا مع الله العادل لتعلموا أنّ الله العادل يريدكم أن تكونوا العادلين حتّى مع أعدائكم، كونوا الواعين الذين لا ينظرون إلى السطح بل ينظرون إلى العمق، كونوا المنفتحين الذين ينظرون في الآفاق الكبيرة ولا يعيشون في الآفاق الصغيرة.
أيُّها الإخوة، إنّ الله خلق عقولكم في رؤوسكم ولم يخلقها في آذانكم، فلا تجعلوا عقولكم في آذانكم وتجعلوا آذانكم في رؤوسكم، لهذا حاذروا من كلّ كلمة تسمعونها، حاذروا من كلّ ما يقال لأنَّ المخابرات التي تتلوَّن بألف لون تريد أن تهزّ الثقة في نفوسكم بالذين يمثّلون عمق الثقة في حياتكم، ولأنّها تريد أن تربطكم بالذين تاجروا بدمائكم، لهذا كلّ ما أريده منكم ما يريده الله منكم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات : 6]، {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 36] كما قلت لكم سابقاً؛ تجلسون في سهراتكم وتتّهمون وتحكمون، وتنطلقون في تظاهراتكم وتهتفون وتتكلَّمون، وتعيشون في كواليسكم وتتحدّثون وتستأنسون، لقد أسقطنا فلاناً ورفعنا فلاناً، ولكن كيف تجلسون في قبوركم إذا سُئلتم عن كلماتكم، فبماذا تجيبون؟ كيف تقفون بين يديّ ربكّم عند من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ فكِّروا جيداً عندما يُراد لكم أن تتحدّثوا عن القيادة الإسلامية العليا بطريقة غير صحيحة وعن القيادات الإسلامية المخلصة بطريقة غير مسؤولة.
مستعد للاستماع إلى نقدكم وملاحظاتكم
فكِّروا واعرفوا أيُّها الإخوة، إذا كان هناك مَن يتحدّث بكلمات غير مسؤولة فقد قلتها لكم وأقولها، إنّها ليست مشكلتي أن يتكلّم الناس بل مشكلتي أن يفهم الناس، ليست مشكلتي أن يتّهمني الناس بذلك بل مشكلتي أن يتّقي الناس الله بكلّ ما عندهم، وأقولها من موقع المسؤولية: ما زلت معكم منذ 22 سنة من النبعة إلى الجنوب إلى الضاحية، وقد عرفتم أنّي أطلب من الناس أن ينقدوني لأنّي أعتبر أنّ مسؤوليتي هي أن أسمع كلام الناس عنّي لِأُصَحِّح ما فَسَدَ منّي أو ما ليس صحيحاً، لأنّي لست بمعصوم كما أنّ الآخرين ليسوا بمعصومين، لقد عوّدتكم أن أتحدّث لكم عن خصوصيّاتي وأجيب عن كلّ سؤال، وإنّي أقول لكلّ الناس بكلّ محبّة حتى أقيم الحجّة عليهم لتتكامل الثقة في الساحة الإسلامية، مَن كان عنده نقد فإنّي مستعد لأنْ أسمعه، ومَن كان عنده ملاحظة فليأتِ إليّ لأستمع إليه وأنتفع بملاحظاته، ليست مشكلتي ما يقولون، ولكنّ مشكلتي أن أبقى معكم لنتعاون على السير في الصراط المستقيم، وقد قال الإمام عليّ (عليه السلام)، ونحن تراب أقدام عليّ (عليه السلام)، "ألاَ إنّكم ستُدْعَوْن إلى سَبِّي والبراءة منّي، فأمّا السبّ فسبُّوني فإنّه لي زكاة ولكم نجاة، وأمّا البراءة فلا تتبرَّؤوا منّي"(1) قالها عليّ (عليه السلام) ولا أقولها عن نفسي فــ "أنّي ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة"(2). ضعوا عقولكم في رؤوسكم وضعوا إيمانكم في عقولكم وضعوا مسؤوليّتكم في إيمانكم، وراقبوا الله واتّقوا الله واعرفوا أنّكم مسؤولون عن حماية القيادة الإسلامية العليا المتمثّلة بالإمام الخميني (حفظه الله) وأنّكم مسؤولون عن حماية كلّ قيادة إسلامية مخلصة {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام : 153].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
27/5/1988
معاركنا الإسلامية
على ضوء معركة أُحُد(*)
في النصف من شوّال كانت ذكرى معركة من أبرز معارك الإسلام، التي خاضها المسلمون من مواقع الدفاع ضدّ المشركين بقيادة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهي معركة "أُحُد". هذه المعركة الثانية، التي واجَهَ فيها المسلمون التحدّي بشكلٍ مباشر مِن قِبَل قوى الشرّ؛ فقد خطَّط المشركون بعد معركة بدر، التي هُزِموا فيها شرّ هزيمة، خطَّطوا للهجوم على المدينة من أجل أن يحاصروها ويسقطوها ويسقطوا الإسلام من خلالها ويقتلوا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والصّفوة الطيّبة من أصحابه وأهل بيته. واستعدّت قريش لذلك استعداداً كبيراً فجمعت من حلفائها ومن جماعتها ما يقرب من أربعة آلاف مقاتل، وقامت بحملة كبيرة لجمع المال، لتوفير المعدات القتالية بالمستوى الذي يستطيعون من خلاله تحريك قوّة ساحقة لا ترجع إلاّ بهزيمة المسلمين وهزيمة الإسلام. واقتربوا من المدينة، وعَرَفَ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بذلك وعبَّأ المسلمين من أجل أن يواجهوهم من موقعٍ واحد من خارج المدينة. وهكذا تحرَّك رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بأصحابه، ويقال إنّهم لم يبلغوا الألف، حتّى وصل إلى جبل "أُحُد" الذي يعرفه كلّ مَن حجَّ الديار المقدَّسة وشاهده عياناً. وكانت هناك ثغرة في الجبل، يمكن أن ينفذ منها الرُّماة ويمكن أن تنفذ منها خيل قريش لتلتفّ على جيش رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، الأمر الذي دفع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لينظّم الجيش على أساس أن يكون "أُحُد" من ورائهم ليحتموا به، وجعل جماعة من الرُّماة على الثغرة التي كان من الممكن أن ينفذ إليها المشركون، وقال لهؤلاء الرُّماة اثبتوا في أماكنكم، إذا رأيتمونا انتصرنا فاثبتوا، وإذا رأيتمونا انهزمنا فاثبتوا؛ لا تتحرَّكوا من مواقعكم، لأنَّ نقطة الضعف في موقعنا الدفاعي هي في هذا الموقع. وهكذا جعل عليهم قائداً وأمرهم أن يطيعوه. وهنا حدَّثنا الله كيف كان المسلمون يعيشون بعض نقاط الضعف في إيمانهم في البداية، إذ عندما دعا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى القتال كانت هناك جماعة تريد أن تخرج معه، وكانت هناك جماعة لا تريد أن تخرج معه، وتغلَّب الرأي الأوّل بشكلٍ كامل وهذا هو قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ*إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ...} همُّوا في الفشل، فشلهم الإيمان، لأنَّ نجاح الإيمان بالالتزام بطاعة الله ورسوله وأُولي الأمر الذين ارتضاهم الله ورسوله. أمّا الفشل في الإيمان فهو أن يبتعد الإنسان عن الالتزام بالخطّ، على أساس نقاط الضعف الموجودة في شخصيّته، {... إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران :121 ـــ 122].
ودارت المعركة وتحرَّك المسلمون فيها بروحية "بدر" واستطاعوا أن يوقعوا بالمشركين شرّ هزيمة، بحيث تفرَّق المشركون ولم تكن لهم أيّة جامعة تجمعهم. وبدأ المسلمون يجمعون غنائم المعركة كما كانت العادة، حيث يجمعون ما سقط في المعركة من سلاح وعتاد وخيول وما إلى ذلك. وكان أولئك الذين في الثغرة يشرفون على المعركة، وقال بعضهم لبعض إنَّ المعركة قد انتهت وإنّ إخواننا يجمعون الغنائم فلم يعد هناك خطر. وهذه قريش قد انهزمت، فما بقاؤها هنا، اتركونا لننزل لنأخذ حصَّتنا من الغنائم.
وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد قال لهم إنَّ حصّتكم محفوظة، وقال قائدهم لقد أمرنا رسول الله بأمر ولا بدّ أن ننفّذه، لأنَّ رسول الله قال لنا: اثبتوا في أماكنكم، لأنَّ غدر المشركين يأتي من جانبه. فإن انتصرنا اثبتوا ليكون النصر، وإذا انهزمنا اثبتوا ليكون لنا موقع قوّة في المعركة، نستطيع من خلاله أن نحوِّل الهزيمة إلى نصر. لن أترك مكاني. وانضمَّ إليه جماعة وتفرَّق عنه الذين كانوا معه وهم الأكثرية. وهنا حانَت من خالد بن الوليد، التفاتة وكان آنذاك مع المشركين ورأى أنّ الثغرة أصبحت ضعيفة فليس فيها إلاّ عدد قليل، وهكذا اندفع مَن بقي معه من جيش المشركين وقاتَلَ مَن تبقّى من المسلمين الذين كانوا في الثغرة، حتى قُتِلوا أو جُرِحوا. واندفع من خلال تلك الثغرة في عملية التفاف على المسلمين وهم مشغولون في تصفية نتائج المعركة، وهنا دارت الدائرة على المسلمين وبدأت الهزيمة في مواقع المسلمين من جديد، حتّى إِنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وسلَّم قد شجَّ في جبهته وكسرت رباعيّته "بعض أسنانه"، وسقط على الأرض بعد أن أخذت منه الدماء، حتّى صاح أحدهم: إنَّ محمّداً قد قُتِل. واندفع إليه قوم من المشركين حتّى يقتلوه، ولكنَّ عليّاً والصّفوة الطيّبة معه دافعوا عنه وكشفوهم وقُتِلَ آنذاك حمزة بن عبد المطّلب (رضي الله عنه) وهو عمّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). وهنا أنزل الله في القرآن آيات كثيرة، يحدّثنا فيها عن بعض النماذج في وقائع المعركة، وعن الدروس التي ينبغي للمسلمين أن يأخذوها من المعركة لأنَّ الإسلام، في ما جاء به القرآن لا يريد للمسلمين عندما يمرّون بأيّ تجربة، سواء كانت التجربة تجربة نصر أو كانت التجربة تجربة هزيمة أو كانت تجربة يختلط فيها النصر بالهزيمة كما كانت هذه المعركة، أو كانت تجربة خطأ أو صواب أو فشل أو نجاح، إنَّ الله لا يريد للمسلمين أن تنتهي التجربة وينتهون معها، ليصفِّقوا لانتصاراتهم وليبكوا هزائمهم، بل يريد لهم أن يدرسوا كلّ تجربة في الحياة ليفهموها جيّداً، فإذا كانت تجربة نصر ونجاح فعليهم أن يدرسوا كيف انتصروا وكيف نجحوا وما هي عناصر النجاح والنصر؟ ليستفيدوا من ذلك في المستقبل.
وعندما تكون المسألة مسألة هزيمة أو فشل فعليهم أن يدرسوا أسباب الهزيمة وأسباب الفشل، من أجل أن يتفادوها في المستقبل. إنَّ الله يريد للإنسان دائماً أن يستثمر نجاحاته لنجاحات أخرى وأن يأخذ الدرس في هزيمته، حتّى لا يقع في هزيمة أخرى، لتكون تجربة الإنسان مدرسة له في كلّ مجالات الحياة. وهكذا أراد الله للمسلمين في القرآن، في كلّ زمانٍ ومكان، أن يدرسوا تجربة أُحُد. وسنحاول أن نلتقي مع بعض آيات القرآن التي نزلت في سورة آل عمران في تقييم القرآن الكريم لمعركة أُحُد {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ} قال الله لكم إنّكم ستنتصرون في "أُحُد" ولكنَّ الله قال لكم أن تنتصروا ضمن الخطّة وعندما نفّذتم الخطّة بشكلٍ جيّد انتصرتم.
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ} الحسّ هو كناية عن القتل، بحيث يفقد الإنسان إحساسه معه إذ تحسُّونهم بإذنه وقد صدقكم الله وعده فانتصرتم، ثمّ حتّى إذا فشلتم، فشلتم في إيمانكم لأنّكم لم تلتزموا بخطّ الإيمان وفشلتم في الالتزام بالعناصر التي تهيّئ النصر في المعركة؛ {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ}، دبَّ النزاع بينكم ودبَّ الخلاف بينكم والمعركة لا تزال والعدوّ لا يزال يملك مواقع القوّة، دبَّ النزاع بينكم {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ}، عصيتم أوامر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من بعد ما أراكم ما تحبُّون.
لماذا اختار هؤلاء النزول إلى ساحة الغنائم ولماذا اختار الفريق الثاني الوقوف حيث أمرهم رسول الله؟ الله يبيِّن الدوافع وعلينا من خلال هذه الدوافع التي يحدّثنا الله عنها، عندما يحدّثنا عن نقاط ضعف المسلمين، أن نلتفت إلى دوافعنا نحن، عندما نعيش بعض نقاط الضعف في كلّ ساحات التحدّي وفي معركة الإسلام مع الكفر ومعركة الحقّ مع الباطل ومعركة العدل مع الظلم، {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ}، من بعد ما أراكم النصر. {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا}، يقاتل وفي فكره أنّه يريد أن يقاتل، ليغنم وليحصل على موقع وليحصل على مركز وليحصل على زعامة وغير ذلك ممّا تحتويه الدنيا من أهداف الناس الذين يستغرقون في الأرض {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ}، وعندما دبَّ النزاع {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} صرفكم عن المشركين وجعل المشركين يتقدَّمون {لِيَبْتَلِيَكُمْ} حتّى تعرفوا أنّ البلاء عندما ينزل فإنّه لا ينزل بدون سبب.
أنتم زرعتم في حياتكم العناصر التي أدَّت إلى النتائج السلبية، {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ}، بعد أن تبتم، {وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران : 152].
ثمَّ يحدّثنا الله بعد ذلك عن أجواء الرسالة، وكيف كانوا يتحدّثون في ما بينهم وكيف انطلقوا. ويحدّثنا الله في هذا المجال عن بعض الناس الذين كانوا في المدينة {... يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران : 154]. إنَّ الله يقول لكلّ الذين يتحدّثون عن إخوانهم الذين يسقطون في ساحات الجهاد بهذه الطريقة، إنّ الله يقول لكلّ هؤلاء، إنَّ مسألة الأجل بيد الله فإذا لم تقتل في الموقع الجهادي فإنّك لن تستطيع أن تدفع القتل عن نفسك، لأنَّ الله إذا قدّر القتل على شخص فإنَّ الذين يكتب عليهم القتل، سيأتيهم الموت ولو كانوا في بروجٍ مشيّدة، ثمّ يقول الله بعد ذلك {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}، {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} إنَّ الشيطان يحاول أن يكتشف نقاط الضعف من خلال ذنوبك التي تمارسها في حياتك، ويحاول أن يوضّحها في ساحة القتال ليبعدك عن ساحة القتال، {وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران : 155].
النصر لا يكون إلاّ بأسبابه
في هذا المجال نريد أن نطلّ بعض الشيء على دروس "أُحُد" التي نستطيع أن نأخذ منها الكثير من الدروس في المستقبل في كلّ مجالاتها. إنَّ الذين عاشوا المشكلة في "أُحُد" كانوا يفكِّرون كيف نهزم ونحن مسلمون ونهزم مع رسول الله. ولكنَّ الله يريد أن يقول للمسلمين ما قاله هناك وما يقوله لكلّ المسلمين في الحياة، إنَّ الله لم يلتزم للمسلمين أن ينصرهم دون الأخذ بأسباب النصر، وإلاّ لو شاء الله لجعل الناس أُمّةً واحدة، ويخلقهم جميعاً مؤمنين كما يخلق للإنسان عينين وشفتين، يخلق للإنسان إيماناً لا يتزعزع، وعند ذلك لا يحتاج الأنبياء إلى الدعوة وإلى الجهاد، ولا يحتاج المجاهدون إلى الجهاد، ويعيش الناس مؤمنين. ولكنَّ الله أراد للأنبياء أن يقولوا كلمتهم {... لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ...} [الأنفال : 42]، وأراد للحياة أن تأخذ مداها في سنن الله في الكون، في ما هي قضايا الصراع بين الحقّ والباطل، ليجاهد المجاهدون فيقتل منهم مَن يقتل ويجرح مَن يجرح وينتصر من ينتصر وينهزم مَن ينهزم. وأراد الله للناس أن يأخذوا بأسباب النصر، ثمّ قال لهم: إذا نصرتم الله وأخذتم بأسباب النصر فإنَّ الله ينصركم ويهيّئ رعايته ولطفه ولكنَّ الله لا يقاتل بالنيابة عنكم، والملائكة لا يقاتلون بالنيابة عنكم، ولكنَّ الله لا يريد أن يجعل الحياة كلّها بشكلٍ لا يملك الناس فيه الاختيار، لهذا يقول الله للمسلمين عندما تنهزمون في معركة أو عندما تجرحون في معركة، أو عندما تتألّمون في موقف، فلا تسقطوا ولا تضعفوا ولا تحزنوا، راقبوا مشاعركم، لا تكن مشاعركم مشاعر الحزن التي تجعل صاحبها يبكي ويسقط من خلال دموعه، راقبوا أفكاركم. لا تجعلوا أفكاركم أفكار الهزيمة ولكن حاولوا أن تعتبروا أنّ الإنسان يهزم في معركة ولكنّه لا يهزم في الحرب كلّها. إذا كانت الفرص موجودة في المستقبل، راقبوا نظرتكم إلى مواقعكم. إنَّ الله يريد للإنسان المؤمن أن يشعر بعزّة الإيمان في موقفه وأن يشعر بقوّة الإسلام في قوّته وأن يشعر بالانفتاح على الله عندما يسير مع الله، ليشعر بأنّ مَن كان مع الله لا يهزم، حتّى إذا هزم جسده فإنَّ روحه تظلّ في موقف الحريّة، تنفتح على الله في ذلك كلّه.
استمعوا إلى القرآن الكريم في سورة (آل عمران) كيف يعطينا الدروس وعندما نأخذ دروس القرآن، أتعرفون ما معنى أن تجلسوا وتستمعوا القرآن وتأخذوا دروس القرآن، أتعرفون ما معنى ذلك؟ الله في عليائه يعلِّمكم. مَنْ كان أستاذه الله ومَن كان معلّمه الله ومَن كان الذي يعطيه الدروس الله. فأين الأساتذة وأين المعلِّمون وأين المدرِّسون وأين الكلمات التي تأتي من هؤلاء وأولئك الذين أعطاهم الشيطان دروساً من الضعف والخيانة ومن النفاق وغير ذلك؟ الله يعلِّمكم، أتعرفون أنّ دروس الله في كتابه هي التي جعلت من محمّد رسول الله، محمدٌ الذي يقف أمام العالم كلّه، ليواجه العالم كلّه بقلبٍ قوي لا يتزعزع ليقول: "قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا"(1) أتعرفون أنّ دروس القرآن هذه هي التي جعلت الصحابة المخلصين والمؤمنين الملتزمين بخطّ رسول الله ينتصرون في معاركهم وهم قلّة، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ...} [آل عمران : 123]، كانوا قليلين ولكنّهم انتصروا من خلال أنّهم تعلَّموا القوّة من القرآن، وعليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، هذا الإنسان الذي لا يزال العالَم يعيش على فكره ويتطلَّع إلى بطولته ويدرس مواقفه في الحقّ ويدرس قوّته أمام كلّ العالم، عندما يقول: "لا تزيدني كثرة الناس حولي عزّة ولا تفرّقهم عنّي وحشة"(2) لأنّي قويّ بالحقّ ولأنّي قويّ بالله، عليّ (عليه السلام) هذا الذي كان قوّة من خلال فكره وروحه وشجاعته وبطولته، عليّ (عليه السلام) تعلَّم القرآن على يد رسول الله فكان قويّاً من خلال القرآن، ولهذا إنّنا عندما نستمع إلى دروس الله، دروس القرآن، فإنّنا نلتقي بالحقيقة الصافية التي لا أصفى منها ولا أنقى، ونلتقي بالروح المشرقة، بالحياة التي لا يمكن أن يقترب إليها ظلام. الله يعلِّمنا فلنتعلَّم ولنأخذ القوّة منه، وعليكم أن تراقبوا كلّ الذين يريدون أن يضعفوكم باسم تفسيرات في القرآن {... يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ...} [المائدة : 13]، [النساء: 46] وتطلَّعوا إلى كلّ الذين يريدون أن يُجَبِّنوكم ويبعدوكم عن كلّ ساحات الحقّ وعن كلّ ساحات الجهاد باسم الآيات المتشابهة، لأنّهم يريدون أن يضيّعوا الناس باسم القرآن؛ انتبهوا جيّداً لأنَّ القرآن لا يعلِّمنا إلاّ القوّة، لأنّه قال لنا إنّ الله قويّ، ولأنّ القرآن لا يعلِّمنا إلاّ العزّة لأنَّ الله قال إنّه العزيز، ولأنّ القرآن لا يعلِّمنا إلاّ كلّ المعاني التي ترتفع بحياتنا، لأنّ الحديث قال: "تَخَلَّقوا بأخلاق الله". لأنّ الله رحيم فكونوا رحماء، ولأنَّ الله قويّ فكونوا الأقوياء ولأنَّ الله عزيز فكونوا الأعزّة، ولأنَّ الله العليم فكونوا العلماء، ولأنَّ الله هو الحليم فكونوا الحلماء.
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ...} [آل عمران : 140] إذا جرحتم، إذا نكبتم، إذا حدث لكم ما حدث، تذكَّروا لستم وحدكم الذين تجرحون ولستم وحدكم الذين تتألَّمون، ولكنّكم تألّمتم وتألَّم القوم قبلكم. وجرحتم وجرح القوم قبلكم، وقتل منكم وقتل من القوم قبلكم.
قولوها في كلّ معارك الإسلام، قولوها عندما تواجهون المشاكل في مواجهة "إسرائيل" وقولوها عندما تواجهون المشاكل في مواجهة الاستكبار العالمي، وقولوها عندما تواجهون المشاكل في مواجهة الظلم الداخلي، قولوا كما قال الله للمسلمين بعد "أُحُد" {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ}.
ولا تيأسوا لأنّ الحياة لا تثبت على خطٍّ واحد فقد جعل الله الحياة متغيّرة {... وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران : 140] فيومٌ علينا ويومٌ لنا ويوم نُساء ويوم نُسَرّ؛ لهذا الهزيمة ليست خالدة، فلا تيأسوا أمام الهزائم؛ والنصر ليس خالداً فلا تبطروا أمام النصر، لأنَّ المنتصر قد ينهزم إذا لم يأخذ بأسباب النصر في مجالاتٍ أخرى، ولأنَّ المنهزم قد ينتصر إذا أخذ بأسباب النصر وتعلَّم من الهزيمة، لهذا لا تيأسوا في الحياة ولا تتركوا الاستعداد في الحياة. ليكن رجاؤكم بالله في كلّ مواقف الضعف، لتأخذوا من الله القوّة ولتكن حياتكم استعداداً دائماً في مواجهة كلّ أعداء الله.
واعلموا أنّ هذا النوع من الاهتزاز، هذا النوع من تغيير الظروف، هذا النوع من أن يمسّك القرح من أن يمسّ عدوّك القرح هدفه التمحيص {... وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} [آل عمران : 140]، إنّك تقول إنّي مؤمن وأنا أقول إنّي مؤمن والآخرون يقولون إنَّنا مؤمنون. تقول وأقول ويقولون، ولكن ما الدليل على أنّك مؤمن؟ الذين إذا أصابهم القرح سقطوا فسقط إيمانهم معهم والذين إذا أصابهم القرح ثبتوا فيثبت إيمانهم معهم، لأنَّ مسألة أن تكون مؤمناً، أن تستقبل شروط الإيمان وضريبة الإيمان بكلّ صدرٍ رحب، لتقول يا ربّي إذا كانت ضريبة الإيمان أن أُجرَح وأنتَ تراني فإنّها ضريبة سأدفعها، وإذا كانت ضريبة الإيمان أنْ أُشَرَّد وأنتَ تراني فما أحلى ذلك التشريد، وإذا كانت ضريبة الإيمان أن أُقْتَل في سبيل طاعتك فليست عندي مشكلة، أتعرفون مَن قالها، إنّكم تقرؤون كربلاء وتستمعون كربلاء، ولكنَّ المشكلة في كثيرٍ من الناس، أنّهم لا يحاولون أن يقرؤوا في كربلاء دروس الإيمان بالله، وكيف تجعل الإنسان يعيش في فرح روحي أمام كلّ الدماء التي تستنزف منه ومَن أحبّته. قالها الحسين (عليه السلام) قالها وهو يستقبل دماء ولده عبد الله الرضيع "هَوّن ما نزلَ بي أنّه بعين الله"(1)، وقد قال وهو يستقبل الموت "بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملَّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)"(2) وكانت روحه تتصاعد لله بكلّ محبّة ويصوِّر الشاعر لسان حاله:
إلهي تَرَكْتُ الخلْقَ طُرّاً في هواكا وأيتَمْتُ العيالَ لكي أَراكا
فلو قَطَّعْتَني بالحبّ إرْباً لَمَا مالَ الفؤادُ إلى سواكا
الارتباط بالله لا بالأشخاص
لهذا عندما نتّخذ المواقف أمام الضغوط والتحدّيات التي تريد أن تبعد الإنسان عن إيمانه، فعلينا أن نفكِّر أنّ الله يراقبنا. الله يقول لنا إنّكم تعيشون في التجربة فأروني تجربتكم في مسألة الإيمان، هذا الكلام ليس كلامي.
{... وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} ليس الشهداء بمعنى الشهادة بالقدر، لكن يتّخذ منكم إذا نجحتم بالإيمان ووقفتم مواقف الإيمان الصلبة بالرغم من كلّ التحدّيات فإنَّ الله سيجمعكم شهوداً على مجتمعكم، تقدِّمون الشهادة بين يديه يوم القيامة، لأنَّ الذين يشهدون على الناس يوم القيامة هم الصادقون في مواقفهم والصادقون في كلماتهم، {... وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران : 140].
فلا تكونوا الظالمين في مواقفكم {وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران : 141] في مواقف الصراع {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} [آل عمران : 143] كنتم تتمنُّونه في كلّ حالات ضعفكم وقوّتكم، وها هو الموت. كلّكم يريد الجنّة وكأنَّ الجنّة أرض مجّانية، مشاع، كما هو المشاع في حالة عدم وجود نظام ينظّمه للناس، مشاعات وكلّ إنسان يريد أن يأخذ حصّة من المشاع والجنّة مشاع.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران : 142] لن نبلغ الجنّة إلاّ بالجهاد في كلّ مواقع الجهاد، ولن نبلغ الجنّة إلاّ بالصبر في كلّ مواقع الصبر. قال قائلهم لقد قتل محمّد، وتزلزل البعض، قال بعض الناس هناك مَن يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وقال بعض الناس لقد قتل محمّد فلنرجع إلى ما كنّا عليه. وكان هناك جريح يكاد يلفظ أنفاسه، ومرَّ عليه شخص وكان هذا الجريح يسمع دون أن يميِّز الكلمات قال له: ماذا هناك، قال: يقولون قتل محمّد. قال: إنْ كان قد قتل محمّد فقد بلَّغ، ولكنّ ربّ محمّد لم يمت. وعلى هذا لا بدّ أن نكمل المسيرة. وقال آخرون وكان الجوّ يعيش الخوف والضعف: تعالوا نتّخذ لأنفسنا مواقع أمن، لكنَّ هناك مَن قال: "مَن كان يعبد محمّداً فإنَّ محمّداً قد مات ومَن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت"(1)، فتعالوا نقاتل على ما قاتَلَ عليه محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وجاءت السورة لتؤكّد الفكرة {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} لم يبعث الله محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ليحكم الحياة كلّها وليكون الارتباط به مدّة حياته؛ محمّد الذي أرسله الله جاء يحمل رسالة الله وأراد الله لرسالته أن تبقى وأراد الله لرسوله أن يموت. فقد قال له: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر : 30]، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} يبلّغ الرسالة ويمضي كما مضى الأنبياء من قبله.
{... أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران : 144] إذاً كيف نأخذ هذه الفكرة أيُّها الإخوة، إنّها تعلِّمنا أنّ القيادات، حتّى قيادات الأنبياء والأئمّة دورها أنّها تطلق الرسالة وتبلّغها وتحرّكها وتخلص لها وتجاهد في سبيلها، ليحتضن الناس الرسالة، ليؤمنوا بها وليتابعوا السير على أساسها؛ فإذا مات القائد فالرسالة باقية. لا تتجمَّدوا أمام القيادات، لتعتبروا أنّ الإسلام يموت بموت قيادة، حتّى لو كان بمستوى رسول الله، أو أنَّ الأُمّة تموت بموت قائد أو بطل. لا ترتبطوا بالأشخاص ولكن ارتبطوا برسالاتهم، إذا كانت رسالاتهم تؤدّي عن الله، لا ترتبطوا بالقيادات إلاّ من خلال حركة القيادات في مشاريعها.
الله لم يرد لنا أن نرتبط بالأشخاص بل نرتبط بالرسالة، وعلى هذا الأساس فإنَّ علينا أن نفهم أَنَّ الحياة لا تتجمَّد عند أيّ قائد، فلو مات، فعلى الأُمّة أن تبحث عن قيادة أخرى وأن تبحث عن الرسالة في موقع القيادة. لا قيمة للأشخاص، لا تتعصَّبوا للأشخاص، لا تجعلوا كلّ شيء في عهدة الأشخاص إلاّ إذا كان الشخص يؤدّي عن الله وعن رسوله، وإلاّ إذا كان الشخص يقود المسيرة، ومع ذلك لا تدعوا العصمة لمن لا عصمة له، ولا تعملوا على الدفاع عن المخطئ إذا أخطأ، وعن المجرم إذا تحوّلت القيادة إلى قيادة مجرمة. لتكن الرسالة هي الخطّ الذي تحاسبون كلّ قياداتكم على أساسه. إنَّ الرسالة التي جاء بها رسول الله هي الخطّ الذي يحكم الجميع وليس هناك من أحد يحكم الرسالة. وهذا ما يجب أن نتحرّك فيه، ولهذا فإنَّ على المسلمين أن يكفُّوا عن اللّغو في قضية أن تربط نفسك بشخص، أو تربط خطّك بشخص. ادرس الشخص من خلال خطّه، فإذا سارَ على الخطّ كن معه، وإذا انحرف عن الخطّ كن مع الله في الخطّ المستقيم، واتركه يعاني من انحرافه. قالها عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) للنّاس وأظلّ أقولها لكم، بعض الناس يهتفون باسمه ويرجمون فكره، وبعض الناس يتعصَّبون له ويتعصَّبون على مَن يحمل خطّه، عليٌّ قال لبعض الناس إنّك "لم تعرف الحقّ فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف مَن أتاه"(1).
الجاهلون بالحقّ هم الذين يلتزمون الباطل ويخيَّل إليهم أَنّه الحقّ. اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله، إنَّ الحقّ لا يعرف بالرجال ولكنّ الرجال يعرفون بالحقّ، { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران : 144]، أتخافون من الموت وتتركون كلّ مواقف الحقّ، لأنّكم تخافون من الموت، تتركون كلمة الحقّ دون أن تقال عندما يحرّك الباطل باطله، لأنّكم تخافون من الموت وتتركون أعداء الله يسيطرون عليكم. {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا...} قدِّموا طلباتكم إلى الله، ماذا تريد؟ يا ربّ أريد مالاً وأُريد زوجة وأريد أولاداً وعقارات وزعامة وما إلى ذلك. تريد ذلك هل بقي لك طلب غير ذلك؟ فكِّر، اعصر فكرك ماذا تريد؟ أنا ربّك، الله يقول ما تريده سأعطيك إيّاه. تقول يا ربّي لا أريد غير هذا {... وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا}، ماذا تريد؟ يبرز قوم من الناس: يا ربّي إنّنا نعيش في الدنيا ونعلم أنّك لن تتركنا نموت قبل أن يأتي أجلنا، ستعطينا من رزقك لأنّك تعطي الكافر والمؤمن وستعطينا ما نحبّ أن نعيش فيه، لأنّك تعطي كلّ الناس. الشمس تشرق على الأرض التي تحتاجها ولا تحتاجها، المطر ينزل على الأرض التي لا تحتاجه، إذاً لماذا نطلب منك الدنيا يا ربّ، فمشكلتنا هي الآخرة، آتنا ثواب الآخرة. والله يقول لكَ سأوتيك ثواب الآخرة.
{... وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} بعد {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران : 145]؛ الذين يذكرون الله في نعمه بشكر الكلمة وشكر الفعل وشكر الموقف ثمّ يريد أن يقول لكلّ المؤمنين المجاهدين؛ فكِّروا في الأنبياء وأصحابهم لتكونوا مثلهم.
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ} وما وقفوا موقف الذلّ {وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]، وما كان قولهم؟ ماذا كان يقول أصحاب الأنبياء عندما تشتدّ عليهم الضغوط وعندما يحاصرهم الطغيان وعندما يلقون في السجون وعندما يعذَّبون؟ إلى مَنْ كانوا يلجؤون؟ هل كانوا يلجؤون إلى وسيط يتوسّطونه أو أيّ شيء؟ { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} عندما يعذّبون يخافون من عذاب النار يتذكّرونها {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} قد نخطئ يا ربّ {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} حتّى لا نتزلزل {وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وعلى أتباع الكافرين وعلى عملاء الكافرين وعلى حلفاء الكافرين؛ ثمّ {فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 147 ـــ 148] ويختم الله الدرس.
يا أيُّها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا ستأتيكم المغريات وستأتيكم التهويلات وسيأتيكم من يخوِّفكم. الله يقول لكم يا جماعة انتبهوا، لتكن عقولكم معكم ليكن إيمانكم معكم {... إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} [آل عمران : 149]. لا مولى لكم إلاّ الله لا توالوا غيره ولا تطيعوا غيره {بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران : 150].
مواجهة الحياة من موقع التحدّي
وتبقى معركة "أُحُد" بكلّ دروسها تعرِّفنا كيف نواجه الحياة من موقع التحدّي وكيف نواجه الحياة من موقع المسؤولية وكيف نحرّك كلّ أوضاعنا من أجل أن نجعلها في طريق الله وتعرّفنا أنّ علينا أن لا نسير إلى الهزيمة بأقدامنا، لأنَّنا نترك الانضباط بالمواقع التي يريد الله منّا أن ننضبط فيها ونترك الصبر في المواقع التي يريد الله منّا أن نصبر فيها. قد يتحوَّل أيّ عنصر إلى هزيمة إذا لم يعرف الإنسان كيف يحافظ على أسباب النصر. وعندما نتحدّث عن حروب الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، نرى أنّ حروب الإسلام كانت من أجل عزَّة الإسلام وقوّته وكرامة المسلمين ومن أجل الناس كلّهم. وهذا ما نريد أن نفكِّر فيه، أن لا تكون عقلية الحرب عندنا عقلية مزاجية، نتحرّك فيها من خلال شهوة القتال ونتحرّك فيها من خلال بعض أطماع الدنيا أو بعض أفكار الدنيا، لأنَّ الله لا يريد للحرب في أيّ موقع أن تخاض إلاّ بشروطه وإلاّ من خلال أحكامه وإلاّ من خلال حلاله وحرامه، وعندما نفكّر في قوّة المسلمين وعزّتهم فإنّنا نفكّر في ما عشنا من بلاء ومن تعقيدات في الواقع الاجتماعي، الذي تحوَّل إلى محرقة على أكثر من مستوى.
البحث عن أسباب الخلل
ما نريد أن نفكِّر فيه هو أن نبحث جيّداً عن أسباب هذا الخلل في مجتمعنا الإسلامي وعن أسباب هذا الضعف، الذي يقودنا عندما نختلف كمسلمين إلى أن نتقاتل وإلى أن يعمل كلّ واحدٍ ليجد في الآخر عدوّاً له وكلاهما يشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله، لماذا ذلك كلّه؟ لأنّنا أطعنا ساداتنا وكبراءنا ممّن لا يتحرّكون في خطّ المسؤولية، في ما تتحرّك فيه المسؤولية على أساس الموقف الإسلامي في مواجهة التحدّيات، فأضلُّونا السبيل. إنَّنا نعيش أيُّها الإخوة في عقلية انفعالية والله أرادنا أن نعيش الهدوء في العقل والهدوء في المشاعر والهدوء في الكلمات، فأرادنا الله أن نكظم غيظنا وأن نعفو عن الناس وأن نحسِن إليهم وأن نعرض عن الجاهلين، وأن ندفع بالتي هي أحسن، وأن نقول التي هي أحسن، وأن نجادل بالتي هي أحسن، لأنَّ القتال لا يستطيع أن يحلّ مشكلة بل يعقِّد المشاكل ولأنَّ القتال لا يمكن أن ينتهي إلى نتيجة حاسمة بل يعمل على إحباط كلّ النتائج. لهذا كنّا نقول ولا نزال نقول: لا بدّ لكلّ الناس، لاسيّما في المجتمع الواحد ولاسيّما الذين يجتمعون في البيت الواحد، لا بدّ للناس أن يتّفقوا على أساس أن يتحاوروا في ما يختلفون فيه، ليصلوا إلى قاعدة ثابتة متوازنة تحكم علاقاتهم مع بعضهم، ليعرف كلّ إنسان ما له وما عليه فيأخذ ما له ولا يحاول أن يتنكَّر ممّا عليه من مسؤولية، ولا يتجاوز حدوده.
الاجتماع على الكلمة السّواء
قلنا مراراً أيُّها الناس تَحاوَروا، إنّ الله يقول لنا أن نقول لأهل الكتاب {... تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران : 64]، فلماذا لا نقول لأهل القرآن تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم. إنَّ الله يريدنا أن نعمل على أن نكون الواعين، ولهذا إنّني أقول لكلّ الناس وأقولها لنفسي قبلكم: إنَّ علينا جميعاً أن لا نجعل عقولنا في آذاننا وإنّما نجعل عقولنا في رؤوسنا، لأنَّ عقلك عندما يعيش في أذنك فإنَّ الآخرين سيدخلون إلى أذنك ما يخرّب على عقلك حكمه، لأنَّ الكلمات تتنوّع في كذبها وصدقها وفي خيرها وشرّها وحقّها وباطلها. أيُّها الناس إنَّ علينا أن ندرس هذه التجربة المريرة الصعبة، حتى لا نعود إلى مثلها وحتّى لا تتدخَّل الأجهزة إلى أن تقودنا إلى مثلها، راقبوا الواقع من حولكم، لأنَّ الأجهزة المخابراتية من محليّة وإقليمية ودولية تعمل على أن توقد النار من جديد في هذا الاتّجاه أو ذاك، لهذا إنّنا نقول للقيادات ـــ كلّ القيادات ونقولها لأنفسنا إذا كنّا نملك موقعاً قياديّاً ـــ إنَّ عليكم أن تخفّفوا من الانفعال في كلماتكم، لتنطلقوا مع العقل والإيمان في هذه الكلمات، وإنَّ عليكم أن لا تفكِّروا بطموحاتكم الذاتية ولكن فكِّروا بطموحات الأُمّة الرسالية، وإنَّ عليكم أن لا تعيشوا الخوف في مواقعكم ولكن حاولوا أن تعيشوا الخوف على الأُمّة في مواقعها. لأنّه لا قيمة لقيادة تسقط الأُمّة من حسابها ولا قيمة لقيادة إذا ذهبت الأُمّة. ونقول للأُمّة ـــ كلّ الأُمّة ـــ كونوا الواعين، لا تندفعوا للأجواء التي يحاول الإعلام المخابراتي أن يحرِّكها في حياتكم. عندما تتكلَّمون، فكِّروا أنَّ الكلمة ستصعد إلى الله، وكيف تكون كلماتكم التي تصعد إلى الله. وعندما تسمعون فكِّروا في ما تسمعون لأنَّ الله سيقول لكم كيف سمعتم؟ فكِّروا بأنّكم المسؤولون أمام الله وحاولوا أن تبحثوا عن الحقائق من خلال الإمكانات التي تملكونها ممّا عرفكم الله في ذلك؟ لماذا؟ لأنّكم إذا عشتم حياتكم على أساس أن ترفعكم إشاعة وتسقطكم أخرى وتنطلق كلمة لتلهب مشاعركم وتنطلق أخرى لتبرّدها. فماذا تفعلون في مستقبلكم وكلّ أجهزة الإعلام تعمل على اللّعب بكلّ قضايا المصير؟.
لا تسيؤوا إلى الخطّة الأمنية
ثمّ ما أُريد أن أقوله لأهلنا في الضاحية، لكلّ الشباب، سواء كان الشباب من هذا الفريق أو من ذلك الفريق، إنّي أُريد للجميع وللنّاس جميعاً أن لا تسيؤوا إلى الخطّة الأمنية، لأنّ بديل الخطّة الأمنية في ظروفنا الحاضرة ومن خلال الذي تعيشه هو التقاتل لأنَّ الجميع يراهنون على ذلك، لهذا لا بدّ من الانضباط، ولا بدّ من الانفتاح على طبيعة الأخطار والمشاكل التي تحصل على أساس أن تدرس دراسة هادئة ولا تدرس دراسة منفعلة. إنَّ أمامنا قضايا كثيرة نحتاج أن نواجهها ونحتاج أن نلاحقها، حتّى نستطيع أن نملك القرار وحتّى نستطيع أن نملك المواقف، التي نستطيع فيها أن نمنع كلّ هؤلاء الذين يريدون أن يبيعوا كلّ دماء الشهداء وكلّ دماء الضحايا باتّفاقات، تعمل على إرجاع البلد كلّه إلى نقطة الصفر.
أمن الجنوب في مواجهة "إسرائيل"
لهذا لا تستغرقوا في خلافاتكم مع بعضكم، جمِّدوا خلافاتكم. لا تتحدَّثوا فقط عن أمن الجنوب في الداخل، ولكن تحدَّثوا عن أمن الجنوب(1) في مواجهة "إسرائيل"، تحدَّثوا عن الشريط الحدودي الذي أرادت "إسرائيل" أن تجعل منه تجربة لكيفية ضمّها قسماً من الجنوب إلى ما اعتادت عليه من أرض فلسطين، لتُطبِّع الناس ولتجعل الناس يقاتلون بالنيابة عنها ولتجعل الناس يعملون على محاصرة المجاهدين بالنيابة عنها، لماذا لا نتّفق على أساس أن نحرِّر الشريط الحدودي ونحرِّر المواقع التي تحتلها "إسرائيل" بطريقة غير مباشرة؟ إذا كان كثير من الناس يتشنَّجون من مسألة تحرير القدس، لأنّهم لا يريدون هذه الفكرة أو يخافون منها أو يهوّلون بها على الناس، فليس هناك من يفكِّر بتحرير القدس عشوائياً، وليس هناك من يفكِّر في أن يحرِّر العامليّون أو اللبنانيّون القدس لأنّهم لا يملكون ذلك. ولكنّنا نفكّر أن يكون هذا هدفاً لنا في المستقبل، نتكامل فيه مع كلّ المسلمين في العالم، كما كان الوصول إلى القدس هدفاً لليهود واستطاعوا أن يصلوا إليه، لماذا ترفضون أن تحلموا بالحريّة؟ لماذا يرفض الكثير من الناس أن يتمنّى الإنسان أن يكون حرّاً؟ بعض الناس أدمنوا العبوديّة حتّى أصبحوا لا يطيقون كلمة الحريّة. وأنا أقول إنّ بعض الناس الذين يتحدّثون بطريقة إعلامية عن شعار تحرير القدس بهذا الشكل الاستهلاكي، هؤلاء الناس لو دخلت إلى قلوبهم وإلى ارتباطاتهم، لرأيت أنّهم ضدّ تحرير جنوب لبنان أيضاً، لأنّهم لا يريدون للجنوب أن يتحرَّر وإنّما يريدون للجنوب أن يخضع "لإسرائيل" على أساس الترتيبات الأمنية. هذا هو المطروح في الساحة الأميركية وفي الساحة السياسية اللبنانية، المطروح في العمق هو أن يكون هناك نصف صلح مع "إسرائيل" في الترتيبات الأمنية لمصلحة "إسرائيل" بانتظار انعقاد المؤتمر الدولي. لا أريد أن أدخل في هذه التفاصيل، لكن أريد أن أقول تعالوا لنتّفق على أن نحرِّر الشريط الحدودي، تعالوا نتّفق على أن لا نجعل بلادنا تعيش تحت وطأة الهجمة الإسرائيلية، التي لا تجد منّا ـــ كما يحبّ البعض ـــ إلاّ أُناساً يصفّقون لإسرائيل ويقدّمون لها التبريكات. إنّ الشعب الذي يسكت أمام الاحتلال هو شعب سيظلّ يعيش طويلاً تحت أقدام المحتلين، هل تريدون لأولادكم أن يعيشوا تحت أقدام الاحتلال الإسرائيلي؟
دولة الإنسان
وهكذا نريد أن نقول للجميع إنَّ هناك مَن يتحدّث في هذه الأيام عن مشاريع لحلّ المشكلة اللبنانية وليس هناك أيّ حلّ للمشكلة اللبنانية في المستقبل المنظور. إنَّ هناك استحقاقاً رئاسياً، كما يقولون، وهو لا يمثّل أيّ حلّ بل أيّة حلحلة. لاحظوا أنّ الجميع لا يتحدّثون عن لبنان ولا يتحدّثون عن الجنوب وإنّما يتحدّثون عن بيروت الإدارية. وبيروت الإدارية هي مشكلة دولية وإقليمية ومحليّة لا بدّ أن تجتمع كلّ سياسة العالَم بما يوحي به الوضع اللبناني المتحرّك على أكثر من صعيد، حتّى يفكِّروا كيف تكون بيروت الإدارية. لكن نقول أيُّها الناس نقولها لكلّ مَن يسمّون بالصف الإسلامي سواء كان صفّاً لا يؤمن بالإسلام أو كان صفّاً إسلامياً يؤمن بالإسلام بطريقة معيّنة أو ما إلى ذلك.
الصّف الإسلامي بين قوسين. نقول لهذا الصّف: لماذا لا نتوحَّد على القواسم المشتركة؟ إنّكم تريدون أن تواجهوا الحكم وتواجهوا المعسكر الآخر، تعالوا نتّفق على أساس مشروع إذا لم يستطع أن يغيّر الوضع اللبناني كلّه ويغيّر النظام اللبناني كلّه فعلى الأقلّ يستطيع أن يضمن للبنانيين من مسلمين ومن مسيحيين إنسانيّتهم ليكون لبنان دولة الإنسان. إنَّنا نطرح الإسلام ولكن إذا لم تكن هناك ظروف لأن يكون الإسلام هو الحكم في هذه الظروف، فتعالوا نطرح دولة الإنسان، أن ينطلق الناس على أساس أن تكون إنسانيّتهم هي قوّة مواطنيّتهم، لا أن تكون طائفيّتهم هي أساس مواطنيّتهم، وعند ذلك، عندما يكون لبنان دولة الإنسان فإنّه يكون دولة الحرية والعدالة، بالطريقة التي يفهم فيها كثير من الناس الحريّة والعدالة، لأنَّ لنا مفهوماً آخر في هذا المجال، عندما تكون هناك حريّة ليطلق كلّ واحد رأيه وليكون الرأي الأقوى هو الذي يحكم الواقع. تعالوا إلى أن نتّفق على لبنان ألاّ يكون ممرّاً للاستعمار ولا مقرّاً له. تعالوا نتّفق على لبنان يكفل كلّ العدالة لبنيه ويكفل لهم القوّة كي لا يحتلّه أحد من هؤلاء الذين يسيؤون للأُمّة في كلّ حياتها. إنَّنا نقول إنّ الاختلاف والاقتتال والاستغراق في الخصوصيّات لا يفيد أحداً، ماذا يفيدنا أن يكون هناك أمن داخل الجنوب وتكون "إسرائيل" هي التي تحيط بالأمن كلّه؟ ماذا يفيدنا أن يكون هناك أمن في بيروت ويكون الاستعمار هو الذي يحرس الأمن كلّه، ماذا يفيدنا ذلك؟ إنّك عندما تقسم (الكبّة) في الصينية فلن نستفيد شيئاً من قطعة يأخذها هذا وقطعة يأخذها ذاك. المهمّ هو من الذي يملك الصينية؟ إذا كانت "إسرائيل" هي التي تملك الصينية فما قيمة أن يكون لك موقع في هذه الزاوية أو تلك؟
القمّة والقاصرون
ثمّ بعد ذلك أخيراً نقول، إنَّ هناك قمّة لا ندري ماذا تحدَّثوا فيها في الكواليس، لأنَّ هناك قمّة لا ندري ماذا يراد منها. الآخرون يتولّون أمورنا، هم الأولياء والأوصياء ونحن القاصرون ونحن الذين نعطي قيادنا للآخرين. قد تكون هناك قوّة كبيرة على مستوى العالم وقد تكون هناك قوّة على مستوى المنطقة، ولكنَّ الشعوب عندما تأخذ بأسباب القوّة، سوف تربك القوى الطاغية والظالمة بكلّ ما عندها من وسائل وبكلّ ما عندها من إمكانات. إنَّ القمّة العربية تعمل من أجل أن تجعل مصر عضواً جديداً في الجامعة العربية ومعنى ذلك أنّها تجعل جزءاً من "إسرائيل" عضواً في الجامعة العربية. وكلّ جامعة عربية وأنتم بخير.
والحمد لله ربّ العالمين
الإمام الصادق (عليه السلام) ومفهوم التشيّع(*)
الاستقامة في خطّ أهل البيت (عليهم السلام)
في الخامس والعشرين من شهر شوّال، نلتقي بذكرى وفاة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، الإمام السادس من أئمّة أهل البيت، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً. ونحن في علاقتنا بأهل البيت (عليهم السلام) ننطلق من علاقتنا العميقة بالإسلام، لأنَّ أهل البيت انطلقوا منذ أن انطلق جدّهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالرسالة، ليكونوا المخلصين للرسالة، الملتزمين بها، المجاهدين في سبيلها، العاملين على أساس إيضاحها للنّاس وإبعادها عن كلّ تحريف. ومن هنا فإنّنا عندما نتحرّك في كلّ حياتنا في تعاليمهم وفي وصاياهم وعندما ندخل إلى حياتهم، فإنَّنا نشعر بأنّنا نعيش مع الإسلام النقي ومع الإسلام الطاهر ومع الإسلام المجاهد ومع الإسلام الذي يأخذ القوّة من الله، ليكون القويَّ أمام التحدّيات وليكون الثابت أمام الاهتزازات، وليكون المتحدّي لكلّ الذين يطلقون التحدّي في وجهه. والإمام جعفر الصادق من أئمّة أهل البيت الذين فتحوا فكرهم للنّاس كافّة، وبهذا كانت مدرسته الممتدة في الحياة الإسلامية كلّها تمثّل المدرسة المنفتحة على النّاس كلّهم، فقد كان يستقبل الملاحدة والزنادقة والفرق الضالّة في المسجد الحرام عندما كان يذهب إلى الحجّ، وفي بيته عندما كان يستقبل طلاّب المعرفة، فكان يفتح لهم قلبه ليقولوا كلّ شيء، ويحدّثهم عن رأيه في كلّ ما يقولون من دون أن يتعقَّد منهم ومن دون أن يتشنَّج. حتّى لو كانت الكلمات التي يقولونها كلمات كبيرة وصعبة وقاسية وجافّة فإنّه كان يرى أنّ على صاحب الحقّ أن يسمح لكلّ إنسان يختلف معه بأن يقول كلّ رأيه وأن يمنحه حريّة أن يقول رأيه، ليردّ عليه وليناقشه من موقع الحريّة، لا من موقع القهر والضغط. ولهذا قال أحدهم وقد سئل عن الإمام جعفر الصادق، والناس مجتمعون آنذاك في موسم الحجّ، قال: لا أجد شخصاً يستحقّ اسم الإنسانية مثل الإمام جعفر الصادق، لأنّه كان يعيش إنسانيّته بكلّ رحابة صدر وبكلّ سعة الخلق وبكلّ حريّة الرأي ويمنحها حتّى للذين يختلفون معه في أساس العقيدة، لأنّه كان يريد للنّاس أن ينفتحوا على الله من خلال ذلك كلّه.
وقد امتد الإمام الصادق حتّى كان للمسلمين جميعاً؛ فقد تتلمذ عليه سنتين أبو حنيفة النعمان إمام المذهب الحنفي، وتتلمذ عليه مالك بن أنس إمام المذهب المالكي، ويُنْقَلُ عن أبي حنيفة قوله: "لولا السنتان لهلك النعمان"، لأنَّ السنتين اللّتين استفاد فيهما من الإمام جعفر (عليه السلام)، ركّزتا قواعد تفكيره وعلمه وفقاهته. وهكذا كان الإمام (عليه السلام) يوصي أصحابه بأن يكونوا المنفتحين على من حولهم، حتّى على الذين يختلفون معهم في المذهب، فكان لا يريد لهم أن يتعقَّدوا بل كان يريد لهم أن ينفتحوا، لأنَّ على الإنسان الذي يحمل في حياته التزاماً بخطّ أهل البيت، أن يكون داعية للإسلام على هذا الخطّ، من خلال أخلاقه ومن خلال طلاقة وجهه ومن خلال انفتاحه على النّاس كافّة.
كان من وصيّته لأحد أصحابه، وهذه الوصية ليست لأولئك ولكنّها لكم أيضاً، ولكلّ من يعيش في السّاحة الإسلامية عقلية الانغلاق على المسلمين الآخرين، بفعل ما تحاول المخابرات الدولية الاستكبارية أن تزرعه من الحقد بين المسلمين المختلفين في مذاهبهم أو في داخل المذهب الواحد، استمعوا إلى الإمام جعفر الصادق كيف يوصي كلّ مَن يطيعه منهم، ومنكم إذا كنتم تريدون أن تطيعوه، قال له:(1) "أقرئ مَن يطيعني منكم السلام، أوصيكم بتقوى الله" فمن لم يكن تقيّاً فليس شيعياً، و"الورع في دينكم"، فمن لم يكن ورعاً عن الحرام في دينكم فليس ممّن يعيش وصايا أهل البيت، "والاجتهاد لله"، اجتهدوا لله بأن تكونوا له بكلّ ما تملكون من طاقة، وبكلّ ما تملكون من قوّة، معنى الاجتهاد لله أن يكون جهدكم كلّه في ما تحملون من علم وقوّة ومن كلّ الإمكانات، أن يكون جهدكم لله؛ تبذلونه له ولا تبذلونه لغيره، "وصِدْقِ الحديث"، فالكذّابون لا مكان لهم في دائرة أهل البيت، لأنَّ أهل البيت هم الصادقون ولأنَّ رسول الله سيّد أهل البيت وسيّد العالم، كان الصادق، "وأداء الأمانة"، الخائنون لأماناتهم الذين لا يحفظون أماناتهم هؤلاء ليسوا من أهل البيت في شيء، "وطول السجود" أن تكون خاشعاً لله خاضعاً له منسحقاً في شخصيّته، لا كلمة لك أمام كلمة الله ولا رأي لك أمام ما يريده الله ولا شخصية لك أمام الله، عندما تقف في كلّ الساحات ويقال لك إنَّ الله يريد منك أن تفعل كذا وتفعل كذا، طأطئ رأسك لربّك، وعندما يريد الناس منك شيئاً لا يريده الله إرفع رأسك وصَلِّبْه وقل: أنا حرّ في أن لا أفعل ما تقولون، لكن أمام الله أنا العبد الفقير الذي لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً إلاّ بالله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ...} [الأحزاب : 36]. أقرب ما يكون العبد لربّه وهو ساجد، لأنَّ السجود يجسِّد معنى العبودية، يقال معنى الركوع أن تمدّ عنقك لربّك: يا ربّي إنّي خاضعٌ لك وهذا عنقي بين يديك حتّى لو ضربته وتسجد؛ يداك ساجدتان وجبهتك ساجدة وكلّ جسمك ساجد، لتقول له: يا ربّي سَجَدَ لك جسمي وسَجَدَ لك كلّ عقلي وتسجد لك كلّ مشاعري فأنا لا شيء أمامك، بك أصير شيئاً، بك صرتُ إنساناً، بكَ أصير قوياً، بكَ أصير حرّاً، أمامك أنا لا أُساوي شيئاً ولكن أمام الناس ـــ عندما أكون معك ـــ فإنّي أقف أمام أعظم شيء آخر. إنَّ أقرب ما يكون العبد لربّه وهو ساجد، وقد قالها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخَفِّفوا عنها بطولِ سجودكم"(1)، تعلَّموا طول السجود الذي تستنزفون به دموعكم بين يديّ الله وتنفتحون به لكلّ حاجاتهم ولكلّ مشاعركم أمام الله، "وحُسْن الجوار" كونوا الجيران الطيّبين لكلّ من جاوركم، تحمَّلوا الأذى منهم ولا تأذوهم وأحسنوا إليهم، ثمّ قال: "أدُّوا الأمانة إلى مَن ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً فإنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط"، لو استعرتم من أحدهم خيطاً وإبرة فإنّ رسول الله يقول أدّوها إلى صاحبها مهما كانت قليلة. "وصلوا عشائركم" ممّن تختلفون معهم في المذهب واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأَدّوا حقوقهم، فإنَّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحسَّن خلقه مع الناس وقيل هذا جعفري، يسرّني ذلك ويدخل على قلبي السرور، وقيل هذا أدب جعفر. وإذا كان غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره، أتحمل بلاءه وعاره. إذاً أن تكون مسلماً شيعياً وأن تكون جعفرياً فتلك مسؤولية. أنظر ما عليه أئمّة أهل البيت وافعله، حتّى يكون انتسابك إليهم يجعلهم يعتزّون بهذا الانتساب ولا يشعرون بالحرج من ذلك. لأنَّ التشيُّع ليس تعصُّباً، والتشيّع ليس سباباً، والتشيّع ليس طائفية، التشيّع هو خطّ الإسلام الذي انطلق أئمّة أهل البيت عليه في فهمهم للإسلام، لماذا قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي من أهل بيتي"(1)؟ لأنَّ أهل البيت لا ينفصلون عن كتاب الله. كلام الله هو الوحي لكلامهم، وشريعة الله هي الأساس لما يتحرَّكون به من أحكام. مفاهيم الإسلام هي مفاهيمهم، ليس لأهل البيت حساب خاص بعيد عن حساب الإسلام، ولهذا قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "جعل أهل بيتي في أُمّتي كسفينة نوح مَن رَكِبَها نجا ومَن رغب عنها غرق وهوى"(2)، لأنّ أهل البيت يريدون أن يخرجونا من طوفان الضلال والظلم ومن طوفان الكفر والانحراف، ولهذا إذا أردتم أن تنسبوا أنفسكم لأهل البيت، فانظروا ما هو التزامكم بالإسلام وانظروا ما هو عملكم في خطّ الإسلام، وانظروا ما هو انتماؤكم إلى الإسلام، لأنَّ عليّاً يفكّر بالإسلام ولا شيء عنده غير الإسلام.
لهذا كان الإمام الصادق يريد من أتباعه وشيعته أن يعيشوا في الأُفق الإسلامي الواسع وأن يلتقوا مع كلّ المسلمين، حتّى لو اختلفوا معهم في الرأي على أساس الإسلام. ليكون هذا الجوّ المنفتح هو السبيل لأن تدخلوا في حوارٍ معهم على أساس أنَّ هناك وضعاً طبيعياً. فبإمكانكم أن تتحدَّثوا معهم بحريّة ويتحدّثوا معكم بحريّة، لتصلوا إلى الحقّ من خلال ذلك الحوار.
هكذا كان يريد لشيعته، وهكذا سأل ذات يوم أحد أصحابه وقد جاء من سفر، قال له: كيف من عندكم؟ قال: الحمد لله. أُناس طيّبون خيّرون من الشيعة. قال: أسألك كيف صلة أغنيائهم لفقرائهم، هل يصل أغنياؤهم فقراءهم؟ قال: قليلاً. قال: كيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم، هل يزور الأغنياء الفقراء؟ قال: قليلاً. قال: كيف مساعدة أغنيائهم لفقرائهم في ما يحتاجون؟ قال: قليلاً. قال: كيف تقول إنّه عندنا شيعة؟ المجتمع الشيعي هو المجتمع المسلم الذي يصل فيه الأغنياء الفقراء ويساعدونهم ويزورونهم ولا يتكبَّرون عليهم، هذا المجتمع الذي كان أهل البيت (عليهم السلام)، يريدون لشيعتهم أن يلتزموا به وأن يصلوا إليه. قال الإمام جعفر (عليه السلام) لبعض الناس: "أيمدَّ أحدكم يده إلى جيب أخيه فيأخذ منها ما يشاء فيدعه؟ قال لا. فقال: كيف تقول إنّكم أخوة"؟ الأخ من يفعل ذلك من خلال التربية ومن خلال الإيمان ومن خلال أن يفتح كلّ واحدٍ قلبه للآخر وأن يشعر بأنّه يتوحَّد معه.
يمكن أن يكون هناك مجتمع مسلم. وعندما يطرح الإسلام في أصالته ونقاوته وطهارته فإنَّ الذين يدعون إلى الإسلام، ليكون الإسلام هو الدين الذي يشمل الحياة كلّها، فإنّما يريدون الوصول إلى مجتمع طاهر نقي يتعاون فيه الجميع. على هذا الأساس لا يريدون مجتمعاً يعيش العصبية ويترك العمل ويترك الخطّ. لا بدّ لنا أن نفكِّر بهذه الطريقة، عندما نتحدّث عن أهل البيت (عليهم السلام) وعندما نريد أن ننطلق لنمثّلهم ونجسّدهم. قال الإمام الصادق(1) لبعض أصحابه وكانوا حوله: "الحسن من كلّ أحد حسن ومنكم أحسن لأنّكم تنسبون إلينا والقبيح من كلّ أحد قبيح ومنكم أقبح لأنّكم تنسبون إلينا". النسبة إلى أهل البيت مسؤولية وليست مجرّد لافتة، لأنَّ اللافتة التي تضعها في أيّ موقع إذا لم تصدقها بالواقع الذي تحت اللافتة فإنَّ اللافتة تكون سوءاً عليك بدلاً من أن تكون شرفاً لك، معنى أن يضع أحدكم لافتة في بيته أو آية قرآنية أو يضع لافتة في الشارع ويكتب اسمه واسم حزبه أو اسم حركته أو أيّ شيء تحتها، معناه أنّه يقول أيُّها الناس، إنّي ألتزم أن تكون حياتي تجسيداً لهذه اللافتة. وإذا كانت لافتتك تتحدّث عن الحقّ وأنتَ تعيش الباطل، وإذا كانت لافتتك تتحدّث عن الإخلاص وأنتَ تعيش الزيف، فاللافتة تسبّك يومياً، لتقول لك. إنَّ الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 ـــ 3] واللافتة قول صامت، لأنّها بمثابة كلامك المنطوق. وكان الصادق (عليه السلام) يقول لأصحابه: "اتّقوا الله وكونوا إخوة بَرَرَة متحابّين في الله متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا"(1). وكان يقول لهم في ما يعظهم به: اجعلوا أمركم هذا لله، أنتم شيعة، أنتم مسلمون، اجعلوه لله، ولا تجعلوه للناس، فإنَّ مَن كان لله فهو لله، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله، أن تجعل كلّ شيء عندك لله. مَن يزرع الشرّ يحصد الشرّ.
ثمّ يوجّهنا للأوضاع الاجتماعية التي يحدث فيها النزاع والخلاف والقتال. إنَّ كلّ واحد منكم يحاول أن يتصدّق، تخرجون كلّ يوم في الصباح، تخرجون لتتصدَّقوا لأنَّ الصدقة تقرّبكم إلى الله.
هناك صدقة من نوعٍ آخر، صدقة يحبّها الله، ما هي؟ و"إصلاح بين الناس". إذا أردت أن تتصدَّق فانطلق، لتصلح ما فسد من علاقات الناس من حولك ولتقرّب ما تباعد فيه الناس من حولك فإنَّ ذلك صدقة يمكن لها أن تقرّبك إلى الله. ثمّ كان يقول: إيّاكم والخصومة والجدل والخلافات فإنّها تشغل القلب عن الله وتورث النفاق، ومَن زرع العداوة حصد ما بذر، إذا كنت تزرع الحقد والعداوة والبغضاء، لتربّي من حولك وتربّي نفسك على ذلك، فإنّك ستحصد عداوة من الناس ضدّك. ومن لم يملك غضبه لم يملك عقله، عندما تريد أن تملك عقلك برِّد غضبك ولا تجعل تصرُّفاتك تتحرّك مع خطّ غضبك أو مع نار غضبك. هذه مبادئ أهل البيت، وهي مبادئ الإسلام. أهل البيت أتوا بها من خلال القرآن، كان يقول: أمّا أنّه ما ظفر أحد بخير من ظفر بالظلم. الظلم أن تتّهم أحداً بغير الحقّ، تضربه، تشتمه، تصادر ماله، وما إلى ذلك من الأمور. ثمّ بعد ذلك ترى أنّ هذا الذي خسر المال قد أعطاه الله من حسناتك، وأعطاك من سيّئاته ما يجعله يدخل الجنّة. أخذت منه مالاً ودخل بسبب ذلك الجنّة، ودخلت أنتَ النار، فأيّكما الرابح؟ أمّا أنّه من يفعل الشرّ بالناس فلا ينكر الشرَّ إذا فُعل به. أنتَ تضرب وتسجن وتقتل وتسرق وتعمل ما تعمل، ولكن ستدور الأيام، وسيفعل بك الآخرون ما فعلتَ بهم، وتبدأ بالتحدّث عن القانون وعن الإسلام وعن الدين. إنَّ مَن يزرع الريح فلا بدّ أن يحصد العاصفة، وإنَّ مَن يزرع الشرّ فإنّه يحصر الشرّ؛ فلنكن من زرّاع الخير، لنحصد الخير ولو بعد حين ولنكن من زرّاع المحبّة، لنحصد المحبّة ولو بعد حين. مَن أعان ظالماً على مظلوم، بكلامه أو سكوته أو بتقديمه التسهيلات له، وسار معه في خطّ الظلم، فكيف يكون موقف الله منه؟ الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: "مَن أعان ظالِماً على مظلوم لم يزل الله عليه ساخطاً حتّى ينزع عن معونته"(1) يعني أنتَ حين تعاوِن الظالم، فإنَّ صلاتك لا تقرّبك إلى الله، وصومك وحجّك لا قيمة لهما في مثل هذه الحالة، فانظروا مواقفكم. هناك ظلمة صغار وهناك ظلمة كبار. قد يكون المظلوم امرأة عند زوج ظالم، أو ولداً عند أبٍ ظالم، أو أباً عند ابن ظالم، أو مجتمعاً عند حاكم ظالم، أو ما إلى ذلك ممّا يختلف فيه الظالمون والمظلومون، "مَن عَذَرَ ظالِماً بظلمه سلَّط الله عليه مَن يظلمه"(2)، وهذا أخطر، أنتَ قاعد، لا تحمل سلاحاً وليس عندك سجن، ولا عندك قوّة، جالس في بيتك تقرأ صحيفة وتسمع إذاعة وتسهر، جاء في الصحيفة أنَّ فلاناً قَتَلَ فلاناً. كلام سمعت به من الإذاعة أو الجريدة، تعذر القويّ في ظلمه للضعيف أيّاً كان، وتعذر من كان ينتمي إلى حزبك أو حركتك أو طائفتك أو عشيرتك. إنّك حين تعذر الظالم فسيقوى، وعندما يقوى الظلم سيصل إلى بيتك، مَن عَذَرَ ظالماً بظلمه سلَّط الله عليه مَن يظلمه فإنْ دعا يستجاب له. ثمّ يحمِّل الأُمّة مسؤولية الضعيف الذي يضطهد من قِبَل القويّ سواء كان الضعيف شخصاً أو جماعة، أو كان القويّ شخصاً أو حكومة أو جهة. لا قداسة ولا احترام لِأُمّة لم يؤخذ لضعيفها من قويّها بحقّه. الأُمّة المقدّسة، الأُمّة المحترمة، الأُمّة التي يرضى عنها الله، هي الأُمّة التي يؤخذ فيها من القوي حقّ الضعيف. وهذا ما قاله إمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام)، "الذليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقّ له والقويّ عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه"(1).
المؤمن أعزّ من الجبل
وكان يدعو المؤمنين جميعاً إلى أن يكونوا الأعزّاء، لا تكن ذليلاً، كن العزيز في مواقعك، كن أصلب من الجبل في موقفك، واستمع إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) كيف يحدّثك عن مسألة العزّة، "إنَّ الله فوَّض إلى المؤمن أمره كلّه ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً"(2)، أَلَمْ تسمع الله يقول: {... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...} [المنافقون : 8]، فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، إنَّ المؤمن أعزّ من الجبل، في ثباته وفي صبره وفي قوّته. إنَّ الجبل يستقل منه بالمعاول، والمؤمن لا يستقل من دينه شيئاً، مهما كسّرت المؤمن فإنّ دينه لا يكسر، مهما اضطهدته فإنَّ دينه لا يسقط، يظلّ المؤمن قويّاً بدينه، قوياً بموقفه، قوياً بقضاياه، قوياً بكلّ تطلُّعاته وبكلّ أهدافه، لأنّه يستمدّ القوّة من الله فلا يخاف من أحد، لأنّه يعبد الله ولا يعبد الشيطان، {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران : 175]، هذا هو الخطّ.
وهذا ما يريده الله للمؤمنين، وهذا ما نريد أن نحرِّكه، عندما نريد للنّاس أن يصيروا مؤمنين، لا بالكلمة، ولكن أن يكونوا مؤمنين بالخطّ. والإيمان ليس شيئاً معلَّقاً في الهواء. الإيمان هو كلمة وعقيدة وخطّ نتحرّك به في الحياة. أن تؤمن بالله هو أن تسلم أمرك لله. أن تؤمن بالله هو أن تجعل حياتك خاضعة لأحكام الله. وهذا ما أراده الإمام الصادق (عليه السلام)، الذي يقول: "ليت السّياط على رؤوس أصحابي حتّى يتفقَّهوا في الحلال والحرام". لأنّك إذا تفقَّهت في الدين عرفت طريقك، ولا يستطيع أحد أن يضلّك، أمّا إذا كنتَ جاهلاً فمن السهل أن ينطلق بعض الناس، ليغيِّروا كلام الله وليحرِّفوه عن مواضعه؛ لهذا أن تتفقَّه في دينك، أن تعرف ما يربطك بالله وأن تعرف ما يخرجك عن دينك، هذا هو طريق السلام وهذا هو طريق الاستقامة وهذا هو الطريق الذي يؤدّي بك إلى الجنّة. أن تعرف من أيّ نقطة تبدأ وفي أيّ خطّ تسير وإلى أين تصل؛ هذه هي المسألة، لأنَّ الحياة كلّها مستمرة. رسول الله مات والأنبياء ماتوا والأئمّة ماتوا والعلماء يموتون بعدهم، فكيف نقابل ربّنا غداً {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء : 88 ـــ 89]، لهذا نريد أن نؤكّد الإسلام كلّه؛ لا نريد نصف إسلام، بل نريد الإسلام كلّه.
لا نريد أيّة صفة غير صفة الإسلام {... مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ...} [الحج : 78]. لهذا فإنَّ الخطّ الإسلامي الحاسم هو الذي لا يدع حكماً شرعياً إلاّ ويدعو له، ولا يدع مفهوماً إسلامياً إلاّ ويؤكّده، ولا ينطلق في أيّ موقع إلاّ على أساس الإسلام.
كيف نكون في خطّ عليّ (عليه السلام)؟
الإسلام الذي كان أيام العثمانيين والإسلام الذي كان في عهد المستعمرين، كان إسلاماً مؤدّباً مهذَّباً طيِّعاً معتدلاً حتّى الانسحاق. الحديث الذي كان يتحدّث به المسلمون بعضهم إلى بعض هو: اصبروا ولا تقفوا أمام القوى الظالمة، وكونوا الأذلاّء. كان الناس يعيشون على أساس أنّ الدين لا دخل له بالسياسة، ما لنا وللدخول بين السلاطين، كلّما ابتعد الإنسان عن سياسة الناس أكثر، كان زاهداً مؤمناً منيباً إلى الله أكثر. ولو جاء عليّ (عليه السلام) في أيام هؤلاء وفي منطق هؤلاء، لقالوا هذا رجل يتدخّل بالسياسة، وهذا رجل يخوض الحروب، وهذا شخص يتحرّك على أساس التطرُّف..، عليّ (عليه السلام) كان حاسماً في الإسلام والحسم عندهم تطرّف؛ وعليّ (عليه السلام) كان الحاسم في مواجهة البغي وذلك عندهم تطرّف أو إرهاب؛ وعليّ (عليه السلام) كان في الوقت نفسه يدير المسألة السياسية. في ما هي سياسة الناس أيضاً. كانوا يقولون عنه أنّه سياسي، ولو جاء الحسين (عليه السلام) وقال: أنا أريد الإصلاح في أُمّة جدّي، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر؛ فكم من الناس الذين يلهجون باسمه الآن ويتبعون عند يزيد المناصب والعلاقات السياسية ولم يكن مع الحسين إلاّ أن يقول: أيّها الناس تعالوا إلى الله ورسوله. فمن يأخذ بكلامه من الناس؟ لو كان الحسين موجوداً، لكان الحديث أنّ الحسين لا شعبية له، وأنّ يزيد هو الذي يملك الشعبية؛ ولو كان عليّ موجوداً، كان الحديث أنّه لا يملك الجماهير ومعاوية هو الذي يملك الجماهير، لأنَّ معاوية هو الذي يتّقن فن السياسة الكاذبة وعليّ (عليه السلام) كان يريد السياسة الصادقة. فكِّروا لأنّكم تنتظرون صاحب الزمان، ولو جاء صاحب الزمان فإنّه سيأخذ الناس بموقف عليّ (عليه السلام) الذي هو موقف الإسلام، فدبِّروا أموركم. الذي تعوَّد على أسلوب معاوية، لا يتحمّل أسلوب عليّ (عليه السلام)، وعند ذلك سوف يقف بكلّ الوسائل التي يملكها ضدّ عليّ (عليه السلام).
لا تفكّروا بهذه الأمور التي أطرحها عليكم بالطريقة السياسية اللبنانية المبنية على "الحرتقات" و"النكرزات"، افهموها بالطريقة الإسلامية التي تجعلكم تحدّقون بواقعكم جيّداً وتحدّقون بالإسلام جيّداً، لتعرفوا هل ينطبق الواقع على الإسلام أم لا ينطبق عليه؟ لأنّكم قد يغشّ بعضكم بعضاً، ولكن ماذا تفعلون إذا وقفتم في يوم لا يملك فيه الإنسان لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، يوم تأتي كلّ نفسٍ تجادل عن نفسها؛ قد يكون البعض مجادلاً جيداً، والناس يأتون إليه ويتكلّمون معه ويسكتهم بالنكتة والسخرية أو بأيّ طريقة، ولكن هل تستطيع أن تجادل عن نفسك بين يديّ الله؟ إذا لم تكن صادقاً مع نفسك في ما تتكلَّم به وإذا لم ترَ الحقيقة، في أعماقك في ما تتكلَّم به، فإنّك سوف تقف أمام الله {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق : 9]، ولا يبقى هناك سرّ عند عالِم السرّ، هكذا نفكّر والموت قريب. إمامنا السجّاد (عليه السلام) يقول: "أدعوك دعاء مَن ضعفت وسيلته وانقطعت حيلته واقترب أجله وتدانى في الدنيا أمله واشتدّت إلى رحمتك فاقته وعظُمَت لتفريطه حسرته وكثرت ذلّته وعسرته"، والمهمّ الأخير "وخلُصَت لوجهك توبته"(1). عندما تقف مع الله فكلّ كلام البهلوانيّات والعنتريّات والأدوار، كلّ هذا يذهب عندما تنزل إلى قبرك وتقف بين يديّ ربّك. أقول لنفسي وأقول لكم من خلال مسؤوليتي الشرعية، ليفكّر كلّ واحدٍ منّا كيف سيقف بين يديّ ربّه؟ وعلى هذا الأساس كلّنا يجب أن نكون مسلمين مئة في المئة، ونحاول أن نكون مسلمين، نطلب الإسلام كلّه ونطرح الإسلام كلّه، وننفتح على الناس من خلال الإسلام، ونقول لهم أيُّها الناس، الإسلام ليس وحشاً تخافون منه، ولكنّه دين يفتح لكم كلّ قلبه ويتعاون معكم في كلّ ما يمكن أن يلتقي فيه معكم في كلّ أمور الحياة. بعض الناس الذين تولَّعوا بالشهوات لا يحبّون الإسلام، الإسلام هو وحده طريق خلاصكم، لا تأخذوا رسول الله في حساباتكم كشخص تحبّونه، بل خذوه كرسول تتبعونه، لأنَّ علاقتنا برسول الله هي علاقة برسالته وليست علاقة بشخصيّته.. ليس من الضروري أن تزوروه في قبره ولكن زوروه في رسالته فقفوا كلّ مواقف الرسالة لتقولوا أمام كلّ حكم شرعي: السلام عليكَ يا رسول الله، الذي بلّغتنا هذا الحكم ودعوتنا إلى هذا المفهوم ودعوتنا إلى هذا الموقف وبلّغتنا هذه الآية. زوروه في مواقع رسالته، فإنَّ ذلك أحبّ إليه من أن تزوروه في قبره. لأنّك إذا زرته في قبره وابتعدت عن مفاهيم رسالته فإنّك لم تزره أبداً.
الإسلام خطر على الاستكبار
الإسلام يمثّل الخطر على الكفر كلّه وعلى الظلم كلّه وعلى الاستكبار كلّه وعلى الانحراف كلّه. قالوا جاء الخطر، اعتبروه خطراً واعتبروه يخرِّب المعادلات ويخرّب الأوضاع وأعطوه اسم "الإسلام الأصولي"، يعني الإسلام يريد أن يرجع إلى الأصول، كأنَّ هناك إسلامياً يترك الأصول، كيف يمكن أن تتركوا أصول الدين، وتتركوا التوحيد والنبوّة والمعاد، وتتركوا هذه العقائد، ماذا تعني الأصول؟ الإسلام له أصول وفروع وإلاّ لا يكون إسلاماً. رفع شعار الإسلام الأصولي مِن قِبَل الاستكبار هو شعار تهويلي، لكي يوحوا بأنَّ هناك إسلاماً معتدلاً وإسلاماً متطرِّفاً. إسلام معتدل يقول لا مانع من أن تأخذ بالشهوات، لا مانع أن تخون ربّك وتخون أُمّتك لأنّه "ليوم ربّك يهوّنها ربّك" هناك كثير من الناس يقولون هذا "ليوم الله يهوِّن الله".
رئيس طائفي لنظام طائفي
ولهذا فإنَّ رئيس النظام الطائفي اللبناني ـــ وليس لبنان، لأنّنا لا نعترف برئاسة جاءت بها الدبّابات الإسرائيلية ـــ يقف ليتحدّث أمام هؤلاء الخائفين المذعورين من الإسلام، الذي اقتحم عليه عروشهم واقتحم عليهم مواقعهم، جاء ليستغلّ غرائزهم ماذا هناك؟ إنَّ التيّار الإسلامي الأصولي أربك الواقع وجاء إلى الجنوب وجعل هناك مشكلة كبيرة وخطراً. رئيس النظام يقول، إذا نجح الإسلام الأصولي فمعنى ذلك يا عرب أنّكم ستفقدون مواقعكم، فتعجَّلوا حتى تضربوه في الداخل، ويتحدّث عن الغرباء الأصوليين ويقصد الإيرانيين، لا بدّ من إخراجهم من لبنان، هذا كلامه. لكنّنا نقول له: "مَن كان بيته من زجاج لا يرم الناس بالحجارة".. إنَّ الإسلاميين الأصوليين لم يحرِّكوا الفتنة في عين الرمّانة سنة 1975 ولم يحرقوا البلد بالنار. إنَّ الإسلاميين الأصوليين لم يلعبوا على أكثر من حبل كما لعبتم، يوماً تكونون أصدقاء لسوريا ويوماً تعتبرون سوريا عدوّة لكم. أنتم في الموقف الذي يلعب على الحبال. من جاء بــ "إسرائيل" حتّى ركّزت قواعدها في لبنان، واحتلت لبنان ونصَّبتكم لكي تثأروا من المسلمين فكنتم أداة لــ "إسرائيل"؟ من أنت وأبوك وأخوك وكلّ الفريق الذي تعمل به؟ أنتَ الذي تتكلَّم عن الخطر على الجنوب، مَن جاء بالخطر إلى الجنوب وجعله منطقة تمثّلها "إسرائيل"؟ مَن غيرك وغير أبيك وغير أخيك(1)؟
الأصوليّون هم الخطر؟ ماذا فعل الأصوليون، ونحن لا نشجّع هذه التسمية، نحن مسلمون، مسلمون فقط، ماذا صنعوا؟ قاتلوا "إسرائيل" التي ركَّزت احتلالها في لبنان. ماذا فعلتم بعد ذلك؟ مَن أعطى جيش حدّاد ولحد(2) الشرعية، ومَن يمدّه بالقوّة؟ أنتَ القائد الأعلى للجيش ورواتب الجيش تذهب بشكلٍ منتظم إلى هؤلاء.. هل المسلمون الأصوليون هم الذين يقاتلون الآن أهلهم ويهيّئون "لإسرائيل" تركيز احتلالها؟ هل الأصوليون أم فريقك الطائفي، الذي قد تتحدّث رسمياً عن رفضه بالعلن، ولكنّك تدعمه بكلّ القوّة الممكنة؟ "إذا لم تستحِ فافعل ما شئت"، أو تكلَّم بما شئت. الغرباء لا بدّ أن يخرجوا، لم تقل لا بدّ أن نخرج كلّ الغرباء من لبنان، لبنان هو البلد الذي تجتذبون إليه كلّ الغرباء ليتدخَّلوا بأموره إلاّ إذا كان الغرباء مسلمين؛ لا تتحدّثون عن الغرباء الأميركيين بل تقولون لهم تعالوا تولّوا أمرنا، لا تتحدّثون عن الغرباء الأوروبيين، بل تقولون لهم تعالوا وتولّوا أمرنا، لم تتحدّثوا عن أيّ غرباء من هنا وهناك إلاّ الغرباء الذين يتحدّثون عن الحرية بصدق، لأنّكم جمعتم كلّ الغرباء في لبنان، ليؤكّدوا استعدادكم لاستعباد الإنسان في لبنان، أمّا الذين يريدون الحريّة للإنسان في لبنان ويريدون للبنان أن لا يكون مقرّاً للاستعمار ولا ممرّاً، فهؤلاء الغرباء، صحيح غرباء، غرباء عن عقليّتكم، وغرباء عن طائفيّتكم، وغرباء عن كلّ الظلم الذي زرعتموه في لبنان من أجل أن تبقى لكم العروش الطائفية. لن نردّ عليك طويلاً، ولكنّنا سنقف ضدّ كلّ هذا النهج من موقعنا الإسلامي الذي ينفتح على المسيحيين وعلى كلّ الناس وليس بمنطق طائفي ولا من موقع طائفي.
إنَّ المسلمين المجاهدين لا يطلبون إذناً منك ولا من نظامك ولا من أحد، إنَّ الذين يريدون أن يعملوا بحريّة في ساحة الحريّة لا يطلبون إذناً من أحد، إنَّ الحريّة تؤخذ ولا تُعطى.
العمل على تطويق الانتفاضة
وهكذا جاءت القمّة "المباركة" لتتحدّث عن دعم الانتفاضة، كيف يفكّرون في دعم الانتفاضة، لم يتحدّثوا عن طروحاتهم، سيعطونها بضعة ملايين من الدولارات، والمهمّ أن تدفع باسمهم، لكنّهم يعملون على أن تتحوّل الانتفاضة إلى ورقة في ساحة المفاوضات، وإذا أردنا أن نعرف كيف يعملون فعلينا أن نعرف طبيعة السياسة العربية.
إنَّ طبيعة السياسة العربية الغالبة لدى كثير من هؤلاء الملوك والرؤساء، هي طبيعة السير في الخطّ الأميركي لحلّ المسألة الفلسطينية، هذا الخطّ الذي يلتقي مع الخطّ الإسرائيلي. والمشكلة الآن، إنّما هي، كما قلنا مراراً، ليست مشكلة الحلّ وإنّما مشكلة الحفاظ على ماء الوجه. إنَّ الانتفاضة استطاعت أن تربك هؤلاء وتحرجهم، لأنّها عطَّلت كثيراً من خططهم وأحرجتهم أمام شعوبهم، ولهذا فإنَّ العمل هو على تطويق الانتفاضة وليس العمل على دفعها وتزخيمها. إنَّ الذين لا يفكِّرون في حرب اليهود في فلسطين لا يمكن أن يساعدوا الذين يحاربون اليهود، لأنَّ أولئك سيتحوّلون عندهم إلى إرهابيين وإلى متطرّفين وما إلى ذلك من الكلمات. إنَّ الذين حضروا القمّة، تذكَّروا الحجّ ويمكن أن يعمل بعضهم على أن يحجّ فماذا عندهم؟ إنّهم يرفضون الشغب أو التطرّف وما إلى ذلك، الذي قامت به إيران في ساحات مكّة، ماذا فعل الإيرانيون؟ طرحوا البراءة من المشركين وطرحوا الموت لأميركا وطرحوا الموت "لإسرائيل" وطرحوا الموت للظالمين. والعرب لا يعجبهم ذلك، لأنّهم يعيشون على موائد أميركا بعد أن يملؤوا موائدها بكلّ أموالهم، ولأنّ "إسرائيل" تعمل على أن يكونوا متّحدين معها. بعض الذين لم يحضروا القمّة كانوا حاضرين في وعي المشاركين فيها وهم لا يوافقون على شعار الموت للظالمين.. ارجعوا إلى شعوبهم، لتعرفوا أيّة شعوب مظلومة يحكم هؤلاء.
هل صحيح أنّ إيران أربكت الحجّ؟ هل صحيح أنّ إيران قامت بشغب؟ هل صحيح أنّ إيران أساءت إلى قداسة الحجّ؟ كلّ الحجَّاج الذين كانوا هناك يعرفون أنّهم كانوا في غاية الانضباط، وأنّهم كانوا يريدون أن يعطوا الوعي لكلّ المسلمين هناك. أنَّ الحجّ بداية وليس نهاية، أنّك حين تحجّ إلى الله فعليك أن تفكّر بكلّ أعداء الله لتواجههم بهذه الطريقة، وبغير هذه الطريقة في المستقبل، ولكن هم يشعرون أنّ هذا النهج في توعية المسلمين في الحجّ سوف يزحف إلى بلدانهم، وسوف يحبط كثيراً من مخطَّطاتهم.
إنَّ المسألة عندهم الآن هي إيران، وليست "إسرائيل". يسوّقون في الساحة السياسية أنّ المعركة مع إيران وليست مع "إسرائيل" أو مع أيّة جهة أخرى. المسألة تتحرّك في هذا الاتجاه، ولذا فإنَّنا لا نأمل الكثير من هذه القمّة، ولا نزال نرقب القمّة التي عقدت في موسكو ونشعر بأنّ هناك شيئاً يخطّط، وأنَّ هناك شيئاً يركّز على تحريك بعض الأوضاع السياسية، ولكن لا بدّ لنا من الرصد، حتّى نعرف ما هناك، ولا بدّ لنا من الحذر حتّى نحترس ممّا هناك.
ثمّ لا بدّ لنا من أن نفهم أنّ المسألة في لبنان لا تزال تراوح مكانها، ولا تزال القضايا لا تحمل جديداً، ولا تحمل أيّ حلّ، بل كلّ ما عند الجميع هو أن تحصل انتخابات رئاسة الجمهورية، وقضية الإصلاح وكلّ القضايا تنتظر الرئيس الجديد، بعد ذلك كلّ ما يتحدّثون به من عناوين إصلاحية أو ما إلى ذلك، الظاهر، والله العالم، أنّ هذا ليس وقته.
الحرب العبثيّة
وفي الختام، أحبّ أن أُثير بعض الحديث عن الواقع الدامي، الذي خلق شرخاً عميقاً في النفوس... هذه الحرب العبثية المجنونة، هذه الحرب الفتنة التي تعاونت كلّ أجهزة المخابرات الموجودة في البلاد وخارجها على إذكائها، يجب العمل على تطويقها وعلى محاصرتها. وعلى كلّ الذين يسعون لوأد هذه الفتنة، أن يعوا أنّ هناك نقطتين تجب إثارتهما، الأولى أنّ أجهزة المخابرات الإعلامية والسياسية بدأت تطرح شيئاً لم يكن مطروحاً قبل حرب الضاحية، وهذا التساؤل الإعلامي والسياسي عن موعد بدء حرب الضاحية، وهذا ما نبَّهنا إليه في السابق، وكنّا نقول للناس إنّ هذا خطّ أحمر، وقالت المخابرات ومن يسير معها إنَّنا سنقلب الخطّ الأحمر خطاّ أخضر، وهيّئوا الجوّ النفسي للنّاس فتحوَّل الأمر من مشكل صغير إلى حرب كبيرة، لأنَّ الجوّ النفسي الذي تعاونت كلّ الأجهزة من إعلامية وسياسية وأمنية على أن تثيره، جعل الناس يخاف بعضهم بعضاً وتحرّك الخوف هنا والخوف هناك ممّا هيّأ الأرض للانفجار وهذا ما حدث.
أمّا الآن فقد بدأت الصحف تكتب، وبدأت أجهزة المخابرات تشيع بين الناس، وقد بدأ الحديث بين السياسيين أنّ هناك معركة في الجنوب، أنّ هناك خطّة للهجوم على الغازيّة وعلى شرق صيدا، وأنّ على هذا الفريق أن يستعد وعلى ذاك الفريق أن يستعد؛ وبدأ الناس يوضعون في هذا الجوّ، حتّى يثيروا المشاعر وحتّى يخلقوا حالة خوف وحالة خوف مضادّ، ويقولون لبعض الناس أطلقوا الشرارة ليكون الحريق. هُيِّئ لحرب الضاحية إعلامياً ويراد أن يُهيَّأ لحرب الجنوب إعلامياً وسياسياً وأمنياً. إنَّنا معنيون بملاحقة هذه المسألة، ولهذا فإنَّني أستطيع، من موقع المسؤولية الشرعية ومن موقع دراسة خفايا كلّ هذا الواقع في هذا المجال، أن أقول: ليس هناك لأيّ فريق في السّاحة الإسلامية أيّة خطّة لأيّ حرب ولأيّ احتلال لا للغازية ولا لشرق صيدا ولا لأي مكان، هذا كلام لا واقع له، وكلّ مَن يثيره بطريقة أو بأخرى هو عميل لأحد أجهزة المخابرات التي تسوّق هذا الأمر. إنَّ المسألة تتحرّك على أساس أن تثير الجوّ الانفعالي، بعدما بدأ الناس بتبريد هذا الانفعال، ولهذا لا تصدِّقوا آذانكم، ضعوا عقولكم في رؤوسكم لا في آذانكم، إنَّ هناك طبخة مخابراتية إعلامية وأمنية وسياسية تريد أن تثير الجوّ، وعلينا أن نحصِّن أنفسنا جيداً في الوعي الكامل الذي نتحرّك فيه.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، إنَّنا عشنا جميعاً كلّ الآلام التي واجهتنا من خلال هذه الفتنة، ولعلّي من أكثر الناس معرفة بخفايا هذه الفتنة، لأنّني عشت في قلب المحرقة، لم أترك المنطقة لحظة ولم أترك الإطلال على حركة الواقع السياسي الإقليمي والدولي والمحلّي لحظة، كنتُ أدرس المسألة تماماً، ولكن ليس الوقت هو وقت بيان الأشياء العميقة، ليتحدّث الإعلام ما يتحدّث عنّي أو عن أيّ إنسان، لأنَّنا لسنا في موقع أن نحقِّق في الأمور، وسيأتي التاريخ القريب بعد زوال كلّ هذه الأجواء الاستهلاكية والاستعراضية، ليعرف الناس كيف حدث ما حدث، الوقت هو وقت وقف النزف ولملمة الجراح وإرجاع العقل إلى مكانه.
دعوة للتعقُّل ووأد الفتنة
إنَّنا ندعو كلّ القيادات، من روحية ومن سياسية، أن تلتقي في ما بينها، لتبحث المسألة بحثاً عميقاً من أجل إيجاد مصالحة واقعية لا مصالحة عشائرية، تدرس العلاقات دراسة جديّة عمليّة فتفوّت على الذين يلعبون لعبة الدم أن يلعبوا اللّعبة مرةً أخرى. إنّنا نريد أن نقول لكلّ القيادات، لن يستطيع أيّ واحدٍ منكم أن يحلّ المسألة وحده، ولكنّ التكامل بينكم هو الذي يمكن أن يحلّ المشكلة، حتّى يضغط الجميع على الجميع، وحتّى يتعرّف الجميع على ما عند الجميع. إنَّ مسألة أن يكون هذا الفريق الواحد الأحد ويكون ذاك الفريق الواحد الأحد، تجعل المشكلة تسير بدون ضوابط وسنكون جميعاً تحت رحمة أجهزة المخابرات، وسنكون جميعاً تحت رحمة جميع الذين يقامرون بمستقبل هذه الطائفة أو بمستقبل المسلمين أو بمستقبل لبنان.
إنَّنا نقول لا بدّ من لقاء كلّ القيادات، وقد دعونا سابقاً إلى لقاء هذه القيادات، وقد اجتمعت بعض القيادات تحت مظلّة الجمهورية الإسلامية، عندما جاء الوفد الإسلامي الممثّل للإمام الخميني (حفظه الله) بعد أحداث الجنوب، ونحن ندعو، ونقول لكم، للشعب كلّه، الذي يدفع الثمن هو ولا تدفعه القيادات، إنّني أقول للجميع: اضغطوا على الجميع وإنّني أُعلِن لكم أنّي إذا كان عندي نوع من موقع قيادي ولو صغير ـــ ولا أدَّعي ذلك لنفسي ـــ إنّي مستعد للّقاء مع أيٍّ كان، وإنّي مستعد لأن أعمل على أساس أن يتكامل الوضع كلّه. لا حريّة لأحد في أن ينعزل عن الساحة وهي تحترق أو وهي مؤهّلة للاحتراق. ليتحمّل الجميع مسؤوليّاتهم. إنَّ البحث في القضايا التي تثار الآن هو بحث لا يسير إلى طريق مفتوح، إذا كان بعض الناس يناقش مسألة المجلس الشيعي وبعض الناس يؤيّده، فليست هذه مشكلتنا الآن، مشكلتنا أن نمنع النار من أن تندلع من جديد، ومشكلتنا أن نطفئ كلّ نتائج الحريق الذي عشناه وبعد ذلك يمكن لنا أن نتحدّث عن كلّ شيء لا بالطريقة الإعلامية ولا بالطريقة الانفعالية، يمكن أن يجتمع الجميع ليتحدّثوا عن المجلس الشيعي وعن غير المجلس الشيعي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
الموقف المبدئي بين الصدق والكذب(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد وهو يحدّثنا عن الذين ينالون رحمته ويقربون إلى رضوانه ويعيشون في جنّته، في مقابل أولئك الذين يبتعدون عن رحمته ويعيشون في عذابه وعقابه، يحدّثنا عن الصادقين الذين يجيؤون بالصدق عندما يريدون أن يتحرَّكوا في حياة الناس ليمارسوا مسؤولياتهم كما يحدّثنا عن الكاذبين الذين يكذبون على الله ويكذبون على أنفسهم ويتّخذون الموقف الذي يبعدهم عن الله، ليكون الصادق هو الذي يتّصل بالله من موقع الصدق لأنَّ الصدق هو الحقّ والله هو الحقّ ويكون الكاذب من ليس له علاقة بالله، كما لا علاقة بين الحقّ والباطل لأنَّ الكذب باطل، قال الله وهو يتحدّث مع عيسى بن مريم (عليهما السلام) {... أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ...} [المائدة : 116] فأجابه عيسى بما أجابه وخَتَم الله الحديث مع عيسى. والله عندما يحدّث نبيّاً من أنبيائه لا يحدّثه بشخصه ولكنّه يحدّث الناس كلّهم، قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة : 119] أن يرضى الله عنك وأن ترضى عن الله هي القضية، أن تصدق الله في كلّ حياتك كما صدقك الله في كلّ أمورك.
الصدق والكذب في ميزان الدين
وهكذا يحدّثنا الله عن النموذجين {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ*وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ*لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ*لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 32 ـــ 35] وهكذا يحدّثنا الله عن الذين يفترون الكذب {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل : 105] وهكذا يقول الله سبحانه وتعالى عن الذين يكذبون عليه {... وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران : 78] هذه الآيات تريد أن تؤكّد للإنسان المؤمن شخصيّته على أساس عمق المعنى الذي يتمثّل في أخلاقيّته؛ ما هو خلقك؟ مَن أنت في حركة الصدق والكذب في الحياة؟ فإذا كنتَ صادقاً فأنتَ المؤمن، وإذا كنتَ كاذباً فلست بالمؤمن. سئل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عن حالات الانحراف التي قد يضعف المؤمن فيها أمام نقاط الضعف في داخل شخصيّته من خلال ما يحيط به من تهاويل وأوضاع، أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم، ربّما يعيش المؤمن في لحظات الضعف حالة البخل، أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم، ربّما يعيش المؤمن حالة الجبن أمام نوازع الخوف، قد يضعف، قالوا: هل يكون المؤمن كذّاباً؟ قال: لا... أن تكون كذّاباً وأن تكون مؤمناً لا يلتقيان، فمعنى ذلك أنّك إذا أخذت بالكذب في حياتك واتّخذت الكذب طابعاً لحياتك وتحرّكت في الحياة على أساس أن تكذب، فمعنى ذلك أنّ إيمانك يهرب منك في اللحظة التي تلتقي فيها بالكذب، وعندها لن تكون المؤمن. صلِّ ما شئت، وصُمْ ما شئت أيُّها الكذّاب، وحُجّ ما شئت واعمل ما تريد، ولكن كنْ الكاذب في حديثك والكاذب في وعدك والكاذب في عهدك والكاذب في موقفك؛ فلستَ بمؤمن، لماذا؟ لأنَّ معنى الإيمان هو أن ترتبط بالحقّ، ومعنى الكذب أن ترتبط بالباطل، ولا يجتمع في قلب شخص مؤمن وفي حياة شخص مؤمن أن يرتبط بالحقّ وأن يرتبط بالباطل في آنٍ معاً، لهذا فكِّروا في المسألة تفكيراً دقيقاً لأنَّ القضية تتّصل بعمق الإيمان ولا تتّصل بالحالات الطارئة للانحراف العملي في الحياة، لن يكون المؤمن كذّاباً، فإذا عاش الكذب في حياته هرب الإيمان من شخصيّته. وهكذا نمتد أكثر لنلتقي بالصفة التي يوصف بها الكذّاب في الإسلام، ويوصف بها الصادق في الإسلام؛ الصدق أمانة والكذب خيانة، أيُّها الكاذب إنّك خائن، أيُّها الصادق إنَّك الأمين، لأنّك عندما تعيش في المجتمع وعندما تعيش مع الله ومع نفسك، فالحقيقة أمانة الله عندك والحقيقة أمانة الناس عندك والحقيقة أمانة الإيمان عندك، عليك أن تحوطها بما تحوط به نفسك وأهلك وأولادك.
الكذب خيانة للأُمّة
الحقيقة تدخل في وعي الناس للفكرة، ووعي الناس للحادثة، ووعي الناس للموقف، الحقيقة تربط الناس بطبيعة الأشياء التي يرتبطون بها ويتحرّكون من خلالها، فإذا قلبت لهم الحقيقة وتحدّثت عن الباطل، وقلت كلمة الكذب في العقيدة؛ فمعنى ذلك أنّك أبعدت الناس عن مواقع سلامتهم، وإذا قلت كلمة الكذب في الحادثة التي حدثت فمعنى ذلك أنّك شوَّهت الصورة للواقع، وإذا كذبت الكذبة في الموقف فمعنى ذلك أنّك أربكت الموقف، الكذَّاب يخون الناس لأنّه يخون الحياة التي يرتبط بها واقع الناس ويرتبط بها مصير الناس في كلّ مجال. إِنّك عندما تقف أمام الكذّاب وأنتَ واثق به لأنّك لم تعرف عمق شخصيّته سيقول لك إنَّ فلاناً إنسان مخلص، وهو إنسان غير مخلص، فيدفعك ذلك إلى أن تتبع فلاناً وتسقط أمام زيف فلان الذي حجبه هذا عنك ومنعك أن تكتشفه من خلال تجربتك الشخصية، وهكذا عندما ينقل لك الصورة على غير الحقيقة فإنّه يدفعك إلى أن تأخذ قناعة أو تصدر حكماً أو تتصرَّف تصرُّفاً يجعلك تظلم البريء أو تحكم عليه بغير حقّ ويجعلك تتصرَّف تصرُّفاً لا يرضاه الله، لهذا كان الكذب خيانة، إذا كنت تتعامل بالكذب فخذ هذا الوسام من الله سبحانه وتعالى ليخاطبك به الله يوم القيامة، ولا تلم الناس إذا قالوا عنك إنّك خائن لأنّك ارتضيت لنفسك عندما كنت الكذَّاب أن تكون الخائن، لأنَّ الكذب والخيانة يتحرّكان في موقعٍ واحد، والصدق أمانة الصادق، يعتبر الحقّ في الفكرة، والحقّ في الحادثة، والحقّ في الموقف، يعتبره من الأمور التي تمثّل أعلى أنواع الأمانة، لهذا تراه يدقّق في كلماته كي لا تزيد عن الفكرة ولا تنقص عنها، يدقّق في كلماته كي لا ينسى كلمة أو يضيف كلمة لأنّه يعتبر أنّ كلمته تمثّل الصورة التي يتمثّلها الناس للحقيقة.
الصدق يستلزم الأمانة
الصدق والأمانة يتحرّكان معاً، فلن تجد صادقاً غير أمين لأنَّ بعض الناس قد يصدقون في كلماتهم ولكنّهم لا يصدقون في الأمانات في ما يأتمنهم الناس، هم الكاذبون في مواقفهم، ولهذا هم ليسوا صادقين، ولهذا جعل الإسلام الصدق والأمانة يسيران جنباً إلى جنب، فكان رسول الله الصادق الأمين، وجاءت كلمات أهل البيت (عليهم السلام) التي تقول لنا إذا أردتم أن تكتشفوا إيمان شخص هل هو مؤمن أو ليس بمؤمن، فلا تنظروا إلى طول ركوعه وسجوده فلعلَّها عادة اعتادها ويشقّ على المرء ترك عادته، ولكن اختبروه بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر، وقال الإمام الصادق (سلام الله عليه) لبعض أصحابه وهو يريد أن يبلّغه رسالة إلى شخص آخر: انظر ما بلغ به عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) من المنزلة عند رسول الله فالزمه، فإنّك بذلك تنال المنزلة عندي فإنَّ عليّاً بلغ ما بلغه عند رسول الله بالصدق والأمانة، فقد كان الصادق الأمين، وهذا ما يجب علينا أن نعيشه في حياتنا ولاسيّما إذا كان الإنسان الذي تكذب عليه يثق بك وأنتَ تستغلّ ثقته بك وتستغلّ أنّه لا يشكّ فيك لتعمل على تشويه الصورة عنده، كبُرت خيانة أن تحدث خيانة، يعني من أكبر أنواع الخيانة خيانة أن تحدّث أخاك بحديث هو لك مصدق وأنتَ به كاذب، لأنّك كنتَ تتحرّك من خلال خيانتين: خيانة الثقة التي يمنحك إيّاها الإنسان وخيانة الحقيقة التي لم تقدّمها كما يجب مع هذا الإنسان أو ذاك، إيّاكم والكذب فإنّه يهدي إلى الفجور وهو في النار، إذا كذبت فإنَّ الكذب يفتح لكَ أبواباً ويفتح لك متاهات ويفتح لك آباراً عميقة في الحياة وستلتقي بالنار في كلّ ذلك.
مَن هم الصادقون؟
بعض الناس يقول نحن شيعة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وعلى هذا الأساس "حبّ عليّ حَسَنة لا تضرّ معها سيّئة"، فلا مانع من أن نكذب، فالسياسة تحتاج إلى كذب، والتجارة تحتاج إلى كذب، والحياة الاجتماعية تحتاج إلى كذب، وتريدون منّا أن نحمل "السلّم بالعرض" فنصدق والنّاس كلّهم يكذبون، بعض الناس يقول ذلك، لكن إذا كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي هو سيّد عليّ (عليه السلام) وإمامه ونبيّه وقائده وأستاذه الصادق الأمين، وإذا كان عليّ (عليه السلام) بلغ ما بلغ عند رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكانت مشكلته أنّه الصادق الذي عاش مع الحقّ وعاش الحقّ معه، فما قيمة أن تحبُّوه أيُّها الكذّابون، ما قيمة ذلك؟ عليّ (عليه السلام) لم يحارب الناس على أساس عواطفهم، ولكنّه حارب الناس على أساس موقفهم من الله، ولهذا مَن كان وليّاً لله فهو ولي لعليّ الذي لا يتحرّك في ولايته إلاّ من خلال الله، ومن كان عدواً لله فهو له عدو. واستمعوا إلى كلمة الإمام الصادق (عليه السلام) فقد كان في شيعة زمانه بعض الكذّابين، كما أنّ هناك في شيعته وغير شيعته الكثير من الكذّابين الآن، يقول إنَّ فيمن ينتحل هذا الأمر ـــ يعني فيمن ينتحل التشيُّع ويقول إنّني من شيعة عليّ وشيعة أولاده ـــ "إنَّ فيمن ينتحل هذا الأمر لمن يكذب حتّى يحتاج الشيطان إلى كذبه"(1)، يعني كذّاب من الدرجة الأولى بحيث يحتاج الشيطان أن يتعلَّم منه حتى يرقى إلى مستوى كذبه، هذا واقع موجود، يقول بعضهم أنا شيعي، ولكنّه يكذب حتّى يحتاج الشيطان إلى كذبه، أيّ شيعي هو هذا الشيعي، وأيّ التشيُّع هو هذا، إنَّ التشيُّع ليس عاطفة، إنّه الإسلام الذي ينطلق في خطّ حاسم على النهج الذي انطلق به الإمام عليّ (عليه السلام) في كلّ حياته. أن تكون شيعيّاً يعني أن تكون مع الحقّ، أن تكون شيعيّاً يعني أن تكون مع الصدق، وأمّا إذا كنت مع الباطل وكنت مع الكذب فكيف يتعرّف عليك عليّ (عليه السلام) الصادق الذي حارَبَ من أجل الصدق. لهذا لا تفكِّروا بالشكليات ولكن فكّروا بالعمق في ذلك كلّه، لأنّكم تقفون أمام الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والذي يطّلع على كلّ شيء مهما كان دقيقاً ومهما كان خفيّاً. وهكذا جاء رجل إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال يا رسول الله ما عمل الجنّة، أنا أحبّ أن أدخل الجنّة وأنتَ دليلنا إلى الجنّة ودليلنا إلى الأعمال التي تدخلنا الجنّة، قال: "الصدق، إنَّ العبد إذا صدَق برّ وإذا برّ آمن وإذا آمن دخل الجنّة"، الصدق يقودك إلى الخير والخير يقودك إلى الإيمان والإيمان يقودك إلى الجنّة، قال رسول الله وما عمل النار، قال: "الكذب، إنّ العبد إذا كذب فجر وإذا فجر كفر وإذا كفر دخل النار"، وهناك حديث أخطر من ذلك يقول إنّ الله جعل للشرّ أقفالاً وجعل مفاتيح لتلك الأقفال الشراب والكذب، والكذب شرّ من الشراب. إذا قالوا عن أحدكم إنّه يصلّي ويصوم ويشرب الخمر، فهل يعقل أن يكون الإنسان مصليّاً وشارباً للخمر، ولكنّ الكذب شرّ من الشراب لأنَّ الشراب يسيء إليك وحدك؛ يُذهِب عقلك ويُفسِد جسدك، ولكنّ الكذب يشكِّل خطراً على حياتك وحياة الآخرين، فهو أخطر من الشراب في النتائج وهو من مفاتيح الشرّ التي أراد الله لها أن تبقى مغلقة في الحياة، استمعوا إلى هذا الحديث، أيُّها المؤمنون الذين تستحلُّون الكذب في المزاح: "لا يجد عبد طعم الإيمان حتّى يترك الكذب هزله وجدّه"(1) وفي وصية الإمام زين العابدين (عليه السلام) لأولاده قال: "اتّقوا الكذب الصغير منه والكبير في هزل أو جدّ، فإنَّ الرجل إذا اجترأ على الصغير اجترأ على الكبير"(2)، يعني الإنسان يأخذ كذبةً صغيرة وفي ما بعد يأخذ أكبر منها بقليل حتّى يصل إلى الكذبة الكبيرة، وهكذا تبدأ كذبة مزاح ويتعوَّد اللّسان على أن يتحرّك بالباطل.
فلهذا يحرم الكذب في الجدّ والهزل وتحرم الكذبة الصغيرة كما تحرم الكذبة الكبيرة، لأنَّ الله لا يريد للحياة أن تفقد الصورة الحقيقية التي يتمثّلها الناس في كلّ أمورهم وفي كلّ قضاياهم وفي كلّ حياتهم.
متى يكون الكذب مباحاً؟
وإذا كان الكذب يمثّل الشرّ الذي يفتح كثيراً من الشرور في الحياة، فإنَّ هناك استثناءات في الإسلام لمسألة الكذب، فقد يكون الكذب واجباً وقد يكون الصدق حراماً، قد يجب الكذب إذا أردت أن تصلح بين اثنين وكان الخلاف بينهما يؤدّي إلى إزهاق النفوس وتوقَّف الصلح على أن تكذب على هذا لتفتح قلبه على ذاك وأن تكذب على ذاك لتفتح قلبه على هذا بكلام لم يقله هذا ولم يقله ذاك، إنّك في هذه الحالة يجب عليك أن تكذب لتمنع النتائج الكبيرة التي تتحرّك من خلال هذا الخلاف في ما بينهم، وقد يستحبّ الكذب إذا لم تكن المسألة بدرجة الوصول إلى الخلافات التي تؤدّي إلى القتل أو ما إلى ذلك. وقد ورد في بعض الأحاديث عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وعن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الكذب في الإصلاح بين الناس لا يمثّل أيّة خطيئة بل يمثّل الأجر عند الله حتّى أنّ بعض أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) قال: "الكلام ثلاثة: صدق، وكذب، وإصلاح بين الناس"(1)، فاعتبر الإصلاح بين الناس خارجاً عن دائرة التقابل بين الصدق والكذب كأنّه يمثّل قَسَمَاً بذاته، وهكذا يجوز لك أن تكذب إذا أردت أن تنقذ أخاك من الموت أو من خطر محدق أو تنقذ نفسك، لأنَّ الكذب إنّما حرَّمه الله لما فيه من المفسدة، فإذا كانت المصلحة فيه أعلى من المفسدة فإنَّ الله يعطيك الإجازة في ذلك، وقد ورد في بعض الأحاديث "احلف بالله كذِباً ونجِّ أخاكَ من الموت أو من القتل"، وقد ورد في الحديث في هذا المجال أنّ "الله أحبَّ الكذب في الصلاح وأبغض الصدق في الفساد"(2)، لو جاءك إنسان وطَلَب منك أن تدلّ على أخيك ليقتله أو ليسجنه ويعذّبه فإنَّ الله رخَّص لك أن تنقذ أخاك وإن اضطررت لأن تقول غير الحقيقة، فإذا أردت أن تصدق فإنّك مأثوم في صدقك لأنَّ الصدق يقودك إلى أن تقتل أخاك أو أن تورّطه في شيء يشكِّل خطراً على حياته، ولا بدّ للنّاس من أن يأخذوا هذه الأمور بالاحتياط وأن يأخذوا هذه الأمور بالدقّة التي تجعلهم معذورين أمام الله ليراجعوا الأُمناء على حلال الله وحرامه ليعرِّفوهم ما يجب لهم أن يفعلوه من ذلك كلّه.
محّص كلام الفاسق
وهكذا ننتقل بعد ذلك إلى مسألة الاستماع إلى الكذّابين؛ فالله حدّثنا في كتابه {... وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ...} [المائدة: 41] يعني يلقون بآذانهم إلى الكذّابين ويشجِّعونهم بالإقبال على الكذب ويصدقونهم في كذبهم من دون أن يبحثوا عن طبيعة الموضوع. إنَّ الله يمقت هؤلاء الناس الذين يرتاحون للحديث الذي يعجبهم حتّى من الكذّابين ويرتاحون للكلمات التي تمثّل مصلحتهم الذاتية حتّى من الكذّابين والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} لا تأخذوا كلمات الفاسق ولا تستغرقوا في الاستماع إلى حديثه ولكن تبيَّنوا حديثه هل هو حقّ أم باطل، هل هو صدق أم كذب، تبيَّنوا الحديث جيّداً حتى لا تظلموا الناس {أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات : 6]، وإذا أردتم أن تعرفوا مسؤولية الاستماع للكذّابين والاستغراق في الإقبال عليهم والتصديق لكلامهم من دون فحص فأصغوا إلى هذا الحديث، "مَن أصغى إلى ناطق فقد عبده"(1)، إنَّك عندما تصغي إلى من يتكلَّم بكلّ مسامع قلبك وأُذنك وبكلّ كيانك فهذا موقف عبادة، أنتَ تخشع له، وتخضع له فإنْ كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عَبَدَ الله في إقباله عليه، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عَبَدَ الشيطان، فأنتَ عندما تستغرق مع الكذّابين في حديثهم وتسمح لأحاديثهم بأن تنفذ إلى قلبك بدون أيّ تفكير أو أيّ تفتيش أو أيّ بحث، وتسمح لأحاديثهم بأن تنفذ إلى فكرك وإلى لسانك فإنّك تعبد الشيطان، وإنْ كنتَ تقول أشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله، لأنَّ المسألة هي مسألة الموقف وليست مسألة الكلمة، وهناك صدق في المعاملة وكذب في المعاملة، أنتَ عندما تعطي التزاماً على نفسك في عملك على أساس شروط معيّنة ومواصفات معيّنة ثمّ لا تفي بذلك فأنتَ الكاذب في عقدك وعهدك والكاذب في شرطك الذي التزمت به لأنّك أعطيت كلاماً، والمؤمنون عند شروطهم. عليك أن تصدق في ما أعطيت لأنَّ آية المنافق ثلاث، إذا حدَّث كذب، وإذا وعَدَ أخلف، وإذا ائتمن خان. فحاولوا إذا كنتم من أصحاب الأعمال، في أيّ عمل من الأعمال، ووقعتم على شروط، فعليكم أن تفوا بهذه الشروط وإلاّ كنتم من الخونة وكنتم من الكاذبين في معاملاتهم وفي شروطهم. وهكذا حتّى في الوعود العادية عليك أن تكون الصادق في وعدك حتّى لولدك.
الآثار السلبية للكذب في العائلة والمجتمع
بعض الناس يستحلُّون الكذب على أولادهم وكأنّهم يعتبرون أنّ المسألة مسألة على مَن تكذب، هذا طفل ويريد أن يتعلَّق بي ليخرج معي فأقول له ارجع إلى البيت وسأجلب لكَ معي هديّة، وأنا عازم على أن لا أجلب له تلك الهدية، تلك كذبة يعاقبك الله عليها من ناحيتين: أوّلاً لأنّك كذبت، وثانياً لأنّك أعطيت ولدك أوّل درس في الكذب، لأنّه عندما تأتي والهدية ليست معك فإنّه يعتقد بأنّ الكذب شيء جيّد، أبي يكذب وهو المثل الأعلى، فعليَّ أن أكذب عليه، وعليَّ أن أكذب على أخي وعليّ أن أكذب على ابن الجيران، وبذلك تكون أوّل مدرسة يتعلَّم فيها الولد الكذب، هي مدرسة أمّه وأبيه. هذه مسألة أساسية لا بدّ من معرفتها. بعض الناس يفكِّرون أنّ علينا أن نصدق مع المسلمين أمّا غير المسلمين من الكافرين فعلينا أن نكذب عليهم، نكذب عليهم في المعاملة ونكذب عليهم في الحديث ونكذب عليهم في المواقف، ولكنَّ الله يريد للحقيقة أن يعرفها كلّ الناس من المؤمنين ومن الكافرين، لأنَّ الله يريد للكافر أن يرتبط بالحقيقة في الحياة حتّى يقوده الارتباط بالحقيقة إلى أن يرتبط بالإيمان بالله الذي هو حقيقة الحقائق، لهذا مسألة أن تكذب، ليست مسألة الشخص الذي تكذب عليه ولكنّها مسألة الحقيقة التي تخفيها وتشوّهها من خلال كذبك.
الدعوة بغير اللّسان
كونوا الصادقين مع كلّ الناس صغاراً وكباراً وكونوا الصادقين مع كلّ الناس مسلمين وغير مسلمين، لأنَّ ذلك أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) وهو يوجّه نصيحته إلى أصحابه يقول: "كونوا دعاة للنّاس بغير ألسنتكم"(1)، أتريدون أن تدعوا إلى الله، أتريدون أن تدعوا إلى خطّ أهل البيت (عليهم السلام) كونوا دعاة للنّاس بغير ألسنتكم ليلقوا منكم الصدق والخير والورع فإنَّ هذا أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله.
بين القناعة النظرية والموقف العملي
ثمّ هناك مسألة الصدق في الموقف، أن يكون موقفك متطابقاً مع قناعتك ومع إيمانك، فلا يكون إيمانك في جهة وموقفك في جهةٍ أخرى، تماماً كالكثيرين الذين كانوا يعيشون قناعات معيّنة ولكنّهم وقفوا ضدّ قناعاتهم لأنّهم يريدون ما لا تكفّله مواقف القناعات بإمكانه أن يجمع بين قناعته وبين مسألة الانحراف في الموقف، لأنَّ الله سبحانه وتعالى فَتَحَ للإنسان باب التوبة إذا عصاه العبد، فيمكن للإنسان أن يبتعد عن قناعته وعن إيمانه ثمّ يتوب إلى الله بعد ذلك، هذا منطق الكثيرين، كما يُروى عن عمر بن سعد(1) أو يمثّل لسان حاله:
فواللهِ ما أدري وإنّي لحائرٌ أُفكّرُ في أمري على خطرينِ
أأتركُ مُلْكَ الريِّ والريُّ منيتي أَمَ ارجعُ مأثوماً بقتلِ حُسينِ
يقولونَ إنَّ اللهَ خالقُ جنّةٍ ونارٍ وتعذيبٍ وغِلِّ يدينِ
فإنْ صدقوا في ما يقولونَ فإنَّني أتوبُ إلى الرحمنِ في سنتينِ
فيجمع الدنيا والآخرة، بعض الناس يفكِّرون بهذه الطريقة، وكان أهل الكوفة والكثيرون من الناس يفكِّرون بهذه الطريقة أو يريدون جاهاً، أو يريدون أيَّ شيء، ماذا كان عمر بن سعد، ما قد يكون انطباعكم سيّئاً عنه ولكنّكم تملكون رأياً عظيماً في كثير من أمثال عمر بن سعد، لأنَّ مشكلتكم أنّكم تحدّقون بالشخص في التاريخ ولكنّكم لا تحدّقون به كنموذج للموقف وكنموذج للانحراف، لتجعلوا من الشخص صورة لكلّ شخص، فيزيد ليس شخصاً في التاريخ ولكنّه شخص في كلّ حركة الانحراف في الحياة، وهكذا بالنسبة إلى عمر بن سعد وأمثاله، كان يحبّ الحسين كأعظم ما يكون الحبّ، وكان يحترمه كأعظم ما يكون الاحترام، ولكن لوَّح له يزيد بملك الري، وكان التلويح مناسبة ليعيش القلق وليوازن بين قناعته وبين موقفه، وخُيِّل إليه أنّه ينقل عن لسان أحد الزائرين للكوفة رداً على سؤاله كيف تركت الناس في الكوفة قوله قلوبهم معك، يحبُّونك وتدمع عيونهم عندما نذكر اسمك أمامهم، ولكنَّ سيوفهم عليك، لأنَّ سيوفهم كانت في خدمة جيوبهم وأطماعهم، والكثيرون من الناس يعيشون هذا الواقع، يعيشون واقع الازدواجية في القناعة وفي الموقف، لأنَّ القناعة قد لا تطعم خبزاً كما يقول بعض الناس، إنَّ الإسلام لا يطعمنا خبزاً، والإيمان لا يطعمنا فاكهة، إذاً نحن مضطرون، نحن أصحاب عيال وأطفال، نحن مضطرون إلى جرعة من الكفر هنا وإلى صحن من الباطل هناك، وموقف ممّا بين الحقّ والباطل حتّى لا نكون متطرّفين متزمّتين، حتّى يرضى عنّا الذين يملكون الطمع في كلّ أوضاعهم. كن صادقاً في مواقفك. إيمانك عهد بينك وبين الله، فكِّر قبل أن تتقدَّم، فكِّر لأنّه سيأتي وقت لا يفيدك التفكير فيه عندما تتّخذ الموقف هنا بعيداً عن التفكير في وقوفك غداً بين يديّ الله. فكِّر قبل أن لا تستطيع أن تفكِّر، هل أنتَ مع الإيمان حقّاً، هل أنتَ مع الصدق حقاً، هل أنتَ مع الإسلام حقاً، أم أنك تقلِّد الناس الذين سبقوك.
أصحاب الحسين والصدق في الموقف
إذا كنتَ مع الإسلام حقّاً، ففكِّر في أيِّ موقع يقف الإسلام، وعليك أن لا يخدعك الناس عن الإسلام، بل أن تأخذه من الأُمناء على حلال الله وحرامه، من العلماء، الذين يقول فيهم رسول الله: "العلماء أُمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا"(1) قالوا يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا قال: "اتّباع السلطان فإذا رأيتم العالَم محبّاً لدنياه فاتّهموه على دينكم"(2)، محبّاً لدنياه بمعنى أنّه مستعد لأن يغيّر موقفه لخدمة دنياه على حساب الدين، اعرفوا الإسلام جيّداً واعرفوا مواقعكم فيه، واعرفوا مواقفكم منه وركِّزوا الموقف في الموقع الصحيح لتقفوا أمام الله لتشهدوه أنّكم صدقتموه في إيمانكم {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب : 23] هذه كانت في أجواء الإسلام الأولى وتمثّلت في كلمات الحسين (عليه السلام) وهو يستعرض الجيش الذي جاء لمحاربته والجماعة القليلة الطيّبة الذين كان الواحد منهم يأتي ليستأذنه في الحرب، كان يقول وهو ينقل عينيه بين هؤلاء وبين أولئك بين الذين صدقوا العهد مع الله فجاؤوا من أجل أن ينصروا الموقف حتّى لو كان الموقف لا يحمل كثرة من الناس ولا كثرة من المال، كان الموقف يحمل العمق الرسالي المتمثّل في الحسين (عليه السلام) الذي يقول لهم لو كان الحسين وحده جبهة وكان العالَم كلّه جبهة فإنَّ الحقّ مع الحسين والباطل مع كلّ العالم، كانوا يفكِّرون بهذه الطريقة، أنَّ مسألة الحقّ والباطل لا تتمثَّل بكثرة الرجال أو قلَّتهم، فإنَّ الحقّ كان دائماً قليل الرجال، والباطل دائماً كان كثير الرجال، هكذا كان يفكِّر أبطال كربلاء. فالمسألة ليست أن تكون عندك شعبية في أوساط أعداء الله والمنحرفين عن خطّ الله بل أن تكون لك شعبية في أوساط أولياء الله والمستقيمين على خطّ الله، ولهذا كانوا يستأذنون الحسين (عليه السلام) وكان يقول: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ} ويلتفت إلى الأجساد المطروحة بين يديه من أهله ومن أصحابه {وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب : 23] هذا هو العمق في إيمانك.
المسألة أنّ عليك أن لا تبدّل مواقفك كما تبدّل ملابسك، بعض الناس يعتبرون المسألة في المواقف مسألة الموضة في الثياب، فكما يبدّل الإنسان ملابسه فهو يبدّل مواقفه وذلك حسب تبدّل الأوضاع والرياح، فإذا كانت شرقية فالموقف لا بدّ أن يكون شرقياً، وإذا كانت غربية، فالموقف لا بدّ أن يكون غربياً، وإذا كانت متوسّطة بين رياح شرقية وغربية فالإنسان يأخذ خطّ الاعتدال.. معنى {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} أن يكون لك موقف في الدنيا تستطيع أن تدافع عنه أمام الله في كلّ المواقف سواء كانت مواقف شخصية في بيتك مع زوجتك وأولادك، أو كانت مواقف عامّة في محلّتك مع جيرانك وفي حياتك مع الناس من حولك في الدائرة السياسية وفي الدائرة الاقتصادية والاجتماعية والجهادية وغير ذلك، فكِّر أنّ موقفك في الدنيا هو موقفك في الآخرة وأنَّ جماعتك في الدنيا هم جماعتك في الآخرة، {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف : 67]، تلك هي المسألة فحدِّد موقفك الآن حتّى إذا سألك الله عنه قبل أن تقف الموقف الصعب، أقولها لنفسي وأقولها لكم، قبل أن ننطلق لنحدِّد الموقف لا بدّ من أن نفكّر مع أنفسنا بهذه الطريقة سأؤيّد فلاناً، سأرفض فلاناً، سأسبّ فلاناً، سأعمل على أساس أن أحكم بهذا أو أتّهم ذاك أو ما إلى ذلك، في هذا المجال لو سألني الله عن ذلك وهو يعلم كلّ الخفايا، لو سألني صاحبي عن ذلك لأمكنني أن آتي له بكلّ المواد القانونية التي تدعم موقفي أو كلّ المواقف الشرعية التي أصوغها حسب ما أريد، لكن لو وقفت بين يديّ الله عندما ينطلق النداء {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات : 24] يا فلان وقل لنفسك ذلك، لو أنَّ الله سألك عن هذا المال كيف أتيت به فهل عندك جواب، ولو سألك الله كيف حكمت على فلان فهل عندك جواب، ولو سألك الله كيف أيّدت فلاناً وكيف رفضت فلاناً هل عندك جواب، قل لنفسك إنَّ الله قال لنا {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 36] لو فكّرت عندما تريد أن تضرب زوجتك إذا سألك الله عن ذلك، أو تضرب ولدك أو تظلم جارك أو تعمل أيّ شيء، ليس هناك فرق بين المواقف، إذا أردت أن تقف موقفاً فاعمل على أن تكون لديك الحجّة أمام الله على ذلك، وهذا هو معنى الصدق في الموقف، الله قال لك عندما التزمت بالإيمان فإنَّ ذلك عهدٌ منك لي أنّك تسير في خطّي، فهل صدقت عهدك، اطرح كلّ أعمالك حتى تعرف ذلك من خلال عملك {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء : 14] ثمّ بعد ذلك لا يكفي أن تكون صادقاً في نفسك، بل لا بدّ أن تكون مع الصادقين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119] مسؤوليّتك كصادق مؤمن أن تدعم كلّ مواقف الصدق في مواقف الصادقين لتكون القوّة للصادقين، لا تكن حياديّاً بين الصادقين والكاذبين، ومن الطبيعي أن لا تكون قوّة للكاذبين ضدّ الصادقين، بل أن تكون قوّة للصادقين من موقع المسؤولية التي تتحرّك تحت عنوان التقوى في ذلك كلّه.
إنَّنا نريد من خلال ذلك أن نقف في محطة الإيمان من خلال القرآن ومن خلال سُنّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومن خلال أحاديث أهل بيته التي لا تبتعد عن كتاب الله وسُنّة رسوله، نريد أن نقف في محطّة هادئة أمام كلّ الضجيج الذي نعيش فيه وأمام كلّ الفوضى التي نتحرّك فيها، ليعرف كلّ واحدٍ منّا نفسه وليعرف كلّ واحدٍ منّا ربّه وليعرف كلّ إنسانٍ منّا موقفه من ربّه وموقعه من ربّه {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 ـــ 89]، لهذا قد نحتاج إلى أن نفكِّر طويلاً كما نحتاج عندما يوصلنا الفكر إلى نتيجة أساسية أن ندرّب إرادتنا على أن تكون في خدمة فكرنا، فكِّروا في ذلك، وتواصوا بالحقّ في ذلك وتواصوا بالصبر في خطّ ذلك كلّه. لأنَّ هذا هو أساس الفلاح في الدنيا والآخرة، ومن خلال ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119]. مَن هم الصادقون في ما نملك من مقياس الصدق في القرآن؟ {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر : 33]، الصادق هو الذي يأتي بالصدق، وما هو الصدق؟ الإسلام هو الصدق لأنّه يمثّل الحقيقة التي أنزلها الله {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ...} [آل عمران : 19]، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران : 85]، الذي جاء بالإسلام وطَرَحه وصدَّق به في قلبه وصدّق به في لسانه وصدَّق به في موقفه، وهذا ما أراد الله من نبيّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يعلنه أمام الناس كلِّهم؛ أن يكون أوّل المسلمين {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر : 12] أن تكون المسلم في كيانك، في عقلك وروحك ولسانك وأن تكون المسلم في موقفك.
الإمام وخطّ الصدق
وعلى هذا الأساس فإنَّنا نحدِّد مواقفنا مع الصادقين، وعندما رأينا الصدق متجسّداً فكراً وكلمة وموقفاً وجهاداً في الإمام الخميني(1) (حفظه الله) اتّقينا الله وكنّا معه، وعندما رأينا الصدق في مَن انطلق معه وسار في خطّه وعمل على أساس أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى وانطلق في دعوته للعالم كلّه أن لا يكون شرقياً ولا غربياً بل يكون إسلامياً، كنّا معه ومعهم لأنَّ الله أرادنا أن نكون مع الصادقين، وعلى ذلك انطلقنا معه كقائد إسلامي يعيش قيادته من مواقع فقهه ووعيه وتقواه لا كشخص، وانطلقنا مع السائرين معه لا بصفتهم القومية ولكن بصفتهم الإسلامية، ولذلك فنحن مع الإسلام ومع الذي يصدق في خطّ الإسلام ويصدق في موقف الإسلام، ويصدق في تأكيد مواقع الإسلام ويصدق في تحرير أرض الإسلام ويصدق في تحرير إرادة الإنسان المسلم، مع الصادقين أينما كانوا في شرق الأرض وغربها، ولهذا فإنّنا مع كلّ المسلمين الذين ينادون بالإسلام ليكون شريعة الحياة الشاملة، حتّى لو كان الناس ضدّهم، وحتّى لو وقف الاستكبار ضدّهم، لأنّنا إذا وقفنا ضدّهم فنحن نقف ضدّ الإسلام، ومَن يقف ضدّ الإسلام، فكيف يمكن أن يكون على خطّ الإسلام المستقيم؟!.
لهذا، إنَّ المسألة، في كلّ الخطّ الفكري وفي كلّ الخطّ السياسي تفرز الأشخاص عندما تفرز المواقف {الم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 ـــ 3] الذين صدقوا في مواقفهم، والذين يتحمّلون الأخطار من أجل أن يكونوا قوّة للإسلام، تلك هي المسألة.
حملة عالمية لحصار الإسلاميين
لهذا، نحن نواجه هذه الحملة على الإسلاميين في كلّ مكان سواء كان في المغرب، في كلّ بلدانه، أو في مصر أو في المشرق العربي أو في افريقيا أو في أيّ مكان يحاصَر فيه الإسلام وتتحرّك كلّ أجهزة المخابرات الأميركية والأوروبية والإسرائيلية والعربية من أجل أن تحاصر المؤمنين المتديّنين الذين يعيشون تقواهم في صلاتهم ودعائهم ونداءاتهم، إنّهم يشيرون إليهم: هؤلاء هم الإرهابيون، هؤلاء هم المتطرّفون، هؤلاء هم المتعصّبون، راقبوهم وحاصروهم وإذا استطعتم أن تقتلوهم فتلك هي النتيجة الحاسمة، هذا موقف يواجهه كلّ مؤمن صادق في كلّ مواقعه في الحياة، ونحن نشعر بأنَّ المسألة في هذه المرحلة لدى العالَم المستكبر هي محاصرة الإسلام المقاوم والإسلام المجاهد والإسلام الحركي والإسلام المتحدّي، إنّهم يريدون أن يحاصروه لأنّه خطر، صحيح أنّه الخطر، ولكن على مَن؟ خطر على الكفر كلّه وخطر على الاستكبار كلّه وخطر على الانحراف كلّه، ولكنّه يمثّل الرعاية لكلّ المستضعفين الذين يتحرّكون في نداء الله وفي خطّ الحريّة، وهناك نغمة تتردَّد اليوم قالها رئيس هذا النظام في الجزائر ليستميل القمّة العربية لموقفه على أساس أن يقول أعينونا أعانَكم الشيطان على هؤلاء الأصوليين المتطرّفين، إنّهم الخطر على لبنان، "إسرائيل" ليست خطراً على لبنان، المارونية السياسية التي أدخلت لبنان في أكثر من حرب للمحافظة على امتيازاتها ليست خطراً على لبنان، كلّ الغرباء الذين جاؤوا بهم، الغرباء الكبار، ليسوا خطراً على لبنان، مَن؟ الذين يلتزمون الإسلام المنفتح الإنساني غير المتعصّب الذي يؤمن بالحوار ويؤمن بالتعايش ويؤمن بتركيز الأمور على أساس كلمة الله، هذا هو الخطر حتّى يستميل هواهم وحتّى يقول أعطونا مالاً وسلاحاً حتّى نضرب هؤلاء الأصوليين.
من هو العنصري على المستوى اللبناني
أخيراً، جاء في عِظة دينية مارونية، أنّ الأصولية تمثّل العنصرية، هؤلاء العنصريون علينا أن نتخلّص منهم في لبنان، وهي نغمة دينية جديدة. كيف تفهمون الإسلام الذي لا نريد له اسم الأصولية لأنّ الإسلام هو حالة أصولية في كلّ مجالاته، ليس عندنا إسلامان، إمّا إسلام يستمدّ قوّته من ينابيعه الأصيلة وإمّا شيء منحرف يأخذ شكل الإسلام وليس هو بإسلام كما يريد الله، هل هذه عنصرية، الإسلام يقول {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ...} [آل عمران : 64] والإسلام يقول {... وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى...} [المائدة : 82] هل هذه هي العنصرية، والإسلام الذي يقول {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ...} [الممتحنة : 8]، هل هذه هي العنصرية؟ إسلامنا ليس إسلام الطائفة، إذا كنتم تفكّرون بالطائفة فلسنا نفكِّر بالطائفة، لأنّها عشيرة، ولكنّنا نفكّر بالإسلام القرآني المنفتح على الناس كافّة وعلى الحياة كلّها، مَن الذي ينادي بالعنصرية الذي يقول أيُّها الناس سنقول الحقّ، وأنتم تقولون لبنان بلد الحريّة، والله قال لنا {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ...} [الكهف : 29] هل هذه العنصرية، أم الذي يقول لا بدّ أن يكون رئيس الجمهورية مارونيّاً في لبنان ولا بدّ أن تكون الطائفة المارونية هي الطائفة المسيطرة على لبنان؟ لماذا تتحدّثون بلغة غير مفهومة، إنَّنا نريد أن نقول لمن قال كلامه في القمّة العربية في الجزائر ولمن قال كلامه في واشنطن. لن تنفعكم القمّة العربية ولن تنفعكم واشنطن ولا باريس، لكن إذا شئتم أن تكونوا مسيحيين كما هي المسيحية فافتحوا قلوبكم للإسلام وللمسلمين كما هو الإسلام والمسلمون، وستجدون أنّهم أقرب إليكم من كلّ القمم ومن كلّ العواصم إذا أخلصتم النيّة. ولكنَّ المسألة عندهم الإسلام، ولذلك يشوّهون صورته، والكثيرون منّا ينطلقون من أجل أن يرضى عنهم الآخرون ليشوّهوا صورة الإسلام والمسلمين والملتزمين بكلّ الأكاذيب والتضليلات حتى يقول عمر بن سعد أيّاً تمثّل، في أيّ بلدٍ كان، اشهدوا لي عند أميركا أنّي أوّل مَن رمى، المسألة هي هذه، والله يقول لكلّ الناس الذين يبحثون عن أن يقول الناس عنهم أنّهم معتدلون وواقعيّون ومتسامحون على حساب كثير من قضايا الإسلام والمسلمين {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى...} [البقرة : 120] الذي يجب أن نلزمه في كلّ حياتنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119] وعليكم أن تعرفوا الصادقين والكاذبين لتحدِّدوا موقفكم من خلال تحديد مواقعكم.
نحن مع الانتفاضة وضدّ المتنازلين
وعلى هذا الأساس فنحن مع الانتفاضة الإسلامية حتّى لو أراد بعض الناس أن ينزع عنها هذه الصفة، لأنّ كلّ الناس الذين يعيشون هناك انطلقوا في عمق حركتهم الجهادية من مواقعهم النفسية والروحية الإسلامية حتّى لو كانت مغطّاة بألف شعار وشعار، لأنَّ الإنسان يتحرّك من موقع العمق ولا يتحرّك من موقع السطح، وإنْ خُيّل له أنّه يتحرّك مع السطح، كنّا معهم لأنّهم كانوا الصادقين، وكنّا ضدّ كلّ ذلك الخطّ الذي يعمل في دائرة القضية الفلسطينية ليستجدي سلماً من "إسرائيل" وليستجدي مبادرة من "إسرائيل" وليستجدي مفاوضات من "إسرائيل" وليقدّم اعترافه بـــ "إسرائيل" مجاناً من دون أن يأخذ منها شيئاً، ليقول الناس عنهم إنّهم معتدلون لا متطرّفون وإنّهم ليسوا إرهابيين. كنّا مع الصادقين، ورأينا أنّ مواقع صدقهم تحرّكت في استمرار انتفاضتهم واستمرار جهادهم على الرغم من كلّ الضغوط الكبيرة التي كانت تحاول أن تسقط مواقعهم وأن تسقط إرادتهم وأن تثير الخوف والرعب في نفوسهم، ولكنّهم استمروا وانطلقوا لتتّسع حركتهم حتّى تشكّل خطراً على الاقتصاد اليهودي بعد أن شكّلت خطراً على الأمن اليهودي، ونحن نأمل أن تستمرَّ ونأمل من كلّ الشعوب الإسلامية أن تساند هذه الانتفاضة لتستجيب لنداء الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119] ونحن نريد أن نقول لهم إنّا معكم في خطّ المقاومة الإسلامية التي تعتبر أنّ "إسرائيل" ليست مجرّد خطر على حدود معيّنة ولكنّها خطر على الإسلام والمسلمين وعلى كلّ المستضعفين في المنطقة، إنّنا معكم في هذا الخطّ كما كنتم معنا عندما استلهمتم مواقف أبطال المقاومة من المجاهدين في الجنوب.
حريّة المجاهدين يجب أن لا تمسّ
ونحن على هذا الأساس نريد أن نقول لكلّ الناس، إنَّ مسألة حريّة المجاهدين هي مسألة يجب أن لا تدخل في كلّ الحرتقات السياسية وفي كلّ المواقع التي تثير المشاكل الصغيرة هنا وهناك، لأنّها القضية الكبيرة وكلّ ما عداها هو الصغائر التي يمكن أن يلهو اللاهون بها في أيّ مفاوضات أو في أيّة كلمات يراد أنْ تثار، وعندما نريد أن نؤكّد حريّة المجاهدين كلّ المجاهدين فإنّنا نريد أن نقول لكلّ الإخوة من المؤمنين، أيّاً كانوا وفي أيّة دائرة كانوا، إنَّ المرحلة التي ينبغي أن نتحرّك فيها جميعاً هي مرحلة الوحدة، الوحدة في المواقف التي نلتقي عليها والحوار في المواقف التي نختلف فيها، لتكون قوّتنا في ما نلتقي عليه ومشاعرنا الطيّبة في ما نتّفق فيه، هي الأساس في حلّ كلّ المشاكل في ما نختلف فيه، لهذا ليست القضية أن يؤكّد كلّ إنسان ذاته، بل القضية أن يؤكّد كلّ إنسان رسالته وأن يؤكّد كلّ إنسان مصير أُمّته بما يرضي الله سبحانه وتعالى في كلّ مجالات الحياة.
الملهاة
وإذا كان الناس يتحدّثون عن الحقوق على كلّ المستويات في هذا البلد، وإذا كان الناس يتحدّثون عن الإصلاحات أيّاً كانت في هذا البلد، وإذا كنّا نواجه كثيراً من الملهاة التي تتحرّك في النفايات السامّة تارّة وفي اللّحوم المستوردة المتعفّنة أخرى وفي التبغ المسموم ثالثة وفي غير ذلك من الأمور التي أُريدَ لها أن تكون ملهاتنا التي تبعدنا عن قضايانا، إذا كنتم واعين لذلك فكيف تشغلون أنفسكم بقضايا صغيرة تمنعكم من مواجهة الاستحقاقات الكبيرة وهي استحقاقات ما هو النظام في هذا البلد وما هو المصير في هذا البلد وما هو المستقبل في هذا البلد؟ فتعالوا إلى كلمةٍ سواء في السّاحة كلّها حتّى نلتقي على كلّ القضايا الكبيرة على أساس من تقوى الله، لأنّ أيّ شخص وأيّة قيادة لن تستطيع أن تتماسك إذا لم يتماسك المصير كلّه وإذا لم يتثبَّت المستقبل كلّه، ستسقط كلّ القيادات إذا لم تكن في مستوى الوعي الكبير الذي يجعلها تتّفق على كلّ القضايا وتنسى أو تجمّد كلّ خلافاتها، فقد نكون وقعنا في مصائب كبيرة.
أقفلوا ملف العبث
لماذا نلحّ على أن نهيِّئ الأجواء لمصائب أخرى، إنّنا نقول من جديد أغلقوا لنا ملف الكلمات والكلمات المضادّة، أغلقوا لنا الاتّهامات والاتّهامات المضادّة، أغلقوا العبث الإعلامي الذي قد يكون عبثاً في ما تفكِّرون وتتعقّدون، ولكنّه يتحوّل إلى خطر في ما تتحرّكون وتتنازعون، لنكفّ عن الحرب الإعلامية وعن كلّ الحروب التي تثير الأحقاد، وليتَّقِ الله كلّ الناس في كلماتهم غير المسؤولة ولاسيّما إذا كان هؤلاء الناس في مواقع القيادة أيّة قيادة كانت، ليتَّقِ الله كلّ الناس في تحرُّكاتهم الصغيرة لأنَّ المسألة أنّ التحرّكات الصغيرة قد تغري التحرّكات الكبيرة.
ونلفت أخيراً إلى هؤلاء الذين يتقاتلون على الدمار في شاتيلا وعلى الدمار في مخيَّم برج البراجنة(1)، الدمار هنا والدمار هناك مهما استطاع هذا الفريق أو ذاك أن يربح هذا المخيّم أو ذاك المخيَّم، إنّكم لن تربحوا إلاَّ الدمار، الدمار في الحجارة الذي يتمثّل في كلّ الصور التي نراها والدمار الإنساني في كلّ الضحايا التي تسقط والدمار السياسي في كلّ المواقف التي تسقط، لا أدري ما قصّة هذا "اللبنان" الذي يدمّر نفسه أكثر ممّا يدمّره الآخرون، ولا أدري ما مشكلة هذا الفلسطيني الذي يدمّر أهله أنفسهم أكثر ممّا يدمّرهم الآخرون؟ هل استحققنا جميعاً لعنة الدمار علينا، المسألة تحتاج إلى فكر وتحتاج إلى تقوى وتحتاج إلى وعي يرصد المستقبل، وتحتاج إلى إرادة تقف في مواقف الحقّ، وذلك هو الخطّ الذي يريدنا الله أن نتبعه، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
المسارعة إلى المغفرة(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ*وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ*أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 ـــ 136].
هذا النداء الإلهي هو للمؤمنين وللنّاس كافّة، نداء للذين يتسابقون في الحياة من أجل أن يكون لهم مال وجاه ومواقع، إنَّ الله يريد أن يقول لكم: أيُّها الناس إنّ المال مضمون فلن تستطيع أن تحصل على غير ما قدَّره الله لك، مضمون بعملك، لا تعتبر أنّ مضاعفة الجهد أو استنزافه سيعطيك أكثر ممّا قدَّره الله لك، اعمل فإنَّ العمل عبادة والله قد كلَّفك أن تعمل من أجل أن تقوم بمسؤوليّتك، ولكنَّ المال الذي تريد الحصول عليه ليس هو الهدف الذي يمكن أن تجعل كلّ حركة الحياة من أجله، لأنَّ المال يزول كما تزول الحياة، والجاه الذي تتسابق أنتَ والآخرون من أجل أن تحصل عليه لترتفع درجة في السلم الاجتماعي أو يفيدك في السلم السياسي أو الاقتصادي، إنَّ هذا الجاه سوف يذهب قبل أن تذهب أنت من الحياة، وعندما تذهب من الحياة، لن يفيدك بعد موتك أن يهتف الناس باسمك، أو أن يخلِّد الناس ذكرك، إلاّ إذا أبقيت لما بعدك شيئاً ممّا قدَّمته من أعمال صالحة في الحياة. ولهذا لا تسارع ولا تعتبر ذلك كلّ همّك.
{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} سارع إلى العمل كفرد أو كجماعة، سارعوا إلى أن تحصلوا على مغفرة الله في ما تعملون من أعمال صالحة وفي ما تدخلون فيه من مشاريع خيِّرة وفي ما تنشئونه من علاقات خالصة مخلصة في رضى الله، إذا كان هناك مشروع خير فلا تتريَّث بل سارع إليه حتّى لا يأخذه غيرك، وإذا كان هناك مشروع جهاد فسارع إليه قبل أن يفوتك، وإذا كان هناك مشروع موقف صدق فسارع إليه قبل أن يسبقك الآخرون إليه، لأنّك عندما تحصل على مغفرةٍ من ربّك فقد حصلت على الخير كلّه والسعادة كلّها، لأنَّ مغفرة الله ومحبّته هي التي تضمن لك الدنيا والآخرة، ولأنّ الإنسان الذي يعيش في الدنيا في محبّة الله وفي رضاه وفي مغفرته ويعيش في الآخرة في تلك الأجواء هو الإنسان الذي يمسك بالسعادة من كلّ أطرافها. ومن هنا فإذا كنت من الناس الذين أخطأوا، سارِع إلى التوبة لأنَّ التوبة هي التي تهيّئ لك المغفرة. هذه هي الروحية التي يريدنا الله سبحانه وتعالى أن نعيشها عندما نريد أن نحرِّك طموحاتنا في الحياة ليكون طموحنا في الحياة كلّها أن نحصل على رضى الله ومحبّته، وأن نحصل على مغفرة الله وعدله. هذا هو الطموح الكبير الذي يجعل منك إنساناً تعيش في رحاب الله وفي آفاقه بدلاً من أن تكون إنساناً يعيش في زوايا زيد ليرضى عنك، أو في زوايا عمرو ليرضى عنك هو الآخر. اليوم يرضى عنك فلان وغداً يغضب منك وتعيش القلق والذلّة والسقوط والانهيار، ولكنّك إذا حصلت على رضى الله وعرفت الطريق الذي يؤدّي إلى الله واستطعت أن تُثَبِّت أقدامك في المواقع التي يرضاها فذلك هو النجاح كلّ النجاح، وذلك هو الفوز العظيم {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران : 133] هذه الجنّة التي يملّكك الله إيّاها، جعل لك فيها أن تذهب حيث تشاء وتأكل ممّا تشاء وتشرب ممّا تشاء وتتنعَّم بما تشاء، لأنَّ الله سبحانه وتعالى جعل فيها للمؤمنين ما تشتهي أنفسهم وما يدعون.
سارع، أنتَ في الدنيا تقطع آلاف الأميال لتحصل على قطعة أرض تسكن فيها، ولا مانع من أن تفعل ذلك، أو تستنبت أرضاً تعيش عليها، لكن إذا كنت تفكّر أن تكون لك دار في الدنيا وتعتبر أنّ كلّ جهدك ينبغي أن تبذله في هذا السبيل فلماذا لا تسارع إلى أن تحصل على الدار الخالدة في الجنّة التي عرضها السماء والأرض، لماذا يعيش كثيرٌ منّا الزهد بالجنّة، لو قلتَ لإنسان افعل ذلك والجنّة مضمونة لك عند الله، فهل تجد في نفسك الاندفاع الكبير في هذا الاتجاه، بحيث تترك أشغالك وأعمالك وأفعالك وتتحمَّل المتاعب والمشاكل في سبيل الحصول على الجنّة؟ نحن المسارعون إلى مغفرة الناس ولكنّنا المتثاقلون في السير إلى مغفرة الله، الله يقول: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران : 133]، لا بدّ للجنّة من تقوى، أن تكون تقيّاً، والإمام عليّ (عليه السلام)، في ما كان يتحدّث به مع أصحابه الذين كانوا لا يختلفون عنّا في مشاغباتهم ومشاكلهم ولغوهم وضوضائهم وخلافاتهم ومواقفهم وما إلى ذلك، يبدو أنّ الإمام كان مبتلياً بجماعته الذين كانوا معه، الإمام عليّ (عليه السلام) كان يقول لهم: والله لقد ملأتم قلبي قيحاً لقد أفسدتم عليّ رأيي، لو صارفني فيكم معاوية مصارفة الدينار بالدرهم، يعني أنا مستعد لأنْ أُبادل الدرهم بالدينار، كان يقول لهم في بعض الحالات "أَبِمِثْلِ هذه الأعمال تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، هيهات لا يخدع الله عن جنَّته"(1)، قد يخدع بعضكم بعضاً، وقد يغشّ بعضكم بعضاً، وقد يتستَّر بعضكم على بعض، لكن أمام الله ليس هناك مجال للتستُّر {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق : 9] الجنّة أُعِدَّت للمتّقين، مَن هم المتّقون؟ الله يوزّع صفات المتّقين؛ في هذه الآية يأتي بصفتين أو ثلاث وفي آيةٍ أخرى بصفاتٍ أخرى، وهكذا في هذه الآيات وردت ثلاث صفات للمتّقين ونستطيع أن نعتبرها خمساً؛ العطاء، كظم الغيظ، العفو عن الناس، الإحسان إليهم، والاستغفار من الذنب... فمن توفّرت فيه هذه الصفات الخمس يصدق عليه أنّه من المتّقين، ومَن لم تكن موجودة فيه فعليه أن يرتّب أموره على هذا الأساس إذا كان راغباً في الجنّة التي أُعِدَّت للمتّقين الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء، يعني الذي يعطي من ماله في حال سعة، السرّاء، والضرّاء في حال الضيق بحيث تعيش روحية العطاء، لا أنانية البخيل لتكون من الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، وروحية العطاء تنطلق من روحية إنسانية سامية، إنّ الإنسان الذي يفكّر في أن يعطي الآخرين، هو الإنسان الذي يفكّر أن يتفاعل مع الآخرين، هو الإنسان الذي يعيش إنسانيّته في الإحساس بآلام الآخرين، عندما تجد إنساناً فقيراً محروماً أو مريضاً أو مشرَّداً، عندما تجد إنساناً يحتاج إلى أن تعاونه فإذا كنتَ تقيّاً لله فإنّك تنجذب بشكلٍ لا شعوري إلى أن تعطيه بعد أن تفكّر في إمكاناتك وكيف تستطيع أن تعطيه بحيث إذا كنت في سعةٍ من أمرك تعمل على أن تعطيه من موقع تلك السعة، وإذا كنت في ضيق من أمرك تعمل على أن تقدِّم العطاء رمزاً، وتقول له هذا ما استطعت أن أُقدِّمه لك، وإنْ كان لا يحلّ مشكلتك لكنّه قد يحلّ جزءاً من المشكلة، ونحن نعرف أنّ الله وصف نفسه بالكريم واعتبر البخل ممّا يأمر به الشيطان الذي يحاول أن يخوِّف الناس بالفقر ولذلك فإنّه يأمرهم بالبخل {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس : 47]، كما حدَّثنا الله عن بعض هؤلاء الناس، الله هو الذي أعطاك وأعطى فلاناً، فهو يبعث لي من خلال فلان وفلان، لم يبعث لي من السماء، الله يعطي على أيدي عباده وقد أكرمك بأن جعل حاجة عباده إليك، إنَّ مِن نِعَم الله عليكم حاجة الناس إليكم، فإذا قبلت كرامة الله فأعطيت عباد الله، فسوف يكرمك الله، أمّا إذا لم تقبل ذلك فإنَّ الله يعرف كيف يزيل نعمته عنك، {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران : 134] هؤلاء الذين يحبسون غيظهم، وفي الحياة مشاكل كثيرة تثير الغيظ، قد تعيش في بيتك فتغتاظ من زوجتك، وقد تعيش في بيتك فتغتاظ من جارك، وقد تعيش في محلّتك فتغتاظ من الناس الذين تعيش معهم، وفي محلّك فتغتاظ من زبائنك وفي الحياة كلّها فتغتاظ من الناس الذين تعاشرهم ويعاشرونك، إذا كنتَ تعيش الغيظ فكيف تتعامل معه، هل تفجّره ضرباً وقتلاً وشتائم؟ إنّ الله يقول إذا أردت أن تدخل الجنّة فشرط الجنّة أن تكظم غيظك، أن تكون من الناس الذين لا يفجّرون غيظهم حتّى لو كان لك حقّ في ذلك. فإذا حبست غيظك وكتمته تقرُّباً إلى الله فإنَّ الله يؤجرك على ذلك بدخول الجنّة، وهذه تحتاج إلى جهاد نفس. إنّ من الصعب أحياناً أن تهدّئ روعك، لكن مثلما عندنا برَّاد يبرّد لنا الجوّ حتّى نستطيع المكوث طويلاً في مكانٍ ما ومثلما نحتاج إلى برّاد يبرّد لنا الماء حتّى نشرب ماءً بارداً ونرتوي، نحتاج إلى برّاد يبرّد أعصابنا حتّى لا يفسد غيظنا ديننا ودنيانا، لأنَّ الغضب قد يفسد دنياك ويفسد آخرتك معاً. جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام)، "أي شيء أشرّ من الغضب، إنَّ الرجل إذا غضب يقتل النفس، ويقذف المحصنة"(1). جاء شخص إلى النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال له أوصني يا رسول الله، قال: "انطلق ولا تغضب، قال له: لا تكفي هذه أوصني يا رسول الله، قال انطلق ولا تغضب وكرِّر القول مرّة ثالثة وكرَّر الرسول القول أيضاً مرّة ثالثة فقال الرجل: لو لم يكن رسول الله قد عرف أنّ هذه الوصية تكفيني في مثل ظروفي لما اقتصر عليها وقد أكّدت عليه ذلك. "صاحبنا" أخذ الوصية ووصل إلى بلدته وهي كأيّ بلدةٍ أخرى تختلف فيها العشائر نتيجة مشكلة مع ولد أو على أرض أو ما إلى ذلك، فَوَجَدَ عشيرته والعشيرة الأخرى تقف إحداهما ضدّ الأخرى والسلاح في يد هذا وفي يد ذاك، هذا رأساً ثارت أعصابه بشكلٍ طبيعي، ذهب إلى بيته والغضب يفور من وجهه، ذهب إلى بيته وأخذ سلاحه ووقف في المعركة، عندها تذكّر وصية رسول الله بالصبر على الغضب، فهدأت أعصابه وفكَّر في الأسلوب الذي يستطيع من خلاله أن يحلّ المشكلة، فجاء إلى خصومه وقال لهم لقد سقط بعض القتلى والجرحى وبعض الأموال؛ كلّ ما سقط من قتلاكم وجرحاكم وأموالكم فهو في مالي أنا أدفع ديّته وعوضه وتعالوا نتفاهم، عند ذلك هزَّت تلك الأريحيّة أولئك القوم لأنّهم عرفوا أنّه يتكلّم من موقع قوّة لا من موقع ضعف، قالوا لن تكون أكرم منّا نحن نقول لك كلّ ما سقط لكم من قتل وجراح ومال فهو في مالنا، وسكَنَ الغضب بين العشيرتين، وحلَّت المشكلة بالتي هي أحسن.
لهذا نحتاج إلى أن نعيش عقلانيّتنا في دراسة الأمور ونتعوَّد على أن نبرِّد أعصابنا لأنَّ الإنسان عندما يكون في حالة الغضب ينخفض تأثير العقل على إرادته، "مَن لم يملك غضبه لم يملك عقله"(2).
وهناك نقطة ثانية، أنتم تحافظون على أسراركم أم لا، كلٌّ منّا يحبّ أن يحافظ على أسراره، لكن عندما تثور أعصابك وتغضب، كلّ أسرارك تصبح على لسانك بحيث إنّك لو ضربت أحداً وأثرت أعصابه فما عليك إلاّ أن تسجّل ماذا يقول: تعمل بطريقة المخابرات، التي تخلق المشاكل لإثارة أعصاب الناس، فيبدأ هذا بفضح أسرار ذاك وذاك بفضح أسرار هذا، والمسجّلة تسجّل والقلم يكتب. يقول الشاعر:
أغْضِبْ صديقَكَ تَسْتَطْلِعَ سريرَتَهُ للسرّ نافذتانِ السكْرُ والغَضَبُ
إنَّ نفوسنا مثل مياه البركة، فهي عندما تكون ساكنة تبدو المياه صافية على سطحها فيما الأوساخ تترسَّب في قعرها، أمّا عندما نحرّك البركة ونحرّك ماءها فإنَّ الأوساخ تختلط بالماء الصافي وتطفو على سطحها حاجبة صفاءها السابق.
إذا لم تستطع أن تملك غضبك فلن تستطيع أن تملك سرّك، بل سيستطيع الآخرون أن يطّلعوا على أسرارك بعدما يستثيرونك.
أوحى الله إلى داوود أن "اذكرْني في غضبك أذْكُرْكَ في غضبي حتّى لا أمحقَك في من أمحق"؟ إذا غضبت فلا تحاول أن تفجِّر غضبك في ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، للإمام عليّ (عليه السلام) تعبير جميل في كظم الغيظ، يقول متى أشفي غيظي، مشكلتي أنا كمسلم وكمؤمن ليس عندي فرصة لأن أشفي غيظي، أعند الاقتدار، فيقال لي لو عفوت، أم حين أعجز فيقال لي لو صبرت، يقول الله أمرني بالصبر وأمرني بالعفو، فعندما أقدر على صاحبي لا أقدر أن أشفي غيظي لأنَّ الله يقول: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة : 237]، عندما أعجز أيضاً لا أقدر لأنَّ الله يقول: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل : 126]، وربّما في بعض كلماته أنّه "مَن أحبّ السبيل إلى الله عزّ وجلّ جرعتان جرعة غيظ يردّها بحلم وجرعة مصيبة يردّها بصبر"(1)، إنَّه الإنسان المنتصر دائماً، يقال مرَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) على جماعة وهم يتبارون في حمل حجر فسألهم ماذا تفعلون، قالوا نرى مَن هو بطل فينا، قال لهم "ليس الشديد بالصرعة"، الشخص البطل ليس الذي يضرب أو يحمل حجراً أكبر من حجر الآخر، ولكنّ الذي يملك نفسه عند الغضب، الذي يستطيع أن يسيطر على أعصابه هو البطل، لأنَّ عضلاتك المتمرّسة تستطيع أن تحمل حجراً، ليست هذه بطولة كذلك الإنسان الذي يضرب ويقتل.. ولكنَّ الأمر الذي يشكّل عنصر إنسانيّتك هو الصبر وكظم الغيظ.
اضغط على أعصابك، عندما تثور فإنَّ ذلك يحتاج منك إلى طاقة أكثر من الطاقة التي تصرفها العضلات في حمل الأثقال وأكثر من الطاقة التي تصرفها اليد في إطلاق الرصاص ليس من البطولة في شيء أن تضرب وتسرق وتقتل الناس، البطولة هي أن تقاوم الشيطان وإيحاءاته الخبيثة. وقد ورد أنّ الغضب مفتاح كلّ شرّ وأنّه أساس كلّ شرّ وأنَّ الإنسان الذي يكظم غيظه احتساباً لله، فإنَّ الله سبحانه وتعالى سوف يفيض عليه من رحمته، وفي الآية نفسها أنّ الله يعطيه المغفرة والجنّة. إذاً علينا أن نتعوّد على تبريد أعصابنا وتسكين غضبنا وأن نوسّع صدورنا، وذلك في خطّين.
الخطّ الأول: النظر إلى الله سبحانه وتعالى ومراقبة الله في ذلك، لأنَّ الغضب قد يقودنا إلى ما يغضب الله وإذا خسرنا رضى الله خسرنا كلّ شيء.
الخطّ الثاني: التفكير في نتائج الغضب التي قد تأكل كلّ حياتك وقد تفقد حياتك بلحظة غضب، وربّما تفقد حريّتك في لحظة غضب، وربّما تعاني من الآلام الكثيرة عندما تجرح بلحظة غضب، لهذا علينا أن نتدرّب على امتلاك غضبنا وأن لا نغضب إلاّ لله، اغضب لله، إنَّ الله يريد منك أن تغضب له ولكن غضباً عقلانياً، الغضب العقلاني يعني أن تحرّك غضبك بحيث لا تخرج عن طاعة الله سبحانه وتعالى، لا تتكلَّم كلمة لا يرضاها الله ولا تتحرّك في أيِّ عمل لا يرضاه الله.
هذا هو الأساس الذي يريدنا الإسلام أن ننطلق به وأن نعيشه على مستوى حياتنا الفردية وعلى مستوى حياتنا العامّة. ونحن نعرف أنّ كثيراً من مشاكل الحياة الزوجية أو الحياة الأبويّة مع الأولاد تحدث من خلال الغضب الذي لا يسيطر معه هذا الطرف على نفسه أو ذاك الطرف عليها فيشاركان في هدم البيت كلّه على رؤوس الجميع. وهكذا نجد أنّ كثيراً من المشاكل التي تقود إلى التحاقد وإلى التقاتل والتنازع، إنّما تنطلق من موقف غضب لا يملك فيه الإنسان وضوح الرؤية ولا يملك فيه العقل فيؤدّي ذلك إلى ما يؤدّي من الفتن الكثيرة التي تحرق الأخضر واليابس. لهذا لا بدّ لنا من أن ندرس مسألة الغضب وتربية النفس على أساس أن لا يغضب الإنسان، وإذا غضب فلا بدّ أن يربّي نفسه على أن يهدّئ غضبه وعلى أن يحرّك غضبه في طريق لا يغضب الله وعلى أن يعطي غضبه جرعة من العقل. ربّما نغضب من أوضاعنا العصبية وأوضاعنا الاجتماعية، صعب أن يملك الإنسان غضبه بسهولة، لكن بمجرّد أن تغضب حاول أن تعطي غضبك جرعة من عقل أو جرعة من إيمان.. في بعض الأحاديث أنّ الإنسان إذا غضب فعليه أن يذكر ربّه وإذا كان واقفاً عليه أن يجلس، عندما تقعد تبرد أعصابك قليلاً، وهكذا ابحث لنفسك في حال غضبك عمّا يمكن أن يبرّد غضبك أو ينهي حالتك العصبية، حتّى تستمرَّ حياتنا وحتى نستطيع أن نملك أمرنا.
المخابرات وعوامل الإثارة عند الشعوب
في دراستنا لحركة أجهزة المخابرات في العالم وفي حركة التيّارات السياسية العالمية، نجد أنّهم يدرسون عوامل الإثارة عند الشعوب؛ إذ ربّما تعيش بعض الشعوب حالة عشائرية فيدرسون عناصر الإثارة في العلاقات العشائرية، وكذلك في الحالة الطائفية أو الحزبية.. ويدرسون كيف يجدون عصبية تعمل على أن تلغي الآخر أو يجدون في بعض الأوضاع حالة احتقان نفسي من خلال الكلمات المثيرة ومن خلال الحركات المثيرة، ومن خلال الأجواء المثيرة، حتّى يتحرّك الجوّ من حالة احتقان، وحتّى يتحرّك الجوّ في حالة اشتعال بحيث يمكن لعود ثقاب واحد أن يحرق البلد كلّه.
قلوبنا تطرى بالإيمان وبالحوار بالعلاقات الإنسانية.. بعض الناس يريدون أن يجفِّفوا قلوبنا ويجفّفوا كلّ مشاعرنا وعقولنا، وعندما تيبس المشاعر والعواطف والقلوب والعقول، عند ذلك يسهل كسرها وكذلك إشعالها. لهذا فلنعش الطراوة التي تجعل كلّ واحدٍ منّا يفكّر في علاقته بأخيه بروح المحبّة والمودّة على أساس أن تكون تلك المشاعر الطريّة الليّنة والكلمات الليّنة هي التي تحاول أن تسيطر على كلّ عمليات الاحتقان والاشتعال، وحتّى نستطيع أن نتخلَّص من كلّ تخطيط مخابراتي يريد لنا الانتقال من فتنة إلى فتنة ومن حرب إلى حرب. نحتاج أن نعيش أخلاقية كظم الغيظ، أن ننظر إلى ما عند الله في ذلك كي نواجه من يأتينا ليحرّضنا بما يتناسب مع الموقف الحكيم.
يأتيك حامل إشاعة، الجماعة الفلانية خصومنا قتلوا صاحبنا قالوا كذا وعملوا كذا، فيثور الناس، عندما يأتي ويتكلَّم يقال له، من أين سمعت، مَن الذي أخبرك، كيف حدثت القضية؟ سؤال وجواب وعندما تكتشفون أنّ هذه الكلمة ليس لها واقع وليس لها حقيقة فيبرد الجوّ... كثير من الناس يأتون وهم يعتمدون على طبيعة المشاكل الموجودة بين الناس حتّى يحاولوا أن يثيروها.
علينا أن ندقِّق في أجواء الإثارة
لهذا، علينا ـــ ولاسيّما في هذه الظروف الصعبة العصيبة، لا على مستوى الواقع الإسلامي في لبنان بل على كلّ المستويات في العالَم الإسلامي ـــ علينا أن ندقّق في كلّ عمليات الإثارة(1)، ولا بدّ لنا من أن نخترق شخصية كلّ إنسان يحاول أن يحمل لنا عنصر إثارة يريد أن يثير الجو به، لأنّه ربّما كان عنصر مخابرات أو مخدوعاً من عنصر مخابرات، ونحن نعرف أنّ المخابرات مزروعة في ساحتنا بعدّة وجوه، وبعدّة أقنعة، ولذلك لا بدّ من الحذر في ذلك، ولا بدّ من الوعي لكلّ ما تسمع ولكلّ ما تشاهد من أمور ومن قضايا، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} ليس أن تحبس غضبك لتتعقَّد، ولكن احبس غيظك وفكِّر أن تعفو إذا كان العفو لا يضرّ صاحبك ولا يضرّ الحياة من حولك، أن تعفو قربةً لله سبحانه وتعالى، ثم أن تحسن إلى مَن أساء إليك {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران : 134] لتحصل على محبّة الله، ينقل في هذه القضية أنّ الإمام زين العابدين (سلام الله عليه) كان يغسل يديه وكان هناك غلام له أو جارية تصبّ الماء من الإبريق على يديه انشغلت في بعض الأشياء التي رأتها فسَقَطَ الإبريق ـــ وكان إبريق نحاس ـــ على رأس الإمام فشجّه فسال منه الدم، طبعاً هذا خطا يستحقّ العقاب، عادة يثور صبر الواحد مثلاً قد يحدث هذا الأمر مع أيّ شخص منّا هل يبقى عندك وعي، هذه الجارية لبقة مترتّبة في بيت الإمام طبعاً قالت له يا مولاي {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، قال لقد كظمتُ غيظي قالت {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} قال لقد عفوتُ عنكِ قالت {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال اذهبي فأنتِ حرّة لوجه الله، تثبيت عملي تسلسلي؛ أن تكظم غيظك، وتعفو عمَّن أساء إليك، ثمّ تحسن إليه. وهذه حكاية نحكيها الآن، وقصّة نسمعها، لكن وقت التطبيق صعبة كثيراً ولأنّها صعبة كثيراً كان ثمنها الجنّة، فالجنّة حُفَّت بالمكاره وحُفَّت النار بالشهوات. ليس سهلاً أن يحبس الإنسان غيظه وليس سهلاً أن يعفو الإنسان عمَّن أساءَ إليه، ليس سهلاً أن تحسن إلى مَن أساء إليك، إنَّها من أصعب الأشياء على النفس، ولكنَّ الجنّة تستحقّ ذلك كلّه. وهناك نقطة أخرى، الله سبحانه يقول: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة : 111]. الله يقول لك أنا مستعد لأن أشتري نفسك ومالك على أساس الجنّة، أنا أشتري غضبك وأعطيك الجنّة مقابله، ليس الأمر سهلاً بالطبع، كما تجاهد في قتال العدوّ وتقف من أجل أن تواجهه، الله يقول الجنّة أُعِدَّت للمتّقين، ومن المتّقين الكاظمون الغيظ والعافون عن الناس، يعني هنا جنّة وهنا جنّة، فكما تتحمّل كلّ شيء وتضحّي بنفسك حتّى يرضى الله عنك وحتى تحصل على الجنّة؛ ضحِّ بانفعالك، ضحِّ بمزاجك، ضحِّ بغضبك والله يقول: لكَ الجنّة، فالمسألة فقط تحتاج إلى عقل ووعي، والتفكير في ما عند الله سبحانه وتعالى. وإنْ شاء الله تطبّقها، ولو بعد سنة، لكنّ المهم أن نبدأ الخطوة الأولى في هذا المجال، بعد قليل ستذهبون إلى معايشكم ومنكم مَن يذهب إلى المنزل ترى البيت ليس نظيفاً، ترى الولد متّسخاً قليلاً، الطبخة لم تعجبك، فتصيح في وجه امرأتك لأنّها تأخّرت عن صنع الطعام، لا، هذه أوّل تجربة لك بعد سماع هذا الكلام، لذا يجب عليك أن تصبر في هذا المجال، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} ممّا يغضب الله {أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} بالمعصية، {ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ} إذا استغفرت الله وتبت إليه، فإنَّ الله يغفر لك ذلك {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ*أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135 ـــ 136].
هذا الجوّ من التقوى هو الذي نحتاجه، وهذا هو الذي يدلّ على إيمان الإنسان المؤمن وعلى محبّته لله، لأنَّ بعض الناس ربّما يعتبر علامة الإيمان في الصلاة التي يصلّيها وهي علامة من علامات الإيمان، ولكن قد يعتادها الإنسان فيمارسها على أساس العادة، وهناك من الناس من يعتبر أنّ الصوم هو علامة الإيمان فيعتبر نفسه مؤمناً إذا صام وصلَّى وحجَّ وفعل بعض المستحبّات ويعتبر أنّه قد أمسك بمفتاح الجنّة، إنَّ الله يقول لك: الإيمان عند الغضب، تعرف نفسك؛ هل يسقط إيمانك عند غضبك أم يثبت إيمانك في هذا الموقع، الإيمان في مواقع العطاء، الإيمان في مواقع الاستغفار، فاعرف إيمانك من خلال ذلك، وهذا ما نريد أن نؤكّده في مجتمعنا المؤمن. إنَّ قضية المؤمنين هي أن يجعلوا شخصيّتهم صورة لإيمانهم، وأن يعتبروا أنّ أخلاقية الإسلام في مثل هذه الأمور وفي غيرها؛ هي التي يمكن أن تنجّي من عذاب الله وتؤدّي بنا إلى نيل النعيم الأبدي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
عملية التغيير أمام مرآة النقد(*)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ*وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ*لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 18 ـــ 20].
مسؤولية المؤمن
في هذه الآيات، يريد الله أن ينبّهنا إلى نقاط ثلاث تتّصل بمسألة المصير في العمق، بحيث إِنَّ الإنسان الذي لا ينتبه إليها ولا يعيش معها، فإنّه قد يفقد مصيره ويخسر الدنيا والآخرة. النداء الأوّل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} إنّها دعوة للمؤمنين إلى أن ينتبهوا إلى صفتهم الإيمانية. يقول الإنسان لنفسه مَن أنا؟ ما صفتي كإنسان يعيش في هذا الكون؟ هل أعيش مع صفتي الذاتيّة، لتكون المسألة عندي هي أنْ أُحقِّق ذاتي في ما تعيش من أنانيّات، أم أنّ صفتي هي الصفة العائلية، لتكون القضية عندي كيف أُحافظ على انتمائي العائلي، وكيف أُقوّي عائليّتي في مقابل عائليّات الآخرين، لأعيش الأنانية العائلية ولأحافظ على كرامة العائلة ومجدها؟ أم أنّي أتحرَّك بصفتي القوميّة؟ هل أنا عربي؟ أو أعجمي؟ لأؤكّد في حياتي صفتي القومية، فأعمل على أن أُحقّق العزّ لقومي وأُحقّق الموقع المميّز لقوميّتي؟ أم أنّني أتّخذ لنفسي صفة أخرى هي الصفة الإيمانية؟
لقد خاطب الله الناس بصفتهم الإيمانية، كما خاطبهم بصفتهم الإنسانية، ليقول لهم إنّ لكم صفتين: صفة تستمدّونها من وجودكم، وتلك هي صفة إنسانيّتكم، التي تلتقون فيها على أساس هذا المبدأ الذي يوحّدكم بين يديّ الله، وصفة الإيمان التي تجعل الحياة عندكم خاضعة للمسؤولية، التي تنطلق من الله وتتحرّك في خطّ علاقاتكم مع الحياة من حولكم، ومع عباد الله، وهي صفة الإيمان. فأنتم عندما تؤمنون بالله، فإنّكم تتحسَّسون حضور الله في الكون، باعتبار أنّه وحده الخالق، ووحده المدبّر، ووحده المهيمن على الأمر كلّه، فترجعون إليه تستمدّون منه شرعية كلّ عمل تعملونه وكلّ موقف تقفونه وكلّ علاقة تتحرّكون فيها، لتتحسَّسوا في إيمانكم أنّ الله ينظر إليكم من موقع هذا الإيمان، ويحاسبكم على أساس مواقع ومواقف هذا الإيمان. فالله سيقول لك كمؤمن كيف هي قضيّتك في خطّ إيمانك؟ هل كنت مؤمناً في بيتك تتعامل مع أهل بيتك بالإيمان؟ هل كنتَ مؤمناً في مجالات عملك، لتتعامل مع الناس على أساس الإيمان؟ هل أنتَ مؤمن في علاقاتك العامّة والخاصّة في ما تؤيّد وفي ما ترفض؟ كن المؤمن الذي يعتبر الإيمان كلّ حياته، ويعتبر صفة المؤمن هي الصفة التي تحيط بكلّ مواقعه، فلا يخلو أيّ موقع من مواقعه من خطّ الإيمان {... وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة : 57]. إنَّ الإيمان يفرض عليكم التقوى، لأنّ المؤمن بالله هو الذي يعتقد بأنّه مسؤولٌ أمام الله، وأنّ الله هو الذي يحاسبه، وهو الذي يعاقبه ويثيبه. ولهذا فإنَّ عليه أن يخشى مقام ربّه، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 ـــ 41]. أن تخاف الله وأن تراقبه وأنتَ تتحرّك في حياتك وأن تحاسب نفسك على ما تحرَّكت فيه.
ترتيب الحساب مع الله
{اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} اتّقِ الله ليدفعك خوفك من الله سبحانه وتعالى إلى أن تعرف رصيدك عند الله، ماذا قدّمت لنفسك أمام الله؟ حتّى إذا جاءك الموت الآن، فأنتَ تستطيع أن تحسّ بالأمن، لأنّك تملك رصيداً يدخلك الجنّة، أو يبعدك عن النار، {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} غداً ستقف بين يديّ الله، قد يكون الغد يوماً تستقبله، وقد يكون شهراً تستقبله، وقد يكون سنة، أو أكثر من سنة. المهمّ أن تظلّ في وعيٍ دائم لِمَا قدّمت لغدك في الفرصة التي تقف فيها بين يَدَي ربّك، ممّا يعني أنّ على الإنسان في كلّ يوم أن يحسب حساباته في علاقاته مع الله، وأن يفكّر في اليوم الماضي كيف مضى، وفي اليوم القادم كيف يستقبله؟.. استمعوا لما ورد عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، لنتعلَّم كيف نحاسب أنفسنا، وكيف نستطيع أن نتعرَّف رصيدنا. يروى أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يوصي أبا ذر ليحدِّث أبو ذر نفسه بذلك، وليحدّث غيره بذلك "يا أبا ذر، حاسِب نفسك قبل أن تُحاسَب فهو أهون لحسابك غداً"(1)، احسب حساباتك الآن، كم معصية عصيت الله بها، وكم طاعة أطعت الله بها، هل حساب السيّئات عندك أكثر، أم حساب الحسنات؟ أم أنّ الحسابات تتساوى في هذا المجال؟ حاسِب نفسك الآن، إذا حاسبت نفسك الآن فإنَّ ذلك يهوِّن عليك الحساب غداً. مَن يحاسِب نفسه فسوف يعرف الخسارة والربح في حساباته؛ فإذا رأى نفسه خاسراً، حاول أن يعوِّض الخسارة وإذا كان رابحاً، حاول أن يحافظ على الرّبح وأن يستزيد منه. أمّا الذي لا يحاسب نفسه فيصعب عليه الحساب غداً، لأنَّ الأمور تضطرب عليه في ذلك الموقف الصعب.
"حاسِب نفسك قبل أن تُحاسَب فهو أهون لحسابك غداً وَزِنْ نفسك قبل أن توزَن": ما هو حجمك؟ ما هو قدرك؟ وما هي قيمتك عند ربّك؟ زِن نفسك لأنَّ ميزان الله لا يخطئ؛ فإذا لم تكن ممّن ثَقُلَت موازينه، فلن تستطيع أن تحصل على شيء، لأنَّ الذي يخفّ ميزانه يوم القيامة لا يجد لنفسه أيّ موقع في مواقع رحمة الله. لهذا لا بدّ لك من أن تزن نفسك الآن، فإذا رأيت نفسك خفيفاً في أعمالك، فحاول أن تثقل عملك، لتكون كفّتك في الميزان ثقيلة. وإذا رأيت أعمالك ثقيلة وجيّدة، فحاول أن تزيد من أعمالك، لتكون مواقعك أكثر ثباتاً وأكثر قيمة عند الله.
"وَزِنْ نفسك قبل أن توزَن، وتَجَهَّز للعرض الأكبر"، عندما يعرض الناس {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة : 18]، هناك يوم العرض الأكبر، ليس عرض الأجساد أو الجمال أو المال، سوف تعرض سرائركم عند الله {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق : 9]، وسوف تعرض أعمالكم على الله، يوم تقدّم الأعمال في صحيفة أمام الله، وسوف تعرض كلّ كلماتكم {... مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف : 49]، جهِّز نفسك للعرض الأكبر؛ حتّى إذا عرضت على الله، كنتَ في موقع تستطيع أن تأمن فيه على نفسك وأنت تواجه الموقف العظيم بين يدي الله، وتجهَّز للعرض الأكبر يوم تعرض، حيث لا يخفى على الله خافية.
"يا أبا ذر"، وكأنَّ رسول الله يخاطب كلّ واحدٍ منّا، "لا يكون العبد مؤمناً حتّى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه"(1). إذا أردت أن تقسم مع شريكك، لتأخذ حصّتك وتعطيه حصّته، كيف تكون الدقّة في الحساب. إنّك تعمل على أساس أن تراقب حتّى القرش الصغير، لهذه المسألة هي أنّ عليك أن تحاسب نفسك، لأنّك إذا خسرت في حسابك مع شريكك، فقد تعوّض خسارتك، ولكن إذا أسأت الحساب مع نفسك فإنَّ إساءة الحساب تكلِّفك مصيرك أمام الله يوم القيامة.
الطرق الشرعية لاكتساب المال
قد يأتي وقت الغداء ويقدّم لنا الطعام والشراب، طعامٌ لذيذ وشراب بارد، يتغذّى به الجسد ويلتذ ويرتوي من الظمأ، لكن فكِّر: هذا الأكل الذي أمامي، من أين جاء، من حلال أم من حرام؟ هل سرقت المال الذي اشتريت به هذا الطعام؟ هل أخذته من معاملة غششت بها الناس؟ هل في الطعام دموع للأيتام الذين سلبتهم مالهم؟ هل في الطعام دموع للضعفاء الذين سرقت منهم مالهم؟ من أين مطعمك؟ لا بدّ للإنسان أن يعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه؟ أَمِن حلال أم من حرام؟ لاحظوا كيف يقودنا رسول الله في ما يروى عنه إلى أن نحدّق بالأكل لنعرف مصدره، لا من أيّة شركة، أو من أيّ مصنع، أو من أيّة بلاد، لكن هل هو ممّا حرَّم الله أم هو ممّا أحلَّ الله؟
"يا أبا ذر مَن لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين أدخله النار"(1). يعني إذا فكّرنا أنّ المهم أن نحصِّل المال، وليس المهمّ طريقة تحصيله، فالحلال كما يقول بعض الناس ما حلَّ باليد ولو أخذته من سرقة، وهناك كلمة مهذّبة أصبحت للسرقة، "مصادرة"، صادرنا هذا المال. إنَّ هذا المصطلح أخذ يدخل في الميزان الثوري أو السياسي. صادرت، هل لك حقّ أن تصادر؟ من أين لكَ الحقّ؟ مَن الذي أباح لك أن تُصادِر؟ فإذا لم تكن لك شرعية من الله فأنتَ لصّ، وأنتَ سارق، وأنتَ خائن تخون موقعك، عندما تجعل منه أساساً للاعتداء على أموال الناس، لتكن لك سلطة سياسية، لكنّ الكلام أين شرعيّتك الإسلامية؟ لتكن لك سلطتك الأمنية لكن أين شرعيّتك الإيمانية؟
لا يحلّ مال إلاّ من حيث أحلَّه الله؛ فليحلّ الناس الكبار والصغار المال، إلاّ أنّه لن يكون حلالاً إلاّ إذا أحلّه الله. لهذا إذا كنت لا تبالي كيف اكتسبت هذا المال، من سرقة تعطيها أيّ عنوان مهذَّب، أو من معاملة باطلة، أو من عمل اشتمل على رجس، أو كنت وليّاً للأيتام فأكلتَ أموالهم، وكنتَ أخاً للضعفاء فأخذت إرثهم، وكنتَ حاكماً للمستضعفين فنهبت أموالهم، أو نهبت ميزانية الدولة التي تحكمها؟ إذا لم تبالِ من أين اكتسبت المال؟ فلن يبالي الله يوم القيامة من أين يدخلك النار.
محاسبة النفس
وهناك حديث ثان ينقله الإمام عليّ (عليه السلام) في ما يُروى عنه عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "أَكْيَسُ الكيّسين (والكيّس هو العاقل) مَن حاسَبَ نفسه وعَمِلَ لِمَا بعد الموت"(2). يحاسب نفسه ويجعل عمله للآخرة، فقال رجل: "يا أمير المؤمنين كيف يحاسب نفسه، أجاب (عليه السلام): "إذا أصبح ثمّ أمسى"، قبل أن ينام، النهار انتهى، وأقفل الدكّان، ورجع من عمله وأراد أن ينام، قبل أن ينام يأخذ ربع ساعة أو نصف ساعة، "إذا أصبح ثمّ أمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفسي إنَّ هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك أبداً"(1) ليس هناك أيّ مجالٍ للعودة، ذهب اليوم فما الذي عملت فيه؟ وهذا اليوم معناه قطعة من العمر ذهبت، معناه يوم من عمري مات، كان هذا اليوم حيّاً في حياتي، ومات كما ستموت بقيّة أيامي، هل ذهب هذا اليوم في العمل كما ذهب في خطّ الزمن؟
أيُّها المؤمن؛ تكلَّم مع نفسك، أَذَكَرْتَ الله في هذا اليوم وحمدته؟ هل كان في هذا اليوم ذكر لله باللّسان، وذكر بالموقف والوعي؟ هل حمدت الله من كلّ ما يوجب حمده؟ أقضيت حوائج مؤمن فيه، أو نفَّسْتَ عنه كربه؟ أحفظته بعد الموت في مخلفيه؟ هذا المؤمن كان جاراً وذاك كان قريباً، مات وله أطفال، يا نفس هل رعيت أطفال الجار المؤمن والقريب المؤمن، أم تركتهم من دون رعاية وهم بحاجة إلى مَن يرعاهم؟ أكففت غيبة أخ مؤمن؟ أم سكتَّ وقلت لا أريد أن أتعب نفسي بالدفاع عن المؤمن؟ أَأَعَنْت مسلماً؟ ما الذي صنعت في هذا اليوم؟ "إن ذكر أنّه جرى منه خير حمد الله وكبّره على توفيقه" أي شَكَرَه "وإن ذكر معصية أو تقصيراً استغفر الله وعزم على ترك معاودته"(2).
المهمّ أن تحاسب نفسك، حتّى تستطيع أن تعرف نقاط الضعف في نفسك تجاه الله، في ما أراد الله منك من أوامره ونواهيه، وتجاه الناس في ما لهم عليك من حقوق، وتجاه نفسك في ما لنفسك عليك من حقوق، فإنَّ الله جعل لنفسك عليك حقّاً، أن لا تورّطها بدخول النار، كما جعل الله للنّاس عليك حقّاً، أن لا تظلمهم بالبغي والعدوان.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر : 18]، وإذا نظرت ما قدَّمت لغد فلا تسترخ، ولكن اتّقِ الله في ما تستقبل من أمر، فقد يكون رصيدك جيّداً الآن، ولكن عليك أن تحافظ على رصيدك في ما تستقبل، حيث تستطيع أن تضمن لنفسك الرّبح في مستقبل حياتك قبل أن تموت، كما ضمنته في الماضي. لهذا لا بدّ أن تتّقي الله فتحاسب نفسك، ولا بدّ أن تتّقي الله في ما تستقبل من عمل {وَاتَّقُوا اللَّهَ} من جديد، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ* وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} [الحشر : 18 ـــ 19]. أيُّها المؤمنون، اذكروا ربّكم في الصباح وفي المساء، وقد جعل الله لنا هذه الصلاة التي نصلّيها خمس مرّات في اليوم، لنتذكّره دائماً، لنتذكّره في الصباح قبل أن نبدأ العمل، ولنتذكّره في وسط النهار بعد أن نستغرق في العمل، ولنتذكّره عند المساء بعد أن نتخفَّف من العمل. لنذكر الله قبل أن نبدأ اليوم ليكون يومنا تقيّاً، ولنذكره في وسط اليوم ليكون يومنا تائباً، ولنذكره في آخر اليوم ليكون يومنا واعياً تائباً نادماً، حتّى نذكر الله في كلّ وقت، لنعيش بحزام روحي يلتف على كلّ زماننا في ذكر الله.
من نسي ربّه نسي نفسه
ثمّ هناك ذكر لله لا باللّسان فحسب، بل بالقلب والوعي. أن تذكر الله سبحانه وتعالى عندما تقف أمام المعصية، وتدعوك نفسك إلى أن تهجم عليها، أو تقف أمام الطاعة وتدعوك نفسك إلى أن تتركها؛ اذكر الله، لأنّك إذا ذكرت الله، ذكرت نفسك، وعرفت ما يصلحها وما يخلّصها وما يحقّق لها الخير كلّه في الدنيا والآخرة. أمّا إذا نسيت الله فإنّك تنسى نفسك، لأنّك تعبد الشيطان وتعبد شهواتك وغرائزك، وبذلك تهمل نفسك، وتنسى مصلحتها وتضيع كما يضيع كلّ من اعتمد على نفسه وترك الاعتماد على الله.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر : 19]، لأنَّ الإنسان إذا نسي ربّه، فإنّه يتحرّك في وحول المعصية، وبذلك يفسق في عمله، كما يفسق في روحيّته. ثمّ بعد ذلك فكّروا بالجنّة، لا تنسوها. لا تفكّروا فقط في دار تبنونها لسنوات تعيشونها، بل فكِّروا في دار تبنونها لعمرٍ خالد تعيشونه. فكّروا في الجنّة، وفي ثمنها، وفكّروا في النار وبما يبعدكم عنها. فقد جاء عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للكثيرين من الناس الذين يستغرقون في خير الدنيا، ولكنّهم لا يفكّرون بخير الآخرة، وللكثيرين من الناس الذين يعانون من شرّ الدنيا، ولكنّهم لا يفكّرون شرّ الآخرة: "ما خير بخير بعده النار، وما شرّ بشرّ بعده الجنّة"(1)، يعني، لو كان الخير كلّه لك، من مال وجاه وشهوات، وكان مصيرك إلى النار، فما قيمة كلّ ذلك البلاء والعناء؟ لهذا فكِّر أن تكون من أهل الجنّة ولا تفكّر أن تكون من أهل النار {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر : 20] وذلك هو الفوز العظيم. وإذا كنت تريد الجنّة، فاعرف أنّ الله لا يبيع جنّته مجاناً، بل إنّه جعل المسألة خاضعة للتجارة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف : 10] ويذكر الله الإيمان والجهاد في سبيل الله {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ...} [التوبة : 111]، قالها عليّ (عليه السلام) لأصحابه في وقت من الأوقات وهو يتحدّث عن أعمالهم، "أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه وتكونوا أعزّ أوليائه عنده هيهات لا يخدع الله عن جنّته ولا تبال مرضاته إلاّ بطاعته"(2) إذا كنتم تخدعون أنفسكم ويخدع بعضكم بعضاً في مظهر إيماني يوحي بأنّكم من أهل الجنّة، وفي عمل إسلامي يوحي بأنّكم من أهل الجنّة، وهناك خفايا وبلايا لا يعلمها إلاّ الله، لو اطّلعت عليها لولّيت منها فراراً ورعباً، فأنتَ قد تخدعني، وقد أخدعك، ولكن مَن يخدع الله سبحانه وتعالى، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟
أهمية النقد الذاتي
في هذا الجوّ الإيماني الذي نريد أن نعيش فيه، لنتعلَّم النقد. والنقد الذاتي، أن ننقد أنفسنا كأفراد في ما أخطأنا فيه وفي ما فرَّطنا فيه، وأن ننقد أنفسنا كجماعات في ما أخطأت فيه الجماعة وفي ما فرَّطت فيه، وأن تكون لدينا شجاعة مواجهة الخطأ والاعتراف به وشجاعة تغييره، ولا نكون من الذين يحاولون أن يخفوا أخطاءهم، أو يصوَّروا أخطاءهم على أنّها صواب، وسيّئاتهم على أنّها حسنات، حتّى إِنّ بعضهم يحاول أن يجعل الخطأ مقدّساً، وإذا أخذ الخطأ قدسية في نفوس الناس، فكيف يمكن أن تستقرّ حياتهم؟.
لهذا عندما نفكّر في الله، فعلينا أن نفكِّر في أنفسنا، وفي موقعنا من الله. إذا كنتَ مؤمناً، ففكِّر في حجم إيمانك، وفي مسؤولية إيمانك. عندما يكون عملك عنواناً لعمل المؤمنين، فكيف تسيء إلى المؤمنين من خلال عملك، كما تسيء إلى نفسك من خلال عملك؟ لهذا فلننقد أنفسنا نقداً عميقاً واعياً، من خلال ما علَّمنا الله من القواعد التي تضبط حركة الإنسان في أوضاعه وعلاقاته. يجب أن يكون القرآن مرآة أنفسنا، انظر نفسك في مرآة القرآن، وحاول أن تتعرَّف؛ هل وجهك وجه قرآني في ما تتّجه إليه من أعمال؟ هل قلبك قلب قرآني في ما ينبض به من أحاسيس؟ هل عقلك عقل قرآني في ما يفكِّر فيه من أفكار؟ هل حركاتك حركات قرآنية في ما يرسم القرآن من برنامج للحركة؟ ليكن القرآن مرآة أنفسنا، كما تكون المرآة مرآة أجسادنا.
إنَّ هذا ما نحتاجه لنكون القرآنيين، الذين يغيّرون واقعهم على أساس القرآن في كلّ المجالات، سواء كانت مواقع فكرية في العقيدة أو كانت مواقع عاطفية في الشعور، أو كانت مواقع حركية في الواقع، أو كانت مواقع الانتماء في ما ينتمي إليه الناس. لننتبه إلى أنفسنا فقد يأتينا جوّ العصبية ليأخذنا إليه أو يأتينا جوّ الانفعالية ليضمّنا إليه. لنتخفَّف من عصبيّاتنا، فإنَّ كلّ عصبية في النار. ولنتخفَّف من انفعاليّاتنا فكلّ انفعالية في النار. ولنذكر الله ولنعرف أنفسنا، حتّى نستطيع أن ندرس إذا انتمينا إلى أيّ موقع، هل هذا الانتماء يرضي الله، أم يسخطه؟ وإذا تحرّكنا أيّ حركة، هل هذه الحركة ترضي الله أم لا ترضيه؟ تعلَّم أن تنقد نفسك، لأنّك ربّما تشعر بأنّك تتّخذ موقفاً لا يد لكَ فيه، لأنَّ الجوّ من حولك فرضه عليك.
لننظر إلى كلّ مواقعنا لنحدِّد؛ هل هي المواقع التي تؤدّي بنا إلى الجنّة أم إلى النار؟ لننظر إلى كلّ انتماءاتنا وإلى كلّ مواقفنا، وإلى كلّ كلماتنا، وإلى كلّ تأييدنا أو رفضنا، لننظر هل نحن على خطأ أم على صواب؟
لنفتح صدورنا للناقدين
لنتعلَّم في حياتنا أن ينقد بعضنا بعضاً "المؤمن مرآة أخيه" ـــ حديث شريف ـــ "رَحِمَ الله امرأ أهدى إليَّ عيوبي"(1)، كلمة قيلت عن عليّ (عليه السلام). أن لا تعتبر الإنسان الذي يأتيك ويذكر لكَ عيبك وخطأك عدوّاً لتبدأ بمحاربته، بل اعتبره صديقاً تعمل على أن تكرمه، لأنّه عرَّفك عيوبك التي ربّما تقضي عليك. هو يريد لك أن تحمي نفسك من عيبك، كما تحمي نفسك من عدوّك، وهو يرى منك ما لم تره من نفسك، ولذا يريدك أن تزيل القذى من أخلاقك، كما تزيل القذى من وجهك أو من عينك. لنتعلَّم النقد وأنّ النقد ليس عداوة، لننقد أنفسنا، ونطلب من الناس أن ينقدونا، ولنفتح صدورنا للناقدين، ولنبتعد عن كلمات السباب والشتائم والاتّهامات غير المسؤولة، ولنرتبط بالواقع في قضايانا.
إنّ أيّ إنسان مهما كانت درجته فهو ليس أعلى من أن ينقد وليس أعلى من أن ينبّه وليس أعلى من أن يوعظ. لقد قالها عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو آنذاك أمير المؤمنين ـــ أقدم هذه الكلمات من عليّ (عليه السلام) لكلّ مَن ترتفع درجته في مواقع المسؤولية، سواء كانت مسؤولية شرعية أو غير شرعية، وهو يرى نفسه في ضخامة الشخصية، فلا يقبل أن يقول له أحد أخطأت أو ظلمت أو أسأت، بل يحبّ دائماً أن يقول له الناس أصبت إذا أخطأ، وأحسنت إذا أساء، وعدلت إذا ظلم، ألاّ يشجّع الناس ذلك؟ ـــ أقولها لكلم وأقولها لنفسي في بعض مواقع الضعف في ما أعيشه: إنَّنا لو أيَّدنا شخصاً وأحببناه وعظَّمناه، في أيّ موقع من مواقع القيادة أو المسؤولية وجاء مَن يقول إنَّ صاحبكم أخطأ، فتعالوا نبحث عن خطئه، أو أنّ صاحبكم ظلم فتعالوا نبحث عن ظلمه، أو أنّه أساء فتعالوا نبحث عن إساءته، كيف تتصرَّفون؟ إنّكم ستثورون، بعضكم يسبّ الناقد، والبعض يلقي عليه الحجارة، أو يفتح عليه النار، أو قد يشتمه، من دون أن تفكّروا ماذا قال هذا الرجل؟ وهل هو صحيح أم ليس بصحيح؟ إنَّنا نعبد أصناماً نقدّس فيها الخطأ والظلم والإساءة.
في عقيدتنا، كما هو الحقّ في ما نراه، أنَّ عليّاً (عليه السلام) معصوم، أخذ عصمته من خلال إمامته، ومن خلال إرادته، فعليّ المعصوم من خلال وعي العصمة في فكره ومن خلال إرادة العصمة في سلوكه، عليّ المعصوم الذي لم نستطع أن نكتشف ولم يكتشف أحد أيّ خلل فيه، حتّى إنّ بعضهم حاول أن يبحث عن شيء يريد به أن يسيء إلى عليّ (عليه السلام)، فقال "إنَّ في عليّ دعابة"(1) يعني يمزح ولم يكن عليّ بالمزَّاح، ولكنَّ عليّاً كان يلم بذلك في ما يستحبّه الله من ذلك، عليّ هذا الذي أخفى محبُّوه فضائله خوفاً من أعدائه وأخفى أعداؤه فضائله حَسَداً له، فظهر من بين ذين ما ملأ الخافقين، عليّ هذا بعد أنْ صار حاكِماً قال للنّاس من حوله: "لا تُكَلِّموني بما تكلَّم به الجبابرة" لا تقولوا هذا أمير المؤمنين بيده السيف الذي يستطيع أن يقتل، وعنده الحبس الذي يستطيع أن يسجن، وعنده الجماعات الذين يستطيعون أن يضربوا أو يقتلوا، لا تنظروا إليَّ هذه النظرة، "ولا تظنّوا بي استثقالاً لحقّ يُقال لي ولا لعدل يعرض عليَّ" لا تعتقدوا أنّي استثقل إذا قال لي شخص: يا عليّ لقد تجنَّبت الحقّ. هذا هو الحقّ وقد انحرفت عنه، وهذا هو العدل فافعله "ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقّ قال لي، فإنَّ من استثقل الحقّ أن يقال له والعدلَ أن يُعرَضَ عليه، كان العمل بهما أثقل عليه" الذي لا يطيق كلمة الحقّ أو الذي لا يتحمَّلها، كيف يتحمّل أن يفعل الحقّ وأن يقيم العدل؟ إذا لم يتحمّل الكلمة فكيف يتحمَّل الواقع؟ ثمّ قال لهم "فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحقّ أو مشورة بعدل فإنّي لستُ في نفس يفوق أن أخطئ"(2) يعني لا تنظروا إليَّ نظرتكم إلى مَن لا يخطئ، بل حاسبوني كما لو كنت مخطئاً. لنعلِّم الأُمّة أن تنقد حكَّامها، ولنعلِّم الأُمّة أن تواجه المسؤولين فيها بالنقد البنَّاء، ونطلب من المسؤولين أن لا يعتبروا أنفسهم فوق النقد، بل أن يستمعوا إليه بكلّ طيبة وإخلاص، وأنْ يتحرَّكوا في خطّ الله بعيداً عن الجانب الذاتي في الحياة. وهذا ما فعله عليّ (عليه السلام)، فإنَّ عليّاً كان ذات يوم مع أصحابه وكان هناك خارجي، وتكلَّم الإمام بكلمة، وأعجبت هذا الخارجي ـــ وكان الخوارج يكفِّرون عليّاً ـــ فقال هذا الخارجي وهو يشير إلى عليّ (عليه السلام): "قاتله الله كافراً ما أفقهه"، والإمام عليّ (عليه السلام) كان صاحب السلطة العليا آنذاك والخوارج لا يمثّلون شيئاً، فوَثَبَ إليه القوم ليقتلوه، فالتفت إليهم الإمام وقال: "رويداً إنَّما هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب"(1)، سبّني فمن حقّي أن أسبّه ـــ يقول الله: {... فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة : 194]، {... وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، هذا هو موقف عليّ (عليه السلام) وهذا ما يجب أنْ نتعلَّمه؛ أن لا نعتبر القيادات فوق النقد، مهما أخذت من حجم ومهما أخذت من قداسة، فليس هناك من معصوم. ولكن ليكن النقد موضوعياً وبنّاءً، بل قد يجب على الأُمّة أن تنقد مسؤوليها حتّى لا تغريهم بالخطأ، وحتّى لا تغرّهم بأنفسهم، وحتّى يشعروا بمسؤوليّتهم في قيادة الأُمّة.
غياب النقد يضيع قضايا الأُمّة
هذا ما يجب أن نتعلَّمه. ويجب أن نتعلَّم أن ننقد أنفسنا بأنفسنا وأن ينقد بعضنا بعضاً، سواء كانت المسألة نقد القيادة للقاعدة، أو نقد القاعدة للقيادة. ولأنَّ المسألة إذا لم ترتكز على أساس النقد البنّاء، فستضيع قضايا الأُمّة أمام بهلوانيّات الأشخاص وقداستهم. وهذا ليس فقط في الدائرة الفردية، بل حتّى في دائرة المواقع والمحاور، هناك في الساحة أحزاب وحركات ومنظّمات وجمعيات، وفي الأحزاب الكثير من الخطأ، وكذلك في المنظّمات وفي الحركات وفي الجمعيات الكثير من الخطأ، ولكنَّنا تعوّدنا أن نسكت عن أخطائنا، وننظر إلى أخطاء الآخرين. تعوّدنا أن نخفي أخطاءنا وأنْ نتعصَّب لها وأن نحمي المخطئين والمجرمين منّا، لأنَّ المجرم منّا إذا ظهرت جريمته، فسوف تنعكس على الحزب أو المنظّمة أو الحركة أو الجمعية أو الطائفة وما إلى ذلك، ولهذا نفكّر ونعمل على أن نحمي المجرم أو نخفِّف من جريمته أو نخفيها لأنّه منّا. أمّا إذا فعل إنسان آخر جريمة أقلّ من جريمة صاحبنا، ومعصية أقلّ من معصية صاحبنا، فإنَّنا نسقط السماء على الأرض؛ أين الدين؟! وأين الشريعة؟ وأين القانون؟ وأين المبادئ؟، ألاَ نفعل ذلك؟! ولهذا تخرّب هذه المواقع عندما يجد المجرمون غطاءً لجريمتهم، وعندما يجد المنحرفون غطاءً لانحرافهم، وعندما نتعصَّب للمجرمين، لأنّهم من جماعتنا ومن إخواننا وحزبنا وحركتنا وطائفتنا، فإنَّ الجريمة تنتشر في مجتمعاتنا.
إذا كنت صاحب مبدأ فعليك أن تحاسب الناس من خلال المبدأ. "مَن كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومَن كان عدوّاً لله فهو لنا عدوّ".
أيّ تجمّع سياسي أو اجتماعي يحمي اللّصوص فهو اللّص، أو يحمي القتلة فهو القاتل، أو يحمي المنحرفين فهو المنحرف، أو يحمي المفسدين فهو المفسد، لأنّك لا يمكن أن تكون صالحاً وتحبّ المفسدين، {... إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص : 77]، فكيف تحبّ المفسدين ولو كانوا من جماعتك، وتقول إنّك تحبّ الله. إنَّ هذا الخلل، هو الذي أدّى إلى كلّ هذا الإرباك والتعقيد والتشويه، وإلى كلّ الواقع الذي يتحرّك فيه المجرمون والخائنون والقَتَلَة والسارقون والمفسدون، فهؤلاء تحرَّكوا على أساس أنّهم انتموا إلى هذه الجهة، فأعطتهم غطاءها، وحرمت الآخرين من أن يواجهوهم، بل إنّها قد تدخل معركة ضدّ الآخرين.
التشيُّع المستقيم
"مَن كان وليّاً لله فهو لنا وليّ ومَن كان عدواً لله فهو لنا عدو، واعلموا أنَّ ولايتنا لا تُنال إلاّ بالورع"(1)، هذا منطق أهل البيت؛ أن تكون شيعياً تحبّ أهل البيت، هذا يعني أن لا تكون لصّاً أو قاتلاً أو مفسداً أو الإنسان الذي يثير الفتن. إذا كنت كذلك فلست بشيعي وأهل البيت أبرياء منك، لأنّك لستَ وليّاً لله ولا ولاية لأهل البيت مع أحد إذا لم يكن وليّاً لله. لهذا أَحِبُّوا السائرين في خطّ الله ولا تحبُّوا الخائنين، حتّى لو كانوا أهلكم أو أصحابكم أو أصدقاءكم.
يقول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنَّما أهلك مَن كان قبلكم إنّهم إذا سَرَقَ الشريف تركوه وإذا سَرَقَ الضعيف أقاموا عليه الحدّ، والله لو سرقت فاطمة بنت محمّد لقطعت يدها". لذلك لا بدّ أن نحبّ مَن أحبَّ الله وأن نبغض مَن أبغض الله، لتكون ولايتنا لله منطلقة في هذا الخطّ على كلّ المستويات.
ومن هذا المنطلق نقف مع الخطّ الإسلامي، الذي تقوده الثورة الإسلامية من خلال قيادة قائدها الإمام الخميني (حفظه الله)، لأنّها التزمت الحقّ ولأنّه التزم الحقّ، ولأنّها جاهدت في سبيل الله، ولأنّه دفع إلى الجهاد في سبيل الله، ولأنّه دعا إلى الله ـــ ونحن معه في الدعوة إلى الله ـــ ولهذا وقفت كلّ القوى المستكبرة ضدّه ولم يسقط ولم يهن ولم يلن ولم يتراجع، بل قال لهم كما قال جدّه الإمام الحسين (عليه السلام): "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أُقرّ لكم إقرار العبيد"(1)، وعندما خيَّروه بين السلّة والذلّة فلم يختر الذلّة واختار الموت.
يومٌ لنا ويوم علينا
ونحن عندما نواجه ما تواجهه الجمهورية الإسلامية، من الهجمة العالمية الاستكبارية التي زوّدت النظام العراقي بأحدث الأسلحة وأكثر الخبرات تقدُّماً في العالم، حيث اجتمع العالَم بشرقه وغربه على أن يعطيه القوّة، لتكون حربه حرب العالم على الثورة الإسلامية في إيران. وقد يتحدّث الناس عن ضعف، وعن عزيمة، وعن سقوط في الروح المعنوية، لكنَّ الله حدَّثنا عن أُحُدْ كما حدّثنا عن بدر وقال: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...} [آل عمران : 140]، ليس هناك نصر مطلق جعله الله لرسوله، وليس هناك هزيمة مطلقة جعلها الله لأعدائه، ولكنَّ الله أجرى الحياة على سنن القوّة والضعف، فيومٌ علينا ويومٌ لنا، ويوم نُساء ويومٌ نُسَرّ. المهم أن لا تسقط إرادتنا ولا تسقط مواقفنا ولا تضعف عزائمنا، وأنْ نظلّ نصنع القوّة عندما يحاول الآخرون أن يصنعوا فينا الضعف. والقضية ليست قضية يوم أو يومين أو مرحلة أو مرحلتين، وقد سمعنا من كلمات الإمام أنّه يتحدّث بالقوّة الإسلامية الإلهية، بروح هي أروع من روح الشباب، ليفتح عيون الأُمّة على مواقع الصبر، عندما يريد المستكبرون أن يقودوها إلى مواقع الهزيمة.
التعلُّم من التجارب
لهذا لا بدّ أن ننظر إلى هذه الأمور نظرتنا إلى الواقع وإلى حجم التحدّيات وإلى وعد الله سبحانه وتعالى بالنصر وإلى الاستفادة من الدروس، فإنَّ الإنسان يستفيد من الدروس التي تفرضها نقاط ضعفه، كما يستفيد من الدروس التي تفرضها نقاط قوّته. ونحن في هذا المجال لا بدّ لنا أن نحدّق بقضايانا ـــ بكلّ قضايانا الإسلامية ـــ لنعرف أنّ على الحالة الإسلامية بكلّ فصائلها أن لا تنهزم أمام كلّ الضغوط وأمام كلّ التحدّيات، حتّى إذا ضعفت في موقع فعليها أن تدرس لماذا ضعفت؟ فقد يكون الضعف من خلال خطئها في التجربة، وقد يكون من خلال ضغط الأعداء عليها في بعض المواقع. لا بدّ أن ندرس نقاط ضعفنا جيداً، لنعرف من أين انطلق الضعف؟ وكيف نستطيع أن نحوِّل نقاط الضعف إلى قوّة؟ ولا بدّ أن ندرس نقاط قوّتنا، حتّى لا يصيبنا الغرور، فما من موقع قوّة إلاّ وفيه موقع ضعف. وعلينا أن نحدّق بأعداء الأُمة، لنتحمّل مسؤولية الوقوف ضدّهم، وهذا ما نريد أن نواجهه في مسألة السياسة الأميركية التي فرضت على الأُمّة كلّها، سواء تحدّثنا عن الأُمّة العربية أو الأُمّة الإسلامية، فرضت على الأُمّة سيطرة "إسرائيل"، لأنَّ "إسرائيل" تمثّل الامتداد لسياسة الاستكبار العالمي. إنَّ أميركا تعمل على إضعاف كلّ مواقع الأُمّة وعملت على أن تسقط كلّ موقع يتحدّى فيه العنفوان الإسلامي المستكبرين، كما تفعل الآن مع الانتفاضة في فلسطين ومع الثورة الإسلامية في إيران ومع الحالة الإسلامية في لبنان، إنّها تعمل على أساس أن تسقط المواقع التي تعيد الروح للأُمّة، لتفكِّر هذه الأُمّة بالقوّة، وهي تريد لها أن تفكِّر بالضعف من خلال ذلك.
الفتنة اللبنانيّة صيغة أميركا
وفي إطلالة على الواقع اللبناني، نرى أنّ الأكثرية ـــ وإن لم يكن الجميع ـــ تعمل على أن تأتي أميركا إلى البلد، لتنظيمه ولتحلّ مشكلته ولتدبّر أمره، ولكي تعقد التحالفات لتدبير أو ترتيب أوضاعه، الكلّ ينادي أميركا أن تأتي، والكلّ يتحدّث عن أميركا على أساس أنّها خشبة الخلاص، فيما أميركا تريد أن تنصب لنا خشبة الصلب. إنّهم يتحدّثون عن صليب في لبنان، ولكنّهم لا يتحدّثون عمّن يعتقدون أنّه مصلوب. إنّهم يريدون أن يصلبوا الشعب على الخشبة الأميركية، لنعيش كلّنا في دائرة الصلب هذه. عن أيِّ سياسة نتحدّث، عندما نتحدّث عن السياسة الأميركية في المنطقة، والفتنة كلّها في كلّ هذه السنين هي من صنع المخابرات الأميركية والإرادة الأميركية؟
السلاح الخليجي و"إسرائيل"
أميركا هذه الأيام تخلق ضجّة عالمية، ماذا هناك؟ إيران اشترت صواريخ من الصين، وهذه تشكّل خطراً على السفن الأميركية في الخليج. وتحدّثت مع الصين وتحدّثت مع العالم وفكّرت في كيفية مواجهة الخطر. السعودية اشترت صواريخ وهي تعرف أنّ هذه الصواريخ موجّهة إلى إيران، وليست موجّهة إلى "إسرائيل"، لأنّه ليس هناك بلد عربي في أغلب البلدان العربية يفكّر بمقاتلة "إسرائيل"، ولاسيّما السعودية التي يمثّل الحديث عن مقاتليها "لإسرائيل" نكتة سياسية أو عسكرية. هي تعلم أنّها صواريخ موجّهة إلى إيران، ولكنّها حاولت أن تثير المسألة على أساس أنّ مجلس الشيوخ الأميركي يتحدّث أنّه ربّما توجّه هذه الصواريخ إلى "إسرائيل". فإذاً لا بدّ أن تأخذ ضمانات من السعودية، حتّى لا توجّه إلى "إسرائيل". ثمّ وهنا المزحة، قطر اشترت عدّة صواريخ ـــ وهنا أيضاً يذهب المبعوث الأميركي إلى قطر، حتّى يبحث الخطر الذي يمكن أن يؤثّر على "إسرائيل" من قطر. وهكذا بدؤوا يعتبرون الصواريخ التي اشترتها سوريا من الصين، إنّها أصبحت تشكِّل خطراً، وكلّ هذا الذي تتحدّث به أميركا عن خطر الصواريخ، كان من أجل أن تصل أميركا إلى حلف استراتيجي مع "إسرائيل" في تطوير صواريخ تحمل أميركا نفقتها لمصلحة "إسرائيل"، لماذا؟ وتقول للعرب لا "تزعلوا"، المسألة هي أنّني لا أريد أن أغضبكم، ولكن عندكم صواريخ، وهذه "الضعيفة" نريد أن نقويها قليلاً وهي حليفتنا. أميركا التي لا توافق على أن يملك أحد من العرب سلاحاً، حتّى أصدقاء "إسرائيل" في العمق، لأنّهم عملاء أميركا في العمق، وهي تعطي إسرائيل كلّ ما تريد من السلاح وتطوّر لها الأسلحة بنحو تقف أمام العالم العربي كلّه.
تقولون لنا: حتّى تخلصنا. أنّ أميركا تعمل الآن بكلّ ما عندها من طاقة. وكلّ جولات وزير الخارجية الأميركية، وكلّ جولات مبعوثي الإدارة الأميركية في المنطقة، من أجل أن تفرغ الانتفاضة من قوّتها ومن أجل أن يجمع العرب على مواجهة الانتفاضة، وعلى إسقاطها لأنّها تعيد الروح للمسألة الجهادية في السياسة العربية. كما أنّهم عندما يتحدّثون عن المتطرّفين الإسلاميين، في ما يتحدّثون فيه عن الحالة الإسلامية التي تعيد الروح للأُمّة الإسلامية، حتّى لا تخاف من "إسرائيل"، ولا تخاف من أميركا، لأنّهم يخافون أن يعيش الناس الروح التي تقاوم وتجاهد، وتثبت ولا تسقط ولا تخاف. يخافون من هذه الروح، لأنَّ مسألة السلاح هم كفيلون بها. هم يريدوننا أن نسقط أمام تهويلاتهم وهذا ما يعملون له، ولهذا فإنّ السياسة المطروحة في الساحة هي أن يعملوا على إثارة الفتن في داخل كلّ الذين يقاتلون "إسرائيل"، وكلّ الذين يحتمل أن يقاتلوا "إسرائيل" أو يقفوا سياسياً ولو تكتيكياً ضدّها حتّى يضعفوا جميعاً.
لا بدّ أنّكم سمعتم حديث رابين في واشنطن هذه الأيام، أنّه يقول: إنَّ التقاتل بين حز//ب الله وحركة أمل والتقاتل بين الفلسطينيين يوفّر علينا كثيراً من الجهود في مواجهة الأخطار، التي تأتينا منهما. معنى ذلك تقاتلوا، رحمكم الله وتشاتموا، أبقاكم الله، وتهاتروا يا عباد الله، وحاولوا أن يضخّم كلّ منكم شخصيّته، وإن يعلو كلّ منكم على الفريق الآخر، وانشغلوا بأنفسكم وشتائمكم، والعنوا بعضكم بعضاً.
حدّثني أحد مسؤولي الجامعة الأميركية قبل أن تحدث الحرب في الجنوب وفي الضاحية، أنَّ مجلس الأُمناء اجتمع في واشنطن وجيء بضابط أميركي يريد أن يتحدّث لهم عن لبنان وعن شيعته، وتحدَّث لهم عن حرب الجنوب وعن حرب الضاحية، وكنت أنفي أنّ ذلك سيكون، وكنّا سذَّجاً عندما كنّا نقول أنّه خطّ أحمر، لأنَّ كثيراً من الناس كانوا قد خضَّروا الخطوط الحمراء ممّن يضعون الألوان الخضراء للقتال وللسياسة المنحرفة في البلد، إنّهم يكيدون لنا بكلّ ما عندهم من قوّة ومن باطل ويخطِّطون ويزرعون لنا الذين ينفّذون هذه الخطط.
مواجهة الموقف بعقلية الرساليين
لهذا لا بدّ لنا من أن نواجه المسألة بمسؤولية، نحاول من خلالها أن نجمد كثيراً من الحساسيّات ونبرّدها، وأن نجمّد كثيراً من الخلافات، ونعطيها إجازة لنستطيع أن نواجه هذا الاستحقاق، لا استحقاق رئاسة الجمهورية، ولكنّه استحقاق الحريّة لنا أمام "إسرائيل". لا بدّ لنا أن نواجه المسألة بوعي، حتّى لا نكون كالأطفال نبني البيوت على الرمال ويأتي البحر ليجرفها، فلا يبقى لنا شيء من ذلك كلّه. إنّهم يتحدّثون في هذه الأيام عن اجتياح إسرائيلي صغير أو كبير، قد يتحدّث البعض نتيجة حرتقات سياسية، وقد يتحدّث البعض عن رؤية سياسية، وقد يتحدّث البعض عن انطباعات، وقد يتحدّث البعض عن تحليلات، لكن مهما كان الحديث، هل نظلّ نتحدّث حول أن يكون اجتياح أو لا يكون؟ هل يكون هجوم إسرائيلي أو لا يكون؟ إنّهم يتحدّثون عن هجوم إسرائيلي في إقليم التفاح، بعد أن فشل الهجوم الإسرائيلي على اللويزة وجبل صافي. إنّهم يتحدّثون عن ذلك الآن في الأحاديث السياسية، فماذا أعددنا لذلك؟ أعددنا اللّغو الذي نثيره في أوضاعنا، هل نعمل غرفة عمليات، أم لا؟ مَن يقود غرفة العمليات ومَن يحرّكها؟ لمن الأمن في الجنوب، لمن السلاح؟(1) و"إسرائيل" لا يستطيع أحد أن يمسك سلاحها، نفتّش عن الخنجر وعن المسدّس ولا نفتّش عن الطائرة التي تقصفنا، وعن الدبّابة التي تحرقنا وعن السفن التي تدمّرنا.
إذا كنّا نفكّر تفكيراً إسلامياً إيمانياً، لنكفّ عن كلّ هذا اللّغو، وكلّ هذه المهاترات في الصحف وفي غير الصحف. واجهوا الموقف على أساس أنّ "إسرائيل" شرٌّ مطلق، إذا كنتم تعتقدون أنّها شرٌّ مطلق ـــ فإنّي أشكّ في أن يكون الكثيرون على هذا الاعتقاد ـــ لعلَّنا أصبحنا نعتقد أنّ بعضنا شرٌّ مطلق للآخر، أكثر ممّا هي "إسرائيل" شرّ مطلق لنا، لأنَّنا نتصرّف على هذا الأساس. نتحدّث عن أمن "إسرائيل" ولا نتحدّث عن أمن الإنسان على نفسه. إنَّنا من جديد وقد تعبت ألسنتنا من هذا الحديث، إنّنا نقول للقيادات أن تفكِّر بعقلية الرسالة لا بعقلية الذّات، وبعقليّة الأُمّة لا بعقلية الفرد، وبعقلية العقل لا بعقلية الانفعال، وبعقلية المستقبل لا بعقلية زوايا الحاضر. إنَّنا نقول لهم انطلقوا في خطّ الوحدة ونحن معكم. ونريد أن نقول للأُمّة أن تعزل قياداتها، إذا رفضت قيادتها خطّ الوحدة التي تبني للأُمّة عزّتها وكرامتها على أساس الإيمان والإسلام، الذي تلتزمه الأُمّة كخطّ ينظّم لها كلّ حياتها. إنَّ علينا أن نعيش هذه الروح، بدلاً من أن نعيش اللّغو الذي يحاول فيه كلّ فريق أن يسجِّل نقطة على فريقٍ آخر. تعالوا لنسجّل كلّ النقاط على أعداء الله ورسوله ولنجمع كلّ النقاط لمصلحة الأُمّة كلّها، فإنَّ الواقع في لبنان لن يسير بكم إلى خير بل سيسير بكم إلى ما يشبه الخداع والتغرير. وكلّ فتنة وأنتم بخير، لأنّها ستستمر معكم إلى ما شاء الله.
والحمد لله ربّ العالمين
حركة النفاق في أساليبها ونتائجها(*)
تحدَّث الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عن المنافقين في صورهم المتعدّدة في داخل المخيمات الإنسانية بشكلٍ عام وفي داخل المجتمع الإسلامي بشكلٍ خاص. وذكر المنافقين الذين كانوا يتّخذون النفاق الديني أسلوباً ينفذون من خلاله إلى واقع حياة المسلمين ليأخذوا شرعية وجودهم في المجتمع الإسلامي من خلال الصورة الظاهرة التي ينتمون في واجهتها إلى الإسلام، ولكنَّ علاقاتهم الخفيّة بالكفر والكافرين تجعلهم يعملون بكلّ ما عندهم من طاقة في سبيل أن يستفيدوا من انتمائهم الإسلامي، في تخطيط لما يريد الكافرون منهم أن يخطِّطوا وفي الاطّلاع على الأسرار الإسلامية، في ما يريد لهم الكافرون أن يطّلعوا على هذه الأسرار، وفي تنفيذ المخطّطات التي يرسمها هؤلاء ضدّ الإسلام والمسلمين.
صور النفاق في القرآن
الصورة الأولى يقدّمها الله إلينا في سورة البقرة {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ*يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ*فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ*وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ*أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ*وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ*وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ*اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ*أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [البقرة: 8 ـــ 16].
هذا النموذج من الناس يصوّره الله لنا على أساس أنّ أفراده يعتبرون أنفسهم أذكياء يتقنون الحيلة ويتقنون المكر والدّهاء، ويعملون على أساس أن يطرحوا أنفسهم كمؤمنين، وكمسلمين في الساحة، ولكنّ واقعهم غير ذلك، يتحرّكون مع المؤمنين بأساليبهم الخدّاعة وهم يخيّلون لأنفسهم أنّهم يخادعون الله. لاحظوا أنَّ الله لم يقل يخدعون الله. بل قال "يخادعون الله" يعني يتصرّفون مع الله تصرّف المخادع، حيث إِنّهم يصلّون في المساجد ويتحرّكون في المواقع الإيمانية حتّى يخيّل لمن يراهم أنّهم من المؤمنين، وبذلك فهم يمارسون أساليب الخداع لتنطلي الحيلة على المؤمنين.
ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يقول عنهم {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم} فهم يخيَّل إليهم أنّ خداعهم ينطلي على من حولهم، ولكن في الواقع ينطلي على أنفسهم لأنَّ الله سبحانه وتعالى يحيط بكلّ خداعهم، ويظهر كلّ خداعهم، ويخطّط لهم من حيث لا يشعرون.
{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} النفاق حالة مَرَضِيّة في داخل عقل الإنسان، وفي داخل قلبه، فالإنسان المنافق هو إنسان انتهازي يفكّر في أن يخدم نفسه ومصالحه، ويخيَّل له أنّه يستطيع أن يحافظ على مصالحه هنا ومصالحه هناك. فهو مع المؤمنين مؤمن، ومع الكافرين كافر، فيحقّق لنفسه أطماعه مع المؤمنين لأنه محسوب منهم، ويحقّق لنفسه أطماعه مع الكافرين لأنّه في العمق منهم، ويعتبر أنّ هذا يمثّل ضرباً من الذكاء ومن "الشيطنة" التي تتيح له أن يعيش بشكلٍ متوازن بين هذا الفريق وبين ذاك.
لكنَّ الله سبحانه وتعالى يقول، إنَّ هذا المرض الخفي الذي يتمثّل في الحالة النفاقية العقلية والقلبية. هذا المرض الخفي يزيده الله سبحانه وتعالى إلى أن تظهر علاماته في حياة هؤلاء، {فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.
الإسلام الحقّ في مواجهة الإسلام المزيّف
ثمّ يحدّثنا الله عن هؤلاء الذين يتكبّرون على الناس عندما يتحرّكون في الإيمان بطريقة ليست على النهج الذي يسير عليه المؤمنون، ككثير من الناس الذين ينطلقون في حياتهم على أساس أنَّهم مؤمنون وأنّهم مسلمون، ولكنّهم يقولون إنّ إيماننا من نوعٍ آخر، وإنّ إسلامنا من نوعٍ آخر، يجعلون لأنفسهم إيماناً على طريقتهم، بحيث إِنّ إيمانهم لا يتحدّى مصالحهم وأطماعهم، ويجعلون إسلامهم إسلاماً على طريقتهم، فيحلّلون ما كانت مصلحتهم في تحليله، ويحرّمون ما كانت مصلحتهم في تحريمه، وهكذا يتحرّكون في المجتمع باسم الإسلام وباسم الإيمان، كما نشاهده في الكثير من الملوك، والرؤساء، والسياسيين، والشخصيات الدينية الرسمية وغير الرسمية، والشخصيات الاجتماعية عندما تتحدّث عن إسلام عاقل مهذّب، لا يثير المشاكل، ولا يتحدّى الواقع الفاسد، ولا يواجه الضغوط الاستكبارية، ولا يدخل في معركة مع الكفر، ولا يثير مشاكل للضلال. إسلام يحقّق لنفسه سلاماً على حساب قيمه، وعلى حساب واقعه، ومسلمون يحقّقون لأنفسهم امتيازات على مستوى الحكم، وعلى مستوى السياسة وعلى مستوى الاقتصاد، وعلى مستوى الحياة الاجتماعية حتّى يتمشّى هذا الإسلام مع كلّ الكفر الذي يحيط بالمجتمع، ومع كلّ الضلال الذي يحيط بالمجتمع. وينطلق الإسلام الحقّ في الساحة ليواجه ويتحدّى وليدعو وليجاهد وليقاتل، حتّى يحرّك الحياة على أساس أن تكون الحياة لله وأن يكون الدين لله؛ أن لا يكون الدين امتيازاً لأشخاص يضخّمون به أوضاعهم ويضخّمون به امتيازاتهم، بل يكون الإسلام لله كما أراد الله أن يكون؛ إسلام العدل، إسلام الحريّة، إسلام العزّة والكرامة. وعندما يتحرّك هذا الإسلام في السّاحة ويقول الناس لهؤلاء لماذا لا تأخذون بالإسلام الحقّ؟ لماذا لا تأخذون بالإسلام الحركي؟ لماذا لا تأخذون بالإسلام المقاوم؟ لماذا لا تأخذون بالإسلام المجاهد؟ لماذا تريدون الإسلام أن يكون موظّفاً في بلاطات الملوك والرؤساء أو أن يكون الإسلام موظّفاً في هذه الدائرة أو تلك الدائرة؟ لماذا لا تسيرون على خطّ هذا الإسلام الذي يخدم عباد الله المستضعفين والذي يعمل على أن يضع المستكبرين؟
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ} وهذا في زمان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي زماننا، آمنوا كما آمن الناس الذين يقاتلون المشركين مع القيادة النبويّة، آمنوا كما آمن الناس الذين يؤكّدون مواقفهم من خلال الالتزام بأوامر الله ونواهيه، آمنوا كما آمن الناس، اجعلوا الإسلام يمثّل كلّ حياتهم، ولا يكن لهم كفر في جانب وإسلام في جانب، فما هو جوابهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء} نحن نريد الإسلام المثقّف، نحن نريد الإسلام الذي ينطلق في الدرجات العليا، الإسلام الذي يلتزمه الملوك والرؤساء والوجهاء والأغنياء وكلّ هؤلاء، لأنَّ إسلامكم هو إسلام الشعب، وماذا يفهم، إنّهم قد يقولون ذلك، إنّنا نريد الإسلام المتطوّر، نريد الإسلام المقتدر، نريد الإسلام الذي لا يشاغب، لا نريد إسلام السفهاء هؤلاء، الذين يقفون في خطّ المواجهة للاستكبار، وللاستعمار ولكلّ القوى الباغية الظالمة؛ يقفون ويتحرّكون بطريقة ينشرون فيها المشاكل في المجتمع، ولا يجعلون الناس يرتاحون في حياتهم وبيوتهم، نحن لا نريد إسلاماً كإسلام السفهاء، يتدخّل في حريّات الناس ليمنع الناس من أن يشربوا الخمر، أو يلعبوا القمار، أو يكونوا جواسيس للأعداء، أو يزنوا أو يسرقوا، أو يخونوا، أو يعملوا أيّ شيء.
ويضيفون إنّ الإسلام الذي يتدخّل في حريّات الناس هو إسلام السفهاء، ونحن نريد إسلاماً لا يتدخّل في حريّة الناس، إنّه إسلام الطبقة العالية من المجتمع. بعض الناس كانوا يفكّرون بهذه الطريقة على حسب ظروف التحدّيات في زمان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وبعض الناس يفكّرون بهذه الطريقة عندما يتحدّثون عن المسلمين الملتزمين، ليشيروا إليهم بكلمات جارحة نابية: هؤلاء السفهاء، هؤلاء الغوغاء، هؤلاء الذين لا يستطيعون أن يتحرّكوا على مستوى الانضباط وعلى مستوى السير على طبق الأمر الواقع.
أساليب المنافقين في الحياة
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء}. السفيه: هو الذي لا يعرف أن يدبّر أمره على خطّ الحكمة والتوازن في ماله، وفي رأيه، وفي حركته. هؤلاء الذين يلتزمون الإسلام باسمه، ولكنّهم يلتزمون الكفر مضموناً، ليدخلوه في واجهة الإسلام، هؤلاء ألاَ يعرفون أنّهم يورّطون أنفسهم في معصية الله، وفي المجالات التي سيظهر الله بها خداعهم {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} ثمّ كيف يتصرّفون {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا} ليشهدوا المؤمنين على إيمانهم {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} نحن نضحك على هؤلاء الناس، نصلّي أمامهم حتّى يثقوا بنا، نصوم أمامهم حتّى يثقوا بنا، نتحرّك في كلّ المجالات لنربح قناعاتهم حتّى ننفذ إلى داخلهم. نحن نضحك عليهم، أنتم العمق لنا. هؤلاء يخلون إلى شياطينهم، سواء كان هؤلاء الشياطين من رجال الاستخبارات الدولية، أو من رجال الاستخبارات العربية، أو الاستخبارات المحلية، أو الذين يتحرّكون في محاور الضلال من الأحزاب الضالّة والكافرة.
أتستهزئون بالمؤمنين {اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} يقول لهم امشوا في الطريق {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يتحيَّرون ولكن في النهاية سينكشف أمرهم، ويواجهون خزي الدنيا وخزي الآخرة {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ} يعني باعوا الهدى واشتروا الضلالة مكانه، فإذا كان منكم أيُّها المستمعون هنا، وفي كلّ مكان، إذا كان هناك منكم من أقنعه بعض الناس بأن يكون منافقاً، يقول للمؤمنين كلمة، ويقول لغير المؤمنين كلمة، إذا أقنعكم الناس بأنّها "شطارة"، وإذا أقنعكم الناس بأنَّ هذا ذكاء، وأقنعكم الناس بأن ترتّبوا أمركم في جميع الحالات، على أساس أنّ الطعام عند معاوية أدسم، والصلاة عند عليّ (عليه السلام) أقوم، والجلوس على التلّ أسلم، إذا أقنعكم بعض الناس بذلك لأنّكم تريدون أن تعيشوا، والعيش يحتاج إلى ذلك؛ انظروا إلى كلمات الله، الله يستهزئ بكم، الله يقول: إنّكم السفهاء. الله يقول لكم يا جماعة، إذا كنتم تعتبرون النفاق عملاً تجارياً فهي التجارة الخاسرة {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}.
اتركوا هذه التجارة التي يدلّكم عليها الشياطين وارجعوا إلى الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ*تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 10 ـــ 11].
هذه هي التجارة، لهذا حاولوا أن تدرسوا مواقفكم التجارية في المسألة الإيمانية، وفي المسألة السياسية، وفي المسألة الاجتماعية، قبل أن تفوتكم الفرصة، لأنّ الله جعل للتوبة مواسم، وجعل لك في موسم التوبة، وفي موسم المغفرة، وفي موسم الرضوان، جعل لك مجالاً واسعاً أن تأخذ من الموسم ما يرفع درجتك عند الله، وما يخلد سعادتك عند الله، فلماذا لا تنتهز الفرصة لتترك التجارة الخاسرة، وتنطلق مع التجارة الرابحة.
ثمّ في سورة أخرى يبشّر الله المنافقين بشارة، ولكن بشارة من نوعٍ آخر، وعلى مَن سار في طريق المنافقين أن يتلقّى هذه البشارة، {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 138] بشّرهم بعذاب الله، أنّهم ينتظرون البشارة من شياطينهم بالمال، وبالجاه، وباللّذات والشهوات، ولكنَّ الله يبشّرهم بطريقة أخرى لا ينتظرونها.
الولاء للقيادة الإسلامية المؤمنة
مَن هم المنافقون؟ لنبحث عن شخصية المنافقين في داخل أنفسنا، من خلال كلام الله، لأنَّ القرآن هو مرآة أنفسنا التي أراد الله منّا أن ننظر فيها إلى أنفسنا من خلال القرآن. مَن هم المنافقون؟ {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} هؤلاء الذين يلتزمون ولاية الكافرين الطاغين المستكبرين، الذين يلتزمون ولاية الاستكبار العالمي المتمثّل بالدول الكبرى، التي تريد أن تذلّ المؤمنين، الذين يلتزمون ولاية الصهيونية، التي تشكّل الخطر على وجود المسلمين والمستضعفين. الذين يتّخذون الكافرين من هؤلاء، الذين يتحرّكون في دوائر المخابرات والدوائر السياسية، التي تعمل على إذلال المسلمين وعلى قهر المستضعفين، وإذا قلت لهم إنَّ هناك ولاية للمؤمنين، إنَّ هناك قيادة إسلامية مؤمنة تخاف الله في نفسها، وتخاف الله في الناس، وتتحمّل مسؤولية الإسلام كلّه، وتقوده إلى العزّة والحرّيّة والثبات والقوّة والكرامة، إذا قلت لهم ذلك، فإنَّهم ينفرون منك ويتركون ولاية المؤمنين، كالكثيرين من الناس، الذين عندما تحدّثهم عن ولاية القيادات الإسلامية، المتمثّلة بالإمام الخميني (حفظه الله)، وبكلّ القيادات الإسلامية الواعية السائرة في الخطّ الإسلامي الملتزم الذي لا يلفّ ولا يدور، ولكنّه يظلّ يرصد الطريق المستقيم من مواقع الإسلام، فإنّهم ينفرون منك، ويحدّثونك عن قيادات بديلة لا تؤمن بالله ولا برسول الله، وإذا كانت تؤمن إيماناً محدوداً، فإنّها لا تؤمن بالإسلام كخطٍّ للحياة، ولا تؤمن بالرسالة. أليس هذا موجوداً عندنا؟! أظن أنّه موجود بكثرة، وأظنّ أنَّ كثيراً من الأوضاع القلقة التي عشناها ويعيشها المسلمون في كلّ مكان، تجعل الكثيرين يطرحون قيادات غير قيادات المؤمنين، وولاية غير ولاية المؤمنين.
لماذا يقول الله لكم أنتم مسلمون، وهكذا تقولون عن أنفسكم، أنتم مؤمنون، وهكذا تلتزمون الإيمان بألسنتكم. إذا كنتم مؤمنين فلماذا لا تلتزمون ولاية الإيمان، وإذا كنتم مسلمين فلماذا لا تلتزمون قيادة الإسلام؟ لماذا تنطلقون إلى قيادات كافرة طاغية ضالّة باغية تدخلونها في أمور المسلمين وتتحرّكون معاً في الإضرار بالمسلمين وفي مخادعة الواقع الإسلامي بشعارات تخفي الكفر في داخلها وتظهر الإسلام في واجهتها.
قوّة المنافقين ليست ذاتية
الله يقول للذين يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ} لأنَّ الكافر يترأس دولة، أو محوراً، أو أيّ شيء من هذا، فهو يملك المال، ويملك الجاه، ويملك السلطة. أمّا المؤمنون والمسلمون في قياداتهم، وفي واقعهم، فهم محاصرون من هؤلاء، فكيف نلتزم المحاصَر ولا نلتزم المحاصر، نريد أن نكون أقوياء؛ أُريد أن أكون قويّاً في بلدي، حتّى أضغط على أهل البلد، فأَلتزم قيادة الكفر، لأنَّ الكفر يعطيني هذه القوّة، أريد أن أكون ذا فعل كبير في المجتمع، وهناك مَن يملك مقدّرات المجتمع السياسية، ولذلك أريد العزّة، أريد أن أكون عزيزاً قويّاً، {... أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} [النساء : 139]، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء...} [آل عمران : 26] لن يعطيك هؤلاء العزّة، قد يعطونكَ انتفاخاً، ولكنّ هذا الانتفاخ سيتمزَّق عندما تنكشف المواقف، أو عندما تتبدّل المواقف، عزّتك مستعارة من عزّته، فإذا أخذ عاريته(1) فأين تكون، وعزّتك تابعة لعزّته، فإذا صار ذليلاً فأين تكون؟ ولكن إذا كانت عزّتك مستمدّة من الله، وبقيت مع الله وفي طاعة الله، فهل يمكن أن تفقد عزّتك "إذا أردت عزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فاخرج من ذلِّ معصيةِ الله إلى عزِّ طاعةِ الله"(2)، "فكم قد رأيت يا إلهي من أناسٍ طلبوا العزَّ بغيرك فَذَلّوا، وراموا الثروةَ من سواكَ فافتقروا، وحاولوا الارتفاعَ فاتّضعوا، فَصَحَّ بمعاينةِ أمثالِهم حازمٌ وَفَّقَهُ اعتبارُهُ وأرشدَهُ إلى طريقِ صوابِهِ اختيارُهُ" هذا كلام زين العابدين (عليه السلام).
كيف نواجه المستهزئين بأحكام الله
ثمّ قد تجلسون مع الناس في مجالسهم، في السهرات الطويلة، وفي النوادي المليئة، قد يتحدَّث محدّث فيسخر بأحكام الله، ويستهزئ بأولياء الله، ويسخر من مجتمعات المؤمنين، ماذا تفعل أنت في المجلس وهو يخطب ويتحدّث ويسبّ ويشتم، وأنت تعرف أنّ ذلك كلّه لا يرضي الله، ماذا يفعل بعض الناس؟. نراهم يضحكون للخطيب، ويصفّقون وهم غير مقتنعين بكلامه، لأنّهم يخافون سطوته، ويريدون رضاه. بعض الناس يتزلّفون للمتحدّث الذي يسخر بأحكام الله، وبأولياء الله، لأنّه من الوجهاء والأغنياء والمسلّحين، أو غير ذلك. ردُّوا عليهم كلامهم، قولوا له إنّك مخطئ، قولوا له إنّك كاذب، قولوا له إنّك تتكلَّم بغير ما يرضي الله. يقولون إنّنا نخاف أن يقتلونا، أو يسجنونا، أو يعذّبونا وهذا أمر حاصل، لأنَّ بعض الناس يفهمون الحريّة على أنّها حريّتهم لا حريّة الآخرين، ويفهمون أنّ الأمن أمنهم لا أمن الآخرين، وأنّ الحقّ حقّهم لا حقّ الآخرين. لكنَّ الله يقول لك إذا لم تستطع أن تتكلَّم، فانسحب اسمعوا كلام الله {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ...} [النساء : 140].
أنتم تفهمون اللّغة العربية أم لا؟ وهذه الآية لا تحتاج أن أُفسِّرها لكم، إذا كان الأمر كذلك، لا تجلسوا، انسحبوا حتّى تعبّروا عن احتجاجكم بانسحابكم، وهذا موجود في العالَم، سفراء الدول عندما يحضرون حفلة خطابية، أو مهرجاناً، وينطلق خطيب ليهاجم دولة هذا السفير، فإنَّ القوانين تمنع السفير من أن يقف ليردّ، ولكنّ تعليمات دولته تفرض عليه أن ينسحب ليعبِّر بانسحابه عن احتجاجه، وإذا لم يفعل ذلك عوقب. الله يقول لكلّ مؤمن إنّك سفير الله في كلّ مجتمع، إيمانك يفرض عليك أن تمثّل أنّك سفير الله، تدافع عن أحكام الله، وعن أولياء الله في كلّ مكان. إذا لم تستطع أن تدافع فانسحب {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} إذا لم تنسحبوا، {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} يعني إذا سمعت الكلمة فكأنّك قلتها إذا لم تنسحب، وكأنّك ألقيت الخطاب الذي لم تنسحب منه، إنّكم إذا لم تفعلوا ذلك وإذا قعدتم معهم، وإذا بقيتم معهم {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء : 140] معنى ذلك أنّك ستحشر مع الخطيب ومع المتكلِّم، لأنَّ جلوسك مع قدرتك على الانسحاب رضىً بعمله، "الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم"(1).
هذه أحكام الله أيُّها الإخوة، وهذا ممّا يعتبره الله نفاقاً ثمّ يعطينا صور المنافقين {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} ينتظرون عندما تدخلون الحرب وتدخلون المعركة، {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} نحن جماعتكم، وأصحابكم وأولياؤكم، وكنّا معكم، إذاً أعطونا غنائم النصر الذي أخذتم، {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} جاؤوا إلى الكافرين، وقالوا إنّنا استطعنا أن نكون "الطابور الخامس" في داخل المؤمنين، وأن نخذلهم، وأن نزعزع ثقتهم بأنفسهم، وأن نضعفهم، وأن ندبّر المكائد لهم، تعالوا أيّها الكافرون أعطونا من حصيلة الغنائم {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء : 141] لأنَّ الحجّة مع المؤمنين لا مع الكافرين.
موالاة الطاغوت والتحذير الإلهي
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} هذا تحذير، هناك بشارة، هذا تهديد بشكلٍ إلزامي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لا توالوا الكافرين في محاورهم الفكرية، وفي محاورهم السياسية، وفي خطواتهم الاجتماعية، وتتركوا المؤمنين لتكونوا أولياء للكافرين من دون المؤمنين، المسألة فيها خطورة، افتحوا قلوبكم لهذه الآية، افتحوا مشاعركم، اعرفوا الخطر الذي تطلُّون عليه؛ وماذا بعد، الله يتحدّث، الله يطلق الإنذار، الله يطلق التهديد، وهذا ما تقوم له السموات والأرض {لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} [النساء: 144] إذا أنتم فعلتم ذلك، فستكون الحجّة من الله عليكم، وإذا كانت الحجّة لله عليكم فأين تذهبون، وأين تهربون، وأين تفرُّون؟ هل ينقذكم هؤلاء الكافرون من يديّ الله؟ فكِّروا في القضية بعقلٍ واعٍ ولا تفكّروا بالقضية بطريقة ساذجة، ثمّ يقول الله بعد ذلك {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ...} [النساء: 145].
الباب مفتوح للتوبة
أمّا الذين أضلَّهم المنافقون، فأبعدوهم عن الخطّ المستقيم وتركوهم في خطّ النفاق، فهؤلاء يفتح الله لهم باب التوبة، فتوبوا إليه، والله يدعوكم إلى الرجوع إليه فارجعوا إليه {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ} بعدما كانوا اعتصموا بالشيطان {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ} يعني ليست توبة باللّسان، بل تابوا وأصلحوا، غيَّروا الطريق من الفساد إلى الصلاح، واعتصموا بالله وتركوا الاعتصام بغيره، {فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 146].
على هذا الأساس لا بدّ لنا إذا أردنا لقاء الله ونحن مرفوعو الرؤوس، إذا أردنا لقاء الله ونحن مطمئنّون، إذا أردنا لقاء الله من خلال رغبتنا في أن يحبّنا الله، فعلينا أن نرجع إليه، وأن نترك كلّ سبيل النفاق، وأن نسير مع المؤمنين، لأنَّ مَن كان المؤمنون أولياءه فإنَّ الله هو وليّه، ومَن كان الكافرون أولياءه فإنَّ الشيطان هو وليّه.
الحياة لا تحتمل الزيف
{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ...} [البقرة : 257] لنتأمّل في هذه المفردات: ظلمة الروح، ظلمة العقل، نور الروح، نور العقل. لا بدّ أيُّها الإخوة من أن ندقّق بما تعلَّمناه، قد لا تكونون متمرّدين، لكن قد تأخذكم عدوى النفاق من مجتمعكم، قد يُضلّكم آباؤكم إذا كانوا في خطّ النفاق، قد يضلّكم من حولكم إذا كانوا في خطّ النفاق، والله يريد لنا أن نخلص في دينه، وأنْ نتحرّك في حياتنا على أساس أنّنا إذا آمَنّا بشيءٍ فعلينا أن نلتزمه، وأنا دائماً أقول لكم في أكثر من مرّة، فكِّروا واجلسوا مع أنفسكم؛ ادرسوا المسألة بشكلٍ أساسيّ هل أنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وهل تؤمنون بالإسلام أم لا؟ قولوها لأنفسكم، لنقلها جميعاً لأنفسنا، وأنا معكم، هل نؤمن بالله، وباليوم الآخر، وبالإسلام كلّه أم لا؟ إذا كنّا نؤمن به، ونعتبر أنّه طريق الخلاص، فعلينا أن لا نجامل أحداً في طاعة الله، لا تجاملوا آباءكم، لا تجاملوا أمّهاتكم، لا تجاملوا إخوانكم، أقرباءكم، حكّامكم، لا تجاملوهم لأنّه لن يغني عنكم أحد من الله.
وإذا كنتم لا تؤمنون لكن صرتم مسلمين، لأنَّ آباءكم مسلمون، ولأنَّ بلدتكم مسلمة، وأنتم لا تؤمنون بذلك، فلماذا لا توفّرون على أنفسكم وعلى الإسلام الانتماء للإسلام؟ قولوا لسنا مسلمين، لأنَّ الحياة لا تحمل الزيف. أيّها الإخوة والأحبّة، لا بدّ للإنسان من أن يحترم نفسه، والإنسان المزيّف هو إنسان لا يحترم نفسه، ولهذا لا بدّ للإنسان من أن يكون صادقاً مع نفسه ليعرف نفسه من هو وفي أيّ طريقٍ يسير.
خلفيات ظالمة في النظرة إلى الإسلاميين
إذا كنّا نؤمن بالإسلام فعلينا أن نكون معه، وعلينا أن نكون مع خطّه، وعلينا أن نكون مع قيادته، وعلينا أن نرفض الذين يكيدون للإسلام والمسلمين، مهما كانت قوّتهم، ومهما كانت أوضاعهم، ولا أقول إنّنا عندما نريد أن نواجه هؤلاء فإنَّ علينا أن نواجههم بطريقة الفوضى، أو بأساليب عشوائية، ولكن أن نخطِّط للمواجهة، وأن نبحث عن نقاط القوّة عندنا لنحارب بها نقاط الضعف عندهم، لأنَّ القوم يخطِّطون لمحاربة الإسلام.
إنَّ الهجمة على المسلمين الملتزمين الذين يسمّونهم أصوليين تتحرّك في كلّ واقع الإسلام الملتزم، المقاوم، المجاهد في العالم. وهذه الهجمة على الملتزمين يتطوَّع لها وعَّاظ السلاطين، ممّن يحملون صفات دينية، ولكنّهم يتحرّكون بما لا يغضب السلاطين، أو بما يرضي السلاطين. فإذا أراد السلاطين منهم أن يحاربوا المؤمنين الملتزمين، ويلتقطوا أخطاءهم، ويلتقطوا بعض انحرافاتهم، فإنّهم يبادرون إلى ذلك دون حرج.
إنَّ الواقع المنحرف الذي زرعه الاستكبار العالمي والكفر العالمي في الساحات الثقافية والسياسية والاجتماعية جعل هناك عقدة ضدّ الإيمان والمؤمنين، حيث إنَّ بعض الناس يضحكون، ويبتسمون، ويفرحون لامرئٍ كافر، أو ضال. ولكنّهم يضغطون على المؤمنين، هؤلاء {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} إذا ذكر الله وذكر أولياء الله، وذكرت أحكام الله اشمأزّت قلوبهم {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر : 45]، قد لا يطيق بعض الناس أن يجلس مع مؤمن في جوِّ الإيمان ساعة، ولكنّه يجلس مع غير المؤمنين أيّاماً وليالي، هناك روحية تحدٍّ للخطّ الإسلامي، وهذا أمر مدبَّر الآن في لبنان، هناك الكثير من التيّارات المعادية، ولكن اسمعوا ماذا يتكلّم الناس، كم من الناس يذكرون الكفر والصهاينة وجماعة الصهاينة بسوء؟ وكم من الناس يهاجمون الأصوليين والمسلمين الملتزمين؟
لماذا يعادي الاستكبار إيران
إنَّ بعض الناس يعتبر المؤمنين الخطر وليس الخطر غيرهم، ولهذا جاءت قمّة عمان وتبعتها قمّة الجزائر(1)، لقد اعتبروا أنّ "إسرائيل" ليست الخطر، وإنّما إيران هي الخطر، لماذا إيران هي الخطر؟ هل إيران بقوميّتها عندما أفسح الشاه في المجال للقومية الفارسية؟ هل إيران بجغرافيّتها هي الخطر؟ كان جميع أُمراء الخليج يعتبرون أنفسهم موظّفين صغاراً عند الشاه، لا يستقبلكم الشاه ولكن يستقبلهم موظّف من الموظّفين الكبار، لماذا؟ لأنَّ إيران صارت إسلامية، وإسلامية لا على طريقة الدولة الإسلامية التي تقول إنَّ دين الدولة الإسلام فيما تأتي بكلّ القوانين غير الإسلامية لتكون شريعة الدولة وقانون الدولة. لكنّ إيران قالت إنَّ دين الدولة هو الإسلام، لأنَّ الإسلام كلّه هو الذي تريده أن يحكم إيران، ولأنَّ الإسلام هنا ليس هو الإسلام الذي يريد المتحدّثون فيه أن يجعلوه موظّفاً عند أميركا، أو عند روسيا، ولكن يريدون للإسلام أن يكون دين الله، الذي يتحدّى ويقاوم ويجاهد، لهذا في وقتٍ سابق، كان وزير خارجية فرنسا يتحدّث بكلّ صراحة أنّه لو انتصرت إيران في المنطقة، لشكَّل ذلك خطراً على الحضارة الغربية، ولهذا فإنَّ علينا أن نعمل أن نمنع انتصار إيران بكلّ الوسائل العسكرية والسياسية والاقتصادي والأمنية لنحافظ على هيمنة الحضارة الغربية في المنطقة ليست المسألة إلاّ أنّ الإسلام يريد أن ينطلق، وهذا ما جعلهم يتحدّثون عن الثورة كخطر.
الغرب يعمِّم نموذجه عالمياً
ماذا تريد إيران أن تفعل؟
إنّها تريد أن تصدّر الثورة للعراق(1)، وتريد أن تصدّر الثورة للبنان، وتريد أن تصدّر الثورة لأفغانستان، لكن ماذا تريد أميركا؟ إنّها تريد أن تصدّر "الأمركة" إلى كلّ العالم، فلماذا لا يكون ذلك خطراً؟ ومعنى تصدير "الأمركة" أن يكون العالم خاضعاً للسياسة الأميركية، والاقتصاد الأميركي، والأمن الأميركي، وما إلى ذلك. وأوروبا تعمل أيضاً على تصدير "الأوربة" إذا صحَّ التعبير إلى العالم، وروسيا أيضاً تريد أن تصدّر الماركسية للعالم، لماذا عندما تريد إيران أن تصدّر الإسلام الذي هو موجود في حجم العالم، يكون ذلك خطراً؟
توافق دولي لضرب الإسلاميين
وتُحدّثنا بعض الصحف الصادرة في أميركا وفي أوروبا عن اجتماع القمّة في موسكو(1)، وعلى ذمَّة ما نُشِرَ في بعض الصحف اللبنانية، أنّ الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف قال بعد القمّة لرجل أعمال غربي زار موسكو مؤخّرا: إنَّ أكبر مشكلة تواجه الجبّارين الدوليين، هي الأصولية الإسلامية فقط، ويتابع غورباتشوف: لقد خرج الأصوليون منتصرين على أميركا في إيران، وعلى الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، ويجب أن نجد نحن وأميركا طريقة للسيطرة على ذلك، لأنّه إذا ثار المسلمون في المنطقة كلّها، فسوف نحتاج إلى عشرين سنة لتهدئتهم.
ما معنى ذلك؟ معنى ذلك، حسب قول المعلِّق السياسي في هذه الصحيفة، يوحي بأنَّ الجبّارين تفاهما في قمّة موسكو على احتواء الأصولية، ليس فقط في إيران وفي الخليج، بل في المنطقة كلّها أيضاً. ويأتي في هذا الإطار حادث إسقاط البحرية الأميركية لطائرة مدنية إيرانية، وهذا ما يفسّر ردّ فعل الإمام الخميني (قدِّس سرّه)، ودعوته لإعلان الحرب على سلاطين العالَم كلّه، في النظامين الرأسمالي والاشتراكي.
وما يجري أيضاً في لبنان ليس عفوياً ولكنّه جزء من خطّة عالمية، وهذا ليس كلامي أنا، هذا كلام ينقل عن رئيس الاتحاد السوفياتي وينقله محلّل صحافي قدير ليس مسلماً أيضاً، فهذا يقول إنّ لبنان هو أخطر مكان مارست فيه الأصولية سياساتها، وقد يكون حلّ الوضع فيه، أقرب طريق إلى احتواء الأصولية. فهل دقَّت ساعة التحوّل في السياسات الإقليمية تجاه المدّ الأصولي؟ نحن نرى أنّ الخطة قد بدأت، وأنّ الكثيرين من الناس اعتبروا أنفسهم أدوات للخطّة في ضرب الإسلام الملتزم، الذي يسمّونه أصولياً، في محاولة تشويه صورته، وتسجيل النقاط ضدّه، مع إعطاء كلّ الحريّة لكلّ الذين لا يؤمنون بالإسلام، أو الذين يتحدّثون عن الإسلام في طريق الضلال.
هذا موقف ينطلق من خلال أنّ هناك خطّة في كلّ المواقع، لاحتواء هؤلاء المسلمين، الذين يفكّرون بطريقة الصحابة، حين كانوا مع رسول الله يقاتلون الكفر كلّه والاستكبار كلّه، لأنّهم لا يريدون للناس أن يفكّروا بطريقة الإسلام الذي ينبع من الأصول الحقيقيّة، ولهذا فإنَّ الدعوات تتحدّث دائماً عن الخطر الأصولي، ولا تتحدّث عن أيِّ خطرٍ آخر، وهذا ما يجعلنا نفكّر، ونعيد النظر في كلّ الواقع، لنعرف أنّ ما يتحرّك من أوضاع وتعقيدات هو من صنع الأجهزة المخابراتية المحليّة والإقليمية والدولية. ولهذا إذا أردنا أن نسير في الصراط المستقيم، فعلينا أن يكون أولياء الله أولياءنا، وأن يكون أعداء الله أعداءنا، حتّى نستطيع أن نواجه المسألة على أساس إسلامي، يضمن للإسلام عزّته وحريّته وقوّته، لأنَّ الإسلام أمانة الله عندنا في كلّ المواقع التي نتحرّك فيها.
السلاح الكيميائي يقتل المسلمين والعالَم يتفرَّج
وعلى هذا الأساس، لا بدّ من أن نراقب ما حدث في جبهة الخليج، من الهجمة على إيران الإسلام في الحرب الأخيرة، والتي استخدمت فيها أكثر أنواع الأسلحة تقدُّماً، وأكثر أنواع الأسلحة الكيميائية المحرّمة في العالم تطوّراً(1)، بالمستوى الذي أحرقت الحرب الكيميائية الأرض كلّها هناك، ولم يحتجّ أحد من العالم بطريقة فاعلة في مواجهة ذلك كلّه. ولذلك فإنَّنا نعتقد أنّ المسألة لم تنشأ من موقع ضعف، أو خيانة، كما يقول بعض الناس، ولكنّها انطلقت من التطوّر في استعمال الأسلحة الكيميائية، حيث كانت القذائف كيميائية والرصاص كيميائياً، وكانت الأسلحة الكيميائية تحرق كلّ ما هناك بشكلٍ غير معقول، ولم يرفع العالَم صوته في ذلك كلّه.
ممنوع على السلاح الخليجي أن يستخدم ضدّ "إسرائيل"
إنَّنا نشاهد أنّ أميركا وغير أميركا عندما تسلِّح المنطقة، تعطي سلاحاً للسعودية، وينطلق صوت من مجلس الشيوخ الأميركي يقول: إنَّنا نخاف أن يستعمل هذا السلاح ضدّ "إسرائيل"، وعندما تعطي سلاحاً لغيرها من دول الخليج، كما حَدَثَ الآن في ما اقترحه الرئيس الأميركي من إعطاء طائرات حربية للكويت يُقال إنّ الرئيس الأميركي يحاول أن يحصل على رضى مجلس الشيوخ، لأنَّ هذا السلاح فيه ضمانات على أن لا يستعمل ضدّ "إسرائيل"(1)، إذاً كيف يستعمل ضدّ إيران، المسألة هي أنّه يراد تسليح كلّ الدول التي تحيط بإيران، على أساس أن تتّسع الحرب وأن تستعمل هذه الأسلحة ضدّها.
نحن نرى أنَّ مجيء السفن الحربية الأميركية والأوروبية إلى مياه الخليج، هو لمنع إيران من أن تأخذ حريّتها في الدفاع عن نفسها في مواجهة النظام العراقي الذي يقصف السفن التي تحمل النفط الإيراني ويلقى دعم وتعاون كلّ دول الخليج(2).
إنّ إيران قالت إمّا أن تكون الحريّة لنا في تصدير نفطنا، وإلاّ فلا حريّة لأحد، ونحن نحمّلكم يا دول الخليج المسؤولية، لأنّكم تعاونون العراق بالمال والسلاح وبكلّ المواقع العسكرية. جاءت أميركا بحجّة أنّها تريد أن تحمي السفن الكويتية، ثمّ تطوّرت الحجّة لتمتدّ إلى حماية السفن التجارية، ولم تحاول أن تقف ضدّ النظام العراقي لتمنعه من قصف السفن التي تحمل النفط الإيراني.. جاءت أميركا إلى مياه الخليج من أجل أن تقوّي أنظمة عملائها من جهة، ومن أجل أن تجعل نفسها السلطة الأقوى في منطقة الخليج، في مقابل الاتحاد ومن أجل أن تحاصر الجمهورية الإسلامية وتمنعها من تحقيق أيّ انتصار على العراق.
الخطّة كانت هي هذه، وعندما وقفت إيران لتجابه الأسطول الأميركي بإمكاناتها المتواضعة، وهي تعرف أنّها لا تستطيع أن تهزمه، فإنّها كانت تريد أن تؤكّد موقفاً عنوانه أنّها لا تنهزم أمامها، ولهذا كانت كلّ ضربة تقابَل بضربة، وكانت إيران تعمل على أساس أن تزعج الوجود الأميركي الحربي في الخليج باعتبار أنّه يشكّل الخطر على المنطقة كلّها.
إسقاط طائرة "الإيرباص" والمأزق الأميركي
إنّنا نعتبر إسقاط الطائرة المدنية الإيرانية(1)، مِن قِبَل الطراد الأميركي بإطلاق صاروخين عليها، ليس عملاً ناتجاً عن خطأ، فالخطأ لا يتسلَّل إلى هذا المستوى في الأسلحة الأميركية، أو على الأقلّ إنّ احتمالات الخطأ هي احتمالات قليلة جداً، ولكن الذي غاظ أميركا هو أن تقف الزوارق الإيرانية أمام أسطولها لتحاول أن تزعجه، أرادت أن تفرض هيبتها، بأن تقتل أكبر عدد من الإيرانيين، حتى تسقط الروح هناك، ويتساقطوا، ويتراجعوا، ولكنّهم لا يفهمون الشعب الإيراني المسلم. هذا الشعب استطاع الإسلام أن يفتح عينيه على مواقع القوّة، ولهذا فإنَّ أميركا بهذا العمل استطاعت أن تخلق الفرصة لتوحيد الشعب الإيراني من جديد، ولتقويته من جديد، وأصبحت المسألة أنّ أميركا وقعت في المأزق، وأصبحت هناك دعوات على مستوى العالم إلى ضرورة انسحاب أميركا من الخليج، باعتبار أنّ هذا الخطأ يمكن أنْ يتكرَّر مرّة ثانية مع أكثر من طائرة.
إذا كانت المسألة مسألة خطأ، وإذا كان الرادار لا يستطيع أن يميِّز بين الطائرة الحربية والطائرة المدنية، فكيف يمكن للطائرات المدنية أن تحمي نفسها في الخليج، أو في كلّ مكان يوجد فيه مركز عسكري أميركي؟ ثمّ مَن الذي يعاقب أميركا إذا أخطأت؟ إنَّ المسألة هي أنّ هذه الحادثة فتحت عيون العالم على ما يمكن أن تقوم به أميركا ضدّ الطيران المدني، وضدّ كلّ من يعارض سياستها، لتبرّر بعدها بأنَّ المسألة مسألة خطأ وليست مسألة تعتمد على أساس وضع سياسي معيَّن.
الموقف الإيراني حكيم
نحن نحترم ردّة الفعل السياسية للقيادة الإسلامية في إيران، فقد تصرّفت بعقلٍ واتّزان، وقد تركت ردّ الفعل بطريقة الثأر لهؤلاء الضحايا من النساء والأطفال والرجال، تركته للمستقبل، لأنّها هي التي تختار الموقع، وليست الانفعالات هي التي تحدّد الردّ أو الموقع. وعلينا أن نتعلَّم من خلال هذا الموقف العاقل المتّزن، في ردّ الفعل على هذه الجريمة الوحشية المروّعة، أنّ الشجاعة والبطولة ليست في ردّ فعل أمام التحدّيات بشكل فوري انفعالي، ولكن لا بدّ من أن يكون بشكلٍ مدروس، يستطيع أن يحقّق الردّ، دون أن يخسّرك الفرص التي تحتاجها في كلّ واقعك السياسي أو واقعك الأمني. لا بدّ من أن ندرس ذلك، ولا بدّ من أن نقف مع الثورة الإسلامية في هذا التحدّي الجديد الذي يواجهها من كلّ قوى الاستكبار العالمي، وندعم مطالبتها بانسحاب السفن الأميركية، المعادية للخطّ الإسلامي ولحريّة الشعوب، من مياه الخليج.
تحرّك إقليمي ودولي لتدجين الانتفاضة
إنّنا نتطلَّع إلى ذلك كما نتطلّع في الوقت نفسه إلى الانتفاضة التي نريد أن نطلق عليها اسم الثورة، لأنّها ليست مجرّد حدث انتفاض، ولكنّها خطّ في الثورة، لنحدّق في كلّ الوضع السياسي الذي يتحرّك في الدائرة الفلسطينية سواء في حركة الخطّ الإسلامي الذي يصالح "إسرائيل"، وفي هذه الأجواء المعقّدة التي تعيش في داخل المخيمات وغير المخيّمات، وفي ما يتحرّك في الخفاء من خطط مستقبلية. إنّنا نتصوّر أنّ القمّتين العربيّتين(1) وقمّة موسكو، وبعض الأوضاع السياسية، والتحالفات الإقليمية وغير الإقليمية، تعمل على أساس تدجين الانتفاضة وتجميدها واحتوائها حتّى لا تسيء إلى الحلول الاستسلامية أو السلمية.
إنّ هناك عملاً يراد من خلاله إسقاط المسألة الفلسطينية في الدائرة السياسية، لتبقى المسألة مسألة الأراضي العربية المحتلة، التي يمكن أن يدبّر لها حلّ بطريقة أو بأخرى.
وعلينا أن نتفهَّم من خلال ذلك ما يدبّر لنا من أوضاع وأمور في تقوية "إسرائيل" وفي تنفيذ وإنجاح مخطّطاتها في لبنان وغير لبنان، على مستوى الأرض والواقع السياسي والأمني والاقتصادي، ويجب علينا أن ندعم حركة الجهاد في مواجهة "إسرائيل" ولاسيّما المقاومة الإسلامية، التي تحتوي كلّ مسلم مؤمن بضرورة الجهاد ضدّ الاستكبار العالمي والصهيونية، ولا بدّ لنا من أن نعمل على أن تكون لها كلّ حريّتها، وكلّ الفرص التي تعمل على إرباك كلّ المخطّطات، التي تسعى إلى إيجاد شرعية إسرائيلية في داخل فلسطين، وفي خارجها.
الخطّ الإسلامي يرفض الغبن والهيمنة
وإذا انتقلنا إلى لبنان فماذا نرى؟ نرى أنّ ثلاث عشرة سنة مضت من الفتنة، والجميع يتحدّثون عن الإصلاحات وعن استحقاق الإصلاح الذي يمكن أن يحقِّق نوعاّ من المساواة في ما بين اللبنانيين، وأن يجعل اللبنانيين يتعايشون على أساس أن لا يكون لبنان ممرّاً للاستعمار ولا مقرّاً، وعلى أساس أن يكون لبنان لكلّ اللبنانيين لا لفئة دون أخرى لأنّنا نتكلّم في الساحة العامّة، وعندما نتكلّم عن الإسلام، فإنّنا نتكلّم عن هدف استراتيجي، نحرّكه في الساحة، في إطار الحريّة والعدالة لكلّ اللبنانيين، لأنَّ الإسلام لا يريد الحريّة للمسلمين فحسب، ولا يريد العدالة للمسلمين فحسب.
لكنّنا نتكلَّم عن الاتجاه العام الذي انطلق من أجل أن لا يكون هناك غبن في البلد، وأن لا تكون هيمنة طائفية في البلد، وأن لا يعيش المسلمون في الدرجة الرابعة من حقوقهم، وفي كلّ مرحلة من مراحل هذه الحرب، تنطلق الدعوات للحوار، حول طاولة مستطيلة، أو مستديرة أو حوار في سباق الخيل(1)، أو في سباق الحمير، أو في أيّ موقع من مواقع السباق، لأنَّ القصّة قد اختلطت عندنا في كلّ مواقعها فأصبحنا لا نميّز بين الخيول الأصيلة وبين الحمير وبين غيرها في هذا المجال.
الاستحقاق الرئاسي ومهزلة الإصلاح
وكانت كلّ مرّة تنطلق الكلمات الكبيرة في سبيل أن يكون هناك إصلاح، وأن نضغط من أجل الإصلاح، وأن نمنع كلّ شيء على أساس تحقيق الإصلاح، وأن نعتبر الإصلاح شرطاً في كلّ عمل وفي كلّ استحقاق. أليس ذلك ما كان يتحدّث به المتحدّثون، أليس ذلك هو ما قيل للضحايا التي سقطت وهي تقاتل من أجل ذلك، وتمرّ الفرص الكبيرة التي تضغط، ويمكن أن تضغط، وتأتي المداخلات من هنا وهناك على كلّ المستويات لتنفّس الضغط هنا، وتنفّس الضغط هناك، وتنطلق الكلمات لتتحدّث أنّه لا بدّ من أن يكون الرئيس مارونياً، لأنَّ تلك هي ضمانات المسيحيين في لبنان، لأنّهم لا يريدون أن يكونوا من الدرجة الثانية، لكن لماذا قبلتم أن نكون من الدرجة الرابعة.. كلمات تنطلق لتقول للبنانيين لا تفكّروا بالإصلاح، إنَّ ثلاث عشرة سنة تحمل من الضغوط السياسية والأمنية والاقتصادية لم تستطع أن تفرض فيه الإصلاح الذي تريده أكثرية الشعب اللبناني، ومع ذلك لم يفرض إصلاح. كان الكلام يدور كثيراً؛ الأمن قبل الوفاق، أو الوفاق قبل الأمن، ثمّ صار الكلام يدور كثيراً، الوفاق قبل الاستحقاق، أو الاستحقاق قبل الوفاق. وتعب الجميع، وقالوا اتركونا ننتخب رئيس جمهورية، ثمّ بعد ذلك يمكن لكم أن تتحدّثوا معه عن الإصلاح. رئيس جمهورية، ما لونه؟ ما طعمه؟ ما رائحته؟ المهم أن يكون بلا طعم إلاّ الطعم الأميركي، ولا لون إلاّ اللون الأميركي، ولا رائحة إلاّ الرائحة الأميركية الممزوجة برائحة عربية ـــ إسرائيلية ـــ لبنانية.
وبعد ذلك يقال لنا لا تتحدّثوا عن الإصلاح، لأنَّ الإصلاح يقتضيكم حرب ثلاث عشرة سنة أخرى، لهذا هدِّئوا أعصابكم، وتعالوا نغيّر بعض الديكور اللبناني، وتعالوا نتّفق على أن نتعايش لتكون للمارونية الكلمة العليا، ولتكون لبقيّة المسيحيين والمسلمين الكلمة السفلى، لأنّنا نبحث عن ضمانات، أتعرفون لماذا يهوّلون ويضخّمون؟ إنَّ مسألة ما يسمّونه الاستحقاق الدستوري، وهو مسألة انتخاب رئاسة الجمهورية وهذه مسألة بسيطة، فقد انتخب في هذه الفتنة عدّة رؤساء للجمهورية، فلماذا يكون هذا الانتخاب أمراً مهمّاً ضخماً يمثّل أساس نجاة لبنان؟ ليس الأمر كذلك. سيكون انتخاب هذا الرئيس كبقيّة انتخابات الرئاسات الأخرى، أو الرؤساء الآخرين. لكنّهم أرادوا أن يضخِّموا مسألة الاستحقاق الدستوري ليقلِّلوا من أهمية الاستحقاق المصيري، أرادوا أن يهوِّلوا على الناس في أنّه إذا لم ينتخب رئيس جمهورية، فسيكون التقسيم، وسيكون الفراغ، حتّى يخاف الناس من التقسيم الذي لن يكون، والفراغ الذي لن يحدث، حتّى يخاف الناس من ذلك، فيتركوا كلّ شيء، ويقولوا أعطونا خبزنا كفاف يومنا، وانتخبوا لنا رئيس جمهوريّتنا، وكلّ إصلاح وأنتم بخير.
وإلاّ ما معنى كلّ هذه الملهاة، النفايات السامّة، اللحوم المستوردة المجلّدة والمتعفّنة، التبغ والسموم، الكهرباء التي تنقطع بهذا الشكل الفظيع، الماء الذي انقطع(1).. كلّ هذه المفردات المتتالية، لماذا؟ حتّى تتأدَّبوا، حتّى لا ترتفع العين فوق الحاجب، لأنَّ الحاجب يريد أن يكون مسلَّطاً على العين، وحتى تلقوا يد الطاعة لكلّ الأجهزة الدولية والإقليمية والمحليّة. ولتبقى المعادلة اللبنانية التي تحرس النظام الطائفي وتقوّيه لتبقى هي المعادلة الحقيقية في البلد... ولهذا أصبحنا نسمع كلاماً أنّ علينا أن نهدّئ الوضع، وأن ترجع الدولة وأن ترجع الخدمات، وأن ينتخب رئيس جمهورية، ثمّ نسمع أيضاً حديثاً في الثورة وفي تغيير النظام، لا أدري أين عقولنا التي تتقبّل كلّ كلمات التغيير وكلّ كلمات الثورة من الذين يريدون أن يمنعوا التغيير الحقيقي، وأن يدجّنوا الثورة في نفوس الثائرين؟!.
والحمد لله ربّ العالمين
مسؤولية التغيير في حركة الدعوة(*)
الإنسان وصناعة المستقبل
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد : 11]، ويقول الله سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى متناولاً آل فرعون والذين من قبلهم {... كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ*ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 52 ـــ 53].
القوانين الإلهية
في هذه الآيات حديث عن قاعدة إيمانية، وهي أنَّ الله عندما خلق كلّ شيء في هذا الكون فقد خلق معه القوانين التي تنظّم له حركته؛ فخلق السماء، وجعل للسماء في كلّ كواكبها وفي كلّ دوائرها وأوضاعها، القوانين التي تنظّم لها كلّ دورتها وكلّ أوضاعها، بحيث لا يختل من نظامها شيء. وخلق الأرض وما فيها من بحار وأنهار وينابيع وأشجار وجبال وسهول وما إلى ذلك، وجعل لها قوانينها في طبيعة كلّ الأوضاع المحيطة بها، بما يجعل الحياة فيها ممكنة وطبيعية. وهكذا نجد أنّ الله جعل لكلِّ كائنٍ نظاماً لا يختاره بنفسه ولكنّ الله يختاره له: أمّا الإنسان، فقد جعل الله نظامه في خطّين: هناك خطّ لا يملك الإنسان الحريّة في تغييره، وهو طبيعة الأجهزة الموجودة داخل جسمه، وطبيعة علاقة جسمه بالنظام الكوني من حوله، وطبيعة الموت والحياة؛ إنَّ هذه أمور تتمّ بإرادة الله سبحانه وتعالى، من خلال علاقة الإنسان في وجوده كجسد وككيان بالكون من حوله، فالجسم يتأثّر بالحرّ والبرد وباللّيل وبالنهار، ويتأثّر بكثير من الأوضاع التي قد يمرض منها إذا لم يكن هناك انسجام بينه وبينها.
الإنسان والاختيار
أمّا عمل الإنسان وحركته في الحياة ونظام وضعه وعلاقاته وأهدافه وحركته في الحياة، فقد أراد الله أن يكرّم الإنسان فيجعل أمره بيده، بحيث إِنَّ الله سبحانه وتعالى قال للإنسان، لقد أعطيتك عقلاً تستطيع أن تميّز فيه ما يضرّك وما ينفعك، وأن تتعرّف فيه ما يصلحك وما يفسدك، وأعطيتك جسداً يستطيع أن يتحرّك في كلّ موقع توجّهه فيه، أعطيتك العينين اللّتين تبصر بهما ما تحتاجه في كلّ مواقعك من الحياة من المرئيّات، وأعطيتك الأذنين اللّتين تسمع بهما كلّ ما تريد أن تتعرَّف إليه ممّا يتّصل بمسؤوليّتك في الحياة، في ما تسمعه من قصف الرعود، ومن حركة الرياح، ومن كلّ ما يحيط بك من أصوات الحيوانات، وأصوات الناس والكون من حولك، كأصوات الأمواج وغير ذلك، أعطيتك ذلك كلّه، وأعطيتك اليدين اللّتين تستطيع أن تطلقهما، لتتحرّك في كلّ ما يبني لك حياتك وفي كلّ ما ينظّم لك وضعك، في ما تحتاجه من حركة اليدين من ذلك كلّه، وأعطيتك رجلين لتسعى بهما إلى ما تريد أن تصل إليه، وأعطيتك اللّسان الذي تستطيع من خلاله أن تنقل أفكارك إلى كلّ من حولك. هكذا زوّدتك بكلّ الأجهزة التي تستطيع من خلالها أن تتحرّك إلى ما تريد كما تريد، وأعطيتك بعد ذلك الوحي، الذي يعين عقلك على تلمّس كلّ ما يريد أن يتعرّف عليه من حقائق الأشياء.
أيُّها الإنسان، لقد خلقتك خلقاً لم أخلق أحداً مثله، فأعطيتك كلّ شيء، وسخَّرت لكَ الكون كلّه من أجل أن تشارك كلّ ظواهر الكون في تدبير الوضع الذي تستطيع أن تعيش فيه في حياتك. سخّرت لكم السموات والأرض من خلال الظواهر الكونية في هذا النظام التي تجعل من أرضكم أرضاً تستطيعون أن تعيشوا فيها. أيُّها الإنسان لقد خلقتُ لكَ ذلك وقلت لكَ تحمّل مسؤوليّتك، لم تتحمّل السماء مسؤوليّتها بل قالت يا ربّي إنّي أعطي كلّ طاقاتي لتنظّمها أنت، لأنَّ الله قال لهما ـــ للسماء والأرض ـــ {... اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت : 11]. لكن أيُّها الإنسان لقد جعلتُ أمرك بيدك، حمّلتك مسؤولية نفسك، أنتَ تستطيع أن تحرّك نفسك كما تريد، بعقلك وإرادتك وبحركة الأجهزة المودَعة بجسمك، وبحركة الأشياء التي هيّأتها لك، {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ...} [الأحزاب : 72].
الأمانة يحملها الإنسان
ما هي الأمانة؟ الأمانة هي المسؤولية. إنّ الله يريد أن يعبّر لنا عن ثقل المسؤولية وعن خطورتها، فكأنَّ الله يريد أن يصوّر لنا أَنّه قال للسماوات، لتتحمّل مسؤولية إدارة وضعها بنفسها فأبت السماوات وخافت لأنَّ المسؤولية تستتبع غضب الله إذا انحرف الإنسان عنها، والسماوات لا تطيق غضب الله؛ وقال الله للأرض: تحمّلي مسؤولية إدارة كلّ نظامك بنفسك وأنا أُهيِّئ لكِ ذلك، فأبَت الأرض وقالت: يا ربّي ركِّز لي نظامي بما تريد، لا تحمِّلني شيئاً، لأنّي أشفق أن أتحمّل مسؤولية إدارة نظامي، وأَبَت الجبال الضخمة، التي تتعالى في الفضاء بكلّ صلابتها وشموخها وقوّتها وهي البارزة في مظهر القوّة في الأرض.
قال الله لها: تحمّلي مسؤولية نفسك أيّتها الجبال، أديري نظامك، نظام الينابيع في داخلك ونظام الثلوج التي تتجمَّع على ظهرك، وكلّ ما يعيش في داخلك من كهوف ومغاور وحيوانات، وأبَت الجبال عندما خيَّرها الله أن تتحمّل مسؤولية نفسها وأشفقت من ذلك، لأنّها تخشى أن تنحرف بها المسؤولية فتُغضِب الله، وقد قال عليّ (عليه السلام) في ما نقرأه من دعاء كميل: "لأنّه لا يكون إلاّ عن غضبك وانتقامك وسخطك، وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض".
يؤكّد عليّ (عليه السلام) الفكرة التي تقول بأنَّ السموات والأرض أشفقن من أن يحملن المسؤولية، لأنَّ المسؤولية قد تنحرف بالإنسان، وقد يخطئ فيتعرّض لغضب الله؛ أو قد تخطئ السماوات والأرض فتتعرَّض لغضب الله، وهي لا تطيق ذلك.
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ...} قال يا ربّ، أنا للمسؤولية، سأتحمّل مسؤولية نفسي، وسأتحمّل مسؤولية الحياة من حولي، سأنفّذ كلّ ما تريد، ماذا حدث؟ {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب : 72] ظَلَمَ نفسه، وكان جاهلاً بحمل المسؤولية وخطورتها في ذلك كلّه. إذاً نفهم من هذا الجوّ أنّ الله سبحانه وتعالى حمَّل الإنسان مسؤولية صنع حياته، وصنع تاريخه، وقال له: إنَّ الظروف لن تضغط عليك، وإنْ شعرتَ بأنّها يمكن أن تحتويك، ولكنّك تستطيع أنتَ أن تصنع الظروف، وتستطيع أن تصدم الظروف، وأن تتعامل مع الظروف من حولك، لأنّك تملك العقل الذي إذا واجهه ظرف صعب، يفكِّر فيختار موقفاً يخفّف من صعوبة الظرف، ويؤدّي إلى نشوء ظرفٍ آخر يلغي ذلك الظرف كلّه. لستَ خاضعاً للظروف بحيث تكون مشلولاً أمامها، أنتَ الفرد لو كنت تعيش في ظروف الكفر فإنّك تستطيع بإرادتك أن تكون المؤمن في مجتمع الكفر، ولو عشتَ في مجتمع الظلم تستطيع أن تكون العادل في مجتمع الظلم، لأنّك تملك الإرادة التي تقول لا، وتقول نعم. قد يضغط الناس على جسمك فيمنعونك من الحركة، ولكن مَن يستطيع أن يضغط على فكرك وفكرك لا يملكه أحد إلاّ الله، لأنَّ السياط مهما ضربت على جسدك لا تستطيع أن تضرب فكرك، ولا تستطيع أن تغيِّر قناعاتك لأنَّ قناعاتك صنع عقلك وصنع إرادتك، ولهذا فإنَّ الظروف مهما أطبقت عليك فإنَّ عقلك يصرخ لا، وإنّ قلبك يصرخ لا، مهما عَلَت صرخات جسدك، ومهما عَلَت صرخات الناس من حولك.
الإرادة في خطّ الله
إنَّ عقلك عندما يكون في سلامته، وإيمانك عندما يكون في قوّته، يستطيع أن يرفض ذلك كلّه، لهذا فالله يحمّل الإنسان مسؤولية صنع تاريخه. أنتَ كإنسان تستطيع أن تصنع تاريخك، تاريخ حياتك، بما تؤكّده في عقلك من موقف، وبما تؤكّده بإيمانك من خطّ. أنتَ تصنع تاريخك وذلك فأنتَ مسؤولٌ عن تاريخك. قد تعيش بين أبويك وعقلك وإرادتك معك، ولن يكون أبواك مسؤولين عنك، أنتَ المسؤول عن ذلك، لو ضغطا عليك لتنحرف، فإنّهما لن يستطيعا أن يجبراك على الانحراف، لأنَّ عقلك وإرادتك يرفضان ذلك. وهكذا عندما تعيش في أيِّ مجتمع من المجتمعات فأنتَ تستطيع أن تكون الإنسان البارز في المجتمع في ثباتك على إيمانك من خلال عقلك وإرادتك، ولن يستطيع أحد أن يلغي ذلك كلّه، وإذا جاءتك المشاكل من هنا وهناك فعليك أن لا تسقط أمامها، ولا تسقط أمام قوى الانحراف، وأمام قوى الكفر، بل لا بدّ من أن تعمل على أن تنفذ إلى كلّ ما حولك وكلّ من حولك من أجل أن تخفِّف من الضغوط، حتّى تجد المَنْفَذ والمخْرَج. وقد قال الله للمتّقين، كلّ المتّقين، إنَّ الأبواب المسدودة التي تحيط بكم لن تحاصركم، بل إنَّ هناك باباً يفتحه الله لكم من غامض علمه، وإنَّ حصار الرزق الذي يحاصركم به الناس لن يفقركم، لأنَّ لله منافذ للرزق تختلف عن ما يعرفه الناس، {... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ} [الطلاق: 2] والتقوى لله هي أن تؤكّد مواقفك على خطّ محبّة الله وخوفه ومَن يتَّقِ الله ويحاصره الناس ليضغطوا عليه، ومن يتّقِ الله ويضيق عليه الناس أبواب الرزق ليجوعوه وليفقروه، {... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ...}، فهو كافيه {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق: 2 ـــ 3] وعليك أن تعرف الخطوط التي يركّزها الله لك، حتّى تستطيع أن تعرف كيف تسير في طريق الله للوصول إلى أهدافك.
مسؤوليّتنا بين ضغوط الواقع وحركة العقل
وهكذا نتحمّل مسؤولية أنفسنا من خلال قدرتنا على تربية أنفسنا، أنت لم تُصنع شرّيراً إذا كنتَ الآن شريراً، ولم تصنع خيّراً إذا كنتَ الآن خيّراً، لقد خلقك الله ورقة بيضاء، تستطيع أن تكتب فيها الخير من خلال التزام إرادتك بالخير، وتستطيع أن تكتب فيها الشرّ من خلال التزام إرادتك بالشرّ، فالله لم يضعك في الطريق الشرّير أو الطريق الخيّر. الله قال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان : 3] لقد هداك الله الطريق، وقال لكَ هذا طريق الخير سرّ فيه والجنّة في نهايته، وهذا طريق الشرّ لا تسر فيه لأنَّ النار في نهايته، وأنتَ حرّ في ذلك، وقال للرسول {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ...} [الكهف : 29] وقال للإنسان بعد ذلك أتريد أن تكون مؤمناً أو كافراً؟ اعرف هذه الحقيقة {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ـــ 8] فدبِّر نفسك بنفسك. إذاً أنتَ تستطيع أن تربّي نفسك، قد يربّيك أهلك على طباع معيّنة، وعلى عادات معيّنة، وعلى أفعال معيّنة، وعلى كلمات معيّنة، قد لا تكون هذه الطباع والعادات والأفعال والكلمات في مصلحتك، ربّما تسير مدّة تحت ضغط أهلك ولكن عندما تنتبه وتصطدم بالحياة؛ قف وفكِّر إنّ ما جاء به أهلك قد لا يكون الحقيقة، لأنَّ الله قد علَّم رسوله عندما كان الناس يقولون {... إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] قال: {... أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] هل تسيرون وراء آبائكم وتلتزمون عاداتهم أو عادات مجتمعكم، حتّى لو كان مجتمعكم غير عاقل وغير مهتد. إنَّ الإنسان لا يلتزم الضلال ليتعصَّب له. لا بدّ لك أن تفكّر؛ فقد علَّم الله رسوله أن يقول لأمثالنا ممّن يلتزمون عادات مجتمعهم، سواء كان مجتمعاً عشائرياً أو مدنيّاً أو عائلياً، ويتعصَّبون له، إنَّ الله قال لرسوله قل لهم {... أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ...} [الزخرف: 24] ما رأيكم هل تظلُّون مصرِّين، حتّى لو جئتكم بالدعوة التي هي أكثر هدىً ممّا وجدتم عليه آباءكم؟ هل تتعصّبون لآبائكم؟ إنّكم عندما تتعصَّبون لخطأ آبائكم أو مجتمعاتكم، أو عندما تتعصّبون لضلال آبائكم أو لضلال مجتمعاتكم، فإنَّ معنى ذلك أن تتعصَّبوا للتاريخ وللمجتمع على حساب مصيركم في الدنيا، وقد يكون على حساب مصيركم في الآخرة.
التعصُّب... جهل
هل من العقل أنْ تتعصَّب بالخطأ، حتّى لو كسر لك الخطأ رقبتك؟ أن يتعصّب الإنسان للحقّ ويكسر لك الحقّ رقبتك فذلك في سبيل الله، وهو أمر عظيم. أمّا أن تتعصّب لضلال أو خطأ أو أيّ شيء سيِّئ وتورّط نفسك في الدنيا في الخسارة، وتورّط نفسك في الآخرة لدخول النار؛ أيّ عقل هو هذا العقل، من أبوك؟ إنسان عاش في بيئة معيّنة، قد تكون خيّرة فيتأثّر بها فيكون خيّراً، وقد تكون سيّئة فيتأثّر بها فيكون سيّئاً. أبوك مثلك، الفرق بينك وبين أبيك أنّه عاش في زمن وعشت في زمنٍ آخر. الزمن لا يعطي الحقيقة بل الفكر هو الذي يحدِّدها. إذاً ليكن أبوك أو رئيس منظّمتك أو رئيس حركتك، أيّ شيء من ذلك، ليكن ما كان فهو إنسان يملك فكراً، وأنتَ تملك فكراً، وفكره ليس حجّة على فكرك وليس حجّة لك، فإذا اتبعته بدون بصيرة لن تستطيع أن تدافع عن موقفك أمام الله، هل تقول إنَّ رؤساءنا وكبراءنا اختاروا لنا ذلك {... رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67] انظروا ما أضعف هذا المنطق.
في هذا المجال حاولوا أن تعيدوا النظر في كلّ ما درجتم عليه من عادات ومن انتماءات ومن أقوال وأفعال، فإن وجدتموها خيراً أكّدوها في أنفسكم، وزيدوا عليها من الخير؛ وإذا وجدتم فيها شرّاً فحاولوا أن تغيّروا الشرّ، أن تغيّروا نفوسكم وتطردوا الشرّ بأن تحلّوا الخير مكانه. فقد قال عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) للناس، لكلّ إنسان ينخدع بكلام الناس وبضوضائهم بإغرائهم وبتسويلاتهم: "لا يغرّنك سواد الناس من نفسك"(1) قد يحسّنون لك بعض الأشياء، ويقولون هذه عاداتنا نحن العشائر، فلا نقدر على أن نغيّر عادات الآباء والأجداد، أو يقولون أنّ هذا منطق العصر ولا نقدر أن نغيّر ظروف العصر أو يقولون أهل بلدنا تعوَّدوا على عادة معيّنة وعلى أوضاع معيّنة، أهل بلدنا محسوبون على هذا الزعيم، والأولاد وأولاد الأولاد يكونون إرثاً، هذه أشياء نعيشها في حياتنا.
الوقوف بين الله
ضمن هذا الجوّ، على الإنسان أن يفكِّر في أنّ هذه العادات، عندما تكون خطأ فعلينا أن نغيّرها، وهذه الانتماءات عندما تكون خطأ علينا أن نغيّرها. بعض الناس يقول الزمان فسد، ويجيبهم قول الشاعر:
يقولون الزّمان به فسادٌ وهم فسدوا وما فسدَ الزَّمانُ
الزمان ما هو؟... هو هذه الأيام وهذه الساعات والثواني وهذه كيف تفسد؟ نحن نفسد، إذاً الموضة تأتي من أُناس يصنعون الموضة، والعرف الاجتماعي يحدثه أُناس يصنعون العرب الاجتماعي، والعادات تأتي من خلال أُناس يصنعون العادات. وهكذا فعلى أيّ أساس نحن نلتزم هذه الأمور ونحن لا نملك حجّة أمام الله في الالتزام بمن صنعوا هذه الأمور. المسألة أنّنا سنقف جميعاً أمام يديّ الله، هذه حقيقة ولكنّنا غافلون عنها تماماً، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا...} [النحل: 111] تعال يا فلان اقرأ كتابك وحاسِب نفسك {... كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء : 14] وهذا يفرض علينا أن لا نعمل عملاً إلاّ ونعرف كيف نجيب الله إذا سألنا الله ما هو دفاعكم عنه؟ هذه نقطة أساسية أن نجيب الله عن كلّ سؤال. ثلاثة يظلُّهم الله بظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه، من بين هؤلاء الناس رجلٌ لم يُقَدِّم رِجْلاً ولم يؤخِّر أخرى، حتّى يعلم أنّ ذلك لله رضى. إذ قال لي أحد لنذهب عند فلان أو لنسر في تظاهرة أو لنذهب ونقاتل، عليَّ أن لا أسمح لرجلي أن تتقدَّم إلاّ بعد أن أُفكِّر هل يرضى الله بهذا أو لا يرضى؟ أو عندما يقول لي فلان تراجع عن موقفك، فيفترض أن لا أتراجع بحجّة أنّ هذا صاحبي، يجب أن لا أغضبه أو هذا قريبي، كما حدث أيّام مسلم بن عقيل، حيث وقف الناس كلّهم في البداية مع مسلم ولكن سرعان ما جاءت المرأة لولدها والزوجة لزوجها والأخت لأخيها فقلن: يكفيك الناس، تراجع عن موقفك، فتأخذه العاطفة فيتراجع. ونحن في كثيرٍ من الحالات تأخذنا العاطفة ونتراجع، ولكنَّ الله يريدنا أن لا نتراجع على أساس العاطفة ولا نتقدَّم على أساس العاطفة، بل نتراجع على أساس رضى الله ونتقدّم على أساس رضى الله، هل نفكّر بهذه الطريقة؟ إنّ هذه هي الطريقة الحقيقيّة التي تجعل كلّ إنسان يمتلك الحجج القويّة التي يدافع بها عن نفسه أمام الله.
الأنانيّة والعصبيّة آفتان مدمّرتان
لهذا لا بدّ أن نعمل على أن نغيِّر أنفسنا في مجتمعنا، نحن نتربّى على الأنانية، يربّينا آباؤنا عليها، ويربّينا مجتمعنا عليها، في مجتمعنا نتربّى على أن لا يطيق أحدنا أن يكون هناك شخص مماثل له على مستوى الأشخاص وعلى مستوى الجماعات في المواقع السياسية أو الدينية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. وعندما يقال للإنسان إنّ الساحة تسعك وتسع الناس الآخرين، وإنَّ السوق يمكن أن يربحك ويربح التاجر الذي إلى جانبك، وإنّ المجتمع يمكن أن تتعايش فيه أنتَ والآخرون من دون أن ينقص من حظّك أو ينقص من حظّ الآخرين، لماذا تريد أن تلغي وجود الآخر، ودوره وموقعه؟ لماذا والساحة يمكن أن تتّسع لك وتتّسع للآخر؟ ولكنَّ الأنانية تصرخ في داخل أنفسنا. لا للآخرين، أنا وحدي القيادة، أنا وحدي التجارة، أنا وحدي الاجتماع. الأنانية تفرض نفسها على الناس وتخرّب حياة الناس.
في البيت الزوج يقول أنا. وفي المجتمع، الذين يسيطرون على مقدّرات المجتمع يقولون نحن لا الشعب، والكثيرون من الناس يقولون نحن لا الآخرون ممّن يتساوون في مراتبهم. الأنانية دمّرتنا، لأنّها استطاعت أن تضع الفواصل الأساسية في ما بيننا، وتجعل الإنسان لا يلتقي بغيره، بل تعمل على فصله عن غيره، فتقيم الحواجز بين الناس ولا تكتفي بذلك، بل تعمل على أن تخلق في داخل أنفسنا روحاً عدوانية تجاه الآخرين. إنَّك تفكّر أنّ عليك أن تقمع الآخر وأن تسقطه، وأن تلغي دوره، وتثير النزاعات والخلافات والحروب من خلال ذلك. والإسلام لا مانع عنده من أن يحبّ الإنسان نفسه ولا مانع عنده من أن يتمنّى ما عند الآخرين لنفسه، ولكنَّ الإسلام فرَّق بين حالتين، بين الحسد وبين الغبطة. الحسد هو أن تجد نعمة عند أخيك وتتمنّى زوالها عنه، وأن تنتقل إليك. أمّا الغبطة فأن تجد نعمة عند أخيك فتحبّ أن تبقى له، وتتمنّى أن يكون لك مثل أخيك في هذه النعمة، أن تغبط الناس بأنْ تتمنّى ما عندهم على أن يكون لك مثله مع بقائه عندهم. هذا أمر شرعي وأخلاقي، أمّا أن تتمنّى زوال نعمة إنسان لتكون لك، لماذا تفعل ذلك؟ أتخاف أنّ الله لا يملك نعمة ثانية مماثلة لهذا الإنسان ونعمة الله تسع الناس كلّهم ولا ينقص منها شيء، {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف : 109]، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا...} [النحل : 18].
الأنانية لا تحلّ المشاكل
الله أعطاك نِعَماً وأعطى غيرك نِعَماً، لكَ عينان تبصران ولكلّ الناس عيون تبصر، لكَ أُذنان تسمعان ولكلّ الناس آذان تسمع. إنَّ الله يخلق الناس، خلق ما خلق ويخلق ما يخلق ولا يحتاج إلى أن يزيل عيني إنسان ليعطيها لإنسانٍ آخر، بل يخلق النِّعَم كما يخلق الأشخاص، ولا ينفد خلقه. يخلق النِّعَم ولا تنفد النِّعم، فلماذا تريد أن يضيّق نِعَم الله؟ نقلت لكم مرّة عن أعرابي جاء إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وقال: يا رسول الله أُريد أن أدعو. قال: ادعُ. قال: "اللّهم أغفر لي ولمحمّد ولا تغفر لأحد بعدنا"، النبيّ التفت إليه قائلاً لماذا تريد أن تحصر رحمة الله فينا نحن الاثنين فهل إذا أراد الله أن يرحم غيرنا ينقص من رحمتنا؟! كلا لن ينقص، "يا هذا لقد حجَّرت واسعاً"، معنى ذلك أنّك إذا كنت في الصحراء وتريد أن تأخذ مساحة من الأرض، والأرض واسعة وكبيرة جداً فإنّك لا تحتاج أن تحجر هذه الأرض، متى تحتاج أن تحجرها وتسورها؟ تحتاج إلى ذلك عندما تكون الأرض ضيّقة فتخاف أن يأخذ أحد من حصّتك فتسور أو تحجر، أمّا في الصحراء فلو أخذ كلّ الناس من الأرض، يبقى لك حصّة واسعة فلماذا تحجر وتسور؟ كذلك الله وسعت مغفرته السماوات والأرض فلماذا تريد أن تحجر نعمة الله؟ إذاً الأنانية غير عملية وغير واقعية والإسلام يقول "إنَّ الله يحبّ المرء المسلم الذي يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه"(1). كلّ النتائج السلبية التي تأتي من الأنانية لا يمكن أن تتغيَّر، كلّ أوضاع الصراع التي نعيشها وكلّ المشاكل الآتية من الأنانية لن تُحلّ ما دامت نفوسنا مشبّعةً بالأنانية، لأنَّ ما في أنفسنا ينعكس على أعمالنا، ولأنَّ الله {لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11]. لهذا لا بدّ أن نغيِّر هذا الشيء.
ومن مشاكلنا التي نعيشها مشكلة العصبيّة. نحن نتعصّب ذاتيّاً، فيتعصَّب الإنسان لنفسه، ونتعصَّب عائلياً فيتعصَّب الإنسان لعائلته، ونتعصّب بلدياً ـــ إذا صحّ التعبير ـــ فيتعصّب الإنسان لبلده، ونتعصّب وطنياً ونتعصّب قومياً ونتعصّب طائفياً ونتعصّب حزبياً، نحن مجتمع العصبيّات، والعصبيّات نوع من أنواع الأنانية، تتميَّز بأنّها قد تضيق وقد تتّسع أيضاً، ما معنى أن تتعصّب؟ العصبيّة معناها إنّك تلتزم هذا وترفض ذاك، أيضاً أنْ تتعصّب بمعنى أن تجعل الحقّ معك ولو كنتَ مخطئاً وأن تجعل جماعتك في موقع التقدير والتعظيم، حتّى لو كانوا مستحقّين للتحقير. هذه هي العصبية، أن نعتبر أنّ جماعتنا وحزبنا وعشيرتنا وطائفتنا على الحقّ دائماً، وهكذا تعتبر أنّ كلّ شيء يتّصل بك أو بما تريد أن تلتزمه هو حقٌّ، وكلّ شيء يتّصل بالآخرين هو باطل.
نحن متعصّبون، وأوّل من تعصَّب وقادته عصبيّته إلى النار هو إبليس، هذا كلام يقوله عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، إنَّ أوّل مَن تعصَّب هو إبليس حين تعصَّب لعنصره فقال {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف : 12] نحن نعتبر أنّ عائلتنا أعظم من العائلة الأخرى، "أصغر رأس بالعائلة هو أفضل من أكبر رأس بالعائلة الثانية" ألاَ نقول هذا؟ كذلك فإنّنا في الطائفة وفي الحزب وفي الحركة وفي المنظّمة وفي كلّ شيء من الأشياء التي نعيشها نحن نتعصَّب لأنَّنا مجتمع العصبيات، ومشكلة مجتمع العصبيّات أنّه مجتمع يسحق الحقّ لحساب الباطل، حتّى لو رأى الحقّ أمامه، فهو يسحقه كما فعل إبليس، إبليس كان يعرف الله معرفة كبيرة، وكان العابد وهو يعرف أنّ طاعة الله تؤدّي بالإنسان إلى النجاة، ولكنَّ عصبيّته جعلته يتمرّد على الله سبحانه وتعالى، {... أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء : 61]، كلّ منّا يقول: أنا لا أخضع لابن العائلة الفلانية. غير ممكن، أنا أخضع لابن الضيعة الفلانية؟ غير ممكن، أنا أخضع لابن المحور السياسي هذا؟ إذا كان الحقّ معه فلماذا لا تخضع؟ أنتَ لست تخضع له بل أنتَ تخضع للحقّ. والعصبيّة تقود إلى الكبرياء والكبرياء يقود إلى الكفر أو الضلال، وهما يقودان الإنسان إلى النار.
الالتزام غير العصبيّة
لهذا لا بدّ أن نفكّر بأن نغيِّر طبيعة العصبية في أنفسنا، أن نفرِّق بين شيئين: بين الالتزام وبين العصبية، فرق بين أن تلتزم بفكر أو بخطّ أو بقيادة، وبين أن تتعصَّب. الالتزام فعل إيمان ومع ذلك أنا ألتزم وأفسح المجال للآخر كي يعطيني وجهة نظره، فالتزم الحقّ من خلال قناعتك وتكلَّم مع الآخرين في ما يقتنعون به، وإذا وجدت القناعة عندهم صحيحة، فتحوّل عن قناعتك إلى هذه القناعة المرتكزة على الحقيقة. وأنتَ حينها لا تخضع لهم وإنّما تخضع للحقّ، وهذا يجعلنا نعيش نقد وتصحيح أنفسنا. أنا إذا تعصّبت لنفسي، لا أقبل لأحد أن ينتقدني وبذلك أنا لا أُشارك في إصلاح نفسي، لكن إذا لم أتعصَّب لنفسي وجاء مَن ينقدني أقول جزاك الله خيراً، وأُحاول أن أدرس نفسي على أساس هذا النقد. وهكذا عندما نعيش في مجتمع فإنَّنا نستطيع أن نصلح بعضنا بعضاً من خلال تخلّينا عن العصبية، وحينها نركِّز أخلاقيّتنا وأوضاعنا وأفكارنا وخطوطنا على أساس الالتزام لا العصبيّة، وبذلك نستطيع أن نقف مرفوعي الرؤوس أمام الله.
لا تنزعجوا من مشاكلكم ولكن ابحثوا عن جذور المشاكل. نحن كثيراً ما نتساءل لماذا نتقاتل وندمّر ونتباغض؟ ونبحث عن الحلّ، ولن نجد الحلّ إلاّ إذا استطعنا أن نخضع لخطّة إيمانية نغيّر فيها ما فَسَدَ من أفكارنا ومن أخلاقنا ومن عواطفنا، فإنَّ التغيير في الداخل سوف ينعكس على الخارج. أنا عندما لا أكون أنانياً أتعاون معك، وعندما لا أكون متعصّباً أسمع لك، لكن كيف يمكن أن نغيّر المجتمع من دون أن نغيّر العناصر الأساسية الفكرية والروحية والعقلية والعاطفية التي صنعت مأساة المجتمع؟ لا يمكن. الآن إذا رأيت شخصاً يحبّ شيئاً ويستغرق فيه، فإنّك مهما حاولت أن تمنعه عنه، فإنّك لن تستطيع، فحتّى لو أجبرته على أن لا يفعل فسيعود إليه بعد أن يزول ضغطك عليه، لكن إذا جعلته لا يحبّ هذا الشيء، أو يبغضه، فإنّه سوف لا يحتاج إلى ضغطك لكي يتركه، لأنّه سيتركه على أساس قناعته.
كيف نؤكّد حريّتنا
هذه أمور دعونا نفكّر بها ونفكّر في أنّ الله أكّد لنا هذه الحقيقة {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11] إنَّ الله جعل تركيبة الوجود الإنساني خاضعة، لهذه الخطوط. فنحن في المجالات العامّة يمكن لنا أن نكون أحراراً إذا نزعنا من أنفسنا روح العبودية للآخرين، وبقينا عبيداً لله وحده. فما دمت مستعداً، من أجل أطماعك وشهواتك وملذّاتك لأن تبيع نفسك للآخرين، وأن تستعبد نفسك للآخرين، فإنّك لو انطلقت في كلّ شعارات الحريّة فستبقى عبداً؛ ولكنّك إذا حرَّرت نفسك من عبودية الآخرين وشعرت بأنَّ الله خلق إرادتك حرّة، ويريد لها أن تبقى حرّة، وأنّ الله خلق كيانك حرّاً، ويريدك أن تبقى حرّاً، إذا آمنت بالحريّة كأساس في عقلك وفي إرادتك؛ فلو أنّ الكون أطبق عليك، ليستعبدك فإنّه لا يستطيع أن ينال من حريّتك شيئاً. وهذا ما عبَّر عنه إمامنا جعفر الصادق (عليه السلام) عندما قال: "إنَّ الحرّ حرٌّ على جميع أحواله إنْ نابته نائبة صَبَرَ لها وإنْ تداكَّت عليه المصائب لم تكسره وإن أُسِرَ وقهر واستبدل باليسر عسراً"(1).
عندما تعيش عقلية الحريّة في داخل كيانك، فلن يستطيع أن يستعبدك أحد، لأنَّ الحريّة تصرخ من أعماق نفسك إذا حاصر الآخرون جسدك. وإذا عشت العبودية في نفسك، فلن يستطيع أن يحرِّرك أحد، لأنَّ العبودية تكون جزءاً من ذاتك. لهذا عندما نريد أن نتحرَّر فعلينا أن نزرع الحريّة في أعماقنا، وعندما نريد أن نرفض الاستعباد في واقعنا فعلينا أن نعمل على أساس أن ننزع الاستعباد من نفوسنا. ولهذا كان الإسلام يركّز على الداخل، كما يركِّز على الخارج. الإمام عليّ (عليه السلام) له كلمة معروفة "الراضي بفعل قومٍ كالداخل فيه معهم وعلى كلّ داخل في باطل إثمان، إثم العمل به وإثم الرضا به"(2)، يعني أنتَ حين ترى أُناساً يستعبدون آخرين وتقول من حقّ فلان أن يستعبد فلاناً فإنّك آثمٌ حتّى لو لم تتحرّك خطوة، لأنّك تدلّل على نفسية تشجّع الظلم، فأنتَ ظالم في عقليّتك، حتى لو لم تستخدم قوّتك في الظلم. إنَّ الله لا يريدك أن تكون ظالِماً في عقليّتك، كما لا يريدك أن تكون ظالِماً في حركتك في الحياة.
القِيَم في الإسلام تبدأ من الداخل، والله يريد للنّاس أن يؤمنوا بالقِيَم في الجانب الروحي. وهذا ما نريد أن نؤكّده في حركة حياتنا، عندما نواجه الاستعباد الذي يريد أن يفرضه الشرق والغرب علينا، والاستعباد الذي تريد أن تفرضه الصهيونية علينا، والاستعباد الذي يريد أن يفرضه الظالمون في الداخل علينا.
وفي هذا الإطار فإنَّ الناس على قسمين: هناك قسم يلهث وراء الاستكبار ووراء الصهيونية ووراء المهيمنين على مقدّرات الناس، ليأخذ منهم شيئاً لدنياه وليكون عبداً لهم في هذه الدنيا، وليجعل الناس لهم عبيداً. هذا البعض الذي يفكّر بهذه الطريقة مستعد أن يبيع نفسه، ويبيع بلده، ويبيع الناس من حوله ليحصل على مالٍ، أو على جاه، أو على شهوة، أو ما أشبه ذلك. هؤلاء أُناس يظلُّون عبيداً، حتّى لو استقلّ بلدهم مئة في المئة فإنّهم يجتذبون المستعمرين إليهم ليأخذوهم من قلب ساحة الحريّة، ولهذا فإنَّ كثيرين من الناس قد يعيشون في مجتمعات الاستقلال، ولكنّهم لا يطيقون الحريّة، لأنَّ نفوسهم مجبولة على العبودية، ولذا فهم يجتذبون القويَّ إليهم ليستعبدهم.
ما معنى أن تكون جزءاً من مخابرات دولية ضدّ بلدك أو ضدّ دينك أو ضدّ أهلك؟ ما معنى أن تكون عضواً من جهاز المخابرات الإقليمية أو المحليّة أو الدولية لتكشف أسرار أهلك وأهل ملّتك، أو لتكشف أسرار بلدك أو أُمّتك؟ معنى ذلك إنّك تعطي العدو ما يستطيع من خلاله أن يضغط على كلّ هؤلاء الناس، ليستعبدهم وليستعمرهم وليفرض إرادته عليهم، معنى ذلك إنّك لستَ حرّاً بل أنتَ عبد وتريد للناس من حولك أن يكونوا عبيداً. كلّ مَن يخضع لجهاز مخابرات ضدّ أُمّته فإنّه يعيش أخسّ أنواع العبودية في شخصيّته، ولن تنفعه كلّ وجاهته في ما يعطونه من وجاهة. وهناك أُناس يعيشون في داخل السجون وفي كلّ ساحات الاضطهاد، ولكنّهم يطلقون نداء الحريّة ويصارعون كلّ القوى من أجل الحصول على الحريّة، ويضحُّون بأنفسهم على مذبح الحريّة، لأنّهم يريدون للنّاس أن يكونوا أحراراً كما يريدهم الله أن يكونوا أحراراً، ويعتبرون الحريّة جزءاً من قضية الإيمان، فمن لا يؤمن بحريّته أمام القوى الطاغية، فهو ليس بمؤمن، لأنَّ الإيمان يفرض عليك أن تكون عبداً لله وحرّاً أمام الكون كلّه.
التلازم بين خطّ المقاومة وحركة الحريّة
لا بدّ لنا أن ننزع صفة العبودية من أنفسنا، وعلى هذا الأساس نقول، إنَّ مَن يعتبر أنّ الخطّ السياسي هو أن نعطي بأيدينا "لإسرائيل" إعطاء الذليل، وأن نقرّ لها إقرار العبيد، لا يمكن أن يكون مؤمناً، ولا يمكن أن يكون مسلماً بالمعنى العميق للإسلام، ولا يمكن أن يكون حسينياً، لأنَّ الحسين (عليه السلام) يرفض ذلك من كلّ إنسان، فكيف تكون حسينياً وتقبل ذلك؟ إنَّ معنى أن تكون حسينياً هو أن تلتزم شعارات الحسين (عليه السلام) المنطلقة، من خلال الإسلام الذي عاش الحسين (عليه السلام) من أجله. لهذا، كلّ مَن يتعاطف في قلبه، أو يبرّر في كلماته، أو يتحرّك في موقعه، ليؤيّد الهيمنة الإسرائيلية على المسلمين هنا وفي فلسطين وفي أيّ مكان، ليس من الإيمان في شيء، وكلّ من يعمل على تركيز الهيمنة الاستكبارية على المسلمين فليس من الإيمان في شيء، لأنَّ المؤمن هو الذي يحافظ على حريّة المؤمنين كما يحافظ على حريّة نفسه. ولهذا فإنَّ الذين يريدون أن يعطِّلوا حركة المقاومة ضدّ "إسرائيل" بأيّ أسلوب، وبأيّ طريقة في الداخل أو في الخارج، سواء على مستوى القِمَم العربية وغير العربية أو على مستوى المحاور السياسية، ليسوا من الإسلام في شيء، لأنّهم يريدون أن يعطِّلوا حركة الحريّة من أجل أن يكون الناس أحراراً؛ أمّا الذين يقاومون أو الذين يعملون على أن تكون للمقاومة الإسلامية، ولكلّ مقاومة مخلصة، حريّتها في الحركة فهم الذين يلتزمون الحريّة ويلتزمون الإيمان في ما أراد الله لنا أن نجاهد الكفّار والمنافقين.
إنَّنا في هذا الموقف نكبر حركة المقاومة الإسلامية، في مواجهة العدوّ، سواء كان ذلك في البقاع الغربي أو في الجنوب، وحركة كلّ المقاومين الذين يقاومون من موقع الإخلاص ومن موقع الرغبة في إذلال الواقع الإسرائيلي بأيّ طريق وطريقة، ونحن في هذا الموقف نذكر هذا الاسم المؤمن المجاهد الطيّب، هذا الحاج المجاهد الذي سقط في مواجهة العدوّ الإسرائيلي الحاج "محمد بجيجي" الذي يمثّل الإنسان المؤمن الواعي المجاهد، الذي أعرفه منذ مدّة طويلة فلم أرَ منه إلاّ الإيمان والإخلاص والاستقامة، حتّى رزقه الله الشهادة تثميناً لذلك كلّه. إنَّ الكثيرين يتحدّثون من موقع التعب ونحن نشعر أنّنا متعبون، لكن ما نريد أن نقوله هو أنّكم إذا كنتم تتحفَّظون في مواقفكم ضدّ المقاومة، حتّى ترتاحوا وحتّى تأمنوا على بلادكم، فلن تسمح "إسرائيل" بذلك لكم.
ضغوط وإغراءات صهيونية
إنّ ما تقوم به "إسرائيل" الآن من الإتيان بهؤلاء اليهود "الفلاشا" الذين استقدمتهم من الحبشة، لتضعهم في مزارع شبعا هو أوّل الغيث، وما تفعله "إسرائيل" منذ مدّة طويلة في المنطقة الحدودية في ما تسمّيه الحزام الأمني هو نوع من أنواع التطبيع الإسرائيلي للمنطقة هناك، ونوع من أنواع التخطيط ليعتاد الناس هناك على "إسرائيل" وعلى قوانينها واقتصادها وسياستها، وعلى أن يدافعوا عنها، لأنَّ هؤلاء الذين ينتمون إلى جيش العميل "لحد" هم جيش "لإسرائيل"، يدافعون عنها؛ وحتّى المسؤولون الإسرائيليون عندما يتحدّثون عمّا يسمّونه الحزام الأمني فإنّهم يتحدّثون عنه على أساس أنّه يؤمِّن الحماية لمستوطنات الجليل، إنّهم لا يتحدّثون عنه كموقع يريدون أن يمنعوا الفتنة أن تدخل إليه، كما يتحدّث بعض اللبنانيين، ولكنّهم يتحدّثون عنه، على أساس أن تكون كلّ هذه الأجساد التي تقاتل والتي تقف ضدّ أهلها بمثابة الحرس لأمن الإسرائيليين على حساب أمن المسلمين وأمن المستضعفين.
إنَّ المسألة تتحرّك في هذه الدائرة ولهذا فإنَّ "إسرائيل" أصبحت تستعمل الإغراءات؛ كلّ مَن له ولد في جيش ما يسمّى "لبنان الجنوبي" فإنَّ بإمكان أبيه وأخيه وأهله أن يعملوا داخل الأرض المحتلة، ليحصلوا على الدولارات أو على عشرات الألوف من الليرات في شهرٍ واحد وما أشبه ذلك. إنّها تستعمل الإغراء لذلك وتستعمل الضغط، والهدف التطبيع تماماً كما هي المسألة الآن في الضفّة الغربية وفي غزّة وفي الجولان، عملت "إسرائيل" على أن تجعل أهل فلسطين الآخرين يعتادون على الحياة الإسرائيلية وكما جعلت أهل الجولان يعتادون عليها حتّى تضمّهم إليها، عندما تتغيّر الأوضاع السياسية وتسمح لهم بضم الضفّة الغربية وغزّة كما ضمَّت الجولان، أن تضمّها من دون تعب لأنَّ الناس قد اعتادوا عليها ورفضوا غيرها، وهي تعمل الآن على أن تعقّد أهل المنطقة الحدودية من المقاومة، وأن تعقّدهم من كلّ شيء يربطهم بأهلهم، ويربطهم ببلدهم. إنّها خطّة مدروسة طويلة الأجل تعمل على ضمّ الأرض المحتلة.
يجب أن لا يشعر العدوّ بالأمن
وتبرز تصريحات جديدة مفادها أنّ "إسرائيل" تريد أن توسّع الحزام الأمني. ما الذي يمنع "إسرائيل" من أن تستقرّ؟ ما الذي يمنعها من أن تطبّع الناس هناك؟ الذي يمنعها من التطبيع إنّما هو المقاومة، تماماً كما هي الانتفاضة الإسلامية المباركة في داخل الضفّة الغربية وغزّة، التي أعادت للمسلمين الفلسطينيين روحهم الجهادية وعزّتهم وكرامتهم وحريّتهم، حتّى انتفضوا من أجل أن يواجهوا المشروع اليهودي الاستيطاني التطبيعي، وأيضاً عندما انطلقت المقاومة وانطلق المجاهدون فإنَّ المجاهدين وحدهم هم الذين يربكون مشروع "إسرائيل" في ما يسمّى "جيش لبنان الجنوبي"، ويربكون مشروع جيش "إسرائيل" في تطبيع العلاقات وتطبيع الناس مع "إسرائيل" في المنطقة الحدودية. وعلى هذا الأساس لا بدّ أن ندرس من جديد مسألة المنطقة الحدودية حتّى نعمل على أن لا يكون "لإسرائيل" أيّ أمن داخل المنطقة الحدودية، لا يكفي أن نربك أمن "إسرائيل" خارج المنطقة الحدودية بل لا بدّ من أن نعمل على أن لا يستطيع أيّ إسرائيلي أن يأخذ حريّته في التجوّل في بنت جبيل ومرجعيون وفي ميس وبليدا وغير ذلك، إلاَّ ويشعر أنّ المقاومة تلاحقه أينما كان؛ لأنّنا لن نستطيع أن ننقذ تلك البلاد من الضمّ إلى دولة "إسرائيل" إلاّ بهذه الطريقة، لأنَّ إسرائيل لا تفهم إلاّ بهذه اللّغة وهذا ما يجب أن نؤكّده. وإنّي أقول لكم لاحقوا الأمور وادرسوا الخطط، حتّى لا تكونوا كالنعامة التي تدفن رأسها في التراب، فلا ترى أحداً ويخيّل إليها أنّ الصيّاد لا يراها؛ علينا أن نبصر الصيادين جيّداً. ليست المشكلة في أن نوحي لأنفسنا أنّه ليس هناك صيّادون وأنّ "إسرائيل" تريد أن تعيش حدودها بأمن وأنّنا إذا أعطيناها الأمن فسوف تعطينا أمناً مماثلاً. هذه خدعة وليس حقيقة أنّها تريد أن تسقط من أنفسنا روح المقاومة وروح الجهاد، حتّى نسترخي ونعيش في مجتمع استهلاكي يعمل ليومه ولا يعمل لغده، ينظر مواطئ أقدامه ولا ينظر إلى الأُفق الواسع. نحن نشعر بأنَّ موقع المقاومة ولاسيّما المقاومة الإسلامية صعب جداً لأنَّ المقاومة لا تواجه "إسرائيل" فحسب ولكنّها تواجه كلّ الواقع العربي السياسي المستسلم الذي يتعقَّد منها.
التطرّف حالة نسبيّة
وفي وقتٍ سابق صرّح في أجواء قمّة عمان، أو قبل ذلك، أمين الجامعة العربية بأنَّ المقاومة في جنوب لبنان قد انحرفت عن خطّها وأصبحت متطرّفة، لأنّها آمنت بالإسلام وحملت شعار الإسلام. صحيح يشرّفنا أن نكون متطرّفين، لماذا؟ لأنَّ التطرّف حالة نسبيّة. نحن متطرّفون بالنسبة لكلّ السياسة العربية المائعة، ونحن متطرّفون بالنسبة لكلّ السياسة العربية المستسلمة، ولكنّنا معتدلون واقعيون من خلال الخطّ الإسلامي المستقيم الذي لا يحتاج لأنْ يتطرَّف، ولا يحتاج أن ينحرف في القضايا التي أرادنا الله أن نحافظ عليها، وأرادنا الله أن نسير عليها في ما أراده لنا من السير في خطّ الجهاد.
حسابات المستقبل توحّد الموقف
ومن هذا المنطلق أريد أن أؤكّد من جديد على وحدة الموقف، قد لا تستطيع الساحة في مجمل واقعها أن تملك وحدة التصوّر أو وحدة الرأي، لأنَّ خلافات الرأي أمر طبيعي في الواقع، لكن في مرحلتنا الحاضرة يمكن أن نلتقي على أكثر من قضية توحّد موقفنا، وأكثر من خطّ يوحّد مسيرتنا، فلهذا لا بدّ أن نخرج عن أنانيّاتنا لحساب مستقبلنا، ولا بدّ أن نخرج عن عصبيّتنا لحساب أهلنا ولحساب إسلامنا وإيماننا ولحساب كلّ القِيَم الروحية والإيمانية التي نلتزمها في حياتنا، لا بدّ أن نأخذ من الماضي القريب والبعيد عبرة حتّى نحول دون أن يسقط المستقبل كما سقط الماضي في مشاكل وفتن وأحداث، وأريد أن أقول لكلّ الناس إنَّ الأرض تتّسع لكم جميعاً، فلا تحاولوا أن يضيِّق بعضكم على بعض إذا كنتم مخلصين لإسلامكم، وأريد أن أقول كفانا كلّ هذا اللّون من المهاترات ومن السباب والشتائم، لأنّ كلّ ذلك لن يؤدّي إلى نتيجة.
منهج عليّ (عليه السلام) هو الأصوب
إذا كنتم تلتزمون عليّاً (عليه السلام) في خطّه وعليّ (عليه السلام) يلتزم الإسلام في خطّه، والله قال لنا في كتابه، قال لنا عن الكافرين والمشركين {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ...} [الأنعام : 108]. السباب ليس أسلوباً إسلامياً في حالة الصراع، إذا سببت مقدّسات الآخرين فسيسبُّون مقدّساتك، {فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}، لماذا يعملون هكذا؟ كلّ واحد يعتبر نفسه الأحسن {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} الإمام عليّ (عليه السلام) ماذا استوحى من هذه الآية؟ الإمام عليّ (عليه السلام) إذا جاء هذه الأيام فمن الصعب أن يكون له شعبية؛ ففي الماضي لم يكن له شعبية لأنّه أيضاً أراد أن يحملهم على المحجّة البيضاء، والآن أيضاً هناك كثير من الناس لو جاء الإمام عليّ (عليه السلام)، لسبُّوه وشتموه ورموه بالحجارة وحبسوه وأوقفوه على الحواجز، لأنَّ هناك أُناساً يسبُّون الإمام الخميني (قدّس سرّه) ويتحدّثون عنه بطريقة غير إسلامية، لماذا؟ لأنَّ الإمام الخميني (قدّس سرّه) أراد أن يسير في خطّ عليّ (عليه السلام)، لأنّه قال للناس قاتلوا الاستكبار كلّه وقاتلوا الكفر كلّه وقاتلوا الصهيونية كلّها وقاتلوا الظلم كلّه والتزموا بالإسلام كلّه ولا تكفروا؛ تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضه الآخر. والناس لا يطيقون ذلك، ولهذا قالوا للإمام الخميني (قدّس سرّه) لماذا تريد أن تربك وضعنا وواقعنا؟ لقد أربكت بلدك فلماذا تريد أن تربك لبنان؟ القضية هي أنّ كلّ من يسير في خطّ عليّ (عليه السلام) فهو يسير في الخطّ الصحيح وعليه أن يتحمّل انفضاض الناس من حوله، وأنّه لن يكون له أيّة شعبية. وقالوا لعليّ، قال له مستشاروه، بيت المال بيدك أعطِ من تشاء أعطِ معاوية، ثبِّت معاوية على مكانه، أعطِ رؤساء العشائر من بيت المال. قال لهم: "أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ واللهِ ما أَطُوُر به ما سَمَرَ سميرٌ وما أمَّ نجمٌ في السَّماءِ نجماً"(1). عليّ (عليه السلام) يقول لكم، كما قال لأهل العراق وقد سمعهم يسبُّون أهل الشام، "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ"(1)، "وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ"(2). هذه روحية عليّ (عليه السلام) التي هي روحية الإسلام، وهذا هو أسلوبه العملي، وعلينا أن نتأدَّب بآداب الإسلام، وأن نتبع قياداته التي هي على خطّ عليّ (عليه السلام)، وعلينا أن نفكِّر دائماً من موقع الإسلام ومن موقع حريّتنا.
لا رأي للنّاس في الرئيس القادم
وإذا أردنا أن نفكّر بالسياسة الداخلية فعلينا أن نفكّر في هذه السياسة من منطق الخطوط التي نلتزمها في السياسة الخارجية. ولهذا فإنَّ الواقع الذي يتحرّك في لبنان هو الواقع الذي يختار فيه اللبناني ما يريده الآخرون، لا ما تريده حركاتهم، أحزابهم ومنظّماتهم أن يؤكّدوه، بل إنّ اللبنانيين سلَّموا أمرهم إلى الآخرين، ولهذا فكلّ الناخبين الذين يسمُّونهم كباراً هم الذين ينتخبون للبنانيين مَن يعتبرونه رئيسهم وليسوا هم. لا رأي لكم في ذلك الرئيس القادم الذي يتّفق عليه الناخبون في الخارج، الذين يرسلون الوحي إلى الداخل، فيسلم الناس الذين ينتخبون شكليّاً بكلّ ما يريده الوحي. لهذا نحن لا نعتبر المسألة ذات أهمية، لأنَّ أيّ شخص سيأتي سوف تكون لشخصيّته ولخلفياته دورها الكبير في الوقوف أمام القضايا الأساسية في الأُمّة وفي حريّتها وفي مواجهتها للأعداد وفي مواجهتها للاستكبار، لكنَّ المسألة أنّهم لا يريدون للشعب أن يعطي رأيه ولكن يريدون للذين لا يمثّلون الشعب أن يعطوا أهواءهم لا أن يعطوا آراءهم وعقولهم. المسألة كلّها في البازار الخارجي، ولهذا فإنَّ القضية هي أن نبقى نحدّق في خلفيات ماذا يدبّر لنا في ما يسمّونه "الاستحقاق" وأن نحدّق في المستقبل، في ما يجب أن نعمل من أجل أن نؤكّد مسيرة الحريّة لكلّ المسلمين ولكلّ المستضعفين في مواقع المستقبل، وأن نعمل على تخريب كلّ الخطط التي يراد منها أن تسقط حريّة الأُمّة وأن تسقط عزّة الأُمّة وأن تسقط عدالة الأُمّة في كلّ المجالات {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ...} [التوبة : 105].
والحمد لله ربّ العالمين
بالوعي والتخطيط نواجه المؤامرات(*)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: بسم الله الرحمن الرحيم {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ*وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ*لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ*ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ*ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ*حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ*ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 26 ـــ 32].
ضمن هذه الأجواء التي نعيشها، نطلّ على هذه الفريضة الإسلامية العبادية التي أراد الله أن تكون الفريضة العبادية التي تجمع الناس كلّهم، في بيت الله ليطوفوا به، وليقوموا متعبّدين له، ويركعوا ويسجدوا بين يديه، ليدلّلوا على أنّ عبوديّتهم له جزء من ذاتهم، فلا ينحرفون عنها ليقدّموا فرائض العبودية لغيره.
نداء الحج
هذا النداء الإلهيّ انطلق منذ انطلقت الرسالات في دورها الاجتماعي، لأنَّ الرسالات قبل النبيّ إبراهيم (عليه السلام)، في الفترة الواقعة بينه وبين النبيّ نوح كانت تركّز على الخطوط العامّة في حركة الإيمان بالله وعبادته. ولهذا لم نجد أنّ القرآن يركّز كثيراً على مرحلة ما قبل إبراهيم، بل كان إبراهيم هو العنوان للمرحلة الجديدة، وكان العنوان لكلّ ما جاء بعده من الرسالات، باعتبار أَنّه يمثّل التخطيط للمجتمع الرسالي الذي يلتقي بعضه مع بعض بعيداً عن أيّة حالة محليّة أو إقليمية، ولهذا أراد الله للنّاس أن يجتمعوا في بيته العالمي، بعد أنْ كان لله بيتٌ في كلّ محلّة يعيش فيها المؤمنون به وبرسالاته، أو في كلّ بلدٍ يوجدون فيه، فأراد الله من إبراهيم أن يبني بيتاً لكلّ الناس، بيتاً لله يدعو الناس كلّهم، أبيضهم وأسودهم، من يتكلّم بهذه اللّغة ويتكلّم بتلك اللّغة، يدعوهم ليعيشوا إنسانيّتهم التي توحّدهم بين يدي الله، ليشعروا بأنفسهم أنّهم مهما اختلفت جنسيّاتهم، ومهما اختلفت أعراقهم، ومهما اختلفت لغاتهم، ومهما اختلفت بلدانهم، فإنَّهم يلتقون طائفين، ساجدين، راكعين، قائمين، موحّدين لله سبحانه وتعالى، وعندها يتوحّد الناس من خلال الإيمان بالله وعبادة الله، ويتوحّدون بالانطلاق في كلّ مواقع المسؤولية في حياتهم من خلال أوامر الله ونهيه.
تلك كانت المسألة، ولهذا جاء النداء من الله لإبراهيم {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} حدَّدنا له المكان الذي يبني فيه البيت {أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} ابنِ بيتاً يرتكز على الوحدانية لله، ابنِ بيتاً لا مكان فيه للمشركين، ولا لأيّة جهة غير الله، اجعله طاهراً من كلّ رجس الوثنية ومن كلّ أدناس الجاهلية {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج : 26] اجعله في طهارته الروحية بحيث يستقبل الطائفين به على أساس التوجّه إلى الله، والقائمين ليقوموا بين يديّ الله، والركَّع السجود ليركعوا لله وحده وليسجدوا لله وحده، لا يركعون إلاّ لله، ولا يسجدون لأيّة قوّة، اجعل بيتي طاهراً لهؤلاء، ثمّ بعد أن تكمل بناء البيت وترسي قواعده وتطهّر أجواءه، عند ذلك {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}، ارفع الأذان ـــ كناية عن النداء ـــ ارفع الصوت العالي، قد لا يسمعك إلاّ الذين هم حولك، لأنَّ صوتك لا يبلغ مدىً واسعاً، ولكن عندما يكون صوتك هو صوت الله وصوت الرسالة، فإنّه سيتحرّك ليدخل في أصلاب الرجال، وفي أرحام النساء، فينقله كلّ جيل إلى الجيل الذي بعده، لأنّه ليس صوت إبراهيم كشخص، ولكنّه صوت إبراهيم كرسول لله، فإذاً هو صوتُ الله، وسيوصل الله صوت رسالته إلى كلّ الأجيال التي ستأتي من بعده، حتّى لو لم تسمع صوته.
منافع الحجّ
{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أدعهم إلى الحجّ {يَأْتُوكَ رِجَالاً} راجلين على أقدامهم {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} على الإبل {يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج : 27] لماذا تؤذّن للناس في الحج، ما السبب، ما الغرض؟ يستطيع كلّ إنسان أن يعبد الله في بيته، ويستطيع كلّ إنسان أن يطيع الله في محلّته، لماذا تكلّف الناس من كلّ مناطق الأرض؟ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} لأنَّ هناك منافع يحصلون عليها من خلال اجتماعهم في هذا البيت، منافع الروح التي تجعلهم يجتمعون باسم الله، وعلى كلمة الله، فيتناصحون على وحدتهم من خلال روحيّتهم، ومن خلال عبادتهم لله {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} ولا تحدّد يا إبراهيم لهم المنافع، لأنَّ المنافع تتطوّر حسب تطوّر الزمان، الإطار هو إطار الإيمان والتوحيد والعبادة لله والإخلاص لله وقد تكون هناك منافع اجتماعية، وقد تكون هناك منافع اقتصادية، وقد تكون هناك منافع جهادية لأنّهم إذا اجتمعوا وتقاربوا وتعارفوا وتوحّدوا، فإنَّ من الممكن أن يشكوَ كلّ واحد للآخر همّه، وأن ينقل كلّ واحد للآخر تجربته، وأن يحدثَ كلّ واحد الآخرين عن مشاكله وعن قضاياه والتحدّيات التي تواجهه، وعن الضعف الروحي، والضعف السياسي، والضعف الديني، والضعف الاجتماعي الذي يكون في بلده، فيطلب منه أن يعاونه، وهو ما يؤدّي إلى أن تتعاون الشعوب في ما بينها من خلال الذين يمثّلونها هناك، وتتعاون الأمم من خلال المواقف التي يتّخذها قادتها هناك، ويعرف الناس من خلال ذلك ما جهلوه من دينهم، إذ ينقل الأئمّة والعلماء والصلحاء لهم ما يعرفونه من شريعة الله، ومن دين الله ومن شريعة الحياة كلّها.
الكعبة بيت الله الأوّل
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} هذه التي أراد الله لهم أن يذبحوها، لتكون قرباناً لهم أمام الله سبحانه وتعالى أن يأكلوا منها، {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ*ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} ليغتسلوا، {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}، النذر الذي عقدوه حال الإحرام، {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج : 28 ـــ 29] وهو الكعبة، البيت الحرام، وسمّيت البيت العتيق لأنّه أوّل بيت وُضِعَ للناس، وهذا ما نفهم منه أنّه لم يكن غير الكعبة بيت لله في العالم، بل كان الناس يعبدون الله في بيوتهم، أو في أماكن خاصّة في صوامعهم، ولم يكن هناك أبداً بيت للنّاس يعبدون الله فيه عبادة جماعية، ويلتقون فيه لعبادة الله، إنّ الله يقول لنا {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} [آل عمران : 96] معنى ذلك أنّه البيت الأوّل، لا بيت قبله، {حُنَفَاء لِلَّهِ} مخلصين له لا يميلون عن دينه، بل يميلون عن غير دينه {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} ثمّ يقول الله للنّاس الذين يطوفون بالبيت ويقومون بالبيت ويسجدون بالبيت أتعرفون معنى أن تشركوا بالله، أتريدون صورة المشرك بالله، خذوا الصورة: تصوَّر نفسك أنّك في السماء، ثمّ انطلقت لتسقط من السماء إلى الأرض، وأنتَ في سقوطك قد تلتقي بك جوارح الطير وسباع الطير فتخطفك من أجل أن تأكلك وليمة دسمة، شهيّة، أو تأتي الرياح وأنتَ تسقط من السماء لتهوي بك في مكانٍ سحيق عميق، لا يعرف بك أحد {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج : 31].
إقامة الشعائر وتقوى القلوب
لماذا يريدكم الله أن تأتوا إلى بيته، وأن تقوموا به، وأن تطوفوا هناك {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ...}، {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ...} [البقرة : 158] وإنّ الكعبة من شعائر الله، وإنّ مقام إبراهيم من شعائر الله، وإنّ المسجد الحرام من شعائر الله، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج : 32] والتقوى لا بدّ من أن تكون في قلبك قبل أن يكون شعارها في جبهتك، والتقوى لا بدّ من أن تكون في قلبك وعقلك وشعورك حتّى تتمثّل حركةً في عملك وفي واقعك في كلّ مجالات الحياة.
نحن في اليوم الثامن من ذي الحجّة، وهذا يوم التروية حيث ينطلق الناس ليحرموا للحجّ من مكّة وينطلقوا إلى عرفات، ليقفوا غداً في موقف عرفات، فكيف نفهم الإحرام؟ ثمّ كيف نفهم الطواف؟ وكيف نفهم السعي؟ مَن حجَّ فعليه أن يستعيد معلوماته ليعمّق مفهوم الحجّ في نفسه، ومَن لم يحجّ فليختزن هذه المعاني في نفسه، حتّى إذا وفَّقه الله للحجّ يقدم على الحجّ وهو واعٍ.
حكم الرافض لدعوة الله
لقد ناداها إبراهيم (عليه السلام) يا أيّها الناس تعالوا إلى بيت الله، فإنَّ الله يدعوكم إلى بيته، وقد ركَّز الله لنا الحجّ كشريعة مفروضة علينا {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ثمّ يحذّرنا الله سبحانه وتعالى {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران : 97] وفي تفسير هذه الآية أنّه من كفر، أي مَن لم يحجّ وهو مستطيع "فليمت إنْ شاء يهودياً أو نصرانياً" لأنّه رفض دعوة الله، الله يقول لك أيّها الإنسان الذي رزقتك وأكرمتك وأنعمت عليك، إنّي أدعوك إلى بيتي، لتأتي إليَّ لتطلب منّي ما تريد، لتعرض عليَّ مشاكلك، إذا لم تكن مستطيعاً فأنتَ معذور، ولكن إذا كنت مستطيعاً فلست معذوراً، تعال إليَّ يا عبدي لأرحمك، تعالَ إليَّ يا عبدي لأقضي لكَ حاجاتك، تعالَ إليّ يا عبدي لأغفر لكَ ذنوبك، تعالَ إليّ ولا تبتعد عنّي {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة : 186] وعندما تكون مستطيعاً ولا تحجّ، فكأنّك تقول لله أنا لا أريد يا ربّ أنْ آتي إليك، إنَّ الملك يدعوني فأقبّل أعتابه، والرئيس يدعوني فأمرغ وجهي في بابه وباب الأغنياء والوجهاء وأصحاب الشهوات، ولكن أنتَ يا ربّي لن أجيبك.. إنّك تقول ذلك بمنطق عقلك وإن لم تقله بلسانك. عندما يدعوك الله وأنت ترفض دعوته فيما تتقبّل دعوة كلّ مَن هو غير الله، هل تكون مسلماً؟ إنَّ الحديث يقول انطلاقاً من الآية {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ} [آل عمران : 97] من لم يحجّ فهو بمثابة الكافر عملياً، وإنْ لم يكن كافراً رسمياً سيعامل معاملة الكافر، وجاء الحديث ليؤكّد المسألة "من استطاع الحجّ ولم يحجّ فليمت إنْ شاء يهودياً أو نصرانياً"(1).
كيف نلبّي نداء الله
في هذا الجوّ، نحن انطلقنا في دعوة الله، فكيف نبدأ حجّنا، لقد علَّمنا الإسلام أن نعلن لله أنّنا استجبنا له وأنّنا سمعنا دعوته وأنّنا قادمون إليه لنلبّي الدعوة بالقول "لبّيك اللّهم لبيك" يا ربّ دعوتني إليك وها أنا قادم إليك إجابةً بعد إجابة "لبيك لا شريك لك" سأُلبّيك يا ربّي في ما دعوتني إليه إلى الحجّ، وسأقوم بكلّ فرائضه ونوافله، وإذا كنتُ أجيبك بما دعوتني إليه من الحجّ، فإنّي أجيبك في صلاتي وصومي وخمسي وزكاتي وجهادي، وسأُجيبك بترك كلّ محرَّم، وبفعل كلّ واجب "لبيك اللّهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك" فكِّر جيّداً، أيُّها المسلم، عندما تقول لله "لبيك"، فهذا القول معناه أنّك تعطي ربّك عهداً، بأنْ لا تلبّي غيره، لأنّه لا شريك له، وعندما تلبّي دعوة غير الله في غير ما يرضي الله، وعندما تستجيب لنداء الله في معصية الله، فقد أشركت بالله غيرَه، أعطيك العهد يا ربّي وأنا في بداية الحجّ بأنّي لن أُلبّي نداء غيرك، قلت {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الحج : 1] وسنتّقي الله قلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 ـــ 3] وسوف نفعل ما نقول، سوف نستجيب لكلّ نداء أطلقته. ثمّ إنّني أُريد يا ربّي أن أُكَبِّرَ لك لأنّي أتصوَّر عظمة ألوهيّتك، فأنا لستُ العبد الذي يعبدك من دون وعي، ومن دون معنى. إنّي أتأمّل الناس في ما يحمد بعضهم بعضاً فأجد أنّ إنساناً يحمده الناس لأنّه عالم وأُفكِّر من أعطاه العلم، ومَن ألهمه وأمَّنَ له وسائله، فأعرف أنّك أنتَ الذي أعطيته العلم، ويحمد الناس إنساناً لأنّه شجاع يقتحم المواقف الصلبة، وأُفكّر بمن أعطاه القوّة التي مَلَكَ بها شجاعة الموقف، وأعرف يا ربّ أنّك أنتَ الذي أعطيته القوّة لأنّك أعطيته كلّ الأجهزة التي تعينه على امتلاكها، وهكذا أجد الناس يحمدون فلاناً لكرمه وفلاناً لحلمه وفلاناً لذكائه، وأُفكّر أنّ فلاناً مخلوق لله وأنَّ فلاناً عبدٌ لله، وأنّ الله أعطى كلّ أولئك الذين نمدحهم كلّ الوجود، وأعطاهم كلّ الصفات التي يُمتدحون بها.
إنَّ الحمد لكلّ الناس مُسْتَمَدٌ من حمدك، إنَّ الحمد لك، كلّ حمد يرجع إليك، لأنَّ كلّ مَن يحمده الناس فإنّما أخذ عناصر حمده من عندك. وعندما أتصوَّر كلّ هذه النِعَم الموجودة في الحياة، ما أعيش به وما يعيش الناس به من حولي، وما تعيش به الحيوانات من حولي، وما يعيشه الكون من حولي؛ مَن الذي أنعم؟ إنَّ الذي أنعم هو الذي أوجد النعمة {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل : 53] ثمّ الناس يملكون الأرض والمال، ولكن مَن الذي أعطاهم الأرض التي يسكنون، ومَن الذي أعطاهم الماء الذي يشربون، ومَن الذي أعطاهم المال الذي يتداولون، مَن أعطاهم وجودهم، مَن هو المالك الحقيقي؟ إنّ ملك كلّ واحدٍ منّا هو ملك اعتباري، قد يسجّل اسمك قانونياً في ملكية أرض ولكنّك تفارق الأرض ويسجّل اسمٌ آخر بعد ذلك. قد يسجّل اسمك لملكية مال، ولكن يفارقك المال أو أنتَ تفارقه.
ولكن عندما تنطلق في الحياة لتربطها بالله، فهل يزول ملك الله عن أيّ شيء، هو المالك الحقيقي لأنّه ملك ما خلق، لم تكن الأشياء فكانت بإذن الله، ولم توجد الأشياء فكانت بإرادة الله {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران : 26] على هذا الأساس أنا قادمٌ إليك أَجيبك ولا أجيب غيرك، أُلبّيك ولا أُلبّي غيرك، أُكَبِّرك ولا أُكَبِّر غيرك.. لماذا؟ لأنَّ غيرك ممّن يحمده الناس يستمدّ حمده من حمدك، ولأنّ غيرك ممّن يرغب الناس في نعمه يستمدّ نعمته من نعمك، ولأنَّ غيرك ممّن يملك المال والأرض والجاه يستمدّ ملكه من ملكك، فهل أقف على باب مَن يحتاج إليك؟ وهل ألهث وراء مَن هو مفتقر إليك، أم أقف على بابك لأحصل على الحمد منك، والنعمة منك، ولأحصل على الملك منك.
"إنَّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" هذه الكلمات عندما نقولها بحقّها وبعمقها وانفتاحها بسعة الأُفق الذي يمتد إلى الله ويرتبط به، فإنَّ عقولنا تنفتح على الله وتنفتح مشاعرنا على محبّة الله، وتنفتح كلّ أوضاعنا العملية على السير في دروب الله، فإذا كنت تلبّي حقيقة التلبية فكيف تقول بعد ذلك لأيّ إنسان "لبيك" لتكون جزءاً من مشروع كفر، أو لتكون جزءاً من مشروع ضلال أو لتكون جزءاً من مشروع ظلم وطغيان، أتفهم معنى أن تكون حاجّاً لله، الحجّ لله يعني أن تقول يا ربّ تركتُ كلّ أولادي وكلّ أموالي وكلّ أصدقائي وكلّ بلادي، وها أنا أُلبّي ما دعوتني إليه. يُقال إنّ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) كان إذا أراد التلبية ارتعدت فرائصه وارتجفت أعضاؤه، فيُسأل لِمَ يا بن رسول الله يحدث لكَ ذلك، قال لهم: "إنّي أقول الآن لله لبيك وأخشى أن يقولَ لي لا لبيك ولا سعديك"(1) لأنّه قد يطّلع على نفسي فيرى أنّني غير صادق بالتلبية، فأنا أقول له بلساني لبيك وأقول للشيطان بقلبي لبيك والله {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر : 19] فأخشى أن يكون في صدري ما لا يوافق ما في لساني. إذا كان الإمام يقول ذلك فهل نستسهل التلبية وهل نعتبرها تقليداً نتحيَّر كيف نلفظ الكلمة أمام المعرِّف؟ وكيف نطلقها ولكن لا نتحيَّر كيف نطلق الكلمة من أعماقنا، ككثيرين مّنا يتوسوسون بالطهارة والنجاسة ويتوسوسون في ما يقرؤون في الصلاة وكيف يقنتون في الصلاة، ولكنّهم لا يفتحون قلوبهم لله أثناء الصلاة فيرتبطون بالشكل، ويبتعدون عن المضمون.
دورة تربوية لتهذيب النفس
أحرمنا لله، لبّينا ولبسنا ثوب الإحرام، ونزعنا كلّ ثيابنا، ونزعنا عنّا كلّ عطورنا، وبعدنا كثيراً عن كلّ زينتنا وتخفّفنا من كلّ شهواتنا، فأنتَ صائم الآن أثناء الإحرام، لكن صائم من نوعٍ آخر، صائم عن اللّذات الجنسية، وصائم عن الحالات التي تعطي فيها جسدك راحة، صائم عن السبّ وعن الشتم وعن الكذب وعن كلمات الفحش وعن كلّ ما يحرم على الحاج. أنتَ تصوم عن هذه الأمور حسب زمن الإحرام، فليكن صومك هناك مقدّمة إلى الصوم الكبير، أن تصوم عن غرائزك المحلّلة لكي تصوم عن حركة غرائزك المحرّمة، وعن حركة زينتك المحرَّمة، وعن حركة عطرك المحرَّم، وعن حركة الكذب والسبّ والفحش والجدال. إنّها دورة تدريبية، دورة تربوية تنطلق فيها لتركّز أخلاقك على أساسها.
معنى العبودية لله
وعندما تصل إلى مكّة؛ البيت بيتك، والحرم حرمك، والعبد عبدك، إنّك تدخل الحرم بهذه الروح، تشعر بأنّه بيت الله الذي دعا إليه كلّ عباده وهو الذي {سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ...} [الحج : 25] والحرم حرمك هو حرم الله الذي لا يجوز فيه لأحد أن يعتدي على إنسان أو حيوان أو نبات، ولا يجوز له أن يقتل فيه إنساناً لأنَّ الله جعل الجميع في أمنه، ولأنَّ الله جعل الجميع في حرمه آمنين {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ...} [العنكبوت : 67] ولكنَّ هذا الحرم هو حرم آمن للنّاس كافّة، وفي هذا الجوّ قل أنا عبدك يا ربّ بكلّ وجودي، عبدك بكلّ حركة وجودي، عبد بقلبي وعقلي ومشاعري وخطواتي، عبدٌ لا أملك أيّ شيء أمامك، لا كلمة لي أمام كلمتك، ولا عمل لي أمام عملك، ولا شريعة لي أمام شريعتك ولا علاقة لي بأحد إلاّ من خلالك، أحبّ من أحببت وأبغض مَن أبغضت، وأُوالي مَن واليت وأُعادي مَن عاديت، هذا هو معنى أن تكون عبداً خالِصاً لله. وتأتي إلى البيت، والبيت ليس إلاّ أحجاراً سوداء ليس فيه شيء من الذهب، وإن جعلوا الذهب في بابه وهو يرفض الذهب على بابه، لأنّه لا يراد للناس أن يحدقوا بحجارته، ولكن يراد للنّاس أن ينطلقوا في أجوائه، أن تطوف بالبيت لا على أساس شكله؛ بل على أساس أنّه منتسب إلى الله، بيت الله الذي تطوف به سبعة أشواط، تطوف بهذا البيت وأنتَ تقرأ {... رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة : 201] وتُكَبِّر الله وتتحرّك باسم الله وتدعو ما شاء لك أن تدعو.
الطواف المقبول عند الله
أن تطوف في البيت هو أن يطوف قلبك بالبيت عندما يطوف جسدك به، أن تطوف روحك بالله عندما تطوف ببيت الله، أنْ يتحرّك عقلك طائفاً بكلّ الحقائق التي يرضاها الله، أن يكون طوافك بأنْ تقول "الله أكبر بسم الله وبالله والله أكبر" وتنطلق لتُشهد الله على عبوديّتك، أتعرف ما معنى أن تطوف بالبيت؟ إنَّ بعضكم يحاول أن يحدق بالمنارتين هناك ويفكّر الكثيرون كيف يهندسون المسافة بين كتفهم الأيسر وبين البيت، كيف يتحرّكون كي لا يدفعهم أحد فينحرفوا عن الاتجاه، هذا جيّد، لكن عليك عندما تطوف بالبيت أن تفكّر: هذا بيت الله، وهناك بيوت أخرى يطوف بها الناس. هذا بيت الله الذي دعاني الله إلى أن أطوف به وأنا مخلص له وأنا موحّد له، لا أُشرِك به أحداً.
إنَّ الطواف بالبيت يحمّلك مسؤولية أن لا تطوف ببيتٍ غيره إلاّ إذا كان بيت غيره هو فرع من بيته، إنَّ الطواف ببيوت الأنبياء هو طواف ببيت الله، لأنَّ الطواف ببيوت الأنبياء يقودك إلى بيت الله.. كذلك الطواف ببيوت أولياء الله، والعلماء الأمناء على دين الله الذين لا يبيعون دينهم بدنيا غيرهم، هؤلاء يدلّونك على الله، لكن هناك بيوتاً تضجّ بالشهوات المحرّمة والفسق والفجور، وهناك بيوت الكافرين والطاغين والظالمين، وهي بيوت كثيرة، وكلٌّ يدعوك إلى بيته، فكِّرْ عندما تطوف ببيت الله، وفي بلدك أكثر من بيت للشيطان تتحرّك فيه الأعمال المحرّمة والألعاب المحرّمة والسياسات المحرّمة والشرائع المحرّمة وأصحاب هذه البيوت قد يملكون المال والسلطان؛ فهل تطوف ببيوتهم؟ فكِّر بأنّك إذا طفت ببيت الله وفي عزمك أن تطوف ببيوت غير الله، فإنَّ طوافك سيكون باطلاً في روحيّته وإنْ كان صحيحاً في شكليّته. هذا يعني أن تقول يا ربّي إنّي لن أطوف إلاّ ببيتك وعندما أرجع إلى بلدي سأعمل مع المؤمنين لأعمر مساجدك بالعبادة، ولن أتركها، سيكون بيتك هو المقصد الذي أقصده، والسّاحة التي أتربّى فيها والمكان الذي أعبدك فيه والمكان الذي أنطلق منه لأجاهد في سبيلك ضدّ أعداء الله.
أيُّها الطائفون، إذا أردتم أن تحافظوا على طوافكم ببيت الله، فحاولوا أن لا تطوفوا ببيوت أعداء الله، وحاولوا أن تدقِّقوا في كلّ البيوت، لأنّه قد يكون هناك بيت مكتوب عليه اسم الله في واجهته ومكتوب عليه اسم الشيطان في عمقه وفي وضعه. لا تغرّكم الواجهة، لأنَّ الواجهات قد تنطلق بغير الحقيقة، لا تغرّكم الأسماء، فقد تنطلق الأسماء بكم لغير ما يرضى الله، حدِّقوا بالأسماء في عمقها ولا تحدِّقوا بها في سطحها، لأنَّ أعداء الله يغرّونكم وينطلقون ليعطوكم لافتات لا معنى في داخلها وشعارات لا حقيقة لها، لهذا حاولوا أن لا تلتقوا بالكلمات ولكن التقوا بالمواقف.
مشكلتنا أيّها الناس أنّنا لا نتعلَّم من القرآن. كم من عملٍ قمنا به ومن ثمّ وقعنا على رؤوسنا. كم نلهث وراء الناس الذين يقولون الكلمات المعسولة والخطابات، والقرآن يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]. بعض الناس يتكلَّم ويعظ ويمكن أن أكون أنا منهم فالله وحده يعلم ما بداخلي، قد يعجبك قول بعض الناس في الحياة الدنيا {وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} الله وكيل، الله شهيد، الله الشاهد، {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} كلّ خصوماته غير شرعية مليء بالعُقَد والحقد على الناس. ذاك قال كلمة وحملناه على ظهورنا ووضعناه على الكرسي الذي كان يريد أن يصل إليه من خلال الخطابات، ونحن قوم نضعف أمام الخطابات، وإذا تولّى وصار زعيماً أو رئيساً أو ملكاً {... سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا} ليمارس جميع أنواع الفساد الروحي والأخلاقي والسياسي والاجتماعي {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} في ما يشنّه من حروب {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة: 205]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ} أين وعودك، أين شعاراتك، أين مواقفك؟ {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} هل أنتم تعظونني، أنا أعظ الناس، أنا أُعَلِّم الناس ولا أحد يعلّمني، أنا الذي أقود الناس ولا أحد يقودني، ألاَ يوجد في مجتمعنا أشخاص من هذا الطراز؟ {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206] إنَّ المطلوب أيُّها الإخوة أن تبحثوا عن المواقف ولا تبحثوا عن الكلمات. القرآن يثقّفنا ويعلّمنا أن نكون واعين، لكن نبقى نحن البسطاء "على البركة" كما يقول المثل الشعبي، نؤخذ إلى النهر ونعود عطاشى لأنّنا ساذجون لا نبحث عمّا وراء الكلمات، ولكنّنا نسقط أمام الكلمات {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} على حرف أو على كلمة غير مدروسة {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} حين لا تكون هناك رياح عاصفة {اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج : 11] لهذا دقِّقوا في البيوت التي تطوفون حولها، دقِّقوا في الساحات التي تتحرّكون فيها، دقِّقوا في المواقع والمواقف التي تنتمون إليها، لأنَّ الأمر جد لا هزل، لأنَّ القضية هي قضية أن تختار مصيرك عندما تحدّد قيادتك، وأنْ تختار نوع آخرتك عندما تختار مواقعك ومواقفك، المسألة هي أنّك عندما تختار الآخرة فلا بدّ من التدقيق فيها.. الحُرّ قال: "إنّي والله أُخَيِّرُ نفسي بين الجنّة والنار فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطِّعتُ أو أُحْرِقت"(1).
إيحاءات شعائر الحجّ
ويمتد الحجّ في سعيه {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا...} [البقرة : 158] أن تسعى بينهما قربة إلى الله لتقول يا ربّ كما أسعى الآن بين الصفا والمروة قربةً إليك، فسيكون سعيي في كلّ حياتي في الدنيا قربةً إليك، فلن أسعى في موقف يدنيني من معصيتك، ولن أتقرَّب إلى ظالم يقود الناس إلى خطّ الظلم على أساس معصيتك، ثمّ تنطلق إلى عرفات والحجّ عرفة والموقف عرفة، مَن لم يدرك عرفة لم يدرك الحجّ، وتقف هناك لا لكي تقول لربّك إنّي أقف هذه السويعات في هذه الصحراء القاحلة التي لا شيء فيها، أقف هنا والشمس تطهّرني، أقف هنا والحرّ يأكل كلّ جسمي، أقف هنا وأنا في وضع لا أرتاح فيه قربة إليك، لأنّك أمرتني أن أكون هنا، فكنتُ هنا امتثالاً لأمرك، ومعنى ذلك أنّك تفكّر بأنّ الله إن أرادك في أيِّ مكان فعليك أن تكون في ذلك المكان فلا تعترض، كما أنّك لا تعترض على الله حين تقف في عرفات في أيام الحرّ فعليك أن لا تعترض إذا أراد الله أن تقف في أيِّ مكانٍ فيه مشاكل لحياتك الشخصية أو العامّة، وهكذا تعيش هذه الأجواء عندما تذهب إلى المشعر أو المزدلفة ويوم تقف فيه من أجل أن تدعو الله، وهكذا تنطلق إلى منى لترجم الشيطان الأكبر في جمرة العقبة ولتتعلَّم هناك أن ترجم كلّ الشياطين على الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية، ثمّ تقرّب قربانك وتنطلق إلى بيت الله لتطوف وتسعى ثم ترجع إلى مِنى لتبيت فيها وتسترجع كلّ حسابات هذه الرحلة، لأنّك بعد هذه الليلة سوف ترجع إلى بيتك، فكِّر في الليلة الأولى في مِنى، ليلة الحادي عشر، فكِّر ماذا فعلت، ماذا أبقيت من إحرامك، وماذا أبقيت من طوافك وماذا أبقيت من سعيك، ومن وقفتك هنا وهناك، وماذا أبقيت من قربانك؟
وبعد هذا تقف لترجم الشياطين؛ ثلاثة هم، رمز لدرجات الشياطين في حياتك، ثمّ بعد ذلك في الليلة الثانية تحسب حسابك وثمّ في اليوم الثاني عشر تنطلق من بيت الله لتنطلق من جديد في حياتك، لتحدّد لنفسك هل أنتَ راجع من بيت الله إلى بيت الله أم أنتَ راجع من بيت الله إلى بيت الشيطان، الحجّ يبدأ من اليوم الثاني عشر من ذي الحجّة. الحجّ لا ينتهي بمِنى ولكنّه يبدأ من مِنى، لأنَّ الله يريدك أن تبدأ بالحجّ هناك، لتبدأ رحلة الحجّ هنا، فتعرف كيف تحجّ إلى الله في بيتك، وتحجّ إلى الله في عملك وتحجّ إلى الله في مواقعك السياسية والاجتماعية والثقافية، لأنَّ كلّ ذلك هو الحجّ إلى الله، الرحلة إلى الله والله يقول لكم: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق : 6] هذا هو الطريق الذي يجب أن نعمل به ونستمرّ به حسب ما تستمرّ أعمارنا، فعلينا أن نفكّر في أن نحصل على الطمأنينة، أن نحصل على رضى الله عنّا وعن رضانا بالله، حتّى إذا جاءنا نداء الله في الحياة فعلينا أن نغمض أعيننا مستغرقين في أحلام الجنّة وفي أحلام الآخرة لنسمع {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً*فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ـــ 30] الحجّ يتّجه هذا الاتجاه، فإذا أردتم أن تحجُّوا فعليكم أن تنطلقوا من الحجّ لتحصلوا على هذا الهدف.
وقفة مع مجزرة الحجّ
وفي جانبٍ آخر، نحن نعيش الذكرى الأولى لمجزرة الحج(1) وفي استعادة المناسبة نتوقّف عند القيامة الإسلامية التي تطلّ على الإسلام كلّه في الكون كلّه، وتعمل على أساس أن لا يضيع جهد المسلمين هباءً وعلى أن لا يعبث المشركون والمستكبرون بقضايا المسلمين وبواقعهم، قالت للحجّاج إذا ذهبتم إلى مكّة حجّوا كأفضل ما يكون الحجّ، طوفوا بالبيت واسعوا بين الصفا والمروة، وقفوا بعرفة وبالمزدلفة وتوجّهوا إلى مِنى ثمّ ارجعوا إلى البيت، تعبدوا الله، اخشعوا، اخضعوا بين يديه لتنزل دموع الخشية من الله من أعينكم، كونوا البكّائين، كونوا السجّادين، كونوا الداعين الخاضعين، ولكن كونوا المنفتحين على الله من خلال المسائل التي يحبّها الله؛ إنَّ الله دعاكم لتشهدوا منافع لكم في غير أوقات العبادة.
إنَّ عليكم القيام بهذا الواجب وأنتم المسلمين متفرّقون مذاهب وأحزاباً وشِيَعاً وقوميّات، فتعالوا لنجتمع في المدينة عند رسول الله، وتعالوا لنجتمع في مكّة قريباً من بيت الله، لنقول لكلّ المسلمين في العالم، باعتبار أنّنا المسلمون الذين نمثّل كلّ الإسلام والمسلمين في العالم "يا أيُّها المسلمون اتّحدوا اتّحدوا" لأنَّ أعداء الله يريدون أن يفرّقوكم، ولأنَّ أعداء الله يريدون أن يهزموكم من خلال إثارة الخلافات في ما بينكم، حتّى ينطلق شعار الوحدة من كلّ الأصوات التي تنطلق بالوحدة عند بيت الله، أشْهِدوا الله أنّكم تريدون أن تتوحّدوا، استرجعوا تاريخ سورة براءة، فقد كان رسول الله في المدينة، وكان والمشركون لا يزالون يعبثون بالناس في الجزيرة، وكان هناك من بقي في مكّة من المشركين، لهذا أرسل رسول الله بعد أن أنزل عليه الله سورة براءة من دون أن تبدأ "بسم الله الرحمن الرحيم"، لتكون إنذاراً للمشركين، أرسل عليّاً (عليه السلام)، بعد أن أرسل شخصاً آخر ليقرأ سورة براءة، وليعلن باسم الله وباسم رسوله "براءة من المشركين"، وليبدأ عهد جديد بدون المشركين.
غطاء "إسلامي" للأميركيين
وفي أجواء هذا النهج، هتف المسلمون بطريقتهم الخاصّة بالبراءة من المشركين، وأريد للمسلمين أن يهتفوا بالبراءة من المشركين سواء كان هذا الشرك متمثّلاً بالشرك الشرقي أو الشرك الغربي، لأنَّ هناك شركاً سياسياً وشركاً اقتصادياً وشركاً اجتماعياً إلى جانب الشرك العقيدي والديني، لكنّ الجماعة لم يعجبهم ذلك، لأنَّ أميركا جاءت إلى الخليج وكانت تبحث عن غطاء لوجودها باعتبار أنّ مجيئها لاقى معارضة من شعبها، وأرادت الحصول على غطاء إسلامي، وأرادت أن تشوّه صورة إيران الإسلامية، بعد أن كانت قد عملت على تلميع صورة إيران الشاه، شاهية الامبراطورية، وهي الآن تعمل على أن لا تكون إيران دولة تتحرّك من خلال الإسلام لتنشر الإسلام في العالم، وقيل لهم رتِّبوا أمركم على أساس أن تقمعوا التظاهرة، وكانت التظاهرة سلمية بكلّ معنى الكلمة، وانطلقوا بعد ذلك بكلّ الوسائل التي يملكونها، وكانت المجزرة الوحشية.
ماذا حدث؟ ما حدث أنّ الملوك أصحاب السيادة والرؤساء أصحاب السموّ، كانوا قد قالوا صباحاً لكلّ سكّانهم حضروا البرقيات، إنَّنا نستنكر هؤلاء الحجّاج الذين أساؤوا إلى بيت الله الحرام، وينشرون الشغب والفوضى، وإنّنا نؤكّد المملكة ونؤيّد كلّ ما قامت به من قتل للحجّاج الذين أرادوا أن يتبرَّؤوا من المشركين الذين نعيش معهم ونعبدهم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً من دون الله، كيف يتجرَّؤون على أصنامنا.. وهكذا انطلق العالَم الإسلامي الرسمي، وانطلقت الإذاعات الرسمية وانطلقت كلّ الصحف التي يدفع لها بالعملة الصعبة في سائر أنحاء العالم الإسلامي، ليكون المجرم ضحيّة وتكون الضحيّة هي المجرم.
بماذا عَلَّقَ العلماء أتباع السلاطين، والسياسيون الذين يتحرّكون من مواقع الكفر بشكلٍ مباشر وغير مباشر، هؤلاء قالوا إنّ الحجّ موقع عبادة، وكيف تريدون أن تفرضوا السياسة في مواقع الحجّ، إنّنا يمكن أن نقول إنَّ الحجّ عبادة لكن كيف يمكن هناك أن نأكل ونطبخ ونشرب ونغسل وما إلى ذلك. إنَّ للعبادة وقتها، ثمّ بعد ذلك في ساحات مكّة التي جعلها الله للناس كافّة ولم يجعلها لجماعة خاصّة، ولم يأخذ هؤلاء أيَّ إذن من الله للسيطرة عليها، للنّاس هنا حقّ في أن يكونوا آمنين على كلّ طروحاتهم، إذا لم تنطلق المواقف لتنبّه المسلمين إلى خطورة النفوذ الشرقي والنفوذ الغربي وإلى خطورة "إسرائيل" وإلى خطورة الظلم الذي يتحرّك في بلاد الإسلام، فكيف يمكن أن يلتقوا على هذه الشعارات، ولكنّهم كانوا يريدون أن يعطوا أميركا غطاءً، وكانوا يريدون أن يحاصروا حركة الإسلام في حركة الثورة الإسلامية من أجل الإسلام، ونحن نلاحظ في هذا المجال أنّه لم يعقد أيّ اجتماع على مستوى سياسي أو على مستوى ديني مِن قِبَل هؤلاء الذين يتحدّثون عن المؤتمر الإسلامي ليناقش مشكلة ما حدث في مكّة ليحدِّدوا مَن هو المسؤول، لم يفتح ملف ذلك أبداً، بل كان الناس يستمعون إلى الصيغة الرسمية ولم يناقشوها أبداً.
الهدف محاصرة الجمهورية الإسلامية
المفروض عندما يكون هناك مدَّعٍ ومنكر وخصم أن يُستَمع إلى هذا ويستمع إلى ذاك وأن تدرس المسألة من ناحية واقعية.. هذا أمر انطلق في خطّ محاصرة الجمهورية الإسلامية من ناحية معنوية وروحية وسياسية، من أجل أن يبعدوا المسلمين في سائر أنحاء العالم عن الالتزام بالخطّ الإسلامي الثوري في الجمهورية الإسلامية. لهذا فإنَّنا عندما نستذكر ذلك، نستذكر هذه اللّعبة الجديدة وهي تقليل عدد الحجّاج ليؤخذ من كلّ ألف واحد، لماذا من كلّ ألف واحد؟ لماذا لا يكون من كلّ ألف خمسة؟ مَن الذي حدَّد هذا العدد، أنا لا أفهم المسألة، هل المسألة هي أنّ هناك مشاريع معيّنة للحجّاج؟ لقد حجَّ الناس في العام الماضي ولم يكن هناك مشاكل، المؤتمر الإسلامي هو الذي صوَّت على هذا، لكنَّ المؤتمر الإسلامي مَن يحضره، يحضره الكثيرون من الذين وظَّفهم الاستعمار الأميركي، وغير الأميركي من أجل أن يمنعوا المسلمين من أن يأخذوا استقلالهم وعزَّتهم وكرامتهم، هؤلاء ليس صوت الإسلام صوتهم، هؤلاء صوتهم صوت أميركا و"إسرائيل" وأوروبا وروسيا، لأنَّهم ينتهجون نهج هؤلاء في هذا الخطّ. ولهذا فإنَّ المأساة التي عاشها الحجَّاج سواء هنا في لبنان أو غير لبنان في مسألة إبعادهم عن الحجّ ومنعهم عن سبيل الله أنّه يجعلهم في موقع الصّادين عن سبيل الله، وعن البيت الحرام {... وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج : 25].
الحجّ والتخطيط المخابراتي
هذا هو الخطّ، وعلينا أن نحدِّد الموقف على هذا الأساس، نحن لا نريد أن نثير المسألة على أساس عاطفي، ونحن قلنا من الأساس إنَّنا نحتاج إلى تحقيق دقيق في هذا المجال، حتى يعرف مَن هو المسؤول. وأمّا بالنسبة إلينا، لقد كنتُ في السنة الماضية هناك وقمت بالتحقيق في المسألة كمحقِّق قضائي، لا كإنسان متعاطف مع الذين قاموا بالمسيرة. القيادة والمتظاهرون لم يسيؤوا إلى الأمن ولا بمقدار واحد في المئة، بل كانوا ضحيّة لكلّ تلك المؤامرة التي قامت بها السلطات هناك، وكان هذا الحصار في إبعاد المسلمين عن الحجّ، وفي جعل مكّة ساحة تتجمَّع فيها كلّ المخابرات العربية وغير العربية التي تمتد إلى المخابرات الأميركية، من أجل أن تمنع الحجّاج أن يمارسوا حريّة الحركة في لقاء بعضهم ببعض، والقيام بدورهم الذي أرادهم الله أن يقوموا به. إنَّ المشكلة أنّ المدينة المنوّرة الآن أصبحت جزءاً من التخطيط الأمني للسلطة هناك، لم تعد مكاناً للمسلمين جميعاً بل أصبحت تخضع للمصالح الأمنية السلطوية المرتبطة بالمصالح الأميركية، ولا ندري كيف يمكن للحجّاج في ظلّ تحويل مكّة إلى ساحة مخابراتية يرصد فيه كلّ بلد حجَّاج بلده، حتّى إذا رجعوا إلى بلدهم يعاقبونهم علماً بأنَّ أغلب المخابرات الموجودة في البلاد العربية متّصلة بأجهزة المخابرات الأميركية. هذه مشكلة سنواجهها في المستقبل، ولا بدّ من إيجاد حلٍّ لها على مستوى كلّ العالم الإسلامي، إذ لا تملك أيّ دولة إسلامية الحقّ في أن تتحرّك في هذا الاتجاه على أن تخطّط للجانب الأمني أو السياسي أو العبادي كما يحلو لها.
المجزرة في سياق المشروع الاستكباري
إنّهم يريدون أن يواجهوا الثورة الإسلاميّة لأنّهم يخافون من الإسلام المجاهد والإسلام المقاوم والإسلام الحركي، ونحن نعرف أنّه منذ مجزرة مكّة التي أفسحت في المجال أمام الأسطول الأميركي في الخليج لأن يأخذ حريّته منذ ذلك الوقت، لمحاصرة الجمهورية الإسلامية بطريقة تختلف عن الطرق المعروفة سابقاً، استهدف هؤلاء انعقاد المؤتمر الإسلامي الذي كانت كلّ مهمّته أن يعتبر أنّ القضية الإيرانية هي الخطر الأول، وأنَّ المسألة الإسرائيلية تمثّل الخطر الثاني أو الثالث، حيث أصبحت إيران الإسلام تمثّل ساحة الصراع وأصبحت مسألة "إسرائيل" مسألة نزاع، والنزاع يمكن أن يحلّ بطريقة سلمية، ثمّ بعد ذلك انطلقت الأوضاع السياسية لتزيد المسألة عمقاً؛ فقد تركت قضية فلسطين بعد مؤتمر عمان وراء ظهور العرب، لتكون مسألة إيران هي التي توحّد الأُمّة العربية على أساس مواجهة إيران. وبدأت حركة الالتفاف، ثمّ جاء المؤتمر الإسلامي ليدعم هذا التوجّه، ثمّ بعد ذلك انطلقت قمّة موسكو لتخطّط لهذا التوجّه، ثمّ أعطي العراق كلّ حريّته في استعمال كلّ الأسلحة الكيميائية المتطوّرة التي استعملها بكلّ غزارة وكثافة لم تألفها الحروب السابقة، ولعلّ هذه الأسلحة الكيميائية المتطوّرة التي استعملت في الجبهات في المدّة الأخيرة جربّت لأوّل مرّة ضدّ إيران، ولم يحتجَّ العالَم المستكبر على استعمال الأسلحة الكيميائية المحرّمة، ففي حلبجة(1) قتل خمسة آلاف عراقي من النساء والأطفال بالأسلحة الكيميائية ولم يقف العالم ويحتجَّ على استعمالها، وهكذا استعملت في الفاو وفي أماكن أخرى، حيث أصبحت مسألة الحرب لا تخضع لميزان معتبر، ثمّ كان هناك تخطيط لأن يقصف الشعب الإيراني في العمق بالأسلحة الكيميائية، إضافة إلى صواريخ المدن. كانت الخطّة هي هذه، وكانت أميركا في الخليج تمنع إيران من الضغط على العراق، بما كانت تستخدمه من الضغط على الدول الخليجية التي تساند العراق في مسألة النفط، ثمّ جاءت أميركا والتزمت بحماية الناقلات الكويتية أوّلاً، ثمّ التزمت بعد ذلك بحماية كلّ الناقلات، وقادت إيران إلى المواجهة في معركة غير متكافئة. وشكَّلت قضية الطائرة المدنية الإيرانية التي أسقطتها أميركا قمّة التحدّي الذي قامت به أميركا لتوحي أنّها سوف تعطّل الملاحة الجوية فوق الخليج، ثمّ بدأت حملة عالمية لعزل إيران عن العالَم كلّه بالإيحاء بأنّ إيران لا تريد السلم، وأنّ العراق هو الذي يريد السلم، لأنّ إيران لم تقبل بوقف إطلاق النار والعراق قَبِلَ بوقف إطلاق النار، المسألة كانت أنّ إيران قبلت بوقف إطلاق النار لكنّها وضعت شرطاً مفاده أنّ المطلوب تحديد المعتدي، وعلى أساس تحديد المعتدي نتصرَّف ونتّخذ قراراتنا. الأمم المتحدة لم توافق على ذلك، لأنّ الدول الكبرى لم توافق على ذلك، باعتبار أنّه عندما يتمّ تحديد المعتدي ستتحمّل الدول الكبرى المسؤولية عن كلّ الدعم في المجالات السياسية والتسليحية الذي قدَّم للعراق، الطرف المعتدي.
لقد وصلت الحرب إلى مستوى الاستنزاف السياسي والاقتصادي والعسكري لإيران في حرب يقف فيها النظام المستكبر كلّه وراء النظام العراقي لمواجهة إيران بالمستوى الذي يمكن أن يؤدّي في المستقبل ـــ ولاسيّما في ظلّ هذه العزلة العالمية والحصار العالمي ـــ إلى إرهاق الشعب الإيراني المسلم ودفعه للتمرُّد على خطّ الثورة، ولذلك كانت المسألة الآن ليست أنّ إيران لا تملك أن تقاتل، أو أنّها ضعفت عن ذلك، بل كانت المسألة أنّ القيادة الإسلامية في إيران درست الواقع دراسة واقعية ورأت أنّ عليها أن تختار إمّا أن تبقى تتحرّك في الجبهة ولكن على حساب ضعف القاعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية على المستوى الشعبي، وإمّا أن توقف ملف الجبهة مؤقّتاً وتطرح المسألة أمام العالم لترمي الكرة في ملعب العراق أو في ملعب أميركا، ثمّ تنطلق لتدير المسألة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية مع استراتيجيّتها في رعاية حركة الإسلام في العالم، واستراتيجيّتها لمواجهة كلّ الاستكبار العالمي بما فيه أميركا ولكن بطريق أخرى مخطَّط لها، كما سمعنا في الخطاب التاريخي الذي تحدَّث فيه الإمام الخميني(1)، ولذلك فإنَّ علينا أن لا ندرس هذا القرار في دائرة الانفعالات أو التمنّيات، ولكن علينا أن ندرسه في الدائرة الواقعية في ما هي المسؤولية عن حركة استمرار الثورة الإسلامية، واستمرار الجمهورية الإسلامية في خطٍّ جديد، وفي وضعٍ جديد.
التعلُّم من التجربة
وكما أنّنا في الوقت الذي نتفهَّم فيه هذا القرار ونعتبره قراراً حكيماً وشجاعاً وواقعياً، وأنّه انطلق من خلال دراسة دقيقة واقعية وعملية على مستوى القيادة الإسلامية، فإنَّ علينا أن نتفهَّم من خلال كلّ هذه الظروف والأوضاع كيف يمكن للإسلاميين في خارج إيران سواء في لبنان أو في مصر أو في غير ذلك، كيف يمكن أن يواجهوا الخطط الاستعمارية على المستويات العسكرية والأمنية والسياسية، التي تستهدف محاصرتهم عبر استفادتها من أوضاع الانفعال التي يتحرّك فيها الكثيرون في الساحة الإسلامية وفي أوضاع البعد عن التخطيط في دراسة الظروف الموضوعية. إنَّ علينا أن نعتبر ما حدث تجربة كبيرة مهمّة، تُعَرِّفنا كيف يمكن أن ننطلق من أجل تحريك الثورة الإسلامية من ناحية سياسية وأمنية وعسكرية من خلال الظروف التي تسمح انطلاقاً من موقع دراستنا لكلّ الخلفيات السياسية والأمنية للاستكبار العالمي وعملائه. المهمّ أن نثق بربّنا ونثق بأنفسنا، وأن لا نسقط أمام كثير من التهويلات التي يحاول الاستكبار أن يهيمن بها علينا ولاسيّما بعد قرار وقف النار.
سنبقى في خطّ المواجهة
إنّ هناك خطّة الآن ترسم على مستوى المخابرات الدولية المعادية للإسلام والمسلمين للقيام بحملة لإضعاف الروح المعنوية التي يملكها المسلمون في مواجهة كلّ قضاياهم المصيرية. إنَّ علينا أن نرجع إلى الله وأن نلتزم بما يريدنا الله أن نثق به {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...} [آل عمران: 139 ـــ 140]، {... إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء : 104]. لا يزال الإسلام خطراً على كلّ القوى الاستكبارية، وما زالت الكلمات التي تنطلق من "إسرائيل" ومن غير "إسرائيل" والتي تتحدّث عن خطورة ما يسمّونه الأصولية الإسلامية في مواجهتها لكلّ قوى الظلم والاستكبار في العالم، لنعمل على أن نقوّي مواقعنا، وأن نقوّي وحدتنا، وأنْ نقوّي تخطيطنا في مواجهة كلّ النقاط المضادّة، أن نبقى الأقوياء لأنّ الله يريدنا أن نكون الأقوياء، ونبقى الأحرار لأنّ الله يريدنا أن نبقى الأحرار، ونبقى الأعزّاء لأنَّ الله يحبّنا أن نكون أعزّاء {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ*فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ*إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 173 ـــ 175].
إنَّنا نقول من موقعنا الإسلامي هنا وباسم كلّ الجماهير الإسلامية الملتزمة بالإسلام الحركي المقاوم والمجاهد، إنّنا نقول للإمام الخميني حفظه الله، سر ونحن معك، وكلّ المسلمين الملتزمين معك، إنّنا نقول للشعب الإيراني المسلم الذي عانى، سر ونحن معك ولن نضعف ولن نسمح للآخرين بأن يضعفوك، نحن معك كما في مواجهة "إسرائيل"، معاً لمقاتلة كلّ الظلم الداخلي وكلّ الرجعية العربية، معاً في أن ندعو إلى الإسلام وأن نركِّز قوى الإسلام وأن تكون كلمة الإسلام هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، معاً مع المسلمين في إيران ومع المسلمين في أفغانستان، مع المسلمين في مصر والمغرب وفلسطين، ومع كلّ المسلمين في كلّ البلاد التي يتحرّك فيها المسلمون الملتزمون، حتّى ينطلق المسلمون كلّهم من أجل مواجهة كلّ القضايا المصيرية، ومع المستضعفين الذي يقهرهم المستكبرون حتى لو كانوا مسلمين، المهم أن نعرف كيف نفكّر وأن نعرف كيف نخطِّط، وأن نعرف كيف نكون الواعين وكيف نكون الأتقياء سياسياً واجتماعياً وإيمانياً، أن نكون المنفتحين على الله. لن تسقطنا أيّ نكسة، لن تهزمنا أيّة مشكلة، سنواجه الواقع كلّه والمستقبل كلّه، ونحن نعلم أنّ هناك مشاكل كثيرة في الطريق، وأنّ هناك عقبات كثيرة في الطريق وأنّ هناك نكسات كثيرة في الطريق.. على هدي رسول الله كانت بدر وكانت أُحُد، واستطاع المسلمون أن ينتصروا بعد أُحُد ثمّ كانت حُنين واستطاع المسلمون أن ينهضوا بعد ما حدث فيها، وهكذا كانت الجَمَل وكانت صفّين، وكانت كلّ المسيرة الإسلامية لا تسقط أمام نكسة ولا تسقط أمام أيّ حالة ضعف بل تحوّل النكسة انتصاراً، وتحوّل نقاط الضعف نقاط قوّة {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ...} [التوبة : 105].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
التوبة في واقع حركة الحياة(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ*وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ*وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 53 ـــ 55].
لماذا تتكرَّر آيات التوبة في القرآن؟
آيات التوبة تتكرَّر في القرآن الكريم بأساليب متعدّدة، متنوّعة، من أجل أن تكون الدعوة الإلهية يومية لكلّ الناس الذين قد تفرض عليهم ظروف تربيتهم أن ينحرفوا عن خطّ العقيدة وعن خطّ الشريعة، وقد تفرض عليهم بعض أوضاعهم الضاغطة على ظروفهم أن ينحرفوا عن الخطّ، وقد تتحرّك الغرائز والشهوات التي تجعل الإنسان يتنازل عن مبادئه من أجل شهواته، لذلك فإنَّ الله يُعَلِّم الإنسان كيف يتحرّك في حياته، لأنّه خلقه {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قـ : 16]، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك : 14]. فإنَّ الله يعلم أنّ الإنسان يعيش حياته في كثير من الأوضاع التي تجعله يتحرّك في طريق الخطيئة، ويقع في قبضة الخطأ، ولا يريد الله للإنسان أن يتعقَّد من الخطيئة إذا وقع بها ولا يريد للإنسان أن يسقط أمام الخطأ إذا عاشه في حياته؛ بل يريد الله للإنسان أن يتحرّك من أجل أن يصحِّح الخطأ، ومن أجل أن يتراجع عن الخطيئة، ومن أجل أن ينفتح عليه، ومن أجل أن يغيِّر طريقه على أساس أنّ الله يريد للإنسان أن يعيش معه في مواقع الطهر، وفي مواقع الإخلاص، وفي مواقع الاستقامة في الخطّ، لأنَّ الله يحبّ التوّابين، يحبّ الإنسان الذي يخطئ ثمّ يتراجع عن خطيئته. فإذا أردنا أن ننال محبّة الله سبحانه وتعالى فإنَّ علينا أن نرفع إلى الله في كلّ يوم توبة عن كلّ خطأ نخطئه لتكون توبتنا لله توبةً في جميع المواقع وجميع الظروف، فالمسألة هي أن لا نصرّ على الذنب لأنَّ الكثيرين من الناس يتحرّكون في الخطيئة ويسقطون أمامها، ويعملون على الإصرار على الذنب حتّى يتحجَّر الذنب في حياتهم، وحتّى تتعمَّق الخطيئة في مواقفهم، فيتحرّكون في مواقع الخطأ، ويبرزون إلى الله كأُناس لا يحترمون إيمانهم، ولا يحترمون عقيدتهم.
الفهم الخاطئ للتوبة
لا بدّ أن نعيش مبدأ التوبة في حياتنا على كلّ المستويات، وفي كلّ الأوقات، ولا يحاول أحد أن يخضع لبعض الكلمات التي ربّما يخاطب بها بعض الناس الشباب ليقول لهم: إنَّ الله ما دام يقبل التوبة عن عباده، فلماذا نستعجل التوبة، إذ ما دام أنّ التائب من الذنب لا ذنب له، فسَواء إذا تبت الآن فسيعفو الله عنك وإذا تبت بعد عشرين سنة فالله سيعفو عنك، لماذا لا تستغلّ فرصة الحياة ما دام الباب مفتوحاً دائماً. وعلى هذا الأساس تأخذ من الدنيا شهواتها وتقتنص لذّاتها وتتحرّك في خطّ المطامع مؤيّداً مَن لا يريد الله منك أن تؤيّده، رافضاً مَن لا يريد الله أن ترفضه، ثمّ بعد ذلك عندما تبلغ الخمسين أو الستين تأتي إلى الله بعد أن تكون جمعت الدنيا والآخرة.
بعض الناس قد يفكّر بهذا المنطق وبعض الكبار قد يتحدّثون مع الصغار بهذه اللّغة، ومن المفردات التي باتت مستعملة، أنَّ من حقّ الشاب أو الشابة أن يأخذ من الحياة كلّ شهواته ولذّاته، ثمّ تكون التوبة لكبار السن. هذه النقطة لا بدّ أن نعتبرها نوعاً من الوسوسة الشيطانية، وأن نستعيذ بالله منها، كما علَّمنا الله أن نستعيذ من الوسواس الخنَّاس الذي يوسوس في صدور النار من الجِنَّةِ والناس، فالوسواس الخنَّاس ليس في الجنّة فحسب، ولكنَّ الوسواس الخَنَّاس قد يكون أباك، وقد تكون أُمّك، وقد يكون أخاك، وقد يكون زميلك عندما يوسوس لك المعصية فتعصي، ويوسوس لك تأخير التوبة فتؤخّرها. ورد في بعض الأحاديث عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ هذه الآية عندما نزلت {... إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} [هود : 114]، جَمَعَ إبليس جنوده وقال لهم: ماذا نصنع لهذه الآية؟ كيف نستطيع أن نلتف عليها؟ هذه الآية تخرّب كلّ شغلنا لأنَّ هدفنا أن نجعل الناس يعصون الله ويبتعدون عنه سبحانه وتعالى، حتّى يبتعدوا عن مواقع رحمته وعن نعيم جنّته لنقودهم إلى عذاب النار وبئس المصير {... إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر : 6]، {... لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ*ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 ـــ 17]. هذا هو الهدف، هذه الآية تقول: إنَّ الإنسان إذا فعل سيّئة ثمّ بدَّلها بالحسنة، يعني بالتوبة، أو بفعل خير، يمثّل الندم عما أسلف، فإنَّ الله يغفر له. وقال إبليس: ما اقتراحاتكم في الالتفاف على هذه الآية؟ قام شخص من هنا وشخص من هناك ولم يتقبَّل إبليس حلَّهما، فقام الوسواس الخنَّاس كما تقول الرواية، فقال له: هات ما عندك، فأجاب: الحلّ في أن نظلّ نغريهم بالمعصية، فإذا وقعوا فيها سوَّفنا لهم التوبة، إذا أراد أن يتوب اليوم نقول له: لماذا أنتَ مستعجل؟ تب غداً، وهكذا ننسيهم التوبة بفعل هذا التسويف. قال إبليس للوسواس: أنتَ لها، لأنَّ هذا الحلّ هو الذي يمكن أن يجعل المخطئين والخاطئين ممتدين في هذا الاتجاه. هذا ما نريد أن نثيره في أنفسنا بالجوّ العام.
حقّ الله على النّاس
وإذا أردنا أن ندقِّق في هذه المسألة، فإنَّ علينا أن نفكِّر أنَّ من حقّ الله علينا، وهو الذي خَلَقَنَا وَرَزَقَنا ويرعانا في كلّ شيء، من حقّ الله علينا أن نطيعه، وأن لا نعصيه، فإذا عصيناه فقد أسأنا إلى حقّه علينا، وإذا أسأتَ إلى مَنْ أنعم عليك بكلّ النِّعَم التي تحيط بك، فإنَّ من الطبيعي إذا كنتَ واعياً لمعنى النِّعمة، وواعياً لعظمة الله، أن تبادر إلى طلب المسامحة منه، وأن تستغفره، وأن تعلن الندم على ما أسلفت في مواجهته وفي الإساءة إليه، ألاَ تفعلون ذلك أمام الناس الذين لا قيمة لهم مع الله؟ ألاَ تفعلون ذلك عندما تخطئون مع الذين ترغبون في ثوابهم وتخافون من عقابهم؟ ألاَ تعمدون إلى أن تعلنوا لهم الاعتذار والندم؟ فلماذا لا نفعل مع الله ما نفعله مع عباد الله، لماذا لا نفوّت التوبة مع الذين نخطئ معهم من الذين يملكون بعض القوّة في الحياة، ولماذا نسوّف التوبة مع الله؟.
القلب المنكوس
لا بدّ من أن نفكّر في المسألة من موقع علاقتنا بربّنا، ومن موقعنا كعباد الله أمام الله سبحانه وتعالى، ثم أنتَ تفكّر، إنّي أتوب بعد عشرين سنة، فلنناقش المسألة: مَن يضمن لكَ أنّك تعيش بعد عشرين سنة، ثمّ مَن يضمن لك عندما تعيش عشرين سنة، أن تبقى عندك عقلية التوبة بعد ذاك، إنَّ الإنسان عندما تعيش الخطيئة في شخصيّته، وعندما تتعمَّق الأخطاء في ذاته، فإنّه لن يتوب بعد ذلك، إنَّ القلب ينتكس. الأحاديث الشريفة تقول: إنَّ الإنسان إذا أذنب ذنباً نقطت في قلبه نقطة سوداء، فإذا تاب زالت تلك النقطة، ثمّ إذا أخطأ تتوسَّع تلك النقطة، وبتتابع الخطايا تتوسّع النقطة السوداء في قلبه، حتّى يسودّ القلب وينتكس حتّى يصبح أسفله أعلاه، وأعلاه أسفله، فيرى الحسن قبيحاً والقبيح حَسَناً.
إنّك عندما تمتد في الخطايا، فإنّها تترك تأثيراً في عقليّتك، وتترك تأثيراً في روحيّتك، وتترك تأثيراً في إرادتك، فتكون عقليّتك عقلية الضلال، وروحيّتك روحية الانحراف، وتكون إرادتك إرادة المعصية لله سبحانه وتعالى، لهذا ليس هناك من طمأنينة في هذا المجال. والمطلوب أن نلتفت جيّداً إلى أنفسنا لنحافظ على سلامة الخطّ الإلهي المستقيم في شخصيّتنا، وذلك بأن ننفصل دائماً عن الأجواء التي نعيش فيها.
إنَّنا مشدودون إلى الحياة الاجتماعية من حولنا، وإلى أهلنا، وإلى أصدقائنا وإلى الأجواء السياسيّة والأمنية والاقتصادية من حولنا، ومن خلال هذا الإنشداد إلى كلّ هذه الأجواء، نحن نعيش الغفلة عن ذكر الله سبحانه وتعالى، ونعيش الغفلة عن ذكر الآخرة. إنَّنا نستغرق في الجوّ الاجتماعي، نستغرق في أجواء أهلنا وأولادنا وأزواجنا، نستغرق في أجواء العائلة، فنتعصَّب للأجواء العائلية تعصُّباً نستسيغ فيه حتّى قتل النفس التي حرَّم الله، وهكذا نستغرق في أجواء العصبية السياسية في ما ننتمي إليه من محاور حزبية سياسية حتّى نندفع بالعصبية إلى الدرجة التي نبرِّر لأنفسنا كلّ خطيئة وكلّ معصية، ونكون الظالمين بعد أن كنّا الثورة على الظالمين. هذا الاستغراق في الأجواء التي يخيَّل للإنسان فيها من خلال بعده عن الله، وغفلته عن ذكر الله، وعدم حسبان اليوم الآخر، يجعلنا نرى سيّئات أعمالنا حسنات {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً...} [فاطر : 8]. هذا الجوّ يحتاج منّا إلى مراقبة وتدقيق لأعمالنا "لا يغرَّنَّكَ سوادُ الناس من نفسك"، ربّما توحي لك نفسك أيّها الخاطئ بكلمات تزيّن لكَ أنّك مصيب، ربّما تكون في وضع اجتماعي أو سياسي يوحي إليك بأنّك المحسن، فيما أنتَ في الواقع مسيء. وبهذا تمتدّ في إساءتك، وتمتد في معصيتك، وترى دائماً أنّكَ لستَ مخطئاً. ولأنَّ الناس يصفِّقون لك، ويمدحونك، ويقدِّسون أخطاءك، ويباركون سيّئاتك، فإنّك تشعر بأنّك سائر على الخطّ في الوقت الذي تعيش فيه الانحراف الكبير عن الخطّ المستقيم.
التوبة تحمي الشخصية من الانحراف
إنَّ إثارة التوبة في حياتنا تتّصل بحماية شخصيّاتنا من أن تمتد في الانحراف، وفي الخطأ قبل فوات الأوان، أن نحميها من ذلك حتّى نلتفت إلى أنفسنا دائماً، والله من خلال ذلك يريد أن يعطيك المحبّة، يقول لك لقد أخطأت، ليست مشكلة "كلّ بني آدم خطّاؤون وخير الخطّائين التوابون" لقد أخطأت، ولكنَّ ربّك الله لا يلاحق الإنسان ليحاسبه على خطئه فيعذّبه. إنَّ الله يلاحق الإنسان الذي لا يخطئ وإذا أخطأ وتاب يرحمه، وهكذا فتح باب التوبة بأوسع من السماوات والأرض {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر : 53] وهكذا يقول لك إنّي أقبل التوبة {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى : 25] ألاَ تحبّ أن تكون محبوباً عند الله، أخطأت صباحاً بكلمة مع زوجتك، شتمت زوجتك وأنتَ لا يحقّ لك أن تشتمها، لأنّها إنسان كما أنتَ إنسان، لم يجعل الله الزواج مبرّراً لأن يسبّ الإنسان زوجته، أو تسبّ المرأة زوجها، ليس مبرّراً ذلك؛ رأساً تَسامَحْ منها وتب إلى الله من ذلك، إذا أكلت حراماً استغفر الله بعد أن تنتهي، وقبل أن تنتهي من ذلك، وهكذا في كلّ المجالات {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف : 201] ليست الخطيئة سوى حالة طارئة، يطوف الشيطان بك، فيحاول أن يضلّك عن معرفة الحقيقة، ولكنّك عندما تكون تقيّاً فإنّك تنتبه رأساً، فتنفتح لك الحقيقة من خلال انتباهك، لا تكن الغافل دائماً تذكَّر أنّ الله ربّك يراقبك، وأنّ هناك ملكين يحاسبانك، وأنّ هناك جوارح تسجّل عليك، وأنّ موقفك في الآخرة ما بعد الموت ينتظرك، تذكَّر ذلك وبادِرْ إلى التوبة بعد لحظة ودقيقة.
حقوق الله وحقوق الناس
والمعاصي نوعان: فهناك معاصٍ تتعلّق بك في علاقتك مع ربّك، وهناك معاص تتعلّق بك بعلاقتك بربّك وعلاقتك بالناس. أي هناك معاصٍ لها حقٌّ عام ومعاصٍ لها حقٌّ عام وحقٌّ خاص. ولكلّ معصية من هذه المعاصي طريقتها في التوبة؛ مثلاً لقد حرَّم الله عليك أن تشرب الخمر، وأن تزني، وأن تكذب، ولله حقٌّ عليك أن لا تعصيه في هذا المجال. إذا شربت الخمر نتيجة جهل أو نتيجة ظرف معيّن أو ما إلى ذلك، قل يا ربّي إنّي نادم، وإنّي تائب، يتب الله عليك، ليست هناك مشكلة. إذا كذبت في شيء لا يمسّ حياة الناس في ضرر، قل يا ربّ إنّي تائبٌ وسأكون الصادق في المستقبل، لا مشكلة. عندما تزني وتنتبه إلى نفسك وتقول: يا ربّي لن أعود إلى ذلك أبداً، تب إلى ربّك يتب الله عليك. لكن إذا شتمت إنساناً بغير حقّ، فإنّك بذلك أسأت إلى ربّك لأنَّ الله قال لكَ لا تشتم، أسأت إلى ربّك وخالفت أمر الله، عليك أن تستغفر الله على مخالفتك له. ثمّ عليكَ حقٌّ خاص، إنّك أسأت إلى كرامة هذا الإنسان عندما شتمته، سواء كان هذا الإنسان شخصاً أو جماعة، فلا بدّ أن تتسامح منه ليتوب الله عليك، إذا لم يُسقِط صاحب الحقّ الخاص حقّه، فمن الصعب أن تنال مغفرة الله، وأنتَ قادر على أن تعطيه حقّه. وهكذا عندما تسرق الناس، وثورة الناس هذه هي ثورة اللّصوص، لأنَّ اللّصوص يمثّلون حلفاً غير مقدّس بين لصوص الشرقية ولصوص الغربية، بين لصوص المسيحية وبين لصوص الإسلام، بين لصوص السُنّة والشيعة وبين لصوص الموارنة والأرثوذكس، هناك جماعة يعيشون الوحدة اللبنانية في مسألة اللّصوصية، يسرق بعض الناس السيارات من هنا ويرسلونها إلى الشرقية حتّى تباع هناك، ويسرق بعض الناس هناك بضاعة لكي تباع هنا. سرقت ولديك غطاء من حربك ومن حركتك ثم انتبهت ورأيتَ نفسك مخطئاً، بعد ذلك ماذا تفعل؟ هل يكفي أن تقول: اللّهم إنّي تائب، إنّ الله يقول لك: أين أموال الناس التي سرقت، أرجع كلّ مال سرقته إلى صاحبه، فإذا لم ترجع عين المال أرجع قيمته، وإذا لم تكن عندك قيمته إجمعها حتّى ترجعها إليه، وإذا خفت على نفسك أن يعرفك أرجعها إليه بدون أن يعرف بذلك، أو تتسامح منه في هذا المجال. لن يتوب الله عليك إذا لم ترجع كلّ مال سرقته إلى صاحبه، لأنَّ الله لم يحلّ لكَ أموال الناس. إنّ بعض الناس يتصوّرون أنّ الذي يمنعهم عن أكل أموال الناس هو وجود نظام رسمي، فإذا لم يكن هناك نظام، فالحلال هو ما أَحَلَّت اليد، والحرام هو ما لا أستطيع أن أبلغه، المسألة ليست كذلك، لأنَّ هناك يوماً جعله الله تعالى ليرجع كلّ حق إلى صاحبه {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ...} [غافر : 17]. ما شعار يوم القيامة؟ ليس شعاراً سياسياً، الحديث الشريف يقول: "يؤتى يوم القيامة برجل، وإذا أعماله مثل الجبال لديه" أعمال خيريّة ومستوصفات، يساعد الفقراء فيحسده الناس على ذلك، ويأتي أصحاب الحقوق، وتنكشف الحقيقة، فثروته التي تصدَّق بقسمٍ منها وزكّى قسماً آخر، هذه الثروة جاء بعضها من السرقة، وأتى بالبعض الآخر من الاحتيال على الناس، وعندها لن تنفعه أعماله الخيرية، وتذوب حسناته حتّى لا يبقى منها شيء، لأنَّ أصحاب الحقوق هم أوْلى بها، وهكذا إذا لم يرد الإنسان لأصحاب الحقوق حقوقهم في الدنيا ويتسامح منهم، فإنّه سيلقى جهنَّم حتّى لو ملأت مشاريعه الخيرية الآفاق.
إنَّ أغلب الناس من مؤمنين وغير مؤمنين يعتبر أنّ الزواج يعطيه الحقّ في أن يكون ديكتاتوراً في البيت، يضرب امرأته بحجّة أنّه ليس لأحد علاقة بما يفعل، يضرب، يشتم، يتصرّف في أموالها، يضغط عليها في مهرها، يعمل حسب مزاجه، يضربها إذا رأى أنّ البيت ليس نظيفاً، وفي هذا المجال لا أحد تحت الغربال. تصوَّر أنّك تعصي الله في اليوم مئة معصية، في علاقتك مع زوجتك، لأنَّ الله قال: {... وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة : 228] يوجد فرق بينك وبينها درجة واحدة فقط وحتّى هذه الدرجة مقيّدة بضوابط معيّنة.
وعندما تظلم زوجتك باعتدائك على حقوقها، فالمسألة صعبة. في مجتمعاتنا يتصرّف الرجل مع زوجته على أساس أنّ له مطلق الحريّة؛ لا، ليس لكَ مطلق الحريّة، هي إنسان وأنتَ إنسان، لا يجوز لك أنْ تشتم زوجتك كما لا يجوز لك أن تشتم زوجات الجيران، لا يجوز لك أن تأكل فلساً من مال زوجتك كما لا يجوز لك أن تأكل فلساً من مال الجيران، لا يوجد فرق أبداً: الزوجية تعطيك حقوقاً ضيّقة جداً، فهي لا تلغي إنسانية المرأة في الإسلام أبداً، حتّى مع أولادنا هناك بعض الناس يتعامل مع ابنه كما يتعامل مع كرسيّه أو حذائه، فكما إذا أراد أن يكسر كرسيه أو يقذف حذاءه، فإنّه يتعاطى مع ابنه بالأسلوب نفسه، وحجّته أنّ هذا ابني يعني هو ملكي.. هذا الأمر ليس صحيحاً، الله جعل الولد أمانة عندك، لتبني له جسمه، وتبني له عقله، وتبني له إيمانه، فإذا خنت الأمانة واتّخذت ولدك مجرّد أداة لتنفيس الضغط الذي تتعرّض له، كما هي الحال عندما تختلف مع صاحبك فتتضايق ثمّ تجد ولدك أمامك فتضربه لكي تنفِّس عن غضبك، هذا أمر لا يجوز، إذ لا يوجد فرق بين أن تضرب ولدك أو أن تضرب ابن الجيران، لأنَّ ابنك إنسان وليس مثلما تدَّعي أنّك أنتَ كنتَ سبباً في وجوده، الله جعلك سبباً في وجوده، ولكنّ ابنك إنسان مستقلّ عنك مئة في المئة. وجعل الله لكَ حقوقاً عليه وجعل له حقوقاً عليك كما جعل لك حقوقاً على الناس الآخرين. لا يوجد فرق، لا تتصوَّر المسألة سهلة، إنَّ ولدك سيقاضيك يوم القيامة إذا ظلمته، فأنتَ لست مسلَّطاً على ولدك أبداً، ابنك يمثّل شخصية قانونية شرعية مستقلّة كما أنتَ لكَ شخصيّتك.
لقد ذكرتُ لكم في مرّة سابقة الحديث النبويّ الشريف الذي يحدِّد شخصية المؤمن: "إنَّما المؤمن الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا في باطل" يعني إذا أحببت لا أعطي الذي أحببته ما لا يستحقّه، المحبّة شيء والحقّ شيءٌ آخر، "إنَّما المؤمن"، يعني غير هذا ليس مؤمناً، الذي يحبّ ويعطي الذي يحبّه أكثر ممّا يستحق هذا ليس مؤمناً. إنّ المؤمن يبقى مع الحقّ حتّى مع مَن يحبّ، "إذا سخط لم يخرجه سخطه عن قول الحقّ"(1)، تخاصمت أنا وأنت وأصبح بيني وبينك مشاكل، أستطيع أن أتكلَّم عمّا أراه حقّي في حدود شرعية معيّنة، ولكن لا يجوز لي إذا كنتُ مختلفاً معك أن أتكلَّم عليك بكلام لا حقّ لي فيه. الاختلاف مسألة والحقّ مسألة أخرى.
ويقول الله في كتابه: {... وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة : 8] اعدلوا حتّى مع أعدائكم، أعطوا أعداءكم العدل، أعطوا خصومكم العدل، قولوا الكلمات الجيّدة كما تقولون الكلمات الرديئة، هذا هو الإسلام، ثمّ قال: "وإذا قَدِرَ لم يتعاطَ ما ليس له بحقّ"، إذا صار صاحب قدرة وصاحب سلطة، فلا يتعاطى ما ليس له بحق، وإذا أخطأ بحقّ أحد، فلا بدّ من أن يتسامح منه، وإذا لم يسامحه هذا المظلوم فيجب عليه أن يحاول بكلّ طريقة وإذا لم يستطع، عندها يرفع أمره إلى الله. إنّي أقرأ دائماً يوم الاثنين وأُكرِّره عليكم: "اللّهم وأيّما عبدٍ من عبيدك أو أَمَةٍ من إمائك كانت له قِبَلي مَظْلِمَةً ظَلَمْتُها إيّاه في نفسه أو في عرضه أو في ماله أو في أهله وولده، أو غيبةٍ اغْتَبْتُهُ بها أو تحامُلٍ عليه بميلٍ أو هوى أو أَنَفَةٍ أو حَمِيّة أو رياء أو عصبيّة، غائباً كان أو شاهداً، حيّاً كان أو ميتاً، فَقَصُرَتْ يدي وضاقَ وُسْعي عن ردّها إليه والتحلُّل منه، فأسألُكَ يا مَن يملِكُ الحاجاتِ وهي مستجيبةٌ لمشيئته ومُسْرِعَةٌ إلى أرادته، أن تصلّي على محمَّدٍ وآل محمّد وأن ترضيه عنّي بما شئت" إذا لم تكن قادراً على أن ترجع لهذا الإنسان حقّه، وعرف الله منك صدق النيّة فسوف يتدخَّل الله ويرضي هذا الإنسان عنك.
منفّذ الجريمة ليس وحده المسؤول
وبالانتقال إلى الجوانب التي لها مدلول أمني وسياسي، نرى أنّ بعض الناس ليس مستعدّاً لأنْ يتعب نفسه بالجهد والعمل. ماذا يفعل؟ يعمل في المخابرات باعتبارها ـــ بنظره ـــ أسهل الأعمال، يبقى مرتدياً لباسه وربطة عنقه حتّى يسمع الأخبار من الناس، يسمع فلاناً ماذا يتكلَّم عن الدولة وماذا يتكلّم عن هذا الحزب، ويدفعون له معاشاً شهرياً، ويقولون له: نحن مستعدون لكلّ التكاليف، نشتري لك ما تريد، والمخابرات التي يلجأ إليها هذا الشخص إمّا مخابرات حزبية أو مخابرات رسمية أو أميركية أو فرنسية أو إسرائيلية.
إنَّ هذا الشخص الذي يقدّم المعلومات للأعداء، عن أوضاع بعض الناس الذين يتعرّضون للأذى الشديد بسبب ذلك، قتلاً أو سجناً، لقاء المال، وفي رأيه أنّه إذا زكَّى هذا المال وذهب إلى الحجّ، فإنَّ القضية تنتهي. هذا التصوُّر غير صحيح، ففي يوم القيامة يؤتى لهذا الرجل بقارورة تمتلئ دماً. ويُقال له: هذا نصيبك من دم فلان، ويرفض هذا الرجل الاتّهام باعتبار أنّه لم يقتل ولم يحمل سلاحاً في حياته، ويأتي الجواب، لقد سمعت كلمة عن فلان فنقلتها إلى جبّار فقتله، فأنتَ قاتل ولو بشكلٍ غير مباشر وهذا نصيبك من دمه. وهكذا يكون نصيبك من تعذيب فلان، ونصيبك من سجن فلان، هذه من المعاصي التي لا يغفرها الله حتّى يغفرها صاحبها لأنّها معصية عامّة، كذلك فإذا كنت عنصراً مخابراتياً وطُلِبَ منك أن تضع هذه السيارة المفخَّخة لتفجيرها في مكان يتجمَّع فيه الناس أو في مسجد، إنّ كلّ الذين يُقتَلون، أنتَ مسؤولٌ عن قتلهم شرعاً، وهكذا إذا طلب منك أن تفتن بين الناس وأن تزرع الإشاعات هنا وهنالك من أجل خلق وضع سياسي معيّن، أو وضع أمني معيّن على أساس أن يتقاتل الناس في ما بينهم أيضاً، في هذه الحالة كلّ قتيل يسقط أنتَ مسؤولٌ عنه.
لمن تعطي صوتك الانتخابي؟
وإذا انتقلنا إلى المجال الانتخابي، أنتَ ناخب تؤيّد فلاناً من دون أن تدرس شخصيّته، تؤيّده على أساس طائفي، أو على أساس أنّ عائلتك تؤيّد هذا الإنسان، أو يعطيك مالاً، ربّما صوتك يُنجح هذا الإنسان. هنا إذا شاركت في نجاح إنسان ظالم، فمعنى ذلك أنّك ستتحمَّل ـــ بنسبة صوتك وبنسبة دورك في نجاحه ـــ مسؤولية كلّ ما يقوم به من نتائج سلبية على مستوى الناس كلّهم. وتكرّ السبحة إذا انتخب هذا النائب رئيس جمهورية معيّناً أو أعطى الثقة لحكومة لا شرعية لها، أو صوَّت على مشروع فرض ضرائب على الناس، أنتَ وفي قبرك تتحمّل المسؤولية، هناك خطّ بريدي متّصل من المجلس النيابي إلى القبر، يقول أنتَ شاركت في مشروع ظالم. إنَّ الورقة التي تضعها في صندوق الانتخابات قد تغيّر واقعاً وترفع مشروعاً. فإذا كنّا معنيّين برضى الله سبحانه وتعالى فعلينا أن نفكِّر كثيراً قبل أن نحدِّد موقفنا.
بعض الناس يقولون لا علاقة للدين بالسياسة. ولكن في كلّ مسألة حلالاً وحراماً، شرب الخمر خطيئة، لكنّ انتخاب ظالم خطيئة أكبر من كلّ الخطايا الصغيرة، إنَّ شرب الخمر أخف، والزنى أخف من أن تؤيّد مَن لا يستحقّ التأييد. بعض الناس ينتخبون بعض السياسيين، ويقولون فلان السياسي يصلّي، فلان ذهب إلى الحجّ، لا يا جماعة، ليست هذه حجّة مقبولة، إذا كان هذا يصلّي فهو يؤدّي تكليفه، يذهب إلى الحجّ ليؤدّي تكليفه، المهمّ أن يصلّي لله ولا يصلّي للاستعمار، المهمّ أن يحجّ لله ولرضى الله لا أن يحجّ إلى بيوت المستعمرين والمستكبرين، هناك أُناس يذهبون إلى مكّة للحجّ ثمّ ينطلقون مباشرة إلى لندن وإلى واشنطن. لو ذهب لكي يتنزَّه فنحن نعذره، ولكنّه يذهب لكي يضيّق على شعبه، ويضيّق على أُمّته، يذهب فيزرع الأفخاخ لمستقبل أُمّته ومستقبل شعبه من خلال مصالحه التي يريد أن يضعها في خدمة الاستعمار.
عندما نعود إلى واقعنا وندرس حركة الفتنة التي نعيشها، في كلّ ما حدث من دمار وقصف وتشريد وقتل وإسقاط لكلّ القضايا التي تتحرّك في حياتنا، نلاحظ أنّ ما حدث كان نتيجة مواقف أُناس طيّبين عاشوا سذاجة الفهم السياسي، وعاشوا سذاجة الفهم الديني، وعاشوا سذاجة فهم الناس، فأعطوا تأييدهم لمن لا يستحقّ التأييد، ورفضوا مَن لا يستحقّ الرفض، "علامة الإيمان أن تُوالي أولياء الله وأن تُعادي أعداء الله"، "أن تحبّ في الله وأن تبغض في الله"، "إذا أردت أن تعلم أنَّ فيك خيراً إلى قلبك، فإذا كان يحبّ أهل طاعة الله عزّ وجلّ ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبّك، وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك؛ والمرء مع مَن أحبّ"(1). الموقف السياسي يمثّل في العمق الموقف الديني. إنَّ ديننا سياستنا وسياستنا ديننا.
الحبّ والبغض في الله
جاء في بعض الأحاديث: إنّ الناس يجتمعون يوم القيامة، فينادى: أين أهل الفضل؟ فيقوم جماعة من الناس ويقولون: نحن أهل الفضل، فيقال لهم: ماذا كنتم تفعلون في الدُّنيا؟ قالوا: كنّا نحبّ في الله ونبغض في الله، عندما نحبّ أحداً نحبّه على أساس قربه من الله، وعندما نبغض أحداً نبغضه على أساس بُعده عن الله. على هذا الأساس كنّا نعيش، فيقال لهم: ادخلوا الجنّة بغير حساب. القصّة صعبة أن تتمرّد على عصبيّتك الذاتية وعصبيّتك العائلية والسياسية والطائفية، التمرّد على العصبية عمل صعب لكنَّ النتيجة عظيمة "ادخلوا الجنّة بغير حساب" أن تحبّ في الله وتبغض في الله، تلك هي المسألة التي يجب أن تربّي نفسك على أساسها، ألاَ يكون هناك فاصل بينك وبين الله. هل يعجبكم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)؟ أنا أشكّ. لماذا؟ لأنّ الحديث يقول: "إنَّ عليّاً مع الحقّ والحقّ معه يدور كيفما دار"(2)، لم يقف عليّ (عليه السلام) موقف باطل في حياته، بل كان هو والحقّ صنوين في القضايا الكبيرة والصغيرة، حتّى قال: "ما تَرَكَ الحقّ لي صديقاً"(3)، فيما نحن نترك مواقع الحقّ التي هي مواقع رضى الله.
كيف نتحوّل إلى منافقين
إنَّ هناك كثيراً من الناس لهم علاقات مع الاستكبار فيما الله يقول: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل : 23]. إنّ المطلوب هو أن لا تنحني للمستكبرين وأن لا تكون أداة في خطّ استكبارهم بمقدار ما تقوّي في بلدك الخطّ الاستكباري الأميركي أو الأوروبي أو الروسي أو أيّ خطّ استكباري؛ فأنتَ تتحمّل مسؤولية كلّ النتائج بحجم تقويتك لهذا الخطّ، ولاسيّما أولئك الذين يتعاطفون مع "إسرائيل" بأيّ نوع من التعاطف، فإنّهم يتحمّلون كلّ ما تفعله "إسرائيل" في لبنان أو في المنطقة، كلّ شخص بحسب حجمه في هذا المجال.
أليسَ الله يقول: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً*الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً*وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ...} [النساء: 138 ـــ 140] هذا بالنسبة للذي يجلس معهم، فكيف بالذي يتعاون {إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} إنّ الله سوف يسألني ويسألكم غداً عن هذا الكلام، فهو ليس كلام خطابة، فكِّروا فيه، إنَّ الله يقول: {إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً}، {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} إنّك إذا جلستَ قرب شخصٍ يهاجم الإسلام والمسلمين ويهاجم المجاهدين ولم تستنكر، الله يقول: إنّك إذاً مثلهم، فكيف إذا شاركت وأصبحت جزءاً من الخطّة؟ لا أحد ينفعنا غداً، لا آباؤنا، ولا أمّهاتنا، ولا مسؤولونا، لا أحد أبداً، كلّ واحد يفكّر في نفسه.
الدين والمسألة السياسية
إنَّ هذه المسألة سياسية تتّصل بالمسألة الدينية، لأنَّ الشخص الذي لا يكون خطّه السياسي متحرّكاً مع ما يريده الله من عزّة وعدالة وخير للمؤمنين والمستضعفين، فلا دين له. ليست القضية أن لا أمانة له بل لا دين له، فكيف بالذي يسير مع الظالمين. إنَّ المسألة الدينية ليست في الصلاة والصوم فقط إنّما نعتقد أنّ عمق المسألة الدينية هو في قضايا العدالة والحريّة، أليسَ مفهوم التوحيد أساس الدين، ما معنى "لا إله إلاّ الله"؟ أن تكفر بكلّ سلطة غير الله، وتعبد الله وحده، أنتَ حرّ أمام الكون كلّه، وعبد أمام الله فقط، غاية الدين هي تركيز العدالة، الله سبحانه وتعالى يقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...} [الحديد : 25]. كلّ الرسالات تستهدف تحقيق العدل. إنَّ جوهر الدين، وعمق المعنى الديني إنّما هو إقامة العدل والحريّة. فكيف يريدوننا أن نفصل بين الدين وبين السياسة، أنتَ لن تكون متديِّناً إذا كنتَ ظالماً، ولن تكون متديّناً إذا كنتَ عبداً لغيرك، ولن تكون متديّناً إذا كنتَ مشاركاً للظالمين في مشاريعهم الظالمة.
وقف الحرب ومصلحة الثورة الإسلامية
وعلى هذا الأساس يجب أن نراقب الوضع كلّه. الله سبحانه وتعالى أعطانا الخطّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119] ونحن عندما رأينا الخطّ الإسلامي المتمثّل بقيادة الإمام الخميني صادقاً مع نفسه وصادقاً مع ربّه، وصادقاً مع أُمّته، يجاهد نفسه حتّى في ما يكره لمصلحة الأُمّة، وقفنا معه، لأنَّ الله أرادنا أن نكون مع الصادقين، ولهذا نحن عندما نتحرّك من موقع التأييد لقراراته السياسية المدروسة على أساس إسلامي، فإنّنا ننطلق من فهم كتاب الله وسُنّة رسول الله وسيرة الأئمّة والصالحين، لهذا أيّدناه. نحن في هذا المجال لا نفكّر بأن يكون التأييد على أساس أنّ أيَّ قرار يصدر من هناك معصوم، كما أنّ القيادة الإسلامية هناك لا تدّعي لنفسها العصمة، بل تملك الاعتراف لنفسها بالخطأ إذا كان هناك خطأ، وتقول للعالَم كلّه: إنَّنا أخطأنا في هذا الخطّ السياسي، نحن قلنا دائماً: إنّ على القاعدة أن تفكّر مع القيادة حتّى تتكامل القاعدة مع القيادة، في الوعي الفكري للمسألة السياسية، وفي هذا المجال نحن نفكّر وهم يفكّرون، وعندما فكّرنا في ما حدث، فإنّنا فهمنا الظروف التي يراد من خلالها محاصرة الثورة الإسلامية والعمل على أساس عزلها عالمياً، ومحاصرتها اقتصادياً والضغط عليها عسكرياً على مستوى الوضع العالمي، حتّى تُستنزَف استنزافاً يسقط الثورة في المستقبل فتفرغ من كلّ قوّة.
إنَّ الموافقة على القرار الدولي "598" القاضي بوقف الحرب بين العراق وإيران، تشكّل عملية التفاف على الخطّة المدروسة التي كانت تراهن على أنّ إيران لن ترضى بوقف إطلاق النار، ممّا يؤدّي إلى مواصلة العالم المستكبر محاصرتها من كلّ جهة وإسقاطها تحت حجّة أنّها هي التي لا تريد وقف إطلاق النار، وهي التي تريد الحرب وهي التي لا تريد أن تعالج القضايا بالطرق السلمية، لهذا كان هذا القرار مربكاً لأكثر من جهة دولية وإقليمية، وإذا كان المؤمنون قد شعروا بوجود بعض الضغط النفسي من خلال طبيعة الظروف الموضوعية المحيطة بالقرار في ما سبقه أو في ما يعيشه الآن، فإنَّ عليهم أن يتذكَّروا قول الله: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 139 ـــ 140]، {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء : 104].
إنَّ الإعلام يتحدّث في هذه الأيام بطريقة معيّنة، وكأنّه يوحي بأنّ قرار وقف إطلاق النار يعني تنازل الثورة عن كلّ شعاراتها، وتنازل الثورة عن استراتيجيّتها في تحريك الإسلام ليكون معادلة سياسية في العالم، وإنّ الإسلاميين من خلال هذا الضغط سوف يتراجعون عن قضاياهم، وسوف يتنازلون أمام التحدّيات.
إنَّ مَن يقرأ خطاب الإمام الخميني في هذه المسألة يشعر بأنّه ليس هناك أيّ تغيير في الاستراتيجية والحركة السياسية التي تواجه الاستكبار كلّه، ولكن قد تتعدَّل الأساليب والوسائل ربّما لتسلك أسلوباً تعتقد أنّه يمكن أن يكون موضع نتيجة إيجابية، حيث تجعل الأوضاع الضاغطة من هذا الأسلوب أسلوباً غير عملي، فتنتقل إلى أسلوبٍ آخر وإلى أسلوب ثالث، ولكن يبقى الهدف وتبقى الغاية، إنَّ الإسلاميين في كلّ العالم، سواء كانوا في إيران الإسلام، أو كانوا في المنطقة العربية وغير المنطقة العربية، وأعني بالإسلاميين الذين يؤمنون بالإسلام المقاومة والإسلام المجاهد الذي انطلق في خطّ رسول الله ليجاهد وليقاوم الاستكبار والاستعمار والصهيونية والظلم لا الإسلام الذي يعمل في دائرة الاستخبارات الأميركية أو في دائرة الاستخبارات الأوروبية أو غيرها من الاستخبارات في العالم، إنَّ الإسلاميين الذين يتحرّكون من خلال وعيهم للإسلام كخطّ للعقيدة وللحياة، ووعيهم للإسلام كخطّ للحركة في خطّ الجهاد السياسي والعسكري والأمني، سوف يتابعون الدرب وسوف يكونون الواعين لكلّ الظروف ولكلّ المعطيات، فلا يسقطون أمام ضغط بل يعملون على أساس أن يتعاملوا مع الضغط بشكلٍ واقعي، ليتخفَّفوا من هذا الضغط أو ذاك، وتظلّ شعاراتهم شعارات استراتيجية ولكنّها تتحرّك بطريقة واقعية، إنَّ الإسلاميين ليسوا مثاليّين يمارسون الحركة السياسية في الهواء ولكنّهم يغيِّرون الواقع بأدوات الواقع، وينطلقون من خلال المرونة العملية الحكيمة التي انطلق بها رسول الله، ومن خلال الأساليب العملية التي تحرَّك بها الإمام عليّ (عليه السلام) في كلّ ما واجهه من أحداث، وإنّ الإسلاميّين لا يدعون لأنفسهم العصمة بل يعترفون بأنّهم قد يخطئون وقد يسيؤون ولكن لديهم الشجاعة بأنْ يعترفوا بالخطأ، وكيف يصحِّحون هذا الخطأ، وفي الندم على الخطأ، وفي التوبة أمام الله وأمام الناس من كلّ هذا الخطأ، ليس معنى أن تكون إسلامياً أن تقدِّس أخطاءك، بل عليك أن تعترف بأخطائك، وأن تصحِّحها بكلّ شجاعة.
حركة الشعوب والوفاق الدولي
إنّ هناك مَن يتحدّث في هذه الأيام عن مسألة الوفاق الدولي، ويعتبر أنّ الوفاق الدولي هو المسؤول عن هذا الموقف الذي اتّخذه الإمام (حفظه الله) في وقف إطلاق النار، ويتحدّثون عن مسألة الوفاق الدولي كما لو كان قضاءً وقدراً، ويقولون: إنّ الوفاق الدولي سوف يرتّب العالم على طريقته، وسوف يحلّ كلّ المشاكل، وعلينا أن نخضع لقرار الوفاق الدولي في المسألة الخليجية، وفي المسألة الفلسطينية، وفي المسألة اللبنانية، وفي غيرها من المسائل. نحن نؤكّد أنّ الوفاق الدولي قد يكون حلاًّ، وقد يكون مشكلةً، قد يكون حلاًّ إذا توفَّر على رعاية مصلحة الشعوب، وقد يكون مشكلة إذا كان للضغط على رعاية مصلحة الشعوب، ونحن نعتقد أنّ الوفاق الدولي يملك إمكانية الضغط على كثير من الشعوب، وعلى كثير من القضايا. ولكن نريد أن نقول لنؤكّد حقيقة تاريخيّة وإنسانية، إنّ القوى الكبرى عندما تتّفق قد تربك الواقع، وقد تضغط عليه كثيراً، ولكن تبقى للشعوب إمكانية أن تمارس ضغوطاً في أكثر من موقع، وتبقى للشعوب إمكانية أن تجد أيّة ثغرة في هذا الموقع أو ذاك. المسألة أنّ الشعوب تستطيع أن تربك كثيراً من مواقع الخلاف ومن مواقع الوفاق.
المسألة هي أن تملك الشعوب إرادة الحريّة والعزّة في إرادتها، وإرادة الإيمان في مواقفها، ولهذا هيّأ الاستعمار في كلّ مواقع العالم الإسلامي وفي كلّ مواقع العالم الثالث أنظمة تمنع شعوبها من أن تتنفَّس، وتمنع شعوبها من أن تفكّر، وتمنع شعوبها من أن تتحرّك، حتّى ينطلق الخطّ السياسي الدولي هنا وهناك من دون معارضة.
إنَّ الاستكبار يتحدّث بكثير من كلمات الإرهاب والتطرّف في وجه كلّ الذين يريدون أن يقاوموا أو يبحثوا عن الحريّة، إنّنا نريد أن نقول كما تعلّمنا دائماً، كما علَّمنا الله في القرآن، أن ننظر إلى الأقوياء في نقاط ضعفهم وأن نتعامل معهم على هذا الأساس.
إنَّ هناك وضعاً جديداً في المنطقة وغيرها جاء بعد قمّة موسكو، ولكن علينا أن نواجه القضايا بدراسة كلّ المشاريع التي يرسمها الوفاق الدولي، لنختار منها ما يتوافق مع استراتيجيّتنا، ونرفض منها ما لا يتناسب. قد لا نستطيع أن نتكلّم بلغة عنترية، ولا بلغة حماسية، قد لا نستطيع أن نضغط فوق العادة، ولكنّنا نستطيع أن نضغط بنسبة عشرة في المئة ويأتي جيل يضغط بنسبة عشرة في المئة أخرى، وهكذا حتّى تتكامل الضغوط، فكِّروا دائماً أنّ القوى الكبرى لا تمثّل القضاء والقدر، فكّروا دائماً بوعيكم الإسلامي الذي نريده أنْ يتحوّل إلى وعي سياسي، عندما تقولون إنَّ هناك دولة كبيرة وقوّة كبيرة، تذكَّروا أنّكم في مآذنكم في كلّ يوم تقولون الله أكبر عدّة مرّات، وفي صلاتكم كلّ يوم تقولون الله أكبر عدّة مرّات، قولوا "الله أكبر" حتّى تفكّروا أنّه ليس هناك كبير إلاّ والله أكبر منه، وأنّ الله يدافع عن الذين آمنوا إذا عرف الذين آمنوا أن يدافعوا عن أنفسهم، أو أن يدافعوا عن المؤمنين، وعن رسالات الله.
لا قيمة للعروبة بدون الإسلام
إنَّ علينا أن نفكِّر بهذه الطريقة حتّى لا نسقط أمام الإعلام الذي يخوض ضدّ الإسلاميين المقاومين وضدّ كلّ الذين يحملون لواء الحريّة، حرباً نفسية تسقطهم قبل الدخول في أيّ معركة. لا بدّ أن نفكّر بهذه الطريقة وأن نختزن إيماننا حتّى نوظّفه في خطّ حركتنا السياسية من أجل أن يكون الدين كلّه لله، ومن أجل أن تكون الحريّة والعدالة في طريق الله. ثمّ نريد أن نقول من خلال هذا الجوّ الجديد الذي تحرّك من خلال قرار وقف إطلاق النار، لكلّ المنطقة العربية التي عملت لأنْ يتّخذ الصراع ما بين إيران وما بين النظام العراقي طابع الصراع العربي ـــ الفارسي، إنّنا نريد أن نقول لهم لا تفكِّروا بهذه الطريقة، إنّكم تقولون: إنّكم مسلمون، عليكم أن تعرفوا أنّ الإسلام لا يعادي العروبة، لكنّه يتعادى مع حركة بعض العروبيّين الذين يريدون أن يوظِّفوا العروبة في خدمة الاستعمار، ويريدون أن تكون العروبة شيئاً مواجهاً للإسلام. إنَّ قرآننا عربي وإنّ الإسلام انطلق في ساحة العروبة، وإنّنا نقول: لا قيمة للعروبة من دون الإسلام، ولا خطّ للعروبة إلاّ خطّ الإسلام، وبهذا سيتكامل الإسلام مع العروبة، وتتكامل العروبة مع الإسلام وينفتح الإسلام على العالم كلّه. المهمّ أن ينفتح العرب على العالم من موقع الإسلام كما انفتحوا على العالم ومثَّلوا قوّة ذات شأن من خلال الإسلام، إنّنا نريد أن نقول لكم إنّنا نعرف القيادة الإسلامية في إيران جيّداً ولاسيّما المتمثّلة بالإمام (حفظه الله) الذي لا يفرِّق بين إنسانٍ وآخر، لكنّه يرفض الظلم مهما كانت طبيعته القومية.
حماية الخليج مهمّة دول
لقد طالبت إيران بتحديد المعتدي، فلماذا تهرّب الجميع من ذلك؟ إنّها طالبت بتحديد المعتدي بعقلٍ بارد فإذا كانت هي المعتدية كونوا ضدّها جميعاً وإذا كان الآخرون هم المعتدون فكونوا ضدّهم جميعاً، لأنَّ الله لا يريد منكم أن تكونوا مع المعتدي. إنَّنا نريد لهم أن يتفهَّموا القضية باعتبار أنّها تتّصل بحريّة المنطقة كلّها. إنّ إيران أعطت الفرصة الآن لحلّ هذا الواقع بطريقة سلمية، ونقول لدول الخليج بالذّات في هذه المرحلة، لقد شعرتم بكثير من الارتباك والقلق والخوف نتيجة الضغوط التي مورست عليكم من أكثر من جهة، إنَّ إيران دعت منذ البداية ألاّ يكون هناك في الخليج وفي مياه الخليج أساطيل أجنبية أميركية أو أوروبية أو سوفياتية تريد السيطرة على المنطقة بحجّة حماية حريّة الملاحة في الخليج وحماية دول الخليج، وقد دعت إيران الإسلام منذ البداية إلى أن تكون مسألة حماية أمن الخليج من خلال توافق دول الخليج وفي مقدّمتها إيران حتّى لا تكون هناك أيّة سيطرة على أيّ دولة وأيّ شعب، ونحن نعتقد أنّ الفرصة سانحة الآن للتكامل مع إيران الإسلام. وحيث إنّكم تتحدّثون باسم الإسلام، فإنَّ من الممكن أن يكون هناك تكامل على أساس أن تقفوا جميعاً مع إيران الإسلام التي أعلنت أنّها لا تريد بأحد شرّاً، ولكنّها لا تريد أن يصنع الشرّ ضدّها أيّ أحد، إنَّ من الممكن الآن أن تتكاملوا لتفرضوا على الأساطيل الأوروبية والأميركية الانسحاب من مياه الخليج لتكون هناك خطّة أمنية لحفظ الخليج بالشكل الذي لا يسمح لأيّ جهة دولية بأنْ تعمل ضدّ مصلحة أحد. إنَّنا نعتقد أنّ الفرصة سانحة لأكثر من موقف في هذا الاتجاه ممّا يحقّق كثيراً من الأوضاع السياسية المنفتحة وممّا يكون في مصلحة الجميع.
لبنان موضع شدّ وجذب
في ختام الحديث نؤكّد أنّ المسألة عندنا هنا في لبنان لا تزال مفتوحة على كلّ الاحتمالات؛ فليست هناك أيّة ضمانة في أيّ وضع يمكن أن يحقّق نتيجة، لا على مستوى الاستحقاق الدستوري الذي هوَّلوا به ولا على مستوى قضايا الإصلاح. إنَّ المسألة لا تزال موضع شدّ وجذب بين العوامل المحليّة والإقليمية والدولية في طبيعة كلّ ما يراد صنعه في هذا البلد، ولهذا فإنَّ علينا أن نعرف أنّنا نتحرّك في ساحة مفتوحة على كلّ الرياح التي تتصادم، وعلينا أن نعرف شيئاً أساسياً، وهو أنّ مسألة الإصلاح في لبنان ليست من المسائل المهمّة لكلّ دول القرار المحلي والإقليمي والدولي، لأنّنا وصلنا إلى نقطة أصبح الحديث فيها عن الإصلاح حديثاً، ليس بذي موضوع، لقد أصبح الحديث: هل إنَّ الرئيس القادم(1) يمكن أن يوقِّع على ورقة الإصلاح أو يتعهَّد بأنّه سيقوم بالإصلاح، أم أنّ البيان الوزاري القادم يمكن أن يختزن ذلك أو لا يختزن؟ هذه الدولة الكبرى تطرح شيئاً، وتلك الدولة الصغرى تطرح شيئاً آخر. والناس هنا في لبنان، هؤلاء الذين أعطوا أدواراً أن يصرِّحوا وأعطوا أدواراً أن يهدِّدوا وأعطوا أدواراً أن يسالموا وأعطوا أدواراً شكلية تحفظ مكانتهم عند شيعتهم، ولكن لم يعطوا أدواراً أن يصنعوا أدوارهم بأنفسهم، لأنّهم لم يعطوا صلاحية لذلك.
إنّنا لا نريد أن نوجّه اتّهاماً لأحد. الواقع هو الذي يوجّه الاتهام، ولكنّنا نريد أن نوجّه للشعب الذي عانى والذي دمّرت كلّ مصالحه، والذي قُتِلَ خيرة أبنائه، نريد أن نقول لهم ليست هناك ضمانات بأن يتغيَّر الوضع الطائفي في البلد، وليست هناك ضمانات بأن يكون هناك إصلاح في البلد، ربّما كانت هناك مشاريع دولية وإقليمية تنتظر أوضاعاً معيّنة في الداخل والخارج، ولكن ماذا هناك؟ ليست هناك ضمانات فعلية، فحتّى لو تعهَّد هذا الرئيس ووقَّع، أو حتّى لو فرضنا أنّ البيان الوزاري صَدَر لأنّنا تعوَّدنا في هذا الشرق، كلّه، أن يلحس الموقّعون شهاداتهم أو أن يحذف الكثيرون بياناتهم. إنّ المسألة ليست مَن يحمل رسالة لإنقاذ البلد، بل مَن هو الذي يحمل طموحات أن يحكم البلد ولو على حساب الناس.
وفي نهاية المطاف ألفت انتباهكم إلى نقطة: هناك كثير من الأسماء تتداول بين المعارضة وبين الحكم، أتعرفون ما هي بعض الطروحات؟ إنَّ هناك أكثر من مليار دولار يُقال إنّ الحكم سرقها وهو يريد أن يأتي رئيس لا يفتح الدفاتر، لا يفتح دفاتر مصرف لبنان، ولا يفتح دفاتر أخرى، المهم أن يأتي رئيس يعفو عمّا فعله الناس بعضهم ببعض، ويعفو عن الحكم بما فعله بالناس، أن يأتي هذا الرئيس بالرئيس الذي يريده حتّى يغفر له كلّ سرقاته، وهكذا نحن بقرة حلوب لكلّ الرؤساء والمترئسين والمستوزرين، هؤلاء الذين أعطاهم الاستعمار حريّة أن يسرقوا الناس وأن يظلموهم وأن يضيِّعوهم في كلّ متاهات المشاريع السياسية، وكلّ عهدٍ وأنتم بخير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
29/7/1988
الخوف والرجاء في المفهوم الإسلامي(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن : 46]، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 ـــ 41]، ويقول في آيةٍ أخرى، {وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم : 14]، ويقول سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب : 39]، هذه الآيات وغيرها من الآيات الكثيرة في القرآن، ركَّزت على مسألة الخوف من الله في عمق شخصية المؤمن؛ فلا بدّ للإنسان المؤمن في كلّ حياته الإيمانية الداخلية من أن يستشعر خوف الله في قلبه، بحيث يواجه حياته من موقع أنّه مسؤولٌ أمام الله في كلّ قضية صغيرة أو كبيرة، وأنَّ هناك حساباً على كلّ شيء، وأنَّ الله مطّلع على كلّ شيء مهما كان سريّاً.
الخوف من الله
وهكذا يعيش الإنسان في نفسه هذا القلق النفسي من خلال طبيعة عمله. هل يرضي عمله الله فيأمن عذاب الله غداً؟ أم عمله لا يرضي الله فيكون في موقع عذاب الله غداً؟ وعندما يؤكّد الله في القرآن على الخوف، فإنّه لا يريد الخوف الذي يجعلك تعيش في نفسك هذه الحالة الذاتية الانفعالية بعيداً عن مسألة العمل، إنَّ الله يريد منك أن تظلّ خائفاً منه، لتراقب نفسك كيف يكون عملك وكيف يكون التزامك بربّك، وكيف تؤكّد إيمانك بعملك وبكلّ أوضاعك العامّة والخاصّة. تخاف من الله فتنضبط، وتخاف من الله فتلتزم، وتخاف من الله فتترك كلّ حرام، وتخاف من الله فتفعل كلّ ما أوجبه الله عليك، وهذا ما أكّدته الآية الكريمة {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] أن تخاف الله ثمّ تقول لنفسك: يا نفس إنَّ الله حرَّم عليكِ أشياء، وأوجب عليكِ أشياء، وجعل لكِ في ما حرَّمه عليكِ وفي ما أوجبه عليكِ الجنّة في الطاعة. إذا أطعتِ يا نفس ما أمركِ الله به، وأطعتِ ما نهاكِ الله عنه فتركته، فإنَّ الله سيعطيك ثواب ذلك رضاه والجنّة؛ وإذا عصيتِ يا نفس ما حرَّمه الله عليكِ ففعلته وما أوجبه الله عليكِ فتركته، فإنَّ أمامك سخطه والنار. ليكن خوفك من ربّك منطلقاً من شعورك بعظمة الله، ومن خطورة سخطه، ومن خطورة عذابه في يوم القيامة وبذلك يكون خوفك من الله خوفاً عملياً، تستشعر فيه ضرورة أن تلتزم الخطّ الذي يقرّبك إلى الله ويصلك به، وأن تبتعد عن الخطّ الذي يبعدك عن الله، ويقرّبك من الشيطان. لا بدّ للإنسان أن يعيش ذلك في نفسه إذا كان يأمل في الجنّة، ولا بدّ أن يكون خوفك من الله سبحانه وتعالى في كلّ أعمالك وأقوالك وعلاقاتك، بحيث يكون هو المقياس في ما تقبله أو ترفضه، في ما يعرض عليك الناس من مسؤوليات ومواقف، وفي ما يعرضه الناس عليك من مواقع وعلاقات.
كلّ الناس، سواء كانوا أقرباءك أو كانوا أصدقاءك أو كانت لك مصلحة عندهم، إذا طلبوا منك شيئاً، قل لهم إنّني سأدرس المسألة على أساس أنّ ما طلبتموه منّي هل يرضي ربّي عنّي أو لا يرضي ربّي عنّي، لأنّي أخاف الله ربّ العالمين، ولأنّني أعرف مدى خطورة عقابه. لو "زعلتم" منّي أو رضيتم ليس ذلك مشكلة، لأنَّ رضاكم وسخطكم قد يؤذيني بعض الشيء، ولكنّه يزول كما تزولون وكما أزول أنا معكم، ولكنَّ رضى الله سبحانه وتعالى هو الرضى، وإنَّ سخطه هو السخط. وهذا ما عبَّر عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) في دعاء كميل، عندما تحدّث عن سخط الله وعن غضبه على أساس المعاصي التي يقوم بها الإنسان في حياته "فإنَّ ذلك لا يكون إلاّ عن غضبك وانتقامك وسخطك وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض، يا سيّدي فكيفَ بي وأنا عبدُكَ الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين". ولذلك يريدنا الله دائماً أن نتذكَّر يوم القيامة، حتّى يتأكّد هذا الخوف عندنا، لأنَّ مشكلتنا هي أنّنا نستغرق في الدنيا وننسى الآخرة، وأنّنا نتذكَّر عذاب الناس ولا نتذكَّر عذاب الله، وأنّنا نعمل على أن نحصل على رضى الناس بسخط الله من أجل أن نحصل على بعض ما يعطوننا إيّاه، ولكنّنا عندما نتذكّر الآخرة نتذكّر دائماً أنّه ليس عندنا ضمان من الموت، مَنْ منّا يأمن على نفسه من أن يموت بعد لحظة؟ هل يملك أحد ضماناً؟ لو جاء أحد إليك وقال لك: اعصِ الله في ما أكلّفك به، بعد ساعة أو بعد يوم، قل له: ماذا إذا جاءني الأجل قبل هذه الساعة أو بعدها، كيف أواجه الله بما عملت.
إنَّ كثيراً منّا يستعجل المعصية ويسوِّف التوبة، ولكن مَن قال لك إنّك تدرك التوبة، فربّما تموت قبل أن تتوب، وربّما تنسى التوبة بعد ذلك. إنَّ الإيمان يفرض عليك أن تفكّر دائماً بالله، وأن تفكّر دائماً بخوف الله سبحانه وتعالى. وليس معنى أن تخاف من الله أن تيأس إذا كثرت ذنوبك، ليس معنى ذلك أن تسقط، بل معنى ذلك أن تعمل على أن تتوب إذا كنتَ قد عصيت، وتعمل على أن تصحِّح طريقك إذا كنتَ قد عصيت، حتّى يستقيم أمرك في طريق الله وحتّى تنفتح حياتك على الله. معنى أن تخاف الله، أن تظلّ تراقب نفسك وتحاسبها وتحاكمها وتغيّرها، حتّى تجعل نفسك على الصورة التي يحبّها الله سبحانه وتعالى.
التوازن بين الخوف والرّجاء
إنّ الله يريد أن يكون هناك في قلب الإنسان المؤمن نور خيفة ونور رجاء، أن تكون عندك خيفة من الله تمنعك من المعصية وتدفعك إلى الطاعة، كما لو كان الله يريد أن يعاقبك بكلّ عقابه، وأن يكون لك رجاء برحمة الله، كما لو كان الله يريد أن يكافئك. فقد ورد في وصيّة لقمان لابنه، وأكّدها أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيّته لولده الإمام الحسن (عليه السلام)، "خَفِ اللهَ خوفاً لو وافيته ببرّ الثقلين خفت أن يعذّبك، وارجُ الله رجاءً لو وافيته بذنوب الثقلين رجوت أن يغفر لك"(1) أن تتوازن لديك روحية الخوف من الله، لتمنعك من الانحراف وروحية الرجاء بالله، لتمنعك من اليأس ومن القنوط، تذكَّر دائماً أنّ الله شديد العقاب، وأنّ الله غفورٌ رحيم، هو "أشدّ المعاقبين في مَوْضِعِ النكال والنَقِمَة" وهو "أرحمُ الراحمين في موضع العفْوِ والرحمة" تذكَّر ذلك لتتوازن في حياتك، حتّى لا يسقطك الخوف باليأس، ولا يجعلك الرجاء تتحرّك لتمتد في المعصية كما يفعل بعض الناس.
إنَّ شخصية الناس تحمل نقطتين: النقطة الأولى تتعلّق بجانب التطرّف في الخوف فيقول إنسان ما: أنا ارتكبت معاصي كثيرة في حياتي فلا أرجو رحمة الله، كيف سأُلاقي وجه الله ولا توجد جريمة إلاّ ارتكبتها، عشتُ حياتي وقلبي أسود على الناس، بأيّ عين سأُلاقي الله سبحانه وتعالى، وبأيّ وجه سألاقيه، فيجب أن أستسلم لمصيري في معصية الله، لأنّني وقعت ولا يمكن أن أنهض من هذه الوقعة. هكذا يفكّر بعض الناس وهذا خطأ، لأنَّ هذا الفهم يقتضي أن ييأس الإنسان من رحمة الله. والله سبحانه وتعالى قال لهؤلاء الناس: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر : 53]. فإذا كنت قد أسرفت في المعاصي في حياتك، وتورّطت في كثيرٍ من الجرائم، فإنَّ عليك أن تعرف {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ...} [النساء : 48]، فلا تقنط من رحمة الله، ولا تيأس من رحمة الله لأنَّ "لله رحمة في يوم القيامة يتطاول لها عنق إبليس".
أمّا النقطة الثانية من التطرّف فتتعلّق بجانب الرجاء، فبعض الناس يأمل برحمة الله بالمستوى الذي لا يفكّر فيه في طاعة، ولا يعمل على أن يمنع نفسه عن معصية، عندما يشرب الخمر أو يلعب القمار، أو يزني ويسرق ويظلم، ويعين الظالمين، ويفعل كلّ المحرّمات، ويترك الصلاة، ويترك الصوم والحجّ والخمس والزكاة. وبعد ذلك يقول: الله سبحانه وتعالى كبير وعظيم، ليس من المعقول أن يحاسبني، ومَن أنا حتّى يحاسبني؟ فالله سبحانه أكبر وأعظم من أن يعذِّب أحداً، وعندما يفكّر في جنّة وفي نار، يقول "ليوم الله يهوِّن الله" فيدفعه ذلك إلى الامتداد في المعصية وإلى ترك الواجبات وتسويف التوبة.. هذا تطرُّف أيضاً.
أمّا الإنسان المتوازن فهو الذي عبَّر الله عنه سبحانه وتعالى أنّه يحذر الآخرة {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ...} [الزمر : 9]. وهو يتحرّك في خطّين لا ينفصل أحدهما عن الآخر؛ فهو في الوقت الذي يحذر فيه الآخرة ويخاف عقاب الله في الآخرة، يرجو رحمة الله في أنّه لو أذنب فإنَّ الله يعفو عن ذنبه، فهو يعمل على أنْ لا يذنب، ولكنّه إذا أذنب فهو يرجو رحمة الله في ذلك، فيتوازن في قلبه الخوف والرجاء، هذا ما ينبغي لنا أنْ نربّي أنفسنا عليه.
ضرورة تحصيل الطمأنينة
ومن خلال ذلك، لا بدّ لنا من أن نقرأ القرآن قراءة واعية في كلّ ما يتحدّث به الله سبحانه وتعالى عن أهوال يوم القيامة، فإذا قرأنا هذه الآية التي تقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 ـــ 2]. عندما تقرأ هذه الآيات فعليك أن تستحضر ذلك الموقف، وعليك أن تجعل نفسك هناك، عندما يكون الزلزال الروحي والنفسي. فكِّر أن تكون مطمئناً في مواقع الزلزال، لأنَّ هناك أُناساً في يوم القيامة يؤمنهم الله من الفزع الأكبر، وهم الذين اطمأنَّت نفوسهم بالإيمان بالله وبمحبّة الله، وبالعمل الصالح الذي يرضي الله. هؤلاء الناس الذين يخاطب الله كلّ واحدٍ منهم قبل أن يموت {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً*فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ـــ 30].
فكِّر عندما يقول لكَ الله {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} قل لنفسك: يا نفس لو كنت الآن في ذلك الموقف، فهل أكون من المطمئنين برضوان الله، أم من الذين يعيشون الزلزال خوفاً من عذاب الله؟ فكِّر في نفسك الآن، حتى تعرف كيف تحصل على الطمأنينة هناك. فكِّر أن تخاف الآن حتّى لا تخاف غداً، لأنَّ أولياء الله الذين يخافون الله في الدنيا، ويدفعهم خوف الله في الدنيا إلى أن يطيعوا الله، وأن يلزموا دين الله أولئك {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} كن الخائف من الله الآن تكن الآمن يوم القيامة، وكن الآمن من مكر الله الآن تكُنِ الخائف يوم القيامة، اختر الآن، لا تزال في ساحة العمل "اليوم عمل ولا حساب" خذ حريّتك، اعمل ما تريد، انطلق بكلّ جرائمك، بكلّ معاصيك، بكلّ شيء، خذ حريّتك، لا أحد يوقفك. لكنّ هناك خوفين لا بدّ من أن تختار بينهما؛ أن تخاف الآن من الله فتأمن يوم القيامة، وأن تحسّ بالأمن من مكر الله الآن فتخاف يوم القيامة، أيّ خوف يجب أن تقدّمه، {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس : 62]، ومَن هم أولياء الله {الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [يونس : 63]، والتقوى هي الخوف. الذين يراقبون الله، ويخافونه ويحسبون حسابه في كلّ شيء، هؤلاء لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} لا (يزوربون) من هنا وهناك، هم أبداً على الخط. {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13]، {... مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69]، {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} أحسن في عمله وأحسن في نيّته، {فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة : 112]. إذاً عندما نعرف أنّ الذين آمنوا وكانوا يتّقون والذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا، والذين آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحاً والذين أسلموا وجوههم لله، وهم محسنون، هؤلاء لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. فكيف ندبِّر أمرنا في الدنيا؟
الأمان الحقيقي
إنّ الله يقول لك، إذا آمنت بالله واستقمت، إذا آمنت بالله واتّقيت، إذا أسلمت وجهك إلى الله وأحسنت، إذا آمنت بالله واليوم الآخر وعملت صالحاً، فلكَ الأمان يومَ لا أمانَ إلاّ لمن أعطاه الله الأمان. هل تتبع زيداً وعمراً، قولوا لكلّ مَن يريد أن يدفعهم إلى عمل أو إلى مشروع أو إلى انتماء أو إلى عصبية أو إلى ضرر لإنسان، قولوا له يا فلان نحن معك، شرط أن تسمح لنا بأمان من الله أنْ لا يعذّبنا يوم القيامة، إذا سرنا معك أعطنا الأمان. وليس هناك مَن يستطيع أن يعطي الأمان إلاّ من خلال ما رسمه الله من خطوط الأمان، مَن الذي يعطيكم الأمان؟ بعض الناس يفكّر بالعلماء المجتهدين الأتقياء، حتّى هؤلاء يحتاجون إلى الأمان من الله سبحانه وتعالى. الله سبحانه وتعالى يقول لرسوله {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر : 65]، إنّما أعطى الأمان لرسول الله، ولكلّ رسل الله، لأنّهم آمنوا بالله وأطاعوه، وجاهدوا في سبيله. لا يوجد فرق في هذا الطريق، الفرق أنّ درجات الإيمان عند الأنبياء أكثر من درجات الإيمان عندنا، درجات العمل عند الأنبياء أكثر من درجات عملنا وروحية الجهاد عند الأنبياء أعمق من روحيّتنا، لكن لا فرق بيننا وبين كلّ الأنبياء وكلّ الأئمّة سوى أنّ الله رضي عنهم لأنّهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ*لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 ـــ 27] الخطّ نفسه الذي يرضى فيه الله عنّا، هو الذي يرضى فيه عن النبيّ، لا يوجد فرق، ولهذا الله كان يخاطب النبيّ في القرآن بما خاطب به بقيّة الناس كما يقول الله: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء : 48].
النبيّ وخطّ الاستقامة
الله يقول للنبيّ، أنتَ رسول الله وحبيب الله، لكن ما دمت تسير على خطّ التوحيد وما دمت مستقيماً وما دمتَ من الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا، ولكن لو انحرفت عن خطّ التوحيد فإنَّ عملك سيحبط {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر : 65]، الله يخاطب ويتحدّث عن النبيّ {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} يعني لو أنّ النبيّ زاد حرفاً في القرآن لم ينزله الله عليه {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ*فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 ـــ 47]، والنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال في بعض خطبه في آخر حياته: "لا يتمنَّ متمنّ، ولا يدّع مدَّعٍ، ألاَ إنّه ليس بين الله وبين أحدٍ من عباده شيء يعطيه به خيراً أو يدفع به عنه شرّاً إلاّ العمل ولو عصيت لهويت"(1). يعني أنا نبيّكم لو أنّي عصيت الله سأهوي، إذ ليس هناك فرق بيني وبين أيّ إنسان. لهذا لا تتصوّر أنّ من الممكن أن تأمن على نفسك وأنتَ مذنب وخاطئ؛ فلا يقدر أحد أن يقوم لك بـــ "واسطة"، افتح قلبك واستشعر الندم في قلبك ممّا فعلت، وأكّد إرادتك، وافتح قلبك وقل يا ربّي إنّي تائبٌ يتُب الله عليك.
مسؤولية الإنسان أمام الله
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "لا يغرَّك الناس من نفسك، فإنَّ الأمر يصل إليك من دونهم"(2). قد يخدعك الناس عن نفسك، أنتَ اعمل كذا والباقي علينا، وعلى "ذمّتنا". هذا الذي يقول "على ذمّتي" مَن هو، هل هو نبيّ، هل هو وصيّ؟ لا. يقول الله لك يوم القيامة مَن فلان حتّى تجعل ذمّته ضماناً لك؟ لا أحد يقدر أن يحمل خطيئة أحد {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ*وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 12 ـــ 13].
لا أحد يستطيع أن يحمل خطايا أحد. كلّ إنسان يحمل خطاياه على ظهره، لا تصدّقوا أحداً. فكِّر في نفسك، بكلّ عملٍ تعمله؛ هل يقرّبك من الله أم يبعدك عنه؟ هل ينجّيك من سخط الله أم لا؟ لأنّك ستموت وحدك وسيغلق اللّحد عليك وحدك، وستقف يوم القيامة وحدك، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم : 95]، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ...} [الأنعام : 94]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل : 111] ما معنى هذه الآية. أنا أُكرِّرها دائماً على نفسي وعليكم: أنتَ وحدك ستكون المحامي عن نفسك، لا يوجد محامي دفاع، ولا يوجد شهود دفاع {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}، {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء : 14]، هكذا فكِّر دائماً واستشعر الواقع الذي تعيش. إنَّ إمامنا الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعاء أبي حمزة الثمالي يقول "فما لي لا أبكي ولا أدري إلى ما يكون مصيري، وأرى نفسي تخادعني وأيّامي تخاتلني، وقد خَفَقَتْ فوق رأسي أجنحة الموت" يعني يمثّل الموت مثل الطائر الذي يكون فوق رأسك، وعندما يأتي تسمع حفيف أجنحته على رأسك، وبعد ذلك يقف على رأسك "وقد خَفَقتْ فوق رأسي أجنحة الموت فما لي لا أبكي، أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكرٍ ونكيرٍ إيّاي، أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حامِلاً ثقلي على ظهري، أنظُرُ مرّةً عن يميني وأُخرى عن شمالي إذ الخلائق في شأنٍ غير شأني" {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ*وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ*ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ*وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ*تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 37 ـــ 41].
هذا الجوّ يجب أن نستشعره دائماً في حياتنا العامّة والخاصّة، لأنّ ما يحكمنا هو عبوديّتنا لربّنا، وعلينا أن نكون مخلصين في هذه العبودية، بأن نفكِّر في كلّ أمورنا انطلاقاً من خوفنا من الله سبحانه وتعالى. فإنْ كنت طالباً يكون همّك أن تحمل شهادتك آخر السنة أمام رفاقك أو كنتَ تاجراً تعمل على أساس أن تكون الناجح في تجارتك. ولكن علينا أن نفكّر أن نكون الناجحين في امتحان الله في الدنيا، حتّى نأخذ شهادتنا في الآخرة {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ*إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ*فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ*فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ*قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ*كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ*وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ*وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ*يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ*مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ*هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ*خُذُوهُ فَغُلُّوهُ*ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ*ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ*إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ*وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ*فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ*وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ*لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ} [الحاقة: 19 ـــ 37].
المجاهدون لا يخافون الموت
المطلوب أن نعيش هذا الجوّ. وإنّما أكَّد الله علينا أن نعيش مثل هذا الجوّ، لأجل أن نضبط خطواتنا على الخطّ، لأنَّ الذي لا يخاف من عقاب الله ولا يرغب في نعيمه، سوف يذهب به الشياطين كلّ مذهب، وسوف تأخذ به الأهواء في كلّ طريق، وسوف ينسى نفسه عندما ينسى ربّه، فيكون خطراً على نفسه وخطراً على الحياة، لأنّه لا يرتكز على قاعدة حقيقيّة يمكن لها أن تثبت خطواته في الطريق المستقيم، ويمكن لها أن تثبت له مواقفه في المواقع الصحيحة.
إنَّ الخوف من الله يجعلنا ننضبط ويجعلنا نتوازن ويجعلنا نستقيم ويجعلنا نأخذ الثقة من الله سبحانه وتعالى. عندما تخاف الله وحده فإنّك لا تخاف من شيء، ولكنّك عندما تخاف من الناس فإنّك تخاف من كلّ شيء. الذي يخاف من الله حدَّد خطواته بخطوط واضحة جيّداً. نحن في الحياة عندما نخاف، إنّما نخاف من الموت في كلّ الأخطار التي نعيشها في حياتنا، والخوف من الموت خوف حقيقي يعيشه كلّ إنسان منّا، لكنّ هناك نقطة لا بدّ من أن نلاحظها وقد حلَّها الله لنا، أنتَ عندما تتحرّك في خطّ الجهاد {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة : 52]، عندما نخاف من الله تكون قويّاً أمام العدوّ، لأنّك عندما تواجه العدوّ فإنّك تقول له من خلال موقفك ماذا تنتظر منّا، إمّا أن نموت فتكون الشهادة، وإمّا أن نبقى فيكون النّصر، وكلاهما من الحسنيين اللّتين ننال بهما عند الله الدرجة العالية؟ وفي مجالات حياتك العامّة، إذا كنت قد رتَّبت شغلك مع الله، وكنتَ مؤمناً وصالحاً، وكانت عندك بعض الذنوب القليلة هنا وهناك، فإنَّ خوفك من الموت لا يكون إلاّ بلحاظ خوفك من ذنبك. اعقد في قلبك الانفتاح على الله والرجاء برحمة الله وتُبْ إلى الله من ذلك. وعند ذلك لو جاءك الموت فلن يأتيك بشرّ، لأنّه ينفتح بك على رحمة الله سبحانه وتعالى. ولهذا فإنَّ الإنسان المؤمن عندما يكون خائفاً من الله، فإنَّ خوفه من الله يجعله يراقب الله في كلّ أموره ويقتحم المواقف بكلّ إيمان بالله.
إذا مات المؤمن ففي خطّ الله، وإذا عاش فإنّه يبقى في طاعة الله، لذلك فالمؤمن لا يخاف الموت. عندما تعرف نفسك أنّك وليّ الله، فأنتَ لا تخاف الموت. ولهذا الله تحدّى اليهود بقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة : 6] لأنّكم تقولون إنّ الله يحبّكم، وأنتم أولياء الله وأحباؤه، وشعب الله المختار، فتمنّوا الموت. وفي آيةٍ أخرى يقول الله عنهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة : 96]، {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ*وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من الجرائم والموبقات {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 6 ـــ 7]، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 8 ـــ 9]. إذاً، الإنسان المؤمن يملك ضماناً، ولهذا عندما يخاف من الله، فإنَّ خوفه من الله يتحرّك ليكون عنصر قوّة في داخل نفسه، فلا يهاب أحداً، لأنَّ منتهى الهيبة هو الموت، وأنتَ عندما تموت في موقف من مواقف الطاعة فذلك هو الفوز العظيم.
الخوف من الناس يزلزل الموقف
فيما الإنسان الذي يخاف من الناس لا يمتلك قاعدة أبداً، كبعض الناس الذين تتلَوَّن مواقفهم حسب الرياح، تأتي الريح شرقية يصبحون شرقيين، تأتي غريبة يصبحون غربيين، تأتي معتدلة فتراهم معتدلين، وهكذا يبقون حائرين. إنّه يخاف من هذا فيسير كما يريد، ويخاف من ذاك فيسير كما يريد. وهكذا تظلّ الرياح تأخذه من هنا وهناك. والإنسان عندما يكون في قبضة الرياح لا يعرف نفسه أين تتركه الرياح، لكنّ الذي يرتكز على قاعدة من الله يعرف نفسه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]، خطّ البداية يحدِّد لك خطّ النهاية، إنّه خطّ الاستقامة. بينما الإنسان الذي إذا مالَت الريح مال معها، ولأنّه يخاف من هذه السلطة يسير معها، ثمّ ينطلق إلى السلطة التي تأتي بعدها خوفاً على نفسه، وهكذا، فالذي يخاف من الناس يخاف من كلّ أحد، وليس له شخصية.
إنَّ الله سبحانه وتعالى أراد منّا أن لا نخاف أحداً غيره {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب : 39] هذا هو الخطّ. عندما تريد أن تبلِّغ رسالات الله، فعليك أن تخاف الله، حتّى يدفعك خوفك من الله سبحانه وتعالى إلى أن تستقيم {فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى : 15]، {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} لو أنّ أيَّ إنسان أراد منك أن تهتزَّ، فإنَّ عليك أن تقول: "ربّي الله"، وتتركه.
إنّك تعيش الخوف من الله، لتعيش الثقة بنفسك. أن لا تأخذك في الله لومة لائم، يعني إذا وقفت أمام الله، وكان الموقف لله سبحانه وتعالى، فلو أنّ الناس كلّهم لاموك على أمر، فعليك أن لا تخاف، الآية تقول: {... يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} [المائدة : 54] القرآن يتكلّم بلغة عربية واضحة، افهموها جيّداً، {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} جهاد الكلمة، جهاد السيف، وجهاد السياسة {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} نحن نتمسّك بخطّ الجهاد ولو تكلَّم علينا الناس، ولو وقفوا ضدّنا ليست عندنا مشكلة ما دام الله معنا.. هذه هي الفكرة. ليس المؤمن أن يكون قلبه هواء، وعندما تتحرّك الموجة يخذل أصحاب الحقّ. بعض الناس يخذلون الحقّ ويخذلون أصحابه، لأنّهم يخافون كلام الناس. وسيحاسب الله الساكتين عن الحقّ، كما يحاسب الله أعداء الحقّ، ولهذا "الساكت عن الحقّ شيطان أخرس". أيُّها المؤمن، كن مع الله، وخف الله، تكن قويّاً، وهذا ما أكّدته الآية الكريمة: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران : 173]، الناس كلّهم ضدّك وقد تجمَّعوا ليهزموا موقفكم ويسقطوا روحيّتكم ويعملوا على اضطهادكم وتصفيتكم. ولكن كلّ هذا التهويل زادهم إيماناً، لأنّهم شعروا بأنّهم لو لم يشكِّلوا خطراً على التيّار المنحرف، لَمَا تجمَّع هؤلاء، أنا أقول لكم شيئا، كمؤمنين، كلَّما سبَّكم الناس أكثر، كلّما اضطهدوكم أكثر، كلّما اشمأزَّت نفوسهم منكم أكثر، يجب أن تكون ثقتكم بأنفسهم أكبر، لأنّه لو لم تكونوا خطراً على الكفر والضلال والانحراف، لَمَا شعر الناس بأهميّتكم ليضربوكم وليحاصروكم.
إذا لم يشتمك أحد، وإذا لم يؤذك ويضطهدك أحد فَأَعِد النظر في وضعك. إنّك بقدر ما تكون خطراً على الكفر وعلى الظلم والطغيان، يكون ذلك دليلاً على أنّك تسير في الاتجاه الصحيح. فلهذا عندما قالوا لهم إنّ الناس كلّهم ضدّكم والناس كلّهم في خطّ الكفر، زادهم إيماناً. لذلك نحن نشعر بقيمة إيماننا، وقوّة إيماننا {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ*إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران :174 ـــ 175]
إذا وقفتم بين خوف الله وبين خوف أولياء الشيطان فخافوا الله وتقدَّموا، ولا تخافوا أولياء الشيطان، ولا تأبهوا لكلّ تهاويلهم وأوضاعهم. والله يحدّثنا عن بعض الناس الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله {... إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} [النساء : 108]، الله يقول لرسول الله في بعض المواقف، عندما كان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يتأثّر من كلام الناس خوفاً على الرسالة {... وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب : 37]، يعطينا القوّة في متابعة خطّ السير في طاعة الله وفي خطّ الإسلام الحقّ المتحرّك على رضى الله.
الإسلام وتعدُّد الطوائف
قد يقول البعض لا نستطيع أن نطرح الإسلام في لبنان، باعتباره بلداً متعدّد الطوائف، تكلَّموا في أيّ شيءٍ آخر غير الإسلام، بدّلوا كلماتكم وأفكاركم بكلمات وأفكار أخرى، وألبسوا الإسلام ياقة أوروبية أو أميركية أو روسية أو أيّ شيء، حتّى يتقبله الناس. إنَّ بالمستطاع استخدام أيّ أفكار من أجل أن ترتّب أوضاعك في هذا المجتمع لكي يصفّق لك، باعتبار أنّك معتدل ولست متطرِّفاً، لكن ماذا نقول لله؟ وماذا نقول لرسول الله؟ لقد جعل رسول الله الإسلام أمانة الله في عنق كلّ مسلم، أرادنا أن ندعو إلى الإسلام كما دعا، وأن نجاهد أعداء الله كما جاهد، وأن نركِّز المجتمع على أساس الإسلام كما ركَّز. ماذا نقول غداً لرسول الله إذا وقفنا بين يديه، وقال لنا ماذا عملتم للإسلام؟ لقد خفتم أن يقول الناس عنكم إنّكم متطرّفون، لقد خفتم أن يقول الناس عنكم إنّكم متعصّبون، لقد خفتم أن يقول الناس عنكم إنّكم رجعيون متزمّتون؟ لقد قال عنّي الناس أكثر من ذلك، حتّى اتّهموني بعقلي، وقالوا إنّني مجنون ولم أتراجع فكيف تتراجعون؟ ماذا نقول لله غداً، والله يريدنا أن ننصر دينه؟ {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمّد : 7] ونصرة الله بنصرة دينه، بأن نجعل دينه حركة الحياة كلّها من حولنا. كيف نقول لله ذلك؟ هل نقول يا ربّنا خفنا أن يقول الناس عنّا كذا وكذا؟ فليقل الناس، ما قيمة ما يقول الناس؟!
مشروعنا على ضوء الإسلام
إنّنا لا نخاف الله، إذا لم نتحدّث باسم الإسلام، وإذا لم يطلق الإسلام في خطّ الفكر والسياسة والاجتماع. نحن عندما نطرح الإسلام فإنّنا نطرحه على أساس أنّه عنوان الحريّة للإنسان، وعنوان العدالة للإنسان، وعنوان التحدّي للظلم الذي يريد أن يضطهد إنسانية الإنسان. بعض الناس يقول ما مشروعكم أيُّها الإسلاميون؟ كيف تفكِّرون؟ قدِّموا مشروعاً. نحن نقدّم عمق حركية الإسلام في مرونته عندما يتحرّك في واقع الناس، على أساس أنّ الإسلام يملك عقلية المرحلة كما يملك عقلية الاستراتيجية، ويعرف كيف يركّز مواقعه هنا وهناك. ليس معنى ذلك أنّنا ساذجون، نقول إمّا أن يكون غداً إسلام وإمّا نقعد في بيوتنا. لا، نحن نتحرّك لنخفّف من الظلم ما أمكن، ونقوّي من الحريّة ما أمكن، ونواجه الألاعيب هنا وهناك ما أمكن.
إنَّ لبنان هو جزء من العالَم الإسلامي، وعندما نقول إنّنا نرفض أن يكون لبنان ممرّاً للاستعمار، أو مقرّاً للاستعمار، فإنّما نريد أن نؤكّد الحريّة الحقيقيّة للإنسان في لبنان. نحن عندما نقول إنّنا نرفض التدخّل الأميركي في لبنان، حتّى لا يكون لبنان مزرعة للسياسة الأميركية وللاقتصاد الأميركي وللمصالح الأميركية على حساب شعبه، فإنّما نريد أن نؤكّد حريّة الإنسان في لبنان. وهكذا عندما نقف ضدّ "إسرائيل"، ونقول لكلّ الناس إنّ عليهم أن يشعروا بخطورة "إسرائيل" سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وأنّ وجودها في المنطقة يشكّل الخطر على كلّ المنطقة في المستقبل وأنّ عليكم أن تنظروا المستقبل ولا تتجمَّدوا في الحاضر.
وقفة الاستحقاق الرئاسي
وإذا انتقلنا إلى ساحتنا فماذا نرى؟ نرى الجميع مشغولاً بما يسمّونه الاستحقاق الدستوري. يقولون للناس يجب أن ننتخب رئيساً للجمهورية، وتكرّ سبحة التعليقات: هذا الرئيس قوي أو ضعيف، مرشّح تصادمي أو مرشّح توافقي، وما إلى ذلك من الكلمات، والناس مشغولون بكلّ هذه (الهمروجة) الإعلامية والسياسية، حتّى إِنَّ الناس تركوا اقتصادهم، وتركوا شعاراتهم السياسية، وتركوا أخطار "إسرائيل"، وتركوا كلّ شيء وتوقَّفوا عند عنوان: مَن الرئيس؟
إنّنا نريد أن نثير هذه المسألة ونناقشها: نحن الآن، انطلاقاً من فكرنا الإسلامي، نرفض كلّ هذا الواقع القائم ولاسيّما الإصرار على مارونية الرئيس، ونحن لا نريد أن نتكلَّم بالتفاصيل بل سنتحدّث عن نقاط أخرى.
النقطة الأولى: مَن الذي ينتخب الرئيس؟ بالتأكيد ليس النواب فعلياً هم الذين سينتخبونه. لكن الآن الحديث في الساحة عن محادثات تتمّ في أميركا لهذه الغاية. المبعوث الأميركي يتحدّث عن شخصية الرئيس في باريس والفاتيكان وطبعاً دمشق، باعتبار ما للدور السوري من تأثير في هذا البلد، لكنّ هناك تداولاً على المستويات العليا التي لا يسمح فيها لأيّ لبناني بمن فيهم رئيس الجمهورية أن يكون له رأي في هذا الموضوع. إنَّ الذي ينتخب رئيس الجمهورية هو المواقع الإقليمية والدولية، وليس للبنانيين في ذلك شيء إلاّ أن يتسلَّموا الورقة التي تمثّل كلمة السرّ، ليوزّعوها على الحاضرين ليتشكَّل النصاب الانتخابي ومن ثمّ الإجماع.
ما تقدَّم يعطينا فكرة عن أنّ الحديث عن رئيس قويّ أو ضعيف هو حديث لا معنى له، لماذا، لأنَّ مسألة حلّ المشكلة اللبنانية، أو الإصلاح في لبنان، ليست خاضعة لشخصية الرئيس حتّى تكون قوّته أو ضعفه أساساً لتغيّر الواقع، لأنَّ الذي يفرض القوّة هو طبيعة المعادلات الدولية. معنى ذلك أنّه لا يمكن أن يحصل ـــ على أساس حركة الواقع السياسي اللبناني ـــ أيّ تغيير في البلد إلاّ من خلال المصالح المتوافقة على المستوى الدولي وربّما الإقليمي. إذاً فإنَّ الرئيس مهما كان قويّاً، سيظلّ منفّذاً للمخطّطات الدولية أو الإقليمية، سيكون منفّذاً ولن يكون مخطّطاً، فعناصر القوّة لن يستمدّها من شخصيته، إلاّ إذا أراد أن يكون متمرّداً على اللعبة، وليس من رؤساء لبنان مَنْ تمرَّد على اللعبة. إنّه يستمدّ القوّة من خلال الأوضاع الدولية أو الإقليمية التي تمنحه القوّة في الداخل. لهذا نستطيع أن نقول إنَّ لبنان بَلَغَ حدّاً من الارتهان للخارج، حتّى أصبح لا يملك شيئاً من أمره. وكلّ هذه اللّعبة التي تتحرّك لتوتير الجوّ تارّة وتبريده أخرى، إنّما هي لعبة استعراضية تماماً كما هو شدّ الحبال في إطار اللّعبة لا في إطار الحقيقة.
واشنطن تلبّي المصالح الإسرائيليّة
في هذا المجال، أميركا لا تريد حلاًّ للبنان من خلال انتخاب الرئيس، إلاّ إذا توافق مع المصلحة الإسرائيلية، بالمستوى الذي يحقّق لـــ "إسرائيل" أمنها أوّلاً، ولاسيّما أنّ بعض المحافل الدولية تتحدّث عن تحريك القرار 425 ليحقّق الترتيبات الأمنية لـــ "إسرائيل".
هذا الكلام يتمّ تداوله وقد لا يتمّ في وقتٍ قريب، إنّما الواضح أنّ السياسة الأميركية في لبنان تتحرّك تماماً في موازاة السياسة الإسرائيلية، ولعلَّ المناورات الأميركية ـــ الإسرائيلية الأخيرة في فلسطين وجَّهت رسالة إلى اللبنانيين، ليفهموا بوضوح أن لا سياسة أميركية بدون سياسة إسرائيلية، ومَن يقبل بالسياسة الأميركية فعليه أن يقبل بالسياسة الإسرائيلية، لأنَّ هناك حلفاً استراتيجياً بين سياسة أميركا وبين سياسة "إسرائيل". ولهذا فإنَّ الذين يوافقون على المخطّطات الأميركية في حركة السياسة اللبنانية، يوافقون سلفاً على المخطّطات السياسية الإسرائيلية، وهذا يؤدّي لأن يكون لإسرائيل الدور الكبير في المسألة اللبنانية. ولعلَّ الهجوم الأخير على مخيّمات صيدا مِن قِبل "إسرائيل" وجه رسالة في هذا الجوّ وربّما لدائرة أوسع من الدائرة اللبنانية.
لذلك لا بدّ لنا من أن نفهم حقيقة الأمور؛ فمسألة الإصلاح لن تتمّ بانتخاب رئيس مهما كان الرئيس قوياً، ومهما كان توافقياً أو تصادمياً، وإنّما المسألة تحتاج إلى تغيير الذهنية السياسية التي تجعل الواقع، واقع الإنسان في لبنان، مرتهناً للسياسة الأميركية على خطّ السياسة الإسرائيلية، وإن كان هناك لون إسرائيلي فاقع تارّة ولون إسرائيلي أقلّ فقاعة تارةً أخرى. إنّ علينا أن لا نستسلم للأحلام الكاذبة، خصوصاً عندما نطلّ على سياسة الوفاق الدولي التي يراد لها أن توحي إلينا بأنّ المسألة اللبنانية ستجد حلّها قريباً، إنّنا لا نستطيع أن نعيش بواقعية مثل هذه الكلمات، لأنَّ أميركا تعقّد كلّ المسائل إذا لم تكن تلبّي المصالح الإسرائيلية.
وعندما تعرفون أنّ هناك حلاَّ للأزمة اللبنانية على أساس الوفاق الدولي، فاعرفوا أنّ المصلحة الإسرائيلية قد استُجيب لها، لأنَّ أميركا لا توافق على أيّ حلّ في المنطقة العربية كلّها إلاّ إذا كان لمصلحة "إسرائيل".
إنَّنا نرى أنّ ما يدور الآن في الضفة الغربية وغزّة والأردن من أوضاع جديدة متغيّرة على مستوى الواقع الإداري والقانوني والمؤسّساتي، ليس مجرّد خطوة من أجل قوّة الانتفاضة، بل نعتقد أنّها حركة من أجل تطويق الانتفاضة وجعلها تسير في الاتجاه المرسوم، الذي وضعته منظّمة التحرير من أجل أن تكون الانتفاضة ورقة في ساحة المفاوضات، لا أن تكون ثورة في مواقع الحريّة والعدالة.
إضعاف الباطل على قدر الطاقة
في هذا المجال، علينا أن نثق بأنفسنا، وأن نتابع مواجهة الباطل. قد لا نستطيع بناء الكثير من الحقّ في ما هي الاستراتيجية، ولكنّنا نستطيع أن نسقط كثيراً من أوضاع الباطل. إنَّ هناك مسؤولية شرعية في أن نلاحق نقاط ضعف الباطل، لنثيرها أمام الناس حتّى يأخذ الناس القوّة. إنّنا ننقل حديثاً عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول فيه: "إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأكثروا من سبّهم والوقيعة فيهم وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام"(1). لا بدّ من أن نعمل، فإذا لم نستطع أن نقيم الحقّ فلنسقط بعض مواقع الباطل، ونظلّ في إسقاط مواقع الباطل على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، حتّى إذا ضعف الباطل استطعنا أن نقيم الحقّ على أنقاضه، ونحن قادرون على أن نسقط كثيراً من أوضاع الباطل. ولا بدّ لنا في هذا المجال من أن نضع أيدينا بيد كلّ مَن يريد أن يواجه شيئاً من الباطل، حتّى لو اختلفنا معه.
العُقد الذاتية تضعف المواجهة
إنّنا مع كلّ مَن يقاتِل "إسرائيل" إذا كان صادقاً في قتالها؛ ونحن نقف مع كلّ مَن يواجه الاستعمار، على أساس أنّ ذلك يضعف الاستعمار؛ ونحن مع الجمهورية الإسلامية ومع الثورة الإسلامية ومع الإمام الخميني (حفظه الله)، لأنّنا نعرف أنّهم لا يزالون في موضع إقامة الحقّ وإزهاق الباطل، وإنْ تنوّعت الأساليب. وانطلاقاً من ذلك فإنّنا ندعو كلّ الناس المؤمنين وكلّ الناس الملتزمين والمجاهدين إلى الوحدة على أساس كلمة الله وإلى التفاهم على أساس قضايا الحقّ، وإنّنا نقول لكلّ الناس من قيادات ومن فاعليات ومن غيرهم، ونقول لكلّ الذين تمنعهم عقدتهم الذاتية من العمل على تلاقي الناس بعضهم مع بعض وعلى وحدة الناس وعلى عودة الناس إلى أخوتهم، إنّنا نقول إنّ أيّة قيادة تتقوقع في داخل ذاتها، فتمنع الخير عن قاعدتها، وإنّ أيّة قيادة تريد أن تستأثر لنفسها بمواقعها بعيداً عن الساحة، سوف تفقد نفسها عاجلاً أو آجلاً، {... فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد : 17].
إنّنا نقول لكلّ أهلنا وإخواننا، ونحن نستقبل الحسين (عليه السلام) في عاشوراء ونستقبل أصحابه وأهل بيته (عليهم السلام)، إنّنا نقول للجميع: عودوا إلى الحسين، ليقف الجميع مع الحسين، عودوا إلى الحسين (عليه السلام) لينطلق الجميع باتّجاه الحسين، حسين الرسالة، حسين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حسين الإصلاح في أُمّة رسول الله، حسين العزّة، انطلقوا مع الحسين (عليه السلام) واكتشفوا قيادتكم في الحسين من خلال عمق خطّه. الذي يريد أن يمنعكم من التلاقي في ما بينكم، وأن يعقدكم، ويعقد علاقة بعضكم ببعض ويهوّل عليكم، ليجعلكم تعيشون الانفصال بعضكم عن بعض على أساس عقلية حزبية أو فرديّة، مَن يُرِدْ ذلك أسقطوه ليبقى الإسلام. أسقِطوا الجميع ولتبق الحريّة. أسقِطوا الجميع ولتبقَ الثورة الحسينية في خطّها الصحيح وفي اتّجاهها الصحيح. فالذي لا يريد للنّاس أن يتوحَّدوا، لا بدّ أن يسقطه الناس أيّاً كان وفي أيّ موقع، في الداخل وفي الخارج.
والحمد لله ربّ العالمين
الموقف الحسيني في عاشوراء(*)
من الآيات التي كان يردِّدها الإمام الحسين (عليه السلام)(1) في يوم عاشوراء، كلَّما استقبل صحابياً من أصحابه أو فرداً من أهل بيته وهو يستأذنه للقتال، كان يتمثّل بهذه الآية {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب : 23] وكأنّه كان يريد أن يوازن بين هؤلاء الذين ثبتوا معه وبين أولئك الذين حاربوه، فأولئك الذين حاربوه كانوا قد عاهدوه من خلال رؤسائهم ومن خلال وجهائهم ومن خلال الأفراد الذين بايعوا مسلماً في الكوفة باسمه، عاهدوه على أن ينصروه وأن يواجهوا الحكم الظالم معه، وأن يكونوا الجنود المجنّدة في موقفه من ذلك الحاكم الظالم، ولكن عندما خوَّفهم الطغاة وأغروهم وعندما استيقظت نقاط ضعفهم في داخلهم، عند ذلك نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وانطلقوا يقطعون ما أمَرَ الله به أن يوصل وانطلقوا في خطّ الفساد في الأرض، فانطبقت عليهم الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد : 25].
أصحاب الحسين والوفاء بالعهد
إنَّ الله سبحانه وتعالى جعل العهد في كلّ موقع يعاهد فيه إنسان إنساناً، سواء كان عهداً بين القيادة والناس أو كان عهداً بين الناس أنفسهم أو بين القادة أنفسهم، فإنَّ هذا العهد يمثّل عهد الله، لأنَّ الله أمَرَ بأن يفي الناس بعهودهم وذلك في قوله تعالى: {... وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 34] وهكذا أعطى هؤلاء العهد من أنفسهم أمام الله، على أساس أنْ ينصروا الإمام الحسين (عليه السلام) وأعطوا من أنفسهم الالتزام بأن يصلوا الذين أمَرَ الله بأن يوصلوا وهم أهل البيت، الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهَّرهم تطهيراً.
لقد كان الحسين (عليه السلام) البقيّة الباقية من أهل البيت (عليهم السلام)، لكنّ أولئك قطعوا ما أمَرَ الله به أن يوصل وأفسدوا في الأرض، باعتبار أنّ كلّ فئة تُسانِد ظالِماً وتُقاتِل معه وتنضم إليه؛ فإنَّ من الطبيعي أن تكون من المفسدين في الأرض، لأنَّ حكم الظالم يمثّل حكم الفساد في الأرض، وأوضاع الظالم تمثّل أوضاع الفساد في الأرض، وهكذا لأنَّ الحسين (عليه السلام) أراد أن يقول: أيُّها الناس وازِنوا الموقف بين المعسكرين، بين المعسكر الذي انضمّ إلى الإمام الحسين (عليه السلام) والمعسكر الآخر.
إنَّ أصحاب الحسين (عليه السلام) هم من الذين تحدَّث الله عنهم {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ*الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ*وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} [الرعد: 19 ـــ 21] وأراد الحسين (عليه السلام) أن يركِّز في هؤلاء أمام الناس هذه القيمة الإسلامية، وهي أنّهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وعندما جاءتهم المشاكل، وأراد منهم الآخرون أن يغيِّروا أو يبدِّلوا، رفضوا أن يبدِّلوا وأصرّوا على أن يبقوا مع الحسين (عليه السلام)، حتّى في الموقف الذي وقَفَ فيه الحسين (عليه السلام) ليحلّهم من بيعته قائلاً: "إنَّ هذا اللّيل قد غَشِيَكُم فاتّخذوه جَمَلا(1) وأنتم في حلٍّ من بيعتي"(2)، ولكنّهم لم يغيِّروا ولم يبدّلوا بل قالوا: لا نتخلَّى عنك يا بنَ رسول الله، حتّى لو قُتِلْنا وقُطِّعْنا وأُحْرِقْنا، لأنّنا ننطلق في الوقت معك والالتزام بخطّك، من خلال أنّك وليّ الله وابن وليّه ومن خلال أنّك إمام هذا الدين وقائد المسلمين.
قالوا له يا بن رسول الله لقد التزمنا بالإسلام، قالوا له ذلك بموقفهم وإنْ لم يقولوا له بكلامهم. قالوا له يا بن رسول الله لقد التزمنا بالإسلام بكلّ أحكامه ومفاهيمه والتزمنا بقيادتك على أساس أنّها القيادة الإسلامية التي ركَّزها رسول الله، عندما قال: "حسين منّي وأنا من حسين"(3) وعندما قال: "الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنّة"(4) "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"(5) فالتزمنا قيادتك لأنَّ رسول الله أراد لنا أن نلتزم قيادتك في إمامتك، وعندما صرخت بهذا الصوت: "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالِماً ولا مفسداً وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّةِ جدّي"(6) لما صرخت بهذا الصوت وحدَّدت موقفك وطبيعة ثورتك وحركتك، بأنّها تهدف إلى إصلاح ما أفسده الظالمون والمنحرفون من الواقع الإسلامي، سرنا معك، لأنَّ الله أراد منّا أن نصلح. يا حسين، لستَ وحدك المسؤول. إنَّنا مسؤولون في أن ننطلق معك، لنصلح ولنقوّيَ حركة الإصلاح، بما تقوّي به حركتك وموقف الإصلاح، بما تثبّت به موقفك لأنَّ كلّ مؤمن وكلّ مسلم مسؤول عن أن يطلب الإصلاح في أُمّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، لأنَّ رسول الله قال للأُمّة كلّها "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته"(7).
الإصلاح مسؤولية الجميع
إنّ كلّ واحدٍ منكم مسؤول بحسب حجمه وبحسب دوره وإمكاناته، عن أن يصلح ما أمكنه من الإصلاح، سواء كنت ممّن يجب عليك أن تصلح بيتك أو تصلح جيرانك أو أقرباءك أو الناس من حولك. إنَّ الإصلاح في أُمّة رسول الله هو مسؤولية لكلّ فرد من أفراد هذه الأُمّة كلٌّ بحسب دوره، وإمكاناته في كلّ المجالات التي يتحرّك فيها. وهكذا قالوا له يا بن رسول الله لقد قلتَ "أُريدُ أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"(1)، لأنّك رأيتَ المعروف في ما يتمثّل في طاعة الله في كلّ قضايا الإنسان والحياة، ورأيت أنّ المعروف يُترَك وأنّ الناس يتركون طاعة الله في عبادتهم وفي معاملاتهم وفي حربهم وفي سلمهم وفي كلّ علاقاتهم ورأيتَ المنكر، والمنكر هو كلّ شيء حرَّمه الله وكلّ شيء أنكر الله أن يفعل، ورأيتَ الناس يتحرّكون بالمنكر فيرتكبون المحرَّمات ويلتزمون الظالمين ويقفون من أجل أن يدعموا المنحرفين ولا يرفعون في وجههم صوتاً. وعندما أصبح المعروف متروكاً والمنكر يعمل به الناس، عند ذلك قلت: أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. وكنّا يا بن رسول الله معك، لأنَّ الله حمَّل كلّ مسلم أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر، ولأنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حذَّر المسلمين من أنّهم إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسوف يقعون في مصائب كثيرة وفي بلايا عديدة، وقال في ما قال "لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر أو ليُسلطن الله شرارَكم على خياركم فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم"(2).
الله أَوْلى بالحقّ
لقد وجَّه رسول الله الأمر إلينا جميعاً، ولهذا فنحن مأمورون بأنْ نأمر بالمعروف وأن ننهى عن المنكر ـــ كما أنتَ يا بن رسول الله مأمور بذلك ـــ مأمورون بأن ندعم الذين يأمرون بالمعروف، إذا كانوا في موقع القيادة أو المسؤولية. أنْ نثور معهم على الظلم إذا ثاروا عليه، وأن نكون معهم في خطّ العدل إذا كانوا معه، وقد قلت "فَمَنْ قَبِلَني بقبول الحقّ فالله أوْلى بالحقّ"(1)، لقد قلتَ للناس وقليلاً ـــ يا بن رسول الله ـــ أن يقول القادة للنّاس ما قلته لهم، إنَّ كثيراً من القيادات تقول للنّاس اقبلوني لشخصي واقبلوني لعبقريتي واقبلوني لمركزي، ولكنّك وحدك يا بن رسول الله في خطّ الرسول وفي خطّ أبيك وفي خطّ كلّ الصالحين، قلت "فمن قبلني بقبول الحق" لم ترد لهم أن يقبلوك لشخصك. إنّك قلت للنّاس أيُّها الناس اقبلوا الحقّ، فإذا قبلتم الحقّ ورأيتم أنّي على الحقّ فاقبلوني، وإذا قبلتموني باسم الحقّ فلن يكون لكم جميل عليّ، إنّما أنتم تقبلون الحقّ الذي هو أمر الله سبحانه وتعالى وهو صفة الله "فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ"، الله هو الذي يجازي مَن يقبل الحقّ. قالها الحسين (عليه السلام)، كقيادة تريد لهم أن لا يلتزموا بشخصها ولكنّها تريد لهم أن يلتزموا من خلال موقع الحقّ في شخصيّتها وفي واقعها. لقد قلت ذلك يا بن رسول الله ونحن معك في ذلك قبلناك... قالها أصحاب أبي عبد الله لأبي عبد الله (عليه السلام)، قالوها بموقفهم وإنْ لم يقولوها بلسانهم، قالوا له يا بن رسول الله لقد قبلنا بالحقّ ولقد رأيناك إمام الحقّ، ولهذا فسنقبلك لأنَّ الحقّ يتجسَّد فيك، وسنقبلك لأنَّ القيادة تتجسَّد فيك، وسنقبلك لأنَّ رضاك رضى الله، ولأنَّ سخطك سخط الله، ولأنّك لا تنحرف عن طريق الله كما لم ينحرف عن ذلك أبوك وأخوك وجدَّك (عليه السلام) عندما انطلق الحقّ، ليكون عنوان شخصيّتكم وعنوان دعوتكم وحركتكم.
هذا ما قالوه له، وبعد أن قالوا ثبتوا على القول، عندما جاءتهم كلّ التهاويل وعندما تجمَّعت العساكر الكثيرة في وضع غير متكافئ، لأنّ أقلّ إحصاء لجماعة الحسين (عليه السلام) كان سبعين رجلاً، وأكثر إحصاء كان ثلاثمئة رجل ونيّف، بينما جماعة ابن زياد يتراوح عددها ما بين أربعة آلاف، حسب ما قدَّره البعض، وثلاثين ألفاً حسب تقديرات أخرى.
لم يكن هناك أيّ نوع من أنواع التوازن بين هذه الفئة القليلة وبين تلك الفئة الكبيرة، ووقف أولئك يستعرضون قوّتهم وينطلقون بمختلف الأساليب، ليهزُّوا القوّة التي يعيشها هؤلاء المؤمنون السائرون مع الحسين (عليه السلام)، ولكنّهم لم يفلحوا في أن يسقطوا أحداً. بقيت هذه القلّة ثابتة في مواقعها وبدأت تتحرّك في الخطّ الإسلامي الذي انفتح على الله، فانفتح على الحسين من خلال الله، والذي انفتح على شريعة الله، فانفتح على الثورة في خطّ شريعة الله. وهكذا وقفوا وكانوا يستأذنون الحسين (عليه السلام) في القتال، وكان الحسين يستقبل كلّ واحدٍ منهم بهذه الآية {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} صدقوا بالكلمة، وصدقوا بالموقف {فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ} ويشير إلى الذين استشهدوا معه {وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ} ويشير إلى الذين يتحرّكون في خطّ الشهادة {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب : 23] وتلك هي قصّة الثائرين المجاهدين مع الحسين (عليه السلام).
نتمسَّك بالإسلام ولا يأسرنا الواقع
في هذا الجوّ، علينا أن نفكّر ونحن في موسم عاشوراء، هل هناك عهد بيننا وبين الله أم ليس هناك عهد؟ هل هناك عهد بيننا وبين الحسين (عليه السلام) عبر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أم ليس هناك عهد؟ عندما ندرس المسألة كمسلمين، وإنّي دائماً أذكّركم بهذه الصفة، انتبهوا دائماً إلى صفتكم الإسلامية قبل أن تنتبهوا إلى صفتكم العائلية أو الإقليمية أو القومية أو غير ذلك من الصفات الطارئة، لأنَّ صفتكم الإسلامية هي التي تحدِّد لكم مواقعكم الوطنية والإقليمية والقومية، لتقول لكم أين تقفون في هذه الدائرة أو تلك، وأين تبتعدون عن هذه الدائرة أو تلك. لا تأخذوا صفتكم الأخرى الوطنية والإقليمية والقومية، لا تأخذوا هذه الصفات، لتحدِّدوا من خلالها صفتكم الإسلامية، كما يفعل بعض الناس عندما يريد أن يقول أنا لبناني. فإذا كنت لبنانياً فعليَّ أنْ أُلاحظ مصلحة لبنانيتي في حركة إسلامي، فلا أحاول أن أزعج الواقع اللبناني بالإسلام، فإذا جاء الإسلام ليزعج بعض الواقع اللبناني، قلت للإسلام تأخَّر ولتتقدّم اللبنانية. وهذا هو الذي يمارسه الكثيرون ممّن يملكون صفات دينية رسمية وممّن يملكون صفات سياسية أو اجتماعية. إنّهم يقولون لك: إنّنا في لبنان فكيف تتحدّثون عن الإسلام في لبنان؟ إنَّ الإسلام لا يوافق الصيغة اللبنانية، كأنَّ المسألة هي أنّ على الإسلام أن يتعامل في كلّ بلد من خلال طبيعة الخطوط الحمر، التي يفرض عليه البلد أن يتعامل معها. ولو كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) موجوداً في هذه الأيام، لقال له الكثيرون من الناس: إنَّ عليك أن تلاحظ صفتك المكيّة أو الحجازيّة في حركة الإسلام، حتّى لا تزعج هذه الصفة. كذلك يفكِّر آخرون بأنَّ صفتنا القومية هي التي تحدِّد لنا صفتنا الإسلامية وموقفنا الإسلامي. نحن عرب فإذا كنّا عَرَباً واصطدم العرب مع غير العرب، فعلينا أن نكون مع العرب حتّى لو كانوا ظالمين، وضدّ غير العرب حتّى لو كانوا مسلمين مظلومين، لأنَّ المسألة أنّ القومية تتقدَّم على الإسلام. ولكنَّ هذه رموز قد تتحرّك معكم في الدنيا، أمّا في يوم القيامة {... فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون : 101].
في يوم القيامة تسأل عن موقفك من ربّك ومن رسوله ومن كتابه ومن شريعته. إذاً لا تغفلوا عن صفتكم الإسلامية وحاولوا أن تحدِّدوا حركة صفاتكم الأخرى من خلال الإسلام. على هذا الأساس أنتَ عندما صرت مسلماً وقلت: أشهدُ أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله، فقد التزمت بعهد الله، لأنَّ معنى أشهد أن لا إله إلاّ الله هو الالتزام بوحدانية الله في الألوهية، لا الالتزام بغيره، وعندما تقول أشهدُ أنَّ محمّداً رسول الله فإنّك تقول لرسول الله: يا رسول الله إنّي ألتزمُ بكَ من خلال الرسالة التي حملتها من الله، لأنَّ طاعتك هي طاعة الله ولأنَّ الله قال لنا {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ...} [النساء : 80]، أنتَ وأنا والآخرون نلتزم بعهد مع الله أن نوحّده وأن لا نشرك به شيئاً. أن نوحّده في العقيدة فلا نعتقد بوجود إله غيره وأن نوحّده في العبادة فلا نطيع غيره في أيّ شيء، إلاّ في ما يتّفق مع طاعته.
وهكذا نحن ملتزمون برسول الله، لأنَّ الله أرادنا أن نطيع رسول الله في ما يأمرنا به.. إذاً نحن في عهد مع الله ومع رسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي عهد مع الحسين، باعتبار أنّ الحسين (عليه السلام) سارَ في خطّ التزامنا بعهد الله ورسوله ولأنّنا في احتضاننا للحسين (عليه السلام) في كلّ سنة في مجالس عاشوراء، نعبّر عن التزام بخطّه وبثورته. هنا قد نحتاج أن نفكِّر أيّها الإخوة؛ هل صدقنا الله عهده أم نقضنا عهد الله؟ إنَّ الذين لا يلتزمون بالإسلام بل يلتزمون بغيره خطّاً للعقيدة وللشريعة وللحياة هم ممّن نقضوا عهد الله، لأنَّ الله أراد لنا أن نلتزم بشريعته، فالالتزام بأيّة شريعة أخرى هو مخالِف لالتزامنا ذلك؛ وهكذا فإنَّ الالتزام بقيادة لا تعبّر عن شريعة الله وأمره ومنهجه، هو التزام بغير عهد الله. وعندما نقطع ما أَمَرَ الله به أن يوصل فنسيء إلى الذين أراد الله لنا أن نحسن إليهم وأن نرحمهم وأن نعزِّزهم وأن نحترمهم، عندما نقطع ذلك فنكون ممّن يقطع ما أمَرَ الله به أن يوصل. وهكذا عندما نخذل العادلين ونلتزم الظالمين ونبرّر لهم ظلمهم ونهاجم العادلين في عدلهم، عندما نخذل الصادقين ونتبع الكاذبين، عندما نتحرّك في حياتنا على أساس أن نسكت عن الحقّ ونحن قادرون على أن نتكلَّم به، فنحن نخون عهد الله. لهذا إذا أردتم أن تعرفوا أنفسكم، هل أنتم من الصادقين في ما عاهدتم الله عليه؟ فراقبوا أنفسكم في عواطفكم. لمن تتّجه عواطفكم، هل تتّجه لمن يرضى الله عنهم، أم لمن يغضب الله عليهم؟ إذا أردتم أن تعرفوا أنفسكم هل أنتم من الصادقين بعهد الله أو من الناقضين لعهد الله؟ راقبوا أنفسكم في التزامكم بحلال الله وحرامه، فإنْ كنتم تلتزمون بحلال الله وحرامه فأنتم من الصادقين وإنْ كنتم لا تلتزمون به فأنتم من الناقضين لعهد الله في ذلك.
إنّنا عندما ننطلق في حركة الحياة من حولنا، في ما تنطلق به الحياة من المواقف الاجتماعية أو من المواقف السياسية، فعلينا أن نحدِّد مع مَن نكون؛ لأنَّ الذين يفسدون في الأرض والذين يقطعون ما أَمَرَ الله به أن يوصل والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، هؤلاء عندما نكون معهم أو عندما نبرّر لهم ذلك أو عندما نتعاطف معهم في ذلك، فمعنى سلوكنا أنّنا لسنا في خطّ عهد الله. هذا الوعي لمسألة أنّ بينك وبين الله عهداً، هو من الأمور التي لا بدّ لك من أن تعيشها في كلّ حياتك الخاصّة والعامّة وفي كلّ المجالات التي تتحرّك فيها. وقد قال الله سبحانه وتعالى لليهود، لبني "إسرائيل"، عندما أرادوا منه أن يعطيهم ما وعدهم به، قال لهم: {... وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة : 40] الحفاظ على المعاهدة أمر متبادل إذ ليس معقولاً أن ألتزم بعهدي معك، وأنتَ لا تلتزم، على أيّ أساس تكون هذه العلاقة.
عندما يكون بيننا وبين الله عهد، علينا أن نوفي بعهد الله ليفي الله لنا بعهده. لقد أعطانا الله العهد أن ندخل الجنّة إذا سرنا في الطريق الحقّ، فكيف يمكن أن نطلب الجنّة ونحن نلتزم الباطل؟ {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ*الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد: 19 ـــ 20] هؤلاء جزاؤهم مغفرة من ربّهم وجنّة عرضها السماوات والأرض.
نحصد الظلم لأنّنا نزرعه
أيُّها الإنسان، إذا كنتَ خائناً بعهد الله معك وكنت تقطع ما أمرَ الله به أن يوصَل وكنت تفسد في الأرض من خلال ما تملك من قوّة مالية أو سياسية أو سلطوية فإنَّ الله جعل لك اللعنة، وسوء الدار. إذاً معناه أنّ المسألة ليست مسألة تمنّيات، ولكنّها مسألة مواقف. والله عندما أرسل رسوله إنّما أرسله من أجل أن يغيِّر العالَم، ومن أجل أن يغيِّر الإنسان؛ وجعل لمن يتحرّك في هذا الخطّ، إذا غيَّر نفسه لمصلحة الحقّ أن يسير به الله في طريق رضوانه، وفي طريق نعمته. أمّا إذا غيَّرت نفسك إلى الباطل، فإنَّ الله سيسلبك نعمته، وهذا ما عبَّر الله عنه في كتابه الكريم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال : 53] فعندما تكون نيّات الناس طيّبة وخيّرة وصالحة، وقلوبهم منفتحة على قلوب بعض ويتحرّكون من خلال الحقّ والخير والعدل، حيث لا يفكّر أحد في الاعتداء على أحد، فإنَّ الله سبحانه وتعالى سوف يفيض عليهم النعمة.
أمّا إذا تبدَّلت أفكارهم وذهنيّاتهم باتجاه الباطل والظلم وغير ذلك، فإنَّ الله سيغيّر نعمته عندما يغيّرون. ولهذا الله يصرِّح {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم : 41] الله سبحانه وتعالى يقول لك: من الطبخة التي تطبخها أطعمك، أنتَ عندما تطبخ الباطل ستأكل نتائج الباطل وعندما تطبخ طبخة الظلم فإنّك ستأكل نتائج تلك الطبخة في نفسك بعد أن تطعمها لغيرك، ولهذا مَن حَفَرَ حفرةً لأخيه أوقعه الله فيها. لهذا جعل الله سبحانه وتعالى قَدَر الناس في حياتهم من خلال ما يركّزونه في دنياهم. يمكن أن يقول بعض الناس: ليس لنا علاقة بهؤلاء المسؤولين الذين يفسدون والحكّام الذين يظلمون، لكنَّ هؤلاء يحملون أوزار هذا الموقف؛ فأنتَ عندما ترى الظلم ولا تتكلَّم بل تجامل الظالم، ترى الباطل وتسكت عنه، ترى الحقّ مهدوراً ولا تتكلَّم في الدفاع عنه؛ بهذا السلوك تصبح شريكاً للظالم {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ*كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ...} [المائدة: 78 ـــ 79] لا ينهى أحدهم أحداً عن المنكر، ففي السّاحة هناك أكثرية صامتة، الأكثرية الصامتة قد تؤاخذ بها الأقليّة الظالمة، لأنَّ تلك ظلمت وهذه سكتت، تلك طغت وهذه صفَّقت، تلك تحرّكت وهذه سكتت. وهذا ما يواجهه الناس في كلّ مكان، عندما ينتشر الظلم على جميع المستويات ويؤخذ حقّ الضعيف ولا تتحدّث الأُمّة عن ذلك.
حين تحدث هذه الأمور فإنَّ الله والحديث الشريف يقول: "لن تقدس أُمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ"(1). إنّ بمستطاع الأُمّة ممارسة مسؤوليّتها ولكن هذا يسكت ويقول لصاحبه لا علاقة لك بالموضوع، وذاك يقول له لا تتعب رأسك، وهكذا يقف الظالم بدون عقاب، ويجلس المنحرف بدون أن يخشى نقداً، فينتشر الظلم من خلال سكوت الساكتين، كما ينتشر من خلال نطق الناطقين، لأنَّ هذا سكت فخذل، وذاك نطق فعاون، وكلاهما أعان الظلم في النتيجة.
لا بدّ لنا من أن نفهم القضية على هذا الأساس، ولهذا جاء الحديث الذي يقول "كما تكونون يُوَلَّى عليكم" فإذا كان المجتمع مليئاً بالناس الذين يكذب بعضهم على بعض. الزوج يكذب على زوجته، والزوجة تكذب على زوجها، والأب يكذب على أولاده، والأُم تكذب على أولادها، والجيران يكذب بعضهم على بعض، وهكذا يكذب السيّاسيّون على الناس وبعضهم على البعض.. فإذا كان الأمر كذلك فمن أين سيأتي الحاكم؟ الحاكم تربّى في مدرسة المجتمع. الحاكم تربّى في البيت الذي يتحرّك الأب والأم فيه فيكذبان ويعملان على أن يخونا في بعض الحالات وأن يسرقا وأن يعملا حسب الفرص المتاحة. أليس هناك مَن يذهب ليسرق ويأتي إلى البيت حاملاً ما سَرَق، ويعرف أبوه أنّه سرقة وتعرف الأم ذلك ويغضَّان النظر؟ وهكذا يأخذ الولد من أبيه وأُمّه غطاءً شرعياً بالسرقة؛ كذلك يتعاطى قادة الأحزاب والمنظّمات مع عناصرهم، حين يقتلون ويسرقون أو حين يخطفون ويفسدون في الأرض، حيث يؤمِّنون لهم الحماية... وفي نهاية المطاف يسود شعور عام في المجتمع مفاده أنّ المجرم يكافأ وتتوفّر له الحماية والملجأ. وتصبح هذه المفاسد من الظواهر العامّة التي لا تلقى استنكاراً من أحد. ومن هؤلاء سينطلق حكَّام البلد، سينطلق الوزراء والرؤساء والمسؤولون على سائر المستويات منهم. فإذا كان المجتمع كاذباً فلا بدّ من أن يكون الذين يتخرّجون منه كاذبين. الله لا يأتي لنا بجماعة من المرّيخ ليحكمونا، فالله وضع للكون قوانين معيّنة ومن خلال هذه القوانين القائمة على أنّ لكلّ شيءٍ سبباً ولكلّ مقدّمة نتائج، تسير حركة المجتمع طبقاً لهذه القوانين.
إنَّ الله يقول إنّكم تأكلون ممّا تطبخون، إذا طبختم المشكلة فلن تأكلوا الحلّ؛ وإذا طبختم البلاء فلن تأكلوا العافية: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل : 112] لهذا نحتاج إلى أن نكون الصادقين بعهد الله، عندما نكون الصادقين مع أنفسنا والصادقين مع الناس من حولنا والصادقين مع ربّنا.
العالِم ومواجهة الانحرافات
وفي آيةٍ أخرى يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة : 159] ويحمِّل الله المسؤولية لكلّ إنسان يملك علماً، سواء كان عالِماً معمَّماً أو غير معمّم، لأنَّ العلم ليس بالعمامة. قد تكون العمامة على رأس يملك علماً وقد تكون على رأس فارغ من العلم. المهمّ من يعلم، من يكون عنده علم وفكر ومعرفة بالشريعة. وفي الحديث إذا ظهرت البدع، التي تعني كلّ الانحرافات الفكرية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية "إذا ظهرت البِدَع فعلى العالِم أن يُظهِرَ علمه"، لا يستطيع أن يقول أنا لا أملك الوقت للتعليم والتبليغ. إنَّ عليه أن ينطلق، ليبثّ علمه في الناس حتّى لو شُتم، عليه أن يقول كلمة الحقّ للناس حتّى لو رجمه الناس بالحجارة وشوَّهوا صورته وموقفه، لأنّك عندما تحارب البِدَع وتحارِب المبدعين والمنحرفين، فلا بدّ أن يهاجموك.
ولهذا لا بدّ للإنسان الرسالي ـــ في أيّ موقع كان ـــ دائماً أن يكون ذا "جلد سميك" أي لا يتأثّر بالسبّ والشتائم، بل أن يكون صاحب إرادة صلبة لا يؤثّر فيها شيء.. "إذا ظهرت البدع في أُمّتي فليظهر العالِم علمه وإلاّ فعليه لعنةُ الله"(1) والنبيّ استفاد من الآية القرآنية التي تقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة : 159] هناك بعض الناس يحاولون أن يحرِّفوا الكلام عن مواضعه، يتكلَّمون في الدين ولكن بطريقة منحرفة، كما هي حال اليهود الذين قال الله عنهم {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران : 77] يعني يبيعون ما يحملون من كتاب الله ويبيعون ما يحملون من ثقافة، يبيعونها لأُناس معنيين حتّى يوظِّفوها لخدمة أهوائهم وانحرافاتهم. هؤلاء يبيعون أنفسهم للظالم، يبيعون أنفسهم للمنحرف، ويبيعون أنفسهم للسلطة الغاشمة، {أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران : 77].
نطلب العدل لكلّ الناس
لا بدّ لنا إذا أردنا أن نصدق الله عهده، من أن نكون مثل أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، الذين صدقوا العهد معه ولم يبدِّلوا تبديلاً وأن نكون مثل أصحاب الحسين (عليه السلام) الذين صدقوا العهد مع الله ولم يبدِّلوا تبديلا. فذلك هو وحده جواز الدخول إلى الجنّة، إذا كنّا نريد أن ندخل الجنّة، فثمن الجنّة أن تبيع نفسك لله {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ...} [التوبة : 111] الله يشتري أموالنا وأنفسنا، وعلى هذا الأساس لا ينفصل الشأن الاجتماعي عن الشأن السياسي، فكما المطلوب منك أن تكون مع الصادقين في الحياة الاجتماعية، فلا تميل إلى عائلتك ولا إلى عشيرتك ولا إلى أيّ محور من المحاور التي تتّصل بحياتك الخاصّة، بل عليك أن تكون مع الله؛ كذلك في الشأن السياسي لا بدّ لك أن تواجه الموقف على أساس أنَّ انتماءك لأي موقع من المواقع لا بدّ من أن ينطلق من دراسة ما هي مصلحة الإسلام في هذا الانتماء، وما هي مصلحة الكفر في ذلك؟ لا بدّ من أن تعرف هل هذا الموقع يتحرّك برضى الله في قياداته وفي مسؤوليّته وفي قاعدته، أم أنّه لا يتحرّك برضى الله؟ لأنَّ المسلم مسؤول عن أن يكون قوّة للإسلام {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة : 33] أي حتّى يكون الإسلام بكلّ مفاهيمه هو الغالب على الواقع كلّه، وعلى الدين كلّه.
فلا بدّ لك ـــ في أيّة حركة تتحرّكها ـــ من أن تعرف إن كان هذا التحرّك يحقّق غلبة للإسلام على غيره أو لا يحقّق ذلك. إنَّ عليك أن تواجه القضايا من خلال ما هي مصلحة الإسلام والمسلمين، وعندما نقول مصلحة الإسلام والمسلمين، لا نريد أن نجمّد المسألة في الدائرة الخاصّة، بل نعتبر أنّ ما يصلح الإسلام والمسلمين في كلّ منطقة هو الذي يصلح الناس جميعاً، لأنَّ ما يصلح الإسلام والمسلمين هو العدل، والعدل لا بدّ أن يكون لكلّ الناس، ولهذا ليس معنى ذلك أنّك تطلب العدل لنفسك ولإخوانك من المسلمين، لتحجبه عن غيرك من الناس، بل إنَّ الله يريد للعدل أن ينتشر في كلّ حياة الناس وللحقّ أن ينتشر في كلّ حياة الناس. لهذا إذا كان موقفك وموقعك يضعفان الإسلام فأنتَ مع المشركين والكافرين الذين يكرهون دين الحقّ وأمّا إذا كنت في موقع قوّة الإسلام فأنتَ مع هؤلاء. عليكم أن تقرؤوا القرآن قراءة واعية عميقة في هذا الموضوع، كما لا بدّ أن يكون لكم الوعي السياسي الذي تفهمون فيه طبيعة الأمور وتواجهونها من خلال المنطق الإسلامي، الذي يتحرّك في خطّ العدل وفي خطّ الحريّة.
المعادلة الدولية والرئيس القادم
إنَّ الناس اليوم يعيشون البلبلة والارتباك والأوضاع القلقة ويعيشون في دوّامة لا يعرفون كيفية الخروج منها. لقد قلنا منذ البداية، إنَّ الذين صنعوا المأساة للإنسان في لبنان والذين صنعوا الفتنة في لبنان، أرادوا لهذا الإنسان، بعد أن خاض بحوراً من الدماء وبعد أنْ عاش الكثير من أوضاع التدمير وبعدما اندفع في كثير من حالات الضياع، أن يخدعوه مجدداً. إذ عندما بدأ يفكّر ماذا بعد الفتنة؟ هل بعد الفتنة نظام يقوم على أساس العدالة والحريّة وعلى أساس لا يمكن أن تحدث فيه فتنة، إلاّ في ظروف غير عادية، لكي نأمن على مستقبل أولادنا أن يعيشوا في واقع، لا مجال فيه للحروب المتحرّكة على مستوى طائفي أو مذهبي أو حزبي؟ وعندما طالب هذا الإنسان كلّ الواقع السياسي بأن يكون هناك وضوح في المسألة، حتّى يعرف الناس إلى أين يتّجهون، ماذا حدث؟ الذي حدث أنَّ الدوّامة السياسية الدولية والإقليمية والمحليّة ضخَّمت لهذا الإنسان مسألة ما يسمّونه الاستحقاق الدستوري وجعلته يتوهَّم أنّه إذا لم يحدث هذا الاستحقاق فسيسقط البلد وسيكون الانهيار، لهذا أيُّها الناس "الحقوا حالكم" تخلُّوا عن كلّ مطالبكم وعن كلّ قضاياكم وطالبوا بأن لا يكون هناك فراغ دستوري، لأنَّ الاستحقاق الدستوري في كلّ شيء في هذا البلد. ولكن أين الاستحقاق المصيري؟ نحن بلد يتحرّك في خطّ مهتزّ من جميع الجهات، حتّى بتنا لا نعرف ما مصير هذا البلد، ما موقعه السياسي من الخطوط السياسية الدولية الموجودة في المنطقة، ما مستقبله في المشكلة مع "إسرائيل"، هل تبقى لــ "إسرائيل" قوّتها في هذا البلد وتزيد أم لا؟ ما الصورة التي يكون فيها هذا البلد بلداً يمكن أن يشعر أبناؤه كلّهم أنّه لهم جميعاً، فلا يحاول فريق أن يبتزّ الفريق الآخر باسم الإخلاص للبنان كما يقولون أو أن يعمل على أساس أن يعطي للآخرين صفة الأجانب وله صفة المواطنية.. ما هي الصورة؟ قالوا لا تتحدّثوا بذلك، لماذا؟ لأنَّ لبنان لا يراد له أن يحصل على وضع سياسيّ مستقرّ يخدم أهله، بل يراد للبنان أن يتحرّك في ساحة سياسية تخدم الذين صنعوا الفتنة اللبنانية ويراد له أن تتحرّك أوضاعه السياسية وقياداته السياسية من خلال ذهنية سياسية، تعتبر أنّ الوحي الدولي(1) هو القضاء والقدر وذلك حتّى يتمّ انتخاب رئيس جمهورية، يجعل لبنان تحت رحمة المعادلات الدولية التي قد تتقاطع مع بعض المعادلات الإقليمية. يريدون رئيساً يوقّع في الغرفة السوداء أو البيضاء وبعد أن يوقِّع ويأخذ الخطوط الكبرى للسياسة الأميركية أو غير الأميركية، عند ذلك يقال للنوّاب صوِّتوا له وعند ذلك يقال إنّه المرشّح الإجماعي.
إنَّ المسألة هي أنّ الذهنية اللبنانية أصبحت ذهنية محكومة للعقلية السياسية الاستعمارية في هذا المجال.
المرشّح التوافقي
إنَّ الطبخة أُريدَ لها من الأساس أن تكون طبخة لا تنضج، لأنَّ الطبخة الحقيقيّة تتوقّف على أن يثور الجدل في الطبخة غير الناضجة، لأنَّ الطبخة كانت تحتاج إلى بهارات أميركية وبهارات أوروبية وما إلى ذلك من البهارات كي تكون مقبولة. لماذا ينطلق الحديث الآن عمّا قاله المندوب الأميركي، وما تعليق أميركا؟ إنَّ أميركا تقول: ليس لنا مرشّح ولكنّنا ضدّ المرشح التصادمي ومع المرشّح التوافقي، لكن ما معنى المرشّح التوافقي؟ هل هو الذي يتّفق عليه الجميع، والجميع على الفرد مختلفون؟ هذا له خطّ سياسي مع "إسرائيل" وذاك له خطّ سياسي ضدّها وذاك له خطّ بين ـــ بين. إذاً معنى ذلك أنّه يكون بلا لون ولا طعم ولا رائحة ومعنى ذلك أنّ الذي لا لون له ولا طعم له ولا رائحة، يمكن أن تأتي إليه ببعض البهارات من هذا الجانب، حتّى يأخذ بعض الرائحة ويمكن أن تأخذ له بعض الألوان من هنا وهناك، حتّى يصير له لون ويمكن أن تعطيه بعض العناصر المعيّنة، حتّى يكون له طعم. معنى ذلك أنّ أميركا تريد ما تريده "إسرائيل"؛ أن يكون رئيساً يمشي على أساس أنّ الجميع يصفّقون له من باب أنّه حلّ للمأزق. وعندما يجلس ويبحث عن القوّة تأتي القوّة الأميركية، لتقول له: أمامك الترتيبات الأمنية مع "إسرائيل" وأمامك الصلح مع "إسرائيل" وأمامك الوقوف سياسياً ضدّ كلّ الذين يعارضون السياسة الأميركية. لا تتعرَّض للمليشيا والجماعة التي تتعاون مع "إسرائيل" ولكن حاول أن تعمل نوعاً من الإخراج لموقعك منها. حاول أن تكون قويّاً مع كلّ هؤلاء الذين يعارضون السياسة الأميركية والسياسة الإسرائيلية، حاربهم باسم التطرّف وحاربهم باسم الإرهاب وأَلِّب الناس عليهم بحجّة أنّهم يريدون أن "يخربطوا" حياة الناس، ولاسيّما المستضعفين الذين لا يملكون عمقاً في الرؤية السياسية، لتكون السياسة الأميركية والإسرائيلية هي سياسة هذا الرئيس، وإذا أعطيت بعض الضمانات أو الامتيازات لبعض المواقع الإقليمية فإنّها تعطى على أساس ما تريده السياسة الأميركية، هذا ما تريده أميركا في المنطقة، والجميع ينتظرون أميركا، فأين الاستقلال وأين الحريّة، أين العزّة والكرامة؟ سؤال يبحث عن جواب، واللبنانيون لا يطيقون الجواب عن الأسئلة المحرجة، فإذا واجههم سؤال محرج وإذا واجهتهم الحقيقة المحرجة ولم يستطيعوا أن يقدِّموا جواباً، فالرصاص أمامك والاتّهامات أمامك والشتائم أمامك هي الجواب حيث لا جواب.
نربك الأعداء ولا نستسلم
إنّنا نواجه الكثير في تصدّينا لمختلف القضايا. لهذا نحن مسؤولون عن أنفسنا وعن مستقبل أولادنا وعن مصيرنا وعن كلّ حريّتنا وعن موقعنا من الله سبحانه وتعالى. لهذا فإنّكم مع الحسين تسمعون كلمته "لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أُقِرّ لكم إقرارَ العبيد"(1) فهل تعطون بيدكم إعطاء الذليل عندما تريد ذلك "إسرائيل" وعملاؤها؟ وهل تقرّون إقرار العبيد عندما تريد منكم أميركا ذلك؟ مَن يعبد الله لا يمكن أن يفعل ذلك ومَن يتبع رسول الله لا يمكن أن يفعل ذلك. إذا لم نستطع أن نغيِّر الواقع فعلينا على الأقلّ أن نعمل من أجل إرباك الخطط التي تريد أن تفرض علينا ما لا نريده؛ علينا أن نتابع السير، حتّى لا يشرّع لنا الآخرون ظلمنا وأن لا يشرّع الآخرون لنا ذلّنا وأن لا يشرّع الآخرون لنا عبوديّتنا، لأنَّ المجتمع الذي يسترخي أمام قوّة الأقوياء هو مجتمع سوف تسحقه أقدام الأقوياء.
لهذا، فكِّروا بوعي ودقِّقوا جيّداً في الساحة. لا تأخذوا العناوين، لكن انظروا ماذا تحت العناوين. لا تنخدعوا بالأشخاص ولكن تعرَّفوا كيف هي مواقع الأشخاص ومواقفهم؟ لا يكفي أن يكون عندنا تاريخ مشرق يرتبط به واقع حاضر، بل انظروا هل يتحرَّك هذا الواقع الحاضر في خطّ ذلك التاريخ أم ينحرف عنه؟ قد يكون للسذاجة والبساطة والطيبة بعض الإيجابيات، ولكنّها في الخطّ السياسي لا تملك أيّة إيجابية، بل تملك كلّ السلبيات. "إنَّ المؤمن لا يلدغ من جحرٍ مرّتين"(1) وقد لدغنا من كثير من المواقع أكثر من مرّة فعلينا أن نعرف طبيعة ما هناك من عقارب، وطبيعة ما هناك من جحور تختبئ فيها العقارب، وطبيعة ما هناك من غطاء يمكن أن يحجب عنّا بعض الحيّات والعقارب؟ حاولوا أن تدقِّقوا في كلّ الواقع فقد يفرض علينا الواقع أُناساً ليسوا في مستوى المسؤولية، لكنّهم يتحرّكون بفعل الظروف القلقة في حياتنا من موقع المسؤولية.
نمنع الفتنة حين نواجهها
لقد جرَّبتم الفتنة وجرّبتم مشاكلها وآلامها وسلبياتها، لا تكونوا وقوداً للفتنة، لكن افهموا أنّ منع الفتنة ليس في أن تسكت عن الجريمة، حتّى لا يثير الآخرون الفتنة ولكن أن تصرخ لتحتجَّ على الجريمة، لأنَّ الجريمة عندما تمتد في أيدي أصحابها فإنَّ معنى ذلك أن تفسح لأكثر من فتنة في المستقبل. لهذا فلنمنع الجريمة بالاحتجاج عليها وبالمطالبة بالكشف عن المجرمين، حتّى نستطيع أن نشعر بوضع مستقرّ وبأمن مستقرّ. ولهذا أُريدكم أن لا تنسوا جريمة اغتيال هذا العالِم الطيّب المجاهد الشيخ علي كريّم(2) الذي قتل من دون أيّ ذنب حتّى الذنب الشكلي، الذي قيل فيه إنّه تجاوز الحاجز. إنّني أحبّ أن أقول لكلّ الناس: لقد دقَّقت في هذه المسألة تدقيقاً شرعياً وقد استمعت إلى الشهود العيان وأثرت أكثر من سؤال وأكثر من علامة استفهام، لكن النتيجة هي أنّ هذا الرجل قُتِلَ عمداً وظلماً وعدواناً من دون أن ينطق بكلمة ومن دون أن يعترض على شيء. هذا أمر يجب أن يُفْهَم جيّداً. وحتّى نكون على وضوح كامل من الأمر نقول: إنّ بيت هذا الرجل يقع في بئر السلاسل وقد ذهب إلى خربة سلم، حتّى يقرأ الفاتحة في اليوم الثالث لأخيه. لو فرضنا أنّه تجاوز الحاجز فإلى أين سيذهب؟ إنّه سيعود إلى بيته في بئر السلاسل ومن السهولة اعتقاله كما جرى لكثير من العلماء. وفي حال لم يرجع فإنَّ بالمستطاع الذهاب إلى خربة سلم، والحواجز على طول الطرقات فإلى أين سيهرب، لماذا يُقتَل وهو شيخ؟ إنّنا لا نستطيع إلاّ أن نطلب من الناس كلّهم أن يرفعوا أصواتهم، نحن لا نريد إلاّ أن يطبَّق الحكم الشرعي بشكلٍ فاعل وسريع، حتّى لا نقع في حكايات الخطأ والتجاوزات فنقتل في كلّ يوم عالِماً بحجّة أنّه تجاوز الحاجز وبحجّة أنّه خطأ فردي، وبحجّة أنّه قضاء وقدر.
ليس من عادتي أنْ أُعَلِّق على هذه الأمور بهذه الصراحة. وكنتُ أعلم أنّ البعض سيتكلَّم بطريقة السباب والشتائم ولكنّي أشعر بخطورة هذه المسألة وأخشى أن تكرّ السبحة ويبقى الناس صامتين ويبقى الإعلام يتحدّث عن العذر هنا والخطأ هناك، ونظلّ نفقد الطيّبين على أساس الأخطاء وعلى أساس القضاء والقدر. نحن لا نريد أن نسجِّل نقطة على جهة باسم تسجيل نقاط، فليس من عادتنا ذلك، لكنّنا نريد للنّاس أن يرفعوا أصواتهم عالياً، حتّى لا تكرّر أمثال هذه القضايا من دون أن تجد حساباً ومن دون أن تجد عقاباً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
الإمام السجّاد... حركة وانطلاقة(*)
في هذه الأيام، مرَّت علينا ذكرى وفاة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في الخامس والعشرين من شهر محرَّم، ونحن بحاجة دائماً إلى أن نعيش في أجواء أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) لأنّهم كانوا يحيون حياة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فهم الأدلاّء على الإسلام المخلصون له، الذين كانت حياتهم تجسيداً للإسلام وتضحية في سبيله، وكانوا يهتدون بهدي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ويعيشون مع الناس من أجل أن يحدِّدوا لهم خطّ السير على ما أخذوه من جدّهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ويدفعون بهم إلى أن يرتفعوا إلى المستوى الأعلى الذي أراد الله للنّاس من خلال رسوله أن يرتفعوا إليه.
التشيُّع خط أصيل في الإسلام
علينا أن لا نفصل بين الأئمّة(1) (عليهم السلام) وبين خطّ رسول الله، أن لا نعتقد أنّ هناك شيئاً يُسمّى التشيُّع، وأنّ هناك شيئاً يسمّى الإسلام، ليس هناك إلاّ الإسلام، ولا شيء غيره، فإنَّ الله أرادنا أن نكون المسلمين، وأن نسمّي أنفسنا بالمسلمين بلا زيادة ولا نقيصة، حتّى ونحن نلتزم بولاية أهل البيت (عليهم السلام) فإنّنا لا نلتزم بها كشيء زائد على الإسلام، بل نلتزم بها من خلال أنّها خطّ إسلامي، لأنَّ الله أرادنا أن نلتزم بهم بقوله {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب : 33] وفي كلام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) "إنّي مخلف فيكم ما إنْ تمسَّكتم به لن تضلُّوا من بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي"(1)، "مثلُ أهل بيتي فيكم كسفينة نوح مَن رَكِبَ فيها نجا ومَنْ تخلَّف عنها غرق وهوى"(2)، فنحن مسلمون فقط، ولسنا شيئاً غير الإسلام، حتّى التشيُّع نفهمه على أساس أنّه خطّ في قلب الإسلام، وفي عمقه، وليس شيئاً خارجاً عنه. وعندما نلتزم هذا الخطّ الإسلامي، فإنّنا ننفتح على كلّ المسلمين، لأنَّ الله أرادنا أن ننفتح على كلّ المسلمين، ولأنّ أهل البيت (عليهم السلام) في ما كانوا يستلهمونه من كلام الله وسُنّة نبيّه، أرادونا أن نكون كذلك، وأنْ نتحرّك في سبيل ذلك.
إنّنا نحتاج إلى أن نعي أجواء أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، كما نحتاج إلى أن نعيش أجواء الإسلام في روحانيّته، وأجواء الإسلام في أخلاقيّته، وأجواء الإسلام في كلّ شريعته وأحكامه ومناهجه. فإذا أخذنا بهديهم وتعاليمهم ونصائحهم؛ فقد أخذنا بهدي الإسلام وتعاليمه ونصائحه.
الإسلام قاعدة ارتباطنا بالأئمّة
إنّنا نحبّ أئمّة أهل البيت ونواليهم على أساس الإسلام، حتّى إنَّ عليّ بن الحسين (عليه السلام) قال لبعض أصحابه "أَحِبُّونا حبَّ الإسلام"، لا تحبّونا كما يحبّ بعضكم بعضاً من ناحية عاطفية، ومن ناحية ذاتية، نحن نمثّل خطّ الإسلام في حياتنا فارتبطوا بنا من خلال خطّ الإسلام الذي نمثّله، ليكون ارتباطكم بنا ارتباطاً بالإسلام، وليكون حبّكم لنا حبّاً للإسلام، ولهذا ليس شيعياً مَن تَنَكَّر للإسلام، وليس شيعياً من انتمى إلى خطّ غير خطّ الإسلام، وليس شيعيّاً من انتمى إلى أعداء الإسلام، وعاون أعداء الإسلام، وليس شيعياً من انفتح في الحياة على غير خطّ الله وخطّ رسوله.
مَن يقول إنَّنا نحبّ عليّاً ونتولاَّه، ونحبّ الحسين ونتولاّه، ونحبّ الأئمّة ونتولاّهم، ثمّ نبتعد عن خطّهم وعن شرعهم وعن حلالهم وعن حرامهم؛ نشرب الخمر ونحبّ عليّ بن أبي طالب، نلعب القمار ونحبّ عليّ بن أبي طالب، نتجسَّس للأعداء ونحبّ عليّ بن أبي طالب، نقاتل المسلمين والمؤمنين لمصلحة الكافرين والمستكبرين ونحبّ عليّ بن أبي طالب. إنَّ عليّ بن أبي طالب يرفضكم ويحاربكم بسيفه، كما حارَبَ الذين رفضوا الخطّ المستقيم وهم مسلمون.
كيف نفهم التشيُّع
عليُّ بن أبي طالب قال: "ما تَرَكَ الحقّ لي صديقاً"(1)، لأنّه كان لا يُصادِق على حساب الحقّ، وإنّما كانت صداقته لحساب الحقّ، لا على حسابه. وكان ضدّ الباطل في كلّ مجالاته، كانت صداقته وعداوته على هذا الأساس. قال له عمرو بن عبد ودّ وهما في ساحة القتال والمبارزة، وكلّ منهما يريد أن يواجه الآخر، قال له "إنّي لا أحبّ أنْ أقتلك لأنَّ أباكَ كان صديقاً لي"، قال عليّ (عليه السلام): "وأنا أُحبّ أن أقتلك لأنّك عدوّ الله". ما قيمة أبي، وما قيمة كلّ الناس أمام قضية الله. إنّي أُعاديك وأُقاتلك لأنّك تقف حاجزاً بين الإسلام وبين أن ينطلق. كن صديقاً لأبي، كن صديقاً لعمّي، كن صديقاً لكلّ عشيرتي، ولكن ما دمت عدوّاً لله فأنتَ عدوّي. القصّة هي هذه.
هل نفهم التشيُّع على هذا الأساس أيُّها الإخوة، أم أنَّنا حوَّلنا التشيّع إلى حالة عاطفية عصبية ليست مفتوحة على الإسلام كلّه، وليست مفتوحة على التقوى كلّها، وليست مفتوحة على حلال الله وحرامه؟
التشيُّع خطّ في الإسلام؛ أن نحلَّ ما أحَلَّ الله، وأنْ نحرِّمَ ما حرَّم الله، هل تعتبرون الحسين (عليه السلام) شيعيّاً وهو القائل: "إنَّما خرجتُ لطلبِ الإصلاح في أُمّةِ جدّي أُريد أن آمُرَ بالمعروف وأنهى عن المنكر"(1)، والمعروف كلّ ما حمَّلنا الله مسؤوليّته، والمنكر هو كلّ ما أرادنا الله أن نبتعد عنه، تلك هي القضية؛ حبّ الله.. حبّ رسول الله.. حبّ عليّ.. حبّ الأئمّة.. حبّ الصالحين وحبّ العمل، وحبّ الخط:
تعصي الإله وأنتَ تُظْهِر حبّه هذا لَعَمْرُكَ في الفِعال بديعُ
لو كان حبّك صادقاً لأطعته إنَّ المحبّ لِمَنْ أحبَّ مُطيعُ
هذا هو الخطّ، خطّ الحبّ، الحبّ ليس العاطفة ولكن الحبّ الموقف.
أبعاد أساسية في شخصية الإمام السجَّاد (عليه السلام)
ونحن عندما نستذكر ذكرى الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فنحن نستقبل هذه الحياة المتعدّدة الأجواء، والمتعدّدة الجوانب، لأنّنا نرى هناك حياة يتحرّك فيها الإمام ليملأ الحياة الإسلامية علماً، وعندما ندرس الذين أخذوا العلم عنه فإنَّنا نرى أنّه استطاع أن يعلّم أساتذة العالَم الإسلامي آنذاك وليسوا كلّهم شيعة، ومع ذلك كان الإمام يستقبلهم ويعطيهم من علمه علماً، ومن خشيته لله خشية، ومن ورعه ورعاً، وكانوا يقولون بصوتٍ واحد: ليس هناك شخص في المسلمين أشدّ وَرَعاً وفضلاً من عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، كانوا يقولون ذلك بشكلٍ عفوي، وكانت مكانته التي انطلقت في هذا الخطّ وفي كلّ الخطوط، تعيش في قلوب الناس بشكلٍ عفوي طبيعي، كان الناس يعيشون هناك في ظلال الحكم الأموي، وكانت مصالحهم مع بني أُميّة، وكانوا يجاملونهم، ولكن كان عمق إخلاصهم ومحبّتهم للإمام زين العابدين (عليه السلام)، وهذا هو الفرق بين أن تدخل أعماق الناس من خلال استقامتك، وبين أن تدخل حياة الناس من خلال سيفك، أو من خلال سلطتك.
أنتم تسمعون دائماً تلك القصّة عندما كان هشام بن عبد الملك وهو ولي العهد للخلافة آنذاك، كان أبوه هو الحاكم، وكان يستعدُّ بعد أبيه ليحكم المسلمين، وكان الفرزدق الشاعر يمدحهم ليحصل على جوائزهم، وجاء هشام بن عبد الملك ليحجّ بيت الله الحرام، جاء ليطوف وكان المطاف مزدحماً بالناس فلم يمكّنوه من أن يطوف براحة وهو على كرسي، ثمّ أقبل رجل عليه سيماء الصالحين، ناحلاً من شدّة العبادة، جاء وليس معه حرس، وليس معه أحد، وأقبل على الطواف وحدَّق الناس به، وانفرجوا له بشكل طبيعي، واستطاع أن يطوف بكلّ راحة، وهنا تعجَّبَ مَن كان مع هشام؛ مَن هذا؟ قالوا له لقد بذلنا الجهد لكي تطوف، لم نستطع أن نفسح لك، مَن هذا الذي جاء وافسح الناس له من دون أيّة مشكلة، قال لا أعرفه. وكان الفرزدق واقفاً وقد أغضبه هذا التجاهل، قال لذلك الشامي: أنا أعرفه، أتعرف مَن هذا؟
هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأتَه والبيتُ يعرفه والحِلّ والحَرَمُ
وليس قولك من هذا بضائره العُرْبُ تعرفُ مَن أنكرْتَ والعَجَمُ
إذا رَأَتْهُ قُريشٌ قال قائلُها إلى مكارمِ هذا ينتهي الكَرَمُ
إلى آخر القصيدة
كيف كانت حياة هذا الإنسان مع الناس حتّى استطاع أن يعيش مع الناس ويحصل على هذه الهيبة التي جاء الحديث فيها "مَن أراد عِزّاً بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته"(1). هذا الإنسان العظيم كيف كان سلوكه مع الناس؟ كان يعيش مع الناس من الموقع الإسلامي البسيط، ينفتح على الناس كلّهم، يعفو عن مسيئهم، ويعطي فقيرهم، ويهدي ضالهم، ويعلم جاهلهم، ولا يمنّن أحداً بشيء. كان إذا سافر لا يسافر مع قوم يعرفونه، بل يسافر مع قوم يجهلونه، حتّى كان يكلّف بما يكلّف به كلّ أهل القافلة، ورُوي أنّه سافر سفرة مع قوم لا يعرفونه وأوكلوا إليه بعض المهمّات، واندفع إليها بكلّ إخلاص، وجاءت قافلة من طريقٍ آخر، وبدرت التفاتة من بعضهم، فشاهَدَ عليّ بن الحسين (عليه السلام) يجمع الحطب، فجاء إلى أصحاب القافلة الذين كان الإمام معهم، وقال لهم أتعرفون مَن هذا؟ قالوا رجل من أهل المدينة لا نعرفه. قال لهم هذا عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، وكانوا قد سمعوا عنه ولم يعرفوا شخصيّته جاؤوا يهرعون إليه. قالوا له يا بن رسول الله هل تريد أن تصلينا نار جهنّم، ربّما بدرت من بعضنا إليك بادرة من يد أو من لسان، فأسأنا إليك من حيث لا نعرف، لماذا لم تعرِّفنا بنفسك؟ قال لهم: "أكره أن آخذ برسول الله ما لا أُعطي مثله"(1) صحيح أنّي ابن رسول الله، ابن بنت رسول الله، ولكن، إنّي أحبّ أن أنظر إلى النسب لا على أساس أنّه يحقّق لي امتيازاً، بل على أساس أنّه يحمّلني مسؤولية، وإذا كان الناس يعطونني باسم رسول الله من خلال قرابتي تكريماً واحتراماً وتعظيماً وغير ذلك، فلا بدّ من أن أقدِّم إلى الناس من نفسي شيئاً في مستوى ما يعطيني الناس في مستوى انتسابي لرسول الله. إذا كنتُ أنتسب إلى رسول الله، فقد كان رسول الله داعية لدين الله، وكان يخدم الناس، وكان يحقّق للنّاس ما يستطيع أن يحقّقه. إنّي أُريد أن أعيش مع الناس لأعطيهم من جهدي ما يكون في مستوى ما يعطيني الناس من تكريم. تلك كانت أخلاقه العملية.. فأين هو الفرق بيننا وبينه، الفرق بيننا في ما نحصل عليه من امتيازات. بعضنا إذا انتسب إلى رسول الله وحمل شجرة النسب بيديه، أراد للنّاس أن يحملوه على ظهورهم، أن يقدِّروه، أن يحترموه، أن يكون البطَّال وهم يشتغلون له، أن يكون المنحرف وهم يستقيمون.
العمل والنسب في ميزان الدين
المسألة أنّ رسول الله لم يبعثه الله ليحمل أقاربه على ظهور الناس وعلى أعناقهم. "إنَّ ولي محمّد مَن أطاع الله وإنْ بَعُدَتْ لحمته، وإنّ عدوّ محمّد مَن عَصَى الله وإن قربت قرابته"(2) المسألة هي هذه. قال له أحد أصحابه وقد رآه ساجداً يبكي في الكعبة، وهو يقول سيّدي "عبدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك" ويبكي بين يديّ الله من خشية الله ويقول "ويلي إذا قيل للمخفين جوزوا، وللمثقلين حطوا، أمَعَ المستخفين أجوز أم مع المثقلين أحط، ويلي كلّما كَبُرَ عمري كثرت خطاياي، أَمَا آنَ لي أن أستحي من ربّي" وتنهمر دموعه، ويقول له أحدهم سيّدي جدّك رسول الله، جدّك عليّ بن أبي طالب، جدّتك الزهراء، عمّك الحسن، أبوك الحسين، ماذا نقول نحن؟ إذا كنتَ أنت تقول ذلك، تبكي وتعيش هذه الحالة الصعبة في بكائك ـــ وهذا موجَّه لكلّ الذين يعلون بنسبهم وبعشائرهم ـــ "دع عنك ذكر أبي وأُمّي وجدّي، خَلَقَ الله الجنّة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً"(1) هذا هو الخطّ.
في يوم القيامة ليس هناك أنساب {... فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون : 101] ليس هناك نَسَب، هناك عمل. إنَّ الله لم يقل قدّروا أنسابكم ولكنّه قال {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة : 105]. وروي عن رسول الله أنّه قال: "أيُّها الناس، لا يتمنّ متمنٍّ لي، ولا يدَّع مدَّع، أمّا إنّه ليس بين الله وبين أحد من خلق شيء يعطيه به خيراً، أو يدفع به عنه شرّاً، إلاّ العمل، ولو عصيت لهويت"(2). هذا هو الخطّ، قال الله لرسوله {... لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر : 65]، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ*فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 ـــ 47] رسول الله يقول له الله ذلك، وأنتَ الذي تتنسب إلى رسول الله، تعصي وتخون وتعمل ما تعمل، وتريد أن يجعلك الله في دار قدسه، لقد أنزل الله في أبي لهب عمّ رسول الله سورة، وقال رسول الله "سلمان منّا أهل البيت"(3).
نماذج من أخلاق السجّاد (عليه السلام)
هذا هو الخطّ الذي أراد الإمام زين العابدين (عليه السلام) أن يؤكّده، كانت أخلاقه العملية أخلاق المسلم الذي يريد أن يعطي الناس درساً بعمله، قبل أن يعطيهم درساً بكلامه. كان يتعرَّض لكثير من الحالات الصعبة التي قد لا يتحمّلها الكثيرون منّا، كأن يشتم من قبل بعض أرحامه وعلى ملأ من الناس. مرَّ عليه شخص من أقاربه وشتمه وذهب، وهو جالس بين أصحابه، فَوَثَبَ القوم ليضربوه فأومأ إليهم ثمّ قال ما مضمونه، اذهبوا بنا لنصفّي حساباتنا مع فلان، فظنُّوا أنّه يأخذهم حتّى يستعين بهم عليه، سار وساروا خلفه، وكان يقرأ قول الله {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران : 134] كان يريد أن يعطيهم درساً في كيفيّة كظم غيظهم، والعفو عن الناس، وكان يريد أن يعطي للمعتدي درساً آخر، كيف يكون عباد الله وأولياؤه في المستوى الأعلى الذي يرتفعون فيه عن أحقادهم، وعن غيظهم، فَطَرَقَ الباب، خَرَجَ الرجل الذي سبَّه وهو متوثّب للشرّ، قال له على مهلك، إنّك قلتَ فيَّ كلاماً، فإنْ كان ما قلته فيّ، فأسأل الله أن يغفر لي، وإنْ كان ما قلته ليس فيَّ فأسأل الله أن يغفر لك؛ فقط أُريد أن أحكي لكَ هذا وأنا ماضٍ، فالتفت هذا الرجل وقد فوجئ لأنّه عرف أنّ الإمام لا يتكلّم من موقع ضعف، وإنّما يتكلّم من موقع قوّة، لأنّه كان قادراً أن يقول لأصحابه ألحقوا الأذى له. عند ذلك قال هذا الرجل: "الله أعلم حيث يجعل رسالته"(1) ما قلته ليس فيك، ولكن أسأل الله أن يغفر لي. وهكذا كان يعيش هذا المستوى من الأخلاق.
ما هي مشاعر عليّ بن الحسين سلام الله عليه مع بني أُميّة؟ كيف تتصوَّرونه؟ هل يمكن أن يكون في قلبه ذرّة من أيّ تعاطف نحوهم. أنتم ونحن وكلّ الناس، لو أنَّ شخصاً قتل أخاك أو ولدك أو قريبك خطأ، وأنتَ تعرف أنّه خطأ، تقول: "لا تفرجوني" عليه، لا أُطيق أن أراه، صحيح أنّ الرجل ليس مذنباً لكن لا أُطيق أن أراه. هكذا نتصرّف، إذاً كيف بنا بهذا الإنسان الذي وَجَدَ أباه وإخوته وأعمامه وأبناء عمومته وأصحاب أبيه مجزّرين كالأضاحي في رمضاء كربلاء، وقد قطِّعت رؤوسهم، وقد سبي ورُبِّط بالحبال على الناقة، وكانت معه أخواته وعمّاته وكلّ نساء أبيه من كربلاء إلى الكوفة، ومن الكوفة إلى الشام. كيف تكون مشاعره؟
لاحظوا بعد وقعة كربلاء ثارت المدينة على يزيد، وأعلنت الثورة والعصيان المدني، وكان مروان بن الحكم في ما تقول السيرة الحسينيّة، من الأشخاص الذين لهم عائلة تقدَّر بأربعمئة شخص من أولاده وأحفاده ونسائه وما إلى ذلك، عرض نفسه على كثير من وجوه أهل المدينة عبد الله بن عمر وغيره على أن يجيروا عائلته، لأنَّ المدينة كلّها ثارت عليه وعلى جماعته. وفي هذا الجوّ يهاجم الثوّار بدون وعي؛ يضربون ويقتلون لاسيّما إذا كانت هذه الجماعة قد ارتكبت أعمالاً سيّئة. عَرَضَ نفسه على وجوه أهل المدينة فلم يقبل أحد أن يجيره، وجاء إلى عليّ بن الحسين (عليه السلام) وذكر له حاله فقال له "ضع عيالك إلى عيالي". وكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يطعمهم ممّا يطعم به أهله ويسقيهم، حتّى إِنّ إحدى بنات مروان قالت في ما يروى، لم أجد هناك من الرعاية عند أبي لمّا كنت معه، كما وجدت عند عليّ بن الحسين (عليه السلام)، هذا ومروان بن الحكم هو الذي قال لوالي المدينة عندما دعا الإمام الحسين (عليه السلام) للبيعة، وقال الحسين له نرى وترون، قال: "خذ منه البيعة وإلا اقتله" أنظر كيف تصرَّف الإمام زين العابدين (عليه السلام) لقد تصرَّف مثلما قال الشاعر:
مَلَكْنا فكان العفوُ مِنّا سجيّةً فلمّا مَلَكْتُمْ سالَ بالدّم أبطحُ
وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالما غَدَوْنا عن الأسرى نكفّ ونصفحُ
فحسبُكمُ هذا التفاوتُ بينَنَا وكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ
وكان هناك أحد ولاة المدينة من قبل بني أُميّة، يسيء إلى عليّ بن الحسين (عليه السلام) إساءة بالغة وإلى كلّ أهله، حقداً منه وعداوة. دارت الأيام وعُزِلَ هذا الوالي، وأمر الوالي الذي جاء بعده، أن يقف ويعرض أمام الناس، وجَمَعَ عليّ بن الحسين (عليه السلام) أهل بيته وقال لهم: "لا يعرض لهذا الرجل أحد منكم بسوء" قالوا كيف وقد فعل بنا ما فعل قال: نكله إلى الله" أصبح الرجل ضعيفاً وعلينا أن لا نستغلّ ضعفه لنثأر منه. علينا أن نكون أكبر منه، وأفضل منه، سنعفو عند المقدرة، وعندما مرَّ عليه عليّ بن الحسين (عليه السلام) سلَّم عليه، وذاك الرجل ـــ في ما يروى ـــ قال: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".
بين العفو وَرَدّ العدوان
هذا الجوّ الذي كان يعيشه الإمام زين العابدين سلام الله عليه، نحتاج إلى أن نستهديه، وأن نستوحي منه الكثير، أن نرتفع عن مستوى الحقد، وعن مستوى البغضاء، وعن مستوى العداوة المقيتة في أنفسنا. لقد جعل الله لنا الحقّ في أن نأخذ مَنْ ظَلَمَنا بظلمه، وأن نردّ العدوان بمثله. ولكنَّ الله فضَّل لنا العفو عندما لا يكون العفو ضرراً على الأُمّة، وفضَّل لنا أن نعطي الناس قدرة في حُسن الخُلق وقدوة في القلب الكبير والصدر الواسع. وطالما حدَّثنا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) تلميذ القرآن الذي تربَّى على القرآن، منذ أن نزل القرآن، وتربّى على القرآن في كلّ حياته، وأراد أن يربّي الناس على القرآن، لقد سمع قول الله {... وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة : 237] وأراد أن يجعل هناك بعض الوسائل التي تعلِّم الإنسان كيف يتفادى المشكلة، فقال في بعض كلماته: "احصدِ الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"(1). إذا أردت أن تقلع الشرّ من صدر غيرك، فحاول أن تفكِّر أنتَ بالشرّ فإذا استطعت أن تحصد الشرّ من صدرك، وتكون صاحب الصدر الواسع، "وآلة الرئاسة سعة الصدر"؛ عند ذلك يمكن لك أن تقلع الشرّ من غيرك، لأنّك قد تحاول أن تبحث عن الوسائل التي تحوِّل عدوّك إلى صديق، بدلاً من أن تزيد في عداوته {وَلَئِن صَبَرْتُمْ} الله يعرف أنّ هذا صعب، صعب أن تكظم غيظك في الوقت الذي يكون الغيظ يحرق صدرك، ويحرق أعصابك، ولاسيّما في كثير من القضايا التي تجد فيها نفسك مظلوماً كلّ الظلامة، الله يقول: {... وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل : 126] لكم الحقّ في العقاب، ولكن إذا صبرتم وركّزتم الفكرة في كيف تحلُّون المشكلة، وكيف تتفادون المشكلة، فإنَّ ذلك خير.
هكذا أراد الإمام زين العابدين سلام الله عليه، أن يعلِّمنا أنّ الإنسان الذي يحمل رسالة الله في عقله وفي قلبه، هو الإنسان الذي لا بدّ أن يكون عقله كبيراً، وصدره واسعاً، وحياته ساحة مفتوحة لكلّ مَن يريد أن يتراجع عن خطئه. القصّة تحتاج إلى صبر وتحتاج إلى أن ينطلق الإنسان لينظر في ثواب الله أكثر ممّا ينظر في الغيظ الذي يريد أن ينفّسه، هكذا كما ورد في حديث الإمام عليّ (عليه السلام): "من أحبّ الأشياء إليَّ جرعتان: جرعة غيظ أردّها بحلم ــــ أشرب الغيظ، ويمتلأ صدري بالغيظ، وأريد أن أُنَفِّس هذا الغيظ فأردّه بالحلم ــــ وجرعة حزن أو بلاء أردّها بصبر"(1). عندما يأتيني الحزن أو البلاء أجزع، وأكاد أسقط، لكنّي أتماسك أقول لا بأس، أشرب كلّ هذا الحزن، أشرب كلّ هذا البلاء، يكون ردّ الفعل أنّي أصبر عليه حتّى لا أسقط، هذا كلام قد يكون سهلاً في الحديث ولكنّه صعب في التنفيذ لكنَّ الحلّ في هذه الأمور هو أن نربّي أنفسنا على أن نعتبر ثواب الله مهمّاً عندنا، ولكن يبدو أنّنا في تربيتنا غير المنظّمة، وغير المركّزة، لا يمثّل ثواب الله عندنا شيئاً حقيقياً.
المؤمن بين حساب الله وحساب الناس
لو جاءك إنسان، وقال لك اصبر على ما أساء به إليك فلان ولك ألف دولار. إنّك عند ذلك تأخذه بالأحضان، لكنّ الله يقول: {... إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر : 10]، "شكّ مفتوح" هذا الشيء نختبر فيه أنفسنا، لو جاءك شخص وقال لك حلّ لنا المشكلة على حساب الله، أو جاءك شخص وقال لك، حلّ لنا المشكلة على حساب فلان، وفلان شخص عظيم خطير، من تُقدم إذا كنت في عفويّتك، هل تقدم حساب الله، أم حساب الناس، إنَّنا نفضِّل الناس على الله لأنّ حساب الله دَيْن ولا أحد يُدَيّن في هذه الأيام، وحساب الناس نقدي والناس يتعاملون بالنقدي ولا يتعاملون بالدين.
حبّ الله هو الأساس
كلّما استطعنا أن يكون اهتمامنا بالآخرة أكثر، ونشعر بالحاجة إلى ثواب الله بمقدار ما نشعر بالحاجة إلى الله، نستطيع عند ذلك أن نندفع في طريق الخير. الإمام عليّ (عليه السلام) في آخر وصيّته قال: "قولا بالحقّ واعملا للآخرة"(2)، اعمل على أساس أنّ الله يعطيك أجر عملك. هذا الجوّ الذي نحتاج أن نعيشه جيّداً حتّى نستطيع أن نتقرَّب إلى الله أكثر، وأن نعيش مع الله أكثر.
لا بدّ للعمل الإسلامي من أن ينطلق من عمق هذه الروحية، قد يكون عندك الفكر الإسلامي المبدع الأعلى العالي... قد تصلّي وتصوم وتحجّ، لكن لا يوجد عند نبع روحانية يرجعك إلى قلبك، تراه جافاً، روحيّتك جافّة، نفسك قاسية {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء...} [البقرة : 74] هذه القسوة لا تعطينا إسلاماً، الإسلام بقدر ما نحبّ الله أكثر، بقدر ما نخشى الله أكثر {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ...} [البقرة : 165] أحبَّ الله، صادِق الله، اعمل علاقة مع الله، تستغنِ بالله عن كلّ شيء.
هذه درجة عظيمة، وهذه بلغها الإمام سلام الله عليه والأئمّة (عليهم السلام) قال له: "كيف تُعَذِّبني وحبُّك في قلبي"، ونتعلَّم من أمير المؤمنين "هبني صبرتُ على حرِّ نارِك فكيف اصبر عن النظر إلى كرامتك". هذه الروح التي يعيشها الإنسان بين يديّ الله، هذه المحبّة، محبّة متبادلة. عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قيمته هذه، "لَأُعْطِيَنَّ الرايةَ غداً رجلاً يحبّ الله ورسولَه ويحبّه الله ورسولُه"(1) محبّة متبادلة بيننا وبين الله سبحانه وتعالى. لماذا نهرب من الله؟ لماذا نبتعد عن زين العابدين سلام الله عليه؟ تصوَّر هذه الأدعية العظيمة التي دائماً تقرؤونها: "مِن أينَ لِيَ الخير يا ربّ ولا يوجد إلاَّ من عندك، ومن أين لِيَ النَّجاة ولا تُسْتَطاعُ إلاّ بك، لا الذي أحسن استغنى عن عونك ورحمتك، ولا الذي أساءَ واجْتَرَأَ عليك ولم يرضِك خَرجَ عن قدرتك".
لاحظوا كيف هي محبّة عليّ بن الحسين (عليه السلام)، نحن الآن بحسب وضعنا، إذا ابتلانا الله في مسألة بسيطة نبدأ بالكلمات غير المسؤولة تجاه الله: ماذا أخطأنا، ماذا فعلنا حتّى يفعل الله بنا ذلك؟ ونحن نصلّي ونصوم نقول هكذا أم لا؟ قد نفكّر بالله إذا فَقَدَ أحدنا ابنه، أو فَقَدَ عزيزاً عليه، انظروا إلى عليّ بن الحسين ماذا يقول: "إلهي لو قرنتني بالأصفاد ومنعتني سيبك من بين الأشهاد ودَلَلْتَ على فضائحي عيون العباد وأَمَرْتَ بي إلى النار وحُلْتَ بيني وبين الأبرار ما قطعتُ رجائي منك ولا صرفتُ وجه تأميلي للعفو عنك ولا خَرَجَ حبّك من قلبي. أنا لا أنسى أياديك عندي وسترك عليَّ في دار الدُّنيا" ثمّ بعد ذلك "سيّدي أَخْرِجْ حبَّ الدنيا من قلبي واجمعْ بيني وبين المصطفى وآله خيرتك من خلقك وانقُلْنِي إلى درجة التوبة عندَك وأعِنِّي بالبكاء على نفسي فقد أفنيتُ بالتسويفِ والآمالِ عمري، وقد نزلْتُ منزلةَ الآيسين من خيري، فَمَن يكونُ أسوأ حالاً منّي إنْ أنا نُقِلْتُ على مثلِ حالي إلى قبرٍ لم أُمَهِّدْه لِرَقْدَتي ولم أفرشه بالعمل الصالح لضجعتي، فما لي لا أبكي ولا أدري إلى ما يكون إليه مصيري وأرى نفسي تُخادِعُني وأيّامي تُخاتِلُني وقد خَفَقَتْ عندَ رأسي أجنحة الموت، فما لي لا أبكي، أبكي لخروجِ نفسي أبكي لِظُلْمَةِ قبري، أبكي لِضِيْقِ لَحْدي، أبكي لسؤالِ مُنْكَرٍ ونكيرٍ إيَّاي، أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً، حامِلاً ثقلي على ظهري، أَنْظُرُ مرّةً عن يميني وأخرى عن شمالي إذ الخلائقُ في شأنٍ غير شأني، لِكُلِّ امرئ يومئذٍ شأنٌ يُغنيه، وجوهٌ يومئذٍ مُسْفِرة ضاحكة مستبشرة، ووجوهٌ يومئذٍ عليها غَبَرَة تَرْهَقُها قَتَرَةٌ وذلّة".
هكذا تحدَّث الإمام مع الله سبحانه وتعالى، وعندما يطلب من الله: "اللّهم إنّي أسألك أن تملأَ قلبي حبّاً لك وخشيةً منك وتصديقاً بكتابك وإيماناً بك وفَرَقاً منك وشوقاً إليك، يا ذا الجلال والإكرام، حَبِّب إليَّ لقاءك وأَحْبِب لقائي"، اجعلني أخبّ لقائك واجعلني ممّن تحبّ لقاءه لأنّك رضيت عنه "وأعِنِّي على نفسي بما تُعينُ بهِ الصالحين على أنفسهم".
تعامل السجّاد (عليه السلام) مع الخدم
هكذا كان يتحرّك الإمام في حياته. وفي زمانه سلام الله عليه كان موجوداً في ذلك الوقت عبيد وإماء، وذلك قبل الانتهاء من تحرير العبيد والإماء الذين أطلقهم الإسلام، كان الإمام هو محرّر العبيد، كان يشتري العبيد، يربّيهم تربية جيّدة، ثم لاحظوا كيف كان سلوكه معهم، ومتّى يعتقهم. لاحظوا ودقِّقوا حتّى تروا روعة الخشية من الله لدى الإمام وكيف يربّي الناس على أن يفكِّروا. الآن لو فرضنا أنّ عندك عبيداً، وأنتَ رجل غني كبير، خطير، وعندك عمَّال، قد تتحدّث مع عمّالك بدرجة متساوية، أو تعطي هيبتك، وتتكلَّم من فوق، لاحظوا أسلوب التربية عند الإمام زين العابدين (عليه السلام)، كان لا يضرب عبداً ولا أَمَة، وكان إذا أذنب العبد، أو أذنبت الأَمَة لم يعاقبهما. عادةً الخادم يقصّر بالخدمة، يعصي، يتمرّد، يكذب، فكان لا يعاقب أحداً ممّن أذنب أو أخطأ حتّى إذا كانت آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ثمّ أظهر الكتاب، ثم قال: يا فلان، فعلت كذا وكذا ولم أُؤدّبك أتذكر ذلك، فيقول له يا بن رسول الله أذكر ذلك، حتّى إذا أتى على آخرهم وقرَّرهم جميعاً وعرف كلّ واحدٍ ماذا أذنب وماذا عمل وماذا أخطأ، واعترفوا جميعاً بأخطائهم قام في وسطهم قائلاً: "ارفعوا أصواتكم ردُّوا عليَّ"، إذا كان لدى أحد خدم أو عمّال أو موظّفون وأذنب أحدهم أو بعضهم فإنّه قد يعفو عنهم ولكن بطريقة فوقية، ولكنَّ الإمام يتصرّف عكس ذلك، إنّه يخلق جواً تربوياً، يربّيهم، ويظهر لله تواضعه، ويقول لهم: قولوا يا عليّ بن الحسين إنَّ ربَّك قد أحصى عليك كلّ ما عملت، كما أحصيت علينا كلّ ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحقّ، ليس فقط أنتَ تحصي أعمالنا، فالله يحصي عملك، {... مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف : 49] وتجد كلّ ما عملت، يعلّمهم كيف يقولون: "كما وجدنا كلّ ما عملنا لديك حاضراً، فاعفُ، قولوا لي هكذا: اعفُ واصفحْ يعفُ عنك المليك ويصفح فإنّه يقول: {... وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور : 22] وهو ينادي بذلك على أنفسهم، فيعلّمهم ماذا يقولون، ويلقّنهم وينادون معه وهو واقف بينهم يبكي ويقول: "ربّنا إنّك أمرتنا أن نعفو عمَّن ظلمنا وقد عفونا عمَّن ظلمنا كما أمرت فاعفُ عنّا فإنّك أوْلى بذلك منّا ومن المأمورين، إلهي كرمت فأكرمني إذا كنت من سؤالك وجدت بالمعروف اخلطني بأهل نوالك يا كريم" ثمّ يقبل عليهم ويقول قد عفوت عنكم فهل عفوتم عنّي، ما كان منّي إليكم فإنّي مليك سوء مالك سوء لئيم ظالم مملوك لمليكٍ كريم جواد محسن متفضّل، فيقولون قد عفونا عنك يا سيّدنا وما أسأت يعني: نقول عفونا عنك لكن أنتَ لم تسئ إلينا، فيقول قولوا: اللّهم اعفُ عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) كما عفا عنّا واعتقه من النار كما أعتق رقابنا فيقولون ذلك، فيقول اللّهم آمين ربّ العالمين، اذهبوا فقد عفوتُ عنكم وأعتقت رقابكم رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي.
فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عمّا في أيدي الناس، هذه علامة أهل البيت (عليهم السلام) وهذه علامة عليّ بن الحسين (عليه السلام): هذه الدرجة العالية التي يجمع فيها بين إحسانه لهؤلاء، وتحريرهم من الرّق، وتربيتهم وكفّ ماء وجوههم عن الناس والانفتاح بهم على الله سبحانه وتعالى. لهذا نحبّ أهل البيت، لأنّهم بلغوا القمّة في الأخلاق والتقرُّب إلى الله، ونحن نحتاج دائماً أن ننطلق حتّى نستطيع أن نصل إلى بعض هذا المستوى، لأنَّ من الصعب أن نصل إليه كلّه.
يذكر التاريخ أنّ عبد الملك بن مروان وكان خليفة، بلغه أنّ عند عليّ بن الحسين (عليه السلام) سيفاً لرسول الله، فاستوهبه منه، فأبى عليه، فبعث إليه يهدّده وأنّه يقطع رزقه من بيت المال ـــ وبيت المال كان لكلّ المسلمين ـــ فكيف أجابه عليّ بن الحسين (عليه السلام) قال له: إنَّ الله أَمَّن للمتقين المخرَج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جلَّ ذكره {... إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج : 38] فانظر أيّنا أَوْلى بهذه الآية، قالها له من موقع قوّة ومن موقع الإنسان الذي يقول له مَنْ أنت حتّى تهدِّدني بقطع رزقي والله قال: {... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ...} [الطلاق: 2 ـــ 3] وهكذا قال له شخص من الناس إنّي أحبّك حبّاً شديداً في الله، نكّس رأسه، نحن عادة إذا أتى أحد ليمدحنا ننتفخ، وقد نقول بيننا وبين نفسنا "قصّر، لازم يحكي أكثر في بعض الحالات"، قال له: إنّي أحبّك حبّاً شديداً في الله فنكَّس رأسه وقال وهو يتّجه إلى الله، اللّهم إنّي أعوذ بك أن أحبّ فيك وأنت لي مُبغض. تتقرَّب لي بالله، وأخاف يا ربّي أن تكون أنتَ مبغضاً لي، والناس يحبّونني على حسابك، ثمّ قال للرجل إنّي أحبّك في الذي تحبّني فيه، إذا كنتَ تحبّني في الله لا للطمع، فأنا أحبّك في الله أيضاً، لا لشيءٍ آخر. هذه الدرجة العالية أن تحبّ في الله وأن تبغض في الله، أن لا يكون حبّك طمعاً بل يكون حبّك على أساس أخوة الإيمان، وعلى أساس مشاعر الإيمان. ثمّ للإمام كلمة نحتاجها أيضاً، روى عنه بعض الناس أنّه قال وهو يتحدّث عن العصبية "مَن تعصّب أو تعصّب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه"(1) والعصبية التي يأثم عليها صاحبها "أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين"(2).
الإصلاح في حركة الدعوة(*)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: بسم الله الرحمن الرحيم {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء : 114].
الإنسان بين حريّة الاختيار والمسؤولية
هذه الآية تريد أن تؤكّد للإنسان كيف يكون إنساناً منفتحاً على الناس من حوله، على أساس أن يكون العنصر الخيِّر الذي إذا فكَّر في خير الناس، وإذا تكلَّم سرّاً أو علناً مع الذين يدير معهم القضايا فإنّه يتكلّم بخير الناس، على أساس أنَّ الله أراد للإنسان في الحياة عندما خلقه، أن يستخدم طاقاته التي أنعم بها عليه في طريق الخير لا في طريق الشرّ، كأنَّ الله يريد أن يقول لكلِّ واحدٍ من عباده إنّ طاقاتكم لم تصنعوها أنتم، أنتَ لم تصنع عقلك، لم تصنع سمعك وبصرك، أنا الذي صنعتُ لك كلّ شيء وأنا ربّك الذي خلقتك ولقد أعطيتك هذه الطاقات التي من الممكن أن تحرِّكها للخير ويمكن أن تحرّكها للشرّ. ولكنّي عندما أعطيك حريّة الإرادة، أردتك أن تتحسَّس مسؤوليّتك أمامي أنا ربّك، لتتحسَّس مسؤوليّتك أمام الحياة وأمام الناس. أُريدُ منك أن توجِّه إرادتك في طريق الخير، وعلى هذا الأساس فإنّي عندما منحتك حريّة الحركة، لم أمنحك حريّة أن تختار الشرّ وأنت تقدر على الخير، فإذا فعلت ذلك فإنّني سأُعاقبك. وإذا حرَّكت الخير في حياتك، وإذا عشت حياتك وأنت تحرِّك فكرك للتخطيط للخير، وأنتَ تطلق لسانك، ليتكلَّم بكلمة خير وأن تحرِّك يديك ورجليك وتسمع بأُذنيك وترى بعينيك، لتجعل ذلك كلّه في خدمة الخير، إذا فعلت ذلك من أجل أن تحصل على مرضاتي؛ فسوف أؤتيك أجراً عظيماً.
عليك أن تفكِّر وأنتَ الآن في الدنيا؛ الله يقول لنا ذلك، فكِّر يا عبد الله وأنتَ تملك في الحياة حريّة الحركة، فالله لم يقيّد يديك حتّى لو فعلت بهما الشرّ، ولم يقيّد رجليك، ولم يطفئ النور في عينيك، ولم يعطّل السمع في أذنيك، ولم يجمّد التفكير في عقلك، ولم يمنعك من النطق بلسانك، لم يفعل ذلك ربّك، لكنّه قال: يا عبد الله، اختر بين أمرين؛ بين أن تُقْبِل إلى الله وأنتَ تحمل الشرّ على ظهرك لتواجه العقوبة في ناره، أو أن تحمل الخير في قلبك وعقلك ولسانك وسمعك وبصرك ويديك ورجليك، ليقول لك الله: مرحباً بعبدي الذي عاش حياته من أجل أن يحصل على رضاي، وتألَّم وتعذَّب وحارَبَ شهوات نفسه، وحارَبَ الذين يريدون أن يضلّوه وابتعد عنهم. مرحباً بعبدي الذي أطاعني سأدخله جنّتي {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً*فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ـــ 30].
احبس نفسك عن الشرّ
هل تحبّ هذا النداء؟ هذا النداء يحمّلك مسؤولية. فإذا أردت وأنتَ تغمض عينيك للمرة الأخيرة أن يقول ربّك لنفسك {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي} فلا بدّ أن تتعب، ولا بدّ أن تجاهد نفسك، ولا بدّ أن تتلمَّس مواقع الخير في نفسك. أغلق سمعك عن كلمة شرّ، أغلق عينيك عن كلّ موقع شرّ يراد لك أن تسير فيه، أغلق عقلك عن أن يخطِّط للشرّ، احبس يديك عن أن تستعمل بهما الشرّ، احبس رجليك عن أن تسير بهما إلى مواقع الشرّ، ما رأيك في ذلك؟ هل تحبّ هذا النداء، أم تحبّ النداء الآخر؟ {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ*ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ*ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ*إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ*وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ*فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ*وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ*لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ} [الحاقة: 30 ـــ 37]. فكِّر قبل أن لا تستطيع أن تفكِّر، وأحكم سفينتك في هذه الأمواج، أمواج الشرّ والضلال التي تتقاذفك ذات اليمين وذات الشمال، فكِّر أن تحكم سفينتك قبل أن تغرقك الأمواج، وأنتَ تقول لنفسك ستركب الأمواج. إنَّ الذين يركبون الأمواج إذا لم يكن ركوبهم لها من موقع ثابت فستقلبهم الأمواج، وتتقاذفهم إلى عمق البحر.
عمى القلب أخطر من عمى العين
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} [النساء : 114] كثير من أحاديثهم، التفتوا وأنتم تسمعون الآية، تذكَّروا أحاديثكم في السهرات، وتذكّروا أحاديثكم في اجتماعاتكم الحزبية والحركية والعائلية والبلدية والطائفية وما إلى ذلك، كيف تتحدَّثون؟ ما موضوعات حديثكم؟ ماذا تريدون؟ قد يتحدّث بعض الناس: كيف نقتل بريئاً وكيف نخطف بريئاً أو نسجنه أو نعذّبه أو نأخذ مال هذا بغير حقّ أو نعتدي على عرض هذا. وقد يفكّر الناس بذلك عندما يجتمعون بشكلٍ سرّي والله يحيط بهم ويقول إنَّ أغلب نجواكم، والنجوى عبارة عن الحديث السرّي الذي لا يعرف أحد مضمونه {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} لأنَّ كثيراً من نجواهم تتركَّز على إفساد حياة الناس وإيذائهم وتعطيل مصالحهم وإلقاء الفتنة بينهم، وإثارة الإشاعات الكاذبة والاتّهامات الباطلة التي تثير المشاعر وتوتّر الأعصاب، أو تحرِّك الأنانيات الشخصية أو الأنانيات العائلية أو الأنانيات الحزبية والسياسية أو كلّ ما يثقل حياة الناس.. الله يقول لا خير فيها. وإنْ لم يكن فيها خير فمعنى ذلك أنّكم أضعتم حياتكم سدىً في ما تحدّثتم به، وستواجهون المسؤولية عمّا أضعتم حياتكم فيه. سيقول الله لكم: لقد كان لكم فرصة أن تصنعوا الخير، فلماذا أطعتم غرائزكم وأطعتم كبراءكم والمستكبرين منكم والطّاغين والكافرين والظالمين؛ لماذا أطعتموهم في معصيتي؟ وتقول {... رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ...} [المؤمنون: 99 ـــ 100]، يا ربّ كنتُ غارقاً في الجوّ العائلي والعصبية العائلية فأغشت عيني عن الحقيقة. يا ربّ كنتُ غارقاً في الجوّ الحزبي والعصبية الحزبية فأغلقت عقلي عن الرؤية الواضحة، كنتُ غارقاً في أجواء العصبيّات الطائفية وغير الطائفية فأفقدتني رؤية الأشياء بطريقة واقعية، وها أنا عرفت ذلك، الآن انكشف عنّي الغطاء كما قلت في كتابك عندما تحدّثت {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ*وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ*وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ*وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ*لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 18 ـــ 22] الآن ترى جيّداً... في البداية أغشت العصبيّات عينيك وقلبك، لأنَّ للإنسان عينين في قلبه، يرى فيهما الأشياء المعنوية كما له عينان في وجهه يرى فيهما الأشياء المادية. وعمى القلب أخطر من عمى العينين، لأنَّ الإنسان إذا كان أعمى البصر في قلبه فلا تفيده عيناه في وجهه {... فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج : 46]، {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 125 ـــ 126].
كيف نحرِّك كلامنا في طريق الخير
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} معنى ذلك أنّ أكثر كلامكم، ليس فيه خير، ليس له طعم، لا تستفيدون منه، بل يضرّكم، لهذا ناقشوا كلامكم، وحاسِبوا كلامكم {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} دلّنا يا ربّنا على الخير، تريد منّا أن يكون كلامنا كلام خير، ونجوانا نجوى خير، دلّنا يا ربّنا على الخير {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} في الحياة حاجات للنّاس الفقراء واليتامى والمساكين وابن السبيل والمحرومين، وللمشاريع التي تخدم الناس في حاجاتهم. وللجهاد في سبيل الله حاجات، وللدعوة في سبيل الله حاجات، ولكلّ ما يرفع مستوى الحياة حاجات. تريد أن تتحدّث، خطِّط مع أصدقائك، مع إخوانك، استنفر جاهك، استنفر علاقاتك، استنفر إمكاناتك، حرِّك فكرك حتّى تهيّئ السبيل للناس، لأنْ يلتقوا على الصدقة يدفعونها. والصدقة هي كلّ مال تدفعه في سبيل الله، وإذا وسَّعنا الصدقة فهي تشمل كلّ علم تنفقه في سبيل الله، كلّ قوّة تنفقها في سبيل الله، كلّ جاه تحرّكه في سبيل الله، كلّه صدقة. الكلمة الطيّبة صدقة.
{إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} [النساء : 114]، وكلمة المعروف تتّسع لكلّ ما شرَّعه الله من أعمال الخير، ممّا أوجبه الله على الناس أو ممّا استحبَّه الله للنّاس. المعروف الذي كان أساس الرسالات فالرسل جاؤوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. والله قال لنا: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران : 104] والحسين (عليه السلام) وضع عنوان ثورته: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "أُريدُ أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر" والنهي عن المنكر يدخل في المعروف.
إنَّ المعروف الذي يمثّل مواقع محبّة الله ومواقع رضى الله ومواقع البعد عمّا يسخط الله، هذا المعروف يبني لك حياتك، ليعطيك الاطمئنان والاستقرار على مستوى الفرد والمجتمع، لأنَّ الناس إذا تعاملوا بالمعروف، وعرف كلّ واحدٍ منّا أنّ له حقّاً وعليه واجباً، وأنّ الله لم يخلق الحياة لهذا الشخص، فإنَّ المجتمع يعيش الاستقرار والطمأنينة.
فالحياة لي ولك وللآخرين، ونِعَم الله لي ولك وللآخرين. ليس لي أن أحتقر الآخر، بل لا بدّ لي من أن أعيش على أنّك موجود معي، جداري على جدارك. والطريق لي ولك والساحة العامّة لي ولك، وما خلق الله من ماء وغير ذلك لي ولك، ليس لك أن تستأثر عليَّ بشيء لمصلحتك الذاتية، ولا حقّ في أن أستأثر عليك بشيء لمصلحتي الذاتيّة. الحياة شركة بين عباد الله، ولقد جعل الله لكلّ إنسان دوراً وساحة وحقّاً وإمكانيات، فعليه أن لا يتجاوز حقّه لأنّ تجاوز الحقّ يمثّل تجاوزاً لحدود الله، ومَن يتجاوز حدود الله فإنَّ الله لا يرضى عنه.
إنَّ عليك أن تأمر بالمعروف على المستوى الخاص والعام، وأن تحاول في كلّ مجال من مجالاتك، إذا انحرف الفرد أن تنبّهه، وإذا انحرف المجتمع فحاول أن تنبّهه وإذا انحرف الحاكم فحاول أن تنبّهه، وإذا انحرفت الدولة فحاول أن تنبّهها بالكلمة وبالموقف. والموقف يتنوَّع تبعاً لتنوُّع الظروف التي تفرض الموقف {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} انتبهوا إلى كل الكلمات، إنَّ الله يحدِّثنا، لا تستغرقوا في حديثي، فأنا أحاول أن أفهم كلام الله، وأن أشرح لكم كلمات الله، استغفروا ربّكم، يقول لكم لا خير في كثير من نجواكم، لأنّكم في كثير من الحالات عندما تستمعون إلى عِالم أو واعِظ أو ناصح، لا تنتفعون بكلامه، تسألون: هذا العالِم لمن ينتمي؟ وذاك الواعظ في أيّ دائرة يتحرّك؟ وهذا الناصح من أيّ موقع يتكلّم؟ تستغرقون في شخص القائل، ولا تستغرقون في كلامه، ولهذا لا تنتفعون بكلامه. بعض الناس لا يستمع لأحد إلاّ إذا كان من "جماعته" وإلاّ فإنّه يشوِّش عليه. الصلاة عندنا صارت بحساب، وسماع الكلمات بحساب، "والسلام عليكم وعليكم السلام" بحساب، والمشاعر بحساب... لماذا؟ لأنّنا استغرقنا في الزاوية الضيّقة وأصبحنا جماعة الزواريب. لكنَّ أُفق الله كبير، أُفق الله واسع الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، ربّنا الذي وسعت رحمته كلّ شيء ربّنا الذي يهيمن على كلّ شيء.
الحكمة ضالّة المؤمن
استمع إلى الحكمة أينما وجدتها، ليكن الذي يتحدّث إنساناً ليس من جماعتك، لكن اسمع حديثه وفكِّر في حديثه، فإمّا أن تنقضه أو تقبله. إنّي أدعوكم دائماً للاستغراق في كلمات الله، لأنّك عندما تشعر أنّ حياتك معلَّقة بربّك وأنَّ ربّك يخاطبك، ويا لسعادة الإنسان إذا أعطى نفسه الجوّ الروحي وهو يشعر أنّ الله يعطيه كلماته، كما تساقط نقاط الضوء من الفجر ليُمَتِّع عينيه بالفجر، والله ينزل على روحك كلماته، تماماً كما ينزل قطر المطر على الأرض الميتة ليحييها. هكذا افتح قلبك الجديد لكلمات الله حتّى يحبّك الله، وافتح كلّ حياتك لآيات الله حتّى يشرق فيها نور الله، لأنَّ مشكلتنا جميعاً أنّنا ننسى الله دائماً ونذكر عباده، وأنّنا نغفل عن لقاء الله، ونستغرق في لقاء عباده. لهذا الله يريدنا أن نتذكَّر {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى : 9] لأنَّ بعض الناس لا ينتفعون بالذكرى، لأنّهم يغلقون قلوبهم، مَن الذي يتذكَّر؟ مَن يخشى؟ الذي يخاف الله يظلّ يلاحق الكلمات، لعلّها تفتح له نافذة على الله {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى*وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى*الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى*ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 10 ـــ 13] ومن ثمّ {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى*وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 ـــ 15] لكنَّ مشكلتكم {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16] "الحياة نقدي والآخرة قرضي" وما عاقل باع الوجود بدين مثلما قال عمر بن سعد {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 ـــ 17] هذا حديث كلّ الأنبياء {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18 ـــ 19] هذا الجوّ دائماً أُذَكِّر نفسي وأُذكِّركم به، أن نسمع دائماً كلام الله وأن نفتح قلوبنا، وأن نستغرق في كلمات الله، ونحاول أن تخشع قلوبنا لذكر الله.
متى يكون الصدق حراماً
إنَّ الله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] إذاً نحن الآن نريد أن نستزيد إيماناً، نريد أن ندخل المسجد وفي قلوبنا نسبة معيّنة من الإيمان... ما رأيكم في أن نحصل على زيادة هذه النسبة، والإيمان العملي، الإيمان المنفتح على الله سبحانه وتعالى {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} فهل لنا أن نستجيب ونخطِّط لنأمر بالصدقة بمعناها العام والخاص، {أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء : 114] أن نعمل على أساس أن نكون المصلحين لا المفسدين، وأن نكون المقرِّبين لا المبعِدين، وأن نكون الموحِّدين لا المفرِّقين والمقسِّمين، على مستوى الأشخاص وعلى مستوى الجماعات وعلى مستوى الأُمّة كلّها. قد يقول بعض الأشخاص أُريد أن أتصدَّق لكن أحوالي ضيّقة، ومنتوجي لا يكفي عائلتي، فهل هناك صدقة غير صدقة المال؟ الله يقول لك من خلال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، في ما يعبّر به عن فهمه لكتاب الله "صدقة يحبّها الله إصلاحٌ بين الناس إذا تفاسَدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا"(1) فهل لنا أن نستجيب ونخطِّط لأنْ نأمر بالصدقة بمعناها العام أو الخاص؟ لو حصلت مشاكل بين الناس وصار هناك فساد في العلاقات، فأردت أن تتصدَّق صدقة يتقبّلها الله، فحاول أن تدخل في الصلح بين الناس بقدر ما تستطيع من جهد وبحسب ما تتمكّن في حياتك، ممّا أعطاك الله من إمكانات عملية، فإنَّ تلك صدقة يحبّها الله: "إصلاحٌ بين الناس إذا تفاسَدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا" وإذا اضطررت لأن تكذب في مقام الصلح فإنَّ الأحاديث الواردة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وعن لسان الأئمّة (عليهم السلام) من خلال ما رووه عن لسان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فإنَّ المصلح ليس بكذَّاب. إذا توقَّف الصلح على أن تقول كلاماً لهذا لم يقله ذاك، أو تقول كلاماً لذاك لم يقله هذا فاكذب. والله يعطيك الأجر على كذبتك، لأنَّ الله حرَّم الكذب؛ لأنّه مفسدة بين الناس في وعيهم للحقيقة، ولكن إذا كان الكذب يشتمل على مسألة تصلح بين الناس وتجمع بينهم حتّى يتحرَّكوا جميعاً مع الحقّ، فإنَّ ذلك يجعل الكذب طاعة ويجعل الصدق معصية، كما هي طريقتنا في الحياة. فإنّك إذا سمعت أحداً يتكلَّم عن شخصٍ آخر تأتي إليه، وتقول له فلان قال عنك كذا وكذا. صحيح أنّك صادق في ما تقول، لكنّه صدق يدخلك النار، صدق يجعلك نمَّاماً، ويجعل فتَّاناً. الله سبحانه وتعالى ذمَّ الهمَّاز المشَّاء بنميمة، ولذلك إذا جئت لفلان وتكلَّمت عنه بصدق، لكنّه كلام يدخلك النار، فعقاب الغيبة النار. البعض يقول أنا لا أغتاب، إنّما تكلَّمت بصدق عن عيب هذا الشخص، إنّك مغتاب إذا ذكرت عيبه الموجود فيه، أمّا إذا ذكرت عيباً ليس موجوداً فيه فهذا يسمّى بهتاناً. إنَّ هناك كثيراً من حالات الصدق تكون حراماً، لأنّها تسيء إلى حياة الناس. لا يجوز لك أن تقول كلّ كلمة صادقة، لأنَّ بعض كلمات الصدق تسيء إلى العلاقات العامّة بين الناس. لو أنّك اطّلعت إلى سرّ عسكري وأمني أو سرّ اقتصادي أو سياسي لأُمّتك وجاءك من يسألك عن هذا السرّ، فهل تقول إنّه يجب أن أتكلَّم الصدق أمام المحقِّق الإسرائيلي، أو المحقّق الأميركي، أو أيّ محقِّق آخر يطلب أن تقول الصدق؟ قل والله العظيم سأقول الصحيح، تستشكل أنت، تقول إنّه يسألني عن فلان أين موجود؟ ماذا يفعل؟ أنا أعرف.. إذا قلت لا أعرف كذبت، فإذاً يجب أن أصدق، هذا منطق غير الواعين. إنَّ المحقّق الإسرائيلي أو أيّ محقّق من هذه المخابرات هو ضدّ الإنسانية، وضدّ الإسلام والمسلمين، لذلك يحرم عليك أنْ تتكلّم إذا كان السرّ يتعلَّق بأخيك أو بأُمّتك، باعتبار أنّه يعرِّض حياته أو حياة أُمّتك للخطر. يجب عليك أن تكذب، فإذا صدقت فأنتَ مأثوم، وإذا كذبت فأنتَ مأجور، احلف بالله كاذباً ونجِّ أخاك من القتل، ونجِّ أُمّتك من الهلاك.
الأخلاق في الإسلام نسبيّة. في الإسلام تنطلق الأخلاق من خلال مصلحة الأُمّة، لهذا المصلح ليس بكذّاب.
الأحكام الشرعية لمصلحة الإنسان
وعلى هذا الأساس، الله اهتمَّ بالإصلاح. وقد ورد في آخر وصية للإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يقول فيها وعليكم بإصلاح ذات البين "فإنّي سمعت رسول الله يقول إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام"(1) يعني إذا دار الأمر بين صلاة مستحبّة أو صيام مستحبّ وبين أن تصلح بين الناس، إذا دار الأمر بين أن تذهب لصلاة اللّيل أو تذهب لتصلح بين زوجين من جيرانك، فإصلاح ذات البين أفضل من صلاة اللّيل. إذا كنت في مكّة وتريد أن تطوف بالبيت أو بدأت الطواف وجاءك شخص، وقال: اثنان من الحجَّاج تخاصما، "وستصل إلى حدّها". اقطع طوافك واذهب وأصلح بينهما فإنَّ ذلك أفضل من الطواف. انتبهوا لهذا الموضوع، لأنَّ الله، حتّى العبادات من الصلاة والصوم والحجّ، جعلها لمصلحة الإنسان، {... وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت : 45]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة : 183]، يعني كلّها لمصلحة الإنسان. فالإصلاح بين الناس هو أفضل من عامّة الصلاة والصيام. وفي تفسير الإمام الصادق لقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة : 224] ليس معنى ذلك أنّك إذا أصلحت مرّة مثلاً بين جماعة وفشلت وتضرَّرت، تقول هذه آخر مرّة أصلح بين الناس، لأنَّ الذي يدخل في صلح هو الذي يبتلي على أمره. ويأتيك الناس بعد حين، يعرضون عليك مشكلة، لتحلّها فترفض وتتذرَّع بأنّك أقسمت أن لا تتدخّل في المشاكل. الله يقول لكم: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ} فكأنّك تأتي باسم الله، لتجعله حاجزاً بينك وبين التقوى وبين الصلح وبين الناس. عندما تأتي باسم الله وتحلف به فالتزم التزامات يحبّها الله، ولا تلتزم ما لا يحبّه الله. لو حلفت بالله ألف مرّة على أن لا تصلح بين الناس، وجاءك مَن يطلب منك الإصلاح بين الناس، فاذهب ولا تسأل عن يمينك، لأنَّ اليمين لا يصحّ إلاّ في طاعة الله، وإذا كان اليمين في غير طاعة الله فلا قيمة له أبداً، وليس فيه كفّارة أبداً. فالإمام يقول، إذا دعيت ـــ تعليقاً على هذه الآية ـــ لصلح بين اثنين فلا تقل عليَّ يمين أن لا أفعل، لا تحلف، وإذا حلفت لا تأخذ بحلفانك. أنا أذكّركم بالخطّ الإسلامي، الله أنزل الشريعة كلّها: الحلال والحرام، الواجبات، المستحبّات، كلّها أنزلها لمصلحة الإنسان. الشريعة هي التي تخدم الإنسان وليس الإنسان هو الذي يخدم الشريعة. ولهذا يبقى الحرام حتّى تقع في حَرَجٍ شديد أو في اضطرار. ما من شيء إلاّ وقد أحلَّه الله لمن اضطر إليه، يبقى الواجب واجباً إلاّ أن تقع في حَرَجٍ فيسقط الواجب، لأنَّ الله يريد أن يخطّط للإنسان بطريقة يستطيع الإنسان من خلالها أن يعيش حياته بشكلٍ جيّد {... يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة : 185].
لهذا عندما نتعمَّق في الإسلام من خلال طبيعة حركة الأحكام الشرعية والحلول التي وَضَعَها لمصلحة الإنسان، فإنَّنا نزداد بذلك إيماناً ويقيناً بأنَّ الإسلام وحده هو سرّ الخلاص، ولا نتركه إلى غيره ولا نستهين به، وبعدها لا نقبل أن نجعل أحداً يقف بيننا وبين الإسلام، أو يخذلنا عن الإسلام، أو يبعدنا عن الإسلام. نريد أن نعيش في الدُّنيا كلّها، نعيش بين اليهود والنصارى، وكلّ الملل والطوائف. يجب أن نعيش ونبقى نقول الإسلام هكذا، الله يريد الإسلام بهذه الدرجة.
بين الدين والسياسة
إنَّ المؤمن حسب ما يقول الإمام الصادق (عليه السلام) أعزَّ من الجبل. كم هو الجبل صلب قوي، ولكنَّ المؤمن أعزّ من الجبل، لأنَّ الجبل يُسْتَقَلُّ منه بالمعاول، والمؤمن لا يُسْتَقَلّ من دينه شيء. المؤمن تأتي المصائب وتأتي كلّ الضغوط وتأتي كلّ التحدّيات ولا تُسقط منه موقفاً، الإمام الصادق يقول: "إنَّ المؤمن أعزّ من الجبل، إنَّ الجبل يُسْتَقَلُّ منه بالمعاول، وإنَّ المؤمن لا يُسْتَقَلّ من دينه شيء"(1) يجب أن نفهم هذا الحديث جيّداً، لهذا لو أتت الدنيا وقالت لأيّ واحدٍ منّا خفِّف من إسلامك، ابتعد عن إيمانك، حاول أن تسير مع الناس، حاول أن تعبد آلهة الناس سنة وأن يعبدوا آلهتك سنة، دعها لبنانية لا غالب ولا مغلوب، نصف كفر ونصف إيمان، كنْ مؤمناً في الصلاة والصوم والخمس والزكاة لكن كنْ كافراً في السياسة والحكم وكلّ الأوضاع. هناك أُناس يشجِّعون فصل الدين عن الدولة، فصل السياسة عن الدين، ما معنى هذا؟ معناه عندما تريد أن تمشي بالسياسة امش بصفة غير متديِّن واعمل ما تشاء. أنا عندما أمشي بالسياسة بصفتي غير متديِّن فإنّني سأُخَرِّب حياة الناس. الدين الحقيقي ليس شعارات وحدها، وهكذا الدولة إذا فرغت من الدين في قوانينها، ابتعدت عن مصلحة الإنسان. أنا دائماً أُكَرِّر هذه النقطة، البعض قد يصفها بالتطرُّف، ويقول يجب أن "نطرّيها" قليلاً. لا، أتعرفون كيف "نطرِّيها"؟ أن نصبح مسلمين حقيقيّين، وإذا أصبحنا مسلمين حقيقيّين يصبح عندنا قاعدة نعرف فيها كيف نعيش مع الناس الآخرين. يجب أن يكون للنّاس قاعدة يرتكزون عليها في حياتهم. أتعرفون لماذا ليس في لبنان وفاق؟ لأنَّ المسلمين لا ينطلقون من الإسلام، ولا المسيحيون ينطلقون من المسيحية. الإسلام والمسيحية واجهتان. نحن نريد أن ندخل الإسلام إلى العمق بكلّ حكم شرعي، بكلّ عقيدة، شخصيّتنا الإسلام وهذه الشخصية يجب أن نحافظ عليها، نربّي عليها أولادنا، نصرّ على أن لا نترك الإسلام {... مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ} [الحج : 78].
لا مساومة على المبدأ
على هذا الأساس، نريد أن ننطلق بالإسلام بشكلٍ جيّد وندعو له بشكلٍ جيّد ونصر على أن نتحرّك فيه بالروحية، التي وقف فيها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أمام عمِّه أبي طالب وهو ينقل إليه عرض المشركين: ماذا تريد، إنْ كنتَ تريد ملكاً ملَّكناك علينا وإنْ كنتَ تريد مالاً فهذه أموالنا بين يديك، وإذا كنتَ تريد زوجة أعطيناك أفضل بناتنا، لكن أترك هذه القصّة، لا تخرِّب علينا مجتمعنا، نحن موحّدون على الكفر وعلى الشرك، وكلّنا متّفقون على الأصنام. أنتَ الآن تقول إنَّ هناك إلَهاً واحداً {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [صـ : 5] هذا طرح المشركين، كم يوجد طروحات الآن من هذا القبيل؟ يأتون إليك ليقولوا اترك هذا الالتزام ونوظّفك وظيفة، كم يعطونك 10 آلاف؟ نعطيك 100 ألف. إنَّ هذا منطق الكثير من الناس على مستوى المخابرات وغير المخابرات، لكن أجاب النبيّ: "والله لو وضَعَوا الشمسَ في يميني والقمرَ في شمالي على أنْ أترك هذا الأمر ما تركته أو أُهْلَكَ دونه"(1). هذه كلمة ولها تتمّة ولكنَّ التتمّة من الله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21]، قولوا كما يقول، ليكن موقفكم من خلال موقفه، تحرَّكوا كما تحرَّك؛ الله جعله الرسول القائد والرسول القدوة، فانطلقوا في خطّ قيادته، وتحرَّكوا في خطّ الاقتداء به، قولوا لكلّ مَن يقول لكم انحرفوا عن دين الله وعن خطّ الدعوة إلى الله وعن خطّ الجهاد في سبيل الله، ليطمعكم بالمال أو بالشهوات أو بالجاه، إذا كنتم ترجون الله واليوم الآخر، قولوا له: إنَّنا أتباع محمّد، ومحمّد قال للمشركين ذلك، ونحن نقول لكم ذلك. قولوا لهم كلّنا نريد أن نكون محمّداً ولو بنسبة الذرّة إلى الجبل، أو بنسبة القطرة إلى البحر ذلك هو الخطّ.
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} هذه وحدها لا تكفي، فقد تأمر بصدقة حتّى تصبح وجيهاً، تأمر بمعروف ليقال فلان الواعي الواعظ، تأمر بإصلاح بين الناس ليقال هذا من المصلحين. لا، هنا يقول الله ليس لهذه الأعمال عندي حساب، لماذا؟ أنتَ فعلت ليقول الناس عنك ذلك وقد قال الناس ذلك، أخذت حسابك منهم، ما دخلي أنا، دفعت الصدقة على حسابي، أمرتَ بالمعروف على حسابي، أمرتَ بالإصلاح بين الناس ليرضي ذلك الناس، وقد رضي عليك الناس، ماذا تريد منّي؟ أكثر من ذلك، إذا فعلت شيئاً لله ولغير الله، فالله يقول أنا خيرُ شريك، إذا فعلت الشيء لي ولغيري تركتها لغيري، الله يقول أنا لا أحبّ الشراكة {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف : 29] لهذا الله ركَّز {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء : 114] يجب أن تفعل ذلك على أساس مرضاة الله، قربة إلى الله وامتثالاً لأمر الله، وهذا هو سرّ المؤمن وميزته عن غير المؤمن؛ إنَّ المؤمن يعمل لله وللحصول على رضى الله، وغير المؤمن يعمل لغير الله، ولهذا جعل الله على نفسه أن يثيب الذين يعملون له، لا الذين يعملون لغيره، لأنَّ الله يريد للإنسان أن يرتبط به بقلبه، وأن يرتبط به بعمله في كلّ مجالات الحياة.
كيف نعالج الخلافات في مجتمعنا
وفي آيةٍ أخرى يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات : 9] هذه الآية تعالج الخلافات داخل المجتمع الإسلامي، فالمسلمون ليسوا ملائكة، فهناك مشاكل تحدث في ما بينهم، خلافات مالية أو سياسية أو اجتماعية أو ما إلى ذلك والشيطان يعرف كيف يدخل. الله يقول: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإسراء : 53]، وقال أيضاً سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90 ـــ 91]، معناه أنّ عمل الشيطان أن يحرّك ويثير العصبيّات، ويثير المشاكل حتّى يخلق العداوة والبغضاء بين الناس، وحتّى يقودهم إلى التحاقد والتباغض والتحاسد والتقاتل. إذاً فالمؤمنون يمكن أن يتقاتلوا إنْ على حقّ أو على باطل، المقصود بالمؤمنين هم المسلمون، وفي هذه الحالة ما مسؤولية المجتمع المسلم؟ هل مسؤولية المجتمع المسلم، إذا حدث هناك قتال بين المسلمين، أن يثير العصبية هنا وهناك، ويشعل النار ويكبّر المسألة؟ لا، {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}، وهنا الاقتتال لا يلغي صفة المسلمين عن الطرفين، لأنَّ الله يقول: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني الله وصفهم مع القتال بأنّهم مؤمنون يمكن أنْ يتقاتلوا، والقتال معصية من المعاصي {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} يعني تدخلنا بالصلح، لكن فئة تمرَّدت وأرادت أن تقوم بالعدوان على الفئة الأخرى بكلّ أساليب العدوان والبغي، {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} لأنّها سوف تعطّل عملية الصلح ومصلحة المجتمع {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} يعني على أساس أن لا تميلوا لفئة على فئةٍ أخرى {وَأَقْسِطُوا} أي اعدلوا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات : 9]. إنَّ هذا المبدأ القرآني يفيد أنَّ الأُمّة المسلمة مأمورة بأن تصلح بين المسلمين، وأهمية الإصلاح بين المؤمنين لا بدّ من أن تخضع للمصلحة الإسلامية العليا.
المصلحة الإسلامية بين السلم والحرب
إنَّنا عندما نتناول موضوع السلم والحرب في حركة التشريع الإسلامي، نرى أنّهما ينطلقان من المصلحة الإسلامية العليا. قد تفرض هذه المصلحة الحرب، وذلك عندما يكون الخلاف بين حقٍّ وباطل، حتّى في داخل المجتمع الإسلامي، حيث لا يكون من مصلحة المجتمع الإسلامي أن تُسالِم الفئة الضالّة كما في حروب الإمام عليّ (عليه السلام). وضمن ظروف معيّنة، تخاض الحرب لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، وذلك في الحالات التي فيها إمكانية أن تقوى كلمة الله؛ عندها لا يجوز للحرب أن تتوقَّف، لأنَّ النتائج التي تحصل من خلال الحرب تفوق الأضرار التي تحصل في الحرب، باعتبار أنَّ النتائج تكون لمصلحة الأُمّة كلّها.
في بعض الحالات ربّما تكون هناك مصلحة للمسلمين في مسألة الصلح، أي السلم، وذلك عندما تتعرَّض كلمة الحقّ للخطر في حالة استمرار الحرب، كما لاحظنا في تجربة الإمام عليّ (عليه السلام) مع معاوية في حرب صفّين. ففي هذه الحرب نجح معاوية في إثارة البلبلة في صفوف جيش الإمام أثناء رفع المصاحف، ولم يكن جيش الإمام (عليه السلام) كلّه عقائدياً، وهذا أدّى إلى تعرُّضه للانقسام. فالإمام عليّ (عليه السلام) لو لم يوافق على التحكيم، لكان من الممكن أن يقاتل جيشه بعضه بعضاً، الأمر الذي يؤدّي إلى انتصار معاوية بدون الدخول في أيّ معركة. وعندما درس الإمام (عليه السلام) هذا الظرف، رأى أنّ الأمر يدور بين أن ينقسم الجيش ويُقاتل بعضه البعض، وبالتالي يهزم في الحرب، وبين أن يقبل بالتحكيم وتقف الحرب بانتظار ظروف أفضل، لأنَّ التحكيم لا يلغي النزاع بل يجمّده، وهكذا كان. إنَّ الإمام عليّ (عليه السلام) كان مؤمناً بشرعيّة حربه، وحتّى آخر أيام حياته، لأنّه كان يعتبر أنَّ معاوية يمثّل الخطر على الواقع الإسلامي، وأنّ عدم مواجهته ليس لمصلحة الإسلام والمسلمين، ولكنّ الظروف لم تساعده.
لقد جمَّد الإمام عليّ (عليه السلام) الحرب على أساس أنّ استمرارها سوف يؤدّي إلى تأثّر موقف الحقّ بمواقع الضعف الطارئة فيسقط الحقّ. الآن، نحن إذا خُيِّرْنا بين أن يفقد الحقّ شيئاً من هويّته أو من هيبته أو من معنوياته وبين أن يزول كليّاً، فليس أمامنا بالطبع إلاّ القبول بخسارة هذا القدر حتّى لا يسقط الحقّ كليّاً.
صلح الحسن يحفظ المعارضة
انطلاقاً من هذه الأجواء، نطلّ على سيرة الإمام الحسن (عليه السلام) ومسألة صلحه مع معاوية. هناك بعض الناس يقولون إنَّ هناك أسلوباً حسنيّاً وأسلوباً حسينياً. هذا الفهم خاطئ، فهو يصوِّر لنا أنّ شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) شخصية مسالمة وشخصية الإمام الحسين (عليه السلام) شخصية ثائرة، هذا خطأ. إنَّ قصّة الصلح لم تكن منطلقة من أنّ شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) مسالِمة وإلاّ لماذا قاتل؟ إذا كانت شخصيّته شخصية مسالِمة فلماذا قاتل من الأساس؟ لقد قاتل لأنّه كان مؤمناً بالقتال، ولقد وافَقَ الإمام الحسين (عليه السلام) على الصلح الذي عقده الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية، ولهذا فالحسين (عليه السلام) لم يحارب معاوية، لأنّه وقَّع على الصلح مع أخيه، والتزم بهذا الموقف. لم يعلن الثورة ضدّ الحكم الأموي إلاّ بعد وفاة معاوية، حيث أصبح الإمام الحسين (عليه السلام) في حلٍّ من التزاماته.
إنَّ الصلح الذي قام به الإمام الحسن (عليه السلام) كان ناشئاً من طبيعة الظروف التي وصلت إليها الحرب. فأغلب قادة جيش الإمام (عليه السلام) مالوا إلى معاوية بعد أنْ أغراهم بالمال، بمن فيهم ابن عمّه عبيد الله بن عبّاس، كما استطاع معاوية أن يدسّ جواسيسه في صفوف الإمام الحسن (عليه السلام)، ممّا أدّى إلى حالة من الفوضى داخل جيش الإمام الحسن (عليه السلام)، وهنا دار أمر الإمام (عليه السلام) بين استمرار الحرب، والتضحية بالبقيّة المؤمنة الملتزمة بخطّ الإسلام، بخطّ عليّ (عليه السلام) وخطّ الحسين (عليه السلام) باعتبار أنّ التوازن بات مفقوداً، وهذا معناه زوال كلمة الحقّ وترسيخ كلمة الباطل في كلّ الواقع الإسلامي؛ وإمّا أن يجمِّد الحرب، وفي تقديره إعطاء الناس فرصة للاستراحة، حتّى يعرفوا طبيعة الحكم الأموي الذي مارَسَ دوراً كبيراً في تضليل الناس، ثم ينتظر ظروفاً أفضل لمتابعة الحرب.
لقد قال الإمام الحسن (عليه السلام) لأصحابه، حينما كانوا يعاتبونه على الصلح، "إنَّما صالحت لأحفظكم". كان المهمّ هو حفظ خطّ المعارضة الأصيل الذي باستمراره يُحفظ الحقّ، ولهذا وقف الإمام الحسين (عليه السلام) الذي يمثّل روح الثورة إلى جانب أخيه، مدافعاً عنه أمام الذين كانوا يقفون ضدّه.
كربلاء تهزّ الواقع الإسلامي
في الاتجاه نفسه، كيف نفسِّر ثورة الإمام الحسين سلام الله عليه؟ إنّنا نفهم القضية على أساس أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لو سالَم، لَسَقَطَ آخر حاجز يحجز الناس عن الانهيار. لقد أراد بثورته إحداث صدمة قويّة في الواقع الإسلامي، ولقد برزت الصدمة من خلال الوضع المأساوي الذي لفَّ كربلاء، والفظاعة التي امتدت في كلّ الاتجاهات، والموقف الصّلب الذي أكّده الإمام (عليه السلام)، حيث اهتزّ الجوّ تماماً ما بعد كربلاء فعصفت رياح الثائرين والمعارضين تدكّ مواقع الظلم والانحراف، ويدلّ بيت الشعر الذي ينسب للإمام الحسين (عليه السلام) وهو في الواقع لسان حاله، على الخلفية الحقيقيّة لحركته:
إنْ كانَ دينُ محمَّدٍ لم يستقِمْ إلاّ بقتلي يا سيوفُ خذيني
لو لم تكن كربلاء ولو لم يقاتل الإمام الحسين (عليه السلام) يزيد، لمَا تمخَّض الواقع عن أيّ إمكانية لحدوث ثورة مستقبليّة، ولهذا كانت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ثورة مستقبليّة بحسب مرحلتها وبحسب الظروف الموجودة، حتى تكون صدمة للواقع الإسلامي.
إيران توقف الحرب لحفظ الثورة
ضمن هذا المنظار، نتطلَّع إلى الثورة الإسلامية في إيران وإلى مسألة قبول الإمام الخميني (قدِّس سرّه) بوقف إطلاق النار، ونضع هذا الموقف ضمن ظرفه، واستجابة لضغوط الواقع السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي الذي أحاط بالثورة الإسلامية. إنَّ العالم كلّه، أميركياً وأوروبياً وسوفياتياً وعربياً، العالَم كلّه أخذ يحاصر إيران، يعني، (بلا قياس وتشبيه) تماثل وضعها مع وضع المانيا في الحرب العالمية الثانية، حيث تعرَّضت لحصار وحرب شاملين، وضع إيران كان هكذا. القنبلة الذريّة أُلقيت على هيروشيما، صحيح أنَّ القنبلة الذريّة لم تُلْقَ على إيران، ولكنَّ الأسلحة الكيميائية هي بحجم القنبلة الذريّة، باعتبار أن لا وسيلة دفاعية في مواجهتها، وكان منتظراً إطلاق المزيد من الصواريخ الكيميائية على المدنيين كما أطلقت في السابق. وقد تسلَّح هذا الصمت المريب بحجّة، عُمِلَ على تسويقها في العالم ومفادها أنّ إيران لا تقبل السلام وأنّ العراق يريد السلام. وتوحَّد الموقف العالمي على حصار إيران، فَمُنِعَ تصدير النفط بدرجة كبيرة، وتوقّفت البضائع الضرورية عن الوصول، حتّى أصبح من الصعب أن تلبّي حاجات المواطنين لأكثر من شهر أو شهرين، وأُثير كثير من الأوضاع حيث إِنّ إيران لم تستطع تحمُّل ذلك. في الوقت نفسه، راهن الأعداء الإقليميون والدوليون على أنّ الإمام الخميني (قدِّس سرّه) لن يقبل بوقف إطلاق النار، ولهذا كانوا يراهنون على إسقاط الثورة. وجاء الموقف نتيجة دراسة المعطيات دراسة واعية ودقيقة وواقعية، وكان الأمر يدور بين استمرار الحرب وحفظ هذا الوهج المعنوي للثورة، لكنَّ النتيجة ستكون إسقاط الثورة والجمهورية؛ وبين إيقاف الحرب وبقاء الثورة، ومحاولة الانطلاق بالرسالة الإسلامية بأساليب جديدة، بعد أنْ طُوِّقَت وحوصرت الأساليب السابقة. ونحن نفهم أنَّ المسألة انطلقت من مصلحة الإسلام في ظلِّ الظروف الصعبة التي تمرّ بها إيران الإسلام.
الأنانيّات توقد نار الفتنة
وبالانتقال إلى واقعنا الصّعب في لبنان، وانطلاقاً من رصدنا لمجمل الظواهر، نشعر بأنَّ الصلح بين المسلمين يمثّل مصلحة إسلامية عليا على جميع المستويات، سواء على مستوى الواقع السياسي الداخلي، أو على مستوى الواقع السياسي في العالم، لأنَّ المراهنة على أن تبقى الخلافات في الزوايا الضيّقة، وأن تبقى الأساليب المعقَّدة العدوانية التي تثير العصبيّات وتثير الغرائز وتثير إرادة القتال من جديد. لهذا نشعر بأنّنا في المرحلة التي لا يجوز فيها إطلاقاً بقاء هذا التقاتل والتراشق بالكلمات القاسية وما إلى ذلك من أمور. لأنَّ المسألة هي أنّه لن يستفيد أحد، بل سيسقط الجميع أمام التحدّيات التي تفرض عليهم. ونحن نقول لكلّ الشعب ولكلّ المؤمنين ولكلّ الناس، إنَّ عليهم أن يقفوا ضدّ كلّ من يريد أن يعطِّل الصلح بين المؤمنين وبين المسلمين، نتيجة عُقَد ذاتية أو نتيجة مصالح فئويّة، لأنَّ المسألة أصبحت تتجاوز القيادات، لأنّها تمثّل الخطر على كلّ الأُمّة. وإنَّني تكلَّمت كثيراً في هذا المجال، وأتكلَّم الآن لِأُحَمِّل كلّ الناس المسؤولية في ذلك، لأنَّ الأكثرية الصامتة عندما تنطق وأنا لا أُريد أن تنطق بتكلُّف وتشنُّج وانفعال، ولكن أن تنطق من موقع الإيمان، ومن موقع العقل ومن موقع الدراسة الواعية لكلّ الأوضاع، حتّى نستطيع أن نبصر مواقع أقدامنا وحتّى نستطيع أن نبصر النتائج السلبية أو الإيجابية التي سوف نُقْبِل عليها في المستقبل.
إنَّ الواقع في لبنان لا يزال واقعاً يعيش في مهبّ الرياح والعواصف، ولن تُحترَم فئة على مستوى الطوائف وعلى مستوى المحاور السياسية، إذا لم تملك الوحدة والقوّة في صفوفها. ليتحدَّث كلّ واحد في دائرته الخاصّة، ليتحدّث عن عنترياته هنا وعنترياته هناك، وليضخّم شخصيّته.. ولكن عندما تكون بطولاتنا وأنانيّاتنا وكبرياؤنا واستعراضاتنا في دائرة يحيط بها الأعداء من كلّ جانب، فأيّ معنى لتلك البطولة. عندما تملك أرضك، وتملك قرارك، وتملك حاضرك ومستقبلك، فأنتَ الحرّ وأنتَ القويّ، لكن عندما يكون قرارك بيد غيرك ممّن لا يؤتمن على القرار، وعندما تكون أرضك بيد غيرك حتّى لو أعطاك هذا الغير حريّة معيّنة، إنَّ معنى ذلك أنّك لا تحمل من البطولة شيئاً ولا تحمل من القوّة شيئاً.
لقد حدَّثتكم سابقاً عن ذلك السياسي الجنوبي الذي قال: حينما جرى تقسيم الجنوب إلى دوائر انتخابية، "أنا والجنوب كالكبّة في الصينيّة" فمهما قسّمت الكبّة فإنّها تظلّ لمالِك الصينية، المهمّ مَن يملك صينية الجنوب؟ ومن يملك صينية لبنان؟ إذا كانت "إسرائيل" تملك صينية الجنوب فأيّة قيمة لكلّ مكاتبكم، وأيّة قيمة لكلّ مواقعكم، وأيّة قيمة لكلّ الساحات المحرّرة، أو غير المحرّرة؟ لأنّ "إسرائيل" ما دامت تملك الجوّ والبرّ والبحر فليس هناك مناطق محرّرة.
هناك مناطق قيل لكم تحرَّكوا فيها بحريّة ولكن على أساس أن تنضبطوا لأنّنا نمسك بالأمر كلّه.
إنَّ القصّة تحتاج إلى عقل واسع وإلى صدرٍ واسع، ونحن صدورنا ضيّقة، عقولنا ضيّقة وعفنة، دائماً نحرّكها في الزوايا الصغيرة، وكلٌّ منّا يفكِّر بذاته؛ كيف أُضَخِّم شخصيتي، كيف أجمع الناس حولي، لا أُفكِّر بالناس. وعندما لا أُفكّر بالناس يبقى عقلي معفّناً بسبب أنانيتي. عندما أفكر بالناس يتنفَّس عقلي الهواء الطلق.. صدورنا ضيّقة، لا نتحمّل كلمة، إذا شتمنا الواحد فكأنَّ السماء وقعت على الأرض. لا، النبيّ اتُّهم وبقي صدره واسعاً واستوعب الناس {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران : 159]، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة : 128]. إنّنا نحتاج إلى سعة الصدر. ومن يرد أن يصبح زعيماً وقائداً، فعليه معرفة ما قاله الإمام عليّ (عليه السلام): "آلة الرياسة سعة الصدر"(1). تريد أن تصبح رئيساً، وسِّع صدرك للناس من حولك. أحدٌ سبَّك امسحها "بجنبك"، حاول أن تتعامل معه بواقعية، قل للنّاس الذين يسبُّونك كما قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لهم: "اللّهم اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون"(2) لا تتعقَّد من الناس، أعطهم فرصة يفهموك أكثر، وهذا ما نحتاجه في واقعنا الداخلي.
وبالعودة إلى مسألة الإصلاح، نشعر أنّه ليس فقط علينا أن نصلح داخلنا، نحن نفكِّر أن يكون إصلاح على مستوى الإسلام كلّه. ونحن ندعو المسلمين إلى أن يوحِّدوا علاقاتهم على أساس الوحدة الإسلامية ووحدة العقيدة الإسلامية والخطّ الإسلامي الذي يحفظ التنوُّع، وعلى أساس وحدة المصير الإسلامي ووحدة الآلام الإسلامية، لا نريد أن تنطلق علاقات المسلمين بعضهم ببعض في لبنان من المسائل الطارئة. إنّنا نواجه قضية واحدة تفترض الاجتماع حولها، وبعدها يحلّق كلٌّ في سربه، ويقيم العلاقات مع مَن يريد. يجب أن تتركَّز العلاقات بين المسلمين على أساس قاعدة الوحدة {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ...} [آل عمران : 103]، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون : 52].
يجب أن نعيش على هذا الأساس، ثمّ أكثر من هذا، نحن إسلاميون ولكن نحن ندعو إلى الصلح في دائرة جميع اللبنانيين لأنَّ الله يقول: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً...} [الأنفال : 25]، إنَّ الفتنة حين تثور، فإنَّ كلّ الناس، الظالمون منهم وغير الظالمين، سيكونون وقوداً لها.
نداء إلى المسيحيين
إنَّنا نحرص على أن يكون هناك سلام في لبنان لكلّ اللبنانيين، ولكن على أساس العدل وعلى أساس التوازن وعلى قاعدة الحريّة لكلّ اللبنانيين. وليطرح كلّ اللبنانيين المسلمين والمسيحيين آراءهم، ليقتنع بها الناس أو لا يقتنعوا بها. نحن ندعو لهذا التوجُّه، ونريد أن نقول للمسيحيين وللموارنة بالذّات، إنّكم تعيشون في وهمٍ كبير عندما تعتبرون أنَّ مواقعكم في الدولة اللبنانية تمثّل ضمانات أو امتيازات، إنّكم تتحرّكون بما تسمُّونه ضمانات ونسمّيه امتيازات تحظى بغطاء دولي وإقليمي، لكنّنا نرى أنّ السياسة ليست ثابتة، لا على مستوى محلّي ولا إقليمي ولا دولي.
السياسة تنطلق على مستوى المتغيّرات، ولهذا فإنَّ الذين عرضوا في أثناء الحرب على المسيحيين أن يقدِّموا لهم سفناً لنقلهم إلى استراليا أو غيرها، ليبقى لبنان للمسلمين وللفلسطينيين؛ إنَّ هذا العرض يمكن أن تتبعه عروض أخرى حسب ما تقتضيه مصالح الدول. إنّكم إذا أردتم استقراراً وثباتاً، فعليكم أن تتكاملوا مع مواطنيكم في البلد على أساس قاعدة ثابتة. إنّكم تقولون إنّكم لا تريدون أن تكونوا مواطنين من الدرجة الثانية. مَن قال إنّنا نريدكم مواطنين من درجة ثانية؟ لكن إذا كنتم لا تريدون أن تكونوا مواطنين من الدرجة الثانية، فلماذا تريدون لمواطنيكم أن يعيشوا في الدرجة الثانية؟ لنكن جميعاً درجة واحدة في هذا المجال، ولنتعاون على بناء لبنان المنفتح على محيطه والمنطلق على أساس القِيَم الإسلامية، التي أكّدها السيّد المسيح في رسالته السماوية. نحن نتكلَّم معكم بصفتنا الإسلامية، نحن لا نتنازل عن صفتنا الإسلامية، لكن نقول إنَّ الإسلام يطلب منّا أن نحاوركم ونتعايش معكم، وأن ننطلق لنقنعكم بما عندنا، وتقنعونا بما عندكم.
في هذا الاتجاه نقول أيضاً: لا تعيشوا في الوهم الكبير، لأنّكم عندما تعيشون في أوهامكم، فلن تستطيعوا أن تعيشوا الحقيقة، إلاّ إذا اعترفتم بالواقع. إنَّ المطلوب أن لا تجعلوا المواطنين درجات، بل اجعلوهم درجة واحدة، تنطلق في الخطّ على أساس إعطاء الحريّة والعدالة للجميع. إنَّ هذا الصوت الذي نطرحه يستهدف تحقيق الإصلاح. وإنَّنا نسأل، لماذا لا يمكن أن يكون رئيس الجمهورية غير ماروني؟ هل إنّكم أفهم من بقيّة الناس، أو أكثر إخلاصاً، أو أوعى، أو أكثر ارتباطاً بالعلاقات الدولية؟ ليس هناك فرق بينك وبين الآخرين، بل ربّما يوجد في الآخرين نماذج أفضل من نماذجكم التي تجعل الناس يعيشون في دائرة محصورة لا يستطيعون الخروج منها.
نوّابنا ينتظرون الوحي الأميركي
وأمام هذه الأجواء والتحليلات الدائرة بين الناس، لا بدّ من كلمة: إنَّ الجميع ينتظرون الضوء الأخضر من خلال اللّقاء السوري الأميركي، أليس الأمر كذلك؟ هل هناك مَن يفكِّر ما رأي هؤلاء؟ وما رأي أولئك؟ وما رأي النوّاب الأكارم؟ ما هي أفكارهم؟ ما هي آراؤهم؟ النوّاب الآن يعيشون في هاجس الخطف، وكلّ واحد توضع عليه حراسة مشدَّدة. أصبحوا محلّ الاهتمام من كلّ اللبنانيّين، لماذا؟ لأنّهم هم الذين سينتخبون للبنان رئيساً. ومعروف أنّه منذ أن تأسَّس لبنان وحتّى الآن، فإنَّ النوّاب اللبنانيين ينتظرون الوحي. ربّما فرضت عليهم الأوضاع مرّة أو مرّتين أن يتمرَّدوا، لكن غالباً كانوا ينتظرون الوحي، الإنكليزي سابقاً، والأميركي حالياً، ثمّ الإسرائيلي بعد ذلك. ليس فقط النوّاب ينتظرون الوحي، بل كلّ المسلمين؛ إذ لا قيمة للشعب في لبنان في حسابات الدول الممسكة بقرار هذا البلد، ولاسيّما الدول الكبرى، لا قيمة للشعب باعتبار أنَّ هؤلاء النواب رسمياً هم الذين يمثّلون الشعب.
إنَّ المسألة تحتاج إلى أن ننطلق، لنعتبر أنّ أيّ انتخاب لأيّ رئيس أو إصدار أيّ قرار من خلال مثل هذا المجلس، لا يمثّل أيّة قيمة على مستوى حاجات الناس وقضاياهم وحقوقهم.. إنَّنا ندعو إلى أن يتسلَّم الشعب قضاياه، وندعو إلى أن يكون القرار، أيّ قرار وفي أيّ موقع وفي أيّة قضية، سواء كان على مستوى الرئاسة، أو غير ذلك، لا بدّ أن يكون للناس، حتّى نبتعد عن كثير من الضغوط التي تريد أن تفرض علينا القرار الذي يريده الآخرون. لا بدّ أن نفكِّر بهذه الطريقة، ولا بدّ أن نفهم أيضاً، أنّ المسألة لا تزال تعيش في إطار الانتظار، ولا تزال القضايا التي تبحث، ليست هي قضايا لبنان، بل هي قضايا المنطقة. وإذا حصل اتّفاق على الرئيس القادم فسيأتي هذا الرئيس مقيّداً بألف سلسلة وسلسلة، أن لا يحارب "إسرائيل"، أن يوافق على الترتيبات الأمنية، أن يصالح "إسرائيل"، وأن يتحرّك ليجعل لبنان يسير في العجلة الأميركية، وأن يبقى كلّ شيء على حاله مع تغيّر في الديكور، لأنَّ المطلوب هو رئيس على أساس التوافق، ورئيس التوافق يجب أن يكون رئيساً لا لون له ولا طعم ولا رائحة، حيث يستقبل الألوان القادمة من هنا وهناك، والروائح التي تحملها الرياح من هنا وهنالك. ولذلك فإنّنا لسنا معنيين بشخصية الرئيس ولسنا متحمّسين للمسألة، لأنّنا نعرف أنّ بقاء لبنان ليس خاضعاً لأنْ ينتخب رئيس أو لا ينتخب، سيبقى لبنان لأنّ الذين صنعوه لا يزالون محتاجين إليه. وقد ينتخب رئيس أو لا ينتخب، بل تكون هناك حكومة تمثّل الرئيس، لكن اعرفوا حقيقة أنّ الفتنة سوف تتعايش مع الرئيس القادم، أو مع الحكومة القادمة، لأنَّ الوفاق الدولي لم يمتد إلى لبنان حتّى الآن، لأنّ "إسرائيل" لا تزال الطفل المدلّل دولياً والتي لا يحبّ الشرق والغرب أن "يزعّلها" وأن يزعجها ويزعج طموحاتها.
الخطّ الجهادي منارة وسط الكلام
سيبقى الجميع يعملون على تطويق الانتفاضة وعلى محاصرتها، وسيعمل الجميع كما يعملون الآن على تطويق المجاهدين وتطويق خطّ الجهاد في لبنان، وسيعمل الجميع كما يعملون الآن، على أساس تطويق الحالة الإسلامية في لبنان وفي غير لبنان. وقد قرأنا في ما قرأنا أنّ من الشروط الأميركية لأيّ اتّفاق هو ضرب ما يسمّونه التطرّف الإسلامي والتطرّف الفلسطيني، وشروط الآخرين ضرب التطرّف المسيحي. ونحن نعرف أنّ هناك مَن لا يزال يُدلّل بفعل الحالة الإسرائيلية المتداخلة مع الحالة الأميركية في ظلّ الانتخابات الأميركية والإسرائيلية. هناك حالة إسرائيلية يعيها الجميع، ويخاف الجميع من أن يحرِّكوا ساكناً فيها إلاّ بحساب، أمّا هنا وهناك فقد أُفْسِحَ في المجال لأنْ يتحرّك الناس، ليقاتل بعضهم بعضاً وليحقد بعضهم على بعض وليتحرّكوا في جوّ الفتنة.
إنّنا كإسلاميين نظلّ نحدّق في السّاحة على أساس أن ندافع عن حريّة المستضعفين، سواء كانوا في لبنان وفي غير لبنان، بالوسائل التي نملكها ممّا يرضاه الله ورسوله. وسنظلّ كإسلاميين مجاهدين، نتكامل مع الانتفاضة الإسلامية في الضفّة الغربية وغزّة وفي سائر فلسطين، لأنّنا نعتقد أنّ المجاهدين هنا والمجاهدين هناك، هم الضوء الوحيد الذي ينطلق في كلّ هذا الظلام العربي، وفي كلّ هذا الظلام الطائفي.. إنّهم عرفوا طريقهم وانطلقوا في مواقع النور، لأنّهم يعرفون أنّ الحريّة لا يمكن أن تتحقَّق إلاّ بالدماء وإلاّ بصلابة الموقف، وأنّه لا يمكن لنا أن نسترجع حقوقنا إلاّ من خلال القوّة، لأنّ ما أُخِذَ بالقوّة بيد الذين لا يفهمون إلاّ بلغة القوّة، لا بدّ من أن يُسترجع بالقوّة. القوّة المسؤولة، القوّة المؤمنة، القوّة العاقلة، التي تعرف بداية انطلاقها جيّداً ومسارها جيّداً، وغايتها جيّداً {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ..} [التوبة : 105].
والحمد لله ربّ العالمين
الخُلُق الحسن في مواجهة التحدّيات(*)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد وهو يحدّثنا عن شخصية رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في سلوكه مع الناس من حوله {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. وقال سبحانه وهو يحدّثنا عن عباده الذين نسبهم إليه من خلال صفة الرحمة فيه {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان : 63]. وفي آيةٍ أخرى يخاطب الرسول ويخاطب كلّ مؤمن {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف : 199]. ويقول في آيةٍ أخرى في ما يأمر به رسوله أن يبلغه للناس {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإسراء : 53].
تكثر الآيات الكريمة التي تؤكّد أنّ الإنسان عندما يواجه أيّة مشكلة في الحياة في ما يسيء الناس إليه، أو ما يتنازع فيه مع الناس، أو ما يواجه من مشاكل، إنَّ عليه كمسلم مؤمن أن يملك عقله، وأن يملك مزاجه ومشاعره، ليكون أسلوبه أسلوب الرّفق واللّين لا أسلوب العنف والشدّة ما أمكنه ذلك، باعتبار أنّ الإنسان في ما يواجهه من المشاكل التي تتّصل بحياته مع الناس، وبعلاقته معهم، لا بدّ من أن يفكّر عندما يريد أن يحدّد موقفه من الناس الذين أساؤوا إليه، أو مع الناس الذين اختلف معهم، هل هدفه أن يشفي غيظه، أم هدفه أن يحلّ مشكلته؟!
حلّ المشكلة لا شفاء الغيظ
إنَّ الذين يفكّرون في الحياة على أساس أن يشفوا غيظهم لن يستطيعوا أن يشفوا غيظهم. لماذا؟ لأنّ أيّ تصرّف تتصرّفه لتشفي غيظك بالسباب، أو بالضرب، أو بالوقوف ضدّ مصالح الآخرين، أو بغير ذلك، إنّ أيّ أسلوب من أساليب شفاء الغيظ يخلق لك غيظاً جديداً لأنّه يعقّد المسألة في أغلب الحالات، فأنتَ عندما تسبّ ستُسَب، وعندما تضرب ستُضرَب، وعندما تقف ضدّ مصالح الآخرين فقد يقف الآخرون ضدّ مصالحك. وهكذا إنّ أيّ شفاء للغيظ يجتذب غيظاً جديداً، وإنّ أيّ حلّ للمشكلة في هذا الاتّجاه يخلق مشكلة جديدة، وبذلك ستنتقل من غيظ إلى غيظ، ومن مشكلة إلى مشكلة، وسوف تفقد في نهاية المطاف كثيراً من أمنك، وكثيراً من راحتك، وكثيراً من صفاء مزاجك، وربّما تفقد في نهاية المطاف حياتك.
لقد أراد الإسلام للناس أن يفكِّروا في كلّ ما يحيط بهم ليكون الهدف عندهم هو حلّ المشكلة لا شفاء الغيظ. إنّك وأنت تعمل من أجل الحقّ في النطاق الاجتماعي، لا في النطاق الذي نواجه فيه التحدّيات الكبيرة ضدّ الأعداء الذين يريدون أن يقمعوا حريّتنا وحياتنا، عندما تواجه مشكلة فعليك أن تفكّر في أن تحلّها بأفضل الطرق، تحلّ مشكلتك مع الإنسان الذي تعايشه ويعايشك، ببرودة أعصابك وتفتِّح عقلك ويقظة إيمانك، حتّى تعينك برودة أعصابك على أن تهدأ في مشاعرك، ولكي يمنحك عقلك فرصة التفكير بهدوء وبموضوعية، ويساعدك إيمانك حتّى تتحرّك على أساس الخطّ المستقيم. ثمّ فكِّر: لماذا أساء إليَّ فلان، وما الظروف المحيطة بإساءته، وما خلفيّاته؟ لماذا أختلف مع فلان؟ ما سرُّ هذا الخلاف؟ ما جذوره؟ مَن الناس الذين يشجِّعون عليه؟ مَن الناس الذين يثيرونه؟ وعند ذلك حاول أن تدرس كلّ الأساليب والوسائل التي تستطيع من خلالها أن تُقنع هذا الإنسان بأنّك على حقّ، وأنّه على باطل، وأنّك على صواب، وأنّه على خطأ، أو تعمل على تجميد عداوته، ريثما تستطيع في مرحلةٍ أخرى أن تحرّك أساليبك في أجواء أفضل يمكن أن تجلب لك صداقته.
أمامك طريقان إمّا أن تحلّ المشكلة، أو أن تُجمِّدها. وعليك أن لا تلجأ أبداً إلى العنف عندما لا يكون العنف حلاَّ للمشكلة بل يكون موجباً لتعقيدها، ولإيجاد مشاكل أخرى أكثر ممّا كان موجوداً. الإسلام يؤكّد هذا المعنى، ويحدّثنا عن أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إنّما نجح في دعوته لأنّه اتّبع في الدعوة، وفي مواجهة الكلمات السلبية التي واجهه بها الكافرون، اتّبع الرّفق واللّين. وعندما كانت المشاكل تشتدّ في ما بين المؤمنين من خلال حركة المنافقين في داخلهم، كان يعالج مشاكلهم باللّين، ولعلّنا نعتبر أنّ المرحلة التي عاشها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في مكّة، بعد أن أرسله الله برسالته، والتي استمرَّت ثلاث عشرة سنة، هذه المرحلة لم يأذن له الله فيها بالقتال، ولم يأذن للمؤمنين بالقتال، ولم يأذن لهم حتّى بأن يصطدموا بالأيدي لكماً وضرباً، وما إلى ذلك. كان يريد أن يفسح في المجال لأساليب الرّفق واللّين حتى يستطيع أن يفتح عقول الناس على دعوته، فلا يشغلهم القتال عن تفهّم الدعوة. كان يربح قلوب الناس بأخلاقه وبأساليبه حتّى استطاع أن يجتذب جمهوراً كبيراً من أهل مكّة لدعوته، واستطاع بعد ذلك أن يجتذب جمهوراً كبيراً من الذين كانوا يتردَّدون على مكّة، ومنهم أهل المدينة وأهل يثرب آنذاك، ولهذا أكَّد الله له هذه الصفة، أكَّد الله شخصيّته الرسالية من خلال تأكيده لأخلاقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 4] لم يقل وإنّك لعَلى علمٍ عظيم، أو إنّك لعلى زهدٍ عظيم، أو إنّك لعلى بطولة عظيمة... لم يقلّ ذلك.
صفات الداعية
كن عالماً، كن زاهداً، كن شجاعاً، كن بطلاً.. إنّك مهما امتلكت من هذه الصفات وكنت بدون أخلاق، فستعجز عن أن تفتح الحياة لنفسك، لأنّك تفتح الحياة بمقدار ما تفتح قلوب الناس عليك. المهم أن تربح قلب الإنسان... إنّك قد تربح بالقوّة والعنف موقف الإنسان، ولكنّك إذا لم تربح قلبه، ولم تربح قناعته، فإنّك ستفقده، وسينطلق الآخرون ليتآمروا عليك من خلاله لأنّه يتبعك اتّباع المضغوط على أمره والمقهور في إبداء رأيه، فمهما أمكنك أن تتحرّك في حياتك على أساس الرّفق فلا بدّ لك أن تأخذ به، ولا بدّ لك من أن تكون إنساناً يمارس هذا الأسلوب فتفتح قلبك للنّاس ولا تغلقه عليهم. افتح قلبك للمؤمن وأحبّه حتّى تتعاون معه، وافتح قلبك لغير المؤمن حتّى تستعين بذلك على هدايته إلى الطريق، أو على تجميد عداوته لك، لأنَّ أقرب طريق إلى عقول الناس هو أن تربح قلوبهم. كوِّن صداقة مع الناس، فبالصداقة تستطيع أن تكلِّم عقولهم. إذا كان الناس لا يحبُّونك، وإذا كان أسلوبك جافّاً معهم، وإذا كنت لا تعرف الابتسامة عندما تلتقي بهم، تعاشرهم بوجهٍ عبوس وطبعٍ حادّ ومزاجٍ سيّئ، فكيف يمكن لك أن تطمع بأنَّ الناس سيقتنعون بما تقول، ابتسم قبل أن تتكلَّم مع مَن تريد أن تُقنعه، افتح قلبك له وليكن في عينيك لمعان المحبّة حتّى تستطيع أن تجتذب قلوب الناس، فإذا اجتذبت قلوب الناس بأخلاقك فإنّك تستطيع أن تجتذب عقولهم بمنطقك، ولهذا كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو المبتسم الدائم، كانت بسمته تسبق كلماته، وتشرق في قلوب الناس، وعندما نفذت بسمته إلى قلوبهم نفذت كلمته إلى عقولهم، وإذ الله يقول له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ} بكلامك {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً} في لسانك، {غَلِيظَ الْقَلْبِ}، في مشاعرك {لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران : 159] لَما تبعك أحد.
وهكذا أراد الله لرسوله أن يتحرّك في هذا الخطّ، وأنتَ عليك أن تكون الرفيق بالناس حتّى تنطلق معهم في قلبك المفتوح، لتلتقي بهم في عقلك المفتوح، وكلماتك المفتوحة، وقد تتلمذ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في مدرسة الله وقال لكلّ إنسان منّا "احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك". إذا أردت للناس أن يحبّوك فأحبّهم أيضاً، وإذا أردت للناس أن لا يفعلوا الشرّ معك فلا تفكّر بأن تفعل الشرّ معهم، فإنَّ ذلك يمكن أن يؤثّر على طريقتك في الحياة معهم وبذلك تستطيع أن تجتذبهم.
لقد ركَّز القرآن الكريم على الأسلوب الأحسن. فدين الله يمنع المسلم أن تكون لغته لغة السّباب، والقرآن الكريم يؤكّد هذه المسألة، إنَّ السّب يجتذب السّب، ولهذا فإنّك إذا سببت الإنسان الذي تختلف معه، سببته في عرضه، أو سببته في أهله، أو سببته في شخصه، أو سببته في مقدّساته، فلن تحلّ المشكلة، بل سوف تكتسب مشكلة جديدة، إنَّ هذا الإنسان سيسب عرضك إذا سببت عرضه، وسيسبّ أهلك إذا سببت أهله، وسيسبّ مقدّساتك إذا سببت مقدّساته، لأنَّ عنصر الإثارة في نفسك يجتذب عنصر الإثارة في نفسه {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ...} [الأنعام : 108]. لهذا فالسبّ ليس وسيلة لأن تضغط على قناعة إنسان، لأنّك كلّما سببته أكثر كلّما تعصّب أكثر، وبالتالي فإنّك تدفعه إلى وضع يشبه حالة الدفاع عن النفس، فالإنسان يدافع عن مقدّساته أكثر ممّا يدافع عن نفسه، وعندما يكون الإنسان في حالة الدفاع عن النفس وعن مقدّساته، فإنَّ المسألة عند ذلك لا تكون مسألة قناعة تلتقي بقناعة بل تكون المسألة مسألة عدوان يجتذب عدواناً، وقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) "لا تسبُّوا الناس فتكتسبوا العداوة بينهم"(1)، إنَّ الإنسان الذي يتعوَّد أن يستعمل أسلوب السباب كوسيلة من وسائل إدارة الخلافات في حياته مع الناس، هو إنسان سوف يُكْثِر أعداءه وهو قادر على أن لا يكثرهم، لو سببت من الصباح إلى المساء، فلن تحلّ مشكلة بذلك، لكن استبدل السبّ بكلمة فيها قدر من المنطق، وفيها قدر من المحبّة، وفيها قدر من المرونة، وامزج محبّتك ومرونتك بمنطقك فإنّك تستطيع أن تخفّف عداوة الناس إذا لم تستطع أن تلغيها.
الإنسان يحصد ما يزرعه لسانه
ثمّ نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يعلِّمنا دائماً أن نختار الكلمة الأحسن {وَقُل لِّعِبَادِي} قل يا محمّد لعبادي الذين أُريد من خلالك أن أجعلهم يعيشون حياتهم في طمأنينة وراحة، وأن يلتقوا على عبادي، ويلتقوا على الإيمان بي، ويلتقوا على بناء الحياة على خطّ الله، قل لعبادي هؤلاء، الذين أحبَّ لهم أن يعيشوا الصواب في حياتهم، قل لهم {يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قل لهم: إنَّ كثيراً من مشاكلكم في ما بينكم ينطلق من مشاكل ألسنتكم، "وهل يَكُبُّ الناسَ على مناخرهم في النار إلاّ حصائدُ ألسنتهم"(1). لسانك يزرع ولسانك يحصد.
إنَّ الذي يتكلّم الكلمة كالذي يزرع النبتة، فلو كانت عندك مثلاً قطعة أرض وتريد أن تزرعها، فإمّا تزرع ما تريد أن تأكله أو تزرع ما تريد أن تستمتع بجماله أو برائحته. فإذا كنتَ تملك أرضاً، وحرت في أمرك بين أن تزرع زهرة، أو تزرع شوكة، فهل تختار أن تزرع الشوك أم تفضّل أن تزرع الورد؟ غالباً، نحن نحبّ أن نزرع الورد، وعندما يكون عندنا ورد يشتمل على شوك بسيط نحاول أن نقلع ذلك الشوك من بين أوراق الورد. ألاَ نفعل ذلك؟ لسانك كذلك، عندما تأتي الفكرة في وجدانك لتلقيها إلى لسانك، فأنتَ تزرع في لسانك وردة يرتاح الناس إليها، أو تزرع شوكة يتألَّم الناس منها، وتتألَّم أنت منها، لماذا نحبّ دائماً أن نزرع أشواك الكلمات في ألسنتنا ولا نزرع ورود الكلمات فيها؟ لماذا نستعجل؟ إنَّ علينا أن لا نستعجل إطلاق الكلمة فإنّك إذا لم تقلها الآن، فقد تستطيع أن تقولها غداً، أو بعد غد. الله يقول لك حتّى في مسألة الورود، لا تزرع الورد كيفما كان، اختر أفضل الورود، حاول ما دمت تريد أن تزرع، وأنتَ قادر على أن تزرع الأحسن، عليك أن تختار الأحسن {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يعني إذا أردنا أن نستعمل التعبير الشعبي "الشيطان يختبئ ويدخل في عبّ الكلمة"، يدخل حيث المشاعر حادّة، والأعصاب متوتّرة، فتأتي الكلمة حادّة تجرح بعض الناس، إنّك تقول، أريد أن أُثيره، أريد أن أجرحه، لكن ما النتيجة؟ لو فرضنا أنّك قلت كلمة وأدّت بك إلى الموت أو إلى تخريب حياتك فهل حصلت على نتيجة؟ {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يعني يدخل، {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإسراء : 53] لهذا حاول أن تفرغ كلمتك ممّا يحاول الشيطان أن يستغلّه ليخلق لك مشكلة مع الناس، استعمل ذلك في بيتك، كم من البيوت الوادعة المطمئنّة تهدَّمت بفعل كلمة انفعالية قالها زوج، أو بفعل كلمة انفعالية قالتها زوجة، كم من البيوت تهدَّمت ولو أنَّ الزوج حاول أن يعبّر عمّا في نفسه بكلمة أفضل، أو أنّ الزوجة حاولت أن تعبّر عمّا في نفسها بكلمة أفضل لَمَا حدث ما حدث، ولَحَقَّق كلّ منهما ما يريد.
لندرس الكلمة قبل إطلاقها
إنَّ الإمام عليّ (سلام الله عليه) يركّز على أنّ الإنسان يجب أن يدقّق بالكلمات "الكلام في وثاقك" إنّ الكلمة، قبل أن تقولها، هي في قيدك، فأنتَ تستطيع أن تطلق حريّتها وتستطيع أن تتركها مقيّدة "فإذا تكلّمت به صرت في وثاقه"(1) أي كان الكلام في وثاقك، كان في سجنك، ماذا تختار؟ أن تطلق حريّة الكلمة أو لا تطلق حريّتها، "فإذا تكلَّمت به صرت في وثاقه" أصبحت مقيّداً بكلمتك، أنتَ وقعت، أنتَ تكلَّمت، وكلامك شرف، أنتَ حكيت الحكاية، وهذه الحكاية تُدينك في المحكمة، وهكذا صرت مقيّداً بكلمتك، والإنسان إذا أراد أن يقيّد نفسه بشيء في الدنيا أو في الآخرة، فعليه أن يختار القيد الذي لا يحقّق له الهلاك، ولا يمنعه من أن يمارس حريّته في الحياة، يجب أن نفكّر بهذه الطريقة داخل بيوتنا، في مجتمعاتنا وفي كلّ جوانب حياتنا. هناك بعض الناس يخطِّطون لإثارتك كي يدفعوك إلى حالة من الغضب والشتم، والهدف اصطياد ردّة الفعل هذه، وتوظيف كلامك الانفعالي في الفتنة. فقد يأتي إليك هذا الشخص ليسجّل لكَ كلماتك الحادّة سواء في آلة تسجيل أو في ذهنه، يقول فلان يتكلّم عليك، وأنتَ مؤمن ووطني وما شابه ذلك من الكلمات، ويظهر الغيرة عليك، هكذا ينفخ لك شخصيّتك حتّى يدفعك لتقول الكلمة التي ليس من مصلحتك، ولا من مصلحة الناس أن تقولها. في هذه الحال، الله سبحانه وتعالى يقول للنّاس {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان : 63] يعني لا تسبّه، لا تشتمه أو تثره، قل سلامٌ عليك.
كيف نردّ الإساءة؟
مرَّ الإمام السجّاد زين العابدين (سلام الله عليه) يوماً، فسبّه شخص فمضى، قال: إيَّاك عنّي، لقد سببتك وما التفت، ما سببتُ غيرك، بل سببتك أنت، قال إيّاك أعرف وعنك أعرض، وقال له ما قال سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف : 199]. طبعاً هذا هو الجوّ العام، لكن هناك استثناءات، بعض الناس إذا ما تعاملت معهم بهذه الطريقة فإنّهم يزدادون إثماً، يجب أن تدرس دائماً الحالات الاستثنائية، وحتّى عندما تريد أن تردّ الإساءة كما يقول الله سبحانه وتعالى: {... فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ...} [البقرة : 194]، حيث يعطينا الله الحقّ بالردّ، لكن عندما تردّ، ردّ برفق وعقل بحيث تقطع الطريق على المعتدي فلا تعطيه الفرصة لتصعيد موقفه. هذه المسألة، حتّى عندما تريد أن تردّ على خصمك، فكِّر في أن تقول الكلمة ردّاً عليه، ولكن بطريقة لطيفة ومرنة ومعقولة، اجعله يفهم القصّة وكأن لم تقل شيئاً. إنَّنا نحتاج إلى الكثير لكي نقتدي برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، قال الله لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21] يعني أنتم الآن عندما تسمعون كلمة عن النبيّ محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لا بدّ من أن تجعلوا رسول الله قدوتكم، وهذا هو الإسلام، الإسلام أن تلتزم بالله، وأن تلتزم برسول الله، أن تلتزم بقوله وبفعله، لأنَّ الانتماء للإسلام يعني الارتباط بالقيادة الإسلامية، والرسالة النبويّة، أن ترتبط بها فعلياً، ليس مجرّد أن تهتف باسمها، بل أن ترتبط بها ارتباطاً أساسياً، فتجعلها القدوة في كلّ حياتك، وقد ورد في بعض الأحاديث عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وعن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) "إنَّ الله رفيق يحبّ الرّفق"(1) وأنّه يعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف، فعندما تكون مخيّراً بين أن تحلّ المشكلة بالرّفق أو بالعنف، فتحلّها بطريق الرّفق واللّين والروية فإنَّ الله يعطيك ثواباً على ذلك أكثر ممّا يعطيك لو حللتها بالعنف.
لنضبط كلماتنا أثناء الأزمات
يجب أن نركِّز حياتنا الاجتماعية على هذا الأساس، نجمّد أعصابنا، ونفتح قلوبنا بها. إذا كنت تدخّن السيجارة، وأردت أن ترميها على الأرض والدنيا وقت الحصاد حيث القشّ أو الحنطة أو الشعير، إذا رميت السيجارة فبعد لحظات يحترق البيدر كلّه.
لنتأمّل كيف يفكّر أعداؤنا في جامعات "إسرائيل" وأميركا، فهناك كليّات أو مواقع في الجامعة أو مؤسّسات موجودة تدرس خلافات الشعوب، خلافاتهم العائلية، خلافاتهم القروية، خلافاتهم الطائفية وخلافاتهم السياسية، كلّ الخلافات يدرسونها، يأتون بعلماء نفس، وعلماء اجتماع، وعلماء أديان، وعلماء سياسة، لدراسة هذه الأوضاع بطريقة المخابرات ثم يعملون على أن ينفذوا إلى داخل المجتمعات الصغيرة أو المجتمعات الكبيرة مركّزين على إثارة عصبيّاتها وتفجير خلافاتها، مستغلّين نقاط ضعفها، سواء على المستوى العائلي، كما كنّا نعيش في أيام الزعامات الإقطاعية، أو على المستوى الحزبي كما نعيش هذه الأيام، أو على المستوى الطائفي وغيره.
لهذا لا تقلّ كلّ ما في نفسك، إذا كنت في المسجد، أو في الشارع، ولو صفَّق لك الناس، لأنّهم يصفّقون لكلّ ما يثير عصبيّاتهم، يجب على الإنسان، بقدر ما يكون مسؤولاً، أن يكون دقيقاً في كلماته، لأنَّ المجتمع كلّه في أوقات الأزمات وفي أوقات الفتن، المجتمع يصبح متقبّلاً لكلّ الحرائق، ليس في لبنان فقط، بل في كلّ المناطق التي تمتلئ بالمشاكل في واقع الناس وفي واقع الشعب. إنَّنا نحتاج أن نكون مسؤولين أمام الله، مسترشدين بالرسول الكريم وأهل بيته. في أحد الأيام رأى الإمام عليّ (عليه السلام) شخصاً يتكلَّم ويأخذ حريّته في الكلام فقال: "يا هذا إنّك تملي على حافظيك كتاباً فانظر ماذا تقول"(1) أنت تتكلَّم الآن، وكلامك واصلٌ إلى الله تعالى. إنّك تقول أيّها المَلَكان الحفظان عليَّ سجِّلا، فلان كذا وكذا، سجِّلا هذه الغيبة، سجِّلا هذه النميمة، ما رأيك عندما تصعد هذه الكلمات إلى الله سبحانه وتعالى، كيف سيكون وجهك يوم القيامة؟ كيف تقف أمام الله سبحانه وتعالى؟ وكيف نقف جميعاً لأنّنا نغزل على المنوال نفسه؟.
الفرق بين العاقل والأحمق
ولقد فرَّق الإمام عليّ (عليه السلام) بين الأحمق والعاقل بقوله: "لسان العاقل وراء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه"(1) قالوا يا أمير المؤمنين لا نفهم عليك، اللّسان في مكانه والقلب في مكانه، لا يوجد فرق، هذا لسانه في فمه، وقلبه في صدره، وعقله في رأسه، لا فرق بين الأحمق والعاقل، قال: أنا أريد المعنى، لا القلب المادي واللّسان المادي، لأنَّ العاقل إذا تكلَّم الكلمة تذكّرها، فإنْ رآها خيراً ألقاها إلى لسانه، وإنْ رآها شرّاً أمسكها، وأمّا الأحمق فإنَّ الكلمة عندما تخطر في ذهنه فإنّه يتكلّمها، ثمّ بعد أن يتكلّمها وتفعل فعلها في الواقع، يفكّر فيها، كيف قلت هذا، ليتني لم أقل. إذاً يجب أن نتعلَّم كيف ندير كلماتنا؟ كيف نختار كلماتنا؟ وكيف نبرّد كلماتنا؟ وكيف نحاول أن نركّز كلماتنا على أساس أن تكون خيراً ولا تكون شرّاً، ولاسيّما في أوقات الفتن.
من جهةٍ ثانية، في بعض الحالات قد يأتي أحد ليدخل معك في معركة، يتحرَّش بك حتّى تردّ عليه لتضربه وهو مخطّط لذلك، يريد أن يجعل من ردّك قضية تشعل فتنة في البلد أو في المنطقة، ويأتي هنا دور المخابرات، المخابرات المحليّة، أو مخابرات الأحزاب، أو المخابرات الخارجية، مثلاً في الفتن الطائفية، قد يأتون لسنّي ويقولون له: اذهب وسبّ مقدّسات الشيعة، أو لشخص مسلم ويقولون له: اذهب وسبّ مقدّسات المسيحيين أو لشخص مسيحي ويقولون له: اذهب وسبّ مقدّسات المسلمين، وتقع الفتنة سنيّة ـــ شيعيّة، ومسيحية ـــ إسلامية، وهكذا بالنسبة للأحزاب، يقال لشخص اذهب وسبّ الزعيم الفلاني، وتثور القصّة، وهكذا، فإذا جاءك أحد ويريد أن يثيرك فعليك أن لا تُستثار بل عليك أن تدرس طبيعة الأرض، وطبيعة الظروف، وطبيعة خلفيات هذا الإنسان.
بين الرّفق وردّ العدوان
يجب أن نعالج الأمور التي يراد من خلالها خلق الفتنة وخلق المشكلة على أساس الرّفق وعلى أساس العقل ثمّ التصرّف بعد أن ندرس طبيعة المسألة، وبعد أن ندرس آفاقها ونتائجها، ولهذا علينا أن لا نفكِّر دائماً بمنطق: إذا تكلَّم أحدٌ عليَّ بسوء أو سبّني أو أراد أن يثيرني دون أن أردَّ عليه أكون ذليلاً. لا، ربّما تكون أكثر عزّة إذا لم تردّ عليه، لأنّه قد جاء ليرتّب وضعاً ما، ربّما يطوّقك ويوصلك إلى نتائج سيّئة، ليس أنت فقط، أنت وكثير ممّن معك وكثير من الناس.
نحتاج ـــ أيُّها الإخوة ـــ إلى أن نفكِّر، "إنَّ الرّفق ما وُضِعَ على شيء إلاّ زانه وما رُفِعَ عن شيء إلاّ شانه" الرّفق أن تداري القضايا وتداري الأمور بشكلٍ لا ينطلق في حياتك بطريقة انفعالية، أو بطريقة حماسية، أن تداري الأمور برفق، الرّفق في كلّ شيء، كن رفيقاً في حياتك، عندما يعطيك الله المال، لا تصرفه بطريقه عشوائية، كن رفيقاً في مصرفك، كن رفيقاً في حياتك، قدِّر ظروفك وإمكاناتك، كنْ رفيقاً في تصرّفك وحاجاتك، وحاول أن توفِّق بين ظروفك وحاجاتك وإمكاناتك حتّى تستطيع أن تضبط حساباتك في حياتك. في مجال الصحبة، "ما اصطحب اثنان إلاّ كان أعظمهما أجراً عند الله تعالى وأحبَّهما عند الله تعالى أرفقهما بصاحبه"(1)، أنت أرفق لصاحبك يعني أنتَ أكثر أجراً.
الأساس في الإسلام هو أن يعالج الإنسان الأمور بالرّفق وباللّين وبترك عناصر الإثارة، إلاّ إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك بحيث لا يؤدّي استخدام اللّين إلى أيّ نتيجة. وهذا الإمام زين العابدين (سلام الله عليه) يقول: "وحقُّ مَنْ ساءك أن تعفو عنه وإن علمت أنَّ العفو يضرّ انتصرت"(2).
الجهاد ليس عدواناً
عندما كان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في مكّة لم يكن يلجأ إلى العنف، كان يطلب من المسلمين أن لا يلجؤوا إلى العنف لأنَّ المصلحة كانت في ذلك الوقت أن يفتح قلوب الناس على الدعوة، لكن عندما هاجر إلى المدينة ورأى أنَّ قريشاً تستمرّ في استخدام كلّ قوّتها في سبيل إبعاد الناس عن الإسلام وعن النبيّ، وأنّها تقف حاجزاً بين الناس وبين دخولهم إلى الإسلام، مستعينة بقوّتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، عند ذلك رأى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنْ لا مجال إلاّ أن يدخل معهم في قتال، انطلاقاً من كلام الله سبحانه وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج : 39]، {... وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [التوبة : 36]، لأنَّ المشركين لم يكونوا مستعدّين لأن يخفّفوا من ضغطهم على الإسلام وعلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وعلى المسلمين، فقال لهم رسول الله: يا جماعة أنتم أقربائي وأهلي وعائلتي، اتركوني أنا والعرب، لا تريدون الإيمان بي، كونوا على حياد، فإذا انتصرت بحسب منطقكم أنا منكم وشأني شأن كبير فهذا شيء إيجابي بحسب منطقكم ومنطق العشائر عندكم، وإذا انكسرت فقد كفيتم أمر الناس، لماذا تريدون قتلي.. وهكذا شرَّع الله سبحانه وتعالى الجهاد لهذه الغاية، الجهاد ليس حالة عدوانية، سواء كان الجهاد الابتدائي أو الجهاد الدفاعي، الجهاد يمثّل حالة وقائية، وحالة دفاعية، فعندما لا يسمح بعض الناس لدعوة الإسلام بأن تأخذ حريّتها، فإنَّ الإسلام بعد دراسة الأمور، يرى المصلحة بأن يقف ضدّ هؤلاء حتّى يأخذ حريّته في هذا المجال، هذا إذا هم لم يقفوا ضدّه يحاربونه.
إنَّ الشخص الذي يستعدّ لأن يدمّر حياتك، أو يدمّر اقتصادك، أو عزّتك، وكرامتك، وحرّيتك، وثقافتك على أساس امتلاكه القوّة، ليس من المعقول أن تسلم له أو تعطيه باقة ورد. في هذا المجال عليك أن تقف في وجهه وعليك أن تواجهه كما يواجهك، وعليك أن تحاصره كما يحاصرك، وعليك أن تعمل على أن تضغط على مصالحه كما يضغط على مصالحك، طبعاً بالوسائل التي يمكن أن تؤدّي إلى النتائج لا بالوسائل الانفعالية، لأنّ العدوّ قد يستفيد من انفعالك وأنتَ تهاجمه أكثر ممّا يستفيد من عدم مواجهتك له، لأنَّ الانفعال يُبرز كلّ نقاط ضعفك التي يستطيع العدوّ أن يستفيد من خلالها. فعندما نقاتل الاستعمار أو العدوان الصهيوني أو الظلم الداخلي، يجب أن ندرس بشكل أساس حتّى كلماتنا، لأنّ أعداءنا سيأخذون كلماتنا الانفعالية ليشوِّهوا صورتنا من خلالها، باعتبار أنّ الذهنية الموجودة عندنا تختلف عن الذهنية الموجودة في الغرب، مثلاً يمكن أن تتكلَّم كلمة يعتبرها الوسط السياسي عندنا كلمة جيّدة لكن في مفهوم الرأي العام العالمي، قد تشير هذه الكلمة إلى وحشيّتك، وقد تشوّه صورتك عند الآخرين.
لهذا، نحن في الخطاب السياسي عندما نطلق كلماتنا وخطابنا السياسي لا بدّ من أن يكون خطابنا مدروساً بطريقة لا يستطيع أعداؤنا أو يشوِّهوا صورتنا عند شعوبهم من خلال عدم دقّتنا في عرض كلماتنا، وحتّى الأساليب الأخرى التي نحارب فيها الأعداء لا بدّ من أن تكون أساليب مدروسة من جميع الجهات حتّى تستطيع أن تَضعِف العدوّ ولا تثير أيّ نقطة ضعف كبيرة في حياتنا. فالإسلام إذاً، إنّما يشجّع على العنف بالنسبة إلى الناس الذين لا يخاطبونك إلاّ بلغة العنف ولا يتعاملون معك إلاّ على أساس ما يثيرونه في حياتك من عنف، سواء كان هذا العنف سياسياً، أو عسكرياً، أو أمنياً. إنّك في هذه الصورة لا بدّ لك من أن تواجه العنف بالعنف إذا لم يكن لك سبيل إلى مواجهة العنف باللّين، ولكن بحسب التجربة فإنَّ العنف في القضايا الداخلية لم يستطع أن يحقّق نتائج إيجابية، بل غالباً ما حقَّق النتائج السلبية.
طريقة التعامل مع الفتنة
إنَّ علينا أن نهرب ـــ ما أمكن ـــ من الفتن الداخلية وأن نخفّف من كلّ الأساليب التي تثير الفتن في ما بيننا، وذلك لأنَّ الدائرة الداخلية تختلف عن الدائرة الخارجية. الدائرة الداخلية، دائرة محصورة في حدود معيّنة تحاصرها الأوضاع العائلية، والطائفية، والحزبية، لهذا فإنَّ أيّ نوع من أنواع العنف في الخلافات الداخلية، سوف يلتفّ عليه الآخرون ولاسيّما المخابرات لتخلق منه فتنة تحرق الأخضر واليابس، والله يقول: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال : 25]،لأنَّ النار إذا اشتعلت هنا، فإنّها تشتعل في البلد كلّه، يجب أن نتعامل مع الفتن الداخلية تعاملاً دقيقاً، بحيث لا يؤدّي هذا التعامل إلى خلق مشاكل للبلد كلّه وللنّاس كلّهم، لأنَّ هناك كثيراً من الفتن تحرق الجميع، سواء الذين أثاروا الفتنة أو الذين كانوا ضحيّتها، ذلك أنّ العقلية الداخلية المبنية على العصبية هي عقلية مجنونة، وهكذا مرّت على الحرب الداخلية عندنا أربع عشرة سنة تقريباً وما استطاع القتال الداخلي أن يحقِّق نتيجة، لأنَّ الأوضاع اللبنانية أوضاع مقسّمة طائفياً ومذهبياً وسياسياً وشخصياً، ولهذا فإنَّ أيّة شعارات كبيرة عندما تتحرّك تطوّقها الأوضاع الصغيرة، الأمر الذي يدفع إلى القول: إنّ هذا البلد محكوم على أطرافه بالبحث عن وسائل وأساليب معيّنة تستطيع أن تحقّق لهم ولو أقلّ قدر ممكن من التوافق على بعض الأشياء في غياب إمكانات سياسية وغير سياسية لاحتواء واقع البلد كلّه.
إنّنا قد نستطيع في داخل هذا البلد أن نصل من خلال السلم إلى ما لم نستطع أن نصل إليه في الحرب، وهذا لا يمنع من أن نواجه حالات ضاغطة، لكن علينا أن لا نندفع بالعقلية الغريزية المبنية على العصبية، لأنّ كلّ الأجهزة التي ترعى الفتنة في هذا البلد، وترعى الواقع الطائفي فيه، تحاول أن تدخل على خطّ الفتنة عن طريق {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء : 53] تدخل في كلّ هذه الأمور، ولهذا رأينا أنّهم استطاعوا في هذه الفتنة أن يوصلوا الناس إلى نقطة الصفر، من دون أن يحصل الناس على شيء، كما يحصل الآن في مسألة الاستحقاق الدستوري التي نعيشها في هذه الأيام. إنَّ هناك حكومتين، والناس اعتبروا أنّ لبنان انتهى، لكن هذا أيضاً جزء من اللعبة الدولية، وأنا ما زلت على كلامي الذي كنتُ أقوله، وهو أنّ اللعبة مدروسة ومضبوطة، لا يوجد تقسيم في لبنان، يوجد حكومة هنا وحكومة هناك، لكن لا يوجد تقسيم، والذين يديرون لعبة الفتنة في هذا البلد يملكون ضوابط في إدارة المسألة حتّى عند حالات الخلاف، كما يحدث الآن.
اللّعبة الأميركية
إنَّ هناك ضوابط معيّنة تحكم حركة هذا البلد، مع كلّ أسف نقولها دائماً، هذا البلد لم يُحكم من خلال قيادات يفرضها الناس فيه، بل غالباً ما كانت هذه القيادات أو تلك تعين من قِبَل هذه الدولة أو تلك. كان الوضع يسير في هذا الشكل، ولكن كان هناك شيء اسمه حفظ ماء الوجه، يتمّ تعيين الشخص القائد ويتمّ الاتفاق عليه ولكن لا يتكلّمون، ثمّ يأتون للبنانيين ويقولون لهم: أنتم في بلد حرّ ديمقراطي، خذوا حريّتكم في الانتخاب، وهذه المرّة دخلت أميركا على هذا الخطّ بالطريقة المعروفة، فتمَّ الاتفاق على اسمٍ معيّن(1)، وعرضت واشنطن هذا الاسم على أساس إمّا القبول به وإمّا الفوضى، إمّا هذا وإمّا الدمار(2)، إنّ أميركا تلعب على خطّين، والطريقة التي أُثيرت بها المسألة تثير الأعصاب، يعني تدبّروا أمركم، ويجب أن تفعلوا ما نريد.
يجب أن نحذر من الضوء الأخضر الأميركي للمعارضة، لأنّنا من الصعب أن نصدّق أنّ هؤلاء الناس الذين ينطلقون ساعة مع "إسرائيل" وثانية مع بريطانيا وثالثة مع غيرها، وهم عرضوا على واشنطن التدخّل في الحكم، والقوات وغيرها من القوى قد استيقظت فجأة صحوة الضمير عندهم فتمسّكوا بشعارات الاستقلال والحريّة والديمقراطية.
لا تزال اللعبة أميركية، ولا يزال أيضاً هذا الذي عُيّن الآن بطريقة معيّنة هو الولد المدلَّل لأميركا والذي لا يتكلّم بطريقة العنتريات. وقد وصلتنا معلومات دقيقة مفادها أنّ ضبّاطاً إسرائيليّين جاؤوا وطلبوا من بعض القيادات العسكرية الميليشيوية هناك أن ينسّقوا مع الجيش في سبيل إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه. إنَّ هذه المسألة مسألة إسرائيلية، ربّما إسرائيلية ـــ أميركية، ولكن مع ذلك هناك إيحاء أميركي الآن للأوضاع السياسية، بأن لا تتفجَّر عسكرياً وأن يسمح للدبلوماسية الخفيّة بأنْ تتحرّك لتضبط الأمور ولو بعد أيّام أو بعد شهر أو شهرين لهذه المسألة، إنَّ المسألة تتحرّك بضوابط سياسية في العمق وإنْ كانت تثير كثيراً من المشاكل في السطح، لأنَّ الطبخة اللبنانية في مستقبل لبنان لا تزال تحتاج إلى كثير من النضوج، إمّا على نار سياسية وهذا ما يحدث الآن، وإمّا على نار أمنية وهذا ما نرجو أن لا يكون، ويؤكّد الكثيرون أنّه لن يكون، باعتبار أنّه لن يفيد أحداً.
إسقاط صيغة الامتيازات
إنَّ التاريخ الذي كان محدَّداً لما يسمّى الاستحقاق الدستوري لم يتّسع لإنهاء المسألة، والمسألة يجب أن تتحرّك في الطريقة التي يراد لها أن تسير فيها، ونحن نريد من خلال ما نواجهه في هذا الظرف العصيب، أن ننبّه إلى أنّها الفرصة التي يفترض أن يفهم فيها اللبنانيون كلّهم، أنّ هذه الصيغة التي لا يزالون يعيشون فيها قد سقطت، وإنَّ علينا في هذا الجوّ أن نُسقِط صيغة الامتيازات، وأن نقول للموارنة، ونقول للمسيحيين إذا ساروا في دائرة الموارنة، نقول لهم: إنَّ الامتيازات التي لا تزالون تعملون وتحرقون الأخضر واليابس حتّى تبقى لكم، لم تستطع أن تبني لكم بلداً، ولم تستطع أن تحقِّق لكم أمناً طائفياً، وأن تثبت الأرض تحت أقدامكم، ولن تستطيع ذلك إذ مهما امتدّت الامتيازات، فسوف يأتي وقت تسقط فيه.
تعالوا إلى وضع تتحرّك فيه دولة الإنسان إذا لم نستطع أن نحرّك دولة الإسلام، فتعالوا لنحرّك دولة الإنسان ليكون الإنسان مواطناً بإنسانيّته، ولتكون إنسانيّته هي الأساس في ما يفرض عليه من حقوق ومن واجبات. لن تكون بديلاً عمّا نعتقده، ولكنّها تكون حلاًّ مرحلياً لذلك، حتّى تكون عندنا ساحة واسعة يستطيع كلّ واحدٍ منّا أن يفتح فيها فكره على عقول الآخرين ليقتنع الناس من خلال ذلك.
في هذا المجال، نحن نريد أن تكون هناك جمهورية جديدة، وأن يكون هناك نظام جديد، لأنَّ الجمهورية القديمة قد تعفَّنت، وقد أصبحت لا تحمي أحداً، ولا تحلّ مشكلة أحد. لينطلق الفراغ الدستوري إلى ما شاء الله، فلن يسقط لبنان، ولكن عندما نريد أن نملأ هذا الفراغ فإن علينا أن لا نملأه بشخص، بل أن نملأه بنظام جديد للبلد كلّه، وللإنسان كلّه؛ نظام يحترم فيه الإنسان حريّته، ويحترم فيه الناس إنسانيّتهم المشتركة في ما بينهم، ويحترم فيه الآخرون إنسانية الإنسان في هذا البلد. علينا أن نصرّ على ذلك. لن يبقى عندنا ما نخسره، فقد ركب هؤلاء رؤوسهم، وقد أصبحوا يتحرّكون من موقع العنصرية التي يعيشونها في حياتهم. لم يقسَّم هذا البلد ولسنا نريد تقسيمه، ولكن علينا أن نعمل بكلّ ما عندنا من طاقة في سبيل أن يتوحَّد الجميع على أساس القضايا التي تكفل حقوق الجميع، وتكفل إنسانية الجميع على جميع المستويات، على أساس أن يعيش المستضعفون الحريّة والعزّة والكرامة في كلّ المجالات، وأن نبقى في حياتنا كلّها نتحرَّك في خطّ مواجهة كلّ القوى الظالمة بحسب ما نملك من طاقة وإمكانات.
حذار من الفتنة
إنَّ علينا في هذه الظروف العصيبة أن نحدِّق جيّداً بالساحة التي تعمل فيها أجهزة المخابرات المحليّة والإقليمية والدولية، التي تعمل على إثارة المشاكل في ساحتنا وتحريك الفتنة العمياء في أرضنا من خلال عمليات الاغتيال وغيرها من العمليات، إنَّنا نشجب هذا الأسلوب لأنّنا نخشى أن تنطلق الساحة على أساس الفتنة التي يريد الآخرون أن يحرِّكوها من جديد، لأنّهم لم يستطيعوا أن يسقطوا هذه الساحة بحسب ما يريدون. إنّهم يحاولون أن يكملوا عملية الإسقاط. لهذا ما أريده من كلّ إخواني وأبنائي في هذه المرحلة الصعبة، أن نكون الواعين في كلّ كلماتنا، وأن نكون الواعين في أعمالنا، أن نكون الواعين في مواقفنا، أن لا نتحرّك بانفعالاتنا ولا نتحرّك بعواطفنا ولا بالشائعات التي تطلق هنا وهناك، لقد بدأت الإذاعات الاستعمارية والصهيونية تحاول أن تثير المسألة على أساس أنّها امتداد لما حدث(1)، وعلينا أن نكون الواعين، لأنَّ القضية أنّه لا مصلحة لأحد في ما حدث، ولكنَّ المصلحة للذين أوقدوا الفتنة في الجنوب من المخابرات المحليّة والدولية، والذين أوقدوا الفتنة في الضاحية من المخابرات المحليّة والدولية.
تعالوا أيُّها الإخوة، هنا وفي الجنوب وفي البقاع وفي كلّ مكان، تعالوا لنعتصم بحبل الله جميعاً، ولنكن الواعين والثابتين، ولنكن الصادقين، ولنكن المتّقين في ما نسمع وفي ما نقول وفي ما نتحرّك، لأنّنا إذا نجحنا في ذلك فسوف ننجح في أكثر من ذلك، وسوف ننجح في وحدة الصف غداً وفي الموقف الجهادي الواحد ضدّ "إسرائيل"، وضدّ الاستكبار، وضدّ الذين يريدون أن يفرضوا علينا الاستعباد في داخل بلدنا.
أيُّها الإخوة، جميعاً، علينا أن نكتشف كيف نتوحَّد وعلينا أن نكتشف أعداءنا مَن هم، ليس بعضنا عدواً لبعض، ولكنّ العدوّ هو الذي يترصّدنا من جميع الجهات ويريد أن يسقطنا ويسقط روح الثورة في نفوسنا ويسقط روح الإسلام في حياتنا ويسقط كلّ الواقع.
إنَّنا ندعو إلى الوعي كلّ الوعي، وإلى اليقظة كلّ اليقظة، وإلى الوحدة كلّ الوحدة، حتّى نستطيع أن نضع أقدامنا على أرض ثابتة نحميها ونحرسها ونحرّرها، ونواجه كلّ مَن يريد أن يقتلعنا منها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
الإمام الحسين (عليه السلام)
نموذج الثورة الرائدة(*)
في هذه الأيام، نعيش ذكرى الحسين (عليه السلام) في يوم أربعينه، ونحن عندما نريد أن نستثير ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام)، والصفوة الطيّبة من أهل بيته وأصحابه، فإنّنا نريد دائماً أن نجعل هذه الثورة من خلال روحيّتها، ومن خلال خطّها، ومن خلال مضمونها، ومن خلال طبيعة التحدّي الذي يتمثّل فيها، نريد أن نجعل من هذه الثورة الحسينيّة مرآة لكلّ نشاطاتنا الإسلامية العملية، باعتبار أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) وهو الإمام المفترض الطاعة، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، في كلّ ما قاله، وفي كلّ ما فعله، يمثّل الشرعية الإسلامية. فكلّ كلمة قالها هي بالنسبة إلينا تمثّل الحقّ في كلمات الإسلام، وكلّ عمل قام به يمثّل الحقّ في نشاط المسلمين في كلّ أوضاعهم العملية.
مرتكزات الموقف الحسيني
إنّنا عندما نريد أن نستحضر ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) فلا بدّ لنا من أن ندرس كلّ مفرداتها في كلّ ما طرحه الإمام الحسين (عليه السلام) فيها، الكثيرون من الناس يطرحون المسألة الجهادية فقط عندما يطرحون المسألة الحسينية، فيتحدّثون فقط عن حركة التضحية، وعن حركة الجهاد في هذه الثورة، ولكنّنا عندما نريد أن نتحدّث عن حركة الجهاد في هذه الثورة، فعلينا أن نفهم الأساس الذي ينطلق منه الجهاد وفي أيّ سبيلٍ هو. ليس من مشكلة في حياة الإنسان كمسلم أن يجاهد، ولكن على أيّ أساس تجاهد، وعلى أيّ أساس تُقاتِل؟ إنّ الذي يجعل من جهادك جهاداً في سبيل الله، أو جهاداً في غير سبيل الله هو المضمون الذي تحمله في نفسك عندما تريد أن تحرِّك خطواتك للجهاد، فمن قاتَلَ لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، فهو المجاهد في سبيل الله. ومن قاتل على أساس عصبيّة شخصيّة أو عائليّة أو عرقيّة أو حزبيّة أو ما إلى ذلك، فقد قتل في سبيل الشيطان؛ ولذلك فإنَّ الله سبحانه وتعالى تحدَّث عن هؤلاء الذين يريد الله أن ينصرهم ويريد منّا أن ننصرهم، تحدَّث عنهم من خلال الأهداف التي يستهدفونها ولهذا قال الله: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج : 41] أن ينطلق الجهاد على أساس أن يكون هدف المجاهدين إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والانفتاح على الله سبحانه وتعالى، ولهذا فإنَّ معنى أن تكون مُجاهِداً أن تنطلق من روحك الإسلامية كمتزيِّن بالإسلام، وكملتزمٍ بالإسلام وكعاملٍ في خطّ الإسلام، ومن أجل نصرة الإسلام.
كيف نفهم مقولة الصراع الديني
على هذا الأساس، فإنّنا نرفض الكثير من الكلمات التي تقول إنَّ علينا عندما نريد أن نقاتل "إسرائيل"، أن لا نقاتلها على أساس ديني، ولكن لا بدّ من أن نقاتلها على أساس سياسي، أو أنّنا لا نريد أن نقاتل اليهود المعتدين في فلسطين، بل نريد أن نقاتل الصهيونية. بعض الناس يعتبرون أنّ مقولة القتال على أساس أنّ دينك يفرض عليك ذلك تمثّل انحرافاً عن خطّ الكفاح والنضال، لأنّهم يقولون إنّنا لا نريد أن نجعل الصراع دينياً، كأنَّ الدين يمثّل معنى يعيش خارج نطاق الصراع، أو كأنَّ الدين لا يملك روحية الصراع في مواجهة الباطل وفي مواجهة الظلم، وفي مواجهة البغي والعدوان، لكن نريد أن نؤكّد أنَّ صراعنا في كلّ ما نتحرّك فيه، هو صراع ديني لا بمعنى أنّنا نقاتل الذين يختلفون معنا في الدين لمجرّد اختلافهم معنا، فالله لم يطلب إلينا أن نقاتل الذين يختلفون معنا في الدين، إلاّ إذا ظلمونا، وإلاّ إذا أخرجونا من ديارنا بغير حقّ، وإلاّ إذا واجهونا بالأساليب التي يحاولون من خلالها أن يتآمروا على مصيرنا وعلى مستقبلنا.
إنَّ صراعنا ديني معناه أنّنا ننطلق من ديننا ومن أحكامنا الشرعية، من إخلاصنا لله في سبيل مواجهة كلّ الذين يعملون لكي يزرعوا في الحياة الظلم، أو يزرعوا في الحياة الانحراف، فنحن عندما نواجه اليهود فإنّنا نواجههم من موقع يهوديّتهم المستعلية ويهوديّتهم الباغية ويهوديّتهم الظالمة، كما أعطانا الله الخطّ، {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ...} [المائدة : 82] نحن نتحرّك على هذا الأساس؛ نقاتل من مواقعنا الإسلامية الجهادية في ما تفرضه الأحكام الشرعية علينا، ليكون حكم الله هو الذي نستهديه عندما نرفض موقفاً، أو عندما نتبنّى آخر، سواء كان الصراع صراعاً على مستوى القتال بالسلاح أو كان الصراع صراعاً على مستوى المواجهة السياسية، أو غير المواجهة السياسية.
في هذا المجال، إنّنا نعتزّ بموقف هذا الشاب المسلم المجاهد الذي اكتشفنا أنّه لا يزال في سجون "إسرائيل"، بعد أن كان الظنّ أنّه استُشهد مع رفاقه، هذا الشاب "البرزاوي" الذي يقف أمام القاضي الإسرائيلي ليقول له: إنّني مسلم أنتمي إلى الإسلام، وأُقاتلكم لأنَّ الإسلام يأمرني بأن أُقاتلكم، ولستُ غاضباً أو نادماً من حكمكم عليّ، حتّى لو حكمتم عليّ بالسجن المؤبّد، فلا أندمُ على ما فعلت، لأنَّ الحكم لله، وليس لمحكمتكم.
إنَّ موقف هذا الشاب المسلم المجاهد وهو يتلقّى الحكم عليه بالسجن الذي يتلخَّص بقوله: ديني يأمرني أنْ أُقاتلكم، إنَّ هذا الموقف يتطلَّب أن نستشعره في أعماقنا أيُّها الإخوة، ألاَّ يخدعَنَكم أحد عن دينكم، ليقول لكم قاتلوا تحت مظلّةٍ غير إسلامية، لأنَّ المظلّة الإسلامية مظلّة طائفية.
الحدود بين الإسلام والطائفية
إنَّ الإسلام ليس حالة طائفية، الطائفيون قد ينتمون إلى الإسلام شكلاً ولكنّهم لا يؤمنون بالإسلام، كثير من المسلمين الذين ينتمون طائفياً للإسلام مُنحلُّون في عقيدتهم، وكثيرون منهم منحرفون في عقيدتهم، المسلم مَن التزم الإسلام في عقله وفي قلبه وفي انتمائه وفي حركته. إذا كان أخوك غير معتقد بالله وبرسوله، فليس بمسلم، حتّى لو كان أبوه مسلماً، الإسلام ليس مجرّد بطاقة وليس مجرّد نَسب، وليس حالة جغرافية، الإسلام حالة عقلية، روحية، عملية تنطلق من خلال ما جعله الله للإنسان في رسالته من عقيدة ومن شريعة. ليكن انتماؤنا الإسلامي هو الأساس في حركتنا وفي صراعنا وفي قتالنا وفي تأييدنا وفي رفضنا، وليس معنى أن نتمسّك بالإسلام، أنّنا نكون منعزلين عن الآخرين بل إنّ معنى أن نلتزم بالإسلام، أن نستهدي الإسلام في أحكامه في ما يفرضه علينا من الانفتاح على الآخرين بحساب، ومن الانغلاق عنهم بحساب، حتّى لا نعيش حالة النفاق في الكلمات، بل نقول كما قال الله سبحانه وتعالى حيث حدَّد مواقع اللّقاء ومواقع الحوار {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران : 64] نحن نعيش مع الآخرين لأنَّ الإسلام يريدنا أن نعيش معهم لا على أساس حالة سياسية طارئة، ونتعايش مع الآخرين ونتحاور معهم في إطار هذه القاعدة. لهذا إنَّ شعاراتنا التي نطرحها في المجتمعات المتنوّعة وفي المجتمعات المختلفة، ليست شعارات طارئة نطلقها اليوم لوضع سياسي معيّن، ثمّ نسحبها غداً لوضع سياسي آخر، لأنَّ ديننا هو الذي ركَّز لنا قواعد الانفتاح على الآخرين، واللّقاء معهم.
الحسين (عليه السلام) نموذج الثائر المسلم
من هذا الموقع، نريد أن نفهم أنّنا لا نستطيع أن نتصوَّر الحديث عن الثورة الحسينيّة إلاّ من خلال الحديث عن الثورة الإسلامية، والحركة الإسلامية، والخطّ الإسلامي، لأنَّ الثورة الحسينية هي خطوة جهادية متقدّمة في المسيرة الإسلامية التي بدأها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وأرادنا أن نسير عليها حتّى تقوم الساعة، لهذا عندما ترتبطون بالحسين (عليه السلام) لا ترتبطوا به كشخص ولكن ارتبطوا به إماماً، وعندما تنطلقون مع الحسين (عليه السلام) انطلقوا معه كونه ثائراً إسلامياً لا ثائراً في المطلق، لا تقولوا إنَّ الحسين ثائر من أجل الحريّة في المطلق، ولكن قولوا إنّه ثائر من أجل الحريّة التي انطلقت من موقع الإسلام، ومن موقع الحكم الشرعي. ركِّزوا الخصوصية الإسلامية حتى لا تبتعدوا نفسياً وروحياً أمام كلّ هذا الواقع اللاإسلامي، حتّى لا تبتعدوا عن الإسلام، وحتّى لا تخجلوا بالإسلام وحتّى لا تستحوا بالإسلام، لأنَّ القوم في شرق الأرض وغربها يصوِّرون لكم الإسلام حالة دينية، وعليكم أن تنفتحوا لتتحرَّكوا في حالة سياسية، اتركوا الدين في الزوايا وفي المساجد وانطلقوا في الحياة بعيداً عن الدين.
بين القيام بالتكليف وانتظار النتائج
الإسلام يعيش السياسة في قلبه، ويعيش الاجتماع في شريعته، ويعيش الاقتصاد في نظامه، ويعيش الجهاد في حركته. الإسلام هو كلّ الحياة في ما نريد أن نأخذ به من فنون الحياة. الحسين (عليه السلام) كيف طرح نفسه، هل طرح شعارات غائمة؟ طرح الإصلاح "خرجتُ لطلبِ الإصلاح في أُمّة جدّي" في المسألة الداخلية لا بدّ لك من أن تفكِّر في حركتك في داخل المجتمع الإسلامي، لا بدّ أن تفكِّر في إصلاح الأُمّة الإسلامية في ما انحرفت فيه على مستوى قضايا الحكم، وعلى مستوى قضايا التشريع، وعلى مستوى قضايا الواقع السياسي، وما إلى ذلك من قضايا "إنَّما خرجتُ لطلبِ الإصلاح في أُمّةِ جدّي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)"(1) الإصلاح على أساس ما جاء به جدّه، وعلى أساس ما شرَّعه جدّه، "أُريدُ أن آمر بالمعروف" وهو كلّ حكم شرَّعه الله للنّاس ليلتزموه "وأنهى عن المنكر" وهو كلّ حكم شرَّعه الله سبحانه وتعالى للنّاس لأن يجتنبوا ما يتضمّنه، وقال للنّاس، إنّه يطرح المسألة بعيداً عمّا إذا كانت النتائج معه أو لم تكن معه، ليست القضية فقط عندما تريد أن تطرح إسلامك أو تطرح مشاريعك الإصلاحية في الإسلام، أن تكون عندك نتيجة أو لا تكون.. اطرح فكرك وليرفض الناس فكرك، ليست مشكلتك، الأنبياء طرحوا أفكارهم ورفض الناس أفكارهم، ولم يتراجعوا {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً*فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً} [نوح: 5 ـــ 6] لقد طَرَحَ نوح (عليه السلام) الفكرة تسعمئة وخمسين سنة، وكان القوم يرفضونه، لم يؤمن معه إلاّ القليل {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} [نوح : 24] قال لله في تقريره النهائي، قال له وقد أضلُّوا كثيراً لم يبقَ معه إلاّ قلّة من الناس، ولكنّه أطلق الفكرة، وهكذا الإمام الحسين (عليه السلام) كان صوتاً لا يملك الكثير من الأصوات التي تتجاوب معه، ولهذا قال لهم "فَمَنْ قَبِلَني بِقَبولِ الحقّ فالله أوْلى بالحقّ ومَن ردّ عليَّ هذا اصبرْ حتّى يقضي الله"(1) إذاً عندما يقبلكم الناس كإسلاميين في ما تطرحونه من فكر الإسلام، وفي ما تحرّكونه من حركة الإسلام، إذا قبلكم الناس بقبول الحقّ فمرحباً بالناس الذين يؤمنون بالحقّ، وإذا ردّ عليكم الناس وشتموكم وقهروكم وعملوا أيّ شيء فقولوا كما قال الحسين (عليه السلام) "نصبر" ولكن لا نصبر صبر المنهزمين، ولكنّنا نصبر صبر الرساليّين الذين لا يتراجعون.
وعندما تحاصر الضغوط الرساليّين، فإنّهم يقفون في انتظار أيّة ثغرة يمكن أن ينفذوا إليها في حياتهم العامّة، وهكذا كان الإمام الحسين (عليه السلام)، فلم ينهزم نفسياً أمام كلّ الواقع الذي كان يحيط به، بل كان منفتحاً على الإسلام كلّه، وكان منفتحاً على الواقع كلّه، كلّكم تسمعون كلمة الفرزدق عندما التقى به الحسين (عليه السلام) وهو خارج من الكوفة ـــ أي الفرزدق ـــ ولكن تسمعونها فقط، "قلوب الناس معك وسيوفهم عليك" لكن هناك تفصيلاً، نستطيع أن نكوِّن منه فكرة عن روحية الإمام الحسين (عليه السلام) قال له: أخبرني عن الناس من خلفك، فأنتَ قادمٌ من الكوفة فما خبَر الكوفة عندك؟ فقلت: ـــ أي الفرزدق يُحَدِّث ـــ: "الخبير سألت: قلوب الناس معك وأسيافهم عليك، والقضاء ينزل من السماء" (كأنَّ الرجل يشعر بالخطر على الحسين عليه السلام)، "والله يفعل ما يشاء" ماذا كان ردّ فعل الإمام الحسين على هذه الكلمات قال: "صدقت، لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ، وكلّ يوم ربّنا هو في شأن، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر وإنْ حالَ القضاء دون الرجاء"(1)، (نزل القضاء بما لا نحبّ أو بما لا نرجو) "فلم يبعد مَن كان الحقّ نيّته والتقوى سيرته"(2).
لو لم ننتصر، فلن ننهزم، لن نبعد، لن نسكت، لماذا؟ لأنّنا انطلقنا من موقعنا الإسلامي؛ نيّتنا في جهادنا هي الحقّ، وسيرتنا في حركتنا هي التقوى، ومَن كان الحقّ نيّته والتقوى سيرته، فهو لا يبعد، يظلّ مع الله حتى لو لم يأتِ القضاء بما يريد، هذه هي الروح المطمئنة الواثقة بالله.
إنَّ عليك أن تنطلق من موقع أنّك تؤدّي تكليفك الشرعي عندما تدعو الناس، الله كلَّفك بالدعوة إليه، وعندما تصارع الناس يتحدَّد تكليفك بأن تدخل ساحة الصراع وتقاتل الناس الذين يريد الله منك أن تقاتلهم، الله كلَّفك، أنتَ في طريق الله، فإن وصلت إلى ما تحبّ فتلك هي السعادة في الدنيا والآخرة، أمّا إذا لم تصل، فكِّر أنّك إذا لم تصل اليوم فقد أدَّيت واجبك، لكن فكِّر أنّك وصلت إلى بعض الهدف، لماذا؟ أنت جاهدت حتى وصلت إلى مرحلة، وقلت للجيل القادم لقد أوصلتكم إلى هنا، فتابعوا الطريق، ويأتي الجيل الثاني لينطلق إلى مرحلةٍ أخرى، وهكذا حتّى يصل الجيل الذي يريد الله له أن ينتصر وأن يصل إلى مواقع النصر. إذا لم تبلغوا الهدف الكبير، فلا تعتبروا أنفسكم منهزمين، لأنَّ بعض الأهداف يحتاج إلى أجيال، وموقع كلّ جيل هو أن يصل بالهدف إلى مرحلة، ليأتي الجيل الآخر للمرحلة الثانية، هكذا لا بدّ أن نفكِّر، إنَّ الإسلام دين الله الذي يريد الله من أن ننشرَه تبعاً للطاقات التي نملكها حتى يَرِثَ الله الأرض ومَن عليها.
نتمسَّك بالحقّ ولا نبالي
على هذا الأساس نأخذ من الحسين (عليه السلام) هذه الفكرة، أنّه "فلم يبعد مَن كانَ الحقّ نيّته"(1) احفظوها في أنفسكم وحاولوا أن تكونوا حسينيّين في هذه الروح، أن يكون الحقّ نيّتكم، الحقّ بكلّ معانيه في ما تعتقدون، وما تفكِّرون، وما تلتزمون، وأن تكون التقوى سيرتكم، أن تكون سيرتكم وسلوككم على أساس التقوى، هذا هو كلام الحسين (عليه السلام) وإذا استطعتم أن تكونوا كذلك، فلا مشكلة إن انتصرتم، أو لم تنتصروا، لأنّ مَن كان مع الحقّ ومَن كان مع التقوى فهو مع الله ومَن كان مع الله فعليه أن لا يبالي أَوَقَعَ على الموت أم وَقَعَ الموت عليه.
إنَّ هذا المنطق هو سرّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، يا مَن تلتزمون خطّ عليّ بن أبي طالب، ذلك هو سرّه عندما كان يردِّد دائماً: "يا رسول الله"، ورسول الله يخبره أنّه سيُقتَل على يد ابن ملجم "أَفي سلامة من ديني" قال: بلى، قال: "إذاً لا أُبالي، أَوَقَعْتُ على الموت، أم وقَعَ الموتُ عليّ"(2). وفي حديثٍ آخر مع أصحابه عندما استبطؤوه في إذنه لأهل الشام وقالوا هل بدأ عليّ يكره الموت، قال: "أمّا قولكم أكلّ ذلك كراهيةً للموت، فوالله ما أُبالي دخلتُ إلى الموت أو خرجَ الموتُ إليّ"(3) لماذا، لأنَّ عليّاً كان يؤمن بأنّه على الحقّ، وعندما كان يؤمن بأنّه على الحقّ كان يؤمن بأنّه مع الله، وعندما آمن بأنّه مع الله، لم يخف من الموت ولم يخف من أيّ شيءٍ آخر. هذا ما يجب أن نعمِّقه في نفوسنا؛ أن يكون الحقّ نيّتنا وأن تكون التقوى سيرتنا.
الوحدة المرفوضة
هناك مفاهيم يجب أن نعيها ونركّزها في نفوسنا.. قد يأتي إليك بعض الناس وأنتَ تطرح برنامجاً إسلامياً والناس عادة يألفون وضعاً معيّناً فهم معتادون على الارتباط بزعماء الضلال، والناس معتادون على أن يسيروا مع خطوط الكفر والضلال والانحراف، في ظلّ هذا الوضع تأتي أنت، وتقول لأهل الباطل، ابتعدوا عن الباطل، وتقول لأهل الضلال ابتعدوا عن الضلال، وتثير في المجتمع مشاكل، تأخذ الولد من أبيه إذا كان أبوه ضالاًّ، وتجعل الولد مهتدياً، فتخلق مشكلة في داخل البيت، تأخذ جماعة ضالّة من مواقع الضلال وتجعلهم مهتدين فتربك وضعهم، وهكذا في المجتمع تأتي إلى المجتمع الذي يسوده السكون لأنّهم عاشوا الانحراف والضلال، واستساغوا الذلّ والعبودية، وغير ذلك، تأتي وتصرخ فيهم صرخة الحريّة، تأتي وتحدّثهم عن الحقّ وعن الإسلام وغير ذلك ويتبعك أُناس هنا، ويحاربك أُناسٌ هناك، وتثور المشاكل من خلال ذلك فماذا يقول الناس؟ كنّا مرتاحين حتى جاء فلان فأتعبنا، كنّا متّفقين وجاءت الجماعة الفلانية ففرَّقتنا، ولهذا فإنّهم يشيرون إلى دعاة الإصلاح بأنّهم المفرّقون، وأنّهم الذين يربكون الساحة، يعزلون الابن عن أبيه، ويعزلون الأخ عن أخيه، هكذا يقولون، قالوا في السابق وهكذا يقولون الآن. من خلال هذا المنطق، الأنبياء هم سادة المفرّقين، الأنبياء يأتون والمجتمع مقيم على الكفر، ويطلقون دعوتهم فيأتي شخص أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة، وتفيض المشاكل؛ هذا يُنازِع ذاك، وذاك ينتقد ذلك، وهذا يضرب هذا، وتثور المشاكل: من المفرّق؟ رسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو المفرّق لكن كيف؟ فرّقهم عن الضلال وأبعدهم عن الباطل، فرّقهم عن الشيطان وأتى بهم إلى الله، إنّها فرقة يحبّها الله.
لقد تعرَّض للحسين (عليه السلام) عندما انطلق بثورته أثناء خروجه من مكّة، تعرّض له جماعة لوالي المدينة، اشتبكوا قليلاً مع أصحابه، ودفعوهم عنهم، قالوا للحسين (عليه السلام) وهم في الأصل جماعة من بني أُميّة، لاحظوا أحدهم يقول للحسين: "ألاَ تتّقي الله" ـــ الخطاب للحسين ـــ "تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأُمّة" هذا الشعار موجود في كلّ زمان ومكان، ألاَ يوجد بعض الناس يقولون لكم، عندما تأخذ عشيرتكم منهجاً ضالاًّ، ويخرج بعض الناس عن العشيرة، إنّكم تفرّقون كلمة العشيرة، أو يكون البلد محكوماً من تركيبة باطلة، وأنت تقف في مواجهة هذه التركيبة، ألاَ يقولون لك، إنّك تفرّق نهج البلد، أو أنّك تفرّق الطائفة إذا كانت الطائفة سائرة في ضلال، وأنت تقول هذه الطريق غير صحيحة، يقولون: فلان يفرّق الطائفة. أليس منطقكم هو منطق هذه الجماعة نفسه، "ألاَ تتّقي الله تخرج من الجماعة"، الجماعة المتّفقة على يزيد، وكلّهم بايعوا يزيد، والأمور جيّدة، بكلّ ما في الكلمة من معنى، أنتَ تخرج على يزيد، إنّك تخرج على الجماعة، وتفرّق الأُمّة، الحسين (عليه السلام) عرَفَ أنّ هؤلاء الناس ليسوا من الناس الذين يمكن له أن يحاورَهم، كالذي يأتي إليك إمّا مواجهة، وإمّا غياباً، فقط ليشتمك، أو يتّهمك بتهمة، عندما يشتمك بشتيمة، عندما يواجهك بأيّ أسلوبٍ سيّئ، لا ينتظر أن يحاورك حتّى تدافع عن نفسك أو حتّى تفهمه الحقيقة، رأساً يريد أن يشتم ويريد أن ينسحب، يريد أن يلقي التهمة ويهرب، وهكذا شخص لا تستطيع أن تتكلَّم معه بالمنطق، وأمثاله كثيرون، فكثير من الناس يسبُّون ويشتمون ويكذبون بمختلف الوسائل وعندما تقول لهم: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة : 111] تراهم يهربون.
{فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً} [نوح : 6]، لماذا كان قوم نوح (عليه السلام) يهربون منه؟ لأنَّ نوحاً (عليه السلام) كان يملك الحجّة، وكانوا لا يملكونها، وكانوا يخافون من كلمات نوح (عليه السلام) أن تنفذ إلى عقولهم من دون اختيار، لهذا كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم، ويخافون إذا نظروا إلى نوح ورأوا إشراقة الإيمان في وجهه أن ينجذبوا إليه، ولهذا كانوا يستغشون ثيابهم، يضعون الغطاء حتى لا ينظروا إليه، هكذا كان، والآن هناك من يخاف أن يتكلَّم معك لأنّه يخاف أن تقنعه، يخاف من التكلُّم معك لأنّه يخاف من حجّتك، وهو يريد أن يكون عدواً لك، وهذه مشكلة الإمام الحسين (عليه السلام) مع هؤلاء، بماذا أجابهم عندما رأى من الصعب التفاهم؟ قال: "لي عملي ولكم عملكم"(1)، ماذا تريدون، أنا أُفرِّق الأُمّة، أخرج عن الجماعة أنا مقتنع بالموضوع، "لي عملي ولكم عملكم" أنتم بريئون ممّا أعمل، وأنا بريء ممّا تعملون، دعوني أذهب في طريقي وأنتم اذهبوا في طريقكم. في كربلاء المنطق نفسه، الإمام الحسين (عليه السلام) كان يقف بين الساعة والأخرى وبين اليوم والآخر، ليعظ هؤلاء الذين جاؤوا ليقاتلوه ويذكرهم بعهودهم ومواثيقهم، الشّمر خاف من الحسين (عليه السلام) أن يؤثّر على الجماعة، أراد أن يقطع المسألة قال له ما تقول؟ لا نفهم ما تقول نحن لا نريد أن نفهم كلامك، لسنا مستعدّين لأنْ نناقشك، غير مستعدين لأن نحاورَك، غير مستعدّين لأن ندخل في مواجهة منطقية تقدّم حجّة ونحن نقدّم حجّة، أبداً، ولكن "انزل على حكم بني عمّك" فقط، نكلّمك كلمة واحدة، إن قبلتَ بها نتكلَّم معك، وإلاّ فنحن غير مستعدّين لأن نستمع إليك، "ما ندري ما تقول ولكن انزل على حكم بني عمِّك"(1)، هذا منطق الكثيرين الذين ليسوا مستعدّين لأن يتفاهموا، يريدون أن يسبُّوا، أن يشتموا، أن يتّهموا، أن يثيروا الإشاعات ولكن عندما تريد أن تقول، تعالوا لنتحاوَر ولنتفاهم ولنتجادل ولنعرف مَن على الحقّ ومَن على الباطل، فإنّهم يرفضون ذلك.
كيف نستفيد من الذكرى الحسينيّة
أنا إنّما أُركِّز دائماً على هذه القضايا حتّى لا يكون وعيكم لمسألة كربلاء وعياً سطحياً لأنَّ الأئمّة (عليهم السلام) إنّما أرادونا أن نبقى مع كربلاء طوال هذه السنين حتى ندرس مجتمعنا من خلال دراستنا لمجتمع كربلاء، لا يكفي أن تسبّ أو تتبرّأ من يزيد، بل اعرف ما منطق يزيد؟ وما ذهنية مجتمع يزيد؟ وما أسلوب ذلك المجتمع؟ حتّى تقارن بين تلك الذهنية وما تلتقي به من ذهنيات، حتى تقارن بين تلك الأساليب وما تلتقي به من أساليب هنا، حتّى يكون انفصالك عن يزيد انفصالاً عن يزيد الفكرة لا عن يزيد الشخص، لأنّ يزيد الشخص ذهب إلى النار وبئس القرار وأصبح في غياهب التاريخ. ونحن لا نريد أن نستعيد التاريخ لمجرّد التاريخ لكن نريد أن ندرس واقعنا من خلال النماذج التي يعيشها ذلك التاريخ، هذا ما يجب أن نفكِّر فيه عندما نريد أن نستهدي الإسلام.
إنَّ الحسين (عليه السلام) لم يأتِ مقاتلاً يريد أن يواجههم من موقع ذاتي، بل من موقع رسالي وكان ينصحهم ويعظهم ويرشدهم بكلّ قلب مفتوح ولكنّهم جاؤوا من خلال طمع، ومن خلال عقدة، ومن خلال حالة الاستعباد التي كانوا يعيشونها هناك.
مواقف زينبيّة
وعندما نريد أن نواجه الذكرى الحسينية في المنطق الإسلامي باعتبار أنّ عمل الإمام الحسين (عليه السلام) وكلماته تمثّل الشرعية الإسلامية، لأنّه إمام مفترض الطاعة ولأنّه سيّد شباب أهل الجنّة، لا بدّ أن نطلّ على جانبٍ آخر، تحمله لنا خصوصية ذكرى الأربعين، وهو دور أخت الحسين (عليها السلام) ورفيقة جهاده السيدة زينب (عليها السلام) هذه الإنسانة التي عاشت روح القوّة في الإسلام من الموقع الذي عاشه الحسين (عليه السلام)، لأنّها تربَّت في حضن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي أحضان فاطمة (عليها السلام) وعاشت مع أخويها الحسن والحسين (عليهم السلام) ولهذا أصبحت الإنسانة المملوءة علماً وإسلاماً ووعياً وقوّة، هذه الإنسانة التي كانت تشدّ أزر الحسين (عليه السلام) وتواكبه في كلّ أوضاع المأساة في كربلاء، كانت مع الحسين (عليه السلام) عندما كان يعيش أفكار الموت وهو يردِّد "يا دهر أُفٍّ لكَ من خليل" وأرادت من خلال لهفتها وصرختها أن تشغِلَ الحسين عن ذلك، ليتحدّث لها ولينفتح الحديث في اتّجاهٍ آخر، وهكذا رأيناها عندما يسقط عليّ الأكبر كانت أوّل إنسان تستقبل الحسين (عليه السلام) لتخفِّف عنه، وعندما كان يفقد القاسم أو العباس أو أيّ شهيد من الشهداء، كانت زينب، كما تقول السِّيَر الحسينية، هي التي تقابل الحسين لتحتضِنَ كلّ آلامِه، وكلّ عناصر المأساة في ذاته، كانت ترافق مشاعر الحسين، كما كانت ترافق أفكاره، وكانت تشعر بمسؤوليّتها في أن تظلّ الإنسانة التي يشعر الحسين (عليه السلام) أنّها معه تشاركه فكره، وتشاركه ألمه وتشاركه موقفه وتشاركه كلّ تطلُّعاته، ولهذا من الصعب أن تقرأ حادثة في عاشوراء إلاّ وزينب لها دور وحضور في تلك الحادثة، وعندما استُشهِدَ الحسين (عليه السلام) يُنقل عنها أنّها قالت وهي ترفع جسدَ الحسين (عليه السلام) لله: "اللّهم تقبَّل منّا هذا القربان". إنّها لا تشعر بالمأساة الذاتية، إنّها تشعر بأنَّ المجاهدين سواء كانوا أنبياء أو أئمّة هم القرابين التي تُقدَّم إلى الله من أجل رضاه ومن أجل إعلاء كلمته وتثبيت رسالته.
وهكذا رأينا زينب (عليها السلام) وهي تسير في موكب الأسر، وهم يسيرون بالنساء وبعليّ بن الحسين (عليه السلام) إلى الكوفة، في الطريق إلى الشام، زينب القويّة الحكيمة في مجلس ابن زياد. ينقل التاريخ بعض المواقف في هذا المجال، عندما أدخلت على مجلس ابن زياد، لبست أرذل ثيابها وتنكّرت كانت لا تريد له أن يعرفها ومضت حتّى جلست ناحية من القصر، قال ابن زياد مَن هذه، فلم تجبه، فأعاد الكلام ثانية وثالثة، يسأل عنها فلم تجبه، فقالت له بعض إمائها، هذه زينب بنت فاطمة (عليها السلام)، بنت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فأقبل عليها ابن زياد، وخاطبها بما فيه من الشماتة والغلظة والجرأة على الله ورسوله، كما تقتضيه أخلاقه، قال لها: "الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم" فأجابته (عليها السلام)، وهي في هذا الموقف الضعيف تبقى الإنسانة المسلمة القويّة التي تحمل الرسالة ولا تخشى في الله لومةَ لائم، كما علَّمها الإسلام ذلك، قالت له: "الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وطهَّرَنا من الرّجْسِ تطهيراً" قال لها: "الحمد لله الذي فضحكم" لاحظوا ردَّها، "إنّما يُفْتَضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرُنا". كأنّها تقول له، أنتَ الفاسق والفاجر، وأنتَ الذي افتضحت بجريمتك، ولسنا الذين افتضحنا بجهادنا، قال: "كيف رأيتِ فعلَ الله بأخيكِ وأهل بيتك" فقالت: "ما رأيتُ إلاَّ جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّون إليه وتختصمون عنده فانظر لمن الفلج"(*)، ثكلتك أُمُّك يا بن مرجانة"(1)، أرادت أن تذكره بنسبه غير الشرعي من خلال نسب أبيه، فغضب واستشاط حين أعْيَاه الجواب، لم يستطع أن يجيب فكانت تقابله بكلّ جُرأة، هنا لجأ إلى السّبّ والشتم، قال لها: لقد شفى الله نفسي من طاغيتك الحسين (عليه السلام) والعتاة المردة من أهل بيته فقالت له هذا الجواب حين أراد أن يستثيرها عاطفياً: لقد قتلتَ كهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلي فإنْ كان هذا شفاءك فقد اشتفيت لأنّك لا تحمل معنى من معاني الإنسانية. ثمّ التفت إلى عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) قال مَن أنت قال: أنا عليّ بن الحسين، قال: أليس قتل الله عليّ بن الحسين، قال له: قد كان لي أخٌ يسمّى عليّاً، قتله الناس، قال: بل الله قتله، قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر : 42] ولكنَّ الناس قتلوه، والله توفّاه، فغضب ابن زياد، وقال أَلَكَ جرأة لجوابي؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه فتعلَّقت به عمّته زينب (عليها السلام) وقالت: يا بن زياد حسبُك من دمائنا، وعانقته، وقالت والله لا أُفارقه، فإنْ قتلته فاقتلني معه، فقد كانت متحمّلة مسؤولية عليّ بن الحسين (عليه السلام)، لا يمكن أن أسمح لأحد بأن يقتل عليّ بن الحسين الذي هو وديعة الحسين عندي، إذا أردتَ أن تقتله فاقتلني معه، ثمّ قال الإمام لها: صبراً يا عمّتي، حتّى أُكلِّمه بطريقةٍ ثانية، قال له: "أبالقتل تُهَدِّدني، أمَا عَلِمْتَ أنّنا قوم لا نخاف الموت، القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة"(1).
القوّة في مواجهة يزيد
وبذلك كان موقف زينب (عليها السلام) الموقف الذي يمثّل القوّة الروحية التي استطاعت من خلالها أن تلقِمَ هذا الطاغية حجراً في مجلس ملكه، وأن تنقذ عليّ بن الحسين (عليه السلام) وهكذا كانت نهاية المطاف، عندما دخلت إلى مجلس يزيد، وخطبت خطبتها. يزيد يجلس جلسة المنتصر ويتحدّث بلهجة الطاغية، وتقف زينب، وهو يستعرض السبايا، ويتحدّث بطريقة تفوح منها رائحة الشماتة، قالت له: "صَدَقَ الله سبحانه حين يقول: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} [الروم : 10] أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الإماء، أنّ بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة، وإنَّ ذلك لعظم خَطرك عنده، فشمَخْتَ بأنفك ونظرت في عطفك مسروراً، فمهلاً مهلاً، لا تعش جَهلاً أَنَسِيتَ قول الله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران : 178] أَمِنَ العدل، يا بن الطلقاء، (يا بن الطلقاء هذه تذكرة بأنَّ النبيّ عفا عن أجداده عندما قالَ لهم، اذهبوا فأنتم الطلقاء في مكّة) أَمِنَ العدل يا بن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهنَّ وأبديت وجوهَهنَّ، تحدو بهنَّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنَّ أهل المناقب والمناقِل... إلى أن تقول له بعد ذلك، اللّهم خذ بحقّنا وانتقم ممَّن ظلمنا، وأحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا، فوالله يا يزيد ما فَرَيْتَ إلاّ جلْدَكَ ولا حَزَزْتَ إلاّ لحمك، وَلَتَرِدَنَّ على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته وانتهكت من حرمته في عِتْرَته ولُحمته حيث يجمع الله شملهم ويلمّ شعثهم ويأخذ بحقّهم {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران : 169] وحسبُك بالله حاكِماً وبمحمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) خصيماً وبجبرائيل ظهيراً، وسيعلم مَن سوَّل لك ومكَّنك من رقاب المسلمين أنّك بئس للظالمين بدلاً. ثمّ تقول له بعد ذلك: أنا زينب، (لستُ بمستوى أن أتكلَّم معك) "ولئن جَرَتْ عليَّ الدواهي مخاطبتك (هذه الحالة جعلتني أتكلَّم معك) إنّي لأستصغرُ قدرك، وأستعظم تقريعك وأستكبر توبيخك لكن العيون عبرى، والصدور حَرَّى، ألاَ فالعجب كلّ العجب لقتل حز//ب الله النُجبَاء بحزبِ الشيطان الطلقاء"، ثمّ تقول له بعد ذلك، "فكد كيدك، (افعل الذي تريده)، واسْعَ سعيك، وناصِب جهدك فوالله لا تمحو ذِكْرَنا ولا تميتُ وَحْيَنا ولا تدرِك أَمَدَنا وهل رأيك إلاَّ فَنَدْ وأيّامك إلاّ عَدَد، وجمعُكَ إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود : 18]"(1).
هذه هي زينب الإنسانة المسلمة القويّة التي لم تستطع كلّ الضغوط وكلّ الآلام وكلّ الفجائع وكلّ المآسي أن تُسْقِطَ موقفها، وأن تجعلها تنسحبُ من الساحة. وعندما نقدّم زينب (عليها السلام) إلى جانب الحسين (عليه السلام) نستذكر أنّ أُمّها فاطمة كانت إلى جانب عليّ (عليه السلام)، وأنَّ جدّتها خديجة كانت إلى جانب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). ونفهم من هذا، أنّ الله يريدُ للمرأة المسلمة أن تقف وقفةَ الحقّ وأن تواجه الظالمين وأن تواجهَ الطغاة وأن تملك القوّة في المواقع التي تفرض عليها أن تقول كلمة الحقّ، فالله لم يكلّف الرجل فقط في ما هي مسألة الجهاد في المواقف، بل كلَّف المرأة والرجل، قد لا يكون كلَّف المرأة بالجهاد المسلَّح، ولكنّه كلَّفها بالجهاد السياسي الذي تقف فيه ضدّ الظالم. {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ...} [التوبة : 71] ولهذا فإنَّ الله كلَّف هذا، وكلَّف تلك، ومسألة عاشوراء، هي مسألة الرجل المسلم والمرأة المسلمة، والخطّ الإسلامي الذي يجب أن يتعاون فيه الرجل والمرأة من أجل بلوغ الغاية في نصرة الله، ونصرة دينه، ونصرة رسول الله.
نماذج كربلائية حاضرة
هذه هي كربلاء، التي توحي لنا أنّ هناك أكثر من كربلاء قد تتنوَّع في شكلها، وقد تتنوَّع في أرضها، وقد تتنوَّع في أعدائها، ولكنّها تظلّ هي الخطّ الذي يقول للمستضعفين إنَّ عليهم أن يواجهوا المستكبرين، وتقول للمسلمين في كلّ مكان في العالم، إنَّ عليهم أن ينطلقوا على أساس أن يؤكّدوا العزّة ولا يقبلوا بالذلّة، أن يكون شعار كربلاء "هيهات منّا الذلّة" شعار المسلمين في كلّ مكان.
ونحن نتطلَّع الآن في العالَم الإسلامي، لنرى هناك نماذج من هؤلاء الذين يجاهدون وهم قلّة في مواجهة الكثرة الطاغية. لقد واجهنا في مسألة الثورة الإسلامية في إيران كيف وقف المجاهدون هناك أمام الاستكبار العالمي، الذي عمل بكلّ ما عنده من وسائل القتل والدمار والاقتصاد وغير ذلك، لكي يضغط على الكربلائيّين هناك ويحاصرهم، ويمنع عنهم الكثير ممّا يحتاجونه في العالم. وعلينا أن نتصوّر أيضاً مسألة الكربلائيين هنا في جنوب لبنان، في جبل عامل وفي البقاع الغربي، كيف واجَهَ المستضعفون هناك "إسرائيل" التي هزمت الجيوش العربية جميعاً، وما زالت تهدِّد العرب كلّهم، وتهدِّد المنطقة كلّها، ولكنَّ المجاهدين هناك استطاعوا أن يواجهوها بكلّ الوسائل، واجهوها بالحجارة، وواجهوها بالزيت المغلي، وواجهوها بكلّ الوسائل، وواجهوها بالسلاح ولا يزالون يواجهونها.
نموذج فلسطين
إنّها كربلاؤنا الجديدة هنا التي تتحرّك من أجل أن تواجه هذه الغطرسة المتمثّلة باليهودية العمياء، والصهيونية العالمية المستكبرة، ونحن نشعر بأن هؤلاء المجاهدين قد استطاعوا أن يسدِّدوا كثيراً من الضربات لهؤلاء المستكبرين، ولا تزال المقاومة وفي طليعتها المقاومة الإسلامية التي يعمل العدوّ الآن على ضرب مواقعها بالطائرات، وبالمدافع، ولكنّه لم يستطع أن يهزم الموقع، ولم يستطع أن يهزم الموقف لأنَّ الكربلائيّين هناك يعيشون روحية الكربلائيين في التاريخ، وهم يقولون دائماً "هيهات منّا الذلّة" ونحن نواجه أيضاً، عندما نتذكّر كربلاء، المجاهدين الإسلاميين في فلسطين، الذين يتحرّكون بكلّ ما عندهم من طاقة فلا يهدأ موقع إلاّ لينطلق موقع آخر، وقد راهنوا على أن تسقط الثورة هناك، ولكنَّ الإسلام الذي يتحرّك في قلوب الذين يحملونه شعاراً أو في قلوب الذين لا يحملون الإسلام شعاراً، الإسلام يتحرّك في رواسب حتّى غير الإسلاميين لأنّهم تربّوا في مجتمع إسلامي، واختزنوا الروح الإسلامية.
إنَّ الإسلام الذي انتفض وتحرَّك وثار هناك، لا يزال يقدّم الشهداء ولا يزال يربك الواقع الإسرائيلي، ولا يزال يخيف الواقع الإسرائيلي، لأنَّ "إسرائيل" عَرَفَتْ سرّ الروح في هؤلاء الناس، وكانت مسألة "إسرائيل" أنّها تريد أن تسقط روح هؤلاء الناس، ولكنّها لم تستطع ذلك لأنَّ الإسلام أعاد للأُمّة روحها، وأعاد للأُمّة ثقتها بنفسها، وأعاد للأُمّة شعورها بمسؤوليتها أمام الله.
نموذج أفغانستان
وهكذا نلتفت إلى أفغانستان، والمسلمون المجاهدون هناك يقفون بكلّ طوائفهم ومذاهبهم، ليست هناك كلمة سُنّة وشيعة، والمجاهدون من الطرفين هناك، كلمة الجهاد، كلمة الإسلام الموحّد المواجه للكفر الذي يريد أن يدمّر الإسلام كلّه والطغيان الذي يريد أن يدمّر المسلمين، ولا تزال كربلاء تتمثّل هناك وهي تزحف، كربلاء هذه في معانيها، وفي عمقها، وفي صفائها تزحف، لا تزال تزحف إلى كلّ بلد فيه مستضعفون وفيه مستكبرون، ليتحرّك المستضعفون ليواجهوا المستكبرين، وليتحرّكوا حتى يربكوا كلّ مخططاتهم وكلّ مؤامراتهم.
المنطق الماروني وانتخابات الرئاسة
وبعد ذلك لا يزال الواقع السياسي في هذا البلد على حاله، ولا تزال الأوضاع الإعلامية تريد أن تشغلنا عن قضايانا الأساسية، ماذا هناك؟ الكلّ يصرخ: متى ينتخب رئيس جمهورية للبلد، أميركا تتحدّث، وروسيا تتحدّث، وأوروبا تتحدّث، والجامعة العربية تستعدّ، ومَنْ في الشرقية يتّهمون مَنْ في الغربية بالتقسيم، ومَنْ في الغربية يتّهمون مَنْ في الشرقية بالتقسيم، وتنطلق الكلمات والإعلانات؛ ماذا هناك؟ هل بلغ طموح الناس في هذا البلد أنّه لا بدّ أن يكون لهم رئيس جمهورية، ورئيس جمهورية من الطائفة التي ظلمت الناس ولا تزال، رئيس من ضمن الجماعة الذين عملوا على إذلال الناس ولا يزالون، لاحظوا طبيعة النكتة.. الكلّ يقول من خلال ما يعمل من مسلمين سياسيين، وروحيّين، وكتابيّين، ومسيحيّين، وغيرهم: الرئيس الماروني، ولكنَّ الموارنة يقولون لا بدّ أن نختار نحن الرئيس، لأنّنا لا نريد مارونياً يمكن أن يكون عنده عاطفة إسلامية، أو لا يكون مشدوداً إلى الغرفة السرّية المارونية التي تركَّز لهذا البلد، نريد رئيساً ينتمي في جذوره إلى المارونية السياسية ومن خلفها.
الواضح أنّ هناك أوضاعاً تتحرّك في مواجهة كلّ قضايا الحريّة في المنطقة وفي العالم، إنّهم يقولون لا يكفي أن يكون الرئيس مارونياً، هذا أمر لا بدّ أن تُسَلِّموا له، لكنّنا نريد أن يكون مارونياً باختيارنا ينفِّذ ما نريد... أيّ ذلّ أكثر من ذلك؟ ذلٌّ يفرض عليك أن تقبل حتى أن لا يكون لكَ رأي في مَنْ ينصّبونه عليك رئيساً، أيّ ذلّ أخضع من هذا الذلّ، وأيّ سقوط أعظم من هذا السقوط؟
اللّعبة الأميركية المزدوجة
إنَّ المسألة لم تعد تقبل الجدل، بعض الناس يرشِّحون أنفسهم من أجل الديكور الإسلامي، ولكن ليس على أساس الجدّية، حتّى يسجِّلوا نقطة فقط، لكنَّ المسألة هي أنّ هذا الجوّ لا يزال مفروضاً من خلال اللّعبة الدولية واللّعبة الإقليمية التي تريد للبنان أن يكون على هذه الصورة، ثمّ الحديث كلّه أنّه لا بدّ من رئيس! لكن هل يمكن أن يتغيَّر الوضع في لبنان؟ هل يمكن أن تكون هناك مساواة؟ هل يمكن أن تكون هناك حريّة؟ كيف يمكن أن ننظر إلى المسألة الإسرائيلية؟ كيف يمكن أن ننظر إلى المسألة السياسية الدولية والأميركية؟ هذا ليس دخيلاً في المسألة، أصبحنا نتقاتل على الحلّ الأميركي حتّى أنّ أميركا تأتي إلينا لتقول يا مسلمون نحن معكم، نحن اتّفقنا على أساس أن يكون المرشّح مَنْ تريدون، ثم تذهب إلى المكان الفلاني الآخر لتقول لقد أخطأت السياسة الأميركية، ونحن بحاجة إلى التشاور والنصائح وغير ذلك، وعندما تأتي إلينا ويسألها الصحافيون في شخص ممثّليها فتقول لقد حرَّف الكلام، وتقول كلاماً هنا، وكلاماً هناك، توافق هنا، وتقول للآخرين عارضوا هناك، وتظلّ اللّعبة الأميركية المزدوجة التي تريد أن تخلق مشكلة جديدة في البلد، مشكلة الحكومتين، ومشكلة الوضع الفوضوي المتردّي على جميع المستويات، لأنَّ هناك مشروعاً أميركياً تريد أن تصل إليه لم تنضجه الاتّفاقات، ولم تؤكّده المحادثات.
إنَّنا أصبحنا نتحاور ونتساءل: أميركا مع مَنْ حتّى نأخذ القوّة؟ هنا يقولون إنَّ أميركا لا تزال مخلصة لتوقيعها واتّفاقها، إذاً أميركا معنا، وستكون في الانتخابات معنا. الآخرون يقولون إنَّ أميركا معنا في العمق، وحتّى إذا اختلفنا معها وشربنا حليب السباع، فهي لا تعكِّر علاقاتها معنا. وأميركا ماذا تقول؟ إذا لم ينفذ الاتّفاق فستعلن مَنْ هو المسؤول، لا تقول سوف نعاقب، سنعلن، سننتقد كأنَّ اللبنانيّين بحاجة إلى انتقادات، أو يمكن أن تؤثّر فيهم انتقادات. أميركا تلعب اللّعبة في لبنان، لا لأجل مصلحة لبنانية حتّى ولو بنسبة واحد في المئة... أميركا لها مصالح دولية، ولها مصالح إقليمية، ولها مصالح لبنانية، لأنّها تريد بعد أن فشلت في لبنان أن تجعل منه قاعدة عسكرية في ما كانت تهيّئ له في مشروع الحلف الأطلسي الذي كان تحت غطاء القوّات المتعدّدة الجنسيات، عندما فشلت في أن تجعل من لبنان قاعدة عسكرية لها فإنّها عملت على أن تجعل منه قاعدة سياسية وقاعدة مخابراتية لها وستعمل على أن يكون قاعدة عسكرية في المستقبل، ولهذا بدأت تلوّح بالعسكر.
إنّي أحبّ أن لا تتصوَّروا أنّ العسكر يقف ضدّ المشروع الأميركي، هو جزء من المشروع الأميركي، وهذه الحكومة هي جزء من المشروع الأميركي، المسألة هي أنّ أميركا تفكِّر بمصلحتها لا بمصلحتنا، وتريد أن تثير الخلافات في داخلنا، حتى نكون وقوداً لطبختها، وهي تفكّر أيضاً بالمصلحة الإسرائيلية.
لقد سقط اتّفاق 17 أيار(1) الذي قادته أميركا لأنّه لم يستكمل شروطه، وهي ستعمل على أن تقيّدنا بأكثر من اتّفاق 17 أيار في المستقبل، والطقم السياسي في لبنان لا يزال مستعداً لأيّة مشاريع أميركية في هذا المجال. ومن الطريف جداً أنّ السفير الأميركي الجديد بدأ جولة ـــ باعتبار أنّه السفير الجديد ـــ على الجهات الروحية التي أشاد بحكمتها السياسية، وعلى الجهات السياسية هنا وهناك، ماذا يريد السفير الأميركي؟ يريد أن يُفهمنا أنّ أميركا لا تفهم الواقع اللبناني، والمخابرات الأميركية داخلة في عقل أكثر السياسيين اللبنانيين، وغير السياسيين. ماذا يريد السفير الأميركي؟ يريد أن يسمع نصيحة، كأنَّ أميركا لم يكفِها كلّ هذا التدخّل في شؤون لبنان، ورصد كلّ الصغائر والكبائر فيه وكلّ أوضاعه، كلّ المرشحين أو أكثر المرشّحين ذهبوا إلى أميركا ليؤدّوا امتحاناً، وأميركا لا تعرف؟ تريد نصيحة؟ تريد أن تصل إلى الحقيقة؟ الجماعة يعتبروننا أغبياء، ويعتبروننا بسطاء، ولهذا يقدّمون لنا الكلام المعسول، ويقدّمون العسل "لإسرائيل"، يقدّمون لنا التصريحات المعنوية، ويقدّمون لها القوّة المادية.
إنَّ مشروع أميركا في المنطقة الآن في ظلّ سياسة الوفاق الدولي الذي استغلَّته استغلالاً كبيراً أكثر ممّا استطاع الاتحاد السوفياتي أن يستغلّه، مشروع أميركا في المنطقة أن تتحوّل المنطقة كلّها إلى مزرعة أميركية، مزرعة للاقتصاد الأميركي، والسياسة الأميركية، والأمن الأميركي، وكلّ الواقع الأميركي، لهذا قد تحتاج أميركا أن تجعلنا نحسّ بأنّها معنا، وأنّها تريد أن تحلّ مشكلتنا؛ لكنّها تدخّلت في أكثر من بلد لحلّ مشكلته فقسّمته، وأثارت المشاكل فيه. إنَّ مشكلة قبرص دخلت فيها أميركا، والآن انظروا ماذا حلَّ في قبرص. نحن ما زلنا على فكرتنا: إنَّ لبنان لا يتقسَّم، لكن مع ذلك هي تريد أن تحرِّك كثيراً من الأوضاع في مواجهة التقسيم، وفي صورة التقسيم، لتصل إلى أن يكون لبنان بأجمعه لها، لهذا نحن عندنا نقطة، ربّما بعض الناس يقولون نحن غير قادرين على أن نواجه أميركا، وأغلب الناس تساقط في الشرقية والغربية. المسألة أنّ أميركا إذا غلبتنا على واقعنا بقوّتها العسكرية والأمنية، فعلينا أن لا نتركها تغلبنا على أفكارنا وعلى إرادة الحريّة في نفوسنا، قولوا كما قال عمّار بن ياسر "والله لو هزمونا حتّى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ وأنّهم على الباطل"(1).
والحمد لله ربّ العالمين
رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) القدوة في حركة الدعوة(*)
يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيّه محمَّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر : 30]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء : 34] ويقول سبحانه وتعالى أيضاً {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران : 144].
في الثامن والعشرين من شهر صفر كانت وفاة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي رواية مشهورة، أنّ الله عندما خيَّره بين أن يعطيه الدنيا بكلّ ما يريد منها، وبين أن يختار لقاء الله، اختار لقاءه. ونحن عندما نستقبل ذكرى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في يوم وفاته، كما نستقبلها في يوم ولادته، أو في يوم مبعثه وإسرائه، لا نريد أن نتوقّف عند المناسبة، فرسول الله بشر كبقيّة البشر، يولَد كما يولَد الناس من خلال أسباب الولادة، ويموت كما يموت الناس من خلال أسباب الموت، وهو رسول الله يُبعث كما يُبعث بقيّة الرسل، ويحيطه بكرامته، ويبيّن الله من خلاله آياته في إسرائه ومعراجه، كما يكرّم بقية الرسل أشياء أخرى، ولكنّنا نريد أن نتوقّف عند كلّ ذكرى من الذكريات التي تربطنا برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، في حركة الزمن في الماضي وفي تذكيرنا له في الحاضر، لننفذ إلى حياة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وإلى شخصيّته، لأنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يتميَّز بأنّه الشريعة المتجسّدة، إذا عرفت شيئاً منها عرفت حكمك الشرعي، وعرفت خطّ الإسلام والحقيقة الإسلامية.
قد يكون من المفروض علينا أن نقرأ تاريخ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لنرى في شخصية رسول الله كلّ البرنامج الأخلاقي الذي أراد الله، من خلال كتابه، أن يجعله برنامجاً للناس في الحياة كلّها. وقد سئلت إحدى زوجاته عنه كيف خلقه، أجابت: أوجز أو أطنب، قالوا: أوجزي، قالت: اقرؤوا القرآن تعرفوا أخلاق رسول الله، لأنَّ خُلُقه كان القرآن.
الارتباط بمحمّد الرسول لا الشخص
لقد مثَّل رسول الله القدوة والأسوة، ولهذا فإنَّ الله أراد من الناس أن يستمعوا من الرسول ما يبلّغهم، وأراد لهم أن يتبعوه في ما يرونه في سلوكه وسيرته، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21]. ولكن هذا الرسول العظيم في كلّ ما للعظمة من معنى، والذي تحدَّث الله عن عظمته في خلقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 4].
قال الله له آية أخرى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر : 30] لأنَّ سُنّة الله كذلك، وقال له مرّة ثانية وهو يحدِّثه عن هؤلاء الذين كانوا يتمنّون موته {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء : 34]. والنقطة التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يؤكّدها في حياتنا، وهي أنّ دور الشخص مهما كان عظيماً في حياتنا لا يعني أنّنا نسقط إذا غاب، فهو يعيش في حياتنا ليعلِّمنا وليكون قدوتنا، ليقودنا وليترك لنا نهجه وفكره ورسالته، فإذا كان فكره حقّاً وصواباً فإنّنا نترك شخصه إذا غاب عنّا ونلتزم فكره.
في الإسلام لا تعصّب للشخص، ولكنّ الالتزام بالفكر والرسالة. أيّ شخص أعظم لدى المسلمين من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ومع ذلك قال الله للمسلمين {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران : 144]، فهو رسول، دوره أن يعطيكم رسالة الله لتأخذوها ولتعملوا بها ولتمتدّوا بها جيلاً بعد جيل ولتحفظوها أمانة في أعناقكم، يسلّمها كلّ جيل إلى الجيل الذي يأتي من بعده، {أَفَإِن مِّتَّ} الرسول بطريقة طبيعية أو قتل، كما قيل عنه في وقعة أُحُد التي نزلت الآية بعدها {أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران : 144] إنَّ موت الرسول لا يعني موت الرسالة، الرسول مرحلة انطلاق الرسالة بكلّ حيويّتها وقوّتها وإخلاصها، ثمّ تبقى الرسالة ويبقى لنا من الرسول الانتماء إلى رسالته، والالتزام بخطّه ومنهجه لأنّه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ـــ 4] ونبقى معه لأنّه لا يخطئ؛ فهو المعصوم في رسالته، نبقى مع رسالته كما قال ذلك المؤمن الذي قيل له في معركة أُحُد: إنَّ محمّداً قد مات وقد قتل. واهتزَّ بعض الناس وأرادوا أن يرجعوا إلى أبي سفيان، ليأخذوا منه الأمان فنادى: "مَن كان يعبد محمّداً فإنَّ محمداً قد مات ومَن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لم يمت"(1) فتعالوا نقاتل على ما قاتل عليه محمّد لأنَّ رسالة محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لا تزال موجودة.
بين الالتزام بخطّ المعصوم وغيره
إنَّ الفكرة التي نأخذها في هذا المجال، هي أن نرتبط بالرسالة لا بالشخص؛ فإذا كان الشخص معصوماً، فنرتبط به جملةً وتفصيلاً ونظلّ معه ما امتدَّ الزمن بنا، لأنّه سيبقى يمثّل الحقّ على مدى الزمن، ولكن إذا كان الشخص الذي نرتبط به في مستوى القيادة، مهما كان شخصه، فإنَّ علينا أن نتذكّره لنتذكّر إيجابيّاته، لتبقى لنا إيجابيّاته، أمّا فكره وخطّه ونهجه فعلينا أن نظلّ في مراقبة له، لأنَّ الشخص غير المعصوم قد يسير في منهج يكون حقّاً في وقت محدود، فإذا تجاوز الوقت صارت الحاجة إلى شيء أكبر من ذلك. إنَّ الشخص غير المعصوم، حتّى لو كان من أعظم العباقرة، هو شخص ينطلق فكره من تجربته ومن ثقافته ومن الظروف المحيطة به، ولذا فإنَّ علينا أن لا نتعصَّب لفكر شخصٍ غير معصوم، بل نظلّ نناقش فكره فإذا تبيّن لنا أنّ فكره يمثّل الحقيقة فنلتزم بالحقيقة من خلاله، ولا نلتزم به؛ وإذا كان فكره قاصراً عن التقاط الحقيقة، فإنَّ علينا أن نعتبر إنَّ الزمن قد تجاوز فكره، أو أنّ التجربة قد أثبتت خطأ فكره، فقد كان معذوراً في ما يفكِّر، ونحن معذورون في أن نتجاوز هذا التفكير. لهذا سواءً كنتم تنطلقون من حالة فردية أو حالة جماعية للارتباط بقيادة، إسلامية كانت أو غير إسلامية، فإذا لم تكن القيادة معصومة، فعليكم أن لا تتعصَّبوا لفكرها ولخطّها، إلاّ إذا ثبت عندكم من خلال ما تلتزمون به من رسالة، إنَّ فكرها يمثّل الحقيقة، وبهذا لا نتحوّل إلى متعصّبين في ما يتعصَّب به الناس للأشخاص، وما يتقاتل فيه الناس على أساس الأشخاص، وما يلتزم به الناس الأشخاص.
لقد أراد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يعلِّم الناس الحقّ من خلال سلوكه فلم يُرد أن يربط الناس به ولكنّه كان يربط الناس برسالته، وأراد منهم أن يحاسبوه ويراقبوه على أساس رسالته وانسجامه مع الرسالة، وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول لنا أيُّها المسلمون، ستعيشون في مجتمعاتكم غداً، وفي ما تستقبلون من القرون، مع قيادات تفرض نفسها عليكم، أو قد تفرضها الظروف عليكم، أو قد تفرضونها أنتم على أنفسكم، ولكن لا تنطلقوا مع القيادة من خلال ذاتيّاتها ولكن انطلقوا معها من خلال رساليّتها. فقد جاء عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إنّه في اليوم الذي توفّي فيه قال للناس: "أيُّها الناس إنّكم لا تمسكون عليَّ بشيء" (لا أحد يقدر أن يمسك عليَّ شيئاً)، أنا في آخر يوم من حياتي، والتاريخ الذي عشته معكم فترة ثلاثة وعشرين سنة منذ بعثني الله رسولاً إلى أن يقبضني الله إليه، كلّ هذا التاريخ أريدكم أن تراجعوه في كلامي وأفعالي وفي علاقاتي وفي أوضاع الحرب والسلم وأوضاعي العائلية، وقضاياي الشخصية، هذا التاريخ ادرسوه جيّداً "إنّكم لا تمسكون عليَّ بشيء، إنّي ما أحللتُ إلاّ ما أحلَّ الله وما حرّمت إلاّ ما حرَّم الله" وفي رواية "إنّي ما أحللت إلاّ ما أحلَّ القرآن وما حرَّمت إلاّ ما حرَّم القرآن".
إنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يطلب من المسلمين أن يحاسبوه على أساس القرآن، وعلى أساس حلال الله وحرامه، وهو ليس مسؤولاً أمام المسلمين، بل مسؤولٌ أمام الله، ولكنّه أراد أن يرشد المسلمين وأن يعلّمهم بأنّ قضية الالتزام بالقيادة لا بدّ أن تكون من خلال دراسة سلوك القيادة، على أساس خطّ الرسالة ومنهجها، حتّى لا يتعبَّد الناس للقائد وللمسؤول، بل يبقى المسؤولون كلّهم، حتّى لو كانوا أنبياء وأئمّة، خاضعين للخطّ الذي خطَّه الله للنّاس في الحياة؛ إنَّ الأنبياء والأوصياء والأولياء والعلماء كلّهم خاضعون لرسالة الله، فالنبيّ مكلّف أن يصلّي ويصوم ويعدل بين الناس، كما أنت مكلَّف أن تصلّي وتصوم وتعدل بين الناس، وهكذا مهما كانت عظمته كبيرة، فعظمته أنّه يطيع الله.
رسول الله وحقوق الناس
هذا من جهة، أمّا من الجهة الثانية، نلاحظ أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يريد أن يعلِّم الناس، إذا أقبل عليهم الموت أو عاشوا هاجسه في أنفسهم، أن يفكِّروا كيف يقدمون على الله ولا حقَّ لأحد عليهم في ما للنّاس من حقوق على بعضهم البعض، ولا حقّ لله عليهم في ما لله من حقوق على عباده. عندما تفكّر بالموت لا يسبق إلى فكرك كيف تؤمِّن أطفالك، لأنَّ الله خلق أطفالك، كما خلقك، وهو يرزقهم كما يرزقك، ويؤمِّنهم كما أمَّنك، لا تفكّر بعقاراتك كيف تديرها، لكن فكِّر بنفسك كيف تخلّصها. ستموت بعد أيّام أو بعد أشهر وسنين، وستقف غداً بين يديَّ الله، وسيأتي الناس إليك ممّن كان لهم حقّ عندك، ممّن ضربتهم بغير حقّ أو شتمتهم أو اتّهمتهم أو أخذت مالهم أو جرحتهم أو قتلتهم أو شرّدتهم بغير حقّ، سيقفون أمامك ويقولون: يا ربّنا يا عدل يا حكيم احكم بيننا وبين فلان، فقد ضربنا بغير حقّ وقد جرحنا، وقد أخذ مالنا، وقد اتّهمنا، وسبّنا وشتمنا بغير حقّ. والله لا بدّ أن ينصف المظلوم من ظالمه لأنَّ الله قال لرسوله {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر: 17]. ذلك هو شعار يوم القيامة، لهذا فكِّر قبل أن تموت أن تتخفَّف من حقوق الناس من حولك، ومن حقوق الله عليك. هكذا كان رسول الله عندما مرض مرضه الشديد، قال لفضل بن عباس ابن عمّه، اعطني يدك، لأنّه كان لا يتمالك نفسه من شدّة الضعف، وذهب إلى المسجد فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال لهم "أيُّها الناس قد حان منّي خفوق بين أظهركم"، (أنا عندي بعض خفقات) وفي روايةٍ أخرى "قد دنا منّي حقوق بين أظهركم" (يعني حقوق لكم عليَّ) "فمن جلبت له بشراً" (يعني ضرب على جسمه) "فهذا بشري فليقتصّ منّي"، يعني ليضربني كما ضربته إذا كنتُ قد ضربت أحداً "ومن تعرّضت له في عرضه" (يعني في كرامته، سببته أو شتمته أو أهنته بدون حقّ) "فهذا عرضي فليقتصّ منّي" ليشتمني ويسبّني "ومن أخذتُ له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه" ثم قال لهم: "ألاَ إنَّ فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة" (يعني إذا جاء شخص وقال يا رسول الله أنا لي عليكَ شيء أو ضربتني أو تكلّمت عليَّ بدون حقّ وأمام الناس طبعاً، هذه فضيحة ولكن هذه أهون من الفضيحة على رؤوس الأشهاد يوم القيامة) "إلاّ إنَّ أوْلى الناس بي" (يقول أحَبّ الناس إليّ) "رجل كان له شيء من ذلك" (يعني له عليّ شيء من هذه الحقوق) "فأخذه أو حلّلني منه" (إمّا يأخذ حقّه أو يسامحني) "لا يقولنَّ أحد منكم أنّي أخاف العداوة والشحناء من رسول الله" (لا يخاف أحد أن يقول إذا طالبت بحقّي سيحقد عليّ) "ألاَ إنَّ العداوة والشحناء ليست من خلقي" (أنا لا أبغض أحداً ولا أحمل شيئاً على أحد).
قام له رجل وقال يا رسول الله، كنتَ جالساً ذات يوم وجاءك سائل فقلت لي: أعطه ثلاثة دراهم وأنا سأعطيك إيّاها في ما بعد، ولم تعطني إيَّاها. فقال للفضل: أعطه ثلاثة دراهم. ويقال قام شخص قال له: "يا رسول الله، لي عليك قصاص، كنتُ مارّاً ذات يوم في بعض أزقّة المدينة وكنتَ تركب ناقتك فامتنعت عليك فأومأت لها بالسوط وأصاب جسدي" يعني أصابته الضربة خطأ، لأنَّ السوط طويل فبالصدفة أصابته. فقال له: "لم أكن متعمّداً" فقال: "هذا قصاص فأنا أحتج" فقال الرسول: "أتريد أن تقتص"، فقال: "نعم كما ضربتني أُريد أن أضربك"، فماذا قال الناس، يقولون طبعاً إنَّ النبيّ مريض، وهذا لا يستحي وما إلى ذلك من كلام عندئذٍ بعث النبيّ بأن يؤْتى بنفس السوط الذي أصاب بطن هذا الرجل، وطلب أن يجمع الناس ليصبح هذا الموقف درساً للجميع. إنَّ عظمة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن لا يترك عليه حقّاً حتّى في هذا المستوى، فلمَّا أخذ الرجل السوط قال الرجل للرسول: "اكشف لي عن جسدك يا رسول الله، لأنَّ القصاص يجب أن يكون باللّحم الحيّ"، كشف له الرسول عن جسده، والناس تحدّق بوقاحة هذا الرجل، ولكنّ الرجل كان يخفي شيئاً آخر. فقد أهوى بجسده على رسول الله، يقبّله وقال: "أعوذ بموضع القصاص من جسد رسول الله من النار"، "إنّها فرصة لي حتّى أُقَبِّل جسد رسول الله" قال له النبيّ: "أتقتصّ أم تعفو" قال: "بل أعفو" قال النبيّ: "اللّهم اعف عنه كما عفا عنّي"(1).
إنَّ هذا درس كبير لنا، يجب أن نتعلَّمه ونقتدي به، باعتبار أنّ الرسول أوْلى هذه المسألة اهتماماً كبيراً. لكن أين نحن؟ فبالنسبة لنا إذا تخاصم رجل مع زوجته مثلاً، فإنّه يشتم ويكسر ويسبّ، لأنّه رجل يجوز له كلّ شيء، هذا في مفهومه، ولكن كيف تدبّر الأمر معها يوم القيامة، عندما يضرب الرجل زوجته ويقول له آخر لماذا تضربها؟ فيجيبه "ما دخلك في زوجتي"؟ أو عندما تضرب ولدك أو ابنتك إذا أرادت الزواج بشاب أنتَ لا تريده فتضربها وتهدِّدها بالقتل فما ولايتك عليها؟ إنَّ ابنتك إنسان مثلك، جعل الله لكَ أمر رعايتها إذا كانت غير بالغة، حتّى إذا أصبحت بالغة، تولَّت أمر نفسها فلا دخل لك فيها، وحسب بعض الفتاوى فإنَّ لك حقّاً أن تستشيرك، ولم يجعل لك الحقّ أن تزوّجها بدون إرادتها، فلو زوّجت ابنتك ممّن لا تريده، فكأنّك تكون دفعتها لمن يزني بها لأنَّ العقد باطل. فماذا يقول الناس إذا سلَّم شخصاً ابنته للزنا؟
وهكذا إذا كنت ابن عشيرة، وتنتمي إلى جهة سياسية قويّة، تظلم الناس، تقتل وتضرب وتجرح وتعمل كلّ شيء لماذا؟ لأنّي أنا القوي المطاع. في يوم القيامة ستقف بين يديّ الله وعليك أن تدفع كلّ ما أخذت من الناس في ذاك الوقت. يعني كما جلدت هنا ستُجلَد هناك.
لقد أعطى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الدرس كي يتعلَّم الناس في حياتهم أن لا يأخذوا حريّتهم عندما يكونون في موقع للقوّة وأن لا يضطهدوا الآخرين الذين هم أضعف منهم، لأنَّ القصاص شديد. يقول الإمام عليّ (عليه السلام): "القصاص هناك شديد ليس جرحاً بالمُدى ولا ضرباً بالسياط ولكنّه ما يستصغر ذلك معه"(2).
وينقل عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنّه كان يركب ناقته فلمَّا تأخّرت عليه في سيرها وتوقّفت، أراد أن يهوي عليها بالسوط ليضربها حتى تسير، ولكنّه قال: "آه لولا القصاص"، خاف أن يضربها "بغير حقّ" لأنَّ الناقة قد تكون توقّفت لألم أو لحاجة.
هذا درس نتعلَّمه من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فإذا فكّرنا بالموت أو اقترب منّا الموت، فعلينا أن نتخفَّف من حقوق الناس في ما أسأنا به إليهم.
لا أحد فوق الشريعة
هذه نقطة، والنقطة الثانية التي ركَّز عليها النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه لا بدّ للإنسان المسلم سواءً كان مسؤولاً أو غير مسؤول، أن يعتبر الناس في الحقّ سواء ولا فرق بين إنسانٍ وآخر، ولا امتياز لأحد في أيّ جانب، مهما بلغت درجته من القيادة أو من المسؤولية. والنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ركَّز على هذا الأمر في بعض الكلمات حين يقول: "إنّما أهلك من كان قبلكم"(1) من المجتمعات التي سقطت وهلك أصحابها "إنّما أهلك من كان قبلكم" إنّهم "إذا سرق الشريف" الرئيس أو الوزير أو النائب أو الوجيه أو الزعيم أو صاحب المسؤولية "تركوه" فهو فوق القانون، "وإذا سَرَقَ الضعيف أقاموا عليه الحدّ". القانون على الضعفاء لا على الأقوياء ولكنَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول نحن كمسلمين وضعنا ليس هكذا، "والله لو سرقَت فاطمة بنت محمد لَقَطَعْتُ يَدَها" وهو الذي يقول "فاطمة بضعة منّي مَن آذاها فقد آذاني"(2) وهي سيّدة نساء العالمين "فاطمة أُمُّ أبيها"(3) ولم تسرق فاطمة ولكن إذا حدث المستحيل وسرقَت فلا فرق بين فاطمة وأيّ إنسان من المسلمين. هذه العقلية الإسلامية الإيمانية التي تقول للمؤمنين بأنَّ عليهم أن لا ينظروا إلى المركز وإلى القرابة في مسألة تطبيق الشريعة، بل أن ينظروا إلى الإنسان كإنسان مخطئ. وحتّى في الجانب الآخر أراد أن يبيِّن لهم أنّ قرابة الإنسان من رسول الله، لا تفيده شيئاً عند الله، إذا لم يكن في خطّ رسول الله. تقول كتب السيرة إنّه بينما كان الرسول جالساً وإلى جانبه عمّه العباس بن عبد المطّلب، وعمّته صفيّة بنت عبد المطّلب وابنته فاطمة بنت رسول الله، التفت إليهم وهو في آخر أيّامه قائلاً: "يا فاطمة بنت محمّد، إنّي لا أُغني عنكِ من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطّلب إنّي لا أُغني عنك من الله شيئاً، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم"(1). هذا هو الخطّ، النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يأتِ ليحمل أقرباءه على ظهره؛ ليأخذهم إلى الجنّة، فقد أنزل الله بأبي لهب عمّه سورة في القرآن كاملة حتى يعرف الناس أنَّ قرابة رسول الله إنَّما هي بالعمل، كما قال عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) "إنَّ وليّ محمّد مَن أطاع الله وإنْ بعدت لحمته؛ وإنَّ عدوّ محمّد من عصى الله وإنْ قربت قرابته"(2). فقال ذلك الشاعر:
كانت مودّةُ سلمانٍ لهم رحماً ولم يكن بينَ نوحٍ وابنِهِ رَحِمُ
هذا هو الخطّ ونحن نعظِّم أهل البيت (عليهم السلام) لا بصفتهم أقرباء رسول الله بالقرابة، ولكن لأنّهم أطاعوا الله حقّ طاعته، وعرفوه حقّ معرفته، ونحن نلتزمهم كما نلتزم خطّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
البلاغ الأخير
إنَّنا عندما نريد أن نستثير ذكرى وفاة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، نلاحظ أنَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في حجّة الوداع، التي سبقت وفاته بمقدار شهرين أو ثلاثة أشهر، أراد أن يعطي البيان الأخير للمسلمين. جمع المسلمين في مِنى في يوم عيد الأضحى، بعد أنْ بيَّن لهم كلّ أحكام الحجّ وكل فرائضه قال لهم: أيُّها الناس قد لا ألقاكم بعد عامي هذا" يمكن أن تكون هذه آخر سنة معكم، فأنا أُريد أن أُبلِّغكم كلمات أخيرة "أيُّها الناس، أيّ يوم هذا" قالوا: اليوم الحرام، يوم عيد الأضحى، قال: "أيّ شهر هذا" قالوا الشهر الحرام ذو الحجّة الحرام من الأشهر الحرم. قال: "أيّ بلد هذا" قالوا: البلد الحرام لأنَّ مِنى جزء من الحرم، قال: "أيُّها الناس... إنَّ الله قد حرَّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا"(1)، إلاَّ "لا ترجعن بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"(2). هذا الخطّ الذي تركه للمسلمين، أن لا يكون قتالهم كقتال الجاهلية، بل أراد للمسلمين أن يعيشوا مع بعضهم أُخوة بكلّ ما للأخوة من معنى، أراد لهم أن يكون الحقّ هو أساس العلاقات في ما بينهم، وأراد لهم عندما يتقاتلون أن تنطلق طائفة لتصلح، وعندما تتمرَّد فئة فعلى المسلمين أن يقوموا عليها حتّى تفيء إلى أمر الله {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ...} [الإسراء : 33]. هذا هو البرنامج الذي أراد أن يحصِّن به المسلمين من كلّ العوامل التي يمكن أن تثير الخلاف والأحقاد والبغضاء بينهم، ليستغلّها أعداء الله، كما كان اليهود يفعلون ذلك ولا يزال اليهود يعملون في التوجّه نفسه.
حذار من دسائس المخابرات
لعلّنا استمعنا إلى كثير ممّا ذكر في مناسبة نزول هذه الآية {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ...} إذ بعد أن دخل الأنصار في الإسلام، أراد اليهود أن يثيروا الحزازات السابقة في ما بينهم، والعصبيّات العشائرية، فجاء يهودي وبدأ يذكّر هؤلاء بانتصاراتهم في الماضي على إخوانهم وبدأ يذكّر أولئك بانتصاراتهم على الآخرين في الماضي، حتّى تنادوا السلاح، السلاح. كلّ واحد يقول نحن انتصرنا، وهكذا غفلوا عن دينهم فاستسلموا لأحقادهم وأضغانهم. عند ذلك جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال لهم: "أكفر بعد إيمان". عندئذٍ رجع إيمانهم إليهم، وأكبُّوا على قدمي رسول الله يقبّلونها قالوا: "يا رسول الله سامحنا إنَّ اليهودي أثار أحقادنا ونحن كنّا نسيناها". فنزلت الآية الكريمة: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا...} [آل عمران : 103]. هذا الشيء عاشه المسلمون ودخل إلى صفوفهم من كان يثير بينهم العداوة والبغضاء، على أساس وجود كثير من الرواسب الذاتية والعصبية في داخل حياتهم. في ذاك الوقت كان هناك بعض اليهود، والآن عندنا أجهزة دول تتحرّك بيننا، من أجهزة مخابرات تحاول تخريج مسؤولين لتوظّفهم في إدارة الخلافات وإثارة النزاعات. أحياناً تشعر أنّ هذا الخلاف الذي جرى ويجري طبيعي. لا غير صحيح! فهنا مسؤول وهناك مسؤول إذا تَلَفَّت ودرست خلفياتهم فتجدهم مخابرات، والمخابرات في هذه الأيام مناصب، من رئاسة جمهورية أو رئاسة وزارة أو ملكية، بعض الملوك العرب الموجودين الآن قد ربَّته المخابرات من طفولته إلى أن بات في منصبه، وكذلك الجامعات الأميركية في المنطقة، سواء هنا أو غير هنا، الدور الأساسي لها هو أن تصنع للمنطقة مسؤولين على الطريقة الأميركية.
لهذا عندنا الآن الكثير من المشاكل على المستوى العائلي أو المذهبي أو المستوى الطائفي أو العرقي أو القومي أو السياسي، والوضع مهيَّأ لكلّ شيء، والأجهزة حاضرة للضغط على أزرار هذه الخلافات، لكي تنفجر. وهذه الأجهزة تأخذ المظهر الوطني أو الديني أو الاجتماعي أو السياسي أو أيّ مظهرٍ آخر. هذا ما يجب أن نفهمه ونحدِّق بالواقع وبالمسؤولين في خلفيّاتهم، وعلاقاتهم وبالناس من حولنا، حتى في العلاقات الخاصّة، لأنَّ المخابرات الآن هي التي تقود العالم، حتّى رؤساء الدول الكبار هي التي تصنعهم وهي التي تصنع الانقلابات والفتن والمشاكل والتعقيدات في البلد، ووضع لبنان الآن أسير صراع الأجهزة المخابراتية الدولية والإقليمية.
أمّا الفتنة فلا تعود إلى أسباب طبيعية باعتبار أنّ لبنان يضمّ مسيحيين ومسلمين، ففي غير لبنان يوجد أيضاً مسيحيّون ومسلمون ولا يحدث ما يحدث في بلدنا.
إنَّ المخابرات في هذا البلد تعمل على تأجيج الفتنة اللبنانية، وهذا ما يدفعنا أن نكون واعين لكلّ الدعايات التي تريد أن تثير الفتنة بين المسلمين، سواءً كان المسلمون الذين تتعدَّد مذاهبهم أو في داخل المذهب الواحد.
فلتحرّكنا المبادئ لا العقد
إنَّ على كلٍّ منّا أن يحرس نفسه من نوازعه الذاتية، والإنسان الذي يكون مسؤولاً في أيّ موقع عليه أن يكون مسؤولاً في كلماته، ولا يحاول أن يثير الناس حول أيّ شيء يمثّل عقدة في ذاته، أو محيطه، لأنّك عندما تكون في موقع متقدّم في المجتمع فإنّك لا تسيء إلى نفسك إذا كانت كلمتك سيّئة ولكنّك تسيء إلى المجتمع كلّه، ولهذا ليخزّن الإنسان لسانه كما يخزّن ذهبه، لأنّه في كثير من الحالات، الكلمة تحرق بلداً وتثير حساسيّات، ولاسيّما إذا كانت الكلمات منطلقة من عقدة ذاتية ضدّ جهة معيّنة أو ضدّ شخص معيّن أو ضدّ فريقٍ معيّن، ولهذا يتفاضل الناس الذين يحملون المسؤولية بين إنسان يعيش المسؤولة من خلال المحافظة على وحدة الناس، والمحافظة على مواقع الخير والعدل والحقّ للنّاس؛ وبين إنسان يتحرّك من خلال العقدة التي تعيش في ذاته وفي حياته. هذا ما يجب أنْ نتعلَّمه من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى نستطيع أن نحفظ أنفسنا على خطّ الحقّ، وحتّى نستطيع أن نحفظ حياتنا على خطّ العدل، ونحمي أنفسنا من الأعداء الذين يريدون أن يكيدوا لنا على كلّ صعيد وعلى كلّ مستوى.
مشروعنا في حجم العالم
إنَّ الواقع الذي نعيشه الآن ـــ وقبل الآن ـــ هو إنّه لن يسمح لنا كمسلمين أن نتحوّل إلى قوّة في العالم تملك زمام أمرها في المستقبل، ولن يسمح لنا كمستضعفين يمكن أن يتّحدوا ليكونوا قوّة في وجه المستكبرين. لن يسمح لنا أن نكون قوّة نملك ثرواتنا لنوظّفها في خدمة قوّتنا، ونملك قوّتنا لنحرّكها من أجل مستقبلنا، ولنجعلها تنطلق على أساس قوّة رسالتنا، لأنّنا كمسلمين مدعوون إلى أن نكون الدُّعاة للإسلام في العالم، لأنَّ الله أراد أن يكون الدين كلّه لله، وهذا ما يحمِّلنا المسؤولية في ذلك، وهذا ما عبَّر عنه الإمام الخميني حفظه الله، عندما توجَّه إلى المسؤولين هناك في الجمهورية الإسلامية وهو يتحدّث عن إعمار البلد بعد الحرب، في حين كانت أجهزة الإعلام العالمية تتحدّث أنّه من الممكن لإيران أن تسقط في أحضان الاستكبار في إعمار البلاد وبذلك تكون تحت رحمة الاستكبار في السلم بعد أن لم يستطع الاستكبار أن يفرض عليها ما يريد في الحرب. وكان حديث الإمام حديث الإعمار، وكان من كلماته (حفظه الله) أنّه قال لهم: إنَّ استمرار دوام الجمهورية الإسلامية يعتمد على أساس سياسة لا شرقية ولا غربية، وإنَّ العدول عن هذه السياسة هو خيانة للإسلام والمسلمين، ويؤدّي إلى زوال عزّة وسمعة واستقلال البلاد. وقال لهم، للشعب هناك: "إنَّ عليكم أن تظلُّوا محتفظين بحقدكم المقدَّس ضدّ استكبار الدول الكبرى، وأن تستمروا بذلك، حتّى ترفرف راية الإسلام على العالَم ويرث المستضعفون والحفاة والصالحون الأرض". ولهذا كنّا معه، مع قيادته، لأنّه لم يتحدّث مع الإيرانيين عن إيران كدولة يريد لها وحدها أن تأخذ العزّة، أو يريد لها أن تسيطر على محيطها من موقع الاستكبار، ولكنّه كان يفكّر أن يكون السلم حرّاً من سيطرة الشرق الاستكباري، وأن يحمل كلّ مسلم الحلم الكبير الذي كان يحمله رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لكي ترفرف راية الإسلام في العالَم.
إنَّ عليك أن تكون المسلم العالمي وأن تُعِدّ نفسك في ثقافتك وفي خبرتك وفي كلّ طاقاتك، لتنطلق إلى كلّ مكان يحتاجك فيه الإسلام في العالم. أن لا نكون من الذين يختنقون في الزوايا فيحصر كلّ واحدٍ نفسه في زاوية صغيرة في قريته، أو في وطنه. نحن المسلمين نتحرّك من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، لسنا عدوانيّين كمسلمين، ولكنَّنا نرفض أن يعتدي علينا أحد، وعلينا أن لا نفكِّر في بلد صغير نأخذ فيه جزءاً ولكن علينا أن نفكِّر بالعالم على أساس المراحل، وعلى أساس أن نرتبط بكلّ المسلمين في العالَم، والله لا يريدنا أن نكون محشورين في هذه الزاوية. تلك هي قيمة قيادة الإمام حفظه الله، قيمته أنّه جاء إلى مجتمع يفكّر فيه المسلمون تفكيراً وطنياً أو قومياً، فقال لهم فكِّروا إسلامياً وعالمياً، حتّى لا يعيش الإنسان مختنقاً داخل كلّ مشاعره وحتّى لا تنجح المؤامرة التي يريد الكفر والاستكبار من خلالها أن يفصل المسلمون بعضهم عن بعض، وأن يقطعوا أوصالهم، ليحمل كلّ مسلم حقداً على المسلم الآخر.
لن نستسلم للمؤامرة الأميركية
إنَّ الله أرادنا أن نكون الدُّعاة إليه والمجاهدين في سبيله والسائرين على خطّه المستقيم في كلّ مكان، ونحن عندما نريد أن نثير المسألة السياسية في كلّ موقع من المواقع فإنّنا لا ننظر إلى المشكلة الطائفية لنخطّط في سياستنا على أساسها، ولكنَّنا ننظر إلى القاعدة الأساسية للسياسة الإسلامية، نحن نعمل على أساس أن يملك المسلمون والمستضعفون الحريّة في إدارة كلّ أمورهم على الخطّ، الذي يبني لهم عزّتهم وكرامتهم، ومن خلال هذا فنحن نراقب المسألة اللبنانية في حركة الفتنة التي بدأت، وفي كلّ التطورات التي تتحرّك، إنّنا ننظر إلى خطورتها على أساس أنّها تمثّل جزءاً من المشروع الأميركي في لبنان، في ما تضغط به أميركا على الواقع اللبناني في دائرة ضغطها على الواقع العربي، وعلى الواقع الإسلامي، حتّى تحشر الجميع في الزاوية، حتّى يقول الجميع، ولسنا منهم، لأميركا دبّري لنا أمرنا، واتّفقي مع مَن تريدين أن تتّفقي معه، حتّى تحلّي لنا المشكلة "فيك الخصام وأنتِ الخصم والحكم"، أميركا التي أوجدت الفتنة اللبنانية، فتنة 1975 التي صنعها وزير خارجية أميركا السيِّئ الذكر هنري كيسنجر، حتّى تؤدّي إلى تصفية القضية الفلسطينية، باعتبار أنّ شخصيّته اليهودية كانت الأساس في كلّ تحرّكاته. هل يمكن أن تفكّر أميركا بأن تحلّ المشكلة؟
تنسيق أميركي ـــ صهيوني
لقد صفَّق الناس للاتفاق الأميركي ـــ السوري على أساس أنّه يحلّ مشكلة الرئاسة ولكنَّ أميركا جاءت وأفسدت الحلّ، لأنَّ الموسم هو موسم الانتخابات الأميركية التي تعتمد على الأصوات اليهودية.
ولذلك من الصعب جداً أن تسير أميركا، في هذه المرحلة بالذّات على الأقلّ، في خطّ يختلف عن الخطّ الإسرائيلي في ما هي سياسة لبنان، وفي ما هو واقعه، ولهذا أفسحت أميركا "لإسرائيل" أن تدخل على الخطّ من موقع التكامل مع أميركا، لأنَّ أميركا تعمل على أساس التحالف الاستراتيجي والأمني مع "إسرائيل" في كلّ المجالات السياسية والأمنية التي تتحرّك في المنطقة.
ضمن هذا الإطار فإنَّ ما يتحرّك في السّاحة ممّن ترونه من الحكومة العسكرية، أو من الوضع القوّاتي، فهو ليس بعيداً عن الخطّة الأميركية والمشروع الأميركي: خُيِّل أنّ هؤلاء تمرَّدوا على أميركا، كيف؟ فالجيش الذي يمجّده الناس ويضعونه في مرتبة فضلى. هذا الجيش يعتبر ميليشية أميركا في لبنان، وقد حاز على توقيع المخابرات الأميركية، وهذا كلام لا نقوله نحن، ولكن يقوله السياسيون الموالون لأميركا، والمعارضون لها. إنّ اعتماد أميركا في تغيير الوضع اللبناني وفي الضغط على حركة السياسة اللبنانية، إنّما هو على الجيش الذي يسهر عليه قسم من ضبّاط الجيش الأميركي والمخابرات الأميركية الذين يقيمون في مركز القيادة اللبنانية، وأنا عندما أتكلَّم عن هذا لا أكشف سرّاً.
ممنوع التدويل أو التعريب
إنَّ قائد الجيش الذي ارتفع بقدرة قادر إلى رتبة عماد رأساً، شرب حليب السباع، وأصبح يواجه أميركا فكيف صار ذلك؟ وهكذا تتحرّك المسألة وتصير هذه الهمروجة بالمؤتمرات والاجتماعات، لكنَّ المشروع الأميركي يسير بطريقة معيّنة والطبخة لا تزال تحتاج إلى نار خفيفة، بعد أن احتاجت إلى نار قويّة، وعلى هذا الأساس يجب أن لا يشعر أحد بالإحباط، وبأنّ السماء ستقع على الأرض إذا لم ينتخب رئيس للجمهورية أو رئيس للمجلس النيابي.
إنَّ دعوات التعريب والتدويل هي دعوات للاستهلاك على أساس أنّه لا يسمح لأيّة دولة أوروبية أو غير أوروبية أن تتدخّل بالشؤون اللبنانية إلاّ لمصلحة أميركا، وهكذا بالنسبة إلى البلاد العربية. التعريب هو أن نأتي بجميع المشاكل العربية ونضعها في لبنان، كلّها بالونات اختبار، لا تملك أيّ شيء في الواقع. هناك وضع يتحرّك يمثّل حركة الأشباح، ويتحرّك في أوضاع ضبابية وخفيّة، ولهذا علينا أن لا تستغرقنا اللّعبة وأن لا تستهلكنا الأوضاع، ولا تثيرنا الكلمات التي تتحرّك من هنا وهناك، ولكن هناك نقطة نحبّ أن نتحدّث بها بمناسبة التحالف بين جيشنا اللبناني المظفّر وبين القوات اللبنانية لنسأل ما معنى هذا؟
تحالف الجيش والقوات
القوات اللبنانية لها سياسة مارونية أوّلاً، ومسيحية ثانياً، وإسرائيلية من قبل ذلك ومن بعد. أمّا الجيش اللبناني فالمفروض أنّه للبنانيين كلّهم فكيف يتحالف مع القوات؟ معنى ذلك أنّ الجيش اللبناني أصبح يلتزم في حركته سياسة القوات اللبنانية، فكيف يمكن لكم أن تطلبوا منّا أن نثق بهذا الجيش، وقد تحوَّل بفعل قيادته إلى جيش المارونية السياسية المتحالفة مع اليهودية الإسرائيليّة؟ كنّا نقول ذلك قبل الآن، لكن الآن نعيش في المرحلة التي يتعرّى فيها كلّ شيء، هذا التطابق والتحالف ضدّ مَنْ؟ بالتأكيد ليس ضدّ "إسرائيل"، إذن هل هو تحالف ضدّ الفريق الإسلامي؟
إنَّنا نطرح هذا السؤال حتّى نستطيع أن نتفهَّم كيف نتحرّك في الواقع، ثمّ علينا أن نتفهَّم شيئاً، وهو هذا الوضع الذي نشاهده في المنطقة الأخرى، حيث تتأسَّس المرتكزات لمشروع الفيدرالية الذي تنادي به بعض الفئات اللبنانية، ليتحوّل إلى أمر واقع. نحن نراقب الوضع وهناك تهاويل تثار من بعض المواقع العربية الرسمية، لتخوِّف الناس.
نحو بناء قوّة تواجه العدوان
السياسة الآن أيُّها الأخوة هي سياسة إثارة الخوف في نفوسنا. الكلمات التي تقال هي لإكمال مسألة التخويف على غرار ما يقال عن أنّ النظام العراقي أرسل عشرات أو مئات الدبّابات إلى المنطقة الشرقية، وأنّ "إسرائيل" يمكن أن تقوم باجتياح على مستوى خطّ البقاع الغربي، حتّى تصل إلى المنطقة الشرقية بطريقة معيّنة، وإنّه يمكن أن يكون هناك نوع من التدخّل العراقي في شمال سوريا، فيجب أن ننسى هذا الكلام لأنّه للتخويف حتّى يسقط الناس أمام الخوف ولا يثبتوا في مواقعهم.
إنَّ الردّ على مسألة التخويف يكون فعّالاً عندما ننطلق لنصنع القوّة التي تجعل من كلّ شخص منّا مدرّباً على السلاح في أيّ وقتٍ يحتاجه السلاح، ومدرّباً على الوعي السياسي في أيّ وقت تحتاجه المعركة السياسية، نحن لا ندعو إلى قوّة عدوانية، ولكنَّنا ندعو إلى قوّة تواجه العدوان حتّى لا يفرض علينا الأمر الواقع في أيّ مجال. نحن ضدّ أيّ تفجير عسكري ولكن إذا أراد أحد أن يفجّر عسكرياً ضدّ مواقعنا، فإنَّ علينا أن نستعدّ لذلك، أن نردّ الاعتداء.
الوحدة أمام الأخطار
وفي هذا المجال أريد أن أقول لكلّ المسؤولين، في أيّ موقع من مواقع المسؤولية، إذا كانوا يخافون الله، إنّ المرحلة هي مرحلة تجميد كلّ الخلافات وكلّ الحساسيّات وكلّ الذاتيّات، على الجميع أن يسحقوا ذاتهم أمام حاجة أُمّتهم. والمرحلة صعبة صعبة. ولهذا إنّ الذين يضعون العصيّ في دواليب الوحدة واللّقاء بين الناس الذين يواجهون الخطر من كلّ جهة، فإنَّ عليهم أن يتّقوا الله في ذلك. وهنا أيضاً كلمات تثير في هذه الأيام مشكلة التحرّك الفلسطيني في ما يتحدّث به الناس عن التحرّك في صور، أو في شرق صيدا، أو في أيّ مكانٍ آخر. إنّنا نريد أن نقول للفلسطينيين بكلّ فصائلهم أن يعلنوا الكلمة وبالفعل رفضهم لهذا التحرّك، حتّى لا يقعوا في دائرة الفتنة التي تقضي على قضيّتهم وقضيّتنا، وحتّى لا نقع نحن في دائرة الفتنة، وإذا كان هذا الأمر صحيحاً فما هو تفسيركم لذلك؟ إنّ الذين يملكون انتفاضة في حجم انتفاضة الشعب الفلسطيني المجاهد في الداخل، في الضفّة الغربية وغزّة، ويملكون ثورة في حجم هذه الثورة، يغذّيها الإسلام بقوّته، إنّ الذين يملكون مثل هذه الانتفاضة لا يمكن أن يثيروا أيّة مشكلة أخرى في الوحول اللبنانية التي يراد لها أن تُغرق الانتفاضة في وحول الخلافات الداخلية العربية.
إنّنا نتمنّى أن لا يكون لهذه الكلمات التي يسوقها الإعلام المخابراتي أيّ حقيقة، وأن لا يكون لها واقع، ونحن ندعو الطيّبين من الفلسطينيين كما ندعو كلّ أهلنا في الجنوب، أن يكون لهم الوعي الكامل الذي يحدِّق بالأرض جيّداً، حتّى يفحص كلّ ما فيها ويحدِّق بالأفق جيّداً، حتّى يعرف كلّ ما يدور فيه، ويحدِّق بالمستقبل جيّداً حتّى يعرف كلّ ما يحتاجه قبل أن تنطلق الكلمات والمواقف الحادّة، لأنّنا لا نريد حرب مخيّمات جديدة، ولا نريد فتنة لبنانية فلسطينية جديدة، وأعتقد أنّ جميع المخلصين لا يريدون ذلك.
"إسرائيل" وخلط الأوراق
أيُّها الأخوة في كلّ موقع للمسؤولية، إنّ الجميع في المنطقة على مستوى القضايا المصيرية، وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية والقضية اللبنانية، يقفون الآن من أجل أن يلتقطوا أنفاسهم لمراقبة الانتخابات الأميركية، لأنّهم يعتبرونها قد تؤثّر سلباً أو إيجابياً على كثير من المشاريع السياسية والأمنية في المنطقة، وهناك أيضاً مَن يحدِّق في الانتخابات الإسرائيلية، لأنّها ستنعكس في رأيهم سلباً أو إيجاباً على كثير من المواقع السياسية في المنطقة، وربّما تتحرّك الآن بعض الأوضاع في الدائرة الفلسطينية وفي الدائرة اللبنانية لخدمة الانتخابات الإسرائيلية، لأنَّ الانتخابات الإسرائيلية سوف تجعل المسألة اللبنانية ومسألة الانتفاضة الفلسطينية رقمين متحرّكين في مجال الشدِّ والجذب في دائرة الانتخابات الإسرائيلية. لهذا قد تكون المسألة في مجملها مسألة إسرائيلية حتّى تخلط الأوراق وحتى تكون الورقة الرابحة لإسرائيل. لهذا أيُّها الأخوة علينا أن تكون عيوننا في وجوهنا مفتوحة، وعيوننا في قلوبنا مفتوحة، وأن نكون الأُمّة التي تعي حاضرها ومستقبلها، وأن نتابع خططنا في مواجهة الاستكبار كلّه والصهيونية كلّها، وأن نتَّكل على الله توكّل الذي يجاهد، وتوكّل الذي يملك الوعي كلّه في درب الإسلام كلّه، وفي درب الحريّة كلّها.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين
في رحاب الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) القدوة(*)
يعيش الناس في هذه الأيام أجواء ذكرى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في وفاته وفي أيام مولده، التي نستقبلها بعد فترة قصيرة من أيّام هذا الشهر. ونحن بحاجة دائماً إلى أن نستنطق القرآن الكريم، في ما قدَّمه إلينا من صورة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما بعثه الله بالرسالة، وكيف كانت دعوته، وكيف كان ردّ فعله على الذين وقفوا في وجه الدعوة وتمرَّدوا عليه، وآذوه واضطهدوه وحاربوه وشرّدوه. وعن آفاق هذه الدعوة، إلى أين يريد الله لها أن تصل؟ وإلى المجتمع الذي عاش رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من أجل أن يصنعه، وكيف صنعه وكيف كان أصحابه معه، وما هي أخلاقه؟ هذه أمور لا بدّ أن نتعرَّف إليها عندما نريد أن نثير ذكرى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في وعينا الإسلامي وفي وعينا الإنساني، لأنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) جاء للنّاس كلّهم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107] وجاء للإنس والجن، كما حدَّثنا الله عن ذلك. ولا بدّ للمسلمين دائماً أن تكون صورة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) صورة واضحة في أذهانهم، لأنَّ رسول الله إمامنا الذي نقتدي به، كما هو نبيّنا الذي نأخذ برسالته؛ فهو النبيّ في الرسالة، وهو الإمام في القدوة. كما جعل الله إبراهيم إماماً فقد جعل الله محمّداً إماماً ونبيّاً ورسولاً ومرشداً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
الارتباط بمحمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الرسول
لا بدّ لنا أن نتعرَّف كيف نستمع إليه، حتّى نتعرَّف كيف نقتدي به وحتى نتعرّف الأسلوب الذي يجب أن نسير عليه في الحياة {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح : 29] تلك هي صورة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وصورة المجتمع الذي صنعه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). إنَّ عظمة الرسول تكمن في أنّه استطاع أن يصنع مجتمعاً في البداية على خطّ الله وخطّ كتابه، واستطاع بعد ذلك أن يحوِّل المجتمع إلى أُمّة تنتشر في الكون كلّه؛ وكلّ واحدٍ منها يقول: أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله. شهادة لله بالتوحيد، وشهادة للرسول بالرسالة، شهادة تبدأ من توحيد الله لتسير في خطّه، ولتقف بعد ذلك بين يديّ الله الواحد موقفاً يحاسب فيه الإنسان كلّ حياته على أساس خطّ التوحيد.
محمّد رسول الله، تلك صفته في وعينا. نحن مع محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، لسنا مع محمّد الهاشمي، ولا مع محمّد القرشي، ليس لنا علاقة بصفة هاشميّته وإنْ كانت صفة مميّزة أو علاقة بصفة قريشيّة، وإنْ كانت صفة مميّزة، أو علاقة بصفة مكيّته ومدنيّته، كما جاء في بعض الأدعية "القرشي التهامي المكّي المدني" ليس لنا علاقة بهذا؛ علاقتنا بمحمّد بصفة أنّه رسول الله، حَمَلَ إلينا الرسالة وعلَّمَنا كيف نفهمها، وعلَّمنا كيف نحرِّك الرسالة في حياتنا، وعلَّمنا كيف ندعو للرسالة، وعلَّمنا كيف نجاهد في سبيلها، {... وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران : 164] يعطينا الكتاب ويعلّمنا كيف نحرّك الحكمة في وعينا للكتاب، ويزكّينا، يزكّي أنفسنا ومشاعرنا ويطهّرها من كلّ خبث. هو رسول الله ونحن مع رسول الله، وإذا كنّا مع رسول الله فنحن مع رسالته، لهذا لا قيمة لمسلمين يرتبطون بمحمّد ولا يرتبطون برسالة محمّد، إنَّ محمّداً يرفض أن يرتبط الناس به من خلال اسمه، لهذا فإنَّنا نرفض كلمة المحمّديين. لسنا محمّديين، نحن مسلمون، ننطلق من خلال رسول الله لا من خلال ذاته.
بعض الناس عندما يقولون عنّا إنّنا محمّديون، يريدون أن يجعلوا رسالة الله رسالة شخص، فيقولون إنَّ محمّداً هو الذي صنع القرآن، وهو الذي صنع الرسالة، وهؤلاء أتباع محمّد أتباع كتاب محمّد وأتباع رسالة محمّد وأتباع ثورة محمّد. ليس الأمر كذلك، محمّد رسول الله. قيمة كلّ ما قاله، وقيمة كلّ ما فكَّر فيه، وقيمة كلّ ما فعل، وقيمة كلّ ما جاهد فيه، وقيمة كلّ ما وقفه من مواقف، قيمته إنّه سار على خطّ الله في ما رسمه الله له. هو لا يستطيع أن يزيد كلمة ولا يستطيع أن ينقص كلمة. علَّمه الله أن يقول ما أوحى إليه من دون زيادة أو نقصان وقال له قبل أن يقول لنا {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ*فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 4 ـــ 47]، {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ـــ 4] قد يحدّثكم بعض الناس عن محمّد، كعبقري، وقد يحدِّثكم بعض الناس عن محمّد كمصلح، وقد يحدِّثكم بعض الناس أنَّه عاش آلام العروبة واختزن كلّ مشاعرها، وثار من أجل أن يؤكّدها. محمّد عبقري مصلح قائد عظيم، ولكن ليست تلك الصفات صفاته الذاتية. عندنا صفته أنّه محمّد رسول الله {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110] قال للنّاس: رسالتي التوحيد لله أوحي لي بالتوحيد كرسالة أساسية، فإذا كنتم ترجون لقاء الله وتريدون أن تلتقوا به وأنتم في محبّة الله، تحبُّون الله ويحبّكم. أيُّها الناس أتعرفون كيف يجب أن تتّقوا الله؟ لا تقدِّموا إليَّ الكلمات المعسولة، لا تخاطبوني بما تخاطبون به الجبابرة، لا ترتبطوا بي كشخص، ولكن {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به واعملوا العمل الصالح، الذي يتحرّك في خطّ التوحيد وعندها يصلني حقّي. كان النبيّ يقول ذلك: ليس حقّي حقّ شخص.
لا بدّ لنا أيُّها الأخوة من أن لا يخدعنا الآخرون بالكلمات التي يريدون من خلالها، أن يؤكِّدوا إنَّ الإسلام صُنع محمّد، وإنَّ القرآن صُنع محمّد، ويمدحون محمّداً، إنّه الفيلسوف، وإنّه المصلح، وإنّه الثائر. محمّد كلّ هذا ولكن محمّداً يوحى إليه من ربّه، فمن أنكر الوحي أنكر الإسلام، ومَن أنكر رسالة رسول الله الآتية من الله، فقد أنكر الإسلام. لا تخلطوا بين الأشياء. لأنَّ الكثيرين يريدون منكم أن تخلطوا بينها.
كيف ندير الصراع مع الكفّار
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29]، في خطّ المواجهة، والذين معه في خطّ المجتمع الإسلامي، كيف هو حال المسلمين في مجتمعهم في الداخل؟ وكيف هو حال المسلمين في مواجهتهم لتحدّيات الخارج؟ {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29]، الكفّار الذين يثيرون الحرب ضدّ المسلمين، لأنَّ الله لا ينهاكم عن الذين يقاتلونكم في الدين ولم يظاهروا على إخراجكم، الله لم يَنْهَنا عن ذلك؛ الكفّار الذين يتمرّدون ويحاربون ويعملون على أن ينصبوا الحواجز ضدّ حريّة الدُّعاة إلى الله في أن ينطلقوا إلى الناس، ليحولوا بينهم وبين الناس بطريقة الحواجز الأمنية أو الحواجز السياسية أو الحواجز العسكرية. أي حاجز ينصبه الذين يجعلون الكفر قاعدة التفكير؟! فإذا أراد الداعية الإسلامي أن يقف ليقول إنّي أريد أن أدعو إلى الله، وقفوا بينه وبين ذلك. المسلمون لا يجاملون أحداً في هذا المجال إنّهم ليسوا عدوانيين {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ}، المسلمون لا يتنازلون عن مواقفهم، إنّهم يقولون للكفّار إنّ بيننا وبينكم قضية، نحن نتّخذ فيها موقفاً ولسنا مستعدّين أن نتنازل عن هذا الموقف، صفتنا مسلمون ونحن نؤكّد هذه الصفة، فإذا أردتم أن تعادونا وإذا أردتم أن تقاتلونا وإذا أردتم أن تقفوا بيننا وبين حريّتنا في الدعوة إلى الإسلام، وفي العمل في سبيله، فلن نكون ضعفاء، قد نرحم الجانب الإنساني في الحياة، ولكن عندما يراد لهذا الجانب أن يقمع الإسلام ويحبسه ويسجنه ويحاصره، فالشدّة هي أسلوبنا، وهذا يجب أن تأخذوا منه معنى.
أيُّها الأخوة، كشباب يلتزم خطّ الله وخطّ رسوله، مسألة أن يكون موقفك موقفاً إسلامياً واضحاً ملتزماً في مقابل الذين يريدون أن يؤكّدوا الكفر في مجتمع الإسلاميين، لا مجاملة في هذا المجال، قل {فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] وعلينا أن لا نتنازل عن أيّ شيء أن نحترم صفتنا الإسلامية وأن نحترم حريّة الإسلام في أن يدعو الناس إليه، وحريّة المسلمين في أن ينطلقوا في خطّ الإسلام، وإذا أراد الآخرون منّا أن ننسحب فعلينا أن لا نفعل ذلك، وإذا أرادوا منّا المواجهة فعلينا أن نواجه، ليس من الضروري أن نواجه بالبندقية، لكن إذا واجَهَنا الناس بالفكر فسنواجه بالفكر من موقف قوّة، وإذا واجهونا بالسياسة فَسَنُواجههم بالسياسة من موقف قوّة، وإذا واجهونا بالسلاح فسنجرّب أن نواجه بالسلاح من موقف قوّة، نحن نتحدّث إلى الناس باللّغة التي يتحدّثون فيها معنا، لا نتحدّث بلغة السيف لقد قال الله: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] ولكن إذا جرّد الناس السيف علينا، فقد نستطيع أن نجرّد الكثير من السيوف ضدّهم. هذا ما يجب أن نفكِّر فيه.
نحن مسلمون فقط
إنّي أحبّ أن أؤكّد للمرّة الألف، أن لا تتركوا صفتكم الإسلامية بكلّ معناها، لا تأخذوا من الإسلام جانباً، لتبحثوا عن صفات أخرى أو تحاولوا أن تستبدلوا بالإسلام صفات أخرى، أبداً كلّ الصفات من ديمقراطية، اشتراكية، وجودية وشعبية، كلّ الصفات نقيسها بالإسلام؛ إذا كانت قريبة للإسلام، فنقول إنّنا مسلمون نتبنّى هذا الشيء، ولا نعطي أنفسنا صفة أخرى؛ وإذا كانت بعيدة عن الإسلام فلا نتبنَّاها كخطّ قد يُلجئنا الظرف إليها كتكتيك، كمرحلة، ولكن كخطّ لا شيء غير الإسلام. سياستنا، اجتماعنا، أمننا، حربنا، سلمنا، علاقتنا مع الآخرين كلّها من خلال الإسلام. وأمّا إذا أخذت شيئاً من غير الإسلام لتدخله في الإسلام، فالله يقول لك، أردت أن تأخذ شيئاً من هذا الاتجاه وشيئاً من ذاك الاتجاه، حتّى يرضى الناس عنك {... أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] الله يقول لكم ذلك، والله يسألكم إذا أخذتم بعض الأشياء، لتدخلوها في الإسلام وهي ليست منه، هل الله أَذِنَ لكم، هل أخذتم إذناً من الله في ذلك؟ أم على الله تفترون، أم أنّك تكذب على الله؟ ومَن كذب على الله فليتبوّأ مقعده من النار، وإذا أردت أن يرضى عنك الناس بحجّة أنّ مجتمعنا يضمّ اليهود والنصارى وفئات متنوّعة، ممّا يتطلّب القيام ببعض الأعمال حتّى يرضوا عنّا، إنَّ الله يقول: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120] لا هدى غيره.
لماذا لا يرضون عنك؟ السبب أنّهم مخلصون لملّتهم، ومن مقتضى إخلاصهم أن لا يرضوا على أحد حتى يصير منهم.
لماذا تبدأ بتقديم التنازلات مباشرة ولا تتمسّك بمبدئك؟ إنَّ اليهود ومنذ أن أُنشئت دولتهم، وبعد حرب 1967، وهم يقولون نريد مفاوضات مباشرة مع العرب، فيما الردّ العربي لا صلح ولا اعتراف. لكن سرعان ما تنازل العرب واستمرّ اليهود متمسّكين بمواقفهم.
اليهود لم يغيّروا كلمة ممّا أرادوه من خلال مصلحتهم اليهودية، ونحن غيَّرنا الكثير لأنّنا لم نأخذ الإسلام عنواناً لكلّ واقعنا السياسي: إذاً أيُّها الأحبّة نحن مسلمون فقط، ونحن مسلمون ومن إسلامنا نقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...} [آل عمران: 64] ومن إسلامنا نقول: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى...} [المائدة: 82].
الانفتاح على النصارى
من إسلامنا نقول للنصارى: نحن ننفتح عليكم إذا لم تكونوا عدوانيّين {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ...} [العنكبوت: 46] إذا لم تظلمونا، إذا لم تحتلوا فلسطين، إذا لم تعملوا على أساس أن تكونوا في لبنان قوّة عنصرية تهيمن على المسلمين وتستغلّهم وتسيطر على حقوقهم. نحن نتكلّم معكم بالتي هي أحسن، ونتحاور بالتي هي أحسن، ونتعايش معكم بالتي هي أقوم، ليست عندنا مشكلة. لهذا حتّى عندما تريدون أن تتحدّثوا عن التعايش تحدَّثوا بمنطق القرآن، وحتّى إذا أردتم أن تتحدَّثوا على أساس الحوار مع كلّ الناس تحدَّثوا بمنطق القرآن، هكذا حاوَرَ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) المشركين وحاوَرَ الكافرين، وحاوَرَ اليهود، وحاوَرَ النصارى، وحاوَرَ كلّ الناس. رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يكن يعاني عقدة ضعف، لا يخاف من أحد لأنّه واثق بنفسه وواثق برسالته وواثق بربّه، ولهذا لم يَحْتَجْ إلى أن يقاطع أحداً، إلاّ إذا كانت المقاطعة هي السبيل الذي يمكن أن يحمي الرسالة من شرّ، أو يمكن أن يوجّهها إلى خير.
{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] كونوا الأشدّاء على الآخرين، لا على أساس أن تكون شدّتكم عدوانية، ولكن على أساس أن تكون شدّتكم التزاماً بالموقف، والتزاماً بالدفاع عن الموقف، والالتزام بتأكيد حريّة المسلمين في أن يكون لهم الساحة التي يستطيعون من خلالها أن يكون لهم حقّ الدعوة كما يأخذ الآخرون لأنفسهم هذا الحقّ.
مجتمع الرحمة
إذا اقتربنا نحو المجتمع الرسالي الداخلي فكيف هي علاقاتنا {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وتواصوا بالحقّ، وتواصوا بالرّحمة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ...} [آل عمران: 159] رحماء: يرحم كلّ إنسان الآخر، فيعينه على قضاء حاجته. يرحم كلّ واحدٍ منهم الآخر فيعطيه ممّا أعطاه الله. يرحم كلّ واحد منكم الآخر فيعفو عن أخطائه إذا أخطأ معه. يرحم كلّ واحدٍ منهم الآخر، فيدرس ظروفه من أجل أن يرحم ضغط ظروفه عليه؛ أن تشعر أنّ المسلم أخوك وأنّ عليك أن ترحم كلّ مسلم كما يرحم الأخ أخاه، لأنَّ الله هو الذي ربط بينك وبين المسلمين برباط الأخوة وما يربطه الله لا يمكن أن يحلّه أحد. عندما تكون مؤمناً ويكون الآخر مؤمناً، تكون مسلماً ويكون الآخر مسلماً، فإنَّ الله قال لك هذا أخوك، لو تنازعت معه يبقى أخاك ما دمت مؤمناً وهو مؤمن، تقاتلت معه يبقى أخاك ما دام الإيمان في قلبك والإيمان في قلبه وإنْ كنتَ قد تخطئ في بعض تفاصيل الإيمان أو يخطئ في بعض هذه التفاصيل. أن تكون هناك رحمة في داخل المجتمع، هذا ما يريده الله أن يكون صفة المجتمع الإسلامي.
طبيعة المجتمع اليهودي
الله حدَّثنا عن مجتمع اليهود، عندما كان اليهود في المدينة في زمن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) {... بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى...} [الحشر: 14] إذا حدثت الحرب أو وقع نزاعٌ داخل المجتمع اليهودي فإنّه سيكون أقسى ممّا يمكن لك أن تتصوَّره، فمن الصعب أن تدخل بينهم بالصلح فإذا طرحت مسألة الصلح بينهم ثاروا في وجهك، وأطلقوا الشعارات الكبيرة في وجهك، وأثاروا الناس حولك. هكذا كان اليهود {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} لو تقاتلوا مع غيرهم فمن الممكن أن يتصالحوا معهم، لكن لو تقاتل بعضهم مع بعض فمن الصعب أن يصلحهم أحد. مجتمعون في ساحاتهم، ولكن قلوبهم شتّى، لكلّ قلب اتّجاه ولكلّ قلب موقف ولكن يبدو أنّ القصّة انقلبت، عندما كان المسلمون أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم انتصروا على اليهود، وعندما صار اليهود أشدّاء على المسلمين رحماء بينهم انتصروا على المسلمين، لأنَّ الانتصار والانكسار لا يأتي من السماء كهبة، ليقول الله لك كنْ منتصراً، أو ليقول الله لإنسان كنْ منهزماً. للانتصار أسبابه، وللهزيمة أسبابها، ولهذا قال الله {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ...} [محمّد: 7] تنصرون الله بأن تأخذوا بتعاليم الله، وأن يكون مجتمعكم المجتمع الذي يرضاه الله، وأن تكون صفاتكم هي الصفات التي يرضاها الله لكم، لا أن تكون صفاتكم صفات الكافرين وتريدون من الله أن ينصركم نصر المؤمنين، لا يمكن ذلك. لاحظوا {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} عندما تقرؤون القرآن تذكَّروا حديث الإمام الباقر (عليه السلام): "القرآن يجري مجرى الشمس والقمر ويجري مجرى الليل والنهار"(1) يعني كما استفاد الأوّلون من الشمس والقمر، نستفيد منهما نحن أيضاً. كذلك القرآن هو نور استفاد منه الأوّلون ونستفيد نحن منه بالدرجة ذاتها. القرآن هو نور ونور لا يزال يتدفَّق. كما كان يتدفَّق هناك فهو يتدفَّق هنا، أقول لنفسي وأقول لكم أيُّها الأحبّة إذا قرأتم القرآن، فلا تدرسوا القرآن في كتب القاموس، ولكن ادرسوه في الحياة، عندما تدرسون حديث القرآن عن مجتمع إسلامي سابق، قولوا لأنفسكم هل نحن صورة هذا المجتمع، وعندما تجدون القرآن يتحدّث عن صورة مجتمع يهودي أو مشرك أو غير ذلك، التفتوا إلى هذا المجتمع هل هي صورته، فإذا استطعتم أن تعرفوا صورتنا الآن وصورة غيرنا الآن، مقارنة بصورتنا في الماضي أو صورة غيرنا في الماضي، أمكننا أن نفهم طبيعة التحرّكات في الواقع، وطبيعة التحرّكات في الموقف.
هشاشة المشاريع الوحدويّة
ينبغي أن نبني شخصيّاتنا على أساس الرحمة. لا تربِّ ولدك على العداوة إذا كان لك عداوة مع إنسان من أقربائك أو من أهل بلدك ولكن ربِّ ولدك على الرحمة، وإذا وجدت القسوة في قلبك فحاول أن تزرع شتلة رحمة في إحدى زوايا هذا القلب، وإذا وجدت المجتمع مجتمع العصبية ومجتمع القسوة فعليك أن تعمل على أن تحوّله إلى أن يكون مجتمع المحبّة، ومجتمع الرسالة وإلاّ فلن تنفعنا ـــ أيُّها الأخوة ـــ لن تنفعنا كلّ المشاريع الوحدوية، ولن تنفعنا كلّ المشاريع الجبهوية، ولن تنفعنا كلّ المشاريع الاستعراضية، لن ينفعنا ذلك {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ...} [الرعد : 11] مجتمع القساة على بعضهم يفرز المجتمع المتنافر، الذي لا تربط بين أفراده رابطة، ولهذا فإنَّ من الممكن أن يهزمه أيّ واحد. لهذا لنربِّ أنفسنا على الرحمة، ونعتبر أنّ كلّ المشاكل التي تحدث بين المسلمين، سواءً كانوا مختلفين في مذاهبهم، أو في سياساتهم، أو في مصالحهم؛ كلّ النزاعات والخلافات لا بدّ أن تحلّ من موقع الرحمة، لا من موقع القسوة، إلاّ إذا كانت القسوة في بعض الحالات سبيلاً للرحمة. كما تقطع في بعض الحالات يدك، لأنّك لو لم تقطعها لاستشرى السمّ أو المرض إلى بقيّة أجزاء جسمك. ففي هذه الحالة إنّك ترحم جسدك عندما تقطع يدك. وتلك أمور علينا أن لا نستعجل قرارها. أو الحكم فيها، لأنَّ نوازعنا الذاتية قد تهيّئ لنا أنّ هناك حالة ميؤوساً منها، وهي ليست محلّ يأس، لكنّ سرعتنا في اتّخاذ القرار قد توحي إلينا بذلك. لا بدّ أن نظلّ نفحص. حتّى إذا وجد عندنا احتمال واحد وفرصة واحدة علينا أن نتابع ذلك كلّه، وهذا أمر يحتاج إلى معاناة كثيرة، وإلى تعب كثير، حتّى نكون مثل أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} في كلّ الدوائر الإسلامية الواسعة، أو في الدوائر الإسلامية الضيّقة، في كلّ دائرة لا بدّ أن نعيش الرحمة، أن نحرِّك الرحمة لتكون خطّاً سياسياً وخطّاً فكرياً، وخطّاً اجتماعياً، حتّى إذا تحرّك الناس من موقع الرحمة يمكن لهم أن ينفذوا إلى قلوب بعضهم البعض، وإلى عقول بعضهم البعض، وإلى حياة بعضهم البعض، لهذا لنكفّ عن كلمات البغضاء والحقد والعداوة، لنحوِّلها إلى كلمات محبّة وصداقة وخير، حتّى نلتقي على الرحمة بين يديّ الرحمن الرحيم.
الخضوع لله شرط تحقيق العزّة
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً...} [الفتح : 29] هذه الحالة، روحية الصلاة بين يديّ الله هي الشرط، لكي تعرف كيف يعيش بين الناس. إذا ركعت لله بقلبك وجسدك وإذا سجدت لله بروحك وجبهتك، فإنَّ معنى ذلك أن تقول لله يا ربّ إنّي أركع بين يديك، لن أرفع رأسي أمامك، كما يرفع الناس رؤوسهم أمام بعضهم البعض ليؤكّدوا ذاتهم، ليس لي يا ربّ ذات أمامك، ذاتي صدى لإرادتك وظلّ لوجودك. إنّي أركع لأعبِّر لكَ عن كلّ خضوعي، أنا العبد الخاضع، مرني أطِعك يا ربّي بكلّ ما تأمرني، لو قلت لي ارمِ نفسك من شاهق فإنّه واجب، لا بدّ لي أن لا أفكِّر في طبيعته ولكن أفكّر في أنّه طاعة لك، وسأسجد يا ربّ، يسجد لكَ وجهي ويداي ورجلاي وكلّ جسمي، كلّها تسجد بين يديك، لتقول لك الجبهة: يا ربّ إنّي أرفع جبهتي أمام الناس الذين ترتفع جباههم أمامي لأُحقِّق العزّة، ولكن أمامك، يا مَن بيده ناصيتي، أنتظر تنفيذ أمرك، يداي تنتظران أنْ تتحرَّكا في سبيلك.
{رُكَّعاً سُجَّداً...} من موقع ركوعهم وخضوعهم لله، كانوا الأقوياء في مواجهة كلّ الشرك وكلّ الكفر وكلّ الظلم؛ ومن خلال سجودهم لله، كانوا الأعداء أمام الآخرين "إذا أراد بك عزّاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله"(1)، وهكذا كانوا رُكَّعاً سُجَّداً. اللّيل ليل المناجاة، اللّيل ليل الابتهالات، اللّيل ليل الصلوات؛ أمّا النهار فعلماء حلماء، أمّا النَّهار فأبطال مجاهدون، أمّا النهار فالموقف الذي يتحرّك من موقع الحريّة والعدالة والعزّة والكرامة. أن يقف الإنسان ليقول كما يقول الله {... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون : 8] الجانب الروحي أيُّها الأحبّاء أساسي. اسهروا في تنمية إسلامكم، ليكون إسلامكم ينبوع روحانية، وينبوع خوف من الله، وينبوع محبّة لله. أن تجلس بين يديّ الله، لتدمع عينك من خشية الله، ولينبض قلبك بخوف الله ومحبّته، ولتعيش لتجعل كلّ حياتك لله {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 ـــ 163] بذلك تكون قد بعت نفسك لله {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ...} [التوبة: 111].
الله أقرب إليك من الجميع
أيُّها الأخوة أتعرفون سرّ قوّة عليّ (عليه السلام)، الذي كان لا ينهزم، كرَّار غير فرَّار، لأنّه كان يحبّ الله ورسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويحبّه الله ورسوله؛ عليّ (عليه السلام) الذي باع نفسه لله فنزلت فيه هذه الآية ـــ في ما يُروى ـــ {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ...} [البقرة: 207] يبيع نفسه، يشتري نفسه للجنّة، ويبيع نفسه لله، ولهذا كانت كلّ كلمات عليّ (عليه السلام) تتحرّك من خلال الله، حتّى إذا أراد أن يغمض عينيه كانت كلماته "بسم الله وبالله وعلى ملَّةِ رسول الله". اسهروا أيُّها الأحبّة، أيّها الشباب، اسهروا على أساس أن تُعمِّقوا في أنفسكم محبّة الله، أحبُّوا الله أكثر من آبائكم وأُمّهاتكم وإخوانكم وأصدقائكم {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ...} [البقرة: 165] تلك هي المسألة أن تحبّ الله أكثر ممّا تحبّ كلّ الناس مهما قرُبَ الناس إليك، لأنَّ أيّ إنسان يقرب منك، فالله أقرب إليك منه ولو كان أباك أو أمّك. أبوك كان سبباً في ولادتك، كانت نطفتك منه، وأُمّك كانت سبباً في ولادتك، كان رحمها وعاءً لك، لكن مَن الذي أودع الحياة في النطفة، ومَن الذي أودع أجواء الحياة في الرحم، ومَن الذي أرسل لك الغذاء وأنتَ في رحم أُمّك، ومَن الذي أودع سرّ النمو في النطفة والعلقة والمضغة، ومَن صوَّرك فأحسن صورتك، ومَن الذي تكفَّل لك برزقك، ومَن الذي يحييك ويميتك، ويدبّرك ويبعثك من جديد؟ ما قيمة كلّ الناس؟ الله أقرب إليك من كلّ الناس، فإذا أحببت أباك لأنّه كان حركة في وجودك، فأحبّ الله لأنّه كان السرّ في وجودك. وهكذا عليك أن تحبّ الله وهذا هو الشرط لأنْ تكون قويّاً، وهذا هو الشرط لأنْ تكون صلباً، وهذا هو الشرط لأن تكون ثابت القدم. رسول الله إنّما كان {... يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا...} [التوبة: 40] لأنّه كان يفكّر بالله، عندما كان الخوف يحاول أن يزحف إلى شخصيّته، وعندما فكَّر بالله كان قوياً وعرف أنّ رعاية الله سبحانه وتعالى ترافقه في كلّ مكان. كانوا الرُكَّع السُجَّد وبذلك حصلوا على روحية القوّة التي هيّأت لهم الانتصار. فكونوا الرُكَّع السُجَّد، ليطَّلع الله عليكم ليرى صدق ركوعكم في قلوبكم التي تركع له، وصِدْق سجودكم في سجود قلوبكم التي تسجد له.
{تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} يبتغون فضلاً من الله، قلوبهم معلَّقة بالله، عندما يتطلَّعون إلى الحياة ويفكّرون في الرزق، ويفكّرون في الصحّة، ويفكّرون في الأمن، ويفكّرون في كلّ شيء، فإنّهم يطلبون ذلك من الله {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ} والفضل من الله يعني كلّ النِّعَم التي تحيط بالإنسان في الحياة، يعني ما تأكله وما تشربه وما تلبسه وما تجلس عليه. الصحّة في الأمن والرزق كلّه فضلٌ من الله، ولهذا فقيمتهم تكمن في أنّ حاجاتهم معلّقة بالله، وليس معنى أنّ حاجاتهم معلّقة بالله أنّهم لا يعملون ولا يشتغلون، فقد قال الله لهم {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] هم يعملون ولكن يعتقدون أنّ الله من وراء عملهم وإنَّ الله أمام عملهم، وإنَّ الله هو الذي يقلِّب القلوب، وهو الذي يحوّل إليه القلوب، وهو الذي يرزق من يرزق، عندما يلهم هذا أن يكون سبباً في رزق ذاك، وعندما يُلهم ذاك أن يكون سبباً في رزق هذا.
المهم رضى الله
{يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ} يريدون أن يعطيهم الله كلّ فضله في حياتهم، وعندما يفكّرون أن يرضى عنهم أحد فإنّهم يفكّرون برضى الله وحده، يطلبون رضوان الله، ليست القيمة عندهم أن يرضى الكبار عنهم أو الصغار، ليست القيمة عندهم أن يرضى الوجهاء والأغنياء والرؤساء، المهم أن يرضى الله عنهم.. قالها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "فإنْ لم يكن منكَ غضبٌ عليَّ فلا أُبالي"(1) المهم أن يرضى الله عنّا. وقال الحسين (عليه السلام) وهو يتلقّى دماء ولده عبد الله الرضيع "هوّن ما نزلَ بي أنّه بعين الله"(2) وكان هؤلاء المؤمنون عندما يفكّرون بالله قد يردّدون بيتاً قاله ابن هانئ الأندلسي في غير الله ولكنّ المؤمنين يقولونه لله:
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنامُ غضابُ
وليت الذي بيني وبينَكَ عامرٌ وبيني وبينَ العالمينَ خرابُ
{يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح: 29] يريدون رضوان الله، وهذه مرتبة عالية عظيمة صعبة، لا ينالها إلاّ الذين هدى الله وامتحن قلوبهم للإيمان. أن يكون كلّ همّك رضى الله، هذه مهمّة كبيرة ولكن إذا حصلت عليها، فستكون القوي الذي ليس هناك أحد أقوى من موقفه، لأنّك عندما تفكّر أنّك تريد أن تحصل على رضى الله، معنى ذلك لو سبَّك الناس فلن يزلزلوا موقفك، لو اتّهمك الناس بكلّ السوء فلن يغيِّروا خطّك، لو أنّ الناس حشدوا عليك كلّ حقدهم وبغضائهم، فلن يغيِّروا انتماءك إذا كان كلّ ذلك لله؛ ولهذا كان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يتلقّى الاتّهامات، وكان ينفتح على الله، وكان يتلقّى الضربات وكان يقول "فإنْ لم يكن منك غضبٌ عليَّ فلا أُبالي"(3) ستكون القويّ في موقفك، لأنَّ كثيرين منّا ـــ أيُّها الأخوة ـــ على كلّ المستويات دينية وسياسية واجتماعية وثقافية، الكثيرون منّا يتزلزلون لأنّهم يحدّقون بعيون الناس، هل تبرق استحساناً، أو تبرق أزوراراً؟ الكثيرون من الذين يتطلَّعون إلى كلام الناس عنهم بالسوء غيَّروا مواقفهم، وإذا تكلَّم الناس عنهم بالرضى زادوا في مواقفهم، ليتزلَّفوا إلى الناس حتّى لو كانت مواقفهم خطأ.
إنّ الذين يضعفون في مواقفهم، والذين يسقطون في مواقعهم، والذين ينحرفون عن خطّهم هم الذين يفكّرون برضى الناس ولا يفكّرون برضى الله. أمّا الذين لا يخافون في الله لومة لائم فهؤلاء هم الأقوياء، هؤلاء هم الذين يثبتون والجراح تثخنهم، يثبتون والزلازل تهزّ الأرض من تحت أقدامهم، يثبتون وكلمات السبّ والشتم والفحشاء والاتّهام تأتيهم من كلّ جانب، إنّهم يضحكون على كلّ تلك الكلمات، ويرحمون الناس الذين يقولون كلّ تلك الكلمات. لقد سبَّ الناس عليّاً ما يقارب المئة سنة وكان سبّ عليّ (عليه السلام) عبادة، ولكن أين عليّ (عليه السلام) وأين الذين سبّوه؟ لأنَّ علياً كان يقول: "ما تَرَكَ الحقّ لي صديقاً"(1) ولأنَّ عليّاً (عليه السلام) كان يقول: "قد يرى الحُوَّل القُلَّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها وينتهزّ فرصتها مَن لا حريجة لهُ في الدين"(2)، عليَّ الذي لم يساوم، بقي في مشرق الشمس نوراً ينير الحياة كلّها للنّاس. وأمّا غير عليّ فأين هو في التاريخ؟ أين غير عليّ في الواقع كما يقول ذلك الشاعر:
فهذا عليٌّ فوقَ كرسيِّ مجدِهِ يرتِّل آيَ الحمدِ سبعاً مثانيا
وهذا عليٌّ والأهازيج باسمِهِ تشقُّ الفضا العالي فهاتوا معاويا
أعيدوا ابنَ هندٍ، إنْ وجدتم رفاتَهُ رفاةً وإلاّ فانشروها مخازيا
أين عليّ، وأين معاوية؟ أين الحسين وأين يزيد؟ لأنَّ الحسين أيضاً كان مثل أبيه "لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل"(3). قالوا له الكثير وفعلوا معه الكثير. وهكذا كان أصحاب محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذين أخلصوا له وأخلصوا للإسلام {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم} صورتهم، ملامحهم وعلاماتهم من أثر السجود، هذا الأثر الذي ينطلق من سجود عفوي، لا من تكلُّف، لأنَّ هناك فرقاً حتّى في الملامح بين الملامح التي تنطلق من صنعة، وبين الملامح التي تنطلق من طبيعة، {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ} زرعه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} الشطء هو فرخ الزرع الذي يأتي إلى جانب الزرع {فَآزَرَهُ} يعني لم يضعفه بل قوَّاه {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ}. وفي قراءة يعجب الزارع. وهو رسول الله {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} عندما يرون قوّة المسلمين، وإنّ الجيل الجديد يقوّي الجيل القديم، والجيل القديم يقوّي الجيل الجديد، آزره أن يؤازر الجيل الأوّل الجيل الآخر {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح : 29].
الالتزام بالخطّ ومواجهة الاتهامات
تلك هي صورة رسول الله وتلك هي صورة مجتمعه الذي ربَّاه وصنعه، والذي يريد منّا أن نربّي مثله، وأن نصنع مثله: أن نربّي أنفسنا ونربّي الآخرين على هذه الصفات، حتّى نستطيع أن نكون المجتمع الذي يكون قدوة بعمله، أكثر ممّا يكون قدوة بكلامه، كونوا دعاة للنّاس بغير ألسنتكم. وهذا ما يجب ـــ أيُّها الإخوة ـــ أن نؤكّده، أن نفكّر بأن تكون شخصيّتنا الإسلامية هي كلّ شيء، أنت ابنُ عشيرة، أنتَ ابن بلد، أنت ابن وطن، أنتَ ابن قومية، تلك صفات متعدّدة، ولكن إذا أردت أن تربّي نفسك، ربِّ نفسك على أساس أنّك ابن الإسلام. لتكن أحكام الله هي ما نربّي به شخصيّاتنا، وما نحرِّك به خطواتنا، لأنّ احترام الإنسان لانتمائه يفرض عليه ذلك. قل لنفسك إذا كنتَ مسلماً فعليّ أن أسلم حياتي كلّها لله، وإسلام حياتي لله يتمثّل في أن أسير في ما يحبّ الله أن أسير فيه، وأن أقف حيث يريدني الله أن أقف، وسيحاول الكثيرون كما حاولوا ـــ أيُّها الإخوة ـــ أن يسبغوا عليكم كلمات، قد ترهقكم وقد لا تريحكم وقد ترهق أباءكم وأُمَّهاتكم وأهلكم، فيطلبون منكم أن تتراجعوا ليرضى الناس عنكم. سيقولون عنكم ـــ كما قالوا ـــ إنّكم متخلِّفون، لأنّكم لم تأخذوا بكلّ أسباب الحضارات الغربية. ولا يقصدون أنّكم لم تأخذوا بأسباب الحضارة في مواقع العلم ولكنّهم يقولون إنّكم لم تأخذوا بأسباب الحضارة في مواقع اللّهو. وهكذا سيقولون عنكم إنّكم رجعيون، لأنَّكم لم تكونوا ملحدين حيث يعتبر الإلحاد تقدُّماً، ولم تكونوا ضالّين حيث يعتبر الضلال حضارة، لأنّكم التزمتم بالإسلام لا على أساس أنّه شيء من التاريخ، ولكن لأنّكم التزمتم بالإسلام على أساس أنّه دين من الله، وأنّه يرعى الحياة ليجعلها تتقدَّم، ولكي يعطي الحياة روحانية وواقعية ويعطيها كلّ ما تحتاج إليه من فرص التقدّم.
سيقولون عنكم إنّكم متطرّفون، كما قالوا، على أساس إنّهم أخذوا من الإسلام شيئاً بسيطاً وانسجموا مع كلّ الواقع من حولهم، واسترخوا له. لا يريدون أن يتغيَّر هذا الواقع، لقد ألفوه، ألفوا كلّ حقارته، وألفوا كلّ وضاعته، وألفوا سلبياته، لهذا إذا أردتم أن تغيّروا الواقع قالوا عنكم متطرّفين، ولكن قولوا لهم تعالوا ندرس الإسلام فلا نتجاوز أيّ حكم إسلامي، ناقشونا في الإسلام. إنّ الالتزام بالإسلام ليس تطرُّفاً، لأنّ كلّ دين وكلّ فكر يريد أن يغيّر الواقع هو تطرُّف بالنسبة له، ولكنّه ليس تطرّفاً على أساس ما يراد للحياة، هناك فرق بين أن تكون متطرّفاً لحساب بقاء الأمر الواقع، وأن تكون متطرّفاً على أساس ما تحتاجه الحياة، وعند ذلك لن يكون كلّ التزام إذا سار في الحدود المعقولة، لن يكون متطرّفاً.
حرب أعصاب ضدّ المتديّنين
أيّها الإخوة سيتّهمونكم بكلّ اتّهام، وأحبّ أن أقول لكم: لن يقولوا عنكم ذلك، لأنّهم يعتقدون فيكم هذه الصفات، ولكن الكثيرين منهم يقولون عنكم ذلك ليحاربوكم بالكلمات، لأنّ المخابرات بكلّ أجهزتها، وبكلّ متفرّعاتها، وإنتاجها تعمل على أن تخوض حرب الأعصاب ضدّ كلّ الذين يلتزمون، حتّى لو لم تكن ملتزماً دينياً، وإذا كنتَ ملتزماً ثورياً وكنتَ تقف ضدّ الاستعمار والاستكبار فيمنحونك كلمات أخرى، وأوسمة أخرى تتناسب مع طبيعة الجوّ الذي تعيشه. لهذا فليقولوا ما يقولون، ليس مشكلة. لقد قال الله لرسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ـــ وافهموا ما يقوله الله لرسوله، لأنّ الله يريدكم أن تسيروا على خطّ رسوله ـــ {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ...} هذه الآية معبِّرة جداً لكلّ رسول ولكلّ داعٍ لله وعامل في سبيل الله. كثير من الناس يتضايقون ولسان حالهم يقول: "هذا يسبّني، هذا يشتمني، هذا يقول عنّي إنّني مُتطرّف، هذا يقول إنّي إرهابي، هذا يقول إنّني رجعي هذا كذا وهذا كذا.. كرامتي انداست إنّهم يشتمونني ويسبُّونني ويتّهمونني". كثير من الناس سواءً كان من العلماء أو السياسيين أو غير ذلك يشعر بحسّ الكرامة عندما يواجهه أعداء فكرته ورسالته بالكلمات الجارحة.
إنّنا نقول إنّ النبيّ أيضاً اتّهموه بأنّه ساحر وقالوا: هو كاهن ومجنون، اتّهموه في عقله، كذَّاب. اتّهامات وردت في القرآن قالوا عن القرآن أساطير اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً وأصيلا. لكن انظروا كيف عالَجَ الله المسألة، إذ قال للنبيّ الذي تأثّر كما يتأثّر كلّ الناس {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام : 33] فوراء هذا الاتّهام، هذا العدوان، هذه الكلمات، السباب، الشتائم، لستَ أنتَ المستهدف؛ إنَّ هذه الاتّهامات موجّهة إليَّ، فلماذا أنتَ حزين؟ أنا الذي سأُدبِّر أمرهم لا تغضب أنت ولا تحزن، كذلك إذا كنت داعية لله ووقف الناس ضدّك لأنّك تدعو إلى الله، ولأنّك تقف الموقف الصلب في هذا المجال، لا تنزعج، حتّى لو سبُّوك اعتبر هذه الكلمات وكأنّهم يرمون عليك عطراً.
بعض الشباب يأتون إليَّ قائلين: سامحنا، ولماذا أُسامحكم؟ قالوا: والله ما رفعوا عنّا الضرب والتعذيب حتّى نسبَّك، قلتُ لهم: في المرة الثانية سبُّوا أكثر كما يقول الإمام عليّ (عليه السلام) "سيأمركم بسبّي والبراءة منّي وأمّا السبّ فسبّوني فإنّه لي زكاة (1) الله يعطيني ثواباً، الإمام هكذا يقول: ولكم نجاة" أنتم تتخلَّصون من الضرب والعذاب. نحن نقول كلام الإمام عليّ (عليه السلام) المسألة أنّه عندما تُسب وتُشتم وتُتّهم، القصّة لست موجّهة لك. أنا عندي كرامة، أنا ابن فلان، وأنا ابن العشيرة الفلانية، كيف أسبّ، كيف أُتّهم، كيف هذا؟ {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} ثمّ الله يقول للنبيّ لماذا تغضب؟ لستَ أوّل واحد أنت {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34].
كلّ الكلام يذهب في الهواء، ضغط الكلمات لا يزلزل مواقفي. هناك حديث يقول ما معناه: إنَّ اللعنة إذا خرجت من فم صاحبها تتردَّد فإذا رأت المستهدف يستحقّها التصقت به وإلاّ رجعت إلى صاحبها لتلعنه.
فإذا كنتم تعتقدون أَنّ ما يقال عنكم ليس منكم، أقول للمسلمين الملتزمين في أيّ مكان في العالم، فليلعنوكم فليسبّوكم، فليشتموكم، فليتّهموكم. إنَّ اللعنة إذا خرجت من أفواه هؤلاء ستقف في نصف الطريق فإذا كان الإنسان التي توجَّه إليه اللعنة لا يستحقّها فإنّها سترتد إلى صاحبها. هذه القضايا عليكم أن تعايشوا أنفسكم فيها، حتّى لا تشعروا بضغط يضغط على مواقفكم، لهذا نحن نشعر كإسلاميين نلتزم الخطّ الإسلامي على الرغم من كلّ الكلمات التي تُقال نشعر بالثقة، ونشعر بالقوّة ونشعر بالصفاء ونشعر بالروحية الواثقة بربّها، ومن خلال ثقتها بربّها تثق بنفسها.
نحن نعتبر أنّ الإسلام أمانة الله في أعناقنا ولن نغيِّر ذلك. نريد أن نكون انطلاقاً من قول الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23] نريد أن نكون كذلك أنْ لا نبدِّل، ولا نغيِّر. نريد أن نقول لكلّ الناس المتردّدين، الذين يغلِّفون كلماتهم ومواقفهم وأوضاعهم بأيّ شيء، لو كان رسول الله الآن حاضراً فكيف تكون دعوته، كيف؟ هل يدعو إلى غير ما يدعو إليه القرآن، وهل يتحدَّث بغير أحكام الله؟ إذا كان رسول الله كذلك فهو قدوتنا في ذلك، فكما قال ذلك الصحابي الذي قيل له وهو يعالج جراحاته في أُحُد: إنَّ رسول الله قد قُتِل. قال: "مَن كان يعبد محمّداً فإنَّ محمداً قد مات ومَن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت"(1) فتعالوا نُقاتِل على ما قاتَلَ عليه محمد ونسير على ما سار عليه محمد.
أحفادنا ومواجهة "إسرائيل"
نحن في ذكرى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، نريد أن نؤكّد الأمانة التي حمَّلنا إيَّاها رسول الله، لنكون المسلمين لا الطائفيين، لنكون المسلمين المنفتحين على كلّ الناس من موقع العدالة التي لا تفرّق بين إنسانٍ وآخر، ومن موقع الحريّة التي لا تريد أن تفرّق بين إنسانٍ وآخر في رضى الله سبحانه وتعالى. على هذا الأساس نؤكّد موقفنا هنا في لبنان وفي المنطقة، نؤكّد موقفنا كإسلاميين نقف ضدّ الاستكبار بكلّ امتيازاته، وبكلّ رموزه، سواءً كان استكباراً عالمياً أو إقليمياً أو محليّاً، لأنَّ الله أرادنا أن نقف ضدّ المستكبرين، لنمنعهم من استضعاف المستضعفين، قد لا تكون لنا القوّة الآن ولكنّنا نحرّك قوّتنا كما حرَّك صحابة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بعض قوّتهم عندما كانوا في مكّة ثمّ في المدينة. سنحاول أن نحرّك قوّتنا وأن نستزيد قوّة من الله سبحانه وتعالى ومن خلال الجهد الذي وجَّهنا الله في اتّجاهه. ونحن سوف نقف أيضاً ضدّ الصهيوني. نحن نريد أن نظلّ الفئة التي تعمل، لتكون في حجم الأُمّة لنواجه إسرائيل ونربّي أولادنا على ذلك، ونربّي أحفادنا على ذلك، حتى تزول إسرائيل ولو بعد مئة سنة. ونستعمل الأسلوب الإسرائيلي نفسه، لقد قرَّروا أن يأتوا إلى فلسطين، وخطَّطوا وعاشوا في حجم المستقبل، ووصلوا وربّما يصلون من خلال دقّة تخطيطهم وعفويّة ارتجالنا، ربّما يصلون بعد ذلك إلى أن يستقطبوا المنطقة، حسب ما يفكِّرون، نحن لا تهزمنا زوايا الزمن ولا زوايا الواقع.
إنَّنا نقول لكلّ الذين يقفون حاجزاً بين المجاهدين وبين جهادهم، سواءً كان ذلك في فلسطين، أو في لبنان، أو في الأردن، وفي أيّ بلدٍ آخر لهؤلاء نقول: إنّكم عندما تسقطون موقف الجهاد سترتاحون، ولكنّ إسرائيل التي تفكّر أنْ تتغدّى بالمجاهدين الآن، سوف تفكّر أن تتعشّى بالذين يجلسون مسترخين فتجعلهم لقمة ثانية، لا تفكِّروا إنّكم سترتاحون، ادرسوا كيف تخطّط إسرائيل لأنْ تكون قوّة عظمى، وادرسوا كيف تفكّر إسرائيل في أن تجعل كلّ مجتمعها مجتمع حرب، في الوقت الذي يتحرّك فيه كلّ الساسة عندنا، سواءً كانوا في المستويات القيادية العليا، أو في المستويات الدنيا، أو سواءً كان ذلك في خطّ الأجواء الدينية، أو السياسية، أو الاجتماعية للدعوة إلى السلم وإلى عدم العنف، وإلى ترك فكرة الحرب وبذلك يقفون ضدّ كلّ مجاهد. هؤلاء الذين يفكِّرون بهذه الطريقة يريدون لمجتمعهم أن يكون مجتمع الهزيمة.
إنَّ إسرائيل لا تزال تخطّط وتتدرَّب ولا تزال تشتري أحدث الأسلحة، وتصنع أحدثها، ولا تزال توجه أميركا كي لا تبيع أيّ سلاح للمنطقة، إلاّ إذا كان هذا السلاح لا يضرّ إسرائيل. إنّهم يفكّرون بهذه الطريقة: لماذا كلّ الأسلحة التي باعتها أميركا وغير أميركا من الدول الغربية اشترط عليها بالسرّ أو العلن أن لا تُقاتل بها إسرائيل، على الرغم من كلّ الكلمات التي تُثار في هذا المجال؟ عندما تخطِّط إسرائيل لتبني جيشاً في مستوى تواجه فيه المنطقة، وتبني أيضاً قوّة عسكرية من أجل أن تواجه كلّ قوّة المنطقة، فلماذا تفعل ذلك؟ هل تريد إسرائيل أن تحارب روسيا، أم تريد أن تحارب أميركا؟ إنّها تريد أن تسيطر علينا، لا خيار لنا، أنا أحبّ لكلّ الإخوة أن يفكِّروا بهذه الطريقة، إنَّ إسرائيل سوف تأتي وتخرجكم من بيوتكم إذا ارتاحت واستقرّت. نحن نعرف أنّ المجاهدين الذين يجاهدون ويضحُّون بأنفسهم، إنَّ هؤلاء المجاهدين لا يستطيعون أن يرجعوا فلسطين وربّما لا يستطيعون أن يخرجوا إسرائيل من الجنوب، لكنّهم يربكون كلّ خطط إسرائيل.
بين حريّة الجنوب وأمنه
قبل بدء أحداث الجنوب، كان جيش لحد قد تعرَّض لضعف كبير ولكنَّ أحداث الجنوب التي فرَّقت الناس بعضهم عن بعض، وأضعفت المواقف، هي التي جعلت جيش لحد يشرب حليب السباع. لهذا نحن نقول لكلّ الناس، ولكلّ الإخوة الذين لا يزالون يطرحون مسألة قتال إسرائيل، نقول لهم: لا تستغرقوا في الخلافات الداخلية، لقد قلناها مراراً، ليست المسألة هي مَن يتولّى أمن الجنوب، ولكنَّ المسألة مَن سيتولّى حريّة الجنوب أمام إسرائيل. يمكن أن يقوم بالأمن كلّ شخص يمكن أن يتّفق على مسألة الأمن للنّاس، وضمان أمن الناس، ليست مشكلة. لكن علينا أن نفكِّر إنّ إسرائيل تريد الجنوب كلّه، وإنّها تريد أن تهزم روحنا قبل أن تهزم مواقعنا. لهذا أريد لكلّ الناس الذين يعيشون في الجنوب أو الذين يعيشون هنا، الذين يتحمّلون المسؤولية، إنّنا نريد منهم أنْ لا يلعبوا بالنار.
كلّ المناصب لا تهمّنا
إنَّنا نتوجَّه إلى كلّ الفعاليات في هذا المجال، لنقول لهم ما قلناه أكثر من مرّة على الرغم من كلّ الكلمات السيّئة التي تلقيناها، ولا نزال نتلقَّاها، على الرغم من كلّ الاتّهامات الكاذبة التي تلقيناها ولا نزال نتلقَّاها، ولكن ليعرفوا وأقولها لكلّ الناس، سبُّوا ما شئتم، اتّهموا ما شئتم، فإنّا سائرون. كلّ المناصب على مستوى الطائفة والوطن لا تمثّل عندنا شيئاً، سنظلّ نقول كلمة الحقّ حتّى لو رَجَمَنا الناس بالحجارة، نقول لجميع الفعاليات إنَّ الذين لا يريدون للنار أن تنطفئ، لأنّهم يحبُّون للنار أن تحرق بعض الناس ليكونوا بمنجاة منها. بكلّ محبّة أقول لكلّ الفعاليات إذا لم نتعاون على أن نطفئ النار فستحرق النار الجميع وستحرق الذين يوقدونها والذين يعملون على إشعالها، كفانا ما عشناه من الفتنة. كفانا ما عشناه من فتنة الجنوب المأساة، ومن فتنة الضاحية المأساة، كفانا ذلك لقد خطَّطتم للقاء كلّ الذين قاتلتموهم وقاتلوكم فلماذا لا تلتقون مع إخوتكم وأهلكم؟
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
القيادة الحكيمة وإشكالية الحرب والسلم(*)
نحن في هذه الأيام نعيش ذكرى رسول الله محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فقد عشنا ذكرى مولده الشريف في أيّام خلت، وكلّ أيام المسلمين هي أيام رسول الله، لأنّنا مدعوون إلى أن نسير على خطاه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21]، نحن مدعوون لأن نؤمن بالله وكتبه ورسله وباليوم الآخر كما آمن الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأن ندعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة كما دعا، وأن نجاهد في سبيل الله ضدّ كلّ الكفّار والمشركين والطاغين والمستكبرين كما جاهد، وأن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر كما أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأن نعمل جميعاً على أساس الحكم الشرعي، أن نقيم حكم الإسلام في كلّ بلد نستطيع أن نقيم فيه حكم الإسلام، لأنَّ النبيّ جاء من أجل أن يقيم حكم الله. وعندما نعيش هذه الأيام، أيام رسول الله، فإنّنا نعيش أيضاً هذا اليوم الذي أُبْعِدَ فيه الإمام الخميني (حفظه الله) بعد أن وقف حيث كان يقف رسول الله، ولأنّه تحرّك في وجه الاستكبار ولأنّه لم يُرِد للنّاس أن يخضعوا لحكم الاستكبار، وهذا اليوم هو أيضاً يوم الطالب الذي سقط فيه سبعون من طلاّبنا، طلاّب المسلمين الأعزّاء لأنّهم وقفوا ضدّ الاستكبار، وفي هذه الأيام أيضاً وقف المسلمون هنا في هذا المكان بالذّات ضدّ الاستكبار الأميركي عندما اندفعوا إلى مركز الجاسوسية الذي حوَّل إيران إلى مزرعة أميركية تعبث بها كيفما تشاء، هذه الأيام هي أيّام إبعاد الإمام، ويوم الطالب، ويوم الوقفة ضدّ الاستكبار، هذه أيّام رسول الله لأنّها سارت في خطّ رسول الله.
ماذا يريد منّا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؟
إنَّنا في كلّ جيل من أجيال المسلمين مدعوون إلى أن نقف دائماً على عهد رسول الله وفي زمنه لنرى كيف يريد منّا أن نتحرّك، كما كان أصحابه الطيّبون وأهل البيت (عليهم السلام) يتحرّكون، فكيف يريدنا رسول الله أن نكون؟ مَن هم جماعته؟ مَن هم أصحابه؟ مَن هم التابعون له؟ القرآن يحدِّد لنا ذلك في ما قاله الله سبحانه وتعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ...} [الفتح: 29]، أولئك هم أصحابه وأولئك هم أُمّته، هؤلاء الذين يقفون دائماً من أجل حماية الإسلام ضدّ الكفر ومن أجل حماية دين الله ضدّ أعداء الله، وهؤلاء الذين لا يمكن أن يجاملوا الكفر على حساب الإسلام، ولا يمكن أن يكونوا الأذلاّء، ولا يمكن أن يكونوا المستعبدين، هم الأقوياء، هم الأحرار، هم الأعزّاء عندما يقفون أمام الكفر والاستكبار، أمّا إذا عاشوا بينهم في داخل الأُمّة فإنّهم الرُّحماء بينهم، يرحم بعضهم بعضاً، ويعاون بعضهم بعضاً، ويعفو بعضهم عن بعض، وينصر بعضهم بعضاً، ويكون بعضهم قوّة لبعض. إنّهم الأشدّاء على الكفار الرحماء بينهم؛ فإذا وجدتم مسلمين ينطلقون على أساس أن يكونوا رحماء على الكفّار أشدّاء على المسلمين فاعرفوا أنّهم ليسوا من جماعة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وليسوا من أصحابه، وإذا رأيتم مسلمين يقفون ضدّ الإسلام عندما يعمل المجاهدون على أن يحكم الإسلام ويكيد هؤلاء للإسلام ولقيادة الإسلام ولجنود الإسلام، فاعرفوا أنّهم في الخطّ المنحرف عن خطّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). والمسلمون بعد ذلك هم الذين يعيشون دائماً بين يديّ الله، الخاشعون أمام الله، الباكون من خشية الله، المخلصون لله، الراكعون الساجدون الذين يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، عندما يطلبون الفضل، سواء كان الفضل فضل الرزق أو فضل الصحّة أو فضل الأمن أو فضل النصر على الأعداء، فإنّهم لا يطلبون هذا الفضل من المستكبرين، ولا من الكافرين، وإنّما يطلبونه من الله ليقولوا لله: يا ربّنا لقد أعددنا أنفسنا لنكون الأقوياء، وقد أعددنا أنفسنا لنكون المجاهدين، هذا ما علينا، وبقي يا ربّنا ما وعدتنا به، أن تنصرنا إذا أخذنا بأسباب النصر، إنّهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، فإذا كنتم تريدون أن تكونوا غداً في المحشر بين يديّ الله لتقولوا يا ربّنا نحن أتباع رسول الله، ونحن صحابته، ونحن جنده، فسيسألكم الله غداً، هل أنتم من الأشدّاء على الكفّار؟ كيف كانت حياتكم مع الكفّار؟ هل أنتم الرحماء في ما بينكم؟ كيف كانت علاقاتكم بعضكم ببعض؟ هل كنتم المبتهلين إلى الله، أم كنتم المتمرّدين الغافلين عن ذكر الله؟ هل كنتم الراكعين الساجدين، أم كنتم المتمرّدين العاصين؟ هل كنتم تبتغون فضلاً من الله ورضواناً، أم كنتم تبتغون فضلاً من الاستكبار ورضواناً؟ هذا السؤال الذي سيوجّه إلينا غداً يوم يقوم الناس لربّ العالمين، فلنعرف كيف نقدم لهذا السؤال جواباً، الجواب هنا في سلوكنا وفي حياتنا العامّة.
الوحدة سبيل المنعة
إنَّ مسؤوليتنا كمسلمين في كلّ بلد من بلدان العالم أن نعمل ليكون الدين كلّه لله، وأن نجاهد في سبيل الله بحسب ما نملك من طاقات وقدرات، وأن نكون الأُمّة الواعية التي ترى أنّ وحدتها هي الأساس لقوّتها، وأنّ الصف الواحد الذي أرادنا الله أن نكوِّنه هو الأساس في الانتصار، ولهذا فإنَّ علينا أن نعمل على وحدة المسلمين سواء كان ذلك في داخل إيران حيث تكون الوحدة قوّة للثورة وقوّة للدولة، أو كان ذلك خارج إيران، ليكون ذلك قوّة للأُمّة وسبباً لانتصارها، وإنَّ علينا أن نفهم أنّ الوحدة هي الأساس الذي يمكن للمسلمين أن يلتقوا فيه على أساس الإسلام، لأنّنا إذا بقينا مبتعدين، إذا بقي السُنّة منعزلين عن الشيعة وإذا بقي الشيعة مبتعدين عن السُنّة فإنّهم لن يستطيعوا التخاطب ولا التحاور ولا التفاهم. ثمّ يدخل الكفر ليؤكّد الانفصال ويؤكّد الانقسام، وليجعل من الفرقة أساساً للاقتتال. لهذا فالوحدة هي القاعدة التي يمكن لنا أن يقترب منها بعضنا من بعض كما اقترب المسلمون في بدايات عهد الدعوة وبعد وفاة النبيّ كما اقترب بعضهم من بعض على الرغم من أنّ الخلافات التي بيننا الآن تنطلق من الخلافات التي كانت هناك، ومع ذلك استطاعوا أن يتقاربوا وأن يتعاونوا في كثير من قضايا الإسلام والمسلمين، لأنّهم كانوا يفكّرون في مصلحة الإسلام والمسلمين لا في مصالحهم الخاصّة.
استمعوا إلى كلام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) في كتابه إلى مصر وهو يشرح لهم وضعه بعد وفاة النبيّ، قال: "فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه فأمسكت بيدي حتّى إذ رأيتُ راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فخشيتُ إنْ لم أنصر الإسلام وأهله أنْ أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاعُ أيّامٍ قلائل يزول منها ما كان كما يزول السّراب وكما يتقشَّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق واطمأنَّ الدين وتَنَهْنَه"(1)، إنّه يقول: إنَّ الحقّ له ولكنّه عندما رأى أنّ مصلحة الإسلام تقتضي أن يتحرّك، تحرّك للمعاونة والمساعدة على تسديد الرأي والمشورة، لأنَّ مصلحة الإسلام فوق ذلك، وقد قال في كلمةٍ أخرى: "لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليَّ خاصّة"(2)، المسألة أن تسلم أمور المسلمين وكلّ شيء دون ذلك بسيط. من هنا، ينبغي لنا أن نقف ضدّ كلّ الذين يعملون من أجل أن يسقطوا الوحدة بين المسلمين في الداخل وفي الخارج، لأنّنا نقولها للمسيحيين من الناحية العصبية من السُنّة ونقولها للمتحمّسين من الناحية العصبية من الشيعة، إنَّ الوحدة الإسلامية لا تعني أن يكون السنّي شيعياً من دون أساس، أو أن يكون الشيعي سنيّاً من دون أساس، لا بل أن نتعاون على ما اتّفقنا عليه، وأن نتحاور في ما اختلفنا فيه، كما أمرنا الله سبحانه وتعالى بذلك، أن نعتصم بحبل الله، وأن يكون اعتصامنا بحبل الله هو دليلنا لمعرفة الحبال التي لا تكون لله سبحانه وتعالى. بالوحدة نقوى وبالوحدة ننتصر وبالوحدة يتحوّل المسلمون في العالم ـــ الذين يزيدون على المليار نسمة والذين يملكون القوّة الاقتصادية الكبيرة ـــ إلى قوّة عظمى في العالم.
الحرب والسلم على ضوء مصلحة الإسلام
أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: "لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين" وهذا هو الأساس: وحدة الأُمّة ووحدة القيادة، ونحن وجدنا في هذا العصر أنّ القيادة الحكيمة الفقيهة الورعة المخلصة للإسلام التي تعرف أهل زمانها جيّداً هي القيادة المتمثّلة بالإمام الخميني الذي التزم الإسلام كمسؤولية، كان مستعداً ولا يزال لأنْ يبذل دمه في سبيلها، ثمّ استطاع أن يربّي هذه الأُمّة في إيران على أن يكونوا الأشدّاء على الكفّار الرحماء بينهم، وقد تحمَّل الكثير، وقد تحمّلتم أنتم أيها الشعب الإيراني المسلم ذلك، وقد استطاعت ثورتكم أن تحقّق امتداداً للإسلام في سائر أنحاء العالم، وقد حارَبَ حيث كانت مصلحة الإسلام أن يحارب وقد أوقف الحرب حيث كانت مصلحة الإسلام أن يوقف الحرب انطلاقاً من كلمة أمير المؤمنين (عليه السلام) "لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين"، ولمّا رأى أنّ أمور المسلمين تفرض أن يُسالِم سالَم، قال إنّه كان يتمنّى أن تكون النتيجة انتصاراً في الحرب ولكنّه كان يتجرَّع السمّ لمصلحة الإسلام كما قال عليّ: "فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا"(1) وهذا ما ينبغي للأُمّة أن تعرفه، إنَّ المسألة ليست أن نحارِب أو نُسالِم على أساس الانفعالات الذاتية، ولكنَّ المسألة أن نعرف أين هو موقع عزّة الإسلام وقوّة الإسلام.
إنَّنا نرى أيُّها الإخوة المؤمنون أنّ العالَم كلّه شرقه وغربه كان يعمل على أن يحاصر إيران الإسلام بمختلف أنواع السلاح، بالاقتصاد، بالإعلام وبكلّ الأمور التي تجعل الشعب الإيراني محاصراً.. وأخيراً قرَّر العالم المستكبر وفي مقدّمته أميركا، قرَّر أن يمنع الشعب الإيراني من تصدير نفطه، وقرَّر أن يدعم صدام النظام الطاغية ثمّ قصف الأبرياء بالأسلحة الكيميائية، وعمل الاستعمار الأميركي على أن يحاصر إيران من خلال السلاح أو المال أو غير ذلك، كانوا قد قرَّروا أن تسقط الثورة لأنَّ الأُمّة تملك طاقة محدودة، وكانوا يريدون أن يسقطوا طاقة الأُمّة، وقرَّروا أن تسقط الثورة بيد المنافقين، ولكنَّ الإمام (حفظه الله) جرى على سيرة جدّه الإمام عليّ (عليه السلام) فقرَّر أن يوقف الحرب، لا من أجل أن يخضع للاستكبار العالمي، ولكنّه أراد أن يحفظ الثورة في مواقعها، ليعمل بخطّة جديدة وبأساليب جديدة، ليعمل على أساس أنْ يتحرَّك الإسلام في العالم من خلال هذه الخطّة، وقد قال في بيانه المعروف للعالَم كلّه، إنّنا لن نخضع للاستكبار، لن تكون إيران دولة مرتبطة بالشرق ولا بالغرب، ولن تتبع إيران للاقتصاد الاستكباري العالمي، ستبقى إيران جمهورية إسلامية لا شرقية ولا غربية، وستبقى إيران الدولة التي تدعم كلّ الحركات الإسلامية في العالم وتدعو إلى الإسلام في كلّ أنحاء العالم، وقال (حفظه الله) هناك فرق بين أن تكون لنا علاقات بالعالم سواء كان العالم المستكبر أو المستضعف، وبين أن نخضع للعالم المستكبر، لن نخضع للعالم المستكبر، ولكنّنا سنتعايش معه وسنحاول أن نُخضع استكباره بوسائلنا الخاصّة، وإذا لم يستطع جيلنا الآن أن يحقِّق الهدف فسيأتي جيل جديد، إلى أن يأذن الله بانتصار الإسلام في العالم.
أيُّها الإخوة المسلمون في إيران وفي غير إيران، افهموا جيّداً حركة الثورة في إيران من خلال خطّ الإمام ومن خلال بياناته، لا تلتفتوا إلى الدعايات الأميركية أو الأوروبية، التي تروّج أنّ إيران قد تركت خطّ الإسلام، وأنّها قد تنعزل داخل حدودها، سنبقى كمسلمين خارج إيران مع إيران الإسلام، نحمل الإسلام معاً، وندعو إلى الإسلام معاً، ونجاهد في سبيل الله معاً.
المسلمون في لبنان ضدّ الاستكبار العالمي
ولهذا فإنَّ المسلمين في لبنان لا يزالون يقفون ضدّ الصهيونية وضدّ الاستكبار العالمي على الرغم من كلّ أنواع الحصار التي يحاصرهم بها الاستكبار العالمي، لا يزالون يقفون، وقد عرفتم أخيراً بالعملية الاستشهادية البطولية التي قام بها الحرّ العاملي، الذي استطاع أن يحطّم الكبرياء الصهيوني بدمه، حيث تحوّل إلى قنبلة متفجّرة، ولكن لا يزال المسلمون هناك يمثّلون قنابل متفجّرة إسلامية تتحرّك حيث يريد لها الإسلام أنْ تتحرّك، وتقف حيث يريد لها الإسلام أن تقف.
أيُّها الإخوة كونوا مع وحدة القيادة المتمثّلة بالإمام الخميني (حفظه الله)، مع وحدة الأُمة في داخل إيران وفي خارجها، مع الدعوة إلى الله وفي سبيل الله لننتصر معاً ولنقوى معاً. وتذكَّروا دائماً أنّ الله يقول: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الاستجابة لله في حركة الواقع(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ*وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ*وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ*وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 24 ـــ 28].
الحياة الاجتماعية والموت الاجتماعي
في هذه الآيات دعوة من الله للذين آمنوا إلى أن يستجيبوا لله ولرسوله في دعوتهما، في دعوة الرسول الذي يؤدّي عن الله والذي يحدِّث الناس بوحي الله، أن يستجيبوا إليه في ما يدعوهم إليه من شريعته التي تشمل كلّ مواقع حياتهم سواء في حياتهم الفردية أو في حياتهم الاجتماعية، فقد أراد الله للإنسان أن يُخضع كلّ حياته لإرادته ولأحكامه التي تمثّل مواقع الله، فأنتَ عبد الله وقد جعل الله لكَ حياتين: حياة مادية تتمثّل في هذه الحيوية التي تمنحها الروح لجسدك فيعيش في حالة نمو وحركة من خلال هذه الجذوة الإلهية المشرقة الموجودة في هذا الجسد وهي الروح، ويريدك الله أن تحافظ على حياتك فلا تُلْقِ بيدك إلى التهلكة إلاّ في ما أباح الله لك ذلك في خطّ الجهاد وفي ما يشبه ذلك، وهناك حياة معنوية يريد الله لكَ أن تعيشها وذلك بأن يحيا عقلك بالفكر الذي ينفتح على الله وينفتح على الناس بما ينفعهم، وأن يكون لك شعورك الذي يعطي الناس المحبّة والخير والسلام، وأن تكون لك قِيَمك الأخلاقية الروحية التي أراد الله لك أن تحرِّك حياتك في اتّجاهها ليكون لك الصبر عند الشدائد فلا تسقط أمام كلّ أنواع البلاء، وليكون لك القلب الكبير الذي يتّسع للنّاس فلا ينبض إلاّ بالخير، وأن يكون لك صدرك الواسع الذي يمتصّ كلّ الانفعالات ليتّسع لكلّ الإساءات التي يسيؤها الناس إليك، وللمشاكل التي يثيرها الناس في حياتك ليكون في صدرك الحلم، وليكون في أخلاقك العفو عند المقدرة، ولتكون حياتك شعوراً بالمسؤولية لخدمة الناس ـــ كلّ الناس ـــ في ما أعطاكَ الله من عقل يحتاج الناس إلى فكره، وما أعطاك الله من علم يحتاج الناس إلى نتائجه، وما أعطاك الله من مال يحتاج الناس إليه، وما أعطاك الله من جاه يقصدك الناس من أجل أن تخدمهم من خلاله، وما أعطاك الله من وعي للمسؤولية لتحرِّك كلّ طاقاتك في رفع مستوى الناس وحماية حريّة الناس، تلك هي الحياة المعنوية. الجهل موت والعلم حياة، العبودية موت والحريّة حياة، الخيانة موت والإخلاص حياة، البُعد عن المسؤولية موت والتحرّك في قلب المسؤولية حياة، أنتَ ميّت موتاً روحياً ومعنوياً إذا أخذت بأسباب الفسق والفجور في حياتك، لأنّك أَمَتَّ طاقة الطهر والنقاء في حياتك، مات طهرك، مات صفاؤك، مات نقاء قلبك.
عندما تأخذ بأسباب الفجور، وعندما تنعزل عن مشاكل الناس وعن كلّ قضاياهم، فأنتَ ميّت اجتماعياً لأنّك لا تتحسَّس آلام الناس ولا تتحسَّس مشاكلهم وقضاياهم، الناس يصرخون وأنت لا تسمع صراخهم، الناس يتألّمون وأنتَ لا تحسّ بألمهم، الناس يعانون المشاكل وأنتَ لا تشعر بمعاناتهم، أيّ فرق بينك وبين الميّت، الميّت لا يحسّ لأنّه يفقد الحياة الجسدية وأنتَ لا تحسّ لأنّك تفقد الحياة الروحية المعنوية، أنت ميّت في هذا المجال والمسؤولية المتحرّكة التي تجعلك تنتقل إلى الناس لترفض كلّ أوضاعهم وآلامهم، تنزل دموعك عندما تلتقي بالمأساة لتشاركهم بهذه الدموع وتتحرّك طاقاتك عندما تلتقي بمشاكلهم لتحلّ مشاكلهم، فالله سبحانه وتعالى يخاطب المؤمنين الأحياء، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، الذين يسمعون ويبصرون ويتحرّكون يقول لهم: {اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} من الطبيعي أنّه لا يريد الحياة الجسدية لأنّه يخاطب الأحياء ولا يخاطب الأموات، ولكنّه يريد الحياة الروحية، الحياة المعنوية التي تتّسع لكلّ آفاق الخير في حياتك، ولكلّ قِيَم الروح في شخصيّتك، ولكلّ حركة المسؤولية في واقعك.
الحياة تحت تدبير الله
أنتَ في حياتك تحرّك يدك وفي المسؤولية تحرّك طاقتك، إذا عشت غير مسؤول فمعنى ذلك أنّ طاقاتك ميّتة لا تتحرّك؛ لا فرق بينها وبين الميّت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} وعلى ضوء هذا يمكن أن نفهم من الآية أنّ الإسلام الذي يلتزم للإنسان بكلّ هذه الحياة المعنوية في ما ينفتح فيه من العقيدة التي تجعل الإنسان منفتحاً بكلّه على الله وعلى رسوله وعلى كتبه وعلى اليوم الآخر، وفي ما يخطّط من شريعة تجعل الإنسان إنساناً مسؤولاً عن الحياة كلّها بحجمه، وإنساناً متحرّكاً ينطلق في الحياة ليشعر أنّ الحياة واقعة تحت تدبير الله، وأنّ الله أوكل للإنسان أن يكون خليفته في الأرض فينفِّذ ما يريد الله أن ينفِّذه، لقد جعلك الله خليفته في الأرض لتتحرّك في مواقع الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولتفتح الحياة كلّها على ما يحبّه الله، وقد جعلك الله خليفته في المال الذي أعطاك إيّاه وقال: {... وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد : 7]، أنتَ خليفة الله في ماله، وعليك أن تسخّر ماله في ما يريد. وأنتَ خليفة الله في حركة الحياة فعليك أن تحرِّك الحياة في ما يحبّ الله وما يرضاه.
ولهذا عندما تكون ملتزماً بالإسلام فأنتَ حيّ، ولكنّك عندما تضع الإسلام وراء ظهرك ولا تلتزم بكلّ أحكامه وبكلّ مواقعه وبكلّ قِيَمه فأنتَ ميّت إسلامياً.. عندما تنتمي إلى الإسلام اسماً وتتركه روحاً وتبتعد عنه أخلاقاً وتبتعد عنه حركة في خطّ الله، فأنتَ ميّت إسلامياً، لأنّك لا تحرّك الإسلام في حياتك.
حياة القلب من حياة الروح
ومن هنا، لا بدّ لنا إذا أردنا الحياة الإسلامية التي دعانا الله إليها والتي دعانا الرسول إليها، فعلينا أن نبني أنفسنا بناءً أخلاقياً، وعلينا أن نمنع عملية الموت في قلوبنا، كما تمنع موت قلبك في ما تأخذه من الأدوية التي تفتح لك الشريان أو التي تمنع حدوث النوبة القلبية التي قد تقضي على حياتك، عليك أن تأخذ أيضاً الأدوية الروحية التي تمنع قلبك من أن يقع تحت تأثير نوبة تلغي حركته ونبضته الإيمانية، لأنَّ هناك موتاً للقلب أيضاً. هناك كثير من الأحاديث عن بعض الأشياء التي تميت القلب، يقول الله عن بعض الناس {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً} [البقرة : 10]، ليس هذا المرض هو مرض القلب بوجوده المادي، ولكنَّ النّفاق يمثّل مرض القلب بوجوده الروحي، والله يقول لكم: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال : 24]، الله يشرف على قلبك، فقلبك تحت رقابة الله ونبضات قلبك بيد الله، هو يحوِّلها كيف يشاء ويسيِّرها كيف يشاء فلا تعتبر قلبك بمنأىً عن الله، فالله هو مقلّب القلوب، هو يحول بين المرء وقلبه، فيشرف على قلبه كلّه ويرعى قلبه كلّه، فاجعل قلبك من موقع إرادتك بيد الله، واجعله متحرّكاً في نبضاته وفي خفقاته وفي كلّ أحاسيسه في طريق الله، لا تدخل إلى قلبك أحداً ممّن لا علاقة بينه وبين الله، عندما يريد الآخرون الذين يحاربون الله ورسوله في دينه وفي شريعته وفي أوليائه وفي قيمه، عندما يريد هؤلاء أن يقتحموا قلبك على أساس بعض الأوضاع التي يرتاح إليها الحسّ الجسدي، ذكِّر قلبك بالأوضاع السيّئة التي لا يرتاح إليها الحسّ الروحي، ادخل دائماً في عملية مقارنة بين سلبيات هؤلاء وبين إيجابيّاتهم حتّى لا يسقط قلبك تحت تأثير إغراءاتهم، وحتّى لا ينفعل قلبك بالكلمات المعسولة التي يحاولون أن يثيروها في حياتك الشعورية.
حضور الأمم بين يديّ الله
{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال : 24] هذه هي الحقيقة الثالثة، ضعها في نفسك عندما تريد أن تقوم بأيّ عمل من الأعمال، عندما تكون وحدك ولا رقيب عليك اذكر رقابة الله عليك وحسابك غداً بين يديه، وعندما تكون مع الناس وأنتَ تملك بعض جوانب القدرة التي تستطيع من خلالها أن تنفع الناس أو تضرّهم في أرزاقهم وفي أهلهم وفي مصالحهم وفي كلّ أوضاعهم، اذكر حتّى وأنت في مواقع قوّتك، حولك جندك وحولك أهلك وبيديك سلاحك، لكن كيف بك إذا وقفت غداً بين يديّ الله عارياً من كلّ شيء، ليس هناك وليّ ينصرك وليس عندك قوّة تنتصر بها، كيف بك إذا حاسبك الله عن تحريك قدرتك في ما لا يرضاه، مَن ينصرك من الله عندما تحشر مع الناس في كلّ ما يجتمع الناس من اجتماعات دينية أو اجتماعات اجتماعية أو سياسية أو اجتماعات اللّذات والشهوات؟ عندما تحشر مع الناس في الدنيا فكِّر بهذه الحقيقة، إنّك تحشر وحدك ومع الناس في الآخرة، وقد حدَّثنا الله سبحانه وتعالى وأكَّد أنّ كلّ أُمّة تُدعى إلى حسابها، كلّ أُمّة جاثية بين يديّ الله، كلّ جماعة وكلّ عشيرة عندما تتضامن يجمعها الله بعضها مع بعض، كذلك الطوائف والأحزاب والتنظيمات لها كتاب واحد، لماذا؟ لأنّها اجتمعت على أن تتحمّل المسؤولية في أعمالها وفي أخطائها وفي مفاوضاتها وفي كلّ شيء، فالله يقول لكم: صحيح أنّ كلّ إنسان يُجزى بعمله الفرديّ، ولكنّكم عندما تجتمعون على عمل، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يعاقب المجتمع كلّه.
السكوت عن الحقّ لا يعفيك من المسؤولية عن النتائج
خذوا مثلاً قوم صالح (عليه السلام) الذين عقروا الناقة، الإمام عليّ (عليه السلام) يعلِّق على هذه المسألة، يقول: "أيُّها الناس إنّما يجمع الناس الرضا والسخط"(1)، يعني أنّ الذي يجمعكم ويجعلكم جماعة واحدة ويحمّلكم مسؤولية واحدة ليس التعاون في العمل فقط بل التعاون في إعطاء الحالة النفسية للعمل؛ أن ترضى عن عمل أو تعين عليه أو تشارك في التخطيط له، في هذا المجال أنت شريك في العمل، يقول: إنّما يجمع الناس الرضى والسخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم الله بالعذاب، لما عمّوه بالرضى، فقال: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} [الشعراء : 157] على الرغم من أنَّ الذي عقرها هو شخص واحد، لهذا لا تعتبر نفسك بمنأى عن المسؤولية غداً بين يديّ الله إذا تجنَّبت صراعات الناس في ما بينهم وجلستَ في بيتك ورضيت بعمل قوم معيّنين؛ مدحتهم، شجّعتهم، عاونتهم، رضيت عنهم بقلبك، أنتَ معهم وإنْ لم تشاركهم شيئاً. في حديثٍ آخر للإمام عليّ (سلام الله عليه) يقول: "الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم"(1) الله يقول لك: أنتَ جزء منهم إنْ كانوا خيّرين فأنتَ جزء من الخير الذي يعمّهم، وإنْ كانوا أشراراً فأنتَ جزء من ذلك الشرّ، لأنّك وإن لم تكن منهم بعملك لكنّك منهم بعواطفك، والله يريد للفكر أن يكون مسؤولاً وللعاطفة أن تكون مسؤولة، للفكر حدوده في أن ينطلق إلاّ في طريق الخير وأن لا يخطّط إلاّ للخير، وللعاطفة حدودها في أن لا تنطلق مع أعداء الله، وأن لا تمتنع عن أولياء الله، وهذا الحديث الذي قرأته عليكم مراراً حديث يقول: إذا أردت أن تعرف نفسك فانظر قلبك، فإنْ كان قلبك يوالي أولياء الله ويُعادي أعداء الله ففيك خير، والله يحبّك، وإنْ كان قلبك يوالي أعداء الله ويعادي أولياء الله فليس فيك خير، والله يبغضك، ثمّ يعطي القاعدة "والمرء مع مَن أَحَب"(2)، يعني يحشر الناس يوم القيامة على الحبّ والبغض.
الدين.. أن تحبّ الله وأولياءه
الإمام الصادق (سلام الله عليه) قال في ما رُوِيَ عنه لبعض أصحابه وهو يحدّثه عن مسألة الحبّ والبغض. قال: إنَّ الحبّ والبغض شيء والدين شيء آخر، كما يقول الشاعر اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضيّة، مثلاً بعض الناس يقولون: إنَّ الدين لله والوطن للجميع، الدين لله نريد أن نتركه في المسجد وليس لك حريّة أن تنطلق به من المسجد، يعني يبقى الدين مع الله فليبقَ الله في المسجد وليبقَ الدين في المسجد، أمّا الوطن، فليس لله شغل به، ولا للدين شغل به، الوطن للجميع يعني ليس هناك دين للعلاقات بين الناس، هناك حديث يقول: فلنخرج الدين من علاقاتنا ولنخرج الدين من أوضاعنا ومن سياستنا، عندما تتحدّثون عن السياسة والاجتماع اتركوا كلام الدين، اذكروا الوطن، اذكروا القومية، اذكروا كلّ ذلك، لكن أبعدوا الدين جانباً، أي أنّ الدين لا عمق له في حياتنا وليس له تأثير، الإمام (عليه السلام) قال: "وهل الدين إلاّ الحبّ والبغض"(1)، أن تحبّ الله وتحبّ أولياءه ذلك هو الدين، أن لا تحبّ الله ولا تحبّ أولياءه ذلك أيضاً دين معاكس. هذه المسائل تحتاج لأن نعمّقها دائماً وندرك أهميّتها، من هذه الفقرة {... وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال : 24]، يعني لا تأخذ حريّتك، تصفّق عندما يصفّق الناس وتهتف عندما يهتف الناس، وتسبّ عندما يسبّ الناس وتصدر أحكامك عندما يصدر الناس أحكامهم، لأنَّ الجوّ الحماسي والانفعالي والعاطفي يغمرك ويستولي على كيانك.
الحشر بين يديّ الله
فكِّر: سأنفصل عن الناس بعد قليل وسينفصل الناس عنّي بعد قليل، وأنّني ربّما أدعى بعد انصرافي عن لقاء الناس إلى لقاء الله، وأنّ الناس سوف يُدعون أيضاً بعد انصرافهم عنّي إلى لقاء الله، فكيف أُواجه الله إذا قال لي: كيف صفّقت؟ وكيف شتمت؟ وكيف لعنت؟ وكيف حكمت؟ وكيف قلت؟ مَن ينقذني من الله إذا لم يكن عندي جواب، ومَن يخلّصني من عذاب الله إذا لم يكن عندي أيّ شيء أُبرِّر به عملي، أليس ذلك كلام الإمام زين العابدين (عليه السلام) في ما يدعو به، "ومِنْ أيدي الخُصماء غداً مَنْ يخلّصني وبحبل مَن أتّصل إنْ أنتَ قطعتَ حبلك عنّي، فواسوأتاه على ما أحصى كتابك من عملي، الذي لولا ما أرجوه من كرمك وسعة رحمتك ونهيك إيّاي عن القنوط، لقنطت" تذكّروا في كلّ دعاء الإمام (سلام الله عليه) أو دعاء أبو حمزة الثمالي، تذكّروا الحشر، "أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حامِلاً ثقلي على ظهري أنظرُ مرَّةً عن يميني وأُخرى عن شمالي إذ الخلائق في شأن غير شأني"، تذكّر الحشر بين يديّ الله، تذكَّر ذاك اليوم العظيم الذي لا ينفع أي إنسان فيه إلاّ عمله، هذا يركِّز لنا الثبات على الإيمان، وعلى الموقف، يركِّز لنا الوعي لكلّ القضايا التي تطرح علينا لنختار منها القضية التي تخلّصنا عند الله لا القضية التي تخلّصنا عند الناس وتجعلنا نقف موقف الخزي والعار أمام الله.
المسؤولية في مواجهة الموقف
{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال : 25] واجهوا الموقف على أساس أن تتحمّلوا المسؤولية جميعاً عن أيّة فتنة تحدث، سواء كان ذلك في الفتنة التي تصيب الناس في دينهم فينحرفون عنه، أو الفتنة التي تصيب الناس في أمنهم فينحرفون عمّا يصلح أمنهم، والفتنة التي تصيب الناس في سياستهم وفي اقتصادهم فينحرفون عن الخطّ السياسي المستقيم وعن الخطّ الاقتصادي المتوازن، لا تقل أمام الفتنة "فُخَّار يكسِّر بعضه" ليس لنا شغل، نحن شيء والناس الذين يتقاتلون شيءٌ آخر، نحن بجانب والناس بجانبٍ آخر، الفتنة كالريح العاصف إذا أوقد إنسان أو جماعة النار في وقت اشتداد الريح فهل يحترق الذين أوقدوا النار فقط أم أنّ الحريق يطال كلّ البيدر ويدخل كلّ البيوت من خلال العواصف التي تزيد النار اشتعالاً في ما تنقله في حال العاصفة من حطب ومن كلّ ما يوجب زيادة الاحتراق، والحرائق الاجتماعية أو السياسية أو الأمنية هي حرائق لا يمكن أنْ تنحصر في دائرة أصحابها، بل إنّها تتوسّع بفعل العلاقات التي توجب أن تكون خطّ تماس بين كلّ موقع وموقع في المجتمع. والذين يثيرون الحرائق أو يتحرّكون في داخلها ليسوا فئة منفصلة عن المجتمع لتكون نتائج الحرائق مختصّة بهم ولكنّهم فئة تعيش في عمق المجتمع ويعيش المجتمع في عمقها، ولهذا يقول الله على المجال الأخروي والمجال الدنيوي: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} تحمَّلوا مسؤوليّتكم في كلّ ما تستطيعون أن تمنعوا به الفتنة من الاتّساع أو تمنعوها من الاستمرار أن تحاصروها أولاً بكلّ ما عندكم من عقل وإرادة ووعي وأن تحاصروا كلّ الذين يريدون أن يستمروا فيها وينطلقوا بها، لأنّها ستترك في داخل الواقع المأساة التي تحرق الواقع كلّه وتحرق الحياة كلّها.
الله شديد العقاب
{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال : 25] عندما تحرِّكون ألسنتكم بالفتنة وعندما تحرّكون أيديكم بالفتنة وعندما تسخّرون جاهكم لمصلحة الفتنة، وعندما تنفقون أموالكم لمصلحة الفتنة، عندما تحرّكون هذا وذاك؛ فإنَّ عليكم أن تنتظروا عقاب الله لأنّكم شاركتم إذا لم تكونوا مشاركين في الفتنة في بدايتها فأنتم مشاركون في الفتنة في استمرارها ـــ أيّ فتنة كانت ـــ ولهذا لا بدّ للإنسان من أن يكون واعياً لكلمته، واعياً لموقفه، واعياً لعلاقاته، واعياً لعواطفه، لأنَّ ذلك إذا لم يكن في خطّ الوعي فربّما تغفل ويستغفلك الناس ليدخلوك في الفتنة من خلال أوضاعك العائلية أو من خلال مصالحك الشخصية أو من خلال علاقاتك الاجتماعية، وهكذا حتّى تكون الإنسان الذي يدفع الفتنة إلى أن تشتعل. لا بدّ لنا أن نفكِّر في أنّ الله شديد العقاب وأنّنا سنُقدم عليه، وعلينا أن نحذر عقابه لأنَّ عقاب الله سبحانه وتعالى ليس مثله عقاب {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ*وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 25 ـــ 26].
عباد الشيطان وعباد الرحمن
ثمّ يقول الله لكلّ الناس قبل أن يلتقوه، لكلّ نفس قبل أن تلتقيه {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 27 ـــ 28]، النفس الواعية المطمئنة من خلال اطمئنان العقل واطمئنان العاطفة واطمئنان الشعور، ارجعي إلى ربّك راضية بنعم الله مرضية بطاعتك {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 29 ـــ 30] هل نريد أن نكون من عباد الشيطان، أم من عباد الرحمن، {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي}، وكلمة أن تكون من عباد الله هي كلمة تحتاج إلى الجهد وإلى الوعي وإلى الكثير من المواقف التي تجعل الإنسان خائفاً مقام ربّه وخائفاً من لقاء ربّه ومنفتحاً على رحمة ربّه، ثمّ يقول الله للمؤمنين الذين كانوا مع النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويقول لكلّ المؤمنين الذين جاؤوا بعد النبيّ وكانوا قلّة وكانت الحياة تحاصرهم وكان الناس يتخطّفونهم ليعرفهم أنّ الله أنعم عليهم بأنْ أواهم، وأنعم عليهم بأنْ أيّدهم بنصره، وأنعم عليهم بأن رزقهم من الطيّبات، لا تعتبروا هذا الخطاب موجَّهاً إلى الذين كانوا في زمن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بل اعتبروه موجَّهاً إليكم عندما عشتم بعض النصر في تاريخكم وبعض الأمن في تاريخكم وبعض الطيّبات في ماضيكم وحاضركم.
وحدة الخطّ
{وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال : 26] أن تشكروا الله في هذه النِّعَم، ونحن نعرف أنّ خطّ الإسلام في خطّ أهل البيت (عليهم السلام) الذين أخلصوا لله رسالته وانفتحوا على الناس كلّهم، كانوا يعيشون هذه القلّة، وهذا الاستضعاف وهذا التخطّف، وأيّدهم بنصره. فاشكروا الله، وشكركم لله أن تستخدموا نصر الله في نتائجه بطاعة الله. استخدموا هذه القوّة التي منحكم الله إيّاها، فلا تظلموا الناس من خلال قوّتكم ولا تتعرَّضوا لنفوسهم من خلال قوّتكم، ولا لأموالهم ولا لأعراضهم ولا لحريّاتهم، لأنَّ القوّة أمانة الله عند الأقوياء. فإذا لم يحرِّكوا أمانة الله في ما يرضي الله فإن الله سيستردّ أمانته وسيضعف الأقوياء في الدنيا قبل الآخرة، لأنَّ نعمة الله لا تستمرّ عندما تحرّكها في غير ما يحبّه الله ويريده، لهذا {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} والشكر لله هو أن نبقى جماعة الإسلام في وحدة الخطّ الصحيح الخالص، وأن نعيش أجواء أهل البيت (عليهم السلام) في ما استلهموه من الإسلام وفي ما حرَّكوه في طريق الإسلام لنعمل على أن يكون ذلك سرّ الوحدة بيننا وفي كلّ مواقعنا الإسلامية مع كلّ المسلمين في العالم.
لا تخونوا الله
ثمّ يقول الله بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ}، {اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ...} [الأنفال : 24] فإذا استجبتم لله وللرسول وانتميتم إلى دينه وسرتم في هذا الخطّ، فلا تخونوا الله فالإسلام عهد بينك وبين الله وهو أمانة الله عندك، والإسلام عهد بينك وبين رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو أمانة الرسول عندك، لا تخونوا الله في دينه، لا تخونوا الرسول في شريعته، بل أخلصوا لله والتزموا دينه ودافعوا عنه وأخلصوا لرسول الله والتزموا شريعته ودافعوا عنها ولا تخونوا أماناتكم أيضاً، في علاقاتكم، في وحدتكم، في تآخيكم، في كلّ القضايا الكبيرة التي تحكم حياتكم، في حديثكم، في كرامتكم، في كلّ مواقع العدالة في حياتكم، تلك هي الأمانة التي يجب أن تحافظ الأُمّة عليها في ما تحتاجه في حاضرها ومستقبلها، ولذلك يريد الله منّا أن نعيش مسؤولية كلّ ذلك، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، ثمّ يريد الله بعد ذلك أن يحدِّثنا أَنَّ الإنسان قد يخون أمانته بفعل عاطفته تجاه أولاده الذين يريدون منه، أو تريد منه مصالحهم، أن يخون أمانة الله ورسوله وأمانة الأُمّة، وربّما يدفعك مالك إلى أن تخون أمانة الله والرسول، لأنَّ هناك طمعاً عند أعداء الله والرسول ليمنحوك المال على أساس الخيانة، إنَّ الله يقول: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ...} إنَّ الله يختبركم بأولادكم ويختبركم بأموالكم، هل تنهار مواقفكم أمام عاطفتكم تجاه أموالكم وأولادكم، أم أنّ مواقفكم لا تنهار ليكون الله أقرب إليكم من أموالكم وأولادكم وأَحَبَّ إليكم من أولادكم ومن أموالكم، الله يقول مالك تعيش معه وقتاً، أولادك تعيش معهم وقتاً، {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28] ولكنّك عندما تفضِّل الله على أموالك وعلى أولادك فإنّك ستجد الأجر العظيم عند الله، وعندما تحصل على الأجر العظيم عند الله فإنّك تحصل على السعادة الخالدة والفوز الكبير، تلك هي أجواء القرآن، وذلك هو الذي أراد الله من خلاله أن يحيي قلوبنا بالقرآن، وأن يحيي عقولنا بالقرآن، وأن يدفع بالحياة إلى حياتنا بالقرآن، لأنَّ الله جعله نوراً وموعظة وشفاءً لما في الصدور، وجعله حياة للقلب وللروح وللعقل، وهذا ما يجب أن نلتفت إليه دائماً، لنجلس إلى القرآن لنستنطقه في ما يريد أن يوجّهنا إليه، ولندرس حلوله في ما يمكن أن يحوط مشاكلنا فيه، القرآنيون الذين جعلوا القرآن شفاءهم وجعلوا القرآن دستورهم وجعلوا القرآن أساس حياتهم لم يلتفتوا يميناً ويساراً وإنّما انطلقوا إلى الجادّة المستقيمة ليستمعوا إلى الله في القرآن، يقول لهم: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] القرآن هدانا، وهو الذي يذكّرنا دائماً، عندما نضعف، بأنَّ الله هو الأقوى، ويذكّرنا دائماً، عندما تمتلئ قلوبنا بالكبار الذين يريدون أن يسيطروا على مقدّراتنا، بأنَّ الله أكبر، ويذكّرنا، عندما نتطلَّع إلى المواقع العليا في بلادنا وفي بلاد الآخرين ليقول الناس هذه هي الدولة الأعلى، وهذا هو الرئيس الأعلى، ليقول لك القرآن إنَّ الله هو الأعلى، وإنّ كلّ مَن يقول أنا ربّكم الأعلى سوف يُنكَّل نكال الآخرة والأولى.
الثبات على الحقّ
بالقرآن تعيشون العزّة وتشعرون بمسؤولية عزّتكم {... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] بالقرآن تتعلَّمون كيف يخاطب بعضكم بعضاً ويحاور بعضكم بعضاً ويعاشر بعضكم بعضاً ويتحمّل بعضكم مسؤولية بعض، تلك هي إيحاءات القرآن، فلنلتزم القرآن، ولنلتزم كلّ آياته، ولنترك كلّ مَن يريد أن يبعدنا عن القرآن تحت تأثير أيّ عنوان وأيّ وضع. إنّ القرآن لا يعزلنا عن الآخرين لأنَّ الله يقول: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ...} [الممتحنة: 8] إنّ الله لا يعزلنا عمّن نختلف معه، بل يقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} [آل عمران: 64]، هذا قول القرآن. بعض الناس يتصوَّر أنّه بقدر ما يكون مؤمناً، بقدر ما يكون تقيّاً، بقدر ما يكون مسلماً، بقدر ما يكون ملتزماً بالقرآن؛ يجب أن ينعزل عن الناس، يقول لا أُريد أن أنفتح على أحد، الله سبحانه وتعالى لم يمنعنا من أن ننفتح على أحد، لكن يقول إذا أردتم أن تنفتحوا على الناس حافظوا على أفكاركم، لا يخدعنّكم الناس عن أفكاركم، لا يخدعنّكم الناس عن مواقفكم، لا يخدعنَّكم الناس عن كلّ واقعكم، اثبتوا، لا تتزلزلوا، لا تسقطوا أمام التحدّيات، اثبتوا عندما تؤمنون بفكرة أنّها الحقيقة، عندما تؤمنون بموقف أنّه الحقّ اثبتوا عليه، مهما صادفكم من مشاكل ومن أوضاع، تلك هي المسألة.
لقاء الإمام
وهذا ما كنّا نستشرفه في زيارتنا إلى الجمهورية الإسلامية عندما التقينا بالإمام الخميني (حفظه الله) الذي كانت قيمته في كلّ حياته منذ أن تحرَّك ومنذ أن واجَهَ الأخطار والمشاكل وواجَهَ السُبَاب والشتائم والاتهامات وكلّ أساليب التعسف التي وجَّهها إليه العالم المستكبر، إنّه سحق كلّ ذلك بقدميه لأنّه شعر بأنّ الإنسان الذي يريد أن يقف في وجه الباطل المستكبر لاسيّما إذا كان في موقع الدول الكبرى، فعليه أن يعتبر هذه الأساليب أساليب طبيعية لأنَّ الآخرين عندما يخافون من موقفك ويخافون من صدقك وإخلاصك فإنّهم يلجؤون إلى هذه الأساليب حتّى يشوّهوك وحتّى يسقطوك، ولكن ما قيمة الناس حتّى يسقطوا مجاهداً أو قائداً أو مؤمناً إذا كان الله يريد أن يرفعه، وإذا كان الله يريد أن يجعله في المواقع العليا، ولذلك تحدَّث الناس كثيراً عنه وقالوا عنه الكثير وتحدَّثت عنه الدول كثيراً وحاصرت كلّ مواقعه ومواقفه، ولكنّه كان قرآنياً، قرأ القرآن كأروع ما يقرأ الإنسان القرآن، وأدخل القرآن إلى عقله فكان عقله يخطّط من خلال القرآن، أدخل القرآن إلى روحه فكانت روحه تنفتح على القرآن، وأدخل القرآن إلى حياته فكانت قيادته تنطلق في دروب القرآن، لذلك استطاع أن يثبت وتكسَّرت كلّ الدول التي أرادت أن تسقطه والتي أرادت أن تنحرف به عن الخطّ، حتّى عندما اضطر لأنْ يغلق باب الحرب نتيجة الظروف التي صنعها الاستكبار العالمي حتّى يضيق عليه الخناق من كلّ جانب، لم يسقط، وإنّما قال إنّي أتجرَّع السمّ، ولكن لن أسقط سأبقى في مواقع الإسلام أدعو الناس إلى الإسلام، وسأبقى في مواقع الحريّة أدعو الناس إلى الحريّة، وسأبقى لِأُحرِّك ثورة المستضعفين في مواجهة المستكبرين، قالها وهو يعبِّر عن موقفه، وقالها وهو يدعو الناس إلى أن لا يعتبروا القبول بالقرار قبولاً بالخضوع للاستكبار أيّاً كان المستكبرون. قال لهم أن تبقى لهم روحهم لأنَّ المعركة بيننا وبين المستكبرين، أنّهم يريدون إسقاط روحنا لنتحرّك بلا روح. وهكذا كانت قيمته أنّه أخلص لله وأنّه كان الواعي الذي يعرف أنّ التحدّيات التي توجه إلى الوضع هناك ليست تحدّيات موجّهة إلى إيران ولكنّها موجّهة إلى الإسلام، قالها لي: إنَّ أميركا تعمل على أن تحارب الإسلام لا أن تحارب إيران، القضية ليست قضية وطن يدخل الصراع مع أميركا على أساس سياسي أو أمني أو اقتصادي، ولكنَّ القضية قضية إسلام يدخل الصراع مع أميركا من أجل أن يخفّف كلّ استكبار أميركا في سيطرتها على العالم، إنّه يفكّر بهذه الطريقة، وعندما قلت له: إنَّ الاستكبار عمل على أن يحاصر الحالة الإسلامية في لبنان بكلّ الوسائل، قال: إنّها حركة الاستكبار في مواجهة الإسلام الذي تمثّله الحالة الإسلامية بصدق، وعندما طلبت إليه أن يبعث برسالة إلى المؤمنين هنا، كلّ المؤمنين الواعين الملتزمين المنفتحين على خطّ الإسلام في الدعوة وفي الجهاد في سبيل الله، قال: قل لهم إنّني أبعث إليهم بكلّ محبّة وتحيّة وسلام، وأذكرهم في دعائي، قل لهم أن يبقوا واقفين في وجه الاستكبار، لا يسقطوا مهما كانت الضغوط وأن يحتضنوا الإسلام في حياتهم كمسؤولية إلهية، فلا يتركوا الإسلام مهما كانت التحدّيات وعليهم أن لا يتعبوا من السير في الخطوط الصعبة في خطّ الجهاد وعليهم أن لا يسقطوا أمام كلّ ما يُوَجَّه إليهم من ضغط على جميع المستويات لأنَّ الاستكبار الطاغي والاستكبار الكافر يعمل على أن يخوّف المؤمنين بتهاويله، ويعمل على محاصرة الإسلام في خططه، ويعمل على أن يضعف موقع الناس. فلا تكونوا الضعفاء ولا تكونوا المنهارين بل كونوا الأقوياء {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران : 139] تلك هي وصيّته، أن نبقى الواقفين في كلّ مواقع التحدّي لأنَّ المسألة ليست مسألة حالة سياسية طارئة ولكنَّ المسألة مسألة إسلام يريد أن يتحرّك في كلّ الحياة كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} [الأنفال : 39] من خلال كلّ الإمكانات التي نملكها.
الجمهورية الإسلامية لن تسقط تحت الضغوط
وعلى هذا الأساس، فإنّنا نشعر أنّ علينا أن نظلّ منفتحين على كلّ قضايا العالم الإسلامي وأنّ علينا أن نعرف قبل كلّ شيء أنّ الجمهورية الإسلامية لم تسقط تحت تأثير ضغوط استكبارية ولم تقدِّم أيّة تنازلات تنحرف بها عن الخطّ، وإذا كانت هناك بعض الأفكار تتحرّك في الساحة فإنَّ الخطّ الذي يحتوي كلّ تلك الأفكار هو الخطّ الذي يمثّله الإمام (حفظه الله) وهو الخطّ الذي يفرض نفسه، وإنّه يعطي الحريّة للناس وللمفكّرين حتّى يتحاوروا في أفضل السبل لخدمة الإسلام من دون أن يسمح لهم بأن يكون خلافهم مؤدّياً إلى سقوط الدولة الإسلامية، إنّه حوار في الفكر من أجل أن يؤدّي إلى وضوح الرؤية أكثر، وليس نزاعاً يعمل على إيجاد المشاكل في الداخل، لقد كنت مطمئناً للجوّ العام في سلامة الخطّ وفي سلامة الدولة، وليس معنى ذلك أنّه ليس هناك مشاكل، ولكنَّ المشاكل ليست بالمستوى الذي تصل فيه إلى حدود الخطر، ولكلّ بلدٍ مشاكله، ولكلّ مرحلة مشاكلها.
إعلان الدولة الفلسطينية
ونحن في هذا الموقع، لا بدّ من أن نتطلَّع إلى الحدث الجديد الذي حصل قبل أيّام في ساحتنا الإسلامية، وهو إعلان الدولة الفلسطينية المستقلّة(1)، إنّنا لسنا معقّدين من أن تعلن دولة فلسطينية إلى جانب الدول الأخرى الموجودة في المنطقة، وإنْ كنّا نطمع في أن تكون كلّ الدول دولة واحدة، لأنَّ الوحدة تستطيع أن تعطي القوّة بما لا تعطيه التفرقة، لكن دولة فلسطينية لا تملك حريّة الأرض وحركة الأرض، لا تستطيع أن تدخل أرضها، وقبل أن تحصل على أيّ شيء قدَّمت التنازلات في الوقت الذي لم تقدِّم "إسرائيل" الغاصبة لكلّ الأرض والتي تريد أن تغتصب أرضاً أخرى وأن تغتصب مستقبلاً آخر من دون أن تقدِّم أيّ تنازل حتّى على هذا المستوى، إنَّ هذه الخطوة التي أضافت إلى الأوهام العربية السياسية وهماً جديداً والتي هيَّأت لكثير من الناس أنّها نصر جديد للقضية الفلسطينية في الوقت الذي يمثِّل ذلك هزيمة للمواقف الصلبة التي يجب أن تكون في الإصرار على أن تبقى كلّ أرض فلسطين لأهلها، إنَّنا نعتقد أنّها تدخل في نطاق التنازلات العربية السياسية التي بدأها العرب منذ وقت طويل بسياستهم وهم يقدِّمون التنازلات تلو التنازلات حتّى أصبحوا في جامعتهم العربية وفي علاقاتهم الثنائية وفي مجالسهم المحوريّة في ما بين دولة وأخرى، أصبحوا يلهثون وراء "إسرائيل" لتقبل منهم أن يحاوروها، وأنْ يجلسوا معها في نطاق المؤتمر الدولي حفاظاً على ماء الوجه، لكنَّ "إسرائيل" بقيت على طرحها الأوّل، وهي أنّها لا تجلس مع العرب إلاّ منفردين، وليست مستعدّة لأن تجلس معهم مجتمعين، أو في نطاق مؤتمر دولي، لأنّها تريد أن تقودهم إلى أن يسلموا لها فلسطين كاملة، أو أكثر، وحتّى تقبل بالصلح معهم.
الاعتراف بإسرائيل
المسألة هي ليست أن يقبل العرب بالصلح مع "إسرائيل"، فقد أصبحت مسألة الصلح مع "إسرائيل" مسألة أساسية في السياسة العربية، وقد أصبح الحديث عن السلام مع "إسرائيل" في تصريحات ممثّل الجامعة العربيّة بالصوت العالي المسموع، ولكنّ المسألة هي أن تقبل "إسرائيل" بمصالحة العرب لأنّها لا تريد ذلك إلاّ من خلال شروطها. لهذا فإنَّ المسألة هي أنّ منظمة التحرير قدَّمت هذا التنازل بدون نتائج، ربّما كانت هناك نصائح دولية كبيرة، إضافةً إلى النصائح العربية، بأن تقدِّم منظمة التحرير هذه التنازلات لكي تقبل أميركا الاعتراف بمنظّمة التحرير لأنّها وضعت شرطاً أن تعترف منظمّة التحرير بــ "إسرائيل" أوّلاً، وعندما اعترفت بالقرارين 242 و338 فمعنى ذلك أنّه يعتبر اعترافاً ضمنياً بــ "إسرائيل"، ومع ذلك ما النتائج؟ علَّقت أميركا بأنّ في هذا القرار إيجابيات ولكن هذا ليس كافياً، حتّى تصرَّح منظّمة التحرير تصريحاً كاملاً بالاعتراف الكامل بــ "إسرائيل" وبعد ذلك تنظر أميركا إنْ كانت مستعدّة لأن تتحدّث مع منظمة التحرير. تصوَّروا أنّ رئيسة حكومة بريطانيا تناشد رئيس الولايات المتحدة الآن بصيغة جلب العطف، أن يتنازل ويعطف على هذا القرار ويشجِّع الفلسطينيّين ببعض اللّفتات حتّى يتنازلوا أكثر، يعني لا تكونوا جامدين؛ أعطوهم ضحكة، بسمة، أعطوهم تصريحاً، لأنَّ العرب يحبُّون التصاريح الفضفاضة، لأنّهم يعتبرونها نصراً، أصبحت انتصاراتنا الكبيرة السياسية في ما يقدّمه لنا الأميركيون والأوروبيون من مبادرات إعلانية لا مبادرات سياسية، ومع ذلك لا يزال ريغن الذي أصبح الشمس الغاربة، لا يزال غير مستعد لأنْ يعطي كلمة عطف لهذا القرار حتّى يقود التنازلات إلى هزيمة سياسية أكثر من هذه الهزيمة.
الانتفاضة تقدّم الشهداء
منظّمة التحرير التي تملك، لا نقول تملك، بل هي لا تملك الانتفاضة كلّها، قد تملك بعض مواقعها، هذه الانتفاضة التي بلغت عامها الأوّل، ودخلت في نهاية هذا العام ولا تزال تقدِّم الشهداء وتقدِّم المواقف الصلبة في كلّ موقع من مواقع فلسطين، ومع ذلك فإنَّهم يقدِّمون التنازلات لــ "إسرائيل" من دون أن تقدِّم هي أيّ تنازل، حتّى على مستوى تخفيف الضغط على الانتفاضة، ونحن نتصوَّر أنّ إعلان الدولة الفلسطينية في هذا الإطار السياسي سوف يكون تجربة ثانية بعد مبادرة وزير الخارجية الأميركي لتطويق الانتفاضة وتدجينها ومحاصرتها حتّى تتحوّل إلى حركة من أجل تسجيل النقاط في ساحة المفاوضات لا من أجل تحويل الواقع إلى ثورة حقيقيّة تعمل على تثوير العالم الإسلامي. لهذا نحن كإسلاميين نرفض هذه الدولة، نحن نريد أن تكون هناك دولة من موقع إرادة الحريّة للشعب الفلسطيني المسلم لا من موقع إرادة التنازلات للوسط السياسي الفلسطيني الذي يتحرّك في دائرة الهزيمة العربية بدلاً من أن يتحرّك في دائرة النصر العربي. ونقول لكلّ إخوتنا من المجاهدين الإسلاميين هناك أن لا يقعوا في هذا المطبّ، وأن يكونوا الواعين للدور الكبير الذي ينتظرهم، لأنّه ليس لدى الشعب الفلسطيني المجاهد ما يخسره إلاّ أغلاله، ليس له إلاّ هذه الأعمال وليس له ما يخسر، إنّه سيربح الحريّة من خلال ذلك.
اللبنانيون سلَّموا أمورهم للدول الكبرى
ثمّ لا بدّ من أن نواجه في المسألة اللبنانية الداخلية التي يُحكى عن وجود إيجابيات ووجود إمكانات للحلّ فيها، المسألة اللبنانية التي يُفترض أن يتحرّك اللبنانيون فيها من موقع الوعي والإرادة القويّة ليدبّروا أنفسهم بأنفسهم وليقلِّعوا شوكهم بأظافرهم، ولكنّهم سلَّموا هذه المهمّة للدول الكبرى، لدولة كبرى واحدة وهي أميركا، ولهذا فإنَّ المسألة هي ماذا تريد أميركا، الحديث عن موفد أميركي في الفاتيكان وموفد أميركي إلى لبنان، والحديث عمّا تخطّط له الإدارة الأميركية وهل تهتمّ بلبنان، وهم يستجدونها الاهتمام بلبنان، أو هل أميركا تهتمّ بلبنان أم لا تهتمّ، وإذا اهتمّت فليس لبنان في موقع الأولويّات.
من خلال الرصد الدقيق للمسألة اللبنانية في الواقع الذي نعيشه والذي برزت فيه كثير من التطوّرات في المنطقة، وفي طليعتها مسألة الدولة الفلسطينية، وبعض الأمور المتحرّكة في المنطقة، نرى أنّ لبنان هذا الذي أُريدَ له أن يكون ساحة لكلّ العواصف السياسية في المنطقة، ولكلّ المشاريع الغربية في المنطقة، ولكلّ النفوذ الأميركي في المنطقة، لبنان هذا يُدرّس الآن دوره لا من خلال المآسي التي يعيشها شعبه في ما يعاني من جوع وتشريد وحرمان وانهيار على جميع المستويات، المسألة ليست في ما يقاسي شعبه؟ ولكن يفكّرون كيف نستفيد من لبنان في هذه المرحلة، ما دور لبنان في ما يُقبلُ عليه الواقع السياسي في المستقبل القريب، في المسألة الفلسطينية؟ وما دور لبنان في الموقع الذي تفكِّر فيه أميركا لكي يكون مدخلاً لسيطرة نفوذها السياسي على المنطقة؟ وما موقع لبنان في ما يخطّط لكثير من الاهتزازات السياسية في المنطقة بعد انتهاء حرب الخليج، أو بعد أنْ شارفت على نهايتها؟ لأنّهم لن يتركوا المنطقة مستقرّة ما دام في المنطقة نفط وما دام في المنطقة الكثير من المواقع الاستراتيجية، وما دامت المنطقة تعمل على أساس أن تحقِّق الاكتفاء الذاتي، وهم يريدونها سوقاً استهلاكية.
دور الرئيس من دور لبنان
التفكير الآن ما هو دور لبنان في أزمة المنطقة، وما هو دور لبنان في طبيعة الأوضاع السياسية الأخرى في المنطقة؟ وذلك ما يحدّد مسار السياسة اللبنانية. ليست المسألة أن يتّفق اللبنانيون على رئيس أو لا يتّفقوا، ليست المسألة مَن هو شخص هذا الرئيس وما هي الأسماء المتداولة مارونياً، وما هي الأسماء التي يحملها هذا أو ذاك.. المسألة هي ما هو الدور اللبناني ومَن هو الرئيس الذي يُراد له أن يرتّب في دوره وفي دائرته الأوضاع السياسية الإقليمية والدولية في لبنان بحيث لا يسيء إلى أيٍّ منهم. ليس البحث عن الرئيس، ولكن البحث عن دور الرئيس وعن دور لبنان، ولهذا ليست المسألة المطروحة هي مسألة الإصلاح ولكنّها مسألة الشخص، لأنَّ مسألة الإصلاح تتعلّق بالداخل، والداخل ليس مهمّاً عند الدول الكبرى، أمّا مسألة الرئيس فهي تتعلَّق بالوضع الخارجي، في علاقة لبنان بالأوضاع السياسية في المنطقة وفي خارجها، ولهذا يقع موقع الاهتمام.
فليغلق ملفّ الحقد
ولذلك فإنَّنا نتصوَّر ـــ من دون أن ندخل في مسألة التفاؤل والتشاؤم ـــ أنّ المسألة ليست قصيرة وأنّ الجميع يأخذون وقتهم في ترتيب الأمور على قياساتهم حتّى يكون التفصيل تفصيلاً ملائماً للجسد الأميركي في المنطقة من دون أيّة زيادة أو نقصان، ولهذا فعلينا أن ننتظر وقتاً طويلاً حتّى تنجلي المشكلة، وعلينا أن نعمل على أن نقلّع كثيراً من أشواكنا بأظافرنا، وأن لا نضيف إلى أشواكنا أشواكاً جديدة، وعلينا أن ننطلق جميعاً في هذه المرحلة الصعبة التي سوف تأتي بعدها مراحل أصعب وأمرّ.. لا بدّ من أن نعمل جميعاً من أجل الوحدة ومن أجل إيجاد قاعدة للتوازن في داخل الصف الواحد ومن أجل أن نبتعد عن كلّ الكلمات التي تدخل في أساليب المهاترات، وأن نغلق كلّ ملفات الحروب الإعلامية، وأن نفتح قلوبنا لله، لأنَّ القلوب المفتوحة لله سوف تكون مفتوحة للجميع من خلال ذلك، ليرتفع الصوت أنْ يتوحَّد الناس وليرتفع الصوت أن يغلق كلّ ملف الحقد والبغضاء والعداوة والفتنة والقتل والقتال، وأن يجلس الجميع إلى شريعة الله لتقول الشريعة كلمتها في كلّ ما يختلف فيه الناس، وفي كلّ ما يتنازعون فيه {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا...} [آل عمران : 103] فلا تعودوا إلى النار من جديد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
الدفع بالأحسن في مواقع التحدي(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ*وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 ـــ 35]، وقال في آيةٍ أخرى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، يريد الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد أن يربّي الناس تربية أخلاقية اجتماعية سليمة، حتّى يواجهوا كلّ المشاكل الفردية والاجتماعية بحظٍّ كبير من الوعي ومن الانفتاح على دراسة كلّ الأوضاع والقضايا السلبية والإيجابية المحيطة بهم، وعلى أساس أن ينطلقوا في حياتهم من موقع الصبر على الانفعالات السريعة، وعلى التشنُّجات الطارئة في حياتهم، لأنَّ الله سبحانه وتعالى الذي خلقنا وخلق الحياة من حولنا، أراد أن يعرِّفنا أنّ كثيراً من الأمور لا يمكن أن تحلّها، إلاّ إذا صبرت طويلاً قبل أن تصل إلى نهايتها، وأنَّ كثيراً من القضايا التي تثيرك لا يمكن أن تفهمها إلاّ إذا عرفت خلفيّاتها، وعرفت عمقها.
كيف نحوِّل أعداءنا إلى أصدقاء
إنّ الله لا يريد للإنسان أن يبادر إلى أيّ ردّ فعل قبل أن يدرسه قبل أن يعرف طبيعته وخلفيّاته؛ فربّما يأتيك إنسان ليثيرك بأيّة وسيلة من وسائل الإثارة، يسبّك من دون مناسبة، أو يسبّ مقدّساتك من دون أيّ سبب، أو يُعرِّضك لموقف صعب، يطلق عليك رصاصة في الهواء أو يقوم بأيّ عمل من هذه الأعمال التي يتشنَّج الناس فيها، والتي يغضب الناس منها، والتي تحرّك كلّ الانفعالات في عملية ردّ الفعل عليها، فيندفع الناس ليواجهوا الشتيمة بالشتيمة، أو بأقسى منها، وليندفع الناس ليواجهوا كلمات سبّ المقدّسات بكلمات أخرى تسبّ مقدّسات الآخرين، أو يواجه رصاصة برصاصة، أو عصاً بعصا.
وفي الإطار العام، قد يكون هناك وضع ينطلق من خطّة مرسومة مدروسة، لإثارة فتنة أو لإثارة مشكلة أو لإسقاط موقف أو لإسقاط موقع أو لتحضير بعض الأوضاع السياسية التي تحتاج إلى فتنة هنا، وفتنة هناك. لهذا جعل الله مسألة الدفع بالتي هي أحسن في المشاكل التي تُثار، سواء على مستوى فردي في حياتك العائلية، أو على مستوى اجتماعي في حياتك وفي محلّتك، وفي بلدك، وفي وطنك، وفي أُمّتك، أن تدرس الأشياء بعقلية واسعة، وأن تكون روحيّتك روحية الإنسان الذي يبحث عن الصداقة كيف يعمّقها، لا عن العداوة كيف يثيرها، وكيف يؤكّدها، وكيف يعمّقها.
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} والمراد بالحسنة أسلوب الرّفق، والمراد بالسيّئة أسلوب العنف {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إذا استطعت أن تحلّ المشكلة بالتي هي أحسن، والتي هي أقوم والتي هي أقرب إلى أن تجلب إليك الأصدقاء وتقلّل الأعداء وتحوِّل أعداءك إلى أصدقاء، فإنَّ هذه من الأمور التي يحبّها الله ويرضاها {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34] وأنت تفكّر في الأسلوب وأنتَ تفكّر في الطريقة. ادرس لماذا صار هذا عدوّاً لي، ما الذي حدث بيني وبينه حتّى صار هذا عدوّاً، هل أخطأت معه؟ وادرس سلوكك في مواجهتك له، هل أخطأ معي؟ وادرس خطأه في مواجهته لك، هل كان خاضعاً لدعايات مضلّلة أو لتوجيه منحرف، كيف ذلك؟ ادرس كلّ هذا قبل أن تتصرّف وقبل أن تقرّر، وقبل أن تقوم بأيّ ردّ فعل في حياتك. ادرس هذا حتّى يكون أسلوبك في التعامل مع هذا الإنسان أو مع أولئك الناس، إنْ كانوا جماعة، بالأسلوب الذي يحوِّل عدوّك إلى وليّ حميم. والله يقول إنَّ المسألة تحتاج إلى صبر، لأنَّ من الصعب جداً أن يمسك الإنسان أعصابه أو يبرِّد مشاعره أو يخفّف انفعاله، لاسيّما إذا كان الإنسان يملك القوّة التي يستطيع أن يواجه من خلالها القوّة بقوّة أعلى. إنَّ الصبر عند ذلك يكلّف الإنسان جهداً كبيراً فوق العادة، لأنّك تشعر أنّك قادر على أن تفجِّر غيظك وقادر على أن تحلّ المشكلة بأقرب طريق، لكنّك تردع نفسك إنَّ هذا يحتاج إلى صبر كبير، وإلى حظٍّ عظيم {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت : 35] من الإيمان ومن الفهم ومن الوعي لكلّ الواقع الذي يعيش فيه الناس.
كيف نتعاطى مع الجاهلين
لاحظنا في آيةٍ أخرى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف : 199] إنّ هناك أُناساً يعيشون الجهل؛ جاهلون لأنّهم لم يأخذوا بأسباب العلم، سفهاء لأنّهم لم يأخذوا بأسباب الرشد. هناك أُناس في كلّ موقع من مواقع المجتمع، يستفيد منهم الكثيرون ممّن يبحثون عن أُناس ينفعلون ولا يفكِّرون، وعن أُناس يتعصَّبون ولا يعقلون، حتّى يسخّروهم لخدمة أطماعهم أو طموحاتهم أو أوضاعهم. ولهذا فهم يدفعون إنساناً ليتعرّض لك كشخص أو كمجموعة أو كمجتمع حتّى يثيرك، فإذا أثارك كانت الخطّة جاهزة، ليدخل هذا ويدخل ذاك، حتّى تتمّ المخطَّطات المزروعة. {خُذِ الْعَفْوَ} اجعله شعارك كيف يكون العفو مصلحة، لا تأخذه بسذاجة ولكن خذه بوعي {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} بالخطّ الذي يحبّه الله ويرضاه {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أعرض عنهم لأنّهم يريدون أن يقابلوك لتمارس جهلاً بجهل وانفعالاً بانفعال، وهكذا رأينا أنّ الله سبحانه وتعالى يقول في آيةٍ أخرى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان : 63]، لأنّهم يعرفون أنّ الجاهلين لا يخاطبونهم ليتحدّثوا معهم من موقع التفاهم ومن موقع الوصول بالحوار إلى نتيجة، ولكنّ الجاهلين يتحدّثون بلغة السباب والشتائم والإثارة والانفعال. والإنسان العاقل لا يعيش ردّ الفعل في ما يثيره الجاهلون بطريقة مماثلة. وفي التعبير الشعبي "لستُ مستعدّاً لأنْ أنزل إلى مستواك" أن يتبدَّل عقلي إلى حالة جهل، هذا المعنى نحتاجه في كلّ المجالات العامّة.
الرّفق أصل والعنف استثناء
لقد ورد عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في كثيرٍ من الكلمات التي صدرت عنه، ووردت عن طريق السُنّة والشيعة، أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان جالساً ذات يوم فجاءه يهودي وقال له السام عليك (السام يعني الموت) فهو يدعو على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ولكن بلغة قد يخيّل فيها، إذا لم يسمع الإنسان الكلمات بطريقة دقيقة، أنّه قال السلام عليك. ثمّ يذهب اليهودي ضاحكاً إلى جماعته ليقول لهم، لقد مررت على رسول الله وضحكت عليه، قلتُ له: السام عليك، قال لي: وعليك السلام، فكيف ترون هذا الرجل الساذج الذي تنطوي عليه الحيل؟
وحاولت عائشة أن تسبّه وتلعنه فقال لها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "يا عائشة إنَّ الفحش لو كان ممثّلاً لكان مثال السوء"(1) الرّفق يعني الردّ بأسلوب هادئ"، "إنَّ الرِّفقَ ما وُضِعَ على شيءٍ إلاَّ زانَه ولا رُفِعَ عنه قط إلاّ شانه"(2)، وإنّ الله رفيق يحسب الرفق وأنّه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.
إذاً الفكرة الإسلامية تريد من الإنسان المسلم أن يتربّى على أن يواجه الأمور بالرّفق، ولكن ليس بالمطلق، إذ في بعض المواقف والأوضاع التي لا يفهم الناس فيها معنى الرفق، وإنّما يريدون أن يفرضوا عليك العنف فلا يخاطبوك إلاّ بلغة العنف، جعل الله أسلوباً للمواجهة {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل : 126]، {... وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة : 237]. إذاً هناك مجال للعفو ومجال للصبر، ولكنّ الأصل في الخلق الإسلامي أنّ الإنسان يواجه المشاكل بعقلٍ بارد وبصدرٍ واسع وبروح تمتصّ السلبيات وتمتصّ المشاكل، لأنَّ الفرق بين الإنسان المؤمن والإنسان غير المؤمن، أنّ الإنسان المؤمن يعيش إيمانه في قلبه وفي روحه وفي حياته. هو الإنسان الذي لا يحمل مسؤوليّته عن نفسه فقط ولكن يحمل مسؤوليته عن الناس، ولهذا فهو يقدّر ردّ الفعل بمقدار انسجامه مع مصلحة الناس، أو عدم انسجامه معها، أمّا غير المؤمن فهو الذي يفكّر بنفسه وبنزواته وبأوضاعه، متناسياً هموم الناس وقضايا المجتمع الأساسية. المشكلة هي هذه، لهذا يريد الله للإنسان المؤمن أن يكون الداعي الواعي والمنفتح على كلّ الحياة.
حذار من العمل المخابراتي
المطلوب أن ندرس كلّ الأمور التي تواجهنا، دراسة عميقة واسعة، من خلال كلّ خلفيّاتها ومن خلال كلّ نتائجها ومن خلال كلّ الظروف المحيطة بها، لاسيّما أنّنا نعيش في المرحلة التي أخذت تمثّل فيها المخابرات أجهزة دولية على مستوى الدول الكبرى، أو على مستوى الدول الإقليمية، أو على مستوى الواقع المحلي، حيث لم يعد العمل المخابراتي بطريقة ساذجة يرصد ماذا قال هذا وماذا فعل ذاك. إنّ الطريقة المخابراتية التي تتحرّك فيها الأجهزة تزرع أشخاصاً سياسيّين تختفي وراءهم وتزرع أشخاصاً متديّنين تختفي وراءهم وتزرع أشخاصاً اجتماعيين تختفي وراءهم وتزرع أشخاصاً ليكونوا حكَّاماً على هذا البلد وذاك وتختفي وراءهم، فلا يكون دورها فقط هو دور أخذ المعلومات، بل صنع الواقع وصنع الأحداث والقضايا والفتن والحروب.
إنَّ الأجهزة المخابراتية أصبحت تدخل في الواقع الشعبي، وفي كلّ المواقع السياسية من أجل أن تدرس الحساسيّات العائلية، لأنَّ معرفتها تجعلها تصنع الفتن العائلية، وتدرس الحساسيّات المذهبية والطائفية والحزبية والقومية والذاتية وبذلك تعمل على أن تحرّك هذه الحساسيّات، حتّى يخيَّل للنّاس أنّها تحرَّكت بشكلٍ طبيعي. إنّها تولِّد الأفعال وتخلق الأجواء وتستنفر الصفوف؛ وما بين الفعل وردّ الفعل تطبخ المؤامرات والفتن.
إنَّ ما عشناه في كلّ الواقع الإسلامي، الذي لو درسنا خلفيّاته لرأينا أنَّ المخابرات الدولية تقف وراءه تخطيطاً وتوجيهاً، ولكن يخيّل للناس أنّها مسألة طبيعيّة.
في الواقع الذي نعيشه الآن في لبنان، الناس كلّهم يقولون إنَّ المشكلة هي مشكلة الخلاف الإسلامي ـــ المسيحي، ومن شأن طبيعة هذا الخلاف أن تؤدّي إلى حروب مستمرة. إنَّ هذا الرأي ليس صحيحاً؛ فهناك مشاكل موجودة منذ زمن طويل بين المسلمين والمسيحيين في لبنان، لكنَّ هذه المشاكل الواقعية الموجودة لم تؤدِّ إلى حروب من هذا النوع أبداً وإلى فتن بهذا الحجم.
إنَّ الأجهزة ـــ ولاسيّما أجهزة المخابرات الأميركية ـــ يتفرَّع عنها كثير من المخابرات الإقليمية من الواقع العربي وغير العربي، لأنَّ كثيراً من مخابرات بعض الدول السائرة في دول أميركا وغير أميركا هي فرع من المخابرات الأُمّ، وليست مخابرات محليّة مستقلّة. وهذا ما عرفناه بالنسبة إلى المخابرات اللبنانية وطريقة تعاملها مع المخابرات الأميركية، حيث يُجرى تبادل للمعلومات بشكلٍ دقيق جداً. وهذا ما عرفناه أيضاً من خلال المخابرات الأمنية الخليجية وغير الخليجية، التي تنطلق على أساس أن تكون فرعاً من المخابرات المركزية، إلى الدرجة التي باتت هذه المخابرات الأميركية توظّف مخابرات الدول.
إذا عدنا إلى الوضع اللبناني وما يسمّى بالحرب الأهلية، فنلاحظ أنّه في خلال حرب السنتين(1) وما بعدها كانت خطوط التماس تلتهب فجأة، ويتّهم الناس شخصاً أرسل قذيفة هنا وشخصاً ردّ عليه هنالك. لا، ليس الأمر كذلك، التفجير كان انطلاقاً من خطّة لتحريك وضع ما، وإلاّ لماذا تهدأ فجأة وبقدرة قادر؟
الصراع السياسي اليوم على أشدّه وقد أصبح لنا حكومتان وقائدان للجيش ورئيسان لمجلس النواب(2). وما شاء الله، تقسّم البلد ولكن لم تشتعل الحرب، لماذا لم تشتعل؟ لأنّه لا قرار بالحرب. ليس قرار اللبنانيين أنْ تتجمَّد الحرب بل قرار الأجهزة التي دفعت الفتنة الطائفية في لبنان لأنْ تأخذ دورها وقوّتها واندفاعها. لا قرار بالحرب لأنَّ الحرب لم تعد تفيد المحاور الدولية والمحاور الإقليمية أيّاً كانت. إنَّ هناك خطّاً أحمر يضبط الجميع في هذا الجانب وفي ذاك ضمن إطاره.
وهكذا نلاحظ أنّه عندما أخذت الحروب الداخلية صفة المذهبية بين المسلمين وأيضاً صفة الحزبية وبين المسيحيين في حرب الصفرا(1) وحرب القوّات في ما بينهم، حيث كان يهيّأ للنّاس أنّ هذه الحروب ستبدّل المعادلات. وراح هذا الفريق يحقّق أهدافاً كثيرة، وذاك الفريق يحقّق أهدافاً كبيرة، ولكن جاء الذين أشعلوا الحرب وأداروا اللّعبة جيّداً، جاؤوا للأطفال الصغار الذين يحسبون أنفسهم كباراً، قالوا لهم انتهت الحرب، لقد تعبتم كثيراً، لكن الآن توقّفوا لأنّ الملفّات التي فتحت للحروب التي حدثت في المنطقة الغربية بين الأفرقاء الموجودين فيها من لبنانيين ومن فلسطينيين، أو الحروب التي حصلت في المنطقة الشرقية بين الأحزاب هذه بعضها مع بعض، وبين القوّات بعضها مع بعض، كان يراد من خلالها إنتاج مشاريع سياسية معيّنة في لبنان وغيره، ثمَ وصلت إلى المجال الذي لم تعد معه تفيد أحداً. إنَّ الأجهزة هي التي كانت وراء الحروب المذهبية التي زرعت أُناساً عند السُنّة وعند الشيعة، وزرعت أُناساً عند اللبنانيين وعند الفلسطينيين، وزرعت أُناساً في هذه الجهة وتلك. نحن لا نريد أن نقول إنَّ مسألة المخابرات هي القضاء والقدر، يعني إذا أرادت المخابرات شيئاً يكون. نحن لا نتكلَّم بهذه الطريقة، لكن نريد أن نقول إنَّ الذين يريدون أن يحرِّكوا الواقع السياسي، والذين يريدون أن يحرِّكوا الواقع الأمني، ممّن يملكون المواقع الرسمية أو شبه الرسمية، خاضعون للعبّة المخابرات، ولذا فإنّهم يخضعون لنتائجها ولروابطها، لأنّهم جزء منها أو إنّهم فصيل يندفع في سبيل مخطّطاتها. وهذا المعنى كنّا دائماً نقوله لكلّ القيادات الإسلامية المخلصة، أو القيادات الوطنية المخلصة. كنّا نتحدّث عن ضرورة الانتباه للعبة المخابرات في إثارة العصبيّات، وفي إشعال الحساسيّات وفي تخطيط الفتن والحروب.
انظروا إلى البعيد ولا تنظروا إلى القريب. انظروا إلى العمق ولا تنظروا إلى السطح.
كلمة الحقّ وإرادة الباطل
إنَّ عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه)، عندما رفعت المصاحف، وعندما قبل بالتحكيم(1) وقال الخوارج لا حكم إلاّ لله قال: "كلمة حقّ" هذا صحيح "لا حكم إلاّ لله". البشر ليس لهم حكم، لكنَّ الله عندما يحكم لا يحكم بشكلٍ مباشر، إنّما يحكم من خلال أوليائه، من خلال الناس "كلمة حقّ يراد بها باطل". قد تنطلق المسألة كلمة صحيحة، كلمة حقّ، ولكنَّ الهدف أنْ تتحرّك في أجواء الباطل، وفي كلّ مجالاته، ولهذا فإنَّ المسألة التي نركِّز عليها في بنائنا الأخلاقي وفي بنائنا الروحي، تتحدّث عنها هذه الآية {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت : 35] يعني أنتَ تحتاج حتّى تتحرّك بوعي وبعقلٍ وبثبات في سبيل الوصول إلى النتائج الطيّبة للمجتمع، وبعيداً عمّا يحرّكه الناس من نتائج خبيثة. أنتَ تحتاج إلى صبر حتّى لا تدفعك انفعالات إلى موقف غير مدروس، وحتّى لا يثيرك الآخرون نحو تحرّك غير مدروس، فتقع في الهاوية التي حفروها لك، وأنتَ لا تعرف شيئاً.
يجب أن لا نكون ساذجين سياسياً في المسألة السياسية وحتّى عندما يشتغل الآخرون بطريقة أمنية أن لا نكون ساذجين أمنياً، بأن نفهم اللّعبة الأمنية من خلال اللّعبة السياسية، لأنّنا ندعو إلى أن تكون الأُمّة واعية سياسياً في خطّ الإسلام، وواعية أمنياً، أن نفهم لعبة المخابرات بطريقة علمية، نستطيع من خلالها أنْ نحمي أنفسنا منها. ففي اللّعبة العسكرية يمكن أن تحميَ نفسك بالسلاح وفي لعبة السياسة يمكن أن تحميَ نفسك بطريقة سياسية أيضاً، ولكن لعبة الأمن المخابراتي تحتاج إلى وعي مخابراتي حتّى تعرف عندما تجلس في مجلس وينطلق أحد من الناس بطريقة من الكلام، أو تعيش مهرجاناً وينطلق بعض الناس بطريقة مثيرة بالكلام، حتّى تعرف وتدرس كيف حرَّكت المخابرات هذا الشخص في هذه الجلسة، أو ذاك الشخص في هذا المهرجان أو الاحتفال من أجل أن يثير وضعاً، لتقابله بتخطيطك بوضعٍ آخر يبطل مخطّطاته ويجهض كلاماً يريد أن يتحرّك به. لهذا أرادنا الله سبحانه وتعالى أن لا نغضب، ليس أن لا نغضب فقط لنضعف. لا، أن لا تغضب لتملك عقلك حتّى تفكّر، لأنَّ الغضب يمثّل حالةً تحجب عن عقلك الرؤية. عندما يثور دخان مشاعرك ليجعلك لا تفكّر، عندما تتورّط في مشكلةٍ ما، وبعد أن ينتقدك الناس ألاَ تجيب "لا تلوموني، عقلي ما كان معي"؟ لماذا لم يكن عقلك معك؟ لأنّك اندفعت في غضبك ففقدت عقلك وفقدت رشدك وأصبحت تتحرّك بطريقة غير صحيحة.
إنّنا نحتاج في كثير من الحالات أن نكظم غيظنا، وقد جعل الله سبحانه وتعالى المرتبة العالية في الجنّة للكاظمين الغيظ {... وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى : 36] ثمّ {... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران : 134] هذا خُلُق إسلامي لا بدّ من أن نبنيَ شخصيّتنا على أساسه، حتّى نستطيع أن نواجه كلّ التحدّيات من موقع الصبر ومن موقع الوعي، الذي يمكننا من خلاله أن نعرف كيف نتصرّف بطريقة ردّ الفعل العنيفة، أو نتصرّف بطريقة الرّفق. هذا يحدّده صبرك ويحدّده وعيك في كلّ مجالات العمل الإسلامي على مستوى كلّ القضايا العميقة.
بين الذهنية الرساليّة والذهنية الفئوية
ولهذا فإنّنا لا بدّ في بعض الحالات من أن نصبر على كثير من الأذى هذا ما نلاحظه في سيرة الإمام الحسن (سلام الله عليه) والإمام عليّ قبل الإمام الحسن (عليهما السلام) عندما أُبعد عن الخلافة، وهو يعتقد كما نعتقد أنّها حقّه؛ فقد جاءه أبو سفيان ومعه العباس بن عبد المطّلب، وقال له: "مُدَّ يدَك لِأُبايِعَك" أنا ما زلت أبا سفيان أملك قاعدة كبيرة، أستطيع أن أُحارِب وأستطيع أن أُواجه "والله لئن شئت لأملأنَّها على أبي فصيل خيلاً ورجلاً"(1) أنا مستعد لأن أملأ الخيل والرجال لمواجهة الذين أبعدوك عن الخلافة. لو عاش أحدنا هذا الظرف، في هذا الوضع الاجتماعي أو الوضع السياسي، وقال له: أحدهم أنا مستعدّ لأنْ أُخرِّب الدنيا على حسابك، ألاَ نقبله، نعم نقبله؟ باعتبار أنّ الإنسان الذي يعيش في أُفق ذاته، الإنسان الذي يفكِّر أنّه هو كلّ الدنيا، الإنسان الذي يفكّر أنّه هو الإسلام، هو الإيمان، هو كلّ شيء، يعتبر أنّ كلّ مَن يقصده هو مخلص له، والذي ينتقده هذا عدوّه، والذي يدلّه على الخير هذا عدوّه، ولكن الذي يصفّق له والذي يحاول أن يثير مشاعره ويثير زهوه يعتبره المخلص. قال له عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ما مضمونه أنتَ أبو سفيان متّى أخذتك الغيرة على الإسلام؟ متى كنتَ مخلصاً للإسلام يا أبا سفيان؟ لكن كأنّك قلت عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ورقة رابحة أستطيع أن أدخل المجتمع الإسلامي باللّعب فيها، فأقسِّم الصفّ وأشعل الحرب فيضيع الإسلام. لا، أنا أعْرَفَ بهذه المسألة منك. ولم يقبل منه ذلك، لماذا؟ لأنَّ عليّاً كان لا يفكِّر بشخصه، ولكنّه كان يفكّر برسالته "فخشيتُ إنْ لم أنصُرِ الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً وهدْماً تكون المصيبة عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّامٍ قلائل يزول منها ما كان كما يزول السّراب، وكما يتقشَّع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق واطْمَأنَّ الدين وتَنَهْنَه"(1).
أين نحن من حركة أمير المؤمنين ومواقفه؛ لو أنّ الكفّار جاؤوا إلينا أو جاءت جماعات من القوى المستكبرة، وقالوا للشيعة: نحن مستعدون لأن نجعل مواقعكم هي الأقوى، ننصركم على السُنّة، ألاَ يمشي بعضنا في هذا الطريق؟ أو لو جاء هؤلاء إلى السُنّة وقالوا لهم: هؤلاء الشيعة سلبوا حقوقكم تحالفوا معنا ضدّ الشيعة حتّى نضربهم، ألاَ يسير بعضهم في هذا الطريق، لماذا؟ لأنَّ عقليتنا عقلية فئوية وليست عقلية رسالية. كانت قيمة التشيّع كونه رسالة في خطّ الإسلام، وليس حالة تعصُّبيّة فارغة من المضمون، كما يفعل بعض الناس الذي ربّما لا يؤمن بالله ولا برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لكنّه شيعي متعصّب، لا يصلّي ولا يصوم وهو سنّي متعصّب. هذا هو التشيُّع العشائري والتسنُّن العشائري والإسلام العشائري. لكنَّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لم تكن عقليّته ذاتية، الإمام الحسن (سلام الله عليه) عندما رأى مصلحة المسلمين تصبّ في إغلاق ملفّ الحرب بينه وبين معاوية، بعد أنْ رأى أنّ الحرب لا تنتج إلاّ دماراً ولا تحقّق النتائج التي يستهدفها المخلصون، فمن الطبيعي أن يغلق ملفّ الحرب، حتّى لا تأتي نتائج سلبية قد تسقط القضايا الكبيرة.
في هذا المجال، جاء شيعة الإمام الحسن (عليه السلام) إليه، وهو في منصب قائد وهو إمام مفترض الطاعة، لكن بعد الصلح(1)، ولأنَّ الناس يغلب عليهم الانفعال والحماسة وعدم الوعي وافتقاد الرؤية الشاملة، وبدل أن يقولوا له كلاماً يليق بإمامته قالوا: "السلام عليك يا مذلَّ المؤمنين"، وكان يقول لهم: إنّني أردت صلاحكم، إنّني أردتُ الإبقاء عليكم، لأنّي وازنت المسألة فرأيت أنّ المرحلة ليست هي مرحلة الحسم، ولكنّها مرحلة تجميد الصراع من جهة، وتهيئة القوى وتهيئة الظروف من جديد بعد أن أصبحت الظروف في غير مصلحة الخطّ الإسلامي. والإمام الحسين (سلام الله عليه) عندما اندفع، فلأنَّ طبيعة الظروف كانت تفرض هذه التضحية، وكانت تفرض تضحيته لأنّها هي التي تحقّق النتائج السياسية الكبيرة التي ستوقظ العالَم الإسلامي آنذاك من رقدته وغفلته، ليتحرّك بطريقة معيّنة. فالإمام الحسن (عليه السلام) مع ذلك صَبَرَ على كلّ هذه الكلمات وواجهها بقلبٍ مفتوح وبلطف.
الصبر مفتاح النجاح
إنَّ الصبر هو الذي يجعلنا نفهم الأشياء ونفهم الخلفيات ونفهم ما هي المصلحة في أنْ نتحرّك في هذا الاتّجاه بطريقة عنف أو نتحرّك بطريقة رفق. قد تفرض عليك المصالح المستقبلية الكبيرة أن تقدّم بعض التنازلات، وأنتَ لا تطيق هذه التنازلات من جهة انفعالاتك، لا تطيق أن تتكلَّم مع شخص يعاديك، لا تطيق أن تُسالِم شخصاً حاربك، لا تطيق أن تحسن لمن أساءَ إليك، لا تطيق أن تجمِّد بعض نشاطك وأنتَ قادر. في هذه الحالة أنتَ تحتاج إلى صبر وإلى وعي، حتّى تعرف أنَّ مَن يضحك ليس هو الذي يضحك أوّلاً ويبكي أخيراً. الله سبحانه وتعالى يقول عن بعض الناس {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} [التوبة: 82]، باعتبار أنّ المهمّ هو النتائج، وقد حدَّثنا الله عن الذين كانوا يضحكون على المؤمنين {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ*وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ} [المطففين: 30 ـــ 31]، المهمّ أنْ لا تفكّر أن تضحك أوّلاً. أنّك حقَّقت تقدُّماً أو حقَّقت نصراً في أيّ موقع سياسي أو اجتماعي أو عسكري أو أمني، ولكن عليك أن تعرف النتائج، هل أنّ انتصارك في البداية يعني انتصارك في النهاية؟ وهل أنَّ وصولك إلى نتائج كبيرة وإيجابية في بداية الموقف يوصلك إلى نتائج في نهاية الموقف، أم ماذا؟
لنتأمَّل في وصيّة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما جاءه أحد أصحابه وقال له: أوصني يا رسول الله، وأراد أن يؤكّد المسألة، هل أنتَ مستوص إذا أنا أوصيتك، قال: بلى. وكرَّر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) القول ثانياً، لأنَّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يعرف أنّ بعض الناس يسمع الموعظة ولا يلتزم بها، قال له هل أنتَ مستوصٍ، يعني هل ستعمل بالوصية إذا أنا أوصيتك، قال: بلى وكرَّر القول عليه ثالثاً، وكرَّر الجواب أيضاً، قال: إذاً خذ هذه الوصية الصغيرة بكلماتها الكبيرة بنتائجها "إذا أنتَ هممت بأمر فتدبَّر عاقبته" لا تنظر إلى بدايته، ولكن انظر لنهايته، "فإنْ يكن رشداً" فيه رشد ومصلحة وخير "فأمضه" يعني إمشِ فيه "وإنْ يكن غيّاً" شرّيراً نتائجه سيّئة "فانتهِ عنه"(1)، المهمّ أن ترصد دائماً العواقب على كلّ المستويات.
الله سبحانه وتعالى دائماً يقول لنا: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف : 46]، لديك الأولاد وتملك المال، وضعك مريح ومؤنس، تستمتع بأوقاتك، لكن ماذا بعد ذلك، هناك الموت ومشاكل ما بعد الموت، المهمّ هو أن تفكِّر بالباقيات الصالحات {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} [النحل : 96]، فكِّر بالباقيات أي فكِّر بالنتائج، النتائج تارّة تكون على مستوى الآخرة فقط، وتارة تكون على مستوى الآخرة ومستوى الحياة الدنيا معاً.
معالجة الاختلاف بالتكامل وليس بالقتال
إنَّ كثيراً من القضايا الإسلامية تعيش حالة جنينيّة في الوضع السياسي وتعيش حالة جنينيّة في الوضع الأمني، لهذا لا بدّ لنا من أن نتحمّل كثيراً ممّا تتحمّله الأم في الإبقاء على جنينها حتى يولَد ولادة طبيعية. بعض الأشياء لها مراحل، وبعض الأشياء لها عمر معيّن، فعلينا أن لا نستعجل المسألة، وعلينا أن لا نستعجل العمر. ربّما تفرض عليك الأوضاع الإسلامية أن لا تكون في الموضع الذي تتسلَّط فيه الأضواء، لأنَّ الأضواء تتسلَّط على كثير من الأوضاع التي يُراد إحراقها في نهاية المطاف. هذا ما أحبّ أن أُثيره ونحن نعيش الظروف الصعبة التي لا نزال نواجهها بكلّ حزن وبكلّ ألم وبكلّ أسف لكلّ هذه الضحايا التي تسقط من هذا الجانب ومن ذاك الجانب، ولكلّ المواقع التي تدمّر في هذا الجانب، أو ذاك، ولكلّ الأسلحة التي تُهْدَر في هذا الجانب أو ذاك. نحن نعاني هذا الوضع، وهناك أُناس يعملون على تربية الحقد وتربية الوضع السياسي بطريقة غرائزيّة، بدلاً من أن يعملوا على تنمية المحبّة وعلى تنمية الوضع السياسي وتحريكه بطريقة عقلانية وبطريقة إيمانية. نحن نعرف أنّ ما يحدث الآن في الضاحية والذي امتدَّ في الجنوب، هو وليد وضعٍ معيّن في اختلال الوضع السياسي بين أفراد الصفّ الواحد، كما يقال في اللّغة السياسية في لبنان، وأفراد الطائفة الواحدة.
هناك مشكلة حدثت منذ أن تحرَّك الوضع، لينطلق في خطّين وتجمّعين وتنظيمين؛ وبذلك بدأت الحساسيات تنشأ وبدأت المسألة تتّخذ طابع العصبية، وبدأ كثيرون من الذين يعيشون البهلوانية في حياتهم، بدؤوا يركبون موجة التعصّب. كنّا نقول قبل أن يتحرّك الوضع السياسي في دائرتنا الخاصّة في هذا التعدّد، وكان يومها تعدُّداً من نوعٍ آخر، كنّا نقول لهم: ليكن بينكم تكامل، ليكن هناك توزيع للأدوار. إذا كنتم تؤمنون جميعاً بالإسلام، وأنتم تؤمنون بالإسلام وبالخطّ السليم في الإسلام في ما يمثّله أهل البيت (عليهم السلام) من خطٍّ سليم، إذا كانت المسألة كذلك فقد نحتاج إلى أن يطرح بعضنا شعاراً لا يستطيع الآخر أن يطرحه. تكاملوا في العمق، كونوا المسلمين المؤمنين، وتوزَّعوا الأدوار في الشكل وفي السطح، ليطرح كلّ منكم ما لا يستطيع الآخر بحسب وضعه أن يطرحه. ولم يوافق أحد على ذلك. قلناها قبل عشر سنوات، قبل أن يعطى لهذا الخطّ اسم، أو لذاك الخطّ اسم. وانطلقت الأوضاع السياسية القلقة بعد ذلك، لتدفع بالمسألة ـــ وقد أخذت هذه الدائرة اسماً ووضعاً وخطّاً ـــ بدأت اللّعبة تتحدّث في ربط كلّ جهة بخلفية سياسية. وأنتم تسمعون الأخبار: هذه الجهة موالية لإيران، وهذه موالية لسوريا. المخابرات تثير هذا لتعتبر أنّ الصراع ليس صراعاً في الدائرة الخاصّة، وإنّما هو الصراع في الدائرة الإقليمية، لتلعب لعبة إثارة الخلافات بين سوريا وبين إيران. وتطوّرت الأوضاع بطريقٍ غير مدروس وغير واعٍ للمستقبل، وهكذا امتدّت الأوضاع في الجنوب لتخلق ثغرة كبيرة، تحوَّلت إلى ما يشبه الهوة، ثمّ جاءت المأساة الفظيعة وجاءت حرب الضاحية التي جرت في شهر رمضان. ثمّ تفاعلت الأمور ودخلت المخابرات بكلّ ما عندها من جهد، لأنَّ النار جاهزة ولأنَّ البيدر لا يزال مملوءاً بالقشّ، وبدأت الحرائق الصغيرة هنا وهناك. وكنّا نقول للجميع إنَّ المسألة هي أنَّ هناك أكثر من موقع للصلح وأكثر من موقع للوحدة، وأنّ الذين ينشدون الصلح وحده في القضايا الكبيرة، يمكن أن يقدِّموا تنازلات في القضايا الصغيرة أو في المشاكل التي تحدث هنا وهناك. وتعاظمت الأمور وحدث ما حدث في اغتيال القادة الثلاثة(1). كان يقال في البداية ـــ عندما يُدعى إلى الصلح ـــ كيف يكون الصلح والدّماء في الضاحية لم تجفّ؟ وأصبحت هناك قضية أخرى، وجاءت أخيراً قضية محاولة الاغتيال التي حدثت من خلال السيارة المفخَّخة في بعلبك(2)، والجميع يتحرّكون في القضايا باللّغة الهادفة التي يتحدّث فيها الناس في الدوائر البعيدة عن الأضواء، بل إنَّ المنابر جاهزة لطرح اتّهاماتنا بعضنا لبعض؛ وباتت الصحف هي المجالات التي يشتم فيها البعضُ البعضَ الآخر؟ وكيف يمكن أن تتمّ وحدة أو يتمّ صلح مع كلّ عناصر الإثارة التي كانت تثار من مختلف الجهات، ومن مختلف المواقع؟ فأنتَ تخاف في كلّ يوم أن تقرأ الصحف.
فالمسؤول، إن كان بصفة دينية أو سياسية، يثير العواطف والأحاسيس ويشعل النار في المشاعر. وأصبحنا نخاف من "الأسابيع" التي تقام، حتّى لا ينطلق خطيب هنا وخطيب هناك ليثير المشاعر بعد أن تكون الحالة قد هدأت. ولعلَّ ما حدث في هذا الأسبوع من المأساة هو جزء من عملية الإثارة، وجزء من عملية شحن الغرائز.
الاحتكام إلى الشرع في حلّ المشاكل
نحن نؤمن بأنَّ أيّ فريق له الحقّ في كشف الأمور الغامضة، ليصل إلى حقوقه؛ لكن متى تكشف الغوامض؟ إنَّ الغوامض تكشف عندما يجتمع الجميع لبحث الأمور بعقلٍ هادئ وبحسابات موضوعية دقيقة، ليبحثوا لمن الحقّ وعلى مَن الحقّ، وكيف يمكن حلّ هذه المشكلة، وكيف يمكن حلّ تلك المشكلة حتى نصل إلى نتيجة؟.
كيف يمكن أن تحلّ القضايا بدون أن يجتمع الأشخاص المعنيون ولو اجتماعاً تحضيرياً تمهيدياً تحت رعاية أشخاص مؤتمنين على الوضع كلّه؟ إنَّ الله يقول: {... فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء : 59]. فإذا كنّا نؤمن بالشرع فلنرجع كلّ الوضع للشرع الإسلامي، لأنّ الشرع الإسلامي لا يظلم أحداً، الله سبحانه وتعالى يقول عن بعض الناس، نرجو أن لا يكون عندنا مثل هؤلاء الناس {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ*وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ*أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ...} [النور: 48 ـــ 50]، فلنحتكم في كلّ القضايا التي نختلف فيها إلى الشرع؛ وإذا لم يكن في هذا البلد مَن يشرّع ومَن يثق فيه الناس فهناك بلدان أخرى يملك فيها الناس حكَّام شرع.
لنحجب الدم بين أمل وحزب الله
إنَّ هذا الاستنزاف لا يمسّ الفريقين المتقاتلين فحسب، بقطع النظر عن المعتدي والمُعتَدى عليه، لأنَّ الناس أصبحوا لا يفكِّرون بهذه الطريقة، وليسوا مستعدّين لأنْ يفهموا مَن المعتدي ومَن المُعتَدى عليه، بل يحاولون أن يعيشوا أمنهم وسلامهم وأوضاعهم.
إنَّنا نقول إنَّ المسألة تحتاج إلى صلح "تبويس اللّحى" وأقول صلح "تبويس اللّحى"، حتّى يتخدَّر الوضع، ريثما تُدرَس القضايا بشكلٍ عميق. نحن لا نريد لدمٍ، أيّ دم، سواء كان الدم دم ابن أمل أو دم حز//ب الله أو دم أيّ إنسان، أن يذهب هدراً، ولكن ليست هذه هي الطريقة التي نستطيع فيها أن نحجب الدم، وليست هذه هي الطريقة التي نستطيع فيها أن نوصل صاحب الحقّ إلى حقّه.
إنَّنا نقول للجميع إنَّ هناك حروباً كانت أقسى ممّا حدث في الضاحية وفي الجنوب، وقد تعاون الموقف السياسي كلّه محلياً وإقليمياً على إغلاق ملفات تلك الحروب كلّها، وأصبح الذين تقاتلوا وقتل الكثير من كوادرهم هنا وهناك، أصبحوا حلفاء. لماذا عندما تكون المسألة في داخل الطائفة الواحدة يكون بأسنا بيننا شديداً؟ إنَّ العرب قالوا لا صلح ولا اعتراف بـــ "إسرائيل"، ثمّ وقفوا وسيقف أغلب الكادر السياسي في لبنان وفي البلاد العربية، ليقول إنّه مع الصلح ومع الاعتراف.
لماذا نقول في دائرتنا الخاصّة لا صلح ولا اعتراف؟ لماذا نحاول أن نثير الأمور بطريقة لا يجتمع فيها الناس في ما بينهم؟ الاتحاد السوفياتي وأميركا خصمان سياسيان ويجتمعان سويّة. حتّى الأطراف المتصارعة في الشرقية والغربية تلتقي من خلال الاتصالات الهاتفية والرسائل المتبادلة.
لم أُفْتِ إلاّ بقتال "إسرائيل"
لماذا نؤكّد العقدة؟ لماذا ينفضُّ حتى الاجتماع الشكلي؟ لقد دعونا بكلّ ما عندنا من طاقة، ولقد قلت لكلّ الناس، الذين جاؤوا إليَّ من علماء عراقيين وإيرانيين ولبنانيين وفاعليات، قلت لهم لا شرط لي باللّقاء مع أحد. إنّني أعطي ورقة بيضاء من أجل المصلحة الإسلامية العليا. قد يقول بعض الناس كما قالوا: إنّني أصدرت فتوى بذبح الشيعة في الضاحية، ولقد قلت إنْ كلّ مَن يقول ذلك مهما كان حجمه فهو كاذب مفتر، سأُحاسبه غداً أمام الله لا أمام الناس، لأنّي لم أصدر فتوى في أيّ قتالٍ إلاّ في قتال "إسرائيل"، وكلّ إنسان يقاتل له أسسه الشرعية التي ينطلق فيها. كنت في كلّ حرب الضاحية أسعى من أجل إغلاق الحرب واتّصلت بكلّ الناس. لستُ أيّها الإخوة في موقف الدفاع عن نفسي، لأنّي لست في هذا المجال، ولست من الناس الذين يريدون أن يخاطبوا غرائز الناس ليرضوا عنهم. قلت لكم مراراً مشكلتي هي أن أُسدِّد حسابي مع الله لا مع الناس، ليست هذه مشكلتي وإنْ كنتُ أعتزّ بثقة الناس، لكن ما أُريد أن أقوله لكم إنّه لو كان الأمر كما يذكرون، فليحاكم الإنسان في لقاء يحضره الجميع، وفي هذا الاجتماع يحاسب بعضهم بعضاً وتوضع النقاط على الحروف. السباب والشتائم والكلام لا يؤدّي إلى شيء ولا يسقط أحداً، هذا هو الشعار الذي أحمله في حياتي "إلهي إنْ وضعتني فمن ذا الذي يرفعني، وإن رفعتني فمن ذا الذي يضعني" شعار زين العابدين (عليه السلام). أقول للناس دائماً إذا كنت مخلصاً لله فلن يخذلني، لقد أعذرت إلى الله. كنتُ أقول وسأبقى أقول إنّني في سبيل أن يغلق هذا الملف، وفي سبيل أن يغلق هذا الجرح، ليست عندي عقدة من اللّقاء بأيّ كان دون أيّ شرط. إنّ كلّ جهدي سواء على المستوى الدولي أو على المستوى الشعبي في سبيل أن يغلق هذا الملفّ. وقد قلت سابقاً قبل حرب الضاحية وفي أثناء حرب الضاحية وقلتها بالأمس، لن يغلق هذا الملفّ ولو تدخّلت قوّة فاصلة وأقامت الحواجز، فهي لا تستطيع أن تجعل حاجزاً أمنياً في كلّ بيت، ففي كلّ بيت فرد من حز//ب الله وآخر من حركة أمل. الأب من حز//ب الله والابن من حركة أمل أو بالعكس. هل يمكن لأيّ قوّة أن تجعل مخفراً في كلّ بيت، وخطوط تماس بين غرف البيت؟ المسألة تتطلَّب إقامة علاقات متوازنة واعترافاً متبادلاً واحتراماً متبادلاً وأُسُساً متينة.
أنا أشعر أيُّها الإخوة بالآلام التي تفتك بجراحي. أنا أتصوّر حتى المقاتلين من هذا الفريق أو ذاك يقاتلون وهم في حالة الحزن. إنَّ هذه الدماء يجب أن تكون كلّها في مواجهة "إسرائيل"، وليس في مواجهة بعضنا بعضاً. هذا السلاح يجب أن لا يهدر في القتال الداخلي. الناس الآخرون يتفرَّجون ويقولون هذا الشعب متخلّف ولا يستطيع أن يحلّ مشاكله بالحوار. علينا أن نتعاون بكلّ ما عندنا من طاقة ومن قوّة على إغلاق هذا الملفّ.
إنّني أُنادي كلّ الفاعليات سواء كانت إسلامية أو شيعية أو وطنية، وأُنادي كلّ الأُمّة وكلّ الأكثرية الصامتة، أن تضغط بكلّ قواها لوقف القتال، وأُنادي كلّ الفاعليات التي تريد أن تعقِّد الأمور، وتريد أن تمنع الصلح باسم الصلح أو غيره، أدعوها لتتّقي الله. إنَّ كلّ مشكلة يمكن أن تُحَلّ بالحوار ويمكن أن تُحَلّ أمام الشرع. نحن لا نريد أن يفقد كلّ إنسان حقّه، ولكن كيف نصل إلى معرفة الحقّ. لا يكفي أن تكون مقتنعاً بأنَّ فلاناً قام بهذه الجريمة أو تلك، بل لا بدّ من أن يثبت ذلك على أُسس شرعية.
كيف نصل إلى معرفة الحقّ
ارفعوا أصواتكم عالياً حتّى تطفئ الفتنة وحتّى يقف إطلاق النار، وإنّني أقول لكلّ المسؤولين الذين يتحرّكون في هذه الساحة وفي هذه الدائرة الخاصّة، أقول لهم لا تعقِّدوا الأمور؛ إنَّ المسؤول هو الذي يبسِّط الأمور ولا يعقِّدها. هناك قضايا أساسية في داخل البلد وخارجه تمثّل القضايا المصيرية بالنسبة إلينا، ولذلك فلا بدّ من أن نعمل على أساس أنْ نتحمّل مسؤوليّتنا كاملة. قد يستطيع بعضنا أن يستعرض عضلاته الكلامية، أو يستعرض أوضاعه السياسية أو الاجتماعية أمام الناس، ليبرّر نفسه أو ليبرّر موقعه، لكن هل نستطيع أن نبرِّر ما لا يبرَّر أمام الله {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار : 19]، "اتّقوا الله عباد الله في عباده وبلاده إنّكم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم"(1) إنّنا ندعو القاعدة كلّها إلى الوحدة، وإلى التكامل وإلى تضميد الجراح وإلى أن لا نفتح جراحاً جديدة.
والحمد لله ربّ العالمين
موقف الإسلام من الشتم
السياسي والاجتماعي(*)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: بسم الله الرحمن الرحيم {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ...} [الأنعام : 108] وجاء في الحديث عن أمير المؤمنين (سلام الله عليه) وقد سمع قوماً من أهل العراق يسبُّون أهل الشام في أجواء القتال مع معاوية في صفّين، قال: "إنّي أكرهُ لكم أن تكونوا سبَّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر فقلتم مكان سبّكم إيَّاهم اللّهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحقّ مَن جَهِلَه ويرعوي عن الغيّ والعدوان مَن لَهِجَ به"(1). وفي الحديث "سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معصية الله"(2).
الكلام بين اللّهو والمسؤولية
إنَّ هناك أحاديث كثيرة في هذا الجوّ توجِّه المؤمنين لئلاّ يكون لسانهم شتاماً وسباباً ولعاناً، لأنَّ الله يريد للإنسان المؤمن أن يتكلَّم بمسؤولية، فالكلام هو الرسول بينك وبين الآخرين، فهو الذي يعرِّف الآخرين ما عندك، ويعرّفك ما عند الآخرين، وهو الذي يعطي الصورة عن عقلك، ويعطي الصورة عن استقامتك وإيمانك، وهو الذي يعطي الصورة عن أعصابك: هل هي أعصاب متوتّرة، أم هي أعصاب عاقلة هادئة؟ وهو الذي يعرف الناس ما هي نواياك، وما هي أهدافك. لهذا فالله يريد من المؤمن أن يكون كلامه كلاماً مسؤولاً، ومعنى أن يكون الكلام مسؤولاً أنّك إذا أردت أن تتكلَّم، فعليك أن تعتبر كلامك جزءاً من عملك، وجزءاً من خطّتك، فالكلام لا بدّ من أن تكون له غاية، لماذا تتكلَّم بهذه الكلمة، ولا تتكلَّم بالكلمة الأخرى، لماذا تتكلَّم في هذا الوقت، ولا تتكلَّم في وقتٍ آخر، لماذا تتكلَّم بهذه الطريقة، ولا تتكلَّم بطريقةٍ أخرى، لماذا تكون كلمتك عنيفة، ولماذا تكون هادئة؟ لا بدّ من أن تدرس كلمتك من أين تنطلق، هل تنطلق من عقلك، أم تنطلق من انفعالاتك؟ لا بدّ من أن تدرسها جيّداً لأنَّ كلامك جزء من حركتك في الحياة وجزء من عملك، فقد ورد في حديث أمير المؤمنين (سلام الله عليه): "مَن لم يحسب كلامه من عمله كثرت خطاياه وحضر عذابه"(1).
لا تعتبر الكلام مجرّد شيء تلهو به، بل اعتبر الكلام شيئاً تتحرّك به، لا بدّ أن تدرس ذلك، وعلى هذا الأساس ففي الكلام عدّة ألوان: هناك الكلام الذي يتحرّك من أجل أن يحلّ مشكلة، وهناك الكلام الذي يتحرّك من أجل أن يعقّد المشكلة؛ أنت كمؤمن، ماذا تختار؟ هل تختار الكلام الذي يحلّ المشاكل للنّاس، ويؤدّي بهم إلى مواقف تدعم قضاياهم، وتدعم سلامهم، وتدعم غاياتهم الكبيرة في الحياة، أم أنّك تنطلق من انفعالاتك، الناس لا يعنون لكَ شيئاً، القضايا الكبيرة في الحياة لا تمثّل لكَ شيئاً، الإسلام لا يمثّل لكَ شيئاً. إذا كنتَ مسلماً فلا يجوز أن يكون كلّ همّك أن تشفيَ غيظك. تحدَّثَ عنك شخص بكلمة، وتريد أن تردَّ الكلمة بأقسى منها، سبَّك شخص وتريد أن تسبّه بأكثر ممّا سبَّك، إذ ليست المشكلة عندك أن تكون كلمتك من قبيل عود الثقاب الذي يشعل الحطب أو أنّ كلمتك تتحرّك من أجل أن تدفع الناس إلى أن يدخلوا في لعبة الدم. تشتهي أنْ تتكلَّم، ولذلك تطلق كلامك على أساس أن يعقِّد الواقع، أو تطلق كلامك على أساس أن تشفيَ غيظك، ولا تفكّر هل سيعقّد كلامك الواقع، ولاسيّما إذا كنت إنساناً مسؤولاً، ينتظر الناس كلمته من أجل أن يتحرَّكوا معها، وأن تثور أعصابهم إذا كانت الكلمة تثير الأعصاب، أو يحرِّكوا سيوفهم في اتجاه الفتنة إذا كانت الكلمة تثير الفتنة، أو ما إلى ذلك، فإنَّ المسؤولية تكون أكبر، وإنَّ النتائج السلبية تكون أخطر، فهناك فرق بين أن يتكلّم الإنسان العادي بانفعال، وبين أنْ يتكلَّم المسؤول بانفعال، فرق بين أن يكون الفرد العادي يريد أن يشفي غيظه فقد يشفي غيظه بمشكلة بينه وبين فرد آخر، يستطيع الناس حلّها كأيّة مشكلة صغيرة في المجتمع، ولكنَّ المسؤول عندما يشفي غيظه فإنَّ المشكلة تتوسَّع ويعجز الناس عن حلّها، وقد تؤدّي نتائجها السلبية إلى شيءٍ كبير يقف الناس كلّهم ليواجهوه.
موقف الإسلام من الكلام
لقد كان الإسلام واضحاً في هذه المسألة، الإسلام يمنعك من أن تشفيَ غيظك بالكلام، إلاّ إذا عرفت أنّ ذلك لا يؤدّي إلى أيّة مشكلة، ولو صغيرة، وقولا للنّاس حسناً، قولوا للنّاس الكلمة الطيّبة، كما تريدون أن يقولوا لكم حسناً {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإسراء : 53]، {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34]. قل للنّاس الكلمة التي تفتح قلوبهم عليك، وتفتح عقولكم عليك، وتفتح حياتهم عليك، وتفتح مواقفهم على مواقفك، قد لا تطيق ذلك ولكن الله يقول: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت : 35] اضبط أعصابك، اصبر على كلّ التوتّر العصبي الذي يحاول الآخرون أن يثيروك من خلاله، اصبر على ذلك كلّه {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت : 35] إنَّ العداوة مرض، وكما تصبر أنت على مرضك مدّة طويلة في انتظار الشفاء، فعليك أن تصبر على العداوة مدّة طويلة حتّى تشفيَ الآخرين من مرض العداوة. القصّة تحتاج إلى صبر، وتحتاج إلى حظّ عظيم، هذا هو المنهج الإسلامي الذي يريد الله للمسلم أن يتربّى عليه، ويريد للداعية أن يتربَّى عليه، ويريد للعالم أن يتربَّى عليه، عندما يجادل الناس {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...} [النحل : 125] ويريد للمسؤول أيضاً أن يفكّر في كلمته قبل أن يقولها، لأنَّ الله يحمِّل المسؤول كلّ نتائج الكلمة، فلو أعطت الكلمة وضعاً يؤدّي إلى الدماء، وكان يمكن أن تحجبها كلمة أخرى، ولو أدَّت الكلمة إلى فتنة وكان يمكن أن تجمِّدها كلمة أخرى، فإنَّ الله سيحاسب هذا المسؤول أو ذاك على ما أساء به إلى المجتمع من خلال كلمته، والله أعطاك كلّ القوّة في أن تقيِّد كلماتك، أعطاك العقل، وأعطاك الوسائل التي تستطيع أن تمنع فيها كلمتك من أن تتحرّك في غير الاتجاه الذي يتناسب مع إيمانك "الكلام في وثاقك فإذا تكلَّمت به صرتَ في وثاقه" قبل أن تتكلَّم أنتَ الذي يملك القيد الذي يقيّد الكلمة حتّى لا تأخذ حريّتها، ولكن عندما تقول الكلمة وتفعل فعلها، فإنّك لا تستطيع أن تهرب منها، لأنّها قيَّدتك، أصبحت كلمتك قيداً لك، أصبح توقيعك قيداً لك، ولهذا لا بدّ أن تتحمَّل المسؤولية.
الإمام عليّ (سلام الله عليه) يفرِّق بين الأحمق وبين العاقل بالكلمة فيقول: "لسان العاقل وراء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه"(1) قالوا كيف ذلك يا أمير المؤمنين، والقلب معروف بمكان واللّسان بمكان، المقصود هو القلب المعنوي، الحالة المعنوية، الأحمق هو الذي إذا خطرت له الكلمة تكلّمها، فإذا فعلت فعلها في الواقع بدأ يفكّر بها، كيف تكلّمت، الكلمة أنتجت ناتجاً سيّئاً أربكت مصالح الناس من حوله، فلسانه هو القيادة وعقله جندي من جنود هذه القيادة، يعي لسانه هو الذي يحرِّك عقله.
كثير من الناس يتكلَّمون بدون أنْ يفكِّروا، أمّا العاقل فلا، فلسان العاقل وراء قلبه، العاقل يعتبر أنّ العقل هو سيّد كلّ الأعضاء، هو سيّد حركة الإنسان، سيّد كلّ الأوضاع التي يتّخذها الإنسان، اليد تأخذ الأوامر من العقل إذا أرادت أن تتحرَّك وكذلك الرجل واللّسان أيضاً، فالعاقل يفكّر في نتائج الكلمة قبل أن ينطقها، فإذا رأى نتائجها خيّرة ألقاها، وإذا رأى أنّ الكلمة يمكن أن تربك حياة الناس، وتخلق الفتنة بين الناس، وتؤدّي إلى دمار القضايا الكبرى، عند ذلك يقول للسانه أمسك نفسك. هذا هو الفرق؛ فاللّسان جندي من جنود العقل والعقل هو القائد، أمّا عند الأحمق فاللّسان هو القيادة والعقل وغيره من الأعضاء هي الجنود.
هناك بعض الكلمات التي تقال بطريقة المثل، وتقديم الصورة عن الموضوع ففي هذه الصورة يطلّ اللّسان صباح كلّ يوم وقبل أن يتكلَّم يسأل الأعضاء الأخرى العين، الأذن اليدين، الرجلين... يسألهم جميعاً عن أحوالهم فيقولون "نحن بخير ما تركتنا" العين تبقى صالحة، والأذن صالحة، واليد أيضاً لا تنكسر، والرجل لا تنكسر ولا يتعطَّل أو يتخرَّب أيّ شيء، إذا بقيت أيُّها اللّسان عاقلاً، إذا لم تشاغب، نحن بخير لأنَّ مشكلتنا في كثير من الحالات من عندك، تحكي الكلمة ونحن نتحمل النتائج.
"وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم"(1) هذا الجوّ هو الذي يريدنا الإسلام أن نعيشه؛ أن تكون الكلمة عندنا مسؤولة نفكّر في خلفياتها، على أيّ أساس نتكلَّم، لأنَّ الله مطّلع على خفايا نفوسنا، هل نريد بهذه الكلمة خيراً، أم نريد بها شرّاً، فبعض كلمات الخير قد يراد بها الشرّ، وبعض كلمات الحقّ قد يراد بها الباطل، ثمّ ندرس نتائجها في الواقع الاجتماعي، وفي الواقع السياسي الذي نعيشه.
يجب أن تدرس الأرض، الكلمة عندما تسقط من لسانك على الأرض. والمقصود بالأرض الذهنية، الناس، العقليات، المشاعر، إذا كان الجوّ كلّه قابلاً للاشتعال فمعنى ذلك أنّك تحرق الجوّ بكلمتك، وأنّك تثير المشكلة بكلمتك.
السباب لغة المتخلِّفين
لا بدّ من ملاحظة هذا الموضوع من أساسه وبشكلٍ عميق جداً ومن ناحية ثانية، الإسلام يعالج القضية بطريقة أخرى يعني أنتَ الآن تسبّ، لغة السباب هي اللّغة التي تعيش في كثير من المجتمعات المتخلِّفة، السبّ عادة يكون لتفجير الغيظ، ولكن ما هي نتائج هذا السبّ؟ أنتَ تسبّ، والآخرون قادرون على أن يسبّوا، أليس كذلك قال الشاعر:
لسانُك لا تذكرْ به عورةَ امرئٍ فكلُّك عوراتٌ وللنّاسِ ألسنُ
لستَ وحدك الذي عندك لسان، ولا الناس الذين تسبّهم وحدهم عندهم عيوب ونقاط ضعف. أنتَ عندما تسبّ إنساناً فستكون النتيجة أن يسبّك، وعندما تسبّ والدَيْ إنسان، فسيسبّ ذلك الإنسان والديك، وقد ورد في الحديث سؤال: أيّكم يسبّ والديه، قالوا لا أحد منّا يسبّ والديه، نحن نحترم آباءنا. قال إنّكم تسبّون آباء الناس فيسبّون آباءكم وبذلك تكونون السبب في ذلك. والله سبحانه وتعالى عرَّفنا إيّاها في الدائرة الأوسع، دائرة الذين نختلف معهم في العقيدة، هؤلاء الذين يعبدون غير الله أو يلتزمون نهجاً غير نهج الحقّ، كيف تحاورهم، كيف تواجههم، هل تواجههم بالسبّ، ما الفائدة، هل تهديهم إلى سواء السبيل فتجعلهم مؤمنين إذا كانوا كافرين. هل عندما تسبّهم وتسبّ مقدّساتهم تجعلهم مهتدين إذا كانوا ضالّين. عندما تسبّ لهم رموز الضلال عندهم فإنّك تزيدهم تعصُّباً لأنَّ كلّ إنسان عندما تهاجم ما يحبّ بطريقة فجّة، فإنّه يبادر إلى أن يعتبر المسألة إساءة له، فيحاول أن يسبّ مَن تلتزم به، ومَن تقدِّسه وتحترمه، ويريد أن يؤذيك كما آذيته، ويريد أن يسيء إليك كما أسأت إليه.
كيف نتعامل مع الشتم
إنَّ الله جعل من غرائزنا الطبيعية أنّ الإنسان يتعصَّب لعمله، ويتعصَّب للرموز التي تمثّلها {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} الله يقول: هذه المعادلة من أين تأتي، إنّك إذا سببت هؤلاء فإنّهم سيسبُّون الله {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام : 108] كلّ إنسان يعتبر أنّ الحقّ معه، فعندما تأتي وتصدمه رأساً، تقول له يا زنديق، يا كافر، وتسبّ له مقدّساته كلّها، إذا أطلقت عليه رصاصة، فسوف يطلق عليك رصاصة، الكلمة التي تريد أن توجّهها لإنسان في ما يحترمه ويقدّسه دون سابق إنذار، هذه الكلمة رصاصة، ولكن رصاصة معنوية، الرصاص يصيب الجسد، والكلمة تصيب الكرامة، إذا استثرت كرامته فإنّه سيثور، وإذا ثار فإنَّ طريقته هي الثورة هي أن يبادلك بمثل ما بادرته به، فيسبّ الله إذا كان كافراً وكنتَ مؤمناً، {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} إنّه سبّ لا يفيد، بل يعقّد، لكن يمكنك أن تقول يا فلان تعال نتفاهم، بَرِّد عقلك وأعصابك، وسأُبَرِّد أنا عقلي وأعصابي. الإمام عليّ (عليه السلام) يمثّل لنا الخطّ، يقول: "إنّي أكرهُ لكم أن تكونوا سبّابين ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر"(1).
إذاً، قل الكلمة التي تكون حجّة لك، وقل الكلمة التي تكون صواباً ثمّ لا تكن روحيّتك تجاه الناس الذين تختلف معهم روحاً تدميرية ولاسيّما إذا كانت الخلافات في دائرة واحدة، دائرة يؤمن أفرادها بالله ويختلفون بالطرق التي تؤدّي إلى الله، أو يختلفون في طريق الاستقامة والانحراف، لا تكن روحك روح الإنسان الذي يشتهي الفتنة أو يشتهي الحرب أو يشتهي التدمير، لتكن روحك روح الإنسان الذي ينظر إلى مَن يختلف معه نظرة عطف وإشفاق ورثاء وأمل كبير، بأنْ تنفتح عليه وينفتح عليك في المستقبل.
"وقولوا مكان سبّكم إيّاهم"، وكان أهل الشام يقاتلون أهل العراق، وأهل العراق يقاتلون أهل الشام، ولم يكن عليّ (عليه السلام) يدفع الحرب، عندما دفع أهل العراق إلى أن يحاربوا أهل الشام، طلباً للسلطة لمجرّد أن يتسلَّط على الناس، ولم يدفع عليّ (عليه السلام) الحرب لأنّه من الشجعان الذين يحبُّون أن يديروا الحرب، ويحرِّكوا القتال. كان عليّ (عليه السلام) صاحب رسالة، وكان يعتبر الحكم مسؤولية، وكان يرى أنّ معاوية عندما يتمرَّد على الحكم الحقّ، فإنَّ معنى ذلك أنَّ معاوية يريد أن يربك الحياة الإسلامية، ويريد أن يتحرّك في الاتجاه الذي يعمل من خلاله على تهديم القواعد الأساسية للإسلام وللمسلمين، ولذلك دفع عليّ (عليه السلام) الحرب من أجل الوصول إلى هذه النتائج التي هي حقّ. وكان عليّ (عليه السلام) يردِّد "فوالله ما دفعت الحرب يوماً، إلاّ وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة، فتهتدي بي وتعشوا إلى ضوئي وذلك أحبّ إليَّ من أن أقتلها على ضلالها وإنْ كانت تبوء بآثامها"(1). عليٌّ يقول إنّي أُقاتل عندما يكون ضغط القرار القتال، إنَّ هدفي أن أجتذب الناس إلى الحقّ قبل أن أُقاتلهم، إنَّ القتال ليس هدفاً من خلال الانفعالات، وأن لا نعيش روح التدمير للآخرين، ويضيف "وقولوا مكان سبّكم إيّاهم، ربّنا احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحقّ مَن جَهِلَه ويرعوي عن الغيّ والعدوان مَن لَهِجَ به" هذه الروحية، حتّى وأنتَ تواجه ساحة الصراع، لا تكن روحك تدميرية، لتكن روحك إصلاحية وسلمية، وعليك أن تنتهز أيَّ فرصة تمكِّن الناس من الانفتاح على السلام ضمن معيار الحقّ والعدل.
ولهذا أرادنا الله دائماً أن نتكلَّم الكلمة الطيّبة من أجل أن نشارك في إيجاد العلاقات على هذا الأساس، وحتّى عندما أرادنا أن نجادل قال، إنّك تجادل الناس لا لتسجِّل نقطة عليهم، ولكنّك تجادل الناس لتهديهم إلى سواء السبيل، ولهذا حاول أن تقول الكلمة الأحسن حتّى تفتح الطريق إلى عقل الناس، وهذا في كلّ المجالات، سواء في البيت، أو في الشارع، أو في ساحة العمل السياسي والاجتماعي، أن يكون مجتمعنا مجتمع الكلمة الطيّبة، لا مجتمع الكلمة الخبيثة، إنّك إذا ربحت إنساناً بصبرك عليه حتّى استطعت أن تجتذبه إلى الحقّ، فإنَّ معنى ذلك أنّك استطعت أن تركِّز في حياة هذا الإنسان وفي مجتمعه قاعدة للحقّ، إذا أقنعته بالحقّ فيكون ابنه مع الحقّ، وأخوه مع الحقّ، وأبوه مع الحقّ، سيكون عنصراً يتجذَّر في حياة الحقّ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ*وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} [إبراهيم: 24 ـــ 26] لهذا لا بدّ من أنْ نربّيَ أنفسنا على أنْ لا يكون السبّ هو أسلوبنا في حلّ الخلافات والأوضاع السلبية التي تعيش في مجتمعنا، ثمّ يجب أن نعرف أنّ السبّ في الدائرة الإيمانية والإسلامية حرام. كلّ سبّ يصدر منك فهو معصية. إنَّ بعض الناس، يعتقد أنّه يستطيع أن يسبّ زوجته لأنّه اشتراها بالمال، دفع مهرها وخصوصاً إذا كان المهر ثميناً، أو أنّ الأب حرٌّ في أن يسبّ ابنه وصاحب العمل يسبّ العمّال لأنّه يعتبرهم عبيداً، كلا، كلّ سبّ، كلّ كلمة سبّ لزوجتك فهي معصية، وكلّ كلمة سبّ لولدك فهي معصية، وكلّ كلمة سبّ لعمّالك فهي معصية، لا يجوز ذلك، ويجب أن تستغفر الله بعد ذلك.
الحديث الشريف يقول: "إيَّاكم ومحقرات الذنوب"(1) البعض يقول: أنا لم أفعل شيئاً، أن مؤمن، أُصلّي من الصباح إلى اللّيل في المسجد، وأقرأ الأدعية، وقمت بالحجّ والعمرة، ولكنّه سيّئ الخُلق مع أهله، يصل يوم القيامة وليس عنده من الأعمال الحسنة شيء. صحيح أنّه قام بالعبادات، لكن في دفتر أعماله يوجد عشرة ملايين كلمة سبّ، ماذا يخلّصه، والسبّ هذا من حقوق الناس، إذا لم يسامحك الذين شتمتهم فإنَّ الله سيأخذ لهم بالحقّ منك، لا تستصغروا ذلك.
الشتم وحقوق الناس
مشكلتنا أنّنا نفكِّر في الأمور بتوتُّر، إنَّنا نريد أن نركِّز هذه النقطة، حتى نصل إلى مرحلة الأُمّة المهذّبة في اجتماعها، التي تملك نظافة اللّسان، وتمارس عملية احترام الناس بعضهم لبعض، السبّ لا يمثّل حالة احترام. ثمَّ إنَّ الله سبحانه وتعالى يريد منّا كمؤمنين، أن لا نزيد العداوة بين الناس، عندما يصبح الناس أعداءك لأنّك مؤمن، هنا المسألة ليست مسؤوليّتك، ليس ذنبك إن عاداك الآخرون لأنّك إنسان شريف، بل تتحمَّل المسؤولية إذا صاروا أعداءك لأنّك تسبّهم، وتشتمهم، وتتكلَّم عليهم بدون حقّ.
جاء رجل إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في ما يروى عنه قال: يا رسول الله أوصني قال له: "لا تسبّ الناس فتكتسب العداوة منهم"(2) هذه وصيّة: إنّك عندما تعيش مع الناس؛ مع زوجتك، مع أهلك، مع أولادك، مع عمَّالك، مع كلّ الناس، عندما تعيش معهم لا تسبّهم لأنّك إذا سببتهم فسيقسو قلبهم عليك وسيتحوّلون إلى أعداء لك، لأنَّ الإنسان يعادي مَن يسيء إلى كرامته، ومن يضغط على حريّاته. هناك فرق بين شخص يتكلّم مع زوجته بالكلام اللّطيف، وآخر يتكلّم مع زوجته بالكلام القاسي، شعور هذه الزوجة اتّجاه زوجها عندما يتكلَّم كلاماً لطيفاً يختلف عن الأخرى. هناك فرق بين أن تعيش مع إنسان تضطهده، يخدمك غصباً عنه، هو لا يطيقك، ولكنَّ الحياة تفرض عليه أن يعيش معك، وبين أن تعيش مع إنسان يخدمك من كلّ قلبه، يعمل لك من كلّ قلبه، لأنّه يراك تحترمه، ويراك تفتح له قلبك. لماذا نحاول أن نعمل بكلّ ما عندنا، ليكرهنا الناس، لماذا يكون بعض الآباء مشكلة لأبنائهم، وبعض الأزواج مشكلة لزوجاتهم، وبعض أصحاب العمل مشكلة لعمَّالهم؟ لأنّهم سيِّئو الأخلاق.
ذكر أنّ بعض الزعماء السابقين حين كان يصرخ لإنسان يا فلان، فلم يجبه، يا فلان لم يجبه، قال له أَلَمْ تسمع، قال لا إنّك تقول يا فلان، وأنا دائماً ينادونني "ولا"، فأنتَ لو قلت لي "ولا" لأجبتك لأنَّ هذا اسمي الذي أعرفه، اسمي الذي سمّاني إيّاه أبي وأُمّي لقد نسيته. بعض أصحاب العمل هكذا، وبعض الآباء هكذا ينادي ابنه بالمسبّة، ينادي زوجته بالمسبّة، ينادي عامله بالمسبّة، لماذا؟ ماذا يخسر الإنسان بالكلمة الطيّبة، لماذا نُبغّض أنفسنا للنّاس بهذه الطريقة، بعض الأولاد لا يستطيعون أن يردّوا إذا كان أبوهم قاسياً، الزوج إذا كان قاسياً فالزوجة لا تقدر أن تردّ عليه، العمّال أيضاً، لئلا يخسروا لقمة عيشهم، مضطرّون لأنْ يتحمَّلوا هذا الواقع.
هناك نقطة يجب أن نفهمها، أيُّها الإخوة، الأب، الزوج، صاحب العمل، المسؤول الذي يدير جماعة من الناس، إنَّ الله لم يسلِّط إنساناً على إنسان، أن يسيء إلى كرامته، هذا صاحب عمل وهذا عامل، أنتَ إنسان وهو إنسان، لا فرق بين أن تسيء إليه أو أن يسيء إليك، لماذا لا تتحمّل أن يسيء إليك، كذلك أنتَ زوج وهذه زوجة، الله جعل للزوج على الزوجة حقّاً معنوياً، ولكن بعض الأزواج يقولون: ما دام لي حقّ يجب أن أُلغي كلّ إنسانية المرأة، لا.. أنتَ كزوج، في الإنسانية، لا فرق بينك وبين زوجتك {... وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة : 228] في الطلاق، وفي مسألة الحقّ الزوجي الخاص، أمّا في الأشياء الأخرى فلا يوجد فرق بين أن تسبّ زوجتك وتسبّ زوجة جارك، ليس هناك فرق بين أن تسبّ ابنك أو تسبّ ابن جارك، ليس هناك فرق بين أن تسبّ عاملك أو عاملاً في مصنع آخر، ليس هناك فرق بين أن تسبّ موظّفاً عندك أو موظّفاً عند شخصٍ آخر. حقوق الأبوّة والبُنوّة، الحقوق الزوجية، حقوق العمل، حقوق المسؤولية، الوظيفة، لا تجعل لكَ سلطة إلاّ من خلال ما لكَ من حقّ تفرضه هذه العلاقة، لهذا إنَّ الله سيعاقب كثيراً من الآباء الذين يضطهدون أولادهم ويسيؤون إليهم بغير حقّ، وسيعاقب كثيراً من الأزواج وسيعاقب كثيراً من أصحاب العمل، وأصحاب المسؤوليات، لأنَّ الله يقول: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ...} [غافر : 17].
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهُمَزَة : 1] مَن هو الهُمَزَة، هو الشخص الذي يطعن الناس، ومن وسائل الطعن السّب والشتم، وفي بعض الحالات قد يصبح السّب مضاعفاً، إذا اختلفت مع شخص فما ذنب أبيه أو أُمّه أو عشيرته؟ شرعاً، هو أساءَ لك فلماذا تسيء لأبيه؟ القضايا الشرعية في هذه الأمور دقيقة جداً، لهذا لا بدّ للإنسان من أن يواجه المسألة بطريقة شرعية، يحاول فيها أن يضغط على أعصابه، وأن يضغط على لسانه في ذلك كلّه.
لتكن وسائل الصراع مهذّبة
وهكذا ينبغي لنا أن نتحرّك في هذا الموضوع، سواء على الصعيد الفردي، أو على الصعيد الاجتماعي، في الحالات التي تختلف الجماعات بعضها مع بعض، ولاسيّما إذا كان الاختلاف في الصراع السياسي، فلا بدّ من أن تكون وسائل الصراع وسائل مهذّبة ومعقولة حتّى يمكن أن نصل في كلّ صراعاتنا، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، النتائج الكبيرة في الحياة، ويكون البرنامج عندنا هو برنامج عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه) "لو وصفتم أفعالهم وذكرتم حالهم" من حقّك أن تصارع ومن حقّك أن تختلف مع الآخرين، ومن حقّك أن تدافع عن وجهة نظرك، ومن حقّك أن تبدي الأُسس التي تؤكّد وجهة نظرك، من حقّك ذلك لأنَّ الله جعل لكلّ صاحب حقّ أن يكون له الحقّ في المقال، ولهذا لم يجوّز الله للإنسان أن يتكلّم بالسوء إلاّ إذا كان مظلوماً، عندما يكون الكلام بالسوء دفاعاً عن ظلامته، ولكن أن يتكلَّم بحيث لا يتحوَّل إلى ظالم {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء : 148] لكنَّ عندنا حديثاً يقول "الدُّعاء على الظالم حتى يصير ظالماً"(1). لا بدّ من أن يكون المسؤولون قدوة لغيرهم، لأنَّ المشكلة في كثير من الناس أنّهم إذا أطلقوا السباب كعنوان لطريقتهم في الصراع، فإنَّ كلّ الناس الذين يتبعونهم يتحوّلون إلى سبَّابين، يستهلكون كلماتهم وربّما يزيدون عليها لأنّهم يعتبرون ذلك ضوءً أخضر، مثلما يقول الشاعر:
إذا كان ربُّ البيتِ بالطبلِ ضارباً فشيمةُ أهلِ البيتِ كلِّهمُ الرَّقصُ
الإنسان المسؤول يتحمّل كلّ النتائج التي تصدر عن عمله في ما ينعكس من عمله على الناس الذين يتبعونه في الحياة، هكذا يجب أن نفكِّر حتّى لا نقع في المشاكل الكثيرة.
في بعض الحالات أنتَ تسبّ نفسك عندما تسبّ الآخرين، عندنا حديث يقول: "إنَّ اللّعنة إذا خرجت من صاحبها تردَّدت بينه وبين الذي يلعنه"(2) فاحذروا أن تلعنوا مؤمناً فيحلّ بكم بغي. فاللّعنة لا تنطلق مباشرة إلى الشخص وتلتصق به بل تقف في الطريق تنظر إليه، هل هذا الشخص يستحق اللّعنة أم لا، إذا كان يستحقّها تنطلق بسرعة، وتلتصق به، وإذا كان لا يستحقّها عند ذلك اللّعنة تخاف الله، ترجع إلى صاحبها، لأنَّ مَن يلعن الناس بدون حقّ يجب أن يكون هو الملعون. وهناك حديث عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنّي لم أبعث عذاباً وإنّما بعثت رحمة للعالمين"(3). وقال الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ...} [آل عمران : 159] هذا هو الأسلوب الذي يجب أن ننطلق فيه في العلاقات الاجتماعية والعلاقات العامّة.
متى يكون الشتم مشروعاً؟
ربّما يكون السبُّ أو اللّعن في بعض الحالات وسيلة من وسائل قهر الظالمين، وإبعاد الناس عنهم، فيصبح مجرّد أداة من أدوات منع الظلم والطغيان، مثلاً قال الله عن جماعة: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب : 57] باعتبار أنّهم يساهمون في الوقوف ضدّ الله وضدّ رسوله، مثلاً الذين يتّهمون النساء المحصنات فلانة انحرفت، فلانة ليست "آدميّة" فلانة كذا وهي ليست هكذا أو لا يعلم منها ذلك {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور : 23] هذه أيضاً يجب أن تنتبهوا لها، فلعنة الله تجعل القضية صعبة في المجالات العامّة، إنَّ علينا أن نقدِّر الأمور بقدرها، وأن ندرسها من خلال موازينها الحقيقية، وموازينها الشرعية على أساس أن ننطلق لنؤكّد إسلاميّتنا في أخلاقنا، سواء في كلامنا أو في أفعالنا، لأنَّ الإنسان الذي يقف أمام ضغوط تريد أن تطبق عليه وتريد أن تلغيه وتريد أن تصادر كلّ واقعه، وليس عنده وسيلة للتخفيف من ضغط ذلك عليه إلاّ ببعض الكلمات، عند ذلك تكون القضية من باب الدفاع عن القضايا العامّة والقضايا الكبيرة كما في كثير من أوضاع الواقع التي نعيشها في حياتنا العامّة. عندما نواجه الذين يعملون على أساس أن يسقطوا قوّة المسلمين وقوّة المؤمنين وقوّة المستضعفين على أساس الواقع الذي تفرضه القوى الاستكبارية في العالم، ففي هذه الحال لا بدّ للمجتمع المسلم المؤمن من أن يستخدم كلّ ما عنده من وسائل في سبيل الوصول إلى النتائج الكبيرة في مواجهة الظلم والظالمين.
هناك كثير من الوسائل لا تكون مشروعة في ذاتها ولكنّها تكون مشروعة في بعض الظروف الاضطرارية التي لا يملك الإنسان فيها أيّة فرصة للدفاع عن الإسلام والمسلمين، عند ذلك الله يقول: {... فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة : 173] ما من شيء إلاَّ وقد أحلَّه الله لمن اضطر إليه. فلهذا نحن كنّا دائماً نؤكّد ضرورة أن نواجه الظلم كلّه وأن نواجه الاستكبار كلّه، وأن نواجه كلّ الذين يريدون أن يسقطوا الحقوق العامّة للناس ليسيطروا على الناس من أجل خدمة مخطَّطاتهم ومصالحهم وأوضاعهم. قد يتحدّث بعض الناس عن الإسلاميين بأنّهم يعيشون عقدة أميركا دائماً، يتكلَّمون على أميركا، مثلاً الإمام الخميني (حفظه الله) عبَّر عن أميركا بالشيطان الأكبر، وكذلك الإسلاميون في كلّ مجال يتحدّثون عن أميركا على أنّها الشرّ الذي يوزّع كلّ مشاكله على العالَم. بعض الناس يقول ربّما أنتم "تزيدونها" لأنَّ أميركا دولة كبيرة لها مصالح، فمن الطبيعي أن تحافظ على مصالحها ومن الطبيعي أن تحافظ على أمنها، وما إلى ذلك من كلام. لكنَّ بعض القضايا دائماً قد تحتاج إلى دراسة، نحن نعرف أنّ كلّ العالم سواء كان في دائرة القوى الكبيرة أو دائرة القوى الصغيرة، كلّ العالم عنده مصالح، ولكن الدول الكبرى تعمل على أن تصادر حريّات الدول الصغرى، واقتصاد الدول الصغرى، وتصادر سياسات الدول الأخرى حتّى تكون الدول الصغرى مجرّد سوق استهلاكية لمنتجات هذه الدول الكبرى، وحتّى تكون سياستها على هامش سياسة الدول الكبرى، وحتّى يكون وجودها تابعاً لوجود تلك الدول. المشكلة بين الدول الكبرى والدول الصغرى هي المشكلة بين المستكبرين والمستضعفين؛ المستكبرون يريدون أن يفرضوا كلّ وجودهم وكلّ واقعهم على المستضعفين، هنا في هذا المجال صحيح أنّ للدول الكبرى مصالح، ولكنّ هناك فرقاً بين أن نحافظ على مصالحهم ليحافظوا على مصالحنا، وهذا الأمر ليس مشكلة، لكن أن يصادروا مصالحنا ويمنعونا من أن نسيء أو نخدش مصالحهم، هذه معادلة غير طبيعيّة.
أميركا والقضية الفلسطينية
الآن ندرس المسألة التي يضجّ بها العالم، المسألة الفلسطينية؛ قبل العام 1947 كانت فلسطين تضمّ أقليّة يهودية وتضمّ أكثرية إسلامية إلى جانب أقليّة مسيحية، ثمّ ماذا حدث، حدث أنّ بريطانيا التي كانت تمثّل الدولة التي تستعمر هذه المنطقة مع فرنسا(1)، عملت بالاتّفاق مع اليهود ومع بعض الدول الكبرى على أن تُسَلِّم فلسطين لليهود(2)، وأن تعمل على غضّ النظر عن كلّ المذابح الوحشية التي قام بها اليهود في فلسطين، حتى يُهَجِّروا الفلسطينيين ثمّ بعد ذلك ودفعة واحدة، اعترف العالم بواسطة ضغط الدول الكبرى "بإسرائيل" وكانت أوّل الدول التي اعترفت بـــ "إسرائيل" هي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى جانب فرنسا وبريطانيا. وبعد ذلك أصبحت "إسرائيل" الدولة الشرعية في فلسطين، وأصبح الوجود الفلسطيني لا يملك شرعية، وبعد ذلك انتقلت الضفّة الغربية وغزّة إلى السيطرة الأردنية.
في عام 1967 سيطر الصهاينة على الضفّة الغربية وغزّة. العالم لم يعترف بضم الضفّة الغربية وغزّة إلى فلسطين، ولكنَّ العالم وفي مقدّمته أميركا عمل على أن يتأصَّل هذا الاحتلال اليهودي الإسرائيلي بهذه المنطقة بحيث إِنّها لم تحرِّك ساكناً بل عملت بكلّ قوّتها على دعم هذا الاحتلال إرضاءً لليهود في انتظار أن تأتي متغيّرات مستقبليّة تفتح المجال لضمّ الضفة الغربية وغزّة إلى دولة "إسرائيل" وهكذا عندما احتلت "إسرائيل" الجولان لم تحرِّك أميركا ساكناً، وعندما دخلت "إسرائيل" إلى لبنان واحتلته احتلالاً كاملاً في بعض مناطقه، واحتلالاً مقطّعاً في بعض مناطقه أيضاً لم تحرِّك أميركا ساكناً، ماذا نسمّي ذلك؟ عندما يُطرد شعب بأكمله من أرضه ثمّ بعد ذلك تمنعه من أن يسترجع بلده في المنطقة التي لا يعترف العالَم بأنّها منطقة إسرائيلية؟
إنَّ أغلب الدول في العالم ربّما كانت لها مواقف مغايرة للموقف الأميركي، ولكنّ أميركا تضغط عليها حتّى تظلّ سائرة في سياستها. لقد أعلنت أميركا أنّها تلتزم أمن "إسرائيل" بالكامل، وأنّها مستعدّة لأن تدخل حرباً عالمية ثالثة إذا تعرَّض أمن "إسرائيل" للخطر. أمّا أمن الدول العربية، وأمن الشعوب العربية، وأمن الشعوب المسلمة، هذا الأمن لا بدّ من أن يكون على هامش الأمن الإسرائيلي. أميركا تتدخَّل لدى كثير من الدول لتمنع تصدير السلاح إلى أيّ دولة عربية حتّى لو كانت من حلفائها، إلاّ إذا جاء السلاح ضمن قيود محكمة أن لا تحارب به "إسرائيل". كلّ السلاح العربي سواء كان مستورداً من أميركا، أو من حلفائها، هناك شرط أساسي أن لا يستخدم ضدّ "إسرائيل"، وحتى نوعية السلاح لا بدّ أن تكون بطريقة لا تهدِّد السلاح النوعي الموجود مع "إسرائيل". هذا واقع أميركا التي تقف لتواجه بقرار "الفيتو" كلّ قرار يدين "إسرائيل" ولو اسمياً في مجلس الأمن لأنَّ للمسألة جانبها المعنوي، حتّى هذا الجانب أميركا لا تسمح به بالنسبة إلى الانتفاضة.
لو كنّا لا نريد التحدّث عن فلسطين الــ 47 أو الــ 48، ولا عن فلسطين ما قبل 67، بل عن فلسطين ما بعد الــ 67، ومع ذلك أميركا غير مستعدّة للاعتراف بأنَّ من حقّ هذا الشعب أن يثور. أميركا الآن تعمل بكلّ ما عندها من طاقة في سبيل القضية الأفغانية في مواجهة الاتحاد السوفياتي، وتعتبر أنّ ما يقوم به المجاهدون الأفغان ضدّ الاتحاد السوفياتي من عمليات تفجيرية أو اغتيالات أو أيّ شيء، تعتبر أنّ هذا عمل تحرُّري وعمل جهادي. نحن غير آسفين من هذا الموضوع فهذا الشعب له الحقّ في أن يسترجع أرضه، وأن يطرد المحتل، لكن عندما قامت الانتفاضة، أميركا اعتبرت أنّ هذا العمل من أعمال العنف ويجب أن يتوقَّف الفلسطينيون عن العنف، فيما "إسرائيل" من حقّها أن تطارد الفلسطينيين أينما كانوا، ومن حقّها أن تضربهم أينما كانوا. وقد أتى وزير الخارجية الأميركي شولتز إلى المنطقة عدّة مرّات حتى يحاصر الانتفاضة سياسياً وأمنياً من جميع الجهات، لكنَّ الانتفاضة كانت أقوى من الحصار، والظروف السياسية لم تكن تسمح بمثل هذا الحصار، فإذاً أميركا عندما تقف بكلّ هذا الوجه البشع حتّى تعطي "إسرائيل" كلّ شيء، وتمنع عن الضحايا أيّ شيء، بل إنّها تعمل سياسياً من أجل أن تربك كلّ الوضع الفلسطيني الذي يريد أن يتحرَّر، ويريد أن يتابع المسيرة من أجل أن لا يبقى هذا الكيان الإسرائيلي، ومن أجل أن تواجه كلّ المجاهدين الذين يريدون أن يقفوا ضدّ هذا الكيان الغاصب الذي يشكّل خطراً على المنطقة كلّها.
أميركا هي القوّة الكبرى التي تدعم الوجود الإسرائيلي في العالم وتسخّر كلّ سياستها في المنطقة لهذا الاتجاه، كلّنا نعرف قبل الأسبوع الماضي، في مثل هذا اليوم، قامت الطائرات الإسرائيلية بعملية إنزال في منطقة الناعمة والدامور، دمّرت وقصفت، قتل عسكريون وقتل مدنيّون، السؤال كم تبعد الناعمة عن الحدود الفلسطينية، لكن عندما قدَّم لبنان دعوة إلى مجلس الأمن لإدانة "إسرائيل" على التدمير والقصف والقتل وطلب إدانة هذا العمل وإيقاف "إسرائيل" عند حدّها، ماذا كانت النتيجة، إنَّ القرار الذي قُدِّم قابلته السفيرة الأميركية في مجلس الأمن بــ "الفيتو" لكن لماذا الفيتو؟ تقول السفيرة الأميركية إنّ مطالبة "إسرائيل" بوقف جميع هجماتها على الأراضي اللبنانية بغضّ النظر عن الاستفزازات، تعني أنّ القرار يحرم "إسرائيل" من حقّها الأساس في الدفاع عن نفسها، وهذا ما لا نستطيع قبوله، يعني وصفت السفيرة الأميركية الذين يقاومون بالعناصر المتطرّفة، ورأت أنّ استمرار هذه العناصر سواء كانت فلسطينية أو إسلامية أو وطنية باستخدام المنطقة لشنّ هجمات عدوانية ضدّ "إسرائيل" لن يؤدّي إلى عودة الاستقرار إلى جنوب لبنان، يعني إنّها تقول "لإسرائيل" اعملي ما شئتِ في ضرب كلّ مَن يحمل سلاحاً في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وفي وجه الغطرسة الإسرائيلية. والمطلوب هو إجراءات عملية لوقف النشاطات الإرهابية. هذا معناه أنَّ اللبنانيين عندما يحملون السلاح لدفع الاحتلال الإسرائيلي عن بلدهم، وعندما يحمل الفلسطينيون السلاح لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، يصبح هؤلاء إرهابيين، وعلى هذا الأساس يمكننا أن نعتبر أنّ حمل المجاهدين في الضفّة الغربية وغزّة السلاح في وجه "إسرائيل" بحسب المنطق الأميركي هو عمل إرهابي.
وداعة عرفات وغطرسة الأميركيين
ومن خلال ذلك نفهم إصرار الرئيس الأميركي ريغان على أن تدين منظّمة التحرير التي يمثّلها عرفات الإرهاب لكي يصبح بالإمكان التعامل معه، وقد كان تلميذاً وديعاً للغطرسة الأميركية حين أدان إرهاب الأفراد وإرهاب الجماعات وإرهاب القوات، وعلى هذا الأساس فإنَّ المطلوب من عرفات في المفاوضات التي تصدَّقت أميركا بها عليه، الالتزام بكلّ ما هو مطلوب أميركياً وإسرائيلياً. إنَّ واشنطن تعتبر أنّ الحوار مع عرفات لا يشكِّل مشكلة ما دام سيلتزم بأمن "إسرائيل"، وهي تقول للإسرائيليين لا تخافوا من الفلسطينيين، لا تخافوا من منظّمة التحرير لأنَّ أميركا تحمي "إسرائيل" بالكامل، ولا تقبل أن يُمسّ أمنها، وريغان قال لعرفات إنّك إذا تراجعت في أيِّ وقت عن إدانتك للإرهاب وقمت بعمل إرهابي واحد فسوف نقطع الحديث معك(1).
في الواقع أنَّ منظّمة التحرير تقوم ببعض العمليات الشكلية ضدّ الصهاينة، لكنّها لا تقوم بأيّ أعمال فعلية، ومنذ زمن تواقّفوا عن خطف الطائرات وقتل الأشخاص، فيما العكس هو السائد، فالمخابرات الإسرائيلية هي التي تنفّذ مثل هذه الأعمال. الواضح أنّ المقصود من تصريح السفيرة الأميركية الذي يعتبر أنّ كلّ خطوات المجاهدين الذين يقفون ضدّ "إسرائيل" في جنوب لبنان هي أعمال إرهابية، أن تعتبر الانتفاضة في فلسطين إرهابية، وسيطلب الأميركيون من عرفات أن يلغي الانتفاضة، وسينطلق الحكّام العرب الذين دفعوا به إلى هذا الموقع وعاش ذهنيّتهم السياسية إلى تقديم التنازلات، ليعترفوا بدولة "إسرائيل"، وبحقّ "إسرائيل" في الوجود، وبأنَّ قضية الفلسطينيين هي قضية لاجئين حسب القرار 242.
معنى الاعتراف الفلسطيني بـــ 242
إنَّ هذا الاعتراف بالقرار 242 فيه نقطتان:
النقطة الأولى: هي إنَّ عرفات يصرِّح الآن بأنّ الفلسطينيين ما قبل 67، سواء كانوا في حيفا أو يافا أو صفد أو غيرها، ليس لهم أيّ حقّ في أرضهم، وإنَّ وجودهم في داخل أرضهم على أساس التطلُّعات المستقبلية لعودة أرضهم لهم، هذا وجود غير شرعي بفعل قرار منظّمة التحرير الفلسطينية، ومعنى هذا أنّ "إسرائيل" تقول إنَّ أوّل فلسطيني في فلسطين ما قبل الــ 67 لا يجوز له، من وجهة نظر فلسطينية، أن يخدش الأمن الإسرائيلي ولا أن يتطلَّع ولا أن يحلم بأيّ طريقة في هذا المجال، هذا معناه اعترافه بــ "إسرائيل".
النقطة الثانية: أنّ صاحبنا يريد الضفة الغربية وغزّة على أساس قبوله بقرار مجلس الأمن 242، ما هو هذا القرار؟ القرار يقول: ندعو "إسرائيل" إلى أن تنسحب من أراضٍ محتلّة، هذه (ال) التعريف بين الأراضي وأراضٍ أحدثت مشكلة في ذلك الحين، يعني لو قالت تنسحب من الأراضي المحتلة لكان معناه من كلّ الأراضي المحتلة، النحويون يقولون إنّ (ال) تفيد العموم في هذا المجال، لكن من أراضٍ احتلت يعني تنسحب من بعض الأراضي، يعني ممكن أن تنسحب من عُشر الضفة الغربية وغزّة، هذا يقصد من أراضٍ احتلت، لا ضمانات حتّى قرار مجلس الأمن ليس فيه ضمانات في عودة الضفّة الغربية وغزّة، لأنّ القرار الذي قبل به عرفات باعتبار كونه رئيساً للجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير الفلسطينية يفيد أنّه يقبل أن تنسحب "إسرائيل" الدولة الشرعية من بعض الأراضي الفلسطينية، وكلمة البعض قد تكون 99% وقد تكون 1%، فمعنى ذلك أنّه قدَّم اعترافاً كاملاً بـــ "إسرائيل" وبحقّها في الوجود وبوقف العمليات العسكرية باعتبارها عملاً إرهابياً، من دون أن يضمن إلاّ أنّ أميركا تتكلَّم معه، وأميركا منذ عشرات السنين وهي تتكلّم مع العرب عن حقوقهم، وعن حقوق الشعب الفلسطيني، وأصبح الكلام في أرشيف وزارة الخارجية الأميركية، ووزارة الدفاع الأميركي وفي أرشيف كلّ العرب وكلّ الصحف، ولكن ماذا هناك؟ أميركا لم تتنازل. قال كيسنجر وقتها، لا بدّ من أن تعترف منظّمة التحرير بالقرارين 242 و338، وأن تدين الإرهاب وأن تعترف بحقّ "إسرائيل" في الوجود، وبأنّها دولة شرعية، عند ذلك نتكلَّم معها، وقد قدَّمت منظّمة التحرير لأميركا كلّ شيء، وأميركا تريد أن تتكلّم معها لتتنازل معها أكثر لأنّ أميركا لا تريد أن تحلّ المشكلة الفلسطينية بل تريد أن تحلّ المشكلة الإسرائيلية، وعندما تعمل "إسرائيل" على أساس أن يكون لها كلّ شيء، فمعنى ذلك أنّ أميركا سوف تعمل على أساس لا كلّ شيء، ولكن بما يشبه "الكلّ شيء"، وبطبيعة الحال فإنَّ "إسرائيل" التي تريد أن تجمع كلّ يهود المنطقة لا تكفيها فلسطين التي هي ما قبل الــ 67.
كيسنجر أبو الفتنة اللبنانية
وفي التعاطي مع المسألة الأميركية ـــ اللبنانية، أميركا منذ 14 سنة تقول نحن مع وحدة لبنان، ومع استقراره وأمنه، ولكن لتأخذ إسرائيل حريّتها سياسياً واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، "إسرائيل" تدخل البلد وتعرقل الكثير من أوضاع البلد. والكثير من الدول العربية التي تدور في فلك أميركا تعمل على تهيئة المفردات السياسية والأمنية التي تتناسب مع المصالح الأميركية.
أيُّها الإخوة، نحن نعرف، أوّلاً، أنّ الفتنة اللبنانية كان أبوها كيسنجر الذي فتح بنفسه باب الفتنة من أجل تصفية القضية الفلسطينية.
ثانياً، إنّ كلّ ما يدور في الدوائر الأميركية العربية في هذا المجال، هو كيف يمكن لأميركا أن ترتِّب البيت اللبناني بطريقة تستطيع أن تحتوي الواقع اللبناني السياسي كلّه، وأن تجعله خاضعاً لمخطَّطاتها السياسية والاقتصادية والاستراتيجيّة، وأن يبقى لبنان قاعدة لكلّ حركة المخطّطات الأميركية والمخابرات الأميركية في المنطقة، ولهذا فإنَّ الجميع أصبحوا يسبِّحون بحمد الاهتمامات الأميركية، ويجعلون في حساباتهم السياسية تواريخ قضاياهم الأساسية تابعة للتاريخ الأميركي في بعض محطّاته كالانتخابات الأميركية وتسلُّم رئيس الجمهورية الأميركية لمهمّاته، حتّى يتحرّك الحلّ، وهكذا أصبحت حتّى الذهنية السياسية التي تتحرّك في هذا الواقع، والتي من المفترض أن تكون خارج الدائرة الأميركية، أصبحت تعيش الخضوع للجوّ السياسي الأميركي حتّى يتحوّل لبنان إلى ساحة أميركية، حتّى الحروب التي ستقع في داخل الصفّ الواحد، سواء كانت حروباً سياسية أو عسكرية أو أمنية، هي حروب لمصلحة الخطّة الأميركية في أن لا يبقى هناك معارض للسياسة الأميركية، ولاسيّما الذين ينطلقون من الخطّ الإسلامي الذي يضع في مقدّمة اهتماماته وعناوينه السياسية مواجهة الاستعمار الأميركي، ولهذا فقد تجدون الكثير في الساحة من أوجه الصراع باعتبار أنّه من إفرازات الساحة، ولكنَّ المسألة ليست كذلك، فتِّش عن أميركا لأنّها في مخابراتها تعيش في غرفة رئاسة الجمهورية، وفي كثير من غرف الوزراء وفي كثير من غرف النوّاب وفي كثير من الغرف التي تتحرّك لتمثّل هذا المحور أو ذاك المحور، فتِّش عن أميركا وستعرف أنّ كلّ مشاكلنا جاءت من أميركا لا قدَّسها الله ولا جعلها الله تستقرّ في أيّ مجال.
والحمد لله رب العالمين
واقع الإنسان في الحياة الدُّنيا(*)
قال الله تعالى في كتابه الكريم: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ*فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 22 ـــ 23].
اللّجوء إلى الله وقت الشدّة
في هاتين الآيتين يريد الله سبحانه وتعالى أن يبيِّن لنا بعض الحالات الإنسانية، التي يعيشها الإنسان في ما يعيش من نقاط ضعفه؛ فالإنسان عادةً يلجأ إلى الله في حالات الشدّة، بحيث يندفع بكلّ مشاعره وبكلّ مخاوفه وبكلّ تمنّياته إلى الله ليكشف عنه السوء وليدفع عنه الضرر. فإذا مرض الإنسان مرضاً شديداً ولاحظ أنّ الطبّ يعجز عن مرضه أو أنَّ مرضه تأخَّر؛ فإنَّنا نرى أنّه يندفع بكلّ قلبه إلى الله، ليطلب منه أن يشفيه من مرضه ويعطيه العهد من نفسه على أنّه سيغيّر وسيبدّل. وهكذا عندما يعيش الإنسان في حالة خوف، عندما يسجن أو عندما يلاحق ويشعر بأنّه يحتاج النصير الذي كان يأمل بأن ينصره، إنّه في وحدته الصعبة يلجأ إلى الله، ويفتح قلبه لله سبحانه وتعالى. وهكذا عندما يعيش الإنسان في البرّ والبحر ولم يحدّثنا القرآن عن الجو، لأنَّ الإنسان لم يكن قد اكتشف الطيران في الجوّ، عندما يكون الإنسان في الجوّ وتبدأ الرياح تعصف بالطائرة، وتهتزّ كريشة في مهبّ الريح، عند ذلك يلجأ الناس إلى الله سبحانه وتعالى: {... لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس : 22]. وهكذا تحدث المشاكل بشكلٍ أخفّ في البرّ، لأنّ البرّ عادة يكون موضع طمأنينة الإنسان، باعتبار أنّه يمثّل الأرض الثابتة، التي مهما حدث له فيها فإنّه يستطيع أن يطمئن لها، ولكن في بعض الحالات عندما يكون الإنسان في أرض رملية وتكون الرياح عاصفة ولا يعرف طريقه ويبدأ في الاهتزاز أيضاً، يعيش الشعور نفسه.
إنَّ الله أعطى المثل في البحر، عندما يكون الناس في الفُلك (أي السفن) وتمشي السفينة مع الريح الهادئة ومع النسيم العليل ومع الجوّ الرضي ويرتاح الناس، يظهرون فرحهم وانبساطهم وما إلى ذلك، وتصير طبعاً في السفن الكبيرة حفلات راقصة ولاهية، وفجأة تأتي رياح عاصفة وتبدأ السفينة بالاهتزاز، تعلو وتهبط {وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ} [يونس : 22] الموج من جميع الجهات، وأصبحت السفينة كريشة في مهبّ الريح، ليس لها أيّ قرار حتى تثبت عليه، وليس هناك جبل أو شاطئ حتى تركن إليه، ليس هناك إلاّ الماء والهواء، والأمواج تندفع والرياح تعصف والقلوب تهتزّ والنفوس ترتعد وهنا لا مجال، لا مغيث، ولا طريقة للنجاة وترتفع الأكفّ بالدعاء إلى الله، يا ربّنا أنقذنا من هذه، يا ربّنا نجّنا من هذا المصير المحتوم. لقد كفرنا بنعمك كثيراً ولقد عصيناك يا ربّنا كثيراً ولقد ابتعدنا عنك كثيراً. لك يا ربّنا عهدنا، ولك ميثاقنا لئن أنجيتنا من هذه، إذا هدأت السفينة وهدأت الريح وهدأ الموج وسارت السفينة، حتى تصل إلى الشاطئ الأمين، فسترى يا ربّنا عبادتنا كيف تكون، وسترى يا ربّنا طاعتنا كيف تكون، وسترانا نسير في خطّ العدل وفي خطّ الخير والحقّ، وسنفعل كلّ ما تحبّه، سنشكرك بأعمالنا لا بأقوالنا.
{فَلَمَّا أَنجَاهُمْ} وصلوا إلى الشاطئ الأمين وجاءهم المستقبلون، وبدأ العناق والتقبيل ـــ "والحمد لله على السلامة" ـــ وجاءت الصحافة وبدأت تسأل كلّ إنسان: ما مشاعرك؟ وما أفكارك في ذلك الوقت، وكيف تفكّر؟، بعد الوصول إلى شاطئ الأمان نسوا الموضوع تماماً، عادوا إلى ما كانوا عليه {فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس : 23] يعني يسيرون بغير الحقّ ويعتدون على الناس بغير الحقّ. رجعوا إلى حالتهم يفسدون في الأرض ويعتدون على الناس ويعصون الله ويفعلون كلّ ما يغضب الله ويكفرون بكلّ نِعَم الله وكأنّهم يتصوّرون أنّهم استطاعوا أن يتغلَّبوا على الله، وكأنّهم خدعوه. إنّهم يقولون: نحن رفعنا أيدينا وقلوبنا وتحدّثنا والله سبحانه وتعالى رحمن رحيم وقد رحمنا، وما دام الله أنجانا فإنَّ القضية تقف عند هذا الحدّ.
هذه الحالة، نعيشها في كثير من الأوضاع؛ وقت الشدّة نرجع إلى الله سبحانه وتعالى ولكن بعد ذلك طبعاً الناس يرجعون إلى ما كانوا عليه. هناك كثير من الناس قد يسجنون من قِبَل "إسرائيل" ومِن قِبَل الظالمين مِن غير "إسرائيل"، مِن قِبَل المخابرات؛ يُظلَمون ويُضطَهدون لأنّهم قالوا ربّنا الله، وقد يكونون مؤمنين وطيّبين، بعد الإفراج عنهم تأتي شياطينهم هذا يأتي أبوه وذاك تجيء أُمّه وتجيء أخته ويجيء أخوه، يأتي هذا الإنسان أو ذاك ماذا تريد، لماذا "تحمل السلّم بالعرض"؟ أنظر الناس من حولك، الله لا يريد منك ذلك. عش شبابك، لماذا تطلق لحيتك؟ وللفتاة لماذا تلبسين العباءة؟ لماذا أنتِ محجّبة؟ اتركوا ذلك، هل نحن مسؤولون عن الإسلام وعن الدين وحدنا. وهكذا تختلف الأساليب (بعض الناس إيمانهم هكذا، إيمانهم طري، يبدِّلون التزامهم كلّ ساعة). هنا، الله سبحانه وتعالى يقول: أنا نجّيتكم إلى البر، أنا ربّكم الرحمن الرحيم، أعرف كلّ نقاط ضعفكم، أُريد أن أعطيكم فرصة، دائماً أنا ربّكم الرّحيم، لا تتصوَّروا أنّكم خدعتم ربّكم. مَن أنتم لتخدعوا ربّكم؟ إنَّ الله يعرف سرّكم وعلانيّتكم، لكنَّ الله رحيمٌ بكم، ويريد أن يعطيكم فرصة لتنطلقوا من جديد.
لنتحسَّس نِعَم الله
الله أعطانا نعمة الوجود. لا نفكّر في قيمة أنّ نولَد بشكلٍ طبيعي، لأنَّ هذا الأمر بات مألوفاً عندنا. لا نفكّر كيف يلتقم الإنسان مثلاً ثدي أُمّه ويتغذّى بالحليب، نرى الرزق مسألة طبيعية. لننظر كيف أعطانا الله ضياء الشمس ودفأها وحرارتها؟ كيف يعطينا الله سبحانه هذا النبات الذي ينبت؟ كيف أعطانا العينين واللّسان والشفتين والأذنين واليدين والرجلين؟ كلّ هذا لا نشعر به، متى نعرف النعمة؟ تعرف نعمة العين عندما يحدث في العين خلل ما لا تستطيع بعده أن تبصر؛ لا تعرف النعمة إلاّ بعد فقدها. متى تعرف نعمة الأمان؟ بعد أن تفقده، تعرف نعمة الصحّة بعد أن تفقدها. لماذا نفكِّر بِنِعَم الناس أكثر ممّا نفكّر بِنِعَم الله؟ لو أنَّ أحداً من الناس أنقذك من ورطة، خلَّصك من السجن مثلاً، تقول والله لا أعرف كيف أُكافئ فلاناً، لولاه لقُتلت؛ لكنَّ الله سبحانه وتعالى ينقذك من كلّ الأخطار، ويعطيك كلّ النِعَم، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [النحل : 18] لكنّك لا تحسّ بها.
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران : 178]، يعطيك الله، يمدّ لكَ الحبل، وعندما ترى الحبل ولا أحد يشدّه، تعتبر أنّ الحبل بيدك، لا بيد الله ويظلّ يرخي لك إلى الوقت الذي يريد أن يشدّك ويرجعك إلى نقطة الصفر. إنَّ الله يقول تعالى: عندما تبغون في الأرض بغير الحقّ، عندما تعصون، عندما تجرمون، عندما تعتدون، عندما تكفرون بِنِعَم الله سبحانه وتعالى، فإنَّكم في هذا كلّه لا تسيؤون إلى الله سبحانه وتعالى بل تسيؤون إلى أنفسكم. أنتَ عندما تبغي، تبغي على نفسك، لأنّك تسيء إلى نفسك باعتبار أنّ البغي يؤدّي إلى نتائج سلبية على حياتك وعلى آخرتك. كلّ شيء بحساب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم} [يونس : 23] تعتدي، تظلم، تضرب، تشرِّد، تعذِّب، تقتل، تجرح، تعمل أيّ شيء من الأشياء، أنتَ تبغي على نفسك، لأنّك سوف تعيش كلّ هذا الوضع من خلال نفسك.
هذا الموضوع يجب أن نفهمه، فكما نزرع نحصد، {... كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة : 167]، كما تزرع تحصد، {فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس : 23] ستتمتَّعون متاع الحياة الدنيا، ستحصلون على المال والجاه والشهوات والسلطة وكلّ ذلك، ولكن إلى أين؟ كلّ الدروب تؤدّي إلى القبر، أينما ذهبت شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، فآخر الأمر ستصل إلى القبر.
الله لا يخدع عن جنّته
إنَّ قبرك يمثِّل الحفرة التي توصلك إلى جنّتك أو نارك. في بعض الأحاديث: أنَّ الإنسان إذا أُنْزِلَ في قبره، فإمّا أن يكون حفرة من حفر النيران، أو روضة من روضات الجنان. بحسب ما رتَّبت عملك، هذا متاع الحياة الدنيا، {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس : 23]، {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء : 14]، كيف ضربت فلاناً بغير حقّ، كيف ضربت زوجتك بغير حقّ، كيف ضربت ولدك بغير حقّ، كيف ضربت جارك بغير حقّ، كيف قتلت فلاناً بغير حقّ، كيف جرحته بغير حقّ، كيف أخذت مال فلان بغير حقّ، كيف؟
الله هو المرجع الأخير
إنّك في كلّ شيء تريد أن تعمله أو تريد أن تتركه، عليك أن تفكِّر هل هذا حقّ أم هذا باطل؟ وعندما تريد أن تأخذ الحقّ فعليك أن تأخذه ممّن يملك معرفة الحقّ وممّن يؤتمن على هذه المعرفة بأن لا يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً، لمال يريده أو لجاه يريده أو لسلطة يريدها، وما إلى ذلك. الأُمناء على حلال الله وعلى حرامه وليس كلّ الناس، هذا شيء أساسي، لماذا؟ لأنَّ المرجع إليه {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} [الأنعام : 60]، تقف بين يديّ الله {فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس : 23] لا يخبركم فقط بما عملتم بل يعرض عليكم شريط هذه الأعمال {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء : 14]، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ـــ 8]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم} [يونس : 23] في ما تبغون في الأرض بغير الحقّ {مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس : 23] فاعرفوا كيف تعملون، لأنَّ الناقد البصير يعرف كلّ دقائق الأشياء، يعرف نيّتك. فنحن يمكن أن ينافق بعضنا على بعض، لكنَّ النيّات عند الله مكشوفة. قد نُخدَع بكلمات الحقّ التي يراد بها باطل وكلمات الخير التي توظّف للشرّ، وشعارات العدل التي توظّف للظلم، لكن عند الله "فإنّما الأعمال بالنيّات وإنّما لكلِّ امرئٍ ما نوى"(1)، "يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة"(2).
"إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم إنّما ينظر إلى قلوبكم"(3). الله يقول رتِّب لي قلبك؛ إذا كان قلبك مرتَّباً نظيفاً وطاهراً وسليماً وخيِّراً، وأبداً تفوح منه الروائح الطيّبة، فلنغطس في بركة عطر ليس مشكلة، لكنَّ المهم أن يكون قلبك معطَّراً وطيِّباً، أن لا يكون قلبك خبيثاً ولا يكون نتناً، وفي ذلك الشاعر يقول:
ثوبيَ محتاجٌ إلى غاسلٍ وليتَ قلبي مثلُهُ في نقاءْ
عندما يتّسخ ثوبك قليلاً تغسله، إنّه يقول يا ليت هذا الثوب الوسخ كقلبي، لكنَّ قلبي أوسخ من ثوبي، يجب أن أُفكِّر كيف أُنظِّف قلبي مع أنّ وسخه شديد. الواحد منّا كلّ يوم يخلع ثيابه، إذا عرق وإذا اشتغل.. يغسل ثيابه، لماذا؟ عيب أن أخرج وثيابي وسخة. لكن كم تتوسَّخ قلوبنا بالنيَّات السيّئة وبالشرّ الذي يحمله بعضنا لبعض، بالحقد الذي يحمله بعضنا لبعض، بالعداوة التي يحملها بعضنا على بعض، هذه كلّها أوساخ معنوية. فلنفكِّر كيف نغسل قلوبنا بالمحبّة، بالخير وبالرحمة، بالانفتاح على الله، بالعفو، بالتسامح، ولا نفكّر بالأمور التي تعقِّد مشاعرنا وتوتِّر أعصابنا ونتربّى على هذا الأساس.
المهمّ أن نبدأ أوّلاً بقلوبنا، إذا كان "محرِّك" السيارة مخرَّباً فما قيمة كلّ الدهان الذي تدهن به سيارتك؟ المهمّ إصلاح المحرّك حتّى تتحرّك السيارة. وإذا كان الأساس في شخصيّتك مخرَّباً وهو قلبك فما قيمة كلّ هذا الاهتمام بجسدك؟ المهمّ إصلاح القلب عندما يكون مريضاً. والقلب عندنا كناية عن المنطقة الخفيّة من شخصيّتنا، التي تختفي فيها دوافعنا الخيّرة والشرّيرة وأفكارنا وأحاسيسنا ومشاعرنا، فعلينا أن نهتمّ دائماً بداخلنا.
صورة الدنيا في القرآن
ثمّ يريد الله سبحانه وتعالى أن يعطينا صورة للدُّنيا، التي يستغرق الإنسان فيها {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ...} كانت الأرض ميّتة يابسة جافّة، لا أثر للنبات فيها، كلّ البذور منثورة في الأرض، ولا بذرة تخضر بسبب انعدام الماء، ونزل الماء إلى الأرض {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} فتحت البذور أفواهها وأعماقها؛ نَمَت البذور وتحوَّلت إلى نبات {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} وجاء الربيع {حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا} الجوّ من أجمل ما يكون. الشعراء يخرجون إلى الربيع حتّى يستقبلوه، ويستوحوا منه الشعر، والناس يخرجون إلى الربيع ليستنشقوا روائح الربيع العطرة، وليمتِّعوا عيونهم بجمال الربيع، وليرتاحوا في كلّ أوضاعهم {حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا}، قادرون على قطف المزروعات {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} تأتي الرياح العاصفة والثلوج، {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} تساقطت كلّ الأزهار وتساقطت كلّ الأوراق، وذبلت كلّ الغصون ولم يبقَ شيء {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} كأنّه لم يكن هناك شيء {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس : 24].
إذا رأيت الربيع فاذكر شبابك، وإذا رأيت الخريف فاذكر شيخوختك، وإذا رأيت الأوراق تتساقط من الأشجار، فاذكر كيف تتساقط السنون من عمرك، وإذا سقطت آخر ورقة من الشجرة فانظر آخر يوم من عمرك أنّه سيسقط، كما سقطت آخر ورقة. وكما تكون الأغصان كلّها جرداء ميّتة يابسة ليست فيها أيّة آثار للحياة، فستكون أغصان جسدك كذلك ليس فيها نبضة للحياة. وكما تتحوَّل بعض الغصون والجذوع إلى حطب فانظر كيف أنت، فستتحوّل إلى حطب إذا عملت سوءاً وعصيت ربّك، كما تتحوَّل الشجرة إلى حطب توقد فيها النار وتتحوّل إلى رماد، أمّا إذا عملت صالحاً فأنتَ كالشجرة التي تنتظر وقت الربيع لتخضرَّ من جديد ولتحيا من جديد ولتكون بهجة للناظرين من جديد. وأنتَ إذا أعطيت عمرك حيويّة التقوى وروحية الإيمان، فقد تموت وقد تبقى في القبر عظاماً نَخِرة، ولكنَّ عملك الصالح يأتي في يوم القيامة، ليبعث فيك النضر والحياة وليقول لك {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ} [الحجر : 46].
بين دعوة الله ودعوة الشركاء
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس : 24] يا أيُّها الإنسان فكِّر، لماذا تغلق فكرك، لماذا تجمّد فكرك، لماذا تشغلك شهواتك عن فكرك، لماذا يشغلك رفاقك عن فكرك، لماذا يشغلك هؤلاء اللاهون بمصيرك عن فكرك؟ لو اجتمع الناس عليك وأرادوا أن يشغلوك عن نفسك، قل لهم: يا أيّها الناس إنّي أريد أن أفرغ لنفسي، لأنّي أُريد أن أُفكِّر في كلّ شيء تعرضونه عليَّ وفي كلّ شيء تطرحونه عليَّ وفي كلّ شيء أريد أن أقدِم عليه، لأنَّ الإنسان الذي يسير بدون فكره كالإنسان الذي يسير بدون بصر، سوف يتخبَّط هنا وهناك.
ثمّ الله بعدما يعطينا الصورة ويقول: يا جماعة فكِّروا. يقول لكم: بعد انتهائكم من التفكير أنتم لكم عندي دعوة، أتقبلون دعوتي؟ لو فرضنا أنَّ وجيهاً كبيراً دعاكم إلى بستانه، لكنّه قال لكم إنَّ لي شرط كذا وكذا، وسأدعوكم إلى حفلة من أروع الحفلات التي تبهج القلب وتفتح النفس، تحصلون على جوائز غير معروفة، يطلب منكم شروطاً معيّنة إذا أردتم الذهاب إلى هذا الوجيه أو إلى هذا الغني أو هذا الزعيم أو الرئيس، ألاَ تحاولون أن تكونوا منضبطين وحركتكم مدروسة بدقّة.
أوّلاً الله يقدّم لكم دعوة، فكِّروا أن تستجيبوا لدعوة الله ولا ترفضوها بحجّة أن "شغلنا بالنقدي ولا أحد يدين هذه الأيّام" أيام الدولار { وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} [يونس : 25]، أين دار السلام؟ يقول الله لكم تعالوا يا عبادي، هذه جنّتي جاهزة، زينتها للمتّقين، هيّأتها للمؤمنين، أعددتها للصالحين، {... وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة : 197] آمنوا بالله، أصلحوا أعمالكم يُصلِحْ لكم ربّكم آخرتكم. تعالوا إليَّ يا عبادي. الجنّة لكم {فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت : 31]، ما رأيكم، دعوة مقبولة أم لا؟ هل نرفض دعوته {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس : 25].
إنَّ الله إذا عرَفَ منك الإخلاص في الرغبة إلى الهداية، وإذا عرفت منك الجدَّ في السير في طريق الهداية، فهو يهديك إلى صراط مستقيم. ماذا يوجد في دار السلام وفي الآخرة، لك عملك {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام : 160]، {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ...} قتر يعني من الغبار الذي يشبه السواد، ويشبه الدخان. في يوم القيامة هناك بعض الوجوه ترهقها قترة وذلّة، لكن المؤمنين لا يرهق وجوههم قترة ولا ذلّة، وجوههم نضرة منفتحة، مبتسمة {أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس : 26]، مَن هم الذين أحسنوا الحسنى؟ إنّهم الذين ساروا في طريق الحسنى، إنّهم الذين ساروا في طريق الحسنى، وهم الذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر. {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} ليس أكثر {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} لأنّهم يُقبِلون على مصير مظلم، يشعرون بالخوف ويشعرون بالفزع، {مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [يونس : 27]، أين عشائرهم؟ كلّ شخص منهم مشغول بنفسه، أين أحزابهم؟ كلّ شخص مشغول بنفسه، أين طائفتهم؟ أين قوميّاتهم؟ أين؟ {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس : 37]، كلٌّ يقول: يا ربّ نفسي نفسي {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل : 111]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار : 19]، فرتِّب شغلك مع مَن يملك الأمر كلّه، لا تهتمّ بأن ترتّب شغلك مع فلان على حساب الله ومع فلان في معصية الله، لأنَّ فلاناً لن يملك لك ولا لنفسه ضرّاً ولا نفعاً، ولن يملك لك من الأمر شيئاً. رتِّب شغلك وقوِّ علاقتك مع مَن يملك الأمر كلّه ويملك الموقف كلّه.
{مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} [يونس : 27]، إنَّ الله يشبّه سواد الوجه، {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران : 106]، سواد الوجه، سواد الألم، سواد الخزي، سواد العار، سواد الذلّ، إنَّ وجهك مصبوغ بقطعة من الليل، كأنَّ الله اقتطع من الليل قطعة وجعلها على وجوههم فلم يبقَ هناك أيّ إشراقة لأيِّ شيء من ملامح وجوههم. التعبير القرآني تعبير رائع ودقيق {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ*وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ـــ بعَّدنا بينهم ـــ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس : 27 ـــ 28].
هؤلاء الزعماء لا يتحمّلون مسؤولية أحد، زعماء الشرّ وزعماء السوء ورؤساء الشرّ ورؤساء السوء، هؤلاء الذين تزحفون إليهم على الرغم من كلّ جرائمهم، وعلى الرغم من كلّ أوضاعهم، هؤلاء الذين تعصون الله وتطيعونهم، هؤلاء يوم القيامة يقولون لكم: ما ذنبنا {مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} كاذبون أنتم، أنتم تدَّعون أنّكم كنتم تعبدوننا. أبداً، نحن لا نعرفكم ولم نشاهدكم. من أيّ البلاد أنتم؟ الله يحدّثنا هذا الكلام في القرآن وهو يحذِّرنا، إنّه يقول لكلٍّ منّا: رتَّب شغلك في هذه الدنيا، قبل أن تأتي إلى يوم القيامة أعمى. غداً سيقول لكلّ من تبعه: لا أعرفك. وستجيبه: يا فلان أنا أكنت أُقاتِل عنك، أنا كنت أسبِّح بحمدك، كنت أقتل الناس على حسابك، كنتُ أعمل كذا وكذا والجواب: لا أعرفك.
إنّي دائماً أقول لكم وأقول لنفسي؛ لنفهم القرآن في حركة الحياة، أن لا نفهم القرآن كحروف ننبش معانيها من القاموس. مَن هم هؤلاء الشركاء، إنّهم الذين يدعون الناس إلى معصية الله وترك عبادته والانحراف عن الصراط المستقيم، والذين يصدُّونهم عن السبيل.
لماذا نعصي الله سبحانه وتعالى على حساب فلان وفلان؟ {وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ*فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 28 ـــ 29]، الله يقول هذا الكلام: هذا يدافع عن نفسه، ذاك ينكر مسؤوليته، وذلك يحاول أن يهرب من المسألة {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ...} [يونس : 30] هناك يختبر كلّ إنسان عمله. هنالك تبلو، يعني تختبر كلّ نفس ما أسلفت، يعني ما مضى عليها في الدنيا {وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ} كلّهم جاؤوا، كلّ واحد من بلدته، من مدينته، من دولته {وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [يونس : 30]، من شركاء ومن أكاذيب ومن كلّ ذلك.
مراجعة حساباتنا ضرورة إسلامية
هذا هو الموقف، لا تزال عندنا بقيّة أن نرفض كلّ الشركاء، لا تزال عندنا بقيّة ان نرجع إلى الله في الدنيا بعقولنا التي توحّده وبقلوبنا التي تحبّه وبأعضائنا التي تطيعه وبمواقفنا التي تتحرّك إليه. لا تزال عندنا فرصة أن نتوب إلى الله وأن نرجع إلى الله وأن نعمل بما أنزل الله؛ والله يقول لنا إذا رجعنا إليه في الدنيا فمرحباً بكم في دار السلام، راجعوا حساباتكم. لنراجع حساباتنا مع الله الآن، ولنضبط حساباتنا معه، فإنَّ من استطاع أن يضبط حساباته ـــ كلّ حساباته ـــ مع الله، فستثْبُتُ أقدامه يوم تُزَّل الأقدام.
والحمد لله ربّ العالمين
(*) خطبة الجمعة التي أُلقيت بتاريخ 1/1/1988.
البحار، ج:77، ص:377، رواية:36، باب:14 (رواية) (1)
البحار، ج:74، ص:338، رواية:119، باب:20.(1)
البحار، ج:81، ص:219، رواية:16، باب:4. (1)
قرية لبنانية مسيحيّة في جنوب لبنان.(1)
البحار، ج:63، ص:265، رواية:149، باب:3( رواية).(1)
البحار، ج:67، ص:316، رواية:50، باب:14 (رواية).(1)
(1) قصف العراق المدن الإيرانية الكبرى بصواريخ بعيدة المدى وذات قوّة تدميرية هائلة تمّ تزويدها بها من مخازن الأسلحة الأميركية والأوروبية. واستهدف القصف العراقي المدنيين في هذه المدن بهدف الضغط على قرار القيادة في الجمهورية الإسلامية عبر إيقاع أكبر عدد ممكن من الشهداء بين الآمنين العُزَّل.
البحار، ج:44، ص:329، رواية:2، باب:37.(2)
(1) الإمام محمد بن الحسن (عليه السلام)، الإمام الثاني عشر لأئمّة الشيعة والملقّب بالمهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) وله غيبتان الأولى دامت حوالي الخمس سنوات والثانية مستمرة حتّى يومنا هذا، وهو سيخرج بعد أن يأذن الله له بذلك ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً.
(1) حديث شريف يتناقله ثقاة الشيعة عن رسول الله وبه يستدلُّون على ولاية الأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام) على الأُمّة بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
البحار، ج:1، ص:164، رواية:2، باب:1.(3)
البحار، ج:67، ص:111، رواية:21، باب:3.(1)
(1) قضية المهجرين، قضية اجتماعية وسياسية قديمة في لبنان وعمرها من عمر الأزمة اللبنانية التي تطاولت سنواتها الـ 16 سنة. وكان يجري الحديث يومئذٍ عن حلّ لقضية مهجري الجبل وشرق صيدا دون باقي المناطق.
(1) في هذه الآونة دار حديث وجدل حول مسألة انسحاب صهيوني محتمل من منطقة جزين وهي منطقة تقع على تقاطع ثلاث مناطق لبنانية أساسية: الجنوب والبقاع الغربي والشوف، إثنان منهما على تماس مع الصهاينة.
المقصود بالاستحقاق الرئاسي هو اقتراب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية في لبنان.(1)
الإشكال الأمني الذي حصل في الضاحية الجنوبية عشية انفجار الوضع الأمني فيها بين حركة أمل وحزب الله.(1)
(1) بعد حرب الضاحية انطلقت الإشاعات التي أرادت زجّ اسم آية الله فضل الله بين الأسماء التي تغطّي طرفاً دون آخر. فبادر سماحته إلى مواجهة هذه الاتهامات بالدعوة إلى ردع الأجهزة المخابراتية المروّجة لمثل هذه الإشاعات، إضافة إلى الوقوف عن كثب على تصريحات ومواقف سماحته قبل إطلاق الاتّهامات العشوائية بحقّه.
(1) بعد تفاقم حرب الضاحية وعدم التوصّل بين أمل وحزب الله إلى حل يوقف الصراع في ما بينهم، بدأ الحديث عن دخول القوات العربية السورية لحسم الوضع الأمني في كلّ منطقة بيروت.
(1) عملت أجهزة الاستخبارات على ترويج بعض الأضاليل التي انطلقت على كثير من القيادات والناس. ومفادها أنّ آية الله فضل الله يصدر الفتاوى لقتال فريق ضدّ فريق وغير ذلك من الاتهامات التي اعتبرها سماحته دسّاً رخيصاً ومحاولات للنيل من صورته وشخصه.
خطبة الجمعة التي أُلقيت بتاريخ 27/5/1988.(*)
(1) حصلت مواجهة بطولية مميّزة في ميدون ـ البقاع الغربي ـ في مواجهة الاحتلال الصهيوني، استشهد فيها عشرون مقاوماً وكان ذلك عشيّة ما عرف بحرب الضاحية.
(2) موقع متقدِّم من مواقع المقاومة الإسلامية في مواجهة العدو الصهيوني في الشريط الجنوبي المحتل.
(1) إبان المعارك التي حصلت بين أمل وحزب الله، سَرَت أقوال مضلّلة تعتبر أنّ المعركة الدائرة بين الشيعة في لبنان هي معركة بين طرف شيعي والجمهورية الإسلامية في إيران.
البحار، ج:2، ص:99، رواية:59، باب:14.(1)
سعد حدّاد، وانطوان لحد قائدان لجيش العملاء في الشريط الجنوبي المحتلّ.(2)
نهج البلاغة، ج:8، باب:129، ص:244.(1)
(1) لا بدّ من الإشارة إلى أنه في حالات الاحتقان السياسي والمذهبي، قد تتحرّك المخابرات بقوّة لتستغلّ التناقضات وتبذر الفتنة. لذا فإنّ على القيمين على هذه الأوضاع عدم الانسياق وراء الإشاعات الكاذبة، لمجرّد أنّها تخلق لهم المبرّر لتنفيس عقدة ما أو أمر معيّن.
البحار، ج:70، ص:72، رواية:22، باب:45، رواية.(1)
البحار، ج:68، ص:80، رواية:141، باب:15.(1)
(1) في زحمة الصراع بين تنظيمي أمل وحزب الله، دار سجال حادّ حول ما سُمّي يومها بأمن الجنوب، ومن يحمي هذا الأمن، وهل من سبيل إلى غرفة عمليات مشتركة أو غير مشتركة للمقاومة؟ وكلّ ذلك كان يجري في وقت لم يهدأ القصف الصهيوني مهدّداً أمن الناس وحياتهم وممتلكاتهم.
(1) هذه القمم عقدت في أجواء السعي الأميركي لمحاصرة الجمهورية الإسلامية والتضيّق عليها في وقت أرادت أميركا لهذه الدول أن تستعدّ لمباشرة الصّلح مع الكيان الصهيوني.
(1) العنوان العريض الذي شنّت أميركا حربها على إيران من خلاله كان أنّ إيران تريد تصدير الثورة إلى خارج حدودها الجغرافية وقد استطاعت الولايات المتحدة من خلال هذه العناوين التحريضيّة جعل معظم دول الخليج خطّ مجابهة عسكرية وسياسية في مواجهة إسلامية الجمهورية الإيرانية.
عادة تقوم أميركا ببيع أسلحة متطوّرة نسبياً إلى دول الخليج وتشترط عليها عدم استخدامها ضدّ "إسرائيل".(1)
(1) في أبشع عملية قرصنة ضدّ مدنيين قامت الطرادات الأميركية بإسقاط طائرة الإيرباص الإيرانية وقتلت ما تزيد على 300 راكب كانوا على متنها بين شيخ وطفل وامرأة وشاب.
(1) "سباق الخيل" أحد الأمكنة التي تقع في المنطقة الوسطى بين شرق بيروت وغربها تمّ تداول اسمها مكاناً لاجتماع الفئات اللبنانية المتنازعة لكي تتحاور فيما بينها.
(1) لقد استخدمت مرافق الناس الحياتية والضرورية كوسائل ضغط سياسي من قِبَل المارونية السياسية، لذلك تمّ بالكامل ولفترات طويلة جداً قطع الكهرباء والماء وغيرها.
(1) المجزرة البشعة التي ارتكبتها السلطات الملكية السعودية بحق حجّاج بيت الله الحرام في مسيرة البراءة من المشركين، التي دعا إليها آية الله الخميني (قدّس سرّه) وذهب ضحيّتها ما يزيد على 400 حاج شهيد.
إشارة إلى قبول الإمام الخميني (قدّس سرّه) بالقرار 598 الصادر عن الأمم المتحدة بخصوص وقف الحرب العراقية – الإيرانية.(1)
(1) الإمام الحسين (عليه السلام) هو الإمام الثالث من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بعد عليّ والحسن (عليهما السلام) وقد ثار من الإمام على انحرافات يزيد بن معاوية طلباً للإصلاح في أُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم). وقد استُشهِدَ في هذه الثورة مع اثنين وسبعين شخصاً من أصحابه وسبيت نساؤه وعياله.
البحار، ج:10، ص:353، رواية:1، باب:20. (4)
(1) المقصود "بالوحي الدولي"، الضوء الأخضر الذي تعطيه الدول الكبرى للناخبين المحليّين بغية اختبار شخص حائز على رضا هذه الدول وثقتها بعيداً عمّا إذا كان هذا الشخص يصلح لخدمة شعبه ودولته أم لا.
أحد علماء الدين، الذين قتلوا ظلماً على أحد حواجز الميليشيات في بلدة بئر السلاسل في خضم الحرب ـ الفتنة بين حز//ب الله وحركة أمل.(2)
نهج البلاغة، ج:3، باب:43، ص:58.(1)
البحار، ج:37، ص:64، رواية:41، باب:52.(1)
البحار، ج:71، ص:9، رواية:1، باب:1.(2)
إشارة إلى اغتيال فضيلة الشيخ علي كريّم في بئر السلاسل. ودعوة إلى ضبط وتفويت الفرصة على مسعري الفتنة.(1)
خطبة الجمعة التي ألقيت بتاريخ 30/9/1988.(*)
البحار، ج:6، ص:137، رواية:43، باب:4. (2)
البحار، ج:22، ص:152، باب 1، رواية:4. (3)
البحار، ج:44، ص:139، رواية:6، باب:22.(1)
نهج البلاغة، ج:17، باب:62، ص:151.(1)
(1) في هذه الفترة أعلن ياسر عرفات ولادة الدولة الفلسطينية المستقلّة لكن دون تبيان لمعالمها وقبل أن يتحرَّر شبر واحد من براثن الاحتلال الصهيوني.
خطبة الجمعة التي ألقيت بتاريخ 25/11/1988.(*)
(2) حكومة الرئيس سليم الحص والحكومة التي فرضها أمين الجميل في الدقائق الأخيرة من ولايته برئاسة قائد الجيش ميشال عون وكانت عسكرية بكاملها.
(1) جرى التحكيم خلال معركة صفّين بين الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ومعاوية الذي خرج على إمام زمانه واستغلّ مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفّان للتحريض على ولاية أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام).
(1) الصلح الذي أجراه الإمام الحسن بن عليّ (عليه السلام) مع معاوية بشروط ملزمة تَنَصَّلَ منها معاوية فيما بعد عندما استتبَّ له أمر الحياذة على الدولة الإسلامية.
البحار، ج:75، ص:333، رواية:69، باب:79.(1)
(1) كانت أميركا قد بدأت حواراً مع عرفات مشروطاً بوقف العمليات الفدائية ضدّ الكيان الصهيوني، لكن حدث أنْ قامت بعض الفصائل الفلسطينية بعمليات ترافقت مع حوار عرفات ممّا دفع أميركا إلى وقف الحوار بسبب إخلال عرفات وتهديداته.
البحار، ج:67، ص:111، رواية:21، باب:3.(1)