آية الله العظمى
السيد محمد حسين فضل الله


آفاق الروح
في أدعية الصحيفة السجادية


الجزء الثاني

دار الملاك

دعاؤه(ع)
لجيرانه وأوليائه إذا ذكرهم

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَتَوَلَّني في جِيراني وَمَوالِيَّ الْعارِفينَ بِحَقِّنا، وَالْمُنابِذينَ لأِعْدَائِنا، بِأَفْضَلِ وَلايَتِكَ.
وَوَفِّقْهُمْ لإقامَةِ سُنَّتِكَ، وَالأخْذِ بِمَحاسِنِ أَدَبِكَ في إِرْفاقِ ضَعيفهِمْ، وَسَدِّ خَلَّتِهِمْ، وَعِيادَةِ مَريضِهِمْ، وَهِدايَةِ مُسْتَرْشِدِهِمْ، وَمُناصَحَةِ مُسْتَشيرِهِمْ، وَتَعَهُّدِ قَادِمِهِمْ، وَكِتْمانِ أَسْرارِهِمْ، وَسَتْرِ عَوْراتِهِمْ، وَنُصْرَةِ مَظْلُومِهِمْ، وَحُسْنِ مُواساتِهِمْ بِالْماعُونِ، وَالْعَوْدِ عَلَيْهِمْ بِالْجِدَةِ وَالإفْضالِ، وَإِعْطاءِ ما يَجِبُ لَهُمْ قَبْلَ السُّؤالِ.
واجْعَلْنِي اللّهُمَّ أَجْزي بِالإحْسانِ مُسيئَهُمْ، وَأُعْرِضُ بِالتَّجاوُزِ عَنْ ظالِمِهِمْ، وَأَسْتَعْمِلُ حُسْنَ الظَّنِّ في كافَّتِهِمْ، وَأَتَوَلّى بالْبِرِّ عامَّتَهُمْ، وَأَغُضُّ بَصَري عَنْهُمْ عِفَّةً، وَأُلينَ جانِبي لَهُمْ تَواضُعاً، وَأَرِقُّ عَلى أَهْلِ الْبَلاءِ مِنْهُمْ رَحْمَةً، وَأُسِرُّ لَهُمْ بِالْغَيْب مَوَدَّةً، وَأُحِبُّ بَقاءَ النِّعْمَةِ عِنْدَهُمْ نُصْحاً، وَأُوجِبُ لَهُمْ ما أُوجِبُ لِحامَّتي، وَأرْعى لَهُمْ ما أَرْعى لِخاصَّتي.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَارْزُقْني مِثْلَ ذلِكَ مِنْهُمْ، وَاجْعَلْ لي أَوْفَى الْحُظُوظِ فيما عِنْدَهُمْ، وَزِدْهُمْ بَصيرَةً في حَقّي وَمَعْرِفَةً بِفَضْلي، حَتّى يَسْعَدوا بي وَأَسْعَدَ بِهِمْ، آمينَ رَبَّ الْعالَمينَ.
* * *
مفهوم الجار في الإسلام:
للجار في النصوص الدينية قربى في الخطّ الأخلاقي الذي يربط الإنسان بالإنسان على مستوى الحقوق اللازمة حيناً، والمستحبة حيناً آخر، حتى ورد الحديث عن رسول الله(ص): "ما زال جبرائيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنّه سيوَرّثه"(1)، وعن عليّ(ع): "أنّ رسول الله(ص) قال في صلة الجار المسلم، ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره المسلم جائع، ثم قال: ما زال جبرائيل(ع) يوصيني بالجار حتى ظننت أنّه سيورّثه"(2). وقد جاءت النصوص الحديثية عن ضرورة الإحسان إلى الجار بالدرجة العليا، بحيث إنّ المطلوب هو تحمّل الأذى منه، والاكتفاء بعدم إيذائه.
وربّما كان الأساس في ذلك أنّ هذا القرب في البيت أو المحلّة يجعل الناس الذين يعيشون في دائرته في حالة تواصل دائم، وقد يؤدّي إلى مشاكل دائمةٍ من خلال تصادم الحاجات والمصالح والأوضاع، واختلاف الطباع، وتنوّع العلاقات، وتنافر المشاعر، الأمر الذي قد يثير التعقيدات اليومية بين هؤلاء الناس، إذا بقيت العلاقات في نطاقها المادّي الذي يخضع لحساب الأرباح والخسائر الذاتية، فتتحول الحياة إلى جحيم لا يطاق من دون أن يكون هناك مجال للتخلص منه بطريقة واقعية، لأنّ من الصعب على الإنسان أن ينتقل من بيته إلى بيت آخر في محلّة أخرى، وقد يعيش المشكلة نفسها في المنطقة الأخرى مع أناس آخرين، فتتجدد السلبيات عنده.
لذلك كانت التعاليم الإسلامية الأخلاقية تعمل على تعميق العلاقة بين الجيران، بحيث يدخل فيها العنصر الروحي الذي يدفع بالإنسان إلى الإحساس بالقرابة الروحية التي يرعاها الله، وبالالتزامات الإلهية الشرعية التي يحبها لعباده، كما يعدهم بالقرب منه بقدر التزامهم بها، فينطلق الإنسان معها من روحية التقرب إلى الله مع هؤلاء الناس، بحيث يعيش التضحية بمزاجه وبمصالحه وبراحته وببعض أوضاعه لمصلحة جيرانه طلباً لنا عند الله، وتقرّباً إليه، فلا يتعقّد من مشكلة يثيرها هذا معه أو مع عياله، ولا يشعر بالإثارة إذا أثارته كلمة من هنا أو حركة من هناك.
وإذا اختزن الإنسان هذا الشعور تجاه جيرانه، في داخل نفسه، فإنّه يتحول إلى طبيعة أخلاقية ثانية، تتغير بها أخلاقه، وتتبدل بها مشاعره، مما قد يثير الأجواء الحميمة في ذاته، بالإضافة إلى الأجواء الطبيعية التي توحي بالإلفة والانفتاح.
وهكذا نلاحظ أنّ المنهج الإسلامي يؤكّد على الخطّ الروحي في تخفيف التعقيدات الاجتماعية، كما في مجتمع العائلة والأرحام والجيران ونحوه من المجتمعات التي يلتقي أفرادها على عناصر من القربى المادية التي تؤدّي إلى اللقاءات الكثيرة بين الأفراد، والتشابك الدائم في حركة المصالح والنوازع والطباع في العلاقات، فيرفع درجة الثواب كلما كان التواصل أكثر، والخدمات أفضل، والإحساس أكثر مودّة ورحمةً، والتضحية أكبر، كما يرفع درجة العقاب في القطيعة والإساءة والإهمال والمشاعر المضادّة، والحركة السلبية.
وإذا كانت المناهج التربوية في المسألة الإنسانية الأخلاقية لا تحقّق أهدافها على مستوى النتائج الإيجابية الثانية، فإنّها تخفف الكثير من الحدّة والانفعال النفسي والمشاكل العملية، بدرجة كبيرة، وهذا ما نلاحظه في سلوك المؤمنين في صلة الأرحام والجيران وعلاقتهم ببعضهم البعض في المسألة الإيمانية.
وإذا كان الجيران بهذه المنزلة من الاهتمام، فإن للأولياء دورهم في المسألة الشعورية والعملية، والمراد بهم الأحبّاء والأتباع والمؤيدون الذين يرتبط الإنسان بهم ويرتبطون به، من خلال الخطّ الفكري أو السياسي أو الاجتماعي الذي يجعل الشخص رمزاً، ليكوّن هؤلاء الجماعة التي تنفتح حياتها في سلوكها العملي على هذا الرمز باعتباره تجسيداً أو مثالاً أو عنواناً للفكرة التي يلتزمونها أو يؤمنون بها.
وربما تلتقي مثل هذه العلاقة بالسلبيات الكثيرة على مستوى حالة التعصب التي قد يختزنها الأتباع للرمز، فيمتد الأمر بهم إلى درجة العُلوّ من جهة، عندما ترتفع مشاعرهم لتضفي عليه هالةً كبيرة من الأحاسيس والخيالات بما يتجاوز حدّه وقدره، وينحرف بهم الخطّ إلى درجة إلغاء الآخر الذي قد يملك بعض ما يملكه الرمز من معطيات وكمالات، فلا يرون فيه شيئاً من ذلك، ويتطور بهم الموضوع إلى أن ينسبوا إليه أشياء كثيرة من النقائص التي لم يتصف بها لينزلوا بقدره عن مستواه الطبيعي، أو ليبتعدوا به عن هذا المستوى من حيث الأساس.
وقد يتعصب الإنسان للأشخاص الذين يحبّونه ويتبعونه ويؤيدونه، فلا يرى فيهم إلاّ الإيجابيات، فيغمض عينيه عن سلبياتهم الفكرية والعملية، وينكر على الناس الذين ينتقدونهم هذا النقد، ويرى في كلامهم عنهم ظلماً وعدواناً، فإذا أقبل عليهم وأقبلوا عليه قارضهم مدحاً بمدح وثناءً بثناء، لأنّ العلاقة تنطلق من المشاعر ولا تنطلق من العقول. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ هناك لوناً من المسؤولية التي يتحمّلها الإنسان لأوليائه في رعاية أمورهم واستقامة خطوطهم، والانفتاح عليهم بما يرضي الله سبحانه في القول والفعل.
وهذا ما عاشه الإمام زين العابدين(ع) في دعائه لجيرانه وأوليائه إذا ذكرهم، فإنّنا نراه يتحسس الصورة التي يجب أن يكونوا عليها من حيث هم الجماعة التي يريد لها أن تكون المثال الحيّ للجماعة المسلمة التي تأخذ بآداب الإسلام في الإرفاق بالضعيف، وسدّ خلّة المحتاج، وعيادة المريض، وهداية المسترشد، ونصح المستشير، وتعهّد القادم، وكتمان الأسرار، وستر العورات، ونصرة المظلوم، وحسن المواساة بالمعونة، والعود على الناس بالجدة والأفضال، وإعطاء ما يجب لهم من الحقوق بطريقة المبادرة، وعدم انتظار الطلب بالسؤال.
أمّا كيف يتصوّر طريقة التعامل معهم من حيث ردّ الفعل تارةً، ومن حيث الفعل أخرى، فإنّ الصورة المشرقة تتمثل في جزاء الإساءة بالإحسان، والتجاوز عن ظالمهم، وحسن الظنّ معهم كافة، والبر بهم عامّةً، وغضّ النظر عن محارمهم عفّةً، ولين الجانب لهم تواضعاً، والرقة والشفقة على أهل البلاء منهم من باب الرحمة، وأن اخلص المودة بالغيب، فأسرّ بها للتدليل على أن المسألة ليست مسألة إعلانٍ ظاهرٍ، وانصح لهم، فأحبّ بقاء النعمة لهم تدليلاً على المحبة والنصيحة، وأوجب لهم من الحقوق والرعاية والعناية ما أوجبه لقرابتي وأخصّائي من الناس.
ويختم الدعاء بالتمنّي على الله، ودعائه، بان يجعلهم يفكّرون بالطريقة التي يفطر بها، في وعي البصيرة بالحق اللازم لهم تجاهه، لتكون المسألة في نتائجها الإنسانية، التبادل في الإحساس بالسعادة في ما يقدمه كلٌّ منهم إلى الآخر من القلب المفتوح، والحركة المنفتحة على الإنسانية.
* * *
وفي أجواء هذا الدعاء، نعيش الخطّ التربوي الإسلامي في العلاقات الإنسانية في حقوق الإنسان على الإنسان، بحيث تتجاوز مسألة الجانب المادي في التبادل لتنطلق إلى الجانب الروحي الذي يرتفع به الإنسان في الانفتاح على أخيه الإنسان، بقطع النظر عما يقدّم الآخر إليه، لتكون المسألة الأخلاقية مسألة قيمةٍ روحية، لا مسألة منفعة مادية، وهذا ما ينبغي للتربية العملية أن تنطلق نحوه وتتحرك في اتجاهه، كما ينبغي للقائمين على شؤون التربية اختيار الدعاء كوسيلة تربوية من خلال الأدعية التي تحمل مضامينها منهجاً تربوياً كهذا الدعاء، لأنّ للدعاء إيحاءاته المميزة من حيث تجسيده للمشاعر النفسية التي يتمثل فيها الإنسان المضمون الدعائي كحالة ذاتية ينطلق بها إلى الله، كما ينطلق بحاجاته الأخرى في ابتهالاته الروحية أمامه.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَتَوَلَّني فِي جيرَاني وَمَواليَّ العّارفينَ، بِحَقِّنَا، والمنَابِذينَ لأعْدائِنَا، بِأفْضَلِ وِلاَيَتِكَ.
* * *
العلاقة بالجار علاقة خطٍّ وفكر وقيمة:
 يا ربّ، إنّ لي جيراناً تتصل مواقعهم بموقعي، وتلتقي أوضاعهم بأوضاعي، وتمتد صلتهم بي وصلتي بهم امتداد العمر، الأمر الذي يجعلني أعيش همّهم في اهتماماتهم وأوضاعهم، فأفكر بهم وأدعوك لهم كما أدعوك لنفسي ولأهلي، من خلال المصير المشترك والعلاقة الوثيقة، وإنّ لي أولياء ممن يحبونني وينصرونني ويتبعونني ويؤيدونني ويكونون عوناً لي على مواجهة مشاكل الحياة، وتحديات الأعداء، فهم يعرفون حقّي وينبذون أعدائي، انطلاقاً من وعيهم للقاعدة الفكرية التي انطلق منها في حركتي في الواقع، مقارنةً بالقاعدة الفكرية المضادة التي انطلق منها الأعداء، فيرون في الخطّ الفكري لي إيجابيات الحقّ والخير والعدل، ويكتشفون في الخطّ سلبيات النتائج المتنوعة في واقع الإنسان، فلم تكن المسألة عصبية للشخص أو العائلة أو الموقع، بل كانت التزاماً بالعقيدة والشريعة والمنهج والهدف الكبير، وذلك هو الذي يجعل من العلاقة علاقة خطٍّ وفكر وقيمة، لا علاقة ذاتٍ وعصبيةٍ وجاهلية.
اللهم تولنّي فيهم بالنصرة لهم والقيام بأمورهم، والكفالة لمصالحهم،  والرعاية لشؤونهم، وحماية وجودهم من كلّ خطر، وإصلاح أوضاعهم، في كلّ موقع، واجعل ذلك أفضل ما تتولى به عبداً من عبادك بولايتك التي تجسّد الخير كلّه للإنسان في دنياه وآخرته.
* * *
وَوَفِّقْهُمْ لإقامَةِ سُنّتِكَ، والأخْذِ بِمَحَاسِنِ أدَبِكَ، في إرفَاقِ ضَعْفِهِمْ، وسَدِّ خَلَّتِهمْ، وَعِيَادَة مَرِيضِهِمْ، وَهِدَايَةِ مُسْتَرْشِدهمْ، وَمُنَاصَحَةِ مُسْتَشيِرِهِمْ، وَتَعَهُّدِ قادِمِهِمْ، وكِتْمَانِ أسْرَارِهمْ، وسَتْرِ عَوْرَاتِهِمْ، ونُصْرَةِ مَظْلُومِهِمْ، وحُسْنِ مُوَاسَاتِهِمْ بِالَماعُونِ، وَالعَودِ عَلَيْهِمْ بالجِدَةِ والإفْضَالِ، وإعْطَاءِ مَا يَجِبُ لَهُمْ قَبْلَ السُّؤالِ.
* * *
اللهم وفّقهم للأخذ بمحاسن أدبك:
يا ربّ، إنّني عندما أفكر في جيراني وموّاليَّ، فإنني أفكر بهم كجزء من المجتمع الإسلامي الكبير في القيم الأخلاقية والاجتماعية التي يعيش فيها كلّ فردٍ من أفراده مشاكل الفرد الآخر، ويحمل همّه، وينفتح على اهتماماته، تماماً كما هي الصورة الإسلامية للمجتمع المؤمن المسلم من خلال حديث رسولك محمد(ص) حيث قال: "مثل المؤمنين في تودّاهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمَّى"(3). وقوله(ص): "من لم يهتمَّ بأمور المسلمين فليس بمسلم(4): أو: "من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"(5).
وغيرها من الأحاديث التي تؤكّد الخطّ الأخلاقي الاجتماعي الذي نزلت به آياتك، مما يوحي بضرورة الترابط العضوي، والتكامل العملي، والتكافل الاجتماعي بين المؤمنين، ليتحوّل المسلم إلى وحدةٍ في التنوّع في الأفكار والطاقات والمواقع والوسائل والغايات.
إنّني لا أريد أن أعيش معهم، كإنسان يلهو مع الإنسان الآخر، أو يستمتع بما يقدمه له من المنع، أو ينطلق معه في أجواء اللغو والعبث واللامبالاة، بل أريد أن أعيش معهم كإنسانٍ يتحمل مسؤولية المواقع مع الآخرين، لننطلق - معاً - في بناء الحياة على الصورة التي تحبّ، وذلك من خلال الدوائر الصغيرة، كالجيران في محلتهم، والمنتمين في مواقع انتمائهم، ليمتد ذلك إلى الدائرة الكبرى التي تلتقي عندها الدوائر الصغيرة، كما تلتقي الجداول عند النهر الكبير.
اللهم إنّي أبتهل إليك أن تمدّهم بتوفيقك لإقامة سنتك في كلّ شرائعك التي أمرت رسولك أن يخطط للناس حياتهم على نهجها القويم، ليأخذوا بها في كلّ قضاياهم الفرديّة والاجتماعية، ليكون منهجك هو منهجهم، وطريقك هو طريقهم، وسنتّهم هي سنتّك التي تضيء لهم كلّ الدروب.
وخذ بأيديهم إلى الأخذ بمحاسن أدبك الذي أدّبت به رسلك ليؤدّبوا به مجتمعاتهم، ليعرف الناس - من خلالهم - كيف يزرعون الأرض حباً وحناناً وعطاءً وبذلاً ورحمة ومودّة ونصحاً وتضحيةً، ورشداً وهداية وانتصاراً ومواساة، وتقوية للضعيف في كلّ مواقع ضعفه، وكيف يتحولون إلى قوّةٍ تمنح الإنسان قوّة، وترتفع بالحياة كلّها إلى المستوى الأعلى للقوّة والرحمة والثبات، وذلك من خلال المفردات الأخلاقية القيمية التالية:
- 1- الإرفاق بالضعيف، وذلك بالتعرف على نقاط ضعفه في جسده وعقله وروحه وموقعه وثقافته وفي ماله وحركته، وذلك من أجل إيصال القوّة إليه بحسب حاجته في الكمّ والنوع بلطف ولين، بحيث يتحول إلى عنصر قويّ فاعل يمنح الحياة القوّة من خلال قوته الجديدة، فإنّ الله لا يريد للضعيف أن يستسلم لضعفه، كما لا يريد للمجتمع أن يهمل الضعفاء في داخله، فلا بدّ له أن يرفق بهم في ما يقدّمه لهم من عون ومساعدة.
- 2- سدّ الخلة، وهي الحاجة والفقر والخصاصة، فلا بدّ للمجتمع أن يبادر للتعاون على إزالتها بكلّ الوسائل الممكنة، والفرص المتاحة، والإمكانات المتوفرة، من اجل التخفيف من معاناة الفقراء، أو حلّ مشكلتهم، من خلال خطةٍ مدروسة تضع البرنامج المتوازن لإقامة التوازن بين الإنتاج والتوزيع، ليكون الحلّ حلاً عاماً للمشكلة في جذورها العميقة، فذلك هو الأفضل، ولكنّه إذا لم يكن ممكناً في حجم المرحلة، فلا بدّ من الانطلاق نحو الحلول الجزئية في خصوصياتها وأولوياتها في الجماعات والأفراد.
- 3- عيادة المريض، وذلك بزيارته وتفقد حاله، وتقديم العواطف القلبية إليه، بالدعاء له بالشفاء والتمني له بالصحة، فإن ذلك مما يحبّه الله، لأنّه يجسد الانفتاح على آلام المرضى وأحزانهم، مما يخفف عنهم الضغط النفسي الذي يعانونه، والوحدة الموحشة أمام تهاويل المرض وأخطاره، فلا يشعر بأنّ مرضه قد أبعده عن الحياة ليواجه مصيره المجهول وحيداً، بل يرى بأنّه لا يزال يعيش في قلب الواقع الاجتماعي الذي يزحف إليه ليشاركه أحاديثه في قضاياه، وليؤنس وحشته بالحيوية العاطفية التي تغمره الحنان، فيخضرّ الأمل في قلبه، وتتوهج الثقة في روحه، فيكون عنصر قوّة، بدلاً من أن يكون عنصر ضعف.
- 4- هداية المسترشد، وذلك بدراسة مواقع جهله ومواطنه مع التعرّف على نوعية ذهنيته، وطبيعة آفاقه، ومدى قابليته، وذلك من أجل تهيئة الفكر الذي يهديه، والأسلوب الذي يرشده، والجوّ الذي يفتح قلبه على الحقّ في أفقه الواسع وميدانه الرحب، وتلك هي مهمّة المسلم في ذاتيته الفردية والاجتماعية، فهو ليس إنساناً يعيش أنانية الانتماء في خطّ الهدى، بل هو إنسان يعيش رسالية الحركة من أجل أن يرشد الناس إلى طريق الله، ليكون كلّ مسلم داعيةً حركيّاً في كلّ ساحات الصراع بين الحقّ والباطل، حيث يجد كلّ ضائع مسترشد بغيته وحاجاته.
- 5- نصح المستشير، فقد يحتاج الكثيرون ممّن يتخبطون في مشاكل الحياة المحيطة بهم، ويواجهون الكثير من القضايا الشائكة والأوضاع المعقدة، ويندفعون للحصول على بعض المكاسب، وللتخفيف من بعض الخسائر، قد يحتاج هؤلاء جميعاً وأمثالهم في المجالات الأخرى إلى الرأي الصواب في حلّ المشكلة، ومواجهة العقدة، ومعرفة العلاقة والشخص والجوّ والأرض والظرف والواقع، ونحو ذلك ممّا يدخل في تحقيق الهدف، أو البعد عن الأخطار، فينطلق الناصح برأيه الذي يجهد كلّ فكره، ويستشير كلّ تجربته، ويستنطق كلّ خبرته، من أجل أن يعطيه الرأي الأصوب، والخبرة الناضجة، لينصحه بالسير في هذا الاتجاه، أو إيجاد هذه العلاقة أو التوقف في هذا الحدّ، أو الحذر من هذا الشخص أو ذاك، أو التعامل بهذه المعاملة، أو ترك ذلك.
وقد جاء في الحديث "إنَّ الدين النصيحة لله"(6)، كما جاء في بعض الروايات: "من استشاره أخوه المؤمن لم يمحضه النصيحة سلبه الله لبّه"(7)، وقد ذكر الفقهاء، أنّ الغيبة تجوز في حال توقف النصيحة عليها.
- 6- تعهّد القادم، من السفر بزيارته لتفقد أحواله، وتعرّف ظروفه في ما مضى وفي ما يستقبل، لتقديم العون له إذا كان للعون حاجة من خلال ذلك.
- 7 - كتمان أسرارهم، لأنّ السرّ أمانة صاحبه عند سامعه، فلا يجوز له أن يحدّث به أحداً إلا بإذنه، لأنّ النتائج السلبية قد تحدث له من خلال كشفه للآخرين، وربما تتحول إلى خطرٍ على حياته وأوضاع الناس من حوله، مما يجعل عملية إيذائه مسألة تتصل بالمصير، وإذا لم تكن القضية بهذه المثابة في بعض الحالات، فقد تكون مرتبطةً ببعض الحالات النفسية، أو الأوضاع العاطفية، أو العلاقات الخفية مما قد يسيء التعرّف عليه إلى صاحب السرّ.
وفي ضوء ذلك، كانت أمانة السرّ أكثر خطورةً من أمانة المال، فإذا كانت خيانة الأمانة في المال كبيرةً من الكبائر، فقد تكون الخيانة هنا أعظم، ولذلك كانت القيمة الإنسانية الأخلاقية للمؤمن كتمان السرّ في الصغير والكبير.
 - 8 - ستر العورة، وهي كلّ شيء يستره الإنسان أنفة وحياءً، مما يتصل بعيوبه المادية والمعنوية التي يخفيها عن الناس، فإنّ الله يريد للمؤمن أن يستر عورة أخيه المؤمن، لأنّ إظهارها الكلمة أو بغيرها يؤدي إلى فضيحة بين الناس وسقوط مكانته عندهم، وتحطيم روحه المعنوية في ذاته، وهذا هو الأساس في تحريم الغيبة التي هي عبارة عن ذكر أخيك بعيب مستور في ظهر الغيب، وقد ساوى الله في القرآن الكريم بينها وبين أكل لحم الأخ الميت، وذلك هو قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].
- 9 - نصرة المظلوم، وذلك بالدفاع عنه ومساعدته على عدوّه وتقويته في موقفه وموقعه، سواء كان المظلوم فرداً أو جماعة، أو دولةً، وهذه هي القيمة الحركية التي حمّل الله الناس مسؤولياتها على مستوى الإلزام بقدر الطاقة، حتى إنّ القرآن جعل الأساس التشريعي للإذن في القتال، في بعض مواقعه، الدفاع عن المستضعفين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق.
- 10 - حسن مواساتهم بالماعون، وذلك بتقديم المعروف لديهم، إمّا بشكل عام، كما هو بعض تفاسير كلمة "الماعون"، أو كلّ ما انتفع به، ومنه مطلق المنفعة، كما جاء في رواية أبي بصير عن أبي عبد الله "جعفر الصادق(ع)" قال: "هو القرض يقرضه، والمعروف يصطنعه، ومتاع البيت يعيره ومنه الزكاة: فقلت له: إنّ لنا جيراناً إذا أعرناهم متاعاً كسروه وأفسدوه، فعلينا جناح أن نمنعهم؟ فقال: لا، ليس عليكم جناح أن تمنعوهم إذا كانوا كذلك"(8).
- 11- العود عليهم بالجدة والإفضال، وإعطاء ما يجب لهم قبل السؤال، وذلك بالإحسان إليهم والتطوّل عليهم بما يملكه من الثروة ومن مواقع الفضل في حياته، من دون أن يحوجهم إلى السؤال، بل يبادرهم بذلك من خلال معرفته بحاجاتهم، وقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) في حقّ المؤمن: "وإذا علمت أنّ له حاجةً تبادره إلى قضائها، ولا تلجئه أن يسألكها، ولكن تبادره مبادرة"(9).
* * *
جاء في رياض السالكين للسيد علي خان رحمه الله، تعليقاً على اختلاف النسخ من الفقرات السابقة، قال بعضهم: "لا يخفى أنّ المناسب للمقام أن يقال: "ووفّقني" لكن اتفقت النسخ على هذا النحو، ويمكن أن يكون قوله(ع): "في إرفاق ضعيفهم" متعلقاً بولايتك أو يتولَّني، وهو إن كان بحسب الظاهر بعيداً لكنّه بحسب المعنى أحسن، انتهى".
وقال بعض المترجمين: وفي رواية: "ووفّقني" وهو أولى، والعهدة عليه، والذي أقول: إنّ المناسب لعنوان الدعاء هو ما عليه الرواية من لفظ: "وفّقهم" فيكون الغرض الدعاء لهم بالتوفيق باستعمال هذه الآداب والأخذ بها في معاشرة بعضهم بعضاً"(10).
ونحن نوافق السيد علي خان على ما ذكره من خلال الملاحظة التي أشار إليها.
* * *
واجْعَلْني اللّهُمَّ أجْزِي بالإِحْسانِ مُسِيئَهُمْ، وأُعْرضُ بِالتَّجاوُزِ عَنْ ظَالِمِهمْ، وأسْتَعْمِلُ حُسْنَ الظَّنِّ في كَافَّتِهِمْ، وأتَوَلّى بِالبرِّ عَامَّتَهُمْ، وأغضُّ بَصَري عَنْهُمْ عِفَّةً، وأُلينُ لَهُمْ جَانِبي تَوَاضُعاً، وَأرقُّ عَلَى أهْلِ البَلاءِ مِنْهُمْ رَحْمَةً، وأسِرُّ لَهُمْ بالغَيْبِ مَوَدَّةً، وأُحِبُّ بَقَاءَ النِّعْمَةِ عِنْدَهُمْ نُصْحاً، وأُوجِبُ لَهُمْ مَا أوجِبُ لحَامَّتِي، وأرْعَى لَهُمْ مَا أرْعَى لخَاصَّتي.
* * *
واجعلني أجزي بالإحسان مُسيئهم:
يا ربّ، سدّدني للارتفاع بذاتي إلى الدرجة التي أسيطر بها على نوازعها في علاقتي بالآخرين، من الأقربين والأبعدين، لأنّ النفس قد تجمح فترتفع على الناس من خلال بعض خصائصها المميزة، أو مركزها الرفيع أو أموالها الكثيرة، وقد تتحرك انفعالاتها لتمارس ردّ الفعل ضدهم من خلال نزوةٍ أو هفوةٍ أو غضبٍ، أو أنفةٍ أو حميّةٍ أو رياءٍ أو عصبيّة.
إنّنا قد نضعف أمام نفوسنا فنبتعد عن خطّ الاستقامة في القول والفعل، فأعطنا اللّهُم قوّة السيطرة عليها، لنمنعها من الانحراف عن مواقع رضاك، وهب لنا أخلاقية السلوك في منهج أمرك ونهيك، لنواجه الإساءة التي قد يوجهها إلينا بعض جيراننا وموالينا وغيرهم من الناس بالإحسان، فيكون الإحسان جزاء الإساءة، لا يضعف بردِّ الإساءة بمثلها، بل لقوّة الروح في آفاق العفو، لأنّ العفو أقرب للتقوى.
وأعرض بالتجاوز عن ظالمهم:
ولنقف أمام الظالم الذي ظلمنا في أنفسنا وأهلنا وأموالنا وأعراضنا وفي خصوصيات حياتنا، فنتجاوز عنه، طمعاً في أن يدفعه ذلك إلى الابتعاد عن ظلمه، لا سيّما إذا وعى أنّ هذا الموثق كان من موقع قوّة لا من موقع ضعف، لأنّ كثيراً من حالات الظلم الفردي قد تخضع للتصورات الخاطئة التي يتصورها بعض الناس في أنفسهم في أوضاع الانتفاخ الذاتي، بحيث يجهلون حجمهم وحجم الآخرين على أساس حالةٍ طارئة توقعهم في الوهم الطارئ، فيكون العفو الدقيق المدروس تأديباً لهم في أسلوب التعامل مع الناس من حيث دراسة الموقف والموقع والخصوصيات في حركة السلوك الإيجابي والسلبي.
 وأستعمل حسن الظنّ في كافتهم:
واجعلني أواجه أمورهم جميعاً، في الأقوال والأفعال والعلاقات والمواقف والمواقع، على أساس حسن الظنّ، وذلك بتنزيلها على العنوان الحسن، والوجه الصحيح، وعدم المبادرة إلى تغليب جانب الشرّ على الخير، والفساد على الصلاح، انطلاقاً من الكلمة المرويّة عن عليٍّ أمير المؤمنين(ع): "ضع أمر أخيك على أحسنه... ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً"(11).
وهذا هو الأسلوب الأخلاقي الذي يمنع الإنسان من الحكم بالسوء في نفسه على الآخرين بمجرد الاحتمال، لأنّ ذلك لا يمثّل الدقة في خطّ العدل، فلعلّ هناك وجهاً للخير في هذا الفعل أو في هذه الكلمة، مما يمكن للناس أن يقصدوه أو يريدوه، الأمر الذي يوجب التوقف عن الحكم السلبي ضّده، من خلال ما قد يظهر من وجه السوء ما لم يكن هناك حجة قاطعة على ذلك.
إنّ المسألة هنا، هي مسألة الاحتياط للعدالة، وليست مسألة الكفّ عن الحذر، فقد تكون القضية ذات وجهين يتصلان بالمصلحة الإنسانية المتوازنة، فلا نحكم بالسوء لمجرد رجحان الاحتمال في هذه الدائرة إذا كان هناك احتمال مضاد في دائرة الخير، ولا نحكم بالخير لمجرد احتماله من دون حُجّة، لأنّ الحكم في كلّ وجوهه لا بدّ أن يكون خاضعاً للحُجّة التي تبطل ما يخالفها، وفي ضوء ذلك لا بدّ للإنسان من مراعاة المسألة في دائرة الحذر خوفاً من صدق الاحتمال، في الوقت الذي يمتنع فيه من الحكم خوفاً من كذبه.
وأتولّى بالبرّ عامتهم:
وهب لي روحيّة البرّ لهم والعطف عليهم والإحسان إليهم في علاقتي بهم، أو تولّي أمورهم، حتى أكون الإنسان البارّ بالناس من حوله، انطلاقاً من عمق الإحساس بالروية الأخلاقية بقطع النظر عن ردّ الفعل لما يفعلونه.
وأغضّ بصري عنهم عفّة:
واجعلني أغضّ البصر عن عوارتهم وزلاتهم وعثراتهم مما لا يحلّ النظر إليه من باب العفة التي أردت لعبادك أن يأخذوا بها في علاقتهم بالآخرين. وإذا كانت العفة الجسدية تفرض على الإنسان أن يغضّ بصره عن عورات الناس، فإنّ العفة الاجتماعية تفرض عليه أن يغضّ بصره عن زلاّتهم وعثراتهم وعيوبهم ليفضحهم أو ليعيّرهم بها، فإنّهما ينطلقان في موقع واحدٍ، وهو إسقاط الحرمات الإنسانية والتعدي عليها، وفي ضوء ذلك جاء الحديث عن الإمام الصادق(ع) الذي استوحى العفة الاجتماعية من روح العفة الجسدية، وذلك في رواية الشيخ الطوسي في التهذيب، بسنده عن حذيفة بن منصور قال: "قلت لأبي عبد الله(ع): شيء يقوله الناس: عورة المؤمن على المؤمن حرام، فقال: ليس حيث يذهبون، إنّما عنى عورة المؤمن أن يزلّ زلّة أو يتكلّم بشيء يعاب عليه، فيحفظه عليه ليعبّر عنه يوماً ما" (12). وعن زيد وعن أبي عبد الله(ع) في ما جاء في الحديث:" عورة المؤمن على المؤمن حرام، قال: ما هو أن ينكشف فترى منه شيئاً، إنما هو أن تروي عليه أو تعيبه"(13).
وألين لهم جانبي تواضعاً:
واجعل سلوكي - معهم - سلوك التواضع في خفض الجناح ولين الجانب في الكلمة والنظرة واللمسة والروح المنفتحة على كلّ مشاعرهم وأحاسيسهم في أحلامهم وآلامهم، حتى أكون الذليل لهم ذلّة التواضع، العزيز في نفسي عزّة الإيمان، إقتداءً برسولك(ص) في سلوكه الأخلاقي في ما جاء في كتابك عنه:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
وأرق على أهل البلاء منهم رحمة:
ووفّقني - يا ربّ - لأعيش مع أهل البلاء منهم - ومن غيرهم - من موقع رقّة القلب والكلمة والمعاملة والنظرة العامة. رحمةً بهم، وإشفاقاً عليهم، لا كما يفعله المتجبّرون من الناس في نظرتهم المتعالية الفوقية الشامتة، لأفكّر بأنّ ما يجري عليهم ليس وليد نقص في ذواتهم، أو سوءٍ في مكانتهم، أو عقوبةٍ من الله، بل هو سنّة الله في الكون، في ما يجريه على عباده من خلال قوانينه الطبيعية التي أودعها في الكون والحياة والإنسان في النظام الكوني الإنساني، مما يمكن أن يجري علينا في مستقبل الزمن، بما يجري عليهم في ماضيه.
إنّ إنسانية النظرة الأخلاقية الإسلامية تفرض على الناس أن يرحموا هؤلاء، ليفتحوا قلوبهم على الأمل في المستقبل، ويؤكّدوا في روحيتهم الرجاء بالشفاء والفرج، وليوحوا إليهم بأنّهم ليسوا أشخاصاً معزولين عن المجتمع، لأنّ البلاء لا يمثل حالة عزلٍ اجتماعي، باعتبار أنّه ليس قيمة سلبية في الشخصية الإنسانية، بل هو مجرّد اختلال في وظائف التي يكبر الناس بها أو يصغرون، وقد علّمنا الإسلام في منهجه التربوي في إيحاءاته الإنسانية أنّ على المؤمن أن يقول عند رؤيته لأهل البلاء:
"الحمد لله الذي عافاني ممّا ابتلى به غيري ولو شاء لفعل".
ليكون الموقف موقف حمد الله على العافية من دون أن يكون سلبياً امام أهل البلاء، باعتبار انّ ذلك بلاء من الله لحكمةٍ يراها في قضائه وقدره لا لنقصٍ في ذواتهم.
وأحبّ بقاء النعمة عندهم نصحاً:
واجعلني عندما أواجههم في الغيب أضمر لهم المودة في قلبي، لأنّها ليست مجرّد حالةٍ في العلن في ما يجامل به الناس بعضهم بعضاً، بما قد يخالف ما في قلوبهم نفاقاً ورياءً، بل هي حالة عميقة تجعل حالة الغيب والحضور واحدة، في عمق المودة القلبية، واجعلني أعيش النصح لهم في قلبي فأفكر لهم دائماً بالخير، وأفرح لهم بالنجاح، وأحبّ بقاء النعمة عندهم وزيادتها لهم حتى تمتد بهم الحياة في فرح وسرور، وذلك من خلال الشعور العميق الخالص المنفتح على حبّ الناس في روح الأخوّة الإنسانية الممتدة في الفكر الحقّ، والشعور الطيب، والموقف العادل.
اجعلني - يا ربّ - ألزم نفسي لما يعود بالخير عليهم ما ألزمها لأهلي وأولادي، وأرعاهم به بما أرعى الناس القريبين منّي ممن أختصه بعلاقتي به، حتى يكون إحساسي بهم منطلقاً في الدائرة العامة والخاصة، فأجد مسؤوليتي تجاههم في مسؤوليتي تجاه الأقربين، لأنّ ذلك هو سرّ إنسانية الإيمان في إنسانيتي.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وارْزُقْني مِثْلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، واجْعَلْ لي أوْفَى الحُظُوظ فيما عِنْدَهُمْ، وَزِدْهُمْ بَصيرةً في حَقِّي، وَمَعْرِفَةً بِفَضْلي، حَتّى يَسْعَدُوا بي وَأسْعَدَ بِهِمْ، آمينَ ربَّ العَالميِنَ.
* * *
اللهم اجعلني أسعد بهم ويسعدون بي:
يا ربّ، لقد دعوتك أن توفقني لأن أكون في الدرجة الأخلاقية العليا في تعاملي مع جيراني ومواليّ، حتى تكون علاقتي بهم وثيقة من موقع الإحسان إليهم، والانفتاح بالمودة والرحمة والمسؤولية عليهم.
اللهم إنّي أسألك أن توفقهم أن يرتفعوا إلى مثل هذه الدرجة في تعاملهم معي وعلاقتهم بي، فيكون لي الحظ الأوفى في كلّ ما يتحركون فيه من أخلاقهم الطيبة وآدابهم الكريمة، وصدق الموالاة، وارزقني ذلك منهم - يا ربّ - وزدهم وعياً فكرياً، وبصيرة روحية، بحقي عليهم، ومعرفة بما أملكه من فضلٍ في الخصائص التي تتوفر في شخصيتي، وعرّفهم منهج السلوك الإيماني كما عرفتني به، لننطلق في سعادةٍ متبادلة يقدمها كلّ فريق للآخر من محبته ورعايته ورحمته والتحرك معه من موقع المسؤولية عن أموره كلّها، فأسعد بهم، من خلال الروح المنفتحة على الخير لي، ويسعدوا بي من خلال الإيمان الذي يقودني إلى أن أقدّم لهم كلّ ما أستطيعه من رحمة وعناية وانفتاح، اللهم استجب لنا ذلك كلّه يا رب.
* * *
الهوامش:

(1)    البحار،ج:74، باب:3، ص:94، رواية:22.
(2)    البحار، ج:74،باب:9، ص:151، رواية:8.
(3)    البحار، ج:61، باب:43،ص:150، رواية:29.
(4)    البحار، ج:74، باب:20، ص:338، رواية:119.
(5)    الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام، الدار الإسلامية، إيران، ج:6، باب:22، ص:175، رواية:29.
(6)    البحار، ج:67، باب:14، ص:273، رواية:3.
(7)    البحار، ج:75، باب:49، ص:104، رواية:36.
(8)    الكافي، ج:2، ص:499، رواية:9.
(9)    الكافي، ج:2، ص:169، رواية:2.
(10)    رياض السالكين، ج:4، ص:154.
(11)    الكافي، ج:2، ص:362، رواية:3.
(12)    التهذيب، ج:1، ص:375، باب:18.
(13)    الكافي، ج:2، ص:359، رواية:3.

دعاؤه(ع) لأهل الثغور

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَحَصِّنْ ثُغُورَ الْمُسْلِمينَ بِعِزَّتِكَ، وَأَيِّدْ حُماتَها بِقُوَّتِكَ، وَأَسْبِغْ عَطاياهُمْ مِنْ جِدَتِكَ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَكَثِّرْ عِدَّتَهُمْ، وَاشْحَذْ أَسْلِحَتَهُمْ، وَاحْرُسْ حَوْزَتَهُمُ، وَامْنَعْ حَوْمَتَهُمْ، وَأَلِّفْ جَمْعَهُمْ، وَدبِّرْ أَمْرَهُمْ، وَواتِرْ بَيْنَ مِيَرِهِمْ، وَتَوَحَّدْ بِكِفايَةِ مُؤَنِهِمْ، وَاعْضُدْهُمْ بِالنَّصْرِ، وَأَعِنْهُمْ بِالصَّبْرِ، وَالْطُفْ لَهُمْ فِي الْمَكْرِ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَعَرِّفْهُمْ مايَجْهَلُونَ، وَعَلِّمْهُمْ ما لا يَعْلَمُونَ، وَبَصِّرْهُمْ ما لا يُبْصِرُونَ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَنْسِهِمْ عِنْدَ لِقائِهِمُ الْعَدُوَّ ذِكْرَ دُنْياهُمُ الْخَدَّاعَةِ الْغَرُورِ، وَامْحُ عَنْ قُلُوبِهِمْ خَطَراتِ الْمالِ الْفَتُونِ، وَاجْعَلِ الْجَنَّةَ نَصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَلَوِّحْ مِنْها لأِبْصارِهِمْ ما أَعْدَدْتَ فيها مِنْ مَساكِنِ الْخُلْدِ، وَمَنازِلِ الْكَرامَةِ، وَالْحُورِ الْحِسانِ، وَالأنْهارِ الْمُطَّرِدَةِ بِأَنْواعِ الأشْرِبَةِ، وَالأشْجارِ الْمَتَدَلِّيَةِ بِصُنُوفِ الثَّمَرِ، حَتّى لا يَهُمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالإدْبارِ، وَلا يُحَدِّثَ نَفْسَهُ عَنْ قِرْنِهِ بِفرِار.
اللّهُمَّ افْلُلْ بِذلِكَ عَدُوَّهُمْ، وَأَقْلِمْ عَنْهُمْ أَظْفَارَهُمْ، وَفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَسْلِحَتِهِمْ، وَاخْلَعْ وَثائِقَ أَفَئِدَتِهِمْ، وَباِعِدْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوِدَتِهِمْ، وَحَيِّرْهُمْ في سُبُلِهِمْ، وَضَلِّلْهُمْ عَنْ وَجْهِهِمْ، وَاقْطَعْ عَنْهُمُ الْمَدَدَ، وَانْقُصْ مِنْهُمُ الْعَدَدَ، وَامْلأ أَفْئِدَتَهُمُ الرُّعْبَ، وَاقْبِضْ أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْبَسْطِ، وَاخْزِمْ ألسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ، وَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، وَنَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَراءَهُمْ، وَاقْطَعْ بِخِزْيِهِمْ أَطْماعَ مَنْ بَعْدَهُمْ.
اللّهُمَّ عَقِّمْ أَرْحامَ نِسائِهِمْ، وَيَبِّسْ أَصْلابَ رِجالِهِمْ، وَاقْطَعْ نَسْلَ دَوابِّهِمْ وَأَنْعامِهِمْ، لا تَأْذَنْ لِسَمائِهِمْ في قَطْر، وَلا لأرْضِهِمْ في نَبات.
اللّهُمَّ وَقَوِّ بِذلِكَ مَحالَّ أَهْلِ الإسْلامِ، وَحَصِّنْ بِهِ دِيارَهُمْ، وَثَمِّرْ بِهِ أَمْوالَهُمْ، وَفَرِّغْهُمْ عَنْ مُحارَبَتِهِمْ لِعِبادَتِكَ، وَعَنْ مُنابَذَتِهِمْ لِلْخَلْوَةِ بِكَ، حَتّى لا يُعْبَدَ في بِقاعِ الأرْضِ غَيْرُكَ، وَلا تُعَفَّرَ لأحَد مِنْهُمْ جَبْهَةٌ دُوَنَكَ.
اللّهُمَّ اغْزُ بِكُلِّ ناحِيَة مِنَ الْمُسْلِمينَ عَلى مَنْ بِإِزائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكينَ، وَأَمْدِدْهُمْ بِمَلائِكَة مِنْ عِنْدِكَ مُرْدِفينَ، حَتّى يَكْشِفُوهُمْ إِلى مُنْقَطَعِ التُّرابِ قَتْلاً في أَرْضِكَ وَأَسْراً، أَوْ يُقِرُّوا بِأَنَّكَ أَنْتَ اللّهُ الَّذي لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ وَحْدَكَ لا شَريكَ لَكَ.
اللّهُمَّ وَاعْمُمْ بِذلِكَ أَعْداءَكَ في أَقْطارِ الْبِلادِ مِنَ الْهِنْدِ وَالرُّومِ وَالتُّرْكِ، وَالْخَزَرِ وَالْحَبَشِ، وَالنُّوبَةِ وَالزّنْجِ، وَالسَّقالِبَةِ وَالدَّيالِمَةِ، وَسائِرِ أُمَمِ الشِّرْكِ، الَّذينَ تَخْفى أسْماؤْهُمْ وَصِفاتُهُمْ، وَقَدْ أَحْصَيْتَهُمْ بِمَعْرِفَتِكَ، وَأَشْرَفْتَ عَلَيْهِمْ بِقُدْرَتِكَ.
اللّهُمَّ اشْغَلِ الْمُشْرِكينَ بِالْمُشْرِكينَ عَنْ تَناوُلِ أَطْرافِ الْمُسلِمينَ، وَخُذْهُمْ بِالنَّقْصِ عَنْ تَنَقُّصِهِمْ، وَثَبِّطْهُمْ بِالْفُرْقَةِ عَنِ الاحْتِشادِ عَلَيْهِمْ.
اللّهُمَّ أَخْلِ قُلُوبَهُمْ مِنَ الأَمَنَةِ، وَأَبْدانَهُمْ مِنَ القُوَّةِ، وَأَذْهِلْ قُلُوبَهُمْ عَنِ الاحْتِيالِ، وَأَوْهِنْ أَرْكانَهُمْ عَنْ مُنَازَلَةِ الرِّجالِ، وَجَبِّنْهُمْ عَنْ مُقَارَعَةِ الأبطالِ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ جُنْداً مِنْ مَلائِكَتِكَ بِبَأْس مِنْ بَأْسِكَ، كَفِعْلِكَ يَوْمَ بَدْر، تَقْطَعُ بِهِ دابِرَهُمْ، وَتَحْصُدُ بِهِ شَوْكَتَهُمْ، وَتُفَرِّقُ بِهِ عَدَدَهُمْ.
اللّهُمَّ وَامْزُجْ مِياهَهُمْ بِالْوَباءِ، وَأَطْعِمَتَهُمْ بِالأدْواءِ، وَارْمِ بِلادَهُمْ بِالْخُسُوفِ، وَأَلِحَّ عَلَيْها بِالْقُذُوفِ، وَافْرَعْها بِالْمُحُولِ، وَاجْعَلْ مِيَرَهُمْ في أَحَصِّ أَرْضِكَ وَأَبْعَدِها عَنْهُمْ، وَامْنَعْ حُصُونَها مِنْهُمْ، أَصِبْهُمْ بِالْجُوعِ الْمُقيمِ وَالسُّقْمِ الأليمِ.
اللّهُمَّ وَأَيُّما غازٍ غَزاهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكَ، أَوْ مُجاهِد جاهَدَهُمْ مِنْ أَتَباعِ سُنَّتِكَ، لِيَكُونَ دينُكَ الأعْلى، وَحِزْبُكَ الأقْوى، وَحَظُّكَ الأوْفى، فَلَقِّهِ الْيُسْرَ، وَهَيِّئْ لَهُ الاْمْرَ، وَتَوَلَّهُ بِالنُّجْحِ، وَتَخَيَّرْ لَهُ الأصْحابَ، وَاسْتَقْوِ لَهُ الظَّهْرَ، وَأَسْبِغْ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ، وَمَتِّعْهُ بِالنَّشاطِ، وَاطْفِ عَنْهُ حَرارَةَ الشَّوْقِ، وَأَجِرْهُ مِنْ غَمِّ الْوَحْشَةِ، وَأَنْسِهِ ذِكْرَ الأهْلِ وَالْوَلَدِ، وَآثِرْ لَهُ حُسْنَ النِّيَّةِ، وَتَوَلَّهُ بِالْعافِيَةِ، وَأَصْحِبْهُ السَّلامَةَ، وَأَعْفِهِ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَلْهِمْهُ الْجُرْأَةَ، وَارْزُقْهُ الشِّدَّةَ، وَأَيِّدْهُ بِالنُّصْرَةِ، وَعَلِّمْهُ السِّيَرَ وَالسُّنَنَ، وَسَدِّدْهُ فِي الْحُكْمِ، وَاعْزِلْ عَنْهُ الرِّياءَ، وَخَلِّصْهُ مِنَ السُّمْعَةِ، وَاجْعَلْ فِكْرَهُ وَذِكْرَهُ وَظَعْنَهُ وَإِقامَتَهُ فيكَ وَلَكَ.
فَإِذا صافَّ عَدُوَّكَ وَعَدُوَّهُ فَقَلِّلْهُمْ في عَيْنِهِ، وصَغِّرْ شَأْنَهُمْ في قَلْبِهِ، وَأَدِلْ لَهُ مِنْهُمْ، وَلا تُدِلْهُمْ مِنْهُ، فَإِنْ خَتَمْتَ لَهُ بِالسَّعادَةِ، وَقَضَيْتَ لَهُ بِالشَّهادَةِ، فَبَعْدَ أَنْ يَجْتَاحَ عَدُوَّكَ بِالْقَتْلِ، وَبَعْدَ أَنْ يَجْهَدَ بِهِمُ الأسْرُ، وَبَعْدَ أَنْ تَأْمَنَ أطْرافُ الْمُسْلِمينَ، وَبَعْدَ أنْ يُوَلّيَ عَدُوُّكَ مُدْبِرينَ.
أَللّهُمَّ وَأَيُّما مُسْلِم خَلَفَ غَازِياً أَوْ مُرابِطاً في دَارِه، أَوْ تَعَهَّدَ خالِفيهِ في غَيْبَتِهِ، أَوْ أَعانَهُ بِطائِفَة مِنْ مالِهِ، أَوْ أَمَدَّهُ بِعَتاد، أَوْ شَحَذَهُ عَلى جِهاد، أَوْ أَتْبَعَهُ في وَجْهِهِ دَعْوَةً، أَوْ رَعى لَهُ مِنْ وَرائِهِ حُرْمَةً، فَأَجْرِ لَهُ مِثْلَ أَجْرِهِ، وَزْناً بِوَزْن، وَمِثْلاً بِمِثْل، وَعَوِّضْهُ مِنْ فِعْلِهِ عِوَضاً حاضِراً، يَتَعَجَّلُ بِهِ نَفْعَ ماقَدَّمَ، وَسُرُورَ ما أَتى بِهِ، إِلى أَنْ يَنْتَهِىَ بِهِ الْوَقْتُ إِلى ما أَجْرَيْتَ لَهُ مِنْ فَضْلِكَ، وَأَعْدَدْتَ لَهُ مِنْ كَرامَتِكَ.
اللّهُمَّ وَأَيُّما مُسْلِم أَهَمَّهُ أَمْرُ الإسْلامِ، وَأَحْزَنَهُ تَحَزُّبُ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَيْهِمْ، فَنَوى غَزْواً، أَوْ هَمَّ بِجِهاد، فَقَعَدَ بِهِ ضَعْفٌ، أَوْ أَبْطَأَتْ بِهِ فاقَةٌ، أوْ أخَّرَهُ عَنْهُ حادِثٌ، أوْ عَرَضَ لَهُ دُونَ إِرادَتِهِ مانِعٌ، فَاكْتُبِ اسْمَهُ فِي الْعابِدينَ، وَأَوْجِبْ لَهُ ثَوابَ الْمُجاهِدينَ، وَاجْعَلْهُ في نِظامِ الشُّهَداءِ وَالصّالِحينَ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، وَآلِ مُحَمَّد، صَلاةً عالِيَةً عَلَى الصَّلَواتِ، مُشْرِفَةً فَوْقَ التَّحِيّاتِ، صَلاةً لايَنْتَهي مَدَدُها، وَلا يَنْقَطِعُ عَدَدُها، كَأَتَمِّ مامَضى مِنْ صَلَواتِكَ عَلى أَحَد مِنْ أَوْليِائِكَ، إِنَّكَ الْمَنّانُ الْحَميدُ، الْمُبْدِئُ الْمُعيدُ، الْفَعّالُ لِما تُريدُ.
* * *
من هم أهل الثغور؟
 للجهاد - الذي هو فريضةٌ إسلاميةٌ واجبةٌ على المسلمين بشروطها الخاصة - مستلزماته العملية في خطّ المواجهة، في الإعداد والتهيئة ومراقبة الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية المحيطة بالساحة، التي يتحرّك فيها الصراع بين المسلمين والكافرين والمستكبرين، ومن بين هذه المستلزمات الضرورية المرابطة على الحدود الفاصلة بين المسلمين وبين أعدائهم، والتي يمكن أن ينفذ العدوّ منها إلى المسلمين في الداخل، الأمر الذي يفرض وجود قوّةٍ كافية للمراقبة والمرابطة، حتى يتعرفوا خطط الأعداء، ويرصدوا تحركاتهم، ويواجهوا عدوانهم، ريثما يأتي المدد القادم من جيش المسلمين في الداخل.
ويطلق على أفراد هذه القوة أهل الثغور، وهم المسلمون المرابطون بها، الملازمون لحفظها، سواء كانوا من أهل هذا الموقع أو من بلاد أخرى.
الأجواء الفكرية للدعاء:
وهذا الدعاء وثيقة حيّة للتصور الإسلامي الذي يحمله الإنسان المؤمن عن الموقف مع المحاربين في الفكرة والتصوّر، ممّا يدخل فيه الكثير من المفردات المتصلة بالمجاهدين من حيث استغراقهم في المسألة الجهادية، وابتعادهم عن كلّ خصوصياتهم العائلية والذاتية، على أساس انفتاحهم على الله في ثوابه، هذا بالإضافة إلى الفكر المضادّ تجاه العدوّ، بتحريك التمنيات والدعوات في إسقاطهم نفسياً وعسكرياً، بما يحقق الشلل الذاتي والعسكري والعددي والجسدي والاجتماعي والواقع الطبيعي من حولهم، ويقابل ذلك الإيحاء بأنّ مسألة حركة عدوانية للسيطرة على الناس تحت تأثير العنفوان الذاتي للتسلط والتجبّر والتكبر، بل هي مسألة وقائية تارة، ودفاعية أخرى، وحركية ثالثة، من أجل أن يكون للإسلام دوره في حرية الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة من دون حاجزٍ أو مانع، لأنّ المطلوب هو بسط سلطة الله على الأرض من خلال رسالته، ليعرف الناس ربّهم عندما تنفتح لهم الفرص الواسعة للمعرفة، وليؤمنوا من خلال هذه المعرفة، لتكون المسألة أقرب إلى إيجاد الظروف الملائمة للإطلاع على الواقع الإسلامي في الفكر والعمل، مما قد يفتح لهم آفاق التفكير والحوار بعيداً عن الضغوط التي تفرضها سلطة الكفر عليهم لتمنعهم من المعرفة تارةً، ومن اتخاذ الموقف الإيجابي للانتماء إلى الإسلام أخرى.
إنّ القضية في الإسلام في نظرته إلى الواقع، هي أنّ الشرك مشكلة كبرى للإنسانية، ولذلك فلا بدّ من مواجهتها بكلّ حزم، لأنّها تسيء إلى الواقع الإنساني من حيث تأثيرها السلبي على نظرته للكون وللحياة في قضية العقيدة والسلوك.
ولم تكن القوة العسكرية هي السبيل للمواجهة، بل كان الحوار والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكنّ الشرك أعلن الحرب على التوحيد ومنعه من ممارسة حريته، واضطهد أتباعه، وعمل على الإجهاز عليه بكلّ الوسائل حتى ضاقت الأرض على المسلمين بما رحبت، وأخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلا أن يقولوا ربّنا الله، واستضعفوا في أنفسهم وأهلهم وأموالهم، وهذا ما جعل من الحرب الإسلامية حرباً دفاعية وقائية كما ألمحنا إلى ذلك.
* * *
 وقد تضمن الدعاء عنفاً شعورياً ضدّ المشركين من أجل التطلّع إلى هزيمتهم بمختلف الوسائل الضاغطة التي تحاصرهم من كلّ جهةٍ، حتى على مستوى مزج مياههم بالوباء وأطعمتهم بالأدواء وإنزال الخسف والمحل بأرضهم، وأبعاد مؤونتهم عن متناول أيديهم، وإصابتهم بالجوع والمرض، وتعقيم أرحام نسائهم، وتيبيس أصلاب رجالهم، وقطع نسل دوابّهم وأنعامهم، ومنع سمائهم من القطر وأرضهم من الإنبات.
وقد يقف بعض الناس أمام هذا العنف المدّر في المسألة الشعورية بأنّه لا يتناسب مع إنسانية الإسلام الذي لا يريد إثارة الآلام في نفوس الناس، فلا يحبّ لهم إلا الخير والراحة والنموّ والازدهار، ولكن نظرتنا إلى أجواء الدعاء وسياقه تؤدّي بنا إلى اكتشاف الجوّ الذي تتحرك فيه هذه المفردات في دائرة العنف، وهو جوّ الحرب المنفتح على كلّ الوسائل التي تمهّد للنصر وتهزم العدوّ، فليست المسألة مسألة إحساس عدواني ضدّ هؤلاء الناس في ذواتهم، بل هي مسألة تطّلع فكريّ وعملي إلى الأجواء التي تمنعهم من العدوان، فتحاصرهم بأملاكهم الخاصّة، وأوضاعهم المعقّدة، وتخفف من قوّتهم، وتحصد شوكتهم، وتدمّر قدرتهم، وتهزم بأسهم.
وهكذا نجد أنّ هذا الدعاء يتحدث عن إشغال المشركين بالمشركين عن تناول أطراف المسلمين، وأخذهم بالنقص عن تنقيصهم، وتثبيطهم بالفرقة عن الاحتشاد عليهم، مما يوحي بأنّ المسألة لم تنطلق من عقدةٍ بل من شعور حيّ بالحاجة إلى توفير الظروف الصعبة في ساحاتهم بالدرجة التي تمنعهم من العدوان على المسلمين بتناول أطراف بلادهم والهجوم عليهم وحشد الجنود عليهم، الأمر الذي يجعل القضية شبيههً بأساليب الحرب الحارة في تدميرها وعنفها وضغطها على الأعداء وذلك في الدائرة المحدودة التي لا بدّ فيها من إثارة المشاعر، وشدّ الهمم، وتقوية العزيمة، وحسم الموقف.
* * *
نلاحظ في هذا الدعاء إلى جانب ذلك - حديثاً عن المجاهدين من حيث الإحياء بالهدف الأساس من عملية الجهاد، فهم لا يجاهدون من أجل الحصول على غنيمةٍ مادية أو سيطرةٍ عدوانية، بل يجاهدون ليكون دين الله هو الأعلى، وحزبه هو الأقوى، وحظّه هو الأوفى، فالقضية تتصل بحماية الإنسان من خطوات الشيطان وانفتاحه على الله من أجل أن يكون الدين كلّه لله، كما هو الأمر كلّه له.
ويتابع الدعاء النفاذ إلى الواقع الداخلي للمجاهد بكلّ الأمر التي تشدّ من عزيمته، وتقوّي من موقفه، وتخفف من التأثيرات السلبية عليه، وتدفعه إلى روحية الجرأة والاقتحام والشدّة في موقع المواجهة، وتفتح له أبواب النصر، وتنطلق به إلى وعي الإسلام في أحكامه وسننه، والتسديد في الحكم على الواقع الذي يتحرّك فيه، والبعد عن الرياء والسمعة، والاستغراق في الله، ذكراً وحركة وهدفاً، حتى لا يخضع للأفكار الذاتية التي تبعده عن الهدف الكبير في الجهاد في سبيله، والتحرك نحو العدوّ بروحية الإنسان الذي يرى عدوّه قليلاً في عدده، صغيراً في شأنه، حتى ينطلق إليهم من خلال روحية القوّة الواعية المتحدِّية التي تنزل بالعدوّ الخسائر الكبرى، وتحقّق للمسلمين النصر العظيم، لتكون شهادة الشهداء ـ بعد الوصول إلى الغاية من الجهاد في أمن البلاد الإسلامية من غزوٍ جديد، وفي هزيمة العدوّ وإضعافه بالدرجة التي لا يفكّر معها في عدوان جديد.
وتنطلق خاتمة الدعاء لتؤكّد على ضرورة وقوف المسلمين جميعاً وراء المجاهدين من إخوانهم وأبنائهم، بتعهد عيالهم في غيبتهم، وتقديم المال والسلاح لهم، والدعاء لهم بالنصر، والاهتمام بكلّ ما يهمّهم، والاستعداد للمشاركة لهم عند حاجتهم إلى المدد، حتّى إذا قعد ببعضهم الضعف عن الجهاد أو الحالات الصعبة التي لا يستطيعون تجاوزها أو غير ذلك، فإنّهم يبقون في حالة الاستعداد النفسي، والهمّ القلبي، والتوتر الشعوري الذي يجعل منهم القوة الشعبية التي تقدّم الدعم الروحي والشعوري والإمداد المادّي، ليكونوا الجبهة الخلفية المساندة بالفكر والروح والعمل.
* * *
وهناك نقطة مهمةً في إيحاءات هذا الدعاء، وهي الوحدة الإسلامية أمام التحديات الكبيرة التي تواجه المسلمين جميعاً من خلال عدوان الكافرين عليهم، فلا مجال لإثارة الخلافات المذهبية في هذا المجال، إذا كان الفريق الذي يقود المعركة ضدّ العدوّ من مذهب يختلف عن مذهبنا، أو من فريق يختلف عن فريقنا، من خلال مشكلةٍ داخليةٍ أو عقدةٍ سياسيةٍ أو ما إلى ذلك، لأنّ المسألة ليست مسألة المعركة، أو إثارة السلبيات ضدّ الجهة التي تقودها، بل هي مسألة انتصار الإسلام على الكفر، باعتبار أنّ هذه الجهة تمثّل الإسلام في حركته الأمنية أو الجهادية، مما يجعل من سقوطها سقوطاً للإسلام كلّه وللمسلمين كلّهم، ومن انتصارها انتصاراً له ولهم، فتكون المعركة واحدةً من وجه واحد لهدف واحدٍ، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها أمكن للخلافات والمواقف أن تأخذ دورها في ساحة الصراع الفكري والعملي.
ولا يقتصر الأمر - في المصلحة الإسلامية العليا - على الدائرة الجهادية، بل يمتد إلى الدائرة السياسية والاجتماعية والاقتصادية عندما تنطلق التحديات الكبيرة في مواجهة الواقع الإسلامي في هذه الدوائر كلّها، ليبقى الجميع في صف واحد في خطّ المواجهة للتغلب على الخطر الداهم على الجميع.
وهذا الذي عاشه الإمام زين العابدين(ع) الذي كان يدعو لأهل الثغور الذين هم من فريق بني أميّة في حربهم التي كانوا يخوضونها ضدّ العدوان الكافر، فلم يتوقف الإمام(ع) أمام هذا الواقع ليتذكر ما فعله بنو أمية بأبيه وأخوته وأقربائه وأوليائه في كربلاء، من الفظائع الوحشية، وما فعلوه به وبنساء أهل بيته وأصحاب أبيه من السبي بالطريقة التي لا يصبر عليها الإنسان ولا ينسى ذكرها في حياته كلّها، لِما لذلك كلّه من التأثيرات الشعورية والنفسية في هذا الواقع المأساوي الأليم، بل انطلق في وعيه للمسألة ليواجه مسألة طبيعة المعركة، فيجد أنها معركة الإسلام مع الكفر التي تتوقف على نتائجها قوة الإسلام وحرية المسلمين وعزتهم وكرامتهم وثبات مواقعهم، لا معركة بني أمية في تثبيت سلطانهم وتأكيد سيطرتهم، لتكون الحسابات الخاصة واردة هذا الجوّ، على أساس أنّهم لا يمثلون - في نظر الإمام(ع) - السلطة الشرعية الإسلامية.
وهكذا رأيناه يبتهل إلى الله في نصرة جيش الإسلام على جيش الكفر، ويدعو المسلمين جميعاً للوقوف معه، حتى تكون كلمة الله هي العليا وحزبه هو الأقوى، بقطع النظر عن طبيعة القيادة وبيعة النتائج الكبرى التي يحققها النصر لها في الداخل.
وفي ضوء ذلك كلّه، نستوحي من هذا الدعاء في روحه ووحيه ـ الخطوط الكبرى لحركة المعارضة السياسية أو الفكرية في الداخل في موقفها من المعارك التي يخوضها الحكم الذي يراد إسقاطه من قبلها، فلا بدّ من دراسة طبيعة المعركة وعلاقتها بالقضايا المصيرية سلباً أو إيجاباً ليتحدّد الموقف على أساس ذلك، فلا يجوز ـ تحت أي اعتبار - الوقوف مع قوى الكفر والاستكبار ضدّ السلطة المسلمة في الداخل إذا كانت القضية تتصل بالقضايا الكبرى المتصلة بالواقع الإسلامي كلّه، لا سيّما إذا كانت هذه القوى تمثّل قوةً كبرى تهدّد الوجود الإسلامي والمصالح الإسلامية العليا، بحيث يكون تدخلها في البلاد الإسلامية من خلال بعض القوى السياسية أو الاقتصادية مما ينتج نتيجةً عكسية للمعارضة، لأنّها إذا كانت تعمل على التخلّص من هذا الحكم أو هذه السلطة للتخلص من ظلمهما، فإنّ ظلم الاستكبار العالمي يتقدم عليه في حجمه من حيث الآثار والنتائج، فلا يجوز للمعارضة القيام بذلك إلا في الحالات التي تتحول فيها الأوضاع الداخلية إلى اختناق يؤدّي إلى الموت السياسي أو الاقتصادي، فقد يمكن لها في هذه الحالة أن تدرس مسألة الاستعانة بالقوى الأخرى في ضمن قيودٍ معينة تحمي الإسلام والمسلمين من النتائج السلبية المترتبة على ذلك.
إنّ الإمام زين العابدين(ع) يبرز في هذا الدعاء كإمام عظيم يترفّع بإمامته عن كلّ الأحقاد والعداوات، فلا يرى أمامه إلا أنّ هناك معركة للإسلام والمسلمين لا بدّ للأمة كلها بجميع مذاهبها من الوقوف معها بكل قوّة وثبات، وانطلاقاً من قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف:4].
* * *
اللهُمَّ صلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وحَصِّنْ ثُغُورَ المُسْلِميِنَ بِعِزّتِكَ، وأيِّدْ حُمَاتَهَا بِقُوّتِكَ، وَأَسْبغ عَطَايَاهُمْ مِنْ جِدَتِكَ.
* * *
اللهم وحصّن ثغور المسلمين بعزّتك:
 يا ربّ، لقد أردت لنا كمسلمين، أن نعيش الحريّة في أرضنا وفي نفوسنا، فلا يستعبدنا أحد لأنّ عبوديتنا لك وحدك لا شريك لك، وأكّدت لنا العزّة كقيمةٍ إنسانية سياسية، من خلال كتابك، في حديثك عنها إلى جانب حديثك عن عزتك وعزة رسولك فقلت: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] ولما كانت قيمة الأرض من قيمة الإنسان، فإنّ حريتها جزء من حريته، فهي تكتسب صفة إنسانيتها من خلال ارتباط حرية وجوده بها، وبذلك فإننا لا نستغرق فيها لنتعبّد لها، ولنحدّق بها في وعينا السياسي كما يحدّق الإنسان بالصنم الذي يعبده، بل ننظر إليها من حيث هي الأرض التي نسكنها ونمارس فيها حياتنا، ونتحرك في داخلها لنقرّر مصيرنا، ونمشي في مناكبها لنحصل على شروط استمرارنا في الوجود، ولندفع عنها كلّ غازٍ وفاتح وظالم وكافر، حتى لا تسقط في الغزو الكافر والمستكبر، ولا تعيش تحت سلطة الظالم، فيسقط الناس تحت تأثير الكفر والاستكبار ويعيشون في سلطة الظلم ووحشيته.
إنّ ساحة الصراع الدائمة بين الكفر والإسلام، وبين الاستضعاف والاستكبار، والحرية والعبودية، والعدل والظلم، يفرض علينا أن نخوض المعركة من أجل الدفاع عن ديننا وعن إنسانيتنا وحريتنا وعدالة الحكم في واقعنا، لذلك كانت الحرب حرب دفاع كما صوّرت لنا في كتابك الحرب المتحركة كسنّةٍ من سننِكَ في دفعك الناس بعضهم ببعض، التي لولاها لانهار التوازن، ولهدّمت صوامع وبيع ومساجد وصلوات يذكر فيها اسمك، ولا ننشر الفساد في الأرض، وهكذا كان جهاد المسلمين للكفار وللمنافقين حركةً في سبيل تحقيق التوازن في الأرض، وقد عشنا - يا ربّ كمسلمين - في خطّ العدوان علينا من الأقوياء الذين يريدون أن يفرضوا علينا الكفر والظلم والاستكبار والعبودية، فكانت حربنا المستمرة المتنوعة المتحركة في أكثر من اتجاه من أجل الدفاع عن أرضنا وديننا وإنسانيتنا وحريتنا، وكان الاسترخاء في كلّ مرحلة والضعف في أيّ وقت، يفرضان علينا الذلّ والهوان والسقوط تحت سيطرة الكفر والظلم والاستكبار، ولهذا كانت مسألة الجهاد الذي جعلته فرضاً علينا من المسائل الحيّة التي لها علاقة بحياتنا في الصميم، فكان لا بدّ من المجاهدين والمرابطين والمساندين والمناصرين في مختلف حاجات المعركة وأدوارها ليرابطوا على الثغور، وليجاهدوا في قلب المعركة، وليساعدوا ويساندوا ويناصروا المسلمين في معركة التحدي.
يا ربّ، إنّنا نتطلع إليك - ونحن في قلب التحديات الكبرى في ساحة المعركة - أن تحصّن ثغور المسلمين بعزتك من خلال ما تهيئه لنا من أسباب القوة والنصر، فإن عزتك لا تغلب ولا تضعف، فهي الحصن الحصين الذي يحمي كلّ من أردت حمايته، وأن تحمي حماتها بقوتك التي قهرت بها كلّ شيء وخضع لها كلّ شيء وذلَّ لها كلّ شيء، فإنّهم يجسّدون - في مواقفهم ومواقعهم - النهج الذي نهجته في خطّ الجهاد للقوى الكافرة المستكبرة الذي يعملون على إضعاف دينك وإسقاط عبادك وإذلال بلادك، هؤلاء الذين يقفون ليرصدوا الأفق الممتد أمامهم بكلّ قوّة، ويرابطوا في الثغور التي ينفذ منها الكفر إلى مواقع المسلمين بكلّ صبر، ويركزوا أقدامهم في ساحة المعركة بكلّ ثبات، ويواجهوا التحديات بكلّ حزم، هؤلاء الذين يتحركون في الليل ويكمنون في النهار، ويعيشون المعاناة في مواقفهم الصعبة في البعد عن أهاليهم، وفي الأخطار المحيطة بهم، وفي الوحشة التي تطبق عليهم، والوحدة التي تُثقل شعورهم، حبّاً لك، وارتباطاً بالحرية التي أردتها لعبادك من خلال توحيد العبودية لك، وتأكيداً لعزّة دينك وعبادك المؤمنين، هؤلاء الذين يتطلعون إليك في آناء الليل وأطراف النهار، ليستمدوا القوّة منك في روحياتهم وإراداتهم، ومواقفهم ومواقعهم حتى لا يكونوا الأقوياء بك.
اللهم أعطهم الحماية من حمايتك، وارزقهم الثبات من لطفك وأوسع عليهم العطاء من غناك، لأنّ في حمايتهم حماية الإسلام وفي ثباتهم الدين، وفي عطائهم عطاء الأمة كلّها.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وكَثِّرْ عِدَّتَهُمْ، وَاشْحَذْ أسلحَتَهُم، وَاحْرُسْ حَوْزَتَهُمْ، وَامْنَعْ حَوْمَتَهُمْ، وَأَلِّفْ جَمْعَهُمْ، وَدَبِّرْ أمْرَهُمْ، وَوَاتِرْ بَيْنَ مِيَرِهِمْ، وَتَوَحَّدْ بِكِفَايَةِ مُؤَنِهِمْ، واعْضُدْهُمْ بِالنَّصْرِ، وَأَعِنْهُمْ بِالصَّبْرِ، وَالْطُفْ لَهُمْ في المَكْرِ.
* * *
اللهم وكثّر عِدّتهم، وألّف جمعهم، واعضدهم بالنصر:
يا ربّ، إنّنا نبتهل إليك في ساحة التحديات التي يواجه فيها الكفار المسلمين الذي يعدّون العدّة من جماعاتهم بكلّ ما يملكون من طاقة، ليطبقوا على بلاد المسلمين ويحتلّوها، ويحاولون تحريك قوّتهم بالكثرة: أن تكثّر عدد هؤلاء المرابطين المجاهدين، فتدفع بالناس من خلفهم إلى إمدادهم بالعدد والعدّة، ليتحقق لهم التوازن مع القوى المضادّة، أو ليحصلوا على التفوّق عليهم، لتكون لهم فرص النصر بأفضل مواقعها وأوضاعها، وأن تجعل أسلحتهم على الحالة التي تفتك بالعدوّ في جودتها وتقدّمها وحدّتها وتأثيرها القويّ عليهم، فتنزل بهم الهزيمة وتوقع بهم المزيد من الخسائر في العدّة والرجال، فإنّ للسلاح - في طبيعته ونوعيته وكميته - دوره في حركة الحرب كوسيلة من وسائل المواجهة من خلال السنن الطبيعية التي جعلتها في نظام حركة الصراع الإنساني بين موقع وآخر.
اللهم اجعل المنطقة التي يتحركون فيها في حدود الإسلام ونواحيه أمنح المناطق قوّةً وتحصيناً، حتى لا يتجرّأ أحدٌ على اختراق حصونها وتهديد أمنها وتدمير بنيانها، وهيّىء لهؤلاء المرابطين فيها الظروف النفسية والاجتماعية التي تؤلّف بين جموعهم، وتربط بين قلوبهم، وتؤكّد العلاقة الوثيقة بينهم، حتى لا ينفذ إلى جماعتهم الشقاق والحقد والنزاع، لأنّ الوحدة والإلفة والترابط في مواقع التحدّي ومواقف الجهاد تمثل أساس القوّة، في حركة الصراع في كلّ مجالاته.
اللهم إنّك المدبّر لأمور عبادك لما يصلح شؤون حياتهم كلّها ويبعدها عن كلّ ما يفسدها، لطفاً بهم ورحمةً لهم، فهيّىء لهؤلاء المجاهدين الظروف والأسباب والأجواء التي تنظم من خلالها أمورهم في الخطة والوعي والحركة في ساحة الجهاد، وألهمهم الفكر الذي يقودهم إلى المواقف الثابتة، والمواقع القوية، والخطط المحكمة، والآراء السديدة التي تحقق لهم النصر والنجاح.
وتابع - يا ربّ - حالات الإمداد الغذائي في حاجاتهم للطعام، فلا ينقطع عنهم ذلك بين وقت وآخر من خلال بعض الحواجز والمشاكل والتعقيدات التي تحول بينهم وبين طعامهم الذي هو قوام قوّتهم في أجسادهم، فأنت الذي تطعم عبادك فتهيِّىء لهم من غامض علمك مما يتقوّتون به ويستعينون به على استمرار حياتهم.
يا ربّ، إنّ للجهاد مؤنة، وللمجاهدين حاجاتهم من السلاح والذخيرة وغير ذلك من الأمور التي تتوقف عليها حركتهم، وتقوّي موقفهم، فكن - أنت - وحدك - المتفرّد في كفايتهم أمر ذلك كلّه، ولا تحوجهم إلى غيرك فيضطهدهم ويضعفهم ويستغلّ حاجاتهم إليه ليوجّه الأمور في غير اتجاهها الصحيح، ويربك أوضاعهم بأهوائه وأغراضه الذاتية، فيسيء إليهم وإلى جهادهم.
وكن لهم المعين والمساعد والمعاضد في مواقعهم ومواقفهم وحركتهم في الحرب، لتحقيق لهم النصر بتحقيق ظروفه وأسبابه من خلال جهدهم في ما يملكونه من الأمر، أو من خلال الأسباب الأخرى التي تخرج عن نطاق قدرتهم، لأنّها قد ترتبط بالغيب من جهةٍ، وبالواقع الخارجي المتصل بالناس وبالأوضاع العامة في حركة الحياة المادية من حولهم من جهة أخرى، اللهم فهيّىء لهم ذلك كلّه لتكون عضدهم الذي يمنحهم القوّة في نتائجها الكبيرة في النصر الكبير، وأعنهم بالصبر على مواجهة الحرمان الذي تفرضه تعقيدات الحرب، والصعوبات التي تتجمع في ظروفهم ودروبهم، والمشاكل المعقدة التي تحيط بهم، وبأس الأعداء الذي يتحدّاهم بالقوّة المضادة، ليتحقق لهم صبر النفس على المخاوف والتهاويل، والإرادة عن حالات الاهتزاز، وصبر الجسد على الآلام والمتاعب والجراحات، فيستعينون به على الثبات في الموقع، والقوّة في الموقف، فلا يجزعون من بلاء، ولا يسقطون من شدّة ضغط نفسي أو جسديّ.
والطف بهم في المكر الذي يضعون من خلاله خططهم نحو النصر ليفاجئوا به عدوّهم، فلا يلتفت إلى ما يدبرون له في الخفاء لدقّته وجودته، وسريته ونوعيته، وأبعدهم عن مكره حتى لا ينجح في خططه المضادّة لهم، فإنّك اللطيف بعبادك يا ربّ العالمين.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ علَى مُحَمَّدٍ وآلِه، وعرِّفْهُم ما يجْهَلونَ، وعلِّمْهُم ما لا يعْلَمُونَ، وبصِّرْهُم ما لا يُبْصِرونَ.
* * *
اللهم عرّفهم ما يجهلون:
يا ربّ، إنّ للجهاد ثقافته في فنون الحرب وحركة المواجهة وسياسة الموقف، وفي طبيعة العدّو، وحجم القوّة المضادّة ونوعية الظروف، وفي امتداد الساحة، ورعاية الموقف، وقد يجهل المجاهدون في مفاجأة العدوّ لهم، أو في مواجهتهم له بعض ذلك أو كلّه، فلا يملكون معرفته ولا يعلمون تفاصيله، وقد تخفى عليهم بعض الثغرات أو المواقع أو الأوضاع الإيجابية أو السلبية المحيطة بالساحة، وقد يحتاجون إلى إعداد بعض أسباب المعرفة، ووسائل العلم، وعمق البصيرة وحدّة البصر، في ما يألفه الناس من ذلك مما يملكون الوصول إليه، أو في ما لا يألفونه منه ممّا قد يتصل بالغيب تارة، أو بالأسباب غير العادية تارة أخرى، مما لم يحتسبوه.
اللهم هيّىء لهم أسباب المعرفة في ما يحتاجونه منها ليرتفع بذلك جهلهم، وألهمهم علم ذلك ليعلموا منه ما لا يعلمونه، وافتح لهم آفاق المعركة كلّها ليبصروا وعي الجهاد في كلّ شؤونه وقضاياه، وفي كلّ مكائد العدوّ ومصائده، ليحذروا من كلّ ذلك، وليعرفوا كيف يواجهون الموقف بوعيٍ وقوةٍ.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأنْسِهِمْ عِنْدَ لِقَائِهِم العَدُوَّ ذِكْرَ دُنْيَاهُمْ الْخدَّاعَةِ الغَرُورِ، وامْحُ عَنْ قُلُوبِهمْ خَطَرَاتِ الَمالِ الفَتُونِ، واجْعَلِ الْجَنَّةَ نَصْبَ أَعْيُنِهمْ، وَلوِّحْ مِنْهَا لأبْصَارِهِمْ مَا أعْدَدْتَ فيهَا مِنْ مَسَاكِنِ الخُلْدِ ومَنَازِلِ الْكَرَامَةِ والحُورِ الحِسَانِ والأنْهارِ المُطَّرِدَةِ بأَنْواعِ الأْشرِبَةِ، والأشجَارِ المُتدَلِّيَة بصُنُوفِ الُثَّمَرِ، حَتّى لا يَهُمَّ أحَدٌ مِنْهمْ بِالإِدْبَارِ، ولاَ يُحَدِّثَ نَفَسَهُ عَنْ قِرْنِهِ بِفِرَارِ.
* * *
اللهم واجعل الجنّة نَصْبَ أعينهم:
يا ربّ، إنّ المجاهدين قد يعيشون نقاط الضعف البشري التي تجتذب إغراءات الحياة إلى قلوبهم، وتحرّك غرائز الحسّ في شهواتهم، وتوحي بالمخاوف والتهاويل إلى حياتهم، وتثير الأحلام الحلوة في عيونهم، فتستغرقهم الدنيا بزخارفها، وتفتنهم بأموالها، فيغيبون في داخلها، ويتقلبون في جنائنها، ويتنعمون في لذاتها، وينطلقون في أطماعها وطموحاتها، وينخدعون بالآمال الطويلة في امتداداتها حتى كأنّهم خالدون فيها، فينسون الجهاد والتزاماته، والرسالات ومسؤولياتها، وينشغلون عن ذكرك بذكر الأقوياء والمترفين والمستكبرين من عبادك، ويضعفون بذلك عن الإنطلاق إلى مواقع القوة التي تفرض عليهم أن يصنعوا القوّة هنا، ويواجهوا القوّة هناك، وتتعاظم خطورة ذلك في داخل شخصياتهم لتبعدهم عن ساحات الصراع، وفي حركة التحديات من حولهم، لتسقطهم عن مواقف ردّ التحدي، مما ينعكس سلباً على الإسلام وأهله، وعلى الإنسان وحريته وكرامته، تحت تأثير عوامل الضعف النفسي والحركي أمام قوّة العدوّ وشراسته.
اللهم إنّك حدثت المجاهدين عما أعددت لهم عندك من الدرجة الرفيعة والنزلة العظيمة، ومن النعيم الخالد في جناتك الممتدّة امتداد الأحلام في الزمن كلّه، مما لا عين رأتْ ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقلت لهم إنّ هناك - بينهم وبينك - بيعاً وشراءً في انفتاح دنياهم على آخرتهم، لتكون الجنة ثمناً لما يقدمونه من أنفسهم وأحوالهم، فيقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون، وجعلت ذلك وعداً عليك في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده منك، وأردت له أن يكون بشارة في حركة الجهد الذي يبذلونه والتضحية التي يقدمونها، والجهاد الذي يتحرّكون فيه، والأهداف التي يحققونها في انتصار رسالتك على الكفر والضلال.
اللهم افتح قلوبهم على الآخرة في نعيمها الروحي والجسدي، وأغلقها عن الدنيا في غرورها وخداعها، حتى تنسيهم ذكرها في أحلامها الخيالية ولذاتها الفانية وشهواتها الجامحة السريعة الانطفاء، وامحُ عن خفقات قلوبهم أحلام المال وخطراته وفتونه التي تدفعهم إلى نسيان الله ونسيان الآخرة والغفلة عن القضايا الكبرى التي أردت لعبادك أن ينطلقوا نحوها ليواجهوا كلّ الأخطار التي تتحداهم في دروبها وآفاقها، لينفتحوا عليها بقوّة الموقف وصلابة التحدي.
اللهم اجعل الجنّة أمامهم في امتدادات أعينهم الباحثة عن الجمال الأجمل والنعيم الأوفى، كمن قد رآها في مساكنهم الخالدة ولقاءاتهم المنفتحة، لوّح لهم عندما تنطلق الفتنة في اجتذاب الجمال الأنثوي لمشاعرهم، فتتفتح أحلامهم عليها لذةً وشهوةً وحبّا وهياماً.
لوّح لهم - يا ربّ - بالحور العين اللاتي يخشع الجمال لجمالهن ويذوب كلّ السحر في سحرهنّ، وكلّ لفتات الحبّ والهيام في لفتات أعينهن التي تشرق بالنور الإلهي الذي يسبح الجمال فيه فينفتح على كلّ لذّات الروح والجسد. وإذا أصابهم الظمأ المحرق في حرارة العروق الباحثة عن الينابيع الصافية والأنهار الجارية، لترتوي منها، وترتاح إليها، فذكّرهم - يا ربّ ، أنّها الجنّة الجارية بكلّ الأشربة المتنوعة من ماء وعسل وخمر ولبن مما لا يظمأ الإنسان الذي يشربها أبداً، مع الحلاوة التي يعيش الجسد معنى السعادة في لذته التي تتواضع أمامها كلّ اللذات المادية، وإذا اشتاقوا إلى الفواكه الشهية والثمار الجنية، فحدّثهم - يا ربّ - في نفوسهم، عن الأشجار المسترسلة أغصانها وفروعها بأنواع الثمر الذي تتنوع فيه الخصائص وتنفتح في كلّ ثمرةٍ على طعم جديد.
اجعل - يا ربّ - آفاقهم في آفاق الجنة، وأفكارهم في معناها، وأحلامهم في لذاتها ونعيمها، حتى تمتلىء قلوبهم شوقاً إليها، وتنطلق مشاعرهم في الإحساس بها، ليواجهوا الموقف بقوّة التحدي، وثبات المواجهة، وشجاعة الحركة، وبروح الإيمان المتحرك في خطّ الشهادة، فلا يحدثون أنفسهم بالهزيمة النفسية، والفرار الروحي والاهتزاز الحركي، طمعاً بما عندك، ورغبة في ما يقبلون عليه من رضوانك.
* * *
اللّهُمَّ افْلُلْ بِذلِكَ عَدُوَّهُمْ، واقْلِمْ عَنْهُمْ أظْفَارَهُم، وَفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أسْلِحَتِهمْ، واخْلَعْ وَثَائِق أفْئِدَتِهِمْ، وبَاعِدْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوِدَتِهِم، وَحَيِّرْهُمْ في سُبُلِهِمْ، وضَلِّلْهُمْ عَنْ وَجْهِهِمْ، وَاقْطَعْ عَنْهُمُ المَدَدَ، وانْقُضْ مِنْهُمُ العَدَدَ، وَامْلأ أفئدَتَهُمُ الرُّعْبَ، وَاقْبِضْ أيْدِيَهُمْ عَنِ البَسْطِ، واخْزِمْ أَلْسِنَتَهُمْ عنِ النُّطقِ، وَشرِّدْ بِهِمْ مَنْ خلفهم، ونكِّل بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ، واقطَعْ بِخِزيِهُم أَطْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ.
* * *
اللهم هيِّىء عناصر الهزيمة لعدوّهم:
اللهم إنَّ مسألة النصر للمسلمين والهزيمة للكافرين قد تنطلق من تعطيل حركة الأعداء في ساحة الحرب في عناصرها الداخلية والخارجية، فإنّ ذلك هو الذي يهيّئ للمسلمين سهولة النصر من خلال ضعف عدوهم، وقد نصرت أولياءك بالرعب الذي ألقيته في نفوس الأعداء وبالملائكة الذين نشرتهم في فضاء المعركة وساحاتها، وبغير ذلك.
اللهم امنح المسلمين القوّة في المعركة بإبعاد كلّ عناصر الهزيمة، وذلك بالانفتاح على مواقع رضاك وعلى ما أعددته للمجاهدين وللشهداء من الأجر العظيم والثواب الجزيل، واهزم بذلك عدوّهم حتى يكسروا قوّته، ويبطلوا فاعليته، وأضعف مواقعهم ومواقفهم حتى يمنعهم الضعف من العدوان ومن الامتداد به، حتى تقلّم أظافرهم فلا يستطيعون سبيلاً إلى الإضرار بالمسلمين، تماماً كما هي الأظفار التي تقطع فلا تطول فتكفّ عن إمكانية الخدش والحكّ والالتقاط ونحوه.
اللهم فرّق بينهم وبين أسلحتهم، ليغفلوا عنها فلا يستصحبوها معهم أو ليلقوها ويضعوها بعيداً عنهم، وألهمهم ذلك في نفوسهم، حتى لا يلاقي المسلمون في قتالهم لهم شدّةً وقسوة، فيسهل عليهم الانتصار من خلال تعطيل حركة سلاحهم في الحرب.
اللهمّ فرّغ قلوبهم من كلّ عناصر القوة، ومن شجاعة الموقف وعزيمة الإرادة وثبات الموقع، حتى لا يملكوا وثيقةً تمسكها عن الاهتزاز، أو تبعدها عن السقوط، ليكونوا في موقع الخوف، وحالة الضعف، وخواء العزيمة، لأنّ ذلك يمنعهم عن مواجهتنا بالشدّة أو بالقوة. أبعدهم - يا ربّ - عن طعامهم أو شرابهم، وباعد بينهم وبينه، حتى يشغلهم البحث عنه عن الاستعداد لقتالنا، والتخطيط للعدوان علينا، ويقعدهم الجوع الحادّ أو الظمأ المحرق عن التحرك العدواني لحربنا، أملأ دروبهم بالحيرة التي تثير في عقولهم الشكّ، وتحرك في وجدانهم التساؤل، وتنثر في قلوبهم حبّات الظلام، ليبتعدوا عن مواقع الهدى ووجوه الصواب في غاياتهم التي يقصدون، ودروبهم التي يسلكون، وضلّلهم عن وجهتهم التي يتوجهون إليها للإيقاع بين المسلمين، في الخطّة والحركة والهدف، حتى لا يبصروا طريقهم، ولا يهتدوا في حركتهم، واحبس عنهم كلّ المدد الذي يمدّهم بالقوّة، وانقض من عددهم الذي يوحي لهم بالثقة، فيعجزهم ذلك عن الاندفاع في قتالنا نفسياً وعمليّاً.
وكفّ أيديهم عن الامتداد إلينا، واقبضها عن البطش بنا وامنعها عن الإساءة إلى مواقع عزتنا وكرامتنا، حتى لا تملك حرية الحركة في توجيه قوّتها إلى أهلنا وأمتنا الإسلامية لتسقطها بالعدوان.
اللهم امنع ألسنتهم عن النطق حتى لا تنطلق في تعبئة جماعاتهم، وتحريك مشاعرهم، وتوجيه جنودهم، وإثارة العصبية الجاهلية في ساحاتهم، بالكلمات الحاقدة، والألفاظ المثيرة، والأساليب المهيجة، فإنّ الكلمات تحرّك العواطف، وتدفع الناس إلى الحرب، وتثير فيهم العصبية، وتطلق الفتنة، وتدبّر المكيدة.
وأنزل بهم - يا ربّ - بأيدي عبادك المؤمنين، شرّ الهزائم وأشدّها بالمزيد من القتل والنكال، حتى تشرّد بهم من وراءهم من مددهم أو من الذين ينتظرون نتائج المعركة من الأعداء الآخرين، فيمنعهم ما يرونه من هزيمتهم ونكالهم من عدوان جديد، فلا يقدمون على قتال المسلمين بعد ذلك.
اللهم اجعلهم عبرةً للآخرين في ما تنزل بهم من النكال والتشريد ليعتبروا بهم، واخزهم حتى تقطع أطماع من بعدهم في التخطيط لحرب المسلمين والكيد لهم، والمكر لهم في كلّ الأوضاع المثيرة في ساحات الصراع.
* * *
اللّهُمَّ عَقِّمْ أَرْحَامَ نِسَائِهمْ، ويَبِّسْ أَصْلابَ رِجَالِهمْ، واقْطَعْ نَسْلَ دَوَابِّهمْ وأَنْعَامِهِمْ، لاَ تَأذَنْ لِسَمَائِهِمْ في قَطْرٍ وَلاَ لأَرْضِهِم في نَبَاتٍ.
* * *
اللهم قلّل عدد عدّوهم:
اللهم إنّنا لا نريد ظلم عبادك، ولا نستشعر الحقد الذاتي عليهم، ولا نفكّر في إسقاط إنسانيتهم كرهاً وعدواناً، ولا نعمل على إهدار حقوقهم وكرامتهم من موقع العقدة النفسية ضدّ الناس، ولكنّنا نقف أمام حركة الشرّ في حركتهم، وامتداد العدوان في عدوانهم، في ما يتحركون به ضدّ الإسلام والمسلمين، وما يثيرونه من الأخطار في ساحة الحقّ والعدل، حتى تحوّلت قوتهم إلى قوّةٍ للشرّ والعدوان، وانطلقت سيطرتهم إلى سيطرةٍ حاقدةٍ مستكبرةٍ على المستضعفين، الأمر الذي جعلهم مشكلةً للحياة وللإنسان وللقيم الروحية والأخلاقية، فأصبح سقوطهم سقوطاً للاستكبار، وضعفهم ضعفاً للجريمة، وهذا يدفعنا إلى أن نسألك ونبتهل إليك أن تنزل بهم الحرب والقتال.
اللهم قلّل عددهم حتى لا يتكاثروا في مواليدهم، وذلك بأن تعقّم أرحام نسائهم عن الحمل، وتجفف أصلاب رجالهم حتى لا يبقى فيها من عناصر إنتاج الحياة شيء..
اللهم عطّل حركتهم من خلال تعطيل الوسائل التي تساعدهم على الحركة والتنقل والسرعة في الوصول إلى الأهداف، وذلك بقطع نسل دوابهم وأنعامهم، فلا تتكاثر لديهم بواسطة الإنتاج المتواصل، فتضعف قوّتهم بذلك، وتتوقف حركتهم عن الانتشار في الأرض والتوسع في العدوان.
اللهم أنزل الجدب في أرضهم حتى لا تمنحهم أيّ إنتاج للقوت مما يتقوّون به على الاستمرار في البغي، وذلك بحبس المطر عنهم، وبمنع الأرض من الإنبات، حتى يذوقوا طعم الجوع، فيشغلون به عن القتال، ويضعفون به عن المواجهة.
* * *
اللّهُمَّ وَقَوِّ بِذلِكَ مِحَال(1) أهْلِ الإسْلامِ، وَحصِّنْ بِهِ دِيَارَهُمْ، وَثَمِّر بِهِ أَمْوَالَهُمْ، وَفَرِّغْهُمْ عَنْ مُحَارَبَتِهمْ لَعِبَادَتِكَ، وعَنْ مُنَابَذَتِهمْ للْخَلْوةِ بِكَ، حَتّى لاَ يُعْبَدَ فِي بِقَاعِ الأرْضِ غَيْرُكَ، وَلاَ تُعفَّرَ لأحدٍ جَبْهَةٌ دُونَكَ.
* * *
 اللهم هيّىء للمسلمين قوّة الموقف والموقع:
يا ربّ، إنّ للمسلمين في صراعهم مع قوى الشرك والكفر جولات وجولات تتتابع في حركتها، وتتكاثر في عددها، وتتنوع في وسائلها، فهيّىء لهم من قوّتك قوّة الموقف والموقع، والكيد والمكر والتدبير في ما يحتاجون إليه من ذلك للتخطيط للمعركة، في مواجهة المكر بالمكر، والحيلة بالحيلة، والخطة بالخطة، وللإيقاع بأعدائهم من خلال قدرتهم الروحية والفكرية والقتالية، واجعل لهم من نتاج جهادهم حصناً منيعاً في المواقع العسكرية والسياسية من خلال القوّة التي يحصلون عليها في الواقع الإنساني العام، بحيث يحصّنون به ديارهم، حتى لا يفكر أحد بالهجوم عليها خوفاً منها، فلا يحتاجون إلى تحصين ديارهم مادياً، لأنّ الحصن الذي يملكه المسلمون في نظرة الآخرين إليهم يفوق أيّ حصن يحجزهم عن عدوانهم عليهم.
اللهم اجعل جهادهم في نتائجه الإيجابية في إعادة السلام إلى بلادهم وسيلةً من وسائل تنمية أموالهم وتثميرها وتكثيرها عندما يندفعون إلى تطوير اقتصادهم الزراعي والصناعي والتجاري من خلال حالة السلم التي تمنحهم بركاتها في الهدوء والدعة والظروف الملائمة، للتحرك في اتجاه رعاية مصالحهم وتثبيت مواقعهم وتقوية أوضاعهم.
يا ربّ، إنّ المسلمين انطلقوا في قناعاتهم الفكرية مع توحيدك في العقيدة فلا إله غيرك، وفي العبودية فلا معبود سواك، وانفتحوا على آفاق القرب منك، حلماً يحلمون به، وحركةً يتحركون بها إليك، وخضعوا لك في انحناء ظهورهم بين يديك ركوعاً، وفي تعفير جباههم أمامك سجوداً، وتمرّدوا على كلّ ما استحدثه الناس من أوثان حجرية أو بشرية، وما عبدوه بالطاعة، من شهوات ولذات وأطماع.
إنّهم يحبّون - يا ربّ - من مواقع إيمانهم. أن يعبّروا عن حبّهم لك بالخلوة بك للاستغراق في مناجاتك وفي التفكير في أسرار عظمتك وفيوضات نعمتك، ليزدادوا بذلك معرفة بك، وقرباً إليك، وليحصلوا على الصفاء الروحي والنقاء الفكري والطهارة القلبية، من خلال ذلك.
إنّهم يتشوّقون - يا ربّ - إلى اللقاء بك والانفتاح عليك، والتعبير لك عما يختزنونه في صدورهم من الإخلاص لك، وما يحملونه في أفكارهم من الإيمان بك، وما تخفق به قلوبهم من المحبة لك، وما تنطلق به ذواتهم من الخضوع لك.
إنّهم يتطلعون إلى الحصول على حالة الذوبان فيك، والالتزام بعبادتك، ولكن الأعداء يشغلونهم عن ذلك بتحدياتهم وعدوانهم وحركاتهم المضادّة، فيقطعون عليه السبيل، ويهددون أمنهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويخططون للسيطرة على بلادهم، وتشريدهم من أرضهم، والفتنة عن دينهم، فيضطرون إلى الاستعداد لقتالهم، وللدفاع عن أنفسهم وأهلهم وأرضهم ودينهم، حتى لا تقوم للشرك قائمة، ولا يكون للكفر سلطان، ولا تقوى للظالمين دولة، ولتكون كلمتك العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، فلا يعبد في الأرض غيرك من خلال قوّة التوحيد والموحدين، ولا تعفّر لأحد جبهة دونك.
إنّهم يعبدونك - يا ربّ - في جهادهم، كما يعبدونك في صلاتهم، ويستغرقون في طاعتك عند لقاء العدوّ ومنابذته ومجاهدته، ولكن حلاوة المناجاة، وصفاء الابتهالات، وروحانية الدعاء، ونورانية القلوب في أجواء الصلاة وعمق العبودية في حالات الركوع والسجود، وسرّ الروح في الذكر في التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح وحركة المشاعر الحانية الخاشعة المتطلعة إلى غفرانك في كلمات الاستغفار الخائفة من عقابك الراجية لثوابك، المنفتحة على الرجاء في عفوك، والأمل برحمتك ومغفرتك، والسعادة بالحصول على رضوانك ونعيم جنتك، إنّ ذلك كلّه هو الذي يحبون - من خلاله - أن يتفرغوا لعبادتك، فلا يشغلهم عنها شيء، حتى لو كان عبادة أخرى، لأنّ المسألة ليست مسألة طاعة يلتزمون فيها أوامرك ونواهيك ويسعون من خلالها للإستقامة على دربك، ولتقوية مواقع طاعتك ورضاك، ولكنّ المسألة مسألة حبٍّ وانجذاب وعشق ينطلق به المحبون إلى الخلوة بالحبيب في حلاوة اللقاء، وينجذب فيه الهائمون في آفاق القرب، ويعيش فيه العاشقون سعادة الوصال، اللهم امنحهم النصر حتى يحققوا ذلك كلّه، فلا يشغلهم عن عبادتك شاغل، ولا يمنعهم عن الخلوة بك مانع.
* * *
اللّهُم اغْزُ بِكُلِّ نَاحيَةٍ مِنَ المُسْلمينَ عَلَى مَنْ بِإزَائِهِمْ مِنْ الْمُشْركينَ، وامْدُدْهُمْ بِمَلاَئِكَةٍ مِنْ عِنْدِكَ مُرْدِفينَ، حَتَّى يَكْشِفُوهُمْ إلى مُنْقَطَعِ التُّرَابِ قَتْلاً في أرْضِكَ وَأَسْراً، أوْ يُقرّوا بِأنَكَ أنْتَ الله الَّذِي لا إله إلا أنْتَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيك لَكَ.
* * *
اللهم أعزّ المسلمين لتكون كلمة التوحيد هي العليا:
اللهم إنّك أذنت لأنبيائك وأوليائك بالقتال من أجل إعزاز دينك وإعلاء كلمتك، وأردت للدعوة إليك أن تنفتح على الأرض كلّها، وعلى الإنسان كلّه، حتى يسقط الشرك بكلّ مواقعه وينهزم الكفر بكلّ قواه، فلا يبقى هناك موقع للشرك يهدّد قوى التوحد، ولا تعود للكفر سطوة تضعف بها مواقع الإيمان، فدعوتهم إلى أن يقاتلوا في سبيل الله والمستضعفين، وأذنت للذين يقاتلون بأنّهم ظلموا وأنّ الله على نصرهم لقدير، والذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلا أن يقولوا ربّنا الله، فكانت شريعتك في الجهاد، دفاعاً من جهةٍ، وتأكيداً للقوّة التي تحمي حرية الدعوة إلى دينك، وتفتح - من خلالها - للمستضعفين أبواب الانتماء إليه، إذا ضعف المستكبرون، من جهة أخرى، وتحقق للدعوة حريتها في الانطلاق إلى كلّ أرض من أرضك وإلى كلّ عبدٍ من عبادك، فلا يمنعها من ذلك مانع، ولا يقهرها قاهر، فلم يكن الغزو عدواناً لمطمع في مال، أو لشهوةٍ في الحصول على غنيمةٍ، أو لقهرٍ لإنسان في حياته، أو إذلال عزيز في نفسه، بل لتكون كلمتك التي هي كلمة الحقّ، هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى، فتنطلق الحرية الإنسانية من خلال تهيئة الظروف الداخلية والخارجية التي تمنح الإرادة حريتها، التي يهدد بها الكفر من تمرّد عليه أو خرج عن نفوذه أو ابتعد عن قناعاته.
إنّ الشرك لا يمثل العقيدة في خطّ الحرية الإنسانية، بل يمثل الخرافة في خطّ سقوط الإنسان في التصور والحركة والموقف، وإنّ الكفر لا ينطلق في آفاق الانفتاح الفكري، بل يتحرك في أجواء الانغلاق الروحي عن الله والابتعاد عن الامتداد في معرفته، الأمر الذي يجعل الضغط هنا وهناك مسألة لا تتصل بقهر الحرية، بل يقهر الظروف والأوضاع التي تقود للعبودية في الضغوط المادية والمعنوية في كلّ جانب.
* * *
اللّهم هيّىء للمسلمين العزيمة والقوّة والظروف التي تنطلق بهم نحو المواقع التي يسيطر عليها الشرك، وتتجمع فيها قوى المشركين، للدخول معهم في معركة القوّة، حتى لا يطمعوا في تهديد مواقع المسلمين، ولا يمتدوا في بلادهم، ولا يعبثوا بأوضاعهم، ولا يفسدوا مشاريعهم، لا سيّما الذين يحاذونهم ويقابلون مواقعهم منهم، باعتبارهم القوّة العدوانية التي تمثل التهديد لهم في أنفسهم وأرضهم، في حاضرهم ومستقبلهم، اللهم امنحهم قوّة الثبات في الموقف، وحرية الحركة في القتال، وامددهم بالملائكة الذين كنت تمدّ بهم المجاهدين الأولين من جنود الدعوة الأولى بقيادة نبيّك، ليتتابعوا فريقاً بعد فريق ومدداً بإزاء مدد، لا ليقاتلوا معهم، لأنّك جعلت القتال مسؤولية المجاهدين وحدهم، بل ليمنحوا جوّ المعركة قوّةً نفسيةً، وحركة روحيةً، فيشتد المسلمون - بذلك - في قتال المشركين ليهزموهم إلى خارج مواقع قوّتهم، لينسحبوا من الأرض كلّها، فلا تبقى لهم أرض ولا يستقرّ لهم موقع، ولا يقرّ لهم قرار، من خلال القتل الذي يوقعونه بهم أو الأسر الذي يقودونهم إليه، ليخضعوا لسيطرة الإسلام التي تمثل سيطرة التوحيد، فيقرّوا بأنّك الله الذي لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، إقرار الخضوع له والاستسلام إليه، والانقياد لأوامره ونواهيه، فذلك هو السبيل الذي ينفتح للناس من خلاله الخير والبركة والإيمان.
* * *
اللّهُمَّ واعْمُم بِذلِكَ أعْدَاءَكَ في أقْطَارِ الْبِلادِ، مِنَ الْهِنْدِ والرُّوم والتُّرْكِ وَالْخَزَرِ والَحَبَشِ والنُّوْبَةِ وَالزنْجِ والسَّقالِبِة والدَّيَالِمَةِ وَسَائِر أُمَمِ الشرْكِ الّذين تَخْفَى أسماؤهم وَصِفَاتُهُمْ وَقَدْ أَحْصَيْتَهُمْ بِمَعْرفَتِكَ، وَأشْرفْتَ عَلَيْهِمْ بِقُدْرَتِكَ.
* * *
اللهم اجعل خطّ الجهاد شاملاً لجميع الأمم:
اللهم إنّك أرسلت رسولك للناس كافة بشيراً ونذيراً، ودعوته للإنطلاق برسالته إلى كلّ أمم الأرض، من الهنود والروم والترك والخزر والحبش والنوبة والزنج والصقالبة والديالمة وغيرهم من الأمم والشعوب التي انتشرت في بقاع الأرض الواسعة، للدعوة إلى دينك، ليؤمنوا بك وبوحدانيتك، وليعبدوك في كلّ أمورهم، فلا يشركون بك شيئاً في العقيدة وفي العبادة وفي الطاعة، حتى تكون الأرض كلّها مملوءةً بعبادتك، ويكون الناس كلّهم خاضعين لطاعتك.
اللهم اجعل الإيمان المنطلق من خطّ الدعوة والجهاد، شاملاً لهؤلاء بأجمعهم، ووفّقنا للاستمرار في هذا الخطّ، جماعة بعد جماعة، وجيلاً إثر جيل، فلا نسترخي في راحة، ولا نملّ من دعوة، ولا نكلّ من تجربة، ولا نتراجع في جهاد، لأنّ قضية امتداد الدعوة في الأرض تفرض امتداد المؤمنين في الدعوة في كلّ زمان ومكان، فإنّ حجم الوجود الإنساني في الأرض بحاجة إلى حجم كبير للحركة التبليغية في الإسلام، حتى لا يقصر الاستعداد عن الحاجة ولا يقلّ العدد عن الضرورة.
* * *
أللّهُمَّ اشْغل الْمشْركِينَ بِالْمُشْركِينَ عَنْ تَنَاوُلِ أَطْرَافِ الْمُسْلمينَ، وَخُذْهُمْ بِالنَّقَصِ عَنْ تَنَقُّصِهِمْ، وثَبِّطْهُمْ بالفُرْقَةِ عَنِ الاحِتشَادِ عَلَيْهِمْ.
* * *
اللهم اشغل المشركين ببعضهم البعض عنا:
 يا ربّ، قد تكون القوّة التي نحصل عليها قوّة سلبيّة، وذلك من خلال عناصر ضعف العدوّ في مواقعه، لا من خلال عناصر القوّة لدينا، فقد نكون ضعفاء في عددنا، أو في سلاحنا، أو في أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد يكون العدوّ قوّياً في ذلك كلّه، فلا نملك الوقوف على خطّ التوازن معه في ميزان القوّة، ولكنّه قد يعيش الضعف من جانب آخر من خلال الخلل في التوازن بين جماعاته، مما قد يؤدّي إلى الحروب فيما بينهم، فينشغلون عنّا بذلك، فيضعف بعضهم بعضاً، ويدمرّون قوّتهم ويستهلكون أسلحتهم، فلا يستطيعون تناول أطراف المسلمين بالهجوم عليها والسيطرة على مقدراتها على أساس ضعفهم الطارئ، ولا يملكون بسبب نقصهم في العدة والعدد، أن يتنقّصوا المسلمين بالاستيلاء عليهم تدريجاً بأن يؤخذ الأول فالأول حتى لا يبقى أحد، ويقعدون بذلك عن الاحتشاد عليهم لأنّهم في شغل شاغل عنه.
اللهم اشغلهم ببعضهم عنّا، وأضعف - بذلك - قوّتهم عن تدمير قوتنا، وصبّ عليهم المشاكل الداخلية صبّاً، وثبطهم عن كلّ استعداد داخليّ أو خارجيّ للاستيلاء علينا، بالتمزق السياسي والاجتماعي والأمني بينهم.
* * *
اللّهُمَّ أخْلِ قُلُوبَهُمْ مِنَ الأَمَنَةِ، وَأبْدَانَهُمْ مِن الْقُوَّةِ، وَأذْهِلْ قُلُوبَهُمْ عَنِ الاحْتِيَالِ، وَأَوْهِنْ أَركَانَهُمْ عَنْ مُنَازَلَةِ الرِّجَالِ، وَجَبِّنْهُمْ عَنْ مُقَارَعَةِ الأبْطَالِ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ جُنْداً مِنْ ملائكتك بِبَأسٍ مِنْ بَأَسِكَ، كَفِعْلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، تَقْطَعُ بِهِ دَابِرَهُمْ، وَتَحْصُدُ بِهِ شَوْكَتَهُمْ، وَتَفَرِّقُ بِهِ عَدَدَهُمْ.
* * *
اللهم أضعف قوة الأعداء عن مقارعة المسلمين:
إنّك - يا ربّ - الذي تملك السيطرة على قلوب عبادك وأبدانهم، فأنت الذي تضع في داخل قلوبهم الخوف والأمن والوعي والغفلة، وأنت الذي تضعف أعضاءهم عن القدرة على المواجهة والقتال، وتثبّت فيها الجبن عن مقارعة الأبطال، فتتهاوى أمام أيّة مجابهة، وتسقط في أيّة ساحة مواجهة.
اللهم فرّغ قلوب أعدائنا من الإحساس بالأمن ليحلّ الرعب في خفقاتها، واشغل وعيها عن التفكير بالحيلة والتخطيط بالمكيدة للهجوم علينا، وأغلقها عن الوصول إلى التدبير الدقيق في ذلك كلّه، اللهم أضعف قوة أبدانهم عن التحرك نحونا لتضعف كلّ جارحةٍ من جوارحها عن الحركة، وتجبّن إرادتهم عن الاندفاع نحونا، فتهزمهم رجالنا، ويصرعهم أبطالنا فلا يملكون منازلة الرجال منّا ولا مقارعة الأبطال من أبطالنا.
وإذا اشتد الضغط علينا منهم، وأحدق الخطر بنا من خلالهم، فأمدّنا - يا ربّ - بالمدد الروحي من ملائكتك، في ما يمثلونه من البأس الذي تعلم سرّه ولا نعلمه، ليكون بأسهم قوّة لنا تمنحنا الثبات وتعطينا القوّة، كما فعلت يوم بدر بالمسلمين الأوائل بقيادة رسولك، عندما كان الأعداء في موقع القوّة في العدة والعدد، وكان المسلمون في موقع الضعف في السلاح والرجال، لتقطع دابرهم عنّا كما قطعته عن المسلمين، ولتحصد بذلك شوكتهم الموجهة إلينا كما حصدتها في يوم بدر، ولتفرق عددهم فينهزموا شرّ هزيمةٍ، كما هزمت المشركين في انتصارك للمسلمين، فإنّ المعركة هي المعركة بين الإيمان والكفر والنتائج هي النتائج على مستوى المستقبل الإسلامي كلّه سلباً وإيجاباً، لأنّنا نقاتل في سبيلك ونجاهد لإعزاز دينك، لتكون كلمتك العليا وكلمة الشيطان هي السفلى.
* * *
اللّهُمَّ وامْزُجْ مِيَاهَهُمْ بِالْوَبَاءِ، وَأطْعِمَتَهُمْ بِالأدْوَاء(2)، وأرْمِ بِلاَدَهُمْ بِالْخُسُوفِ(3)، وَألِحَّ عَلَيْها بِالْقُذُوفِ(4)، وَافْرَعْهَا(5) بِالْمُحُوُلِ(6)، وَاجْعَلْ مِيَرهُمْ(7) في أَحَصِّ(8) أرْضِكَ وَأَبْعَدِهَا عَنْهُمْ، وامْنَعْ حُصُونَهَا مِنْهُمْ، أَصِبْهُم بِالْجُوعِ الْمُقِيمِ، وَالسُّقْمِ الألِيمِ.
* * *
اللهم أذقهم كلّ أنواع البلاء:
اللهم إنّنا لا نريد الشرّ بالناس وإن كانوا من أعدائنا، لأنّك علّمتنا على لسان رسولك أن نعفو عنهم ونفتح قلوبنا لهم، وندعو بالهداية لهم من الضلالة، وأن نأخذ بالتي هي أحسن في علاقتنا بهم، حتى يكون الذي بيننا وبينه عداوة كأنّه وليٌّ حميم.
ولكنّ القضية ليست قضيتنا بالذات في دائرة العداوة والصداقة الشخصية، بل هي - يا ربّ - قضيّة أعداء دينك، ومحاربي رسالتك، والسائرين في خطّ التمرد عليك، وإضلال عبادك، وإفساد بلادك، وهي القضية التي تبلغ حدّ الخطورة في مستوى الإنسان كلّه، والحياة كلّها، ولذلك فإنّنا ندعوك ونبتهل إليك أن تنزل بهم أقصى أنواع البلاء الذي يمنعهم عن تنفيذ مخططاتهم العدوانية، وأشدّ حالات الاهتزاز والخلل في أنفسهم وأوضاعهم.
اللهم اجعل مياههم موبوءة، وأطعمتهم مملوءة بعناصر الأمراض، واخسف بلادهم بالزلازل والاهتزازات المتنوعة التي تبتعد بها عن الثبات والاستقرار، واقذفهم بالريح العاصفة، والأمطار الهائلة، والأحجار الثقيلة، وأدم ذلك فيهم حتى يشغلوا بذلك عن الاستعداد للعدوان.
وأنزل بأرضهم الجدب وامنعها من الخصب، فتمتنع عن العطاء مما تعطيه الأرض من الفواكه والحبوب والثمار، واجعل طعامهم في أكثر المناطق جدباً وأبعدها طلباً عنهم، حتى لا يحصلوا على شيء منه مما يزرعون أو يحصدون، أو حتى لا يبلغوا مداها ولا يستطيعوا الوصول إليها.
اللهم لا تمكنهم من السيطرة على حصونها الطبيعية التي يتحصنون بها في أوضاعهم العدوانية، واجعلها منيعةً عليهم بحيث لا يستطيعون الحصول على طعامهم الذي قد يختزنونه في داخلها.
عطّل - يا ربّ - حركتهم بالجوع المستمرّ من خلال استمرار القحط في أراضيهم، واجعلهم في مرض دائم، من خلال تتابع البلاء فيهم.
إنها ليست قسوةً - يا ربّ - نبتعد بها عن الإحساس بالرحمة، وليستْ عقدة ننفّس بكلماتنا من خلالها عن حقد، وليست بعداً عن المعنى الإنساني في مشاعرنا، فنحن لا نحبّ للمياه التي يشرب منها الناس أن تصاب بالوباء، ولا نريد لطعام الناس أن تحلّ فيها الأدواء، ولا نحبّ أن نخسف الأرض بأهلها، وتقذف أرجاءها بالحجارة، ولا نتمنّى لها الجدب، ولا لأهلها الجوع والمرض، ولكن الموقف قد يفرض ذلك عندما نقف بين أمرين أحلاهما مرّ، فنختار ما تبعد به الحياة عن السقوط، ويسقط به الإنسان في هاوية الكفر والضلال، وتتحول الدنيا إلى ساحةٍ للقهر والظلم والاستبعاد والاستكبار أمام طغيان فئةٍ قليلة تريد أن تعيش على موت الناس، وتحصل على الغنى من فقرهم، وتصل إلى الجاه والعزّ من ذلّهم، إنّه موقف اختصار المأساة والمشكلة عندما يدور الأمر بين الألم القليل والألم الكبير.
* * *
اللّهُمَّ وَأيُّمَا غَازٍ غَزَاهُمْ مِنْ أهْل مِلَّتِكَ، أوْ مُجَاهِدٍ جَاهَدَهُمْ مِنْ أَتْباعِ سُنَّتِكَ، لِيَكُونَ دِينُكَ الأعْلى وَحِزْبُكَ الأقْوَى وَحظُّكَ الأوَفى، فَلَقِّهِ الْيُسْرَ، وَهيّىءْ لَهُ الأَمْرَ، وَتَوَلَّهُ بِالنُّجْحِ، وتَخَيَّرْ له الأصْحَابَ، واسْتَقْوِ لَهُ الظَّهْرَ، وأسْبِغْ عَلَيْهِ في النَّفَقَةِ، وَمَتّعْهُ بِالنَّشَاطِ، واطْفِ عَنْهُ حَرَارَةَ الشَّوْقِ، وَأجِرْهُ مِنْ غَمِّ الْوَحْشَةِ، وَأَنْسِه ذِكْرَ الأهْلِ والْولَدِ، وآِثْر لَهُ حُسْنَ النِّيَّةِ، وتَوَلّهُ بِالعَافِيَة، وَأصْحِبْهُ السَّلامَة، وأَعْفِه مِن الْجُبْنِ، وألْهِمْهُ الْجُرْأَةَ، وتَوَلّهُ بِالعَافِيَة، وَأصْحِبْهُ السَّلامَة، وأَعْفِه مِن الْجُبْنِ، وأَلْهِمْهُ الْجُرأْةَ، وَارزْقْه الشِّدَّةَ، وَأيِّدْهُ بشالنُصْرَةِ، وَعَلِّمْهُ السِّيَرَ وَالسُّنَنَ، وَسَدِّدْهُ في الْحُكْمِ، وَاعْزِلْ عَنْهُ الرِّيَاءَ، وَخَلِّصْهُ مِنْ السُّمْعَةِ، واجْعَلْ فِكْرهُ وَذِكْرَهُ وَظَعْنَهُ وإقَامَتَهُ فِيكَ وَلَكَ.
* * *
اللهم وفّر للمجاهدين كلّ عناصر القوة والنصر:
يا ربّ، إنّ حبّنا لك، وإيماننا بك، وإخلاصنا لدينك، وانفتاحنا على المستضعفين من عبادك، يفرض علينا حبّ المجاهدين في سبيلك من المؤمنين برسالتك، المنتسبين إلى أهل ملتك، التابعين لسنتك، هؤلاء الذين يعملون بكلّ جهدهم وكلّ طاقتهم من أجل أن يكون دينك الأعلى وحزبك الأقوى وحظك الأوفى، لأنّ حياتهم لم تتحرك في دائرة الذات لديهم، بل تحركت في دائرة الرسالة في إيمانهم، فهم يعيشون همّ الرسالة في همومهم، وانتصاراتهم في خطواتهم، من أجل أن يوصلوا المسيرة التي قادها رسولك الأكرم، وجاهد فيها المخلصون من صحابته وأهل بيته، لينطلقوا في معاركها ضدّ أعدائها، ليبلغوا من خلال ذلك الأهداف الكبرى، لأنّها أمانة الله لدى كلّ جيل، بأن يبلغ بها مرحلةً جديدةً متقدمة، ويفتح لها أفقاً واسعاً، وينطلق بها في الاتجاه السليم، اللهم إنّنا نحبّهم وندعو لهم، ونتابع خطواتهم، ونتحمسّ لهم، وننفعل في مشاعرنا بكلّ سلبياتهم وإيجابياتهم، لأنّهم جُندُك الغالبون، وحزبك المفلحون، وأَولياؤك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
اللهم سهّل عليهم أمورهم، واجعلهم في يُسر منك وعافية، حتى لا يعسر عليهم شيء منها، وأعدَّ لهم الظروف والأحوال التي تتمّ لهم ما يريدونه منّا، وكن الوليّ لهم في رعاية شؤونهم، والقيام بها بالوسائل الخفية التي تؤدّي بهم إلى تحقيق النجاح لهم فيها، وتخيّر الأصحاب من خلال إلهامهم حسن الاختيار، ومن إلهام الآخرين من الصالحين الانتماء إليهم، ومن تهيئة الأسباب لذلك كلّه، لتكون صحبتهم صحبة خير وعونٍ ونجاح.
واطلب لهم المركب القويّ الذي يملك قوّة التحمّل على حمل الأحمال الثقيلة، فيكون الظهر الذي يحملهم إلى مقاصدهم ويحمل أثقالهم إلى مواقع الجهاد.
ووسّع عليهم في النفقة حتى لا يحتاجون أحداً غيرك، ولا تثقلهم الحاجة عن حرية الحركة في الحرب، ولا تضيق بهم حاجاتهم من خلال ذلك، وهب لهم النشاط في العمل في حيويّة القوّة وحركية الإرادة وسرعة الحركة، وأطفئ في داخل كيانهم حرارة الشوق إلى الأهل والأحبة والأولياء، حتى لا يشغلهم ذلك عن الاهتمام بالغاية التي يتطلبونها، وذلك بالانفتاح على الصبر في مواجهة الذكريات الحميمة.
وأجرهم - يا ربّ - مما قد يطوف في صدورهم من الغمّ، ويسيطر عليهم من الكآبة في الشعور بالوحشة النفسية والغربة الروحية، عندما ينفصل الإنسان عن بلاده التي هي مأنس نفسه وموضع أنسه، فيقوده ذلك إلى السقوط الروحي الذي يترك تأثيره السلبي على الإرادة، فيتحول الموقف لديه إلى ما يشبه موقف الإنسان الذي يلاحقه عدوه ليقتله فيستجير منه بأقرب الناس إليه، وأقواهم لديه، وهكذا حال المجاهدين الذين يفترسهم غمّ الوحشة، فيقتل فيهم العزيمة والإرادة والثبات على الخطّ، فاجعلهم يستغرقون في ذكرك وفي الهدف الذي يتحرّكون نحوه في نصرة الإسلام وأهله على الكفر وأهله، وأنسهم ذكر الأهل والمال والولد، لأنّهم انفتحوا على القضايا الكبرى التي تذوب أمامها القضايا الصغيرة، الأمر الذي يجعلهم في نسيانٍ لما خلّفوه وراءهم، ووعي لما يواجهونه أمامهم، وافتح لهم في عقولهم وقلوبهم ومواقع الإحساس في ذواتهم الفكر الذي يوحي إليهم بحسن النية باعتبارها القيمة الروحية التي تمنح صاحبها النتائج الكبرى من الفضل عند الله، من خلال ترشيدها للعمل وتحسين مضمونه ورفع مستواه، وتأصيل معناه، حتى يندفعوا إليه من موقع النية الخالصة في القرب إلى الله والبعد عن مداه، حتى يكون الجهاد خالصاً لوجهه، فإنّ الله يعطي العمل ثوابه بمقدار النية الخالصة الدافعة له.
* * *
اللهم كن وليّهم بالعافية من البلاء في مسيرهم هذا، فإنّك وليّ العافية لعبادك، واجعل السلامة الصاحب الذي لا يفارقونه، وأبعدهم عن الجبن الذي يهزم أرواحهم ويضعف عزيمتهم ويمنعهم من المواجهة، وألهمهم الجرأة على اقتحام الصعاب، ومنازلة الرجال، ومقارعة الأبطال من خلال الشجاعة الروحية والجسدية، واجعلهم الأشداء على أعدائك الذين تنطلق الشدّة في مواقفهم من موقع القوّة في إرادتهم وإيمانهم، وأيّدهم بنصرك، وعلِّمهم أحكام الشريعة في الجهاد حتى يستقيموا على خطّ رضى الله في كلّ مواقعهم ومواقفهم، وأفهمهم السنن التي تمثل الطريقة المحمدية، في ما سنّه الرسول عليه الصلاة والسلام من مكارم الأخلاق، وفضائل الأعمال، والمناهج القويمة، والطرق المستقيمة، حتى ينطلقوا من أخلاق الإسلام في أخلاقهم، ومن سنّة الرسول في سنّتهم، لأن الجهاد في حركة المسلم ليست حرباً تضرى فيها الغرائز وتنطلق معها الأحقاد، وتنتشر فيها الفوضى، ويتحول فيها الإنسان إلى وحش يلهث شوقاً إلى الدم ورغبة في القتل، ولكنّها حرب تخضع للضوابط الأخلاقية الإسلامية، لأنّ للحرب أخلاقها، كما للمسلم أخلاقه، وللمحاربين قواعدهم العملية في ما يأخذون وفي ما يدعون، كما للمسالمين ذلك، ولذلك فلا بدّ للمجاهدين من أن يكونوا مثقفين بثقافة الإسلام الفكرية والعملية، ليعرفوا مواقع الحركة هنا، والوقوف هناك، والرأفة هنا، والقسوة هناك.
اللهمّ ألهمهم السواء في الحكم من خلال الانفتاح على مواقع الصواب في مضمونه، والحق في موارده، حتى يستقيم لهم الحكم، فلا يخطئوا فيما لا يجوز الخطأ فيه، ولا ينحرفوا عن الخطّ المستقيم، فإنّ الحرب قد تضغط على الفكر والإحساس، وتبتعد بالإنسان عن وضوح الرؤيا للأشياء من خلال قسوة التحدي وضغط الخطر، وارتباك الوضع، الأمر الذي قد يؤدّي به إلى الخطأ في التقدير أو في معركة النتائج.
يا ربّ، إنّ الحرب في الإسلام ليست عملية استعراض للقوّة، أو مظهراً للقدرة على فنون القتال، أو للتعالي في الذات، أو للزهو في حركة الشجاعة أو صفة البطولة، أو للحصول على مدح الناس وثنائهم، أو للوصول إلى مطمع شخصي مما يتطلبه الناس من حاجاتهم المادية، ولكنّها - يا ربّ - عبادةٌ يتقرب بها المجاهدون إليك، ليحصلوا على ثوابك، وينعموا برضوانك، ويحصلوا على جنتك، وينالوا شرف محبتك، ليكونوا الأبطال في الإخلاص إليك، والأقوياء في مواقع الصراع بين أوليائك وأعدائك، من أجل إعزاز دينك، وتقوية رسالتك. فهي حرب القضية لا حرب الذات، وساحة الرسالة لا ساحة المجد، فلا بدّ للمجاهدين من قصد القربة فيها كما لو كانت صلاة يصلونها، وصوماً يصمونه، وحجاً يقومون به، لأنّ للجهاد صلاته وصومه وحجّه، في معنى العبادة الذي تختزنه مواقفه وصبره وروحيته، ولكنّ النفس أمّارةٌ بالسوء إلا ما رحمت، مختارةٌ للباطل إلاّ ما وفّقت، فقد تستيقظ نوازع الذات، في مشاعر الرياء وفي خطرات السمعة، ليكون الجهاد، في إحساس الذات عملاً يجتذب نظرات الناس ومشاعرهم، فيزداد حبّاً للمجاهدين وتقديراً لهم كما يستهوي عواطفهم، ليظهر ذلك في أحاديثهم فيحصل المجاهدون على السمعة الطيبة لديهم، فيكون الزهو بالمجد الدنيوي هو الذي يتطلعون إليه، لا المجد الأخروي الذي ينبغي لهم أن يعملوا له.
اللهم خلّصهم من الرياء في عبادتك، ومن السمعة في دينك، ليكون جهادهم جهاد العابدين، وعملهم عمل المتقين، ليكون القرب منك هو غاية حركتهم، والحصول على رضوانك هو كلّ أحلامهم في الحياة، واجعل - يا ربّ - تفكيرهم في ما يفكرون به وذكرهم في ما يذكرون فيه، وسفرهم في ما يسافرون إليه، وإقامتهم في ما يقيمون فيه في سبيل رضاك، تعظيماً لك، وانفتاحاً عليك، ووصولاً إلى مواقع القرب منك، من خلال الوعي العميق بأنّ الجهاد يختلف عن غيره من الأعمال، لأنّ فيه هلاك النفس، وفقدان الحياة كلّها، فلا معنى لأن يجاهد الإنسان المسلم رياءً أو سمعة، لأنّ ذلك لا يفيده شيئاً بعد موته عندما يفقد الإحساس بكلّ نوازع الذات، كما أنّه يقدم حياته قرباناً لكلمة يقولها إنسان، أو لنظرة إعجاب ينظر بها إليه إنسان آخر، ممن لا يملكون له ولأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلا بالله، وتلك هي مسألة بيع الغالي - وهو نفسه - بأبخس الأثمان.
* * *
فإذا صَافَّ عَدُوَّك وَعَدُوَّهُ فَقَلِّلْهُمْ في عَيْنِهِ، وَصَغِّرْ شَأْنَهُمْ في قَلْبِهِ، وَأدِلْ لَهُ مِنْهُمْ، وَلا تُدِلْهُمْ مِنهُ(9)، فإنْ خَتَمْتَ لَهُ بِالسَّعَادَةِ، وَقَضَيْتَ لَهُ بِالشَّهَادَةِ، فَبَعْدَ أنَ يَجْتَاحَ عَدُّوَّكَ بِالْقَتْلِ، وَبَعْدَ أنْ يَجْهَدَ بِهِمُ الأمْرُ، وَبَعْدَ أنْ تَأْمَنَ أطَرَافُ الْمُسْلِمِينَ، وَبَعْدَ أنْ يُولِّي عَدوُّكَ مُدْبِرينَ.
* * *
 اللهم أضعف هيبة العدوّ في صدورهم:
يا ربّ، لقد كانت المسألة مسألة إعداد المجاهد لمواجهة العدوّ حتى تكون روحيته روحية الجهاد الواعي المنفتح على الرسالة من خلال انفتاحه على الله، والسائر في خطواته نحو الهدف بقوّة المؤمن، وثبات المجاهد الواثق بنفسه من خلال ثقفته بربّه، المخلص لله في كلّ أعماله، السائر على خطّ التقوى في حياته.
ونحن هنا ندعوك - يا ربّ - أن تمنح المجاهد في ساحة المعركة الأجواء النفسية التي تقوّي روحه وتثبّت موقفه، فإذا قابل في مواقع المجابهة من خلال ما يختزنه في نفسه من عداوتهم لله، لأنّهم اختاروا الشرك على التوحيد، ولأنّهم أعلنوا الحرب على رسوله ورسالته، ومن عداوتهم له، لأنهم يضمرون العداوة له ويخططون للعدوان عليه ويعملون لإهلاكه.
إذا وقف في ساحة المواجهة، فاملأ قلبه بالإيحاءات الروحية التي تصغر شأنهم في قلبه، وتحقّر موقعهم في وجدانه، وتقلّلهم في عينه، حتى يدفعه ذلك كلّه إلى الاندفاع نحوهم بالجرأة الروحية التي تقتحم الميدان بعيداً عن كلّ مشاعر الضعف، لأنّ مشكلة الكثيرين من المجاهدين هي ما قد يعانونه من نقاط الضعف في ذواتهم، وهيبة العدوّ بالحرب الإعلامية التي تضخم قوته وتقلل قوّة خصومه، ولذلك فإنّ المسألة الداخلية في حركة الوعي الذاتي للمعركة، وللعدوّ في وجدان المسلم، تمثّل العنصر الكبير للأهمية في الواقع، في ثبات المواقف، وقوّة المواقع. اللهم هيىءْ له أسباب النصر من قوّتك ولطفك ورعايتك، وانصره عليهم ولا تنصرهم عليه، لأنّ انتصاره انتصار لك ولرسالتك، فإذا كانت الشهادة هي قضاءك له في إرادتك السعادة الخاتمة لحياته، فليكن ذلك بعد اجتياح العدوّ وهزيمته بالقتل والأسر، لتبقى قوّة المجاهدين شاخصة في ميدان المعركة للوصول إلى الهدف الكبير وهو حصول البلاد الإسلامية بكلّ نواحيها على الأمن والمنعة والقوّة، فلا تخاف من غارةٍ، ولا تخشى من عدوان، من خلال هزيمة العدوّ وإدباره. إن عظمة الشّهادة هي في مدلولها في روحية المؤمن، وحركيّتها في واقع الناس، وفاعليتها في تحقيق الأهداف الكبرى للرسالة الإلهية في الأرض.
* * *
اللهُم وَأيّما مُسْلِم خَلفَ غَازِياً أوْ مُرابطاً في دارِه، أو تعهّد خالِفيه في غَيْبَتِهِ، أوْ أعَانَهُ بِطَائِفَةٍ مِن مَالِهِ، أوْ أمَدَّهُ بِعتَادٍ أوْ شحَذَهُ عَلَى جِهادٍ، أوْ أتْبَعَهُ في وَجْهه دَعْوَةً، أوْ رَعى لَهُ مِنْ ورَائِهِ حُرْمَةً، فأجْرِ له مِثْلَ أجْرِه وَزناً بوَزْنٍ، ومثْلاً بمثلٍ، وَعَوِّضْهُ مِنْ فِعْلِهِ عوضاً حَاضراً، يتعجّلُ بهِ نفعَ ما قدَّمَ، وَسُرور ما أتى بهِ، إلى أنْ يَنتَهيَ بهِ الوقتُ إلى مَا أجريتَ لهُ مِنْ فضْلِكَ، وأعددتَ لهُ منْ كرامتِكَ.
* * *
اللهم سدّد كلّ من يساهم في توفير أسباب النصر:
يا ربّ، إنّ قضية الجهاد - في جمهوره البشري - لا تقتصر على ساحة المعركة بل تمتد في مقوماتها الحيوية إلى كلّ موقع فيه للمجاهدين أهل أو مال وعلاقات، وإلى كلّ موقف يتصل بالمجاهدين في حرمانهم في غيبتهم، وحاجاتهم في الإمداد المستمرّ بالسلاح والعتاد والمال، وإلى المشاعر الجيّاشة التي تحتضن شعورهم والعواطف الصادقة الطيبة التي تنفتح على حركة جهادهم، والكلمات الطيبة المؤيّدة والمتعاطفة التي تؤكّد امتداداهم الإعلامي والسياسي في حياة الأمة.
إنّ الجهاد عندما ينطلق معركة في الساحة، وقتالاً في الميدان لا يقف عند إعداد المجاهدين لذلك، بل ينطلق ليشمل الأمّة كلّها، لتكون - بأجمعها - مجاهدةً بمشاعرها ومواقفها وإعلامها وحركتها السياسية، حتى يشعر المجاهدون بالقوة من خلال تكامل الأمّة معهم، حتى لا تبقى هناك ثغرة ينفذ منها العدوّ ليلتفَّ عليهم من خلالها، لتقوم بإغلاق المنافذ السلبية كلّها.
اللهم إنّ هناك في المسلمين من يقفون في المناطق الخلفية وراء المجاهدين والمرابطين ليخلفوهم في أهلهم وديارهم في عملية رعاية وحماية وعناية حتى لا يضيعوا من بعدهم، ولا يتعرضوا للعدوان، وليتعهدوهم في غيبتهم، بما يتعهد به الإنسان أمور الغائبين في أحبائهم وأوليائهم.
وإنّ هناك من يعملون على إعانة المجاهدين والمرابطين بالمال الذي يقدمونه من أموالهم، أو يجمعونهم من أموال الناس، أو يدعمونهم بالسلاح ووسائل النقل وآلات الحرب المتنوعة مما يحتاجه المحاربون في إدارة شؤونهم القتالية.
وإنّ هناك من يعمل على تشجيع الناس على الجهاد، وتأكيد عزيمتهم عليه، بمختلف أساليب التوعية الروحية والسياسية والثقافية، من خلال إثارة وعي المسؤولية في وجدانهم، وتحريك المشاعر في كيانهم، وتوجيه الأنظار إلى ما يواجه الأمّة من الأخطار، وما يحيط بالإسلام من المشاكل والأعداء، وإثارة الحديث المتنّوع حول ما أعدّه الله للمجاهدين في ساحة المعركة والمرابطين على ثغور الإسلام، من الثواب الجزيل والثناء الجميل، والرضوان الكبير، والمغفرة الدائمة، والرحمة الشاملة، واللطف العظيم.
وهناك من يعمل على تهيئة الأجواء والظروف الملائمة للجهاد، ومواجهة كلّ العوائق والموانع، والقيام بكلّ الحاجات المادية والمعنوية، وهناك من المسلمين مَنْ يعيش همَّ المجاهدين والمرابطين، فيفكّر بهم في الليل والنهار على أساس أنّهم من همومه الذاتية التي يعيشها في حياته فكراً وحركة وشعوراً، فيدعو لهم بالحماية والنصر كما يدعو لنفسه ولأقرب الناس إليه، أو يرعى حرمانهم في حقوقهم الخاصة والعامة، فيحافظ عليها ويقف عندها، ولا يسمح لأحد بانتهاكها وتجاوز حدودها، كما لو كان حاضراً في مواقعه الخاصة.
اللهم أعط هؤلاء أجراً مثل ما تعطي المجاهدين والمرابطين من أجر، وزناً بوزن ومثلاً بمثل، فلا تنقصهم شيئاً منه، لأنّهم إذا لم يجاهدوا بأنفسهم لمانع شرعيٍ أو واقعيّ، فقد جاهدوا بأموالهم وجهودهم ومشاعرهم وكلماتهم ودعواتهم، وحماية الخلفيات الأمنية أو السياسية من ورائهم، حتى عاش الناس، من خلال هؤلاء، أجواء المعركة في الانفتاح على الجهاد كلّه وعلى المجاهدين كلّهم.
اللهم عوّضهم عن كلّ نشاطهم وجهودهم وأعمالهم عوضاً كاملاً من ثواب الدنيا والآخرة، ليتعرفوا في ثواب العاجل المنافع لما قدموه والمسرّات في ما قاموا به، وليمتدوا بذلك الثواب الدنيوي الذي أعددته للعالمين في طاعتك من عبادك، لينعموا به في الدنيا مدة حياتهم انتظار للثواب الأخروي الذي ينتظرونه عندما يصلون إلى الدار الآخرة.
* * *
 قال صاحب رياض السالكين: "يستفاد من قوله(ع): "وعوّضه من فعله عوضاً حاضراً" إلى آخره، أن الأعمال الصالحة قد يستحقّ بها الثواب في الدنيا والآخرة معاً، وهو ظاهر قوله تعالى:{ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} [آل عمران:148] ومن زعم أنّ الثواب لا يكون إلا في الآخرة، وأنّ المراد بثواب الدنيا في الآية: ما آتاهم تفضلاً منه أو لطفاً بهم، وتسميته ثواباً على المجاز والتوسع، فقد تكلّف، على أنّ الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) مستفيضة بأنّ من الأعمال ما يوجب الثواب في الدنيا والآخرة"(10).
فمن ذلك ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن أبي جعفر(ع)، أنّه قال: "صلة الأرحام تزكّي الأعمال، وتنمّي الأموال وتدفع البلوى، وتيسّر الحساب، وتنسىء في الأجل(11)، وعنه(ع) قال: "قال رسول الله(ص): أعجل الخير ثواباً صلة الرحم"(12).
وبسندٍ صحيحٍ عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: "من أغاث أخاه المؤمن اللهفان اللهثان عند جهده فنفّس كربته وأعانه على نجاح حاجته، كتب الله عزّ وجلّ له بذلك اثنتين وسبعين رحمة من الله، واحدة يصلح بها أمر معيشته، ويدخر له إحدى وسبعين رحمة لأفزاع يوم القيامة وأهواله"(13).
* * *
اللهُمَّ وَأيُّمَا مُسْلِمٍ أهمّهُ أمْرُ الإسْلامِ، وَأحزَنَهُ تَحزُّب أهْل الشِّرْكِ عَلَيْهم، فَنَوى غَزْواً، أوْ همَّ بجهادٍ، فقَعَدَ بِه ضَعْفٌ، أوْ أبْطأتْ بهِ فَاقةٌ، أوْ أخَّرَهُ عنه حَادِثٌ، أوْ عَرَضَ لهُ دونَ إرادته مانعٌ، فاكتُب اسمَهُ في العابدينَ، وأوْجِبْ لهُ ثواب المجاهدين، واجعله في نظام الشُهداءِ والصالحينَ.
* * *
اللهم ارزق المسلمين على صدق نيَّاتهم أجر المجاهدين:
يا ربّ، قد يكون بعض المسلمين مشروع مجاهد، من خلال اهتماماته بأمور الإسلام والمسلمين، وهمومه المتصلة بالهمّ الكبير المنفتح على قضاياه وقضاياهم، ومشاكله ومشاكلهم، ومن خلال أحزانه وأحاسيسه الشعورية المرتبطة بما يراه من تحزّب أهل الشرك وإعدادهم واستعدادهم للعدوان على الإسلام والمسلمين، فتحرك من خلال روحه الإيمانية، ومشاعره الإسلامية، ليغزوَ مع الغازين وليجاهد مع المجاهدين، ليقوم بمسؤوليته في نصرة الدين وأهله وهزيمة الكفر وأهله، ولكن الظروف القاسية لم تساعده على ذلك، فأصابه الضعف في جسده، أو عرض له الضيق في إمكاناته المادية، أو حدثت له بعض الحوادث المعقدة في نتائجها، أو عرضت له بعض الموانع التي تقف حائلاً دون تحقيق إرادته في الجهاد... فوقف حائراً حزيناً متحسراً كأولئك الذين تحدثت عنهم في كتابك من المؤمنين الذين يعيشون بعض ذلك فرفعت عنهم الجهاد، ولكن بعضهم لم يطلب ذلك بل كان يتمنّى أن ترتفع بعض الموانع الحائلة بينه وبين الجهاد، وذلك هو قولك - عزّ اسمك - في سورة التوبة:
{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:91-92].
* * *
اللهم إنّ مثل هؤلاء الذين عاشوا الجهاد همّاً وأمنية وهدفاً لا يختلفون عن المجاهدين في روحياتهم وإراداتهم، بل قد يكونون أفضل من بعض منهم، وأشدّ إيماناً، وأقوى بأساً، ولكنّ الظروف القاهرة الداخلية والخارجية، أقعدتهم عن ذلك.
اللهم إنّك جعلت النية الكاملة في النفس هي سرّ العمل، اللهم فأعطهم على نياتهم أجراً في مستوى أجر العاملين، واكتبهم في الغازين العابدين، وأوجب لهم ثواب المجاهدين، واجعلهم في دائرة الشهداء والصالحين، لأنّهم لا يختلفون عنهم في الموقف، وإن اختلفوا عنهم في الموقع من خلال الظروف البعيدة عن قدراتهم وإمكاناتهم، يا ربّ العالمين.
* * *
اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحمد عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ وآل مُحمدٍ، صلاةً عَاليةً علَى الصلواتِ، مشرفةً فَوْقَ التحيات، صَلاةً لا ينتهي أمَدُها، ولا ينقطعُ عَدَدُها، كأتمِّ ما مضى مِنْ صَلَواتك عَلَى أحدٍ منْ أوْليائِك إنّك المنّانُ الحميد، المبدئ المعيدُ، الفعَّالُ لِمَا تُريد.
* * *
يا ربّ، وتبقى للصلاة على النبّي محمّد(ص) وأهل بيته مضمونها الإيماني الرسالي في عقولنا وقلوبنا وألسنتنا، لأنّها تثير في نفوسنا كلّ الذكريات العطرة لحركته في الدعوة والجهاد في سبيلك، ولسيرته الشريفة في أخلاقه وأقواله وأفعاله، ولإخلاصه لك في سرّه وعلانيته، ولتحمّله الأذى في سبيلك. اللهم صلّ عليه بأفضل صلواتك وأكثرها عدداً، وأتمّها كرامة وأرفعها درجة، بكلّ ما تمثّله صلواتك عليه، من رضوانك عليه ومحبتك له، ورفع منزلته، وعلوّ درجته، فأنت الله الذي تمنّ على عبادك بألطافك وتمنحهم الحمد من محامدك، وأنت الذي تبدأ الخلق ثم تعيده، وتفعل ما تريد يا أرحم الراحمين.
* * *
الهوامش:

(1)    روي عن عليّ(ع) في تفسير قوله: "شديد المحال" أي شديد الأخذ، وعن الزمخشري: شديد الكيد والمكر لأعدائه، يأتيهم بالهلكة من حيث لا يحتسبون، والأول أقرب، والظاهر أنّ المعاني المذكورة للكلمة تنطلق من معنى القدرة التي تملك حركة القوّة، وبذلك يكون المراد من محال أهل الإسلام مواقع القوة عندهم بكلّ أنحائها. نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:4، ص:209.
(2)    الأدواء: جمع داء وهو المرض.
(3)    خسف المكان: غار في الأرض.
(4)    القذوف: جمع قذف وهو الرمي بالحجارة، أو الريح الشديدة الباردة.
(5)    أقرع رأسه: علاه ضرباً.
(6)    المحول: جمع محل وهو الجدب وانقطاع المطر.
(7)    المير: جميع ميرة بالكسر، وهي الطعام الذي ينقل من بلد إلى بلد.
(8)    الحص: في الأصل حلق الشعر، ومنه الحاصّة، وهو داء يتناثر منه شعر الرأس ثم استعير في الجدب وقلّة الخير وعدم النبات، وقيل: سنة حصّاء أي جرداء لا خير فيها.
(9)    قال ابن الأثير: في الحديث: ندال عليهم ويدالون علينا، الإدلة: الغلبة، يقال: أديل لنا على أعدائنا، أي نُصرنا عليهم، ومنه حديث أبي سفيان وهرقل: ندال عليه ويدال علينا، أي نغلبه مرةً ويغلبنا أخرى. نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:4، ص:261.
(10)    رياض السالكين، ج:4، ص:271.
(11)    الكافي، ج:2، ص:150، رواية:4.
(12)    (م.ن)، ج:2، ص:152، رواية:15.
(13)    (م.ن)، ج:2، ص:199، رواية:1.

دعاؤه(ع)
متفزِّعاً إلى الله جلّ وعزّ

اللّهُمَّ إِنّي أَخْلَصْتُ بِانْقِطاعي إِلَيْكَ، وَأَقْبَلْتُ بِكُلّي عَليْكَ، وَصَرَفْتُ وَجْهي عَمَّنْ يَحْتاجُ إِلى رِفْدِكَ، وَقَلَبْتُ مَسْأَلَتي عَمَّنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ فَضْلِكَ.
وَرَأَيْتُ أَنَّ طَلَبَ الْمُحْتاجِ إِلَى الْمُحْتاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأْيِهِ، وَضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ، فَكَمْ قَدْ رَأَيْتُ يا إِلهي مِنْ أُناس طَلَبُوا العِزَّ بِغَيْرِكَ فذلّوا، وَرامُوا الثَّرْوَةَ مِنْ سِواكَ فَافْتَقَرُوا، وَحاوَلُوا الارْتِفاعَ فَاتَّضَعُوا، فَصَحَّ بِمُعايَنَةِ أَمْثالِهِمْ حازِمٌ وَفَّقَهُ اعْتِبارُهُ، وَأَرْشَدَهُ إِلى طَريقِ صَوابِهِ اخْتِيارُهُ.
فَأَنْتَ يا مَولاىَ دُونَ كُلِّ مَسْؤُول مَوْضِعُ مَسْأَلَتي، وَدُونَ كُلِّ مَطْلُوب إِلَيْهِ وَلىُّ حاجَتي، أَنْتَ الْمَخْصُوصُ قَبْلَ كُلِّ مَدْعُوٍّ بِدَعْوَتي، لايَشْرَكُكَ أَحَدٌ في رَجائي، وَلايَتَّفِقُ أَحَدٌ مَعَكَ في دُعائي، وَلا يَنْظِمُهُ وَإِيّاكَ نِدائي.
لَكَ - يا إِلهي - وَحْدانِيَّةُ الْعَدَدِ، وَمَلَكَةُ الْقُدْرَةِ الصَّمَدِ، وفَضيلَةُ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَدَرَجَةُ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ، وَمَنْ سِواكَ مَرْحُومٌ في عُمْرِهِ، مَغْلُوبٌ عَلى أَمْرِهِ، مَقْهُورٌ عَلى شَأْنِهِ، مُخْتَلِفُ الْحالاتِ، مُتَنَقِّلٌ فِي الصِّفاتِ، فَتَعالَيْتَ عَنِ الأشْباهِ وَالأضْدادِ، وَتَكَبَّرْتَ عَنِ الأمْثالِ وَالأنْدادِ، فَسُبْحانَكَ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ.
* * *
مفهوم الإخلاص لله تعالى:
 كيف يعيش المؤمن إحساسه بالله عندما تتحرك حاجاته في حياته وتشتد أزماته في أوضاعه، وتنطلق ألوان البلاء في حركة الواقع عنده؟ هل يوزّع تطلعاته وأمنياته بين الله وبين عباده فيلجأ إلى الله في بعض أموره، ويستعين بعباده في البعض الآخر، فيغفل عن مقام ربّه، ليستغرق في مظاهر القوّة عند خلقه؟
هل يفزع إلى الله عند اشتداد الخوف، وتعاظم المشاكل، أو ينسى ربّه فيفزع إلى بعض الناس من حوله ليمنحوه العزّ بعد الذل، والرفعة بعد الاتضاع، والثروة بعد الفقر؟...
إنّ الإيمان بالله لا بدّ أن ينطلق من عمق المعرفة به، فلا قيمة للإيمان بعد المعرفة، وربما كان من أوّليات المعرفة الإيمانية، هو معرفة الله في مواقع عظمته ومجالات نعمته في صفاته العليا، وأسمائه الحسنى مقارنة بالمعرفة لعباده، لتكون النتيجة في ذلك كلّه، أنّ العبد، مهما عظمت قوته، وكثرت نعمته، وارتفع قدره، فإنّه محدود بالحدود التي وضعها الله له، فهو لا يملك نفسه، ولا يملك ما حوله وما يتصل به إلا من خلال ما ملّكه الله من ذلك، وهو القادر على أن يزيله عنه في كلّ وقت، من دون أن يستطيع دفعاً لذلك.
وإنّ الله هو كليّ القدرة والعلم والرحمة واللطف وغير ذلك من صفاته الكمالية والجمالية، وهو الكافي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء، وهو مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء وهو على كلّ شيء قدير، وهو الذي يرزق من يشاء من عباده بغير حساب، وهو الذي يعطي الرفعة لمن يشاء له ذلك، فلا يملك أحد أن يضعه بعد ذلك، وهو الذي يقضي بالضعة لمن يشاء، فلا يستطيع أحدٌ أن يرفعه بعد ذلك.
وهكذا ينطلق الوعي الإيماني بالإنسان إلى أن ينقطع إلى الله من موقع الإخلاص له، ويقبل بكلّ جوانحه وجوارحه عليه، ويصرف وجهه عن كلّ إنسان لا يعيش الحاجة إلى الله في تكوين وجوده، ويبتعد بمسألته عن كلّ من استغنى عن الله وفضله في كلّ شيء، فإنّ ذلك هو الذي يمثل الحقيقة في سرّ ارتباط المخلوق بخالقه، وحاجته إليه، وفقره المطلق لغناه المطلق. هذا من الناحية الفكرية في معنى الإيمان المنفتح على سرّ الله في خلقه، أمّا من الناحية الواقعية المتحركة في خط التجربة الواقعية، فهناك الناس الذين يطلبون الرفعة في الدرجات الاجتماعية أو السياسية تخلصاً من الضعة التي يتخبطون في وحولها، وهناك الناس الذين يعيشون مرارة الفقر في حياتهم فيتطلبون الحصول على الثروة في ساحاتهم، فيلهثون وراء هذا العزيز فيبيعونه أنفسهم ليمنحهم من عزّته شيئاً، ويندفعون خلف هذا الرفيع فيتنازلون له عن دينهم، ليعطيهم من رفعته شيئاً، وينطلقون في خدمة هذا الغني، فيتواضعون له، ويقدمون بين أيديهم مواقفهم قرباناً له، ليقدم لهم من ثروته شيئاً، فتكون النتيجة أنّهم يزدادون بذلك ذلاً وضعة وفقراً، فيخسرون بذلك أنفسهم ودينهم ومواقفهم ولا يحصلون من أحلامهم على شيء.
* * *
وفي ضوء ذلك، كانت الفكرة الإيمانية المشرقة والتجربة الحيّة الواعية، تمثلان مفتاح الوعي الروحي للإنسان المؤمن الذي اكتشف خطأ مثل هؤلاء الناس في كلّ أوضاعهم العملية، من دراسته لكلّ خطواتهم المنحرفة عن الخط، فانطلق اختباره في طريق الصواب، وعرف كيف يأخذ من تجارب الآخرين درساً ينفتح من خلاله على تجاربه المستقبلية بطريقة وبأخرى... وهكذا اتجه إلى الله ليوحّده في كلّ شيء، فلا يسأل غيره في ما يريد سؤاله، ولا يطلب حاجته من غيره، ولا يدعو أحداً سواه، ولا يشرك أحداً معه في رجائه، ولا يتفق أحد معه في دعائه، فهو المدعوّ في وحدانية الدعاء، وهو الغني عن عباده والغالب على أمرهم، والقويّ في كلّ معاني القوة، والأعلى الذي ليس فوقه شيء، أما الآخرون كلّ الآخرين، فهم الفقراء في إمكاناتهم، المغلبون على أمرهم، المقهورون على شأنهم، المتغيرون في أحوالهم، المختلفون في أوضاعهم، فسبحان الله الذي لا إله إلا هو الذي لا يماثله شيء، ولا يضادّه شيء.
وهكذا نجد في هذا الدعاء الصغير، الكثير من الإيحاءات الإيمانية والإيماءات الروحية، والتجارب الواقعية، والآفاق الإلهية، والضعف الإنساني، لينطلق الإنسان - معه - في مناجاة الله، من كلّ أعماقه، ليستغرق في معنى الألوهية في سرّ ربوبيته، ومعنى العبودية في سرّ إنسانيته، فيخرج من ذلك كلّه بالنتائج الإيجابية في الإخلاص بالانقطاع إلهي والإقبال بكلّه عليه، والإحساس بالغنى عن غيره، أيّاً كان في موقع قوته وعزته وعناه، والشعور بالفقر في كلّ شيء، لأنّه وليّ كلّ شيء ممن خلق ومما خلق، ومنه الإنسان الذي ينفتح على الحقيقة بعقله، وينجذب إليها بقلبه.
* * *
اللّهُمَّ إني أخْلصْتُ بانقطاعي إليكَ، وأقبلتُ بِكُلِّي عَلَيْكَ، وَصَرفْتُ وجهي عمّن يحتاج إلى رِفدِكَ، وقبلتُ مسْألتي عمّن لم يستغنِ عن فضلك.
* * *
اللهم إنّي أخلصت بانقطاعي إليك:
 يا ربّ، إنّني عبدك الذي خلقته ضعيفاً، يتحرك الخوف في قلبه، وينطلق الرعب في وجدانه، ويلهث الفزع في مشاعره، فيعيش الحيرة في ذلك، ويتساءل: إلى أين، وإلى من، وما هو المصير؟... ويلتهب الوعي الإيماني في عمق ذاته، إنّه الله الذي يمنح الأمن للخائفين، والفرح للمرعوبين، والطمأنينة للفزِعين الحائرين، فأنت الملجأ والمفزع، فإذا اشتد الخوف فزعنا إليك، وإذا طاردتنا المشاكل التجأنا إليك، وإذا أطبقت علينا الضغوط لذنا بك، وإذا واجهتنا الشدائد وجدنا الفرج عندك، وإذا حاصرتنا البلايا فزعنا إلى المخرج لديك.
يا ربّ، لم يكن الإخلاص لديّ مجرّد إحساس في الذات في الالتزام بربوبيتك، والإيمان بألوهيتك، مع الغفلة عن معنى ذلك في الوجدان الحركي والواقع الحيّ، بل كان ذنوبنا في سرّك من خلال معرفتي بالحقّ الكامن في معناك، ومن خلال الصفاء الروحي الذي يلتقي ينبوع الصفاء والنقاء في اسمك. لقد نزعت من قلبي كلّ الذين يعبثون بخفقات القلوب ونبضاتها من هؤلاء الذين يقدمون أنفسهم للناس على أنّهم في موقع الإله في القدرة والطاعة، وفرّغته من كلّ شيء يحجبني عنك أو يجذبني إلى غيرك.
إنّه إخلاصي لك - يا ربّ - في حركته الإيجابية بالالتزام بك، والسلبية بالابتعاد عن غيرك، وبإقبالي بكلّ عقلي وقلبي وجوارحي عليك، فلا رجاء لي بغيرك في شيء، ولا التفات في وجهي لكلّ أولئك الذين يوجهون وجوههم إليهم، فأنت أنت - يا ربّ - الذي وجهت إليه، وجعلت حياتي له، وأسلمت أمري إليه، فلم ألتفت إلى عبادك الذين كانت كلّ حياتهم في حاجاتهم الطبيعية، حاجة إلى رفدك، ولم أطرح مسألتي إلى هؤلاء الفقراء في كل وجودهم إليك، فلم يستغنوا عن فضلك في كلّ شؤونهم، إنّه الانفتاح عليك، والانغلاق عن غيرك، إلا من النافذة التي تطلّ عليك، والأفق الذي يمتد في رحابك، فهم الوسائط وأنت الأساس، وهم الأسباب وأنت المسبِّب.
* * *
وَرَأيْتُ أنّ طَلَب المحتاجِ إلى المُحتاجِ سَفَهٌ مِنْ رأيه وَضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ، فكمْ قَدْ رأيتُ يا إلهي مِن أناسٍ طَلبوا العِزَّ بغيرك فذَلُّوا، وَرَامُوا الثرْوةَ مِنْ سِوَاك فَافتقروا، وَحاوَلُوا الارتفاعً فاتَّضَعُوا، فَصحّ بِمُعَايَنةِ أمْثالِهِم حَازِمٌ وَفَّقهُ اعتبارُه وَأرْشَدَهُ إلى طريقِ صَوَابِهِ اختيارُهُ.
* * *
اللهم كم من أناس طلبوا العزّ بغيرك فذلوا:
يا ربّ، لقد خلقت لنا العقل بالعناصر الكفيلة بالوصول به إلى الحقيقة، من خلال دراسة الأشياء بدقّةٍ وانفتاح وشموليةٍ وعمقٍ، وجعلته حُجّةً على الإنسان في ما يدركه من القضايا المتصلة بإيمانه ومسؤوليته العملية، واعتبرته رسولاً من الداخل يتكامل في حركته الإيحائية التبليغية للإنسان مع الرسول من الخارج، وجعلت له الحواسّ الظاهرة لتمنحه موادّ المعرفة ومفرداتها ليستعين بها على الإحاطة بموضوعات أحكامه.
وقد فكّرت بعقلي، أنّ الإنسان إذا عاش تحت ضغط حاجته فلا بدّ له أن يرفعها إلى مصدر القوة الذي يمنح القوة للضعفاء، وإلى مصدر الغنى الذي يعطي المال للفقراء، لن ذلك هو الذي ينسجم مع الواقع الطبيعي للأمور المتصلة بحياته وحاجاته، وأدركت من خلال ذلك الخطأ الكبير الذي يقع فيه الناس في استغراقهم في مظاهر القوة للأقوياء من عبادك، أو في مواقع الثروة لدى الأغنياء منهم، فيخيل إليهم أنّهم يملكون حقيقة القوة والغنى من الموقع الذاتي في شخصياتهم، ولو فكروا بدقةٍ وعمقٍ، لعرفوا أنهم الضعفاء الذين لا قوة لهم إلا بك، وأنّهم الفقراء الذين لا غنى لهم إلاّ منك، ولهذا فإنّ رجوعهم إليهم واستمدادهم الحاجة منهم، يشبه طلب المحتاج الذي لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً، وهذا من سفه الرأي وضلال العقل، فإنّ السداد في الرأي والرشد في العقل، يفرضان على الإنسان أن يضع ثقته في مواقع القوة المطلقة والغنى الذاتي، التي لا تنفد خزائنها في كلّ شيء مهما بلغت كثرة العطاء.. وتلك هي الفكرة في حسابات العقل في ما هو الصواب والخطأ من المسألة في هذا الموضوع.
فإذا انتقلنا إلى التجربة، فإننا نجد الكثيرين من الناس الذين طلبوا العزّ بالانتماء إلى غيرك ممن يملكون مظاهر الجاه والعزة، فتواضعوا لهم، وتنازلوا عن مواقفهم لحسابهم، وأسقطوا أنفسهم أمامهم، ليمنحوهم بعض مواقع العزّ في مواقعهم، ولكنّهم حصلوا على الذلّ بسبب ذلك، لأنّ هذا السلوك زاد هؤلاء احتقاراً لهم، كما أسقطهم في عيون الناس، وتطور الأمر إلى احتقارهم لأنفسهم.. وهذا الذي جعلهم يتركون في مواقع الذلّ في الداخل والخارج.
ونجد آخرين ممن انطلقوا للحصول على الثروة من غير السّبل التي فتحتها للناس، وبغير الوسائل التي أردت لهم أن يأخذوا بها، ليصلوا - من خلال ذلك - إلى ما يريدون من الغنى، فطلبوها وأذلّوا لهم أنفسهم، ولكنّهم لم يحصلوا من ذلك على شيءٍ مما يريدون، فازدادوا فقراً وهواناً، وأضافوا - إلى فقر المال - فقر النفس.
وهناك من الناس، الذين حاولوا الارتفاع بدرجاتهم الاجتماعية إلى المستوى الأعلى بعيداً عن الخطّ الذي رسمته لعبادك الذين يريدون الارتفاع إلى الدرجات العليا من خلال طاقاتهم التي تريد لهم أن يفجروها للخير وللحقّ وللمعرفة ولكلّ ما يصلح أمور الناس، أو من خلال طاعتهم لك وتوحيدك في عبادتك، وإخلاصهم لربوبيتك، وابتعادهم عن معاصيك، ولكنّهم استبدلوا بذلك الخضوع لأصحاب الجاه والدرجات العليا في المجتمع، فتنازلوا لهم عن حريتهم وعزّتهم وكرامتهم، وعن دينهم ومواقفهم، ليحصلوا على رضاهم، فلم يحصلوا إلا على المزيد من الضعة والانحطاط والسقوط، لأنّ الإنسان الذي لا يحترم نفسه لا يحصل على احترام الآخرين، والذي يضع نفسه في مواقع الاتّضاع لأيّ شخص لا يملك إمكانات الارتفاع إلى مواطن السموّ والعلوّ.
وهكذا كانت التجربة - إلى جانب الفكرة - دليلاً لي على الحقيقة المنفتحة على عظمتك، لأكون الحازم في النظرة إلى الأمور من موقع الحقّ، فآخذ بالعبرة من منطق الاعتبار، ولأكون الإنسان الذي يمارس عملية الاختيار على أساس الدراسة الواعية التي تقوده - في نتائجها الإيجابية إلى الصواب.
* * *
فأنتَ يا مولايَ دُونَ كُلِّ مَسْؤُولٍ مَوْضِعُ مَسْألتي، وَدُونَ كُلِّ مطلوبٍ إليْهِ وَليُّ حَاجتي، أنْتَ المخصوص قبْلَ كُلِّ مدْعُوٍّ بدعوتي، لا يشرُكك أحدٌ في رَجائي، ولا يتفق أحدٌ مَعَكَ في دُعائي، وَلا يَنْظِمُهُ وَإيَّاك نِدائي.
* * *
اللهم أنت موضع مسألتي:
وهكذا وجدت - يا ربّ - أنّك - وحدك - موضع مسألة السائلين دون غيرك، لأنّك الغني الذي لا يحتاج أحداً من خلقة ويحتاجه كلّ خلقه، ولأنّك الكريم الذي وسع الوجود بكرمه، إنك - وحدك - منتهى مطلب الحاجات الذي امتلأت بفيض جودك أوعية الطلبات، فلا يضيق عن سؤال أحد، فكنت موضع مسألتي في مواقع السؤال، ووليّ حاجتي في حركة الحاجات، فإنت الذي تؤتي العزّ من تشاء، وتعطي الرزق لمن تشاء، وترفع من تشاء، وتضع من تشاء، لأنّك مالك الملك كلّه، والمهيمن على الأمر كلّه.
فإذا دعوتُ في كلّ ما يهمني أمره، فأنت المخصوص بدعوتي، إليك أتوجه، ومنك أطلب، وبك أستغيث، وإياك أرجو، ولك أدعو، فإذا رجوت فإنّي أرجوك - وحدك - من دون أن أشرك بك غيرك في رجائي، وإذا دعوت فإنّك المخصوص بدعائي، فلا يتفق أحد معك فيه، وإذا ناديت، فإنّك المطلوب في ندائي، فلا يجتمع أحد معك فيه.
فأنت الغاية في كلّ شيء، يا ربّ العالمين.
* * *
لَكَ - يَا إلهي - وَحْدَانيَّةُ العدَدِ، وَمَلكةُ القُدرةِ الصمدِ، وفضيلةُ الحَوْلِ وَالقوّةِ، وَدَرَجَةُ العُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ، ومنْ سِوَاكَ مَرْحومٌ في عمرهِ، مغلُوبٌ على أمرهِ، مقهُورٌ على شأنِه، مختلفُ الحالاتِ مُتَنَقِّلٌ في الصفاتِ، فتعاليتَ عَنِ الأشباهِ والأضداد، وتكبَّرْتَ عن الأمثالِ وَالأندادِ، فسبحانكَ لاَ إلهِ إلا أنتَ.
* * *
إلهي أنت الواحد في ألوهيتك:
يا ربّ، أنت الواحد في ألوهيتك، كما أنت الواحد في ذاتك، لك الأسماء الحسنى والصفات العليا في جلالك وكمالك، ولكنّها لا تتكثر فيك ولا تتجزأ، بل تتوحد في ذلك، فهي الكثيرة في مفهومها، الواحدة في حقيقتها، وأنت الذي لا تختلف حاله، ولا تتنقل صفاته تبعاً للزمان والمكان لأنّك فوق ذلك، فليس هناك حالة تغيرك، ولا ظرف يتحول بك، فأنت الواحد في كلّ ما للوحدة من معنى وحقيقة، فلا شريك لك في ذلك كلّه.
وأنت - يا ربّ - القائم بالقدرة التي تُغلب، ولا تحدّ بحدّ، ولا يقف دونها شيء، ولا يتطرق إليها خلل أو ضعف، فأنت المقصود بالحوائج لجميع خلقك، وأنت المطاع في كلّ شيء، والقادر على كلّ شيء، فإذا أردت شيئاً كان، وأنت الخالق لكلّ شيء، فلا يختلف عندك نوع عن نوع، ولا شكل عن شكل، فقد أبدعت في خلقك الأشكال المتنوعة والأضداد المتبانية، والأزواج المتعددة.
أنت - يا ربّ - الذي تملك الدرجة الرفيعة في القدرة على التصرف والتحرك، وفي القوة التي تختزن في ذاتها كلّ عناصر القدرة في تمامها وكمالها، وأنت الذي علوت في سلطانك فلم يبلغ أحد درجة علوّك لأنّك الأعلى فوق كلّ عالٍ، وأنت الذي ارتفعت في شأنك وعظمتك فلم يقترب أحد من ذلك، لأنّ وجودك هو الذي استغنى عن كلّ وجود آخر، فأنت الغني عن كلّ شيء، وأنت وحدك في كلّ معنى في الذات وفي الصفة وفي الدرجة وفي الشأن، فلا معنى لغيرك معك.
أمّا الآخرون، كلّ الآخرن من خلقك، فهم المحتاجون إليك في امتداد أعمارهم، لا يملكون لأنفسهم البقاء في أيّة لحظة، بل هم بحاجة إلى رحمتك في كلّ لحظاتهم، وهم المغلوبون على كلّ أمورهم، لأنّهم خاضعون لإرادتك، واقعون تحت سيطرتك، فلا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً، ولا حول ولا قوّة إلا بك، وهم المقهورون على شؤونهم فلا يملكون الاستقلال في أيّ شيء منها، وهم المختلفون في حالاتهم من حالة إلى أخرى لأنّهم لا يملكون الثبات في الذات، والوحدة في الحركة، المتنقلون في الصفات من صفة إلى أخرى، فلا يثبتون على حالة، ولا يستمرون على صفة، فهم بين نوم ويقظة وراحة وتعب، وغنى وفقر، وسرور وحزن، ولذةٍ وألم، وعلم وجهل، لأنّ الظروف المتعاقبة هي التي تترك تأثيراتها الإيجابية والسلبية عليهم، فهم خاضعون لها من خلال انفعال أجسادهم وأوضاعهم بكلّ المؤثرات الخارجية أو الداخلية.
وبذلك كانوا في وجودهم، المحتاجين إليك في كلّ شيء، ليتوازن وجودهم برعايتك ورحمتك وتدبيرك وقدرتك، فأنت الملاذ والمرجع لهم في كلّ ما يعرض أو يحيط بهم من عناصر الحركة والتغيير في حياتهم كلّها، لتعطي لها توازنها واستقرارها.
فتعاليت - يا ربّ - عن أن يكون لك في خلقك شبيه يماثلك، أو ضدّ يعاندك وتكّبرت وتنزهت عن أن يكون لك ندٌّ يساويك، أو مثلٌ يشابهك، فأنت الواحد في عظمتك، المتفرد في ألوهيتك، القاهر فوق عبادك، والقادر على كلّ شيء، فسبحانك تنزيهاً لك عمّا لا يليق بشأنك الأقدس وجنابك الأعلى عن جميع المخلوقين، فإنت الله الذي لا أله إلا أنت، فلا يستحقّ العبادة سواك، ولا يملك الربوبية غيرك يا ربّ العالمين.
 
دعاؤه(ع)
 إذا قتر عليه الرزق

اللّهُمَّ إِنَّكَ ابتَلَيْتَنا في أَرْزاقِنا بِسُوءِ الظَّنِّ، وَفي آجالِنا بِطُولِ الأمَلِ، حتَّى الْتَمَسْنا أَرْزاقَكَ مِنْ عِنْدِ الْمَرْزُوقينَ، وَطَمِعْنا بِآمالِنا في أَعْمارِ الْمُعَمَّرينَ.
فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَهَبْ لَنا يَقيناً صادِقاً، تَكْفينا بِهِ مِنْ مَؤُونَةِ الطَّلَبِ، وَأَلْهِمْنا ثِقَةً خالِصَةً، تُعْفينا بِها مِنْ شِدَّةِ النَّصَبِ، وَاجْعَلْ ما صَرَّحْتَ بِهِ مِنْ عِدَتِكَ في وَحْيِكَ، وَأَتْبَعْتَهُ مِنْ قَسَمِكَ في كِتابِكَ، قاطِعاً لاِهْتِمـامِنا بِالـرِّزْقِ الَّـذي تَكَـفَّلْتَ بِهِ، وَحَسْمـاً لِلاشْتِغالِ بِمـا ضَمِنْتَ الْكِـفايَةَ لَهُ، فَقُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ الأصْدَقُ، وَأَقْسَمْتَ وَقَسَمُـكَ الاْبَرُّ الاْوْفـى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، ثُـمَّ قُلْتَ: {فَوَرَبِّ السَّمـاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُـمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23].

* * *
مفهوم البلاء في الإسلام:
كيف يفكّر الإنسان المؤمن إذا ضاقت به الحال، وقتر عليه الرزق؟ هل تسقط روحه، أو يضعف إيمانه، أو يتعقّد من قضاء ربّه، أو ترتفع روحه من جديد إلى الله في حال الفقر صبراً وابتهالاً ورجاءً، أو ترتفع إليه في حال الغنى شكراً وفرحاً ورضواناً، ويقوى إيمانه من خلال عقلانية نظرته إلى البلاء في حكمة الله في ما يجريه على عباده، وفي سنته في الكون وفي خلقه في ما ينظم به حركة الوجود، ويرضى بقضاء الله رضا الواثق بأنّ كلّ ما يقضي به الله عليه وما يقدّره في حياته، إنّما هو صلاح له في دنياه وآخرته، وبذلك تنطلق المسألة في خطّ الإيجاب في حياته، لا في خطّ السلب؟!
إنّ الإنسان المؤمن لا يعيش إيمانه مشاعر تتغذى من البلاء لتتألم، وتنفعل بالحالات الطارئة القاسية لتتعقد، وتنفتح على الأوضاع الحادّة لتتوتر، ومشاعر أخرى تنفتح على الرخاء لتفرح، وتتحرك مع الحالات الطيبة المريحة لترتاح، وتتلمس الحياة الطيبة لتنطلق.. فيكون الواقع هو الصورة التي يتمثّل فيها إيمانه انطلاقاً وانفتاحاً، بل يعيش إيمانه فكراً يتغذّى من وعي سنن الله في عباده وبلاده، وحكمته في خفايا الأمور التي تبتعد عن الشكل البارز في ظواهرها، مما يجعل العمق في النظرة هو الذي يفتح الأفق الواسع للمعنى الكامن في الأعماق، وذلك من خلال الدارسة الواعية الدقيقة للواقع كلّه في قضاء الله وقدره.
وهكذا يتحدّث الإمام عليُّ بن الحسين(ع) في هذا الدعاء مع ربّه من القاعدة الإيمانية التي تثير السلبيات النفسية في مواطن الضعف البشري، مما قد يثقل حركة الإيمان في الذات، ويتعب أوضاعها، بعيداً عن الله، فقد يقف الإنسان في حالة البلاء بعيداً عن قاعدته الفكرية الروحية الإيمانية، فإذا فكّر في الرزق فإنّه قد يعيش في ذاته فقدان الثقة بالله، وسوء الظن بتقديره، فيخيل إليه أنّ الله قد تخلّى عنه وأهمل أمره وتركه لنفسه، وأنّ عليه أن يهرع إلى عباد الله الذين رزقهم من واسع رزقه فوسّع عليهم في المال، ليلتمس لديهم رزقه، كما لو كانوا هم الذين يرزقونه، فيبيعهم دينه ونفسه وموقفه، وهكذا يستعجل رزقه بالحرام في الوقت الذي كان بإمكانه - لو صبر - أن يحصل عليه بالحلال، ويفقد علاقته بربّه لحساب علاقته بالناس الآخرين في الوقت الذي كان لو تأمل، لعرف أنّ الله لن يهمل أمر عباده، ولكنّه يمهلهم من خلال الحكمة الخفية، في التدبير الشامل للكون وللإنسان، مما يكون العامّ فيه مصلحة للخاص.
وإذا فكر في الحياة، فإنّه قد يفقد رؤيته الواضحة للأشياء، فيخيّل إليه أنّ الحياة تمتد به إلى ما لا نهاية، فإذا طاف به الموت في وعيه فإنّه يبعده عن وجدانه، لينساه في عملية إيحائية خفية بأنّ الموت لا يزحف إليه، وهكذا يحدّث نفسه، دائماً، بأعمار المعمرين الذين عاشوا مئات السنين، حتى يستسلم للأمل الطويل في أن يكون له مثل هذا العمر أو ذاك، فيبتعد - بذلك - عن المسؤولية في ما تحتاجه الحياة منه، وفي ما ينتظره من حساب آخرته من خلال ما يعمله في دنياه، ويسوّف التوبة، ويستعجل المعصية، لأنّ الوقت أمامه طويل طويل.
وفي هذا الجوّ النفسي الضائع، يجتمع له سوء الظنّ بالله والنظرة الخيالية لقضية الحياة لأنّ المشكلة في الكثيرين من الناس الغافلين، أنّهم في نظرتهم إلى الواقع الذي يحيط بهم، أو يعيشونه في داخلهم، يستغرقون في ذواتهم ولا يفكّرون في الكون من حولهم وفي الناس الآخرين معهم، ليعرفوا أنّ وجودهم ليس الوجود كلّه وأنّ إنسانيتهم ليست الإنسان كلّه، بل هم جزء من الوجود يتكاملون به ومعه، وهم بعض من الناس يتوازنون في حركتهم وأوضاعهم في حركة الناس الآخرين، فليس لهم أن يفكّروا بالقضايا الخاصة إلا من خلال ارتباطهما بالقضايا العامة، وعليهم أن يفهموا أن ما يصيبهم من سلبياتها يدخل - من باب آخر - في الإيجابيات الخفية في ما يصلح به أمرهم، وهذا هو ما أثاره الإمام زين العابدين(ع) عندما أشار إلى الواقع السلبي في النظرة المستغرقة في الذات بعيداً عن الواقع العام، وأراد من الله أن يهبه اليقين الصادق الذي يمتد في الوجدان ثقةً مطلقة بالله وبما عنده، وفي مضمونه، معرفة بأسرار قضاء الله وقدره في الكون وفي الإنسان، حتّى يعرف أن رزقه مخزون في مواقع علم الله من خلال أسبابه، في التنظيم الدقيق لحركة الرزق في الحياة، وبذلك فإنّ عليه أن لا يلهث في طلبه في حالة نفسية وإرهاق جسدي لا ضرورة له، وأن لا يتعب وجدانه فيشتد عليه حاله، بل يواجه المسألة من موقع اليقين بأنّ الله سبحانه لا يتخلّى عن عباده في تدبيره لأمورهم، ومن قاعدة الثقة به بأنّ له في كلّ شأن من شؤون عباده قانوناً حكيماً يدخل في نطاق سننه الكونية، لا ينحرف عن خطه، ولا يتعدى برنامجه، ليكون طلبه هادئاً واعياً في راحة نفسية منفتحة على اليقين بالله، وطمأنينة روحيةٍ في الثقة به إنطلاقاً من وعده الذي لا يخلفه، وقسمه الذي لا بدّ أن يفي به، على أساس الآية الكريمة: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، وفي الآية الأخرى: {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23].
فيتوازن فكره ويستقيم طريقه، وتنفتح روحه على الأمل في أوقات الشدة، وذلك هو قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً* ويرزقه وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:2-3].
* * *
مفهوم التوكل في الإسلام:
وربما كان من المفيد أن نوضح الحقيقة الفكرية الإيمانية في مسألة الرزق والتوكل، من خلال ما أثير في الدعاء من "كفاية مؤونة الطلب" و "الإعفاء من شدّة النصب" و"ترك الاهتمام بالرزق والانشغال به" في مقابل ضمانة الله للإنسان الكفاية له.
فقد يتساءل الإنسان، هل معنى ذلك، أنَّ عليه أن يبقى جالساً في بيته منتظراً رزقه من السماء ليهبط عليه بطريقةٍ غير عادية، فلا يسعى إليه، ولا يجهد نفسه في طلبه على أساس أنّ الله قد تكفّل له به، وأنّ عليه أن ينتظر المخرج من ضيق حله من دون قيامه بأية مبادرةٍ في الحصول على ما يوسع حاله، لأنّ الله يرزقه من حيث لا يحتسب، وأنّه كاف لمن توكّل عليه، لتكون القضية الإيمانية، تنتظر السلبيين ولا تتحرك نحو الإيجابيين؟
والجواب عن ذلك، أنّ القرآن الكريم يؤكّد على السعي في طلب الرزق كما ورد في قوله تعالى: { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].
وفي قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10].
وورد في الحديث: "العبادة سبعون جزءاً - وفي رواية: عشرة أجزاء - أفضلها طلب الحلال"(1)، كما ورد - في عداد الذين لا يستجاب دعاؤهم - "رجل جالس في بيته يقول اللهم ارزقني فيقال له: ألم آمرك بالطلب"(2)، أما التوكل، فإنّه يمثل إيكال الأمر إلى الله في ما يتخوفه الإنسان من مفاجآت المستقبل، أو من الزوايا الغامضة الخفية التي لم يعرفها أو لم يحسب حساباً، بعد أن يكون قد أعدّ للمسألة عدّتها وقام بما يجب عليه من توفير كلّ الأسباب المرتبطة بالنتائج على طريقة الحديث المعروف: "أعقل راحلتك وتوكّل"(3).
والحديث الوارد عن أئمة أهل البيت(ع): بأنّ المتوكّلين الزارعون(4)، باعتبار أنّ الزارعين يعملون جهدهم في الأرض بتحضير كلّ ما يحتاجه الزرع من دراسة الأرض والبذر والماء وغيره، ثم يتوكّل على الله بعد ذلك، وهكذا يكون التوكّل في الرزق بعد طلبه.
أما الحديث عن كفاية مؤونة الطلب والإعفاء من شدّة النصب وترك الاهتمام بالرزق والاشتغال به، فإنّ المقصود به، هو تخفيف الظروف والأعباء التي تثقل الإنسان في طلبه للرزق، بحيث توقعه في شدّة التعب، وتؤدّي به إلى المزيد من المشاكل، وتشغل كلّ تفكيره ووقته بحيث لا يفرغ للمهمات الأخرى من شؤونه، فلا يكون عيشه كدّاً كدّاً. وإذا كان القرآن يؤكد على الرزق في السماء الذي ينزله الله على عباده، فإن المقصود به الرزق المقدر للإنسان والذي قدّره الله له بأسبابه الطبيعية التي قد تحصل بالطلب كقاعدة عامة أو بالطريقة التي يحتسبها الإنسان، مما يأتي إليه بسهولة.
إنّ الإسلام يرى في الحياة حركة وجهاداً في سبيل العيش وفي سبيل الله، فلا ينال أيّ شيء فيها، على مستوى الأهداف الخاصة والعامة، إلا بالعمل ولأنّ الله سبحانه أراد للنظام الإنساني في الكون أن يتحرك في هذا الاتجاه وعلى أساس هذا الخطّ، ولأنّه أراد الإنسان خليفة له من موقع ما يبذله من جهد عقلي وبدني في إدارة الحياة على النهج الذي يراه ـ تعالى ـ.
* * *
اللّهُمَّ إنَّكَ ابْتَلَيْتنا في أرْزَاقِنَا بِسُوءِ الظّنِّ، وَفي آجالِنَا بِطُولِ الأمَلِ، حتى التَمَسْنَا أرْزَاقنا مِنْ عِنْد المرْزُوقين، وطمِعْنَا بِآمَالِنَا في أعْمَارِ المُعَمَّرينَ.
* * *
اللهم لا تبتلِنا في أرزاقنا بسوء الظنّ، وفي آجالنا بطول الأمل:
يا ربّ، لقد جعلت رحلتنا في الحياة رحلة اختبار وابتلاء تمتحن فيها إيماننا في أصالة مفاهيمه، وفي عمق حركته فينا، وتختبر صبرنا على الهزّات التي تهزّنا في أفكارنا ومشاعرنا ومواقفنا، لتميز الخبيث من الطيب منّا، ليظهر الإنسان على حقيقته، وينفتح واقعه عما يختبئ في داخله، لا لأنّك تريد معرفة الخفايا من عناصر شخصيتنا، لأنّك تعلم منّا ما لا نعلم من أنفسنا، ولكن لتثير في حياتنا الداخلية من خلال حركتنا الخارجية التجربة الحية، التي تحرك فينا الفكرة فتوجهها إلى مواقع القوة والثبات، لتكون المسألة مسألة تدريب على الممارسة في الأجواء التي قد توحي بالثقة من دون أساسٍ، وقضية تأصيل في الوقت الذي قد تقف فيه على مستوى السطح بعيداً عن العمق، فإنّ الإنسان الذي تهزّه التجارب في سلبياتها قد يختلف عن الإنسان الذي يبقى بعيداً عن الحالات الطارئة الصعبة، فقد يسقط البعض في حالات الفقر أو في حالات الغنى، مع الاختلاف في خصائص هذا أو ذاك في التأثيرات السلبية على النفس في مشاعرها وانفعالاتها، وقد يواجه الإنسان نفسه في حالة الضرر بالتضرع والابتهال إلى الله، ولكنّه ينسحب من كلّ ذلك الجوّ في حالة الرخاء عندما يرفع الله عنه ذلك كلّه، ولذلك فإنّ القضية تتصل بحركية الإنسان في مواقفه ومواقعه وانفتاحه على إيمان أو انغلاقه عنه. وهكذا ابتلينا في أرزاقنا بسوء الظن فقد يخيل إلينا أنّ المسألة تتصل بالحجم الذي يتحرك به الإنسان نحو سعيه إليه، ونشاطه فيه واحتياله في أمره، وفي علاقته بالناس الأغنياء، سلباً أو إيجاباً، على أساس أنّ ذلك هو السبيل الوحيد للحصول على التدبير الإلهي للكون في قسمة الأرزاق، فهرعنا إلى هذا أو ذاك نطلب منه الرزق، كما لو كان الوليّ على أرزاقنا، وخضعنا لهم وعبدناهم من دونك، وأطعناهم وعصيناك، طمعاً بما لديهم، وخوفاً من الحرمان.
وإلى جانب هذا البلاء، كان البلاء الكبير بطول الأمل الذي يمدّ انفتاحنا على الحياة إلى ما لا نهاية، مما جعلنا نستشعر في عمق إحساسنا بأن لا نهاية لأعمارنا، ولا حدَّ لآجالنا، فلا نأخذ العبرة من مسيرة الموت التي يسير فيها الناس من حولنا، كما سار فيه من قبلنا، حتى خيل إلينا في غفلة الشعور، وغياب الوعي، بأن الكلّ يموتون وأننا - وحدنا - الباقون، وأدّى ذلك بنا إلى تعجيل المعصية وتسويف التوبة، ونسيان الآخرة، والاستغراق في الدنيا، فعشنا الضياع في متاهات الصحراء الروحية، وبدأنا نتخبط في وحول الخطئية، فإذا واجهنا الموت ببعض خيالاته، وخفقت فوق رؤوسنا بعض أجنحته، وبدأنا نحسّ بقرب دنوِّه منّا، وإطباقه علينا، انفتحنا على التاريخ نستذكر فيه أحاديث المعمرين، وبحثنا في الواقع عن بعضهم، في عمليةٍ إيحائية بأنّنا سنعيش ما عاشوه من عمر طويل، وبأنّنا قد نسبقهم إلى أعمار أرحب وأطول، لأنّ من عاش ألف سنة يمكن أن يعيش الألفين وهكذا..
* * *
فصّلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَهَبْ لَنَا يَقيناً صَادقاً تكْفينَا بهِ مِنْ مَؤونَةِ الطَّلَبِ، وأَلْهِمْنَا ثِقَةً خَالِصَةً تُعْفِينَا بِهَا مِنْ شِدَّةِ النَّصبِ، واجْعَلْ مَا صَرَّحْتَ بِهِ مِنْ عِدَّتِكَ في وَحْيِك وَأتْبَعْتَهُ مِنْ قَسَمِكَ في كِتَابِكَ، قَاطِعاً لاهَتِمامِنا بالرِّزقِ الذي تكَّلْفتَ به، وَحَسْمَاً للاشْتغالِ بِمَا ضَمِنْتَ الكفاية له، فقلت وقولك الحقّ الأصْدَقُ، وأقْسَمت وقسمُكَ الأبرُّ الأوْفى:{ وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، ثم قُلتَ:{ فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23].
* * *
اللهم هب لنا اليقين الصادق والثقة الخالصة بك:
يا ربّ، قد تكون مشكلة الكثيرين من المؤمنين منا أنّنا نغفل عن هذا الإيمان في مضمونه وإيحاءاته، فنبتعد في خطواتنا عن الخط المستقيم الذي يمثل التوازن في تصور الإنسان لموقع ربّه ومقامه في حياته وحياة الآخرين، وفي دوره العملي في حركته في الحياة، وفي قدرته وموقعه المحدود، وذلك أنّنا نستغرق في حاجاتنا وفي قدراتنا كما لو كانت فرصاً ضائعةً وقدراتٍ مبددة، فيخيّل إلينا أنّنا لو لم نستعجل الحركة، ولم نرهق الإمكانات، ولم نستنفد الجهود، فإنّنا لن نبلغ ما نريد، ولن نحقق ما نحتاج، ولن نصل إلى غاياتنا في الحياة، لأنّ جهدنا هو كلّ شيء في الحصول على الحاجات، وهو الأساس في تركيز القاعدة القوية في وجودنا، فلم نفكر بالله في تخطيطه للنظام الكوني والإنساني، وحكمته في إعطاء كلّ موجود حقّه وهداه، ورعاية مصالح الموجودات، ومن بينها الإنسان، في ذلك كلّه، ورحمته ورأفته وإحسانه إلى العباد كلّهم في تنظيم أمورهم، في الأجهزة التي أودعها في أجسادهم وفي أوضاعهم وفي الظواهر الكونية التي سخرها لهم، وفي إيصال أرزاقهم إليهم بمختلف الوسائل الفكرية والعملية، الظاهرة منها والخفية، بحيث يجد كلّ إنسان رزقه في الموقع الذي قدّره له، سواء كان ذلك بتوجيهه إليه، أو بتهئية ظروفه له.
إنّ الإنسان إذا وعى ذلك كلّه، أمكنه أن يواجه الواقع الحيّ في وجوده بعقل هادىء، وفكرٍ متزن وجهدٍ عاقل، لا يستعجل الأمور ولا يلهث في حركة الرزق، ولا يسقط أمام مخاوف المشاكل وتهاويل الظروف، حذراً من أن يفقد الفرصة الذهبية في حياته في الحصول على رزقه، وذلك انطلاقاً من اليقين الصادق بأنّ كلّ شيء خاضع لأسبابه المقدّرة في الكون، فإذا تحققت الأسباب تحققت المسببات، وإذا لم تحصل المقدمات لم تحصل النتائج، فيتخفف - بهذا اليقين - من ضغط الإحساس بثقل طلب الرزق، ويرتاح - من خلال هذه الثقة بالله - من شدّة الكدح، فيتحرك بهدوء ويعمل باتزان، وينطلق في حياته من خلال الفهم الدقيق للمسؤولية والوعي المنفتح على الله في رحمته وحكمته وعلمه وقدرته ليطمئن ويرتاح نفسياً، فيتخلص من قلق الخوف في نفسه وحيرة المستقبل في وجدانه.
ولكن هذا اليقين الصادق الذي يكفي الإنسان مؤونة الطلب لا يلغي المبدأ، ليكون الانفتاح على سنن الله في حركة الإنسان في المجتمع مخالفاً لليقين، فيجلس في بيته منتظراً لرزقه في سكون وهدوء من غير عمل، كما أن هذه الثقة الخالصة بالله تعفيه من شدّة النصب ولكنّها لا تعفيه من التعب الطبيعي الذي تفرضه المسؤولية في العمل، لأنّ الله يريد من الإنسان المؤمن أنّ يكون العالم للدين في مسؤولياته الشرعية، وللدنيا في مسؤولياته الحياتية لمتعلقة به وبالناس الآخرين في ما أوكل الله إليه أمره في خط السببية في الكون والحياة، فيكون اعتماده على الله في العمق، وعلى نفسه في الحركة الآلية للرزق.
* * *
يا ربّ، اجعلني أفهم كتابك فهماً ينطلق بالوعي ويتميز بالدقة، لأتعرَّف مفاهيم الحياة من خلاله، فلا يخطى بي الفهم إلى غير الحقّ، ولا يبتعد بي الاجتهاد عن الاستقامة، فقد وعدتني في وحيك، وأتبعته بالقسم الذي يؤكّد الفكرة أساس الإيحاء بأنها في موقع الاهتمام الشديد وقلت، وقولك الحقّ كلّه، والصدق كله: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، فأوحيت لنا بأنّ السماء مصدر رزقنا في ما تنزله من بركاتها، وأنّها - في الكناية الدقيقة عن علوّ تقديرك وسموّ نظامك - في التقدير الدقيق، فقد قدّرت حدودها بأسبابها، كما قدّرت نزولها في مواعيدها، فلم يكن الرزق حالة طارئة في الحياة الإنسانية، أو صدفة ضائعة في غمار الصدف، بل هو نظام دقيق ثابت لا يتخلق عن موعده، ولا يبتعد عن مورده، وأقسمت - وقسمك الأبرّ الاتقى-: {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23]، فهو الحقيقة التي تلتقي في ثباتها ووضوحها بالمثل الحيّ كما هو نطقكم في إحساس الكيان به ووعي الوجدان له، وهذا هو أساس الثقة، ومصدر الإيمان، فاجعله مصدر وعي منفتح والتزام ثابت، لنقف من رزقنا على أساس الثقة والإيمان منّا.

* * *
الهوامش:

(1)    تهذيب الأحكام، ج:6، باب:22، ص:324، رواية:12.
(2)    الكافي، ج:2، ص:511، رواية:2.
(3)    البحار، ج:71، باب:63، ص:137، رواية:20.
(4)    من لا يحضره الفقيه، ج:3، باب:2، ص:253، رواية:3916.

دعاؤه(ع)
في المعونة على قضاء الدين

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَهَبْ لِىَ الْعافِيَةَ مِنْ دَيْن تُخْلِقُ بِهِ وَجْهي، وَيَحارُ فيهِ ذِهْني، وَيَتَشَعَّبُ لَهُ فِكْري، وَيَطُولُ بِمُمارَسَتِهِ شُغْلي، وَأَعُوذُ بِكَ يارَبِّ مِنْ هَمِّ الدَّيْنِ وَفِكْرِهِ، وَشُغْلِ الدَّيْنِ وَسَهَرِهِ. فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَعِذْني مِنْهُ، وَأَسْتَجيرُ بِكَ يارَبِّ مِنْ ذِلَّتِهِ فِي الْحَياةِ، وَمِنْ تَبِعَتِهِ بَعْدَ الْوَفاةِ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَجِرْني مِنْهُ بِوُسْعٍ فاضِلٍ، أَوْ كَفاف واصِلٍ.
اللّهُـمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاحْجُبْني عَنِ السَّرَفِ وَالازْدِيادِ، وَ قَـوِّمْني بِالْبَذْلِ وَالاقْتِصادِ، وَعَلِّمْني حُسْنَ التَّقْديرِ، وَاقْبِضْني بِلُطْفِكَ عَنِ التَّبْذيرِ.
وَأَجْرِ مِنْ أَسْبابِ الْحَلالِ أَرْزاقي، وَوَجِّهْ في أَبْوابِ الْبِرِّ إِنْفاقي، وَازْوِ عَنّي مِنَ الْمالِ ما يُحْدِثُ لي مَخْيَلَةً أَوْ تَأَدِّياً إِلى بَغْي، أَوْ ما أَتَعَقَّبُ مِنْهُ طُغْياناً.
اللّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيَّ صُحْبَةَ الْفُقَراءِ، وَأَعِنّي عَلى صُحْبَتِهِمْ بِحُسْنِ الصَّبْرِ.
وَما زَوَيْتَ عَنّي مِنْ مَتاعِ الدُّنْيَا الْفانِيَةِ، فَاذْخَرْهُ لي في خَزائِنِكَ الْباقِيَةِ.
وَاجْعَلْ ما خَوَّلْتَني مِنْ حُطامِها، وَعَجَّلْتَ لي مِنْ مَتاعِها، بُلْغَةً إِلى جِوارِكَ، وَوُصْلَةً إِلى قُرْبِكَ، وَذَريعَةً إِلى جَنَّتِكَ، إِنَّكَ ذُو الْفَضْلِ العَظيمِ، وَأَنْتَ الْجَوادُ الكَريمُ.
* * *
آثار الدَّين على قرار حياة المدين واستقراره:
للدَّين في حياة كلّ إنسان أكثر من مشكلةٍ، تثقل كاهله، وتقلق فكره، وتشغل همّه، وتربك أوضاعه، وقد تؤدّي به إلى حالةٍ قانونيةٍ تحجز حريته، لذلك كان تأثيره في واقع الفرد أو الجماعة كبيراً على الصعيد السلبي، فالفرد إذا كان مديناً فإنّه يقع تحت تأثير الهمّ في الليل، فيقتل طمأنينته، ويسلب منه هدوءه، ويعيش تحت تأثير الذلّ في النهار عندما تلاحقه مطالب الدائنين، وتضغط عليه مشاعر الناس من حوله عندما يماطل فلا يدفع، وهو القادر على ذلك، وقد ينتهي به الأمر إلى ما لا تحمد عقباه.
والمجتمع إذا كان مديناً لمجتمعٍ آخر، كما هي الدولة الصغرى عندما تستدين من دولةٍ كبرى، فقد تسقط تحت ضغط هذه الديون بالمستوى الذي قد تفقد معه حريتها السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية أو الاجتماعية من خلال الشروط المفروضة عليها في اتفاق الدين، مما يفرضه القادرون على العاجزين، والكبار على الصغار، من خلال فقدان التوازن في القوة في جميع مستوياتها، وهكذا تفقد الدول عزّتها واستقرارها وحريتها وقوّتها.
وإذا كان الدَّين ضرورة في بعض الحالات من خلال ضغط الحاجات الضرورية التي لا يتحمل الإنسان الفرد أو المجتمع فقدانها والحرمان منها، فإنّه قد يكون في بعض الحالات ترفاً أو حاجة كمالية، أو طمعاً غريزياً، مما يمكن للإنسان الاستغناء عنه، والصبر على حرمانه، عندما يدخل في المقارنة بين ما يحصل عليه من الخير، وما يقع فيه الشرّ، ليجد بعين عقله أن الشرّ هو الأكبر والأشدّ خطراً في نتائجه القاسية على حاضره ومستقبله معاً في الدنيا، عندما يفكّر في الدنيا، وفي الآخرة عندما يتصل الموضوع بمشاكل المصير في الآخرة.
وقد جاء الحديث عن رسول الله(ص): "لا همّ إلا همّ الدَّين"(1)، في التعبير عن الوضع النفسي على مستوى ما يعانيه المدين من العمّ، وقد جاء عنه في رواية الإمام الصادق(ع) قال: "قال رسول الله(ص): الدَّين ربقة الله في الأرض، فإذا أراد الله أن يذلّ عبداً وضعه في عنقه"(2)، وجاء الحديث عن عليٍّ(ع)، في رواية الإمام الصادق(ع) عنه قال: "إياكم والدَّين فإنّه مذلة بالنهار ومهمَّة بالليل وقضاء في الدنيا وقضاء في الآخرة"(3).
وقد ذهب بعض العلماء وهو أبو الصلاح إلى تحريمه، ولكن الأكثر على كراهته من دون حاجة، وقال العلاّمة شهاب الدين بن فهد في المهذب البارع: "إيّاك ثم إياك والتجري على الدين، فإنّه مجلبة للهمّ ومشغلة للذمة، ومشتت للفكر، وهو في الدنيا مذلّة وفي الآخرة تبعة"(4).
وحمل إلى مسجد النبي(ص) ميت فقال: "على صاحبكم من دين" فقالوا: نعم درهمان، فقال(ص): صلّوا على صاحبكم، فقال عليّ(ع): هما عليّ يا رسول الله، وأنا لهما ضامن، فقام رسول الله(ص) فصلى عليه، ثم أقبل على عليّ(ع) فقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً وفكّ رهانك كما فككت رهان أخيك"(5).
وقد جاء في رياض السالكين أنّه ورد رخصة في إباحته إذا كان له وليّ يقضيه أو مال يؤدّى عنه، والأفضل تركه والطلب إلى الله تعالى بالغنى عنه بالتسبب والتمعيش، ففيه مع تفريغ الذّمة من حقوق المخلوقين والراحة من الفكر، مواساة الصالحين والفوز بثواب الكادّين حيث يقول(ع): "الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله". وقال(ع): "من بات كالاً من طلب الحلال بات مغفوراً له".
وقال العلامة الحلّي في التذكرة، وتحفّ الكراهة مع الحاجة، وإن اشتدت زالت، ولو خاف التلف ولا وجه إلاّ الاستدانة، وجبت.
قال الرضا(ع):"من طلب هذا الرزق من حلّ ليعود به على عياله ونفسه كان كالمجاهد في سبيل الله، فإن غلب عليه فليستدن على الله عزّ وجلّ وعلى رسوله ما يقوت به عياله، فإن مات ولم يقضه كان على الإمام قضاؤه، فإن لم يقضه كان عليه وزره، إنّ الله تعالى يقول:{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ} [التوبة:60] فهو فقير مسكين مغرم"(6).
وإنّنا نرى في ذلك كلّه أنّ الدين في التخطيط التربوي للإنسان المسلم، يمثل عنواناً سلوكياً سلبياً لا ينبغي للإنسان المسلم اللجوء إليه إلا في الحاجة الضرورية، وعلى الدولة أن تتحمل وفاءه إذا مات الإنسان ولم يستطع أن يقضيه في حياته.
وقد ورد في بعض الأحاديث استحباب إبراء الدائن للمدين، إذا مات معسراً، فعن الصادق(ع): "أنّ له بكلّ درهم عشرة إذا حلّله، فإذا لم يحلله فإنما له درهم بدل درهم"(7).
وفي هذا الدعاء حديث عن الجانب السلبي من الدَّين، فهو يذهب بهاء الوجه ونضارته، بحيث يتحول إلى وجه بالٍ ممزقٍ ويؤدّي إلى الحيرة الذهنية والتشعب الفكري، بحيث لا يستقرّ الإنسان معه على حال، ويصبح الشغل الشاغل له، فيشغله عن كثير من مهماته، ويملأ قلبه بالهمّ وعقله بالفكر، وليله بالسهر والشغل النفسي المعقد، ويجعل الإنسان في الذل في الحياة، وفي المسؤولية بعد الممات، وبذلك يعيش الإنسان معه في حصار ذهني وروحي وعلمي في الدنيا والآخرة.
بعض الأسباب التي تدعو إلى الدَّين:
 ثم يلتفت الدعاء التفاتة مهمة ليعالج الظروف التي قد تدفع بالإنسان إلى الاستدانة لأنّها قد تعرضه للسقوط الاقتصادي الذي يجعله عاجزاً في موارده أمام حاجاته الملحة.
فهو يحدثنا عن الإسراف الذي يبتعد به الإنسان عن حدّ الاعتدال، فلا يبالي بالنتائج القاسية السلبية من خلال ذلك، وعن الازدياد في المصارف التي لا يقف الإنسان فيها عند الحدود الطبيعية، كما يحدّثنا في الجانب الآخر عن العطاء الصادر عن نفس طيبة، وروح كريمة، وعن الاقتصاد الذي يجعل لكلّ شيء حدّاً لا يتجاوزه، ولكلّ أمر قدراً يقف عنده فلا يتعداه، فلا يزيد عن الحدّ المتعارف في مصارفه، ولا يضيق على نفسه في حاجاته على هدى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67]. وفي ضوء هذا وذاك يتحرك الإنسان في ماله ليخطط ويجعل للأمور مقاديرها الدقيقة، وموازينها العادلة، فيضع لكل مصرف حدوده في الكمّ والنوع، فلا يبذر في الإنفاق في ما لا ينبغي له إنفاق المال فيه. ونحن نعرف أنّ الابتعاد عن الإسراف والتبذير، والاقتصاد في الإنفاق والاعتدال في العطاء، يقلّلان من فرص الحاجة إلى الدَّين، لأنّ الحاجات تأخذ مجالها في الكمية أو في النوع من دون حاجة إلى زيادة أو تعرض للوضع الخارج عن حدود التوازن للأشياء.
* * *
 وينطلق الدعاء في أجواء الحديث عن المال في مصادر وموارده، لأنّ المشكلة التي تواجه بعض الناس هي المصادر المحرّمة للمال التي قد يبتعد فيها عن الحدود الشرعية، والإنفاق المحرم الذي يدفع الإنسان إلى أن يصرف ماله في ما حرّمه الله من اللهو المحرم والأكل والشراب المحرّمين، والرشوة في الحكم، وإعانة الظالمين والمجرمين، وإقامة الظلم وتقويته، وإسقاط الحق وإضعافه، وأمثال ذلك، فإنّ الله يريد للإنسان أن ينفتح في وعيه على أنّ المال مال الله الذي لا يؤتيه الإنسان ليحركه في ما أحبّه الله، ويبتعد به عما يسخطه، فلا حرية له في الحصول عليه بالسبب الحرام أو في إنفاقه في المورد الحرام.
 وقد ورد في بعض الأحاديث أنّ الإنسان يسأل في يوم القيامة عن ماله ممّا اكتسبه، وفي ما أنفقه، فقد أراد الله المال لتركيز إرادته في إقامة الحياة على الحقّ لا على أساس الباطل، ولهذا فقد أحبّ جمع المال من الحلال ليواجه به مسؤولياته الشرعية في نفسه وفي الناس، واعتبره شأناً من شؤون الأخرة لا من شؤون الدنيا، فقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) أنّه قال:"لا خير فيمن لا يحبّ جمع المال من حلال، يكّف به وجهه، ويقضي به دينه، ويصل به رحمه"(8). وعنه(ع): "نعم العون الدنيا على الآخرة"(9). وعن عبد الله بن يعفور، قال رجل لأبي عبد الله ـ جعفر الصادق(ع): "والله إنّا لنطلب الدنيا ونحبّ أن نؤتاها، فقال: تحبّ أن تصنع بها ماذا؟ قال: أعود بها على نفسي وعيالي وأصل بها وأتصدق بها وأحجّ وأعتمر، فقال(ع): ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة"(10).
وفي ضوء هذه الكلمات نفهم القيمة الإسلامية في المال، إنّه ليس ضدّ القيمة في نفسه، بل هو شأن من شؤون الإنسان في حركة حاجاته، فيختلف حاله تبعاً لاختلاف الغاية التي يريد تحقيقها من خلاله، الأمر الذي يجعل القيمة في الغاية، لا في طبيعته الذاتية، فإذا كانت الغابة فيه هي الانسجام مع خطّ الله في ما يرفع به درجات الناس في الآخرة مما يقربهم إليه، فإنّ القيمة تكون في الخطّ الإيجابي، أما إذا كانت الغاية هي الخضوع لأهواء النفس وشهواتها والاستغراق في أجواء اللذة والكبرياء فإنّها تكون في الخطّ السلبي.
وهذا ما توحي به الآية الكريمة في قصة قارون: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:76-77].
* * *
نظرة الإسلام إلى المال وهدفه:
ويقف الدعاء أمام حالات الانحراف الإنساني التي قد تحدث من خلال النوازع الذاتية السلبية في مواجهة القيم الأخلاقية، أمام مسألة جمع الإنسان للمال وملكيته له، فقد يشعر بأنّ حجم شخصيته يتمثل في حجم ماله، فترتفع درجته تبعاً للدرجة الاقتصادية التي يتمتع بها في المستوى الاقتصادي، وتتضخم ذاته في نطاق ضخامة ماله، فينتفخ زهواً وخيلاءً كلما كثر ماله، ويتحرك في خطّ البغي على الناس والعدوان عليهم، في الاستكبار المالي، لأنّه يرى لنفسه الحقّ عليهم في تحقيق مصالحه، وإرواء شهواته، واحترام حقوقه وحماية مواقعه، ولا يرى لهم حقّاً عليه في قضاياهم وأمورهم ومصالحهم ومواقعهم، كما لو كانوا عبيداً له، وتطغى به نفسه من خلال طغيان ماله في كثرته وامتداداته، فيتحول إلى طاغية ولا يقف عند حدود الشريعة في ما حدده الله له مما يفعله أو يتركه، فليس هناك إلا ذاته، ولا قيمة للناس من حوله إلا كما هي قيمة الذباب والهوام والحشرات، فهم الخاضعون له في أموالهم وأعمالهم وعلاقاتهم وانتماءاتهم، وهم الأدوات التي يسخّرها في تحقيق شهواته ولذاته ومراكز قوته، فلا تملك لنفسها أن تريد أو لا تريد إلا من خلال إرادته الطاغية ونفسيته الباغية.
إنّ الله يريد للإنسان أن ينظر إلى المال في دائرة الحاجة لا في دائرة القيمة، لأنّه لا علاقة له بالذات، بل هو شيء يعيش في خارجها، لتكون القيمة في طبيعة حركته فيه وانفتاحه عليه وتصرفه فيه، ولذلك فإنّ هذه النظرة الواقعية تفرض عليه أن لا يدخل ماله في عقله وقلبه وكلّ ذاته، ولا يغيّر نظرته إلى الواقع من خلاله، إلا بالمقدار الذي يحدد مسؤوليته فيه، ولا سيما أنّ العنوان القرآنية للمفهوم الإنساني في الملكية يمثل خلافة الإنسان على المال ووكالته فيه من قبل الله، ليتصرف فيه طبقاً للبرنامج الإلهي في تحريك المال في حاجات الإنسان الفردية والاجتماعية من دون بغي ولا طغيان، وهذا هو قوله تعالى: {وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد:7] كما أنّه - في البعد الحقيقي - مال الله الذي آتاه الإنسان لينفق منه على المحتاجين ويؤتيهم منه كما آتاه الله، فهو ليس مال الإنسان ليشعر بحريته في إنفاقه، بل هو مال الله الذي حدد له مصارفه وموارد إنفاقه، تماماً كما هي الأمانة التي يأتمن صاحبها الناس عليها، ويحدد لهم مواردها في الإنفاق، وهذا هو قوله سبحانه: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:23].
وهذا هو المفهوم الذي يوحي للإنسان بالاتزان في ملكيته للمال، لأنّه لا يتصل بذاته، بل يتصل بمسؤوليته، مما يجعل منه عبئاً ثقيلاً عليه في دائرة المسؤولية، لا درجة عاليةً في دائرة الامتياز والعلوّ الذاتي، فهو واقع في خط الاختبار والابتلاء، لا في خطّ الكرامة والقيمة الذاتية، وهذا هو قول تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ*كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ*وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ*وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً*وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [الفجر:15-20].
المال ليس أساساً في تحديد العلاقات الإنسانية:
ويتحدث الدعاء - في نطاق الموضوعات الأخلاقية في العلاقات الإنسانية - عن الموقف الذي يتّخذه الإنسان من العلاقة بالفقراء، سواء كان هذا الإنسان فقيراً أو غنياً، وذلك من خلال الحالة النفسية الطبيعية التي قد يندفع معها الإنسان لا شعورياً في احتقار الفقر والفقراء، لأنّ النفس تنفر من الفقر وتبغضه، من خلال الإيحاء الداخلي بالخوف من تأثيره عليهم، ولو كان ذلك بطريق العدوى في ما يمكن أن يثيره الوهم في الشعور الذاتي، أو من خلال القيمة المضادّة التي يتداولها المجتمع في علاقاته وأوضاعه مما قد يسيء للإنسان الذي يرتبط بعلاقة مع الفقراء، فينظر الناس إليه من خلال نظرتهم إلى أصحابه القريبين إليه باعتباره جزءاً من مجتمعهم، وربما تتأثر قضاياه العامة بذلك من خلال علاقتها بالواقع الذي يعيش فيه، والساحة التي يتحرك فيها، وهذا هو ما نلاحظه في حديث الله عن قوم نوح في نظرتهم إلى أتباعه التي انعكست سلباً على موقفهم منه ومن رسالته، وذلك في قوله تعالى: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:27].
فنحن نلاحظ أنّهم جعلوا علاقة النبي نوح بالفقراء الذين اتبعوه، أساساً للموقف المضادّ منه، لأنّ ذلك يعني أن موقعه الرسالي لا يتناسب مع موقع الطبقة العليا المميزة من المجتمع، بل يناسب الطبقة السفلى المنحطة التي لا يمثل التزامها بأيّ خطّ قيمةً في مضمون الالتزام وفي موقعه الريادي، لأنّ تفكيرهم لا يرقى إلى المستوى الرفيع في العمق والصواب، باعتبار أنّهم لا يملكون الثقافة الواسعة والتجربة الغنية والنظرة العميقة، فهم يتحركون في السطح من الحياة لا في العمق، وفي الثقافة الضيقة والتجربة المحدودة، الأمر الذي يجعلهم في الموقع الثانوي لا في الموقع المتقدم، فكيف يمكن أن يكونوا الطليعة في حركة الرسالة والرسول، وكيف يمكن للفئة الطليعية في المجتمع أن ينضموا إليهم مما تفقد الساحة معه توازنها، ولذلك فإنّه يمثل نقطة سلبية في الموقع الذي يدّعيه النبي لنفسه ولرسالته، لأنّه من غير الممكن - من وجهة نظر هؤلاء - أن يتخذ الله مثل هؤلاء أولياء ومقربين إليه من أن موقعهم هو في المنطقة الخلفية من مواقع المجتمع العامة والخاصة.
ولكن الله علّم نوحاً نبيه أن يرفض هذا المنطق، جملةً وتفصيلاً، فقال لهم - في ما حكاه الله عنه - في قوله تعالى: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ*وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [هود:29-30].
ويتابع الحديث عنهم فيقول - في قوله تعالى: {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود:31]. فقد أكّد ميزان القيمة في المنطق الرسالي الإلهي، أنّ هؤلاء هم الّذين ينطلقون في حركتهم في الحياة من الفكرة التي توحي لهم بأنّهم سيلاقون الله ربّهم ليقدموا إليه تقريراً عن أعمالهم التي قاموا بها في الدنيا، وحساباً عن كلّ أمورهم وأوضاعهم في دوائر الأوامر والنواهي ليقتربوا من ساحة طاعته، وليبتعدوا عن مواقع معصيته، فيعبدوه طمعاً في ثوابه ويبتعدوا عن الشرك بعبادته خوفاً من عقابه، وهذا هو الأساس في القيمة عند الله الذي أكّد في كتابه في الآية الكريمة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، لأنذ كلّ ما يتمايز به الناس هو خلق الله، ومن رزق الله، فكيف يتميزون به عندهم، من دون أن يكون لهم أيّ دور فيه، أما التقوى فهي النتيجة الطبيعية للإيمان القويّ والإرادة الخيّرة، والموقف القوي الثابت على حدود الله، ومواقع أمره ونهيه، وهذا هو الشيء الذي ينتسب إلى الإنسان ويميزه عن غيره، في ما أوكل الله إليه وجعل له الحرية في تقريره من خلال الحرية الإرادية في تقرير مصيره.
وهذه هي النظرة التي كان ينظر بها بعض الناس في عهد الدعوة الأولى، في الحديث الذي جاءت به السيرة عن حابس التميمي، وعيينة بن الحصين الفزاري، وعباس بن مرداس، وذووهم من المؤلفة قلوبهم، فوجدوا النبي(ص) جالساً مع أناسٍ، من ضعفاء المؤمنين، فلما رأوهم حوله(ص)، حقّروهم، فأتوه(ص) فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس ونفيت عنّا هؤلاء وأرواح جبابهم - وكانت عليهم جباب من صوف - جالسناك وأخذنا عنك، فقال(ص): ما أنا بطارد المؤمنين. قالوا: فإنّا نحبّ أن نجعل لك منّا مجلساً تعرف لنا فيه العرب فضلنا، فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحي أن تراناً مع هؤلاء الأعبُد - يعنون فقراء المسلمين- فإذا نحن جئناك فأقمهم عنّا، فإذا نحن فرغنا، فاقعد معهم إن شئت، قال(ص): نعم. قالوا: فاكتب لنا بذلك كتاباً، فدعا بالصحيفة وبعلي(ع) ليكتب ونحن قعود في ناحية، فنزل جبرئيل بقوله تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52]، فرمى(ع) بالصحيفة ودعانا فأتيناه وجلسنا عنده، وكنّا ندنو منه حتى تمس ركبتنا ركبته، وكان يقوم علينا إذا أراد القيام، فنزلت: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28]، فترك القيام عنّا إلى أن نقوم عنه، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى امرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي، معكم الحياة ومعكم الممات(11).
وهكذا نجد أنّ الذهنية الاستكبارية تبقى مع كلّ مرحلة تاريخية، لتجد هناك جماعة من الناس يفكرون بالطريقة التمييزية بين الناس على أساس المجتمعات عن بعضها البعض على أساس الفقر والغنى، ولكن الإسلام يرفض ذلك كلّه من حيث المبدأ، لأنّ القضية التي تفرض نفسها على الواقع الإنساني، هي أنّ الخصائص الإنسانية، في العقل والعلم والصفات النفسية المتنوعة والتقوى، هي التي تميزّ شخصاً عن آخر من حيث النظرة إلى هذا الإنسان بطريقةٍ تختلف عن النظرة إلى الإنسان الآخر، لأنّ ذلك هو معنى الاستغراق في الداخل الإنساني، لا في الخارج عنه، أما القيمة عند الله، فهي ارتباط الإنسان به روحياً وفكرياً وعملياً، فهذا هو ميزان القرب منه، وقد يكون للعلم دورٌ في الوصول إلى هذا المستوى الروحي أو ذلك، كما أنّ للعقل دوره الكبير في ذلك، ممّا يجعل التفاضل بالعلم والعقل أساساً للتفاضل في التقوى، ولذلك فلا تنافي بين أن يكون للتقوى دور التفضيل في الكرامة الإلهية للإنسان وبين أن يكون للعلم أو للعقل مثل هذا الدور، كما في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].
فإنّ الجهل النّاشىء عن فقدان العقل الواعي والمعرفة الواسعة هو الذي يؤدّي إلى الكفر والشرك، ولذلك عبّر الله عن المشركين والكافرين بأنّهم "الذين لا يعلمون" ولذلك فإنّ كلّ الصفات الإنسانية التي تنتج الوعي في طبيعته ونتائجه، تتكامل في تكوين الوعي الديني الذي يفتح النفس على الإيمان بالله، ويهدي الناس إلى الصراط المستقيم في الفكر والإرادة والعمل، فلا علم بدون عقل، ولا تقوى بدون عقل، ولا حياة بدون تقوى في الالتزام بالمسؤولية في الوجود الإنساني كلّه.
وفي ضوء ذلك، تتحرك العلاقات الإنسانية في لقاء الناس على محبّة الله وعلى دينه بعيداً عن كلّ حالةٍ طارئة، أو أيّ شيء مما يعيش خارج حياتهم، وبذلك لا يتعقّد الإنسان المؤمن من صحبة الفقراء، بل قد يجد نفسه من موقع المحبّ لهم، لأنّه يجد فيهم البساطة والطيبة والصفاء، كما أنّه يحقق لنفسه رياضة النفس وتحليتها بالتواضع والتذلل والقناعة بما أعطاه الله من متاع الدنيا وحطامها، والابتعاد عن التعالي والاستكبار والجاه والترفّع على الناس، ونحو ذلك من الأمور التي تربط الإنسان بإنسانيته، وتفتح روحه على الله، لأنّ الروح المثقلة بزخارف الدنيا ومطامعها لا تستطيع ارتفاع إلى الأعالي في رحاب الله، لأنّ ما يثقلها سوق يشدها إلى الأسفل، كما أن مجتمع الفقراء هو مجتمع الأكثرية، لأنّ الأغنياء هم الأقلّ عدداً، كما أنّ الفقراء هم المنتجون، باعتبار أنّ الأغنياء هم الذين يملكون المال ليقدم الفقراء العمل في مقابل ما يمنحوهم إياه، لأنّ الحياة قامت على سواعد الفقراء، بينما يقوم الأغنياء باستغلالهم من خلال الفرص الكثيرة التي استطاعوا فيها الحصول على المال الكثير بالحلال والحرام، بينما لم يستطع الفقراء الحصول على بعضها فضلاً عن الكثير منها، ولذلك فإنّ صحية الفقراء الحصول على بعضها فضلاً عن الكثير منها، ولذلك فإنّ صحبة الفقراء تمثل الصحبة التي تزيد الإنسان من خبراتهم وتجربةً من تجاربهم، وقدرة على تحمل الصعاب، وصبراً على الحرمان، وتمرداً على اليأس، وانفتاحاً على آفاق الحياة كلها بحلوها ومرّها، وليونتها وقسوتها، وهشاشتها وصلابتها، وحركةً واعيةً في توجيه الأحلام نحو الواقع والابتعاد عن الخيال، لأن ذلك هو الذي يربط الإنسان بالواقعي من الأمور، ويبتعد به عن أوهامها. إن للصحبة في الإسلام فلسفةً تتصل بالمعرفة تارةً وبالقدرة أخرى، فإذا كان الصاحب يملك المعرفة، فإن ذلك سوف يحقق لصاحبه المزيد مما يملأ فكره علماً يضيء له ظلام حياته، وإذا كان متميزاً بالصفات الطيبة والعمل الصالح فإنّه سوف يعطي صاحبه الصورة الحلوة التي تجتذبه إلى محاكاتها والاقتداء بها، وقد جاء في قول الشاعر:
صاحب أخا ثقةٍ تحظى بصحبته        فالطبع مكتسبٌ من كلِّ مصحوبِ
والريـُح آخــذةٌ مــمّا تمــرُّ بـِهِ            نَتْناً مِن النَّتـْنِ أو طيباً مِنَ الطّيْبِ
وقد ورد في الحديث أنّ الله أوحى إلى نبيه محمد(ص) ليلة المعراج: "يا أحمد، إنَّ المحبة لله هي المحبة للفقراء والتقرّب إليهم، قال: يا ربّ ومت الفقراء؟ قال: الذين رضوا بالقليل، وصبروا على الجوع، وشكروا على الرخاء، ولم يشكوا جوعهم وظمأهم، ولم يكذبوا بألسنتهم، ولم يغضبوا على ربّهم، ولم يغتمّوا على ما فاتهم، ولم يفرحوا بما آتاهم"(12).
وكان من دعاء النبي محمّد(ص): "اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني مع المساكين"(13).
وكان عليُّ بن الحسين(ع) - صاحب الدعاء - كثير المجالسة للفقراء، حتى قال له نافع بن جبير: "إنّك تجالس أقواماً دوناً، فقال له - عليه السلام، "إنّي أجالس من أنتفع بمجالسته في ديني"(14).
* * *
أمّا الحديث - في الدعاء - عن حسن الصبر على الفقراء، فالمارد به - ظاهراً - الانفتاح عليهم من موقع الحالة النفسية المنبسطة على جميع أمورهم وقضاياهم، فلا يتعقد من النظرة الحانقة التي قد تواجهه من الناس الذين يقفون في الدرجة العليا من السلّم الاجتماعي، ولا يشعر بالمهانة من ذلك، بل يرى في صحبتهم سموّ إنسانيته، وصفاء روحه، وروحية حياته، من دون أن يجد فيها شيئاً من التكلّف والتضحية التي قد يحتاج الإنسان معها إلى نوعٍ من مجاهدة نفسه، ومغالبة مزاجه.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فقد يكون الجوّ الخانق، أو الساحة الضيّقة، سبباً في تعقيد أخلاقهم، وارتباك أوضاعهم، وإثارة للجزئيات الصغيرة من أمورهم، ممّا قد يبتعد عن الأخلاق العامة، والأوضاع المنفتحة، والقضايا الكبرى التي اعتاد عليها الإنسان في تربيته وحياته العامة والخاصة، فيكون في الانسجام معهم، وتحمّله لهم، صعوبة بالغة، ومشقة شديدة، لا بدّ من الصبر عليها ببذل الجهد على إخضاع مزاجه لذلك، وربّما كان ذلك جزءاً من الخطّة الإسلامية الأخلاقية في الصبر على مصاحبة من صاحبه، ومخالطة من خالطه، مما قد يخالف مزاجه، أو يبتعد عن وضعه أو يسيء إلى بعض مصالحه، فيبتسم لهم في أشدّ حالات الحزن، وينطلق معهم في ساحات الضيق، ويعطيهم في حالة الشدّة، ويتحمّل الأذى منهم، ويعفو عن مسيئهم ويصفح عن ظالمهم، ويعود مرضاهم، ويشيّع جنائزهم، ويحفظ أسرارهم، ويؤثرهم على نفسه، ويقبل أعذارهم، ويكون لهم كما يجب أن يكونوا له.
إنّ الأخلاق الإسلامية تنطلق من المبادرة الذاتية التي تعطي من دون حساب، وتنفتح على كلّ حال، وتعفو دون مقابل، كما جاء في الحديث النبوي الشريف عن مكارم الأخلاق في ما روي عنه: "تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمّن ظلمك". وهذا في الخطّ العام، فإذا انضم إلى ذلك الوضع الإنساني للفقير الذي يملك الإحساس الدقيق بالكلمة الطيبة التي تفتح قلبه في مقابل الكلمة الخبيثة التي تغلقه، ويعيش العقدة الكامنة في داخل ذاته، من خلال الإهانات التي يوجهها إليه الأغنياء، والاحتقار الذي يختزنونه في نفوسهم، فإنّ الإحسان إليه والحذر من الإساءة إليه يمثلان قيمة روحية فوق القيمة، وصفة أخلاقية مميزة.
* * *
وفي ختام الدعاء ينطلق الإمام(ع) في الإيحاء الذاتي الروحي للنفس بأنّ الله قد يدخر للإنسان في خزائنه الباقية، بعض ما منعه منه من متاع الدنيا الفانية، وأنّه قد يجعل ما أعطاه من حطامها وسيلة من وسائل القرب إليه والسكن إلى جواره، والدخول إلى جنته، لأنّه ذو الفضل العظيم وهو الجواد الكريم.
وبذلك فإنّ نفسه لا تسقط أمام الحرمان لتعيش الشقاء من خلاله، ولا تطغى أمام الثروة، لتفقد التوازن في مسؤولياتها معها، بل تقابل الحرمان بالأمل في ثواب الآخرة، وتنفتح على المال لتسخّره للوصول إلى مواقع رضى الله سبحانه.
وبذلك يكون هذا الدعاء وثيقة فكرية في مفاهيم الإسلام عن المال وعن إنسانية الإنسان في موقفه من الله بالإضافة إلى المعنى الروحي الذي يعيشه من خلاله.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَهَبْ لي العَافِيةَ مِنْ دَيْنٍ تُخْلِقُ بِهِ وَجْهِي، وَيَحَارُ ذِهْنِي، وَيَتَشَعَّبُ لَهُ فِكْرِي، وَيَطُولُ بِمُمَارَسَتِهِ شُغْلي، وَأعُوذُ بِكَ يا رِبِّ مِنْ هَمِّ الدَّيْن وَفِكْرِهِ، وشُغْلِ الدَّيْنِ وسَهَرِه، فَصَلِّ على محمَّدٍ وَآلِهِ، وأعِذْني منْهُ، وأسْتَجِيرُ بِكَ مِنْ ذِلَّتِهِ في الحَيَاةِ وَمِنْ تَبِعَتِهِ بَعْدَ الوفَاةِ، فصلِّ على محمّدٍ وآلِهِ، وَأجِرْني مِنْهُ بِوُسْعٍ فاضِلٍ أو كَفافٍ واصِلٍ.
* * *
اللهم إنّي أعوذ بك من ذُلّ الدَّين في الحياة:
يا ربّ، ربّما تضيق بي الأمور فتضيق عليّ موارد الأموال ومصادرها، وتشتد بي الحاجات فتضغط عليَّ بجوعها وعطشها وكلّ متطلباتها إلى المال الذي لا أجده لأنّي لا أملكه، فتضطرني إلى الاستدانة من الناس الذين ينطلقون في الاستجابة لي من موقع العاطفة أو المصلحة، أو الحاجة إلى السيطرة على موقعي أو موقفي، أو إخضاعي لما يريدون، فأبقى أسيرهم من خلال الدَّين الذي يخلق وجهي كما لو لم يكن لي وجه من خلال ذهاب مائه، وزوال نضارته وعزَّتِهِ الروحية، ويبعث الحيرة في عقلي حتى كأنّه لا يدرك شيئاً، ويتوزع فيه فكري فلا يستقرّ على شيء ولا يملك التركيز على نقطةٍ معينة، فلا يصل معه إلى نتيجةٍ حاسمة، ويتحول إلى شغل شاغلٍ لي حتى يشغلني عن كل أعمالي، فلا أفرغ معه لعمل جادّ لوقت طويل.
يا ربّ، إنّي أسألك أن تمنحني العافية من هذا الدَّين وأمثاله حتى لا أسقط في نتائجه الصعبة.
أغنني - يا ربّ - عن اللجوء إليه من خلال سعة رزقك عليّ، وإذا ابتليتني به، فاقضه عني، وأعذني من همه الطويل وفكره المعقّد، وأجرني من ذلته في حياتي إذا تعقدت أوضاعي ولم استطع قضاءه، ومن تبعته ومسؤوليته أمام الله في الآخرة في تلك الحال.
إنّني لا أسألك - يا ربّ - أن تعطّل من حولي سننك في عبادك، ولكنّي أسألك رحمةً ولطفاً تيسّر بهما لي السبيل، وتحلّ عندي المشاكل، وتهيّىء لي الأسباب، يا مسبب الأسباب بقدرته، فتوسع عليّ رزقي الذي يوفّر عليّ حاجتي للدَّين، وتغدق عليّ من فضلك الرزق الذي أقضي به دَيني من دون حاجة لاستعطاف الآخرين والتذلّل لهم.
* * *
اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمّدٍ وَآلِهِ، وَاحْجُبْني عَنِ السَّرَفِ وَالازْديادِ، وَقوِّمْني بالبَذْلِ وَالاقْتِصَادِ، وعَلّمني حُسْنَ التَّقْدِيرِ، وَاقْبِضْني بِلُطْفِكَ عَنِ التّبذِيرِ.
* * *
 اللهم علّمني حسن التقدير:
يا ربّ، قد تكون مشكلة الكثيرين من الناس أنّهم يفقدون القدرة على التوازن في إدارة أمورهم، ودراسة ظروفهم، ووعي قدراتهم، وتحديد حاجاتهم، فيتجاوزون الحدّ في إنفاق أموالهم، ويخرجون عن الاعتدال في ذلك كلّه، فلا يلتفتون إلى زيادة المصارف عن الحاجة، ولا يبالون بالنتائج السيّئة في ذلك على إمكاناتهم المالية المحدودة، ولا يخططون للمستقبل في حاجاته السيّئة في ذلك على إمكاناتهم المالية المحدودة، ولا يخططون للمستقبل في حاجاته من خلال الإعداد لها في إمكانات الحاضر، باعتبار إنّ إمكانات المستقبل، في عناصر وجوده ونمّوه وامتداده، قد يختزنه الحاضر في قدراته ومعطياته، مما يجعل من إضاعة الفرص الحينية على أساس الازدياد في المصارف عن مقدار الحاجة، والإسراف في الإنفاق من خلال تجاوز الحدود المتعارفة، هو الذي يضعف الأفراد في حياتهم الخاصة ليواجهوا الأوضاع الصعبة التي لا يملكون إدارة أمورهم فيها بالإمكانات الطبيعية، لأنّهم يفقدون المال الذي تحتاجه، مما لو توازنوا في إنفاقه لأمكنهم مواجهتها بطريقة معقولةٍ متوازنة، وهذا هو الذي يضعف الشعوب والمجتمعات المستضعفة التي لا تملك إلا موارد محدودة في الكمّ والنوع، بحيث يتحوّل الإسراف فيها إلى خطر على الاقتصاد العام، لأنّ الشعوب قد تخضع في حاجاتها للوقوع تحت سيطرة القوى الكبرى الغنيّة التي تستغلّ ذلك للضغط عليها سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
أمّا الاقتصاد فهو الذي يخضع فيه الاستهلاك للخطّة الدقيقة المدروسة التي تحسب حساب الموارد والمصادر في دراسةٍ عميقةٍ واسعةٍ بالدرجة التي لا يمتنع الإنسان فيها عن البذل والعطاء في نطاق مسؤولياته ولكنّه يقدّر الأمور بقدرها، فيضع لكلّ حاجة من حاجاته الحاضرة مقدارها، ويحتفظ للحاجات المستقبلية ببعض ماله، ليوازن بين حاجات الحاضر والمستقبل في إمكانات الحاضر.
اللهم وهب لي القوة الفكرية التي تجعلني في حالة وعي للإمكانات والحاجات، والإرادة القوية التي تمنعني من الانحراف عن الخطّ المستقيم في ما آخذ به أو أدعه، لأجتنب ما يثقلني من المصارف، وأقترب مما يقربني من النتائج الطيبة في الحياة، فلا أسرف في إنفاقي، ولا أزيد به عن قدر الحاجة، ووفّقني للحصول على ذهنية حسابية تحسب حساب الأمور بدقّةٍ، وتخطط لها بتقدير، وتمارس الاعتدال في التوفيق بين الإنتاج والاستهلاط... وهب لي علم التقدير للأمور، وأبعدني عن التبذير الذي يدفع الإنسان إلى أن يصرف ما لا يحتاجه، أو ما يزيد عن حاجته، لأكون الإنسان المسؤول الذي يواجه كلّ إمكاناته بمسؤولية، ويحرّك حاجاته باتّزان، لأنّك أردت لعبادك أن يواجهوا الحياة الدنيا بالطريقة التي تتحول بها كلّ موجوداتها إلى طاقة حيّة في الواقع لا في الفراغ.
* * *
وَأجْرِ مِنْ أسْبابِ الحَلاَلِ أرْزَاقي، وَوَجِّهْ في أبوَابِ البِرِّ إنْفَاقي، وازْوِ عَنِّي مِنَ المَالِ مَا يُحْدِثُ لي مَخْيَلَةً، أوْ تَأدِّياً إلى بَغْيٍ أوْ مَا أتعَقَّبُ مِنهُ طُغْيَاناً.
* * *
اللهم ارزقني رزقاً حلالاً طيباً:
يا ربّ، إنّني أتطلع إلى أن تكون حياتي في عمقها وامتدادها وكلّ مفرداتها متحركةً في خط رضاك، فلا يكون فيها أي موقع من مواقع سخطك، وأنا - يا ربّ - الإنسان الخاضع للأسباب في كلّ شروط حياته، فلا مجال لأيّ شيء منها إلا من خلال نظام الأسباب والمسبّبات، وفي سببٍ حلالٌ وحرام من خلال أمرك ونهيك، والرزق، بكلّ أنواعه، قد يحصل من الحرام من أسبابه، كما يحصل بالحلال منها، فهناك المال الذي يجنيه الإنسان من الباطل من الخيانة والسرقة والغش وتجارة الحرام، وعمل الحرام، والبغي على الناس بغير الحقّ، وأكل أموالهم بالباطل ونحو ذلك، وهناك المال الذي يجنيه من الحلال في الأعمال والمعاملات والعلاقات والأوضاع، وها انذا - يا ربّ - بين يديك مفتقر إليك في تهيئة أسباب رزقي من موقع الإرادة في حسن الاختيار، أو من خلال الموارد التي تسخرها لعبادك من حيث يحتسبون أو من حيث لا يحتسبون، فاجعل أسباب رزقي في الحلال حتى ينمو جسدي وتتطور حياتي في ما ترضاه من طعامي وشرابي وملبسي ومسكني وكلّ شؤون الحياة لديّ.
اللهم وجّه في أبواب البرّ إنفاقي:
ووفّقني لإنفاق رزقي في أبواب البرّ التي من دخلها كان له في ساحة رحمتك نصيب وفي رياض جنتك مقام، وفي مواقع القرب منك علوّ وارتفاع.
اجعلني - يا ربّ - من الناس المنفتحة عقولهم على فكر الخير، النابضة قلوبهم بإحساس المحبة، المتحركة أوضاعهم في مجالات العطاء، المنطلقة إنسانيتهم في دروب الحرمان في واقع الإنسان، فيكون البرّ كلّ همّهم في ما يهتمّون به، لأنّ البر سرُّ التقوى في ما يعيشون من روحية المحبة لله والرغبة في القرب إليه، فإنّ أحب أن أكون في إنسانيتي منسجماً مع وجودي الذي أريده أن يكون وجوداً يغني الحياة في عطائه، وينشر الخير في ما حوله وفيمن حوله، لأنّه - بذلك - يجسّد مضمون عبوديته لك في انفتاحه على آفاق الألوهية الرحيمة في قدس ذاتك وسرّ ربوبيتك.
* * *
اللهم أبعد عنّي من المال ما يحدث لي كِبراً وطغياناً:
يا ربّ، أنا الإنسان الضعيف أمام غرائزي وشهواتي، أنا المخلوق الذي تتحرك نقاط ضعفه في داخل ذاته لتأكل نقاط قوته في فكره وعاطفته ومشاعره وأحاسيسه وحركته في الواقع... وأنا عبدك الذي يهفو إلى أن تكون روحه سابحةً في ينابيع الصفاء من حبّك، وأن يكون قلبه نابضاً بالعاطفة الغارقة في بحار قدسك، وأن يكون فكره منطلقاً في رحاب علمك، وأن يكون كيانه مشدوداً إلى القيم الأخلاقية الروحية في منهج القيمة من دينك، فأكون الإنسان المتواضع في جميع الأحوال مع الناس، العادل معهم في كلّ علاقاتي بهم، فلا أبغي عليهم في أموالهم وأنفسهم وأعراضهم وكلّ شؤونهم، ولا أطغى عليهم طغيان المتكبر على بني جنسه، المتجبِّر على الضعفاء من الناس، الذي يريد أن يكون عالياً في الأرض بذاته وخصائصه مفسداً في كل أوضاعها وقضاياها، لذلك فإنّني في دعائي لك، وفي كلّ ابتهالاتي، أدعوك لأن ترزقني من رزقك الواسع الحلال الطيب، وأدعوك - يا ربّ - أن لا تجعل للمال سبيلاً على تخريب أخلاقي، وإسقاط روحيتي، وإبعاد القيمة عن ذاتي، وذلك من خلال ما قد توحي به الثروة في إيحاءاتها السلبية من الإحساس بالخيلاء الذي تنتفخ فيه الشخصية، وتتضخّم به الذات، فيشعر الإنسان معه بأنّه الأعلى والأعظم والأكبر من خلال ما قد توحي به الثروة في إيحاءاتها السلبية من الإحساس بالخيلاء الذي تنتفخ فيه الشخصية، وتتضخّم به الذات، فيشعر الإنسان معه بأنّه الأعلى والأعظم والأكبر من خلال وفرة ماله، وحجم ثروته، وربّما يقوده ذلك إلى البغي على الناس، كما حدثنا الله في كتابه المجيد عن قارون: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص:76] وذلك على أساس استضعافهم بماله واستغلال حاجتهم إليه في فرض سلطته عليهم في أخذ أموالهم بغير حقّ، ومصادرة جهده بصورة غير شرعيّة، والعمل على إضلالهم وصدهم عن سبيل الله، وقد يبعثه ذلك إلى الطغيان على ضوء قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] حيث يتحول الغنى لديه إلى حالةٍ من التكبر والتجبر التي تلغي إنسانية الناس من حوله، وتضغط على حرياتهم.
اللهم اجعلني أنظر إلى المال كنظرتي إلى أيّ شيء من حاجات الحياة التي تتحدّد قيمتها بمقدار ما يستجيب لها، فلا يضيف أيّ شيء في داخل الذات بما يؤدّي إلى تغييرها عما هي عليه في الإطار السلبي، لأنّ الإنسان المؤمن هو لا يزيده الغنى شيئاً ولا ينقصه الفقر شيئاً، بل يبقى في مواقع الثبات في إيمانه وثقته بنفسه من خلال ثقته بربّه.
* * *
اللَّهُمَّ حَبِّبْ إليَّ صُحْبَةَ الفُقَرَاءِ، وأعِنِّي عَلَى صُحْبَتِهم بِحُسْنِ الصَّبْرِ.
* * *
اللهم حبّب إليّ صحبة الفقراء:
 يا ربّ، ربّما يطغى عليّ الشيطان ويثير وساوسه في نفسي لأحتقر الفقراء لفقرهم، وأنفر من صحبتهم واللقاء بهم، باعتبار أن طبقتي أعلى من طبقتهم، ودرجتي أرفع من درجتهم، لأنّني املك ما لا يملكون، وأحصل من حاجاتي على ما لا يحصلون عليه منها، فيخيّل إليّ أنهم لا يملكون الفكر المنفتح، والأفق الواسع، والأخلاق الطيبة، والصفات الكريمة، فيخيّل إليّ أنّهم لا يملكون الفكر المنفتح، والأفق الواسع، والأخلاق الطيبة، والصفات الكريمة، واللياقة أو اللباقة الاجتماعية، التي يحسنون - بها - إدارة علاقتهم بالناس من حولهم، ممّا قد يثقل على الناس رفقتهم، ويسيء إليهم في صحبتهم لهم، لما قد يثيره بعض المستكبرين من أنّ الفقر يسلب صاحبه صفاته الإنسانية السمحة ليحوله إلى إنسان حاقد على المجتمع، متمردٍ عليه، معقدٍ منه، الأمر الذي يجعل منه عنصراً مخيفاً لا بدّ من الحذر منه، والابتعاد عنه.
اللهم اجعلني أرفض هذا المنطق، فيكون المنطق البديل عنه، انفتاحاً على الفقراء في إنسانيتهم، فهم الناس الذي لم تلوّثهم الحياة بأدرانها، ولم تعقّد الثروة نفسياتهم، ولم تبتعد بهم الأوضاع المختلفة عن فطرتهم، الأمر الذي يجعلهم قريبين إلى الطبيعة الصافية الطيبة، فهم أقرب إلى الأرض من الناس الآخرين، وهم الذين يعيشون القيم المنفتحة على البذل والتضحية والعطاء في الوقت الذي يعيش فيه الكثيرون من الأغنياء البخل والأنانية والإثرة، ولذا كانوا أتباع الأنبياء والأولياء والمصلحين، فهم جنود كلّ دعوة إصلاح وحركة حقٍّ وانتفاضة عدل.
وهم الفئة المستضعفة التي يستغلّ المستكبرون طيبتها من خلال ما يثيرونه معها من شعارات وعناوين مثيرة تجتذبهم إلى ساحتهم من خلال اجتذابهم إلى الغابات الكبرى في حياتهم، في الوقت الذي يعيشون معهم بساطة الفكرة، وعفوية الروح، وطهارة الإحساس، وصفاء الشعور.
اللهم أجعلني أنفتح عليهم في خصائصهم الذاتية الكريمة لأحبّهم وأحبّ صحبتهم من خلال ما يتميزون به من سموّ القيم، ونقاء الوجدان، وأريحية النظرة إلى الواقع، فلا أتكلّف الإقبال عليهم، والصحبة لهم، بل أجد فيه بعض ما يلبّي الرغبة ويدفع إلى الراحة النفسية ويربطني بالفطرة الإنسانية الصافية، وذلك في حاجتي إلى الأخذ بأسباب التواضع والبعد عن التعقيد، والانسجام مع عفوية الحياة وبساطتها، وعدم السقوط أمام زخارف الحياة وبهارجها ممّا يمكن ألاّ أجده مع غير الفقراء.
وإذا كان الشيطان قد يزيد في وسوسته، سواء كان شيطان جنٍّ أو شيطان إنس، فيوحي إليّ بأنّ صحبتهم تُفقدني موقعي في المجتمع، لأنّ الإنسان يقاس بأصحابه، فإذا كان أصحابه من الدرجة الدنيا كانت درجته في هذا الموضع بالذات، وربّما يستغلّ بعض سلبيات أخلاقهم وأوضاعهم ومشاكل العلاقة بهم تماماً كما هي سلبيات الارتباط بالأرض العذراء والفطرة الساذجة، فيخيّل إليّ بأنّ مثل هذه الصّلة بعيدة عن الراحة والانسجام الروحي والانفتاح النفسي، فيضيق بها الصدر، وتتعب فيها الروح، وتؤدّي بالإنسان إلى المزيد من الحرج والجهد والمعاناة.
اللهم أعني على صحبتهم بحسن الصبر على وسوسة الشيطان، ونوازع النفس الأمارة بالسوء وتهاويل المشاعر، وتعقيدات الانفعال، لأنظر إلى المسألة من الجانب الإيجابي بدلاً من الجانب السلبي، لأنّ الأشياء لا تملك معنى المطلق في سلبياتها في جانب الشرّ أو في إيجابياتها في جانب الخير، بل هي من قبيل المحدود الذي قد يختزن الشرّ في الأشياء الخيرة التي يغلب عليها الخير، وقد يختزن الخير في الأشياء الشريرة التي يغلب عليها الشرّ... والخطّ الأصيل هو الانسجام مع غلبة جانب الخير بإغفال جانب الشرّ، وأنت - يا ربّ - الذي تعين الصالحين على أنفسهم، فأعنّي على نفسي في ذلك كلّه.
* * *
وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِن مَتَاعِ الدُّنْيَا الفَانِيةِ فَادَّخِرْهُ لي في خَزَائِنِكَ الباقِيَة.
* * *
اللهم ادّخر لي في خزائنك الباقية:
يا ربّ، قد تقتضي حكمتك التي لا أبلغ مداها في الوعي الفكري الذي أملكه، أن تبتليني بالتضييق عليّ في رزقي، فتمنعني من بعض متاع الدنيا الذي أرغبه في تلبية حاجاتي الذاتية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ولذةٍ وشهوةٍ ونحو ذلك، فأعيش محروماً من راحة الحياة ورخاء العيش بسبب ذلك.
اللهم إنّني لا أتعقّد من ذلك - فأنا - من خلال إيماني - لا أعترض على تقديرك - ولا أرفض قضاءك، بل أرضى به رضى المؤمن بقضاء ربّه، ولكنّي أرجو - يا ربّ - من كرمك وجودك، أن تخزن ذلك لي في خزائن رحمتك الباقية في الدار الآخرة، ليكون ذلك عوضاً عن حرماني في الدنيا، بالنعيم الدائم في الآخرة ما أعددته للصابرين من عبادك والمتقين من أوليائك من ثوابك الجزيل.
وقد جاء في الحديث عن رسول الله(ص) - في ما نقله صاحب رياض السالكين - ما روي في الحديث عن عمر بن الخطاب، قال: "استأذنت على رسول الله(ص) فدخلت عليه في مشربة أم إبراهيم، وإنّه لمضطجع على خصفةٍ، وإن بعضه على التراب، وتحت رأسه وسادة محشوة ليفاً، فسلّمت عليه ثم جلست، فقلت: يا رسول الله أنت نبّي الله وصفوته وخيرته من خلقه، وكسرى وقيصر على الذهب وفرش الديباج والحرير، فقال رسول الله(ص): أولئك قوم عُجّلت طيباتهم وهي وشيكة الانقطاع، وإنما أخّرت لنا طيباتنا"(15).
* * *
واجْعَلْ مَا خَوَّلْتَني مِنْ حِطَامِها، وعَجَّلْتَ لي مِنْ متَاعها، بُلْغةً إلى جِوارِكَ، وَوُصْلَةً إلى قُرْبِكَ، وَذّريعةً إلى جنَّتِكَ، إنّكَ ذُو الفضْلِ العظيمِ، والجوادُ الكَريمُ.
* * *
اللهم بادلني عطاء الدنيا بعطاء الآخرة:
 اللُهَّم إنّك أعطيتني بعض حطام الدنيا مما رزقتني من أموالها ولذاتها وشهواتها، وعجّلت لي من رزقها الذي منحتني راحته وسروره، وربّما كان ذلك اختباراً لي، وامتحاناً لإرادتي في توجيه ذلك في مرضاتك، لأنفقه في محبوبك، وأجتنب في مصارفه سخطك، حتى يكون كلّ هذا العطاء الدنيوي من كرمك وسيلةً من وسائل القرب إليك، والعيش الرغيد في جوار قدسك، فتبادلني عطاء الآخرة الذي تغدقه عليّ من رضوانك، وتفتح لي فيه أبواب جنتك، فأنعم في عطائك في الدنيا بما سهلت لي من حاجاتها، وفي عطائك في الآخرة بما منحتني من بركاتها، إنّك - يا ربّ - صاحب الفضل العظيم الذي لا يبلغ أحد مدى عظمته، والجواد الكريم الذي لا منتهى لجوده وكرمه يا أرحم الراحمين.
* * *
وهكذا نرى، في نهاية المطاف، أنّ ما يحصل عليه الإنسان من متاع الدنيا وطيباتها، ليس مسألةً ضائعة في حياة الإنسان في نطاق المسائل البعيدة عن القيمة، فليست الدنيا قيمة سلبيةً في المطلق، ولكنّها تمثّل حركة القيمة المتنوعة في الإنسان تبعاً للغاية التي يبتغيها في عمله، فإذا حرّك ماله وجهده في سبيل الله كانت قيمة إيجابية، وإذا حركه في سبيل الشيطان، أو في ما يبقى في الدنيا من دون أية علاقة له بالآخرة، كانت قيمة سلبية أو لم تكن في معنى القيمة، فيمكن أن يبلغ بماله الدرجات العليا عند الله وينال به الجنّة إذا حركه في الخير في رضى الله، ويمكن أن يبلغ به الدرجات السفلى - إذا صح التعبير - ويدخل به النار، وقد جاء في الحديث عن رسول الله(ص) قال: "نعم العون على تقوى الله الغنى"(16)، وقد ورد في الحديث عن عليٍّ أمير المؤمنين(ع): "من آتاه الله مالاً فليصل به القرابة وليحسن منه الضيافة، وليفكَّ به الأسير والعاني، وليعطِ منه الفقير والغارم، وليصبر نفسه على الحقوق والنوائب، ابتغاء الثواب، فإنَّ فوزاً بهذه الخصال شرف مكارم الدنيا ودرك فضائل الآخرة"(17).
وجاء في نهج البلاغة أنَّ علياً(ع) دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه، يعوده، فلما رأى سعة داره قال: "ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟ وبلى، إن شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة"(18).
* * *
الهوامش:
(1)    الكافي، ج:5، ص:101، رواية:4.
(2)    الكافي، ج:5، ص:101، رواية:5.
(3)    الكافي، ج:5، ص:95، رواية:11.
(4)    رياض السالكين، ج:4، ص:345.
(5)    النوري، ميرزا حسين، مستدرك الوسائل، الدار الإسلامية ـ إيران، ج:13، باب:14، ص:404، رواية:15734.
(6)    رياض السالكين، ج:4، ص:345-346.
(7)    الكافي، ج:4،ص:36، رواية:1.
(8)    الكافي، ج:5، ص:72، رواية:5.
(9)    الكافي، ج:5، ص:72، رواية:8.
(10)    الكافي، ج:5، ص:72، رواية:10.
(11)    مجمع البيان،ج:4، ص:382 (بتصرف).
(12)    إرشاد القلوب، ج:1-2، ص:200-201، نقلاً عن "رياض السالكين"،ج:4،ص:357.
(13)    سنن الترمذي، ج:4، ص:577، نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:4، ص:357.
(14)    المناقب لابن شهرآشوب، ج:4، ص:161، نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:4، ص:357.
(15)    رياض السالكين، ج:4، ص:365.
(16)    الكافي، ج:5، ص:71، رواية:1.
(17)    نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، ص:141، خطبة:142.
(18)    نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، ص:237، خطبة:209.
* * *
دعاؤه(ع)
في ذكر التوبة وطلبها

اللّهُمَّ يا مَنْ لا يَصِفُهُ نَعْتُ الْواصِفينَ، وَيا مَنْ لا يُجاوِزُهُ رَجاءُ الرّاجِينَ، وَيا مَنْ لا يَضيعُ لَدَيْهِ أَجْرُ الْمُحْسِنينَ، وَيا مَنْ هُوَ مُنْتَهى خَوْفِ الْعابِدينَ، وَيا مَنْ هُوَ غايَةُ خَشْيَةِ الْمُتَّقينَ.
هذا مَقامُ مَنْ تَداوَلَتْهُ أَيْدِي الذُّنُوبِ، وَقادَتْهُ أَزِمَّةُ الْخَطايا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطانُ، فَقَصَّرَ عَمّا أَمَرْتَ بِهِ تَفْريطاً، وَتَعاطى ما نَهَيْتَ عَنْهُ تَغْريراً، كَالْجاهِلِ بِقُدْرَتِكَ عَليْهِ، أَوْ كَالْمُنْكِرِ فَضْلَ إِحْسانِكَ إِلَيْهِ.
حَتّى إِذَا انْفَتَحَ لَهُ بَصَرُ الْهُدى، وَتَقَشَّعَتْ عَنْهُ سَحائِبُ الْعَمى، أَحْصى ماظَلَمَ بِهِ نَفْسَهُ، وَفَكَّرَ فيما خالَفَ بِهِ رَبَّهُ، فَرَأى كَبيرَ عِصْيانِهِ كَبيراً، وَجَليلَ مُخالَفَتِهِ جَليلاً.
فَأَقْبَلَ نَحْوَكَ مُؤَمِّلاً لَكَ، مُسْتَحْيِياً مِنْكَ، وَوَجَّهَ رَغْبَتَهُ إِلَيْكَ ثِقَةً بِكَ، فَأَمَّكَ بِطَمَعِهِ يَقَيناً، وَقَصَدَكَ بِخَوْفِهِ إِخْلاصاً، قَدْ خَلا طَمَعُهُ مِنْ كُلِّ مَطْمُوع فيهِ غَيْرِكَ، وَأَفْرَخَ رَوْعُهُ مِنْ كُلِّ مَحْذُور مِنْهُ سِواكَ، فَمَثَلَ بَيْنَ يَدَيْكَ مُتَضَرِّعاً، وَغَمَّضَ بَصَرَهُ إِلَى الأرْضِ مُتَخَشِّعاً، وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ لِعِزَّتِكَ مُتَذَلِّلاً، وَأبَثَّكَ مِنْ سِرِّهِ ما أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنْهُ خُضُوعاً، وَعَدَّدَ مِنْ ذُنُوبِهِ ما أَنْتَ أَحْصى لَها خُشُوعاً، وَاسْتَغَاثَ بِكَ مِنْ عَظيمِ ما وَقَعَ بِهِ في عِلْمِكَ، وَقَبيحِ ما فَضَحَهُ في حُكْمِكَ، مِنْ ذُنُوب أَدْبَرَتْ لَذّاتُها فَذَهَبَتْ، وَأَقامَتْ تَبِعاتُها فَلَزِمَتْ.
لا يُنْكِرُ - يا إِلهي - عَدْلَكَ إِنْ عاقَبْتَهُ، وَلا يَسْتَعْظِمُ عَفْوَكَ إِنْ عَفَوْتَ عَنْهُ وَرَحِمْتَهُ، لأِنَّكَ الرَّبُّ الْكَريمُ الَّذي لا يَتَعاظَمُهُ غُفْرانُ الذَّنْبِ الْعَظيمِ.
اللّهُمَّ فَها أَنَا ذا قَدْ جِئْتُكَ مُطيعاً لأِمْرِكَ فيما أَمَرْتَ بِهِ مِنَ الدُّعاءِ، مُتَنَجِّزاً وَعْدَكَ فيما وَعَدْتَ بِهِ مِنَ الإجابَةِ، إِذْ تَقُولُ ادْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ.
أَللّهُمَّ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَالْقَني بِمَغْفِرَتِكَ كَما لَقِيتُكَ بِإِقْراري، وَارْفَعْني عَنْ مَصارِعِ الذُّنُوبِ كَما وَضَعْتُ لَكَ نَفْسي، وَاسْتُرْني بِسِتْرِكَ كَما تَأَنَّيْتَني عَنِ الإنْتِقَامِ مِنّي.
اللّهُمَّ وَثَبِّتْ في طاعَتِكَ نِيَّتي، وَأَحْكِمْ في عِبادَتِكَ بَصيرَتي، وَوَفِّقْني مِنَ الأعْمالِ لِما تَغْسِلُ بِهِ دَنَسَ الْخَطايا عَنّي، وَتَوَفَّني عَلى مِلَّتِكَ وَمِلَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ إِذا تَوَفَّيْتَني.
اللّهُمَّ إِنّي أَتُوبُ إِلَيْكَ في مَقامي هذا مِنْ كَبائِرِ ذُنُوبي وَصَغائِرِها، وَبَواطِنِ سَيِّئاتِي وَظَواهِرِها، وَسَوالِفِ زَلاّتي وَحَوادِثِها، تَوْبَةَ مَنْ لا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِمَعْصِيَة، وَلا يُضْمِرُ أَنْ يَعُودَ في خَطيئَةٍ، وَقَدْ قُلْتَ - يا إِلهي - في مُحْكَمِ كِتابِكَ: إِنَّكَ تَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِكَ وَتَعْفُو عَنِ السَّيِّئاتِ، وَتُحِبُّ التَّوّابينَ، فَاقْبَلْ تَوْبَتي كَما وَعَدْتَ، وَاعْفُ عَنْ سَيِّئاتي كَما ضَمِنْتَ، وَأَوْجِبْ لي مَحَبَّتَكَ كَما شَرَطْتَ، وَلَكَ - يا رَبِّ - شَرْطي أَنْ لا أَعُودَ في مَكْرُوهِكَ، وَضَماني أَنْ لا أَرْجعَ في مَذْمُومِكَ، وَعَهْدي أَنْ أَهْجُرَ جَميعَ مَعاصيكَ.
اللّهُمَّ إِنَّكَ أَعْلَمُ بِما عَمِلْتُ، فَاغْفِرْ لي ما عَلِمْتَ، وَاصْرِفْني بِقُدْرَتِكَ إِلى ما أَحْبَبْتَ.
اللّهُمَّ وَعَلَيَّ تَبِعاتٌ قَدْ حَفِظتُهُنَّ، وَتَبِعاتٌ قَدْ نَسيتُهُنَّ، وَكُلُّهُنَّ بِعَيْنِكَ الَّتي لا تَنامُ، وَعِلْمِكَ الَّذي لايَنْسى، فَعَوِّضْ مِنْها أَهْلَها، وَاحْطُطْ عَنّي وِزْرَها، وَخَفِّفْ عَنّي ثِقْلَها، وَاعْصِمْني مِنْ أَنْ أُقارِفَ مِثْلَها.
اللّهُمَّ وَإِنَّهُ لا وَفاءَ لي بِالتَّوْبَةِ إِلاّ بِعِصْمَتِكَ، وَلاَ اسْتِمْساكَ بي عَنِ الْخَطايا إِلاّ عَنْ قُوَّتِكَ، فَقَوِّني بِقُوَّة كافِيَةٍ، وَتَوَلَّني بِعِصْمَة مانِعَةٍ.
اللّهُمَّ أَيُّما عَبْد تابَ إِلَيْكَ وَهُوَ في عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ فاسِخٌ لِتَوْبَتِهِ، وَعائِدٌ في ذَنْبِهِ وَخَطيئَتِهِ، فَإِنّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَكُونَ كَذلِكَ، فَاجْعَلْ تَوْبَتي هذِهِ تَوْبَةً لا أَحْتاجُ بَعْدَها إِلى تَوْبَة، تَوْبَةً مُوجِبَةً لِمَحْوِ ما سَلَفَ، وَالسَّلامَةِ فيما بَقِيَ.
اللّهُمَّ إِنّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِنْ جَهْلي، وَأَسْتَوْهِبُكَ سُوءَ فِعْلي، فَاضْمُمْني إِلى كَنَفِ رَحْمَتِكَ تَطَوُّلاً، وَاسْتُرْني بِسِتْرِ عافِيَتِكَ تَفَضُّلاً.
اللّهُمَّ وَإِنّي أَتُوبُ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ ما خالَفَ إِرادَتَكَ، أَوْ زالَ عَنْ مَحَبَّتِكَ، مِنْ خَطَراتِ قَلْبي، وَلَحَظاتِ عَيْني، وَحِكاياتِ لِساني، تَوْبَةً تَسْلَمُ بِها كُلُّ جارِحَة عَلى حِيالِها مِنْ تَبِعاتِكَ، وَتَأْمَنُ مِمّا يَخافُ الْمُعْتَدُونَ مِنْ أليمِ سَطَواتِكَ.
اللّهُمَّ فَارْحَمْ وَحْدَتي بَيْنَ يَدَيْكَ، وَوَجيبَ قَلْبي مِنْ خَشْيَتِكَ، وَاضْطِرابَ أَرْكاني مِنْ هَيْبَتِكَ.
فَقَدْ أَقامَتْني يا رَبِّ ذُنُوبي مَقامَ الْخِزْيِ بِفِنائِكَ، فَإِنْ سَكَتُّ لَمْ يَنْطِقْ عَنّي أَحَدٌ، وَإِنْ شَفَعْتُ فَلَسْتُ بِأَهْلِ الشَّفاعَةِ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَشَفِّعْ في خَطاياىَ كَرَمَكَ، وَعُدْ عَلى سَيِّئاتي بِعَفْوِكَ، وَلا تَجْزِني جَزائي مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَابْسُطْ عَليٍّ طَوْلَكَ، وَجَلِّلْني بِسِتْرِكَ، وَافْعَلْ بي فِعْلَ عَزيزٍ تَضَرَّعَ إِلَيْهِ عَبْدٌ ذَليلٌ فَرَحِمَهُ، أَوْ غَنِىٍّ تَعَرَّضَ لَهُ عَبْدٌ فَقيرٌ فَنَعَشَهُ.
اللّهُمَّ لا خَفيرَ لي مِنْك، فَلْيَخْفُرْني عِزُّكَ، ولا شَفيعَ لي إِلَيْكَ، فَلْيَشْفَعْ لي فَضْلُكَ، وَقَدْ أَوْجَلَتْني خَطاياىَ فَلْيُؤْمِنّي عَفْوُكَ، فَما كُلُّ ما نَطَقْتُ بِهِ عَنْ جَهْل مِنّي بِسُوءِ أَثَري، وَلا نِسْيان لِما سَبَقَ مِنْ ذَميمِ فِعْلي، وَلكِنْ لِتَسْمَعَ سَماؤُكَ وَمَنْ فيها، وَأَرْضُكَ وَمَنْ عَلَيْها، ما أَظْهَرْتُ لَكَ مِنَ النَّدَمِ، وَلَجَأْتُ إِلَيْكَ فيهِ مِنَ التَّوْبَةِ، فَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَرْحَمُني لِسُوءِ مَوْقِفي، أَوْ تُدْرِكُهُ الرِّقَّةُ عَلَيِّ لِسُوءِ حالي، فَيَنالَني مِنْهُ بِدَعْوَة هِىَ أَسْمَعُ لَدَيْكَ مِنْ دُعائي، أَوْ شَفاعَة أَوْكَدُ عِنْدَكَ مِنْ شَفاعَتي، تَكُونُ بِها نَجاتي مِنْ غَضَبِكَ، وَفَوْزَتي بِرِضاكَ.
اللّهُمَّ إِنْ يَكُنِ النَّدَمُ تَوْبَةً إِلَيْكَ فَأَنَا أَنْدَمُ النّادِمينَ، وَإِنْ يَكُنِ التَّرْكُ لِمَعْصِيَتِكَ إِنابَةً فَأَنَا أَوَّلُ الْمُنيبينَ، وَإِنْ يَكْنِ الاْسْتِغْفارُ حِطَّةً لِلذُّنُوبِ فَإِنّي لَكَ مِنَ الْمُسْتَغْفِرينَ.
اللّهُمَّ فَكَما أَمَرْتَ بِالتَّوْبَةِ وَضَمِنْتَ الْقَبُولَ، وَحَثَثْتَ عَلَى الدُّعاءِ وَوَعَدْتَ الإجابَةَ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاقْبَلْ تَوْبَتي، وَلا تَرْجِعْني مَرْجِعَ الْخَيْبَةِ مِنْ رَحْمَتِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ عَلَى الْمُذْنِبينَ، وَالرَّحِيمُ لِلْخاطِئينَ الْمُنيبينَ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ كَما هَدَيْتَنا بِهِ، وَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ كَما اسْتَنْقَذْتَنا بِهِ، وَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ صَلاةً تَشْفَعُ لَنا يَوْمَ الْقِيـامَةِ وَيَوْمَ الْفاقَـةِ إِلَيْكَ، إِنَّكَ عَلـى كُلِّ شَىْء قَديرٌ، وَهُوَ عَلَيْكَ يَسيرٌ.
* * *
في أجواء دعاء التوبة:
للتوبة في المنهج الإسلامي التربوي، الدور الأساس في الإيحاء المتنوع بالفرصة الدائمة المستمرة في تصحيح الخطأ الإنساني، والرجوع عن الخطيئة العملية، والاستقامة على الخطّ عند الانحراف، والعودة إلى الله والإنابة إليه بعد الانحراف عنه، والبعد عن مواقع القرب لديه، فقد خلق الله الإنسان في نظام غرائزي ينفتح على حاجات الإنسان الجسدية في شروط الحياة، فيستثير الشهوة، ويفتح للهوى أكثر من نافذةٍ على مواقع الإغواء والإغراء، مما يدفع الإنسان إلى الخطأ تارة، وإلى الخطيئة أخرى، وإلى الانحراف ثالثة، وإلى غير ذلك ممّا لا يلتقي بمواقع رضى الله سبحانه، وهكذا خلق الله الإنسان ضعيفاً، تتحكم به نقاط ضعفه فتأخذه ذات اليمين وذات الشمال، ولكنّ الله الذي جعل من بعد ضعف قوّة في البنية الجسدية، أعطى الإنسان القدرة من خلال ما أودعه فيه من نقاط القوة التي تمنحه التوازن بين خطّ الضعف وخطّ القوة، وجعل له الحوافز الروحية التي تدفعه إلى أن يتغلب فيه جانب القوة على جانب الضعف، من خلال ترغيبه له بالثواب العظيم عنده، كما وجهه إلى النتائج السيّئة من خلال تخويفه وترهيبه من العذاب العظيم، وهكذا كانت التوبة العمل الداخلي بالندم على ما مضى والعمل الخارجي بالعمل على تجاوز أخطاء الماضي في ما يأتي، والجسر الذي يربط العبد بربِّه من جديد، بعد أن كان قد أخلّ بعلاقته به بسبب الخطيئة.
وفي ضوء ذلك، كانت التوبة حركة الإنسان في روحه وفي قلبه للانفتاح على الله من جديد، كلما أغلق على نفسه النافذة الإيمانية التي تطلّ به على الله، حتى لا تكون الخطيئة عقدة نفسية في ذات الخاطىء، بل تكون حالة طارئة تطوف بالإنسان كما يطوف الخيال في ذهنه كما توحي بذلك الآية الكريمة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، والتذكر هنا كناية عن التوبة الناشئة من إرادة العودة لله والإحساس بالذنب من خلال وعي الواقع الخاطئ، لتكون المسألة مسألة إبصار بعد العمى الطارئ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ*أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135-136]، فالقضية هي أنّ الخطيئة تمثل حالة غيبوبة في الخطأ والخطيئة والاستغراق في الذات، وحالة غفلةٍ عن الله سبحانه في وعي الإنسان لمسؤوليته أمامه، وأنّ الإنسان المسلم يستفيق فجأةً من تلك الغفلة ليذكر الله وليستغفر من ذنوبه واثقاً بأنّ الله وحده هو الذي يغفر الذنوب كلّها، وليعود من جديد إلى تقوى الله، فلا يصرّ على ما فعله وهو يعلم نتائج عمله وطبيعة الالتزامات، الأمر الذي يدفعه إلى تحويل التزامه الإيماني إلى واقع عملي بعيد عن خطّ الانحراف.
وقد خاطب الله عباده بالتوبة النصوح التي يؤكّد الإنسان فيها لنفسه في حساباته معها ولربّه في ابتهالالته إليه، وبالرفض لكلّ تاريخ الماضي المثقل بالخطايا والذنوب والانحرافات، والندم عليه في عمق الشعور الواعي بفظاعة الموقف الخاطئ أمام الله، كما يركز الإنسان في خط حياته في ما يستقبله من الزمن على بداية جديدة لا مكان فيها للخطئية، ولا موقع فيها للانحراف، ليخطط للمستقبل لطاعة الله في أقواله وأفعاله ومواقفه ومواقعه وكلّ علاقاته وشؤونه. إنّها التوبة المنطلقة من الثقة بالخطّ والإصرار على الالتزام، والتطلع إلى المستقبل في اتجاه الصراط المستقيم.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].
وهذه هي التوبة التي تجعل المؤمنين في موقع الرعاية الإلهية بتكفير السيئات عنهم وإدخالهم الجنة، وبالبعد عن الخزي والعار يوم القيامة، حيث يعيشون النور الكامل الذي يفيضه عليهم من رحمته ومغفرته، ليكمل لهم نورهم الذي ربما أنقصته السيئات، وقال تعالى في الجانب السلبي من المسألة: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11].
* * *
وقد أراد الله للإنسان أن تكون توبته في الحالة الطبيعية التي يملك فيها الأمل الكبير بالحياة بحيث يعيش في نفسه إمكانية الالتذاذ بشهواتها والتمتع بخيراتها، ممّا يجعل من التوبة فعل إرادة واعية مختارة متمردة على كلّ نوازع الشرّ وإغراءاته، انطلاقاً من روح التقوى في ذاته، والرغبة في الحصول على رضى الله والتخفف من سخطه.
أمّا التوبة التي يمارسها الإنسان في اللحظات الأخيرة من حياته عندما يفقد الأمل بامتداد عمره لأنّه يواجه الموت عياناً، فإنّها لا تمثل الحالة الاختيارية الواعية التقية في عمق الذات، بل تمثل الحالة الضاغطة على الحسّ التي يلهث الإنسان من خلالها نحو الفرصة الأخيرة من دون إرادة حيّة فاعلة، بحيث لو امتدت الفرصة أمامه لما اختار هذا الموقف، وهذا ما جاء به القرآن الكريم في سورة النساء في قوله تعالى:
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً*وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء:17-18].
وهذا هو الخطّ الفاصل بين التوبة المنطلقة من قناعة بعملية الاختيار للخطّ الصحيح من موقع إرادة حرة واعية، وبين التوبة المنطلقة من حصار نفسي تفرضه مواجهة الموت الذي يمثل نهاية الفرصة المتاحة للإنسان، تماماً كما هي حالة الإنسان بعد الموت عندما يفكر بالتراجع، ويطلب الرجوع إلى الدنيا ليعمل - في الخطّ المستقيم - من جديد بعد ذهاب الفرصة الوحيدة للعودة والعمل، فإنّ التوبة خطّ عملي يرتبط بالنفس وبالواقع، ولا يقتصر على الحالة النفسية الخاضعة للانفعالات الخائفة المجردة عن العمل، وقد حدثنا الله عن فرعون أنّه أعلن الإيمان عندما أدركه الغرق، من دون أن ينفعه ذلك شيئاً.
* * *
 وفي هذا الدعاء حديث تفصيلي عن الجوّ الداخلي النفسي الذي يعيشه التائب في أجواء التوبة في ابتهالاته الروحية بين يدي الله، حيث يبدأ في النداء لله بصفاته التي لا يبلغ الواصفون حقيقتها، وبمواقع الرجاء منه التي تقف عنده فلا تتجاوزه، لأنه غاية الراجين في ما يرجونه في كلّ أمورهم، وبحفظ إحسان المحسنين فلا يضيع لديه شيء منه، وبمواقع عظمته وعقوبته التي يخافها العابدون ولا يخافون غيره في شيء من شؤون الحياة لديهم، وبأنّه غاية خشية المتقين الذي يخشون عقابه ويخافون غضبه.
وينطلق الفصل الثاني، ليبدأ التائب العابد في عملية الاعتراف بخطاياه، فهو الإنسان الذي أخذته ذنوبه من كلّ مكان، فتلاقفته من يد إلى أخرى، ومن موقع إلى موقع آخر، حتى أمسكت الخطايا بزمام حياته، فأصبح خاضعاً لها بحيث لا يملك إرادته أمامها، واستطاع الشيطان أن يتغلب عليها ويوجهه إلى ما يريده من أقوال وأفعالٍ وعلاقاتٍ، فكانت النتيجة الطبيعة لكلّ لك أن يُقصر في امتثال أوامر ربّه تضييعاً لحقوق الله عليه، ويتعاطى التهجم على ما نهاه عنه ممّا يؤدّي إلى إيقاع نفسه بالخطر، تماماً كما لو كان جاهلاً بمواقع قدرة الله عليه، أو منكراً فضل إحسانه إليه، مما لو كان واعياً له وعي الشعور العميق لكانت حساباته العملية تختلف عما هو عليه، ولهذا فإنّه، في الحالة التي انفتح له فيها بصر القلب بنور البصيرة، وزالت عنه كلّ عناصر الغفلة التي تغشي قلبه وفكره، بدأ عملية الحساب بطريقة تفصيلية في صغائر الأمور وكبائرها، وفي موطن الانحراف الفكري والعاطفي والعملي، فعالته النتائج السيئة في دلالاتها، المرهقة في آثارها، الخطيرة في نهاياتها، وهكذا رجع إلى ربّه رجوع المؤمّل لمغفرته، المستحيي من ذنوبه، ووجّه إليه الرغبة الصادقة من موقع الثقة به، وقصده بطمعه على أساس اليقين بعطائه، وانفتح على خوفه منه إخلاصاً ليس له وجهة واحدة إلا إليه، ولا إحساس بالطمع إلا نحوه، فلا قيمة لديه للخوف من أيّ أحد في الكون، فهو الآمن منهم جميعاً، لأنه لا يرى أيّ أثر لتخويفهم، بل القيمة كلّ القيمة لديه هي الحذر منه ومن عقابه، لأنّه الربّ القوي الذي لا حدّ لقوته والقادر الذي لا منتهى لقدرته.
وهكذا عاش التضرع بين يديه والخشوع الذي لا يرفع البصر إلى الأعلى بل يخفضه إلى الأرض، وبدأ عملية الاعتراف بأسراره التي يعلمها بواسع علمه، وانطلق في استحضار كلّ تاريخه في الخطايا ليعدد ذنوبه واحداً واحداً، وأطلق صيحة الاستغاثة عند كلّ هذا التاريخ الأسود الذي يحمل في داخله الكثير من الفضائح المخزية التي تجعله وجهاً لوجه أمام خالقه الذي يملك الحكم الصارم عليه، إذا شاء له العقوبة، على تلك الخطايا التي تبقى نتائجها في عقاب الآخرة في الوقت الذي لم يبق من لذاتها شيء، لأنّها تمثل إحساس اللحظة التي تذوب وتتبخر أحاسيسها بسرعة، مما يجعل الإنسان الواعي واعياً لأمثالها في المستقبل، فلا ينطلق في عملٍ خاصٍ أو عام انطلاقاً من شهوةٍ أو لذةٍ جامحة مما تكون نتائجه سيئة على مستوى المستقبل، بحيث يكون ما حصل له من السرور أو اللذة لا قيمة له أمام أحزان النتائج ومشاكلها وتبعاتها في مصبره في الحياة، وهكذا يوحي هذا الدعاء بأنّ على الإنسان أن يوازن دائماً في حساباته الإيجابية والسلبية بين ربح الحاضر وخسارة المستقبل، فلا يُسقط المستقبل أمام الإحساسات السريعة للواقع الحاضر. وهذا ما ينبغي للإنسان أن يتابعه في سلوكه العملي مع الله عندما تدفعه وساوس الشيطان لتزيّن له المعصية، وتثير فيه الغريزة، وتحسّن له القبيح، وتطرد عن خاطره مخاوف النتائج، أو تهوّنها عليه، أو تبعد عنه الشعور بمقام ربّه حتى توقعه في الغفلة المطبقة، والغيبوبة الساهية، فيسرع إلى الخطيئة، ويستهين بالحذر، ويقع في المحذور، ثم يبدأ - بعد ذلك - يندب حظّه عندما يواجه السلبيات القاتلة في حياته.
ثم يؤكّد الإنسان لنفسه، أنّ لله الحقّ في عقاب العصاة من عباده على أساس عدله، لأنّه أقام الحُجّة عليهم في ما أمرهم به ونهاهم عنه، وبيّن لهم العقاب على المعصية، والثواب على الطاعة، في الوقت الذي كانت عقولهم تفرض عليهم الخضوع له في كلّ شيء، من موقع أنّه المالك لهم في خلقه لهم، والمنعم عليهم في وجودهم، وفي كلّ تفاصيله الصغيرة والكبيرة، الأمر الذي يؤدّي إلى أن يشكروه على ذلك كلّه، ويشعروا بأنّ عبادتهم له هي سرّ إنسانيتهم في خصائصها الفطرية المنفتحة على كلّ حركة المسؤولية في الحياة.
ويؤكّد لها - في الوقت نفسه - أنّ عفوه عن عباده ليس هو الشيء العظيم الخارج عن طبيعة الصفات الحسنى لله، فهو الربّ الكريم الذي لا يضيق كرمه عن أحد، ولا تتعاظمه المغفرة لكلّ الذنوب، مهما كانت عظيمة، لأنّ امتداد كرمه، وسعة رحمته، وانفتاح لطفه، يحتوي الذنوب كلّها، فلا يبقى لها لديه أيّ أثر سيّىء، لأنّ العقاب عنده ليس حالة من شؤون الذات التي قد تستعظم الإساءة فلا تجد مجالاً للتهوين منها أو تخفيفها، بل هو حكمة في تقريره كما يكون حكمة في إزالته والعفو عنه.
ثم يلتفت الإنسان المؤمن المذنب إلى أنّ الله أذن لعبده في الدعاء في ما يهمه من أمر دنياه وآخرته، بل أمره بذلك ووعده الإجابة، لأنّه أراد له أن يتعلم كيف يتحدث مع ربّه حديث العبد المنفتح عليه، المحب له، الخائف منه، الراجي له في قضاياه الخاصة والعامة، ليجدد ـ في نفسه ـ إحساسه الدائم بحاجته إلى ربّه وفقره إليه، الأمر الذي يؤكد العلاقة بينه وبينه، باعتبار أنّ الدعاء يمثل النجوى الدائمة مع الله، والعلاقة بين الدعاء والإجابة تمثل الحوار المنفتح بين العبد وربّه، وهذا ما تؤكده الآية الكريمة:
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
ومن خلال هذا الجوّ، يقف هذا الإنسان ليعلن لله إطاعته له في الاستجابة لأمره بالدعاء، فيكون الدعاء طاعة بالإضافة إلى أنّه رغبة وحاجة، ويطالبه، بالإجابة من خلال وعده له، والله لا يخلف وعده.
وهنا يتحرك الأسلوب الاستعطافي الإيحائي في وعي الإنسان لموقفه من ربّه وموقع ربّه منه، فقد أقرّ به بكلّ ذنوبه في شعور بالحاجة إلى التخفف منها بالمغفرة، لأنّ هناك علاقة بين الإقرار الخاشع بالذنب ومغفرة الله، وقد وضع نفسه لله في موقع التواضع له والانسحاق أمامه والذوبان بين يديه، في شعورٍ حيّ بأن ذلك هو الوسيلة الفضلى للارتفاع عن مصارع الذنوب التي تصرع في الإنسان إحساسه بالطهارة والنقاء لتمرغه في الوحول. وهذا ما يؤكّد الحقيقة الإيمانية أن الله يرتفع بالإنسان عن كلّ ما يثقله فيسقطه إذا وقف العبد بين يديه ليرتفع إليه من موقع التواضع له، فإنّ كلّ ضعةٍ لأيّ شخص لا تتناسب مع العزة والكرامة، ولا تنلق في خطّ الارتفاع بل تنزل إلى خطّ الاتضاع، ولكنّ الأمر يختلف عندما تكون الضعة لله العظيم الأعلى الأكبر لأنّها تمثل حقيقة الإنسان الذي هو عبد الله الذي يمثل الإخلاص في العبودية سرّ الحرية في الحياة مع الآخرين.
وها هو يقف من جديد والحياة مملوءة بالفضائح التي تثيرها الخطايا فتزكم الأنوف وتنشر روائحها النتنة بين الناس، ليطلب منه أن يسترها بستره الجميل ثقة منه بذلك بعد أن عرف من كتاب الله أنّ الله لا ينتقم من عبده في خطاياه لأنّ رحمته وسعت غضبه.
وهذا هو الفصل الأول من الدعاء الذي عاش فيه الإنسان وعي نفسه من خلال وعي ذنوبه، واكتشافه مقام ربّه وموقعه من عباده في صفات الرحمة والكرم والعفو والمغفرة.
* * *
وفي الفصل الثاني، دعاءٌ في تثبيت النيّة على الطاعة، وذلك بتعميقها في النفس وتركيزها في الفكر، لتتحرك الطاعة من وعي الإيمان في العقل على أساس القاعدة الفكرية التي يصدر عنها الإنسان في أقواله وأفعاله وعلاقاته في الخطّ المستقيم بشكل طبيعي، فلا يتكلف ذلك من نفسه، بل كلّ ما هناك أن يقف ضد نوازعه الذاتية المضادة، ثم يعمل على تقوية بصيرته في عبادة الله وإحكامها بحيث لا يتطرق إليها أيّ خلل أو ضعفٍ أو فساد، مما يمكن أن يصرف عنها أو يضعف الموقف أمامها، وفي التوفيق للأعمال الصالحة التي تتفجر منها ينابيع الإيمان والتقوى، فتغسل القلوب، وتطهر الأرواح، وتحرك الجسد، نحو الطهارة، فتغسل كلّ رجس الخطيئة من الفكر والروح والجسد، لينطلق الإنسان نقياً صافياً طاهراً من الخطايا في ما يستقبل من شؤون حياته، وفي التوفيق لأن تكون وفاته - في نهاية حياته - على ملّة الإسلام ونهج الرسول، حتى تكون خاتمة أموره خيراً، ليلقى ربّه كما يحبّ وكما يحبّ الله ورسوله.
* * *
وفي الفصل الثالث، يرتفع ـ في الدعاء ـ نداء التوبة قوياً حاسماً شاملاً لكلّ الذنوب الكبيرة والصغيرة، الظاهرة والباطنة، الماضية والحاضرة، من عمق الندم الصارخ الذي يستأصل الخطيئة من الذات فكرةً وحديثاً وضميراً، ويطردها من الواقع، تماماً كما لو كانت شيئاً غير موجود، فلا حديث مع النفس بها، ولا تفكير بالعودة إليها، وإذا كانت التوبة حقيقة في الذات، فإنّ قبولها يصبح وعداً من الله، والعفو عن الخطايا ينطلق التزاماً منه، ويتحول التائب إلى إنسان محبوب لديه بعد أن كان مبغوضاً عنده، فذلك هو قوله تعالى:
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25] {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].
وإذا كان قبول التوبة وعداً فلا بدّ أن يتحقق، وإذا كان العفو عن السيئات ضماناً فلا بدّ أن يصدق، وإذا كانت المحبة شرطاً فلا بدّ أن يحصل، في مقابل شرط آخر يلتزمه المؤمن على نفسه، وهو أن لا يعود من جديد إلى ما يكرهه الله ويذمّه منه، وعهداً من كلّ كيانه أن يهجر جميع معاصيه، لتكون المسألة في الدعاء وعداً وضماناً وشرطاً يقابله العبد بمثله ليؤكّد معنى التوبة في نفسه.
إنّه النداء الصارخ الذي ينطلق من ابتهالات روح، ونبضات قلب، أن يغفر الله له كلّ ما عمله من أعمال الإنسان، وكلّها في علم الله، سواءً منها ما كان حفظه أو ما كان نسيه مما يتعلق بحقّ الله أو بحقّ الناس، وأن يعوض الناس ما كان لهم، وأن يغفر له ما كان له، ويخفف عنه كلّ ثقلها، ويعصمه من مقارفة مثلها.
ويمتدّ الدعاء إلى القلق الذي قد يفترس الإنسان في مسألة التوبة، فقد تضعف عزيمته ويفقد تماسكه، وينهار موقفه، فيقترف خطيئة هنا، وينحرف لحظة هناك، انطلاقاً من غفلة طارئة، أو نزوة عابرة، ويكون الموقف أمام هذا القلق الطلب إلى الله أن يعصمه من ذلك وأن يمنحه قوّة من قوته، وعصمةً من عصمته، ليكون ذلك هو الأساس في الوفاء بعهده وشرطه، إنّه - وهو في موقف الإخلاص في التوبة - يريد لتوبته أن تكون التوبة الدائمة المستمرة التي لا ذنب معها فلا يحتاج بعدها إلى توبة جديدة، إذ لا يبقى في حياته شيء من سواد الماضي، ولا يكتب في صفحتها المستقبلية شيء من سواد المستقبل، لتكون توبةً محفوفةً بالسلامة في ما بقي انطلاقاً من العيش في رحمة الله وفي ستر عافيته، تفضلاً عليه وإحساناً إليه.
وإذا كانت التوبة شاملة في عناوينها العامة، فإنّها تتحرك لتقف مع كلّ ما خلق إرادة الله وزال عن محبته، في قول بعيد عن الحقّ وخطرات قلب بعيدة عن التوازن ولحظات عين قريبةٍ من الخيانة، وحركة يد، وخطوات رجل، وشهوات جسد، ورعشات غريزة، لتكون التوبة التزاماً عضوياً يقف فيه كلّ عضو من داخل الجسد وظاهره ليعلن التوبة، فيتمرد على صاحبه إذا أراد خيانة العهد والانحراف عن الموقف.
* * *
وفي الفصل الرابع ابتهالٌ واسترحامٌ وحنينٌ ولهفةٌ واستعطافٌ واستشفاعٌ بكرم الله واستدرارٌ لعفوه، واستدعاء لتفضله وستره، واستعاذة من عقوبته، وحديث مع الله حديث الذليل مع العزيز ليرحمه، والفقير مع الغنيّ لينعشه، فالله هو الخفير بعزّته ولا خفير غيره، وهو - وحده - الشفيع بفضله، ولا شفيع غيره، وهو الذي يمنح العبد الإحساس بالأمان أمام الخوف من النار، ولا أمان إلا من عنده.
ويلتفت الدعاء إلى ذات الإنسان ليدرك أنّه لا يستحقّ استجابة دعائه بعدما أسلف من الخطايا، فكيف يتجرا على النطق بكلمات الاستغفار، وهل ينسى ما تجرّأ به على ربّه، لكنّه يستدرك أنّ السماء وما فيها قد تسمع صراخه، وأنّ الأرض ومن عليها قد تسمع دعاءه، فتعرف ندمه وتوبته، فترحمه إشفاقاً ورقّة، بدعاء خالص، وشفاعة قريبة، مما يكون مقبولاً من الله أكثر من دعائه وشفاعته، بحيث يتحقق له الفوز برضاه والنجاة من غضبه.
وينتهي المطاف في الدعاء إلى التأكيد الروحي اللساني أنّه أندم النادمين وأشدّ التائبين توبة إذا كان الندم توبة، وأنّه أول المنيبين إلى الله إذا كان الترك للمعصية إنابة، وأنّه من المستغفرين الذين تكون حياتهم كلها تجسيداً للاستغفار إذا كان الاستغفار حطّة من الذنوب.
ويصرخ العقل واللسان والكيان طلياً لقبول التوبة، وإجابة للدعاء، فإنّ الله هو التواب على المذنبين، والرحيم للخاطئين المنيبين إليه، العائدين إلى رحاب رحمته ولطفه وجوده وكرمه.
* * *
وبعد، فإنّ هذا الدعاء يمثل وثيقة فكرية روحية حيّة في أساليب الابتهال، وفي العمق الداخلي الروحي للإحساس بالحاجة إلى التصحيح العملي للأخطاء الإنسانية والخطايا الدينية، كما يمثل وثيقة تربوية في رعاية الأفكار وتربية المشاعر، وتأكيد المواقف، وتأصيل الإرادة، وتوثيق العلاقة بالله في حركة منفتحةٍ على أبعاد التجربة المستقبلة من الوقوع في أخطاء التجربة الماضية، حتى يتحول الإنسان إلى وعي متعدد الجوانب، منفتح الأبعاد، على كلّ مسؤوليته أمام الله.
* * *
اللَّهُمَّ يَا مَنْ لاَ يصفُهُ نَعْتُ الْوَاصِفين، وَيَا مَنْ لا يُجَاوِزُهُ رَجَاءُ الراجينَ، وَيَا مَنْ لاَ يَضيعُ لَدَيْه أجْرُ المُحْسِنين، وَيَا مَنْ هُوَ مُنتهى خَوْفِ العَابدينَ، وَيَا مَنْ هُوَ غَايَةُ خَشْيِةِ المُتقينَ.
* * *
مع الله في صفاته:
يا ربّ، مهما وصفك الواصفون فإنّهم لا يستطيعون إدراك حقيقة وصفك، لأنّهم المحدودون في تصوراتهم وتجاربهم وإدراكهم، فكيف يملكون معرفة المطلق الذي لا حدّ له ولا نهاية في أوصاف ذاته.
ومهما امتدّ الناس في رجائهم للناس فانتقلوا من شخص إلى شخص، ومن رجاء إلى رجاء في حركة متنقلة بين الداني والعالي، والكبير والصغير، والغنيّ والأغنى، فإنّ الناس يقفون عندك فلا يتجاوزون الرجاء فيك إلى غيرك، لأنّه لا مرجوّ سواك، فأنت غاية رجاء الراجين، فلا رجاء بأحدٍ غيرك إلا من خلال رجائك، لأنّك القادر على كلّ شيء، والذي تقف كلّ حاجات الناس عنده، وتنفتح مشاكلهم على الحلول لديه، ويسقط كلّ بلاء أمام قدرته، وهكذا وقف الناس جميعاً أمام الرجاء بك.
ومهما ضاع إحسان المحسنين عند غيرك ممن لا يرى للإحسان قيمةً عنده من خلال ما يغمط من حقوق الناس لديه، فإنّك - يا ربّ - وحدك الذي لا يضيع لديه إحسان المحسنين، وقد جاء في كتابك - سبحانك - قولك: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} [آل عمران:195].
وقلت: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60].
في الوقت الذي يعرف الناس كلّهم أنّ الناس لا يحسنون إلا بمقدار ما قدمت إليهم من وسائل الإحسان وإمكاناته، فإذا أحسنوا فمنك كان إحسانهم، فلا يستحقون عندك شيئاً من الثواب من خلال ذاتية العمل، ولكنّك - يا ربّ - تفضلت على المحسنين منهم بما جعلته لهم من الثواب على إحسانهم. ومهما خالف الناس من الناس أو كم أيّ شيء آخر ممن خلقت ومما خلقت، من خلال قدراتهم التي يملكون الضغط بها، ومواقع القوة التي يختزنونها في وجودهم. فإنّك - يا ربّ - منتهى خوف عبادك الذين يعيشون معنى العبودية في نفوسهم في إحساس العبد أمام سيده، المسيطر على كلّ وجودهم، الأمر الذي يجعل الخوف منه فوق كلّ خوف، والحذر من عقابه - عند معصيته - فوق كلّ حذر، وبذلك كنت منتهى خوف العابدين لأنّ قوتك هي منتهى القوة.
 أما المتّقون الذين يعيشون حسّ التقوى خشيةّ من العقل والقلب، ويحرّكونها خطوةً في العمل، في ما يرجون من ثوابك ويخافون من عقابك ويخشونه من غضبك، أما هؤلاء، فإنهم لا يخشون أحداً كخشيتهم منك، لأنّهم لا يعظّمون أحداً كتعظيمهم لك، مما يؤدّي إلى أن ينضبطوا معك أكثر من انضباطهم مع أيّ موجود سواك.
إنني - يا ربّ - من خلال هذا الجوّ المغمور بالعظمة، المفتوح على كلّ الرغبة في الإحسان، والرهبة من العقاب، أقف لأنحني بعقلي وإرادتي وحركتي في الحياة، لأحصل على رضوانك، ولتخفف من غضبك وسخطك، ولأؤكّد عبوديتي بالاعتراف بالذنوب والتوبة منها، والعودة إليك في هذا الموقف العبودي الخاضع - يا ربّ العالمين...
* * *
هَذَا مَقَامُ مَنْ تَدَاوَلَتْهُ أيْدي الذُّنُوبِ، وَقَادَتْهُ أزِمَّةُ الْخَطَايا، واسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطانُ، فقَصَّرَ عَمَّا أمَرْتَ بِهِ تَفريطاً، وَتعَاطى ما نَهَيْتَ عَنْهُ تَغْرِيراً، كالجَاهِلِ بِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ، أوْ كَالمُنْكرِ فضلَ إحسَانِكَ إليهِ.
* * *
مقام الإنسان الخاطئ أمام ربّه:
يا ربّ، أنا الإنسان الضائع في ضياع إنسانيته عن خطّ الاستقامة في خطّك، والحائر الذي يتخبط بين طريق وطريق، فهذا طريق يشير إليه - بكلّ إغراءاته - أن يسير فيه ليجتذب حسّه، وليثير شهوته، وذاك طريق ينفتح عليه، بكلّ زخارفه وجمالاته، ليبهر عينيه، وليجلب قلبه، وليثير إحساسه، ويخاطب كلّ أمانيّه، ولكنّه يبقى - في القلق الذي يأكل قلبه، والحيرة التي تعذب نفسه - لا يعرف ماذا يأخذ وماذا يرفض، فهو يتحرك فيهما، في غياب عن الطريق الحقّ المستقيم الذي يحدد له البداية في أجواء المسؤولية، والنهاية في آفاق النتائج الطيبة الحلوة.
أنا الإنسان الذي تحكمه نقاط ضعفه، فتستلب منه نقاط قوته، وتحركه غرائزه فتبعده عن عقله وتثيره شهواته فتُضعف إرادته،  فيتقلب بين ذنب يأخذه مرةً وذنب يأخذه أخرى، فحياته تنطلق بين ذنب وذنب في ساحةٍ لا يجد فيها نفسه ولا يبصر فيها خطّه.
وأنا الإنسان الذي أمسكت خطاياه بزمامه، فقادته إلى غاياتها الخبيثة، فخضع لها خضوعاً لا يملك معه أن يريد أو لا يريد، فأصبح يسير وراء الخطايا التي تلهب حسه، وتثير غريزته، وتحرك أطماعه.
أما الشيطان، هذا الذي حذرتني منه - كإنسان - وحدثتني عنه أنّه اخرج آدم - الذي هو أب الإنسان - من الجنة، ويريد أن يخرجنا منها فلا يدع لنا فرصة للدخول إليها، وقلت لنا إنّه عدوّ يريد أن يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، وأردتنا أن نتعامل معه في الحذر وعدم الطاعة والمجابهة، كما يتعامل الإنسان مع عدوّه، حتى لا يستغفلنا في غفلةٍ من عقولنا، ليدفعنا إلى ساحاته، وليوجهنا في خطواته إلى مواقع غضبك وسخطك.
أما هذا الشيطان، فقد سيطر علينا واستحوذ على عقولنا وقلوبنا، واندفع بكلّ جنوده وكلّ وسائله وخدعه وأمانيه وغروره وفتنته وخيله ورجله وجميع مكايده، ليزين لنا القبيح ويقبح لنا الحسن، وليؤمننا من عقابك، وليبعد عنّا ثوابك، لنستغرق في الدنيا فلا نفكّر في الآخرة، ونسقط أمام شهواتنا فنبتعد عن مسؤوليتنا وعن مواقع رضاك.
وهكذا كانت النتيجة في حياة هذا الإنسان، أنّه قصّر في امتثال أوامر به، وضيّع حقه، وفرّط في مسؤوليته، وأقدم على ارتكاب المحرمات التي نهاه الله عن ارتكابها تغريراً بنفسه من خلال تعريضها لغضب الله الذي يمثل أعلى أنواع الخطر في قضية المصير، تماماً كما لو كان جاهلاً بمقام ربه ومدى قدرته عليه، فلا يعجزه أمره، فيدفعه جهله إلى أن يستهين بطاعة ربه، ويتجرأ على معصيته، كما لو لم تكن هناك أيّة نتيجة سلبية في ذلك، وكما لو كان منكراً فضل إحسانه إليه، فيتصرف تصرف الإنسان الذي لا علاقة له بالله في إغداق النعم عليه، فلا يجد حاجةً روحية أخلاقية إلى أن يقوم بالشكر لله في نعمه بامتثال أوامره ونواهيه، ممّا يفرضه شكر النعمة عليه على هدى الحكمة المأثورة عن الإمام عليّ(ع) في كلماته القصار في نهج البلاغة قال: "لو لم يتوعد الله على معصيته لكان يجب ألا يُعصى شكراً لنعمه"(1).
* * *
حَتَّى إذّا انفتَحَ لَهُ بَصَرُ الهُدى، وَتَقَشّعَتْ عَنْهُ سَحَائِبُ العَمَى، أحْصَى مَا ظَلَمَ بِهِ نَفْسَهُ، وَفَكَّرَ فيما خَالفَ بِهِ رَبَّهُ، فرأى كَثِيرَ عِصيانِهِ كثيراً، وجَليلَ مُخالفَتِه جَليلاً.
* * *
موقف المسلم أمام حجم معاصيه:
واستمرت الغفلة - معه - يا رب وجاءت الصدمة القوية مما يواجه الإنسان من الصدمات التي تهزّ عمق وجدانه، وتفتح له الآفاق الواسعة في رحاب معرفة ربّه، فتعيده إلى ساحة الحقيقة، إلى الواقع الذي يعيش فيه في الوحول التي كان يخيّل إليه فيها أنّها تمثل ينابيع الصفاء، باعتبار أنّها تمثل الوحل الروحي الذي قد يشتبه الأمر فيه على الإنسان كما لو كان صفاءً في الروح، فينفتح له البصر في بصيرته في آفاق الهدى، ويزول عنه كلّ حجاب يغشّي البصيرة فيبعث فيه نوعاً من العمى الذي يعميه عن معرفة الكثير من حقائق النفس والروح، ومن مسؤولية العبودية الإنسانية تجاه الألوهية العظيمة. وهكذا بدأ يرى الأمور - في تاريخ حياته الماضية، وفي واقعه الحاضر، رؤيا واضحةً لا مجال فيها لأيّ شك، ولأيّة شبهةٍ، وواجه الأمر بكلّ قلق المسؤولية، فليست القضية قضية خطأ من أخطاء الحياة التي يمكن للإنسان أن يمرّ بها بسرعة على قاعدة أنَّ الإنسان مبنيّ على الخطأ، بل هي قضية ظلم النفس بتعريضها للهلاك الأبدي، ومخالفة الله بالتمرد عليه، والجرأة على قدس ذاته، وهي معصية كبرى تتحدى المصير، ومخالفة عظمى لأوامر الله ونواهيه، بحيث تتمثل فيها الجرأة على الله، على ضوء الكلمة المأثورة: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن أنظر إلى من عصيت"(2)، فإنّ عظمة الوليّ الذي يجب أن يطاع هي التي تحدد حجم المعصية. وهكذا وجد نفسه وجهاً لوجه أمام الواقع الذي يمثل واقعه، فكانت خطته أن يغيّر ما بنفسه ليغير الواقع الصعب من خلال ذلك، ليعود - كما خلقه الله - إنساناً فطرياً وديعاً عاملاً للخير، ومنفتحاً على الرسالة من قاعدة الحق والعدل والحرية والسلام المرتبط بإرادة الله.
وطأطأ رأسه في أقصى حالات الإحساس بالذلّ أمام عزّتك التي لا يقوم لها شيء في موقف تجسيد ذلّ الإنسان الخاطئ أمام عزّة الخالق العزيز.
* * *
فأقْبَلَ نَحْوَكَ مُؤمِّلاً لَكَ مُسْتحيياً مِنْكَ، وَوَجَّه رَغْبَتَهُ إليْكَ ثِقةً بِكَ، فَأمَّكَ بِطمَعهِ يَقيناً، وَقَصَدَكَ بِخَوْفِهِ إخْلاَصاً، قَدْ خَلاَ طَمعُهُ مِنْ كُلِّ مَطْمُوعٍ فيه غَيْرِكَ، وأفْرغَ رَوْعُهُ مِنْ كُلِّ محذورٍ مِنْهُ سِواك، فمثَلَ بَيْنَ يَدَيكَ مُتضرعاً، وغمَّضَ بَصَرَهُ إلى الأرْضِ مُتخشِّعاً، وَطَأْطَأ رَأْسَهُ لِعِزَّتِكَ مُتَذَلِّلاً، وأبثَّكَ مِنْ سرِّه مَا أنتَ أعْلَمُ بِهِ مِنْهُ خضوعاً، وَعَدَّدَ مَنْ ذُنُوبِه مَا أنْتَ أحْصَى لَهُ خُشُوعاً، واستغاثَ بكَ مِنْ عظيم ما وقَعَ بِه في عِلْمِكَ وَقبيحِ مَا فَضَحَهُ في حُكْمِك مِنْ ذُنوبٍ أدْبَرَتْ لذاتها فذَهبتْ، وأقامتْ تبعَاتُها فَلَزِمَتْ.
* * *
المسلم المذنب يستجير بالله من ذنوبه:
وهكذا أحسّ بخطورة موقفه أمامك في الدنيا، فهو الجاهل بقدرتك، المنكر فضلك، وعاش الخشية من موقفه القادم في الآخرة، وهو بين يديك في الآخرة غداً عندما يقوم الخلق لك، فيقف موقف المذنب الخائف في مواجهته للسؤال الصعب عن كلّ عمله، فأقبل نحوك - يا ربّ - وفي قلبه كلّ الأمل بأنّك الرحمن الرحيم الذي لا يمنع من رحمته أحداً من عباده ممن استرحمه، وفي وجهه كلّ الحياء على ما أسلف من أعمال الشرّ ومواقف العصيان، واتجه إليك برغبته الصادقة على أساس الثقة بك بأنّك لا تخذل القاصدين إليك، الراغبين بما عندك، فقصدك في رحاب جودك وكرمك، بكلّ ما في عقله وروحه من الطمع بك من فيوضات لطفك وآلائك، وهو على يقين بأنّك سوف تستجيب لطمعه كما تستجيب لطمع كلّ عبادك القاصدين إليك، وأخلص لك في ابتهالاته وتوجهاته إخلاص من يتحرك الخوف في قلبه ويسيطر على كيانه قاصداً الحصول على الأمان منك، في روحية الإنسان الموحد في كلّ شيء، فهو موحد في طمعه فلا يطمع بأحد غيرك، ليقينه بأنّك - وحدك - الغني في ملكك، الرحيم بخلقك، الكريم بعطائك، وهو موحّد في خوفه، فلا يخاف من أحد سواك، فليس في قلبه شيء من الحذر الضاغط من المخلوقين، فانفتحت نفسه على كلّ الضّراعة الروحية بين يديك، وعاش الخشوع في كيانه فلم يفتح عينيه أو يرفعها إلى السماء، بل أغمضهما وأخفضهما إلى الأرض في حالة سكون خاشع، وتواضع ضارع، وبدأت أسراره الخفية في سرّه الذاتي في الإعلان عن نفسها لك، مما كان يخفيه عن المخلوقين من عبادك حذراً من نتائجه على حياته، ولأنّك تعلم كلّ خفاياه، فأنت المطّلع على كلّ كيانه، فهو لا يكشف سرّاً لا تعلمه، ولكنّه تعلم كلّ خفاياه، فأنت المطّلع على كلّ كيانه، فهو لا يكشف سرّاً لا تعلمه، ولكنّه يتحدث إليك بها - في أجواء الخضوع - ليدلل على انكساره أمامك وانحناء إرادته بفعل تأثير الأسرار المخجلة في تاريخه الماضي، فيتخفف في ذلك كله، ومضى يحصي ذنوبه واحداً واحداً بكلّ التفاصيل الدقيقة في عملية تعداد يستعيد بها كلّ ما أسلفه منها ليوبخ نفسخ بذلك، وليشهدك على أنّه الإنسان الذي يسجل على نفسه الاعتراف بالذنب بعيداً عن أيّة حالة كبرياء أو تمرد، وهو العارف بأنّك أكثر إحصاء لها منه لأنّك تعلم ما لا يعلمه من نفسه.
وأطلق صيحة الاستغاثة من هول ما تذكر من وقائع الأيام الماضية في عمره مما أحطت به علماً، ممّا يضعف موقفه أمامك ويهلك مصيره يوم القيامة، ومن قبيح الفضائح التي جرت عليه في قضائك، من ذنوبه التي ولّت وانقضت في عالم اللذات، فلم يبق من لذاتها شيء، ومن شهوات محرمة لم يبق من حلاوتها شيء، ولكنّ مسؤولياتها في حسابك، وتبعاتها في عقابك، لا تزال تفرض نفسها على مصيره، وتضغط على كلّ مستقبله.
* * *
لاَ يُنْكِرُ - يا إلهي - عَدْلَكَ إنْ عاقَبْتَهُ، ولا يَسْتَعظِمُ عَفوَكَ إنْ عَفَوْتَ عَنْهُ وَرَحِمْتَهُ، لأنَّكَ الربُّ الكريمُ الذي لا يتعاظمهُ غفرانُ الذَنبِ العَظيمِ.
* * *
الله هو العادل العفوّ الغفور الرحيم:
 والله أمام هذا الموقف الخاشع الضارع المتضرع الذليل الخائف الطامع ـ يقف بين خطين:
خطّ العدل الذي يحرّك ميزانه في صعيد الأعمال ليوازن - بدقة - بين المقدمات والنتائج والأعمال السّيئة والعقوبات الصارمة، من خلال إقامة الحجة على عباده في ما أنذرهم من عذابه وخوّفهم من عقابه إذا انحرفوا عن الصراط المستقيم، والمنهج القويم، فليس لهم حُجّة على الله بل له الحُجّة عليهم في كلّ شيء.
وخطّ العفو، الذي يفتح كلّ آفاقه للمذنبين الذي ينطلقون فيه ويتطلعون إليه من خلال الرحمة الإلهية التي وسعت كلّ شيء وجمدت غضبه عن التحرك نحو إنزال العقاب بالمذنبين، ومن خلال جوده الذي يعطي المغفرة والعفو من دون مقابل، كما يُعطي الرزق من دون مقابل، فكلّ الأشياء صغيرة أمامه، حتى لو كانت كبيرة عندنا، ولذلك فإنّ غفران الذنب العظيم لا يعظم على الله، إنّها الحقيقة الإلهية المنفتحة على عدله من جهة، وعفوه من جهةٍ أخرى، تبعاً لحكمته وإرادته.
* * *
اللَّهُم فها أنذا قَدْ جِئتُكَ مطيعاً لأمرِكَ في ما أمرت بهِ من الدُّعاءِ، مُتنَجِّزاً وعْدَكَ فِي ما وَعَدْتَ بِهِ منَ الإجابةِ، إذْ تَقُولُ ادْعُوني أستَجب لَكُمْ.
اللّهُمَّ فصَلِّ عَلى محمّدٍ وَآلهِ، والقَني بمَغْفِرِتَكَ كما لَقيتُكَ بإقْرارِي، وارفعْني عَنْ مَصَارِع الذنوبِ كَمَا وَضعتُ لكَ نفسي، واسْتُرني كَمَا تأنَّيْتَني عَنِ الانتقامِ مِنّي.
* * *
الدعاء هو سلاح المؤمن وعدّته:
يا ربّ، أنا هنا عبدك المذنب الواقف أبداً بين عدلك وعفوك، فقد جئتك من خلال الباب الذي فتحته لي بأوسع ما انطلقت فيه رحمتك، وهو باب الدعاء الذي أردت لخلقك، بالأمر تارةً، وبالتحبّب أخرى، أن يقدموا إليك فيه كلّ آمالهم وآلامهم، وكلّ قضاياهم وشؤونهم، في كلّ ما يثيرونه في أنفسهم من الرغبات وما يخافونه من المشاكل، حتى إنّك فتحت لهم باب الحديث معك عن أحاسيسهم ومشاعرهم في وجدانهم الروحي والعاطفي، ليعروا بأنّك حبيبهم الذي يفيضون معه في النجوى، كما يفيض الحبيب من مشاعره القلبية لحبيبه، وأنّك صديقهم الذي يأتمنونه على أسرارهم، وأنّك ربّهم الذي يربي لهم كلّ حياتهم في أجسادهم وأرواحهم، وسيدهم الذي يرجعون إليه في كلّ أمورهم، وأنك كلّ شيء في حركة وجودهم، كما كنت أنت السرّ الكامن وراء هذا الوجود.
وحدّثتهم - في كتابك العزيز - عن قربك إليهم وإلى همومهم واهتماماتهم، لست بعيداً عنها وعن استجابتك لهم في ما يدعونك فيه وله، وأكدت ذلك في أكثر من آية، وعن أن هذه الإجابة لا تختلف في مضمونها بين أن يكون من شؤون الدنيا في ما يحقق من شروط السلامة للحياة، ومن شؤون الآخرة في ما يؤدّي إليه من النجاة من الهلاك.
ولذلك رجعت إليك بعد رحلةٍ طويلةٍ ابتعدت فيها عنك، وأقبلت بعد وقت طويل من الإدبار عنك، وأخلصت إليك بعد تجربة طويلة من الانحراف انحرفت فيها عنك، لأمتثل أمرك لي ولكل عبادك بالدعاء لك، ولأطلب منك تنجيز وعدك في الإجابة.
فهل أجد لديك ما أؤكّد فيه كل الثقة بالحصول عل ما أؤمله من النتائج الطيبة من عفوك ومغفرتك؟
إني واثق من ذلك على أساس ثقتي بك، لأنّك الربّ الذي لا يخلف وعده، اللهم هذا الإقرار الخاضع بالذنب، والاعتراف الخاشع بالخطيئة، أقدمه إليك، وأضعه بين يديك، لتستقبلني بالمغفرة وتواجهني بالعفو، لأنّ هذا الإقرار لم ينطلق من حالة نفسية ضاغطة عليّ من موقع العقدة، تماماً كما هم المثقلون بالأسرار والخطايا التي تضغط على صدورهم، فيشعرون بالحاجة إلى التخفف منها كما يتخفف الإنسان مما يثقله لأيّ شخص مهما كان نوعه، ولكنّه ينطلق من إرادة التأكيد على عبوديتي لك، والخروج من سجن الخطيئة إلى ساحة المغفرة، ومن مرارة الخوف إلى حلاوة الأمن والطمأنينة.
اللهمّ ارفعني عن هذا الواقع الصعب الذي أوقعتني فيه الذنوب صريع غضبك ودفعتني إلى مواقع الهلاك، فقد وضعت لك نفسي تذلّلاً وتضرعاً وخضوعاً لأحصل من خلال ذلك على حبّك وعطفك وحنانك ومغفرتك فأرتفع إلى رحاب قدسك.
واسترني بسترك الجميل ولا تفضحني في الدنيا وفي الآخرة على رؤوس الأشهاد، ولا تحاسبني على ما أسلفته من الذنوب، فهذا هو ما أؤمّله منك بعد أن ترفقت بي، وتمهلت فأمهلتني، فلم تعجل لي الانتقام الذي أستحقّه على خطاياي، مما يوحي إليَّ أنّ هناك فرصة للخروج من كلّ نتائج الذنب جملةً وتفصيلاً.
* * *
اللَّهمَّ وَثَبِّتْ في طَاعتِك نيَّتي، واحْكِمْ فِي عِبَادَتِكَ بَصيرتي، وَوَفّقْني مِنَ الأعمالِ لِما تغْسِلُ بِهِ دَنَسَ الخطايا عَنِّي، وتوفَّنِي عَلَى ملَّتِكَ وَمِلَّةِ نبيِّكَ محمّدٍ عليه السلام إذا توفّيتني.
* * *
اللهم وفّقني من الأعمال لما تغسل به دنس الخطايا:
 يا ربّ، إذا كنت أريد البداية من جديد في الطريق الصحيح لأنفصل عن كلّ ماضي الخطيئة إلى حاضر الطاعة ومستقبلها، ولأستقبل طهارة الروح في صفائها ونقائها تاركاً خلفي قذارة الجسد في شهواته ولذاته، فإنّي أريد أن تحقق لي في نفسي وفي كلّ دوافعي ونياتي ومقاصدي في الطاعة لك والانفتاح عليك، الثبات والدوام والخلوص لك، فتتحول في كياني إلى قوة حقيقية مستقرة، ومناعةٍ قويةٍ ضد التغيّر والانحراف إلى المعصية في الحالات الطارئة.
يا ربّ، اجعلني ممن يعبدك على بصيرة لأكون واعياً في عبادتي وعياً ترتبط فيه العقيدة بالعمل، وينفتح فيه الفكر على الإحساس، وتتكامل فيه الروح مع الجسد، فإنّ العبادة إذا انطلقت من بصيرةٍ عميقةٍ ممتدة في كل الذات، فإنّها تتجذر في الوجود، وتسمو في الأعالي، وتمتد في مدى العمر، أما إذا انطلقت من حالة تقليدٍ وعادةٍ وحركةٍ في اللاوعي، فإنّها تبقى في السطح من الإحساس، وتنكمش في الزوايا الضيقة، وتختصر العمر في مدى اللحظة.
اللهمّ وفقني للأعمال النقية الطاهرة في معناها الفكري والروحي، وفي تأثيراتها العملية، في خطّ التصحيح للذات، والتغيير للواقع، بحيث تطل - في إيحاءاتها ومؤثراتها- على كلّ الخطايا، لتطردها من النفس، وتبعدها عن مواقع الحركة، فلا يبقى من آثارها - في النفس - أيّ قذرٍ أو دنسٍ، فأكون الطاهر في الروح والقلب والجسد والخطّ والحركة والحياة، فإنّ الأعمال الصالحة تمثل المطهّر الذي يتطهّر به المذنبون من أدناس الخطايا، لأنّ العمل هو التجسيد الواقعي للتوبة، وهو المظهر الحي لصفاء الروح، اللهم اجعلني ممن يلتزم خطّ رسالتك فلا ينحرف عنه إلى غيره، ونهج رسولك، فلا يستبدل به أيّ نهج آخر، وافتح كل دروبي على الغايات التي تصلني برضاك، حتى يكون عنوان حياتي كلها - في مناهجي وشرائعي وأعمالي وأقوالي وعلاقاتي ومواقعي ومواقفي ـ صورة لدينك الذي أرسلت به رسولك، فأتحرك مع ملّة الإسلام وملّة رسولك في حياتي كلّها، فتكون وفاتي - في نهاية عمري - في الخطّ المستقيم وفي ساحة الصفاء والنقاء، حتى أعيش أحلام النفس المطمئنة الراضية المرضية في آخر لحظة من الحياة في أحلام الجنة.
* * *
اللهمَّ إنّي أتُوبُ إليكَ في مَقَامِي هذا مِنْ كبائِر ذُنُوبي وَصغَائِرها، وبواطِنِ سيئاتِي وَظواهِرِهَا، وسَوَالِفِ زَلاَّتِي وَحَوادِثِها، توبةَ مَنْ لا يحدِّثُ نفْسَهُ بمعْصِةٍ، ولا يُضْمِرُ أنْ يَعُودَ في خطيئةٍ، وقل قُلتَ - يا إلهي - في مُحْكَمِ كِتابِكَ إنّك تقْبلُ التوبةَ عن عبادِك وتعفو عن السيئات وتُحبُّ التوّابينَ، فاقبلْ تَوبَتي كما وَعَدْتَ، وَاعْفُ عَنْ سَيِّئاتِي كَمَا ضَمِنْتَ، وَأوجِبْ لي محبَّتَكَ كَمَا شَرَطْتَ، ولكَ - يا ربّ - شرطي ألا أعُودَ في مَكروهِك، وضمانِي ألا أرجعَ في مذمُومِك، وعَهدي أنْ أهجُرَ جَميعَ مَعَاصِيكَ.
* * *
اللهم إنّي أتوب إليك توبة من لا يحدّث نفسه بمعصية:
يا ربّ، لقد علمتنا في كتابك أنّ التوبة ليست مجرد كلماتٍ ينطلق بها اللسان، ولا خواطر تطوف في الفكر لحظة ثم تزول، وليست حالةً عامةً ضبابيةً في إيحاءاتها ومعانيها وآثارها في النفس، لذلك، فإنّي في إرادة التوبة في موقفي هذا، أريد للتوبة أن تكون احتجاجاً للحاضر، في الواقع الجديد الذي أتطلع إليه في الطريق إلى المستقبل، على كلّ الماضي، بحيث أنفذ إلى كلّ مفرداته السيئة، وإلى جميع نوازعه الشريرة، وانحرافاته الملتوية، وأوضاعه المجرمة، وأحلامه الفاسقة، وشؤونه اللاهية، وخطواته العابثة، في كبائرها المنفتحة أبوابها على نار جهنم، وفي صغائرها التي تلمّ بالناس بشكل اللفتة والنظرة واللمسة ونحوها، وفي الداخل من بواطن الفكر والشعور والعزيمة من الكبر والحسد والعجب والضغينة على المسلمين، وإرادة الشرّ بهم، والعقائد الفاسدة والمفاهيم المنحرفة، والظنون السيئة، والعزمات الخبيثة، وفي الخارج من حركات الجسد في كلّ أفعال الإنسان المحرّمة التي تتصل بحياته وحياة الآخرين، وبعلاقته بالكون وما فيه من الموجودات التي أراد الله للناس أن يحافظوا على حرمتها، بطريقةٍ وبأخرى.
وإذا كان الماضي من الذنوب هو ما يثقل الضمير في وعي الإيمان، فإنّ الحادث منها في حاضر الإنسان قد يترك تأثيراته بشكل فاعل، فيدفع الإنسان المؤمن، في ما يشبه الصدمة، إلى الإرادة الحاسمة الواعية من أجل التخلّص منه بقوة وبشرعة، حتى لا يكون حاجزاً بين التوبة والمستقبل، ولهذا كانت التوبة التي أريدها لنفسي شاملة لسوالف زلاتي وحوادثها.
* * *
وإذا كان بعض الناس يمارس التوبة، وهو في حالة اهتزاز نفسي يأخذه ذات اليمين وذات الشمال، فقد تطوف المعصية في خيالات نفسه، وقد تتحرك الخطيئة في نوازع حسّه، ليفكر بأنّ التوبة كما هي الخطيئة، حالة متحركة في الذات، فيمكن أن يتوب اليوم ليعصي غداً، ويعصي اليوم ليتوب غداً، تماماً كما لو كانت التوبة عملاً جامداً في موقعه، وليس وجوداً مستقراً في كيانه.
إذا كان بعض الناس يفكر - في وعيه للتوبة - بهذه الطريقة، فإنّي لا أفكّر في هذا الاتجاه بل هي - لديّ - فعل إيمان يبقى في حركة تصحيحٍ للانحراف، باعتبار أنّ الاستقامة هي الأصل فيه، وفي موقف تقوية للضعف، باعتبار أن القوة في الإرادة والصبر على نوازع النفس هو معنى الجهاد الأكبر، وفي عملية تجديد للموقف وللذات إذا استهلكها الزمن فأبلى منها ما كان جديداً.
وهذا هو الذي يجعلني أفكر - في التوبة - أن لا أحدّث نفسي بأيّة معصية في ما أستقبل من أعمالي في أيام عمري، وأن لا أخطط لمشروع خطيئةٍ جديدةٍ كعودةٍ لما كنت عليه في الماضي، فتكون كلّ برامجي ومشاريعي وخططي في خطّ طاعة الله، وفي آفاق قدسه، وفي رحاب رضوانه، فأكون القرب إليه في عقلي وقلبي وشعوري وحسي وجميع خطواتي في الحياة، بحيث يكون هذا القرب هو الغاية المثلى في وجودي كلّه وحركتي كلّها، ومن فكّر في القرب من الله فلن يفكّر أبداً بما يبعده عنه.
* * *
يا ربّ، هذا عقلي التائب وروحي التائبة، وهذه حياتي كلّها في توبةٍ خاضعةٍ إليك، فتقبل هذه التوبة بقبول حسنٍ، فهي كلّ دعائي وكل توجهي وقصدي إليك، فإنّك وعدت عبادك بذلك، وضمنت لهم العفو عن السيئات، وشرطت لهم محبتك، فقد أنزلت في كتابك في قولك تباركت وتعاليت: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25].
وفي قولك: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].
وها أنذا ذا أبتهل إليك أن تتقبل توبتي كما وعدت، وأنت الذي لا يخلف وعده، وأن تعفو عن سيئاتي كما ضمنت، وأنت الصادق في ضمانك، وأن تمنحني محبتك كما شرطت ذلك على نفسك، وأنت الذي علّم عباده الوفاء بالشرط لأنّه يمثّل القيمة الكبرى، فكيف لا يثق عبادك بما اشترطته على ذاتك المقدسة.
أمّا أنا، فإنّي أشترط على نفسي - في نطاق هذا الطلب - وألتزم على كياني، أن أبقى على خطّ التوبة، فلا أعود لشيء تكرهه ولا تحبّه، ولا أرجع إلى ما تذمه ولا تمدحه، وان أهجر جميع معاصيك.
* * *
اللَّهُمَّ إنَّكَ أعْلَمُ بِما عَمِلتُ فاغْفِرْ لي ما عَلِمْتَ واصْرِفْنِي بِقُدْرَتِكَ إلى مَا أحْبَبْتَ.
* * *
اللهم اصرفني بقدرتك إلى ما أحببت:
يا ربّ، إنني عبدك الذي يختصر كلّ طلبه للمغفرة بحيث يجمع كلّ ذنوبه التي يسألك غفرانها في كلمة واحدة، لا ضرورة - معها - للدخول في التفاصيل، لأنّ حدودها تقف عندك في علمك الذي لا ينسى، فأنت أعلم منّي بما عملت، فاغفر لي ما علمت، ففي ذلك الكفاية كلّ الكفاية، ووجهني - بعد ذلك - من خلال قدرتك التي تضغط على العزيمة والإرادة والحركة، إلى ما أحببته من ذلك كلّه، لأكون في مواقع المتقين الصادقين المحسنين الذين يفكرون بالحقّ ويعملون للخير ويخططون لرضى الله.
* * *
اللهُمَّ وَعَليّ تَبعاتٌ قَدْ حَفِظْتُهُنَّ، وَتَبعَاتٌ قَدْ نَسيتُهُنَّ، وَكلُّهُنَّ بعينِكَ التي لا تَنَامُ، وَعِلْمِكَ الذي لا يَنْسى، فعوّضْ مِنَها أهلها، وَاحْطُطْ عني وِزْرَهَا، وَخَفِّفْ عَني ثِقْلَها، واعْصِمْنِي منْ أن أقَارِفَ مِثلَها.
* * *
اللهم اعصمني من مقارفة الذنوب:
اللهم، إنّ هناك ذنوباً تتصل بحقوق الناس التي تمثل الظلامات التي يطلب بها المظلوم الظالم، سواء أكان ذلك مما يتعلق بأموالهم أم بأنفسهم أم بأعراضهم أم نحو ذلك، الأمر الذي لا بد فيه من أداء الحقّ إلى صاحبه أو التسامح منه، وإني قد أستطيع القيام بما يجب عليّ في ذلك كلّه، وفد لا أستطيع القيام به، وربما كنت حافظاً لها في ذاكرتي، وربما كنت ناسياً لها، وفي هذه الحال لا مجال للتحلل من هذه الحقوق المنسية، وسواء كانت التوبة مشروطة بردّ المظالم فلا تتحقق بدونه، أم لم تكن مشروطة به بل كان ذلك واجباً مستقلاً بذاته، فإنّي أريد التحلل من ذلك كلّه ليكمل لي رضاك في المواقع التي تحب لعبادك القيام بها، وأنت العالم بذلك كلّه، مما قد حفظته أو نسيته، فأسألك أن تعوّض أصحابها عنها خيراً منها بما تشاء مما يكون عوضاً عن حقوقهم، حتى أتحلل من ذلك بفضلك، فلا يبقى لهم عليّ حقّ يوم ألقاك يوم القيامة من خلالهم، ولا يبقى عليّ- من خلال عصياني لأمرك في عدم ارتكاب أمثالها - إثمٌ تحاسبني عليه هناك، ووفقني للانضباط الشرعي في أمثال هذه الأمور، وامنعني وعطّل قدرتي عن ممارسة ذلك عندما يوسوس لي الشيطان القيام بها، واجعل لي العصمة العاصمة في مواجهتها.
* * *
اللهُمَّ وَإنَّهُ لاَ وَفَاءَ لي بالتَّوْبَةِ إلاَّ بِعصْمَتِكَ، وَلاَ اسْتِمْسَاكَ بي عَنَ الخطايا إلاَّ عَنْ قُوتِكَ، فقَوِّني بقوةٍ كافيةٍ، وَتولّني بعصمةٍ مانعةٍ.
* * *
اللهم لا وفاء لي بالتوبة إلا بعصمتك:
يا ربّ، إنّ لي نفساً بالسوء أمّارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، ولسخطك متعرضة، ولذلك فإنني أخشى أن تغلبني نفسي أو يقودني هواي إلى عدم الوفاء بالتوبة التي أعطيت على نفسي عهداً على الالتزام بها فلا أعود إلى المعصية، ولا أترك الطاعة، فأسألك - يا ربّ - أن ترزقني العصمة التي تعصمني عن نقض العهد الذي قطعته على نفسي لك، وتوفقني للحصول على المناعة للإصرار على الالتزامات الروحية النفسية المتصلة بك، وهب لي القوة الكافية التي تمكّنني من الاستمساك في الموقف وعدم الاهتزاز الفكري والعملي في ما ينافي ذلك، إنّك - وحدك - الذي تمنح عبادك العصمة التي يعتصمون بها ليكونوا الأوفياء لك، وتعطيهم القوة على الثبات على طاعتك عندما تهاجمهم نقاط الضعف المتناثرة في الذات.
وهذه الفقرة من الدعاء توحي بأنّ الإنسان هو الذي ينبغي له أن يربي في نفسه القوة على مقاومة الإغراءات الخادعة، والأوضاع اللاهية، والمشاعر اللاهبة، والشهوات الجامحة، من خلال الإرادة المؤمنة التقية التي تواجه ذلك كلّه من خلال عمق الإيمان في النفس، ومراقبة الله في العقل والقلب، فإذا تعرّض الإنسان للاهتزاز، وطافت به خيالات الشيطان ووساوسه، وخاف على نفسه من السقوط أمام التجربة الصعبة، فعليه أن يستعين بالله على نفسه، ويستعدي قوته - سبحانه - على شيطانه، ليكتسب من ذلك قوةً جديدةً، ويعيش روحاً محلقة في أعالي الأمور متجاوزة عن سفاسفها، ليكون كلّ همّه الارتفاع إلى مواقع القرب من الله في ساحة رضوانه. وهذا هو الذي يجعل الإنسان في إحساساته الخفية متضرعاً إلى الله في أموره الدنيوية في حاجاته فيها، وفي طاعته لله، وفي التزاماته فيها، وفي أموره الأخروية في الحصول على رضاه وجنته، فيشعر بالفقر إليه - دائماً - في كلّ شيء.
* * *
اللهُمَّ وَأيُّما عَبْدٍ تَاب إليْكَ وهُوَ في عِلْمِ الغْيبِ عِندَكَ فاسخٌ لِتَوْبَتَهِ، وَعَائِدٌ في ذَنْبهِ وَخطيئته، فإنّي أعُوذ بِكَ أنْ أكونَ كَذلكَ، فاجعلْ توبَتي هذه توبةً لا أحتاجُ بَعْدَها إلى توبةٍ، توْبةً موجبةً لمحْوِ ما سَلفَ والسلامةِ في ما بقي.
اللهم اجعل توبتي توبة لا أحتاج بعدها إلى توبة:
اللهم، إنّ هناك البعض من الناس المؤمنين الذين يلتزمون على أنفسهم التوبة من الذنوب مخلصين في ذلك، ولكنّ الشيطان قد يوسوس لهم فيغويهم، ويزين لهم القبيح ويقودهم إلى المعاصي، فلا يملكون القوة على مواجهته، والقدرة على التوازن أمامه، فيسقطون في التجربة معه، ويفسخون التزام التوبة في نفوسهم، فيعودون إلى الذنب بعد طول اجتناب، فلا تدخلني - يا ربّ - في التجربة الصعبة، ولا تسقطني في داخلها إذا ابتليتني بها، ولا تجعلني ممن يفسخ توبته ويعود في ذنبه وخطيئته، واجعل توبتي مستمرة في الوعي والوجدان، ثابتة في النفس والواقع، متحركة في محو اللون الأسود عن كلّ الماضي بمحو السيئات بالعفو والمغفرة، وفي السلام في ما بقي من العمر من خلال العناصر القوبة الثابتة في عمق الإيمان، ووعي الإرادة، وثبات الموقف، فإنّ ذلك لن يكون إلاّ بعونك وقوّتك وإرادتك التي اخضع لهل كلّ شيء وتنحني أمامها كلّ الأمور.
* * *
 اللهُمَّ إني أعتذِرُ مَنْ جَهْلِي، وَأسْتَوْهِبُكَ سوءَ فِعْلي، فاضمُمْني إلى كَنَفِ رَحْمَتِكَ تطولاً، واسْتُرْنِي بسِتْر عَافِيَتِكَ تفضُّلاً.
* * *
اللهم إنّي أعتذر إليك من جهلي:
اللهم، إنّي كنت الجاهل بمعنى الألوهية في ذاتك، في ما تفرضه على الخلق من حقّ العبودية في موقفهم من الإله الواحد الخالق المنعم الذي هو الغني عنهم وهم الفقراء إليه، فكانت حياتي في خطّ العصيان حركة جاهل لا يعرف - بوعي - نتائج غفلته عن مسؤولياته، وأنا الآن أقف موقف المعتذر النادم على ما فرط مني، بعد أن انكشفت الحقائق لي بوضوح الرؤيا لكلّ مفرداتها الصغيرة والكبيرة، وأتطلع إلى رحمتك وكرمك لأطلب منك أن تهب لي سوء فعلي، فلا تحملني نتائجه السيّئة من سخطك وغضبك، وحرّ نارك، وذلك بالعفو عني والمغفرة لي في ما أسلفت.
لقد عودتني - يا ربّ - العطف والحنان الإلهي، فضمني إلى أحضان رحمتك وإلى فناء كرمك امتناناً، واسترني - يا ربّ - بستر عافيتك من البلاء ومن العقاب، فإنّك أنت المتفضل على عبادك بالستر عليهم، فلا تفضحهم على رؤوس الأشهاد في الدنيا والآخرة، ولا تظهر قبائح أفعالهم ومخازي أوضاعهم.
وقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع): "إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبّه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة، فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب، ويوحي إلى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي إلى بقاع الأرض اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب"(3).
* * *
اللهمَّ وَإنّي أتُوبُ إليْك مِنْ كُلِّ مَا خَالفَ إرادَتَكَ، أوْ زَالَ عَنْ مَحَبّتِكَ مِنْ خطَراتِ قلْبي، وَلَحظَاتِ عيني، وحكاياتِ لساني، تَوْبةً تَسْلمُ بها كُلُّ جَارِحَةٍ عَلى حِيالِها مِنْ تَبِعاتِكَ، وَتأمَنُ مِما يخافُ المعتدون مِنْ أليمِ سَطَواتِكَ.
* * *
اللهم إنّي أتوب إليك من كلّ ما خالف إرادتك:
يا ربّ، وتبقى التوبة في موقفي قضية كلّ كياني، حتى في نبضات القلب وخفقاته وخطرات العقل والفكر، ممّا يبتعد في مشاعره وأفكاره وإيحاءاته عن منهج الله في القاعدة الفكرية والروحية والشعورية، وفي لحظات العين الخائفة التي تتطلع إلى ما حرّم الله عليها، وفي حكايات اللسان التي تتناثر فيها الألفاظ المحرمة التي تثير الفتنة والفسوق والانحراف وتتجه إلى تدمير القيم الروحية والأخلاقية والاجتماعية، وتمتد المسألة حتى تشمل كلّ عضو من أعضائي في الدور الذي أوكل إليه في إدارة حركة الحياة في جسدي، مما يمكن أن يلتقي بالجانب الحلال تارة، وبالجانب الحرام أخرى، فللقلب توبته عن كلّ عاطفةٍ منحرفة كما في حبّ أعداء الله، وبغض أولياء الله، وللفكر توبته عن كلّ الخطوط الفكري الكافرة والمشركة والضالة والمستكبرة، وعن كلّ المناهج البعيدة عن منهج الإسلام في إدارة المسألة الفكرية وتحريكها، وللعين توبتها عن كلّ نظرة خائنة أو ساخرة أو عدوانية، وللّسان توبته عن كلّ كلام محرّم، ولكلّ عضو توبته من كلّ دور محرم، في لذات الجسد وشهواته وأطماعه وجرائمه وأوضاعه الشريرة.
وهذه هي التوبة التي أريد لنفسي أن تنطلق معها، وترتفع إليها، فيتحول الداخل في ذاتي في العمق والسطح إلى كيانٍ داخلي إسلامي لا مجال إلا للإسلام في كلّ تأثيراته الذاتية، ويتحول الخارج في الكيان على مستوى الفعل والقول والعلاقة والحركة واللفتة والنظرة واللمسة والهمسة وغير ذلك إلى كيان إسلامي منفتح على كلّ الواقع الإسلامي في الحاضر والمستقبل.
وهكذا تعيش الأعضاء السلامة من تبعة المعصية وثقل المسؤولية، والأمن من آلام السطوة الإلهية والعقاب الربّاني.
* * *
اللَّهُمَّ فَارْحَمْ وَحْدَتي بَيْنَ يَدَيْكَ، وَوَجيبَ قَلْبي مِنْ خَشْيَتِكَ، واضْطرابَ أرْكاني مِنْ هَيْبَتِكَ، فَقَدْ أقامتني ذُنوبي مَقامَ الخزْي بِفِنَائِكَ، فإنْ سَكتُّ لَمْ ينطقْ عَنّي أحدٌ، وإنْ شفَعْتُ فَلَسْتُ بِأهلِ الشفاعَةِ.
* * *
اللهم فارحم وحدتي بين يديك:
يا ربّ، ها أنذا الإنسان الضعيف الوحيد، في وحدة الضعف أمام امتداد عظمتك، فلا ناصر لي منك، ولا معين لي أمامك، قلبي يخفق بشدةٍ، ويرتجف بالرعب خشية منك، وأعضائي تتحرك في اضطراب واهتزازٍ وقلق هيبة لك، من أنا - يا ربّ - وما خطري، وما قيمتي، وما هو قدر قوّتي، فكيف أملك الثبات في موقفي أمامك، كيف وأنا الإنسان المتمرد عليك في معاصيه، المتجرىء عليك في سيئاته، المحارب لك في جرائمه، ماذا أفعل وأنا السابح في وحول الخزي والعار، من خلال ذنوبي التي يقف صاحبها معها موقف الخزي الروحي والعملي، فهل هناك من يدافع عنّي أو ينطق عنّي، إن أنا سكتُّ فلم أصرخ ولم أشتكِ ولم أدافع عن نفسي، وما هو منطق الدفاع إن أردت ذلك، فأنا لا أملك أيّة حُجّةٍ على ما صدر عني، وهل أملك الشفاعة لنفسي، لأخلّصها من نتائج أعمالها في الدنيا، فإنَّ من يملك الشفاعة هو القريب من الله الذي يريد الله أن يمنحه الكرامة بالمغفرة لبعض عباده من خلال شفاعته له، وكيف يكون البعيد عن الله بمعاصيه شفيعاً لنفسه، فإن شفعت فلست بأهل الشفاعة، فكيف الخلاص، ليس هناك إلا رحمتك، فارحم هذه الوحدة الخائفة برعب، وهذا القلب الخافق بشدة، والأعضاء المضطربة بفعل الهيبة، والواقع المغسول بالعار، لأحصل على الأمن والسلام والنجاة من سخطك وعذابك يا ربّ العالمين.
* * *
اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحمّدٍ وَآلهِ، وَشفّعْ في خَطَايَاي كَرَمَك، وعُدْ عَلى سَيِّئّاتي يعفوِكَ، وَلاَ تَجْزِني مِنْ عُقُوبتكَ، وَابْسُطْ عَليّ طَوْلَكَ، وَجَلِّلْني بِسِتْرِكَ، وَافْعَلْ بي فِعْلَ عَزيزٍ تضرّعَ إليْهِ عَبْدٌ ذَليلٌ فرَحِمَهُ، أوْ غَنِيٍّ تَعَرَّضَ لَهُ عَبْدٌ فَقيرٌ فَنَعَشَهُ.
* * *
اللهم جلّلني بسترك:
يا ربّ، مَنْ لي ومن يرحمني إن لم ترحمني، ومن هو الشفيع الذي يشفع لي فيخلصني من عقابك، ومن هو الذي يملك العفو عن سيئاتي غيرك، ومن الذي يمنحني الفضل والغنى والسعة سواك، ومن الذي يجنّبني الفضيحة من خلال قبائح أعمالي، إلاّ أنت.
أنت العزيز - يا ربّ - في موقع ربوبيتك، وأنا الذليل في موقع عبوديتي، فهل أطمع أن تعاملني كما يعامل العزيز الذليل في آفاق رحمته فيرحمني، وأنت الغني - يا ربّ - في موقع غناك، فهل أؤمل أن تنعشني - في حرماني - بما ينعش به الغني في غناه العبد الفقير.
إنّك أهل ذلك يا ربّ، وفوق ذلك، فأنا لا أتصورك، مع عبادك المؤمنين الموحدين لك، إلا رحيماً كريماً عزيزاً لطيفاً، ولا أعرف - في هذا الجو - فيك صورة القاسي الشديد في آفاق جبروتك، فهب لي حنان الصورة في إيحاءاتها الإيمانية في حياتي كلّها، فحياتي كلّها - يا ربّ - بين يديك وطوع إرادتك.
* * *
اللَّهُمَّ لاَ خَفيرَ لي فَلْيَخْفُرْني عِزُّكَ، وَلاَ شَفيعَ لي إليْكَ فَلَيشْفَعْ لي فَضْلُكَ، وَقَدْ أوْجَلَتْني خَطَاياي فليؤمنِّي عَفْوُكَ، فَما كُلُّ ما نطقْتُ بِهِ عَنْ جَهلٍ منّي بسوءِ أثري، وَلا نسيانٍ لما سَبَقَ مِنْ ذميمِ فعْلِي، لكنْ لتسمَعَ سماؤكَ ومَنْ فيها وأرضُكَ وَمَنْ عَليها، ما أظهرتُ لَكَ مِنَ الندمِ ولجأتُ إليكَ فيه مِن التوبةِ، فلعلَّ بعضَهُمْ برحْمتِكَ يرحمُني لسُوءِ موقفي، أوْ تُدْركُهُ الرِّقَّةُ عَليَّ لِسُوءِ حَالي، فينالَنِي منْهُ بِدَعوةٍ هي أسْمعُ لدَيْكَ منْ دعائي، أوْ شفاعةٍ أوكّدُ عِندك مِنْ شفاعَتِي، تكونُ بها نجاتي مِنْ غَضَبِكَ وَفوزَتِي بِرضاك.
* * *
اللهم لا شفيع لي إليك، فليشفع لي فضلك:
 يا ربّ، أنا الخائف الذي تلاحقني الذنوب لتقتلني في روحي ومصيري، وتلقي بي في نار جهنم، وأنت الخفير الذين يحمي عباده ويجيرهم ويحرسهم من تأثيرها عليهم بعفوه ومغفرته، ولا خفير غيرك، لأنّ كلّ هؤلاء هم عبادك الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً في الدنيا والآخرة، فليكن عزّك - في قوته وغلبته وقهره - هو الذي يحرس مصيري من الهلاك وروحي من السقوط وجسدي من النار، وأنا المجرم الذي تطوّقه جريمته بالسلاسل الثقيلة من النار، وتحاصره في دائرة العذاب، ولا مفزع لي ولا مفرّ من ذلك، وأنت الشفيع الذي يملك الشفاعة في كلّ أمري، لأنّ الأمر كلّه في الدنيا والآخرة إليك، فليكن فضلك هو الشفيع لي، وأنا - يا ربّ - الإنسان الوجل الحائر الذي لا يعرف كيف المصير، وأين المفرّ والمقرّ، وليس لي إلاّ عفوك الذي يمنحني الأمان، ويبعث في روحي الطمأنينة، فليكن عفوك سبيل الأمن لي لتكون وفادتي عليك وفادة الإنسان الآمن بعفوك.
يا رب، إنني - في هذا الإلحاح والطلب الشديد للعفو، والدالّة التي أمارسها عليك - لم أنطلق من شعوري بأنّي أملك العناصر القوية التي تقرّبني منك، لأنّي لا أعرف حجم نفسي في موقفها منك، أو أنّي أجهل سوء الأثر الذي أحدثته أعمالي في سخطك عليّ، أو أنّي نسب أفعالي الذميمة وجرائمي الكثيرة التي أسلفتها في ماضي حياتي، فتكون لي الجرأة على أن أخاطبك بهذه الطريقة الملحاحة المدلّة عليك في ما قصدت فيه إليك، لكنّ صراخي سوف يصعد إلى السماء فتسمعه بمن فيها، واستغاثتي تنتشر في الأرض فتعيه بمن عليها، في كلّ ما أظهره من الندم، وألجأ فيه إليك من التوبة، مما يوحي لكلّ من يراني أو يسمعني بالرقة والرحمة والعطف، فيبادر إلى الدعاء لي باستعطافك واسترحامك، لما يشاهده أو يعرفه من سوء موقفي، واختلال وضعي، فتسمع دعاءه لأنّه قريب إليك بما لا تسمع فيه دعائي، وتمنحه دور الشفيع في موقف لا شفيع لي إليك، وهكذا تكون تلك هي الوسيلة الوحيدة التي أنجو بها من غضبك، وأفوز برضاك.
* * *
اللهُمَّ إنْ يَكُنِ النَّدَمُ توْبةً إليْكَ فَأنا أنْدَمُ النَّادمين، وإنْ يَكُن التَّركُ لِمعْصِيتِكَ إنَابَةً فأنا أوَّلُ المُنِيبينَ، وَإنْ يَكُنِ الاستغفارُ حِطّةً للِذنوبِ فإنّي لَك مِنَ المُستَغفِرين.
* * *
اللهم إن يكن الندم توبة إليك، فأنا أندم النادمين:
لقد وعدت التائبين محبتك، والمنيبين رضوانك، والمستغفرين غفرانك وأنا في موقف الندم العميق الذي يعيش في عمق كياني فيهتزّ كلّ إحساسه في مثل الصدمة أمام ذكريات الذنوب في الماضي، فهل يكون الندم توبة لي؟
وأنا في تجربة الترك لمعصيتك، حتى لا أمارس شيئاً من سخطك، ولا أترك شيئاً من رضاك، في عزيمة شديدة لا أدع فيها شيئاً من دينك مخافة أحدٍ من خلقك، فهل يكون هذا الترك لمعصيتك إنابة؟
وأنا الإنسان المذنب الذي يستغفر عقله من خطايا فكره، وقلبه من سيئات عاطفته، وجسده من سيئات عمله، وحياته من انحرافات أوضاعه، بحيث كانت كلّ جوارحه وجوانحه صيحة استغفار..- يا ربّ - اغفر لنا ذنوبنا فقد عصيناك من دون وعي لنتائج المعصية، فهل أملك حطة الذنوب عنّي في ذلك كلّه؟
* * *
اللَّهُمَّ فَكّما أمَرْتَ بالتَّوْبَةِ وضَمِنْتَ القَبُولَ، وَحثَثْتَ عَلى الدُّعاءِ وَوَعدتَ الإجابَةَ، فصلِّ عَلى محمَّدٍ وآلهِ واقْبل توبتي، ولا تُرْجِعْنِي مَرْجِعَ الخيبةِ مِنْ رَحْمتِك، إنَّكَ أنْتَ التوّابُ عَلَى المذنبينَ، والرحيمُ للخاطئِين المُنِيبين.
* * *
اللهم أقبل توبتي:
اللهم إنّني هنا تائب بكلّ عقلي وقلبي وجوارحي ومشاعري ومشاريعي وخطواتي وعلاقاتي مع الناس ومواقفي في التأييد أو الرفض، ومواقعي في هذه الساحة أو تلك، فكلماتي تنطق بالتوبة، وأفعالي تتحرك في خطّ التوبة، وأحاسيسي تنبض بالتوبة... إنّها مشاعري التي تدفعني إلى التوبة، وأمرك الذي يدعوني إليها، ووعدك لي بالقبول، أوقفني هذا الموقف، وقادني إلى هذه الساحة الطاهرة الخاشعة في ابتهالاتها وتأوهاتها ورغباتها ورهباتها، فاقبلني فيمن تقبل من المذنبين التائبين، ولا تجعلني أعود من حيث أتيت خائباً من عواطف رحمتك، فإنّك الربّ التائب على عباده المذنبين، لا سيما إذا تابوا، والرحيم بعباده الخاطئين المنيبين الراجعين إليه، المتطلعين إلى تصحيح أخطائهم، والعودة إليه بجسد طاهر وقلب سليم، حتى أعيش في نعيم رضاك.
* * *
اللّهمَّ صلِّ عَلَى مُحمَّدٍ وآلِهِ كَمَا هَدَيْتَنا بهِ، وَصَلِّ عَلَى مُحمدٍ وآلهِ كَمَا استنقذتَنَا بهِ، وصلِّ عَلَى محمد وآلهِ صلاةً تشفعُ لنا يوم القِيامة وَيَومَ الفاقةِ إليكَ، إنَّك عَلى كُلِّ شيءٍ قديرٌ، وهو عليْكَ سَهْلٌ يَسيرٌ.
* * *
اللهم صلّ على محمد وآله:
يا ربّ، لقد أرسلت إلينا رسولاً هادياً فهدانا إلى دينك وإلى معرفتك، وبعثت إلينا نبيّاً منقذاً فأنقذنا من حيرة الضلال إلى طمأنينة الهدى، فهو الهادي وهو المنقذ، وأنا ـ هنا ـ أطلب إليك وأدعوك أن تصلي عليه وعلى آله، فترتفع بدرجته إلى أعلى عليين، كما تمنحنا ثواب هذه الصلاة فتشفع لنا يوم القيامة إذا افتقر الناس للرحمة والمغفرة واللطف العظيم، إنّنا نطلب ونطلب ونطلب، ولا تنتهي طلباتنا لأنّك قادر على كلّ شيء، وكلّ ما نريده فهو عليك سهل يسير، فلا يضيق عنك سؤال أحد، ولا تعجز عن إجابة أيّ عبد من عبادك في كلّ شيء.
* * *
الهوامش:

(1)    نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، قصار الحكم: 290، ص:398.
(2)    البحار، ج:74، باب:4، ص:51، رواية:3.
(3)    الكافي، ج:2، ص:430، رواية:1.
* * *


وكان من دعائه(ع)
بعد الفراغ من صلاة الليل لنفسه في الاعتراف بالذنب

اللّهُمَّ يا ذَا الْمُلْكِ الْمُتَأَبِّدِ بِالْخُلُـودِ، وَالسُّلْطانِ الْمُمْتَنِعِ بِغَيْرِ جُنُودٍ وَلا أَعْوان، وَالْعِزِّ الْباقي عَلى مَرِّ الدُّهُورِ، وَخَوالِي الأعْوامِ وَمَواضِي الأزْمانِ وَالأيّامِ، عَزَّ سُلْطانُكَ عِزّاً لا حَدَّ لَهُ بِأَوَّلِيَّة وَلا مُنْتَهى لَهُ بِآخِرِيَّة، وَاسْتَعْلى مُلْكُكَ عُلُوّاً سَقَطَتِ الأشْياءُ دُونَ بُلُوغِ أَمَدِهِ، وَلا يَبْلُغُ أَدْنى مَا اسْتَأْثَرْتَ بِهِ مِنْ ذلِكَ أَقْصى نَعْتِ النّاعِتينَ، ضَلَّتْ فيكَ الصِّفاتُ، وَتَفَسَّخَتْ دُونَكَ النُّعُوتُ، وَحارَتْ في كِبْرِيائِكَ لَطائِفُ الأوْهامِ. كَذلِكَ أَنْتَ اللّهُ الأوَّلُ في أَوَّلِيَّتِكَ، وَعلى ذلِكَ أَنْتَ دائِمٌ لا تَزُولُ.
وَأَنَا الْعَبْدُ الضَّعيفُ عَمَلاً، الْجَسِيمُ أَمَلاً، خَرَجَتْ مِنْ يَدي أَسْبابُ الْوُصُلاتِ إِلاّ ما وَصَلَهُ رَحْمَتُكَ، وَتَقَطَّعَتْ عَنّي عِصَمُ الآمالِ إِلاّ ما أَنَا مُعْتَصِمٌ بِهِ مِنْ عَفْوِكَ، قَلَّ عِنْدي ما أَعْتَدُّ بِهِ مِنْ طاعَتِكَ، وَكَثُرَ عَلَيَّ ما أَبُوءُ بِهِ مِنْ مَعْصِيَتِكَ، وَلَنْ يَضيقَ عَلَيْكَ عَفْوٌ عَنْ عَبْدِكَ وَإِنْ أَساءَ، فَاعْفُ عَنّي.
اللّهُمَّ وَقَدْ أَشْرَفَ عَلى خَفايَا الأعْمالِ عِلْمُكَ، وَانْكَشَفَ كُلُّ مَسْتُورٍ دُونَ خُبْرِكَ، وَلا تَنْطَوي عَنْكَ دَقائِقُ الأمُورِ، وَلا تَعْزُبُ عَنْكَ غَيّباتُ السَّرائِرِ، وَقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيَّ عَدُوُّكَ الَّذِي اسْتَنْظَرَكَ لِغَوايَتي فَأَنْظَرْتَهُ، وَاسْتَمْهَلَكَ إِلى يَوْمِ الدّينِ لإضْلالي فَأَمْهَلْتَهُ، فَأَوْقَعَني، وَقَدْ هَرَبْتُ إِلَيْكَ مِنْ صَغائِرِ ذُنُوبٍ مُوبِقَةٍ، وَكَبائِرِ أَعْمالٍ مُرْدِيَةٍ، حَتّى إِذا قَارَفْتُ مَعْصِيَتَكَ، وَاسْتَوْجَبْتُ بِسُوءِ سَعْيي سَخْطَتَكَ، فَتَلَ عَنّي عِذارَ غَدْرِهِ، وَتَلَقّاني بِكَلِمَةِ كُفْرِهِ، وَتَوَلَّى الْبَراءَةَ مِنّي، وَأَدْبَرَ مُوَلِّياً عَنّي، فَأَصْحَرَني لِغَضَبِكَ فَريداً، وَأَخْرَجَني إِلى فِناءِ نَقِمَتِكَ طَريداً، لا شَفيعٌ يَشْفَعُ لي إِلَيْكِ، وَلا خَفيرٌ يُؤْمِنُني عَلَيْكَ، وَلا حِصْنٌ يَحْجُبُني عَنْكَ، وَلا مَلاذٌ أَلْجَأُ إِلَيْهِ مِنْكَ. فَهذا مَقامُ الْعائِذِ بِكَ، وَمَحَلُّ الْمُعْتَرِفِ لَكَ، فَلا يَضيقَنَّ عَنّي فَضْلُكَ، وَلا يَقْصُرَنَّ دُوني عَفْوُكَ، وَلا أَكُنْ أَخْيَبَ عِبادِكَ التّائِبينَ، وَلا أَقْنَطَ وُفُودِكَ الاْمِلينَ، وَاغْفِرْ لي إِنَّكَ خَيْرُ الْغافِرينَ.
اللّهُمَّ إِنَّكَ أَمَرْتَني فَتَرَكْتُ، وَنَهَيْتَني فَرَكِبْتُ، وَسَوَّلَ لِىَ الْخَطاءَ خاطِرُ السُّوءِ فَفَرَّطْتُ، وَلا أَسْتَشْهِدُ عَلى صِيامي نَهاراً، وَلا أَسْتَجيرُ بِتَهَجُّدي لَيْلاً، وَلا تُثْني عَلَىَّ بِإِحْيائِها سُنَّةٌ، حاشا فُرُوضِكَ الَّتي مَنْ ضَيَّعَها هَلَكَ، وَلَسْتُ أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِفَضْلِ نافِلَة مَعَ كَثيرِ ما أَغْفَلْتُ مِنْ وَظائِفِ فُرُوضِكَ، وَتَعَدَّيْتُ عَنْ مَقاماتِ حُدُودِكَ إِلى حُرُمات انْتَهَكْتُها، وَكَبائِرِ ذُنُوب اجْتَرَحْتُها، كانَتْ عافِيَتُكَ لي مِنْ فَضائِحِها سِتْراً.
وَهذا مَـقامُ مَنِ اسْتَحْيا لِنَفْسِهِ مِنْكَ، وَسَخِطَ عَلَيْها، وَرَضِىَ عَنْكَ، فَتَلَقّاكَ بِنَفْس خاشِعَة، وَرَقَبَة خاضِعَة، وَظَهْر مُثْقَل مِنَ الخَطايا، واقِفاً بَيْنَ الرَّغْبَةِ إِلَيْكَ وَالرَّهْبَةِ مِنْكَ، وَأَنْتَ أَوْلى مَنْ رَجاهُ، وَأَحَقُّ مَنْ خَشِيَهُ وَاتَّقاهُ، فَأَعْطِني يا رَبِّ ما رَجَوْتُ، وَآمِنّي ما حَذرْتُ، وَعُدْ عَلَىَّ بِعائِدَةِ رَحْمَتِكَ، إِنَّكَ أَكْرَمُ الْمَسْؤولينَ.
اللّهُمَّ وَإِذْ سَتَرْتَني بِعَفْوِكَ، وَتَغَمَّدْتَني بِفَضْلِكَ في دارِ الْفَناءِ بِحَضْرَةِ الأكْفاءِ، فَأَجِرْني مِنْ فَضيحاتِ دارِ الْبَقاءِ، عِنْدَ مَواقِفِ الأشْهادِ مِنَ الْمَلائِكَةِ الْمُقَرَّبينَ، وَالرُّسُلِ الْمُكَرَّمينَ، وَالشُّهَداءِ وَالصّالحِينَ، مِنْ جار كُنْتُ أُكاتِمُهُ سَيِّئاتي، وَمِنْ ذي رَحِم كُنْتُ أَحْتَشِمُ مِنْهُ في سَريراتي، لَمْ أَثِقْ بِهِمْ رَبِّ فِي السِّتْرِ عَلَيَّ، وَوَثِقْت بِكَ رَبِّ فِي الْمَغْفِرَةِ لي، وَأَنْتَ أَوْلى مَنْ وُثِقَ بِهِ، وَأَعْطى مَنْ رُغِبَ إِلَيْهِ، وَأَرْأَفُ مَنِ اسْتُرْحِمَ، فَارْحَمْني.
اللّهُمَّ وَأَنْتَ حَدَرْتَني ماءً مَهيناً، مِنْ صُلْب مُتَضائِقِ الْعِظامِ، حَرِجِ الْمَسالِكِ، إِلى رَحِم ضَيّقَة، سَتَرْتَها بِالْحُجُبِ، تُصَرِّفُني حالاً عَنْ حال، حَتَّى انْتَهَيْتَ بي إِلى تَمامِ الصُّورَةِ، وَأَثْبَتَّ فِىَّ الْجَوارِحَ، كَما نَعَتَّ في كِتابكَ: نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ عِظْاماً ثُمَّ كَسَوْتَ الْعِظامَ لَحْماً، ثُمَّ أَنْشَأْتَني خَلْقاً آخَرَ كَما شِئْتَ، حَتّى إِذَا احْتَجْتُ إِلى رِزْقِكَ، وَلَمْ أَسْتَغْنِ عَنْ غِياثِ فَضْلِكَ، جَعَلْتَ لي قُوتاً مِنْ فَضْلِ طَعام وَشَراب أَجْرَيْتَهُ لاِمَتِكَ الَّتي أَسْكَنْتَني جَوْفَهَا، وَأَوْدَعْتَني قَرارَ رَحِمِها.
وَلَوْ تَكِلْني يا رَبِّ في تِلْكَ الْحالاتِ إِلى حَوْلي، أَوْ تَضْطَرُّني إِلى قُوَّتي، لَكانَ الْحَوْلُ عَنّي مُعْتَزِلاً، وَلَكانَتِ القُوَّةُ مِنّي بَعيدَةً، فَغَذَوْتَني بِفَضْلِكَ غِذاءَ الْبَرِّ اللَّطيفِ، تَفْعَلُ ذلِكَ بي تَطَوُّلاً عَلَىَّ إِلى غايَتي هذِه، لا أَعْدَمُ بِرَّكَ، وَلا يُبْطِئُ بي حُسْنُ صَنيعِكَ، وَلا تَتَأَكَّدُ مَع ذلِكَ ثِقَتي، فَأَتَفَرَّغَ لِما هُوَ أَحْظى لي عِنْدَكَ.
قَدْ مَلَكَ الشَّيْطانُ عِناني في سُوءِ الظَّنِّ وَضَعْفِ الْيَقينِ، فَأَنا أَشْكُو سُوءَ مُجاوَرَتِهِ لي، وَطاعَةَ نَفْسي لَهُ، وَأَسْتَعْصِمُكَ مِنْ مَلَكَتِهِ، وَأَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ في صَرْفِ كَيْدِهِ عَنّي، وَأَسْأَلُكَ في أَنْ تُسَهِّلَ إِلى رِزْقي سَبيلاً.
فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى ابْتِدائِكَ بِالنِّعَمِ الْجِسامِ، وَإِلْهامِكَ الشُّكْرَ عَلَى الإحْسانِ وَالأنْعامِ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَسَهِّلْ عَلَىَّ رِزْقي، وَأَنْ تُقْنِعَني بِتَقْديرِكَ لِي، وَأَنْ تُرْضِيَني بِحِصَّتي فيما قَسَمْتَ لي، وَأَنْ تَجْعَلَ ما ذَهَبَ مِنْ جِسْمي وَعُمْري في سَبيلِ طاعَتِكَ، إِنَّكَ خَيْرُ الرَّازِقينَ.
اللّهُمَّ إِنّي أعُوذُ بِكَ مِنْ نار تَغَلَّظْتَ بِها عَلى مَنْ عَصاكَ، وَتَوَعَّدْتَ بِها مَنْ صَدَفَ عَنْ رِضاكَ، وَمِنْ نار نُورُها ظُلْمَةٌ، وَهَيِّنُها أَليمٌ، وَبَعيدُها قَريبٌ، وَمِنْ نار يَأْكُلُ بَعْضَها بَعْضٌ، وَيَصُولُ بَعْضُها عَلى بَعْض، وَمِنْ نار تَذَرُ الْعِظامَ رَميماً، وَتَسْقي أَهْلَها حَميماً، وَمِنْ نار لاتُبْقي عَلى مَنْ تَضَرَّعَ إِلَيْها، وَلا تَرْحَمُ مَنِ اسْتَعْطَفَها، وَلا تَقْدِرُ عَلَى التَّخْفيفِ عَمَّنْ خَشَعَ لَها وَاسْتَسْلَمَ إِلَيْها، تَلْقى سُكّانَها بِأَحَرِّ ما لَدَيْها، مِنْ أَلِيمِ النَّكالِ وَشَديدِ الْوَبالِ.
وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَقارِبِهَا الْفاغِرَةِ أَفْواهَها، وَحَيّاتِها الصّالِقَةِ بِأَنْيابِها، وَشَرابِها الَّذي يُقَطِّعُ أَمْعاءَ وَأَفْئِدَةَ سُكّانِها، وَيَنْزِعُ قُلُوبَهُمْ، وَأَسْتَهْديكَ لِما باعَدَ مِنْها، وَأَخَّرَ عَنْها.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَجِرْني مِنْها بِفَضْلِ رَحْمَتِكَ، وَأَقِلْني عَثَراتي بِحُسْنِ إِقالَتِكَ، وَلا تَخْذُلْني يا خَيْرَ الْمُجيرينَ، إِنَّكَ تَقِي الْكَريهَةَ، وتُعْطِي الْحَسَنَةَ، وَتَفْعَلُ ماتُريدُ، وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَىْءٍ قَديرٌ.
* * *
في رحاب الدعاء:
لليل سحره الروحاني، وصمته الرهيب، وظلامه الذي ينساب في المشاعر فيثير فيه الخدر والاسترخاء، في الوقت الذي يبعث الخوف في الوجدان من خلال حركة الأشباح في الخيال وأجواء المخلوقات المخيفة المرعبة التي يخفيها الليل في ظلامه، وقد أراد الله للإنسان أن يعيش الثقة والطمأنينة والسكينة الروحية من خلال الصّلاة المميزة التي شرّعها مما استحبه للإنسان ووعد عليه بالثواب، ولم يلزمه بها، لتأتي من عمق اختياره الطوعي المنفتح على الله في رغبته بالوقوف بين يديه ليحصل على محبته ورضاه، ليزداد إيمانه قوّة ولتعيش روحه المزيد من السكينة العميقة الخاشعة، وليشعر بأنّه ليس وحده في هذا الجو الخفي المظلم وليس الإنسان الضائع في متاهات الأشباح في الليل فإنّ الله معه يحميه ويرعاه ويدفع عنه كلّ خوف وخطر.
وفي السحر تصفو النفس، ويرتاح الجسد ويهدأ الليل وينفتح الإنسان على جمالات كثيرة من الصفاء والنقاء والهدوء النفسي، وتنفتح روحه - من خلال هذا الجوّ - على ربّه، وقد حدثنا الله عن المؤمنين {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17] وكيف لا يحصّلون من النوم إلا لماماً {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ*وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17-18] وعن هؤلاء الذين {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ* تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ*فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:15-17].
هؤلاء الذين ينطلقون في جوف الليل صلاةً ودعاءً واستغفاراً وانفتاحاً على الله بكلّ طلباتهم ورغباتهم ومخاوفهم وقد أراد الله لنبيه أن يقوم الليل إلا قليلاً وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ*قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً*نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً*أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً*إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:1-5].
فهذا القيام بالليل يوحي للإنسان، ولا سيّما إذا كان نبيّاً، بالسمّو الروحي الذي يعينه على تحمل الأعباء الثقيلة التي يحمله الله فيها المسؤولية عن الرسالة التي تتحرك فتجد أمامها العقبات والصدمات والضغوط الهائلة مما يحتاج فيه الإنسان إلى المزيد من الطاقة الروحية في اتصاله بالله وانجذابه إليه ومناجاته له وابتهالاته له، وذوبانه فيه، وهذا ما توحي به الآية التالية: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} وربما أريد به القرآن في مضمون مفاهيمه ومعانيه وفي حركته الرسالية في الدعوة والحركة من حيث ثقل الفكرة في ميزان الحياة، وثقل المسؤولية في خطّ الدعوة والجهاد. وهذا هو الذي يفرض الحاجة إلى مزيد من الإعداد الروحي والنفسي الذي تنطق فيه صلاة الليل: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6] حيث تعيش كلمات الصلاة مع خفقات القلب وهمسات الروح وإخلاص الذات في هذا الهدوء الذي يلفّ الكون فيضمّ الوجود الإنساني في داخله بعيداً عن كلّ شواغل النهار وتعقيداته، فيكون الأشدّ تأثيراً على الروح والأصوب في معرفة الحقيقة.
وإذا كان الخطاب في هذه الآيات للنبي محمّد(ص)، فإنّنا لا نرى أنّها تختصّ به، بل تشمل كلّ الرساليين الذين يعيشون هذه الطاقة الروحية والإعداد النفسي والقوة الرسالية التي تساهم هذه العبارة في إغناء الواقع الداخلي للإنسان بها.
* * *
هذا الدعاء يمثّل القيمة الروحية في العبادة من حيث إنّه يمتد بأجواء الصلاة إلى ما بعد الفراغ منها، ليعيش الإنسان صلاة الدعاء في مفاهيمه المنفتحة على الله في أجواء عظمته، ومواقع نعمته، وألطاف رحمته، فتمتلىء النفس بها وتتعمق في داخلها، فلا تنتهي صلاة الركوع والسجود بانتهاء أعمالها، بل تمتد في أجواء الدعاء ليبقى الإنسان أطول مدّة ممكنة مع الله، ولعلّ هذا هو السرّ في تشريع استحباب التعقيب بعد كلّ صلاة فريضة فهو الذي يعمق معنى الصلاة على المستوى الثقافي والروحي في داخل الذات، وذلك من خلال المفاهيم المتنوعة في الدعاء التي تغني الخطوط الروحية العامة في مفاهيم الصلاة.
* * *
الله.. الأبديّ في وجوده:
في الفصل الأول - من هذا الدعاء - نداء إلى الله في صفاته الإلهية، فهو الملك المتأبد بالخلود لا يحتويه الزمن ولا يستنفذه، بل هو فوق الزمن كلّه فهو الأبديّ في وجوده والسلطان الذي لا ينطلق سلطانه من خارج ذاته مما يتمثل في السلاطين من حركة سلطتهم في جنودهم وأعوانهم بعيداً عن الذات، فهو السلطان في ذاته، وهو العزّ الذي لا يملك معناه في ذاته لا من خلال العوارض الطارئة للقوّة، ولذلك فلا فناء له ولا حدّ له بأولية أو آخرية وهو الأعلى في ملكه الذي تتساقط الأشياء أمامه فلا تبلغ أمده، وهو الذي تعجز النعوت عن وصف كنه صفاته وتتهاوى الكلمات أمامها في كلّ مدلولاتها لأنّها لا تمثّل إلا المعاني المحدودة في ذاتها فإذا انفتحت على المطلق تفسخت وضاعت وأطلقت أجواء الحيرة في كلّ الأخيلة الإنسانية، إنّه الله الأول الذي لم ينطلق من العدم، ولا يقترب العدم إلى وجوده مهما امتد الزمن في حركة الوجود، ذلك هو الله، فأيّ شيء هو الإنسان.
* * *
عفو الله... أمل الإنسان:
وفي الفصل الثاني يتمثل الإنسان الداعي المبتهل الخاشع في وجوده المحدود وفقره الذاتي، فهو العبد الضعيف في عمله، في كميته وكيفيته، فلم يكن بالمقدار الذي يريده الله أو بالنوعية التي أمر بها، ولكنّه - في ثقته بالله - الكبير في أمله لعفوه ومغفرته ورحمته فإذا تقطعت الأسباب العادية البشرية فالله هو - وحده - الذي يوصل برحمته كلّ سبب يؤدّي إلى المطلوب وإذا لم تكن هناك قاعدة يعتصم بها الإنسان في امتداد الأمل بالنجاة فإنّ عفو الله الذي يمتد إلى كلّ إنسان في الوجود هو القاعدة التي يرتكز عليها الإنسان في أمله ولذلك فهو الذي يتوجه إلى الله ليشهده على ما يعلمه من قلة مخزون الطاعة عنده وكثرة أرقام المعصية لديه، وليطلب منه أن لا يضيق عفوه عنه، حتى لو أساء ليمنحه عفوه.
رحمة الله هي الملاذ الأخير:
وفي الفصل الثالث، يقف هذا الإنسان ليتحدث إلى ربّه عن كلّ أعماله السيئة التي لا تغيب عن علمه بكلّ خفاياها وظواهرها وبواطنها، ليعتذر إليه عن ذلك فقد قام بكلّ ما قام به من خلال الشيطان الذي هو عدوّ الله وعدّو الإنسان، الذي طلب النظرة من الله لإغواء الناس، وسأل المهلة إلى يوم الدين لإضلالهم فأعطاه ذلك كلّه وحذّر الإنسان منه، ولكنّه خضع لنقاط ضعفه التي استغلها أبشع استغلال فأوقعه في الغواية وسار به بعيداً في طريق الضلال فعصى ربه واقترب من ساحة سخطه فحاول أن يرجع إلى شيطانه ليحميه من النتائج  السيئة التي وصل إليها وليخلصه من عقاب ربّه الذي كان يؤمنه من عذابه ويمنيه النجاة ولكنّه تبرّأ منه وأعرض عنه وسخر منه وتخفف من مسؤوليته عن كلّ ما لحق به، فوقف في صحراء الندم وحيداً يواجه غضب الله ونقمته مطروداً من رحمته من دون شفيع يشفع له ولا حارس يحرسه منه، ولا حصن يحميه منه ولا ملاذٍ يلجأ إليه.
فلم يجد أمامه ألاّ ربّه الذي فتح له أبواب رحمته ومغفرته فوقف أمامه موقف العائذ به والمعترف له، وابتهل إليه أن لا يضيق عنه فضله وقد اتسع للناس كلّهم، وأن لا يقصر دونه عفوه وقد امتد للمؤمنين، وأن لا يكون الإنسان الأكثر خيبة من التائبين إليه والأعظم يأساً من الوفود القادمة إليه، ليغفر له ذنوبه ويعفو عن جرائمه.
* * *
الاعتراف بالخطايا:
وفي الفصل الرابع اعتراف تفصيلي من الإنسان الخاطئ بتصرفاته السلبية تجاه ربّه، فقد أمره الله بالكثير من مواقع أمره فتركها ونهاه عن الكثير مما أراد له أن يتركه ففعله وانطلقت النفس الأمّارة بالسوء لتثير في داخل فكره النوازع الشرّيرة والخواطر السيّئة التي تدفعه إلى التفريط بمسؤولياته، وهو الآن لا يقف بين يديه ليقدم أمامه ولا يملك أن يقدم النوافل التي قام بها مع الكثير من التقصير عن بعض الوظائف المتصلة بالفرائض والتعدي على حدود الله، فكم من حرمة انتهكها، وكم من ذنب فعله مما يؤدّي إلى فضيحته أمام النّاس لولا ستر الله عليه.
هذا هو الواقع الذي يتمثله ويعترف به بين يدي ربّه ويجعله في مقام الخجول منه، والساخط على نفسه لانحرافها عن مواقع رضاه، فيتلقاه بنفس يهزّها الخشوع أمام عظمة الله، ورقبة يحنيها الخضوع لجلاله، وبظهر تثقله الخطايا، في موقف تتجاذبه الرغبة إلى الله رجاء رحمته، والرهبة منه في الخوف من عذابه، موقناً بأنّ الله هو الأولى بالرجاء من كلّ أحد وهو الأحقّ بالخشية والاتقاء من كلّ موجود، ليطلب منه العطاء لكلّ ما رجاه، والأمن من كلّ ما حذر منه، والعود عليه بعوائد رحمته، فهو أكرم مسؤول وأفضل مأمول.
* * *
الاستجارة من فضائح الآخرة:
وفي الفصل الخامس حديث عن الموقف في يوم القيامة بعد ضمان الإنسان لنفسه الستر من الله عليه في دار الدنيا، فإذا كان الله قد عفا عنه فستره وتفضّل عليه فرحمه في دار الفناء فإنّ هذا لا يكفي، لأن عار الدنيا كان ثقيلاً زائلاً، ولأنّ فضائحها مهما اشتدت خفيفة، أما فضائح الآخرة فهي العار كلّ العار والفضيحة كلّ الفضيحة، لأنّ الموقف هناك يمثل الموقف الشامل في الحضور الكلّي للملائكة والمقربين والرسل المكرمين والشهداء والصالحين والجيران الذين كان يكتم سيئاته عنهم، والأرحام الذين كان يحتشم منهم، فلا يحدثهم عن أسراره وخفاياه، لأنّهم لم يكونوا أهلاً للثقة في كتمان السرّ وإخفاء العيوب.
ولكنّ الله هو الأساس في الثقة به، لا في السرّ وحده بل في المعفرة له لأنّه أهل المغفرة ولأنّه الأولى في الثقة من موقع لطفه وعطفه على عباده والأكثر عطاءً لمن رغب إليه، والأكثر رحمة لمن استرحمه وهو الذي يجير من استجار به من فضائح دار البقاء بعفوه ومغفرته.
* * *
التحرّر من الشيطان:
وفي الفصل السادس حديث عن نعم الله على الإنسان منذ انطلقت النطفة في رحلة الوجود من صلب تتصل فقراته كلّ منها بالأخرى اتصالاً مفصلياً ودخول كلّ واحدةٍ منها في حفرةٍ معمولةٍ في الأخرى وتضيق تجاويف فقراتها إلى رحم ضيقة مستورة عن الأنظار لتبدأ عملية التطور إلى علقة ثم مضغة ثم إلى عظام ثم اكتست العظام لحماً، ثم انطلق ليكون خلقاً آخر ليكون إنساناً سويّاً، ثم ظهر إلى الوجود وتحركت حاجاته الغذائية فكفلها الله له من خلال اللبن الذي أودعه في ثدي أمه فكان موضع رعاية الله وعنايته التي لولاها لما كان له إلى الحياة سبيل، ولما استطاع أن يحصل على أيّ عنصر من عناصر القوة لأنّه لا يملك في ذاته أي غنى ذاتي منها. وهكذا استمرّ في وجوده من خلال لطف الله لتستمرّ نعمه عليه في كلّ شأن من شؤونه الخاصة والعامة، ليصل إلى غايته في حركة وجوده نحو الأعلى والأفضل في الدنيا والآخرة، ولكن الإنسان يبقى خاضعاً للشيطان الذي يوسوس له بالكثير من وساوس الشر، ويدفعه إلى سوء الظن بالله، ويضعف يقينه به، ويفقد معه الثقة به، ويبتعد به عن معرفته، فينتهي به الأمر إلى الانحراف عن الخطّ المستقيم المتمثل في الانقياد لله والسّير في خط طاعته وتنفتح للإنسان نافذة من الوعي التي تطلّ به على مقام ربه فيكتشف مدى خطر الشيطان عليه، فيشكو ذلك إلى ربّه ويسأله أن يحرره من قبضته، ويبعده عن التأثير فيه، ويطرده من جواره، ويحمي نفسه من الطاعة والخضوع له، ويعصمه من السقوط أمام قوته الشيطانية، ويطلب منه إلى جانب ذلك، أن يسهل له الوصول إلى موارد الرزق، ويقنعه بما قدّره له ويرضيه بما قسمه له، وأن يكتبه من الطائعين له في صحيفة أعماله الماضية من خلال عفوه ولطفه وفضله، فذلك هو الرزق السنوي الروحي بالإضافة إلى الرزق المادي، ويحمده في ذلك كلّه على ابتدائه بالنعم الجسيمة وإلهامه الشكر على النعمة في وعي مضمونها في حياته العامة والخاصة.
* * *
الاستعاذة من النار:
وفي الفصل السابع والأخير حديث عن النار في الدار الآخرة ورجاء في إعاذة الله له منها، هذه النار التي تغلّظ بها في تهديد ووعيد على العاصين الذين أعرضوا عن الوصول إلى مواقع رضاه، وإذا كانت هذه النار تنطلق في شعلتها ولهيبها لتطال ما حولها، فإنّ ذلك لا يمثل النور المشرق الذي يشعّ على الناس، ولكنّه يساوي الظلمة بفعل دخانها وحريقها الذي يؤدّي بالجسد إلى السواد الناشئ من شدة الاحتراق، وفي الوقت نفسه النار التي تمثل منتهى الألم حتى لو كان حجمها بسيطاً، كما تقترب من الإنسان بلهيبها حتى لو كانت بعيدةً، ويأكل بعضها بعضاً ويوصل بعضها على بعض، والتي تسحق العظام حتى تحولها إلى رميم وتسقي أهلها من الحميم الذي يغلي في البطون، ولا تملك قلباً ينفتح على سكانها الذين يتضرعون إليها ويستعطفونها لتبتعد عنهم ليتخففوا من عذابها ولا تستطيع ذلك لو أرادت لأنّها لا تملك من الأمر شيئاً، ولذلك فإنّها تواجههم بأكثر الآلام نكالاً وحرارةً وأشدّها وبالاً كما تطلق عليهم عقاربها وحيّاتها، وينتهي الفصل بالابتهال إلى الله أن يجيره منها ويباعدها عنه ويوفقه للأعمال التي تحميه منها ويقبل له عثرته ولا يخذله في مواطئ الشدة فهو الذي يقي المكاره ويمنح الحسنات ويفعل ما يريد من موقع قدرته التي لا يحدّها شيء.
* * *
اللّهمَّ يَا ذَا المُلْكِ الْمُتَأَبِّدِ بِالخُلُود، وَالسُّلْطانِ الْمُمْتَنعِ بِغَيْرِ جُنُودٍ ولاَ أعْوانٍ، وَالْعِزِّ الْبَاقي عَلَى مَرِّ الدُّهُورِ وَخَوَالي الأَعْوَامِ ومَواضي الأزْمَانِ والأيَّامِ، عَزَّ سُلْطَانُك عِزّاً لاَ حّدَّ لَهُ بأَوَّليّةٍ وَلاَ مُنْتَهى لَهُ بِآخِرِيَّةٍ، وَاسْتعْلَى مُلْكُكَ عُلوّاً سَقَطَت الأَشْيَاءُ دُونَ بُلُوغِ أَمَدِهِ، وَلاَ يَبْلُغُ أدْنَى ما اسْتَأْثرْتَ بِهِ مِنْ ذَلِك أَقْصَى نَعْتِ النَّاعِتيِن، ضَلَّتْ فيكَ الصِّفَاتُ، وَتَفَسَّخَتْ دُونَك النُّعُوتُ، وَحَارَتْ في كِبْريَائِكَ لَطَائِفُ الأوْهَامِ، كَذَلِكَ أنْتَ الأوَّل في أوَّليَّتِكَ، وعَلَى ذَلِكَ أنْتَ دَائِمٌ لا تَزُول.
* * *
أنت الله الذي لا يدرك أحد معناه:
يا ربّ، أيّها الذات المقدسة التي تملك الملك كلّه في مدى الأبد في آفاق اللانهاية السائرة في الغيب الخالد من دون حدود فلا نهاية لملكك، ولا حدّ لسلطانك، يا صاحب السلطان الذي عاشت السلطة في ذاته من ذاتيات قوّته وقدرته وهيمنته على الوجود كلّه، لأنّه الخالق له، فلا يملك أيّ مخلوق الاقتراب من سلطانه، لأنّه القوي بذاته لا بالجنود الذين يحرسونه ويدعمونه ولا بالأعوان الذي يؤيّدونه ويساعدونه، بينما لا يملك المخلوق - أيّا كان - أيّة قوّةٍ في نفسه، لأنّه يمثل الضعف كلّه.
أيّها الربّ العظيم الذي ارتفع عزّه في سلطانه عن حدود الزمن، لأنّه فوق مستوى التجديد، لأنّ الحدود تتحرك من خلال العدم الذي تنطلق البداية في حركة الوجود بعده وتنتهي في نهاية الوجود إليه، أمّا أنت يا ربّ فأنت خالق الزمن، فكيف يمكن له أن يحتويك، عزّ سلطانك الذي هو معنى ذاتك فلا أوّل له ولا آخر، وإذا كان العقل الذي اعتاد في تجربته الوجودية على البداية والنهاية للأشياء لا يستطيع أن يتصوّر الذات المتحررة من العدم بالمعنى الحسيّ، فإنّه يملك - في فكره التأملي - أن يدرك ذلك من خلال حركة الإمكان في المعنى في سرّ الواجب في ذاته.
أمّا ملكك فقد انطق في الأعلى، بحيث انطلقت الأشياء لاهثة لتبلغ مداه، ولتصل إلى مواقع القرب في قمّة العلوّ، فتساقطت مزقاً قبل أن تبلغ أيّ موقع منه، لأنّها خلقك في معنى وجودها، وهي - من خلال ذلك - ملكك، فكيف يمكن أن تتعالى لتقترب منك في علوّك اللانهائي.
وانطلق الواصفون، وتحرّك الناعتون في تجربتهم الفكرية وفي تأملاتهم الروحية، وفي خيالاتهم السابحة في رحاب المطلق، ليعرفوا ذاتك، ويرصدوا صفاتك، ويصلوا إلى شاطئ المعرفة في سرّ ألوهيتك ومعنى ربوبيتك، ووصلوا إلى القمة العليا لما يمكن للكلام أن يتضمنه من صفات أو يحتويه من معان، فلم يبلغوا أدنى مرتبة من ذلك، ورجعوا ليجدوا الصفات في حالة ضياع لا تعرف من أين تبدأ وإلى أين تنتهي، وليروا أنّ النعوت تمزقت وتفسخت، لأنّها لم تستطع أن تحمل السرّ الكامن في سرّ ذاتك، وأنّ الأوهام التي تنطلق بعيداً بعيداً في تخيلاتها وتصوراتها وفرضياتها لا تستطيع أن تحصل على أيّة نتيجة في رحلتها إليك، بل تقع في أمواج الحيرة التي تنقلها من موقع إلى موقع، فلا تملك الاهتداء - في إمكاناتها الذاتية - إلى الحقيقة النورانية المتمثلة في معنى نورك الإلهي.
إنّك أنت الله الذي لا يدرك احد معناه ولا يبلغ مداه، فقد كنت ولم تكن الأشياء، بل كانت بدايتها منك، فأنت الأول في ذات الأولية الوجودية التي لم يسبقها العدم ولم يتخللها ولا يقترب منها في الوجود كلّه، لأنّ الدوام هو المضمون العميق لوجودك الدائم الذي لا يزول.
فيا لهفة الحائرين الذين يريدون الوصول إليك، ويا شهقة المتألمين الذين ينشدون اللذة في القرب منك، ويا خفقة المحبين الذي يتحركون للاحتراق في نار حبّك، ويا دمعة الباكين الذين تتفجّر آهاتهم شوقاً إليك.
إنّني لا أزال في الرحلة التي تنطلق من أجل اللقاء بك.
* * *
وَأَنَا الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَمَلاً، الجَسِيمُ أَمَلاً، خَرَجَتْ مِنْ يَدِي أسْبَابُ الوُصُلاَتِ إلاّ مَا وَصَلَهُ رَحْمَتُكَ، وَتَقَطَّعَتْ عَنِّي عِصَمُ الآمَالِ إلاَّ مَا أنَا مُعْتَصِمٌ بِهِ مِنِ عَفْوِك، قلَّ عَنْدِي مَا أَعْتَدُّ بهِ مِنْ طَاعَتِكَ، وَكَثُرَ عَلَيَّ ما أبُوءُ بِهِ مِنْ مَعْصِيَتكَ، وَلَنْ يَضِيقَ عَلَيْكَ عَفْوٌ عَنْ عَبْدِكَ وإن أسَاءَ، فَاعْفُ عَنِّي.
* * *
أنا العبد المذنب الذي لا ينجيه إلا عفوك:
هذا هو أنت يا ربّ في موقع العظمة والكبرياء، فمن هو - أنا - هذا المخلوق الواقف بيد يديك، أنا عبدك الذي لا يملك العمل الكبير الذي يقربه إليك ويرفعه عندك، بل هو الضعيف في عمله في طبيعته وحجمه ومعناه، فلا أمل من خلال ذات العلم في نتائجه التي تعطي الأمل خضرته اليانعة التي تنمو وتكبر وتزيد، بل الأمل كلّه ينطلق من انفتاحي عليك وتعلّقي بك، واتصالي بمواقع اقرب من لطفك وكرمك.
إنني لو نظرت - يا ربّي - إلى جهدي الذاتي في مسؤولياتي العملية التي حمّلتني إياها لتكون الوسيلة التي توصلني إليك، لما رأيت في ذلك الجهد أيّة وصلة تصلني بك، ولكنّ رحمتك التي تصل على عبادك لتصل إليهم حتى لو لم يملكوا أسباب الوصول إليك، هي التي تحمل إليّ الحبل الذي يصلني بك من خلال الرحمة التي وسعت كلّ شيء.
وإذا تطلعت إلى الآمال التي يعتصم بها الناس ليحققوا أحلامهم وليبلغوا أهدافهم، لتملأ حياتهم بالقوة، ونفوسهم بالثقة، ومواقعهم بالثبات، فلا أجد لدي منها ما يمثل العصمة التي أعتصم بها لتمنعني من الزلزال والانهيار، ولكنّي أتطلع عليك فأجد في عفوك الذي شمل كلّ شيء وامتد ليرعى المذنبين بلطفه، العصمة كلّ العصمة، فانطلق لأعتصم به لأحصل على القوة في الموقع والموقف والحركة المندفعة بكلّ إخلاص نحوك.
إنّني أجد جحيم الطاعات لديّ صغيراً، فليس لدي منها إلا القليل، كما أنّني أجد عدد المعاصي لدي كثيراً حتى يشمل كلّ مواقفي وأعمالي وأقوالي في الحياة إلا ما شذّ وندر، فكيف أواجه الموقف منك.
ليس لي إلا عفوك الذي يتسع للناس كلّهم وللمذنبين جميعاً، فهل يضيق عنّي، وأنا يا ربّ الفقير بكلّ معنى الفقر إليك، يا الله.
* * *
اللّهُمَّ وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى خَفَايَا الأَعْمَالِ عِلْمُكَ، وانْكَشَفَ كُلُّ مَسْتُور دُونَ خُبْرِكَ، وَلاَ تَنْطَوِي عَنْكَ دَقَائِقُ الأُمُورِ، وَلاَ تَعْزُبُ عَنْكَ غَيِّبَاتُ السَّرَائِر، وَقَد اسْتَحْوَذَ عَلَيَّ عَدُوُّكَ الّذِي اسْتَنْظَرَك لِغِوَايتَي فَأَنْظَرْتَهُ، واسْتَمْهَلَك إلى يَوْمِ الدِينِ لإضْلاَلي فأَمْهَلْتَهُ، فَأوْقعَني، وَقَدْ هَرَبْتُ إليْكَ مِنْ صَغَائِرِ ذُنُوبٍ مُوبِقَةٍ، وكَبَائِرِ أعْمَالٍ مُردِيَةٍ، حَتى إذا قارفْتُ مَعْصِيَتَكَ وَاستَوجبْتُ بسوءِ سَعْيي سخطَتك، فَتَل عنِّي عِذارَ غَدْرِهِ، وتَلَقّانِي بِكَلِمَةِ كُفْرِهِ، وَتَوَلَّى البَراءَةَ مِنِّي، وَأدْبَرَ مُوَلِّياً عَنّي، فأصْحَرني لِغَضَبِكَ فَرِيداً، وأخْرجَني إلى فِنَاءِ نَقْمَتِك طَرِيداً، لاَ شَفِيعَ يَشْفَعُ لي إلَيْكَ، ولا خَفيرَ يُؤْمِنُني عَلَيْكَ، وَلاَ حصْنَ يَحْجبُني عَنْكَ، وَلاَ مَلاَذَ ألجأُ إليه مِنْكَ، فهذا مقامُ العائذِ بك ومحلُّ المعترفِ لك، فلا يضيقنَّ عنّي فضلُك ولا يقصُرنَّ دوني عفوُك، ولا أكنْ أخيبَ عبادِك التائبين، ولا أقنطَ وفودِك الآملين، واغفرْ لي إنّك خيرُ الغافرين.
* * *
أعوذ بك من الشيطان الرجيم:
يا ربّ، أنا هنا الإنسان الذي لا يملك في وجوده الحركي المنفتح على الحياة العملية أيّة منطق خفية تخفي عنك ما في داخلها، فكلّ أعمالي مكشوفة لديك، لأنّ علمك يطلّ في إشراقة نوره على كلّ خفايا الأعمال، ولأن إحاطتك بالأمور العميقة البعيدة الغور تكشف كلّ مستور من نشاطاتي الظاهرة والباطنة، لأنّك الله الذي لا يغيب عنه شيء من شؤون عباده في سرهم وعلانيتهم وظاهرهم وباطنهم، حتى الأمور الدقيقة التي لا تراها العين المجردة ولا يحيط بها الفكر، أو الغيوب العميقة في سرائر الناس، لأنّ الشهود والغيب عندك - في علمك - بمنزلةٍ سواء.
وأنا - يا ربّ - الذي أعيش مشكلة الشيطان عدوّك الذي تمرد عليك واستكبر على آدم الذي خلقته ليكون خليفتك في الأرض، فطردته من رحمتك وأخرجته من جنتك، ولكنّه طلب منك النظرة لأغواء بني آدم حسداً منه على المكانة التي منحتها له ولذريته، وتوسّل إليك طالباً تأخير مصيره المحتوم ليبقى في الدنيا مرافقاً لآدم وذريته ليعمل على إخراجهم من الجنة بإضلالهم عن الطريق المستقيم، وهكذا بدأ يدخل إلى مشاعري وإحساسي وأفكاري بوساوسه التي يملك إثارتها في داخل حياتي الداخلية، ويربك خطواتي لينحرف بها عن الدروب التي تؤدّي إليك، ويثير غرائزي بما يملك من وسائل الإثارة التي تضغط على مكامن الإحساس في جسدي لأقع في ساحة المسؤولية التي حملتني إيّاها صريع ذنوب أو كبيرة مهلكةٍ، فهربت إليك منها طلباً لعفوك ومغفرتك.
وهكذا كانت مسيرتي مع الشيطان مشكلة كبيرة لي في كلّ مواقع حياتي، فإنّه يدفعني - بطريقته الخاصة - إلى مقاربة معصيتك، مما أدّى بي إلى أن أقع تحت تأثير غضبك عليّ من خلال غفلتي عن مسؤولياتي في حركتي السيئة في خطّ الانحراف، فهو يمارس كلّ وسائل الخديعة التي تقودني إلى ما يريده من الاندفاع في دروب الضلال في عملية إيحاء لي بأنني لن أحصل من ذلك على أيّ نتائج سلبية، بل ربما أغراني في وسوسته بالنتائج الإيجابية في ذلك، ولكنّه أعرض عني بوجهه وصرف عني عنان غدره بعد أن حصل على مراده، وأعلن لي عند مطالبته بتحمل المسؤولية بأنّه يكفر بإشراكي إياه مع الله في الطاعة، ويتبرأ من ذلك، فإنّه الله وعدنا وعد الحقّ، أمّا هو فإنّه يعد ويخلف، لأنّ طبيعة خطته تفرض ذلك، ولم نكن بعيدين عن معرفته بكلّ قوةٍ وإصرار، وقد حدثتنا عن ذلك في قولك تباركت وتعاليت: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].
وقد عرفتنا - يا ربّ - كيف يدعونا إلى الكفر بك والمعصية لك في إيحاء من وسوسته بأنّنا لن نصاب بسوءٍ من خلال ذلك في غفلة الوعي عندنا، وغفوة الإيمان في حركتنا، وكيف يتبرأ منّا بعد ذلك، وذلك هو قولك يا ربّ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16].
وتلك هي - يا ربّ - قصة الشيطان في تجربتنا النفسية والعملية، فهو يقبل علينا في البداية في حركة الوسوسة والخديعة والحيلة لنسقط في وحول الخطيئة، ليدبر عنّا في إعراض المخادع الذي بلغ مراده، لينطلق - بعد ذلك - في خدعة جديدة ووسوسة مثيرة.
وكانت النتيجة أنّي انطلقت في صحراء الضلال والعصيان وحيداً بارزاً لغضبك ليس هناك ما يحجبني عنه أو يخلصني منه، وتحركت لأواجه ساحة نقمتك في ما توعدتني من عذابك طريداً من رحمتك، تائهاً في متاهات الخوف والحيرة والضياع، فإلى أين ألجأ، وإلى أين أذهب، فلا شفيع من كلّ خلقك ليشفع لي إليك، ولا مجير يحميني منك ويؤمنني عليك، ولا حصن يحتويني ويخفيني عنك، وليس هناك من ملاذٍ ألوذ به أو ملجأ ألجأ إليه منك، لأنّك وحدك الذي تملك الشفاعة فلا شفيع إلا بإذنك، وتملك الإجارة فلا يجير أحد منك، فأنت الذي تجير ولا يجار عليك، وأنت الذي تؤمن ولا يؤمن منك، وأنت الحصن الحصين من كلّ خوف، والملجأ الأمين من كلّ خطر، فلا حصن إلا لديك ولا ملجأ إلا عندك. لأنّك المهيمن على الأمر كلّه، وأنت الذي تكفي من كلّ شيء ولا يكفي منك شيء.
فكيف أواجه ذلك كلّه، وما هي الوسيلة التي أقدمها بين يديك، وأيّ مقامٍ أقوم فيه لأحصل على رضاك وأبلغ مدى عفوك، إنني هناك أقف وقفة المستغيث بك الذي يتوسل إليك أن تعيذه من غضبك وتجيره من سخطك، وانطلق إليك في ساحة الاعتراف بما يعيشه المعترف بالذنب من خوفٍ وحيرةٍ وقلق وابتهالٍ واسترحام وذلّةٍ وهوان، فغني أعترف إليك بذنوبي كلّها، الظاهرة والباطنة، والكبيرة والصغيرة، في إحساس عميق بالخطأ الكبير والجريمة العظيمة، لأنّ المسألة ليست مسألة الذنب في حجمه، ولكنّها مسألة الربّ الذي أسأت إليه في عظمته، فأيّة خطيئة أعظم من خطيئتي، وأيّ ذنبٍ أكبر من ذنبي؟ وأنا - يا ربّ - في هذا الموقف، أتوسّل إليك أن يتسع لي فضلك الذي اتسع لعبادك كلّهم فلا يضيقن عنّي، وأن يمتد إليّ عفوك الذي امتدّ إلى غيري من المذنبين الذين لم يمنعك طول عكوفهم على عظيم الذنب أن عدت عليهم بعفوك، فلا يقصرن عني - يا ربّ - فإني لست أكثر ذنباً ممن عفون عنهم.
وأنا التائب النادم على ما فرط منه من الخطايا، المستقبل لكلّ فرص الطاعة في ما يقبل عليه، وأنت الذي تقبل التوبة عن عبادك وتعفو عن السيئات وتحبّ التوابين، فاقبل توبتي - يا ربّ - ولا تجعلني أكثر عبادك التائبين خيبةً، فإنّك الربّ الرحيم الذي لا يخيّب من رجاه، وأنا - يا رب - الإنسان الذي أحاطت به كل عوامل اليأس من كلّ ما حولي ومن حولي، وأنت تعلم - يا ربّ، كيف يسقط اليأس من كلّ ما حولي ومن حولي، وأنت تعلم - يا ربّ - كيف يسقط اليائس في وهدة يأسه، وكيف يهرب من الحياة إذا اختنق إحساسه بامتدادها وأنت الأمل يا إلهي، فكيف أيأس وأنا أؤمل بك، وكيف يضغط علي القنوط وأنا أعيش الرجاء بعفوك، وكيف أتحيّر في متاهات الضياع وأنا الوافد عليك الذي يهتدي في كلّ سيره بهداك فلا يضيع في الطريق إليك، فاجعلني ممن تحقّق أمله، وتطرد يأسه، وتزيل قنوطه، وتكرم وفادته، وتمنحه عفوك، فلا أكون أكثر وفودك الآملين قنوطاً، بل أكون أكثرهم أملاً ورجاءً ووصولاً إلى رضوانك، إنّني هنا - يا ربّ - من أجل المغفرة لي لأقف بين يديك وقفة المخلوق الذي حرّره خالقه من عقدة ذنبه ومن ثقل خطاياه، لأنّه خير الغافرين الذي يغفر لمن عصاه، ليمنحه الفرصة في الطاعة في مستقبل أمره حتى لا يبقى متخبطاً في وحول الخطيئة كموقعٍ لازمٍ له.
* * *
 اللهم إنّك أمرتني فتركت، ونهيتني فركبتُ، وسوَّل لي الخطأ خاطرُ السوءٍ ففطرتُ، ولا أستشهدُ على صيامي نهاراً، ولا أستجير بتهجّدي ليلاً، ولا تثني عليّ بإحيائها سنةٌ، حاشى فروضِك التي من ضيّعها هلَكَ، ولست أتوسلُ إليك بفضلِ نافلةٍ مع كثير ما أغفلتُ من وظائفِ فروضِك، وتعديتُ عن مقاماتِ حدودكَ، إلى حرماتٍ انتهكتها وكبائرِ ذنوبٍ اجترحتُها، كانت عافيتُك لي من فضائحها ستراً.
وهذا مقامُ من استحيى لنفسه منك وسخط عليها ورضي عنك، فتلقاك بنفسٍ خاشعةٍ ورقبةٍ خاضعةَ، وظهرٍ مثقلٍ من الخطايا، واقفاً بين الرغبة إليك والرهبة منك، وأنت أولى من رجاه وأحقُّ من خشيه واتَّقاه، فأعطني يا ربّ ما رجوتُ، وآمنّي ما حذرتُ، وعُد عليّ بعائدةِ رحمتك، إنّك أكرمُ المسؤولين.
* * *
اللهم عُدْ عليَّ بعائدة رحمتك:
 يا ربّ، ها أنا أقف موقف حساب لنفسي في ما مضى من عمري في موقع المسؤولية أمامك، فوجدت أنّك أمرتني بالخير والعدل والإحسان والعمل بما يقربني منك ويربطني بك ويرتفع بي إليك من مواقع طاعتك، فتمردت وابتعدت عن الخطّ المستقيم، فتركت ما أمرتني به غفلةً ونسيانا، ورأيت أنّك نهيتني عن الشرّ والظلم والفحشاء والمنكر والبغي وكلّ ما يبعدني عنك وينزل بي إلى مواقع السقوط من وسائل المعصية، وتحركت بي نوازع السوء في النفس الأمارة، فسوّلت لي الخطأ في الفكر والقول والفعل والموقف والموقع، فكنت أنتقل من خطأ إلى خطأ ظنّاً منّي بأنّ الصواب في هذا والخير في ذاك والربح في هذا الشيء أو ذاك، فانتهى بي الأمر إلى التفريط بالمصير المتمثل برضاك ومحبتك، فضيعت أكثر من فرصة وقصرت في أكثر من مسؤولية.
وأنا في هذا الموقف أسأل نفسي ماذا أقدم إليك من أعمالي، فهل يشهد نهاري لي بصيامي فيه قربة إليك ومحبّة لك؟ وهل أستجير من غضبك بالتهجد في الليل بالاستغراق في عبادتك والابتهال إليك في طلب مرضاتك ساهراً متململاً خاشعاً لك؟ وهل أنا ممن تتحرك نشاطاته لإحياء سنّتك التي أردت لعبادك أن يحيوها ويقيموها ويواظبوا عليها ويحافظوا على حدودها لأنّ فيها صلاحهم وصلاح الحياة من حولهم، فقد أهملت ذلك كلّه واستسلمت لنوازع الكسل اللاهي في حياتي المنفتحة على الراحة من كلّ جهدٍ في الطاعة. ولكنّي مهما قصرت في ذلك، فقد التزمت بفرائضك لأنّي أدركت أن تضييعها يؤدّي إلى الهلاك، فهي مفتاح الدخول إلى بابا رحمتك وساحة رضاك، فإنا أقدّمها بين يديك، أمّا النوافل فإنّي لا أملك منها ما يبلغ بي درجة الفضل عندك وما يمنحني موقع التوسل إليك، لأنّي مشغول عنها بلهو الحياة وعبثها في حركة الذات، مع تقصيري الكبير وغفلتي المطبقة عن شروط فروضك التي تعمّق معناها في الوجدان، وترتفع بروحانيتها في الروح، وتنفخ بإخلاصها وحضورها في القلب، وتكمل حركيتها في الذات، لأنّ العبادة ليست كلمة يقولها المتعبد، وليست عملاً يؤدّيه، بل هي حركة في العقل والروح والقلب واللسان والجسد، في عملية ذوبان في الله وانفتاح عليه وعروج إليه وانسحاقٍ أمامه، ليعيش حضور الله كأعمق ما يكون الحضور في وجدانه، فيحس به كما لو كان حاضراً عنده يشاهده ويحاكيه. فقد ورد في الصحيح: إنما لك من صلاتك ما أقبلت عليه، وعن الإمام الباقر(ع) "أن العبد ليرفع له من صلاته نصفها أو ثلثها أو ربعها أو خمسها، فما يرفع له إلا ما أقبل عليه بقلبه، وإنما أمرنا بالنافلة ليتمّ لهم بها ما نقصوا من الفريضة"(1)، وليست المسألة في السلوك الذي يبعدني عنك هو هذا الإغفال عن وظائف فروضك بإهمال العمق الروحي في حركيتها في الذات، بل هناك الإعراض عن مقامات حدودك والتعدي عنها وتجاوزها وعدم الوقوف عندها، فإنّك - يا ربّ - قد حددت لعبادك حدوداً  ودعوتهم إلى الوقوف عندها، لأنّ ذلك هو الذي يبتعد بهم عن الهلاك ويقف بهم عند حدود مصالحهم ويقربهم إليك في الدنيا والآخرة، وقد قلت في كتابك:{ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] وها أنذا - يا ربّ - في موقع الاعتراف بين يديك، فقد انتهكت أكثر من حرمة من حرماتك التي جعلتها عليَّ فرضاً مفروضاً وحدّاً محدوداً ودائرة مغلقة وساحة محرّمة، فتجاوزت ذلك كلّه، وقد اكتسبت أكثر من كبيرة من كبائر المعاصي التي توعدت عليها بالنار، فلم يردعني ذلك عن الاجتراء عليك بالإتيان بها، ولولا عافيتك التي أسبغتها عليّ وسترك الذي غشيتني به، لافتضحت أمام الخلائق وسقطت من عيونهم واكتسبت الذل والحقارة والسقوط عندهم.
وها أنا يا ربّ، التارك لأمرك، والمواقع نهيك، والمفرّط في مواقع السوء، والبعيد عن ساحات محبتك، والمتعدي على مقامات حدودك، والمنتهك لحرماتك. إنّني - يا ربّ - أقف بين يديك وقد امتلأت نفسي بمشاعر الحياء منك والسخط عليها والرضا عنك، وأيّ حياءٍ أعظم من حياء الإنسان من ربه الذي هو سرُّ وجوده ومفيض نعمته عليه ومالك أمره عندما يقف أمامه في موقف العاصي المتمرد، وأيّ سخط على النفس أشدّ من إحساس الإنسان بها وقد قادته إلى غضب الله وسخطه الذي لا تقوم به السماوات والأرض، فكيف يقوم به عبد ضعيف مثله؟! وأيُّ رضا أكبر من رضا الإنسان عن ربّه الذي أعطاه كلّ شيء وأفاض عليه من لطفه في كلّ موقع ووعده الدخول في جنته إذا عمل خيراً.
ومن خلال كلّ هذه المشاعر والأحاسيس التي تنفذ إلى داخل النفس، أقف يا ربّ بنفس خاشعة أمام الإحساس بعظمة الألوهية في ذاتك وسر العبودية في ذاتي، ورقبتي خاضعة لك بكلّ معنى الانسحاق النفسي أمامك، وانحناء الكيان كلّه لك، وظهر مثقل من الخطايا، فقد أثقلت الذنوب حياتي، وحملت ظهري الكثير من الجهد، وقادت خطواتي إلى مرحلة الإعياء، تشدّني إليك الرغبة بالعفو وتوقفني الرهبة منك، لأنّك الغفور الرحيم الشديد العقاب، فأنت الأولى بالرجاء، لأنّ رحمتك وسعت كلّ شيء وسبقت غضبك، وأنت الأحقّ بالخشية والاتقاء، لأنّك القويّ الذي لا حدّ لقوته والعظيم الذي لا منتهى لعظمته، فأعطني يا ربّ من عفوك بمقدار رجائي، وعُد عليّ بما تعود به على المذنبين من رحمتك، بواسع رحمتك إنك أكرم المسؤولين، وأيّ مسؤول أكرم منك وأنت الكريم الذي لا يمنع أحداً من خلقه فضله ولا يحجب سائلاً عن إجابة سؤاله يا ربّ العالمين.
* * *
اللهمَّ وإذ سَتَرْتَنِي بعَفْوِكَ، وتغمَّدتَني بِفضْلِكَ في دارِ الفناءِ بحضرةِ الأكفاءِ، فأجِرْنِي من فضيحاتِ دارِ البقاءِ عند موَاقِفِ الأشْهَادِ، من الملائِكة المقربين والرسلِ المكرمين، والشهداءِ والصالحينَ، من جارٍ كنتَ أكاتِمُه سيّئاتي، ومن ذي رحمٍ كنت أحْتَشمُ منه في سريراتي، لم أثقْ بهم ربِّ في السرّ عليّ، ووثقتُ بكَ ربِّ في المغفرةِ لي، وأنت أولى من وُثِقَ به، وأعطى من رُغِبَ إليه، وأرأَفُ مَنِ استُرْحِمَ، فارحمني.
* * *
اللهم أجرني من فضيحات دار البقاء:
يا ربّ، إنَّ هناك مسألةً تؤرقني، وتقتحم عليّ السكينة الروحية، وتشغل بالي في حسّ الكرامة عندي في موقف القيامة، فقد تفضلت عليّ في الدين بالستر والعفو والحماية من الفضيحة مما مارسته من المعاصي وتجاوزت به حدودك من السيئات وألبستني فضلك، فلم تظهر فضائحي الخفية من صغائر الذنوب وكبائرها في المجتمع الذي أعيش فيه ويعيش فيه أمثالي من الناس ممن يزعجني إطلاعهم على نقاط الضعف العملية في شخصيتي في حياتي العامة والخاصة. وإذا كنت قد تفضّلت عليّ في دار الدنيا بالستر والعافية، فإن أبتهل إليك من عمق إنسانيتي الباحثة عن موقع الكرامة في الآخرة كما هو في الدنيا، أن تجيرني في موقف الفضيحة في يوم القيامة في المواقف الصعبة، حيث يقف الأشهاد الذين يمثلون الموقف المميز والدرجة الرفيعة من الملائكة المقربين والرسل الكرام والشهداء الذين بذلوا أنفسهم في ساحة الجهاد في سبيلك والصالحين الذين ارتضيتهم من خلال صلاحهم في الفكر والقول والعمل.
أجرني يا ربّ من الفضائح في ذلك الموقف الذي يجتمع فيه الناس الذين كنت أعيش معهم في الدنيا، من جارٍ كنت أخفي عنه سيئاتي وأظهر أمامه بالمظهر الحسن، ومن ذي رحمٍ كنت أعاشره بطريقة الاحتشام منه فلا أطلعه على ما أستره من أفكار ونيَّات ودوافع خفية ممّا لا أحبّ له ولا لغيره أن يطلع عليها، لأنّني لا أثق بهم في حفظ السرّ وكتمانه، فلا تفضحني عندهم بكشف عيوبي وإظهار سريرتي، فإنّ لي ملء الثقة بك من خلال رحمتك التي وسعت كلّ شيء ولطفك الذي أفاض نعماء على كل محلوق، أن تغفر لي وترحمني، فليس هناك مثلك من يوثق به ويرغب إليه ويرأف بعباده ويرحمهم، فارحمني يا أرحم الراحمين.
* * *
اللهُمَّ وأنت حَدَرْتَني ماءً مهيناً من صُلبٍ مُتَضَائقِ العظامِ، حَرِجِ المسالكِ، إلى رحمٍ ضيّقةٍ ستَرْتَها بالحُجُبِ، تُصَرِّفُني حالاً عن حالٍ، حتى انتهيت بي إلى تمامِ الصورةِ، وأثبتَّ فيَّ الجوارح كما نعتَّ في كتابك(2): نطفةً(3) ثم علقةً(4) ثم مضغةً(5) ثم عظاماً ثمَ كسوتَ العظامَ لحماً ثم أنشأْتنِي خَلْقاً آخر كما شئتَ، حتى إذا احتجتُ إلى رزقِكَ ولم أستغنِ عن غِياثِ فَضْلِكَ، جعلتَ لي قوتاً من فضلِ طعامٍ وشرابٍ أجْرَيْتَهُ لأمَتِكَ التي أسكَنتْنِي جوفَها وأوْدَعَتْني قرارَ رحِمِها.
ولَو تَكِلُني يا ربّ في تلك الحالات إلى حولي أو تضطرني إلى قوتي، لكان الحوُل عنّي معتزلاً، ولكانت القوةُ مني بعيدةً، فغذوتني بفضلك غذاءَ البَرِ اللطيفِ، تفعلُ ذلك بي تطوّلاً عليّ إلى غايتي هذه، لا أعدمُ برَّك، ولا يبطئُ بي حسنُ صنيعِكَ، ولا تتأكدُ مع ذلك ثقتي، فأتفرّغَ لِما هو أحْظى لي عندك.
قد مَلَك الشيطانُ عناني في سوءِ الظنّ وضُعفِ اليقينِ، فأنا أشكو سوءَ مَجاوَرِته لي، وطاعةَ نفسي له، وأستعصمك من مَلكته، وأتضرّعُ إليك في صرفِ كيدهِ عني، وأسألكَ في أن تسهّلَ إلى رزقي سبيلاً.
فلك الحمدُ على ابتدائك بالنِّعم الجسام، وإلهامِك الشّكرَ على الإحسانِ والإنعامِ، فصلِّ على محمّدٍ وآلهِ، وسهِّلْ عليَّ رزقي، وأن تقنِّعني بتقديرِكَ لي، وأن ترضيَني بِحِصَّتي في ما قسمتَ لي، وأن تجعلَ ما ذهب من جسمي وعمري في سبيل طاعِتك، إنّك خيرُ الرازقين.
* * *
اللهم أنت حدرتني ماءً مهيناً:
يا ربّ، عندما أفكر في وجودي الذي كان هبةً منك ونفحةً من نفحاتك ونعمةً من نعمك، كيف انطلق في بدايته، وكيف نما في حركته، وكيف اكتمل في صورته، فأرى أنّك أنزلته ماءً مهيناً من منطقة العظام والطرق، بحيث يتحرك في مسارب ضيقة لينزل إلى رحم ضيقةٍ محدودة مستورة بأكثر من حجاب في عملية دقيقة طبيعية لينـزل إلى رحم ضيقةٍ محدودة مستورة بأكثر من حجاب في عملية دقيقة طبيعية تنفتح فيها النطفة على سرّ الحياة في داخله، لتبدأ رحلة إنسان جديدة في حيوية النمو الذي منحته إياها، لتنتقل في تطورها إلى علقة ثم مضغة، ثم لتشتد فتتحول إلى عظام تمثل القاعدة الصلبة لبناء هذا المخلوق الجديد، ثم تتطور في حيوية النشوء لتكتسي العظام باللحم الذي يمثل حركة الحياة في الجسد، ثم تتكامل الشخصية الإنسانية إلى إنسان كامل يجسد قدرة الله في عناصره الحية من الوعي والإرادة والحركة والانفتاح على الحياة كلّها من خلال إنسانيته المتحركة في كلّ طاقات جسده.
وهكذا - يا ربّ - كنت في رحلة النموّ والسير نحو الحياة بحاجة إلى الغذاء وإلى الشراب لتستمر بي حركة الحياة الجنينية، وليست لي أيّة قدرة على الحصول على ذلك من خلال قصوري الذاتي، فمنحتني طعامي وشرابي بفضل قدرتك بما أودعته من ذلك كلّه في أمي التي هي آمتك، وكنت في جوفها وفي عمق رحمها.
ولو تركتني في تلك الحالات وأوكلتني إلى ذاتي - لما استطعت أن أحصل على أيّة درجة للنموّ أن أخرج إلى الحياة، فأيّ حول لي وأيّة قوّةٍ لدي في تلك المرحلة.. فكان غذائي منك من خلال برّك ولطفك بي، إفضالاً منك وإحساناً، لتصل بي إلى النتائج المرجوّة في الغاية التي حددتها لي لبلوغي إليها، ويبقى برك بي ويستمرّ ويكبر صنيعك لي ويحسن ويعظم مما كان يفرض عليّ أن أختزن في عمق وجداني وصفاء فطرتي الثقة بك، وأتحرك لعبادتك شكراً واعترفاً بفضلك ومنّك، وأتفرغ لمسؤولياتي التي حملتني إياها للحصول على قربك ورضاك ومحبتك... ولكنّي - بدلاً من ذلك- تمردت وانحرفت وابتعدت عن صراطك المستقيم، وعشت في غيبوبة الغفلة الضبابية التي تحجب عني وضوح الرؤية، واستسلمت للشيطان ووساوسه وخطراته وأحابيله، فما كان منه إلا أن سيطر عليّ وبدأ يزرع في نفسي سوء الظن بك وضعف اليقين بوعدك ووعيدك، حتى سقطت تحت تأثيره.. وها أنذا - يا ربّ - في هذا الموقف الصعب الذي وضعتُ فيه نفسي، أرفع شكواي إليك من طاعة نفسي له، ومجاورته السيئة لي، بحيث ينفذ إلى عقلي وقلبي وغرائزي وما حولي، ليزين لي القبيح ويقبح لي الحسن، وأسألك الحفظ والوقاية والعصمة من سيطرته عليَّ، وأبتهل إليك أن تخلصني منه ومن مكره وكيده وخدعه وأمانيه وغروره، وأن تعيد لي الثقة بك والتوكل عليك بما يتعلق بأمر رزقي، لتسهل لي الطريق إليه، ولتلهمني المعرفة بموارده ومصادره، لتتأكد ثقتي بك، فأنفتح عليك، فلا أستعين بغيرك ولا أثق إلا بك، وأن تجعل في نفسي الشعور بالقناعة والرضى في ما قدرت لي من رزق مما يلبي حاجاتي تبعاً لتقديرك لي في الحياة، فأرضني بما قسمت لي من حصتي في ذلك كلّه، وتفضّل علي بتبديل كلّ ما أسلفته من المعاصي في عمري إلى طاعة، فتغفر لي ذنوبي السالفة وتهبني من ثوابك كما لو كنت قد أطعتك.
ويبقى لي أن أحمدك على كلّ نعمك وفواضلك عندي، وأن أشكر على كلّ إحسانك وإنعامك ورزقك الذي به قوام حياتي، إنّك خير الرازقين.
* * *
اللهم إنّي أعوذُ بك من نار تغلّظْتَ بها على مَنْ عَصَاك، وتوعّدْتَ بها مَنْ صَدَفَ عن رضَاكَ، ومن نارٍ نورُها ظلمةٌ، وَهَيِّنُها أليمٌ وبعيدُها قريبٌ، ومن نارٍ يأكلُ بعضها بعضٌ، ويصولُ بعضُها على بعضٍ، ومن نارٍ تذُر العظامَ رميماً، وتسقي أهْلَها حميماً، ومن نارٍ لا تبقي على من تضرَّعَ إليها، ولا ترحمُ من استعطفها، ولا تقدرُ على التخفيفِ عمَّن خشَع لها واستسلم إليها، تلقى سكّانها بأحرِّ ما لديها من أليمِ النكالِ وشديدِ الوبالِ.
وأعوذ بك من عقاربها الفاغرة أفواهها، وحيّاتِها الصالقةِ بانيابِها، وشرابِها الذي يقطعُ أمعاءَ وأفئدةَ سكانِها وينزعُ قلوبَهم، وأستهديك لما باعَد منها وأخَّر عنها.
اللهمّ صلّ على محمّد وآله، وأجرْني منها بفضلِ رحمتِك، وأقلْني عثراتي بحُسنِ إقالَتِك، ولا تخذلْني يا خيرَ المجيرين، اللهم إنّك تقي الكريهةَ، وتعطي الحسنة، وتفعلُ ما تريدُ، وأنت على كلّ شيءٍ قديرٌ.
* * *
اللهم أعوذ بك من نارك:
يا ربّ، أعذني من النار التي لا يتصور الناس مهما امتد بهم الخيال طبيعتها ومعناها ومداها وقسوتها وعذابها وضراوتها، وإن التقينا ببعض الكلمات التي قد أتصور شيئاً ضئيلاً من ملامحها.
فهي النار التي تشددت فيها على من بارزك بالمعصية وذلك قولك: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
وتوعدت بها المعرضين عن مواقع رضاك والسائرين نحو مواقع غضبك، وهي النار التي تختزن النور في معناها، ولكنّه يتحول إلى ظلمة في خصائصها وعناصرها ودخانها، وربّما كانت تختلف عن النيران الأخرى في سوادها وظلمتها مما لا يتصور الفكر، فهي نوع غريب من النار، وقد ورد في الحديث أنّها أشدّ سواداً من القار، أي الزفت، وفي حديث آخر أنّ جهنم سوداء مظلمة لا ضوء لها ولا لهبها.
وكان سلمان الفارسي (رضي الله عنه) يقول: نار الآخرة سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا حرّها(6)، وهي النار التي لو تصوّرنا أنّ هناك بعض اللين والسهولة فيها، لتصورناه أليماً لا يملك الإنسان الذي يدخلها إلا أن يشعر بالعذاب من شدّة لهيبها، لأنّ السهل فيها شديد والقليل منها كثير.
وهي النار التي مهما ابتعدت في مكانها عن الأشخاص لكانت بمثابة القريب الذي يصيبه حرّها، لأنّ حرارتها لا يختلف فيها حال البعد عن حال القرب، وقد روي: لو أنّ رجلاً كان بالمشرق وجهنّم بالمغرب ثمّ كشف عن غطاء منها لغلت جمجمته(7).
وهي النار التي يشتد لهبها كما لو كان بعضها يأكل بعضاً ويحطم بعضها بعضاً، كما جاء في حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالي(ع): "أعلمتم أنّ مالكاً إذا غضب على النار حطّم بعضها بعضاً لغضبه"(8)؟!
وهي النار التي تحوّل العظام إلى رميم بالٍ وتسقي الساكنين فيها الماء الحميم الشديد في حرارته.
ومن خصائصها أنّها تمثل القسوة الشديدة التي لو تضرّع إليها أهلها لما أبقت عليهم، ولو استعطفوها لما رحمتهم، ولا تملك التخفيف عنهم حتى لو خشعوا لها واستسلموا إليها، بل تلقاهم بأشدّ ما لديها من الحرّ في مستوى عقابها، وأكثر ما ينالهم من سوء العاقبة، لأنّها تختزن ذلك في طبيعتها.
ومن عجائبها أن عقاربها الفاتحة أفواهها وحيّاتها الصالقة بأنيابها، تزحف لتنال من أهلها، وأنّ شرابها يقطع أمعاء وأفئدة سكانها وينزع قلوبهم.
وها أنا - يا ربّ - أسألك أن تهديني إلى ما يباعدني عنها ويؤخرني عنها من الإيمان والعمل الصالح اللذين يقربانني منك ويشدانني إلى ما فيه رضاك.
اللهم صلّ على محمّد وآله، واحملني إلى ساحات أمنك لتجيرني منها بفضل رحمتك التي تغفر بها للمذنبين، واعف عن زلاتي بجميل عفوك الذي تسبغه على الخاطئين، واجعلني في جوارك ولا توقعني في مواقع خذلانك يا خير من أجار المستجيرين به، فقد تعودنا - يا ربّ - من كرمك وجميل صنعك، أن تحفظنا من كلّ كريهة، وأن تمنحنا كلّ حسنة، فإنّك تفعل ما تريد ولا يفعله غيرك، وأنت القادر على كلّ شيء فلا يعجزك شيء، من أمور عبادك في الدنيا والآخرة.
وتبقى الصلاة على محمد وآله الذين ارتفعوا معه إلى القمة في موقع الأبرار، عندما يذكر الأبرار في فضائلهم وقربهم من الله سبحانه، وتستمرّ في الزمن كلّه مهما اختلف الليل والنهار من دون انقطاع في مددها ولا إحصاء لعددها، ويمتلىء بها الفضاء والأرض والسماء. وتبقى معه في مدى العمر نصلي عليه حتى يرضى وبعد الرضى حتى اللانهاية التي لا التي تقف عند حدّ ولا تنتهي إلى منتهى، يا أرحم الراحمين.
وهكذا نعيش هدأة الليل في روحانية العبادة وانفتاح الدعاء وطهارة الروح وصفاء الشعور، لنعبدك ونسمو بك ونصفو في إشراقة النور وروحية الظلام وخشوع العبودية الخاضعة للألوهية المطلقة، وتبقى الصلاة في الليل سمّواً وروحاً وطهراً وعبادة.
فهل أبلغ رضاك؟ إنّها أمنية المبتهلين الخاشعين المستغفرين، يا ربّ العالمين.
* * *
الهوامش:

(1)    الكافي، ج:3، ص:362، رواية:1.
(2)    إشارة إلى قوله تعالى في سورة "المؤمنون": {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ*ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ*ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12-14].
(3)    النطفة هي المني.
(4)    العلقة: القطعة الجامدة من الدم.
(5)    المضغة: قطعة من اللحم مستحيلة من العلقة.
(6)    الترغيب والترهيب، ج:4، ص:465.
(7)    سفينة البحار،ج:2، ص:619.
(8)    نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، الخطبة: 183، ص:193.


دعاؤه(ع)
في الاستخارة

اللّهُمَّ إِنّي أَسْتَخيرُكَ بِعِلْمِكَ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاقْضِ لي بِالْخِيَرَةِ، وَأَلْهِمْنا مَعْرِفَةَ الاخْتِيارِ، وَاجْعَلْ ذلِكَ ذَريعةً إِلَى الرِّضا بِما قَضَيْتَ لَنا، وَالتَّسْليمِ لِما حَكَمْتَ.
فَأَزِحْ عَنّا رَيْبَ الارْتِيابِ، وَأَيِّدْنا بِيَقينِ الْمُخْلِصينَ، وَلا تَسُمْنا عَجْزَ الْمَعْرِفَةِ عَمّا تَخَيَّرْتَ، فَنَغْمِطَ قَدْرَكَ، وَنَكْرَهَ مَوْضِعَ رِضاكَ، وَنَجْنَحَ إِلَى الَّتي هِيَ أَبْعَدُ مِنْ حُسْنِ الْعاقِبَةِ، وَأَقْرَبُ إِلى ضِدِّ الْعافِيَةِ.
حَبِّبْ إِلَيْنا مانَكْرَهُ مِنْ قَضائِكَ، وَسَهِّلْ عَلَيْنا ما نَسْتَصْعِبُ مِنْ حُكْمِكَ، وَأَلْهِمْنَا الانْقِيادَ لِما أَوْرَدْتَ عَلَيْنا مِنْ مَشِيَّتِكَ، حَتّى لا نُحِبَّ تَأْخيرَ ما عَجَّلْتَ، وَلا تَعْجيلَ ما أخَّرْتَ، وَلا نَكْرَهَ ما أَحْبَبْتَ، وَلا نَتَخَيَّرَ ما كَرِهْتَ، وَاخْتِمْ لَنا بِالَّتي هِىَ أَحْمَدُ عاقِبَةً، وَأَكْرَمُ مَصيراً، إِنَّكَ تُفيدُ الْكَريمَةَ، وَتُعْطِي الْجَسيمَةَ، وَتَفْعَلُ ما تُريدُ، وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَىْء قَديرٌ.
* * *
تحديد الاستخارة:
الاستخارة، طلب الخيرة، وهي الاختيار. وفي أساس البلاغة: "استخرت الله في ذلك فخار لي، أي طلبت منه خير الأمرين فاختاره لي"(1).
والاستخارة هي الوسيلة التي يستخدمها المسلمون للتعرّف على المستقبل في الأمر الذي يتحركون نحوه فعلاً وتركاً، ويعيشون في حيرةٍ من خلال احتمالات الصلاح والفساد أو الخير والشرّ فيه، ولا يملكون طريقاً إلى معرفته، فيلجأون إلى الله ـ بطريق متعددة ـ ليختار لهم ذلك أو ليتعرفوا طبيعته في المصلحة والمفسدة فيه وقد شاع أمرها بين المسلمين واستفاضت الأحاديث في الدعوة إليها والتأكيد على شرعيتها.
فقد جاء في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله(ص) يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلّها كالسورة من القرآن، يقول: إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علاّم الغيوب، اللهم إن كنت تعلم هذا الأمر - وتسميه - خيراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فقدره لي، ويَسّره لي، وبارك لي فيه، وإن كنت تعلم أنّه شرّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فأصرفه عنّي، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيثما كان، ورضّني به(2).
وعن أنس قال: قال رسول الله(ص): "يا أنس، إذا هممت بأمر فاستخر ربّك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك فإنّ الخير فيه"(3).
وجاء في الكافي، في ما رواه الكليني بسند صحيح، قال: قال أبو عبد الله: "صلِّ ركعتين، واستخر الله، فوالله ما استخار الله مسلم إلاَّ خَارَ له البتة"(4).
* * *
أشكال الاستخارة:
وقد تنوعت أشكال الاستخارة، فهناك الاستخارة بالدعاء وقد تقدم الحديث عنه في رواية البخاري، وجاء في الكافي عن الإمام الباقر(ع): "كان عليُّ بن الحسين(عليهما السلام) إذا همّ بأمر حجٍّ أو عمرةٍ أو بيع أو شراءٍ أو عتقٍ تطهر ثم صلى ركعتي الاستخارة، يقرأ فيهما وسورة الرحمن، ثم يقرأ سورة الحشر المعوذتين وقل هو الله أحد، ثم يقول: اللهم إن كان كذا وكذا خيراً لي في ديني ودنياي وآخرتي وعاجل أمري وآجله فيسّره لي على أحسن الوجوه وأجملها، وإن كان كذا وكذا شراً لي في ديني  ودنياي وآخرتي وعاجل أمري وآجِلِهِ فاصرفه عني على أحسن الوجوه، ربّ اعزم لي على رشدي، وإن كرهت ذلك أو أبته في نفسي"(5).
وهناك الاستخارة بالمصحف، وقد جاء في رواية الشيخ الطوسي في التهذيب بسنده إلى اليسع القمي، قال: قلت لأبي عبد الله جعفر الصادق(ع): "أريد الشيء فأستخير الله فيه، فلا يوفق فيه الرأي، أفعله أو أدعه؟ فقال: انظر إذا قمت إلى الصلاة، فإنّ الشيطان أبعد ما يكون من الإنسان إذا قام إلى الصلاة، فانظر إلى شيء يقع في قلبك فخذ به وافتح المصحف، فانظر إلى أوّل ما ترى فيه فخذ به إن شاء الله تعالى"(6).
وهناك الاستخارة بالرقاع، وقد جاء في رواية الكافي عن غير واحد بسنده عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله جعفر الصادق(ع)، قال: "إذا أردت أمراً فخذ ست رقاع، فاكتب في ثلاث منها "بسم الله الرحمن الرحيم ـ خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان ابن فلانة، افعله" وفي ثلاث منها "بسم الله الرحمن الرحيم، خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان ابن فلانة، لا تفعل"، ثم ضعها تحت مصلاك، فإذا فرغت فاسجد سجدة، وقل فيها مائة مرة: "أستخير الله برحمته خيرة في عافية" ثم استوِ جالساً وقل: اللهم خر لي واختر لي في جميع أموري في يسر منك وعافية"، ثم اضرب بيدك إلى الرقاع فشوشها وأخرج واحدة واحدة، فإن خرج ثلاث متواليات "افعل" فافعل ذلك الأمر الذي تريده، وإن خرج ثلاث متواليات "لا تفعل"، فلا تفعله، وإن خرجت واحدة "أفعل"، والأخرى" لا تفعل"، فأخرج من الرقاع إلى خمس، فانظر أكثرها فاعمل به، ودع السادسة لا تحتاج إليها"(7).
وهناك الاستخارة بالسبحة، وجاء الحديث عنها في عدّة أخبار.
* * *
وقد اختلف العلماء في بعض هذه الأساليب في اكتشاف المستقبل مما يريد الإنسان فعله وتركه، فقد أنكر محمد بن إدريس الاستخارة بالرقاع مطلقاً، فقال في السرائر: "أما الرقاع والبنادق والقرعة فمن أضعف أخبار الآحاد وشواذ الأخبار".
وقال: "والمحصلون من أصحابنا ما اختاروا في كتب الفقه إلا ما اخترناه من الاستخارة بالدعاء، ولا يذكرون البنادق والرقاع إلا في كتب العبادات"(8). وردّه علماء آخرون كالعلاّمة الحلي في المختلف(9)، والشهيد في الذكرى(10).
* * *
مواقع الاستخارة:
ولسنا - هنا - في مقام تحقيق المسألة من الناحية الفقهية، فهناك أكثر من ملاحظةٍ على بعض ما ذكروه من الأحاديث من حيث التوثيق في السند والدقة في المتن، ولكننا نريد أن تؤكّد على نقطةٍ حيوية مهمة، وهي أن الاستخارة ليست بديلاً عن التفكير في القضايا التي يريد الإنسان القيام بها أو الإعراض عنها، مما قد تختلف فيه وجوه الرأي من حيث المصالح أو المفاسد الكامنة في داخلها أو الاحتمالات المتنوعة في هذا الموقف أو ذاك، فإنّ الله لا يريد للإنسان أن يجمّد تفكيره في اختيار موقفه أو موقعه في أموره الخاصة أو العامة باعتبار مسؤوليته في عملية الاختيار التي تحدّد له عمله وخياره، فإنّ الله سوف يسأله عن ذلك ولا بدّ له أن يجادل عنه يوم القيامة، فلا بدّ له من دراسة الموضوع بكلّ جوانبه وخلفياته ومعطياته ونتائجه ليتخذ قراره من خلال ذلك كلّه، وليس بديلاً عن الاستشارة، فإنّ الله أراد للمسلمين أن يجعلوا "أمرهم شورى بينهم"، حتى إنّه أدّب نبيه محمّداً (ص) أن يشاور أصحابه كوسيلةٍ من وسائل تربيتهم على هذا النهج في دراسة القضايا المهمة التي يتحركون فيها في علاقتهم ببعضهم البعض، وفي علاقة القيادة بالقاعدة، حتى لو كانت القيادة في موقع النبوة التي لا تحتاج إلى آراء الآخرين من خلال ارتباطها بوحي الله.
ولهذا فإنّ اللجوء إلى الاستخارة لا بدّ أن يكون بعد استنفاد التفكير في الموضوع، وعدم الوصول إلى نتيجة فيه ثم الرجوع إلى أهل الرأي من أهل الخبرة لاستشارتهم، وعدم الحصول على نتيجة حاسمة فيه، بحيث تبقى القضية بين احتمالين متساويين أو متقاربين يفرضان الحيرة في حركة الإنسان في المستقبل نحو المسألة المطروحة أمامه، فيفزع إلى ربّه في عملية استلهام لما يختاره الله له، واستغاثة به في انفتاحه على معرفة صلاح الأمر أو فساده مما يتوجه إلى فعله أو تركه، وبذلك ترتبط المسألة في وعي الإنسان المسلم بالإيمان بالله والثقة به وإرجاع الأمر إليه في الأمور كلّها، لتكون حركته في اتجاه الانفتاح على الله من دون أن يبتعد عن نهج الله للإنسان وسنته في الواقع الفردي والاجتماعي في الأخذ بالوسائل الطبيعية التي هيّأها الله له ليأخذ بها في حركته في الوصول إلى غاياته، وليكون وعيه الوجداني منطلقاً في الخطّ الإيماني الذي يختزن في ذاته الروحية التي توكل الأمور الصعبة التي لا يملك معرفة طبيعتها ولا يملك حلّها، إلى الله، فيتوكل عليه في ذلك كلّه.
وفي ضوء ذلك لا بدّ للإنسان في الاستخارة من التوجه إلى الله بقلبه، واستعطافه بدعائه، والاستغاثة به ليكشف له الواقع الخفي وليلهمه وجه الصواب وليتحرك في وضوح الرؤيا للأشياء، فلا يندفع إليها كما يفعل البعض بطريقة تقليدية جامدة، لا روحانية في كلماتها، ولا خشوع في دعائها، لأنّها - في هذه الحال - لا تمثل رجوعاً إلى الله بل تمثل استغراقاً في الأدوات التي يستعملها في هذه القضية.
ولعلّ أقرب أساليب الاستخارة إلى مضمون الأدعية الواردة في هذا الموضوع هو الاستخارة بالدعاء الذي يتوجه به الإنسان إلى الله بعد الصلاة ليختار له في الواقع المستقبلي للحركة، ما يعلم وجه المصلحة أو المفسدة فيه، فتكون القضية استسلاماً لله وتوكلاً عليه، تماماً كما هو الحال في انطلاق الإنسان نحو تفاصيل حياته في مشاريعه الخاصة أو العامة في خط التوكل إلى الله بعد توفير الأسباب والوسائل التي توصله إلى غايته، ووقوفه حائراً أمام المستقبل المملوء بالمفاجآت الطارئة، أو الخفايا الغامضة، أو نحو ذلك.
وعلى ضوء هذا، فلا تكون القضية قضية استكشاف للغيب، أو استشرافٍ للمستقبل، بل تكون قضية استسلام لله من موقع الإيمان الواعي والوجدان الروحي، فيزداد الإنسان بذلك إيماناً، لأنّه يزداد في هذه التجربة استسلاماً له.
* * *
وقد يكون في أسلوب استعمال القرآن الكريم في الاستخارة بالطريقة التي يتداولها الناس، نوع من الابتعاد بالقرآن عن غايته، وتحويله إلى كتاب لاستشراف الخفايا واستكشاف المستقبل، مما قد يدفع بالناس إلى الاستغراق إلى الجانب التقليدي في العلاقة بالقرآن فيكون كتاباً للبركة والاستشفاء والاستخارة فيؤدّي ذلك إلى فقدان الروحية الثقافية والإيمانية في الانفتاح على مضمونه ليكون نوراً في العقل، وصفاءً في القلب، وهدياً في الطريق، واستقامة في الخطّ، وتوازناً في الخطى، ووضوحاً في الوسائل والغايات، إننا لا نريد أن نرفض المسألة من حيث المبدأ، ولكننا نرفض الاستغراق الإيحائي الذي قد يختزن الكثير من السلبيات التي تجمّد القرآن في وجدان المسلمين بدلاً من أن يكون حركة متجددة في حياتهم.
* * *
وفي هذا الدعاء حديث الإنسان المؤمن مع الله في الطلب إليه أن يختار له في ما يعزم عليه من فعل أو ترك، الخير كلّه، لأنّه العالم بالخفايا في الحاضر والمستقبل، فيقضي له بما يصلح أمره في واقع حياته ويلهمه معرفة اختياره للأفضل من الأمور عندما تتحرك الاحتمالات المتنوعة في ذهنه فيحار فيها، ماذا يأخذ وماذا يدع.
فإذا انطلق الإنسان في خياره في أجواء الإيحاء بأنّه قضاء وحكمه؛ فليطلب من ربّه أن يرضيه بما قضاه وأن يستسلم لما حكم له، وأن يبعد عنه ريب المرتابين وشكّ الشاكين، لتكون حركته من خلال عمق الإخلاص في يقينه بالله وبما يلطف به ويرحمه ويسدّده في كلّ مواقع حياته، ووضوح الرؤية في ما يقبل عليه، فلا يكون عاجزاً عن الاختيار حائراً في امتداد الطريق، فإن ذلك قد يؤدّي إلى أن يتنكر الإنسان الذي يعيش في الضباب الفكري والروحي لقدر الله ويكره مواقع رضاه، وينحرف إلى الاتجاهات التي تبتعد به عن العاقبة السليمة والنتيجة الخيّرة وتقترب به من المرض الروحي والفكري الذي يؤدّي إلى نوع من الموت العملي.
* * *
إنّ هذا الدعاء يؤكّد الجانب الروحي في المسألة الفكرية في الأمور التي يريد الإنسان وضوح الرؤية فيها في حركته، فيتجه إلى الله في عملية استلهام واستيحاء للرأي الأصوب والقرار الأفضل والنهج الأقوم، ليبدأ بالتوجه إلى الله قبل البدء بدراسة احتمالات الأمور المختلفة، فيكون تفكيره في رعاية الله وفي خطّ عنايته، ثم ليحمل نفسه على الرضى بقضاء الله وقدره والخضوع لحكمه إذا علم بموقع قضاء الله وحكمه في حياته. وبهذا يكون الدعاء وثيقة فكرية وحركة ثقافية في تأصيل المفهوم الإسلامي من موقع روحي مميّز بالإضافة إلى الجانب الروحي الذي يعيشه الإنسان في خشوعه بين يدي الله.
* * *
اللهمَّ إنّي أَسْتَخِيرُك بِعلْمِكَ، فَصلِّ على مُحمَّدٍ وَآلهِ، واقْضِ لي بِالخيِرةِ، وأَلهِمنَا مَعْرِفَةَ الاخْتِيَار، وَاجْعَلْ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلى الرِّضا بِمَا قَضَيْتَ لَنَا، والتّسْليمِ لِمَا حَكَمْتَ.
* * *
اللهم إنّي أستخيرك بعلمك:
يا ربّ، أنا الإنسان الحائر الذي تغرقه حيرته في بحار الشكوك، وتتجاذبه أطراف الاحتمالات، فلا أملك في موقفي هذا وضوح الرؤيا للأشياء، ولا أعرف وجه الصلاح أو الفساد في ما أريد الإقدام عليه، وأنت - يا ربّ - الهادي إلى حقائق الأمور، لأنّك الذي ألهمت كلّ نفس هداها، وعرّفت كلّ إنسان طريق الخير والشر ليختار لنفسه، وأنا هنا أطلب منك أن تختار لي ما فيه صلاح أمري في الدنيا والآخرة من خلال علمك بالأمور وإشرافك على المستقل، لأنّك الخالق لها، والعالم بخفايا الغيب، فليكن قضاؤك لي بالخير في وعي الوجدان للأشياء، وفي حركة الواقع في اتجاهه من خلال إلهامك للإنسان الذي يشرق نوراً في العقل والقلب ويتحول إلى حركة واعية في العمل، فإذا ألهمتنا ذلك وعرفتنا السبيل إلى الهدى فاجعل هذا الوضوح في الرؤيا، واليقين بالقرار، وسلة من وسائل الرضى بقضائك، لأنّ قضاءك لا ينفتح إلا على الخير كلّه، والتسليم لحكمك في ما حكمت، لأنّ حكمك ينطلق من الحكمة في تقدير الأمور والعدل في مواقعها من خلال لطفك وعلمك الذي ينفذ إلى حقائق الواقع بعيداً عن منطقة الإحساس المادي بالحلاوة والمرارة، فأنت الذي يعيش الخلائق كلّهم في رعايتك وفي امتداد حكمك فيطمئنون لحياتهم في حاضرها ومستقبلها في استسلام كلّي لك، لأنّك تعرف من مصالحهم الحقيقة ما لا يعرفون.
* * *
فأَزِحْ عَنَّا رَيْبَ الارْتِيابِ، وَأيّدْنا بَيقينِ المخْلِصين، ولاَ تَسمُنْنَا عَجْزَ المَعْرفَةِ عَمَا تَخَيَّرْتَ، فَنَغْمِطَ قَدْرَكَ وَنَكْرَهَ مَوضِعَ رِضَاكَ، ونجْنَحَ إلى التي هي أبْعَدُ مِنْ حُسْنِ العاقِبَة، وَأقْرَبُ إِلى ضِدِّ العَافِيَةِ.
* * *
اللهم أيّدنا بيقين المخلصين:
يا ربّ، إنّ مشكلتنا في وجودنا الإنساني في حركة الإحساس في داخلنا، وفي إدراك الفكر في عقولنا، هي هذه الوساوس التي تنتابنا بين وقت وآخر، فتخلق في هواجسنا القلق والحيرة اللذين يوحيان لنا بالشك تارة في ما نقبل عليه من قضايا ومشاريع، وبالتهمة لقضائك في ما قدرت أو تقدر لنا، فنفقد سلام الإيمان بك وبأنّ قضاءك لا يجري إلا بالخير لعبادك، لأنّك تعلم ما لا يعلمون.
إنّها وسوسة الشيطان الذي لا يريد لنا الحصول على راحة اليقين، وطمأنينة الوعي، وإخلاص الإيمان، واستقرار الموقف، وثبات الموقع.
ونحن لا نريد أن نسقط تحت تأثيرها، أو نتحرك في إيحاءاتها، لأنّنا نعلم - من حيث علمتنا - أنّه العدوّ الذي يخطط لنا للابتعاد عنك، والتعرّض لغضبك، والانصراف عن الارتباط بك في علاقة المؤمنين بربهم من موقع الاستسلام الكلّي والطاعة المطلقة.
فإعنّا على الوقوف في مواجهته بالتمرّد على وساوسه والابتعاد عن حالة الشك إلى حالة اليقين، فندع ما يريبنا إلى ما لا يريبنا، لنقف مع الأشياء التي تمرّ بنا أو نعمل لها موقف الواعين لحقائقها المنفتحين على ارتباطها بالنظام الإسلامي في نظام الكون في سنن الله التي ترتكز على حكمته وعلمه ورحمته، فلا نشك في حكمك ولا نتهمك في قضائك الذي قضيت علينا وخيرتك التي اخترت لنا، فلا معنى للشك في حكمك وهو الحق الذي لا ريب فيه، ولا مجال لاتهامك في قضائك لأنّك الربّ الغني عن عباده في كلّ وجودهم وهو الرحيم بهم من موقع خلقه لهم، فأيّة حاجة به إلى أن ينصرف معهم بغير الصلاح أو يفرض عليهم الشرّ، تعاليت عن ذلك علوّاً كبيراً.
إنّ المسألة هي أن تقديرك للأمور في كلّ ما يتعلق بنا يرتبط ارتباطاً كلياً بما علمناه من جميع أوضاعنا العامة أو الخاصة، من خلال العمق العميق لحركة الواقع في الحياة، ولكنّنا لا ندرك أسرارها وخفاياها فنفكّر فيها بطريقة أخرى، ونتعقّد من بعض ألوان القضاء التي قد تجلب إلينا بعض المشاكل والآلام والمتاعب، مما قد يكون له وجه باطني إلى جانب الوجه الظاهري، فنستعجل الأحكام السريعة التي ترتكز على ما يظهر من ملامح الواقع، فيؤدّي بنا إلى ذلك إلى التحرّك نحو النتائج التي قد تكون لها أبعاد سلبية علينا في نهايات الأمور بحيث يبتعد عن العاقبة المنتظمة على الخير المستقبلي للإنسان، ويقترب من الأوضاع التي لا تلتقي بالعافية في الواقع الداخلي والخارجي بل تتصل بالمواقف المضادة لها في حركة الإنسان في الواقع.
إنّ وعي ذلك كلّه من خلال وعينا لمقام الربوبية في علاقة الربّ بالمربوبين في موقع اللطف والرحمة والحكمة والغنى عن كلّ ما يتصل بهم من خير أو شر، هو الذي يجعلنا نفكر بالابتعاد عن هذه الوساوس الشيطانية التي تريد أن تفصل بيننا في مشاعرنا وبين الانسجام مع خطّ العقيدة في التوحيد الإلهي في انفتاحنا عليه من استسلامنا له واتكالنا عليه.
* * *
حَبِّبْ إلَيْنَا مَا نَكْرَهُ مِنْ قَضَائِك، وَسَهِّلْ عَلَيْنَا مَا نَسْتَصْعِبُ مِنْ حُكمِكَ، وأَلْهِمْنَا الانْقيادَ لِمَا أوْرَدْتَ عَلَيْنَا مِنْ مَشِيئتِكَ، حتى لا نَحبَّ تأْخيرَ مَا عَجّلتَ، وَلاَ تَعْجِيلَ ما أخَّرْتَ، وَلاَ نَكرَهَ مَا أَحببْتَ، وَلاَ نَتَخيَّيرَ ما كَرهْتَ، واختِمْ لَنَا بالتي هي أحْمدُ عاقبةً وَأكْرَمُ مَصيراً، إِنَكَ تُفيدُ الكريمة، وتُعطي الجَسيمةَ، وتَفعَلُ ما تُريدُ وأنتَ عَلى كلِّ شيءٍ قَدير.
* * *
اللهم خِر ما فيه صلاحنا:
يا ربّ، إنّني أنا الإنسان الخاضع لأحاسيسه ومشاعره المتأثرة بالحالات الانفعالية في شخصيته وبالأوضاع الطارئة في حياته، الذي ينظر إلى الأمور من خلال ذاته بعيداً عن الظروف الموضوعية المحيطة بالناس من حوله، ويفكر فيها - غالباً - من موقع السطح الذي يمنح الفكر الصورة الظاهرة، ولا ينفذ إلى تجسيد الجانب العميق من الصورة، فيكره بعض الأحداث والأوضاع والمواقع التي يفرضها عليه قضاؤك الذي أخضعت له الحياة من خلال ما يصلح أمرها وأمر الإنسان فيها، بحيث يتمثل الفرح في النهاية في قلب الحزن في البداية، أو ينطلق الصلاح في أول العمل بينما يختبئ الفساد في عاقبته.
فهب لي - يا ربّ - وعياً بحقائق الحياة وبواطنها، ووفّقني للابتعاد عن العجلة في الانفعال بالظهور، والوقوف عند البدايات بعيداً عن دراسة النهايات، حتى أحبّ الألم الذي يعتصر قلبي، لأنّ هناك نتائج للذة يختزنها عقلي، وأوازن بين قضائك الذي يجمع الحياة لها في الصلاح ويربط بين الناس في قضايا الخير ويدفع بالنتائج في غلبة الإيجابيات على السلبيات، وبين نوازع مطامحي ومشاعري المختنقة في داخل الذات، لأختار ما قضيت، ولأبتعد عن الشعور بالكره له، لأكون في الخطّ المستقيم الذي يشير إلى الغاية الكبرى للسعادة التي تجمع لي الدنيا والآخرة في خطّ واحد.
* * *
وقد تواجهني - يا ربّ - العقبات، وتقف بي الحواجز، وتطبق عليّ المصاعب، أمام حكمك الذي لا يخلو من الشدّة والصرامة والضغط على الإحساس، بحيث تقف نفسي أمامه في حالة تردّد وتوقف، لأنّ النفس لا ترتاح للصعوبات في الأشياء التي تقبل عليها فيقودها ذلك إلى التنكر لحكمك.
اللهم افتح قلبي لحكمك الصعب، حتى أنفذ إلى أسراره، فأرى فيها العناصر التي تسهل لي النتائج الطيبة في نهايات المطاف، إذا كانت تواجه الصعوبات في دائرة الانفعالات القاسية في النهايات.
ارزقني - يا ربّ - القدرة على ترويض نفسي وتهدئة انفعالاتي وتعقيل مشاعري حتى أقف على الأرض الصلبة التي تنفتح عليك في آفاق رحمتك وساحات لطفك.
* * *
إملأ نفوسنا وقلوبنا - يا ربّ - بالارتفاع إليك في آفاق معرفتك، لندرك أنّك لا تقضي لنا إلا بالخير، ولا تعجل لنا أيّ أمر إلا إذا كان في تعجيله الصلاح، ولا تؤخر شيئاً - حتى لو كان خيراً - إلا إذا كان في تأخيره الخير، بحيث لو كان آجلاً ما عجلت، أو عاجلاً ما أخّرت، لوقعنا في أكثر من مشكلة، وفقدنا أكثر من فرصة، فإنك - يا ربّ - تعلم ما لا نعلم.
وهكذا تنمو إرادتنا من خلال إرادتك، وتنطلق حركتنا في اتجاه حركة مشيئتك فيكون الحبّ للأشياء تابعاً لما يتمثل من حبّك لها من خلال ما أوردته علينا وأنزلته بنا ويكون الكره لها خاضعاً لكراهتك لها على أساس ما أبعدتنا عنه، وأبعدته عنّا.
أعطنا - يا ربّ - القدرة على السيطرة على انفعالنا لمصلحة ما تدركه عقولنا، وهب لنا وعي العمق للحياة ووعي الخبرة في التجربة، وإدراك المصالح والمفاسد، حتى نتحرك من خلال الواقع الذي رسمته لا من خلال الوهم الذي نخضع له في غمرة الانفعال.
ولتكن خاتمة حياتنا محمودة في نتائجها فتكون أحمد العواقب، ومصيراً كريماً فيكون أكرم المصائر، فإنّ القضية - كلّ القضية - في إيماننا هي أنّ حياتنا كلّها هبة منك، وأنّ وجودنا عطاء من كرمك، ونحن - يا ربّ - لا نزال نطلب المزيد لتمنحنا في نهاية عمرنا الفضل الكبير الذي أوليتنا إياه في بدايته، فإنّ عطاءك هو العطاء الكريم، وإنّ جودك هو الجود الجسيم، وأنتَ الربّ الذي يفعل ما يريد، فإرادتك هي معنى فعلك، وأنت قادر على كلّ شيء فلا حدّ لقدرتك في كلّ شيء، فلا يعجزك شيء من أمور عبادك في وجودهم كلّه يا ربّ العالمين.
* * *
الهوامش:

(1)    أساس البلاغة، ص:179، نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:5، ص:126.
(2)    صحيح البخاري، ج:8، ص:101.
(3)    الجامع لأحكام القرآن،ج:13، ص:307، نقلاً عن: "رياض السالكين"، ص:128.
(4)    الكافي، ج:3، ص:470، رواية:1.
(5)    التهذيب، ج:3، باب:13، ص:180، رواية:2.
(6)    تهذيب الأحكام، ج:3، ص:310، رواية:6، باب:13.
(7)    التهذيب، ج:3، باب:13، ص:181، رواية:6.
(8)    السرائر، ص:69، نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:5، ص:138.
(9)    مختلف الشيعة، ص:128، نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:5، ص:139.
(10)    ذكرى الشيعة، ص:252، نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:5، ص:140.
* * *
 
وكان من دعائه (عليه السلام) إذا ابتلي
أو رأى مبتلى بفضيحة أو ذنب

اللّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلى سِتْرِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وَمُعافاتِكَ بَعْدَ خُبْرِكَ، فَكُلُّنا قَدِ اقْتَرَفَ الْعائِبَةَ فَلَمْ تَشْهَرْهُ، وَارْتَكَبَ الْفاحِشَةَ فَلَمْ تَفْضَحْهُ، وَتَسَتَّرَ بِالْمَساوي فَلَمْ تَدْلُلْ عَلَيْهِ. كَمْ نَهْي لَكَ قَدْ أَتَيْناهُ، وَأَمْر قَدْ وَقَفْتَنا عَلَيْهِ فَتَعَدَّيْناهُ، وَسَيِّئَة اكْتَسَبْناها، وَخَطيئَة ارْتَكَبْناها، كُنْتَ الْمُطَّلِعَ عَلَيْها دونَ النّاظِرينَ، وَالْقادِرَ عَلى إِعْلانِها فَوْقَ الْقادِرينَ، كانَتْ عَافِيَتُكَ لَنا حِجاباً دُونَ أَبْصارهِمْ، وَرَدْماً دُونَ أَسْماعِهِمْ.
فَاجْعَلْ ما سَتَرْتَ مِنَ الْعَوْرَةِ، وَأَخْفَيْتَ مِنَ الدَّخيلَةِ، واعِظاً لَنا وَزاجِراً عَنْ سُوءِ الْخُلْقِ وَاقْتِرافِ الْخَطيئَةِ، وَسَعْياً إِلَى التَّوْبَةِ الْماحِيَةِ، وَالطَّريقِ الْمَحْمُودَةِ، وَقَرِّبِ الْوَقْتَ فيهِ، وَلا تَسُمْنَا الْغَفْلَةَ عَنْكَ، إِنّا إِلَيْكَ رَاغِبُونَ، وَمِنَ الذُّنُوبِ تائِبُونَ.
وَصَلِّ عَلى خِيَرَتِكَ اللّهُمَّ مِنْ خَلْقِكَ، مُحَمَّدٍ وَعِتْرَتِهِ الصَّفْوَةِ مِنْ بَرِيَّتِكَ الطّاهِرينَ، وَاجْعَلْنا لَهُمْ سامِعينَ وَمُطِيعينَ كَما أَمَرْتَ.
* * *
الإنسان بين يدي ذنوبه:
في هذا الدعاء حديث - مع الله - حول الأجواء التي يعيشها المذنبون في فضائحهم الفاحشة فيما ارتكبوه من الفواحش العملية، وفي أفعالهم المعيبة التي مارسوها، وفي مساوئهم التي استتروا بها، مما يمثل المواقف المتمردة من ساحات غضبه، ويبتعد بهم عن حالة الإخلاص في العبودية، ويقترب بهم من الخضوع للوساوس الشيطانية، فيخرجون عن طاعة الله إلى طاعة الشيطان، وينطلقون إلى ولاية الطاغوت بدلاً من ولاية الله.
وهم - في هذا الموقف - يعرفون في وجدانهم الإيماني قدرة الله المطّلع على السرائر، على أن يكشف كلّ شيء وأن يفضح كلّ مذنب، ولكنّه سبحانه، أعطاهم ستره وعافيته من الفضيحة، بعد علمه وخبره بما كسبته أيديهم وأخفته ضمائرهم، فحمدوه على ذلك كلّه، بعد اعترافهم باقتراف العائبة، وارتكاب الفاحشة، وممارسة السيئات، فقد ارتبكوا نواهيه، وخالفوا أوامره، وتعدّوا حدوده، واكتسبوا السيئات وارتكبوا الخطايا، وغير ذلك مما كان في علم الله، فكانت العافية بدلاً من البلاء، والستر بدل الفضيحة، فلم يَرَ الناس منهم شيئاً من ذلك، ولم يسمعوا كلمة منه.
وهكذا عاشوا اللطف الإلهي في أرواحهم، والعناية الربانية في حياتهم، فتوجهوا إلى الله أن يجعل في ذلك موعظة لهم من خلال شكرهم لربّهم على ما أولاهم من نعمة الستر، وانفتاحهم على رحمته التي تفتح لهم أبواب الخير كلّها ليحصلوا على سعادة الدنيا والآخرة، وليخلدوا في آفاق الرضوان، وينعموا في نعيم الجنان، فيعرفوا أنا ما ارتكبوه من الخطايا وتمرّغوا في وحوله من الفضائح، لم يحقق لهم شيئاً من الرضى، بل تحوّل إلى عقدة وتأنيب ضمير، ولن يحمل لهم، في المستقبل، إلا الخسارة والخذلان، فهو يمثل لذة لحظة وانفعال ساعة مما لا قيمة له أمام اللذة الخالدة والسعادة الدائمة.
ولذلك فقد كان هذا الوعي الروحي الجديد، صدمة للحالة المعقدة التي دفعتهم إلى ارتكاب الذنب، وللشخصية الضائعة التي ضلّت طريقها في متاهات الضياع.
فانطلقوا إلى ربّهم متضرعين مبتهلين أن يبدل الواقع السيىء إلى واقع حسن، وأن يسعى بهم إلى التوبة التي تمحو الذنوب كلّها، وان يهديهم إلى الطريق المحمودة في اتجاه الحقّ والخير في الحياة، وأن يجعلهم منفتحين على وعي الإيمان من خلال انفتاحهم على وعي مضمون الربوبية في آفاق التوحيد، فلا يسقطون تحت تأثير الغفلة، ولا يبتعدون عن أجواء التوبة، وتبقى لهم في نهاية المطاف الخطوط المستقيمة مع القيادة الشرعية الحكيمة مع النبيّ محمّد(ص) وأهل بيته، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
* * *
اللَّهُمَّ لَكَ الحَمدُ على سِتْرِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، ومُعافاتِكَ بَعْدَ خُبْرِكَ، فَكُلُّنا قَدِ اقْتَرَفَ العائِبَةَ فَلَمْ تَشْهَرْهُ، وَارْتَكَبَ الفاحِشًةَ فَلَمْ تَفْضَحْهُ، وَتَسَتَّرَ بِالَمساوِي فَلَمْ تَدْلُلْ عَلَيْهِ، كَمْ نَهْي لَكَ قَدْ آتَيْنتاهُ، وَأمْرٍ قَدْ وَقَفْتَنا عَلَيْهِ فَتَعدَّيْناهُ، وَسَيِّئةٍ اكْتَسَبْنَاها وَخطيئَةٍ ارْتَكَبْناها كُنْتَ المُطَّلِعَ عَلَيْها دونَ النّاظِرينَ، وَالقادِرَ على إعْلانِها فوْقَ القادِرينَ، كانَتْ عافِيَتُكَ لنا حِجَاباً دونَ أبْصارِهِمْ وَرَدْماً دونَ أسْماعِهِمْ.
* * *
اللهمّ لك الحمد على سترك بعد علمك:
يا ربّ، لك الحمد في كلّ وقت، لأنّ وجودنا بكلّ تفاصيله يحرّك إيحاءات الحمد في وجداننا الإيماني، فهو ينطق في نبضاته بحمدك، ولكنّنا قد نتوقف في بعض محطات العمر أمام قضية حيوية تهز أعماقنا، وتلهب مشاعرنا، وتوجه كلّ تطلعاتنا إليك، وتملأ قلوبنا بفيض الحبّ لك، لأنّها من القضايا التي تمثل الحدّ الفاصل بين العافية والبلاء والستر والفضيحة، في الموقع الذي لا نملك فيه استحقاق العافية، ولا عطية الستر، فنقف بين يديك في حمدٍ عميق منفتح على كلّ صفات الحمد عندك، خاشع في وحي ابتهالاته، خاضعٍ في معنى دعواته، ساجدٍ بكلّ انفعالاته، فهو الحمد الذي ينفتح فيه العقل على القلب وينبض فيه الإحساس في عمق الواقع.
لك الحمد أن سترتنا بعد أن علمت - وأنت العالم بخفايا خلقك - بكل ما ارتكبناه من السيئات فلهم تشهّر بنا على رؤوس الخلائق.
ولك الحمد على عافيتك بعد أن خبرت كلّ حركاتنا أفعالنا، وأنت الخبير المطّلع على شؤون عبادك ما ظهر منها وما بطن، فلم تنزل علينا الفضيحة في أوساط الناس بما خبرت، ولم يمتد بنا البلاء في انحرافنا على خطّك المستقيم، فإنّك بلطفك وبمواقع الحمد في ذاتك سترت علينا، فلم تفضحنا ولم تدلل علينا عيون عبادك من الآخرين الذي قد يضغطون علينا من خلال إطلاعهم على سلوكنا المنحرف في الفواحش التي ارتكبناها، وفي المساوىء التي تخبطنا فيها، وقد يسيئون إلينا في علاقتهم بنا، وهكذا كانت عافيتك لنا في كل ما أحاط بنا من الألطاف الإلهية بمثابة الحجاب الذي يحجب الآخرين عن الرؤيا، والحاجز الذي يحجزهم عن السماع، بالرغم من ارتكابنا لما نهيت عنه، ومخالفتنا لما أمرت به، وامتدادنا في دروب الخطايا وإطلاعك على ذلك وقدرتك على إعلانها على رؤوس الأشهاد، فلم تعاقبنا على ذلك، ولم تسقطنا في أعين الناس.
* * *
فاجْعَلْ مَا سَتَرْت مِنَ العَوْرَةِ، وَأخْفَيْتَ مِنَ الدخِيلَةِ، واعِظاً لَنَا، وَزَاجِراً عَن سُوءِ الخُلُقِ وَاقترافِ الخطيئَةِ، وَسَعْياً إلّى التَّوْبَةِ الماحِيَةَ وَالطريقِ المحمودَةِ، وَقَرِّب الوقت فيهِ، وَلاَ تسُمْنَا الغفلةَ عَنْكَ، إنَّا إليكَ راغبون، ومن الذنوبِ تائبون.
وَصلِّ عَلى خيرتِكَ اللهُمَّ مِنْ خَلقِك: مُحمَّدٍ وعِتْرَتِهِ الصّفوَةِ من برِيَّتِكَ الطّاهِرين، واجعلْنا لهُمْ سامِعين مُطيعين كما أمرتَ.
* * *
اللهم اجعل ما سترت واعظاً لنا:
يا ربّ، إنّنا نقف الآن أمام هذه الانحرافات العملية التي انحرفنا بها عن صراطك المستقيم، وانحرفت بنا عن نهجك القويم، مع سترك الجميل علينا وصفحك الكريم عنا، وإخفائك ما أخفيته من عيوبنا وعوراتنا، فنأخذ منها الموعظة لما نستقبله من عمرنا في أعمالنا وأقوالنا، وما يتصل بحياتنا من مواقعنا وأوضاعنا وعلاقاتنا، لنصلح ذلك كلّه، فلا نفكر أن نمارس الخطيئة في شيء من ذلك ونزجر نفوسنا عن الانفتاح على مساوئ الأخلاق التي تبتعد بنا عن المنهج القويم الذي وضعته لنا، والبرنامج الحكيم الذي شرعته لنا في السلوك العميق للأخلاق التي نتمثلها في حياتنا الخاصة مع أنفسنا، وفي حياتنا العامة مع الناس والحياة، ونطرد - بذلك - من ساحتنا كلّ مواقع الخطايا التي توقعنا في ساحات غضبك.
وننفتح، في وعينا لألطافك وفيوضات رحمتك، وسبحات قدسك، وعطايا جودك وكرمك، على آفاق التوبة، للوصول من خلالها إلى ساحات الرضوان في عفوك ومغفرتك، فلا يبقى من ذنوبنا شيء في أيّ شأن من شؤوننا، لأنّ التوبة تمحو الحوبة وتطرد الخطيئة، وننطلق - بعدها - إلى الطريق الخيّرة التي تنفتح بنا على كلّ حمد، وتشرف بنا على كلّ صلاح وإصلاح، فنعود - كما أردتنا - خيّرين صالحين مصلحين.
إنّنا نبتهل إليك - يا ربّنا - أن توفّقنا لاستلهام العبرة من كلّ ماضينا في كلّ خطايانا، واستيحاء التغيير لأنفسنا في كلّ آفاق محبتك، ليكون لطفك ورحمتك بنا درساً نتعلمه في القرب إلى مواقع رضاك، والبعد عن مجالات سخطك، والطاعة لك، والتمرد على الشيطان، اجعلنا يا ربّ من الذاكرين الواعين الخائفين مقامك، ولا تجعلنا من الغافلين البعيدين عنك.
إنّنا يا ربّ - هنا - لنعلن لك أننا الراغبون في الحصول على ثوابك والهاربون من عقابك، والتائبون من كلّ خطايانا، فاهدنا للوصول إلى تلك الغاية والحصول على رضاك، واجعلنا - يا ربّ - ممن يوالي أوليائك بالطاعة لهم والسير على نهجهم، ويعادي أعداءك بالمعصية لهم والابتعاد عن طريقهم، وافتح لنا باباً من الولاية الروحية والعملية لنبيّك محمّد(ص) الذي جعلت طاعته طاعة لك واتّباعه دليلاً على محبتك، ولآله الطاهرين السائرين على نهجه وهداه.
* * *
 
دعاؤه(ع)
في الرضى إذا نظر إلى أصحاب الدنيا

الحَمْدُ للّهِ رِضاً بِحُكْمِ اللّهِ، شَهِدْتُ أَنَّ اللّهَ قَسَّمَ مَعايِشَ عِبادِهِ بِالْعَدْلِ، وَأَخَذَ علَى جَميعِ خَلْقِهِ بالْفَضْلِ؛ اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَلاَ تَفْتِنّي بِما أَعْطَيْتَهُمْ، وَلا تَفْتِنْهُمْ بِما مَنَعْتَني، فَأَحْسُدَ خَلْقَكَ، وَأَغْمِطَ حُكْمَكَ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَطَيِّبْ بِقَضائِكَ نَفْسي، وَوَسِّعْ بِمَواقِع حُكْمِكَ صَدْرِي، وَهَبْ لِىَ الثِّقَةَ لُأِقِرَّ مَعَها بِأَنَّ قَضاءَكَ لَمْ يَجْرِ إِلاّ بِالْخِيَرَةِ، وَاجْعَلْ شُكْري لَكَ عَلى ما زَوَيْتَ عَنّي أَوْفَرَ مِنْ شُكْري إِيّاكَ عَلى ما خَوَّلْتَني.
وَاعْصِمْني مِنْ أَنْ أَظُنَّ بِذي عَدَمٍ خَساسَةً، أَوْ أَظُنَّ بِصاحِبِ ثَرْوَة فَضْلاً، فَإِنَّ الشَّريفَ مَنْ شَرَّفَتْهُ طاعَتُكَ، وَالْعَزيزَ مَنْ أَعَزَّتْهُ عِبادَتُكَ.
فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَمَتِّعْنا بِثَرْوَة لا تَنْفَدُ، وَأَيِّدْنا بِعِزٍّ لا يُفْقَدُ، وَأَسْرِحْنا في مُلْكِ الأبَدِ، إِنَّكَ الْواحِدُ الاَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذي لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَكَ كُفُواً أَحَدٌ.
* * *
الفقر والغنى في الميزان الإلهي:
في هذا الدعاء حديث عن موقف الإنسان المؤمن أمام السنن الإلهية الاجتماعية في حياة الإنسان في إعطاء الغنى لبعض الناس مما أولاهم الله من السعة في الرزق والرخاء في العيش، وفي إنزال الفقر ببعض آخر، مما أوقع بهم من الضيق في الحال والشدّة في الواقع، الأمر الذي قد يوقع الأغنياء في الفتنة الذاتية التي تنظر إلى الغنى كقيمةٍ كبيرة تعبر عن الدرجة العالية عند الله، لتجعلهم في موقع الفوقية بالنسبة إلى الناس، فيدفعهم إلى الاستعلاء الذاتي والاستكبار العملي الاجتماعي من خلال نظرتهم إلى فقر الفقراء كقيمة سلبية منحطة تضعهم في الدرجة السفلى عند الله وعند الناس، ليتصرفوا معهم على أساس الإهمال والاحتقار كأيّة جماعة لا تملك من عناصر الاحترام شيئاً.
وفي الجانب الآخر قد يقف الفقراء أمام واقعهم المرير بالمقارنة مع المستوى الرفيع للواقع الغني الواسع الذي يتحرك فيه الأغنياء، فيدفعهم ذلك إلى حالةٍ من الاهتزاز الإيمانيّ بحكم الله، فلا يرضون به بل يحتقرونه وينتقدونه ويعلنون سخطهم عليه، فيخرجون بذلك عن الطمأنينة الإيمانية في الثقة بالله والرضى بقضائه.
وينطلقون - في الاتجاه الانحرافي الآخر - إلى الحسد للأغنياء في عقدة نفسية تتمثل في التمنيات الحاقدة التي تتحرك من اجل زوال النعمة عنهم وانتقالها إليهم، الأمر الذي قد يؤدّي إلى الكثير من المشاكل النفسية والاجتماعية يحركها الصراع بين الفقراء والأغنياء من موقع العقدة الذاتية، بعيداً عن النتائج السلبية في علاقة بعضهم ببعض في الامتداد العملي في تعقيداته ومشاكله.
وهنا ينطلق الدعاء ليعمق في نفس الإنسان الإيمان بأنّ الله يمنح الإنسان السعة في جانب ويمنعها في جانب آخر من خلال المصالح العميقة للواقع الإنسان له، فقد يكون الغنى مصلحة لشخص، وقد يكون الفقر مصلحة للآخر، وربّما تتصل المسألة بالواقع الوحدوي للنظام الكوني، بحيث يكون العدل في النطاق الشامل الذي يجمع الناس كلّهم في صعيد واحد، ولا ينظر إلى كلّ واحدٍ بمفرده في حاجاته وقضاياه، فإذا درس الإنسان ذلك كلّه اكتشف سرّ قضاء الله وقدره، فيرضى بحكم الله، ويقرّ بأنّ العدل هو الأساس في ما يقسم الله من الرزق مما يتوزعه الناس بدرجات متفاوتة، فيطيب صدره ويتسع ويرتاح بمواقع حكم الله في عباده، وتنفتح نفسه إلى ذلك كلّه من موقع الرضى الهادئ العميق بأنّ القضاء المعين الذي حلّ به كان الخير الإلهي فيه.
ومن خلال هذا العمق في الوعي الإيماني للقضاء الإلهي، ينفتح الإنسان في إداركه بأنّ قضاء الله لم يجرِ إلا بما فيه صلاح حياته في السعة والضيق والشدّة والرخاء، فيشكره على الحرمان من بعض رزقه بالمستوى نفسه الذي يشكره فيه على العطاء في حياته، لأنّ المسألة هي النتائج الإيجابية في عمق الحكمة الإلهية في تقدير الله لما يصلح الإنسان في واقعه الوجودي.
* * *
أمّا القيمة الكبرى في وعيه فلا ترتكز على الغنى والفقر، فليس الشريف من يملك المال الكثير فيكون له الفضل الذي يميزه عن الآخرين في دائرة القيمة الإيجابية، وليس الحقير الخسيس من لا يملك مثل ذلك، بل يعيش الحرمان والضيق فتكون له الدرجة السفلى التي تحطّ به عن الآخرين في درجات السلم الاجتماعي، فالمال ليس معنى في الإنسان من حيث مميزاته الإنسانية، بل هو شيء خارج عن ذاته، طارئ في حياته من خلال العوامل الخارجية التي قد تضيق به تارة وتتّسع له أخرى، مما يجعل المسألة خاضعة للأوضاع المتنوعة مما يحيط بالإنسان من هنا وهناك.
ولكن الشرف كلّ الشرف هو الإرادة الإنسانية المنفتحة على الله في خطّ الطاعة الذي هو الخط المستقيم الذي يبدأ من أمر الله ونهيه، لينتهي إلى مواقع رضاه، ويرتفع بالإنسان إلى ساحة القرب منه، فذلك هو الشرف الرفيع الذي ينطلق من روحه وعقله وقلبه وجهده في خطّه العملي، وتلك هي العزّة التي يقف الإنسان في ساحاتها قوياً ثابتاً صامداً لا ينتقص منه أحد، ولا يفرض عليه الذلّ إنسان، وينتهي الدعاء بالطلب إلى الله أن يمنحه الثروة الدائمة الباقية التي لا تنفد، وأن يعطيه العزّ الذي لا يُفقد، لينطلق به في نهاية المطاف إلى الملك الأبدي الذي لا حدّ له في امتداده ولا نهاية له في وجوده.
إنّه الدعاء المتنّوع في إيحاءاته الإيمانية، ولمساته الاجتماعية، وانطلاقاته الروحية، والتفاتاته التربوية، فلا يتأثر الإنسان الناظر إلى أصحاب الدنيا فيسقط أمامهم ويبتعد عن الخطّ المستقيم من خلال مشاعره السلبي وأحاسيسه الذاتية، بل يمتلئ علقه وروحه في نظرة فلسفية عفوية تنطلق بالرضى بالقضاء الإلهيّ في كلّ شيء.
* * *
الحَمْدُ للهِ رضىً بحُكْمِ الله، شَهِدْتُ أنَّ اللهَ قَسَمَ مَعَايِشَ عِبَادِهِ بِالْعَدْلِ، وَأَخَذَ عَلَى جَمِيع خَلْقِهِ بالْفَضْلِ؛ اللَّهُم صَلِّ على محمَّدٍ وآلِ محمّدٍ، ولاَ تفتنِّي بِمَا أعطيْتَهُم، وَلاَ تَفْتِنْهم بِمَا مَنَعْتَنِي، فأَحْسُدَ خَلْقَكَ، وَأغمِطَ حُكْمَكَ.
* * *
الحمد لله على كلّ حال:
يا ربّ، لك الحمد، لأنّ كلّ موقع من مواقع الحمد يتطلع إليك، فأنت الذي صنعت للحمد معناه، ومنحته سرّه، وأعطيته كلّ مداه، فلا حمد إلا حمدك، لأنّ حمد كلّ موجود ينتهي إليك لأنّه كان عطاءك، أما حمدك فهو سرّ ذاتك، لأنّ الحمد هو صفة وجودك القدسي.
لك الحمد، فنحن لا نتصورك إلا محموداً، ولا نذكرك في ابتهالاتنا إلا بالربّ الحميد في صفاته وأفعاله.
فالحمد لله على كلّ تنوعات رضاه في حياتي وحياة الآخرين، في الفقر والغنى، في الصحة والسقم، في الأمن والخوف، في الشدة والرخاء، وفي كلّ ألوان الحياة المتحركة في دروب إنسانيتنا المليئة بالتعقيدات على مستوى الحركة والواقع، فأنا قد أجد شخصاً غنيّاً إلى جانب شخص فقير، وإنساناً معافىً في مقابل إنسانٍ مريض، ومجتمعاً آمناً إلى جانب مجتمع خائف.
وربما كان الواقع المزدوج في تناقضاته يدفع إلى تفكير شيطاني، وتساؤلٍ انفعالي، لماذا هذا التنوع الذي يمنح هذا فرصة للراحة لا يمنحها لذاك، وكيف يصرخ الألم في إنسانية إنسانٍ بينما ينفتح إنسان آخر على اللذة في حركة وجوده؟
وقد تمتد هذه الـ (لماذا) إلى عدة مجالات ومواقع في واقع الوجود الإنساني، وقد تختصر الجميع كلمة "هل هذا عدل"؟ ولكن المشكلة هي أنّ الإنسان يفهم العدل دائماً من خلال مشاعره وغرائزه وحاجاته وأوضاعه، فيرى أنّ كلّ ما يسيء إليها ظلم من دون أن ينفتح على غيره في أوضاعه الخاصة والعامة، فينظر إلى الأمور من جانب واحد بعيداً عن الجوانب الأخرى، ويرتبط بالأشياء من خلال السطح لا من خلال العمق، وبذلك يبتعد عن وعي التوازن بين الأشياء في امتدادها وانفتاحها، فتختلط عليه القضايا، فيحسب العدل ظلماً والظلم عدلاً.
وهذا ما ينبغي له أن يلتفت إليه إذا التقى في وعيه بربّه في موقع الألوهية الشاملة والربوبية الممتدة في حياة خلقه وفي وجود الكون في سعته وامتداده، فهو الذي يحيط بأسراره في ظواهره وبواطنه، وهو الذي يعلم ما يصلحه ويفسده، فيوزع نعمه على الناس كما يوزعها على الموجودات من خلال حاجاتها الحقيقية بحكمته التي يدير بها نظام الحياة والناس والوجود الكوني الشامل، لأنّه من موقع رحمته وحكمته، يمنح كلّ شيء حاجته من خلال عمله بحدودها، فلو زاد له أكثر من ذلك لفقد مصلحته، ولو أنقص منه لوقع في المفسدة.
وهذا ما ينبغي للمؤمن الواعي العارف بربّه أن يلتفت إليه في وعي إيمانه، فيؤمن بأنّ الله هو العدل في حالة المنع كما هو العدل في حالة العطاء، وهو العدل في وقوع الإنسان في ما يكرهه لنفسه، كما هو العدل في وقوعه في ما يحبّ، فإذا نظر إلى اختلاف معايش العباد في الفقر والغنى والضيق والسعة، عرف أنّك يا ربّ وزعت عليهم أرزاقهم في خطّ التوازن الذي يحقّق لهم الخير الشامل، فإذا قلّ لديهم حجم الرزق من جانب فإنهم يحصلون على نوعية الخير من جانب آخر، وهكذا يكشف سرّ العدل في صنعك، ومضمون الصلاح في تقديرك، ومعنى الحكم في تدبيرك، وأنت - يا ربّ - في ذلك كلّه صاحب الفضل عليهم جميعاً لأنّهم خلقك، فلا يملك أحدٌ عليك شيئاً لأنّك الذي ملكتهم كلّ ما لديهم.
وهكذا يتوجه إليك في ابتهالاته أن يشرق وحيك في عقله وروحه وحسّه، أن لا تدخله في التجربة ـ الفتنة التي تدفعه إلى الاستغراق في الغنى الذي فتحت لهم موارده ومصادره ليجد فيه القيمة الكبرى والدرجة العليا التي حصولا عليها منك، ولم يحصل عليها، فيتعقّد منهم في عملية رفض للواقع المنطلق من حكمتك في تقدير الأرزاق في النظام العام، مما يبتعد به عن الرضى بقضائك والإذعان لحكمك، ويدفع به إلى الحسد لخلقك في إحساس عدواني يتمنى فيه انتقال غناهم إليه وفقره إليهم، بعيداً عن الروح الإيمانية التي تطلب منك أن تمنحها مثلهم مع إبقاء رزقك لهم على حاله.
وربّما يؤدّي هذا الواقع المختلف بين الغنّي والفقير إلى أن يقع الغنيّ في التجربة الفتنة فتعظم نفسه عنده ويحتقر غيره لذلك.
اللهم لا تدخلنا في التجربة الصعبة واجعلنا من الراضين بفضلك والواعين لحكمتك والمذعنين بأنّك لا تقضي إلاّ بما فيه الخير لخلقك من موقع الخير والبلاء.
* * *
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمّدٍ وَآلِه، وطيِّبْ بِقْضَائِكَ نَفْسِي، وَوسِّعْ بِمواقِع حُكمِكَ صَدْرِي، وَهَبْ لِيَ الثّقَةَ لأقرَّ مَعَهَا بِأنّ قَضَاءَكَ لَمْ يَجْرِ إلاّ بالخِيَرَةِ، واجْعَلْ شُكْرِي لكَ عَلَى مَا زَوَيْتَ عَنِّي أَوْفَر مِنْ شُكْرِي إيّاكَ عَلى مَا خوَّلْتَني.
* * *
اللهم طيّب بقضائك نفسي:
 يا ربّ، أنا الإنسان الذي خلقته منفتحاً على الحسّ من خلال ارتباط حواسّه بما حوله ومن حوله، وانطلاق نظرته إلى الأشياء وحكمه عليها من علاقتها بذاته، وتحرّك وعيه للموقع الذاتي لحياته من قاعدة انفتاح الأشياء والأوضاع والقضايا على وجوده بشكل مباشر يرتبط بالسطح ولا ينفذ إلى العمق، ويقف أمام البدايات ولا يحدّق بالنهايات، فيستعجل الأحكام السلبية في المشاكل الصعبة المعقّدة، ويبطل الأحكام الإيجابية في الانفعالات الضاحكة المنفتحة، من دون دراسة للنتائج القريبة أو البعيدة.
وهذا هو الذي يدفعني إلى الانحراف عن خطك المستقيم في وعي الوجدان لحركة قضائك في حياتي، ومواقع حكمك في أموري، فانفتح عليك في موقف شكرٍ خاضعٍ إذا التقيت بعطائك، وأبتعد عنك في عملية انغلاق روحي إذا واجهتني بالمنع، تماماً كما لو كان العطاء ـ في حياتي ـ خيراً مطلقاً أرتاح له، وكما لو كان المنع شراً مطلقاً أشعر بالإنزعاج معه، فتكون علاقتي بك كعلاقتي بالآخرين من خلقك تبعاً لأوضاع الإيجاب والسلب بما يتصل بقضائك لي وحكمك عليَّ.
يا ربّ، إنني لا أجد في نفسي - من خلال هذا الإحساس - الإنسان المؤمن الذي يؤمن بأنّ في الغيب الذي يختزنه علمك الكثير الكثير من الخير الذي لا يعرفه الإنسان إلا من خلال وعيه للعمق في طبيعة الأشياء، وللعاقبة في نهايات الأمور، فكم من أمر يراه الإنسان في ظاهره أو بدايته شراً وهو خير، لأنّ هناك أكثر من عنصر يختفي في عمق الواقع، أو يختفي في خفايا المستقبل، وكم من أمرٍ يظنّه الإنسان خيراً وهو شرّ، من خلال السلبيات الواقعية الخفية في الحاضر وفي مدى الزمن.
وكم من قضايا لا أدرك حكمتها في تجاربي المحدودة ولكنّ علمك بأسرارها يحمل الكثير من مواقع الحكمة في كلّ تفاصيلها.
لقد خلقتني - يا ربّ - وأنت أقرب إليَّ من حبل الوريد، فأنت الذي يحول بين المرء وقلبه، ويعلم ما توسوس به نفسه، يا مقلب القلوب، أعطني من لطفك وهديك ورحمتك القوة على أن أملك العمق في إيماني، والامتداد في انفتاح فكري على المستقبل، والوعي العميق لكلّ ما تنزله بي من أنواع القضاء مما قد تفرحني نتائجه، لأنّها تلتقي بما أحبه وأرتاح إليه، لأنّه ينسجم مع رغباتي وحاجاتي في الحياة، أو مما قد تحزنني مشاكله، لأنّها توقعني في ما أكرهه وتزعجني بما تثيره في حياتي من تعقيدات، وتبتعد عما أتطلع إليه من طموحات الحركة في الحاضر والمستقبل.
فاجعلني من المؤمنين بك الواثقين بأنّ اختيارك لي لم ينطلق إلا من مصلحتي في عمق حياتي من خلال الخير الذي يختزنه في واقع الأمر في نهاية المطاف، مما قد لا يكتشفه الإحساس الظاهر أو الملاحظة السريعة، لأنّ الربّ الرحيم الحكيم الخبير بحاجات عبادك، فلا تتصرف في شؤونهم إلا بما يصلح أمورهم، مما قد لا يعرفونه ولا ينفتحون عليه من خلال جهلهم بحقائق الأشياء.
ووسّع صدري لكلّ مواقع حكمك في حياتي، فلا يضيق بنتائجها السلبية، ولا يتعقد من متاعبها المرهقة، مما يشقّ على النفس تحمّله، وتضيق به ذرعاً، فأعيش الرضى بكلّ قضائك في إحساس بالطمأنينة بأنّ فيه الخير كلّ الخير، والربح كلّ الربح، وأن ما يواجهني - الآن - من الشرّ سوف ينفتح على الخير، وأنّ ما أعيشه من الحزن يختزن في داخله الفرح.
وفي ضوء ذلك، اجعلني ممن يشكرك على البلاء بالروح نفسها التي يشكرك بها على العافية، وعلى الفقر كما على الغنى، وعلى المنع بالقوة الروحية التي ينفتح فيها على العطاء، بل تزيد عن ذلك لأعبّر لك من خلال الثقة المطلقة بحكمتك ورحمتك، أنّي عبدك الذي يؤكّد إخلاصه لك في ساعات الألم بأكثر مما يؤكّده في ساعات اللذة، ويرى أن ما منعته من الخير يستوجب الشكر بأكثر مما أعطيته، في الموقف الذي يحسّ فيه بالانسحاق أمامك والذوبان في عبوديته لك وربوبيتك التي تدبر أمره وتربّي حياته.
* * *
 وَاعْصِمْني مِنْ أَنْ أَظُنَّ بِذي عَدَمٍ خَسَاسَةً، أو أَظُنَّ بِصَاحِبِ ثَرْوَةٍ فَضْلاً، فإنَّ الشَّرِيفَ مَنْ شَرَّفتْهُ طاعَتُكَ، والعَزِيزَ من أعزّتْهُ عِبَادَتُكَ.
* * *
إنّ الشريف من شرّفته طاعتك:
يا ربّ، هب لي العصمة الفكرية الروحية التي تنظر إلى الناس من خلال ما يملكونه من القيم الأخلاقية المنفتحة على الدرجات الرفيعة التي يبلغونها في علاقتهم الإيجابية بك من حيث طاعتهم لك، وامتثالهم لأوامرك ونواهيك، مما أردت لهم أن يفعلوه أو يتركوه، ولا تنظر إليهم - في خطّ القيمة - من خلال ما يملكونه من الأموال الكثيرة التي تجعلهم في مستوى الغنى أو ما يفقدونه من ذلك بما يجعلهم في مستوى الفقر، لأنّ إنسانية الإنسان في شرفه وعزته، وخساسته وحقارته، تتمثل في ملكاته الروحية، وقدراته الفكرية، وممارسته العملية، فهي التي تمثل حركة إنسانيته في وجوده، لأنّها تتصل بالمضمون الداخلي الكامن في ذاته، أمّا المال فإنّه ليس شيئاً في الإنسان بل هو شيء خارج عنه، فلا قيمة له إلا من حيث إضافته إليه قانوناً، أو وجوده في حوزته أو بين يديه، فلا دور في الفكر والروح والطاقة والحركة، بل هو وسيلة من وسائل الحصول على حاجاته براحة، فلا يمثل فقده له نقصاناَ في الإنسان، ونزولاً في مرتبته، كما لا يؤدّي وجوده عنده زيادة فيه وعلوّاً في درجته، لانفصاله عن ذاته في جانب السلب والإيجاب، فكيف يكون قيمة إيجابية هنا وقيمة سلبية هناك؟ إنّ المال قد يتحوّل إلى قيمة إنسانية إذا حرّكه الإنسان في اتجاه الخير الممتد في الحياة من خلال حاجة الإنسان إليه، وذلك في حركة العطاء المنطلقة من إحساس الذات بآلام الآخرين وحاجاتهم، فتنهض للقيام بمسؤولياتها في ذلك كلّه انطلاقاً من معنى الخير الكامن في النفس، بحيث يكون العطاء مظهراً للقيمة الروحي، فهي التي تعطيه معناه، وتمنحه درجته.
اللهم اجعلني ممن يرتبط في نظرته إلى الأشياء بحقائقها، وفي انطباعاته الفكرية بجوهرها، فأحترم الإنسان في مواقع العزة والشرف من خلال قربه منك وحظوته عندك، لأنّ ذلك هو العز كلّه والشرف كله، فإنّ رضاك عن أيّ عبد من عبيدك أو أمةٍ من إمائك يجعله في الدرجة العليا في درجات الناس التي يتفاضلون فيها، لأنّ الرفعة عندك - وأنت الله الذي ليس كمثله شيء والمهيمن على الأمر كلّه والخلق كلّه - هي مقياس ارتفاع الإنسان، لأنّ الرفعة عند الناس تأخذ بعدها من قيمتهم في الموقع، ولا قيمة لأحدٍ منهم أمامك، بل نحن وهم سواء في عبوديتنا لك، وبذلك يكون التفاضل في الشرف بالتفاضل في طاعتك التي تقربنا إليك، وفي العزة بالتقدم في عبادتك التي تمنحنا رضوانك، وفي ذلك كلّه السعادة في الآخرة في نعيم الجنة وفي الأولى في طمأنينة الروح، وفي الوجود الحي، في رضوانك الذي هو النعمة كلّ النعمة، لأنّه الأكبر والأرفع والعليّ في ميزان النتائج مما يحصل به العبد من مولاه.
ولا بدّ من ملاحظة في هذا الإيحاء الفكري في هذه الفقرات، وهي أنّ الإسلام يريد للإنسان أن يتحرك في تقويمه للأشخاص من حوله، بمقدار التزامهم الديني، وعلوّ شأنهم في الانفتاح على الله وإخلاصهم في العمل بطاعته، فذلك هو القيمة الكبرى في المضمون الإسلامي، مما يجعل القيم الذاتية الأخرى في وجود الإنسان، كالعلم والقوة ونحوها، خاضعة في حركتها تلك القيمة، فللعلم قيمته بقدر ما يحركه الإنسان في الخير الذي يبني للحياة قوتها ويحقق للإنسان حاجاته، وللقوة قيمتها بمقدار ما تنطلق لتقوية الضعيف وإدراك اللهيف، وبناء الحياة بالطريقة التي تجعل الإنسان قوياً في مسؤولياته الموكولة إليه في الحياة... وهكذا تنطلق القيمة الذاتية لتكبر وتمتد وترتفع من خلال حركيتها في الواقع في خطّ المسؤولية لا من خلال ذاتيتها في حركة الذات.
ومن أجل ذلك يكون الإنسان المؤمن متواضعاً كلما تعاظمت القيمة الموضوعية لديه، لأنّه يزداد إحساساً بنعمة الله عنده وبفضل الله عليه، فلا يدفعه ذلك إلى التكبر على الناس والتجبر عليهم، والاستعلاء بموقعه على مواقعهم، لأنّه لا يرى لنفسه شأناً في ذلك، بل يراه هبة من الله له وفضلاً منه عليه، فيزداد خضوعاً له وإحساساً بالحاجة إلى أن يبذل ما لديه من الطاقات لكلّ الناس الذين يحتاجون إليها من دون شعور بأيّة منّةٍ له عليهم في ذلك لأنّ المنّة لله أوّلاً وآخراً.
* * *
وقد جاء في الحديث المأثور عن أئمة أهل البيت(ع) ما يوحي بالفكرة البارزة في هذا الدعاء من رفض اعتبار الفقر مصدر خساسة، والغنى مصدر شرف وفضل بالدرجة، التي تمنع الإنسان من احتقار الفقير لفقره وتعزيز الغني لغناه، فقد جاء في كتاب نهج البلاغة عن الإمام أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب(ع) أنّه قال:
"من أتى غنياً فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه"(1). وعن أبي عبد الله الإمام جعفر الصادق(ع) قال: "من استذلّ مؤمناً واستحقره لقلة ذات يده ولفقره، شهّره الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق"(2).
* * *
فصلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، ومَتّعْنَا بِثروةٍ لا تَنْفَذُ، وأَيِّدْنا بِعزٍّ لا يُفْقَدُ، وَأسْرحْنَا في مُلْكِ الأبدِ، إِنّك الوَاحِدُ الصَّمَدُ الذي لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُولَدْ، وَلَمْ يكُنْ لَكَ كُفُواً أَحَدٌ.
* * *
اللهم أيّدنا بعزّ لا يُفقد:
اللهمّ إنّ الغنى غناك، والرزق رزقك والمال مالك، فمنك الغنى والثروة في حركة الرزق كلّه، فليس لنا من ذلك كلّه إلا ما أعطيته، فأعطنا من غناك ما يغنينا عن غيرك في امتداد حياتنا من ثروة لا تنقطع ولا تفنى.
اللهم إنّ العزّ عزّك، فأنت العزيز الذي لا حدّ لعزّته فلك لعزّة جميعاً، ومنك يأخذ الأعزّاء عزتهم من خلال ما تهيؤه لهم من وسائل العزّ مما يحصلون عليه من رزقك وقوّتك وعلمك، وما تفتح به قلوب الناس عليهم بما توحي به من احترامهم النفسي وتعظيمهم الفكري وتقديرهم العملي، لأنّ القلوب بيدك، فأنت الذي تقلّبها كيف تشاء، وتوجهها لمن تشاء، وتجمعها حول من تشاء، فلا عزّة من غيرك، لأنّ عزته منك، وما يمنحه من العزّة لمخلوق مثله، صادر عنك.
فأعطنا من عزّك عزّاً تستقيم لنا به القوة في الحياة، ويعظم به شأننا في قلوب الناس، واجعل ذلك كلّه في طاعتك، لنزداد تواضعاً لك كلما ازددنا عزاً عند خلقك، فلا يدفعنا ذلك إلى الخيلاء والزهو، بل يبعثنا إلى أن نتلمس نقاط الضعف في داخلنا لنتوازن في نظرتنا إلى أنفسنا وإلى حقيقة الأمور.
اللهم أعطنا عزّاً دائماً شاملاً لا نفقده في أيّ موقع من مواقع حياتنا حتى نعيش العمر كلّه في عزّك الذي هو من أغلى نعمك عندنا.
وأرسلنا - يا ربّ - في الملك الذي يستمرّ في الأبد والدهر الطويل، فإنّ الملك ملكك، فأنت الذي تؤتيه من تشاء وتنزعه ممن تشاء، لأنّ الخير كلّه بيدك وأنت القادر على كلّ شيء، وأنت الواحد الأحد في ألوهيتك وربوبيتك وفي كلّ شيء مما توحي به أسماؤك الحسنى وصفاتك العليا، الصمد الذي يصمد ويقصد إليه في الحوائج، الذي لم تلد ولم تولد لأنّه الله الأزلي في وجوده، الأبدي في خلوده، المتعالي عن كلّ الحوادث، فلا تعرض له ولا تغير شيئاً من ذاته، فهو الخالق لها المهيمن عليها، وهو وحده المتميز عن كلّ شيء، فلا يماثله شيء ولا يساويه شيء فلم يكن له كفواً أحد، فلا يكافئه احد من خلقه الذين كان وجودهم بإرادته وغناهم من ثروته، وقوتهم من قوته، فما بهم من نعمةٍ فمن الله، مما يجعلهم في حاجة دائمة، فكيف يساوونه ويكافئونه، تعالت عظمتك عن المخلوقين وجلّ أسمك عن الخلق أجمعين.
* * *
الهوامش:

(1)    نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، ص:384، قصار الحكم:228.
(2)    الكافي، ج:2، ص:353، رواية:9.
دعاؤه(ع)
إذا انظر إلى السحاب والبرق وسمع صوت الرعد

اللّهُمَّ إِنَّ هذَيْنِ آيَتانِ مِنْ آياتِكَ، وَهذَيْنِ عَوْنانِ مِنْ أَعْوانِكَ، يَبْتَدِرانِ طاعَتَكَ بِرَحْمَةٍ نافِعَةٍ، أَوْ نِقْمَةٍ ضارَّةٍ، فَلا تُمْطِرْنا بِهِما مَطَرَ السَّوْءِ، وَلا تُلْبِسْنا بِهِما لِباسَ الْبَلاءِ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَنْزِلْ عَلَيْنا نَفْعَ هذِه السَّحائِبِ وَبَرَكَتَها، وَاصْرِفْ عَنّا أَذاها وَمَضَرَّتَها، وَلا تُصِبْنا فيها بِآفَةٍ، وَلا تُرْسِلْ عَلى مَعايِشِنا عاهَةً.
اللّهُمَّ وَإِنْ كَنْتَ بَعَثْتَها نِقْمَةً، وَأَرْسَلْتَها سَخْطَةً، فَإِنّا نَسْتَجيرُكَ مِنْ غَضَبِكَ، وَنَبْتَهِلُ إِلَيْكَ في سُؤالِ عَفْوِكَ، فَمِلْ بِالْغَضَبِ إِلَى الْمُشْرِكينَ، وَأَدِرْ رَحى نَقِمَتِكَ عَلَى الْمُلْحِدينَ.
اللّهُمَّ أَذْهِبْ مَحْلَ بِلادِنا بِسُقْياكَ، وَأَخْرِجْ وَحَرَ صُدُورِنا بِرِزْقِكَ، وَلا تَشْغَلْنا عَنْكَ بِغَيْرِكَ، وَلا تَقْطَعْ عَنْ كافَّتِنا مادَّةَ بِرِّكَ، فَإِنَّ الْغَنِىَّ مَنْ أَغْنَيْتَ، وَإِنَّ السّالِمَ مَنْ وَقَيْتَ، ما عِنْدَ أَحَد دُونَكَ دِفاعٌ، وَلا بِأَحَد عَنْ سَطْوَتِكَ امْتِناعٌ، تَحْكُمُ بِما شِئْتَ عَلى مَنْ شِئْتَ، وَتَقْضي بِما أَرَدْتَ في مَنْ أَرَدْتَ.
فَلَكَ الْحَمْدُ عَلى ما وَقَيْتَنا مِنَ الْبَلاءِ، وَلَكَ الشُّكْرُ عَلى ما خَوَّلْتَنا مِنَ النَّعْماءِ، حَمْداً يُخَلِّفُ حَمْدَ الْحامِدينَ وَراءَهُ، حَمْداً يَمْلأُ أَرْضَهُ وَسَماءَهُ، إِنَّكَ الْمَنّانُ بِجَسيمِ الْمِنَنِ، الْوَهّابُ لِعَظيمِ النِّعَمِ، الْقابِلُ يَسيرَ الْحَمْدِ، الشّاكِرُ قَليلَ الشُّكْرِ، الْمُحْسِنُ الْمُجْمِلُ ذُو الطَّوْلِ، لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ إِلَيْكَ الْمَصيرُ.
* * *
كيف ينظر المؤمن إلى الظواهر الكونية؟
كيف ينظر الإنسان المؤمن إلى الظاهر الكونية المتصلة بالواقع الإنساني في حياتك في دائرة النعمة تارة وفي دائرة النقمة أخرى؟
وكيف يفكّر في طبيعتها الوجودية؟ هل يستغرق في خصائصها وجمالاتها بحيث ينفصل عنها ليدخل في فكر منفتح على دلالاتها العقيدية الروحية، فيجعلها منطلقاً للانفتاح على عظمة الله في خلقه، وعلى خضوع الكون لله وحركة ظواهره في تحقيق إرادة الله في النظام الوجودي العام للحياة والإنسان؟
إنّ هذا الدعاء يمثل لوناً من ألوان الأسلوب الروحي للإمام زين العابدين(ع) الذي يستنطق كلّ ما في الكون ليجد فيه دليلاً على الله، ومناسبة لشكره، وفرصة للدعاء في الاستزادة من نعمه، والخلاص من نِقَمِه، حتى يكون النظر إلى ظواهره، والاستماع إلى كلّ الأصوات الصادرة منها، والانفتاح بكلّ عناصر الحسّ على كلّ خصائصها، منطلقاً لذكر الله، وموضوعاً للتفكير فيه، وحركة في النفس في أجواء عبادته.
وهذا هو سبيل المؤمن في الاستجابة لله في الدعوة إلى التفكير في أسرار السموات والأرض، ليعرفها في عمق المعاني التي تدلّ عليها ظواهرها، والخصائص العظيمة التي تختفي في داخلها، حتى لا تكون النظرة إلى الكون نظرة بلهاء، وإلى ما يختزنه في وجوده ملاحظة سطحية لا تنطلق إلا من خلال اللهو والعبث، فإنّ الله يريد للإنسان أن يستخدم حواسه في القيام بجولةٍ فكرية في العالم الذي يعيش في داخله ويحيط به، ليزداد بذلك علماً ووعياً وإيماناً، لأنّ الله لا يريد للإنسان أن ينطلق في إيمانه من موقع الإيمان الأعمى، بل الإيمان المنفتح الواعي الذي يعرف الأساس الفكري والوجودي الذي يرتكز عليه الالتزام العقيدي بوحدانية الله وعظمته ونعمته.
إنّ الله يريد للمؤمن أن يقرأ في كتاب الكون ليعيش تجربته الفكرية، وحركته العلمية، قبل أن يقرأ في الكتب التي صنفها الناس الآخرون، لأنّ عليه أن يدخل في تجربته الذاتية ويستنطقها قبل أن يطّلع على تجربة الآخرين الذين يكتبون خلاصة تجاربهم، ليحصل لديه التفاعل بين ما لديه وما لديهم.
* * *
وقد رأى الإمام زين العابدين(ع) في السحاب والبرق والرعد آيتين من آيات الله باعتبارهما دالين في نظامهما الوجودي على سنّة الله في توفير عناصر الحياة للأرض وللإنسان، وبما تشتملان عليه من الأسرار الإبداعية في تكون السحاب واختزانه للماء، وفي حركة البرق والرعد في إيحاءاتها بالخوف والرجاء وفي طبيعتها الذاتية في عناصرهما الحيّة، الأمر الذي يجعلهما وسيلتين من وسائل معرفة الله من خلال خلقه. وقد لاحظ في موقعهما الوظيفي من نظام الكون في حركة النعمة والنقمة من خلالهما، أنّهما عونان مِن أعوان الله على تحقيق إرادته في الوجود، طائعان له في إنزال الرحمة النافعة تارة والنقمة الضارّة تارةً أخرى، لا ينحرفان عن ذلك ولا يبتعدان عن الخطّ الكوني المرسوم لهما، لأنَّ طاعتهما لا تنطلق من إرادةٍ قد تضعف وقد تقوى تبعاً للنوازع والحوافز الكامنة في الذات في تأثرها بما حولها ومن حولها، بل تنطلق من ذاتية تكوينهما الذي أودعهما الله في سرّ حركتهما الذائبة في البرنامج الموضوع لهما في نظام الكون، فهما بإرادة الله يتحركان، فإذا أراد لعباده الخير أمطرهما مطر الخصب والرخاء، وإذا أراد لهم البلاء أمطرهما مطر السوء والعناء.
وفي ضوء هذا، كان الدعاء في الطلب إلى الله أن لا يجعلهما مصدر نقمة وبلاء، بل مصدر نعمةٍ ورخاء.
فإذا كان البلاء الذي ينزله الله علينا ناتجاً من سخط الله وغضبه، فإنّ الدعاء يستنزل رحمة الله وعفوه انطلاقاً من إيماننا الذي هو شفيعنا في ما نطلبه من الله من تحويل المحل إلى خصب، وفتح القلوب على الله من خلال رزقه، حتى لا ينصرف الناس في غفلاتهم إلى غيره من عباده الذين يملكون الغنى من خلال غناه، فإذا أعطونا من مالهم فمن مال الله الذي أعطاهم، لأنّه هو الذي يغني الناس من واقع برّه، لأنّه يملك الأمر كلّه في ما يمنحه من الخير أو في ما يدفع عنه من الشرّ، وهكذا يتحول الإحساس بالله في عطائه إلى سبب من أسباب الحمد والشكر لله المنّان الوهّاب.
* * *
اللّهُمَّ إنَّ هذين آيتّان مِنْ آياتِكَ، وّهذين عَوْنَانِ مِنْ أعوانِكَ يَبْتَدِرانِ طَاعَتَكَ بِرَحْمة نَافعةٍ أو نِقْمَةٍ ضَارّةٍ، فَلا تُمْطِرْنَا بِهِمَا مَطرَ السّوءِ، وَلاَ تُلبِسْنَا بِهِمَا لِبَاسَ البلاءِ.
* * *
البرق والرعد آيتان من آيات الله:
يا ربّ، لقد خلقت السحاب الذي يجري في الفضاء بقدرتك، والبرق الذي يضيء الكون بسرعة ويوحي بالحريق تارة، وبالمطر أخرى، والرعد الذي قصف الأجواء بقوة فيثير الخوف من صواعقه ومن شدّة صوته، كما يوحي بالأمل المنطلق من ضغطه الذي ينزل السماء مدراراً.
إنّهما آيتان من آياتك المنتشرة في الكون التي تدلّ على وجودك ووحدانيتك في عظمتك وقدرتك، وما في حركتهما الدائبة السريعة الممتدة في الزمن ليكونا جزءاً من النظام الكوني الخاضع للسنن الإلهية التي تختزن في عناصرها الأسرار التي تجعل من الأرض ساحة للخصب وللرخاء والحياة، وتمنحها الريّ والجمال والتنوّع، فتكون مهاداً للإنسان وفرصة طيّبة للعيش، وموقعاً لحركته الوجودية في دائرة النمو والتطور والإبداع، ليجعل من الأرض جنّة مصغّرة على الأرض، حيث هيّأت له كلّ عناصر العيش وأدوات الحركة، فأقمت عليه الحُجّة بذلك كلّه ليكون خليفتك العامل بطاعتك المتحرك بإرادتك السائر في الطريق المستقيم الذي يؤدّي إليك.
 وهذان - يا ربّ - من الوسائل الطبيعية التي تمثل الأدوات التي تستعين بها على تنفيذ مهمّات إرادتك مما تريد للحياة أن تمتد به، وللإنسان أن يملك شروط حياته من خلالها، فهما مخلوقان طائعان بنفس وجودهما، فالطاعة سرّ كلّ العناصر المودعة منهما، فلا يملكان أن ينحرفا عن الخطّ المرسوم لهما، والقانون الذي يحكمهما، وهذا ما يجعلها يتحركان بالمبادرة الدائمة لما تريده من رحمةٍ نافعةٍ لعبادك في لطفك بهم من خلال الخصب والرخاء في المطر النازل من السماء، أو من نقمة ضارة بهم في بلائك لهم من الصواعق المحرقة والسيول المغرقة، وما يترتب علينا من الخراب والدمار وفساد الزرع وسقوط الثمار.
اللهم فالطف بنا بما تنزله من المطر، فلا تجعلهما سبباً في مطر سوء يثقل حياتنا بنتائجه السيئة، ولا تلبسنا لباس البلاء من خلال الأجواء المثقلة بالمشاكل، فأنت الذي توجهها بإرادتك وتحركها بمشيئتك.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وَأنْزِلْ عَلَينا نَفْعَ هذه السَّحَابِ وَبَركَتِها، واصرِفْ عَنَّا أَذاها وَمضرّتها، وَلاَ تُصِبْنَا فِيها بِآفةٍ وَلا تُرْسِلْ عَلَى مَعايِشِنَا عَاهةً.
* * *
اللهم أنزل علينا بركة السحاب:
يا ربّ، إنّنا في الوقت الذي نستعيذ فيه بك من مطر السوء في المطر النازل علينا بقدرتك، ومن لباس البلاء الذي يلبس البلاد والعباد من خلال إرادتك، لا نكتفي منك أن تدفع الضرّر عنّا، بل نطمع أن تنزل علينا الخيرات الكثيرة المباركة، بما توحي به الكثرة من شمول رحمتك، والبركة من عمق كرمك، فننتفع بها في معايشتنا ولا نتضرر بما تختزنه من أنواع الضرر الذي قد يصاحب النفع، والأذى الذي قد يلتقي بالسرور، ولا تفسد زروعنا بالآفات التي قد تصيبها، والعاهات التي قد تشوّه نموها الطبيعي، فإنّك القادر على ذلك كلّه، والمهيمن على الأمر كلّه.
* * *
اللّهُمَّ وإنْ كُنْتَ بَعَثْتَها نِقْمَةً، وأرْسَلْتَها سَخْطَةً، فإنَّا نستَجِيرُك مِنْ غَضبِكَ، ونَبتِهلُ إلَيْكَ فِي سُؤالِ عَفْوِكَ، فَمِلْ بالغَضبِ إلى المُشْرِكينَ، وَأدِرْ رَحَى نِقْمَتِكَ عَلَى المُلْحِدِين.
* * *
اللهم إنّا نستجيرك من غضبك:
 يا ربّ، قد يكون قدرك الذي قدّرت وقضاؤك الذي قضيت، أن يكون هذا السحاب ببروقه ورعوده نقمة، جزاءً للمنحرفين عن دينك القويم، وعقاباً على ابتعادهم عن صراطك المستقيم، وسخطةً يتمثل فيها غضبك على المتمرّدين على أوامرك ونواهيك، والبعيدين عن مواقع رضاك.
فإنّنا عبادك المؤمنون برسولك وبرسالتك، الخائفون من غضبك، المبتهلون إليك في الحصول على عفوك، المتطلعون إليك دائماً أن تشملنا برحمتك، وتنظر إلينا بعينك الراحمة نظرة رحيمة لا تسخط علينا بعدها أبداً - إنّنا هنا في موقف استجارة من غضبك هناك، وفي موقع ابتهال إليك أن تمنحنا عفوك عن ذنوبنا التي استسلمنا فيها لغفلاتنا عن ذكرك بما وسوس لنا الشيطان من خلاله.
فأبعد هذه النقمة عنّا، وأزل هذه السخطة عن معايشنا وأرزاقنا وأوضاعنا، ومل بها إلى الذين أنكروا وتوحيدك وأشركوا بعبادتهم غيرك، وكذبوا رسلك ورسالتك، وشدّد انتقامك، وأعلن حربك على الملحدين الذين ألحدوا في دينك، ومالوا عن الحقّ إلى الباطل، وانحرفوا عن الإيمان إلى الكفر، وعن التوحيد إلى الشرك، فإنّهم المستحقّون لعقابك بكفرهم وشركهم وصدّهم عن سبيل الله بغير حقّ.
* * *
اللّهمَّ أَذْهِبْ بَلادِنَا بِسُقْياكَ، وأخْرِجْ وَحَراَ(1) صُدُورِنَا برزقِكَ، وَلاَ تَشْغَلْنَا عَنْكَ بِغَيْرِك، وَلاَ تَقْطَع عَنْ كَافَّتِنا مادَّة بِرّكَ، فَإنّ الغنيّ من أغنيتَ، وإنَّ السَّالِمَ مَنْ وَقَيْت، مَا عِنْدَ أَحدٍ دُونَك دِفاعٌ وَلاَ بِأحَدٍ عَنْ سطوتِكَ امْتِناعٌ، تحْكُمُ بِمَا شئْتَ وَتَقْضيِ بما أرَدْتَ فيِمَنْ أَرَدْتَ.
* * *
اللهمّ لا تقطع عنّا مادّة برّك:
يا ربّ، إنّك الذي تروي ظمأ عبادك وبلادك إلى الريّ بما تسقيهم من الماء الذي تنزله من السماء لتحيي به الأرض بعد موتها، والإنسان بعد ظمئه، فيذهب محل الأرض بالمطر الذي ينزل إلى أعماقها لتهتزّ البذور بالريّ، ولتدخل في موسم نموّ جديد، ويزول يباس العروق في جسد الإنسان فتبتلّ بالمعين الذي ينفذ إليها بصفاء.
وأنت يا ربّ الذي تزيل كلّ الأحاسيس والمشاعر والوساوس والأفكار السلبية التي قد يثيرها الشيطان في صدورنا، فيفسد علينا سلامتها من الشّ، ويبعد عنّا صفاءها وطهارتها من الغلّ والعداوة، عندما يضيق بنا الرزق ويشتد علينا البلاء، فننتقل من فكر خيّرٍ إلى فكرٍ شرّير، ومن إحساس محبةٍ إلى إحساس بغضةٍ، ومن شعورٍ هادئ إلى شعورٍ منفعل.
اللهم أنزل على أرضنا بركة سقياك، وأذهب عن صدورنا كلّ سلبيات المشاعر والأفكار والأحاسيس برزقك الذي يحقق لنا الكفاية، فلا نشعر بمشكلة ولا تبتعد عن رسالة.
واجعلنا مستغرقين في التفكير بك والاشتغال بذكرك، فلا يشغلنا غيرك من عبادك بحاجتنا إليهم في رزقك الذي اغتنوا به من خلالك، ووفقنا للثقة بك وبعطائك الذي لا ينفذ، وبرّك الذي لا يضعف، بإضافة رزقك علينا وتوجيه برّك إلينا، فأنت - وحدك - مصدر الغنى فلا غنى إلا لمن أعطيته من غناك، وأنت - وحدك - الواقي من كل بلاء الدنيا ومشاكلها، وأنت - وحدك - الذي تملك من عبادك ما لا يملكونه من أنفسهم، فأنت الحاكم عليهم بما تنزله بهم من قضائك وقدرك من خلال مشيئتك، وأنت القاضي بما تفرضه عليهم بإرادتك، لا يملك أحد دفاعاً لما قضية، ولا يستطيع امتناعاً من سطوتك التي فرضت.
إنّك - يا ربّ - وحدك المالك لعبادك ولما ملّكتهم، لأنّك الخالق لهم ولما يتحرك بين أيديهم، والكافي من كلّ شيء ولا يكفي منك شيء، فأعطنا - يا ربّ - ما سألناه ووفقنا لما أردناه وجُد علينا بما طلبناه.
* * *
 فَلَكَ الحَمْدُ عَلَى مَا وَقيْتَنَا مِنَ البَلاَءِ، وَلَكَ الشُّكْرُ عَلَى مَا خوَّلْتَنَا مِنَ النَّعْمَاءِ، حَمْداً يُخلِّفُ حَمْدَ الحامِدِين وَرَاءَه، حمْداً يَمْلأُ أَرْضَهُ وسَمَاءَهُ، إِنّك المنَّانُ بجّسيمِ المِنَنِ، الوهَّابُ لعظيمِ النِّعَمِ، القابلُ يَسيرَ الحَمْدِ، الشاكِرُ قَليلَ الشُّكْرِ، المُحسِنُ المجْمِلُ ذُو الطّوْلِ، لا إله إلاَّ أنتَ إليْكَ المَصيرُ.
* * *
اللهم لك الحمد على ما وقيتنا من البلاء:
يا ربّ، إنّنا عبادك المتقلبون في نعمائك، البعيدون عن أنواع بلائك، نحمدك على الوقاية من البلاء بلطفك، وعلى إغداق النعمة بكرمك، ليس الحمد هنا كلمة تقال من اللسان، ولكنّه روح وإحساس وإرادة وحبّ وخضوع من عمق قلوبنا، فهو الذي لا يبلغ حمد الحامدين من كلّ خلقك مداه، فهو السابق في كلّ مواقع الحمد فيترك الآخرين الذين يحمدونك خلفه في لهاثٍ عنيف للحاق به، ولكنهم لا يصلون إليه، وهو الذي يملأ الأرض والسماء لأنّه ينطلق من كلّ تفاصيل الوجود الحيّ في وجودنا ليشمل الوجود من حولنا.
إنّه الحمد الذي نستغرق فيه فتتسع آفاقنا بمعرفتك من خلاله، ونتطلع إليك في أجوائه وابتهالاته، فنعرف إنّك الربّ المنّان الذي يمنّ على عباده بالعظيم العظيم من مننه، والوهاب الذي وهبهم الحياة وقد كانوا عدماً ميتاً، والنّعمة وقد كانوا فقراً شاملاً، والكريم اللطيف الذي يقبل من عباده يسير الحمد فيحمدهم عليه، ويسير الشكر فيشكرهم عليه، المحسن الذي بادر عباده بالإحسان، فغمرهم عليه، ويسير الشكر فيشكرهم عليه، المحسن الذي بادر عباده بالإحسان، فغمرهم بإحسانه في بحار كرمه وعطائه الجزيل في عطاياه، بما يوفّر لهم من الرزق الكثير والبرّ الجميل، ذو الطّول والفضل والمنّ والنعمة على العباد، أنت وحدك الإله الواحد الذي لا شريك له، ولا إله غيره، له الأسماء الحسنى والأمثال العليا والكبرياء والآلاء، وإليك المصير، فكلّ عبادك راجعون إليك، عائدون إلى دارك التي جعلتها دار المقامة عندك، وهذا هو الذي يدفعهم إلى الإيمان والعمل الصالح والسير في صراطك المستقيم.
* * *
الهوامش:
(1)    قال ابن الأثير في النهاية: فيه الصوم يذهب وحر الصدر، هو ـ بالتحريك ـ وساوسه وغشه، وقيل: الحقد والغيظ، وقيل: العداوة، وقيل: أشدّ الغضب. النهاية لابن الأثير، ج:5، ص:160، نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:5، ص:209.
* * *


دعاؤه(ع)
بالتقصير عن تأدية الشكر

اللّهُمَّ إِنَّ أَحَداً لا يَبْلُغُ مِنْ شُكْرِكَ غايَةً إِلاّ حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ إِحْسانِكَ ما يُلْزِمُهُ شُكْرَكَ، وَلا يَبْلُغُ مَبْلَغاً مِنْ طاعَتِكَ - وَإِنِ اجْتَهَدَ - إِلاّ كانَ مُقَصِّراً دُونَ اسْتِحْقاقِكَ بِفَضْلِكَ، فَأَشْكَرُ عِبادِكَ عاجِزٌ عَنْ شُكْرِكَ، وَأَعْبَدُهُمْ لَك َمقَصِّرٌ عَنْ طاعَتِكَ.
لا يَجِبُ لأِحَدٍ مِنْهُم أَنْ تَغْفِرَ لَهُ بِاسْتِحْقاقِهِ، وَلا يَحِقُّ لَهُ أَنْ تَرْضى عَنْهُ بِاسْتيجابِهِ. فَمَنْ غَفَرْتَ لَهُ فَبِطَوْلِكَ، وَمَنْ رَضيتَ عَنْهُ فَبِفَضْلِكَ، تَشْكُرُ يَسيرَ ما شُكِرْتَهُ، وَتُثيبُ عَلى قَليْلِ ما تُطاعُ فيهِ، حَتّى كَأَنَّ شُكْرَ عِبادِكَ الَّذي أَوْجَبْتَ عَلَيْهِ ثَوابَهُمْ، وَأَعْظَمْتَ عَنْهُ جَزاءَهُمْ، أَمْرٌ مَلَكُوا اسْتِطاعَةَ الامْتِناعِ مِنْهُ دُونَكَ فَكافَأْتَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ بِيَدِكَ فَجازَيْتَهُمْ، بَلْ مَلَكْتَ يا إِلهي أَمْرَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكُوا عِبادَتَكَ، وَأَعْدَدْتَ ثَوابَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُفِيضُوا في طاعَتِكَ، وَذلِكَ أَنَّ سُنَّتَكَ الإفْضالُ، وَعادَتَكَ الإحْسانُ، وَسَبِيلَكَ الْعَفْوُ.
فكُلُّ الْبَرِيَّةِ مُعْتَرِفَةٌ بِأَنَّكَ غَيْرُ ظالِم لِمَنْ عاقَبْتَ، وَشاهِدَةٌ بِأَنَّكَ مُتَفَضِّلٌ عَلى مَنْ عافَيْتَ، وَكُلٌّ مُقِرٌّ عَلى نَفْسِهِ بِالتَّقْصيرِ عَمَّا اسْتَوْجَبْتَ، فَلَوْلا أَنَّ الشَّيْطانَ يَخْتَدِعُهُمْ عَنْ طاعَتِكَ ما عَصاكَ أَحَدٌ، وَلَوْلا أَنَّهُ يُصَوِّرُ لَهُمُ الْباطِلَ في مِثالِ الْحَقِّ ما ضَلَّ عَنْ طَريقِكَ ضالٌّ.
فَسُبْحانَكَ ما أَبْيَنَ كَرَمَكَ في مُعامَلَةِ مَنْ أَطاعَكَ أَوْ عَصاكَ، تَشْكُرُ الْمُطيعَ عَلى ما أَنْتَ تَوَلَّيْتَهُ لَهُ، وَتُمْلي لِلْعاصي فيما تَمْلِكُ مُعاجَلَتَهُ فيهِ، أَعْطَيْتَ كُلاًّ مِنْهُما مالا يَجِبُ لَهُ، وَتَفَضَّلْتَ عَلى كُلٍّ مِنْهُما بِما يَقْصُرُ عَمَلُهُ عَنْهُ.
وَلَوْ كافَيْتَ الْمُطِيعَ عَلى ما أَنْتَ تَوَلَّيْتَهُ لَهُ لأوْشَكَ أَنْ يَفْقِدَ ثَوابَكَ، وَأَنْ تَزُولَ عَنْهُ نِعْمَتُكَ، وَلكِنَّكَ بِكَرَمِكَ جازَيْتَهُ عَلَى الْمُدَّةِ الْقَصيرَةِ الْفانِيَةِ بِالْمُدَّةِ الطَّويلَةِ الْخالِدَةِ، وَعَلَى الْغايَةِ الْقَريبَةِ الزّائِلَةِ بِالْغايَةِ الْمَديدَةِ الْباقِيَةِ.
ثُمَّ لَمْ تَسُمْهُ الْقِصاصَ فيما أَكَلَ مِنْ رِزْقِكَ الَّذي يَقْوى بِهِ عَلى طاعَتِكَ، وَلَمْ تَحْمِلْهُ عَلَى الْمُناقَشَةِ فِي الآلاتِ الَّتي تَسَبَّبَ بِاسْتِعْمالِها إِلى مَغْفِرَتِكَ، وَلَوْ فَعَلْتَ ذلِكَ بِهِ لَذَهَبَ جَميعُ ما كَدَحَ لَهُ، وجُمْلَةُ ما سَعى فيهِ جَزاءً لِلصُّغْرى مِنْ أَياديكَ ومِنَنِكَ، وَلَبَقِيَ رَهيناً بَيْنَ يَدَيْكَ بِسائِرِ نِعَمِكَ، فَمَتى كانَ يَستَحِقُّ شَيْئاً مِنْ ثَوابِكَ؟ لا، مَتى؟! هذا يا إِلهي حالُ مَنْ أَطاعَكَ، وَسَبِيلُ مَنْ تَعَبَّدَ لَكَ.
فَأَمَّا الْعاصي أَمْرَكَ، وَالْمُواقِعُ نَهْيَكَ، فَلَمْ تُعاجِلْهُ بِنِقْمَتِكَ لِكَىْ يَسْتَبْدِلَ بِحالِهِ في مَعْصِيَتِكَ حالَ الإنابَةِ إِلى طاعَتِكَ، وَلَقَدْ كانَ يَسْتَحِقُّ يا إِلهي في أَوَّلِ ما هَمَّ بِعِصْيانِكَ كُلَّ ما أَعْدَدْتَ لِجَمِيعِ خَلْقِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، فَجَميعُ ما أَخَّرْتَ عَنْهُ مِنْ الْعَذابِ، وَأَبْطَأْتَ عَلَيْهِ مِنْ سَطَواتِ النِّقْمَةِ والعِقابِ، تَرْكٌ مِنْ حَقِّكَ وَرِضاً بِدُونِ واجِبِكَ، فَمَنْ أَكْرَمُ يا إِلهي مِنْكَ؟ وَمَنْ أَشْقى مِمَّنْ هَلَكَ عَلَيْكَ؟ لا! مَن؟!
فَتَبارَكْتَ أَنْ تُوصَفَ إِلاّ بِالإحسانِ، وَكَرُمْتَ أَنْ يُخافَ مِنْكَ إِلاَّ الْعَدْلُ، لا يُخْشى جَوْرُكَ عَلى مَنْ عَصاكَ، وَلا يُخافُ إِغْفالُكَ ثَوابَ مَنْ أَرْضاكَ.
فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَهَبْ لي مِنْكَ أَمَلي، وَزِدْني مِنْ هُداكَ ما أَصِلُ بِهِ إِلَى التَّوْفيقِ في عَمَلي، إِنَّكَ مَنّانٌ كَريمٌ.
* * *
مفهوم الشكر في الإسلام:
إنّ قضية الشكر لله في حركة العبودية الخالصة في نفس الإنسان، هي قضية انفعاله الإيجابي بكلّ النّهم التي أغدقها الله عليه في وجوده كلّه، وما من نعمة لديه في كلّ أموره إلا من الله، فهو مصدرها ومفيضها ومحرّكها ومثيرها، فبالشكر يعيش الإنسان معنى إنسانيته المنفتحة على الله الذي هو سرّ الحياة في عقله وجسده وحركته وعلاقته بالكون والحياة.
إنّه التعبير عن انفتاحه على ربّه وخضوعه له وعمق إحساسه به وحضوره لديه، فلا يرى في حياته نعمة خاصة أو عامة إلا وجد الله عندها ومعها وخلفها، لأنّه لا يملك تصورها بذاته كشيء منفصل عنه، لأنّها مما معنى لها إلا به.
ولكنّ السؤال الذي يفرض نفسه عليه هو: هل يستطيع الإنسان أن يبلغ حقيقة الشكر وشموليته له في كلمة واحدة تستوعب كلّ الكلمات، أو في موقف واحد يطلّ على كلّ المواقف؟
إنّ هذا الدعاء يعبّر عن عجز الإنسان عن ذلك، لأنّ الإنسان المؤمن إذا شكر الله في غاية فإنّ إحسان الله يتتابع في حياته، ليجد نفسه في موقع شكر جديد من خلال أنه في موقع نعمة جديدة تفرض عليه التعبير عن شكرها، وهكذا يعجز - في مواقع الطاعة - عن بلوغ الغاية القصوى من استحقاق الله لذلك منه مهما كان اجتهاده في العبادة، لأنّ حقّه عليه أعظم وفضله عليه أكبر ومقامه أعلى وأرفع، فلا ملك أحد الخروج عن حدّ التقصير في ذلك، وكيف يملك ذلك في عبادة يتحرك فيها في الوسائل التي هيّأتها له في حركة وجوده في ملكك، فهو يشكرك باللسان الذي خلقته له، والعقل الذي وهبته إياه، ويعبدك بالجسد الذي أعطيته له والحياة التي منحته إياها، وهكذا كانت مغفرتك للذين استغفروك تطولاً منك عليهم لا استحقاقاً للمغفرة منك، كما كان رضاك عنهم فضلاً منك لا شيئاً يتوجّب عليك، ويمتد فضلك في حياتهم عندما يجدونك شاكراً ليسير ممّا قدموه ذلك بدونك، وهذا ما واقع له ولا معنى، فإنّهم لا يحصلون على أية فرصة للشكر أو للطاعة إلا من خلال الأسباب التي أعددتها لهم، والفرص التي خلقتها في حياتهم، فلا استقلال لهم في الجهد الذي بذلوه، والعمل الذي أنتجوه، والطاعة التي حصلوا عليها، فكلّ شيء منك وبإرادتك، فأنت المالك لأمرهم في كلّ وجودهم وحركة القوّة فيه قبل أن يتحركوا في عبادتك بالأدوات التي ركبّتها فيهم، وأنت المتفضل عليهم بالثواب قبل أن يفيضوا في طاعتك، لأنّ الثواب لا ينطلق - في طبيعته - من ذاتية عملهم، بل من خلال التفضل عليهم، فأنت الذي جعلت لهم الحقّ من فضلك، من خلال ما تفردت به من سنّة الإفضال على عبادك وعادة الإحسان إليهم، وسبيل العفو عنهم عما أخطأوا فيه معك.
وفي ضوء ذلك كلّه، فإنّ وعي ربوبيتك في حركة عبادك، يدفع الناس كلهم إلى الإحساس بأنّك غير ظالم لهم في عقوبتك لهم على ما أسرفوا به على أنفسهم من معاصيك، لأنّك أقمت عليهم الحُجّة بما عرّفتهم من حقّك، وحذرتهم من معصيتك، ورغبتهم من طاعتك، بالعذاب الذي فرضته والثواب الذي وعدته، فظلموا أنفسهم في انحرافهم عنك، ولم تظلمهم بذلك.
أمّا الذين عافيتهم من العذاب وأنعمت عليهم بالثواب، فإنّهم لم يستحقوا ذلك بجهدهم بل حصلوا عليه بتفضلك، ولذلك فإنّهم لا يخرجون أنفسهم عن حدّ التقصير عما تستحقه منهم من الطاعة والشكر، فإنّ عقولهم وقلوبهم قد امتلأت بالإيمان بك وبمحبتك وبالاعتراف بفضلك في كلّ نعمك.
فلولا نقاط الضعف المركوزة في ذواتهم، وانحراف الغرائز الكامنة في كيانهم مما يستغلّه الشيطان ليزيّن لهم ويخدعهم وليصرفهم عن طاعتك، وليغير الصورة الحقيقية للأشياء، فيقدّم لهم الباطل بصورة الحقّ في جانب والحقّ بصورة الباطل في جانب آخر، فيبعدهم عن ساحة رضوانك... لما عصاك فيهم عاص، ولما ضلّ منهم عن طريقك ضالّ، لأنّ فطرتهم تقودهم إليك وتربطهم بك وتوجههم إلى طاعتك.
وهذا هو الذي يجسد عظمة الكرم الإلهي في التعامل مع عباده، سواء أكانوا من المطيعين له أو من العاصين، فيشكر للمطيعين ما عملوه في خطّ الطاعة في الوقت الذي لا يملكون معه أيّ استقلال في ذلك، فلا فضل لهم في ذلك بل الفضل له إذا ألهمهم ذلك وهداهم إليه وهيّأ لهم الوسائل العملية للوصول إليه، ويمهل العاصين فيملي لهم لتكون لهم فرصة العودة إليه لإقامة الحجة عليهم في تهيئة كلّ الظروف التي تدفع إلى التفكير وتوحي بالحركة في الخطّ المستقيم في الوقت الذي يملك الله معالجتهم بالعذاب جزاءً لمعصيتهم.
وهكذا يمنح الله كلاّ منهما ما لا يستحقه من الثواب هنا والفرصة هناك. ولو كافأ المطيع على ما قام به ودخلت المسألة في حسابات النعم التي أنعم الله بها عليه، والوسائل التي هيّأها له، لما بقي له شيء من عمله، مما لا يجعل له أيّ شيء لحسابه الخاص، ثم لو بقي له ما يستحقّه، فكيف تقابل المدة الطويلة الباقية بقاء الأبد في النعم، المدة القصيرة الكافية في الطاعة، وهل هناك من تفسير لذلك إلا بالكرم الإلهي الذي لا يخضع للحسابات المادية التي توازن بين العوض والمعوّض بدقة، أمّا العاصي، فإنّه في عصيانه المعبّر عن تمرده على الله وكفرانه لنعمه، يمثل الإنسان الذي لا يعيش معنى العبودية في ذاته، مما يفرض عليه أن ينزل الله به كلّ العقوبات التي أعدها لخلقه حتى في بداية التفكير بالمعصية، لأنّ المسألة متصلة بخصوصيات المعصية في تعلقها بموقف العبد مع ربّه العظيم، بعيداً عن حجمها المادي، ولكنّ الله أمهله وأعطاه الفرصة للرجوع فلا يبقى له أيّ عذر في الامتداد في هذا الخطّ المنحرف.
إنّه الربّ العظيم الذي ينفتح الخلق على إحسانه، ولا يخافون إلا من عدله، فهو الذي لا يخاف العاصون جوره، ولا يخاف المطيعون من حرمانه، وهو المقصود - أولاً وآخراً - للانفتاح على الأمل الكبير في المصير والخطّ المستقيم للهدى والتوفيق الممتد في الحياة للعمل الصالح، وهو صاحب المنّ على عباده، والكريم الذي لا يقف كرمه عند حدّ.
* * *
اللّهُمَّ إنَّ أحّداً لا يَبْلغُ مِنْ شُكْرِكَ غَايَةً إلاَّ حَصَلَ عَلَيْه مِنْ إحْسَانِكَ ما يُلزِمُهُ شُكْراً، وَلاَ يَبْلُغُ مَبْلغاً مِنْ طاعِتكِ - وإن اجْتَهَدَ - إلاّ كَانَ مُقَصِّراً دُونَ اسْتِحْقَاقِكَ بِفَضْلِكَ، فَأَشْكَرُ عِبَادِكَ عَاجِزٌ عَنْ شُكْرِكَ وأعْبَدُهُمْ مُقَصِّرٌ عن طَاعَتِكَ.
* * *
اللهم إنّي عاجز عن شكرك:
يا ربّ، لقد أمرت عبادك أن يشكروك، لا لحاجةِ بك إلى ذلك، فأنت الغنيّ عن وجودهم الذي صنعته، وعن كلّ ما يتصل به وما يتحرك فيه، فذلك بعض فيوضاتك، فكيف تكون بحاجة إلى كلمات يقولونها، أو حركةٍ يتحركون بها، أو عمل يعملونه، ولكنّك أردتهم أن يعبّروا عن إحساس العبودية في كيانهم، وعن وعي سرّ الخلق في وجودهم، وعن امتداد النعمة في حياتهم، حتى لا يغفلوا عن حقيقة وجودهم ومعناه وغايته ومنتهاه، ولا يبتعدوا عن سرّ الربوبية في ربوبيتك، ومعنى الألوهية في ألوهيتك، وانفتاح النعمة على حياتهم، لتتصل حياتهم بك، وليعيشوا حضورك في كلّ شيء في داخلهم وخارجهم.
ثم أردت لهم أن يشكروك على نعمك لتبادلهم شكراً بشكر، ليكون شكرك لهم نعمة جديدة تفيضها عليهم من كرمك ولطفك، لأنّ شكرهم لك يتمثل في عبادتك وطاعتك والتعبير عن إحساسهم بالامتنان لك، أمّا شكرك لهم فإنّه يعبّر عن محبتك لهم ولطفك بهم ورعايتك لوجودهم وتقريبهم منك، ليكونوا بذلك من عبادك المقربين مما لا تبلغه نعمة، ولا يقترب إليه موقع عظمة في الحياة.
ولكن عبادك لا يستطيعون بلوغ الغاية من شكرك مهما شكروك، لأنّ نعمك أكبر من أن تشكر، فلا يساوي شكرك حجم النعمة ومقدارها وامتدادها وآثارها في حياة الإنسان.
ثم إنّ الشكر يستتبع النعمة ويجتذب اللطف منك، فقد قلت في محكم كتابك، {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] وهكذا تتلاحق كلمات الشكر وتعابيره لتزيد النّعم وتتكاثر، فيلهث الشكر وراء النعمة الماضية لتنفتح للإنسان نعمة جديدة أمام الشكر الحاضر، وهكذا يتحرك المؤمن في رحلةٍ غير متناهية ليجتذب شكراً جديداً، لتظلّ حركة الحياة عنده منطلقة في حركة النعمة عندها، لينطلق الشكر في حركة تصاعدية منفتحة على الله في جميع مواقع عبادته.
وقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي، قال أبو عبد الله جعفر الصادق(ع): "أيما عبد أنعم الله عليه بنعمةٍ فعرفها بقلبه، وحمد الله عليها بلسانه، لم تنفذ حتى يأمر الله له بالزيادة، وهو قوله: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}" [إبراهيم:7](1). وروى ثقة الإسلام الكليني بإسناده عنه قال: "من أعطي الشكر أعطي الزيادة، يقول الله عزّ وجل: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}"(2).
وهناك نقطة أخرى، وهي أن شكري لك - يا ربّ - هي نعمة وفقتني لها وأكرمتني بها، لأنّه يفتح لي باب الوحي لنعمائك، ويوحي إليّ بالخضوع لعظمتك، والانفتاح على مواقع كرمك وفيوضات لطفك، فيزيد لي بك معرفة وإليك قرباً، وقد جاء عن رسولك سيد رسلك محمد(ص) مما روى الرواة عنه أنّه قال:
"أنت يا ربّ أسبغت عليّ النعم السوابغ، فشكرتك عليها، فكيف لي بشكر شكرك، فقال الله تعالى: تعلمت العلم الذي لا يفوته علمٌ بحسبك أن تعلم أنّ ذلك من عندي"(3).
وجاء عن الإمام جعفر الصادق(ع): "أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى (ع): يا موسى اشكرني حقّ شكري، فقال: يا ربّ، وكيف أشكرك حقّ شكرك، وليس من شكر أشكرك به، إلا وأنت أنعمت به عليّ؟ قال: يا موسى، الآن شكرتني حين علمت أنّ ذلك مني"(4).
وقد قال الشاعر:
شُكْرُ الإلهِ نعمةٌ        موجبةٌ لشكرِهِ
وكيف شكْرُ برّه        وشكرُهُ مِن برِّهِ
وهكذا أعيش يا ربّ هذه المناجاة الخاشعة في معنى شكرك: "إن أحداً لا يبلغ من شكرك غاية إلا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكراً"، بزيادة النعمة بالشكر، أو بالشكر الذي هو نعمة.
* * *
وإذا كان العباد عاجزين عن شكرك مهما بلغوا في تعداده، فإنّهم عاجزون في الوقت نفسه عن بلوغ الغاية مما تستحقه من عبادتك مهما اجتهدوا وبالغوا في ذلك، لأنّ العبادة تمثل وسيلة من وسائل الشكر العملي الذي ينفتح فيه المخلوق على جمالات الخالق وآلائه ونعمائه، فيخشع عقله وتخضع روحه، ويخفق قلبه، ويهتز كيانه في عملية انحناءٍ داخلي يسجد فيه العقل والقلب والإرادة له، ويركع لجلاله وجماله في كلّ نبضات مشاعره وحركة إحساسه، ويقف في موقف الإسلام الكليّ له، كما ينحني الجسد في التعبير الحي عن إسلامه له في وقوفه بين يديه وركوعه وسجوده في انحناءة تعبيرية لكلّ إرادته في ما يأمر به أو ينهى عنه {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]. ولكنّ نعم الله لا تتناهى وآلاءه لا تحصى، فالإنسان إذا فكّر - بدقة - بالنعم التي أفاضها الله عليه، وكيف تحركت في بدايتها منذ انطلقت في حركة الوجود حتى انتهت إليه فقامت بحاجاته ليرى أنّ أكثر من ظاهرة كونية تدخلت في إعدادها ووضعها وتحريكها وتنظيمها في اكتمال نموّها وعناصرها وحركة الحياة في داخلها...
لو فكر - بذلك - لأحسّ بأنّه لا يملك شكر نعمة واحدة في حجم الفضل الإلهي عليه، فكيف بالنعم الكثيرة التي لا تعدّ ولا تحصى؟
هذا حال الإنسان الذي يجتهد في العبادة، ويبلغ بها مبلغاً كبيراً، فكيف بالذي لا يكاد يقوم بفرائضه، فهو يعيش الاسترخاء الروحي والجسدي والطغيان العملي أمام بطر النعمة، وامتداد الدعة، بحيث يدفعه ذلك إلى الاستعانة بالنّعم الإلهية على معصية الله، وإلى التقصير في مسؤولياته العبادية وفي حركة الطاعة والعبودية.
ثم إنّ العبادة مهما انفتحت عليك فإنّها لا تبلغ الغاية في عناصرها الروحية والفكرية في تمثّلها لعظمتك، واستحضارها لحقّك، وخشوعها أمامك، وخضوعها لجلالك، فهي في مستوى التقصير في داخلها مهما كثرت أعدادها وتنوّعت نماذجها وامتدّت مواقعها فإنّ فضلك أعظم، ونعمك أكثر، وإحسانك أفضل، وحقك أشمل، فكيف يبلغ العابدون درجة شكرك وامتداد طاعتك.
* * *
لاَ يَجِبُ لأَحَدٍ أنْ تَغْفِرَ لَهَ بِاسْتِحْقاقِهِ، وَلاَ أنْ تَرْضى عَنْهُ بِاسْتِجَابِهِ، فَمَنْ غَفَرْتَ لَهُ فَبِطَوْلِكَ، وَمَنْ رَضيتَ عَنْهُ فَبِفَضْلِكَ، تَشْكُرُ يَسِيرَ مَا شَكَرْتَه(5)، وَتُثِيبُ على قَلِيلِ ما تُطاع فِيهِ، حَتّى كَأنَّ شُكْرَ عِبَادِكَ الّذِي أَوَجَبْتَ عَلَيْهِ ثَوَابَهُمْ وَأَعْظَمْتَ عَنْهُ جَزَاءَهُمْ، أَمْرٌ مَلَكُوا استطَاعَةَ الامْتِنَاعِ منه دُونَكَ فَكافَيْتَهُمْ، أَوْ لَمْ يَكُنْ سبَبُهُ بِيَدِكَ فَجَازَيْتَهُمْ، بَلْ مَلَكْتَ يَا إلهي أمْرَهُم قَبْلَ أنْ يَمْلِكُوا عِبَادَتكَ، وَأعْدَدْتَ ثَوابَهُمْ قَبْلَ أن يَفيضُوا في طَاعَتِكَ، وَذَلِكَ أنَّ سُنَّتَكَ الإفْضالُ وَعادَتَكَ الإحْسَانُ وَسَبِيْلَكَ العَفْوُ.
* * *
اللهم إننا مفتقرون إلى مغفرتك:
 يا ربّ، هل يملك الناس أن يطالبوك بالمغفرة إذا استغفروك، وهل يستحقون - عليك - الرضوان إذا استرضوك، وهل لخلقك عليك حقّ في هذا أو ذاك من خلال طبيعة عملهم لك وانفتاحهم عليك؟
إنّك الخالق وهم المخلوقون، فأنت تملك ما لا يملكونه من أنفسهم، فأعمالهم متحركة في ملكك، فلا شيء في كلّ ذلك، أما انفتاحهم عليك أو سؤالهم لك، فإنّه من خلال العقل الذي أبدعنه، واللسان الذي خلقته، فبأيّ حقّ يطالبون، ليستحقوا عليك المغفرة والثواب، وبأيّ وجوب يلزمونك، ليفرضوا عليك القبول والرضوان.
إنّك المتفضل عليهم في كلّ عطائك المادي والمعنوي، والمتطول عليهم في كلّ إحسانك، فليس بين الخالق والمخلوق ما يستحقّ به المخلوق على الخالق شيئاً إزاء عمله، وعوضاً أمام جهده، فهو المملوك له بنفسه وبجوارحه وبعمله، بل هو تفضل من خلال فضله ونعمه ورحمته، فقد جعلت لكلّ إنسان مطيع حقاً من عندك في الثواب، ولكلّ عبدٍ من عبادك حصة من فضلك من المغفرة والرضوان، وهكذا كان الثواب استحقاقاً بالتفضل، فهو التفضل من حيث المبدأ والحق بالواسطة.
ويتعاظم الفضل - يا ربّ - منك، وتتصاعد مواقع اللطف لديك، فيتمثل ذلك في شكرك لعبادك على طاعتهم لك، فتعاملهم معاملة الشاكر، فتقابلهم بالكثير من الثواب في مقابل اليسير من العمل، فكان النعيم الخالد أمام الجهد المحدود والطاعة المعدودة، وكان الحسنة بعشر أضعافها كما لو كان الإنسان المطيع هو المنعم وأنت الشاكر للنعمة، وقد وصفت نفسك بالشكور فقلت سبحانك: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:30] {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34]، وقلت في سورة الشورى: { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}[الشورى:23](6)، وقلت في سورة التغابن: {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:17].
وهكذا كنت الربّ الشاكر لعباده كلّ طاعتهم، والمثيب لهم على يسير ما قدموه من جهد في سبيلك، مما عبروا به عن شكرهم العملي لك، كما لو كان الأمر اختيارياً لهم يملكون الامتناع منه بعيداً عنك، فكان الثواب على ذلك والجزاء العظيم عليه، منطلقاً من المكافأة والمجازاة، ولكن لو عقلوا واقع الخلق في كياناتهم وسرّ القدرة في أجسادهم، لعرفوا أنّهم يتحركون بقدرتك التي منحتهم إياها، ويطيعونك بإرادتك التي حركتها في طاقاتهم،  فأنت المالك لأسباب الأعمال والرابط - بحكمتك - بين السبب والمسبب في قانون السببية الذي أودعته في النظام الكوني والإنساني وجعلت بيد الإنسان حركة السبب لينتقل منها إلى النتائج في واقع المسبب، فأنت في عمق العقل والحركة والإرادة والعمل في دائرة الاختيار المنطلق من نعمة القدرة في حياة الإنسان، فكيف يرى لنفسه حقاً عليك، وهو لا يملك الامتناع عنه، وكيف يملكون - بالاستقلال، إيجاده وذلك من خلال حركة النظام الطبيعي في وجودهم، تماماً كما هو في وجود الكائنات الأخرى.
فقد ملكت - يا ربّ - كلّ وجودهم بكلّ تفاصيله وجزئياته في الحركة والسكون، وكلّ أمرهم في كلّ ما يفيضون به ويتحركون معه، فلا يملكون منه شيئاً في معنى الذات قبل أن يملكوا عبادتك القائمة على القوّة، والمنطلقة من خلال القدرة، وهو هبة منك، ونعمة من فضلك
وقد أعددت بذلك ثوابهم قبل التحرك الإرادي في طاعتك، لأنّك أنت الذي وفقتهم له، وهيّأت لهم الوسائل لذلك، ومهدت لهم الظروف والأرضية التي ساعدتهم على الإفاضة فيه، فكنت العالم بما يفعلونه قبل أن يفعلوه، فوضعت الثواب قبل العمل، لأنّك تعرف حركة الإنسان فيه مما لا يتخلف فيه المعلوم عن العمل من دون أن يبتعد عن الاختيار.
وهذا هو الذي ينطلق من خلال سنتك الإلهية في الإفضال على عبادك، وعادتك الربوبية في الإحسان للخلق كلّه والعفو عن الناس في كلّ أخطائهم.
* * *
فَكُلُّ الْبَرِيّةِ مُعْتَرِفةٌ بِأنّكَ غَيْرُ ظَالمٍ لِمَنْ عَاقَبْتَ، وَشَاهِدَةٌ بِأنّك مُتَفَضِّلٌ عَلَى مَنْ عَافَيْتَ، وكُلٌّ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالتّقْصِير عَمّا اسْتَوْجَبْتَ، فَلَوْلاَ أنّ الشّيْطَانَ يَخْتَدِعُهُمْ عَنْ طَاعَتِكَ ما عَصَاكَ عَاصٍ، وَلَوْلاَ أنَّهُ صَوَّر لَهُمُ الْبَاطِلَ في مِثالِ الحقِّ مَا ضّلَّ عَنْ طَرِيقكَ ضَالٌّ.
* * *
كلُّ البرية معترفة بعدلك:
 يا ربّ، إنّ وعي الناس كلّهم لحركة العدل في حكمك من خلال حكمة التشريع في دينك جعلهم في موقف الاعتراف الواعي بأنّك غير ظالم في عقابك للمنحرفين منهم على انحرافهم عن خطك المستقيم وتمردهم على أوامرك ونواهيك، وابتعادهم عن خطّ العبودية الخالصة لك، لأنّ إرادتك في ذلك كلّه كانت في خطّ العدل الخالص من أيَّة شائبة للظلم.
وإنّ إحساسهم بالفضل الواسع الممتّد في حياتهم في امتداد العافية من البلاء في أجسادهم وعقولهم وانطلاقاتهم في الحياة، من دون استحقاق ذاتي أو عملي لهم في ذلك، جعلهم في موقع الشهادة لك بالتفضل على عبادك، وفي مواقف الامتنان لك على فضلك وإحسانك.
وفي هذا كلّه يتحسسون في عبادتهم لك، وفي سعيهم للحصول على رضاك، الإقرار في أعماق نفوسهم بأنّهم مقصّرون عن أداء حقّك في ما يجب لك من العبادة والطاعة والشكر الجزيل، لأنّهم مهما بلغوا من درجات العبودية فلن يبلغوا مدى ذلك.
إنّ فطرة إنسانيتهم المنفتحة على الإيمان بتوحيدك والخضوع لمواقع العظمة في ذاتك، تفتح لهم في داخل عقولهم وفي حركة حياتهم كل الأبواب التي تنفتح على طاعتك، وكلّ الآفاق التي تتسع للخضوع لك، فلولا الشيطان الذي يوسوس لهم، ويزين لهم المعصية، وينحرف بهم عن الطاعة من خلال تحريكه لعناصر الضعف الكامنة في نفوسهم، وإبعادهم عن السعي إلى مواقع القرب منك بإيقاعهم في حبائله من خلال غرائزهم المتحركة في أجسادهم وأطماعهم الواسعة في أمانيّهم حتى أوقعهم في الغفلة عنك، ونسيانهم لذكرك، وتغيير للصورة الحقيقة للفكر الحقّ والخطّ المستقيم من خلال الجهل الذي يعيشونه، والتخلّف الذي يفيضون فيه، والتعقيدات الفكرية التي تعقّد لهم أفكارهم وتصوراتهم للأشياء.
لولا هذا المخلوق الشرّير الذي كان أوّل متمرد عليك، في تكّبره على خلقك، وفي انحرافه عن الامتثال لأمرك، وكانت حكمتك أن تمهله إلى يوم الوقت المعلوم، ليتحرك الصراع بين الخير المنطلق من رحمتك، والشرّ المتحرك من وسوسته، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيى من حيّ عن بيّنة، ولتكون الطاعة من موقع الاختيار الحرّ الواعي القوي في ساحة الصراع، لأنّك أردت للإنسان أن ينطلق في طاعتك من خلال المعاناة الداخلية في قضية الخير والشرّ، ليعي الحقّ من موقع معرفته للباطل، ورفضه للشرّ من قاعدة وعيه للخير، لولا هذا المخلوق الذي توعد عبادك بان يقعد لهم صراطك المستقيم، ويأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وشمالهم ليبعدهم عن حقّك في شكر نعمك، لولا خداعه لهم عن طاعتك لما عصاك أحد منهم، لأنّ الحقّ الكامن في فطرتهم يدفع بهم إلى خطّ العبودية في مواقع الطاعة.
ولولا أنّه صور لهم الباطل في صورة الحقّ، وشوّه لهم ملامح الحقّ في مثاله من خلال القدرة الفنية على اللعب بالصورة في زخارفه وخطوطه الخفية، لما ابتعد أحد منهم عن طريق الهدى، ولما سار أحد منهم في خطّ الضلال المنفتح على الهلاك.
* * *
وهكذا نجد في أعماقنا ينابيع الفطرة الصافية، وفي عقولنا آفاق الحقّ الباحث عنك، وفي مشاعرنا بحار الحبّ الخاص لك التي نسبح في أمواجها الهادئة، فاجعلنا ممن يحصل على توفيقك في ذلك كلّه وأعذنا من الشيطان الرجيم.
* * *
فَسُبْحَانَكَ مَا أبْيَنَ كَرَمَكَ في مُعَامَلَةِ مَنْ أطَاعَكَ أوْ عَصَاكَ، تَشْكُرُ لِلْمُطِيعِ مَا أنْتَ تَوَلّيْتَهُ لَهُ، وَتُمْلِي للْعَاصِي فِيمَا تَمْلِكُ مُعَاجَلَتَهُ فيه، أعْطَيْتَ كُلاً مِنَهُمَا مَا لَمْ يَجِبْ له، وَتَفَضَّلْتَ عَلَى كَلٍّ مِنْهما بِمَا يَقْصُرُ عَمْلُهُ عَنْه.
وَلَوْ كافَأْتَ الْمُطِيعَ عَلَى مَا أنْتَ تَوَلّيْتَهُ لأَوْشَكَ أنْ يَفْقِدَ ثَوابَكَ، وأنْ تَزُول عنه نِعْمَتُكَ، وَلَكِنَّكَ جَازَيْتَهُ عَلَى الْمُدَّةِ الْقَصِيرَة الْفانِيَةِ الطَّوِيلَةِ الْخَالِدَةِ، وَعَلى الْغَايَةِ الْقَرِيبَةِ الزّائِلَةِ بِالغَايَةِ الْمَدِيدَةِ الْبَاقِية.
* * *
سبحانك ما أكرمك في معاملة من أطاعك أو عصاك:
يا ربّ... وينطلق وجداني ويسمو ويصعد، ليتطلع إليك في سماوات عظمتك، ومواقع كرمك، فيعيش في وضوح الرؤيا، ليتمثل عظمتك في كرمك البارز في امتداده في تعاملك مع الطائعين والعاصين، فتتحرك التسابيح المنفتحة على آفاق العظمة في ذاتك.
فها أنت - يا ربّ - وأنت المنعم على عبادك، تتفضل على المطيع بالشكر له على ما فعله من الطاعة مما قدمته له من عناصر القوّة ووسائل العمل وهداية الفكر ووعي الإيمان ومواقع اللطف.
أما العاصي المتمرد عليك المنحرف عنك، فقد أخّرت عقابه وأمهلته في امتداد العمر لتمنحه فرصة بعد أخرى ليراجع حسابه ويتراجع عن تمرده وانحرافه، لأنّك تحبّ له أن يستيقظ بعد الغفلة من خلال مرور الزمن الذي قد يحقق للإنسان بعض عوامل اليقظة ويفتح له آفاق الصحوة.
وهكذا تفضلت على المطيع بما لا يستحق من ثوابك في ذاته، وعلى العاصي في تأخير عقابه الذي يستحقه بمعصيته له، من دون أن يكون لهذا حقّ في الثواب أو يكون لذلك حقّ في الإمهال، تفضلاً منك ولطفاً ورحمة وكرماً، لأنّك لو أردت أن تجعل النتائج خاضعة للحسابات الدقيقة المادية المرتكزة على الموازنة بين الأمور في طبيعتها، فلا يستحقّ المطيع عليك شيئاً لأنّه لم يقدّم شيئاً من ذاته مما قدمه من طاعتك، لأنّه لا يملك شيئاً من نفسه، فكل جهده في عقله وروحه وجسده منك لا يستقلّ بشيء منه، فلا حقّ له في ثوابك ولا في نعمتك، فكان من طبيعة الموازنة أن يفقد ثوابك وأن تزول عنه نعمتك إذا كانت الأمور مبنية على ذلك، ولكنك - يا ربّ - وأنت الكريم الذي يتفضل على عباده بالعطاء من خلال رحمته، جعلت له الحقّ - بفضلك - في الثواب على عمله، وزدته على ذلك بأن أعطيته الثواب الخالد في امتداد الخلود في الزمن في مقابل العمل المحدود في طبيعته وفي زمانه، ومنحته الامتداد في النعيم في المدى الذي لا نهاية له أمام الجهد الذي تحاصره حدود الزمن من كلّ جانب، هذا في الخط العام الذي يواجه المسألة من خلال طبيعة الحقّ وطبيعة الثواب.
* * *
ثُمَّ لَمْ تَسُمْهُ القِصَاصَ فيمَا أَكَلَ مِنْ رِزْقِكَ الّذي يَقْوى بِهِ عَلَى طَاعَتِكَ، وَلَمْ تَحْملْهُ عَلَى الْمُنَاقَشَاتِ في الآلاتِ التي تَسَبَّبَ باسْتِعْمالِهَا إلى مَغْفِرتِكَ، وَلَوْ فَعَلْتَ ذلِكَ بِهِ... لَذَهَبَ بِجَميع ما كَدَحَ لَهُ، وَجُمْلَةَ ما سَعَى فيه جَزَاءً لِلصُّغْرَى مِن أيَاديك ومِنِنِكَ، ولبَقِي رَهيناً بَين يَديْكَ كسائِر نِعَمِكَ، فَمتى كان بَسْتحقُّ شَيْئاً مِنْ ثَوَابِك؟ لا متى؟ هذا يا إلهي حالُ من أطاعَكَ وسَبيلُ من تعبَّدَ بك.
* * *
متى كان عبدك مستحقاً للثواب بذاته؟
أمّا إذا أردنا أن ندخل في التفاصيل فماذا نرى؟
إنّنا، في ملاحقتنا لحياة هذا الإنسان في كلّ جزئياتها، نرى أنّه عاش متقلباً في مواقع رزقك مما رزقته من طعام وشراب ولباس ومسكن، ومما أودعته في داخل ذاته وهيّأته في نظام الكون من العناصر التي منحته القوّة، ولولاها لما قوي على أيّة حركة للطاعة في حياته.
فإذا انتقلنا إلى الوسائل التي استخدمها في كلّ عمله والآلات التي حركها في سبيل الحصول على مغفرتك، مما أعددته له في مواقع حياته في الداخل والخارج، فإننا نرى أنّه لا يملك أيّة قدرة على القيام بذلك بدونها.
إنك لم تدخل معه - يا ربّ - في حسابات الرزق الذي رزقته إياه أمام الجهد الذي بذله لتسقط في ثوابه حجم الرزق الذي أعطيته له، ولم تستقص الحسابات الدقيقة في استثناء تلك الأدوات من طبيعة الثواب الذي منحته له ولو أنّك جعلت القضية خاضعة لذلك لما بقي له شيء من جهده وكدحه، ولضاع عليه كلّ شيء مما سعة فيه، لأنّه لم يقدم أيّ جهدٍ من ذاته، لأنّ كلّ جهده هو هبة من فضلك ونعمة من نعمك، هذا في النعم الصغيرة التي تقف في مواجهة طاعته، أما في النعم الكبيرة التي لا تعدّ ولا تحصى، فإنّها تبقى بدون مقابل فيبقى رهينة - من خلالها - بين يديك كدين يثقل ذمّته ويرتهن حياته.
ويقف السؤال في نهاية المطاف في تعجّب واستنكار: متى كان عبدك المطيع مستحقاً للثواب بذاته؟ ويكبر النفي في الجواب بكلمة (لا) كبيرة في المعنى والصوت، ليلاحق السؤال متى؟
وهكذا تكون الصورة في حسابات كرمك بالنسبة إلى المطيع الذي أطاعك وتعبد لك.
فما هي الصورة في حسابات العاصي؟
* * *
فَأمّا الْعَاصي أمْرَكَ وَالمُواقِعُ نَهْيَكَ.. فَلَمْ تُعَاجِلْهُ بِنَقِمَتِكَ، لِكَي يَسْتَبْدِلَ بِحَالِهِ في معْصِيَتِكَ حَالَ الإِنابَةِ إلى طَاعَتِكَ، وَلَقَدْ كَانَ يَسْتَحِقُّ في أوّلِ مَا همَّ بِعِصْيَانِكَ كلَّ مَا أعْدَدْتَ لِجَميعِ خَلْقِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، فَجَمِيعُ ما أخّرتَ عَنْه من العذابِ وأبطأْت بهِ عليه مِنْ سَطَواتِ النَّقِمَةِ والْعِقَابِ، تَرْكٌ مِنْ حَقِّكَ، ورِضّىً بِدونِ وَاجِبِكَ، فَمَنْ أكْرمُ يَا إلهي مِنْكَ، وَمَنْ أَشْقَىَ مِمَنْ هَلَكَ عَلَيْكَ؟ لا! مَن؟
فتَبَارَكْتَ أنْ تُوْصَفَ إلاّ بِالإحْسَان، وَكِرُمْتَ أنْ يُخَافَ منْكَ إلاّ الْعَدْلُ، لاَ يُخْشَى جَوْرُكَ عَلى مَنْ عَصَاكَ، وَلاَ يُخَافُ إغْفَالُكَ ثَوابَ مَنْ أرْضَاكَ.
* * *
أنت الذي أمهلت العاصي وأخّرت العقوبة:
أمّا العاصي - يا ربّ - أمّا هذا الإنسان الذي اختنق في سجن ذاته، وغرق في وحول شهواته، وامتد في متاهات ضلاله، أمّا هذا الإنسان الذي غلبت شهوته عقله، وأسقطت غرائزه إرادته، وأطفأت أطماعه إشراق بصيرته.
 أمّا هذا الذي عصى أمرك فلم يفعل ما أمرته، وواقع نهيك فارتكب ما نهيت عنه.
 أمّا هذا الإنسان المتمرد الذي يستحقّ عقابك ويستوجب نقمتك، فإنّك لم تعامله بالتعجيل في عقابك تنفيذاً لنقمتك، لأنّك أردت أن تمنحه فرصة للتراجع، ومهلة للتفكير، ليتدبر أمره، وليستقبل مصيره بالوعي المنفتح على النتائج السلبية في الإصرار على المعصية، والنتائج الإيجابية في الانتقال إلى مواقع الطاعة، فقد تكون المعصية نزوةً طارئة وحالة عابرة، يطوف الشيطان فيها بالإنسان في لحظة الغفلة ليبعده عن خط التقوى، فإذا انتقل من جوٍّ إلى آخر، ومن موقع إلى موقع جديد، فقد يستبدل المعصية بحال الإنابة إلى الطاعة، فأنت الرحيم بعبادك، وأنت الذي تسعى رحمته أمام غضبه، وأنت بأن ترحم أولى عندك بأن تعاقب. فكان إمهالك وتأخيرك لعقابه - وهو المستحقّ له - فضلاً منك ولطفاً من رحمتك.
ولو درسنا هذا الإنسان نتيجة خطاياه، لعرف أنّه كان يستحقّ - منذ إرادة المعصية في تفكيره، والتحرك نحوها بخطواته - كلّ ما أعددت لخلقك من العقوبة، لأنّ القضية في حجم العقوبة ليست في المدى الذي تبلغه في حجم الواقع، بل في طبيعة المعصية أمام مقام الربّ في نعمه التي لا تحصى، وآلائه التي لا تعدّ، وعظمته التي لا يبلغها أيّ موقع آخر للعظمة، ورحمته التي انطلقت من وجود الإنسان إلى نهاية عمره، ولهذا كانت عظمة المعصية بعظمة من عصاه لا بحجم العمل في ذاته، فهي التي توحي دلالتها بالتمرد والانحراف عن الله كما تبتعد عن الخط المستقيم الذي جعله الله برنامجاً للحياة كلّها في واقع الإنسان وما حوله.
وهكذا كان التأخير للعقوبة، في موقع الاستحقاق للمعاجلة والإمهال في امتداد الأوضاع الطبيعية في حياته للحصول على فرصة الإنابة إلى الله للحصول على عفوه والتخلص من سطوات نقمته.
وهكذا كان ذلك تجسيداً لترك حقك، ورضىً بدون ما يجب لك في عظيم سلطانك وامتداد قدرتك.
فمن أكرم منك - يا ربّ - فقد خلقت ومننت وانعمت ورحمت وعافيت وسترت وأمهلت، ومن الأشقى ممّن كان هلاكه بأمرك وعلى يدك ممّن استحقوا الهلاك بكفرهم وعصيانهم، "وهل يهلك إلا القوم الظالمون".
(لا)، فليس هناك أحد يداني كرمك في الرحمة، وليس هناك أحد يساوي في الشقاء من هلك عليك، (من) فإذا كان موجوداً فمن هو؟
فيا صاحب البركة النامية التي تزيد في الخير، ويا صاحب العلوّ الذي لا يعلو عليه شيء في الوجود، تباركت وتعاليت، هل توصف بالإحسان في كلّ أفعالك في خلقك، ويا صاحب التنزيه والتقديس الذي تنزه عن كلّ ما يشين ويعيب، وتقدّس عن كلّ ما يؤدّي إلى النقص، لا يخاف منك إلا العدل، فأنت لا تظلم من عصاك ولا تغفل عن ثواب من أرضاك.
* * *
فصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَهَبْ لي أَمَلي، وزِدْني مِن هُدَاكَ مَا أصِلُ بِهِ إلَى التَّوْفِيقِ في عَمَلِي، إنّكَ مَنَّانٌ كَرِيم.
* * *
اللهم هب لي أملي:
يا ربّ، إنّ أملي لك كبير كبير، فهب لي الأمل كلّه حتى تكون حياتي أملاً يمتد ويتجسد من خلال منِّك، وإن تطلّعي إلى هداك واسع سعة رحمتك، ورحبٌ رحابة لطفك، فزدني من هداك حتى لا يبقى مجال للزيادة، لأنّني أستهدف من ذلك كلّه أن تبقى مسيرتي في عملي حركة في التوفيق المنفتح على إشراقة المعرفة بك، وروحية الالتزام بخطك المستقيم، إنّك المنان على عبادك بكلّ مننك، الكريم في كلّ عطاءاتك، يا أرحم الراحمين.
* * *
الهوامش:

(1)    البحار، ج:71، باب:61، ص:42، رواية:36.
(2)    الكافي، ج:2، ص:95، رواية:8.
(3)    منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج:1، ص:300. نقلاً عن "رياض السالكين"، ج:5، ص:233.
(4)    الكافي، ج:2، ص:98، رواية:27.
(5)    وفي نسخة الشهيد رحمه الله: "تشكر يسير ما تشكر به".
(6)    قال العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان: أي شكور للطاعات يعامل عباده معاملة الشاكر في توفية الحقّ، حتى كأنّه ممن وصل إليه النفع فشكره، ج:9، ص:390.


دعاؤه(ع) في الاعتذار من تبعات العباد من التقصير
في حقوقهم وفي فكاك رقبته من النار

اللّهُمَّ إِنّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِنْ مَظْلُوم ظُلِمَ بِحَضْرَتي فَلَمْ أَنْصُرْهُ، وَمِنْ مَعْرُوف أُسْدِيَ إِلَيَّ فَلَمْ أَشْكُرْهُ، وَمِنْ مُسيءٍ اعْتَذَرَ إِلَيَّ فَلَمْ أَعْذِرْهُ، وَمِنْ ذي فاقَةٍ سَأَلَني فَلَمْ أُوثِرْهُ، وَمِنْ حَقِّ ذي حَقٍّ لَزِمَني لِمُؤْمِن فَلَمْ أُوَفِّرْهُ، وَمِنْ عَيْبِ مُؤْمِن ظَهَرَ لي فَلَمْ أسْتُرْهُ، وَمِنْ كُلِّ إِثْمٍ عَرَضَ لي فَلَمْ أَهْجُرْهُ.
أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ - يا إِلهي - مِنْهُنَّ وَمِنْ نَظائِرِهِنَّ، اعْتِذارَ نَدامَةٍ يَكُونُ واعِظاً لِما بَيْنَ يَدَىَّ مِنْ أَشْباهِهِنَّ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلْ نَدامَتي عَلى ما وَقَعْتُ فيهِ مِنَ الزَّلاّتِ، وَعَزْمي عَلى تَرْكِ ما يَعْرِضُ لي مِنَ السَّيِّئاتِ، تَوْبَةً تُوجِبُ لي مَحَبَّتَكَ يا مُحِبَّ التَوّابينَ.
* * *
مفاهيم الدعاء:
 قد تتحرك المسؤولية - في الحياة العامة والخاصة - للإنسان في السلوك السلبي الذي يتضمن ظلماً لإنسان أو اعتداءً عليه أو إساءة له، أو إسقاطاً لحقّه أو تعطيلاً لمصالحه، أو إيقاعاً له في الضرر، أو إذلالاً له وانتقاصاً لعزّته وكرامته، أو تحديداً لحريته أو أكلاً لماله، أو عدواناً على عرضه، وغير ذلك مما يتصل بالتأثيرات المضادة للإنسان في حركته في الحياة مع الآخر...
وقد رفض الله ذلك كلّه واعتبره عصياناً وتمرّداً عليه، وانحرافاً عن خطّه المستقيم، وسبباً في غضبه وسخطه وعذابه.
وقد تنطلق المسؤولية - في الاتجاه نفسه - في السلوك السلبي المقابل الذي قد يترك تأثيراته السلبية على حياة الإنسان الآخر، باعتبار أنّ المشكلة قد تحدث من موقف اللامبالاة والسلبية في القضايا الحيوية المتعلقة بالواقع الإنساني، وهذا هو الذي يفرض على الإنسان أن يدرس سلبياته العملية والحركية في مستوى الموقف والإحساس والشعور في مدى التأثيرات السيّئة على الحياة العامة والخاصة للإنسان.
لا حياد بين الحق والباطل:
وقد عالج الدعاء هذه القضية، فقد انطلق في التعبير الإيماني في الاعتذار لله من التقصير في حقوق الإنسان، وذلك كما في الموقف الحيادي بين الظالم والمظلوم في موقف الظلم الذي يفرضه الظالم على الإنسان الضعيف، فلا يحرّك ذلك أيّ موقف مضاد أو أيّة حركة مضادة ضد الظالم أو أيّة مواجهة له من أجل نصرة المظلوم وتخليصه من بين يديه، الأمر الذي يوحي بأنّ الله لا يريد للإنسان أن يقف موقف اللامبالاة أمام قضيّة الظلم في الواقع، لأنّ مسؤوليته أن يمنع الظلم من نفسه ضد الآخرين، ومن الآخرين ضد بعضهم البعض، فلا يكفي في انسجامه مع الخط المستقيم أن يكون إنساناً عادلاً مع الناس، بل لا بدّ من أن يحمل العدالة رسالة حرةً في مواجهته للواقع الإنساني العام والخاص في قضايا العدل والظلم.
ولذلك فقد أوحى الدعاء بأنّ الموقف السلبي في عدم المظلوم ضدّ ظالمه مع حضوره وقدرته على المنع، هو خطيئة دينية لا بدّ للإنسان أن يعتذر منها أمام الله، كما يعتذر من موقف الظلم الصادر منه.
ولعلّ الأساس في ذلك هو أنّ الموقف السلبي من الظلم، قد لا يكون نصرة إيجابية للظالم، ولكنّه يمثل نصرة سلبية له، باعتبار أنّه يمثل خذلاناً للمظلوم وإضعافاً للقوة الإنسانية الاحتياطية له، وبذلك تتحرك القوة المضادة للظالم بكلّ حرية لتقمع حرية المظلوم وكرامته وإنسانيته من دون أيّ ردع من قبل القوة العامة للناس، وهذا هو الذي جاءت به الأحاديث المأثورة التي تحدثت عن النتائج السلبية لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في واقع هؤلاء الناس السلبيين، وذلك في الحديث المأثور: "لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطنّ الله شراركم على خياركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم"(1). وقد عبّر الإمام عليٌّ(ع) عن بعض الناس الذين اعتزلوا المعركة الناشبة بينه وبين معاوية في صفين، دفاعاً عن الشرعية الإسلامية ونصرة للحقّ الذي يمثله في موقع الخلافة الحقة المتمثلة في موقعه، مما يجعل من قضيته قضية عدل رافض للظلم، ولكن هؤلاء فضلوا الاعتزال والسلبية والموقف الحيادي بين المتقاتلين من دون عذر شرعي، انطلاقاً من حالة ذاتية لا تحبّ الدخول في الصراع، فقال عنهم إنّهم "خذلوا الحقّ، ولم ينصروا الباطل"(2).
وذلك في تعبير إيحائي بأنّهم إذا كانوا لم ينصروا إيجابياً فقد نصروه سلبياً، لأنّهم في خذلانهم للحقّ، وعدم مشاركتهم في معركته ضدّ الباطل أضعفوا موقفه، على أساس أنّ أيّة قوّة معزولة عن المعركة تمثل إضعافاً للساحة بطريقة وبأخرى، وقوة سلبية لمصلحة الموقع الآخر وهو الباطل..
ولعل هذا هو الذي توحي به الكلمة المأثورة "الساكت عن الحقّ شيطان أخرس"، لأنّه يمثل خلاناً للحقّ في منع الكلمة التي تؤكّد موقعه القوي الثابت في الساحة.
وفي ضوء ذلك نفهم كيف ينظر الإنسان إلى (الحياديين) الذين يقفون على الحياد في ساحات الصراع، فلا يلتزمون موقف الحقّ ولا موقف الباطل، من اجل أن لا يقعوا تحت تأثير السلبيات التي يمكن أن تنتجها ساحات الصراع على صعيد المصالح الشخصية التي يفقدونها أو المفاسد الخاصة التي قد يقعون فيها، من دون نظر إلى المصلحة الإسلامية العامة التي قد تكون بحاجة إلى كلّ الطاقات الحية المتنوّعة.
فليست الحيادية قيمةً دينيةً - مع وضوح الموقف بين الحقّ والباطل - بل هي ضدّ القيمة - ولن يكون ذلك مظهراً للتقوى بل هي في الموقع الذي يضادّ التقوى. وهذا ما عبر عنه الإمام عليّ(ع) في وصيته الأخيرة لولديه الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام): "كونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً"(3). فلا مجال للحياد في الموقف بينهما في الخطّ الإسلامي الأصيل.
* * *
الشكر لصاحب المعروف:
ومن بين هذه السلبيات ترك الشكر لمن قدم إلى الإنسان معروفاً: "ومن معروف أسدي إليّ فلم أشكره"، لأنّ الله يريد للإنسان أن يتفاعل مع التعبير الإنساني الذي ينفتح به الآخر عليه مما يقدمه إليه من خدمات، وما يقضيه له من حاجات، وما يخفف عنه من آلام، وما يحلّ له من مشاكل، وما يرفع عنه من جعل أو تخلّف، وما يسدّ به من جوع أو عطش، وما يشارك فيه من شفاء مرض، ونحو ذلك مما تختصره كلمة المعروف، وذلك بالشكر له على ما أنعم به عليه، فإنّ الشكر يمثل انفعال إنسانية الإنسان بالمبادرات الإنسانية الحاصلة من الآخر، الأمر الذي يؤدّي إلى تشجيع هذا الجانب الإنساني في شخصية الإنسان، كما يعمّق علاقة الناس ببعضهم البعض من خلال حركة الحاجات في علاقاتهم العامة والخاصة، فإنها تجذب الإنسان إلى الإنسان وتفتح نوافذ عاطفته الشعورية على كلّ خير ومحبّة، بحيث تغني الداخل الإنساني بكلّ القيم الروحية والأخلاقية في عمق الذات.
وقد أكدت الأحاديث الشريفة على إيجابية الشكر للناس في ما أنعموا به على بعضهم البعض في القضايا العامة والخاصة، فقد جاء عن النبيّ محمّد(ص): "أشكر لمن أنعم عليك وأنعم على من شكرك"(4).
وروى ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن عمّار الذهبي قال: سمعت علي بن الحسين(عليهما السلام) يقول: "إن الله يحب كل عبد حزين ويحب كل عبد فيقول: بل شكرتك يا رب، فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره، ثم قال: أشكرُكم لله أشكركم للناس"(5).
وقد جاء في رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين(عليهما السلام): "وأما حقّ ذي المعروف عليك، فأن تشكره وتذكر معروفه وتكسبه المقالة الحسنة، وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله تعالى: فإذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سرّاً وعلانية، ثم إن قدرت يوماً على مكافأته كافيته"(6).
وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق(ع) قال: "قال رسول الله(ص) من أُتي إليه معروف فليكاف به، فإن عجز، فليثن عليه، فإن لم يفعل، فقد كفر النعمة"(7).
وروي عنه (عليه السلام) أنّه قال: "لعن الله قاطعي سبيل المعروف، قيل: وما قاطعي سبيل المعروف؟ قال: الرجل يصنع إليه المعروف فيكفره فيمنع صاحبه من أن يصنع ذلك إلى غيره"(8).
ونستوحي من هذا الحديث أن شكر المعروف يمثّل لوناً من ألوان تشجيع صاحب المعروف على الامتداد به وتحريكه في حياة الآخرين، بينما يمثّل كفره تزهيداً له في ذلك وامتناعاً عن عمل المعروف، لأنّ أيّ رد فعل مضاد لفعل الخير أو أيّ موقف سلبيّ، يترك تأثيراً نفسياً سلبياً لصاحبه، وقد أشار إلى ذلك أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب(ع) في ما روي عنه في نهج البلاغة في عهده إلى مالك الأشتر: "ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة"(9).
إنّ الإنسان يبقى خاضعاً للعوامل النفسية المتحركة في شخصيته من خلال ذاتية الخير في نفسه، ومن خلال ردود الفعل الصادرة عن الآخرين، فلا بدّ للناس من شكر المعروف الذي يصنعه الآخرون إليهم ليشجعوهم على ذلك معهم ومع غيرهم، ليمتد الإحسان في حياة الناس من خلال ذلك.
* * *
قبول عذر المعتذر:
ومن السلبيات الأخلاقية - في الدعاء - ما جاء في قوله (عليه السلام): "من مسيء اعتذر إليّ فلم أعذره"، فقد يخطئ الناس مع بعضهم البعض من موقع نقطة ضعف نفسية أو علمية في شخصياتهم في الواقع السلوكي العام والخاص، ثم يندمون على ذلك ويتراجعون عنه، ويحاولون تصحيح الخطأ الذي صدر عنهم، فيعتذرون إلى من أساؤوا إليه في محاولة منهم لإرجاع كرامته إليه من خلال اعترافهم بالخطأ أمامه بما يمثل لوناً من ألوان التنازل عن عنفوانهم وإسقاط احترام أنفسهم لديه، فكأنّهم يقدمون إليه احتراماً إنسانياً في مقابل ما أهدروه منه، ليكون إسقاطهم لاحترام أنفسهم عوضاً عن إسقاطهم لاحترام نفسه بإساءتهم إليه، فكأنّ المسألة تتخذ مبدأ التعويض، الأمر الذي ينبغي للإنسان أن يستجيب له وينفعل إيجابياً معه تقديراً للروح الإنسانية الجديدة من قبل هذا الشخص الذي يقف منه موقف المعتذر بما يمثله ذلك من الخضوع والتنازل له، وهذا هو ما يمثله قبول العذر، فإنّ المعتذر يمنح الإنسان الآخر شيئاً من نفسه ومن كرامته بما يعوّضه أو يزيد عما صنعه معه من السوء، فإن لم يقبل ذلك كان بعيداً عن روح الإنسانية، لأنّ مثل هذا الموقف السلبي يمثل لوناً من ألوان السقوط النفسي الأخلاقي، وقد وردت الأحاديث الكثيرة حول هذا الموضوع وآثاره السلبية عند الله ورسوله.
فقد جاء في وصية النبيّ محمّد(ص) لأمير المؤمنين(ع): "يا عليّ من لم يقبل العذر من متنصل - صادقاً كان أو كاذباً - لم ينل شفاعتي"(10).
وفي وصية أمير المؤمنين(ع) لابنه محمّد بن الحنفية رضي الله عنه: "اقبل من متنصل عذره فتنالك الشفاعة"(11).
وربّما كان الأساس في هذا الأثر السلبي في الموقف من الرافض للعذر، أنّ الإسلام يريد تشجيع الناس على التراجع النفسي والعملي وعن خطاياهم من أجل مساعدتهم على تصحيح أوضاعهم وتبديل سلبياتهم بالإيجابيات، الأمر الذي يفرض عليهم الإعلان عن ذلك سواءً كان الخطأ في عصيانهم لله أو في إساءتهم إلى الناس، وفي هذه الحالة، فتح الله لهم باب التوبة التي يقبلها منهم إذا رجعوا إليه واعتذروا من سيئاتهم ليبدأوا العمل من جديد، وأراد لهم في علاقاتهم الاجتماعية أن يقبلوا اعتذار المعتذر الذي يعلن عن تراجعه عن الخطأ الأخلاقي تجاههم، لأنّ ذلك يمنحه فرصة التراجع والعودة إلى إنسانيته في خطّ الاستقامة - إن كان صادقاً - ويقيم عليه الحُجّة بالعفو عنه - إن كان كاذباً - ليكون ذلك حُجّة عليه فيما إذا كرّر الخطأ.
إنّ هذه القضية ليست مجرد فضيلة أخلاقية ذاتية ينطلق بها الإنسان في انفتاحه الإيجابي على الآخرين، بل هي - إلى جانب ذلك - محاولة لحلّ بعض المشاكل الاجتماعية الناشئة من إساءة الناس إلى بعضهم البعض وتأثيراتها المعقدة على الواقع الاجتماعي، ما يجعل من قبول العذر وسيلة من وسائل إزالة كلّ المؤثرات السلبية من النفوس من أجل إزالتها من الواقع.
حقّ الفقراء على الأغنياء:
ومن الحقوق الإيجابية للناس، حقّ الفقراء على الأغنياء بحلّ مشكلتهم الاقتصادية من خلال ما يحتاجونه في سدّ جوعهم وكسوة عريهم ورعاية حاجتهم، حتى لو كان ذلك على نحو الإيثار الذي يمثل تقديم الإنسان الآخر عل نفسه بحيث يحرم نفسه من حاجاتها ليوفرها للآخر، ولا سيّما إذا كانت المسألة تتصل بحقّ المؤمن على المؤمن. فقد جاء الحديث عن الإيثار في القرآن الكريم في سلوك الأنصار تجاه المهاجرين: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] أي يقدّمون من هاجر إليهم على أنفسهم في كلّ شيءٍ من أسباب المعاش، وروى ثقة الإسلام الكليني بسنده إلى أبان بن تغلب عن أبي عبد الله جعفر الصادق(ع) قلت: "أخبرني عن حقّ المؤمن على المؤمن. فقال: يا أبان، دعه لا ترده، قلت: بلى جعلت فداك، فلم أزل أردد عليه فقال: يا أبان تقاسمه شطر مالك، ثم نظر إليّ فرأى ما دخلني... فقال: يا أبان، أما تعلم أنّ الله عزّ وجلّ قد ذكر المؤثرين على أنفسهم؟... قلت: بلى جُعلت فداك، فقال: أما إذا أنت قاسمته فلم تؤثره بعد إنما أنت وهو سواء، إنما تؤثره إذا أنت أعطيته من النصف الآخر".
وقد جاء في رواية الكليني - بسنده - عن عليّ بن سويد السائي عن أبي الحسن(ع) قال: "قلت له: أوصني، فقال: آمرك بتقوى الله، ثم سكت، فشكوت إليه قلّة ذات يدي وقلت: والله لقد عريت حتى بلغ من عريتي أنّ أبا فلان نزع ثوبين كانا عليه وكسانيهما، فقال: صم وتصدّق، قلت: أتصدق مما وصلني به إخواني وإن كان قليلاً. قال: تصدق بما رزقك الله ولو آثرت على نفسك"(12).
ونلاحظ أنّ هذا الحقّ ليس من الحقوق الإلزامية إلا في حالات خاصة نادرة، ولكنّه حقّ أخلاقيّ يمثل الروحية السمحة المعطاء المنفتحة على عمق الإنسانية في الإحساس بإنسانية الآخر في مشاركته في حاجاته وآلامه ومشاكله المعقدة.
وقد نجد في هذه الأخلاقيات المستحبة حركة إنسانية تسمو بالإنسان إلى الأعالي، وتشدّه إلى مواقع القرب إلى الله من أقرب الطرق، لأنّ ذلك يمثل الإنسان النموذج القدوة الذي يدلك على أنّ الإنسان قادر على أن يتجاوز ذاته للحصول على رضى ربّه، حتى لو كلّفه ذلك جهداً كبيراً وتضحيةً عظيمة.
ويأتي الدعاء ليؤكّد على أنّ الامتناع من الإيثار يمثّل عملاً سلبياً للإنسان في موقفه من حاجات الإنسان الفقير، لأنّه لم يؤثره على نفسه في حاجاته الضرورية أو الكمالية، وأنّ على الإنسان أن يعتذر إلى الله منه، لا من خلال أنّه خطيئةٌ دينية، بل من خلال أنّه ابتعد بالإنسان عن أن يتسامى في سلوكه ليبلغ الدرجة العليا من الأخلاق الإنسانية التي يحبها الله وهي الإيثار.
ونستوحي من ذلك أن الله يريد لنا أن نشعر بالخجل من الابتعاد عن خط الكمالات الأخلاقية كما نشعر بالخجل في الابتعاد عن خط الشرعية السلوكية في دائرة الإلزام الشرعي.
ولذلك جاء النص في الدعاء: "ومن ذي فاقة سألني فلم أوثره".
* * *
حقّ الإنسان على الإنسان:
وللحقوق بين الناس دور كبير في حياة المجتمع، لأنّ الله جعل لكلّ إنسان - لا سيّما المؤمن - حقاً على الإنسان الآخر، فإنّ ذلك هو الذي يحقق للحياة الاجتماعية توازنها واستقرارها وحيويتها وحركيتها وتطورها في خط النموّ والإبداع وفي تحقيق الأهداف الكبرى للناس.
وهو الذي يمنع الناس من طغيان بعضهم على بعض بفعل التصوّر الخاطئ بالحقّ المطلق الذي يملكه شخصٌ أو تملكه جماعة، بعيداً عن الاعتراف- بالمقابل - بالحقّ للإنسان الآخر والجماعة الأخرى.
وعلى ضوء ذلك كانت التشريعات الإسلامية في خطّها الأخلاقي، تؤكّد على وجوب أداء الحقوق المتبادلة بين الناس، ليأخذ كلّ واحد حقه في ما يملكه من حقّ على الإنسان الآخر، في الوقت الذي يتحرك فيه لأداء حقّه من دون فرق بين المؤمن والكافر، فلا يجوز للإنسان المسلم أن يظلم الكافر حقّه، وقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع): "أدّوا الأمانات إلى أهلها وإن كانوا مجوساً"(13).
وروي - في الكافي - أنّ الله أوحى إلى نبيّ في مملكة جبّار من الجبارين: إئتِ هذا الجبار وقل له: إنّني لم أستعملك على سفك الدماء واتخاذ الأموال، وإنما استعملتك لتكفّ عنّي أصوات المظلومين فإن لم أدع ظلامتهم ولو كانوا كفّاراً(14).
ولعلّ حكمة الحقّ توحي بذلك، فإنّ مضمونه الذاتي يدل على وجود شيء في عهدة الآخر من موقع الإلزام الشرعي أو الإلزام الأخلاقي بالمعنى العام الذي ينفتح على الجانب المعنوي في التزامات الإنسان الأخلاقية التي يكمل بها إيمان المؤمن في الدرجة العليا منه.
* * *
وإذا كانت النسخة المعروفة في الدعاء جاءت على التقييد بحقّ المؤمن، فإنّ نسخاً أخرى لم تقيده بذلك، وقد ذكر صاحب رياض السالكين "أنّ النسخ من الصحيفة الشريفة اختلفت في هذه الفقرة من الدعاء، فوقع في بعضها: "ومن حقٍّ لزمني فلم أوفّره" بدون إضافة إلى ذي حق، وفي بعضها: "ومن حق ذي حقّ لزمني فلم أوفّره"، بإضافة حقّ إلى ذي حقّ، وفي بعضها: "ومن حقّ ذي حقّ لزمني لمؤمن" بزيارة لمؤمن"(15).
* * *
وعلى هذا الأساس فإنّ من الممكن أن تكون النسخة التي لم تذكر فيها كلمة المؤمن هي الأقرب للجو العام للدعاء الذي أكّد فيه على الخطوط العامة الإيجابية الواقعة في دائرة مسؤولية الإنسان العامة والخاصة في علاقته بالآخرين، لا سيما أنّ المنهج الأخلاقي الإسلامي لا يتجزأ، فلا مجال للفصل في القيمة الأخلاقية المنطلقة من واقع المجتمع الإنساني والمتصلة بالالتزام الداخلي للإنسان في حركة المسؤولية في التزامه، بين مؤمن وغير مؤمن، لأنّ المسألة ليست متعلقة بالآخر ليختلف الحال في التعامل معه باختلاف صفته الإيمانية، بل هي متعلقة بالمسلم في التزاماته الأخلاقية والعقيدية مع الآخر، مما يجعل الانحراف عن ذلك انحرافاً عن الخطّ المستقيم لا مجرد إساءةٍ للآخر.
* * *
ولا مانع من أن يكون حقّ المؤمن أعظم وأكبر، وأن يصل الاهتمام به إلى درجةٍ كبيرةٍ من الأهمية عند الشارع المقدّس، الذي يريد للمسلمين أن يجتمعوا على أساس التعاون والتكافل بالمستوى الذي يتمثل فيه المجتمع الإسلامي قيم العدل والمحبّة والأخوّة والاحترام المتبادل والحقوق المشتركة، فلا يضيع في داخله حقّ المؤمن، كما لا يضيع حقّ في داخله حقّ المؤمن، كما لا يضيع حقّ غيره، ليتحرك المؤمنون فيه في عملية نموّ طبيعي للقيم الإسلامية بحيث يتنفسون روحيتها في سلوكهم العام كما يعيشونها في أفكارهم.
وقد وردت عدة أحاديث عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في حقّ المؤمن على المؤمن من موقع الأخوة التي عقدها الله بين المؤمنين في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10] في دلالته على أنّ الأخوّة تفرض الاهتمام المتبادل بين الأخوة في حلّ مشاكلهم وإصلاح ذات بينهم، باعتبار ذلك من مستلزمات الأخوة المنفتحة على المسؤولية.
ولا بأس بالإشارة إلى بعض ما ورد من هذه الأحاديث، فقد جاء عن الإمام جعفر الصادق(ع) انّه قال: "ما عُبد الله بشيء أفضل من أداء حقّ المؤمن"(16).
وروى المعلّى بن خنيس عن أبي عبد الله(ع) قال: "قلت له: ما حقّ المسلم على المسلم؟ قال: له سبع حقوق واجبات ما منهن حقّ إلا وهو عليه واجب، إن ضيّع منها شيئاً خرج من ولاية الله وطاعته، ولم يكن لله فيه من نصيب. قلت له: جعلت فداك، وما هي؟ قال: يا معلّى إنّي عليك شفيق، أخاف أن تضيّع ولا تحفظ وتعلم ولا تعمل، قال: قلت: لا قوة إلا بالله، قال: أيسر حقٍّ منها أن تحبّ له ما تحبّ لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك، والحقّ الثاني؛ أن تجتنب سخطه، وتتبع مرضاته، وتطيع أمره. والحقّ الثالث؛ أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك، والحق الرابع؛ أن تكون عينه ودليله ومرآته. والحقّ الخامس؛ أن لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى. والحقّ السادس؛ أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم، فواجب أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه، ويصنع طعامه، ويمهّد فراشه. والحقّ السابع؛  أن تبرّ قسمه، وتجيب دعوته، وتعود مريضه، وتشهد جنازته، وإذا علمتَ أنّ له حاجة تبادره إلى قضائها، ولا تلجئه إلى أن يسألكها، ولكن تبادره مبادرة، فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته وولايته بولايتك"(17).
وعن أبي جعفر محمد الباقر(ع): "من حقّ المؤمن على أخيه أن يشبع جوعته، ويواري عورته، ويفرّج عن كربته، ويقضي دينه، وإذا مات خلفه في أهله وولده"(18).
وعن أبي عبد الله جعفر الصادق(ع): "من حق المؤمن على المؤمن: المودة له في صدره، والمؤاساةُ له في ماله، والخلف له في أهله، والنصرة له على من ظلمه، وإن كان نافلة في المسلمين وكان غائباً أخذ له بنصيبه، وإذا مات الزيارة إلى قبره، وأن لا يظلمه، وأن لا يغشّه، وأن لا يخونه، وأن لا يخذله، وأن لا يكذبه، وأن لا يقول له أفٍ، وإن قال له أفٍ فليس بينهما ولاية، وإذا قال له: أنت عدوي فقد كفر أحدهما، وإذا اتهمه انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء"(19).
وروى الشهيد الثاني في رسالة الغيبة - بسندٍ له متصل - عن أمير المؤمنين(ع) أنّه قال:
قال رسول الله(ص): "للمؤمن على أخيه ثلاثون حقّاً، لا براءة له منها إلا بأداءٍ أو بالعفو: يغفر زلته، ويرحم غربته، ويستر عورته، ويقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويردّ غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلّته، ويرعى ذمته، ويعود مرضته، ويشهد ميّته، ويجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافي صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويسمت عطسته، ويرشد ضالّته، ويردّ سلامه، ويطيب كلامه، ويبرّ إنعامه، ويصدِّق أقسامه، ويواليه ولا يعاديه، وينصره ظالماً ومظلوماً، فأما نصرته ظالماً فيردُّه عن ظلمه، وأما نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقّه، ولا يسلمه، ولا يخذله، ويحبّ له من الخير ما يحبّ لنفسه، ويكره له من الشرّ ما يكره لنفسه"، ثم قال عليّ(ع): سمعت رسول الله (ص) يقول:إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً فيطالبه به يوم القيامة فيقضي له عليه"(20).
* * *
وهكذا نجد الاهتمام الكبير في المنهج الإسلامي في خطّ أهل البيت(عليهم السلام)، بالتماسك الاجتماعي بين المسلمين في مجتمعهم من خلال التأكيد على الحقوق التفصيلية التي تلاحق العلاقات العامة والخاصة، لتضع لها البرنامج المحدّد الذي يشمل كلّ القضايا الصغيرة والكبيرة، حتى ليشعر الإنسان أمام هذه المفردات الأخلاقية الحقوقية أنّ الإسلام يريد للمسلمين أن يصلوا إلى الدرجة العليا من الالتصاق الشعوري والعملي ببعضهم البعض، بحيث يكون المجتمع المسلم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر.
وفي ضوء ذلك نعرف الخطيئة الأخلاقية التي تتمثل في عدم توفير حق المؤمن اللازم للمؤمن الآخر، أو عدم توفير الحقّ للناس كلّهم.
* * *
"ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره" وهذه هي الخطيئة الأخلاقية التي قد يقع فيها الإنسان المؤمن في علاقته بالمؤمن الآخر، فقد يطّلع - بالصدفة - على بعض عيوب المؤمنين التي لا يريدون إظهارها ويعملون على إخفائها، لأنّها تمسّ موقعهم الاجتماعي ومصداقيتهم الإيمانية، الأمر الذي يحمّله مسؤولية احترام إرادتهم في سترها وعدم كشفها، لأنّ الله لا يريد للمؤمنين أن يسيئوا إلى الآخرين في حُرماتهم الذاتية، ومناطقهم الخفية، ولكنّ بعض الناس لا يقفون عند حدود الله، إمّا لعقدة نفسية ضدّ المؤمن الآخر، وإما لشهوة في نشر الفضائح للإثارة الاجتماعية، أو لغير ذلك من الدوافع الخاصة التي يتبع فيها الإنسان هواه. وقد وردت بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) حول هذا الموضوع وتأثيره السلبي على علاقة الإنسان بالله كعقوبة على ذلك، فقد جاء عن الإمام الصادق(ع) قال:" حدّثني أبي عن آبائه عن عليّ(ع) عن النبي(ص) أنّه قال: "أدنى الكفر أن يسمع الرجل عن أخيه الكلمة فيحفظها عليه يريد أن يفضحه بها، أولئك لا خلاق لهم"(21).
وعنه(ع): حدّثني أبي عن آبائه عن عليّ(ع) قال: "من قال في مؤمن ما رأت عيناه وسمعت أذناه مما يشينه ويهين مروّته، فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ فيهم:{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور:19](22).
* * *
"ومن كلّ إثم عرض لي فلم أهجره" وهذه هي الخطيئة السلوكية التي قد يعيش الإنسان - معها - أمام الآثام التي تعرض له في حياته من خلال النفس الأمّارة بالسوء التي تزين له القبيح وتقبح له الحسن، فتدفعه إلى ارتكاب الآثام الشرعية التي تؤدّي به إلى الخروج عن طاعة الله إلى معصيته، والبعد عن ولاية الله للاقتراب بحياته من ولاية الشيطان.
وفي هذا إيحاء بأن على الإنسان أن يواجه حركته في الحياة في جانبيها الإيجابي فيبادر إلى المحافظة على التزاماته الإيجابية، وفي جانبها السلبي فيبادر إلى الامتناع عن أجواء اللامبالاة التي تجعله يتهاون بالالتزامات السلبية التي فرضها الله عليه.
* * *
وهكذا ينطلق الدعاء في موقف الاعتذار الإنساني من الله من هذه الخطايا السلبية ومن أمثالهن من القضايا الأخرى المتصلة بحدود الله التي لا يريد للناس أن يتعدوها، وذلك في روحية النّدامة الخاشعة التي تعيش الرفض لكلّ الماضي الخاطئ، فلا تسمح له أن يمتد إلى الحاضر والمستقبل، ليكون ذلك واعظاً لكلّ مبادرة خاطئة في ما يستقبله الإنسان من أفعاله وتروكه، فلا تنحرف عن الخطّ المستقيم.
ويختم الدعاء الموقف بالرغبة في تأثير الموقف إيجابياً في تأكيد التوبة التي تؤدّي إلى محبّة الله الذي يحبّ التوابين الذي يخلصون في التوبة فكراً وعملاً.
* * *
اللّهُمَّ إنّي أَعتَذِرُ إليْكَ مِنْ مَظْلُومٍ ظُلِمَ بِحَضْرَتي فَلَمْ أَنْصُرْهُ، وَمِنْ مَعْرُوفٍ أُسْدِيَ إليَّ فَلَمْ أَشْكُرْهُ، ومِنْ مُسيءٍ اعْتَذَرَ إليَّ فَلَمْ أعْذُرْهُ، ومِنْ ذِي فَاقَةٍ سَأَلَني فَلَمْ أوثِرهُ، ومِنْ حَقٍّ ذي حَقٍّ لَزمَنِي لِمُؤْمِنِ فَلَمْ أُوفِّرْهُ، ومِنْ عَيْبِ مُؤْمِنٍ ظَهَرَ لي فلَمْ أَسْتُرْهُ، وَمِنْ كُلِّ إِثْمٍ عَرَضَ لِي فَلَمْ أَهْجُرْهُ.
* * *
لم أنصر المظلوم..
يا ربّ، أنا الخاطئ الذي عاشت كلّ المؤثرات المنحرفة في داخل ذاتي من خلال إثارة كلّ الغرائز الكامنة في شخصي، لأبتعد عنك في كلّ سلوكي المتمرد على أوامرك ونواهيك، أنا المسيء الذي استغرق في ذاتياته وابتعد عن مبادئه ونسي ربّه وذكر شيطانه، وانفتح على شهوته وانغلق عن رسالته، وتحرّك في وساوسه وهواجسه يميناً وشمالاً بين فكر يجد الظلم عدلاً والمعروف منكراً، وفكر يعيش الضباب فيغرقه الغموض في متاهات الضياع.
وقد ابتعدت - يا ربّ - عنك كثيراً كثيراً، فقد أردت منّي أن أنصر المظلوم فلم أبالِ بذلك، فتركت نصرته من ظالمه، وأنا أرقب الظلم يضغط على كلّ روحه وجسده أمامي، لأنّي لم أرد إتعاب نفسي أو إرباكها أو إثارتها أو تعقيد علاقاتها بالظالمين، فقد درست المسألة في ضوء مصالحي وأطماعي، فرأيت أنّها تتأثر سلباً بالوقوف مع المظلوم الضعيف ضد الظالم القوي، وعرفت أنّ المظلوم لا ينفعني بشيء من خلال ضعفه، بينما يملك الظالم - في وقته المتعددة - أكثر من فرصة للنفع أو للضرر.
وهكذا سوّل لي الشيطان الموقف الحيادي بين الظالم والمظلوم، وربما امتد الأمر بي - شعورياً - أن أكون مع الظالم ضد المظلوم.
* * *
لم أشكر المعروف...
يا ربّ، أنا عبدك الذي أمرته أن يشكر المعروف الذي أسدي إليه، لأنّك أردت للمعروف أن يمتد في حياة الناس من خلال تشجيع صانعيه على حسن صنيعهم، وذلك بالانفتاح عليهم ـ شعورياً - وتقدير أعمالهم - عملياً - والإعلان عن ذلك بالكلمة الشاكرة، والبسمة الحانية، واللفتة والرعاية الغالية.
ولكنّي - يا ربّ - تنكرت للمعروف الذي قُدم إليّ من أكثر من إنسان، بفعل المحبة تارة، والخير أخرى - والعلاقات الاجتماعية ثالثة، فخيّل إليّ أنّ هؤلاء الذين أحسنوا إليّ بمعروفهم لا ينطلقون من عمق روح الإحسان في نفوسهم، بل من خلال خوفٍ عندهم منّي، أو رغبةٍ لهم عندي، لأنّ شخصيتي تضخمت في داخلي بما يشبه التورّم الذاتي والانفتاح النفسي من دون أن أملك أيّ عنصر حقيقي يميّزني عن الآخرين.
وهكذا وسوس لي الشيطان أن ما فعلوه معي كان حقاً لي عندهم، وواجباً إلهياً عليهم، فكان يقول لي: لا شكر على واجب، الأمر الذي جعلني أفقد في عدم شكري إياهم فرصتي في الحصول على محبتك، والتحرك في سبيل طاعتك.
* * *
لم أعذر المعتذر...
يا ربّ، أنا الإنسان الذي تتعقد الإساءة في نفسي مما يمارسه الآخرون معي عن خطأٍ أو غفلةٍ أو انفعال طارئ، فيموت العفو في ضميري، ويغيب السماح في روحي، وتبتعد المحبة عن قلبي، ولا يبقى للرحمة معنى في شعوري وإحساسي، فإذا جاء المسيء إليّ نادماً معتذراً طالباً الصفح منّي، وفي كلماته معنى الاعتذار، وفي عينيه نظرة الندم، وفي وجهه ارتعاشة الخجل، تعبيراً عن الخطأ الصادر منه، والاستقالة من الإساءة الحادثة منه، فأتلذذ بهذا الموقف الذليل الذي يقفه المسيء المعتذر في خشوع الخجل، فأراه في هذا اللقاء مثال الإنسان المتصاغر أمامي في موقف الوضاعة والحقارة والذلّ، لأنّ الاعتذار موقف ذلّ، فيتنفس حقدي وترتاح أنانيتي، وأثأر لنفسي وأرفض العذر كلّه ليعود خائباً حسيراً.
وهكذا فقدت عمق الإحساس الإنساني الذي ينفتح بكلّ روح السماح على الإنسان الآخر الذي يقدّم كلّ قلقه الروحي من موقفه السلبي في إساءته إلي، ما يجعل رفضي لقبول العذر حالةً وحشيةً لا تتناسب مع إنسانية الإنسان.
* * *
لم أحسن إلى الفقير...
يا ربّ، أنا الأناني الذي يعيش كلّ اهتمامه في الحياة أن يشبع مع جوع الآخرين، وأن يروى مع ظمأ الناس، وأن يكتسي مع عريهم، وأن يسكن مع تشريدهم الآخرين، فقد واجهت البعض من الفقراء الذي لا يملكون شيئاً وأنا القادر على معالجة بعض مشكلتهم، ولكنّي فضلت أن أوفر لنفسي مشتهياتها وكمالياتها - لا ضرورياتها ـ فلم أؤثر إخواني المؤمنين من الفقراء على نفسي كما أردت منّي ومن المؤمنين ذلك.
إنّها أنانية الإنسان الذي يستغرق في ذاته ولا يفكّر بالناس من حوله، لأنّه لا يعيش المسؤولية في معالجة مشاكلهم، فكيف أقف بين يديك وأنت الذي أعطيتنا الرزق وجعلت فيه حقّاً للسائل والمحروم؟!
* * *
لم أحترم حقوق الناس:
يا ربّ، أنا المخلوق الذي عاش في الحياة، وهو يحسب أنّه - وحده - من بملك الحقّ على الناس من خلال شخصيته الفريدة، ولذلك فإنّه لا يحترم حقوق الناس بقدر ما يتعلق الأمر بشخصه في سلوكه معهم وعلاقته بهم، لأنّه لا يرى لهم حقّاً، في الوقت الذي أعرف فيه أنّك خلقت الناس في حقوق متبادلة في الحياة والحركة والعلاقات.
وهكذا ابتعدت عن منهجك الذي رسمته لنا وألزمتنا به في القيام بحقوق الناس من حولنا، ووقفت عارياً أمامك من كلّ ما يستر عورة الإنسان في معنوياته.
* * *
لم أستر عيب المؤمن:
يا ربّ، أنا الإنسان المعقّد الذي يتلذذ بفضيحة الآخرين، فيتجسس عليهم ليتعرف عيوبهم، ويتلصص عليهم ليكتشف أسرارهم، ويلاحق أوضاعهم ليخترق خفاياها ليطّلع على خلفياتهم، فيقوم بالتحدث عن ذلك ليلاً ونهاراً، ويعمل على إظهارها سرّاً وجهاراً، ليراهم، وهم يعيشون الإرباك أمام ذلك، فيتلذذ بمراقبة ردود فعلهم في الآلام التي يسببها ذلك لهم، والمشاكل التي تتحرك في حياتهم، والتعقيدات التي تصيب كراماتهم. وكان الأجدر به أن يستر عليهم ما ستره الله من عيوبهم، وأن يفكّر أنّ الله قادر على أن يفضح أمره ويهتك ستره ويظهر عيوبه ويبين للناس فضائحه، فيسقط موقعه ويهدم موقعه، ويحطّم عزته وكرامته، ولو فكّر جيّداً لعرف أنّه يختزن في شخصه وحياته عيوباً كالتي يتحدث بها عن الآخرين، وأنّهم يمكن أن يفضحوه كما فضحهم، ويهتكوا ستره كما هتك سترهم، ولكن احترامهم لأسرار الآخرين وعيوبهم قد يهيئ الفرصة لاحترامهم لأسراره وعيوبه، لأنّ المجتمع الذي يرتكز على الاحترام المتبادل بين أفراده هو الذي يحقق التوازن في الحياة العامة والخاصة.
إنّني - يا ربّ - لم أكن الإنسان الذي يستر عيوب الناس التي ظهرت له بالصدفة أو بوسائله الخاصة، وقد كان الأولى بي أن أسترها احتراماً لإنسانية الآخرين في حرماتهم الخاصة، وامتثالاً لأمرك في ذلك.
* * *
لم أهجر الإثم..
يا ربّ، أنا الآثم الذي انفتح على حركة الإثم في فكره وفي واقعه، فقد انطلق في حياتي فكرةً وسوس إليّ بها شيطاني وأثارتها نفسي الأمّارة بالسوء، وحرّكتها غرائزي التي تدفعني إلى الانحراف في عفويتها الغريزية، وهكذا امتد الإثم في حياتي فوقعت أسير المعصية التي تجعلني - وجهاً لوجه - أمام عقابك وتدفعني للتعرض لغضبك وسخطك.
وقد أردتني أن أهجر الإثم وأنفتح على الطاعة، لأنّ ذلك هو الذي يصلح أمر حياتي في الدنيا والآخرة، ويبعدها عن السقوط في هاوية الفساد التي تدمّر كلّ أموري العامة والخاصة، بينما يمثل خطّ الآثام الهلاك الخالد في عذابك والوقوع في مشاكل الانحراف في كلّ جوانب الحياة، من حيث ابتعاده عن الخير والحقّ والاستقامة في خطّ الإيمان.
وهكذا كانت النتيجة، أنّني لم أهجر الإثم الذي عرض لي فكرةً وعملاً وحركة.
فيا ربّ إنني أعتذر إليك من ذلك كلّه، فهل تقبل عذري؟
* * *
أَعْتَذِرُ إلَيْك - يا إلهي - مِنْهُنَّ وَمِنْ نَظَائِرِهِنَّ اعْتِذَارَ نَدَامَةٍ، يَكونُ وَاعِظاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ أَشْبَاهِهِنَّ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، واجْعلَ نَدَامَتي عَلَى مَا وقَعْتُ فيه مِنَ الزَّلاّتِ، وَعَزْمي عَلَى تَرْكِ مَا يَعْرُضُ ليِ من السَّيئَاتِ، تَوْبةً تُوْجِبُ لي مَحَبَّتَكَ، يا مُحِبَّ التّوّابِينَ.
* * *
اللهم أعتذر إليك من السيئات:
يا ربّ، قد لا أكون دقيقاً في تفاصيل الانحرافات عن خطّك المستقيم التي اعتذرت إليك منها، فقد تكون هناك أمور لم أذكرها... وأنا الآن في موقف الرغبة بالحصول على رضاك، والوصول إلى مواقع القرب إليك، مما يدفعني إلى أن أقدّم اعتذاري المنطلق من عمق إحساسي بالندم وعزمي على تصحيح الواقع المنفتح على المستقبل، حتى يكون هذا الموقف الاعتذاري في المستقبل عن السقوط في وهدة معصيتك، فلا أتحرك في المبادرات لسلبية المشابهة لما قمت به في الماضي.
إنّني - يا ربّ - هنا من أجل أن أحقق لنفسي الصفاء الروحي، والنقاء الفكري، والاستقامة العملية، لكون من عبادك الصالحين وأوليائك المقربين، فأعطني من لطفك - يا إلهي - لطفاً كريماً يفتح عقلي على التوبة من خطاياي الخبيثة، واجعل ندامتي على الماضي المملوء بالزلل، المتحرك بالخطايا، وعزمي على تغيير الواقع - في الحاضر والمستقبل - إلى الأفضل في طاعتك ورضاك تجسيداً للتوبة الصادقة النصوح، لأحصل على محبتك التي هي غاية المؤمن في إيمانه وعمله الصالح، لأنّها هي الوسيلة للحصول على مواقع رضاك في رحاب القرب منك، يا محبّ التوابين الذين يقدمون إليك - من عمق عقولهم وقلوب وامتداد حياتهم - كلّ ابتهال وخشوع ومحبّة وطاعة، فهل تقبل توبتي وعذري؟!
هذا ما أرجوه يا من لا يخيب لديه رجاء الرّاجين.
* * *

الهوامش:

(1)    البحار، ج:93، باب:24،ص:378، رواية:21.
(2)    نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، قصار الحكم:18، ص:357.
(3)    نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، الكتاب:47، ص:316.
(4)    الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص:140، نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:5، ص:282.
(5)    الكافي، ج:2، ص:99، رواية:30.
(6)    من لا يحضره الفقيه، ج:2، باب:2، ص:622، رواية:3214.
(7)    الكافي، ج:4، ص:33، رواية:3.
(8)    من لا يحضره الفقيه، ج:2، ص:75، رواية:1696.
(9)    نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، ص:324.
(10)    من لا يحضره الفقيه، ج:4، باب:2، ص:353، رواية:5762.
(11)    من لا يحضره الفقيه، ج:5، ص:284. وجاء في النهاية لابن الأثير: "من تنصل إليه أخوه فلم يقبل"، أي إن انتفى من ذنبه واعتذر إليه. نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:5، ص:284.
(12)    الكافي، ج:4، ص:18، رواية:2.
(13)    تهذيب الأحكام، ج:6، باب:22، ص:351، رواية:114.
(14)    الكافي، ج:2، ص:333، رواية:14.
(15)    رياض السالكين، ج:5، ص:286.
(16)    الكافي، ج:2، ص:170، رواية:4.
(17)    الكافي، ج:2، ص:169، رواية:2.
(18)    الكافي، ج:2، ص:169، رواية:1.
(19)    الكافي، ج:2، ص:171، رواية:7.
(20)    كشف الريبة في أحكام الغيبة، ص:115. نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:5، ص:290.
(21)    كشف الريبة في أحكام الغيبة، ص:130. نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:5، ص:291.
(22)    كشف الريبة في أحكام الغيبة، ص:130. نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:5، ص:291.

دعاؤه(ع)
في طلب العفو والرحمة

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاكْسِرْ شَهْوَتي عَنْ كُلِّ مُحَرَّم، وَازْوِ حِرْصي عَنْ كُلِّ مَأْثَم، وَامْنَعْني عَنْ أذى كُلِّ مُؤْمِن وَمُؤْمِنَة وَمُسْلِم وَمُسْلِمَة.
اللّهُمَّ وَأَيُّما عَبْدٍ نالَ مِنّي ما حَظَرْتَ عَلَيْهِ، وَانْتَهَكَ مِنّي ما حَجَرْتَ عَلَيْهِ، فَمضى بِظُلامَتي مَيِّتاً، أَوْ حَصَلَتْ لي قِبَلَهُ حَيّاً، فَاغْفِرْ لَهُ ما أَلَمَّ بِهِ مِنّي، وَاعْفُ لَهُ عَمّا أَدْبَرَ بِهِ عَنّي، وَلا تَقِفْهُ عَلى مَا ارْتكَبَ فِيَّ، وَلا تَكْشِفْهُ عَمَّا اكْتَسَبَ بي، وَاجْعَلْ ما سَمَحْتُ بِهِ مِنَ الْعَفِوْ عَنْهُمْ، وَتَبَرَّعْتُ بِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ، أَزْكى صَدَقاتِ الْمُتَصَدِّقينَ، وَأَعلى صِلاتِ الْمُتَقَرِّبينَ، وَعَوِّضْني مِنْ عَفْوي عَنْهُمْ عَفْوَكَ، وَمِنْ دُعائي لَهُمْ رَحْمَتَكَ، حَتّى يَسْعَدَ كُلُّ وَاحِد مِنّا بِفَضْلِكَ، وَيَنْجُوَ كُلٌّ مِنّا بِمَنِّكَ.
اللّهُمَّ وَأَيُّما عَبْد مِنْ عَبيدِكَ أَدْرَكَهُ مِنّي دَرَكٌ، أَوْ مَسَّهُ مِنْ ناحِيَتي أَذىً، أَوْ لَحِقَهُ بي أَوْ بِسَبَبي ظُلُمٌ، فَفُتُّهُ بِحَقِّهِ، أَوْ سَبَقْتُهُ بِمَظْلَمَتِهِ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَرْضِهِ عَنّي مِنْ وُجْدِكَ، وَأَوْفِهِ حَقَّهُ مِنْ عِنْدِكَ، ثُمَّ قِني ما يُوجِبُ لَهُ حُكْمُكَ، وَخَلِّصْني مِمّا يَحْكُمُ بِهِ عَدْلُكَ، فَإِنَّ قُوَّتي لاَ تَسْتَقِلُّ بِنَقِمَتِكَ، وَإِنَّ طاقَتي لا تَنْهَضُ بِسُخْطِكَ، فَإِنَّكَ إِنْ تُكافِني بِالْحَقِّ تُهْلِكْني، وَإِلاّ تَغَمَّدْني بِرَحْمَتِكَ تُوبِقْني.
اللّهُمَّ إِنّي أَسْتَوْهِبُكَ - يا إِلهي - ما لا يَنْقُصُكَ بَذْلُهُ، وَأَسْتَحْمِلُكَ ما لا يَبْهَظُكَ حَمْلُهُ. أَسْتَوْهِبُكَ - يا إِلهي - نَفْسِيَ الَّتي لَمْ تَخْلُقْها لِتَمْتَنِعَ بِها مِنْ سُوء، أَوْ لِتَطَرَّقَ بِها إِلى نَفْع، وَلكِنْ أَنْشَأْتَها إِثْباتاً لِقُدْرَتِكَ عَلى مِثْلِها، وَاحْتِجاجاً بِها عَلى شَكْلِها.
وَأَسْتَحْمِلُكَ مِنْ ذُنُوبي ما قَدْ بَهَظَني حَمْلُهُ، وَأَسْتَعينُ بِكَ عَلى ما قَدْ فَدَحَني ثِقْلُهُ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَهَبْ لِنَفْسي عَلى ظُلْمِها نَفْسي، وَوَكِّلْ رَحْمَتَكَ بِاحْتِمالِ إِصْري، فَكَمْ قَدْ لَحِقَتْ رَحْمَتُكَ بِالْمُسيئينَ، وَكَمْ قَدْ شَمِلَ عَفْوُكَ الظّالِمينَ. فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاجْعَلْني أُسْوَةَ مَنْ أنْهَضْتَهُ بِتَجاوُزِكَ عَنْ مَصارِعِ الْخاطِئينَ، وَخَلَّصْتَهُ بِتَوفيقِكَ مِنْ وَرَطاتِ الْمُجْرِمينَ، فَأَصْبَحَ طَليقَ عَفْوِكَ منْ إِسارِ سُخْطِكَ، وَعَتيقَ صُنْعِكَ مِنْ وَثاقِ عَدْلِكَ، إِنَّكَ إِنْ تَفْعَلْ ذلِكَ يا إِلهي تَفْعَلْهُ بِمَنْ لايَجْحَدُ اسْتِحْقاقَ عُقُوبَتِكَ، وَلايُبَرِّئُ نَفْسَهُ مِنْ اسْتيجابِ نَقِمَتِكَ، تَفْعَلُ ذلِكَ يا إِلهي بِمَنْ خَوْفُهُ مِنْكَ أَكْثَرُ مِنْ طَمَعِهِ فيكَ، وَبِمَنْ يَأْسُهُ مِنَ النَّجاةِ أَوْكَدُ مِنْ رَجائِهِ لِلْخَلاصِ، لا أَنْ يَكُونَ يَأْسُهُ قُنُوطاً، أَوْ أَنْ يَكُونَ طَمَعُهُ اغْتِراراً، بَلْ لِقِلَّةِ حَسَناتِهِ بَيْنَ سَيِّئاتِهِ، وَضَعْفِ حُجَجِهِ في جَميعِ تَبِعاتِهِ.
فَأَمّا أَنْتَ - يا إِلهي - فَأَهْلٌ أَنْ لا يَغْتَرَّ بِكَ الصِّدِّيقُونَ، وَلا يَيْأَسَ مِنْكَ الْمُجْرِمُونَ، لأنَّكَ الرَّبُّ الْعَظيمُ الَّذي لايَمْنَعُ أَحَداً فَضْلَهُ، وَلا يَسْتَقْصي مِنْ أَحَد حَقَّهُ.
تَعالى ذِكْرُكَ عَنِ الْمَذْكُورينَ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْماؤُكَ عَنِ الْمَنْسُوبينَ، وَفَشَتْ نِعْمَتُكَ في جَميعِ الْمَخْلوقينَ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلى ذلِكَ يَا رَبَّ الْعالَمينَ.
* * *
في هذا الدعاء انفتاح على الله في الحصول على عفوه ورحمته وذلك من خلال عدّة نقاط:
النقطة الأولى: الاستعانة بقدرته تعالى على تأكيد الالتزام بالسلوك المستقيم الذي ينطلق من المناعة الأخلاقية في انضباط الإنسان الداخلي في حركة شهوته، فلا تندفع بالقوة الغريزية إلى المحارم التي جعلها الله من الحرمات الممنوعة على الإنسان التي لا يجوز له انتهاكها، فيطلب الإنسان من ربّه أن يكسر شهوته عن كلّ محرم من هذه المحارم ويضعفها ويحبسها في نطاق الالتزام بخطّ التقوى حتى لا تأخذ حريتها في الاندفاع إلى الجانب الحيوي من الجسد في خطّ الانحراف عن أوامر الله ونواهيه.
وفي إبعاده عن كلّ المعاصي والآثام، فلا يرغب فيها ولا يحرض عليها خوفاً من عقاب الله وطلباً لمرضاته، بل يندفع إلى طاعته ليكون التزامه التزام العبد المطيع بإرادة مولاه، وفي الابتعاد عن أذى المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، ليكون الإنسان المسالم الذي ينفتح على الآخرين من عباد الله، بالامتناع عن إلحاق الأذى بهم والإضرار بأوضاعهم والاعتداء عليهم، لأنّ الله يريد للمؤمن أن يسلم المسلمون من يده ولسانه، وأن يكون الإنسان الذي يعيش الخير في روحه وعقله وحركته في داخل ذاته وخارجها على مستوى الممارسة في عمله لنفسه وعلى صعيد العلاقات في تعامله مع الآخرين.
وهكذا تتلخص النقطة الأولى في الدعاء إلى الله بان يعينه على نفسه في مواطن الضعف الداخلي ممّا يختزنه من نقاط الضعف الإنساني، ليكسر شهوته عن كلّ محرم، فلا تتحرك بالعنفوان الغريزي في حالة تمرّد، وليبعد رغبته وحرصه عن المآثم فلا يندفع إلى المعصية في شوق ولهفة، وأن يمنعه بالإيحاء النفسي وبالقوة الضاغطة عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات في كلّ قضاياهم الخاصة والعامة.
وفي ضوء ذلك ينطلق الخطّ الأخلاقي المستقيم في حياة الإنسان المؤمن في الإرادة الذاتية لتأكيد المناعة الروحية ضد الانحراف ولاستلهام القوة الإلهية للعون على ذلك.
* * *
النقطة الثانية: الانفتاح على حقّه لدى الآخرين الذي أساؤوا إليه في ارتكاب ما حرّم الله عليهم من انتهاك حرمته ومن العدوان عليه في أمره، ممن ذهبوا بظلامته من الأحياء والأموات، فلم يسترجع حقه منهم، ولم يحصل على الاقتصاص لنفسه انتصافاً منهم، الأمر الذي يجعلهم في موقع المسؤولية عند الله، وفي ساحة سخطه وعقابه، فيقف بين يدي الله ليعفو عنهم وليصفح عن إساءتهم له، وذلك من خلال إسقاط حقّه الشخصي، فلا يطالبهم بشيء من ذلك في الدنيا والآخرة مما يوجب له القصاص منهم بطريقةٍ وأخرى، ليبقى الحقّ العام وهو حقّ الله في موقع عفو الله ورحمته فلا يحاسبه على ما فعله، ولا يوقفه على ما ارتكب فيه، ولا يفضحه على رؤوس الخلائق، بل يغفر له ما فعله من الذنب ويعفو عنه عما ذهب به من السيئة.
إنّها الروح الإنسانية التي تسمو وتصفو وتنفتح على إنسانية الآخر، فلا تريد له سوءاً ولا تضمر له شرّاً، وتفكّر في مستقبله الأخروي الذي قد يخضع للعقوبة الإلهية من خلال انتهاك حقه، فيبتهل إلى الله أن يعفيه من ذلك لينطلق في ساحة الآخرة خفيفاً من أثقاله العملية، بعيداً عن مواقع الجزاء، وليكون ذلك الموقف الإنساني في العفو عنه وإسقاط حقّه في المطالبة بالقصاص صدقة من أزكى الصدقات، وقربة من أعلى القربات، فيجتذب عفوه عنه عفو الله عن خطاياه بالذات، ويحصل من دعائه له على رحمته، لينطلقا معاً - في يوم القيامة - في أجواء السعادة بالفضل الإلهي في العفو والرضوان ويمرحا في ساحات النجاة بمنّ الله عليهما معاً في ما يمنّ على عباده المؤمنين.
* * *
النقطة الثالثة: الالتفات إلى الخطايا التي ارتكبها الإنسان الداعي ضد الناس مما لحقهم من الأذى منه، أو ممّا حصل لهم به أو بسببه من الظلم الواقع بهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فلم يستطع إيصال حقوقهم إليهم، أو التخفف من مسؤوليته تجاههم بالحصول على سماحهم له وعفوهم عنه، مما يؤدّي به إلى الوقوف - غداً - في ساحة القصاص بين يدي الله عندما يطالبونه بحقوقهم التي يتحرك العدل الإلهي للاستجابة إلى أصحابها في ردّ مظالمهم بطريقةٍ وأخرى، فيطلب من الله قبل الوصول إلى ذلك اليوم العظيم أن يرضيه عنه مما يمنحه من رزقه ويوفيه حقّه من عنده، ليكون ذلك وسيلةً من وسائل إسقاطه حقّه بما يحصل عليه من التعويض الإلهي الذي لا بدّ له أن يرضى به، لأنّ اقتصاصه ممن أساء إليه لا يصل إلى الدرجة العليا من الرضوان الإلهي هناك والنعمة الكبيرة منه، وهكذا تحلّ مشكلة الحقّ الشخصي للآخرين عنده ليبقى حقّ الله في مخالفة الإنسان لأمره ليطلب منه إلغاء النتائج السلبية التي يفرضها حكمه عليه وليتخفف من ثقل العدل على مصيره، وذلك من خلال العفو والمغفرة، لأنّ قوى الإنسان لا تملك البقاء في خط التوازن أمام نقمة الله، ولأنّ طاقته المحدودة الضعيفة لا تنهض بغضبه، فإنّ الأخذ بالحقّ بكلّ دقائقه وتفاصيله يؤدّي إلى هلاك الإنسان لكثرة معاصيه وخطاياه، وإنّ الامتناع عن إفاضة الرحمة عليه يسقطه في مواقع الضياع.
إنّها الروحية المنفتحة على الله في الابتهال إليه بأن يدخل لإيفاء الآخرين حقوقهم على هذا الإنسان المسيء إلى الناس، من فضله الذي لا يمكن لهم أن يرفضوه، ولتعويضهم عما بدر منه من الإساءات بالمزيد من رضوانه الذي يمنحهم كلّ مواقع الخير هناك.
وفي هذا إيحاء داخلي للنفس الإنسانية الخاطئة بالتفكير في إساءة الإنسان إلى الآخرين، وفي حقّهم المتوجب عليه، ليدفعه ذلك إلى احترام إنسانيتهم في علاقته بهم، وليمنعه ذلك من الإساءة الجديدة إليهم، لأنّ تذكّر النتائج السيئة في الإساءة إلى الناس ممّا يقبل عليه من سخط الله وعقابه لا بدّ أن يكون رادعاً له عن تجديد عدوانه عليهم.
* * *
النقطة الرابعة: الرغبة إلى الله بأن يهب له نفسه التي أبعدتها الخطايا عن رحمته، وأثقلها المعاصي بالمزيد من نقمته، وبذلك خسر الإنسان الخاطئ نفسه لتضيع في متاهات الضياع المصيري في الآخرة.
إنّ هبة الله لهذا الإنسان نفسه ليست بعيدة عن كرم الله وعطائه في ما يبذله لعباده من الرزق المادي والمعنوي، فلا ينقصه البذل، ولا يعجزه الغفران، فهو الكريم في عطائه لخلقه، وهو القادر على كلّ شيء من مواقع إرادته.
وما قيمة نفس هذا الإنسان لديه؟ فلم يخلقها الله لحاجة منه إليها ليدفع بها سوءاً عنه، أو ليحصل منها على نفع له، بل كانت مظهراً لقدرته على مثلها، وحُجّة على خلق ما يشاكلها في الهيئة، عندما يقف المعاندون ليستبعدوا إعادة النفس إلى الحياة بعد الموت، فإنّ القادر على إيجادها قادر على بعثها - من جديد - بعد الموت {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ*قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78-79].
وهكذا لا تمثّل النفس الإنسانية في وجود هذا الخاطئ أيّة أهمية في مواقع قدرة الله ورحمته وكرمه، مما يدفع به إلى الطلب إلى ربّه أن يتحمل عنه ذنوبه التي أثقلت ظهره، وأن يعينه على التخفف من سيئاته التي أجهدت ضميره، فيهيب لنفسه نفسه لتربح موقعها ساحات رضوانه بالرغم من ظلمها لنفسها وربّها بالمعاصي، ويدفع برحمته إلى احتمال أثقالها لإسقاطها عن مصيره، فإنّ رحمته للمسيئين بالعفو عن سيئاتهم، أو شمول العفو للظالمين أنفسهم بالانحراف عن طاعة الله.
إنّه الأسلوب الروحي الابتهالي الذي يلجأ فيه الإنسان المؤمن إلى ربّه، فيشعر بخسارة نفسه وضياعها في متاهات العقاب، ليهب له نفسه لترجع إليه راضية مطمئنة إلى عفو الله ورضوانه، مما يجعله مشدوداً إلى الله في الحصول على الطمأنينة الروحية في الدنيا والآخرة من خلال رحمته التي وسعت كلّ شيء.
* * *
النقطة الخامسة: الابتهال إلى الله بأن يجعله الإنسان الذي يمثل النموذج الخاطئ الذي منحه تجاوزه عن خطاياه، فأنقذه من مصارع الخاطئين من عباده، وخلّصه بتوفيقه الإلهي التي أعدها للمجرمين، وبذلك استطاع أن يتحرر من أسر غضبه وسجن عدّله، فكان طليق عفو الله، كأيّ طليق من الأسرى، وكان المحرّر بصنع الله من حالة الوثاق الذاتي التي يفرضها عدل الله.
فليس هذا الذي يطلبه من ربّه منطلقاً من شعور داخلي بأنّه البريء الذي لا يستحق عقوبة الله ولا يستوجب نقمته، فهو الذي يعرف جيداً أنّه قد مارس الخطيئة بكلّ جهده، وتمرد على ربّه بكلّ قوته، مما جعله في موقع العقاب الذي يستحقّه بفعل موقعه الانحرافي، مما يجعله في حالة الخوف الشديد من ربّه أكثر من الطمع به، وفي موقع اليأس من النجاة بالدرجة التي يرجح فيها على الرجاء للخلاص، من دون قنوط يبعده عن التطلع إلى رحمته التي وسعت غضبه، أو طمعٍ ناشيءٍ من الاغترار بما لا حقّ له به، بل لأنّ حسناته لا ترقى إلى الدرجة التي توحي إليه بالأمل الكبير في استحقاقه الذاتي، ولأنّ حُجّته في الدفاع عن نفسه لا تبلغ مستوى القوة في كلّ مسؤولياته التي يتحمل كلّ تبعاتها من الجزاء.
إنّه الابتهال الذي يعيش الإنسان معه إحساساً بالقلق الروحي في الخوف الإنساني من الله الذي يحصي على عباده أدقّ خطواتهم العملية وخطراتهم الذهنية، مما يجعل الصدّيقين الذين بلغوا الدرجة العليا في القرب منه من خلال الصدق الشامل في موقفهم منه، لا يطمعون بالأمن من العذاب خشيةً من بعض نزواتهم الخفية ووساوسهم الشيطانية أن تكون السبب في إنزال العقاب بهم بالرغم من كلّ مواقفهم الصادقة.
وفي الجانب المقابل، فإنّ الإحساس بالرحمة المنفتحة على الخلق كلّه بما لا تصل إليه أوهامهم، يجعل المجرمين ينفتحون على الأمل بالعفو والمغفرة من الرحمة الإلهية، لأنّ الله هو العظيم في موقع الربوبية التي تمنح الفضل لكلّ أحد من الناس، فلا يمنع أيّاً منهم عن فضله، ولا يستقصي منهم حقّه، بل يترك لهذا وذاك بعضه أو كلّه.
فهو الذي إذا ذكره الناس بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير بما هو أهله، فلن يبلغ أحد درجة ذكره، لأن أيّاً من عباده لا يصل إلى مداه في الفضل والنعمة والعظمة والجلال، وهو الذي تنزهت أسماؤه الحسنى الدالة على معاني كماله وجلاله عن الاقتراب من أيّة نسبةٍ لأيّ شخص في معنى العظمة في الذات، وهو الذي انتشرت نعمته في كلّ خلقه، فلم يخل أحد منهم من بركاتها، وهو المحمود الذي من شأنه الحمد على كلّ نعمه وكرمه، وهو ربّ العالمين.
* * *
وهكذا نجد أنّ هذا الدعاء في طلب العفو والرحمة يمثل جولةً في حياة الإنسان الداخلية والخارجية في نقاط ضعفه وفي آفاق الله الواسعة في مواقع رحمته ونعمته وكرمه، مما يجعله حركةً ثقافية في معنى العبودية الإنسانية لله، وفي سرّ الربوبية المنفتحة بالخير والنعمة والبركة على الخلق، والمتمثلة بكلّ مواقع العظمة في ذاته المقدسة.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحمَّدٍ وآلِهِ، وَاكْسِرْ شَهْوَتِي عَنْ كُلِّ مَحْرَمٍ، وَازْوِ حِرْصي عَنْ كُلِّ مَأْثَمٍ، وامْنَعْني عَنْ أَذَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ وَمسْلِمٍ ومسلِمَةٍ.
* * *
اللهم كسر شهوتي عن كلّ محرم:
يا ربّ، لقد خلقت في جسدي الغرائز التي حركت فيها القدرة على إثارة الشهوة في خطّ الحلال والحرام من خلال عناصر الإثارة في الداخل والخارج، وقد يوسوس فيه إليَّ شياطين الجنّ والإنس فينحرفون بي عن الاستقامة في خطّك في ثوران الشهوة في اتجاه ما حرّمت عليَّ في أكثر من اتجاه.
وها أنا أتوسّل إليك أن تحطّم قوّة هذه الشهوة المحرمة وتكسر شدتها، لأنتصر عليها بعقلي وإيماني وإرادة التقوى في سلوكي، فلا أتهجم على أيّ محرم مما حرّمت عليّ في حركة شهوة الجنس الغريزيّ، لتتوازن لدي الشهوات في دائرة الإيجاب لا في دائرة السلب.
* * *
اللهم أزو حرصي عن كلّ مأثم:
يا ربّ، لقد أودعت في مشاعري الداخلية قوّة الحرص على الأشياء التي تجتذبني منافعها ولذائذها وزخارفها، وقد تتنوع في أشكالها، وقد تتفنن في ألوانها، وتتشابه فيها وجوه الحلال والحرام، فينطلق الحرص الكامن في النفس في خوفٍ على ضياع الفرصة الملائمة للحصول على المنفعة واللذة المنحرفة، فأقع في الإثم الذي يجرني إلى سخطك.
اللهم أصرف عنّي هذا الضغط النفسي الذي يتحرك الحرص في داخله ليجتذبني إلى العمل أو الموقف أو الموقع الذي يدفعني إلى ما يوقعني في الذنب، واستبدل ذلك بالحرص على الحصول على رضاك في مواقع طاعتك.
* * *
اللهم امنعني عن أذى كلّ مؤمن:
يا ربّ، قد يتحرك الواقع الاجتماعي المنفتح على التعقيدات النفسية المتضادة، والخلافات الحادّة المتبانية، ويتدخل الشيطان في حركة الكلمات القاسية التي تثير الأعصاب، وفي قسوة المواقف التي تُلهب المشاعر، وفي الأوضاع القلقة والعصبيات الخانقة التي تدفع إلى الأذى المتبادل والعدوان الضاري، فيؤدّي بي ذلك إلى فقدان التوازن في الموقف واهتزاز العقيدة في الموقف، فأندفع إلى إيذاء المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات(1)، وهو موقف لا يتناسب مع إرادتك الربوبية في المنع من إلحاق الأذى بالمؤمنين الذين آمنوا بك وبالمسلمين الذي أسلموا أمرهم لك.
إنّك تريد للمؤمنين جميعاً - وأنا منهم - أن يعيشوا الأخوة الإيمانية في علاقاتهم ببعضهم البعض، لأنك قلت:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، مما يجعل القيام بأيّ عمل من أعمال الإيذاء للمؤمنين ضد ذلك. اللهم إنّني عبدك الذي يجب أن يكون كلّ سلوكه مع الآخرين في خطّ رضاك، فلا أريد أن أؤذي أيّ مؤمن ومؤمنة، أي مسلم ومسلمة، وها أنا أبتهل إليك أن تمنعني - بقوتك - بلطفك من الاتجاه في هذا الواقع السلبي، فإذا ضعفت عن التماسك في الموقف الصحيح، فامنحني القوة في الإرادة للثبات فيه.
* * *
اللَّهُمَّ وأيُّما عَبْدٍ نالَ مِنِّي ما حَظَرْتَ عليهِ، وانْتَهَكَ مِنِّي ما حَجَرْتَ عليه، فَمَضَى بِظُلامَتي مَيِّتاً، أو حَصَلتْ لي قبَلَهُ حَيّاً، فاغفِرْ له ما أَلَمَّ بِهِ مِنِّي، واعْفُ لهُ عمّا أدْبَرَ بِهِ عَنّي، ولا تَقِفْهُ على ما ارْتَكَبَ فيَّ، ولا تَكْشِفْهُ عَمَّا اكْتَسَبَ بي، وَاجْعَلْ ما سَمَحْتُ بهِ من العَفْوِ عَنْهُم، وَتَبَرَّعْتُ بهِ من الصَّدَقةِ عليهمْ، أزْكَى صَدَقاتِ المُتَصدِّقينَ، وَأعْلَى صلاةِ المُتَقَرِّبينَ، وعَوِّضْنِي من عَفوي عَنهم عَفْوَكَ، ومن دُعائي لَهُمْ رَحْمَتَكَ، حَتَّى يَسْعَدَ كُلُّ واحدٍ مِنّا بِفَضْلِكَ، وَيَنْجُوَ كلٌّ مِنَّا بِمَنِّكَ.
أللَّهُمَّ وأيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِكَ أدْرَكَهُ مِنِّي دَرَكٌ، أوْ مسَّهُ مِنْ نَاحِيَتي أذَىً، أوْ لَحِقَهُ بِي أو بسببي ظُلم، فَفُتُّهُ بِحَقّهِ، أو سَبَقْتُهُ بِمَظْلَمَتِهِ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأرضِهِ عَنِّي مِنْ وُجْدِكَ، وَأوْفِهِ حَقَّهُ مِنْ عِنْدِكَ، ثُمَّ قِنِي مَا يُوجِبُ لَهُ حُكْمُكَ، وخَلِّصْني مِمّا يَحْكُمُ بِهِ عَدْلُكَ، فإنَّ قُوّتي لا تستِقلُّ بِنقمتِك، وإنَّ طاقَتي لا تَنْهَضُ بِسَخطِك، فإنَّك إنْ تُكافِني بالحقِّ تُهْلِكْني، وإلا تغمَّدْني بِرحْمَتِك تُوبِقْنِي.
* * *
موقف الاعتراف بالظلم وطلب المغفرة:
يا ربّ، أنا الآن بين يديك أقف موقف الاعتراف والابتهال والطّلب والاستغفار، فقد عشت حياتي مع الناس في اندفاع الإنسان الذي يستغرق في ذاته، ولا يتطلع إلى غيره في حاجاته وآلامه وقضاياه، ولذلك عمل على استغلال ما أعطيته من القوة، ومنحته من النعمة، وهيّأت له من وسائل العلوّ والجاه، في ظلم الإنسان الآخر، وإيقاع الأذى به بشكل مباشر وغير مباشر مما كنت السبب فيه، فحطمت له مصالحه، وأسقطت مكانته، وظلمته في نفسه وأهله وماله وعرضه وولده، انطلاقاً من عقدة الإنسان القويّ في السيطرة على الإنسان الضعيف.
ولم أنتبه إلى أنّك وهبتني القدرة لإعانة الضعيف لا لاضطهاده، ومنحتني النعمة لأساعد بها المحروم لا لاستغلاله، ورزقتني الجاه لقضاء حاجات الناس لا لتعطيلها، ولكن الشيطان وسوس لي، وسوّلت لي نفسي، وغلبني هواي، وغرّني سترك المرخى عليّ، فوقعت في الخطيئة، وسقطت في وحول المعصية.
وكانت النتيجة أن ابتعدت عن إرجاع حقّه إليه في دار الدنيا، لأنّه مات فيها، أو لأنّه كان في أرض بعيدة عني لا أملك الوصول إليه، أو لا أعرف مداه فيها، أو سبقته بمظلمته إلى الدار الآخرة لأنني تركت الدنيا قبله، فلم تكن لديّ أيّ فرصة للتسامح منه، أو للتخفف من تبعة حقه بما حملتني من المسؤولية لديك.
اللهم إنّك تملك الحقّ كلّه، وتهيمن على الملك كلّه، فأنت تملك الحقّ وصاحبه، وتسيطر على الملك وماله، فتفضل عليّ بإرضائه من غناك، وبإيفائه حقّه من ملكك، ليرضى عنّي بذلك، لأنّه يحصل منك بأكثر مما يستحقه عندي، لأنّ حاجته إلى ذلك في مرحلة الآخرة أكثر من حاجته إليه في الدنيا، لا سيّما إذا كان العوض منك مغفرة ورضواناً بما يجلب له السعادة في دار الجنة، فلا يطالبني بحقّه من حسناتي.
ثم هب لي - يا ربّ - المغفرة على عصياني لك في ذلك مما أستحقّ به منك الحكم بالعذاب، عدلاً من حكمك لا تجور فيه، لأنّك أقمت الحُجّة عليّ بأمرك ونهيك، ودعوتني إلى طاعتك وحذّرتني من معصيتك، وتوعّدتني بالعقاب على الانحراف عن خطك، اللهم فارزقني السلامة من ذلك كلّه، لأنّي عبدك الضعيف الذي لا يملك أيّة قوة في نفسه، فكيف يواجه نقمتك التي لا تثبت أمامها أيّة قوة، فإنّ ذلك فوق طاقة المخلوقين، فلا تنهض أيّة قوة لديهم بشيء منها أمام سخطك.
إنّني يا ربّ لا أقوى على المجازة بالحقّ الذي لك عليّ، فإنّك إن قضيت عليّ بالمكافأة تهلكني، وإن لم ترحمني وتنقذني من كلّ ذلك كنت من الهالكين في الدنيا والآخرة.
* * *
اللّهُمّ إنّي أسْتَوْهبُكَ - يا إلهي - ما لا يَنْقُصُكَ بَذْلُهُ، وأسْتَحملُك مَا لاَ يَبْهَظُكَ حَمْلُهُ، أسْتَوْهِبُكَ - إلهي - نَفْسِي التي لَمْ تَخْلُقْها لِتَمْتنِعَ بِهَا منْ سُوءٍ أوْ لِتطَرَّقَ بها إلى نَفْعٍ، ولكِنْ أنْشأتَهَا إثْبَاتاً لِقُدْرَتِكَ على مِثْلَهَا، واحْتِجاجاً بِها على شَكْلِها.
وأستحْمِلُكَ مِنْ ذُنوبي مَا قد بَهَظَني حَمْلُه، وأسْتَعِين بِكَ عَلى مَا قَدْ فَدَحَني ثِقْلُهُ، فَصَلِّ على محمد وآلهِ، وهَبْ لِنَفسي عَلى ظُلمِهَا نفسي، وَوَكِّلْ رَحْمَتَكَ باحْتِمال إصْرِي(2)، فَكَمْ قَدْ لَحِقَتْ بالمُسِيئين، وَكمْ قَدْ شَمَلَ عَفْوُكَ الظالمين.
* * *
جلّ ما أطلبه منك - يا ربّ - هو العفو:
ما الذي أطلبه منك - يا ربّ - وماذا يمثّل من أهمية لديك؟
إنّك - يا ربّ - الربّ العظيم بقدرته، الغني بملكه، الذي لا يعجزه شيء، ولا ينقصه بذل أيّ شيء، ولا يثقله شيء، لأنّك المالك للملك كلّه، والمهيمن على الأمر كلّه.
إنّك - يا ربّ - تملك نفسي، فهي خلقك وملكك، وهي منك وإليك، فلم يكن خلقك لها من موقع حاجة إليها لدفع سوء أو لجلب نفع، لأنّك فوق مستوى الحاجة، فكلّ الوجود، بل ما فيه، فقير إليك، محتاج إلى ما عندك، ولست بحاجة إلى أيّ ِشيء منه، لأنّك الغني الحميد، بل كان خلقك لها مظهراً من مظاهر قدرتك على أن تخلق مثلها في كلّ خصائصها الجسدية والروحية والعقلية والحركية، وحُجّة ودليلاً على شكلها في الهيئة والصورة، ليعرف الخلق أنّك الله القادر على كلّ شيء حتى بإعادة الميت إلى الحياة بعد الموت، ليكون ذلك سبيلاً إلى توحيدهم لك وعبادتهم إيّاك من موقع إدراكهم أسرار عظمتك ومواقع قدرتك... اللهم وهذه ذنوبي بين يديك، أثقلتني بتبعاتها وأتعبتني بنتائجها على مستوى قضايا المصير، وبهظتني بأثقالها، وحملتني هموم التفكير فيها والإحساس بالقلق الحائر على المستقبل.
إنّني أتوسل إليك - يا ربّ - أن تحملها عنّي وتطردها من ساحة وجودي باللطف في غفرانك، والرحمة في عفوك، لأتخفف منها، لأقف بين يديك - غداً - موقف الإنسان المنفتح على محبّتك ورضوانك بتحرره من ثقل ذنوبه، وأبتهل إليك بأن تعينني على الخروج من دائرتها بتقوية عزمي على الوقوف في مواقع طاعتك، فلا تضعف لديّ عزيمة، ولا تهتزّ عندي إرادة، بل تنطلق نفسي نحوك بعزم وإيمان، لتتجدد لي القوة على الطاعة في المستقبل كما تتحرك في الحاضر، وعلى رفض المعصية في كلّ حالاتي، والاتجاه نحو الخط المستقيم في كلّ دروبي في حركة المسؤولية.
يا ربّ، إنّك حدثتنا في كتابك المجيد أنّ هناك من يخسر نفسه وأهله يوم القيامة، فقلت: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15].
اللهم إنّني أعرف أنّ خسارة الإنسان لنفسه تنطلق من خلال خسارته للفرص المطروحة أمامه في ساحات عمله، عندما يقف بين الحق والباطل ليختار الباطل، ويواجه موقع الخير والشرّ ليكون في موقع الشرّ.
اللهم إنّني أسألك أن تهب لي نفسي، بالرغم من ظلمها في علاقتها بك وفي حركتها في خطّ المسؤولية، وتمنح نفسي - في عطيتك - نفسي، فإنّ لديّ نفساً في أعماق فطرتي وصفاء روحي تتطلع إليك وتؤمن بك، ونفساً تنحرف بين وقت وآخر عن صراطك المستقيم عندما يطوف بها طائف من الشيطان، فتندفع النفس الأولى إلى النفس الثانية في عملية لومٍ وتأنيب وإعادة الخطوات إلى مسارها الطبيعي، لتنطلقا - معاً - في آفاق رضوانك، ولتتحركا نحو ساحات قربك.
وها أنا - يا ربّ - في موقف التذكر في أجواء النفس الثانية، لتعود إليك وتتحرر من ضغط الشيطان بالتوبة، فاجعلها في موقع رضوانك، لتتّحد نفسي في ذلك الموقع أمامك.
* * *
يا ربّ، إنّني أتطلع إلى رحمتك لتقوم بحمل ما أثقلني من الذنوب، فإنّ رحمتك وسعت كلّ شيء وامتدت إلى الوجود كلّه، وأحاطت بالإنسان التائب الذي يعيش في الحلم الكبير الدائم بالتحرك في ظلالها في كلّ حياته في الدنيا والآخرة، فهي التي تفتح - في قلب العدل - نافذة العفو، وتغلق فيه باب القصاص.
وهي التي انطلق تاريخها الرحيم بالمسيئين الذين أساؤوا القول والعمل فانفتحت عليهم لتخلصهم من نتائج ذلك.
وهي التي شملت كلّ الخاطئين الذين عاشوا الخطيئة في غفلاتهم، فكانت سبيلاً لانتقالهم إلى لطف المغفرة.
* * *
فصّلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِهِ، واجْعَلْنِي أسْوةَ مَنْ قَدْ أنْهَضْتَهُ بِتَجَاوُزِكَ عَنْ مَصَارِعِ الخَاطِئينَ، وخَلَّصْتَهُ بِتَوْفِيقِكَ مِنْ وَرَطاتِ المُجْرِمين، فأَصْبَحَ طَليقَ عَفْوِكَ مِنْ إِسارِ سُخْطِكَ، وعَتيقَ صُنعِكَ مِنْ وِثاقِ عَدْلِكَ، إنّكَ إنْ تَفْعَلْ ذلِكَ - يا إلهي - تَفْعَلْهُ بِمَنْ لاَ يَجْحَدُ اسْتِحْقَاقَ عُقُوبَتِكَ، وَلاَ يُبَرِّىءُ نَفْسَهُ مِن اسْتيجَاب نَقمَتِكَ، تَفْعَلْ ذلِكَ - يا إلهي - بِمْنْ خَوْفُهُ مِنْك أكثرُ مِنْ طَمَعِهِ فيكَ، وبِمَنْ يأسُه أؤكَدُ من رَجَائِهِ للْخَلاصِ، لا أنْ يَكُونَ يَأْسُهُ قُنُوطَاً، أوْ أنْ يَكُونَ طَمَعُهُ اغْتِراراً، بَلْ لِقِلَّةِ حَسَنَاتِهِ بَيْنَ سَيِّئَاتِهِ، وضَعْفِ حُجَجِهِ في جَميعِ تَبِعَاتِهِ.
* * *
توازن المؤمن بين الخوف والطمع، واليأس والرجاء:
يا ربّ، إنّني - في كلّ طلباتي للعفو وفي كل رجائي للمغفرة - أطلب منك أن تجعلني في المسيرة الطويلة التي سار عليها من قبلي من الخاطئين، الذين أوقعتهم الخطيئة فحملتهم إلى مصارعهم، ومن المجرمين الذين ورطتهم الجريمة في المواقع المهلكة، فأطلقت إسارهم بعفوك، فتحرروا من كلّ أثقال الخطيئة وأصبحوا من طلقائك، وأعتقتهم من وثاق عدلك بصنعك الجميل في مغفرتك.
إنني أطلب إليك ـ وأنت العفوّ الغفور ـ أن تدخلني في ما أدخلت فيه هؤلاء، وتخرجني مما أخرجت منه هؤلاء، فسعدوا بك، وانطلقوا إلى الحياة في أمن وثقةٍ وانفتاح.
افعل ذلك بي - يا إلهي - فأنا بالرغم من ممارستي للخطيئة، فإنّي لا أنكر نتائجها في استحقاق عقوبتك، ولا أبرىء نفسي من الخضوع لما توجبه علي نقمتك، فاجعل ذلك الإحساس العميق بالندم والانفتاح عليك سبباً في عفوك ومغفرتك.
وأنا - يا ربّ - الإنسان الذي يعيش الخوف في نفسه في شعورٍ بالقلق الكبير على المستقبل، فهو يخاف منك خوفاً كبيراً يتجاوز طمعه فيك عندما يتطلع إلى خطاياه أمام قلة حسناته، فلا يرى لنفسه سبيلاً للخلاص من تأثير ذلك كلّه.
وأنا - يا ربّ - الإنسان الذي يزحف اليأس إلى قلبه، فينفذ إلى نبضاته، ويمتد إلى كلّ مشاعره، فيضعف الرجاء في داخله من خلال هذا التراكم الكلّي والنوعي للذنوب والتبعات، كما لو كان في زاوية مغلقة لا ينفذ إليها النور من قريب أو من بعيد، فيغلب اليأس على الرجاء، ولكنّه لا يتحوّل - مهما كانت قوته - إلى قنوط في إحساس الإنسان بالطريق المسدود أمامه، بل يبقى الطمع بالمغفرة، والرجاء بالرحمة، حياً في داخله من دون أن يكون اغتراراً وسكوناً إلى الباطل وامتداداً فيه وانخداعاً به.
سيبقى الأمل الأخضر في قلبي بأنّك تغفر لي ذنوبي، ويبقى الطمع المفتوح عليك يتحرك في نفسي، ولكن على الإنسان أن يبقى في نظرة واقعية إلى نتائج الذنوب في عملية الاستحقاق، وفي حساب دقيق في عدد السيئات مقارنة بالحسنات، ليلتقي بالكثرة هناك والقلّة هنا... فيزهر الخوف في قلبه ليكون عنصر حذر في المستقبل لئلا يجدد الخطيئة، وحالة ندم في الأعماق لكي لا يتجرأ على المعصية.
إنّ زيادة الخوف على الطمع لا تلغي الطمع من حيث المبدأ، وإنّ قوة اليأس على الرجاء لا تلغي الأمل، وبذلك يبقى في قلبي - كأيّ مؤمن - نور الخوف من عذاب الله، حتى في حال الطاعة، لأنّي لم أبلغ - مهما فعلت - مواقع استحقاق رضوانه، ونور الرجاء لرحمته، حتى في حال المعصية، لأنّ رحمته وسعت غضبه.
إنّ هناك فرقاً بين خط التوازن في الخوف والطمع واليأس والرجاء في موقف الإنسان أمام ربّه وبين موقفه أمام نفسه، فعندما يتطلع إلى الله فإنّه يقف بين عدله ورحمته، فيتوازن الأمران لديه، وعندما يتطلع إلى نفسه في حجم خطاياه فإنّ الخوف يزيد، واليأس يكبر، من دون أن يسيطر ذاك على الكيان كلّه، أو يطبق هذا على القلب كلّه.
* * *
فأمّا أنت - يا إلهي - فأهْلٌ أنْ لا يَغْتَرَّ بِكَ الصّدّيقون، وَلاَ يَيْأسَ مِنْكَ المُجْرِمُونَ، لأنَّكَ الرَّبُّ العَظيِمُ الذِي لا يَمَنَعُ أحَداً فضْلَهُ، ولا يَستَقْصي مِنْ أحَدٍ حَقَّه.
تَعَالى ذِكْرُكَ عَن المذْكُورينَ، وتَقَدَّستْ أسْمَاؤُكَ عَن المنسُوبينَ، وَفَشَتْ نِعْمَتُكَ في جَميعِ المخلُوقين، فلَكَ الحمَدُ عَلى ذلِكَ يَا ربّ العَالَمِينَ.
* * *
توازن المؤمن بين عفو الله وعدله:
 أمّا أنت يا إلهي، يا أشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة، ويا أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، يا من انطلقت كلّ الأشياء بحكمته وانقادت الأمور بأجمعها لمشيئته.
أما أنت - يا إلهي - الربّ الذي لا يبلغ أحد من المخلوقين كنه سرّه، ولا يصل أيّ مخلوق إلى عمق فعله، فلا يملك أيّ إنسان حتى الصدّيقون أن يثق بالنجاة من عقابه، والحصول على الجزيل من ثوابه، فهم قد يعيشون الصدق بأعظم ما ينطلق به الناس، وقد يتحركون في خطّه الفكري والعملي، ولكنّهم قد يخافون من أناته وإمهاله فلا يعاجلهم بعقوبته إذا أذنبوا، فلا يرون ذلك سبباً في الأمان بل يبقون في دائرة الحذر.
أمّا المجرمون الذين عاشت الجريمة في كيانهم فكراً وتخطيطاً، وتحركت في حياتهم عملاً وعدواناً، فإنّهم، بالرغم من معرفتهم باستحقاقهم للعذاب من خلال عدلك، وإحساسهم بالخوف من جهة سخطك، لا ييأسون من رحمتك، لأنّها سبقت غضبك وامتدت إلى أكثر المذنبين ضراوةً من عبادك، وقد قلت في محكم كتابك: {ِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87].
كلّ ذلك لأنك الرب العظيم الذي لا يمنع أحداً من خلقه فضله لأنّه ذو الفضل، ولا يدقق في أخذ حقّه من كلّ شخص، فأنت الذي تهب الآخرين العفو بما لك حقّ، وتغمرهم بكلّ ما لديك من نعمة وفضل من دون أن تطلب منهم شيئاً.
* * *
وها أنا - يا ربّ - أقف بين رحمتك التي تدفعني إلى الأمل الكبير بالعفو والمغفرة، وعدلك الذي يهددني بالعقاب والهلكة.
فهل تغفر لي ما ارتكبت من الخطايا، وهل تفتح لي أبواب رحمتك؟
* * *
يا ربّ، أنت الذي تنزّه ذكرك وارتفع وامتد في آفاق العظمة عن كلّ المذكورين ممن عداك، وأنت الذي تقدست أسماؤك الحسنى التي ملأت أركان كلّ شيء عن كلّ الذين يملكون الحسب والنسب، لأنّك الأعظم من كلّ شيء، وأنت الذي ظهرت وانتشرت وكثرت نعمتك في جميع المخلوقين حتى لا يبلغها أيّ نوع من أنواع الإحصاء {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
فلك الحمد على ذلك كلّه، كما أنت أهله، وكما ينبغي لكرم وجهك وعزّ جلالك يا ربّ العالمين.
* * *
الهوامش:

(1)     جاء في رياض السالكين.. "وعطف المسلم والمسلمة على المؤمن والمؤمنة، إما من باب التتميم بناءً على أنّ الإسلام دون الإيمان، أو من باب الترقّي من الأدنى إلى الأعلى بناءً على أنّ الإسلام فوق الإيمان.
قال الراغب: الإسلام في الشرع على ضربين: أحدهما دون الإيمان، وهو الاعتراف باللسان، وبه يحقن الدم، حصل معه الاعتقاد أو لم يحصل، وإياه قصد بقوله تعالى: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، والثاني فوق الإيمان، وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب، ووفاء بالفعل، واستسلام لله تعالى في جميع ما قضى وقدّر، كما ذكر عن إبراهيم(ع) في قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]. وقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران:19]. وقوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]. أي اجعلني ممن أستسلم لرضاك. وقوله: { إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ} [النمل:81]. أي منقادون للحقّ مذعنون له. رياض السالكين، ج:5، ص:307.
(2)    الإصر: الحمل الثقيل الذي يأصر صاحبه، أي يحبسه مكانه، فلا يستطيع المشي به لثقله، استعير للذنب العظيم، ومنه {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} [البقرة:286].
* * *
دعاؤه(ع)
إذا نعي إليه ميت أو ذكر الموت

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاكْفِنا طُولَ الأمَلِ، وَقَصِّرْهُ عَنّا بِصِدْقِ الْعَمَلِ، حَتّى لانُؤَمِّلَ اسْتِتْمامَ ساعَة بَعْدَ ساعَة، وَلاَ اسْتِيفاءَ يَوْم بَعْدَ يَوْم، وَلاَ اتِّصالَ نَفَس بِنَفَس، وَلا لُحُوقَ قَدَم بِقَدَم، وَسَلِّمْنا مِنْ غُرُورِهِ، وَآمِنّا مِنْ شُرُورِهِ.
وَانْصِبِ الْمَوْتَ بَيْنَ أَيْدينا نَصْباً، وَلا تَجْعَلْ ذِكْرَنا لَهُ غِبّاً.
وَاجْعَلْ لَنا مِنْ صالِحِ الأعْمالِ عَمَلاً نَسْتَبْطِئُ مَعَهُ الْمَصيرَ إِلَيْكَ، وَنَحْرِصُ لَهُ عَلى وَشْكِ اللَّحاقِ بِكَ، حَتّى يَكُونَ الْمَوْتُ مَأْنَسَنَا الَّذي نَأْنَسُ بِهِ، وَمَأْلَفَنَا الَّذي نَشْتاقُ إِلَيْهِ، وَحامَّتَنَا الَّتي نُحِبُّ الدُّنُوَّ مِنْها. فَإِذا أَوْرَدْتَهُ عَلَيْنا، وَأَنْزَلْتَهُ بِنا، فَأَسْعِدْنا بِهِ زائِراً، وَآنِسْنا بِهِ قادِماً، وَلا تُشْقِنا بِضِيافَتِهِ، وَلا تُخْزِنا بِزيارَتِهِ، وَاجْعَلْهُ باباً مِنْ أَبْوابِ مَغْفِرَتِكَ، وَمِفْتاحاً مِنْ مَفاتيحِ رَحْمَتِكَ.
أَمِتْنا مُهْتَدينَ غَيْرَ ضالّينَ، طائِعينَ غَيْرَ مُسْتَكْرِهينَ، تائِبينَ غَيْرَ عاصينَ وَلا مُصِرّينَ، يا ضامِنَ جَزاءِ الْمُحْسِنينَ، وَمُسْتَصْلِحَ عَمَلِ الْمُفْسِدينَ.
* * *
حقيقة الموت في الإسلام:
كيف يفكر الإنسان إذا نعي إليه ميت أو ذكر الموت؟
ربّما يستغرق بعض الناس في الجانب المأساوي في إحساس الذات بالعدم الذي تقبل عليه، حيث تفقد لذة الشعور بالحياة، وحركيتها وفاعليتها وتأثيرها في النفس، فتعيش - في الإحساس الحاضر - الحرمان من كلّ مباهج الحياة ولذاتها.
فإذا نعي إليه ميت، فإنّه يحسّ بأنّ الموت يزحف إليه منه، وإذا ذكر الموت خاف منه على وجوده، ولكن الإمام زين العابدين(ع) - كإمام في خطّ الرسالة - لا ينظر إلى الأمور من زاوية الذات في أحاسيسها للذاتية، بل ينظر إليها في نتائجها المصيرية، ليتحول الموت عنده إلى حركة في الوعي في خطّ الرسالة، في مسؤولية العمل، فلا يعيش اهتمامات الحرمان من الحياة كهمّ يتعب نفسه من خلال الشهوات التي يفقدها، واللذات التي يحرم منها، بل يعيش اهتمامات ما بعد الموت من نتائج أعماله في الدنيا في خطّه العملي، وفي نشاطاته العامة والخاصة، وحركته في عالم الطاعة والمعصية، وعلاقته بربّه، وموقفه من قضايا الحقّ والباطل في الحياة، ومن قضايا العدل والظلم في الناس، لأنّ الموت في وعي المؤمن ليس نهاية الوجود، بل هو نهاية المرحلة الأولى من مراحل الحياة في وجوده، ليكون الموت الجسر الذي يربط بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، ليعبر عليه الإنسان إلى ما ينتظره من نعيم خالد أو جحيم دائم.
ولما كانت الدنيا مزرعة الآخرة فلا يحصد الإنسان هناك إلا ما يزرع هنا، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8]، فلا بدّ من التفكير في مواجهة فكرة الموت بالطريقة التي تجعل منها حركة في إغناء الحياة في تجربتها العملية.
* * *
المفاهيم الأساسية للدعاء:
وهكذا بدأ الفصل الأول في الدعاء بالحديث عن طول الأمل الذي يمتد بالإنسان في متاهات الزمن، ليضيع خطّه في رمال الأحلام التائهة في الفراغ، ولتكون حركته حركة تأخير للعمل وتسويف للتوبة ونسيان للآخرة وإهمال لحركية الإيمان بالله، وهكذا يمتد طول الأمل بالإنسان في الاستغراق بالحياة، فينسى الموت، وينسى ما بعده، وينسى ذكر ربّه، فيستلم لشيطانه الذي يوسوس في صدره، ويبتعد به عن إيمانه، وينقله من خطيئة إلى خطيئة، حتى تحيط به الخطيئة من كلّ مكان، فإذا وصل إلى الموت كان وصوله إليه كوصول الغافل الذي أطبقت غفلته على عقله فأمتدت إلى عمله، فلا يجد لديه هناك أيّ سبيل للنجاة.
وهذا ما يتمثّل في حديث أمير المؤمنين(ع): "إنّ أخوف ما أخاف عليكم خلّتان: اتباع الهوى وطول الأمل، أما اتباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، وأما طول الأمل فيُنسي الآخرة"(1).
وهذا ما انفتح عليه الإمام زين العابدين(ع)، فابتهل إلى الله أن يكفيه طول الأمل في طبيعته ونتائجه السلبية، ليمتدّ في مواجهته بطريقة عملية لا بفكرة تجريدية، وذلك بالعمل الصادق الذي يتابع الموقف بشكل دقيق محدّد متتابع، فلا يترك فرصة إلا لينتهزها، ولا يواجه موقفاً للمسؤولية إلا ليستعجل الوقوف عنده، ولا ينطلق في ساحة صراع بين الحقّ والباطل، إلا ليتحرك بسرعة في الموقع ليقف مع الحقّ ضدّ الباطل.
وهذا ما يؤكّد عليه منهج التربية الإسلامية في الربط بين الخطّ في حركيته في النفس والعمل في حركته في الواقع، لأنّ الاستغراق في الفكر التجريدي وفي المفاهيم الضائعة يدفع بالإنسان إلى متاهات التسويف والتنظير المجرّد.
وإذا كان العمل هو الذي يقصّر الأمل في حركة الإنسان في إيحاءاته النفسية بالاستعداد للموت في الحياة، فلا بدّ من أن يفكّر بالأشياء بطريقة سريعة في إطلالة الموت عليها، فيعيش الإحساس بالزمن كما لو كان في حدود النهاية، فلا يؤمن استتمام ساعة بعد ساعة، ولا اتصال نفس بنفس ولا لحوق قدم بقدم، لأنّه يتخوف - بفعل الواقع الذي سبق في الناس الآخرين - بأن يأتيه الموت في بقايا الزمن وفي حركة الجسد.
وينطلق الدعاء إلى فكرة أن يعيش الإنسان في سلامة من غرور طول الأمل الذي يوحي إليه بالامتداد في انحرافاته، من خلال الاغترار باستمرار حياته وهدم انتهائها بالموت، وأن يتحرك بعيداً عن شروره بما يحققه في تأثيراته من شرور السيّئات التي يكتسبها الإنسان في أحلامه الطويلة في البقاء والإخلاد إلى الدنيا.
* * *
وفي الفصل الثاني، ينفتح الدعاء على الرغبة في أن نعيش ذكر الموت في كلّ هواجسنا الشعورية، وفي كلّ كلماتنا المنفتحة على قضايا الحياة، بحيث يكون الوعي لانتظاره كحقيقة من حقائق معنى الوجود المحدود بشكل دائم، فلا يكون ذكره قليلاً لننساه يوماً ونذكره يوماً آخر.
وفي هذا الاتجاه، فإنّ الذكر المطلوب هو الذكّر العملي الذي يدفع إلى السرعة في انتهاز فرصة الحياة للقيام بالعمل الذي يرفع درجاتنا عند الله، بحيث نستعجل الموت لنحصل على نتائجه الإيجابية من رضوان الله ونعيمه، بحيث يكون حرصنا على الموت الذي نلتقي فيه الله في داره أكثر من حرصنا على استمرار الحياة لدينا، فيكون الموت موضع أنسنا، ومنطلق أشواقنا، وحركة خصوصيتنا، وهكذا ننفتح على الموت ليكون مدخلاً إلى السعادة بدلاً من أن نتصوّره مدخلاً إلى الشقاء، ومنطلقاً للفرح بدلاً من أن يكون مورداً للحزن.
* * *
وفي الفصل الثالث تنطلق التمنيات الإنسانية أمام الرحمة الإلهية، بأن يجعل الموت زائراً سعيداً وقادماً مؤنساً، ولا يكون ضيفاً ثقيلاً شقياً، وزائراً منفتحاً على الخزي والعار الدائم، بل يكون باباً من أبواب المغفرة، ومفتاحاً من مفاتيح رحمة الله التي ننتظرها في الآخرة، كما عشنا في ظلالها في الدنيا.
وفي نهاية المطاف، أن نموت على الهدى بعيداً عن كلّ ساحات الضلال، وأن نندفع إليه بكلّ رضى وطمأنينة طائعين مستجيبين للنداء من غير استكراه، وأن نقبل عليه من مواقع التوبة لا من موقع المعصية والإصرار عليها.
وأن نكون - في خطّ لطف الله وكرمه - من المحسنين الذين يضمن لهم الثواب الجزيل، وأن نكون من الذين يتولى إصلاح عملهم إذا كنا من المفسدين بعفوه ومغفرته ورحمته، إنّه أرحم الراحمين.
* * *
اللَّهُمّ صَلِّ على محمّدٍ وآلِهِ، واكْفِنَا طُولَ الأمَلِ وَقَصِّره عَنّا بِصِدْقِ العَمَلِ، حَتّى لا نُؤمِّلَ اسْتِتْمامَ سَاعةٍ بَعْدَ سَاعَةٍ، ولاَ اسْتِيفَاءَ يَوْمٍ، وَلاَ اتِّصَالَ نَفَسٍ بِنَفَسٍ، وَلاَ لحُوقَ قَدَمٍ بِقَدَمٍ، وَسَلِّمْنا مِنْ غرُورِهِ، وآمِنَّا مِن شُرُورِهِ.
* * *
اللهم اكفنا طول الأمل بصدق العمل:
يا ربّ، إن مشكلتي كمشكلة أيّ إنسان تستغرقه الحياة بأحلامها ولذاتها وشهواتها وزخارفها ومطامعها وطموحاتها، فيتعلق بها ويغفل عن مداها، ويخلد إلى الأرض في عملية التصاق يعيده إلى الإحساس بالتراب المعشوشب الأخضر، فلا يفكّر بالنهايات التي تحدّد له نهاية حياته، ولا يتذكر الموت الذي يجمّد له حركته، ولا يتطلع إلى ما وراء هذه الحياة من حياة أخرى، وهكذا تحيط به الحياة الدنيا من جميع جوانبه، وتسجنه في داخل أقفاصها الذهبية والفضية التي تشغله عن الاختناق اللذيذ، فيمنعه ذلك عن الإحساس بالألم العميق الذي يقتحم عليه قضاياه الكبرى في النتائج السلبية التي تنتظرها، فيبتعد بذلك عن القيام بمسؤولياته التي كلفته بها في أوامرك ونواهيك وحدودك التي جعلتها فاصلاً بين الحقّ والباطل والخير والشرّ والظلم والعدل، في عملية تمرّدٍ تارة ولا مبالاةٍ أخرى، واسترخاء عابث ثالثة، وتسويف للعمل وللتوبة في امتداد الزمن، لأنّه يفقد إحساسه بالنهاية التي تنتهي عندها حركة المسؤولية لتقف به عند نتائج المسؤولية في واقع الخطيئة، ويتحرك في خطّ الانحراف، ويفقد الاتجاه السليم في خطّ الاستقامة بعيداً عن أيّ خوف من نتائج ذلك، أو أيّ حذر من الخطر القادم التي ينتظره في ساحة القيامة، فهو غارق في الغفلة الضبابية التي تحجب عنه وضوح الرؤيا للأشياء، فلا يرى أمامه إلا المزيد من الغموض الوردي الذي تشغله خيالاته عن التفكير في الحقيقة الصارخة.
إنّه الأمل الطويل الممتد في متاهات السراب الغارق في بحار الوهم، المنفتح على آفاق الغرور الذي لا يصغي إلى قولك تباركت وتعاليت: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
يا ربّ، إنّك لم توجهنا إلى أن نترك الأمل بالحياة لنسقط في وهدة اليأس، فقد أردتنا أن نعيش الحياة أملاً يتجدد من خلال الانفتاح على قدرتك الكلية التي لا يحدّها شيء، فأنت على كلّ شيء قدير، ومن خلال الثقة بك التي لا يبلغ مداها شيء في مستوى الثقة بأيّ موجود آخر، لأنّك وحدك المهيمن على الأمر كلّه.
وقد جعلت اليأس مرادفاً للكفر فقلت: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87].
وجعلت القنوط مساوياً للضلال فقلت: {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر:56].
لأنّ اليأس يعني أنّ الباب مسدود على الإنسان من جميع النواحي حتى من ناحية قدرتك، وهذا هو الكفر في معناه، لأنّ الصعوبة لا معنى لها عندك، ولأنّ الاستحالة - في عالم الوقوع - لا مكان لها في ساحة قدرتك.
ولأنّ القنوط يعني الغفلة عن حركة الإيمان في الوجدان التي تتطلع إلى آفاقك، فتجد لديك كلّ الأمل الأخضر اليانع في ساحات الإنسان في الحياة، مما يجعل منه انحرافاً في خطّ الضلال.
لقد جاء عن رسولك الأعظم(ص) قوله: "الأمل رحمة ولولا الأمل ما أرضعت والدة ولدها ولا غرس غارس شجراً".
وقد جاء في الحديث عن وليك أمير المؤمنين عليٍّ(ع): "أعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً"(1).
إنّك - يا إلهي - أردتنا أن نتابع حياتنا من خلال قدراتنا المستمدة منك، ومن خلال إرادتنا التي كانت هبة من معنى إرادتك فينا، ومن خلال عقولنا التي انطلقت من عمق القوة الواعية التي أودعتها فينا، وأردتنا أن نطوّر قدراتنا، وأن ننمي طاقاتنا، وأن نحرّك أحلامنا في اتجاه الآفاق الرحبة الواسعة التي أردتنا أن نحلّق فيها.
لقد خلقتنا وخلقت الحياة من حولنا، وقدّرت لنا أن نندفع إليها بكلّ قوة في وحي الرسالة ووعي الواقع ومسؤولية الخلافة، لنصنع من الحياة حياة جديدة في عقلنا الذي ينتج أكثر من عقل بالفكر والتجربة، وفي حركتنا التي تدفع أكثر من حركة في ساحة التحدي والجهاد، وفي تطلعاتنا التي تنفتح على أكثر من أفق في اكتشافنا للمجهول الذي وهبتنا القدرة على معرفته، وعلمت - من خلال علمك بقدرات خلقك - أنّ الأمل هو الذي يحرّك ذلك كلّه، لأنّ الأمل يوسع للإنسان خطواته، ويعمق له مشاعره، وينظم له خططه، وقد قيل: "ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمل".
ولكنّك أردَت الأمل واقعياً من جهة أنّ على الإنسان دراسة خططه في حجم الواقع الذي يعيشه الإنسان مقارناً بالواقع الذي يملك أن يبلغه في حركته وتطوّره، وأردته عقلانياً، كي يدخل الإنسان في الحياة بتطلعات تنسجم مع حسابات الواقع على أن يتمسّك بحلمه، ولكن بعد أن يضفي عليه مسحة من الواقعية، والهدف أن يمنح الواقع انفتاحاً على ما يتجاوز حدوده الضيقة، ووجهتنا إلى أن نعرف أن للحياة حدوداً لا تتجاوزها حتى لو لم نكن نملك تحديدها بمعرفتنا، وأنّ الموت هو نهاية هذا الوجود، وأنّ وراء الموت حساباً قد يلتقي في نتائجه الإيجابية بالثواب، وفي نتائجه السلبية بالعقاب، وأنّ علينا ان نوازن بين أحلامنا الممتدة وبين واقعنا المحدود في اتجاه مسؤوليتنا الحاسمة، لنتطلع إلى الطريق الممتّد أمامنا بعين تحدق في إمكانات امتداداته، وإلى النهايات المنتظرة بعين تحدّق في الخطّ المسؤول من خلال حساباته.
إنّه الأمل الذي يطرد اليأس، ولكن ليس الذي يحلق في الخيال، ويتحرك في الفراغ، ويغيب في الضباب، ويشرد في السراب، بالطريقة التي تجعل الإنسان لا يفكّر بموت ولا يعمل على أن يقف عند حدود المسؤولية، بل يبقى الأمل لديه حيّاً متحركاً، مع الحذر أن لا يكون طويلاً في مستوى الغفلة الممتدة في الغيوم الداكنة، بل يكون أملاً مشرقاً بالوعي، محدقاً بالله متحركاً في خطّ العمل في مواقع المسؤولية.
اللهم قد يطول أملنا فلا نفكّر بالموت، ولا نقف في الموقف الذي أردتنا أن نقف عنده، ولا نتحرك في الطريق الذي كلفتنا أن نسير فيه.
اللهم إنّنا نسألك الكفاية من طول الأمل بالحماية من نتائجه، فتخلصنا من التقصير في أعمالنا انتظاراً لزمن جديد وفرصة جديدة تتحرك فيها الغفلة، ونستسلم أمامها لنوم عميق، وذلك بأن تقصّره - عندنا - في ارتباطنا بالجانب العملي الذي ننطلق فيه بصدق وإخلاص، فلا تشغلنا الأحلام الممتدة في الزمن عن السرعة في القيام بواجباتنا امتثالاً لأوامرك ونواهيك والاجتناب عن التسويف من يوم إلى يوم، بل نقوم في كلّ يوم بما يحمله من مسؤوليات خاصة أو عامة مما يجب علينا - لك - فيه من دون إهمال أو تقصير، حتى نعيش الإحساس باللحظة في حجم الساعة واليوم كما لو كانت نهاية الحياة، فلا نؤمل إتمام ساعةٍ بعد ساعة، ولا استيفاء يوم بعد يوم، فلربما بدأت الساعة وكان الموت في نهايتها، ولربما أقبل اليوم وكانت النهاية في آخره، والإحساس بالحركة في اتصال النفس بالنفس ولحوق القدم بالقدم، فنخشى أن يتوقف النفس أمام خروج الروح من الجسد، وتتجمد الخطوة الأولى فلا تلحقها الخطوة الثانية أمام برودة الموت.
وفي هذا الجوّ ارزقنا المناعة من السقوط تحت تأثير غرور طول الأمل الذي يجرنا في خداعه إلى غير ما نحبّ من سلامة الدين والدنيا... ووفقنا للتمرد على كلّ شروره في إيحاءاته وآثاره.
* * *
 وانْصِب المَوْتَ بَيْنَ أيْدِينَا نَصْباً، وَلاَ تَجْعَلْ ذِكْرَنَا لَهُ غِبّاً.
واجْعَلْ لَنَا مِنْ صَالحِ الأعْمَالِ عَمَلاً نَسْتَبْطِىءُ منهُ المصيرَ إليْكَ، ونَحْرِصُ لَهُ عَلَى وَشْكِ اللحاقِ بِكَ، حتَّى يَكونَ الموتُ مَأنَسَنا الذي نَأْنَسُ بِهِ، ومأْلَفَنَا الذي نشتاقُ إليهِ، وَحَامَّتَنَا التي نُحبُّ الدُنوَّ مِنها. فإذا أوْرَدْتَهُ عَلَينَا وَأنْزَلْتَهُ بِنَا، فأسعِدْنَا بهِ زَائِراً، وآنِسْنا بِهِ قادِماً، ولا تُشْقِنَا بضيَافَتِهِ، وَلاَ تُخْزِنَا بِزيَارَتِهِ، واجْعَلهُ بَاباً مِنْ أبْوابِ مَغْفَرِتكَ، ومِفْتَاحاً مِنْ مَفَاتِيح رَحْمَتِكَ.
* * *
اللهم اجعل الموت مأنسنا الذي نأنس به...
يا ربّ، قد تستغرقنا الحياة بملذاتها وشهواتها وأشغالها وأوضاعها المتنوعة المتحركة أبداً في مدى الزمن، فننسى الموت وننسى الآخرة، فنبتعد بذلك عن الاهتمام بمسؤولياتنا الخاصة والعامة في خطّ الاستعداد للحصول على رضاك، اللهم فاجعلنا ممن يضع الموت - الذي يمثل نهاية الحياة - نصب عينيه، لا ليموت نفسياً قبل أن يموت جسدياً، ولا لينعزل عن الحياة المتحركة المنفتحة على قضاياها الحيّة فيجلس كئيباً في انتظار الموت، بل ليفهم معنى الحياة كفرصة للعمل الذي يخطط للحصول على الدرجة العليا في الحياة الأخرى، وليعرف أنّ هذه الفرصة المحدودة في الزمن قد لا تكون طويلة، فقد لا يأتي اليوم الذي ينتظره، لأنّه قد يموت في الغد، مما يجعل الفرصة ضائعة في المستقبل إذا لم ينتهزها في الحاضر.
اجعلنا نواجهه كما لو كان ماثلاً أمامنا أو قريباً منّا، ونتذكره في كلّ كلماتنا بشكل دائم، فلا يكون ذكرنا له متقطعاً لنتركه في وقت ونتذكر في وقتٍ آخر، كأي حدث عادي من حوادث حركتنا الوجودية، اجعلنا نتذكره دائماً لنتذكر وقوفنا غداً أمامك في موقف المسؤولية التي تواجهنا بكلّ الأسئلة المتعلقة بأقوالنا في كلّ ما انطلقت به حياتنا.
* * *
يا ربّ، وفّقنا للعمل الصالح من خلال وعينا له في حساب النتائج الإيجابية على مستوى المصير الذي يتمثل في رضوانك في دار النعيم.
اجعل الصلاح معنى في حياتنا، وفكرةُ في عقولنا، ونبضة في قلوبنا، وحركة في خطواتنا العملية، ليكن العمل الصالح العنوان الذي تتمثل فيه كلّ أعمالنا، حتى إذا استكملنا وجودنا في خطّه الحركيّ الباحث عنك، الصاعد إليك، سارعنا إليك، واستبطأنا معه المصير إليك، وتحركنا نحوه في عجلة من أمرنا وحرصنا، بكلّ اهتمام وشوق، على قرب اللحاق بك، حتى لا يعود الموت مشكلة روحية عندنا، ولا حزناً نفسياً في همومنا، بل يتحول - بفعل ما ينتظرنا بعده من العمل الصالح - إلى فرصة للحصول على الفرح والأنس الذي نستعجله، وإلى موقع نألفه من كلّ مواقع الإلفة التي نشتاق إلى ساحاتها، وإلى شيء من خصوصياتنا الحميمة المتصلة بأحلامنا الذاتية التي نحبّ الدنو منها والوصول إليها.
إن المؤمن - يا ربّ - في وعيه للآخرة لا يخاف من الموت، ولا يستوحش منه، إذا كان قد أكمل استعداده بالإيمان والعمل الصالح للوفادة إليك، لأنّه - بذلك - يحيا في أجواء الأمل الأخضر للحصول على رضوانك ونعيمك في جنتك.
وهذا هو الذي نتحدث إليك فيه، ونرغب به إليك في الحصول على النتائج السعيدة للموت الذي هو ملك قدرتك.
فإذا أوردته علينا وأنزلته بنا في موعد الأجل المحتوم الذي قدرت فيه نهاية حياتنا، ودعوتنا إلى القدوم إليك، فاجعله الزائر الذي يحمل السعادة لنا في ساحة رضاك، والقادم الذي يجلب لنا الأنس والسرور، ولا تجعله الضيف الذي نشقى بضيافته، والزائر الذي يخزينا بزيارته، إنّه الباب الذي ننفذ إلى مغفرتك، والمفتاح الذي يفتح لنا أبواب رحمتك.
إنّها التطلعات الروحية الهائمة بك، المشتاقة إليك، المنفتحة عليك، اللاهثة للوصول إلى رضاك، والتقلّب في نعيم جناتك، والأمل الكبير والثقة العميقة، وحسن الظنّ بك، إنّها التي تحول معنى الموت لدينا إلى حياة، وتنقله في وعينا من دائرة العدم إلى دائرة الوجود، ومن ساحة اليأس إلى آفاق الأمل.
* * *
أمِتْنَا مُهْتدِينَ غَيَرَ ضَالِّين، طَائِعينَ غَيْرَ مُسْتَكْرَهينَ، تائِبينَ غَيْرَ عَاصِينَ ولا مُصِرّينَ، يَا ضَامِنَ جَزَاءِ المُحْسِنِينَ ومُسْتَصْلِحَ عَملِ المُفسِدِينَ.
* * *
اللهم أمتنا مهتدين غير ضالين:
يا ربّ، إنّ مشكلة الإنسان، في حركته في الإيمان والكفر والهدى والضلال، والطاعة والمعصية، أن يتعرض للكثير من الهزات الفكرية والروحية والعملية التي قد تبعده عن خطّ الاستقامة، وتقوده إلى خطّ الانحراف بفعل وساوس الشيطان، ونداء الغريزة، وتسويلات النفس الأمارة بالسوء.
إنّنا قد نضعف - يا ربّ - أمام ذلك كلّه، وقد يؤدّي بنا الضعف إلى السقوط وليس لنا إلا الاستعانة بقوتك والاهتداء بهديك، والحماية بقدرتك.
أعطنا - يا ربّ - وعي الحقيقة في إشراقة الفكر، لنهتدي به في كلّ دروبنا الفكرية وتصوراتنا العقيدية، وامنحنا - يا ربّ - قوة الإرادة التي نملك فيها الثبات في الموقف، والاستقامة على الخطّ، والانفتاح على الهدف الكبير.
وارزقنا القدرة على مواجهة نقاط الضعف في أنفسنا من خلال عمق الإحساس بالقيم الروحية المستمدة من وحيك وهداك، لنحلّق في آفاقك دائماً، ونقترب إلى رحاب قدسك ومواقع رضاك.
اجعلنا - في لحظات الموت الأخيرة - ممن يغمض عينيه راضياً مرضيّاً مهتدياً بهداك، مطمئناً إلى مصيره من خلال الطمأنينة الروحية والاستقرار النفسي بعيداً عن القلق والحيرة والضلال.
وفقنا - يا ربّ - للتوبة عن كلّ ما أسلفنا من المعاصي من خلال الندم الحقيقي على كلّ ما صنعناه، لنموت في أجواء التوبة النصوح، والإنابة الخالصة إليك، فلا تبقى في كتاب الأعمال عندنا بقايا المعصية التي نستحقّ بها عقابك.
أبعدنا - يا ربّ - منذ هذه اللحظة عن الإصرار على المعصية في العمل، والخطأ في الفكر، والانحراف في الطريق.
لا تجعلنا ممن يتعصبون للخطيئة ويصرّون على الباطل من خلال بعض عوامل الذات، ونوازع النفس الأمّارة بالسّوء.
أمتنا تائبين غير عاصين ولا مصرّين، تلك هي أمنياتنا المنفتحة على الأمل الكبير برحمتك والثقة العظيمة وكرمك.
يا ربّنا العظيم بقدرته ورحمته ومغفرته، يا ضامن المحسنين بالثواب العظيم، فلا يضيع عندك عمل عامل من ذكر أو أنثى، ويا مستصلح علم المفسدين بالتوفيق للتوبة والمغفرة لهم لينفتحوا على أفق طاهر جديد في خطّ الصلاح والبعد عن الفساد يا ربّ العالمين.
* * *
ويبقى للموت والحياة في المفهوم الإسلامي الذي يجسده هذا الدعاء المعنى الحركي الذي لا يعزل الإنسان في الحياة ليعيش في داخل جدرانها المحدودة في حدود المادة، بل يفتح في جنباتها أكثر من أفق يطلّ على الله وعلى الرسالة والقيم الروحية والأخلاقية التي تمتد بإنسانية الإنسان إلى المدى الروحي الغيب، الذي يكون فيه إنسان الله الذي يتطلع إلى محبته وقربه ورضاه، ليكون العاشق لله في سرّ القيمة الإلهية لا في معنى الذات.
وهكذا نجده لا يفتح للإنسان في الموت باب العدم، بل ليطلّ من هذا الوجود إلى وجود أرحب وأوسع وأكثر غنّى وراحةً وسعادة، حيث يتعانق الحسّ الإنساني في داخل الجسد مع الروح في معنى الغيب المنفتح على الله، ويبقى الحياة والموت في الإسلام يتمثلان في خطّين متكاملين يطلّ فيهما الوجود في الدنيا على الوجود في الآخرة، ليكون الموت الجسر الذي يعبر الإنسان عليه من شاطئ إلى آخر، فلا يكون الموت مأساةً للروح، بل هو فرح ولذة وانفتاح على سماوات الله في امتداد الغيب.
* * *
الهوامش:
(1)    الكافي، ج:8، ص:58، رواية:21.
(2)    من لا يحضره الفقيه، ج:3، باب:2، ص:156، رواية:3569.
* * *
 
دعاؤه(ع)
في طلب الستر والوقاية

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَفْرِشْني مِهادَ كَرامَتِكَ، وَأَوْرِدْني مَشارِعَ رَحْمَتِكَ، وَأَحْلِلْني بُحْبُوحَةَ جَنَّتِكَ.
وَلا تَسُمْني بِالرَّدِّ عَنْكَ، وَلا تَحْرِمْني بِالْخَيْبَةِ مِنْكَ، وَلا تُقاصَّني بِمَا اجْتَرَحْتُ، وَلا تُناقِشْني بِمَا اكْتَسَبْتُ، وَلا تُبْرِزْ مَكْتُومي، وَلا تَكْشِفْ مَسْتُوري.
وَلا تَحْمِلْ عَلى ميزانِ الإنْصافِ عَمَلي، وَلا تُعْلِنْ عَلى عُيُونِ الْمَلأ خَبَري، أَخْفِ عَنْهُمْ ما يَكوُنُ نَشْرُهُ عَلَيَّ عاراً، وَاطْوِ عَنْهُمْ مايُلْحِقُني عِنْدَكَ شَناراً...
شَرِّفْ دَرَجَتي بِرِضْوانِكَ، وَأَكْمِلْ كَرامَتي بِغُفْرانِكَ، وَأَنْظِمْني في أَصْحابِ الْيَمينِ، وَوَجِّهْني في مَسالِكِ الآمِنينَ، وَاجْعَلْني في فَوْجِ الْفائِزينَ، وَاعْمُرْ بي مَجالِسَ الصّالِحينَ، آمينَ رَبَّ الْعالَمينَ.
* * *
في هذا الدعاء حديث ابتهالي عن تطلعات الإنسان الروحية أمام ربّه للتخفف من نتائج الخطايا الصادرة منه، عمداً وخطأً، سرّاً وعلانية، على مستوى الدنيا في فضائحها التي يسقط الإنسان تحت تأثيرها الإعلامي اجتماعياً، وعلى مستوى الآخرة في مواقف الحساب الدقيق بين يدي الله الذي قد يشعر الإنسان فيه بالخيبة في فقدان فرصة النجاة من سخط الله وعذابه، من خلال ما اكتسبه من السيئات، وأجترحته من الخطايا التي تقرّبه من النار وتباعده عن الجنة.
وهكذا كانت القضية عنده أن يمنحه الله من كرامته كمثل الفراش الوثير الذي يستلقي عليه ليحسّ بالراحة والطمانينة، وأن يورده ينابيع الرحمة التي يستقي منها الماء الصافي الذي يروي ظمأه الروحي، وأن يحلّه ساحة جنته التي يعيش فيها في نعيمٍ دائمٍ، وأن يبقي أسراره المستورة، وعيوبه المكتومة في دائرة الخفاء، مما قد يكون عاراً عليه وسبيلاً للسقوط، فلا تبرز للناس ولا تنكشف لديهم، وأن يجعل أعماله في دائرة الرحمة لا في دائرة العدل، وأن يمنحه درجة الشرف في رضوانه، وأن يكمل له كرامته بمغفرته، وأن يجعله من أصحاب اليمين الذين منحهم الله أعلى المواقع في جنته، وأن يسير به في دروب الأمان من كلّ ما يعرضه للهلكة الدنيوية والأخروية، ويتحرّك به في مجتمعات الفائزين، وينفتح به على الموقع الذي يعمر به مجالس الصالحين.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحمَّدٍ وَآلِهِ، وَأفْرشْني مِهَادَ كَرَامَتِكَ، وأوْرِدْني مَشَارِعَ رَحْمَتِكَ، وَأحْلِلْني بُحْبُوحَةَ جنّتِكَ.
* * *
اللهم أكرمني وارحمني وأحللني جنتك:
يا ربّ، أنا عبدك المتعّب المجهَد الذي يتقلّب على فراش الشوك الذي يجرح روحه، ويدمي مشاعره، وأيّ شوك أقسى من شوك الخطايا التي تحاصرني وتضغط عليَّ وتُشعرني بالمهانة أمامك.
فهل أطمع يا ربّ أن تكرمني، من خلال لطفك ورحمتك، بأن تمهّد لي الفراش الناعم الوثير من كرامتك، فأتحسس فيه إنسانيتي المفتوحة على العزّة الممنوحة لي منك، وأعيش السعادة في الإحساس بالطمأنينة الروحية التي لا ذلّ معها، ولا مهانة بعدها؟
وأنا الظامىء الذي تلهث روحي عطشاً في ما يشبه الحريق، ويظمأ قلبي لُهاثاً في ما يشبه الاختناق، والحياة أمامي صحراء في عناصر الحقد والعداوة والبغضاء التي تُرهق مشاعري، وتتعب أقدامي، وتبعدني عن سواء الطريق، فلا واحة توحي لي خضرتها وينابيعها الصافية بالأمل في الراحة والارتواء، فلا أجد أمامي إلا السراب في الأحلام التي تطفو على وجه الرمال عندما تشرق عليها الشمس فتمنحها اللمعان الذي قد يوحي بالماء.
فهل تبلغني يا ربّ الغاية التي تطلّ بي على ينابيع الصفاء المفجرة برحمتك، لأشرب منها وأشرب، فتبتل عروقي الظامئة، وأرتوي حتى الامتلاء، لأنّ ظمأ الروح أقسى من ظمأ الجسد، وريّ القلب أكثر عذوبة من ريّ العروق؟!
وأنا الإنسان الذي حدّثته عن جنّتك التي يعيش فيها الناس المؤمنون إخواناً على سُرُرٍ متقابلين، فلا يحمل فيها أحد حقداً على أحد {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الأعراف:43] ولا يشعر المقيمون فيها بالخوف والحزن، بل هو الأمان والفرح الروحي الذي لا يطوف به الحزن لأنّ الآلام بعيدة عن أجواء الجنّة، وقد حشدت فيها ما تشتهيه النفس وتلذّه الأعين، وقد جاء الحديث عن نعيمها "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". وأعظم ما فيها أنّها تعبّر عن رضوانك، الذي هو أكبر من كلّ نعيم مادي، وقد عشت يا ربّ الجنة حُلماً كبيراً، ولكني قصّرت في الأخذ بالوسائل التي تجعلني من أهلها باستحقاق، وربما بلغت الموقع الذي يجعلني أقف على شفا حفرة من النار، فهل أحلم - يا ربّ - وأنت الكريم الذي لا حدّ لكرمه، والرحيم الذي تبلغ رحمته يوم القيامة إلى المستوى الذي يتطاول لها عنق ابليس، هل أحلم حلماً واقعياً بان تحلّني في سعة الجنة لأعيش السعادة الروحية والجسدية في أجواء رحمتك؟!
* * *
وَلاَ تَسُمْنِي بالردِّ عَنْكَ، وَلاَ تَحْرِمْني بالخَيْبَةِ مِنْكَ، وَلاَ تُقَاصِّني بما اجتْرحْتُ وَلاَ تُنَاقِشْني بِمَا اكْتَسَبْتُ، وَلاَ تُبْرِزْ مَكْتُومي وَلاَ تكْشِفْ مَسْتُورِي.
* * *
اللهم أكرمني بالستر والعفو والعافية:
يا ربّ، إنّي أخاف أن تردّني ردّ الحرمان، فلا تستجيب لي في سؤالي، فأشعر بالمهانة كأَقسى ما تكون، وبالإحباط كأشدّ ما يكون، لأنّ حرمانك لي لا ينطلق من حالة بخل، تعاليت عن ذلك علواً كبيراً، بل ينطلق من إهمالٍ وإسقاطٍ لهذا العبد العاصي الذي لم ينفتح على نعمك بالشكر، وعلى أومرك ونواهيك بالطاعة، وعلى مواقع عظمتك بالخشوع والعبادة، وهذا ما لا يطيقه عقلي وقلبي، فلا تردني يا ربّ ردّ الحرمان، بل اقبلني واقبل مني قبول الربّ الرحيم لعبده الضعيف الخاطئ الذي اتسعت رحمته له.
وأنا الإنسان الذي يخشى أن يواجه الحرمان بالخيبة منك، فلا يطمع، في إقبالك عليه، ونظرك إليه، فهل تمنحني السعادة بالانفتاح علىّ بواسع رحمتك؟... وأنا - يا ربّ - العبد الخاطئ الذي أخذ بالسيئات في كلّ حياته حتى أحاطت به من كلّ جانب بحيث كادت حسناته - إذا كانت له حسنات - أن تذوب أمام سيّئاته، وأخشى أن لا تبقى لي حسنة أقف - من خلالها - مرفوع الرأس بين يديك في موقف الحساب إذا واجهتني بالقصاص الذي تسقط الحسنة في مقابل السيئة، فأسألك أن لا تأخذني بالقصاص، ولكن بالعفو.
وأنا الذي اكتسب من الخطايا ما يجعل وقوفه طويلاً صعباً للحساب، بحيث قد تأخذ المناقشات فيه - بما تحمله في طبيعتها الذاتية من استقصاء مفرداتها - الكثير من حراجة الموقف، فلا تضعني في هذا الموضع بل اجعل حسابي يسيراً.
وإذا كنت قد كتمت عليَّ ما أسلفته من الخطايا، وسترت عليَّ ما أسرفت فيه من الذنوب، فلا تكشف ذلك عنّي، ولا تظهره للناس في الدنيا والآخرة، فإنّك وليّ الستر والعفو والعافية يا خير الساترين.
* * *
وَلاَ تَحْمِلْ علَى مِيزانِ الإنْصَافِ عَمَلي، وَلاَ تُعْلِنْ عَلَى عُيُونِ الَملأِ خَبَري، أخْفِ عَنْهُمْ مَا يَكُونُ نَشْرُهُ عَلَيَّ عَاراً، واطوِ عَنْهُم ما تلحِقُني عِنْدَك شناراً....
* * *
اللهم لا تُعلن على الناس خبري:
يا ربّ، لقد أكدت في كتابك على أنّك العدل الذي تحكم على عبادك بميزان الإنصاف، فلا تضيع عمل عامل منهم من ذكر وأنثى، ولا تعاقب أيّاً منهم بما لا يستحقه، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8]، فإذا عاقبتهم على عصيانهم، لم تظلمهم، وقد قلت - وقولك الحقّ - {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:118].
وإذا عفوت عنهم فبرحمتك، وأنت العفوّ الغفور، ولهذا فإنّ عبادك يتطلعون إلى عفوك في واقع رحمتك، لأنّهم لن يحصدوا إلاّ النتائج السلبية لأعمالهم في الآخرة إذا عوملوا بمنطق الاستحقاق الذي هو منطق العدل حيث تجازى فيه الحسنة بالحسنة والسيئة بالسيّئة.
أما الفعلية، فقد لا يبلغ الكثيرون منهم واقع الفعلية في العقاب، لأنّك تقبل التوبة عن عبادك وتعفو عن السيئات، وتغفر كلّ شيء إلاّ الشرك، لكن إذا تاب المشرك عن شركه وأخذ بأسباب الإيمان بالتوحيد غفرت له وعاملته بما تعامل به المؤمنين من لطفك وإحسانك.
يا ربّ، اجعلني ممن تحمله على ميزان العفو والمغفرة، ولا تجعلني ممن تحمله على ميزان العدل والإنصاف، لأنّه لا طاقة لي بعدلك، فقد يؤدّي بي إلى العذاب والهلاك، ولا نجاة لي إلا بعفوك.
وأعود يا ربّ لأطلب منك أن تجعلني في سترك الذي سترت به جميع خلقك، فلا تظهر أخباري السيئة للناس، واسترها عليّ، حتى لا أقع تحت تأثيرها عارها الذي يسقط موقعي في نظر الناس، وأبعد عن أعينهم وأسماعهم ما يؤدّي بي إلى العيب عندك.
* * *
شرِّفْ دَرَجَتي بِرِضْوانِكَ، وأكْمِلْ كَرَامَتي بِغُفْرَانِكَ، وانظمني في أصْحَابِ اليَمِين، وَوَجِّهْني في مَسَالكِ الآمِنينَ، واجْعَلْنِي في فَوْجِ الفائِزينَ، واعْمُرْ بِي مَجَالسَ الصَّالِحِينَ، آمين ربَّ العالمين.
* * *
اللهم شرّفني برضوانك وغفرانك:
يا ربّ، إنّ رضوانك الذي يفيض على عبادك بالروح والسكينة والسعادة الروحية التي تحلّق بهم في مواقع القرب عندك، هو الشرف في أعلى الدرجات، فهل أطمع في أن تمنحني منه ما يشرّفني بك وعندك، ويرتفع بي إلى الدرجة العليا؟!
وإنّ مغفرتك هي الكرامة التي تكرم بها الخاطئين من عبادك، لأنّها تخرجهم من النقصان بما أسلفوا من الذنوب، إلى الكمال بما منحتهم من طهر العصمة منها، فهب لي يا ربّ هذا الكمال في غفرانك حتى لا أتخبط في النقص الإنساني الذي يتمرغ في وحول الخطايا.
وقد تحدثت - يا ربّ - عن أصحاب اليمين، بأنّهم أصحاب الدرجة الرفيعة عندك والمنزلة القريبة منك، من خلال ما قدموه من الطاعات، اللهم فاجعلني منهم بما توفقني له من الأعمال الصالحة، واجمع بيني وبينهم في درجاتهم العالية، وانهج بحياتي يا ربّ في الدروب التي أصل بها إلى مواقع الأمن في الدنيا والآخرة، فلا أتحرك في خوف، ولا أسقط أمام حزن، بل أعيش الطمأنينة الروحية لا سيما في الآخرة في رحاب الجنة التي أعددتها للمتقين، وذلك هو قولك سبحانك وتعاليت: {إن المتقين في جنات وعيون*ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ } [الحجر:45-46].
واجعلني في الجماعة التي قسمت لها الفوز العظيم بدخول الجنة {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20].
واجعلني من الصالحين لأكون ممن يأخذ بأسباب الصلاح لأنفتح على كلّ مجالسهم بالفكر الذي يبني للحقّ قواعده، وبالمنهج الذي يركّز له مواقفه، وبالانفتاح الواعي على كلّ حركة للصلاح وللصالحين، تعمّر ما خرّبه الفاسدون والمفسدون.
اللهم استجب لنا ذلك كلّه، واقبل منّا كلّ ابتهالاتنا ودعواتنا يا ربّ العالمين.
* * *
 
دعاؤه(ع)
عند ختمه القرآن

اللّهُمَّ إِنَّكَ أَعَنْتَني عَلى خَتْمِ كِتابِكَ الَّذي أَنْزَلْتَهُ نُوراً، وَجَعَلْتَهُ مُهَيْمِناً عَلى كُلِّ كِتاب أَنَزَلْتَهُ، وَفَضَّلْتَهُ عَلى كُلِّ حَديث قَصَصْتَهُ، وَفُرْقاناً فَرَقْتَ بِهِ بَيْنَ حَلالِكَ وَحَرامِكَ، وَقُرْآناً أَعْرَبْتَ بِهِ عَنْ شَرائِعِ أَحْكامِكَ، وَكِتاباً فَصَّلْتَهُ لِعِبادِكَ تَفْصيلاً، وَوَحْياً أَنْزَلْتَهُ عَلى نَبِيِّكَ مُحَمَّد صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ تَنْزيلاً، وَجَعَلْتَهُ نُوراً نَهْتَدي مِنْ ظُلَمِ الضَّلالَةِ وَالْجَهالَةِ بِاتِّباعِهِ، وَشِفاءً لِمَنْ أَنْصَتَ بِفَهْمِ التَّصْديقِ إِلَى اسْتِماعِهِ، وَمِيزانَ قِسْطٍ لا يَحيفُ عَنِ الْحَقِّ لِسانُهُ، وَنُورَ هُدىً لا يَطْفَأُ عَنِ الشَّاهِدينَ بُرْهانُهُ، وَعَلَمَ نَجاة لا يَضِلُّ مَنْ أَمَّ قَصْدَ سُنَّتِهِ، وَلا تَنالُ أَيْدِي الْهَلَكاتِ مَنْ تَعَلَّقَ بِعُرْوَةِ عِصْمَتِهِ.
اللّهُمَّ فَإِذْا أَفَدْتَنَا الْمَعُونَةَ عَلى تِلاوَتِهِ، وَسَهَّلْتَ جَواسِيَ أَلْسِنَتِنا بِحُسْنِ عِبارَتِهِ، فَاجْعَلْنا مِمَّنَ يَرْعاهُ حَقَّ رِعايَتِهِ، وَيَدينُ لَكَ بِاعْتِقادِ التَّسْليمِ لِمُحْكَمِ آياتِهِ، وَيَفْزَعُ إِلَى الإقْرارِ بَمُتَشابِهِهِ وَمُوضَحاتِ بَيِّناتِهِ.
اللّهُمَّ إِنَّكَ أَنْزَلْتَهُ عَلى نَبِيِّكَ مُحَمَّد صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مُجْمَلاً، وَأَلْهَمْتَهُ عِلْمَ عَجائِبِهِ مُكَمَّلاً، وَوَرَّثْتَنا عِلْمَهُ مُفَسَّراً، وَفَضَّلْتَنا عَلى مَنْ جَهِلَ عِلْمَهُ، وَقَوَّيْتَنا عَلَيْهِ لِتَرْفَعَنا فَوْقَ مَنْ لَمْ يُطِقْ حَمْلَهُ.
اللّهُمَّ فَكَما جَعَلْتَ قُلُوبَنا لَهُ حَمَلَةً، وَعَرَّفْتَنا بِرَحْمَتِكَ شَرَفَهُ وَفَضْلَهُ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد الْخَطيبِ بِهِ، وَعَلى آلِهِ الْخُزّانِ لَهُ، وَاجْعَلْنا مِمَّنْ يَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِكَ، حَتّى لا يُعارِضَنا الشَّكُّ في تَصْديقِهِ، وَلا يَخْتَلِجَنَا الزَّيْغُ عَنْ قَصْدِ طَريقِهِ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاجْعَلْنا مِمَّنْ يَعْتَصِمُ بِحَبْلِهِ، وَيَأْوي مِنَ الْمُتَشابِهاتِ إِلى حِرْزِ مَعْقِلِهِ، وَيَسْكُنُ في ظِلِّ جَناحِهِ، وَيَهْتَدي بِضَوْءِ صَباحِهِ، وَيَقْتَدي بِتَبَلُّجِ إِسْفارِهِ، وَيَسْتَصْبِحُ بِمِصْباحِهِ، وَلا يَلْتَمِسُ الْهُدى في غَيْرِهِ.
اللّهُمَّ وَكَما نَصَبْتَ بِهِ مُحَمَّداً عَلَماً لِلدَّلالَةِ عَلَيْكَ، وَأَنْهَجْتَ بِآلِهِ سُبُلَ الرِّضا إِلَيْكَ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاجْعَلِ الْقُرْآنَ وَسيلَةً لَنا إِلى أَشْرَفِ مَنازِلِ الْكَرامَةِ، وَسُلَّماً نَعْرُجُ فيهِ إِلى مَحَلِّ السَّلامةِ، وَسَبَباً نُجْزى بِهِ النَّجاةَ في عَرْصَةِ الْقِيامَةِ، وَذَريعَةً نَقْدُمُ بِها عَلى نَعيمِ دارِ الْمُقامَةِ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاحْطُطْ بِالْقُرْآنِ عَنّا ثِقْلَ الأوْزارِ، وَهَبْ لَنا حُسْنَ شَمائِلِ الأبْرارِ، وَاقْفُ بِنا آثارَ الَّذينَ قامُوا لَكَ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وَأَطْرافَ النَّهارِ، حَتّى تُطَهِّرَنا مِنْ كُلِّ دَنْس بِتَطْهيرِهِ، وَتَقْفُوَ بِنا آثارَ الَّذينَ اسْتَضاءُوا بِنُورِهِ، وَلَمْ يُلْهِهِمُ الأمَلُ عَنِ الْعَمَلِ فَيَقْطَعَهُمْ بِخُدَعِ غُرُورِهِ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاجْعَلِ الْقُرْآنَ لَنا في ظُلَمِ اللَّيالي مُونِساً، وَمِنْ نَزَغاتِ الشَّيْطانِ وَخَطَراتِ الْوَساوِسِ حارِساً، وَلأِقْدامِنا عَنْ نَقْلِها إِلَى الْمَعاصي حابِساً، وَلأِلْسِنَتِنا عَنِ الْخَوْضِ فِي الْباطِلِ مِنْ غَيْرِ ما آفَة مُخْرِساً، وَلِجَوارِحِنا عَنِ اقْتِرافِ الآثامِ زاجِراً، وَلِما طَوَتِ الْغَفْلَةُ عَنّا مِنْ تَصَفُّحِ الاعْتِبارِ ناشِراً، حَتّى تُوصِلَ إِلى قُلُوبِنا فَهْمَ عَجائِبِهِ، وَزَواجِرَ أَمْثالِهِ الَّتي ضَعُفَتِ الْجِبالُ الرَّواسي - عَلى صَلابَتِها - عَنِ احْتِمالِهِ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَدِمْ بِالْقُرْآنِ صَلاحَ ظاهِرِنا، وَاحْجُبْ بِهِ خَطَراتِ الْوَساوِسِ عَنْ صِحَّةِ ضَمائِرِنا، وَاغْسِلْ بِهِ دَرَنَ قُلُوبِنا، وَعَلائِقَ أَوْزارِنا، وَاجْمَعْ بِهِ مُنْتَشَرَ أُمورِنا، وَارْوِ بِهِ في مَوْقِفِ الْعَرْضِ عَلَيْكَ ظَمَأَ هَواجِرِنا، وَاكْسُنا بِهِ حُلَلَ الأمانِ يَوْمَ الْفَزَعِ الأكْبَرِ في نُشُورِنا.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاجْبُرْ بِالْقُرْآنِ خَلَّتَنا مِنْ عَدَمِ الإمْلاقِ، وَسُقْ إِلَيْنا بِهِ رَغَدَ الْعَيْشِ وَخِصْبَ سَعَةِ الأرْزاقِ، وَجَنِّبْنا بِهِ الضَّرائِبَ الْمَذْمُومَةَ وَمَدانِيَ الأخْلاقِ.
وَاعْصِمْنا بِهِ مِنْ هُوَّةِ الْكُفْرِ وَدَواعِي النِّفاقِ، حَتّى يَكُونَ لَنا فِي الْقِيامَةِ إِلى رِضْوانِكَ وَجِنانِكَ قائِداً، وَلَنا فِي الدُّنْيا عَنْ سُخْطِكَ وَتَعَدّي حُدُودِكَ ذائِداً، وَلِما عِنْدَكَ بِتَحْليلِ حَلالِهِ وَتَحْريمِ حَرامِهِ شاهِداً.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَهَوِّنْ بِالْقُرْآنِ عِنْدَ الْمَوْتِ عَلى أَنْفُسِنا كَرْبَ السِّياقِ، وَجَهْدَ الأنينِ، وَتَرادُفَ الْحَشارِجِ إِذا بَلَغَتِ - النُّفُوسُ - التَّراقِيَ وَقيلَ مَنْ رَاق، وَتَجَلّى مَلَكُ الْمَوْتِ لِقَبْضِها مِنْ حُجُبِ الْغُيوبِ، وَرَماها عَن قَوْسِ الْمَنايا بِأَسْهُمِ وَحْشَةِ الْفِراقِ، وَدافَ لَها مِنْ ذُعافِ الْمَوْتِ كَأْساً مَسْمُومَةَ الْمَذاقِ، وَدَنا مِنّا إِلَى الاْخِرَةِ رَحيلٌ وَانْطِلاقٌ، وَصارَتِ الأعْمالُ قَلائِدَ فِي الأعْناقِ، وَكانَتِ الْقُبورُ هِىَ الْمَأَوى إِلى ميقاتِ يَوْمِ التَّلاقِ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَبارِكْ لَنا في حُلُولِ دارِ الْبِلى، وَطُولِ الْمُقامَةِ بَيْنَ أَطْباقِ الثَّرى، وَاجْعَلِ الْقُبورَ بَعْدَ فِراقِ الدُّنْيا خَيْرَ مَنازِلِنا، وَافْسَحْ لَنا بِرَحْمَتِكَ في ضيقِ مَلاحِدِنا، وَلا تَفْضَحْنا في حاضِرِ الْقِيامَةِ بِمُوبِقاتِ آثامِنا.
وَارْحَمْ بِالْقُرَآنِ في مَوْقِفِ الْعرَضِ عَلَيْكَ ذُلَّ مَقامِنا، وَثَبِّتْ بِهِ عِنْدَ اضْطِرابِ جِسْرِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْمَجازِ عَلَيْها زَلَلَ أَقْدامِنا، وَنَوِّرْ بِهِ قَبْلَ الْبَعْثِ سُدَفَ قُبُورِنا، وَنَجِّنا بِهِ مِنْ كُلِّ كَرْب يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَشَدائِدِ أَهْوالِ يَوْمِ الطّامَّةِ، وَبَيِّضْ وُجُوهَنا يَوْمَ تَسْوَدُّ وَجوُهُ الظَّلَمَةِ في يَوْمِ الْحَسْرَةِ وَالنَّدامَةِ، وَاجْعَلْ لَنا في صُدُورِ الْمُؤْمِنينَ وُدّاً، وَلا تَجْعَلِ الْحَياةَ عَلَيْنا نَكَداً.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَما بَلَّغَ رِسالَتَكَ، وَ صَدَعَ بِأَمْرِكَ، وَنَصَحَ لِعِبادِكَ.
اللّهُمَّ اجْعَلْ نَبِيَّنا صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَقْرَبَ النَّبِيِّينَ مِنْكَ مَجْلِساً، وَأَمْكَنَهُمْ مِنْكَ شَفاعَةً، وَأَجَلَّهُمْ عِنْدَكَ قَدْرَاً، وَأَوْجَهَهُمْ عِنْدَكَ جاهاً.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَشرِّفْ بُنْيانَهُ، وَعَظِّمْ بُرْهانَهُ، وَثَقِّلْ مِيزانَهُ، وَتَقَبَّلْ شَفاعَتَهُ، وَقَرِّبْ وَسيلَتَهُ، وَبَيّضْ وَجْهَهُ، وَأَتِمَّ نُورَهُ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ، وَأَحْيِنا عَلى سُنَّتِهِ، وَتَوَفَّنا عَلى مِلَّتِهِ، وَخُذْ بِنا مِنْهاجَهُ، وَاسْلُكَ بِنا سَبيلَهُ، وَاجْعَلْنا مِنْ أَهْلِ طاعَتِهِ، وَاحْشُرْنا في زُمْرَتِهِ، وَأَوْرِدْنا حَوْضَهُ، وَاسْقِنا بِكَأْسِهِ.
اللهُمَّ وَصَلِّ اللّهُمَّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، صَلاةً تُبَلِّغُهُ بِها أَفْضَلَ ما يَأْمُلُ مِنْ خَيْرِكَ وَفَضْلِكَ وَكَرامَتِكَ، إِنَّكَ ذُو رَحْمَة واسِعة وَفَضْل كَريم.
اللّهُمَّ اجْزِهِ بِما بَلَّغَ مِنْ رِسالاتِكَ، وَأَدّى مِنْ آياتِكَ، وَنَصَح لِعِبادِكَ، وَجاهَدَ في سَبيلِكَ، أَفْضَلَ ما جَزَيْتَ أَحَداً مِنْ مَلائِكَتِكَ الْمُقَرَّبينَ، وَأَنْبِيائِكَ الْمُرْسَلينَ الْمُصْطَفَيْنَ، والسَّلامُ عَلَيْه وَعَلى آلِهِ الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكاتُهُ.
* * *
القرآن كتاب هداية وعقيدة وشريعة:
للقرآن - في العقيدة الإسلامية - معنى النور الذي يضيء للناس الحقيقة فيهديهم إلى سبل السلام الروحيّ والفكريّ والعمليّ، ويشقّ لهم الدرب إلى الهدف العظيم في سعادة الدنيا والآخرة.
وهو في الوقت نفسه، الكتاب الإلهي الذي يجمع الكتب كلّها في مضمونه المتحرك في خطّ الرسالات منذ بداية انطلاقها في وحي الله، ليجمع للناس فيه خلاصة صحف إبراهيم وموسى وعيسى وداود مما أنزله الله على الناس من خلالهم، فينفتح المسلم فيه على رحابة الإسلام في إطلالته الرسالية على ما تقدمه من الرسالات، مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، ليكون العنوان الإسلامي في انفتاحه الفكري في الخطوط العامة كما في قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة:285]، وفي ضوء ذلك فإنّه يتحدث مع الآخر في موقف اعتراف به في الخطّ العام ليدعوه إلى كلمة السواء انطلاقاً من الإيمان بالكتاب كلّه كما جاء في قوله تعالى:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].
* * *
وهو - في الوقت نفسه - يدعو إلى الحوار مع الآخر ليحاور العقل البشري، في حركة التوحيد والشرك والإيمان والكفر والانحراف والاستقامة على أساس من الموضوعية الفكرية التي تبتعد عن خصوصية الذات في واقع الحوار على هدى الآية الكريمة: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبأ:24].
ويدعو إلى الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن، ويواجه المشاكل الطارئة في الحياة العامة والخاصة بقول الكلمة التي هي أحسن وبالعمل على تحويل الأعداء إلى أصدقاء، وبالتأكيد - في ذلك كلّه - على الحُجّة والبرهان، بعيداً عن الانفعالية والغوغائية.
* * *
وينادي بالعدل والإحسان، ويركز الخطّ الرسالي في كلّ الرسالات والرسل والكتب المنزلة على أساس العدل الشامل لكلّ الناس حتى لو كانوا أعداءً، وعلى كلّ الناس حتى لو كانوا من أقرب الأقرباء.
ويؤكّد على وحدة الإنسانية من دون إلغاء خصوصية التنوع في امتداداتها في واقع الإنسان، فقد أعلن أنّ الله خلق الناس كلّهم من ذكر وأنثى وجعلهم شعوباً وقبائل في الخصوصيات العرقية واللونية والقومية والجغرافية، ليتعارفوا فيما بينهم على أساس تبادل الأفكار والخبرات والطاقات التي بها يتعارفون ويتعاونون ويحققون للحياة قوّتها وسلامتها وتطورها، وللإنسان نمّوه وإبداعه وحركيته في الدرجات العلى، ورأى أنّ القيمة كلّ القيمة في العلم، فالأكثر علماً هو الأكثر قيمة، وأنّ كلّ الكرامة عند الله في التقوى، فالأتقى هو الأقرب عند الله، بما تمثله التقوى من الاستقامة في الخطّ العملي لأنّها هي التي تمثل التجسيد الحيّ للانضباط في طاعة الله والسرّ على منهاجه، والانسجام مع مواقع إراداته ورضاه.
* * *
ثبوت النص القرآني:
وهو الكتاب الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقد حفظه الله من النقص والزيادة والتحريف وذلك هو قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ومهما اختلفت الروايات في بعض الإيحاءات والكلمات بوجود نقصان هنا أو تحريف هناك، فإنّها لم تستطع أن تفرض شيئاً منها على القرآن في الواقع التاريخي الممتد في حياة المسلمين بكلّ تنوعاتها واختلافاتها وتعقيداتها، حتى أن الذين ينقلون هذه الروايات في كتبهم أو يعتمدون الرأي بصحة دعوى التحريف في آرائهم، لم يضيفوا في القرآن الذي يملكونه ويقرأون فيه أيّة كلمة زائدة، ولم يغيروا أيّة كلمة فيه عن وضعها القرآني، مما يوحي بأنّ الذهنية الإسلامية لم تستسلم لهذه الفكرة، فقد كانت حارسة القرآن من أيّ تغيير أو تبديل، ولهذا رأينا أنّ العالم الإسلامي من أدناه إلى أقصاه لا يملك أيّة نسخة من القرآن مختلفة عن نسخة أخرى مهما اختلفت مذاهبهم وتنوّعت آراؤهم.
 وقد عبّر عن ذلك أمين الإسلام الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان) قال: "أما الزيادة فيه - أي القرآن - فمجمع على بطلانه، وأمّا النقصان منه فقد روى بعض أصحابنا وقوم من حشوية العامة أنّ في القرآن تغييراً أو نقصاناً، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى قدّس الله روحه، وذكر أنّ القرآن كان على عهد رسول الله(ص) مجموعاً مؤلّفاً على ما هو عليه الآن، واستدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يُدّرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنّه كان يُعرض على النبيّ(ص) ويتلى عليه، وأنّ جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي(ص) عدّة ختمات، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً، غير مبتور ولا مبثوث، وذكر أنّ من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتدّ بخلافهم، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث، نقلوا أخباراً ضعيفة ظنوا صحتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته"(1).
وقد جاء في كتاب الاعتقادات للصدوق ما نصّه: "اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيّه محمّد(ص) ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشرة سورة، وعندنا أنّ الضحى وألم نشرح سورة واحدة، ولإيلاف وألم تر كيف سورة واحدة، ومن نسب إلينا بأنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب"(2).
وجاء في كتاب التبيان للشيخ الطوسي قال:
"إسقاط بعض القرآن وتحريفه ثبت من طرقنا بالتواتر معنى، كما يظهر لمن تأمل في كتب الأحاديث من أولها إلى آخرها، ودلّت الأخبار على وجود مصحف غير هذا المشهور بين الناس، وهو موجود عند أهله، والظاهر أنّا مأمورون بقراءة هذا القرآن ولا يجوز لنا الزيادة على ما فيه بما ورد في بعض الروايات أنّه أسقط منه"(3).
ولكنّنا نلاحظ على هذا الكلام أنّ الروايات التي ذكرها الشيخ الطوسي هي روايات ضعيفة في السند وضعيفة في الدلالة على القول المذكور، وأنّ الحديث عن وجود مصحف آخر عند أهله لا يثبت أمام النقد لأنّ مسألة القرآن من المسائل التي لا تحتمل التقية لا سيّما من أمير المؤمنين عليّ(ع)، فليس من الطبيعي أن لا يعمل بكلّ ما عنده من طاقة لإخراج ما عنده من القرآن إلى الناس، والدفاع عن أيّة شبهة مضادة لا سيما في أيام خلافته، وأنّ الأمر بقراءة ما في هذا القرآن وعدم جواز الزيادة هو هذا الموجود بين الدفتين، ولذلك جعله الأئمة من أهل البيت(ع) مقياساً للحكم بصحة الحديث وعدم صحته، ما يوحي بأنّه لا نقصان فيه ولا زيادة، لأنّ ذلك لو كان ثابتاً لما جاز أن يكون مقياساً بالنحو المذكور، لإمكان أن يكون الحديث المرفوض - مثلاً - موافقاً لما خفي من القرآن، وقد بحث أستاذنا المحقق آية الله السيد محاكمة الأحاديث الواردة في هذا الموضوع في كتابه "البيان في تفسير القرآن، فليراجع.
وهو الكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنَّ لهم أجراً كبيراً، وأنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً، ليحدد للناس الخطّ الذي يتحركون فيه في الحياة من خلال نهاياته الإيجابية والسلبية.
وهو النور الذي يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبُل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم.
وهو الكتاب الذي جعله الله قرآناً عربياً ليفتح للعقل أبوابه وأنّه في أمّ الكتاب لدى الله لعليٌّ حكيم.
وهو الكتاب الذي يمثل الخطوط الفكرية للإسلام في عقيدته وشريعته ومنهجه وحركته في نطاق الدعوة إلى الله، والعمل في سبيله، والجهاد من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، ولذلك كان هو الميزان في تصحيح الحديث الذي يرويه الرواة عن النبيّ محمّد(ص) وعن الأئمة الهداة من أهل البيت الذين يروون حديثه، فما خالف كتاب الله فهو زخرف وما وافقه فهو الحقّ.
* * *
أصول وفضل تلاوة القرآن:
وقد تحدث الدعاء عن القرآن بمناسبة اختتام قراءته التي أراد الله للإنسان أن يداوم عليها في التزام ووعي وتدبّر وتأمّل، وفي ترتيل جميلٍ يوحي بالكثير من الجمال النفسي في طريقة قراءته وتنظيم مخارج كلماته، ولم يرد للقارئ أن يستعجل به لتكون القضية عنده في القراءة أن يبلغ نهايته في وقتٍ قليل، بل أراد له أن يتلبث فيه، ويتأنّى به، فقد ورد في الكافي بسنده عن محمّد بن عبد الله قال: "قلت لأبي عبد الله جعفر الصادق(عليه السلام): أقرأ القرآن في ليلة، قال: لا يعجبني أن تقرأه في أقلّ من شهرٍ"(4).
وبسنده عن عليّ بن أبي حمزة قال: "دخلت على أبي عبد الله(عليه السلام) فقال له أبو بصير: جعلت فداك أقرا القرآن في شهر رمضان في ليلة؟ فقال: لا. قال: ففي ليلتين؟ قال: لا، قال: ففي ثلاث؟ قال: لا، وأشار بيده، ثم قال: يا أبا محمّد، إنّ لرمضان حقاً وحرمةً لا يشبهه شيءٌ من الشهور، وكان أصحاب محمّد(ص) يقرأ أحدهم القرآن في شهرٍ أو أقلّ، إنّ القرآن لا يُقرأ هذرمةً(5)، ولكن يرتّل ترتيلاً، فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة، وإذا مررت بآيةٍ فيها ذكر النار فقف عندها وتعوّذ بالله من النار"(6).
وجاء في الكافي بسنده عن عليّ بن الحسين(ع)، قال: وقد روي هذا الحديث عن أبي عبد الله(ع)، قال: "من استمع حرفاً من كتاب الله عزّ وجلّ من غير قراءة، كتب الله له بكلّ حرف حسنةً، ومحا عنه سيّئة، ورفع له درجةً، ومن قرأ نظراً من غير صوت، كتب الله له بكلّ حرف حسنة، ومحا عنه سيئة، ورفع له درجةً، ومن تعلّم منه حرفاً ظاهراً كتب الله له عشر حسناتٍ ومحا عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجاتٍ. قال: لا أقول بكلّ آيةٍ، ولكن بكلّ حرف باء أو تاء أو شبههما. قال: ومن قرأ حرفاً ظاهراً وهو جالس في صلاته، كتب الله له به خمسين حسنة، ومحا عنه خمسين سيّئة، ورفع له خمسين درجة، ومن قرأ حرفاً وهو قائم في صلاته كتب الله له بكل حرف مائة حسنة ومحا عنه مائة سيئة، ورفع له مائة درجة، ومن ختمه كانت له دعوة مستجابة مؤخّرة أو معجّلة، قال: قلت: جعلت فداك ختمه كلّه؟ قال: ختمه كلّه"(7).
* * *
وقد جاء الحديث في فضل قراءة القرآن في المصحف على القراءة عن ظهر القلب، لأنّ النظر فيه عبادة مطلوبة.
فقد روى ثقة الإسلام "الكليني" في الكافي، بسنده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (ع) قال: "قلت له: جعلت فداك إنّي أحفظ القرآن عن ظهر قلبي، فأقرأه على ظهر قلبي أفضل، أو أنظر في المصحف؟ قال: فقال لي: بل اقرأه وانظر في المصحف، فهو أفضل، أما علمت أنّ النظر في المصحف عبادة"(8). وربما كان الأساس في ذلك ربط الناس بالقرآن بشكل حسّي بالالتزام بالكتاب ليبقى هو الارتباط به في الواقع من حيث اقتنائه في المنزل والإمساك به، بالإضافة إلى الارتباط به في الحفظ والوجدان.
* * *
وقد جاء في بعض الأحاديث ما يوحي برجحان واستحباب تحسين الصوت بالقراءة.
فقد روى ثقة الإسلام الكليني - في الكافي - بسنده عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال النبي(ص): "لكلّ شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن"(9)، وعنه(ع) قال: قال رسول الله(ص): "اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر، فإنّه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة وقلوب من يعجبه شأنهم"(10).
وعنه(ع) قال: "كان عليّ بن الحسين(صلوات الله عليه) أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان السقّاؤون يمرون فيقفون ببابه يسمعون قراءته"(11). وجاء عن أبي جعفر محمد الباقر أنّه قال لأبي بصير: "رجِّع بالقرآن صوتك فإنّ الله عزّ وجلّ يحبّ الصوت الحسن يرجّع فيه ترجيعاً"(12).
* * *
ولعلّ الوجه في ذلك أنّ للترجيع وللترديد والترتيل بالصوت الحسن دوراً فاعلاً في تعميق الإحساس الوجداني بالكلمة، ووعي مضمونها الفكري والروحي، لأنّه يجسد الكلمة تجسيداً حيّاً في معناها، فتنفتح عليها أحاسيس الإنسان ومشاعره، فتدخل إلى عقله بطريقةٍ حبيبةٍ حميمة مما يزيد في انفتاح العقل عليها، ولكن لا بدّ من التدقيق في الأسلوب الترجيعي والطريق الترتيلية والموسيقى الصوتية، لتكون منسجمة مع الأسلوب القرآني، فلا تبتعد عن الجوّ الروحيّ والإيحاء الرباني، لأنّ بعض الأساليب قد تقترب بالتجويد من العبث الموسيقي الذي يجعل الكلمة مجرّد صوت لا يوحي بالمعنى ولا ينفتح على الروح، لأنّ القرآن ليس صوتاً في الأذن ولكنّه حركة في الروح والقلب والعقل، الأمر الذي يجعل الغناء القرآني لوناً جديداً ينفتح على الإيحاء الروحي ويبتعد عن الحس الغريزي. وربما كان الحديث النبوي الشريف في حديثه عن هؤلاء الذين يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية يشير إلى الذين لا يعيشون القرآن بقلوبهم ولكن يطربون له بأسماعهم.
* * *
المفاهيم الأساسية في الدعاء:
أمّا حديث الإمام عن القرآن في هذا الدعاء، فهو أنّه الكتاب الذي ينفتح بالنور المنطلق من وحي الله ليضيء للإنسان عقله وقلبه وروحه وحياته، في منزلته الكبرى عند الله الذي جعله مهيمناً على الكتب التي أنزلها على رسله كالتوارة والإنجيل وصحف إبراهيم وزبور داود، بما احتواه من معانيها، وما تميز به عنها من مطالب جديدة وتشريعات شاملة، كما فضّله - في هذا الجوّ - على الأحاديث التي قصّها على الناس مما فيه الموعظة والوصية والنصيحة والتشريع من خلال بعض الميزات الموضوعية والبلاغية، والله في كتبه شؤون مما يفضل به كتاباً على كتاب، ورسالة على رسالة حسب حكمته، وكلّها وحيه وكلامه، وجعله فرقاناً يفرّق به بين حلاله وحرامه، فلا يختلط أحدهما بالآخر من خلال فقدان الوضوح وضبابية التصور لدى الناس الذين قد يجهلون تفاصيل ذلك من خلال الشبهات، وهو القرآن الذي يُعرب به عن شرائع أحكامه ويفصّل لعباده كلّ ما يتعلق بهم من مهمّات ومسؤوليات وأوضاع، وهو الوحي الذي انزله الله على عباده تنزيلاً.
وهو النور الذي يمتد في حركة الإنسان في الحياة ليهتدي به السائرون في مواجهة قضاياهم وإدارة شؤونها، فينقذهم من ظلمات الضلالة الفكرية والروحية والعملية والجهالة الثقافية إذا اتبعوا كلماته وانفتحوا على معانيه، وهو الدواء الناجح الذي يشفي به المتأمّلين المنصتين لآياته في وعيٍ روحي ينطلق بالقناعة والتصديق، في الاستماع إليه ليطرد كلّ أمراض الإنسان الروحية.
وهو الميزان العدل الذي لا يجور على الناس في ما يقضي بينهم، وفيما يختلفون فيه من قضايا الحياة المتصلة بمصالحهم ومشاكلهم، فيعطي كلّ ذي حقّ حقّه من خلال الخطوط البيّنة الواضحة التي تزن الأمور بميزان دقيق على أساس الحقّ الذي تنطق به آياته، وهو نور الهدى الذي يبقى في حالة إشراق مستمرة بما يقدمه من البرهان الذي يؤكد للناس حجته وحقيقته، وهو العلم الواضح الذي يؤدّي إلى النجاة فلا يضل من قصد السير في اتجاهه، وانفتح على سنته، ولا يهلك من استمسك به واعتصم بعروته.
* * *
ثم ينطلق الدعاء إلى الله الذي سهّل للمؤمن تلاوته، وأعان اللسان على الحركة في قراءته، أن يوفق لرعايته بالتدبر فيه، وأن يحقق الإذعان بالواضح البيّن من آياته، والإقرار بالمتشابه والمحكم من بيناته. وينفتح الدعاء على دور القرآن في ثقافة النبي محمّد(ص) الذي ألهمه الله علم أسراره العجيبة كاملاً غير منقوص، وأبقى لأمته الإرث العظيم الذي يتمثل في تفسيره، وجعل لها الفضل على الجاهلين به، والقوة التي ترتفع بها فوق العاجزين على حمله.
وينطلق الوعي القرآني في وجدان المؤمنين ليؤمنوا بأنّه وحي الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنّه ليس من البشر فلا مجال للشكّ فيه أو للانحراف عن خطّه المستقيم، وليتحركوا في خطّ هداه، وليعتصموا بحبله، ويأووا إلى معقله، ويشعروا بالسكينة في ظله، ويهتدوا بضوئه، ويقتدوا به، وليكون- وحده - الهادي الذي يهدي إلى الحقّ فلا يلجأون إلى غيره.
وهو الوسيلة للحصول على كرامة الله، والسلامة في المصير، والسبب في النجاة في القيامة والوصول إلى النعيم في دار الخلود، وهو الذي يخطط للإنسان الحركة في استقامة السلوك وعمق الأخلاق، ليحصل الإنسان على صفات الأبرار، ويتخفف من الخطايا، وينطلق في مسيرة القائمين لله في الليل والنهار، فيتطهر بذلك من الدنس، ويتبع آثار الذين عاشوا القرآن نوراً يضيء عقولهم، وينفتح على المسؤولية في خطّ العمل بعيداً عن الاستغراق التجريدي في الآمال الغرارة.
* * *
وهو الذي يؤنس وحشة المؤمنين في ظلمات الليل، ويحرسهم من نزغات الشيطان، ويحبس الأقدام عن الانطلاق في دروب المعاصي، ويخرس الألسنة عن الخوض في الأباطيل من دون أن يعطل نطقها، ويزجر الأعضاء عن التجرّؤ على المعاصي، ويبعد الفكر عن الغفلة في مواقع العبرة والعظة، ويفتح القلوب على فهم عجائبه والوقوف أمام زواجره القاسية التي لا تتحملها الجبال الرواسي.
وللقرآن - مع ذلك كلّه - دور التأكيد على الوعي الروحي الذي يصلح للإنسان ظاهر حياته، ويحجب الخواطر القلقة عن التأثير في ضميره، ويغسل به قذارة قلبه وروابط الآثام، ويجمع الأمور المتناثرة، ويروي ظمأ روحه في موقف القيامة، ويكسوه حلل الأمان يوم النشور من كل هول وفزع، ويهيِّىء الأجواء في سدّ الخلة من الفقر، ويسوق إليه رغد العيش وخصب السعة في الرزق، ويحميه من الطبائع السيئة والأخلاق الرذيلة، ويعصمه من الكفر والنفاق من خلال الفكر الذي يركز العقيدة ويقوّي القيم الروحية في الإخلاص لله، فيكون سبيلاً إلى الرضوان، ويبعده عن التعدي لحدود الله، وذلك بالوقوف عند أحكامه في ما أحلّ من حلاله وحرّم من حرامه ليشهد له.
فإذا وقف الإنسان عند نهاية حياته، فإن القرآن بإيحاءاته يخفف كرب السياق في الموت، وضغط الواقع الجديد على الذات في المعاناة التي تواجهها في الخروج من عالم الحياة إلى عالم الموت، وينطلق الدعاء في ابتهالات العقل والروح ليبارك الله للإنسان هذه المرحلة الجديدة إلى العالم الجديد في الإقامة في أعماق الأرض، وليجعل القبور منازل الرحمة، ولتفسح الرحمة ما ضاق به من اللحود، وليستر على المذنبين فلا يفضحهم يوم القيامة بذنوبهم.
ثم إذا وقف الناس في موقف العرض على الله، كان القرآن هو الذي يرحم الله به عباده من ذلّ المقامة، ويثبت زلل الأقدام، وينوّر به ظلمات القبور، وينجي به كلّ كرب القيامة وأهوال الطامّة الكبرى، ويبيّض به الوجوه يوم تسودّ وجوه الكافرين والمتمردين، ويفتح قلوب المؤمنين به على الودّ للمؤمنين الداعين ولا يجعل الحياة تعباً ونصباً.
ويختم الدعاء بالدعاء للنبي ليرفع الله درجته، ويعظّم قدره، ويصلّي عليه بأفضل صلواته بما يبلغه كلّ رحمة الله ولطفه ورضوانه.
* * *
اللَّهُمَّ إنّكَ أعَنْتَني عَلَى خَتْمِ كِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَهُ نُوراً، وَجَعَلْتَهُ مُهَيْمناً عَلَى كُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلْتَهُ، وفضَّلْتَهُ عَلَى كُلِّ حَدِيثٍ قصَصْتَهُ، وَفُرْقاناً فَرقْتَ بِه مِنْ بَيْنِ حَلاَلِكَ وحَرَامِكَ، وَقُرْآناً أعْرَبْتَ بِهِ، عن شرائِعِ أحْكامِكَ،  وكِتَاباً فصَّلْتَهُ لِعِبَادِكَ تَفْصيلاً وَوَحْياً أَنْزَلْتَهُ عَلَى نَبيِّكَ مُحمَّد صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ تنْزِيلاً، وَجَعَلْتَهُ نُوراً نَهْتَدِي مِنْ ظُلَمِ الضَّلاَلَةِ والجَهالَةِ بِاتِّبَاعِهِ، وَشِفَاءً لِمَنْ أَنْصَتَ بِفَهْمِ التَّصْدِيق إلَى اسْتِمَاعِهِ، ومِيزانَ قِسْطٍ لاَ يحيفُ عنِ الْحَقِّ لِسَانُهُ، وَنُورَ هُدىً لاَ يُطْفَأُ عَنِ الشَّاهِدين(13)بُرْهانُه، وعَلَمَ نَجَاةٍ لاَ يَضِلُّ مَنْ أمَّ قصْدَ سُنّتِهِ، ولا تَنَالُ أَيْدِي الهَلَكَاتِ من تَعَلّقَ بِعُرْوَةِ عِصْمَتِهِ.
* * *
القرآن نور وشفاء وهدى ونجاة لمن قرأه ودعاه:
يا ربّ، إنّ هذا القرآن الذي وفقتني لتلاوته سورة سورة وآيةً آية، وساعدتني على وعي معانيه وفهم حقائقه حتى بلغت آخره، هو كتابك الذي أنزلته ليكون نوراً في العقل والقلب في إشراقة الحقيقة فيه وإضاءة الخير في كلماته، وجعلته في قمة العلوّ في الدرجة إزاء الكتب التي أنزلتها على رسلك، فكان المصدّق لها والمهيمن عليها، وذلك هو قولك - سبحانك - : {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة:48]، وفضّلت حديثه على كلّ حديث مما قصصته على عبادك، فكان فرقاناً بين الحلال والحرام في ميزان دقيق يتعرف فيه الناس حدود الحلال والحرام، وقرآناً تفصّل به دقائق الشرائع من أحكامك، ليكون كتاب الرسالة التي بعثت بها محمّداً(ص) ليبلغها للناس في حركته الهادية، وانطلاقته الواعية، لتثّبت به فؤاده وفؤاد المؤمنين، ولتفتح به العقول على معرفتك، فيكون نوراً يهتدي به الناس، فيعرفون به حقائق الأشياء في حركة العقيدة والشريعة والحياة، فلا يتخبطون في ظلمات الضلالة إذا اتبعوا نهجه لأنّه يدلّهم على الطريق المستقيم، ولا يغرقون في وحول الجهالة إذا قرأوه ووعوه وساروا على هداه، لأنّه يمنحهم العلم الذي يطلّ بهم على كلّ القضايا في دينهم ودنياهم، فإذا مرضت عقولهم بالشبهات وصدورهم بالأضاليل، كان شفاءً لهم من أمراضهم الروحية والفكرية، فيقدم لهم دواء كلّ داء إذا أنصتوا إليه بوعيٍ وتدبر، فصدقوا به تصديق القناعة الوجدانية المنفتحة على عمق الحقيقة، ووضعت في آياته الناطقة بالحقّ الميزان الدقيق الذي يزن الأمور بالعدل الذي لا يجور على أحد إذا اختلف الناس في قضاياهم، وتنازعوا في أوضاعهم، وأنرت ببراهينه الساطعة التي تمثّل الحجج الواضحة القوية لتنير للسائرين طريق الهُدى في دروب الحياة، ووجهتهم إلى سبيل النجاة في كلّ مسالك الواقع بما حشدت فيه من علم الحقّ الذي ينمو به من سار على ضوئه، وتحرك في طريقه، ولا يقع في قبضة الهلاك من تمسك بعروته الوثقى التي لا انفصام لها.
* * *
اللّهُمَّ فَإذا أفَدَتَنا الَمعُونَةَ علَى تَلاَوَتِه، وسَهَلْت جَوَاسي(14) ألْسِنَتنَا بِحُسْنِ عبَارَتِهِ، فَاجْعَلْنَا مِمّنْ يَرْعَاهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ، ويَدِينُ لَكَ باعْتِقَادِ التّسْلِيم لِمُحْكَمِ آيَاتِهِ، ويَفْزَعُ إلَى الإقْرَارِ بمتَشَابِهِهِ  وَمُوْضَحَاتِ بَيِّنَاتِه.
اللّهُمَّ إنّكَ أنْزَلْتَهُ عَلَى نَبيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ مُجْملاً، وأَلْهَمْتَهُ عِلْمَ عَجَائِبه مُكَمّلاً، وَورَّثْتَنَا عِلمَهُ مُفَسَّراً، وفَضَّلْتَنا عَلَى مَنْ جَهِلَ عِلْمَهُ، وَقَوَّيْتَنَا عَلَيْهِ لِتَرْفَعنَا فوْقَ مَنْ لَمْ يُطِقْ حَمْلَهُ.
* * *
اللهم اجعلنا ممن يرعى القرآن حقّ رعايته:
يا ربّ، إنّك أعطيتنا القوة والعون على قراءة القرآن، ويسّرت لنا السبيل إلى الانفتاح على ما في كلماته من حسن وجمال وعذوبةِ وإبداع، بما حركت ألسنتنا به من خلال ما أودعته فيها من قوة الحركة الناطقة، فتلوناه كلمةً كلمة، وآيةً آية - كما أمرت - لنرتبط به ارتباط الصوت بالكلمة.
اللهم فاجعلنا في الدرجة العليا من الوعي له والإيمان به والتدبر له، والرعاية له بما يستحقه من الرعاية من حيث هو كلامك المنفتح على الحقّ كلّه، فلا يقترب الباطل إليه، مما يفرض علينا أن نتعبد بالاعتقاد المطلق المتمثل بالتسليم الواعي للواضح البّين من ظواهر آياته، والإقرار الثابت بكلّ ما أبهم علينا من متشابهاته التي لا يدرك الإنسان حقيقة معانيها من خلال الغموض الذي يلفّه، مما أوضحته منها بما بيّنته من ردّها إلى المحكمات، وكشفت أسرارها بطريقةٍ أو بأخرى.
وهكذا يتيسر لنا أن نجد في القرآن ثقافتنا الواعية العميقة الممتدة في حركة الحقيقة في الوجدان وفي الواقع، فقد انفتح عليه رسولك مجملاً في البداية، ومفصّلاً في النهاية، بما ألهمته من العلم الذي ينفذ إلى أسراره العجيبة من حيث ما يختزنه من التفصيلات الدقيقة التي توضح للناس بالبيان الكامل الذي يفرّ كلّ آية بكلّ جوانبها في حاجات الإنسان الفكرية والعملية في منهاج الحياة بما أراده الله منه، فورقنا علمه - كما علمنا نبيك مما علّمته - بطريقة واضحة لا غموض فيها ولا خفاء، فأعطيتنا بذلك العلم الذي لا جهل معه، وقوّيتنا على الاستفادة منه بما يجعل لنا الفضل على الآخرين والرفعة الثقافية عليهم، ممن لم يقدر على حملة عقيدةً وعملاً وحركةً في خطّ الواقع.
* * *
كيف تنّزل القرآن الكريم؟
وقد اختلف الرأي في المراد من إنزال القرآن على النبي(ص) محملاً، وإلهام عجائبه مكمّلاً.
ما معنى الإجمال هنا؟... إنّ حقيقة المجمل - كما يقول الراغب - هو المشتمل على جملة أشياء غير ملخّصةٍ(15) أي غير مبيّنة. قال بعضهم: - كما في رياض السالكين -: معنى إنزاله تعالى القرآن مجملاً: أنّه لم يبين له أسراره وعجائبه المستنبطة منه حال إنزاله بل أوحاه إليه مجملاً، ثم ألهمه ـ بعد ذلك ـ علمه بالتمام، كما تدلّ عليه الفقرة الثانية.
وقيل: إجماله بالنسبة إلى غيره (ع) لا إليه ليكون هو الذي يفصّله ويبيّنه. وقال صاحب رياض السالكين: والأولى أن يكون المراد بقوله: مجملاً، أنّه مشتمل على جملة أشياء كثيرة من الأسرار والأحكام غير مبيّنةٍ ولا مشروحةٍ فيه بحيث يعلمه كلّ أحد، كما ورد في الحديث عن أبي عبد الله(ع) انه قال: "ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصلٌ في كتاب الله عزّ وجلّ ولكن لا تبلغه عقول الرجال"(16).
وعنه(ع): "أنزل في القرآن تبيان كل شيء والله ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن إلا وقد أنزله الله فيه"(17). ويتابع السيد علي خان المدني - رحمه الله - فيقول: "والفرق بين هذا المعنى وبين المعنى الأول: أنّ علمه(ع) بما أجمل فيه لم يكن بعد عدم العلم به، بل علمه به بالتمام من نفس علمه به مجملاً، فإنّ النفوس القدسية إذا علمت الجمل فقد علمت تفسيرها، وذلك كما إذا نظرت إلى زيد فقد أبصرت كلّه إجمالاً وأبصرت أجزاءه وتفاصيله جميعاً عند إبصار كلّه، بل إبصار الكلّ والأجزاء إبصار واحد وإنما يتفاوت بالاعتبار، والفرق بينه وبين المعنى الثاني: أن إجماله بالنسبة إليه أيضاً(ع) لاشتماله على جملة من الأحكام والأسرار التي أودعها - سبحانه - فيه، غير أنّه(ع) أُلهم علم ذلك مفصّلاً من علمه به مجملاً بخلاف غيره"(18).
ونلاحظ على كلامه - رحمه الله - أن المشكلة لديه في المصير إلى هذا التأويل المخالف للظاهر، هو أنّ الإجمال أوّلاً ثم التفصيل يستلزم عدم علم النبيّ بالتفاصيل في وقت نزول الآية، مما لا يتناسب مع مقام النبوّة الذي يرتفع إلى رحاب القدس، فيطلع بعمق المعرفة القدسية وامتدادها على كل الحقائق دفعةً واحدة، مما يفرض علينا تأويل النص الذي يدل على خلاف ذلك. ولكننا في دراستنا للقرآن، نجد الكثير من الآيات الدالة على التدرُّج في إعطاء النبي(ص) علم الرسالة وعلم الأشياء، فلم يكن - قبل النبوّة - يعلم الكتاب وتفاصيل الإيمان، وذلك هو قوله تعالى: { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى:52]. { وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:113].
وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32].
وغير ذلك من الآيات التي توحي بأنّ الله كان ينزل على رسوله مفردات العلم بشكل تدريجي مما يوحي به إليه أو يلهمه علمه، وليس هناك أيّ محذور عقلي على ذلك في العقيدة، لأنّه لا يمثل نقصاً في وعي الذات الثقافي، باعتبار أنّ هذه الأمور المرتبطة بعلم الله مما لا يمكن للإنسان إدراكه بعقله ليكون الجهل به نقصاناً في الشخصية من حيث ضعف القدرة العقلية والفكرية، بل هي من الأمور التي تتصل بأسرار علم الله وغيبه مما يطلع عليه رسله وبعض عباده بما يحتاجون إليه في مهمتهم الرسالية ودورهم النبويّ، ولا ينافي ذلك أنّ الأنبياء يتميزون بالروح القدسية، لأنّ قدسية الروح لا تعني ذاتية إدراكها الأشياء المتصلة بعلم الله في مجملاتها وتفاصيلها إلا من خلال تعليم الله لهم لك، والله العالم.
* * *
اللّهُمَّ فَكَما جَعَلْتَ قُلُوبَنَا لَهُ حَمَلَةً، وعَرَّفْتَنَا بِرَحْمَتِكَ شرَفَهُ وَفَضْلَه، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ الخَطِيبِ به، وَعَلَى آلِهِ الخُزّانِ لَهُ، واجْعَلْنَا مَمَّنْ يَعْتَرِفُ بِأَنّهُ مِنْ عِنْدِكَ، حَتّى لاَ يُعرِضَنَا الشكُّ في تصْدِيِقِهِ، وَلاَ يَخْتَلجَنَا الزَّيغُ عَنْ قَصْدِ طَريِقِهِ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، واجْعلْنَا مِمَّنْ يَعْتَصِمُ بِحَبْلِهِ، ويَأوِي مِنَ المُتَشَابِهَاتِ إلَى حِرْزِ معقِلِه، ويَسْكُنُ في ظِلِّ جَنَاحِهِ، ويَهْتَدي بِضَوْءِ صَبَاحِهِ، وَيَقْتَدِي بِتَبلُّجِ إسْفَارِهِ، ويَسْتَصْبِحُ بِمِصْبَاحِهِ، وَلاَ يَلْتَمِسُ الهُدَى في غَيْره.
* * *
اللهم اجعلنا ممن يعتصم بحبله:
يا ربّ، لقد أودعت في عقولنا القدرة على وعي المعرفة في كلّ مفرداتها، والطاقة على تحريك ذلك في إغناء الإنسانية بكلّ ألوان الثقافة في جميع جوانبها، وهكذا انفتحت هذه العقول المودعة فينا على كتابك، فحملته حمل حفظ وإلهام وتدبّر وتأمل، بما استطاعت به أن تتعرف على حدوده وأحكامه وخصائصه وأسراره في أوضاع الكون والحياة والوجود، فعرفنا بذلك - من خلال رحمتك في وعي المعرفة التي هي النعمة الكبرى لدينا - شرفه في إعجازه، وبركته وعمق الحكمة فيه، وسموّ العلم في آياته، وتمّيزه على ما عداه من الكتب، وتصديقه لما بين يديه، وكماله في انفتاحه على الحقائق التي تمثل حاجة الإنسان في حركة إنسانيته في أوضاعه الخاصة والعامة.
وقد كان محمّد(ص) - في أسلوب هذا الدعاء - الخطيب به، لأنّه الرسول الذي أوكل إليه مهمّة تبليغه وتلاوته على الناس، وتعليمهم الكتاب والحكمة، ليقودهم بذلك إلى تحقيق المصالح في حياتهم، وإبعاد المفاسد عنهم، وليخرجهم من الظلمات إلى النور، وليهديهم إلى سبل السلام وإلى الصراط المستقيم.
وكان آله - من الأئمة الأطهار - خزان القرآن بما أعطاهم الله من امتداد المعرفة به وعمق الوعي له إلهاماً، وبما تعلموه من رسول الله من أسرار آياته ودقائق أحكامه، وهذا ما تحدث به الإمام علي(ع) - في ما رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"، وأخرجه من طريق أبي بكر بن عيّاش عن نصير "أو نصر" بن سليمان الأحمسي عن أبيه عن عليّ(ع) قال: "والله ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيم أُنزلت وأين أُنزلت، إنّ ربيّ وهب لي قلباً عقولاً ولساناً مسؤولاً"(19)، وقد جاء الحديث عنه علمني - رسول الله - ألف باب من العلم يُفتح لي من كلّ باب ألف باب"(20)... وجاء عن رسول الله(ص): "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها"(21).
وجاء في رواية جابر عن الإمام محمد الباقر(ع) أنّه قال: سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول: "ما ادعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالى إلا عليّ بن أبي طالب والأئمة من بعده"(22).
* * *
اللهم صلِّ على محمّد المبلّغ لكتابك وعلى أهل بيته الحافظين له، وعمّق في إيماننا الإيمان بأنّه الوحي النازل من عندك الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يملك بشر أو أيّ مخلوق آخر أن يصنع مثله، حتى لا نشكّ فيه ولا يدور في خلجاتنا الذهنية أيّ ميل عن الخطّ المستقيم في الاعتراف به كوحيٍ منزل من عندك، وذلك من خلال دراستنا له في أسرار بلاغته في مستوى القمة منها، وفي امتداد معارفه وأحكامه ومناهجه وإيحاءاته مما لا يبلغه إلا خالق الكون كلّه.
اللهم إنّ القرآن ربيع قلوبنا وشفاء صدورنا والركن الوثيق الذي نستند إليه والنور الذي نستضيء به، اللهم اجعلنا في أجواء القرآن نعيش، وبحبله نعتصم، وبمعقله الحصين نجد الأمن الفكري والروحي من كلّ جيوش الشبهات ومتاهات المتشابهات، لأنّ في آياته إشراقة الحقيقة التي تزيل الضباب وتطرد الظلام وتشير إلى الغاية الكبيرة، وفي إيحاءاته سكينة الروح وطمأنينة العقل، وفي مفاهيمه الضوء الصباحي الذي يزيح كلّ ليل الضلال ليتحرك الهدى من خلاله، فهو المصباح الذي لا مثل له في روحية الإشراق، وهو الهدى الذي لا يهتدي الناس بغيره ولا يجدون الوضوح في سواه، كما قال الرسول الأعظم محمد(ص): "من ابتغى الهدى في غيره - أي القرآن - أضلّه الله"(23)... وفي ضوء ذلك كلّه، فإنّ علينا أن ننفتح على القرآن في حلّ مشاكلنا، ففيه الفكر المتوازن الذي يجمع العاطفة إلى العقل، والروح إلى المادة، والفردية إلى الجماعية، مما يخترق عمق الإنسان في كلّ تصوراته وقضاياه، وهذا هو خط المنهج الإسلامي الذي لا بدّ للإنسان المسلم من أن ينهجه ويهتدي به في حركته الفكرية والعملية، ليكون القرآن - الذي هو وحي الله - الأساس الثابت في الواقع الوجودي للإنسان المسلم.
* * *
اللّهُمَّ وَكَمَا نَصَبْتَ بِهِ مُحَمَّداً عَلَماً للدَّلاَلة عَلَيْكَ، وَأَنْهَجْتَ بِآلِهِ سُبُلَ الرّضى إليْكَ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، واجْعَلِ القُرْآنَ وَسِيلَةً لَنَا إلى أَشْرَفِ مَنَازِلِ الكرَامَةِ، وَسُلَّماً نَعْرُجُ فِيهِ إلى مَحَلِّ السَّلامَةِ، وَسَبَباً نُجزَى بِهِ النَّجاةَ في عَرْصَةِ القِيَامَةِ، وذَرِيعَةً نُقْدِمُ بِهَا عَلَى نَعِيمِ دَارِ المُقامَةِ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، واحْطُطْ بِالقُرآنِ عَنَّا ثِقْلَ الأوْزَارِ، وَهَبْ لَنَا حُسْنَ شَمَائِلِ الأَبْرَارِ، واقْفُ بِنَا آثَارَ الَّذِينَ قَامُوا لَكَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأطْرَاف النَّهارِ، حَتّى تُطهّرَنَا مِنْ كُلِّ دَنَسٍ بِتَطْهِيرِهِ، وتَقْفُوه بِنَا آثارَ الَّذِينَ اسْتَضَاؤوا بِنُورِهِ، وَلَمْ يُلْهِهِمُ الأمَلُ عَنِ العَمَلِ فَيَقْطَعهُمْ بِخُدَعِ غُرورِهِ.
* * *
اللهم اجعل القرآن وسيلة لنا إلى أشرف منازل الكرامة:
يا ربّ، لقد أرسلت محمّداً (ص) ليكون الرسول الإنسان الذي انفتحت آفاق إنسانيته على كلّ آلام الناس وأحلامهم، وأشرفت على كلّ قضاياهم، فتحرك من أجل أن يربط الإنسان بالحياة المسؤولة من خلال ارتباطه بك، فلا تنفصل علاقته بربّه عن علاقته بالناس من حوله وبالواقع المحيط به، وهكذا انطلق بالرسالة من موقعه الذي جعلته فيه علماً ومناراً للدلالة عليك، ليتعرفوا إليك في حقيقة المعرفة المنفتحة على كلّ أسرار عظمتك ومواقع نعمتك، ليعبدوك من موقع الوعي، ويرتبطوا بك من قاعدة الإيمان، وجعلت آله في خطّ الرسالة الذي يفتح نوافذ الرضى إليك، لأنّهم المؤتمنون على أصالة الفكر، ووضوح الطريق، وعمق السرّ وروحانية الحركة واستقامة النهج، من حيث هم الامتداد الرسالي لجدّهم النبي(ص) من دون موقع الرسالة، وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق(ع) أنّه قال: "إنّ الله أوضح بأئمة الهدى من أهل بيت نبيّنا عن دينه وأبلج بهم عن سبيل منهاجه وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه"(24).
اللهم إنّك خططت لنا في القرآن طريق الحق لنهتدي إلى موقع القرب منك ورحاب الرضوان لديك، فوفقنا للسير فيه ليكون ذلك الوسيلة للحصول على أشرف منازل الكرامة، والسلّم الذي يرقى بنا إلى مواقع الأمن والسلامة، والسبب الذي نحصل منه على النجاة في ساحة القيامة، وننطلق من خلال ذلك كلّه لنرِدَ على مواقع النعيم في دار الخلود. وهكذا نتخفف من ثقل خطايانا بالإكثار من حسناتنا في العمل بأوامر القرآن ونواهيه، ونحصل على الأخلاق الطيبة التي يتصف بها الأبرار، ونقتفي آثار عبادك الصالحين الذي أخلصوا لك العبادة فقاموا في خشوعٍ وخضوع ليتعبدوا لك في ساعات الليل وبدايات النهار ونهاياته، فنجد في ذلك الطهارة من كلّ دنس، من خلال ما يشتمل عليه من عناصر الطهارة المنطلقة من طهارة قدسك، ونكتشف فيه آثار الماضين الذين عاشوا نوره في عقولهم وقلوبهم، فاستضاؤوا به في ظلمات الطريق، وعرفوا الحقيقة في جدية الحياة، فلم يشغلهم لهو الحياة وعبثها وخداع الصور المزخرفة التي تجتذب النظّار بأشكالها الساحرة عن الإحساس بالمسؤولية في العمل بما يرضي الله ويقرِّب إليه.
* * *
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، واجْعَلِ القُرآنَ لَنَا في ظُلَمِ اللَّيالي مُؤنِساً، وَمِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ وَخَطَراتِ الوَسْاوِسِ حَارِساً، ولأقْدَامِنَا عَنْ نَقْلِهَا إلى المَعَاصِي حَابِساً، وَلأَلْسِنَتِنَا عَنِ الخَوْضِ في البَاطِلِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ مُخْرِساً، وَلِجَوَارِحِنَا عَنِ اقْتِرافِ الآثامِ زاجِراً، ولِمَا طَوَتِ الغفْلَةُ عَنَّا مِنْ تَصَفُّحِ الاعْتِبَار ناشراً، حتّى تُوصِلَ إلى قُلوبِنَا فهْمَ عَجَائِبِهِ، وزوَاجِرَ أَمْثَالِهِ، الّتي ضَعُفَتِ الجِبَالُ الرَّواسي - على صَلاَبَتها - عن احْتمالِهِ.
* * *
اللهم اجعل القرآن لنا من نزغات الشيطان حارساً:
يا ربّ، إنّك خلقتنا وأودعت فينا الإحساس بالوحشة في ظلمات الليل، لأنّ الليل يحجب عن عيوننا وضوح الرؤيا للأشياء، ويزحف على حياتنا فيغلق عنها نافذة الضياء، ويدفع بالأشباح في حركتها في قلق الروح إلى داخل عقولنا، فنشعر بوحشة الكون في ذعر الجسد ورعب الروح، فنبحث عن الأنس الجسدي فيمن نلتقيه، ونتطلّع إلى أنس الروح في ابتهالاتنا الروحية إليك، ونحن هنا - يا رب - ننفتح على استيحاء القرآن في كلماتك، لنلتقي بك في حديثك الإلهي، المملوء بالحنان، الفيّاض بالرحمة، المنفتح على الوعي، فنأنس به لأنّنا نلتقيك في إيحاءاته ونستلهمك في مواعظه ونصائحه، فتذهب عن نفوسنا كلّ آثار الوحشة، وكيف يستوحش من كنت أنيسه، وكف يخاف من كنت راعيه؟..
اللهم اجعل القرآن في حديث الليل السمير الذي يرفع عنّا وحشة الظلام لأنّه يفتح في قلوبنا نور الفرح الروحيّ، فإنّ أنس الروح يمنح الجسد في خلجاته وأحاسيسه معنى السرور، واحرسنا - يا ربّ - من نزغات الشيطان الذي يستغل نوازع الغرائز ليثير فينا الأحاسيس الشريرة والوساوس الخبيثة من خلال عناصر الإثارة في حركة الواقع المعاش، واجعل القرآن الحارس الذي يحرس عقولنا من كلّ دسائسه وحبائله وخدعه وغروره، لأنّ إشراقة الحقّ في داخله تمنع ذلك كلّه، لأنّ الشيطان ينفذ إلى الإنسان من خلال سيطرة الغفلة عن وجدانه، وللقرآن دوره الكبير في تفجير اليقظة التي تفتح للإنسان القارئ له المتأمّل في آياته كلّ أفق لكلّ القضايا المعقدة والإشكالات المبهمة، من أجل توضيح المشكل وحلّ المعقّد، وهذا ما أوضحه الإمام عليّ أمير المؤمنين(ع) - كما في الكافي - :"البيت الذي يُقرأ فيه القرآن ويذكر الله عز وجل فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين"(25)، لأنّ قراءة القرآن تمثل حضور الله في عقل البيت وقلبه وحركته في معنى الإنسان فيه.
* * *
وللقرآن دوره الوعظي، في مواعظه التي تنفذ إلى أعماق الروح وتلامس شعور القلب، وتدفع الجسد - من خلال كل مؤثراتها في الوجدان - إلى المزيد من الانضباط في خط التقوى الذي يحرك خطوات الإنسان نحو الجنة، بالرغبة فيها والشوق إليها، ويبعدها عن النار، بالخوف منها والنفور منها، ويحبسها - في هذا الاتجاه - عن الانتقال إلى المعاصي التي تؤدّي إلى غضب الله وسخطه.
اللهم إنّا نبتهل إليك أن تجعلنا ممن تنفذ مواعظ القرآن ونصائحه إلى عقولهم وقلوبهم، لتترك تأثيراتها في حياتهم في الابتعاد عن خطّ الإنحراف في معصية الله في أوامره ونواهيه، سواء في كلماتنا التي قد تخوض في الباطل وتتنكر للحقّ وتفيض في مفردات الضلال، أو في ممارساتنا في أعضائنا للآثام العملية، لنحصل من خلال توفيقك على إخراس الألسنة عن الباطل كلّه وعن زجر الجسد عن نوازع الشرّ في داخله.
* * *
ووجهنا - يا ربّ - في حركة عقولنا وقلوبنا - إلى مواقع اليقظة التي تنفتح بنا على العبرة في خط الفكرة، وعلى الدرس في ساحة التجربة، وأبعدنا - بالقرآن - عن كلّ أجواء الغفلة التي تبتعد بنا عن وعي الحقّ في آفاقك، لنصل، من خلال ذلك، بقلوبنا إلى فهم أسراراه العجيبة وزواجر أمثاله المتنوعة في مواردها ومصادرها وإيحاءاتها التي لا تطيقها الجبال في صلابتها وامتدادها وقوتها، فكيف بالإنسان الضعيف الذي لا يملك أيّة قوّة في معنى الجسد؟...
وقد جاء في بعض الأحاديث: "القرآن هدى من الضلالة، وتبيان من العمى، واستقالة من العثرة، ونور من الظلمة، وضياء من الأحداث، وعصمة من الهلكة، ورشدٌ من الغواية، وبيانٌ من الفتن، وبلاغٌ من الدنيا إلى الآخرة، فيه كمال دينكم، وما عدل أحد عن القرآن إلاّ إلى النار"(26).
وقد جاء - في الكافي - أنّ الإمام السجّاد(ع) قال: "آيات القرآن خزائن، فكلما فتحت خزانةً ينبغي لك أن تنظر ما فيها"(27).
وهكذا نجد كيف ينفتح بنا الدعاء على القرآن في آفاق العبرة واليقظة والوعي وعجائب الفكر وزواجر القلب، فهو الآمر الزاجر.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأدِمْ بِالْقُرْآنِ صَلاَحَ ظَاهِرِنَا، واحْجُبْ بِهِ خَطَراتِ الوسَاوِس عَنْ صِحَّةِ ضَمَائِرنَا، واغْسِلْ بِهِ قُلُوبِنَا وعَلاَئِقَ أوْزَارِنَا، واجْمَعْ بِهِ مُنْتَشِرَ أُمُورِنَا، وارْوِ بِهِ في مَوَاقِفِ الْعَرْضِ عَلَيْكَ ظَمَأَ هَوَاجِرِنَا، واكْسُنَا بِهِ حُلَلَ الأمَانِ يَوْنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ في نُشُورِنَا.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، واجْبُرْ بِالْقُرآنِ خَلَّتَنَا مِنْ عَدَمِ الإمْلاَقِ، وَسُقْ إلَيْنَا بِهِ رَغَدَ الْعَيْشِ وَخِصْبَ سَعَةِ الأَرْزاقِ، وجَنّبْنَا بِهِ الضَّرَائِب الْمَذمُومَةَ وَمَدَانِيَ الأخْلاَقِ.
* * *
اللهم اغسل بالقرآن دَرَن قلوبنا:
يا ربّ، لقد أنزلت القرآن على رسولك من أجل تغيير الإنسان في ظاهره وباطنه إلى الأفضل، وفي تركيز حركته في الحياة في الداخل والخارج على خطّ الاستقامة في اتجاه توحيدك، باعتبار أنّ ذلك هو الذي يُؤصّل إنسانيته التي عمقت فيها الفطرة التي توحي بالقيم الروحية الإنسانية في علاقته بربه وبنفسه وبالناس والحياة من حوله، وذلك من خلال التعاليم المفصّلة المتنوعة التي وزعتها على مختلف أوضاع الإنسان في أقواله وأفعاله وعلاقاته، وأودعت ذلك في كتابك في خطوطه العامة والخاصة لإصلاح ظاهره في ممارسته العملية في دائرة التقوى، ولتركيز ظاهره في أفكاره المنفتحة على الحقّ، وفي دوافعه المنطلقة من الخير، وفي تطلعاته المرتكزة على الخطّ المستقيم.
اللهم ألهمنا سلامة التصوّر للأشياء، واستقامة الفكر في قضايا العقيدة والحياة، وقوّة الإرادة في تأكيد الموقف، حتى نصلح حياتنا الخارجية بالسير - مع التقوى - في طريق رضاك، ونطرد في واقعنا الداخلي في الفكر والروح والشعور كلّ الوساوس الشيطانية التي يزرعها الشيطان في داخلنا، ليربك كلّ ما يختزنه الوجدان من عناصر الحقّ الفكري والروحي والشعوري، فإنّنا نريد أن تكون صورتنا في الشكل والمضمون في صورة رضاك وفي عناوين الحقيقة بدلاً من الوهم الذي يربطنا بالخرافة والزيف الذي ينفتح بنا على الباطل، لأنّك تريدنا في حركة الواقع أن تكون إنسانيتنا في موقع الإيجابية لبناء الحياة.
اللهم اجعل القرآن ينبوع طهر يغسل قلوبنا من أمراضها بما قد تختزنه بفعل المؤثرات المنحرفة من اللؤم والحقد والحسد والبغضاء وغيرها، حتى نغتسل به في كلّ صباح ومساء في وعيِ للآية وفي انفتاحٍ على الموعظة، وطهّر - يا ربّ - بالقرآن في إيحاءاته الفكرية والروحية كلّ واقعنا العملي من الذنوب الخفية والظاهرة، حتى لا يبقى علينا ذنب يرهق طهارتنا الإنسانية، لأنّ الذنوب ليست حالة طارئةً في رياح النفس، بل قد تكون حالةً متجذرةً في الأعماق من خلال الأوحال المتراكمة الكامنة في النفس.
* * *
يا ربّ، واجعل القرآن عنصر وحدة، يوحّد القلوب على المحبة ويجمع الناس على البرّ والتقوى، ويفتح لهم أبواب التعاون على رعاية كلّ أمورهم بالخير والحقّ، فلا تبقى أمورهم الحيوية منتشرةً في كلّ موقع، موزّعةً بين كلّ أفق، بل تجتمع على مواقع رضاك في وحي آياتك.
وهيّىء لنا الحصول على محبتك التي تروي أعماقنا فنرتوي بها - في وحي القرآن - في ظمأ الأجواء الملتهبة بالحرارة في موقف العرض عليك يوم القيامة: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فلا نحسّ بالعطش ولا نسقط تحت تأثير حرارته، بل تتحول محبتك ورحمتك برداً وسلاماً على عبادك الصالحين.
وألبسنا - يا ربّ - حلل الأمان، لنعيش الأمن المنفتح على الثقة برحمتك، والأمر بمغفرتك، والتطلع إلى رضوانك فلا نقف في حالة عُريِ كامل من تأثير الخوف فينا في يوم الفزع الأكبر في ساحة النشور.
اللهم، وقد يسيطر علينا الفقر بفعل الأسباب الواعية التي تدفع به إلى حياتنا فنعيش مرارته وجوعه وعريه وتشريده وحزنه ويأسه، وقد تتجمع المشاكل - من داخله - في واقعنا فتعطّل لدينا كلّ فرصةٍ للحركة في اتجاه الخلاص.
اللهم إنّنا نتوسل إليك بالقرآن الذي تحبّه لأنّه وحي الحقّ في كلماتك، بان تجبر هذا الكسر المادي لحياتنا بقوتك، فتخلصنا من الفقر بغناك بما تهيؤه لنا - في غامض علمك - من الوسائل التي تفتح لنا أبواب السعة في الرزق والخصب في الإنتاج، وتغلق عنّا أبواب التحرك بالذهنية المغلقة، وبما تلهمنا من التفكير في تفاصيل العمل المتحرك في خطّ الرشد الاقتصادي في الكسب والإنفاق، وترزقنا من حيث نحتسب ومن حيث لا نحتسب.
وابتعد بنا - يا ربّ - من خلال وعينا للقرآن في آياته التربوية وتعاليمه الأخلاقية وتطلعاته الروحية، عن كلّ الطبائع والسجايا السيّئة المذمومة، وكلّ الأخلاق السافلة الرذيلة، حتى تكون أخلاقنا صورةً لأخلاقك، وتنطلق طبائعنا في الخطّ الذي يتحرك في مواقع رضاك.
* * *
وِاعْصِمْنَا بِهِ مِنْ هُوَّةِ الْكُفرِ وَدَواعِي النِّفاقِ، حَتّى يَكُونَ لَنَا في الْقِيَامَةِ إلى رِضْوَانِكَ وَجِنَانِكَ قَائِداً، ولَنَا في الدُّنْيَا عَنْ سَخَطِكَ وَتَعَدِّي حُدُودِكَ ذَائِداً، وَلِمَا عِنْدَكَ بِتَحْلِيلِ حَلاَلِهِ وَتَحْرِيمِ حَرَامِهِ شَاهِداً.
* * *
اللهم اعصمنا بالقرآن من الكفر والنفاق:
يا ربّ، هب لنا العصمة الفكرية من الانحراف الفكري في العقيدة، الذي يبتعد عن خطّ الإيمان، وينحدر بنا في هوّة الكفر، وذلك من خلال ما نتعمق فيه من آيات القرآن ودلائله وبراهينه وحججه القويّة، وأعطنا المناعة الروحية بالانفتاح على آفاق الروح في القرآن، وخطوط الاستقامة في أخلاقياته، لنكون الصادقين في مشاعرنا وأفكارنا وأعمالنا، فلا نقع تحت تأثير بواعث النفاق في التواءاته الروحية والعملية، حتى ننطلق - بعد الموت - إلى يوم القيامة بقيادة القرآن الفكرية والعملية إلى ساحة رضوانك ورحاب جنانك، ونبتعد - به - عن سخطك وتعدّي حدودك في حركتنا في واقع الدنيا، وننفتح به على الانسجام مع شريعتك في تحليل حلال القرآن وتحريم حرامه، لنكون في كلّ دنيانا وآخرتنا في مواقع طاعتك، ومواقف رضوانك.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلهِ، وَهَوِّنْ بِالْقُرْآنِ عِنْدَ المَوْتِ عَلَى أنْفُسِنَا كَرْبَ السِّيَاقِ(28)، وَجَهْدَ الأّنِينِ، وتَرَادُفَ الْحَشَارِجِ(29)، إذَا بَلَغَتِ النُّفُوسُ التَّراقِيَ(30) وقِيلَ مَنْ رَاقٍ، وتَجَلَّىَ مَلَكُ الْمَوتِ لِقَبْضِهَا مِنْ حُجُبِ الْغُيوبِ، وَرَمَاهَا عَنْ قَوْسِ الْمَنَايَا بأَسْهُمِ وَحْشَةِ الفِرَاقِ، وَدَافَ(31) لَهَا مِنْ ذعافِ(32) الْمَوْتِ كَأْساً مَسْمُومَةَ الْمَذاقِ، ودَنَا مِنَّا إلَى الآخِرَةِ رَحِيلٌ وانْطلاقٌ، وَصَارتِ الأعْمَالُ قَلاَئِدَ في الأَعْنَاقِ، وَكَانَتِ الْقُبُورُ هِيَ الْمَأْوَى إلَى مِيقاتِ يَوْمِ التَّلاَقِ.
* * *
اللهم خفّف ببركة القرآن أهوال القيامة:
يا ربّ، إننا نتطلّع إلى اللقاء بك في رحاب رحمتك في دار السلام، ولكن هناك غمرات وغمرات تنتظرنا في الطريق إليك، في الآلام التي تصيبنا في أجسادنا، وفي الكرب النازل بنا في ساعات نزع الروح عن البدن، وفي تتابع الحشرجات اللاهثة في الصرخات الخافتة في ترددات النفس، عندما تبلغ النفوس والتراقي، ويصرخ الأهل باحثين عن الراقي الذي يعوّذنا بكلّ تعاويذ الابتهال إليك، ويقترب ملك الموت منّا ليقوم بمهمته التي أوكلتها إليه في قبض أرواحنا، ويطلق أسهم الموت نحونا ليقودنا إلى الأجواء التي نعيش فيها وحشة الفراق، ويسقينا بكأسه المسمومة، ويدفع بنا إلى الآخرة حيث نواجه الأعمال التي تثقل أعناقنا بالمسؤولية، ويطبق القبر بظلامه ووحشته علينا في سكون دائم ينتظر حركة الصيحة الكبرى يوم المعاد.
اللهم خفف ببركة القرآن وشفاعته وقيمته عندك - ونحن من أهله القارئين له الملتزمين نهجه - كلّ هذه الأهوال، وكلّ هذه الآلام، حتى تسهّل علينا الطريق، وتجعل في الموت راحةً وأنساً وسروراً وفرحاً لا يشوبه حزن ولا ألم ـ بلقاك.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وبَارِكْ لَنَا في حُلولِ دَارِ البلَى، وطُولِ المُقامَةِ بَيْنَ أَطْبَاقِ الثّرى، واجْعَلِ القُبورَ بَعْدَ فِرَاقِ الدُّنْيَا خَيْرَ مَنَازِلِنَا، وافْسَحْ لنا بِرَحْمَتِكَ فِي ضِيقِ مَلاَحِدِنَا، وَلاَ تَفْضَحْنَا في حاضِري القِيَامَةِ بِمُوبِقَاتِ آثَامِنَا.
وارْحَمْ بالقرآن، في موقفِ العرضِ عليك ذُلَّ مَقَامِنَا، وثَبِّتْ بِهِ عَنْدَ اضْطَرابِ جِسْرِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْمَجَازِ عَلَيْهِ زَلَلَ أَقْدَامِنَا، وَنَوِّرْ بِهِ قَبْلَ الْبَعْثِ سَجْقَ قُبُورِنَا، وَنَجِّنَا بِهِ مِنْ كَرْبٍ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَشَدَائِدِ أَهْوَالِ يَوْمِ الْطَّامَّةِ، وَبَيِّضْ وُجُوهَنَا يَوْمَ تَسْوَدُّ وُجُوهُ الظَّلَمَةِ في سَوْمِ الْحَسْرَةِ والنَّدامَةِ، واجْعَلْ لَنَا في صُدُورِ الْمؤْمِنِينَ وُدّاً، وَلاَ تَجْعَلِ الْحَيَاةَ عَلَيْنَا نَكَداً.
* * *
اللهم أحرم - بالقرآن - ذلَّ مقامنا في القيامة:
يا ربّ... ونصل إلى قبورنا التي تمثل دور الفناء الذي تتقطع فيه أعضاؤنا، وتتفرق فيه أوصالنا، وتتفتت فيه أجسادنا، ويمتدّ بنا هذا التفتت المتحرك في إقامةٍ طويلةٍ تحت أطباق الثرى.
اللهم بارك لنا في ذلك حتى تمرّ بنا هذه التجربة الصعبة من دون صعوبة.
واجعل قبورنا روضةً من رياض الجنة نتروح فيها نسيم رضوانك لتكون خير منازلنا التي كنا ننزلها في الدنيا، وأفسح لنا من سعة رحمتك في ملاحدنا الضيقة، لنشعر فيها الامتداد المنفتح على رأفتك، وإذا وقفنا بين يديك يوم القيامة، ومعنا كل فضائح الآثام التي مارسناها في حياتنا الماضية في الدنيا، فأعطنا من سترك الجميل ما يجنبنا الفضية على رؤوس الأشهاد.
* * *
يا ربّ، إنّ ذنوبنا التي أثقلت ظهورنا بأثقالها توقفنا موقف الذل أمامك في موقف العرض عليك في القيامة، وأيّ ذلٍّ أعظم من ذلّ الموقف الضعيف الذي لا يملك الإنسان فيه حجّةً على أعماله، ولا يجد معه عذراً يبرر له كلّ ما أسلفه في تاريخه الماضي، وليس لنا - يا ربّنا - في ذلك الموقف إلا رحمتك التي تفتح لنا أبواب مغفرتك، فتشعرنا - هناك - بالعزّ في موقف الرضوان من عفوك، فارحمنا - يا ربّ -.
وإذا عبرنا جسر جهنم، وتحركنا عليه، واضطرب في اهتزازه، فثبّت أقدامنا حتى لا تزلّ فتنقلب بنا في نار جهنم، وهذا هو الذي تعبر عنه كلمة الصراط الذي قد يكون رمزاً للخطّ المستقيم، ومهما كانت الكلمة رمزاً أو شكلاً مادياً، فإنّنا - يا ربّ - نرجو - بكلّ استغاثة - أن تحمينا من السقوط في نار جهنم بفعل الانحراف العملي أو اهتزاز الخطوات في الطريق التي تؤدّي إلى الموقف الحاسم.
* * *
يا ربّ، إنّ للقبر وحشته من خلال ظلمته، مما يجعلنا نعيش همّه قبل أن ننزل فيه، ونحن هنا نتوسل إليك ببركة القرآن، أن تضيء لنا داخله بالنور الذي يزيل الظلمة حتى نعيش في فرح النور انتظاراً لموعد القيامة، وأبعد عنّا بفرح القرآن وروحانيته، كلّ همٍّ وغمٍ في يوم القيامة من خلال حالة الخوف أو الفزع التي تنتاب المذنبين الحائرين هناك، وشدائد الهول الكبير الذي يقتحم قلوبهم.
وأعطنا إشراقة وجوهنا من خلال ما تمنحنا إياه من عفوك ومغفرتك، مما يتمّ به نورنا الذي انطلق من نور إيماننا، في ذلك اليوم الذي تسودّ فيه وجوه الظلمة الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والضلال أو بالبغي على عباد الله، وهو اليوم الذي تنفح النفس على مشاعر الحسرة أمام النتائج السلبية التي تواجهنا في حساب أعمالنا، والندامة على الفرص الضائعة في سالف أيامنا، وهب لنا - يا ربّ - محبة المؤمنين التي تتفاعل في قلوبنا إحساساً بالانتماء الإنساني إلى المسيرة الإيمانية السائرة إلى مواقع طاعتك ورحاب رضوانك.
واجعل الحياة لنا - يا ربّ - برحمتك ولطفك وقدرتك فرحاً وسروراً وراحةً، ولا تجعلها شديدة قاسية في دائرة العسر والصعوبة.
* * *
يا ربّ، إنّ هذه الابتهالات الروحية التي تنفتح فيها أرواحنا عليك، وتخشع - من خلالها - قلوبنا أمامك، وتسجد - معها - إرادتنا وكلّ أعمالنا وأقوالنا بين يديك، هي انطلاقة إيمان يعيش في قلوبنا وعقولنا، وخفقة محبة في مشاعرنا، ونبضة إحساس في أحاسيسنا، وحركة تعبير عن إخلاص عبوديتنا لك.
اللهم فارحم ابتهالاتنا وخشوعنا وسجودنا ونبضات قلوبنا وخفقات أحاسيسنا وصفاء كلماتنا وطهارة نياتنا، لنحصل على مواقع القرب منك، ودرجات الرضوان لديك، بما تقضي به جاحاتنا، وترفع به درجاتنا، وتحقق لنا أحلامنا، وتخفف من آلامنا، وتنقذنا من صعوبات الحياة في كلّ دنيانا، وتحقق لنا السعادة والنجاة والحصول على النعيم في جنتك في آخرتنا.
فنحن أمّة القرآن التي تقرأه وتتدبره وتعيشه وتتحرك في خطّ تعاليمه وإرشاداته ومنهجه في الحياة.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مَحمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، كَمَا بَلَّغَ رِسَالَتَكَ، وصَدَع بِأَمْرِك، وَنَصَحَ لِعِبادكَ.
اللّهُمَّ اجْعَلْ نَبِيَّنَا صَلَوَاتُكَ عَلَيهِ وَعَلى آلِهِ يَوْمَ الْقيَامَةِ أَقْرَبَ النَّبِيِّين مِنْكَ مَجْلِساً، وَأمْكَنَهُمْ مِنْكَ شَفَاعةً، وأَجَلَّهُمْ عِنْدَكَ قَدْراً، وَأوْجَهَهُمْ عِنْدكَ جَاهاً.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَشَرِّفْ بُنْيَانَهُ، وعَظِّمْ بُرهَانَهُ، وثَقِّلْ مِيزَانَهُ، وَتَقَبَّلْ شَفَاعَتَهُ، وَقَرِّبْ وسِيلَتَهُ، وبَيِّضْ وَجْهَهُ، وَأتِمَّ نُورَهُ، وارْفَعْ دَرَجَتَهُ، وأَحْيِنَا عَلَى سُنَّتِهِ، وَتَوَقَّنَا عَلَى مِلْتِهِ، وَخُذْ بِنَا مِنْهاجَهُ، واسْلُكْ بِنَا سَبيلَهُ، واجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ طاعَتِهِ، واحشُرْنا في زُمْرَتِهِ، وَأَوْرِدْنَا حَوْضَهُ، واسْقِينا بِكَأْسِهِ.
اللَّهُمَّ وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، صلاةً تُبلِّغُهُ بِهَا أفْضَلَ ما يَأْمَلُ مِنْ خَيْرِكَ وَفَضْلِكَ وَكَرَامَتِك، إنّكَ ذُو رَحْمَةٍ واسِعةٍ وفَضْلٍ كَرِيم.
اللّهُمَّ اجْزِهِ بمَا بلّغَ مِنْ رِسَالاَتِكَ، وأدّى مِنْ آيَاتِكَ، وَنَصَحَ لِعِبَادِكَ، وجَاهَدَ في سَبِيلِكَ، أفْضَلَ مَا جَزَيْتَ أحَداً مِنْ مَلائِكَتِكَ الْمُقَرَّبِينَ وَأَنْبِيَائِكَ المُرْسَلينَ المُصْطَفَينَ، والسّلام عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ الطّيّبينَ الطَّاهِرِينَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهِ.
* * *
اللهم صلِّ على محمّد وآله أفضل ما جزين أحداً من خلقك:
يا ربّ، إنّ للنبي محمّد(ص) في عقولنا وقلوبنا الدرجة العليا في احترامنا له، وتعظيمنا لنبوّته، وتقديرنا للمدى الرسالي الذي فتحه وبلغه وجمع الناس على الانفتاح عليه، فهو الرسول الإنسان الذي عاش إنسانيته في إنسانية النّاس من حوله، حيث تجسديه لإنسانية الرسالة في سيرته وعلاقته بالناس والحياة، وهو النبيّ الذي عاش المعاناة في نفسه وروحه وجسده في سبيل إبلاغ رسالته إلى الناس كافة.
اللهم فارفع درجته من خلال صلاتك عليه، لأنّه بلّغ رسالتك، وجهر بأمرك، وأعطى النصيحة لعبادك من عقله وروحه ولسانه، وقرّب موقعه منك ومجلسه من مقامك، ووجاهته عندك، وشفاعته لديك، حتى يكون في الدرجة الفضلى التي يتميز بها عن سائر الأنبياء، لأنّه يستحقّ ذلك منك بإخلاصه وروحه وجهاده وذوبانه فيك وفي رسالتك.
* * *
اللهم، وإنّه قد شيّد للدين قوّياً صلباً لا يتزعزع، ليبقى للإنسانية في كلّ امتداداتها في الزمان، وليشمل كلّ مواقعها في المكان، اللهم فاجعل بنيانه أعلى بناء في حمايته من ضغط الضاغطين، وتحريف المحرّفين، واجعل برهانه أعظم البرهان في مواجهة الأفكار الكافرة والتيارات الضالة والخطوط لمنحرفة، وثقّل ميزانه بالحسنات، وتقبّل شفاعته في أمته، وقرّب كلّ وسائله في الحظوة عندك ونيل الدرجة الرفيعة لديك، وأعطه - من كرامتك - من الكرامة والفضيلة مما يبقي وجهه في إشراقة السرور في ملامحه، وأتمّ له نوره في رسالته وفي كلّ عطاءاته الروحية والعملية في حياة الناس، وامنحه الدرجة الرفيعة عندك، واجعلنا - في كلّ حياتنا - من السائرين على سنته في كلّ مناهج حياتنا، وإذا توفيتنا واستحضرتنا دعوتك التي لا بدّ من إجابتها، فاجعل وفاتنا على خطّ دينه وتوفّنا مسلمين، وسر بنا في منهاجه الفكري والعملي في كلّ قضايانا في الحياة، ووجهنا للسير على طريقه القويم، ووفقنا لكلّ طاعته، واجعلنا معه في ساحة رضوانك، واجعل لنا فرصة ورود حوضه الذي يسقي منه العطاشى في ظمأ يوم القيامة، ليسقينا بكأسه الأوفى شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
اللهم إنّ صلاتك على رسولك هي فوق كلّ صلاة، لأنّها ترفع الدرجة، وتنزل الرحمة، وتمنح الخير، وتعطي الفضل والكرامة، اللهم صل عليه الصلاة التي تبلغه ذلك كلّه وتزيد عليه، فإنّك الربّ الرحمن الرحيم، وصاحب الفضل الكريم.
اللهم أعطه جزاء جهده ومعاناته في إبلاغ رسالتك، وتلاوة آياتك، والنصح لعبادك، والجهاد في سبيلك، أفضل الجزاء، وأعظم الثواب الذي منحته لملائكتك المقربين ولأنبيائك المرسلين الذي اصطفيتهم لدينك، واخترتهم من بين خلقك لأداء رسالتك.
وله - منّا - السلام إخلاصاً ومحبّة له وعلى آله الطيبين الطاهرين الذي أتّبعوا نهجه واقتفوا أثره، وساروا على خطّه، وجاهدوا في تعزيز رسالته ورحمة الله وبركاته.
* * *

الهوامش:

(1)    مجمع البيان في تفسير القرآن، ج:1، ص:14.
(2)    الاعتقادات (الصدوق) من ضمن شرح باب الحادي عشر، ص:93، نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:5، ص:391.
(3)    التبيان، ج:1، ص:3، نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:5، ص:392.
(4)    الكافي، ج:3، ص:617، رواية:1.
(5)    الهذرمة: السرعة في القراءة. وقيل هي السرعة في الكلام والمشي.
(6)    الكافي، ج:2، ص:617، رواية:2.
(7)    الكافي، ج:2، ص:612، رواية:6.
(8)    الكافي، ج:2، ص:613، رواية:5.
(9)    الكافي، ج:2، ص:615، رواية:9.
(10)    الكافي، ج:2، ص:614، رواية:3.
(11)    الكافي، ج:2، ص:616، رواية:11.
(12)    الكافي، ج:2، ص:616، رواية:13.
(13)    لعلّ المراد بذلك الشاهدون لله بالتوحيد وللأنبياء بالتصديق، وربما أريد به محمداً وأهل بيته أو أمته، على هدى قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].
(14)    الجواسي: جمع جاسي، فاعل من جسا يجسو جُسواً - بالضم - إذا يبس وصلب وغلظ، أي ليّنت ما صلُب من ألسنتنا بحسن عبارته،والمراد بجسو الألسن تلعثمها وعدم انطلاقها، وبتسهيلها بحسن عبارته: تمرينها وتثقيفها به.
(15)    مفردات الراغب، ص:96.
(16)    البحار، ج:93، ص:81.
(17)    البحار، ج:93، ص:100.
(18)    رياض السالكين، ج:5، ص:431-432.
(19)    حلية الأولياء، ج:1، ص:67-68، نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:5، ص:436.
(20)    البحار، ج:22، باب:1، ص:470، رواية:19.
(21)    البحار، ج:10، ص:145، رواية:1، باب:10.
(22)    الكافي، ج:1، ص:228، رواية:1.
(23)    نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:5، ص:451.
(24)    الكافي، ج:1، ص:204، رواية:2.
(25)    الكافي، ج:2، ص:498، رواية:1.
(26)    في ظلال الصحيفة السجادية، ص:385.
(27)    الكافي، ج:2، ص:609، رواية:2.
(28)    السياق: نزع الروح من البدن.
(29)    الحشارج: جمع حشرجة، وهو الصوت الذي يردده المريض في حلقه عند الموت.
(30)    التراقي: جمع ترقوة، العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال.
(31)    داف الدواء بالماء: خلطه به.
(32)    ذعاف الموت: سمه القاتل لساعته.
* * *


دعاؤه(ع)
إذا نظر إلى الهلال

أَيُّهَا الْخَلْقُ الْمُطيعُ الدّائِبُ السَّريعُ، الْمُتَرَدِّدُ في مَنازِلِ التَّقْديرِ، الْمُتَصَرِّفُ في فَلَكِ التَّدْبيرِ، آمَنْتُ بِمَنْ نَوَّرَ بِكَ الظُّلَمَ، وَأَوْضَحَ بِكَ الْبُهَمَ، وَجَعَلَكَ آيَةً مِنْ آياتِ مُلْكِهِ، وَعَلامةً مِنْ عَلاماتِ سُلْطانِهِ، وَامْتَهَنَكَ بِالزِّيادَةِ وَالنُّقْصانِ، وَالطُّلُوعِ وَالأفُولِ، وَالإنارَةِ وَالْكُسُوفِ، في كُلِّ ذلِكَ أَنْتَ لَهُ مُطيعٌ، وَإِلى إِرادَتِهِ سَريعٌ.
سُبْحانَهُ ما أَعْجَبَ ما دَبَّرَ في أَمْرِكَ، وَأَلْطَفَ ما صَنَعَ في شَأْنِكَ! جَعَلَكَ مِفْتاحَ شَهْرٍ حادِثٍ لأمْرٍ حادِث.
فَأَسْاَلُ اللّهَ رَبّي وَرَبَّكَ، وَخالِقي وَخالِقَكَ، وَمُقَدِّري وَمُقَدِّرَكَ، وَمُصَوِّري وَمُصوِّرَكَ، أَنْ يُصَلِّىَ عَلى مُحَمَّد وَآلِه، وَأَنْ يَجْعَلَكَ هِلالَ بَرَكَةٍ لا تَمْحَقُهَا الأيّامُ، وَطَهارَة لا تُدَنِّسُهَا الاْثامُ، هِلالَ أَمْنٍ مِنَ الاْفاتِ، وَسَلامَةٍ مِنَ السَّيِّئاتِ، هِلالَ سَعْدٍ لا نَحْسَ فيهِ، وَيُمْن لا نَكَدَ مَعَهُ، وَيُسْرٍ لا يُمازِجُهُ عُسْرٌ، وَخَيْرٍ لا يَشُوبُهُ شَرٌّ، هِلالَ أَمْن وَإِيمانٍ، وَنِعْمَةٍ وَإِحْسانٍ، وَسَلامَةٍ وَإِسْلام.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاجْعَلْنا مِنْ أَرْضى مَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَزْكى مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ، وَأَسْعَدَ مَنْ تَعَبَّدَ لَكَ فيهِ، وَوَفِّقْنا فيهِ لِلتَّوْبَةِ، وَاعْصِمْنا فيهِ مِنَ الْحَوْبَةِ، وَاحْفَظْنا فيهِ مِنْ مُباشَرَةِ مَعْصِيَتِكَ، وَأَوْزِعْنا فيهِ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَأَلْبِسْنا فيهِ جُنَنَ الْعافِيَةِ، وَأَتْمِمْ عَلَيْنا بِاسْتِكْمالِ طاعَتِكَ فيهِ الْمِنَّةَ، إِنَّكَ الْمَنّانُ الْحَميدُ، وَصَلَّى اللّهُ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ.
* * *
قيمة النظر إلى الظواهر الطبيعية:
للنظر إلى الأشياء في الكون - إنسانيةً أو حيوانية أو نباتية أو جمادية في نطاق الظواهر الكونية وغيرها - مهمّة ثقافية دينيّة تتصل بالتربية الفكرية والروحية، وذلك من خلال التوجيه الإسلامي في المسألة الثقافية، باعتبار النظر وسيلة من وسائل الدروس والاعتبار الذي يحصل عليه الإنسان من خلال تفهّم أسرارها ودلالاتها والحصول على نتائج ذلك كلّه من أجل أن يكون الإنسان في حركةٍ دائمةٍ للوعي المتجدد، الذي يتعلم من دروس الواقع الكوني والإنساني أكثر مما يتعلم من الكتاب، لأنّ الكتاب يمثل تجربةً فكرية محدودة لإنسان عاش التجربة في تأملاته وظروفه، أما النظر الاعتباري المتحرك في الآفاق وفي الواقع المتناثر على الأرض، فهو يمثل التجارب الحيّة لأكثر من إنسان، وفي أكثر من زمان ومكان، مما يمثل - في وعي النتائج - حركة تطورية للوعي الإنساني في حركة الإنسان في الحياة، وربما كان هذا التوجيه الإسلامي المعرفي يعطي للمعتبر في نظرته إلى الأشياء لوناً من ألوان التفاعل معها، فيشعر بالصداقة معها من خلال مصاحبتها والنفاذ إلى داخلها والانفتاح على أسرارها الحميمة، مما يجعله يتحسس معنى وحدته مع الكون مع معنى الدور الوجودي الذي تتكامل مواقعه من خلال تكامل الأدوار المتنوعة الموزّعة على ظواهره وأنواع موجوداته للتوحد جميعاً في تحقيق إرادة الله في الكون.
وفي هذا الاتجاه يعرف الإنسان موقعه من هذا الكائن أو ذاك وموقفه منه، ليتعامل معه تعاملاً واعياً لا كشيء من الأشياء المهملة في الكون مما لا دور له فيه، ولا علاقة له به، بل كموجود ممتلئ بالأسرار التي قد تنعكس سلباً أو إيجاباً على حياته بحيث يلتقي معه في أكثر من إيحاء وفي أكثر من موقع أو موقف.
* * *
المفاهيم الأساسية للدعاء:
وقد جاء هذا الدعاء الذي دعا به الإمام زين العابدين(ع) إذا نظر إلى الهلال ليؤكّد هذه الفكرة في معنى النظر إليه، وفي استيحاء ذلك في علاقة الإنسان به، فلا يعود الهلال لديه مجرّد كوكب في السماء بعيد عن مدى الإنسان، بل يصبح ظاهرة كونية تتصل بدوره في نظام الوجود، وتنفتح على حياة الإنسان في تنظيم محطات الزمن لديه، وتوحي إليه بكلّ تطلعاته العملية في الحياة في علاقته بربّه في حركة الزمن في وجوده وفي حركته في الزمن.
ففي الفصل الأول، يتمثل الهلال كما لو كان مخلوقاً حيّاً واعياً متحركاً في وظيفته الكونية في الوجود، وفي طاعته لله، وفي الإخلاص لكلّ مفردات نظامه، وفي اعتباره آيةً من آيات الله الدالة عليه في معنى القدرة، ومظهراً من مظاهر سلطانه، وموقعاً من مواقع تقديره في تغيّره المتنوع في صورته المتحركة بالزيادة والنقصان والطلوع والأفول والإنارة والخسوف، ممّا يوحي بخضوعه لله في ذلك كلّه وبطاعته الكونية الوجودية له في الانسجام مع تقديره للكون.
ثم - بعد ذلك كلّه - أراد له أن يكون ميقاتاً للناس، فجعله بداية شهر تتتابع أيامه في تتابع متغيرات أوضاعه، لينتهي به كما بدأ، وليعيش الإنسان معه باعتباره الظاهرة الكونية التي تنظم له حياته في وظائفه ومواعيده وأوضاعه.
* * *
وفي الفصل الثاني، ينطلق الإنسان في الدعاء وهو لا يزال في حالة الخطاب مع الهلال الذي يلتقي معه في وحدة الربّ الذي هو ربّهما معاً ومقدّر وجودهما معاً وهو خالقهما معاً ومصورهما معاً، مما يوحي بوحدة الإنسان - بالمعنى الوجودي في إبداع الله له - معه.
... فيطلب الإنسان من ربّه أن يجعله - في حركة الزمن - هلالاً يصطحب البركة معه، والطهارة الروحية المرتبطة بالطاعة، والأمن من كلّ آفة، والسلامة من كلّ ذنب، والسعد الذي لا يلتقي بالنحس، واليمن الذي لا عسر فيه ولا شدة، واليسر الذي لا عسر في داخله، والخير الذي لا يتبدل إلى شرّ في أجواء الأمن واليمن والسلام والنعمة والسلامة والإحسان.
* * *
وفي الفصل الثالث، يتطلع الإنسان إلى ربّه وهو يفكّر في عبوديته له كيف تتمثل بالطاعة والتوبة والعبادة والحفظ عن المعصية، والمداومة على الشكر، والعيش مع العافية، ليكون الإنسان أرضى الناس الذين طلع عليهم القمر، لله، وأزكى من نظر إليه، وأسعد من تعبد لله فيه، وأسرعهم للتوبة، وأكثرهم هو عصمة، وأبعدهم عن مباشرة المعصية، وأشكرهم لله، ليتمَّ الله له المنّة بذلك كلّه وهو المنّان الحميد.
* * *
أيُّها الْخَلْقُ الْمُطِيعُ، الدّائِبُ السَّرِيعُ، المُتَردّدُ في مَنَازِلِ التَّقْدِيرِ، والْمُتَصَرِّفُ في فَلَكِ التَّدبِيرِ، آمَنْتُ بِمَنْ نَوَّرَ بِكَ الظُلَمَ، وَأوْضَحَ بِكَ الْبُهَمَ، وَجَعَلَكَ آيَةً مِنْ آيَاتِ مُلْكِهِ، وَعَلاَمَةً مِنْ عَلاَمَاتِ سُلْطَانِهِ، وامْتَهَنَكَ بِالزِّيَادَةِ والنُّقْصَانِ، والطُّلُوعِ والأُفُولِ، وَالإنَارَةِ والخُسُوفِ، في كُلِّ ذَلِكَ أنْتَ لَهُ مُطِيعٌ، وَإلَى إرَادَتِهِ سَرِيعٌ.
سُبْحَانَهُ مَا أعْجَبَ مَا دَبَّرَ في أَمْرِكَ! وألْطَفَ مَا صَنَعَ في شَأْنِكَ! جَعَلَكَ مِفْتَاحَ شَهْرٍ حَادِثٍ لأمْرٍ حَادِثٍ.
* * *
الحمد لله الذي جعلك آية من آيات مُلكه:
أيّها المخلوق الكونيّ الذي أبدعه الله كوكباً يسبح في الفضاء، ويمتد في وديانه وتلاله كما هي الأرض مع خصوصيات تميزه عنها وتميزها عنه، ويتماسك بقدرة الله، ولكنّه يبدو للناظر في الأرض قطعة ضياء هادئ وديع يمنح الفضاء الأرضي في كلّ جنباته نوراً وديعاً يصنع الكثير من أجواء الأحلام السعيدة السابحة في الفضاء، في غموض سحريّ خفيّ ينقل الإحساس إلى عوالم خفية ضائعة بين النور والظلام.
أيّها الخلق الإلهي الذي صنعه الله، كما صنع خلقه في نظام الكون، ووزّع بينها الأدوار، فلكلّ واحدٍ منه دور في توازن النظام واستقامته، وموقع في ساحات الوجود المتحرك في السماء الدنيا، فهو المطيع بتكوينه الذي استجاب لربّه بوجوده عندما قال للسماء والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، وهو الجادّ في مهمته المواظب عليها، السريع في إنفاذ دوره، وهو المتحرك أبداً في منازله التي قدرها الله له، وذلك هو قوله تعالى:{ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [يس:39]، فهو ينتقل من منزلة إلى منزلة، ومقدارها - كما يقول علماء الفلك - ثمانٍ وعشرون، ينزل القمر كلّ ليلةٍ في واحدٍ منها، ويستتر في ليلتين إذا كان الشهر ثلاثين يوماً، وفي ليلة واحدة إذا كان تسعةً وعشرين يوماً.
وهذه المنازل هي التي تحدّد أيام الشهر القمري، بينما تحدّد الشمس ساعات النهار، وهو المتصرّف في نظامه الكوني في مواقع التدبير الإلهي للكون، من خلال القوانين التي أودعها في عالم الطبيعة.
أيّها المخلوق العجيب في طبيعته الذي لم يكتشف العلم إلا السطح البارز فيه، مما يجعل الغموض في سرّك الخفيّ عنوان تصوّرنا لك.
إننا لن نستغرق في سرّك استغراق الإنسان في الموجود في أعماق ذاته، فننفصل عن التفكير في موقع القدرة في وجودك، ولكنّنا ننفذ إليك في دلالاتك الإيمانية التي تطلّ بنا على الله في عظمته الربوبية، وفي قدرته المطلقة، ليكون ذلك فعل إيمانٍ ومنطلق وعيٍ في عالم المعرفة، لنزداد إيماناً بمن أجرى فيك قدرته التي حوّلتك إلى نور ينساب في أعصاب الظلمات، ليحولها إلى نور هادئ خافت يمنح الكون ضياءً وجمالاً، يجعلك كاشفاً لكلّ ما أخفاه الليل في ظلامه.
فكنت آيةً من آيات الله في الدلالة على سعة ملكه، وعلامة من علامات سيطرته المطلقة على الوجود له، وقد حرّك أوضاعك في أكثر من وجهٍ وصورة، وذلك بالزيادة والنقصان في حجمك المرئي في ظاهر الصورة، والطلوع تارةً، والأفول أخرى، والإضاءة والخفوت الذي يضعف النور تارة ويزيله أخرى في انسجام مع القانون الإلهي العام في نظام الكون، كما لو كان القمر موجوداً حيّاً واعياً يستجيب لأوامر الله، ويسرع إلى تحقيق إرادته، مما يبعث فينا المبادرة إلى التسبيح انفتاحاً على عجائب التدبير الإلهي فيك، ولطف الصنع في وجودك، فكنت في ذلك كلّه مفتاحاً للزمن في حياة الناس، تفتح فيه أبواب الشهر، لينظّم لهم أوضاعهم وأعمالهم وعلاقتهم بالواقع من حولهم، الأمر الذي يحدّد لهم كلّ ما يفيضون فيه في كلّ قضاياهم من أجل الوصول إلى النتائج الكبرى في الحياة، وتلك نعمة من نعم الله التي أفاضها على عباده.
* * *
فَأَسْأَلُ اللهَ رَبِّي وَرَبِّكَ وَخَالِقي وخَالِقَكَ وَمُقَدِّرَكَ ومُصَوِّري وَمُصَوِّرَكَ، أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَكَ هِلاَلَ بَرَكَةٍ لا تَمْحَقُهَا الأيّامُ، وَطَهَارَةٍ لا تُدنِّسُها الآثامُ؛ هِلالَ أَمْنٍ مِنَ الآفَاتِ، وَسَلاَمَةٍ مِنَ السّيِّئَاتِ، هَلاَلَ سَعْدٍ لاَ نَحْسَ فيه، ويُمْنٍ لا نَكَدَ مَعَهُ، وَيُسْرٍ لاَ يُمَازِجُهُ عُسْرٌ، وَخَيْرٍ لاَ يشُوبُهُ شرٌّ، هِلاَلَ أمْنٍ وَإيمَانٍ، ونِعْمَةٍ وإحسانٍ، وسَلامَةٍ وَإسْلاَمٍ.
* * *
اللهم أسألك أن تجعله هلال بركة وطهارة وأمن وسلامة...
يا هلال الكون الذي يضيء لنا الليل بإشراقة نوره، ويفتح لنا أبواب الزمن بدورة نظامه.. إننا - هنا - لا نستغرق فيك من حيث عناصرك الوجودية العظيمة، ولكنّنا ننطلق منك إلى الله ربّنا وربّك وخالقنا وخالقك ومقدّر وجودنا وأمورنا ومقدّرك، ومصوّر ذواتنا ومصوّرك، لننفتح عليه - من خلال عظمته البارزة في خلقك وخلق الكون كلّه - لنسأله - وهو القادر على كلّ شيء - من موقع رحمته ولطفه وفيوضات نعمته - أن يبارك لنا في حياتنا في بداية شهرنا الذي بدأ بطلوعك بعد غياب، فيمنحنا بركته المستمرة التي تمتد امتداد عمرنا، ويمنحنا طهارة العقل والقلب والروح والجسد والأحلام والطموحات والتطلعات، لنعيش الطهر الإلهي في طهارة وجودنا الذي ينفتح على العصمة في طاعتك، فلا يدنّسه أيّ إثم بما يمثله الذنب من قذارة النيّة والفعل، وليسهّل لنا سبيل الأمن من كلّ آفةٍ في أنفسنا وأولادنا وأموالنا وأوضاعنا العامة والخاصة، لنعيش الأمن - في حياتنا - من كلّ عدوٍّ ومن كلّ سوءٍ، والسلامة من كلّ ذنب، وليرفرف علينا السعد الذي يوحي بكلّ راحة واطمئنان وهدوءٍ وسعادةٍ في الإحساس الداخلي والحركة الخارجية، فلا يقترب منا نحس الحظ والواقع بكلّ سلبياته ومشاكله، وليعطينا من فيوضات رحمته - يُمناً في الحياة لا مشقة معه، ويسراً لا عسر فيه، وخيراً لا يقترب إليه الشرّ، فيكون هلالك علينا في بداية شهرنا أمناً وإيماناً ونعمةٍ وإحساناً وسلامةً وإسلاماً لله في كلّ أمورنا، حتى تكون حياتنا تجسيداً لإرادته في كلّ شيء.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، واجْعَلْنَا مِنْ أرْضَى مَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَزْكَى مَنْ نَظَر إلّيْه، وأسَعَدَ مَنْ تَعبَّدَ لَكَ فِيهِ، وَوَفِّقْنَا فِيهِ لِلتَّوْبَةِ، واعْصِمْنَا فِيهِ مِنَ الْحَوْبَةِ، واحْفَظْنَا فِيهِ مِنْ مُبَاشَرَةِ مَعْصِيَتِكَ، وَأوْزِعْنَا فِيهِ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَألْبِسْنَا فِيهِ جُننَ(1) الْعَافِيَةِ، وَأتْمِمْ عَلَيْنَا باسْتِكْمَالِ طَاعَتك فِيهِ المِنَّةَ، إنَّكَ الْمَنَّانُ الْحَمِيدُ، وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيَّبينَ الطَّاهِرِين.
* * *
اللهم اجعلنا من أرضى من طلع عليه هلالك:
يا ربّ، إنّنا عبادك المؤمنون الذين ينفتح إيمانهم على أن تكون كلّ حياتهم لك، وأن تكون سعادتهم في رضاك عنهم.
ولذلك فإنّنا نتطلع إليك لتلهمنا إرادة الطاعة في كلّ ما أمرت به ونهيت عنه، ولتهبنا القوة على الوقوف عند حدودك فلا نتجاوزها إلى ما لا يرضيك عنّا.
وفي ضوء ذلك، فإنّنا ننظر إلى الزمن نظرةً مسؤولةً تريد له أن يمتلئ بكلّ حركة الاستقامة في خطّ التوحيد في العقيدة والطاعة والعبادة، فلا يدخل فيه أيّ وسواسٍ شيطاني يبتعد بنا عنك ليقربنا إلى غيرك، ولهذا فإنّنا نبتهل إليك لنقدم إليك تمنياتنا في حياتنا في هذا الشهر في علاقتنا بك.
اللهم اجعلنا ممن تمنحه أعظم الرضى في السير على خطّ طاعتك، من كلّ مَنْ طلع عليه هذا الهلال، وأكثرهم تزكية في أرواحههم وأفكارهم وأعمالهم، وأكثر العابدين لك فيه سعادةً، واسلك بنا فيه سبل التائبين، بصدق التوبة إليك، واعصمنا في كلّ أعمالنا وأقوالنا ومواقفنا ومواقعنا وعلاقاتنا من كلّ خطيئة، واحفظنا من خطر الوقوع في هوّة معاصيك، واجعلنا من الشاكرين لنعمتك، وهب لنا العافية في أنفسنا وأهلنا وأموالنا وأدياننا، وأعطنا في ذلك سترك ووقايتك، فإنّه لا ستر إلا سترك، ولا وقاية إلاّ وقايتك، وأكمل لنا منتك علينا باستكمال طاعتك في كلّ الأمور، إنّك المنان بالعطيات، المحمود في صفاته وأفعاله يا ربّ العالمين.
* * *
وهكذا نجد في هذا الدعاء أسلوباً إيحائياً يتجاوز فيه الإنسان النظرة الساذجة إلى الظواهر الكونية، وإلى حركة الزمن التي قد تتحول لديه إلى نوعٍ من اللامبالاة لفعل تتكرر أوقاته وتحوّلها إلى شيء جامدٍ لا حياة فيه، فتعود الظاهرة الكونية لديه منطلقاً للدراسة والتأمّل والتفكير، ووسيلةً للمعرفة، وتربية للإيمان، عندما يرى الله في قدرته وحكمته ماثلاً فيها، لأنّه الخالق لها والمدبّر لأمورها والمحرّك لقوانينها ونظمها.
ويعيش - مع ذلك - الإحساس بالزمن، لا من خلال أنّه حركة عددية إحصائية للعمر، بل من خلال أنّه فرصة الحصول على السعادة، والقيام بالمسؤولية والانفتاح على الله والوصول إلى مواقع القرب منه، من حيث هو الأمانة التي يتداخل فيها الجسد مع الزمن، ويتفاعل فيها الزمن مع العمل، ليصل به إلى نهاياته السعيدة في رضوان الله ونعيمه في رحاب جنته.
وتلك هي مهمة الدعاء التربوية في البرنامج الإسلامي للتربية، أن يكون منطلق حركةٍ في تنمية الوعي الإنساني، وتطوير الإحساس بالمعاني الروحية في الخطّ العملي للإنسان في آفاق الانتماء الإسلامي له.
* * *

الهوامش:

(1)    جُنَن: جمع جُنّة - بضمّ الجيم - وهي الستر والوقاية.

* * *

دعاؤه(ع)
إذا دخل شهر رمضان

اَلْحَمدُ لِلّهِ الَّذي هَدانا لِحَمْدِهِ، وَجَعَلَنا مِنْ أَهْلِهِ، لِنَكُونَ لإحْسانِهِ مِنَ الشّاكِرينَ، وَلِيَجْزِيَنا عَلى ذلِكَ جَزَاءَ الْمُحْسِنينَ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ الَّذي حَبانا بِدينِهِ، وَاخْتَصَّنا بِمِلَّتِهِ، وَسَبَّلَنا في سُبُلِ إِحْسانِهِ، لِنَسْلُكَها بِمَنِّهِ إِلى رِضْوانِهِ، حَمْداً يَتَقَبَّلُهُ مِنّا، وَيَرْضى بِهِ عَنّا.
وَالْحَمْدُ لِلّهِ الَّذي جَعَلَ مِنْ تِلْكَ السُّبُلِ شَهْرَهُ، شَهْرَ رَمَضانَ، شَهْرَ الصِّيامِ، وَشَهْرَ الإسْلامِ، وَشَهْرَ الطَّهُورِ، وَشَهْرَ التَّمْحيصِ، وَشَهْرَ الْقِيامِ، الَّذي أُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ.
فَأَبانَ فَضيلَتَهُ عَلى سائِرِ الشُّهُورِ، بِما جَعَلَ لَهُ مِنَ الْحُرُماتِ الْمَوْفُورَةِ، وَالْفَضائِلِ الْمَشْهُورَةِ، فَحَرَّمَ فيهِ ما أَحَلَّ في غَيْرِهِ إِعْظاماً، وَحَجَرَ فيهِ الْمَطاعِمَ وَالْمَشارِبَ إِكْراماً، وَجَعَ لَهُ وَقْتاً بَيِّناً، لا يُجيزُ جَلَّ وَ عَزَّ أَنْ يُقَدَّمَ قَبْلَهُ، وَلا يَقْبَلُ أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْهُ.
ثُمَّ فَضَّلَ لَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْ لَياليهِ عَلى لَيالي أَلْفِ شَهْر، وَسَمّاها لَيْلَةَ الْقَدْرِ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها بِإِذْنِ رَبّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر سَلامٌ دائِمُ الْبَرَكَةِ إِلى طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بِما أَحْكَمَ مِنْ قَضائِهِ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَلْهِمْنا مَعْرِفَةَ فَضْلِهِ، وَإِجْلالَ حُرْمَتِهِ، وَالتَّحَفُّظَ مِمّا حَظَرْتَ فيهِ، وَأَعِنّا عَلى صِيامِهِ بِكَفِّ الْجَوارِحِ عَنْ مَعاصيكَ، وَاسْتِعْمالِها فيهِ بِما يُرْضيكَ، حَتّى لا نُصْغِيَ بِأَسْماعِنا إِلى لَغْو، وَلا نُسْرِعَ بِأَبْصارِنا إِلى لَهْو، وَحَتّى لانَبْسُطَ أَيْدِيَنا إِلى مَحْظُور، وَلا نَخْطُوَ بِأَقْدامِنا إِلى مَحْجُور، وَحَتّى لاتَعِيَ بُطُونُنا إِلاّ ما أَحْلَلْتَ، وَلا تَنْطِقَ أَلْسِنَتُنا إِلاّ بِما مَثَّلْتَ، وَلا نَتَكَلَّفَ إِلاّ ما يُدْني مِنْ ثَوابِكَ، وَلا نَتَعاطى إِلاّ الَّذي يَقي مِنْ عِقابِكَ، ثُمَّ خَلِّصْ ذلِكَ كُلَّهُ مِنْ رِياءِ الْمُرائينَ، وَسُمْعَةِ الْمُسْمِعينَ، لانُشْرِكُ فيهِ أَحَداً دُونَكَ، وَلا نَبْتَغي بِهِ مُراداً سِواكَ...
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَقِفْنا فيهِ عَلى مَواقيتِ الصَّلَواتِ الْخَمْسِ بِحُدُودِهَا الَّتي حَدَّدْتَ، وَفُرُوضِهَا الَّتي فَرَضْتَ، وَوَظائِفِهَا الَّتي وَظَّفْتَ، وَأَوْقاتِهَا الَّتي وَقَّتَّ. وَأَنْزِلْنا فيها مَنْزِلَةَ الْمُصِيبينَ لِمَنازِلِهَا، الْحافِظينَ لاَرْكانِهَا، الْمُؤَدّينَ لَها في أَوْقاتِها عَلى ما سَنَّهُ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ في رُكُوعِها وَسُجُودِها، وَجَميعِ فَواضِلِها عَلى أَتَمِّ الطَّهُورِ وَأَسْبَغِهِ، وَأَبْيَنِ الْخُشُوعِ وَأَبْلَغِهِ..
وَوَفِّقْنا فيهِ لاَنْ نَصِلَ أَرْحامَنا بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَأَنْ نَتَعاهَدَ جيرانَنا بِالإفْضالِ وَالْعَطِيَّةِ، وَأَنْ نُخَلِّصَ أَمْوالَنا مِنَ التَّبِعاتِ، وَأَنْ نُطَهِّرَها بِإِخْراجِ الزَّكَواتِ، وَأَنْ نُراجِعَ مَنْ هاجَرَنا، وَأَنْ نُنْصِفَ مَنْ ظَلَمَنا، وَأَنْ نُسالِمَ مَنْ عادانا، حاشا مَنْ عُودِيَ فيكَ وَلَكَ، فَإِنَّهُ الْعَدُوُّ الَّذي لانُواليهِ، وَالْحِزْبُ الَّذي لا نُصافيهِ.
وَأَنْ نَتَقَرَّبَ إِلَيْكَ فيهِ مِنَ الأعْمالِ الزّاكِيَةِ بِما تُطَهِّرُنا بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَتَعْصِمُنا فيهِ مِمّا نَسْتَأَنِفُ مِنَ الْعُيُوبِ، حَتّى لا يُورِدَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ مَلائِكَتِكَ إِلاّ دُونَ ما نورِدُ مِنْ أَبْوابِ الطّاعَةِ لَكَ، وَأَنْواعِ الْقُرْبَةِ إِلَيْكَ..
اللّهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ هذَا الشَّهْرِ، وَبِحَقِّ مَنْ تَعَبَّدَ لَكَ فيهِ مِنِ ابْتِدائِهِ إِلى وَقْتِ فَنائِهِ، مِنْ مَلَك قَرَّبْتَهُ، أَوْ نَبِيٍّ أَرْسَلْتَهُ، أَوْ عَبْد صالِح اخْتَصَصْتَهُ، أَنْ تُصَلِّىَ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَهِّلْنا فيهِ لِما وَعَدْتَ أَوْلِياءَكَ مِنْ كَرامَتِكَ، وَأَوْجِبْ لَنا فيهِ ما أَوْجَبْتَ لأِهْلِ الْمُبالَغَةِ في طاعَتِكَ، وَاجْعَلْنا في نَظْمِ مَنِ اسْتَحَقَّ الرَّفيعَ الأعْلى بِرَحْمَتِكَ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَجَنِّبْنَا الإلْحادَ في تَوْحيدِكَ، وَالتَّقْصيرَ في تَمْجيدِكَ، وَالشَّكَّ في دينِكَ، والْعَمى عَنْ سَبيلِكَ، وَالاْغْفالَ لِحُرْمَتِكَ، وَالاْنْخِداعَ لِعَدُوِّكَ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَإِذا كانَ لَكَ في كُلِّ لَيْلَة مِنْ لَيالي شَهْرِنا هذا رِقابٌ يُعْتِقُها عَفْوُكَ، أَوْ يَهَبُها صَفْحُكَ، فَاجْعَلْ رِقابَنا مِنْ تِلْكَ الرِّقابِ، وَاجْعَلْنا لِشَهْرِنا مِنْ خَيْرِ أَهْل وَأَصْحاب.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَامْحَقْ ذُنُوبَنا مَعَ إِمْحاقِ هِلالِهِ، وَاسْلَخْ عَنّا تَبِعاتِنا مَعَ انْسِلاخِ أَيّامِهِ، حَتّى يَنْقَضِىَ عَنّا وَقَدْ صَفَّيْتَنا فيهِ مِنْ الْخَطيئاتِ، وَأَخْلَصْتَنا فيهِ مِنَ السَّيِّئاتِ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَإِنْ مِلْنا فيهِ فَعَدِّلْنا، وَإِنْ زُغْنا فيهِ فَقَوِّمْنا، وَإِنِ اشْتَمَلَ عَلَيْنا عَدُوُّكَ الشَّيْطانُ فَاسْتَنْقِذْنا مِنْهُ.
اللّهُمَّ اشْحَنْهُ بِعِبادَتِنا إِيّاكَ، وَزَيِّنْ أَوْقاتَهُ بِطاعَتِنا لَكَ، وَأَعِنّا في نَهارِهِ عَلى صِيامِهِ، وَفي لَيْلِهِ عَلَى الصَّلاةِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْكَ، وَالْخُشُوعِ لَكَ، وَالذِّلَّةِ بَيْنَ يَدَيْكَ، حَتّى لا يَشْهَدَ نَهارُهُ عَلَيْنا بِغَفْلَة، وَلا لَيْلُهُ بِتَفْريط.
اللّهُمَّ وَاجْعَلْنا في سائِرِ الشُّهُورِ وَالأيّامِ كَذلِكَ ماعَمَّرْتَنا..
وَاجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ الصّالِحينَ الَّذينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فيهَا خَالِدُونَ، وَالَّذينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ، وَمِنَ الَّذينَ (يُسارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ..
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ في كُلِّ وَقْت وَكُلِّ أَوان، وَعَلى كُلِّ حال، عَدَدَ ما صَلَّيْتَ عَلى مَنْ صَلَّيْتَ عَلَيْهِ، وَأَضْعافَ ذلِكَ كُلِّهِ بِالأضْعافِ الَّتي لا يُحْصيها غَيْرُكَ، إِنَّكَ فَعّالٌ لِما تُريدُ.
* * *
اَلْحَمدُ لِلّهِ الَّذي هَدانا لِحَمْدِهِ، وَجَعَلَنا مِنْ أَهْلِهِ، لِنَكُونَ لإحْسانِهِ مِنَ الشّاكِرينَ، وَلِيَجْزِيَنا عَلى ذلِكَ جَزَاءَ الْمُحْسِنينَ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ الَّذي حَبَانا بِدينِهِ، وَاخْتَصَّنا بِمِلَّتِهِ، وَسَبَّلَنا في سُبُلِ إِحْسانِهِ، لِنَسْلُكَها بِمَنِّهِ إِلى رِضْوانِهِ، حَمْداً يَتَقَبَّلُهُ مِنّا، وَيَرْضى بِهِ عَنّا.
* * *
حمد دائم على نعم لا تنقطع:
إنّها بداية التطلع المنفتح على حمد الله الذي لم يكتشفه الإنسان إلا من خلال هداية الله الذي كشف له مواقع الحمد في ذاته سبحانه في مواقع عظمته وآفاق نعمه، بما جهّزه به من وسائل الحمد له في سمعه وبصره وعقله... ووفّقه له ليكون من أهل الحمد الذين يشعرون شعوراً عميقاً بالحاجة إلى معرفة الله في ما توحي به من حركة الجانب الروحي والفكري والعملي في شخصية الإنسان.. ليؤدّي ذلك إلى اكتشاف إحسانه في وجوده من حيث المبدأ والتفاصيل، ولينتهي به الأمر إلى شكره على ذلك، الذي يعبّر عن معنى الإحسان في علاقة العبد بربّه من الناحية العملية، مما يستحق عليه الثواب من الله الذي يجزي المحسنين بإحسانه في ما أعدّه لهم من رضوانه.
وينطلق الحمد الذي يختزن معنى الشكر، من جديد، عندما يتطلّع هذا الإنسان إلى الدين الذي يضمن له سعادة الدنيا والآخرة، مما أنزله الله على رسوله من كتابه في ما اشتمل عليه من عقيدةٍ وشريعةٍ ومفاهيم للحياة ومناهج للعمل وللتفكير.. فيحمد الله على ما حباه من ذلك كلّه، وعلى ما اختصّه به من ملّته.. وهذا هو الأسلوب التربوي الذي يوحي للإنسان المؤمن بقيمة الدين في عقيدته وشريعته، مما يجعله منفتحاً على حمد الله من خلاله، ليكون ذلك أساساً للتفكير به وللاهتمام بحركة المسؤولية فيه، وللإيحاء الحركي بعلاقته بقضية المصير الأبدي، خلافاً للمعروف المألوف لدى الناس من تأكيد العناصر المادية في مسألة الحمد والشكر.
ثم يمتدّ الحمد، ليطلّ على السبل التي فتحها الله للإنسان ليتحرك في خطوطها، فيشعر بقيمتها في عناوين الإحسان الإلهي الذي يقوده إلى التحرك نحو رضوانه، وهو غاية كل مؤمن في تطلعاته الروحية وفي خطواته العملية.. ولا بدّ أن يشتمل هذا الحمد على عمق الإخلاص، وروحية الإيمان بالمستوى الذي يتقبله الله من عباده، ويمنحهم من خلال درجة الرضى التي تتيح لهم القرب منه في رحاب جنته.
وهكذا نرى في هذا الفصل عدة مفردات مهمة تتصل بالجانب الروحي والعملي للإنسان.. الحمد، الشكر، الإحسان الإلهي، الإحسان الإنساني، الدين، الملة، سبل الإحسان، منّ الله، رضوانه، حيث يطوف الإنسان معها في رحاب الإيمان، فتنفتح به على كثير من مجالات الفكر والمعرفة.
* * *
وَالْحَمْدُ لِلّهِ الَّذي جَعَلَ مِنْ تِلْكَ السُّبُلِ شَهْرَهُ، شَهْرَ رَمَضانَ، شَهْرَ الصِّيامِ، وَشَهْرَ الإسْلامِ، وَشَهْرَ الطَّهُورِ، وَشَهْرَ التَّمْحيصِ، وَشَهْرَ الْقِيامِ، الَّذي أُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيِّنات مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ.
* * *
شهر رمضان سبيل الله:
وإذا كان الله شقّ للناس سبل الإحسان التي تفتح حياتهم على الخير كلّه، فإنّ هذه السبل لا تختص بالساحات الممتدة في رحاب المكان، حيث الأرض التي تمتد بالإنسان لتصل به إلى غاياته في ما يريد أن يصل به إلا مواقع أغراضه وحاجاته، بل تشمل ساحات الزمن - إن صحّ أن يكون للزمن ساحات - حيث ينفتح الإنسان على كلّ ما في آنائه من ساعاته وأيامه ولياليه وشهوره، لتحتضن حركته في أجواء الخير كلّه، في ما تمتلئ به ساحة الزمن من أفعال الإنسان وأقواله، لتكون حركة الزمن في مسؤوليته طريقة إلى الله، كما تكون حركته في المكان طريقه إلى الله في أجواء المسؤولية الشرعية.
وهكذا كان شهر رمضان سبيل الله الذي أراد للإنسان أن يبدأ رحلته إليه في ما أثاره فيه من أجواء، أو شرّع فيه من شرائع، أو حرّك فيه من أوضاع، وقد منحه الله شرف الانتماء إليه، ليعيش الناس الشعور بالمضمون الروحي الذي يجعل الزمن إلهياً يحمل في داخله سموّ المعنى الإلهي في ما يختزنه من رحمة وعافية ومغفرة ولطف ورضوان، وفي ما يمكن للعباد أن يحصلوا منه على المزيد من ذلك كلّه...
وليس معنى ذلك الاختصاص بالانتماء، أنّ الشهور الأخرى تفقد هذه الصفة في طبيعتها الزمنية وفي الألطاف الإلهية المحيطة بها، لأنّ الزمن كلّه خلق الله الذي جعله مفتوحاً على الحياة كلّها، وعلى الإنسان كلّه، من أجل أن ينال فيه رضاه من خلال حركته في مواقع طاعته في ما كلفه به من الأعمال التي تصل به إلى مواقع القرب منه، لأنّ المسؤولية لا تختص بزمن معين، ففي كلّ لحظةٍ زمنيةٍ، مهما صغرت، تكليفٌ شرعي يتوجه فيه الله للإنسان بأن يقف فيه عند حدوده، ولكن معنى هذا الاختصاص - في ما يبدو - هو الانفتاح الكبير لله فيه على عباده بفيوضات رحمته، بما لم يجعله الله لزمن آخر في ما هي القيمة، وفي ما هو المستوى، في الكمية والنوعية.. وهذا هو ما تعبّر عنه الكلمات المأثورة عن رسول الله محمّد(ص) في ما روي عنه من خطبته التي استقبل بها شهر رمضان، في آخر جمعة من شعبان، فقد جاء فيها:
"أيها الناس، قد أقبلَ عليكُم شهرُ الله بالرحمةِ والبركةِ والمغفرةِ، شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، قد دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعِلتُم فيه من أهل كرامةِ الله، أنفاسُكُم فيه تسبيح، ونومُكُم فيه عبادة، وعملُكُم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مُستجاب، فاسألوا الله بنيّاتٍ صادقة وقلوبٍ طاهرة، أن يوفِّقَكُم لصيامه وتلاوة كتابه، فإنّ الشقيَّ من حُرِمَ غفرانَ الله في هذا الشهر العظيم".
فنحن نلاحظ في هذه الكلمات احتضان الله للإنسان برحمته وبركته ومغفرته في هذا الشهر، فقد حوّل فيه نومه إلى عبادة وأنفاسه إلى تسبيح، وتقبّل فيه عمله، واستجاب فيه دعاءه بالدرجة التي لم يمنحها له في أيّ شهر آخر.
إنّه الإحساس الإنساني الروحي الحميم بالجوّ الرمضاني الذي يدخل إليه الإنسان ضيفاً مكرّماً يتغذى بالرحمة والبركة والمغفرة في أجواء العطف واللطف والحنان بشكل مميز حميم.. حيث يعيش الإحساس بإنسانيته المنطلقة من روح الله عندما نفخ فيه الروح فأعطاه شيئاً من سموّها الذي يتصل بالله، وينفتح عليه في محبةٍ واحتضان، حتى يحسّ في هذا الاندماج الروحي بالعلاقة التي ينسى فيها عبوديته، وهو في قِمّة الخشوع في ممارسته لها...
شهر الصيام:
والعنوان الثاني لشهر رمضان هو "شهر الصيام"، الذي أراد الله فيه للإنسان أن يقوم بأداء هذه الفريضة، من أجل أن يؤكّد له إنسانيته في مواقع السموّ عن الأجواء المادية التي تشده إلى الأسفل، لأنّ المطلوب فيه أن يرتفع إلى الأعلى، بأن يكون روحاً يحركه الجسد في روحيّته لينال رضى الله، وليعيش القرب من الله حتى يعيش المعاني الكبيرة الصافية المشرقة من خلاله، لأنّه كلما اقترب من الله أكثر، في أجواء شفافية الروح وطهارة الجسد، اقترب من الانفتاح على المسؤولية الكبيرة التي تدعوه إلى أن يحمل في وعيه معنى الخلافة عن الله في إدارة شؤون الحياة من حوله.
إنّ قضية الصيام هي أن تخفِّف ثقل الضغط الجسد على مواقع الإرادة في شخصيتك... أن لا تثقل الرغبةُ حركتك نحو أهدافك... أن لا يسحقك الحرمان الذي تعيشه في بعض ساحات التحدّي لتسقط أمامه، لأنّ إحساسك بالجوع الغذائي أو الجنسي وبالظمأ المحرق للحاجة المخزونة في أعماقك، قد يسقطك أمام الآخرين فتفقد طهرك وتبتعد عن استقامتك، وتموت قضاياك، وتنسحق إنسانيتك.
إن قضية الصيام، هي أن تكون إنسان الله، بدلاً من أن تكون إنسان الشيطان... أن تعرف كيف تعيش سكينة الروح وطمأنينة القلب، بدلاً من أن تحترق بنار الشهوة.. وسعار الأطماع.
أن تشفي روحك حتى تطير إلى الله، وأن يخفّ جسدك حتى يحلّق في آفاق المعنى الكبير الذي يتحمل مسؤولية الحياة كلّها، ولعلّ هذا هو الذي يفسّر الحديث القدسي: "الصوم لي وأنا أجزي به"(1)...
شهر الإسلام:
والعنوان الثالث، "شهر الإسلام"؛ وقد فسّر البعض كلمة الإسلام، بمعناها اللغوي، أي الطاعة والانقياد لكثرة الطاعات في هذا الشهر.. ولكنّ هناك تفسيراً آخر، وهو دين الإسلام، لكون افتراض صومه من خصائص هذه الأمة، فقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) قال: "إنّ شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الأمم قبلنا، وقيل له: فقول الله عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]. "قال: إنّما فرض الله صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم، ففضّل به هذه الأمة وجعل صيامه فرضاً على رسول الله(ص) وعلى أمته"(2). وروي عن النبيّ محمّد(ص) أنّه قال: "رمضان شهر أمتي"، وقيل عن التشبيه في الآية إنّه بلحاظ مطلق الصوم.
وقد نلاحظ على ذلك أنّ الظاهر من إضافة الشهر إلى الإسلام، أنّ للشهر علاقة بالإسلام بمجمله، لا بلحاظ فريضةٍ من فرائض الإسلام المفروضة فيه، ممّا قد يوحي إلينا بأنّ ذلك مرتبطٌ بنزول القرآن فيه الذي يمثل الوجه البارز للإسلام في عقيدته وشريعته، وبالحشد الروحي من الصيام والصلاة والدعاء وتلاوة القرآن، الذي أُريد له أن يقوم بدور كبير في إعداد الإنسان المسلم في هذا الشهر للسنة كلّها، من خلال ما يمكن أن يحققه البرنامج الرمضاني من تعبئةٍ فكريةٍ وروحيةٍ تترك تأثيراتها على حركة الإسلام في الحياة كلّها في جميع فصول السنة...الأمر الذي يجعل منه شهر الإسلام الذي يتحرك فيه الإسلام بكلّ أبعاده، والله العالم.
شهر الطَّهور:
والعنوان الرابع، "شهر الطهور"، وذلك من خلال وسائل التطهّر الروحي الذي يبلغه الإنسان فيه، في نقاء الروح والفكر والقلب والحركة العملية من خلال الأجواء الطاهرة التي يعيش فيها الإنسان روحية التقوى وحركتها بين يدي الله، فيتخفّف من كلّ قذارات المعاصي وأرجاس الانحراف، مما يوحي بأنّ للطهارة موقعاً كبيراً في حسابات الإسلام، بحيث يريد للزمن في حركة الطاعات فيه أن يكون مدخلاً للحصول على مثل هذه الطهارة في حياة الإنسان، ليكون الإنسان الطاهر هو الهدف في التخطيط الإسلامي على مستوى التشريع والتطبيق.
شهر التمحيص:
والعنوان الخامس، "شهر التمحيص"، وهو تخليص الشيء مما فيه من عيب، ومنه قوله تعالى: {وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران:154]. وربّما أُريد منه التطهر والتزكية، وربما أريد منه الابتلاء والاختبار، وقد يكون الثاني مقدمة للأول.. وفي ضوء هذا يكون الشهر المبارك مدخلاً للنفاذ إلى داخل الإنسان ليقتلع جذور الفساد فيه، ليحصل على خلاصه الروحي من كلّ ذلك، أو يكون حركةً في الفكر والمراقبة والمحاسبة، في ما يحركه الإنسان من كلّ النوازع الذاتية التي قد تطوف به في أجواء متنوعة مما يرهق روحه أو يثقل قلبه أو ينحرف به في سبل الضلال، ليعود الإنسان خفيفاً من تلك الأثقال، متحرراً من كلّ الأغلال، متوازناً في الخطّ المستقيم.. وذلك في تلاوة كتاب الله الذي يجد فيه كلّ مفردات الحقّ والخير، وفي الانفتاح على الدعاء الذي يصله بالله من أقرب الطرق، وفي صلاته التي تعرج فيها روحه إلى الله في رحلة الإيمان.
وهكذا يوحي هذا العنوان للشهر المبارك بأنّ الله لا يريد للإنسان أن يعيش الغفلة عن نفسه، فيترك للنوازع الخبيثة أن تسيطر عليها، بل لا بدّ له أن يلاحقها بالمحاسبة والمجاهدة، بكلّ الوسائل الممكنة التي تصل بالإنسان إلى إخراج كلّ المشاعر والأفكار الخبيثة منها.
شهر القيام:
والعنوان السادس، هو "شهر القيام"، والمراد به القيام للصلاة في الليل وللتهجد فيه، في ما سنّه الإسلام في ليالي شهر رمضان من ذلك كلّه، حتى ورد استحباب صلاة ألف ركعة في لياليه زيادة على النوافل المستحبة، بحيث تتوزّع على ليالي الشهر في ترتيب معين.. وهذا هو الذي جعل هذا الشهر مميزاً من هذه الجهة بالطريقة التي يتحول فيها القيام إلى عنوان له.. ليكون له الطابع العبادي التهجدي الذي يمنح التخطيط الروحي لبناء الشخصية الإسلامية فيه بعداً واسعاً متنوعاً في ما تتمازج فيه العناصر العبادية في الليل والنهار لتحقق النتائج المطلوبة منه في أكثر من موقع.
ونلتقي في نهاية هذا الفصل بالفقرة التي تتحدث عن نزول القرآن فيه {الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]، ليكون هذا الحدث العظيم الذي انطلقت من خلاله حركة الإسلام الفكرية في خطّ المنهج والشريعة والمفهوم.. التي وضع الوحي القرآني قواعدها وأصولها، وحدّد مفرداتها وأوضاعها، عنواناً للقيمة الإسلامية لهذا الشهر، في ما يكتسب الزمن من قيمة كبيرة من خلال الأحداث الواقعة فيه.. وقد أراد الإسلام أن يؤكّد ذلك، فدعا إلى تلاوة القرآن بشكل واسع في هذا الشهر، حتى جعل تلاوة كتاب الله فيه مساوية لصيامه، كما جاء في الخطبة المروية عن رسول الله(ص)  في استقبال شهر رمضان: "فاسألوا الله بنياتٍ صادقة وقلوبٍ طاهرةٍ أن يوفقّكم لصيامه وتلاوة كتابه".
وإذا كان القرآن قد نزل في هذا الشهر المبارك، فلا بدّ للناس من أن ينفتحوا عليه من خلال الهدى الذي تتضمّنه آياته، ومن خلال البيّنات التي تثبّت للإنسان خطوط الهدى التي تدلّ على مواقع النجاة، وتعرّفه كيف يميّز بين الحقّ والباطل في ما يتعرّف عليه من الفواصل التي تفصل بينهما، فلا بدّ أن تكون التلاوة في هذا الاتجاه. ولسنا هنا بصدد البحث في طبيعة نزول القرآن في هذا الشهر من حيث نزول بعضه فيه أو نزوله جملةً في ما تحدّث به الباحثون، فلذلك مجال آخر.
* * *
فَأَبانَ فَضيلَتَهُ عَلى سائِرِ الشُّهُورِ، بِما جَعَلَ لَهُ مِنَ الْحُرُماتِ الْمَوْفُورَةِ، وَالْفَضائِلِ الْمَشْهُورَةِ، فَحَرَّمَ فيهِ ما أَحَلَّ في غَيْرِهِ إِعْظاماً، وَحَجَرَ فيهِ الْمَطاعِمَ وَالْمَشارِبَ إِكْراماً، وَجَعَ لَهُ وَقْتاً بَيِّناً، لايُجيزُ جَلَّ وَعَزَّ أَنْ يُقَدَّمَ قَبْلَهُ، وَلا يَقْبَلُ أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْهُ...
* * *
ميزة شهر رمضان:
وهذه ميزة لشهر رمضان على سائر الشهور، فقد جعل الله له من الحرمات الكاملة اتي توحي بقداسته في ما يلتزمه الناس من حدود الله فيه، ومن الفضائل المشهورة في ما جعل له من الخصائص الروحية والعملية، مما يوحي فيه بالخير والفضل الكبير على مستوى النتائج الكبيرة التي يبلغها العاملون فيه في علوّ الدرجة عند الله..
وهكذا حرم الله فيه المآكل والمشارب واللذات التي لم يحرمها في غيره، كإيحاءٍ بعظمته من خلال ما يستهدفه هذا التحريم من غايات عظيمة على مستوى مصير الإنسان في الدنيا والآخرة، وكمظهر من مظاهر الإكرام له في ما أراد الله للناس أن يتعبّدوا له بذلك، ليكون الالتزام بترك المطاعم والمشارب عبادةً يتقربون بها إليه، كما يتقربون بالعبادة إليه، وحدّد له وقتاً معيناً، لا يتسّع للتقديم وللتأخير في المساحات الزمنية الأخرى، لأنّ الله أراد للزمن العملي أن يخضع للنظام العام الذي يريده الله للحياة في التزام الناس به وخضوعهم له، حتى يتعرّف الناس في علامات الزمن، علامات الطريق إلى الله...
* * *
فَضَّلَ لَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْ لَياليهِ عَلى لَيالي أَلْفِ شَهْر، وَسَمّاها لَيْلَةَ الْقَدْرِ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها بِإِذْنِ رَبّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر سَلامٌ دائِمُ الْبَرَكَةِ إِلى طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بِما أَحْكَمَ مِنْ قَضائِهِ.
* * *
فضل ليلة القدر:
وإذا كان قد فضّل شهر رمضان على غيره من الشهور لحكمةٍ يعلمها في تنظيمه لعلاقة الإنسان بالزمن، فقد فضّل الله ليلةً من هذا الشهر على سائر لياليه، فجعل لها ميزةً كبيرةً تتصل بالنظام المنفتح على حياة الناس في التخطيط الإلهي لما يقضي لهم أويقدّر لحركتهم في الحياة في أعمارهم وأرزاقهم وأوضاعهم العامة والخاصة، من حربٍ أو سلمٍ، أو خصبٍ أو جدبٍ، أو موتٍ أو حياةٍ، أو أمنٍ أو خوفٍ، أو فقرٍ أو غنى... وهكذا كانت هذه الليلة موضعاً لحركة التقدير الإلهي، مما يمكن لنا أن نصطلح عليه ببداية السنة الإلهية التي يتحرك فيها البرنامج التنفيذي للنظام التقديري لحركة الحياة والإنسان.
وقد أريد للملائكة وللروح الذي اختلف الرأي في تحديد طبيعته، أن يكون لهم دورٌ في ذلك في ما أوكله الله إليهم من المهمات المتنوعة الخفية التي لم تُكشف لنا تفاصيلها، كما أريد التركيز على السلام الذي يحيط بأجواء هذه الليلة، في ما يلقيه الملائكة والروح من السلام على مَن يشاء الله من عباده أو في ما يثيره من أجواء السلام الذي يخيّم على القلوب بالطمأنينة والصفاء، ليعيش الناس معها تجربة الروح الخالية من العناصر السلبية التي توحي بالعداوة والبغضاء عندما يتفرّغون لعبادة الله في دعائهم وابتهالهم وصلاتهم، فيتحول الإنسان من شخصٍ يعيش نوازع الأنانية في ذاته، إلى شخصٍ يعيش رحابة الإنسانية في حياته، كما يتطلّع إلى آفاق الروح التي تنفتح به على كلّ الناس من حوله عندما يتحسس موقعه منهم في دائرة العبودية لله، ليطلع الفجر عليه، في يومٍ جديد، من أجل البدء بحياةٍ جديدةٍ خاليةٍ من التخطيط السلبي للعلاقات بين الناس، مليئةٍ بالتخطيط الإيجابي في تلك الدائرة، ولينطلق مع الله في قناعةٍ يقينيةٍ بقضاء الله وقدره، وفي رضىً نفسيّ يطمئنه بأنّ الله لا يريد له إلا الخير في ما قسمه له من الرزق ومن الموقع في الحياة، فلا ينفذ إليه الشكّ في كلّ ذلك... وبهذا تتأكّد علاقة المخلوق بخالقه في نطاق الإيمان المنفتح على الثقة المطلقة به، الأمر الذي يتحول إلى عنصر من عناصر الثبات الفكري والروحي البعيد عن أيّة حالة من حالات الاهتزاز.
وهذه هي فائدة الأجواء الروحية التي يستغرق فيها الإنسان المؤمن في ليلة القدر ليستفيد من مضمونها المنفتح على الكون والإنسان.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَلْهِمْنا مَعْرِفَةَ فَضْلِهِ، وَإِجْلالَ حُرْمَتِهِ، وَالتَّحَفُّظَ مِمّا حَظَرْتَ فيهِ، وَأَعِنّا عَلى صِيامِهِ بِكَفِّ الْجَوارِحِ عَنْ مَعاصيكَ، وَاسْتِعْمالِها فيهِ بِما يُرْضيكَ، حَتّى لا نُصْغِىَ بِأَسْماعِنا إِلى لَغْو، وَلا نُسْرِعَ بِأَبْصارِنا إِلى لَهْو، وَحَتّى لانَبْسُطَ أَيْدِيَنا إِلى مَحْظُور، وَلا نَخْطُوَ بِأَقْدامِنا إِلى مَحْجُور، وَحَتّى لاتَعِي بُطُونُنا إِلاّ ما أَحْلَلْتَ، وَلا تَنْطِقَ أَلْسِنَتُنا إِلاّ بِما مَثَّلْتَ، وَلا نَتَكَلَّفَ إِلاّ ما يُدْني مِنْ ثَوابِكَ، وَلا نَتَعاطى إِلاّ الَّذي يَقي مِنْ عِقابِكَ، ثُمَّ خَلِّصْ ذلِكَ كُلَّهُ مِنْ رِياءِ الْمُرائينَ، وَسُمْعَةِ الْمُسْمِعينَ، لانُشْرِكُ فيهِ أَحَداً دُونَكَ، وَلا نَبْتَغي بِهِ مُراداً سِواكَ...
* * *
بين المعنى المادي للصوم والمعنى الروحي:
وهذا حديثٌ عن عمق الترابط بين الصوم بمعناه الماديّ الشرعيّ الذي يتمثّل في ترك بعض الأشياء الخاصة من الطعام والشراب والجنس وما أشبه ذلك، وبين الصوم بمعناه الروحي الأخلاقي الذي يمتدّ ليشمل كلّ المضمون المنفتح على مفهوم التقوى بكلّ سعته، مما يجعل الوسيلة في الصوم الفقهي مرتبطة بالهدف في الصوم الإسلامي بكلّ سعة التشريع في دائرته العملية.
فالمطلوب أولاً - من وحي هذه الفقرات - أن يلهمنا الله معرفة فلضله وإجلال حرمته.. ولكن هل هي المعرفة الفكرية والإجلال الاحتفالي، أم هي المعرفة بالخطّ العملي الذي يتحول إلى حركةٍ في بناء الشخصية؟.. لأنّ الزمن لييس شيئاً حيّاً ينفذ الإنسان إلى داخله ليتعرف خصائصه الذاتية، بل هو شيءٌ في حركة الوجود التي يمنحها الإنسان معنىً في الشكل والمضمون ليعطيه بعض الملامح الجميلة أو الخبيثة من نشاطه السلبي أو الإيجابي، في ما يأخذ به من وحي الرسالات، أو في ما ينطلق به في وعي الفكرة في الذات، ولذلك فلا معنى للمعرفة إلا من خلال المضمون الإنساني الحركي في الزمن الذي لا بدّ أن يتعرفه الإنسان في مسؤولية الزمن في ضرورة تجسيده في شيءٍ من ذلك، وعلى ضوء ذلك نفهم أنّ الإجلال ليس شيئاً يتحرّك في الطقس التقليدي بل هو شيءٌ يتحرّك في عظمة الدور في داخل حركته...
وهكذا ينبغي للإنسان أن يعيش شهر رمضان في الدور، وفي المسؤولية، وفي فترة العمر المسؤول في رحلته إلى الله في داخل هذا الشهر، ليكون دخوله إليه عن وعي يلهمه معناه، ليعرف كيف يحتويه في الدائرة الإسلامية الحيّة المتحركة في كلّ اتجاه للحياة من حوله.
والمطلوب ثانياً - من وحي هذا الدعاء - التحرز عن التعدي على حدود الله، في ما حرّم الله على عباده تجاوزه، من الأمور التي لا مصلحة فيها للحياة وللإنسان، مما أنذر الله عباده بالعقوبة على ممارستها، وهذا هو الذي يلخص كلّ الخطوط التي يتحرك فيها الإنسان في هذا الشهر في جانبها السلبي الذي يتمثل في المحرمات، وفي جانبها الإيجابي الذي يتمثل في الواجبات.. وهذا هو الذي نتابع عناوينه في الفقرات الآتية، التي يرتفع فيها النداء من أعماق القلب المؤمن الخاشع الذي يخشى من السقوط في التجربة تحت تأثير ضغط المادة أو الغريزة أو البيئة أو نحو ذلك مما قد ينحرف بالإنسان عن الخط المستقيم، فيبادر إلى طلب المعونة من الله، ليتوازن الإنسان في حركته، لتنطلق الإرادة من جانب، وتنزل عليه الألطاف الإلهية من جانب آخر.
وهذا ما تمثله هذه الفقرة: "وأعنّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك واستعمالها بما يرضيك"، فإنّها توحي بأنّ الصوم يأخذ مضمون الحقيقي في حياة الناس الإيمانية العبادية المنفتحة على الله بالالتزام الحقيقي الذي لا يهتزّ في مواقع الاهتزاز الفكري والعملي، فلا تنفذ معصية الله إلى أعضاء الإنسان في قوله وفعله، بل تقف مع طاعة الله التي يتحرك فيها الجسد بكلّ حركات، ليكون الإنسان في ذلك إنسان الله، الذي ينتمي إليه ولا ينتمي إلى الشيطان، وليكون عبد الله الخاضع له في كل أموره...
وهذا ما تعبر عنه الفقرات التالية: "حتى لا نصغي بأسماعنا إلى لغو" وهو الكلام الذي لا يعتدّ به، وهو الذي لا يرد عن رويّة وفكر، لقد يشتمل على ما لا يرضي الله وما لا ينفع الناس، أو على ما يفسد حياتهم، أو ما يبتعد بهم عن الخطّ المستقيم في الفكر والمنهج والعمل.. وهذا هو ما يريد الإسلام للإنسان أن يبتعد عنه ويرتفع بشخصيته عن الأخذ به.. وقد يكون الإصغاء إليه وسيلةً من وسائل الأنس به والانجذاب إليه، مما قد يترك تأثيراً عميقاً في شخصية الإنسان حيث يتحوّل إلى شخص يمارس اللغو وينطبع به.
"ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو" يجتذب العين فيسحرها، ويأخذ القلب فيملكه، ويطبع حياة الإنسان بطابعه ليكون الإنسان اللاهي البعيد عن الله الذي يستغرق في الصورة الحلوة هنا، واللمسة المغرية هناك، والأوضاع المثيرة في موقع آخر، فيخلد إلى الأرض في زخارفها ومغرياتها وشهواتها، فلا يرتفع إلى آفاق السموّ الروحي الباحثة عن الله، ولا ينطلق إلى مواقع المسؤولية المنفتحة على مواقع رضاه، وبذلك يفقد توازنه، ويبتعد عن إنسانيته، ويتحول إلى شخص عبثي في ما هو العبث اللاهي في الحياة.
"وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور"، لأنّ الله جعل لليدين دوراً في تحريك حياة الإنسان نحو القضايا التي تمثل حاجاته في بناء جسده في ما يحتاجه من الغذاء والكساء ونحو ذلك، أو التي تمثل حاجاته في بناء روحه، أو في رعاية حياة الناس من حوله في ما أحلّه الله له من ذلك كلّه... ولم يرخّص له أن يستعملها في تناول الحرام، أو في إفساد حياة الناس أو حياته وتهديدها أو إرباكها في مالا يرضى له به.. وفي ضوء ذلك، لا بدّ للإنسان من أن يفكر بأنّ لا يحرك يديه في الأمور المحظورة، على جميع المستويات، حتى لا تكونا أداتين لمعصية الله، وبالتالي لهلاك الإنسان في مصيره المحتوم في عذاب جهنم من خلال غضب الله...
"ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور"، فقد حجر الله علينا، من الوجهة الشرعية، أن نتحرك في الساحات التي تتجمع فيها الأوضاع المنفتحة على الفساد والإجرام والخيانة وغيرها من المعاصي، أو أن نأخذ بالوسائل التي تقودنا إلى ذلك، أو ننطلق إلى الأهداف التي لا يحبّها الله لعباده، ولذلك ينبغي للإنسان أن يستغرق في التأمل في خطواته في حركة رجليه، ليحدد الطرق المحلّلة أو المحرّمة، وليعرف الغايات التي يبلغها في ما يبني له حياته ومصيره، أو في ما يهدم وجوده ونجاته.
"وحتى لا تعي بطوننا إلا ما أحللت" من الطعام والشراب، فقد أحلّ الله للإنسان بعض الطعام والشراب وحرّم بعضاً آخر، وأراد له أن لا يجعل بطنه وعاءً إلا للحلال منها مما يصلح أمر جسده أو توازن عقله أو صفاء روحه في ما يؤثر عليه من ذلك كلّه.
"ولا تنطق ألسنتنا إلا بما مثّلت"، أي بما حدّثت، أو بما أكّدت من الحُجّة مما ينسجم مع الحقّ، ويبتعد عن الباطل، ويلتقي بالصدق، وينفصل عن الكذب، وينفع الناس ولا يضرهم، ويرفع مستواهم، ويقوّي وجودهم، ويفتح لهم أبواب الخير ويغلق عنهم أبواب الشرّ، ويدفع بهم إلى ساحة الحرية ويبعدهم عن ساحة العبودية، ويمنحهم العزة والكرامة.. فقد أراد الله للإنسان أن يحرّك لسانه بالكلمات الطيّبة المنفتحة على مواقع رضى الله في ما فيه مصلحة الإنسان الحقيقية في العمق، وأن يمسكه عن الكلمات الخبيثة المغلقة عن مواقع رضاه، ولذلك، كان لا بدّ له أن يفكّر بالمستوى العالي من الانضباط الدقيق في الخطّ الفاصل بين الحرام والحلال، في ما يربّي نفسه عليه، أو في ما يسأل الله العون عليه.
"ولا نتكلّف إلا ما يدني من ثوابك ولا نتعاطى إلا الذي يقي من عقابك"، لأنّ الله قد جعل لفنسان أن يبذل جهده في ما يملكه من الطاقة الحركية التي تمثل المعاناة والمشقة في الأعمال التي يقوم بها في المجالات التي تؤدّي به إلى السعادة التي ينال بها ثواب الله، وتبتعد به عن الشقاء الذي ينال به عقابه، لأنّ المفترض في الجهد الإنساني أن يتحرّك في النجاة من الهلاك، وفي الوصول إلى مواقع السلامة.
"ثم خلّصْ ذلك كلّه من رياء المرائين وسمعة المسمعين، لا نشرك فيه أحداً دونك، ولا نبتغي به مراداً سواك"، فقد أراد الله للإنسان أن يعيش في نطاق التوحيد الخالص الذي يوحي بصفاء العمل في عمق النية الدافعة له، فلا يكون مشوباً بالرياء الذي يمثل الاستغراق الذاتي في الحصول على مدح الناس له، وثقتهم به، ورضاهم عنه، ولا يكون مشدوداً إلى الحصول إلى السمعة الطيبة لديهم، لأنّ معنى ذلك هو انفتاح العبادة على الناس لا على الله، مما يعني الشرك الخفي في ما يراقب به الإنسان الناس إلى جانب الله.. في مضمون العبادة الخاضعة لحركة القلب التي تحدّد مسار حركة الجسد.
وهكذا نجد في هذا الفصل، أنّ الصوم ليس مجرد حالة مادية سلبية في ما هي اللذة الغذائية أو الجنسية، بل هو حالة روحية وعملية على مستوى الالتزام الأخلاقي الشرعي الذي يمثّل صوم الجسد عن كلّ ما حرّمه الله، وقد جاء في الحديث المأثور عن الإمام جعفر الصادق(ع): "إذا صمت فليصُم سمعك وبصرُك وشعرك وجلدك"،(وعدّد أشياء غير هذا) وقال: لا يكون يوم صومك كيوم فطرك"(3). وفي كلمة أخرى له: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك من الحرام والقبيح، ودع المراء وأذى الخادم، وليكن عليك وقار الصائم، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك".
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَقِفْنا فيهِ عَلى مَواقيتِ الصَّلَواتِ الْخَمْسِ بِحُدُودِهَا الَّتي حَدَّدْتَ، وَفُرُوضِهَا الَّتي فَرَضْتَ، وَوَظائِفِهَا الَّتي وَظَّفْتَ، وَأَوْقاتِهَا الَّتي وَقَّتَّ. وَأَنْزِلْنا فيها مَنْزِلَةَ الْمُصِيبينَ لِمَنازِلِهَا، الْحافِظينَ لاَرْكانِهَا، الْمُؤَدّينَ لَها في أَوْقاتِها عَلى ما سَنَّهُ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ في رُكُوعِها وَسُجُودِها، وَجَميعِ فَواضِلِها عَلى أَتَمِّ الطَّهُورِ وَأَسْبَغِهِ، وَأَبْيَنِ الْخُشُوعِ وَأَبْلَغِهِ..
* * *
أداء الواجبات بشروطها:
وهذه جولةٌ ابتهاليةٌ في آفاق الصلوات المفروضة في كلّ يوم التي تمثل القاعدة التي يرتكز عليها التطلع الروحي إلى آفاق الله، والعروج الفكري إلى مواقع رحمته، والانفتاح القلبي على كلّ ساحات قدسه.. حيث يتحدّث الإنسان من خلالها إلى ربّه في مناجاته وتسبيحه وتكبيره وحمده وتهليله، ويقف بين يديه خاشعاً في قيامه وركوعه وسجوده.. وليعيش في نهاياتها السلام على النبيّ وعلى جميع عباد الله الصالحين.. لتكون برنامجاً روحياً عملياً متحركاً مع آناء الليل وأطراف النهار، فتتحول إلى حزامٍ روحي يحيط بالإنسان في جميع أوضاعه ليقيه من الانحراف عن الخطّ المستقيم.
إنّه الابتهال الخاشع إلى الله أن يوفّق الإنسان للإخلاص للصلاة بجميع  حدودها الزمنية والعملية، حتى ترتفع بروحه إلى الله من خلال كلّ منازلها ومواقعها وفواضلها وطهورها الذي يجمع إلى طهارة الروح طهارة الجسد، لتنفتح الصلاة المفروضة على الصوم المفروض فتزيده روحانيةً وعبوديةً لله فتقرّبه إلى خطّ التقوى الذي هو الهدف الكبير للصوم، كما هو الهدف الكبير لجميع العبادات.
* * *
وَفِّقْنا فيهِ لأنْ نَصِلَ أَرْحامَنا بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَأَنْ نَتَعاهَدَ جيرانَنا بِالإفْضالِ وَالْعَطِيَّةِ، وَأَنْ نُخَلِّصَ أَمْوالَنا مِنَ التَّبِعاتِ، وَأَنْ نُطَهِّرَها بِإِخْراجِ الزَّكَواتِ، وَأَنْ نُراجِعَ مَنْ هاجَرَنا، وَأَنْ نُنْصِفَ مَنْ ظَلَمَنا، وَأَنْ نُسالِمَ مَنْ عادانا، حاشا مَنْ عُودِىَ فيكَ وَلَكَ، فَإِنَّهُ الْعَدُوُّ الَّذي لانُواليهِ، وَالْحِزْبُ الَّذي لانُصافيهِ، وَأَنْ نَتَقَرَّبَ إِلَيْكَ فيهِ مِنَ الأعْمالِ الزّاكِيَةِ بِما تُطَهِّرُنا بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَتَعْصِمُنا فيهِ مِمّا نَسْتَأَنِفُ مِنَ الْعُيُوبِ، حَتّى لا يُورِدَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ مَلائِكَتِكَ إِلاّ دُونَ ما نورِدُ مِنْ أَبْوابِ الطّاعَةِ لَكَ، وَأَنْواعِ الْقُرْبَةِ إِلَيْكَ..
* * *
مضامين إنسانية:
وهذا نداء من قلب الحياة لاجتذاب التوفيق الإلهي في حركة المسؤولية في نطاق بعض المواقف المتصلة بالعلاقات الإنسانية وبالمبادرات المالية الخيِّرة، وبالأعمال الزكية التي تفتح للإنسان أبواب الرحمة الإلهية، ليكون هذا الشهر المبارك شهر تصحيح العلاقات على الخطّ الذي يحبّه الله ويرضاه، وتحريك الطاقات في ساحات الإنفاق على الفئات المحرومة أو الجهات الخيِّرة، وتوجيه الأعمال في اتجاه الحصول على غفران الذنوب، وعلى العصمة من العيوب.
وهذا هو الذي يجعله منطلقاً للمضمون الإنساني في حركة المسؤولية في الإنسان، كما هو منطلق في تحريك المضمون الروحي في حركة العبادة في حياته، ليرتفعا به إلى المستوى الأعلى في رضوان الله.
صلة الرحم:
"ووفِّقْنَا لأن نصِلَ أرحامِنا بالبِرِّ والصِّلَة"، والأرحام جزء من الخلايا الاجتماعية التي تتحرك في الواقع الإنساني لتربط علاقات الإنسان بالآخرين في دائرة التوازن المسؤول، فهم أقرب الناس إليه في قرابة الدم، ممّا يجعل من العاطفة التي تشدّه إليهم حالةً طبيعية، وهم الأكثر اتصالاً بحياته في ما يمكن أن تصطدم فيه المواقف والمصالح والمشاعر، الأمر الذي قد يخلق لوناً من ألوان التماس اليومي بفعل الاحتكاك الدائم، ويؤدّي إلى إثارة المشاكل والتعقيدات في داخل هذا المجتمع الصغير المتشابك الأوضاع والعلاقات.. وهذا هو الذي جعل التخطيط الأخلاقي الإسلامي يمنح العلاقة بالأرحام وضعاً روحياً يمتص كلّ النتائج السلبية التي قد تحدث في داخل الوضع المعقّد في شبكة العلاقات، بحيث يفكّر الإنسان بالنتائج الإلهية على مستوى صلة الأرحام في إيجابيات المغفرة والثواب وطول العمر وسعة الرزق، أو على مستوى قطيعة الأرحام في سلبيات الغضب الإلهي والعقاب الأخروي، وقصر العمر وضيق الرزق، فلا تعود العلاقة بالأرحام سلباً أو إيجاباً، مجرد علاقةٍ شخصيةٍ أو عائليةٍ، في ما هي العلاقات الاجتماعية العادية، بل تتحوّل إلى حالةٍ سلوكية في ما هو الخطّ الإلهي الذي يؤكّد للإنسان المؤمن علاقاته بأقربائه في دائرة المسؤولية المتصلة بنتائجها بقضية المصير في الدنيا والآخرة. وفي ضوء ذلك، يمكن حلّ كثير من التعقيدات والسيطرة على بعض المشاكل من خلال العنصر الروحي في إخلاص الإنسان لربّه بدلاً من العنصر الذاتي في علاقة الإنسان بأرحامه، لتتحرك الإرادة الإيجابية في اتجاه صلة الأرحام بالبرّ والعطية من موقع الارتباط برضوان الله، لا بنوازع الذات.
وقد وردت الأحاديث الكثيرة المنفتحة على آيات الله في وصل ما أمر الله به أن يوصل، من حيث الوصول إلى رضوان الله، وفي قطع ما أمر الله به أن يوصل من حيث الوقوع في موارد غضب الله، وقد جاء في خطبة النبي(ص) التي استقبل بها شهر رمضان الأمر بصلة الأرحام فيه والتأكيد على أن مَن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه.
تعهّد الجيران:
"وأن نتعاهد جيراننا بالإفضال والعطية"، والجيران كالأرحام في طبيعة العلاقة الوثيقة المتصلة بالحياة اليومية الدائمة في لقاء الجيران بعضهم ببعض، وفي ما يقتضيه ذلك من كثرة السلبيات الناشئة في المصالح المتشابكة والأوضاع المعقدة، والحساسيات الدقيقة والعلاقات المتنوعة، الأمر الذي لا يمكن السيطرة عليه بالحلول العادلة المرتكزة على الأوضاع المادية في دائرة العلاقات الإنسانية، ولذلك كان التخطيط الأخلاقي الإسلامي ينطلق من التركيز على حسن الجوار بالإحسان إلى الجيران بالإفضال والعطية، وتحمّل الأذى منهم، وبناء العلاقات بهم على أساس العفو والتسامح طلباً لرضى الله، ليكون العنصر الروحي الباحث عن مواقع القرب من الله هو الأساس في احتواء كلّ السلبيات.
وقد نصّ القرآن على الإحسان إلى الجار، قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء:36].
قيل: معنى "الجاري ذي القربى"، القريب ذو النسب، والجار الجنب الذي ليس بينك وبينه قرابة، وقيل: الجار ذو القربى منك بالإسلام والجار الجنب المشكر البعيد في الدين، فلقد روي عن النبي(ص) أنّه قال: "الجيران ثلاثة، فمنهم من له ثلاثة حقوق؛ حقّ الإسلام وحقّ الجوار وحقّ القرابة، ومنهم من له حقّان؛ حقّ الإسلام وحقّ الجوار، ومنهم من له حقّ واحد؛ الكافر له حقّ الجوار"(4).
وقد جاء في الحديث عن رسول الله(ص): "ما زال جبرائيل(ع) يوصيني بالجار حتى ظننت أنّه سيورثه"(5).
تزكية الأموال:
"وأن نخلص أموالنا من التبعات وأن نطهرها بإخراج الزكوات"، المال مسؤولية في دائرة الملكية التي هي وظيفة فردية واجتماعية شرعية، فقد جعل الله له حدوداً في أسباب الملكية والسلطنة، وفي حركة التصرف وفي طبيعة العلاقات بالآخرين، في ما يتصل بأوضاعهم المالية المتصلة به، وبماله.. ولا بدّ للإنسان المؤمن الذي يخضع في حياته لأحكام الله من أن يخلّص ماله من التبعات، وهي الحقوق المتعلقة به لله وللناس.
وللزكاة حقٌ معلومٌ بالمال، في ما افترضه الله على عباده من إخراجها منه بطريقةٍ معينةٍ، وي حدودٍ محدودةٍ باعتبارها سبيلاً لتطهير المال، كما ورد في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة:103]، وهي من الفرائض المؤكدة التي دعت إليها الآيات القرآنية الكثيرة، كما وردت الأحاديث التي تهدد مانع الزكاة بدخول النار.
وهكذا يريد الله للإنسان المؤمن أن يعيش هذا الهمّ الكبير في مسؤولية المال في تخليصه من كلّ الحقوق اللازمة له، وفي تطهيره بإخراج الزكاة منه، ليقف عند حدود الله في نطاق العطاء المسؤول الذي يؤكّد للإنسان إنسانيته في انفتاحه على الناس، كما يؤكّد له عبوديته التي يتعبد فيها لله.
الدفع بالتي هي أحسن:
"وأن نراجع مَن هاجرنا" فنبادله في هجرانه لنا انفتاحاً عليه وعودةً إلى صحبته، ورجوعاً إلى مواقع العلاقة الحميمة القديمة به. "وأن ننصف مَن ظلمنا" بأن نسير معه في طبيعة المسألة التي تتصل بظلامتنا عنده بالعدل، فلا نميل عن حدود الحقّ معه، ولا نعمل على معاملته بردود الفعل النفسية المليئة بالغيظ وبالحاجة إلى التشفي، وبإثارة الحميّة الذاتية.. وهذا هو الخطّ الشرعي في زمام المبادرة، فلا نقابل ظلم ظالم لنا بأن نظلمه، بل أن نأخذ منه حقّنا من دون زيادة انطلاقاً من العقل الهادئ المتّزن الخاضع للشرع، البعيد عن نوازع الذات المنفعلة الغاضبة.
"وأن نسالم مَن عادانا" فنغلّب جانب المسالمة على جانب المحاربة، على أساس المصلحة العامة الحية في ما نأخذ به من أسباب ذلك، من أجل أن نفسح في المجال له للتراجع عن عداوته، وذلك من خلال التوجيه الإلهي الذي أراد لنا أن يكون عملنا في نطاق المشاكل الطارئة مع الآخرين، هادفاً إلى تحويل الأعداء إلى أصدقاء، وذلك قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
الموقف الصلب:
"..حاشا مَنْ عُوديَ فيك ولك، فإنّه العدوّ الذي لا نواليه، والحزب الذي لا نصافيه"، وهذا هو الاستثناء الإسلامي للمسألة الأخلاقية القائمة على أساس تقديم التنازلات الشعورية والعملية لمصلحة تحويل العدوّ إلى صديق، فإنّ ذلك داخل في نطاق العلاقات الشخصية في المشاكل الخاصة أو العامة المتحركة في الدائرة الاجتماعية.. أما في المسائل المتصلة بالموقف الرسالي الذي ينطلق فيه أعداء الرسالة وأعداء الله ليثيروا المشاكل في ساحة الرسالة، وليطلقوا التحديات في مواجهة أولياء الله، من أجل إضعاف الموقف، وهزيمة الموقع، سواء تمثّل وجودهم في جماعات متناثرة أو في أحزاب منظمة.. أما في هذه المسائل، فلا بدّ من الحسم في الموقف، لأنّ المسألة ليست مسألة مشاعر يراد تبريدها أو مشاكل معقدة يُراد حلّها، بل هي مسألة رسالة يراد حمايتها، ومجتمعٍ يراد تقويته، وخطةٍ يراد إسقاطها، ولذلك فلا بدّ من الموقف الحاسم الذي يراقب العواطف الذاتية والانفعالات النفسية التي قد تجعل الإنسان خاضعاً للمؤثرات السريعة التي قد تفتح القلب لأعداء الله في لحظة ضعف شعوري.
وهذا هو الذي ينبغي للإنسان المسلم أن يستوعبه في وعيه الرسالي العملي، ليجعل عواطفه خاضعةً لحركة رسالته في مسألة السلامة العامة للرسالة من الذين يكيدون لها ويتربصون بها الدوائر مستغلّين بعض نقاط الضعف لدى الطيّبين من أتباعها، فلا مجال للتسامح العاطفي في هذا المجال.
ولكن.. هل يعني ذلك أن يتحرك الرساليون عشوائياً في ردّة الفعل السلبية ضدّهم ليتحركوا في فوضى انفعاليةٍ، أم أن عليهم أنّ يحرسوا أنفسهم من الانفتاح الروحي أو العاطفي عليهم لئلا يسقطوا أمامهم.. ليتابعوا السعي نحو تركيز الموقف بدقة؟
إنّ القضية تتحرك في الخيار الثاني، لأنّ التحرك لا بدّ أن يخضع للتخطيط الواعي في مصلحة الرسالة، ليكون الأسلوب مدروساً والأجواء متوازنة والحسابات دقيقة، لأنّ أيّ خطأ في الحسابات قد يسيء إلى الموقف كلّه.
* * *
وَأَنْ نَتَقَرَّبَ إِلَيْكَ فيهِ مِنَ الأعْمالِ الزّاكِيَةِ بِما تُطَهِّرُنا بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَتَعْصِمُنا فيهِ مِمّا نَسْتَأَنِفُ مِنَ الْعُيُوبِ، حَتّى لا يُورِدَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ مَلائِكَتِكَ إِلاّ دُونَ ما نورِدُ مِنْ أَبْوابِ الطّاعَةِ لَكَ، وَأَنْواعِ الْقُرْبَةِ إِلَيْكَ..
* * *
العمل دليل الصدق:
ثم تأتي الفكرة العامة التي تلاحق الشخصية الإنسانية في طهارتها الروحية، وفي سلامتها الأخلاقية.. فلا بدّ للإنسان من أن يدخل في برنامج عملي، يختار فيه الأعمال الزاكية التي تتميز بمواقع القرب من الله، لتترك تأثيرها الإيجابي في إيجاد حالة روحية تتميز بالقوة العاصمة التي تتطهر فيها الشخصية من ضغط الذنوب عليها، وتبتعد عن العيوب التي تثقل حركة الإنسان عن السير في الاتجاه السليم..
وفي ضوء ذلك نعرف أن مسألة التصحيح السلوكي لا تتحدد بالتوبة الفكرية أو الشعورية، بل لا بدّ من أن تتمثل بالممارسة العملية المضادة التي تصدم ضغط الانحراف بقوة الاستقامة، فينطلق العمل في خطّ الله، فيرتفع منه إلى الله، في تقارير الملائكة، المستوى الذي يقلّ عنه عمل الملائكة من خلال ما نبلغه من الدرجة العالية في مواضع رضاك.
* * *
اللّهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ هذَا الشَّهْرِ، وَبِحَقِّ مَنْ تَعَبَّدَ لَكَ فيهِ مِنِ ابْتِدائِهِ إِلى وَقْتِ فَنائِهِ، مِنْ مَلَك قَرَّبْتَهُ، أَوْ نَبِيٍّ أَرْسَلْتَهُ، أَوْ عَبْد صالِح اخْتَصَصْتَهُ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَهِّلْنا فيهِ لِما وَعَدْتَ أَوْلِياءَكَ مِنْ كَرامَتِكَ، وَأَوْجِبْ لَنا فيهِ ما أَوْجَبْتَ لأِهْلِ الْمُبالَغَةِ في طاعَتِكَ، وَاجْعَلْنا في نَظْمِ مَنِ اسْتَحَقَّ الرَّفيعَ الأعْلى بِرَحْمَتِكَ...
* * *
التطلّع إلى مواقع القرب:
...وإذا كان القلب ينفتح على الخير في هذا الشهر لتتكامل كلّ عناصر الحقّ في داخل الشخصية الإنسانية المؤمنة، فإنّه يخضع ويرقّ ويبتهل ويرتفع بكلّ عمق الصوت الإلهي في روحه.. ويتوسل بحقّ هذا الشهر وبحقّ كلّ المتعبدين لله فيه من الملائكة والأنبياء والصالحين، أن يؤهّله فيه لكرامته الإلهية التي تجمع كلّ الرحمة والرضوان، وأن يوجب له كلّ الفيوضات والألطاف التي تنساب من عطفه الإلهي على الذين استغرق وجوده كلّ وجدانهم الروحي العملي حتى بلغ الدرجة العليا من طاعته، وأن يمنحه الارتفاع إلى مواقع الذين ارتفعت درجاتهم إلى الرفيع الأعلى من خلال رحمته..
إنّه الابتهال الخاشع الذي لا يتطلع إلى عمله الذي يقدمه بين يديه ليستحق عطاء ربّه، بل يتطلع إلى كلّ مواقع القرب من الله في الزمن الذي منحه الله معنى القداسة في روحانيته، وفي الملائكة والمقرّبين من الأنبياء والصالحين ليقدمهم شفعاء بين يدي الله، وذلك في ما جعله الله لهم من الحقّ، من خلال إخلاصهم وطاعتهم له.. ولكنّ رحمة الله وراء ذلك لأنّ رحمته تمتد إلى كلّ عباده من دون حاجةٍ إلى شفيع، غير أنّه - سبحانه - يمنح بعض عباده شرف الشفاعة ليكرمهم بذلك، وليشفّعهم في من ارتضاه من خلقه.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَجَنِّبْنَا الإلْحادَ في تَوْحيدِكَ، وَالتَّقْصيرَ في تَمْجيدِكَ، وَالشَّكَّ في دينِكَ، والْعَمى عَنْ سَبيلِكَ، وَالإغْفالَ لِحُرْمَتِكَ، وَالاْنْخِداعَ لِعَدُوِّكَ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ.
* * *
الابتهال لمواجهة الانحرافات:
وهذه جولة جديدة في أجواء السلبيات العقيدية والعملية التي يمكن أن تحدث للإنسان لتنحرف به عن الخط المستقيم في وعي العقيدة، أو في استقامة العمل، فقد يخضع لشبهة فكرية يهتزّ فيها يقينه بتوحيد الله، فتميل به نحو خطّ الشرك، وقد يستسلم لحالة نفسية صعبة تسلب منه طمأنينته وسكينته الروحية المنفتحة على الله... وقد يفقد إحساسه بعظمة الله فيقصّر في تمجيده في ما هو الذكر لله بصفاته وأسمائه الحسنى وآلائه العليا فيبتعد بذلك عن مواقع الإخلاص له.. وقد تطوف بالقلب ظلالٌ من الشك في دين الله وهو الإسلام، من خلال ما يداخله من الأحاسيس والانفعالات، وقد يزول إشراق البصيرة في وجدانه ليتحوّل إلى ظلمة تعميه عن تلمُّس السبيل السويّ الذي يؤدّي به إلى الله في مواقع رضوانه، وقد يغفل حرمة الله من حسابه، فيسيء إلى سموّ قدسه وعظمة جلاله، فيتصرّف في أفعاله وأقواله تصرّف المتمرّد الجاهل، وينتهك حرمة ربّه في ذلك كلّه، وقد ينخدع بالشيطان الرجيم في أمانيّه وغروره وتزيينه وتثبيطه وتهاويله، فيمتد في طريقه إلى غاياته الخبيث، ويلتقي بمعصية الله في أوضاعه، فيسقط في هاوية الهلاك.. وهنا تنطلق الابتهالات الروحية في نداء خاشع يستعطف الله أن يجنّبه ذلك كلّه، لتسلم روحه من كلّ التهاويل التي تبتعد بها عن صفاء العقيدة واستقامة الطريق.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَإِذا كانَ لَكَ في كُلِّ لَيْلَة مِنْ لَيالي شَهْرِنا هذا رِقابٌ يُعْتِقُها عَفْوُكَ، أَوْ يَهَبُها صَفْحُكَ، فَاجْعَلْ رِقابَنا مِنْ تِلْكَ الرِّقابِ، وَاجْعَلْنا لِشَهْرِنا مِنْ خَيْرِ أَهْلٍ وَأَصْحاب.
* * *
إنّها دعوات العباد الذين يشعرون بثقل الخطايا على رقابهم حتى كأنّ النار تطلّ عليهم لتملكهم، كما يملك صاحب الحقّ مورد حقّه، فيتعلقون بوعد الله لهم بأن يعتق في هذا الشهر رقاباً خاطئة من النار، ويبتهلون إليه أن يجعل رقابهم من تلك الرقاب، وأن يوثّق صلتهم بهذا الشهر كما لو كانوا من أهله وأصحابه في نتائج الخير والمغفرة التي خصّ الله بها أيامه ولياليه.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَامْحَقْ ذُنُوبَنا مَعَ إِمْحاقِ هِلالِهِ، وَاسْلَخْ عَنّا تَبِعاتِنا مَعَ انْسِلاخِ أَيّامِهِ، حَتّى يَنْقَضِىَ عَنّا وَقَدْ صَفَّيْتَنا فيهِ مِنْ الْخَطيئاتِ، وَأَخْلَصْتَنا فيهِ مِنَ السَّيِّئاتِ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَإِنْ مِلْنا فيهِ فَعَدِّلْنا، وَإِنْ زُغْنا فيهِ فَقَوِّمْنا، وَإِنِ اشْتَمَلَ عَلَيْنا عَدُوُّكَ الشَّيْطانُ فَاسْتَنْقِذْنا مِنْهُ.
* * *
قلق المصير:
إنّه استيحاء الكلمة في عنوان الزمن للكلمة في مسؤولية العمل، فسينمحق هلاله، ويذهب وجهه ونوره للناظرين.. عندما يغيب في قلب الظلام، فهل يمحق الله ذنوبنا، آنذاك فلا يبقى لنا ذنب في أفق مصيرنا في الحياة؟! وستنسلخ أيامه من دائرة الوجود لتفسح في المجال لأيّام أخرى في شهر آخر، فهل تنسلخ معه النتائج السلبية لأعمالنا السيئة في ما ينتظرنا من عقوبة، فلا نتحمل مسؤوليتها غداً بين يدي الله.. لنعيش صفاء الشخصية فلا تعكرها الخطايا، ولا تشوّهها السيئات؟!
إنّه قلق المصير الذي يشغل فكر الإنسان المؤمن في ما يستقبله في الآخرة.
ثم يخشى هذا الإنسان أن تتجمّع العناصر القلقة لتميل به عن الحقّ أو لتنحرف به عن خطّ الاستقامة، فيطلب من ربّه أن يعدّله إذا مال، وأن يقوّمه إذا زاغ عن الخط.. وإذا ذكر الشيطان الذي هو عدوّ الله وعدوّ الإنسان، وخاف منه على نفسه عندما يشتمل على كيانه في ما يمكن أن يسيطر عليه بغروره وخداعه، فإنه يبتهل إلى الله أن يستنقذه منه، لأنّه - وحده - المهيمن على كلّ شيء.
إنّه الإنسان الباحث عن السلامة في المصير، والاستقامة في الخطّ، والبعد عن الانحراف، والخلاص من الذنوب.. المؤمل بالله في ذلك كلّه.
* * *
اللّهُمَّ اشْحَنْهُ بِعِبادَتِنا إِيّاكَ، وَزَيِّنْ أَوْقاتَهُ بِطاعَتِنا لَكَ، وَأَعِنّا في نَهارِهِ عَلى صِيامِهِ، وَفي لَيْلِهِ عَلَى الصَّلاةِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْكَ، وَالْخُشُوعِ لَكَ، وَالذِّلَّةِ بَيْنَ يَدَيْكَ، حَتّى لا يَشْهَدَ نَهارُهُ عَلَيْنا بِغَفْلَة، وَلا لَيْلُهُ بِتَفْريط.
اللّهُمَّ وَاجْعَلْنا في سائِرِ الشُّهُورِ وَالأيّامِ كَذلِكَ ماعَمَّرْتَنا..
* * *
الزمن شاهد حيّ:
...ويعود الإنسان المؤمن إلى نفسه، وإلى هذا الشهر الذي جعله الله فرصةً له للتعبئة الروحية المنطلقة من خلال الإقبال على الله والانفتاح على عبادته.. ولهذا فإنّه يبتهل إلى الله ويستعين به على أن يجعله مشحوناً بعبادته إياه، فلا يخلو وقت فيه من أوضاع العبادة الخاشعة، وأن يزيّن أوقاته بطاعته له، في كلّ ما أمر به أو نهى عنه، فإنّ الطاعة هي التي تمنح الزمن إشراقه وحسنه وزينته، في المعنى العميق لهذه الكلمات..وأن يعينه على صيامه في النهار وقيامه في الليل، باعتبار أنّ ذلك هو مظهر الطاعة، وعنوان العبادة، ولا سيما الصلاة التي تمثل العبادة المتحركة المتنوعة في شكلها ومضمونها، وروحها المتمثل في الخشوع والخضوع والذلة بين يدي الله..وبذلك يكون الزمن هو الشاهد الحيّ الذي يشهد له أمام الله بأنّه لم يغفل في نهاره، ولم يفرط في ليله، بل قام بواجبه كما يريد الله له في ذلك كلّه.
وليست المسألة مسألة الشهر في خصوصيته، بل المسألة مسألة الزمن كلّه في امتداد العمر، في ما يشاء الله له من الامتداد في مدى الحياة.
إنّها الرغبة العميقة في الانفتاح على الله بعبادته وبطاعته ليكون الإنسان بذلك قريباً إلى الله مرضياً عنده في كلّ عمره.
* * *
وَاجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ الصّالِحينَ الَّذينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فيهَا خَالِدُونَ، وَالَّذينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ، وَمِنَ الَّذينَ (يُسارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ..
* * *
الشوق إلى الجنة:
وأخيراً.. يفكّر هذا الإنسان بأن ينضمّ إلى عباد الله الصالحين، فيطلب من الله أن يجعله منهم، لأنّهم يرثون الفردوس هم فيها خالدون، فيتقلبون في نعيم الجنة في رضوان الله، لأنّهم كانوا يمارسون أعمالهم في قلق روحي عميقن ووجل نفسي كبير، فهم يفكرون برجوعهم إلى الله، ووقوفهم بين يديه، ويخافون أن لا تكون أعمالهم مقبولة عنده، ولأنّهم كانوا يسارعون في الخيرات بعد أن علموا أنّ الله ينال المسارعين فيها والسابقين لها برحمته ورضوانه.
إنّه شوق الإنسان إلى أن يكون من المجتمع الصالح المنفتح على الله، الواصل إلى جنة الله من خلال عمله وصلاحه.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ في كُلِّ وَقْت وَكُلِّ أَوان، وَعَلى كُلِّ حال، عَدَدَ ما صَلَّيْتَ عَلى مَنْ صَلَّيْتَ عَلَيْهِ، وَأَضْعافَ ذلِكَ كُلِّهِ بِالأضْعافِ الَّتي لا يُحْصيها غَيْرُكَ، إِنَّكَ فَعّالٌ لِما تُريدُ.
* * *
الوفاء للنبي:
..ويبقى للنبيّ محمّد(ص) دوره الكبير في وعي المؤمنين الذين يشعرون بفضله على الناس كلهم وعلى الحياة كلّها، لأنّه قد أدّى رسالة الله خير أداء وجاهد في سبيلها خير جهاد، الأمر الذي يفرض عليهم أن يعبّروا عن إخلاصهم له، وارتباطهم به واعترافهم بجميله، وذلك بالطريقة التي علّمهم الله إياها، وهي الصلاة عليه، ليحركوها في كلّ وقت وفي كلّ أوان وعلى كلّ حال بكلّ الأعداد التي يمكن للصلاة أن تنطلق بها، فيمن صلى الله عليه من رسله وعباده، وفي أكثر من ذلك بالأضعاف التي لا يحصيها غيره.. وهكذا يدخل الإنسان المسلم شهر رمضان بوعي، ويحضنه بمحبة، ويتحرك معه بمعرفة، وينفتح على واجباته بإخلاص.
* * *

الهوامش:

(1)    التهذيب، ج:4، ص:152، رواية:3.
(2)    مَن لا يحضره الفقيه، ج:2، باب:2، ص:99، رواية:1844.
(3)    الكافي، ج:4، ص:87، رواية:1.
(4)    مستدرك الوسائل، ج:8، باب:72، ص:424، رواية:9878.
(5)    مَن لا يحضره الفقيه، ج:1، ص:52، رواية:108.
* * *
دعاؤه(ع)
في وداع شهر رمضان

اللّهُمَّ يا مَنْ لا يَرْغَبُ فِي الْجَزاءِ، وَيَا مَنْ لا يَنْدَمُ عَلَى الْعَطاءِ، وَيا مَنْ لا يُكافِئُ عَبْدَهُ عَلَى السَّواءِ، مِنَّتُكَ ابْتِداءٌ، وَعَفْوُكَ تَفَضُّلٌ، وَعُقُوبَتُكَ عَدْلٌ، وَقَضاؤُكَ خِيَرَةٌ، إِنْ أَعْطَيْتَ لَمْ تَشُبْ عَطاءَكَ بِمَنٍّ، وَإِنْ مَنعْتَ لَمْ يَكُنْ مَنْعُكَ تَعَدِّياً، تَشْكُرُ مَنْ شكَرَكَ وَأَنْتَ أَلْهَمْتَهُ شُكْرَكَ، وَتُكافِئُ مَنْ حَمِدَكَ وَأَنْتَ عَلَّمْتَهُ حَمْدَكَ.
وَتَسْتُرُ عَلى مَنْ لَوْ شِئْتَ فَضَحْتَهُ، وَتَجُودُ عَلى مَنْ لَوْ شِئْتَ مَنَعْتَهُ، وَكِلاهُما أَهْلٌ مِنْكَ لِلْفَضيحَةِ وَالْمَنْعِ، غَيْرَ أَنَّكَ بَنَيْتَ أَفَعالَكَ عَلَى التَّفَضُّلِ، وَأَجْرَيْتَ قُدْرَتَكَ عَلَى التَّجاوُزِ، وَتَلَقَّيْتَ مَنْ عَصاكَ بِالْحِلْمِ، وَأَمْهَلْتَ مَنْ قَصَدَ لِنَفْسِهِ بِالظُّلْمِ، تَستَنْظِرُهُمْ بِأَناتِكَ إِلَى الإنابَةِ، وتَتْرُكُ مُعاجَلَتَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ، لِكَيْلا يَهْلِكَ عَلَيْكَ هالِكُهُمْ، وَلا يَشْقى بِنِعْمَتِكَ شَقِيُّهُمْ، إِلاّ عَنْ طُولِ الإعْذارِ إِلَيْهِ، وَبَعْدَ تَرادُفِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، كَرَماً مِن عَفْوِكَ يا كَريمُ، وَعائِدَةً مِنْ عَطْفِكَ يا حَليمُ.
أَنْتَ الَّذي فَتَحْتَ لِعِبادِكَ باباً إِلى عَفْوِكَ وَسَمَّيْتَهُ التَّوْبَةَ، وَجَعَلْتَ عَلى ذلِكَ الْبابِ دَليلاً مِنْ وَحْيِكَ لِئَلاّ يَضِلُّوا عَنْهُ، فَقُلْتَ تَبارَكَ اسْمُكَ: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]، فَما عُذْرُ مَنْ أَغْفَلَ دُخُولَ ذلِكَ الْمَنْزِلِ بَعْدَ فَتْحِ الْبابِ، وَإِقامَةِ الدَّليلِ؟
وَأَنْتَ الَّذي زِدْ‏تَ فِي السَّوْمِ عَلى نَفْسِكَ لِعِبادِكَ، تُريدُ رِبْحَهُمْ في مُتاجَرَتِهمْ لَكَ، وَفَوْزَهُمْ بِالْوِفادَةِ عَلَيْكَ وَالزِّيادَةِ مِنْكَ، فَقُلْتَ تَبارَكَ اسْمُكَ وَتَعالَيْتَ: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام:160]، وَقُلْت: {مَثَلُ الَّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَة ماِئَةُ حَبَّة وَاللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ} [البقرة:261]، وَقُلْتَ: {مَنْ ذَا الَّذي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثيرَةً} [البقرة:245]. وَما أَنْزَلْتَ مِن نَظائِرِهِنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَضاعِيفِ الْحَسَناتِ.
وَأَنْتَ الَّذي دَلَلْتَهُمْ بِقَوْلِكَ مِنْ غَيْبِكَ، وَتَرْغيبِكَ الَّذي فيهِ حَظُّهُمْ عَلى ما لَوْ سَتَرْتَهُ عَنْهُمْ لَمْ تُدْرِكْهُ أَبْصارُهُمْ، وَلَمْ تَعِهِ أَسْماعُهُمْ، وَلَمْ تَلْحَقْهُ أَوْهامُهُمْ، فَقُلْتَ: {فاذْكُرُوني أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]، وَقُلْتَ: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابي لَشَديدٌ} [إبراهيم:7]، وَقُلْتَ: {ادْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ} [غافر:60]، فَسَمَّيْتَ دُعاءَكَ عِبادَةً، وَتَرْكَهُ اسْتِكْباراً، وَتَوَعَّدْتَ عَلى تَرْكِهِ دُخُولَ جَهَنَّمَ داخِرينَ. فَذَكَرُوكَ بِمَنِّكَ، وَشَكَرُوكَ بِفَضْلِكَ، وَدَعَوْكَ بِأَمْرِكَ، وَتَصَدَّقُوا لَكَ طَلَباً لِمَزيدِكَ، وَفيها كانَتْ نَجاتُهُمْ مِنْ غَضَبِكَ، وَفَوْزُهُمْ بِرِضاكَ، وَلَوْ دَلَّ مَخْلُوقٌ مَخْلُوقاً مِنْ نَفْسِهِ عَلى مِثْلِ الَّذي دَلَلْتَ عَلَيْهِ عِبادَكَ مِنْكَ، كانَ مَوْصُوفاً بِالإحْسانِ، وَمَنْعُوتاً بِالإمْتِنانِ، وَمَحْمُوداً بِكُلِّ لِسان.
فَلَكَ الْحَمْدُ ما وُجِدَ في حَمْدِكَ مَذْهَبٌ، وَما بَقِي لِلْحَمْدِ لَفْظٌ تُحْمَدُ بِهِ، وَمَعْنىً يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، يا مَنْ تَحَمَّدَ إِلى عِبادِهِ بِالإحْسانِ وَالْفَضْلِ، وَغَمَرَهُمْ بِالْمَنِّ وَالطَّوْلِ، ما أَفْشى فينا نِعْمَتَكَ؟ وَأَسْبَغَ عَلَيْنا مِنَّتَكَ؟ وَأَخَصَّنا بِبِرِّكَ؟ هَدَيْتَنا لِدينِكَ الَّذي اصْطَفَيْتَ، وَمِلَّتِكَ الَّتِي ارْتَضَيْتَ، وَسَبيلِكَ الَّذي سَهَّلْتَ، وَبَصَّرْتَنَا الزُّلْفَةَ لَدَيْكَ، وَالْوُصُولَ إِلى كَرامَتِكَ.
اللّهُمَّ وَأَنْتَ جَعَلْتَ مِنْ صَفايا تِلْكَ الْوَظائِفِ، وَخَصائِصِ تِلْكَ الْفُرُوضِ، شَهْرَ رَمَضانَ الَّذِي اخْتَصَصْتَهُ مِنْ سائِرِ الشُّهُورِ، وَتَخَيَّرْتَهُ مِنْ جَميعِ الأزْمِنَةِ وَالدُّهُورِ، وَآثَرْتَهُ عَلى كُلِّ أَوْقاتِ السَّنَةِ بِما أَنْزَلْتَ فيهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالنُّورِ، وَضاعَفْتَ فيهِ مِنَ الإيمانِ، وَفَرَضْتَ فيهِ مِنَ الصِّيامِ، وَرَغَّبْتَ فيهِ مِنَ الْقِيامِ، وَأَجْلَلْتَ فيهِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتي هِىَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر.
ثُمَّ آثَرْتَنا بِهِ عَلى سائِرِ الأمَمِ، وَاصْطَفَيْتَنا بِفَضْلِهِ دُونَ أَهْلِ الْمِلَلِ، فَصُمْنا بِأَمْرِكَ نَهارَهُ، وَقُمْنا بِعَوْنِكَ لَيْلَهُ، مُتَعَرِّضينَ بِصِيامِهِ وَقِيامِهِ لِما عَرَّضْتَنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِكَ، وَتَسَبَّبْنا إِلَيْهِ مِنْ مَثُوْبَتِكَ. وَأَنْتَ الْمَليءُ بِما رُغِبَ فيهِ إِلَيْكَ، الْجَوادُ بِما سُئِلْتَ مِنْ فَضْلِكَ، الْقَريبُ إِلى مَنْ حاوَلَ قُرْبَكَ.
وَقَدْ أَقامَ فينا هذَا الشَّهْرُ مَقامَ حَمْد، وَصَحِبَنا صُحْبَةَ مَبْرُور، وَأَرْبَحَنا أَفْضَلَ أَرْباحِ الْعالَمينَ، ثُمَّ قَدْ فارَقَنا عِنْدَ تَمامِ وَقْتِهِ وَانْقِطاعِ مُدَّتِهِ، وَوَفاءِ عَدَدِهِ، فَنَحْنُ مُوَدِّعُوهُ وَداعَ مَنْ عَزَّ فِراقُهُ عَلَيْنا، وَغَمَّنا وَأَوْحَشَنَا انْصِرافهُ عَنّا، وَلَزِمَنا لَهُ الذِّمامُ الْمَحْفُوظُ، وَالْحُرْمَةُ الْمَرْعِيَّهُّ، وَالْحَقُّ الْمَقْضِيُّ.
فنَحْنُ قائِلُونَ: السَّلامُ عَليْكَ يا شَهْرَ اللّهِ الأكْبَرَ، وَيا عيدَ أَوْلِيائِهِ الأعْظَمَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا أَكْرَمَ مَصْحُوب مِنَ الأوْقاتِ، وَيا خَيْرَ شَهْر فِي الأيّامِ وَالسّاعاتِ، السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْر قَرُبَتْ فيهِ الامالُ، وَنُشِرَتْ فيهِ الأعْمالُ، السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ قَرين جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُوداً، وَأَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُوداً، وَمَرْجُوٍّ آلَمَ فِراقُهُ، السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ أَليف آنَسَ مُقْبِلاً فَسَرَّ، وَأَوْحَشَ مُنْقَضِياً فَمَضَّ، السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ مُجاوِر رَقَّتْ فيهِ الْقُلُوبُ، وَقَلَّتْ فيهِ الذُّنُوبُ.
السَّلامُ عَلَيْكَ مِن ناصِرٍ أَعانَ عَلَى الشَّيْطانِ، وَصاحِبٍ سَهَّلَ سُبُلَ الإحْسانِ، السَّلامُ عَلَيْكَ ما أَكْثَرَ عُتَقاءَ اللّهِ فيكَ، وَما أَسْعَدَ مَنْ رَعى حُرْمَتَكَ بِكَ، السَّلامُ عَلَيْكَ ما كانَ أَطْوَلَكَ عَلَى الْمُجْرِمينَ، وَأَهْيَبَكَ في صُدُورِ الْمُؤْمِنينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْر لا تُنافِسُهُ الأيّامُ، السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْر هُوَ مِنْ كُلِّ أَمْر سَلامُ، السَّلامُ عَلَيْكَ غَيْرَ كَرِيهِ الْمُصاحَبَةِ، وَلا ذَميمِ الْمُلابَسَةِ.
السَّلامُ عَلَيْكَ كَما وَفَدْتَ عَلَيْنا بِالْبَرَكاتِ، وَغَسَلْتَ عَنّا دَنَسَ الْخَطيئاتِ، السَّلامُ عَلَيْكَ غَيْرَ مُوَدَّع بَرَماً، وَلا مَتْرُوك صِيامُهُ سَأَماً، السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ مَطْلُوب قَبْلَ وَقْتِهِ، وَمَحْزُون عَلَيْهِ قَبْلَ فَوْتِهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ كَمْ مِنْ سُوء صُرِفَ بِكَ عَنّا، وَكَمْ مِنْ خَيْر أُفيضَ بِكَ عَلَيْنا، السَّلامُ عَلَيْكَ وَعَلى لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتي هِىَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر، السَّلامُ عَلَيْكَ ما كانَ أَحْرَصَنا بِالأمْسِ عَلَيْكَ، وَأَشَدَّ شَوْقَنا غَداً إِلَيْكَ، السَّلامُ عَلَيْكَ وَعَلى فَضْلِكَ الَّذي حُرِمْناهُ، وَعَلى ماضٍ مِنْ بَرَكاتِكَ سُلِبْناهُ.
اللّهُمَّ إِنّا أَهْلُ هذَا الشَّهْرِ الَّذي شَرَّفْتَنا بِهِ، وَوَفَّقْتَنا بِمَنِّكَ لَهُ، حينَ جَهِلَ الأشْقِياءُ وَقْتَهُ، وَحُرِمُوا لِشَقائِهِمْ فَضْلَهُ، وَأَنْتَ وَلِيُّ ما آثَرْتَنا بِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَهَدَيْتَنا لَهُ مِنْ سُنَّتِهِ، وَقَدْ تَوَلَّيْنا بِتَوْفيقِكَ صِيامَهُ وَقِيامَهُ عَلى تَقْصير، وَأَدَّيْنا فيهِ قَليلاً مِنْ كَثير، اللّهُمَّ فَلَكَ الْحَمْدُ إِقْراراً بِالإساءَةِ، وَاعْتِرافاً بِالإضاعَةِ، وَلَكَ مِنْ قُلُوبِنا عَقْدُ النَّدَمِ، وَمِنْ أَلْسِنَتِنا صِدْقُ الإعْتِذارِ، فَأْجُرْنا عَلى ما أصابَنا فيهِ مِنَ التَّفْريطِ، أجْراً نَسْتَدْرِكُ بِهِ الْفَضْلَ الْمَرْغُوبَ فيهِ، وَنَعْتاضُ بِهِ مِنْ أَنْواعِ الذُّخْرِ الْمَحْرُوصِ عَلَيْهِ، وَأَوْجِبْ لَنا عُذْرَكَ عَلى ماقَصَّرْنا فيهِ مِنْ حَقِّكَ، وَابْلُغْ بِأَعْمارِنا ما بَيْنَ أَيْدينا مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ الْمُقْبِلِ، فَإِذا بَلَّغْتَناهُ فَأَعِنّا عَلى تَناوُلِ ما أَنْتَ أَهْلُهُ مِنَ الْعِبادَةِ، وَأَدِّنا إِلَى الْقِيامِ بِما يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَ أَجْرِ لَنا مِنْ صالِحِ الْعَمَلِ ما يَكونُ دَرَكاً لِحَقِّكَ فِي الشَّهْرَيْنِ مِنْ شُهُورِ الدَّهْرِ.
اللّهُمَّ وَما أَلْمَمْنا بِهِ في شَهْرِنا هذا مِنْ لَمَم أَوْ إِثْم، أَوْ واقَعْنا فيهِ مِنْ ذَنْب وَاكْتَسَبْنا فيهِ مِنْ خَطيئَة عَلى تَعَمُّد مِنّا، أَوْ عَلى نِسْيان ظَلَمْنا فيهِ أَنْفُسَنا، أَوِ انْتَهَكْنا بِهِ حُرْمَةً مِنْ غَيْرِنا، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاسْتُرْنا بِسِتْرِكَ، وَاعْفُ عَنّا بِعَفْوِكَ، وَلا تَنْصِبْنا فيهِ لأِعْيُنِ الشّامِتينَ، وَلا تَبْسُطْ عَلَيْنا فيهِ أَلْسُنَ الطّاعِنينَ، وَاسْتَعْمِلْنا بِما يَكُونُ حِطَّةً وَكَفّارَةً لِما أَنَكَرْتَ مِنّا فيهِ، بِرَأْفَتِكَ الَّتي لا تَنْفَدُ، وَفَضْلِكَ الَّذي لا يَنْقُصُ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاجْبُرْ مُصيبَتَنا بِشَهْرِنا، وَبارِكْ لَنا في يَوْمِ عيدِنا وَفِطْرِنا، وَاجْعَلْهُ مِنْ خَيْرِ يَوْم مَرَّ عَلَيْنا، أَجْلَبِهِ لِعَفْو، وَأَمْحاهُ لِذَنْب، وَاغْفِرْ لَنا ماخَفِىَ مِنْ ذُنُوبِنا وَما عَلَنَ.
اللّهُمَّ اسْلَخْنا بِانْسِلاخِ هذَا الشَّهْرِ مِنْ خَطايانا، وَأَخْرِجْنا بِخُرُوجِهِ مِنْ سَيِّئاتِنا، وَاجْعَلْنا مِنْ أَسْعَدِ أَهْلِهِ بِهِ، وَأَجْزَلِهِمْ قِسْماً فيهِ، وَأَوْفَرِهِمْ حَظّاً مِنْهُ.
اللّهُمَّ وَمَنْ رَعى حَقَّ هذَا الشَّهْرِ حَقَّ رِعايَتِهِ، وَحَفِظَ حُرْمَتَهُ حَقَّ حِفْظِها، وَقامَ بِحُدُودِهِ حَقَّ قِيامِها، وَاتَّقى ذُنُوبَهُ حَقَّ تُقاتِها، أَوْ تَقَرَّبَ إِلَيْكَ بِقُرْبَة أَوْجَبَتْ رِضاكَ لَهُ، وَعَطَفَتْ رَحْمَتَكَ عَلَيْهِ، فَهَبْ لَنا مِثْلَهُ مِنْ وُجْدِكَ، وَأَعْطِنا أَضْعافَهُ مِنْ فَضْلِكَ، فَإِنَّ فَضْلَكَ لايَغيضُ، وَإِنَّ خَزائِنَكَ لا تَنْقُصُ بَلْ تَفيضُ، وَإِنَّ مَعادِنَ إِحْسانِكَ لاتَفْنى، وَإِنَّ عَطاءَكَ لَلْعَطاءُ الْمُهَنّا.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاكْتُبْ لَنا مِثْلَ أُجُورِ مَنْ صامَهُ أَوْ تَعَبَّدَ لَكَ فيْهِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.
اللّهُمَّ إِنّا نَتُوبُ إِلَيْكَ في يَوْمِ فِطْرِنَا الَّذي جَعَلْتَهُ لِلْمُؤْمِنينَ عيداً وَسُرُوراً، وَلأِهْلِ مِلَّتِكَ مَجْمَعاً وَمُحْتَشَداً، مِنْ كُلِّ ذَنْب أَذْنَبْناهُ، أَوْ سُوء أَسْلَفْناهُ، أَوْ خاطِرِ شَرٍّ أَضْمَرْناهُ، تَوْبَةَ مَنْ لايَنْطَوي عَلى رُجُوع إِلى ذَنْب، وَلا يَعُودُ بَعْدَها في خَطيئَة، تَوْبَةً نَصُوحاً خَلَصَتْ مِنَ الشَّكِّ وَالاْرْتِيابِ، فَتَقَبَّلْها مِنّا، وَارْضَ عَنّا، وَثَبِّتْنا عَلَيْها.
اللّهُمَّ ارْزُقْنا خَوْفَ عِقابِ الْوَعيدِ، وَشَوْقَ ثَوابِ الْمَوْعُودِ، حَتّى نَجِدَ لَذَّةَ ما نَدْعُوكَ بِهِ، وَكَآبَةَ ما نَسْتَجيرُكَ مِنْهُ، وَاجْعَلْنا عِنْدَكَ مِنَ التَّوّابينَ الَّذينَ أَوْجَبْتَ لَهُمْ مَحَبَّتَكَ، وَقَبِلْتَ مِنْهُمْ مُراجَعَةَ طاعَتِكَ، يا أَعْدَلَ الْعادِلينَ.
اللّهُمَّ تَجاوَزْ عَنْ آبائِنا وَأُمَّهاتِنا وَأهْلِ دينِنا جَميعاً، مَنْ سَلَفَ مِنْهُمْ وَمَنْ غَبَرَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد نَبِيِّنا وَآلِهِ كَما صَلَّيْتَ عَلى مَلائِكَتِكَ الْمُقَرَّبينَ، وَصَلِّ عَلَيْهِ وَآلِهِ كَما صَلَّيْتَ عَلى أَنْبِيائِكَ الْمُرْسَلينَ، وَصَلِّ عَلَيْهِ وَآلِهِ كَما صَلَّيْتَ عَلى عِبادِكَ الصّالِحينَ، وَأَفْضَل مِنْ ذلِكَ يا رَبَّ الْعالَمينَ، صَلاةً تَبْلُغُنا بَرَكَتُها، وَيَنالُنا نَفْعُها، وَيُسْتَجابُ لَها دُعاؤُنا، إِنَّكَ أَكْرَمُ مَنْ رُغِبَ إِلَيْهِ، وَأَكْفى مَنْ تُوُكِّلَ عَلَيْهِ، وَأَعْطى مَنْ سُئِلَ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَىْء قَديرٌ.
* * *
إيحاءات استقبال شهر رمضان:
إذا كان استقبال شهر رمضان للمؤمن، فرصةً للانفتاح على الآفاق الرحبة الإلهية في امتداد المعاني الروحية التي يُراد له أن يعيشها في روحه وفي وجدانه، فإنّ وداع شهر رمضان، قد يحمل له بعضاً من الألم واللوعة، في ما يفتقده من أجواء أو يخسره من نتائج على مستوى الثواب الإلهي على الأعمال التي يحتويها هذا الشهر في واجباته ومستحبّاته، مما يجعل الإنسان خاضعاً للمشاعر السلبية، تماماً كما لو كان في واحةٍ خضراء وانتقل إلى صحراء قاحلة، لأنّ الزمن القادم قد يختزن في داخله بعض الفرص، ولكنّها لن ترقى إلى فرصة هذا الشهر المبارك، الذي جعله الله شهره الذي يُدخل فيه عباده إلى ضيافته الروحية في ما يسبغه عليهم من الألطاف، ويفيض عليهم من الرحمات، ويمنحهم من البركات، بما يفتح لهم فيه أبواب جنّاته، ويقودهم إلى ساحات رضوانه.
شهر رمضان، هو الموسم الذي ينفتح على كلّ قضايا الإنسان وحاجاته في ما يحقّقه الله له منها، مما يتناسب مع مواقع صلاحه في دنياه وآخرته، ولذلك كان المحروم، هو الذي حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، كما جاء في خطبة رسول الله(ص)، التي استقبل بها الشهر رمضان في آخر جمعة من شعبان. ولكن الإمام زين العابدين(ع) في أسلوب الدعاء يتّجه في المسألة اتجاهاً آخر، حيث يفتح وعي الإنسان المؤمن على النتائج الكبيرة التي حصل عليها فيه، ويحرّك المشاعر الحميمة التي تجعل بين شعور الإنسان وبين أيام هذا ا لشهر رابطةً قوية تؤدّي إلى اختزان المعاني الروحية في كيانه، فلا تذهب بذهاب هذا الشهر، بل تعمل على التخطيط للاستفادة منها في إغناء الزمن القادم في غيره من الشهور، بكلّ ما يحمله من الخصائص الفريدة التي يمكن أن يحملها الزمن من خلال العمق الإنساني في معرف الله والشعور بالمسؤولية.
وفي ضوء ذلك، لا يكون الزمن مجرد لحظات طائرة في الفراغ، بل يكون قيمة تمتلئ بالإنسان في فكره وشعوره وحركته في الحياة، حيث يأخذ الزمن من الإنسان معناه وروحه، كما يأخذ الإنسان منه حركته وخطّ سيره، وبذلك يفقد الزمن معناه التجريدي كعنصر مستقبل في إعطاء الحياة خطّها الطويل، بل يكون شيئاً في الإنسان فيما يكون الإنسان شيئاً منه في عملية تداخل وامتداد.
ثم يثير التطلّع الفكري والروحي في ابتهال الإنسان لله أن يمدّ في عمره ليتلقي برمضان جديد في فرصةٍ جديدةٍ للعمل والحياة.
ولعلّ قيمة هذا الدعاء، في بعض فقراته من الناحية الفنية، أنّه يحوِّل الشهر إلى كائنٍ حيٍّ صديقٍ في مشاعره ومواقفه، فيخاطبه كما يخاطب صديقه، ويتحدّث إليه بالجانب الشعوري الذي يتفجّر في الوجدان حباً وحزناً وتطلعاً إلى اللقاء الجديد.
وهو في الوقت نفسه، يأخذ من العناوين الكبيرة لإيحاءات هذا الشهر، عناوين متحركة للحياة التي يستمرّ في مواجهتها بمنطق المسؤولية، لتبقى معه في النتائج الحاسمة لقضية المصير الأبدي في موقفه أمام الله في ما يريده الله منه من مواقف وأعمال.
* * *
اللّهُمَّ يا مَنْ لا يَرْغَبُ فِي الْجَزاءِ، وَيَا مَنْ لا يَنْدَمُ عَلَى الْعَطاءِ، وَيا مَنْ لا يُكافِئُ عَبْدَهُ عَلَى السَّواءِ، مِنَّتُكَ ابْتِداءٌ، وَعَفْوُكَ تَفَضُّلٌ، وَعُقُوبَتُكَ عَدْلٌ، وَقَضاؤُكَ خِيَرَةٌ، إِنْ أَعْطَيْتَ لَمْ تَشُبْ عَطاءَكَ بِمَنٍّ، وَإِنْ مَنعْتَ لَمْ يَكُنْ مَنْعُكَ تَعَدِّياً، تَشْكُرُ مَنْ شكَرَكَ وَأَنْتَ أَلْهَمْتَهُ شُكْرَكَ، وَتُكافِئُ مَنْ حَمِدَكَ وَأَنْتَ عَلَّمْتَهُ حَمْدَكَ.
* * *
العطاء سرّ الذات الإلهية:
إنّها البداية التي يُراد لها أن تطوف بالإنسان المؤمن في آفاق التصوّر الإيماني لله في صفاته الإلهية، التي تطلّ على شؤون المخلوقين في علاقة الخالق بهم، ليتعرّف، من خلال ذلك، موقعه من ربّه من خلال موقع الله من عباده في رعايته لهم، ولطفه بهم، ليكون الدعاء حالة وعي في العقيدة من حيث هو حالة ابتهال في الحاجة في خطّ المعرفة العميقة الواسعة.
فالله هو سرّ العطاء الذي لا يقف عند حدّ، ولا يجتذب أيّ شيء في مقابله، وذلك من خلال انفتاح رحمته على عباده في ما يحتاجون إليه في شؤون حياتهم وحركة وجودهم، لأنّه خالقهم ورازقهم، فكما أعطاهم الوجود من دون مقابل، فإنّه يعطيهم حاجات الوجود بالطريقة نفسها.
ثم ما هي حاجته إلى الجزاء وهو الغنيّ عن خلقه، وما هي قدرة عباده على تقديم العوض لألطاف الله ورحماته، وماذا يملكون من كلّ ما بأيديهم وما حولهم ما دام ذلك كلّه من الله؟!
وهو المعطي الذي لا يندم على العطاء، لأنّ العطاء ينطلق من حكمته بالمعنى نفسه الذي ينطلق فيه من كرمه، من خلال تدبيره للوجود، على أساس أنّه أهل العطاء الذي ينطلق من فيض الرحمة في ذاته ليشمل من يستحق ذلك من خلال العمل، ومن لا يستحقّه، وذلك هو الإيحاء في الفقرة المأثورة في بعض الأدعية:
"فإن لم أكنْ أهلاً أن ابلغ رحمتك فرحمتك أهل أن تبلغني وتسعني لأنّها وسعت كلّ شيء".
ولذلك فلا معنى للندم، ما دامت المسألة خاضعة لخطّة الرحمة، وما دامت القضية منطلقة من سعة الكرم، فإنّ الذين يندمون هم البخلاء، أو الذين يخافون الفقر من خلال العطاء.
وإذا كان العطاء سرّ ذاته، فإنّه لا يخضع للحسابات الدقيقة على أساس أفعال العبد الحسنة والقبيحة ليزيده في جانب أو لينقصه في جانب آخر.. ولذلك فإنّه لا يكافي عبده على السواء، بل يضاعف له الأجر إن كان العمل خيراً، وقد يغفر له إن كان شرّاً، وذلك هو قوله تعالى في مضاعفة الحسنة: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160]، وفي المغفرة قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد:6]. أما الذي يبقى في دائرة المسؤولية والعذاب، فإن لا يستعجله بل يمهله ويترك له فرصة التراجع والتوبة، وذلك مما لا تفرضه طبيعة المعصية.
"ومنّتك ابتداء": والمراد بها النعمة التي يتفضّل الله بها على الإنسان من دون استحقاق، لأنّ الإنسان لم يبدأ عملاً يجتذب النعمة، بل الله هو البادئ في ذلك على كلّ عباده.
"وعفوك تفضّل": لأنّ المذنب لا يستحقُّه في موقع ذنبه، بل يستحقّ - بدلاً من ذلك - العذاب، ولكن الله ينفتح عليه من موقع الرحمة من خلال ألطافه في ما يعرفه مننقاط ضعفه، ليفسح له في المجال للثقة بالله والانفتاح عليه من أبواب الحِلم الكبير.
"وعقوبتك عدل": لأنّ الله أقام الحُجّة على عباده في ما ألزمهم به من أوامره ونواهيه، وفي ما أغدقه عليهم من نعمه، فإذا أخطأوا أو انحرفوا فإنّهم يواجهون المسؤولية في خطّ التوازن بين العمل والجزاء، والمقدّمات والنتائج.
ثم إنّ الظلم ينطلق من عقدة ضعف يختزن الخوف والحاجة في نفس الظالم، والله هو القويّ القادر الذي لا يحتاج إلى عباده ولا يخاف قوّتهم، لأنّه القاهر فوقهم، والمهيمن عليهم من موقع أنّهم المخلوقون له الخاضعون لتدبيره، فكيف يكون ضعف الخالق أمام المخلوقين، وما هو سرّ الحاجة إلى الظلم، وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54].
"وقضاؤك خيرة": والقضاء هو حكم الله الذي يحتوي حياة الإنسان في يتصل بكلّ أوضاعه، من حيث هو أحد الموجودات في حركة النظام الكوني الذي يدبّره الله على أساس المصلحة الكامنة في عمق الوجود لكلّ المخلوقات في الدوائر العامة والخاصة، حتى في ما قد يبدو مثيراً للآلام والمشاكل، فإنّ النتائج السلبية الخاصة في وعي الإنسان وشعوره، لا تعني السلبية المطلقة في طبيعة القضايا المتصلة بها، لأنّ من الممكن أن يكون ما هو سلبي من جهةٍ إيجابياً من جهةٍ أخرى، وهذا ما نلاحظه في اختلاف النظرة إلى الأمور على مستوى النظرة العامة أو الخاصة، حيث يختلف جانب التقويم للمسألة على أساس اختلاف طبيعة النتائج هنا وهناك.. وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} [البقرة:216] في حديث عن القتال الذي إذا نظرنا إليه في الدائرة الضيقة في حياة الفرد كان شرّاً، لأنّه يهدّد سلامته، بينما يكون خيراً في دائرة المجتمع الواسعة في ما يحقّقه من نتائج كبيرة على مستوى العزّة والكرامة والحرية والعدالة.
وفي قوله تعالى في علاقة الأزواج بزوجاتهم: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19]. فإن الفكرة هي أن لا يحكم الناس على الأشياء من خلال النظرة السطحية التي تنظر إلى الجانب الظاهر منها، بعيداً عمّا تستبطنه من الخصائص العميقة في الجذور، وهذا هو الذي يجب أن يدرسه الإنسان في كلّ القضايا المتعلّقة بحياته على مستوى المصير الذي يمثّل عاقبة الأمور، في ما قد تبدو فيه النهاية على عكس البدايات، كما أن من الضروري له أن لا يحدّق بها من زاوية واحدة، فإنّ الاستغراق في جانبٍ واحدٍ، قد يبعده عن النظرة الحقيقية الواقعية التي تحتاج إلى دراسة الأمور من جميع الزوايا لتجمع كلّ عناصرها الذاتية.
وربّما يحتاج الإنسان - في هذا المجال - إلى أن يدرس موقعه من حيث هو فرد مستقل في حاجاته الشخصية وتطلّعاته الذاتية، ومن حيث هو جزء من المجتمع الصغير أو الكبير في ارتباط قبضاياها بقضايا الناس، في المنافع والمضارّ، فقد تتعارض الصفة الفردية مع الصفة الاجتماعية في طبيعة الأوضاع العامة والخاصة، مما يجعل المسألة إيجابية من الناحية العامة وسلبية من الناحية الخاصة، فلا بدّ له من أن يتحمّل السلبيات الذاتية لمصلحة الإيجابيات الكبيرة.. وبذلك تستقيم النظرة إلى الواقع الإنساني في دائرة النظام الكوني، الذي هو جزء منه في خطّ التوازن في النظرة والحكم على أساس المقدّمات والنتائج.
وقد نلاحظ في بعض الأدعية الخطّ التربوي الذي يوحي للإنسان بأن يشكر الله على الحرمان كما يشكره على العطاء، من موقع الثقة المطلقة بالخير في قضاء الله، الذي يعرف من مصلحة الإنسان ما لا يعرفه الإنسان من نفسه، وذلك هو قول الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في دعائه في الرضى إذا نظر إلى أصحاب الدينا:
"اللهُمَّ وطيّب بقضائكَ نفسي، ووسّع بمواقع حكمك صدري وهبْ لي الثقة لأقرّ معها أنّ قضاءَك لم يجر إلا بالخيرة، واجعل شكري إياك على ما زويت عنّي أوفر من شكري إياك على ما خوّلتني.
فإنّ الإيمان بالله الحكيم العادل الرحيم اللطيف بعباده، يوحي للمؤمن بهذا الشعور الذي لا ينطلق من حالة انسحاقٍ في القبول بالنتائج السلبية، بل من حالة اقتناع روحي ينطلق من القناعة الفكرية بالعمق الذي يتحرك فيه القضاء من موقع الرحمة والحكمة والعدالة واللطف الإلهي الكبير.
إن أعطيت لم تشب عطاءك بمنٍّ وإن منعت لم يكن منعك تعدّياً.
إنّك تعطي - يا ربّ - كلّ عبادك، لأنّ العطاء سرّ ذاتك في ما هو سرّ كرمك وعمق رحمتك، فليس هو شيئاً يُراد به اجتذاب اعترافٍ بالجميل منهم، في ما يتطلبه أهل العطاء من ذلك ممن يُعطونه، لتغذية الفراغ الذاتي الذي يبحث عما يملأه من مدح الناس وحمدهم، كما يبحث الصوت عن الصدى، والله هو الغني عن عباده في كلّ شيء من خلال غناه الذاتي، فلا معنى للمنّ في معنى عطاء الله لعباده، لأنّهم ليسوا شيئاً منفصلاً عنه، فهم خلقه وملكه وموقع تدبيره، وهم بعض عطائه في وجوده، كما أنّ نعمه التي يفيضها عليهم من توابع ذلك ومن شؤونه، فكيف يمنّ المعطي على عطائه مع غناه المطلق.
إنّك قد تمنع عنّي بعض نعمك، فقد لا تمنحني المال، وأنا في حاجةٍ إليه، وقد لا تُسبغ عليّ العافية، وأنا أتطلع إليها، وقد لا تعطيني الكثير مما أطلب وأرغب فيه.. ولكن هل يكون منعك لوناً من ألوان التعدي عليّ، كما هو شأن المخلوقين عندما يمنع بعضهم بعضاً ما يحتاجون إليه مما يملكونه، في ما هو حقّ المخلوق على المخلوق في تبادل الحاجات، وتقابل الحقوق؟
إنّ التعدّي في التصرف السلبي، في ما هو المنع والحرمان، يفرض حقّاً للمحروم لدى الحارم، ودَيْناً للممنوع لدى المانع.. وهنا نتساءل - يا ربّ - أيّ حقّ لنا عليك، وكل وجوجنا هبة منك وملك لك، فأنت صاحب الحقّ في المنع، كما أنت صاحب الحق في العطاء، وأنت تفرض لعبادك الحقّ في ما تجعله من الحقّ لهم عليك، فهو مستمدٌ منك، وليس شيئاً من الذات في علاقاتها الطبيعية بغيرها، ولذلك فإنّ المتعدي لا معنى له، فأنت المحسن إن أعطيت، وأنت الحكم إن منعت، وقد جاء في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع) ما يشير إلى ذلك، فقد سألته بعض الناس فقال: أخبرني عن الجواد، فقال: "إنّ لكلامك وجهين، فإن كنت تسأل عن المخلوق فإن الجواد الذي يؤدّي ما افترض الله عليه، وإن كنت تسال عن الخالق فهو الجواد إن اعطى، وهو الجوار إن منع، لأنّه إن أعطاك أعطاك ما ليس لك، وإن منعك منعك ما ليس لك"(1). وهذا ما جاء في كلام أمير المؤمنين(ع): "وكلّ مانع مذموم ما خلاه"(2).
تشكر من شكرك وأنت ألهمته شكرك، وتكافئ من حمدك وأنت عَلّمَّتهُ حمدك.
يا ربّ.. إنّه لطفك وحنانك وكرمك.. إنّك تفتح لي في قلبي المنفتح عليك وعلى نعمك، نافذةً على الإحساس بكلّ جميلك الذي لا يُحدّ، فينطلق عقلي وقلبي وشعوري ولساني بالشكر لك على ما أوليتني من نعمك التي احتضنت وجودي كلّه بالخير والفرح والسعادة الروحية والجسدية.. ويفاجئني - يا ربّ - وأنا المثقل بكلّ هذا اللطف الإلهي الذي يفيض عليّ بالحنان والرحمة، إنّك تشكرني على أن شكرتك، فأذوب وأذوب حتى أشعر بكلّ كياني يذوب أمامك، لأنّي أفكّر وأشعر بأنّ هذا الشكر من إلهامك، فأنت الذي أعطيتني العقل الذي أكتشف فيه عمق نعمتك في وجودي، ومنحتني الحواس التي أشعر فيها بكلّ مواقع النعم في حياتي، ليكون الشكر نتيجة عقل يفكّر وحسّ يبصر ويسمع ويشم ويذوق ويلمس، فأيّ ربّ عظيم لطيف أنت، عندما تشكر من شكرك وأنت ألهمته شكرك.
وتحمدك نفسي على كلّ مواقع الحمد في الكون، وفي كياني الداخلي في ما تمثّله آفاق عظمتك وامتداد نعمك، وفي ما تنفتح عليه روحي عن ذلك كلّه في ما علّمتني من أسرار الحمد ومن أساليبه ووسائله، فمنك المعرفة التي انطلقت من حقائق الجمال والجلال والكمال في ذاتك لتدخل في مواضع الفكر من عقلي ومواقع الإحساس من شعوري.. وإذا بي أطلّ من جديد على كرمك الواسع في فيض العطاء، فأجد منك - يا ربّ - لطف المكافأة على هذا الحمد الذي هو هبة منك، لأنّ إحساسي بالحمد ليس شيئاً أمنحك إياه فيزيد في عظمتك، ولكنّه شيء يرتفع بروحي إليك في آفاق المعرفة العليا الرحبة التي تجعلني كبيراً في القرب منك.
* * *
وَتَسْتُرُ عَلى مَنْ لَوْ شِئْتَ فَضَحْتَهُ، وَتَجُودُ عَلى مَنْ لَوْ شِئْتَ مَنَعْتَهُ، وَكِلاهُما أَهْلٌ مِنْكَ لِلْفَضيحَةِ وَالْمَنْعِ، غَيْرَ أَنَّكَ بَنَيْتَ أَفَعالَكَ عَلَى التَّفَضُّلِ، وَأَجْرَيْتَ قُدْرَتَكَ عَلَى التَّجاوُزِ، وَتَلَقَّيْتَ مَنْ عَصاكَ بِالْحِلْمِ، وَأَمْهَلْتَ مَنْ قَصَدَ لِنَفْسِهِ بِالظُّلْمِ، تَستَنْظِرُهُمْ بِأَناتِكَ إِلَى الإنابَةِ، وتَتْرُكُ مُعاجَلَتَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ، لِكَيْلا يَهْلِكَ عَلَيْكَ هالِكُهُمْ، وَلا يَشْقى بِنِعْمَتِكَ شَقِيُّهُمْ، إِلاّ عَنْ طُولِ الإعْذارِ إِلَيْهِ، وَبَعْدَ تَرادُفِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، كَرَماً مِن عَفْوِكَ يا كَريمُ، وَعائِدَةً مِنْ عَطْفِكَ يا حَليمُ.
* * *
فعل الله مبنيّ على التفضُّل:
يا ربّ، إنّني عندما أتطلع إليك في آفاق الألوهية الرحبة التي لا تضيق على أحد، بل تتسع ألطافها لكلّ الناس، فماذا أرى؟ إنّني أرى السموّ يرتفع ويعلو في كلّ مدارج الرفعة والعلوّ، فينظر إلى خلقه بعين الرحمة لا بعين الانتقام، فيتفضّل عليهم بما يفتح لهم أبواب الانفتاح عليه بالاطمئنان إلى الأمل الكبير في العودة إلى مواقع رضاه في مواقع طاعته، لأنّه لم يغلق عليهم أبواب رحمته ومغفرته في ما فتح لهم من أبواب التوبة إليه.
إنّك - يا ربّ - تعلم ما يقوم به عبادك الخاطئون من فضائح وخطايا في سرّهم وعلانيتهم، وتطلّع على ما يكنّونه في وجدانهم من أسرار عميقة تتصل بموقع النية في أفعالهم، وبموطن الإحساس في مشاعرهم، ممّا لا يريدون ظهوره واطّلاع الآخرين عليه، وأنت القادر على أن تفضحهم أمام الناس بما تملكه من وسائل ذلك، وهم يستحقّون الفضيحة لسوء نيّتهم وفعلهم، ولكنّك - برحمتك - لم تفضحهم، حتى تترك لهم الفرصة للتراجع وللإحساس برحمتك في سترك عليهم، فيدفعهم ذلك إلى الحياء منك في ما يتمرّدون، وفي ما تستر عليهم.
وهناك البعض من الذين تعقّدت أفكارهم ومشاعرهم وأفعالهم فابتعدت عن مواقع رضاك في خطوط طاعتك، وابتعدوا - بذلك - عن آفاق رحمتك، فاستحقّوا المنع من جودك وعطائك ولكنّك تبادرهم بالعطاء السخيّ من رزقك لينفتحوا عليك من عمق أفضالك وألطافك. وهكذا كان الخطّ الرحيم الحليم الكريم الغفور في ما تتصرّف به في واقع عبادك الخاطئين، فقد بنيت أفعالك على التفضّل فأعطيتهم ما لا يستحقونه، وأجريت قدرتك على التجاوز فلم تؤاخذهم بسوء أعمالهم، وتلقيت من عصاك بالحلم ففتحتَ له أبواب التوبة، وأمهلتَ مَن قصد لنفسه بالظلم فتركت له الفرصة ليعدل معها بالاستقامة في الطريق، والرجوع عن الانحراف، لأنّك الواسع في كرمك، والعظيم في حرمتك، فلا يضيق عليك عفو ولا رحمة، ولا يرهقك انتظار الخاطئين ليرجعوا إليك من قاعدة التوبة، لأنّك خلقت عبادك بيدك، وعرفت نقاط ضعفهم ونقاط قوتهم، فأردت لم أن يمتدوا في ساحات الفكر الذي يهديهم إلى سواء السبيل عندما تترادف الحجج عليهم، ويكثر الإعذار إليهم فيكتشفون ما ينتظرهم في آفاق رحمتك، فيرجعون إليك ويستريحون إلى عفوك ويهرعون إلى وعدك بقبول التائبين والغفران للخاطئين المذنبين.. وذلك هو الذي يقودهم إلى التوازن في وعي المسؤولية في ما يملكونه من طاعات، وفي ما يحركونه من خطوات، وفي ما يركّزونه من علاقات بعضهم البعض، مما يجعلهم في موقف الطاعة لله وإسلام الأمر كلّه له.
وذلك هو الذي يعطي الإنسان الصورة الحية عن لطف الله بعباده في ما يقودهم إلى مواقع العودة إليه بكلّ الوسائل التي تختزن الرحمة، وتحرّك الأفكار والمشاعر في خطّ الواقعية الرسالية في ما يأخذون به أو يتركونه، فلا يهلك هالكهم - في حال اختيارهم الهلاك - إلا بعد استنفاد كلّ الحجج، ولا يشقى شقيّهم إلا بعد ابتعاده عن كلّ ما وفّره الله له من أسباب السعادة، وذلك في نطاق عنوان واحد يتّسع لكلّ أفعال الإنسان وأقواله وعلاقاته، وهو التوبة.
* * *
أَنْتَ الَّذي فَتَحْتَ لِعِبادِكَ باباً إِلى عَفْوِكَ وَسَمَّيْتَهُ التَّوْبَةَ، وَجَعَلْتَ عَلى ذلِكَ الْبابِ دَليلاً مِنْ وَحْيِكَ لِئَلاّ يَضِلُّوا عَنْهُ، فَقُلْتَ تَبارَكَ اسْمُكَ: {تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنّات تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللّهُ النَّبِيَّ وَالَّذين آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْديهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَىْء قَديرٌ} [التحريم:8]، فَما عُذْرُ مَنْ أَغْفَلَ دُخُولَ ذلِكَ الْمَنْزِلِ بَعْدَ فَتْحِ الْبابِ، وَإِقامَةِ الدَّليلِ؟
* * *
نداء المحبة الدائم:
يا ربّ، كيف لا ينفتح عليك عبادك بكلّ الأمل والرجاء في القرب إليك مهما ابتعدت بهم الذنوب عن ساحة قدسك، وأنت الذي لا تترك مجالاً لانفتاحهم عليك إلا بتفسح لهم أكثر من فرصة لذلك، لأنّك تعرف سرّهم وعلانيتهم في ما ينحرفون فيه عن الطريق، أو في ما يمارسونه من الخطيئة، انطلاقاً من مواقع الاهتزاز في مشاعرهم، وعناصر الإثارة في غرائزهم، وإيحاءات الانحراف في أوضاعهم،مما يحتاجون فيه إلى الكثير من الرحمة التي تجتذبهم إلى الخير وتبعدهم عن الشر، في ما تهيِّئ لهم من ظروف التراجع عن ذلك كلّه، عندما يواجهون ألطاف الخير في شخصياتهم من خلال الإيحاء الروحي بأنّ الله يدعوهم إلى العودة إليه وإلى الثبات في مواقع رضاه، وإلى الاتجاه نحو الهدوء في العقل، والاستقامة في الخطوات إلى الطريق المستقيم، ليكون الانحراف في حركتهم مجرّد حالةٍ طارئةٍ لا تستقرّ في الاتجاه، وليكون الاهتزاز في مناطق الإثارة مجرّد وضعٍ سريع لا يلبث أن يزول بفعل عناصر الثبات في الإيمان وفي التقوى.
وهكذا دعوتَ عبادك إلى عفوك، ولكن لا ليحصلوا عليه بدون إرادة أو معاناة، بل أردت لهم أن يحصلوا عليه من خلال الباب الروحي الذي يمتزج فيه الوعي للصفات الإلهية مع الالتزام الإنساني في ما هو حقّ الله على عباده من الإحساس بالعبودية المطلقة التي لا يملكون معها أيّ شيء من حرية الاختيار خارج نطاق الطاعة، كما يتداخل فيه الشعور بالندم على الخطيئة بالعزم على تصحيح خطّ السير في اتجاه التقوى العملية، ويتحرك فيه العنصر الروحي في دائرة العنصر العملي وهو التوبة التي تختصر في حركة الإنسان كلّ معاني الانفتاح على الله، والانغلاق عن كلّ مواقع الشيطان في عملية إرادةٍ قوية وتصميم حاسم.
ثم أكدت ذلك في الخط الذي رسمته لهم بكلّ وضوح في وحيك في ما أظهرت لهم من خصائصه، وبيّنت لهم من ملامحه، حتى يتعرّفوا عليه بطريقةٍ دقيقة.. وذلك هو التوبة النصوح التي تعبّر عن توافق ظواهرهم وبواطنهم في عملية التغيير، وعن صدق النية وقوة العزم وإرادة الثبات، بحيث لا مجال فيه لأيّ تراجع أو اهتزاز.
وهذا هو ما تحدّثت به إليهم في كتابك الذي أطلقتَ فيه نداء الدعوة إلى التوبة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التحريم:8].
إنّك تدعوهم إلى العودة إليك من موقع الصدق الذي يعبّر عن الاستقامة في خطّ طاعتك، من خلال إرادة التغيير الذي ينتقلون به من خطّ الشيطان إلى خطّ الله.. فهذا هو الطريق الوحيد الذي يربطهم بك من جديد، إنّك توحي إليهم بأنّك لا ترفضهم لمجرد أنّهم عصوك وتمردوا عليك، بل تعلن لهم أنّك تتقبلهم في أيّة لحظة يريدون فيها العودة، وتدعوهم إلى أن ينفتحوا على ذلك في نداء محبة ولطف وحنان ورحمة.
ثم تابعت النداء بالإيحاء إليهم بأنّ عليهم أن يعيشوا روحية الرجاء بمغفرة الله من خلال التوبة.. وإذا كانت المسألة عندهم رجاءً يحمل في داخله بعض عناصر الخوف، في ما تريد أن توحيَ إليهم بالتحرك نحوك في شعور تمتزج فيه الرغبة بالرهبة كوسيلةٍ من وسائل التربية الروحية التي يتحرّك فيها الإنسان في روحية العبودية بين الخوف والرجاء ليتأكّد موقعه في إخلاصه لله، في قلق الإنسان الباحث عن مواقع رضاه، إذا كانت المسألة عندهم رجاءً في الخطّ التربوية، فإنّها عندك - يا ربّ - قرار بالعفو عمّن يعيش في أعماقه الرغبة الحقيقية في التطلّع نحو رضاك، وهذا هو قولك.
{عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم:8].
فذلك هو الأفق الجديد للتوبة، أن يتحوّل الماضي في نتائج مسؤوليته إلى صحيفة بيضاء لا أثر فيها للخطيئة السوداء، ولا للانحراف الأعمى، لأنّ الحاضر التائب يهيّئ جوّ الغفران للماضي الخاطئ، وأن يكون المستقبل البعيد هو مستقبل النعيم الذي يلقاه الناس التائبون في الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار، حيث يعيشون فيها الإحساس بالجمال والشعور بالطمأنينة.. هناك في ذلك اليوم الذي يؤكّد الله فيه رعايته لعباده الصالحين.
{ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].
فأنت - يا ربّ - لا تُدخل الخزي والعار على عبادك الصالحين الذين عاشوا في مجتمع الإيمان بالله، والسير في خطّ شريعته بقيادة النبي الذي حمل الرسالة ودعا إلى الله وإلى طاعته، لأنّك اطّلعت على قلوبهم فرأيت فيها النور الذي يشعّ بالإيمان فيتفايض على ساحاتهم في طريقهم الطويل، وينطلق في أيمانهم التي يحركونها في خطّ الجهاد وفي سبيل الله.. فإذا شعروا بأنّ هناك نقصاً في هذا النور الذي أرادوه أن يتكامل، توجهوا إليه بكلّ إشراقة الحقيقة الإلهية في كيانهم، ليطلبوا منك أن تكمل لهم هذا النور الذي ضاع منهم بعضه بفعل ظلام الخطيئة، وتغفر لهم حتى تكون الحياة لديهم نوراً في حركة الإيمان والطاعة، ونوراً في حركة العفو والمغفرة، وهكذا يبتهل إليك عبادك لأنّك القادر على كلّ شيء، والمهيمن على الوجود كلّه وعلى الجزاء كلّه، فأيّ ربّ عظيم أنت يا ربّ، وأيّ خالق رحيم أن يا ربّ.. وكيف يبتعد عبادك عن الدخول إلى عفوك من باب التوبة المفتوح على مصراعيه، وما هو عذرهم في ذلك كلّه؟
* * *
وَأَنْتَ الَّذي زِدْ‏تَ فِي السَّوْمِ عَلى نَفْسِكَ لِعِبادِكَ، تُريدُ رِبْحَهُمْ في مُتاجَرَتِهمْ لَكَ، وَفَوْزَهُمْ بِالْوِفادَةِ عَلَيْكَ وَالزِّيادَةِ مِنْكَ، فَقُلْتَ تَبارَكَ اسْمُكَ وَتَعالَيْتَ: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام:160]، وَقُلْت: {مَثَلُ الَّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَة ماِئَةُ حَبَّة وَاللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ} [البقرة:261]، وَقُلْتَ: {مَنْ ذَا الَّذي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثيرَةً} [البقرة:245]. وَما أَنْزَلْتَ مِن نَظائِرِهِنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَضاعِيفِ الْحَسَناتِ.
* * *
التجارة مع الله:
لقد كان وجودنا بعض عطائك وكرمك، كما كانت نعمك الوافرة في حركة هذا الوجود شاهداً على لطفك ورحمتك، وهذا ما يعيشه عبادك المؤمنون بك المبتهلون إليك في وجدانهم الإيماني، عندما يرون الفيض الإلهي ينهمر عليهم من كلّ جانب من دون أن يكون لديهم أيّ عمل يقدمونه بين أيديهم ليستحقوا به ذلك. ولقد دعوتنا للعمل في كلّ مواقع طاعتك، في ما يتصل بحياتنا الخاصة في ما يتحرك به وجودنا الذاتي من رغبات وحاجات، وفي ما يتصل بحياتنا مع الناس في ما تفيضه علينا من مسؤوليات وأوضاع، فأردتنا أن نعيش العطاء في طاقاتنا في ما نقدمه من خيرٍ لأنفسنا وللناس وللحياة في نطاق أوامرك ونواهيك، ليكون وجودنا فاعلاً منتجاً على مستوى الوجود كلّه، ولم تجعل عملنا هذا مجرّد مسؤولية عبادية نتعبّد فيها إليك على أساس ما يجب علينا لك من أنواع الطاعة، من دون أن حصل من ذلك على شيء في ربح الذات لنفسها في ما تريده من خير، بل جعلته نوعاً من التجارة معك في ما تجتذبه من الربح المخزون عندك واعتبرته قرضاً يحمل لنا فرص الزيادة المضاعفة.. وهكذا دعوت عبادك إلى التجارة معك، وأنت الذي رزقتهم ما يتاجرون به وزدتهم في الربح لتزيدهم رغبةً في التسامي إلى درجات القرب إليك، وحركةً في خطّ المسؤولية في تحريك الحياة نحو الانطلاق إلى مواقع الخير للإنسان كلّه، في جميع مجالاته، ليكون الإنسان إنسان العمل الصالح الخيّر في ما تحتاجه الحياة من طاقاته، وليكون إنسان الله في ما يفرضه عليه من كلّ مواقع الطاعة، وملامح العبودية له في وجوده.
وهكذا كانت الحسنة - أية حسنةٍ - عشرة أمثالها، وكان الإنفاق {فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ}، وكأنّ الذي يقرض الله قرضاً حسناً في ما يقدّمه للآخرين من طاقته وماله، يستحقّ الأضعاف الكثيرة من الربح والأجر الكريم، وذلك في عمليةٍ تربوية إيحائية بأنّ قضية العمل الصالح ليست مجرد قضيةٍ ترتبط بالمبدأ في ما يخطط له من مواقع ومواقف، ولكنّها قضية الذات في ما تتطلع إليه من أرباح ومنافع.. وأنّ الذاتية في حساب العمل تمثّل قيمة كبيرة في ميزان الله عندما يكون العمل لله في ما يتقرب به الإنسان إليه في خدمة الإنسان والحياة، لأنّ الله أراد للإنسان أن يطيعه ويتعبّد إليه طمعاً في جنته وخوفاً من ناره ورغبةً في الأجر العظيم، ولم يفرض عليه أن يفعل ذلك من دون ثمن على أساس استحقاق الله للعبادة في ذاته، وذلك على أساس أن الله لا يريد للإنسان أن يبتعد عن خصائص إنسانيته في نطاق بشريته، فيكون ملَكاً يفكّر في العمل من ناحية التجريد، بل اراد له أن يكون بشراً في نطاق حاجاته الحاضرة والمستقبلة على مستوى الدنيا والآخرة.
ولهذا أعطى السعي نحو المسؤوليات العامة والخاصة معنى التجارة والبيع في ما يجتذبه من قضايا الربح والتعويض في الطموحات الذاتية، ليعيش الإنسان هاجس ذلك في دنياه وآخرته على أساس الخطّ المستقيم.
* * *
وَأَنْتَ الَّذي دَلَلْتَهُمْ بِقَوْلِكَ مِنْ غَيْبِكَ، وَتَرْغيبِكَ الَّذي فيهِ حَظُّهُمْ عَلى ما لَوْ سَتَرْتَهُ عَنْهُمْ لَمْ تُدْرِكْهُ أَبْصارُهُمْ، وَلَمْ تَعِهِ أَسْماعُهُمْ، وَلَمْ تَلْحَقْهُ أَوْهامُهُمْ، فَقُلْتَ: {فاذْكُرُوني أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]، وَقُلْتَ: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابي لَشَديدٌ} [إبراهيم:7]، وَقُلْتَ: {ادْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ} [غافر:60]، فَسَمَّيْتَ دُعاءَكَ عِبادَةً، وَتَرْكَهُ اسْتِكْباراً، وَتَوَعَّدْتَ عَلى تَرْكِهِ دُخُولَ جَهَنَّمَ داخِرينَ. فَذَكَرُوكَ بِمَنِّكَ، وَشَكَرُوكَ بِفَضْلِكَ، وَدَعَوْكَ بِأَمْرِكَ، وَتَصَدَّقُوا لَكَ طَلَباً لِمَزيدِكَ، وَفيها كانَتْ نَجاتُهُمْ مِنْ غَضَبِكَ، وَفَوْزُهُمْ بِرِضاكَ، وَلَوْ دَلَّ مَخْلُوقٌ مَخْلُوقاً مِنْ نَفْسِهِ عَلى مِثْلِ الَّذي دَلَلْتَ عَلَيْهِ عِبادَكَ مِنْكَ، كانَ مَوْصُوفاً بِالإحْسانِ، وَمَنْعُوتاً بِالإمْتِنانِ، وَمَحْمُوداً بِكُلِّ لِسان.
* * *
ذكر الله حاجة إنسانية:
ويبقى لطفك بعبادك يغمر حياتهم ويرعى مصيرهم عندما تدلّهم على الطريق الذي يؤدّي إليك، فيرفع درجتهم عندك، ويحقّق لهم السعادة لديك، في ما يوحي به ذلك كلّه من علاقة العبد بربّه وعلاقة الربّ بعبده، فهناك مبادرة من الإنسان تتحرك في طريقته في التعبير عن شعوره بحضور الله في وجدانه وفي الوجود كلّه، بحيث يجده في أجواء الغيب السابح في المطلق، كما لو كان في أجواء الشهود الغارق في الحسّ، فيذكره في آفاق ألوهيته بكلّ مواقع عظمته وموارد نعمه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، ويتحوّل الذِكر عنده إلى حقيقةٍ حيةٍ في العقل والإحساس وحركته في الحياة.. وهنا تلتقي المبادرة الإنسانية في خطّ العبودية الخالصة المخلصة بالرحمة الإلهية، فيذكر الله عبده بالرحمة واللطف والحنان والمغفرة، كما ذكره عبده بالإخلاص والاعتراف والتوسل والعبادة.
وهكذا أراد الله لعباده أن يذكروه ليذكرهم، في ما يريد أن يثيره في تفكيرهم من أن نسيانهم له في كلّ مواقع الحياة عندهم سيكون تأثيره لديه أن ينساهم فيهملهم في عمق مسألة المصير، وهذا ما عبّر عنه الله بقوله في حديثه عن أمثال هؤلاء في موقفهم يوم القيامة في ساعة الحساب في حوارهم مع الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124-126]. وقوله تعالى: {نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67].
وليست المسألة مسألة حاجة إلهية في ذكر الإنسان لربّه، بل هي حاجة إنسانية في انفتاح الإنسان على مصالحه في الحياة وفي المصير من خلال ذلك، حيث يكون نسيانه لله نسياناً لنفسه عندما يستولي عليه الشيطان في كلّ مصادره وموارده، وذلك هو قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19].
وبذلك يكون ذكر الله في وعي الإنسان وسيلة من وسائل ذكر الإنسان لنفسه، وإذا كان الذكر حركةً في وعي الإنسان لربّه، فإنّه يجتذب الشكر الذي يمثّل وعي الإنسان لنعم الله في حياته في كلّ مواقع وجوده في تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، بحيث لا معنى له بدونها، ولا قيمة لأيّة سعادةٍ بعيداً عنها..وهذا هو الذي يعمّق في الإنسان إحساسه بإنسانيته في ما يعنيه الاعتراف بالجميل من المعنى الإنساني، وذلك هو الذي يجسّد انفعاله بألطاف الله عليه، وكما هو الذكر في علاقته بمصلحة الإنسان في الداخل، كذلك الشكر في علاقته بالله في امتداد النعم عليه وزيادة فُرصِها في حياته، وهذا في مقابل الكفران والجحود ونكران الجميل في زوال النعمة عنه وتحوّلها إلى عذاب شديد، وهذا ما عبّر عنه الله سبحانه بقوله في دعوته الإنسان للشكر وتحذيره من الكفر بالنعمة: {وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة:152].
وقوله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [ابراهيم:7].
وهكذا كانت دعوة الله للإنسان إلى الذكر، ودعوته إلى الشكر، وسيلةً من وسائل انفتاحه على ربّه، ليبقى ذكره في وجدانه، حيث يشرق الله في كلّ فكره وشعوره ليمتد حضوره عنده في مواقع المسؤولية في حياته، ولينطلق شكره له ليعمّق في ذاته الإحساس بارتباط كلّ حياته بربّه، من خلال علاقة النعم الإلهية بحياته في وعيٍ لحاجته المطلقة إلى الله، وشعور بتلبية الله له في ذلك كلّه.
* * *
مميزات الدعاء:
ثم كان الدعاء الذي دعوتنا إليه يا ربّ الذي هو المظهر الحيّ للتواصل الدائم بيننا - نحن عبادك - وبينك، فهو الذي يمثلّ النجوى التي تنطلق من عمق الشعور الحيّ في قلوبنا لنتحدث معك من موقع الحاجة إليك والرغبة في الحصول على لفتةٍ من كرمك ونظرةٍ من رحمتك، لأنّك سرّ وجودنا ومعنى الامتداد في مسيرة هذا الوجود، وهو الذي يعبّر عن الاعتراف بألوهيتك في خطّ عبوديتنا لك، على أساس المضمون الإيماني الذي تتحرك فيه كلّ مفردات العقيدة والحياة في تعدادٍ متنوّع الأبعاد والأساليب في روح عباديةٍ تعبيريةٍ عن كلّ ما يفكّر به الإنسان ويحُسّه ليعرضه أمام الله، حيث يمثّل ذلك اعترافاً وإقراراً وإخلاصاً بما يعتقد أنّه الحقيقة الخاضعة لكلمات الله ورسالاته، حيث تتميز عبادة الدعاء عن أيّة عبادة أخرى في تنويع الأفكار والأوضاع، فلا تجد هناك تشريعاً محدداً في الكيفية والكمية، فل لإنسان أن يدعو ربّه وهو قائم أو قاعد أو مستلقٍ على ظهره أو راكع أو ساجد أو واقف أو سائر، ولا توجد كلمات محدّدة لما يقوله في الدعاء، ولا لغات معينة، بل يمكنه الدعاء بأيّة لغةٍ وأيّة كلمة في أي مضمونٍ روحيّ أو شعوري أو فكري مما يريد أن يقدّمه الإنسان بين يدي الله.. وبهذا كان الدعاء عبادةً متحركةً على أكثر من صعيد، ومنفتحة على كلّ إنسان بحيث ينطلق فيها الإنسان بشكل عفوي عند حدوث أيّة مشكلة أو طروء أيّة حاجةٍ لا يرى فيها لقدرته مجالاً لحلّ المشكلة أو لقضاء الحاجة فيلجأ إلى أن يرفعها لله.
وهو الذي ينمّي في روح الإنسان الصلة الروحية بالله، حيث يشعر بأنّ الله قريب منه ومن آلامه وآماله ومشاكله وحاجاته، ليفتح عليه أبواب رحمته، فيخفف عنه ما ثقل عليه من ذلك، وليقضي له ما صعُب منها، فيجد حاجته عند ربّه بما لا يجدها عند غيره، وهذا هو ما عبّرت عنه الآية الكريمة:
{فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
ويتصاعد الاهتمام بهذه العبادة الدعائية حيث تمثّل الدعوة الحاسمة التي تجعل من الإقبال عليها مظهراً للعبادة الخالصة المنفتحة على معنى عبوديّة الإنسان لله، كما تجعل من الابتعاد عنها مظهراً من مظاهر الاستكبار عن عبادة الله الذي يؤدّي إلى دخول جهنّم، وهذا هو قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
وهكذا عاش الناس الذِكر والشكر والعبادة من خلال الإحساس بمنِّك، والانفتاح على فضلك، والخضوع لأمرك، فكان ذلك سبباً للوصول إلى مواقع رضاك من خلال مواقع طاعتك.. في ما يقودهم ذلك إلى رحاب جنّتك.. وهذا هو الغاية كل الغاية في حركة السعادة الإنسانية التي يتطلّع إليها المؤمنون، وينطلق نحوها المخلصون.
* * *
فَلَكَ الْحَمْدُ ما وُجِدَ في حَمْدِكَ مَذْهَبٌ، وَما بَقِي لِلْحَمْدِ لَفْظٌ تُحْمَدُ بِهِ، وَمَعْنىً يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، يا مَنْ تَحَمَّدَ إِلى عِبادِهِ بِالإحْسانِ وَالْفَضْلِ، وَغَمَرَهُمْ بِالْمَنِّ وَالطَّوْلِ، ما أَفْشى فينا نِعْمَتَكَ؟ وَأَسْبَغَ عَلَيْنا مِنَّتَكَ؟ وَأَخَصَّنا بِبِرِّكَ؟ هَدَيْتَنا لِدينِكَ الَّذي اصْطَفَيْتَ، وَمِلَّتِكَ الَّتِي ارْتَضَيْتَ، وَسَبيلِكَ الَّذي سَهَّلْتَ، وَبَصَّرْتَنَا الزُّلْفَةَ لَدَيْكَ، وَالْوُصُولَ إِلى كَرامَتِكَ.
* * *
العجز عن بلوغ الحمد:
كيف أبلغ - يا ربّ - آفاق حمدك، وأنا الإنسان الذي أعيش في زاوية ضيّقة من زوايا الجهل وحدود المادة.
وهل أنا إلا عينٌ تبصر بعض مظاهر عظمتك، وأذنٌ تسمع بعض أصوات مخلوقاتك، ويدٌ تشعر مواقع النعم في ما تلمسه من مجالات نعمك.. فكيف أنطلق إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشرن ولا يلمسه حسّ في ما ينفتح عليه غيب العظمة في قدسك وسرّ الإبداع في ألوهيّتك، فكيف أبلغ ما أريده في عمق إخلاصي من التعبير عن حمدك، وأنا لا أعرف إلا القليل القليل منه.
لذلك، فلن أدخل في التفاصيل، لأنّي لا أعرف كُنْهَ تلك التفاصيل، ولكنّي أحمدك ما وجد في حمدك مذهب حتى لا تبقى هناك كلمة لا يتحرك بها عقلي وقلبي مما قد لا يبلغه لساني، وأنطلق مع كلّ معانيه حتى لا يبقى هناك معنى يطلّ على حمدك إلا عشت فيه وانطلقت معه مما أدركه ومما لا أدركه.
لقد تحمّدت إلينا - يا ربّ - بإحسانك وفضلك الذي شمل كلّ حياتنا في كلّ ما نحتاجه وما ننعم به، وغمرتنا بمنّك وكرمك حتى أغرقتنا بالسعادة من خلال ذلك، إننا نلتفت إلى كلّ جوانب وجودنا المتحرك في إرادتك، فنجد نعمتك شاملة لكلّ شيء من أمورنا، فليس هناك أمر لا أثر فيه لنعمتك المادية أو الروحية، ونكتشف منّتك علينا سابغةً في كلّ أوضاعنا، فما من وضعٍ لا ينطلق بمنّتك في عملية امتنانٍ تهزّ الكيان كلّه، ونلتقي ببرّك الذي اختصصتنا به، ففي كلّ زاوية من زوايا حياتنا غرسة للبرّ الإلهي الذي يمتد حتى يشمل المواقع كلّها.
أيّ إحسانٍ وفضلٍ - يا ربّ - أعظم من إحسانك وتفضّلك علينا بهدايتنا لدينك الذي اخترته لعبادك نهجاً للسعادة في الدنيا والاخرة، وأفقاً رحباً نطلّ من خلاله على آفاق إرادتك في ما تريد لعبادك أن يطيعوك فيه مما فيه الحصول على مصالحهم في ما يفعلونه، والابتعاد عن مفاسدهم في ما يتركونه.. وذلك هو عنوان ملّتك التي ارتضيتها من خلال تجسيدها لمواقع رضاك وسبيلك الذي خططت لنا لنصل من خلاله إلى كرامتك في القرب إليك والوصول إلى رحمتك ومغفرتك.
* * *
هذا هو الجوّ الذي انطلق فيه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع) ليقف أمام وداع شهر رمضان، من خلال وعي الإنسان لموقعه من ربّه وموقع ربّه منه، في ألطافه ونعمه وإحسانه وعظمته ورحمته ومغفرته وهدايته، مما يجعل شهر رمضان موقعاً من مواقع اللطف في رعاية الله للإنسان، وحركةً في اتجاه الوصول إليه من أجل الحصول على الدرجة العليا في محبته ورضوانه.
وهذا هو الذي يخرج بشهر رمضان وغيره من مواقيت العبادة والدعاء، عن الخطّ التقليدي الذي قد يتحول فيه الموعد الزمني العبادي إلى تقليد ميت يمرّ به الناس بشكلٍ عادي لا يوحي بأيّ اهتمام، ولا يحمل أيّة حرارة في منطقة الفكر والشعور، لأنّ امتداد التشريع في مدى الزمن قد يجعل المسألة في دائرة الجمود التاريخي الذي يتجمد كلّ شيء في داخله.. إنّ القضية المطروحة في التربية الروحية الإسلامية هي أن يكون الله هو العمق في كلّ شيء في الحسّ الشعوري للإنسان، بحيث يراه في كلّ قولٍ من أقواله وفي كلّ فعلٍ من أفعاله، وفي كلّ موقعٍ من مواقع الزمن في حركة  حياته، سواء كان يحمل عنواناً للفكرة أو موقعاً للعبادة أو كان يحمل شيئاً من ذلك، وهذا هو الذي يعطي الزمن حيويته وحرارته، وللعبادة معناها وحركتها في الفكر وفي الحياة.
* * *
اللّهُمَّ وَأَنْتَ جَعَلْتَ مِنْ صَفايا تِلْكَ الْوَظائِفِ، وَخَصائِصِ تِلْكَ الْفُرُوضِ، شَهْرَ رَمَضانَ الَّذِي اخْتَصَصْتَهُ مِنْ سائِرِ الشُّهُورِ، وَتَخَيَّرْتَهُ مِنْ جَميعِ الأزْمِنَةِ وَالدُّهُورِ، وَآثَرْتَهُ عَلى كُلِّ أَوْقاتِ السَّنَةِ بِما أَنْزَلْتَ فيهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالنُّورِ، وَضاعَفْتَ فيهِ مِنَ الإيمانِ، وَفَرَضْتَ فيهِ مِنَ الصِّيامِ، وَرَغَّبْتَ فيهِ مِنَ الْقِيامِ، وَأَجْلَلْتَ فيهِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتي هِىَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر.
* * *
خصوصية الزمن في شهر رمضان:
يا ربّ، إنّك خلقتَ الزّمن كلّه، فليس زمن أولى بك من زمن، تماماً كما خلقت كل شيء في الوجود، فليس هناك شيء - في ذاته - أقرب إليك من شيء.. ولكنّك جعلتَ لشهر رمضان خصوصية من بين الشهور، انطلاقاً من إرادتك وحكمتك عندما أعطيتَ معناه شيئاً من معنى وحيك، عندما أنزلت فيه القرآن الذي هو النور المعنوي الذي يدخل إلى عروق الزمن فيمنحه نوراً وحياةً وخيراً وبركةً، وفتحت فيه أكثر من نافذةٍ للإيمان، وحشدت فيه الكثير الكثير من مواقع رضاك في ما أردت لعبادك أن يطيعوك فيه، وذلك من خلال فريضة الصيام الذي يفتح في الجسد أكثر من موقع للروح، ومن خلال القيام الذي يطلّ بالروح على أكثر من معنى للحياة المنفتحة على الله.. ثم كانت الكرامة الكبرى لهذا الشهر عندما اختصرت الألف شهر فجعلتها في ليلة  وجعلت حجم هذه الليلة - ليلة القدر - أكبر من حجم ذلك الزمن الطويل في فضلها وثوابها ونتائجها الروحية على مستوى ما يحصل عليه الإنسان من مضمونها العبادي من خير وثواب وسعادة قد ترفعه إلى الدرجات العليا في جنتك.. وبهذا كان الإيحاء الإلهي بأنّ القيمة في معنى الزمن في روحه في سرّ الله، ليست في الكمية، بل هي في النوعية، فقد لا تكون الألف شهر الفارغة من عمق الحركة الروحية في مستواها العبادي ذات قيمةٍ عند الله، وقد تكون الليلة الواحدة في جهدها وسرّها ذات قيمةٍ كبيرةٍ في حركة الفكر والروح في ما تنتج من أفكار ومشاعر وفي ما تنفتح عليه من آفاق الخير، أو تقترب به من ألطاف الله في الإنسان، وفي عمق شعوره بالحياة، وفي معنى الكرامة التي يكرم فيها عباده بالمغفرة والرحمة والرضوان.
وهذا هو الفضل الكبير الذي تفضّلت به على عبادك عندما فتحتَ لهم في هذا الشهر كلّ الأبواب التي تطلّ عليك، ودعوتهم إلى كلّ الأعمال التي تقترب من مواقع رضاك، وهيّأت لهم كلّ مواسم الخير والبركة واللطف والحياة الروحية التي تتفايض بالحنان.
* * *
ثُمَّ آثَرْتَنا بِهِ عَلى سائِرِ الأمَمِ، وَاصْطَفَيْتَنا بِفَضْلِهِ دُونَ أَهْلِ الْمِلَلِ، فَصُمْنا بِأَمْرِكَ نَهارَهُ، وَقُمْنا بِعَوْنِكَ لَيْلَهُ، مُتَعَرِّضينَ بِصِيامِهِ وَقِيامِهِ لِما عَرَّضْتَنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِكَ، وَتَسَبَّبْنا إِلَيْهِ مِنْ مَثُوْبَتِكَ. وَأَنْتَ الْمَليءُ بِما رُغِبَ فيهِ إِلَيْكَ، الْجَوادُ بِما سُئِلْتَ مِنْ فَضْلِكَ، الْقَريبُ إِلى مَنْ حاوَلَ قُرْبَكَ.
* * *
الاصطفاء الخاص:
وهكذا كان شهر رمضان في تقديرك وتشريعك وكرمك ولطفك، إذ جعلته عطيّةً وميزةً لهذه الأمة المرحومة في ما أعطيت رسولك من كرامة بكرامة أمته، وفي ما فتحت له من نوافذ الحقّ على مواقع الخير.. وهكذا انفتحنا عليك من خلاله، بما هيّأت لنا من موارد الطاعة في ما كلفتنا به من صيام النهار وفي ما ندبتنا إليه من قيام الليل، مما يرتفع بوعينا الروحي وقوّتنا الإرادية وحركتنا العملية إلى آفاق جديدة من رحمتك، وفُرصٍ متنوعةٍ من مثوبتك، عندما نتطلّع إليك في رحاب كرمك، فنراك مليئاً بما يرغب الناس فيه إليك من رضوانك، فأنت الذي لا تضيق خزائنك عن طلبات خلقك، كما نتطلّع إليك في عليائك وفي مواقع السموّ التي لا يبلغها أحد ولا يدركها مخلوق، فنراك قريباً إلى خلقك فتدعوهم إلى مواقع قربك، ليقربوا إليك بأرواحهم وأفكارهم وأعمالهم عندما لا يستطيعون القرب إليك بأجسادهم.. وهذا هو الذي يفتح للناس كلّ السبل ليصلوا إليك في أكثر من موقع وفي أكثر من حركة.
وقد يسأل سائل: كيف يكون شهر رمضان من خصائص هذه الأمة في ما آثرنا الله به من هذا الحشد من الأعمال والفيوضات الإلهية، وفي ما شرّعه الله فيه من الصيام، في الوقت الذي نلاحظ فيه أنّ الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ*أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } [البقرة:183-184].
حيث تدلّ الآية على أن تشريع الصيام ليس شيئاً جديداً في شريعة الإسلام، بل هو تشريع كلّف الله به الأمم السابقة، وقد نستوحي من الآية وما بعدها، أنّ الخصوصية في الماضي هي الخصوصية في الحاضر الإسلامي، ولكنّ هذه الاستفادة غير واضحة، لأنّ من الممكن أن يكون التشبيه بلحاظ تشريع الصوم، لا بلحاظ خصوصية الزمان الذي شرّع فيه الصوم، مما لا يتنافى مع الفكرة التي يوحي بها الدعاء من اختصاص الأمة بهذا الشهر، فإنّ الحديث عن شهر رمضان في الآية التالية ليس تابعاً لمجموع المضمون الذي جاءت به الآية المذكورة، بل هو بيان للزمان الذي يحتوي الأيام المعدودات في شريعة الأمة الإسلامية، والله العالم.
* * *
وَقَدْ أَقامَ فينا هذَا الشَّهْرُ مَقامَ حَمْد، وَصَحِبَنا صُحْبَةَ مَبْرُور، وَأَرْبَحَنا أَفْضَلَ أَرْباحِ الْعالَمينَ، ثُمَّ قَدْ فارَقَنا عِنْدَ تَمامِ وَقْتِهِ وَانْقِطاعِ مُدَّتِهِ، وَوَفاءِ عَدَدِهِ، فَنَحْنُ مُوَدِّعُوهُ وَداعَ مَنْ عَزَّ فِراقُهُ عَلَيْنا، وَغَمَّنا وَأَوْحَشَنَا انْصِرافهُ عَنّا، وَلَزِمَنا لَهُ الذِّمامُ الْمَحْفُوظُ، وَالْحُرْمَةُ الْمَرْعِيَّهُّ، وَالْحَقُّ الْمَقْضِيُّ.
* * *
صحبة الشهر:
عاش هذا العمر في حياتنا كأفضل ما يعيشه زمنٌ مباركٌ في ما يمنحه من البركة لكلّ الناس الذين يعيشون فيه من خلال الفرص التي يوفرها لهم في طاعة الله والحصول على مغفرته ورضوانه، ومن خلال الأجواء الروحية التي يثيرها في أجواء الناس الذين يتحركون فيه.. وعشنا معه في حمد وخير وسرور، وحصلنا على أفضل الأرباح على مستوى النتائج الدنيوية والأخروية على أساس ما حصلنا عليه من عمق في الروح، وسموّ في الأخلاق، واستقامة في الخطى، وامتدادٍ في الالتزام بأوامر الله ونواهيه، وصوم عن كلّ ما يفسد الروح ويسيء إلى طهارة الإنسان في نيّاته وأقواله وأفعاله.
ثم مضى وفارقنا، كمرحلةٍ زمنيةٍ من أفضل مراحلنا، كما يمضي الزمن في النظام الكوني الذي يطوي الحياة في حدودها المعيّنة.. وكانت لنا معه صحبة وعلاقة ومحبّة وصداقة وحرمة وحقّ، تماماً كما لو كان كائناً حيّاً يفتح معنا أفضل العلاقات، وتبقى لنا - بعد فراقه - أفضل الذكريات، لنودّعه بأعذب الكلمات، وأحرّ المشاعر، ليكون التفاعل بيننا وبين شهر الله هذا في المستوى الذي ينطلق فيه من الله ليتّصل بكلّ شيء ينتسب إليه ويرتبط به، أكان زماناً أم مكاناً أم إنساناً أم كتاباً من كتب الله أم شرعةً من شرائعه أم خطاً من خطوطه التي أراد لعباده أن يسيروا فيها.
* * *
فنَحْنُ قائِلُونَ: السَّلامُ عَليْكَ يا شَهْرَ اللّهِ الأكْبَرَ، وَيا عيدَ أَوْلِيائِهِ الأعْظَمَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا أَكْرَمَ مَصْحُوب مِنَ الأوْقاتِ، وَيا خَيْرَ شَهْر فِي الأيّامِ وَالسّاعاتِ، السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْر قَرُبَتْ فيهِ الامالُ، وَنُشِرَتْ فيهِ الأعْمالُ، السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ قَرين جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُوداً، وَأَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُوداً، وَمَرْجُوٍّ آلَمَ فِراقُهُ، السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ أَليف آنَسَ مُقْبِلاً فَسَرَّ، وَأَوْحَشَ مُنْقَضِياً فَمَضَّ، السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ مُجاوِر رَقَّتْ فيهِ الْقُلُوبُ، وَقَلَّتْ فيهِ الذُّنُوبُ.
* * *
الألم النفسي لفراق الشهر:
وتتلاحق أوصاف هذا الشهر - في أجواء السلام عليه وهي التحية له - انطلاقاً من تنوّع مواقعه في شأنه عند الله بالمقارنة مع الشهور الأخرى، وفي مركزه لدى أولياء الله، وفي علاقته بالإنسان في علاقة الصحبة، وفي امتداده في الزمن، عندما يتوزّع عنوانه بين الأيام والساعات.. وفي الآمال التي تطلّ فيه على حياة الإنسان.. وفي الدائرة التي تمثّل حدود الزمن فيه حيث تتحرك الأعمال، وفي السرور بوجوده واللوعة بفقده تماماً كأيّ قرينٍ حيّ، أو أليف ينطلق في الشعور في طبيعة معنى الألفة في النفس ثم يأتي ليقترب من الإنسان، كما يقترب أيّجار من جاره، ليترك تأثيره في عمق القلوب وليطرد عن ساحته كلّ الذنوب.
فهو شهر الله الأكبر، فكلّ الشهور تصغر في خصائصها أمامه في ما منحه الله من الامتيازات، وهو عيد أوليائه الأعظم الذي يرتفع بهم إلى أعلى الدرجات، عندما يتحرّكون فيه في أفضل الأعمال، وأقدس الأيام والساعات بما لا يحصل لهم في غيره في هذه الدرجة، وهو الوقت الذي يصحبه الإنسان كأكرم مصحوب في الخير الذي يقدّمه لصاحبه، وخير شهر في الأيام والساعات في نتائجه الكبيرة في حركة الحياة في الإنسان.
وهو الشهر الذي أعطى الآمال فرصةً كبيرة لتقرب من الواقع في ما يأمله الإنسان من السموّ الروحي، والارتفاع المعنوي، والدرجات العليا عند اله، وهو الذي نشرت فيه الأعمال فانطلقت في عملية إيحاء منفتح على طاعة الله في التعبير عن إخلاص عبده المؤمن له.
وهو القرين الحبيب الذي يشعر الإنسان بالرابطة الوثيقة التي تربطه به، حيث يشعر بجلالة قدره عند وجوده لمعرفته بمواقع الجلال في خصائصه ومعانيه،كما يفجع بفقده عند زواله، لما يشعر به من فداحة الخسائر التي تترتب على افتقاده، وهكذا تتلاحق صفة المرجوّ الذي آلم فراقه والأليف الذي فتح للقلب نافذةً على الفرح الروحي عند إقباله، كما أغلق عنه أبواب الانفتاح عند إدباره، وتحرّك مع عناصر الشخصية الإسلامية في إيحاءاته ومواقعه وأفكاره، حتى بعث الرقّة في القلوب، وخفف من ثقل الذنوب على النفس.
* * *
السَّلامُ عَلَيْكَ مِن ناصِرٍ أَعانَ عَلَى الشَّيْطانِ، وَصاحِبٍ سَهَّلَ سُبُلَ الإحْسانِ، السَّلامُ عَلَيْكَ ما أَكْثَرَ عُتَقاءَ اللّهِ فيكَ، وَما أَسْعَدَ مَنْ رَعى حُرْمَتَكَ بِكَ، السَّلامُ عَلَيْكَ ما كانَ أَطْوَلَكَ عَلَى الْمُجْرِمينَ، وَأَهْيَبَكَ في صُدُورِ الْمُؤْمِنينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْر لا تُنافِسُهُ الأيّامُ، السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْر هُوَ مِنْ كُلِّ أَمْر سَلامُ، السَّلامُ عَلَيْكَ غَيْرَ كَرِيهِ الْمُصاحَبَةِ، وَلا ذَميمِ الْمُلابَسَةِ.
* * *
ألطاف الله:
للتشريع الإلهي دوره الكبير في إعطاء الزمن معنىً روحياً إيحائياً، حيث يتحوّل إلى عنصر من عناصر التأثير الإيجابي على النفس التي تعيش في ساحة الصراع بين خطّ الله وخطّ الشيطان، لمصلحة الالتزام بالإيمان والتقوى في خطّ طاعة الله والإخلاص له، لأنّ الخصوصية المعنوية التي يحصل عليها الشهر المبارك في مفردات التشريع الواجبة والمستحبّة، تخلق جوّاً من الاهتمام والقداسة التي تنفذ إلى مشاعر الإنسان الذي يتحرّك في داخله بشكل لا شعوري، بحيث يتأثر به حتى الذين لا يلتزمون بالتزاماته في نطاق الجوّ العام، ومن هنا نفهم كيف يتحوّل هذا الشهر إلى ناصر أعان على الشيطان، وصاحبٍ سهّل سبل الإحسان، لأنّ الضغوط الروحية نوازع الشرّ تساهم في منع الإنسان من الاستسلام لخطوات الشيطان وحبائله بطريقةٍ بالغة التأثير، كما تدفع النفس إلى السير في خطّ الإحسان الفكري والعملي في ما يحبّه الله ويرضاه.
وقد ورد في الحديث عن النبي(ص): "ألا وقد وكّل الله بكلّ شيطان مريد سبعة أملاك، فليس بمحلول حتى ينقضي شهركم هذا"(2).
ثم كان من ألطاف الله في هذا الشهر، أنّ الله يعتق الكثير من المذنبين من النار، فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق(ع): "إذا كان أوّل ليلةٍ من شهر رمضان، غفر الله لمن شاء من الخلق، فإذا كان الليلة التي تليها ضاعف كلّ ما أعتق، وهكذا، فإذا كان آخر ليلةٍ ضاعف فيها كلّ ما أعتق"(2).
وهذا هو الذي يفتح للمذنبين باب الأمل الكبير في المغفرة، حتى في الحالات الشديدة التي أسرفوا فيها على أنفسهم وتوغّلوا كثيراً في دروب المعصية، فيرجعون إلى الله ليؤكّدوا رعايتهم لحرمة الله في هذا الشهر بذهنية روحية جديدة، يتخلصون فيها من كلّ أثقال الذنوب وأغلالها، ليعيشوا السعادة الداخلية في كيانهم، في عملية تجدد روحي وعملي، ليكونوا من أسعد الناس في ذلك على مستوى النتائج الكبيرة في انطلاق الذات وحركة المصير.
وهكذا يساهم هذا الشهر في إيحاءاته وأجوائه في محو الذنوب بالتوبة، وستر العيوب بالتمرد على الانحراف في خطّ التغيير.
ومن خلال طبيعة الدور الذي أريد لهذا الشهر أن يحقّقه في التزاماته التي تتجاوز العنصر المادي في الصوم الجسدي إلى الصوم الروحي والأخلاقي، فإنّ المؤمنين يشعرون بسهولة الحركة فيه من خلال القرار المنطلق من الإرادة الإيمانية بالالتزام بأوامر الله ونواهيه، كما أنّ المجرمين يشعرون بثقله وطوله، لأنّه يخلق في داخلهم شعوراً بالعقدة المستعصية لابتعادهم عن الأجواء العامة فيه في مجتمع الإيمان، فيعيشون فيه الإحساس بالعيون التي تحدّق بهم بالاستنكار، وبالمشاعر التي يتصاعد فيها التوتّر على أساس ما يقومون به من انحرافات في هذا الشهر، مما يجعلهم يفكّرون في أوضاعهم كما يفكّر السجين في شعوره بطول مدة السجن حتى لو كانت قصيرة.
وفي هذا الجوّ الروحي، يقف هذا الشهر في الموقع الذي لا يستطيع الأيام الأخرى أن تدخل معه في منافسة في القيمة والنتائج، لأنّها لا تحمل الكثير مما يحمله من خصائص وامتيازات، ولا سيما في روحيّة السلام الذي يسري إلى كلّ أمر فيه، مما يخلق في الحياة جواً رائعاً من الانفتاح على كلّ معاني الخير والابتعاد عن كلّ معاني الشر.. وهكذا تكون صحبته لكلّ الذين يصاحبونه طيبةً محبّبة، كما يكون الاندماج فيه مفتوحاً على كلّ أوضاع السرور.
* * *
السَّلامُ عَلَيْكَ كَما وَفَدْتَ عَلَيْنا بِالْبَرَكاتِ، وَغَسَلْتَ عَنّا دَنَسَ الْخَطيئاتِ، السَّلامُ عَلَيْكَ غَيْرَ مُوَدَّع بَرَماً، وَلا مَتْرُوك صِيامُهُ سَأَماً، السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ مَطْلُوب قَبْلَ وَقْتِهِ، وَمَحْزُون عَلَيْهِ قَبْلَ فَوْتِهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ كَمْ مِنْ سُوء صُرِفَ بِكَ عَنّا، وَكَمْ مِنْ خَيْر أُفيضَ بِكَ عَلَيْنا، السَّلامُ عَلَيْكَ وَعَلى لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتي هِىَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر، السَّلامُ عَلَيْكَ ما كانَ أَحْرَصَنا بِالأمْسِ عَلَيْكَ، وَأَشَدَّ شَوْقَنا غَداً إِلَيْكَ، السَّلامُ عَلَيْكَ وَعَلى فَضْلِكَ الَّذي حُرِمْناهُ، وَعَلى ماضٍ مِنْ بَرَكاتِكَ سُلِبْناهُ.
* * *
الشعور بالحرمان من الفضل
وهنا تأتي كلمات الوداع في المشاعر الحزينة في اللحظات الحاسمة التي يبتعد فيها الإنسان المؤمن عن أجواء هذا الشهر بالانفصال عن أيامه.. وبذلك يتحرّك الشعور ليتحدّث مع هذا الشهر في كلّ ما كان يعيشه المؤمنون معه، أو يحصلون فيه من نتائج السعادة في الدنيا والآخرة.
فقد جاءنا بالبركات التي ملأت حياتنا، وغسل عنّا قذارة الخطايا حتى طهرت أرواحنا، لذلك فنحن نشعر ببركته وطهارته، فلا يكون وداعنا له وداع الضجر الذي يشعر به الناس في حالة الجوّ الثقيل الذي يطبق عليهم، كما أنّنا لن نترك صيامه من خلال الملل، لأنّنا كنّا نحبّه وننفتح عليه في مواقع القرب من الله، مما يجعلنا نطالبه قبل وقته، ونحزن عليه قبل فوته، ليصرف عنّا الكثير من السوء، ويفيض علينا الكثير من الخير، ولننفتح فيه على الله في ليلة القدر التي تختصر الزمن في ساعاتها حتى تكون في حجم ألف شهر في نتائجها الكبيرة.. وهذا هو الذي جعلنا نحرص عليه في داخله، ونشتاق إليه في المستقبل، ونشعر بالحرمان من فضله ومن بركاته، لنفكّر في تعويض ذلك الحرمان في شهر جديد وعمل جديد.
* * *
اللّهُمَّ إِنّا أَهْلُ هذَا الشَّهْرِ الَّذي شَرَّفْتَنا بِهِ، وَوَفَّقْتَنا بِمَنِّكَ لَهُ، حينَ جَهِلَ الأشْقِياءُ وَقْتَهُ، وَحُرِمُوا لِشَقائِهِمْ فَضْلَهُ، وَأَنْتَ وَلِىُّ ما آثَرْتَنا بِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَهَدَيْتَنا لَهُ مِنْ سُنَّتِهِ، وَقَدْ تَوَلَّيْنا بِتَوْفيقِكَ صِيامَهُ وَقِيامَهُ عَلى تَقْصير، وَأَدَّيْنا فيهِ قَليلاً مِنْ كَثير، اللّهُمَّ فَلَكَ الْحَمْدُ إِقْراراً بِالإساءَةِ، وَاعْتِرافاً بِالإضاعَةِ، وَلَكَ مِنْ قُلُوبِنا عَقْدُ النَّدَمِ، وَمِنْ أَلْسِنَتِنا صِدْقُ الإعْتِذارِ، فَأْجُرْنا عَلى ما أصابَنا فيهِ مِنَ التَّفْريطِ، أجْراً نَسْتَدْرِكُ بِهِ الْفَضْلَ الْمَرْغُوبَ فيهِ، وَنَعْتاضُ بِهِ مِنْ أَنْواعِ الذُّخْرِ الْمَحْرُوصِ عَلَيْهِ، وَأَوْجِبْ لَنا عُذْرَكَ عَلى ماقَصَّرْنا فيهِ مِنْ حَقِّكَ، وَابْلُغْ بِأَعْمارِنا ما بَيْنَ أَيْدينا مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ الْمُقْبِلِ، فَإِذا بَلَّغْتَناهُ فَأَعِنّا عَلى تَناوُلِ ما أَنْتَ أَهْلُهُ مِنَ الْعِبادَةِ، وَأَدِّنا إِلَى الْقِيامِ بِما يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَ أَجْرِ لَنا مِنْ صالِحِ الْعَمَلِ ما يَكونُ دَرَكاً لِحَقِّكَ فِي الشَّهْرَيْنِ مِنْ شُهُورِ الدَّهْرِ.
* * *
التقصير لا يجبره إلا غفران الله
وعاد الحديث مع الله في صورة تقرير عمّا قام به المؤمنون في هذا الشهر من واجباته ومستحباته واستغفار عما قصروا فيه من ذلك، وتطلّع إلى شهر رمضان جديد في استعداد لطاعات جديدة، وقيام كامل شامل بحقّ الله فيه.
إنّا أهل هذا الشهر - يا ربّ - فقد عشنا حياتنا في داخله ووعينا كلّ عناوين فضله، وكلّ مواقع الخير فيه، وكلّ عناصر الشرف فيه في ما يكتسبه الذين يعيشون فيه من ذلك، وكلّ حظوظ التوفيق فيه.. وقد التزمناه بكلّ قوةٍ وإخلاص ووعي، في الوقت الذي كان هناك فريق من الناس الذين جهلوا معناه فلم يعيشوا روحه، ولم يلتزموا بمسؤوليته ولم يأخذوا من فضله بما دعوتهم إليه من ذلك، وقد كان صيامنا له فرصةً للتطهّر، كما كان قيامنا فيه فرصة للسموّ إلى درجات القرب إليك، ولكنّنا لم نبلغ مستوى الكمال في ذلك، فقصرنا عن الوصول إلى الدرجة العليا من معناه، ولم نبلغ الحجم الذي أردتنا أن نحصل عليه من الأعمال الكثيرة التي حشدتها في مسؤوليات هذا الشهر.
وها نحن - في نهاية المطاف - نقف في مواقع حمدك لنؤكّد معنى العبودية لك في وجودنا، لنعترف لك بالإساءة في ما أذنبناه فيه، وبالإضافة في ما قصرنا فيه، ولن نستطيع التخلص من واقع التقصير لأنّك لا تعبد حقّ عبادتك، مهما بلغ العباد من ذلك.
فلك منّا الإرادة القوية والتأكيد الشديد من عمق قلوبنا في ما نستشعره من الندم العميق على ما قصّرنا فيه، ومن حركة ألسنتنا في الاعتذار الصادق الذي ينطلق من صدق القرار في التغيير.
وإذا كان ذلك تعبيراً عن موقف الإيمان الحقّ في ما أردت به عبادك أن يتحسسوا النّدم في قلوبهم والاستغفار  في ألسنتهم، فإنّنا نطلب منك الأجر الجزيل من عطائك وكرمك، لنحصل على التعويض عمّا فاتنا من الأجر في طاعتك، وعلى المغفرة في ما أذنبناه فيه من أعمالنا.
وإذا غاب شهر رمضان عنّا، في هذه الفرصة من العمر، فهيِّئ لنا فرصة جديدة في امتداد أعمارنا إلى رمضان جديد الذي نريده شهراً تضاعف فيه طاقاتنا في حركة الطاعة في حياتنا، وتشتدّ فيه الإرادة للوصول إلى مستوى القيام بحقّك بعونك، وتنفتح فيه خطواتنا على الدرب الذي يؤدّي بنا إلى مواقع القرب منك، حتى نحصل من ذلك على تدارك ما فاتنا من الأعمال في الشهر الماضي وما نبلغه من الأعمال الصالحة في الشهر المقبل.
* * *
اللّهُمَّ وَما أَلْمَمْنا بِهِ في شَهْرِنا هذا مِنْ لَمَم أَوْ إِثْم، أَوْ واقَعْنا فيهِ مِنْ ذَنْب وَاكْتَسَبْنا فيهِ مِنْ خَطيئَة عَلى تَعَمُّد مِنّا، أَوْ عَلى نِسْيان ظَلَمْنا فيهِ أَنْفُسَنا، أَوِ انْتَهَكْنا بِهِ حُرْمَةً مِنْ غَيْرِنا، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاسْتُرْنا بِسِتْرِكَ، وَاعْفُ عَنّا بِعَفْوِكَ، وَلا تَنْصِبْنا فيهِ لأِعْيُنِ الشّامِتينَ، وَلا تَبْسُطْ عَلَيْنا فيهِ أَلْسُنَ الطّاعِنينَ، وَاسْتَعْمِلْنا بِما يَكُونُ حِطَّةً وَكَفّارَةً لِما أَنَكَرْتَ مِنّا فيهِ، بِرَأْفَتِكَ الَّتي لا تَنْفَدُ، وَفَضْلِكَ الَّذي لا يَنْقُصُ.
* * *
اللهم استرنا بسترك
وإذا كنّا نعتذر إليك من التقصير في ما سلف منّا في هذا الشهر، فإنّنا نستذكر الآن ما ألممنا به من الآثام والذنوب والخطايا مما تعمّدناه أو أخطأنا فيه أو نسينا معه مسؤوليتنا أمامك في ما يتّصل بنا أو بالآخرين من حرماتهم التي انتهكناها في أنفسهم وفي أموالهم وأهاليهم وأعراضهم.. لنشعر أمام ذلك كلّه بالحاجة إلى التخفّف من تلك الأثقال الروحية التي تثقل ضمائنا ومشاعرنا، وذلك بالابتهال إليك لتغفر لنا ولتعفو عنا وتستر علينا بسترك.. حتى نحصل على السعادة الروحية من فضلك، فلا يشمت بنا الآخرون ممن يكيدون لنا من أعداء دينك، ولا يطعن علينا الطاعنون في ما يستغلونه من أخطائنا تجاهك للتحدّث عنا بألسنتهم بما لا يرضيك، ووفقنا - بعد ذلك - للثبات على خطّ الخروج من معصيتك، والاستقامة في الخطّ الذي يؤدّي إلى مواقع رضاك في ما تسبغه علينا من فضلك وتحنو به على مشاعرنا من لطف رأفتك.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاجْبُرْ مُصيبَتَنا بِشَهْرِنا، وَبارِكْ لَنا في يَوْمِ عيدِنا وَفِطْرِنا، وَاجْعَلْهُ مِنْ خَيْرِ يَوْم مَرَّ عَلَيْنا، أَجْلَبِهِ لِعَفْو، وَأَمْحاهُ لِذَنْب، وَاغْفِرْ لَنا ماخَفِىَ مِنْ ذُنُوبِنا وَما عَلَنَ.
اللّهُمَّ اسْلَخْنا بِانْسِلاخِ هذَا الشَّهْرِ مِنْ خَطايانا، وَأَخْرِجْنا بِخُرُوجِهِ مِنْ سَيِّئاتِنا، وَاجْعَلْنا مِنْ أَسْعَدِ أَهْلِهِ بِهِ، وَأَجْزَلِهِمْ قِسْماً فيهِ، وَأَوْفَرِهِمْ حَظّاً مِنْهُ.
* * *
العيد احتفال القيام بالواجب
وإذا كان فراق الشهر مصيبة على المؤمنين في ما يفقدونه - بغيابه - من بركات وألطافٍ ربانية، فإنّ العيد الذي يأتي بعده يمثّل معنى الاحتفال بالقيام بالواجب وبركاته في معنى الرضوان، وصفاء الفرح الروحي، وانفتاح الإنسان على مساحة المسؤولية الواسعة في مدى الزمن، بعد فترة التدريب على تحمّل الحرمان من موقع الإرادة.. وبهذا كانت تطلّعاتنا - يا ربّ - إليك أن تجبر مصيبتنا بشهرنا هذا بما تمنحنا من ألطافك، وأن تبارك لنا في يوم عيدنا وفطرنا، بالكثير من فيوضات كرمك، وأن تجعل هذا اليوم أكثر الأيام مجلبةً للعفو، ومحواً للذنب، وأن نعيش فيه روح المغفرة لذنوبنا كلّها الظاهرة والخفية، حتى نعيش السعادة الإيمانية في الدنيا، والطمأنينة الروحية في الآخرة، فلا يبقى لنا ذنب نخشاه.. ولا نجد في نفوسنا أثراً للشقاء، فهناك الربح كلّ الربح، والنعيم كلّ النعيم، في ظلال عفوك وغمائم رحمتك.
* * *
اللّهُمَّ وَمَنْ رَعى حَقَّ هذَا الشَّهْرِ حَقَّ رِعايَتِهِ، وَحَفِظَ حُرْمَتَهُ حَقَّ حِفْظِها، وَقامَ بِحُدُودِهِ حَقَّ قِيامِها، وَاتَّقى ذُنُوبَهُ حَقَّ تُقاتِها، أَوْ تَقَرَّبَ إِلَيْكَ بِقُرْبَة أَوْجَبَتْ رِضاكَ لَهُ، وَعَطَفَتْ رَحْمَتَكَ عَلَيْهِ، فَهَبْ لَنا مِثْلَهُ مِنْ وُجْدِكَ، وَأَعْطِنا أَضْعافَهُ مِنْ فَضْلِكَ، فَإِنَّ فَضْلَكَ لايَغيضُ، وَإِنَّ خَزائِنَكَ لا تَنْقُصُ بَلْ تَفيضُ، وَإِنَّ مَعادِنَ إِحْسانِكَ لاتَفْنى، وَإِنَّ عَطاءَكَ لَلْعَطاءُ الْمُهَنّا.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاكْتُبْ لَنا مِثْلَ أُجُورِ مَنْ صامَهُ أَوْ تَعَبَّدَ لَكَ فيْهِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.
* * *
عطاء الله لا يخضع لحسابات الزيادة والنقصان
وهناك - يا ربّ - نموذج من النّاس عاشوا الإيمان في قلوبهم وعقولهم، وحفظوا حرمات الله في التزاماتهم، ووقفوا عند حدود الله في مسيرتهم.. ولذلك رعوا هذا الشهر في ما يتميّز من الحقّ الإلهي في رعايته، وحفظوا حرمته في ما جعله الله له من حرماتٍ في صيامه وقيامه، ووقفوا عند حدوده في حدود الحلال والحرام فيه، واتقوا الذنوب فلم يقتربوا منها من خلال وعيهم لنتائجها السيّئة على مستوى المصير، وتقرّبوا إليك بكلّ الأقوال والأفعال والعلاقات التي تقرّب العباد إليك في ما تختزنه من مواقع محبّتك وآفاق رضاك.. فرضيت عنهم وأعطيتهم من رحمتك كلّ الحنان والاشفاق، وأجزلت ثوابهم من عطائك الذي جعلته للمتقين المخلصين.
وإذا كان كلّ عطائك لهم من موقع الفضل لا من موقع الاستحقاق، لأنّ عبادك لا يستحقّون عليك شيئاً، فإنّنا نسألك - يا ربّ - أن تهب لنا من خزائنك مثله وأن تضاعف لنا ذلك، لأنّ مسألة العطاء لديك لا تخضع لحسابات الزيادة والنقصان، لتخشى من نقصان خزائنك إذا زاد عطاؤك، لأنّك تخلق ما تعطي منها كما تخلق ما يبقى فيها، فلا تفنى خزائنك، بل تبقى، ولا ينقبص فضلك، بل يزيد.. وتستمرّ يا ربّ في عطائك الذي يعيش عبادك في هنائه ورخائه وخيره، ومعنى السعادة الممتد في كلّ مواقع الإحسان لديك..
فهل نملك يا ربّ كلمات الشكر التي توفي حقّك، وهل نستطيع أن نبلغ معنى الحمد الذي يتميّز به فضلك؟!
وهل نخشى - أمام كلّ كرمك الذي لا ينتهي عطاؤه - أن نطلب منك أن تمنحنا أجر من تعبّد لك في صيامه وقيامه إلى يوم القيامة؟!
إنّنا لا نجد ما يسوّغ لنا ذلك من أعمالنا في ما تثيب به عبادك على أعمالهم الصالحة التي يتقربون بها إليك لينالوا ثوابك.. ولكننا - في طلباتنا - لا ننظر إلى استحقاقنا بل ننظر إلى فضلك العظيم ومنّك الجسيم ورحمتك التي لا يبلغ مداها شيء.
فاستجب لنا ذلك، يا أكرم الأكرمين.
* * *
اللّهُمَّ إِنّا نَتُوبُ إِلَيْكَ في يَوْمِ فِطْرِنَا الَّذي جَعَلْتَهُ لِلْمُؤْمِنينَ عيداً وَسُرُوراً، وَلأِهْلِ مِلَّتِكَ مَجْمَعاً وَمُحْتَشَداً، مِنْ كُلِّ ذَنْب أَذْنَبْناهُ، أَوْ سُوء أَسْلَفْناهُ، أَوْ خاطِرِ شَرٍّ أَضْمَرْناهُ، تَوْبَةَ مَنْ لا يَنْطَوي عَلى رُجُوع إِلى ذَنْب، وَلا يَعُودُ بَعْدَها في خَطيئَة، تَوْبَةً نَصُوحاً خَلَصَتْ مِنَ الشَّكِّ وَالارْتِيابِ، فَتَقَبَّلْها مِنّا، وَارْضَ عَنّا، وَثَبِّتْنا عَلَيْها.
* * *
التوبة هدية العيد إلى الله
وهذا يوم الفطر الذي بدأنا به زمناً جديداً نتخفّف فيه من مسؤولية الصيام الذي فرضته علينا في هذا الشهر، وانطلقنا من خلاله إلى أجواء العيد في معناه العميق الذي يوحي إلينا، كمؤمنين ملتزمين، بأنّ طاعة الله في أيّ موقع من مواقع حركة الإنسان المؤمن، تمثّل عيداً يحمل في معناه كلّ أسرار الحيوية الروحية للعيد، لأنّه يحقّق في عمق الروح كلّ معاني الفرح الروحي بالانفتاح على الله في آفاق الثواب الإلهي.
وأردت - يا ربّ - أن يعيش المؤمنون السرور كلّه من خلال اجتماعهم على أساس فرح الطاعة في عيدهم، ومعنىا الأخوّة في إسلامهم، وحركة القوة القائمة على الشعوب بالوحدة في خطّ ملّتهم التي هي ملّتك التي شرّعت لهم في وحيك.
ونحن نريد - يا ربّ - أن نعيش معنى العيد في حياتنا في ما نريد أن نعيشه من معنى الطهارة في أفكارنا ومشاعرنا وأعمالنا، لنقترب قليلاً قليلاً من طهر المواقع الإلهية التي نقترب من خلالها إليك، وذلك بما فتحته أمامنا من أبواب التوبة التي تؤدّي بنا إلى ساحة رحمتك وآفاق رضاك.
ولذلك، فإنّنا نتوب إليك - في يوم فطرنا هذا - توبةً خالصةً مستقرّةً في الأعماق، خالدةً في العمر، نصوحاً في معناها، من دون شكّ ولا ارتياب، لأنّها تنطلق من إيمان راسخ، وقناعةٍ مطمئنة، بأنّ علينا أن نحصل على الاستقامة في دربك المستقيم، فلا ينحرف بنا الشيطان عنه إلى مواقع الشر في ضلاله وطغيانه، وأن نقوم بتصحيح الخطأ الذي يوقعنا فيه الهوى الذي يتحرّك في خطّ الشيطان، فلا نرجع فيه بعد خلاصنا منه.
وها نحن نتوب إليك، لتكون توبتنا هدية العيد إليك - يا ربّ - عندما نقدّم نفوسنا المؤمنة في مواقع الطهر الروحي المنفتح على طهر القداسة في علياء مجدك.
إنّنا نتوب إليك من كلّ ذنبٍ أذنبناه، أو سوء أسلفناه في ما مضى من أيام عمرنا من أقوالنا وأعمالنا، أو خاطر من خواطر السوء في فكرٍ منحرفٍ يتحرّك في طريق الشرّ، أو نيةٍ سيئةٍ من نوايا السوء التي تتصل بالفساد في حركة الحياة وفي واقع الناس، حتى تخلص أفكارنا من قذارة الشرّ، وتطهر أجسادنا من رجس الخطيئة، لنقف بين يديك في إيمان خالص وتقوى منفتحة على طاعتك، فتقبّل منّا ذلك، وأعطنا من واسع رحمتك، وثبتنا عليه لنمتدّ في مواقع رضاك.
* * *
اللّهُمَّ ارْزُقْنا خَوْفَ عِقابِ الْوَعيدِ، وَشَوْقَ ثَوابِ الْمَوْعُودِ، حَتّى نَجِدَ لَذَّةَ ما نَدْعُوكَ بِهِ، وَكَأْبَةَ ما نَسْتَجيرُكَ مِنْهُ، وَاجْعَلْنا عِنْدَكَ مِنَ التَّوّابينَ الَّذينَ أَوْجَبْتَ لَهُمْ مَحَبَّتَكَ، وَقَبِلْتَ مِنْهُمْ مُراجَعَةَ طاعَتِكَ، يا أَعْدَلَ الْعادِلينَ.
* * *
التوبة في العقل والوجدان
إنّ التوبة النصوح التي نعمل لها ليست مجرّد فكرة تعيش في عقولنا، ومشروع يتحرّك في قرارنا.. بل نريدها شعوراً يفرض نفسه على مواقع الإحساس في شخصياتنا، حتى ينطلق الفكر بحرارةٍ تهزّ الكيان كلّه، لتفرض الموقف على الواقع كلّه وتدفعه إلى الثبات في إيحاءات الشعور، إضافةً إلى القوة في معادلات العقل، والتوازن في حسابات المستقبل على مستوى النتائج الإيجابية المتصلة بقضايا المصير.
ولكننا لا نستطيع بلوغ المنطقة الشعورية المنفتحة على ذلك الجوّ الروحي الداخلي، إلا بإعانتك لنا على الاستغراق في معاني العبودية الإنسانية الخالصة الخاضعة للألوهية الخالقة الرحيمة.
ومن خلال ذلك، فإنّنا نسألك أن تغرس في أعماقنا الخوف العميق من العقوبة التي تنتظر العاصين من عبادك في ما توعّدتهم به، حتى نشعر به كأيّة حالة من الحالات التي نواجه بها الحاضر والمستقبل في ما يحمله من عناصر الخوف في الواقع، ليكون خوف ما في الآخرة حالةً شعوريةً متحركةً في الروح تماماً كما هو خوف ما في الدنيا. كما نسألك أن تثير في مشاعرنا الشوق الروحي إلى الثواب الذي وعدت به عبادك المتقين في ما جعلته لهم من ثوابك، ليتحوّل ذلك الإحساس، في حالة الخوف من عقاب الوعيد والشوق إلى ثواب الموعود، إلى إحساس باللذة في الدعاء في ما نطلبه منك من المغفرة والرضوان، وشعورٍ بالكآبة في ما يطوف بأفكارنا مما نستجيرك منه من العقوبة والخسران.
ونتوسّل إليك أن تجعلنا من التوّابين في التوفيق للتوبة وفي قبولها، لنحصل على محبّتك من خلال ذلك في ما أوجبته للتائبين من المحبة، ولنسعد بقبولك منّا العودة إلى طاعتك من جديد في ما تفتحه لنا من طريق السير إليك.. فإنّك أعدل العادلين في كلّ موازين العدل القائم على أن تعطي عبادك كلّ جزاء المحسنين.
* * *
اللّهُمَّ تَجاوَزْ عَنْ آبائِنا وَأُمَّهاتِنا وَأهْلِ دينِنا جَميعاً، مَنْ سَلَفَ مِنْهُمْ وَمَنْ غَبَرَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.
* * *
الجميع بحاجة إلى رضاك
وإذا كنّا - يا ربّ - نطلب إليك أن تتجاوز عنا وتغفر لنا ذنوبنا بفضلك، فإنّنا لا نريد ذلك لنا - وحدنا - ولكننا نتذكّر آباءنا وأمهاتنا الذين أردتنا أن نشكرهم على ما أحسنوا به إلينا، كما أردتنا أن نشكرك على إحسانك العميم وفضلك الجسيم، كما نتذكّر كلّ أهل ديننا الذين نرتبط بهم علاقة الإيمان بك والالتزام بدينك الذي أرسلت به رسولك، من كلّ هؤلاء الذين طواهم الزمن في غياهب الموت، ووفدوا إلى جوارك ليواجهوا حسابهم بين يديك، ولينتظروا مصيرهم في حكم العادل ورحمتك الواسعة.
إنّنا نتذكرهم، ونتذكّر حاجتهم إلى مغفرتك ورضاك بعد أن فقدوا الفرصة في العمل الذي يمكّنهم من تصحيح أوضاعهم في ما اكتسبوه من الذّنوب أو واقعوه من الخطيئة.. فنطلب إليك أن تتجاوز عنهم وتغفر لهم كما تتجاوز عنّا وتغفر لنا.. لنجتمع - غداً - عندك في ظلال الإيمان الذي هو سرّ الوحدة التي تجمعنا في ساحة دينك، ونلتقي في جنّتك في دار النعيم فنسعد برضاك.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد نَبِيِّنا وَآلِهِ كَما صَلَّيْتَ عَلى مَلائِكَتِكَ الْمُقَرَّبينَ، وَصَلِّ عَلَيْهِ وَآلِهِ كَما صَلَّيْتَ عَلى أَنْبِيائِكَ الْمُرْسَلينَ، وَصَلِّ عَلَيْهِ وَآلِهِ كَما صَلَّيْتَ عَلى عِبادِكَ الصّالِحينَ، وَأَفْضَل مِنْ ذلِكَ يا رَبَّ الْعالَمينَ، صَلاةً تَبْلُغُنا بَرَكَتُها، وَيَنالُنا نَفْعُها، وَيُسْتَجابُ لَها دُعاؤُنا، إِنَّكَ أَكْرَمُ مَنْ رُغِبَ إِلَيْهِ، وَأَكْفى مَنْ تُوُكِّلَ عَلَيْهِ، وَأَعْطى مَنْ سُئِلَ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَىْء قَديرٌ.
* * *
الالتزام بخطّ الرسول وآله
ويبقى للصلاة على محمّد وآله الذين حملوا رسالته وساروا على منهاجه وانفتحوا على كلّ أهدافه، معنى الوفاء والالتزام، فيبقى الارتباط بالرسول وآله في خطّ الرسالة، تماماً كما اراد الله لنا أن ننفتح على ملائكته المقربين في ما أوكل الله إليهم من القيام بتنفيذ أوامره الكونية، وبالاستغراق في عبادته، وعلى أنبيائه المرسلين الذين تحرّكوا في مسيرة الرسالة الإلهية بكلّ إخلاص ومعاناة.
وللصلاة بركتها التي تنفتح على حياة الإنسان في ما توحي به من معاني الذكرى للروح الإيمانية والرسالية التي تثيره أسماء كلّ هؤلاء، فتبعث فينا الإحساس بالإخلاص لله ولرسالته كما أخلصوا له.. وتتحرك البركة الروحية ليستجاب بها الدعاء ويعود إلى حياتنا نفعها..
إنّنا نطلب منك ذلك كلّه وأكثر من ذلك، لأنّك أكرم مَن رغب إليه الراغبون، وأعطى من سأله السائلون، وأرحم من استرحمه المسترحمون، ولا يضيق عنك شيء من ذلك كلّه لأنّك على كلّ شيء قدير..والحمد لله ربّ العالمين.
* * *

الهوامش:

(1)    الكافي، ج:4، ص:38، رواية:1.
(2)    نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، خطبة:91، ص:82.
(3)    البحار، ج:97، باب:66، ص:130، رواية:7.
(4)    رياض السالكين، ج:6، ص:164.

* * *



مع الإمام زين العابدين(ع)
في دعاء عيد الفطر والجمعة
يا مَنْ يرحمُ مَن لا يرحمُهُ العبادُ، ويا مَن يقبلُ من لا تقبلُهُ البلادُ، ويا مَن لا يحتقرُ أهلَ الحاجةِ إليه، ويا مَن لا يُخَيِّبُ المُلحينَ عليه، ويا مَن لا يَجْبَهُ بالردّ أهل الدالّة عليه، ويا من يجتبي صغيرَ ما يُتْحَفُ به، ويشكُرُ يسيرَ ما يعملُ له، ويا مَنْ يشَكُرِ على القليلِ، ويجازي بالجليلِ، ويا من يدنو إلى من دنا منه، ويا من يدعو إلى نفسِهِ مَنْ أَدَبَر عنه، ويا من لا يغير النِّعمةَ ولا يبادرُ بالنّقِمَةِ، ويا من يثمرُ الحسنةَ حتى ينمّيها ويتجاوز عن السيّئة حتّى يُعَفيّها.
انْصَرَفَتِ الآمالُ دونَ مَدى كَرَمِكَ بِالْحاجاتِ، وَامْتَلأتْ بِفَيْضِ جُودِكَ أَوْعِيَةُ الطَّلِباتِ، وَتَفَسَّخَتْ دوُنَ بُلُوغِ نَعْتِكَ الصِّفاتُ، فَلَكَ الْعُلُوُّ الأعْلى فَوْقَ كُلِّ عال، وَالْجَلالُ الأمْجَدُ فَوْقَ كُلِّ جَلال، كُلُّ جَليل عِنْدَكَ صَغيرٌ، وَكُلُّ شَرِيف في جَنْبِ شَرَفِكَ حَقيرٌ.
 خابَ الْوافِدُونَ عَلى غَيْرِكَ، وَخَسِرَ الْمُتَعَرّضونَ إِلاّ لَكَ، وَضاعَ الْمُلِمُّونَ إِلاّ بِكَ، وَأَجْدَبَ الْمُنْتَجِعُونَ إِلاّ مَنِ انْتَجَعَ فَضْلَكَ، بابُكَ مَفْتُوحٌ لِلرّاغِبينَ، وَجُودُكَ مُباحٌ لِلسّائِلينَ، وَإِغاثَتُكَ قَريبَةٌ مِنَ الْمُسْتَغيثينَ، لايَخيبُ مِنْكَ الآمِلُونَ، وَلا يَيْأَسُ مِنْ عَطائِكَ الْمُتَعَرِّضونَ، وَلا يَشْقى بِنِقْمَتِكَ الْمُسْتَغْفِرُونَ.
رِزْقُكَ مَبْسوطٌ لِمَنْ عَصاكَ، وَحِلْمُكَ مُعْتَرِضٌ لِمَنْ ناواكَ، عادَتُكَ الإحْسانُ إِلَى الْمُسيئينَ، وَسُنَّتُكَ الإبْقاءُ عَلَى الْمُعْتَدينَ، حَتّى لَقَدْ غَرَّتْهُمْ أَناتُكَ عَنِ الرُّجُوعِ، وَصَدَّهُمْ إِمْهالُكَ عَنِ النُّزُوعِ، وَإِنَّما تَأَنَّيْتَ بِهِمْ لِيَفيئوا إِلى أَمْرِكَ، وَأَمْهَلْتَهُمْ ثِقَةً بِدَوامِ مُلْكِكَ، فَمَنْ كانَ مِنْ أَهْلِ السَّعادَةِ خَتَمْتَ لَهُ بِها، وَمَنْ كانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقاوَةِ خَذَلْتَهُ لَها.
كُلُّهُمْ صائِرُونَ إِلى حُكْمِكَ، وَأُمُورُهُمْ آئِلَةٌ إِلى أمْرِكَ، لَمْ يَهِنْ عَلى طولِ مُدَّتِهِمْ سُلْطانُكَ، وَلَمْ يُدْحَضْ لِتَرْكِ مُعاجَلَتِهِمْ بُرْهانُكَ، حُجَّتُكَ قائِمَةٌ لا تُدْحَضُ، وَسُلْطانُكَ ثابِتٌ لا يَزُولُ.
فَالْوَيْلُ الدّائِمُ لِمَنْ جَنَحَ عَنْكَ، وَالْخَيْبَةُ الخاذِلَةُ لِمَنْ خابَ مِنْكَ، وَالشَّقاءُ الأشْقى لِمَنِ اغْتَرَّ بِكَ، ما أَكْثَرَ تَصَرُّفَهُ في عَذابِكَ، وَما أَطْوَلَ تَرَدُّدَهُ في عِقابِكَ، عَدْلاً مِنْ قَضائِكَ لا تَجُورُ فيهِ، وَإِنْصافاً مِنْ حُكْمِكَ لا تَحيفُ عَلَيْهِ.
فَقَدْ ظاهَرْتَ الْحُجَجَ، وَأَبْلَيْتَ الأعْذارَ، وَقَدْ تَقَدَّمْتَ بِالْوَعيدِ، وَتَلَطَّفْتَ فِي التَّرْغيبِ، وَضَرَبْتَ الأمْثالَ، وَأَطَلْتَ الإمْهالَ، وَأَخَّرْتَ وَأَنْتَ مُسْتَطيعٌ لِلْمُعاجَلَةِ، وَتَأَنَّيْتَ وَأَنْتَ مَلِيءٌ بِالْمُبادَرَةِ، لَمْ تَكُنْ أَناتُكَ عَجْزاً، وَلا إِمْهالُكَ وَهْناً، وَلا إِمْساكُكَ غَفْلَةً، وَلاَ انْتِظارُكَ مُداراةً، بَلْ لِتَكُونَ حُجَّتُكَ أَبْلَغَ، وَكَرَمُكَ أَكْمَلَ، وَإِحْسانُكَ أَوْفى، وَنِعْمَتُكَ أَتَمَّ.
كُلُّ ذلِكَ كانَ وَلَمْ تَزَلْ، وَهُوَ كائِنٌ وَلا تَزالُ، حُجَّتُكَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ تُوصَفَ بِكُلِّها، وَمَجْدُكَ أَرْفَعُ مِنْ أَنْ يُحَدَّ بِكُنْهِهِ، وَنِعْمَتُكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصى بِأَسْرِها، وَإِحْسانُكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُشْكَرَ عَلى أَقَلِّهِ.
وَقَدْ قَصَّرَ بِىَ السُّكُوتُ عَنْ تَحْميدِكَ، وَفَهَّهَنِي الإمْساكُ عَنْ تَمْجيدِكَ، وَقُصارايَ الإقْرارُ بِالْحُسُورِ، لا رَغْبَةً - يا إِلهي - بَلْ عَجْزاً، فَها أَنَا ذا أَؤُمُّكَ بِالْوِفادَةِ، وَأَسْأَلُكَ حُسْنَ الرِّفادَةِ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاسْمَعْ نَجْواىَ، وَاسْتَجِبْ دُعائي، وَلا تَخْتِمْ يَوْمي بِخَيْبَتي، وَلا تَجْبَهْني بِالرَّدِّ في مَسْأَلَتي، وَأَكْرِمْ مِنْ عِنْدِكَ مُنْصَرَفي، وَإِلَيْكَ مُنْقَلَبي، إِنَّكَ غَيْرُ ضائِق بِما تُريدُ، وَلا عاجِز عَمّا تُسْأَلُ، وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَىْء قَديرٌ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللّهِ الْعَلِىِّ الْعَظيمِ.
* * *
كلّ يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد
أن يكون الفطر الذي يعقب شهر رمضان عيداً للفرح، معناه أنّ الإسلام يريد للعيد أن يختزن في مضمونه الداخلي بعداً روحياً في الانفتاح على الله في موقع الطاعة لأوامره ونواهيه، وفي الإيحاء للذات بحركة الفرح في انفتاحها على المسؤولية الشرعية، ليجد الإنسان المسلم نفسه في حالة روحية مزدوجة الفرح من خلال معنى العبودية في موقع الإنسان الذي يسمو بأنّه عبدالله الذي يعيش  حرية إرداته أمام شهواته المنحرفة التي تقوده إلى السقوط الروحي، وأمام الآخرين الذين يريدون منه أن يقع فريسة أهوائهم وأطماعهم الشيطانية التي تؤدّي به إلى الوقوع تحت تأثير عبوديته لهم، المنطلقة من حاجته إليهم.. وهكذا تكون العبودية له حركة في معنى الحرية أمام الناس، وأمام الشيطان الذي يدعوه ليكون من أصحاب السعير.. ثم هناك الإحساس بسرّ الألوهية التي هي سرّ العمق في شعوره بوجوده وفي حركته في تفاصيل هذا الوجود، عندما يتحوّل إلى إحساس بالشفقة والأمان والغنى الروحي، وإلى انفتاح على الآفاق الواسعة من الأمل الكبير بكلّ معنى السعادة في الدنيا والآخرة، لأنّ الله هو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وإلى طاقة روحية هائلة توحي بالشجاعة القوية أمام كلّ تهاويل المستقبل من خلال معنى التوكّل على الله في إيحاءاته الشعورية أو الفكرية، بأنّ الله يتكفل برعاية الإنسان في كلّ ما يتجاوز قدرته من تطورات الحياة الخفية التي لا يملك الإنسان أن يرصدها في ما ينتظره من الزمن القادم مما قد يسقطه في مهوى الحيرة لولا اللجوء إلى الله الذي يملك الأمر كلّه.
وفي هذا الجوّ، تأتي النتائج الإيجابية لحركة المسؤولية في الفكر والشعور والعمل من خلال صيام شهر رمضان وما فيه من أعمال روحية تتصل بالعبادة الصلاتية والدعائية والذكرية، ومن أعمال خيرية في ما استحبّه الله من التصدّق وقضاء حوائج الناس وغير ذلك.
وكان معنى هذه النتائج الحصول على القرب من الله من خلال قبوله الطاعة.. مما يعني أنّ الإنسان قد اجتاز الامتحان الإلهي في ما حمّله الله من المسؤولية في ذلك كلّه.
وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ أمير المؤمنين(ع)، في ما روي عنه: "إنما هو عيد لمن قبِل الله صيامه وقيامه"، ثم يطلق الفكرة العامة في المضمون الإسلامي لمعنى العيد في امتداداته في الزمن، فلا يختصّ بزمان دون زمان.. "وكلّ يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد".
وبذلك يمكن تجاوز المعنى الرسمي للعيد في اليوم المعين المخصص له إلى المعنى الإسلامي الشامل لكلّ حركة الطاعة الإيجابية في مسؤولية الإنسان أمام ربّه، ليكون الامتناع عن معصية الله في كلّ يوم مناسبة لاجتذاب الحالة الشعورية في عمق الذات في الفرح الروحي الذي يغمرها، لأنّها حصلت على محبّة الله في هذا اليوم أو ذاك، فيلتقي عيد الطاعة في واجبات اليوم، بعيد الطاعة في واجبات الشهر في شهر رمضان، لينطلقا من منطلق واحد، وهو عيد القرب من الله من خلال طاعته.
* * *
العيد ليس استغراقاً في الأحاسيس المادية التي تُنسي الإنسان ربّه
وقد نستوحي من ذلك كلّه أن الإسلام يريد للإنسان في عيد الفطر أن لا يستسلم للّهو وللعبث واللّعب في أجواء احتفاله بالعيد، ليفقد في هذا اليوم ما حصل عليه في الشهر كلّه، بل يريد له أن يستقبل عيده بالمزيد من الاهتمام بالنتائج الروحية، والأرباح الأخروية، في آفاق رضوان الله وثوابه الذي ينتظره في هذا اليوم، كما ينتظر الأطفال (عيديّتهم) في يوم العيد.
وقد نجد هذا المعنى في الحديث المروي عن بعض أئمة أهل البيت(ع) وذلك في ما رُوِيَ عن الإمام الحسن بن عليّ(ع) أنّه مرّ بقوم يلعبون في عيد الفطر فقال:
"إنّ الله عزّ وجلّ جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى رضوانه، فسبق فيه قوم ففازوا، وتخلّف آخرون فخابوا، فالعجب كلّ العجب من الضاحب اللاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون ويخيب فيه المقصِّرون"(1).
وليس معنى ذلك أن يمتنع الإنسان في العيد من ممارسة بعض وسائل الفرح الذي يرتاح فيه الجسد، وينتعش فيه القلب، وينفتح فيه الإحساس على إيحاءات البهجة والسرور في ما اعتاده الإنسان في تعبيره عن الفرح مما أحلّه الله من ذلك لعباده في حاجاتهم الجسدية إلى المتعة واللذة واللّعب والانطلاق مع حركة المشاعر المتنوعة في الأجواء الإنسانية الداخلية، بل إنّ معناه، أن لا يكون العيد، في ما يأخذه الإنسان من ذلك، استغراقاً في الأحاسيس المادية الغريزية التي ينسى معها ربّه، ويبتعد فيها عن خطّ المسؤولية، ليذهب في العيد، كلّ ما حصل عليه من نتائج السموّ الروحي في القرب من الله.
ولعلّ هذا هو الأساس في تشريع صلاة العيد التي أُريد للناس أن يلتقوا فيها جميعاً على الاجتماع في مشاعر الفرح الروحي بين يدي الله، لتتأكد أخوّتهم في داخل هذا الجوّ الروحاني الذي يشعرون فيه بانعدام الحواجز بينهم في موقفهم أمام الله على أساس الصفة الجامعة، وهي أنّهم عباد الله الذين قاموا بامتثال أوامره في هذا الشهر المبارك، ليكون ذلك مقدمة للثبات على هذا النهج في ما يستقبلونه من واجبات في امتداد الزمن القادم، ثم يستمعون إلى حديث الإيمان الذي ينفتح على كلّ قضاياهم الإسلامية في حركة الحياة وعلاقاتهم الإنسانية في حركة المسؤولية، ولينفتحوا على الله في آفاق الدعاء المنطلق في أجواء الله، في رحاب عظمته، وفي مواقع نعمته، ليزدادوا بذلك معرفةً منه وقرباً له.
وهذا هو ما عاشه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع)، فقد قام عندما انصرف من صلاته في يوم الفطر، وفي يوم الجمعة الذي يحمل بعض معاني العيد كما تحمل صلاته معنى العبادة الجماعية العامة، فقال:
يا مَنْ يرحمُ مَن لا يرحمُهُ العبادُ، ويا مَن يقبلُ من لا تقبلُهُ البلادُ، ويا مَن لا يحتقرُ أهلَ الحاجةِ إليه، ويا مَن لا يُخَيِّبُ المُلحينَ عليه، ويا مَن لا يَجْبَهُ بالردّ أهل الدالّة عليه، ويا من يجتبي صغيرَ ما يُتْحَفُ به، ويشكُرُ يسيرَ ما يعملُ له، ويا مَنْ يشَكُرِ على القليلِ، ويجازي بالجليلِ، ويا من يدنو إلى من دنا منه، ويا من يدعو إلى نفسِهِ مَنْ أَدَبَر عنه، ويا من لا يغير النِّعمةَ ولا يبادرُ بالنّقِمَةِ، ويا من يثمرُ الحسنةَ حتى ينمّيها ويتجاوز عن السيّئة حتّى يُعَفيّها.
* * *
يا من يرحم مَن لا يرحمه العباد
- يا ربّ - كيف لي أن أسمو وأرتفع إليك في كلّ تصوراتي الإنساني في آفاق المعرفة المنفتحة عليك في آفاق عظمتك، ومواقع نعمك، وهل يملك الإنسان المحدود أن يتصوّر ربّه الذي لا تخضع صفاته لأيّ حدّ لأنّها تسمو في آفاق المطلق.. ولكنّي - يا ربّ - أتصور كلّ ما حولي من الناس من عبادك الذين قد يحملون بعض صفات الكمال في علاقاتهم ببعضهم البعض، وأتصور نفسي في حاجاتها وأعمالها ومواقعها في ما أتطلع إليه من قضايا وفي ما أرغب فيه من نتائج أو أعيشه من اهتمامات..
ثم أدخل في المقارنة، لو تطلعت إلى الناس في أوضاعي كلّها وفي كلّ المتغيرات والتعقيدات والملابسات، فما هي النتائج، وكيف تكون الأمور؟
وإذا تطلعت إليك، ورغبت في ما عندك، وأوكلت أمري إلى إرادتك في مجالات عطائك، في كلّ ما يصيبني من آلام الحياة ومشاكلها، فكيف أكون.. وكيف تكون النتائج؟
فإذا بي أجد حسابات المخلوقين معي خاضعة لأهوائهم ولتعقيداتهم ولحساباتهم الدقيقة المحدودة الخاضعة لمصالحهم بعيداً عما هو معنى العطاء بلا حساب، وأجدك - يا ربّ - في لطفك ورحمتك وعطفك، تتسع رحمتك لعبادك وينطلق لطفك في أرضك وسمائك، ويعيش الكون كلّه في سحائب عطفك وحنانك، فأنت ترزق من تشاء بغير حساب وترزق الناس من حيث لا يحتسبون، وتحرسهم من حيث لا يحترسون، وتوفّي الصابرين أجرهم بغير حساب.. فأنا معك في العطاء المتنوّع في كلّ شيء من دون حدود، فكيف أتركك في مواقع رضاك، وأتبع عبادك الذين تتعقد كلّ حساباتهم في مجالات عجزهم وضيقهم، في ما يريدونه مني من الابتعاد عنك..
ولذلك جئت إليك أناجيك من كلّ عقلي وقلبي وشعوري، لأجدك في ألوهيتك المنفتحة بالعطاء المطلق على كلّ عبادك، ولأوحي لنفسي بكلّ ما تعرفت عليه من صفاتك التي عشت في حياتي كلّ معانيها، فكانت المعرفة في مجالاتها وجداناً يهزّ كياني، لا فكراً يختبئ في زوايا عقلي، فأنا إنسان كبقية الناس الذين يتخبطون في مشاكلهم ويسيئون في تصرفاتهم، ويبتعدون عن التوازن في أقوالهم وأفعالهم، وقد يعيشون الخطيئة مع الناس في علاقاتهم معهم، كما يعيشون الخطيئة مع ربّهم.. وقد تضعهم كلّ هذه الأوضاع السلبية في الموقف الصعب الذي لايستحقون معه الرحمة، فيرفضهم الناس لأنّهم ينظرون إليهم نظرة سلبية، كما لو كانوا من المخلوقات التي لا تستحقّ الاحترام، وليست جديرة بأيّ شيء إيجابي في دائرة الشعور الطيّب والتقدير المتوازن.
وهكذا، لا أجد للرحمة أيّ باب في مشاعرهم تجاهي، فأحس بالغربة الموحشة القاتلة تأكل وجداني وتفترس روحي، وتقضي على الطمأنينة في كياني.. فألجأ إليك - وحدك - وأنا هارب من الناس حول، لأنّني أجد في رحمتك معنى لا يرتفع المخلوقون إليه، فيما هو السموّ الذي لا تبلغه آفاقهم.. فإذا كانوا يتحركون في مضمون الرحمة من منطلق التعويض العاطفي أو النفعي أو المعنوي، فلا يقدمونها مجاناً لمن لا يحصلون منه على شيء من هذا القبيل، فإنّ رحمتك وسعت كلّ شيء، فقد أعطيتني وجودي الذي لا أستحقّه في ذاتي، ومنحتني بركته في كلّ مواقعه وآفاقه، فأنت الذي غذيتني وربيتني وأعطيتني وفتحت لي كلّ أبواب الحياة في ما فتحته لي من أبواب نعمتك.. وأنا الذي عصيتك وتمرّدت عليك وانتهكتُ حرمتك وابتعدت عن مواقع محبّتك ومواقف رضاك، فلم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك، ولكن رحمتُك التي هي سرّ اللطف في ذاتك كانت أهلاً لأن تبلغني لأنّها سبقت غضبك..
يا مَن لا يَحتَقِرُ أهل الحاجة إليه
وهكذا جئت إليك لترحمني، يا مَن يرحم مَن لا يرحمه العباد، وأقبلت عليك لتقبلني، يا مَن يقبل من لا تقبله البلاد، وإذا كان الناس يحتقرون أهل الحاجة إليهم فيستخفّون بهم ويهملونهم ويهينونهم، لأنّ الحاجة مظهر الذلّ والضِّعة والانحطاط في نظر الأغنياء القادرين الذين تتعلق حاجات الناس بأموالهم، انطلاقاً من النظرة الاستعلائية الاستكبارية التي ترى في الفقر قيمة سلبية منحطّة، كما ترى في الغنى قيمة إيجابية رفيعة، مما يجعل الغنيّ محترماً والفقير محتقراً، ولكنّك - يا ربّ - لا تحتقر خلقك الذين يحتاجون إليك، وكلّهم فقير إليك محتاج لكلّ عطاياك، وقد نهيت عبادك عن انتهار السائل في قولك: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى:10]، وعن الأذى في الصدقة بالمنّ على الفقير الذي يكون محلاً للصدقة.. وأردت لعبادك أن يسألوك ويلجأوا إليك في حوائجهم، وأعلنت لهم أنّك تحب المنفتحين عليك في دعواتهم من موقع الفقر والحاجة إليك، لأنّ ذلك يمثل المظهر الحيّ لعمق الإيمان وسرّ المحبّة لك، مما يجعل أكثرهم دعاةً لأنّه أكثر حاجة، قريباً إليك محبوباً لديك.. يا مَن لا يحتقر أهل الحاجة إليه.
يا مَن لا يخيّب الملحّين عليه
ولا يخيّب الملحين عليه، لأنّ الإلحاح في طلباتهم يفتح أبواب الدعاء الخاشع المتضرّع في مواقع الإخلاص في مناجاتهم، مما يجعل للمسألة بُعداً جديداً في رحاب القرب ليكون لهم أفضل الفرص في الاستجابة لهم بتحقيق ما يريدون، لأنّ الآخرين يبخلون على السائلين الملحاحين خوفاً من نفاد خزائنهم، أما أنت – يا ربّ - فإنّ خزائنك لا تنفد وعطاءك لا ينتهي، فلا يزيدك العطاء إلا كرماً وجوداً.
"ويا من لا يجبه بالردّ أهل الدالة عليه"، من هؤلاء الذين لا يكفّون عن الطلب فينبسطون انبساط الواثق بمنزلته من دون خوف ولا وجل، ويتحركون بجرأة الشخص الذي يوحي بأنّ له حقّاً في الكثير مما يريد، فلا يقنع بالقليل ولا يجمل في الطلب، تماماً كما هو دلال المرأة على زوجها في ما تهجم به من مطالبتها له بما تريد، بأسلوب قد يوحي بالجرأة التي قد لا تراعي التوازن في الموقف.
وهكذا نجد أنّ الناس يواجهون أمثال هؤلاء الذين يدلّون عليهم بما يرونه لأنفسهم من موقع لديهم في ما يطلبونه من أمور، بالمنع والرّد والمقابلة بالسوء.. بينما نجدك - يا ربّ - في مواقع كرمك تفتح لهم أبواب عطائك، وتغفر لهم جرأتهم، وتستقبلهم بكلّ محبّة ورحمة.. وقد توحي إليهم - بذلك - أنّك تشجع على الشعور بأنّ للعباد دالة على ربهم في ما يثقون به من فضله، أو في ما يعتقدونه من محبته لعباده الصالحين المنفتحين على عبادته والمقبلين بالدعاء الخاشع له في ما يحتاجونه منه، لأنّ يحبّ الذين يشعرون بأنّه - هو - مرجع كلّ شيء في الأمور.
"ويا من يجتبي صغيرَ ما يتحف به" فيختار المقادير الصغيرة من الأعمال التي قدمها عباده إليه زلفاً وكرامة، ليتقربوا إليه في ذلك حسب قدرتهم، فيتقبّل ذلك منهم، لأنّ المسألة - عنده - هي في المدلول الروحي لما يقدمونه من جهدهم في تعبيره عن الإخلاص له، لا في طبيعة المقدار من حيث الكثيرة والقلة، لأنّ العبرة في عبادة الله بالنوع لا بالكمّ..
وهكذا يتأكد المعنى في صورة أخرى:
"ويشكر يسيرَ ما يعمل له"، فأنت يا ربّ تشكر عبادك على أعمالهم الصالحة التي يتقربون بها إليك، فتبادلهم بها شكراً في المضمون العملي لذلك في مجازاتهم بجزيل الثواب وجميل الثناء.. وذلك هو معنى شكرك لهم فيما هو نتيجة الشكر في مظهر لطفك الإلهي بهم، فليست القضية هي حجم العمل بل هو المبدأ في ما يوحي به من الإيمان والإخلاص، لتشجع عبادك على الامتداد في طاعتك طلباً لرضاك.
"ويا مَن يشكر على القليل ويجازي بالجليل"، فيعطي الثواب المضاعف الكبير على العمل القليل، تشجيعاً لعباده على الاستمرار فيه طلباً للازدياد.. وقد جاء عن الغزالي - في كتاب المقصد الأسنى -: "الشكور هو الذي يجازي بيسير الطاعات كثير الدرجات، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعماً غير محدودة، ومن جازى الحسنة بأضعافها يُقال: إنه شكر تلك الحسنة، ومن أثنى على المحسن أيضاً يقال أيضاً إنّه شكره وزياداته - تعالى - في المجازاة غير محصورة ولا محدودة، فإنّ نعيم الجنة لا نفاد له ولا منتهى، والله تعالى يقول: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]، وثناؤه على عباده بما وفقهم له من العمل الصالح مشهور في كتابه المجيد ومسطور كقوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35]، وكقوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التوبة:112] إلى آخرها.
قال بعض أهل العرفان: إياك أن تحقّر من الأعمال الصالحة شيئاً أبداً صغيراً كان أو كبيراً، إذ لا هاجس يهجس لك في الطاعة إلا شكرك الله تعالى عليه، وكفى دليلاً على ذلك قوله تعالى: {فمَن يعمَل مثقال ذرةٍ خيراً يره} [الزلزلة:7].
"ويا مَن يدنو إلى من دنا منه"(2) فإذا اقترب عبادك من مواقع طاعتك في خطّ رضاك فذكروك بعظمتك في آفاق خلقك، وانقادوا إليك في أوامرك ونواهيك بالدرجة التي اقتربت فيه أفكارهم من أجواء معرفتك، وأعمالهم من ساحات عفوك.. فإنّك تقترب منهم برحمتك ورضوانك في ما تسبغه عليهم من نعمك، وتبسطه عليهم من كرمك.. وبهذا يكون القرب منك لعبادك قرباً معنوياً بالفضل، والقرب من العباد إليك قرباً بالطاعة.
"ويا مَن يدعو إلى نفسه من أدبر عنه"، فأنت لا تترك عبادك الغافلين في غفلتهم، ولا تهمل المعرضين عنك والمدبرين عن ندائك، بل تدعوهم إلى العودة إليك، والإقبال على طاعتك،والتوبة عن معصيتك، وترغّبهم بعفوك ومغفرتك، وبمواقع النعيم في جنتك، لأنّك تريد لهم أن يأخذوا بأسباب النجاة في يأخذون به من أسباب الإنابة إليك والرغبة في ما عندك، فلا تتركهم لحبائل الشيطان الذي يضلّهم عن عبادتك ويدفعهم إلى الإعراض عنك، لا لحاجة بك إليهم، فأنت الغنيّ عن وجودهم، فكيف تكون محتاجاً لعبادتهم، ولكن لرحمة بهم في ما ترحم به عبادك من الانفتاح على خير الدنيا والآخرة من خلال أعمال الخير المرتبطة برضاك.
"ويا مَن لا يغيّر النعمة" عقاباً على ما يقوم به عبادك من المعاصي، ما دامت أفكارهم منفتحة عليك، وقلوبهم نابضة بالإيمان بك، لأنّ المعصية لا تكون حالة في عمق الذات، بل تكون شيئاً طارئاً في نزوات الجسد وانحرافات الواقع، وبذلك تبقى النعمة في امتدادها في حياتهم إشارة دائة إلى أنّك يا ربّ الرحيم الذي لا يؤاخذ عباده بأعمالهم السيئة بإزالة مواقع النعم عندهم، ولكنّه يغيرها عندما يختارون ذلك بتغيير أفكارهم ومشاعرهم في الانحراف كلياً عن الخطّ المستقيم في الإيمان وفي الإخلاص وفي الأجواء المنفتحة على الخير، باستبدالها بالأجواء المنفتحة على الشرّ، فيكونون هم السبب في ذلك بسوء اختيارهم، لأنّ المسألة حينئذٍ تتصل بطبيعة السنّة الإلهية الكونية في ارتباط المسببات بأسبابها، وهذا و قولك في كتابك العزيز في سورة الرعد: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، وقولك - سبحانك - في سورة الأنفال: {بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53].
فإنّهما توحيان بأنّ التغيير الإلهي في النتائج في إقبال النعم وإدبارها ناشئ من التغيير الإنساني في المقدمات التي ترتبط بها الأمور في تقدير الله للنظام الكوني وعلاقة الإنسان به، وليس مجرد حالة انتقام إلهي فيما هي الصفة الذاتية من الانتقام من عباده العاصين، فإنّ رحمته تسبق غضبه.
"ولا يبادر بالنقمة" بل يمهل عباده ويتركهم مدة من الزمن، ويملي لهم ليفسح لهم المجال بالعودة إليه وبالتوبة عن المعاصي.. وربما يؤخرهم إلى الآخرة فلا ينتقم منهم في الدنيا على أساس محاربتهم له وتمرّدهم عليه، لأنّه يريد لهم أن يأخذوا بأسباب رحمته، فإذا استمروا في العناد، لم يبق لديهم فرصة للتراجع بعدما استنفدوا كلّ ما جعله الله لهم من الفرص المتاحة لهم حيث أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
"ويا من يثمر الحسنة حتى ينميها، ويتجاوز عن السيئة حتى يعفّيها".. وذلك من خلال كرمك المنطلق من آفاق رحمتك، فإنّك تضاعف الحسنة، فتوحي إلى عبادك بذلك في قوله: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160].. وفي قولك: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة:245]، وفي قولك: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} [البقرة:261]، وفي الحديث: "إنّ الصدقة "تقع في يد الرحمن"(3) وإنّ الله يربيّها لصاحبها كما يربّي أحدكم فلوه أو فصيله"(4).
وهكذا تنمو الحسنة بتنميتك لها في ساحات رحمتك وكرمك، أما السيئة فإنّك تتجاوزها فتغفرها بإرادة العفو عندك، وإرادة التوبة لدينا، حتى لا يبقى منها أثر في ما تتركه السيئات من آثار سلبية على قضية المصير في الدنيا والآخرة، لأنّك الربّ الكريم الذي لا يتعاظمه غفران الذنب العظيم.
* * *
انْصَرَفَتِ الآمالُ دونَ مَدى كَرَمِكَ بِالْحاجاتِ، وَامْتَلأتْ بِفَيْضِ جُودِكَ أَوْعِيَةُ الطَّلِباتِ، وَتَفَسَّخَتْ دوُنَ بُلُوغِ نَعْتِكَ الصِّفاتُ، فَلَكَ الْعُلُوُّ الأعْلى فَوْقَ كُلِّ عال، وَالْجَلالُ الأمْجَدُ فَوْقَ كُلِّ جَلال، كُلُّ جَليل عِنْدَكَ صَغيرٌ، وَكُلُّ شَرِيف في جَنْبِ شَرَفِكَ حَقيرٌ.
* * *
اللهم أنت الكريم الذي لا حدود لكرمه
أنا هنا - يا ربّ - في الطيق إليك، وأحلامي كلّها بين يديك تتنوع في حاجاتها وطلباتها وتتوسل إليك بكلّ وسائلها وأساليبها، لتبلغ ساحة كرمك ولتصل إلى غاياتها من خلال ذلك عندما تبلغ نهايات مداه.. ولكنّي وجدتها ترجع من عندك في منتصف الطريق لتعود إلى ذاتها حاملة كلّ الخير الذي تتطلبه، فقد التقت بك في الطريق، ورأت في كرمك كلّ أشواقها وتطلعاتها، لأنّك لا تريد لعبادك السائرين إليك أن يعيشوا الجهد الكبير في رحلتهم الإلهية، لأنّهم لا يستطيعون بلوغ النهايات الأخيرة لكرمك، لأنّه لا نهاية له، وهكذا انصرفت الآمال عن إكمال الرّحلة دون أن تبلغ مدى كرمك، لكنّها التقت بما تريد منه، وامتلأت بفيض وجودك كلّ الأوعية التي قدمتها الطلبات، فلم تبقَ هناك حاجة لمحتاج ولا زيادة لمستزيد.
اللهم أنتَ العليُّ الأسمى فوق كلّ عال
وتحدثنا عنك - يا ربّ - لنبلغ مدى عظمتك في كلّ ما نملكه في قواميس اللغات من الصفات العظيمة التي تعبّر عن كلّ وعي الإنسان لمواقع العظمة وآفاق السموّ، ممّا يستخدمه في التعبير عن شعوره أمام عظمة العظماء، وتحركت الصفات إليك في خطّ المعرفة، فلم تلبث أن اهتزّت اهتزاز الحيرة عندما حدّقت في عليائك، فلم تجد إلا بعض ملامح صفاتك في بعض مواقع خلقك.. أما أنت في عظمتك فيما هي العظمة الحقيقية في المدى الرحب الذي لا يقف عند حدّ، أما سرّ عظمتك في العمق العميق للأسرار الخفية التي لا تبلغها العقول.. فكيف تستطيع الصفات المحدودة أن تحدّد معناك، ولا حدود لأيّ معنى من معانيك أو أيّة صفة من صفاتك.. لذلك كان الاهتزاز يضرب الصفات التي نملكها في كلماتنا بالعمق، فتتفسخ وتتضاءل وتكاد تذوب خجلاً وحيرة من مواقع العظمة في سموّ الألوهية المطلقة، "فلك العلوّ الأعلى فوق كلّ عال"، لأنّ لكلّ عال حدوده التي يقف عندها علوّه في ما يمكن أن يبلغه من ذلك، ولكنك - يا ربّ - الأعلى فوق كلّ عال فلا يبلغ أحد درجة علوّك ولا معناه.
"والجلال(5) الأمجد فوق كلّ جلال"، لأنّ جلالك يستوعب في مضمونه كلّ معاني الجلال مما لا يمكن أن يبلغه أحد من مخلوقاتك، أو يفهم سرّه، وكيف يفهم المخلوق موقع العظمة في قدر خالقه، ممّا لا يمكن أن تقف عنده الحدود أو تبلغ مستواه العقول التي لا نملك أيّة وسيلة من وسائل المعرفة لديها للوصول إلى ذلك.
وإذا نظرنا إلى الذين يوصفون من خلقك بالجلال، فسنجد أن "كل جليل عندك صغير"، لأنّه مخلوق لك في وجوده، محتاج إليك في ذاته، فكيف يأخذ حجمه الكبير في القيمة بين يديك.. وإذا نظرنا إلى الأشراف الذين يتميزون بصفة الشرف في المعاني التي تؤهّلهم للاحترام والعظمة في ما يتّصفون به من صفات جليلة أمام الناس الآخرين، فسنلاحظ، عندما نتطلع إليك في الشرف الملطق في كلّ معاني العظمة والسموّ الإلهي حيث نراك وأنت تملك الكون كلّه والأمر كلّه من موقع أنّك خلقك الوجود كلّه، ونتطلع - بعد ذلك - إلى كلّ هؤلاء المخلوقين الذين قد ترتفع درجاتهم عن الأرض في دائرة موازينهم البشرية في ما يملكونه من قيم السموّ البشري، حيث نجدهم لا يملكون شيئاً حتى في ما يملكونه من صفات وأوضاع، لأنّه في عمقه وطبيعته هبة منك، خلقته بإرادتك، وأنت القادر على إزالته بقوتك..
وفي أجواء هذه المقارنة سنلاحظ أنّ "كلّ شريف في جنب شرفك حقير"، لأنّه لا يساوي شيئاً في حساب الشرف أمامك، بل قد يكون كلّ شرفه أنّه عبد لك في كلّ مواقع الإخلاص الذي ينطلق العبد به أمام مولاه.
وهكذا تتوازن النظرة عندنا عندما نقف في ساحة المقارنة بين الخالق والمخلوق، فلا ننظر إلى المخلوق بأيّة نظرة تأليهيّة في ما قد تتمثل به مظاهر قوتهم وعظمتهم بالمستوى الذي نغفل فيه عن الطبيعة الإنسانية الخاضعة للحاجة المطلقة للخالق، بحيث نجد في ملامح عظمتهم وعناصر قوتهم، ملامح عظمة الله وقوته الذي صنع ذلك كلّه، مما يوحي إلينا بأنهم لا يعيشون أي استقلال ذاتي في كلّ وجودهم، ولا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً بالله، فكيف يكونون في مستوى الإله.
* * *
خابَ الْوافِدُونَ عَلى غَيْرِكَ، وَخَسِرَ الْمُتَعَرّضونَ إِلاّ لَكَ، وَضاعَ الْمُلِمُّونَ إِلاّ بِكَ، وَأَجْدَبَ الْمُنْتَجِعُونَ إِلاّ مَنِ انْتَجَعَ فَضْلَكَ، بابُكَ مَفْتُوحٌ لِلرّاغِبينَ، وَجُودُكَ مُباحٌ لِلسّائِلينَ، وَإِغاثَتُكَ قَريبَةٌ مِنَ الْمُسْتَغيثينَ، لايَخيبُ مِنْكَ الاْمِلُونَ، وَلا يَيْأَسُ مِنْ عَطائِكَ الْمُتَعَرِّضونَ، وَلا يَشْقى بِنِقْمَتِكَ الْمُسْتَغْفِرُونَ.
* * *
خاب الوافدون على غيرك
يا ربّ، إنّي أتطلع لنفسي وللناس من حولي في الحالات التي قد نعيش فيها الحاجة إلى بعض الأمور في ما يتصل بحياتنا في كلّ حاجاتها المادية والمعنوية، فيدعونا ذلك إلى الوفود على غيرك ممن يملكون المال والجاه والسلطة، وقد نتعرّض لبعض خلقك في ذلك للحصول على معروفه فنلمّ به إلمام الذليل الفقير بالعزيز الغنّي، لنحصل على موقع في نفسه أو على شيء من غناه، وقد نتطلّب الفضل، فسعى للحصول في الآفاق، كما يتطلّب الناس الكلأ والعشب في الأرض الواسعة التي تغطيها خضرة الربيع.. وهكذا نجد أنفسنا مشدودين إلى الناس من حولنا في ما نحتاجه من أمورنا كلّها.. ولكنّي ألتفت إلى حقيقة الوجود عندما أتطلع إليك في ما تفيض به على عبادك من نعمك.. فأرى أنّك وحدك الذي فتح بابه للراغبين في عطاه من دون استثناء، وأنك وحدك الذي يبيح كرمه للسائلين من دون تعقيد، وأنّك وحدك الذي ترعى المستغيثين بكلّ لتكون إغاثتك لهم قريبة منهم ومن كلّ مواقع الألم الذي يصرخ في كياناتهم، من دون تأخير، فلا يخيب أمل آمل منك مهما كانت آماله كبيرة، ولا ييأس المتعرضون من عطائك مهما كانت مطالبهم جليلة، ولا يشقى المستغفرون بنقمتك التي يستحقونها بذنوبهم مهما كانت ذنوبهم خطيرة، لأنّك تتلقى خلقك المنفتحين عليك بعطاء الرزق كلّه والمغفرة كلّها..
أما الوافدون على غيرك فلم يظفروا بما طلبوا، فعادوا يجرون أذيال الخيبة،لأنّهم إذا حصلوا على بعض ما يطلبون فإنّهم لم يحصلوا على البعض الآخر، وأما المتعرضونك لعبادك في ما يقدمونه من حاجات وفي ما يتطلعون إليه من عطاء، فقد خسروا في مساعيهم وجهودهم التي بذلوها في هذا السبيل، فلم يحصلوا منها على شيء.. وأما الملمّون بأصحاب الجاه والثروة من خلقك فقد ضاعوا أمام الوعود الكاذبة والأحلام الخادعة..
وأما المنتجعون لفضل الآخرين في ما يتطلبونه من عشب الرزق وكلأ الجاه، فقد عاشوا الجدب في كلّ ساحاتهم، فلم يجدوا فيها أيّ شيء يوحي بخصرة الأمل الكبير.. وهكذا ابتعد كلّ هؤلاء عن حاجاتهم في ما يريدونه ويتطلبونه، لأنّ الذين قصدوهم لا يملكون الغنى الذاتي في أوضاعهم المادية والمعنوية، ولا يعيشون الانفتاح الروحي بالعطاء في حاجات الناس من حولهم، فقد يتحركون في ذلك كلّه على أساس العقيدة الذاتية، أو العقلية الضيقة، أو الخوف من نفاد ما عندهم من مال، أو ضعف ما عندهم من جاه، أو نحو ذلك، مما يجعلهم بعيدين عن آمال الناس الذين يفدون عليهم ويتعرضون لمعروفهم ويلمون بهم وينتجعون فضلهم.
فإذا كانت المسألة بهذا القدر الكبير من الوضوح فيما هي التجربة وفيما هي المعرفة، فكيف أبقى بعيداً عنك وأنت القريب إلى كلّ خلقك في  كلّ وجودهم وحاجاتهم، وكيف أكون قريباً من خلقك المحتاجين إليك، وهم البعيدون عن كلّ قوة في أيّ جانب من جوانب الحياة غلا ما تمنحهم من ذلك من عطائك، فلماذا ألجأ إليهم ولا ألجأ إليك.
* * *
رِزْقُكَ مَبْسوطٌ لِمَنْ عَصاكَ، وَحِلْمُكَ مُعْتَرِضٌ لِمَنْ ناواكَ، عادَتُكَ الإحْسانُ إِلَى الْمُسيئينَ، وَسُنَّتُكَ الإبْقاءُ عَلَى الْمُعْتَدينَ، حَتّى لَقَدْ غَرَّتْهُمْ أَناتُكَ عَنِ الرُّجُوعِ، وَصَدَّهُمْ إِمْهالُكَ عَنِ النُّزُوعِ، وَإِنَّما تَأَنَّيْتَ بِهِمْ لِيَفيئوا إِلى أَمْرِكَ، وَأَمْهَلْتَهُمْ ثِقَةً بِدَوامِ مُلْكِكَ، فَمَنْ كانَ مِنْ أَهْلِ السَّعادَةِ خَتَمْتَ لَهُ بِها، وَمَنْ كانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقاوَةِ خَذَلْتَهُ لَها.
* * *
عادتُك الإحسان إلى المسيئين
كلما تصوّرتك - يا ربّ - في آفاق عظمتك التي لا تحدّ، وفي رحاب رحمتك التي لا ينتهي مداها، وفي مواقع لطفك في امتداد كرمك الذي لا يضيق عن كلّ شيء وعن كلّ أحد، كلّما تصورتك في ذلك كلّه في ما يتصوره عقلي مما يمكن أن يبلغه في إدراكه، تصورت الحياة بين يديك في أرحب آفاقها، وفي أوسع مجالاتها، وفي أصفى مشاعرها، فأحسّ بالأمن من كلّ مواقع الخوف، وبالطمأنينة في كلّ مواطن الحيرة، وبالثبات في كلّ مجالات الاهتزاز.
وإذا التقيت بالمعاصي في حياتي العابثة اللاهية بفعل وساوس الشيطان وأحابيله، وخيّل بأنّي سأعيش الحرمان من فضلك وعطفك من خلال استحقاقي للطرد من رحمتك، فإنّي أتصوّر الحقيقة الإلهية في طريقتك في حكمتك في رعاية خلقك، فأهفو إليك من جديد وأحسّ بالطمأنينة في عمق روحي الباحثة أبداً عن كلّ خير لديك.
إنّك - يا إلهي - لا تعامل العصاة المتمردين على أوامرك ونواهيك بأسلوب ردّ الفعل الانتقامي بحرمانهم من رزقك عند قيامهم بمعصيتك، بل يبقى رزقك وافراً مبسوطاً عليهم، تماماً كما لو كانوا بعيدين عن خطّ العصيان، لأنّ عطاءك لا ينطلق من نقطة التعويض لما يقومون به من أعمال الطاعة، حتى إذا استبدلوها بأعمال المعصية فقدوا استحقاق العوض، ولكنّه ينطلق من سرّ الكرم في صفاتك الإلهية، فيشمل من يستحقّه، ومن لا يستحقّه لأنّك أهل الكرم في مواقعه في الحياة.
إنّك لا تستعجل العقاب لمن عاداك
وأنت - يا ربّ - لا تستعجل العقاب لمن عاداك وناواك وتمرّد عليك، بل تمنحه من حلمك الذي يتسع لهم حتى يصل إلى حدّ العفو والمغفرة، لأنّك لا تنفعل - كما ينفعل عبادك - أمام مظاهر التمرّد عليك في مخالفة أوامرك ونواهيك، ولا يحملك ذلك على المسارعة في الانتقام في حالات الغضب، لأنّ المسألة هي أن حركة هؤلاء في واقع المناوأة لا يسيء إلى الله في ذاته، فهو أجلّ وأرفع من أن تسيء إليه المعصية فتنقص من قدره، ولكنّها تسيء إلى الأشخاص أنفسهم في ما يفقدونه من مصالح الطاعة أو يقعون فيه من مفاسد المعصية، مما يعود ضرره عليهم، وبذلك كان الحلم عنهم، لوناً من الإشفاق عليهم ما يسيئون به إلى أوضاعهم الخاصة والعامة في الحياة، بالإضافة إلى معنى كرم الله في معنى حلمه، وعلوّه عن أن يواجه عباده بطريقة ردّ الفعل الذاتي على أعمالهم، وليس هذا الإحسان في بسط الرزق للعصاة وفي الحلم عن المناوئين حالة طارئة قد تحدث على سبيل المفاجأة في بعض الأحوال، ولكنّها - يا ربّ - نهج مستمر في تعاملك مع عبادك، فتلك هي عادتك، كما أنّ الإبقاء على هؤلاء المعتدين على مقامك، يمثل سنّة قائمة دائمة في طريقتك في مواجهة أوضاعهم المنحرفة، انطلاقاً من حكمتك في تنظيم الواقع الإنساني على الأساس الثابت القوي الذي يحقق لهم الصلاح في دينهم ودنياهم.
ولكنّهم لم يفهموا ذلك في أسرار الحكمة، بل فهموه في أجواء غفلتهم الساذجة، فاعتبروه لوناً من ألوان الامتيازات التي يمنحها الله لهم لشطارتهم ومواقعهم الاستكبارية الاجتماعية، فاغترّوا بأناة الله، أي التريّث في معاجلتهم، وكفّوا عن التراجع عن خطّ الانحراف، وصدّهم إمهاله لهم في الامتداد بالحياة بأعمالهم السيئة، عن الإقلاع عن المعاصي التي يمارسونها.. ولو فكّروا تفكيراً دقيقاً في حقائق القوة الإلهية والسنّة الرابنية في خطّ الحكمة، لعرفوا أنّك - يا ربّ - تأنّيت بهم فلم تعاجلهم بالعقوبة لتترك لهم الفرصة للتفكير المتوازن، ليشعروا - من خلاله - بالخطأ الكبير الذي وقعوا فيه والمشكلة الصعبة المعقدة التي يتخبطون فيها، ليدفعهم ذلك إلى أن يفيئوا إلى أمرك في خطّ تراجعي عما هم فيه، وليعودوا إلى الخطّ المستقيم، وأنّك أمهلتهم وأعطيتهم هذه المدة الطويلة لأنّك تريد لهم الخير في القرار الجديد في التوبة الخالصة، وأنت تعلم أنه لا موجب للعجلة في العقوبة، لأنّ الذي يعجل هو الذي يخاف الفوت، أو الذي يخشى من المتمردين على ملكه الذي قد يهتزّ أمام استمرارهم في التمرد، ولكنّك - يا ربّ - على ثقة خالدة بدوام ملكك الذي يرتكز على قوتك التي لا حدّ لها وعزّتك التي لا ينتقص أحد منها مهما كانت قوته وعظمته..
وبذلك كانت سنّتك أن تترك لعبادك الفرصة الطويلة لمواجهة التجربة وتجديدها، لينطلقوا في تجربة النجاح عند الوقوع في قبضة التجربة الفاشلة، وليتحركوا في خطّ الاستقامة ليستقيموا عليه عند وقوعهم في قبضة الانحراف، لأنّك تريد للإنسان الذي يطلب السير في دروب السعادة أن يستنفد كلّ التجارب التي تقوده إليها، فلا يسقط ويتجمد أمام تجربة الشقاء التي قد تتكرّر منه في حالات طارئة لينتهي أمره عندها، بل يتابع الطريق في فرصة جديدة يتجاوز فيها الحالات الطارئة إلى مواقع جديدة تفتح له أبواب السعادة على مصراعيها، ليدخلها من خلال إيمانه وحركته ليبلغ نهاياتها في أفضل وجه.
إنّما تأنّيت ليفيئوا إلى أمرك
كما تريد للإنسان للإنسان الذي اختار الشقاء في دروب المعصية، واستسلم لأوضاع الانحراف والضلال، أن تمنحه الفرصة للتفكير المتوازن المستقيم من خلال مهلة هنا وصدمة هناك، ليعيد النظر في كلّ قناعاته، وليفتح الأبواب على الآفاق الرحبة في آفاق الله.. ليتراجع عن خطّ الشقاوة ويبدأ السير في خطّ السعادة، فلا تجمّد له الموقع، بل تجرّب له أكثر من موقع للخير وللحق وللهداية.. حتى إذا امتدّ بعد ذلك في غيِّه وطغيانه وتمرّده أسلمته لمصيره دون أن تتدخّل - بطريقة غير عادية - في اللطف به وهدايته إلى درب السعادة، لأنّه اختار الشقاء لنفسه فرفض كلّ ما قدمته له من ذلك كلّه.
وهذا ما نستوحيه من أنّ الله يختم لمن كان من أهل السعادة بها، ويخذل من كان من أهل الشقاوة لها.. فليس المقصود بها أن يخلق الإنسان سعيداً على أساس العناصر الذاتية للسعادة في شخصيته، وليس المقصود بها أن يخلق الإنسان شقياً على أساس العناصر الذاتية للشقاوة في ذاته، لأنّ ذلك يعني أنّ الإمهال والأناة وأمثال ذلك لا يقدم ولا يؤخّر شيئاً في الموضوع، لأنّ العناصر الذاتية لا بدّ أن تفرض نفسها على الإنسان حتى لو أراد الانطلاق بعيداً عن مسارها الطبيعي، لأنّ الذاتيات لا تتخلف عن نتائجها، بل المراد - والله العالم - أنّ من كان من أهل السعادة أو الشقاوة في حركة الواقع الموضوعي للإنسان في اختياره لفكره وتحريكه لإرادته وتخطيطه لمسيرته وانفتاحه على الجانب الخيِّر أو الشرير في الحياة، فإنّ الله يمنحه الفرصة للتراجع عن خطّ الانحراف إذا أراد السعادة والانفتاح على خطّ الاستقامة إذا أراد الشقاوة.
وعلى ضوء هذا المفهوم، يمكن تفسير الأحاديث الواردة في مسألة السعادة والشقاومة، كما جاء في الكافي بسند صحيح عن أبي عبد الله جعفر الصادق(ع) قال: "إنّ الله خلق السعادة والشقاوة قبل أن يخلق خلقه، فمن خلقه الله سعيداً لم يبغضه أبداً، وإن عمل شراً أبغض عمله ولم يبغضه، وإن كان شيّقاً لم يحبّه أبداً وإن عمل صالحاً أحبّ عمله وأبغضه لما يصير إليه، فإذا أحبّ الله شيئاً لم يبغضه أبداً إذا أبغض شيئاً لم يحبّه أبداً"(6).
فإن خلق السعادة والشقاوة قبل خلق الإنسان لا معنى له إلا من خلال علم الله بالأشياء وتقديره لها، لأنّهما لا يقومان بطبيعتهما في الوجود، بل لا بدّ من قيامهما بالإنسان الحيّ المنفتح على حياته في الخطّ الذي يختاره لنفسه من الخير والشر، فلا تنفصل المسألة عن الاختيار في الجانب الفكري والعملي لما يلتزمه في فكره وعمله ليكون الطابع العام لحياته في خطّ سيره الطبيعي، بحيث لو حدث الخير من الشرير لكان حالة طارئة منفصلة عن الخطّ العام، ولو حدث الشرّ من الخير لكان حالة طارئة لا عمق لها في الذات.. وهذا هو الظاهر من محبة الله للشخص أو بغضه له على أساس التزامه بخطّ السعادة والشقاوة، بحيث يكون هو الامتداد العام لحياته أو محبته لعمل الخير من الشرير أو بغضه لعمل الشر من الخيِّر  دون أن يؤثر ذلك في تقويم الذات المنفتحة على الخير أو الشر، لأن المسألة هي مسألة الطابع العام للشخص من حيث التزاماته الأساسية التي تخضع لها كل مفردات حياته، فذلك هو الذي يجعله موضعاً لمحبةالله إذا اختار خط السعادة أو موضعاً لبغضه إذا اختار خطّ الشقاوة، وهذا هو الذي يؤدّي إلى إهماله للشقي وتركه لنفسه في سوء اختياره، مما يؤدّي إلى معنى خذلانه لها من خلال التعامل السلبي معه، فإنّ الله إذا رفع رعايته عن عبده، استسلم العبد لشيطانه وعاش في قبضة هواه..
أما السعيد، فإنّه يمنحه لطفه ومحبته ورعايته تشجيعاً له على حسن اختياره، بحيث يؤدّي ذلك إلى تقوية العنصر النفسي للسعادة ليختم له بها في نهاية أمره في الحياة، ولعلّ هذا هو المراد بقول الإمام الصادق(ع) في ما رواه الكافي بسنده عنه قال: "يسلك بالسعيد في طريق الأشقياء حتى يقول الناس ما أشبهه بهم بل هو منهم، ثم تتداركه السعادة وقد يسلك بالشقي طريق السعداء حتى يقول الناس ما أشبهه بهم بل هو منهم، ثم يتداركه الشقاء، إِنّ من كتبه الله، سعيداً وإن لم يبقَ في الدنيا إلا فواق ناقة ختم له بالسعادة"(7).
* * *
كُلُّهُمْ صائِرُونَ إِلى حُكْمِكَ، وَأُمُورُهُمْ آئِلَةٌ إِلى أمْرِكَ، لَمْ يَهِنْ عَلى طولِ مُدَّتِهِمْ سُلْطانُكَ، وَلَمْ يُدْحَضْ لِتَرْكِ مُعاجَلَتِهِمْ بُرْهانُكَ، حُجَّتُكَ قائِمَةٌ لا تُدْحَضُ، وَسُلْطانُكَ ثابِتٌ لا يَزُولُ.
* * *
كلهم صائرون إلى حكمك
هؤلاء - يا ربّ - الذين يتمردون عليك، ويمتدون - في طغيانهم - في المدة الطويلة التي تمنهحها لهم في ما تمنحه لم من امتداد العمر، هل يملكون الامتناع عن المصير إليك، والخضوع لأمرك والاستسلام لحكمك..
لا بدّ للحياة من نهاية، مهما امتدت، لينطلق الجميع إليك في موقع الحساب، وليصيروا إلى حكمك، في ما يواجهون من الحكم العدل الذي تخضع له أعمالهم وأقواهم، وليؤولوا إلى أمرك في كلّ أمورهم.
لم يهن على طول مدتهم سلطانك
ولن يستطيع هؤلاء مهما بلغت قوتهم أن يضعفوا سلطانك في خلقك بما يقومون به من أوضاع التمرّد وأعمال الطغيان في خطّ المعصية، لأنّهم لا يملكون شيئاً من القوة التي تؤثر سلباً على أيّ شيء من سيطرتك على الوجود كلّه، وتبقى حجتك عليهم في الانتقام منهم قائمة في قوتها التنفيذية، وفي طبيعتها الذاتية، لأنّ ترك معاجلتهم لم ينطلق من ارتياب في ما يستحقونه من العقوبة، أو من ضعف في القدرة، من خلال ما قد يفهمه البعض من إمهالهم في المدة الطويلة، في ما يمهل به الحاكمون المذنبين ليستجمعوا الوثائق التي تعوزهم، أو ليستجمعوا القوة التي تنقصهم، فإنّ الإمهال كان منطلقاً من إفساح المجال لهم في التراجع بالتوبة، وتصحيح العمل والانفتاح على أفق جديد من حركة الاستقامة في الفكر وفي الطاعة، كما أنّه لا يضعف الموقف في قوّته، لأنّ المذنبين لا يملكون الهرب من العقاب، ولذا لا داعي للعجلة، فإنّما يعجل من يخاف الفوت..
حجّتك قائمة، وسلطانك ثابت
وهكذا يقف العباد في دنياهم وآخرتهم خاضعين مشدودين إلى ربّهم الذي يملك الحُجّة عليهم في كلّ أمورهم، فلا يستطيع أيّ وضع معيّن في الواقع البشري أن يدحضها، كما يملك القوة والسلطة اللتين لا تضعفان ولا تزولان أمام أيّة قوة أخرى لأيّ مخلوق من مخلوقاته.
* * *
فَالْوَيْلُ الدّائِمُ لِمَنْ جَنَحَ عَنْكَ، وَالْخَيْبَةُ الخاذِلَةُ لِمَنْ خابَ مِنْكَ، وَالشَّقاءُ الأشْقى لِمَنِ اغْتَرَّ بِكَ، ما أَكْثَرَ تَصَرُّفَهُ في عَذابِكَ، وَما أَطْوَلَ تَرَدُّدَهُ في عِقابِكَ، عَدْلاً مِنْ قَضائِكَ لا تَجُورُ فيهِ، وَإِنْصافاً مِنْ حُكْمِكَ لا تَحيفُ عَلَيْهِ.
* * *
الويل الدائم لمن جنح عنك
كيف يتحرك - يا ربّ - هؤلاء الذين يجنحون عنك، فلا يميلون إليك في ما يريدون الحصول عليه من نتائج إيجابية في المصير؟!
وكيف يفكّر الذين يعيشون في أجواء الخيبة منك بما يقومون به من الأعمال الشريرة التي تقودهم إلى فقدان الأمل الكبير الذي يفتح حياتهم عليك، وكيف يواجهون الموقف الحاسم في حركة البعد عن الله، وكيف يعيش أولئك الذين يخدعون أنفسهم فيوحون لها بالأمن من عذابك، انطلاقاً من إمهالك لهم، مما يدفعهم إلى الجرأة على معصيتك والانحراف عن طريقك، فيبتعدون عنك ويقعون تحت تأثير غضبك.. وقد أردتهم أن لا يغترّوا بك، ولا يستسلموا لأوهامهم التي يخيّل إليهم من خلالها أنّك لا تؤاخذهم بأعمالهم وأقوالهم المنحرفة، لأنّ كرمك لا يعني السماح بالفوضى في ممارسة الناس لمسؤولياتهم في ما يتّصل بحماية الإنسان من نفسه وحماية الآخرين منه، وإنقاذ الحياة من عسفه وضلاله، فإنّ الله يريد للناس أن يعبدوه في كلّ أوامره ونواهيه على أساس صلاح أمرهم وأمر الحياة من حولهم، مما يجعل من الإساءة الذاتية في الطاعة، إساءة لنظام الوجود كلّه، ولكنّ الشيطان يخدعهم ويزيّن لهم ويوحي إليهم بالإحساس بالأمن، فيقودهم إلى الجرأة عليك بمعصيتك فيدعوهم بذلك إلى عذاب السعير..
إنّ الويل الدائم - في ما يعبر عنه من الهلاك والعذاب والخزي والعار في إيحاءات الكلمة - ينتظرهم في ما ينتظرهم من العذاب الخالد في جهنم، كما أن الخيبة الخاذلة تواجههم بالنتائج السلبية لخسارتهم الفرصة الطيبة التي تفتح لهم أبواب الخير في الدنيا والآخرة، وذلك من خلال خيبتهم منك في ما فقدوه من رحمتك التي رفضوها، ولطفك الذي أهملوه.
وماذا بعد ذلك؟ فهناك الشقاء الأشقى الذي يختزن كلّ الهول وكلّ المرارة والألم والعذاب من خلال غضبك وسخطك في كلّ مواقع المصير في وجوده.
إنّه يواجه المستقبل الأسود في رحلة العذاب الإلهي لأمثاله من الكافرين والمتمرّدين على إرادتك، فسوف يكثر تقلّبه في عذابك، وسيطول تردده في عقابك، فلا مجال للخروج منه، بل يرجع إليه مرة بعد أخراى بعيداً عن كلّ راحة وعن كلّ نهاية، لأنّ المسألة قد تصل إلى حدّ الياس من الفرج في ما يعنيه البعد عن رحمتك بشكل نهائي، لأنّها وحدها التي يمكن أن تؤدّي إلى اقتراب الغاي من الفرج الذي يكشف الغمّ، ويدفع الإنسان بعيداً عن ساحة الآلام في ساحة العذاب، وسيبقى الشقيّ في داخل هذه الدوامة الجهنمية من دون أيّة فرصة للخروج منها، لأنَّ الحكم الصادر من الله هو الخلود في العذاب في نار جهنم حيث لا يموت فيها ولا يحيى.
ومهما كانت قسوة العذاب هناك، فإن قضاءك - يا ربّ - هو القضاء العادل في حكمك، لأنّه يرتكز على الإنصاف الذي يضع كلّ شيء في موضعه من دون أيّ حيف على أحد، لأنّك - يا ربّ - أعظم وأجلّ من أن تجور على خلقك، لأنّ الظلم هو شأن الضعفاء، وأنت القوي الذي تنطلق قوّته لتؤكّد الحياة كلّها على أساس الرحمة والعدل من موقع الغنى الذاتي المطلق الذي يحتوي كلّ حاجات خلقه من دون أن يحتاج أحداً منهم في أيّ شيء، لا في وجوده ولا في كلّ خصوصيات الوجود.
* * *
فَقَدْ ظاهَرْتَ الْحُجَجَ، وَأَبْلَيْتَ الأعْذارَ، وَقَدْ تَقَدَّمْتَ بِالْوَعيدِ، وَتَلَطَّفْتَ فِي التَّرْغيبِ، وَضَرَبْتَ الأمْثالَ، وَأَطَلْتَ الإمْهالَ، وَأَخَّرْتَ وَأَنْتَ مُسْتَطيعٌ لِلْمُعاجَلَةِ، وَتَأَنَّيْتَ وَأَنْتَ مَلِيءٌ بِالْمُبادَرَةِ، لَمْ تَكُنْ أَناتُكَ عَجْزاً، وَلا إِمْهالُكَ وَهْناً، وَلا إِمْساكُكَ غَفْلَةً، وَلاَ انْتِظارُكَ مُداراةً، بَلْ لِتَكُونَ حُجَّتُكَ أَبْلَغَ، وَكَرَمُكَ أَكْمَلَ، وَإِحْسانُكَ أَوْفى، وَنِعْمَتُكَ أَتَمَّ.
* * *
اللهمّ إنّك قد ظاهرت الحجج
يا ربّ، كلما نظرت، وأنا عبدك العاصي المتمرّد، إلى ما وضعته في كياني من آيات في دلالتها على أنّك الربّ الذي لا بدّ أن أعبده، وما خلقته في الكون من عجائب ودلائل توحي بعظمتك وتدلّ على ربوبيتك المهيمنة على الحياة وعلى الإنسان، بحيث يقف الجميع خاشعين في خشوع العبودية المخلوقة أمام الألوهية الخالقة، وما قدّمت إليّ وأنزلته عليّ من كتب ورسالات، وما أرسلته من رسل، في ما يتضمّن ذلك كلّه من إنذار وتبشير وترغيب وترهيب بمختلف الأساليب التي تتلطّف تارة وتعنف أخرى في وعدها ووعيدها، وتنفذ إلى العقل بوسائله الفكرية، وتنفتح على العاطفة بإيحاءاتها الانفعالية، في توجيه الفكر إلى فكر الرسالة، وفي اجتذاب العاطفة إلى مشاعرها وأحاسيسها وأجوائها الروحية، وما حركته من الأمثال المتنوعة في مضمونها وأسلوبها وإيحاءاتها، في ما قصصته علينا من قصص الأولين والآخرين، وفي ما أثرته من حكايات، قدّمته من نماذج إنسانية، لننطلق من خلال هذه الأمثال إلى فكرة جديدة وآفاق جديد، وننفتح من خلال نموذج على نموذج آخر، لتكون المسألة في المعنى الفكري أو الشعوري أو الروحي أقرب إلى الوعي في حركة الواقع، فلا يبقى أمام الإنسان أيّ ريب أو التباس.. كلما نظرت إلى ذلك كلّه، أدركت أنّك قد أقمت عليّ الحُجّة بما يحيط بكلّ مواقع فكري وإحساسي، فليس لي أيّة حُجّة ذاتيتة في ما يمكن أن أبتعد به عن مواقع رضاك، أو أقترب به من مواقع غضبك، ولا عذر لي في أيّ انحراف عن خطّك المستقيم، لأنّك أسقطت كلّ الأعذار التي يمكن أن أقدّمها إليك في ذلك كلّه.
ثم درست كلّ ألطافك بي، فأنا أعصيك بمختلف ألوان المعاصي، ولا تعاجلني بالعقوبة، بل تمهلني وتطيل مدة الإمهال، مع قدرتك على المعاجلة والمبادرة.
إلهي لم تكن أناتك عجزاً
وإذا كان بعض خلقك يترك المعاجلة ويؤخّر العقوبة، ويتأنّى في المبادرة في حالة الانتقام، من جهة العجز والضعف والغفلة عن مواقع القدرة والمداراة لبعض الظروف أو الأشخاص، فإنّك يا ربّ أعلى وأعزّ وأجلّ من أن تكون أناتك في تريّثك في العقاب عجزاً، لأنّك القادر على كلّ شيء، فلا يعجزك أحد من خلقك في أي شيء، أو يكون إمهالك وهناً، فإنّك القوي الذي لا قوّة لأحد معه فله القوة جميعاً، فهو مصدر القوة لكلّ قويّ، أو يكون إمساكك غفلة، فأنت المهيمن على الأمر كلّه الذي يفوته شيء من أوضاع مخلوقاته، وعندك مفاتح الغيب التي لا يعلمها غيرك، وتعلم ما في البرّ والبحر، ولا تسقط ورقة إلا تعلمها ولا حبّة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا وهي مخزونة في يعلمك.. أو يكون انتظارك مداراة، لأنّك أعظم من أن تحتاج إلى مداراة أحد أو مجاملته في ما تريد أن تفعله أو تتركه..
لتكن حجّتك في الحُجّة البالغة
ولكن المسألة في حكمتك ورحمتك ولطفك، أنّك تريد أن تمنح عبادك الفرصة تلو الفرصة في الوقت الطويل الذي يمتدّ بامتداد العمر، ليفكروا في ما يأخذون به أو يتركونه مما ينحرف عن خطّك ويبتعد عن رضاك، لتكون حجّتك أبلغ وأوضح، فلا يعتذر أحد بالغفلة والنسيان والظروف الطارئة والأوضاع الصعبة التي تمنعه عن وضوح الرؤيا للأشياء، أو تحريك الإرادة نحو الطاعة، لأنّ ذلك قد يكون له معنى في بعض الوقت، ولكن لا معنى له في الوقت الذي تتساقط جميع الأعذار في امتداده، وتتهاوى كلّ الحجج في أبعاده، لتبقى حجّتك هي الحُجّة البالغة المهيمنة على الخلق كلّهم والكون كلّه..
ثم تكون القضية في مدلولها الروحي، أنّك تريد أن تعرّف عبادك كيف ترعاهم في حياتهم بكرمك وإحسانك ونعمك، كأتمّ ما يكون الكرم وأوفى ما يكون الإحسان وأتمّ ما تكون النعمة، لينفتحوا عليك من مواقع الكرم والإحسان والنعمة، كما ينفتحون عليك من مواقع عظمتك، لينطلق عمق إيمانهم وصفاء روحيتهم من خلال العقل والإحساس والوجدان.
* * *
كُلُّ ذلِكَ كانَ وَلَمْ تَزَلْ، وَهُوَ كائِنٌ وَلا تَزالُ، حُجَّتُكَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ تُوصَفَ بِكُلِّها، وَمَجْدُكَ أَرْفَعُ مِنْ أَنْ يُحَدَّ بِكُنْهِهِ، وَنِعْمَتُكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصى بِأَسْرِها، وَإِحْسانُكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُشْكَرَ عَلى أَقَلِّهِ.
* * *
اللهمّ إنّ حجّتك أجلّ، ومجدك أرفع، ونعمتك أكثر
لقد قدّمت يا ربّ من الحجج ما أسقط كلّ حُجّة لعبادك، وأبليت الأعذار حتى لم يبقى لأحدٍ عذرٌ في معصيتك.. وامتدّت الحياة، وامتدّ هؤلاء في العصيان، ولكنّ ذلك كلّه لم يترك أيّ تأثير على وجودك في مواقع العظمة المطلقة، فقد ثبت ذلك، ولم تزل في هيمنتك على الوجود كلّه، وهو كائن في حركة الإنسان في الوجود، ولا تزال في حضورك الإلهي الذي يرعى الحياة والإنسان ويدبرهما في آفاق رحمته وحكمته من دون ضعف في الإرادة ولا خلل في التدبير، وتبقى حُجّتك في درجة الجلال الأسمى، فلا يقترب أحد من مداها لينعتها بكلّ ما تشتمل عليه من صفات، لأنّها في امتدادها في علمك لا تسمح لخلقك أن يحيطوا بها، لأنّ المحدود لا يملك إدراك العمق غير المحدود للمطلق في ذاته، فكيف يمكن له أن يبلغ مدى حجتك لتكون حجته بالغة مداها لديه.
أما مجدك في سموّه وسعته وعظمته في حقيقته العليا، فهو أعلى من أن يبلغ الناس حدوده، لأنّه يحتوي المجد كلّه، فلا مجد إلا وهو دونه، وهو مستمد منه، فكيف يبلغ العباد مداه.
ونعمتك - يا ربّ - التي عاش الوجود كلّه في بركاتها، فاتّسعت لكلّ مخلوق، وتقلّب الإنسان في نعيمها في كلّ حياته.. يملك الإنسان إحصاء مفرداتها وهي لا متناهية، بحيث يصل إلى جميع أبعادها، وكيف يملك الإنسان الوصول إلى نهاية ما يتجاوز قدرته، ويرتفع فوق وعيه، لأنّها تتحرك في كلّ مواقع الوجود الظاهرة والخفية، وتتجدد في كلّ آن، فلا يستهلكها الزمن، ولا يحتويها الحسّ والوجدان.
وينطلق إحسانك في خطّ نعمك، وينفتح في كلّ وقت على دور جديد وحركة جديدة، في ما تفيضه على عبادك منه، فهل نستطيع أن نشكرك عليه، وهو الذي لا نملك الوصول إلى مستوى حجمه وعلوّه ومعناه، وبذلك فإنّنا لا نستطيع الشكر على أقله في ما يمكن أن تبلغه طاقتنا من الشكر، فكيف نستطيع الشكر على أكثره..
إنّك - يا ربّ - العظيم في مجدك، وأنا الحقير في كلّ أبعاد وجودي أمامك، وأنت الكبير في حجتك، وأنا الصغير في كلّ منطلقاتي وحججي وأعذاري، وأنت الكريم في نعمك الرحيم في عطائك، وأنا البخيل في عطائي، وأنت اللطيف في إحسانك، وأنا المذنب في إساءتي في كلّ أفعالي، فكيف أدنو منك، وأرتفع إلى سماء مجدك، وأبلغ إحصاء نعمك وأقوم بواجب شكرك؟
* * *
وَقَدْ قَصَّرَ بِىَ السُّكُوتُ عَنْ تَحْميدِكَ، وَفَهَّهَنِي الإمْساكُ عَنْ تَمْجيدِكَ، وَقُصاراىَ الإقْرارُ بِالْحُسُورِ، لا رَغْبَةً - يا إِلهي - بَلْ عَجْزاً، فَها أَنَا ذا أَؤُمُّكَ بِالْوِفادَةِ، وَأَسْأَلُكَ حُسْنَ الرِّفادَةِ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاسْمَعْ نَجْواىَ، وَاسْتَجِبْ دُعائي، وَلا تَخْتِمْ يَوْمي بِخَيْبَتي، وَلا تَجْبَهْني بِالرَّدِّ في مَسْأَلَتي، وَأَكْرِمْ مِنْ عِنْدِكَ مُنْصَرَفي، وَإِلَيْكَ مُنْقَلَبي، إِنَّكَ غَيْرُ ضائِق بِما تُريدُ، وَلا عاجِز عَمّا تُسْأَلُ، وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَىْء قَديرٌ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللّهِ الْعَلِىِّ الْعَظيمِ.
* * *
وها أنا - يا ربّ - بين يديك أشعر بالصمت يلفّ كياني، فلا يملك لساني النطق، ولا يستطيع وجداني الوعي، فقد سكت لساني عن حمدك في ما تستحقّه من صفات الحمد، وقد أمسك كياني عن الانفتاح على آفاق مجدك، فلم أشعر إلا بالفهاهة في ما تعبّر عنه من الحصر في النطق بحيث أحسّ بأنّي سجين القصور الذاتي عن ذلك..
وليس لي إلا الاعتراف بالكلال والانقطاع والهزيمة أمام مواقع العظمة في ذاتك، وإن قررت الصمت - يا إلهي - فليس عن رغبةٍ فيَّ، فأنا أحب أن أتحدث وأتحدث حتى لا يبقى مجال للحديث في آفاق حمدك ومجدك، لأنّي - بذلك - أقترب من رضاك، وأسمو إلى الوصول إلى حبّك، ولكنّي أقف موقف الحائر التعب، على أساس العجز عن بلوغ مستوى حمدك ومجدك، فأجد الصمت أبلغ من الكلام، لأنّ الكلمات، مهما كانت بليغة، لا يمكن أن تبلغ مداك الذي لا حدّ له ولا نهاية.
وها أنذا - يا ربّ - أقصدك بالوفادة إلى ساحة رحمتك، وأسألك أن تحسن إليَّ بالعطاء، لأعيش وعي المعرفة بك من خلال فيض لطفك الذي تغدقه على فكري وروحي في انفتاحي الواسع عليك، فإنني عندما أسألك حسن العطاء فإنّني لا أفكّر بالعطاء المادي فحسب، بل أفكر بالعطاء الفكري والروحي والعملي في ما يمكن أن تفتحه لي من نوافذ الفكر والروح والحياة على ساحة حكمك وعظمتك.
فهل أطمع - يا ربّ - أن تسمع نجواي في كلّ آهاتها وابتهالاتها ومشاعرها، وتستجيب دعائي في كلّ حاجاتي وتطلّعاني في مسألة السعادة في الدنيا والآخرة.. وهل آمل - يا ربّ - بأن أحصل منك على تجعل خاتمة يومي هذا خاتمة خير ونجاح بدلاً من أن تكون خاتمة شرّ وخيبة وفشل؟
وهل أفكر بأنَّ تنفتح برحمتك على مسألتي لأجد لديك الاستجابة لكلّ ما سألتك، فلا تجابهني بالردّ والحرمان.. وهل أجد في منصرفي عن موقفي هذا - بعد انقطاعي إليك واتجاهي نحوك - الإكرام والرعاية ليكون منصرفي من عندك محفوفاً بالكرامة؟ وهل أجد لديك مثل ذلك في رجوعي إليك، كلّما أحسست بالرغبة في العودة إلى ساحة عبادتك، والحصول على السعادة في كرامتك ورعايتك..
إنّني أطمع في لطفك وعطفك في سماع نجواي واستجابة دعائي ونجاح مسألتي وقضاء حاجتي، والانفتاح عليّ بالكرامة في منصرفي ومنقلبي، لأنّك لا تضيق بما تريد فلا يشقّ عليك شيء منه، ولا أنت عاجز عمّا تسأل من قضايا الناس وحوائجهم، وأنت على كلّ شيء قدير، فكلّ الأشياء تنحني أمام قدرتك وكلّ الصعاب تتحطم أمام إرادتك مما سألك السائلون أو رغب إليك الراغبون.
ونحن - يا ربّ - في ما نتطلّع إليه من حول أو قوة، في ساحات ضعفنا، لا نتطلع إلى قوة ذاتية في وجودنا ولا إلى قدرة إنسانية في كياننا بل نتطلع إلى حوالك وقوتك في ما تهبنا() - في أجسادنا - من  حياة وفي ما تهبنا في حركتنا من قوة، وفي ما تمنحنا في وجودنا من قدرة.. يا ربّنا العليّ في مجدك العظيم في شأنك..
* * *

الهوامش:

(1)    من لا يحضره الفقيه، ج:1، ص:511، رواية:1479.
(2)    رياض السالكين،  ج:6، ص:210.
(3)    البحار، ج:80، باب:6، ص:329، رواية:2.
(4)    البحار، ج:74، باب:30، ص:410، رواية:16.
(5)    قال الراغب الأصفهاني: الجلالة ـ بالهاء ـ عظم القدر، والجلال بغير الهاء التناهي في ذلك، وخصّ بوصف الله تعالى فقيل: "ذو الجلال والإكرام"، ولم يستعمل في غيره.
وقيل: الجلال راجع إلى كمال الصفات، والكبر راجع إلى كمال الذات، والعظمة راجع إلى كمال الذات والصفات، وقيل: الجلال من الصفات السلبية لأنّه بمعنى كونه منزهاً عن كلّ ما للممكنات من الصفات المحدثة والكمالات المستفادة من الغير المستلزمة للنقصان الذاتي، من قولهم: أنا أجلّك عن كذا، أي أنزّهك عنه، وقيل: هو عبارة عن استغنائه المطلق. وفي اصطلاح أرباب القلوب: الجلال من الصفات ما يتعلق بالقهر والغضب، كما أنّ الجمال من الصفات ما يتعلق باللطف والرضا، وبيان ذلك أنّ الجلال عبارة عن احتجاب الحقّ عن الخلق بعزته من أن يعرفه أحد غيره بحقيقته وهويته، كما يعرف هو ذاته، فإنّ ذاته سبحانه لا يراها أحد على ما هي عليه إلا هو، والجمال: عبارة عن تجليه تعالى لذاته ولخلقه في مخلوقاته، كما قال أمير المؤمنين(ع): الحمد لله المتجلي لخلقه بخلقه، وكما قال الصادق(ع): لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكنّهم لا يبصرون، وفي كلام بعض العارفين: ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله فيه، فلما كان في الجلال ونعوته معنى الاحتجاب والعزّة، لزمه العلوّ والقهر من الحضرة الإلهية، والخضوع والرّهبة منّا، ولما كان في الجمال ونعوته معنى الدنوّ والسفور، لزمه اللطف والرحمة والعطف من الحضرة الإلهية، والأنس منّا، رياض السالكين، ج:6، ص:218 ـ 219.
(6)    الكافي، ج:1، ص:152، رواية:1.
(7)    الكافي، ج:1، ص:154، رواية:3.
()    جاء في شرح الصحيفة السجادية للسيد علي خان، قال بعض العلماء في هذه الكلمة الشريفة "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، تسليم للقضاء والقدر وإظهار الفقر إلى الله بطلب المعونة منه في جميع الأمور، وإبراز لعجز البشر بسلب القوّة والحركة في الخيرات والطاعات وصرف الشرور والسيئات عنهم وإثباتهما للملك العلاّم توقيراً وتعظيماً له، ودلالة على التوحيد الخفيّ، لأنّ من نفى الحيلة والحركة والقوة والاستطاعة عن غيره وأثبتها له سبحانه، على الحصر الحقيقي، وبيّنه أنّه بإيجاده واستعانته وتوفيقه لزمه القول بأنّه لم يخرج شيء من ملكه وملكوته، وأنّه لا شريك له تحقيقاً لمعنى الحصر، وفي ختم الدعاء بها إشعار بما رواه ثقة الإسلام في الكافي - بسند صحيح - عن أبي عبدالله جعفر الصادق(ع) قال: "إذا دعا الرجل فقال بعدما دعا: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، قال الله عزّ وجلّ: استبسل عبدي واستسلم لأمري اقضوا حاجته"، أي وطّن نفسه لحكمي، من قولهم: استبسل للموت إذا أوطن نفسه على الموت أو وكلّ أمره إليّ، من استبسله لعمله وبه إذا وكله إليه، رياض السالكين، ج:6، ص:248-249.
* * *
وَكانَ مِنْ دُعائِهِ(ع) في يَوْمِ عَرَفَةَ

اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمينَ، اللّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ بَديـعَ السَّمـاواتِ وَالأرْضِ، ذَا الْجَـلالِ وَالإكْرامِ، رَبَّ الأرْبابِ، وَإِلهَ كُلِّ مَأَلُوه، وَخالِقَ كُلِّ مَخْلُوق، وَوارِثَ كُلِّ شَىْء، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَلا يَعْزُبُ عَنْهُ عِلْمُ شَىْء، وَهُوَ بِكُلِّ شَىْء مُحيطٌ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَىْء رَقيبٌ.
أَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الأحَدُ الْمُتَوَحِّدُ، الْفَرْدُ الْمُتَفَرِّدُ، وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الْكَريمُ الْمُتَكَرِّمُ، الْعَظيمُ الْمُتَعَظِّمُ، الْكَبيرُ الْمُتَكَبِّرُ.
وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الْعَلِىُّ الْمُتَعالِ، الشَّديدُ الْمِحالِ.
وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الرَّحْمنُ الرَّحيمُ، الْعَليمُ الْحَكيمُ.
وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ السَّميعُ الْبَصيرُ، الْقَديمُ الْخَبيرُ.
وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الْكَريمُ الأكْرَمُ، الدّائِمُ الأدْوَمُ.
وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الأوَّلُ قَبْلَ كُلِّ أَحَد، وَالاخِرُ بَعْدَ كُلِّ عَدَد.
وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الدّاني في عُلُوِّهِ، وَالْعالي في دُنُوِّهِ.
وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ ذُو الْبَهاءِ وَالْمَجْدِ، وَالْكِبْرِياءِ وَالْحَمْدِ.
وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الَّذي أَنْشَأْتَ الاَشْياءَ مِنْ غيْرِ سِنْخٍ، وَصَوَّرْتَ ما صَوَّرْتَ مِنْ غَيْرِ مِثالٍ، وَابْتَدَعْتَ الْمُبْتَدَعاتِ بِلاَ احْتِذاءٍ.
أَنْتَ الَّذي قَدَّرْتَ كُلَّ شَىْء تَقْديراً، وَيَسَّرْتَ كُلَّ شَىْء تَيْسيراً، وَدَبَّرْتَ ما دُونَكَ تَدْبيراً، وأَنْتَ الَّذي لَمْ يُعِنْكَ عَلى خَلْقِكَ شَريكٌ، وَلَمْ يُوازِرْكَ في أَمْرِكَ وَزيرٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَكَ مُشاهِدٌ وَلا نَظيرٌ.
أَنْتَ الَّذي أَرَدْتَ فَكانَ حَتْماً ما أَرْدْتَ، وَقَضَيْتَ فَكانَ عَدْلاً ما قَضَيْتَ، وَحَكَمْتَ فَكانَ نِصْفاً ما حَكَمْتَ.
أَنْتَ الَّذي لا يَحْويكَ مَكانٌ، وَلَمْ يَقُمْ لِسُلْطانِكَ سُلْطانٌ، وَلَمْ يُعْيِكَ بُرْهانٌ وَلا بَيانٌ.
أَنْتَ الَّذي أَحْصَيْتَ كُلَّ شَىْء عَدَداً، وَجَعَلْتَ لِكُلِّ شَىْء أَمَداً، وَ قَدَّرْتَ كُلَّ شَىْء تَقْديراً، أَنْتَ الَّذي قَصُرَتِ الأوْهامُ عَنْ ذاتِيَّتِكَ، وَعَجَزَتِ الأفْهامُ عَنْ كَيْفِيَّتِكَ، وَلَمْ تُدْرِكِ الأبْصارُ مَوْضِعَ أَيْنِيَّتِكَ.
أَنْتَ الَّذي لا تُحَّدُّ فَتَكُونَ مَحْدُوداً، ولَمْ تُمَثَّلْ فَتَكُونَ مَوْجُوداً، وَلَمْ تَلِدْ فَتَكُونَ مَوْلُوداً، أَنْتَ الَّذي لا ضِدَّ مَعَكَ فَيُعانِدَكَ، وَلا عِدْلَ لَكَ فَيُكاثِرَكَ، وَلا نِدَّ لَكَ فَيُعارِضَكَ.
أَنْتَ الَّذِي ابْتَدَأَ وَاخْتَرَعَ، وَاسْتَحْدَثَ وَابْتَدَعَ، وَأَحْسَنَ صُنْعَ ما صَنَعَ.
سُبْحانَكَ ما أَجَلَّ شَأْنَكَ! وَأسْنى فِي الأماكِنِ مَكانَكَ، وَأَصْدَعَ بِالْحَقِّ فُرْقانَكَ.
سُبْحانَكَ مِنْ لَطيفٍ ما أَلْطَفَكَ، وَرَؤُوفٍ ما أَرْأَفَكَ! وَحَكيمٍ ما أَعْرَفَكَ، سُبْحانَكَ مِنْ مَليكٍ ما أَمْنَعَكَ، وَجَوادٍ ما أَوْسَعَكَ، وَرَفيعٍ ما أَرْفَعَكَ، ذُو الْبَهاءِ وَالْمَجْدِ، وَالْكِبْرِياءِ وَالْحَمْدِ.
سُبْحانَكَ بَسَطْتَ بِالْخَيْراتِ يَدَكَ، وَعُرِفَتِ الْهِدايَةُ مِنْ عِنْدِكَ، فَمَنِ الْتَمَسَكَ لِدين أَوْ دُنْيا وَجَدَكَ.
سُبْحانَكَ خَضَعَ لَكَ مَنْ جَرى في عِلْمِكَ، وَخَشَعَ لِعَظَمَتِكَ ما دُونَ عَرْشِكَ، وَانْقادَ لِلتَّسْليمِ لَكَ كُلُّ خَلْقِكَ.
سُبْحانَكَ لا تُحَسُّ، وَلا تُجَسُّ، وَلا تُمَسُّ، وَلا تُكادُ، وَلا تُماطُ، وَلا تُنازَعُ، وَلا تُجارى، وَلا تُمارى، وَلا تُخادَعُ، وَلا تُماكَرُ.
سُبْحانَك سَبيلُكَ جَدَدٌ، وَأَمْرُكَ رَشَدٌ، وَأَنْتَ حَىٌّ صَمَدٌ، سُبْحانَكَ قَوْلُكَ حُكْمٌ، وَقَضاؤُكَ حَتْمٌ، وَإِرادَتُك عَزْمٌ، سُبْحانَكَ لا رادَّ لِمَشِيَّتِكَ، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِكَ، سُبْحانَكَ باهِرَ الاْياتِ، فاطِرَ السَّماواتِ، بارِئَ النَّسَماتِ.
لَكَ الْحَمْدُ حَمْداً يَدُومُ بِدَوامِكَ، وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْداً خالِداً بِنِعْمَتِكَ، وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْداً يُوازي صُنْعَكَ، وَلَك الْحَمْدُ حَمْداً يَزيدُ عَلى رِضاكَ، وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْداً مَعَ حَمْدِ كُلِّ حامِد، وَشُكْراً يَقْصُرُ عنْهُ شُكْرُ كُلِّ شاكِر.
حَمْداً لا يَنْبَغي إِلاّ لَكَ، وَلا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلاّ إِلَيْكَ، حَمْداً يُسْتَدامُ بِهِ الأوَّلُ، وَيُسْتَدْعى بِهِ دَوامُ الاْخِرِ.
حَمْداً يَتَضاعَفُ عَلى كُرُورِ الأزْمِنَةِ، وَيَتَزايَدُ أَضْعافاً مُتَرادِفَةً، حَمْداً يَعْجِزُ عَنْ إِحْصائِهِ الْحَفَظَةُ، وَيَزيدُ عَلى ما أَحْصَتْهُ في كِتابِكَ الْكَتَبَةُ.
حَمْداً يوازِنُ عَرْشَكَ الْمَجيدَ، وَيُعادِلُ كُرْسِيَّكَ الرَّفيعَ، حَمْداً يَكْمُلُ لَدَيْكَ ثَوابُهُ، وَيَسْتَغْرِقُ كُلَّ جَزاء جَزاؤُهُ، حَمْداً ظاهِرُهُ وَفْقٌ لِباطِنِهِ، وَباطِنُهُ وَفْقٌ لِصِدْقِ النِّيَّةِ فيهِ، حَمْداً لَمْ يَحْمَدْكَ خَلْقٌ مِثْلَهُ، وَلا يَعْرِفُ أَحَدٌ سِواكَ فَضْلَهُ.
حَمْداً يُعانُ مَنِ اجْتَهَدَ في تَعْديدِهِ، وَيُؤَيَّدُ مَنْ أَغْرَقَ نَزْعاً في تَوْفِيَتِهِ، حَمْداً يَجْمَعُ ما خَلَقْتَ مِنَ الْحَمْدِ، وَيَنْتَظِمُ ما أَنْتَ خالِقُهُ مِنْ بَعْدُ، حَمْداً لا حَمْدَ أَقْرَبُ إِلى قَوْلِكَ مِنْهُ، وَلا أَحْمَدَ مِمَّنْ يَحْمَدُكَ بِهِ.
حَمْداً يوجِبُ بِكَرَمِكَ الْمَزيدَ بِوُفُورِهِ، تَصِلُهُ بِمَزيد بَعْدَ مَزيد طَوْلاً مِنْكَ، حَمْداً يَجِبُ لِكَرَمِ وَجْهِكَ، وَيُقابِلُ عِزَّ جَلالِكَ.
رَبِّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد الْمُنْتَجَبِ الْمُصْطَفى، الْمُكَرَّمِ الْمُقَرَّبِ... أَفْضَلَ صَلَواتِكَ، وَبارِكْ عَلَيْهِ أَتَمَّ بَرَكاتِكَ، وَتَرَحَّمْ عَلَيْهِ أَمْتَعَ رَحَماتِكَ.
رَبِّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، صَلاةً زاكِيَةً، لا تَكُونُ صَلاةٌ أَزْكى مِنْها، وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلاةً نامِيَةً، لا تَكُونُ صَلاةٌ أَنْمى مِنْها، وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلاةً راضِيَةً لا تَكُونُ صَلاةٌ فَوْقَها.
رَبِّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، صَلاةً تُرْضيهُ وَتَزيدُ عَلى رِضاهُ، وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلاةً تُرْضيكَ وَتَزيدُ عَلى رِضاكَ لَهُ، وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلاةً لا تَرْضى لَهُ إِلاّ بِها، وَلا تَرى غَيْرَهُ لَها أَهْلاً.
رَبِّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، صَلاةً تُجاوِزُ رِضْوانَكَ، وَيَتَّصِلُ اتِّصالُها بِبَقائِكَ، وَلا يَنْفَدُ كَما لا تَنْفَدُ كَلِماتُكَ.
رَبِّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، صَلاةً تَنْتَظِمُ صَلَواتِ مَلائِكَتِكَ، وَأَنْبِيائِكَ، وَرُسُلِكَ، وَأَهْلِ طاعَتِكَ، وَتَشْتَمِلُ عَلى صَلَواتِ عِبادِكَ، مِنْ جِنِّكَ، وَإِنْسِكَ، وَأَهْلِ إِجابَتِكَ، وَتَجْتَمِعُ عَلى صَلاةِ كُلِّ مَنْ ذَرَأْتَ وَبَرَأْتَ مِنْ أَصْنافِ خَلْقِكَ.
رَبِّ صَلِّ عَلَيْهِ وَآلِهِ، صَلاةً تُحيطُ بِكُلِّ صَلاةٍ سالِفَة وَمُسْتَأْنَفَة، وَصَلِّ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ، صَلاةً مَرْضِيَّةً لَكَ وَلِمَنْ دُونَكَ، وَتُنْشِئُ مَعَ ذلِكَ صَلَوات تُضاعِفُ مَعَها تِلْكَ الصَّلَواتِ عِنْدَها، وَتَزيدُها عَلى كُرُورِ الأيّامِ زِيادَةً في تَضاعيفَ لايَعُدُّها غَيْرُكَ.
رَبِّ صَلِّ عَلى أَطائِبِ أَهْلِ بَيْتِهِ الَّذينَ اخْتَرْتَهُمْ لاِمْرِكَ، وَجَعَلْتَهُمْ خَزَنَةَ عِلْمِكَ، وَحَفَظَةَ دينِكَ، وَخُلَفاءَكَ في أَرْضِكَ، وَحُجَجَكَ عَلى عِبادِكَ، وَطَهَّرْتَهُمْ مِنَ الرِّجْسِ وَالدَّنَسِ تَطْهِيراً بِإِرادَتِكَ، وَجَعَلْتَهُمُ الْوَسيلَةَ إِلَيْكَ، وَالْمَسْلَكَ إِلى جَنَّتِكَ.
رَبِّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، صَلاةً تُجْزِلُ لَهُمْ بِها مِنْ نِحَلِكَ وَكَرامَتِكَ، وَتُكْمِلُ لَهُمُ الأشْياءَ مِنْ عَطاياكَ وَنَوافِلِكَ، وَتُوَفِّرُ عَلَيْهِمُ الْحَظَّ مِنْ عَوائِدِكَ وَفَوائِدِكَ.
رَبِّ صَلِّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، صَلاةً لا أَمَدَ في أَوَّلِها، وَلا غايَةَ لأِمَدِها وَلا نِهايَةَ لآِخِرِها.
رَبِّ صَلِّ عَلَيْهِمْ زِنَةَ عَرْشِكَ وَما دُونَهُ، وَمِلأ سَماواتِكَ وَما فَوْقَهُنَّ، وَعَدَدَ أَرَضيكَ وَما تَحْتَهُنَّ وَما بَيْنَهُنَّ، صَلاةً تُقَرِّبُهُمْ مِنْكَ زُلْفى، وَتَكُونُ لَكَ وَلَهُمْ رِضاً، وَمُتَّصِلَةً بِنَظائِرهِنَّ أَبَداً.
أَللّهُمَّ إِنَّكَ أَيَّدْتَ دينَكَ في كُلِّ أَوان بِإِمام أَقَمْتَهُ عَلَماً لِعِبادِكَ، وَمَناراً في بِلادِكَ، بَعْدَ أَنْ وَصَلْتَ حَبْلَهُ بِحَبْلِكَ، وَجَعَلْتَهُ الذَّريعَةَ إِلى رِضْوانِكَ، وَافْتَرَضْتَ طاعَتَهُ، وَحَذَّرْتَ مَعْصِيَتَهُ، وَأَمَرْتَ بِامْتِثالِ أَوامِرِهِ، وَالانْتِهاءِ عِنْدَ نَهْيِهِ، وَأَن لا يَتَقَدَّمَهُ مُتَقَدِّمٌ، وَلا يَتَأَخَّرَ عَنْهُ مُتَأَخِّرٌ، فَهُوَ عِصْمَةُ اللاّئِذينَ، وَكَهْفُ الْمُؤْمِنينَ، وَعُرْوَةُ الْمُتَمَسِّكينَ، وَبَهاءُ الْعالَمينَ.
أَللّهُمَّ فَأَوْزِعْ لِوَلِيّكَ شُكْرَ ما أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَوْزِعْنا مِثْلَهُ فيهِ، وَآتِهِ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصيراً، وَافْتَحْ لَهُ فَتْحاً يَسيراً، وَأَعِنْهُ بِرُكْنِكَ الأعَزِّ، وَاشْدُدْ أَزْرَهُ، وَقَوِّ عَضُدَهُ، وَراعِهِ بِعَيْنِكَ، وَاحْمِهِ بِحِفْظِكَ، وَانْصْرْهُ بِمَلائِكَتِكَ، وَامْدُدْهُ بِجُنْدِكَ الأغْلَبِ، وَأَقِمْ بِهِ كِتابَكَ، وَحُدُودَكَ، وَشَرائِعَكَ، وَسُنَنَ رَسُولِكَ، صَلَواتُكَ اللّهُمَّ عَلَيْهِ وَآلِهِ.
وَأَحْيِ بِهِ ما أَماتَهُ الظّالِمُونَ مِنْ مَعالِمِ دينِكَ، وَاجْلُ بِهِ صَداءَ الْجَوْرِ عَنْ طَريقَتِكَ، وَأَبِنْ بِهِ الضَّرّاءَ مِنْ سَبيلِكَ، وَأَزِلْ بِهِ النّاكِبينَ عَنْ صِراطِكَ، وَامْحَقْ بِهِ بُغاةَ قَصْدِكَ عِوَجاً، وَأَلِنْ جانِبَهُ لأِوْلِيائِكَ، وَابْسُطْ يَدَهُ عَلى أَعْدائِكَ، وَهَبْ لَنا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَتَعَطُّفَهُ وَتَحَنُّنَهُ.
وَاجْعَلْنا لَهُ سامِعينَ مُطيعينَ، وَفي رِضاهُ ساعينَ، وَإِلى نُصْرَتِهِ وَالْمُدافَعَةِ عَنْهُ مُكْنِفينَ، وَإِلَيْك وَإِلى رَسْولِكَ صَلَواتُكَ اللّهُمَّ عَلَيْهِ وَآلِهِ بِذلِكَ مُتَقَرِّبينَ.
أَللّهُمَّ وَصَلِّ عَلى أَوْلِيائِهِمُ الْمُعْتَرِفينَ بِمَقامِهِمُ، الْمُتَّبِعينَ مَنْهَجَهُمُ، الْمُقْتَفينَ آثارَهُمُ، الْمُسْتَمْسِكينَ بِعُرْوَتِهِمُ، الْمُتَمَسِّكينَ بِوِلايَتِهِمُ، الْمُؤْتَمِّينَ بِإِمامَتِهِمُ، الْمُسَلِّمينَ لأِمْرِهِمُ، الْمُجْتَهِدينَ في طاعَتِهِمُ، الْمُنْتَظِرينَ أَيّامَهُمُ، الْمادّينَ إِلَيْهِمْ أَعْيُنَهُمُ، الصَّلَواتِ الْمُبارَكاتِ الزّاكِياتِ النّامِياتِ الْغادِياتِ.
وَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ وَعَلى أَرْواحِهِمْ. وَاجْمَعْ عَلَى التَّقْوى أَمْرَهُمْ، وَأَصْلِحْ لَهُمْ شُؤُونَهُمْ، وَتُبْ عَلَيْهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحيمُ، وَخَيْرُ الْغافِرينَ، وَاجْعَلْنا مَعَهُمْ في دارِ السَّلامِ، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرّاحِمينَ.
أَللّهُمَّ هذا يَوْمُ عَرَفَةَ، يَوْمٌ شَرَّفْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ وَعَظَّمْتَهُ، نَشَرْتَ فيهِ رَحْمَتَكَ، وَمَنَنْتَ فيهِ بِعَفْوِكَ، وَأَجْزَلْتَ فيهِ عَطِيَّتَكَ، وَتَفَضَّلْتَ بِهِ عَلى عِبادِكَ.
أَللّهُمَّ وَأَنَا عَبْدُكَ الَّذي أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ قَبْلَ خَلْقِكَ لَهُ، وَبَعْدَ خَلْقِكَ إِيّاهُ، فَجَعَلْتَهُ مِمَّنْ هَدَيْتَهُ لِدينِكَ، وَوَفَّقْتَهُ لِحَقِّكَ، وَعَصَمْتَهُ بِحَبْلِكَ، وَأَدْخَلْتَهُ في حِزْبِكَ، وَأَرْشَدْتَهُ لِمُوالاةِ أَوْلِيائِكَ، وَمُعاداةِ أَعْدائِكَ.
ثُمَّ أَمَرْتَهُ فَلَمْ يَأْتَمِرْ، وَزَجَرْتَهُ فَلَمْ يَنْزَجِرْ، وَنَهَيْتَهُ عَنْ مَعْصِيَتِكَ فَخالَفَ أَمْرَكَ إِلى نَهْيِكَ، لا مُعانَدَةً لَكَ، وَلاَ اسْتِكْباراً عَلَيْكَ، بَلْ دَعاهُ هَواهُ إِلى ما زَيَّلْتَهُ وَإِلى ما حَذَّرْتَهُ، وَأَعانَهُ عَلى ذلِكَ عَدُوُّكَ وَعَدُوُّهُ، فَأَقْدَمَ عَلَيْهِ عارِفاً بِوَعيدِكَ، راجِياً لِعَفْوِكَ، واثِقاً بِتَجاوُزِكَ، وَكانَ أَحَقَّ عِبادِكَ مَعَ ما مَنَنْتَ عَلَيْهِ أَلاّ يَفْعَلَ.
وَها أَنَا ذا بَيْنَ يَدَيْكَ صاغِراً ذَليلاً، خاضِعاً خاشِعاً، خائِفاً مُعْتَرِفاً بِعَظيم مِنَ الذُنُوبِ تَحَمَّلْتُهُ، وَجَليل مِنَ الْخَطايَا اجْتَرَمْتُهُ، مُسْتَجيراً بِصَفْحِكَ، لائِذاً بِرَحْمَتِكَ، مُوقِناً أَنَّهُ لايُجيرُني مِنْكَ مُجيرٌ، وَلا يَمْنَعُني مِنْكَ مانِعٌ.
فَعُدْ عَلَىَّ بِما تَعُودُ بِهِ عَلى مَنِ اقْتَرَفَ مِنْ تَغَمُّدِكَ، وَجُدْ عَلَىَّ بِما تَجُودُ بِهِ عَلى مَنْ أَلْقى بِيَدِهِ إِلَيْكَ مِنْ عَفْوِكَ، وَامْنُنْ عَلَىَّ بِما لا يَتَعاظَمُكَ أَنْ تَمُنَّ بِهِ عَلى مَنْ أَمَّلَكَ مِنْ غُفْرانِكَ، وَاجْعَلْ لي في هذَا الْيَوْمِ نَصيباً أَنالُ بِهِ حَظّاً مِنْ رِضْوانِكَ، وَلا تَرُدَّني صِفْراً مِمّا يَنْقَلِبُ بِهِ الْمُتَعَبِّدُونَ َلكَ مِنْ عِبادِكَ، وَإِنّي وَإِنْ لَمْ أُقَدِّمْ ما قَدَّمُوهُ مِنَ الصّالِحاتِ، فَقَدْ قَدَّمْتُ تَوْحيدَكَ، وَنَفْىَ الأضْدادِ وَالأنْدادِ وَالأشْباهِ عَنْكَ، وَأَتَيْتُكَ مِنَ الأبْوابِ الَّتي أَمَرْتَ أَنْ تُؤْتى مِنْها، وَتَقَرَّبْتُ إِلَيْكَ بِما لا يَقْرُبُ بِهِ أَحَدٌ مِنْكَ إِلاّ بِالتَّقَرُّبِ بِهِ.
ثُمَّ أَتْبَعْتُ ذلِكَ بِالإنابَةِ إِلَيْكَ، وَالتَّذَلُّلِ وَالاْسْتِكانَةِ لَكَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ، وَالثِّقَةِ بِما عِنْدَكَ، وَشَفَعْتُهُ بِرَجائِكَ الَّذي قَلَّ ما يَخيبُ عَلَيْهِ راجيكَ.
وسَأَلْتُكَ مَسْأَلَةَ الْحَقيرِ الذَّليلِ، الْبائِس الْفَقيرِ، الْخائِفِ الْمُسْتَجيرِ، وَمَعَ ذلِكَ خيفةً وَتَضَرُّعاً، وَتَعَوُّذاً وَتَلَوُّذاً، لا مُسْتَطيلاً بِتَكَبُّرِ الْمُتَكَبِّرينَ، وَلا مُتعالِياً بِدالَّةِ الْمُطيعينَ، وَلا مُسْتَطيلاً بِشَفاعَةِ الشّافِعينَ، وَأَنَا بَعْدُ أَقَلُّ الأقَلّينَ، وَأَذَلُّ الأذَلّينَ، وَمِثْلُ الذَّرَّةِ أَوْ دُونَها.
فَيا مَنْ لَمُ يُعاجِلِ الْمُسيئينَ، وَلا يَنْدَهُ الْمُتْرَفينَ، وَيا مَنْ يَمُنُّ بِإِقالَةِ الْعاثِرينَ، وَيَتَفَضَّلُ بِإِنْظارِ الْخاطِئينَ.
أَنَا الْمُسيءُ الْمُعْتَرِفُ، الْخاطِئُ الْعاثِرُ، أَنَا الَّذي أَقْدَمَ عَلَيْكَ مُجْتَرِئاً، أَنَا الَّذي عَصاكَ مُتَعَمِّداً، أَنَا الَّذِي اسْتَخْفى مِنْ عِبادِكَ وَبارَزَكَ.
أَنَا الَّذي هابَ عِبادَكَ وَأَمِنَكَ، أَنَا الَّذي لَمْ يَرْهَبْ سَطْوَتَكَ، وَلَمْ يَخَفْ بَأْسَكَ، أنَا الْجاني عَلى نَفْسِهِ، أنَا الْمُرْتَهَنُ بِبَلِيَّتِهِ، أنَا الْقَليلُ الْحَياءِ، أَنَا الطَّويلُ الْعَناءِ.
بِحَقِّ مَنِ انْتَجَبْتَ مِنْ خَلْقِكَ، وَبِمَنِ اصْطَفَيْتَهُ لِنَفْسِكَ، بِحَقِّ مَنِ اخْتَرْتَ مِنْ بَرِيَّتِكَ، وَمَنِ اجْتَبَيْتَ لِشَأْنِكَ، بِحَقِّ مَنْ وَصَلْتَ طاعَتَهُ بِطاعَتِكَ، وَمَنْ جَعَلْتَ مَعْصِيَتَهُ كَمَعْصِيَتِكَ، بِحَقِّ مَنْ قَرَنْتَ مُوالاتَهُ بِمُوالاتِكَ، وَمَنْ نُطْتَ مُعاداتَهُ بِمُعاداتِكَ، تَغَمَّدْني في يَوْمي هذا بِما تَتَغَمَّدُ بِهِ مَنْ جَأَرَ إِلَيْكَ مُتَنَصِّلاً، وَعاذَ بِاسْتِغْفارِكَ تائِباً، وَتَوَلَّني بِما تَتَوَلّى بِهِ أَهْلَ طاعَتِكَ، وَالزُّلْفى لَدَيْكَ، وَالْمَكانَةِ مِنْكَ، وَتَوَحَّدْني بِما تَتَوَحَّدُ بِهِ مَنْ وَفى بِعَهْدِكَ، وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ في ذاتِكَ، وَأَجْهَدَها في مَرْضاتِكَ.
وَلا تُؤاخِذْني بِتَفْريطي في جَنْبِكَ، وَتَعَدّي طَوْري في حُدُودِكَ، وَمُجاوَزَةِ أَحْكامِكَ، وَلا تَسْتَدْرِجْني بِإِمْلائِكَ لِي اسْتِدْراجَ مَنْ مَنَعَني خَيْرَ ما عِنْدَهُ، وَلَمْ يَشْرَكْكَ في حُلُولِ نِعْمَتِهِ بي.
وَنَبِّهْني مِنْ رَقْدَةِ الْغافِلينَ، وَسِنَةِ الْمُسْرِفينَ، وَنَعْسَةِ الْمَخْذُولينَ، وَخُذْ بِقَلْبي إِلى مَا اسْتَعْمَلْتَ بِهِ الْقانِتينَ، وَاسْتَعْبَدْتَ بِهِ الْمُتَعَبِّدينَ، وَاسْتَنْقَذْتَ بِهِ الْمُتَهاوِنينَ.
وَأَعِذْني مِمّا يُباعِدُني عَنْكَ، وَيَحُولُ بَيْني وَبَيْنَ حَظّي مِنْكَ، وَيَصُدُّني عَمّا أُحاوِلُ لَدَيْكَ، وَسَهِّلْ لي مَسْلَكَ الْخَيْراتِ إِلَيْكَ، وَالْمسابَقَةَ إِلَيْها مِنْ حَيْثُ أَمَرْتَ، وَالْمُشاحَّةَ فيها عَلى ما أَرَدْتَ، وَلا تَمْحَقْني في مَنْ تَمْحَقُ مِنَ الْمُسْتَخِفّينَ بِما أَوْعَدْتَ، وَلا تُهْلِكْني مَعَ مَنْ تُهْلِكُ مِنَ الْمُتَعَرِّضينَ لِمَقْتِكَ، وَلا تُتَبِّرْني في مَنْ تُتَبِّرُ مِنَ الْمُنْحَرِفينَ عَنْ سُبُلِكَ.
وَنَجِّني مِنْ غَمَراتِ الْفِتْنَةِ، وَخَلِّصْني مِنْ لَهَواتِ الْبَلْوى، وَأَجِرْني مِنْ أَخْذِ الاْمْلاءِ، وَحُلْ بَيْني وَبَيْنَ عَدُوٍّ يُضِلُّني، وَهَوىً يُوبِقُني، وَمَنْقَصَة تَرْهَقُني، وَلا تُعْرِضْ عَنّي إِعْراضَ مَنْ لا تَرْضى عَنْهُ بَعْدَ غَضَبِكَ، وَلا تُؤْيِسْني مِنَ الأمَلِ فيكَ، فَيَغْلِبَ عَلَىَّ الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِكَ، وَلا تَمْتَحِنّي بِما لا طاقَةَ لي بِهِ، فَتَبْهَظَني مِمّا تُحَمِّلُنيهِ مِنْ فَضْلِ مَحَبَّتِكَ.
وَلا تُرْسِلْني مِنْ يَدِكَ إِرْسالَ مَنْ لا خَيْرَ فيهِ، وَلا حاجَةَ بِكَ إِلَيْهِ، وَلا إِنابَةَ لَهُ، وَلا تَرْمِ بي رَمْىَ مَنْ سَقَطَ مِنْ عَيْنِ رِعايَتِكَ، وَمَنِ اشْتَمَلَ عَليْهِ الْخِزْيُ مِنْ عِنْدِكَ.
بَلْ خُذْ بِيَدي مِنْ سَقْطَةِ الْمُتَرَدّينَ، وَوَهْلَةِ الْمُتَعَسِّفينَ، وَزَلَّةِ الْمَغْرُورينَ، وَوَرْطَةِ الْهالِكينَ، وَعافِني مِمَّا ابْتَلَيْتَ بِهِ طَبَقاتِ عَبيدِكَ وَ إِمائِكَ، وَبَلِّغْني مَبالِغَ مَنْ عُنيتَ بِهِ، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ، وَرَضيتَ عَنْهُ، فَأَعَشْتَهُ حَميداً، وَتَوَفَّيْتَهُ سَعيداً.
وَطَوِّقْني طَوْقَ الإقْلاعِ عَمّا يُحْبِطُ الْحَسناتِ، وَيَذْهَبُ بِالْبَرَكاتِ، وَأَشْعِرْ قَلْبِىَ الازدِجارَ عَنْ قَبائِحِ السَّيِّئاتِ، وَفَواضِحِ الْحَوْباتِ.
وَلا تَشْغَلْني بِما لا أُدْرِكُهُ إِلاّ بِكَ عَمّا لا يُرْضيكَ عَنّي غَيْرُهُ، وَأَنْزِعْ مِنْ قَلْبي حُبَّ دُنْيا دَنِيَّة تَنْهى عَمّا عِنْدَكَ، وَتَصُدُّ عَنِ ابْتِغاءِ الْوَسيلَةِ إِلَيْكَ، وَتُذْهِلُ عَنِ التَّقَرُّبِ مِنْكَ.
وَزَيِّنْ لِىَ التَّفَرُّدَ بِمُناجاتِكَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَهَبْ لي عِصْمَةً تُدْنيني مِنْ خَشْيَتِكَ، وَتَقْطَعُني عَنْ رُكُوبِ مَحارِمِكَ، وَتَفُكُّني مِنْ أَسْرِ الْعَظائِم.
وَهَبْ لِىَ التَّطْهيرَ مِنْ دَنَسِ الْعِصْيانِ، وَأَذْهِبْ عَنّي دَرَنَ الخَطايا، وَسَرْبِلْني بِسِرْبالِ عافِيَتِكَ، وَرَدِّني رِداءَ مُعافاتِكَ، وَجَلِّلْني سَوابِغَ نَعْمائِكَ، وَظاهِرْ لَدَىَّ فَضْلَكَ وَطَوْلَكَ.
وَأَيِّدْني بِتَوْفيقِكَ وَتَسْديدِكَ، وَأَعِنّي عَلى صالِحِ النِّيَّةِ، وَمَرْضِىِّ الْقَوْلِ، وَمُسْتَحْسَنِ الْعَمَلِ.
وَلا تَكِلْني إِلى حَوْلي وَقُوَّتي دُونَ حَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، وَلا تُخْزِني يَوْمَ تَبْعَثُني لِلِقائِكَ، وَلا تَفْضَحْني بَيْنَ يَدَيْ أَوْلِيائِكَ، وَلا تُنْسِني ذِكْرَكَ، وَلا تُذْهِبْ عَنّي شُكْرَكَ، بَلْ أَلْزِمْنيهِ في أَحْوالِ السَّهْوِ عِنْدَ غَفَلاتِ الْجاهِلينَ لاِلائِكَ، وَأَوْزِعْني أَنْ أُثْنِىَ بِما أَوْلَيْتَنيهِ، وَأَعْتَرِفَ بِما أَسْدَيْتَهُ إِلَيَّ.
وَاجْعَلْ رَغْبَتي إِلَيْكَ فَوْقَ رَغْبَةِ الرّاغِبينَ، وَحَمْدي إِيّاكَ فَوْقَ حَمْدِ الْحامِدينَ، وَلا تَخْذُلْني عِنْدَ فاقَتي إِلَيْكَ، وَلا تُهْلِكْني بِما أَسْدَيْتُهُ إِلَيْكَ، وَلا تَجْبَهْني بِما جَبَهْتَ بِهِ الْمُعانِدينَ لَكَ.
فَإِنّي لَكَ مُسَلِّمٌ، أَعْلَمُ أَنَّ الْحُجَّةَ لَكَ، وَأَنَّكَ أَوْلى بِالْفَضْلِ، وَأَعْوَدُ بِالإحْسانِ، وَأَهْلُ التَّقْوى، وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ، وَأَنَّكَ بِأَنْ تَعْفُوَ أَوْلى مِنْكَ بِأَنْ تُعاقِبَ، وَأَنَّكَ بِأَنْ تَسْتُرَ أَقْرَبُ مِنْكَ إِلى أَنْ تَشْهَرَ.
فَأَحْيِني حَياةً طَيِّبَةً تَنْتَظِمُ بِما أُريدُ، وَتَبْلُغُ ما أُحِبُّ مِنْ حَيْثُ لا آتي ما تَكْرَهُ، وَلا أَرْتَكِبُ ما نَهَيْتَ عَنْهُ.
وَأَمِتْني ميتَةَ مَنْ يَسْعى نُورُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَنْ يَمينِهِ.
وَذَلِّلْني بَيْنَ يَدَيْكَ، وَأَعِزَّني عِنْدَ خَلْقِكَ، وَضَعْني إِذا خَلَوْتُ بِكَ، وَارْفَعْني بَيْنَ عِبادِكَ، وَأَغْنِني عَمَّنْ هُوَ غَنِيٌ عَنّي، وَزِدْني إِلَيْكَ فاقَةً وَفَقْراً.
وَأَعِذْني مِنْ شَماتَةِ الأعْداءِ، وَمِنْ حُلولِ الْبَلاءِ، وَمِنَ الذُّلِّ وَالْعَناءِ.
تَغَمَّدْني في مَا اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ مِنّي بِما يَتَغَمَّدُ بِهِ الْقادِرُ عَلَى الْبَطْشِ لَولا حِلْمُهُ، وَالآخِذُ عَلَى الْجَريرَةِ لَوْلا أَناتُهُ.
وَإِذا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً أَوْ سُوءاً فَنَجِّني مِنْها لِواذاً بِكَ، وَإِذْ لَمْ تُقِمْني مَقامَ فَضيحة في دُنْياكَ، فَلا تُقِمْني مِثْلَهُ في آخِرَتِكَ، وَاشْفَعْ لي أَوائِلَ مِنَنِكَ بِأَواخِرها، وَقَديمَ فَوائِدِكَ بِحَوادِثِها.
وَلا تَمْدُدْ لي مَدّاً يَقْسُو مَعَهُ قَلْبي، وَلا تَقْرَعْني قارِعَةً يَذْهَبُ لَها بَهائي، وَلا تَسُمْني خَسيسَةً يَصْغُرُ لَها قَدْرىَ، وَلا نَقيصَةً يُجْهَلُ مِنْ أَجْلِها مَكاني، وَلا تَرُعْني رَوْعَةً أُبْلِسُ بِها، وَلا خيفَةً أُوجِسُ دُونَها.
إِجْعَلْ هَيْبَتي في وَعيدِكَ، وَحَذَري مِنْ إِعْذارِكَ وَإِنْذارِكَ، وَرَهْبَتي عِنْدَ تِلاوَةِ آياتِكَ، وَاعْمُرْ لَيْلي بِإِيقاظي فيهِ لِعِبادَتِكَ، وَتَفَرُّدي بِالتَّهَجُّدِ لَكَ، وَتَجَرُّدي بِسُكُوني إِلَيْكَ وَإِنْزالِ حَوائِجي بِكَ، وَمُنازَلَتي إِيَّاكَ في فَكاكِ رَقَبَتي مِنْ نارِكَ، وَإِجارَتي مِمّا فيهِ أَهْلُها مِنْ عَذابِكَ.
وَلا تَذَرْني في طُغْياني عامِهاً، وَلا في غَمْرَتي سَاهِياً حَتّى حين، وَلا تَجْعَلْني عِظَةً لِمَنِ اتَّعَظَ، وَلا نَكالاً لِمَنِ اعْتَبَرَ، وَلا فِتْنَةً لِمَنْ نَظَرَ، وَلا تَمْكُرْ بي في مَنْ تَمْكُرُ بِهِ، وَلا تَسْتَبْدِلْ بي غَيْري.
وَلا تُغَيِّرْ لِي اسْماً، وَلا تُبَدِّلْ لي جِسْماً، وَلا تَتَّخِذْني هُزُواً لِخَلْقِكَ، وَلا سُخْرِيّاً لَكَ، وَلا تَبَعاً إِلاّ لِمَرْضاتِكَ، وَلا مُمْتَهَناً إِلاّ بِالإنتِقامِ لَكَ.
وَأَوْجِدْني بَرْدَ عَفْوِكَ، وحَلاوَةَ رَحْمَتِكَ، وَرَوْحِكَ وَرَيْحانِكَ، وَجَنَّةِ نَعيمِكَ، وَأَذِقْني طَعْمَ الْفَراغِ لِما تُحِبُّ بِسَعَة مِنْ سَعَتِكَ، وَالاجْتِهادِ فيما يُزْلِفُ لَدَيْكَ وَعِنْدَكَ.
وَأَتْحِفْني بِتُحْفَة مِنْ تُحَفاتِكَ، وَاجْعَلْ تِجارَتي رابِحَةً، وَكَرَّتي غَيْرَ خاسِرَة، وَأَخِفْني مَقامَكَ، وَشَوِّقْني لِقاءَكَ، وَتُبْ عَلَيَّ تَوْبَةً نَصُوحاً، لا تُبْقِ مَعَها ذُنُوباً صَغيرَةً وَلا كَبيرَةً، وَلا تَذَرْ مَعَها عَلانِيَةً وَلا سَريرَةً.
وَانْزَعِ الْغِلَّ مِنْ صَدْري لِلْمُؤْمِنينَ، وَاعْطِفْ بِقَلْبي عَلَى الْخاشِعينَ، وَكُنْ لي كَما تَكُونُ لِلصّالِحينَ، وَحَلِّني حِلْيَةَ الْمُتَّقينَ، وَاجْعَلْ لي لِسانَ صِدْق فِي الْغابِرينَ، وَذِكْراً نامِياً فِي الاْخِرينَ، وَوافِ بي عَرْصَةَ الأوَّلينَ، وَتَمِّمْ سُبُوغَ نِعْمَتِكَ عَلَىَّ، وَظاهِرْ كَراماتِها لَدَىَّ.
إِمْلأ مِنْ فَوائِدِكَ يَدَيَّ، وَسُقْ كَرائِمَ مَواهِبِكَ إِلَيَّ، وَجاوِرْ بِىَ الأطْيَبينَ مِنْ أَوْلِيائِكَ فِي الْجِنانِ الَّتي زَيَّنْتَها لأِصْفِيائِكَ، وَجَلِّلْني شَرائِفَ نِحَلِكَ فِي الْمَقاماتِ الْمُعَدَّةِ لاَحِبّائِكَ، وَاجْعَلْ لي عِنْدَكَ مَقيلاً آوي إِلَيْهِ مُطْمَئِنّاً، وَمَثابَةً أَتَبَوَّأُها وَأَقَرُّ عَيْناً.
وَلا تُقايِسْني بِعَظيماتِ الْجَرائِرِ، وَلا تُهْلِكْني يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ، وَأَزِلْ عَنّي كُلَّ شَكٍّ وَشُبْهَة، وَاجْعَلْ لي فِي الْحَقِّ طَريقاً مِنْ كُلِّ رَحْمَة، وَأَجْزِلْ لي قِسَمَ الْمَواهِبِ مِنْ نَوالِكَ، وَوَفِّرْ عَلَىَّ حُظُوظَ الإحْسانِ مِنْ إِفْضالِكَ.
وَاجْعَلْ قَلْبي واثِقاً بِما عِنْدَكَ، وَهَمّي مُسْتَفْرَغاً لِما هُوَ لَكَ، وَاسْتَعْمِلْني بِما تَسْتَعْمِلُ بِهِ خالِصَتَكَ، وَأَشْرِبْ قَلْبي عِنْدَ ذُهُولِ الْعُقولِ طاعَتَكَ، وَاجْمَـعْ لِيَ الْغِنى وَالْعَفافَ، وَالـدَّعَةَ وَالْمُعافاةَ، وَالصِّحَّةَ وَالسَّعَةَ، وَالطُّمَأْنينَةَ وَالْعافِيَةَ، وَلا تُحْبِطْ حَسَناتي بِما يَشوبُها مِنْ مَعْصِيَتِكَ، وَلا خَلَواتي بِما يَعْرِضُ لي مِنْ نَزَغاتِ فِتْنَتِكَ.
وَصُنْ وَجْهي عَنِ الطَّلَبِ إِلى أَحَد مِنَ الْعالَمينَ، وَذُبَّني عَنِ الْتِماسِ ما عِنْدَ الْفاسِقينَ، وَلا تَجْعَلْني لِلظّالِمينَ ظَهيراً، وَلا لَهُمْ عَلى مَحْوِ كِتابِكَ يَداً وَنَصيراً.
وَحُطْني مِنْ حَيْثُ لا أَعْلَمُ حِياطَةً تَقيني بِها، وَافْتَحْ لي أَبْوابَ تَوْبَتِكَ، وَرَحْمَتِكَ، وَرَأْفَتِكَ، وَرِزْقِكَ الْواسِعِ، إِنّي إِلَيْكَ مِنَ الرّاغِبينَ.
وَأَتْمِمْ لي إِنْعامَكَ إِنَّكَ خَيْرُ الْمُنْعِمينَ، وَاجْعَلْ باقِيَ عُمْري فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ابْتِغاءَ وَجْهِكَ يا رَبَّ الْعالَمينَ، وَصَلَّى اللّهُ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ، وَالسَّلامُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَبَدَ الاْبِدينَ.
* * *
إيحاءات يوم عرفة
(عرفة) موقع من مواقع مناسك الحجّ، حيث يقف حجاج بيت الله الحرام في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة ليتعبّدوا الله فيه، وليسألوه قضاء حوائجهم وتدبير أمورهم وغرفان ذنوبهم، وليقتربوا منه بأفكارهم وأرواحهم وأعمالهم ليحصلوا - بذلك - على رضاه.
وهو اليوم الذي يقف فيه الناس ليتأملوا في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم من حيث علاقة هذه المواقع الزمنية بحركة المسؤولية في علاقتهم بالله من حيث الهمّ الكبير للإنسان، لأنّه هو الذي يمثّل حقيقة المصير الحاسم في الدار الآخرة {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل:11]، مما يفرض على الإنسان أن يدخل في حساب مع النفس في أجواء الروح المنفتحة على الله.
ولعلّ في تشريع الوقوف في عرفة في الحجّ دون أن يكلّفه بأيّ عمل من الأعمال بالمعنى المادي الإلزامي، نوعاً من الإيحاء بأنّ الله يريد للإنسان في حركته في الزمن أن يقف وقفة متأملة في حساباته في عمره المتحرّك في خطّ المسؤولية، لينظر دائماً وليسأل نفسه - في معنى التقوى - ما قدمت لغد، على هدى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]، لأن ذلك هو الذي يجعله واعياً لنفسه ذاكراً لربه ولموقعه من ربه، لأنه إذا ابتعد عن الحسابات الذاتية وعن ذكر الله، فإنه يبتعد عن وعي ذاته {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19].
وهكذا يكون الوقوف في موقف المحاسبة والدراسة للذات - في حسابات حركتها في العمل في خطّ الطاعة - عملاً إيمانياً بعيداً عن كلّ التفاصيل.
* * *
المفاهيم الأساسية للدعاء
وقد جاء في الحديث أنّ هذا اليوم هو "يوم دعاء ومسألة"(1)، باعتبار أنّ الدّعاء يمثل كلّ تطلعات المؤمن في مناجاته لله في تعبيبره عن إخلاص إيمانه في توحيده وحمده وشكره وتعداد آلائه وذكر صفاته وأسمائه الحسنى، وفي حاجاته الروحية في تقويته على الطاعة وإضعافه عن المعصية، وتعميق إيمانه وغفران ذنوبه، وفي قضاء حاجاته المادية في شؤون حياته العامة والخاصة، وبذلك كان يجمع التعبير عن الإيمان والمسألة، كأنّ هذا الدعاء - في الصحيفة السجادية - دراسة ابتهالية لكلّ مفردات الإيمان في توحيد الله، في مظاهر توحيده في خلقه، وفي تقديره وتدبيره للأمور بكلّ استقلال من دون شريك ولا معين، وفي سعة علمه وقدرته، وفي كلّ صفاته العليا وأسمائه الحسنى، وقصور العقل مهما امتدّ في التفكير والمعرفة، عن الإحاطة بذاته ومدى صفاته، لأنّ الربّ الذي لا يحدّه حدّ ولا يقترب منه مثال، ولا يماثله شيء، فهو البادئ الذي اخترع الوجود كلّه، وابتدع كلّ ما فيه من أسرار العظمة وحسن الصنع، مما يفرض على الإنسان أن يسبّحه في ذلك كله، وهكذا امتدّ الدعاء في مفردات التسبيح لكلّ مفردات العظمة، وأن يحمده بكلّ خصال الحمد..
ويطلق الدعاء الصلاة على النبّي حامل الرسالة الداعية إلى الله والمبلغ عنه والمجاهد في سبيله، وعلى آله الذين اقتفوا أثره، وحملوا رسالته، وساروا في خطّه.. وهكذا انطلق الدعاء ليؤكد دور الإمام في الأمة باعتبار أنّ يوم عرفة هو اليوم الذي يتمثل فيه مظهر الأمة الواحدة تحت ظل قيادتها الواحدة، مما يجعل الداعي يفكّر في ابتهالاته إلى الله في إمام الأمة ليحفظه ويحميه من كيد الأعداء، ويقوي سلطانه، ويشدّ أزره ويقوي عضده، ويرعاه بعينه التي لا تنام، وينصره بملائكته، ويمدّه بجنده، ويقيم به كتابه وحدوده وشرائعه وسنن رسوله، ويحيي به ما أماته الظالمون من معالم الدين، ويجلو به صدأ الجور عن الطريقة المثلى، ويهيِّئ له من أمره رشداً، ويجعل أمته سامعة مطيعة له، ساعية إلى رضاه..
* * *
ثم ينطلق الدعاء إلى الحديث عن يوم عرفة الذي جعل الله له الشرف والكرامة والعظمة الروحية بما نشر فيه من الرحمة، ومنّ فيه بالعفو، وأجزل فيه العطيّة، وتفضل به على خلقه.
ثم يبدأ الاعتراف الخاشع في تقديم الإنسان نفسه لربّه بصفة العبد الذي أفاض الله عليه النعم، وشقّ له درب الهداية، ووفّقه للالتزام بالحقّ وللاعتصام بحبله، ولكنّه عصى أمره ونهيه من خلال الهوى الذي سيطر عليه والنفس الأمارة بالسوء بفعل تزيين الشيطان له في مقارفة المعصية، وها هو قد جاء وهو واعٍ لكلّ ما ينتظره من جزاء العقوبة راجياً للعفو، منتظراً له من خلال الثقة بتجاوزه من ربّه، لأنّ العفو لا يتعاظم لله لأنّه الرحمن الرحيم، متوسلاً في يوم عرفة يوم المغفرة والرحمة، أن يمنحه الله عفوه ورضوانه كما عفا عن عباده الخاطئين، ويعطيه ما أعطى عباده الصالحين الذين يلتقي بهم في توحيد الله إذا لم يلتقِ معهم في الطاعة لأوامره.
ثم تتتابع الاعترافات الخاشعة الذليلة بالأسلوب الذي يعبّر فيه الإنسان الخاطئ بالانسحاق أمام الله والذوبان في محبّته، معدّداً كلّ خطاياه وانحرافاته، طالباً منه أن يتغمّده بما يتغمّد به التائبين، ولا يؤاخذه بما يؤاخذ به الخاطئين، وأن ينبّهه من رقدة الغافلين.
وتتنوّع الأساليب فيه في الاستعطاف والتوسّل والابتهال بمختلف المفردات المتضمنة للتمنيات التي يعيشها الإنسان في تفكيره بما ينتظره من الله سبحانه في خلاص نفسه بكلّ الوسائل التي يوفقه الله إليها للحصول على محبته، والوصول إلى موقع رضوانه، ليكون الإنسان الذي يقف موقف الآمن في يوم القيامة من خلال ما يحياه من حياة طيبة، ويموت ميتة طيبة بحيث يسعى نوره بين يديه وعن يمينه.
ثم يتحرك الدعاء في ما يحبّه الإنسان لنفسه في حياته مما يفيض به عليه ربّه، ليكون الذليل بين يديه، والعزيز عند خلقه، وليعيش الضعة في خلوته به، والرفعة بين عباده، والغنى عن عباده، والفقر إليه، والخلاص من شماتة الأعداء ومن حلول البلاء ومن الذل والعناء، والنجاة من كلّ فتنةٍ وسوءٍ، والسلامة من فضيحة الآخرة بعد نجاته من فضيحة الدنيا، ومن قساوة القلب، ليكون الإنسان مع الله في كلّ حركة في العمل من أجل رضوانه.
وتتتابع الطلبات في هذا اليوم الذي يفيض الله فيه رحمته على عباده في حظوظ الرضوان، فلا يرجع صفراً من فيوضات الله، بالرغم مما أسلف فيه من المعاصي، لأنّ التوحيد الذي يحمله في عقله وروحه وقلبه هو القربى التي يتقرّب بها إليه، ولأنّه الأساس الذي ترتكز عليه علاقته بربّه، هذا مع الانفتاح على الله من الطريق الذي أراد للإنسان أن يسلكه ليصل إليه، والتذلّل الذي يعيش معه الإخلاص في العبودية، والرجاء الكبير به الذي يجعله في آفاق الأمل والثقة بالله بعيداً عن كلّ تكبّر وتجبّر واستطالة واستعلاء.
وتتعدّد الاعترافات بما عاشه الإنسان من مفردات حياته التي ابتعد بها عن ربّه بفعل النفس الأمارة بالسوء، وينفتح له من خلال ذلك أكثر من باب للدعاء والرجاء والتوبة والإنابة وحركة القرب إلى الله حتى يبسط كلّ حياته بين يديه ليطلب منه أن يمنحه فيها ومنها الكثير الكثير، مما يجعل دنياه في خطّ الطاعة والاستقامة في درب التوحيد، ويفتح له في آخرته أبواب الفوز بالجنّة والرضوان وسعادة الروح في آفاق النعيم، ليبقى في ذلك كلّه في رعاية الله وعنايته ولطفه ورحمته، فيفتح قلبه لمعرفته، ولسانه لذكره، وحركته لطاعته، وليغنيه عن كلّ خلقه، ويبعده عن الحاجة إلى الفاسقين، ويجنبه الانحراف في حياته بنصرة الظالمين والسير معهم في إضعاف دين الله وظلم عباده.
إنّ قيمة هذا الدعاء أنّه يمثل جولة واسعة في رحاب العلاقة الإنسانية في موقع العبودية لله وفي مقام الربوبية، ليطرح الإنسان أمام ربّه كلّ تطلعاته وأمانيه وكلّ أوضاعه وأموره، ليكون إنسان الله القريب إليه في كلّ أقواله وأفعاله ومواقفه ومواقعه في كلّ الأمور، ولذلك فإنّه يمثل وثيقة روحية شاملة مملوءة بالتكبير والتهليل والتحميد والتسبيح والصلاة على الرسول محمّد(ص) وأهل بيته، وكلّ حاجات الإنسان في حياته وفي الواقع الداخلي لنفسه، وفي الواقع الخارجي لحياته، مما يحقق له السعادة في الدنيا والآخرة من خلال الله سبحانه.
* * *

اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمينَ، اللّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ بَديـعَ السَّمـاواتِ وَالأرْضِ، ذَا الْجَـلالِ وَالإكْرامِ، رَبَّ الأرْبابِ، وَإِلهَ كُلِّ مَأَلُوه، وَخالِقَ كُلِّ مَخْلُوق، وَوارِثَ كُلِّ شَىْء، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَلا يَعْزُبُ عَنْهُ عِلْمُ شَىْء، وَهُوَ بِكُلِّ شَىْء مُحيطٌ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَىْء رَقيبٌ.
* * *
الحمد لله ربّ الأرباب...
يا ربّ، لك الحمد في مقام ربوبيتك التي تشمل العالمين جميعاً، فيلتقي الكلّ في وحدة المخلوقية وفي وحدة الربوبية.
أنت المبدِع الذي أبدعت السماء بكلّ عجائبها والأرض بكلّ تنوعاتها.
يا من له الجلال ولا جلال لغيره إلا من خلاله، ويا من له الإكرام فهو الذي يعطي الإكرام لخلقه.. أنت ربّ الأرباب، فكلّ من يدعي الربوبية أو من تفرض له، أو من يتخيّل فيه ذلك، مربوب لك، فأنت وحدك الربّ الذي لا ربّ لك، والإله لكلّ من يخضع لألوهيتك، والخالق لك مخلوق، فلا أحد غيرك يشاركك في خلقك، وأنت الباقي - وحدك - بعد فناء كلّ شيء، ولذلك كنت الوارث لكلّ شيء، فلا يماثلك شيء، الذي شمل علمك كل شيء، فلا يغيب شيء عن علمك، والمحيط بهيمنتك وسلطتك على كلّ شيء والرقيب بإشرافك الشامل على كلّ شيء.
* * *
أَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الأحَدُ الْمُتَوَحِّدُ، الْفَرْدُ الْمُتَفَرِّدُ، وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الْكَريمُ الْمُتَكَرِّمُ، الْعَظيمُ الْمُتَعَظِّمُ، الْكَبيرُ الْمُتَكَبِّرُ.
وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الْعَلِيَّ الْمُتَعالِ، الشَّديدُ الْمِحالِ.
وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الرَّحْمنُ الرَّحيمُ، الْعَليمُ الْحَكيمُ.
وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ السَّميعُ الْبَصيرُ، الْقَديمُ الْخَبيرُ.
وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الْكَريمُ الأكْرَمُ، الدّائِمُ الأدْوَمُ.
وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الأوَّلُ قَبْلَ كُلِّ أَحَد، وَالآخِرُ بَعْدَ كُلِّ عَدَد.
وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الدّاني في عُلُوِّهِ، وَالْعالي في دُنُوِّهِ.
وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ ذُو الْبَهاءِ وَالْمَجْدِ، وَالْكِبْرِياءِ وَالْحَمْدِ.
وَأَنْتَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الَّذي أَنْشَأْتَ الاَشْياءَ مِنْ غيْرِ سِنْخٍ، وَصَوَّرْتَ ما صَوَّرْتَ مِنْ غَيْرِ مِثال، وَابْتَدَعْتَ الْمُبْتَدَعاتِ بِلاَ احْتِذاء.
* * *
أنت الله الذي لا إله إلا أنت
يا ربّ، أنا هنا، وفي عقلي وروحي وإحساسي امتداد المعرفة في وعي توحيدك في صفاء معناه، وفي عمقه المطلق في عمق سرّه، في كلّ صفاتك وآلائك وآفاق عظمتك، فلا أجد في عقلي غيرك عند انفتاحه عليك، ولا تعيش روحي مع سواك عندما تعيش معك، ولا يخفق إحساسي في كلّ نبضاته إلا لك.
فأنت الواحد بكلّ معنى الوحدة في شموليتها في كلّ وجه، البليغ في وحدانيتك، والفرد الذي لا يدخل رقماً في حسابات العدد، المتميّز في فردانيته غن غيره ممن تتلاحق الأعداد بعده ليكون جزءاً من كلّ.
وأنت الأحد في كرمك، لأنّ كرمك لا يُقاس به أيّ معنى للكرم، فهو الأعلى في كلّ معانيه، والأحد في كلّ امتدادات العظمة في مواقعها، المتميز في أسرار عظمتك، والكبير الذي تتصاغر كلّ الأشياء أمامه، فلا يقف أمام كبريائه كبير، والعليّ الذي لا حدّ لعلوّه، المتعالي الذي ينفتح على المطلق علوّه، الشديد التدبير في كيده للكائدين ومكره للماكرين، حيث يجازيهم ويبطل كيدهم ومكرهم، ويحطمهم بسلاحهم، وأنت العليم الذي لا منتهى لعلمه، والحكيم الذي انطلق الوجود كلّه من خلال حكمته حيث أعطى الأشياء مقاديرها ووضعها في مواضعها، وأودع فيها عناصر حاجاتها، وأنت السميع الذي أحاط بكلّ شيء سمعه من دون أداة، والبصير الذي شمل كلّ موجود بصره من دون عين، القديم الذي لا أوّل لأوله، الخبير بكلّ شيء، الكريم الذي لا كريم أكرم منه، والدائم الذي لا نهاية لوجوده والمتميز في دوامه.
وأنت الواحد الذي دنا لعباده بطوله وعطائه ونعمه، فإنّه يدنو من موقع علوّه فلا يتنزّل من شأنه شيء، ويعلو في وجوده بقدرته ولكن من دون أن يفصله ذلك عن خلقه في رعايته لهم وعنايته بهم،وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ(ع) في نهج البلاغة، "علا بحوله - والحول: القدرة - ودنا بطوله - والطول: العطاء"(2).
أنت الذي أوجدت الأشياء من لا شيء، فلم يكن قبلها شيء تحتذيه وتتمثله في إبداع وجودك، وأنت الذي أعطيت الوجود في كلّ موجوداته صورته، ولم يكن هناك - قبله - أيّ مثال سابق لأيّة صورة أخرى، فقد ابتدعت المبتدعات واخترعتها من غير تقليد لأحد، بل هي قدرتك وعلمك وإرادتك التي كانت أساس ذلك كلّه.
أنت الله الا إله إلا أنت في ذلك كلّه، فكيف ينكر المنكرون توحيدك؟
* * *
أَنْتَ الَّذي قَدَّرْتَ كُلَّ شَىْء تَقْديراً، وَيَسَّرْتَ كُلَّ شَىْء تَيْسيراً، وَدَبَّرْتَ ما دُونَكَ تَدْبيراً، وأَنْتَ الَّذي لَمْ يُعِنْكَ عَلى خَلْقِكَ شَريكٌ، وَلَمْ يُوازِرْكَ في أَمْرِكَ وَزيرٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَكَ مُشاهِدٌ وَلا نَظيرٌ.
أَنْتَ الَّذي أَرَدْتَ فَكانَ حَتْماً ما أَرْدْتَ، وَقَضَيْتَ فَكانَ عَدْلاً ما قَضَيْتَ، وَحَكَمْتَ فَكانَ نِصْفاً ما حَكَمْتَ.
أَنْتَ الَّذي لا يَحْويكَ مَكانٌ، وَلَمْ يَقُمْ لِسُلْطانِكَ سُلْطانٌ، وَلَمْ يُعْيِكَ بُرْهانٌ وَلا بَيانٌ.
أَنْتَ الَّذي أَحْصَيْتَ كُلَّ شَىْء عَدَداً، وَجَعَلْتَ لِكُلِّ شَىْء أَمَداً، وَ قَدَّرْتَ كُلَّ شَىْء تَقْديراً، أَنْتَ الَّذي قَصُرَتِ الأوْهامُ عَنْ ذاتِيَّتِكَ، وَعَجَزَتِ الأفْهامُ عَنْ كَيْفِيَّتِكَ، وَلَمْ تُدْرِكِ الأبْصارُ مَوْضِعَ أَيْنِيَّتِكَ.
* * *
أنت الذي قدّرت كلّ شيء تقديراً
يا ربّ... وأنا أتطلع إلى الوجود في ظواهره الكبيرة والصغيرة، وفي كلّ مفرداته المتنوعة في عناصرها وأشكالها، فلا أملك إلا أن أتطلع إليك فأعرف - من خلالها - أنّك أنت قدّرتها وأوجدتها في عمق التوازن، فأعطيت لكلّ موجود حاجته في معنى وجوده، وقدّرت له خصائصه وعناصره بمقدار معلوم على أفضل حال من الحكمة والدقة، وسهّلت لكلّ شيء وظيفته، فجعلت الشمس سراجاً، والقمر نوراً، والليل لباساً، والنهار معاشاً، فكلٌ يُسِّر لما خُلق له.

ودبّرت للأشياء مما خلقت وممن خلقت حركة وجودها، وطريقة عملها ومنحتها النظام الداخلي والخارجي الذي يعينها على تدبّر أمرها بكل اتزان.
وأنت - يا ربّ - الغني عن كلّ خلقك، فأنت - وحدك - الخالق الواحد الذي لم يشاركه أحد في خلقه لأنّه لا أحد غيرك في عالم الخلق، فلا شريك لك في ذلك ولا معاونة لك فيه، ولم يكن معك أحد ليشاهدك، ولا نظير لك في هذه القدرة المطلقة في إبداع خلقك.
أنت صاحب الإرادة التي إذا تعلقت بشيء كان وجوده حتمياً لا مجال فيه لأيّة ثغرة من العدم، أو أيّ فاصل بين الإرادة والوجود: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
وأنت العدل في قضائك، فلا جور ولا ظلم، لأنّه لا يحتاج إلى الظلم إلا الضعيف الذي ينطلق من خوف أو من عقدة ليكون الظلم وسيلة أمن، وتنفيساً عن عُقدةٍ، ولهذا فإنّك إذا قضيت في أيّ شأن من شؤون خلقك فهناك العدل المنفتح على الحقّ كلّه وعلى الرحمة كلّها.
وإذا حكمت فإنّ حكمك هو الإنصاف الذي يعطي لكلّ ذي حقٍّ حقه، ليجد الجميع في حكمك الرضا الذي يحتوي القضية كلّها من جميع جوانبها.
يا ربّ، إنّك أنت الله الذي خلق المكان فكان المكان خلقاً من خلقه، لم يكن ثم كان بإرادتك، فكيف يحويك المكان وأنت خالقه.
أما السلطان فما قيمة أيّة سلطةٍ لأيّ مخلوق وأنت الذي أعطيت لكلّ صاحب سلطة سلطته بما أتيته من القدرة، وأنت الذي سبق كلّ برهان برهانُه وأعجز كلّ بيان بيانُه.
وأنت الذي أحصى الخلق كلّه فلم يغب عنه أيّ رقم من أرقام العدد، لأنّك أحطت بكلّ شيء علماً، كما ذكرت في كتابك: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [الجن:28]، وأنت الذي أعطى لكلّ موجود عمره وأجله وأمده في رحلة الحياة الساكنة والمتحركة، وأنت الذي قدر لكلّ شيء قدره، فقد جعلت لكلّ شيءٍ قدراً كما ذكرت في كتابك: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3].
وأنت الله الذي لا حدّ لآفاق الغيب في سرّ ذاته، ولعمق الحقيقة المطلقة في معنى حقيقته، وكلّ فكر محدود في أفقه، ضيّق في تجربته، فكيف يمكن للكفر - في كلّ وهمه المنفتح على الحقائق - أن يصل إلى كُنه ذاتك وحقيقة وجودك.
ومهما انطلقت الأفهام في تصوراتها لصفات الكمال والجلال، فإنّها لن تبلغ وعي الصفات المتحركة في الغيب المطلق الذي لا يدركه إلا المطلق، ولا مطلق في وجوده وصفاته غيرك.
ومهما بحثت الأبصار وحدقت في كل مواقع الأرض والسماء فلن تدرك شيئاً من ذلك، مما يتصل بوجودك ومكانك، لأنّك لا مكان لك ليقال أين ولا ظهور لك في دائرة الحسّ لتُنظر بعين.
* * *
أَنْتَ الَّذي لا تُحَّدُّ فَتَكُونَ مَحْدُوداً، ولَمْ تُمَثَّلْ فَتَكُونَ مَوْجُوداً، وَلَمْ تَلِدْ فَتَكُونَ مَوْلُوداً، أَنْتَ الَّذي لا ضِدَّ مَعَكَ فَيُعانِدَكَ، وَلا عِدْلَ لَكَ فَيُكاثِرَكَ، وَلا نِدَّ لَكَ فَيُعارِضَكَ.
أَنْتَ الَّذِي ابْتَدَأَ وَاخْتَرَعَ، وَاسْتَحْدَثَ وَابْتَدَعَ، وَأَحْسَنَ صُنْعَ ما صَنَعَ.
سُبْحانَكَ ما أَجَلَّ شَأْنَكَ! وَأسْنى فِي الأماكِنِ مَكانَكَ، وَأَصْدَعَ بِالْحَقِّ فُرْقانَكَ.
سُبْحانَكَ مِنْ لَطيف ما أَلْطَفَكَ، وَرَؤُوف ما أَرْأَفَكَ! وَحَكيم ما أَعْرَفَكَ، سُبْحانَكَ مِنْ مَليك ما أَمْنَعَكَ، وَجَواد ما أَوْسَعَكَ، وَرَفيع ما أَرْفَعَكَ، ذُو الْبَهاءِ وَالْمَجْدِ، وَالْكِبْرِياءِ وَالْحَمْدِ.
* * *
أنت الذي ابتدأ واخترع وأحسن صُنع ما صنع
يا ربّ، كيف أتصورك في حدود التصورات التي تتحرك في عقلي في حركة الفكر التصوري في داخله، وليس لك صورة محددة تحدّد أبعادك في طبيعتها وفي نهايتها، لأنّ ذلك هو خصوصية المحدودية في حدود الامتداد في خط النهاية، وفي عنصر الجسمية، وهو سرّ المادة في حدودها الحسيّة.
وقد جاء عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع)، أن رجلاً قال له: حدَّه؟ - وهو يشير إلى الله سبحانه - قال: "لا حدّ له، قال: ولِمَ؟ قال: لأن كل محدود منتاهٍ إلى حدّ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزئ ولا متوهّم"(3). وهكذا أتعقّلك في معنى المطلق الذي يتعقّل الإنسان منه امتداده في عالم اللانهاية في مثل التصوّر في آفاق الضباب الذي يوحي بالشيء من دون أن يدخل في طبيعة الشيء في سرّه.
وإذا كان هناك من يريد أن يتصورك في صورة المثال الذي ينفتح به العقل على الشيء من خلال مثاله، ليكون لك في الصورة معنى الوجود الذهني الذي يحدّد ملامح الشيء في تفاصيله، أو معنى الوجود الحسي الذي ينفتح على أجزاء الشيء وعناصره.
وإذا كان هناك من هؤلاء من يتمثلونك، فإنّهم لا يعرفون سرّك البعيد عن أيّ معنى مادي، فليس لك مثال يتمثلونك به لتكون موجوداً في نطاق تخيلاتهم وأوهامهم، فأنت - وحدك - سرّ الوحدانية في الوجود الحتمي الذي لا يشاركه وجود آخر في معناه، وفي الخطّ الفكري من ذلك لم يكن لك ولد - بأيّ معنى للولدية - لأنّك لست مادة تتجزأ أو تنتج شيئاً آخر بمعنى عضوي، فأنت الخالق بإرادتك كل موجودٍ غيرك، وإذا لم يكن لك ولد لاستحالة ذلك في معنى الألوهية المطلقة فلن تكون - في فرضية الأوهام - مولوداً، لأن الولادة تعني الحاجة إلى شيء آخر في وجوده، كما أن مسألة الوالدية تنفتح على مسألة المولودية، لأن الطبيعة التي تفرض أحدهما تفرض الآخر في سرّ الوجود المادي الذي يجتذب في الخصوصية الوجودية التي لم تصنع بطريقة الخلق المباشر - كما هو آدم - لأنّ فرضية الإله الواجب الوجود الثابتة بالبرهان تنفي ذلك...
إنّ وجودك - يا ربّ - ليس له أي شكل أو صورة أو مضمون في هذا الوجود المتنوّع الذي هو نتاج وجودك في إرادتك التي تنتج كلّ مفرداته، ولذلك فلا يمكن أن يُقاس به أيّ وجودٍ آخر، مما يجعل خصائص تلك الوجودات بعيدةً - حتى في الصورة - عن وجودك، سبحانك يا الله.
* * *
إن إرادتك - يا ربّ - هي تلك الإرادة الحرّة المطلقة التي لا يملك أحد، مهما كانت قوته، أن يعاندها أو يضادها، لأنّه لا يوجود هناك ضدّ يملك دور العناد، ولا يوجد في كلّ هذا الوجود أيّ وجود معادل لوجودك في القوة والوزن والإرادة ليتحرك في موقع المغالبة على أساس الكثرة في مواجهة الوجود الواحد، وليس لك مثل يماثلك في القوة ليعارضك في التكوين الوجودي مما أردت وقضيت، كما يفعل الندّ في مواجهة ندّه في حالة الخلاف وإمكانات المعارضة.
* * *
أنت - يا ربّ - الذي ابتدأ الوجود في إيجاده، واخترع الأشياء من اللاشيء، ولم يكن هناك موجد غيرك، فأنت الذي استحدثت الوجود وابتدعته من عمق إرادتك، فأتقنته بحكمتك وأودعته كلّ العناصر الذاتية التي تسير بالموجود ليحقق غايته في نظام الوجود كلّه.
* * *
سبحانك، في كلّ معاني التنزيه في التسبيح، فليس هناك أيّ شأنٍ يقترب من شأنك، لأنّ شأنك هو أجلّ شأنٍ، وليس هناك موقع للعلوّ والرفعة والسموّ يرتفع إلى موقعك في كلّ شيء من صفات الجمال والجلال، وليس هناك في الحُجّة على قضايا الحقّ التي تحدّد الفواصل بين الحق والباطل، أظهر من الحُجّة التي ينطلق بها برهانك الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
إنّ التسبيح المنطلق من أعماق الإحساس بعظمتك الممتدة في مظاهر الوجود كلّه، يفرض نفسه على عقلي وقلبي وكلّ حياتي، لأنّ لطفك هو في رفقك بعبادك، وإيصالهم إلى كلّ ما يحقق لهم الخير كلّه في الدنيا والآخرة ويهيِّئ لهم كلّ ما يصلح أمورهم، ويبتعد بهم عن الفساد في ذلك كلّه، من خلال علمه بدقائق الأشياء التي تمثل كلّ ما يختزنه الوجود من خير أو شرّ، لتجنبهم سلبيات ذلك كلّه، وليعيشوا اللطف الدقيق الخفي في آفاق رحمتك.
ولأنّ رأفتك فاقت في حنانها كلّ رأفة، ولأن حكمتك - في إتقان الخلق تدبيره ورعاية أسرار المصالح والمفاسد فيه - لم تقترب إليها في موقعها المميز، كلّ حكمة في كلّ معرفة تفتح للحكمة أبوابها على الحياة والإنسان، ولأنّك المالك لكلّ شيء الذي استع ملكه في سعة الوجود كلّه، فأنت الذي تعطي كلّ شيء ملكه وقوته ومنعته، فلا منعة أعلى من منعتك، ولأنك الجواد الذي لم يضق جوده بأي موقع من مواقع الحاجة، بل اتسع لكلّ مخلوقاته بما أفاض عليها من عطاياه، ولأنّك الرفيق في أعلى آفاق السموّ والشرف والرفعة، فلا رفيع أمام رفعته.
أنت صاحب البهاء المتميّز بكمالك وجلالك وعزتك وعظمتك، وصاحب الكبرياء الذي ارتفع في منازل الكِبر في أعلى المواقع، وصاحب الحمد الذي يسبح كلّ شيء بحمده ولا حمد لسواه إلا من خلال حمده..
* * *
سُبْحانَكَ بَسَطْتَ بِالْخَيْراتِ يَدَكَ، وَعُرِفَتِ الْهِدايَةُ مِنْ عِنْدِكَ، فَمَنِ الْتَمَسَكَ لِدين أَوْ دُنْيا وَجَدَكَ.
سُبْحانَكَ خَضَعَ لَكَ مَنْ جَرى في عِلْمِكَ، وَخَشَعَ لِعَظَمَتِكَ ما دُونَ عَرْشِكَ، وَانْقادَ لِلتَّسْليمِ لَكَ كُلُّ خَلْقِكَ، سُبْحانَكَ لا تُحَسُّ، وَلا تُجَسُّ، وَلا تُمَسُّ، وَلا تُكادُ، وَلا تُماطُ، وَلا تُنازَعُ، وَلا تُجارى، وَلا تُمارى، وَلا تُخادَعُ، وَلا تُماكَرُ.
سُبْحانَك سَبيلُكَ جَدَدٌ، وَأَمْرُكَ رَشَدٌ، وَأَنْتَ حَىٌّ صَمَدٌ، سُبْحانَكَ قَوْلُكَ حُكْمٌ، وَقَضاؤُكَ حَتْمٌ، وَإِرادَتُك عَزْمٌ، سُبْحانَكَ لا رادَّ لِمَشِيَّتِكَ، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِكَ، سُبْحانَكَ باهِرَ الاْياتِ، فاطِرَ السَّماواتِ، بارِئَ النَّسَماتِ.
* * *
سبحانك باهر الآيات وفاطر السماوات
يا ربّ، ويبقى التسبيح الخاشع في آفاق المعرفة بك يرتفع بالتعظيم والتنزيه والتمجيد لك، فكيف لا ينطلق لساني بالتسبيح وأنا أراك في عطائك لكلّ عبادك - وأنا منهم - تبسط لهم كلّ ألوان الخير التي تحوّل الحرمان إلى جِدة، والفقر إلى غنى، والجوع إلى شبع، والشقاء إلى سعادة، فينعمون بذلك كلّه فيسبّحونك تسبيح الإحساس بالنّعمة في امتداد العظمة.
وإذا كان عبادك يسبحونك للنّعم المادية التي تبني لهم حياتهم في أنفسهم وأهلهم وأموالهم وأوضاعهم، فإنّهم يسبحونك بالهداية الرضيّة المطمئنة التي عرفوها، مما أودعت في عقولهم من الوحي وحركة الفكر، ومما حرّكته في الحياة من وسائل المعرفة، وما أنزلته على رسلك من حقائق الغيب والشهادة في وحيك، فأنت الذي هداهم للإيمان بك وبتوحيدك وللسير في خطّ الاستقامة في اتجاه التوحيد في العقيدة والعبادة والطاعة.
فأنت المرجع في الدين والدنيا، والملجأ لعبادك في كلّ ما يحتاجونه في خصائص الحاجات الصغيرة والكبيرة في الدنيا والآخرة.
* * *
يا ربّ، أنت وحدك المهيمن على الخلق كلّه والأمر كلّه، فقد خضع لك كلّ مخلوقٍ مما جرى في علمك من كلّ أصنافه وأنواعه، وخشع الجميع لكلّ مواقع العظمة في العمق وفي السطح ممن عاشوا العبودية لك، لأنّهم مملوكون لك، واقعون تحت تصرفك وتدبيرك، خاضعون لك في كلّ حركة القضاء والقدر المتحركة في نظام الكون والإنسان، منقادون لحكمك في التكوين والتسليم لكلّ ما تريده في ذلك كلّه، فكيف لا يسبحونك - يا ربّ - وكيف لا ينطلق الصراع بالمحبة في كلمة التعظيم والتنزيه، سبحانك يا ربّ!.
* * *
سبحانك لا تُدرك بالحسّ لأنّك فوق الحسّ كلّه، فقد ارتفعت ذاتك عن عالم المحسوس، ولا يمكن أن تمسّ بيدٍ أو بغير يدٍ ليتعرّف إليك من يريد اختبار شيء من ذاتك، لأنّ ذلك شأن المادة والمحدود، وأنت فوق المادة وخارج المحدود، ولا يمكن لأحد أن يخدعك أو يمكر بك، فأنت الربّ الذي لا تخفى عليه خافيةٌ في الأرض والسماء، لأنك تكتشف كلّ ما يتحرك به الآخرون مما يريدون أن يخفوه إيهاماً بغيره، ولا يمكن أن تنحّى عن أيّ موقعٍ تريده أو تبعد عنه، لأنّك المحيط بكلّ شيء، فلا يملك أحد أن يخطط لذلك من دون علمك.
ولا مجال لأحد أن ينازعك ويخاصمك ويجادلك ويناظرك ويحاجّك في أيّ شيء، ليقيم الحُجّة عليك، أو يخادعك بما قد يزعم البعض من أنّه يخادعك أو يماكرك ليصرفك عما تقصده بتدبيرك، وهذا كلّه هو الذي يبعث التسبيح من عمق العقل والروح تعظيماً لربوبيتك..
* * *
يا ربّ، إن الطريق الذي رسمته من أجل تحقيق إرادتك في مصلحة الإنسان، هي الأرض الصلبة المستوية التي لا انحراف فيها ولا اهتزاز، فلا مجال للعثار فيها.
وإنّ الأمر الذي أنفذته ووجهت إليه، كلّه هدىً وخير يهدي من اتّبعه سبيل الرشاد..
وأنت الحيّ الذي لا زوال له، الصمد الذي يقصده الخلائق في الحاجات والمهمّات، فلا يقضى دونك أمر مهما كان صغيراً أو كبيراً..
وأنت الربّ الذي إذا قال فإنّ قوله يمثّل الحكم المبرم الذي لا رادّ له، وإذا قضى كان قضاؤه الذي لا يمكن أن يتخلّف أو يهتزّ، بل يبقى في نطاق الحتمية الثابتة التي لا تهتزّ ولا تتزلزل، أما إرادتك فإنها العزم الذي يمثل الفعل الوجودي الذي لا ثغرة بينه وبين الإرادة.
سبحانك، فإنّك إن شئت فلا رادّ لمشيّتك، لأنّك وحدك الذي تقضي ولا يقضى عليك.
وأنت الذي لا تبديل لكلماتك، لأنّها تمثل الحقيقة الثابتة القوية التي لا مجال فيها لأيّ تبديل أو تغيير.
* * *
سبحانك في آياتك اتي تطلّ على الوجود كلّه في قمة الإبداع، فتبهر في إشراقتها المضيئة أعين الناظرين وفي سماواتك المملوءة بالكثير الكثير من أسرار العظمة في عالم الغيب والشهادة، فتدلّ على عظمة الخالق الذي فطرها وشقّها من قبل العدم فأخرجها إلى الوجود من غير مثالٍ سابق ونهجٍ متقدّم، فهو الذي أبدع مثالها من غامض علمه، ووضع لها منهجها من عمق حكمته..
وفي خلقك الذي أنشأته بإبداع قدرتك في روعة الذات والصورة المتميزة بكلّ أسرار الخلق في انفتاح الحكمة على الوجود كلّه.. سبحانك سبحانك...
* * *
لَكَ الْحَمْدُ حَمْداً يَدُومُ بِدَوامِكَ، وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْداً خالِداً بِنِعْمَتِكَ، وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْداً يُوازي صُنْعَكَ، وَلَك الْحَمْدُ حَمْداً يَزيدُ عَلى رِضاكَ، وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْداً مَعَ حَمْدِ كُلِّ حامِد، وَشُكْراً يَقْصُرُ عنْهُ شُكْرُ كُلِّ شاكِر.
حَمْداً لا يَنْبَغي إِلاّ لَكَ، وَلا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلاّ إِلَيْكَ، حَمْداً يُسْتَدامُ بِهِ الأوَّلُ، وَيُسْتَدْعى بِهِ دَوامُ الاْخِرِ.
حَمْداً يَتَضاعَفُ عَلى كُرُورِ الأزْمِنَةِ، وَيَتَزايَدُ أَضْعافاً مُتَرادِفَةً، حَمْداً يَعْجِزُ عَنْ إِحْصائِهِ الْحَفَظَةُ، وَيَزيدُ عَلى ما أَحْصَتْهُ في كِتابِكَ الْكَتَبَةُ.
حَمْداً يوازِنُ عَرْشَكَ الْمَجيدَ، وَيُعادِلُ كُرْسِيَّكَ الرَّفيعَ، حَمْداً يَكْمُلُ لَدَيْكَ ثَوابُهُ، وَيَسْتَغْرِقُ كُلَّ جَزاءٍ جَزاؤُهُ، حَمْداً ظاهِرُهُ وَفْقٌ لِباطِنِهِ، وَباطِنُهُ وَفْقٌ لِصِدْقِ النِّيَّةِ فيهِ، حَمْداً لَمْ يَحْمَدْكَ خَلْقٌ مِثْلَهُ، وَلا يَعْرِفُ أَحَدٌ سِواكَ فَضْلَهُ.
حَمْداً يُعانُ مَنِ اجْتَهَدَ في تَعْديدِهِ، وَيُؤَيَّدُ مَنْ أَغْرَقَ نَزْعاً في تَوْفِيَتِهِ، حَمْداً يَجْمَعُ ما خَلَقْتَ مِنَ الْحَمْدِ، وَيَنْتَظِمُ ما أَنْتَ خالِقُهُ مِنْ بَعْدُ، حَمْداً لا حَمْدَ أَقْرَبُ إِلى قَوْلِكَ مِنْهُ، وَلا أَحْمَدَ مِمَّنْ يَحْمَدُكَ بِهِ.
حَمْداً يوجِبُ بِكَرَمِكَ الْمَزيدَ بِوُفُورِهِ، تَصِلُهُ بِمَزيد بَعْدَ مَزيد طَوْلاً مِنْكَ، حَمْداً يَجِبُ لِكَرَمِ وَجْهِكَ، وَيُقابِلُ عِزَّ جَلالِكَ.
* * *
لك الحمد حمداً يدوم بدوامك
يا ربّ، إن عبوديتي لك المنفتحة على مواقع الحمد في قدس ذاتك، في صفات الجلال والكمال، تفتح لي كلّ آفاق حمدك الذي يختزن في معناه كلّ معاني العظمة، وكلّ امتدادات النعمة، بحيث أحسّ باهتزاز كياني أمام ذلك كلّه، فلا أجد الكلمة المعبّرة المحدّدة الوافية التي تحمل كلّ ما في عقلي وقلبي وشعوري من الإيحاءات التي تنساب في وعي الفكر والعاطفة والإحساس، ولهذا كانت الكلمات تنفتح على المطلق في معنى الشمول والكلية، الغارق في أجواء الضباب الذي يحمل عمق المحبة في ضبابية الكلمات.
إنّني عندما أتصّور كلمة الحمد في سرّ ذاتك، فإنّني أتصورّها معنىً يمتد بامتدادك الذي لا نهاية له في امتداد ملكك الذي لا يزول، مما يجعل حمدي ممتداً ليشمل ذلك كلّه، حتى لو اختفى وجودي فلم يعد لديّ كلمة تنطلق، لأنّ امتداده ينطلق من عمق المعنى في خلود ملكك ومن عمق الإحساس في محبتي لك، ومن هذا الموقع يمتد الحمد مني بخلود نعمتك التي تفيضها على كلّ الموجودات ما دام الوجود يتحرّك في ذاتها، ويتصاعد لينتشر وليصل إلى موازاة صنيعك وإحسانك، لأنّك تستحقّ في كلّ مورد من موارده في جزئياته وكلياته حمداً، ويتعالي ويتنامى بحيث يتجاوز ما يرضيك منه، مما يتناسب مع استحقاقك في انفتاح عبادك عليك بذكر محامدك، ويتحرك مع كلّ ما يحمدك به الحامدون، ويتفاعل مع كلّ شكر يشكرك به الشاكرون.
ويتميّز في فرادته بكلّ عناصر المحبة والعبودية، فلا يحسن ولا يستقيم ولا يصلح إلا لك، ولا ينفتح - في مواقع القرب - إلا عليك، مما يتقّرب به المتقربون إليك، بما يعبّر به الحمد من الإخلاص لك والثناء عليك.
إنّه الحمد الذي تمتد به النّعم الماضية، وتنفتح به على النعم الحاضرة والمستقبلة، لأنّه يهيّئ للرعاية الإلهية للإنسان من خلال الشكر الذي يختزنه الحمد لتدوم له النعمة، لأنّ ما يفتح أولها هو الذي يبقي آخرها.
ويبقى هذا الحمد مع حركة الزمن في تتابعه، ويزيد أضعافاً يتبع بعضها بعضاً، ويمتد ويستمرّ ويتكاثر حتى يصل إلى المستوى الذي لا يملك الحفظة أن يحصوه، ولا يستطيع الكتبة أن يلاحقوا زيادته في تصاعده في كلّ إخلاص الحمد في الإيمان.
إن تطلعاتنا إلى حجم الحمد الذي نقدّمه لك بما تستحقّه منه قد يوحي إلينا أنّه يوازن عرشك المجيد في عظمته وارتفاعه، ويماثل كرسيك الرفيع في سعته وشموله للوجود كلّه.
وهو الحمد الذي نحصل من خلاله على الثواب الكامل الذي نتطلع إليه، ويختزن في داخله كلّ لونٍ من ألوان الجزاء، لأنّه يصل إلى الغاية التي لا يبقى معها مجال للحمد حيث يستوعب كلّ موارده.
وهو الحمد الذي يستوي فيه الظاهر والباطن، لأنّه لا يحمل الازدواجية التي قد يتحرك بها بعض الناس مما يختلف فيه الشكل عن المضمون، والظاهر عن الباطن، لاهتزاز النية التي لا يملك الإنسان معها الصدق الداخلي في الإحساس بالعمل.. إنّه الحمد المنطلق من عمق الإخلاص في النية من مواقع الإخلاص لمعنى الربوبية في ذاتك في معنى العبودية في ذواتنا.
ويسمو ويتأصل ويزداد بحيث لا يماثله أيّ حمد لك من أيّ مخلوق في نوعيته وحجمه، ويبلغ بالفضل درجة من العمق والامتداد لا يعرف فضلها سواك.
إنّه الحمد الذي تحبّه وترضاه وتعين الإنسان الذي يحرّك كلّ جهده في إنتاجه من عقله وروحه وتوفيره وتكثيره، ليبلغ الغاية فيه، ويبالغ في إيفائه حقّه الذي يجب له، من الآداب والسنن وإخلاص النية وصدق الرغبة وسعة الانفتاح عليك.
إنه الحمد الجامع الذي يختزن في داخله ويجمع في عناصره كل معاني الحمد في كل مفرداته التي خلقتها وفي كل ما تخلقه منها وهو الأقرب إلى قولك والأكثر في روحيته من حمد أيّ حامدٍ لك، وهو الذي يمنحنا من كرمك المزيد الذي تتصل به الزيادة بعد الزيادة، وهو الذي تستحقه في ذاتك، ويواجه - بالمحبّة والتعظيم - عزّ جلالك، ليكون في المستوى الأعلى الذي قد لا نملك آليته في مادّة الكلمات التي تعبّر عنه، ولكنّنا نعيش التطلع إليك مما نتحسسه ونفكّر به ونعيشه من موقع المعرفة لعظمتك ونعمتك، ليكون طموحنا في الحمد أعلى الطموح الروحي الذي ينفتح عليك ليبلغ الغاية في رضاك.
* * *
رَبِّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد الْمُنْتَجَبِ الْمُصْطَفى، الْمُكَرَّمِ الْمُقَرَّبِ... أَفْضَلَ صَلَواتِكَ، وَبارِكْ عَلَيْهِ أَتَمَّ بَرَكاتِكَ، وَتَرَحَّمْ عَلَيْهِ أَمْتَعَ رَحَماتِكَ.
رَبِّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، صَلاةً زاكِيَةً، لا تَكُونُ صَلاةٌ أَزْكى مِنْها، وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلاةً نامِيَةً، لا تَكُونُ صَلاةٌ أَنْمى مِنْها، وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلاةً راضِيَةً لا تَكُونُ صَلاةٌ فَوْقَها.
رَبِّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، صَلاةً تُرْضيهُ وَتَزيدُ عَلى رِضاهُ، وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلاةً تُرْضيكَ وَتَزيدُ عَلى رِضاكَ لَهُ، وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلاةً لا تَرْضى لَهُ إِلاّ بِها، وَلا تَرى غَيْرَهُ لَها أَهْلاً.
رَبِّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، صَلاةً تُجاوِزُ رِضْوانَكَ، وَيَتَّصِلُ اتِّصالُها بِبَقائِكَ، وَلا يَنْفَدُ كَما لا تَنْفَدُ كَلِماتُكَ.
رَبِّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، صَلاةً تَنْتَظِمُ صَلَواتِ مَلائِكَتِكَ، وَأَنْبِيائِكَ، وَرُسُلِكَ، وَأَهْلِ طاعَتِكَ، وَتَشْتَمِلُ عَلى صَلَواتِ عِبادِكَ، مِنْ جِنِّكَ، وَإِنْسِكَ، وَأَهْلِ إِجابَتِكَ، وَتَجْتَمِعُ عَلى صَلاةِ كُلِّ مَنْ ذَرَأْتَ وَبَرَأْتَ مِنْ أَصْنافِ خَلْقِكَ.
رَبِّ صَلِّ عَلَيْهِ وَآلِهِ، صَلاةً تُحيطُ بِكُلِّ صَلاة سالِفَة وَمُسْتَأْنَفَة، وَصَلِّ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ، صَلاةً مَرْضِيَّةً لَكَ وَلِمَنْ دُونَكَ، وَتُنْشِئُ مَعَ ذلِكَ صَلَوات تُضاعِفُ مَعَها تِلْكَ الصَّلَواتِ عِنْدَها، وَتَزيدُها عَلى كُرُورِ الأيّامِ زِيادَةً في تَضاعيفَ لايَعُدُّها غَيْرُكَ.
* * *
اللهمّ صلِّ على محمّدٍ المصطفى بأفضل صلواتك
ويبقى- يا ربّ - للنبي محمّد(ص) في عقولنا معنى العقل الذي وهب الإنسان من عقله المنفتح على وحيك، عقلاً عميقاً واسعاً أعطى الحياة قوتها وحيويتها وتقدّمها ونموّها وتطوّرها.
ويتعمّق في نبضات قلوبنا له سرّ الحبّ الذي يفيض بالعاطفة الواعية التي عاشت في آفاق عطفه وحنانه ورأفته ورحمته مما بذله للإنسان كلّه من محبّة وحرصٍ وتفاعلٍ مع آلامه ومشاكله وأحلامه وقضاياه، في موقع الإنسان النبيّ الرسول الذي لا يتعالى في مواقعه عن الذين معه أو الذين يريد هدايتهم بل يبقى معهم، وكان فينا كأحدنا - كما يقول كتّاب سيرته - مع اليتيم والفقير والمسكين والأرملة والمشرّد والمستضعف في جميع مواقعه.
وتنفتح حياتنا الباحثة عن القدوة والأسوة الحسنة على حياته التي كانت قمّة السموّ والصفاء والنقاء والارتفاع إلى آفاق القيم الروحية في رحاب الله والقيم الإنسانية المستمدة من ألطافه في واقع الإنسان، والتحرك مع كلّ مفردات سيرته في أهله وأصحابه وأهل بيته، في إنسانيته التي تحافظ على إحساس الإنسان الآخر وشعوره ولو كان ذلك على حساب الآلام الذاتية التي يعانيها في ذلك، وذلك هو قوله - في ما روي عنه - "خيركُم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"(4)، الأمر الذي يوحي إلينا أنّه كان يعيش ذاته في الآخر، ولا يعيش الآخر في ذاته مما يؤصّل معنى الإنسانية في الإنسان.
وننطلق معه، مع المستقبل الذي يبقى الهاجس في حركة الرسالة في كلّ مرحلةٍ، فلا تستغرق في الماضي لتهرب من الحاضر فيه، ولا في الحاضر لتغيب فيه وفي زواياه الضيّقة، بل تنفتح على المستقبل لتصنعه من خلال تجربة الماضي وعناصر الحاضر لتهيئة كلّ شروط الإبداع فيه.
وبهذا تتسع آفاقنا في كلّ حركةٍ تجديدية وإبداعية في خطوط القيم الإسلامية والتشريع الإسلامي، فلا يكون الانتماء إلى الدين تجميداً للذات، بل هو تحريك لطاقاتها في مسؤوليات الإنسان في حركية المستقبل من موقع أنّه صاحب رسالة تهطط للحياة كلّها وللإنسان كلّه.
ونعيش معه في حركة الدعوة إلى الله عندما كان الأمل يزيد اخضراراً في قلبه، وحيويةً في عقله، وقوةً في حركته، وثباتاً في خطواته، وانفتاحاً في مواجهته للإنسان عقلاً وعاطفةً ومنهجاً للحياة، لنبقى معه في كلّ مراحل الحياة، وفي كلّ مواقع العالم، باعتبار أنّ الإسلام رسالة الله إلى الناس جميعاً، وأنّ حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، لتكون مسؤولية الإسلام مسؤولية الأجيال في الدعوة إلى الله، ليحمل كلّ جيل الرسالة إلى الجيل الذي يأتي من بعده، فيكون كلّ واحد رسولاً من قِبَل الرسول كما كان رسولاً من قِبَل الله.
إنه النبيّ الرسول الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلّ الطيبات ويحرّم الخبائث ويضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وهو الذي يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة.. إنّه الرسول اللين القلب واللسان، الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، العزيز عليه كل ما يعانونه من مشقة، الحريص عليهم، صاحب الخلق العظيم، وهو رسول الله إل الناس كافة بشيراً ونذيراً ورحمةً للعالمين.
اللهم صلّ عليه بما تختزن الصلاة من محبتك ولطفك ورفع درجته وقبول شفاعته، وهو الذي استخلصته واخترته وأكرمته وقرّبته إليك بكلّ صلواتك وأعطيته بركتك ورحمتك.
ولتكن صلاتك عليه أفضل الصلاة وأزكاها وأنماها وأعلاها بحيث ترضيه وتزيد على رضاه، وترضيك وترضيك وتزيد على رضاك له.
ولتكن فريدة مميزة تخصه بها من حيث هو أهل لها، باقية إلى ما لا نهاية، متجاوزة لمواقع رضوانك ولا نفاد لها، كما هي كلماتك المتجددة أبداً التي لا تزول ولا تنتهي، ولتكن هذه الصلاة شىاملة لكلّ صلوات الملائكة المقربين وأنبيائك المرسلين وأهل طاعتك أجمعين، ولصلوات الجنّ والإنس وكلّ موجود يحرك وجوده في سرّ الصلاة ومعناها.
ثم تنفتح على كلّ الصلوات التي سلفت والتي تتجدد وتتضاعف، وتزيد في امتداد الزمان، بحيث لا يملك أحد عددها، مما يرضيك ويرضي الآخرين ممن هم دونك، فإنّه يستحق ذلك كلّه من خلال أنّه الإنسان الذي ذاب فيك وأخلص لك ودعا إليك وجاهد في سبيلك، وكان الوسيلة لهدايتنا وهداية الناس إلى دينك.
* * *
رَبِّ صَلِّ عَلى أَطائِبِ أَهْلِ بَيْتِهِ الَّذينَ اخْتَرْتَهُمْ لاَِمْرِكَ، وَجَعَلْتَهُمْ خَزَنَةَ عِلْمِكَ، وَحَفَظَةَ دينِكَ، وَخُلَفاءَكَ في أَرْضِكَ، وَحُجَجَكَ عَلى عِبادِكَ، وَطَهَّرْتَهُمْ مِنَ الرِّجْسِ وَالدَّنَسِ تَطْهِيراً بِإِرادَتِكَ، وَجَعَلْتَهُمُ الْوَسيلَةَ إِلَيْكَ، وَالْمَسْلَكَ إِلى جَنَّتِكَ.
رَبِّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، صَلاةً تُجْزِلُ لَهُمْ بِها مِنْ نِحَلِكَ وَكَرامَتِكَ، وَتُكْمِلُ لَهُمُ الأشْياءَ مِنْ عَطاياكَ وَنَوافِلِكَ، وَتُوَفِّرُ عَلَيْهِمُ الْحَظَّ مِنْ عَوائِدِكَ وَفَوائِدِكَ.
رَبِّ صَلِّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، صَلاةً لا أَمَدَ في أَوَّلِها، وَلا غايَةَ لأِمَدِها وَلا نِهايَةَ لآِخِرِها.
رَبِّ صَلِّ عَلَيْهِمْ زِنَةَ عَرْشِكَ وَما دُونَهُ، وَمِلأ سَماواتِكَ وَما فَوْقَهُنَّ، وَعَدَدَ أَرَضيكَ وَما تَحْتَهُنَّ وَما بَيْنَهُنَّ، صَلاةً تُقَرِّبُهُمْ مِنْكَ زُلْفى، وَتَكُونُ لَكَ وَلَهُمْ رِضاً، وَمُتَّصِلَةً بِنَظائِرهِنَّ أَبَداً.
اللهمّ صلّ على أهل بيته(ع)
يا ربّ، إنّ أهل بيت نبيّك(5) يمثلون صفاء الإسلام ونقاءه واستقامته وحيويته وروحيته وحركته الرسالية بعد غياب النبيّ(ص)، وهذا ما جعلهم موضع رعايتك ورعايته وخلافتك وخلافته وفي موقع الحُجّة عندك على عبادك، لأنّهم يجسدون معنى القوة في البرهان على الحق الذي أنزلته، والدين الذي فرضته، وجعلتهم أطهاراً في عمق الطهر فأذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهيراً، وذلك هو قولك: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:33] وجعلتهم وسيلةً للنجاة وسبباً للإنقاذ من الهلكة، وذلك هو قول نبيك(ص): "مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق"(6)، واعتبرت طاعتهم في خط ّالاستقامة الي يجسدونه ويدعون إليه مدخلاً للجنة التي وعدت بها عبادك المتقين.
اللهم هب لهم من صلاتك صلاةً تمنحهم فيها عطاياك وفضلك، وتكمل لهم ما تفيضه عليهم من جودك وكرمك والمزيد من الخير من عندك، وتعود عليه بالنصيب الأوفى من صِلاتك وهباتك ومنافعك..
ولتكن هذه الصلاة خارج نطاق الزمن من دون أن يكون لأولها حدّ ولا لآخرها نهاية، وهي - في حجمها ووزنها - في وزن العرش وعظمته وما تحته في مقداره، وفي حجم السماوات وما فوقها، وتعداد الأرضين وما تحتهن، لتقرّبهم بذلك إليك، ولتجعلهم في موقع الحظوة عندك، لتحقق لهم الرضوان لديك في اتصال للرضى المنفتح عليه بكلّ خير ونعمة يا ربّ العالمين.
* * *
اللّهُمَّ إِنَّكَ أَيَّدْتَ دينَكَ في كُلِّ أَوان بِإِمام أَقَمْتَهُ عَلَماً لِعِبادِكَ، وَمَناراً في بِلادِكَ، بَعْدَ أَنْ وَصَلْتَ حَبْلَهُ بِحَبْلِكَ، وَجَعَلْتَهُ الذَّريعَةَ إِلى رِضْوانِكَ، وَافْتَرَضْتَ طاعَتَهُ، وَحَذَّرْتَ مَعْصِيَتَهُ، وَأَمَرْتَ بِامْتِثالِ أَوامِرِهِ، وَالانْتِهاءِ عِنْدَ نَهْيِهِ، وَأَن لا يَتَقَدَّمَهُ مُتَقَدِّمٌ، وَلا يَتَأَخَّرَ عَنْهُ مُتَأَخِّرٌ، فَهُوَ عِصْمَةُ اللاّئِذينَ، وَكَهْفُ الْمُؤْمِنينَ، وَعُرْوَةُ الْمُتَمَسِّكينَ، وَبَهاءُ الْعالَمينَ.
اللّهُمَّ فَأَوْزِعْ لِوَلِيّكَ شُكْرَ ما أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَوْزِعْنا مِثْلَهُ فيهِ، وَآتِهِ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصيراً، وَافْتَحْ لَهُ فَتْحاً يَسيراً، وَأَعِنْهُ بِرُكْنِكَ الأعَزِّ، وَاشْدُدْ أَزْرَهُ، وَقَوِّ عَضُدَهُ، وَراعِهِ بِعَيْنِكَ، وَاحْمِهِ بِحِفْظِكَ، وَانْصْرْهُ بِمَلائِكَتِكَ، وَامْدُدْهُ بِجُنْدِكَ الأغْلَبِ، وَأَقِمْ بِهِ كِتابَكَ، وَحُدُودَكَ، وَشَرائِعَكَ، وَسُنَنَ رَسُولِكَ، صَلَواتُكَ اللّهُمَّ عَلَيْهِ وَآلِهِ.
وَأَحْيِ بِهِ ما أَماتَهُ الظّالِمُونَ مِنْ مَعالِمِ دينِكَ، وَاجْلُ بِهِ صَداءَ الْجَوْرِ عَنْ طَريقَتِكَ، وَأَبِنْ بِهِ الضَّرّاءَ مِنْ سَبيلِكَ، وَأَزِلْ بِهِ النّاكِبينَ عَنْ صِراطِكَ، وَامْحَقْ بِهِ بُغاةَ قَصْدِكَ عِوَجاً، وَأَلِنْ جانِبَهُ لأِوْلِيائِكَ، وَابْسُطْ يَدَهُ عَلى أَعْدائِكَ، وَهَبْ لَنا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَتَعَطُّفَهُ وَتَحَنُّنَهُ.
وَاجْعَلْنا لَهُ سامِعينَ مُطيعينَ، وَفي رِضاهُ ساعينَ، وَإِلى نُصْرَتِهِ وَالْمُدافَعَةِ عَنْهُ مُكْنِفينَ، وَإِلَيْك وَإِلى رَسْولِكَ صَلَواتُكَ اللّهُمَّ عَلَيْهِ وَآلِهِ بِذلِكَ مُتَقَرِّبينَ.
* * *
اللهم أحيِ بوليك ما أماته الظالمون من معالم دينك
يا ربّ، لقد أردت لعبادك أن ينطلقوا في حياتهم من موقع دينك وآفاق وحيك في حركة القيادة التي تُلقي إليها آياتك في معنى النبوة الرسولية التي تبلغهم شرائعك وأحكامك، وفي انفتاح الإمامة على الرسالة في عملية حفظٍ وتوضيحٍ ورعايةٍ في امتداد الرسالة في الواقع على مستوى الممارسة والمتابعة والمواجهة في ساحة الصراع..
وهكذا كانت القيادة في البداية نبوّةً في التشريع والتنفيذ، ثم انطلقت في النهاية إمامة في المراقبة والتحريك، فكان الإمام الذي ارتضيته وأيّدته مرجعاً لعبادك في شؤون دينهم ودنياهم، يتطلعون إليه فيرون فيه العلَم الذي يشير إليهم في اتجاه السير، ومناراً يستنيرون بضوء علمه وإشراقة روحه من خلال ارتباطه بك واتصاله برسالتك في امتداد العلاقة الوثيقة التي تصل حبله بحبلك، فيتحرك بهداك وينطلق في خطّك، فكان الوسيلة العملية التي تفتح لهم أبواب رضاك، لأنّ كلامه ينفتح على كلامك، وأردت لهم أن يطيعوه من خلال رسالته التي هي رسالتك لا من خلال ذاته في معنى التزام الشخص - الذات - ولكن في معنى الرسول المتجسد في وحي الرسالة، وهكذا أردتنا أن نتمثل أوامره وننتهي بنواهيه، لأنّ أوامره ونواهيه لا تنطلق من ذاته بل من خلال رسالة النبي المؤتمن عليها.
وإذا كان وهو الإمام في موقع الإمامة، فإنّ ذلك يفرض أن لا يتقدّمه أحد من الناس بحيث يقف في موقع القيادة قبله، ولا يتأخر عنه أحد إذا سار في أيّ طريق وأراد للناس أن يتبعوه ويتقدوه في حركته الرائدة.
فهو العصمة في توجيهه وتعليمه وتربيته للاّئذين به من الذنوب التي تنحرف بهم عن خطّ الاستقامة في طاعة الله، بما يفتح لهم من أبواب الهداية ويقوّي لهم إرادة الانقياد، ويعصمهم من الزلل، وهو الكهف الذي يأوي إليه المؤمنون في حلّ مشكلاتهم، وردّ شبهاتهم، وتصحيح أخطائهم، وتنفيس عقدتهم، وتفريج همومهم، وكشف كرباتهم، وهو العروة لمن تمسّك بها منهم، فلا يهتزّ ولا يتزلزل ولا يخشى من السقوط، وهو الذي يمنح الواقع الإنساني بهاءه وإشراقه، بحيث يحجب كلّ الضباب الذي يمكن أن يحول بينهم وبين إشراقة الشمس، وذلك من خلال إقامة الحقّ وإسقاط الباطل وتقوية قواعد العدل وإضعاف حركة الظلم، مما يمنح الكون في كلّ مخلوقاته راحةً وطمأنينةً واستقراراً في الانطلاق والامتداد، وذلك هو دور القيادة الروحية في التخطيط للواقع على أساس الرسالة، وفي الإشراف على التنفيذ في حركة السلوك على هدى الخطة في الواقع الإنساني الذي يطلّ على واقع الأرض كلّها في انفتاحها على وحي الله.
وهذا هو الذي يفرض تميّز القيادة بطاقات روحية وفكرية وحركية بالدرجة التي تستطيع بها تحقيق الهدف الكبير في تغيير الإنسان والمجتمع، لأنّ الهدف إذا كان التغيير على صورة الحقّ فلا بدّ أن يكون القائد تجسيداً لكلّ قيمه الروحية والعملية.
* * *
اللهم، فإذا كنت قد أعطيت وليك - الإمام - هذا الموقع الذي تنفتح النعمة منه علينا، فألهمه أن يشكرك - كما أنت أهله - على ذلك، وألهمنا مثل شكره، لأنّ نعمة حركة الهداية في خطّ القائد وامتدادها في خطّ الناس، تمثل نعمة مزدوجة تستحق الشكر من الجانبين.
وأعطه قوّة السلطة الشاملة التي تتيح له إقامة دولة الإنسان في خطّ الإسلام، الذي أردت أن يكون القاعدة التي يؤسس فيها الإنسان - بقيادة الرسل والأولياء - دولته، لينعم فيها العالم بالسعادة الكاملة التي لا شقاء فيها، والطمأنينة التي لا قلق معها، والثبات الذي لا اهتزاز فيه، وامنحه النصرة بما تنصر به أولياءك مما تريد لأيّ واحدٍ منهم أن يدعوك به، كما جاء في كتابك المجيد: {وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} [الإسراء:80]، وذلك في سلطان الحجة البالغة والقوة المهيمنة، وافتح له كلّ الآفاق التي يملك من خلالها وعي الحقيقة في كلّ قضايا الحياة والكون والإنسان، ويملك في ساحاتها المنعة والسيطرة والفتح المبين الذي يفتح له كلّ الأبواب المغلقة، ويسقط كلّ الحواجز العالية، ويمدّ له في حكمه في نطاق الزمان والمكان ما يمكن له أن يسير بالناس إلى شاطئ النجاة، وأعطه العون من قوتك التي لا يملك أحد أن يقف أمامها، وأحكم قوته، واجعل عضده في حمله للمهمات شديداً لا يضعف أمام التحديات التي تحاول إضعافه، واحفظه بحفظك، واكلأه بكلاءتك، وحِطْه بحياطتك حتى تحميه من كل من يريد به سوءاً، وانصره بالملائكة الذين نصرت بهم أنبياءك وأولياءك الماضين، واجعل له الإمداد الهائل من جندك الغالبين، لتقيم به القاعدة الفكرية والعملية التي يرتكز عليها كتابك في وحي الإيمان والشريعة القويمة، وما سنّه رسولك مما أوكلت إليه أمره بإلهامك وتسديدك وتأييدك، وليتحرك في جهده وجهاده ودعوته إليك وإلى دينك، فيبعث الحياة في مواقع العدل وقواعد الدين مما حاول الظالمون أن يميتوه، وذلك من خلال إبعاده عن الحياة، وإهماله في حلّ مشاكلها، حتى سيطر الصدأ - بتأثير الإهمال المستمر - على منهج الحق الذي شرعته وركزته لإقامة العدل، بإثارة الجور في كلّ مفرداته في حركة السطح التي تحجب العمق عن الرؤية الواضحة.
واقطع - يا ربّ- كلّ شدة وهيمنة ظالمة على أوليائك والقادة إلى سبيلك مما أوقع الضرر بالخطّ والخطة والموقع، وأبعد بالإمام الحقّ كلّ المنحرفين عن صراطك المستقيم، حتى لا يبقى هناك إلا السائرون في خطّ الاستقامة، وأنزل قدرتك على كلّ الكافرين والمنافقين الذين يصدون عن سبيلك ويطلبون لها الاعوجاج في الاتجاه والحركة.
واجعله - يا ربّ - كنبيِّك في خُلقه العظيم ورأفته ورحمته بالمؤمنين، في لين الجانب، وبذل المنحبة والعاطفة والحنان، بما يملأ قلوبهم بالانفتاح عليه وعلى رسالتك، واجعل قوّته وسيطرته في مواقع الصراع على أعدائك الذين يقفون في مواجهة دينك وأوليائك، لتكون رأفته ورحمته وتعطّفه وتحننه على المؤمنين الذين يطمئنون بذلك ويرتاحون له، وبأسه وشدته على الكافرين الذين ينهزمون عن كلّ المواقع التي تمثل الخطر على الحقّ والعدل في دينك - من الناحية العملية - .
اللهم وإذا كانت قيمة القيادة في طاعة القاعدة لها، فوفّقنا نحن الذين نؤمن بقيادته من خلال الإيمان بإمامته، لأن نكون معه على السمع والطاعة، فنحصل على رضاه، وننطلق في خطّ الانتصار له والدفاع عنه، لنتقرب بذلك إليك وإلى رسولك الذي ينطلق رضاه من رضاك.
* * *
ولنا ملاحظة قد يثيرها البعض، وهي أنّ الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع) - صاحب الدعاء - يتحدث عن الإمام كما لو كان شخصاً غيره في مسؤوليته في طاعته ونصرته والدفاع عنه وفي الحصول على رأفته ورحمته وتعطفه وتحنّنه.
وربّما يستوحى من أسلوب الدعاء أنّه ينسجم مع لغة عصر الغيبة التي تبتعد عن مرحلة وجود الإمام زين العابدين، كما تبتعد عن الناس الذين عاشوا فيها، مما لا يجعل للدعاء في حالتهم الشعورية أيّ صدىً في الانفتاح على وضمونه الذي يتحدث عن مستقبل بعيد لا يدركونه؟!
إنّ علامة الاستفهام هذه تنطلق من أنّ الدعاء ليس تجربة ثقافية يكتبها الإمام للمستقبل، بل هي تجربة روحية ذاتية تنفتح على الله في حاجاتها العامة والخاصة ممّا كان يعيشه الإمام في نفسه وفي الناس الذين من حوله، فيبتهل إلى الله في الاستجابة له في تحقيق ذلك كلّه في حياته، فهل تدفعنا هذه الملاحظة إلى الشك في إقحام هذا الفصل وما بعده في الدعاء بفعل الأوضاع المستجدّة التي كانت تفرض ذلك، أو أنّ للمسألة تخريجاً آخر في أنّ الدعاء كان في حالة توجيه إيحائي في مسألة الإمامة للناس من حوله؟ الله أعلم.
* * *
اللّهُمَّ وَصَلِّ عَلى أَوْلِيائِهِمُ الْمُعْتَرِفينَ بِمَقامِهِمُ، الْمُتَّبِعينَ مَنْهَجَهُمُ، الْمُقْتَفينَ آثارَهُمُ، الْمُسْتَمْسِكينَ بِعُرْوَتِهِمُ، الْمُتَمَسِّكينَ بِوِلايَتِهِمُ، الْمُؤْتَمِّينَ بِإِمامَتِهِمُ، الْمُسَلِّمينَ لأِمْرِهِمُ، الْمُجْتَهِدينَ في طاعَتِهِمُ، الْمُنْتَظِرينَ أَيّامَهُمُ، الْمادّينَ إِلَيْهِمْ أَعْيُنَهُمُ، الصَّلَواتِ الْمُبارَكاتِ الزّاكِياتِ النّامِياتِ الْغادِياتِ.
وَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ وَعَلى أَرْواحِهِمْ. وَاجْمَعْ عَلَى التَّقْوى أَمْرَهُمْ، وَأَصْلِحْ لَهُمْ شُؤُونَهُمْ، وَتُبْ عَلَيْهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحيمُ، وَخَيْرُ الْغافِرينَ، وَاجْعَلْنا مَعَهُمْ في دارِ السَّلامِ، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرّاحِمينَ.
* * *
اللهم صلّ على أوليائهم الملتزمين منهجهم
يا ربّ، إذا كان لأهل البيت السائرين في خطّ الرسالة والرسول هذه المكانة في مواقع الإمامة والقيادة، فإنّها أيضاً للتابعين لهم، الذين عرفوا مقامهم في الإمامة، فآمنوا بهم واتّبعوا منهجهم، وساروا على هدى تعاليمهم وتمسّكوا بهداهم الذي هو العروة الوثقى التي لا انفصام لها من حيث هو القاعدة الإسلامية التي تملك الثبات والقوة والشدة في خطّ الولاية في معناها المنفتح على الموقف الحقّ في السير معهم، والالتزام بالخطّ المستقيم في حركتهم في القيادة الفكرية والعملية، المتبعين لهم في إمامتهم من حيث الائتمام بهم والاستضاءة بنور علومهم، والتسليم لأمرهم في ما يأمرون به، والاجتهاد في طاعتهم.. والمنطلقين في آفاق المستقبل في متغيراته الواقعية في علم الغيب الإلهي لانتظار اللحظة التي يملكون فيها الواقع الذي يملأونه بالعدل بعد أن امتلأ بالظلم في أحلامهم التي تلمع بها عيونهم في إشراقة الأمل الكبير.
اللهم صلّ على هؤلاء الملتزمين بالخطّ المستقيم في معنى النبوّة في البداية والإمامة في النهاية، وسلّم عليهم وعلى أرواحهم، واجعلهم ممن يجمعون أمرهم بكلّ شؤونه وأوضاعه على التقوى الفكرية والروحية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية في الحرب والسلم، وأصلح ما فسد أو ما يمكن أن يعرضه الفساد من شؤونهم العامة والخاصة.
وتفضّل عليهم بالتوبة بما اسلفوه من الذنوب، وما قارفوه من السيئات، لأنّهم لم ينطلقوا في الذنب من انحراف في العقيدة، ومن تمرّد على أوامرك ونواهيك، بل تحركوا في ذلك من وسوسة الشيطان الذي أنساهم ذكرك، ومن النفس الأمارة بالسوء التي أثارت غرائزهم وانحرفت بهم عن الصراط المستقيم.
إنّك الربّ الذي جعل على نفسه التوبة، ووسع الخلق برحمته، وأنت الغافر الذي لا يتقدمك أحد في المغفرة.
واحشرنا معهم - على خطّ الاستقامة - في جنّتك التي هي جنّة الرضوان ودار السلام، فإنّك الرحمن الرحيم ونحن إليك راغبون.
* * *
أَللّهُمَّ هذا يَوْمُ عَرَفَةَ، يَوْمٌ شَرَّفْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ وَعَظَّمْتَهُ، نَشَرْتَ فيهِ رَحْمَتَكَ، وَمَنَنْتَ فيهِ بِعَفْوِكَ، وَأَجْزَلْتَ فيهِ عَطِيَّتَكَ، وَتَفَضَّلْتَ بِهِ عَلى عِبادِكَ.
أَللّهُمَّ وَأَنَا عَبْدُكَ الَّذي أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ قَبْلَ خَلْقِكَ لَهُ، وَبَعْدَ خَلْقِكَ إِيّاهُ، فَجَعَلْتَهُ مِمَّنْ هَدَيْتَهُ لِدينِكَ، وَوَفَّقْتَهُ لِحَقِّكَ، وَعَصَمْتَهُ بِحَبْلِكَ، وَأَدْخَلْتَهُ في حِزْبِكَ، وَأَرْشَدْتَهُ لِمُوالاةِ أَوْلِيائِكَ، وَمُعاداةِ أَعْدائِكَ.
ثُمَّ أَمَرْتَهُ فَلَمْ يَأْتَمِرْ، وَزَجَرْتَهُ فَلَمْ يَنْزَجِرْ، وَنَهَيْتَهُ عَنْ مَعْصِيَتِكَ فَخالَفَ أَمْرَكَ إِلى نَهْيِكَ، لا مُعانَدَةً لَكَ، وَلاَ اسْتِكْباراً عَلَيْكَ، بَلْ دَعاهُ هَواهُ إِلى ما زَيَّلْتَهُ وَإِلى ما حَذَّرْتَهُ، وَأَعانَهُ عَلى ذلِكَ عَدُوُّكَ وَعَدُوُّهُ، فَأَقْدَمَ عَلَيْهِ عارِفاً بِوَعيدِكَ، راجِياً لِعَفْوِكَ، واثِقاً بِتَجاوُزِكَ، وَكانَ أَحَقَّ عِبادِكَ مَعَ ما مَنَنْتَ عَلَيْهِ أَلاّ يَفْعَلَ.
* * *
اللهم وهذا يوم عرفة، يوم الاعتراف والمغفرة والتوبة
يا ربّ، إنّ الزمن كلّه خلقك، فليس هناك زمن أقرب إليك من زمن من حيث ذاته، وليس هناك يومٌ أفضل من يوم، ولكنّك - بحكمتك - أردت لبعض الأيام أن يتميز عن غيره، فأعطيته بعض الخصائص التي تتصل بحياة عبادك في علاقتهم بك، وتنفتح على بعض مسؤولياتهم العملية بما يرفع درجتهم عندك، وينظّم أوضاعهم لديك.
وهكذا جعلت بعض الأيام عيداً ينفتحون - من خلاله - على الفرح الروحي بطاعتك، وإسلام الأمر إليك، وأردت لبعضها أن يكون فرصةً لطاعتك في صيامه وقيامه.
وكان يوم عرفة من أيامك المميزة التي أردت للحج أن يتمثل فيها كركنٍ من أركانه في الوقوف بين يديك فيه، حتى جاء في الحديث: "الحجّ عرفة"(7)، وجاء عن الإمام محمّد الباقر(ع): "ما يقف أحد على تلك الجبال، برّ ولا فاجر إلا استجاب الله له، فأما البرّ فيستجاب له في آخرته ودنياه، وأما الفاجر فيستجاب له في دنياه"(8)، وجعلته يوم دعاء ومسألة، يدعو فيه الداعي بما أهمّه في نفسه وفي حياته وفي آخرته من شؤون دينه ودنياه، ويطلب فيه حاجاته الروحية والمادية من خلال إيمانه الذي يتطلع إليه كمصدر للخير كلّه وللحاجات كلّها، وجعلته موقفاً يقف فيه الحجيج من كلّ مكان ليلتقوا فيه، وليتأملوا ويدرسوا ويتعارفوا ويتعاونوا من خلال وحدة الدين والمسؤولية وحركة الحاضر والمستقبل، وليجلس كل واحد منهم مع نفسه في عملية حسابٍ للماضي مما يتركه للمستقبل من دروس وعِظاتٍ وعبر، ليتابع حياته من خلال التخطيط الواعي الذي يتلمّس النقد الذاتي في داخله ليصلح ما فسد منه، ويستقبل الغد بما يأمله فيه، حتى يخرج من هذا الموقف في طهارة الروح وصفاء النفس، ونظافة القلب واستقامة النهج، لأنّ هناك فرقاً بين حساب الإنسان نفسه بين يديك وبين حسابها مع غيرك من عبادك.
فهو اليوم الذي أعطيته الشرف باستجابة الدعاء فيه، ومنحته الكرامة والتعظيم من خلال الثواب الذي تمنحه لعبادك فيه.
فقد انفتحت فيه رحمتك على العباد كلّهم، بكلّ فيوضاتك الرحمانية في أرزاقهم وأوضاعهم وأعمالهم وآجالهم، وقد تحرك عفوك فيه على المذنبين، وكرمك في عطاياك على المحتاجين، وفضلك على عبادك..
* * *
يا ربّ، أنا هذا الإنسان الذي تتجسد فيه العبودية لك من خلال أنّه صنعك وملكك، فلا يملك نفسه لأنّه لا بدّ له في وجودها ولا يملكه غيرك لأنّه مخلوق لك كما أنا المخلوق لك.
أنا - يا ربّ - الذي أنعمت عليه قبل أن يخلق، حيث اخترته ليكون في دائرة إرادتك التكوينية، ولولا ذلك لم يوجد، وأنعمت عليه بعد خلقك له حيث منحته نعمة الوجود وأودعت فيه كلّ العناصر الحيوية التي تحقق له الراحة والطمأنينة والاستقرار، وتفتح له أبواب السعادة - بعد ذلك - من خلال الآفاق الرسالية التي عاشت فيها رسالتك وتحرّك به رسلك الذين بلّغوا وحيك، وأعطيته العقل الذي يدرك به حسن الأشياء وقبحها وصلاحها وفسادها، فيرتبط بالخطّ المستقيم الذي أمرته بالسير فيه، وهكذا كانت الهداية لدينك، والتوفيق لإدراك حقّك من مصادره، ومددت إليه حبلك الذي اعتصم به بقوّة الوعي، وصلابة الموقف، ومتانة الإرادة، فلم يسقط أمام اهتزازات الباطل وزلازل الانحراف.. وهكذا هيّات له كلّ الفرص لينفصل عن حزب الشيطان الذي وسوس له بالكثير من الأماني والأحلام الخيالية المعسولة التي توقعه في الغرور، وتبعده عن التوازن، فحاول أن يجرّه إلى المزالق ويدفعه إلى الهاوية ويدعوه - في نهاية المطاف - إلى عذاب السعير، ككلّ الذين يدعوهم من حزبه إلى ذلك كلّه.
..وأدخلته في حزبك ليكون من الذين لا يوادون من حادّ الله ورسوله حتى لو كان من أقرب الناس إليه، ومن الذين كتبت في قلوبهم الإيمان وأيدتهم بروحٍ منك ليحصلوا على الغلبة والفلاح والنجاح..
وانطلق - في هذا الخطّ - في رشده الفكري، ليؤكّد الانتماء في تحديد مواقعه وتركيز مشاعره ليوالي أولياءك، ويعادي أعداءك، لينطلق خطّ الرسالة في الانتماء في حركة خطّ القيادة في الواقع.
ولكن المشكلة التي أحاطت به وأدّت إلى تعقيد أموره، أنذ الشيطان الذي لم يستطع أن يغلبه في الانتماء، استطاع التغلّب عليه في الحركة والتطبيق، فقد أعرض عن إطاعة أوامرك فلم يأتمر بها، وعن الوقوف عند حدود نهيك فلم ينتهِ عنها، فعدل عن مواقف الأمر في الطاعة إلى مواقف النهي في المعصية، ولكنّه لم يعصك جحوداً لربوبيّتك، ولا عناداً لك، ولا خضوعاً للاستكبار الذاتي الذي يتحرك به المستكبرون في انتفاخهم الشخصي عليك، بل كانت المسألة كلّها أن هواه تغلّب عليه من خلال النفس الأمارة بالسوء، والشيطان الذي يزيده ذنباً إلى ذنبه بتسويله ووسوسته ومكره وخدعه، حيث دعاه الهوى الذي انفتحت الغرائز بفعله على المعصية إلى ارتكاب الأفعال التي أردت - بأمرك ونهيك - إبعاده عنها وتنحيته عن مواقعها.
وهكذا خضع للضغط الداخلي في غرائزه، والخارجي في الأجواء الشيطانية المحيطة به، مع كلّ علمه بما توعدت به من العقاب، على أساس الرجاء للعفو بعد المعصية من خلال ثقته بذلك، لأنّك تجاوزت عن كثير من المذنبين الذين كانت معصيتهم أكبر من معصيته، فارتكب ما ارتكبه لأنّ العفو سوف يفيض عليه منك، ولكن كان هذا الإنسان خاضعاً لغفلته عن حقّك عليه، فلا يجمل بالإنسان الذي يعي عبوديته لربّه أن يعصيه انتظاراً للعفو، بل لا بد له أن يمتنع عن ذلك شكراً لنعمه ووعياً لعظيم حقه..
* * *
ولعلّ أبلغ الكلمات التي تحمل وحي بعض كلمات هذه الفقرات من الدعاء، ما جاء في دعاء الإمام الحسين(ع): "ابتدأتني - يا إلهي - بنعمتك قبل أن أكون شيئاً مذكوراً" في إشارةٍ روحية تلتقي بالفقرة "أنعمت عليه قبل خلقك إياه"، وفي بعض فقرات دعائه: "لم تخرجني لرأفتك ولطفك بي وأحسانك إليّ في دولة أيام الكفرة الذين نقضوا عهدك وكذبوا رسلك، لكنّك أخرجتني رأفةً منك وتحنناً عليّ للذين سبق لي من الهدى الذي يسّرتني وفيه أنشأتني"، في التفاتة إلى تهيئة الأجواء والظروف الموضوعية والأسباب العادية للهداية للدين باعتبار رفع الموانع وتحقيق الشروط للإيمان.
* * *
وَها أَنَا ذا بَيْنَ يَدَيْكَ صاغِراً ذَليلاً، خاضِعاً خاشِعاً، خائِفاً مُعْتَرِفاً بِعَظيم مِنَ الذُنُوبِ تَحَمَّلْتُهُ، وَجَليل مِنَ الْخَطايَا اجْتَرَمْتُهُ، مُسْتَجيراً بِصَفْحِكَ، لائِذاً بِرَحْمَتِكَ، مُوقِناً أَنَّهُ لايُجيرُني مِنْكَ مُجيرٌ، وَلا يَمْنَعُني مِنْكَ مانِعٌ.
فَعُدْ عَلَيَّ بِما تَعُودُ بِهِ عَلى مَنِ اقْتَرَفَ مِنْ تَغَمُّدِكَ، وَجُدْ عَلَىَّ بِما تَجُودُ بِهِ عَلى مَنْ أَلْقى بِيَدِهِ إِلَيْكَ مِنْ عَفْوِكَ، وَامْنُنْ عَلَىَّ بِما لا يَتَعاظَمُكَ أَنْ تَمُنَّ بِهِ عَلى مَنْ أَمَّلَكَ مِنْ غُفْرانِكَ، وَاجْعَلْ لي في هذَا الْيَوْمِ نَصيباً أَنالُ بِهِ حَظّاً مِنْ رِضْوانِكَ، وَلا تَرُدَّني صِفْراً مِمّا يَنْقَلِبُ بِهِ الْمُتَعَبِّدُونَ َلكَ مِنْ عِبادِكَ، وَإِنّي وَإِنْ لَمْ أُقَدِّمْ ما قَدَّمُوهُ مِنَ الصّالِحاتِ، فَقَدْ قَدَّمْتُ تَوْحيدَكَ، وَنَفْيَ الأضْدادِ وَالأنْدادِ وَالأشْباهِ عَنْكَ، وَأَتَيْتُكَ مِنَ الأبْوابِ الَّتي أَمَرْتَ أَنْ تُؤْتى مِنْها، وَتَقَرَّبْتُ إِلَيْكَ بِما لا يَقْرُبُ بِهِ أَحَدٌ مِنْكَ إِلاّ بِالتَّقَرُّبِ بِهِ.
ثُمَّ أَتْبَعْتُ ذلِكَ بِالإنابَةِ إِلَيْكَ، وَالتَّذَلُّلِ وَالاسْتِكانَةِ لَكَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ، وَالثِّقَةِ بِما عِنْدَكَ، وَشَفَعْتُهُ بِرَجائِكَ الَّذي قَلَّ ما يَخيبُ عَلَيْهِ راجيكَ.
* * *
اللهم اجعل لي في هذا اليوم حظاً أنال به رضوانك
يا ربّ، أنا الإنسان الذي عاش الصّغار بين يديك حتى ليكاد يفقد الإحساس بوجوده أمام عظمتك، فكان الذليل الخاضع - بوجوده - لك، الخاشع بكلّ روحه في محراب عبادتك، الخائف من غضبك ومما ينتظره من عذابك جزاءً لأعماله وسيئاته، المعترف في عمق إحساسه بالذنب، بالذنوب العظيمة في خطورتها على المصير، وفظاعتها في عناصرها الشرّيرة ونتائجها السيّئة، وبالخطايا الجليلة في طبيعتها السلبية في واقع المسؤولية، مما تحمّلته واكتسبته منها في غفلة العقل، وغيبوبة الوعي، وانحراف الغريزة ونسيان الله..
وها أنذا جئت إليك في موقف المستجير الذي يستعطف عفوك عن الخاطئين لتجيره من نتائج خطاياه، وفي موقع اللاجئ إليك ليلوذ برحمتك من عظيم سخطك، لأنّني أوقن بعمق إيماني، أنك أنت - وحدك - الذي تملك إجازة المستجير من عقابك، فلا يملك أحد أن يجيرني منك، ولا يستطيع أحد أن يمنعني منك إذا أردت بي شراً أو ضراًّ من خلال استحقاقي ذلك.
وأنا - يا رب - أتطلع في كلّ طلباتي وابتهالاتي إلى ما تتفضل به من كرمك على المذنبين الذين سقطوا في وحول الذنوب، لتتفضل بعفوك عليّ كما تفضّلت عليهم، وإلى جودك الذي تجود به على من طرح نفسه وألقاها إليك في استسلام إيماني لك، ورغبة عميقة في الحصول على عطاء المغفرة منك، لتجود به عليَّ كما تجود عليهم.
وأسألك - يا رب - من مننِكَ الكبيرة التي تمنّ بها على عبادك الذين يأملون فضلك مما لا قيمة له في ملكك، ولا خطورة له في قدرتك، وهو الصفح عن ذنوبهم، لتمنّ به عليّ كما تمنّ به عليهم، وقد جعلت لكلّ عبدٍ مؤمن - في هذا اليوم - نصيباً من رضوانك، فاجعل لي مثل ذلك لحاجتي إليه، فإني أعيش - في كلّ وجداني - الأمل الكبير، بأن أحصل على ذلك ولا أرجع خالي اليدين في نفسي - من خلال عملي - الاستحقاق لذلك، فليس لي في حركة حياتي - هذه - المليئة بالخطايا والتقصير، أي عمل صالح من أمثال أعمالهم التي تجتذب ثوابك.
ولكنّي - يا ربّ - إنسان التوحيد الذي يتعمّق في عقلي وقلبي وكياني كلّه، بالدرجة العليا من الوعي الإيماني الذي يرتفع بي في عالم الصفاء والنقاء ووضوح الرؤيا الروحية إلى الأفق الذي لا أجد فيه، ولو في مستوى الوهم، غيرك ممن يتوهّم الناس أنّه يماثلك أو يضادك أو يشابهك أو يساويك، فأنت - وحدك - في الوحدانية المطلقة في سرّ ذاتك وصفاتك، وهذا هو الذي أقدمه إليك دليلاً على صدق الإخلاص في إيماني بك.
وقد دخلت إليك - يا ربّ - من مدخل الصدق الذي أردت لعبادك أن يدخلوا إليك منه مما فتحت لهم من أبوابه، وتقرّبت إليك بالوسيلة التي يتقرب بها الناس إليك مما دللته عليهم، مما لا يحصل القرب إلا بها.
وانطلقت بعد ذلك - في متابعتي للحصول على مواقع القرب إليك - بالرجوع إليك بالتوبة وإخلاص العمل، والتذلُّل والخضوع والتضرّع إليك تجسيداً للعبودية في معنى وجودي، وعن حسن الظنّ بك بأنّك تمنحني ما أرجوه منك من الفوز بالسعادة الدنيوية والأخروية، والثقة بما عندك في خزائنك التي لا تنفد، حتى أنّني أثق بما في يدك أكثر مما في يدي، ووقفت - في نهاية المطاف - في موقع الرجاء بك الذي لا يقف عند حدّ مما تحققه لكلّ الراجين الذين يعيشون الثقة في رجائهم بأنّهم لا يخيبون فيه في القليل منه والكثير..
* * *
وسَأَلْتُكَ مَسْأَلَةَ الْحَقيرِ الذَّليلِ، الْبائِس الْفَقيرِ، الْخائِفِ الْمُسْتَجيرِ، وَمَعَ ذلِكَ خيفةً وَتَضَرُّعاً، وَتَعَوُّذاً وَتَلَوُّذاً، لا مُسْتَطيلاً بِتَكَبُّرِ الْمُتَكَبِّرينَ، وَلا مُتعالِياً بِدالَّةِ الْمُطيعينَ، وَلا مُسْتَطيلاً بِشَفاعَةِ الشّافِعينَ، وَأَنَا بَعْدُ أَقَلُّ الأقَلّينَ، وَأَذَلُّ الأذَلّينَ، وَمِثْلُ الذَّرَّةِ أَوْ دُونَها.
فَيا مَنْ لَمُ يُعاجِلِ الْمُسيئينَ، وَلا يَنْدَهُ الْمُتْرَفينَ، وَيا مَنْ يَمُنُّ بِإِقالَةِ الْعاثِرينَ، وَيَتَفَضَّلُ بِإِنْظارِ الْخاطِئينَ.
أَنَا الْمُسيءُ الْمُعْتَرِفُ، الْخاطِئُ الْعاثِرُ، أَنَا الَّذي أَقْدَمَ عَلَيْكَ مُجْتَرِئاً، أَنَا الَّذي عَصاكَ مُتَعَمِّداً، أَنَا الَّذِي اسْتَخْفى مِنْ عِبادِكَ وَبارَزَكَ.
أَنَا الَّذي هابَ عِبادَكَ وَأَمِنَكَ، أَنَا الَّذي لَمْ يَرْهَبْ سَطْوَتَكَ، وَلَمْ يَخَفْ بَأْسَكَ، أنَا الْجاني عَلى نَفْسِهِ، أنَا الْمُرْتَهَنُ بِبَلِيَّتِهِ، أنَا الْقَليلُ الْحَياءِ، أَنَا الطَّويلُ الْعَناءِ.
* * *
اللهم إني أسألك مسألة الحقير الذليل
يا ربّ، كنت أعرف من عمق إيماني بك وبربويتك أنّك المهيمن على الخلق كلّه، وعلى الإنسان كلّه في حاجاته كلّها، وأنّ الموجودات كلها في موقع العبودية لك، فلا يملك أحد نفسه ولا ما يملكه إلا من خلال ما ملّكته، ولا استقلال له في قوّته وفي أمنه، ولا عزّة له في ذاته.
وأنّ أياً منهم لا بدّ أن يسألك من موقع ذاته في حجم وجودها المحدود.
وهكذا جئت إليك سائلاً كأيّ حقير يستمدّ الشرف منك، أو ذليل يبتغي العزّة منك، أو بائسٍ يتطلب الحيوية من لطفك، أو فقير يلتمس الغنى من كرمك، أو خائفٍ يريد الأمن من عزّتك، أو مستجير يستجير من عدوّه في ساحة جوارك.
وأنا في موقف المتضرّع الخائف العائذ بك اللائذ بجنابك، الذي يعرف حجمه كمخلوق حقير أمام ربه، فلا يسمح لنفسه أن يشعر بالعلوّ والارتفاع الذاتي الذي يجعله متكبراً في عداد المتكبرين، ولا يتكلّف الإحساس بضخامة طاعته بحيث يشعر بأنّ له الحق في الحظوة عند ربّه والحصول على منزلته الكبيرة عنده.
ولا يفكر في تمنياته غير الواقعية بأنّه سوف يحصل على شفاعة الذين يملكون الشفاعة من خلال درجتهم عند الله، لأنّه يعرف أنّ للشفاعة شروطاً في الخطّ الذي يضعه الله للشفيع في ممارسته لدوره، وليس من الضروري للإنسان الخاطئ أن يستطيل على الناس بذلك، لأنّه لا يملك - بشكل حاسم - الأسس التي ترتكز عليها الشفاعة له.
وأنا - يا ربّ - بعد كلّ ذلك، في معرفتي لذاتي- بكلّ عناصرها السلبية والإيجابية - الأقلّ في الأقلين والأذلّ في الأذلين في الحجم المعنوي، تماماً كمثل الذرة أو دونها، لأنّني إذا تطلعت إليك ووقفت بين يديك، أفقد إحساسي بوجودي فلا أرى نفسي شيئاً - بكل معاني الشيئية - في ثباتها في الواقع.
وهكذا أقف في موقف الابتهال إليك، أيّها الربّ الذي يسيء إليه عباده في خطاياهم التي يستحقون بها العقوبة فلا يعاجلهم بها، ويتحرك المترفون الذين أبطرتهم النعمة وسعة العيش ليعبثوا ويفسدوا ويضغطوا بمواقع الترف عندهم على مواقع الخير في الإنسان والحياة، فلا تزجرهم أو تدفعهم بشكل عاجل ولكن تؤخرهم في امتداد التجربة إلى أجل معلوم.
أيّها الربّ الرحيم الذي إذا سقط الإنسان في الإثم في مزالق الزلل التي يصطدم الإنسان بكلّ مفرداتها الغرائزية في معطياتها السلبية، فيسقط أمامها، فإنّك تُقيل عثرته، وتسامحه بذنبه، وتغفر له، لأنّك تعرف أنّهم لم يسقطوا من عقدةٍ للخطيئة متجذرةٍ في الذات، بل سقطوا بفعل حالة طارئة ناشئة من هوى عابر وضغطٍ عاصف ونفسٍ أمارةٍ بالسوء.
وإذا انطلق الخاطئون في ممارسة خطاياهم فإنّك تنظرهم ليفيئوا إلى التوبة، وليرجعوا إليك في مواقع الطاعة من جديد.
يا ربّاه، أنا هنا أعترف إليك بأنّني عبدك الذي أساء إليك بذنبه وخطيئته، وسقط في عثرته، واجترأ عليك بانحرافه عن الخط المستقيم الذي أمرته باتباعه والسير فيه، وتعمد عصيان أوامرك ونواهيك، واستتر من عبادك فلم يفضح نفسه في ذنبه أمامهم، ولكنّه برز إليك في فضائحه من دون أن يحسّ بالخجل منك وأنت المطّلع عليه.
أنا - يا ربّ - الذي ضعفت نفسه أمام الأقوياء من عبادك، فخاف منهم، ووقف موقف الحذر منهم وجاملهم في التمرد على مواقع طاعتك، ولكنّه أقبل على معصيتك آمناً على نفسه لأنّه غفل عن مواقع قدرتك في السيطرة على كلّ مصائر عبادك، فلم يرهب من بطشك وقهرك له، ولم يخف منشدة نكالك وقدرتك على الإضرار به، وهكذا كان الجاني على نفسه من خلال تعريضها لغضبك وسخطك المتمثّل في عذابك، فجعل نفسه رهينةً بما ابتلي به في حياته من المعاصي والذنوب، ولم يستحِ منك في إشرافك عليه، بل كان قليل الحياء في الوقت الذي جلب لنفسه كلّ الجهد والتعب في نتائج الذنوب في الدنيا والآخرة مما يعانيه من ذلك كلّه.
* * *
بِحَقِّ مَنِ انْتَجَبْتَ مِنْ خَلْقِكَ، وَبِمَنِ اصْطَفَيْتَهُ لِنَفْسِكَ، بِحَقِّ مَنِ اخْتَرْتَ مِنْ بَرِيَّتِكَ، وَمَنِ اجْتَبَيْتَ لِشَأْنِكَ، بِحَقِّ مَنْ وَصَلْتَ طاعَتَهُ بِطاعَتِكَ، وَمَنْ جَعَلْتَ مَعْصِيَتَهُ كَمَعْصِيَتِكَ، بِحَقِّ مَنْ قَرَنْتَ مُوالاتَهُ بِمُوالاتِكَ، وَمَنْ نُطْتَ مُعاداتَهُ بِمُعاداتِكَ، تَغَمَّدْني في يَوْمي هذا بِما تَتَغَمَّدُ بِهِ مَنْ جَأَرَ إِلَيْكَ مُتَنَصِّلاً، وَعاذَ بِاسْتِغْفارِكَ تائِباً، وَتَوَلَّني بِما تَتَوَلّى بِهِ أَهْلَ طاعَتِكَ، وَالزُّلْفى لَدَيْكَ، وَالْمَكانَةِ مِنْكَ، وَتَوَحَّدْني بِما تَتَوَحَّدُ بِهِ مَنْ وَفى بِعَهْدِكَ، وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ في ذاتِكَ، وَأَجْهَدَها في مَرْضاتِكَ.
وَلا تُؤاخِذْني بِتَفْريطي في جَنْبِكَ، وَتَعَدّي طَوْري في حُدُودِكَ، وَمُجاوَزَةِ أَحْكامِكَ، وَلا تَسْتَدْرِجْني بِإِمْلائِكَ لِي اسْتِدْراجَ مَنْ مَنَعَني خَيْرَ ما عِنْدَهُ، وَلَمْ يَشْرَكْكَ في حُلُولِ نِعْمَتِهِ بي.
وَنَبِّهْني مِنْ رَقْدَةِ الْغافِلينَ، وَسِنَةِ الْمُسْرِفينَ، وَنَعْسَةِ الْمَخْذُولينَ، وَخُذْ بِقَلْبي إِلى مَا اسْتَعْمَلْتَ بِهِ الْقانِتينَ، وَاسْتَعْبَدْتَ بِهِ الْمُتَعَبِّدينَ، وَاسْتَنْقَذْتَ بِهِ الْمُتَهاوِنينَ.
* * *
اللهم بحقّ نبيِّك نبِّهني من رقدة الغافلين
يا ربّ، إنّك أرسلت رسولك محمّداً رحمةً للعالمين، وانتجبته من خلال قربه الروحي - في كلّ روحه - منك، بحيث تميّز عن كلّ خلقك، واصطفيته لنفسك، فأنزلت عليه وحيك، وأرسلته برسالتك، فكان اختيارك له من بين أفراد البرية، واجتباؤك له لشأنك في قيادة العباد إلى هداك، وتوجيههم إلى مواقع رضاك، وجعلت طاعته طاعةً لك ومعصيته معصيةً لك، لأنّه لا يصدر عن ذاته في ما يأمر به أو ينهى عنه، بل يصدر عن رسالتك في ما أوحيته له، أو في ما ألهمته إياه مما أوكلت أمره إليه، وقد قلت في كتابك: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3- 4].
وعلى ضوء ذلك، فإنّ شخصيته المنطبعة بطابع هُداك، وخطته المتحركة في خطّ رسالتك، تفرض أن يكون - كما أردت - في موقع الموالاة من كلّ الناس، باعتبار أنّ موالاته كموالاتك، كما أن معاداته تمثل المعاداة لك، لأنّه لا يمثل نفسه بل يمثل رسالته التي هي رسالتك - يا ربّ - هذا هو محمّد الحبيب إليك القريب منك المنفتح عليك بكلّ عقله وقلبه وروحه وحياته، وهو - مع ذلك - عبدك الذي يعمل بأمرك ويقول قولك ولا يسبقك في قولٍ ولا فعل.
وهكذا كانت له المكانة عندك التي تؤهّله من خلال دور الشفاعة التي كرمته بها، فأردته أن يشفع لمن أردت المغفرة له، لأنّه لا يشفع إلا لمن ارتضيته في كلّ المواقع، فلا ينطلق من ذاته في عناصرها الخاصة، بل ينطلق من تعليماتك التي انطبعت نفسه بها من خلال إلهامك له، ولذلك فإنّنا نتوسل إليك بحقّه الذي منحته له في ذلك، لتشفّعه فينا ولترحمنا ببركته في طلباتنا التي نقدمها إليك في هذا اليوم.
يا ربّ، إنك - في هذا اليوم - تختص عبادك المنيبين إليك برحمتك، وتغشيهم وتجللهم بعفوك ولطفك ممن تضرّع إليك واستغاث بك ورفع صوته بالدعاء متبرئاً من ذنب، محاولاً الخروج منه إلى موقع الطاعة، وممن اعتصم ببركة الاستغفار في خطّ التوبة، وأطاعك في موارد طاعتك، وتقرّب إليك بما تقرّب به الصالحون، وحصل على المكانة المميزة عندك، ووفى بعهده لك، وأتعب نفسه في حقك في عبادتك، واستفرغ طاقته وبلغ جهده بكلّ ألوان الجهد في سبيل مرضاتك، فأعطني ما تعطي أمثال هؤلاء من رعايتك، وخصّني بما خصصتهم به من كلّ لطفك وعطفك وحنانك.
يا ربّ، إنني أهفو إلى أن أكون الإنسان الواعي الذي لا يغفل عن مسؤوليته أمامك في ما يقبل عليه من أمر الدنيا والآخرة، لأنّ الغفلة تدخلني  في سباتٍ عميق لا أفيق منه إلا بتوفيقك وتنبيهك لي، فأسألك أن تمنّ عليّ باليقظة الروحية المنفتحة على طاعتك التي تخرجني من أسار الغفلة.. وإني لا أحبّ لنفسي الإسراف في ارتكاب السيئات والسقوط في أوحال الذنوب من خلال سيطرة النوم على وعي العقل، فأفقد معه التوازن في حركتي في الواقع، فهب لي يا ربّ الحيوية التي تنقذني من هذا الفتور الروحي الذي يبعدني عنك، ولا أريد أن أكون مخذولاً أمامك من خلال التمادي في الغيّ والامتداد في الضلال، فأستحقّ بذلك منعك وإعراضك عنّي، فأفقد لطفك وتوفيقك وأنا في حالة غيبوبة تشبه النعاس، فأعطني - يا ربّ - القوة التي تقتحم عليّ كلّ هذا الخدر الذي يوحي بالبعد عن هداك.
وافتح قلبي- يا ربّ - لكلّ وحيك الذي ألهمته لعبادك في عمق إحساسهم الإيماني، فكانوا لك من الخاضعين في خط طاعتك، الطائعين في حركة عبادتك، وتعبدوا لك في سرّهم وعلانيتهم، فعاشوا معنى العبودية في وجدانهم من خلال الانسجام مع ما استعبدتهم به.
وانطلقوا في دربك المستقيم بتوفيقك الرباني، إذ جعلتهم يعيشون الرغبة في العمل لك، وأبعدتهم بذلك عن أجواء المتهاونين الذين يتحركون في ذهنية اللامبالاة بالمسؤولية الإيمانية في معنى الطاعة لك.
* * *
وَأَعِذْني مِمّا يُباعِدُني عَنْكَ، وَيَحُولُ بَيْني وَبَيْنَ حَظّي مِنْكَ، وَيَصُدُّني عَمّا أُحاوِلُ لَدَيْكَ، وَسَهِّلْ لي مَسْلَكَ الْخَيْراتِ إِلَيْكَ، وَالْمسابَقَةَ إِلَيْها مِنْ حَيْثُ أَمَرْتَ، وَالْمُشاحَّةَ فيها عَلى ما أَرَدْتَ، وَلا تَمْحَقْني في مَنْ تَمْحَقُ مِنَ الْمُسْتَخِفّينَ بِما أَوْعَدْتَ، وَلا تُهْلِكْني مَعَ مَنْ تُهْلِكُ مِنَ الْمُتَعَرِّضينَ لِمَقْتِكَ، وَلا تُتَبِّرْني في مَنْ تُتَبِّرُ مِنَ الْمُنْحَرِفينَ عَنْ سُبُلِكَ.
وَنَجِّني مِنْ غَمَراتِ الْفِتْنَةِ، وَخَلِّصْني مِنْ لَهَواتِ الْبَلْوى، وَأَجِرْني مِنْ أَخْذِ الاْمْلاءِ، وَحُلْ بَيْني وَبَيْنَ عَدُوٍّ يُضِلُّني، وَهَوىً يُوبِقُني، وَمَنْقَصَة تَرْهَقُني، وَلا تُعْرِضْ عَنّي إِعْراضَ مَنْ لا تَرْضى عَنْهُ بَعْدَ غَضَبِكَ، وَلا تُؤْيِسْني مِنَ الأمَلِ فيكَ، فَيَغْلِبَ عَلَىَّ الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِكَ، وَلا تَمْتَحِنّي بِما لا طاقَةَ لي بِهِ، فَتَبْهَظَني مِمّا تُحَمِّلُنيهِ مِنْ فَضْلِ مَحَبَّتِكَ.
وَلا تُرْسِلْني مِنْ يَدِكَ إِرْسالَ مَنْ لا خَيْرَ فيهِ، وَلا حاجَةَ بِكَ إِلَيْهِ، وَلا إِنابَةَ لَهُ، وَلا تَرْمِ بي رَمْىَ مَنْ سَقَطَ مِنْ عَيْنِ رِعايَتِكَ، وَمَنِ اشْتَمَلَ عَليْهِ الْخِزْىُ مِنْ عِنْدِكَ.
* * *
اللهم سهّل لي مسلك الخيرات إليك
يا ربّ، أنا عبدك الإنسان الذي يهفو إلى القرب منك في مواقع العفو والرضوان، ولمحبة والحنان، إنّني أعوذ بك من الوقوع في المشاكل الروحية من خلال الأقوال والأعمال المنحرفة عن خطّك التي تجعلني بعيداً عنك في مواقفي فتبعدني عنك، وتنتصب حاجزاً يحجزني عن الأخذ بنصيبي الأوفر مما وعدت به المذنبين التائبين من بركة رضوانك، وتمنعني عن كلّ المحاولات التي تفتح لي الطريق إليك.
اللهم مهِّد لي - بلطفك وحكمتك - درب الخير الذي يسلكه الصالحون من عبادك للوصول إليك، وامنحني فرصة السبق إلى الطاعة في ما أمرت به للحصول على الخيرات في كلّ مجالات الحياة في حركة الإنسان، بحيث أبذل كلّ جهدي في الاحتفاظ بكلّ النتائج الطيبة من ذلك مما أردت لعبادك القيام به في مواقع رضاك، بحيث لا يفوتني شيء من ذلك في عملية بخلٍ بالخير في ذلك كلّه، لأنّ الشحّ بما يحقّ رضاك هو القيمة كلّ القيمة، والفضل كلّ الفضل.
يا ربّ، إنّني أعيش الخوف من عقابك في الدنيا والآخرة مما يؤدّي بي إلى الوقوع تحت تأثير محقك الذي تسلطه على المنحرفين عنك، السائرين في خطّ الاستهانة بوعيدك، فتأخذهم تدريجاً بالنقص في أنفسهم وأوضاعهم وأموالهم، حتى يواجهوا - في نهاية المطاف - الهلاك في المصير كلّه.
اللهم إنّي أعتصم بك أن تجيرني من هذه النتيجة الصعبة الماحقة، ومن كلّ ألوان الهلال الروحي والمصيري الذي تنزله بالسائرين في دروب غضبك بما يؤدّي إلى الشديد من عذابك والأليم من عقابك، مما يتجسد في مقتك لهم، ومن كلّ أنواع التفتيت والتكسير لأوضاعي في الدنيا والآخرة التي تنزلها بالمنحرفين عن الصراط المستقيم الذي أمرت عبادك بسلوكه في اتجاه الوصول إليك.
اللهُمّ، إنّي أسألك اللطف بالنجاة من الشدائد التي قد تصيب الإنسان في المِحَن والمصائب في حياته، والخلاص من الوقوع في قبضة البلاء الذي ينزل بالمخلوقين في نطاق قدَرِك وقضائك، وأبتهل إليك في إبعادي عن التجربة الصعبة التي تمهل بها عبادك المذنبين، ليمتدو - بسوء اختيارهم - في العصيان على ما جاء في كتابك: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا} [آل عمران:178].
يا ربّ، إن مشكلتي تتلخّص في علاقتي بقدس ذاتك، مما أنحرف به عن خطّ الإخلاص والاستقامة، بالشيطان الذي ينصب العداوة لكلّ عبادك، ليبعدهم عن مواقع رضاك، يضلّهم عن طريق هداك، وبالهوى الذي يتفاعل في غرائزي ومشاعري ويحرّكها في عملية إثارةٍ حسية تؤدي إلى ارتكاب الموبقات التي تهلك صاحبها، وبنقاط الضعف التي أودعتها في تكويني الذاتي، وأردتني أن أعمل على تحويلها إلى نقاط قوة بإرادتي الواعية المؤمنة، فكانت تغلب عليّ بين آونةٍ وأخرى، فترهق روحي وتسيطر عليّ وتقودني إلى الخسارة في مبادرات الخير، وتدفعني إلى فقدان حظّي في رضاك عنّي.
اللهمّ، منك القوة التي تمنحني إياها في كياني فتحول بيني وبين الخضوع لهذه العوامل الضاغطة والعناصر السلبية، فهب لي قوّة الوعي لدينك، والمعرفة لمقامك في ربوبيتك، وصلابة الإرادة في تأكيد الموقف في إيجابية الطاعة، وتصليب الموقع في رفض المعصية.
* * *
يا ربّ، أنا الإنسان الذي أعيش كلّ أحلامي أن أكون في موقع النظرة الرحيمة التي ترضى بها عني رضاً لا تسخط عليّ بعده أبداً، وفي موقع العفو الذي تمحو به كلّ ذنوبي.. ويثقلني - يا ربّ - أن أكون في موقع إعراضك عني بالمستوى الذي لا أطمع فيه برضاك من خلال سيطرة غضبك، ليكون موقف اليائس الذي يفقد الأمل، ويسقط في وهدة القنوط من رحمتك {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر:56].
وإذا أردت أن تمتحنّي بما تمتحن به عبادك لتختبر بذلك صدق إيمانهم وسلامة موقفهم، فليكن امتحانك لي بما لا يثقلني حمله ولا يبهظني وزره، مما يسهل عليّ القيام به، ولا يصعب عليَّ التحرك فيه، من أجل محبتي لك التي أطمع - معها - بلطفك ورحمتك.
واجعلني - يا ربّ - ممّن يعيش تحت رعايتك، ويتقلّب في ساحة عنايتك، ولا تخلُ في ذلك بين نفسي واختيارها، ولا تتركني وتهملني وترسلني إلى أجواء الضياع كأيّ إنسان لا خير فيه في قوله وفعله، ولا حاجة بك إليه في المسؤوليات التي تلقيها على الصالحين من عبادك، ولا عودة له إليك بعد طول غياب، ولا تسقطني من علياء الطاعة إلى منحدرات المعصية، لترمي بي كما لو كنت كميّة مهمة لا غناء فيها، فلا تحظى بنظرةٍ من عين رعايتك، بل تتحرك في ساحات الخزي ومواقع العار من عندك.
* * *
بَلْ خُذْ بِيَدي مِنْ سَقْطَةِ الْمُتَرَدّينَ، وَوَهْلَةِ الْمُتَعَسِّفينَ، وَزَلَّةِ الْمَغْرُورينَ، وَوَرْطَةِ الْهالِكينَ، وَعافِني مِمَّا ابْتَلَيْتَ بِهِ طَبَقاتِ عَبيدِكَ وَإِمائِكَ، وَبَلِّغْني مَبالِغَ مَنْ عُنيتَ بِهِ، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ، وَرَضيتَ عَنْهُ، فَأَعَشْتَهُ حَميداً، وَتَوَفَّيْتَهُ سَعيداً.
وَطَوِّقْني طَوْقَ الإقْلاعِ عَمّا يُحْبِطُ الْحَسناتِ، وَيَذْهَبُ بِالْبَرَكاتِ، وَأَشْعِرْ قَلْبِىَ الازدِجارَ عَنْ قَبائِحِ السَّيِّئاتِ، وَفَواضِحِ الْحَوْباتِ.
وَلا تَشْغَلْني بِما لا أُدْرِكُهُ إِلاّ بِكَ عَمّا لا يُرْضيكَ عَنّي غَيْرُهُ، وَأَنْزِعْ مِنْ قَلْبي حُبَّ دُنْيا دَنِيَّة تَنْهى عَمّا عِنْدَكَ، وَتَصُدُّ عَنِ ابْتِغاءِ الْوَسيلَةِ إِلَيْكَ، وَتُذْهِلُ عَنِ التَّقَرُّبِ مِنْكَ.
وَزَيِّنْ لِىَ التَّفَرُّدَ بِمُناجاتِكَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَهَبْ لي عِصْمَةً تُدْنيني مِنْ خَشْيَتِكَ، وَتَقْطَعُني عَنْ رُكُوبِ مَحارِمِكَ، وَتَفُكُّني مِنْ أَسْرِ الْعَظائِم.
وَهَبْ لِىَ التَّطْهيرَ مِنْ دَنَسِ الْعِصْيانِ، وَأَذْهِبْ عَنّي دَرَنَ الخَطايا، وَسَرْبِلْني بِسِرْبالِ عافِيَتِكَ، وَرَدِّني رِداءَ مُعافاتِكَ، وَجَلِّلْني سَوابِغَ نَعْمائِكَ، وَظاهِرْ لَدَىَّ فَضْلَكَ وَطَوْلَكَ.
* * *
اللهمّ أذهِب عنّي درن الخطايا
يا ربّ، أنا الإنسان الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراًّ إلا بك، ولا يعيش - في ذاته - التوازن في حياته إلا من خلال قوَّتك، فقد أسقط من علياء الخير إلى مهاوي الشرّ، فأتردّى في حفرة الضلال أو في قعر جهنّم، وقد امتد بالفزع في كياني بما يطوف في حياتي من تهاويل أو بالخطأ في تفكيري أو في طريقي إلى أهدافي من خلال الأوهام المسيطرة عليّ، فأتخبّط خبط عشواء عليى غير هدى وقصد، وقد يأخذني الغرور الذي يتحرك في انتفاخ الشخصية في ذاتي من دون وتأمل، فتزلّ بي القدم في فهم الأشياء ومواجهة الأمور وتقويم النفس أمام حركة القيم السلبية والإيجابية، فتنحرف بين الخطى إلى غير الطريق المستقيم، كأنّي مغرور لا يعرف حجم نفسه ولا مقدار طاقته، وقد تورّطني انحرافات الفكر وأجواء الضلال في الوقوع تحت تأثير المعاصي التي أستحقّ بها غضبك فتودي بي إلى عذاب النار في مصير الهالكين.
اللهمّ اسلك بي مسالك النجاة من ذلك كلّه، فلا أتردّى في بئر العصيان، ولا أعيش حالة الفزع والوهم في حركة السائرين في الطريق المتعسّف في خطواته، ولا أسقط في وهدة الغرور فتزلّ قدمي عن خطّ الاستقامة، ولا أهلك مع الواقعين في ورطة الهلاك.
اللهمّ إنّي أسألك العافية من كلّ بلاء أنزلته بأيّ عبد من عبادك وإمائك، بمختلف أصنافهم وجماعاتهم، فإنّك وليّ العافية، والوصول بي إلى مواقع الذين منحتهم عنايتك ورعايتك وأغدقت عليهم سوابغ نعمك، وأسعدتهم برضاك، وجعلت عيشهم عيشاً حميداً، بما وفقتهم إليه من محمود الصفات والأخلاق والأفعال في التزامهم بالخط المستقيم، وأنزلت بهم الموت في أجواء السعادة بما يقبلون عليه بالمصير المنفتح على ساحات النعيم في جنتك.
اللهم وفّقني للابتعاد عن كلّ الأعمال والأقوال التي تسقط تأثير الحسنات على النجاة في مواقع الآخرة، ومنازل الرضوان، بابتعادها عن الإخلاص في النية، أو انحرافها عن الاتجاه الصحيح، أو غلبة السيئات في كثرتها ونتائجها السلبية، بحيث لا تمثّل الحسنات في نتائجها الإيجابية أو في عددها أيّ وزن كبير في مسألة المصير، وهذا هو الذي قد توحي به كلمة الإحباط من إيحاءات، أمام الفكرة التي ترفض إحباط السيئات للحسنات بشكل مباشر - كما عليه جمهور الإمامية - باعتبار استلزام ذلك للظلم بإسقاط إطاعة المطيعين في جانب بفعل عصيانهم في جانب آخر، فيكون كمن لم يطع الله من حيث الأساس، خلافاً للمعتزلة الذين يلتزمون بذلك انطلاقاً من بعض الظواهر القرآنية التي تؤكّد ذلك ممّا أوّله الرافضون للإحباط في الميزان العملي.
وأبعدني عما يذهب الخيرات الإلهية والبركات الروحية ويزيلها عنّي، مما تزول به النعم من الخطيئات، كما جاء في الكلمة المأثورة عن الإمام علي(ع) قال: "وأيم الله ما كان قوم قطّ في غضّ نعمة من عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها، لأنّ الله ليس بظلاّمٍ للعبيد"(9)، وعن الإمام جعفر الصادق(ع): "ما أنعم الله على عبدٍ نعمةً فيسلبها إياه حتى يذنب ذنباً يستحقّ بذلك السلب"(10)، وفي رواية أخرى عنه(ع) أنه قال: كان أبي يقول:"إن الله قضى قضاءً حتماً ألاّ ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنباً يستحقّ بذلك النقمة"(11).
واجعل قلبي يتحسّس الرفض الشعوري الذي يتحوّل إلى رفضٍ عملي لكلّ السيئات التي تختزن القبح كلّه في طبيعتها ونتائجها، ولكلّ الآثام والخطايا التي تنفتح على الفواضح الأخلاقية والروحية التي تثقل الإنسان في الدنيا والآخرة.
اللهم واجعل وجودي في شغل شاغل بك وبطاعتك وبكلّ الوسائل التي أحصل بها على محبتك ورضوانك، ولا تشغلني في فراغ حياتي بالأعمال التي لا تقربني من مواقع رضاك، لأنّني أهفو إلى أن يكون عمري حركة في الاتجاه المنطلق إليك..
* * *
ولا تجعل للدنيا اللاهية العابثة العاصية في خطّ الحرام سيطرةً على عقلي ليكون تفكيره في خدمتها، وعلى قلبي لتكون مشاعري في أجواء محبتها، وعلى إرادتي لتسقط قوتها تحت تأثيرها فتبتعد بي عن اكتشاف الوسائل الكفيلة بالوصول إليك، وتوحي لي بالرفض لطاعتك، وتدفعني إلى الغفلة والذهول عن التحرك إلى مواقع القرب منك، لأنّك جعلت الدنيا ساحة حركة في خطّ المسؤولية، وأبَحْتَ لنا طيباتها والأخذ بزينتها مما أحللته، ومنعت عنا الانحراف عن ذلك بالأخذ بأسباب الحرام في شهواتها ولذائذها وعلاقاتها، وهذا ما يفرض علينا أن نجعل الدنيا وسيلةً من وسائل الحصول على الآخرة، بحيث تختزن في ذاتها قيم العالم الجديد الذي نقبل عليه يوم يقوم الناس لربّ العالمين في المحبة لله والرغبة في رضوانه ونعيم جنته، لتكون حياتنا حياة الطاعة لا المعصية.
* * *
يا ربّ، هذه هي أحلامي الروحية التي أقدّمها إليك لأكون القريب إليك، الحبيب إلى قدس ذاتك.
إنّني أهفو إلى أن أناجيك في هدوء الليل لأعيش روحانية الروح في الحديث معك بكلّ مشاعري وأحاسيسي وصفاء عقلي في لحظات الهدوء الكوني، وأناجيك في النهار، والناس مشغولون في حركاتهم في أوضاعهم العامة والخاصة، وفي الضوضاء المتنوعة التي تحيط بواقعهم في داخل حياتهم وخارجها، لأتحرّر من كلّ الغفلة الساهية الذاهلة عن ذكرك، فأكون معك في الذكر الروحي الذي ينساب من الأعماق ليصعد إليك في صفائه ونقائه، وأحيا مع كلماتي التي أدعوك بها في كلّ ما أعيشه لك وأريده منك من تطلعاتي وحاجاتي، فأحس بالطمأنينة الروحية والانفتاح الوجودي عليك، لأكون القريب إليك في آناء الليل وأطراف النهار.
يا ربّ، إنني أخشى من سيطرة النفس الأمارة بالسوء عليّ في مواجهة مسؤولياتي، فتحرك نقاط الضعف الغريزي في أعماقي، فتطفو على سطح وجودي في حركة الحياة في ذاتي ومع الناس، فأفقد قوة الإرادة على الاستقامة في الطريق والثبات في الموقف، فقد خلقت الإنسان ضعيفاً في بدنه وعناصر ذاته في الداخل والخارج، وزوّدته بالعوامل التي يملك فيها الأخذ بأسباب القوة، في حركة العقل وتركيز الإرادة، ولكن لا قوة لي إلا بقوتك التي تمنحني إياها من لطفك لتقوي عناصر الخير في نفسير، ولا استمساك بي عن الخطايا إلا بعونك.
اللهم هب لي العصمة الروحية والعقلية والحركية التي تقربني من المعرفة بعظمتك، لأعيش من خلال ذلك في أجواء الخوف منك، ليمنعني ذلك من ارتكاب معاصيك مما حرّمته عليّ، ومن الوقوع في أسار المصائب الشديدة الناتجة عن ممارسة الكبائر من الذنوب.
اجعلني في عصمة الذات المنفتحة عليك التي تمنحني وعي المسؤولية وقوّة الإرادة وثبات الموقف.
وأعطني - يا ربّ - من طهر قدسك، طهر الروح الذي يخلصني من أقذار المعاصي التي تقذّر الروح والجسد، ومن أوساخ الخطايا التي تسقطني في أوحال الواقع، وألبسني لباس العافية التي تهنئني المعيشة في عافية الجسد، وترتفع بي إلى مواقع السموّ والصفاء في عافية الروح، وفي عافية العلاقات والمواقع مع الناس فيدفع الأذى عنّي، وأسبغ عليَّ بنعمك الوافرة، وتابع فضلك وإحسانك لديّ، فإنني فقير إليك - يا ربّ - في ذلك كلّه.
* * *
وَأَيِّدْني بِتَوْفيقِكَ وَتَسْديدِكَ، وَأَعِنّي عَلى صالِحِ النِّيَّةِ، وَمَرْضِيِّ الْقَوْلِ، وَمُسْتَحْسَنِ الْعَمَلِ.
وَلا تَكِلْني إِلى حَوْلي وَقُوَّتي دُونَ حَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، وَلا تُخْزِني يَوْمَ تَبْعَثُني لِلِقائِكَ، وَلا تَفْضَحْني بَيْنَ يَدَيْ أَوْلِيائِكَ، وَلا تُنْسِني ذِكْرَكَ، وَلا تُذْهِبْ عَنّي شُكْرَكَ، بَلْ أَلْزِمْنيهِ في أَحْوالِ السَّهْوِ عِنْدَ غَفَلاتِ الْجاهِلينَ لاِلائِكَ، وَأَوْزِعْني أَنْ أُثْنِىَ بِما أَوْلَيْتَنيهِ، وَأَعْتَرِفَ بِما أَسْدَيْتَهُ إِلَيَّ.
وَاجْعَلْ رَغْبَتي إِلَيْكَ فَوْقَ رَغْبَةِ الرّاغِبينَ، وَحَمْدي إِيّاكَ فَوْقَ حَمْدِ الْحامِدينَ، وَلا تَخْذُلْني عِنْدَ فاقَتي إِلَيْكَ، وَلا تُهْلِكْني بِما أَسْدَيْتُهُ إِلَيْكَ، وَلا تَجْبَهْني بِما جَبَهْتَ بِهِ الْمُعانِدينَ لَكَ.
فَإِنّي لَكَ مُسَلِّمٌ، أَعْلَمُ أَنَّ الْحُجَّةَ لَكَ، وَأَنَّكَ أَوْلى بِالْفَضْلِ، وَأَعْوَدُ بِالإحْسانِ، وَأَهْلُ التَّقْوى، وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ، وَأَنَّكَ بِأَنْ تَعْفُوَ أَوْلى مِنْكَ بِأَنْ تُعاقِبَ، وَأَنَّكَ بِأَنْ تَسْتُرَ أَقْرَبُ مِنْكَ إِلى أَنْ تَشْهَرَ.
فَأَحْيِني حَياةً طَيِّبَةً تَنْتَظِمُ بِما أُريدُ، وَتَبْلُغُ ما أُحِبُّ مِنْ حَيْثُ لا آتي ما تَكْرَهُ، وَلا أَرْتَكِبُ ما نَهَيْتَ عَنْهُ.
وَأَمِتْني ميتَةَ مَنْ يَسْعى نُورُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَنْ يَمينِهِ.
* * *
اللهم أيّدني بتوفيقك، وأمِتني ميتة من يسعى نوره بين يديه
يا رب، هب لي التوفيق للانفتاح عليك والارتباط بك، والتحرك في كلّ حياتي في الخطوط المستقيمة التي تؤدّي إلى بناء الإنسان في الحياة على صورة وحيك، بما يحقق له السعادة، ويؤكّد العمران للحياة، واجعلني  أهل السداد في الرأي، والصواب في الفكر، وأصلح لي النية بحيث تلتقي بالخير دائماً في تطلعاتها ومشاريعها ولا تلتقي بالشرّ من قريب أو من بعيد، أطلق لي كلماتي في آفاق رضاك لتكون كلّ كلمة منطلق حقّ وحركة عدلٍ، وحرّك عملي في الاتجاهات الصالحة الطيبة الهادفة إلى تحقيق الأهداف الكبرى التي تريد للإنسان أن يبلغها في وجوده في الأرض لتكون صورة عملي صورة الحسن في عالم القيم لا صورة القبح.
* * *
يا ربّ، أنا الضعيف في وجودي، فقد خلقتني - في إنسانيتي - ضعيفاً بما أودعته من نقاط الضعف في جسدي، وأنا القويّ بك، فإنّ القوة لك جميعاً، فلا حول لي ولا قوّة إلا بك، لأن وجودي مستمدّ منك، ومرتبط بك، وفقير إليك، بالفقر للغنى المطلق، فلا تتركني وحدي في مواجهة التحديات التي تقهرني وتهددني وتضلّلني وتبعدني عنك، ولا تكلني إلى حولي الذي لا يملك أيّة قوة ذاتية، وإلى قوتي التي لا تختزن أية مناعةٍ شخصية، واجعل حولك وقوتك هما اللذان يمدانني في كلّ أموري بالحول والقوة.
وحقق لي العصمة في أفعالي وأقوالي حتى ألقاك في يوم البعث مرفوع الرأس بطاعتك، بعيداً عن خزي معصيتك، وجنبني - بذلك - الفضيحة على رؤوس الأشهاد من أوليائك الصالحين، حتى لا يروا منّي إلا الخير الذي يرفعني عندك، واجعلني - يا ربّ - الإنسان الذي يذكرك في لسانه وقلبه وحركته في الحياة، فلا يغفل عنك إذا وقف أمام الحرام، ولا ينساك أمام كلّ التعقيدات التي تأكل إيمان الإنسان في مواقع الظلم والطغيان.
واجعلني - يا ربّ - الإنسان الشاكر لك في كلّ نعمك، من نعمة الوجود إلى آخر نعمة في تفاصيل حياتي، ولا تجعلني الجاحد الكافر بها لأذكرك في كلّ آلائك، وأشكرك في كلّ نعمائك، بعيداً عن كلّ أوضاع السهو في أجواء الغافلين الجاهلين لمقامك في آفاق العظمة ومواقع القدرة.
وألهمني - يا ربّ - الثناء عليك بكلّ ما تفضلت به عليَّ مما أعطيتنيه من فضلك وإحسانك، والاعتراف بما أحسنت إليَّ من الخير في كلّ حياتي، لأعيش في وجداني في رحاب لطفك وكرمك..
يا ربّ، أنت ربّي الذي لا ربّ لي غيره، فلا أملك شيئاً في دنياي وآخرتي إلاَّ من خلاله، فلتكن رغبتي في أموري كلّها مما أهمني أمره، وأثقلني حمله، وضاق بي سعيه، في أعلى رغبات عبادك، لتكون تطلعاتي إليك - وحدك - دون غيركي ذلك.
ووسّع آفاقي للانفتاح على كلّ مواقع الحمد في صفاتك في جلالك وكمالك وفيوضاتك على خلقك وعلى الوجود كله، ليكون لي وعي الحمد في عمق المعرفة، فأحمدك فوق كلّ حمدٍ يتوجه به عبادك إليك، فإنّه لا حمد لأحدٍ إلا من خلال حمدك..
يا ربّ، أنا الفقير إليك بكلّ وجودي في كلّ حاجاتي، فلا تنزل بي الخذلان في كلّ موارد الفاقة إليك ومصادرها،بل أعطني كل ما أريده من ذلك كلّه.
فإذا أسأت إليك في ساحات الانحراف عن خطّ الخير والقربة إليك، فلم أخلص فيه على الوجه الذي تريده منّي، فلا تنزل بي الهلاك في عقابك وعذابك..
وإذا سقطت في هاوية العناد لك في مواقع أمرك ونهيك فخالفتك فيه، فلا تردني بما ترد به المعاندين المنحرفين عنك بالإبعاد عن رحمتك.
فإنّي - هنا - في موقف المسلّم إليك بكلّ حياتي، المنقاد لك والمذعن لإرادتك، في وعي العارف بأنّ لك الحُجّة عليّ في كلّ شيء، وأنّك صاحب الفضل كلّه في سرّ وجودي وحركته، ووليّ الإحسان في كلّ حاجاتي، وأنك الربّ الذي ينبغي لعباده أن يتعاملوا معه بالتقوى في خطّ الإيمان والعمل الصالح، وأنّك الإله الغفور الرحيم الذي يغفر للمؤمنين الطائعين إذا أذنبوا، وقد ورد في الحديث - مرفوعاً عن أنس - قال: قال رسول الله(ص) عندما تلا قوله تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56].
قال الله سبحانه: "أنا أهلٌ أن اُتّقى فلا يُجعل معي إله، فمن اتّقى أن يجعل معي إلهاً فأنا أهل أن أغفر له"(12).
وأنّك - يا رب - الذي جعلت لنفسك العفو قبل العقاب، والستر على عبادك قبل التشهير بهم والفضيحة لهم، لأنّك العفوّ في صفة العفو عن المذنبين، والستّار في موقع الستر للمذنبين.
فهل أطمع من خلال ذلك - يا ربّ - أن تمنحني في الدنيا والآخرة الحياة الطيبة التي وعدت بها المؤمن بك العامل بالصالحات لك في قولك: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]، وذلك بالرزق الحلال في الدنيا، وبالجنة في الآخرة، لتحقق لي بذلك كلّ طموحاتي لديك، وهل أرجو - يا ربّ - أن تنتهي بي في فيوضات نعمك إلى كلّ ما أرجوه وأحبه وأبلغ به ما أريد، وذلك بأن أسير - في كلّ أعمالي وأقوالي - في الخطّ الذي تحب سالكيه، فلا آتي ما تكرهه من ذلك، ولا أرتكب محارمك التي حذرتني منها، فإذا قدّرت لي الموت في نهاية عمري، فلتكن الميتة التي تنزلها بي ميتة الإنسان الذي يشرق الإيمان في كل وجوده ليتحرك النور - في القيامة - من بين يديه وعن يمينه، لأكون ممن يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم في مسيرة المتقين إليك، وذلك في حديثك في كتابك: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} [الحديد:12].
* * *
وَذَلِّلْني بَيْنَ يَدَيْكَ، وَأَعِزَّني عِنْدَ خَلْقِكَ، وَضَعْني إِذا خَلَوْتُ بِكَ، وَارْفَعْني بَيْنَ عِبادِكَ، وَأَغْنِني عَمَّنْ هُوَ غَنِيٌ عَنّي، وَزِدْني إِلَيْكَ فاقَةً وَفَقْراً.
وَأَعِذْني مِنْ شَماتَةِ الأعْداءِ، وَمِنْ حُلولِ الْبَلاءِ، وَمِنَ الذُّلِّ وَالْعَناءِ.
تَغَمَّدْني في مَا اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ مِنّي بِما يَتَغَمَّدُ بِهِ الْقادِرُ عَلَى الْبَطْشِ لَولا حِلْمُهُ، وَالآخِذُ عَلَى الْجَريرَةِ لَوْلا أَناتُهُ.
وَإِذا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً أَوْ سُوءاً فَنَجِّني مِنْها لِواذاً بِكَ، وَإِذْ لَمْ تُقِمْني مَقامَ فَضيحة في دُنْياكَ، فَلا تُقِمْني مِثْلَهُ في آخِرَتِكَ، وَاشْفَعْ لي أَوائِلَ مِنَنِكَ بِأَواخِرها، وَقَديمَ فَوائِدِكَ بِحَوادِثِها.
وَلا تَمْدُدْ لي مَدّاً يَقْسُو مَعَهُ قَلْبي، وَلا تَقْرَعْني قارِعَةً يَذْهَبُ لَها بَهائي، وَلا تَسُمْني خَسيسَةً يَصْغُرُ لَها قَدْرىَ، وَلا نَقيصَةً يُجْهَلُ مِنْ أَجْلِها مَكاني، وَلا تَرُعْني رَوْعَةً أُبْلِسُ بِها، وَلا خيفَةً أُوجِسُ دُونَها.
إِجْعَلْ هَيْبَتي في وَعيدِكَ، وَحَذَري مِنْ إِعْذارِكَ وَإِنْذارِكَ، وَرَهْبَتي عِنْدَ تِلاوَةِ آياتِكَ، وَاعْمُرْ لَيْلي بِإِيقاظي فيهِ لِعِبادَتِكَ، وَتَفَرُّدي بِالتَّهَجُّدِ لَكَ، وَتَجَرُّدي بِسُكُوني إِلَيْكَ وَإِنْزالِ حَوائِجي بِكَ، وَمُنازَلَتي إِيَّاكَ في فَكاكِ رَقَبَتي مِنْ نارِكَ، وَإِجارَتي مِمّا فيهِ أَهْلُها مِنْ عَذابِكَ.
* * *
اللهمّ اجعل هيبتي في وعيدك، وحذري من إعذارك وإنذارك
يا ربّ، اجعلني أعيش في وضوح الرؤيا للمفاهيم المتنوعة التي تحدد لي حركة إنسانيتي في أكثر من موقف مما يتخذه الإنسان في حياته أمام ربّه والناس..
فقد ينفتح على مسألة العزّ والذلّ، والرفعة والضعة، مما يمثله العزّ من ارتفاعٍ في موقع القوة، وعنفوان في موقف الإحساس بالرفعة، ليتمثّل الذلّ في مواقع الضعف والانكسار في موقف الشعور بالضعة.
فكيف أتصوّر ذلك في علاقتي بك وبالناس من خلالها، إنّني لا أفهم مسألة العزّ والذلّ والرفعة والضعة عندما أتصور موقعي أمامك، فأنت ربّي الذي تملكني بكلّي وتملك ما أملك، لأنّ وجودي مستمدّ من وجودك، وقوّتي هبة من قوّتك، الأمر الذي يجعل معنى العز في ذلّي بين يديك، والرفعة في ضعفي أمامك، لأنّني أتحسس القوة بك في حالة الانسحاق الذاتي أمامك، والرفعة في اتضاعي في موقفي منك، لأنّني أحيا سرّ ذاتي معك في ذلك كلّه، في فقري المطلق إليك، واعتمادي الكلّي عليك، ولا أخرج عن معناها في ذلك كلّه..
أما موقفي من الناس الذين ساويت بيني وبينهم في حركة الوجود، وسرّ الضعف الإنساني، فهو موقف الندّ للندّ، والعبد مع العبد، في الإحساس بالتساوي في الوجود وفي العبودية، ليكون - في النهاية - في تعامل الإنسان مع الإنسان، تعامل السيد الإنسان في حرية إرادته وتقرير مصيره، مع السيد الإنسان الآخر في علاقته به، مما يفرض عليّ أن أكون العزيز عند خلقك، لأنّهم لا يملكون منّي شيئاً كما لا أمتلك منهم ذلك، مما يجعلني غير معنيٍّ بالخضوع إليهم والتذلّل أمامهم..
وهكذا أريد - يا ربّ - من كرمك ولطفك، أن تضعني بين يديك في خلواتي بك، لأقدِّم إليك الخضوع والتذلل والطاعة بكلّ وجودي في صلواتي ومناجاتي وابتهالاتي الروحية، وأن ترفعني بين عبادك بتأكيد حريتي أمامهم وتحريك طاقاتي المستمدة منك في مواجهة طاقاتهم، فلا أشكو ضعفاً أمامهم ولا أشعر بالسقوط معهم، وأن تغنيني بكرمك مما تمنحنيه من عطائك بما يغنيني عن الناس الذين جعلتهم - بكرمك - أغنياء عني، لنتساوى في الحاجة إليك في عمق المعنى الوجودي للحاجة، وفي الغنى بك في معنى الربوبية التي تغني العباد من خزائنها التي لا تنفد، وتوحي إلينا دائماً بازدياد الحاجة إليك في الفاقة الذاتية والفقر الوجودي.
* * *
يا ربّ، إنّني - في الواقع الاجتماعي الإنساني في علاقتي بالناس - قد أعيش بعض المشاكل الحياتية التي تثقلني وتهزّني وتسقطني أمام الناس، فتجلب لدي شماتتهم بي بالفرح بالمصائب التي تنزل بي انطلاقاً من العقدة الكامنة في نفوسهم ضدي، مما يملأ قلبي بالأسى وحياتي بالأذى كردّ فعلٍ على ذلك كلّه.
اللهم فإنّي أعوذ بك أن يشمت بي الأعداء، فأعذني من ذلك بتحريري من الوقوع تحت أسر المصيبة أو بالإيحاء إليهم بالامتناع عن مشاعر الشماتة بي.
وإذا كنت أعوذ بك من شماتة الأعداء، فإنني أستعيذ بك من البلاء النازل، ومن الهوان والتعب، لأعيش في اطمئنان الراحة، وعنفوان الذات، ولأحصل - بذلك - على حرية الحركة في مسيرتي إليك في خطّ القيام بمسؤولياتي، فلا تشغلني المشاعر السلبية من خلال البلاء أو الهوان أو التعب عنك.
* * *
يا ربّ، إنني أتوسل إليك أن تتغمدني برحمتك بأن تسترني بها، وتلبسني إياها، وذلك بأن تتعامل معي، في كلّ ذنوبي وعيوبي التي تطّلع عليها، تعامل الربّ القادر على الانتقام، فلا يمنعه عن ذلك شيء في مواقع قدرته، لولا حلمه الذي امتنّ به على المذنبين في عفوه عنهم وستره عليهم، أو تعامل الإله الذي يملك الأخذ بالمعصية التي تقود صاحبها إلى الهلاك، ولكنّه لا يستعجل ذلك من خلال أناته، فيترك التعجيل بالعذاب إمهالاً لهم، ليتوبوا ويتراجعوا عن ذلك انطلاقاً من رحمته التي وسعت كلّ شيء..
* * *
اللهم إنّك قد تنزل ببعض الناس بعض البلاء الذي تتحرك فيه كلّ عناصر الفتنة في الدين من خلال ما قد تثيره فيهم من الوساوس والهواجس والشكوك، أو ما تحركه من الغرائز، أو ما تنفتح عليه من أوضاع منحرفة بفعل الأطماع والنوازع الذاتية، وقد تنطلق الفتنة في الواقع الاجتماعي الذي يعقّد العلاقات ويثير الأحقاد ويدفع بالأمور إلى التقاتل والفوضى وتؤدّي إلى الإحباط.
وقد تريد بقوم السوء في أبدانهم وأموالهم وأوضاعهم العامة والخاصة، مما يجعلهم في همّ دائم، وفي حالة استلاب نفسي وعملي أمام المشاكل الصعبة المتحركة في ساحاتهم..
اللهم إنّها حكمتك في ذلك كلّه التي تطلق نتائج أعمال العباد في واقع حياتهم، ليذوقوا بعض ما عملوا واكتسبوا من حركتهم في خطّ الانحراف، ومواقفهم في صعيد الواقع.
اللهم إنّي - وأنا العبد الضعيف في وجودي والمقصّر في عملي - ألوذ بك من أن تعرضني للفتنة في الدين أو في الواقع، فقد أسقط في الضلال أو البلاء الصعب من خلال ذلك، أو توقع بي السوء الذي لا أصبر عليه في طاقاتي المحدودة الصعبة، فنجّني من ذلك كلّه يا ملاذ اللائذين.
اللهم وقد سترت عليّ في الدنيا فلم تفضحني بما قدمته من ذنوب وما اجترحته من المخازي، فلا تفضحني في الدار الآخرة، ولا تكشف عنّي ستراً سترته على رؤوس الأشهاد يوم تبلو أخبار عبادك.
وإذا كنت قد مننت عليّ في الدنيا بنعمك وإحسانك في بداية الحياة، فامنُن عليَّ بذلك كلّه في نهاية المطاف، لينطلق الزمن كلّه في امتداده في الدنيا والآخرة في الحصول على ألطافك في القديم منه والحديث، فلا يختلف حال رحمتك بين قديم وحديث في ذلك كلّه.
* * *
اللهم إنّك قد تفيض على بعض عبادك الخير في الواقع المادي الذي يعيشون فيه، فتمنحهم العافية في أبدانهم والسعة في أموالهم، والامتداد في أعمارهم، والكثرة في أولادهم وأتباعهم، والجاه في مجتمعاتهم على طريقة الإمهال والإملاء في نطاق التجارب التي تظهر عمق الشخصية في سطح الواقع لدى الكثيرين ممن يصيبهم الغرور بإقبال الدنيا عليهم، فيستغرقون في ذلك كلّه في غفلةٍ عن النتائج السلبية التي تنتظرهم في عملية المصير في الدنيا والآخرة، من خلال قسوة القلب، وجفاف الروح، وتعقيد الحسّ بكثرة النّعم عليه، فينسى الله والدار الآخرة، كما قلت في كتابك: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران:178].
اللهم لا تجعلني ممن يتحول الإمداد له في النعم إلى قسوة في القلب، بل اجعله انفتاحاً فيه على مواقع الشكر الذي يزداد فيه الإحساس باللطف الإلهي والرحمة الربانية، حتى يزداد شكري لك وقربي إليك كلما ازدادت نعمك عليّ، لأنّ القضية عندي هي أن أحصل على رضاك والقرب منك ولا شيء إلا رضاك.
* * *
يا ربّ، ربما تنطلق الشدائد المفزعة والنوازل الفادحة لتسقط بهاء الإنسان الروحي وهيبته الاجتماعية، مما يتهدده من أوضاعها بالتدمير الذاتي والاجتماعي، وقد تصيبه الحالات الدنية الحقيرة التي تنطلق بها نقاط الضعف فيصغر بها موقعه الاجتماعي بين الناس استصغاراً لفعله، وقد تتمثل به بعض العيوب المنقصة المخجلة التي يفقد معها درجته ويضيع بها قدره استخفافاً به من خلالها، فيستر ذلك كلّ محاسنه، وقد يسيطر عليه الفزع والرعب فيستسلم للهمّ واليأس القاتل والحيرة القلقة.
وربّما يخاف من كلّ ما يحيط به، فيخضع للتوجس النفسي الذي يهمس له بالاهتزاز والقلق.
اللهم حررني من ذلك كلّه، ومن تهاويله النفسية ووساوسه القلبية ونتائجه السلبية، وامتداداته الشريرة، وانفعالاته القاسية، وإيحاءاته الضاغطة، حتى أسقط أمام القارعة، ولا أصغر أمام الخسيسة، ولا أفقد مكاني أمام النقيصة، ولا أيأس أو أخاف في مواجهة الأوضاع القاسية.
يا ربّ، اجعلني أقف أمام وعيدك الذي توعدت به المنحرفين عن خطّ الاستقامة من عبادك موقف الرّهبة والهيبة للموقف الصعب فيدفعني ذلك إلى الابتعاد عن مواقع الوعيد.
واجعلني أعيش الحذر أمام النداءات التي توجه إليّ فيها وصاياك وأوامرك ونواهيك، وتقيم عليّ - من خلالها - الحجة في ما تريده مني لتعذر إليّ في ذلك إذا خالفتُ، فتنزل بي العقاب لأنك أنذرتني به وقد أعذر من أنذر.. وقد جاء في مجمع الأمثال للميداني تفسيراً للمثل، أي: من حذرك ما يحلّ بك فقد أعذر إليك، أي صار معذوراً عندك(13).
وأعطني وعي القرآن في عمقه الروحي والفكري لأحس بالرهبة في تلاوة آياتك، فأحسّ في آيات النار لهيب جهنم في وجهي، وأقرأ في آيات غضبك ضراوة سخطك في مصيري، حتى تتحرك كلّ كلماته في حركة إنسانيتي في حياتي.
واجعل الليل الغارق في هدوء النوم وامتداد الظلام، انفتاحاً على يقظةٍ روحيةٍ في الإقبال على عبادتك في غمرات الزمن بذكرك، وفي وحدةٍ منطلقةٍ في الارتفاع إلى مواقع السموّ إليك في أجواء المناجاة المبتهلة إليك، وفي اطمئنانٍ إيمانيّ أتجرد فيه من كلّ ما يحيط بي من مشاكل الناس تعقيدات الحياة من حولي بالسكون إليك، لأجد لديك الراحة والهدوء والطمأنينة والاستقرار، وفي رغبةٍ صارخةٍ في تقديم الحاجات الحيّة إليك ثقةً بأنّك - وحدك - القادر على قضائها، وفي إلحاحٍ شديدٍ في المسألة مرةً بعد أخرى، والمراجعة لك في كلّ أوقاتي من أجل خلاصي من عقابك في جهنم وإجارتي من كلّ أوضاعها التي يعاني منها الساكنون فيها من عذابك، فإنك الربّ العفوّ الغفور الرحمن الرحيم.
* * *
وَلا تَذَرْني في طُغْياني عامِهاً، وَلا في غَمْرَتي سَاهِياً حَتّى حين، وَلا تَجْعَلْني عِظَةً لِمَنِ اتَّعَظَ، وَلا نَكالاً لِمَنِ اعْتَبَرَ، وَلا فِتْنَةً لِمَنْ نَظَرَ، وَلا تَمْكُرْ بي في مَنْ تَمْكُرُ بِهِ، وَلا تَسْتَبْدِلْ بي غَيْري.
وَلا تُغَيِّرْ لِي اسْماً، وَلا تُبَدِّلْ لي جِسْماً، وَلا تَتَّخِذْني هُزُواً لِخَلْقِكَ، وَلا سُخْرِيّاً لَكَ، وَلا تَبَعاً إِلاّ لِمَرْضاتِكَ، وَلا مُمْتَهَناً إِلاّ بِالإنتِقامِ لَكَ.
وَأَوْجِدْني بَرْدَ عَفْوِكَ، وحَلاوَةَ رَحْمَتِكَ، وَرَوْحِكَ وَرَيْحانِكَ، وَجَنَّةِ نَعيمِكَ، وَأَذِقْني طَعْمَ الْفَراغِ لِما تُحِبُّ بِسَعَة مِنْ سَعَتِكَ، وَالاجْتِهادِ فيما يُزْلِفُ لَدَيْكَ وَعِنْدَكَ.
وَأَتْحِفْني بِتُحْفَة مِنْ تُحَفاتِكَ، وَاجْعَلْ تِجارَتي رابِحَةً، وَكَرَّتي غَيْرَ خاسِرَة، وَأَخِفْني مَقامَكَ، وَشَوِّقْني لِقاءَكَ، وَتُبْ عَلَىَّ تَوْبَةً نَصُوحاً، لا تُبْقِ مَعَها ذُنُوباً صَغيرَةً وَلا كَبيرَةً، وَلا تَذَرْ مَعَها عَلانِيَةً وَلا سَريرَةً.
* * *
اللهم لا تجعلني عِظةً لمن اتّعظ، ولا نكالاً لمن اعتبر
يا ربّ، إنّني أبتهل إليك أن تجعلني من عبادك المشمولين بعطفك ورعايتك ولطفك في كلّ أموري، بحيث تتحرك حياتي في الخطّ الذي يفتح عقلي عليك من أجل المزيد من الوعي للإيمان بك، ويوجه نبضات قلبي إلى محبتك، ويحرك كلّ خطواتي في طريقك المستقيم، لأكون الإنسان الذي يطلق كلّ حياته في اتجاه رضاك.
يا ربّ، قد يبلغ بي الطغيان في الضلال الفكري والعملي حداً بعيداً، بحيث يتجاوز الحدود المعقولة التي تخرج من الاعتدال، فأبقى في حالةٍ من التخبّط والتردد والحيرة في الحركة والطريق والاتجاه، وقد يمتد بي الحال في ذلك حتى يتحول إلى عنوانٍ حركيّ لذاتي في حياتي كلّها، الأمر الذي يؤدي بي إلى السقوط في هاوية الهلاك الذي يتمثل في استحكام غضبك وسخطك عليّ.
اللهم أنقذني من كلّ هذا التخبّط الطغياني الذي يمنعني عن التركيز في الرأي والموقف، ولا تذرني متحيراً في طغياني كمن تحدثت عنهم في كتابك في قولك: {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف:176]، وخلّصني من حالة السهو والغفلة عن الأخذ بطاعتك ومواقع رضاك، حتى لا أعيش في استغراق أعمى يغمر العقل والسمع والبصر لأتخلص من ذلك في مدى الزمن كلّه، فأكون ممن تحدثت عنهم في كتابك مخاطباً نبيّك في قولك تبارك وتعاليت: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون:54].
لا تنزل بي النوازل الشديدة من بلائك بحيث يتطلع الناس إلي كمنظر يتعظون به، ونكالٍ يعتبرون به، ليجتنبوا الوقوع في ما وقعت فيه، والسقوط في ما سقطت فيه من أوحال الخطايا والذنوب.
ولا تحوّلني في حياتي إلى مواقع الفتنة للآخرين بحيث يفتتن بي الناظر إليَّ، فيقع في الضلال ويبتعد عن الحقّ من خلال ما تنعم به عليّ من النّعم التي يحسدنا عليها الحاسدون أو ينحرف بسبب الميل إليه والاشتغال به من طاعتك المنحرفون، أو من خلال بلاءٍ أو محنةٍ فيفكّر الآخرون بأنه لونٌ من ألوان عذابك الذي تصيب به عبادك الضالين فيبتعدون عن الحقّ الذي أتحرك فيه ظناً منهم أنه الباطل بسبب ذلك، ولا تجعلني ممن تنزل به مكرك في استدراجك لي بالنّعم الكثيرة، وفي إمهالي في مدى الزمن في طول عمري، فيخيّل إليّ أنّ لك كلّه مكرمة لي ورضاً عليّ وخيراً لي، فأمتد بالمعصية وأستغرق في الانحراف غفلةً منّي أنّك تفيض النعم على عبادك لتختبرهم في شكرها أو الكفر بها، ولذلك فلا بدّ لي من الانتباه والحذر لأكون الإنسان الواعي الذي تدفعه النعم المتنوعة والإمهال الطويل إلى المزيد من الطاعة والاستقامة في دربك المستقيم، وذلك في وعيٍ للمسألة في عمقها المصيري، وفي قلقٍ إيجابي لما يوحي به المكر الإلهي في حركة التجربة الإنسانية، كما جاء في حديث الإمام علي(ع) أنّه قال: "من وُسّع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجاً فقد أمِن مخوفاً"(14).
اللهم لا تجعلني ممن يتولّى عن دينك القويم، ويبتعد عن صراطك المستقيم، ويعرض عن آياتك، فيكون ممن تعرض عنه، وتستغني عن كل جهده في كل ما تريده من عبادك من القيام بمسؤولياتهم تجاهك، فتستبدل به غيره ممن ينفتح عليك، ويأخذ بأسباب طاعتك ويعيش الوعي لآياتك، فيتحمل مسؤوليته في الدعوة إليك والجهاد في سبيلك كما جاء في قولك في كتابك: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
اللهم اجعل اسمي في الأسماء التي تبقى في مضمونها في معنى الحقّ في معناها، وتتحرك في الدرجات العليا من مواقع السعداء في درجاتها، وأبقِ لي منه الإسلام الحقّ الذي أدين به فلا أقع في الضلال في اهتزازات الواقع من حولي، وانحرافات الدروب في طريقي، فلا تسمح له - بلطفك ورحمتك - بأن يتغير من عنوان الهدى إلى عنوان الضلال، ومن المواقع العليا إلى المواقع الدنيا، ومن اسم الإسلام إلى اسم الكفر.
لا تبدّل جسمي بالآفات التي قد تصيب الناس في دنياهم فتغيرها بالتشويه والتمثيل، وفي أخراهم بلفحات النار التي تشوي الوجوه، ولكن أبقه في سلامته ونضارته وعافيته وبهائه ورونقه في الدنيا والآخرة، لأنّي أطمع وأعمل أن يبقى الجسم الذي يتحرك في طاعتك وفي الحصول على رضاك لينال السعادة في نعيمك فيكون ممن تحدثت عنهم في كتابك في قولك: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23]، وقولك: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24].
* * *
اللهم لا تبتلني بالبلاء في ديني وعقلي وعملي بحيث تحولني في النتائج الحاصلة من ذلك كلّه إلى موضع للهزؤ من خلقك بما يستهزئ به المستهزئون مما يشاهدونه من الناس بما يضحكهم ويؤدّي بهم إلى إنزال الاحتقار بهم والإهانة لهم.
وأعظم من ذلك أن تصل بي الأمور إلى أن أكون موضع سخرتيك التي لا تشبه سخرية الساخرين من خلقك بأمثالهم من الناس، بل تتحرّك في العقوبة الإلهية بالإعراض عني وإنزال الهوان بي، وإهمال أمري وإبعاده عن موضع عنايتك، لأنّني ابتعدت عن الخطّ الذي يؤدّي بي إلى النجاة، وأخذت بالنهج الذي يسير بي نحو الهلاك، فأيّة سخرية أعظم من السخرية بما فعلت.
الهم اجعلني ممن لا يتبع إلا المنهج الذي ينفتح على مواقع رضاك، ولا يخضع إلا لك، ولا يخاف إلا منك، وأبعدني عن كلّ سبيل من سبل الامتهان والاضطهاد من الآخرين غلا إذا كان ذلك في موقع الدفاع عن دينك، والانتقام من أعدائك في ساحات الصراع بين الكفر والإيمان والحقّ والباطل.
* * *
اللهم وفقني للحصول على عفوك لأحسّ بطيبه ولذته وهناءته في ما يشبه الإحساس بالبرد بعد الحرّ(15)، وأنعم عليّ بحلاوة الرحمة والراحة والريحان التي يلتذّ بها عقلي وروحي وحياتي كلّها، وأدخلني الجنة التي تمنح النعيم للساكنين فيها، وتعطي السعادة للداخلين إليها، في طمأنينة الروح، وهناءة الجسد، واستقرار المصير ولذة الإحساس.
اللهم اجعلني في حالات الفراغ التي أتخفف فيها من أشغال الحياة آخذ بما تحبّ من الأعمال الخارجة عن مسؤولياتي مما يأخذ به الناس من أسباب اللهو واللعب، فلا تجعلني ممن يتحول الفراغ لديه إلى سبب للمعصية، وحالةٍ للسأم والملل، بل اجعلني في سعةٍ من رزقك وعافيتك لأحسّ بطعم الفراغ في عمق معنى السعادة والمحبة.
وأعطني الرغبة العميقة في الاندفاع بكلّ ما أملكه من جهدٍ وطاقة لأبذله في ما يقربني إليك ويجعل لي الحظوة عندك من الأعمال الصالحة والمشاريع الخيّرة.
* * *
اللهم إنّ لك في كلّ يوم وليلة تحفةً من تحفاتك التي تتحف بها رسلك وأولياءك وعبادك الصالحين جزاءً لما قدموه من أعمال القربة إليك، فاجعلني ممن يحصل على تحفةٍ من تحفاتك في أيام عمري كلّها، واجعل تجارتي معك التي دعوتني إليها ورغبتني فيها تجارةً رابحةً بالحصول على النجاة من العذاب الأليم والدخول في الجنة وفي الآخرة والنصر منك والفتح القريب في الدنيا، لأكون ممن {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [فاطر:29].
ولا تجعل رجعتي إليك رجعةً خاسرةً في نتائجها الأخروية، وذلك من خلال الانتقال من نعيم الدنيا إلى عذاب النار تماماً كما كان الكفار يتحدثون عمّا يسمعونه من أخبار الآخرة {تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات:13]، بمعنى أنّ الآخرة - إذا صحّت - فنحن خاسرون لتكذيبنا بها.
ووفقني للوعي العقلي والروحي لعظمة مقامك من خلال معرفة أسرار العظمة في ذاتك ومواقع النعمة في كرمك، فيهتزّ كلّ كياني أمامه، فأخافك خوف العبودية الخاشعة أمام الربوبية العظيمة، فأنهى النفس عن الهوى لتبتعد عن معاصيك وتقترب من طاعتك، فأحصل على النتائج الكبرى وذلك هو قولك - تباركت وتعاليت - {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:40-41]، وقولك: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}  [الرحمن:46]، وقولك: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم:14].
وافتح قلبي للشوق إليك فأشتاق إلى قربك في المشتاقين وأدنو منك دنوّ المخلصين، حبّاً وشغفاً وولهاً وانفتاحاً عليك.
وها أنا يا ربّ في موقف التائب إليك الذي يعيش في الهمّ الكبير من تأثيرات ذنوبه على مستقبل حياته عندك ومصيره إليك، ويتوسل إليك - من موقع الندم الذي يهزّ ضميره ويحرق قلبه - أن تتوب عليه توبةً خالصةً شاملة لكلّ الذنوب الصغيرة والكبيرة مما مارسته في السرّ والعلانية من سالفاتها وحوادثها، حتى أنطلق إليك طاهراً من كلّ دنس، متخففاً من كلّ ثقل، حراً من كلّ     غلّ، انطلاقة الإنسان الذي يعيش في ساحة عفوك وغفرانك ورحمتك ورضوانك في روح وريحان وجنّة نعيم.
* * *
وَانْزَعِ الْغِلَّ مِنْ صَدْري لِلْمُؤْمِنينَ، وَأَعْطِفْ بِقَلْبي عَلَى الْخاشِعينَ، وَكُنْ لي كَما تَكُونُ لِلصّالِحينَ، وَحَلِّني حِلْيَةَ الْمُتَّقينَ، وَاجْعَلْ لي لِسانَ صِدْق فِي الْغابِرينَ، وَذِكْراً نامِياً فِي الاْخِرينَ، وَوافِ بي عَرْصَةَ الأوَّلينَ، وَتَمِّمْ سُبُوغَ نِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَظاهِرْ كَراماتِها لَدَىَّ.
إِمْلأ مِنْ فَوائِدِكَ يَدَيَّ، وَسُقْ كَرائِمَ مَواهِبِكَ إِلَيَّ، وَجاوِرْ بِىَ الأطْيَبينَ مِنْ أَوْلِيائِكَ فِي الْجِنانِ الَّتي زَيَّنْتَها لأِصْفِيائِكَ، وَجَلِّلْني شَرائِفَ نِحَلِكَ فِي الْمَقاماتِ الْمُعَدَّةِ لاَحِبّائِكَ، وَاجْعَلْ لي عِنْدَكَ مَقيلاً آوي إِلَيْهِ مُطْمَئِنّاً، وَمَثابَةً أَتَبَوَّأُها وَأَقَرُّ عَيْناً.
* * *
اللهم حلّني بحلية المتقين
يا ربّ، اجعلني ممن يعيش في حركة مشاعره وعواطفه وعلاقاته وعي انفتاح إيمانه على آفاق إنسانيته في اصتاله بالآخرين، فلا يختلف حبّه عن معطيات الخطّ الرسالي في فكره في انفعالات المحبة في قلبه، ولا يبتعد بغضه عن عناصر السلبية في خطوط عقيدته في مشاعر البغض  في أحاسيسه، حتى أوالي مَن واليت وأعادي من عاديت، لا موالاة الذات للذات، ولا معاداة الشخص للشخص، بل موالاة الرسالة للخط الرسالي ومعاداة الموقع الحقّ للموقع الباطل، فلا تنفذ الخصوصيات الذاتية للعاطفة لتأكل الشمولية الرسالية للموقف، لأنّ ذلك يمثّل الانحراف عن معنى العقيدة في العقل، والرسالة في الخطّ، وخطّ الاستقامة في العمل، استسلاماً للشيطان في نزغاته ووساوسه، فيعادي المؤمنين ويوالي الكافرين.
وهكذا أريد يا ربّ أن تفتح قلبي على المؤمنين بالمحبّة، وتنزع الحقد من داخله حتى أحبّ المؤمنين لإيمانهم، وانزغ الغلّ من كلّ وجودي الداخلي لاتصالهم بك وانفتاحهم عليك، واجعل قلبي محبّاً للخاشعين لك بعقولهم وقلوبهم وكلّ حياتهم، تعظيماً لك، ومحبةً لك، وخوفاً منك، وخضوعاً لعظمتك، لأنّ اتجاه قلبي بالمحبة لهؤلاء يوحي إلى كياني بالسير معهم والتحرّك في مسيرتهم، والانطلاق في كلّ حركتهم في طاعتك، والعمل بما يرضيك خشوعاً لك، وخضوعاً لأسرار العظمة في ذاتك، وشكراً لفيوضات النعمة من فضلك.
* * *
اللهم إنّني أتضرع إليك أن تجعلني في مواقع رعايتك وعنايتك وعفوك ولطفك وفيوضاتك التي تغدقها على عبادك الصالحين، الذين أحببتهم لصلاحهم في خطّ طاعتك، فاجعلني من الصالحين الذين أصلحت لهم إيمانهم وعملهم وخطّهم وصدقهم في الإقبال عليك، ومن السائرين على نهجك، لتعطيني ما أعطيتهم، وتدخلني في زمرتهم، فأكون لك في طاعتي كما كانوا لك في طاعتهم، وأبتهل إليك أن تجعلني من المتقين الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء والكاظمين الغيظ والمحسنين للناس، والذي إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنّهم إلى ربّهم راجعون، والذين لا تجدهم حيث نهيتهم، ولا تفقدهم حيث أمرتهم، وإذا انفتح لهم باب من الحرام لم يدخلوا فيه.
وإذا وفقتني لذلك فأعطني حلية المتقين التي تمنحهم إياها في الآخرة من الحلى المادية والمعنوية التي تمثل كرامتك لعبادك المتقين بما تمنحهم من نعمك، وبما تفيضه عليهم من لطفك.
* * *
واجعل لي الذكر الجميل في الأجيال القادمة من خلال ما يبقى لي في الذاكرة التاريخية لدى الناس من أفعال الخير التي توفقني لها، ومن خصال الحمد التي تغرسها في كياني، من كلمات الحقّ التي أطلقها، ومن مواقف الإيمان التي أؤكّدها، ومن حركة الصراع التي أقف في ساحاتها موقف صدق من أجل الرسالة، وغير ذلك مما يزلفني عندك ويقربني إليك، ليتذكرني الناس من خلال ذلك، ليستفيدوا من ثمراته ونتائجه، وليحصلوا على منافعه وفوائده، ولأحصل من ذلك على الخير كلّه - من خلالها - بعد وفاتي علماً وسنّةً حسنةً متبعة، فإنّ الذكر الجميل لا يمثل شيئاً لي بالمعنى المادي للإحساس بالزهو الذاتي بعد الموت، ولكنّه يمثل امتداداً لحياتي الروحية والفكرية والحركية التي تبقى زاداً للأجيال بمقدار ما تعطي وتنفع وتحقّق النتائج الكبرى على هدى قولك سبحانك: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84]، ويبقى لي صدقه ونموّه وانفتاحه كلّما ذكرني الذاكرون، وهتف باسمي الهاتفون، واستفاد من علمي الباحثون.
* * *
اللهم واحشرني في الساحات الواسعة في عرصات القيامة لأقف هناك مع الأولين من السابقين إلى الإيمان وإلى الخيرات، واجعل نعمك تامة لديّ في ما تسبغه عليّ منها من النعم الظاهرة والباطنة على هدى قولك - سبحانك - : {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20] وتابع كراماتها المتمثلة بإيصال النفع الكريم الذي لا تلحقني فيه غضاضة، ولا تمسّني فيه مهانة، بل يمنحني الإعزاز والشرف كلّه.
* * *
أعطني العطاء الجزيل والخير الكثير من فوائدك، وأوصل إليّ خيار مواهبك ونفائسها، واجعل موقعي في القيامة في جوار الأولياء الطيبين السائرين على نهج محبتك الذين أسكنتهم جنانك التي حشدت فيها كلّ أنواع الزينة التي تجذب العيون وتخلب القلوب ليستمتع بها الأصفياء من عبادك الصالحين، وهب لي - يا ربّ - المنازل الرفيعة العالية القدر من عطاياك في مواقع القرب المنفتحة على المقامات الشريفة التي أعددتها لأحبائك، وارزقني - يا ربّ - الجنة الوارفة التي أستريح فيها، وأستقرّ فيها، في اطمئنان الروح، وروحانية الإحساس، حيث أجد فيها المأوى الأمين، والحياة الوادعة، والمثابة الهادئة في قرّة العين وسعادة النفس، يا أرحم الراحمين.
* * *
وَلا تُقايِسْني بِعَظيماتِ الْجَرائِرِ، وَلا تُهْلِكْني يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ، وَأَزِلْ عَنّي كُلَّ شَكٍّ وَشُبْهَة، وَاجْعَلْ لي فِي الْحَقِّ طَريقاً مِنْ كُلِّ رَحْمَة، وَأَجْزِلْ لي قِسَمَ الْمَواهِبِ مِنْ نَوالِكَ، وَوَفِّرْ عَلَىَّ حُظُوظَ الإحْسانِ مِنْ إِفْضالِكَ.
وَاجْعَلْ قَلْبي واثِقاً بِما عِنْدَكَ، وَهَمّي مُسْتَفْرَغاً لِما هُوَ لَكَ، وَاسْتَعْمِلْني بِما تَسْتَعْمِلُ بِهِ خالِصَتَكَ، وَأَشْرِبْ قَلْبي عِنْدَ ذُهُولِ الْعُقولِ طاعَتَكَ، وَاجْمَـعْ لِىَ الْغِنى وَالْعَفافَ، وَالـدَّعَةَ وَالْمُعافاةَ، وَالصِّحَّةَ وَالسَّعَةَ، وَالطُّمَأْنينَةَ وَالْعافِيَةَ، وَلا تُحْبِطْ حَسَناتي بِما يَشوبُها مِنْ مَعْصِيَتِكَ، وَلا خَلَواتي بِما يَعْرِضُ لي مِنْ نَزَغاتِ فِتْنَتِكَ.
* * *
اللهم اجعل قلبي واثقاً بما عندك
يا ربّ، ها أنا أقف بين يديك موقف الإنسان الذي اقترف أكثر من جريمة عظيمة، كنت فيها المتمرد على أوامرك ونواهيك والمتعرّض لغضبك وسخطك، المستخفّ بحقّك بفعل النفس الأمّارة بالسوء، والشيطان الذي يزيدني ذنباً إلى ذنبي في غفلة العقل عن مواقع عظمتك، وغياب القلب عن مواضع نعمتك، لا رغبة منّي لذلك، ولا جحوداً لربوبيّتك.
اللهم فلا تؤاخذني بذلك في تحديدٍ دقيقٍ لعقوبتي بالمقارنة مع الجرائم العظيمة، ولا تنزل بي الهلكة في اليوم الذي تتمزق فيه القلوب عما فيها من الأسرار الخفية التي تتكشف فيها الانحرافات التي لم تكن ظاهرةً للعيان مما يعتقده الإنسان أو يضمره في أعماق قلبه، فأنا - يا ربّ هنا - تائبٌ إليك، راجعٌ إلى مواقع عفوك ولطفك، فتُب عليّ واعفُ عنّي يا أرحم الراحمين.
* * *
يا ربّ، إنّ الشكوك تهجم على عقلي لتحجب عنه إشراقة الحقّ في وضوح الرؤية، وتتحرك الشبهات لتثير في داخل ذاتي الحيرة القلقة التي تبعدني عن الاستقرار الفكري الذي يربطني بالحقيقة الناصعة، وتدفعني إلى التخبط في دروب الضلال، فلا أهتدي بفعل ذلك إلى الصراط المستقيم.
اللهم إنّي أحبّك وأحبّ الحقيقة في سرّ ذاتك، لأنّ ذلك هو الذي يمنحني نور الإيمان، وصفاء العقيدة.
اللهم إني أسألك أن ترزقني وعي اليقين بالحقّ الذي يطرد عن عقلي كلّ شك وشبهة، حتى لا أعيش الضباب في حياتي في معرفتك، وافتح لي الطريق السهل السمح إلى الحقّ الذي يصل بي إلى حقيقة اليقين، وإلى الغاية التي أعيش فيها في رحاب معرفتك، حتى أحصل من رحمتك - في ذلك وفي غيره - على ما تقسمه لي من عطاياك السخيّة الكثيرة الكبيرة، وعلى حظّي من إفضالك بالإحسان إلى عبادك.
يا ربّ، قد يعيش قلبي الاهتزاز والقلق والحيرة في الرزق في الدنيا من خلال الأوضاع القلقة التي توحي إليّ بالفقر والخوف والضياع غفلةً عن الحقيقة الإيمانية في انفتاحها على خزائنك التي لا تنفد، وعطاياك التي لا تنتهي، ورحمتك التي لا تضيق عن أحد من عبادك.. اللهم أعطني الثقة حتى أكون بما في يدك أوثق منّي بما في يدي، لأنّك وليّ الرزق في ما أعطيتني وفي ما أؤمله من جودك وكرمك، وعلى ضوء ذلك فإنك - أنت - وليّ الثقة بكلّ المستقبل وما فيه من ألطافك وعطاياك.
* * *
يا ربّ، قد تتجمع الهموم في قلبي عندما أفكر بالمستقبل في مشاكله واهتزازاته وبلاياه، فيشغلني ذلك عن التفكير في واجباتي ومسؤولياتي أمامك، وقد يعرّضني ذلك إلى البعد عنك وعن مواقع رضاك.
اللهم إنّني أعرف أنّ كلّ همّ غير الهمّ المنفتح على علاقتي بك لا قيمة له، وأنّ كلّ الاهتمامات المتصلة بحاجات الدنيا لا ترقى إلى مستوى الأهمية في حاجات الآخرة، وأن لصلة بك هي الصلة الوثيقة التي لا صلة أوثق منها، لأنّك - وحدك - وليّ الأمر كلّه.
اللهم فرّغ قلبي للهمّ الكبير في القيام بطاعتي لك مما خلقتني له، وحرّك كلّ طاقاتي في اتجاه الوصول إلى الدرجة العليا التي وصل إليها الأتقياء وأهل القرب إليك والزلفة عندك، من هؤلاء الذين خصصتهم بفضلك وجعلتهم من أهل الصفاء في محبتك، واسقني - يا ربّ - شراب المعرفة اللذيذ الذي يروي ظمأي إلى حبّك فيتحرك بي في خطّ طاعتك، في الساحة التي تذهل فيها العقول عن وعي الحقيقة المشرقة بفعل أجواء الغفلة في الذات، حتى تعيش طاعتك في قلبي فتنفذ فيه نفوذ الماء في البدن.
* * *
اللهم اجمع لي - في حياتي المتحركة نحوك - كلّ ما يمنحني الهدوء والطمأنينة والاستقامة، من الغنى الذي لا أحتاج - معه - إلى أحد سواك، والعفاف عن كلّ حرام مما تجتذبني إليه الغرائز في شهواتها ونزواتها وانحرافاتها، والراحة وخفض العيش والمعافاة من كلّ الأسقام والأمراض والصحة التي يرتاح إليها البدن في نتائجها الطبيعية في حركته والسعة في الرزق، والاستقرار النفسي الذي يمنح الذات الطمأنينة الروحية والعافية من كلّ بلاء ومن كلّ سوء في الدنيا والآخرة.
واجعلني ممن يمتد في حسناته في كلّ عمره فلا يسقط منها شيء في أجواء سيئاته التي قد تحبط الحسنات بتأثيراتها السلبية، وهيّئ لي السلامة في خلواتي بك في عبادتي وصلاتي وابتهالاتي، من كلّ خطرات الوساوس الشيطانية التي توقعني في البلاء الذي قد تسقطني نوازعه وأوضاعه، لأعيش معك بعيداً عن كلّ انحراف في التّصوّر أو اهتزاز في الواقع.
وَصُنْ وَجْهي عَنِ الطَّلَبِ إِلى أَحَد مِنَ الْعالَمينَ، وَذُبَّني عَنِ الْتِماسِ ما عِنْدَ الْفاسِقينَ، وَلا تَجْعَلْني لِلظّالِمينَ ظَهيراً، وَلا لَهُمْ عَلى مَحْوِ كِتابِكَ يَداً وَنَصيراً.
وَحُطْني مِنْ حَيْثُ لا أَعْلَمُ حِياطَةً تَقيني بِها، وَافْتَحْ لي أَبْوابَ تَوْبَتِكَ، وَرَحْمَتِكَ، وَرَأْفَتِكَ، وَرِزْقِكَ الْواسِعِ، إِنّي إِلَيْكَ مِنَ الرّاغِبينَ.
وَأَتْمِمْ لي إِنْعامَكَ إِنَّكَ خَيْرُ الْمُنْعِمينَ، وَاجْعَلْ باقِيَ عُمْري فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ابْتِغاءَ وَجْهِكَ يا رَبَّ الْعالَمينَ، وَصَلَّى اللّهُ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ، وَالسَّلامُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَبَدَ الاْبِدينَ.
* * *

اللهم افتح لي أبواب توبتك ورزقك
اللهم لا تبذل ماء وجهي لأحدٍ من خلقك، بل اجعل وجهي عزيزاً بالحاجة إليك وحدك، فلا أتوجه بحاجتي إلى أحد سواك، ولا أطلب لنفسي شيئاً إلا منك، وادفعني يا ربّ عن التطلع إلى ما في أيدي الفاسقين من رزقك الذي منحتهم إياه بحكمتك ورحمتك التي وسعت كلّ شيء، بالرغم من خروجهم عن الإيمان بك إلى الكفر بتوحيدك وبرسالتك ورسلك، ومن خطّ الطاعة إلى ساحة المعصية، ومن الخضوع إليك إلى الخضوع لغيرك.
اللهم إنّ حاجتي إليهم، والتماس ما عندهم، يعرّضني إلى السقوط تحت تأثير ما يفرضونه عليّ من الانحراف عنك كثمنٍ لعطاياهم، وهذا هو السقوط العظيم الذي يؤدّي بي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.
* * *
اللهم اجعلني في كلّ طاقاتي المادية والمعنوية ناصراً للمؤمنين وللعادلين، وامنعني من النصرة والمساعدة للظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية والعدوان على الناس، وأبعدني عن تحريك قوتي في دعم قوتهم التي تعمل على محو الحقائق الإيمانية والروحية والعملية التي أنزلت آياتها في كتابك.
اللهم إنّي أسألك أن تحوطني - في كلّ جانب من جوانب حياتي - من كلّ الأخطار الفكرية والروحية التي تصيب إيماني، ومن كلّ الأضرار المتنوعة التي تصيب بدني وحياتي كلّها، حياطةً شاملةً من حيث أعلم أو لا أعلم، تقيني بها من كلّ سوءٍ في الدنيا والآخرة، وافتح لي أبواب التوبة من كلّ خطاياي، حتى لا توقفني بعدها على ذنبٍ اجترحته أو معيةٍ اقترفتها، وأبواب الرحمة التي تغمرني بكلّ الخير واللطف من عندك، وأبواب الرأفة التي تملأ قلبي بالمحبة والحنان والطمأنينة، وأبواب رزقك الواسع الذي لا أحتاج معه أحداً.. إنّني راغب إليك في كلّ حاجاتي وتطلعاتي يا خير المرغوبين، وأتمم عليَّ نعمتك التي بدأتها بخلقي بكلّ خصوصياته وتفاصيله إنّك خير المنعمين.
اللهم إنّ الحجّ والعمرة بابان من أبواب مغفرتك، فتحتهما لكلّ المؤمنين من عبادك كمظهر من مظاهر الإخلاص في عبوديتهم لك وإخلاصهم إليك، اللهم اجعل عمري في مستقبل أمري في الحج والعمرة في إخلاص العبادة التي لا تريد إلا وجهك والقربى إليك والزلفة لديك يا ربّ العالمين، وصلى الله على محمّدٍ رسوله وآله الطيبين الطاهرين، والسلام عليه وعليهم إلى أبد الآبدين، والحمد لله ربّ العالمين.
* * *

الهوامش:
(1)    الكافي، ج:4، ص:145، رواية:1.
(2)    نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، الخطبة:83، ص:65.
(3)    عيون أخبار الرضا، ج:1، ص:132، نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:6، ص:309.
(4)    من لا يحضره الفقيه، ج:3، باب:2، ص:555، رواية:4908.
(5)    جاء في صحيح مسلم قالت عائشة: خرج النبي(ص) وعليه مرط - أي كساء غير مخيط - فجاء الحسن فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء عليّ فأدخله ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:33].
(6)    رواه الحاكم في مستدرك الصحيحين، ج:2، ص:342، طبعة:1324، وأبو نعيم في حلية الأولياء، ج:4، ص:306، والخطيب البغدادي، ج:2، ص:19.
(7)    الفقيه، الصدوق، ج:3، باب:2، ص:555، رواية:4908، نقلاً عن: "رياض السالكين"، ج:6، ص:270.
(8)    الكافي، ج:4، ص:262، رواية:38.
(9)    نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، ص:186، الخطبة:178.
(10)    الكافي، ج:2، ص:274، رواية:24.
(11)    الكافي، ج:2، ص:273، رواية:22.
(12)    الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط:1412،1 هـ ـ 1992م، ج:9-10، ص:393.
(13)    مجمع الأمثال، ج:3، ص:39.
(14)    نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، قصار الحكم:358، ص:405.
(15)    قال الزمخشري: الأصل في وقوع البرد عبارة عن الطيب والهناءة، أنّ الهواء والماء لما كان طيبهما ببردهما خصوصاً في بلاد تهامة والحجاز قيل: هواء بارد وماء بارد على سبيل الاستطابة، ثم كثير حتى قيل: عيش بارد وغنيمة باردة وبرد أمرنا. الفائق في غريب الحديث، ج:1، ص:91.
* * *


دعاؤه(ع)
يَوْمَ الأضْحى وَيَوْمَ الْجُمُعَة

اللّهُمَّ هذا يَوْمٌ مُبارَكٌ مَيْمُونٌ، وَالْمُسْلِمُونَ فيهِ مُجْتَمِعُونَ في أَقْطارِ أَرْضِكَ، يَشْهَدُ السّائِلُ مِنْهُمْ، وَالطّالِبُ وَالرّاغِبُ وَالرّاهِبُ، وَأَنْتَ النّاظِرُ في حَوائِجِهِمْ.
فَأَسْأَلُكَ بِجُودِكَ وَكَرَمِكَ، وَهَوانِ ما سَأَلْتُكَ عَلَيْكَ، أَنْ تُصَلِّىَ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ.
وَأسْأَلُكَ اللّهُمَّ رَبَّنا بِأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ وَلَكَ الْحَمْدَ، لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الْحَليمُ الْكَريمُ، الْحَنّانُ الْمَنّانُ، ذُو الْجَلالِ وَالإكرامِ، بَديعُ السّماواتِ وَالأرْضِ، مَهْما قَسَمْتَ بَيْنَ عِبادِكَ الْمُؤْمِنينَ مِنْ خَيْر أَوْ عافِيَة، أَوْ بَرَكَة، أَوْ هُدىً، أَوْ عَمَلٍ بِطاعَتِكَ، أَوْ خَيْرٍ تَمُنُّ بِهِ عَلَيْهِمْ، تَهْديهِمْ بِهِ إِلَيْكَ، أَوْ تَرْفَعُ لَهُمْ عِنْدكَ دَرَجَةً، أَوْ تُعْطيهِمْ بِهِ خَيْراً مِنْ خَيْرِ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، أَنْ تُوَفِّرَ حَظّي وَنَصيبي مِنْهُ.
وَأَسْأَلُكَ اللّهُمَّ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّد، عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ وَحَبيبِكَ وَصَفْوَتِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ، وَعَلى آلِ مُحَمَّد الأبرارِ الطّاهِرينَ الأخْيارِ، صَلاةً لا يَقْوى عَلى إِحْصائِها إِلاّ أَنْتَ، وَأَنْ تُشْرِكَنا في صالِحِ مَنْ دَعاكَ في هذَا الْيَوْمِ مِنْ عِبادِكَ الْمُؤْمِنينَ، يا رَبَّ الْعالَمينَ، وَأَنْ تَغْفِرَ لَنا وَلَهُمْ، إِنَّك عَلى كُلِّ شَىْء قَديرٌ.
اللّهُمَّ إِلَيْكَ تَعَمَّدْتُ بِحاجَتي، وَبِكَ أَنْزَلْتُ الْيَوْمَ فَقْري وَفاقَتي وَمَسْكَنَتي، وَإِنّي بِمَغْفِرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ أَوْثَقُ مِنّي بِعَمَلي، وَلَمَغْفِرَتُكَ وَرَحْمَتُكَ أَوْسَعُ مِنْ ذُنُوبي، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَتَوَلَّ قَضاءَ كُلِّ حاجَة هِىَ لي، بِقُدْرَتِكَ عَلَيْها، وَتَيْسيرِ ذلِكَ عَلَيْكَ، وَبِفَقْري إِلَيْكَ، وَغِناكَ عَنّي، فَإِنّي لَمْ أُصِبْ خَيْراً قطُّ إِلاّ مِنْكَ، وَلَمْ يَصْرِفْ عَنّي سُوءاً قَطُّ أَحَدٌ غَيْرُكَ، وَلا أَرْجُو لأِمْرِ آخِرَتي وَدُنْياىَ سِواكَ.
اللّهُمَّ مَنْ تَهَيَّأَ وَتَعَبَّأَ وَأَعَدَّ وَاسْتَعَدَّ لِوَفادَة إِلى مَخْلوق، رَجاءَ رِفْدِهِ وَنَوافِلِهِ، وَطَلَبَ نَيْلِهِ وَجائِزَتِهِ، فَإِلَيْكَ يا مَوْلاىَ كانَتِ الْيَوْمَ تَهْيِئَتي وَتَعْبِئَتي، وَإِعْدادي وَاسْتِعْدادي، رَجاءَ عَفْوِكَ وَرِفْدِكَ، وَطَلَبَ نَيْلِكَ وَجائِزَتِكَ.
اللّهُمَّ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَلا تُخَيِّبِ الْيَوْمَ ذلِكَ مِنْ رَجائي، يا مَنْ لا يُحْفيهِ سائِلٌ، وَلا يَنْقُصُهُ نائِلٌ، فَإِنّي لَمْ آتِكَ ثِقَةً مِنّي بَعَمل صالِح قَدَّمْتُهُ، وَلا شَفاعَةِ مَخْلُوق رَجَوْتُهُ، إِلاّ شَفاعَةَ مُحَمَّد وَأَهْلِ بَيْتِهِ، عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ سَلامُكَ.
أَتَيْتُكَ مُقِرّاً بِالْجُرْمِ وَالإساءَةِ إِلى نَفْسي، أَتَيْتُكَ أَرْجُو عَظيمَ عَفْوِكَ الَّذي عَفَوْتَ بِهِ عَنِ الْخاطِئينَ، ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْكَ طُولُ عُكُوِفهِمْ عَلى عَظيمِ الْجُرْمِ أَنْ عُدْتَ عَلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ.
فَيا مَنْ رَحْمَتُهُ واسِعَةٌ، وَعَفْوُهُ عَظيمٌ، يا عَظيمُ يا عَظيمُ، يا كَريمُ ياكَريمُ، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَعُدْ عَلَىَّ بِرَحْمَتِكَ، وَتَعَطَّفْ عَلَىَّ بِفَضْلِكَ، وَتَوَسَّعْ عَلَىَّ بِمَغْفِرَتِكَ.
اللّهُمَّ إِنَّ هذَا الْمَقامَ لِخُلْفائِكَ، وَأَصْفِيائِكَ وَمَواضِعَ اُمَنائِكَ، فِي الدَّرَجَةِ الرَّفيعَةِ الَّتي اخْتَصَصْتَهُمْ بِها، قَدِ ابْتَزُّوها وَأَنْتَ الْمُقَدِّرُ لِذلِكَ، لايُغالَبُ أَمْرُكَ، وَلا يُجاوَزُ الْمَحْتومُ مِنْ تَدْبيرِكَ كَيْفَ شِئْتَ، وَأَنّى شِئْتَ، وَلِما أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، غَيْرُ مُتَّهَم عَلى خَلْقِكَ، وَلا لاِرادَتِكَ، حَتّى عادَ صَفْوَتُكَ وَخُلَفاؤُكَ مَغْلُوبينَ مَقْهُورينَ مُبْتَزِّينَ، يَرَوْنَ حُكْمَكَ مُبَدَّلاً، وَكِتابَكَ مَنْبُوذاً، وَفَرائِضَكَ مُحَرَّفَةً عَنْ جِهاتِ أَشْراعِكَ، وَسُنَنَ نَبِيِّكَ مَتْرُوكَةً.
اللّهُمَّ الْعَنْ أَعْداءَهُمْ مِنَ الأوَّلينَ وَالآخِرينَ، وَمَنْ رَضِيَ بِفِعالِهِمْ، وَأَشْياعَهُمْ وَأَتْباعَهُمْ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، إِنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ، كَصَلَواتِكَ وَبَرَكاتِكَ وَتَحِيّاتِكَ عَلى أَصْفِيائِكَ إِبْراهيمَ وَأَلِ إِبْراهيمَ، وَعَجِّلِ الْفَرجَ وَالرَّوْحَ وَالنُّصْرَةَ وَالتَّمْكينَ وَالتَّأْييدَ لَهُمْ.
اللّهُمَّ وَاجْعَلْني مِنْ أَهْلِ التَّوْحيدِ وَالاْيمانِ بِكَ، وَالتَّصْديقِ بِرَسُولِكَ وَالاْئِمَّةِ الَّذينَ حَتَمْتَ طاعَتَهُمْ، مِمَّنْ يَجْري ذلِكَ بِهِ وَعَلى يَدَيْهِ، آمينَ رَبَّ الْعالَمينَ.
اللّهُمَّ لَيْسَ يَرُدُّ غَضَبَكَ إِلاّ حِلْمُكَ، وَلا يَرُدُّ سَخَطَكَ إِلاّ عَفْوُكَ، وَلا يُجيرُ مِنْ عِقابِكَ إِلاّ رَحْمَتُكَ، وَلا يُنجيني مِنْكَ إِلاّ التَّضَرُّعُ إِلَيْكَ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ.
فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَهَبْ لَنا يا إِلهي مِنْ لَدُنْكَ فَرَجاً، بِالْقُدْرَةِ الَّتي بِها تُحْيي أَمْواتَ الْعِبادِ، وَبِها تَنْشُرُ مَيْتَ الْبِلادِ.
وَلا تُهْلِكْني يا إِلهي غَمّاً حَتّى تَسْتَجيبَ لي، وَتُعَرِّفَني الإجابَةَ في دُعائي، وَأَذِقْني طَعْمَ الْعافِيَةِ إِلى مُنْتَهى أَجَلي، وَلا تُشْمِتْ بي عَدُوّي، وَلا تُمَكِّنْهُ مِنْ عُنُقي، وَلا تُسَلِّطْهُ عَلَيَّ.
إِلهي إِنْ رَفَعْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يَضَعُني؟ وإِنْ وَضَعْتَني فَمَنْ ذَا الَّذَي يَرْفَعُني؟ وَإِنْ أَكْرَمْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يُهينُني ؟ وَإِنْ أَهَنْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يُكْرِمُني؟ وَإِنْ عَذَّبْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يَرْحَمُني؟ وَإِنْ أَهْلَكْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يَعْرِضُ لَكَ في عَبْدِكَ، أَوْ يَسْأَلُكَ عَنْ أَمْرِهِ؟ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ في حُكْمِكَ ظُلُمٌ، وَلا في نَقِمَتِكَ عَجَلَةٌ، وَإِنَّما يَعْجَلُ مَنْ يَخافُ الْفَوْتَ، وَإِنَّما يَحْتاجُ إِلَى الظُّلْمِ الضَّعيفُ، وَقَدْ تَعالَيْتَ يا إِلهي عَنْ ذلِكَ عُلُوّاً كَبيراً.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَلا تَجْعَلْني لِلْبَلاءِ غَرَضاً، وَلا لِنَقِمَتِكَ نَصَباً، وَمَهِّلْني، وَنَفِّسْني وَأَقِلْني عَثْرَتي، وَلا تَبْتَلِيَنّي بِبَلاء عَلى أَثَرِ بَلاء، فَقَدْ تَرى ضَعْفي، وَقِلَّةَ حيلَتي، وَتَضَرُّعي إِلَيْكَ.
أَعُوذُ بِكَ اللّهُمَّ الْيَوْمَ مِنْ غَضَبِكَ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وآلِهِ، وَأَعِذْني، وَأَسْتَجيرُ بِكَ الْيَوْمَ مِنْ سَخَطِكَ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وآلِهِ وَأَجِرْني، وَأَسْأَلُكَ أَمْناً مِنْ عَذابِكَ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَآمِنّي، وَأَسْتَهْديكَ فَصَلّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاهْدِني، وَأَسْتَنْصِرُكَ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآله وَانْصُرْني، وَأَسْتَرْحِمُكَ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَارْحَمْني، وَأَسْتَكْفيكَ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاكْفِني، وَأَسْتَرْزِقُكَ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَارْزُقْني، وَأَسْتَعينُكَ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَأَعِنّي، وَأَستَغْفِرُكَ لِما سَلَفَ مِنْ ذُنُوبي، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاغْفِرْ لي، وَأَسْتَعْصِمُكَ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاعْصِمْني، فَإِنّي لَنْ أَعُودَ لِشَىْء كَرِهْتَهُ مِنّي إِنْ شِئْتَ ذلِكَ.
يا رَبِّ يا رَبِّ، يا حَنّانُ يا مَنّانُ، يا ذَا الْجَلالِ وَالإكرامِ، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاسْتَجِبْ لي جَميعَ ما سَأَلْتُكَ وَطَلَبْتُ إِلَيْكَ، وَرَغِبْتُ فيهِ إِلَيْكَ، وَأَرِدْهُ وَقَدِّرْهُ، وَاقْضِهِ وَامْضِهِ، وَخِرْ لي فيما تَقْضي مِنْهُ، وَبارِكْ لي في ذلِكَ، وَتَفَضَّلْ عَلَيَّ بِهِ، وَأَسْعِدْني بِما تُعْطيني مِنْهُ، وَزِدْني مِنْ فَضْلِكَ وَسَعَةِ ما عِنْدَكَ، فَإِنَّكَ واسِعٌ كَريمٌ.وَصِلْ ذلِكَ بِخَيْرِ الاْخِرَةِ وَنَعيمِها، يا أَرْحَمَ الرّاحِمينَ.
*  *  *
إيحاءات يومي الأضحى والجمعة
للأضحى في التشريع الإسلاميّ حركة روحية إيحائية في الحجّ، ففي صبيحة هذا اليوم يقف الحجاج من المسلمين ليصلّوا صلاة العيد جماعةً يلتقون فيها بالعلاقات الروحانية التي تربطهم بالله، وتشدّهم إليه، وتوحي إليهم بأنّ اجتماعهم بين يديه يمثّل مسؤوليتهم الجماعية أمامه في ما يتصل بقضاياهم العامة على صعيد الدين والدنيا، وبأنّ العيد الذي يقفون للصلاة تحت عنوانه الكبير يمثل المناسبة العامة التي يشعرون فيها بالفرح والسرور والأخوّة التي تتعانق فيها أجسادهم بالمحبة، وتتصافح فيه أيديهم بالأخوة، وتتحرك فيه حياتهم بالخير.
ولينفروا فيه في رحلة الحجّ في المسيرة الأخيرة من المشعر الحرام إلى البلد الحرام (مِنى) من أجل أن يتحركوا في الأرض الحرام في اليوم الحرام من الشهر الحرام، في إيحاء بالالتزامات الروحية والعملية في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وكلّ علاقاتهم العامة، ليكون عنوان الحرام هو العنوان الذي يحكم الواقع كلّه في كلّ مفردات حياتهم الفردية والجماعية، فإذا كانت حرمة البلد واليوم والشهر تفرض عليهم التزامات وقيوداً معينة محدودة، فإنّ حرمة الإنسان المؤمن تفرض عليهم التزامات كثيرة واسعة على مستوى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، الأمر الذي يجعلهم يتمثلون الوحدة الإسلامية الفكرية والحركية في كلّ أوضاعهم المجتمعية على صعيد الأمة.
وليبادروا - في اليوم نفسه - إلى الموقف الرمز في رجم الشيطان الأكبر الذي ترمز إليه "جمرة العقبة" للإيحاء الداخلي بالاستعداد الكبير لمواجهة الشيطان الحيّ في الواقع الذي يوسوس في صدور الناس، ويعدهم ويمنّيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، ويدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير.
ثم ينطلق الجميع ليقربوا قربانهم إلى الله في الأضاحي التي يذبحونها وينحرونها من أجل الانفتاح على معنى الأضحية في الكبش الذي قدمه الله لإبراهيم(ع) فداءً لولده إسماعيل في أجواء الموقف العظيم في الإسلام لله، في قيام إبراهيم بالتجربة الصعبة في ذبح ولده وتقديم إسماعيل نفسه ستجابةً للأمر الإلهي(1)، فقد أبقى الله هذه القصة - الأمثولة في مدى الزمن - تقليداً شرعياً في الحجّ بما يقدمه الناس من الأضاحي التي لا ينال الله لحومها ولا دماءها ولكن يناله التقوى منهم، واستحباباً شرعياً للناس أن يقوموا بتقديم الأضاحي في بلدانهم في المعمور ليطعموا البائس الفقير كوجهٍ من وجوه التكافل الاجتماعي في صيغته العبادية، وهكذا يتمثل الأضحى يوماً تتجمع فيه البركات الإلهية، وتنفتح فيه تملأ العقل والقلب والشعور والحياة كلّها بالتقوى في الالتزام بالخطّ التوحيدي في طاعة الله والاستقامة على درب الله في كلّ ما يحبّه ويرضاه مما يتعلق بالمسؤولية عن الذات والإنسان والحياة.
أما يوم الجمعة فهو اليوم الذي أراد الله للناس أن يسعوا فيه إلى ذكر الله ويتركوا البيع في حالة النداء إلى صلاة الجمعة، ليحصلوا على الخير الروحي والاجتماعي والثقافي الذي أعده لهم في هذا اليوم، كما أراد لهم فيه أن يتنوعوا في الأخذ بأسباب الخير والإحسان في علاقاتهم الإنسانية الإيمانية، وأن ينفتحوا على العمق الإنساني الذي يتحول إلى ممارسة عملية في العلاقات كلّها.
* * *
موضوعات الدعاء
وهذا الدعاء الذي كان الإمام زين العابدين(ع) يدعو به في يوم الأضحى ويوم الجمعة، يسمو بنا ليحلّق في الآفاق الروحية في ابتهالات الإنسان المؤمن بين يدي ربّه وتطلعاته في كلّ طموحاته وأحلامه، وفي مشاكله وآلامه، ولينفتح الإنسان - وهو في غمرة هذه الابتهالات - على حسنات الله في جلاله وجماله وكماله، وليقدم إليه طلباته في كلّ حاجاته المادية والمعنوية في الدنيا والآخرة، فيدخله في صالح دعاء من دعاه من كلّ المؤمنين الداعين في هذا اليوم، ليحصل على بركات ذلك كلّه من كلّ خير وعافية وبركة وهدى، أو عمل بطاعته أو خير يمنّ به عليهم مما يجلب لهم خيراً أو يعطيهم درجة، ويحصل على المغفرة لكلّ ذنوبه التي يحصلون عليها في غفران ذنوبهم، وليعبر الله أنه هو وليّ حاجته المأمول لقضائها، وأن وثوقه برحمته ومغفرته أكثر من وثوقه بعمله، لأنه قد يفقد الإخلاص أو التركيز فيه، وليطلب منه قضاء حاجاته كلّها لأنّه القادر على ذلك كلّه، فهو الغني عن كلّ شيء بينما يعيش الإنسان الفقر المطلق إليه من كلّ شيء، وهو الله الذي لا خير إلا منه ولا أمل إلا به ولا يصرف السوء عن العباد إلا هو، وهو المرجوّ لأمر الآخرة والدنيا لا رجاء إلا به، وهكذا يقف الإنسان المؤمن - في أجواء الدعاء - ليعلن الله سبحانه أنه قام بالتهيئة والتعبئة والإعداد والاستعداد للوفادة إليه طلباً لنيله وجائزته، بينما يقوم البعض بذلك للوفادة إلى المخلوقين رجاء رفدهم وجائزتهم..
ويأمل أن لا يخيب الله رجاءَه ليمنحه كلّ حاجاته وكلّ عفوه ومغفرته، من غير استحقاق منه لذلك من خلال أعماله الصالحة أو من خلال شفاعة أحد، ما عدا شفاعة محمّد وأهل بيته.. إنّه الرجاء لعفوه الذي عفا به عن الخاطئين وغفرانه الذي منحه للمذنبين، بالرغم من إسرافهم على أنفسهم بالخطيئة، وامتدادهم في عكوفهم على عظيم الجرم، فيمنحه الله العفو كما عفا عنهم، والرحمة كما رحمهم والعطف بفضله كما عطف عليهم.
ويبقى للدعاء أن يجتذب حلم الله ليردّ غضبه، وعفوه ليبتعد به عن سخطه، ورحمته التي تجيره من عقابه، والتضرّع إليه الذي ينجيه منه، فيحصل على الفرج القريب بقدرة الله التي يحيي بها أموات العباد، وينشر بها ميت البلاد، ويبقيه في خطّ النجاة، ويبعده عن واقع الهلاك، ويذيقه طعم العافية ما دام حياً، ويحميه من عدوّه فلا يشمت به من خلال البلاء النازل به، ولا يقتله بقوته عليه. ثم ينطلق ليتعرف الحقيقة الإيمانية التي تربط العز والذل بالله، فهو الذي يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، ويجعل الضعة والرفعة بيده، فهو الذي يضع الناس فلا يملك أحد أن يرفعهم، ويرفع الناس فلا يملك أحد أن يضعهم، وهو الذي يهينهم فلا يستطيع أحد أن يمنحهم الكرامة، ويكرمهم فلا يستطيع مخلوق أن ينزل بهم الإهانة، وهو الذي يملك عذابهم فلا سلطة لأحد على الرحمة بهم وإنقاذهم عن عذاب الله، وهو الذي بيده هلاكهم فلا مجال لأحد أن يتدخل في ذلك..
وهو الذي لا يستعجل في عقابه لأنّ الذي يعجل هو الذي يخاف الفوت، ولا يظلم في حكمه أحداً، لأنّ الذي يظلم هو الضعيف الذي يلجأ إلى الظلم لحماية نفسه من المظلوم خوفاً منه، وهذه هي صفات المخلوق لا صفات الخالق.
ويتصاعد الدعاء للطلب إلى الله أن لا يجعله هدفاً لسهام البلاء، ولا نصباً لنقمته، وأن ينفس له الحياة بالراحة، وأن يمهله في عمره ولا يتابعه بالبلاء في تتابعه وتعاقبه، لأنّه الضعيف في قوّته، القاصر في حيلته.
وأن يعيذه من غضبه، ويجيره من سخطه، ويؤمنه من عذابه، ويهديه وينصره ويرحمه ويكفيه ويرزقه ويعينه ويغفر له ذنوبه السالفة ويعصمه من كلّ خطأ أو ذنب أو انحراف، في عهد منه أن لا يعود لأيّ شيء مما يكره الله صدوره منه، ولن يتمّ ذلك إلّا بمشيئته وتوفيقه.
ويختم الدعاء بالتوسل إلى الله ليستجيب له كلّ ما سأله وطلبه ورغب فيه إليه، ويريده ويقدره ويقضيه ويمضيه، ويجعل له الخيرة في قضائه، ويبارك له في ذلك كلّه، ويتفضل عليه ويمنحه السعادة بعطائه ويزيده من سعة ما عنده، واصلاً خير الدنيا بخير الآخرة ونعيمها من موقع رحمته التي وسعت كلّ شيء.
هذه هي أجواء الدعاء المنفتحة على الله في اهتمامات الإنسان في قضاياه وفي أحلامه وآلامه وتطلعاته وأوضاعه في حالةٍ من التوسل والابتهال والثقة والرجاء الذي يزرع الأمل في العقل والروح والشعور، ويدفع الإنسان إلى التجدد في حركة إنسانية من خلال هذا الإمداد الإلهي الذي يتعهده في مدى الزمان والمكان.
وهكذا يمتلئ اليوم بالفيوضات الروحية الإلهية التي يتحسّس الإنسان بها كلّ معاني الحقّ والخير والإيمان في آفاق العبودية الخالصة أمام الربوبية الرحيمة.
* * *
اللّهُمَّ هذا يَوْمٌ مُبارَكٌ مَيْمُونٌ، وَالْمُسْلِمُونَ فيهِ مُجْتَمِعُونَ في أَقْطارِ أَرْضِكَ، يَشْهَدُ السّائِلُ مِنْهُمْ، وَالطّالِبُ وَالرّاغِبُ وَالرّاهِبُ، وَأَنْتَ النّاظِرُ في حَوائِجِهِمْ.
* * *
اللهم هذا يوم مبارك ميمون
يا ربّ، إنّ الزمن في امتداده خطّ واحد لا فرق فيه بين ساعةٍ وساعة، ويومٍ ويوم، وشهرٍ وآخر، ولكنّك جعلت فيه خصوصية في بعض أيامه، فباركت يوماً دون يومٍ من خلال إرادتك وحكمتك بما أودعته فيه من أعمال الخير، وخصصته بعناصر الحركة ووسائل الغفران وألوان اليمن والبرك، وقد أردت للمسلمين أن يجتمعوا في صلاتهم على الأرض كلّها ليلتقوا معك في وحدة الإخلاص، وانطلاقة الإسلام وروحانية العبادة، واستقامة الحقّ، ليجدوا وحدتهم في الإيمان بوحدانيتك وانطلاقهم في انطلاقة رسالتك، ليزدادوا بذلك إيماناً ووحدةً وروحانيةً وحركيةً في خطّ رضاك، وليقفوا - جميعاً - بين يديك في شهود الحاجة إليك، سواء منهم الطالب والسائل والراغب والراهب في حالة الانتظار لقضاء حوائجهم من خلال أنّك الناظر فيها وحدك لا شريك لك..
* * *
فَأَسْأَلُكَ بِجُودِكَ وَكَرَمِكَ، وَهَوانِ ما سَأَلْتُكَ عَلَيْكَ، أَنْ تُصَلِّىَ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ.
وَأسْأَلُكَ اللّهُمَّ رَبَّنا بِأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ وَلَكَ الْحَمْدَ، لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الْحَليمُ الْكَريمُ، الْحَنّانُ الْمَنّانُ، ذُو الْجَلالِ وَالإكرامِ، بَديعُ السّماواتِ وَالأرْضِ، مَهْما قَسَمْتَ بَيْنَ عِبادِكَ الْمُؤْمِنينَ مِنْ خَيْر أَوْ عافِيَة، أَوْ بَرَكَة، أَوْ هُدىً، أَوْ عَمَلٍ بِطاعَتِكَ، أَوْ خَيْرٍ تَمُنُّ بِهِ عَلَيْهِمْ، تَهْديهِمْ بِهِ إِلَيْكَ، أَوْ تَرْفَعُ لَهُمْ عِنْدكَ دَرَجَةً، أَوْ تُعْطيهِمْ بِهِ خَيْراً مِنْ خَيْرِ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، أَنْ تُوَفِّرَ حَظّي وَنَصيبي مِنْهُ.
* * *
اللهم أنتَ الحكيم الكريم المنّان...
يا ربّ، أنت الذي تملك الملك كلّه والحمد كلّه، وأنت الواحد بالواحدانية المطلقة في كلّ شيء، وأنت الذي تحلم حتى لا يبقى للحلم موقع، وتكرم حتى يمتد كرمك في كلّ خلقك، وأنت الحنّان الذي يغمر حنانك وعطفك كلّ عبادك، والمنّان الذي تتحرك المنّة في رحمتك في الوجود كلّه.
وأنت الذي يخشع الجلال لجلالك والإكرام لكرامتك، المبدع الذي أبدعت السماوات والأرض.
وأنا السائل الفقير الذي يفتقر إلى جودك وكرمك من موقع افتقار وجوده إليك في كلّ شيء يتصل بعناصر حياته وامتدادها في الزمن، والذي يقف بين يديك سائلاً ما لا يثقلك عطاؤه، ولا يصعب عليك بذله.
أسألك - يا ربّ - أن تجعلني من عبادك المؤمنين الذين تتفضل عليهم بما تقسمه لهم من حظوظهم عندك من الخير الذي يفيض على حياتهم كلّها، والعافية التي تعافي بها أبدانهم وأوضاعهم، والبركة التي تزداد وتزيد في أرزاقهم وأعمالهم وأعمارهم، والهدى الذي تفتح لهم فيه أبواب الانفتاح على الإيمان والخطّ المستقيم في القول والعمل والموقف، والعمل بطاعتك الذي يتحرك في مواقع رضاك ويصل بهم إلى نعيم جنتك، وكلّ ما تمنُّ به عليهم من الخير النازل من عندك عليهم، الذي تهديهم به إلى سبيلك أو ترتفع بهم - من خلاله - إلى الدرجات العليا، أو تمنحهم به خيراً في دنياهم وآخرتهم، فأسألك أن تعطيني الحظّ والنصيب الأوفر منه في عاجل أمري وآجله.
* * *
وَأَسْأَلُكَ اللّهُمَّ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ، أَنْ تُصَلِّىَ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّد، عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ وَحَبيبِكَ وَصَفْوَتِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ، وَعَلى آلِ مُحَمَّد الأبرارِ الطّاهِرينَ الأخْيارِ، صَلاةً لا يَقْوى عَلى إِحْصائِها إِلاّ أَنْتَ، وَأَنْ تُشْرِكَنا في صالِحِ مَنْ دَعاكَ في هذَا الْيَوْمِ مِنْ عِبادِكَ الْمُؤْمِنينَ، يا رَبَّ الْعالَمينَ، وَأَنْ تَغْفِرَ لَنا وَلَهُمْ، إِنَّك عَلى كُلِّ شَىْء قَديرٌ.
* * *
اللهم صلِّ على محمدٍ وآله صلاةً لا يقوى على إحصائها غيرك
يا ربّ، المالك للوجود كلّه، المحمود بكلّ مواقع الحمد في كلّ أفعالك، الواحد في مقام ربوبيتك وألوهيتك، أسألك الصلاة على محمّد الذي أخلص لك في عبوديته لك، فاصطفيته برسالتك، وأحببته من موقع حبّه لك، واخترته من بين خلقك لأنّه المفضّل عندك، فهو الذي يستحقّ الصلاة بكلّ الأعداد التي لا يحصيها إلا أنت.
وأسألك - يا ربَّنا - أن تجعلنا ممن تستجيب له دعاءه في هذا اليوم من عبادك المؤمنين الذين ترحمهم برحمتك، وتعفو عنهم بعفوك، وتفتح لهم أبواب الخير وآفاق الرضوان في كلّ أمورهم، لنسعد جميعاً بغفرانك، حتى نقف بين يديك ولا ذنب لنا تؤاخذنا به أو تحاسبنا عليه، فإنّك القادر على كلّ شيء في كلّ ما يطلبه عبادك من جودك وكرمك.
* * *
اللّهُمَّ إِلَيْكَ تَعَمَّدْتُ بِحاجَتي، وَبِكَ أَنْزَلْتُ الْيَوْمَ فَقْري وَفاقَتي وَمَسْكَنَتي، وَإِنّي بِمَغْفِرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ أَوْثَقُ مِنّي بِعَمَلي، وَلَمَغْفِرَتُكَ وَرَحْمَتُكَ أَوْسَعُ مِنْ ذُنُوبي، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَتَوَلَّ قَضاءَ كُلِّ حاجَة هِىَ لي، بِقُدْرَتِكَ عَلَيْها، وَتَيْسيرِ ذلِكَ عَلَيْكَ، وَبِفَقْري إِلَيْكَ، وَغِناكَ عَنّي، فَإِنّي لَمْ أُصِبْ خَيْراً قطُّ إِلاّ مِنْكَ، وَلَمْ يَصْرِفْ عَنّي سُوءاً قَطُّ أَحَدٌ غَيْرُكَ، وَلا أَرْجُو لأِمْرِ آخِرَتي وَدُنْيايَ سِواكَ.
* * *
اللهم لا أرجو لأمر آخرتي ودنياي سواك
يا ربّ، ها أنذا عبدك الفقير بذاته وبكلّ حاجاته، المحتاج إلى نعمك في كلّ مصادر حياتي ومواردها، المسكين الذي تمثل المسكنة أقسى الجهد وأصعب المشقة في أوضاع حياته، أتوجه إليك وأقصد رحاب جودك، وأضع بين يديك لك حاجتي وفقري وفاقتي ومسكنتي، لتحوّل ذلك بعطفك وحنانك، إلى غنى وسعة وراحة ورخاء..
وإذا كان لي بعض العمل الذي أتقرّب به إليك مما وعدت به العاملين من فضلك وإحسانك، فإنّني لا أجد الثقة الكبيرة بنتائجه الخيّرة التي تحقق لي القرب منك والنجاة عندك والاستحقاق لثوابك، لأنّني لا أملك التأكيد بخلوصه واستقامته وتمامه، لذلك فإنّ كلّ تطلعاتي في الحصول على ثوابك إلى مغفرتك ورحمتك، فهما الأساس في الثقة برضوانك، وهما اللتان تمتدان في حياة المذنبين بأوسع من امتداد الذنوب في الواقع.
اللهم، إنّك القادر على قضاء حاجتي، كلّ حاجتي، وذلك عليك سهل يسير، وأنت الخبير بفقري إليك، فلا خيرَ في حياتي إلا منك، وإنّك - وحدك - المتكفّل بإبعاد السوء عني، فلم أجد أحداً يملك إنقاذي من كلّ نتائج السوء غيرك، وأنت الرجاء للنجاة في الدنيا والآخرة، فليس لي في مواقع الرجاء سواك.
* * *
اللّهُمَّ مَنْ تَهَيَّأَ وَتَعَبَّأَ وَأَعَدَّ وَاسْتَعَدَّ لِوَفادَة إِلى مَخْلوق، رَجاءَ رِفْدِهِ وَنَوافِلِهِ، وَطَلَبَ نَيْلِهِ وَجائِزَتِهِ، فَإِلَيْكَ يا مَوْلاىَ كانَتِ الْيَوْمَ تَهْيِئَتي وَتَعْبِئَتي، وَإِعْدادي وَاسْتِعْدادي، رَجاءَ عَفْوِكَ وَرِفْدِكَ، وَطَلَبَ نَيْلِكَ وَجائِزَتِكَ.
اللّهُمَّ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَلا تُخَيِّبِ الْيَوْمَ ذلِكَ مِنْ رَجائي، يا مَنْ لا يُحْفيهِ سائِلٌ، وَلا يَنْقُصُهُ نائِلٌ، فَإِنّي لَمْ آتِكَ ثِقَةً مِنّي بَعَمل صالِح قَدَّمْتُهُ، وَلا شَفاعَةِ مَخْلُوق رَجَوْتُهُ، إِلاّ شَفاعَةَ مُحَمَّد وَأَهْلِ بَيْتِهِ، عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ سَلامُكَ.
أَتَيْتُكَ مُقِرّاً بِالْجُرْمِ وَالإساءَةِ إِلى نَفْسي، أَتَيْتُكَ أَرْجُو عَظيمَ عَفْوِكَ الَّذي عَفَوْتَ بِهِ عَنِ الْخاطِئينَ، ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْكَ طُولُ عُكُوِفهِمْ عَلى عَظيمِ الْجُرْمِ أَنْ عُدْتَ عَلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ.
فَيا مَنْ رَحْمَتُهُ واسِعَةٌ، وَعَفْوُهُ عَظيمٌ، يا عَظيمُ يا عَظيمُ، يا كَريمُ ياكَريمُ، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَعُدْ عَلَىَّ بِرَحْمَتِكَ، وَتَعَطَّفْ عَلَيَّ بِفَضْلِكَ، وَتَوَسَّعْ عَلَىَّ بِمَغْفِرَتِكَ.
* * *
اللهم أتيتك أرجو عظيمَ عفوِكَ ورحمتك ومغفرتك
يا ربّ، إنّ هناك الكثيرين من الناس الذين يستغرقون في مظاهر القوة المادية لدى بعض خلقك ممن أعطيتهم مالاً كثيراً أو جاهاً كبيراً أو بسطةً في الجسم، فخيّل إليهم أنّهم يتمتعون بالقوة الذاتية التي تجعلهم يتصرفون في مصائر العباد فيفقرون هذا ويغنون ذاك، ويرفعون هذا ويضعون ذلك، فاندفع الضعفاء من الناس إليهم في وفادة لاهثة وراء عطاياهم وجوائزهم ومواقعهم المميزة، قاصدين إلى ساحاتهم المتعددة للحصول على ما عندهم من مالٍ وجاه وقوة في تعبئةٍ وإعدادٍ واستعدادٍ تستنفد كلّ جهدهم وكلّ تطلعاتهم وأحلامهم.
أما أنا - يا ربّ - عبدك الذي وعى مواقع عظمتك وامتدادات قدرتك وسعة ملكك، وفيوضات نعمك وشمولية كرمك، فأقبل عليك إقبال العبد على ربّه والفقير المطلق على الغني المطلق والمحتاج إلى العطاء على وليّ النعم، عارفاً بأنّ الملك كلّه لك، وأنّك - أنتَ - الذي أعطيت هذا الملك ملكه والقادر قدرته والغنيّ غناه، فلا يملك أحد شيئاً إلا منك، ولا يتحرك أحد إلا بقوتك، ولا يغتني مخلوق إلا بغناك، فانطلقت في تعبئةٍ روحية وحركية وإعدادٍ نفسي واستعدادٍ جسدي في رحلة طويلة إلى رحاب كرمك، ومواقع نعمك، مؤمّلاً رفدك ومتمنياً الحصول على نيلك في عطائك وجائزتك في رحمتك.
اللهم لا ترجعني في هذا اليوم الذي جعلته من أيام الرحمة والبركة والعطاء مرجع الخيبة من رجائك في ذلك كلّه، أيّها الربّ العظيم، الذي ينطلق السائلون بكلّ مسائلهم إليه بكلّ إلحاحٍ في الطلب فلا يشقّ عليه ذلك، ويتحرك العطاء منه في امتداد الزمن كلّه وفي تنوّع الحاجات إليه فيعطي ويعطي ويمتد كلّ عطائه فلا ينقصه ذلك لأنّ خزائنه لا تنفد.
فإنّي - يا ربّ - لم أنطلق في وفادتي إليك ورحلتي إلى رحابك انطلاق الإنسان المدلّ بعمله الصالح الذي يثق به في نجاته من غضبك، وفوزه برضاك، وحصوله على ما يؤمله من جودك وكرمك، أو الاعتماد على شفاعة مخلوق من عبادك ممن يملك الدالة عليك والتأثير على إرادتك من موقعٍ عاطفي أو قوة ذاتية، بحيث تكون عطاياك منطلقةً من ضغوطهم الداخلية والخارجية، فنني لا أملك أيّ عمل صالح يبعث على الثقة بالحصول على النتائج الكبرى التي تقربني إليك، بل إنّني أقف أمامك موقف المذنب المسيء المعترف بذنبه الذي يرجو عظيم عفوك الذي منحته للخاطئين الذين أسرفوا على أنفسهم وقاموا بعظيم الجرائم، فرحمتهم وغفرت لهم طامعاً بأن تمنحني ما منحتهم وتعطيني ما أعطيتهم..
أمّا الشفاعة، فهي لا تنطلق من قوة ذاتيةٍ للشفيع، ولا من ضغطٍ عاطفي عليك، لأنّك - وحدك - الذي تملك القوة ولا يملك أحد أن يكفي منك شيئاً من خلال ذاته، فأنت الكافي من كلّ شيء، ولا يستطيع مخلوق الضغط على إرادتك بأيّ شكل من أشكال الضغط، كما يفعل الشفعاء من الناس في الضغط على بعضهم البعض للوصول إلى مطالبهم.
إنك أنت - يا ربّ - الذي تمنح الشفعاء في القيامة دورهم وموقعهم، وتوجه حركتهم، فلا يشفعون إلا بإذنك ولا يشفعون إلا لمن ارتضيت، فإنّك تكرمهم بالشفاعة لمن أردت العفو عنه فجعلته مشدوداً إلى التوسل بهم من خلال أنّهم الوسيلة التي ربطت غفرانك باللجوء إليه، فأنت صاحب الشفاعة ووليّ العفو والمغفرة.
* * *
وقد جاء في الدعاء فقرة "إلا شفاعة محمّد وأهل بيته عليه وعليهم سلامك"، والراجح أنّها زيادة مجعولة على الدعاء لا بلحاظ أنّهم لا يملكون موقع الشفاعة من الله، لأنّ الله قد أعطاهم هذا الدور بحسب ما جاء في النصوص المستفيضة، ولكن لأنّ سياق الدعاء هو سياق نفي الشفاعة لمخلوق من حيث قدرته الذاتية على التأثير للتأكيد بأنّ الله هو صاحب القرار في العفو والمغفرة الذي لا يملك أحد تغيير قراره المنطلق من حكمته، لأنّ كلّ خلقه لا يملكون أيّ شيء منه، وليس المقصود نفي الشفاعة الصادرة من إرادة الله لبعض خلقه، ولهذا فإنّ هذا الاستثناء يخلّ بالمقصود ولا يصحّحه، والله العالم.
* * *
فيا صاحب الرحمة الواسعة التي وسع كلّ شيء، ويا مالك العفو العظيم ومحرّكه في حياة المذنبين، أيّها العظيم في كلّ مواقع العظمة والكريم الكريم في كلّ ساحات الكرم، ارحمني برحمتك الواسعة، واعطف عليّ بفضلك العميم ومنّ عليّ بسعة مغفرتك.
* * *
اللّهُمَّ إِنَّ هذَا الْمَقامَ لِخُلْفائِكَ، وَأَصْفِيائِكَ وَمَواضِعَ اُمَنائِكَ، فِي الدَّرَجَةِ الرَّفيعَةِ الَّتي اخْتَصَصْتَهُمْ بِها، قَدِ ابْتَزُّوها وَأَنْتَ الْمُقَدِّرُ لِذلِكَ، لايُغالَبُ أَمْرُكَ، وَلا يُجاوَزُ الْمَحْتومُ مِنْ تَدْبيرِكَ كَيْفَ شِئْتَ، وَأَنّى شِئْتَ، وَلِما أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، غَيْرُ مُتَّهَمٍ عَلى خَلْقِكَ، وَلا لاِرادَتِكَ، حَتّى عادَ صَفْوَتُكَ وَخُلَفاؤُكَ مَغْلُوبينَ مَقْهُورينَ مُبْتَزِّينَ، يَرَوْنَ حُكْمَكَ مُبَدَّلاً، وَكِتابَكَ مَنْبُوذاً، وَفَرائِضَكَ مُحَرَّفَةً عَنْ جِهاتِ أَشْراعِكَ، وَسُنَنَ نَبِيِّكَ مَتْرُوكَةً.
اللّهُمَّ الْعَنْ أَعْداءَهُمْ مِنَ الأوَّلينَ وَالآخِرينَ، وَمَنْ رَضِيَ بِفِعالِهِمْ، وَأَشْياعَهُمْ وَأَتْباعَهُمْ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، إِنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ، كَصَلَواتِكَ وَبَرَكاتِكَ وَتَحِيّاتِكَ عَلى أَصْفِيائِكَ إِبْراهيمَ وَأَلِ إِبْراهيمَ، وَعَجِّلِ الْفَرجَ وَالرَّوْحَ وَالنُّصْرَةَ وَالتَّمْكينَ وَالتَّأْييدَ لَهُمْ.
اللّهُمَّ وَاجْعَلْني مِنْ أَهْلِ التَّوْحيدِ وَالاْيمانِ بِكَ، وَالتَّصْديقِ بِرَسُولِكَ وَالاْئِمَّةِ الَّذينَ حَتَمْتَ طاعَتَهُمْ، مِمَّنْ يَجْري ذلِكَ بِهِ وَعَلى يَدَيْهِ، آمينَ رَبَّ الْعالَمينَ.
* * *
اللهم اجعلني من أهل التوحيد والإيمان بك والتصديق برسولك
يا ربّ، إنّ هذا الموقع يمثل موقع القيادة الإسلامية، باعتبار أنّ العيد والجمعة يمثّلان الاجتماع الكبير للمسلمين الذي يشرف عليه الخليفة الشرعي الذي يترأس الصلاة ويؤمّها ويخطب ليتحسس المسلمون موقعه ويستمعوا إلى تعاليمه ووصاياه وإرشاداته.
وقد كان من المفروض أن يقف فيه خلفاؤك الذي استخلفتهم لقيادة الأمة، وأصفياؤك الذي اصطفيتهم للسير بالناس في الخطّ المستقيم في رسالتك، وأمناؤك الذين ائتمنتهم على دينك، في القمّة في موقع القيادة التي خصصتهم بها، ولكن الآخرين الذين تمردوا على الشرعية القيادية سلبوا الحقّ من أهله وأخذوا مواقعهم.
وأنت المقدّر لذلك من خلال الأسباب التي قدرتها في حركة الواقع والتاريخ، فلم ترد للأشياء أن تتجاوز حدودها الطبيعية في السنن الكونية والاجتماعية والتاريخية، لأنّ حكمتك اقتضت ذلك من خلال ربط النتائج بإرادة الإنسان السلبية والإيجابية، لأنّ مصلحة الحياة تفرض ذلك وإن أدّى إلى إبعاد الصالحين، في بعض المراحل التاريخية، أو بعض المواقع الجغرافية، عن ساحة المسؤولية، ممّا قد يعاني منه الناس ألوان المعاناة في أمورهم الخاصة والعامة.
إنّه قدرك في السنّة العامة للحياة الذي لا يغالب، وإنّه تدبيرك المحتوم الذي لا يجاوَز في كلّ مشيئتك في كيفيتها ومواقعها من خلال عمق الحكمة في علمك بما تراه من المصلحة لخلقك، فإنّك أنت الله الذي لا تتهم على خلقك ولا لإرادتك.
وقد كانت النتائج - في جانب الإمامة والقيادة الشرعية - أنّ هؤلاء الذين اصطفيتهم لدينك واستخلفتهم لإدارة شؤون الناس على خطّ رسالتك، في واقع الجماعة المغلوبة  على أمرها، المقهورة في أوضاعها، المسلوبة مواقعها، يرون الواقع من حكمها منحرفاً عن أحكامك التي بدّلها المغتصبون بغيرها مما لا شرعية له، ويجدون القرآن وراء ظهور الناس الذي نبذوه وأعرضوا عنه، فلم يتدبروا آياته ولم يتحركوا في منهجه، ولم يأخذوا بوصاياه ومواعظه وتعليماته، ويواجهون حركة الفرائض في الواقع العملي محرّمة عن خطوط الشرعية التي انطلقت في سنن الأنبياء من خلال وحيك متروكة لا يعبأ بها أحد، ولا يأخذ بها أحد.
اللهم أبعد رحمتك عن كلّ أعدائهم الذي يعادون الحقّ في عداوتهم لهم في مدى الزمن الماضي والحاضر وعن السائرين في هذا الخطّ المنحرف من أتباعهم وأنصارهم.
اللهم عجّل لهم الفرج من هذه الشدة، والراحة بعد الجدّ والتعب، والنصرة بعد الخذلان، والتمكين والتأييد بعد المنع والرفض، واجعلني في جماعة التوحيد وفريق الإيمان بك والتصديق برسولك ورسالتك والأئمة الهداة الذين تحرّك الحقّ في كلّ مناهجهم ومواقفهم يا ربّ العالمين.
* * *
لنا كلمة حول إقحام هذا الفصل في داخل الدعاء الذي يتحرك أسلوبه وسياقه ومعانيه في اتجاه واقع الإنسان أمام ربّه بحيث لا نجد أيّ ارتباط بين ما قبله وما بعده، بل نجد ذلك شبيهاً بالفصل بين أجزاء الشيء. وربما يؤكّد ذلك أنّ هناك دعاءً مأثوراً في ليلتي عرفة والجمعة يحمل مضمون هذا الدعاء وكلماته في وحدةٍ متناسقةٍ يرتبط فيها ما قبل هذه الفقرات بما بعدها.
لذلك، فإنّنا إذ نؤكّد الفكرة التي تمثلها هذه الفقرات نرجّح أن تكون هناك زيادة على الدعاء من بعض الناس الذين يحبّون أن يتضمن هذا الدعاء حديثاً عن حقّ أهل البيت كما هو الحال في دعاء عرفة.
إنّنا نسجل هذه الملاحظة للبحث والتدقيق في النص الأصلي للدعاء، فلعلّنا نجد في بعض النسخ القديمة ما يؤكّد ملاحظتنا هذه، والله العالم.
* * *
اللّهُمَّ لَيْسَ يَرُدُّ غَضَبَكَ إِلاّ حِلْمُكَ، وَلا يَرُدُّ سَخَطَكَ إِلاّ عَفْوُكَ، وَلا يُجيرُ مِنْ عِقابِكَ إِلاّ رَحْمَتُكَ، وَلا يُنجيني مِنْكَ إِلاّ التَّضَرُّعُ إِلَيْكَ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ.
فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَهَبْ لَنا يا إِلهي مِنْ لَدُنْكَ فَرَجاً، بِالْقُدْرَةِ الَّتي بِها تُحْيي أَمْواتَ الْعِبادِ، وَبِها تَنْشُرُ مَيْتَ الْبِلادِ.
وَلا تُهْلِكْني يا إِلهي غَمّاً حَتّى تَسْتَجيبَ لي، وَتُعَرِّفَني الإجابَةَ في دُعائي، وَأَذِقْني طَعْمَ الْعافِيَةِ إِلى مُنْتَهى أَجَلي، وَلا تُشْمِتْ بي عَدُوّي، وَلا تُمَكِّنْهُ مِنْ عُنُقي، وَلا تُسَلِّطْهُ عَلَيَّ.
* * *
اللهم أذِقني طعم العافية إلى منتهى أجلي
يا ربّ، أنت الحليم الذي ينطلق حلمه أمام غضبه، والعفوّ الذي يقف عفوه أمام سخطه، والرحمن الرحيم الذي تتحرك رحمته أمام عقابه، وينفتح التضرّع إليك ليدفع بالنجاة منك في مواقع عدلك.
وهذا هو الذي يدفعني في ابتهالاتي الخاشعة وتمنياتي المنفتحة على الثقة بك والإنابة إليك، إلى أن أعيش في ساحات حلمك لأتخفّف من ضغط غضبك، وأتطلع إلى سعة عفوك لأتخلص من تأثير سخطك، وأستظلّ ظلال رحمتك لأبتعد عن هجير عقابك، وأنفتح على آفاق النجاة من خلال محبتي إليك في مواقع الضراعة والابتهال بين يديك.
أنت - يا ربّ - وليّ الفرح الذي تملك كلّ موارده ومصادره، وأنت المنقذ من كلّ شدّة، لأنّ القدرة التي تملكها لا تقف عند حدّ، فهي التي تمتدّ إلى عمق الموت في أجساد عبادك لتبعث فيها الحياة النابضة الحيّة المتحركة، وتنفذ إلى أعماق الأرض الميتة لتثير فيها الحياة من جديد وتنشرها في الخضرة التي تهتزّ بالعشب وتنمو بكلّ ثمرةٍ جنيةٍ وفاكهةٍ لذيذة.
فهب لي - يا ربّ - الفرج من كلّ الشدّة التي تحيط كلّ أوضاعي وشؤوني، لتحيي في قلبي الأمل، وفي روحي الثقة بالروح والراحة والطمأنينة في مستقبل حياتي.
إنني - يا ربّ - الإنسان الذي يأكل الغمّ قلبه، ويقتل الهمّ حلمه من خلال التعقيدات التي تحيط بأبعاد الواقع من حولي مما قد يخيّل لي - في بعض فترات الإحساس بالضغط الكبير - أنّ ذلك قد يؤدّي بي إلى الهلاك، ويدفع عدوي إلى الشماتة بي وإلى التخطيط للإمساك بعُنقي والتسلّط عليّ.
اللهم أنقذني من الغمّ الذي قد يطبق عليّ فيهلكني، واعطف عليّ بالاستجابة لدعائي في كلّ طلباتي حتى أعرف الإجابة في  حركة الواقع، وارزقني العافية في عقلي وجسدي وحياتي كلّها في الجوانب المادية والمعنوية لتمتد بي إلى نهاية عمري، فلا أشكو مرضاً، ولا أهلك ألماً وحزناً، وأبعدني عن كلّ مواقع الضعف التي تشمت بي الأعداء وتدفعهم إلى الدخول في التجربة القاسية التي تمكنهم من السيطرة عليّ والإمساك بعنقي حتى الموت اختناقاً، فإنّك - يا ربّ - وحدك الذي تجيرني من ذلك كلّه، وتبعدني عن نتائجه السيئة.
* * *
إِلهي إِنْ رَفَعْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يَضَعُني؟ وإِنْ وَضَعْتَني فَمَنْ ذَا الَّذَي يَرْفَعُني؟ وَإِنْ أَكْرَمْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يُهينُني ؟ وَإِنْ أَهَنْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يُكْرِمُني؟ وَإِنْ عَذَّبْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يَرْحَمُني؟ وَإِنْ أَهْلَكْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يَعْرِضُ لَكَ في عَبْدِكَ، أَوْ يَسْأَلُكَ عَنْ أَمْرِهِ؟ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ في حُكْمِكَ ظُلُمٌ، وَلا في نَقِمَتِكَ عَجَلَةٌ، وَإِنَّما يَعْجَلُ مَنْ يَخافُ الْفَوْتَ، وَإِنَّما يَحْتاجُ إِلَى الظُّلْمِ الضَّعيفُ، وَقَدْ تَعالَيْتَ يا إِلهي عَنْ ذلِكَ عُلُوّاً كَبيراً.
* * *
اللهم ليس في حكمك ظلم...
يا ربّ، أنت الذي تملك عقول الناس وقلوبهم، وتحول بين المرء وقلبه، وتقلّب القلوب كيف تشاء، فتؤلّف بينها إذا شئت، وتباعد بينها إذا أردت، وتفسح للأفكار والمشاعر السلبية تارةً والإيجابية أخرى أن تنفذ إلى الواقع الداخلي للناس ليرتفع قدر هذا عندهم أو لتنزل مكانته لديهم..
وأنت الذي تهيمن على الظروف والأحداث والمواقع التي تتدخل في إعطاء الفرصة لبعض الناس ليحققوا الارتفاع لأنفسهم من خلال النتائج التي يحصلون عليها من ذلك في الجانب الإيجابي، أو في الخضوع للنتائج السلبية التي تنفذ إلى أوضاعهم القلقة لتدمّر مكانتهم في نفوس الناس في ساحة الواقع..
وأنت الذي تفيض رحمتك على بعض عبادك، فينفتحون من خلالها على ما يرفع مستواهم عقلاً وروحاً وحركةً في الحياة، وقد تسلب بعضاً آخر لطفك ورعايتك - بفعل انحرافاتهم وابتعادهم عنك - فيهبطون بسوء اختيارهم إلى الدرجة السفلى. أنت - وحدك - الذي تملك ذلك كلّه، فبيدك الضعة والرفعة، فلا رفعة لمن وضعت، ولا ضعة لمن رفعة، لأنّ سبب ذلك كلّه بيدك من موقع وعي الإيمان لقدرتك وتدبيرك، فلا يملك الآخرون من ذلك شيئاً، ومن موقع وعي التجربة في الواقع الذي عشته في الناس الذين طلبوا العزّ بغيرك فذلّوا وحاولوا الارتفاع بهم فاتّضعوا.
وهكذا أعيش - يا ربّ - هذه الفكرة الإيمانية الواقعية، لأطلب منك الرفعة التي ترفع قدري في الناس لأستفيد منها في ارتفاع طاقاتي التي أحركها في سبيل خدمة دينك، والحصول على مواقع القرب عندك، لأنّي لا أفكر - يا ربّ - في ذلك من عقدة الذات التي تتحرك في الرغبة في الاستعلاء، بل من الرغبة في تحقيق الأهداف الكبرى التي أستهدفها في الطريق إليك.
* * *
وإذا كانت الضعة والرفعة بيدك، فإنّ الكرامة والإهانة تمثّل قدرك وقضاءك لمن تريد إكرامه من موقع استحقاقه ذلك بفضلك،أو إهانته من موقع ابتعاده عن خطّ طاعتك، فلا تنزل بي الإهانة يا ربّ بكرامة أحد منخلقك أو بغير ذلك من الأسباب، بل أكرمني بكرامتك المنطلقة من رحمتك، فإنّك إذا أكرمتني لم يستطع أحد أن ينزل بي الإهانة، وإن أهنتني لم يملك أحد من خلقك أن يحقق لي الكرامة والإكرام.
ولا تعذبني يا ربّ، بل ارحمني، لأنّ عذابك إذا حلّ بي لم أجد من يرحمني لأنّك وحدك ولي الرحمة والعذاب، فلا قدرة لأحد من خلقك على أن يتدخل في شأنٍ من شؤون إرادتك، فلو قضيت عليّ بإهلاكي فهل يمكن لأحد أن يعترض أو يعرض لك في أمر عبدك الذي أهلكته أو يسألك سؤالاً ساذجاً لماذ فعلت ذلك، وما هو الأساس في إهلاكه، فأنت - يا ربّ - ولي الأمر كلّه، ولا تُسأل عمّا تفعل وهم يسألون، وأنا أعلم - بوحي إيماني بحكمتك وقدرتك وتدبيرك - أنك تصدر في كلّ قدرك وقضائك في أفعالك المتعلقة بالمخلوقين لا سيما الذين تنزل بهم العذاب، عن حكمةٍ بالغةٍ وعدلٍ حاسم انطلاقاً من تقديرك للأمور على حسب مصالح عبادك في دنياهم وآخرتهم، فلا تستعجل إنزال العقاب بعبادك المذنبين المتمردين عليك، بل تمهلهم حين تقيم الحُجّة عليهم، لأنّ العجلة تنطلق من مخافة ضياع الفرصة وفوت المسألة، وةأنت فوق ذلك كلّه من خلال سيطرتك على الوجود كلّه وعلى الموجودات كلها.
وأنت لا تظلم أحداً من عبادك في حكمك عليه، لأنّ الظالم هو الذي ينطلق من عقدة ضعف في نفسه خوفاً من المظلوم في قوته الخفية التي يمكن أن يحركها في فرصةٍ قادمةٍ أو حذراً من الظروف الجديدة والمتغيرات الواقعية التي قد تهيئ للمظلوم الأجواء التي ينتصر فيها على الظالم، الأمر الذي يقوده إلى انتهاز الفرصة السانحة في قدرته الفعلية على المظلوم لإسقاط موقعه في الحاضر قبل أن يتمكن من الالتفات عليه وإسقاطه في المستقبل.
إنّ الظلم يتحرك من نقطة ضعف في شخصية الظالم لا من نقطة قوة، وهذا ما يفرض علينا في حرك العدل في الواقع أن ندرس نقاط الضعف التي يملكها الظالم في ظروفه الذاتية وأوضاعه الحياتية، لنعرف كيف نواجه ذلك كلّه بمنطق القوة التي نملكها.
وأنت - يا ربّ - القويّ الأقوى والغني الأغنى الذي لا يملك معك أحد منخلقك شيئاً، في أيّ شأن من شؤون القوة المضادة، وأنت المهيمن على ذلك كلّه، فما هي حاجتك لأنّ تظلم مخلوقاً في أيّ حقّ له في الوقت الذي يخضع كلّ وجوده لك، ويستمدّ كلّ عناصر حيويته وحركتيه منك، وإذا كان له حقّ في الشرعية فأنت الذي منحه شرعية حقّه، ولولا ذلك لم يستحقّ شيئاً.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَلا تَجْعَلْني لِلْبَلاءِ غَرَضاً، وَلا لِنَقِمَتِكَ نَصَباً، وَمَهِّلْني، وَنَفِّسْني وَأَقِلْني عَثْرَتي، وَلا تَبْتَلِيَنّي بِبَلاء عَلى أَثَرِ بَلاء، فَقَدْ تَرى ضَعْفي، وَقِلَّةَ حيلَتي، وَتَضَرُّعي إِلَيْكَ.
* * *
اللهم لا تجعلني للبلاء غرضاً
يا ربّ، لا تجعلني هدفاً للبلاء ليوجه إليَّ سهامه في عملية إسقاطٍ وتعذيبٍ، ويرميني بها بما لا أملك إلى دفعه سبيلاً، ولا تنصبني لنقمتك عليّ فتسرع إليَّ وتقصدني من كلّ وجه كما يقصد العَلَم المنصوب من كلّ جهة، ولا تعاجلني يا ربّ بالعقوبة بل أخرني وارفلق بين ولا تطالبني بحقك في النتائج السلبية لعملي، ووسّع لي في أمري، وأعطني الفسحة فيه حتى لا تضيق عليّ الفرصة في العودة إليك، واجعلني ممن يملك القيام من مواقع السقوط في الذنب بالحصول على مغفرتك التي تمثل إقالة المذنبين من عثراتهم وتجاوزك عن زللهم، ولا تنزل عليّ البلاء لتكون حياتي بلاءً يتبع بلاءً، ومشكلةً ترتبط بمشكلة، ولكن امنحني يا ربّ العافية من كلّ بلاء، لأنّي عبدك الضعيف الذي لا يتحمل ثقل بلائك من خلال ضعفه، ولا يملك الحيلة للخلاص منه، وأنا - يا ربّ - هنا في موقع التضرّع إليك لتصرف عني ذلك كلّه.
* * *
أَعُوذُ بِكَ اللّهُمَّ الْيَوْمَ مِنْ غَضَبِكَ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وآلِهِ، وَأَعِذْني، وَأَسْتَجيرُ بِكَ الْيَوْمَ مِنْ سَخَطِكَ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وآلِهِ وَأَجِرْني، وَأَسْأَلُكَ أَمْناً مِنْ عَذابِكَ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَآمِنّي، وَأَسْتَهْديكَ فَصَلّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاهْدِني، وَأَسْتَنْصِرُكَ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآله وَانْصُرْني، وَأَسْتَرْحِمُكَ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَارْحَمْني، وَأَسْتَكْفيكَ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاكْفِني، وَأَسْتَرْزِقُكَ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَارْزُقْني، وَأَسْتَعينُكَ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَأَعِنّي، وَأَستَغْفِرُكَ لِما سَلَفَ مِنْ ذُنُوبي، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاغْفِرْ لي، وَأَسْتَعْصِمُكَ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاعْصِمْني، فَإِنّي لَنْ أَعُودَ لِشَىْء كَرِهْتَهُ مِنّي إِنْ شِئْتَ ذلِكَ.
* * *
اللهم إني أسألك أمناً من عذابك
يا ربّ، ها هي حاجاتي إليك في هذا اليوم الذي جعلته عيداً لأوليائك من أجل أن يعيشوا فيه الفرح بك، والأنس بفيوضات نعمك، والإحساس بالغبطة بانتظار لطفك، والشوق إليك في التطلع إلى فرحة اللقاء بك.
إنّها حاجات الإنسان الباحث عن مواقع رضاك ليتفادى غضبك وسخطك في موقف استعاذة واستجارة بك لتعيذه من غضبك، وتجيره من سخطك، لأنّهما مما لا تتحمله السموات والأرض، فكيف بعبدك الضعيف الحقير.
أنا - يا ربّ - الإنسان الذي يعيش في الدنيا قلق الآخرة من خوف العذاب هناك من خلال المعصية المتنوعة المتحركة في أقوالي وأفعالي، فأبحث عن الأمن من عذابك بما تفيضه عليّ من عفوك في ساحات أمنك.
وأنا الضّال الذي بحث عن الهدى في عقله الذي ينتفح على إشراقة هداك، وفي قلبه الذي ينبض بنور المحبة المنطلقة في آفاق رضاك، وفي حركته التي تلتقي بالحقّ النازل من وحيك، أنا هنا لأطلب منك أن تمنحني هداك فاهدني إلى سواء السبيل، وأنا الضعيف في وجودي فقد خلقتني ضعيفاً في بنيان جسدي وقد عشت في مذابة الظالمين الأقوياء بما حصلوا عليه من وسائل القوة منك.
وربّما لا أقوى على الوقوف أمامهم، فقد تضعفني نقاط الضعف في ذاتي عن مواجهتهم، وقد تمنعني الظروف الموضوعية المحيطة بي عن الانتصار عليهم، فهل تنصرني- يا ربّ، إنني هنا أستنصرك فانصرني على الباغين عليّ وأرني فيهم قدرتك.
وأنا الفقير إلى رحمتك التي وسعت كلّ شيء في كلّ أموري الخاصة والعامة، فهل تحجب عنّي رحمتك وهي سرّ وجودي وامتداد الأصل في حياتي، إنّني أنتظرها لتطل عليّ بالخير كلّه والسعادة كلّها.
وأنا الإنسان الباحث عن الكفاية وسد الخلة في كلّ ما أهمني من أمور دنياني وآخرتي، فاكفني المهم من أمري كلّه يا من يكفي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء.
وأنا الفقير إليك الكادّ في سبيل الحصول على رزقك بكلّ الوسائل التي توفِّرها لعبادك في القسمة بينهم في أرزاقهم، فارزقني - يا ربّ - من ذلك كلّه بما يغنيني عن الحاجة إلى شرار خلقك.
وأنا الإنسان الذي يعيش الضعف في بدنه وفي جهده، وفي الظروف الموضوعية الصعبة المحيطة به، وفي الأوضاع المتحركة في حياته بما يثقله ويعطّل مبادراته ومشاريعه وحاجاته، وأنت المستعان في ذلك كلّه، لأنّك وحدك تملك العون لي ولكلّ عبادك، فأنت المهيمن على الأمر كلّه والقادر على كلّ شيء، فهل لي العون في أموري كلّها.
وأنا المذنب الذي قد أثقلته ذنوبه، وأحاطت به خطاياه، وسيطر عليه الشيطان، فقصر عما أمرت به تفريطاً، وتعاطى ما نهيت عنه تقديراً، وها أنا ذا في ساحة الخوف من عقابك أتوسل إليك أن تمنحني عفوك وغفرانك لكلّ ذنوبي الماضية، لأتحرّر من أثقالها، ولأحصل على رضاك الذي هو سرّ السعادة في دنياي وآخرتي فاغفر لي.
وأنا - يا ربّ - العبد الذي يخشى من ضغط غرائزه عليه في مستقبل عمره، فتنطلق المعصية في حياته بعد التوبة، وينحرف عن خطّ الطاعة بعد الاستقامة، ولا عصمة لي عن الذنوب إلا منك، فهب لي العصمة الفكرية والروحية والعملية من خلال القوة الإيمانية التي توازن بين العقل والعاطفة، وبين الغريزة والمسؤولية، وبين الدنيا والآخرة، ليكون لي - يا ربّ - وعي مقامك في عظمة ربوبيتك، وإحساس الحاجة المطلقة إليك في فيوضات نعمتك.
ولك - يا ربّ - عهدي في مستقبل أيامي أن لا أعود إلى ما تكرهه من المعصية، وأن أنفتح على ما تحبّه من الطاعة، ولكن، مهما تكن إرادتي وعزماتي في كلّ قراراتي المستقبلية حول ما أفعله أو أتركه، فإنّ مشيئتك التي تتحرك بأسبابها الغيبية هي الضمان في ذلك كلّه.
* * *
يا رَبِّ يا رَبِّ، يا حَنّانُ يا مَنّانُ، يا ذَا الْجَلالِ وَالإكرامِ، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاسْتَجِبْ لي جَميعَ ما سَأَلْتُكَ وَطَلَبْتُ إِلَيْكَ، وَرَغِبْتُ فيهِ إِلَيْكَ، وَأَرِدْهُ وَقَدِّرْهُ، وَاقْضِهِ وَامْضِهِ، وَخِرْ لي فيما تَقْضي مِنْهُ، وَبارِكْ لي في ذلِكَ، وَتَفَضَّلْ عَلَىَّ بِهِ، وَأَسْعِدْني بِما تُعْطيني مِنْهُ، وَزِدْني مِنْ فَضْلِكَ وَسَعَةِ ما عِنْدَكَ، فَإِنَّكَ واسِعٌ كَريمٌ.وَصِلْ ذلِكَ بِخَيْرِ الاْخِرَةِ وَنَعيمِها، يا أَرْحَمَ الرّاحِمينَ.
* * *
"ثم تدعو بما بدا لك وتصلّي على محمّدٍ وآله "ألف مرة" هكذا كان يفعل (عليه السلام).
* * *
اللهم استجِب لي جميع ما سألتك
يا ربّ، هذه هي الكلمة التي أحبها في قلبي وأعيشها في عقلي، وأرددها في لساني وأحركها في حياتي ووجداني، لأنّها توحي إليّ بمعنى علاقتي الوجودية بك من خلال تربيتك لي في تنمية جسدي وفي تطوير عقلي، وفي رعاية حياتي في مجالات النموّ الذي يفتح لي أكثر من باب، ويُحلّق بي في أكثر من أفق.
"يا حنّان" إنّها الينبوع الذي يتفجّر بكلّ حنانك الذي ينساب في روحي فتفيض بالسعادة الروحية في انسيابها الحنون الذي يغمر كلّ كياني بالطمأنينة والاسترخاء والاستقرار لا سيّما عندما تحيط بي وحشة الواقع، وغربة العمر، وضغط الخيبة، ومرارة الخذلان، فتمنحني حنانك، ويا لروعة الإشراق والفرح الروحي في حنانك الذي يتحرك في سرّه الغيب والشهود!
"يا منّان" إنّها منّتك وعطيّتك التي مننت بها عليّ في كلّ وجودي بأسراره الخفية التي أكدت معنى إنسانيتي فيه، فلم يعد وجوداً جامداً متحجراً ثابتاً في مكانه، وبحركته التي تطوف به في كلّ العالم من خلال المعرفة الرحبة الواسعة التي تعيش شمولية الانفتاح والحركة الباحثة عن كلّ جديد، المنفتحة على كلّ آفاق الواقع، وبانطلاقه في عالم الدنيا التي تعيش فيها مسؤوليتي، وفي عالم الآخرة التي أواجه فيها نتائج المسؤولية، وأعيش الشوق للجنة ونعيمها وللرضوان منك ورحيته، لك المنّة يا ربّ في ذلك كلّه.
يا ذا الجلال والإحرام، ويحلّق الفكر في آفاق جلالك، فأيّ جلال أعظم منك، ويبحث الحسّ عن فضلك وإكرامك، فأيّ فضل أعظم من فضلك الذي وهب للإنسان كلّ وجوده وكلّ نعمه، أسألك بربوبيتك التي ترعاني بكلّ حنانك ومننك أن تستجيب لي كلّ ما سألتك في حاجاتي المادية والمعنوية مما طلبته منك ورغبت إليك فيه، فلتكن إرادتك التي لا تنفكّ عن المراد، وتقديرك الذي يبلغ المدى الذي قدرته في الواقع، وقضاؤك الذي يتحرك بالحتمية في الواقع الذي تصنعه، وإنفاذك لحكمك وإتمامه، فليكن في ذلك الخيرة التي تنفتح على الخير لي في الدنيا والآخرة في كلّ قضائك، وليتحرك فضلك عليّ لتتحقق لي السعادة بعطائك، ولتنطلق الزيادة المتجددة دائماً في حاجاتي كلّها وأموري كلّها من امتداد فضلك وسعة ملكك في رحاب الدنيا في حدودها، وفي سعة الآخرة في خلودها ونعيمها يا أرحم الراحمين.

الهوامش:

(1)    وذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ*فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ*وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ*قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ} [الصافات:102-106]؟
(2)    الغرض: الهدف.
(3)    النصب: العلم المنصوب.
(4)    نفّس له في الأمر، وسّع وفسح، من النفس بالتحريك، بمعنى السعة والفسحة في الأمر، يقال: أنت في نفس من أمرك، أي سعةٍ وفسحة.
* * *

دعاؤه(ع)
 في دِفاعِ كَيْدِ الأعْداءِ وَرَدَّ بَأْسِهِمْ
إِلهي هَدَيْتَني فَلَهَوْتُ، وَوَعَظْتَ فَقَسَوْتُ، وَأَبْلَيْتَ الْجَميلَ فَعَصَيْتُ، ثُمَّ عَرفْتُ ما أَصَدَرْتَ إِذْ عَرَّفتَنيه، فَاسْتَغْفَرْتُ فَأَقَلْتَ، فَعُدْتُ فَسَتَرْتَ، فَلَكَ إِلهي الْحَمْدُ، تَقَحَّمْتُ أَوْدِيَةَ الهَلاكِ، وَحَلَلْتُ شِعابَ تَلَف، تَعَرَّضْتُ فيها لِسَطَواتِكَ، وَبِحُلُولِها ِعُقُوباتِكَ، وَوَسيلَتي إِلَيْكَ التَّوْحيدُ، وَذَريعَتي أَنّي لَمْ أُشْرِكْ بِكَ شَيْئاً، وَلَمْ أتَّخِذْ مَعَكَ إِلهاً، وَقَدْ فَرَرْتُ إِلَيْكَ بِنَفْسي، وَإِلَيْكَ مَفَرُّ الْمُسيءِ، وَمَفْزَعُ الْمُضَيِّعِ لحَظِّ نَفْسِهِ، الْمُلْتَجِئِ.
فَكَمْ مِنْ عَدُوٍّ انْتَضى عَلَيَّ سَيْفَ عَداوَتِهِ، وَشَحَذَ لي ظُبَةَ مُدْيَتِهِ، وَأَرْهَفَ لي شَبا حَدِّهِ، وَدافَ لي قَواتِلَ سُمُومِه، وَسَدَّدَ نَحْوي صَوائِبَ سِهامِهِ، وَلَمْ تَنَمْ عَنّي عَيْنُ حِراسَتِهِ، وَأَضْمَرَ أَنْ يَسُومَنِي الْمَكْرُوهَ، وَيُجَرِّعَني زُعاقَ مَرارَتِهِ. فَنَظَرْتَ يا إِلهي إِلى ضَعْفي عَنِ احْتِمالِ الْفَوادِحِ، وَعَجْزي عَنِ الاْنْتصارِ مِمَّنْ قَصَدَني بِمُحارَبَتِهِ، وَوَحْدَتي في كَثيرِ عَدَدِ مَنْ ناوَاني، وَأَرْصَدَ لِىَ الْبَلاءَ فيما لَمْ أُعْمِلْ فيهِ فِكْري، فَابْتَدَأْتَني بِنَصْرِكَ، وَشَدَدْتَ أَزْري بِقُوَّتِكَ، ثُمَّ فَلَلْتَ لي حَدَّهُ، وَصَيَّرْتَهُ مِنْ بَعْدِ جمْعٍ عَديد وَحْدَهُ، وَأَعْلَيْتَ كَعْبي عَلَيْهِ، وَجَعَلْتَ ماسَدَّدَهُ مَرْدُوداً عَلَيْهِ، فَرَدَدْتَهُ لَمْ يَشْفِ غَيظَهُ، وَلَمْ يَسْكُنْ غَليلُهُ، قَدْ عَضَّ عَلَىَّ شَواهُ، وَأَدْبَرَ مُوَلِّياً قَدْ أَخْلَفْتَ سَراياهُ.
وَكَمْ مِنْ باغٍ بَغاني بِمَكائِدِهِ، وَنَصَبَ لي شْراكَ مَصائِدِهِ، وَوَكَّلَ بي تَفَقُّدَ رِعايَتِهِ، وَأَضْبَأَ إِلَىَّ إِضْباءَ السَّبُعِ لِطَريدَتِهِ، انْتِظاراً لانْتِهازِ الْفُرْصَةِ لِفَريسَتِهِ، وَهُوَ يُظْهِرُ لي بَشاشَةَ الْمَلَقِ، وَيَنْظُرُني عَلى شِدَّةِ الْحَنَقِ.
فَلَمّا رَأَيْتَ - يا إِلهي - تَبارَكْتَ وَتَعالَيْتَ دَغَلَ سَريرَتِهِ، وَقُبْحَ مَا انْطَوى عَلَيْهِ، أَرْكَسْتَهُ لاُمِّ رَأْسِهِ في زُبْيَتِهِ، وَرَدَدْتَهُ في مَهْوى حُفْرَتِهِ، فَانْقَمَعَ بَعْدَ اسْتِطالَتِهِ ذليلاً في رِبَقِ حِبالَتِهِ، الّتي كانَ يُقَدِّرُ أَنْ يَراني فيها، وَقَدْ كادَ أَنْ يَحُلَّ بي لَوْلا رَحْمَتُكَ ما حَلَّ بِساحَتِهِ.
وَكَمْ مِنْ حاسِد قَدْ شَرِقَ بي بِغُصّتِهِ، وَشَجِي مِنّي بِغَيْظِهِ، وَسَلَقَني بِحَدّ لِسانِهِ، وَوَحَرَني بِقَرْفِ عُيُوبِهِ، وَجَعَلَ عِرْضي غَرَضاً لِمَراميهِ، وَقَلَّدَني خِلالاً لَمْ تَزَل فيهِ، وَوَحَرَني بِكَيدِهِ، وَقَصَدَني بِمَكيدَتِهِ. فَنادَيْتُكَ - يا إِلهي - مُسْتَغيثاً بِكَ، واثِقاً بِسُرْعَةِ إِجابَتِكَ، عالِماً أَنَّهُ لا يُضْطَهَدُ مَنْ أَوى إِلى ظِلِّ كَنَفِكَ، وَلَنْ يَفْزَعَ مَنْ لَجَأَ إِلى مَعقِلِ انْتِصارِكَ، فَحَصَّنْتَني مِنْ بَأْسِهِ بِقُدْرَتِكَ.
وَكَمْ مِنْ سَحائِبِ مَكْرُوهٍ جَلَّيْتَها عَنّي، وَسَحائِب نِعَمٍ أَمْطَرْتَها عَلَيَّ، وَجَداوِلِ رَحْمَةٍ نَشَرْتَها، وَعافِيَةٍ أَلْبَسْتَها، وَأَعْيُنِ أَحْداثٍ طَمَسْتَها، وَغَواشِيَ كُرُبات كَشَفْتَها.
وَكَمْ مِنْ ظَنّ حَسَنٍ حَقَّقْتَ، وَعَدمٍ جَبَرْتَ، وَصَرعَةٍ أَنْعَشْتَ، وَمَسْكَنَةٍ حَوَّلْتَ، كُلّ ذلِكَ إِنْعاماً وَتَطَوُّلاً مِنْكَ، وَفي جَميعِهِ انْهِماكاً مِنّي عَلى مَعاصيكَ.
لَمْ تَمْنَعْكَ إِسـاءَتي عَنْ إِتْمامِ إِحْسانِكَ، وَلاحَجَرَني ذَلِكَ عَنِ ارْتِكابِ مَساخِطِكَ، لا تُسْأَلُ عَمّا تَفْعَلُ، وَلَقَدْ سُئِلْتَ فَأَعْطَيْتَ، وَلَمْ تُسْأَلْ فَابْتَدَأْتَ، وَاسْتُميحَ فَضْلُكَ فَما أَكْدَيْتَ.
أَبَيْتَ - يا إلهي - إِلاّ إِحْساناً، وَامْتِناناً، وَتَطَوٌّلاً وَإِنْعاماً، وَأَبَيْتُ إِلاّ تَقَحُّماً لِحُرُماتِكَ، وَتَعَدِّياً لحُدُودِكَ، وَغَفْلَةً عَنْ وَعيدِكَ، فَلَكَ الْحَمْدُ إِلهي مِنْ مُقْتَدِر لا يُغْلَبُ، وَذي أَناةٍ لا يَعْجَلُ.
هذا مَقامُ مَنِ اعْتَرَفَ بِسُبُوغِ النِعَمِ، وَقابَلَها بِالتَّقْصيرِ، وَشَهِدَ عَلى نَفْسِهِ بِالتَّضْييعِ.
اللّهُمَّ فَإِنّي أَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِالْمُحَمَّدِيَّةِ الرَّفيعَةِ، وَالْعَلَوِيّةِ الْبَيْضاءِ، وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِهِما أَن تُعيِذَني مِنْ شَرِّ كَذا وَكَذا، فَإِنَّ ذلِكَ لايَضيقُ عَليْكَ في وُجْدِكَ، وَلا يَتَكَأَدُكَ في قُدْرَتِكَ، وَأنْتَ عَلى كُلِّ شَىْء قَديرٌ، فَهَبْ لي - يا إِلهي - مِنْ رَحْمَتِكَ، وَدَوامِ تَوْفيقِكَ، ما أُتّخِذُه سُلّماً أَعْرُجُ بِه إِلى رِضْوانِكَ، وَآمَنُ بِه مِنْ عِقابكَ، يا أَرْحَمْ الرّاحِمينَ.
* * *
إيحاءات القوة في الدعاء
قد يعيش الإنسان حياته أمام القوى الغاشمة المضادة التي تتحرك في ذهنية الكبرياء الذاتية، فتعمل على ممارسة الظلم للناس والاضطهاد للمستضعفين منهم بمختلف أنواع المكر ووسائل الكيد، مما لا يطيقون دفعه عن أنفسهم، أو يضعفون عن مواجهته بفعل نقاط الضعف الكامنة في نفوسهم أمام نقاط القوة الموجودة لدى الآخرين من هؤلاء المستكبرين، بحيث يعيشون الاهتزاز النفسي والعملي الذي يوحي إليهم بإرادة السقوط من خلال الإيحاءات السلبية التي تنفذ إلى أفكارهم ومشاعرهم، فيخيّل إليهم أنّهم لا يملكون أيّة قوةٍ أمامهم مما يدخلون فيه ساحة الصراع بقوّة، فيسقطون تحت تأثير ذلك كلّه، كأيّ ضعيفٍ يواجه مواقع القوة في القوي بنقاط ضعفه.
وفي ضوء ذلك، تحركت التربية الإيحائية لتستنفر إيمان الإنسان بالله، الذي يؤمن بأنّ له القوة جميعاً، وأنّ له العزّة جميعاً، وأنّه المهيمن على الأمر كلّه، الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، بيده الخير وهو على كلّ شيءٍ قدير، وأنّ الناس - مهما كانت قوتهم - لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضراً ولا نفعاً إلا بإذن الله، وأنّ الله ينصر الذين ينصرون كلمته ورسله وينصرون أنفسهم بالصمود والثبات ويوحي إليهم بأنّه معهم في مواقف الصراع.
وهنا يأتي دور الدعاء ليرتفع بروح الإنسان إلى الله ليبتعد بذلك عن كلّ نوازع الضعف في وهدة السقوط، فيعيش مع ربّه الذي يمدّه بالإحساس بالقوة، ويبتعد به عن تهاويل التهديد الاستكباري في عملية إيحاءٍ نفسي تتلاحق أحاسيسه وأفكاره لتصرخ "إنّ الله معنا".
إنّه لا يمثل بديلاً عن التهيئة والتعبئة والإعداد والاستعداد، لأنّ الله لا يريد للإنسان أن يستسلم للغيب بعيداً عن عناصر القوة الذاتية التي لا بدّ له من أن يطوّرها وينمّيها ويحرّكها في اتجاه حماية نفسه وكلّ الناس الذين يحيطون به أو يدخلون في نطاق مسؤوليته.
إنّ الدعاء - في المنهج التربوي الإسلامي - يعمل على ربط الإنسان بالموقع الإلهي للقوة المطلقة، ليتماسك ويتوازن ويفرّغ ذاته من كلّ التهاويل التي تضغط على تفكيره وإرادته، ويلتفت إلى عناصر قوته وإلى عناصر ضعف الآخرين، ليحاربهم في نقاط ضعفهم بنقاط قوته، في إيمان بأنّ الله لن يخذله وأنّه يمدّه بالقوة التي يحتاجها عندما تضعف قوته، وينصره إذا احتاج إلى النصر، فيكون عنصر قوة إضافية ووسيلة توازن وثبات.
وبهذا تتأصل الحقيقة الإيمانية التي لا تطلق للإنسان فكرة التوكّل على الله، واستدفاع الضرّ به والرجوع إليه في حالات الخوف، لتبعده عن مواقع قوته الذاتية ليهملها ويُسقطها ويتركها للضياع في ساحة الفراغ، بل إنّها تطلقها لتحميَ الإنسان من هواجس الخوف من المستقبل، ومن القوى الطاغية التي تزيد على قوته، ومن المفاجآت غير المحسوبة، لتتكامل لديه مسألة القوة، مما يملكه في ذاته ومما يستلهمه من الإمداد الغيبي من ربّه ليكون الانفتاح على الغيب الإلهي مصدراً للثقة بالمستقبل من خلال الثقة بالله.
* * *
المفاهيم الأساسية لمضمون الدعاء
في الفصل الأول من هذا الدعاء، يقف الإنسان الخاطئ أمام ربّه ليقدّم اعترافه في موقف توبةٍ وندامة، فقد هداه الله إلى الطريق المستقيم، ولكنّه ابتعد عن مسؤولية الهدى إلى اللهو العابث الذي يتحرك في أجواء العبث واللامبالاة، ووعظه الله بكلماته في كتاب الوحي وبقصص الماضي المعبّرة في كتاب التاريخ ليرقّ قلبه، فاستبدل بذلك القسوة المتحجرة التي تحوّل قلبه إلى حجر صلد لا يحمل أيّة طراوةٍ أو نداوةٍ، وأفاض الله عليه بالجميل من الطاقة، وبالطيب من نعمه، وبالخير من كرمه، فلم يقابل ذلك بالشكر بل قابله بالمعصية التي تجسد الكفران لذلك كلّه.. وهكذا كان الموقف سلبياً من كلّ موقفه من ربّه.
ولكن المسألة تبدّلت عند تبدّل الجهل بالمعرفة، والغفلة باليقظة، من خلال نعمة المعرفة لكلّ الواقع السيّئ الذي صدر عنه، من خلال ما عرّفه الله، فاستغفره فقبِلَ منه ليبدأ الدرب في خطّ الطاعة من جديد، ولكنّه عاد إلى المعصية فلم يفضحه الله بل ستر عليه.
وهكذا اقتحم وديان الهلكة، وسار في مضائق الدروب المؤدّية إلى التلف، وذلك من خلال التعرّض لسطوة الله وعقوبته، ولكنّه فزع إلى إيمانه بالتوحيد وجعله الوسيلة إلى مغفرته والطريق إلى رضوانه، فإذا كان قد عصى ربه في أكثر من مسألة، فإنّ القاعدة التي تحكم كل عقله وروحه هي الوحدانية لله، فلا شريك له ولا إله سواه..
وهكذا بدأ رحلة الفرار إليه، فلا مفرّ للمسيء إلا إليه، وفزع إلى رضوانه فإنّه لا مفزع للضائع في التيه المضيّع للفرص الكثيرة التي تجلب له الحظ إلا هو..
* * *
وفي الفصل الثاني، ينطلق إلى الحديث عن العدوّ الذي امتشق سيف العداوة ليقتله به, وحرّك كلّ وسائل العدوان الحادّة والسامّة، وتحرّك في سهرٍ دائمٍ للإضرار به، وتدبيرٍ خفيٍّ لوقوع المكروه به، فوقف عند نقاط ضعفه الذاتي الذي لا يملك معه احتمال المصائب، وعجزه عن الانتصار في خطّ المواجهة لهذا العدوّ المحارب، انطلاقاً من وحدته أمام العدو الكبير الذي يحاربه ويترصده ليُنزل به أكثر من بلاء في نفسه وفي أهله وفي ماله، مما لا عهد له به ولا فكرة له عنه، فالتجأ إلى ربّه مبتهلاً إليه، طالباً نصره، فأعطاه فرصة النصر بقدرته، وشدّ عضده بقوته، وكسر عدوّه، وفرّق جمعه، وأسقط موقعه، ورفعه - هو - إلى الدرجة العليا، بينما ردّ كيد عدوّه إلى نحره، فلم يحصل على شفاء غيظه وتنفيس حقده، فانكفأ راجعاً إلى موقعه يعضّ أصابعه ندماً على ما أسلفه من خطايا وعدوان.
وإذا كان هذا شأن العدوّ في نهاية عدوانه بالهزيمة والانكفاء، فهناك الباغي الذي اعتدى عليه بكلّ وسائل الكيد لديه وعناصر البغي عنده، فقد صبّ كلّ أشراكه لاصطياده، وأقام كلّ عيونه التي ترصد حركته، ولازمه ملازمة السبع لطريدته، في نفاق البشاشة الظاهرة التي تخفي وراءها الغيظ الداخلي الذي يتمثّل في النظرة الحانقة، وكاد أن يصل إلى مبتغاه، ولكنّ الله الذي اطّلع على سوء سريرته وخبث طويته، أوقعه في البئر التي حفرها، فقلَبَهُ على رأسه، وأبطل كلّ كيده، وقهره بكلّ قوة بعد أن كان متعالياً يخطط لينتظر وقوعه في حباله، لكن رحمة الله أنقذته من ذلك كلّه.
وهناك الحاسد الذي يعيش العقدة الخفية التي تأكل قلبه، لأنّ الله أنعم على عبده المؤمن بنعمته، فتمنى أن تزول عنه لتنتقل إليه، فتحول ذلك إلى حالةٍ من الغيظ الحاقد في مشاعره، ومن اللسان الحادّ بكلماته،وأطلق التهمة المعيبة بدون حساب، واستهدف كرامته بكلّ سهامه، ونسب إليه الصفات المعيبة التي لا أساس لها، وخطط في كيده ومكره لإسقاط موقعه وإهدار سمعته، فكانت استغاثته بربّه للخلاص من بغيه في ثقةٍ عميقةٍ إيمانية بإجابته له، لأنّه الربّ الذي يمنح عباده الأمن والراحة والطمأنينة ممن يتفيّأ ظلاله ويلجأ إلى حصنه الحصين، فكان له ما أراد من تحصينه من عدوانه بقدرته التي شملت كلّ شيء.
وتلك هي نعم الله المتمثلة في الغيوم الكثيفة من البلاء التي يجلوها عن عبده الراجع إليه، وفي النعم التي يغدقها عليه، وفي الرحمة التي تجري في حياته كالجداول التي تمنح الأرض بركتها وخيراتها، وفي العافية التي تتحرك في جسده وفي حياته نشاطاً وحيويةً وحركةً بالخير كلّه، وفي الأحداث المقبلة بالشرّ التي محاها عن وجوده، وفي الكربات الغاشية التي تغشي العقل والحسّ والبصر التي أزالها، وفي حسن ظنّ عبده المؤمن ورجائه له مما حققه له في حياته، وفي الفقر الذي سدّه فحوّله إلى غنًى، وفي إنعاشه من حالة السقوط التي حلّت به، وفي شدّة المسكنة التي تحوّلت إلى حالة رخاء، وهكذا كانت النعم تتتابع عليه بأفضاله وكرمه بالرغم من تتابع المعاصي منه، واشتداد الإساءة منه وامتداده في ذلك، بحيث لم تمنعه النعم الوافرة من السير في خطّ الانحراف.
ويبقى الله في عطائه لعباده من موقع الحكمة التي تتحرك في آفاق التدبير لا من موقع الجزاء، فهو يعطي المسيء، ويرحم المذنب، فهو العالم بما يفعله، ولا يعلم أحد من ذلك شيئاً إلا من حديث ما يعطيه من علم، فلا يملك أحد أن يناقشه في فعله.
إنّه الذي يعطي ويعطي ابتداءً منه تارة، وبعد المسألة أخرى، فلا يردّ أحداً سأله حاجته، ولا يمنع مخلوقاً عطاءه، فهو المحسن المنّان والمتطوّل بإنعامه، بالرغم من اقتحام عبده حرماته وتعدّيه حدوده وغفلته عن بأسه في تنفيذ وعيده.
وفي الفصل الثالث، ينطلق الحمد من عمق الإحساس بالعبودية والإيمان بالقدرة التي لا تغلب والأناة التي لا تعجل، وتنفتح الذات بكلّ إحساسها بالذنب على الاعتراف بفيضان النعم التي يقابلها الإنسان بالتقصير والشهادة على نفسه بالتضييع لواجباته ومسؤولياته.
وينطلق التوسل بمحمّد نبيَّ الرحمة الذي منحه الله الشفاعة للمذنبين، وعليَّ رائدِ الحقّ الذي قرّبه الله إليه وأدناه، فأعطاه الكرامة عنده ليستعيذ بذلك من شرّ كلّ ذي شرّ، لأنّه القادر على كلّ شيء، والمالك لكلّ شيء، وليحصل - في تضرعه إليه - على الرحمة الدائمة والتوفيق المستمر الذي يعرج به إلى مواقع رضاه ويحصل به على الأمن من عقابه لأنّه أرحم الراحمين.
وهكذا نجد في هذا الدعاء جولة في واقع الناس الذين يحركون العداوة والبغي والحسد في العدوان على المستضعفين، مما قد لا يملكون القوة في مواجهتهم، فيلجأون إلى الله في اعترافٍ وابتهالٍ واسترحام واستعطافٍ له من أجل الحصول على الأمن من ذلك كلّه، الأمر الذي يحسّ الإنسان فيه بالثقة والاستقرار في حياته.
* * *
إِلهي هَدَيْتَني فَلَهَوْتُ، وَوَعَظْتَ فَقَسَوْتُ، وَأَبْلَيْتَ الْجَميلَ فَعَصَيْتُ، ثُمَّ عَرفْتُ ما أَصَدَرْتَ إِذْ عَرَّفتَنيه، فَاسْتَغْفَرْتُ فَأَقَلْتَ، فَعُدْتُ فَسَتَرْتَ، فَلَكَ إِلهي الْحَمْدُ، تَقَحَّمْتُ(1) أَوْدِيَةَ الهَلاكِ، وَحَلَلْتُ شِعابَ(2) تَلَف، تَعَرَّضْتُ فيها لِسَطَواتِكَ، وَبِحُلُولِها ِعُقُوباتِكَ، وَوَسيلَتي إِلَيْكَ التَّوْحيدُ، وَذَريعَتي أَنّي لَمْ أُشْرِكْ بِكَ شَيْئاً، وَلَمْ أتَّخِذْ مَعَكَ إِلهاً، وَقَدْ فَرَرْتُ إِلَيْكَ بِنَفْسي، وَإِلَيْكَ مَفَرُّ الْمُسيءِ، وَمَفْزَعُ الْمُضَيِّعِ لحَظِّ نَفْسِهِ، الْمُلْتَجِئِ.
* * *
اللهم إليك المفرّ وإليك المفزع
يا ربّ، لقد دللتني على الحقّ الذي يمنحني القوّة في حركة الحياة، وأرشدتني إلى آفاق النور التي تطرد عن عقلي كلّ غواشي الظلم، وهديتني إلى مواقع الخير التي أحصل بها على الأمن الطمأنينة في رحلة المسيرة التي توصلني إليك، لأكون قوياً في إرادتي في حركة مسؤولياتي، جدّياً في مواجهة قضايا الحياة والإنسان، واعياً لما أعيشه من واقع، ولما ينتظرني من مستقبل، ولكنّني تركت ذلك للهو الذي يجعلني في حالةٍ من العبث اللاهي الذي لا يسكن إلى خير ولا يتحرك نحو مسؤولية، ولا ينفتح على وعي، بل هي الغفلة التي تستغرقني في كلّ أموري فتبعدني عن طريق النجاة.
وقد أطلقت المواعظ في آيات وحيك، وفي العبر التي قدمتها لي من حركة الحياة، ليرقّ قلبي، ويخشع إحساسي، وتلين مشاعري، فأرجع إليك في خضوع العبد لسيّده، ولكنّي ازددت قسوةً في كياني كلّه، تماماً كما هي الحجارة في صلابتها التي لا تلين أو أشدّ قسوة، لأني لم أفتح عقلي وقلبي وروحي للمعاني الوعظيمة التي تنساب في الروح حباً لك وخشيةً منك.
وقد أنعمت عليّ بالجميل الكثير من عطائك لتبلوني أأشكر أم أكفر، فتمتحن بذلك عمق إيماني ثباته وقوّته، ولكنّي قابلت ذلك بالكفران بما مارسته من حالات العصيان، وامتدّ بي العصيان في غفلاتي، فتفضلت عليّ بتعريفي كل ما أصدرته إليّ من فضلك، ووعيت"ُ - من خلال ذلك - سوء فعلي تجاهك، فجئتك مستغفراً تائباً مستقيلاً، فأقلتني عثرتي، وعفوت عنّي، ثم عدتُ - من جديد - إلى المعصية، بفعل النفس الأمّارة بالسوء وبوسوسة الشيطان الذي يشدّني إلى المعصية، فسترت عليّ ذلك كلّه بسترك.. فأيّ حمدٍ من معاني حمدك أحمدك بها، فلك الحمد كلّه.
يا ربّ، لقد كانت مسيرتي في الحياة ضائعة لا تنفتح على هدى، تائهةً لا تسكن إلى قرار، فقد كنت أنتقل من وادٍ إلى وادٍ في كلّ مضائق الوديان الممتدة في التواءاتها وأخطارها التي تؤدّي إلى الهلاك، فقد رميت نفسي فيها من دون وعي للنتائج المهلكة، ودخلت في الدروب الضيّقة التي تؤدي بي إلى التلف لأنّها تبعدني عن مواقع النجاة في الأخذ بالحقّ والابتعاد عن الباطل، والتحرك في الدرب الذي تعرضني كلّ مسالكه ومواقعه إلى عقوباتك من خلال هذا الإلحاح الغرائزي في كياني على التمرد على أوامرك ونواهيك، ولكني - يا ربّ - مهما امتدّ بي العصيان في حركتي في الواقع العملي في حياتي، فإنّي أرتكز على القاعدة الصلبة التي تشدّني إليها كلما اهتزت الأوضاع المنحرفة في داخل الذات وخارجها، وهي التوحيد الصافي النقي الذي لا تشوبه أيّة شائبة من الشرك، وهذا الذي أرى فيه الوسيلة إليك، للحصول على مرضاتك من خلال غفرانك، فإذا أشرك البعض - شرك العقيدة والطاعة والعبادة - فإنّي أشهد أنّك أنت الله الذي لا إله إلا أنت.
وإذا كانت المعاصي تلاحقني لتمتد في تأثيراتها السلبية من الدنيا إلى الآخرة، وتطبق عليّ في نتائجها المهلكة، فإنّي بدأت الفرار نحوك، والاتجاه إليك، طلباً للأمن، وأملاً بالنجاة، وأنت - يا ربّ - وحدك المفزع لمن فزع إليك من الناس الذين أضاعوا طريق الهدى فأضاعوا حظوظهم في النجاة، والملجأ لمن التجأ إليك هرباً من الأخطار التي أحاطت به.
* * *
فَكَمْ مِنْ عَدُوٍّ انْتَضى(3) عَلَىَّ سَيْفَ عَداوَتِهِ، وَشَحَذَ(4) لي ظُبَةَ(5) مُدْيَتِهِ، وَأَرْهَفَ لي شَبا(6) حَدِّهِ، وَدافَ(7) لي قَواتِلَ سُمُومِه، وَسَدَّدَ نَحْوي صَوائِبَ سِهامِهِ، وَلَمْ تَنَمْ عَنّي عَيْنُ حِراسَتِهِ، وَأَضْمَرَ أَنْ يَسُومَنِي الْمَكْرُوهَ، وَيُجَرِّعَني زُعافَ(8) مَرارَتِهِ، فَنَظَرْتَ يا إِلهي إِلى ضَعْفي عَنِ احْتِمالِ الْفَوادِحِ، وَعَجْزي عَنِ الاْنْتصارِ مِمَّنْ قَصَدَني بِمُحارَبَتِهِ، وَوَحْدَتي في كَثيرِ عَدَدِ مَنْ ناوَاني، وَأَرْصَدَ لِىَ الْبَلاءَ فيما لَمْ أُعْمِلْ فيهِ فِكْري، فَابْتَدَأْتَني بِنَصْرِكَ، وَشَدَدْتَ أَزْري بِقُوَّتِكَ، ثُمَّ فَلَلْتَ لي حَدَّهُ، وَصَيَّرْتَهُ مِنْ بَعْدِ جمْعٍ عَديدٍ وَحْدَهُ، وَأَعْلَيْتَ كَعْبي عَلَيْهِ، وَجَعَلْتَ ما سَدَّدَهُ مَرْدُوداً عَلَيْهِ، فَرَدَدْتَهُ لَمْ يَشْفِ غَيظَهُ، وَلَمْ يَسْكُنْ غَليلُهُ، قَدْ عَضَّ عَلَىَّ شَواهُ(9)، وَأَدْبَرَ مُوَلِّياً قَدْ أَخْلَفْتَ سَراياهُ.
* * *
اللهم أنت الذي ابتدأتني بنصرك
يا ربّ، أنا هنا لأتذكر كلّ تاريخ حياتي مع ألطافك، مما مرّ بي من الحوادث، وأطبق عليّ من التحديات من الناس الذين عشت معهم هنا وهناك، فقد التقيت - في رحلة الحياة - بأكثر من عدوٍّ جرّد كلّ سلاحه بكلّ أنواعه، ودسّ لي كلّ سمومه الفكرية والكلامية والحركية، وصوّب إليّ كلّ سهامه، وراقبني مراقبة دقيقة في عملية رصدٍ لكلّ حركاتي وأوضاعي، ليكتشف أسرارها، ويتعرف خفاياها، ويتجسس على خلفياتها، كلّ ذلك من أجل أن يخطط لإيقاعي في المكروه من النتائج، ولتجرّعي المرّ من شرابه، أو السمّ من سمومه.
وكنت - يا ربّ - في موقع الضعف الذاتي أمام قوّته في مواجهة نوازل الدهر ومصائبه التي يفرضها عليّ في خططه الخبيثة، ورأيت أنّني لا أملك أيّة فرصةٍ للانتصار عليه، وأيّة ظروف موضوعية للتخلص منه، وليس لي من الأنصار من أستعين بهم عليه، في الوقت الذي كان يملك فيه الكثير من المساعدين له عليّ، ولا أملك من الوسائل ما أستطيع به أن أفسد عليه خططه الخفية.. وهكذا وقفت أمام هذه التحديات موقف من لا حول له ولا قوة إلا بك، لا لأنّي استضعفت نفسي فلم آخذ بأسباب القوة التي وفرتها لي ووضعتها بين يدي، بل لأنّي استنفدت ذلك كلّه فلم يُجْدِني شيئاً، فلجأت إليك طالباً عونك، منتظراً نصرك، فمنحتني القوة في ثبات الموقف وصلابة الإرادة، وشدّة العزيمة، وأعطيتني النصر الذي مكنتني فيه من الاستمرار في الخطّ الذي وفّقتني إليه في دروب الاستقامة على رسالتك، فعاد - من رحلته في عدوانه - مهزوماً سلاحه، مكسوراً جناحه، مفرّقاً جمعه، يعاني من وحدته، ويتمزّق في غيظه الذي لم يجد له متنفساً، قد ارتدّت إليه سهامه وردّ إليه كيده في نحره، وبدأ يعضّ أصابع الندم، ورجع هارباً إلى حيث لا يجد ملاذاً في كلّ أمور، فلك الحمد على ذلك كلّه.
* * *
وَكَمْ مِنْ باغ بَغاني بِمَكائِدِهِ، وَنَصَبَ لي شْراكَ مَصائِدِهِ، وَوَكَّلَ بي تَفَقُّدَ رِعايَتِهِ، وَأَضْبَأَ(10) إِلَيَّ إِضْباءَ السَّبُعِ لِطَريدَتِهِ، انْتِظاراً لانْتِهازِ الْفُرْصَةِ لِفَريسَتِهِ، وَهُوَ يُظْهِرُ لي بَشاشَةَ الْمَلَقِ(11)، وَيَنْظُرُني عَلى شِدَّةِ الْحَنَقِ(12).
فَلَمّا رَأَيْتَ - يا إِلهي - تَبارَكْتَ وَتَعالَيْتَ دَغَلَ(13) سَريرَتِهِ، وَقُبْحَ مَا انْطَوى عَلَيْهِ، أَرْكَسْتَهُ(14) لاُمِّ رَأْسِهِ(15) في زُبْيَتِهِ(16)، وَرَدَدْتَهُ في مَهْوى حُفْرَتِهِ، فَانْقَمَعَ(17) بَعْدَ اسْتِطالَتِهِ ذليلاً في رِبَقِ(18) حِبالَتِهِ(19)، الّتي كانَ يُقَدِّرُ أَنْ يَراني فيها، وَقَدْ كادَ أَنْ يَحُلَّ بي - لَوْلا رَحْمَتُكَ - ما حَلَّ بِساحَتِهِ.
* * *
اللهم إنّي أفزع إليك من ظالم نصَب لي شرك مصائده
يا ربّ، قد أواجه في حياتي ظالماً يظلم الناس من حوله فيظلمني معهم، وباغياً يبغي على الضعفاء الأبرياء ويعتدي عليهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم بكلّ وسائل الحيل الملتوية، ومصائد الخدع المتشابكة، ومراقبة دقيقة لكلّ أوضاعي وأقوالي وأفعالي، قد نصب لي شباكه، ووكل بي العيون الراصدة في كلّ مكان، ولازمني ملازمة الوحش لفريسته، يتحيّن الفرصة المناسبة للإمساك بي والسيطرة عليّ في تودّد المنافقين وبشاشة المخادعين إخفاءً لغيظه وستراً لحقده.
ففزعتُ إليك فزع الضعيف الذي يقوى بكلّ ثقةً بلطفك وإيماناً بقدرتك، وأنت المطّلع على ما يخفيه من غدره في سريرته، وما يكتمه من قبح طويّته، فاستجبت لابتهالات الضعف الخاضعة المتوسلة للرحمة في امتداد قوتك، فقلبته رأساً على عقب، وأسقطته من مواقعه، ورددته على أعقابه، وأوقعته في الحفرة التي حفرها لي، فوقع في مهاوي القهر والذلّ مقموعاً بقوتك، وسقط في الشباك التي كان قد نصبها لي ليراني فيها، ولولا لطفك بي ونصرك لي لوصل إلى ما يريد.
* * *
وَكَمْ مِنْ حاسِد قَدْ شَرِقَ بي بِغُصّتِهِ، وَشَجِي مِنّي بِغَيْظِهِ، وَسَلَقَني بِحَدّ لِسانِهِ، وَوَحَرَني بِقَرْفِ عُيُوبِهِ، وَجَعَلَ عِرْضي غَرَضاً لِمَراميهِ، وَقَلَّدَني خِلالاً لَمْ تَزَل فيهِ، وَوَحَرَني بِكَيدِهِ، وَقَصَدَني بِمَكيدَتِهِ. فَنادَيْتُكَ - يا إِلهي - مُسْتَغيثاً بِكَ، واثِقاً بِسُرْعَةِ إِجابَتِكَ، عالِماً أَنَّهُ لا يُضْطَهَدُ مَنْ أَوى إِلى ظِلِّ كَنَفِكَ، وَلَنْ يَفْزَعَ مَنْ لَجَأَ إِلى مَعقِلِ انْتِصارِكَ، فَحَصَّنْتَني مِنْ بَأْسِهِ بِقُدْرَتِكَ.
* * *
اللهم إنّي ألجأ إليك من غرض كلّ حاسد
يا ربّ، قد تتمثل مشكلتي بأكثر من حاسد يحسدني في نعمك عليّ من موقع عقدةٍ مرَضيةٍ تأكل قلبه، وتعقّد عقله، وتُفسد مشاعره، فهو يعيش الغصة في نفسه إذا رأى نعمةً في بعض أوضاع حياتي مما تفضلت به عليّ من نعمك الوافرة، ويتفجّر الغيظ في صدره حتى كأنّ هناك شيئاً حاداً يعترضه، أو كأن هناك ثقلاً يطبق على روحه، فيسلّط عليّ حَدّ لسانه بالكلمات الفارصة والألفاظ النابية من دون أيّ ذنب، ويشتد عليّ بحقده، فيتحدث عن عيوب في ذاتي لم أعهد لها وجوداً، ولكنها عيوبه التي يحاول إلصاقها بي تنفيساً لعقدته، ويسدّد سهامه إليّ مستهدفاً كرامتي بها كما لو كانت عدوّاً يريد أن يقتله، ويخطّط لإيذائي وتدمير حياتي بكيده، ويتقصّدني - بالضرر - بمكره وحيلته.
إنّ مشكلة الحاسدين - يا ربّ - ليست مشكلة الحالة النفسية التي يعيشونها في ذاتهم من خلال عقدة الحسد، ولكنّها مشكلة الحالة العدوانية المتمثلة بالبغي الذي يتنفس فيه الحاسد في مواجهته للمحسود، ليعمل بكلّ قوته في سبيل تدمير وجوده، لأنّه لا يطيق حركته في الحياة في عجزه عن إزالة النعمة عنه وانتقالها إليه.
وهكذا عانيت من هذه القوة المضادّة التي يلتقي فيها الجانب النفسي بالجانب العملي في عدوانيته المتحركة في أكثر من موقع والمنطلقة في أكثر من بُعد.
ولم يكن لي - أمام ضراوة عدوانه وشدّة طغيانه - إلا الاستعانة بك في نداء المستغيثين، واللجأ إليك في سؤال السائلين، في ثقةٍ بأنّك الربّ الذي يُسرع إلى إجابة ابتهالات عباده الضعفاء، وبأنّي لن أعاني من الاضطهاد الذي يتحداني به الحاسدون الأقوياء ما دمت قد لجأت إلى ظلّك في ساحة قدسك، وفزعتُ إلى الدخول في حصنك الحصين الذي يجسد الانتصار على كلّ المعتدين، فخرجتُ من ذلك منتصراً عليه، آمناً من عدوانه بقدرتك.
* * *
وَكَمْ مِنْ سَحائِبِ مَكْرُوه جَلَّيْتَها عَنّي، وَسَحائِب نِعَمٍ أَمْطَرْتَها عَلَيَّ، وَجَداوِلِ رَحْمَة نَشَرْتَها، وَعافِيَةٍ أَلْبَسْتَها، وَأَعْيُنِ أَحْداثٍ طَمَسْتَها، وَغَواشِيَ كُرُباتٍ كَشَفْتَها.
وَكَمْ مِنْ ظَنٍّ حَسَنٍ حَقَّقْتَ، وَعَدمٍ جَبَرْتَ، وَصَرعَةٍ أَنْعَشْتَ، وَمَسْكَنَةٍ حَوَّلْتَ، كُلّ ذلِكَ إِنْعاماً وَتَطَوُّلاً مِنْكَ، وَفي جَميعِهِ انْهِماكاً مِنّي عَلى مَعاصيكَ.
لَمْ تَمْنَعْكَ إِسـاءَتي عَنْ إِتْمامِ إِحْسانِكَ، وَلاحَجَرَني ذَلِكَ عَنِ ارْتِكابِ مَساخِطِكَ، لا تُسْأَلُ عَمّا تَفْعَلُ، وَلَقَدْ سُئِلْتَ فَأَعْطَيْتَ، وَلَمْ تُسْأَلْ فَابْتَدَأْتَ، وَاسْتُميحَ فَضْلُكَ فَما أَكْدَيْتَ.
أَبَيْتَ - يا إلهي - إِلاّ إِحْساناً، وَامْتِناناً، وَتَطَوٌّلاً وَإِنْعاماً، وَأَبَيْتُ إِلاّ تَقَحُّماً لِحُرُماتِكَ، وَتَعَدِّياً لحُدُودِكَ، وَغَفْلَةً عَنْ وَعيدِكَ، فَلَكَ الْحَمْدُ إِلهي مِنْ مُقْتَدِرٍ لا يُغْلَبُ، وَذي أَناةٍ لا يَعْجَلُ.
* * *
إلهي أبيتَ إلا إحساناً، وأبيتُ إلا تعدّياً لحدودك
يا ربّ، إنّي عندما أتطلع إلى مواقع فضلك وكرمك ورحمتك وامتنانك عليّ، فلن أستطيع إحصاء ذلك، لأنه يتحرك في كلّ مفردات حياتي في كلّ جوانبها وأوضاعها، بحيث لا ألتقي بفضل إلا التقيت بفضل آخر في امتداد الحياة وحركة العمر، في إبعاد المكروه عنّي، وجلب المحبوب إليّ.
فقد عشت بعض حياتي تحت ظلّ الغيوم السوداء التي تحجب عنّي كلّ إشراقة النور، وتنذرني - في تأثيراتها السيئة - بكلّ مكروه، فبادرت - يا ربّ - إلى إبعادها عني وكشفها عن آفاقي، وفي مقابل ذلك كانت سحائب نعمك تمطر عليّ ماءً عذباً سلسبيلاً، فتخضرّ بها أرض أحلامي، وتخصب ببركاتها حياتي الجديبة.
وكان جداول الرحمة التي نشرتها عليَّ فتدفقّت بالرخاء لتمنحني كلّ خير وبركة.. وانطلقت عافيتك التي ألبستني إياها ومتعتني بها في راحة العمر وطمأنينته، ثم طمست كلّ عيون الأحداث وكشفت كلّ غواشي الكربات.
وتتابعت الألطاف، فقد تطلعت إلى ألطافك في ربوبيتك، فقادني إليك حسن ظنّي بك، لأنّك عند حسن ظنّ عبدك المؤمن بك، فحققت ظني بما رجوته من رحمتك وكرمك، وجبرت كسري في فقري، فأعطيتني وجود الغنى بعد أن كنت في عدم الحاجة، وأنعشتني ورفعتني من سقطتي التي كادت أن تصرعني، فتخلصت من كلّ الورطة التي وقعت فيها والشدة التي حلّت بي، وحوّلت حال المسكنة في ظروفي إلى حالة غنى وامتلاء.
وكان كلّ ذلك بفضل إنعامك وأفضالك في الوقت الذي كنت فيه جاداً في الأخذ بمعصيتك والاستغراق في سخطك، فلم يمنعك ذلك كلّه عن الاستمرار في الإحسان إليّ، لأنّك المحسن الذي لا تمنعه إساءة عبده عن الإحسان إليه، من دون أن يتحرك هذا العبد المذنب بعيداً عن مواقع سخطك تمرداً منه وغفلةً عن مقام ربوبيتك.
إنّ إحسانك - يا ربّ - لا ينطلق من ردّ فعل ليكون سلبياً في مواجهة الأفعال السلبية لدى خلقك، أو يكون إيجابياً في موقع الفعل الإيجابي منهم، بل إنّه فعل ينطلق من حكمتك في حسابات رحمتك وفيوضات نعمك، فأنت المستقلّ في أمرك وتدبيرك لا تسأل عنه مما يسأل فيه السائلون.
وقد قلت في كتابك: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، لأنّ فعلك - وحده - هو الذي يمثل الحكمة المطلقة، فلا موقع لأن يرسم أيّة علامة استفهام من أيّ جانب.
إنك المعطي في ابتداء العطاء قبل المسألة، وفي استجابة السؤال في حركة الدعاء، وأنت الذي لا ترد من استماح فضلك، إنّك الذي أبيت - من مواقع الفضل في صفاتك - إلا أن تحسن وتمنّ وتتطول وتنعم، وأبيت - أنا - إلا اقتحام حرماتك والتعدي لحدودك، والغفلة عن وعيدك.
فأي حمد - يجب أن أقدمه إليك ـ ولك الحمد كلّه، على ذلك كلّه، وأنت - مع ذلك - صاحب القدرة المطلقة التي لا تغلب، وصاحب الأناة التي لا تعجل، لأنّ الذي يعجل هو الذي يريد أن ينتقم شفاءً لغيظه، وأنت المتعالي عن ذلك، فإنّك قد تمهل عبدك المتمرد ليعود إلى رحاب طاعتك بالتوبة، وقد تمهله لتملي له ليزداد إثماً ولتقيم الحُجّة عليه.
* * *
هذا مَقامُ مَنِ اعْتَرَفَ بِسُبُوغِ النِعَمِ، وَقابَلَها بِالتَّقْصيرِ، وَشَهِدَ عَلى نَفْسِهِ بِالتَّضْييعِ.
اللّهُمَّ فَإِنّي أَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِالْمُحَمَّدِيَّةِ الرَّفيعَةِ، وَالْعَلَوِيّةِ الْبَيْضاءِ، وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِهِما أَن تُعيِذَني مِنْ شَرِّ كَذا وَكَذا، فَإِنَّ ذلِكَ لايَضيقُ عَليْكَ فيوُجْدِكَ، وَلا يَتَكَأَدُكَ في قُدْرَتِكَ، وَأنْتَ عَلى كُلِّ شَىْء قَديرٌ، فَهَبْ لي - يا إِلهي - مِنْ رَحْمَتِكَ، وَدَوامِ تَوْفيقِكَ، ما اتّخِذُه سُلّماً أَعْرُجُ بِه إِلى رِضْوانِكَ، وَآمَنُ بِه مِنْ عِقابكَ، يا أَرْحَمْ الرّاحِمينَ.
* * *
اللهم أتقرّب إليك بمحمّد(ص) وعليّ(ع)
يا ربّ، إن دعائي - هذا - يمثل، في تعداد النعم التي أنعمت بها علي، الاعتراف في موقع العبودية في ذاتي بفيضان النعم التي قابلتها بالتقصير في الشكر في السير في خطّ طاعتك، كما يمثل الشهادة بتضييعي لكلّ المسؤوليات التي حمّلني الله إياها مما أمر به أو نهى عنه.
اللهم إنّي أتقرّب إليك بالنبوّة المحمدية في الدرجات الرفيعة التي منحتها لنبيّك محمد(ص) وجعلته شفيع المذنبين، الذين أردت العفو عنهم، إلى الجنة، وبالولاية العلوية البيضاء المشرقة بالحقّ التي جعلتها لعليّ(ع) من خلال إخلاصه ومحبته لك وجهاده في سبيلك، فأعطيته الكرامة والشفاعة والقرب إليك، وأتوجه إليك - بمكانتهما عندك وقربهما إليك - أن تنقذني من كلّ الشرور الخاصة والعامة، فإنّك الواجد لكلّ ما أسألك من ذلك كلّه، فلا يضيق عليك شيء منه، ولا يصعب عليك في قليل أو كثير،لأنّك على كلّ شيء قدير.
وفي نهاية المطاف، هل تهب لي - يا ربّ - شيئاً من رحمتك وفيضاً من دوام توفيقك حتى يكون ذلك بمثابة السلّم الروحي الذي أعرج به إليك، فأحصل على رضوانك، وآمن من عقابك، إنني آمل ذلك وأطلبه وأريده - يا رب العالمين - .
* * *


الهوامش:

(1)    تقحمت: أي رميت بنفسي.
(2)    جمع شعب: قال في الأساس: الشعب بالكسر: الطريق في الجبل، ومسيل الماء في أرض أو الفرج بين الجبلين.
(3)    انتضى: جرّد.
(4)    شحذ: أحدّ.
(5)    الظبة: حدّ السيف والسكين ونحوهما.
(6)    شبا السنان: طرفه المحدد.
(7)    داف: خلط.
(8)    الزعاف: السم. وفي رواية زعاق بالقاف، والزعاق: الماء المرّ الغليظ الذي لا يطاق شربه.
(9)    شواه: أطراف أصابعه لأنّ الشوى يطلق على أطراف اليدين والرجلين.
(10)    أضبأ: لجأ إلى طريدته ملازماً لها.
(11)    الملق: التودد الكاذب.
(12)    الحنق: الغيظ.
(13)    دغل: انطوى على الشر والغدر.
(14)    أركسته: قلبته على رأسه.
(15)    أم رأسه، الدماغ وهو مخّ الرأس.
(16)    زبيته: حفرة تحفر في موضع عال يصاد بها.
(17)    انقمع: القمع: القهر والإذلال.
(18)    ربق: حبل يجعل فيه عدّة عرى يشدّ بها إليهم.
(19)    حبالته: حبالة الصائد: شركه التي يصطاد بها.
* * *


دعاؤه(ع) في الرهبة
 
اللّهُمَّ إِنَّكَ خَلَقْتَني سَوِيّاً، وَرَبَّيْتَني صَغيراً، وَرَزَقْتَني مَكْفِيّاً.
اللّهُمَّ إِنّي وَجَدْتُ فيما أَنْزَلْتَ مِنْ كِتابِكَ، وَبَشَّرْتَ بِهِ عِبادَكَ، أَنْ قُلْت: {يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسْرَفوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً}، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنّي ما قَدْ عَلِمْتَ، وَما أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنّي، فَيا سَوْأَتا مِمّا أَحْصاهُ عَلَيَّ كِـتابُكَ، فَلَـولاَ الْمَواقِـفُ الَّتي اُؤَمِّـلُ مِنْ عَفْوِكَ الَّذي شَمِلَ كُلَّ شَيء، لألْقَيْتُ بِيَدي، وَلَوْ أَنَّ أَحَداً اسْتَطاعَ الْهَرَبَ مِنْ رَبِّهِ، لَكُنْتُ أَنا أَحَـقَّ بِالْهَـرَبَ مِنْـكَ، وَأَنْـتَ لا تَخْـفى عَلَيْكَ خافِيَةٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّماءِ إِلاّ أَتَيْتَ بِها، وَكَفى بِكَ جازِياً، وَكَفى بِكَ حَسيباً.
اللّهُمَّ إِنَّكَ طالِبي إِنْ أَنَا هَرَبْتُ، وَمُدْرِكي إِنْ أَنَا فَرَرْتُ، فَها أَنَا ذا بَيْنَ يَدَيْكَ خاضِعٌ ذَليلٌ راغِمٌ، إِنْ تُعَذِّبْني فَاِنّي لِذلِكَ أَهْلٌ، وَهُوَ يا رَبِّ مِنْكَ عَدْلٌ، وَإِنْ تَعْفُ عَنّي فَقَديماً شَمَلَني عَفْوُكَ، وَأَلْبَسْتَني عافِيَتَكَ.
فَأَسْأَلُكَ اللّهُمَّ بِالْمَخْزُونِ مِنْ أَسْمائِكَ، وَبِما وارَتْهُ الْحُجُبُ مِنْ بَهائِكَ، إِلاّ رَحِمْتَ هذِهِ النَّفْسَ الْجَزُوعةَ، وَهذِهِ الرِّمَّةَ الْهَلُوعَةَ، الَّتي لا تَسْتَطيعُ حَرَّ شَمْسِكَ، فَكَيْفَ تَسْتَطيعُ حَرَّ نارِكَ؟ وَالَّتي لا تَسْتَطيعُ صَوْتَ رَعْدِكَ، فَكَيْفَ تَسْتَطيعُ صَوْتَ غَضَبِكَ؟
فَارْحَمْني اللّهُمَّ، فَإِنّي امْرُؤٌ حَقيرٌ، وَخَطَري يَسيرٌ، وَلَيْسَ عَذابي مِمّا يَزيدُ في مُلْكِكَ مِثْقالَ ذَرَّة، وَلَوْ أَنَّ عَذابي مِمّا يَزيدُ في مُلْكِكَ لَسَأَلْتُكَ الصَّبْرَ عَلَيْهِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ ذلِكَ لَكَ، وَلكِنَّ سُلْطانَكَ اللّهُمَّ أَعْظَمُ، وَمُلْكَكَ أَدْوَمُ، مِنْ أَنْ تَزيدَ فيهِ طاعَةُ الْمُطيعينَ، أَوْ تَنْقُصَ مِنْهُ مَعْصِيَةُ الْعاصِينَ.
فَارْحَمْني يا أَرْحَمَ الرّاحِمينَ، وَتَجاوَزْ عَنّي ياذَا الْجَلالِ وَالإكْرِام، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحيمُ.
* * *
قيمة العلاقة بالله تعالى
للعلاقة بالله منهج إسلامي يتحرك في خطّ التربية الإيمانية التي تربط الإنسان بالله في حركته العبادية في موارد الطاعة، ويتلّخص هذا المنهج بكلمتي "الرغبة" و"الرّهبة"، وقد يعبّر عنهما بـ"الرجاء" و"الخوف" باعتبار عدل الله في خطّ الرهبة والخوف، ورحمة الله وإحسانه في خطّ الرغبة والرجاء، ولا بدّ من توازنهما في وجدان الإنسان المسلم كما جاء في بعض الأحاديث المأثورة عن أبي عبدالله(ع): "خفِ الله عزّ وجلّ خيفةً لو جئته ببرّ الثقلين لعذّبك، وارجُ الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحِمَك"، ثم قال أبو عبدالله(ع): "كان أبي يقول إنّه ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء"(1).
وربما كانت قيمة هذا المنهج الإيماني التربوي أنّه يؤكّد للإنسان قيمة الطاعة في دائرة أوامر الله ونواهيه كقيمةٍ إيجابية متصلة بمصيره في رضوان الله وثوابه في مقابل معنى المعصية كقيمة سلبية مرتبطة بالنجاة من غضب الله وعذابه، بحيث يقبل على الطاعة في إحساسٍ شعوريّ بالمسؤولية كأيّة حالةٍ من حالات الالتزام بالقضايا التي تمثّل مصلحته وحيوية حاجاته الخاصة في وعيٍ دقيقٍ لخصائصها ومعطياتها ونتائجها، ويبتعد عن المعصية في معرفةٍ حسيّةٍ للأخطار المتمثّلة في الأخذ بها كما لو كانت تواجهه مواجهةً مباشرةً.
ولعلّ من الطبيعي أن تتحرك التربية - في خطّ المنهج الإيماني - نحو تعميق الوعي الفكري بعظمة الله في مواقع عظمته وبنعمته في فيوضات نعمه، مما يجعل من غضبه على الإنسان كارثة تصادر كلّ مصيره في اتجاه الهلاك الأبدي، وهذا ما عبّر عنه دعاء كميل: "لأنّه لا يكون إلا من غضبك وانتقامك وسخطك، وهذا ما لا تقوم به السماوات والأرض، يا سيّدي فكيف بي وأنا عبدك الضعيف الحقير المسكين المستكين"،كما يجعل من رضاه نعمةً كبيرة تفتح للإنسان أبواب السعادة الدنيوية والأخروية.
وقد كان الدعاء في الإسلام إحدى الوسائل التي توحي للإنسان بالخوف من الله والرجاء له من خلال الأسلوب الروحي الذي يستعرض فيه الإنسان كلّ مفردات العظمة وفيوضات النعمة في وجدانه بين يدي الله، لتتعمق في ذاته، وليشهد الله على وعيه النفسي الذي يتحول إلى وعي عمليٍّ في الإحساس بربوبيته في نطاق العظمة والنعمة والتحرك في اتجاه ذلك في كلّ أقواله وأفعاله.
وللدعاء أثر كبير في تحويل الحالة العقلية الإيمانية إلى حالةٍ حسيةٍ عملية.
* * *
مفاهيم الدعاء
وهذا الدعاء وسيلة إيحائية من وسائل تربية الرهبة الشعورية في النفس الإنسانية في عملية اعتراف إنساني بالذنب ورجاء روحي للعفو.
فقد بدأ باستعادة فضل الله عليه، في خلقه سوياً كاملاً في صفاته الجسدية والعقلية، وفي تربيته له صغيراً في وقت لم يملك فيه أيّ حولٍ وقوّة لإدارة شؤون نفسه، وفي رزقه في مستوى الكفاية لكلّ حاجاته العامة والخاصة بحيث أَغْنَتْهُ عن الحاجة الذليلة إلى الناس.
ثم يستعيد الأمل الكبير برحمة الله ويستبعد القنوط منها بفضل الآية الكريمة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53].
ثم يتذكر كلّ ما أسلفه من ذنوبه ومعاصيه التي يعلمها الله بكلّ تفاصيلها ويشعر بالخجل منها، ويتصور أنّها سوف تسقطه عند ربّه، مما يدفعه إلى الهرب منه - لو كان يستطيع الهرب من ربّه - لإحساسه بخطورتها عليه، ولكنّه يتماسك أمام الثقة بعفو الله.
ويرفع صوته إلى ربّه في إيمانه بأنّ الله يطلبه ويمسك به مهما أمعن في الهرب أو في الفرار، الأمر الذي يجعله واقفاً أمامه موقف الذليل الخاضع الراغم لأنفه، في إحساس بأنّ الله لو عذّبه لكان مستحقاً لذلك، ولكان عدلاً من الله، لأنّه أقام عليه الحُجّة بما أنذره وبشره، وأنّه لو عفا عنه لكان ذلك امتداداً لرحمة الله في عفوه عن المذنبين من عباده وفي إلباسهم ثوب العافية في الدين والدنيا.
ويتصاعد الابتهال من عمق الروح في سؤال خاشع بالأسماء المخزونة عند الله، وبالبهاء الذي لا يدرك سرّه إلا الله، أن يرحم النفس التي لا تملك أمام البلاء إلا أن تجزع، وهذه العظام البالية التي تمثل هذا الجسد الواهن الذي يسقط الفزع في كلّ أوضاعه، فهي لا تستطيع تحمل حرارة الشمس، فكيف تتماسك أمام حرارة نار جهنم، ولا تتمالك ذاتها أمام صوت الرعد القاصف فكيف تتمالك وجودها أمام صوت غضبك.
وينطلق الدعاء في طلب الرحمة لهذا الإنسان الذي يمثل الحقارة في وجوده، والتفاهة في ذاته، فلا قيمة له في أيّ شأن من شؤونه لديك، ولا يزيد عذابه في ملكك بمقدار الذرة، ولو كان ذلك وارداً في الحساب لَقَبِلَ أن يصبر عليه بقوتك ليزيد في ملكك، ولكن ذلك ليس وارداً حتى على مستوى الاحتمال، لأنّ سلطانك في عظمته التي لا يقترب منها النقص، وملكك الذي لا يدبّ إليه الزوال، لا يمكن أن تزيد فيه طاعة عبادك أو تنقص منه معصيتهم، ولذلك فإنّه يطلب منك الرحمة له والتجاوز عنه، وقبول التوبة منه، لينطلق - بلطفك - في مسيرة التائبين المرحومين.
* * *
اللّهُمَّ إِنَّكَ خَلَقْتَني سَوِيّاً، وَرَبَّيْتَني صَغيراً، وَرَزَقْتَني مَكْفِيّاً.
اللّهُمَّ إِنّي وَجَدْتُ فيما أَنْزَلْتَ مِنْ كِتابِكَ، وَبَشَّرْتَ بِهِ عِبادَكَ، أَنْ قُلْت: {يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسْرَفوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً}، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنّي ما قَدْ عَلِمْتَ، وَما أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنّي، فَيا سَوْأَتا مِمّا أَحْصاهُ عَلَيَّ كِـتابُكَ، فَلَـولاَ الْمَواقِـفُ الَّتي اُؤَمِّـلُ مِنْ عَفْوِكَ الَّذي شَمِلَ كُلَّ شَيء، لألْقَيْتُ بِيَدي، وَلَوْ أَنَّ أَحَداً اسْتَطاعَ الْهَرَبَ مِنْ رَبِّهِ، لَكُنْتُ أَنا أَحَـقَّ بِالْهَـرَبَ مِنْـكَ، وَأَنْـتَ لا تَخْـفى عَلَيْكَ خافِيَةٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّماءِ إِلاّ أَتَيْتَ بِها، وَكَفى بِكَ جازِياً، وَكَفى بِكَ حَسيباً.
اللّهُمَّ إِنَّكَ طالِبي إِنْ أَنَا هَرَبْتُ، وَمُدْرِكي إِنْ أَنَا فَرَرْتُ، فَها أَنَا ذا بَيْنَ يَدَيْكَ خاضِعٌ ذَليلٌ راغِمٌ، إِنْ تُعَذِّبْني فَاِنّي لِذلِكَ أَهْلٌ، وَهُوَ يا رَبِّ مِنْكَ عَدْلٌ، وَإِنْ تَعْفُ عَنّي فَقَديماً شَمَلَني عَفْوُكَ، وَأَلْبَسْتَني عافِيَتَكَ.
إلهي.. كفى بك جازياً وحسيباً
يا ربّ، هذا أنا الإنسان الذي أعيش في رحاب الامتداد في دراسة إنعامك عليّ وفضلك إليّ في كلّ وجودي،فقد خلقتني تامّ الخلقة سويّ الذات لا تشويه في خلقي ولا نقصان، مما يتيح لي أن أملك حرية الحركة بكلّ ما أحتاج إليه من وسائل الأعضاء في حاجاتي الطبيعية.
وربيتني منذ كنت طفلاً حتى تدرجت في حياتي إلى هذا المستوى من العمر في عملية تنمية متلاحقة ينمو فيها الجسد، ويتربّى فيها العقل، وتكبر فيها الفرص، وتزداد فيها الطاقات.
ورزقتني في حاجاتي كلّها الرزق الواسع الذي يمثل في كميته ونوعيته الكفاية في أموري كلّها بالدرجة التي ملكت فيها عزتي وكرامتي في علاقتي بالمخلوقين أمثالي.
يا رب، لقد قرأت في كتابك الكريم الذي تتحرك في آياته البشارة لعبادك المذنبين الذين قد يسقطون أمام ضغط الإحساس بثقل الذنوب على مصيرهم بالدرجة التي قد يصل بهم الحال فيها إلى اليأس لكثرتها وخطورتها، لقد قرأت قولك - سبحانك -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53].
فوجدت في هذه الآية رحابة آفاق رحمتك بحيث لا يحدّها شيء، وتطلعت - من خلالها - إلى الأمل الكبير بعفوك وغفرانك، ورأيت أنّ ذنبي مهما كان كبيراً فإنّ عفوك أكبر منه، وأنّ إسرافي على نفسي لا يحجب عنّي أنوار ربوبيتك وألطاف نعمتك.
وهكذا بدأت يا ربّ عملية حساب دقيق لكلّ تاريخ حياتي الماضية، فقد أسلفت الكثير من الذنوب التي أحطت بها علماً وأحصيتنا بما لا أملك بلوغ عدده، وشعرت بالخزي والعار والإحساس بالسوءة من ذلك كلّه، وفكرت أنّ هذا الحشد الضخم من الذنوب المتراكمة في تاريخي قد يدفعني إلى السقوط في هاوية اليأس لولا المواقف الربوبية من المذنبين في فيوضات العفو عن ذنوبهم.. وربما عشت الوهم اللكبير في الهروب منك ومن هذه الذنوب التي تلاحقني بنتائجها السلبية لأنجو بنفسي، ولكن العقل الواعي الذي يفكر في الأشياء بهدوء قادني إلى الحقيقة الإيمانية وهي أن الهروب من الله مستحيل، لأنّ الإنسان يهرب من ملكه إلى ملكه، ومن مواقع سلطانه إلى مواقع سلطانه، لأنّ ملكه شامل للوجود كلّه الذي هو خلقه، فهو المهيمن على الأمر كلّه وهو المحيط بالكون وما فيه كلّه، فلا يخفى عليه شيء في الأرض والسماء، ولا يعجزه شيء فيهما، وهو القادر على الإتيان بكلّ شيء هنا وهناك ليحاسبه على كلّ أعماله وأقواله من دون حاجةٍ إلى معين في ذلك كلّه.
* * *
فَأَسْأَلُكَ اللّهُمَّ بِالْمَخْزُونِ مِنْ أَسْمائِكَ، وَبِما وارَتْهُ الْحُجُبُ مِنْ بَهائِكَ، إِلاّ رَحِمْتَ هذِهِ النَّفْسَ الْجَزُوعةَ، وَهذِهِ الرِّمَّةَ الْهَلُوعَةَ، الَّتي لا تَسْتَطيعُ حَرَّ شَمْسِكَ، فَكَيْفَ تَسْتَطيعُ حَرَّ نارِكَ؟ وَالَّتي لا تَسْتَطيعُ صَوْتَ رَعْدِكَ، فَكَيْفَ تَسْتَطيعُ صَوْتَ غَضَبِكَ؟
فَارْحَمْني اللّهُمَّ، فَإِنّي امْرُؤٌ حَقيرٌ، وَخَطَري يَسيرٌ، وَلَيْسَ عَذابي مِمّا يَزيدُ في مُلْكِكَ مِثْقالَ ذَرَّة، وَلَوْ أَنَّ عَذابي مِمّا يَزيدُ في مُلْكِكَ لَسَأَلْتُكَ الصَّبْرَ عَلَيْهِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ ذلِكَ لَكَ، وَلكِنَّ سُلْطانَكَ اللّهُمَّ أَعْظَمُ، وَمُلْكَكَ أَدْوَمُ، مِنْ أَنْ تَزيدَ فيهِ طاعَةُ الْمُطيعينَ، أَوْ تَنْقُصَ مِنْهُ مَعْصِيَةُ الْعاصِينَ.
فَارْحَمْني يا أَرْحَمَ الرّاحِمينَ، وَتَجاوَزْ عَنّي ياذا الْجَلالِ وَالإكْرِام، وَتُبْ عَلَىَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحيمُ.
* * *
اللهم إنّ سلطانك أعظم من أن تزيد فيه طاعة
يا ربّ، لقد علّمتنا أن نتوسّل إليك بالأسرار الخفية في ذاتك وبالصفات الظاهرة والباطنة المعبّرة عن عظمتك من صفاتك، وحدثتنا عن الأسماء المخزونة عندك، التي تختزن في داخلها الأسرار التي تستجاب بها الدعوة، وتتحرك بها القدرة، مما استأثرت بها من علم الغيب عندك، وأردتنا أن ندعوك بها لنحصل على ما نريد، وانفتحت على الغيب الذي ينفتح على ذاتك بكلّ جمالها الذي لا تبلغه العقول ولا تدركه الأفكار، لأنّ الحجب النورانية الغيبية قد وارته عنّا، فلم ندرك إلا القليل القليل منه، لأنّك لم تمنح معرفة الغيب إلا للأصفياء من خلقك الذين اختصصتهم ببعضه من خلال حكمتك في ما يختص به عبادك ببعض فيوضاتك.
وها أنا - يا ربّ - أسألك بالأسماء المقدسة التي لا يعلمها في عمق أسرارها إلا أنت، وبالجمال المطلق الذي تتميز به ذاتك، والعظمة التي لا حدّ لها ولا نهاية مما لا يدركها هذا العقل المحدود، أن تنزل عليّ رحمتك، فأنا الإنسان الذي يصيبه الجزع إذا حلّ به البلاء، فلا يصبر على ضغط الآلام التي تحلّ به في بلائك، أنا الإنسان الذي {خُلِقَ هَلُوعاً*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج:19-21].. فإنّي بحاجة إلى رحمتك التي تفتح لي أبوابع الخير والسكينة والطمأنينة الروحية والعافية من البلاء، والراحة من الآلام، أنا العبد الضعيف الذي إذا أصابه حرّ الشمس سقط أمام تأثيراته في جسده، فكيف يستطيع أن يتحمّل حرّ نارك في لهيبها وزفيرها، وأنا الذي  يملك القدرة على التوازن إذا سمع صوت رعدك القاصف، فتهتزّ كلّ مفاصل جسده خوفاً ورعباً، فكيف يتماسك أمام صوت غضبك الذي لا تصمد أمامه السماوات والأرض التي تهتزّ تحت ضغطه..
إنّ رحمتك - يا ربّ - حاجتي في مستوى الضرورة، أنا العبد الحقير في ذاته، الضعيف في قدراته، الذي لا يملك أيّة قدرةٍ في حجم وجوده، وأيّة منزلةٍ في شأنه.
وإنني أتساءل، وأنا في غمرة الخضوع إليك والتوسل بك، ماذا ينفعك عذابي، وهل يزيد في ملكك شيئاً، وأنت الغنيّ عن كلّ خلقك فلا يزيد في ملكك كلّ وجودهم بكلّ شؤونه، ولو كنت أتصور أنه يزيد فيه، لأقبلت عليه في تسليم عبودي خاضع، وطلبت منك أن ترزقني الصبر على آلامه لأنّ لك الفضل عليّ في كلّ نعمك مما يدفعني إلى أن أكافي ذلك بتقديم شيء، أيّ شيء إليك، مما يحصل به الخير لك، ولكنّك - يا ربّ - الأعظم في سلطانك، والأدوم في ملكك، والمتعالي في شأنك والغني في ذاتك، فكيف أتصور أن يزيد في ملكك وسلطانك بعض طاعة عبادك أو تنقص منه معصيتهم.
فالرحمة الرحمة، يا أرحم الراحمين في تجاوزك وتوبتك عليّ، فإنّك الذي تقبل التوبة من عبادك وتفيض عليهم رحمتك التي وسعت كلّ شي.
* * *
الهوامش:
(1)    الكافي، ج:2، ص:67، رواية:1.
* * *
دعاؤه(ع) في التضرُّع والاستكانة

إِلهي أَحْمَدُكَ ـ وَأَنْتَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ ـ عَلى حُسْنِ صَنيعِكَ إِلَيَّ، وَسُبوُغِ نَعْمائِكَ عَلَىَّ، وَجَزيلِ عَطائِكَ عِنْدي، وَعَلى ما فَضَّلْتَني مِنْ رَحْمَتِكَ، وَأَسْبَغْتَ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَتِكَ، فَقَدِ اصْطَنَعْتَ عِنْدي ما يَعْجِزُ عَنْهُ شُكْري.
وَلَوْلا إِحْسانُكَ إِلَيَّ، وَسُبوُغُ نَعْمائِكَ عَلَيَّ، ما بَلَغْتُ إِحْرازَ حَظّي، وَلا إِصْلاحَ نَفْسي، وَلكِنَّكَ ابْتَدَأْتَني بِالإحْسانِ، وَرَزَقْتَني في أُموري كُلِّها الْكِفايَةَ، وَصَرَفْتَ عِنِّي جَهْدَ الْبَلاءِ، وَمَنَعْتَ مِنّي مَحْذوُرَ الْقَضاءِ.
إِلهي فَكَمْ مِنْ بَلاءٍ جاهِدٍ قَدْ صَرَفْتَ عَنّي، وَكَمْ مِنْ نِعْمَة سابِغَة أَقْرَرْتَ بِها عَيْني، وَكَمْ مِنْ صَنيعَة كَريمَة لَكَ عِنْدي.
أَنْتَ الَّذي أَجَبْتَ عِنْدَ الاْضْطِرارِ دَعْوَتي، وَأَقَلْتَ عِنْدَ الْعِثارِ زَلَّتي، وَأَخَذْتَ لي مِنَ الأعْداءِ بِظُلامَتي.
إِلهي ما وَجَدْتُكَ بَخيلاً حينَ سَأَلْتُكَ، وَلا مُنْقَبِضاً حينَ أَرَدْتُكَ، بَلْ وَجَدْتُكَ لِدُعائي سامِعاً، وَلِمَطالِبي مُعْطِياً، وَوَجَدْتُ نُعْماكَ عَلَىَّ سابِغَةً في كُلِّ شَأْن مِنْ شَأْني، وَكُلِّ زَمانٍ مِنْ زَماني.
فَأَنْتَ عِندي مَحْموُدٌ، وَصَنيعُكَ لَدَىَّ مَبْرورٌ، تَحْمَدُكَ نَفْسي وَلِساني وَعَقْلي، حَمْداً يَبْلُغُ الْوَفاءَ وَحَقيقَةَ الشُّكْرِ، حَمْداً يَكونُ مَبْلَغَ رِضاكَ عَنَّي، فَنَجِّني مِنْ سَخَطِكَ.
يا كَهْفي حينَ تُعْيينِي الْمَذاهِبُ، وَيا مُقيلي عَثْرَتي، فَلَوْلا سَتْرُكَ عَوْرَتي لَكُنْتُ مِنَ الْمَفْضوحينَ، وَيا مَؤَيِّدي بِالنَّصْرِ، فَلَوْلا نَصْرُكَ إِيّايَ لَكُنْتُ مِنَ الْمَغْلوبينَ، وَيا مَنْ وَضَعَتْ لَهُ الْمُلوكُ نيرَ الْمَذَلَّةِ عَلى أَعْناقِها، فَهُمْ مِنْ سَطَواتِهِ خائِفونَ، وَيا أَهْلَ التَّقْوى، وَيا مَنْ لَهُ الاْسْماءُ الْحُسْنى.
أَسْأَلُكَ أَنْ تَعْفُوَ عَنّي، وَتَغْفِرَ لي، فَلَسْتُ بَريئاً فَأَعْتَذِرَ، وَلا بِذي قُوَّة فَأَنْتَصِرَ، وَلا مَفَرَّ لي فَأَفِرَّ، وَأَسْتَقيلُكَ عَثَراتي، وَأَتَنَصَّلُ إِلَيْكَ مِنْ ذُنوبِىَ الَّتي قَدْ أَوْبَقَتْني، وَأَحاطَتْ بي فَأَهْلَكَتْني، مِنْها فَرَرْتُ إِلَيْكَ رَبِّ تائِباً فَتُبْ عَلَىَّ، مُتَعَوِّذاً فَأَعِذْني، مُسْتَجيراً فَلا تَخْذُلْني، سائِلاً فَلا تَحْرِمْني، مُعْتَصِماً فَلا تُسْلِمْني، داعياً فَلا تَرُدَّني خائِباً.
دَعَوْتُكَ - يا رَبِّ - مِسْكيناً مُسْتَكيناً، مُشْفِقاً خائِفاً، وَجِلاً فَقيراً، مُضْطَرّاً إِلَيْكَ.
أَشْكو إِلَيْكَ - يا إِلهي - ضَعْفَ نَفْسي عَنِ الْمُسارَعَةِ فيما وَعَدْتَهُ أَوْلِياءَكَ، وَالْمُجانَبَةِ عَمّا حَذَّرْتَهُ أَعْداءَكَ، وَكَثْرَةَ هُمومي، وَوَسْوَسَةَ نَفْسي.
إِلهي لَمْ تَفْضَحْني بِسَريرَتي، وَلَمْ تُهْلِكْني بِجَريرَتي، أَدْعوكَ فَتُجيبُني، وَإِنْ كُنْتُ بَطيئاً حينَ تَدْعوني، وَأَسْأَلُكَ كُلَّما شِئْتُ مِنْ حَوائِجي، وَحَيْثُ ما كُنْتُ وَضَعْتُ عِنْدَكَ سِرّي، فَلا أَدْعُو سِواكَ، وَلا أَرْجو غَيْرَكَ.
لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، تَسْمَعُ مَنْ شَكا إِلَيْكَ، وَتَلْقى مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ، وَتُخَلِّصُ مَنِ اعْتَصَمَ بِكَ، وَتُفَرِّجُ عَمَّنْ لاذَ بِكَ.
إِلهي فَلا تَحْرِمْني خَيْرَ الاْخِرَةِ وَالأُولى لِقِلَّةِ شُكْري، وَاغْفِرْ لي ما تَعْلَمُ مِنْ ذُنوبي، إِنْ تُعَذِّبْ فَأَنَا الظّالِمُ الْمُفَرِّطُ، الْمُضَيِّعُ الاْثمُ، الْمُقَصِّرُ الْمُضَجِّعُ، الْمُغْفِلُ حَظَّ نَفْسي، وَإِنْ تَغْفِرْ فَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمينَ.
* * *
لا بدّ للإنسان الذي يعيش الإحساس بالعبودية المطلقة لربّه من التعبير عنها، بمختلف الأساليب والوسائل، من أجل تعميق معانيها في نفسه، وإعلان ذلك في ترديد خاشع في دعائه، وذلك بالتذلّل لله في تعداد حاجته إليه في كلّ شيء وفقره إلى عطائه، لأنّ وجوده لا يمتد ولا يقوى إلا بإرادته، وبالخضوع بين يديه تعبيراً عن الشعور بطبيعة هذا الوجود الضعيف أمام الوجود المهيمن على كلّ شيء.
وهذا هو الأسلوب الذي انطلق المنهج التربوي الإسلامي في تحريك الإنسان إليه وتوجيهه نحوه، لأنّه الذي يؤكّد ارتباط الإنسان بخالقه، وهو الذي يزيد في إحساسه بالحاجة إليه، ويفتح له آفاق المحبة والانفتاح إليه، لأنّ مسألة الصلة بالله خاضعةً دائماً للعمق الشعوري بعظمته، والإحساس الوجداني بضعف الإنسان أمامه والحاجة المطلقة إليه في كلّ شيء.
وفي هذا لدعاء أكثر من فكرةٍ للحمد، وأكثر من نبضة شعورية للتضرّع، وأكثر من إحساسٍ روحي بالخضوع، في جولةٍ واسعةٍ في آفاق نعم الله في مواقع الحمد، وفي أجواء ألطاف الله في حاجات الإنسان، وفي تطلعاته إلى المزيد من فضله، وفي رحاب عفو الله ومغفرته لكلّ ذنوبه، وفي فيوضات رحمة الله في كشف الضرّ عنه وحمايته من كلّ سوء، ورعايته في كلّ أموره ونصره على أعدائه، وأمنه من كلّ خوف، وإنقاذه من كلّ فضيحة، وإعانته على نفسه بتقوية ما تعانيه من ضعف في الإقبال على الطاعة والبعد عن المعصية، وفي إبعاده عن السقوط تحت تأثير همومه الكثيرة وعن وسوسة نفسه، ليحصل من ذلك كلّه على الشعور بالأمن والطمأنينة من خلال التوحيد العملي الروحي في توجيه الدعاء إليه وحده، وتحريك الرجاء له دون سواه، فهو مستودع السرّ، وهو موضع الشكوى وغاية التوكّل، وهو وليّ الخلاص من كلّ سوء، والفرج من كلّ شدة، وهو الملاذ لكلّ من لاذ به، ووليّ العفو والغفران الذي لا يحرم عباده من خير الدنيا والآخرة بالرغم من قلّة شكرهم له، وهو أرحم الراحمين.
* * *
إِلهي أَحْمَدُكَ - وَأَنْتَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ - عَلى حُسْنِ صَنيعِكَ إِلَىَّ، وَسُبوُغِ نَعْمائِكَ عَلَيَّ، وَجَزيلِ عَطائِكَ عِنْدي، وَعَلى ما فَضَّلْتَني مِنْ رَحْمَتِكَ، وَأَسْبَغْتَ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَتِكَ، فَقَدِ اصْطَنَعْتَ عِنْدي ما يَعْجِزُ عَنْهُ شُكْري.
وَلَوْلا إِحْسانُكَ إِلَىَّ، وَسُبوُغُ نَعْمائِكَ عَلَيَّ، ما بَلَغْتُ إِحْرازَ حَظّي، وَلا إِصْلاحَ نَفْسي، وَلكِنَّكَ ابْتَدَأْتَني بِالإحْسانِ، وَرَزَقْتَني في أُموري كُلِّها الْكِفايَةَ، وَصَرَفْتَ عِنِّي جَهْدَ الْبَلاءِ، وَمَنَعْتَ مِنّي مَحْذوُرَ الْقَضاءِ.
إِلهي فَكَمْ مِنْ بَلاء جاهِد قَدْ صَرَفْتَ عَنّي، وَكَمْ مِنْ نِعْمَة سابِغَة أَقْرَرْتَ بِها عَيْني، وَكَمْ مِنْ صَنيعَة كَريمَة لَكَ عِنْدي.
أَنْتَ الَّذي أَجَبْتَ عِنْدَ الاْضْطِرارِ دَعْوَتي، وَأَقَلْتَ عِنْدَ الْعِثارِ زَلَّتي، وَأَخَذْتَ لي مِنَ الأعْداءِ بِظُلامَتي.
* * *
إلهي أنت الذي ابتدأتني بالإحسان
يا ربّ، ها أنذا أقف بين يديك موقف الحامد لك، فأنت - وحدك - أهل الحمد بكلّ صفاتك وتقديرك للخلق في كلّ الأمور، فليس هناك شيء لا تحمد عليه، حتى إن حمد خلقك مستمدٌ من حمدك، إنّني أحمدك بما يختزنه الحمد من معنى الشكر للخير النازل من عندك، فقد أحسنت الصنيع إليّ في انطلاقة وجودي بكلّ تفاصيله، وأسبغت عليّ نعمتك بما يجعل حياتي أكثر راحةً وأمناً، وأجزلت لي العطاء حتى شمل كلّ شأنٍ من شؤون حياتي، وفضّلتني على كثيرٍ من خلقك بما وهبت لي من مننك، وهذا هو الإحسان الذي امتدّ إلى كلّ حياتي في مفرداتها الصغيرة والكبيرة، بحيث لا أستطيع أن أجد كلمة شكر ترتفع إلى مستواه، ولولا هذا الإحسان الذي غمرني، والإنعام الذي فاض على حياتي، لم أستطع - بقدراتي الذاتية - أن أحصل على نصيبي من حظّ الحياة، أو أحصل على الفرصة في إصلاح نفسي من حيث ما تريده وما تحتاجه وما تتطلع إليه في قضايا الحياة، فقد يسّرت لي ذلك كلّه تفضلاً وابتداءً من دون مبادرةٍ منّي تستحقّ ذلك، وأعززتني عن الحاجة إلى شرار خلقك أو الانحناء أمام الذين يملكون بعض مواقع النعمة، بما رزقتني من الرزق الذي يحقق لي الكفاية في حاجاتي كلّها، وأبعدت عنّي كلّ المتاعب التي يجرّها البلاء إليّ، وصرفت عني المحاذير المادية والمعنوية التي يأتي بها القضاء فلم تقضِ بها عليّ.
يا ربّ، ماذا أحصي - لو أردت الإحصاء - مما صرفت عني من البلاء القاسي الذي يطبق عليّ بجهده، ومما أنعمت به عليّ من النّعم التي كانت قرّة عينٍ لي في حياتي كلّها، ومما أغدقت عليّ من كرائمك التي أعطيتنيها في صنيعك لديّ، فقد أجبت دعائي في كلّ ما طلبته منك في كلّ حاجاتي الخاصة والعامة، وأقلت عثرتي في كلّ زلاتي التي عانيت منها الكثير في موقفي منك، ورزقتني النصرة على أعدائي في كلّ الظلم الذي مارسوه ضدي.
* * *
إِلهي ما وَجَدْتُكَ بَخيلاً حينَ سَأَلْتُكَ، وَلا مُنْقَبِضاً حينَ أَرَدْتُكَ، بَلْ وَجَدْتُكَ لِدُعائي سامِعاً، وَلِمَطالِبي مُعْطِياً، وَوَجَدْتُ نُعْماكَ عَلَىَّ سابِغَةً في كُلِّ شَأْن مِنْ شَأْني، وَكُلِّ زَمان مِنْ زَماني.
فَأَنْتَ عِندي مَحْموُدٌ، وَصَنيعُكَ لَدَىَّ مَبْرورٌ، تَحْمَدُكَ نَفْسي وَلِساني وَعَقْلي، حَمْداً يَبْلُغُ الْوَفاءَ وَحَقيقَةَ الشُّكْرِ، حَمْداً يَكونُ مَبْلَغَ رِضاكَ عَنَّي، فَنَجِّني مِنْ سَخَطِكَ.
* * *
إلهي ما وجدتك بخيلاً حين سألتك
يا ربّ، لقد سألتك في حاجاتي كلّها، في ضرورات الحياة وكمالياتها، فلم تكن بخيلاً عليّ، فلم تمنعني شيئاً منها إلا مما رأيت فيه خلاف مصلحتي في ديني ودنياي، بل كنت الكريم في كلّ مواقع الكرم عندك.
ولقد قصدتك وطلبتك في كثير من أموري المادية والمعنوية، فلم أجد منك الإعراض والانقباض الذي يوحي بالرفض والإهمال، بل وجدت - بدلاً من ذلك - الانبساط والإقبال عليَّ بما طلبت، فقد سمعت دعائي سماع المستجيب، وأعطيتني طلبتي إعطاء الرحيم الكريم، وامتدت نعمك عليّ امتداداً يشمل كلّ شؤوني وكلّ زماني، فلم يخلُ شأن من شؤوني من نعمك، ولا زمان من زماني من كرمك ولطفك، فأنت المستحق للحمد كلّه في وجداني الإيماني، وأما ما صنعته إليّ فهو الصنيع المبرور المشكور الذي لم يخالطه كفر ولا غمط ولا احتقار، مما يفرض عليّ حمدك بكلّ حياتي ونفسي ولساني وعقلي، حتى يتحول وجودي إلى حالة حمد عميق ممتد في الكيان كلّه، بحيث يمثل في حجمه وسعته وامتداده حقيقة الوقار لك والشكر لنعمتك، بحيث يساويه في كلّ مواقع الإخلاص لك فيه، ويرتفع ليبلغ منتهى رضاك.
فاجعلني - يا ربّ - من الناجين من سخطك فذلك هو غاية الغايات عندي.
* * *
يا كَهْفي حينَ تُعْيينِي الْمَذاهِبُ، وَيا مُقيلي عَثْرَتي، فَلَوْلا سَتْرُكَ عَوْرَتي لَكُنْتُ مِنَ الْمَفْضوحينَ، وَيا مَؤَيِّدي بِالنَّصْرِ، فَلَوْلا نَصْرُكَ إِيّايَ لَكُنْتُ مِنَ الْمَغْلوبينَ، وَيا مَنْ وَضَعَتْ لَهُ الْمُلوكُ نِيْرَ الْمَذَلَّةِ عَلى أَعْناقِها، فَهُمْ مِنْ سَطَواتِهِ خائِفونَ، وَيا أَهْلَ التَّقْوى، وَيا مَنْ لَهُ الاْسْماءُ الْحُسْنى.
أَسْأَلُكَ أَنْ تَعْفُوَ عَنّي، وَتَغْفِرَ لي، فَلَسْتُ بَريئاً فَأَعْتَذِرَ، وَلا بِذي قُوَّةٍ فَأَنْتَصِرَ، وَلا مَفَرَّ لي فَأَفِرَّ، وَأَسْتَقيلُكَ عَثَراتي، وَأَتَنَصَّلُ إِلَيْكَ مِنْ ذُنوبِيَ الَّتي قَدْ أَوْبَقَتْني، وَأَحاطَتْ بي فَأَهْلَكَتْني، مِنْها فَرَرْتُ إِلَيْكَ رَبِّ تائِباً فَتُبْ عَلَىَّ، مُتَعَوِّذاً فَأَعِذْني، مُسْتَجيراً فَلا تَخْذُلْني، سائِلاً فَلا تَحْرِمْني، مُعْتَصِماً فَلا تُسْلِمْني، داعياً فَلا تَرُدَّني خائِباً.
* * *
يا كهفي حين تُعييني المذاهب، أسألك العفو والمغفرة
يا ربّ، يا إلهي الذي أجد لديه الملجأ والملاذ والكهف الذي آوي إليه، في رحلة الضياع التي أفقد فيها وضوح وجهة السير، فلا أهتدي إلى طريق واضح يصل بي إلى الغاية الآمنة المريحة فتهديني إلى مواقع الأمن والنجاة لديك، سواء في ذلك حالة اشتداد الأزمات التي تضيق فيها الحلقات على الإنسان، أو حالة تشابك خطوط السير، بحيث لا يتميز فيها خطّ عن خطّ فتربك خطوات الإنسان في مقاصده في الحياة.
يا إلهي الذي يقيني العثرة إذا زلّت بي القدم في حركة الطاعة فاقع في المعصية، فيسامني ويصفح عني ولا يتركني في صرعة السقوط، ويستر عليّ فلا يفضحني على رؤوس الخلائق، ولولا سترك عورتي في خلائقي السيئة وأعمالي الشريرة التي تؤدّي بي إلى الفضيحة بين الناس لكنت من المفضوحين الذين يعيشون في هاوية السقوط الاجتماعي.
يا ربّ، الذي عشت في ظلال قوته في الظروف التي واجهت فيها القوى المضادة العدوانية في محاولتها للتغلب عليّ بما تملكه من وسائل القوة، فمنحتني فرصة النصر التي استطعت فيها أن أتغلب عليهم، ولولا ذلك لكنتُ من المغلوبين الذين يسقطون تحت تأثير سيطرة الأقوياء التي تلغي للإنسان وجوده الفاعل الحرّ في الحياة..
يا إلهي الذي يملك كلّ القوة فلا قوّة في الوجود إلا له، لأنّ قوة الأقوياء هبةٌ من قوّته، ممايجعل أولئك الذين يملكون بعض وسائل القوة التي تتيح لهم أن يكونوا ملوكاً أو رؤساء فيعملون على إذلال الضعفاء، تنحني أعناقهم في موقف الذل الخاضع الساحق للقوة الإلهية التي تمثّل السلطة الشاملة التي تحولهم ـ في وعيهم لها ـ أشخاصاً خائفين يرتجفون رعباً أمام ما ينتظرهم من عقاب وعذاب.
يا ربّ، أيّها الله الذي هو الربّ الذي لا بد للناس من أن يأخذوا بأسباب التقوى في خوفهم من عقابه، ورجائهم لثوابه، لأنّه - وحده - الذي يملك كلّ وجودهم، وهو الذي يملك لهم الضرّ والنفع في كلّ أمورهم.
يا من له الأسماء الحسنى التي تنفتح معانيها على أشرف المعاني، وتتحرّك مداليلها في أفضل صفات الكمال والجلال، مما يجعل عباده منفتحين على كلّ معاني الرحمة واللطف والعفو والمغفرة، فتتيح لهم أن يتوسلوا إليه بها من خلال كلّ الإيحاءات الروحية التي يتطلعون فيها إلى عفوه وغفرانه.
أسألك العفو عن ذنوبي، والغفران لها، فلا يبقى لها أيّ أثر سلبي على دنياي وآخرتي، بما قد ينتج عنها غضبك وسخطك.. إنّني لا أطلب ذلك - من شدة الخوف منك - من خلال أيّة حالةٍ ذاتية، فلست في موقع البراءة لتكون براءتي حُجّة لي في موقفي أمامك، فقد أنذرت وأعذرت، فلم أتحرك على أساس وعي إنذارك وإعذارك، ولست في موقع القوّة الذاتية التي أملك فيها الانتصار لنفسي، وهل يملك المخلوق القوة أمام خالقه، ولا قوة له إلا به ومنه، ولست في موقع القدرة على الفرار لأفرّ من عقابك إلى ملجأ أمين.
ولكنّي أطلب منك إقالتي من عثرتي، فأنا - هنا - في موقف الاستقالة من ذنوبي ومعتذراً إليك، متنصلاً منها بالتوبة إليك، فقد بدأت أحسّ بالهلاك يطبق على حياتي من خلالها، فقد أحاطت بي من كلّ جانب بحيث فرضت عليّ حصاراً شاملاً في موقفي أمامك.
وأنا - هنا - يا ربّ ألجأ إليك فارّاً منها فتُب عليّ، متعوذاً بك فأعذني من نتائجها، مستجيراً بك من سلبياتها التي قد توقعني في نطاق غضبك، فلا تخذلني في استجارتي بك، معتصماً بحبلك المتين فلا تسلمني للهلاك، داعياً لك في ابتهالاتي الروحية، وعبوديتي الخالصة، فاستجب لي دعائي ولا تدعني - في ردّك لي - في موقف الإنسان الخائب الذي لم يحصل على ما يريد، ولم يصل إلى ما يطلب من آماله وأحلامه.
* * *
دَعَوْتُكَ - يا رَبِّ - مِسْكيناً مُسْتَكيناً، مُشْفِقاً خائِفاً، وَجِلاً فَقيراً، مُضْطَرّاً إِلَيْكَ.
أَشْكو إِلَيْكَ - يا إِلهي - ضَعْفَ نَفْسي عَنِ الْمُسارَعَةِ فيما وَعَدْتَهُ أَوْلِياءَكَ، وَالْمُجانَبَةِ عَمّا حَذَّرْتَهُ أَعْداءَكَ، وَكَثْرَةَ هُمومي، وَوَسْوَسَةَ نَفْسي.
إِلهي لَمْ تَفْضَحْني بِسَريرَتي، وَلَمْ تُهْلِكْني بِجَريرَتي، أَدْعوكَ فَتُجيبُني، وَإِنْ كُنْتُ بَطيئاً حينَ تَدْعوني، وَأَسْأَلُكَ كُلَّما شِئْتُ مِنْ حَوائِجي، وَحَيْثُ ما كُنْتُ وَضَعْتُ عِنْدَكَ سِرّي، فَلا أَدْعُو سِواكَ، وَلا أَرْجو غَيْرَكَ.
لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، تَسْمَعُ مَنْ شَكا إِلَيْكَ، وَتَلْقى مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ، وَتُخَلِّصُ مَنِ اعْتَصَمَ بِكَ، وَتُفَرِّجُ عَمَّنْ لاذَ بِكَ.
إِلهي فَلا تَحْرِمْني خَيْرَ الاْخِرَةِ وَالأولى لِقِلَّةِ شُكْري، وَاغْفِرْ لي ما تَعْلَمُ مِنْ ذُنوبي، إِنْ تُعَذِّبْ فَأَنَا الظّالِمُ الْمُفَرِّطُ، الْمُضَيِّعُ الاْثمُ، الْمُقَصِّرُ الْمُضَجِّعُ، الْمُغْفِلُ حَظَّ نَفْسي، وَإِنْ تَغْفِرْ فَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمينَ.
* * *
يا من أدعوه فيجيبني
يا ربّ، أنا هنا في موقف الداعي من موقع المسكنة المعبِّرة عن الحاجة إليك، والاستكانة الموحبة بالتذلّل لك، والخوف الذي يجعلني أرتجف رعباً أمامك ووجلاً منك، والفقر الذي أحسّ معه بحاجة وجودي إليك، والاضطرار الذي يسلمني إلى الالتجاء إليك، فلا حلّ لكل مشاكلي وأوضاعي إلا عندك.
إنّ مشكلتي الكبرى هي هذا الضعف النفسي الذي يتجه بي إلى الإهمال لكلّ مسؤولياتي تجاهك في طاعتي لأوامرك ونواهيك، والوقوف موقف اللامبالاة أمام الثواب الذي وعدته لأوليائك المتّقين، فلا تتحرك نفسي للمسارعة للحصول على ذلك، أو العقاب الذي حذرته أعداءك المنحرفين فتتحرك نحو الأعمال التي قد تؤدّي إلى الوقوع تحت تأثير سخطك وعقابك، وقضيّتي التي أتطلع إليها الخلاص من الهموم الكثيرة التي تدفعني إلى الإحساس بثقل الحياة الشعوري والعملي عليّ، ممّا يعطل مبادراتي في كثير من اهتماماتي المادية أو المعنوية، ثم التحرر من وسوسة النفس التي يثيرها الوسواس الخناس في أفكاري المضطربة، ومشاعري الملتهبة، فأفقد حالة الطمأنينة الروحية، والاستقرار الفكري، ووضوح الرؤية للأشياء، فأقع تحت تأثير أفكار القلق والحيرة والضياع التي قد تقودني إلى حالةٍ من حالات التمزّق النفسي.
يا ربّ، ماذا أعدد أو أذكر من ألطافك، فقد كنت أعيش خبث السريرة في كثير من الأمور المتعلقة بحياتي مع الناس وبموقفي منك، وكنت المطلّلع عليها دون الآخرين.
فلم تكشف سرّها لهم ولم تفضحني عندهم، وقد مارست الذنب أكثر من مرة فعصيتك في الصغير منه والكبير، وأنت القادر على معاقبتي في الدنيا بإهلاكي فأمهلت وأبقيت.
كنت أدعوك في حاجاتي الكثيرة، وأسألك في آلامي لتخففها عنّي أو لتزيلها، وفي أحلامي لتحققها، فكنت - في ذلك كلّه - مجيباً للدعاء، بالرغم من أنّي كنت البطيء في استجابتي لك إذا دعوتني لامتثال أوامرك ونواهيك.
يبقى في روحي وعقلي السؤال تلو السؤال في حوائجي للدنيا والآخرة من دون أن أشعر بأيّ حاجزٍ يحجزني عنك، حتى ذنوبي التي أثقلت وجودي وعلاقتي بك.
وترهقني أسراري الكامنة في صدري في حاجةٍ نفسية إلى أن أتحدث بها لأحد، فلا أجد الذين يحفظونه ويكتمونه ولا يستغلون سلبياته للإضرار بي، ولكنّي أفتح كلّ سري لك - وأنت المطلع على كلّ خفاياه - فأحس بالطمأنينة والسكينة والاستقرار النفسي لأني وضعته في عهدة الربّ الذي يكتم على الإنسان سرّه ويعالج كلّ خفاياه القلقة برحمته.
* * *
يا ربّ، لبيك لبيك.. إنني هنا في موقع الإقامة على طاعتك من عمق قرار الطاعة في وجودي، والإجابة لك في وجداني في النداء الابتهالي، فلا تكون الإجابة واحدة، ولكنّها إجابة بعد إجابة وطاعة بعد أخرى في إعلان المحبة العميقة في قلبي، والإخلاص الصافي في روحي، لأنّ معرفتي بعظمة الربوبية في ذاتك، وبلطف النعمة في فضلك، تقودني إليك وتربطني بك، وتفتح لي كلّ الآفاق الرحبة عليك، فأنت الربّ الذي يلجأ إليك الشاكي لهمومه وآلامه، فتسمعه بحنان وعطف، ويتوكّل عليك الحائر أمام مخيف الحاضر والمستقبل، فتلقاه باللطف والرحمة، ويعتصم بك الخائف فتخلصه من كلّ مخوف ليجد الأمن عندك، ويلوذ بك المهموم والمكروب فتفرج عنه.
يا إلهي، لقد أنعمت عليَّ فلم أشكر، فلا تنزل بي الحرمان من خير الدنيا والآخرة عقوبةً لي على كفران النعمة، بل اغفر لي ذنوبي التي تعلمها، فهذه هي رغبتي إليك ورجائي لك، وبيدك عذابي وثوابي، فإن عذبت فإنّي أستحقّ ذلك لأنّي الظالم لنفسي ولربّي، المفرّط في حقّ ذاتي بالتواني في الطاعة، المهمل لمسؤولياتي والمضيع لها، الآثم في ارتكاب المعاصي، المقصّر في واجباتي ومسؤولياتي، المغفل حظّ نفسي الذي يتمثل بالإيمان بك والاستقامة في دربك القويم، وإن غفرت لي، فلستُ أوّل من غفرت له، وأنت أرحم الراحمين.
* * *
دعاؤه(ع) في الإلحاح على الله تعالى

يا أَللّهُ الَّذي لا يَخْفى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَكَيْفَ يَخْفى عَليْكَ يا إِلهي ما أَنْتَ خَلَقْتَهُ؟ وَكَيْفَ لا تُحْصي ما أَنْتَ صَنَعْتَهُ؟ أَوْ كَيْفَ يَغيبُ عَنْكَ ما أَنْتَ تُدَبِّرُهُ؟ أَوْ كَيْفَ يَسْتَطيعُ أَنْ يَهْرُبَ مِنْكَ مَنْ لا حَياةَ لَهُ إِلاّ بِرِزْقِكَ؟ أَوْ كَيْفَ يَنْجُو مِنْكَ مَنْ لا مَذْهَبَ لَهُ في غَيْرِ مُلْكِكَ؟
سُبْحانَكَ أَخْشى خَلْقِكَ لَكَ أَعْلَمُهُمْ بِكَ، وَأَخْضَعُهُمْ لَكَ أَعْمَلُهُمْ بِطاعَتِكَ، وَأَهْوَنُهُمْ عَلَيْكَ مَنْ أَنْتَ تَرْزُقُهُ وَهُوَ يَعْبُدُ غَيْرَكَ.
سُبْحانَكَ لا يَنْقُصُ سُلْطانَكَ مَنْ أَشْرَكَ بِكَ وَكَذَّبَ رُسُلَكَ، وَلَيْسَ يَسْتَطيعُ مَنْ كَرِهَ قَضاءَكَ أَنْ يَرُدَّ أَمْرَكَ، وَلا يَمْتَنِعُ مِنْكَ مَنْ كَذَّبَ بِقُدْرَتِكَ، وَلا يَفوتُكَ مَنْ عَبَدَ غَيْرَكَ، وَلا يُعَمَّرُ فِي الدُّنيا مَنْ كَرِهَ لِقاءَكَ.
سُبْحانَكَ ما أَعْظَمَ شَأْنَكَ، وَأقْهَرَ سُلْطانَكَ، وَأشَدَّ قُوَّتَكَ، وَأَنْفَذَ أَمْرَكَ! سُبْحانَكَ قَضَيْتَ عَلى جَميعِ خَلْقِكَ الْمَوْتَ، مَنْ وَحَّدَكَ وَمَنْ كَفَرَ بِكَ، وَكُلٌّ ذائِقٌ الْمَوتَ، وَكُلٌّ صائِرٌ إِلَيْكَ.
فَتَبارَكْتَ وَتَعالَيْتَ، لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ وَحْدَكَ لا شَريكَ لَكَ، آمَنْتُ بِكَ، وَصَدَّقْتُ رُسُلَكَ، وَقَبِلْتُ كِتابَكَ، وَكَفَرْتُ بِكُلِّ مَعْبُود غَيْرِكَ، وَبَرِئْتُ مِمَّنْ عَبَدَ سِواكَ.
اللّهُمَّ إِنّي أُصْبِحُ وَأُمْسي مُسْتَقِلاًّ لِعَمَلي، مُعْتَرِفاً بِذَنْبي، مُقِرّاً بِخَطاياىَ.
أَنَا بِإِسْرافي عَلى نَفسي ذَليلٌ، عَمَلي أَهْلَكَني، وَهَواىَ أَرْداني، وَشَهَواتي حَرَمَتْني.
فَأَسْأَلُكَ يا مَولاىَ سُؤالَ مَنْ نَفْسُهُ لاهِيَةٌ لِطُولِ أَمَلِهِ، وَبَدَنُهُ غافِلٌ لِسُكُونِ عُرُوقِهِ، وَقَلْبُهُ مَفْتونٌ بِكَثْرَةِ النِّعَمِ عَلَيْهِ، وَفِكْرُهُ قَليلٌ لِما هُوَ صائِرٌ إِلَيْهِ، سُؤالَ مَنْ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الاْمَلُ، وَفَتَنَهُ الْهَوى، وَاسْتَمْكَنَتْ مِنْهُ الدُّنْيا، وَأَظَلَّهُ الاْجَلُ، سُؤالَ مَنِ اسْتَكْثَرَ ذُنُوبَهُ، وَاعْتَرَفَ بِخَطيئَتِهِ، سُؤالَ مَنْ لا رَبَّ لَهُ غَيْرُكَ، وَلا وَلِيَّ لَهُ دُونَكَ، وَلا مُنْقِذَ لَهُ مِنْكَ، وَلا مَلْجَأَ لَهُ مِنْكَ إِلاّ إِلَيْكَ.
إِلهي أَسْأَلُكَ بِحَقِّكَ الْواجِبِ عَلى جَميعِ خَلْقِكَ، وَبِاسْمِكَ الْعَظيمِ، الَّذي أَمَرْتَ رَسُولَكَ أَنْ يُسَبِّحَكَ بِهِ، وَبِجَلالِ وَجْهِكَ الْكَريمِ الَّذي لا يَبْلى، وَلا يَتَغَيَّرُ، وَلا يَحُولُ، وَلايَفْنى، أَنْ تُصَلِّىَ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَأَنْ تُغْنِيَني عَنْ كُلِّ شَىْء بِعِبادَتِكَ، وَأَنْ تُسَلِّىَ نَفْسي عَنِ الدُّنْيا بِمَخَافَتِكَ، وَأَنْ تُثْنِيَني بِالْكَثيرِ مِنْ كَرامَتِكَ بِرَحْمَتِكَ.
فَإِلَيْكَ أَفِرُّ وَمِنْكَ أَخافُ، وَبِكَ أَسْتَغيثُ، وَإِيّاكَ أَرْجُو، وَلَكَ أَدْعُو، وَإِلَيْكَ أَلْجَأُ، وَبِكَ أَثِقُ، وَإِيِّاكَ أَسْتَعينُ، وَبِكَ أُؤْمِنُ، وَعَلَيْكَ أَتَوَكَّلُ، وَعَلى جُودِكَ وَكَرَمِكَ أَتَّكِلُ.
* * *
سرّ التذلّل إلى الله تعالى
للعلاقة بالله معنى في الإيمان يختلف عن العلاقة مع الناس، لأنّ الله هو سرّ وجود الإنسان في خلقه، وفي امتداده بالنّعم التي يغدقها عليه، فليست هناك أيّة فاصلةٍ بين الإنسان وربّه، بل هو وجود مرتبط بإرادةٍ ورحمةٍ ونعمةٍ ولطفٍ عميم، الأمر الذي يوحي بأنّ الإنسان في كلّ فكره وروحه وحياته مشدود إلى الله في حاجاته كما هو مشدود إليه في وجوده، بحيث يتمثل السؤال في ذلك كلّه على مدى اللحظات المتتابعة كما لو كانت كلّ حاجةٍ فيه تنطق بلسانها بالدعاء، ولذلك كان الإلحاح على الله - وهو عنوان هذا الدعاء - تعبيراً عن الإلحاح الوجودي بالطلب إليه من موقع كل عضوٍ في حاجته، وكل طاقةٍ في حركيتها، كما كان حركةً - في الداخل - للإنسان نحو الإحساس بالقوة في الارتباط بالله واللجوء إليه في كلّ أموره.
ولذلك، فإنّ هذا الابتهال الممتد في إلحاحه على الله، يمثّل القوة بالله من موقع الإحساس بالضعف البشري، والعزّة الذاتية في الانفتاح على التذلّل إلى الله، وذلك هو سرّ علاقة الإنسان بالله، فهي ترتفع في روحانيتها كلما تواضع له، وتشعر بالعزّة في مواقفها ومواقعها، كلما ذل أمامه..
أما العلاقة بالناس فهي علاقة تحكمها التعددية التي ينفصل بها وجود عن وجود، ويستقلّ بها إنسان عن إنسان، لتكون الرابطة بينهما محكومةً لضوابط من الفكر والسلوك تحدد لكلّ منهما طريقته في العلاقة مع الآخر في مفاهيم العزّة والكرامة، وفي حركة الحاجة لكلّ واحد منهما إلى الآخر، مما يجعل الإلحاح موجباً للسأم والملل والسقوط الإنساني والتعقيد في العلاقات من الناحية النفسية من خلال النتائج السلبية للإلحاح على الطرّف الآخر.
* * *
مفاهيم الدعاء
وفي هذا الدعاء حديث مع الله عن سعة علمه لما في الأرض والسماء من الموجودات، لأنّه الخالق لها والصانع لوجودها، مما يجعل من معرفته الشاملة لها أمراً طبيعياً، لأنّ الخلق يفرض الإحاطة بالمخلوق، فلا يغيب عنه منها شيء، وهو المحيط بكلّ حركة هذه الموجودات، فلا مجال لأنّ يهرب واحد منها من سلطته، لأنّ حياتها مرتبطة بإرادته وبرزقه، ولأنّ الكون كلّه ملكه، فإلى أين يذهب الهاربون منه.
ويتابع الدعاء، أنّ المخلوق كلّما ازداد معرفة بالله كلما ازداد خشية منه لاطّلاعه على أسرار العظمة في ذاته، وهذا ما عبرت عنه الآية الكريمة: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر:28]، وكلما ازداد طاعة لله في انفعاله بالعبودية الإنسانية أمام الربوبية الإلهية، عبّر عن الخضوع له أكثر، لأنّ ذلك هو التجسيد العملي لهذه الحالة الشعورية، وأنّ الذي يعبد غير الله في الوقت الذي لا يملك فيه أي أساس لاستمرار حياته إلا برزق الله، لا وزن له عند الله، لأنّ قيمة الإنسان عند ربه تكون بمقدار طاعته له، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وأنّ الذي يشرك بعبادة الله غيره ويكذّب رسله لا ينقص من ملكه شيئاً، وأنّ الذي يكره قضاء الله لا يملك أن يردّ أمره، وأنّ الذي يكذب بقدرة الله لا يستطيع التمرّد عليه، وأنّ الذي يعبد إلهاً غيره لا يفوته لو أراد الهرب منه، وأنّ الذي يكره لقاء ربّه لا يستطيع الخلود في الدنيا، فإنّ الله فرض الموت على المؤمنين من خلقه والكافرين بّه، فلا أحد إلا وهو خاضع لهذا القضاء المحتوم الذي لا بدّ منه.
وينطلق الدعاء ابتهالاً في التعبير عن الإيمان بالوحدانية والتصديق بالرسل كلهم، والقبول بالوحي الكتابي، والكفر بكلّ الآلهة المدّعاة التي لا تستحقّ العبودية من الناس الآخرين والبراءة من كلّ العابدين لغيره.
ويتحرك الدعاء اعترافاً، فإنّ الإنسان المؤمن بربّه يصبح ويمسي فيرى عمله صغيراً قليلاً في مقابل ما يستحقّه الله منه من العمل بالطاعة، ويلتفت إلى ذنبه الذي يتحرّك في حياته، في أعماله وأقواله وعلاقاته، فيقدم اعترافه به، ويقرّ بكلّ خطاياه التي أسرف بها على نفسه، ويشعر بالذلّ الساحق في شخصية الإنسان المسحوق من خلال هذا الانحراف العملي الذي تجاوز الحدّ الطبيعي للأشياء، مما يؤدّي بعمله إلى إهلاكه، وبالهوى النفسي المسيطرة عليه إلى وقوعه في قبضة الموت الروحي، وبالشهوات الجامحة في غرائزه التي حرمته من الحصول على مواقع السموّ في حياته.
ويبدأ السؤال - بعد كلّ العرض الابتهالي والاعتراف الإنساني - ولكن ما هي شخصية هذا السائل، وما هي الروحية التي يقدم بها مسألته؟
إنّها شخصية الإنسان الذي يعيش في نفسٍ لاهيةٍ عن مصيرها من خلال طول الأمل الذي ينسى الإنسان معه الآخرة، وفي جسدٍ خاملٍ في حركته وأحاسيسه، غافلٍ عن حيويته، بحيث يميل إلى الراحة والفراغ واسترخاء الأعصاب، وفي قلبٍ يعيش الفتنة والاستهتار بالمسؤولية الجادة في قضاياه من خلال تكاثر النعم التي يعيش - من خلالها - في غيبوبة اللذة واستغراق الشهوة، وفي فكرٍ لا يشغل باله في المصير الأبدي الذي ينتهي إليه في الآخرة، بل يتحرك في كلّ شغله بالقضايا الصغيرة المتحركة في جزئيات حياته اليومية مما قد لا يؤخّر ولا يقدّم في النتائج الكبرى، فإذا التفتّ إلى مسألة المصير فإنّ التفاتاته لا تثّمل إلا القليل من اهتماماته.
إنّه الإنسان الذي سيطر عليه الأمل المتجدد في الحياة حتى نسي الموت، وافتتن بالهوى الغريزي حتى ابتعد عن عقله، واستغرقته الدنيا بآمالها وأحلامها وشهواتها ولذاتها وأطماعها حتى نسي الآخرة وبدأ الأجل يظلّه حتى يكاد يلامس نهاية عمره.
ولكنّه - مع ذلك - التفت إلى ما أسلف من الذنوب فرآها كثيرة كثيرة، ونظر إلى خطاياه الماضية وإلى نتائجها السلبية على موقعه من ربّه، فاعترف بها - في مقام التوبة - موقناً بأنّ الله - وحده - هو ربّه، لا غيره، وأنّه هو - وحده - الولي، لا سواه، وأنّه هو - وحده - المنقذ له من عذابه، وأنّه هو - وحده - الذي لا ملجأ له منه إلا إليه.
هذه هي شخصية السائل، وهذه هي روحيته في موقفه العبودي أمام العظمة الربوبية، فكيف يتحرك السؤال؟
إنّه السؤال المتوسل بالحقّ الإلهي الواجب على الخلائق كلّهم، وبالاسم العظيم الأعظم الذي أراد الله للرسول أن يسبّحه به تعظيماً، لأنّه يختزن الكثير من أسرار ذاته بما يقرّبه إليه، وبالجلال السامي الرفيع في وجهه الكريم المعبّر عن ذاته المقدسة الذي لا ينتقل من حال إلى حال ولا يزول عمّا هو عليه، ولا يفنى ولا يبلى، ولكنّه يبقى في معناه أبدياً سرمدياً في الوجود الذي لا مجال فيه للفناء عمقاً وامتداداً، فهو هو في سرّ ذاته لا معنى له غير نفسه.
وينطلق السؤال بالصلاة على محمّد وآل محمّد الذين يمثلون عباد الله المكرمين الذين اختصّهم الله بكرامته، وأحاطهم بعنايته، وقرّبهم إليه، ومنحهم الشفاعة لمن يريد العفو عنه، وبالطلب إليه أن يجعل العبادة مصدر غنًى عن كلّ شيء منه خلال ما تمثله من ارتباط الإنسان بربّه وانفتاحه على مواقع كرمه ورحمته، وأن يجعل في مخافته التي تبعده عن كلّ ما يبعده عن الله، وتقرّبه إلى كلّ ما يقرّبه إليه بالرغم من رغبته فيه ذاتياً أو انصرافه عنه نفسياً، السلوة عن الدنيا حتى لا تمثل لديه شيئاً مما يعيش الحرمان فيه، لأنّ الحرمان هو الآخرة وفقدان رضوان الله، وأن يصرفه عن موقعه الذي هو فيه، حاصلاً على الكثير من كرامة الله برحمته التي هي مصدر الخير للإنسان.
وهكذا يزداد السؤال إلحاحاً، فإلى الله الفرار من كلّ سوء، ومنه الخوف من العذاب، وبه الاستغاثة من كلّ شدة، وهو المرجوّ لكلّ خير، وهو المدعوّ في كلّ حاجة، والملجأ من كلّ مخوف، وبه الثقة والاستعانة والإيمان، وعليه التوكل، وعلى جوده وكرمه الاتكال.
وهذا هو الجوّ الروحاني الرائع الذي يعيش الإنسان في بركاته الكثير من روحية القرب إلى الله والارتباط به والانفتاح على كلّ خير عنده، ليعيش الإنسان في فيضان السعادة الروحية التي تفيض عليه بالمحبّة الإلهية.
* * *
يا أَللّهُ الَّذي لا يَخْفى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَكَيْفَ يَخْفى عَليْكَ يا إِلهي ما أَنْتَ خَلَقْتَهُ؟ وَكَيْفَ لا تُحْصي ما أَنْتَ صَنَعْتَهُ؟ أَوْ كَيْفَ يَغيبُ عَنْكَ ما أَنْتَ تُدَبِّرُهُ؟ أَوْ كَيْفَ يَسْتَطيعُ أَنْ يَهْرُبَ مِنْكَ مَنْ لا حَياةَ لَهُ إِلاّ بِرِزْقِكَ؟ أَوْ كَيْفَ يَنْجُو مِنْكَ مَنْ لا مَذْهَبَ لَهُ في غَيْرِ مُلْكِكَ؟
* * *
إلهي كيف يخفى عليك ما أنتَ خلقته؟
يا ربّ، يا من أحاط بكلّ شيءٍ علمه، يا من يملك مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو، فلا يخفى عليك شيء في الأرض والسماء، ساكنه ومتحركه، ومقيمه وساخصه، وما علا في الهواء ولا كنّ تحت الثرى، وأنّ الخالق للوجود كلّه، فكيف يغيب عنك علمه، وأنت الصانع للمخلوقات كلّها، فهل تعجز عن إحصاء عددها، وأنت المدبّر لكلّ شيء، فكيف لا يحضر عندك ما يحيط به، وأنت سرّ الحياة للموجودات، فكيف يمكن أن يهرب منك أحد منها، وأنت المالك لكلّ مذاهب الأرض والسماء، فإلى أين يذهب الذين يحاولون النجاة من غضبك، وهل يهربون من ملكك إلا إلى ملكك؟!!
* * *
سُبْحانَكَ أَخْشى خَلْقِكَ لَكَ أَعْلَمُهُمْ بِكَ، وَأَخْضَعُهُمْ لَكَ أَعْمَلُهُمْ بِطاعَتِكَ، وَأَهْوَنُهُمْ عَلَيْكَ مَنْ أَنْتَ تَرْزُقُهُ وَهُوَ يَعْبُدُ غَيْرَكَ.
سُبْحانَكَ لا يَنْقُصُ سُلْطانَكَ مَنْ أَشْرَكَ بِكَ وَكَذَّبَ رُسُلَكَ، وَلَيْسَ يَسْتَطيعُ مَنْ كَرِهَ قَضاءَكَ أَنْ يَرُدَّ أَمْرَكَ، وَلا يَمْتَنِعُ مِنْكَ مَنْ كَذَّبَ بِقُدْرَتِكَ، وَلا يَفوتُكَ مَنْ عَبَدَ غَيْرَكَ، وَلا يُعَمَّرُ فِي الدُّنيا مَنْ كَرِهَ لِقاءَكَ.
* * *
سبحانك أخشى خلقك لك أعلَمَهُم بك
يا ربّ، إنّني هنا لأعيش في وجدان روحي، الذي لا يتصورك إلا منزّهاً عن كلّ الصفات التي لا تليق بك، ومتصفاً بكلّ صفات العظمة التي هي سرّ ذاتك، وذلك هو ما يتمثل في حركة خلقك في ارتباطهم وعلاقتهم بك.
فإذا نظرنا إليهم في دائرة المعرفة، فإننا نرى أن الإنسان كلما عرف ربّه أكثر من عظمته ونعمته عاش الخشية منه أكثر، لأنّ عقله إذا امتلأ به عرف مقامه في مجال الطاعة والعبودية والنتائج السلبية أو الإيجابية من خلال طاعته ومعصيته، وابتعد بذلك عن حالة الاستهانة واللامبالاة به، لأنّ العظيم يفرض ذاته على كلّ الآخرين في آثار عظمته على نفسه وحياته، وهذا ما توحي به الآية الكريمة: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر:28]، والحديث المأثور: "إنّ أنجاكم من عذاب الله أشدّكُم خشيةً لله"(1)، وإذا التفتنا إليهم في دائرة العمل، فإنّنا نرى النماذج الإنسانية التي ازدادت في الطاعة حتى بلغت القمة في ذلك، فنرى أنهم الأشدّ خضوعاً لله، لأنّ ذلك لن يكون إلا عن الإحساس بالرهبة والانفتاح على الرغبة، الأمر الذي يتحسس فيه الإنسان حاجته إليه بما يؤكد انحناء إرادته له، وذوبانه فيه واستسلامه له، مما يزيد في الخشوع والخضوع، وهذا ما عبّر عنه الله سبحانه في حديثه عن أنبيائه: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
وإذا رأينا المسألة في الدائرة العملية السلبية، فإنّنا نرى الذي أنعم الله عليه بنعمه الواسعة ولكنّه ابتعد عن عبادة الله وعبد غيره، استكباراً وتمرداً واغتراراً بنفسه، وهو - في واقع نفسه - الأهون عند الله والأكثر حقارة، لأنّه لا يعرف دوره وما فيه صلاحه وخلاصه، فلا وعي له لذاته ولربه، فلا قيمة له عند ربّه لأنّه لا يتعلق بأيّ شيء من أساس القيمة التي ترفع منزلته عنده أو تقربه إليه، كما ورد في قوله تعالى عن مثل هذا: { فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:105].
يا ربّ، سبحانك، لك الغنى كلّه، ولك الأمر كلّه والقدرة كلّها، وبيدك الحياة والموت لكلّ عبادك، سلطانك ثابت لا يزول ودائم لا يفنى، لا ينقص منه شيء بما يشرك به المشركون في عبادتهم لغيرك، أو يعصي به العاصون أمرك ونهيك، أو يكذب به المكذبون برسلك، وبقضاؤك حتم لا يهتزّ، وأمرك حاسم لا يردّ، فلا يملك الكارهون له أن يرده أن يبتعدوا عن نتائجه، وقدرتك قاهرة فوق عبادك، فلا يستطيع المكذبون بها أن يمتنعوا منك بما يملكون من أسباب القدرة، لأنّك أنت الذي أعطيتهم ذلك، وأنت القادر على سلبها منهم، وأنت الذي تملك كلّ وجود عبادك، فلا مجال لأحد ممن يعبد غيرك أن يهرب منك، أو يفوتك في هربه، فأنت المسيطر على الأمر كلّه، والإنسان كلّه، وأنت الذي تملك أعمال عبادك، وتحدد آجالهم، فلا يستطيع أحد أن يمتد في عمره برغبته وإرادته حتى لو كره لقاءك والوفادة عليك.
سُبْحانَكَ ما أَعْظَمَ شَأْنَكَ، وَأقْهَرَ سُلْطانَكَ، وَأشَدَّ قُوَّتَكَ، وَأَنْفَذَ أَمْرَكَ! سُبْحانَكَ قَضَيْتَ عَلى جَميعِ خَلْقِكَ الْمَوْتَ، مَنْ وَحَّدَكَ وَمَنْ كَفَرَ بِكَ، وَكُلٌّ ذائِقٌ الْمَوتَ، وَكُلٌّ صائِرٌ إِلَيْكَ.
فَتَبارَكْتَ وَتَعالَيْتَ، لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ وَحْدَكَ لا شَريكَ لَكَ، آمَنْتُ بِكَ، وَصَدَّقْتُ رُسُلَكَ، وَقَبِلْتُ كِتابَكَ، وَكَفَرْتُ بِكُلِّ مَعْبُود غَيْرِكَ، وَبَرِئْتُ مِمَّنْ عَبَدَ سِواكَ.
* * *
سبحانك ما أعظم شأنك.. آمنت بك
يا ربّ، ويبقى إحساسي بعظمتك في ذاتك تسبيحاً يتردد على لساني ويتحرك في عقلي، فيسبحك في لك شأنك الذي هو الأعظم من كلّ شأن، وفي كلّ سلطانك الذي لا يساويه أيّ سلطان آخر في قاهريته، وفي قوتك التي لا أشد منها، وفي أمرك الذي ينفذ في كل قضائك وقدرك، فلا أمر أنفذ منه، وفي تقديرك الموت على كلّ خلقك من الموحدين والكافرين، فلا يملك أحد منهم أن يبتعد عنه أو يفرّ منه، فكلّ واحد منهم ذائقة وصائر إليك في حركة الموت الذي ينتقل به من الدنيا إلى الاخرة.
يا ربّ، ومنك البركة كلّها في كثيرة الخير وزيادته ونموّه ودوامه، وامتدادها في حياة عبادك وإشرافها على كلّ مواقع الصلاح عندهم، ولك العلوّ الذاتي في ارتفاع ذاتك عن كلّ شريك أو مماثل أو مضادّ، فإنت الواحد الردّ في ذاتك وصفاتك وأحوالك وأفعالك لا شريك لك، لأنّ الكلّ مخلوقون لك، وخاضعون لإرادتك، وأنا هنا - يا رب - أقف أمامك موقف المؤمن بك وبتوحيدك، المصدّق برسلك ورسالاتك التي بلّغوها، والمنفتح بالإيمان على كتابك الذي أنزلته نوراً وهدىً وشريعةً لكل عبادك، حيث لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والكافر بكلّ الآلهة التي اصطنعها الكافرون لأنفسهم ليعبدوها جهلاً وتخلفاً عن التوحيد الحق، والمتبرئ من كلّ الناس الذين يعبدونهم من دونك، لأنّ إيماني - يا ربّ - خالص في معنى التوحيد في العبودية لك، مما يجعل علاقتي بالمخلوقين وبالحياة كلّها منطلقة من سرّ هذا الإيمان ومعناه وامتداده في عقلي وقلبي وشعوري وحركتي في الواقع كلّه.
* * *
اللّهُمَّ إِنّي أُصْبِحُ وَأُمْسي مُسْتَقِلاًّ لِعَمَلي، مُعْتَرِفاً بِذَنْبي، مُقِرّاً بِخَطاياىَ.
أَنَا بِإِسْرافي عَلى نَفسي ذَليلٌ، عَمَلي أَهْلَكَني، وَهَوايَ أَرْداني، وَشَهَواتي حَرَمَتْني.
فَأَسْأَلُكَ يا مَولاىَ سُؤالَ مَنْ نَفْسُهُ لاهِيَةٌ لِطُولِ أَمَلِهِ، وَبَدَنُهُ غافِلٌ لِسُكُونِ عُرُوقِهِ، وَقَلْبُهُ مَفْتونٌ بِكَثْرَةِ النِّعَمِ عَلَيْهِ، وَفِكْرُهُ قَليلٌ لِما هُوَ صائِرٌ إِلَيْهِ، سُؤالَ مَنْ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الاْمَلُ، وَفَتَنَهُ الْهَوى، وَاسْتَمْكَنَتْ مِنْهُ الدُّنْيا، وَأَظَلَّهُ الاْجَلُ، سُؤالَ مَنِ اسْتَكْثَرَ ذُنُوبَهُ، وَاعْتَرَفَ بِخَطيئَتِهِ، سُؤالَ مَنْ لا رَبَّ لَهُ غَيْرُكَ، وَلا وَلِيَّ لَهُ دُونَكَ، وَلا مُنْقِذَ لَهُ مِنْكَ، وَلا مَلْجَأَ لَهُ مِنْكَ إِلاّ إِلَيْكَ.
* * *
اللهم أسألك سؤال من استكثر ذنوبه
يا ربّ، أنا الإنسان الذي يتحسس في عقله وشعوره عظمة حقك عليه في طاعتك والتحرك في خط عبوديتك، فيشعر بأنّ عليه أن يجعل كلّ عمره مستغرقاً بعبادتك، مشغولاً بامتثال أوامرك ونواهيك، لذلك فإنّي لا أنظر - في صباحي ومسائي - بعين الرضا إلى عملي الذي أحركه في اتجاه طاعتك، إذ أراه قليلاً قليلاً لا يفي ببعض حقّك، لا سيّما أنّ ذنبي الذي أعترف به وخطأي الذي أقرّ به يحيط بكلّ حياتي، مما يجعل مني الإنسان الذي يقف موقف العاصي أكثر مما هو في موقف المطيع، فقد أسرفت على نفسي بالخطيئة، وتجاوزت الحدود المعقولة في ذلك، مما أوقعني في موقع الذلة بين يديك، وقد أهلكني عملي، وعرّضني - في نتائجه السلبية - للعذاب، وقد أسقطني هوى النفس الأمارة بالسوء، المنحرف عن خطّ طاعتك ورضاك، فأرداني في مواقع الهلاك، وبقيت شهواتي المندفعة في إيحاءاتها وتوتّراتها تفرض نفسها عليّ في الحلال والحرام، فتحرمني من الحصول على رضاك.
وها أنا في موقف السؤال، من موقع ضعفٍ ذاتي، فلا أطمع في الحصول على نتائج كبيرة من خلال عملي وإسرافي على نفسي اللاهية عن مستقبلها، في ما تقبل عليه من أوضاع الآخرة، الغافلة عن نهاية الحياة بالموت، انطلاقاً من طول الأمر الذي يمتد بأحلام البقاء حتى ينسى الآخرة.
وهكذا أجد بدني ساكناً لا يتحرك في بذل الجهد في عبادتك في ميله إلى الاسترخاء والراحة وهدوء الأعصاب، أما قلبي، هذا الذي سيطرت الفتنة على نبضاته، فاستهتر بمسؤولياته، وأعجب بنفسه من خلال النعم الكثيرة المتوافرة عنده، فقد شغله ذلك عن الانفتاح على آفاق حبك ورضاك، وأبعده عن التفكير بالنتائج التي يختزنها مستقبل عمره في الآخرة وبالمصير الذي يصل إليه ويُقبل عليه.
أنا هنا في موقف السؤال، ولكن أيّ إنسان هذا الإنسان المتمثل في وجودي، فقد استولى عليه الأمل الذي ينفتح على قضايا الدنيا وشؤونها في شهواتها ولذاتها وأطماعها، بحيث يعيش الأحلام في عالم من الخيال الواسع، فلا يقف على حدود الواقع، وأضلّه هوى النفس، وأوقعه في قبضة البلاء وفي اتجاه الانحراف، فلم يسكن إلى فكرٍ واعٍ يعرّفه نتائج عمله السلبية في دنياه وآخرته، وسيطرت عليه الدنيا بزخارفها وأوضاعها الزاهية وفتونها على هدى الصورة التي ذكرتها في كتابك في قولك تعالى: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد:20]، وخفقت فوق رأسه أجنحة الأجل الذي يمثل نهاية عمره من دون أن يستعدّ لذلك في توبته من ذنوبه، وطاعته لربّه، وأقبل عليك في حالةٍ من الرعب الروحي من خلال إحساسه بكثرة ذنوبه، واعترافه بخطيئته، معترفاً بأنّك - وحدك - الرب الذي لا ربّ له غيرك ولي له في قيامه بأمره ونصرته له دونّك، وأنّك - وحدك - المنقذ له ولا قدرة لأيّ مخلوق لإنقاذه من عذابك، وأنّك - وحدك - الملجأ الذي يلجأ إليه، حتى إنه يلجأ إليك في فراره من عقابك.
* * *
إِلهي أَسْأَلُكَ بِحَقِّكَ الْواجِبِ عَلى جَميعِ خَلْقِكَ، وَبِاسْمِكَ الْعَظيمِ، الَّذي أَمَرْتَ رَسُولَكَ أَنْ يُسَبِّحَكَ بِهِ، وَبِجَلالِ وَجْهِكَ الْكَريمِ الَّذي لا يَبْلى، وَلا يَتَغَيَّرُ، وَلا يَحُولُ، وَلايَفْنى، أَنْ تُصَلِّىَ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَأَنْ تُغْنِيَني عَنْ كُلِّ شَىْء بِعِبادَتِكَ، وَأَنْ تُسَلِّىَ نَفْسي عَنِ الدُّنْيا بِمَخَافَتِكَ، وَأَنْ تُثْنِيَني بِالْكَثيرِ مِنْ كَرامَتِكَ بِرَحْمَتِكَ.
* * *
اللهمّ إنّي أسألك أن تغنيني عن كلّ شيء بعبادتك
يا ربّ، إن لك على عبادك حقّاً واجباً في الإيمان بك والاعتراف بتوحيدك، والتصديق برسلك، والإخلاص في عبادتك، وهو الحقّ العظيم الذي يتقرب به إليك المتقربون، وإنّ لك الإسم العظيم الذي لا يعرف سرّه إلا أنت، وقد أمرت رسولك أن يسبّحك به لأنه يجمع في معناه كل معاني العظمة في معنى ذاتك، ولدلالته على تنزيهك وتقديسك عن كلّ العيوب والنقائص، وعن كلّ ما لا يتناسب مع مقام الربوبية.
وأنت - يا ربّ - في جلالك ودهك الكريم، الأبدي السرمدي الذي لا تعرض عليه الحوادث والطوارئ التي تؤدّي إلى البلى والتغيّر والتحوّل من حال إلى حال.
إنّني أسألك بحقّك واسمك وذاتك أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تمنحني الغنى عن كلّ أشياء الدنيا بما تمثله عبادتك من غنى الروح بك، وأن تحقق لي الأنس بك والسلوّ عن الدنيا كلّها بالانفتاح على خوفك في دائرة مسؤولياتي العامة والخاصة أمامك، فتزيل عني كلّ محبة للدنيا واستغراق فيها وفي شهواتها لأنّ مخافتك تشغلني عن ذلك كلّه..
وأن تصرفني عن كلّ أوضاعي المحدودة التي تستغرقني فتبعدني عنك، بما تمنحني من الكثير من كرامتك برحمتك التي تفيض على عبادك فتدخلهم في كلّ خير وبركة وتحقق لهم كلّ شفاعة ومصلحة.
* * *
فَإِلَيْكَ أَفِرُّ.وَمِنْكَ أَخافُ، وَبِكَ أَسْتَغيثُ، وَإِيّاكَ أَرْجُو، وَلَكَ أَدْعُو، وَإِلَيْكَ أَلْجَأُ، وَبِكَ أَثِقُ، وَإِيِّاكَ أَسْتَعينُ، وَبِكَ أُؤْمِنُ، وَعَلَيْكَ أَتَوَكَّلُ، وَعَلى جُودِكَ وَكَرَمِكَ أَتَّكِلُ.
اللهم إليك أفرّ، وبك أستغيث، وإيّاك أرجو:
وفي نهاية المطاف، هذا هو موقفي العبودي الخالص أمامك، فإليك - يا ربّ - الفرار والالتجاء إليك والإقبال عليك، والإعراض عن سواك في أيّة حالةٍ من الحالات، فأنت المقصد والملاذ في كلّ أموري، ومنك أخاف، لأنّك - وحدك - الذي تملك عذابي وكلّ وجودي، ولا يملك أحد من الخلق كلهم أن ينقذني منك في مواقع خوفي ولكنك تنقذني بقدرتك من كلّ مخوف.
وبك استغاثتي في حاجتي إلى النصر والمعونة، وأنت الذي أرجوه في الحصول على الإحسان والرحمة والمغفرة والسعادة في الدنيا والآخرة، وإليك أتوجه بالدعاء والسؤال في طلب نيلك وجائزتك وفضلك، وإليك اللجوء في كلّ مواقع الحاجة إلى الملجأ والملاذ، وبك الثقة في كلّ اهتماماتي في الأمور كلّها، وأنت المستعان في كلّ ما أحتاجه من المعونة، وبك أؤمن في كل موارد الإيمان ومصادره، وعليك التوكل والاعتماد في جميع ما أؤمّله من حاجات الدنيا من خلال الثقة بما عندك، واليأس عمّا في أيدي الناس، لأنّك تملك الأمر كلّه، وعلى جودك وكرمك - في كلّ مواقع الفقر والحاجة - أعتمد، لأنّك الجواد الكريم الذي لا ينقصه البذل ولا يفني خزائنه العطاء، يا أرحم الراحمين.
* * *
الهوامش:
(1)    الكافي، ج:8، ص:68، رواية:24.
دعاؤه(ع) في التذلّل لله عزّ وجلّ

رَبِّ أَفْحَمَتْني ذُنُوبي، وَانْقَطَعَتْ مَقالَتي، فَلا حُجَّةَ لي، فَأَنَا الأسيرُ بِبَلِيَّتي، الْمُرْتَهَنُ بِعَمَلي،الْمُتَرَدِّدُ في خَطيئَتي، الْمُتَحَيِّرُ عَنْ قَصْدي، الْمُنْقَطِعُ بِي.
قَدْ أَوْقَفْتُ نَفْسي مَوْقِفَ الأذِلاّءِ الْمُذْنِبينَ، مَوْقِفَ الأشْقِياءِ الْمُتَجَرِّئينَ عَلَيْكَ، الْمُسْتَخِفّينَ بِوَعْدِكَ. سُبْحانَكَ أيَّ جُرْأَةٍ اجْتَرَأْتُ عَلَيْكَ؟ وَأيَّ تَغْريرٍ غَرَّرْتُ بِنَفْسي؟
مَوْلاىَ ارْحَمْ كَبْوَتي لِحُرِّ وَجْهي، وَزَلَّةَ قَدَمي، وَعُدْ بحِلْمِكَ عَلى جَهْلي، وَبِإِحْسانِكَ عَلى إِساءَتي، فَأَنَا الْمُقِرُّ بِذَنْبي، الْمُعْتَرِفُ بِخَطيئَتي، وَهذِهِ يَدي وَناصيَتي، أَسْتَكينُ بِالْقَوَدِ مِنْ نَفْسي.
إرْحَمْ شَيْبَتي وَنَفادَ أَيّامي، وَاقْتِرابَ أَجَلي، وَضَعْفي وَمَسْكَنَتي، وَقِلَّةَ حيلَتي.
مَوْلاىَ وَارْحَمْني إِذَا انقَطَعَ مِنَ الدُّنْيا أَثَري، وَامَّحى مِنَ الْمَخْلُوقينَ ذِكْري، وَكُنْتُ فِي الْمَنْسِيّينَ كَمَنْ قَدْ نُسِيَ.
مَوْلاىَ وَارْحَمْني عِنْدَ تَغَيُّرِ صُورَتي وَحالي، إِذا بَلِىَ جِسْمي، وَتَفَرَّقَتْ أَعْضائي، وَتَقَطَّعَتْ أَوْصالي، يا غَفْلَتي عَمّا يُرادُ بِي.
موْلاىَ وَارْحَمني في حَشْري وَنَشْري، وَاجْعَلْ في ذلِكَ الْيَومِ مَعَ أَوْلِيائِكَ مَوْقِفي، وَفي أَحِبّائِكَ مَصْدَري، وَفي جِوارِكَ مَسْكَني، يا رَبَّ الْعالَمينَ.
* * *
ويبقى الإنسان الواعي لإيمانه في معرفته بمقام ربّه يعيش الحضور الروحي مع الله في معنى العبودية الخالصة للربوبية الرحيمة الحانية، فيبدأ في التذلّل له في كلماته وحركاته وأحاسيسه ومشاعره بالطريقة التي يرتفع بها بروحه إليه، حيث يجد الله منه صدق الإخلاص في صدق الإحساس بالذلّ العبودي أمامه في معنى العزة الإنسانية من خلاله، لأنّ الذل معه يعني العزّ مع غيره..
وهكذا ينطلق هذا الدعاء في تعبير عن الموقف الذي يشعر فيه الإنسان المؤمن بأن ذنوبه قد أصابته بالإفحام وانقطاع الكلام، لأنّ الله قد أقام عليه الحُجّة في ذلك من خلال عقله ووحي الرسالة وحرية الحركة في الإرادة، فلم تبقَ له حُجّة في عصيانه، مما يجعله يقف موقف الأسير ببليّته في ابتعاده عن طاعة الله، والمرتهن بعمله الذي يجعله رهينة بما كسب من السيئات، فلا مكان له إلا بعفو الله، والمتردد في خطيئته، بحيث يذهب فيها ويجيء، فلا يخرج من حالةٍ إلا ليرجع إليها، لتكون حركته محاصرة بالخطيئة التي تحكم أمره، والمتحيّر عن الخط المستقيم الذي يصل بالإنسان أمام ربّه موقف الأذلاّء الذين لا يملكون الاعتذار من ذنوبهم المحيطة بهم، والأشقياء الذين غلبت عليهم شقوتهم بسيطرة غرائزهم الملتهبة المنحرفة عليهم بفعل جرأتهم على الله واستخفافهم بوعده في يوم القيامة.
وينطلق التسبيح في موقف التعظيم لله ليتساءل الإنسان مع ربّه - في موقف توبيخ للذات - عن حجم الجرأة التي تجرّأ بها عليه، وعن مقدار الخطر الذي قاد إليه نفسه، ليتحول من ذلك إلى الاستعطاف والتذلل لله عزّ وجلّ، أن يرحم سقوطه لوجهه على سبيل الكناية للتعبير عن سقوطه في تجربة الطاعة بالوقوع في المعصية، وزلّة قدمه وابتعادها عن الخطّ المستقيم بالانحراف عن طريق الله، وبأن يتفضل عليه بحلمه الذي يتجاوز جهله، وبإحسانه الذي يعفو عن إساءته.
إنّه موقف الإنسان المعترف بذنبه وخطيئته الذي يقدّم نفسه، ويمدّ يده، ويحني رأسه للقصاص العادل الذي يستحقّه جزاءً لمعاصيه، ويطلب منه أن يرحم شيبته التي تؤذن باقتراب أجله ونفاد عمره، وضعفه الجسدي، ومسكنة موقفه، وقلّة الوسائل التي يملك فيها الفرصة للخلاص من ذنوبه بشكل ذاتي.
ويزداد الموقف مأساةً عندما يفكّر الإنسان بأنّ الموت إذا نزل به وأودع في قبره فستتغير صورته وتتقطع أوصاله وتتفرّق أعضاؤه، فيفقد هذا التوازن في جسده ليعود مزقاً متناثرة في التراب فيتحوّل - بعدها - إلى تراب.
ويتذكّر أنّه عاش غافلاً عن تصور ذلك، وعن النتائج الغامضة التي سوف يقبل عليها في آخرته، وينتهي الدعاء بالطلب إلى الله أن يرحمه في يوم الحشر وساعة النشور، ليكون مع أولياء الله الصدّيقين في موقف الرضوان، ومع أحبّاء الله الطيبين في صدورهم إلى الله، وفي جوار مسكنه.
إنّها التمنيات الإيمانية التي يعيشها الإنسان المؤمن في تفكيره بالموقف العظيم يوم القيامة لينال من الله درجة الرضوان في دار القرار.
وبذلك يتحول الدعاء إلى حالة من التعبئة الروحية التي ترتفع بالإنسان إلى الله، ليجد في رحاب القرب منه كلّ مغفرةٍ ورضوان.
* * *
رَبِّ أَفْحَمَتْني ذُنُوبي، وَانْقَطَعَتْ مَقالَتي، فَلا حُجَّةَ لي، فَأَنَا الأسيرُ بِبَلِيَّتي، الْمُرْتَهَنُ بِعَمَلي، الْمُتَرَدِّدُ في خَطيئَتي، الْمُتَحَيِّرُ عَنْ قَصْدي، الْمُنْقَطِعُ بِي.
قَدْ أَوْقَفْتُ نَفْسي مَوْقِفَ الأذِلاّءِ الْمُذْنِبينَ، مَوْقِفَ الأشْقِياءِ الْمُتَجَرِّئينَ عَلَيْكَ، الْمُسْتَخِفّينَ بِوَعْدِكَ. سُبْحانَكَ أَيَّ جُرْأَة اجْتَرَأْتُ عَلَيْكَ؟ وَأيَّ تَغْرير غَرَّرْتُ بِنَفْسي؟
* * *
سبحانك أيَّ جرأة اجترأت عليك
يا ربّ، ها أنا عبدك الماثل أمامك بكلّ إحساسي بالحيرة والخجل والتمزّق النفسي، وذنوبي التي تتحرك في كلّ تاريخي العملي تصيبني بالصمت الصارخ في الداخل الذي لا أملك فيه أيّة حُجّةٍ لكلّ ممارساتي في عصيان أوامرك ونواهيك، فلا أجد أيّة كلمةٍ يمكن أن تكون تعبيراً حياً عن مبرّر لي في ذلك كلّه.
فها أنذا في موقف المأسور المقيّد بألوان البلاء المحيطة بحياتي كلّها، المحبوس في نطاق عملي الذي أتحرك في داخله في حلقة مفرغة لا أعرف كيف أخرج منها، لأنّني تحولت إلى رهينة عنده كما جاء في القرآن الكريم: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] و{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدّثر:38]، فهو كالدَّيْن الذي لا ينفكّ رهنه إلا إذا أدّاه، وكيف أؤدّي هذا الدين الإلهي بهذا العمل السيّئ الذي لا رجاء معه لأيّ خير في حساب الله.
وأنا السائر في خطيئتي ذاهباً جائياً على غير هدىً أو استقامة أو تركيز، فلا أملك الخلاص منه، فلا أتركه اليوم إلا لأعود إليه غداً، وأنا المتحيّر في اتجاه الخط المستقيم فلا أعرف نقطة الانطلاق إليه، وأنا المسافر الذي انقطعت به الطريق فلم يبلغ مداه ولم يصل إلى غايته، فكيف يمكنني - والحال هذه - مواصلة خطّ السير إليك؟
* * *
ها أنذا - يا ربّ - في موقفي هذا الذي أقف فيه بسوء اختياري، موقف الأذلاّء المذنبين الذين أكسبهم الذنب ذلّ الوقوف المعذّب بين يديك، لا موقف الأعزاء الطائعين الذين أكسبتهم الطاعة عزّ الثواب عندك.
وهذا هو موقف الأشقياء الذين امتدت شقوتهم في أعمالهم من خلال الجرأة عليك والاستخفاف بوعدك، فلا يخافون مقامك، ولا يبالون بالحديث عن يوم القيامة: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19]، لينطلق النداء الإلهي قوياً صارخاً: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات:24] {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
سبحانك - يا ربّ - إنّني أقف في موقف المعاناة الروحية التي تمنعني من الإحساس بالثبات في موقفي أمامك، لأنّ الجرأة التي تجرأت بها عليك فاقت كلّ جرأة، ولأنّ الخطر الذي أوقعت فيه يدفع بي إلى الهلاك في المصير، فكيف أواجه ذلك كلّه وكيف أتخفف من نتائجه السلبية الحاسمة؟ كيف؟
* * *
مَوْلاي ارْحَمْ كَبْوَتي لِحُرِّ وَجْهي، وَزَلَّةَ قَدَمي، وَعُدْ بحِلْمِكَ عَلى جَهْلي، وَبِإِحْسانِكَ عَلى إِساءَتي، فَأَنَا الْمُقِرُّ بِذَنْبي، الْمُعْتَرِفُ بِخَطيئَتي، وَهذِهِ يَدي وَناصيَتي، أَسْتَكينُ بِالْقَوَدِ مِنْ نَفْسي.
إرْحَمْ شَيْبَتي وَنَفادَ أَيّامي، وَاقْتِرابَ أَجَلي، وَضَعْفي وَمَسْكَنَتي، وَقِلَّةَ حيلَتي.
* * *
إلهي ارحم شيبتي ونفاد أيامي...
يا ربّ، أنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين، لقد أسقطتني ذنوبي على صفلحة وجهي في كبوةٍ قاسيةٍ فقدت فيها توازن الموقف، وزلّت بي القدم  حتى كِدْتُ أقع في هاوية السقوط الروحي بفعل الخطايا، فامنحني رحمتك الحانية، وارفعني عن مواضع السقوط كما وضعت لك نفسي، وأعطني من حلمك سعة العفو التي تتجاوز جهلي في عملي الشرير، واطرد إساءتي عن ساحة حياتي بإحسانك الذي يحوّل الإساءة إلى حالة إحسان من خلال تغيير الواقع في حياتي، فإذا كنت قد أسرفت على نفسي بخطاياي، فإنّي أقف موقف المقرّ بالذنب، المعترف بالخطيئة، المادّ يده في إشارة الاستسلام الذي يقدّم ناصيته في موقف القصاص في انحناء ذاتي أمام عدل الله في الاقتصاص منه على جنايته.
يا ربّ، ولقد بلغت من الكِبر عتياً، وانتشر الشيب في رأسي كنذير بفنائي، ونفاد أيامي واقتراب أجلي، وضعف جسدي، ومسكنتي في غياب الفرص التي تمنحني النجاة من موقع القوة، وقلّة حيلتي في الحصول على النتائج الإيجابية الكبرى في ناحيةٍ ذاتية، وذلك كلّه - يا ربّ - هو المبرر لي في طلب الرحمة فارحمني.
* * *
مَوْلاىَ وَارْحَمْني إِذَا انقَطَعَ مِنَ الدُّنْيا أَثَري، وَامَّحى مِنَ الْمَخْلُوقينَ ذِكْري، وَكُنْتُ فِي الْمَنْسِيّينَ كَمَنْ قَدْ نُسِيَ.
مَوْلاىَ وَارْحَمْني عِنْدَ تَغَيُّرِ صُورَتي وَحالي، إِذا بَلِىَ جِسْمي، وَتَفَرَّقَتْ أَعْضائي، وَتَقَطَّعَتْ أَوْصالي، يا غَفْلَتي عَمّا يُرادُ بِي.
موْلاىَ وَارْحَمني في حَشْري وَنَشْري، وَاجْعَلْ في ذلِكَ الْيَومِ مَعَ أَوْلِيائِكَ مَوْقِفي، وَفي أَحِبّائِكَ مَصْدَري، وَفي جِوارِكَ مَسْكَني، يا رَبَّ الْعالَمينَ.
* * *
مولاي ارحمني إذا انقطع من الدنيا أثري
يا ربّ سأموت وأغيب في حفرة ضيقة أغيب فيها عن ساحة الحضور البشري المتحرك في دنيا الناس، فلا يبقى لي أيّ حسٍّ وأيّ أثر، وأبتعد عن كلّ ألوان الحديث الإنساني الذي تتحرك ذكرى الأمس لديه، وتبدأ بالغياب حتى تمّحي من الذاكرة، فلا يبقى فيها شيء من أشخاصه وأصدائه، وينطوي ذكري من وجدان الناس ومن ألسنتهم، فيلفني النسيان فيمن يلفّ من الماضين في غمار التاريخ المنسيّ.
وسيزحف الفناء إلى جسدي، فتتغير صورتي، وتتفرّق أعضائي، وتتمزّق أوصالي، فإذا بذلك الإنسان الكامل المتمثل في وجودي يتحوّل إلى فِرَق متناثرة، وأوصال مقطعة، وأعضاء متفرقة، ويمتد الفناء فتتحول إلى تراب أيّ تراب تسفيه الرياح، فلا يبقى لهذا الجسد الذي عصى الله للذته وشهوته وراحته كما لو كان هو القيمة في الإنسان، أو كما لو كان خالداً في وجوده، وكنت غارقاً في الغفلة المطبقة على عقلي وقلبي وشعوري وحركتي في الحياة فلم أنتبه إلى ما يراد بي من الفناء في نهاية المطاف في الدنيا، وفي انفتاح الموقف على نتائج المسؤولية في الآخرة في حسابها وثوابها وعقابها، فأيّة غفلةٍ هذه الغفلة التي تجرّ الإنسان إلى الجحيم.
ارحمني - يا ربّ - في هذه النهاية القاسية، وارحمني عندما يأتي يوم النشور في ساحة الحشر، لأكون - في موقفي في ذلك اليوم - مع أوليائك من النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً، من خلال توفيقك لي في الأخذ بأسباب الولاية لك في حركة الطاعة على خطّ الاستقامة في توحيدك، ولأكون صادراً إليك مع أحبائك الذين أحببتهم لإيمانهم ولعملهم الصالح، ولأعيش في جوارك في دار قدسك وساحة رضوانك ونعيم جنتك، يا ربّ العالمين.
* * *
دعاؤه(ع) في استكشاف الهموم

يا فارِجَ الْهَمِّ، وَكاشِفَ الْغَمِّ، يا رَحْمنَ الدُّنْيا وَالاْخِرَةِ وَرَحيمَهُما، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَافْرُجْ هَمّي، وَاكْشِفْ غَمّي.
يا واحِدُ يا أَحَدُ يا صَمَدُ، يا مَنْ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، اعْصِمْني وَطَهِّرْني وَاذْهَبْ بِبَلِيَّتي.
اللّهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ سُؤالَ مَنِ اشتَدَّتْ فاقَتُهُ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، وَكَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، سُؤالَ مَن لايَجِدُ لِفاقَتِهِ مُغيثاً، وَلا لِضَعْفِهِ مُقَوِّياً، وَلا لِذَنْبِهِ غافِراً غَيْرَكَ.
يا ذَا الْجَلالِ وَالإكْرامِ، أَسْأَلُكَ عَمَلاً تُحِبُّ بِهِ مَنْ عَمِلَ بِهِ، وَيَقيناً تَنْفَعُ بِهِ مَنِ اسْتَيْقَنَ بِهِ حَقَّ الْيَقينِ في نَفاذِ أَمْرِكَ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَاقْبِضْ عَلَى الصِّدْقِ نَفْسي، وَاقْطَعْ مِنَ الدُّنْيا حاجَتي، وَاجْعَلْ فيما عِنْدَكَ رَغْبَتي، شَوْقاً إِلى لِقائِكَ، وَهَبْ لي صِدْقَ التَّوكُّلِ عَلَيْكَ.
اسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ كِتاب قَدْ خَلا، وَأَعْوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كِتاب قَدْ خَلا، أَسْأَلُكَ خَوْفَ الْعابِدينَ لَكَ، وَعِبادَةَ الْخاشِعينَ لَكَ، وَيَقينَ الْمُتَوَكِّلينَ عَلَيْكَ، وَتَوَكُّلَ الْمُؤْمِنينَ عَلَيْكَ.
اللّهُمَّ اجْعَلْ رَغْبَتي في مَسْأَلَتي مِثْلَ رَغْبَةِ أَوْلِيائِكَ في مَسائِلِهِمْ، وَرَهْبَتي مِثْلَ رَهْبَةِ أَوْلِيائِكَ، وَاسْتَعْمِلْني في مَرْضاتِكَ، عَمَلاً لا أَتْرُكُ مَعَهُ شَيْئاً مِنْ دينِكَ مَخافَةَ أَحَد مِنْ خَلْقِكَ.
اللّهُمَّ هذِهِ حاجَتي فَأَعْظِمْ فيها رَغْبَتي، وَأَظْهِرْ فيها عُذْري، وَلَقِّني فيها حُجَّتي، وَعافِ فيها جَسَدي.
اللّهُمَّ مَنْ أَصْبَحَ لَهُ ثِقَةٌ أَوْ رَجِاءٌ غَيْرُكَ، فَقَد أَصْبَحْتُ وَأَنْتَ ثِقَتي وَرجائي فِي الأمُورِ كُلِّها، فَاقْضِ لي بِخَيْرِها عاقِبَةً، وَنَجِّني مِنْ مُضِلاّتِ الفِتَنِ، بِرحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرّاحِمينَ. وَصَلَّى اللّهُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّد رَسُولِ اللّهِ الْمُصْطَفى، وَعَلى آلِهِ الطّاهِرينَ.
* * *
أثر الهمّ على حركة الإنسان ومصيره
للهمّ في حياة الإنسان الداخلية والخارجية تأثيرٌ كبير على حركته ونشاطه وصفاء وجدانه، لأنّه يلقي بظلاله الكثيفة على شخصيته فتمنعها من الهدوء والصفاء والانطلاق في المسؤوليات الحيّة من خلال اشتغاله بها عما حوله وعمّن حوله، بما تثيره في نفسه من المشاعر والأحاسيس القلقة، وبما تحركه في واقعه من المشاكل والتعقيدات المتنوعة.
وهو حالة من الحزن الداخلي الذي يشعر الإنسان معه بالألم الروحي الذي يقضّ مضجعه، ويربك حياته ويسيء إلى نفسه..
والهمّ قد يتصل بشؤون الدنيا في مأكله ومشربه ومسكنه وعلاقاته بالناس وبالأشياء، وحاجاته في المال والأولاد والجاه وفي شؤون الجسد في لذاته وشهواته وراحته ونحو ذلك مما يتصل باستقراره الجسدي عندما يتعرض لبعض الأمور السلبية في حياته الخاصة.
وقد يتصل بشؤون الآخرة في مستقبله هناك من حيث رضا الله عنه وغضبه عليه، وانفتاحه على الطاعة وسقوطه في وحول المعصية.. ولعلّ من الطبيعي أن شؤون الآخرة ترقى إلى الدرجة العليا من الأهمية التي لا بدّ أن تمثل همّ الإنسان في حركته في الحياة، لأنّها تمثل المصير الأبدي له في ما يقبل عليه هناك من النعيم الخالد أو العذاب الخالد، الأمر الذي يفرض على الإنسان أن يوازن دائماً بين راحة الدنيا وراحة الآخرة، ليكون اهتمامه بالراحة في الآخرة كبيراً، ولو كان ذلك  على حساب الراحة في الدنيا، لا سيّما إذا عرفنا أنّ الآخرة هي غاية العمل في الدنيا لأنّها ترتبط بالقيمة الروحية والأخلاقية للإنسان بحيث يتلتقي الدنيا والآخرة عندها لانعكاسها الإيجابي هنا وهناك.
* * *
مفاهيم الدعاء
وفي هذا الدعاء جولة روحية إنسانية في أجواء الحاجات الإيمانية للإنسان في كشف همّه، والانفتاح على الأجواء التي يستكشف فيها همومه بإعانة الله له في ذلك.
ويبدأ بالنداء المتوسّل لله من حيث صفته في تفريج الهمّ، وكشف الغمّ، ورحمته للدنيا والآخرة، ووحدانيته في كلّ شيء، ليطلب منه - من هذا الموقع - أن يفرّج همّه ويكشف غمّه ويعصمه ويطهّره من الذنوب ويذهب ببليّته، وليسأله من موقع الفاقة الشديدة التي اشتدت عليه وأخذت بزمام حياته، ومن موقع ضعف القوة في روحه وجسده، وليعبر له عن حاجته إليه دون غيره، فلم يجد أحداً يغيثه في فاقته ويقوّيه في ضعفه ويغفر له ذنوبه، فعاد إلى الله لأنّه - وحده - الذي يحقق له ما يريد ويكشف عنه ما أهمّه، وبدأ يقدم طلباته إليه ليوفقه لعمل الصالح الذي يمنحه حبّه، ولليقين العقيدي في نفاذ أمر الله الذي ينتفع به صاحبه في علاقته بربّه، وليجعل نفسه قائمةً على قاعدة الصدق في النية والكلمة والموقف، وليبتعد به عن الاستغراق الذاتي في حاجات الدنيا حتى لا تكون أكبر همّه الذي يشغله عن مسؤولياته في الآخرة، وليقترب به من الشوق إلى لقائه لتكون رغبته في كلّ الأشياء التي ترفع درجته عنده، وليعمق في نفسه روحية التوكل عليه في ثقةٍ مطلقةٍ به.
وأن يجعل كتابه الذي يقدم بين يديه يوم القيامة خير كتاب في الأعمال الصالحة التي تقربه إليه، ويعيذه من الكتاب الشرير الذي يمتلئ بأعمال الشرّ التي ترهق مصيره في الآخرة، وأن يوفقه ليخافه في وجدانه العبادي خوف العابدين، وليعبده في حركته العملية عبادة الخاشعين الذين يعيشون خشوع العبادة في وجدانهم الروحي وفي التزامهم العملي، وليفتح عقله على اليقين الذي ينفتح به المتوكلون عليه من حيث الثقة به التي لا تتوقف عند الثقة بالأسباب المادية الموجودة عندهم، وليحرك خطواته وتطلعاته على التوكل عليه على الطريقة التي يتوكل بها المؤمنون عليه، وليدفع برغبته في مسائله التي يقدمها له كرغبة مسائله في مسائلهم من حيث نوعيتها وكميتها وعناوينها التي تلتقي في الأمور التي تجتذب رضوانه إلى حياة الإنسان، وليحرّك رهبته  من عذابه ومن سخطه ومما يوجب ذلك كرهبة الأولياء المقربين في رهبتهم منه وخوفهم من تأثير السيئات على ذلك، وليستعمله في كلّ أعماله وأوضاعه الخاصة والعامة التي يستحقّ بها رضوانه بالدرجة التي تتقدم بها شؤون الدين عنده على شؤون الدنيا، بحيث لا يترك أيّ واجب من واجباته الدينية تحت تأثير الخوف من فقدان بعض الفرص الدنيوية أو الوقوع في قبضة بعض الناس الذين يملكون القوة العدوانية التي يوجهونها إليه.
ولينتهي به المطاف في هذا الجانب - إلى أن يجعل هذه الأمور حاجته التي يقدمها إليه مما يمثّل الرغبة العظمى عنده، ليمنحه الثواب على ذلك، ويقدم الإنسان فيها الحجة على ما يريد من خلال توفيق الله ل، بما يلقنه من عناصرها، ويظهر فيها عذره عن التقصير في طاعة الله، وليعطيه العافية في جسده التي يقوى بها على طاعته.
ويبقى للإنسان - بعد ذلك - رغبة أخيرة، وهي أن تتحرك أيامه في آفاق الله في كلّ صباح، لينطلق في إشراقة الفجر وطلوع الشمس وهو ممتلئ الروح بالثقة بالله والرجاء له في الأمور كلّها، وإن انطلق الآخرون في وجدانهم الشعوري بالثقة بغيره، والرجاء لسواه، ليؤكّد - الله - تلك الثقة، فقد أصبح - في كلّ صباحاته - والله وحده هو سرّ الثقة وأساس الرجال في كلّ الأمور، لأنّه - وحده - القادر على ذلك كلّه، ولا قدرة لغيره إلا من خلال قدرته.
وعلى ضوء ذلك، كانت طلباته منطلقةً من مواقع الثقة والرجاء في القضاء الإلهي بأفضل الأمور عاقبة في نتائجها الطيبة، ومن إنقاذه في كلّ الفتن المضلة التي تجعله يتحرك في متاهات الضياع فيتحرك بالأمور من دون هوى في حالة تخبط حائرة لا يهتدي فيها إلى الغاية الخيّرة، مما يتطلبه الإنسان من شؤون النجاة، برحمته التي وسعت كلّ شيء.
* * *
يا فارِجَ الْهَمِّ، وَكاشِفَ الْغَمِّ، يا رَحْمنَ الدُّنْيا وَالاْخِرَةِ وَرَحيمَهُما، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَافْرُجْ هَمّي، وَاكْشِفْ غَمّي.
يا واحِدُ يا أَحَدُ يا صَمَدُ، يا مَنْ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، اعْصِمْني وَطَهِّرْني وَاذْهَبْ بِبَلِيَّتي.
* * *
يا فارج الهم اعصمني وطهِّرني
يا ربّ، هذه همومي وغمومي بين يديك،وأنت أعلم بها مني، أطرحها في موقفي الابتهالي الدعائي الخاشع الذي ينطلق بالنداء، الصارخ من أعماق القلب: يا فارج الهمّ، فأنت - وحدك - الذي تملك أسباب الحزن والفرح، وحركة العلاقة بين الأسباب والمسببات، يا كاشف الغمّ، فأنت الذي تعرف عمق الكرب الإنساني الذي يكربه ويغمّه، وتستطيع أن تزيله من جذوره لأنّك تملك الإنسان كلّه وتملك كلّ الظروف التي تترك تأثيرها الإيجابي على روحه، يا من انطلقت رحمته لتشمل الدنيا والآخرة، فأنت رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، يا ربّ أتوسل إليك من موقع قدرتك ورحمتك، أن تفرج عني همي الذي يقضّ مضجعي، وتكشف غمي الذي يثقل روحي ويربك وجداني.
أيّها الربّ الواحد الأحد الذي يصمد إليه ويقصد إليه في الحوائج، الذي تتمثل الوحدانية في معنى ذاته، فلا علاقة له - من موقع الحاجة - بأيّ والد يساهم في وجوده ليمنحه فرصة الوجود، ولا بأيّ ولد يقدم له - هو - فرصة الحياة بالمعنى العضوي للمسألة، وليس له أيّ موجود يماثله ويساويه ويكافئه، لأنّه فوق ذلك كلّه من حيث هو الخالق الاحد، وكلّ الآخرين مخلوقون له.
يا ربّ، أيّها الإله الواحد المتفرد بالوحدانية في مواقع القدرة المطلقة، اعصمني بتوفيقك لي في توفير أسباب العصمة في حياتي الفكرية والعملية، وتوجيه إرادتي واختياري للتحرك في هذا الاتجاه السليم، فلا عصمة إلا بقوتك، وطهرني من أوحال الذنوب وأرجاسها، ومن قذارات الأخلاق ومساوئها، لأكون الطاهر في إرادة الطهارة في حركة الطاعة في سبيل مرضاتك، وفي قبول التوبة من الذنوب التي تخرجني طاهراً منها كيوم ولدتني أمي.
أعطني - يا ربّ - ذلك فإنّي أحب الطهارة الروحية والجسدية والعصمة الفكرية والعملية لأعيش النقاء والصفاء في حياتي في خطّ العصمة والطهارة، وأزل بليتي في ديني ودنياي مما يمثل القسوة والشدة في تأثيرها على حياتي كلّها من حيث نتائجها السيئة في قضية الوجود والمصير.
* * *
اللّهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ سُؤالَ مَنِ اشتَدَّتْ فاقَتُهُ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، وَكَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، سُؤالَ مَن لايَجِدُ لِفاقَتِهِ مُغيثاً، وَلا لِضَعْفِهِ مُقَوِّياً، وَلا لِذَنْبِهِ غافِراً غَيْرَكَ.
يا ذَا الْجَلالِ وَالإكْرامِ، أَسْأَلُكَ عَمَلاً تُحِبُّ بِهِ مَنْ عَمِلَ بِهِ، وَيَقيناً تَنْفَعُ بِهِ مَنِ اسْتَيْقَنَ بِهِ حَقَّ الْيَقينِ في نَفاذِ أَمْرِكَ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَاقْبِضْ عَلَى الصِّدْقِ نَفْسي، وَاقْطَعْ مِنَ الدُّنْيا حاجَتي، وَاجْعَلْ فيما عِنْدَكَ رَغْبَتي، شَوْقاً إِلى لِقائِكَ، وَهَبْ لي صِدْقَ التَّوكُّلِ عَلَيْكَ.
* * *
اللهم أسألك عملاً تحبّ من عمِل به
يا ربّ، أنا الإنسان السائل وأنت المعصي، فمن أنا في موقع السؤال هذا؟
أنا السائل الذي يعي الشدّة في حاجته بحيث تحوّلت المسألة عنده إلى حالةٍ من الضرورة القصوى المتصلة بضرورات الحياة ، أنا الضعيف في قوته حتى لا يملك التماسك في توازن الموقف الذي يتحول السؤال لديه إلى حاجة لعناصر القوة من عندك بأكثر مما وهبت له من ذلك...
أنا المذنب الذي كثُرت ذنوبه، وأحاطت به خطيئته، حتى أصبح مثقلاً بها رازحاً تحتها، فكان السؤال الخاضع يتحرك في إلغاء ذنوبه بالمغفرة، ومحو الخطيئة بالعفو، وتخفيف الثقل بالرحمة.
كل ذلك في شعور عميق بأنّك - وحدك - المغيث له في فاقته والمقوّي لضعفه، والغافر لذنبه، فليس له أحدٌ يحلّ مشكلته في ذلك.
يا الله، يا صاحب الجلال الذي لا يبلغه أحد في مداه، ويا ذا الإكرام الذي لا يملك أحد مثله، أسألك أن توفقني للعمل الذي يشدّني إلى الحصول على محبتك، والوصول إلى ساحة رضوانك من خلال ما يمثله العمل من عناصر حبّك ورضوانك.
وهب لي اليقين الذي يتمثل في صفاء العقيدة، ووضوح الرؤيا، وانفتاح الروح، وطمأنينة النفس، وسكينة الشعور، ممّا يتحقق به النفع لصاحبه؛ إنّه اليقين الإنساني الذي يتحول إلى قوة روحيةٍ منفتحة على قدرتك النافذة على كلّ مخلوق في حكمتك وإرادتك، فلا يملك أحد منهم أن يبتعد عنها ويهرب منها.
يا ربّ، اجعلني من الصادقين الذين يتمثل الصدق في ذواتهم فكراً وروحاً وموقفاً وكلاماً والتزاماً، مع النفس والربّ والناس من حولي، حتى يتحول الصدق لديّ إلى حالة في الذات، تماماً كما لو كانت جزءاً منها.
واجعلني ممن ينظر إلى الدنيا نظرته إلى شيء طارئ زائل تتحرك الحاجة فيه في وضع معين، فلا تمثل الحاجة المهيمنة على الذات بحيث يتكون - في حركتها - في قمة اهتماماتها، في استغراقٍ عميق لا يفسح المجال للآخرة في اهتماماتها في قضية المصير، حتى لا تكون الدنيا والبقاء كلّ همّي فأنسى الآخرة.
ووجهني إلى الرغبة الجامحة بما عندك من النعيم والرضوان، فيشدني ذلك إلى الشوق إلى لقائك بحيث أستعجل فرصة الوفادة إليك، واجعلني من المتوكلين عليك في صدق التوكل، بحيث تنفتح كل حياتي على التطلّع إلى قدرتك ورحمتك ولطفك، فأحسّ بالثقة في كل أموري مما أتحرك فيه للحصول عليه.
* * *
اسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ كِتاب قَدْ خَلا، وَأَعْوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كِتاب قَدْ خَلا، أَسْأَلُكَ خَوْفَ الْعابِدينَ لَكَ، وَعِبادَةَ الْخاشِعينَ لَكَ، وَيَقينَ الْمُتَوَكِّلينَ عَلَيْكَ، وَتَوَكُّلَ الْمُؤْمِنينَ عَلَيْكَ.
للّهُمَّ اجْعَلْ رَغْبَتي في مَسْأَلَتي مِثْلَ رَغْبَةِ أَوْلِيائِكَ في مَسائِلِهِمْ، وَرَهْبَتي مِثْلَ رَهْبَةِ أَوْلِيائِكَ، وَاسْتَعْمِلْني في مَرْضاتِكَ، عَمَلاً لا أَتْرُكُ مَعَهُ شَيْئاً مِنْ دينِكَ مَخافَةَ أَحَد مِنْ خَلْقِكَ.
اللّهُمَّ هذِهِ حاجَتي فَأَعْظِمْ فيها رَغْبَتي، وَأَظْهِرْ فيها عُذْري، وَلَقِّني فيها حُجَّتي، وَعافِ فيها جَسَدي.
* * *
اللهم أسألك خوف العابدين لك
يا ربّ، إنّك قضيت على عبادك قضاءً وحكمت عليهم حكماً من أمرك الذي تدبّر به أوضاعهم، وتحدّد به مصيرهم، فكان ينفتح على الخير في موردٍ، وعلى الشرّ في موردٍ آخر، فاجعلني ممّن حكمت له بالخير مما أصدرت فيه من الحكم السابق في تقديرك، لأحصل على نتائجه الطيبة. وأعوذ بك من الحكم الذي ينطلق بالشرّ في حياة الناس لأتفادى آثاره الخبيثة في مصيري في الدنيا والآخرة.
إنّك - يا ربّ - الحاكم العدل الذي لا يحكم على عباده إلا بالعدل، وأنا أطلب منك العفو والإحسان في حكمك عليّ في الماضي والحاضر والمستقبل.
* * *
وربّما كان المراد بالكتاب صحيفة الأعمال كما احتمله بعض واستبعده صاحب رياض السالكين، لأنّه "عن الغرض بمعزل"(1) كما يقول، لأنّ المسألة تتصل بما يريده المؤمن من ربّه في ما يمنحه له ويوفقه إليه من الأعمال مما يتصل بحكمه في أموره، لا بما سلف من أعماله، ولكننا نلاحظ عليه أنّ من الممكن أن يكون المراد هو أن يجعل كتابه الذي يحمله في يده يوم القيامة، من خير كتاب قد سبق في الماضي، وهو كتاب الأعمال الخيّرة، ولا يجعله من شر كتاب قد مضى، بمعنى أن يوفقه ليحمل كتاب الحسنات لا كتاب السيّئات، فلا يجعل كتابه كالآخرين الذين اجترحوا السيئات، ولكن كتاب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والله العالم.
* * *
يا ربّ، أعطِ قلبي إشراقة الخوف المنفتح على الحذر مما يقبل عليه الإنسان من سخطك وعذابك، لتقودني إلى البعد عن كل ما يؤدي إلى غضبك، على هدى خوف المؤمنين الذين يتعبدون إليك، ويدعونك في الليل والنهار سراً وجهراً، ليتحوّل الخوف عندي إلى حركةٍ روحيةٍ في خط العبادة المتحركة في آفاق رضاك، وارزقني الخشوع الذي يهتز فيه وجداني هيبةً لك، وتعظيماً لمقامك وتذلّلاً لك، وانقطاعاً إليك، واطمئناناً بربوبيتك، فيمتد ذلك إلى جسدي عبادةً وركوعاً وسجوداً وقياماً بين يديك، وإلى قلبي ليفرغ إليك في كل نبضاته وليعيش معنى الحبّ الواله لك.
وهب لي اليقين الذي يشرق بنور المعرفة في قلبي، فلا يلتقي بأيّ شك أو اهتزاز في الإيمان، ليتحول ذلك إلى توكل عليك في الأمور كلّها، بحيث يختزن عقلي الفكرة والإحساس بأنك - أنت وحدك - الله الذي تسيّر أمور عبادك في مهماتهم الصغيرة والكبيرة، فلا يحصل أحد على شيء إلا منك مما تعطيه وتدبره، فأنت المهيمن على الخلق كلّهم، وأنت على كلّ شيءٍ قدير، فيدفعني ذلك إلى التوكل عليك، وإلى السير في مسيرة المؤمنين الذين ينطلق بهم إيمانهم بك ليرتفع بهم إلى مستوى التوكل عليك من موقع الثقة بك في معنى الإيمان، فإنّك - يا ربّ - سرّ الوجود في بدايته وفي استمراره ونهايته، فكيف يتطلع عبادك إلى غيرك في أمورهم مما يقبلون عليه أو يبتعدون عنه، وهل الإيمان في جانبه الحركي إلا التوكل الواعي الذي ينفتح على قدرتك ولطفك ورحمتك، يا أرحم الراحمين.
* * *
اللهم اجعل رغبتي بما عندك من الثواب، ورهبتي مما عندك من العذاب، مماثلة لما عليه أولياؤك من حركة الرغبة والرهبة، فلا تبقى مجرد حالة نفسية تتصل بالشعور الداخلي، بل تتحول إلى حركة عملية في الجدّ في العمل الذي يتقرب به العبد إليك من موارد طاعتك ومواقع عبادتك والإعراض عن غرور الأمل وفتنة الهوى، من خلال ما يملكون من المعرفة الواسعة بك، وما يتطلعون إليه من سعة رحمتك وامتداد كرمك، بحيث تنفتح أرواحهم شوقاً إليك، وتنطلق حياتهم في اتجاه الحصول على مواقع رضاك في أجواء عبادتك.
واجعلني من العاملين في سبيل الحصول على رضاك، لتكون حياتي صورة لما تفرضه أوامرك ونواهيك، حتى لا يبقى شيء أتحرك به إيجاباً إلا إذا كان فيه رضاك، ولا أمتنع عن شيء سلباً إلا إذا كان فيه غضبك، فلا يكون لخلقك في رضاهم وغضبهم أيّ دور في ما أفعل أو أترك، فلا يمكن - والحال هذه - أن أترك أيّ شيء مما شرعت من شرائعك انطلاقاً من الخوف من أيّ أحد من خلقك، وذلك من خلال اليقين الذي لا يخاف فيه الإنسان أحداً إلا الله، لأنّ النفع والضرر بيده، فلا يملك أحد من ذلك شيئاً، فلماذا يخاف الإنسان منه؟
يا ربّ هذه حاجتي التي أقدمها إليك، فامنحني فيها الرغبة التي تقبلها مني كأيّ شيء يبعث على الاحترام والتعظيم في طبيعته، واعذرني في ما أخطأت، وذلك بتنفيذها كدليل على عذرك لي، وأعطني يا ربّ الحُجّة التي أستطيع أن أقدمها إليك في طلب الحاجة، وألهمني ما أعتذر به من الإقدام على سؤالها والتلقين من الله تعالى، وهب لي في جسدي العافية فلا تبتلني بالبلاء الذي يرهق حياتي.
* * *
اللّهُمَّ مَنْ أَصْبَحَ لَهُ ثِقَةٌ أَوْ رَجِاءٌ غَيْرُكَ، فَقَد أَصْبَحْتُ وَأَنْتَ ثِقَتي وَرجائي فِي الأمُورِ كُلِّها، فَاقْضِ لي بِخَيْرِها عاقِبَةً، وَنَجِّني مِنْ مُضِلاّتِ الفِتَنِ، بِرحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرّاحِمينَ. وَصَلَّى اللّهُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّد رَسُولِ اللّهِ الْمُصْطَفى، وَعَلى آلِهِ الطّاهِرينَ.
* * *
اللهم أنتَ ثقتي ورجائي في الأمور كلّها
يا ربّ، ها هُم الناس يصبحون ليبدأوا يومهم بالالتفات إلى الناس الآخرين ممن يملكون القوة لقضاء حوائجهم وحلّ مشاكلهم وتدبير أمورهم، فهم الثقة والرجاء والرغبة ولأمل، وهكذا يتحركون في حياتهم غفلةً عن المعرفة بمقامك الذي لا يدانيه مقام، وقدرتك التي لا حدّ لها، وعن وعي حاجة هؤلاء إليك في كلّ مواقع قوتهم، فلا يملكون لأنفسهم شيئاً إلا بك، لذلك تطلعت إليك، وتوجهت إليك، ووثقت بك موقناً بأنّك وحدك موضع الرجاء ومحلّ الثقة ومنطلق الأمل في الأمور كلّها، فلا ثقة بغيرك ولا رجاء إلا بك، فليكن قضاؤك لي بالخير في بدايات الأمور وعواقبها، فإنّك العالم بعواقب الأمور، ونجني من الفتن المضلة التي تؤدّي بي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
* * *
الهوامش:

(1)    رياض السالكين، ج:7، ص:441.

* * *