مفاهيم إسلامية
عامّة
آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الثالثة
1422 هــ ـــ 2001 م
دار الملاك
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدِّمة
مفاهيم إسلاميّة عامّة، هي سلسلةٌ من اللأَلئ المنثورة، والدُّرر المنظومة، جادت بها قريحةُ سماحة العلاّمة السيّد، منذُ ستّةٍ وثلاثين عاماًّ، أي في مرحلةِ الشَّباب التي عايَش فيها سماحتُهُ "الهوّة العميقة التي فصلت بين الشَّباب وبين الدّين".
وكانَ لا بدَّ للإسلام الحركيّ الذي آمن السيِّد به، أن ينطلق آمِراً وناهياً ومرشداً وقيِّماً وحافظاً لأسمى التعاليم التي جاءت بها الشّريعةُ السَّمحاء، فسنَّها الرسولُ الأعظم منهجاً وصراطاً {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام : 153] وحتّى لا يتفرَّق الشّبابُ ـــ وهم جيلُ الفكرِ والحركةِ والعملِ والتغيير ـــ عن صراطِ الله المستقيم، أخذ السيّد الشّاب يقود ركب السّعي الحثيث إلى خوضِ الغمار، وكشف المستور، وجلاء الحقيقة وإيضاح المفاهيم.
فالإسلامُ ليسَ تجريداً أو رؤىً مثاليّة، إنّه واقعٌ يعملُ المرءُ فيه لآخرته، مستغلاًّ طاقات الإبداع والابتكار والخَلْق والاكتشاف، لتكونَ الدُّنيا ساحةَ تحدٍّ وصراع {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل : 125]، "لأنَّ الدّعوة إلى الله من أُسسِ ومرتكزات التهذيب الاجتماعي في الإسلام" التّهذيب القائم على المودّة والرّحمة والخلق الكريم {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 4]، {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران : 159]، ليكون المجتمعُ مجتمع المسؤوليّة، مسؤوليّة الحقّ والواجب، والفكر والعقيدة والسّلوك {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 36]، لأنَّ في ذلك نأياً عن القلق والتردّد والوسوسة أمام العمل الذي شرَّعه الإسلام إرادةً وإقداماً ويقيناً، فالحياة عِبْرة ماضية، وعزمٌ وتخطيطٌ مستقبليّ، يقود الإسلام إلى العزِّ والحريّة، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون : 8] فقضيةُ العزِّ والذلّ في الإسلام ركنُ أركان السياسة والثقافة والاقتصاد، لاسيّما وأنَّنا عشنا هذا الصراع في كلّ المراحل وشتّى الأزمنة ـــ ولا نزال ـــ وهو ما يحملنا على الأمل {إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [البقرة : 214] وأنَّ عبادَ الرحمن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وإنْ أثارَ أعداءُ الله اليأس في نفوس الخانعين الكُسالى الذين ينأون عن آلاء الله ويُسره وفرجه.
فإذا ما تعدَّدَتِ الآراء، واختلفت الأهواء وتشعَّبت السُّبل، فقد وجبَ النّقد، والنّقد الذاتي في الإسلام الذي يبني البناء على صخرٍ متين، لا نقداً يقوم على التشهير، وإبراز المظاهر الخادعة في الحياة، والنماذج المزيّفة من الناس، فالنّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ولكنّه يقف أمام المسلمين بعدَ حجَّةِ الوداع طالباً ممَّن له حقٌّ عليه أن يطلبه، وعليٌّ المعصوم ينطلقُ ليؤكّد هذا المفهوم الرّساليّ الذي يشكِّلُ مدرسةً تربويّةً للأُمّة، لا تُقدِّسُ فيه أشخاصها للقداسة فحسب وإنَّما للتّشاورِ والرأي والتسديد "مَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا"، "فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَإِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَفَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ وَلَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ وَلَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ وَلَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي وَلَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَلَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي فَإِنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَأَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى"(1).
وقد كفى الله عليّاً الخطأ، وأرادَ عليٌّ إخراجَ الأُمّةِ إلى هدي الرّسالة، مركّزاً على المفاهيم الإسلامية العظيمة التي أثقلت الجبالَ والسماوات، لكنّها لم تُرهِق عقلاً نبويّاً، أو إنسانيةً جسَّدها أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).
لقد تأمَّلَ السيّد، ونظرَ معتبراً بما يحيطُ به، منذُ انطلاقه العمليّ الإسلاميّ في العراق ومن ثمّ في لبنان، وسعى باحثاً عن الحقيقة التي هي "بِنْتُ البحث، والبحث لا يتبلور إلاّ في المجالات الحياتيّة الكثيرة، فإذا ما سادتِ الأفكار والمفاهيم الغربيّة المجتمع الإسلاميّ، معلِّلةً ظاهرة الانفعال وأثره في علم النّفس والأخلاق، كان حريّاً بالإسلام أن يميِّز بين الانفعال الإنسانيّ الشخصي، والانفعال والغضب لله، فـــ "مَنْ أحَدَّ سِنَانَ الغضبِ لله قَوِيَ على قتلِ أشدّاء الباطل" لأنَّ "آلة الرياسة سعة الصّدر" ولا بدَّ أن يكون الانفعال في مفهوم الدِّين الإسلاميّ الحنيف ممّا لا يُخرِجُ من رضى ولا يُدخِلُ في سخط، لأنَّ أركان الكفر أربعة: الرغبة، والرهبة، والسّخط والغضب.
تلك هي النزعة الواقعيّة في الإسلام، لأنَّ الواقع والمثال يتكاملان في دور العقل والروح {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} [الرعد : 19] فالتشريع الإلهيّ سبيلُ هدايةٍ ورشاد، وإخراجٌ للنّاس من ظلمات الوهم إلى نور العلم {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر : 9].
فالكثير من الناس يتوسّلون ما لا يُرضي الله في تحقيق مآربهم وغاياتهم وطموحاتهم وآمالهم، فهل الغايةُ تبرِّرُ الوسيلة؟ إنَّ التشريع الإلهي هو الذي يُقدِّر ويُقرِّر ذلك ليؤكِّد مفهوماً خالصاً لله، وأسلوباً إسلاميّاً يتحرّك للإصلاح والتغيير لاسيّما أنّ الله تعالى لا يُغيِّرُ ما بقومٍ حتّى يُغيِّروا ما بأنفسهم، لذلك ينبغي العمل على المشاركة في إضعاف الحكم الظّالم وتحطيم قوّة الظلم والظالمين، {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود : 113].
إنَّ القواعد العامّة التي تحكم فكر الإنسان وسلوكه، من أهمّ الأُسس التي يرتكز عليها بناء الشخصيّة الإنسانيّة، هذه القواعد تزكّيها قاعدة "أصل الصحّة" للعمل الذي ينطلق بالإنسان لتحقيق ما يصبو إليه من توازنٍ وخيرٍ وحُكْمٍ عادلٍ، وابتعادٍ عن الظنّ والسّذاجة وما ينحرف بالمرء عن صراط الله المستقيم ومفاهيم دينه الحقّ.
لقد شكَّل سِفْرُ "مفاهيم إسلاميّة عامّة" مدرسةً تربويةً أخلاقيّةً اجتماعيّةً متحرِّكة حيّةً، استقى سماحة العلاّمة السيّد محمّد حسين فضل الله ينابيعها الثرَّة، ومصادرها، وعناوينها من كتاب الله العزيز، وسيرة نبيّه الأعظمُ وحركيّة الأئمّة الأطهار من أهل البيت (عليهم السلام)، ليكون هذا الإنجاز من المآتي العظيمة التي أوضحت سُنّة السيّد ومنهجيّته وموضوعيّته التي بدأها مبكراً في سنِّ الشّباب، وبقي عليها وهو يلجُ السّبعين من العمر، لتبقى هذه المفاهيم عناوين الإسلام ومبادئه، وقد سرَّ "دار الملاك" أن تُعيدَ تقديمها إلى الأُخوة المؤمنين الملتزمين بالإسلام سُنّةً لن يجدوا عنها تحويلاً أو تبديلاً، لأنَّها سُنّة الله التي قد خلت في عباده، ومَنْ أحسنُ من الله قيلا، بحُلَّةٍ جديدة وطبعةٍ مُنَقَّحة.
جعلنا الله من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر : 18].
الناشر
الحلقة الأولى
التهذيب الاجتماعي في الإسلام
و
لِكُلِّ سؤالٍ جواب
• المقدِّمة "بين يديّ المحاضرات"
• التهذيب الاجتماعي في الإسلام
• لكلِّ سؤالٍ جواب
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدِّمة الطبعة الثانية
بين يدي المحاضرات
في طريق العمل للإسلام يشعر العاملون بالهوّة العميقة التي تفصل بين الشباب وبين الدين.
ويلاحظون ـــ مع هذا الشعور ـــ أنّ سبب هذه الهوة، هو الجوّ الرسميّ الذي يخيّم على الصلة التي تربط علماء الدين بالشباب، الأمر الذي يحجب عن كلا الطرفين تطلُّعات الفريق الآخر وأفكاره ومنطلقاته في الحياة، وبالتالي يخلق الحواجز الفكرية والروحية والنفسيّة التي تمنع من التفاهم أو تشجِّع على سوء الفهم.
وقد حاولت عندما انطلقت إلى أجواء العمل في العراق، أو في لبنان أن أتجاوز هذا الجوّ الرسمي، إلى الجوّ المنفتح المنطلق الذي يجعل العلاقة في إطار الشعور العميق بالحاجة إلى المعرفة الواعية التي تتطلَّع إلى كلّ اتّجاه، وتتحرَّك في أكثر من طريق لتلاحق لمحات الحقيقة وومضات الحقّ.
ورأيت أنّ ذلك يستدعي منّا أن نعيش مع الشّاب أفكاره ومطامحه وآماله وآلامه لنتعرّف حياته على الطبيعة، دون حاجة إلى اللّف والدوران.
وآمنت أنّ علينا أن نؤمن بأنَّ الشكّ في الحقيقة، وفي القِيَم وفي الحياة حقّ طبيعي للإنسان الذي لا يريد أن يغلق عينيه في هدوء على الظلام وإنّما يحاول أن يفتح عينيه على النور المنطلق أبداً من خلال الضباب، ولهذا كان من واجب العاملين أن يستجيبوا لنوازع "الشكّ" و"القلق" و"التساؤل" الراكضة أبداً في كلّ اتّجاه، وأن يحاولوا ـــ ما أمكنهم ذلك ـــ التركيز على العنصر الإيجابي للشكّ ليتحوّل إلى عنصر فاعل يتحرّك في اتّجاه الإيمان، بدلاً من أن يبقى عنصراً سلبياً يدمّر الحياة في الإنسان، ويشلّ حركة الحياة من حوله.
وقد يؤكّد لنا هذه الحقيقة المنهج القرآني في الحوار الذي حاول أن يثير الشكّ في نفوس الكافرين في عقائدهم ليحطّم زهو الاعتزاز بالباطل في نفوسهم ومن ثمّ ينقلهم إلى العقيدة من خلال الخطوات الفكرية الرائعة التي تعرف كيف تبيِّن للإنسان الجسر الذي يعبر به من ضفّة الشكّ إلى شاطئ اليقين.
وتعلَّمت ـــ مع ذلك كلّه ـــ أنّ الأساليب ـــ التي تحاول أن تتحدَّى الشكّ بالعنف وتقضي على الشبهة بالشتيمة، وتمارس ـــ في عملية الحوار ـــ عرض عضلاتها المفتولة ـــ تجرم في حقّ الفكرة، وفي حقّ الأُمّة.
أمّا جريمتها في حقّ الفكرة، فلأنّها توحي للآخرين بعدم قدرتها على مجابهة الشكّ، بالفكر والعلم والحجّة والبرهان، ولذا فهي تلجأ إلى أسلوب الضعفاء الذين لا يملكون سوى أساليب الغوغاء، سبيلاً للدفاع عمّا يعتقدون، الأمر الذي يعطي انطباعاً بضعف الفكرة من حيث الأساس.
وأمّا جريمتها في حقّ الأُمّة، فلأنّها تعمّق لها شكوكها وشبهاتها وتجعلها تعيش في حيرة عميقة صامتة، وقلق داخلي مدمّر، لا يهتدي إلى الحقّ، ولا يجد من يمسك بيديه في طريق الوصول إلى الهدى.
وعلى ضوء هذا كلّه ـــ كانت فكرة الندوات الثقافية، التي يلتقي فيها الشباب تحت شعار طرحناه في اتجاه الحوار الحرّ المنفتح، فأثبت نجاحه في أكثر من مجال وهو "ليس هناك سؤال تافه وليس هناك سؤال محرج".
فالحقيقة بنت البحث، والبحث لا يتبلور إلاّ في المجالات التي تُفقأ فيها الدمامل وتنفذ إلى أعماق الأشياء، وتنزع كلّ ما في داخل الذّات من علامات الاستفهام حول كلّ شيء يتعلَّق بالعقيدة والحياة.
وكانت المفاجأة أمامنا بالانتظار.
فالشباب ليس عدوّاً للدين، بل هو عدوّ الأساليب المتخلِّفة التي يمارسها البعض باسم الدّين.
وليس عدوّاً للحقيقة، بل هو عدوّ الحواجز التي تحاول أن تقدِّم له الحقيقة في ألف حجاب وحجاب.
وانطلقت الأسئلة في كلّ اتّجاه، وتمرّد القلق ليعبر عن نفسه، وتحفّز الرفض ليؤكّد منطقه، وبرزت بعض الطفيليّات الساذجة هنا وهناك.
وكان لا بدّ للآخرين الذين لا يرون رأينا في العقيدة، أو يختلفون معنا في فهم الحياة، أو تفسير الكون، أن يمارسوا الأساليب القديمة في حرب الأعصاب وفي الكلمات اللاّمسؤولة التي يطلقونها هنا وهناك.
وكان لا بدّ لنا من أن نستمرّ ونلاحق التجربة ونتجاوز الضجيج والغوغاء بالأساليب الإسلامية الكريمة.
ونجحت التجربة ـــ بحمد الله ـــ .
وبدأت الندوات تعطي ثمارها، وتؤكّد أسلوبها الجديد في العمل وفي الحوار.
وقد أرادت "ندوة الشباب المؤمن" في بنت جبيل ـــ لبنان الجنوبي ـــ أن تقدّم للقرّاء هذه المحاضرات، والأسئلة المعروضة معها ـــ لتعمّ الفائدة، ويشمل النفع. وحاول بعض الشباب أن يلخّص بعض هذه المحاضرات ليطبعها ـــ بعد ذلك ـــ في سرعة وارتجال فوَّت الكثير من عناصرها تبعاً للاختصار الشديد، كما حدث ذلك في الحلقة الأولى من هذه المفاهيم التي طبعت سابقاً.
وقد أعدنا كتابة هذه الحلقة الأولى ـــ من المفاهيم الإسلامية العامة ـــ بتفصيل أكثر وعرض أعمق، لنتلافى ما حدث في الطبعة الأولى ـــ راجين أن ينفع الله بها المسلمين وهو حسبنا ونعم الوكيل.
محمّد حسين فضل الله
التهذيب الاجتماعي في الإسلام(*)
[1]
هناك ظاهرة عامّة تتمثّل في حياتنا السلوكية العامّة، كمسلمين، حتّى لتتَّخذ في أغلب مجتمعاتنا صفة الطابع العام الذي يطبع واقعنا، ويلوِّن شخصيّتنا، ويصنّفنا بالتالي في عداد الشعوب غير المتمدّنة.
إنّها ظاهرة طريقة ممارسة العلاقات الاجتماعية في سلوكنا العملي، أو بالأحرى أسلوب ممارستنا لنوازعنا ونزواتنا في حياتنا الاجتماعية.
فنحن نمارس أفكارنا ونزعاتنا كما لو كنّا أفراداً نعيش في أرض خالية ليسَ فيها أحد فقد لا نلتفت في كثير من الأحيان إلى الناس الذين يعيشون معنا ونعيش معهم، من حيث تأثير أفعالنا أو أقوالنا على حياتهم العامّة والخاصّة من النواحي السلبية والإيجابية فالمهم لدينا ـــ في كثير من الحالات ـــ أن نعيش على مزاجنا، وليس من الهامّ لدينا أن ننظر فيما إذا كان ذلك يعكّر مزاج الآخرين أو يسيء إلى حياتهم.
وكمثال على ذلك، ظاهرة الضجيج المزعج الذي يفترس الهدوء الداخلي والخارجي للإنسان في هذه المجتمعات.
فإنَّنا نلاحظ أنَّنا لا نعرف طريقة الهمس أو الإخفات حتّى في كثير من أحاديثنا الخاصّة فقد يلفت نظرنا ـــ في بعض الأحيان ـــ أن نسمع إلى الزوجين أو غيرهما ـــ في داخل البيت ـــ يتحدَّثان عن قضاياهما الخاصّة بصوت مرتفع يعلو حتّى يصل إلى آذان بقيّة الجيران وقد يحدث أن يتحدّث الناس في الشارع أو في النوادي وهم متلاصقون في الموقف أو في المجلس، فلا تشعر إلاَّ وهم يتحدّثون بصوتٍ عال لا يسمح لمن حولهم أن يتحدَّثوا بهدوء.
ومن الطبيعي أن ينعكس هذا الوضع على أسلوبهما في استعمال أجهزة الإعلام من مكبّرات الصوت، إلى الراديو، أو التلفزيون، أو آلات ضبط الصوت (المسجّلات)، فنجد أنّ أصحابها يجعلون مؤشّر الصوت يصل إلى أعلى درجة يمكن أن يصل إليها حتّى يصل إلى كلّ بيت في المنطقة أو في القرية.
ولماذا هذا كلّه؟
إنَّه المزاج الشخصي الذي يدفع الإنسان إلى أن يرفع صوته دون ضرورة أو يطلق صوت المذياع دون حاجة. وقد تفاجئك كلمة "أنا حرّ" عندما تحاول الاعتراض على هذا وذاك في عمله هذا وربّما تجد مَن يتعجَّب منك على هذه الملاحظة ما دام المذياع له، وما دام البيت بيته، وقد تجد مَن يقابلك بعدم الالتفات، إلى ما يجرّ هذا التصرّف من نتائج سيّئة للآخرين، فهو يمارس هذا الأسلوب في الحديث أو في استعمال الجهاز بشكلٍ عفوي، فهكذا اعتاد، وهكذا قد تعلَّم.
[2]
ونحن في ذلك كلّه نلمح ظاهرة الغفلة عن نتائج تصرُّفاتنا تجاه الآخرين، أو الاستهتار بمشاعرهم وحريّاتهم فكلمة "أنا حرّ" تعطينا الإحساس بأنَّ قائلها يشعر بأنَّ عليه أن يمارس حريّته في ما يحبّ وفي ما يكره، من دون اهتمام بحريّة الآخرين في أن يعيشوا بهدوء واطمئنان، فليسهر المتعب المكدود، وليتألَّم المريض المعذَّب، وليبق الطالب بدون قراءة أو دراسة، ولتتحطَّم أعصاب المجهدين،... فذلك كلّه لا قيمة له أمام ممارسته حريّة نزواته ونزعاته.
أمّا مَن يتعجَّب منك على ملاحظتك لأنّه يمارس الحديث في بيته، أو يطلق المذياع الذي يملكه فهو نموذج آخر يعتقد أنّ من حقّه التصرّف في ما يملكه وفي ما يسيطر عليه بجميع الوسائل والأساليب وإذا كان الآخرون ينزعجون من ذلك فبإمكانهم الرحيل من دارهم، والابتعاد عنه، أنّه يتصرَّف في ملكه وليس من حقّ الآخرين أن يمنعوه من ذلك، كما أنّه لا يمنعهم من التصرّف في ما يملكون.
أمّا الذي يملك من أسلوب اللّياقة، أن يعتذر، ولكنّه يعلّل تصرّفه بالغفلة عن نتائج عمله وباعتياده هذا الأسلوب المثير للضجيج وللضوضاء، فقد نجد فيه الشاهد على امتداد هذه الظاهرة حتّى لتتحوَّل إلى عادة عضوية يمارسها الناس دون شعور، وتصبح درساً من دروس التربية العملية التي ينشأ عليها الصغار ويشيب معها الكبار.
ومن الطريف جداً، أنّك تجد كلّ هؤلاء يضجُّون بالشكوى من هذه الظاهرة التي تحطّم الأعصاب، وترهق الجسم، وتعطّل الأعمال، ويظلُّون يحلمون بالانتقال من مناطقهم إلى مناطق أخرى أقلّ ضجيجاً وأكثر هدوءاً، ويتحدّثون الأحاديث الكثيرة عن الجماعات الأخرى التي تعيش في هدوء يبعث الخدر في الجسم حتّى ليحلّق بأجنحة من الأحلام دون نوم، دون أن يلتفتوا إلى أنّهم يمارسون الضجيج في الوقت الذي ينتقدونه، لأنَّ أسلوبهم هذا أصبح عادة تعيش معهم في اللاشعور.
[3]
هذا نموذج بسيط من نماذج أسلوبنا العملي في حياتنا الاجتماعية، التي أصبحت تأخذ صفة التخلُّف فيما تأخذ من صفات.
وقد يكون لأولئك الذين كرَّسوا هذه الصفة بعض العذر في ذلك، لأنَّ مجتمع الحضارة ينطلق من قاعدة احترام مشاعر الآخرين، وحريّاتهم، وبالتالي احترام وجودهم كبشر من حقّهم أن يعيشوا في المجتمع كما تعيش، وأن يرتاحوا كما ترتاح.
فنحن نفهم أن يمارس الإنسان كلّ حريّته في الصحراء عندما يكون وحده لأنَّ ذلك لا يمثّل عدواناً على أحد ولا يشكِّل ضرراً على أحد.
أمّا عندما يكون الإنسان في داخل المجتمع حيث يتأثّر الأفراد بالأفعال والأقوال التي تصدر عن بعضهم.
أمّا عندما تكون ساحة الحياة شركة بينك وبين غيرك، فليس لك أن تطرد غيرك من الحياة بحجّة أنّك تريد أن تمارس كلّ حياتك، أو تخنق شركاءَكَ في نطاق حريّتك، بحجّة أنّك تريد أن تستنفد كلّ ما لك من حريّة، لأنَّ ذلك يلغي معنى المجتمع، ويحول الوضع إلى حياة فرديّة أنانيّة، وبالتالي إلى صراع لن يكون الرابح فيه أحد في أغلب الأحيان.
إنَّ معنى أن تعيش في إطار المجتمع، هو أن تحسّ بوجود الآخرين، وتشعر بمسؤوليّتك تجاه ذلك.
ولعلَّ من آثار ذلك هو أن تفهم أنّ أغلب مجالاتك في المجتمع ليست لك وحدك بل هي ملك لك ولغيرك، تماماً كما يشير إليه الحديث النبويّ الشريف الذي ضرب مثلاً للحياة الاجتماعية ومسؤولية المجتمع عن حمايتها، بالسفينة التي يجلس فيها كلّ راكب في مكانٍ خاص، وأراد أحد الرُّكاب أن يقتلع الخشبة التي يجلس عليها بحجّة أنّها ملكه، فهل للآخرين أن يوافقوه على هذه الحجّة؟ إنَّ الحديث الشريف يرفض ذلك لأنَّ كلّ خشبة في السفينة هي من حقّ الجميع ما دامت حياتهم جميعاً متعلّقة بها.
وهكذا نستطيع أن نعلّق على كلمة هؤلاء الذين يتشدَّقون بالحريّة في ممارسة نزواتهم وإن أضرَّت بالآخرين. كما في النموذج الذي قدَّمناه الذي يحتجّ على الضجيج الذي يحدثه بأنّه يمارسه في بيته.
آنَ لنا أن نعلّق على ذلك، بأنَّ الجدران التي يشتمل عليها البيت، أو الأبواب وما إلى ذلك قد تكون ملكه ولكنَّ هذا الفضاء الذي ينطلق فيه هدير الصوت، شركة بينه وبين غيره فليس له أن يتصرَّف فيه بما يسيء إلى حياة شريكه.
إنَّ الصوت عندما ينطلق لا ينطلق داخل الجدران، وإنّما يرتفع في الفضاء ليدخل كلّ بيت ويغزو كلّ أُذن ويفترس كلّ هدوء، ولذا فليس من حقّه أن يطلقه من زاوية الحجّة التي يحتجّ بها.
[4]
هل هذا من الإسلام؟
والآن... هل لنا أنْ نتساءل:
إذا كانت صورة مجتمعنا هي هذه الصورة ـــ كما عرضنا ـــ .
وإذا كانت هذه الصورة تمثّل التخلُّف ـــ كما رأينا ـــ .
فهل انطلقت هذه الظاهرة من الإسلام، ليكون الإسلام ـــ بالتالي ـــ كما يحلو للبعض أن يقول ـــ هو دين التخلُّف؟
ومرّة ثانية نتساءل:
إذا كان الجواب نفياً، ولم يكن هذا الواقع من الإسلام.
فهل للإسلام قاعدة تشريعيّة للتهذيب الاجتماعي، لننطلق من خلالها في تغيير واقعنا على أساس الإسلام بدلاً من السعي إلى ذلك من خلال واقع الشعوب والمبادئ الأخرى، لنؤكّد من وحي ذلك أنَّ الإسلام هو دين الحضارة؟!
[5]
ليس هذا من الإسلام
أمّا الجواب عن السؤال الأوّل، فنحسب أنّه سيكون نفياً لعلاقة هذا الواقع بالإسلام وذلك لأمرين:
الأوّل: أنّ هذه الظاهرة التي تعيشها كثير من مجتمعاتنا الإسلامية، ليست ظاهرة خاصّة بهذه المجتمعات. بل هي موجودة في كلّ المجتمعات المتخلّفة البدائية التي لم تأخذ بأسباب الحضارة والتقدُّم، ولم توفّر لها التربية الصحيحة. التي تنقلها من مرحلة الإنسان ـــ الفرد ـــ، إلى مرحلة الإنسان ـــ المجتمع ـــ .
ولهذا نلمح فوضى السلوك، وفقدان التهذيب الاجتماعي، في الشعوب المتديّنة وغير المتديّنة لأنَّ واقعها الحياتي لم ينطلق من واقعها الديني، بل ربّما كان واقعها المتخلِّف ينعكس على واقعها الديني فيشوِّه القِيَم الدينية من أفكارها ويحوّلها إلى غير أهدافها الكبيرة السامية، لتختنق في مفاهيم ضيّقة لا تقترب من المفاهيم الأساسية، بل تجمّدها حتّى لتتحجَّر في نفوس أتباعها.
ولهذا يختلف الوعي الديني للشعوب حسب اختلاف مستواها الفكري والثقافي، ولعلَّ ممّا يشير إلى ذلك الأحاديث الشريفة الكثيرة التي تفضّل نوم العالم على عبادة العابد، أو التي تفضّل ركعتين يصلّيهما العالم على عبادة سنة أو أكثر يمارسها العابد، وذلك لأنَّ وعي العالم للدين يجعل لعبادته قيمة روحية لا تصل إليها عبادة العابد الذي لا يملك هذا المستوى من المعرفة، الأمر الذي يجعل عبادته مجرّد تعبير عن الإيمان الساذج الذي لا ينفتح على المعاني الرائعة التي تمثّلها العبادة.
وقبل ذلك كانت الآية الكريمة التي تقول في قوله تعالى:
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر : 9].
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر : 28].
وعلى ضوء هذا نستطيع أن نقول: إنَّ وجود هذه الظاهرة في مجتمعاتنا الإسلامية ينطلق من واقع التخلُّف الذي فرضته عصور الظلام والانحراف والحكم الفاسد على شعوبنا المسلمة، الأمر الذي جعلها تتجمَّد من الداخل لينعكس ذلك على واقعها الحياتي في الفكر والسلوك.
فلم يكن الإسلام ـــ بمعناه الواسع الشامل المتحرّك ـــ هو الذي يحرّك واقع المسلمين بل الجهل والظلم والحكم المنحرف المهترئ هو الذي كان يخطّط لهذه الحياة ويوجّه هذا الواقع تماماً، كما هو الحال في غيرها من الشعوب غير المتديّنة أو المتديّنة بدينٍ آخر غير الدين الإسلامي.
الأمر الثاني: إنَّ التوجيه الديني الذي كان يمارسه الوعّاظ في أكثر العصور، انطلق ـــ بفعل مفاهيم التخلُّف ـــ يركّز كلّ جهوده وأساليبه على العبادات بمفهومها الحرفي، فتؤلّف المؤلّفات الكثيرة وتُحرِّر الأبحاث الفقهية الواسعة في الصورة الشكلية لهذه العبادات حتّى لتوحي للمسلم ـــ في أكثر أساليبها ـــ بأنَّ عليه أن يركّز اهتمامه الكبير في الصورة المادية.
ومن هنا نشأت الوسوسة في القراءة والطهارة وغيرهما نظراً للأهمية الكبرى التي تعطيها هذه الأبحاث لكيفية القراءة أو كيفية الوضوء وغير ذلك.
أمّا العبادات في مفهومها الروحي الذي ينطلق إلى داخل النفس فيطهّرها ويهذّبها ويبعث فيها الشعلة المتوقّدة الحيّة من الإيمان، ويثير فيها الحركة الفاعلة التي تنطلق بالإنسان إلى أبعد مجالات الطهر والسموّ في علاقاته العملية في الحياة.
أمّا هذه، فليست مجالاً لهذه الأبحاث، حتّى انتهى الأمر ببعض الفقهاء إلى القول بأنَّ على المصلّي عندما يقرأ سورة الفاتحة أن لا يتوجّه بالدّعاء في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ*اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة : 5 ـــ 6] الخ، لأنَّ المطلوب في الصلاة هو التلاوة والقراءة وهما عبارة عن حكاية اللّفظ فقط، ولا بدّ في الحكاية أن لا تنطلق معانيها من داخل نفس الحاكي.
وعلى أيّ حال: فقد أخذ التوجيه الديني، والبحث الديني ـــ بشكلٍ عام ـــ ينطلق في هذا الاتجاه.
فالمؤمن الصحيح هو الذي يمارس هذه العبادات كما وردت، أمّا سلوك الإنسان مع الآخرين، وطريقة ممارسته لعلاقاته مع المجتمع، كيف يتكلَّم؟ كيف يتعامل؟ كيف ينشئ العلاقات؟ فهذا ما لا تتعرَّض له المواعظ والتوجيهات إلاَّ عرضاً وبشكل خفيف، لأنَّ هذه من المستحبّات، وتلك من الأخلاقيات، والثالثة من المباحات وأمرها بسيط في الدين لأنّها لا تستتبع عقاباً، فلا داعي لأن يجهد الإنسان نفسه بالبحث عنها طويلاً، وبالتحدّث عنها كثيراً، ما دام الإنسان يسعى من أجل الفرار عن العقاب.
ولم ينظر هؤلاء إلى أنّ كثيراً من هذه المستحبّات والأخلاقيّات وغيرها تشكّل السياج الواقي الذي يقي الإنسان من الوقوع في المحرَّمات لأنّه يخلق عنده المناعة الإيمانية العملية التي تجعله أبعد عن الانحراف وأقرب إلى الاستقامة.
وخلاصة القول: إنَّ واقع التوجيه الديني اقتصر على العبادات كأساس وحيد للخلاص، واعتبر غيرها من الأمور التي لا تمثّل قيمة كبيرة في الدين.
إنَّ هذا الواقع أدّى إلى أن تنفصل التربية الدينية عن الجانب الأخلاقي العملي الذي يبني للإنسان شخصيّته الإسلامية القوية التي تستطيع أن تمثّل الإسلام بكلّ ما فيه من امتداد وعمق، حتّى ليشمل كلّ جوانب الإنسان العملية، وينفذ إلى كلّ أعماقه فيجعلها تفيض بالطهر والسمو والصفاء.
وهكذا وصلنا إلى هذا الواقع الذي تلمح فيه الإنسان المؤمن المتعبّد الذي لا يتورّع عن الفحش في القول والخلف في الوعد. والقسوة في المعاملة، واللّف والدوران في العلاقات الإنسانية والسلوك العملي الذي لا يهتمّ فيه بمشاعر الآخرين.
[6]
هل للإسلام قاعدة في التهذيب الاجتماعي؟
أمّا الجواب عن السؤال الثاني، فبالإيجاب:
فالإسلام يملك القاعدة المتينة للتهذيب الاجتماعي، لأنّه انطلق في كلّ تشريعاته ومفاهيمه من قاعدة أساسية ركّزها النبيّ الأعظم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بقوله: "إنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مكارِمَ الأخلاق" فلكي يكون المسلم مسلماً حقّاً لا بدّ له من أن يمثّل مكارم الأخلاق في كلّ تصرُّفاته وأقواله وأفعاله، فهي روح التشريع ومنطلقه، فمنها يستمدّ الشرع حياته ويحقِّق مقاصده.
وبذلك نستطيع الالتقاء بالتشريعات واللّفتات الرائعة في مجال التهذيب الاجتماعي.
فنجد أنّه ينفذ إلى داخل مشاعر الإنسان وخلجاته ليرهفها حتّى لتبدأ بالإحساس بالآخرين، كوجود مرتبط بوجوده في كلّ ما يصدر منه، وكحياة متّصلة جذورها بجذور حياته في الأفكار والأفعال.
وبهذا تحقّق له النظافة في الداخل، وتفتح أعماقه على عالمٍ جديد يمتد بامتداد حياة الآخرين، ولا ينكمش في نطاق ضيّق من النوازع الذاتيّة والعوامل الفردية فتبدأ الفكرة العامّة في الأحاديث الشريفة.
"لا يكون الرجل مؤمناً حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه".
"اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك فأحبّ لغيرك ما تحبّ لنفسك واكره له ما تكره لها".
فلم يعد النظر إلى الذّات من الداخل يتحرّك ليخلق في نفسك شعور الزهو والعظمة والأنانية والكبرياء بل تحوّل إلى نظر يتجوّل في أعماق الذّات فينظر ما تحبّ وما تكره ليجعل من ذاته مرآة لما يحبّ الآخرون ولما يكرهون فيتعامل معهم على الأساس الذي يبني عليه تعامل الآخرين معه، ويتّخذ من ذلك قاعدة لحياته في ذاته ومع الآخرين.
وبهذا لم تعد الذّات سجناً يختنق فيه الإنسان بل تحوَّلت إلى نافذة يطلّ منها على حياته وحياة الآخرين ليجعل من ذلك قاعدة عامّة للسلوك الاجتماعي.
[7]
مع البناء الفوقي للقاعدة
ولم يكتفِ الإسلام بالوصايا العامّة، والمفاهيم الواسعة، بل حاول أن يدلّ الإنسان على الوسائل التي يستعملها في سبيل الوصول إلى الهدف الأسمى، ويعرِّفه كيف يحوّلها إلى أخلاق خاصّة تنطبع لطابع الحركة الاجتماعية للسلوك ويأخذ بيده إلى كلّ قضية بمفردها، لئلا يتركه في حيرة أمام متاهات القضايا والفروض.
ونحن هنا في محاولة لعرض بعض هذه النماذج التي حاول الإسلام ـــ من خلالها ـــ أن يربّي للإنسان ذوقه الاجتماعي.
1 ـــ صوتك كيف تطلقه؟
2 ـــ جهاز الإعلام كيف تستعمله؟
ربّما نستطيع أن نلمح في بعض الآيات القرآنية الكريمة ملامح الجواب على هذين السؤالين بالتصريح تارة وبالإشارة أخرى.
فنلتقي في البداية بالآية الكريمة الواردة في حديث وصايا لقمان لابنه:
{وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان : 19].
فإنَّنا نجد التركيز على غضّ الصوت بأسلوب يحاول إبعاد الإنسان نفسياً عن رفع صوته بتجريد علوّ الصوت عن كلّ قيمة جمالية أو عقلانية، فكأنّه يقول له: لو رفعت طبقات صوتك بأعلى ما يمكن فإنّك لن تصل في زعيقك هذا إلى زعيق الحمار ونهيقه ومع ذلك فأنتَ تحسّ بالانزعاج منه كما يحسّ الآخرون بذلك لأنّه أنكر الأصوات.
فما رأيك في هذا المستوى وفي هذا التشبيه؟
إنَّ القضية لا تحتمل نقاشاً أو جدالاً بعد ذلك، فالإنسان لا يرضى لنفسه هذا المنحدر وبذلك يلتفت إلى نفسه كلّما أراد أن يرفع صوته.
وبذلك يفقد هؤلاء الذين يعتمدون في نجاح خطاباتهم الحماسية على الزعيق، زهوهم وقيمتهم الاجتماعية عندما يتبلور ذوق المجتمع ويصفو حتّى ليتحوّل إلى هدوء الكلمة عندما تنطلق بعيداً عن ضوضاء الضجيج.
وهناك آية أخرى تشير من طرف خفي إلى مهمّة الصوت العالي ودوره الذي يتحدَّد بحاجتك إلى إسماع الآخرين الذين لا تستطيع أن تسمعهم إلاّ أن ترفع صوتك.
أمّا في غير هذه الحالة، فأنتَ تفقد الهدف من ذلك وتكون كمن يعبث ويتصرَّف دون وعي.
قال تعالى:
{وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه : 7].
فهي تشير إلى أنّك لستَ بحاجة إلى أن ترفع صوتك وأنتَ تخاطب الله سبحانه وتعالى لأنّه ـــ سبحانه ـــ يعلم السرّ وأخفى منه، فما حاجتك بعد ذلك من رفع صوتك وعلى ضوء هذا، وردت الآية الكريمة:
{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف : 205].
ومن خلال ذلك كلّه نفهم الحكمة في هذه الطبقات المتعدّدة للصوت التي خلقها الله للإنسان ليستعمل الإنسان كلّ طبقة في الحالة التي تلائمها، فليس من الطبيعي أن يستخدم الإنسان صوته في داخل البيت بالدرجة التي يستعمله في المزرعة حيث لا يستطيع إيصال كلامه إلى الآخرين الذين يبعدون عنه مئات الأمتار إلاّ بذلك.
وقد لا يقتصر ذلك على ممارسة الإنسان صوته، بل يتعدّى ذلك إلى ممارسته أجهزة الإعلام التي يستخدمها كالراديو والتلفزيون ومكبّرات الصوت وأجهزة التسجيل لأنَّ لتلك الأجهزة عدّة درجات من الصوت يمكن للإنسان أن يستعملها بحسب حاجته.
وقد تلاحظ الهدف من خلال هذه الأساليب التي استخدمها القرآن الكريم لإبعاد الإنسان عن استعمال الأصوات العالية في غير حالة الحاجة إليها. وهو تربية الذوق الإنساني على أن يمارس الإنسان وظائف أعضائه بحكمة وهدوء، دون أن يسيء إلى نفسه وإلى الآخرين.
وقد أراد الإسلام أن يجعل ذلك من آداب المسلمين الإلزامية مع النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وربّما يتعدّى بعضهم من ذلك إلى بقيّة القيادات الإسلامية المقدّسة كما في سورة الحجرات.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ*إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ*إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ*وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 2 ـــ 5].
ونلاحظ في آيةٍ أخرى التوجيه القرآني للإنسان على أن يكون طبيعيّاً في استعمال صوته حتّى في العبادات فلا يرفعه إلى الحدّ الذي يصل إلى الآخرين ولا يخفضه إلى المستوى الذي لا يسمع به نفسه، بل هو الحدّ الوسط الذي يبيّن به جوهر الصوت دون أن يحدث ضوضاء أو ضجيجاً وذلك قوله تعالى:
{وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء : 110].
وينبغي أن يعلم من خلال ما قدَّمناه أنّ شجب الإسلام للأصوات العالية دون ضرورة لا يقتصر على مضمون دون مضمون، لأنَّ القضية قضيّة طبيعة الصوت، لا طبيعة المحتوى فلا يفرق بين القرآن وغيره كما يظنّ بعض السذَّج إنَّ لهم الحقّ أن يرفعوا الجهاز الصوتي الذي يملكونه إلى أبعد حدّ إذا كان الصوت يتضمّن قرآناً أو موعظة أو غير ذلك.
لأنَّ الدين يفرض على الآخرين أن يخضعوا لذلك ويستسلموا له.
إنَّ هذا الظنّ خطأ، لأنَّ الإسلام يريد للإنسان أن يستمع للقرآن وللمواعظ بروح هادئة خاشعة ومن الطبيعي إنّ ذلك لن يتحقَّق إذا كان الصوت ينطلق بصورة مزعجة تثير الأعصاب وتبعث على التوتُّر.
3 ـــ لا تدخل بيتاً حتّى تستأذن أهله.
4 ـــ ولا تنفعل إذا اعتذروا عن استقبالك دون موعد.
من قواعد التهذيب الاجتماعي في الإسلام هو احترام حريّة الإنسان في منزله، فليس لك أن تدخله دون إذنه سواء أكان حاضراً فيه أم كان غائباً عنه، لأنَّ من الممكن أن لا يكون الوضع الداخلي للمنزل لائقاً في نظره لاستقبالك، أو يكون قد احتفظ ببعض الأسرار الخاصّة التي لا يريد اطّلاع أحد عليها، أو غير ذلك من المبرّرات التي تدعو الإنسان للمحافظة على حرمة منزله.
وليس لك أن تنفعل، أو تتأثّر أو تعتبر الموقف عدائيّاً ضدّك، عندما يرفض إنسان ما استقبالك، وأنتَ تذهب إليه دون موعد، لأنَّ من الممكن أن لا يكون هذا الإنسان في حالة صحيّة أو نفسيّة أو فكرية تسمح له باستقبالك.
وربّما يكون قد ارتبط بموعد مع إنسانٍ آخر غيرك في نفس هذا الوقت، الأمر الذي يجعل استقباله لك اعتداء على حقّ ذلك الإنسان في الموعد وخيانة لالتزامه به.
لذلك فإنَّ عليك أن تتقبَّل ذلك بروح واقعيّة تدرس ظروف الآخرين كما لو كانت معك.
وقد صوَّر القرآن هاتين الحالتين في قوله تعالى في سورة النور:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ*فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور: 27 ـــ 28].
أمّا واقعنا العملي فيتنافى مع ذلك.
فنحن نجد السلوك الاجتماعي يتمثّل في الدخول إلى البيت أو الدائرة أو المكتب دون إذن إذا لم يجد القادم أحداً يأذن له، وقد يلقاك على حال لا تحبّ أن يجدك عليها، أو ليقتحم عليك خلوة كنتَ تحبّ أن تستسلم فيها لأفكارك وأعمالك بهدوء.
ونلاحظ إلى جانب ذلك الكثيرين الذين يأتون إليك دون موعد، حتّى إذا اعتذرت عن استقبالك لهم في هذا الوقت، أو اعتذر لهم بعض مَن في الدار عن ذلك، بعد أن يتأكّدوا من وجودك هناك اعتبروا هذا إهانة لهم وإساءة لكرامتهم ووجدوا فيه موقفاً عدائياً من جانبك.
أمّا القرآن فإنَّه يريد أن يربطنا بالحياة العملية الواقعية التي تنظر إلى طبيعة الأجواء العامّة للإنسان ولذلك يرفض اعتبار هذا الموقف إهانة أو إساءة بل يرى فيه سلوكاً طبيعياً واقعياً يرتبط بتنظيم حياة الإنسان ومواعيده وأوقاته الأمر الذي يرفع من مستوى المجتمع ويجلب الراحة لأفراده.
وقد جرَّبت الشعوب المتحضّرة هذا السلوك العملي الذي أرادنا القرآن أن نسير عليه حتى صار جزءاً من حياتها العملية، تنطلق فيه ببساطة وعفوية وواقعية دون أن تجد فيه أيّاً من هذه الانفعالات الوهمية، واستطاعت أن تجعل ذلك من معالِم الحضارة الأساسية التي يحاول الكثيرون منّا أن يترسّموها أو يحملوا لواء الدعوة إليها بصفتها الحضارية الأوروبيّة، في الوقت الذي نجد ـــ في ما قدّمنا من حديث ـــ انطلاق الآيات القرآنية لتعلم الناس كيف يمارسون هذا السلوك منذ مئات السنين.
5 ـــ اجلس حيث ينتهي بك المجلس
وهذه قاعدة أخرى من قواعد التهذيب الاجتماعي في الإسلام، حاول الإسلام فيها أن يبعد المسلمين عن التعقيد في قواعد السلوك في الأماكن التي يختارها الإنسان في المجلس فمن الملاحظ أنّ العرف الاجتماعي الرسمي يعتبر أنّ لكلّ إنسان مركزاً معيّناً في المجلس يختلف حسب اختلاف شخصيّته الاجتماعية ومكانته الرسمية، فلا يجوز للموظّف الصغير أن يجلس إلى جانب الموظّف الكبير، ولا يمكن للشخص الذي لا يملك مكانة اجتماعية مرموقة أن يحتلّ مركز الوجيه الخطير.
وهكذا نجد الطبقيّة الاجتماعية تتمثّل في الحفلات والاجتماعات الرسمية بأوضح صورة حتّى لتستطيع أن تعرف مراكز الأشخاص من خلال الأمكنة التي يجلسون فيها وموقعها من المجلس.
وقد أصبح للأشخاص الذين يشرفون على هذا الوضع صفة رسمية لا ينالونها إلاّ بالتدريب والدراسة الواسعة والتخصُّص الطويل فيُعتبَرون مرجعاً للآخرين في تنظيم الاستقبال والجلوس وغير ذلك ويطلقون عليهم اسم رجال البروتوكول.
هذا هو الواقع الاجتماعي أو الرسمي الذي عاش ويعيش فيه كثر من الناس في الماضي وفي الحاضر.
وقد حاول الإسلام ـــ من خلال سلوك النبيّ وأحاديثه وبعض التشريعات الإسلامية في كثير من الحالات ـــ أن يوحي للنّاس بأنّ طبيعة الأمكنة التي يجلس فيها الإنسان لا تمثّل قيمة حقيقيّة من قِيَم الحياة، ولا تعبّر عن مستوى معيّن للإنسان، فإنَّ التقدُّم والتأخُّر في المكان يخضع لأوضاع زمنية ونفسية دون أن يكون للمستوى الاجتماعي دخل فيها من ناحية أساسية وعلى ضوء ذلك أطلق القاعدة المأثورة في الحديث الشريف:
"إذا جاءَ أحدكم مجلساً فليجلس حيث ينتهي به المجلس".
فالمهمّ أن تجد المكان الفارغ الذي تجلس فيه من دون فرق بين أن يكون في الصفّ الأول أو الصفّ الأخير.
ولهذا كان النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يجلس مع أصحابه حتّى لا يستطيع القادمون ـــ ممّن لا يعرفونه ـــ أنْ يتعرَّفوا إليه لأنّه لم يكن يتميَّز بمكان معيّن أو بوضعٍ خاص حتّى طلب أصحابه منه أخيراً أنْ يصنعوا له حجراً يجلس عليه ليعرفه القادم فلا يشتبه بغيره، ليس إلاَّ، وفي بعض الأحاديث: كان رسول الله إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس.
وفي حديث الإمام الحسين بن عليّ عن أبيه في صفة النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
"كان إذا انتهى إلى قوم جَلَسَ حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك".
ومن الممكن أن يكون نظر الإسلام في ذلك إلى أن يعيش الناس ببساطة في حياتهم والعفوية في سلوكهم دون تكلُّف أو تعقيد.
وقد يكون من فوائد ذلك، أنْ نتخلَّص من الفوضى والارتباك اللّذين يحدثان من المحافظة على واقع الطبقيّة الاجتماعية في المجلس، وشعور القادم بضرورة تكريمه بجلوسه في المكان الذي يتناسب مع مركزه، مضافاً إلى شعور أصحاب المجلس بذلك، الأمر الذي يحدث الارتباك والضوضاء في المكان، ممّا يسيء إلى طبيعة المجلس، أو إلى المناسبة التي انعقد لها، أو إلى الأشخاص الذين يحضرون فيه.
وربّما نجد بعض فوائده في المحافظة على شعور الناس الطيّبين الذين يملكون كفاءات كبيرة ومواهب عالية ولكنّهم لا يملكون المراكز الاجتماعية التي يملكها مَن هم دونهم كفاءة ومواهب.
فنحن عندما نرفض اعتبار المراكز الأمامية في المجلس، ذات قيمة حقيقيّة، تفقد أثرها، وبالتالي تفقد تأثيرها في إحساس البسطاء بالغبن والحرمان عندما يجدون أنفسهم في الصفوف الأخيرة من المجلس.
وربّما نلمح التركيز على هذه الفكرة الإسلامية في الأماكن العامّة التي يتساوى فيها الناس من حيث الانتفاع كالمساجد وغيرها حيث انطلقت القاعدة الشرعية لتقول:
"مَن سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد فهو أحقّ به".
فلم تفرِّق بين إنسان وإنسان، فقد يكون الشخص الخامل اجتماعياً في الصفّ الأول من صلاة الجماعة مثلاً بينما يكون الوجيه الكبير في آخر الصفّ، دون أن يملك حقّ إزالته من مكانه، مهما كلَّف الأمر، إلاَّ برضاه.
6 ـــ كيف تختار كلماتك عندما تتحدَّث مع الآخرين
من قواعد التهذيب الاجتماعي في الإسلام، أن يتعلَّم المرء كيف يختار كلماته في الحديث مع الناس، فإذا وقف بين كلمتين، إحداهما تثير المشاعر وتلهب الانفعالات وتجرح الإحساس، والأخرى تنشر الهدوء والسلام في النفي فعليه أن يختار الكلمة الثانية.
وهكذا تنطلق عملية الاختيار بين الكلمات التي تخدش الحياء وتجرح الكرامة وبين الكلمات التي تحترم أخلاق الآخرين ونوازعهم ليكون الاختيار للكلمة الأخيرة.
وذلك هو قوله تعالى:
{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإسراء : 53].
وهناك الأحاديث الكريمة التي حرَّمت كلمات الفحش والبذاء ومنها الحديث الشريف "إنَّ الله يبغض الفاحش المتفحّش".
والحديث الآخر "إنَّ الله حرَّم الجنّة على كلّ فحَّاش بذيء اللّسان قليل الحياء".
وقد ورد النهي عن كلمات السبّ التي تثير المشاعر، لاسيّما سبّ مقدّسات الناس الذين تختلف معهم في الرأي والعقيدة، لأنّها تخلق ردود فعل عكسية لدى الآخرين كما في الآية الشريفة:
{وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام : 108].
فكلمات السّباب لا تعطي نتيجة في الاقتناع بالفكرة، بل إنّها تعطي بدلاً عن ذلك ردود فعل عصبيّة تتّجه في حركة انفعالية هوجاء مماثلة لتطلق السُّباب والشتائم ضدّ مقدّساتك بروح عدائية حاقدة.
كلّ ذلك من أجل أن يعيش الإنسان التهذيب في كلامه مع الناس بعيداً عن إثارة مشاعرهم وجرح أحاسيسهم ليكون في مستوى الإنسان الذي تكون حياته من أجل نفسه ومن أجل الآخرين.
7 ـــ إبدأ بالتحيّة، ولا تنتظر أن يبادئك الآخرون بها
هناك من الناس مَن يرى مركزه الاجتماعي فوق مستوى الآخرين، ولذا فهو يشعر أنّ من واجب الناس أن تتلقَّاه بالتحيّة قبل أن يبدأهم بها، لأنّه يحسب أنّ الابتداء بالتحيّة لا يتناسب مع صاحب المركز الكبير لمن هم دونه. ولكنّ الإسلام يشجب ذلك ويعتبر التحيّة علامة التهذيب الخلقي للإنسان لأنّها تدلّل على ما يحمله من احترام للآخرين وتقدير لشعورهم وإحساس بما يجيش في داخله من شعور عميق بالمساواة بينهم وبينه.
بينما يمثّل الموقف المعاكس الشخصية التي تختنق ـــ داخل ذاتها في إطار من الكبرياء المزيّف والتعالي الوضيع الأمر الذي يجعلها تحتقر الآخرين وتبتعد عن التهذيب.
ومن هنا أعطى البادئ بالسلام امتيازاً كبيراً على المستوى المعنوي كما ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
"البادئ بالسلام أوْلى بالله ورسوله".
كما أعطاه أجراً مضاعفاً في حساب الحسنات التي يجزى بها الصالحون. فقد ورد في الحديث عن الإمام الحسن بن عليّ (عليه السلام):
"للسّلام سبعون حسنة، تسع وستون للمبتدئ وواحدة للرّاد، وإنْ أحسن فعشر".
وقد أعطى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الأمثولة على ذلك في السلام على الصبيان والنساء فيما روته السُّنّة النبويّة الشريفة في حديث أنس بن مالك: "إنَّ رسول الله مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم" وفي حديثٍ آخر عن أسماء بنت يزيد "إنَّ النبيّ مرَّ بنسوة فسَلَّمَ عليهن".
وقد اعتبره الإسلام دليلاً على التواضع ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام): "مِنَ التواضع أن تُسَلِّم على مَن لقيت". وهكذا نعرف أنَّ القيمة في الإسلام للتهذيب الخلقي فهو الذي يجعل للإنسان مركزاً ممتازاً عند الله، لا للتّعالي والكبرياء في إطار المركز الاجتماعي المحدود.
8 ـــ احترام ظروف المريض
ومن مظاهر احترام ظروف الآخرين وآلامهم، تأكيد الإسلام على ضرورة تخفيف الجلوس عند المريض في حال عيادته لأنَّ ذلك قد يشقّ عليه نتيجة القيود المفروضة عليه في مرضه، أو الآلام التي قد يضطر إلى كَبْتِها أمام الآخرين ممّا يسبّب له إحراجاً وانزعاجاً وألماً شديداً.
فقد وَرَدَ في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام):
"إنَّ من أعظم العوَّاد أجراً عند الله لمن إذا عاد أخاه خفَّف الجلوس إلاَّ أن يكون المريض يحبّ ذلك ويريده ويسأله ذلك".
9 ـــ المحافظة على شعور الآخرين بشكلٍ عام
وفي ختام الحديث نلاحظ بشكلٍ سريع بعض اللّمحات الرائعة على ضرورة مراعاة شعور الآخرين وأحاسيسهم بشكلٍ دقيق جداً.
ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام):
"إذا كان القوم ثلاثة فلا يتناجى اثنان منهم دون صاحبهما فإنَّ ذلك ممّا يحزنه ويؤذيه".
لأنَّ الحديث السرّي بين الاثنين في حضور الثالث يشعره بعدم ثقتهما به، ومن الطبيعي أنّ ذلك يثير في نفسه الشعور بالامتهان والألم.
ويتمثّل هذا السلوك المرفوض إسلامياً في تكلّم اثنين بلغة أجنبية لا يفهمها الثالث، فإنّه يتنافى مع التهذيب الأخلاقي الذي يرتكز على مراعاة إحساس الآخرين. وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) مظهر آخر من مظاهر التهذيب الاجتماعي وهو احترام المتكلِّم عندما يسترسل في كلامه حتى ينتهي منه، فلا يقطع عليه حديثه لأنَّ ذلك يؤذيه كما لو خدشه في وجهه، لأنَّ الاعتداء على الكلمة، كالاعتداء على الجسم.
قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "مَن عرض لأخيه المسلم المتكلّم في حديثه فكأنَّما خدش في وجهه".
وفي صفات رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ما يؤكّد هذه الروح الإسلامية.
ففي كتاب النبوّة ـــ في صفة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
"ما صافَحَ رسول الله أحداً قطّ فنزع يده من يده حتّى يكون هو الذي ينزع يده منه، وما فاوضه أحد في حاجة أو حديث فانصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف".
وكان يعطي كلاَّ من جلساته نصيبه حتّى لا يحسب جليسه أنَّ أحداً أكرم عليه منه.
وكان يقسّم لحظاته بين أصحابه فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسويّة.
إنَّ هذه الصفات كلّها تؤكّد كيف كان رسول الله يريد أن يرسم للنّاس القدوة الحسنة للسلوك الإسلامي الرفيع الذي ينبغي أن يسير عليه الإنسان المسلم، ليستطيع أن يعطي العالَم الأمثولة الحيّة للمستوى الذي سوف تبلغه الإنسانية من التهذيب الخلقي الاجتماعي، فيما إذا قدّر للإسلام أن ينطلق بعيداً عن حياتها العامّة والخاصّة.
خاتمة المطاف
وإنَّنا حينما نثير هذا الحديث أو نعرض للنماذج الفكرية والعملية للتهذيب الاجتماعي، نحاول أن نوحي للذين يريدون أن يجعلوا من سلوك الإنسان الأوروبي، أمثولة حيّة للإنسان المتمدّن، ويعملون على أن يتّهموا الشعوب الإسلامية بالتخلُّف عن هذا المستوى الحضاري كنتيجة لابتعادها عن الفكر الأوروبي والحضارة الأوروبية.
إنَّنا نحاول أن نقدّم لهم هذا الحديث كمنطلق للتفكير من جديد، في أنّ الفكر الإسلامي والشريعة الإسلامية والحضارة الإسلامية، كفيلة بأن تجعلنا نرتفع إلى مستوى من التهذيب الخلقي، لا يبلغه إلاّ الذين ينهلون من الينابيع الصافية التي يسبح فيها الأنبياء.
لِكُلِّ سؤالٍ جواب
• لماذا يركّز علماء الدين على الأخلاق؟
• لماذا ينفر الشباب من الدين؟
• هل يحصر الإسلام دور المرأة العملي في المنزل؟
• كيف يكون زيّ المرأة في الإسلام؟
• هل يجوز للمرأة حضور صلاة الجماعة مع الرجال؟
• كيف نتعرَّف على إعجاز القرآن الكريم؟
س ـــ لماذا يركِّز علماء الدين على المشاكل الأخلاقية بعيداً عن المشاكل الاجتماعية؟
ج ـــ في البداية يبرز أمامنا سؤال يطرح نفسه أمام الجواب:
هل المشاكل الأخلاقية بعيدة عن المشاكل الاجتماعية حتّى تكونَ إثارتها ومحاولة معالجتها، من القضايا التي يمكن تأجيلها إلى ما بعد الفراغ من حلّ المشاكل الاجتماعية التي تواجه المجتمع في حياته العامّة؟
ولنا أن نجيب عن ذلك بتحديد معنى الأخلاق في حياة الإنسان، للنظر، هل هي في الهامش من حياتنا حتّى لتضيق فتُحصر في زاوية معزولة من زوايا الحياة، أو أنّها تتّسع لتشمل كلّ مجالات الحياة، بما فيها المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري.
إنَّ كلمة الأخلاق تنطلق من طبيعة السلوك الإنساني، الفردي والاجتماعي، تجاه النّفس والآخرين ونوعية ممارستنا لعلاقاتنا العامّة والخاصّة بالناس وبالوطن وبالحياة بشكلٍ عام، وبكلمة موجزة "هي مجموعة القواعد السلوكيّة التي تتبعها جماعة من الناس في حقبة ما من الحقب التاريخيّة ـــ كما يعرفها بعض علماء الاجتماع ـــ ".
وعلى ضوء هذا فإنَّنا نلاحظ شمول هذا المفهوم لجميع مظاهر السلوك الإنساني في حال الحرب والسلم، وفي الحكم والسياسة والاقتصاد، فعندما نقول: إنَّ الخيانة عمل غير أخلاقي؛ فإنَّ للخيانة مفهوماً يمتدّ إلى جميع حالات الإنسان ابتداء من خيانة الإنسان العلاقة الزوجية، أو خيانة الحاكم لشعبه أو لوطنه، أو خيانة القائد العسكري لأُمّته، أو خيانة الشعب مصالحه ومبادئه.
فهل يكون الحديث عنه حديثاً عن مشكلة بعيدة عن المشاكل الاجتماعية؟
وما هي المشاكل الاجتماعية ـــ إذا لم يكن للخيانة دور الأساس لكلّ ما يتفرَّع عنها من انحرافات وأعمال.
وعندما نقترب من كلمات السرقة والكذب والغشّ والعدوان، ونواجه ما يقابلها من ألفاظ الأمانة والصدق والإخلاص وغيرها، فإنَّنا نواجه مفاهيم عميقة الصلة بسلامة المجتمع وأمنه واستقراره على مستوى الحكم وعلى مستوى الحياة العادية للإنسان.
وإذا أردنا وضوح الصورة فلننظر إلى الشعارات التي يطرحها الثائرون والمصلحون والمعارضون السياسيون في وجه الحكم الفاسد.
فنجد أنّها تنطلق من محاربة سرقة أموال الأُمّة، والوعود المعسولة الكاذبة التي تخدّر الجماهير والاعتداء على حقوق الشعب وحريّاته وأمواله وحياته دون حقّ، وغير ذلك.
وماذا يمثّل هذا كلّه؟
ألاَ يمثّل بعضاً من المفاهيم التي يطرحها العلماء في مواعظهم وإرشاداتهم ونصائحهم في محاضراتهم العامّة والخاصّة.
فلماذا تعتبر هذه المفاهيم حديثاً بعيداً عن الحياة عندما تطرح في المساجد والنوادي الدينية، بينما يراها الكثيرون انطلاقة اجتماعية ثورية عندما تطرح في مجالاتٍ أخرى.
إنَّنا نعتقد أنّ قيمة المعالجة الدينيّة التي يمارسها العلماء الواعون المخلصون لهذه القضايا، تكمن في محاولتهم لتركيزها في أعماق الإنسان وأفكاره كأسلوب عملي من أساليب بناء الإنسان من الداخل لينعكس على حياته العملية في الخارج عندما يتحمّل مسؤولية العمل على المستوى العام والخاص وقد شاهدنا من خلال الواقع الديني التاريخي والمعاصر، كثيراً من اللّمحات الرائعة التي وقف فيها الرجال والنّساء مواقف الحقّ والبطولة أمام الإغراء، فصمدوا أمام المحرقة ولم يسقطوا في التجربة، بل نجحوا في الحفاظ على ما يحملون من مبادئ وقِيَم وعلى ما يقدّسون من مسؤوليات وواجبات، لأنَّ الأخلاقيات الدينية استطاعت أن تهيّئ لهم البناء الداخلي القويّ المتماسك الذي لا يتزلزل ولا ينهار أمام كلّ هزّة ومع كلّ ريح.
ونحن عندما نؤكّد على هذا الجانب، لا نريد الحكم على صحّة جميع المعالجات الدينيّة بأساليبها المختلفة للمشاكل الأخلاقية، فقد تمثّل بعض الأساليب الضيّقة التي يمارسها بعض الناس، التخلُّف في عرض الفكرة بحيث تنحصر في نطاق ضيّق من أعمال الإنسان الفرديّة التي لا تتعدّى نطاق حياته الخاصّة الأمر الذي يوجب عزل هذا الإنسان، بمفاهيمه الأخلاقيّة، عن الحياة العامّة، وبالتالي عزل المفاهيم الأخلاقية عن الحياة.
إنَّنا نشجب مثل هذه الأساليب لأنّها تجمّد الفكرة بدلاً من أن تحرّكها وتطلقها، وتشوّهها بدلاً من أن تقدّمها بصورة واضحة رائعة.
وربّما تتحمّل مثل هذه الأساليب الخاطئة، مسؤولية الفكرة القاتمة التي يحملها البعض عن الأخلاق والأحاديث الأخلاقية.
وفي ختام الحديث إنّنا نجد هذا المفهوم الواسع للأخلاق في الكلمة التي أطلقها النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كواجهة للخطّ العام للشريعة الإسلامية "إنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مكارِمَ الأخلاق".
فنحن نلاحظ أنّ الشريعة لم تقتصر في أحكامها على جانبٍ معيّن في الحياة بل انطلقت لتمتد في حياة الإنسان الفردية إلى الحياة الاجتماعية. في حالة السِّلم والحرب، في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعسكري فلكلٍّ من هذه الحالات أحكام معيّنة وشرائع محدَّدة.
ومع ذلك فإنَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يعتبر الأخلاق تسير مع كلّ حكم وفي أيّ مجال حتّى لتتحوّل ممارسة الأحكام الشرعية إلى ممارسات أخلاقية، كما يعتبر التمرّد عليها ممارسة لعمل غير أخلاقي، لا لأنَّ القضية قضية طاعة الله ومعصيته فحسب، بل لأنَّ كلّ حكم يخضع لمفهوم أخلاقي يمتدّ مع الحياة في داخل النّفس الإنسانية وخارجها.
وبعد هذا كلّه، هل عرفتم لماذا ركَّز علماء الدين على الأخلاق؟
س ـــ ما هي الأسباب التي أدّت إلى نفور الشباب من الدين؟
ج ـــ أحسب أنّ الجواب يتلخَّص في عناصر عديدة:
أ ـــ الصورة المشوّهة التي تمثّلها بعض النماذج البشرية المتخلِّفة، أو غير المخلصة للمسلمين، أو للمتديّنين بشكلٍ عام، أو الذين يمثّلون الدين بصورة رسمية، فقد يكون لهذه الصورة التي يلمحها الشباب بعض الأثر في داخل نفوسهم عندما يجدون الابتعاد عن الممارسة العملية لقضايا الحياة الملحّة، ويلاحظون النظرة الماديّة الفردية الضيّقة التي تطبع سلوكهم وأوضاعهم، أو يصطدمون بواقع الاتّجار بالدين وجعله وسيلة من وسائل الإثراء غير المشروع، أو يُفاجئون بالفهم الضيّق للمفاهيم الدينية عن الإنسان والكون والحياة، الأمر الذي يشوّه صورة الدين في نظره عندما يجده بعيداً عن تطلُّعاته.
ب ـــ الواقع التاريخي لبعض المراحل التاريخيّة للحكم الديني الذي مارسه بعض الحكّام المسلمين وغير المسلمين، الذي انطلق من مفاهيم التخلُّف ممّا أدّى إلى أن يعيش الناس في ظلّ الحكم الديني البؤس والشقاء والانحطاط والظلم والتسلُّط دون حقّ، وفقدان الحريّات في جميع مجالاتها، في الوقت الذي تعيش فيه الطبقات الحاكمة التي تمثّل السلطة الدينية الرسمية كلّ مظاهر البذخ والترف وبكلّ ما تتطلّبه شهواتها وغرائزها وميولها. الأمر الذي خلق انطباعاً لدى بعض الذين ينظرون إلى الأمور نظرة سطحية، أنّ الدين لا يمثّل الحلّ لمشاكل الإنسان، وإنّما يمثّل، بدلاً من ذلك، الوسيلة التي يستغلّ فيها الحاكمون والنافذون شعوبهم، ويسيطر باسمه القوي على الضعيف، دون أن يلتفتوا إلى الكلمة المعروفة "الإسلام شيء والمسلمون شيء آخر".
ج ـــ الأفكار التي شاعت في أوروبا في بدايات عصر النهضة وفيما بعدها، المستمدّة من واقع الممارسات الدينية لبعض المؤسّسات الدينية هناك، كفكرة "العلم يصادم الدِّين" أو "الدِّين أفيون الشعوب" وغير ذلك من الأفكار التي شارك في نشرها وتركيزها في أفكار الشباب، الأساتذة والمفكّرون الذين قادوا مسيرة الثقافة في مدارسنا الحديثة، وقادة الأحزاب الذين أرادوا أن يبعدوا الشباب عن الدين بإعطاء هذه الصور المشبوهة التي تمثّله بعيداً عن تطلُّعاتهم للتقدُّم وللانطلاق في مجال العلم والمدنيّة، والمبشِّرون الذين عملوا بأساليبهم المتنوّعة على إثارة الشبهات والشكوك في العقيدة والتشريع في التاريخ.
كلّ هذا دون أن تقابل هذه النشاطات بنشاطات دينيّة أخرى توضح خطأ هذه الأفكار، بالمستوى الذي تمارسه هذه القوى، بالنظر إلى أنّها انطلقت في بدايات عهود الاستعمار الذي انطلق من قاعدة إبعاد الأُمّة عن جذورها وقِيَمها لئلا تستمدّ منها القوّة على مقاومة القوى الغاشمة التي تستعمرها وتستعيدها، انطلاقاً من عقيدتها وتاريخها.
فكان من الطبيعي أن يسيطر على مؤسّسات الثقافة والإعلام وغيرها من أجل إفساح المجال لأفكار بعيدة عن أفكار الأُمّة كما ألمحنا إليه، وإغراق الجيل بالكثير من العقائد والمذاهب الفكرية، لا ليعتنق واحداً منها، بل ليعيش الفوضى في الفكر والعقيدة، فيغرق في دوّامة المناقشات اللّفظيّة والهامشية التي تبعده عن آماله وآلامه، وبالتالي تبعده عن التفكير والانتباه لما يخطّط له ويُراد به.
وقد يكون من الراجح للشبّاب، من أجل وضوح هذه الفكرة، أن يقرأوا كتاب "التبشير والاستعمار في البلاد العربية".
د ـــ التيّار المادي للحضارة الغربية الذي حاول أن يربط الإنسان بحياته المادية ويفلسف له شهواته وغرائزه، ويعمل على الإيحاء له بقداستها واعتبار ممارستها بكلّ حريّة ممارسة لإرادة الوجود التي تنطلق من شعور الإنسان بحريّته من الداخل دون أن يكون هناك سلطة أخرى خارج ذاته تفرض عليه إرادته.
الأمر الذي جعل الإنسان يشعر، أمام عوامل الإغراء التي صنعتها هذه الحضارة بتفاهة الضوابط الأخلاقية والقانونية التي تضبط له حركاته وتصرُّفاته وربّما يتعاظم هذا الشعور إلى شعوره بقسوة هذه القيود، إلى الحدّ الذي يعتبرها عدواناً على حريّته.
وبهذا أصبحت كلمة الحريّة لديه تشمل كلّ ما يفكّر به أو يحلو له حتّى الحريّة الجنسية، أو حريّة التفلُّت من القوانين والعادات والأعراف والتقاليد.
وأصبح مفهوم الرفض من المفاهيم المطّاطة التي يحملها الجيل دون وعي لمضمونها، فالمهمّ أن نعيش الرفض، دون أن يكون لمضمون الرفض أيّة أهمية في الحساب.
ومن الطبيعي أن يشعر الجيل الذي يعيش هذا الواقع بالعداء للدّين الذي يحاول أن يركّز الضوابط الأخلاقية في داخل الإنسان ليمارس إرادته واستقلاله من خلالها، ولينطلق في الحياة من قاعدة اعتبار الروح إلى جانب المادّة، أساساً سليماً للحياة الطبيعيّة المستقرّة.
وأحسب، بعد هذا الحديث كلّه، أنّ الصورة قد وضحت إلى حدٍّ بعيد، فيما نعتبره الملامح الأصيلة للصورة، وربّما يجد البعض ملامح جديدة لم نكتشفها في هذا الحوار السريع.
س ـــ ما هو موقف الإسلام من عمل المرأة؟
وبكلمة أخرى: هل الإسلام يعتبر الدور العملي للمرأة يعيش ضمن نطاق البيت، أو أنّه يشجّع أو لا يمانع انطلاقها في مجالات الحياة العملية خارج نطاق البيت؟
ج ـــ أعطى الإسلام للمرأة حقّ العمل كما أعطاه للرجل، وجعل لها قيمة عملها ملكاً مطلقاً تتصرَّف فيه دون معارض، كما جعل ذلك للرجل.
ونستطيع أن نلمح ذلك في ظاهرتين: تشريعيّة وتطبيقيّة.
أمّا التشريعيّة: فتتمثّل في ملاحظة المرأة قبل الزواج وبعد الزواج.
أمّا قبل الزواج: فلم يجعل الشرع الإسلامي لأبيها ولا لأيّ إنسان من أقربائها الحقّ في إجبارها على الأعمال المنزلية بمختلف أشكالها، فهي حرّة في نفسها من هذه الجهة، فباستطاعتها ـــ من زاوية شرعية ـــ أن لا تخدم أحداً وأن تتطلّب الأجرة على ذلك في بيتها أو في غير بيتها، كأيّ عامل أو عاملة، كما أنّ لها الحقّ في أن تعمل خارج نطاق البيت دون أن يملك أحد الحقّ على منعها وحبس حريّتها في ذلك.
وأمّا بعد الزواج: فلم يشرّع الشارع الإسلامي فرض العمل المنزلي على المرأة ـــ الزوجة ـــ لم يوجبه عليها بل انطلق إلى أبعد من ذلك فاعتبر أنّ لها الحقّ في أن ترضع ولدها وتحضنه وتأخذ الأجرة على ذلك، وليس للزوج أن يمتنع من ذلك ـــ في حال طلبها الأجرة ـــ إلاّ إذا طلبت قيمة زائدة على الحدود الطبيعيّة وذلك هو قوله تعالى وهو يتحدّث عن المطلّقة الحامل بعد أن تضع حملها:
{وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق : 6].
ويرى الفقهاء انطلاقاً من الآية الكريمة في سورة الطلاق 6 والأحاديث الشريفة المفسّرة لها، أنّ هذا الحكم لا يختصّ بحالة الطلاق بل يشمل حالة استمرار الحياة الزوجية.
وعلى ضوء هذا نفهم أنّ للزوجة أن تمارس في داخل البيت دور العاملة التي تأخذ قيمة عملها تماماً كما لو كانت تعمل في غير بيتها، لأنَّ العمل المنزلي لا يدخل في حقوق الزوجية الإلزامية من ناحية تشريعيّة.
ونحن نؤكّد على أنّ ذلك حقّها من ناحية قانونية، ونركّز على التحدّث عن ذلك من خلال هذه الصفة، لأنّنا ندرك أنّ الجانب الروحي والإنساني في الحياة الزوجية يفترض في الزوجة أن تقوم بهذه الأعمال بشكلٍ طوعي دون أن يكلّفها الزوج بذلك. ولعلّ حكمة هذا التشريع: هو أن تشعر المرأة بإنسانيّتها في داخل الحياة الزوجية عندما تحسّ بأنّها لم تدخل البيت كخادمة أو مربّية أطفال تمارس هذه الأعمال قسراً عنها، بل دخلته كإنسانة تملك عملها كما تملكه قبل الزواج، ولذا فهي حرّة أن تبذله بدون مقابل حتّى تشعر بقيمة العطاء والمشاركة العملية في الحياة الزوجية ويشعر الرجل بدورها في العطاء عندما تتطوَّع بالعمل الذي لا يجب عليها أن تقوم به.
ولعلَّ ذلك يعطي المرأة والرجل الإحساس العميق بالمشاركة الروحية عندما يقدّم كلّ منهما للآخر جهداً لا يلزم عليه القيام به بدافع المحبّة والمودّة وبناء الحياة المطمئنّة الهادئة.
هذا كلّه في العمل المنزلي.
أمّا الأعمال الأخرى، فلا مانع من القيام بأيّ عملٍ حرّ آخر داخل البيت الزوجي إذا لم يتعارض ذلك مع الحقوق الطبيعيّة للزواج، فلها أن تمارس الخياطة والأعمال الأخرى التي تستطيع ممارستها في المنزل لتكسب بها المال الذي يؤمّن لها مستقبلها وحياتها أمّا خارج نطاق البيت، فلها ذلك، بعد الاتّفاق مع الزوج وأخذ موافقته، نظراً إلى أنّ من حقوق الزوج على زوجته أن يكون خروجها من البيت برضاه حفظاً للأمن والاستقرار والثقة المتبادلة.
وقد يكون من حقّها أن تشترط عليه ذلك في عقد الزواج، كأيّ شرطٍ آخر.
ونحن أمام هذا العرض للناحية التشريعيّة في عمل المرأة، نتساءل: كيف يمكن أن ينسب للإسلام القول بأنّه يريد للمرأة، أو يجبر المرأة على أن تكون خادمة ومربّية أطفال دون أن يكون لها الحريّة في المشاركة في أعمال الحياة الأخرى؟
نعم هناك شرط أساسي في عمل المرأة، كما هو شرط في عمل الرجل، أو في أيّ سلوكٍ آخر لهما في الحياة، وهو أن يكون الجوّ الذي يعملان به من الأجواء التي تحفظ لهما أخلاقهما وحياتهما الشريفة التي يريدها الإسلام، فلا يجوز للمرأة أن تعيش في الأجواء العملية أو غيرها، التي تتعرّض فيها للسقوط أمام شهوات الرجال وغرائزهم من رؤسائها في العمل أو زملائها، كما لا يجوز للرجل ذلك في العمل وغيره لأنَّ ذلك من قواعد الانضباط الخُلُقي للإنسان في كلّ زمان ومكان.
2 ـــ أمّا الناحية التطبيقيّة، فتتمثّل في دراسة المراحل التاريخيّة التي مرّت بها المرأة المسلمة، حتّى ما قبل عصرنا الحاضر ـــ فإنَّنا نراها تشارك الرجل العمل في الحقل وفي غيره من المجالات السائدة في تلك العصور في الوقت الذي كان الدّين سائداً فيه لدى المرأة والرجل دون أن يرى فيه أو ترى هي فيه، أيّ خروج أو انحراف عن خطّ الدين، أو تمرّد على أحكامه.
وإذا كنّا نجد بعض الاستنكار لعمل المرأة من قِبَل بعض علماء الدين أو من قِبَل بعض المؤمنين فإنّه لا ينطلق من استنكار عمل المرأة بل من الاحتجاج على الأجواء المنحرفة التي تعيشها أجواء العمل كما في كثير من المعامل والمؤسّسات التي تتعرَّض فيها المرأة لخطر السقوط، كنتيجة لعوامل الإغراء الكثيرة المتنوّعة.
وخلاصة الحديث: أنَّ الإسلام لا يحمّل المرأة مسؤولية العمل المنزلي انطلاقاً من تدبير المنزل إلى إرضاع أولادها وإنّما يترك لها الحريّة في أن تتطوَّع أو تعمل بأجر، أو لا تعمل، ويحاول أن يثير فيها من ناحية روحية، روح الشعور بالمسؤولية الإنسانية التي تدفعها إلى البذل بمحبّة ومودّة.
ولا يمنعها في الوقت نفسه من العمل خارج البيت وفق شروط خاصّة تحفظ لها حياتها الزوجية من جهة وإنسانيّتها من جهةٍ أخرى.
مشاكل عمل المرأة خارج البيت
ولكن هذا الذي عرضناه لا يمنعنا من أن نعرض المشاكل التي يؤدّي إليها عمل المرأة من ناحية واقعية:
أ ـــ مشكلة الأخلاق: فالمجتمع لا يزال ينظر إلى المرأة كأنثى من خلال الرغبة ولهذا نجد أنَّ كثيراً من المحلات التجارية أو المراكز الإدارية، أو شركات الطيران أو غيرها تعتبر من الشروط الأساسية للمرأة العاملة لديها ـــ في باب الإعلان ـــ أن تكون جميلة، أو ذات جمال أخّاذ، لأنَّ ذلك يساعد على جلب أكبر عدد من الزبائن من خلال حركات الإغراء التي يثيرها جمال المرأة في نفس الرجل.
وقد نلاحظ ذلك في المعامل والمؤسّسات التي يختلط فيها الموظّفون والموظّفات وهؤلاء الذين يعيشون الحياة ويفهمونها من خلال فلسفة اللّذة التي تنشرها الأفلام والقصص وغيرها من أساليب الضلال الحديثة.
ب ـــ مشكلة الأولاد: فالمرأة العاملة تضطر إلى أن تترك أولادها تحت رحمة الخادمة، أو في المؤسّسات التي تشنأ لحضانة أولاد المرأة العاملة، وفي كلا الحالتين يعيش الأولاد الحرمان من حنان الأُم الذي لن يعوّض، وربّما يسبّب ذلك كثيراً من العقد النفسيّة في مستقبل حياتهم.
ج ـــ تكوين المرأة الجسدي الذي يفرض عليها أخذ إجازة في حالات الدورة الشهرية أو الحمل والإرضاع الأمر الذي يقلِّل الإنتاج ويربك العمل، ولهذا يحاول كثير من مشترعي البلاد التي تحاول أن تعمل على المساواة بين الرجل والمرأة في الحياة أن يطالبوا بإعطاء الرجل إجازة ستّة أشهر في مقابل الإجازة المعطاة للمرأة في حالات الحمل والولادة والإرضاع.
وعلى كلّ حال فقد نرى، من ناحية واقعية، أنّ البيت قد يخسر من خلال عمل المرأة الأُمّ، والزوجة أكثر ممّا يربح من ذلك.
وإذا كان العمل للمرأة من أجل تحقيق إنسانيّتها كما يقولون، فهناك المجالات الكثيرة التي تستطيع فيها تحقيق الإنسانية، وأيّ مجالٍ أعظم من مجال الأُمومة لتحقيق ذلك.
س ـــ كيف يكون زيّ المرأة في الإسلام؟
ج ـــ أن تستر جميع أجزاء جسدها ما عدا وجهها وكفّيها، فهذا هو اللّباس المحتشم الذي يفرضه الإسلام.
إنّه يريدها أن تخرج كامرأة، كإنسانة لا كأنثى تثير الغرائز والشهوات.
س ـــ لماذا لا يسمح للمرأة بحضور صلاة الجماعة؟
ج ـــ لا مانع من ذلك، فهناك في أكثر البلاد الإسلامية أماكن خاصّة في المساجد لصلاة النساء، حيث يؤدّي الرجال والنساء الصلاة في جماعة واحدة، مع المحافظة على الشروط الشرعية في ذلك.
س ـــ كيف نستطيع التعرُّف على إعجاز القرآن الكريم؟
ج ـــ إنَّ معنى المعجزة أن تكون الظاهرة التي تتمثّل فيها غير خاضعة للقوانين الطبيعيّة التي يسير عليها الناس في علاقة المسبّبات بأسبابها، كما يحدّثنا القرآن عن تحوُّل العصا إلى أفعى تلقف ما يأفكون، في يد موسى (عليه السلام) وإحياء عيسى (عليه السلام) للموتى وإبراؤه للأكمه والأبرص بإذن الله، ممّا لا يستطيعه الأفراد الذين يملكون الاختصاص في السّحر والطبّ لأنّه لا يخضع للأصول والأعراف المتّبعة عندهم.
وبهذا كان القرآن معجزة بلاغية للإسلام تحدّى بها العرب الذين كانت الفصاحة والبلاغة ميزتهم التي يتميَّزون بها ومفخرتهم التي يفتخرون بها، وكان فيهم الفصحاء الذين لا يتكلَّمون بكلمة إلاّ وتصبح مضرب الأمثال، وكان فيهم الخطباء الكبار والشعراء الأفذاذ.
وجاء القرآن يمثّل القمّة في البلاغة العربية بأسلوب جديد غير مألوف لديهم وتحدَّاهم أن يأتوا بسورة من مثله، ولم يستطيعوا أن يثبتوا أمام التحدّي رغم محاولاتهم المتكرّرة، ولم يتمكّنوا من مواجهته مواجهة عقلانية هادئة بل انطلقوا يقولون إنّه سحر، وإنّه شعر، واكتشفوا بعد ذلك إنّ كلّ هذا القول هراء.
وقد حاول بعض علماء العربية أن يعتبروا عجز العرب عن محاكاته ومواجهته بمثله خاضعاً لقانون الصُّرْفة الذي يعني أنّ الله يعجزهم عن ذلك عندما يحاولونه وإلاّ فهم قادرون بحسب طبيعتهم عليه.
ولكنَّ هذا القول لا ينسجم مع طبيعة المعجزة التي تتحدّى القدرة البشرية بذاتها دون حاجة إلى تدخّل غير طبيعي من قِبَل الله في ذلك، حيثُ يشعرون بالعجز أمامها بمجرّد مواجهتهم لأنَّ العناصر التي تتمثّل فيها لا تخضع لقدرتهم المحدودة كما أنّ ظاهر التحدّي القرآني يشير إلى ذلك.
{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء : 88].
{فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة : 23].
أمّا كيف نكتشف الإعجاز، فنستطيع الوصول إلى ذلك بملاحظة دقيقة جداً، وهي أنْ نتعرَّف كيف انطلق الأسلوب القرآني ليجمع كلّ دقائق اللّغة العربية مراعياً الانسجام بين الحروف والحركات والكلمات ومنطلقاً في روعة التصوير إلى أبعد حدّ حتّى ليخيَّل إليك أنّك لا تواجه صوراً ذهنية أمامك بل صوراً تتحرّك بخفّة وبراعة حتّى لتجسّد أمامك المشهد في صورة حسيّة تقتحم عليك مشاعرك وأحاسيسك حتّى لتشعر أنّ القصّة تحيط بك من جميع جوانبك لتملك عليك وجدانك وبكلمة موجزة: إنَّ قيمة الأسلوب القرآني هو أنّه يلاحظ كلّ مقتضيات الحال في الكلمة والأسلوب والفكرة والصورة. حتّى تحسّ إنّك لا تستطيع أن تتصرَّف في أيٍّ منها دون أن تسيء إلى الجوّ العام للآية والسورة، حتّى في الحركة البسيطة أو الكلمة الواحدة.
ومن الطبيعي أنّنا لا نستطيع تذوُّق هذا الإعجاز بالشكل الذي تذوّقه العرب الذين نزل القرآن عليهم. لأنّهم كانوا يفهمون اللّغة ويعيشون معانيها بالفطرة بينما ابتعدنا نحن عن جوّ اللّغة حتّى كدنا نصبح غرباء عنها، ولذلك فإنَّنا نحتاج إلى دراسة الأبحاث التي عرضت لإعجاز القرآن قديماً وحديثاً لنستطيع الإحساس ولو من بعيد، بقيمة الأسلوب القرآني وعظمة الصورة القرآنية للحياة، ولعلَّ من أفضل الأبحاث التي عرضت لبعض جوانب الإعجاز ما كتبه سيّد قطب في كتابيه "التصوير الفنّي في القرآن" و"مشاهد القيامة في القرآن"، ولا يفوتنا الإشارة إلى كتاب الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في إعجاز القرآن وغير ذلك من الكتب الكثيرة.
ويحاول الكثيرون أن لا يقتصروا في إعجاز القرآن على الجانب البلاغي فيلتمسون الإعجاز في الحقائق الكونية الدقيقة التي اكتشفها القرآن قبل أن يكتشفها أحد في العالَم إلاّ في الأزمنة المتأخّرة، في الوقت الذي كان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أُميّاً لم يتعلَّم إلاّ بالفطرة. ولم يكن الجوّ الثقافي هناك في مستوى اكتشاف ذلك بعضاً وكلاًّ.
ومن بين تلك الحقائق: قانون الزوجية في الكون الذي لم يكتشفه الإنسان إلاّ في العصور المتأخّرة التي تقدّم فيها الإنسان كثيراً على أساس التجربة فقد أشار إليه القرآن الكريم:
{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات : 49].
ومن بين تلك الحقائق، اكتشافه قيمة بصمات الأصابع في تحقيق الشخصية وذلك في قوله تعالى:
{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ*بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 3 ـــ 4].
فإنَّ اعتبار البنان مظهر القدرة التي يستدلّ بها على قدرة الله على جمع العظام وإعادة الإنسان إلى الحياة، لا يمكن إلاّ على أساس ملاحظة دقّة التكوين فيها مع اختلاف الناس فيها على كثرته فلا تتّفق بصمة إنسان مع بصمة إنسانٍ آخر مهما كان قريباً في النسب أو في غيره.
وهناك كتب كثيرة تعرّضت لإشارات القرآن إلى قوانين الكون الطبيعيّة، وإن وصل الكثير منها إلى حدّ الإفراط في إثقال الكلمة بمعانٍ لا يتحمّلها وضعها اللّغوي.
ولسنا هنا بصدد مناقشة هذا المنهج أو ذاك، وإنّما نريد الإشارة إلى بعض وجوه الإعجاز في القرآن التي يرى البعض كونها مظهراً للتحدّي القرآني.
ويحاول البعض أن يرى وجه الإعجاز في هذا التشريع المتكامل الذي يشتمل عليه القرآن، وفي تلك المفاهيم الدقيقة التي أطلقها لعلاقة الإنسان بالحياة، في الوقت الذي لم يكن النبيّ قد تلقّى أيّة ثقافة في ذلك ولم يكن الجوّ الثقافي في مستوى ذلك كما أشرنا إليه آنفاً.
تلك هي بعض الوجوه التي قد تساعدنا على اكتشاف عظمة القرآن الكريم ومعرفة أنّه ليس كلام البشر، بل هو كلام الله تعالى.
ولسنا هنا بصدد تفصيل ذلك، فليس من قصدنا في هذا الحوار إلاَّ توجيه التفكير إلى هذا الجانب بإثارة الجوانب الأساسية فيه.
الحلقة الثانية
لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم
موقِفُ الإِسْلاَمِ مِنَ التَرَدُّدِ
وَالقَلَقِ وَالوَسْوَسَة
و
لِكُلِّ سؤالٍ جواب
• المحاضرة الأولى: لا تقف ما ليس لكَ به علم
• المحاضرة الثانية: موقف الإسلام من التردُّد والقلق والوسوسة في العمل
• لكلِّ سؤالٍ جواب
مدخل
يقول أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "أقلُّ ما يَلْزمُكُم للهِ ألاَّ تستعينوا بِنِعَمِهِ على معاصيه" وأيَّةُ نعمةٍ تسمو على آلاءِ الخالِقِ في ذاتِ المخلوق: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ*وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ*وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد : 8 ـــ 10]. وفي هدايةِ النجدين يقفُ المرءُ على مفترقِ طرقٍ وسُبُلٍ ومناهج، لأنَّ إحساس الإنسان بالنّعمة يقتضي إحساسه بحقِّ المنعم عليه، في أن ينفتِح عليه ويشكرَهُ قولاً وعملاً: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم : 7] ويُحرِّك طاقاته وقدراته فيما أعطاه سبحانه، وما سخَّر له، وما منحهُ من هباتٍ وعطاءات، لتكون المسؤوليّةُ الملقاة على عاتق الإنسان مسؤوليّة العينين اللّتين ترمقان، والسَّمع الذي يسترق ويصغي، والفؤاد الذي ينطلق ليهفو ويحبّ ويرغب ويميل: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران : 31] لأنَّ في محبّة الله، والالتزام بما شرّعه من سُنّةٍ هاديةٍ سبيلاً إلى الخلاص والارتقاء إلى المفاهيم الإلهيّة {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 36] لأنَّ عرض الأمانات يستدعي وجوب أدائِها {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء : 58] ومن أحقُّ من الله في أداءِ الحقوق إليه؟ لتكون الحياة مسؤولية الإنسان في درب الله.
المحاضرة الأولى:
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
قال الله تعالى:
{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 36].
في هذه الآية نقف مع أحد المبادئ العامّة في الحياة التي حاول الإسلام أن يطلقها في مجال الفكر والعقيدة والسلوك.
ونحن هنا في محاولة للسير في ظلال هذه الآية نحو الحياة.
لا تقف: لا تتبع كلّ شيء ليس لكَ عليه حجّة وليس معك عليه برهان، سواء كان شيئاً تسمعه، أو ظاهرة تبصرها، أو فكرة تعقد عليها قلبك وتعيها أُذنك فإنّك سوف تواجه المسؤولية عمّا سمعت، وعمّا أبصرت، وعمّا اعتقدت، وعليك أن تقدّم الحساب على نسبة وضوح ذلك كلّه لديك(1).
فهناك عدّة حالات نمرّ بها في كلّ قضية تواجهنا:
أ ـــ حالة الوهم: وهي الطرف المرجوح في القضية كما إذا كان وعينا لها بنسبة 40% أو 30%.
ب ـــ حالة الظنّ: وهي الطرف الراجح في القضية كما إذا كان وعينا لها بنسبة 60% أو أكثر %.
ج ـــ حالة الشكّ: وهي حالة تساوي الطرفين كما إذا كان وعينا لها بنسبة 50%.
د ـــ حالة اليقين: وهي حالة الجزم كما إذا كان وعينا لها بنسبة 100%.
وليس معنى رفضها هو إهمالها رأساً فإنَّ بإمكان الإنسان أن يأخذ منها فكرة الحذر في بعض المجالات، ومتابعة البحث في المجالات الأخرى.
بل معناه هو رفض اعتبارها أساساً للعمل وطريقاً للحياة، ومقياساً للحقيقة، فكلّ شيء لا يكون وضوحه بمستوى اليقين فليس بحقيقة.
تلك هي خلاصة الفكرة.
أمّا كيف نطبّقها في جميع المجالات:
1 ـــ في مجال العقيدة: فليس للإنسان أن يعتقد بأيّة عقيدة نتيجة الظنّ أو الوهم أو الشكّ بل لا بدّ له أن يحصل على درجة اليقين ليكون معذوراً على تقدير الخطأ، ومطمئنّاً في طريق الصواب، وعلى هذا الأساس دعا الإسلام الإنسان إلى أن يتحرَّر من كلّ رواسبه ويقف وجهاً لوجه أمام الحقيقة الواضحة تحت شعار:
{تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة : 111].
2 ـــ في مجال العلم، فلكي تكون النظرية العلمية في مستوى الحقيقة التي لا تقبل النقاش لا بدّ أن تحصل على نسبة اليقين، ولن تحصل على تلك النسبة إلاّ إذا كانت مقدّماتها يقينيّة وبهذه المناسبة نشير إلى الطريقة المدرسية التي تقدّم النظريات كأشياء جاهزة لا تقبل الجدل الأمر الذي يوحي إلى طلاّب الصفوف الابتدائية والثانوية، بأنّها نظريّات على مستوى الحقيقة كما هو الحال في نظرية دارون في النشوء والارتقاء، ونظرية فرويد وغيرهما، في الوقت الذي نجد أصحاب هذه النظريات يعترفون بأنّها ظنيّة تنطلق من قضايا جزئية خاصّة وملاحظات محدودة.
لذلك يجب ألاّ نعطي العلم المعاصر أكثر ممّا أعطى نفسه، فقد تأتي نظريّات جديدة كنظريّة النسبيّة لانيشتاين تقلب الكثير من النظريّات التي قبلها، لأنَّ القضية ليست بمستوى 1+1=2.
3 ـــ في مجال العلاقات مع الآخرين: فلكي تحكم على إنسان بأيّ صفة كانت سواء في مجال الدين كأن تقول عنه إنّه ملحد أو فاسق أو مؤمن، أو في مجال السياسة كأن تقول عنه إنّه خائن أو مخلص، أو في مجال الأخلاق العامّة كأنْ تقول إنّه أمين أو صادق أو كاذب أو سارق أو مرتش أو منافق.
فكِّر في الأساس الذي ارتكزت عليه أحكامك فهل هو بنسبة 100% أو أقلّ من ذلك فليس لك أن تحكم إذا كان الأساس يرتكز على نسبة أقلّ، فلعلَّ الحقيقة في الطرف الآخر تماماً كما هي الحالة في الجوّ عندما يكون غائماً في جانب ومضيئاً في جانبٍ آخر، فقد يقول الذين يعيشون في جانب الغيم، إنّه لا نور هنا بينما الحقيقة أنّ النور موجود ولكن لا بدّ في رؤيته من الانتقال للجانب الآخر، وهكذا قد تكون الحقيقة في الــ 40% إذا كانت نسبة وضوح الجانب عندنا 60%.
وبهذا نغلق أبواب الإشاعات التي تجد لها المجال الواسع في حياتنا عندما تجد الكثيرين الذين يتقبّلونها دون وعي أو حساب، ونتخلَّص من فوضى الألقاب بلا حساب في جانب المدح والذّم وهكذا نسير مع هذا الاتجاه عند التحدُّث عن العقائد والمبادئ. فليس لكَ أن تعطيَ أيّ عقيدة أو مبدأ أيّة صفة إلاَّ إذا كنت تملك المعلومات الصحيحة عنها. وبهذا سوف نتخلَّص من فوضى التّهم التي توجه للأديان والعقائد دون حساب انطلاقاً من معلومات خاطئة لم ترتكز على مصادر وثيقة بل ارتكزت على إشاعات من هنا وكلمات من هناك أطلقها مغرضون أو جاهلون كما نشاهده في نظرة الشباب إلى الدين عندما يصفونه بأنَّهُ "ضدّ العلم" أو "مخدّر" أو "رجعي" دون أن يملكوا أيّة معرفة عن الدين تبرّر لهم هذا الاتّهام وإنّما هي الكلمات التي أخذوها عن فلان وفلان فاعتنقوها دون تفكير.
4 ـــ في الحوار مع الآخرين.. فلكي تجادل في أيّ فكرة أو تحاور في أيّ عقيدة لا بدّ لك أن تملك الثقافة والمعلومات التي تستطيع أن تدير معها عملية الحوار والجدال بسلام.
أمّا إذا لم يكن لك علم فيما تناقش فيه أو تجادل فيه، فإنّك ستتحوَّل إلى أساليب المهاترات والكلمات الفارغة التي لا تعطي إلاّ الرنين ولا تؤدّي إلاّ إلى إضاعة الوقت وإثارة الأحقاد والضغائن.
وقد أشار القرآن إلى هذه الفئة من الناس التي لا تملك مقوّمات الحوار الهادئ العميق في قوله تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [الحج : 8].
فهو لم يشجب موقفهم لأنّهم جادلوا في الله، بل أراد أن يستنكر عليهم الفكرة المضادّة التي ينطلقون منها في حالات الجدال، دون أن يملكوا الأساس العلمي لها.
ومن هنا نعرف الفرق بين أن تستفهم وتسأل عمّا لا تعلم، فهذا هو ما يدعو الإسلام إليه، وبين أن تجادل بغير علم وهو ما يستنكره، لأنّك في الحالة الأولى لا تملك إلاّ علامات الاستفهام تثيرها أمام الفكرة وأمام الأجوبة التي تثار أمامك حولها، فأنتَ في كلّ ذلك طالب معرفة، أمّا في الحالة الثانية فأنتَ تتبنّى الفكرة دون أن يكون لكَ حجّة عليها ولذا فسوف يتحوّل موقفك إلى عناد وإصرار على الجهل.
5 ـــ في المجالات العامّة: كما في الشهادة على الدعوى، فلكي تشهد على أيّة قضية، لا بدّ أن تكون القضية واضحة 100% فقد سئل النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى السائل وكانت الشمس في وسط النهار والطقس صحو (على مثل هذه فاشهد أو دع...).
لِكُلِّ سؤالٍ جواب
• لماذا ينقد العلماء بعضهم البعض؟
• مَن خلق الله؟
• كيف يتيح الله الفرصة للشرّ؟
• كيف نفسِّر خلق المشوّهين؟
• ما هو موقف الإسلام من الرّق؟
• لماذا اختلفت الأديان؟
• تفسير بعض الآيات القرآنية؟ وغير ذلك
س ـــ لماذا كلَّما برز عالِم حاول الآخرون تحطيمه؟
ج ـــ أوّلاً: ليست هذه طريقة كلّ الآخرين، فالكثيرون لا يسيرون على هذا الخطّ، ونحن ـــ في الوقت نفسه ـــ لا ندّعي العصمة لهم فهم بشر قد يقعون في الخطأ كما يقع غيرهم فيه.
ثانياً: إنَّنا نخلط كثيراً بين نقد العمل أو السلوك وبين نقد الذّات، فقد يحدث ـــ بحكم تكويننا الشرقي ـــ أن نعتبر الإنسان الذي ينتقد إنساناً في عمل من أعماله، عدوّاً له، وهذا خلق غير إسلامي فإنَّ الإسلام يعتبر النقد الاجتماعي أو الذّاتي واجباً إسلامياً "المؤمن مرآة أخيه" (حديث شريف) بشرط أن يكون منطلقاً بموضوعيّة ومحبّة ليتقبّله الآخرون كذلك الحديث الذي يقول: "رَحِمَ الله امرأ أهدى إليَّ عيوبي". وأعتقد أنّ بعض العلماء الذين ينقدون أفعال بعضهم ينطلقون من محاولة تصحيح الانحراف وإصلاح الخطأ، لا من روح العداوة، ومن إفهام الناس أنّ المحبّة للشخص لا ينبغي أن تكون مظهر عبادة تجعلنا نعصمهم عن الخطأ، "وربّما نتحدَّث حول رأي الإسلام في النقد في محاضرة مستقلّة إنْ شاء الله".
مَنْ خلق الله؟
س ـــ نحن مخلوقون لله فمن خَلَقَ الله؟
ج ـــ هذا السؤال ليس بجديد، لا تعتبره غريباً، فالحالة النفسية التي تعيشها عاشها إنسان قبلك في زمان النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
ففي حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): جاء رجل إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال: يا رسول الله إنّي هلكت فقال له النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): أتاك الخبيث (الشيطان) فقال لك: مَنْ خلقك؟ فقلت: الله تعالى فقال: مَن خلقه؟ فقال الرجل: أي والذي بعثك بالحقّ قال كذا، فقال النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ذلك محض الإيمان.
ويعلِّق الإمام الصادق على هذه الكلمة (محض الإيمان) فيقول: إنّما عنى بقوله (هذا محض الإيمان) خوفه أن يكون هلك حيث عرض في قلبه ذلك. لأنّه يدلّل على الشعور العميق بالقلق والخوف على إيمانه. الأمر الذي يكشف قوّة الإيمان في داخله.
والآن مع الجواب عن هذا السؤال.
إنَّ هذا السؤال ـــ في عقيدتي ـــ خطأ.
إنَّ العقيدة بالله تفترض أنّه ـــ تعالى شأنه ـــ هو العلّة الأولى الخالقة للكون، ومعنى العلّة الأولى للكون، هو أنّه لا علّة قبله، وليس معلولاً لشيء، لأنّه لو كان كذلك لكان علّة ثانية أو ثالثة، والنتيجة هي أنّه ليس هو الله الذي نؤمن به.
ولتوضيح الفكرة أكثر نقول: اترك فكرك ينطلق ويسرح في بدايات الكون فكلّ شيء تتصوَّر وجود شيء قبله أو احتياجه لشيء آخر فليس هو الله: أمّا إذا وقفت تصوّراتك عند شيء لا شيء قبله فذلك هو الله.
لماذا نقول مَن خَلَقَ الله؟ لأنّك تتصوَّر وجود الله كوجودنا لا يمكن أن يتحقَّق بدون موجد لكنّ التصوُّر خطأ، فإنَّ وجودي ووجودك ووجود الكون كلّه لا يحمل في ذاته حتمية الإثبات ولا حتمية العدم، وهو ما يسمّى ـــ فلسفياً ـــ ممكن الوجود فهو قابل لهذا وقابل لذاك فلا بدّ من قوّة خارج ذاته ترجّح أحد الفرضين على الآخر وهذا هو الذي يفرض ـــ من ناحية فلسفية ووجدانية ـــ حاجته إلى خالق، أمّا الخالق فلا يمكن فرض عدمه لأنَّ وجوده هو المبرّر لوجود الكون، وكلّ ما لا يمكن فرض عدمه فهو واجب الوجود وإذا كان كذلك فلا يحتاج إلى موجد لأنَّ وجوده منطلق من حتمية وجوده الذاتية لا من أمر خارج عنه.
إنَّ القاعدة ليست: كلّ موجود يحتاج إلى موجد.
بل القاعدة الصحيحة: كلّ ممكن الوجود يحتاج إلى موجد.
س ـــ ما معنى هذا القول: المؤمن ممتحن؟
ج ـــ معناه أنَّ المؤمن بالله لا يترك دون امتحان، فكلّ ما يصيبه في الحياة من مشاكل وقضايا يعتبر امتحاناً واختباراً لإيمانه فيرى: هل ينسجم سلوكه، وموقفه أمام هذه القضايا مع خطّ الإيمان أو أنّه ينحرف عنه وهذا المعنى هو الذي جاءت به الآية الكريمة:
{الم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 ـــ 3].
س ـــ إنَّ الله سبحانه عالِم بالمستقبل وما يجري فيه من خير أو شرّ، فلماذا يتيح الفرصة للشرّ؟
ج ـــ قال الله سبحانه وتعالى:
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود : 118].
المعنى أنّ الله قادر على أن يجعل جميع خلقه متساوين في الخير ولكنَّ الله أراد للإنسان أن يصل إلى الخير بعقله وإرادته فأعطاه حريّة الاختيار، فهو مخيَّر بين الخير والشرّ، أمّا إتاحته الفرصة لوجود الشرّ فلأنَّ ما يفقده الإنسان من فقدانه عنصر الاختيار أكثر ممّا يخسره من إتاحة الفرصة أمام الشرّ في الوقت الذي جعلها الله مغلولة بألف غلّ من وعيده على فعل الشرّ ومن رسالاته التي توجّه الإنسان نحو الخير وترغّبه فيه وتعدّه بالثواب على ذلك.
وإذا كنّا نريد أن نعطيَ على هذه الفكرة مثالاً حياتيّاً للتوضيح فانظر واقع الأُمّة بين الحريّة وبين التقييد، فهي تخسر من خلال إعطائها الحريّات كما تخسر من خلال سلبها تلك الحريّات ولكن ما تربحه من فرص الحريّة أكثر ممّا تخسره معها في مجالات الفكر والعزّة والنمو، ولذلك فهي تبقى سائرة على طريق الحريّة بالرغم من وعيها لخسارتها على هذا الصعيد في بعض المجالات.
إنَّ الله لم يرد للإنسان أن يعمل الشرّ، ولذا نهاه عنه ولكنّه أعطاه قابليّته كما أعطاه قابلية الخير ومنحه القوّة على ممارستها، وزوّده بالإرادة الواعية التي تعرف طريقها جيداً بهداية الله.
س ـــ قال الله تعالى ـــ وهو يحدّثنا عن موسى عندما طلب من ربّه أن يريه وجهه ـــ :
{وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف : 143].
السؤال لماذا لم يره الله وجهه.
ج ـــ هذا السؤال من موسى لم يكن سؤالاً ذاتيّاً فهو يعرف أنّ الله ليس جسماً حتّى يرى للناظرين بل كان نتيجة المطالبة المتكرّرة من قومه فأوحى الله إليه ـــ على ما في بعض التفاسير ـــ يا موسى: اسألني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم، وعندما سأله ذلك وكانوا معه أظهر له نوره فلم يقدر هو ولا الذين كانوا معه على مواجهته فخرُّوا مصعوقين لعظمة ما رأوا، فرجعوا إلى الله وعرفوا أنّهم لم يستطيعوا النظر إلى نور الله فكيف يستطيعون النظر إليه إنْ كان هذا ممكناً.
س ـــ إنّ الله رحيمٌ بعباده فكيف نفسِّر خلق المشوّهين ـــ على هذا الأساس ـــ كخلق الأعمى والأصمّ ونحوهما؟
ج ـــ أوّلاً: مَن قال إنَّ العمى والصّمّ وغيرهما عقاب للإنسان! ما دام أنّ الله يعوّض على الإنسان بعض القوى التي يفقدها بتقوية بعض القوى الأخرى الأمر الذي يجعله يستطيع أن ينطلق بعيداً في مجال الحياة لو انطلق في مجال التقدّم والنمو كأيّ شخص طبيعي آخر بل ربّما يسبق أهل زمانه كأبي العلاء وبشار بن برد وبيتهوفن وهيلين كير وطه حسين وغيرهم ممّن لم يمنعهم التشويه الذي خلق معهم أو رافق حياتهم من أن يتفوَّقوا على جيلهم.
ثانياً: إنَّ هذا التشويه الذي يحصل للإنسان لا يحدث نتيجة عمل مباشر في الخلق، بل إنَّما يحدث بسبب النظام الكوني الذي أبدعه الله في الحياة عندما ربط النتائج بمقدّماتها والمسبّبات بأسبابها كنظام الوراثة، وتأثُّر الإنسان بالبيئة أو الغذاء وما إلى ذلك.. الأمر الذي يجعل إلغاء مظاهر التشويه في خلق الجنين أو في حياة الإنسان تماماً بإلغاء تنظيم الفصول الذي يتضرَّر معه بعض الناس بالحرّ أو بالبرد، في حساب الربح والخسارة.
فلو ألغينا هذه الأنظمة لخسر الإنسان ـــ بما فيه الأعمى والأصم وغيرهما ـــ أكثر ممّا ينتفع ببقائها مع هذه النتائج المضرّة.
وبكلمة واحدة: إنَّ طبيعة أيّ نظام تفرض مقداراً من الخسائر في نتائجها لحساب نظامٍ آخر فإذا حاولنا أن ننطلق بعيداً في فرض أيّ نظام على مستوى التكوين أو التشريع لا بدّ لنا أن نلاحظ أقلّها ضرراً أو أكثرها ربحاً تجاه جميع الناس حتّى الذين يتحمّلون الخسائر.
س ـــ ما هو موقف الإسلام من الرقّ؟
ج ـــ الإسلام لم يشرّع الرقّ، بل جاء في مجتمع يسوده الرقّ كنظام اجتماعي واقتصادي، فحاول أن يعالجه معالجة واقعية فاغلق جميع نوافذه ما عدا نافذة واحدة هي نافذة الحرب الشرعية ضمن شروط وتحفُّظات معيّنة، فلم يعد الرقّ مشروعاً بالطريقة التي كانت تعرفها أوروبا في القرون الوسطى بإخضاع السود لسلطانهم بالخديعة وبالقوّة وبالتالي استرقاقهم ـــ أو بالطريقة التي كانت تقوم بها بعض الشعوب من بيع أولادهم وبناتهم نتيجة الفقر أو غيره من الأسباب، بل يعتبر كلّ هؤلاء الذين يسترقون بهذا الأسلوب أحراراً لهم ما للأحرار وعليهم ما عليهم من وجهة شرعية.
أمّا الرقّ في الحرب فقد أبقاه الإسلام على أساس المعاملة بالمثل نظراً إلى أنّ النظام الحربي كان يرتكز على أساس استرقاق الأسرى، وليس من الطبيعي أن يلغي الإسلام الرقّ في أسرى خصومه في الوقت الذي يسترقّ فيه أسراه مِن قِبَل الأعداء.
ثمَّ بدأ بفتح نوافذ التحرير: فَمَن أَفْطَرَ في شهر رمضان ـــ ومَن قَتَلَ مؤمناً خطأ ـــ ومن حنث في يمينه ـــ ومَن ظاهر امرأته (أي قال لها أنتِ عليّ كظهر أُمّي) وغير ذلك فكفّارته عتق رقبة.
وفتح المجال للعبيد أن يتعاقدوا مع أسيادهم على عمل معيّن أو مبلغ معيّن لقاء حريّتهم وهكذا جعل الثواب الكبير للمؤمنين على قيامهم بتحرير العبيد، كما اعتبر تجارة العبيد من التجارات المرفوضة أخلاقياً، فقد وَرَدَ في الحديث: "شرّ النّاس مَن باع النّاس".
وقد أعطى أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) القدوة الحَسَنَة في ذلك فكانوا يشترون العبيد ويعلّمونهم ويؤمّنون لهم حياتهم ويحرِّرونهم في كلّ عام.
وهكذا جاء العصر الحاضر دون أن نجد أثراً للرقيق في البلاد الإسلامية إلاّ في بعض المناطق التي لم يكن وجود الرقّ فيها شرعياً في أكثر مجالاته. كلّ ذلك بفضل الحلول العملية التي قدَّمها الإسلام أمام المشكلة.
س ـــ هل يوجد هناك شيطان؟
ج ـــ إنّنا نؤمن بالشيطان كموجود حيّ مستقلّ لأنَّ القرآن ـــ الذي هو كتاب الله ـــ أخبرنا بذلك، وليس لنا طريق إلى معرفته إلاَّ من خلاله لأنّه ليس من المحسوسات التي تخضع للحسّ أو التجربة.
س ـــ لماذا يكون في الحياة إنسان موهوب وآخر غير موهوب؟
ج ـــ إنَّ اختلاف الموهبة أو القابليّة يتبع النظام الكوني الذي يجعل للوراثة وللأرض وللغذاء الأثر الكبير في تكوين ذهنية الإنسان تماماً، كما هي الأرض في قابليّتها للإنتاج في الجدب والخصوبة ومهما اختلفت القابليّات والمواهب فإنَّ الإنسان يحاسَب على مقدار عقله ـــ كما جاء في الحديث.
س ـــ لماذا اختلفت الأديان مع أنّ مصدرها واحد وهو الله؟
ج ـــ في عقيدتنا أنّ اختلاف الأديان يمثّل اختلاف المراحل، فكان لكلّ مرحلة دين معيَّن يلتقي مع حاجات تلك المرحلة، حتّى إذا انطلقت الإنسانيّة إلى مرحلة جديدة كان هناك دين جديد يلبّي حاجاتها ويحلّ مشكلاتها الجديدة.
أمّا الإسلام فهو دين الحياة لأنّه خاتمة الأديان باعتباره يمثّل الخطّ الذي يمكن للحياة أن تسير معه في مراحلها النهائية لأنّه يستجيب لكلّ حالات التطوُّر.
أمّا اختلاف الناس في ذلك فلأنَّ كلّ فئة تعتبر دينها يمثّل المرحلة الأخيرة في حياة الإنسان دون أنْ تعترف بالدين الذي بعدها.
ولكنَّ الإسلام يعترف بالأديان كلّها ضمن مراحلها المعيّنة كما تعبّر عنه الآية الكريمة:
{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة : 136].
س ـــ ما هو دور علماء الدين في معركتنا مع العدوّ الصهيوني؟
ج ـــ إنَّ رسالة الدين تتمثّل في الوقوف مع قضايا الحقّ والعدل والعزّة والكرامة في كلّ مكان، وعلى ضوء ذلك فإنَّ قضية فلسطين هي من أبرز قضايا الحقّ والعدالة للمسلمين، فهي قضية إسلامية كما هي قضية عربية ـــ أو قضية تحرُّريّة.
ومن واجب علماء الدين أن يقدِّموا كلّ طاقاتهم من أجل القضية في إطارها الحقّ كلٌّ بحسب قدرته ونشاطه.
وهنا قاطع أحد الشباب كلام السيّد قائلاً: فلماذا لم نرهم في المعركة؟
فأجاب السيّد: ليس الهام أن يحمل العالِم الديني السلاح، بل الهام أن يقوم بدوره حسب طاقاته في مجال التوعية الفكرية أو الحركة الاجتماعية فلكلّ إنسان دوره، فقد يختلف دور الجندي عن دور المهندس أو المحامي أو الطبيب، ولكن يجمعهم شيء واحد هو العمل من أجل القضية، سواء في الجبهة الداخلية أو جبهة المعركة بالعلم.
إنَّ الحماس ليس كلّ شيء، بل التخطيط الواعي الذي يأخذ فيه كلّ إنسان دوره هو أساس النجاح.
س ـــ يقول الله سبحانه وخلقناكم درجات فلماذا؟
ج ـــ هذا ليس موجوداً في القرآن بل الآية الصحيحة التي تتضمّن هذا المعنى:
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام : 165].
والمعنى ـــ في هذه الآية ـــ أنّ طبيعة النظام الكوني جعلت الإنسان مختلفاً من خلال أفراده في الموهبة والاختصاص والجاه والمال، والعلم، فلكلّ إنسان جانب يرتفع به عن الإنسان الآخر ولكن هذه الاختلافات لا تجعل لأيّ شخص امتيازاً طبقيّاً أو تشريعياً على الآخر، بل الجميع متساوون في الواجبات والمسؤوليات الملقاة على عاتقهم فيما اختلفوا فيه وفيما حصلوا عليه، فعليهم أن يعرفوا أنَّ الله يريد أن يختبرهم ويمتحنهم بذلك ليعرف الصادق من الكاذب والمؤمن من غيره.
وعلى كلّ فليس المعنى أنّ الله جعل بعض الناس أرفع من بعضٍ آخر في ميزان التكريم أو التقييم بل الآية تُصَوِّر الواقع الكوني الذي أراد الله للإنسان أن يسير به في الاتّجاه الصحيح كلٌّ بحسب دوره. وكلّ بحسب طاقته.
س ـــ ورد في القرآن الكريم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ*وَطُورِ سِينِينَ*وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 1 ـــ 3]، فما تفسير ذلك؟
ج ـــ الظاهر ـــ كما في تفسير مجمع البيان ـــ أنَّ الله تعالى أقسم بالتين الذي يؤكل والزيتون الذي يعصر منه الزيت، وإنّما أقسم تعالى بالتين لأنّه فاكهة مخلصة من شائب التنغيص وفيه أعظم عبرة لأنّه ـــ تعالى ـــ جعلها على مقدار اللّقمة وهيَّأها على تلك الصفة إنعاماً على عباده بها... وأمّا الزيتون فإنّه يعتصر منه الزيت الذي يدور في أكثر الأطعمة، وهو أدام. وهناك تفاسير أخرى لا دليل عليها. أمّا طور سينين فهو الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى (عليه السلام) يعني مكّة البلد الحرام يأمن فيه الخائف في الجاهلية والإسلام، فالأمين يعني المؤمن يؤمن مَن يدخله.
وقد درج القرآن الكريم في أسلوبه العظيم على القسم بمخلوقات الله وظواهر الطبيعة والأماكن المقدّسة لتوجيه الإنسان إلى ما فيها من منافع وأسرار وقِيَم روحية ودينيّة وحياتيّة، ولعلَّ هذه السورة سائرة في هذا الاتّجاه.
المحاضرة الثانية:
موقف الإسلام من القلق والتردُّد
والوسوسة أمام العمل
موقف الإسلام من القلق والتردُّد والوسوسة أمام العمل.
إنَّنا نجد فئات كثيرة في المجتمع تعيش حالة التردُّد أمام أيّة قضية أو عمل حتّى في القضايا الخاصة والأعمال العباديّة، كما تعيش حالة الشكّ في الآخرين من خلال الارتباط بهم في علاقة ما أو عدم الارتباط بهم وهكذا...
وربّما يتمثّل هذا الواقع أيضاً في الأعمال العامّة عندما يريد الإنسان القيام بعمل ثقافي أو خيري أو تجاري.
وهكذا يتحوّل الإنسان بفعل هذه الحالة إلى عضو مشلول في المجتمع لا يستطيع التقدّم خطوة واحدة، بل يظلّ يراوح قدميه في مكانه إن لم يتراجع إلى الوراء(1).
ما هي نظرة الإسلام إلى ذلك؟
وكيف حاول معالجة هذه الحالة؟
أمّا السؤال الأول: فنعتقد أنّ الجواب عنه يتلخّص في كلمة مختصرة: هي أنّ الإسلام يريد من كلّ فرد في الحياة أن يواجه الحياة بقوّة، ويتحمّل مسؤوليّتها بجرأة ما دامت الحياة بيد الله وما دامت الأسباب بيد الإنسان، يسخّرها الله له كيف يشاء، ومتى وعى الإنسان ماذا يريد، وماذا يعمل، وعرف وسائل العمل وظروفه فلا يبقى له أمام العمل إلاّ أن يتحرّك، ما دام قد قام بكلّ ما عليه، أمّا الباقي فليتركه على الله.
وأمّا السؤال الثاني، فنلاحظ أنّ الإسلام قد عالَجَ هذه الناحية النفسية معالجة عملية في القرآن والحديث والتشريع.
1 ـــ في القرآن الكريم: نذكر آية واحدة تخاطب النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)...
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} [آل عمران : 159].
إنَّ الله يطلب من النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يهيّئ الجوّ الموضوعي لدراسة القضية.. أيّة قضية تواجهه سواء أكانت قضية حربية أو قضية اجتماعية.. أن يفكِّر فيها بنفسه ويدرس جميع جوانبها وظروفها، ويشاور قومه ويتعرَّف آراءهم قبل أن يتصرَّف، كأسلوب نموذجي من أساليب الدراسة الشاملة التي تعوِّد المسلمين على التفكير في قضاياهم لينطلقوا فيها من خلال الاقتناع الذاتي والإطاعة الواعية للقيادة.
شاورهم في الأمر، (فإذا عزمت) اجمع رأيك على شيء فلا تتردَّد ولا تقلق ولا تخف من المستقبل فإنّك إذا أحكمت الخطوات التي تريد أن تنطلق فيها ودرستها درساً جيّداً وحسبت حساب الحاضر وحساب المستقبل، ولم يبقَ أمامك إلاّ أنّك تخاف من المفاجئات التي لم تحسب لها حساباً أو الخفايا التي هي في طيّ الغيب والكتمان.
فتوكّل على الله وسر في طريقك بقوّة.
وهنا نستطيع أن نعرف أنّ التوكّل على الله لا يكون إلاّ بعد دراسة القضية جيداً بجميع احتمالاتها حتّى إذا توفّر للإنسان الاقتناع الكافي من خلال ذلك، وكانت الظروف الموضوعية ملائمة للتنفيذ أمكن للإنسان أن يبدأ خطوة التوكّل على الله، حتّى لا يصبح خوفه من المستقبل ومن المفاجآت مانعاً له من التقدُّم.
وخلاصة القول: إنَّ الآية تعطيك الدرس من خلال هذا المفهوم.
2 ـــ في حديث الإمام عليّ (عليه السلام): إذا هبت أمراً فقع فيه فإنَّ شدّة توقّيه أعظم ممّا تخاف منه. وفي كلمةٍ أخرى له: قرنت الهيبة بالخيبة.
فكرة الحديث: إنَّ على الإنسان إذا واجَهَ مواقف الحياة التي اقتنع بسلامتها وضرورتها، وخاف من تنفيذها نتيجة بعض تحفُّظات الخوف من المستقبل، والتهيُّب من مواجهة النتائج، ووقف متردِّداً بين الإقدام والإحجام، أن يبادر إلى التنفيذ فوراً ويقدم على العمل دون تردُّد لأنّه يقف بين محذورين: البقاء حيث هو يعاني القلق والتردُّد، فيقدّم رِجْلاً ويؤخِّر أخرى، أو الإقدام على العمل ومواجهة أسوأ النتائج الممكنة.
وفي هذه الحالة لا بدّ أن يختار الإقدام على التردُّد لأنّ الخسارة التي يخسرها من حياته عندما يبقى مشلولاً أمام الخوف لا تعادلها أيّة خسارة يمكن أن تحدث من خلال العمل لأنّ ذلك سيشلّ حياتك وينعكس على كلّ مواقفك في المستقبل في جميع المجالات وتتحوّل إلى إنسان مشلول الإرادة أمام أيّ احتمال أو خوف أو حذر.
بينما يجعلك الإقدام على العمل إنساناً إيجابياً يواجه الحياة بجرأة، بعد أن يحسب للمواقف كلّ حسابه ومن ثمّ ينطلق من خلال الخسارة في طريق الرّبح، فلا يهدمه الفشل وإنّما يحاول أن يبنيَ من خلال درس التجربة كيان المستقبل.
وبهذا نفهم كيف تكون شدّة توقّي المواقف أعظم من أيّ خوف محتمل.
وعلى ضوء ذلك نخلص إلى الدرس التالي:
ادرس مشاريعك للحياة وتقدَّم، دون أن تترك للخوف سبيلاً إلى نفسك، فالحياة هي خطّ احتمالات الواقع لا احتمالات الخيال.
3 ـــ في مجال الأحكام الشرعية: إنَّ التشريع الإسلامي حاول أن ينقذ الإنسان من التجمُّد أمام حالة الشكّ.
مثلاً: في الصلاة، لكلّ حالة شكّ حسابها العملي الذي يجعل الإنسان يبني على أحد الطرفين عملياً فإذا شكّ بين الركعة الرابعة والثالثة جرى على الرابعة وأكمل صلاته، وأتى بركعة منفصلة ليذهب بالشكّ من نفسه، فإذا تطوّر الشكّ إلى حالة معقّدة بحيث يتكرَّر بشكلٍ غير طبيعي، فليضرب به عرض الجدار ولا يتوقّف "لا شكّ لكثير الشكّ"، "لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فإنّه معتاد لما عُوِّد" فإنّكم إذا لم تفعلوا ذلك فستتركّز العقدة في نفوسكم، وهكذا تتحوّلون إلى أُناس لا تستطيعون الجزم بشيء والإقدام على شيء.
وفي الطهارة: لا تتوقّف أمام حالة الشكّ "كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه نجس"، وفي الحلال والحرام عندما تختلط الأشياء عليك "كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام". وفي المعاملات التي تواجهك في حياتك وتشكّ في صحّتها وفسادها "كلّ شيء صحيح حتّى تعرف أنّه فاسد".
وهكذا تفرض الشريعة الإسلامية في كلّ حالات الشكّ عملاً يمارسه الإنسان لئلا يقع فريسة للقلق والتردُّد والشكّ والوسواس.
وهكذا نستطيع أخذ الدرس التالي في نقطتين:
1 ـــ ادرس الموقف جيّداً من خلال جميع جوانبه وحاول أن تقتنع به على أساس متين.
2 ـــ لا تتهيّب من المستقبل ولا تتردَّد أمام الاحتمالات غير المعقولة بل تقدَّم ولا تخف وتوكَّل على الله فقد قرنت الهيبة بالخيبة.
لِكُلِّ سؤالٍ جواب
• المرأة شرّ؟
• خلافة عليّ (عليه السلام)
• إنقسام المسلمين
• الوحدة الإسلاميّة
• لماذا الدِّين؟
• الماسونيّة
• الجن
• زلّة إبليس
• تحديد النسل...
س ـــ كلمة مشهورة عن الإمام عليّ (عليه السلام) المرأة شر كلّها وشرّ ما فيها أنّه لا بدّ منها هل هذا صحيح؟
ج ـــ أعتقد أنّ هذه الكلمة بالمعنى الظاهر منها لا يمكن صدورها عن الإمام عليّ (عليه السلام) لماذا؟
لأنَّ لدينا مقياساً إسلامياً لكلّ الأحاديث، وضعه لنا أهل البيت (عليهم السلام) لنميِّز صحيح الحديث من فاسده وهو "ما أتاكم من حديث من برّ أو فاجر فاعرضوه على كتاب الله فما وافَقَ كتاب الله فخذوه، وما خالَفَ كتاب الله فَذَروه".
والقرآن الكريم عندما تحدَّث عن المرأة وعن الرجل ساوى بينهما في المسؤوليات، ولو كانت المرأة شرّاً بحسب طبيعتها وخلقتها لمَا كان هناك معنى لتحمّلها المسؤولية فيما تعمل، إنَّ المرأة كالرجل في مفهوم العدالة الإلهية في الإسلام ليس خيراً كلّها وليست شرّاً كلّها بل خلقت ـــ كما خلق ـــ وفيها قابلية الخير وقابلية الشرّ.
وعلى ضوء ذلك فلا ينسجم ظاهر الكلمة مع المفهوم الإسلامي للعدالة الإلهية.
نعم من الممكن جداً ـــ كما يوحي به بعض شراح نهج البلاغة ـــ أن يكون الشرّ بحسب طبيعة الإغراء والإغواء التي تمارسها في الواقع الخارجي وفي العلاقات المنحرفة بين الرجل والمرأة التي ربّما تنتج الشرّ أو تهيّئ الأجواء لها كما نشاهد ذلك في تاريخ المجتمعات الإنسانية.
ويحاول بعضهم أن يعلِّل هذه الكلمة بالخصومة التي كانت بين الإمام وبين عائشة حيث تركت عنده عقدة نفسية تجاه المرأة.
ولكن الذي يفهم تطلُّعات الإمام والمستوى الأعلى الذي بلغه، يعرف أنّه لا ينطلق من منطلقات شخصية بل هو مع الحقّ والحقّ معه حتّى قال وهو يحدّثنا عن تاريخ حياته مع الحقّ:
"ما تَرَكَ لي الحقّ من صديق".
س ـــ في نهج البلاغة أقوال لا تتناسب مع تهذيب الإمام عليّ (عليه السلام) مثل: يا بن الناكصة على عقبيها.
ج ـــ ربّما تكون مثل هذه الكلمات ـــ على فرض صدورها ـــ من التعابير المألوفة في ذلك الزمان على أساس التقبيح لا على أساس الشتم، ولا مانع من اختلاف مدلول الكلمات حسب اختلاف الظروف والأزمنة.
س ـــ ما هي الأحاديث التي أشارت إلى خلافة الإمام عليّ (عليه السلام) الشرعية عن الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
ج ـــ كثيرة، منها قول النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "يا عليّ أنتَ منّي بمنزلةِ هارون من موسى إلاَّ أنّه لا نبيّ بعدي". ومنها حديث الغدير المشهور بين المسلمين، ولا تختصّ رواية هذه الأحاديث بالشيعة بل يرويها أهل السنّة أيضاً في كتبهم المعتمدة ومَن أراد الاطّلاع على ذلك فليراجع كتاب (المراجعات) للمرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين.
س ـــ كيف انقسم المسلمون إلى مذاهب عديدة؟
ج ـــ هناك مذاهب عامّة تنطلق من الاختلاف في بعض الأصول كالإمامة وتتمثّل في المذهب الشيعي، والمذهب السُنّي، فالشيعة يرون أنّ الخليفة الشرعي هو الإمام عليّ، والسنّة يعتبرون الخلافة الشرعية قبله للخلفاء الثلاثة الذين تقدَّموه كما هي شرعية له بعدهم، ولكلٍّ منهما حجج ووجهة نظر مذكورة في الكتاب المتقدّم ذكره وهناك مذاهب فقهية عند السنّة، وفي مقدّمتها الحنفي والشافعي والحنبلي والمالكي وعند الشيعة الإمامي والزيدي، والاختلافات في هذه ناتجة عن الاختلافات في أصول الاستنباط حسب اختلاف الاجتهاد عند أصحاب المذاهب ولم تقتصر المذاهب على ما ذكر فهناك لدى أهل السنّة مذهب الأوزاعي والظاهري ولكن بعض الظروف السياسية اقتضت حصرها في الأربعة.
س ـــ ما هو حجم التزام المذاهب بمبادئ الدين الإسلامي؟
ج ـــ المذاهب الإسلامية تمثّل وجهة نظر في فهم الإسلام من مصادره الأصلية، ولكي يعرف الإنسان أقربها إلى الإسلام يحتاج إلى ثقافة فقهية واسعة تمكّنه من المقارنة، كما هو الحال في التشريعات الحديثة لكنّ المذاهب الإسلامية تلتقي مع بعضها بنسبة 90%.
س ـــ يقال إنَّ أغنى المذاهب بالتشريع والفقه هو المذهب الجعفري فهل هذا صحيح؟
ج ـــ نعم لأنَّ باب الاجتهاد ما زال مفتوحاً عند علماء هذا المذهب ممّا ساعد على أن يتركوا مع امتداد الزمن ثروة تشريعيّة ضخمة.
س ـــ ذكرتم أنّ باب الاجتهاد مفتوح في المذهب الجعفري، فماذا عن المذاهب الأخرى؟
ج ـــ في الفترة الماضية كان باب الاجتهاد مغلقاً عندها، أمّا الآن فقد بدأ علماء أهل السنّة يميلون إلى فتح باب الاجتهاد من جديد، وهناك مفكّرون وعلماء كثيرون منهم يحاولون ممارسة الاجتهاد، وعلى فكرة، فإنَّ ذلك سيساعد على التقاء الاجتهادات على قاعدة واحدة أو تقارب في المستقبل القريب إذا قدِّر له أن يسير في الاتجاه الصحيح.
س ـــ هل بالإمكان قيام وحدة إسلامية؟
ج ـــ إنَّ الوحدة الإسلامية هي أقرب ممّا يحاوله المسيحيون من قيام الوحدة المسيحية ـــ بالنظر إلى أنّ نقاط الاتّفاق واللّقاء بين المسلمين كثيرة في أغلب الجوانب ـــ ولولا الواقع السياسي، والتاريخ المشبّع بالدّماء لتمَّت منذ أمدٍ بعيد.
ولكنَّ ذلك لا يمنع من السعي نحو هذه الوحدة في الوقت الحاضر ما دامت المصالح الإسلامية متشابكة تماماً كتشابك المفاهيم والعقائد الإسلامية.
س ـــ ما هو حكم الإسلام في تحديد النسل ولاسيّما المذهب الشيعي؟
ج ـــ من ناحية تشريعيّة لا يمانع الإسلام في تحديد النسل قبل بداية حركة النطفة في رحلة تكوين الإنسان سواء بواسطة الحبوب إذا لم تضرّ المرأة ضرراً بالغاً، أو العازل، أو مراعاة فترات الأمن، أو العزل الطبيعي أو غير ذلك من الوسائل الطبيعيّة والاصطناعية.
نعم هناك حالتان:
إحداهما: الإجهاض وهو محرّم منذ استكمال عملية التلقيح وبداية نمو النطفة في طريق الحياة، إلاَّ في حالة واحدة وهي خوف الخطر المحقّق على حياة الأُم وهذا متّفق عليه بين المسلمين.
ثانيهما: التعقيم، بأن تأخذ المرأة دواء لا تتمكّن بعده من الحمل ـــ حتى لو أرادت ـــ وكذلك الرجل، بحيث يفقدان قابلية الإنجاب، فهناك بعض الاجتهادات تحرمه لأنّه يمثّل قتل طاقة، ويرى هذا البعض أنّ قتل الطاقة بمثابة قتل الحياة، والله لم يسلّط الإنسان على قتل حياته وإن سلَّطه على تجميدها هذا أوّلاً. وثانياً أنّ التعقيم يفقد الإنسان الأمل في الأولاد عندما يتعرَّض أولاده للموت، بينما التجميد يبعث الأمل عنده من جديد، لهذا فلا بدّ أن تبقى الطاقة حيّة كاحتياطي للمستقبل.
وهناك بعض الاجتهادات، تحلّله، وترى أنّ المبرّرات السابقة لا تكفي في إثبات الحرمة، وعلى الإنسان أن يتحمَّل نتائج عمله ما دام الأمر يرجع إلى إرادته واختياره.
الخلاصة: الإجهاض محرَّم، والتعقيم لا يزال في مجال الخلاف الاجتهادي ووسائل منع الحمل الأخرى جائزة إذا لم تحدث ضرراً يعرّض الحياة للخطر.
س ـــ ما رأي الإسلام في الرهان والربا؟
ج ـــ غير مشروع.
س ـــ ما هي العبرة من زلّة إبليس؟
ج ـــ مشكلة إبليس أنّه كان عنصرياً انطلق موقفه من فكرة تفوّقه العنصري، خلافاً لبعض الذين يحاولون أن يعطوا إبليس دور المأساة، فوصفوه بأنّه كان خالص التوحيد لله، ولذا امتنع عن السجود لآدم لكنّهم لم يلتفتوا إلى النصوص الدينية ـــ وفي مقدّمتها القرآن ـــ التي كانت هي الأساس في الحديث عن قصّة إبليس، فنجد الجواب ـــ عن السؤال الإلهي ـــ {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} يتمثَّل فيما نقله القرآن عن إبليس.
{قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف : 12].
ولم نجد أيّ أثر للزَّعم الذي تحدَّثوا عنه. أمّا العبرة في زلّة إبليس فتتمثّل في جانبين:
أحدهما: أنّ من الممكن للإنسان في خطأ واحد أن ينزل من القمّة إلى الحضيض كما نزل إبليس، ولذلك فينبغي للإنسان أن يكون واعياً لكلّ الخطوات التي يخطوها في الحياة.
ثانيهما: أن نرفض التفكير العنصري الذي ينطلق من اللّون أو الإقليم أو النسب أو غير ذلك، فإنَّ إبليس هو أوّل مَن حَمَلَ فكرة التمييز العنصري الذي يتمثّل في تفوّق عنصر النار على عنصر الطين، تماماً كما هي الفكرة المعاصرة التي تمثّلت في التفكير النازيّ من تفوّق العنصر الآري على العنصر السامي، وتفوّق غير العرب على العرب، أو بالعكس، أو أفضليّة الأبيض على الأسود.
س ـــ لماذا الدين؟
ج ـــ تماماً كما نسأل لماذا الحياة؟
إنَّ الدّين يمثّل القوّة الروحية التي تملأ نفس الإنسان بكلّ المعاني التي تخلق منه النموذج الأكمل للإنسان الطيّب، مع نفسه ومع الآخرين.
لماذا الدّين؟ ليكون الإنسان إنساناً يعيش إنسانيّته في مستوى القمم في الحياة، والينابيع في الأعماق.
س ـــ من الممكن أن يكون الإنسان إنساناً بدون الصلاة والصوم؟
ج ـــ لا بدّ للإنسانية لكي تهزّ كيان الإنسان وتحرّكه من أن تعيش في أعماقه، كقوّة تمدّه بالحيوية والحركة الدائمة والإبداع، لا كعادة يستسلم معها للألفة التي تحدث من خلال بعض المؤثّرات الخارجية فهناك فرق بين الناس الذين يعيشون السلوك الإنساني لأنّهم اعتادوا عليه ضمن أجواء معيّنة فإذا جاءت أقلّ تجربة تفصلهم عن تلك الأجواء انحرفوا عن الطريق وسقطوا في الامتحان، وبين الناس الذين يعيشون هذه المعاني من الداخل بفعل الشعلة المتوقّدة التي تنطلق من العقيدة، وقد أشار القرآن الكريم إلى الفئة الأولى في الآية الكريمة:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج : 11].
ولهذا يحتاج الإنسان إلى الشعور بالحاجة إلى امتلاء أعماقه بالعقيدة وبالقِيَم الروحية من أجل أن يعيش التركيز والاستمرار في السلوك.
وهنا يأتي دور العبادات ومن بينها الصلاة التي لها الدور الكبير في تنمية المعاني الروحيّة في داخل النفس الإنسانية بما توقظه في داخله من الشعور الكبير بالله بكلّ ما يعطيه هذا الشعور من الطهر والنّقاء والسلام الروحي، ومن هنا شبّهها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بعين ماء يغتسل منها الإنسان في اليوم خمس مرّات فلا يبقى عليه شيء من الوسخ، وهكذا الإنسان إذا قام بالصلاة ـــ بمعناها الحيّ ـــ لا بشكلها التقليدي دون وعي ـــ لا يبقى عليه شيء من الذنوب وهكذا ينطلق دور الصوم من أجل أن يعيش الإنسان التدريب العملي على ممارسة إرادته بين يديّ الله.
س ـــ ورد في القرآن الجنّ والعفاريت، فما هو موقعها من العقيدة الإسلامية؟
ج ـــ لم يرد في القرآن حول العفاريت إلاّ ما ذكر في قصّة سليمان:
{قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل : 39].
ومعناه ـــ حسب ما ذكر في التفاسير ـــ المارد القوي، فهو نوع من الجنّ لا عنصر آخر غيره.
أمّا الإيمان بالجنّ بشكلٍ عام، فهو منطلق من الإيمان بالقرآن وأنّه كلمة الله الحقّة، فما دام القرآن يخبرنا عن وجود مخلوق عاقل واع يسمّى بالجنّ فعلينا أن نؤمن به، تماماً كما نؤمن بأيّ شيءٍ آخر لا يخضع للحسّ ولا يقع تحت التجربة، ولذا فلا يملك العلم بوسائله المادية طريقاً إلى إثباته، كما لا يملك طريقاً إلى نفيه، لأنّه لا يستطيع أن ينفي أيّ افتراض على سبيل الجزم إلاّ بعد أن يحيط بكلّ الموجودات الكونية الظاهرة والخفيّة، وهذا ما لا يدّعيه العلم لنفسه.
إذن! نحن نؤمن بأنَّ القرآن كلام الله، وقد أخبرنا، في أكثر من آية، بأنَّ هناك خلقاً غير الإنسان يعيش في عالمنا الأرضي ضمن وجود خفيّ، يسمّى بالجنّ، وقد حدّثنا عنه أنّه مخلوق عاقل مسؤول فمنه المؤمن ومنه الكافر، وكما انطلقت الرسالات لتحمِّل الإنسان مسؤولية السير في الحياة على إرادة الله كذلك كانت موجّهة للجنّ لنفس الهدف، وقد خصَّص القرآن الكريم سورة خاصّة للجن، كما تحدَّث عنه في بقيّة السور بمختلف الأساليب.
أمّا شكله وأمّا أوصافه، فليس هناك صيغة دينية على مستوى الحقيقة أي (100%) تحدِّد لنا ذلك.
أمّا الصور الموجودة في كتب الأدب وقصص ألف ليلة وليلة، وأحاديث شعراء الجاهلية، أو في عقليات الناس وأساطيرهم الشعبية فليس لها أساس ديني صالح بل هي في إطار الأساطير.
والخلاصة: إنَّ الإيمان بوجود الجنّ طريقة الإيمان بالقرآن، أمّا العلم فلا يثبت ولا ينفي، ولكنّه يترك القضية تعيش في إطار الاحتمال والإمكان تماماً كما هو قال ابن سينا: "كلّ ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان حتّى يذودك عنه واضح البرهان". ليس عند العلم شيء مستحيل فهو يتقدَّم بالخيال والافتراض الذي يعمل من أجل أن يكتشف ـــ بالبحث ـــ جانب الحقيقة فيه.
وعلينا أن لا نخلط بين القول بأنَّ العلم لم يثبت هذا الشيء وبين القول بأنّه ينفيه، لأنَّ الشكّ حالة طبيعية تعيش مع الإنسان ما دام لم يضع يديه على الدليل، أمّا النفي فهو تابع للدليل تماماً كما هو الإثبات.
ملاحظة: إنَّ الكثيرين من الثقاة يدّعون الاجتماع بالجنّ، إمّا بطريق الصدفة، أو بطرق روحية معيّنة يستخدمون بها الجنّ، كلّ ذلك بطرق لا تقبل الشكّ عندهم ويلاحظ أنّ هؤلاء الذين يدّعون ذلك يتمتّعون بوعي كامل وعقلٍ سليم وإيمان عميق يجعلنا نميل إلى القبول بشهادتهم، أو إلى عدم المبادرة برفضها على الأقلّ.
س ـــ وردت كلمة "الأُمّي" وصفاً للنبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فما معناها؟
ج ـــ هناك عدّة تفاسير منها:
1 ـــ أن تكون النسبة لمكّة التي هي "أُمّ القرى".
2 ـــ أن تكون منطلقة من كونه لا يقرأ ولا يكتب وقد عبَّرت عن هذا، الآية الكريمة:
{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت : 48].
3 ـــ أن يكون منسوباً إلى الأميّين الذين هم غير أهل الكتاب وقد ورد ذلك في الآية الكريمة:
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران : 75].
س ـــ في الجاهلية كان الشعر هو السائد في الكلام العربي، فلماذا أتى القرآن نثراً، وليس شعراً؟
ج ـــ جاء القرآن بأسلوبٍ جديد يتحدّى به الآخرين ليس هو بالنثر المألوف لدى العرب، وليس بالشعر إذا أردنا به الكلام الموزون المقفّى، بل هو نسيج وحده وفريد نوعه.
ولو جاء القرآن على أسلوب الشعر لكان ذلك مبرَّراً وحجّة لخصومه الذين حاولوا أن ينفوا صفة الرسالة عن النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وليجعلوه في عداد الشعراء كما حدَّثنا القرآن في قوله تعالى:
{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور : 30].
ومهما يكن الأمر فإنَّ القرآن الكريم عندما خلا من الموسيقى الخارجية التي تنطلق من خلال الوزن فإنَّ الموسيقى الداخلية التي تنساب من بين معانيه وكلماته لا يرقى إليها أيّ شعر مهما عظم ومهما انطلق صاحبه في مجال الإبداع.
س ـــ ما هي الماسونيّة؟
ج ـــ الأفكار التي تحملها الماسونية ظاهرها: السلام والمحبة والخير والخدمة للإنسان ولكنَّ التعقيدات الموجودة في تنظيمها وبحسب تاريخها والأوضاع التي تمارسها، والشخصيات التي تنتمي إليها تعطينا الفكرة الواضحة عن علاقتها بالاستعمار والصهيونية العالمية وربّما نلمح ذلك في تبنّي الماسونية للتاريخ اليهودي وشعائره، فقد عرضت الحركة الماسونية، بعد هزيمة 5 حزيران 1967 أن تشتري المسجد الأقصى لتقيم مكانه "هيكل سليمان".
وربّما نحاول إلقاء مزيد من الضوء على هذه الحركة في حديثٍ قادم إنْ شاء الله...
الحلقة الثالثة
قَضِيّة العِزّ والذُلِّ في الإسْلام
و
لِكُلِّ سؤالٍ جواب
مسؤوليّة الإنسان المسلم إزاء
قضيّة العزّة والكرامة
[1]
يواجه المسلمون في أكثر من مجال من مجالات الحياة التي يتحرّكون فيها سواء في السياسة والثقافة والاقتصاد، تحدّيات الواقع المعاصر الذي تسيطر عليه القوى العالمية في الشرق والغرب، فتحاول ـــ هذه القوى ـــ في أكثر من أسلوب ـــ تذويب شخصيّتهم وخنق الشعور الأصيل بالعزّة والكرامة في داخلهم، والإيحاء إليهم ـــ بطريقةٍ وبأخرى ـــ بضرورة التسليم بالأمر الواقع المفروض عليهم، والانحناء أمام هذه القوى والخضوع لمخطّطاتها العملية في جميع المجالات من أجل المحافظة على وجودهم ومصالحهم(1)!
وربّما نجحت هذه القوى في أكثر من محاولة، فكانت توحي لبعض هذه المجتمعات الإسلامية، بضرورة الاعتماد عليها في خلاصها من بعض القوى الأخرى التي كانت تسيطر عليها قديماً ثمّ تخطّط للعمل، وتثير مجتمعاتنا في ضوء هذه المخطَّطات. وتنجح الخطّة، ويتخلَّص المسلمون من السيطرة القديمة، ويتلفّتون هنا وهناك ليجدوا أنفسهم تحت سيطرة جديدة للقوى الجديدة التي جاءت من أجل أن تحرِّرهم من الاستعمار القديم لتخضعهم للاستعمار الجديد الذي تمارسه هي بالذّات لتمارس عملية الاستغلال والاضطهاد وهكذا دواليك.
وتمثّلت التجربة في وعود بريطانيا للعرب بتحريرهم من العثمانيّين لتكون النتيجة ـــ بعد ذلك أن يعيشوا تحت حكم الاحتلال البريطاني عشرات السنين... وامتدّت التجربة إلى ألوان الاستعمار الأخرى من الفرنسي إلى الأميركي.
... وبدأت من جديد تجربة القوى السوفياتية لتمارس هذا الدور بصورة وبأخرى بحُجّة تخليصهم من الاستعمار الغربي.
وكانت النتيجة المرعبة: إنّنا نعيش الآن الصراع الداخلي، لا من أجل مصالحنا الذاتية بل لحماية مصالح هذه الدولة أو تلك، حتّى تحوَّل الكثيرون منّا في حماسهم واندفاعهم إلى أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك ـــ كما يقولون ـــ .
وفقدنا مع هذا كلّ شعور بالأصالة، عندما فقدنا شخصيّتنا الإسلامية الأصيلة، وبدأنا نتخبَّط أمام هذا الواقع، ونستمرّ في الخضوع والذلّ لهذه القوة، بحُجّة أنّها تمنحنا العزّة والكرامة أمام القوة الأخرى.
وهكذا تستمرّ الحكاية بأساليبَ جديدةٍ وأشكال عصرية متنوّعة.
[2]
على ضوء هذا الواقع رأينا أنّ علينا أن نتحدَّث ـــ بعض الشيء ـــ عن مسؤولية الإنسان المسلم إزاء قضية العزّة والكرامة في عدّة علامات استفهام نثيرها أمام الموضوع:
1 ـــ هل قضية العزّة والكرامة، من القضايا الشخصية التي يملك فيها الإنسان حريّة ممارستها أو عدم ممارستها على أساس الدوافع الذاتية والمصالح الخاصّة؟
2 ـــ هل يملك الإنسان المسلم التحرّك مع القوى التي تضادّه في الفكر والعقيدة والهدف، والتبعيّة لها من أجل تحصيل عزّته وكرامته؟
3 ـــ هل يمكن للضعف أن يكون مبرّراً للمسلم، لكي يخضع لهذه القوة أو تلك؟
4 ـــ كيف نفهم عملية إذلال الإنسان نفسه من وجهة نظر إسلامية؟
وعلى ضوء الأجوبة التي تواجه علامات الاستفهام هذه، نستطيع أن نحاكم واقعنا الذي نعيش، من أجل أن نصحِّح انحرافه ونقوِّم اعوجاجه ليسير في الصراط المستقيم الذي دعانا الله إليه في أكثر من آية.
{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام : 153].
[2]
هل قضيّة العزّة والكرامة من القضايا الشخصية؟
هل العزّة والذلّة أمر شخصي يملك الإنسان المسلم حريّة ممارسته على أساس المصالح والدوافع الذاتيّة؟
الجواب عن ذلك في الوقوف مع الآية الكريمة:
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} [المطففين : 8].
والانطلاق معها، في ضوء التفسير الذي روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام):
"إنَّ الله فوَّض إلى المؤمن أموره كلّها ولم يفوِّض إليه أن يذلّ نفسه، إنَّ المؤمن أعزّ من الجبل إنَّ الجبل يستفلُّ منه بالمعاول، والمؤمن لا يستفلُّ من دينه شيء".
فقد نفهم من وحي الآية الكريمة إنَّ العزّة من خصائص المؤمنين بنفس القوّة والأصالة التي يتّصف بها الله ورسوله فكما لا يمكن تصوّر الذلّة في الذّات الإلهية أو في الرسول، فكذلك لا يمكن تصوّرها ـــ عملياً ـــ في المؤمنين، لأنَّ الإيمان يربط الإنسان بالله ويجعل مواقفه العملية في الحياة منطلقة من هذا الارتباط ومطبوعة بطابعه.
وقد يتّضح هذا المفهوم أكثر من ذلك عندما نلاحظ الحديث الشريف الذي حاول فيه الإمام الصادق استيحاء الآية في أسلوب تفسيري رائع.
فهو يقول لك: ربّما كنت حرّاً في مالك تصرفه كما تريد، ربّما كنت حرّاً في مطعمك ومشربك وملبسك، ولكن مهما تقلّبت الظروف وتغيَّرت الأحوال، فلستَ حرّاً في إذلال نفسك أو إخضاعها للآخرين لقاء مصلحة أو شهوة أو رغبة أو رهبة، لأنَّ عزّتك ليست من القضايا الذاتية التي تملك فيها التصرُّف تبعاً لدوافعك الخاصّة.
لماذا كلّ هذا؟
قد يكون السبب إنّك عندما تخضع لأيّ إنسان أو أيّة سلطة، أو ترضى بالذلّ والعبودية لغير الله، فلن تكون أنتَ الخاسر وحدك، ولن ينعكس ذلك على حياتك. بل سينعكس على ما تحمله من صفات الإيمان، أو تمثّله من الارتباط بالله، لأنَّ عزّة الأفكار والمبادئ في المواقف الحياتية لا تنطلق من مجالاتها الفكرية فحسب، بل تتمثَّل في الواقع الحياتي للأشخاص الذين يحملونها ويمثّلونها في ممارستهم العملية.
وهناك جانب آخر: هو إنّك جزء من المجتمع الذي تعيش فيه، وبهذا يكون موقف الإذلال الذاتي لنفسك سبباً في انطلاق الذلّ في حياة المجتمع كأيّ جزء يرتبط بالكلّ ارتباطاً عضوياً، كما يرتبط به الكلّ في حركاته وأعماله.
وعلى ضوء هذا نفهم أنّ الإسلام لا يعتبر الإنسان المؤمن حرّاً في إذلال نفسه واستعبادها إذا أراد أن يظلّ سائراً على خطّ الإيمان.
إذن: فهؤلاء الذين يباركون عهود الاستعمار بشتّى أشكاله وألوانه، أو يتعاطفون معه، أو يتصرّفون أيّ تصرُّف يكرّس الخضوع والعبودية والذلّة، لا يمكن أن يكونوا مؤمنين، كما هو الإيمان الأصيل، أو مسلمين كما هو الإسلام الصحيح.
وإذا لم يكن للمسلم مثل هذه الحريّة، فمن الطبيعي أن يتحمَّل المجتمع بأكمله، أو بقادته الحقيقيّين مسؤولية الضرب على أيدي أولئك الذين يسيئون إلى عزّة الأُمّة وكرامتها بالإساءة إلى عزّة أنفسهم وكرامتها بأيّ نحو من الأنحاء، بأيّ شكلٍ من الأشكال سواء في ذلك الواقع الفردي أو الاجتماعي، على المستوى السياسي أو العسكري أو الاقتصادي.
[2]
هل من مصلحة المسلم التحرُّك مع قوى الأعداء والتبعيّة لها من أجل تحصيل عزَّته وكرامته؟
للجواب عن ذلك لا بدّ لنا من الوقوف مع الآية الكريمة:
{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً*الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} [النساء: 138 ـــ 139].
فهي تمثّل بعض النماذج الموجودة في كلّ زمان ومكان، فمن يخيَّل إليهم أنّ الارتباط بالكافرين والسير معهم والتبعيّة لهم والانطلاق مع العمياء لتنفيذ مخطَّطاتهم واستغفال هذه الجماعات لخدمة مصالحهم.. ثمّ... الانقضاض عليها، بعد التخلُّص من العدوّ المشترك عندما يعودون، هم، بكلّ مظاهر القوّة والسلطان، وتعود الأُمّة بكلّ مظاهر الضعف والذلّ، لأنّها لم تحاول تحصيل القوّة الذاتية الجديد بفعل اعتمادها على قوّة الآخرين، بل صرفت ما عندها من قوّة احتياطيّة في صراعها مع القديم لمصلحة العدوّ الجديد.
وربّما يشير إلى هذا المعنى الذي استوحيناه من الآية بعض الآيات الكريمة كقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ*هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ*إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 118 ـــ 120].
ولا نريد أن يُفْهَم من حديثنا هذا، أنّنا نعمل على أساس عدم الاستفادة من القوى الأخرى التي نختلف معها في الفكر والعقيدة والهدف، ومعنى ذلك، الوقوف في عزلة مميتة عن القوى العالمية في مجال الصراع، الأمر الذي يجعلنا نقف على هامش الأحداث، ومن ثمّ على هامش الحياة فلا تؤثّر بنا ولا تتأثّر بها بل هو الجمود المرعب. لا نريد أن يفهم هذا، لأنّنا لا نعمل لذلك، فلا يمكن لنا أن ننفصل عن العالم في مجال الحركة والتطوُّر العلمي والاجتماعي كلّ ما نريده هو أن تعمل الأُمّة على مواجهة واقع العزّة والكرامة من خلال تجميع قواها الذاتيّة وتنسيقها وتصنيعها لخدمة القضية الكبرى، هذا من ناحية عملية، وقد ركَّز القرآن الكريم على هذا الجانب في أكثر من آية كالآية الكريمة:
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال : 60].
التي توحي لنا بضرورة العمل على مواجهة العدوّ بالقوّة الذاتية التي تحمي من جهة وترهب من جهةٍ أخرى لتعطي الانطباع عن شخصية الأُمّة وقوّتها وعزّتها الأصيلة.
أمّا من ناحية ثانية، وهي ناحية الإيمان، فبالاعتماد على الله الذي يعطينا القوّة الروحيّة التي تجعلنا نواجه كلّ القوى دون أن يدبّ إلينا الوهن أو يسيطر علينا الرعب.
فإذا تمّ لنا ذلك واحتاجت الأُمّة إلى التعاون مع الآخرين كان التعاون من موقع القوّة لا من موقع الضعف، ومن موقف العزّة لا من موقف الذلّة، لئلّا يتحوّل التعاون إلى عملية إعطاء صفة قانونية ساذجة لاستغلال القوي للضعيف كما هي الحال في المعاهدات والأحلاف التي تعقد بين الدول الكبرى والدول الصغيرة.
إنَّ الفكرة هي كما يلي: أن تكون عزّتك من خلال شعورها بقوّتك المستندة إلى قوّة الله والمستمدّة منها لتكون عزّتك ـــ من خلال ذلك ـــ مرتبطة بقوّة الله، لا أن تكون مستندة إلى قوّة الآخرين فتكرِّس بذلك عبوديّتك للآخرين.
[5]
هل يمكن للضعف أن يكون مبرّراً للخضوع لهذه القوّة أو تلك؟
للجواب عن هذا السؤال نقف مع الآية الكريمة:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً*إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً*فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً*وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 97 ـــ 100].
إنَّ هذه الآيات الكريمة تتعرَّض لبعض النماذج الموجودة في كلّ زمان ومكان، وهم أولئك الذين يعيشون تحت نير الظلم وسلطة الانحراف فيظلمون أنفسهم باتّباعهم الظالمين، وينحرفون عن الخطّ بخضوعهم لسلطة الانحراف، ويعيشون الذلّة لشعورهم بالضعف.
وكانوا يظنّون لأنفسهم العذر في ذلك كلّه، فهم مستضعفون لا يملكون القوّة على المقاومة، ولا يستطيعون مجابهة التحدّيات الموجّهة إليهم، ولا يجدون في أنفسهم القدرة العملية على أن يرفعوا أصواتهم في مواجهة الظالم ليردعوه عن ظلمه أو ليحتجّوا على الظلم أو ليقولوا كلمة الاستقامة في مواجهة الانحراف ليصحِّحوا الانحراف وليقوّموا الاعوجاج، ولهذا ساروا مع الظلم ينفّذون مخطّطاته ويتبعون أساليبه ويعملون في خدمة أهدافه، وعادوا قوّةً مناصرة للظلم وهم يكرهونه ككلّ القوى التي لا تملك أن تريد أو لا تريد وارتاحوا إلى حياة الذلّ مع الظلم لأنّها تجنّبهم مشاكل الصراع والمقاومة، وشعروا براحة الضمير في ذلك كلّه نظراً إلى واقع الضعف.
فجاءت هذه الآية لتشجب هذا الواقع، ولتحمّلهم المسؤولية في ذلك كلّه، ولتقول للإنسان الذي يستشعر الضعف أمام قوّة الظلم في الأرض:
إنَّ عليك أن لا ترضى بالأمر الواقع ما دمت تستطيع الهجرة من بلد الظلم إلى أرض جديدة لتتَّخذ موقفاً جديداً من موقع قوّة جديد.
وبهذا صنّفت هؤلاء إلى قسمين:
القسم الأوّل: القادرون على الهجرة إلى مواقع جديدة، وقد قالت الآية لهؤلاء إنَّ الأرض ليست محصورة في النطاق الذي تعيشون فيه لتفقدوا الأمل في القدرة على المقاومة، فهي واسعة يمكن للإنسان أن ينطلق فيها من موقع إلى موقع ومن مكان إلى مكان فإذا ضاقَ عليك بلد، فهناك بلد آخر يتّسع لك، وإذا فقدت القدرة على الحركة في مكان، فهناك أكثر من مكان تستطيع أن تتحرَّك فيه، وإذن فإنَّ بإمكانكم الانطلاق من البلد الذي تشعرون فيه بالضعف أمام قوّة الظلم.. إلى بلد تستجمعون فيه القوّة لمواجهة الظلم.. ثمّ القضاء عليه. من هناك.
ثمَّ ركّزت على أنّ مَن يهاجر في الأرض يجد في الأرض مراغماً كثيرة واسعة وأهابت بأنّ مَن يهاجر في سبيل الله ثمّ لا يبلغ هدفه فيما أراد فهو يجاهد في سبيل الله وأجره على الله.
القسم الثاني: المستضعفون غير القادرين على الهجرة والانتقال، هؤلاء الذين لا يملكون أيّة حيلة يتخلَّصون بها من المأزق الذي وقعوا فيه، ولا يجدون أيّ سبيل ينطلقون معه بعيداً عن هذا الواقع.. فقد قالت الآية عن هؤلاء: {عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة : 102]. ولعلَّ التعبير بــ "عسى" ينطلق من لفتةٍ تحاول أن توحي لهم ببعض المسؤولية لتثير فيهم الشعور بالقوّة من جديد.
[6]
ما هو طريق الذلّ في الإسلام؟
في أكثر من حديث نلاحظ تركيز الإسلام على اعتبار القاعدة النفسية أساساً للحكم على شخصية الإنسان بالذلّة أو العزّة، فلكي يكون الإنسان عزيزاً في نفسه، لا بدّ له من أن يملك حريّة التصرُّف أمام رغباته وشهواته، فلا تستعبده رغبة ولا تسيطر عليه شهوة لأنَّ ذلك هو السبيل الوحيد الذي يجنّبه الانزلاق في مزالق الانحراف أمام عوامل الإغراء التي تدعوه لأن يعطيَ من نفسه ومن مواقفه في الحياة الكثير للآخرين، على حساب عقيدته ووطنه من أجل أن يحقّق رغبة أو يستسلم لشهوة.
وقد نجد ملامح ذلك في حديث الإمام الباقر (عليه السلام):
"بئس العبد عبد له طمع يقوده، وبئس العبد عبد له رغبة تذلّه".
وحديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام):
"ما أقبح المؤمن أن تكون له رغبة تذلّه".
ففي هاتين الكلمتين نلمح الفكرة التي قدّمناها، فالإنسان الذي تتحكَّم فيه رغباته يفقد السيطرة على نفسه، وبالتالي يفقد القدرة على التحكُّم في تصرُّفاته لأنّه يكون مسوقاً في ذلك كلّه بوحي الرغبة التي لا تخضع للعقيدة ولا تسير على خطى الحقّ.
وعلى أساس ذلك يستطيع الآخرون من الكافرين والمنحرفين والطامعين أن يسيطروا عليه، ويتحكَّموا فيه، ليستغلُّوه ويستثمروه من خلال إشباع رغباته وإرواء شهواته وقد عشنا واقع هذه الفكرة في الأساليب التي يتبعها الاستعمار في السيطرة على الشعوب المتخلّفة من خلال تحقيق الرغبات الشخصية لقادة هذه الشعوب من ملوك ورؤساء وغيرهم.
فقد تتحكَّم في بعضهم رغبة الجنس حتّى لا يملك لنفسه أيّ زمام أمام سعارها فيحاول المستعمرون أن يحقّقوا له ذلك بأكثر ممّا يبلغه خياله أو تتطلَّبه رغبته فيتحوّل إلى عبد ذليل لهم يحقِّق لهم من خلال النساء اللاتي يرسلونهنَّ إليه كلّ ما يريدونه من سيطرة على الحكم أو الاقتصاد أو الثقافة وغير ذلك.
وقد تتحكَّم في البعض الآخر رغبة المال أو رغبة الملك، فيغدقون على الأوّل ما يشاء من أموال، وعلى الثاني ما يريد من ملك، فيجعلون البلد الواحد دولاً عديدة ليحقِّقوا لهذا رغبة الملك ولذلك رغبة الرئاسة، ويحصلون من خلال ذلك على كلّ ما يريدون، ما دام هذا الإنسان أو ذاك لا يستطيع أن يملك الخيار أمام رغبته وما دامت الرغبة ملك أيديهم وطوع أمرهم.
وقد شاهدت أحداث الحرب العالمية الأولى والثانية كيف لعبت رغبة الجنس وغيرها دوراً كبيراً في إذلال الكثيرين من القادة أمام النساء اللاتي كنَّ صنيعة هذا المعسكر أو ذاك من أجل التعرُّف على الأسرار العسكرية وغيرها، ولا تزال قصص استخدام الفاتنات في قضايا التجسُّس تلعب دورها الكبير في عالمنا المعاصر.
ولهذا كلّه يعتبر الإسلام أنّ السيطرة على الرغبة والتحكُّم في الشهوة هي الأساس للعزّة الإنسانية التي لا تتنازل ولا تعطي من نفسها أيّ شيء مهما كانت الظروف ومهما كانت الضغوط، ومهما كانت درجة الحرمان وقسوة العذاب.
وهذا ما تعبّر عنه ـــ أصدق تعبير ـــ كلمة الإمام الحسين (عليه السلام):
"ألاَ وإنَّ الدّعيَّ ابنَ الدّعيِّ قد رَكَزَ بين اثنتين بين السِّلَّة والذلّة، وهيهات منّا الذِلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجورٌ طابَتْ ونفوس طهرت من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام".
وقوله الآخر:
"لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أُقِرُّ إقرار العبيد".
وكلمة الإمام الصادق (عليه السلام):
"إنَّ المؤمن أعزّ من الجبل. إنَّ الجبل يستفلّ منه بالمعاول والمؤمن لا يستفلّ من دينه شيء".
ومن البديهي أنّ هذه المواقف لا يمكن أنْ تتحقَّق إذا كان الإنسان ينهار أمام رغبة الحياة أو ضغط الشهوات.
ولعلَّ الفكرة تبلغ الذروة في الكلمة التي قالها الإمام عليّ (عليه السلام) في وصيّته لولده الإمام الحسن (عليه السلام):
"أكرم نفسك عن كلّ دنيئة وإنْ ساقتك إلى الرغائب فإنّك لن تعتاض بما تبذله من نفسك عوضاً".
فكلّ موقف منحرف دنيء تقفه ضدّ مبادئك من أجل أن تحقّق رغباتك يقابله خزيٌ من نفسك ومن كرامتك، فأنتَ لن تحصل على رغباتك مجاناً لأنّك تعطي العوض من نفسك.
ويريد الإمام أن يوحي للإنسان إنّ أيّ رغبة لا يمكن أن ترقى إلى ما تبذله من ذاتك وما تعطيه من نفسك، مهما كانت قيمتها.
وإذا استطاع الإنسان أن يمسك زمام نفسه فيخضع كلّ تصرّفاته ورغباته لمبادئه وعقيدته، أمكنه أن يخطو الخطوة الأولى في الاتجاه السليم لحركة العزّة والكرامة في الحياة، فلا يقف في المواقف التي تجعله يشعر بالحاجة إلى الخضوع للآخرين أو الانسحاق أمام رغباتهم أو شخصياتهم.
وقد نجد التعبير الواقعي عن ذلك في كلمتين للإمام الصادق (عليه السلام) أجاب بها عن سؤالٍ واحد: كيف يذلّ الإنسان نفسه؟
قال: "أن يدخل فيما يعتذر منه، أو يتعرَّض لما لا يطيق".
أمّا الكلمة الأولى ـــ فتمثّل الموقف الذي يستسلم فيه الإنسان لبعض الرغبات الذاتية فيتصرَّف بعض التصرّفات غير المسؤولة فيؤيّد من لا يستحقّ التأييد أو يرفض مَن لا يستحقّ الرفض، أو يتحرّك في بعض الاتّجاهات الخاطئة أو المنحرفة أو يقف موقفاً سلبياً في بعض الحالات التي تفرض عليه مبادؤه أن يتّخذ الموقف الإيجابي، أو يتكلّم بعض الكلمات التي لا يؤمن بها أو لا ينبغي له أن يتكلّم بها لأنّها تختلف مع عقيدته أو مع تهذيبه أو مع خطّ العدل والحقّ الذي يؤمن به، أو يقوم بأيّ مشروع لا ينسجم مع المصلحة العامّة، كلّ ذلك لقاء رغبة مستحكمة أو نزوة عابرة، أو شهوة عارمة.
ثمّ ينطلق من جديد ليقف موقف المعتذر للآخرين ليختلق الأعذار من جهة أو ليطلب تقدير ظروفه من جهة أخرى ليرضى عنه هذا، ولئلا يغضب عليه ذاك، الأمر الذي يجعله يشعر بانسحاق شخصيّته عندما يضطر إلى أن يقف موقف المعتذر أمام الإنسان الذي يؤنّبه أو يحاسبه.
إنَّ الفكرة التي عالجها الإمام الصادق تقول لك:
قبل أن تتّخذ أيّ موقف في الحياة فكِّر جيّداً هل باستطاعتك تحمّل مسؤوليّته، وهل في قدرتك الدفاع عنه أو لا، فإذا لم تجد في نفسك ذلك فوفّر على نفسك مسؤولية الاعتذار والوقوف أمام الآخرين موقف الخضوع من أجل أن يعطوك العذر على ما قمت به كرماً وحناناً.
إنَّ الإنسان القوي العزيز في الإسلام هو الذي يعمل بما يؤمن به ويتحمَّل مسؤولية الدفاع عن موقفه حتّى لو كان العالَم كلّه ضدّه، لأنّه يشعر ـــ مقدَّماً ـــ أنّه موقف الحقّ.
أمّا الكلمة الثانية التي تحدِّد للإنسان بعض مظاهر الذلّ في السلوك: أن يتعرَّض لما لا يطيق.
وتتمثَّل في الأعمال والمشاريع التي يقدم عليها الإنسان وهو يعرف أنّها فوق طاقته ولذلك فهو يضطر معها ـــ في نهاية المطاف ـــ إلى الاستعانة بالآخرين والخضوع لشروطهم وطلباتهم من أجل إكمال المشروع وتخفيف أعبائه، وهذا سلوك يعرِّض الإنسان لمواقف الذلّ أمام الآخرين. وربّما نجد نماذج هذا السلوك في الواقع الفردي والاجتماعي.
ففي المجال الفردي، نجد أمامنا هؤلاء الذين يدخلون في مشاريع عمرانية وصناعية تفوق رصيدهم المالي والمعنوي فيسقطون أخيراً تحت رحمة المرابين والمستغلّين نتيجة عجز المشروع وحاجته إلى مالٍ جديد لا يملكه صاحبه.
وربّما يكون من هؤلاء الذين يغريهم الشراء بالتقسيط لسهولته في بداية الأمر ممّا يجعل الإنسان يشعر أنّه قادر على توفير حاجاته المنزلية والكمالية بأسهل طريق، دون أن يحسب حساب المستقبل عندما تبدأ مواعيد دفع الأقساط وهنا تتجمَّع الأقساط من هنا وهناك دون أن يستطيع سبيلاً إلى الوفاء فيضطر إلى بذل ماء وجهه للمرابين ليفرضوا عليه الفوائد التي يريدونها وهكذا يتحوّل إلى إنسان يشتغل لهؤلاء المرابين ولمصلحتهم دون أن يملك القدرة على الوفاء بفوائد المال فضلاً عن أصله، وقد يلجأ ـــ بفعل ضغط هذا الواقع إلى الرشوة والسرقة والخيانة والتجسّس.
فمن الذي أوقعه في ذلك كلّه؟
إنّه هو الذي أوقع نفسه في الذلّ وظلم نفسه عندما لم يدرس ميزانيّته ومقدار طاقته على الوفاء، فلم يصبر على رغبات نفسه ليفكّر في تطبيق نظام المراحل على حاجته ليستطيع تحقيقها بعزّة وكرامة.
وفي المجال الاجتماعي والدولي نجد أمامنا الدول الصغيرة التي ترهق نفسها بالديون الكبيرة من الدول الكبيرة لتحقيق بعض المشاريع الحيويّة دفعة واحدة، دون أن تدرس الموارد الطبيعيّة وغيرها ومدى إمكانيّاتها التي تمكنها من الوفاء في المواعيد المحدّدة فتكون النتيجة أن تضطر إلى الخضوع لسيطرة هذه الدول تدريجيّاً عندما تحاول ـــ تلك الدول ـــ أن تضع أيديها على مصادر الثروة لتضمن لنفسها حماية ديونها وبالتالي تضع يدها على نفس البلاد لتحقّق لنفسها السيطرة على تلك المصادر فتسقط البلاد ضحيّة الأحابيل الاستعمارية ـــ عبر الديون غير المدروسة التي عرضت البلاد نفسها ـــ معها ـــ لما لا تطيق.
ولا يزال تاريخ الاستعمار القديم والحديث يقدّم لنا القصص الكثيرة عن البلاد التي سقطت تحت نير الاستعمار بحجّة الديون الاستعمارية التي حاول الاستعمار أن يجعلها طريقاً إلى السيطرة على تلك البلاد...، وربّما نجد هذا المبدأ يتمثّل في الواقع العسكري للشعوب التي قد تدخل في مغامرات عسكرية يغذّيها الحماس والانفعال الساذج دون حساب لما تملك من قوّة، وما يملك العدوّ من معدّات، فربّما تكون قوّة العدوّ أضعاف ما لديها من قوّة، وربّما تكون الخطط التي أعدَّها للمعركة أكثر دقّة من خططها.
فتكون النتيجة الهزيمة العسكرية والوقوع تحت سيطرة العدوّ السياسية أو العسكرية.
وهكذا نفهم هذه القضية على جميع المستويات على النحو التالي:
إنَّ على الإنسان الذي يريد أن ينطلق في أيّة قضية، أن يجمع قواه ويفكّر فيها تفكيراً واسعاً دقيقاً حتّى يدخل فيها دخول الواثق الذي يعرف ما له وما عليه حتّى لا يضطر للانسحاق أمام مفاجآت المواقف غير المدروسة.
ولن نحصل على ذلك حتّى نفحص قوانا في كلّ شيء ونقدر حركاتنا وأعمالنا على أساس ما نملك من قوّة ذاتية، مادية أو معنوية، سواء منها القدرة الفعلية، أو الاحتياطيّة أو المستقبليّة.
وأحسب أنّنا لو اتّبعنا هذا الأسلوب ـــ على مستوى الفرد والمجتمع ـــ وتحرّكنا على أساس ما عندنا من قوى دون الانحراف مع الأساليب العاطفية، لاستطعنا أن نوفّر على أنفسنا خسائر كبيرة وهزائم كثيرة.
وربّما كان الكثير من هزائمنا في التاريخ القريب، منطلقاً من عدم حسابنا للقوى التي يملكها العدوّ، بالإضافة إلى القوى التي نملكها.
وقد يكون من الأمثلة على ذلك ـــ على مستوى الأُمّة العربية في معركتها مع الصهيونية ـــ الفكرة التي كان يخيَّل لنا فيها أنّنا نملك قوّة مائة مليون عربي لأنّنا نملك هذا العدد من النفوس، وربّما كانت درجة الحماس كبيرة أمام عظمة هذا الرقم الذي يثير الكبرياء في النفوس أمام حالات الاندفاع.
ولكن ـــ وبحسابٍ بسيط ـــ أدركنا أنّ القوّة التي نملكها للمعركة قليلة جداً، لأنَّ دور الأكثرية الساحقة من هؤلاء، هو دور المتفرّجين الذين يتابعون الأخبار والتعليقات في الصحف وفي المذياع والتلفزيون دون أن يشعروا بمسؤوليّتهم في المشاركة العملية بأقل قدرٍ ممكن من الطاقات التي يملكونها لفقدان الإعداد السياسي والعسكري لهم من قِبَل المشرفين على القضية ليعيشوا المعركة بما عندهم من قوى وما يملكون من طاقات.
وكلَّنا يعلم ـــ ماذا كلَّفنا هذا الواقع من أخطاء في الحساب ومن كوارث في المعارك، على مستوى الضحايا وعلى مستوى العزّة والكرامة.
وبكلمةٍ واحدة: إنَّ قضية العزّة والكرامة لا تخضع في حركتها الواقعية للتشنُّجات والانفعالات التي يثيرها الحماس والاندفاع وإنّما تخضع للتخطيط الواعي الذي يحسب لكلّ خطوة حسابها الدقيق لكلّ الظروف والاحتمالات القريبة والبعيدة، لنخرج بنتيجة حاسمة تحدِّد لنا موقع الحركة وتوقيتها على أساس ما نملك من قوّة، حتّى إذا تحرَّكنا، كانت حركتنا حركة القوّة الواعية التي تعرف ماذا تواجه وماذا تريد وبالتالي كان الموقف الطبيعي انسجاماً مع ما نطيق لا تعرُّضاً لما لا نطيق.
وينبغي أن لا يخطر في البال: أنّنا ندعو إلى الاستسلام والضعف عندما تكون القوى التي نقابلها أعظم منّا في العدّة وفي العدد، بحجّة أنّ التحرُّك يمثّل تعرُّضاً لما لا نطيق.
إنَّنا لا نحاول هذه المحاولة لأنّنا في سبيل التخلُّص من واقع الذلّ الذي يفرضه التعرُّض لما لا نطيق، فكيف يمكن أن نشجِّع الاستسلام للذلّ أمام ما لا نطيق؟
ولكن نقول: إنّك عندما تدرس قوّة خصمك بالإضافة إلى قوّتك ـــ ستحاول أن تفكّر في مواقع جديدة للقوّة، وتحرّك جديد للموقف، وبالتالي ستنطلق نحو الهدف في حركة مرنة تحسب للعمل حساباً وتحرُّكاً جديداً للموقف، وبالتالي ستنطلق نحو الهدف في حركة مرنة تحسب للعمل حساب الزمان والمكان، ولو بعد حين، دون أن تخوض معركة انتحارية لا تحلّ المشكلة بل تعقّدها من جديد على حساب العزّة والكرامة.
وخلاصة القول: إنَّ قضية الذلّ والعزّ في الحياة هي قضية السلوك العملي الواعي للإنسان الذي يشعر أنّه يملك زمام نفسه، فلا تدعوه رغبته إلى أن يدخل فيما يعتذر منه، أو تدفعه انفعالاته وشهواته إلى أن يتعرَّض لما لا يطيق.
إنَّها الخطوط العريضة للحياة العزيزة الكريمة، يرسمها لنا الإسلام من خلال القرآن الكريم والسُّنّة الصحيحة لنبدأ من جديد رحلة التفاصيل الدقيقة للحياة ولنعرف كيف نضع النقاط على الحروف.
لِكُلِّ سؤالٍ جواب
• قضايا العدوان
• الهزيمة النفسيّة
• مقوِّمات الصمود
• هدف الندوات
• التلفزيون وموقف الإسلام من وسائل الإعلام
• الحروف المقطعة في القرآن... الخ.
س ـــ إنَّنا نواجه العدوان الإسرائيلي الذي لا يفرِّق بين المدني وغيره، ونحن نقف موقف المتفرِّج المنسحق أمام الضربات المتوالية، فهل يوافقنا الإسلام على هذا الموقف؟
ج ـــ من وجهة نظر مبدئيّة عامّة، يجب ألاَّ نقف موقف المتفرِّج أو المنسحق أمام هذا الواقع، ولكن علينا أن نفكِّر في الطريق إلى التحرُّك.
يعني القضية ليست قضية ما هو المبدأ في هذا الموقف فليس هناك شكّ في أنّ هذا الواقع ليس واقع العزّة والكرامة.
ولكنَّ القضية هي قضية ماذا نستطيع أن نعمل في هذا الاتجاه على أساس ما نملك من قوى على الصعيد المحلي وفي هذا الوقت بالذّات.
إنَّ الانفعال قد يدفعك إلى التفكير بالثورة على واقعك، ولكنّه ـــ وحده ـــ لا يقدّم لك أيّ نتيجة في طريق الحلّ.
فربّما يشعر الإنسان ـــ في بعض الحالات النفسية ـــ أمام بعض المواقف، بالحاجة إلى أن يدمّر نفسه وما حوله وقد يكون في هذا السلوك ما يفجِّر الغيظ، وينفّس عن الكبت المتحفّز للانفجار، ولكنّه لن يحلّ المشكلة.
إنَّ الذي أحسبه هو أنّ الإنسان العربي العادي وصل إلى المرحلة التي حاولت أن تخطّط لها السياسة الصهيونية ومن ورائها السياسة العالمية المتحالفة معها ضدّ قضية العزّة والكرامة في حياتنا وهي مرحلة الضياع، التي تضيع فيها الخطوط في الرّمال المتحرّكة على أكثر من اتجاه، وقد شاركت الأوضاع السياسية القلقة التي تقود عالمنا العربي في الوصول السريع إلى هذه المعركة، فقد لعبت المزايدات دوراً كبيراً في ابتعاد الإنسان عن واقع القضية، كما حاولت الأساليب الملتوية أن تخفي عنّا الكثير ممّا يخطّط لنا ويراد بنا في أروقة المحافل الدولية، ممّا ساعد على أن تبقى الصورة مهتزّة في عيوننا بين حالة الإقدام والإحجام وبين نوازع التفاؤل والتشاؤم. فإذا أضفنا إلى ذلك الأساليب التربوية والتوجيهيّة التي تعتمد الحماس والانفعال في إثارة المشاعر وفي ربط الناس بالقضية على أساس سياسة النَفَس القصير التي تعدّهم بالمعركة الفاصلة بعد مدّة قريبة لتوحي لهم بأنَّ المشكلة ستصل إلى نهايتها الحاسمة في وقتٍ قريب الأمر الذي يجعل الإنسان مستعدّاً لمجابهة الحرمان على المدى الطويل ليخطّط لحياته على هذا الأساس ثم... هناك الأساليب التي تدعم هذا الاتجاه، المنطلقة في ربط الأخطار العدوانية. بأوضاع محليّة خاصّة لإبعادنا عن مؤامرة التخطيط العدواني الطويل الأجل للسيطرة على بلادنا وثرواتنا وبالتالي لإخراجنا من أوطاننا تحت شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
وقد نجحت إلى حدٍّ بعيد في إثارة المشاكل الداخلية. وتضخيم الأخطاء الصغيرة وتوجيه الأنظار إلى فروع المشكلة لتحويلها عن جذورها الأصيلة العميقة التي هي بكلمة واحدة العدوان الصهيوني على فلسطين.
وربّما كان للسياسات المخدرة التي تتبعها كثير من أنظمة الحكم لدينا الأثر الكبير في إبعادنا عن الأساس الصحيح للمشكلة وإفقادنا الأمل في إمكانية الوصول إلى حلّ لإبعادنا عن العمل من أجل تحقيقه في المستقبل. أمّا نحن هنا في جنوب لبنان، فقد نكون أقرب إلى الصورة الواضحة لهذا المخطّط المتعدِّد المراحل، فنحن هنا نشعر أمام الواقع المنسحق اقتصادياً واجتماعياً، من خلال التخلّف الذي تركه لنا التاريخ الطويل من الظلم والاضطهاد والإفقار والتجويع والجهل، وحاولت السلطات أن تكرّسه بطريقةٍ وبأخرى على يد الفئات المتزعّمة التي تقود خطى هذا الشعب إلى أمجادها التاريخيّة والحاضرة والمستقبليّة. إنَّنا نشعر ـــ بأنّنا نعيش في أرض مكشوفة، لا أبواب لها ولا سقوف نتيجة فقدان الحماية الجادّة التي تختلف مبرّراتها ـــ حسب اختلاف تصريحات المسؤولين ـــ بين عدم القدرة تارّة، وبين تحميلنا المسؤولية على إفساح المجال لأسباب الخطر أخرى.
فإذا أضفنا إلى ذلك السياسة الإعلامية المحليّة والدولية التي تثير من جديد في أفكارنا ـــ إنْ نسينا ـــ واقع الهزيمة أمام رياح السياسة العالمية، التي تحتضن فيها الولايات المتحدة وأكثر دول الغرب، إسرائيل ـــ بكلّ ضراوة حتّى لتكاد توحي لنا باستعدادها للدخول في حرب عالمية ثالثة لحساب إسرائيل. كنتيجة حتمية لارتباطها العضوي بها تبعاً لارتباط مصالحها الاستعمارية، الاستراتيجيّة منها والاقتصادية، بوجود إسرائيل ومخطّطها الجهنّمي، بينما لا نجد المعسكر الذي نرتبط به، ويحتضن القضية بهذا المستوى لاسيّما في ظلّ سياسة التعايش والتفاهم السلمي التي انطلقت أخيراً في حركة الدول الكبرى نحو اللّقاء.
وربّما تكمل الصورة إذا أضفنا إليها زاوية الخلافات العربية التي لا تهدأ إلاَّ لتثور، ولا تضعف إلاّ لتقوى من جديد سواء على مستوى اليمين واليسار، أو اليمين في داخله، أو اليسار في داخله، وبذلك اختلطت الأوراق حتّى لم تعد تعرف المخلص للقضية من الخائن لها، ومن الطبيعي أنّ ذلك لن يبتعد عن أصابع الاستعمار والصهيونية التي تتحرّك في كلّ مكان، ولكنّه على كلّ حال ـــ يكمل صورة الضياع في نفس المواطن العادي البسيط.
إنّ العدوّ بدأ يخطّط للهزيمة النفسية للحصول على مكاسب الهزيمة العسكرية، وما زالت الخطط تنفذ على مراحل، يصنع هو بعضها ليدفع الخطّة إلى مرحلة جديدة ربّما نقوم نحن الآن بصنعها على جميع المستويات من أجل أن يتقدَّم إلى مواقع جديدة ومراحل متقدّمة تقرّبه من الهدف.
إنّنا نهزم الآن فكرياً، فقد نجد أنفسنا نملك الكثير من السلاح والقوّة. ولكنّ فكرنا بدأ يفقد القدرة على التركيز نظراً للشلل الفكري الذي انطلق يتحدّى وجوده.
كلّ هذا الواقع جعلنا نشعر بالضياع، ونحسّ بأنَّ ارتباطنا بأيّة فئة من الفئات المطروحة في السّاحة لا يحقّق لنا أيّ شيء.
ولذا فمن الصعب في مستوى الواقع المحلي، وفي هذا الوقت بالذّات الذي يحاول العدوّ أن ينشر الخراب والرعب والدمار والموت في كلّ مكان بأيّة ذريعة تحلو له.
من الصعب أن يعيش الإنسان عندنا الشعور بالعزّة والكرامة، ما دام لا يملك الحماية على مستوى الداخل ولا يملك القوّة على مستوى الخارج، ولا يملك النافذة الكبيرة التي يطلّ منها على الأمل الكبير في المستقبل المنظور.
ومن الصعب جداً، في مستوى هذه المرحلة من وجوده، أن نطالبه بالصمود والتضامن مع أيّة قوّة أخرى ما لم نهيّئ له الظروف الموضوعيّة، النفسية والفكرية والعملية، التي تساعده على أن يخطو أوّل خطوة في طريق التماسك والصمود... والنصر.
تلك هي الصورة فيما أظنّ فماذا عن الموقف؟
أحسب أنّنا نستطيع أن نلخّص القضية في كلمات بسيطة.
أن نبدِّل نظرتنا إلى خطط العدوّ، فنتجاوز النظرة الساذجة إلى النظرة العميقة التي تحاول كشف مخطّطات المستقبل من خلال تجاربه في الماضي والحاضر. ثم... نخطّط لحياتنا السياسية والاقتصادية والعسكرية على هذا الأساس، لنخرج بنتيجة واحدة، هي أنّ الشعوب التي تنتظر أن تأتيها الحلول من خلال الأوضاع السياسية في العالم، أو يحلّ لها الآخرون مشاكلها. سوف تظلّ دائماً تقتات من دموع المشاكل وأحزانها دون جدوى ودون نهاية.
وأنَّ الأمم التي لا تنظر بعيداً في الأفق البعيد سوف تواجهها الهوّة وهي تحلم بالقمّة في دروب المستقبل.
لقد خطَّط العدوّ لأحلامه فاستطاع أن يحوّلها إلى واقع يهدِّد أحلام العالم في الحياة الهادئة المطمئنّة، فلماذا لا نخطِّط لواقعنا المرتبِك هذا المضطرب؟ من أجل أن نتجاوز أحلام اليقظة إلى خطوات الواقع.
أمّا كيف نضع النقاط على الحروف فهذا حديث لا ينطلق في دروب الكلمات وإنّما يتّجه في دروب الواقع... وحتّى نصل إلى بداية الطريق، يجب أن نتعمَّق في دراسة هذا الواقع، وننطلق في الاستفادة من بعض اللّمحات المضيئة التي تبعث على التفاؤل، لنأخذ منها زاد الأمل للمستقبل.. وبالتالي لنبقى في تماسك داخلي متين.
س ـــ إنّهم يطالبوننا بالصمود، هنا، في الجنوب، وأشغالنا معطّلة؟
ج ـــ ربّما يشعر الإنسان ـــ في بعض اللّحظات ـــ ببعض الكلمات التي يطلقها الوعّاظ والمسؤولون، ككلمة الصمود مثلاً ـــ في حالة الانسحاق الداخلي للشعب ـــ بأنّها لا تمثّل شيئاً حتّى في أفكار قائليها، بل هي مجرّد كلمات جوفاء لا معنى لها، ميّتة لا روح فيها.
إنَّ الصمود يحتاج إلى مقوّمات، ومن مقوّماته إعداد الأرض التي يصمد فيها الإنسان، لكي توفّر له الحياة الكريمة، وليشعر بأنّها تمثّل له الشيء الكثير في وجوده وفي كيانه الأمر الذي يدفعه إلى التعلّق بها بإصرار بعيداً عن قصائد الشعراء وأحاديث الأدباء حول الوطن.
ومن أبسط وسائل الإعداد، إيجاد المشاريع الزراعية والصناعية التي يشعر معها بالطمأنينة والاكتفاء الذاتي بعيداً عن هواجس الهجرة ومشاكلها.
ولكن قد يبدو لنا أنّ السياسة المتّبعة في الجنوب سياسة مرسومة تستهدف إبقاء الجنوب متخلِّفاً لتبقى مبرّراً للعدو في احتلاله. أمام العالم، وربّما تعيش مشكلة "مشروع الليطاني" في هذا الإطار، وإلاَّ فكيف نفسّر هذه الحركة السلحفاتيّة لهذا المشروع في دوائر الدولة وفي خطوات الدراسات التي تنتقل من خبير إلى خبير دون جدوى، وفي مسرحية السياسة التي تدور في تقدير المستوى بين 600 و800 متر، ألَا تبرز لنا أساليب التخدير والإلهاء في ذلك كلّه، التي إن أبعدتنا عن الواقع فقد قرّبتنا من الأحلام. ربّما يبدو لنا أنّ القضية قضيّة خطّة مرسومة لإبقاء الجنوب في تخلُّف.
أمّا دورنا فهو أنْ نتحدّى هذه الخطّة ونكشفها من أجل إلغاء مخطّطاتها وألاعيبها، وننطلق بعيداً من جوّ البساطة والسذاجة والتزلُّف الذي يجعلنا نحقّق لهم أهدافهم بأبخس الأثمان وأيسر الوسائل.
س ـــ متى يشعر الإنسان أنّه انهزم نفسياً؟
ج ـــ عندما يفقد الأمل، ومن هنا يبرز عنصر الإيمان بالله كعامل حيوي في غرس الأمل في القلوب وهذا ما تمثّله الآية الكريمة في جواب يعقوب مع أولاده، وهو يستعيد الأمل في رجوع يوسف ـــ بعد عشرين سنة من غيابه في ظروف وإمارات تتجمَّع لتلغي كلّ بارقة أمل عادية.
{يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87]. إنَّ مشكلتنا هي مشكلة النَّفَسِ القصير التي تجعلنا نيأس عندما نلتفت إلى حدود الزمان والمكان وكأنّها تخنق كلّ بارقة للأمل.
وسوف تختلف القضية إذا عشنا النَّفَسِ الطويل الذي يعتبر أنَّ منطلق قضيّته هو الحياة في امتدادها، وأنّ الأمل لا يمثّل سذاجة في الفكر ما دامت الفرص الكثيرة أمام المستقبل، وإذا رجعنا إلى تاريخ الأمم التي انهزمت وخسرت ثمّ انتصرت وعوّضت خسارتها، الأمر الذي يجعلنا نفكِّر أنّ الهزائم والخسائر ليست أبديّة في حياة الأمم، وأنّ العمل على مستوى التخطيط لمراحل العمل يحقّق أكبر النتائج.
س ـــ يقولون "مسافة ميل تبدأ بخطوة، فما الخطوة الأولى التي يجب أن نخطوها في طريق الحلّ"؟
ج ـــ أن نفهم ما نريد، أن نعرف هدفنا ونفكّر بشيء من العمق والجديّة، ثمّ ندرس قوانا ونؤمن بقضيّتنا وننطلق على ضوئها في سلوكنا العملي.
إنَّ علينا ـــ قبل كلّ شيء ـــ أن نُقنع أنفسنا بقضيّتنا، فنلتفت إلى أعماقنا ونشعر أنّها تعيش في الأعماق تماماً كما حدَّثنا القرآن الكريم عن الرسول الأعظم محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
{وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر : 33].
علينا أن لا ننطلق بفعل الحمى التي نعيش فيها، فإذا عدنا إلى أنفسنا وجدناها فارغة من القضية وليست هناك إلاَّ بقايا الحماس والانفعال.
وقد نجد المثل على ذلك في حالات الأزمات السياسية والمحليّة كالانتخابات النيابيّة الأخيرة فإذا لاحظنا القضايا التي طرحت، والأساليب التي اتّبعت، نجد أنّها كانت تتّجه بعيداً عن قضايانا المصيرية ومع ذلك فقد اندفعنا إليها بكلّ ما عندنا من قوّة وعصبية وحماس وتركنا كلّ شيء خلفنا حتّى كأنّنا لا نواجه مشكلة المصير.
هذا ليس عمل أُناسٍ يؤمنون بقضيّتهم، إنّنا لا نريد توزيع الأخطاء والمسؤوليات على الآخرين، ولكنّنا في سبيل دراسة واقع، أنتَ عندما يؤلمك جرحك تنسى الأكل، أليس من المفارقات المبكية المضحكة أن تتألَّم وتعيش الانسحاق بكلّ معنى الكلمة "ومع ذلك فأنتَ مستعد لأن يلهيك أيُّ إنسان بأيّ شخص، أو بأيّ أسلوب".
حتّى الآن... كلّ ما حولنا من تصرّفات وأساليب يجعلنا نشعر أنّنا لم نصل إلى مستوى الإحساس ـــ بعد ـــ بقضيّتنا فطبيعة الأجواء التي حولنا، أساليب التلقين، والانتساب إلى هذا الاتجاه أو ذاك، والسير مع هذا الشعار أو ذاك، كلّها عمليات تواجهنا من الخارج، أمّا الداخل فلا يوجد فيه إلاَّ الأصداء وبقايا الانفعال، عندما ننطلق من الداخل يجب أن يكون لدينا قاعدة ذاتية من إيمان وأخلاق.. إنّهم يقولون: الأخلاقيات لا مجال لها الآن!، إنّنا نعيش الواقع بكلّ ضراوته، قد يكون هذا صحيحاً من بعض الجوانب. إنّ لديك واقعك الذي يجب أن تهتمّ له، ولكن.. من أين يبدأ هذا الواقع؟ وكيف يتحرّك؟.. إنّه يبدأ من الإنسان فهو الذي يطلق الكلمة، وهو الذي يحلّ المشكلة، وهو الذي يمسك المدفع ويقود الطائرة، قل لي بربّك، كيف يمكن لهذا الإنسان أن ينطلق بعيداً في قضية المصير إذا لم يعش القضية بإيمانٍ عميق وأخلاقية قويّة لا تنهار أمام عوامل الإغراء؟
أعطنا إيماناً وأخلاقاً تجد البداية الأولى لولادة القيادة التي تنطلق في اتجاه النصر.
س ـــ كيف تحلّ مشكلتنا هذه كجنوبيّين؟
ج ـــ لن تحلّ المشكلة إلاّ متّى حلَّت المشكلة الكبرى ككلّ، إنّ قضية الجنوب أصبحت جزءاً من القضية الفلسطينيّة وكلّ ما يقوله السياسيّون، أو يريده البعض من أنّ خروج الفدائيّين من المنطقة سيحلّ المشكلة، كلام في كلام، وأقوال عابرة، وتخدير مرحلي، فهو قد يفقد العدوّ بعض مبرّراته أمام العالم، ولكنّ تجربتنا مع الصهيونية، علّمتنا أنّه لا يعدم مبرّرات جديدة معقولة أو غير معقولة كما أحتاج إلى واحدة منها. إنّ الجنوب هو حلم إسرائيل منذ عشرات السنين، وما زالت تسير نحو تحقيق هذا الحلم على مراحل تحطّم فيها القوى تدريجيّاً لتسيطر بعد ذلك دون أيّة مقاومة وبكلّ سهولة.
س ـــ هل تؤمن أنّ مخطّط إسرائيل هو "من الفرات إلى النيل"؟
ج ـــ هذا هو مخطّط إسرائيل الذي أعلنه مفكّروها وقادتها بأكثر من طريق، ونتمنّى أن لا يتحقَّق، ويجب أن نعمل على ألاّ يحصل.
إنَّنا نلاحظ أنّ إسرائيل في حروبها الثلاثة معنا، كانت تحاول تصعيد التأزّم في كلّ مرحلة من المراحل إلى درجة الانفجار حتّى تدخل حرباً جديدة، لتكسب أرضاً جديدة، ولذا فهي الآن تحاول من خلال مطالبتها بالمفاوضات المباشرة لتكرّس هذا الواقع، وأحسب أنّنا لو قبلنا معها ما تريد فسوف تخلق مشاكل جديدة لتشعل من جديد الحرب التي تعين وقتها الملائم لها لتكسب أرضاً جديدة.
تلك هي طريقة إسرائيل، وذلك هو هدفها البعيد، وعلينا أن نعمل على هذا الأساس لنعرف كيف نواجه الصراع بعقلية متحرّكة تدرس احتمالات المستقبل في أكثر من اتجاه، وتتعامل مع الحاضر في أكثر من مجال.
س ـــ ما هو الهدف الأساسي من هذه الندوات؟
ج ـــ الهدف هو التوعية الدينية التي تجعل الشباب ينفتح على مشاكل حياته من خلال الدين، ليؤمن بأنَّ الإسلام لا يتنكَّر لحياته بل ينظّمها ويخطّط لها وسائلها وأهدافها على أساس من العلم والواقعية واليسر، فلا يغفل جانباً لمصلحة جانب، ولا يغلب موقفاً على حساب موقفٍ آخر، بل هو الاعتدال والاستقامة في كلّ الاتّجاهات.
هدفنا: هو ردم الهُوّة المفتعلة بين الشباب وبين الدين بسبب عدم وجود فكرة كاملة لديه عن الدين.
والمعرفة المرتكزة على الحوار الهادئ العميق الحرّ هي إحدى وسائلنا لتحقيق هذا الهدف.
س ـــ ما هو موقف الإسلام من التلفزيون وغيره من أجهزة الإعلام التي تنفتح على الخير والشرّ والحرام والحلال؟
ج ـــ للتلفزيون ـــ ككلّ أجهزة الإعلام الأخرى ـــ منافع ومضار تبعاً للبرامج التي تعرض فيه، فربّما يكون البرنامج تربوياً أو توجيهياً أو علمياً يستهدف انفتاح المستمعين على التطوّر التربوي أو العلمي في العالم فتكون مشاهدته والاستماع إليه من الأمور التي يشجّع عليها الدين المنطلق أبداً مع كلّ تقدّم يخدم قضية الإنسان ونموّه في الحياة.
وربّما يكون البرنامج خلاعياً يستهدف تحطيم المناعة الأخلاقية لدى الشباب وتفتيت القِيَم الروحية في نفوسهم بإثارة غرائزهم وميولهم بشكلٍ داعر، وربّما يكون إجرامياً ـــ إنْ صحَّ التعبير ـــ يهدف إلى تشجيع الجريمة ومحاولة تصوير اللّصوص والقَتَلَة وقطّاع الطرق بصورة الأبطال في نظر المراهقين ـــ الأمر الذي يشجّع هؤلاء على الاقتداء بهم وتقليدهم في كلّ شيء ممّا يفسح المجال لانتشار الجريمة في المجتمع كما ورد في بعض إحصائيّات محاكم الأحداث الذين كانت الدروس الأولى التي تلقَّوها في اللّصوصية والقتل من أفلام الجريمة والرّعب التي شهدوها في السينما والتلفزيون.
ومن الطبيعي أن لا يشجّع الدين ذلك كلّه، لأنَّ مثل هذه البرامج لا تتلاءم مع الخطّ الذي يريد الإسلام للإنسان أن يعيشه في الحياة مع الآخرين.
إذن: فالتلفزيون نافذة تطلّ على الحياة الطيّبة من جهة، وعلى الحياة الشرّيرة من جهةٍ أخرى، فمن استطاع أن يغلق النافذة الشرّيرة، ليكتفي بالتطلُّع من النافذة الخيّرة كان منسجماً مع أمر الله ورسوله.
ومشكلتنا مع التلفزيون أو السينما، هي مشكلة الأجهزة التي تسيطر على شركاتهما وتوجّه برامجهما، فهي شركات تجارية تقوم على أساس الإعلان وتنطلق في مجال الاستثمار الإعلاني ولذا فهي تعتبر ضرورة كلّ برنامج يزيد من عدد المشاهدين وبالتالي يزيد في عدد المعلنين، دون نظر إلى طبيعة الآثار التي يتركها في عقلية الناشئة وأخلاقها في الحياة.
وقد قرأت مرّة عن أحد الرجال الذين يملكون شركة التلفزيون عندنا أنّه سئل ما هو هدفك في الحياة فأجاب: إنّه المال المال المال قالها ثلاث مرّات، فلماذا تنتظر من الشخص الذي يفكّر هذا التفكير؟
وبكلمة واحدة: ليست أجهزة الإعلام كالتلفزيون وأمثاله محرَّمة إسلامياً في ذاتها، ففيها برامج مفيدة، وأكثرها غير صالحة حتّى الآن، فمن استطاع أن يحمي بيته من الانحراف في برامجها فلا مانع من استعماله.
س ـــ أسمع أنّ هناك ديناً باطنياً وديناً ظاهرياً فهل هذا صحيح؟
ج ـــ ليس هناك دين باطني، بل الدين الذي نؤمن به هو الذي نزل على محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ليعرفه الناس ويفهموه بكلّ وضوح في مفاهيمه وأحكامه، أمّا الدين الذي لا يفهمه الناس، فليس ديننا، أنّ الله ـــ عزَّ وجلَّ ـــ خاطب عباده بما يفهمون ولم يخاطبهم بما لا يفهمون.
نعم هناك مذاهب باطنية تعتمد التأويل والرمز في تفسير النصوص وترى أنّ للشريعة ظاهراً وباطناً وربّما يعتقد بعضهم أنّ الظاهر هو شريعة العامّة، أمّا الباطن فهو شريعة الخاصّة وقد يحاول البعض أن يجد في بعض الآيات القرآنية أساساً لدعواه، ولكنّ ذلك كلّه لا يرتكز على أساس إسلامي لدعواه، ولا يرتكز على أساس إسلامي متين، بل يظلّ في مجال التأويلات والتعليلات التي لا دليل عليها ولا حجّة لها.
س ـــ إذن كيف نفسّر الحروف المقطّعة في القرآن؟
ج ـــ هناك عدّة آراء في موضوع تفسير الحروف المقطّعة في القرآن مثل (ألم، كهيعص، حم، عسق) الخ، وأقربها إلى الفهم تفسيران:
الأوّل: أنّها تسكيت للكفّار لأنَّ المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا للقرآن وأن يلغوا فيه، كما حكاه القرآن عنهم بقوله:
{لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت : 26].
فربّما صفَّروا وربّما صفَّقوا وربّما لغطوا فيه ليغلطوا النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في تلاوته فأنزل الله هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها استغربوها واستمعوا إليها وتفكَّروا فيها واشتغلوا بها عن شأنهم فوقع القرآن في مسامعهم.
الثاني: أنّها من قبيل تعدّد حروف الهجاء، والمراد بها أنّ هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته هو من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنّه من عند الله، وإنّما كرّرت الحروف في مواضع تأكيداً للحجّة.
تماماً كما يقول قائل ـــ عندما يقف أمام عمل فنّي عظيم ـــ إنّني أستطيع عمل مثله، فيقال له خذ هذه المواد الخام التي صنع منها هذا الأثر الفنّي، واصنع كما صنع هذا الفنان إذا كنت تملك مثل فنِّه أو عبقريّته. وقد ورد هذا التفسير في بعض الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام).
ففي التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أنّه قال: كذبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا: سحرٌ مبين تقوله فقال الله تعالى: {ألَمْ ذَلِكَ الكتاب} أي يا محمّد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك هو الحروف المقطّعة التي منها (ألف لام ميم) وهو بلغتكم وحرف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم.
س ـــ كيف خلق الإنسان منذ البداية؟
ج ـــ النظرية الدينية تقول: إنَّ الله خلق آدم وحواء بشرين سويّين بقدرته، وكان النسل منهما.
س ـــ يقال إنّه خلق من تراب، فهل هذا مختص بالإنسان الأوّل، أو كلّ إنسان على وجه الأرض، وكيف ذلك؟
ج ـــ القرآن ينص: في أنّ الإنسان الأول خلق من طين كما ورد في احتجاج إبليس على أمره بالسجود لآدم {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [صـ : 76] وقول الله سبحانه مخاطباً الملائكة:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ*فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر : 28 ــ 29].
أمّا بقيّة أفراد الإنسان فهم كذلك ولنحلِّل الموضوع باختصار: من أين يتكون الإنسان بشكلٍ مباشر؟
من نطفة، والنطفة تتكوَّن من غذاء، والغذاء يتكوّن من الحيوان والنبات ومرجعهما إلى التراب والطين.
إذن فالإنسان الأوّل مخلوق من الطين بشكلٍ مباشر، أمّا بقيّة أفراد الإنسان فهم مخلوقون منه بشكلٍ غير مباشر.
س ـــ هل ورد في القرآن حديث عن وجود مخلوقات غير منظورة وغير معروفة لنا، فيما عدا الجنّ؟
ج ـــ ربّما نلمح ذلك في بعض الآيات القرآنية كما في قوله تعالى:
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ*وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38 ـــ 39].
فقد تكون كلمة {وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} إشارة إلى الحيوانات الدقيقة التي لا يستطيع الإنسان إدراكها بطاقته العادية وقدرته الذاتية، وربّما تكون إشارة إلى الحيوانات الصغيرة التي لا يستطيع الإنسان معرفتها إلاّ بواسطة المكبّرات بآلاف المرّات أو أكثر.
أمّا عن العوالم الأخرى، فقد نجد في بعض الأحاديث المنسوبة إلى الإمام عليّ (عليه السلام) ما يشير إلى ذلك كما في الحديث المعروف "إنَّ في السماء مدناً كمدنكم هذه".
والحديث المشهور عنه.
"سلوني قبل أن تفقدوني فإنّي بطرق السماء أعرف منّي بطرق الأرض".
س ـــ ما هو الأساس الذي ارتكز عليه الإمام عليّ (عليه السلام) في قوله هذا الكلام؟
ج ـــ الأساس هو علم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) المستمدّ من الله سبحانه بالوحي وبغيره وهو قول الإمام (عليه السلام): "علَّمَني رسول الله ألف باب مِنَ العِلْم يُفْتَح لي من كلّ باب ألف باب".
وأحسب أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) لم يُدْرَس ـــ حتّى الآن ـــ الدراسة الوافية الشاملة التي تستوعِبُ كلّ مجالاتِه ومنطلقاته وأفكاره.
بل كلّ الدراسات التي وجدت كانت تحاول التعرُّف عليه من خلال حِكَمِه وزهدِه وبطولتِه. أمّا فكره فلم يُعْط الدراسة الكافية.
س ـــ ما معنى الطارق في الآية الكريمة:
{وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ} [الطارق : 1].
ج ـــ جاء في بعض التفاسير: الطارق: أصله كلّ ما يأتي ليلاً وأريد به الكوكب لظهوره ليلاً {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ*النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 2 ــ 3] المضيء لثقبه الظلام بضوئه، أريد به زحل أو الثريّا أو جنس النجم.
س ـــ ما معنى كلمة الخنَّس في قوله تعالى:
{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير: 15].
ج ـــ النجوم التي تخنّس أي ترجع، وهي ما عدا النيرين من الكواكب السيّارة (الجوار الكنّس) التي تكنس أي تخفي النهار أو في مغيبها وعن عليّ (عليه السلام) إنّها كلّ الكواكب تخنّس بالنهار فلا ترى وتكنس باللّيل أي تأوي إلى مجاريها فتأوي.
الحلقة الرابعة
اليَأْسُ والأَمَل في مَفهُوم
الإسْلام
و
لِكُلِّ سؤالٍ جواب
• اليأس والأمل في مفهوم الإسلام
• لكلِّ سؤالٍ جواب
اليأس والأمل في مفهوم الإسلام
[1]
الحديث عن اليأس في حياة الإنسان، حديث عن حالة عميقة الجذور في كيانه، صعبة المعالجة في تعقيداتها المتشابكة وانفعالاتها المجنونة الهائجة.
ولذلك لا يعتبر هذا الحديث ترفاً عقلياً يراد به الأخذ بالأفكار التي تبتعد عن واقع الإنسان وتقترب من خيالاته.
بل هو حاجة ملحة على مستوى الفرد والمجتمع والأُمّة كلّها، في الجوانب الخاصّة الشخصية من مطامح الإنسان، أو في المجاملات العامّة حيث الدين والفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع في حالة السّلم والحرب.
أمّا التركيز في الحديث على موقف الإسلام من اليأس والأمل فلأنّنا نحاول الانطلاق في حياتنا على أساس النظرة الإسلامية للحياة، ليكون موقف الإنسان المسلم من واقعه منسجماً مع الخطّ الإسلامي الأصيل في النظرية لئلّا يعاني من ازدواجية الشخصية حين يحاول أن يوجّه حياته في غير وجهة الإسلام فيما يواجهه من المشاكل، وفيما ينتابه من نوازع، أو يهزّه من أزمات.
[2]
اليأس في طريق الانتحار
يمثّل اليأس الثورة النفسية على الحياة من جانبها السلبي عندما يطغى على وجدان الفرد وتفكيره، فيشعر أنّ الحياة تختنق في داخله لتتحوّل إلى سجن مظلم يعيش فيه، دون أن يجد منفذاً للنور أو متنفَّساً للهواء.
فيتمرَّد على حياة عندما يشعر أنّها عادت عبئاً ثقيلاً يحمله، ومصدراً دائماً للألم والدموع.
وقد ينتحر عقله في بعض الحالات إزاء شدّة الأزمة وهول الصدمة.. وربّما تنتحر حياته بيده، في أكثر الحالات، برصاصة أو خنجر، أو سمّ يشربه، أو صدمة عنيفة تدمّر جسمه عندما يلقي نفسه من علو شاهق في البرّ أو البحر.
وقد نلمح الكثير من الأمثلة على ذلك في حوادث الانتحار العديدة، في عصرنا لدى جميع الأمم. مع اختلاف الأنظمة والثقافات، وتنوُّع المستويات الاجتماعية.. فنجد الإنسان الذي يشعر باليأس الخانق، أمام الإخفاق في مشكلة غرامية خاصّة تمثّل عنده المتنفَّس الوحيد للأمل بالحياة، ووضع عائلي معيّن، أو حالة مزاجية خاصّة في إطار البيت أو الرِّفاق، الأمر الذي يجعله يفقد معنى الحياة معها إزاء الفشل.
وتكثر هذه النماذج لدى الشباب، الذين يمرُّون بفترة المراهقة، من الفتيان والفتيات، فهم يستسلمون لليأس لدى أوّل بادرة للفشل، دون أن يتركوا للحياة الفرصة في تأكيد وجودها في ذواتهم بقوّة، فيسلمهم اليأس للانتحار. ولعلَّ ركن المشاكل العاطفية، أو مشاكل القلوب في الصحف المعاصرة تستطيع أن تعطينا صورة حيّة للحالة النفسية اليائسة التي يعيش فيها هؤلاء الشباب أمام بوادر الفشل.
[3]
وهكذا تمتدّ الأسباب الشخصية التي تدفع الذين ينتحرون أمام نوازع اليأس من وجود الجديد الذي يغريهم بالحياة ويبرِّر لهم الاستمرار معها حتّى النهاية.
[4]
وتتنوَّع الأسباب لتصل إلى اليأس من حالة سياسية أو دينية معيّنة عندما يصطدم بعض الأشخاص بواقع سياسي أو ديني لا يملكون له تغييراً من خلال واقعهم الخاص وطاقاتهم المحدودة، فلا يجدون معه متنفَّساً للحياة، ويتعاظم اليأس في نفوسهم حتّى يؤدّي بهم إلى الانتحار تخلُّصاً من هذا الواقع في بعض الحالات أو محاولة لإثارة الآخرين ضدّ هذا الواقع من خلال الانتحار.
وهم في كلتا الحالتين ينطلقون من حالة اليأس من التغيير بغير هذه الطريقة: وقد نجد المثل على ذلك في حالات الانتحار عند البوذيّين احتجاجاً على بعض الأوضاع السياسية. فهي وإن انطلقت من جذور دينية تجعل من الانتحار عملاً دينياً يتّصل بالحياة بعد الموت، لكنّها ـــ في واقعها الأصيل ـــ حالة يأس تجمع بين الفرار من الحياة، أملاً في الراحة فيما بعد الموت.
[5]
وربّما نلمح اليأس في حالات الانتحار من خلال الآلام الشديدة التي يعانيها المريض في مرضه، أو السجين في سجنه، أو الفقير في فقره.
وهكذا تتنوَّع حالات اليأس الذي يدفع للانتحار تبعاً لتنوُّع حالات الحياة لتجمع بين الفاشلين الذين ينتحرون أمام قمّة الفشل وبين الناجحين الذين ينتحرون أمام قمّة النجاح... وهكذا تمتدّ لتشمل هؤلاء الذين يختنقون باليأس أمام اللّذّة، وأولئك الذين يخنقهم اليأس من اللّذّة.
ذلك هو بعض الحديث عن حالة اليأس وآثارها في الجوانب الشخصية لحياة الإنسان، الفردية في مستوى نزواته وشهواته، وآماله وآلامه، ومطامحه ونوازعه وهمومه وغمومه.
فماذا عن الجوانب العامّة لحياة الإنسان؟
وهل لليأس فيها دور؟
[6]
العاملون للحقّ أمام اليأس
ربّما نجد اليأس متمثّلاً في حياة العاملين من أجل المُثُل العليا، والقِيَم الكبيرة والمعاني السامية عندما يصطدمون بواقع الناس الذين لا يستجيبون لهم بسهولة ولا يتجاوبون معهم بسرعة، بل يجدون أكثر من ذلك، تمرُّداً وجحوداً وكفراناً.
وربّما يواجهون بعض التعذيب والتنكيل والاضطهاد أو السجن والتشريد فيسقطون ـــ في بعض الأحيان ـــ صرعى أمام الصدمة، ويخيَّل لهم أنّ القضية انتهت، وأنَّ زمن القِيَم الكبيرة قد ولّى، وأنَّ ظروف الحياة لا تشجّع على مواصلة السير من جديد.
فينكمشون ويتضاءلون، ويختنقون باليأس فيوحون لأنفسهم ـــ في عملية تبرير للهروب ـــ أنّ الحياة قد تجاوزت أفكارهم وأنّ الناس قد انقلبوا على أعقابهم فليس هناك أمل في أن يسمعوا فضلاً عن أن يعوا ويهتدوا.
وهكذا يسمحون للكفر والضلال والانحراف أن يمرّ ويعيش دون مقاومة، ويتركون للأفكار الضالّة والكافرة أن تنمو وتمتدّ دون صراع، بحجّة أنّه لا جدوى من المقاومة، ولا فائدة من الصراع.
وعلى ضوء ذلك، نستطيع أن نقول: إنَّ تاريخ المبادئ الكافرة والضالّة والمنحرفة، في أكثر الحالات هو تاريخ العاملين اليائسين الذين يقابلون قوافل تلك المبادئ بالحسرات والدموع والالتفات إلى الماضي الزاهر بحنين سلبي لا يقترب من الحاضر إلاّ ليثير انفعالات الرثاء.
[7]
أساليب الأعداء في إثارة اليأس
وقد نلمح في أساليب الكفر والضلال بعض الخطوات العملية الذكيّة التي تعمل على أن تزرع اليأس في نفوس العاملين بذرةً بذرة، بإعطاء الوقائع المعادية صورة أكبر منها بكثير، وحشد الأجواء بالأوضاع المثيرة التي يشعر العاملون معها بأنَّ الجوّ كلّه قد تحوّل إلى صفوف الأعداء وتضخيم الأخطاء التي يقع فيها العاملون، إلى الحدّ الذي يشعرون معه بانهيار معنوياتهم أمام الناس... وبذلك يفقدون الشعور بقيمة العمل وجدواه، عندما يفقدون قداسة الفكرة في مصير الناس.
وقد تتمثَّل الأساليب بالإيعاز إلى بعض المنحرفين عن الخطّ الصحيح بالسير في اتّجاه الخطّ، وحمل شعاراته، كممثّلين رسميين له، لينسفوا الفكرة من الداخل بأساليب جهنّمية، وخطط شيطانية تلبس لبوس التقوى وترتدي رداء الإيمان. الأمر الذي يجعل الدخول معهم في معركة إثارة لمعارك شخصية في نظر الناس وتمزيقاً لوحدة الصفّ في نظر آخرين.
وربّما نلمح ذلك واضحاً في الصور المشوّهة التي نشاهدها لأدعياء العلم والدين الذين استطاع أئمّة الكفر والضلال أن يجعلوا منهم واجهةً لمحاربة أساس الفكرة في الصميم.
كما قد نلمحه في الواجهات التي يعرضها الاستعمار وعملاؤه أمام الشعوب كصورة رائعة للمبادئ الكبيرة والقِيَم الرائعة التي تنطلق نحوها أهداف الشعوب، ليلتف الناس حولها بعفوية وبساطة فتكون النتيجة الخراب والدمار والضياع باسم القِيَم وتحت مظلّة المبادئ والأفكار الكبيرة.
[8]
اليأس في المجال الوطني
وينطلق اليأس ـــ بعد ذلك ـــ ليعيش في الأوضاع القاسية التي قد يمرّ بها الوطن عندما تشتدّ حوله الأزمات وتثور في داخله العواصف حتّى لتكاد أن تقتلعه من جذوره.
فقد يقع فريسة استعمار سياسي أو عسكري أو اقتصادي مِن قِبَل قوى كبيرة لا يملك أمامها أيّة قوّة تقترب من قوّتها فضلاً عن أن تتساوى معها.
وقد يقع تحت رحمة تحدّيات خارجية أو داخلية تتحدّى عزّته وكرامته وسلامته دون أن يجد في إمكاناته وقدراته، ما يجعله في مستوى مواجهة هذه التحدّيات. فيضعف ويتضاءل ويتعاظم لديه الشعور بالضعف حتّى يتحوّل الاستسلام عنده إلى واقعية، ويعود الخضوع لديه ليتحوّل إلى حركة بارعة من حركات المحافظة على القوّة والسلام وينقلب الذلّ الوطني ـــ في نظره ـــ إلى أسلوب ذكي من أساليب الحفاظ على السلامة الوطنية.
ويحاول الأعداء ـــ في هذا الجانب ـــ أن يخطِّطوا لليأس في البلاد التي يستعمرونها لئلّا تثور، أو البلاد التي يريدون استعمارها أو استغلالها، لا لئلّا تتحفَّز للنضال... فيوجّهون الأجهزة من الداخل، لتفتّش عن عوامل الضعف لتستغلّها. وتبحث عن عوامل اليأس الرافدة في اللاشعور لتوقظها في خدمة الخطّة الطويلة الأمد.
وينطلقون مع الأجهزة من الخارج، من إعلام ومال ورجال وسلاح ليوجّهوها إلى هذا الوطن الصغير أو الضعيف ليشعر، مع هذا المدّ الطائفي من الدعايات المضلّلة عن قوّة المستعمر أو حلفائه من ناحية السلاح والمال والرجال، أن لا فائدة من المقاومة والوقوف أمامه ولذا فلا بدّ من الاستسلام ليسلم ويعيش تحت رحمته راضياً مطمئناً انطلاقاً من قول القائل:
"إذا كنت مأكول الطعام فرحِّب".
اليأس بصورة عامّة
وإذا جرينا مع اليأس في مجالات أخرى فسنجد أنّه يمثّل الحالة التي تكرِّس التأخّر والتخلُّف في جميع المجالات.
فهو يمنع العالم عن الانطلاق بعيداً في التفكير في حلِّ المسائل المعقّدة عندما يصعب عليه الحلّ السريع.
أنّ اليأس يجعله حائراً أمام علامات الاستفهام الحائرة دون جدوى وهو يمنع العاملين في المجالات الاجتماعية من السير قُدماً أمام التجارب الفاشلة الكثيرة في حياتهم العملية.
كما يشارك في تهديم الحياة العائلية عندما تواجه الأطراف المشاكل اليومية أو الحياتيّة التي يحتاج حلّها إلى جهدٍ وصبر طويل، فقد يؤدّي اليأس من معالجة هذه المشاكل لدى الطرفين إلى عاملٍ قويٍّ في إنهاء العلاقات الزوجية بسرعة دون مبرّر.
وهكذا يشارك اليأس في تدمير حياة الإنسان على المستوى الشخصي والفكري والوطني والحياتي بشكلٍ عام.
فماذا نفعل أمام هذا كلّه؟
وما هو موقف الإسلام من قضية اليأس والأمل في الحياة؟
هل لديه شيء جديد؟
[9]
اليأس موقف غير إسلامي
لقد حاول الإسلام ـــ في القرآن الكريم، أن يعطي اليأس مفهوماً دينياً يصل به إلى مستوى الكفر بالله.
فمعنى أن تؤمن بالله أن يظلّ الأمل يبعث في نفسك اخضرار الحياة، ومعنى أن تيأس، أنّك تعيش الكفر بالله في أعماق ذاك، وإن كنت تعلن كلمة الإيمان بلسانك.
أمّا كيف يكون ذلك فسنحاول التعرُّف عليه من خلال الآيات الكريمة:
{يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87].
{وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ*إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ*قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ*قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ*قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ*قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر: 51 ـــ 56].
فنحن نلاحظ في البداية أنّ الظروف التي أحاطت بالقضية التي تحدّثت عنها الآية الأولى، لا تشجِّع على الأمل من خلال الوقائع والأحداث التي تجسّدت فيها انطلاقاً من الرواية التي مثّلها أخوة يوسف بشكل مسرحي مثير يبعث على الاطمئنان، إلى المدّة الطويلة التي يُقدِّرها بعض المفسّرين بعشرين سنة دون أن يأتي عن يوسف أيّ خبر من قريب أو بعيد، الأمر الذي يجعل موضوع الأمل بوجوده وعودته، فكرةً خياليّة تعيش في نطاق الآمال والأحلام اللّذيذة البعيدة.
ولكنَّ ذلك كلّه لم يمنع يعقوب أن يعيش الأمل في مثل الوحي الداخلي الذي ينبع من إيمانه، حتّى ليحسّ معه بطعم الحقيقة في روحه وكيانه فيبدأ في تذكّر يوسف في أكثر من مناسبة.
فنراه في بعض الحالات يقول: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:83] الأمر الذي يدلّنا على أنّ اليأس لم يتسرَّب إلى وجدانه، ولكن اللّوعة لا تزال تثور في داخله كنتيجة للإحساس ببعد الأمل وصعوبته، كما تشير إليه الآية الكريمة.
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ*قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ*قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف: 84 ـــ 86].
فهو يثير الحزن واللّوعة في نفسه أمام الله ليهبه الطمأنينة والسلام الروحي، والإيحاء الذاتي بالفرج القريب حتّى لكأنّه ينظر إلى المستقبل يشرق أمامه ـــ بعد ذلك، في إشراق روحي رائع يغمر قلبه فتنطلق كلماته بالأمل القريب الذي يستروح فيه روح الحياة من جديد وكأنّه الحقيقة الماثلة أمامه في صدق وإيمان.
{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} [يوسف : 94].
وكان يخاف من لومهم وتأنيبهم لأنّهم لم يرتفعوا إلى مستوى الإيمان الذي يرتفع إليه، ولم يعيشوا مع روح الله الذي يغذّيه بالأمل كما عاش. ولهذا بادروه بهذه الكلمة اليائسة الخانقة: {قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف : 95].
كيف حدث هذا كلّه؟
هل هناك تعليمات معيّنة ووحي خاص من الله ليعقوب كما يحاول بعض المفسّرين أن يفترضوا؟
أو أنّ القضية قضية الإيمان الذي يظلّ يزرع اخضرار الحياة في نفس الإنسان.
إنَّنا نميل إلى الفرض الثاني انطلاقاً من طبيعة القضية ومن أوضاع يعقوب، ومن تركيزه على رفض عنصر اليأس باعتباره عنصراً من عناصر الكفر والضلال.
أمّا في الآيات الأخرى التي حدّثتنا عن قصّة إبراهيم مع الملائكة الذين وفدوا إليه رسلاً مبشّرين من قِبَل الله بغلامٍ حليم، فأنكر عليهم الفكرة في البداية على أساس القوانين الطبيعيّة التي تمنع حدوث الولادة لمن كان في مثل سنّ إبراهيم وعمر زوجته التي تجاوزت الحدّ الطبيعي الذي تحمل فيه المرأة كما تشير إليه بعض الآيات الكريمة في سورة هود:
{وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ*قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ*قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} [هود: 71 ـــ 73].
فالقضية لا تشجّع على الأقلّ من زاوية النظرة العادية التي تخضع للقوانين المألوفة للأشياء.
ولكنّنا نلاحظ أنّ الملائكة أثاروا أمامه قضية اليأس والقنوط وأوحوا إليه بأنَّ هذا الموقف يمثّل اليأس بعينه من رحمة الله، فلم تكن البشارة على أساس الوضع المألوف. بل هي خاضعة للقدرة الإلهية التي تتضاءل الحدود والقوانين المألوفة أمام قوّتها اللامتناهية. وهكذا رأينا إبراهيم يرجع إلى القضية في إطارها الإيماني فيقرّر بصورة لا تقبل الشكّ بأنَّ الموضوع أصبح مختلفاً من خلال هذه النظرة التي تتجاوز القوانين الطبيعية. إلى الآفاق الواسعة لقدرة الله تعالى فأطلقها قاعدة عامّة للحياة توقظ الأمل في نفس الإنسان عندما يختنق باليأس أمام الواقع المنظور لتربطه بالواقع غير المنظور الذي تتحطَّم أمامه الحواجز وتتلاشى القوانين.
قال: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر : 56].
ففي كلا الموقفين نجد اليأس يفرض نفسه على الإنسان في ظلّ الوقائع القاسية والقوانين المألوفة، ومع ذلك يأتي الأمل من خلال الإيمان ليجعل النفس تعيش في جوّ الانفتاح والطمأنينة أمام رحمة الله.
كما نلمح الأساس الديني في رفض اليأس في حديث إبراهيم ويعقوب، اللّذين اعتبرا اليأس كفراً والقنوط ضلالاً، وكلاهما ينطلقان من منطلق واحد ويرجعان إلى أساسٍ واحد.
أمّا كيف نعتبر اليأس كفراً وضلالاً فهذا ما يشير إليه الفخر الرازي في تفسيره الكبير (ج18 ـــ ص199) بقوله:
"واعلم أنَّ اليأس من رحمة الله لا يحصل إلاّ إذا اعتقد الإنسان أنّ الإله غير قادر على الكمال، أو غير عالِم بجميع المعلومات أو ليس بكريم بل هو بخيل، وكلّ واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر فإذا كان اليأس لا يحصل إلاَّ عند حصول أحد هذه الثلاثة، وكلّ واحد منها كفر، يثبت أنّ اليأس لا يحصل إلاّ لمن كان كافراً".
ومن خلال ذلك كلّه نعرف أنَّ القرآن الكريم أراد أن يقتلع جذور اليأس من نفس الإنسان بإعادته إلى إيمانه لينطلق معه في وعي ويقظة كبيرين يجعلانه يشعر بالأمل يتفجَّر من ينابيع الإيمان كمثل الشعاع المنسكب من قلب الشمس في روعة الشروق.
وبهذا يلتقي الإيمان بالأمل في وحدة رائعة تجعل الروح التي تفرض أحدهما على الإنسان تفرض الآخر عليها ككلّ شيئين متلازمين في الوجود.
أمّا اليأس فجذوره تمتد إلى الجذور الأولى للكفر وإن لم يشعر الإنسان به بشكلٍ مباشر.
وعلى ضوء هذا فإنَّ على الإنسان الذي يعيش اليأس في قلبه أن يعيد النظر في إيمانه ليجده هل هو منطلق من أساس متين أو أنّه ليس بعميق الجذور.
وقد نجد في بعض الآيات القرآنية، روح الفكرة التي استوحيناها من الآيات السابقة في إثارة الأمل الأخضر في قلب الإنسان عندما تجذب روحه بعوامل اليأس وذلك قوله تعالى:
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق: 2 ـــ 3].
فنحن نستوحي من هذه الآية أنّها تريد أن تصوِّر للمؤمن الذي يتّقي الله، الحالات الصعبة في حياته سواءٌ منها التي تتعلّق بواقعه المادي، أو التي تشمل واقعه الحياتي بشكلٍ عام، عندما يلتفت إلى كلّ الأبواب فيجدها مغلقة، وإلى كلّ الطرق فيراها مسدودة، فليس هناك منطلق للحركة، وليس لديه منفذ للتغيير.
ثمّ توحي له بكلّ ثقة وطمأنينة، أنّه سيجد المخرج من هذا المأزق حيث لا مخرج وسيلتقي بالرزق من حيث لا يحتسب، فليست الوسائل للحياة هي هذه الوسائل المحدودة التي يراها الإنسان في عالمه المنظور، بل هناك ألف وسيلة ووسيلة، وألف باب وباب، لا يعلمها الإنسان الذي لا يفكِّر إلاَّ من خلال ما حوله ولكنَّ الله الذي خلق الحياة ووسائلها يعلم ذلك كلّه لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء.
إذاً على الإنسان أن يثق بالله ويتوكّل عليه فهو يكفي الإنسان من كلّ شيء ومن كلّ ضيق.
وهكذا نجد في هذه الآية، أنّها لا تكتفي بمحاربة الجانب السلبي الذي يتمثّل باليأس، بل تحاول أن تثير في نفس الإنسان الدوافع الذاتية للأمل. من خلال الإيمان بالله لتربطه بالجانب الإيجابي للحياة الذي يجعله ينطلق بآفاقه إلى أبعد من الواقع المنظور المحدود.
[10]
الأمل من خلال النظرة الواقعيّة للحياة
لا يكتفي الإسلام بإثارة الأمل في نفس الإنسان من خلال الإيمان فحسب، لأنَّ ذلك قد يفقد أثره ـــ في بعض الحالات ـــ ما لم يرتكز على أساس واقعي ملموس، فإنَّ النّفس عادةً تتأثّر بالواقع المحسوس أكثر ممّا تتأثّر بالفكر النظري.
ولهذا حاول القرآن الكريم أن يربط الإنسان بالإيمان بالغيب من خلال التفكير بأسرار الحياة ودقائقها التي تربط الإنسان بالينبوع الخالد للإيمان... وعلى ضوء ذلك، اتّخذ القرآن الكريم أسلوباً واقعياً في إثارة روح الأمل في الإنسان، انطلاقاً من السُنّة الطبيعية التي أجرى الله عليها الحياة، من أنَّ الشدّة يعقبها الفرج ـــ والعسر يتبعه اليسر فالحياة تحتضن المشاكل كما تحتضن الحلول، وتفرض الخسارة كما تفرض الرّبح وتزرع الابتسامات كما تهرق الدموع.
وإذا لم يكن في الحياة حالة نهائية فما معنى أن تتجمَّد في فكرك على هذه الحالة وتغلق بصرك عن الحالات الأخرى.
إنَّك ـــ بذلك ـــ تنحرف عن التصوُّر الصحيح للحياة فتعطي للحياة غير معناها وتتّجه بها في غير طريقها الطبيعي.
فإذا عصرتك ظروف الحياة الخانقة، وأحكمت الطوق في عنقك حتّى الاختناق فلا تتصوَّر خلود هذه الظروف الصعبة، بل التفت إلى حياتك الماضية أو حياة الآخرين لتجد أكثر من شاهد على أنّ الظروف الصعبة تتغيَّر إلى ظروف طيِّعة سهلة تمحو عن النفس كلّ آثار الصعوبة.
وعلى ضوء هذا، فما الذي يجعل من ظروفك القاسية الحالية بدعاً من الظروف وما الذي يغيِّر من حركة الحياة التي لا تستقرّ على حال.
إنَّ القرآن ـــ وهو يعرض للإنسان صور الحياة المتحرّكة في أكثر من اتّجاه ـــ يحاول أن يغيِّر نظرتك الضيّقة التي تتجمَّد في حدود اللّحظة الحاضرة، لتشعر ـــ من خلال ذلك ـــ أنّه لا مانع من أن يتبدَّل الحاضر ليعيش المستقبل مع الخير كما عاش الماضي معه ـــ في تجاربك الذاتيّة الماضية، أو تلتفت إلى حياة الآخرين الذين عاشوا في ظروف مماثلة لظروفك، ومشاكل مشابهة لمشاكلك، ثمّ عادوا وتغلَّبوا على المشكلة بأفضل الحلول التي اهتدوا إليها من خلال البحث والصبر الإيجابي الواعي، وتمرَّدوا على الظروف بإصرار المترقِّب للفرج، فانطلقوا مع الظروف الجديدة التي استطاعت أن تخرجهم من الواقع الخانق إلى الواقع المنفتح على الحياة الواسعة بأرحب مجالاتها ومنطلقاتها.
وقد نلمح هذه الفكرة في الآيات الكريمة التي تتحدّث عن الإنسان الذي ييأس عندما تنزع منه مظاهر رحمة الله، وآثار نعمة الله، دون أن يلتفت إلى أنّ الذي نزع الرحمة بعد أن وهبها قادرٌ على أن يرجعها مرّة ثانية كما أرجعها في حالات مماثلة في حياة الإنسان وحياة الآخرين.
ولنقرأ الآيات الكريمة:
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ} [هود : 9]
{لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت : 49]
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً} [الإسراء : 83]
{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم : 36]
{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق : 7]
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً*إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح : 5 ـــ 6]
فهي تشجب في الإنسان يأسه وقنوطه أمام البلاء وتدعوه إلى أن ينظر إلى الحياة نظرة واقعية، فلا تطغيه النعمة، ولا تصرعه النقمة بل يواجه الحالتين بروح المؤمن الواعي الواثق بالفرج بعد الشدّة والعارف بأنَّ الحياة لن تدوم على حالٍ واحدة.
وخلاصة الحديث: إنَّ اليأس من خلال ما قدّمناه موقف غير إسلامي لأنّه يتنافى مع الجذور الأساسية لعقيدة الإيمان بالله من جهة، ويتعارض مع النظرة الواقعية التي رسمها الإسلام للحياة.
وإذا وعى الإنسان هذه الحقيقة استطاع أن يعالج حالات اليأس التي تعصف بروحه، في حالة غفلته عن إيمانه، وانحرافه عن التصوُّر الصحيح للحياة، وذلك بالعودة إلى ينابيع الإيمان، والرجوع إلى الآفاق الرحبة للحياة التي تفتح للإنسان باب الأمل كأوسع ما يكون الأمل، ليعود ـــ بعد ذلك ـــ إلى حياته كإنسان إيجابي يواجه الحياة بقوّة انطلاقاً من الموقف الصحيح بدلاً من الموقف الخطأ.
فإنَّ المؤمن يمثّل العودة السريعة عن الخطأ والرجوع الواعي عن الغفلة في أوّل لحظة لليقظة، وأقرب فرصة للتذكّر انسجاماً مع الآية الكريمة:
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف : 201].
[11]
النظرية في إطار التطبيق
وما دامت القضية قد وضّحت إلى حدٍّ بعيد واستطاعت أن تمنحنا القدرة على إثارة الأمل في داخل الإنسان، من بين نوازع اليأس وعوامله، فقد يجدر بنا أن نبدأ في الانتقال بها من إطار النظرية إلى واقع التطبيق ككلّ نظرة تتّصل بالحياة وتؤثّر في مسيرة الإنسان.
ولعلَّ من أكثر الجوانب إلحاحاً في موضوعنا هذا هو جانب الانتحار الذي يمثّل قمّة الآثار السلبية لليأس بالنظر إلى أكثر حوادث الانتحار في العالم، من دون فرق بين الناجحين وبين الفاشلين، وفي الدول التي تحكمها النظم الرأسمالية والدول التي تحكمها النظم الاشتراكية كما ألمحنا إليه في بداية الحديث.
وقد عرفنا أنَّ الانتحار ينطلق من الشعور بالاختناق أمام حالة اليأس من وجود الجديد في الحياة، أو من تحقيق الرغبة الشخصية في موضوع عاطفي، أو وطني أو ديني... فإذا استطعنا أن نأخذ من واقع الحياة تعدُّد مجالاتها، وتنوُّع مسالكها، ففي كلّ يوم هناك جديد يتعلَّمه، وفي كلّ منطلق هدف يتّجه إليه، والقمم في الحياة كثيرة، فلا تنتهي الحياة عند قمّة واحدة ينتهي إليها الإنسان، فهناك قممٌ أخرى يستطيع أن يبدأ طريقه إليها من جديد، ليشعر بلذّة الاكتشاف ويحقّق رغبته الذاتيّة في التعرُّف إلى المجهول، فإذا أتخمته اللّذة، فقد يجد بعض راحته في بعض ألوان الحرمان، وإذا أسكره النجاح حتّى لم يعد يجد نشوة جديدة، فقد يتّجه اتّجاهاً آخر يجرّب فيه طعم الصعوبة والمشقّة التي لا بدّ منها في الشعور باللّذة من جديد.
أمّا الذين وقفوا أمام رغباتهم الظمأى يائسين، فلم يشعروا بطعم الحياة في ظلال الحرمان... فقد ينبغي لهم أن يتلفَّتوا إلى الحياة هنا وهناك، ليشعروا بأنَّ العسر سوف يتحوّل إلى يُسر، وإنَّ الصعوبات التي تعترض الأشخاص في طريق تحقيق رغباتهم، ليست خالدة خلود الحياة.
وربّما يجرّبون إعادة النظر بعض الشيء في رغباتهم، فلعلَّهم يستطيعون تعديل بعض ملامحها، وأوضاعها، فقد يكون في ذلك حلّ المشكلة، لأنَّ كثيراً من الصعوبات التي تواجه الإنسان في طريق رغباته، قد تنشأ من النظر فيها إلى القضية من جانبٍ ضيّق، معه الأمل.
أمّا إذا تبدَّلت النظرة إلى مجالٍ أوسع فقد يتّسع الأمل حيث تتّسع إمكانية الحلول.
وقد يكون من الوسائل العملية للوصول إلى ذلك أن يستعين الإنسان بالأحداث التي واجهها الآخرون ممّن كان لهم نفس مشكلته، ونفس حالته، فلم تتحقَّق رغباتهم، ولم يصرعهم الحرمان بل تجاوزوه إلى واقع جديد انفتحت لهم فيه آفاق جديدة، عادوا يسخرون ـــ من خلالها ـــ من الماضي الذي كانت تلحّ فيه الرغبات المجنونة لأنّها تكشّفت لهم عن أشياء هزيلة لا تستحقّ من الإنسان أيّ اهتمام، يشعر معه بضرورة التضحية أمامها بأغلى الأشياء.
إنَّ كثيراً من رغبات الإنسان التي تندفع إلى حياته بجنون، ترجع إلى نزوات عابرة، يحوِّلها الخيال إلى وهم كبير يوحي للإنسان باتّصالها الوثيق بالحياة وارتباطها الكبير بقضية المصير.
ولكنّ قليلاً من التحليل للدوافع والعوامل المحيطة بالقضية، يكشف للإنسان كيف يتحوّل السراب إلى وهمٍ كبير يحسبه الظمآن ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فيعرّفه كيف تنطلق الحقيقة من خلال الصبر العميق.
أمّا ما يحتاجه الشباب والفتيات في الخروج من أزمة اليأس التي تهدِّد حياتهم بالاختناق، وتتّجه بها في اتّجاه الانتحار.. فهو أن يقفوا قليلاً ليقارنوا بين تفكيرهم الماضي وتفكيرهم الحاضر ليجدوا ـــ في النتيجة ـــ أنّ مرحلة العمر التي تجاوزوها قد استطاعت أن تمنحهم تجربة جديدة وسَّعت أُفق تفكيرهم، فماذا يمنعهم أن ينتظروا المرحلة الجديدة، ليشعروا بتفاهة ما كانوا يفكِّرون إزاء واقع المرحلة الحالية للفكر.
إنَّ الحرمان لن يصرع الإنسان، إذا استطاع أن يكتشف مناطق جديدة تغذّي جوع الإنسان للحياة.
وللحياة أكثر من ينبوع يتفجَّر بالريّ، وأكثر من حقل يهتزّ بالخضرة، وفيما بين هذا وذاك يجد الإنسان الحياة تفتح ذراعيها لكلّ متعب محروم.
أمّا العاملون من أجل الإصلاح والخير للنّاس الذين تواجههم الصعوبات في الطريق حتّى ليشعروا باليأس يتحدّى خطاهم السائرة نحو القمّة، أمّا هؤلاء، فقد لا نجد كثيراً من الجهد في الانطلاق معهم إلى تجارب الأنبياء والأولياء والمصلحين الكبار في العلم الذين وقفت ضدّهم عقبات الطريق بكلّ قوّة حتّى كأنَّ الأُفق ينتصب أمامهم كجدار يرتفع حتّى ليحجب عنهم الهواء ولكنَّ الحياة فتحت لهم أبوابها ـــ بعد ذلك ـــ فدخلوها بكلّ قوّة واستطاعت رسالاتهم ودعواتهم أن تقتحم الخلود لتسير معه في حركة الأجيال الصاعدة في كلّ زمان ومكان.
لقد واجه المسيح (عليه السلام) في رسالته كلّ ألوان الاضطهاد والتعذيب، ولم يجد اليأس سبيلاً إلى قلبه لأنّه كان ينظر إلى المستقبل بأمل يرتكز على النظرة الواقعية للحياة.
وامتدّت رسالته بامتداد الزمان وتساقطت العقبات واحدةً واحدة على الطريق، وانفتح الدرب أمام خطى الرسالة.
وواجهت الصعاب النبيّ محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كما لم تواجه أحداً من قبله، وتحمَّل العذاب والحرب على جميع الجبهات، ولم تكن عوامل الأمل كثيرةً لديه من خلال الواقع المنظور، ولكنَّ الرسالة بما تحمله من وعي للحياة وفهم عميق لطبيعة التطوّر في حياة الأمم، وإيمان كبير بالله استطاعت أن تملأ قلبه بالأمل الأخضر الذي امتد إلى كلّ ما حوله ومن حوله، فانطلقت الرسالة من خلال الخطوات الصغيرة الهادئة إلى خطوات كبيرة واسعة تقتحم معها كلّ أسوار الحياة التي تنطلق في اتّجاه القمم.
وعاشت الرسالة شاهداً على أنّ الخطوات التي تنطلق من خلال الأمل المنفتح، لن تتعثَّر أبداً أمام عقبات الطريق.
ولم يكن هذا الأمل لدى الأنبياء والمصلحين، نتيجة خيال واسع كبير يفتح أبواب المستقبل على أجنحة الأحلام.
بل كان نتيجة فهم واقعي لطبيعة عمليات التغيير في الحياة، فإنَّ من الملاحظ أنّ التقاليد والأفكار الموروثة والرواسب الماضية التي استطاعت السنون الطويلة أن تعمّقها في النّفس إلى حدّ التحجُّر.. لا يمكن أن تزول ـــ فجأة ـــ أمام الدعوات الجديدة، أو تنهار سريعاً أمام التحدّيات الصارخة بل لا بدّ لها من أن تستيقظ لتدافع عن نفسها أمام الغزو الفكري الجديد، بكلّ ما لديها من قوى ذاتية تدفع إليها غريزة حبّ البقاء.
ولا بدّ للقوى الجديدة من أن تخوض عملية الصراع بكلّ ما تملكه من أساليب فكرية، وقوى متحرِّكة فتحاول أن تقتحم الأسوار في بعض الحالات والأبواب في حالات أخرى، لتستطيع من خلال ذلك أن تضع قدميها على الأرض في حركة بارعة للنفاذ إلى الأعماق حيث الجذور الأولى تمدّ فكر الماضي بقوّة البقاء.
ومن الطبيعي أنّ حركة الصراع لا بدّ لها أن تستمرّ وتمتدّ وتطول لكي يتسنّى لها أضعاف الفكرة القديمة تدريجياً لتأخذ مكانها من جديد.
إنَّ الإنسان الذي يفهم الأساس العملي لتطوّر الحياة لا بدّ له من أن يعيش الأمل في أعماقه، حتّى في الأفق الذي لا يحمل أيّ بصيص من النور فقد يكون النور كامناً في طيَّات الأُفق بانتظار ولادة الفجر الجديد.
ولعلَّ أروع الآيات التي تمثّل كيف يعيش الأمل في قلوب العاملين، مهما كانت عوامل اليأس قويّة، هي قوله تعالى:
{وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف : 164].
فنحن نلاحظ أنّ الآية قد فرضت الجماعة التي يراد هدايتهم في مستوى الهلاك والعذاب المحقّق يوم القيامة فليس هناك أيّ أمل يرجى لديهم إزاء الأعمال التي يقومون بها، والجرائم التي يرتكبونها.
ولكنَّ العاملين كانوا في مستوى الرسالة، فهم يريدون أن يُعذروا إلى الله سبحانه في أداء رسالتهم ويحاولون أن يلاحقوا الأمل البسيط ولو بنسبة واحد في المائة، لئلا يفقدوا القدرة على الأمل... فكأنّهم يقولون لهؤلاء الذين يلومونهم: لماذا تيأسون من هدايتهم ما دامت النّفس الإنسانية تخضع للحقّ وللخير في كثير من لحظات النور الذي يشرق في داخل الناس سريعاً ثمّ يغيب، فقد نستطيع في هذه اللّحظات السريعة أن نجعل النور يستمرّ في النفس من خلال الرسالة التي تلاحق كلّ فرصة جديدة وكلّ أمل جديد.
أمّا الذين يصرعهم اليأس فيقعدهم عن النضال والجهاد في معركة العزّة والكرامة عندما يبدأ العدوّ بحرب الأعصاب النفسية التي يخيّل إليهم بأنّ العدو لا يقاوم وأنّ كثرة العدوّ وقوّة سلاحه، وتعدُّد مجالاته، يجعل الحرب خاسرة منذ البداية.
وهكذا يستسلمون للاستعمار وللاستغلال ويستريحون للحياة الذليلة الخاضعة الخانعة التي توحي لهم بالأمن والطمأنينة والسلام.
أمّا هؤلاء فقد استطاع القرآن أن يخاطبهم ليشعرهم بأنّ الكثرة ليست مقياس الانتصار، كما أنَّ القلّة ليست مقياس الهزيمة، فهناك أكثر من فرصة للنصر أمام الفئات القليلة إذا استطاعوا استغلالها واستعمالها في طريق الصراع، انطلاقاً من التاريخ الذي يحمل كثيراً من النماذج التي تؤكّد الفكرة، ومن النظرة الواقعية لقضية النصر والهزيمة التي تخضع لأساليب عديدة لا تجعل المسألة تعيش في اتّجاهٍ واحد.
وهكذا نستطيع أن نتغلَّب على الحرب النفسية التي يريد العدوّ من خلالها أن يخلق اليأس في نفوسنا ليربح المعركة قبل أن يدخل المعركة.. باستخدام قوانا التي نملكها في المجالات التي تحرِّك القضية، ومحاولة ربح قوى جديدة من خلال الظروف التي تحيط بنا، والتطلُّع إلى المدى الطويل الذي قد يخسر في حركته بعض المعارك ولكنّه يستطيع في النهاية أن يربح الحرب.
وليس هذا حلماً نحلم به، أو خيالاً نتخيّله، أو تمنّيات تعيش في النّفس، بل هو واقع الحياة العملية الذي يعيش في حساب القضية كما يتمثّل في تاريخ الشعوب.
خاتمة المطاف
وهكذا نبلغ خاتمة الحديث لنجد أمامنا القضية واضحة على مستوى النظرية وهي أنّ الإيمان يساوي الأمل، واليأس يساوي الكفر، كما أنّ الأمل يمثّل النظرة الواقعية العملية، أمّا اليأس فيمثّل النظرة الضيّقة للحياة. أمّا على مستوى التطبيق فهناك أكثر من مجال، وأكثر من منطلق يستطيع الإنسان أن يعيش معه في حياته الخاصّة والعامّة ليثير الأمل في نفسه من خلال واقع حياته ومن خلال تجارب الآخرين في الماضي والحاضر.
وقد أراد القرآن الكريم من الإنسان أنْ يتعلَّم من التاريخ كيف يجابه مشاكله من خلال الظروف التي عاشها الآخرون ليعرف أنّ الحياة لن تتجمَّد في زاوية واحدة وأنّ الجليد سوف يذوب مهما امتدّ الشتاء، ومهما اشتدّ الصقيع، فإنَّ الربيع سرعان ما يخفق بدفء الحياة لينطلق في حياة الينابيع من جديد عندما تتدفَّق السيول الهادرة لتغني للظامئين أغنيات الحياة المتفتّحة في كلّ زمان.
لِكُلِّ سؤالٍ جواب
• هل يحرِّم الإسلام على الإنسان مباهج الحياة؟
• ما موقفه من الحريّة الشخصية في هذا الجانب؟
• ما معنى: اتَّقِ شرَّ مَن أحسنتَ إليه؟
• ما معنى الحديث الشريف: "تفكُّر ساعة خيرٌ من عبادة سنة؟
• بين كلام الإمام عليّ (عليه السلام) وكلام الإمام زين العابدين حول صنع المعروف مع غير أهله؟
• كيف كانت نشأة الطبقة الثانية للإنسان؟
س ـــ يتردَّد على لسان البعض: أنَّ العقيدة الإسلامية تقيّد حريّة الإنسان الشخصية وتحرِّم عليه التمتُّع بمباهج الحياة.
فهل للإسلام ردّ على هذا القول؟
وما هو موقفه من الحريّة الشخصية في هذا الجانب؟
ج ـــ هناك جانبان للسؤال:
1 ـــ موقف الإسلام ـــ من جهة مبدئيّة ـــ من التمتُّع بمباهج الحياة.
2 ـــ نظرته إلى الحريّة الشخصية في هذا النطاق.
أمّا موقف الإسلام من الاستمتاع بالحياة، بما تحتويه من لذائذ وشهوات وما تشتمل عليه من مباهج فنستطيع أن نؤكّد ـــ من خلال النصوص الإسلامية ـــ الفكرة التالية:
إنَّ الإسلام يريد للإنسان أن يعيش في الحياة عيشة طبيعية، تتمثّل في إشباع الجوع الطبيعي للغرائز البشرية التي أودعها الله فيه، فلم يخلقها الله، ليقوم الإنسان بتجميدها، بل لتمارس دورها الطبيعي في عملية النموّ والحركة والحياة.
ولهذا وقف الإسلام ضدّ الرهبانيّة وقفة حاسمة تلغي هذا الأسلوب من الإسلام رأساً، فجاء الحديث الشريف ليقرّر بكلمة جازمة... "لا رهبانية في الإسلام، لأنَّ الرهبانية تمثّل إغلاق النوافذ التي يطلّ منها الإنسان على نِعم الله في الحياة.
وعلى ضوء هذه الفكرة انطلقت الآيات الكريمة في القرآن، لتتحدَّث عن الطيّبات، وتدعو الإنسان إلى الأخذِ بها وعدم تحريمها على نفسه بأساليب عديدة، تشتدّ وتلين حسب اختلاف الجوّ الذي يُراد إيجاده للفكرة.
فنقرأ في سورة [الأعراف، الآية: 156] قوله تعالى: { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ...} في معرض الحديث عن الشِّرعةِ الأساسية التي ترتكز عليها الدعوة التي جاء بها النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
ونقرأ قوله تعالى: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة : 88]
{فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل : 114]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة : 172]
ثمَّ نقرأ بعد ذلك الآيات التي تنهى عن تحريم الإنسان الطيّبات على نفسه كما في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة : 87]
ثمّ نقف مع الآية الكريمة التي توجّه الإنسان إلى أن يأخذ زينته عند كلّ مسجد وتستنكر فكرة تحريم الزينة في الحياة والطيّبات من الرزق:
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ*قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31 ـــ 32].
وربّما نلمح الفكرة واضحة جليّة في القصّة التي يذكرها المفسِّرون في الأجواء التي نزلت فيها الآية المتقدِّمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ} الخ..
قال المفسّرون كما في مجمع البيان ــ جَلَسَ رسول الله يوماً فذكر النار ووصف القيامة، فرقَّ الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، واتّفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا اللّيل ولا يناموا على الفراش ولا يأكلوا اللّحم ولا الودك ولا يقربوا النساء ولا الطّيب، ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض.
فبلغ ذلك رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فأرسل إليهم وقال لهم: ألم أنبأ أنّكم اتّفقتم على كذا وكذا، قالوا: بلى يا رسول الله وما أردنا إلاّ الخير، فقال النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إنّي لم أؤمر بذلك، ثمّ قال: إنَّ لأنفسكم عليكم حقّاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإنّي أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللّحم والدَّسم وآتي النساء ومَن رغب عن سنّتي فليس منّي.
ثمّ جمع الناس وخطبهم وقال: ما بال أقوام حرّموا النساء والطعام والطّيب والنوم وشهوات الدنيا. أما أنّي لستُ آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً فإنّه ليس في ديني ترك اللّحم ولا النساء ولا اتّخاذ الصوامع، إنَّ رهبانيّة أُمّتي الصوم وسياحتهم الجهاد، أُعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجُّوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزّكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنَّما هلك مَن كان قبلكم بالتشديد، شدُّوا على أنفسكم فشدّد الله عليهم...
فنحن نلاحظ ـــ أنَّ النبيّ قد أعطى القضية أهمية كبيرة نظراً إلى أنّ هذا الفهم الخاطئ للموعظة وموقف الإنسان من مباهج الحياة، يؤثّر تأثيراً كبيراً على النظرة العامّة للحياة، بالتالي على الممارسة العملية في سلوك الإنسان المسلم إزاءها.
فلم يكتفِ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بإصلاح خطئهم وتوجيههم للخطّ الصحيح، بل انطلق ليمنع تأثير هذه النظرة الضيّقة على الأُمّة فانطلق يتحدّث إليهم بشكلٍ عام ليركّز الفكرة الصحيحة على المستوى العام للأُمّة دون تحديد.
وقد نجد ملامح هذا الموقف الصلب إزاء الفهم الخاطئ الذي يدفع إلى السلوك المنحرف على أساس هذا الفهم ـــ في حديث الإمام عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي خاطب به عاصم بن زياد الذي لبس العباءة وتخلَّى عن الدنيا. فقد جاء في نهج البلاغة أنّه قال له:
"يا عدي نفسه، لقد استهام بك الخبيث! أمَا رحمت أهلك وولدك! أترى الله أحلَّ لك الطيّبات وهو يكره أن تأخذها أنت أهون على الله من ذلك". ثمّ يحدّثنا الرضي (رضي الله عنه) في النهج أنّ عاصماً اعترضَ على الإمام (عليه السلام) مشيراً إلى سلوك الإمام العملي الرافض لمتع الحياة ولذائذها قائلاً:
يا أمير المؤمنين، هذا أنتَ في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك.
فقال له الإمام (عليه السلام): ويحك إنّي لستُ كأنت، إنَّ الله فرض على أئمّة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيَّغ(1) الفقير فقره.
وبهذا حسم الإمام الموقف كلّه، فإنَّ سلوكه العملي خاضع لمركزه القيادي الذي يفرض عليه أن يقيس نفسه بأضعف رعيّته، ليجد الفقير بالإمام أسوة حَسَنَة فيصبر على فقره ريثما تحلّ مشكلته.
2 ـــ أمّا نظرة الإسلام إلى الحريّة الشخصية في هذا الجانب من الحياة فتنطلق من الفكرة التي تريد أن تصوغ الإنسان صياغة جديدة ترتكز على أساس التوازن في الحياة، الذي يحقّق له السلامة في جسمه وروحه وعقله.
وعلى ضوء ذلك كانت المحرَّمات التي حدَّد الإسلام فيها حريّة الإنسان في ممارسة شهواته ولذائذها، لتكون بمثابة الضوابط العملية التي تحمي الإنسان من الهلاك الجسدي والروحي.
فأباح للإنسان استعمال الطيّبات في الأكل والشرب، ونهاه عن الإسراف في ذلك، كما حرَّم عليه الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلَّ لغير الله والخمر وغير ذلك لأنّها تحمل له الأضرار الصحيّة والروحية والعقلية وأباح له ممارسة الجنس، فلم يعتبره عيباً بل جعله أمراً طبيعيّاً جداً ورغَّب به في إطار العلاقة الزوجية، ونهاه عن العلاقات الشاذّة، والعلاقات غير الشرعية مع غير الزوجة من المحرم والأجنبيّات لأنّها تسيء إلى النظام الذي يحقِّق سعادة الإنسان الروحية والمادية في جوّ الأسرة، وتساعد على الفوضى في ممارسة الجنس الأمر الذي يسبّب للإنسان مشاكل كثيرة في جميع المستويات.
وأطلق للإنسان حريّة اللّعب واللّهو وحرَّم عليه الميسر والأساليب التي تسيء إلى أخلاق الإنسان وتضيّع طاقاته في غير طائل... وهكذا نجد أنّ حدود الحريّة الشخصية تبدأ حيث تبدأ مصلحة الإنسان الفرديّة والاجتماعية وتنتهي حيث تتعرَّض حياة الإنسان للضياع والانهيار.
وبكلمة واحدة: إنّ الحريّة المطلقة تساوي الفوضى، التي تتحوَّل إلى قيد يخنق ـــ في نهاية المطاف ـــ حريّة الإنسان وحريّة غيره.
فلا بدّ لنا من تقييد الحريّة، بالقيود التي تضمن للإنسان ممارستها دون أن تسيء إلى نفسه وإلى غيره.
ولعلَّنا نلمح ذلك في بعض الآيات التي عقبت الحديث عن الطيّبات بالدعوة إلى تقوى الله وشكره، وعدم الطغيان، والاعتداء كما في قوله تعالى في المتقدّمة في سورة المائدة: {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة : 87].
س ـــ جاء ـــ في نهج البلاغة ـــ قول الإمام عليّ (عليه السلام):
"اتَّقِ شرَّ مَنْ أحْسَنْتَ إليه".
ما معنى هذا الحديث؟
ج ـــ ربّما يبدو للفهم الساذج ـــ من هذا الحديث ـــ أنّه يوحي باستتباع الإحسان للشرّ الذي يجازي به الإنسان من أحسن إليه، ولذا فإنَّ على المحسن أن يستعدّ للشرّ ويحذره.
وربّما يؤدّي هذا الفهم الخاطئ إلى ابتعاد الإنسان عن أعمال الخير ومواقف الإحسان، ما دام ذلك سيؤدّي إلى مبادلته بالشّر والجحود والكفران ونكران الجميل، الأمر الذي يشعر الإنسان معه بأنّه في غنى عنه لاسيّما إذا كان من الأشخاص الذين لا يطيقون الحياة في نطاق المشاكل والملابسات ولكن هذا بعيد عن مرامي الإمام (عليه السلام) ومقاصده الذي يطلب منّا في بعض كلماته القصّار أن نُعاتِب أخانا بالإحسان إليه وأن نردّ شرّه بالإِنْعامِ عليه.
فماذا يريد الإمام من هذا الحديث؟
الذي يبدو لنا: أنَّ الحديث يحاول أن يخرج الإنسان من جوّ الثقة الساذج الذي يشعر به الإنسان إزاء الأشخاص الذين يحسن إليهم فيستسلم إليهم في اطمئنان، ويتخلَّى عن الحذر في علاقته بهم وتعامله معهم، انطلاقاً من استبعاد قيام هؤلاء الأشخاص بأيّ عملٍ شرير تجاهه، لأنَّ الخدمات التي قدَّمها لهم، والإحسان الذي واجههم به، يعتبر ضمانة قويّة أمام كلّ احتمالٍ آخر.
إنَّ الإمام يريد أن يقول للإنسان ـــ فيما نستوحيه من الحديث المذكور ـــ ليس لك أن تعتبر الإحسان إلى أيّ شخص ضمانة لك من شرّه لأنَّ هناك الكثير من الناس الذين لا يتفاعلون بالروح الخيّرة التي تنطلق من الآخرين إليهم، أو الذين يشعرون بعقدة ذاتية إزاء الأشخاص الذين يقدّمون إليهم خدمات الحياة، أو الذين قد يكونون طيّبين في بداية الأمر ولكنَّ المصالح المعقّدة والأطماع الطارئة التي يصطدمون بها معك، تحوِّلهم إلى أُناس يشعرون بالحاجة الشديدة إلى الاعتداءات عليك ومقابلتك بالإساءة والنكران.
فإذا كان واقع الحياة يحتضن أمثال هؤلاء كما يحتضن غيرهم من الطيّبين الذين يقابلون الإحسان بمثله والخير بأكثر منه، فكيف يمكن أن يستسلم الإنسان إلى جوّ الإحسان كضمانة تحميه من كلّ شرّ.
إنَّ الحديث يمثّل الدعوة إلى الوعي والحذر وعدم الاستسلام إلى الثقة المطلقة.
ومعنى الحذر أن يظلّ الإنسان متحسّباً للطوارئ والعوارض فيحضّ نفسه ضدّها، حتّى إذا ما واجهه الخطر كان مستعدّاً له فلا يؤخذ على غرّة، ولعلَّ كلمة الإمام عليّ (عليه السلام) الأخرى التي يقول فيها:
"لاَ تَثِقَنَّ بِأَخِيكَ كُلَّ اَلثِّقَةِ فَإِنَّ صَرْعَةَ اَلاِسْتِرْسَالِ لاَ تُسْتَقَالُ".
لعلَّ هذه الكلمة تعيش في الجوّ الذي يريد الإمام أن يضعنا فيه من خلال كلمته التي نتحدّث عنها، وهو جوّ الابتعاد عن الاسترسال في العلاقات الاجتماعية مهما كانت درجة الثقة، ومهما كانت عواملها الداخلية والخارجية.
س ـــ قيل: أن تفكّر ساعة خير من عبادة سنة أو أكثر فمن هو القائل، وفيمَ هذا التفكير؟
ج ـــ قائل هذا الحديث الشريف هو رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والصحيح في نصّ الحديث ـــ حسب ما جاء في حديث الإمام الصادق (عليه السلام) ـــ : "تَفَكُّرَ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَام ليلة".
أمّا مجالات هذا التفكير أنّها لا تنحصر في مجالٍ واحد، بل تتَّسع لتشمل الأمور التي تقرّب للإنسان معرفة الله، وتفتح آفاقه على الكون الواسع الفسيح حيث يجد في كلّ ظاهرة من ظواهره دليلاً على عظمة الخالق ووجوده.
فيعيش الإنسان في عبادة روحية صامتة تحتضن في داخلها الصفاء والسموّ الروحي والفكري في ظلال الله.
وتمتدّ مجالات التفكير لتتّسع لكلّ فكر يفهم الإنسان من خلاله نفسه، ويتعرَّف على أخطائه، ويكتشف واقع الحياة ومسؤوليّته العملية إزاء ذلك كلّه.
ويبدو لنا أنّ هذا التقييم للتفكير ينطلق من المنطلقات القرآنية التي اعتبرت التفكير الإنساني في خلق السماوات والأرض، وفي نفسه وفي غير ذلك، الطريق الأمثل في الوصول إلى الله، وفي إدراك الحقيقة في الكون والحياة وفي اكتشاف الإنسان نفسه من خلال ذلك كلّه.
أمّا إعطاء التفكير قيمة تفضّل عبادة ليلة، فربّما نستطيع أن نفهمه إذا عرفنا أنّ دور العبادة هو الاتصال بالله والالتقاء بالمعاني الروحية الخيّرة التي ترتبط به والانسجام مع هذه الصلة الإلهية، في نطاق تلك المعاني في حياتنا العملية ومن الطبيعي أنّ التفكير يستطيع أن يمنحنا هذا اللّقاء بالله، وبالمعاني الخيّرة بشكلٍ أعمق وأسلوب هادئ، ينساب في الداخل بعيداً عن ضجيج الكلمات، ليلاحق الكلمات التي تحلّق في سماء المعرفة دون صوت.. وربّما أمكن لهذا التفكير أن يعطي العبادة التي نمارسها ـــ بعده ـــ معنى أعمق حيث يتحوّل الإحساس بكلمات العبادة وأفعالها، إلى إحساس لا يطفو على سطح النفس وإنّما يتّصل بالينابيع التي تعيش في الأعماق وتهدرُ في حياة الإنسان من بعيد.
قد وردت لدينا أحاديث كثيرة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) تؤكّد هذا الاتجاه في اعتبار التفكير عبادة وفي شمول التفكير للآفاق الواسعة التي عرضناها.
1 ـــ ففي حديث الإمام الصادق (عليه السلام): "أفْضَلُ الْعِبَادَةِ إدمانُ التَّفَكّرِ فِي الله وَفِي قُدْرَتِهِ".
2 ـــ وفي حديث الإمام الرضا (عليه السلام): "لَيْسَ الْعِبَادَةُ كَثْرَةَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ".
3 ـــ وفي حديث آخر للإمام الصادق (عليه السلام): "التفكُّر يدعو إلى البِّر والعمل به".
4 ـــ وفي حديثٍ ثالث عنه: جواباً على سؤال: كيف يتفكَّر؟
قال: يمرّ بالدار والخربة فيقول: أين بانوك؟ أين ساكنوك؟ ما لك تتكلّمين.
وهكذا نجد أنّ الإسلام لا يريد من الإنسان العبادة التي يعلق فيها نفسه على الحركات والكلمات الخاصّة دون وعي، بل يحاول أن يربط الإنسان بالله من خلال الفكر الواعي العميق في الكون الواسع الفسيح، وفي أحداث الحياة وظواهرها وقضاياها، ليكتشف من خلال ذلك معنى الإيمان، من خلال المعرفة، ويتعرَّف روعة العبادة من خلال الفكر.
ونحسب أنّ هذا الاتّجاه في إعطاء هذه القيمة لعبادة الفكر، وتفضيلها على العبادة المألوفة التي لا تعيش مع المعرفة، يعطينا الفكرة الصحيحة عن المضمون الإسلامي للحياة الذي يبتعد عن الشكل ليرتبط بالمضمون، ويرفض الصورة إذا كانت بعيدة عن الجوهر.
س ـــ ورد في نهج البلاغة عن الإمام عليّ (عليه السلام) بعض الأحاديث التي تنهى عن صنع الإنسان المعروف مع غير أهله.
في بعض كلماته (عليه السلام): ... "وَلَيْسَ لِوَاضِعِ الْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ مِنَ الْحَظِّ فِيمَا أَتَى إِلَّا مَحْمَدَةُ اللِّئَامِ وَثَنَاءُ الْأَشْرَارِ وَمَقَالَةُ الْجُهَّالَ مَا دَامَ مُنْعِماً عَلَيْهِمْ مَا أَجْوَدَ يَدَهُ وَهُوَ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ بِخَيْلٌ".
وفي وصيّته لولده الإمام الحسن (عليه السلام): "احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى الصِّلَةِ، وَعِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللَّطَفِ وَالْمُقَارَبَةِ، وَعِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى الْبَذْلِ، وَعِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ، وَعِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِّينِ، وَعِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ، حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ، وَكَأَنَّهُ ذُو نِعْمَة عَلَيْكَ. وَإِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَيْرِ أَهْلِهِ".
وجاء في الحديث عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، في وصيّته لولده، يا بني: "اصْنَعِ الْمَعْرُوفِ إِلَى مَنْ هُوَ أَهْلُهُ وَإِلَى مَنْ لَيْسَ بِأَهْلِهِ فَإِنْ أَصَبْتَ أَهْلَهُ فَقَدْ أَصَبْتَ وَإِنْ لَمْ تُصِبْ أَهْلَهُ كُنْتَ أَنْتَ أَهْلَهُ".
فكيف نوفّق بين كلامي هذين الإمامين من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وهل يمكن أن يختلف لديهم الرأي، ما دمنا نعرف أنَّ كلامهم واحد لا يختلف أوّلهم وآخرهم فيه.
ج ـــ الذي يبدو لنا ـــ من خلال المقارنة بين الكلامين ـــ هو اختلاف موضع كلّ منهما.
فالإمام عليّ (عليه السلام) ينطلق في كلمته الأولى من فكرة الإيحاء للإنسان بضرورة اختيار بذل المال الذي يملكه في المواضع التي يقوّي فيها الخير، ويثمر فيها العطاء بدلاً من المواضع التي تشجّع الشرّ، ولا تنتج أيّة نتيجة صالحة سوى ما يتزلَّف به المتزلّفون من كلام لا يجدي الباذل شيئاً.
فالكلمة تتّجه في اتجاه أولئك الذين يبخلون بأموالهم عن سبيل الله، ويبذلونها في سبيل الشيطان طمعاً في المدح والثناء وما إلى ذلك.
ويشير إلى ما قلناه، كلمة الإمام في ختام الحديث: وهو عن ذات الله بخيل ثمّ قوله: بعد ذلك.
"فَمَنْ آتَاهُ اللهُ مَالاً فَلْيَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ، وَلْيُحْسِنْ مِنْهُ الضِّيَافَةَ، وَلْيَفُكَّ بِهِ الْأَسِيرَ وَالْعَانِيَ، وَلْيُعْطِ مَنْهُ الْفَقِيرَ وَالْغَارِمَ، وَلْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَى الْحُقُوقِ وَالنَّوَائِبِ، ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ؛ فَإِنَّ فَوْزاً بِهذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ الدُّنْيَا، وَدَرْكُ فَضَائِلِ الْآخِرَةِ".
فنحن نلاحظ أنَّ الإمام (عليه السلام) يريد أن يقارن بين مواضع العطاء، ويفضّل جانب الخير على جانب الشرّ.
أمّا كلمته الثانية: فتنهى عن التسامح مع الذين يواجهون الإنسان بالصدود والقطيعة والشدّة والتباعد إذا كان التسامح يزيد غلواءَهم وانحرافهم ويوحي لهم ـــ على أساس العُقَد النفسية المركبة فيهم ـــ أنَّ ذلك الموقف المتسامح يمثّل نقطة ضعف لدى صاحبه.
وبذلك يفقد الموقف الخيّر معناه، ويتحوّل إلى موقف يغذّي عقدة الشرّ لدى الشرّير، بدلاً من أن يوقظ في قلبه معاني الخير والمحبّة والسلام. الأمر الذي لا يجعل القضية في صالح المجتمع بأسره حتّى هذا الشخص المنحرف الذي قد يخيَّل إليه أنّ أساليبه المنحرفة تمنحه خضوع الآخرين واحترامهم وتواضعهم وبالتالي تزيده إمعاناً في ضلاله وعناده.
أمّا كلمة الإمام زين العابدين (عليه السلام) فإنّها توجّه الإنسان في اتّجاهٍ آخر، فتوحي له، بأن يستثير طبيعة العطاء في نفسه دون أن يلقي بالاً إلى طبيعة الإنسان الذي يعطيه... هل يستحقّ العطاء... على أساس الأعمال التي قدَّمها هذا الإنسان في مجتمعه ليستحقّ من خلالها تقدير المجتمع واحترامه؟
أو أنّه لا يستحقّ العطاء لأنّه لم يقم بأيّة خدمة تؤهّله لذلك كلّه؟.. وعلى ضوء ذلك فإنَّ الفكرة التي تعالجها كلمة الإمام زين العابدين (عليه السلام) هي أنّ على الإنسان في الحياة أن يعيش ـــ في داخله ـــ روح العطاء والبذل والخير للآخرين بعيداً عن الشعور بانطلاق العطاء عن عوض يقابله تماماً كما تعطي الشمس النور، وكما يفيض الينبوع بالماء انطلاقاً من الطبيعة الذاتيّة للعطاء.
ولعلَّ أقرب شيء إلى هذه الكلمة الدعاء المأثور عن أهل البيت (عليهم السلام): "اللَّهُمَّ إِنْ لَمُ أَكُنْ أَهْلا أَنْ أَبْلُغَ رَحْمَتَكَ، فَإِنَّ رَحْمَتَكَ أَهْلٌ أَنْ تَبْلُغَنِي، وَتَسَعنِي لأنَّها وَسِعَتْ كلَّ شيء يا أَرْحَمَ الرَّاحِمين".
فالأهليّة وعدمها، هي أهليّة الاستحقاق على أساس العمل لا أهليّة العطاء من حيث تقبّل العطاء بروح إيجابية واعية خيّرة.
خلاصة الحديث: أنّ الإمام عليّاً أمير المؤمنين (عليه السلام) ينهى عن صنع المعروف مع أهله ممّن يضرّهم أسلوب المعروف لفقدانهم الروح التي تتقبّله بوعي.
أمّا الإمام عليّ زين العابدين (عليه السلام) فإنّه يطلب صنع المعروف مع أهله ومع غير أهله ممّن لا يستحقّون المعروف لأنّهم لم يقدّموا شيئاً يمنحهم هذا الاستحقاق، ولكنّهم يتقبّلونه وينتفعون به. إذا قُدِّم إليهم. وممّا يؤكّد هذا التفسير الحديث المروي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في رسالة الحقوق:
"وَأَمَّا حقّ مَنْ ساءَك فأنْ تعفو عنه فإنْ رَأَيْتَ أنَّ العفو يضرّه انْتَصَرْت".
وهكذا يلتقي الحفيد الكريم بالجدّ العظيم، في رسالة الخير والمحبّة والعطاء من أجل الحياة على أساسٍ متين من الوعي في ملتقى القِيَم.
س ـــ هل نستطيع أن نعرف كيف كانت نشأة الطبقة الثانية في الإنسان، وكيف تناسلت؟
فهل تزوَّج أولاد آدم ـــ ذكوراً وإناثاً ـــ إخوانهم وأخواتهم، أو أنَّ الله خَلَقَ لهم خَلْقَاً آخر من السّماء أو الأرض فزوّجهم منه كما تحدِّثنا بعض الروايات.
والسؤال هنا: كيف يسمح في بدء الخليقة ـــ على أساس الافتراض الأوّل ـــ بتزويج الأخوة من الأخوات من الوجهة الدينيّة التي تحرّم هذه العلاقة ـــ كما نعلم ـــ وتعتبرها علاقة غير شرعية.
ج ـــ ربّما نميل إلى اختيار الافتراض الأوّل ـــ وهو أنّ الخليقة تطوّرت في المراحل الأولى من خلال العلاقة الزوجية الطبيعيّة بين الأخوة والأخوات من ولد آدم.
وقد نستطيع فهم هذا الرأي من القرآن الكريم كما حاوله بعض المفسّرين ـــ في تفسير الميزان ـــ في قوله سبحانه وتعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء : 1].
فقد يظهر من قوله تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء} انتهاء النسل إليهما لأنّه جعلهما مصدر النسل الوحيد، دون أن يحصل هناك عنصر آخر.
وليس في ذلك أيّ مخالفة للقوانين الطبيعيّة وإنّما هو مخالف للشرائع السماويّة التي حرَّمته مؤخّراً للمحافظة على المصلحة الإنسانية في استقرار الأُسرة وعدم تعرّضها للمشاعر الغريزية بين الأخوة والأخوات الذين يكثر الاجتماع فيما بينهم بطبيعة جوّ الأسرة ونظامها وقد كان حلالاً قبل ذلك وإذا كانت شرعية العلاقة وعدم شرعيّتها تابعة للحكم الشرعي الصادر من الله فلا مانع من أن يحلِّل الله شيئاً لمصلحة في ذلك، كانحصار مبدأ النسل في آدم وزوجته فتكون العلاقة بين الأخوة والأخوات شرعية في ذلك الوقت.
ثمّ يأتي التحريم لأنَّ المصلحة النوعية للإنسان التي تدور حولها الأحكام والتشريعات، تقتضي التحريم من أجل إيجاد الحواجز النفسية في داخل الأُسرة بين أفرادها المباشر كالأخوة والأخوات والآباء والبنات، لتستمرّ الأسرة بعيداً عن انفعالات الغرائز وفوضى الفحشاء، فإنَّ من الطبيعي أنّ الجوّ الحميم الذي تخلّفه الألفة في إطار الاتصال المباشر داخل المنزل في كلّ وقت، قد يؤدّي إلى شيوع الفحشاء فيما بينهم، لولا الحواجز النفسيّة التي يخلقها التشريع في نفوس الجميع.
وتتّضح الفكرة تماماً في حديث الاحتجاج الذي ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في حديث له مع قرشي يصف فيه تزويج هابيل بلوزا أخت قابيل، وتزوّج قابيل بأقليما أخت هابيل:
قال له القرشي: فأولداهما؟ قال: نعم فقال له القرشي فهذا فعل المجوس اليوم، قال: فقال إنَّ المجوس فعلوا ذلك بعد التحريم من الله. ثمّ قال: لا تنكر هذا إنّما هي شرائع الله جرت، الحديث.
ويعلِّق صاحب تفسير الميزان ـــ على هذا الحديث فيقول:
وهذا الذي ورد في الحديث هو الموافق لظاهر الكتاب والاعتبار. وهناك روايات أُخر تعارضها وهي تدلّ على أنّهم تزوّجوا بمن نزل إليهنَّ من الحور والجان وقد عرفت الحقّ في ذلك.
الحلقة الخامسة
النَّقْدُ وَالنَّقْدُ الذاتي في الإسلام
و
لِكُلِّ سؤالٍ جواب
• النّقد والنقد الذاتي في الإسلام
• لكلِّ سؤالٍ جواب
بسم الله الرحمن الرحيم
[1]
بين يدي الحديث
في حديثنا هذا.. نحاول الوصول إلى فكرة موضوعية كاملة عن النقد بصورةٍ عامّة، سواء منه الذي يتّجه إلى حياة الناقد، أو الذي يقتحم حياة الآخرين.
ثمّ.. عن النقد الذاتي، بصورةٍ خاصّة، هذا الذي يعني الوقوف وقفة هادئة مع الذّات في عملية اكتشاف للداخل، من أجل معرفة مواطن الضعف ومواطن القوّة، فيها، للوصول إلى فهم أفضل لمنطلقاتها وحركاتها، والحصول على وعي دقيق لأفكارها ومشاعرها كأساس لتقييم الذّات من خلال طبيعة العمل، أو تقييم العمل من خلال دوافع الذّات.
وليس هذا الحديث إلاَّ محاولة متواضعة لإعطاء صورة واضحة عن حاجتنا الملحّة إلى هذا الأسلوب العملي في مواجهة واقعنا الذاتي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري، لأنَّ ذلك هو السبيل الأمثل الذي ينبغي أن تسلكه عملية النمو والتطوُّر في حياتنا العامّة والخاصّة، لنتلافى كثيراً من الأخطاء والانحرافات التي قد تضيع معالمها في الطريق إذا لم تلاحقها عين الناقد ولم يناقشها فكره.
وإذا كان ذلك يعتبر حاجة ملحّة، فلا بدّ أن يكون للإسلام فيها رأي حاسم ينطلق به في ميادين التوجيه والتشريع، ليرسم للإنسان الحدود التي لا يجوز له أنْ يتخطَّاها في تحقيق الهدف، وليخطّط له الطريق التي تصله بالغاية دون مضاعفات أو ملابسات.. نظراً إلى اختلاف الأساليب حسب اختلاف الأهواء الشخصية والاجتهادات الخاصّة التي قد تذهب بالنقد مذاهب شتّى تبتعد به عن هدفه، وتتيه به عن مراميه.
وهكذا نجد أنّ هذا الحديث هنا، لا يستهدف رسم صورة مجرَّدة عامّة، بل يحاول إعطاء الصورة الحيّة للمفهوم الإسلامي للنقد من خلال تصوُّر الإسلام للحياة، ويعمل على اكتشاف الأسلوب العملي الذي يجسّد له الصورة في الواقع، ويحوّلها إلى عمل وحياة.. لنصل من خلال ذلك إلى الفكرة الأصيلة الشاملة التي تقرّر للحياة كلّ خطواتها الفكرية والعملية على أساس الإسلام، انطلاقاً من الحقيقة التي تفرض شمول التشريع الإسلامي لجميع الجوانب الحياتية للإنسان، لئلّا يضيع في متاهات النظريّات المختلفة، ويغرق في خضمِّ التيّارات غير الإسلامية، فيستسلم للحيرة القاتلة التي تعقّد له نفسه، وتشوّه روحه وتفقده الثقة بكلّ شيء.
[2]
ما هو النقد؟
للنقد في كتب اللّغة عدّة معان، ولكن أبرزها معنيات يرتبطان بحديثنا هذا:
1 ـــ التمييز بين الجيّد والرديء من الدراهم والدنانير، فيقال: نقدت الدراهم وانتقدتها إذا أخرجت الزّيف منها.
2 ـــ العيب والثلم والتخريج، فيقال: نقدت رأسه باصبعي إذا ضربته، ويذكرون شاهداً عليه حديث أبي الدرداء "إن نقدت الناس نقدوك وإن تركتهم تركوك" أي: إن عبتهم أو أغتبتهم قابلوك بمثله.
ولعلَّ المعنى الثاني، هو المعروف الشائع من هذه الكلمة، فقد استعمل النقد في معنى تعقُّب الأدباء والفنيّين والعلماء والدلالة على أخطائِهم وإذاعتها قصد التشهير أو التعليم، وشاع هذا المعنى في عصرنا هذا وصارت كلمة النقد إذا أطلقت فهم منها الثلم ونشر العيوب والمآخذ(1).
ولهذا اعتبر النقد في كثير من المجتمعات مظهراً من مظاهر العداوة والبغضاء وسبيلاً من سبل الإهانة والإيذاء، لأنّه يمثّل البحث عن عيوب الشخص من أجل إظهارها للنّاس كوسيلة من وسائل التحقير والتشهير.
أمّا المعنى اللّغوي الأوّل، فلعلّه أنسب المعاني وأليقها بالمراد من كلمة النقد في الاصطلاح الحديث من ناحية، وفي اصطلاح أكثر المتقدّمين من ناحية أخرى فإنَّ فيه معنى الفحص والموازنة والتمييز والحكم.
وإذا ما وقفنا عند ما يقوله الثقات من النقّاد رأيناهم لا يجاوزون هذه المعاني في حدّ النقد وفي ذكر خواصه ووظيفته.
فالنقد: دراسة الأشياء وتفسيرها وتحلّيها وموازنتها بغيرها المشابهة لها أو المقابلة.. ثمّ الحكم عليها ببيان قيمتها ودرجتها.. يجري هذا في الحسيّات والمعنويات، وفي العلوم والفنون وفي كلّ شيء متّصل بالحياة(1).
ونحن هنا.. عندما نريد الحديث عن النقد والنقد الذاتي في الإسلام.. لا نريد أن نخصّ به معنىً واحداً من هذين المعنيّين، فإنَّ لنا موقفاً مع كلّ منهما في تشريعة الإسلام لأنَّ كلاًّ منهما يعبّر عن مظهر حيّ من مظاهر السلوك الإنساني في الحياة.
فهناك الذين يعتبرون عملية النقد وسيلة من وسائل التشهير والتحقير والتخريب والتهديم، كنتيجة طبيعيّة لحالة الحقد والبغضاء التي يعيشها الناقد إزاء الآخرين، وهناك الذين يعتبرون النقد عملية تقييم للمواقف، وتصحيح للسلوك، من أجل وضع كلّ شيء في موضعه، وإعطاء كلّ عمل قيمته، وتمييز الخطأ من الصواب والصحيح من الفاسد.. انطلاقاً من الرغبة الذاتية في البناء والتركيز واستقامة الخطى في طريق الحقّ.
وإذا كانت الحياة تحتضن كلا هذين النموذجين، فلا بدّ لنا من أن نقف معهما لنتعرَّف موقع أقدامنا في الطريق عندما نريد السير مع كلّ منهما فيما يخطّط وفيما يريد، لنعرف كيف نحفظ خطانا من الانحراف في غير طريق الله.
[3]
النقد في نطاق التشهير
أما الحديث عن النقد الذي ينطلق من مفهوم العيب والثلم والتجريح، وموقف الإسلام منه.. فقد نجد الكثير منه ومن أحكامه في الأحاديث التي عرضت للغيبة وأحكامها، وللتعبير والبهتان والتفتيش عن عثرات المؤمنين وزلّاتهم وغيرها من المواضيع التي تلتقي عند نقطة واحدة، هي محاولة التعرُّف على عيوب الإنسان ونقائِصه.. ثمّ مواجهته بها في حضوره، أو الحديث عنها في غيبته بما يكشف عن سرّه ويحطّ من قدره.
ولكي تبدو الفكرة واضحة أمامنا، لا بدّ لنا من أن نطرح أمامنا عدّة علامات استفهام تناقش أصل القضية وتبحث تفاصيلها.. وعلى هدى الأجوبة، تتحدَّد النتائج، وتتّضح ملامح الفكرة.
أ ـــ كيف ينظر الإسلام إلى الحياة الذاتية للإنسان المسلم من خلال اعتبارها منطقة محرَّمة على الآخرين لا يجوز للآخرين اقتحامها أو الاقتراب منها وتسلّق أسوارها، أو منطقة مفتوحة يحقّ لكلِّ إنسان اختراقها دون استئذان؟
ب ـــ هل يحقّ للإنسان أن يواجه المؤمن بعيوبه وزلّاته في أيّة حالة من الحالات؟
ج ـــ هل يحلّ لنا أن نتحدّث عن الناس ـــ في غيابهم ـــ بما نعرفه عنهم من نقاط الضعف؟.. وإذا كان ذلك حراماً، فهل يختلف الحكم باختلاف الدوافع النفسية التي تدفع إلى مثل هذا الحديث؟
د ـــ متّى يمكن اعتبار التشهير والتجريح ونشر عيوب الناس عملاً أخلاقياً وشرعياً؟ وهل يختلف الحكم حسب اختلاف الحالات التي تحيط بأجواء النقد؟
[4]
حماية الإسلام حياة الإنسان الذاتية
ما هي نظرة الإسلام إلى حياة الإنسان الخاصّة؟ هل هي منطقة مفتوحة للنّاس أو هي منطقة محرَّمة عليهم؟
والجواب عن ذلك، أنَّ لكلِّ إنسان حرمة مقدّسة، في نظر الإسلام، فليس لأيّ شخص أن يقتحم حياته الخاصّة دون رضاه، أو يعتدي على أسرارها دون إذنه، لأنَّ ذلك هو معنى احترام حريّته وكرامته التي قرَّرها القرآن الكريم، فله أن يمارسها ويحافظ عليها دون أن يملك الآخرون حقّ التدخُّل فيها بضغط أو في نطاق الشعور العام بالمسؤولية.
ولهذا حرَّم الإسلام التجسُّس على حياة الآخرين في قوله تعالى في سورة الحجرات: {وَلَا تَجَسَّسُوا} لأنَّ في التجسُّس اعتداء على حريّة الإنسان في الاحتفاظ بأسراره الخاصّة، وحمايتها من الآخرين.
وجاء في الحديث الشريف، النهي عن محاولة التحقّق والتثبّت من الظنون التي تتعلَّق بحياة إنسانٍ ما، في أيّ جانبٍ من جوانب حياته.
"وَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَأَمْضِهِ، وَإِذَا حَسَدْتَ فَاسْتَغْفِرْ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلاَ تَحَقِّقْ..."، لأنَّ محاولة التأكّد من صحَّة ظنونك وفسادها تعتبر عدواناً على حياة هذا الإنسان الخاصّة، من دون ضرورة تدعو إلى ذلك سوى إشباع غريزة الفضول في داخل ذاتك.
وربّما تعتبر بعض أحاديث أئمّة أهل البيت (عليه السلام) إحصاء زلّات المؤمن، من أجل تعييره بها بعد ذلك، من أقرب الأمور إلى الكفر، ومن أبعد الأشياء عن الإيمان.
ففي حديث للإمام محمّد الباقر (عليه السلام): "إِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى الْكُفْرِ أَنْ يُوَاخِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَلَى الدِّينِ فَيُحْصِيَ عَلَيْهِ عَثَرَاتِهِ وَزَلاتِهِ لِيُعَنِّفَهُ بِهَا يَوْماً مَا".
وفي حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يؤاخي الرجل الرجل على دينه فيحصي عليه عثراته وزلّاته ليعيّره بها يوماً ما.
بل قد نجد في بعض النصوص الدينيّة ما يحرّم على الإنسان المؤمن التحدُّث عن أسراره الخاصّة التي تهدم كيانه وتهتك حرمته، لأنّه لا يجوز للإنسان أن يهتك حرمة نفسه. كما نجد في نصوص أخرى الإرشاد للمؤمن إلى الاستتار بالمعصية فيما إذا ابتلي بها، لأنَّ الله لا يريد للإنسان أن يفضح نفسه فقد ورد في الحديث: "إذا ابْتُلِيتُم بالمعاصي فاستتروا...".
وعلى ضوء هذا نستطيع أن نقرِّر حماية الإسلام لحياة الإنسان الخاصّة، فلا يمكن أن نجعل الفضول الشخصي مبرّراً لاقتحام أسوار هذه الحياة.
وبهذا التشريع يغلق الإسلام باباً كبيراً من أبواب النقد التشهيري الذي يدور في نطاق العيب والتجريح، لأنّه يمنع الإنسان من تغذية المعرفة الشخصية بعيوب الناس وأسرارهم التي يتعمَّدون إخفاءَها ويرفضون السّماح للآخرين بالاطّلاع عليها، ولا يبقى له إلاّ ما يطّلع عليه من طريق الصدفة، أو ما ينقله الآخرون إليه.
ولا فرق في ذلك بين الصحفي وبين غيره، فكما لا يجوز للذين لا يمارسون الصحافة أن يتلصَّصوا على حياة الناس الخاصّة لمجرّد إشباع الفضول الذاتي، كذلك لا يحلّ للصحفيّين ممارسته لمجرّد إشباع الفضول الصحفي الذي يحاول التعرّف على أكبر قدر ممكن من حياة الأفراد الذين يعملون في الحقل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، من أجل تزويد الصحيفة بالمادة الدسمة من أخبار المجتمع أو السياسة أو الاقتصاد، طمعاً في زيادة عدد القرَّاء التي تتبع كمية الفضائح الخاصّة والعامّة التي تنقلها هذه الصحيفة أو تلك.
[5]
مواجهة الإنسان بعيوبه
ونقف من جديد أمام السؤال الثاني:
هل يحقّ لنا أن نواجه الإنسان بعيوبه وزلّاته في أيّة حالةٍ من الحالات؟
ولعلَّ الجواب عن ذلك يختلف حسب اختلاف الدوافع التي تدفع الإنسان إلى هذه المواجهة، أو الأجواء النفسية التي يخلقها الحديث في نفس الطرف الآخر.
فقد يكون الدافع الذي يدعونا إلى مواجهة الإنسان بعيوبه، هو النصح والتوجيه والإرشاد من أجل أن يصحّح هذا الإنسان موقفه الخاطئ، أو يغيّر طريقه المنحرف.
وربّما يكون الدافع هو التعيير والتحقير أو الإيذاء والإهانة من أجل أن يحطّم له شخصيّته، أو يخفّف من شعوره بالكرامة.
ففي الحالة الأولى: نجد التشريع الإسلامي يتّجه إلى تشجيع مواجهة الإنسان أخاه المؤمن بالأحاديث التي تكشف له عن عيوبه وأخطائه لتأخذ بيده إلى الطريق المستقيم وتبعد به عن الطريق المنحرف، لأنَّ ذلك يمثّل الأسلوب العملي لتعاون المؤمنين مع بعضهم على تسديد خطاهم وتقوية شخصيّاتهم، وتنمية ذواتهم في الاتجاه الصحيح انطلاقاً من الفكرة الإسلامية التي عبَّر عنها الحديث الشريف الذي يخاطب كلّ مؤمن.
"لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه...".
هذا من جهة.
ومن جهةٍ أخرى نلتقي بالحقيقة الاجتماعية التي ترى أنّ انحراف الفرد يترك أثره الكبير على استقامة المجموع لما يحدثه من آثار سلبية على حركة المجتمع ونموّه، كنتيجة طبيعيّة للارتباط العضوي بين المجتمع وأفراده.
وقد حاولت النصوص الدينيّة التركيز على النقد في هذا الاتجاه بأسلوبين:
أحدهما: يدعو الناقد إلى أن يقوم بهذه المهمّة الصعبة تجاه إخوانه المؤمنين بروح إيجابية واعية تنطلق في طريق البناء لا الهدم، الأمر الذي يجعل من عملية النقد عملية نصح وتوجيه.
ثانيهما: الأسلوب الذي يدعو الشخص الذي يواجه بالنقد إلى أن يشعر بالامتنان تجاه الناقد، ويتحسَّس بالروح الخيّرة التي تملي عليه نقده، ويوجّهه إلى مطالبة اخوانه بأنْ يواجهوه بعيوبه ليقوم بإصلاحها، كما يواجهونه بحسناته ليستزيد منها دون أن يجد في نفسه أيّ ردّ فعلي معاكس إزاء ذلك.
أمّا الأسلوب الأوّل: فيتمثّل في الأحاديث المأثورة عن النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وعن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) التي تتحدّث عن حقوق المسلم على المسلم.
فمن ذلك الحديث الشريف المأثور عن النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي ذكر فيه ثلاثين حقّاً للمسلم على المسلم وجعل من تلك الحقوق... أن يديم نصيحته.
ومن الواضح... أنَّ النصيحة تكون بتوجيه الإنسان إلى المواقف الصحيحة بدلاً من المواقف الخاطئة، كما تكون بإعطائِهِ الرأي الحقّ في حالة المشورة.
ومن ذلك الأحاديث الشريفة التي اعتبرت المؤمن مرآة أخيه، كما في الحديث النبوي الشريف:
"المؤمن مرآة أخيه يميط عند الأذى...".
والحديث المأثور عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام).
"المسلم أخو المسلم هو عينه ومرآته ودليله...".
وفي حديثٍ آخر عنه ـــ وهو يعدّد حقوق المؤمن على المؤمن ـــ :
"الحق الرابع: أن تكون عينه ودليله ومرآته...".
ولعلَّنا نقف من هذه الأحاديث على طبيعة الروح التي يعيشها الإنسان المؤمن تجاه أخيه من خلال التعبير بالمرآة.
فنحن نعرف أنّ مهمّة المرآة أن تكشف للإنسان عيوب وجهه في نظافته وأناقته بكلّ وضوح، دون أيّ تأثير سيّء، بل كلّ ما هناك أن تثير في نفسه الرغبة في الإصلاح والتغيير، وبعبارة أدقّ: أن تضعه وجهاً لوجه أمام العيب في صورته أو الخطأ في أناقته ليتولّى ـــ بعد ذلك ـــ مهمّة اتّخاذ الموقف المناسب.
فإذا اعتبرنا المؤمن مرآة لأخيه، وأضفنا إليه ـــ بعد ذلك ـــ أن يكون عينه ودليله فسنجد أنفسنا نواجه الأساس النفسي للنقد، وهو أن ينطلق النقد عن قصد صحيح يستهدف تعريف الإنسان ما يستطيع معرفته ـــ بنفسه ـــ بسهولة، تماماً، كما هي عيوب الوجه التي لا يستطيع التعرّف عليها بدون المرآة، أو كما هي عيوب الأعمى التي لا يتمكَّن من الإطّلاع عليها بواسطة عيون الآخرين.
وعلى ضوء ذلك: نعرف حاجتنا إلى الشعور بالمحبّة في عملية النقد، تماماً، كما هو شعور الإنسان الذي يحاول أن يدلّ الأعمى على عيوب وجهه التي لا يراها ليكون له بمثابة العين التي يبصر بها.
أمّا الأسلوب الثاني: فيتمثَّل في الحديث الشريف المأثور:
"رَحِمَ الله امرأً أهدى إليَّ عيوبي".
فهو يوحي إلينا أن يكون شعورنا وإحساسنا الذاتي إزاء الإنسان الذي يقدّم لنا عيوبنا وأخطاءنا على طبق من محبّة ونصيحة، كشعورنا إزاءه عندما يقدّم لنا حسناتنا ومآثرنا، أو هدية ثمينة من المطعم والملبس أو غير ذلك، في الإحساس بالامتنان لأنَّ قيمة الهديّة إنَّما تكون بمقدار ما تحلّ للإنسان مشكلة أو تجلب له منفعة على أساس حاجاته الغريزيّة أو رغباته الذاتيّة.
ولن يكون هناك أسمى من أن يقدّم له عيوبه التي تشوّه له روحه وتحطِّم كرامته من أجل أن يتفادى ذلك فيعيد إلى روحه صفاءها ونقاءها، وإلى كرامته قوّتها وسلامتها.
وربّما نجد بعض ملامح هذا الأسلوب، في الحديث المتقدّم الذي أعتبر المؤمن مرآة أخيه لأنّه في الوقت الذي يدعو المؤمن إلى أن يقوم بدور المرآة الداخلية تجاه عيوب أخيه الذاتية كما تقوم المرآة بكشف العيوب الخارجية.
كذلك يوحي للمؤمن الآخر أن يعتبر إخوانه مرآة له، ويتعامل مع نصائحهم وتوجيهاتهم، كما يتعامل مع المرآة فيدعوهم إلى نقد صفاته وأعماله، كما يدعو المرآة إلى كشف أخطاء نظافته وأناقته.
ولا يقتصر هذا الأسلوب على الحديث الشريف بل يتعدّاه إلى الدعاء الذي يدعو به الإنسان ربّه، فنجد في دعاء مكارم الأخلاق الفقرة التالية:
"... وَوَفِّقنِي لِطَاعَةِ مَن سَدَّدَنِي وَمُتَابَعَةِ مَن أَرشَدَنِي...".
فهي تعتبر السير على هدى النقد في عملية التغيير الداخلي والإصلاح العملي حاجة دينيّة وإنسانيّة تحتاج إلى مزيد من توفيق الله ورعايته، ممّا يجعل الإنسان يحسّ بالرغبة الروحية إلى أن يطلب ذلك من ربّه في خشوع العبادة وروحانيّة الدّعاء.
وخلاصة الحديث: إنَّ الإسلام يحاول أن يوجّه الناقد والمنقود، إلى أن يواجها عملية النقد بروح واعية مخلصة، ينطلق معها الناقد، ليكتشف أخطاء الآخر بوعي ومحبّة، وينسجم معها المنقود، ليشعر بالامتنان لذلك، وليبدأ عملية التغيير على هذا الأساس.
وأمّا الحالة الثانية: وهي الحالة التي يتّجه فيها النقد إلى التحقير والإيذاء، فتتحوَّل المواجهة إلى أسلوبٍ حاقد يستهدف التحطيم فحسب.
أمّا هذه الحالة، فنجد التشريع الإسلامي يرفضها رفضاً قاطعاً، فلم يعط الإنسان هذا الحقّ ولم يمنحه هذه الحريّة.
نجد الإشارة إلى ذلك في الحديثين المتقدّمين عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)، اللّذين اعتبرا إحصاء الإنسان زلّات أخيه المؤمن بداعي التعيير والتعنيف والإيذاء من أقرب الأشياء إلى الكفر، ومن أبعد الأمور عن الله.
وقد نلمح الإشارة إلى ذلك في جميع الأحاديث التي تشجب إيذاء المؤمن وتحقيره وإذلاله بأيّ أسلوبٍ من الأساليب.
وربّما نتعرَّف على ذلك في حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام).
"مَنْ أَنَّبَ مؤمناً أنَّبَه الله عزَّ وجلَّ في الدُّنيا والآخرة".
وفي حديثٍ آخر عنه:
"مَنْ عَيَّرَ مؤمناً بذنبٍ لم يمت حتّى يرتكبه".
وقد يكون السرّ في هذا الرفض، وهذا التشديد، هو تركيز الإسلام على بناء العلاقات الإنسانية بين المؤمنين على أساس احترام كرامة الإنسان، لأنَّ ذلك هو الذي يخلق عنده الشعور بإنسانيّته وبالتالي: يساهم في حفظ قيمة تلك العلاقات وتنميتها واستمرارها وحيويّتها ودورها الإيجابي في خلق المجتمع الإسلامي الصحيح الذي يرتكز على قاعدة متينة من المعرفة والمحبّة والاحترام المتبادل ورعاية حقوق الجميع.
[6]
النقد الغيابي أو الغيبة
هل يحلّ لنا أنْ نتحدَّث عن الناس في غيابهم بما نعرفه عنهم من عيوب ونقائص؟ وهل يختلف الحكم حسب اختلاف الدوافع؟
هذا هو السؤال الثالث الذي يطرح نفسه علينا في محاولتنا لمعرفة الموقف الإسلامي من النقد ـــ بمعنى العيب والثلم والتجريح ـــ في حالة حصوله في غيبة الإنسان.. هذا الذي تصطلح عليه الأحاديث المأثورة وكلمات الفقهاء، باسم الغيبة.
ونحاول استحداث كلمة أخرى تنسجم مع حديثنا هذا، لنصطلح عليه اسم "النقد الغيابي" وسواء جرينا على كلمة الغيبة، أو "النقد الغيابي" فإنَّ الحكم واحد، وهو الرفض الحاسم له في القرآن الكريم والسُنّة الشريفة.
ففي القرآن الكريم تواجهنا الآية التي عرضت للغيبة وتحريمها بأسلوب يتحرَّك بطريقة رائعة ليثير في النّفس القرف والاشمئزاز من الجوّ النفسي الذي حاولت الآية أن تضعه فيه.
قال تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ...} [الحجرات : 12].
تلك هي الصورة الحقيقيّة للغيبة.. أن يموت أخوك، وتقف أنتَ أمام جنازته.. والسكّين في يدك تعمل في كلّ جانب من جوانب جسمه، فتقطع جزءاً من هنا، وجزءاً من هناك.. ثمّ تبدأ عملية التهام قطع اللّحم الميتة، لحم أخيك.. في نهم الجائع ولذّته.
هل رأيت أبشع من هذه الصورة وأفظع؟
وهل عرفت تعبيراً عن الوحشية والقساوة، أوضح من هذا الإنسان الذي يتحرّك داخل إطارها.
فإذا ارتفع عندك الإحساس بالفظاعة، والشعور بالبشاعة إلى القمّة.. فتعالَ إلى الصورة المماثلة، ثمّ انظر.. هل تحسّ معها بنفس الإحساس، أو تشعر بذات الشعور.
إنّها صورة أخيك الغائب عنك، وصورتك ـــ أنت ـــ عندما تقف أمام حياته بكلّ ما فيها من عيوب ونقائص وأخطاء.. وتبدأ العملية ذاتها في اتّجاهٍ آخر.
فالجثّة هي كرامته وسمعته وشخصيّته، والسّكين هنا كلماتك التي تقطّع أوصاله تماماً كالسكّين.. وتنتهي القصّة هنا، كما انتهت هناك أمام نهم الجائع ولذّة المسعور.
إنَّ الصورة هي الصورة مع اختلاف الخطوط والألوان.
فكرامة الإنسان كجسده لها نفس الحرمة، ونفس الحقوق، وبهذا يلتقي نهش الكرامة بنشر العيوب، بنهش الجسد، بالتهام قطع اللّحم الميّت.
إنَّ الصورة هي الصورة، ولكن لماذا لا نشعر بالبشاعة مع هذه كما نشعر ببشاعة تلك؟
ربّما يرجع ذلك إلى أنّنا نتأثّر عادة بالجانب الحيّ المحسوس من الحياة، أكثر ممّا نتأثّر بالجوانب المعنوية، ولذا اعتبرت الصورة المحسوسة وسيلة من وسائل الإيضاح للصورة غير المرئية في الحياة.
أمّا في الحديث الشريف، فنجد في أحاديث السيرة النبويّة، أنّ الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال:
"الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة(1) في جوفه".
وفي حديثٍ آخر عنه في وصيّته المأثورة لأبي ذرّ (رضي الله عنه):
"يا أبا ذرّ إيّاك والغيبة، فإنَّ الغيبة أشدّ من الزنا، قلت: ولم ذلك يا رسول الله"؟
قال: لأنَّ الرجل يزني فيتوب إلى الله فيتوب الله عليه. والغيبة لا تغفر حتّى يغفرها صاحبها. يا أبا ذرّ: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معاصي الله...
[7]
ما هي الغيبة
جاء في الحديث عن الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ـــ جواباً عن سؤال أبي ذرّ، ما الغيبة ـــ :
"إنَّها ذكرك أخاك بما يكره".
ويتكرَّر السؤال من أبي ذرّ:
فإنْ كان فيه الذي يذكر به؟
ويجيب الرسول فيما يقول الحديث:
"اعلم أنّك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهتّه".
وجاء في حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قال:
"إنَّ من الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه، وإنَّ من البهتان أن تقول في أخيك ما ليس فيه".
وعلى ضوء هذين الحديثين الشريفين.. نستطيع أن نعرف خطأ الفكرة القائلة: إنَّ كلمة الغيبة تعبّر عن الحديث الذي تتحدّث به عن إنسانٍ ما في غيبته بذكر بعض العيوب أو النقائص التي تلصقها به إلصاقاً دون أن يكون لها أساس من الحقّ، أو وجه من وجوه الصدق.
ولعلَّ هذه الفكرة الخاطئة عن مفهوم الغيبة هي التي توحي للمغتاب أن يبرّر غيبته بأنّه لا يتكلّم إلاّ حقّاً، معتقداً أنّ الغيبة تمثّل الحديث الكاذب.
إنَّ الحديثين الشريفين يحدِّدان لنا مفهوم الغيبة، بالعيب المستور الذي يعيش في واقع حياة الإنسان.
أمّا العيب الذي ليس فيه، فهو البهتان بعينه.. هذا الذي يجمع بين الكذب من جهة، وإيذاء المؤمن من جهةٍ أخرى.
[8]
هل للدوافع السيّئة دور في التحريم؟
ويحاول البعض أن يربط الغيبة بدافعٍ خاص فيعتبر للدوافع الذاتيّة دوراً كبيراً في حرمتها.. فلكي نحكم بحرمتها لا بدّ لنا من أن نلمس النيّة السيّئة لدى المغتاب، كإرادة القدح والتشهير والانتقاص.
أمّا إذا عرفنا خلوّ الحديث من النيّة السيّئة، وإنْ لم يكن هناك نيّة حسنة أيضاً، كما إذا كان القصد من الحديث هو ملء الفراغ والتلهّي بأقاصيص الناس وقضاياهم بكلّ ما فيها من خير وشرّ دون أن يكون هناك قصد غيره.. أمّا إذا عرفنا ذلك فلا مجال للحكم بالحرمة.
ويحاول هذا البعض أن يبرِّر هذه الفكرة بالحديث المروي عن الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه قال:
"مَن قال في مؤمن ما رأت عيناه وسمعته أُذناه ممّا يشينه ويهدم مروءته فهو من الذين قال الله تعالى فيهم": {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ...} [النور : 19].
فقد نلاحظ أنّ الحديث جعل الغيبة في نطاق حبّ شياع الفاحشة الذي توعّدت عليه الآية بالعذاب والرغبة فيها.. الأمر الذي يعبّر عن النيّة السيّئة في الحديث.
وهكذا نحصل على النتيجة الحاسمة وهي أنّ الحديث الذي يخلو من ذلك لا تشمله الآية الكريمة.
ولكنَّ هؤلاء أخطأوا فهم الآية، فهي تعبّر عن فعل ما يوجب شياع الفاحشة، لأنَّ المسألة ليست مسألة حالة نفسية تتحدّث عن الإنسان من خلال دوافعه ونواياه لتصنّف الناس إلى صنفين، صنف يعش دوافع الخير في تصرُّفاته مع الآخرين، وصنف يعيش دوافع الشرّ في علاقاته معهم.. بل المسألة مسألة حالة اجتماعية يراد منها حماية الإنسان من اعتداء الآخرين على حياته الداخلية، بفضح أسرارها، وكشف ما فيها من نقاط الضعف، ومواطن النقص، كما يقصد بها حماية المجتمع من أجواء الفحش والسّوء والضعف التي تثيرها أحاديث المنكر والفحشاء التي تتحدَّث عن فضائح الآخرين وجرائمهم ممّا يسبّب خلق الأرضية الصالحة لهذه البذور في حياة المجتمع، وإذا كانت القضية كما عرضناها، فلا يعود للقصد أيّ دور في هذا الموضوع إلاّ من حيث اعتباره أحد العناصر التي تهيّئ لمثل هذه الأحاديث، تماماً كبقيّة الأسباب التي تدعو لها، مثل الرغبة في ملء الفراغ بما يتيسَّر من الحديث أيّاً كان لونه وطبيعته، كما يحدث للكثيرين الذين يفقدون العمل الجدّي الذي يملأ أوقاتهم، فيعمدون إلى إضاعة الوقت بأيّ شيء دون التفات إلى نوعيته، فقد تكون المصادفة أن يحفظ هذا الإنسان أحاديث الآخرين التي تتعلَّق بأسرارهم وعيوبهم فيحدِّث بها لأنّها الحديث الجاهز لديه لا لأهمية خاصّة، أو لرغبة معيّنة، ولذا، فلا مانع عنده من أن يتحدّث بحديثٍ آخر بعيد عن الموضوع أو قريب إليه ولكن بلونٍ آخر يصوّر فيه حسنات الآخرين وأعمالهم الخيّرة كما يقول الشاعر:
يعطى ويمنع لا بخلاً ولا كرماً
وهكذا نجد أنَّ النقد الغيابي لا ينطلق من مبدأ إرادة التحقير والتشهير والإهانة، بل يتمثّل في مجرّد ذكر العيب، والتحدّث عن مواطن الضعف التي يكره الإنسان ظهورها وشياعها سواء كان الدافع إليها سيّئاً أو لم يكن.
إنَّ القضية أوّلاً وأخيراً هي إرادة المحافظة على كرامة الإنسان من أن تُهْدَر، وسمعته من أن تحطَّم، وأسراره من أن تُجعل عرضةً للامتهان، بدافع العبث أو اللّغو أو غيرهما.
إنَّ الإسلام لا يريد لحياة الإنسان الخاصّة أن تخضع لمزاج الآخرين وحاجتهم للتنفيس عمّا في داخلهم من كبت، أو في حياتهم من فراغ وحرمان، ولذا حرَّم كلّ عدوان عليها بالكلمة أو بالعمل.. وذلك هو سرّ تحريم الغيبة فيما نظنّ.
[9]
الحالات الاستثنائية للتحريم
متى يمكن اعتبار التشهير ونشر عيوب الناس عملاً شرعياً أو أخلاقياً؟
وبتعبيرٍ أدقّ: هل هناك حالات استثنائية يحلّ فيها للإنسان غيبة الآخرين؟
هذا هو السؤال الرابع الذي نواجهه ونحن نعالج النقد في نطاق التجريح.. وربّما نجد المبرّر لهذا السؤال في الحالات الكثيرة التي تواجهنا بشدّة في أكثر من موقف، فتفرض علينا التحدّث عن عيوب الآخرين ونقاط ضعفهم من أجل قضايا حيويّة جداً لا يمكن للفرد أو المجموع إغفالها وإهمالها في قليل أو كثير.. لأنَّ ذلك يضرّ بالمصلحة العامّة للناس، ويؤدّي إلى انحرافات واسعة في حياتهم.
فماذا نفعل إزاء هذه الحالات؟
هل ندعو الإنسان إلى أن يمسك عن الخوض في حديث الناس، وليكن ما يكون، وليحدث ما يحدث؟ أو نطلق له الحريّة فيما يتحدّث عنه، وفيما ينقده في نطاق القضايا التي تواجهنا في الطريق وإنْ كان في ذلك تشهير بالآخرين وإساءة لكرامتهم.
لا يمكن أن نختار الحلّ الأوّل، معنى ذلك جمود التشريع أمام الحالات الصعبة وفقدانه القدرة على الحركة في معالجه مشاكل الآخرين، الأمر الذي يجعله بعيداً عن حياة الناس متعسّفاً في حلوله العملية.. وهذا ما لا ينسجم مع دور التشريع الإسلامي، وهو الأخذ بحياة الناس إلى أهدافه بيسر وسهولة، فلا يشعر الإنسان معه بالحرج والضيق، ولا يجد حاجة حياتيّة تضطره إلى التمرُّد عليه تحت ضغط المطالب الملحّة التي تجابهه في حياته، وإنّما يشعر بدلاً من ذلك بالراحة والطمأنينة إلى شريعته لأنّها انطلقت من الواقع كما هو، ولم تنطلق من المثالية والخيال.
ولا يمكن للتشريع الذي ارتكز على أساس فهم الواقع ووعي جذوره إلاّ أن تستريح له الحياة ويستجيب له الناس في محبّة وواقعية دون حاجة إلى الشكوى منه أو الانحراف عنه.
وعلى ضوء هذا.. فلا بدّ للإسلام، الذي جاء من أجل أن يرفع مستوى حياة الإنسان على أساس واقعي، أن يكون تشريعه منسجماً مع هذه الخطّة وسائراً في هذا الاتجاه، فلا يمكن له ـــ والحالة هذه ـــ أن يحرِّم علينا غيبة الآخرين أو نقدهم في غيابهم عندما تمسّ الحاجة إلى ذلك أو تدعو المصلحة إليه، لأنَّ في هذا التحريم ابتعاداً عن علاج مشكلة الحاجة الملحّة، أو مراعاة المصلحة اللازمة.. وبالتالي يؤدّي إلى إيقاع الإنسان في الحرج الشديد الذي نفاه الله تعالى في قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...} [الحج : 78].
ولهذا فمن الطبيعي أن نختار الحلّ الثاني: وهو اعتبار الغيبة في القضايا الحيّة التي تمسّ حياة الإنسان في الصميم، خارجة عن نطاق التحريم فلا حرج علينا في الحديث عن عيوب الناس في تلك الحالة، أمام الله وإنْ أدّى ذلك إلى التشهير والتحقير.
أمّا الحالات الاستثنائيّة للتحريم فقد ذكر الفقهاء بعضاً منها في كتبهم الفقهيّة وأفتوا بحلّيتها انطلاقاً من الأدلّة الشرعية من الكتاب والسُنّة.
1 ـــ المتجاهر بالفسق، وهو الذي يرتكب المعاصي جهاراً دون أن يحاول التستُّر فيها، فلا حرج علينا في غيبته، لأنَّ تجاهره بالتمرُّد على الله يفقده حقّه في احترام حياته ما دام لم يحترم ربّه.
وقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:
"إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة".
وربّما يرى البعض خروج هذه الحالة عن الغيبة أساساً، لأنّها تمثّل ذكر العيب المستور، والتجاهر يتنافى مع الستر.
2 ـــ الظالم لغيره، فيجوز للمظلوم غيبته.. وذلك، لقوله تعالى:
{لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} [النساء : 148].
وقد نجد في بعض النصوص الدينية اعتبار إساءة ضيافة الضيف ظلماً له ومبرّراً للتحدّث عنه.
فقد جاء في تفسير العياشي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) حول الآية المتقدّمة، قال:
"من أضاف قوماً فأساء ضيافتهم فهو ممّن ظلم فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه".
ولعلَّ السبب في ذلك هو أنّنا لو منعنا المظلوم من التحدُّث عن ظلمه لأغلقنا عليه باب الانتصار لنفسه، أو الأخذ بحقّه من ظالمه.. وفي ذلك حرجٌ كبير عليه من جهة، وظلمٌ له من جهةٍ أخرى.
ثمّ... إنَّ السلبية في هذا الجانب تقتضينا احترام الظالم في ظلمه وتشجيعه عليه وهذا مناف لسماحة الإسلام وعدله وانطلاقه في إثارة الحرب ضدّ الظلم والظالمين.
وقد جاءت الآية الكريمة التي توضح هذا المعنى ـــ بالإضافة إلى الآية السابقة ـــ :
{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ*إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 41 ـــ 42].
3 ـــ نصح المؤمن.. فتجوز الغيبة بقصد النصح فيها إذا توقّفت النصيحة عليها، كما إذا استشار إنسان إنساناً في تزويج امرأة أو في شراكة شخص، أو الارتباط به في أيّ جانب من جوانب الارتباط، ولم يكن للمستشير مصلحة في ذلك، لنقص في المرأة يعقّد له حياته، أو عيب في الشريك يفسد ماله، أو مفسدة، في هذا الارتباط أو ذلك.. فإنّنا ـــ في هذه الحالة ـــ نستطيع التحدّث عن ذلك ـــ لو لم يكن هناك مجال آخر ـــ وإنْ لزم منه إظهار عيوب هؤلاء بل لا يبعد جواز ذلك ـــ في نظر بعض الفقهاء ـــ ابتداءً بدون طلب أو استشارة إذا علمنا بترتّب مفسدة كبيرة على ترك النصيحة.
ولعلَّ الأساس في هذه الفتوى هو الأخبار الكثيرة التي تدلّ على لزوم النصيحة للمؤمن ـــ وقد تقدَّم بعضها فيما قدّمنا من حديث.
4 ـــ إذا قصد المتحدّث بالغيبة ردع المغتاب عن المنكر فيما إذا لم يمكن الردع بغير ذلك. فإذا علمنا أنَّ شخصاً يشرب الخمر أو يسرق الناس مثلاً، وكان متستِّراً في ذلك، ولم نستطع ردعه عن الجريمة أو المعصية إلاَّ بالتشهير به والتحدُّث عنه بذلك أمام الناس، لأنَّ ذلك يشقّ عليه، فيتركه ليستردّ كرامته ويحفظ نفسه.. فيجوز اغتيابه بل قد يجب، لما دلّ على وجوب النهي عن المنكر بأيّ أسلوبٍ من الأساليب الممكنة.
5 ـــ إذا خيف على الدين أو الوطن من الشخص المغتاب فيجوز غيبته دفعاً لهذا الضرر وذلك في الحالات التي نعلم فيها بإنسان يتجسَّس لمصلحة العدوّ، أو يدعو إلى أفكار مبتدعة أو نحو ذلك ممّا يضرّ بالدين أو الوطن، فإنّه يجوز لنا أن نعمد على كلّ أساليب التشهير التي تفقدهم الثقة والاحترام لدى الناس، فيبطل بذلك أثرهم في الحياة الاجتماعية.
أمّا الأساس في هذا الحكم الشرعي، فهو أهمية دفع الضرر عن الدين أو الوطن، من الإضرار بسمعة إنسانٍ مبدع أو جاسوس وفضحه بين الناس... وهذه قاعدة عامّة يذكرها علماء الأصول... وهي أنّ كلّ حالة من الحالات التي يتزاحم فيها حكمان متنافيان لا يقدر المكلّف على امتثالهما معاً، فيرجّح ما كانت المصلحة فيه أهمّ في الواجبات، أو ما كانت المفسدة فيه أعظم في المحرَّمات.
وقد نستفيد ذلك من الحديث النبويّ الذي نقله الإمام جعفر الصادق (عليه السلام):
قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم كيلا يطمعوا (أو يطغوا) في الفساد في الإسلام ويحذّرهم الناس ولا يتعلَّموا من بدعهم يكتب الله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات".
6 ـــ إذا كان هناك خوف على حياة الشخص الذي تغتابه، أو كان هناك ضرر كبير لا تستطيع دفعه عنه إلاَّ بالتشهير به، فإنّه يجوز لنا اغتيابه حفظاً لنفسه فإنَّ مصلحة حفظ النفس أعظم من مفسدة الغيبة.
7 ـــ جرح الشهود... فإذا كانت هناك دعوى قضائية، وجاء المدّعي بشهود فاسقين لا يعرف فسقهم، فيجوز لمن يعرف ذلك عنهم أن يذكر ذلك عنهم لئلا يقضي الحاكم بشهادتهم، "فإنَّ الإجماع دلّ على جوازه، ولأنَّ مصلحة عدم الحكم بشهادة الفسَّاق أولى من الستر على الفاسق ومثله بل أولى بالجواز جرح الرّواة فإنَّ مفسدة العمل برواية الفاسق أعظم من مفسدة شهادته ويلحق بذلك الشهادة بالزنا وغيره لإقامة الحدود".
8 ـــ ردّ من داعى نسباً ليس له... فإنَّ مصلحة حفظ الأنساب أولى من مراعاة حرمة المغتاب.
9 ـــ نقد آراء الآخرين، وإن استلزم ذلك نقصاً في أصحابها كسوء الفهم وغيره، إذا توقّف حفظ الحقّ وإضاعة الباطل عليه(1).
ويحاول الشيخ مرتضى الأنصاري ـــ أحد العلماء الكبار في الفقه والأصول ـــ أن يعفينا من تعداد الحالات الاستثنائية، فيرسم لنا القاعدة الكليّة التي يلزمنا مراعاتها في كلّ حالة لنعرف مورد الحلال من الحرام فيقول ـــ في كتاب المكاسب المحرَّمة ـــ :
"إنَّ المستفاد من الأخبار المتقدّمة وغيرها أنّ حرمة الغيبة لأجل انتقاص المؤمن أو تأذّيه منه، فإذا فرض هناك مصلحة راجعة إلى المغتاب" الذي يحدث بالغيبة أو الذي يتحدّث عنه، أو إلى شخص دلّ العقل والشرع على كونها أعظم من مصلحة احترام المؤمن بترك ذلك القول فيه وجب كون الحكم على طبق أقوى المصلحتين كما هو الحال في كلّ معصية من حقوق الله وحقوق الناس.
ولهذا فإنَّ "الضابط في الرخصة وجود مصلحة غالبة على مفسدة هتك احترام المؤمن، وهذا يختلف باختلاف تلك المصالح ومراتب مفسدة هتك المؤمن فإنّها متدرّجة في القوّة والضعف، فربّ مؤمن لا يساوي عرضه شيئاً من المصالح فالواجب التحرّي في الترجيح بين المصلحة والمفسدة"(2).
وهكذا، نعرف ـــ مرونة الإسلام في التشريع، فإذا كان التشريع منطلقاً من مصلحة الإنسان في الحياة، فلا بدّ أن تلاحق الشريعة المصلحة أين كانت، فلا تتجمَّد أمام حالة من الحالات بل تنطلق في حياة الإنسان خيراً وسلاماً وبركة من أجل أن يعيش الإنسان حياته في راحة وطمأنينة وكرامة بين يديّ الله في الدُّنيا قبل الآخرة.
[10]
النقد في نطاق تقييم الآخرين
هذا هو الوجه الآخر للنقد، الذي نواجه معه الحاجة الملحّة إلى التطلُّع في حياة الناس من أجل الوصول إلى فهمٍ دقيق واسع لها، ومعرفة عميقة لهم، ليكون تعاملنا معهم على أساسٍ واضح متين، لا ينطلق من النظرة الساذجة، ولا يخضع للحكم السريع، ولنحصل ـــ من خلال ذلك ـــ على معرفة صحيحة للمجتمعات التي نعيش فيها، ونتحرّك معها.. فإنَّ دراسة طبيعة الأفراد الذين يتألَّف منهم المجتمع هو السبيل الأمثل للحركة الواعية في الحياة، لأنَّ أيّ حركة لا تخضع للحسابات الدقيقة لأجواء العمل وأشخاصه وأوضاعه، لا يمكن أن تسير في الاتجاه السليم أو تنتهي إلى أهدافها بسلام.
وقد لاحظنا في الكثير من النصوص الدينيّة، الإشادة بهذا الجانب من النقد في حياتنا العملية، وذلك بإثارة التساؤل والفضول في نفس الناقد، حول الجوانب الخفيّة التي تحتاج إلى دراسة وخبرة عميقتين، لئلا يصدر في حكمه عن اللّمحات السريعة التي قد يواجهها في بادئ الرأي.
وقد اختلفت أساليب هذه النصوص في هذا المجال.. فنجد بعضها يتّجه إلى الحديث عن النماذج البشرية التي تبدو في مظهرٍ معيّن يوحي بالثقة، ويبعث على الاطمئنان ولكنّها لا تلبث أن تنكشف عن موقف مضادّ تماماً، أمام التجربة الحاسمة التي تكشف عن الخفايا الدفينة في النّفس، وتعبّر عن الصفة الحقيقيّة التي لم تستطع الاختباء طويلاً أمام المظاهر الخادعة.
ونجد بعضها يتّجه اتجاهاً آخر.. فيحاول تفسير كثير من المظاهر الطيّبة بأكثر من وجه.. الأمر الذي لا يجعلها معبّرة تعبيراً حاسماً عن المعاني الطيّبة، ما دامت تلتقي مع المعنى الخبيث في بعض الحالات، ومع المعنى الطيّب في بعضها الآخر.
النقد أمام النماذج المزيّفة من الناس
ففي الأسلوب الأوّل: نلتقي بالآية الكريمة:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج : 11].
فهي تصوِّر لنا بعض النماذج الحيّة التي لا يتمثّل الإيمان في حياتها إلاَّ من خلال الحياة الطيّبة الرخيّة التي يسير معها الإنسان.. فما دام الإيمان لا يقترب في مسؤوليّاته وفي نتائجه مع هذه الحياة.. فليس هناك ما يوجب التنازل عنه، وليس لديه ما يمنع من السير معه.
أمّا إذا جاءت التجربة من خلال مواجهة الإيمان المسؤوليّة، فاقترب الإيمان من الحياة ليثير فيها المشاكل، وليخلق لها المتاعب، وليبعث معها بعضاً من الخسائر وبعضاً من الآلام.
أمّا إذا حاولت الفتنة أن تمتحن هذا الإيمان، أو تختبر حقيقة هذا الإنسان فلا يبقى هناك إيمان ولا مؤمنون، بل هو الانقلاب على الأعقاب والخسران المبين الذي يلاحق الإنسان معه مصالحه وملذّاته بعيداً عن الإيمان ومسؤوليّاته، والحقّ ومتاعبه.
إنَّ هذه الصورة الحيّة تثير في أنفسنا الوعي نحو الأشخاص الذين نلتقيهم فلا ننخدع بمظاهر الإيمان، ولا نحكم عليهم بمجرّد ذلك قبل أن ننطلق بعيداً مع التجربة الواعية التي تنقد كلّ عمل نقداً عميقاً حتّى تنفذ إلى داخله لتكتشف ما فيه من حقيقة وأصالة.
ونلتقي ـــ مع هذا الأسلوب ـــ بالآيات التالية:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ*وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ*وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204 ـــ 206].
ففي هذه الآيات نجد صورة الإنسان الذي يستخدم فصاحته وبلاغته في إغراء الناس بالوعود المعسولة، والأحلام الجميلة مستعيناً بالإيمان المغلظة، شاهداً على ما في قلبه، بكلّ حرارة واندفاع، حتّى إذا وصل إلى غايته، وحصل على هدفه، تكشَّفت نفسه عن دخائلها الخبيثة، وانطلق يعبث ويفسد في عباد الله وبلاده، دون أن يُلقي بالاً إلى موعظةٍ أو تحذير أو تذكير، بل تأخذه العزّة بالإثم فيرى نفسه فوق الموعظة والواعظين.
إنَّ هذه الصورة تضع أيدينا على كثير من النماذج البشرية التي نلتقي بها على مستوى السياسة أو الدين أو الاجتماع، فتثير في نفوسنا الشكّ في وعودها وفي أقوالها مع الآخرين، بل لتخلق فينا طبيعة الحذر والبحث عن الأُسس المتينة التي تبعث على الثقة وتوحي بالاطمئنان بعيداً عن كلّ مظهر خادع أو كلام ساذج.
أمّا قيمة هذا الأسلوب الذي يتمثّل في الآيات الكريمة المتقدّمة، فهي في إعطاء الشواهد الحيّة من الحياة على خطأ الأُسس النقدية التي ينطلق معها الناس في تقييم الآخرين فيسيئون ـــ من خلال ذلك ـــ إلى أنفسهم وإلى الحياة.. ومن ثمّ يتّجه إلى توجيه الإنسان إلى النقد الواعي المرتكز على الأُسس التي تبتعد عن الانحراف والخطأ في أكثر الحالات.
النقد أمام المظاهر الخادعة في الحياة
وأمّا الأسلوب الثاني، الذي يحاول تفسير المظاهر الطيّبة بأكثر من معنى ليثير الحذر أمامها قبل التسرُّع بإصدار الحكم على أساسها، فنلتقي فيه ببعض النصوص الدينية المأثورة عن بعض أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).
ففي الحديث عن الإمام عليّ (عليه السلام) ويروى أيضاً عن النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال:
"لا تَنظُروا إلى كَثْرَةِ صَلاتِهِم وَصَومِهِم وَكَثْرَةِ الحَجِّ وَالمَعرُوفِ وَطَنطَنَتِهِم بِالَّليلِ، أنظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة".
وفي حديثٍ آخر عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام):
"لا تغترّوا بكثرة صلاتهم ولا بصيامهم فإنَّ الرّجل ربّما لهج بالصلاة والصوم حتّى لو تركه استوحش ولكن اختبروهم بصدق الحديث وأداء الأمانة".
ففي هذين الحديثين نجد الرفض الحاسم للمقياس المعروف لدى الناس في تقييم إيمان الشخص ودينه، انطلاقاً من كثرة الصلاة والصوم وممارسته الدائمة لبقيّة الأعمال العبادية وإقباله على المعروف وأعمال الخير.
أمّا السبب في هذا الرفض، فهو خضوع كثير من هذه الأعمال إلى العادة التي نشأ عليها هذا الإنسان، فهو ينطلق من الشعور بالألفة معها، وبالوحشة في حالة تركها، لا من أساس ديني عميق من الإيمان والإخلاص، فهي لا تعبّر عن الجذور الأصيلة في الداخل ولذلك فإنّها لا تصلح أساساً للتقويم وللاختبار، بل لا بدّ من اتّباع مقياسٍ آخر لا يخطئ في أغلب الحالات، وهو الصدق والأمانة، لأنّهما ينطلقان من جذور الارتباط بالحقّ لاسيّما إذا كانا ضدّ مصلحة الإنسان العادية.
الإمام زين العابدين يخطِّط للنقد
ونلتقي ـــ مع هذا الأسلوب ـــ بحديثٍ آخر عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام):
"إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وتمادى في منطقه وتخاضع في حركاته، فرويداً لا يغرّنكم، فما أكثر مَن يعجزه تناول الدّنيا وركوب الحرام منها لضعف نيّته ومهانته وجبن قلبه فنصب الدُّنيا فخّاً لها، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإنْ تمكَّن من حرام اقتحمه وإذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام فرويداً لا يغرّنكم فإنَّ شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من يتأبَّى عن الحرام، وإنْ كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرماً".
فإذا رأيتموه كذلك فرويداً لا يغرّنكم حتى تنظروا عقدة عقله فما أكثر مَن ترك ذلك أجمع.. ثمّ لا يرجع إلى عقلٍ متين فيكون ما يفسده بجهله أكثر ممّا يصلحه بعقله.
فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغرّنكم حتّى تنظروا ليكون هواه على عقله، أم يكون عقله على هواه، وكيف محبّته للرياسات الباطلة وزهده فيها فإنَّ في الناس مَن يترك الدنيا للدنيا ويرى أنّ لذّة الرياسة الباطلة أفضل من رياسة الأموال والنِّعَم المباحة المحلَّلة فيترك ذلك أجمع طلباً للرياسة، حتّى إذا قيل له: اتَّقِ الله، أخذته العِزّة بالإثم فحسبه جهنَّم ولبئس المهاد، فهو يخبط عشواء، يقوده أوّل باطله إلى أبعد غايات الخسارة، ويمدّ به بعد طلبه لما لا يقدر في طغيانه، فهو يحلُّ ما حرَّم الله، ويُحَرِّم ما أحلَّ الله، لا يبالي ما فات من دينه، إذا سلمت له الرياسة التي قد شقي من أجلها. فأولئك الذين غضب الله عليهم وأعدَّ لهم عذاباً أليماً.
ولكنَّ الرجل كلّ الرجل الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله وقواه مبذولة في قضاء الله يرى الذلّ مع الحقّ أقرب إلى عزّ الأبد مع العزّ في الباطل، ويعلم أنَّ قليل ما يحتمله من ضرَّائها يؤدّيه إلى دوام النعيم في دارٍ لا تبيد ولا تنفد، وأنَّ كثيراً ممّا يلحقه من سرَّائها إن اتَّبع هواه يؤدّيه إلى عذابٍ لا انقطاع له ولا زوال، فذلك الرجل فتمسَّكوا به واقتدوا بسنّته وإلى ربّكم توسَّلوا به فإنّه لا تردّ له دعوة ولا يخيب في طلبه.
ففي هذا الحديث تحليل دقيق للدوافع المتنوِّعة التي تختفي خلف المظاهر الطيّبة للإنسان، ومحاولة بارعة لتخطيط الأُسس النقدية التي يرتكز عليها الحكم على طبيعة الأشخاص وذلك بملاحقة جميع هذه الدوافع والانتقال من بعضها إلى البعض الآخر حتّى يستنفدها بأجمعها، ليخرج ـــ بعد ذلك ـــ بالحكم الصحيح المستند إلى محاكمة واسعة دقيقة، وتحليل بارع عميق.
ولعلَّ ذلك كلّه يرجع إلى أنَّ الإسلام يريد للإنسان أن يبتعد عن السذاجة والسطحية في نظرته إلى الناس وتقييمه لهم، لأنَّ ذلك يسيء إلى طبيعة علاقاته العملية بهم، وإلى فهمه للجوّ الذي يعيش فيه، ممّا يجعله يعيش الفوضى والارتباك في حياته، وحياة الآخرين، بما تفرضه السذاجة من تأييد لمن لا يستحقّ الرّفض وتعاطف مع بعض المواقف التي لا تنسجم مع مصلحة الأُمّة ومستقبلها في جميع جوانب الحياة العامّة والخاصّة:
"مَا لي سَلَبْتَنِي مُناجاتَكَ إِذا أَنا ناجَيْتُ، مالِي كُلَّما قُلْتُ قَدْ صَلُحَتْ سَرِيرَتِي وَقَرُبَ مِنْ مَجالِسِ التَّوّابِينَ مَجْلِسِي، عَرَضَتْ لِي بَلِيَّةٌ أَزالَتْ قَدْمِي وَحالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ خِدْمَتِكَ؟
سَيِّدِي لَعَلَّكَ عَنْ بابِكَ طَرَدْتَنِي، وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي مُسْتَخِفّاً بِحَقَّكَ فَأَقْصَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأيْتَنِي مُعْرِضاً عَنْكَ فَقَلَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ وَجَدْتَنِي فِي مَقامِ الكاذِبِينَ فَرَفَضْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي غَيْرَ شاكِرٍ لِنَعْمائِكَ فَحَرَمْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَنِي مِنْ مَجالِسِ العُلَماءِ فَخَذَلْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي فِي الغافِلِينَ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي آلِفُ مَجالِسَ البَطَّالِينَ فَبَيْنِي وَبَيْنَهُمْ خَلَّيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ لَمْ تُحِبَّ أَنْ تَسْمَعَ دُعائِي فَباعَدْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ بِجُرْمِي وَجَرِيرَتِي كافَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ بِقِلَّةِ حَيائِي مِنْكَ جازَيْتَنِي".
فنحن نجد في هذه الفقرات أنَّ الإنسان يجابه موقفاً داخلياً روحيّاً، وهي أنّه لا يحاول الاقتراب من الله بالصلاة والمناجاة، إلاَّ ويجد المعوّقات أمامه من الكسل والنُّعاس وفقدان الروح التي تتّصل بالله بخشوع.
ثمّ نلتقي بموقفٍ آخر يستسلم فيه الإنسان إلى رغبة ذاتية بالنظافة الروحية من الداخل بإصلاح السريرة، والتوبة إلى الله من كلّ قلبه،.. ولكنّه يجد المزالق أمامه في الطريق لتنحرف به عن القصد، ويواجه العقبات التي تحول بينه وبين الانطلاق بعيداً في اتّجاه الخير وإصلاح النَّفس.
إنّه يواجه هاتين الحالتين، ويحاول أن يبحث لهما عن تفسير يبرّرهما، ليعرف أين تكمن المشكلة، فيعرف أين يكون الحلّ.
وهنا يبدأ عملية استعراض جميع الجوانب التي تصرف الإنسان عن الخير وتحول بينه وبين ربّه... ليحلِّلها تحليلاً دقيقاً ويحاكم هذا الواقع من خلالها ـــ لينتهي إلى النتيجة الحاسمة التي تتمثّل في بدء عملية التصحيح من خلال الجذور العميقة التي تتّصل بالمشكلة.
ولعلَّ هذه الطريقة هي أفضل الطرق التي يعتمد عليها أسلوب النقد الذاتي، لأنّها ترتكز على الاستقراء الكامل الذي لا يترك جانباً يرتبط به الواقع أو تتّصل به الظاهرة، إلاّ ويحاول إبرازه بوضوح.
وربّما يجد الباحث الكثير من هذه النماذج في الأدعية المأثورة التي يتحوَّل فيها الإنسان إلى ناقد واعٍ ينقد نفسه وحياته بين يديّ الله، بكلّ إخلاص وروحانيّة وخشوع.
وقد أفاض علماء الأخلاق الإسلاميون في الحديث في موضوع النقد الذاتي تحت عنوان محاسبة النّفس، ومراقبتها، وتركوا لنا الكثير من التجارب العملية، والأساليب المتنوّعة، التي تعطي للإنسان نظرة واعية للطريقة التي يمكنه فيها ممارسة هذا المبدأ في حياته ولا بأس بمراجعة كتاب إحياء العلوم للغزالي وجامع السعادات للنراقي وغيرهما من كتب الأخلاق.
النقد الذاتي في الإسلام
أ ـــ ما هو النقد الذاتي؟
النقد الذاتي: هو نقد الفرد نفسه، أو نقد الأُمّة أو بعض قطاعاتها الاجتماعية نفسها.. وذلك، بالتحليل العميق الواعي، من أجل تحديد مواطن النقص، وأسباب العجز والمؤثّرات المؤدّية إلى وجود العيوب والنقائص.
ويتمثّل ذلك في الفرد، في تحليل الدوافع الذاتيّة للعمل من جهة، وتحديد المؤثّرات الخارجية التي شاركت في اتّخاذ هذا الموقف أو ذاك.
فقد يستسلم الإنسان لموقف تأييد لبعض الأشخاص، أو رفض لبعضٍ آخر، وقد يكون هذا الموقف محاطاً ببعض الجوانب الخاصّة من جهة، وببعض الجوانب العامّة من جهةٍ أخرى.
فإذا أراد أن يعرف قيمة عمله من الداخل فبإمكانه تحليل الدوافع الخفيّة التي شاركت في اندفاعه للعمل، فقد يكتشف الصفة الخاصّة، وهو يتخيَّل انطلاقه من الصفة العامّة، وقد يكون هذا الموقف واقعاً تحت رحمة مؤثّرات عديدة، ولا يعرف الإنسان السبب الأعمق في التأثير، فيكتشفه بعد التحليل، ليكتشف طبيعة المؤثّرات الخارجية التي تضغط على إرادته.
مثل ذلك في الأُمّة، فبتحليل المواقف الكبيرة التي تقفها من الأحداث، أو الأحداث التي تقتحم حياتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتؤدّي بها إلى تقدّم أو تأخُّر، وتقودها إلى هزيمة أو انتصار.. فقد تختلط المؤثّرات، وتتشابك الأسباب.. ويأتي دور النقد الذاتي الذي يحلّل ذلك كلّه من خلال تحليل الأفراد المسؤولين أعمالهم، وتحديد المؤثّرات العامّة والخاصّة، وأسباب الرّبح والخسارة، ومواطن النجاح والفشل.. وللوصول إلى معرفة أعمق، وفهم واسع لطبيعة الموقف وأبعاده.
ب ـــ حاجتنا إلى النقد الذاتي
تنبع حاجتنا إلى النقد الذاتي من حاجتنا إلى فهم أنفسنا في أبعادها الداخلية والخارجية، وإلى فهم واقعنا بكلّ ما يشتمل عليه من ظواهر وحركات، فإنَّ الإنسان الذي لا يعرف نفسه لا يملك معرفة وجهة حياته، لأنّه لا يدري من أين تنطلق خطاه، وإلى أين تسير.. فهل تنطلق من قاعدة المنفعة الذاتية، أو من واقع الرسالة العامّة؟
وهل تتّجه إلى القمّة أو تنحدر إلى الحضيض؟
فقد يختلط الأمر على الإنسان، فيخيَّل إليه أنّه يسير على أساس الحقّ في لحظات الانفعال المرتجل، ولكنّه إذا فتَّش نفسه، اكتشف أنّه يسير على أساس ذاتي محض، لا يتّصل بالحقّ من قريب أو بعيد، لأنّ الدوافع الحقيقيّة للحركة لا تطفو على سطح، بل تستقرّ في أعماق النفس ودهاليز الشعور، بشكلٍ لا شعوري، فلا تظهر إلاّ للبحث العميق الذي يفتّش ويحلِّل ويحاكم.. وتبقى الدوافع تعطي للعمل طابعه الظاهري الذي يخدع الأعين التي يبهرها السراب.
وهكذا قد نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام الواقع الذي نتخبَّط فيه ونعيش في أجوائه سواء أكان واقعاً دينياً أو أساسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً، فقد يخضع فهم هذا الواقع لتفسيرات سطحية مرتجلة ناشئة عن النظرة الارتجالية التي تستسلم للأسباب القريبة الجاهزة التي تبدو للعين من أوّل نظرة، دون أن تكلّف نفسها عناء البحث عمّا وراء ذلك من أسباب، أو تتعرَّف إلى الجوانب البعيدة التي ساهمت في ولادة هذه الظاهرة أو نشوء هذا الواقع.
أمّا خطر ذلك، فيتمثّل في تشويه الصورة الحقيقيّة للمشكلة في ظلّ الواقع، ممّا يسبّب بعداً عنها وعن الحلول العملية الصحيحة لها.. فربّما يكون الدّاء في جانب، وتكون المعالجة لجانبٍ آخر وربّما ترتبط المشكلة بأكثر من جهة، ويكون الحلّ منطلقاً من جهة واحدة.. وهكذا تضيع الخطوط التي يسير عليها الإنسان في الوصول إلى فهم الواقع أو حلّ مشكلته.
ولن يختلف الأمر في هذا الموضوع ـــ بين أن يكون الموقف على مستوى واقع الفرد، وبين أن يكون على مستوى واقع المجتمع أو الأُمّة بشكلٍ عام، لأنَّ كلاًّ منهما يرتكز على أساس طبيعة الفهم الحقيقي الذي يشارك في علاج الواقع، أو الفهم الخاطئ الذي يساهم في تعقيده وإرباكه من جديد.
فهناك بعض الحالات التي تعيش فيها الأُمّة بعض الهزائم أو الانتصارات، فتحاول دراسة الأسباب التي هيَّأت للهزيمة، أو شاركت في النصر... فإذا انطلقت من خلال النظرة السطحية التي تحاول أن تنظر إلى الجوانب الظاهرية للأمور كانت النتيجة ابتعاداً عن القضية، وعن الحلّ الصحيح للمشكلة، أو عن الدرس العملي الذي نستفيده منها للمستقبل، فقد نرجع النصر إلى القوّة الذاتية التي كنّا نملكها في المعرفة، ونغفل بقيّة الأسباب التي قد يكون من بينها الموقف السياسي العالمي أو الإقليمي الذي استطاع أن يعطي بعض الفرص، أو يخلق بعض المؤثّرات وستكون النتيجة أنّنا سنعتبر القوّة كلّ شيء، فيخيَّل لنا أنّها الأساس الذي ترتبط به معارك المستقبل المماثلة. كما ارتبطت به معارك الماضي، فنتصرَّف على هذا الأساس بينما يكون الموقف السياسي مختلفاً كلّ الاختلاف عن الموقف في المعركة الماضية.
وربّما يكون للظروف الخاصّة الداخلية والخارجية، التي يعيشها العدوّ المهزوم بعض الأثر في هزيمته.. فإذا لم ندخلها في حسابنا ـــ في حالة تحليل الواقع ـــ فستكون النتيجة لمصلحته في الجولة القادمة عندما تتغيَّر ظروفه التي ساهمت في انتصارنا أو في هزيمته.
أمّا في حالة الهزيمة، فقد نسيء فهم الأسباب التي شاركت فيها، فنرجع السبب إلى ظروف خارجة عن إرادتنا أو قدرتنا، في محاولة ساذجة للتبرير، تعتمدها الشعوب المهزومة في عملية ساذجة لحفظ ماء الوجه، أو إيحاءٍ ببقايا الكرامة.
ومن الطبيعي أنّ ذلك سوف يخفي عن الأسباب الحقيقيّة التي تكمن في تصرُّفاتنا العملية في واقعنا الفكري والسياسي والاجتماعي، فربّما يكون لها أكبر الأثر في ذلك كلّه، دون أن نلتفت إليها أو نحسب لها أقلّ حساب.
ولن نحتاج إلى جهد فكري كبير لنفهم أنّ ذلك سوف يكرّس الهزيمة للمستقبل، كما كرَّسها للماضي لأنَّنا سوف نظلّ حيث نحن نراوح أقدامنا في مواقع الهزيمة وبدايات الطريق نتطلَّع إلى خارج قدراتنا وإرادتنا، بعيداً عن الواقع الداخلي الذي ترقد في أعماقه الهزيمة.
وربّما تتمثّل الحاجة إلى النقد الذاتي في دراسة بعض الأوضاع التي درجنا على ممارستها في شؤون الدين والدنيا، انطلاقاً من عادات قديمة، أو تقاليد مستحكمة، أو نظرة خاطئة تجد في هذه الأوضاع الشاذّة ضماناً لقِيَم معيّنة، أو مبادئ كبيرة، وترى أنَّ زوال هذه الأوضاع يشكِّل خطراً على تلك القِيَم والمبادئ ـــ كما نراه في الكثيرين الذين يصرُّون على إبقاء المظاهر المتخلِّفة لبعض الممارسات التي اصطبغت بصبغة دينية أو اجتماعية، بحجّة أنّها هي التي تحفظ للمجتمع عقيدته أو توازنه أو ارتباطه بالقِيَم، فإذا فقدناها فقدنا هذه الضوابط التي يحتاجها المجتمع في حياته الدينية والاجتماعية.
ربّما نحتاج إلى النقد الذاتي ـــ في هذه الحالة ـــ لنعرف كيف نشأت هذه الأوضاع، وكيف انطلقت جذورها لتفرض وجودها على الدين والمجتمع، ثمّ لندرس تأثيرها العكسي على الواقع الديني أو الاجتماعي بما تمثّله من مظاهر التخلُّف.. ثمّ لنتعرَّف ـــ من خلال فهمنا لواقعنا المعاصر، كيف يمكننا الحصول على ضوابط جديدة بعيدة عن التخلُّف، لتحفظ للمجتمع عقيدته وتوازنه وتساهم في التوفيق بين طبيعة الوسيلة وبين طبيعة الغاية في مستوى الممارسة.
وهكذا نخلص ـــ من خلال هذا العرض الموجز ـــ إلى نتيجةٍ حاسمة: وهي أنَّ حاجتنا إلى النقد الذاتي، تنبع من حاجتنا الملحّة إلى أن نكتشف في ذواتنا وفي حياتنا، وأقوالنا وأفعالنا مواطن القوّة، ومراكز الضعف، ونتعرَّف أسباب ذلك كلّه، لنستطيع تطوير ما يمكن تطويره من مراكز القوّة، وإكمال ما نستطيع إكماله من مواطن النقص، وتقوية ما نقدر على تقويته من حالات الضعف.
وربّما نحتاج إلى النقد الذاتي في الحالات التي يتعرَّض فيها الإنسان إلى بعض الأوضاع الاجتماعية التي تتضخَّم فيها شخصيّته، وترتفع مكانته، بفعل المؤثّرات الخاصّة التي تعطي الشخص أكثر من قيمته.. فقد يخيَّل إليه ـــ في لحظات الانفعال العاطفي ـــ أنّه يملك هذه الشخصية، ويرتفع إلى هذا المستوى، فيقع ضحيّة غرور ذاتيّ يؤدّي به إلى الهلاك في النهاية.
وربّما نشعر بقيمة النّقد الذاتي في هذه الحالة.. بالنظر إلى أنّه ينفتح به على واقع حياته كما هو، فيلتفت إلى مواهبه، وكفاءاته ليعرف حجم شخصيّته على الطبيعة دون زيادة أو نقصان، لينطلق إلى الحياة من خلال ذاته، لا من خلال الورم الذي يتراكم عليها بلا معنى ودون حساب.
وقد نلمح الدعوة إلى هذه الممارسة في دعاء من أدعية مكارم الأخلاق:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَلَا تَرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَةً إِلَّا حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، وَلَا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِراً إِلَّا أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا".
فنحن نلاحظ أنّ الدعاء يهدف إلى أن يلتفت الإنسان إلى مواطن الضعف التي تنزل بميزان نفسه إلى واقعها الطبيعي بعيداً عن مظاهر الرفعة الظاهرة، لئلا يختلّ التوازن في واقع حياته، كما يدعو إلى أَلاَّ تشغله مظاهر العزّ التي يحصل عليها من خلال نشاطاته ومواهبه عن مواطن النقص التي توحي له باستشعار التواضع والذلّة في نفسه، كنتيجة طبيعيّة لذلك.
وقد نلمح ذلك فيما يروى عن الإمام عليّ (عليه السلام) عندما كان يواجهه بعض الناس بالمدح والثناء أنّه كان يقول:
"اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي خَيْراً مِمَّا يَظُنُّونَ وَاغْفِرْ لِي مِمَّا لَا يَعْلَمُونَ".
فنلاحظ أنّ المدح لم يصرفه عن النظر إلى الجوانب الأخرى التي تكمن بعيداً عن نظر الناس في داخل ذاته.
ولن يختلف هذا الأسلوب بين الحالة التي يخلص الناس له فيها بالمدح عن اعتقادٍ بصلاحه وبين الحالة التي يحاولون أن يتزلَّفوا إليه، أو يخدعوه عن نفسه، لأنّه ـــ في كلا الحالتين ـــ يتعرَّض لخطر الغرور الذي يؤدّي به إلى فقدان التوازن في حياته، وهذا ما لا يريده الإسلام.
وقد نجد مثل هذا النموذج في واقع الهيئات والمنظّمات السياسية والاجتماعية التي تنطلق ـــ في البداية ـــ نحو أهدافها العملية باتّزان واستقامة، فيحاول أعداؤها تفجيرها من الداخل، بأسلوب التضخيم المتطرِّف لنشاطاتها العادية، والتركيز على قيادتها بتسليط الأضواء على شخصيّاتهم بدون ميزان، لينتهي الأمر ـــ بعد ذلك ـــ إلى الغرور والزهو الفارغ الذي يوحي لها بأنّها فوق مستوى النقد، ممّا يجعلها تعتبر الخطأ صواباً، والانحراف استقامة، والباطل حقّاً، دون التفات إلى نقد الناقدين ووعظ الواعظين وإرشاد المرشدين.. الأمر الذي يؤدّي بها إلى الوقوع في الأخطاء الكبيرة التي تجعل مقاتلها باديةً للأعداء دون مقاومة.
إنَّ عملية النقد الذاتي ـــ في هذه الحالة ـــ تمثّل جرس الإنذار إزاء هذا الواقع قبل أن يستفحل ويستعصي على المعالجة، لأنّه يكتشف الأزمة قبل أن تتعقَّد، ويرجع القافلة إلى الطريق قبل أن تبتعد كثيراً في صحارى التيه.
ولذا فإنَّ القضية ليست قضية نظرية جامدة تعيش في متاحف النظريّات، بل هي قضيةٌ عمليةٌ يواجه فيها الفرد أو الأُمّة، الواقع الحيّ على الطبيعة مجرّداً عن كلّ خيال وانفعال، من أجل التعرُّف عليه من جميع جوانبه، والعمل على دفعه نحو التقدُّم في اتّجاه المستقبل.
[12]
موقف الإسلام من النقد الذاتي
عندما نقترب من النصوص الدينيّة التي عالجت موضوع النقد الذاتي، ودعت إليه، نلاحظ أنّها بدأت في إيجاد الجوّ الداخلي له.
ولعلَّ ذلك يعتبر من الأمور الضرورية في هذا المجال، لأنَّ من غير الطبيعي أن يمارس الإنسان عملية النقد في الأجواء الذاتية التي يشعر معها بالكمال النفسي الذي يتمرَّد على النقص، ويعلو على النقد.
وعلى هذا الأساس، جاءت الآيات الكريمة التي توحي للإنسان بأنّه ليس فوق مستوى الشبهات، فهناك مواطن ضعف كثيرة تعيش في داخل نفسه وتقتحم عليه حياته.. وهذا ما تعبّر عنه الآية الكريمة في سورة يوسف:
{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [يوسف : 53]
{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم : 32]
فقد نستطيع أن نفهم من هاتين الآيتين أنّ الإسلام لا يوافق على منح النّفس الحكم بالبراءة من كلِّ سوء، ما دامت النوازع الداخلية تثير في الإنسان معاني السُّوء والشرّ والضلال، وما دام الإنسان يستجيب لها في بعض الحالات، فكيف يمكن له أن يزكّيها ويدّعي لها العصمة من كلّ نقص والسلامة من كلّ سوء.
وقد حاولت بعض الآيات أن تشير إلى بعض مواطن الضعف في الإنسان بشكلٍ صريح من أجل أن يلتفت الإنسان إلى ذلك فيحاول تحليل بقيّة مواقفه وأعماله على ضوء ذلك ويعمل على محاكمتها في هذا الاتّجاه.
وذلك كقوله تعالى:
{خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء : 37]
{وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} [الإسراء : 11]
{يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء : 28]
ثمَّ انطلقت الآيات الكريمة لتواجه الإنسان بمسؤوليّته في أعماله أمام الله سواء أكان العمل صغيراً أم كبيراً، لتثير في نفسه الشعور العميق بالحاجة إلى القيام بدور المحاسبة الدقيقة التي تفصل بين العمل الصالح وبين العمل غير الصالح.
اقرأ الآيات التالية:
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [النحل : 111]
{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات : 24]
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف : 49]
ثمَّ تنطلق الدعوة إلى النقد والتأمُّل والتفكير فيما عمل الإنسان، وفيما قدَّم، لإجراء كشف دقيق على جميع أعماله وأقواله في الدُّنيا:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر : 18]
أنّ هذه الآيات تحاول أن تهيّئ الجوّ النفسي للقيام بهذا الدور اتّجاه نفسه، ليعرف كيف يواجه الله بصدقٍ وإيمان.
وعندما نقترب من النصوص الدينية في نطاق الحديث النبويّ الشريف، وأحاديث أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) نجد الدعوة إلى المحاسبة والنقد الذاتي، واضحة صريحة مؤكّدة.
ففي الحديث النبويّ الشريف:
"حاسِبُوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبُوا، وزِنُوها قبل أن تُوزَنوا...".
وفي حديثٍ نبويٍّ آخر، في وصيّته المأثورة عنه، لأبي ذرّ:
"يا أبا ذرّ، لا يكون الرجل من المتّقين حتّى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه، فيعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أَمِنْ حلالٍ أو مِن حرام؟".
ويروى عن الإمام عليّ (عليه السلام) أنَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال:
"أكيس الكيّسين مَن حاسَبَ نفسه وعَمِلَ لِمَا بعد الموت".
فقال رجل للإمام: يا أمير المؤمنين كيف يحاسب نفسه؟
قال: إذا أصبح وأمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفسي إنَّ هذا يومٌ مضى عليكِ لا يعود إليك أبداً والله يسألك عنه بما أفنيته.
فما الذي عملتِ فيه؟ أذكرت اللهِ أم حمدته؟
أقضيت حوائج مؤمنٍ فيه، أَنَفَّسْتِ عن كربة، أحفظته بظهر الغيب في أهله وولده؟
أحفظته بعد الموت في مخلفيه؟
أكففتِ عن غيبة أخٍ مؤمن، أَأَعَنْتِ مسلماً؟
ما الذي صنعتِ فيه؟
فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنّه جرى منه خير حَمَدَ الله وكَبَّره على توفيقه، وإن ذكر معصية، أو تقصيراً استغفر الله وعزم على ترك معاودته.
ونلاحظ ـــ في هذا الحديث ـــ أنّه يطرح نموذجاً لعملية المحاسبة، ليكون أسلوباً يمارسه الشخص في العمل فقد يكون الموضوع الذي يواجه عملية الحساب فيه، ماذا عمل؟ ليكون التحليل لمفردات العمل الذي صدر منه،. أمّا إذا كان الموضوع هو دوافع العمل، فلا بدّ أن تكون النتيجة في الجواب تحديد النوازع الذاتية التي انطلق منها العمل.. وربّما تكون القضية قضية موقف خاطئ صَدَرَ منه أو شارك فيه، فينطلق السؤال في مواجهة المؤثّرات التي شاركت في الخطأ من قبله أو من قبل غيره.
وعلى أيّ حال، فليس الإمام في معرض التحديد لطريقة المحاسبة، ونوعية النقد، بل هو في مجال إعطاء النموذج لذلك، ليسير الإنسان على هداه فيما يماثله أو يشابهه من قضايا ومواقف.. وعلى ضوء هذا نعرف أنَّ هذه النصوص، وإن ركّزت على الحساب في الدنيا من أجل مواجهة الحساب في الآخرة ممّا يوحي بأنَّ المسألة ليست مسألة النقد الذاتي في نطاق حياتنا التي تعيش... إلاّ أنّنا نلاحظ فيها شمول النظرة من جانبين:
الأوّل: أنّ الحساب الذي يهدف إلى تصفية الإنسان أعماله أمام الله في الآخرة لا تنفصل عن المحاسبة في واقع حياتنا المعاش، لأنَّ حياتنا هذه، بكلّ ما فيها من خير وشرّ، أو قوّة وضعف، أو نجاح أو فشل، هي التي نحاسب عليها في الآخرة، لأنَّ لكلّ جانب من هذه الجوانب حكماً لله يراد من الإنسان تنفيذه والإخلاص له، فيثاب على إطاعته، ويعاقب عصيانه والتمرُّد عليه، سواء أكان ذلك الشيء يتعلَّق بأصل العمل، أو بنوعيّته، وأبعاده.
الثاني: إنَّ هذه الأحاديث تستهدف وضع الإنسان في جوّ النقد والمحاسبة ليسير في هذا الاتّجاه، وإذا تعلَّم الإنسان كيف يحاسب نفسه من خلال الآخرة، عرف ـــ من خلال ذلك ـــ كيف يحاسب نفسه في شؤون الدنيا، لأنَّ طريقة الحياة وأسلوبها في بعض الجوانب ينطبع على بقيّة الجوانب، فإنَّ أسلوب الإنسان في مواجهة حياته وممارستها لا يتغيَّر ولا يختلف باختلاف مفرداتها وأبعادها.
ولعلَّ أوضح كلمة تضع أيدينا على المعنى الشامل لهذا المبدأ هي كلمة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) المتقدّمة: "وزنوها قبل أن توزنوا.." فإنّها دعوةٌ إلى القيام بعملية تقييم للنّفس من الداخل والخارج قبل أن توضع في الميزان وفي عملية التقييم دون شعور.
وربّما نجد في بعض النصوص الدينيّة، الدعوة إلى أن يمارس عملية النقد فيما يقدم عليه من أعمال وما يريده من مشاريع، قبل أن يقدم عليها أو يخوض فيها.
ففي نهج البلاغة: من كلام للإمام عليّ (عليه السلام):
"فَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ وَلْيُحْضِرْ عَقْلَهُ وَلْيَكُنْ مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ مِنْهَا قَدِمَ وَإِلَيْهَا يَنْقَلِبُ فَالنَّاظِرُ بِالْقَلْبِ الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ يَعْلَمَ أَعَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ له؟".
فإنْ كان له مضى فيه، وإنْ كان عليه، وقف عنه فإنَّ العامل بغير علم كسائر في غير طريق فلا يزيده بعده عن الطريق إلاّ بعداً من حاجته، والعامل بالعلم كسائر على الطريق الواضح فلينظر ناظر، أسائر هو أم راجع؟
وقد نجد في الأدعية الكثيرة التي وردتنا في التراث الإسلامي ـــ عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) نماذج حيّة من أساليب النقد الذاتي الذي يعتمد على تحليل المواقف والظواهر من أجل الوصول إلى الأسباب التي شاركت في حدوثها، أو الجوانب التي ارتكزت عليها، أو الآفاق التي تعيش فيها.. كلّ ذلك بطريقة روحية واعية ينطلق فيها الإنسان بين يديّ الله، ليكتشف نفسه في أبعادها الخفيّة والظاهرة.
ولعلَّ من أوضح هذه النماذج الفقرات التالية في دعاء أبي حمزة الثمالي الذي يقرأ في السّحر في شهر رمضان:
"مَا لِي كُلَّما قُلْتُ قَدْ تَهَيَّأتُ وَتَعَبَّأتُ وَقُمْتُ لِلصَّلاةِ بَيْنَ يَدَيْكَ وَناجَيْتُكَ، اَلْقَيْتَ عَلَيَّ نُعاساً إِذا أَنَا صَلَّيْتُ، وَسَلَبْتَني مُناجاتِكَ اِذا أَنَا ناجَيْتُك".
خامة المطاف
وفي نهاية المطاف: نجد أنّنا نقف وجهاً أمام قضية النقد على جميع ألوانه وأقسامه، لنواجه الموقف الإسلامي الذي يدعونا إلى السير به في نطاقه الذي أراده الله، وهو الجانب الذي لا يستهدف الهدم لمجرّد الهدم، والتخريب من أجل التخريب، بل يستهدف البناء والإصلاح والتقييم وإعطاء الواقع صفته الواقعية دون زيادة ولا نقصان.
ثمّ... نلتفت إلى ذواتنا وأوضاعنا العامّة والخاصّة، لنعيد النظر فيها على أساس النقد الذاتي الذي يحلِّل للنّفس دوافعها وأعمالها، ويفتّش في الظواهر والأوضاع عن أسبابها وأبعادها، لنلتقي بالحقيقة الخالصة دون لفّ أو دوران.. ولنصل في النهاية إلى شاطئ الأمان حيث يلتقي الإنسان بالحقّ والخير والإيمان جميعاً، بين يديّ الله.
لِكُلِّ سؤالٍ جواب
• ما هو مدلول كلمة: "الدِّين أفيون الشعوب" وكيف نناقشها؟
• هل الأساس في نشأة الدّين هو حاجة الإنسان المتخلِّف إلى العزاء؟
• هل يكرّس الدين عجز الإنسان أمام الظواهر الكونية؟
• كيف يبرّر ماركس دعوة الدين إلى الانطلاق من الإيمان من خلال المعرفة؟
• هل الدين مخدّر؟
• ما هو موقف الإسلام من حوادث قتل الفتاة المنحرفة غسلاً للعار؟
س ـــ هناك كلمة مشهورة عن الدين قالها "كارل ماركس": (إنَّ الدّين أفيون الشعب)... ما هو مدلول هذه الكلمة.. وكيف نناقشها؟
ج ـــ لعلَّ أفضل تحليل دقيق لهذه الكلمة، هو التحليل الذي كتبه "هنري لوفافر" في كتابه "كارل ماركس".
ولذا فإنّنا نحاول أن ننقله بكلّ أمانة، لتكون المناقشة مناقشة علمية ترتكز على مصدر صحيح، يبعدنا عن الافتراضات التي يدعو إليها الهوى والغرض ذات اليمين وذات الشمال.
مدلول الفكرة
قال هنري لوفافر:
كتب ماركس في أحد مؤلّفاته الأولى "المساهمة في نقد فلسفة الحقوق عند هيجل": "إنَّ الدّين أفيون الشعب".
من الشائع أنَّ هذه الصيغة تعني، عن لسان ماركس، أنّ الشعب يثمل بالدين كما يثمل الإنسان بالخمرة، لكي ينسى متاعبه.
وأنَّ الشعب يُسقى هذا المهيّج لكي ينسى مطالبه ودوره السياسي العظيم.
لا شكّ أنّ هذا التفسير يتلاءم مع فكرة ماركس. غير أنّ هذه الفكرة أرفع مدلولاً، وأكثر دقّة.
ولنعد إلى قراءة الصفحة كلّها:
"الإنسان يصنع الدّين، وليس الدّين يصنع الإنسان. الدّين وعي الإنسان ذاته، أمّا حين لم يكن قد وجد ذاته بعد، وأمّا أثر فقده الذّات. والإنسان هو عالم الإنسان الدولة والمجتمع. هذه الدولة وهذا المجتمع، ينتجان الدّين وهو وعي مزوّر عن العالم لأنّه يصدر عن عالم مزوّر. والدّين هو النظرية العامّة لذلك العالم ودائرة معارفه ومنطقه الشعبي، ومفخرته الفكرية والروحية، ومجال حماسته، والبراءة التي ترضي حسّه المعنوي والأخلاقي، وشيء جليل يكمل ما يحسّه من نقص، وموضوعه الدائم الذي يجد فيه العزاء والتبرير.
إنَّ البؤس الديني لهو التعبير عن البؤس الطبيعي، والاحتجاج على البؤس الواقعي في وقتٍ معاً. الدّين زفرة الكائن المثقل بالألم، وروح عالم لم تبق فيه روح، وفكر عالم لم يبقَ فيه فكر.. إنّه أفيون الشعب"... إذن فنقد الدّين هو الخطوة الأولى لنقد هذا "الوادي الغارق بالدموع" حيث يركّز الدين هالته. إنَّ النقد ينتزع الأزهار الوهمية التي كانت تغطي أغلال الإنسان، وذلك لا ليحمل أغلالاً عاطلة من الأزهار والأحلام وإنّما ليلقي عنه أغلاله، ويقطف الزهرة الحقيقيّة الحيّة. النقد ينزع الغشاوة عن عيني الإنسان، لكي يفكّر ويملّ، ويكيّف حقيقته، كما يجدر بإنسان بلغ سنّ الرشد".
ويعلّق هنري لوفافر على هذا الكلام فيقول:
"يدلّ مجمل هذه الصفحة، بوضوح، على أنّ الدين في نظر ماركس لا يتضاءل فيقتصر على "تحمّس" فكري فظّ... وهو لا يأخذ على الدّين افتقاره إلى الجمال، وإنّما يأخذ عليه أنّه يضيف إلى الحياة جمالاً موهوماً، من شأنه أن يخلف الحياة الحقيقيّة في قبحها فلا يغيّرها. وهو لا يأخذ على الدين افتقاره إلى الروح والفكر، وإنّما يأخذ عليه أنّه ليس إلاّ روحاً وفكراً ـــ روح عالم بلا روح، وفكر عالم بلا فكر ـــ وإنَّ الدّين يحوّل الإنسان عن نفسه بإخفاء أغلال الإنسان تحت الأزهار. وكيف لا يتنهّد "المخلوق الرازح في آلامه" متضرِّعاً إلى السماء؟(1).
ونستطيع أن نفهم ـــ من خلال هذا الحديث ـــ أنَّ كارل ماركس ـــ يرتكز في فكرته عن الدّين على أساس التفسير المعروف لدى بعض المفكّرين في كيفية نشوء الدّين.. وهو أنّ ولادة التفكير الديني انطلقت من جهل الإنسان وعجزه، الذي يجعله يفكّر في وجود قوى خفيّة تحميه من الرّعب الذي يسيطر عليه إزاء القوى الطبيعيّة... ثمّ في حاجته إلى العزاء الروحي أمام حالات الألم والاضطهاد الذي يجعله يبحث عن العزاء فيما وراء الطبيعة.
وعلى ضوء هذا، فإنَّ الدّين ـــ في نظر ماركس ـــ الصورة الحقيقيّة للواقع الذي يعيشه الإنسان، فهو نتاج الواقع الذي فَقَدَ العزاء في الداخل فبدأ يبحث عنه في الخارج، وصورة العالم الذي افتقد الروح التي تمدّه بالحياة في أوضاعه العامّة، فانطلق يتلمّسها في آفاقٍ بعيدة عن حياته وأوضاعه.
ولذا فإنَّ علينا ـــ من خلال وجهة نظره ـــ أن ننطلق بعيداً في نقد الدّين بإزاحة الغشاوة التي تحجب عينيه عن حقائق الطبيعة ومؤثّراتها، وإرشاده إلى الطرق العملية للتغلُّب على مشاكلها التي تعترضه في الطريق، ليشعر بفقدان الحاجة إلى العزاء فيما وراء الغيب، ما دام قادراً على أن يجد عزاءه في هذا العالم بإزالة أسباب الاضطهاد التي اكتشفها بنفسه... وبذلك يتحرَّر من الحاجة إلى حماية القوى الخفيّة التي يفترضها خياله وتخلقها أوهامه كوسيلة من وسائل التفسير والتبرير.
وهذا هو الذي عبَّر عنه في حديثٍ آخر يقول فيه:
"يجب نقد الدّين، بل إنَّ هذا النقد لهو الشرط الأوّل لكلّ نقد..." فكيف ننقده؟ ننقده بتفسيره، وبالرجوع إلى التاريخ لكي نرى كيف ولماذا بحث "الكائن المضطهد" عن عزاءٍ له في ما وراء الطبيعة... وتحليل الشروط الواقعية للحياة الإنسانية يفسّر لنا كيف أطلق الإنسان على غيوم الغيب الخياليّة صورته الخاصّة، وما يعتلج في نفسه من مشاغل وهموم، فبدت مضخّمة مثالية، وذلك لأنَّ الوعي لا يحدّد الحياة وإنّما الحياة هي التي تحدِّد الوعي"(1).
وهكذا يكون الدّين نتيجة طبيعيّة للواقع الذي يعيشه الإنسان، انطلاقاً من الفكرة التي تقول إنّ الفكر نتاج المادّة، ليس عنصراً سابقاً لها يؤثّر فيها في نطاقه المجرّد، وعلى ضوء هذه الفكرة، يتحوّل الدّين إلى أفيون يخدّر الإنسان عن حياته ويبعد به عن مشاكله، فبدلاً من أنْ يتّجه إلى حياته ليملأها بالحقيقة الحيّة التي تقيّم أوضاعه كلّها على أساس عقلي نجده يتّجه إلى الخيال ليجعلها تعيش في نقاب صوفي غامض ـــ على حدّ تعبيره ـــ.
مناقشة الفكرة
إنّنا نحاول مناقشة هذه الفكرة من خلال عدّة علامات استفهام نثيرها حول هذه الفكرة التي قرَّرها ماركس، وتبعه عليها الماركسيون.
أ ـــ إنّنا نريد أن نتساءل عن الأساس الذي انطلق منه التفسير الذي يربط نشوء فكرة الدّين بالعجز والجهل ويفلسف الحاجة إلى الدّين بالحاجة إلى العزاء خارج نطاق الطبيعة، ليكون النقد نقداً يرتكز على أساس عملي، لا على أساس افتراضي، لأنَّ الافتراض لا يصلح أن يكون نقداً لافتراضٍ آخر.
في البداية: لا بدّ من أن تكون القضية التي تفرض نفسها على الإنسان، هي الإجابة على السؤال التالي:
هل يمكن إرجاع العقيدة الدينيّة إلى أساسٍ عقليٍّ متينٍ أو لا يمكن ذلك؟
فإذا كان الجواب إيجاباً ـــ كما يقرّره المفكِّرون الدينيون ـــ وأمكننا بذلك تبرير العقيدة الدينية من وجهة نظر عقليّة، فكيف يمكن اعتبار الأساس الوحيد فيها هو العجز والجهل والحاجة إلى العزاء... وهل تعدو المسألة على أقلّ الفروض أن تكون وقوفاً بين الاحتمالين؟
إنَّ هناك فرقاً كبيراً بين الحقيقة العلمية، وبين الافتراض العلمي... فالحقيقة العلمية تخضع للأُسس التي لا تقبل الشكّ لكي تصل إلى مستوى الحقيقة، سواء منها الأُسس المنطقية للتفكير، أو الأُسس التجريبيّة للاستنتاج.. أمّا الافتراض فهو يعبّر عن حدس مجرّد قد يخضع لملاحظات ذاتيّة، أو شواهد محدودة لا تستطيع أن تمنح الإنسان الطمأنينة واليقين.
ثمّ... كيف نفسِّر وجود العقيدة الدينيّة لدى الشعوب التي استطاعت أن تقتحم الكثير الكثير من أسرار الكون حتّى أصبحت تشعر بالثقة الكبيرة بنفسها، وبما تملك من وسائل السيطرة على الطبيعة، ولم تعد تحسّ بضرورة التعلُّق بالمجهول في فهم الظواهر الكونية أو في الشعور الذاتي بالأمن والحماية.
وإذا أرجعنا العقيدة الدينية بين هذه الشعوب المتقدّمة، إلى الرواسب التاريخيّة التي لا تزال تضغط على وجدان الإنسان وتفكيره... فكيف نفسِّر وجودها لدى الرجال الأقوياء من العلماء الذين واجهوا الكون بالشكّ من أجل أن يكتشفوه ويفهموه، وانطلقوا معه بروحية العالم الدقيق الذي يحسب لكلِّ شيءٍ حسابه، ويرى لكلّ ظاهرة سببها الطبيعي المعقول... فهو لا يعيش العقلية التائهة في ضباب المجهول، ولا يختنق في غيوم الغيب الخياليّة في تفسير الكون، بل يعيش في ملاحقة دائمة لكلّ سؤال، ليضع أمامه الجواب.
هل نستطيع تفسير هذه العقيدة لدى هؤلاء بالرواسب التقليديّة التي تمنعهم من التمرُّد على موروثاتهم وهم الذين تمرَّدوا على كثير منها وحملوا راية الدّعوة إلى هذا التمرُّد؟
وهل يمكن أن يكون الشعور بالجهل والعجز والحاجة إلى العزاء، وهم الذين يعملون من أجل تغيير الواقع المتخلّف إلى واقعٍ متقدِّم.
فإذا أمكن للقضية أن تبتعد عن التفسير الذي يحاول ماركس وغيره نقد الدّين من خلاله فكيف يمكن اعتباره إطاراً للحقيقة العلمية المزعومة التي تجعل من الدّين روحاً لعالم يعيش بغير فكر.
إنَّنا لا نمانع في قابلية هذا الافتراض للتطبيق على بعض الظواهر الدينيّة المنحرفة في بعض المراحل ولكنّنا نمنع تصحيح الافتراض كشيء يفسّر لنا العقيدة الدينية بكلّ أشكالها وألوانها ومراحلها التاريخيّة.
وربّما يجد بعض المفكّرين الماركسيين، ملامح هذا التفسير الماركسي للدّين، في النظرية التي يقرّها كثير من "المفكّرين" الدينيّين الذين يعتقدون بأنَّ ما رزح فيه الكائن البشري من عجز وبؤس يبرِّران وجود الدّين... ولكنّهم يرون أنّ هذا واقع أبدي لا رادّ له، ويعتقدون أنّ حالة الإنسان هذه المؤلمة ترتبط ارتباطاً حتمياً "بانحطاطه" وانحرافه عن جوهره "وسقوطه من الفردوس"... "وبخطيئته الأصليّة".. وهذا ما لا يؤمن به ماركس ولا الماركسيون.
أمّا تعقلينا على هذا الرأي... فهو أنَّ هذه النظرية ليست نظرية كلّ المفكّرين الدينيّين بل هي نظرية البعض منهم، فهل يمكن اعتبارها شاهداً على التفسير المتقدِّم، ما دام القسم الآخر منهم لا يتبنَّى هذه النظريّات، فهو ينطلق في إيمانه بالدّين من الأُسس الفكرية التي تفرض هذا الإيمان كما أنّه يرفض فكرة الانحطاط والخطيئة الأصلية ويعتبر الإنسان كائناً يعيش الصراع في داخله على أساس تكوينه الطبيعي، دون أن يخضع لخطيئة حتميّة مفروضة عليه دون اختيار.
إنَّنا نجد في هذا التعليق برأي هؤلاء ما نستطيع اعتباره شاهداً على ضعف الأساس الذي يرتكز عليه التفسير الماركسي للدّين.
ب ـــ هل يكرِّس الدّين عجز الإنسان أمام الظواهر الكونية، ليكون ذلك بمثابة شاهد على انطلاق الدّين من فكرة الشعور بالعجز أمام الكون.
إنَّنا نلاحظ ـــ أمام الجواب على هذا السؤال ـــ أنّ القرآن الكريم لم يحاول التركيز على ضعف الإنسان أمام قوى الكون، بل حاول التأكيد على ضعفه أمام الله من جهة، وعلى ضعفه الذاتي من خلال تكوينه المادي من جهةٍ أخرى، تماماً، كما هو الحال في الموجودات المادية الأخرى، التي تتأثّر وتنفعل بما حولها من الأوضاع الكونيّة.
ولكنَّ التأكيد على ضعف الإنسان أمام المطلق لا يراد منه التعبير عن انسحاقه نتيجة هذا الضعف، بل يقصد منه الإيحاء بأنَّ قوّته، مهما بلغت من العظمة والامتداد، لا تستغني عن قوّة الله، فإنّها تستمدّ منها في كلّ لحظة شيئاً جديداً، تماماً كما يكون امتداد الطاقة إزاء مصادر الطاقة في الحياة... ليعرف الإنسان ـــ من خلال ذلك ـــ قيمة قوّته، أين تبدأ، وأين تنتهي، وكيف تنطلق، ليكون أكثر واقعية، وأشدّ تواضعاً في ممارسته لهذه القوّة.
أمّا تكوينه المادي الذي يجعله يضعف فينفعل بما حوله، فلا يوحي له بالضعف أمام القوى المادية الأخرى التي تحيط به، بل القضية ـــ على العكس من ذلك ـــ تتّجه إلى الإيحاء بإمكانية السيطرة عليها جميعاً.
فقد قرَّر الإسلام ـــ في أكثر من آية. اعتبار القوى الكونية مسخَّرة للإنسان... والتسخير قد يعطي معنى الانتفاع بفوائدها في بعض الحالات، وقد يعطي أنّها مسخّرة له فبإمكانه تطويرها وإخضاعها لإرادته في نطاق القوانين الطبيعيّة التي تتحكَّم فيها.
وقد نجد في بعض الآيات القرآنية الكريمة ملامح الإيحاء ـــ ولو من بعيد ـــ بقوّة الإنسان العظيمة وذلك لأنّه يحمل ما لا تستطيع القوى الكونية أن تتحمّله، وإن انحرف عن الخطّ في النهاية وذلك قوله تعالى:
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب : 72]
فإنَّ هذه الآية، قد انطلقت في نطاق التعبير عن المسؤوليّة التي حملها الإنسان ولم يتلاءم مع متطلّباتها.. ولكن في التأكيد على عدم حمل السماوات والأرض والجبال، لما يحمله بعض الإيحاء بقدرة الإنسان على أن يحمل ما لا تحمله هذه القوى الطبيعيّة العظيمة.
وهكذا نخلص إلى النتيجة الحاسمة وهي: أنّنا لا نجد في الدّين أيّ تكريس لعجز الإنسان أمام الكون، بل القضية ـــ على العكس من ذلك ـــ هي التأكيد على قوّته الكبيرة أمامه.
ج ـــ إذا كان الدّين كما يتصوّره ماركس وغيره ـــ ينطلق من فكرة الجهل بالأسباب والقوانين الطبيعيّة التي تحكم الكون، ولذا يحاول الإنسان افتراض قوى غيبيّة تفسّر له ما حوله من ظواهر وحركات... إذا كان الدّين ـــ كما يتصوّرون ـــ فكيف نفهم دعوة الدّين إلى أن ينطلق الإنسان في طريق معرفة الطبيعة بكلّ ما فيها من ظواهر وقوى، للوصول إلى فهمٍ أعمق يعرف فيه الإنسان عظمة الخالق من خلال عظمة الخلق.
فنحن نلاحظ أنّ الإسلام لم يحاول دعوة الإنسان إلى الإيمان الأعمى عندما دعاه إلى الإيمان بالله بل حاول دعوته إلى الإيمان الواعي المنفتح على المعرفة بالكون وأسراره.
وهنا يتّخذ الإسلام الموقف القوي الذي يعكس الزعم الذي فسّرت به النظرية الماركسيّة نشوء الدين، فيعتبر المعرفة العلمية طريق الدين، فكلَّما زاد الإنسان علماً زاد إيماناً، وبهذا جاءت الآية التي تقول: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه : 114]، كما يعتبر الجهل طريق الانحراف، ومن هنا جاءت الآية التي تفسِّر الانحراف بقوله تعالى: {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف : 187]... فكانت الدعوة إلى تحكيم العقل، وتطوّر العلم أساس الإسلام في دعوته وعقيدته.. ولم يكتفِ الإسلام بتقرير هذا الخطّ في إطار المظاهر الطبيعيّة للكون، بل حاول أن يفسّر الظواهر الاجتماعية بأسبابها النابعة من القوانين العامّة التي تتحكَّم بمسيرة الكون وحركته في الحياة.
فهو عندما يتحدّث عن انحراف الإنسان يؤكّد على أنّ انحرافه خاضع للواقع الذي يصنعه بيده وليس خاضعاً لأوضاع غيبيّة خفيّة لا يعلمها، كما في قوله تعالى ـــ وهو يحدّثنا عن الظلم الذي يمارسه الإنسان ضدّ نفسه، ليربطه بإرادة الإنسان واختياره:
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة : 57]
أمّا إذا تحدَّث عن تغيير المجتمع، فإنّه لا يتحدّث عنه من خلال أوهام الغيب الخياليّة ـــ كما يحلو لماركس أن يقول ـــ بل يتحدّث عنه من خلال تصوّرات الإنسان للحياة وإرادته النابعة من ذاته وظروفه.
قال تعالى:
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد : 12]
وقوله تعالى في آيةٍ أخرى:
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال : 53]
فالخالق يقرِّر قانون التغيير في الحياة، ويحدّثنا أنّه لا يخضع للصدفة أو للغيب.. بل يخضع لواقع الإنسان الذي يصنع عملية التغيير من خلال فكره وممارساته في الحياة.
وفي الحديث عن الفساد والظلم الاجتماعي، لا يعتبره قدراً مفروضاً على الإنسان من فوق دون إرادته بل يجعله منطلقاً من عمل الإنسان وتحرُّكاته، وليقرأ هذه الآية:
قال تعالى:
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم : 41]
فهو يثير أمام الإنسان أسباب الفساد، ويوحي له بالآلام التي تنتج عنه، ليكتشف طريق خلاصه من خلال عمله وإرادته التي تتحكَّم في العمل.
إنّنا نحاول في هذا الحديث إثارة هذه الجوانب، لا الإفاضة في الحديث عنها، لنؤكّد الفكرة التي نحاولها وهي: أنَّ الدّين الذي يدعو إلى معرفة أوضاع الحياة وظواهرها من داخل الحياة لا من خارجها، لا يمكن أن ينطلق من فكرة الشعور بالعجز والجهل بتفسير الكون.
د ـــ هل التصوُّر الديني للحياة يحجب من الإنسان مطالب الحياة وحاجاتها ليكون مخدّراً يثمل به الإنسان كما يثمل بالخمرة... ومهيّجاً يسقى به الإنسان لينسى مطالبه ودوره السياسي العظيم.
إنَّ الجواب عن هذا السؤال يفرض علينا التعرُّف على جوانبه.. فقد نجد هذا المعنى في دعوات الصبر والرضا بالقضاء والقدر، أو التوكُّل، أو الوعد بالجنّة التي يجد فيها الإنسان كلّ سعادة وكلّ راحة بدلاً من هذه الحياة ولكن هل الدّين يدعو إلى هذا كلّه بالمعنى الذي يتصوّره الآخرون.
إنَّنا نلاحظ باختصار، أنّ في هذه الدعوات معاني إيجابية تبتعد عن هذا التصوُّر المخدّر، وربّما نفهم ذلك من دعوة الإسلام للإنسان إلى أن يمارس دوره في الحياة في إقامة العدل، ودحر الظلم من خلال الكفاح في سبيل ذلك... حتّى الموت، ويشجب موقف الضعف والذلّ والخضوع والاستكانة، ويرفض اعتبارها مبرّراً للإنسان في مواقفه السلبية والإيجابية المضادّة، كما يؤكّد للإنسان أنّه هو الذي يصنع مصيره ولذا فإنَّ عليه أن يجاهد في سبيل ذلك كلّه.
إنَّنا لا نعرف كيف يكون مثل هذا مخدّراً ينسى به الإنسان مطالبه ودوره السياسي العظيم.
إنَّ ذلك هو واقع الدّين في فكره الأصيل، أمّا الممارسات الدينيّة المنحرفة التي يحاول بعض المتاجرين بالدّين أو الجاهلين به، أن يفرضوها عليه.. فهذه لا يتحمّلها الدّين، ولا يمكن للمفكّر المنصف أن يعتبرها أساساً للحكم على الدّين.
س ـــ هناك واقع نعيشه في بلادنا العربية والإسلامية، وهو معاقبة الفتاة التي تنحرف أخلاقياً بالقتل تحت شعار "الدفاع عن الشرف" و"غسل العار" فما هو موقف الإسلام من ذلك؟
ج ـــ إنَّ الإسلام يرفض هذا الواقع جملةً وتفصيلاً على أساس الملاحظات التالية:
أ ـــ إنَّ الذين يمارسون هذا التصرّف لا ينطلقون من فكرة المحافظة على الشرف من حيث هو كبيرة من قِيَم الأخلاق في الحياة، بل ينطلقون ـــ فيه ـــ من فكرة التخلّص من العار ومن مواجهة تعيير الآخرين.. ولذا نجد الكثيرين من هؤلاء لا يهتمّون للانحراف إذا كان خفيّاً لا يعرف به أحد، ولم يتحوّل إلى فضيحة اجتماعية، كما نلاحظ في سلوكهم العملي في هذا المجال... أنّهم لا يتصرّفون هذا التصرّف في حالة انحراف الرجل، لأنّه لا يمسّ شرف العائلة الاجتماعي، كما هو حال المرأة.. فكأنَّ قَدَرَ المرأة إزاء هذا المفهوم الجاهلي ـــ أنْ تتحمّل مسؤوليّة الشرف، دون أن يحمل الرجل من هذه المسؤوليّة أيّ شيء حتّى ولو كان ـــ هو ـــ صانع المأساة.
وربّما يؤكّد لنا هذه الصورة، أنَّ هؤلاء لا يقصرون هذا التصرّف على حالة الانحراف بل يمارسونه في حالة حدوث إشاعةٍ حول الفتاة، وإنْ كانوا يعلمون أنّها كاذبة، أو في حالة إقدام المرأة، أو الفتاة على الزواج بشخص لا يرتضيه الأخ أو الأب أو القريب مع كونه كفؤاً لها ومنسجماً مع عقلها وذوقها وحياتها، لأنَّ ذلك يسيء في مفهوم التقاليد العشائرية، إلى شرف العائلة وكرامتها.
وهذا كلّه بعيد عن شرع الإسلام وتفكيره، لأنّه يعتبر القضية قضية قيمة أخلاقية تتّصل بحياة الإنسان الفردية أو الاجتماعية، التي يحمل الرجل مسؤوليّتها بنفس المستوى الذي تحمله المرأة من المسؤوليّة، بل ربّما يحمل الرجل ـــ وحده ـــ المسؤوليّة كاملة غير منقوصة، وقد تتضاعف مسؤوليّته وعقوبته إذا كانت المرأة خاضعة لضغط الإكراه على الانحراف من قِبَل الرجل.
أمّا موضوع الشرف فليس مقياسه العرف الجاهلي المنحرف بل مقياسه الأوّل والأخير هو الإطار الذي وضع الإسلام فيه أحكامه.
فالتّهمة التي لا ترتكز على أساسٍ ثابت لا تبرّر أيّ عمل تجريمي مهما كانت الظروف والأحوال، لأنّها لا تصلح ـــ وحدها ـــ أساساً للحكم.. كما أنّ الزواج بالكفؤ، وإنْ لم يرض به الأقرباء. لا يعتبر عملاً ضدّ الشرف، وإن رفضته الأعراف الاجتماعية والتقاليد العائلية، لأنَّ الإسلام أعطى للفتاة حريّة الزواج بالكفؤ ولم يجعل لأيّ إنسان سلطة منعها من ذلك حتّى لو كان ـــ هذا الإنسان ـــ أباها، ثمّ إنَّ الإسلام ـــ حتّى في صورة الانحراف ـــ لا يوافق على الفكرة التي تحمّل العائلة أو القبيلة ضرر ذلك ليكون في ذلك تعريض لشرف العائلة للخطر، لأنَّ شرف كلّ إنسان يخصّه ولا يتعدّاه إلى غيره في حالة الاستقامة أو الانحراف، فكلّ إنسان ينعكس عليه عمله ولا ينعكس على غيره حتّى ولو كان قريباً منه.
ب ـــ إنَّ انحراف الفتاة بالزنا. لا يبرّر الحكم عليها بالموت مطلقاً على أساس قانون العقوبات الإسلامي، لأنَّ الزانية أو الزاني لا يحكم عليهما بالإعدام رجماً بالحجارة إلاّ في حالة الإحصان، وهو الزواج ونحوه، أمّا في غير ذلك فالحكم الإسلامي هو الجلد حسب النصّ القرآني، الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحدٍ منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله.
وعلى أيّ حالٍ فإنَّ الحكم الشرعي يخضع لعنصر الاختيار فلا عقوبة مع الإكراه من أيٍّ من الطرفين.
ج ـــ إنَّ هناك قاعدة شرعية مسلّمة بين الفقهاء، وهي: إنَّ الحدود تدرأ بالشبهات فلا حدَّ إلاَّ فيما إذا ثبت الزنا بشكلٍ لا يقبل الشكّ بأن يشهد الشهود الأربعة بتفاصيل الواقع، أو يقرّ الإنسان على نفسه بالزنا بالشَّكل المحدّد الذي لا يحمل الشبهة.
ولعلَّ مثل ذلك لا يتوفّر في أكثر الحالات التي يمارس فيها هؤلاء هذا العمل.
د ـــ إنَّ السلطة الشرعية الحاكمة هي السلطة المنوّط بها رعاية شؤون هذه الأُمّة فلم يجعل لأيّ إنسان حقّ التنفيذ بعيداً عن حكم السلطة ونظرها، لأنَّ ذلك يحوِّل الأمر إلى فوضى تبعاً لأهواء الناس وشهواتهم ومنافعهم. وقد ورد ذلك في الحديث المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام):
عن حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد الله "الصادق عليه السلام" مَن يقيم الحدود؟ السلطان أو القاضي؟ قال: إقامة الحدود إلى مَن إليه الحكم.
وربّما يكون الأساس في ذلك، هو أنَّ ممارسة هذه العقوبة يتوقَّف على ثبوت الجرم ولا يتحقَّق إثبات الجريمة بعيداً عن الأهواء والأغراض الشخصية إلاَّ في نطاق السلطة الشرعية، لأنَّ الأفراد غير المسؤولين يتصرَّفون غالباً على أساس انفعالاتهم التي ترتكز على الشبهة والتهمة، دون تثبّت أو اطمئنان.
ولهذا كلّه يعتبر الإسلام الذي يقدم على هذا العمل وهو تصفية حياة الفتاة ـــ في هذه الحال ـــ قاتلاً يترتَّب عليه ما يترتَّب على القاتل من عقوبة دون أيّة ظروف مخفَّفة، كما يصنعه المشترع الوضعي في القانون المدني.. وهذا شيء متّفق عليه في غير حالة الإحصان، أمّا في تلك الحال، فإنَّ الكثيرين من الفقهاء يرون أنّ القاتل لا يتحمَّل إلاَّ الإثم دون القصاص، لأنَّ المقتول ليس بمحقون الدم فلا حرمة له ولكنّنا نميل إلى رأي الفقهاء الآخرين الذين يقولون إنَّ القاتل لا يملك سلطة تنفيذ الحكم على هذا الإنسان، ولذلك فهو قتل بغير حقّ ويترتَّب عليه ما يترتَّب على القاتل من عقوبات انطلاقاً من أدلّة القصاص.
الحلقة السادسة والسابعة
مَوقفُ الإسلامِ مِنَ الإنْفِعَالِ
و
لِكُلِّ سؤالٍ جواب
• الانفعال في علم النَّفس والأخلاق
• موقف الإسلام من الانفعال
مدخل
لم أجِدْ مَدْخَلاً أسْمَى مِمَّا وَرَدَ عن الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين، الذي عُرِفَ بحِلْمِهِ وَصَبْرِهِ وكَظْمِهِ للغيظِ، إلى مبحثِ "السَّيّد" موقف الإسلام من الانفعال، المبحث الذي يساهِمُ مساهمةً فعليّة متواصلة في إيضاح المفاهيم الإسلاميّة، وتركيزها بعيداً عن أيِّ انحراف أو تحريف أو غموض، لأنَّ في أدعية الإمام زين العابدين (عليه السلام) ومناجاته، مدرسةً تربويّةً عظيمةً، ومفاهيم إسلاميّة تُشَكِّلُ تتِمَّةً وخلاصةً لِمَا ورد في روحِ ومعاني ومثاني القرآن الكريم.
"إِلَهِي كَسْرِي لَا يَجْبُرُهُ إِلَّا لُطْفُكَ وَحَنَانُكَ، وَفَقْرِي لَا يُغْنِيهِ إِلَّا عَطْفُكَ وَإِحْسَانُكَ ، وَرَوْعَتِي لَا يُسَكِّنُهَا إِلَّا أَمَانُكَ ، وَذِلَّتِي لَا يُعِزُّهَا إِلَّا سُلْطَانُكَ، وَأُمْنِيَّتِي لَا يُبَلِّغُنِيهَا إِلَّا فَضْلُكَ، وَخَلَّتِي لَا يَسُدُّهَا إِلَّا طَوْلُكَ، وَحَاجَتِي لَا يَقْضِيهَا غَيْرُكَ، وَ كَرْبِي لَا يُفَرِّجُهَا سِوَى رَحْمَتِكَ، وَضُرِّي لَا يَكْشِفُهُ غَيْرُ رَأْفَتِكَ، وغُلَّتِي لَا يُبَرِّدُهَا إِلَّا وَصْلُكَ، وَلَوْعَتِي لَا يُطْفِئُهَا إِلَّا لِقَاؤُكَ، وَشَوْقِي إِلَيْكَ لَا يَبُلُّهُ إِلَّا النَّظَرُ إِلَى وَجْهِكَ، وَقَرَارِي لَا يَقِرُّ دُونَ دُنُوِّي مِنْكَ، وَلَهْفَتِي لَا يَرُدُّهَا إِلَّا رَوْحُكَ، وَسُقْمِي لَا يَشْفِيهِ إِلَّا طِبُّكَ، وَغَمِّي لَا يُزِيلُهُ إِلَّا قُرْبُكَ، وَجُرْحِي لَا يُبْرِئُهُ إِلَّا صَفْحُكَ، وَرَيْنُ قَلْبِي لَا يَجْلُوهُ إِلَّا عَفْوُكَ، وَوَسْوَاسُ صَدْرِي لَا يُزِيحُهُ إِلَّا أَمْرُكَ برحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمين"!.
الحلقة السادسة
القسم الأوّل
الانفعال في علم النَّفس والأخلاق
بسم الله الرحمن الرحيم
القسم الأوّل
الانفعال في علم النَّفس والأخلاق
[1]
في حياة كلٍّ منّا لحظات محمومة، نشعر فيها بحالة غير طبيعيّة، تأخذ على النّفس كلّ جوانبها، وتستفزّ كلّ مشاعرها فتتوتَّر الأعصاب، وتلتهب الأحاسيس، وتتصاعد من الأعماق رياحاً مجنونةً تجتاح في طريقها كلّ شيء.
إنّها لحظات الانفعال التي يعيشها الإنسان أمام أزمات الحياة ومشاكلها عندما تتعقَّد في كيانه، أو تفاجئه في حالات الصراع مع الآخرين الذين يعايشهم ويعايشونه، فيغضب تارةً، ويرضى أخرى.. أو يرزح تحت أثقالها في مصائب الدَّهر وخسائره وآلامه، فتطغى معها عواطفه، وتفيض بمشاعر الحزن التي قد يفقد لديها أيّة رؤية واقعيّة للموقف.
وقد تتمثَّل هذه اللّحظات في الاندفاع المجنون أمام انتصاراته غير المتوقّعة، أو أرباحه غير المحتسبة، فتمتلئ ذاته بمشاعر الفرح الذي يتعاظم ويتعاظم حتّى يأخذ على النّفس وعيها وتفكيرها.
... وتتنوَّع اللّحظات في أسبابها، وتختلف في ألوانها، وتفترق ـــ تبعاً لذلك ـــ في مظاهرها التعبيريّة، من انقباض وتقلُّص، وانبساط وانشراح، أو صراخ أو قهقهة، أو تصفيق، أو رقص أو تطبيل، أو حركات استعراضية، أو كلمات عاطفية.
فما هو موقفنا من ذلك كلّه؟
هل نندفع مع هذه الانفعالات... فنجري مع التيّار المجنون الهائج، ونترك للنّفس مداها في الاندفاع، وحريّتها في التعبير عن مشاعرها دون ضابط أو رادع، لئلا تنكمش وتتعقَّد وتختنق في أجواء الكبت الخانقة. كما يحلو للبعض أن يقول.
أو نقف وقفة هدوء وتأمُّل وتفكير، فنعطي للنّفس مجالها في التنفيس عن العاطفة دون أن نسمح لها بالتجاوز عن الحدود الطبيعيّة للمواقف، قبل أنْ يتحوَّل الموقف إلى كارثة تأكل الأخضر واليابس.
ما هو موقف الإسلام من هذه الحالات؟
هل هناك وجهة نظر إسلامية تحدِّد للإنسان تصرُّفاته أو توجّه له سلوكه أمام حالات الانفعال.
هذا ما نحاول التعرُّف عليه لننطلق في حياتنا العملية على أساس المفاهيم الإسلامية الواضحة في الحياة.
[2]
لماذا هذا الحديث؟
ربّما نجد الجواب في دراسة الواقع الحياتي للإنسان المسلم الذي ابتعد عن مفاهيمه الإسلامية في الحياة فلم يعتبر أنّ للإسلام مفهوماً في هذا الجانب أو ذاك، بل القضية عنده في أغلب الظنّ، قضية أحكام شرعية متفرِّقة تنهى عن فعل، وتأمر بفعل، وتبيح آخر، دون أن يكون هناك قاعدة واحدة أو مفهوم واحد يربط بين هذه الأمور ويوحّد جوانبها.
وهكذا أصبحنا نعيش الفراغ الفكري والنفسي من المفاهيم العامّة للحياة في مقابل امتلاء تشريعيّ نمارسه بحرفيّته دون اهتمام بجذوره ومنابعه.
ولعلَّ الخطورة في ذلك كلّه، تتمثّل في أنّه يفسح المجال لولادة مفاهيم اجتماعية أو نفسية جديدة تختلف عن المفاهيم الإسلامية وتتصادم في كثير من آثارها وظواهرها مع الممارسات العملية للتشريع الإسلامي في الحياة.. الأمر الذي يجعل الإنسان المسلم يبتعد تدريجيّاً عن التشريع، وبالتالي عن الإسلام، بشكلٍ لا شعوري، وربّما يخضع لأسلوب خادع يوحي له بأنّه يسير مع الحقّ... في الوقت الذي يذهب فيه بعيداً مع الباطل.
لذلك فنحن هنا نحاول أن نجمع بعض المفردات التشريعيّة من هنا وهناك لنؤلّف منها قاعدةً تشريعية إسلامية واحدة تنطلق إلى الحياة من مفهوم إسلامي أصيل يمدّها بالروح ويموّنها بالتشريع.. الأمر الذي يجعلنا نصل إلى الهدف الذي نريد بلوغه، وهو الخروج من الممارسة الجامدة للأحكام الشرعية، إلى الممارسة العملية الحيّة الواعية التي تضمّ الروح والجسد في وحدةٍ رائعة تمتزج فيها الفكر بالعمل والإيمان بالتطبيق.
[3]
ما هو إطار البحث؟
هل نحن أمام حديث (سيكولوجي) نفسي يضيف إلى أبحاث علم النّفس شيئاً جديداً في تحليل طبيعة الانفعال ومدلوله النفسي، ليشارك في عملية فهم أعمق للنّفس الإنسانية من أجل التغلُّب على عُقدتها المستحكمة وأزماتها الداخلية الشديدة؟
أم أنَّنا نحاول الدخول في أبحاث أخلاقية تحدِّد القيمة الحقيقيّة للانفعال من وجهة نظر علم الأخلاق لتساهم في توجيه خُطى الإنسان نحو الطريق الأقوم والهدف الأفضل؟
أو أنّنا هنا لنتلمَّس الأخطار والأضرار التي تلحق بالفرد والمجتمع من خلال السماح للسلوك الانفعالي في الانطلاق إلى حياة الإنسان دون ضوابط تحدّ من جموحه، وحواجز تخفّف من اندفاعه ليكون حديثنا حديثاً وعظياً يستفزّ الناس ويخوّفهم من عواقب هذا السلوك.
الحديث في الإطار الواسع
من الحقّ لنا أن يكون الجواب عن هذه التساؤلات، هو اعتبار هذه الجوانب التي أُثيرت مجالاً للبحث ومنطلقاً للحديث.
لأنَّنا نريد من إثارة هذا الموضوع، أن نضع اليد على المفهوم الإسلامي للسلوك الانفعالي في حياة الإنسان لينطلق في سلوكه العملي على أساس عميق ودقيق، من خلال النظرة الإسلامية العامّة للحياة.
وعلى ضوء ذلك لا بدّ للحديث من أن يتشعَّب في جوانب عديدة، منها النفسيّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ، وغير ذلك من الأمور التي يرتبط بها الانفعال كحالة نفسية، أو ظاهرة اجتماعية أو أخلاقية، لأنَّ أيّ سلوكٍ إنساني، لا ينحصر في دائرة خاصّة، بل يتّسع لعدّة مجالات في الحياة.
وإذا كان الأمر ـــ كما أشرنا ـــ فلا بدّ للإسلام. حينما يحدّد موقفه من حالة معيّنة أو ظاهرة خاصّة، من أن يدرس مصلحة الإنسان من خلال جميع الجوانب الحيّة التي تحيط بحياته من خلال هذه الحالة، أو تلك الظاهرة، لأنَّ ذلك هو السبيل إلى تحقيق التوازن الأصيل لحركة التشريع في نظامه المعصوم.
حديث الانفعال كظاهرة عامّة
أمّا مجالات هذا الحديث، فليست مختصّة بجانب من الحياة دون جانب، فلا تنحصر في الحياة الفردية التي يعيش الإنسان فيها نزواته الذاتيّة وأزماته الشخصية التي تثير في داخله هذا الانفعال أو ذاك.
ولا تختصّ بالحياة الاجتماعية التي يواجه فيها المجتمع من خلال التحدّيات التي تواجهه، والصراعات التي تتجاذبه، والانفعالات الحادّة التي تعصف به فتحوّله إلى كتلة من نار، أو بركان من جحيم.
ولا تضيق به مجالات الحياة السياسية التي تلفّ وتدور وتناور وتُحاوِر، وتخدع وتغوي، فتختلق الأزمات، وتثير المشاكل، وتبتدع الخلافات فتهزّ الحياة من حولها فيما يشبه عصف الرياح، وتخلق المشاكل والاضطرابات في أجواء العالم حتّى تتحوَّل إلى فوضى مجنونة تجتاح أمامها كلّ شيء.
وهكذا نستطيع أن نقترب به إلى الحالات الحربية التي يتكلَّم فيها الحديد والنار فتثير الرعب والخوف في كلّ قلب، وتنشر الفناء والدماء في كلّ أُفق، وترسل الصواعق فتصيب بها من تشاء.
فليست مجالات الحديث محصورة في واحدة من هذا أو ذاك، بل الحياة كلّها بجميع مظاهرها وأشكالها ومنطلقاتها.. لأنَّ مجال حديثنا هو السلوك الإنساني الذي يتحكَّم في الحياة على مستوى الفرد والمجتمع، وعلى مستوى السّلم والحرب والسياسة والاجتماع، والنظرية والتطبيق.
ولذلك فإنّه يترك أثره في كلّ واحد منها تبعاً لطبيعته العملية التي قد تلتقي مع الضوابط القويّة التي تحفظ له التوازن في الخطى والانسجام في الخطط، وقد تبتعد عنها، فيكون الاختلال في الوسائل والارتباك في الأهداف.
إنَّه حديث الإنسان في كلّ منطلقاته وتطلُّعاته، في كلّ مراحل حياته، وفي كلّ زمانٍ ومكان.
كيف نفهم الانفعال
حاول علماء النّفس البحث عن طبيعة الانفعال ومدلوله وأهدافه، واختلفت نظريّاتهم في ذلك اختلافاً شديداً، قد يصل ببعضها إلى حدّ الغرابة في بعض الحالات كما تلاحظ ذلك في نظرية جيمس لانج.
نظرية جيمس لانج
وتتلخَّص(1) هذه النظرية في أنّ الانفعال هو مجموعة الإحساسات المختلفة المتسبّبة عن التغيّرات العضوية وتختلف الانفعالات بعضها عن بعض باختلاف هذه الإحساسات العضوية.
ويمضي جيمس بعيداً في هذه النظرية فيقول: إنَّ المظاهر الجسمية والعضوية ليست نتيجة للانفعال بل هي السبب في ظهوره، فنحن لا نبكي ـــ في نظره ـــ لأنّنا نشعر بالحزن، ولا نضرب لأنّنا نشعر بالغضب ولا ترتعد فرائصنا لأنّنا نشعر بالخوف، وإنّما نشعر بالحزن لأنّنا نبكي، ونغضب لأنّنا نضرب، ونخاف لأنَّ فرائصنا ترتعد.
وقال أيضاً: إنّه إذا أمكن تجريد الفرد من جميع التغيّرات الجسمية والعضوية في موقفٍ ما، فإنَّ الموقف يصبح موقفاً إدراكياً خالياً من أيّ شعور وانفعال.
ولكنّ هذه النظرية ـــ فيما يظهر ـــ انطلقت من "عدم التمييز بين الحالة الانفعالية والتغييرات الجسمية" وفوق ما تقدّم، فالمنطق السليم يقول: إنَّ الإنسان يهرب من الخوف، ويقتل من الغيظ، ولا يقول إنَّ الإنسان يغتاظ من القتل، ويخاف من الهرب.
نظرية مكدو جل
وهناك نظرية أخرى لــ (مكدو جل) في كتابه علم النّفس الاجتماعي.
وتتلخَّص هذه النظرية في اعتبار كلّ التغيّرات الجسمية والعضوية المصاحبة للانفعال ذات غرض أساسي بيولوجي وهو خدمة الفعل الغريزي.
فإذا ما أُثير انفعال الخوف فإنَّ الغرض الحيوي المطلوب يتحقَّق بسرعة الخلاص من الموقف. وقد يتمّ هذا الفعل عند الطيور بطيرانها، وعند الغزلان بالجري، وعند الحيوانات المائية بالغوص في الماء.
ولكي يتمّ هذا نجد أنّ الأعضاء الداخلية تتكيَّف لتساعد على تحقيق هذه الغاية، فيسرع القلب في عمله ليوزّع الدم في شيء من السرعة على أجزاء الجسم، وتسرع الرئتان في عملها لأخذ الهواء النقي وطرد غيره، وبذلك تساعدان عملية الاحتراق الضرورية لإعطاء الجسم طاقته اللازمة، ويتوزَّع الدم كذلك بحيث يترك أجزاء الجسم التي يمكن وقوف عملها في هذا الوقت، فيترك المعدة والأمعاء وسطح الجلد، ويتوزّع في المخّ وفي العضلات الأخيرة التي تساعدنا على سرعة الهرب، وتتّسع حدقة العين حتّى تستقبل أكبر قدر ممكن من الضوء لتستعين به على إدراك الأشياء وتمييز المواقف.
ويتّفق "شاند" مع "مكدو جل" في فكرته عن فطرية الانفعال ويعرّفه بأنّه استعداد فطري معقّد ينظّم الغرائز ومظاهرها الحاسية الحركية.
وتدرسه مدارس التحليل النفسي من زاوية الصراع القائم بين الفرد وبيئته، وما تنطوي عليه هذه البيئة من آثار تدفعه إلى كبت انفعالاته كبتاً لا شعورياً يؤثّر في سلوكه ورغباته وذكرياته.
ويؤكّد بولهانز أثر البيئة في نشأة وتطوّر الانفعال، ويذهب إلى أنّه يبدأ حينما يواجه الفرد موقفاً لا يجد له حلاًّ مباشراً سريعاً، فيستعدّ الجسم لمواجهة التطوّرات النفسية التي يعانيها الفرد فتزداد ضربات القلب وترتفع نسبة السكر في الدم لمدّ الجسم بالطاقة التي يحتاج إليها، وهكذا تستطرد هذه التغيّرات لتحفّز الفرد لمواجهة الموقف.
ويلخّص "درفر" أهمّ الصفات المشتركة بين جميع المذاهب المختلفة في دراساتها للانفعال فيعتبر "أنّه حالة نفسية معقّدة تبدو مظاهرها العضوية في اضطراب التنفُّس وزيادة ضربات القلب واختلال إفراز الهرمونات. وتتميَّز مظاهره النفسية بوجدان يبدو في القلق والاضطراب، وقد يؤدّي هذا القلق إلى قيام الفرد بسلوك معيَّن ليخفّف من توتّره النفسي هذا، وقد تعوق حدّة الانفعال، النشاط المعرفي للفرد(1).
الغزالي يحلِّل الانفعال
وقد تعرَّض علماء الأخلاق المسلمون للانفعال في بعض نماذجه، ومنهم الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، في حديثه عن الغضب الذي هو إحدى مظاهر الانفعال، فتلتقي فكرته مع فكرة "مكدو جل" في غريزيّة الانفعال، وهدفه، فنراه يعرّف الغضب "بأنّه قوّة غريزية خلقها الله في الإنسان لتدفع المهلكات عنه".
ويوضح هذه الفكرة فيقول:
فخلق الله طبيعة الغضب من النار وغرزها في الإنسان وعجنها بطبيعته، فمهما صدّ عن غرض من أغراضه، ومقصود من مقاصده، اشتعلت نار الغضب وثارت ثوراناً يغلي به دم القلب وينتشر في العروق، ويرتفع إلى أعالي البدن، كما ترتفع النار، وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر، فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر الوجه والعين، والبشرة لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها..
ويستطرد في كلامه فيقول: "وبالجملة فقوّة الغضب محلّها القلب ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام وإنّما تتوجّه هذه القوّة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها، وإلى التشفّي والانتقام بعد وقوعها".
وعلى ضوء هذه النظرية التي سبق الغزالي، علماء النّفس، نستطيع أن نقرّر أنّ الانفعال ليس قوّة شرّيرة بطبيعتها بل هي من القوى الطبيعية التي أودعها الله في الإنسان لحمايته من الأوضاع التي تحيط به، أو القوى التي تواجهه، فتدفعه إلى استنفار طاقاته الذاتية للدفاع عن نفسه، أو لتحقيق أغراضه.
ولكنّها ـــ كأيّ قوّة أخرى من قوى الإنسان ـــ تبقى خاضعة لطريقة الإنسان في استخدامها في سبيل الخير أو في سبيل الشرّ.
الانفعال في صورتين
للانفعال صورتان: إحداهما في الداخل، والأخرى في الخارج.
وربّما تكون الثانية تنفيساً عن الأولى وتعبيراً عملياً لها ـــ في أغلب الحالات ـــ وقد تتعقَّد الأولى في كيان الإنسان فلا تفسح المجال للصورة الأخرى بالظهور والبروز.
أمّا الصورة الأولى: فتتمثّل في الحالة الشعورية التي تسيطر على الإنسان أمام عوامل التوتُّر وأجواء التأثُّر.. فهي حركة داخلية تنطلق من العوامل الخارجية التي تحيط بالشخص، فتضغط على الأعصاب، وتلحّ على المشاعر فتتوتّر وتلتهب بسرعة، وبذلك يتحوّل الإنسان إلى إنسان ملبَّد في الداخل بفعل العواصف الهائجة المخبولة التي تعصف به.
وذلك كما في حالة الحزن العميق، والخوف الشديد، أو الفرح الداخلي، أو الغضب المكبوت، أو غير ذلك من الحالات النفسية التي تثيرها الخسائر أو المصائب أو الأرباح أو الأزمات.
وأمّا الصورة الثانية: فتتمثَّل في السلوك العملي الذي يمارسه الإنسان في حياته العملية ـــ الفردية والاجتماعية ـــ تحت ضغط تلك الحالات، فيتحوّل الهياج الداخلي إلى هياج خارجي يطبع تصرّفاته وحركاته بطابع التوتُّر والاضطراب الذي تختلف أشكاله حسب اختلاف طبيعة تلك الحالة.
فنلمح الحزن يتمثّل بالصراخ أو بالبكاء الهادئ، أو بتمزيق الثياب، وخمش الوجه ونتف الشعر، ونلمح الفرح يتمثّل بالضحك والرّقص والغناء والتصفيق وغير ذلك.
ونجد الغضب في تحطيم الأواني والأبواب والضرب والصراخ الشديد والشتائم البذيئة وغير ذلك ونشاهد الخوف يتمثّل في الهروب أو في الانكماش والاختباء ونحو ذلك.
ويشير الدكتور القوصي إلى هاتين الصورتين من الانفعال فيقول(1)، "يستعمل الناس عادة كلمة الانفعال لتدلّ على معانٍ مختلفة، أحياناً تؤخذ متفرّقة، وأحياناً تؤخذ مجتمعة، فيعتبرون أنّ الانفعال هو الشعور الخاص، كالألم، مجرّداً من أيّ عنصرٍ آخر، وأحياناً يعتبرونه المظهر الجسمي الذي يصحب الانفعال وأحياناً يأخذونهما معاً. والذي أدخل المظهر الجسمي هو أنّ كلّ حالة انفعالية يصحبها تغيّرات جسمية نشعر ببعضها ولا نشعر بأغلبها".
أين نحن من الصورتين؟
أمام هاتين الصورتين نقف.
فأين يقع حديثنا منهما، وما الذي نريده من هذا الحديث.
هل نحاول تبريد الإنسان من الداخل. وتحويله إلى شخص لا ينفعل أمام عوامل الانفعال، ولا يثور أمام دوافع الثورة.
هل القضية قضية صنع الإنسان الذي يفكّر بعقله بدلاً من الإنسان الذي يفكّر بأعصابه، فلا يتحرّك داخله في حركة عصبيّة، بل يخضع لحركة العقل فقط، وبذلك تتحوّل أعصاب الإنسان إلى جليد لا يذوب إلاّ على أساس حسابات دقيقة.
أو أنّ القضية ليست قضية الإنسان في الداخل، فلسنا هنا في محاولة للتحكُّم بمشاعر الإنسان، وأعصابه، بل القضية هي قضيّة التصرُّفات العملية للإنسان.
فنحن هنا في محاولة للتحكُّم بحركات الإنسان وأقواله أمام حالات التوتُّر الداخلي، فليس من المهمّ أن لا يثور الداخل بل المهمّ أن لا تنعكس الثورة الداخلية على أوضاع الإنسان في الخارج.
في الجواب عن السؤال نقول:
إنَّنا نواجه الحاجة إلى الحديث عن كلا الوجهين للانفعال، الداخلي والخارجي، فقد نشعر بضرورة الوصول إلى الهدف الكبير الذي يتمثّل في السيطرة على الانفعال في الداخل في محاولة لخلق الشخصية العقلانية التي يتحرّك فكرها بحساب، وتنطلق مشاعرها بحساب، فليس هناك إحساس طائش، وليس لديها تفكير مرتجل.
وذلك ما تمثّله نظرية تبريد الإنسان من الداخل.
وقد نحتاج، في سبيل الوصول إلى هذا الهدف الكبير، إلى تحقيق هدف مرحلي أوّلي، يتمثّل في السيطرة على الانفعال في الخارج، كمحاولة لإيجاد الشخصية القويّة التي تستطيع أن تخنق مشاعرها الملتهبة، وتكظم غيظها العنيف، فلا تدعها تتحكّم في تصرُّفاتها العملية، بل تظلّ التصرُّفات تسير على أساس فكريٍّ دقيق هادئ، وإنْ كان الداخل يلتهب بالنّار.
وربّما تشارك هذه السيطرة العملية على الانفعال كواقع حركي خاص، بالإيحاء الدائم للداخل بالجوّ الهادئ الذي يسيطر على الخارج، لأنَّ الخارج كما يتأثّر بالداخل الشعوري في بعض الحالات، فهناك الجانب الشعوري في الداخل يتأثّر بالواقع الخارجي، أو بالطريقة العملية التي يمارس الإنسان بها حياته لأنَّ الخارج هو البيئة الطبيعيّة التي ينمو فيها الداخل ويعيش.
ولعلَّ من الخير للبحث أن نشير هنا، ولو بشكلٍ سريع ـــ إلى أنّنا لا نهدف في الهدف المرحلي أو الكبير إلى إلغاء الانفعال من حياة الإنسان، كمبدأ، لأنَّ في ذلك إلغاءً لجانب ذاتي من جوانب الإنسان التكوينيّة.
بل كلّ ما نريده هو تنظيم الانفعال و(تعقيله). إن صحَّ التعبير، ليبقى الجانب الانفعالي من حياتنا مرتبطاً بالجانب العقلاني لئلا يبتعد عن الطريق، وينحرف عن الهدف.
هل الانفعال غريزة؟
قد نجد في بعض كلمات علماء النّفس ما يوحي باعتبار الانفعالات التي تحدث للإنسان في سلوكه، من الغرائز فتلتقي بكلمة غريزة الغضب، وغريزة الخوف وغير ذلك.
ولكنَّ الظاهر ـــ كما يقول بعض علماء النّفس ـــ إنّ هذا التعبير يفتقد الدقّة، فليس الغضب غريزة وليس الخوف غريزة، بل هما انفعالان ومظهران لغريزتين أساسيّتين في حياة الإنسان، وهما غريزة المقاتلة التي يتمثّل انفعالها بالغضب، وغريزة الخلاص أو الهرب التي يتمثّل انفعالها بالخوف.
ولعلَّ الذي أوقع هؤلاء في هذا الخطأ، هو ثبوت الانفعال، من حيث نوعه في السلوك الغريزي، فنحن نرى الاستعداد للمقاتلة يتمثّل في الغضب في حالة تعرُّض الإنسان لإهانة شخصية، أو وقوع ظلم على إنسان ضعيف أو مهاجمة عدوّ للوطن أو التجديف على العقيدة من كافر.
فقد تختلف الدوافع والمثيرات للغضب حسب اختلاف طبيعة الإدراك، ولكنَّ الغضب يبقى هو هو في جميع الحالات مع اختلاف في الدرجة.
وهكذا نجد الإنسان يختلف في ممارسته لغضبه، من الكلمة القاسية، إلى الضرب الشديد، إلى الشكوى للسلطة، إلى غير ذلك من وسائل التعبير التي يتمثّل فيها السلوك في حال الغضب.. ربّما يكون لهذا التلازم، بين الغريزة والانفعال في السلوك، الذي يجعل الانفعال ثابتاً في طبيعة الإنسان ثبوت الغريزة.
ربّما يكون لهذا بعض الأثر في إضفاء صفة الغريزة على الانفعال، إطلاقاً للسبب على المسبّب كما يقول علماء البيان.
هل يمكن السيطرة على الانفعال؟
ربّما يبرز أمامنا سؤال.
إذا كان الانفعال ملازماً للغريزة فكيف يمكن السيطرة عليه، ما دمنا نعلم أنَّ الغريزة من الأمور الفطرية غير القابلة للزوال بذاتها، وبآثارها؟
ولعلَّ الجواب الدقيق على هذا السؤال يرتكز على طرح سؤالٍ آخر.
ما الذي نقصده من كلمة السيطرة على الانفعال؟
هل هو إلغاؤه قطعاً، أو أنّ هناك معنى آخر نقصده، وهو توجيهه الوجهة التي نستطيع معها أن نجعل منه قوّة تخدم حياة الإنسان بدلاً من أن يكون قوّة تؤدّي إلى الانهيار.
لن نريد المعنى الأوّل، لأنَّ إلغاء الانفعال غير ممكن أساساً. كما ألمحنا إلى ذلك فيما سبق ـــ ولأنَّ ذلك لا يخدم حياتنا ـــ لو كان ذلك ممكناً ــ لأنَّ للانفعال نتائجه الإيجابية الكثيرة التي يمكن توظيفها في نشاطات الإنسان الفكرية والعملية ـــ كما سنرى ذلك فيما يأتي من حديث.
ولذا فإنّنا مع المعنى الثاني، وهو ترويض الانفعال وتوجيهه نحو التحرُّك الذي ينسجم مع مبادئ الإنسان ومصالحه في الحياة، ومنعه من أنْ يتحوَّل إلى عنصر يسيء إليه في مبادئه ومصالحه، أو يساهم في إبعاده عن سلامة الوسائل والأهداف.
وقد أشار الغزالي إلى ذلك في كتابه إحياء علوم الدين فقال:
إعلم أنّه ظنَّ ظانّون أنّه يتصوَّر محو الغضب بالكليّة، وزعموا أنّ الرياضة، إليه تتوجّه، وإيّاه تقصد.. وظنَّ آخرون أنّه أصل لا يقبل العلاج. وهذا رأي من يظنّ أنّ الخُلق لا يقبل التغيير. وكلا الرأيين ضعيف، بل الحقّ فيه ما نذكره، وهو أنّه ما بقي الإنسان يحبّ شيئاً ويكره شيئاً فلا يخلو من الغيظ والغضب وما دام يوافقه شيء ويخالفه آخر فلا بدّ أن يحبّ ما يوافقه ويكره ما يخالِفُه، والغضب يتبع ذلك فإنّه مهما أخذ منه محبوبه غضب لا محالة، وإذا قصد بمكروه غضب لا محالة.
ثمّ يسترسل الغزالي في بيان الأمور التي يحبّها الإنسان ويتعلَّق بها، وينتهي إلى نتيجة حاسمة، وهي أنّ المطلوب هو السيطرة على الغضب بردّه إلى الاعتدال في حالة، وبإزالة أسبابه في حالةٍ أخرى حتّى لا تعود هناك حاجة إليه.
ما هي وسائل السيطرة على الانفعال؟
يذكر علماء النّفس عدّة وسائل للسيطرة على الانفعال ويطلقون عليها اسم "تعديل السلوك الفطري أو الغريزي" ويذكرون له عدّة أنواع.
الأوّل: التعديل من الناحية الإدراكية، فإذا كانت الدوافع الغريزية تستثار بمثيرات طبيعيّة، فيمكن العمل على استثارتها في مواقف غير المواقف العادية.
الثاني: التعديل من الناحية النزوعيّة، وهي أساليب التعبير عن الانفعال التي يصل بها إلى الغرض الغريزي.
الثالث: التعديل بسبب دوافع مختلفة في وقتٍ واحد، من أجل تحقيق التوازن بينها أو تغليب بعضها على بعض في عملية صراع بينها في مجال السلوك.
فنلاحظ في النوع الأوّل، وهو التعديل من الناحية الإدراكية، أنّ الصوت العالي قد يكون مثيراً طبيعياً لانفعال الخوف، ولكنّه سرعان ما يفقد عنصر الإثارة عندما يضع الإنسان يده على تجربة خاصّة بصوتٍ عال لا تقترن بالخطر، وقد نجد في الظلام مثيراً مكتسباً للخوف نتيجة اقترانه بالتصوُّر بوجود الحشرات المؤذية أو الحيوانات المفترسة، أو المخلوقات الأسطورية التي تجعلها الأقاصيص تعيش في الظلام، ولكنّه يتحوّل إلى شيء عادي، بالوعي والممارسة الكثيرة للعيش في الظلام حيث يكتشف الإنسان خطأ الفكرة التي توحي بالخوف فلا يثير في نفسه أيّ شيء غير عادي.
وعلى ضوء هذا يمكننا أن نلغي من حياة الإنسان كثيراً من انفعالات الخوف الناتجة عن تصوّره لعظمة قوى كثيرة مجهولة. بحيث يثير في نفسه الشعور العميق بالرهبة والانسحاق أمامها، الأمر الذي يجعله يعيش الإحساس الدائب بالخوف من سطوتها فيتحوّل هذا الخوف إلى عبادة وتقديس عندما يمتزج بالشعور بقداستها، كما نلاحظه في الشعوب التي كانت تعبُد الأنهار العظيمة وتقدّم لها القرابين لتأمن بذلك من مواجهة غضبها وطغيانها.
إنَّنا نستطيع أن نلغيَ هذا كلّه من حياة الإنسان إذا استطعنا أن نملأ وعي الإنسان وإدراكه بالحقائق الواضحة الملموسة لهذا الشيء، الأمر الذي لا يترك هناك أيَّ جانب خفي يوحي بالرهبة ويشعر بالقداسة.
وربّما نحتاج إلى هذا الأسلوب في واقع الشعوب المستعمرة إزاء القوى الاستعمارية التي تظلّ تعمّق في وعي هذه الشعوب، إحساسها بالضعف في كلّ شيء أمام قوّة المستعمر الذي يملك كلّ شيء ممّا يجعل قضية مقاومة نفوذه قضيةً خاسرةً على كلّ حال، فيتحوّل ذلك كلّه إلى الشعور بالانهيار والانسحاق تحت ضغط هذا التفكير الخطر.
وربّما نشعر بضرورتها في حركة العاملين من أجل التغيير الاجتماعي والفكري عندما يواجهون بالقوى التقليدية التي تملك كثيراً من القوى المادية، في مقابل القوى الجديدة الناشئة التي لا تملك إلاّ النزر القليل من ذلك ممّا يثير في نفس العاملين الشعور بالرهبة والخوف من مواجهتها، أو تحدّيها بما تملك من وسائل التحدّي الضعيفة.
إنَّ الطريقة التي يمكن أن نلجأ إليها في هذه الحالات، هي أن نكشف للشعوب، أو للعاملين طبيعة القوى التي يملكونها ذاتياً، أو التي يمكن أن تنضمّ إلى قوى أخرى مساندة، ونحاول ـــ في الوقت ذاته ـــ أن نعمِّق الإحساس بهذه القوّة في أنفسهم بالممارسة العملية المتنوّعة.
ثمّ نكشف لهؤلاء نقاط الضعف الكثيرة الموجودة في تكوين القوى الاستعمارية أو التقليديّة، التي كانت تختفي وراء الصورة الزائفة للقوّة المطلقة، ونعمل ـــ من جهةٍ أخرى ـــ على إثارة الأحداث التاريخية والمعاصرة التي استطاعت فيها شعوب مماثلة أن تصرع هذه القوى، بكفاحها الدائب، وبقواها المتجدّدة، فتتخلَّص من سيطرتها وطغيانها إلى الأبد.
وبذلك تتحطَّم الصورة المزيّفة، ويتحطَّم ـــ من خلالها ـــ الواقع الذي يتحرّك من خلال الحالة النفسية التي تترك أثارها عميقة على مسيرة الإنسان في كلّ حركاته وأفعاله.
ولكي تتّضح الصورة جيّداً للإنسان في تأثير هذا الجانب في حياة الإنسان من النواحي السلبية والإيجابية علينا أن نتلفَّت إلى وسائل الإعلام والتربية والتثقيف التي تستخدمها الدول الاستعمارية، أو القوى التقليديّة المتخلِّفة، في العمل على أن تفقد الشعوب ثقتها بأنفسها وبتاريخها وبحضارتها وبقدرتها على الاستقلال بذاتها في إدارة مواردها، وذلك باستغلال كلّ نقاط الضعف التاريخيّة والحضارية والفردية والاجتماعية في حياة هذه الشعوب.
وتحاول ـــ في مقابل ذلك ـــ أن تقوم بأعمال استعراضية في السلاح والثقافة والحضارة توحي بعظمة القوى الاستعمارية والتقليدية، وتقدُّمها وسيطرتها التي لا تقهر.
إنَّ الانتباه إلى هذه الأساليب والعمل على محاربتها ومواجهتها بالأساليب المتنوّعة، يُفقد قوى التخلُّف سلاحها الأكبر في السيطرة على الموقف في جميع الحالات.
أمّا التعديل من الناحية النزوعية، فنجده يتمثّل في اختلاف الحالات التي يلجأ إليها الإنسان في الوصول إلى غرضه، عندما يفاجأ بفشل بعض الأساليب، ولهذا نلاحظ تنوُّع طرق القتال، فهناك الملاكمة والمصارعة والمبارزة واستعمال السلاح الناريّ، والسّباب والهجاء، وتدبير المؤامرات، وترويج الشائعات، وحرب الأعصاب، وحرب الميكروبات والحرب الذريّة وغير ذلك(1).
وهكذا نلاحظ أنّ الإنسان لا يشعر بالفشل في تحقيق أغراضه أمام سلوك إلاَّ ويحاول أن يلجأ إلى سلوكٍ آخر يتّفق مع الاتجاهات الجديدة والأوضاع الجديدة.
وعلى ضوء ذلك، يستطيع العاملون في الحقل الاجتماعي والسياسي وغيرهما أن يغيِّروا بأساليبهم التربوية والعملية من وسائل التعبير عن الانفعال بما يستحدثونه من وسائل تتلاءم مع الأهداف والأغراض الكبيرة التي يستهدفونها في تقدُّم المجتمع ونموّه.
"وأمّا النوع الثالث من التعديل، وهو استثارة أكثر من دافع واحد في وقتٍ واحد، فيحدث أن يستثار البحث عن الطعام والخلاص من الخطر في نفس الموقف فالجائع يبحث عن الجوع لأخذه ويمنعه الخوف (أو غير الخوف) من ذلك"(2).
وعلى ضوء هذا نستطيع أن نثير في نفس الإنسان معاني مختلفة تمنع من انطلاق بعض الغرائز والشهوات في إثارة انفعال خاص، أو سلوك معيّن كما يشير إلى ذلك الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، في حديث عن علاج الغضب بعد هيجانه وتعداد وسائل العلاج قال:
الثاني: أن يخوِّف نفسه بعقاب الله وهو أن يقول قدرة الله أعظم من قدرتي على هذا الإنسان فلو أمضيت غضبي عليه لم آمن أن يمضي الله غضبه عليّ يوم القيامة أحوج ما أكون إلى العفو فقد ورد في الحديث القدسي في بعض الكتب القديمة "يا ابن آدم أذكرني في غضبك أذكرك في غضبي فلا أمحقك فيمن أمحق".
الثالث: أن يحذر نفسه عاقبة العداوة والانتقام وتشمر العدو لمقابلته والسعي في هدم أغراضه والشماتة بمصائبه وهو لا يخلو من المصائب فيخوِّف نفسه بعواقب الغضب في الدُّنيا وإنْ كان لا يخاف من الأخرى. وهذا يرجع إلى تسليط شهوة على غضب(1).
توجيه الانفعال بتوجيه النزعات الفطرية
وهناك طريقة أخرى يمكن اعتمادها للسيطرة على الانفعال بالاتجاه نحو ميادين جديدة تلبّي نداء الغريزة وتتفادى عملية الكبت المضرّة بسبب ما تخلّفه من عقد نفسيّة حادّة تربك حياة الإنسان وتبعثر طاقاته وذلك بالسير بالغريزة نحو ما يطلق عليه علماء النّفس مصطلح (الاعلاء) وهو أن تسير بالطاقة الغريزية في اتّجاهٍ راق يحترمه المجتمع ويستفيد منه. فحبّ الاستطلاع يسير نحو الكشف والاختراع، والميل لمقاتلة الأمراض الجسمية والاجتماعية، ومقاتلةٍ ما من شأنه أن يضرّ بكيان المجتمع. وهكذا يمكننا أن نحوِّل الطاقة الغريزية من مجراها الطبيعيّ البدائيّ إلى مجارٍ واقية تنفع الفرد والمجتمع.
ولعلَّ من مظاهر ذلك تحويل الانفعال الغريزي الذي يكون نتيجة غريزة الميل للمقاتلة والسيطرة في المجرى الطبيعي والذي يتمثّل بالاتجاه نحو الانتقام بوسائله الخاصّة تأكيداً لإثبات الذّات إلى أسلوب الصفح في حالة المقدرة، فإنَّ إثبات الذّات عن هذا الطريق يكون أعلى من إثباتها في طريق الانتقام(2).
ولكنَّ هذه العملية ليست مجرّد عملية يسيرة يمارسها الإنسان كما يمارس بعض أوضاعه اليوميّة، بل يتعيَّن علينا، أن نعيد تنظيم الشخصية بكاملها على أساس جديد لتقوية جميع نواحيها وتحقيق وحدتها وتكاملها بتأثير المثل الأخلاقية العليا. والتربية السديدة الصالحة، هي التي تحقّق إعلاء الغريزة وتنقية الميول ممّا يشوبها من عوامل الإثرة والضعف، وذلك بتحقيق وحدة الشخصية وتكاملها، وبتقوية الإرادة وتوفير وسائل ضبط النّفس(1).
وهناك طريقة أخرى تحوّل النشاط إلى نشاطٍ آخر يختلف في طبيعته اختلافاً كليّاً فينصرف إلى عمل أو رياضة بدلاً من الانتقام ـــ ويقصد به أن ينشغل الفرد عن اتّجاه غريزي معيّن باتّجاهٍ آخر يختلف عن الاتّجاه الأوّل في أصله. فالمراهق قد يشغل أوقات فراغه بالنواحي الرياضية والمعسكرات وبعض الأعمال الفنيّة وبذلك يتلهّى عن الانشغال بالنواحي الجنسية التي لا يكون معدّاً لها من الناحية الاجتماعية(2).
أثر الانفعال في الحياة العقلية
يلاحظ علماء النّفس تأثر الانفعال في الحياة العقلية بنتائج سلبية تترك أثارها على سلوك الإنسان وتفكيره، فربّما يساهم في أكثر الحالات، كما في حالات الغضب، في اختلال التفكير الدقيق المنظَّم، الذي يرتكز على الصور الواضحة والمعاني الدقيقة، التي يعمل الفكر على التنسيق بينها وربط بعضها ببعض لتحويلها إلى نتائج جديدة.
ومن الطبيعي أنّ ذلك يحتاج إلى أجواءٍ هادئة في داخل النّفس تفسح المجال لأكثر من فكرة أن تنمو وتتحرَّك وتترابط أو تتصادم، ليتحرّك الفكر في أكثر من اتّجاه فيتمكّن من إعطاء فكرة كاملة عن الموضوع من جميع جهاته.
بينما يلاحظ بعض الباحثين أنّ الانفعال يثبّت في داخل النّفس فكرة واحدة، فالغاضب الحزين لا يسيطر على عقله إلاّ فكرة واحدة هي التي أثارت غضبه وحزنه.. هذا في حالة الانفعال الشديد.
أمَّا في حالات الانفعال المعتدلة فنجد أنّ تفكير المرء يصطبغ عادة بصبغة وجدانية خاصّة وينتبه المرء لنوع من الأفكار دون الأفكار الأخرى، فإذا شعر المرء بالانقباض فإنّه يرى أنّه سيّء الحظّ، ولا يرى فيما يرى، أو يفكِّر إلاّ بعناصر الانقباض ولا يقدّر النكتة أو المزاح، أمّا عند شعوره بالمرح فإنّه يرى السرور في كلّ شيء ويضحك للنكتة ويقدّرها.
ويقول بعض الباحثين النفسيّين إنَّ مستوى النشاط الذهني أثناء الانفعال يكون أقلّ تماسكاً وجودة من مستوى نشاط الشخص الهادئ الضابط نفسه. فإنَّ الانفعال يؤدّي إلى تلاشي مراقبة الإرادة للتفكير والعمل، وإلى تضاؤل مقدرة الشخص على النقد والتمحيص، وعندما تضعف الإرادة وقوّة النقد يصبح الشخص خاضعاً لحوافز عمياء ودوافع جبرية.
... وعندما يستعصي علينا حلّ مشكلة عملية معقّدة يتضخَّم الانفعال بتوالي المحاولات القاصرة فنلجأ إلى تبسيط المشكلة، وحلّها بطريقة غليظة تعسّفية، وقد يصحب الحلّ أحياناً شيء من المجازفة والتهوُّر ويشاهد تحت تأثير الانفعال تفكُّك المعلومات المكتسبة حديثاً، والمعلومات الدقيقة المعقّدة التي تكون قابليّتها للاختلال والارتباك بدرجة تعقيدها ودقّتها(1).
وقد يذكر للانفعال بعض النتائج الإيجابية في الحياة العقلية، فنلاحظ أنّه قد يكون عنصراً منشّطاً للمخيّلة، فتتدفَّق المعاني والصور بسرعة، ويبزغ نور الإلهام فجأة بعد فترة من الخمول ومن المحاولات غير المجدية، وقد يحمل هذا التيّار الجارف من الصور والمعاني أفكاراً جديدة تمهّد السبيل إلى الاختراع والابتكار(2).
ولكن علينا أن نلاحظ أنّ مثل هذه النتائج لا تنطلق من حالة مركّزة، بل تخضع في سلامتها ودقّتها، لطبيعة الحالة الوجدانية التي تتحكَّم في النّفس من الداخل، دون أن ترتكز على أساسٍ ثابت سليم يحميها من الاهتزاز والارتباك والخضوع لرغبات غامضة.
ولذا فإنَّ هذه النتائج الإيجابية لا تشجِّع على اعتبار الانفعال في حركة النشاط العقلي، حالةً صحيّةً طيّبةً بل لا بدّ من محاولة تطويقها وترويضها ببعض من الهدوء النفسي الذي يحاول أن يعطي الحالة الوجدانية بعض الهدوء الذي يخفّف من حدّة التوتُّر ويقوّي من حركة الإرادة.
وقد نستطيع الذهاب بعيداً في هذا المجال فنوافق الرأي القائل(1) بأنّه لا بدّ من شحنة وجدانية تصحب العمليات الذهنية لتغذية النشاط العقلي بالدوافع والرغبات ولذكيّة الشوق إلى مواصلة العمل. فباختلاف قوّة هذه الشحنات يختلف مستوى النشاط العقلي فيرتفع حيناً ويهبط حيناً آخر.
وقد يحدث أن تتناقض نتائج الانفعال في التذكّر، فقد نجد بعض الحوادث المصحوبة بانفعالات شديدة الإيلام يصبح من الصعب نسيانها، وإن كانت بعض الحوادث الأخرى المماثلة تنسى نسياناً تامّاً في حالات شاذّة.
ولكنَّ الحالات الانفعالية المؤلمة تقلِّل الاستعداد للتذكّر فالطفل الذي يتعلَّم تحت تأثير العصا يكون تقدّمه أبطأ من غيره الذي يتعلَّم بالطرق الحديثة التي تعتمد على الحرّة لا على الإرهاب والعقاب في التخويف(2).
أثر الانفعال في الحياة الاجتماعية والتربوية
لا يستطيع الباحث أن ينكر قيمة الانفعال الأساسية في حياة الإنسان من الناحية الاجتماعية والتربوية فقد نجد أنّ الانفعال يمثّل أهم دوافع الإنسان نحو العمل، فلولا الشعور بالخوف لَمَا شعر الإنسان بالحاجة إلى الدفاع عن نفسه ووطنه ومصالحه. أمّا احتمالات الخطر التي تواجهه مِن قِبَل الآخرين، الأمر الذي يمنحه القوّة والثبات والاستقرار.
ولولا انفعالات الفرح والحزن والغيرة لما استطعنا أن تتعرَّف قيمة الحياة وأهدافها ومثلها العليا، ولهذا نلاحظ أنّ من أفضل الوسائل لاستثارة الآخرين وتوجيههم نحو عملٍ مّا يتعلَّق بحياتهم العامّة والخاصّة، هو استثارة انفعالاتهم الذاتية وتوجيه مشاعرهم نحو هذا الشيء أو ذاك.
وربّما نجد أوضح شاهد على ذلك، هو ما يمارسه الأشخاص الذين يعملون في الحقل السياسي والديني والاجتماعي من التركيز على الأساليب العاطفيّة التي تثير المشاعر، وتهيِّج الانفعال. وترتفع بالأحاسيس العاطفية إلى أعلى درجة من التوتُّر، ممّا ينتهي بالجماهير إلى الثورة في بعض الحالات، أو التظاهر والقيام بأعمال العنف الشديدة دون وعي وانتباه، ولعلَّ خطب الإمام عليّ (عليه السلام) في نهج البلاغة، في الحالات التي كان يريد فيها إثارة أصحابه نحو الجهاد، أو غير ذلك من الأمور المهمّة، هي أبلغ شاهد على ذلك حيث حشد الإمام فيها كلّ ما يمكن من أساليب الإثارة العاطفية بالإضافة إلى الأساليب الأخرى التي تربطهم بالفكرة، من الجوانب الفكرية والروحية.
"وقد درس الناس كثيراً من العوامل التي تثير الانفعالات، فمن هذه الموسيقى والشعر والفنّ التصويري والتمثيلي وغير ذلك.. وقد كان للفنون بمختلف أنواعها أكبر الأثر في إنهاض الأُمم في جميع العصور"(1).
ولكنَّنا، في الوقت الذي نؤكّد على هذا الجانب الإيجابي للانفعال في المجال الاجتماعي والتربوي. لا نريد أن نغفل الجوانب السلبية التي تتمثّل في إمكان استغلال الوسائل الانفعالية في أوضاع وأهدافٍ لا تتّفق مع مصلحة الجماهير والأفراد كما نراه في الكثير من الحركات والثورات التي تملك قياداتها الأساليب الانفعالية الحماسية التي تستطيع إثارة الجماهير لتوجّهها إلى أهداف غير صالحة، كما ربّما نلمح ذلك في الآية الكريمة: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ...} [سبأ : 46] حيث نجد أنّ تركيز القرآن على أن يتفرَّقوا مثنى وفرادى ليتفكَّروا وليحدِّدوا مواقفهم، لأنَّ الجوّ الاجتماعي الذي يعيشون فيه، كان يخضع لأساليب انفعالية لا تسمح لهم بأنْ يحدِّدوا مواقفهم بحريّة واستقلال، في اتّجاه الهدى والخير.
وقد تلجأ بعض القوى السياسية في الداخل والخارج، إلى إثارة الجماهير ودفعها نحو التظاهر والتخريب حتّى لتحطّم كلّ شيء تصل أيديها إليه، وذلك في الأوقات الحرجة التي تمرّ بها البلاد فتختنق بالأزمات التي توحي بالثورة وتنفجر بالنقمة حيث تتحوَّل الثورة المكبوتة والنقمة الهادرة إلى هواء، بفعل عملية التنفيس التي يتبخَّر معها كلّ شيء وهذا ما يفسِّر لنا إطلاق بعض الأنظمة المنحرفة، حريّة الكلام والتظاهر، حتّى لا يتحوَّل العسف في الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إلى اختناق يؤدّي إلى الثورة العملية على النظام.
ولهذا كلّه كان الانفعال ضرورةً وخطراً في آنٍ واحد، الأمر الذي يجعل المهمّة الأساسية للعاملين في الحقول العامّة هي، ضبطه وتركيزه على أُسسٍ نفسية ثابتة لا تخضع للرياح المجنونة التي تعرف هدفها جيداً، بل تسير مع الرياح الهادئة الوادعة التي يمكن أن تحمل العواطف على بساط من عقل وفكر لتواجه مشاكل الحياة بوعي واتّزان.
الحلقة السابعة
القسم الثاني
موقف الإسلام من الانفعال
موقف الإسلام من الانفعال
تمهيد
قد يكون من الخير لنا ـــ أمام هذا الحديث ـــ أن نتحدّث عن القاعدة الإسلامية التي تحكم السلوك بوجهٍ عام،... فنلاحظ ـــ في بداية المطاف ـــ أنّ الإسلام ينظر إلى الإنسان كمخلوق حيّ فاعل يتحمّل مسؤوليّة بناء الحياة وتركيزها على قواعد ثابتة تتجسَّد فيها إرادة الله في الكون عبر نظامه الأفضل، لتكون الحياة الإنسانية منسجمة في نظامها العملي مع النظام الكوني الشامل.
ولهذا فإنّه يريد منه أن يواجه الحياة من خلال الشعور بالمسؤوليّة في حياته العامّة والخاصّة.
ولعلَّ من الطبيعي له ـــ وهو يتحرّك في هذا الاتجاه ـــ أن يواجه الموقف كلّه بدراسةٍ موضوعية شاملة تعتمد على المعرفة الواعية للجوانب الأساسية المحيطة بالموقف، أو المجالات العملية التي يتحرّك فيها، والأهداف الحيويّة التي ينطلق من خلالها ويعيش من أجلها.
وعلى ضوء هذا، كان أسلوبه في ذلك كلّه، يتّجه إلى الأسلوب العقلاني الذي يواجه الحياة ويقف معها وقفة موضوعية هادئة، تدرس الموقف على الطبيعة، كما هو، دون زيادة أو نقصان، بعيداً عن الانفعالات الذاتية التي قد تعطي الصورة حجماً أكبر من حجمها الحقيقي، في بعض الحالات، أو أقلّ منه في حالاتٍ أخرى، لنستطيع مواجهة الواقع بفهم حقيقي ووعي منفتح، وبالتالي لنتمكَّن من السيطرة على ما فيه من مشاكل وقضايا شائكة معقَّدة.
قيمة العقل في الإسلام
وربّما يكون من مظاهر التركيز على هذا الجانب من الأسلوب، هو الاهتمام الكبير الذي أولاه الإسلام للعقل من حيث هو قوّة أساسية، ترصد للإنسان تفكيره، وترعى خطواته العملية في الحياة، فاعتبره مركز الدائرة في قاعدة المسؤوليّة، ليوحي لنا بأنَّ العقل الهادئ هو الأساس في حساب المسؤولية، فلا مسؤولية بدون عقل، لأنّه لا معنى للمسؤولية، دون النظر إلى طبيعة العمل ونتائجه، ووسائله وأهدافه، ليعرف الإنسان، أين تكون البداية، وأين تستقرّ النهاية، ولا مجال لذلك بدون العقل.
ومن أوضح الأدلّة على هذه الحقيقة الإسلاميّة، الأحاديث الشريفة الواردة في ذلك.
ففي كتاب الكافي، عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر، قال: "لمّا خلق الله العقل استنطقه ثمّ قال له: أقبِل، فأقبَل، ثمّ قال له: أدبِر فأدبّر، ثمّ قال وعزّتي وجلالي، ما خلقتُ خلقاً هو أحبّ إليَّ منك، ولا أكملتك إلاَّ فيمن أحبّ، أمّا إنّي إيّاك آمر، وإيّاك أنهي، وإيّاك أُعاقِب، وإيّاك أُثيب".
وفي حديثٍ آخر عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): قال: "قال رسول الله: إذا بلغكم عن الرجل حسن حال، فانظروا عقله فإنَّما يجازى بعقله".
ويروي أحد أصحاب الإمام الصادق أنّه قال: ذكرت لأبي عبد الله رجلاً مبتلى(1) بالوضوء والصلاة، وقلت: هو رجل عاقل فقال أبو عبد الله: وأيّ عقلٍ له، وهو يطيع الشيطان، فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟ فقال: سله هذا الذي يأتيه من أيّ شيءٍ هو. فإنّه يقول لك: هو من عمل الشيطان.
وقد تحدَّث القرآن الكريم في أكثر من خمسين آية، عن أهمية العقل ودوره في بناء شخصية الإنسان وانفتاحه على ما في الحياة من خير وصلاح، وأشار إلى كثير من الانحرافات الفكرية والعملية التي طرأت على مسيرة الإنسان فقادته إلى الهلاك والخسران في الدنيا والآخرة، وأوضح أنّ ذلك كلّه، يرجع إلى فقدان العقل أو إهماله، وترك استعماله، كأساس للحكم على طبائع الأشياء ومعرفتها بعمق، كما نلاحظ ذلك في الآيات التالية:
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك : 10]
{لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} [الحشر : 14]
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة : 171]
{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} [المائدة : 58]
{مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [المائدة : 103]
ففي هذه الآيات إيحاءٌ ودلالةٌ، بأنَّ فقدان العقل، اوسوء استخدامه، يؤدّيان بالإنسان إلى الكفر والهلاك وإلى مواجهة الأمور الكبيرة بأساليب السخرية والاستهزاء. وينتهي بالمجتمع إلى الانقسام والتمزُّق، أو القلق والضياع... لأنَّ حركة العقل في الاتجاه السليم هي التي تعرِّف الإنسان مواطن الخير والشرّ في الأشياء. وهي التي تكشف له نقاط الضعف والقوّة بما تفتحه من آفاق المعرفة الواسعة، الأمر الذي يبعده عن الخضوع لأجواء الانحراف والضلال، التي ترتكز على أُسسٍ عاطفية انفعالية تفرضها حالة البيئة ودوافع الأغراء.
وهناك آيات تدفع الإنسان إلى الشعور، بقيمة الآيات الكونية التي أودعها الله في الطبيعة، وفي الإنسان، كمنطلق للإيمان، وتوجّهه إلى الإحساس بروعة الآيات الفكرية والتشريعيّة التي فصَّلها الله في كتابه الكريم، كقاعدةٍ للعقيدة، وتدعو العقل إلى التحرُّك في اتجاه التفكير في ذلك كلّه من أجل أن يفتح وعي الإنسان وفكره على جوانب العظمة في الكون وروائع الإبداع في التشريع، كما نجد ذلك في الآيات التالية:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاءٍ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة : 164]
{... كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم : 28]
ولعلَّ السرّ في ذلك، أنّ الذين يعقلون، هم الذين لا يمرّون بالأحداث والظواهر المحيطة بهم، مروراً خفيفاً، لا يلامس إلاَّ ظاهر الأشياء، بل يحاولون الوقوف عندها، والتعمُّق فيها، والامتداد بأنظارهم وأفكارهم، إلى جميع جوانبها، فيتعرَّفون من خلال ذلك ـــ على أُسس القضايا وجذورها، وينفتحون منها على أُفق جديد من آفاق الإيمان والمعرفة الواعية العميقة.
القصّة في القرآن... في طريق العقل
حتّى القصّة في القرآن الكريم... لا يريد الله للإنسان أن يمرّ بها كما يمرّ بالأقاصيص التي يملأ بها فراغ وقته، أو يشبع بها غريزة حبّ الاستطلاع في ذاته، أو ينفعل بأحداثها وإيحاءاتها انفعالاً عاطفياً عابراً يثير أعماقه دون أن يترك فيها أيّ أثر كبير، بل يريد له أن يجعل منها منطلقاً للتفكير حتّى يستطيع أن يفهم طبيعة أحداث القصّة في الماضي، وعلاقتها بالعقيدة والحياة، وإمكانية الاستفادة منها في حياتنا من خلال المبادئ العامّة التي تتحرَّك في إطار القصّة دون أن تنحصر في نطاقٍ محدود من الزمان والمكان.
وبهذا كان التاريخ والحديث عنه ـــ في مفهوم الإسلام ـــ يمثّل أسلوباً من أساليب القرآن التربوية، التي يهدف ـــ من خلالها ـــ إلى حشد التجارب الإنسانية الماضية أمام الإنسان ليأخذ منها العِبَر والعظات والدروس التي تنفعه في حياته الحاضرة، بعيداً عن أيّ انفعال أو علاقة عاطفية.
فالقضية أن يرتبط الإنسان بأحداث التاريخ وقصصه من خلال ما تقدّمه من تجارب ومبادئ عامّة، ليتحرّك الإنسان في اتجاه ذلك في خطواته العملية نحو التقدّم والنمو، على أساس ارتباطه بالجذور العميقة من حركة الحياة. ولعلَّنا نلاحظ ذلك في الآيات التالية:
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر : 2]
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة : 134]
وعلى ضوء الآية الأخيرة تبرز الصورة الواضحة التي تجعل القضية للفكر والسيرة، لا للانفعال والعاطفة، فما دامت الأحداث الماضية، لا تدخل في حساب مسؤوليّتنا المباشرة أمام الله تعالى، فلماذا نجعل منها مثاراً للانفعال غير المسؤول الذي ربّما يهدم الحاضر على أساس خلافات الماضي التي قد لا تمثّل بالنسبة إلينا أيّ شيء في أغلب الحالات إلاّ في بعض الجوانب التي ترتبط بتحديد موقف للعقيدة والعمل، فنأخذ منها الموقف السليم، ونترك كلّ شيء ما عداه في ذاكرة الزمن لمجرّد الحفظ والاطّلاع.
وبهذه الروح نتخلَّص من كثير من الخلافات الدينية والمذهبية وتأثيرها على حياتنا العامّة، وعلاقاتنا الاجتماعية بسبب بعض التفسيرات لبعض قضايا التاريخ الديني... عندما ننظر إليها نظراتنا إلى أيّة قضية أخرى، لمجرّد الدرس والانتفاع.
وذلك هو الموقف العام للنظرة القرآنية للعقل ودوره الأساسي في حركة الإنسان الفكرية والعملية... وقد حاولنا أن نعرض له بصورة إجمالية تشير إلى بعض اللّفتات القرآنية في هذا الجانب.
موقف قرآني بين الانفعالية والعقلانية
وقد نجد في بعض الآيات الكريمة تأكيداً على هذا الأسلوب في القضايا التي تقع مثاراً للجدل والخلاف، وتخلق في السّاحة جوّاً انفعالياً حادّاً يبعد الإنسان عن معرفة الوجه الصحيح للقضية، كنتيجة طبيعيّة للتأثيرات الانفعالية العنيفة... فيحاول الإسلام ـــ من خلال الأسلوب القرآني، إخراج الإنسان من الأجواء الانفعالية، إلى الأجواء الهادئة التي تجعل يفكّر بالقضية في أكثر من اتّجاه، بعيداً عن أيّ تأثّر سريع ليصير بعد ذلك إلى معرفة الحقيقة من جميع جوانبها. ونجد ذلك واضحاً في الآية الكريمة:
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ : 46]
فهي تعرف جيّداً أنَّ مستوى الجماهير لا ينخفض عن السطح إلاّ قليلاً، وتدرك ـــ إلى جانب ذلك ـــ طبيعة الغوغائية التي تكمن في نفس كلّ واحدٍ منهم، وجانب الانفعال والحماس الذي سرعان ما يطغى ويثور. الأمر الذي يمهّد للتهمة ـــ أيّة تهمة ـــ أن تنتشر وتمتد إلى ذهن كلّ واحد منهم دون محاكمة أو مناقشة، حتّى لتنطلق ـــ بعد ذلك ـــ في صورة تيّارٍ جارف يجرف المشاعر والأحاسيس ويحوّلها إلى ما يشبه الطوفان، ولذا فإنَّ الدعوة تدرك أنّها تعيش في موقف معقَّد، لا بدّ لها ـــ في معالجته ـــ من الدقّة والحذر فماذا فعلت؟
إنّها لم تحاول أن تتّجه إلى الجماهير ـــ في وضع خطابي أو إقناعي، لتدفع التهمة عن صاحبها ورائدها الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وذلك بتقديم الأدلّة والبراهين التي تدحض هذه التهمة وتدفع هذه الفرية، لأنَّ الجماهير لا تدرك لغة الحجج والبراهين في طوفان الحماس والاندفاع، فهي لا تستمع إليها ولا تلقي بالاً لما تقول.
... إنَّها لم تحاول ذلك ولم ترد هي أن تقوم بنفي التّهمة، لأنَّ صاحبها ـــ في حسبان الجماهير ـــ لا يعي ما يقول فكيف تقبل منه الحجّة بالدفاع عن نفسه.
بل حاولت أن تدلّ هؤلاء على منهج البحث وطريقة المعرفة، وترجعهم إلى ذواتهم وفطرتهم... ولكن بطريقةٍ لبقة لا تشعر الآخرين بالغاية التي تنتمي إليها فقد دعتهم إلى أن يتفرَّقوا مثنى وفرادى وينفصلوا عن الجوّ العاصف الذي يعيشون فيه. ثمّ يحاولون دراسة هذه التهمة، والتفكير فيها بعيداً عن المؤثّرات العاطفية ليصلوا إلى النتيجة الحاسمة التي يمليها عليهم تفكيرهم الأصل وملاحظتهم الشخصية لأفعال النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وأقواله العامّة.
فهي لم تقم بنفي الفكرة ابتداءً، ولم تتّخذ صفة الناقد لهم والموجّه لأفعالهم، بل حاولت دعوتهم إلى أن يناقشوا الفكرة، ويهيّئوا لأنفسهم الجوّ الهادئ للتفكير والمناقشة. فهي في هذا الجوّ، أشبه بالمتّهم الذي لا يحاول ادّعاء البراءة لنفسه أمام القضاة، بل يكتفي بمحاولة إرشادهم إلى أن يراجعوا الوثائق والمستندات المتعلّقة بقضيّته. ليحكموا ـــ عليه ـــ من خلالها بما يوحي إليهم ضميرهم بعيداً عن أيّ تأثير وهو واثق ـــ في الوقت نفسه ـــ من أنَّ النتيجة ستكون في صفّه(1).
الطريقة العقلانية تؤدّي إلى العمل
وربّما نجد في القرآن الكريم بعض الحديث عن هذا الأسلوب العقلاني الذي يعتمد على إثارة التفكير في المعالم الكونية في السّماء والأرض، ومدى ما يستطيع أن يثير، الإنسان من التحوُّل إلى المواقف العملية التي تحدِّد للإنسان طريقه في الحياة بين يديّ الله تعالى:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ*الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ*رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ*رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ*رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 190 ـــ 194]
فنحن نرى أنّ التفكير العميق الهادف هو الذي قادهم إلى معرفة الله وعظمته من خلال عظمة خلقه، وانتهى بهم إلى النتيجة العملية التي يشعرون فيها بالإيمان يعيش في أعماقهم وينطلق في مناجاة خاشعة واعية، ثمّ يتحوّل بعد ذلك إلى ممارسةٍ للمسؤوليّة، وترقُّبٍ للنتائج الحاسمة لحساب المسؤوليّة أمام الله.
وهكذا نعرف ـــ من خلال هذه الآيات ـــ أنّ المرحلة الأولى التي يريد الإسلام للإنسان أن يبدأها في مجال التفكير لا يريد لها أن تقف وتتجمَّد عند الحدود النظرية للفكر، بل يريد لها أن تظلّ سائرة نحو العمل في طريقها إلى الله.
رفض الإسلام للتقليد الفكري للآباء
ونخلص، من هذا الحديث عن نظرة القرآن الكريم إلى العقل، وإلى دوره الكبير في حياة الإنسان من جميع جوانبها الفكرية والعملية، إلى نتيجة حاسمة، وهي رفض الإسلام لأيّ اتّجاه أو سلوك يبتعد عن الإطار العقلي في شكله وطابعه، ومنطلقه وأبعاده.
وعلى ضوء ذلك نفهم رفض الإسلام للفكر الذي يرتكز على أُسس انفعالية وعاطفية، وللسلوك الإنساني الذي يرتكز على هذا الاتّجاه.
وقد نجد من الخير أن نعرض ـــ في نهاية المطاف ـــ إلى شاهد قرآني من أوضح الشواهد على ذلك، في الحملة التي شنَّها الإسلام في القرآن على أولئك الذين يبرِّرون أفكارهم وعقائدهم، باعتقاد آبائهم بها وانتمائهم إليها نظراً إلى الروح الانفعالية التي تنطلق من فكرة تقديس الآباء وتعظيمهم، ومن الشعور بضرورة السير على خطى الآباء والأجداد، لأنَّ الانحراف عن ذلك، يخلق في داخلهم الشعور بالعار من جهة، وبالإساءة لذكراهم من جهةٍ أخرى.
وكان القرآن حاسماً في ذلك كلّه... فالقضية عنده، أنَّ علاقة الأبوّة وكلّ علاقات القرابة، لا تفرض على الإنسان إلاَّ التعاطف والتراحم، والانسجام مع المشاعر العاطفية الخاصّة، سواءً في ذلك، حال الحياة، وحال الموت.
أمّا العقيدة، أمّا خطّ السير في الحياة، فلا يخضع لأيّ شيء من ذلك، لأنّه مرتبط بدراسة الفكرة في ذاتها، وفي موقعها من الواقع.
وإذا كانت القضية تسير في هذا الاتجاه، فلا بدّ من التجرّد ومواجهة الموقف بموضوعية كاملة لا تنظر إلاّ إلى طبيعة الفكرة، بعيداً عن كلّ المؤثّرات العاطفية التي لا معنى لها.
وبذلك ألغى الإسلام كلّ اعتبار للعلاقات الإنسانية في حال العقيدة، وحطَّم كلّ قداسة للماضي الذي يرتبط الإنسان بجذوره ـــ في هذا المجال ـــ ليفسح المجال للفكر كي ينطلق ويتحرّك بكلّ قسوة وجفاف ـــ إنْ صحَّ التعبير ـــ .
وربّما تتّضح الصورة أكثر في هذه الآيات الكريمة:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة : 170]
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة : 104]
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} [سبأ : 43]
{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]
{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 24]
فهنا منطق يرتكز على أساس الحالة النفسيّة التي ترفض الانحراف عن خطّ الآباء، وتعتبر مخالفة أيّ فكرة لهذا الخطّ سبباً كافياً لرفضها وجحودها.
أمّا منطق القرآن فيرفض ذلك كلّه بقوّة، فهو يريد أن يفتح عيونهم على ذهنية آبائهم وتخلّفهم وإمكانية ابتعادهم عن الحقّ والهدى، أو عدم إدراكهم للأبعاد الحقيقيّة لذلك كلّه، ويوجّههم إلى أن يواجهوا الموقف من خلال قناعاتهم وتأمّلاتهم الخاصّة، بعيداً عن الشعور بقداسة الآباء والأجداد.
ولكن... هل نرفض الانفعال من الأساس
ولكن هل معنى هذا... أنَّ الإسلام يرفض الانفعال من الأساس، فيجرّد الإنسان من كلّ نوازعه الانفعالية في حياته، ويحوّله إلى مخلوقٍ جامد يتحرّك بحساب، ويقف بحساب، بعيداً عن كلّ العواطف والانفعالات، فليس هناك إلاّ الأرقام التي تتكلَّم في ميزان الرّبح والخسارة، في عملية الجمع والطرح.
لن يكون الجواب إيجاباً ـــ فيما نظنّ ـــ
فللانفعال دوره الكبير في توجيه الإنسان نحو نشاطاته الفكرية والعملية، وتنمية دوافعه نحو العمل.. وله تأثيره القويّ في إعطاء العلاقات الإنسانية طابعاً روحياً حميماً يتجاوز لغة الأرقام، إلى مجالات جديدة أخرى، من العطاء والتضحية والإيثار، فإنَّ ذلك هو الحافز الأساسي الذي إذا فقده الإنسان فَقَدَ إحساسه بالحياة، ككائنٍ حيّ تموج المعاني الإنسانية في أعماقه، وتحوَّل إلى آلة تتحرّك دون روح.
إنّ كلّ ما يهدف إليه الإسلام ـــ فيما نفهم ـــ هو تعقيل العاطفة، وتنظيم الانفعال، لأنَّ من شأن العاطفة أن تتدفَّق إلى حدّ الفيضان، فلذا نشعر إزاء ذلك بالحاجة إلى الحواجز والسدود التي تمنعها من الوصول إلى المرحلة التي تتعرَّض فيها حياة الناس للخطر.
أمّا الانفعال، فقد يطغى إلى مستوى الجنون، فلا يعي الإنسان معه ـــ ما حوله ـــ الأمر الذي يدعونا إلى تنظيمه وتبريره حتّى يعرف الإنسان جيّداً. حين يبدأ، إلى أن ينتهي به المطاف.
وبذلك يتحقَّق للإنسان التوازن الذي يستهدفه الإسلام في حركة الإنسان في الحياة، التي يريدها أن ترتكز على أساس المسؤولية الواعية التي تعرف طريقها جيّداً، فلا يسمح بطغيان جانبٍ على آخر، ولا بتغلّب عنصر على عنصر، بل هي الجوانب والعناصر التي تتحكَّم وتنسجم لتجسّد النّفس الإنسانية الواحدة السائرة في الاتّجاه السليم.
الإسلام أمام نماذج متنوّعة من الانفعال
لكي تتّضح الصورة لا بدّ لنا من استعراض بعض الانفعالات التي حاول الإسلام أن يوجّهها من الداخل، على أساس تغيير الدوافع والأسلاب التي تثير الانفعال، وتحويلها إلى أسباب ودوافع جديدة يمكن أن يبني الانفعال الحاصل منها حياة الإنسان ويشارك في الاتجاه بها نحو الأفضل.
هذا من جهة.
ومن جهةٍ أخرى، يحاول الإسلام أن يضبط الانفعال في حالة انطلاقه، ويحصره في نطاقٍ محدود من الممارسة الانفعالية: فشقّ طريق الصبر والإيمان حتّى لا يشذّ الإنسان في انفعالات ويأتي بأشياء منكرة يأباها الخلق والمجتمع فكبح الغضب في عدّة سور من القرآن الكريم والأحاديث النبويّة الشريفة وسيرة آل البيت الطاهرين.
قال الله تعالى:
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ*وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ*أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 48 ـــ 50].
فلقد خلق الله الكون وأحسن خلقه وتيسيره... وسخَّر جميع الكائنات في الأرض والبحار في خدمة الإنسان... فكلّ شيء بحساب، وكلّ حركة بقدر... من أصغر ذرّة إلى أكبر مخلوق... فهي تتحرَّك وتتصرَّف وفقاً للنظام الحكيم بدقّة وانتظام.
وتكتمل الصورة في مشهدٍ آخر.
فالإنسان لم يخلق عبثاً.. فهو ـــ في الحياة ـــ مخلوق ذو رسالة. يلزمه أن يجسّدها في الحياة من خلال سلوكه وسلوك الآخرين، ومن خصائص العمل الرسالي، أن يحدّد للإنسان مسؤوليّته ـــ ويواجهه ـــ بعد ذلك، بنتائجها. في حساب الثواب والعقاب، لينطلق في حياته على أساس مدروس ومنظَّم.
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ*فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 6 ـــ 8]
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49]
وعلى ضوء هذا كلّه.
فأين يكون الخوف؟
هل نخاف من القوى الكونيّة؟
إنّها ليست إلاّ ظواهر طبيعيّة تخضع لأسباب معيّنة يمكن للإنسان أن يتعرَّف عليها من خلال الثقافة العلمية المبسّطة ويمكن له أن يوفّر لنفسه سبل الحماية في كثيرٍ منها.
هل نخاف من قوى الشرّ؟
إنّهم لا يملكون لنا ضرّاً إلاّ بالله. فلا يجوز لنا أن نخافهم ما دام الله قادراً على أن يصرف عنّا كيدهم، وما دمنا نؤمن أنّنا مخلوقون مثلهم، وأنّهم لا يملكون طاقة غير عادية لا نملك تحصيلها.. بل كلّ ما يملكون من طاقةٍ فهو مماثل لما نملكه، أو لِمَا نستطيع أن نملكه في قليل أو في كثير... وكلّه تحت قدرة الله وسلطته.
وتلك هي صورة الإنسان المؤمن الذي يواجه قدرة البشر كلّها، يصوّرها لنا القرآن الكريم بقوله تعالى:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ*فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173 ـــ 174]
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]
هل نخاف من الفقر؟
إنَّ الرزق بيد الله، فهو مقدّرٌ منه، بحسب الظروف التي تحيط بالإنسان، والقدرات التي يملكها، والفوارق التي تتاح له لا يزيد ولا ينقص.
إنَّ لك أن تبذل كلّ جهدك. وكلّ وقتك، منفرداً أو منضمّاً إلى الآخرين في العمل، وفي توفير الفرص في تهيئة الأجواء.. فهي الأسباب الطبيعيّة التي تستطيع في إطارها التحرّك من أجل الحصول على الرزق.. ثمّ يبقى بعد ذلك الفرص التي لم تحتسب، وغير ذلك ممّا يوفّره الله للنّاس بأسبابٍ غير عادية.
هل تخاف من المجهول؟
إنَّ المجهول ليس قوّةً مجنونةً تتحرّك دون وعي ولا نظام، حتّى تخاف منها أن تقتحم حياتك عليك فتدمّرها وتذهب بكلّ شيء.
إنَّ المجهول. هو حياة المستقبل، التي تخضع لتدبير الله ونظامه، وتتحرَّك وفق السنن الكونية التي أودعها الله فيه على أساس الحكمة والرحمة، تماماً، كما هي حياة الحاضر والماضي التي كانت سائرةً وفق الحكمة والنظام.
ولذا، فإنَّ عليك أن تواجه التطلُّع إلى المجهول بروح تحسب ما تستطيع عمله، وتترك لتقدير الله وتدبيره ما لا تستطيع إدراكه أو عمله، لتشعر بالرضا والطمأنينة وتبتعد عن الشعور بالضياع والقلق المدمَّر.
وهذا ما يفسّر مفهوم التوكُّل على الله، الذي يجسّد الطمأنينة الهادئة بالمستقبل لأنّه في رعاية الله وتدبيره، بعد أن قام الإنسان بكلّ ما يجب عليه تجاهه.
وقد ورد في الحديث الشريف في تحديد معنى التوكُّل: ألاَّ تخاف أحداً إلاّ الله.. من قوى كونية، أو قوى بشرية.
هل تخاف من الموت؟
إنَّ الأعمار بيد الله، فهو الذي حدَّدها ضمن النظام الكوني، وهو الذي خلق الموت والحياة، {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف : 34]
ماذا تخاف منه؟
أتخاف شكله أو أجواءَه، إنّه جواز المرور إلى حياةٍ جديدة، أفضل من حياتك في السّعة والامتداد والشمول والتجرُّد.
أتخاف من حدوثه؟ كيف؟ أيمكن ألاَّ يحدث أبداً.. وإذا كان أمراً حتمياً، فأين يكون الخوف؟ ما معناه؟
إذن.. فالصورة ليست ضائعة الألوان والخطوط، حتى نخاف وحشة الأشباح فيها.. فنحن جزءٌ من هذا النظام.. وفي إطاره نتحرّك، في ظلّ رعايةٍ رحيمةٍ حكيمةٍ، هي الأول والآخر في كلّ شيء، وليس لغيرها من الأمر شيء.
فلماذا تخاف من الحياة؟
ولماذا نخاف من الموت؟
إنّك في الحياة في رحمة الله، وبعد الموت في رحمة الله... فأين يكون الخوف، وما معناه؟
وتزول المثيرات المادية للخوف من نفس الإنسان، بفعل الإيمان بالله، والاطمئنان للقضاء والقدر.
ويبقى عنصر واحد يشغل عقل الإنسان وروحه، فيثير فيه انفعالات الخوف من المستقبل، ولكنّه ليس مستقبل الدنيا، بل مستقبل الآخرة.
إنّه عنصر المسؤوليّة العملية التي يتحرّك فيها الإنسان، ليواجه حسابها أمام الله، فيظلّ نهب الشعوب بالخوف من التقصير والقلق من الإهمال.
ويظلّ الخوف من الله، من غضبه وعقابه، يهزّ ضمير الإنسان المؤمن وكيانه، ليحرّك فيه الحافز الأعمق للسير في الخطّ المستقيم. الذي يؤمّن له الاطمئنان إلى رضاء الله ورحمته.
{قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام : 15]
{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام : 51]
{يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور : 37]
وحتّى الخوف من الله.. لا يتحوَّل إلى عقدة مرضية تشلُّ في الإنسان قدرته على العمل.. فهناك بابٌ يفتحه الإسلام للأمل والرجاء لله، في العفو والمغفرة.. ولكنّه رجاء لا يبعث على التمادي في الضلال، كما كان الخوف لا يشجّعه على اليأس والقنوط.
الغضب في مفهوم الإسلام
في بعض النصوص الدينيّة: إنَّ الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، وإنَّ أحدكم إذا غضب احمرَّت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه.
وفي حديث النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخلّ العسل".
وفي حديث الإمام جعفر الصادق: "الغضب ممحقة لقلب الحكيم".
وفي حديثٍ آخر له: "الغضب مفتاح كلّ شرّ".
وفي حديثٍ ثالث عنه: "مَن لم يملك غضبه لم يملك عقله".
هذه هي بعض النصوص الإسلامية التي تتحدّث عن الغضب، وعن آثاره في حياة الإنسان الروحية والعقلية والعملية فنلاحظ في الحديث الأوّل: أنّه اعتبره من الحالات الوجدانية التي تتَّقد في كيان الإنسان وقلبه، كما تتّقد الجمرة فتبعث الشرّر واللّهب فيما حولها، فيتحوّل الإنسان إلى أعصاب تلتهب بالمشاعر العنيفة، وإلى نوازع تتحرّك بجنون، وعند ذلك تنطلق عوامل السّوء ونوازع الشرّ. لتملأ كيان الإنسان فتحرّكه نحو غاياتها بكلّ سهولة، لأنَّ النفس تفقد ـــ مع الغضب ـــ وداعة الملاك وخيره، لتخضع لجنون الشيطان وشرّه.
إنّها تتحوّل إلى أعصاب ثائرة بدون عقل، ومشاعر هائجة دون ردع.
وربّما نجد ملامح هذا المعنى في الحديث الرابع: لأنَّ النّفس إذا عاشت هذا الجوّ المحموم الحادّ، فقدت الحاجز الذي يغلق عنها أبواب الشرّ، الأمر الذي يهيّئ للشرّ أن يندفع نحوها بكلّ قوّة وجنون.
أمّا الحديث الثالث والخامس فيتعرّضان للآثار السيّئة التي يتركها الغضب في عقل الإنسان وفكره، فهو يمحق قلب الإنسان الحكيم (والمراد بالقلب: الفكر) لأنَّ الغضب ـــ كما ألمحنا إليه، يساهم في اختلال التفكير الدقيق المنتظم الذي يرتكز على الصورة الواضحة، والمعاني الدقيقة التي يعمل الفكر على التنسيق بينها وربط بعضها ببعض لتحويلها إلى نتائج جديدة.
وكما يمنع الغضب من التفكير الدقيق، يمنع ـــ من جهةٍ أخرى ـــ من قدرة العقل على مراقبة العمل والتصرُّف، ويخفّف من حركته في مجال النقد والتمحيص، وعندما تضعف الإرادة، ويتضاءل دور النقد لدى الإنسان، يصبح الشخص خاضعاً لحواجز عمياء ودوافع جبرية.
وفي الحديث الثاني المأثور عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) نعرف تأثير الغضب في الإيمان، فنرى أنّه يفسد على الإنسان إيمانه، كما يفسد عليه عقله، لأنَّ الإيمان بالله يرتكز على وعي الإنسان العميق، لعلاقته بالله، وارتباطه بأوامره ونواهيه، الأمر الذي يحتاج الإنسان معه إلى أن يظلّ على اتصال بالروح الهادئة والتفكير العميق.
وقد عرفنا أنّ الغضب يفقد الإنسان هدوء روحه وسلامة تفكيره، وإذا فَقَدَ ذلك فَقَدَ وعيه لله والتزامه بإرادته.
كيف يثور الغضب؟
في حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): قال الحواريون لعيسى (عليه السلام) أيّ الأشياء أشدّ؟ قال: أشدّ الأشياء غضب الله قالوا: بم نتّقي غضب الله قال: بأن لا تغضبوا قالوا: وما بدء الغضب؟ قال: الكبر والتجبُّر ومحقرة الناس.
فقد نلاحظ ـــ في هذا الحديث ـــ أنّ بعض أسباب الغضب ـــ في مجال العلاقات الإنسانية، يمكن في شخصية الإنسان من الداخل.
فالإنسان الذي يعيش الكبر في نفسه، والتجبُّر فيمن حوله، ويشعر بالاحتقار للآخرين، لا يستطيع أن يملك نفسه عندما يثار، فهو يرى لنفسه الحقّ على الناس في كلّ شيء، ولا يرى لهم عليه أيّ حقّ... وبذلك تبقى حياته معهم، في حالة توتُّر دائم، وقلق مدمّر، يُرهف جانب الإحساس الذاتي لديه، حتّى تتحوّل ذاته إلى عقيدةٍ.. وتتطوَّر العقدة إلى جنون يشعر معه بنفسه وكأنّه قدس الأقداس الذي ينبغي للحياة أن تظلّ صاغرة لديه تسبّح لآلائه وتقدِّس رغباته.
وتتبدَّل نظرته إلى ما حوله ومَن حوله تبعاً لذلك، فالحياة كلّها في خدمته، والآخرون ـــ من بني الإنسان ـــ مسؤولون عن راحته حتّى على حساب راحة أعصابهم، فليس لهم أن يتكلَّموا معه إلاَّ من خلال الشعور بقداسته، والإحساس بعظمته، وإلاَّ، فعليهم أن يعرِّضوا أنفسهم لغضبه، فيما إذا صدرت منهم بعض الكلمات أو الحركات أو الأوضاع العامّة أو الخاصّة التي لا تتلاءم مع مزاجه أو لا تنسجم مع رغباته، وإنْ لم يكن لها صلة به من قريب أو من بعيد، لأنّه يرى أنَّ من حقّه، أن يدرس الناس كلّ شيء من خلال راحته لا من خلال السنّة الطبيعية للحياة.
إنَّ هذا التركيب المرضي لطبيعة هذا الإنسان هو الذي يدفع الإنسان إلى الثورة العمياء على من حوله وما حوله، لدى أقلّ شيء مزعج، وإن لم يكن له أثر في نطاق الحياة العادية.
وهذا هو ما نشاهده بارزاً في سلوك كثير ممّن يملكون الثورة الكبيرة أو الجاه العظيم، أو السلطة الواسعة.
إنَّ الأشياء تتضخَّم عندهم من خلال شعورهم بضخامة شخصيّاتهم، وحقارة شخصيات الآخرين حتّى تتحوّل المطالبة بالحقّ ـــ عندهم ـــ إلى عدوان على السلطة، لأنّهم لا يشعرون بأنَّ للآخرين حقّاً لديهم، ولذا فإنّهم يثورون ويغضبون لذلك، وربّما يقودهم الغضب إلى الجريمة.
وقد تنطلق الكلمة طبيعيةً من الناس في عتاب أو غيره ممّا يشبهه، فتتحوّل ـــ في وجدانهم المريض ـــ إلى ما يشبه الشتم والسُّباب، إذ ليس للنّاس أن يخاطبوهم كما يخاطبون بعضهم البعض حتّى في أشدّ العلاقات الحميمة، كعلاقة الزوج بزوجته.. فقد نلاحظ أنّ بعض هؤلاء يتصوَّر أنّ على زوجته أن تعيش معه في إطار الاحترام المقدَّس حتّى في الأوضاع الزوجية الخاصّة جداً.
من الطبيعي أن نقرّر، أنّ مثل هذه الحالة تختلف في الإنسان شدةً وضعفاً، ولذلك فإنَّ تأثيرها في إثارة الانفعال يختلف في شدّته وضعفه تبعاً لذلك، فكلَّما ازداد الإنسان شعوراً بذاته، كلّما ازدادت عوامل الإثارة لديه حتّى فيما لا يثير بشكلٍ عادي، وكلَّما فَقَدَ الإنسان الشعور بذاته بشكلٍ مميّز يجعل له الحقّ على الناس، كلّما كان أبعد عن الإثارة وأقرب إلى الهدوء، وإلى مواجهة القضايا من خلال ظروفها الطبيعيّة وأحوالها العادية.
وربّما يظنّ بعض الناس: أنَّ الغضب مظهر من مظاهر الشجاعة، ووسيلة من وسائل تأكيد الذّات، وشعورها بالعزّة والكرامة أمام عوامل الإثارة مِن قِبَل الآخرين.. ويذكرون شاهداً لذلك كلمة الإمام الشافعي المعروفة: من استغضب ولم يغضب فهو حمار، ويخيّل إليهم إنّهم حينما يغضبون أو يثورون لا يفعلون شيئاً، إلاّ ما تمليه عليهم مواقف العزّة والكرامة التي يريدها الله للمؤمنين.
ولكن هذا الظنّ خطأ، فإنَّ الغضب بعيدٌ كلّ البعد عن هذه المعاني الكبيرة، وقد ورد عن النبيّ في الحديث المأثور "ليس الشّديد بالصُّرعة، إنَّما الشّديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
ويعجبني في هذا المجال كلام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدّين قال:
"وتسمية هذا عزّة نفس وشجاعة، جهل، بل هو مرض قلب ونقصان عقل، وهو لضعف النّفس ونقصانها وآية أنّه لضعف النّفس، أنّ المريض أسرع غضباً من الصحيح، والمرأة أسرع غضباً من الرجل، والصبي أسرع غضباً من الرجل الكبير، والشيخ الضعيف أسرع غضباً من الكهل، وذو الخلق السيّئ والرذائل القبيحة أسرع غضباً من صاحب الفضائل، فالرذيل يغضب لشهوته إذا فاتته اللّقمة، ولبخله إذا فاتته الحبّة حتّى أنّه يغضب على أهله وولده"(1).
وقد ينطلق الغضب من الحالات الحادّة التي تواجه الإنسان بما يكره، كالاعتداء على شيء يقدّسه أو يحبّه أو حرمانه من بعض الحاجات الشخصية، أو تعرّضه لبعض المواقف المحرجة، وغير ذلك من الحالات التي يفقد فيها الإنسان انسجامه مع الواقع الذي يواجهه، أو يحيط به، فيتحوَّل إلى حالة انفعال حادّةٍ تشبه الهياج الجنوني الذي يفقد الإنسان فيه عقله نتيجة فقدانه لتوازنه.
ولعلَّ أقرب التحليلات للغضب في مثل هذه الحالات، هو اندفاع الإنسان للخروج من المشكلة التي تواجهه، أو الموقف الذي يكرهه، بطريقة سريعة، يختصر فيها الوسائل العملية للوصول إلى النتيجة بشكل لا شعوري، أو محاولة التعويض عن الشعور العميق بالفشل والعجز عن الوصول إلى حلّ، فيلجأ إلى الغضب كأسلوب من أساليب تأكيد الذّات.
كيف يمكن السيطرة على الغضب
هناك طريقتان للسيطرة على الغضب.
الأولى: أسلوب السيطرة على دوافعه وأسبابه، وذلك بأن نحصر مؤثّرات الغضب في مجالات معيّنة محدودة وذلك بإزالة الكثير من المؤثّرات التي تدفع إلى ذلك.
وهذا ما نسمّيه بعملية "التبريد من الداخل".
فإذا عرفنا أنّ الغضب ينشأ ـــ في كثير من حالاته ـــ عن الكِبَر والتجبُّر واحتقار الناس ـــ كما جاء في الحديث المتقدِّم ـــ أمكننا أن نبدأ في التخطيط لإزالة هذه الصفات من شخصية الإنسان، ليتحوّل إلى إنسان متواضع هادئ، يحترم مَن حوله، ولا يشعر بأنّ له أيّ حقّ عندهم، إلاَّ بمقدار ما يقدّم إليهم من خدمات، كما يتحسَّس بظروفهم وأوضاعهم الصعبة التي تدفعهم إلى ممارسة بعض الأخطاء في علاقتهم به وبالآخرين... فيحاول من خلال هذه الروح إيجاد المبرّرات والأعذار لهم في ذلك، ممّا يجعله يتقبَّل كلّ الأوضع الشاذّة بروحية هادئة غير منفعلة.
ومن الطبيعي، أنّ ذلك يحتاج إلى جهد كبير ومعاناة شاقّة، يشترك فيه التوجيه الفكري والروحي مع التدريب العملي والإرادة القويّة، وهذا هو الذي يسعى إليه الإسلام في بناء شخصية الإنسان المسلم في الأحاديث المأثورة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) التي تصوّر لنا المثل الحيّ للإنسان المؤمن في الحياة.
فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: "ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصال: وقور عند الهزاهز، صبور عند البلاء، شكورٌ عند الرّخاء، قانعاً بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء، ولا يتحامَل للأصدقاء، بدنه منه في تعب، والناس منه في راحة، إنَّ العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والعقل أمير جنوده، والرّفق أخوه، والبرّ والده"(1).
فقد رأينا ـــ في هذا الحديث ـــ الملامح البارزة للشخصية الإسلامية التي يريد الإسلام للمؤمن أن يجسّدها في نفسه، من خلال المعاناة الطويلة المجهدة التي تجعله يعيش في حالة طوارئ داخلية من أجل أن يحصل على النّفس القويّة المتماسكة التي لا تنهار أمام عوامل الانفعال في ذاتها، أو مع الآخرين.
وقد كثرت النصوص الدينيّة التي تصوّر للإنسان مساوئ الكبر ونتائجه السيّئة في حياة الفرد والمجتمع. ثمّ تقارن بين هذه الصورة وبين صورة التواضع ونتائجه الحَسَنَة في حياة الناس... ثمّ تنطلق، في محاولة ثانية، لتطلب من الإنسان القيام بعملية تدريب طويلة، بأساليب عديدة، للوصول إلى الحالة التي يصبح فيها التواضع خُلُقاً طبيعياً للإنسان يتعلَّم فيه الإنسان كيف يحترم من حوله من خلال ظروفهم وأوضاعهم الخاصّة والعامّة.
وقد نجد ـــ الإيحاء بهذا الأسلوب ـــ في الأحاديث الكثيرة الداعية إلى الحلم، والمرغبة فيه، ببيان النتائج الكبيرة التي يحصل الإنسان عليها في الدُّنيا والآخرة من خلال الاتّصاف به.
والحلم: "هو طمأنينة النّفس بحيث لا يحرّكها الغضب بسهولة، ولا يزعجها المكروه بسرعة، فهو الضدّ الحقيقي للغضب، لأنّه المانع من حدوثه، وبعد هيجانه"(1).
وقد يتمثَّل في الحالة النفسية الهادئة التي تواجه عوامل الغضب بهدوء، وقد يتمثّل في الممارسة العملية الهادئة التي يواجه بها الإنسان حالات الغضب بعد هيجانه وثورانه.
وقد دعا الإسلام إلى كلتا الحالتين، في أكثر من حديث، وطلب من الإنسان أن يدرِّب نفسه على تكلُّف الحلم، إذا لم يكن الحلم خلقاً طبيعيّاً له، ليتحوّل بالتدريب إلى إنسانٍ حليم.
ففي نهج البلاغة: "إذا لم تكن حليماً فتحلَّم فإنّه قلّ أن تشبه أحدٌ بقوم إلاّ وأوشك أن يكون منهم".
وفي حديث النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "أنّ الرجل المسلم ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم".
وفي حديثٍ آخر عنه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): ينفي فيه اعتبار الحلم ذلاً ـــ "ما أذلَّ الله بحلم قطّ".
وقال عليّ بن الحسين (عليه السلام): "أنّه ليعجبني الرجل أن يدركه حلمه عند غضبه".
وفي نهج البلاغة: "أوّل عوض الحليم عن حلمه، أنّ الناس أنصاره على الجاهل".
ولعلَّ من أقرب الأساليب الموصلة إلى هذا الهدف ـــ أعني تبريد النفس من الداخل ـــ هو تعويد الإنسان نفسه على أن يفكّر في كلّ قضية تعرض عليه، وفي كلّ مشكلة تواجهه، ويتدبَّر جذورها ونتائجها، ليستطيع الوقوف بهدوء ووعي عميق، لأنَّ أغلب دوافع الغضب، تتمثّل في فهم الموقف من وجهٍ واحد بشكلٍ سريع. فقد جاء في حديث السيرة النبويّة، أنَّ رجلاً جاء إلى النبيّ فقال أوصني يا رسول الله، فقال له النبيّ فهل أنتَ مستوصٍ إذا أنا أوصيتك قال: بلى يا رسول الله، ويكرِّر النبيّ السؤال ثلاث مرّات، ويجيب الرجل بالإيجاب، فيقول له النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في نهاية المطاف، إذا أنتَ هممت بأمرٍ فتدبَّر عاقبته، فإن يك رشيداً فأمضه، وإن يك غيّا فانته عنه.
الثانية: أسلوب السيطرة على نوازعه ونتائجه، فنحن نعلم أنّ الغضب الذي يحدث في الداخل، يحاول أن يعبّر عن نفسه في الخارج بأساليب متعدّدة، تختلف حسب اختلاف ذهنية الشخص وثقافته وبيئته، فقد يكون أسلوب التعبير عملاً يدوياً، كالضرب والقتل، وما إلى ذلك، وقد يكون عملاً آخر كالسبّ والشتم والفحش بالقول أو تحطيم ما حوله من أثاث وغيره، وقد يتحوّل إلى خطّة عملية تعتمد على أسلوب اللّف والدوران الذي ينتهي إلى الإيقاع بالمعتدي بطريقةٍ لبقة.
وقد توفّرت النصوص الدينية الكثيرة، على الحديث عن الغضب من خلال نتائجه السيّئة، ففي حديث الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام): "إن كفر أحدكم في غضبه ولا خير فيمن كان كفره في غضبه"(1)، وفي حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) كان أبي يقول: أيُّ شيء أشدّ من الغضب؟. إنَّ الرجل ليغضب فيقتل النَّفس التي حرَّم الله ويقذف المحصنة. وفي حديث الإمام محمّد الباقر (عليه السلام): إنَّ الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتّى يدخل النار.
وقد عالجت بعض الأحاديث، الأساليب التي يمسك الإنسان فيها نفسه عن التصرُّف في حالات الغضب، ففي بعض الأحاديث تذكير للغاضب، بغضب الله عليه بسبب معاصيه، كما يغضب، هو، بسبب إساءة الآخرين إليه، ووعده بأن كفَّ الغضب عن الناس يؤدّي بالنتيجة إلى كفّ الله غضبه عنه.
ولا بدّ للمؤمن الذي يرجو رضا الله عنه ويخاف من سخطه عليه، أن يعمل للحصول على هذه النتيجة الطيّبة لكفّ غضبه عن الآخرين، كلَّما عرضت له عوامل الغضب، ودعته إلى أنْ يتصرَّف بسوء.
ففي الحديث عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "مَنْ كفَّ غضبه عن الناس كفَّ الله عنه عذاب يوم القيامة".
وفي الحديث عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام): مكتوب في التوراة فيما ناجى الله به موسى: "أمسك غضبك عمَّن ملكتك عليه أكفّ عنك غضبي".
وفي الحديث عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام): مكتوب في التوراة: فيما ناجى الله به موسى: "أمسك غضبك عمَّن ملكتك عليه أكفّ عنك غضبي".
وفي الحديث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): أوحى الله إلى بعض أنبيائه "يا بن آدم اذكرني في غضبك أذكرك في غضبي"، وربّما نستفيد من هذا الحديث معنىً آخر، وهو أنَّ على الإنسان أن يذكر الله عند غضبه، ليمنعه شعوره برقابة الله عليه وإطّلاعه على ما يعمل، من أن يتصرَّف تصرُّفاً في غير رضا الله... فيهدأ ويطمئن بعد ذلك، لأنَّ التفكير في العواقب والخشية من الله يدفعان الإنسان إلى فهم الموقف فهماً عميقاً لا يسمح بالوقوع في الخطأ في أغلب الحالات.
وقد أشارت بعض النصوص إلى الطرق التي تشغل الإنسان عن الاندفاع بعيداً في غضبه، وذلك كالاستعاذة من الشيطان والجلوس إن كان قائماً، والاضطجاع إن كان جالساً، والوضوء أو الغسل بالماء البارد، ومسّ ذي الرّحم إن كان غضبه على ذي رحم فإنَّ الرّحم إذا مُسّت سكنت.
ولعلَّ قيمة هذه الأفعال، أنّها تخرج الإنسان من جوّ الغضب، إلى جوٍّ جديد يرجع فيه الإنسان إلى نفسه، ليبدأ تفكيراً جديداً في الموقف، يبدّل فيه مشاعره ونوازعه.
كظم الغيظ
وقد أكثرت النصوص الدينية، من الآيات القرآنية، والأحاديث الشريفة، من التحدُّث عن كظم الإنسان غيظه، واعتبرته من الصفات الكبيرة التي ترفع من مكانة الإنسان، ومنزلته عند الله وعند الناس فقد قال الله تعالى، في معرض الحديث عن صفات المتّقين الذين وعدهم الله بالجنّة والمغفرة والرضوان.
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران : 134]
ويلاحظ في هذه الآية الشريفة، أنّها لم تكتف بأن يكبت الإنسان غيظه، بل أرادت أن يعيش الإنسان روح العفو عن الناس، لئلا يتحوَّل الغيظ المكبوت في نفسه إلى عقدةٍ، ثمّ طلبت منه أن يتبع ذلك بالإحسان ليزول عنه كلّ أثر.
وفي الحديث عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "مَنْ كظم غيظاً ـــ ولو شاء أن يمضيه لأمضاه ـــ ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا".
وفي حديثٍ آخر عنه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "من أحبّ السبيل إلى الله جرعتان: جرعة غيظ يردّها بحلم، وجرعة مصيبة يردّها بصبر".
وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): "ما من عبدٍ كظم غيظاً إلاَّ زاده الله عزّاً في الدُّنيا والآخرة".
وتهدف هذه النصوص إلى تربية الإنسان على هذا السلوك من خلال الثواب الكبير عليه ليمارسه الإنسان على أساس الحصول على الثواب في البداية، ويتعوَّد عليه من خلال ذلك حتّى يتحوَّل إلى طبيعة جديدة ينطلق فيها بشكلٍ عفوي دون التفات إلى شيء، تماماً، كالصّفات الطبيعية المودعة في ذاته.
الأدب حالة الغضب
وفي الحديث المأثور عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه نهى عن الأدب وقت الغضب.
ولعلَّ السرّ في ذلك، أنّ التربية تستهدف تقويم اعوجاج المنحرف، وتصحيح خطأ المخطئ، وتقوية نقاط الضعف ولا بدّ للإنسان الذي يمارسها ـــ من خلال هذه الأهداف ـــ أن يكون واعياً لدوره، مالكاً لأعصابه، حتّى يستطيع معرفة ماذا يجب عليه أن يفعل، وماذا يجب أن يترك، لأنَّ للتربية ميزاناً دقيقاً لا بدّ من رعايته، فربّما يكون الرّفق هو سبيل التأديب في بعض الحالات، فإذا لجأ الإنسان إلى العنف انقلب الموقف إلى ضدّه.
وهناك من الناس، من تصلحه الكلمة، فلا يجوز ممارسة الضرب معه لأنَّ ذلك يخلق عنده عقدةً مضادّةً، وهناك قسمٌ آخر، يصلحه الضرب فلا يمكن للكلمات أن تؤذيه، وتؤثّر فيه شيئاً.
وعلى ضوء ذلك، لا يمكن للتربية أن تؤدّي رسالتها في حالات الغضب، لأنَّ التصرُّف قد ينطلق من الحالات النفسية الغاضبة، فيتحوَّل الموقف إلى عملية تفجير للعقد النفسية المكبوتة إزاء المواقف السابقة البعيدة عن حالات الأدب والتربية، كما نشاهده كثيراً في موقف بعض الآباء والمعلّمين الذين يأتون إلى البيت، أو الصف، وهم يعانون أزمةً نفسيّة حادّة بسبب خلافٍ، مع بعض الناس، أو فشلٍ في بعض المواقف.. وتكون الصدفة أن يخطئ التلميذ أو الولد خطأ ليس بذي بال، فيتجمَّع الغيظ في صدر الأب أو المعلِّم، ويتفجَّر حُمماً في وجه الولد أو الطالب المسكين دون أن يكون قد فعل شيئاً يوجب ذلك لولا الأزمة النفسية التي يعانيها المؤدِّب.
الغضب العقلاني
وهناك نوعٌ من الغضب، تحدّثت عنه النصوص الدينيّة بكثير من التقدير وهو الغضب لله. ويعبّر عن الحالة النفسية التي يعيشها الإنسان إزاء التعدّي على بعض حرمات الله، والتي تدفعه إلى التصرُّف الثائر لأجل حفظ هذه الحرمات. فقد ورد في نهج البلاغة: "من أحدَّ سنان الغضب لله قوي على قتل أشدَّاء الباطل".
فقد اعتبر الغضب لله، من إحدى الوسائل العملية التي تعطي الإنسان قوّة مضاعفة على مواجهة أنصار الباطل وجنوده الأشدّاء، بما يعطيه الغضب من حيويّة واندفاع للموقف.
وقد تحدَّث القرآن الكريم عن موسى (عليه السلام) أنّه غضب واشتدَّ به الغضب عندما قدم من مناجاته لربّه ليرى قومه وقد اتّخذوا العجل، فكان غضبه محاولة منه للسيطرة على الموقف من جديد، لا مجرَّد انفعال عفوي يصدر منه دون إرادة.
{بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ*سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 150 ـــ 151]
ويحلو لنا أن نسمّي هذا الغضب "الغضب العقلاني" لأنّه ينطلق من خطّة واعية تعتبر الغضب أسلوباً من أساليب تنفيذ الخطّة.
ومن مظاهر هذا الغضب، أن نجد له هدفاً معيّناً يقف عنده، لا يتجاوزه لغيره، كما أنّه لا يتعدّى الحدود المرسومة له شرعاً في وسائل ممارسته، وفي طريقة التعبير عنه.
وربّما نجده في بعض الأساليب التي تتبعها التيّارات الاجتماعية والسياسية والدينية، في إثارة موقف معيَّن حادّ ضدّ الفئات الأخرى على أن لا يتجاوز حدّاً معيّناً تقتضيه الخطّة المرسومة.
ولعلَّ قيمته تكمن في أنّه يدلّل على عظمة الله في نفس الغاضب. الأمر الذي يجعله ينفعل في حالة الاعتداء على مقدَّساته وحرماته، انفعالاً يتّجه لردّ الاعتداء بالأسلوب الذي يرضي الله ولا يتعدَّى حدوده.
الغضب في نهاية المطاف
وهكذا نعرف أنَّ الإسلام لا يريد للغضب أن يتحرَّك، كما تتحرَّك الرياح المجنونة التي تنطلق لتحطّم كلّ شيء أمامها بل يريد له أن يتحرَّك، في عقلانية واعية يحقّق الإنسان من خلاله هدفاً معيّناً خطّط له في البداية ليكون الغضب جزءاً من خطّة، ومرحلةً في طريق الهدف.
... حتّى إثارة الغضب لدى الآخرين لا يراد منه ـــ في حال ممارسته ـــ إلاّ خلق حالة من الاندفاع القوي لديهم نحو العمل حيث يساهم ذلك في تفجير وعي العمل من الداخل.
وبهذا يدخل الأسلوب العقلاني في توجيه الغضب نحو الهدف الأمثل، توجيهاً يخدم الحياة ويثيرها في طريق الإيجابية، دون أن يترك أيّة نتائج سلبية في الطريق.
الإسلام أمام انفعالات الحزن
الحزن من الانفعالات التي تحدث للإنسان في حالات المصيبة، وفي حالات الفشل، وفي حالات الألم، ويختلف التعبير عنه، حسب اختلاف الشخص الحزين، في نفسه، وفي درجة الحزن.
فكيف واجَهَ الإسلام هذا الانفعال؟
إنّه واجَهَ الحزن في عدّة مواقف.
فهناك الحزن الذي يحصل للإنسان في حالة المصيبة.
وهناك الحزن الذي يحدث له في حالة الفشل في عمل أو دعوة.
وهناك الحزن الذي يغمره في حالات الخسارة.
الحزن في حالة المصيبة
أمّا الموقف الأوّل، فقد احترم الإسلام فيه حزن الإنسان، وأقرَّه واعتبره علامةً من علامات الإنسانية التي إذا تجرّد الإنسان عنها، تحوّل إلى مخلوق يشبه الحجر في قسوته وجموده.
ثمّ اقترب الإسلام من وسائل التعبير عنه، فشجَّع الوسائل الهادئة التي تعبّر عن الحزن بهدوء، دون أن تُفقد الإنسان تماسكه، وصموده أمام الصدمة... فسمح للدموع أن تنساب بهدوء ورحمة، ولكنّه لم يسمح للإنسان أن يتكلَّم بكلام غير مسؤول، ولم يسمح للوسائل العنيفة التي يدفع إليها طغيان الحزن إلى حدّ الجزع، كاللّطم وخدش الوجه ونتف الشعر، وما إلى ذلك من الوسائل التي تعبّر عن فقدان الإنسان لتوازنه، وانهيار شخصيّته القويّة أمام المصيبة.
فقد ورد عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه وقف أمام جَسَد ولده الوحيد إبراهيم وقال:
"تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما لا يرضي الرّب".
فللقلب أن يحزن، لأنَّ الحزن دليل العاطفة الإنسانية التي يعتبرها الإسلام حدّاً فاصلاً بين الإنسان وغيره.
وللعين أن تدمع، لأنَّ للعاطفة الحقّ في التعبير عن نفسها لئلا تتعقَّد في الداخل، ولكن ليس للعاطفة أن تطغى على إيمان الإنسان بالله، فتتكلَّم كلاماً لا يرضي الله... حتّى في الكلمات التي يعبّر عنها الإنسان عن حزنه وعن مشاعره تجاه الميّت، يمنع الإسلام الانفعال أن يطغى فيمدحه بما ليس فيه، أو يتكلَّم عنه كلاماً ليس في محلّه، تدريباً للإنسان على أن يلجم انفعاله عندما تنطلق المبادئ لتتكلَّم وتسير.
وعلى ضوء هذا يريد الإسلام للإنسان، حتّى، وهو يعيش الإحساس الدامي بالمصيبة، أن يعيش التفكير بالحدود التي يجب أن تقف عندها العاطفة. ولهذا حارَبَ الإسلام الجزع الذي يعبّر عن الحالة الوجدانية العنيفة الذي لا يملك الإنسان فيه قيادة نفسه في الداخل وفي الخارج، لأنّه يحوّل الإنسان إلى شخص غير مسؤول، لا ينظر إلاَّ إلى الزاوية العاطفية من القضية، فلا يلتفت إلى بقيّة الزوايا الأخرى التي تقف فيها شخصية الإنسان أمام تطلُّعات المستقبل، وتتجلَّى معها طبيعة النظام الكوني الذي يحكم الأشياء.
وقد تحدَّث الإمام عليّ (عليه السلام) في كلماته القصار في نهج البلاغة عن الصبر والجزع في عدّة أساليب.
ففي بعض كلماته: "مَن لم ينجه الصبر أهلكه الجزع".
وقال: "الصبر يناضل الحدثان والجزع من أعوان الزمان".
وفي الحديث الذي يرويه جابر عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) قلت له: ما الجزع؟ قال: أشدّ الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر وجزّ الشعر من النواصي، ومَن أقام النواحة فقد ترك الصبر وأخذ في غير طريقه.
وفي الحديث عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "ضرب المسلم يده على فخذه عند المصيبة إحباطٌ لأجره".
وهكذا يحاول الإسلام الإيحاء للإنسان بالتصرُّف المسؤول عند المصيبة بالطريقة التي لا تحبط أجره ولا تُخمد عاطفته، ولا تفقده توازنه، الأمر الذي يجعل الإنسان واعياً لإيمانه حتّى في أشدّ المواقف حراجةً.
أسلوب الإسلام في التعزية بالميّت يؤكّد الفكرة
وقد نلاحظ في الكلمات المأثورة عن بعض الأئمّة (عليهم السلام) في تعزية أهل الميّت.. أنّ الفكرة لم تكن هي أن يخلق في أنفسهم روح العزاء فقط، بل كانت، هي، أن تثير في داخلهم التفكير العقلاني، بطبيعة الحال التي هم عليها، لينطلق العزاء من حالة فكرية، لا من حالة وجدانية خالصة.
ونلاحظ ذلك في أسلوب التعزية التي تحدَّث بها الإمام عليّ (عليه السلام) مع بعض الناس:
"إنَّ هذا الأمر ليس بكم بدأ. ولا إليكم انتهى، وقد كان صاحبكم يسافر فاحسبوه في سفر، فإن قدم عليكم وإلاّ قدمتم عليه".
ففي هذه الكلمات اتجاهٌ إلى ربط القضية بالسنَّة الكونيّة التي تشمل كلّ الناس في الماضي والحاضر والمستقبل ومحاولة لإثارة نور جديد للأمل من خلال الإيمان الحقّ باللّقاء في الدار الآخرة، الأمر الذي يجعل العزاء مرتبطاً بالواقع من جهة باعتباره أمراً طبيعياً، وبالإنسان من جهة باعتباره مصدراً حقيقياً للأمل.
وعلى ضوء هذا نفسِّر التوجيهات الدينيّة الكثيرة التي توجّه الإنسان نحو التكلُّم ببعض الكلمات التي تبذر في النّفس العزاء، وتخلق في داخلها روح الصبر، وذلك كما في قوله تعالى في القرآن الكريم.
{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156 ـــ 157]
فإنَّ هذه الكلمة تربط الإنسان بالواقع من خلال الإيمان، كما أوضحها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة، "إنّا لله إقرار بالملك وإنّا إليه راجعون إقرار بالهلك".
ففي ذلك يعيش الإنسان روح التسليم بالواقع وعدم مفاجأته بأيّ حديث أو مشكلة، ليواجه الحياة بروح واقعية هادئة لا تهتزّ أمام الأحداث، ولا تنهار أمام المصائب.
الحزن في حالات الفشل
أمّا الموقف الثاني: هو الذي يحدث للإنسان في حالات الفشل، في عملٍ يحبّه، أو دعوة يؤمن بها، كما يحدث للأنبياء أو أصحاب الدعوات الكبيرة في الحياة، أو رجال المشاريع الإنسانية والاجتماعية، عندما ينطلقون للتبشير برسالاتهم أو القيام بمشاريعهم، بكلّ إخلاص واندفاع من أجل رفع مستوى شعوبهم، فإذا بالعقبات تنتصب في الطريق لتكون جداراً ضخماً يحول بينهم وبين البلوغ إلى ما يريدون من أهداف، وإذا بالذين يعملون من أجل رفع مستواهم يقفون في الواجهة في موقف الأعداء، ليكونوا أوّل من يطعن الدعوة ويحاربها ويرمي دعاتها بأبشع النعوت وأفظع التّهم، ويضطهدهم في حياتهم العامّة والخاصّة.
وهنا يقف النبيّ أو المصلح، ورجل الأعمال، وقفة الحزن والأسى، وتتحوَّل مشاعره إلى انفعالات حادّة، تجعله يضيق بدعوته في بعض الحالات، ويترك السّاحة يأساً وهروباً، وربّما يقف وقفة الحزين الكئيب الذي تمتلئ أعماقه بالألم واللّوعة لينهار أمام ذلك من أجل نفسه، ومن أجل الآخرين.
وقد صوَّر لنا القرآن الكريم هذه الحالات من خلال التوجيهات الإلهية التي كانت تلاحق النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في مسيرة الدعوة، وترصد خطواته، لتسدّده في كلّ ما يقول وفي كلّ ما يفعل، أو يشعر به من مشاعر أو يتعرَّض له من انفعالات.
ففي بعض الآيات صورة لحالة الضيق النفسي الذي يشعر به الإنسان أمام حالة التمرُّد، ويدعوه إلى أن ينسحب من معركة في يأس ولوعة.
{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود : 12]
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 97 ـــ 98]
فهذا موقف يتعرَّض فيه النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى الاقتراحات التعجيزية التي كان يمارسها الكفّار ضدّ النبيّ ويحاولون أن يشغلوه بها عن مهمّته، ليتحوَّل إلى شخص لا شغل له إلاَّ الاستجابة لتمنّياتهم وتحدّياتهم التي لا معنى لها، لأنّها لا تصدر عن محاولة للاقتناع، ففي معاجزه التي قدَّمها لهم كلّ كفاية، بل تصدر عن رغبة في التحدّي لمجرَّد التحدّي.
ومن الطبيعي أنّ مثل هذا الأسلوب في المعاندة لا يجدي فيه أيّ أسلوب سلبي أو إيجابي مقنع، لأنّهم لا يريدون ذلك، كما قدمنا، ولهذا كانوا يتحوّلون من عرض إلى عرض، ومن اقتراح إلى اقتراح.
ولذلك كان يضيق صدر النبيّ ـــ أو هكذا يحاول القرآن أن يوحي من وجهة تربوية ـــ إلى المستوى الذي قد يبلغ في قوّته درجة الرغبة في الانسحاب في بعض هذه المواقف المزعجة.
فجاء القرآن الكريم ليقول له.
لِمَ يضيق صدرك بكلامهم وتحدّياتهم؟
إنّك قد قمت بمهمّتك، وهي الإنذار والإبلاغ بكلّ ما تملك من طاقة، فلم تدَّخر جهداً في ذلك، ولم توفِّر أيّ وسيلة.
وإذا قام الإنسان بما يجب عليه في نطاق قدرته، فليرجف المرجفون، وليقل المتقوّلون، فلا قيمة لذلك كلّه في حساب الله وفي حساب الناس.
وفي بعض الآيات تصوير لحالة الحزن التي يواجهها النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أمام حالات الكفر، تارّةً، من جهة تكذيبهم له، وأخرى من جهة موقفهم من الله وتحدّيهم لإرادته وكلماته، وثالثة، من جهة حزنه عليهم لأنّهم لم يهتدوا للإيمان.
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام : 33]
{وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً} [آل عمران : 176]
{فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة : 68]
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف : 6]
{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر : 8]
إنَّ هذه الآيات بأجمعها، تطلب من النبيّ أن لا يستسلم لانفعال الحزن أمام هذه الحالات لأنّه إذا كان يحزن لأجل الله، بسبب تحدّيهم له وتمرّدهم عليه فإنّهم لن يضروا الله شيئاً. أمّا إذا كان الحزن، من أجل تكذيبهم له فليس التكذيب موجّهاً له بل هو موجّه لله لأنّه يحمل رسالة الله، كما أنَّ القضية ليست بدعاً في مجال النبوّات، فلطالما كُذّب الأنبياء السابقون من قِبَل أقوامهم.. وإذا كان الألم من أجل المكذّبين أنفسهم لأنّهم لم يؤمنوا، فإنّهم لا يستحقّون الألم، ما داموا قد اختاروا طريق الهلاك في الدُّنيا والآخرة.
وهكذا تتنوَّع الآيات في تحليل كلّ حالة من الحالات لترجع الموقف إلى جذوره الأساسية التي انطلق منها، فلا يعود للانفعال أيّ مبرّر، أو أيّ معنى.
ليس الموقف موقف تسلية أو تعزية
ويطيب لنا أن نؤكّد على نقطةٍ مهمّة في هذا المجال وهي: أنّ الآيات التي تطلب من النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عدم الحزن على حالات الجحود من المشركين، لا تستهدف تسليته وتعزيته، كما يخيّل لبعض المفسّرين، بل كانت تستهدف تفريغ نفسه من الانفعال العنيف الذي ينطلق من الشعور بالخيبة أمام العمل.
وذلك بإثارة حقيقةٍ واقعيّةٍ تفرض نفسها على الموقف، وهي: أنّ قضية النجاح والفشل لا تنطلق من عنصرٍ واحد يتمثّل في جهد العامل ونشاطه، بل تنطلق منه، ومن عناصر عديدة تشترك فيها الظروف الموضوعيّة المحيطة بالعمل بما في ذلك مؤثّرات البيئة وغيرها، ولذا لا بدّ للعامل من أن يُدخِل ذلك في حسابه عندما يبدأ العمل، ولعلَّ من بين الأُسس التي يرتكز عليها الموقف هو انطلاق الإنسان من نقطة أساسيّة، وهي المجالات التي يستطيع أن يتحرَّك فيها من خلال قدرته ونطاقه، فهي التي ينبغي أن تثير اهتمامه وانفعاله.. أمّا المجالات التي لا تخضع لإرادته وقدرته، فعليه أن لا يخضع لأيّ انفعال أمامها لأنّها لا تمثِّل إلاَّ جهداً ضائعاً في هذا المجال.
الحزن في حالات الخسارة
أمّا الموقف الثالث، وهو حالة الخسارة، فالإسلام يقف من الانفعال موقفاً فلسفياً رائعاً ينطلق من واقع الحياة الذي يخضع للقوانين الطبيعيّة التي تتحكَّم في مسيرتها ونظامها، الأمر الذي يجعل الخسارة أمراً وارداً وطبيعيّاً في نطاق الظروف الموضوعية العامّة والخاصّة، كما يجعل الربح أمراً طبيعيّاً في هذا المجال، ولذا فلا داعي للانفعال أمام كلتا الحالتين، لأنَّ الانفعال ينطلق من فعل وضع غير طبيعي يحدث للإنسان، ومن حالات غير منتظرة. أمّا الحالات الطبيعيّة المنتظرة، فهي لا تحدث للنّفس إلاّ إحساساً هادئاً بالموقف ينسجم مع الجوّ الملائم بكلّ هدوء واطمئنان.
وذلك هو قوله تعالى:
{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ*لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22 ـــ 23]
وتلك هي مهمّة الإيمان بالقضاء والقدر الذي يعبّر عن خضوع الأوضاع الحياتيّة لقوانين محدَّدة تجعل لكلّ ظاهرة أو حادثة ظروفها الموضوعية التي تتحرَّك في إطارها، وتتحدَّد النتائج من خلالها.
وهذا هو ما يفسّر حالات الرضا والاطمئنان التي يقابِل بها المؤمنون الطيّبون مصائب الحياة وخسائرها بنفس هادئة ومطمئنّة لإحساسهم بأنَّ ما أدركهم لم يكن ليفوتهم، وما فاتهم لم يكن ليدركهم، فلماذا الحزن هنا؟ ولماذا الفرح هناك؟ ما دامت القضية جاريةً على السنن الطبيعيّة الحكيمة الخاضعة لإرادة قادر حكيم رحيم.
ونلاحظ ـــ ونحن نتابع موقف الإسلام من السلوك الانفعالي. بعض النصوص الدينيّة التي تجعل من السلوك العقلاني في حالة الانفعال، مقياس شخصية المؤمن، ودليل إيمانه.
فقد ورد حديث مستفيض عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
"ثلاث خصال مَن كُنَّ فيه فقد استكمل خصال الإيمان: إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحقّ، وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له".
فإنَّنا نجد ـــ في هذا الحديث ـــ ثلاث حالات تمرّ بالإنسان، هي حالة الرضا عن الآخرين، وعن بعض المواقف، وحالة السّخط والغضب عليهم، وحالة القدرة والسلطة، فإنَّ هذه الحالات تثير في نفس الإنسان انفعالات مختلفة حسب اختلاف حالة كلّ منهم، فالرّضا والحبّ قد يتعاظم في نفس الإنسان إلى المستوى الذي لا يقبل فيه المحبّ أيّ اتّهامٍ أو نقدٍ لمن يحب، ويحاول في الوقت نفسه إضفاء أفضل الصفات والنعوت عليه بدون حساب أو استحقاق.. وفي مقابل ذلك، نجد السّخط والكره والعداوة، فقد تبلغ الحدّ الذي لا يرضى الإنسان معه بأن يذكر خصمه بأيّة صفة خير، أو يتصرَّف معه بأيّ تصرّف يشتمل على الإنصاف.
أمّا السلطة أو القدرة، فإنّها تخلق في داخل الشخص شعوراً بالطغيان الذي يجعله يمارس قدرته فيما ليس له بحقّ، فيطلب ما لا حقّ له فيه، ويمنع غيره ممّا له فيه حقّ.
وقد اهتمّ الإسلام بتربية الإنسان على الشعور الدائم بالارتباط بالحقّ حتّى في أشدّ الحالات حرجاً، فكانت الآيات الكريمة التي تتحدّث عن الشهادة بالحقّ، وعن كلمات المدح والذمّ، وعن الحكم مع الأعداء والأصدقاء.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء : 135]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة : 8]
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام : 152]
فنحن نلاحظ التركيز في الآيات الثلاث، على الانطلاق بعيداً عن العاطفة التي تنحرف بالإنسان عن خطّ العدل، نتيجة علاقة قرابة أو صداقة أو عداوةٍ، فللقرابة أو الصداقة دورها الذي يتمثّل بالتعاطف مع الأرحام في شؤون الحياة العائلية والاجتماعية ولكنّه إذا اقترب من الحدّ الفاصل بين الحقّ والباطل، والظلم والعدل، فعليه أن يقف عند حدّه، فلا يتجاوز الحقّ إلى الباطل أو الظلم إلى العدل.
فنحن نلاحظ التركيز في الآيات الثلاث، على الانطلاق بعيداً عن العاطفة التي تنحرف بالإنسان عن خطّ العدل، نتيجة علاقة قرابة أو صداقة أو عداوةٍ، فللقرابة أو الصداقة دورها الذي يتمثّل بالتعاطف مع الأرحام في شؤون الحياة العائلية والاجتماعية ولكنّه إذا اقترب من الحدّ الفاصل بين الحقّ والباطل، والظلم والعدل، فعليه أن يقف عند حدّه، فلا يتجاوز الحقّ إلى الباطل أو الظلم إلى العدل.
وللعداوة مظاهرها المتمثّلة في المقاطعة ونحوها، ولكن على أن لا تكون سبباً للحكم بالباطل عليه، أو منع الحقّ له فيما إذا كان له الحقّ.
وقد ركَّز الحديث النبويّ المتقدّم على هذه النقطة، فاعتبر الوقوف مع الحقّ في حالات الرضا والغضب، والقدرة والضعف علامة للإيمان الحقّ، لأنَّ ذلك يدلّ على وجود القاعدة الإيمانية التي تحرِّك الإنسان في اتّجاه الحقّ دون أن تضغط عليه النوازع النفسية والمواقف العاطفية.
ونلمح التركيز على هذا في دعاء الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين (عليه السلام) في الصحيفة السجّادية:
"اللّهُمّ صَلّ عَلَى مُحَمّدٍ وَ آلِهِ، وَارْزُقْنِي التّحَفّظَ مِنَ الْخَطَايَا، وَالِاحْتِرَاسَ مِنَ الزّلَلِ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي حَالِ الرّضَا وَالْغَضَبِ، حَتّى أَكُونَ بِمَا يَرِدُ عَلَيّ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ، عَامِلًا بِطَاعَتِكَ، مُؤْثِراً لِرِضَاكَ عَلَى مَا سِوَاهُمَا فِي الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَعْدَاءِ، حَتّى يَأْمَنَ عَدُوّي مِنْ ظُلْمِي وَ جَوْرِي، وَيَيْأَسَ وَلِيّي مِنْ مَيْلِي وَ انْحِطَاطِ هَوَايَ".
وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض الحالات الانفعالية التي يعيشها الفرد إزاء حالات العطاء والمنع فيتعرَّض لانفعالات متعاكسة، فالعطاء يثير في نفسه انفعال المحبّة الطاغية للمعطي حتّى ليدفعه ذلك إلى أن يمنحه كلّ الصفات الكبيرة دون استحقاق، بينما يثير المنع في داخله انفعال السّخط والبغض حتّى ليراه جديراً بكلّ صفة قبيحة توجب القدح والذّم.
قال الله تعالى:
{وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة : 58]
وقد عبَّر الإمام زين العابدين عن هذه الحالة، وعن هذا الموقف في دعاء مكارم الأخلاق في الصحيفة السجّاديّة:
"اللّهُمّ صَلّ عَلَى مُحَمّدٍ وَ آلِهِ، وَصُنْ وَجْهِي بِالْيَسَارِ، وَلَا تَبْتَذِلْ جَاهِي بِالْإِقْتَارِ فَأَسْتَرْزِقَ أَهْلَ رِزْقِكَ، وَأَسْتَعْطِيَ شِرَارَ خَلْقِكَ، فَأَفْتَتِنَ بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِي، وأُبْتَلَى بِذَمّ مَنْ مَنَعَنِي، وَأَنْتَ مِنْ دُونِهِمْ وَلِيّ الْإِعْطَاءِ وَالْمَنْعِ".
السلوك العقلاني في ردّ الاعتداء
وهناك حالات يتعرَّض فيها الإنسان للاعتداء على حياته أو على كرامته، أو على أحد أقربائه، فتمتلئ نفسه بروح الانفعال الذي يشعر معه بالحاجة إلى تدمير المعتدي، فيرد الكيل كيلين، والصاع صاعين، لأنّه يرى، في غمرة الانفعال، أنّ الكرامة الجريحة لا ترجع إلاّ بذلك، أو يشعر بأنَّ الثأر لن يُنال إلاّ بقتل القاتل وكلّ أقربائه، أو أفضل قرابته، لأنَّ القتيل لا يعادله أحد في المكانة والمركز.. وهكذا ربّما تتحوَّل الانفعالات الحادّة التي يثيرها الانفعال، إلى كارثة تدمّر المجتمع وتهدر سلامة الأبرياء الذين لا حول ولا قوّة، فيه.
لهذا جاءت التعاليم الإسلامية، لتضع حدّاً معيّناً لا يتعدّاه في أخذ حقّه، وهو ردّ الاعتداء بمثله دون زيادة قليلة أو كثيرة.
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة : 194]
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل : 126]
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى : 40]
{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام : 164]
{وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ} [الإسراء : 33]
فقد أكّدت هذه الآيات على مبدأ المماثلة التي تدفع الإنسان إلى ضبط انفعالاته التي تدعوه للزيادة والطغيان ثمّ حاولت أن تثير ـــ في نفسه ـــ نوازع العفو والتسامح والصبر، لتبرّد له انفعالاته نهائياً.
ومن الطبيعي، أنّ ذلك يستدعي منه تفكيراً طويلاً يحدّد الإنسان فيه موقفه على أساس الخطّ الذي أراده الله.
ونلاحظ في الآية الأخيرة التركيز على أن لا يتعدّى القصاص القاتل، وإلاّ كان ذلك إسرافاً في القتل، يرفضه الله، وينكره الشرع.
الإمام عليّ (عليه السلام) يطبّق الحكم على نفسه
وقد تجسّدت الناحية التطبيقيّة في موقف الإمام عليّ (عليه السلام) من قاتله في حادثة مصرعه، على يد عبد الرحمن بن ملجم فقد التفت إلى قومه قائلاً:
"لا أُلفِيَنَّكُم تَخوضونَ دِماءَ المُسلِمينَ خَوضا، تَقولونَ: قُتِلَ أميرُ المُؤمِنينَ. ألا لا تَقتُلُنَّ بي إلّا قاتِلي.. أُنظُروا إذا أنَا مُتُّ مِن ضَربَتِهِ هذِهِ، فَاضرِبوهُ ضَربَةً بِضَربَةٍ، ولا تُمَثِّلوا بِالرَّجُلِ؛ فَإِنّي سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه وآله يَقولُ: إيّاكُم وَالمُثلَةَ ولَو بِالكَلبِ العَقورِ".
إنّه موقف الإنسان المسلم الذي عاش الإسلام في روحه وفي ضميره وفي مشاعره وعواطفه حتّى عادت انفعالاته صورة حيّة لإسلامه إنّه هنا يفكّر في آخر لحظات حياته بكلّ هدوء ورويّة ومسؤولية في تطبيق حكم الله في قضيّته بالذّات فهو لا يعيش انفعالات الحقد والعداوة والبغضاء والتدمير، إزاء الإنسان الذي قضى على حياته التي هي ملك الإسلام بكلّ ما يملك من إمكانيات.
بل يعيش التفكير في أفضل السبل لضبط حركات أهله وأولاده، لئلّا يطغى بهم الحزن إلى الحدّ الذي يتجاوزون به حكم الله، عندما يفكِّرون في القضية من زاوية خطرة، إنَّ عليّاً لا يعادله أحد في مركزه وقداسته، وإذا كان الأمر بهذا الشكل، فلا بدّ من الثأر على هذا المستوى، أن لا نبقي أحداً ولا نذر من كلّ مَن يمتّ إلى القاتل بصلة القرابة أو الفكر.
إنَّ صوت الإسلام النّقي الهادئ المنطلق من قلب عليّ المسلم الأكمل يرفض هذا المنطق بقوّة.
"ألا لا تَقتُلُنَّ بي إلّا قاتِلي".
وإذا كانت الضربة واحدة، فلتكن ضربة القصاص مثلها، لأنَّ التكرار يلغي المماثلة المطلوبة في الإسلام لا تمثيل ولا تنكيل.
لأنَّ الموقف لا ينطلق من عقدة التشفّي والانتقام الذاتيين، بل يرتكز على قاعدة التطبيق لحكم الله وهكذا ضرب لنا الإمام عليّ (عليه السلام) مثلاً حيّاً في السيطرة على أقوى الانفعالات الذاتية التي يشعر بها الإنسان أمام قضية حياته.
قد يقول قائل: إنَّ الموقف هنا موقف عليّ.
ومن لنا، بمن يبلغ هذا المستوى أو يقترب منه... أيبلغ بنا الطموح أن نصل إلى مستوى عليّ.
ونقول لهذا القائل: إنَّ القضية ليست قضية عليّ الذّات، بل القضية قضية عليّ المسلم الذي أراد إعطاء المسلمين القدوة من عمله، ليتبعوه فيه، حتّى يشعروا أنّ حكم الله ليس مجرّد فكرة تعيش في عالم المثال، بل هي حركة تتجسَّد في عالم الواقع عقلاً وفكراً، روحاً وعملاً ينطلق من روح الله.
أمّا الاعتداء على الكرامة بسبّ أو نحوه، فالموقف هو الموقف.
إنّه ردّ الاعتداء بمثله ـــ دون زيادة ـــ أو العفو والتسامح.
الكلمة تقابل بالكلمة ـــ لا بالضرب.
والضربة الواحدة تقابل بالضربة الواحدة، لا بضربتين ولا بالجرح.
والجراح لا تقابل بالقتل، بل بالجراح، تحقيقاً لمبدأ المماثلة.
ولدينا ـــ في هذا المجال ـــ قصّتان تجسّدان التطبيق العملي للإسلام.
1 ـــ قصّة النبيّ مع اليهودي
فقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر (عليه السلام) قال:
دخل يهودي على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وعائشة عنده فقال: السَّامّ عليكم، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وعليكم... ثمّ دخل آخر فقال: مثل ذلك فردّ عليه كما ردّ على صاحبه.
ثمّ دخل آخر فقال مثل ذلك فردّ رسول الله كما ردّ على صاحبيه.
فقالت عائشة: عليكم السّامّ والغضب واللّعنة، يا معشر اليهود، يا أخوة القردة والخنازير، فقال لها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يا عائشة: إنَّ الفحش لو كان ممثّلاً لكان مثال سوء، إنَّ الرّفق لم يوضع على شيء إلاّ زانه، ولم يرفع عن شيء إلاَّ شانه.
قالت: يا رسول الله: أمَا سمعت إلى قولهم: السّام عليك. فقال: بلى. أمّا سمعت ما رددت عليهم قلت: وعليكم.
فنحن نلاحظ أنّ هؤلاء اليهود الثلاثة حاولوا إثارة النبيّ وتحدّيه بالدعاء عليه بالموت بأسلوب يوهم السّامع الغافل، إنّهم يسلّمون عليه.
وفهم النبيّ القصّة، فردّ عليهم الدعاء بمثله، دون أن يزيد حرفاً، لأنّه لا يريد الدخول معهم في نزاع أوّلاً، ولينسجم مع التعاليم الإلهية التي بَشَّرَ بها ثانياً، وذلك بالاكتفاء بردّ الاعتداء بمثله.
ولمّا وقفت عائشة لتعبّر عن انفعالاتها العنيفة بالكلام العنيف. والأسلوب الفاحش، ووقف النبيّ بكلّ هدوء ليعرّفها: أنّه انتصر لنفسه أوّلاً، بهدوء، وليوجّهها إلى أنّ هذا الأسلوب الذي اتّبعه هو الأسلوب الذي ينتصر في النهاية، إذا عرف الإنسان كيف يستعمله بحكمة، دون ضعف، كما هو الحال، في موقف النبيّ الذي انطلق من نقطة قوّة، لا نقطة ضعف لأنّه كان قادراً على أن يبادرهم بالشدّة والعنف بكلّ الأساليب الممكنة في هذا المجال.
2 ـــ قصّة الإمام عليّ مع الخارجي
والقصّة الثانية: هي قصّة الإمام عليّ مع أحد الخوارج.
ففي نهج البلاغة: أنَّ الإمام عليّ كان جالساً ذات يوم مع أصحابه، فمرَّت امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال الإمام: إنَّ هذه الفحول طوامح، وإنَّ ذلك سبب هبابها، فمن وَجَدَ منكم في نفسه شيئاً فليلامس امرأته فإنّما هي امرأة كامرأة.
فقال: أحد الخوارج ـــ وهو يعبّر عن إعجابه بهذه الكلمة ـــ قاتله الله كافراً ما أفقهه.
فوثب إليه القوم ليقتلوه.
فقال الإمام: رويداً إنّما هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب.
فقد تناول الإمام القصّة بكلّ بساطة، ووضعها في نطاقها الطبيعي من حكم الإسلام، فقد سبّ هذا الخارجي الإمام بتلك الكلمة... والموقف الإسلامي هنا، إنَّ الاعتداء يقابل بمثله، وهو السبّ أو العفو عن الذنب، أمّا القتل فهو غير وارد في هذا المجال مهما بلغت درجة الإساءة، ومهما كانت درجة المعتدي بإزاء درجة المعتدى عليه.
وهكذا نجد في هذا التطبيق العملي، المثال الحيّ الواضح، على أنّ الإنسان المؤمن، يستطيع إذا استحضر إيمانه في حالة انفعاله، ووعى حكم الله، وخاف من عقابه، أن يضغط على انفعاله. ليوجّهه في اتجاه العفو، أو في اتّجاه حكم الله دون زيادة في قليل أو كثير.
خاتمة المطاف
والآن... ما هي حصيلة الحديث كلّه:
لقد رأينا كيف انطلق الإسلام من نقطة أساسية هي أن يربط الإنسان بالحياة من خلال الأسلوب العقلاني الذي ينظّم للإنسان طريقة تفكيره من جهة، وطريقة ممارسته لعواطفه وانفعالاته من جهةٍ أخرى... حتّى لا يبتعد الإنسان عن موقع الشعور الواعي بالمسؤولية في كلّ ما يعمل، وفي كلّ ما يقول.
وعرفنا أنَّ الإسلام لم يحاول إلغاء الانفعال من حياة الإنسان بل حاول أن ينظّمه ويهذّبه ويضبطه لكي يتحوّل إلى عنصر حيّ فاعل، يعطي الحياة طراوةً دون أن يُفقدها قوّة الموقف.
لِكُلِّ سؤالٍ جواب
• هل حرَّم القرآن تعدُّد الزوجات؟
• كيف نفهم الآيات التي تنصّ على تفضيل بني إسرائيل في القرآن الكريم؟
س ـــ هناك مَن يقول، ليس في القرآن حكم بإباحة تعدُّد الزوجات، بل القضية، على العكس، فهناك تركيز على تحريمه، لأنَّ النصّ الذي تحدّث عن إباحة التعدُّد، ربط الحكم بالحِلّ بشرط غير مستطاع ـــ حسب نصّ القرآن ـــ ممّا يجعل الحكم غير وارد، لانتفاء الحكم بانتفاء شرطه، كما يقول علماء الأصول.
أمّا كيف ذلك؟ فنستطيع معرفته بالمقارنة بين آيتين:
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} [النساء : 3]
{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء : 129]
فنحن نلاحظ أنّ الآية الأولى أمرت بالاقتصار على واحدة في حالة خوف عدم العدل، ممّا نفهم منه اشتراط الإباحة بالعدل وجاءت الآية الثانية، لتصرّح بأنَّ العدل غير ممكن للزوج حتّى لو بذل جهده، وإذا لم يكن العدل ممكناً، فكيف يمكننا الحكم بالإباحة مع فقد الشرط.
وربّما نلمح في بعض الكلمات، نسبة التناقض إلى القرآن في مضمون هاتين الآيتين، لأنَّ تعليق التشريع على الشرط يؤذن بإمكان الشرط، فكيف يصرّح باستحالته بعد ذلك؟
ج ـــ لعلَّ هؤلاء الذين يريدون استنباط حكم تحريمي قرآني لتعدُّد الزوجات، لم يتأمّلوا في الآية الثانية، كما يجب، لأنّها لم تحاول التركيز على فساد العقد الزوجي ولغويّته، لعدم استطاعة العدل، بل وجّهت النداء إلى الأزواج، ودعتهم إلى ألاَّ يتحوّل الميل إلى ممارسة عملية حادّة تجعل الزوجة كالمعلّقة، الأمر الذي يؤكّد شرعية الزواج، بدلاً من أن يكون حجّة على عدم الشرعية.
ولعلَّ السرّ في ذلك، هو أنّ العدل المفروض شرعاً في الآية الأولى، هو العدل في النفقة وفي سائر الحقوق الزوجية الخاصّة، أمّا في الآية الثانية، فهو العدل في الميل القلبي الذي لا يملك الإنسان أمر التحكُّم فيه، لذلك ركّزت الآية على عنصر بقاء هذا الميل في الداخل لكيلا يُفسد على المرأة حياتها العائلية. وقد ورد الحديث بذلك عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) فقد روي في الكافي، بإسناده عن نوح بن شعيب ومحمد بن الحسن قال: سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم قال له: أليس الله حكيماً قال: بلى هو أحكم الحاكمين قال: فأخبرني عن قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} أليس هذا فرض؟ قال: بلى قال: فأخبرني عن قوله: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أيّ حكيم يتكلّم بهذا. فلم يكن عنده جواب. فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: في غير وقت ولا حجّ ولا عمرة قال: نعم جعلت فداك لأمر أهمّني، إنَّ ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء، قال: وما هي؟ قال: فأخبره بالقصّة، فقال له أبو عبد الله أمّا قوله:
{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} يعني في النفقة، وأمّا قوله: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} يعني في المودّة. فلمّا قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره. قال: "والله ما هذا من عندك.
ولعلَّ التدقيق في سياق الآيتين يؤكّد على هذا الفرق في المعنى.
س ـــ لقد ورد في القرآن الكريم: في أكثر من آية، الحديث عن تفضيل بني إسرائيل على العالمين، ممّا يؤكّد الفكرة التي يحملها اليهود عن أنفسهم من أنّهم شعب الله المختار، مع أنَّ هذه الفكرة مرفوضة إسلامياً، فكيف نفسّر ذلك؟
ج ـــ هناك تفضيل في القيمة والمنزلة والمكانة، وهناك تفضيلٌ في النعمة وتوجيه المسؤولية، أمّا التفضيل بالمعنى الأوّل فهو الذي يتبنُّوه، فيعتبرون أنفسهم أولياء الله وأحبّاءه، وهذا يرفضه الإسلام بنصّ القرآن الكريم، كما في قوله تعالى:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة : 18]
وفي قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة : 6]
أمّا التفضيل بالمعنى الثاني: فهو الذي تحدَّث القرآن عنه، وركَّز عليه، فإنَّ الله قد أنعم على بني إسرائيل في الماضي بالكتاب والحكم والنبوّة، والنّعَم الوافرة الكثيرة فلم يقوموا بشكرها، ولذا استحقّوا لوم الله، وتأنيبه وعقوبته، وهذا ما يصرّح به القرآن في قوله تعالى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ*وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية: 16 ـــ 17]
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة : 47]
{وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ} [المائدة : 20]
فهذه الآيات بأجمعها تتحدَّث عن نِعَم الله التي أفاضها على بني إسرائيل فلم يؤدّوا شكرها، فعاقبهم الله على ذلك في الدنيا والآخرة ولعلَّ هذا الذي ذكرناه، يبدو واضحاً لدى دراسة الآيات بإمعان.
الحلقة الثامنة
النزعَةُ الواقِعيّة في الإِسْلام
و
لِكُلِّ سؤالٍ جواب
بسم الله الرحمن الرحيم
يلتقي المعنيّون بالدراسات الإسلامية والعاملون في سبيل الدعوة إلى الإسلام بألوان مختلفة من علامات الاستفهام التي تثار أمام مفاهيم الإسلام عن الحياة أو التشريعات الإسلامية التي تمثّل الصيغة القانونية العملية لتجسيد هذه المفاهيم.
ومن الطبيعي أن يتّجه الحديث إلى الصورة الحقيقيّة للشخصية الإسلامية التي يهدف الإسلام إلى بنائِها في كيان المسلم باعتبارها التجسيد الحيّ المتحرّك لفاعلية الإسلام في الحياة في مفاهيمه وفي قيمه وتشريعاته.
وتتجسَّد علامات الاستفهام في أكثر من سؤال، يطرح نفسه من خلال الجوانب التي يفكّر في إطارها الدارسون والعاملون.
ففي إطار الواقعية والمثالية يتساءل البعض.
أين يقف الإسلام في مواجهة قضايا الحياة؟
ـــ (هل هو مثالي). يصوغ للإنسان المثال. بعيداً عن الواقع ليدعوه بعد ذلك إلى أن يتطلَّع إليه كما يتطلَّع إلى الحلم المسحور... ثمّ يبدأ عملية التسلُّق والزحف والطيران نحو القمّة التي تتباعد عن منطلق خطواته بقدر بعدها عن حياته... ولذا فإنّه سيظلّ يعيش عقدة القمّة دون أن يصل إلى النتيجة المطلوبة ويسقط بعد ذلك صريعاً أمام الوسائل العقيمة والأفكار الخياليّة في مرحلة بعيدة جداً عن المثال، الحلم.
وتلك هي الفكرة التي تحاول أن تلغيَ الجسد تماماً لحساب الروح فليس للجسد أيّ حساب في مواجهة الروح فهو الذي يمثّل القذارة والدّنس والحقارة بينما تمثّل الروح الرفعة والبراءة والطهارة وليس للدّنيا في مقابل الآخرة، ولذا فإنَّ الحياة لا تمثّل ـــ في نظر الإسلام ـــ من خلال هذا الفهم ـــ أيّ معنى في حساب القِيَم الكبيرة التي تلهب طموح الإنسان وتوجّه مسيرته.
ـــ (أو هو واقعي) يضع الواقع أمامه، عندما يريد أن يدرس المشاكل، وينطلق من الواقع، عندما يريد أو يحاول أن يضع الحلول.
حتّى القمم التي يريد أن يبنيها للإنسان في الحياة ليثير فيه روح الطموح نحوها، كوسيلة من وسائل دفع الإنسان إلى الحركة الواعية في آفاق المسؤولية من أجل الأفضل.. حتّى القمم هذه... ليست بعيدة عن الواقع إلاّ بالمقدار الذي تبعد به الغاية عن بداية الطريق، ولذا فإنَّ الإنسان يظلّ في قلب الحياة، وهو يتحرّك من أجل الوصول إليها، لأنّها تمثّل أعلى مراحل الواقع.
وتلك هي "الفكرة" التي تحسب للجسد حسابه كما تحسب للروح حسابها، ما دامت الحقيقة التي تفرض نفسها أنّ الإنسان ليس جسداً وحده ليس روحاً وحده... وتنظر للدّنيا كما تنظر للآخرة، ما دامت الآخرة تنطلق من خلال بناء الدنيا على أساس الحقّ.
وقد يطرح البعض السؤال في صورةٍ أخرى تتحدّث عن علاقة الشريعة بالإنسان وقيمته في إطارها. هل الإنسان في خدمة الشريعة؟ أو العكس هو الصحيح؟ فالشريعة كانت وما زالت في خدمة الإنسان... فقد يرى البعض أنّ الشريعة هي كلمات الله وإرادته المتمثّلة في نصوص الأحكام وموادها التشريعيّة، ولا بدّ للإنسان من أن ينحني انسجاماً مع عبوديّته لله وخدمته له فلا قيمة للإنسان أمام الشريعة لأنّه لا يمثّل قيمة إزاء إرادة الله.
وكأنَّ هذا البعض اعتبر الشريعة إرادة منفصلة عن حياة الإنسان وواقعه، ولذا فإنّها لا تمثّل لديه إلاَّ شيئاً مقدَّساً يمارس معه طقوس القداسة، بالخضوع وشعائره، تماماً كمن يمارس طقوس التقديس للقرآن الكريم بالتقبيل والإجلال والاحترام كأيّ رمز لا أثر له غير ذلك.
بينما يذهب بعضٌ آخر إلى أنَّ الشريعة في خدمة الإنسان لأنّها نزلت من أجله وشرَّعت لمصلحته، على أساس من الحكمة والعدل، ولذا فإنّها تظلّ تلاحق حياة الإنسان وخطواته بالرعاية من خلال الواقع فإذا انطلقت في طريق يؤدّي إلى ضرر الإنسان ووقوعه في مركز الضيق الشديد والحرج الكبير وقفت، حيث هي، وأومأت للإنسان أنْ يتقدَّم، حيث لا يمارس حياته في حرج ولا يقع معها في ضرر.
وقد يحاول البعض إثارة القضية من زاوية علاقة الغاية بالوسيلة فإذا كانت هناك أهداف محدودة للإنسان في حياته واصطدمت تلك الأهداف ببعض الوسائل العملية، التي تنسجم مع هذه الأهداف ولا تنسجم مع أهداف أخرى، فما العمل؟...
هل يصحّ أن نقول إنَّ الغاية تبرّر الوسيلة فإذا كانت الغاية نبيلة فإنَّ وسائلها كلّها، مهما بلغت درجة خطورتها أو مفسدتها أو حرمتها، تصبح في مستوى نبل الغاية.
أو إنَّ الغاية لا تبرّر الوسيلة فللوسيلة وجود مستقلّ عن الغاية، وحكم مستقلّ عن حكمها، فلا بدَّ لنا أن نبحث للغاية الخيرة عن وسائل خيّرة فإذا لم نجدها جمّدنا للغاية، ووقفنا، حيث نحن في بداية الطريق، حتّى لا نقع في مشاكل السير مع الخطى الضّالة في الطريق الضّال، وإن كانت الغاية تعيش في إطار الهدى والصلاح، لأنَّ طبيعة الوسيلة تترك أثرها الكبير في طبيعة الغاية وقيمتها باعتبار الارتباط العضوي الذي يربط الوسيلة بالغاية.
تلك هي بعض القضايا التي يمكن أن يثيرها الدارسون والعاملون، في إطار التعامل مع المفاهيم والتشريعات الإسلامية.
ولعلَّ هذا الغرض السريع الذي عرضناه لعلامات الاستفهام، التي يمكن أن تطرح في أكثر من اتّجاه، يعطينا النظرة العميقة لخطورة هذا الموضوع وأهميّته في حياة الإنسان المسلم على جميع الأصعدة وفي مختلف المستويات لأنّه يتّصل بالطريقة التي يمارس فيها الإنسان حياته، ويتعامل فيها مع وسائله وغاياته، وبالتالي مع الصورة الصحيحة لبناء شخصيّته على أساس الإسلام الأمر الذي قد يبعد الإنسان عن التعامل مع الإسلام فكرياً وعملياً، على أساس بعض جوانب السؤال، وقد يقرّبه إليه على أساس البعض الآخر.
فالفهم المثالي للحياة ـــ في نظر الإسلام ـــ يجعل الإنسان يشعر بالحاجة إلى الهرب من حياته لكي يحوز على رضا الله، ولذا فقد توقعه الصدمة في هوّة اليأس من الوصول إلى هذا الهدف، في بعض مراحل الطريق، لتنتهيَ به إمّا إلى الانحراف وإمّا إلى الانتحار.
أمَّا الفهم الواقعي فيمثّل لديه الشعور العميق بالحاجة إلى الاندماج في حياته دون أن يشعر بأنّه ابتعد بذلك ـــ عن طريق مرضاة الله، فلا يعيش ـــ حينئذٍ ـــ الازدواجية بين حبّه لحياته، وبين حبّه لرضا الله، لأنَّ باستطاعته التوفيق بينهما دون حرج أو انحراف.
ولهذا فإنّنا نجد ضرورة التوفّر على معالجة هذا البحث ومواجهته بدقّة ووضح لأنَّ كثيراً من جوانبه تفتقر إلى الخطوات الهادئة التي تضع اليد على المشكلة بكلّ هدوء لئلا تضيع خطوطها المتشابكة في الضباب الكثيف.
إنَّ القضية التي تواجهنا في أمثال هذا البحث هي قضية الصورة الحقيقيّة للمفاهيم الإسلامية وللتشريع الإسلامي، باعتبارهما الركيزتين الأساسيّتين للقاعدة التي يبني عليها الإنسان المسلم صورته وشخصيّته في الحياة.
أمّا قيمتها العملية فتتمثَّل فيما نواجهه في صعيد الواقع من الصور الفكرية للإسلام والأوضاع الواقعية للمسلمين، التي تتنوَّع في أفضل الطرق لتشويه الصورة الحقيقيّة بمختلف الأصباغ والأشكال، الأمر الذي يجعل الإنسان ـــ الذي يحيدُ عن الإسلام ـــ يعيش في واقع مشوَّه فكرياً وعملياً يبتعد به عن الإسلام عندما تبتعد الصورة الحقيقيّة للإسلام عن فكره وحياته.
كيف نفهم النزعة الواقعيّة
عندما نريد أن نعالج الإسلام في إطار الواقعية والمثالية علينا أن نحدِّد المصطلح لئلا نقع في فوضى الألفاظ والمفاهيم.
فما الذي تعنيه كلمة "الواقعية" و"المثالية".
قد يكون لهاتين الكلمتين أكثر من معنى يتّسع ويضيق حسب اختلاف موقع الاصطلاح، من فلسفي أو أخلاقي أو غير ذلك، ولكنّنا ـــ هنا ـــ نريد لهما أنْ يتحرَّكا في نطاق النظرة للحياة وللإنسان من حيث ارتباطها بالواقع الموضوعي لهما أو ابتعادها عنه.
وعلى ضوء ذلك نستطيع أن نحدِّد هذين المصطلحين.
فالواقعية تعني الاتجاه الذي يحاول فهم الأشياء وتفسيرها من حيث واقعها الموضوعي المتحرّك في ظروف حيّة من الزمان والمكان، والموجودات المحيطة بها، والمؤثّرات التي تتحرّك في داخلها.. فإذا أردنا أن ندرس الإنسان في إطار النزعة الواقعية فيجب أن ندرسه من خلال بشريّته، التي تتمثّل في هذا الوجود الذي تعيش فيه غرائز الإنسان وشهواته وحاجاته المادية والنفسية وعلاقاته الإنسانية.
ولا بدَّ للتشريع الذي يريد أن يتحرّك مع الواقع ـــ وفي إطار هذه النظرة ـــ أن يراعي كلّ تلك الجوانب مجتمعة، دون أن يطغى جانب على جانب.
فلو أراد أن يلغي بعض الحالات الأساسية، فلا يحسب لها حساباً في تشريعه، أو يحاول أن يشرِّع لها بعض الأحكام التي تجمِّدها، أو تخنقها، لكان ـــ في ذلك ـــ مبتعداً عن الواقع لأنَّ معنى ذلك هو إلغاء حالة تصل ببشريّته وذاته أساساً، الأمر الذي يجعل قضية التمرُّد على التشريع شيئاً طبيعيّاً في حياته.
ولعلَّ من الطبيعي لهذا الاتجاه أن يدرس الجانب الروحي والمادّي لأنّهما يمثّلان الأساس التكويني لوجوده، على خلاف الاتّجاه الذي يدرس الإنسان على أنَّه "مادّة" فقط فإنَّ ذلك يعتبر انحرافاً عن الخطّ الواقعي للدراسة، كما ألمحنا إليه.
وإذا عرفنا أنَّ الواقعية تمثّل فهم الأشياء من خلال ظروفها الموضوعية، فإنَّ "المثالية" تعبّر عن الفهم الذي يبتعد عن ذلك، فيحاول أن ينظر إلى الإنسان على أنَّه "ملاك" ليس له غريزة البشر، أو روح يمكن أن تنفصل تماماً عن خصائص المادّة.
وهذا ما تعبّر عنه الفلسفات التي تدعو إلى التجرُّد عن الحياة كلّ الحياة، حتّى الذوبان في الموت، كقيمة روحية كبرى، ويتمثّل أيضاً في الفهم المنحرف للدّين الذي يدعو إلى رفض الحياة بكلّ ما فيها من متع وشهوات ولذائذ كاتّجاه يقرب الإنسان إلى الله في ذاته.
إنَّنا في هذا الحديث نحاول أن نتلمَّس في الإسلام ـــ مفهوماً وشريعة ـــ الاتجاه الواقعي الذي يرسم الخطّ في إطار الواقع، ولا يعتبر المثال الذي يعيش خارج نطاق الواقع ـــ أساساً لحركة الإسلام في الحياة.
وسنحاول أن نجد ـــ من خلال هذا الحديث ـــ خطأ الفكرة التي ترى في الدين مثالية غير واقعية.
وقد حاولنا أن نحدِّد الاتجاه الواقعي ـــ بهذا التحديد ـــ لتمييزه عن الاتجاه الذي يغفل جانب الروح في الإنسان انطلاقاً من الفكرة المادية التي لا تؤمن بالإنسان إلاّ من خلال كونه ظاهرة مادية خالصة ليس لها حركة إلاَّ من خلال الوجود المادي فحسب، وبهذا تعتبر أيّ اتّجاه ينطلق من فرضية وجود الروح اتّجاهاً مثالياً يبتعد بالإنسان عن واقعه ككائن مادي.
إنَّنا نرفض هذا الاتجاه لأنّنا نرفض الأساس الفكري الذي يرتكز عليه من اعتباره الإنسان كائناً ماديّاً فحسب، وعلى ضوء ذلك نرفض اعتبار الاتجاه المادي اتّجاهاً واقياً في نظرته للإنسان.
ملامح النزعة الواقعية
لقد طرحنا في بداية الحديث ثلاثة أسئلة:
هل الإسلام واقعي أو مثالي في نظرته الفكرية والتشريعيّة؟
هل الشريعة في خدمة الإنسان أو الإنسان في خدمة الشريعة؟
هل الغاية تبرِّر الوسيلة ـــ في الإسلام ـــ أم لا؟...
ولعلَّ هذه الجوانب توضح لنا ملامح النزعة الواقعيّة في الإسلام، وتلقي الضوء على طبيعة الاتجاه الواقعي، بشكلٍ عام، وربّما كانت القضايا الثلاث مرتبطة في نتائج البحث، فإذا استطعنا في الجواب عن السؤال الأوّل. أن نصل إلى النتيجة التي تحدِّد الصفة الحقيقيّة للإسلام، في إطار الواقع، أمكننا أن نتقدَّم في الجواب عن السؤالين التاليين: ...
لأنَّ الإسلام إذا كان يعيش في نطاق الواقع كان لخدمة الإنسان، وبهذا تخضع وسائله لهذه الواقعية العملية في المفهوم والتشريع.
وعلى هذا الأساس. نبدأ الحديث لنضعه في فصول ثلاثة.
الفصل الأوّل
هل الإسلام واقعي
أو مثالي؟
• النظرة الواقعيّة في الإسلام للإنسان
• القرآن مع فكرة البشرية وجهاً لوجه
• وخلق الإنسان ضعيفاً
• وكان الإنسان عجولاً
• الإنسان أمام الشدّة والرّخاء
• نوازع الضعف أمام مواطن القوّة
• المفهوم الإسلامي للحياة
قلنا في تحديد الاتجاه الواقعي:
إنّه الذي يرسم للإنسان حياته من خلال واقعه، ويتعامل معها في إطار ظروفها الموضوعية ونحن هنا من أجل أن نتلمَّس هذا الاتجاه في نظرة الإسلام إلى الإنسان، وإلى الحياة، وإلى التشريع.
1 ـــ النظرة الواقعية للإنسان في الإسلام
في نظرة الإسلام للإنسان نجد الواقعية تنطلق من تأكيده بشريّته، التي ترافقه في جميع مراحل حياته التي تتصاعد في قمّة السموّ، حتّى تبلغ درجة النبوّة، أو تنحدر إلى أقصى درجات الانحطاط حتى تقترب من درجة الشيطان... فهو، في كلا الحالتين، البشر الذي يجلس على القمّة منتصراً على عوامل الضعف أو الذي يهوي في الهاوية مستسلماً لنوازع الشرّ.
ولذا جاءت الآيات الكثيرة، في القرآن الكريم، لتؤكّد على بشرية النبيّ أمام الذين يفترضون فيه صفة أخرى غير هذه الصفة، أو يتطلَّبون منه عملاً فوق قدرة البشر.
فقد حدَّثنا القرآن عن صفة النبيّ ـــ أيّ نبيّ كان ـــ أنّه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويفرح ويحزن ويتألَّم، وتتمثّل فيه مواطن قوّة الإنسان في حياته العامّة، كما تتمثّل فيه مواطن ضعفه التي تظلّ في إطار البشرية، دون أن تنحرف به إلى ما يتنافى مع خطّ النبوّة أو قداستها.
وبذلك استطاع أن يعيش آلام البشر ومشاكلهم فيحيا معهم ويعالج قضاياهم من خلال ظروفهم التي يفهمها فهماً جيّداً من خلال الطبيعة البشرية المتمثّلة فيه.
حتّى فكره وجود الملاك مع النبيّ، والنبيّ ـــ الملاك، التي كانت تراود أفكار الناس الذين اعترضوا على فكرة النبيّ ـــ البشر، أو الذي ينطلق بالرسالة وحده دون أن يكون معه ملك منزل من السماء.
حتّى هذه الفكرة المطروحة آنذاك عالجها القرآن بشكلٍ حاسم، يضع القضية في إطارها الطبيعي الذي يقرّر ـــ بوضوح ـــ أنّ الله لو شاء أن ينزل ملكاً يرافق النبيّ لوجب أن تكون له خصائص البشر ليكون صالحاً لمركز النبوّة أو لإعطاء القوّة العملية.
قال الله تعالى:
{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان : 7]
{وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ*وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8 ـــ 9]
فقد رأينا أنّ "البشرية" لا تنفصل عن كيان "الإنسان" حتّى في إطار اتّصاله بالله عن طريق الوحي وانفصاله عن الناس بارتباطه المباشر بكلمات الله.. فلا يتحوّل في نظر الناس إلى إله أو نصف إله. بل هو ـــ بالرغم من خصائصه الكبيرة ـــ بشر يوحى إليه، ولا يعلم الغيب إلاّ بمقدار ما يلقيه إليه الله من وحيه، ولا يستطيع اجتراح المعجزات إلاَّ بقدرة الله، في إطار محدود، ولذا فهو لا يستجيب للتحدّيات التي تقترح عليه ما شاءت من اقتراحات، لا تنطلق من الحاجة إلى الإقناع بل تنطلق من مواجهة الموقف بالتحدّي لمجرّد التحدّي.
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف : 110]
{وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً*أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً*أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 90 ـــ 93]
{وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف : 188]
تلك هي حالة الإنسان البشر في جانب السّمو حتّى القمّة.
أمّا الإنسان الذي يهوي إلى هاوية الخطيئة كنتيجة لاستسلامه لنقاط الضعف، فإنّه لا يتحوّل إلى شيطان تمنعه شيطانيّته من العودة إلى رحاب إنسانيّته، بل يبقى إنساناً خاطئاً يمكن أن يعمل على تصحيح خطئه، لأنَّ الخطيئة ليست ذاتية له، بل هي أمر طارئ يعرض له من خلال مواجهته حالات الضعف بإرادة ضعيفة، ولذا فإنّه يظلّ في الطريق إلى الله ليتعلَّق به في حال التوبة ويرتفع ـــ من خلال ذلك ـــ من جديد إلى السفح الصاعد أبداً نحو القمّة في عملية عودة إلى قمّة البشرية المنطلقة أبداً إلى الله وهذا هو سرّ عظمة النظرة الإسلامية إلى الإنسان فهي لا تجعله تحت رحمة الشعور بخطيئة أصليّة مفروضة عليه، تبتعد به عن مستوى القمّة. ولا تدعه يرتفع ـــ مهما سما إلى المستوى الذي ينفصل فيه عن تشريعه ليتّخذ لنفسه صفة الإله.
فالعقيدة الإسلامية تجعل الإنسان يتطلَّع إلى الله. وهو في قمّة مجده ليشعر بضآلة هذا الجسد، أمام مجد الله، كما توجّهه إلى أن يتطلَّع إلى الله، وهو في أشدّ حالات الانحطاط ليعرف كيف يمكن للخطيئة، أن تذوب أمام غفران الله لينطلق ـــ من جديد ـــ في السير مع نفسه في درب القمّة إلى الله.
إنّها الواقعية التي تنظر إلى الإنسان على الطبيعة كائناً يعيش بالرّجاء إلى حدٍّ ما، لئلا يقع في قبضة الغرور، ويخلد إلى الخوف إلى حدٍّ ما، لئلا يقع في قبضة اليأس.
القرآن مع فكرة "البشرية" وجهاً لوجه
لقد درس القرآن بشرية الإنسان، في حالات الاعتدال وفي حالات الانحراف، فأثار في حديثه عن ذلك، نقاط الضعف الموجودة لديه، المنطلقة من بشريّته، ولكن من حيث هي قابلية واستعداد ولذا فإنّها لا تفقده حريّة الاختيار في حشد نوازع القوّة وعملها، التي يمكن لبشريّته أن تأخذ بها وتسير معها في عملية نمو وتكامل، لأنّه يملك قابليّة القوّة كما يملك قابلية الضعف، ولكلّ منهما مؤثّرات ومحرّكات فيما حوله من عوامل الهدى ونوازع الضلال... فحاول أن يثير لديه الشعور بضرورة التغلّب على نقاط الضعف، بالتركيز على مؤثّرات القوّة، من الإيمان بالله في جانب، وإبراز الصورة المضيئة في الإنسان القوي الذي ينتصر على ضعفه في مواجهة الصورة السوداء التي ينهار فيها الإنسان أمام رغبات نفسه الأمّارة بالسّوء من جانبٍ آخر، وبالأساليب الرائعة في التشريع التي حاول القرآن من خلالها أن يعالج حالة الرغبة، بإغلاق بعض النوافذ من جهة مع فتح نوافذ أخرى تكفل لها الانفتاح من جانبٍ ثالث.
وخلق الإنسان ضعيفاً
فنراه يتحدّث عن ضعف الإنسان أمام رغباته فلا يتركه في أسر الرغبة أو ضغط الشهوة، بل يطلق للشهوة مجالها وللرغبة أميالها، في عملية تنظيم دقيق بين الحاجة والواجب.
{يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ*وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً*يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء: 26 ـــ 28]
وبهذا انسجم الإسلام مع الواقع فاحترم نوازع الضعف لدى الإنسان فلم يطلب منه إلغاءها وتجميدها تجميداً تامّاً. بل هيَّأ له مجال التعامل معها على أساس إيجاد الجوّ الذي تتنفَّس فيه دون أن تفقد الروح ـــ معه ـــ طهارتها أو ينهار ـــ معها ـــ الإنسان في شخصيّته.
وكان الإنسان عجولا
وهكذا ينطلق القرآن في كلّ حالة ليصوّر الانحراف باعتباره حالة طبيعيّة من حالات الإنسان على أساس النمو غير السليم لبعض خصائصه.
وهو يتحدّث عن حالة العجلة التي يفسّر فيها دعاءه للشرّ واستعجاله للعقاب، واستباقه للأمور قبل أن تتكامل، دون النظر إلى نتائج ذلك أو البحث في طبيعته.
قال الله تعالى:
{وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} [الإسراء : 11]
{خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء : 37]
{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ*إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة : 16 ـــ 17]
فقد تجسّدت حالة العجلة في دعاء الإنسان واستعجاله للشرّ، دون التفات منه إلى طبيعة الموقف. ومدى إمكانية انفجاره في غير مصلحة الإنسان، بل هي الحالة النفسية التي تجعل الإنسان ينطلق من الشعور باللّحظة الحاضرة من غير مراعاة للمستقبل، فيهزأ بالوعيد، دون تبصّر، ظنّاً منه أنّه غير واقعيّ من غير أن يفكِّر بمصدر القوّة التي توعّدت، وطبيعة الأسباب التي هيّأت للوعيد. وتحاول الآيات أن توحي له بأنّه لو أعطى نفسه فرصة التفكير ورجع إلى منطلقات الإيمان التي تمنحه فرصة التأمُّل والتفكير، لما استعجل ما استعجله وسخر ممَّا سخر منه.
الإنسان أمام الشدّة والرّخاء
ونراه في أكثر من آية يصوِّر لنا حالة الإنسان أمام الشدائد والأهوال والخطر المداهم التي تجعله يتّجه إلى الله بقلبه وبروحه مبتهلاً متضرّعاً راجياً منه أن ينقذه من الشدّة والهول والخطر العظيم معطياً ـــ على نفسه ـــ العهد الكبير لله في تصحيح انحرافه وإصلاح حاله فإذا استجاب الله دعاءه رجع إلى حالته ونسي ما كان يدعو إليه. قال الله تعالى:
{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [يونس : 12]
وتصوّره لنا بعض الآيات، في حالات تبدّل أوضاعه من فقر إلى غنى أو بالعكس، كيف ينطلق بحالة انفعالية لا ترتكز على أساس متين.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ*وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 9 ـــ 10]
إنَّها قصّة اللّحظة الحاضرة التي تتحكَّم بتصرّفات الإنسان وأعماله وتوجّه انفعالاته ومشاعره فإذا غابت عنه استسلم للحظة جديدة تعيش في جوٍّ جديد.
نوازع الضعف أمام مواطن القوّة
ونحن نعرف ـــ من هذا العرض كلّه ـــ أنَّ الإسلام يتعامل مع الإنسان على أساس وجود نقاط الضعف عنده، واعتبارها حالة طبيعيّة ناتجة من تكوينه البشري عندما يلتقي بآلام الحياة ومشاكلها... ولكنّه لا يراها معقّدة بالمستوى الذي يسقط معها الإنسان عن قدرته على الحركة بحريّة واختيار، بل يحاول أن يثير لدى الإنسان الشعور العملي بالجانب الإيجابي منها، بالأسلوب الذي يفجّر فيه طاقة المقاومة عندما يضع الموقف في إطار الاختبار والابتلاء والامتحان الذي تتجلّى فيه النفوس القويّة بإيمانها أمام النفوس الضعيفة تبعاً للموقف الذي يقفه الإنسان من ذلك كلّه.
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2 ـــ 3]
فالقضية كلّها قضية فتنة يختبر فيها الإنسان قدرته على الوقوف مع مبادئه ضدّ شهواته ومع إيمانه ضدّ أطماعه، ثمّ لا يترك القضية تتجمَّد في هذا الموقف بل يحاول في أكثر من آية أن يوحي له بقيمة الثبات والصبر والصمود أمام نوازع النفس وإغراءات الرغبة ويعرّفه ما أعدَّ الله للصابرين من ثواب ورضوان ومغفرة ونصر كبير وفتحٍ قريب.
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر : 10]
{وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل : 96]
وهكذا نشعر بالجانب البشري للإنسان يخطو مع نوازع الضعف تارّة، ولكنّه لا يسمح لها أن تصرعه. بل يحاول أن يسرع للحاق بمواطن القوّة ليثيرها في نفسه، ويتعامل معها في حياته، من أجل أن يسير في طريق الفلاح والنجاح.
وتتنوَّع الأحاديث في القرآن الكريم عن نجاح التجربة في هذا الاتّجاه فيما يحدّثنا به عن المؤمنين الذين أفلحوا وانسجموا مع خطّ الإيمان وجاهدوا بأنفسهم، وعن المتّقين الذين استطاعوا أن يتجاوزوا خطأ الغفلة بيقظة الإيمان.
قال الله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف : 201]
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 1 ـــ 4]
كلّ ذلك بطريقة واقعية تواجه النّفس بالعلاج تارّةً وبالاستجابة لبعض نوازعها أخرى وبالوقوف بوجهها بأسلوبٍ مرن متحرِّك مرّة ثالثة.
وفي ذلك كلّه... تبقى رحلة الإنسان مع غرائزه وشهواته وكلّ نقاط الضعف لديه رحلة صراع واقعية، لا تتنكَّر للواقع ولا تغرق في أوحاله، بل تنتصر تارّةً لتفلح وتفوز وتنهزم أخرى لتخيب وتخسر.
قال الله تعالى:
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 7 ـــ 10]
2 ـــ المفهوم الإسلامي للحياة
تختلف النظرة للحياة تبعاً لاختلاف النظرة لما وراء الحياة.. فإذا رفضنا وجود حياة أخرى غير هذه الحياة التي نحياها فإنّنا نواجه أهدافاً تنبثق من طبيعة هذا الكون الذي نعيش فيه باعتبار هذه الحياة الفرصة التي لن تتكرَّر أو تتجدَّد، ولذا فإنَّ الطيّبات والشهوات تمثّل القيمة الكبرى في وجود الإنسان وتفكيره.. فهي النعيم الكبير بينما يمثّل الحرمان الجحيم الأكبر في حياته لأنّه يجسّد العذاب النفسي والجسدي الذي يعيشه الإنسان في كلّ لحظة من لحظات الحرمان.
وأمّا عندما نؤمن بوجود حياة أخرى فالموقف يختلف لأنَّ اللّذة لا تمثّل قيمة كبرى كما أنّ الألم لن يكون ضدّ هذه القيمة بل القضية تكون نسبيّة... فإذا كانت هناك حياة أخرى تشتمل على لذّة أكبر أو حرمان أكبر فإنَّ الحرمان هنا من أجل اللّذة الكبرى لا يُعْتَبَرُ جحيماً وعذاباً، كما أنّ اللّذة التي تستتبع الحرمان الأبدي لن تكون نعيماً وسروراً... تماماً كما هو الحال في الحياة نفسها ـــ هذه التي نعيش ـــ عندما يتعرَّض الإنسان لحالة حرمان طارئة في إطار العمل من أجل المستقبل الكبير فإنّه لن يعتبر ذلك حرماناً إذا استطاع التعويض عنه بالهدف الكبير، والعكس هو الصحيح، في الطرف المقابل.
وعلى ضوء هذا، نحدِّد واقعية النظرة الإسلامية للحياة، فقد انطلقت الفكرة الدينية من وجود حياتين للإنسان ولكلّ منهما مهمّة... فالدّنيا دار المسؤوليّة والعمل، والآخرة دار نتائج المسؤوليّة... فلا بدّ من أن يقاس التشريع، أو المفهوم العام، بمقياس هذه النظرة.
لن نحاول استخدام كلمتي "المادّة" و"الروح" في معالجتنا للفكرة لأنّنا نعتبر أنّ هاتين الكلمتين، بما لهما من مدلول فلسفي، ليستا من الألفاظ القرآنية التي تحدّثت عن الفكرة، بل نستخدم كلمة الدّنيا والآخرة، فالدّنيا ـــ في القرآن الكريم ـــ تمثّل الحياة التي نحياها، بما فيها من متع ولذائذ وأموال وعلاقات... أمّا الآخرة... فإنّها تمثّل القِيَم التي تحكم هذه المتع واللّذائذ والعلاقات، وتنظّمها في نطاق مخصوص، وإنّما اعتبرها من أمر الآخرة، باعتبارها تمثّل الإطار الذي تعيش فيه هذه الأوضاع والأهداف التي تتّجه نحوها، الأمر الذي يجعل الإنسان يواجه نوعاً من الحرمان على أساس رضا الله.
وعلى ضوء هذا، نستطيع أن نقرِّر أنّ الإسلام لم يواجه انفصالاً في العمل بين الدّنيا والآخرة، فقد أعطى الإنسان نصيبه من الدنيا بكلّ ما تمثّله من حاجات حسيّة ومعنوية، وطلب منه ـــ إلى جانب ذلك ـــ أن يراعي القِيَم التي وضعها الإسلام في حياته، وأصبحت تمثّل الحدّ الفاصل بين التقييد والإطلاق، أو الفوضى والتنظيم، كأساس من أُسس تنظيم الواقع وعلاقة الإنسان به.
ولعلَّ أبلغ آية تصوّر لنا النظرة الإسلامية العامّة، في هذا المجال، قوله تعالى:
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص : 77]
فهي تركّز على الهدف فيما يملكه الإنسان من أشياء، وفيما يمارسه من أعمال، ولكن على أساس مراعاة التوازن بين طبيعة الهدف وطبيعة الواقع، فلا يستغرق الإنسان في جوّ القيمة، بالشكل الذي يغفل فيه عن حياته وعن واقعه، كما يفعله بعض المتصوّفة، بل بالطريقة التي يحفظ فيها نصيبه من الدّنيا... ولعلَّ التركيز على المسؤولية اتّجاه الآخرين بالإحسان إليهم، والمسؤوليّة اتّجاه الكون بترك الفساد في الأرض... يرسم الخطّ العريض للقيمة التي تحدّد للإنسان خطّ الدّنيا وخطّ الآخرة عندما يلتقيان في طريقٍ واحد كما يوضع لنا الخطّ الذي ينفصل فيه أحدهما عن الآخر فإذا استغرقت في الدّنيا حتّى تحوّلت إلى إنسانٍ أناني يفكّر بنفسه، ولا يهتمّ بالآخرين وبحاجتهم إليه، فلا يتعاطف معهم في شيء، أو استسلمت لنزواتك الذاتية التي تجعلك خاضعاً لنوازع الفساد والإفساد... فإنّك تقف في الخطّ المقابل لخطّ الآخرة.
أمّا إذا استغرقت في الآخرة ـــ القيمة ـــ الهدف... فأهملت حياتك وتركت نصيبك من الدنيا، أو عشت في سكراتك الصوفية الحالمة المغرقة في أجواء الخيال... فإنّك تقف في الخطّ البعيد عن خطّ الدُّنيا الواقعية التي يريدها الإسلام للإنسان في الحياة.
وربّما نفهم هذه الفكرة من الآية الكريمة التي تصوِّر لنا النموذج الذي يطلب الدّنيا، فيقتصر على لذّاتها وشهواتها لأنّها ـــ في نطاقها الخاص ـــ لا تعني إلاَّ ذلك... أمّا النموذج الآخر الذي يطلب الآخرة فإنّه يطلب الدّنيا والآخرة على أساس التفكير الإسلامي الذي يرى القيمة الروحية الواقعية في مواجهتها كوحدة عملية رائعة.
قال الله تعالى:
{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ*وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ*أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 200 ـــ 202]
وفي الحديث الشريف:
"ليس منّا مَن تَرَكَ دنياه لآخرته ومَن تَرَكَ آخرته لدنياه".
وفي الحديث المشهور:
"إعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنَّك تموتُ غداً".
إنَّ ذلك هو الذي يحقّق للإنسان التوازن بين حاجاته وواجباته.
ونستطيع أن نلمح ذلك في الحشد الكبير من الآيات المختلفة التي أنكرت تحريم الطيّبات من الرزق، وما أخرجه الله لعباده من الزينة، ودعت الإنسان إلى أكل الحلال الطيّب مع التحفُّظ في ترك اتّباع خطوات الشيطان، وطلبت منه القيام بشكرها عملياً، وعدم الاعتداء فيها.
قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ*وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 87 ـــ 88]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة : 168]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة : 172]
وربّما تلمح، في بعض الآيات، الإيحاء بأنَّ الله يريد ممارستها من الإنسان، باعتباره الذي أخرجها ورزقها للإنسان وأرادها ـــ بعد ذلك ـــ خالصة للإنسان المؤمن في يوم القيامة، لا يحاسب عليها لأنّه قام بواجبها ورعاها حقّ رعايتها كما شرَّع الله وأراد.
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف : 32]
وتنطلق في هذا الاتجاه الأحاديث الكثيرة المروية عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) التي تعتبر، أنَّ الدّنيا إذا أقبلت فأحقّ الناس بها أخيارها لا أشرارها ولا فجّارها.
والحديث النبويّ الشريف:
"حُبِّبَ إلَيّ من دنياكم ثلاث: الطِّيب والنِّساء وقُرَّةَ عيني الصّلاة"..
وهناك الآيات الكريمة التي توضح لنا ما أودعه الله في الإنسان من محبّة للشهوات والأموال والبنين والخيل والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة وغيرها من الأمور التي يتّجه إليها بطبيعته فعليه أن يوازن بينها وبين ما تطلبه الدار الآخرة من انضباط واتّزان.
ونلاحظ، في هذا الاتجاه، حوار الإمام عليّ (عليه السلام) مع العلاء الذي شكاه أخوه للإمام، لأنّه لبس العباءة وتخلَّى عن الدُّنيا، فبادره الإمام بقوله: "يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ اَلْخَبِيثُ أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ؟ أَتَرَى اَللَّهَ أَحَلَّ لَكَ اَلطَّيِّبَاتِ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا، أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.. واستمع العلاء إلى الإمام يلقي عليه هذه الموعظة ففاجأه ذلك، لأنّه يرى سلوك الإمام العملي مرتكزاً على ترك الدُّنيا فبادره بقول:
يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَجُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ. قَالَ الإِمام: وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ اَلْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ اَلنَّاسِ كَيْلاَ يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ".
وهكذا نجد أنّ رفض الحياة بطيّباتها ولذائذها ليس قيمة إسلامية كبرى، يجاهد الإنسان من أجل الحصول عليه لينال بها الحظوة عند الله والثواب منه في الدار الآخرة، بل العكس هو الصحيح، باعتباره يجسّد السلوك الطبيعي الذي يجعل الإنسان يمارس فيه حياته بطريقة واقعيّة، لا يسيء فيها الإنسان لنفسه ولا يرهق بها غيره.
أمّا أحاديث الزهد التي كثرت في السُنَّة الشريفة، فإنّها تنطلق معه، من حيث هو حالة نفسية، تمثّل الشعور بالغنى الذاتي اتّجاه الحياة، ممّا يجعله لا يواجهها مواجهة الجائع الشّره الذي يقدّم كلّ شيء ويضحّي بكلّ شيء، في سبيل الحصول على متعة أو لذّة، حتّى لو كان الشيء الذي يضحّي به دينه أو عقيدته، بل يواجهها مواجهة الإنسان الطبيعي الذي يملك حريّة الاختيار، فيأخذ منها، بحريّة، ويدع ما يدعه منها بحريّة واختيار.
وربّما يصوّر لنا ذلك الحديث الشريف الذي يروى عن الإمام عليّ (عليه السلام) في نهج البلاغة:
"جمع الله الزّهد بين كلمتين من القرآن، قال الله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد : 23]
إنَّها الفكرة التي تقول لك إنَّ عليك أن تواجه خسائر الحياة وأرباحها بنظرة واقعية، لا تعتبر أيّاً منها حالة غير عادية، ولذا فإنّها لا تترك في النّفس أيّ شعور غير طبيعي، وكنتيجة طبيعيّة، لعدم الشعور بالعلاقة القويّة التي تجعله يعيش تحت ضغط الحاجة إليها بشدّة، لأنّها لا تمثّل إلاَّ حاجة عادية ككلّ وقائع الحياة التي تأتي وتروح تماماً كما هو اللّيل والنهار.. والفصول الأربعة.
وعلى هدى ذلك كلّه نعرف أنّ الإسلام واجه في نظرته إلى الحياة وممارسته لها الموقف على أساس واقعي، لا يغفل حاجات الإنسان الجسدية، ولا يتسامح في قِيَم الإنسان المعنوية التي ترتبط بالوجود الثاني للإنسان... وربّما نلتقي، في هذا المجال بنقطة مهمّة، تؤكّد لنا هذه النظرة الواقعية، وهي: أنَّ الدّين عندما دعا الإنسان إلى ممارسة الحرمان عن اللّذات التي حرَّمها الله، وعده بالثواب الحِسِيّ في الآخرة، حيث يمارس الإنسان فيه لذائذه الحسيّة بشكلٍ أفضل، بالإضافة إلى الثواب المعنوي، فهو يعد الإنسان المؤمن بالحور والولدان والنعيم الكبير وغير ذلك، ـــ ثمّ يضيف إليها قوله: ورضوان من الله أكبر...
ولعلَّ هذا الاتّجاه، في جعل الثواب منسجماً مع إحساس الإنسان بالحاجات الحسيّة للجسد في الدُّنيا والآخرة، يلتقي مع النظرة الواقعيّة للإنسان التي تبعده عن الشعور بالحرمان الأبديّ ممّا منع عنه الدُّنيا ـــ الأمر الذي يجعله طبيعيّاً في مواجهة حالات الحرمان.
الفصل الثاني
هل التشريع لخدمة الإنسان؟
أو العكس هو الصحيح؟
• النزعة الواقعية في التشريع
• مع الخطوط العامّة للتشريع
• مهمّة الرّسول في رسالته
• قاعدة الحرج
• قاعدة لا ضرر
• حديث الرّفع
• واقعيّة التشريع في بعض المواطن الخاصّة
• ردّ الاعتداء بمثله
• مقياس الشرف في التشريع
• علاقة المؤمن بغيره
• طريقة العبادة في التشريع
• الحيل الشرعية
• الزواج المؤقَّت
• في نهاية المطاف
النزعة الواقعيّة في التشريع
ما هي الفكرة التي تتحكَّم في حركة التشريع الإسلامي في الحياة؟
هل هي إرهاق الإنسان بالواجبات والمحرَّمات التي تتركه لاهثاً وراءها لا يستطيع ـــ معها ـــ أن يلتقط أنفاسه لتكون مهمّة الشريعة ـــ من خلال ذلك ـــ أن تكبّل الإنسان بالقيود فلا تترك له أيّة حريّة في الحركة ـــ جاهدة ـــ على أن تضعه في القمقم؟
وذلك هو ما نحاول أن نتلمَّسه من خلال الخطوط العامّة للتشريع وفي ضوء التشريعات والتوجيهات الثابتة في بعض المواضع الخاصّة.
مع الخطوط العامّة للتشريع
لعلَّ أفضل النصوص التي عالجت هذه القضايا من وجهة عامّة هي النّصوص التي عرضت للدّين من خلال الخطوط العريضة له وسنستعرض بعضها بإيجاز.
1 ـــ مهمّة الرّسول في رسالته
قال الله تعالى:
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف : 157]
فنحن نلاحظ أنّها تصوّر ـــ من خلال تحديدها لمهمّة الرسول في رسالته ـــ أنَّ الحليّة والحرمة خاضعة لطبيعة الأشياء في واقع الحياة ـــ في إطار مصلحة الإنسان ـــ فالطيب حلال، والخبيث حرام، وهدف الشريعة، هو أن ترفع عنهم أثقالهم وتحطّ عنهم أغلالهم التي كانوا يرسفون بها في حياتهم الماضية، إبعاداً لهم عن المشقّة والجهد في ممارسة الحياة.
2 ـــ {لَا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا}
إنَّ القدرة هي حدّ التشريع الذي يقف عنده فلا يتحرَّك إلاَّ معها ـــ فإذا انتهت القدرة ـــ وقف التشريع حيث هو لا يتقدَّم ولا يتأخَّر في حساب المسؤوليّة.
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج : 78]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة : 6]
ليس هناك ضيق في التشريع على الإنسان، بل هو المجال الواسع الذي يجعله يتحرّك براحة وحريّة، فإذا ضاق عليه حكم وسّعه حكمٌ آخر. كما نلاحظه في أمر الوضوء والتيمُّم الذي جاءت الآية من أجل تبرير تشريعه على هذا الأسلوب.
وقد نجد لهذا الخطّ ـــ في نفي الحرج ـــ تطبيقاً عملياً في أكثر من حكم... فنلاحظ في تشريع الجهاد ـــ استثناء بعض الحالات التي يكون الجهاد فيها حرجاً، وهم الضعفاء والمرضى وأصحاب العاهات، كالأعرج والأعمى، والذين لا يملكون نفقة المسير.
قال الله تعالى:
{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة : 91]
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح : 17]
ونجد هذا الخطّ في آيةٍ أخرى تلتقي مع هذه الآيات في الفكرة، وإن اختلفت عنها في الأسلوب واللّفظ.
قال الله تعالى:
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف : 157]
فقد انطلق التشريع بالرخصة هنا، من حالة الشدّة والعسر اللّذين يقع فيهما الإنسان من تشريع الصيام كفريضة في حالة المرض أو حالة السفر، ولهذا اتّسعت له الرّخصة لتتّسع له الحياة في نطاق التشريع.
قاعدة الحرج
وقد استطاع الفقهاء أن يجدوا في هذه الآيات قاعدة فقهية عامّة تحكم على أدلّة الأحكام فترفع أيّ حكم حرجي بشكلٍ طبيعي، من دون حاجة إلى خاص يرفعه، فأطلقوا عليها قاعدة لا حرج. وحاولوا أن يعتبروا هذه الآيات بمثابة المؤشِّر الذي يشير لنا إلى الحدود التي يعيش في إطارها أيّ تشريع آخر.
فكلّ حكم من الأحكام الإلزامية التي تتّسع لحالة اليسر والعسر، والحرج والسّعة، لا بدّ لنا أن نتجاوزه لنقف به عند حدود الحرج، ليختصّ بالحالات التي لا يشعر الإنسان معها بالضيق الذي يواجهه من جرَّاء امتثاله.
وقد أصبحت هذه القاعدة من القواعد المهمّة في الدراسات الفقهية الاجتهادية وانطلق الفقهاء ـــ معها ـــ يبحثون جوانبها، في دقّةٍ وشمول، فحصرها البعض في الواجبات، فلم تتّسع لديه للمحرّمات فَلِمَ يجوز لنا ـــ بحكم هذه القاعدة ـــ أن نطلق الرخصة بلا حساب في المحرّمات لمجرّد أنّ الإنسان يقع ـــ من خلال امتثالها ـــ في حرجٍ وضيق شديد لا يتحمّلها في الحالات العاديّة.
وأطلقها بعضٌ آخر فرأى أنَّ النصوص إذا كانت شاملة للمحرَّمات فلا نجد هناك ما يخرجها عنها وهذا هو ما نرتئيه وفقاً لبعض أساتذتنا المحقِّقين.
وعلى ضوء هذا الشمول في فهم القاعدة، يستطيع المؤمن الذي يواجه حالات الحرج التي يمرّ بها في المجتمعات الكافرة والضالّة... أن يمنح نفسه حريّة ممارسة بعض المحرَّمات إذا كان الانسجام مع خطّ التحريم يوقعه حالات الحرج الشديد..
وتحدَّث الفقهاء كثيراً حول قضية الحرج الذي يقف الحكم عنده، هل هو الحرج الشخصي الذي يعتبر حالة شخصية للإنسان، أو هو الحرج النوعي الذي لا يراعى فيه الجانب الشخصي، بل يخضع للحالات النوعية، وانطلق الفقهاء ـــ كعادتهم ـــ في أبحاث التخصيص والتعميم ـــ في هذه القاعدة، ولكلٍّ رأيه، الذي قد نختلف فيه معه وقد نتّفق، ممّا لا يعنينا الدخول في تفاصيله، في حديثنا هنا، بل كلّ ما يعنينا من هذا كلّه، هو أنّهم لا يختلفون في الخطّ العام الذي يعتبر حالة الحرج من الحالات الرافعة للتكليف بشكلٍ عام.
وقد نجد في بعض كلماتهم التركيز على أنَّ هذه القاعدة ممّا يستقلّ بها العقل في طريقة التشريع القانوني قال صاحب العناوين المير فتَّاح:
يمكن أن يقال: إنَّ قضية العقل السليم عدم وقوعهما (العسر والحرج) في التكاليف نظراً إلى أنّ المتّفق عليه عند أصحابنا وجوب اللّطف على الله سبحانه ومعناه التقريب من الطاعة والتبعيد عن المعصية التي هي المهلكة العظمى ولا ريب أنّ التكليف البالغ حدّ الحرج يبعد عن الطاعة ويكون باعثاً إلى كثرة المخالفة، والله سبحانه أرحم بعباده من أن يفتنهم بما يوقعهم في العذاب غالباً، وكما أنّ التكليف بما لا يطاق ممتنع عليه تعالى، للزوم القبح والخروج عن العدل فكذلك التكليف بالحرج فإنّه مناف للّطف والرحمة.
ويقول ـــ بعد ذلك ـــ : وإن شئت توضيح ذلك فانظر إلى طريقة العقلاء في مقام التربية فإنَّ الإرشاد إلى الحسن والقبيح والأمر والنهي من لوازم التربية، ولا يتحقَّق بدونهما، مع أنّه لو أمر آمر بأمرٍ مستصعب أو نهى عن شيء يعسر اجتنابه للمأمور جداً، فخالف، لكان العقلاء يذمّون الآمر ويقولون إنّ هذا ليس مقتضى اللّطف، بل اللائق أن تأمره بما لا يشكل عليه، ولا تأمره بما يوجب خذلانه، وبالجملة فرق بين كون الدّاعي مجرّد نقص النّفس والتمرُّد على الإطاعة ـــ أعاذنا الله منها ـــ وبين كون ما يصدر عن الآمر له مدخلية في ذلك، لا في تحقيق موضوعه، بل في صدوره عن المكلّف، ولهذا لو اعتذر العبد المخالف حينئذٍ عند الناس بأنّ التكليف مثلاً بكذا بهذه المشقّة هل هو طريقة المولى، وكيف أتحمّل أنا هذه المشقّة، وكيف السبيل إلى غير المخالفة في ذلك، يقبله العقلاء ويخطئون المولى وذلك واضح(1).
وعلى ضوء ذلك يرى كثير من العلماء ـــ ومنهم صاحب العناوين ـــ أنّ هذه القاعدة غير قابلة للتخصيص بل هي جارية في كلّ مجال من مجالات الحرج والمشقّة الطبيعيّين... وقد يرى آخرون غير ذلك فيقرِّرون أنّها قاعدة عامّة، تخضع لما تخضع له القواعد العامّة من التخصيص، ويذكرون لذلك بعض الموارد التي قد يختلف فيها الرأي من حيث إنَّها داخلة في موضوع هذه القاعدة أو خارجة ممّا لا سبيل لنا لذكره ولا حاجة بنا إلى الدخول في تفاصيله.
قاعدة لا ضرر
وهناك ـــ في نطاق الخطوط العامّة للتشريع ـــ قاعدة أخرى هي قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام أو على مؤمن ـــ انطلاقاً من حديث الرسول الأعظم محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في قصّة سمرة بن جندب الذي كان له عذق وكان طريقه إليه في جوف منزل رجل من الأنصار فكان يجيء ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري فقال الأنصاري يا سمرة لا تزال تفجأنا على حال لا نحبّ أن تفجأنا عليه فإذا دخلت فاستأذن فقال: لا أستأذن في طريقي ـــ وهو طريق إلى عذقي ـــ قال: فشكاه الأنصاري إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فأرسل إليه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فأتاه فقال: إِنَّ فلاناً قد شكاك وزعم أنّك تمرّ عليه وعلى أهله بغير إذن فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل فقال: يا رسول الله أستأذن في طريقي إلى عذقي فقال له رسول الله خلّ عنه ولك عذق في مكان كذا وكذا فقال لا قال فلك اثنان قال لا أُريد فلم يزل يزيده حتّى بلغ عشرة أعذق فأبى فقال له رسول الله إِنَّك رجل مضار، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن قال: ثمَّ أمر بها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فقلعت ورمي بها إليه وقال له رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) انطلق فاغرسها حيث شئت. (رسائل الشيعة باب 12 من كتاب إحياء التراث).
وقد اعتبر الفقهاء هذا الحديث بمثابة القاعدة العامّة التي تحكم على أدلّة الأحكام كلّها فتحصرها في غير حالة الضرر.
وعلى ضوء ذلك حكموا بمنع الإنسان من التصرّف في ماله إذا كان فيه ضرر على جاره أو على الآخرين. ورخَّصوا له ممارسة بعض المحرَّمات كالتحاكم إلى قضاة الجور إذا توقّف استنقاذ الحقّ على التحاكم إليهم، باعتبار أنّ الحكم بالتحريم هو من الأحكام الضرريّة على الإنسان.
وقد تحدَّثوا عن هذه القاعدة وأفاضوا في الحديث كما تحدَّثوا وأفاضوا في الحديث في القاعدة السابقة، من حيث شمولها للضرر النوعي أو عدم شمولها له، وعمومها للمحرّمات أو اختصاصها بغيرها، إلى غير ذلك من التفاصيل التي لا شأن لنا في الخوض فيها هنا.
بل كلّ ما نريده ـــ في هذا المجال ـــ هو أنَّ هذه القاعدة تنطلق من الخطّ العام الذي ألمحنا إليه في بداية الحديث وهو أن لا يكون التشريع مصدر ضرر للإنسان بل يقف عند هذه الحالة وقفة حاسمة، تجعل الإنسان يرتاح لإلزاميات الشريعة كما يرتاح لرخصها، ليكون التشريع رحلة طيّبة في حياة الإنسان، لا مرحلة شاقّة من مراحل حياته العملية.
حديث الرّفع
وفي هذا الاتّجاه يلتفت الإسلام إلى حالات الخطأ والنسيان والجهل والاضطرار التي يواجه فيها الإنسان موقف الانحراف عن الحكم الشرعي. وتجاوز حدوده كنتيجة طبيعيّة لوجود إحدى هذه الحالات فيأتي الحديث النبويّ الشريف، وهو حديث الرفع. ليقرّر رفع الحكم في هذه الحالة، أو رفع مسؤوليّته، لئلا يعيش الإنسان عقدة الذّنب إزاء مخالفته للشريعة في هذه الحالة. وليشعر بالامتنان العملي للجوّ التشريعي الذي يوحي إليه. بالسعة لا بالضّيق، وبالراحة لا بالتعب.
قال النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) رفع عن أُمّتي تسعة أشياء الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه والطيرة والحسد والوسوسة في الخلق.
ورأى الفقهاء في هذا الحديث قاعدة عامّة. استفادوا منها، في حلّ كثير من المشكلات التشريعيّة في حالات الجهل والنسيان والإكراه والخطأ بشكلٍ خاص. فألغوا ـــ ببركتها ـــ قانونية التصرّفات الصادرة عن الإنسان عن إكراه سواء في ذلك التصرّفات العملية، التي توقع الإنسان تحت مسؤولية العقوبة في الدُّنيا والآخرة، أو التصرُّفات العقدية التي تفرض على الإنسان التزامات ومسؤوليّات قانونية على أساس التزاماته العقدية. في حالة الإكراه.
وهكذا أطلق الفقهاء من هذا الحديث قاعدة البراءة التي حكموا فيها بأنّ أيّ حكم لا يعلمه الإنسان فهو مرفوع عنه، لا يؤاخذ به، ولا يحاسب عليه في الدنيا وفي الآخرة من غير فرق بين أن يكون الجهل بالحكم نتيجة للجهل بالموضوع أو لارتباك في مصدر التشريع للحكم.
وقالوا إنَّ هذه القاعدة، رفعت عن الإنسان حكماً كان من صلاحية الشارع أن يضعه، من خلال الحفاظ على المصلحة التي انطلق منها الحكم.. ولو جعله الشارع، لوقع الإنسان من ذلك في ضيق وحرج ولكنّه رفعه عنه انطلاقاً من سماحة الشريعة وسهولتها... أمّا الحكم الذي كان يمكن للشارع أن يجعله في هذا المجال فهو إيجاب التحفُّظ في نطاق النسيان.
وقال الفقهاء والأصوليون: إنَّ هذا الحديث واقع في موقع الامتنان من صاحب الشريعة على الأُمّة. فكأنّه يريد أن يشرح منّة الله عليهم ولطفه بهم ورأفته بحالهم، عندما رفع عنهم هذه الأمور التي لو وضعها عليهم أو حمَّلهم مسؤوليّتها لوقعوا في حرجٍ عظيم.
وبهذه الروح قالوا: إنَّ هذا الحدث لا يرفع إلاَّ الأحكام التي يعتبر رفعها عن الأُمّة امتناناً على الأُمّة بشكلٍ عام، لا على شكلٍ خاص، لأنَّ الأحكام الشرعية لا ترفع أو توضع، انطلاقاً من مصلحة خاصّة ضد مصلحة خاصة أخرى، بل من المصلحة العامّة، وإن هدرت معها بعض المصالح الخاصّة.. ولهذا قالوا إنَّ هذا الحديث لا يرفع حكم الضمان على من أتلف مال غيره خطأ أو جهلاً أو نسياناً لأنَّ رفع هذا الحكم لا يعتبر امتناناً على صاحب المال بل هو ضدّ الامتنان عليه وإن اعتبر امتناناً على المتلف لأنّه يرفع عنه حكم الخسارة.
وليس من شأننا الخوض في ذلك كلّه. ولكنّنا نريد أن نضع هذا الحديث في الإطار العام للفكرة التي قرَّرناها من ارتكاز التشريع على الأُسس الواقعية التي تدرس الإنسان من خلال ظروفه الواقعية من دون حرج.
واقعيّة التشريع في بعض المواطن الخاصّة
ربّما نجد في بعض الحالات التشريعيّة الخاصّة. وضوح الخطّ الواقعي الذي يقترب فيه التشريع من الحالات الطبيعيّة للجوّ الداخلي الذي يعيش فيه الإنسان، إزاء بعض الأوضاع المعيّنة التي تواجهه في حياته فيشعر ـــ معه ـــ الإنسان بالانسجام مع الأحكام الشرعية التي تريد إخضاع حياته لإرادة الله وتشريعه وسنحاول استعراض بعض النماذج الحيّة في هذا الاتّجاه.
1 ـــ ردّ الاعتداء بمثله
في التشريع الإسلامي يعتبر الإسلام مقاومة الظلم من قِبَل المظلومين حقّاً أساسياً مقدَّساً ركَّز عليه القرآن الكريم في أكثر من آية، ودعا الإنسان إلى الأخذ بهذا الحقّ، مع مراعاة جانب العدل في ذلك، بعدم الزيادة عليه في ردّ الفعل، على المستوى الذي جاء به الفعل، سواء في ذلك، بالكلمة فيما إذا كان الظلم بالكلمة، أو بالفعل فيما إذا كان الظلم بالفعل.
قال الله تعالى:
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة : 194]
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل : 126]
ولعلَّ في بعض الآيات إيحاءً بأنَّ الإنسان الذي ينتصر لنفسه في حالة تعرُّضه للعدوان والبغي، هو في مركز القيمة في نظر الإسلام.
وذلك قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ*وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 39 ـــ 40]
فقد جعل الانتصار على البغي والظلم الذي يصيب الإنسان من الآخرين صفةً ممتازةً من صفات المؤمنين ممّا يجعل الانطلاق في العفو، في إطار القيمة الأخلاقية، حركة وجدانية لدى الإنسان تنبع من تقديره للواقع.
ولعلَّ التركيز على ذلك يتّجه إلى ترك القضية للإنسان ليمارسها كما يريد باعتبار القضيّة حقّاً له يمارسه بالعفو تارّةً وبالقصاص تارةً أخرى، لأنَّ كلاًّ منهما ينثل القيمة الإنسانية في حساب الكرامة.
وربّما كان هذا الاتجاه في تقدير الموقف مرتكزاً على أساس حساب العامل الذاتي الذي يبحث عن الثأر لنفسه من خلال الردّ العملي، وعن الروح المتسامحة التي تنطلق مع العفو، من خلال واقع الحقّ الطبيعي في القصاص.
2 ـــ مقياس الشرف في التشريع
ونلاحظ في التشريع الإسلامي التأكيد على جانب المسؤولية الفردية في العمل الأمر الذي يجعل الإنسان يشعر بالأمان اتّجاه الله والناس على أساسٍ شرعي فيما إذا كان أحد أقربائه منحرفاً في سلوكه بأيّ شكل من أشكال الانحراف وذلك قوله تعالى:
{قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام : 164]
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [النحل : 111]
{قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ : 25]
ونلاحظ في هذا التشريع أيضاً أنَّ استقامة الآخرين وصلاحهم لا يجدي المنحرفين شيئاً من ناحية عملية أو معنوية وذلك قوله تعالى:
{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى*وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى*ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى} [النجم: 39 ـــ 41]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ*وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 10 ـــ 11]
وقد نجد في هذا الاتّجاه التشريعي أساساً لجعل المقياس الواقعي للشرف، هو السلوك الفردي للإنسان نفسه، فلا أثر لسلوك الآخرين في التقييم، من هذه الجهة، سواء أكان الآخرون عشيرته أو إخوانه أو أهل بلده لأنَّ كلّ إنسان يمثّل نفسه، ولا يمثّل غيره، فهو المسؤول الأوّل والأخير، عن عمله أمام الله وأمام الآخرين، ولذا يختصّ العقاب به وحده سواء في ذلك حال الدُّنيا أو حال الآخرة.
قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105]
{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} [يونس : 21]
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور : 21]
وعلى هُدى ذلك كلّه نقرّر أنّ ما يسمّى غسلاً للعار وحفظاً للشرف، في حالة انحراف الفتاة التي تربطها بالقاتل صلة قربى، هو أمرٌ مناف للمفهوم العام للشرف في الإسلام، فإنَّ الفتاة لم تُسئ بانحرافها لأحد بل أساءت لنفسها، لأنّها هي التي تتحمّل مسؤولية نفسها أمام الله وأمام المجتمع الذي تحكمه شريعة الله لا شريعة الجاهلية. وربّما كانت هذه التقاليد منطلقة من الأنظمة العشائرية التي تعتبر العشيرة وحدةً قائمة بذاتها، يتحمّل المجموع فيها مسؤولية ما يقوم به الفرد، كما يتحمّل الفرد نتائج ما يقرّره المجموع، أو ما يقومون به، كما أنّ التفرقة بين انحراف الفتاة وبين انحراف الشاب يرجع إلى المفهوم الجاهلي للشرف الذي يعتبر عرض الأنثى مقياساً للشرف الرفيع، بينما لا يعتبر عرض الشاب بهذه المنزلة، ولذا نجده يحاسب الفتاة إذا انحرفت بما لا يحاسب به الشاب في هذه الحال.
وقد انتهى الإسلام من هذا كلّه، بما قرَّره من المسؤولية الفردية التي تجعل الإنسان وحده وجهاً لوجه أمام عمله، كما تجعل شرفه خاضعاً لما يقوم به من عمل وما يمارسه من سلوك وما يتمثّل في حياته من مبادئ وقِيَم.
3 ـــ علاقة المؤمن بغيره
كيف تكون علاقة المؤمن بغيره كافراً كان أو ضالاًّ... قريباً كان في نسبِهِ أو بعيداً.
هل يفرض الإسلام على المؤمن أن يقاطع غير المؤمن أو يهجره أو يتنكَّر له في علاقاته ومعاملاته وكلّ جوانب حياته.
إنَّنا نواجه واقعية التشريع في نطاق الجواب التشريعي على هذا السؤال، فإذا انطلق التشريع في اتّجاه المقاطعة الكليّة كان التشريع ـــ في ذلك ـــ بعيداً عن الواقع لأنّه يكلّف المؤمن ما لا يستطيع الانسجام معه إلاَّ بجهدٍ جهيد. أمَّا إذا وقف بين طبيعة الإيمان وما يفرضه من مواقف، فرسم له مواقفه، وبين طبيعة الحياة وما تفرضه من علاقات، فأباح لها علاقاتها، ونظَّمها على أساسٍ متين.. فإنّه ينسجم مع الواقع ويغري الإنسان المؤمن بالسير معه بعيداً في هذا المجال.
وقد انطلقت الشريعة لترسم للتشريع خطوطه العملية في هذا الاتجاه الذي يجمع بين واقع الإيمان وواقع الحياة فقد حدّدت علاقة المؤمن بالكافر على أساس اعتبار العقيدة أساساً للرابطة الوثيقة التي يسمّيها القرآن الكريم بــ (الموادة) و(الموالاة) لأنّها العلاقة الوثيقة التي يخضع لها صدق الإيمان في الضمير، أمّا العلاقة العامّة التي تخضع للواقع المعاش على أساس مالي أو اجتماعي أو أخلاقي، فقد تركها الإسلام للإنسان دون أن يحدّد له أيّ تكليف إلزامي إلاَّ المحافظة على نفسه من الغدر والخيانة والانحراف.
وبهذا يشعر الإنسان المسلم بالحريّة في حياته العامّة والخاصّة، عندما يريد التعامل والتعايش مع الآخرين دون أن تحدّد ذلك قضايا العقيدة وغيرها، لأنَّ واقع الحياة المليَّ يمنع ذلك التحديد... وقد أكَّد الإسلام ذلك في علاقة الإنسان المسلم بالرحم الكافر، فاعتبر له حقّاً واحداً على المسلم، وهو حقّ الرّحم، كما أكَّد على معاشرة الوالدين ومصاحبتهما بالمعروف، بالرغم من كفرهما ودعوتهما ولدهما إلى الكفر... وتلك هي أسمى درجات الأخلاق والواقعية في حركة التشريع الإسلامي.
قال الله تعالى:
{وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان : 15]
4 ـــ في طريقة العبادة في التشريع
أرادنا الله أن نعبده، وجعل عبادتنا له فرضاً واجباً نؤدّيه في كلّ يوم، واعتبر العبادة مقياساً لقرب الإنسان إليه وبعده عنه في حالة ممارسته لها أو تركه لها.
ولكن كيف نعبده؟ هل يريدنا الله أن نجهد أنفسنا حتّى السقوط من شدّة العياء، هل يمثّل الإرهاق في العبادة قيمةً دينيّةً، يدعونا الإسلام إليها، وهل في حساب الإسلام تصنيف للذين يتركون كلّ شيء في الحياة للعبادة البدنية، من صلاة وصيام ونحوهما، ليرفعهم، من خلال ذلك، إلى الدرجات العليا، كما يريدنا الأسلوب الوعظي الذي درج الواعظون من مؤلّفين وخطباء أن يملأوا أفكارنا به من خلال قصص أولئك العباد الذين نذروا أنفسهم للعبادة في الصوامع والكهوف وقمم الجبال ليدلّلوا على أنّ هؤلاء يمثّلون القيمة كلّ القيمة والعظمة كلّ العظمة.
لقد كان الإسلام واقعياً في ذلك كلّه فقد خلق الله الإنسان وهو يعرف ما أودعه فيه من قوى وقدرات ومجالات يتحفَّز كلّ منها ليؤدّيَ دوره في الحياة، دون اختناق، فكلّ طاقة في داخلنا تشعر بحاجة إلى أن ترتاح وتتنفَّس، وكلّ قدرة من قدراتنا تحسّ بضرورة التخفيف من ضغط العمل والمسؤولية..
وكلّ مجال من مجالاتنا العملية يحتاج إلى أن يتفتَّح وينفتح على أكثر من أُفق، لأنَّ الأُفق الواحد في حركة الحياة يحوِّل الحركة إلى روتين ميِّت. ولهذا أراد لنا الإسلام أن نتخفَّف من عناء العمل وعناء العبادة فلا نثقل أنفسنا بهما إلاَّ بمقدار، فلم يرد لنا أن نرهق أنفسنا بالعبادة لأنَّنا بذلك نلتقي بردود الفعل الذاتية التي تنشأ من الداخل، كنتيجة طبيعيّة للشعور بالضغط والاختناق الداخلي، عندما تفقد المتنفّس الذي تتنفَّس فيه بحريّة، خارج حدود الواجب، كما يلتقي بردود الفعل الخارجية التي تنشأ من شعور الآخرين بصعوبة الانتماء لهذا الدين الذي يأخذ على الإنسان كلّ مجالات حياته دون أن يفسح المجال للحركة الحرّة خارج نطاق العمل الديني. ففي حديث نهج البلاغة عن الإمام عليّ (عليه السلام):
"إِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبَالًا وَإِدْبَاراً فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَاحْمِلُوهَا عَلَى النَّوَافِلِ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاقْتَصِرُوا بِهَا عَلَى الْفَرَائِضِ". وفي حديثٍ آخر: "إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وَإِقْبَالاً وَإِدْبَاراً، فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وَإِقْبَالِهَا، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا أُكْرِهَ عَمِيَ".
وقال: "... وَخَادِعْ نَفْسَكَ فِي الْعِبَادَةِ وَارْفُقْ بِهَا وَلَا تَقْهَرْهَا وَخُذْ عَفْوَهَا وَنَشَاطَهَا".
وفي حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: "مَرَّ بِي أَبِي وَأَنَا بِالطَّوَافِ وَأَنَا حَدَثٌ وَقَدِ اجْتَهَدْتُ فِي الْعِبَادَةِ فَرَآنِي وَأَنَا أَتَصَابُّ عَرَقاً فَقَالَ لِي يَا جَعْفَرُ يَا بُنَيَّ إِنَّ الله إِذَا أَحَبَّ عَبْداً أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَرَضِيَ عَنْهُ بِالْيَسِيرِ".
وفي حديثٍ آخر للإمام الصادق عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو يوصي عليّاً (عليه السلام) قال:
"يا عليّ إِنَّ هذا الدِّين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربّك فإنَّ المُنبّت (المفرط) لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع فاعمل عمل مَن يرجو أن يموت هرماً واحذر حذر مَنْ يتخوَّف أن يموت غداً".
وفي روايةٍ أخرى: "ولا تبغض إلى الناس عبادة ربّك".
أمّا الانقطاع للعبادة والتخلِّي عن الحياة كلّ الحياة، فهي من الرهبانية التي اعتبرها الإسلام ـــ في القرآن الكريم ـــ بدعة لا يقرّها للخطّ العملي للإنسان لأنَّ ذلك ضدّ طبيعة الحياة.
إنَّ القضية في العبادة في الإسلام ليست في الكمّ بل هي في الكيف، ولذا ورد في مضمون الحديث عن العبادة.
ليس لك من صلاتك إلاّ ما أقبلت فيه على ربّك، وليست في طبيعة ما تأتيه من عبادات، بل بمقدار ما تُحقِّق من أهداف تربوية وروحية من خلال العبادة.
وقد ورد في الحديث النبويّ الشريف: "مَنْ لَم تَنْهَهُ صَلاتُه عَنِ الفَحْشَاء والمنكر لم يَزْدَدْ مِنَ الله إلاَّ بُعْداً". وقد جاء في نهج البلاغة: "رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنْ صَوْمِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ وَالتَّعَبُ"، "يَا حَبَّذَا نَوْمُ الْأَكْيَاسِ وَإِفْطَارُهُمْ".
إنّه الأسلوب التشريعي الذي لا يريد أن يحوّل الإنسان إلى آلة متحرِّكة بدون وعي، تُمارس الرّكوع والسجود بدون حساب، بل يريد أن يتحوَّل الإنسان إلى كيان نابض حيّ متحرِّك يعيش اللّقاء الروحي بحياته من خلال اللّقاء الروحي بربّه ويشعر بأنَّ موقفه في العبادة يمثّل جانباً حيّاً من جوانب المسؤوليّة التي تتحرّك في داخل الذّات لتحوّلها إلى طاقة كبيرة زاخرة بالمعاني الكبيرة في الحياة، وتتفجَّر في حياة المجتمع ينبوعاً من ينابيع الخير والعطاء والمحبّة، دون حساب. إنّها عبادة المعنى وليست عبادة اللّفظ وعبادة المضمون وليست عبادة الشكل وتلك هي سرّ عبودية الإنسان لربّه التي تمثّل فيها الكرامة والإخلاص والشعور العميق بالمعنى الكبير لعلاقة المخلوق بالخالق وعلاقة الخالق بمخلوقه. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
الحيل الشرعية
وهناك باب يذكره الفقهاء في كثير من أبواب الفقه يطلقون عليه اسم "الحِيَل الشرعية" ويريدون بها الوسائل التي يحاول فيها المكلّف التخلُّص من الوقوع في الحرام، وذلك بالحصول على بعض نتائجه مع اختلاف الوسيلة والعنوان... ويبرِّرون ذلك بأنَّ الأحكام الشرعية من حرمة أو وجوب أو غيرها تابعة لوجود موضوعها فإذا وجد الموضوع وجد الحكم وإذا انتفى انتفى، ولا يرون في وحدة النتيجة ما يمنع من اختلاف الحكم لأنَّ طبيعة الحكم قد تتبع الغاية المرتبطة بوسيلة معيّنة، لا الغاية بأيّ وسيلةٍ كانت. وهكذا يجوز للإنسان أن يتوصَّل إلى أخذ الزيادة على المبلغ الذي اقترضه، بطريقة البيع الخياري أو البيع بشرط الخيار، وهو عبارة عن أن يبيع الإنسان شيئاً عقاراً كان أو غيره بثمن معيّن ويجعل لنفسه حقّ الخيار، والرّجوع بالبيع في حالة إِرجاعه الثمن إلى البائع في مدّة معيّنة، ويصبح العقار في هذه الحالة ملكاً لصاحب المال، ولا يعود صاحب العقار مديناً لصاحب المال بشيء، فكلّ منهما قد مَلَكَ ما انتقل إليه في مقابل ما انتقل عنه من مال، وله أنْ يتصرَّف فيه كما يريد، كأيّ مالكٍ آخرَ، وليس هناك تحفُّظ في هذا المجال إلاَّ التحفُّظ الذي يوجبه حقّ الخيار لصاحبه فحسب... وعلى ضوء هذا يمكن لبائع العقار أن يستأجر العقار من صاحب المال الذي انتقل إليه بالشّراء ويستحق ـــ بناءً على ذلك ـــ الأجرة التي قد تلتقي بالنتيجة مع الفائدة، ولكنّها تختلف عنها بالطريقة الشرعية.
وقد يرى بعض الناس في هذا المجال حيلة صورية تأخذ اسم الشرع لا حكمه، ولكنّنا نجد فيما يعتبر في هذه المعاملة من شروط: أنَّ القصد والجديّة والالتزام الشامل بالالتزامات التي يفرضها هذا التعاقد وغير ذلك من الأمور هي من العناصر الأساسية لشرعية هذه المعاملة في الحساب القانوني للنتائج الشرعية... ولعلَّ من أوضح الأمور في هذا المجال أنّ صاحب العقار لو جاء في مدّة متأخّرة عن موعد الخيار، ولو بمقدار دقائق، لما كان له أيّ حقّ على صاحبه، في إرجاع العقار، مهما كانت الظروف التي اقتضت التأجير والتأجيل. الأمر الذي يجعل من المعاملة قضيّة تتعدّى الجوانب الشكليّة إلى الجوانب العملية الحقيقيّة.
وإذا كان بعض الناس يمارس هذه الحيل ممارسةً لا تتعدّى النطق بالألفاظ التي تدلّ عليها دون القصد إلى مضمونها، فليس معنى ذلك أنّ التشريع يستجيب لأمثال ذلك، أو يبرّر للقائمين به ذلك، وليس للشريعة ذنب، بأنَّ اتباعها يسيئون استخدام رُخَصِها كما يسيئون الحفاظ على واجباتها أو الالتزام بترك محرَّماتها، وإن خُيِّل إليهم أنّهم يلتزمون بها كلاًّ أو بعضاً، فيما يوحون به لأنفسهم أو يوحى إليهم به الآخرون... ولعلَّ هذا الوضع في سوء استخدام هذه الطرق هو الذي أعطى الانطباع السيّء عنها لآخرين..
وربّما نجد في بعض الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) الإيحاء بأنَّ هذه الحيل الشرعية تعيش في إطار الحاجة إلى الخلاص من واقع معيَّن يضغط على الإنسان ولا يستطيع الانسجام فيه مع الخطّ فيلجأ إلى ما يبرّر له هذا الخلاص بالطريقة التي لا تهدم بناء واقعه ولا تسيء إلى سلامة التزامه بالخطّ العام للشريعة تماماً، كما نلاحظ في الحالات الصعبة التي يعيش فيها الفرد المسلم في المجتمع الرأسمالي الذي يرتكز على الرّبا دون أن يجد لنفسه أيّ طريق لترتيب أوضاعه وعلاقاته من غير هذا الطريق، فيقف إزاء هذا الواقع الضاغط بين الخروج من دينه، وبين الخروج من واقعه بالإساءة إلى كيانه، وفي كلّ ذلك بلاء عظيم.
أمّا في المجتمع الذي يرتكز على أساس الإسلام ويعتبر التعاون بين المسلمين وبذل المعروف لبعضهم البعض، أساساً للقاعدة التي يرتكز عليها المجتمع الإسلامي... أمّا في هذا المجتمع فلا يحتاج المسلم إلى سلوك هذا الطريق لتركيز حياته، لأنَّ الدائن ينطلق من فكرة المعروف في علاقاته بإخوانه، والمدين لا يشعر في ضوء هذا بضرورةٍ لممارسة ذلك، إلاَّ في الحالات الخاصّة التي يحتاج فيها المجتمع إلى سلوك ذلك لمواجهة بعض الحالات الاقتصادية الصعبة التي تفرض ذلك.
وقد نجد هذا الإيحاء الذي ألمحنا إليه في ما روي من حديث الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام) ـــ فيما رواه ولده جعفر الصادق (عليه السلام) عنه ـــ كان محمّد بن المنكدر يقول لأبي: "يَا أَبَا جَعْفَرٍ رَحِمَكَ اللَّه واللَّه إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ دِينَاراً والصَّرْفُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَدُرْتَ الْمَدِينَةَ عَلَى أَنْ تَجِدَ مَنْ يُعْطِيكَ عِشْرِينَ مَا وَجَدْتَه ومَا هَذَا إِلَّا فِرَاراً وكَانَ أَبِي يَقُولُ صَدَقْتَ واللَّه ولَكِنَّه فِرَارٌ مِنْ بَاطِلٍ إِلَى حَقٍّ".
فقد نلاحظ أنّ حالة الفرار هي من الحالات التي يشعر فيها الإنسان بالحاجة إلى ممارسة ذلك لا على أساس طبيعي عادي. ومهما كان الأمر، فإنَّ اتّجاه الفقهاء إلى الفتوى بجواز الحيل الشرعية كمبدأ، مهما اختلفوا في مواردها وطبيعتها، يدلّ دلالة واضحة على مدى المرونة الواقعية التي يتّصف بها التشريع الإسلامي في نطاق الخطوط العامّة التي رسمت له من قِبَل صاحب الشريعة، لأنَّ الفقهاء فيما يفتون به أو يرتأونه، لا يخضعون لتأثيرات ذاتيّة أو استحسانيّة، بل يخضعون لِمَا يجدونه أمامهم من الأدلّة الصحيحة، للأحكام الشرعية، بالشكل الذي يجدون فيه العذر في فتاواهم أمام الله سبحانه وتعالى.
ونحن نعرض مثل هذه الآراء مع تحفُّظنا في بعض التفاصيل المتعلِّقة بالموضوع، للتدليل على الشواهد الحيّة للنزعة الواقعية للتشريع في آراء الفقه الإسلامي من دون أن نلزم أنفسنا به بشكلٍ حاسم.
الزواج المؤقَّت أو "زواج المتعة"
وقد نجد في تشيع الزواج المؤقّت الذي يجمع المسلمون على أصل تشريعه وإباحته في الإسلام مِن قِبَل النبيّ محمَّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في صدر الشريعة، وإن اختلفوا بين مَن يذهب إلى نسخه وتحريمه بعد ذلك مِن قِبَل النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهم جمهور المسلمين، غير الشيعة الإمامية، وبين مَن يذهب إلى بقاء إباحته ومشروعيّته، لأنّه لم يثبت لديهم نسخه، من صاحب الشريعة، بل يروون أنّ النسخ والتحريم كان متأخِّراً عن وفاة النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وذلك بأمرٍ من عمر بن الخطّاب الذي خطب المسلمين وقال ـــ فيما يروونه من كلامه ـــ متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حلَّلَهُما وأنا أُحرِّمهُما وأُعاقب عليهما ـــ ... ويعقّبون على ذلك: إنَّ هذا التحريم ربّما كان اجتهاداً شخصياً، يخضع لظروف معيّنة، تضع القضية في حدود الزمان والمكان، تماماً، ككثير من القضايا الإدارية، التي تعيش في ظرف معيَّن لضرورة معيّنة كما ينقلونه عنه في إلغاء سهم المؤلّفة قلوبهم من الزّكاة، لا على أساس إلغاء التشريع، بل على أساس تجميد المصرف لعدم الحاجة إليه في ذلك الوقت نظراً لقوّة الإسلام وانتشار سطوته في العالم... وربّما يكون لأشياء أخرى، أو قناعات خاصّة تجعله يعتقد أنَّ التحريم والتحليل، في بعض الموارد، يمكن أن يمتد بعد النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ليكون إحدى صلاحيات مَن يرى نفسه أو يراه الناس وليّ أمر الأُمّة.
وأيَّاً كان الأمر، فإذا ثبت لدينا الأساس الاجتهادي لشرعية هذا الزواج من ناحية النصوص الشرعية الواردة في هذا المجال، فقد نجد أنّ هذا الحكم يخضع للنزعة الواقعية التي يتّصف بها التشريع الإسلامي ليخلص الناس من حالات الحرج والضيق الذي يفرضه عليهم الالتزام بالزواج الدائم، كطريقة وحيدة لممارسة الغريزة الجنسية لدى الإنسان.
فقد عرفنا من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة الشريفة أنّ الإسلام قد اعتبر الغريزة الجنسية حاجة طبيعيّة ملحَّة في حياة الإنسان بالمستوى الذي يرى فيه الإنسان، الذي لا يستجيب لها، ناقص الدّين بمستوى النصف أو الثلثين نظراً لتأثيرها الكبير على السلوك العملي للإنسان الأمر الذي يهيّئ لأجواء الانحراف أن تنمو وتتعاظم وتتّسع في حياته في خلال الكبت والحرمان.
وعلى هدى ذلك، فإنّه لا يعتبر ممارستها وتلبية ندائِها لدى الرجل والمرأة، بالطرق المشروعة، امتهاناً لكرامة المرأة أو الرّجل.. ما دامت السُنَّة الطبيعيّة التي أودعها الله في الإنسان اقتضت أن لا يحصل هذا الاكتفاء لأيّ منهما إلاَّ بالعلاقة المشتركة.
ولذا فإنَّ المفروض في التشريع الواقعي، أن لا يترك أيّ فراغ تشريعي في واقع الحياة، أمام المشكلة التي تبحث عن حلّ.
وفي هذا الإطار، يرى الباحثون الاجتماعيون، أنَّ الزواج الدائم لا يحلّ المشكلة وحده، بالنظر لخضوعه لأحكام والتزامات لا يستطيعها الإنسان في بعض مراحل حياته لأنَّ للضغوط الماديّة أو الاجتماعية أو الثقافية التي تحيط به فماذا يفعل؟
هل يطلب منه العفّة الدائمة، والصبر الطويل على الحرمان؟ وهذا يخالِف طبيعة الواقع، أو يسمح له بالانحراف، وهذا يخالِف طبيعة التشريع، أو يؤمر بالزواج الدائم وهذا يخالِف طبيعة القدرة العملية؟
فلم يبقَ إلاّ أنْ يتّجه إلى تشريع عملي، يضع المشكلة في إطار الحلّ الذي ينظر إلى الواقع، ليسمح للإنسان بالاستجابة إلى نداء الغريزة، من دون فرق بين حاجة المرأة إلى ذلك، أو حاجة الرجل ـــ في الإطار النظيف للعلاقة، على أساس الزوجية التي يتّفقان على بدايتها ونهايتها، بدلاً من الزوجية التي يملك الرجل وحده أمر نهايتها بعيداً عن إرادة الزوجة واختيارها إلاّ في بعض الحالات الطارئة.. ثمّ يسير التشريع في تحديد مسؤولية هذه العلاقات لدى الطرفين وتحديد العدّة، وإعطاء الولد ـــ الذي يكون نتيجة لهذا الزواج ـــ كلّ صفات الشرعية وكلّ حقوق الولد الشرعي الذي يكون نتيجة الزواج الدائم.
ولعلَّ ما يؤكّد لنا واقعية هذا الحلّ هو في حاجة البشرية في ظلّ الزواج الدائم إلى الانحراف عنه بممارسة الزنا في الحالات غير الطبيعيّة للإنسان... وإِلاَّ... فأيّ حاجة إليه إذا كان الزواج الدائم يستطيع حلّ المشكلة التي تعتبر حالة مَرَضية للإنسان على كلّ حال، ليقال إنَّ الإنسان ليس ملزماً بالاستجابة لواقع الحالات المرضية التي تعيش في نطاق الأفراد بعيداً عن الوضع الإنساني العام.
وربّما كان الحديث الشريف الوارد عن الإمام عليّ (عليه السلام) يشير إلى هذه الحقيقة الواقعية في حياة الناس، فقد روي عنه أنّه قال: "لولا ما نهى عنه عمر من أمر المتعة ما زنا إلاَّ شفا (أي قليل من الناس)" وفي روايةٍ أخرى ما زنا إلاّ شقي، أي إنسان مريض معقَّد لا ينطلق زناه من حاجته إلى ذلك، بل من تمرُّده على الله، وانحرافه عن الخطّ.
وعلى أيّ حال، فإنَّنا نعود لنؤكّد حقيقتين ألمحنا إليهما في بداية هذا الحديث عن زواج المتعة.
الأولى: أنّ هذا التحليل الذي حاولنا أن نضع التشريع في إطاره، لا يعتبر أساساً تشريعياً للحكم بل يعتبر موضحاً لطبيعته الواقعية، بعد ثبوت تشريعه بالوسائل الاجتهادية المعروفة.
الثانية: أنَّ تشريع زواج المتعة، لا يعتبر امتهاناً لكرامة المرأة باعتبارها وسيلة لمتعة الرجل، كما حاول أحد الكتّاب أن يشير إليه، لأنَّ هذا الزواج ليس في مصلحة الرجل فحسب، بل هو في مصلحة المرأة أيضاً، وإنْ أكّدت الأحاديث على الدور الكبير للرجل في هذا الزواج، كما أكّدت على ذلك في الزواج الدائم، باعتبار أنّ الرجل يمثّل، في حركة الأوضاع الاجتماعية التاريخيّة، العنصر الإيجابي الذي يتسلَّم زمام المبادرة في عرض الزواج والمطالبة به، لأنَّ حياء المرأة الذاتي والتقليدي والاجتماعي يمنعها من التصريح بالحاجة إلى ذلك.
ولو أردنا أن نسير في اتّجاه اعتبار حصول المتعة للرجل، عن طريق علاقته بالمرأة شيئاً يسيء إلى كرامة المرأة، لَوَجَب أن نلغيَ أصل العلاقة... ولكنَّ القضية لا تسير في هذا الاتجاه لخضوع القضية للسُنّة الطبيعيّة التي أودعها الله في الحياة.
يبقى هناك شيءٌ واحد لا بدّ لنا من التركيز عليه في هذا الجانب، وهو أنَّنا لا نرى، من وجهة نظر إسلامية، أنَّ دور المرأة، الزوجية في الحياة يقتصر على أن تكون أداة لتلبية رغبات الرجل... بل إنَّ لها مسؤوليات والتزامات في الحياة العملية للأسرة وللأُمّة بشكلٍ عام، تماماً كالرجل، مع التحفُّظ في بعض ذلك ممّا تقضيه طبيعة الاختلاف النوعي البيولوجي، بين الجنسين وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ...} [البقرة : 228].
إنَّ الاستمتاع بتلبية نداء الغريزة الجنسية، هو بعض مظاهر العلاقة الزوجية التي تستفيد منها المرأة، كما يستفيد منها الرجل، وليست كلّ هذه الحياة واقعاً وشريعة وغاية.
في نهاية المطاف
وفي ختام هذا الفصل من الفكرة العامّة للحديث، نجد أنَّ النماذج العامّة والخاصّة التي عرضناه تستطيع أن تقف بنا على الأساس الواقعي للتشريع الإسلامي بشكلٍ عام... ولعلَّ في هذا الذي عرضناه كفاية لمن أراد أن يعرف الفكرة بشكلٍ واضح.
ومن خلال ذلك كلّه نعرف أنَّ الشريعة وجدت لخدمة الإنسان، ولذا تقف حيث يقع الإنسان في الضرر من خلال التشريع، لتعطيه الرخصة، وتنطلق حيث تكون الرخصة ضرراً لحياته وواقعه.
الفصل الثالث
هل الغاية تبرِّر الوسيلة؟
• موقع الوسيلة من الغاية
• قاعدة التزاحم
• التزاحم في مقام التشريع
• الكذب من أجل الإصلاح
• الكذب في حالات الخوف
• حكمتان للإمام عليّ (عليه السلام)
• الكذب على أهل البِدع
• الغيبة ومسوّغاتها
• الوفاء لأهل الغدر والغدر لأهل الوفاء
موقع الوسيلة من الغاية
كنّا طرحنا في بداية الحديث، فكرة علاقة الوسيلة بالغاية، من حيث تجسّدها للمظهر الحيّ، للنزعة الواقعية أو غير الواقعية، في الإسلام، حسب اختلاف النتيجة النهائية للفكرة سلباً أو إيجاباً.
فربّما يلتقي العاملون، في طريق العمل، ببعض الحالات التي لا يملك الإنسان فيها سبيلاً إلى ممارسة واجبه، والوصول إلى غايته، إلاَّ بتجاوز المحرَّمات الشرعية والتمرُّد عليها.
ويمثل له علماء الأصول. في النطاق الفردي، بإنقاذ الغريق، إذا كان الطريق لإنقاذه يمرّ في أرض مغصوبة ولا يرضى صاحبها بالمرور فيها، وذلك في الحالات التي ينحصر فيها المرور إلى النهر، أو البحر بأملاك الآخرين الذين يرفضون السّماح للنّاس بالمرور عليها فماذا نفعل؟
هل نقف عند حدود الحرام ونتجمَّد فيه، فنترك الغريق يواجه المصير المحتوم، لأنَّ الحكم الشرعي لا يسمح لنا بالتصرُّف بأملاك الناس من دون إذن أو رضا منهم؟
أو أنَّنا نتجاوز الحرام ونتخطّاه، تقديماً للواجب الأهمّ وهو إنقاذ حياة الإنسان المحترمة.
ويمثل له الفقهاء، في النطاق الجماعي، بالأسرى المسلمين الذين وقعوا في قبضة العدوّ الكافر، إذا وضعهم العدوّ في خطّ النار، من أجل تعطيل حركة المسلمين الذين يقاتلون في الهجوم والدفاع، حفظاً لأرواح هؤلاء.
فماذا يفعل الجيش المسلم؟
هل يجوز له أن يقتل هؤلاء الأسرى في معركته مع العدوّ، إذا دعت مصلحة المعركة إلى ذلك، كما إذا توقّفت ممارستنا لحريّة الحركة في القتال، على اتّباع هذه الوسيلة.
أو لا يجوز له ذلك، بل يترك الجيش نفسه تحت رحمة واقع الهزيمة لمجرّد الالتزام بحرمة قتل الأسرى المسلمين.
ولا تقتصر القضية على هذين المثالين. بل تتجاوزهما إلى كلّ حالة من الحالات التي يقف فيها الإنسان في نطاق الواقع الفردي أو الاجتماعي، ليجد نفسه بين اختيارين لا ثالث لهما، فإمّا أن يحقّق واجبه، وإمّا أن يرتكب ما حرَّمه الله عليه. وفي نطاق الدولة عندما تقتضي المصلحة الإسلامية العليا القطعية، تصرفاً لا نملك معه إلاّ تجاوز حدود الحرام في الأموال وفي الأوضاع العامّة والخاصّة. سواء في ذلك حالات السلم أو حالات الحرب، في واقع السياسة أو في واقع الحياة الاجتماعية، لاسيّما في الحالات التي يحاول فيها العدوّ أن يلجأ إلى أساليب اللّف والدوران، وكان العمل الواقعي لقضيّتنا أن نحاربه بأساليبه، لأنّه لا يفهم إلاّ بتلك الأساليب، أو لأنَّ الانتصار عليه يفرض اللّجوء إلى ذلك في واقع الحياة السياسية والاجتماعية.
فما الذي يريده الإسلام من المسلم في هذه الحالات.
هل نتركه تحت رحمة الواقع السيّئ، حيث يبقى متجمِّداً أمام حالات التحريم التي تمنعه من الحركة، حتّى لو كان العدوّ يحاول أن يقضي عليه وعلى الإسلام، أو كانت المصالح الكبيرة تتعرَّض للخطر. أو يترك له الحريّة ولكن بحذر ومراقبة دقيقة لله ولحدوده فيما يتجاوزه، وفيما يقف عنه.
إنَّ الجواب على هذه التساؤلات هو الذي يحدِّد لنا واقعية الشريعة العملية، أو بعدها عن الواقع العملي للأشياء. ونعتقد أنّ الإسلام لا يجمّد أتباعه في حدود التحريم، إلاّ بحساب، ولذلك فهو يترك لهم حريّة الحركة في إطار القِيَم الكبيرة للدين الإسلامي... ثمّ ممارسة الحريّة في الوقوف عند الحكم أو تجاوزه في ضمن هذه الحدود، لئلا تتحوَّل الرّخص إلى انفلات غير مسؤول، يسيئ إلى القضية بنفس القوّة التي يُسيء بها التجميد غير المسؤول.
وعلى ضوء ذلك، يرى العلماء في مثال إنقاذ الغريق، والأسرى المسلمين، أنّ على الإنسان أن ينقذ الغريق ويتجاوز حرمة التصرّف في الأرض المغصوبة، وأنّ على الجيش المسلم أن يهاجم العدوّ ليحقّق النصر للإسلام، ولو كان ذلك على حساب حياة الأسرى المسلمين، على أن تدفع ديّتهم من بيت المال.
قاعدة التزاحم في الامتثال هي الأساس الاجتهادي للمسألة
أمّا الأساس الاجتهادي الذي يركّزون عليه الفكرة، فهو ما يسمّى بقاعدة التزاحم، بين الأحكام، في مقام العمل، وذلك "بأن يكون أمام المكلّف تكليفان يكون امتثال أحدهما متوقّفاً على مخالفة الآخر لعجزه عن امتثال كليهما، كما إذا توقّف إنقاذ الغريق على التصرّف في الأرض المغصوبة، أو كان هناك غريقان لا يقدر المكلّف إلاّ على إنقاذ أحدهما. ولما كانت القدرة على امتثال الحكم شرطاً عقلياً في موضوع الحكم، إمّا من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز وإمّا من جهة اقتضاء طبيعة التكليف ذلك، وكان المكلّف غير قادر على امتثال التكليفين معاً، كان من الطبيعي، في هذه الحال، أن يكون اختياره لأحدهما مقتضياً لعجزه عن امتثال الآخرة".
والقضية المطروحة هنا، هي الأساس الذي يختار المكلّف فيه أحد الأمرين، ويتمثّل معه أحد التكليفين.
وقد ذكر الأصوليون عدّة مرجّحات للاختيار، وقالوا، إنَّ انتفاء المرجّحات يجعل القضية خاضعة لاختيار المكلّف، وذكروا من بين هذه المرجّحات أن يكون أحد المتزاحمين أهمّ من الآخر فيجب تقديم الأهمّ على المهمّ بحكم العقل، وقالوا، إنَّ هذا المرجّح من القضايا التي قياساتها معها، فإنَّ تقديم الأقلّ أهمية يوجب تفويت المقدار الزائد من المصلحة بخلاف تقديم الأهمّ(1).
... وخلاصة هذه القاعدة في إطار الترجيح بالأهمية، أنّ المصالح والمفاسد الثابتة في الأشياء لما كانت أساساً للحكم، كان الحكم تابعاً لها وجوداً وعدماً، سعةً وضيقاً، فإذا التقينا بحالة كانت مشتملة على مفسدةٍ في عمل، تقتضي حرمته، وكانت لدينا مصلحة أخرى في عملٍ آخر، تقتضي وجوبه، وكانت الصدفة، أنّنا لم نستطع امتثال كلا الحكمين، لأنَّ القدرة لا تتوفّر إلاَّ لأحدهما، فإذا أردنا امتثال أحدهما فلا بدّ من عصيان الحكم الآخر، فماذا نفعل؟
إنَّ العقل يحكم، في هذه الحال، بتغليب الملاك الأكثر أهمّية على الذي هو دونه في حساب الأهمية لأنَّ ذلك يوجب استيفاء المصلحة الكاملة، الأمر الذي يجعلنا نجمّد الحكم في أحدهما، لمصلحة الحكم الذي هو في مركز الأهمية تبعاً لأهمية ملاكه.
ولتطبيق هذه القاعدة على الواقع... نطرح المثالين المتقدّمين أمامنا.. فنحن نعرف أنَّ التصرّف في مال الإنسان الذي لا يرضى بتصرُّف الآخرين في ماله، محرَّم شرعاً، لوجود مفسدة الغصب، ولكنّنا لا بدّ لنا من تجميد هذا التحريم إذا توقّف إنقاذ المؤمن من الموت على هذا التصرّف، لأنَّ مصلحة حفظ نفس المؤمن أكثر أهمية لدى الشارع من أيّ شيءٍ آخر، كما نعرفه في أكثر من مجال.
ونحن نعرف أنّ قتل المؤمن غير جائز، فإنّه من أعظم المحرَّمات، ولكنّه إذا اصطدم بتعطيل النصر في المعركة الدائرة بين الإسلام والكفر، أو بانهزام المسلمين في المعركة كنتيجة للالتزام بالتحريم، أصبح تجاوزه لازماً أو جائزاً حسب طبيعة الأحوال.
وفي ضوء ذلك نقرِّر، أنَّ علاقة الوسيلة بالغاية، ذات بُعدٍ واقعي ينطلق من طبيعة الوسيلة والغاية، فربّما تكون الحالة تجميد الحكم في الوسيلة، لمصلحة الغاية، وربّما يكون الأمر على العكس من ذلك، إذا كانت المصلحة في الوسيلة أكثر أهمية من المصلحة في الغاية، كما إذا توقّف إنقاذ شخص عادي من الموت على قتل عدّة أشخاص مثلاً، فإنّنا في هذه الحال، نترك عملية الإنقاذ، لمصلحة حفظ نفوس الآخرين.
قال أستاذنا المحقّق السيّد الخوئي: في حديثه عن وجوب قبول الولاية من الحاكم الجائِر ـــ التي ورد الحكم بحرمتها ـــ إذا توقّف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليها ـــ فيما نقله عنه صاحب مصباح الفقاهة ـــ في تقرير درسه:
إنَّ المقام من قبيل توقّف الواجب على مقدّمة محرَّمة، وعليه فيقع التزاحم بين الحرمة المتعلّقة بالمقدّمة، وبين الوجوب المتعلّق بذي المقدّمة، نظير الدخول إلى الأرض المغصوبة لإنقاذ الغريق، أو إطفاء الحريق، ويرجع إلى قواعد باب التزاحم المقرّرة في محلّه. وعلى هذا فقد تكون ناحية الوجوب أهمّ فيؤخذ بها، وقد تكون ناحية الحرمة أهمّ فيؤخذ بها، وقد تكون إحدى الناحيتين بخصوصها محتمل الأهمية فيتعيَّن الأخذ بها كذلك، وقد يتساويان في الملاك، فيتخيَّر المكلّف في اختيار أيّ شيء منها، هذا ما تقتضيه القاعدة، إلاَّ إن كشف أهمية الملاك والعلم بوصوله إلى حدّ الالتزام في غاية الصعوبة.
التزاحم في مقام التشريع
وربّما تتجسَّد قاعدة التزاحم. في إطار التنازع بين المصالح المتعدّدة، أو المصلحة والمفسدة في الشيء الواحد، فتكون الغلبة للمصلحة الأقوى، أو المفسدة الأقوى، حسب اختلاف طبيعة الأشياء، وهذا ما يسمّى التزاحم بين الملاكات(1).
وقد نجد في الفقه الإسلامي، الكثير من الشواهد على هذه الفكرة.. فنلتقي بالكذب الذي هو من المحرَّمات الشرعية العظيمة فقد ورد التأكيد على حرمته، بشكلٍ حاسم، في أكثر من حديث.. ففي الحديث عن الإمام أبي جعفر محمد بن عليّ الباقر (عليه السلام): "إنَّ الله جعل للشرّ أقفالاً، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شرّ من الشراب".
ولكنَّ المصالح الكثيرة التي قد يحتاجها المجتمع في الحالات الضروريّة، والأوضاع الصعبة، تفرض حليّة الكذب أو وجوبه في بعض الأحوال، وذلك في حالة انحصار المصالح العامّة في سلوك هذا السبيل، فإنَّ جانب الأهمية في نطاق المصلحة، يغلب على الجانب الأقلّ أهمية، وفي نطاق مفسدة الكذب، ممّا يفقد المفسدة قدرتها على التأثير في التشريع للحكم بالحرمة. ليترك المجال للمصلحة الراجحة، للتشريع على مقتضاها من الحيلة أو الوجوب، ويذكرون لذلك عدّة موارد.
الكذب من أجل الإصلاح
منها، الكذب من أجل الإصلاح، وذلك في حالة وقوع خلاف بين اثنين من المؤمنين، أو جماعتين منهم وأمكن إصلاحهما، لكنّ توقّف ذلك على أن تنقل أحدهما حديثاً لم يقله الآخر عنه، بقصد تقريب وجهات النظر أو تليين القلوب، فإنَّ ذلك جائز ومستحبّ، وربّما يصل الأمر إلى مستوى الوجوب فيما إذا كان الخلاف ينتهي بالنتيجة إلى قتل النفوس واختلال النظام، وقد تواترت الأحاديث الشريفة المصرّحة بأنَّ المصلح ليس بكذّاب، كما في حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام).
وفي حديثٍ آخر عنه قال: الكلام ثلاثة: صدق وكذب وإصلاح بين الناس، قيل له: جعلت فداك ما الإصلاح بين الناس قال: تسمع من الرجل كلاماً يبلغه فتخبث نفسه، فتلقاه فتقول: سمعت من فلان قال فيك من الخير كذا وكذا خلاف ما سمعته منه:
وقد نجد، في بعض النصوص الدينيّة، اعتبار الكاذب في مثل هذه الحالة أو في غيرها ممّا يشابهها صادقاً، واعتبار الصادق في حالات العكس كاذباً فقد روى الشيخ الصدوق في كتاب الإخوان بسنده عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّه قال: "الرجل ليصدق على أخيه فيصيبه عنت من صدقه فيكون كذّاباً عند الله وإنَّ الرجل ليكذب على أخيه يريد به نفعه فيكون عند الله صادقاً.
الكذب في حالات الخوف ـــ التقيّة
ومنها ـــ الكذب في حالات الخوف على النّفس أو المال أو العرض "مع التحفُّظ في بعضها وهو المال اليسير فإنَّ الكثيرين من العلماء لا يحيزون الكذب لدفع ضرره" ويدلّ عليه كلّ ما دلّ على ارتفاع الحرمة بالاضطرار والإكراه ونحوهما كما في الآية الكريمة الدالّة على الترخيص للمؤمن في أن ينطلق بكلمة الكفر في حالة دفع الضرر عن النّفس وهي قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل : 106] والآية الكريمة الدالّة على جواز مداراة المؤمنين للكافرين في مثل هذه الحالات وهي قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ...} [آل عمران : 28]. فقد دلَّت هذه الآية على الترخيص بمداراة الكافرين، بغير ما يعتقد، إذا كان ذلك في مقام التقيّة. ويرى الفقهاء الذين استدلُّوا بهاتين الآيتين على جواز الكذب بأنّه إذا جاز النطق بكلمة الكفر في حالات الخوف على النفس، فينبغي أن يجوز الكذب، بطريق أولى، لأنّه أخف من الكفر، بطبيعة الحال، وبذلك احتجّ الشيعة الإمامية على مشروعية التقيّة باعتبارها أسلوباً من الأساليب التي قرَّرها الإسلام في القرآن الكريم في تعامل المسلمين مع الكافرين لحفظ النّفس، ولمواجهة الحالات الصعبة التي يمرّ بها الكيان في مرحلة الخطر أمام قوّة الكفر ممّا يجعل من عملية الإفصاح عن هويّة العمل، أو العاملين، عملية انتحارية للفكرة ولأصحابها.
ففي هذه الحال لا بدّ من الترخيص بمداراة الواقع إلى حدٍّ ما ليستطيع العاملون حريّة الحركة من أجل تجميع القوّة ومواجهة الواقع بظروف جديدة وأوضاع جديدة تعتمد على التخطيط الدقيق الواعي.
ولعلَّ هذا الأسلوب العملي في حماية المبادئ والحركات من بين الأساليب المتّبعة لدى كلّ الحركات والتيّارات في العالم. من أجل أن تمنح نفسها حريّة الحركة من أجل بلوغها الأهداف التي تخطّط لها. وتعمل من أجل تحقيقها، لأنّها بدون ذلك تفقد واقعية العمل ومرونته ممّا يجعله فريسة سهلة للأعداء حيث يمكنهم من خلال فقدان مرونة العاملين، الاطّلاع على كلّ أسرار العمل وكلّ نقاط ضعفه. وإذا كانت الشيعة الإمامية قد اتّخذت التقيّة شعاراً لها في تاريخها الطويل، انطلاقاً من تعاليم أهل البيت المستمدّة من تعليم القرآن فلأنَّ الواقع الذي عاشوه، كان من الشدّة والخطورة، بالمستوى الذي كانوا يشعرون معه بأنَّ وجودهم معرّض للخطر مِن قِبَل أعدائهم وبذلك استطاعوا البقاء والامتداد في مدى الزمن.
ولسنا هنا في معرض الحديث عن التقيّة تفصيلاً، من خلال ما قيل فيها أو أُشيع حولها من افتراءات وما دار حولها من مناقشات من حيث دلالتها الشرعية والاجتماعية والسياسية، وحدودها العامّة والخاصّة التي وضعت لها... فذلك حديثٌ آخر ـــ قد نوفَّق له في مستقبل الأيام... ولكنَّنا هنا من أجل الحديث عنها باعتبارها مظهراً من مظاهر الأسلوب الواقعي في العمل من حيث المبدأ، ولهذا فهي تخضع لما يخضع له هذا الأسلوب من حدود التحريم والتحليل لئلا يتحوَّل إلى عمل يبدأ في إطار حماية الفكرة لينتهيَ بعد ذلك، من خلال الممارسات المتنوّعة، بعيداً كلّ البعد عن الفكرة من حيث الأساس.
ولا يختصّ جواز الكذب بهذين الموردين، بل يشمل حالة توقّف إنقاذ نفس آخر أو عرضه أو ماله على الكذب فقد ورد في الحديث الشريف "إحلف بالله كاذباً ونجِّ أخاك من القتل" كما وردت هناك أحاديث في جواز الكذب حتّى بطريقة الحلف إذا توقّف حفظ الوديعة التي أودعها الإنسان المؤمن لديه وأراد بعض الظلمة غصبها والاستيلاء عليها دون حقّ.
وهكذا نجد في هذه الموارد الكثيرة الدليل على أنّ الشارع قد راعى جانب الأهمية في حالة تزاحم المصالح والمفاسد عندما شرع الحكم بالحرمة أو بالحليّة، ولم يجعل التشريع جامداً في مكانه، ليجعل الإنسان تحت رحمة الأجواء القلقة التي يفرضها التحريم الوارد في غير موضعه.
كلمتان للإمام عليّ (عليه السلام)
1 ـــ علامة الإيمان...
وربّما تواجهنا أمام هذه القضية كلمتان للإمام عليّ (عليه السلام) في نهج البلاغة.
الأولى: قوله في تعريف الإيمان ـــ علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك. فقد نفهم من هذه الكلمة أنّ الإنسان الذي يكذب لدفع الضرر عن نفسه ليس بمؤمن من دون فرق بين ما إذا كان الضرر على النّفس أو على المال أو على العرض.
ولكنَّ القضية ليست كذلك كما أوضحه بعض أساتذتنا المحقّقين فإنّ المراد من الضرر بمقتضى مقابلته بالنفع هو عدم النفع وقد يطلق الضرر عرفاً على عدم النفع ومورده فلا ينتفع. فمن علائم الإيمان أن يختار الصدق ولو مع فوات النفع على الكذب النافع ومن الواضح حرمة الكذب الجالب ما إذا دار الأمر بين أن يكذب الإنسان فينتفع أو يصدق للنفع فيكون تركه من علائم الإيمان وفعله موجباً للفسق(1).
وعلى ضوء ذلك يكون الحديث منسجماً مع الخطّ العام للقضية فإنَّ الحديث لا يكون منطلقاً من حرمة الكذب في حالة الضرر بل في حالة جلب النّفع.
ولعلَّ للحديث وجهاً آخر يضعه في عداد الأحاديث، التي تريد اكتشاف الإيمان من خلال أسمى مظاهره التي ترتفع عن المستوى العادي ممّا يمارسه المؤمنون العاديون، وبهذا تعتبر ميزة واضحة للمؤمن، تدلِّل على ما يحمله من قوّة الإيمان واستقامته، كما في الحالة التي يصوّرها هذا الحديث، وهي الحالة التي تتوفّر فيها للإنسان ظروف الرخص، في ممارسة الكذب بحيث لا يخاف معها من عقاب الله، ولكنّه في الوقت نفسه، يؤثّر تحمّل الضرر والوقوع في الحرمان، حفاظاً على الصدق، الذي يجسّد حالة الإخلاص للحقيقة على النفع الكبير في حالة الكذب ولا شكّ أنّ ذلك يصلح أن يكون علامة فارقة على الإيمان الثابت في أعماق الإنسان. ولعلَّ هذا المعنى في فهم الحديث ـــ أولى من المعنى الأوّل، لأنَّ ذلك لا يجعل لهذه الحالة ميزة عن بقيّة الأحكام الشرعية التي يكون السير عليها من طبيعة السلوك الإيماني بينما يكفل هذا المعنى التركيز على الطبيعة المميّزة لهذا السلوك بحيث يصبح اعتباره علامة على الإيمان دون غيره.
2 ـــ لا تتبرَّؤوا منّي
الثانية: قول الإمام عليّ (عليه السلام) في نهج البلاغة: "أمّا أنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم مندحق البطن يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد فاقتلوه ولن تقتلوه ألا أنّه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي، فأمَّا السبّ فسبّوني فإنّه لي زكاة ولكم نجاة، وأمّا البراءة فلا تتبرّؤوا منّي، فإنّي ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة".
فقد نجد في هذا الحديث ما يتنافى مع الفكرة التي تقول: إنَّ للإنسان أن يقول كلمة الكفر تحت ضغط الإكراه والاضطرار، مع أنّ هذا الحديث ينهى عن البراءة من الإمام، مهما كانت التضحيات، ومن المعلوم أنَّ البراءة من الإمام عليّ (عليه السلام) لا تصل إلى مستوى البراءة من الإيمان بالله، أو قول كلمة الكفر.
ولكنَّ القضية فيما يظهر ـــ ليست ما يلوّح لنا ـــ في هذا الحديث ـــ فقد ورد في حديث مسعدة بن صدقة عن الإمام جعفر الصادق قال ـــ قلت لأبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام): إنَّ الناس يروون أنَّ عليّاً قال على منبر الكوفة ـــ أيُّها الناس إنّكم تدعون إلى سبّي فسبّوني وتدعون إلى البراءة منّي فلا تبرّؤوا منّي. فقال: ما أكثر ما يكذب الناس على عليّ، ثمّ قال ـــ إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني ثمّ تدعون إلى البراءة منّي وأنّي لعلى دين محمّد ولم يقل، ولا تتبرّؤوا منّي، فقال له السائل: أرأيت أن أختار القتل دون البراءة، فقال والله ما ذلك عليه، وما له إلاَّ ما مضى عليه عمّار بن ياسر، حيث أكرهه أهل مكّة، وقلبه مطمئن بالإيمان. فأنزل الله عزَّ وجلّ فيه {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ...} [النحل : 106] فقال النبيّ عندها يا عمّار إنْ عادوا فعُد فقد أنزل الله عذرك وأمرك أن تعود إنْ عادوا. فإنَّ هذا الحديث يدلّ على أنّ القضية لم تكن نهياً من عليّ (عليه السلام) لهم عن البراءة، وإنّما كانت نهياً عن الانسجام الداخلي، أو الاقتناع الذاتي بذلك لأنَّ ذلك يخالف واقع الأشياء ويشرف بالإنسان على البراءة من دينه في نهاية الأمر لأنَّ البراءة ممّن كان على دين محمّد ـــ في داخل النّفس ـــ ينتهي إلى البراءة من الدّين بشكلٍ مباشر.
وبهذا تقف القضية في إطارها الصحيح الذي يجعل التضحية في مقام الدفاع عن الفكرة أمراً غير واجب، فلا يكون منحرفاً عن خطّ الإيمان، لو أخذ بالرخصة، وقال كلمة البراءة وأحبّ العانية. أمّا إذا اختار خطّ التضحية وفضَّل الموت على الحياة في سبيل الصبر على كلمة الإيمان وكلمة الولاء فإنّه يكون في أعلى درجات الإيمان، كما كان شهيدا الإسلام ياسر وسميّة ـــ أبوا عمّار ـــ في تضحيتهما من أجل الإيمان، فماتا تحت سياط العذاب لأنّهما لم يقولا كلمة الكفر للكافرين، وكما كانت القصّة في موقف الشهيد العظيم حجر بن عديّ وأصحابه البرَرَة الذين اختاروا الموت على أن يقولوا كلمة البراءة من الإمام عليّ (عليه السلام).
الكذب على أهل البِدَع
وقد يظهر من بعض الأحاديث جواز الكذب على أصحاب البِدَع الباطلة ممّن يخوض الإسلام معهم صراعاً عنيفاً من أجل العقيدة والجاه ـــ وذلك في الحالات التي يتوقّف فيها إبعاد الناس عنهم على ذلك، كأسلوب من أساليب الصراع العملي، الذي يواجهون به دعاة الحقّ بالأكاذيب الباطلة، فقد تمسُّ الحاجة إلى مواجهتهم بمثله. فقد وَرَدَ في الحديث عن الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إذا رأيتم أهل البِدَع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبّهم والوقيعة فيهم وباهتوهم كيلا يطمعوا في الدّين".
فإنَّ كلمة (باهتوهم) قد يفهم منها البهتان وهو أن تقول في الشخص ما ليس فيه. وقد أفتى بعض العلماء بذلك، وناقش فيه بعضٌ آخر وإِنَّنا قد نجد بعض التحفُّظ في هذه الفتوى أو تلك وربّما نفهم من هذا الحديث معنىً آخر، ولكنَّنا ننقل ذلك للتدليل على سعة هذا الاتجاه فيما لدينا من الاجتهادات الفقهية التي تجعل الوسيلة تتجمَّد عند حدود التحريم إذا كانت الغاية الكبيرة تتوقّف على تجاوز هذه الحدود. قال المحقّق الشيخ مرتضى الأنصاري في كتاب المكاسب المحرَّمة في موضوع "الهجاء":
"وكذا يجوز هجاء الفاسق المبدع لئلا يؤخذ ببدعه، لكن بشرط الاقتصار على المعائب الموجودة فيه، فلا يجوز بهته بما ليس فيه، لعموم حرمة الكذب. وما تقدَّم من الخبر في الغيبة في قوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في حقّ المبتدعة (وباهتوهم لكيلا يطمعوا في إضلالكم) محمول على اتّهامكم وسوء الظنّ بهم بما يحرم اتّهام المؤمن به، بأن يقال: لعلَّه زان أو سارق وكذا إذا زاد ما ليس فيه من باب المبالغة.
ويتحمَّل إبقاؤه على ظاهره. بتجويز الكذب عليهم لأجل المصلحة، فإنَّ مصلحة تنفَّر الخلق عنهم أقوى من مفسدة الكذب ويتبنّى أستاذنا المحقّق الخوئي هذا الرأي، ويعلّق عليه:
"... وكلّ ذلك فيما إذا لم تترتَّب على هجوهم مفسدة وفتنة، وإلاّ فيحرم هجوم حتّى بالمعائب الموجودة فيهم..". ومن هنا نعرف أنَّ على الإنسان أن يراعي في صراعه مع أهل البدع طبيعة المصلحة الإسلامية العليا، فيما يأخذ أو يدع من كلام".
إنَّ الموضوع هنا هو هل يجوز للإنسان اتّباع سبيل الفتنة في حفظ نفسه أو لا يجوز؟ الأمر الذي يضع القضية في خطّ اعتبار التقيّة انحرافاً عن خطّ الإيمان أو انسجاماً معه، وليس الموضوع هو أنّه هل يجوز أن يضحّي الإنسان بنفسه في سبيل عقيدته مع قدرته على النّجاة وتجاوز حالة التضحية بطريقة مشروعة.
الغيبة ومسوّغاتها
وقد نجد ـــ في هذا الاتجاه ـــ من بين الأمور التي يرخص فيها الإسلام من ممارسة الوسيلة المحرَّمة لحماية الغاية الكبيرة المهمّة ـــ الموارد الشرعية التي وردت فيها الأحاديث والفتاوى بحليّة الغيبة من أجل النّصح للمؤمنين والانتصار للمظلوم ولغير ذلك من الموارد التي عرفنا وصولها إلى مستوى كبير من الأهمية في الدين بحيث لا تمثّل الغيبة معها أيّة مفسدة (وقد تحدّثنا عن ذلك في الحلقة الخامسة من هذه المفاهيم).
الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله...
والغدر لأهل الغدر وفاء عند الله...
ولعلَّ من بين النصوص الدينية التي ركّزت على اعتبار الوسيلة إذا كانت أهمّ، كلمة الإمام عليّ (عليه السلام) المرويّة في "نهج البلاغة".
"الْوَفَاءُ لِأَهْلِ الْغَدْرِ غَدْرٌ عِنْدَ اللهِ، وَالْغَدْرُ بَأَهْلِ الْغَدْرِ وَفَاءٌ عِنْدَ اللهِ".
فهي تركِّز على أنّ الإنسان لا يستطيع أن يتجمَّد أمام القِيَم التي يؤمن بها، ويعيش من أجلها، فيما إذا واجه المجتمع الذي يتنكَّر للقِيَم في جميع مجالات الحياة، فلا مانع ـــ من أن يمارس حريّة الحركة في حياته معهم بشكلٍ مشروع فيما إذا استخدم أساليبهم للردّ عليهم، من أجل تخفيف ضررهم على المجتمع، لأنَّ الوفاء لهم مع كونهم غدرة، قد يشجّع جانب الغدر لديهم، وقد يفقد أهل الحقّ طريق السيطرة عليهم بينما تكون مقابلتهم بأساليبهم طريقة عملية لتفويت الفرصة عليهم باستغلالهم لِقِيَم أهل الحقّ من أجل ضرب الحقّ في الصميم... وربّما تعيش هذه الكلمة في أجواء الآية الكريمة:
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: 58].
فقد قيل إنّها نزلت في يهود بني قينقاع وكان بينهم وبين الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عهد فعزموا على نقضه فأخبره الله تعالى بذلك وأمره بحربهم ومجازاتهم بنقض عهدهم، فكان الوفاء لهم غدراً عند الله، والغدر بهم إذا غدروا وفاء بعهد الله، كما جاء في شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني.
موقف الإمام عليّ في صفّين
أمّا موقف الإمام عليّ (عليه السلام) من أهل الشام الذين منعوه ومنعوا جيشه من الماء عند استيلائِهم عليه، ولكنّه لم يمنعهم منه عندما استطاع أن ينتصر عليهم، بحصوله على السيطرة على الماء بعد ذلك.
أمَّا موقفه هذا فإنّه ينطلق من فكرة إعطاء درس عملي في الحرب التي يخوضها أهل الحقّ حيث إنّها لا تخضع لهذه الأساليب وإنْ كانت مباحة في هذه الحال، وللتدليل على إنسانيّة التعامل مع الأعداء حتّى في حالة الحرب أملاً في أن ينتبهوا إلى ضلالهم ويستطيعوا أن يميِّزوا بين قيادة الحقّ وبين قيادة الباطل.
موقف الإمام من الولاة المنحرفين
وربّما يقول قائل:
إذا كانت الغاية تبرِّر ارتكاب الوسيلة التي هي دون مستوى الغاية في الأهمية... فلماذا استنكر الإمام عليّ (عليه السلام) على أولئك الذين أرادوا منه أن يُصانِع ويُجامِل الولاة الذين كانوا في بداية عهده، إلى أن يستقرّ ملكه: فيعزلهم ـــ بعد ذلك ـــ فكان جوابه لهم قوله: "أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ".
وكيف أنكر على هؤلاء الذين ينتهزون الفرص من دون مراعاة الشريعة فيما يأخذون وفيما يدعون في قوله المعروف: "قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَ دُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَ نَهْيِهِ فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَ يَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ".
ونقول جواباً عن ذلك:
إنَّ الإمام (عليه السلام) ينطلق في كلمته أوّلاً من صفته كحاكم يريد أن يفسح المجال للتطبيق العملي للإسلام بجميع خطوطه العامّة والخاصّة، التي منها المساواة بين الناس، وعدم إفساح المجال لطغيان الاعتبارات السياسية والاجتماعية على ذلك من أجل أن يعطي الصورة الصحيحة عن الحكم الإسلامي، لاسيّما وأنَّ الإمام عليّ (عليه السلام) يمثّل الامتداد الرسالي في تجربة الحكم الإسلامي الحقّ ـــ الأمر الذي يجعل من تصرُّفاته في شؤون الحكم مدرسة للآخرين.
ونحن نعرف ـــ من خلال سلوك الإمام في أكثر الجوانب ـــ أنّه جاء من أجل أن يصحّح الانحراف في ممارسة الآخرين للحكم من حيث صورته العامّة ومضمونه الكبير.
وثانياً: إنَّ من غير الواضح لدينا قيمة النتائج العملية التي سيربحها الحكم الإسلامي من خلال إفساد سلوك زعماء القبائل باستمالتهم بالمال وتشجيعهم على اتّخاذ المواقف المؤيّدة أو الرافضة على أساس الأطماع المالية، أو إبقاء الولاة المنحرفين الأقوياء الذين يمثّل الاعتراف بهم ولو مدّة بسيطة في إعطائهم صفة الشرعية في سلوكهم العملي، ولو في هذه المدّة القليلة، ممّا يجعل أمر عزلهم بعد ذلك دون أساس واضح ما دامت المبرِّرات الأخيرة غير جديرة على مستوى حكمهم المستمرّ... فقد لا تكون الأرباح التي سيجنيها الإسلام من ذلك بمستوى الخسائر التي يخسرها أو المفاسد التي يقع فيها ـــ الأمر الذي لا يجعل القضية في موقف الترجيح للغاية على الوسيلة، كما ألمحنا إليه آنفاً. وربّما نفهم ذلك من كلمة الإمام (عليه السلام) حيث أعطى الوسيلة صفة الجور تارّة، وصفة كونها من حدود الله التي لا يمكن للإنسان المؤمن أن يتجاهلها أو يتعدَّاها، أخرى، ممّا يجعلنا نؤمن أنَّ الغاية في هذه الحالة ليست في المستوى الذي يتضاءل أمامها حكم الله في الوسيلة.
وقد يقوّي هذا الاتجاه، في فهم كلمات الإمام (عليه السلام)، أنّ الذين كانوا يطلبون منه اتّباع هذه الأساليب كانوا يريدون منه المحافظة على مصلحته الشخصية كحاكم، يريد أن يستمتع بالحكم وينتصر به في عملية زهو ذاتي كما يوحى به جوّ الكلام، ولم يكونوا ينطلقون من الحفاظ على الصفة الرسالية التي تجعل من عملية الحكم عملية تطبيق واعٍ للرسالة.
وعلى ضوء ذلك لا يمكن أن يُعطي أحد هذا الاتجاه الذي جرينا عليه، في موقع الوسيلة من الغاية، صفة الميكافيلية، لأنَّ هذه الصفة لا تنطلق إلاَّ في المجال الذي يخدم الغايات الشخصية أو الشرّيرة فهي موجّهة للأمراء الذين يريدون أن يستولوا على السلطة بأيّ ثمن، أو يفتحوا البلاد ليحكموها رغماً من أهلها، بدون حقّ، أو يمنحوا أنفسهم صفة التحكُّم في رقاب الناس، لا على أساس فكرة أو مبدأ.
وليست واردة في المجالات التي يراد منها للرسالات وللقِيَم الكبيرة في الحياة أن تشقّ طريقها وسط العقبات والصعوبات التي تعترض طريقها... فإنَّ الوسيلة ـــ عندها ـــ تفقد صفتها الشرّيرة لتأخذ لنفسها الصّفة الخيّرة، لأنَّ موقعها قد تغيَّر، وصفتها قد تبدَّلت واختلفت، بالجوّ الجديد الذي عاشت فيه في إطار الغاية النبيلة.
خاتمة المطاف
وهكذا نصل إلى نهاية المطاف، في هذا الفصل، لنصل إلى نتيجة حاسمة وهي أنّنا لا نتبنَّى فكرة، أنَّ الغاية تبرِّر الوسيلة، بشكلٍ مطلق، بل نعتبر أنَّ حالة الحكمين المتزاحمين في الغاية والوسيلة كأيّ حالة أخرى في غير هذا المجال، كالحكمين اللّذين لا علاقة بينهما ولا تزاحم إلاَّ في ضيق الزمان عن امتثالهما معاً كالتزاحم بين الصلاة وإنقاذ الغريق مع ضيق الوقت عنهما، فكما أنّنا نغلب أكثر الواجبين صلاحاً فكذلك هنا وبذلك يتّجه الإسلام إلى الخطوات الواقعية في العمل دون أن يفقد شيئاً من قداسته في الفكرة والتطبيق.
لِكُلِّ سؤالٍ جواب
• بين أساليب الحقّ وأساليب الباطل
• هل يحرم مصافحة الرجل للمرأة، وما الضرر من ذلك؟
• ما هي علاقة الإيمان بوجود الله في حياتنا العملية؟
[1]
س ـــ ورد في حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في معرض نقد بعض أصحابه على استخدامه الباطل في طريق الدفاع عن الحقّ، وردّ الباطل. أنّه قال: ـــ أمّا الجدال بغير التي هي أحسن، فأَنْ تجحد حقاً لا يمكنك أن تفرِّق بينه وبين باطل من تجادله، وإنَّما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحقّ فهذا هو الحرام، لأنَّك مثله جحد حقّاً وجحدت حقّاً مثله..!!
والسؤال: هو كيف نوفّق بين الفكرة التي طرحتها وهي إباحة سلوك الباطل إذا توقّف إقامة الحقّ عليه، وبين هذا الحديث الذي يرفض حدود الحقّ إذا أراد الباطل أن يستعين به في إثبات باطله.
ج ـــ إنَّ هذا الحديث لدى التأمُّل يتّجه إلى الدُّعاة الذين لا يملكون الثقافة والعلم الواسع الذي يستطيعون ـــ من خلاله ـــ أن يواجهوا حجج أعداء الحقّ.. بالحجّة القويّة، والردود السلمية الحقّة... فيلجأون إلى سياسة اللّف والدوران والتهرُّب من مواجهة الفكرة التي يثيرها المبطلون. فقد يجحدونها بدون دليل أو يجحدون بعض وجوه الحقّ التي يريد المبطلون أن يستعينوا بها على إثبات باطلهم جهلاً منهم بالوجه الصحيح للردّ.
وهذا ما تصرّح به بعض فقرات الحديث، وأمّا الجدال الذي بغير التي هي أحسن، فأن تجادل باطلاً فيردّ عليك باطلاً، فلا تردّه بحجّة قد نصبها ولكن تجحد قوله أو تجحد حقّاً يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله، فتجحد ذلك الحقّ مخافة أن يكون له عليك فيه حجّة لأنّك لا تدري كيف المخلص منه... فذلك حرام على شيعتنا أن يصير فتنة على ضعف إخوانهم وعلى المبطلين. أمّا المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف ما في يده حجّة على باطله، وأمّا الضعفاء منكم فتغمّ قلوبهم لِما يرون من ضعف الحقّ في يد الباطل.
إنَّ الحديث يتّجه إلى هؤلاء، ليطلب منهم الانسحاب من معركة الصراع الدائرة بين الحقّ والباطل.. لأنّهم لا يملكون الأسلحة التي بها يدافعون أو يهاجمون. ولذا فإنَّهم سيسقطون ضحايا جهلهم أمام الباطل وينعكس ذلك على صورة الحقّ أمام أعدائِه وأنصاره على السَّواء.
أمّا الذين استطاعوا أن يأخذوا بأسباب المعرفة الحقّة ويتعمَّقوا في أساليب الصراع الفكري المنطلقة من الحقيقة الإسلامية الأصيلة.
أمّا هؤلاء فإنّهم لا يحتاجون إلى أساليب الباطل في اللّف والدوران، ولا يشعرون بالضعف أمام حجج المبطلين... لأنّهم يملكون ما يحتاجون إليه من حجج الحقّ التي لا تدع مجالاً لأيّ غموض أو التباس في أيّ جانب من جوانب معرفة الحقيقة.
وسوف لن يضطر هؤلاء إلى أن يجحدوا الحقّ الذي يستعين به المبطلون للتدليل على باطلهم، لأنَّ بإمكانهم أن يكشفوا مغالطات الباطل في ذلك، إذ لا يمكن أن يقف الحقّ من حيث هو حقّ، سنداً للباطل من حيث هو باطل.. في أيّ مجال من مجالات الفكر أو العمل... لأنَّهما يقفان في خطّين متقابلين لا يمكن أن يلتقيا أبداً، ولو في بعض مراحل الطريق.
وعلى ضوء ذلك فلا يكون لهذا الحديث أيّ التقاء بالفكرة التي حاولنا إثارتها، وهي تبرير الغاية للوسيلة في بعض الخطوات العملية لعلاقة الغاية بالوسيلة.
إنَّ هذا الحديث يفرض أنّ الحقّ لن يحتاج إلى أساليب الباطل في صراعه الفكري أبداً... لأنَّ طرق الحقّ في الإقناع لا تقف عند حدّ. هذا من جهة..!!
وهناك جهة أخرى.. وهي أنّ القضية تلتقي هنا بالفكر الذي يريد الإسلام أن يبنيه على أساس الحقّ، لئلا تختلط على الإنسان الألوان في رؤيته للأشياء. فلا يعود يملك القدرة على التغيير بين الحقّ والباطل.. الأمر الذي يجعله يعيش الضياع في الموقف، من خلال الضياع في الرؤية.
ولذا فإنَّ الإسلام لن يتسامح في هذا المجال باتّباع أساليب الباطل مهما اختلفت الأوضاع.. إلاَّ في الحالات الضرورية جداً التي يتوقّف فيها حماية الحقّ على إعطائه غطاءً وافياً من الاضطهاد الذي يحاول القضاء عليه جملةً وتفصيلاً، بالأساليب الوحشية التي لا تخضع الفكر ولا تستجيب لشروط الصراع وظروفه.
إنّه يقول لك: إنَّ مجال الحقّ واسع، وحججهُ واضحة وأساليبه كثيرة وكبيرة.. فلن يعجز الإنسان أيّ موقف للباطل في هذا المجال. ولذا فإنَّ اللّجوء إلى الباطل يعتبر دليل ضعف... وحينئذٍ يكون الدخول في مجال الصراع جريمة كبرى لا تغتفر، لأنَّ من واجب الضعفاء أن ينسحبوا من المعركة إذ لم تكن المعركة ذاتية، بل هي معركة ما يمثِّلون من مبادئ وشعارات وأفكار.
ملحوظة: للتوسُّع في دراسة هذا الموضوع يراجع موضوع بين أساليب الحقّ وأساليب الباطل في كتابنا (قضايانا على ضوء الإسلام).
س ـــ هل يجوز للرجل أن يصافح المرأة التي ليست بمحرم له وما الضرر من ذلك؟
ج ـــ للسؤال جانبان: أحدهما فقهي وهو السؤال عن الحكم من وجهة النظر التشريعيّة... التي تجعل الحكم يقف في مواجهة الدليل.
والجانب الآخر تحليلي يستهدف الوصول إلى فلسفة التشريع وفائدته.
مع الجانب الفقهي للتشريع
أمّا الجانب الأوّل: فالظاهر من فقهاء المسلمين الحكم بالحرمة استناداً إلى الأحاديث الواردة في هذا المجال. ففي الأحاديث الكثيرة الواردة في كيفية بيعة النساء للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) دلالة على رفض النبيّ لمصافحة النساء في حالة البيعة، كما هي العادة المتّبعة في بيعة الرجال. بل كان يلجأ إلى أن يضع يده في إناء وتضع المرأة يدها في موضع آخر من الإناء (كما أخرجه ابن اسحاق في المغازي) من رواية أبي داود عن الشعبي أو يبايعهم بالكلام فقط (كما في حديث عائشة وغيرها...). وعلى أيّ حال فلولا حرمة المصافحة لمَا احتاج النبيّ في البيعة إلى هذا الجهد كلّه.
وفي حديث أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ما يدلّ على ذلك بشكلٍ واضح.
ففي مصحّح أبي بصير عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام). قال: ـــ قلت له هل يصافح الرجل المرأة ليست بذات محرم؟ فقال لا. إلاَّ من وراء الثياب.
وفي موثق سماعة: سألت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) عن مصافحة الرجل المرأة: ـــ قال: "لا يحلّ للرجل أن يصافح المرأة، إلاّ امرأة يحرم عليه أن يتزوّجها أخت أو بنت أو عمّة أو خالة أو بنت أخت أو نحوها، وأمّا المرأة التي يحلّ له أن يتزوّجها فلا يصافحها إلاّ من وراء الثياب ولا يغمز كفّها".
وينقل صاحب جواهر الكلام الإجماع على حرمة اللّمس مطلقاً سواء بمصافحة اليد أو غيرها. بل يعتبره من قبيل الضروريات الفقهية على وجه يكون محرماً لنفسه. ولعلَّ هذا الحكم من أوضح الأحكام الشرعية لدى الفقهاء.
مع فلسفة التشريع
أمّا الجانب التحليلي: وهو محاولة فهم فلسفة التشريع.
فقد يقول قائل: إنّ هذا الفعل لا يشكّل أيّ ضرر على الإنسان، فرداً كان أو جماعة، لأنّه لا يمثّل إلاَّ لوناً من ألوان التحيّة والمجاملة الاجتماعية التي درج عليها الإنسان، فلا نستطيع أن نفهم أيّ وجهٍ من وجوه الضرر في أن يصافح الرجل المرأة الأجنبية بدافع التحيّة والمجاملة، بقلبٍ طاهر طيّب لا يخالطه سوء.
والجواب عن ذلك: هو أنّ أيّ حكم من أحكام الشريعة لا بدّ لنا من أن نضعه في موقعه الصحيح من الفكرة العامّة التي ينطلق الحكم منها أو يتحرَّك فيها لنستطيع أن نفهمه فهماً واقعياً لا يخضع للسطحية والعاطفة.
وعلى ضوء ذلك... لنطرح على أنفسنا سؤالاً وهو كيف نفهم علاقة الرجل بالمرأة؟ أو بالأحرى... هل هناك قاعدة أخلاقية تحكم علاقة الرجل والمرأة أو لا؟.. إذا كان الجواب على هذا السؤال سلبياً كما هو شأن الحضارة الأوروبية المعاصرة التي تعتبر أخلاقية أيّ عمل منطلقة من انسجامه مع قضية الحريّة الفردية للإنسان في فكره وروحه وجسده... ففي مثل هذا المفهوم لا بدّ لنا أن نحلِّل أيّ عمل حتّى العري أو الممارسة الجنسية... إذا لم يكن هذا أو ذاك خاضعاً لضغط حريّة الإنسان وإرادته، بل كان منطلقاً من واقعه من موقع الإرادة والحريّة.
أمّا إذا كان الجواب إيجابياً كما هو شأن المفهوم الإسلامي للحياة التي يعتبرها في كلّ ظواهرها خاضعة لضوابط أساسية تحفظ للحياة نظامها الذي يكفل سلامة الفرد والمجتمع، ويحقّق للإنسان الحريّة في إطار النظام لئلا تتحوَّل الحياة إلى فوضى تتحرّك في نهاية المطاف لتدمّر نفسها وتدمّر كلّ ما حولها.
وعلى ضوء ذلك... أراد الإسلام لعلاقة الرجل والمرأة في الجانب الغريزي أن تخضع لنظام محدَّد يبعدها عن الفوضى والشهوة فحصرها في إطار العلاقة الزوجية التي يمتزج فيها جانب الرغبة بالمحبّة والطمأنينة.. لتكون أساساً لإيجاد الخليّة الصغيرة للمجتمع التي يتعلَّم فيها الإنسان كيف يمارس غريزته في إطار المسؤولية، وكيف تتحرَّك مسؤوليّته مع نوازع الغريزة، لتكون شاهداً عملياً على الفكرة الإسلامية التي تعتبر الحياة وحدة رائعة تتفاعل وتتعاون فيها غرائز الإنسان ومسؤوليّاته، لتنقذ الغريزة المسؤولية من الجفاف وتحفظ المسؤولية الغريزة من الفوضى والانحلال.
وإذا كانت العلاقة تعيش في هذا النطاق من تفكير الإنسان ومسؤوليّاته على مستوى إسلامي.. فلا بدّ لنا من أن نخلق الجوّ الذي يبقي هذه العلاقة سليمة ويجعل ممارستها واقعاً عملياً في حياة الإنسان لا مجرَّد فكرة مثالية تعيش في الخيال. ولهذا حرَّم كثيراً من الأشياء فيما يختصّ باللّباس والزينة والنظر وغير ذلك، ودعا إلى الابتعاد عن كلّ ما من شأنه أن يجعل من الغريزة حاجة غير طبيعيّة بسبب العوامل التي تثير الرغبة بشكلٍ ملتهب طاغٍ... وأراد من الإنسان أن ينظر إلى الرغبة الجنسية كما ينظر إلى أيّ شيء من رغباته الأخرى كالأكل والشرب من حيث كونها حاجة تخضع لضوابط معيّنة لا تُسيء إلى الفرد روحاً وجسداً، ولا تُسيُّ إلى المجتمع فكرة ونظاماً.
ويجب أن نعلم أنّ طريقة الإسلام في مواجهة المشاكل التي تعيش في الحياة هي أن يبحث لها عن الحلول في النفاذ إلى أعماقها وجذورها الأساسية التي لا تسمح للمشكلة أن تنمو من جديد.
وبهذه الطريقة يتّجه التشريع الإسلامي إلى الطريقة الوقائية التي تمنع الانحراف، حتّى لو كانت أسباب الانحراف تمثّل نسبة ضعيفة للانحراف كنسبة العشر بالمئة، لأنَّ هذه النسبة لو سمح لها أن تنمو فستتصاعد وتتعاظم حتّى تصنع المشكلة من جديد. وربّما كانت مسألة المصافحة، تقع في هذا الإطار، فإنّها قد تكون منطلقاً للمشاعر الحميمة التي تهيّئ الجوّ لإحساس جنسي خفيف يعبّر عن نفسه بطريقةٍ وبأخرى، تفسح المجال لبداية جديدة للاستلطاف الذي يمهّد لعلاقة جديدة... ولهذا أراد الإسلام أن يغلق هذا الباب في الحدود التي تسمح بهذه الأجواء من الإثارة... ولذا تجد الحديث الذي نقلناه عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يبيح المصافحة من وراء الثياب، لأنّها لا تخلق مثل هذا الأثر في النفس بالمقدار الذي تخلقه المصافحة باليد مباشرة ثمّ يطلب منّا مع ذلك أن نبتعد عن الغمز بالكف. وهو الضغط عليها بلطف.. لأنَّ ذلك يهيّئ الجوّ للمشاعر المضادّة لنظافة العلاقة وأجوائها الطبيعيّة.
وقد يُطرح سؤال: إنَّ مثل هذه الحدود التي يضعها التشريع أمام هذه العلاقات، هي التي تفسح المجال للأفكار السيّئة لمثل هذه الأعمال البريئة التي يمارسها الناس بشكلٍ طبيعي، لا أثر للتفكير الغريزي فيه.. فلولا التحريم الذي يطرحه التشريع لمَا فكَّر الرجل والمرأة بهذا التفكير تماماً كما هو حال الرجل والرجل عندما يتصافحان، أو كما هي حالة المرأة والمرأة في ذلك؟!
ونجيب على ذلك: ـــ إنَّ بعض الأعمال لا تحتاج في إثارة الأفكار المضادّة إلى إيحاء من الخارج.. بل هي بطبيعة انسجامها مع العوامل الغريزية، بشكلٍ عضوي، تفسح المجال لذلك، تماماً كما هي حالة الجوع الغذائي التي لا تحتاج إلى أيّ نوع من أنواع الإيحاء سوى المؤثّرات الطبيعيّة التي تخلق هذه الحالة.
ولعلَّ الملامسات الجسدية، لا تبتعد عن ذلك، فهي من أقرب الوسائل لإثارة المشاعر الحميمة التي تخلق الرغبة في الداخل، ولو بوسائط متعدِّدة.
وقد يؤكّد لنا هذه الفكرة ـــ ولو من بعيد ـــ أنّ الصداقة البريئة بين الرجل والمرأة، بعيداً عن عوامل الرغبة في البداية أو النهاية، لم تستطع أن تتحوَّل إلى واقع عملي يمارسه الجنسان بنفس الأسلوب الذي تتمثّل فيه علاقة الرجل بالرجل أو المرأة بالمرأة في علاقة الصداقة إلاَّ في الحالات الشاذّة جداً.
فنحن نواجه في العلاقات المطروحة في جميع الحالات والمجالات وعلى أعلى المستويات، كيف تتحوَّل الصداقة إلى استلطاف ومحبّة، لتنتهي ـــ بعد ذلك ـــ إلى الرغبة التي تعبّر عن نفسها بطريقة شرعية أو غير شرعية.
ونحن لا نتحدّث عن الموضوع انطلاقاً من فكرة الرغبة في التبرير التي تريد أن تفسّر الواقع على حسب ميولها. بل نحاول أن نتحرَّك من موقع الممارسات العملية الكثيرة التي تسجّلها الإحصائيّات، حتّى على مستوى العلاقات التي تحكم الجنسين في الوسط الجامعي الذي يجب أن يكون بعيداً عن الجوّ الغريزي بقدر اقترابه من الأجواء العلمية الجافّة المتّزنة.
وربّما يُطرح سؤالٌ آخر: ـــ وماذا نفعل أمام هذه العادات المألوفة التي فرضت نفسها على واقعنا؟ فإنَّنا نلاحظ اليوم أنَّ امتناع الشاب عن مصافحة الفتاة التي تمدّ يدها إليه، يعتبر امتهاناً لكرامة الفتاة وإساءة لها.. وكذلك الحال في امتناع الفتاة عن مصافحة الشاب... فماذا نفعل إزاء ذلك؟ أتريد أن ننعزل عن المجتمع؟
ونجيب عن ذلك:
1 ـــ إنَّ شيوع الانحراف لا يبرِّر للإنسان أن ينحرف لأنَّ سياسة الأمر الواقع لا مجال لها أمام أصحاب المبادئ والمواقف الحقّة الذين يريدون أن يمارسوا الصبر والصمود لحماية مبادئهم من الذوبان والانهيار.
2 ـــ إنَّ الإنسان الذي لا ينطلق مع موقفه في قاعدة صلبة ليقف عليها عندما يريد أن يواجه الواقع، سيضطر إلى أن ينسحب تدريجيّاً من مواقفه حتّى يفقد كلّ موقف. فتتحوَّل مواقفه إلى محاكاة لمواقف الآخرين الذين يختلف معهم في العقيدة والحياة.. لأنّهم لا يكتفون منه بانسحاب واحد.. ما دامت الحياة تتّسع لانحرافهم في بعض مراحلها. فهم يتحرَّكون من انحراف إلى انحراف، فماذا نفعل إذا تحوَّلت المجاملة الاجتماعية إلى تقبيل للشاب، أو المعانقة أو الأخذ بالأحضان أو أيّ شيءٍ آخر كما نشاهده في بعض المجتمعات الحديثة، التي تعتبر امتناع المرأة أو الرجل عن الدعوة للرقص، أو لشرب الخمر خروجاً عن اللّياقة والتهذيب الاجتماعي. ماذا نفعل إزاء ذلك كلّه؟.. هل نعتبر الحجّة القائلة، بأنَّ أن لا ننعزل عن المجتمع ولا نُسيءُ إلى تقليده، كافية في قبول ذلك كلّه؟ وننسجم فيه مع عقائدنا..!!
إنَّ خوفنا من الامتناع عن مثل هذا وغيره، إنَّما نشأ من الخوف من مواجهة المجتمع بغير ما يرغبه من عاداته المألوفة فهل نستطيع أن نحكِّم هذا الشعور في حياتنا؟ وماذا يتبقّى من معاني مقاومة الانحراف؟.. ما دام الانحراف يمثّل سلوكاً اجتماعياً شائعاً.
إنَّ علينا أن نواجه أفراد المجتمع بتعريفهم حقائق الإسلام، وطبيعة ممارساتنا في ذلك كلّه. ليفهم من يريد أن يفهم أنّنا لا نمتهن الآخرين عندما نتنكَّر لتقاليدهم المنحرفة ـــ في نظرنا ـــ بل إنَّنا نحترم أنفسنا ونحترمهم عندما نبتعد عمّا يُسيءُ إلى إنسانيّتنا الصاعدة في مدارج السموّ الروحي في الحياة.
وبعد هذا كلّه... هل عرفنا كيف يكون تحريم مصافحة الرجل للمرأة وبالعكس... حكماً شرعياً يرتبط بأحكام أخرى تخضع لفلسفة إسلامية عامّة تحِّد علاقة الرجل بالمرأة.
وفي ختام الحديث... نحبّ أن نشير إلى أنّ بإمكان الإنسان في حالات الحرج الشديدة جداً الذي لا يتحمّل عادة أن يأخذ بالرخصة التي حدَّدتها لنا قاعدة نفي الحرج... كما أشرنا إليه فيما سبق، والله العالِم بحقائق أحكامه.
س ـــ ماذا يفيدنا إثبات وجود الله في حياتنا العملية؟
ج ـــ في مفهوم الكثيرين لقضية الإيمان بالله تعالى... تبرز فكرة الجانب التجريدي للإيمان، فلا يرون أنّه يمثّل أيّ جانب عملي يرتبط بالحياة، بل يرون أنّه فكرة نظرية ترقد في وعي الإنسان في هدوءٍ واسترخاء لتضاف إلى بقيّة الأفكار التي تتمثّل فيها صورة الترف الفكري الذي يمارسه الذين ابتعدوا عن واقع الحياة ليضيعوا في أحلام الفراغ.
وقد يعتبر البعض قضية إثارة الإيمان بالله في أجواء الأزمات التي تمرّ بها الأمم نوعاً من أنواع الخدر الفكري الذي يشغل الناس عن مواجهة أزماتها، ويستشهدون لذلك بتنازع أهالي قسطنطينة ـــ والفاتح يدق أبواب مدينتهم حول الملائكة. هل هم ذكور أو إناث؟ وحول قضية أنَّ البيضة أصل الدجاجة؟.. أو الدجاجة أصل البيضة!!؟ ويضيفون أنَّ القضية عندنا في إثارة قضية وجود الله تعالى كالقضية هناك!!.. وبهذا يبعدون الناس عن التفكير بالقضية في الوقت الذي يشتغلون فيه بمختلف الوسائل في إبعاد الناس عن فكرة الله وربطهم بفكرة الإلحاد، كوجه من وجوه الصراع بين التقدّمية والرجعية أو بين الخرافة والحقيقة... دون أن يثنيهم عن ذلك ما تواجهه الأُمّة من أزمات... لأنَّهم يعتبرون قصّة الواقع مرتبطة بأكثر من جانب وجانب. ولذا فلا يجوز من خلال وجهة نظرهم ـــ أن نبعد جانب الفكرة عن حركة العمل... ومن هنا كانت قصّة الإلحاد ـــ في نظرهم ـــ قصّة الأسلوب الفكري الذي يواجهه الإنسان في حركته نحو قضاياه الرئيسيّة.
وهكذا تكون القضية صيفاً وشتاءً على سطحٍ واحد...
فقضية الإيمان بالله تعالى، إثارة لقضية هامشية تشغل الإنسان عن قضاياه الرئيسية. أمّا قضية الإلحاد، فكرة وفلسفة وممارسة، فهي قضية ترتبط بالعمل. ولذا فإنّها لا تبتعد عن الحياة.
ولكنَّ الموضوع ليس موضوع الهامش والأصل، بل الموضوع هو إبعاد الناس عن الإيمان وعن التفكير به لئلا يبقى قوّة، في مركز الصراع بين الإلهية والمادية، أو الإيمان والإلحاد، تدخل في الساحة لأجل أن تفسح المجال للخطّ الذي يجعل الحياة تعيش في رحاب الله تعالى بعيداً عن حبائل الشيطان.
ولذا فينبغي أن نواجه مثل هذه الأساليب بنوع من أنواع الذكاء العملي الذي يترصَّد خطوات الأعداء من أجل أن لا يقع في قبضة السذاجة الفكرية والعملية التي يحاولون أن يضعونا فيها.
والآن... نحن مع السؤال وجهاً لوجه.
ما فائدة الإيمان بوجود الله في حياتنا العملية؟..
والجواب على ذلك... أنّ كلّ مخطَّط عملي للحياة لا بدّ له من أن يرتبط بجذور فكرية تفسّر له الكون والحياة، لأنّه ـــ بدون ذلك ـــ يبقى مجرَّد خطوات عملية تبحث عن الطريق في بدايته ونهايته، فلن يكتب لها بعد ذلك إلاَّ التخبّط والضياع في التيه. ولهذا لا بدّ لنا من أن نطرح دائماً على أنفسنا السؤال الخالد لنعرف كيف نبدأ؟. هل هنالك قوّة عليا خارج نطاق وجودنا الطبيعي المادي المحدود تخلق هذا الكون وترعاه وتنظّمه وتسير به نحو الكمال؟.. أو أنَّ الكون كان وليد صدفة عمياء بلهاء صنعت هذا النظام الذي لن ينتهي إلى نهاية مقبولة ـــ لأنّه لم يبدأ ـــ أساساً ـــ من المعقول.
إنَّه الفرق بين الفكرة التي تعتبر الكون في رحلته سائراً نحو هدف محدَّد، وبين الفكرة التي ترى الكون يتحرّك بدون هدف. ولذا فإنّه سوف يتحطَّم في الفراغ انطلاقاً من الصدفة المجنونة التي بدأ منها... ولهذا فإنَّ الإيمان بوجود الله تعالى يجعل الإنسان يخضع لإحساس داخلي وفكري بمسؤوليّته أمام الله عزَّ وجلّ بعمله، وفي حياته كلّها.. تبعاً لإحساسه بأنّه جزء من الكون الكبير المنظَّم الذي ينبغي للإنسان أن يتعامل معه على هذا الأساس، وبهذه الروح يشعر بأنَّ عليه أن يبحث عن المخطَّط العملي من خلال رسالة الله تعالى، وأن يستهدف الأهداف المثلى التي أرادها الله سبحانه للإنسان في الحياة في علاقاته بنفسه وبالآخرين. وأن ينظِّم أوضاعه على أساس أنّ الدار الدُّنيا مرحلة من مراحل الحياة الممتدّة إلى ما بعد الموت. ولذا فإنَّ عليه أن يراعي وضعه في تلك الحياة من خلال ممارسته لوضعه في هذه الحياة... وفي هذا النطاق... يشعر الإنسان بالعلاقات الإنسانية تتّخذ معنىً جديداً في حياته يرتبط بالله تعالى من جهة وبمسؤوليّته العملية من جهةٍ أخرى. فلا تعود مجرَّد علاقة تخضع للحسابات المادية التجارية، بل تفسح المجال لمعاني الإيثار والتضحية والمحبّة المجرَّدة بعيداً عن العوض المادي من أجل الحصول على التعويض الروحي لدى الله سبحانه وتعالى... بالحصول على رضوانه ومحبّته وثوابه ممّا يرفع درجة الإنسان لديه.
وفي المجال الذاتي لحياة الإنسان الداخلية، يشعر الإنسان بالطمأنينة والسلام الروحي والأمل الكبير الممتد في جميع خطوات الحياة لأنّه يتّصل بالله تعالى الذي تخضع له كلّ مشاكل الحياة وعقباتها، وكلّ آلام الحياة وأفراحها، ويحسّ الإنسان ـــ إلى جانب ذلك ـــ بالرعاية الدائمة تحوطه والرحمة الحانية ترعاه. فلا يحسّ بأيّ شعور يلتقي بالضياع والانهيار واليأس، وفقدان الهدف والمعنى لوجوده، ممّا تعارف الملحدون على أن يعيشوه ليشعروا بالفراغ الكبير الذي يدمّر حياتهم في نهاية المطاف.
ويشارك الإيمان بالله عزَّ وجلَّ في شعور الإنسان بالرقابة الدائمة القويّة القادرة التي تمنعه من الاعتداء على الآخرين في فكره وكلامه وعمله، حتّى في أشدّ الحالات شعوراً بالأمان... الذي ينشأ من فقدان الشعور بوجود الآخرين يحاسبونه. إنَّ الإيمان بالله عزَّ وجلَّ ـــ يقتحم وجدان الإنسان بقوّة ليشعر بالله تعالى يشرف على الداخل كما يشرف على الخارج. فليس هنالك أيّ جانب مستور أمامه، وليس هنالك أيّ مجال بعيد عن سلطانه، وليس هنالك قوّة أقوى من قوّته.
إنَّ الإيمان كلَّما تعاظم في كيان الإنسان كلّما استطاع أن يحميَ الإنسان من نفسه، ويحمي الآخرين منه، وكلَّما ضعف... كلّما اقترب الإنسان من الجريمة بمقدار بعده عن المؤثّرات الخارجية التي تحيط به لتمنعه.
وبهذا نعرف كيف يعطي الإيمان بالله سبحانه وتعالى لحياتنا معنىً جديداً يغنّيها ويُغذّيها وينمّيها ويربطها بالمعاني الكبيرة، والهدف المنشود العظيم في الحياة، بينما يكون الإلحاد عنصر تفريغ للحياة من كلّ المعاني الروحية، والأهداف المثلى. ويبقى للإنسان فيها أن يولد ويعيش ويموت دون معنى ودون هدف ودون غاية.
الحلقة التاسعة
الأسلوبُ الإسلامي للعَمَل
بينَ الإصلاحِ والتَّغيير
مدخل
{قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي...} [يوسف : 108]
هذه هي الحلقة التاسعة من حلقات "مفاهيم إسلاميّة عامّة" وهي المعنونة بـــ "الأسلوب الإسلامي للعمل بين الإصلاح والتغيير" وهل الإسلام سوى الدّين الحركي الذي غَيَّرَ وجهَ الأرض، وأبدلَ الناس من بعد خوفهم أَمْناً، وأخرجهم من الظلمات إلى النور. وهي الحلقة التي تبحثُ في كثيرٍ من القضايا الحيويّة المهمّة التي تشغلُ بال العاملين للإسلام وتثيرُ تفكيرهم سواء في موضوع المحاضرة والأسلوب الإسلامي للعمل بين الإصلاح والتغيير، أو في الموضوعات التي أُثيرت من خلال الأسئلة العامّة التي وُجِّهت إلى سماحة "السيّد" المحاضر في الندوات الفكريّة أو في بعض المجلات العربيّة... والتي قدّم من خلالها فكر الإسلام الأصيل، وأُسلوب الإسلاميين ـــ لا سيّما حين كانت السّاحة تعجُّ بالكثير من الأفكار "والأجواء القلقة التي تحكمها التيّارات السياسيّة المعاصرة" ـــ في التحرُّك وبذل الجهدِ، لأنَّ حركة الإصلاح والتغيير لا بدَّ وأن تطال النفوس والعقول، وتبني المجتمع وفق نُظمٍ سليمة تشكِّلُ السبيل إلى الدّعوةِ الحقّ، ومنهج الرّشاد، لِتَسُنَّ سنّةً حسنةً في أسلوب التعاطي والعمل المباشر، بما يعودُ على الإسلامِ بالعزّ والشُّمول.
الأسلوب الإسلامي للعمل
بين الإصلاح والتغيير
قد يثير العاملون للإسلام في طريقهم نحو العمل بعض القضايا الملحّة التي تدخل في تصوّراتهم للاتجاه العملي الذي يحكم مسيرة العمل ويحدِّد له آفاقه، وقد تكون مثل هذه الإثارة ضرورية في نطاق الأجواء القلقة التي تحكمها التيّارات السياسية المعاصرة الخاضعة في مفهومها الفلسفي للحياة، لقواعد غير إسلامية، سواء في ذلك القواعد الفكرية الإلحادية، أو القواعد المادية التي لا تثير الإلحاد في تفكيرها كقضيّة حيوية في حركة العمل.. فقد طرحت هذه التيّارات كثيراً من القضايا المتعلّقة بالعمل وأسلوبه وأثارت حولها ألواناً من الجدل، ممّا أدى إلى التساؤل في موقف الإسلام في حركته العملية من ذلك كلّه.
ولعلَّ من أكثر هذه القضايا أهمية في طريق العمل، هي قضية طبيعة الحركة الإسلامية التي يعمل لها العاملون، ويجاهد في سبيلها المجاهدون، فقد نواجه أمامنا بعض التساؤلات... ما هو طابعها العملي؟ أين تقف، فهل هي حركة إصلاحية تهدف إلى ترميم الواقع فيما تهدَّم من أركانه، حيث يتّجه العاملون إلى وضع لبنة هنا، ولبنة هناك من أجل استمرار الوجود الإسلامي للحياة، ولو في بعض مظاهره، أو هي حركة تغييرية تهدف إلى نسف الواقع من جذوره ابتداءً من نظام الحكم، وانتهاءً بآخر مادّة شرعية من تشريعه، حيث يعمل العاملون في بناء الحياة على قاعدة إسلامية ممتدّة صلبة لينطلق من خلالها النظام، كما هو الإسلام في واقعه الأصيل، فلا مجال لتجزئة الحلّ، أو لتجزئة الأحكام في حركة الواقع، ولا معنى لترميم الحياة التي انطلقت من قاعدة الكفر والضلال.
لقد أُثيرت هذه القضية في فلسفات المبادئ السياسية والاجتماعية والاقتصادية عندما وقف مفكِّروها أمام الواقع ليحدِّدوا موقفهم منه في نطاق حركة أفكارهم في الحياة بين شعار الإصلاح وبين شعار الثورة، فهناك المبادئ المعاصرة الثورية التي تؤمن بالثورة وترفض الإصلاح والترميم، وهي المبادئ التي تملك نظرة شاملة للحياة تختلف عن النظرة العامّة التي تسير عليها الحياة في نظامها المعاصر، وتعتقد أنّ المشاكل المطروحة ليست مشاكل سطحية أو جانبية ليمكن للإنسان أن يبحث لها عن الحلّ الأمثل في نشاطات جزئيّة، بل هي مشاكل أساسية ترتبط بالقاعدة التي يرتكز عليها النظام باعتبارها وليدة حركة النظام في خطوات الواقع، فلا يمكن أن تقدّم لها الحلول الجزئية إلاَّ جرعات تخديرية، تخدّر المشكلة فتبعدها عن الإحساس المباشر بالألم، مؤقّتاً، ريثما ينتهي مفعول الجرعة، وهكذا دواليك، عملية تخدير وإثارة، ممّا يؤخّر الحلّ الشامل المنطلق من التعامل مع الجذور العميقة للواقع.
وفي ضوء هذا التفكير يعمل العاملون في اتّجاه تفجير المشاكل الكامنة، وخلق المشاكل الجديدة من خلال صنع الظروف المناسبة المثيرة، ويتنقَّلون في خطواتهم هذه من زاوية إلى زاوية ليضعوا في داخلها القنابل الموقوتة التي تنفجر في الوقت المناسب، فهم يطالبون بحلّ المشكلة الصغيرة ويدفعون المجتمع إلى الإلحاح بالمطالبة، فإذا اقترب الموقف من الحلّ بالاستجابة إلى هذه المطالب، وقام المسؤولون بالأعمال الإصلاحية خلقوا لهم مشاكل جديدة تدفع الموقف إلى الانفجار من جديد، وقد يوافقون على بعض الأعمال الإصلاحية من أجل أن يحقِّقوا للمجتمع بعض مظاهر الراحة التي يستردّ فيها أنفاسه، ويستريح معها من عناء التعب ليبدأ معهم رحلة المشاكل من جديد.
ولعلَّ من أبرز المؤمنين بهذه الاتّجاه في الأسلوب العملي، هم الماركسيون الذين يرون أنّ الثورة هي الحلّ الوحيد للمشكلة الاجتماعية، وأنَّ السير في طريق الإصلاح خيانة للجماهير وللحياة لأنّه يفوّت عليها الفرص الكثيرة التي يمكن لها أن تعجل في دفع حركة التطوُّر إلى الأمام.
وهناك اتّجاه آخر يختلف عن الماركسية وأمثالها في تصوّره لأساليب التغيير، فيعتقد بأنَّ المشاكل دوائر متنوّعة في طبيعتها وصورتها، وأنّ استمرار المشكلة في حياة الناس يخلق لهم مشاكل جديدة قد تتعقَّد وتتطوَّر فتدمّر الإنسان في نهاية المطاف من دون تقديم بديل في هذا المجال، ويرى أنّ الحياة لا يمكن أن تنتظر اللّحظة المجهولة من الزمن التي تمنحها فيه بركة الحلّ الشامل للمشكلة فقد لا تجيء تلك اللّحظة، وقد تغيب طويلاً في ذاكرة المستقبل عندما تعيش حركة التاريخ في ظلّ ظروف موضوعية معقّدة. وفي هذه الحال لا بدّ لنا من أن نهيّئ للإنسان بعض الراحة، ولو من خلال الحلّ الجزئي للمشكلة لأنَّ ذلك هو السبيل للتعامل مع الحياة بواقعية ومرونة باعتباره يمنح الإنسان روعة الشعور بالأجواء اللّذيذة التي يستمع فيها بنتائج الحلّ الجزئي، ليعيش، على الطبيعة، الإحساس العميق بحاجته إلى الحلّ الأفضل في مستقبله القريب أو البعيد، وبذلك يتحوَّل الإصلاح إلى عنصر من عناصر التمهيد والإثارة للقضيّة الكبرى بدلاً من أن يكون عامل تحذير وتأخير.
وقد يثيرون في هذا المجال نقطة أخرى... وهي رفض الفكرة التي تربط الواقع كلّه بعامل واحد يوجّه كلّ الحلول بفكره وفلسفته... بل هناك عدّة قضايا منفصلة يمكنها أن تثير الحلّ الكامل لكلّ قضية بطريقة تفترق عن القضية الأخرى، لاسيّما في حركة الواقع التي تشهد مزيداً من التشابك بين الأنظمة في كثير من المجالات ممّا لا يجعل النظام سلبياً في كلّ مظاهره وحلوله، فيمكن لنا أن نقوم بعملية إصلاحية تهدم بعض الأجزاء لتبنّيه من جديد على الصورة التي تتكامل فيها الحلول وتقترب من الواقع وذلك كما يقال في التجربة الديمقراطية الرأسمالية التي قرَّبت الوضع الاقتصادي في بلادها من الوضع الاشتراكي في الاقتصاد، بواسطة التشريع الضريبي المتصاعد الذي حدَّد الأرباح في نظام معقول، فقد يعتبر أصحاب هذه التجربة، أنَّ عملية الترميم هذه، تستطيع أن تحلّ المشكلة الاقتصادية بنسبة كبيرة، وإن لم نستطع الوصول بها إلى نسبة مائة في المائة، لأنَّ مثل هذه النسبة لا توجد في أيّ حلٍّ آخر مهما كانت درجته من الشمول لأنَّ لكلّ نظام سلبياته التي تعيش إلى جانب إيجابيّاته لأنَّ للطبيعة المحدودة التي يتحرَّك فيها أيّ نظام دوراً كبيراً في ذلك كلّه.
ولعلَّ الديمقراطيّين الذين يفكّرون بالديمقراطيّة على الطريقة الغربية، هم من أبرز الذين يؤيّدون هذا الاتّجاه أو يقتربون منه في أسلوبهم العملي، على الأقلّ.
تلك هي بعض ملامح الصورة في هذين الاتّجاهين، فأين يقف الإسلام في ملامحه الأصيلة، وكيف يتحرَّك العاملون من خلاله؟
ربّما كان علينا أن نثير أمامنا قضيّتين حيويّتين في طبيعة العمل وشخصية العاملين.
1 ـــ أن نطرح على أنفسنا سؤالاً عملياً، ما هو هدفنا عندما نتحرَّك للدعوة إلى الإسلام، ولماذا ندعو الناس إليه فنواجه كلّ هذه المشاكل والتعقيدات، ونتحمّل كلّ هذه الآلام والمصاعب والخسائر في طريق الدعوة، وما الذي نريد أن نحقّقه.
ونجيب على ذلك... إنَّ الهدف لكلّ مؤمن في حياته هو أن يحقّق رضا الله في كلّ تطلُّعاته وكلماته وأعماله، لأنّه يشعر بأنَّ دعوته لله وما أغدقه عليه من نعمة الحياة، ابتداءً من الخطوة الأولى التي بدأ بها الحياة إلى آخر خطوة يلاقي فيها ربّه، يفرضان عليه الانسجام مع إرادة الله في الكون، في كلّ موقف من مواقف الطاعة... وإذا كان هذا هو الهدف الأساسي للمؤمن فلا بدّ له من ملاحقة كلّ الأعمال المرتبطة به، سواء في ذلك الأعمال التي تحقّق للإنسان الشعور بالاستقرار والسعادة في حياته الفردية، كما في موضوع إدخال السرور على المؤمن وتفريج كربته وقضاء حاجته، أو الأعمال التي تضمن له الحصول على العدالة في قضاياه العامّة والخاصّة، مع الحكم العادل أو الظالم، أو الأعمال التي تدخل في نطاق الدعوة إلى الله، لتقرّبهم إلى الله في عباداتهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم الخاصّة والعامّة وغير ذلك من الأعمال التي ترتبط بالجوانب السياسية والاجتماعية والعسكرية. وبهذا يتحوّل رضا الله إلى هدف يومي يوجّه خطوات الإنسان في أقواله وأعماله تجاه الآخرين كما يدفعه إلى تجسيده سلوكاً عملياً في ممارساته اليوميّة اتّجاه نفسه واتّجاه إخوانه.
2 ـــ ما هو هدف الإسلام في عقيدته وشريعته، هل هو حلّ المشكلة الاجتماعية للإنسان بعيداً عن قضاياه الخاصّة في روحيّته وتفكيره وعمله، أو هو حلّ المشكلة الإنسانية من جميع الجهات؟
ونجيب على ذلك... إنَّ الهدف الأساس للإسلام هو حلّ المشكلة الإنسانية للإنسان، بعيداً عن أيّ إطارٍ آخر، فقد وضع الإسلام حدوداً معيّنة للإنسان في ممارسة حياته الفردية الداخلية فيما يتّصل بروحه وجسده، أو في حياته الاجتماعية فيما يتّصل بعلاقاته بالآخرين وبتصرّفاته العملية تجاههم، أو في حياته الدولية ـــ إنْ صحَّ التعبير ـــ فيما يتعلَّق بأوضاعه السياسية العامّة، فلم يبتعد عن حياته الخاصّة بل دخلها بقوّة وفاعلية، ليمنعه ـــ ولو بالقوّة ـــ عن ممارسة أيّ عمل يُسيءُ إلى صحّته وروحيّته، وحياته، وجعلها تتحرّك في نظام دقيق يحميه من نفسه، كما يحاول أن يحميَ الآخرين منه، وبذلك كانت حريّته الفردية محكومة بالحدود التي وضعها الإسلام لدوره الإنساني بالنسبة لنفسِهِ وللآخرين.
إنَّ الإسلام ـــ فيما يبدو لنا ـــ يريد أن يحقِّق للإنسان إنسانيّته فيما قرَّره من مفاهيم وفيما وضعه من تشريعات، لأنَّ الإنسان ـــ في المفهوم القرآني ـــ هو خليقة الله في الأرض (1)، وهو صانع التغيير (2) لأنّه هو الذي يصنع الظروف التي تساهم في عملية التغيير سلباً أو إيجاباً، وبذلك كانت العقيدة والشريعة سائرتين جنباً إلى جنب في تحقيق هذا الهدف، فلم يتركاه لحظة في حالة فراغ روحي أو عملي... فكانت العقيدة تتحرّك في وجدانه الروحي، في نظام العبادات التي يلتقي فيها بالله من جهة ويعيش أجواء اليوم الآخر من جهةٍ أخرى... وكانت الشريعة تتدخّل في مطعمه ومشربه وملبسه ولذّته لتوجّهه إلى ما يضرّه أو ينفعه ولتقترب به أجواء العقيدة في ملامسة روحيّة هادئة... كما في التركيز على ذكر اسم الله فيما يأكله من الذبائح وجوباً، أو فيما يتناوله من أكل وشرب، أو يمارسه من لذّة، استحباباً، ليعيش الإنسان الجوّ الروحي في عمق ممارساته الماديّة.. وهكذا يمتدّ التشريع إلى كلّ تطلُّعاته في شؤون الحياة ليعرفه ما يحبّه الله وما يبغضه على أساس ما يصلحه أو يفسده، ولم تحصر التشريع في نطاق الدولة بل واجهت ذلك حتّى في نطاق غيابها عن المجتمع، لأنَّ التشريع الإسلامي لم ينطلق من المشكلة الاجتماعية فقط لتدور أحكامه في إطارها، فلا يعود لها مجال خارج هذا الإطار، بل انطلق من المشكلة الإنسانية في وجوده على الأرض، فوضع في حسابه ملاحقة كلّ أوضاع وجوده من ناحية عامّة... وبهذا اختلف الإسلام عن المبادئ الوضعية التي تستهدف حلّ المشكلة الاجتماعية بعيداً عن المشكلة الفردية، وربّما كان هذا هو السبب في اقتصار التشريع على الحالة التي توجد فيها الدولة، فتتحوَّل الفكرة فيها إلى نظام حكم يمارس سلطته من موقع القوّة الشاملة، فإنَّ ذلك هو السبيل الوحيد، لديها، لحلّ المشكلة الاجتماعية في إطار الفكرة باعتبار أنّ الحالة الفردية لا تمثّل أيّ شيء في هذا المجال.
ولعلَّ من أوضح الأمثلة على طبيعة الفرق بين الإسلام وبين المبادئ الأخرى المطروحة على السّاحة هو التشريع الاقتصادي، فإذا أخذنا أحد المبادئ المعاصرة كالاشتراكية في مواجهتها لبعض الحالات الإنسانية التي نجد فيها إنساناً يؤمن بالاشتراكية ويعيش في ظلّ النظام الرأسمالي فهل تطلب منه عقيدته أن يمارس الفكر الاشتراكي في حياته الخاصّة فلا يمارس الرّبا باعتباره مظهراً من مظاهر الرأسمالية، أو لا يتملَّك وسيلة من وسائل الإنتاج باعتبار ذلك من حقوق القطاع العام فقط، أو إنّها تسمح له بأن يكون رأسمالياً في أعلى درجات الرأسماليّة من دون حدود أو قيود، لأنَّ اشتراكيّته الشخصية لا تحلّ مشكلته ولا تحلّ مشكلة الآخرين، فلماذا يفرض عليه التقيُّد بها ما دامت العقيدة منطلقة في اتّجاه الحلّ الشامل... أمّا الأخلاقيّات فإنّها مستمدّة من طبيعة المصلحة الجماعية للطبقة العاملة بعيداً عن أيّة قيمة ذاتية تدخل في حساب القِيَم الذاتية للبناء الفردي للإنسان.
إنَّنا نجد التفكير الاشتراكي يتبنّى الأسلوب الثاني للعمل، ويرفض الأسلوب الأول جملةً وتفصيلاً. وفي ضوء هذا، قد تواجهك الحقيقة الصارخة عندما تجد بعض الناس الذين ينعتون النظام الرأسمالي بأبشع النعوت، ويحمّلونه وزر كلّ الجرائم في العالم، ويمارسون، في الوقت نفسه، الأسلوب الرأسمالي في الحياة، كأقسى ما يكون، من دون أن ينقص ذلك من دورهم النضالي الفريد من نوعه. أمّا إذا اخذنا الإسلام في هذا الجانب، فإنَّنا سنجد الأمر يختلف عن ذلك تماماً، فهو لا يبرّر للإنسان الذي يؤمن به أن يكون مرابياً في المجتمع الربوي، بل يعتبره إنساناً منحرفاً عن الخطّ مستحقّاً اللّعنة بالرغم من أنّ سلوكه الفردي لا يقدِّم ولا يؤخِّر شيئاً في الموضوع من الناحية العامّة للمشكلة التربوية.
ولعلَّ السرّ في ذلك هو أنَّ قضية حرمة الرّبا ليست مرتبطة بالجانب الاقتصادي المادي للحياة فقط بل هي إلى جانب ذلك، متّصلة بالإطار الروحي للاقتصاد في الإسلام كما ورد في بعض الأحاديث المأثورة، التعليل لحرمة الرّبا، بأنّه يمنع عن اصطناع المعروف ممّا يوحي بأنَّ الله يريد للإنسان أن يعيش روح العطاء بلا مقابل في حياته العملية، ولو في بعض المجالات التي لا يدخل في مجالات التبادل المالي الصّرف، وممّا يؤكّد لنا هذه الفكرة أنّ الحديث الشريف اعتبر درهم القرض بثمانية عشر، في حساب الثواب الإلهي، بينما اعتبر درهم الصدقة بعشر، تشجيعاً على إبعاد الإنسان عن الروح الربوية وتشجيعاً له على صنع المعروف في القرض قربة إلى الله.
وقد نجد مثالاً على ذلك في نظرة الإسلام إلى الجانب الخلقي في تخطيطه للحريّة الفردية فإنّه لا يسمح للإنسان بالانحراف، بممارسة الأعمال المحرَّمة في المجتمع المنحرف فلا يبيح له شرب الخمر أو لعب القمار أو الزنا أو غير ذلك من الأعمال التي لا تمثّل أيّ مدلول اجتماعي من ناحية عامّة، لأنَّ القضية ليست قضية سلامة النظام الاجتماعي، بل الهامّ هو سلامة المجتمع من خلال الصحّة الروحية لأفراده المتمثّلة في الانضباط العملي في إطار المفاهيم الخلقية في الحياة. وقد يتمثّل ذلك في الحالات التي تدعو الظروف الاضطرارية المحيطة بالإنسان إلى ممارسة بعض الأعمال المحرَّمة كالكذب، فإنَّ الإسلام يشجّع على الابتعاد عن الكذب في داخل نفسه، حتّى في بعض الحالات الاضطرارية الطارئة، فإذا حصلت لك إحدى هذه المسوّغات، فحاول أن تستخدم التورية التي تمثّل إعطاء الكلمة مدلولاً غير ما يفهمه السامع منها في ظاهر الحال لتكون صادقاً عند نفسك وإنّ خيّل للآخرين أنّك كاذب، مثلاً، لو سألك إنسان عن وجود شخص عندك، ولم تكن هناك إمكانية في إخباره بذلك خوفاً من ظلمه له، أو من مفسدة أخرى تتعلَّق بك أو بالمجتمع، فإنَّ بإمكانك أن تقول له إنّه غير موجود، وتشير إلى مكانٍ معيَّن في داخل البيت، من دون أن تشعره بهذه الإشارة النفسية، إنّك، بهذا الأسلوب لا تجعل الظرف الاضطراري يضغط على أخلاقك لأنّك لم تبتعد عن خطّ الصدق في ممارستك الداخلية للموقف، بل كلّ ما فعلته، أنّك أوهمت الآخرين ذلك، مع محافظتك على القاعدة الصلبة التي تتحرّك منها أعمالك وتتركَّز عليها شخصيّتك في الحياة.
إنَّ الإسلام يعتبر الإنسان هو القوّة الدافعة للحياة فلا بدّ للتشريع من التوفُّر على تجميع كلّ عناصره الذاتية التي تساهم في صنع القوّة واستمرارها ليستطيع قيادة الحياة من موقع قويّ لا يضعف أمام الصعوبات ولا ينهار أمام الإغراءات، وعلى ضوء ذلك نرفض اعتبار الجنس أو الاقتصاد وغيرهما أساساً للتطوّر والتقدُّم، كما اعتبره الآخرون، فإنَّ مثل هذه العوامل تنطلق من حركة الإنسان في الداخل والخارج وليست دافعة لهذه الحركة.
إنَّنا أمام هاتين النقطتين نواجه الجواب عن السؤال الأساسي، هل الإسلام يتّجه إلى الثورة في حركته، أو يتّجه إلى الإصلاح، فأيُّهما نختار..؟
لعلَّ الجواب الصحيح هو اختيار كلا الأسلوبين في العمل الإسلامي، فقد نجد من الضروري أن نمارس العمل الإصلاحي في أوضاع الانحراف الفردية والاجتماعية فنحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه انطلاقاً من النقطتين السابقتين، فإنَّ في ذلك رضا الله، وبناء الإنسان على خطّ الاستقامة في خطّ الإسلام مهما أمكن لنحقِّق حكم الله ولو في المجالات الجزئية ليبقى حيّاً ماثلاً أمام الناس ولو في صورة مصغّرة غير كاملة، وليكون دوره في عملية التغيير دور النموذج الطيّب الذي يعطي الناس الفكرة المجسَّدة، ولو في قضية محدودة، ولا يمنعنا ذلك من الانطلاق بعيداً في عملية التغيير الشامل في إطار الخطّة الشاملة لأنَّنا لا نعتقد بوجود تناقض أو تضادّ بين الاتّجاهين، لأنَّ الأسلوب الإسلامي في العمل لا يعتبر العنف وسيلة وحيدة للتغيير، بل يعتبر الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحَسَنة والجدال بالتي هي أحسن، هي الوسيلة المثلى الطبيعيّة التي تملأ الوجدان بالإيمان وتغيّر الإنسان على صورة الحقّ بالطريقة الطوعية الاختيارية التي تجعل من الإيمان موقفاً ذاتياً للإنسان ينطلق من تفكيره، لا من تعليمات فوقية تأتيه من الآخرين، فيسير في عملية التغيير لما حوله بثقة وواقعية.
وربّما كان الإسلام يرفض النظرة الماركسية التي تؤمن بالعنف كأساس وحيد للتغيير، وتفسح المجال لخلق مشاكل جديدة، وتعقيد المشاكل الحاضرة لتعطيل مسيرة الإصلاح الجزئي، وليس معنى ذلك أنّ الإسلام يرفض العنف كمبدأ، حتّى في المجالات التي تتجمَّع فيها القوى الشرّيرة لتقف سدّاً منيعاً أمام تقدُّم الإسلام في الدعوة وفي العمل، بل الإسلام، في تشريعه الواقعي، يتبنَّى العنف الدفاعي المتمثّل في ردّ العدوان بمثله، كما يوافق على العنف الوقائي الذي يتمثّل في مهاجمة الآخرين من موقع حماية الإسلام من الهجمات التي يستعدّ العدوّ لتوجيهها للمسلمين، وإن لم يبدأ الهجوم بعد... فإنَّ القضية هي أنّ العنف ليس القاعدة الأساسية في عملية التغيير.
وعلى ضوء هذا يمكن لعملية الإصلاح أن تسير جنباً إلى جنب مع خطّة التغيير الشامل، بل قد تقوم الأولى بدور الإعداد للثانية إذا راعينا في مسيرتنا التخطيط المرحلي الدقيق الذي يوزّع الخطّة على عدّة مراحل، فيمكن للإنسان المسلم أن يعمل في النطاق الفردي الذي يبني الأفراد المسلمين، ويمكن للأفراد المسلمين أن يعملوا في النطاق الاجتماعي من أجل تحقيق مجتمع إسلامي صغير، ثمّ يشترك الجميع في التخطيط العملي، والتنفيذ المرحلي لقيام حكم إسلامي شامل، لأنَّ ذلك كلّه يتحرَّك في الخطّ الذي يحقّق رضا الله في القضايا الصغيرة والكبيرة.
ففي المجال الفردي: إذا استطعنا أن نقنع إنساناً بالصلاة أو بالصوم أو بالحجّ أو بغيرها من الواجبات العبادية أو غير العبادية، أو أن نساعده على ممارسة إرادته الإسلامية في ترك بعض المحرَّمات كشرب الخمر أو الزنا أو القمار أو الكذب أو الغشّ أو الخيانة وغيرها من المحرَّمات، ممَّا يدخل في فعل الطاعات واجتناب المعاصي... فلنتحرَّك في هذا السبيل، من قاعدة الوجوب لا من قاعدة الاستحباب أو الإباحة التي لا تلزمنا بالعمل بل تتركه لاختياراتنا الذاتيّة، وعلينا ألاَّ نلتفت إلى قول من يقول: إنَّ هذا عمل جزئي صغير لا يحقّق هدفاً كبيراً ولا يتناسب مع حجم العمل الإسلامي الضخم، بل يجب علينا أن نقف مع حكم الله الذي يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأشياء الصغيرة والكبيرة واجباً إسلامياً كفائياً على المسلمين جميعاً لأنَّ هدف الإسلام أن يبقى الإنسان المسلم الفرد إنساناً مسلماً بكلّ الإمكانيات التي يملكها في تطبيق حكم الإسلام على نفسه... أمّا حكاية عدم تناسب هذا العمل مع حجم العمل الإسلامي الضخم، فإنّها حكاية ساذجة تمثّل سذاجة الفهم الحركي للعمل، لأنَّ من أولى خطوات الأعمال الكبيرة هي الخطوات التي تربح فيها أشخاصاً وتربّيهم على صورة العمل فكرة وعملاً وأسلوباً... لأنَّ ذلك هو الذي يحقِّق عملية الارتباط العضوي بين الوسيلة والهدف.
وفي المجال الاجتماعي، يمكن للمسلمين أن يندفعوا في تغيير بعض الأحكام والقوانين المخالفة للإسلام إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً، أو يعملوا على رفض الدعوات التي تريد إلغاء اعتبار الإسلام ديناً رسمياً للدول التي تسمّي نفسها بالدول الإسلامية، كما نجده في بعض الحالات التي تثور فيها الجماعات الكافرة أو الضالّة على هذه المادة القانونية باعتبار أنّها تتنافى مع الاتّجاه التقدّمي للدولة أو الحقوق العامّة للمواطنين غير المسلمين... فقد يكون من الواجب علينا أن نقف ضدّ هؤلاء لأنَّنا نريد لهذا الشعار أن يبقى حيّاً ماثلاً في أفكار الناس وفي حياتهم العامّة، ليشير إليهم دائماً من الممكن أن يكون الإسلام في المستقبل نظام هذه الحياة الشامل، ويمنحنا الرّصد المستمرّ للقوانين غير الإسلامية التي تقرّرها هذه الدولة أو تلك على أساس هذه المادة القانونية، ولا يتنافى ذلك مع عدم اعترافنا بواقعية هذه المادة في إطار القانون العام للدولة... ولكنّه الأسلوب الذي يريد أن يبقى الإطار العام للصورة وإن حاول الآخرون تبديل الصورة أو تشويهها داخل الإطار... وقد يعتبر بعض الناس هذا الأسلوب داخلاً في عملية تزييف الصورة الإسلامية عندما تبرز الواجهات غير الإسلامية في إطار إسلامي ولكن... قد يكون ذلك في الأساليب التي يستريح فيها العاملون لمثل هذا الواقع فيتركون العمل في رصد الجوانب العامّة للانحراف، اكتفاءً بهذا الإطار، ولكنّنا نظلّ نتحرَّك في عملية ربح للمواقع وتحريك للمواقع الأخرى في اتّجاه التصحيح.. لئلا تختلط المواقف في وعي الناس للحياة على ضوء الإسلام وقد يجب علينا أنْ نتحرَّك في اتّجاه حماية الوجود القانوني للأحوال الشخصية للمسلمين في نطاق المحاكم الشرعية من الحملات التي تشنّ عليه باسم الدعوة إلى العلمانية، وتوحيد التشريعات القانونية للأحوال الشخصية للمواطنين، لأنَّ القضية ـــ في هذه الحملات والدعوات ـــ أنْ يتّجه التفكير إلى اعتبار الدّين غير صالح للتقنين والتشريع لحياة الناس، واعتبارهما شيئاً يتعلَّق بإرادة الناس واختيارهم ممَّا يتنافى مع الأساس الفكري للإسلام، ويؤدّي بالتالي، إلى كثير من التعقيدات العملية في المستقبل من أجل تغيير هذه الفكرة من حياة الناس الفكرية والعملية، هذا من جهة.. ومن جهةٍ أخرى فإنَّ هذا الإلغاء يوجّه الناس إلى الانحراف في حياتهم عن أحكام الإسلام، بالالتزام بأحكام غير إسلامية ممّا يخلق عندهم ازدواجية في أوضاعهم العامّة، ويوقعهم في مشاكل كثيرة في قضاياهم الخاصّة.
أمّا في الإطار السياسي، فربّما كان من الضروري العمل على المشاركة في إضعاف الحكم الظالم وتحطيم قوّة الظلم والظالمين، لتخفيف وطأة الظلم على الواقع المعاش للنّاس.. وقد يلزمنا في هذا المجال، التوفُّر على دراسة الظروف الموضوعية التي تعطينا فكرة عن طبيعة النظام البديل الذي يأتي على أنقاض هذا النظام الذي يراد تهديمه، أو طبيعة الشخص البديل في حالة العمل على تبديل الأشخاص، لأنَّ لذلك أهمية كبيرة في الخطوات العملية التي تقتضيها طبيعة المرحلة، إذ لا يجوز في أيّة حالة من الحالات، العمل على تبديل واقع سيّئ إلى واقعٍ أشدّ سوءاً إذا كان التبديل إلى الواقع الخيِّر غير عملي في نطاق المرحلة، بل ربّما يكون الموقف هو الإصرار على المنع من عملية التبديل هذه بمختلف الوسائل المشروعة.. ولا بدّ في هذا كلّه من مواجهة الموقف بدراسة موضوعيّة شاملة في إطار الوعي السياسي المتكامل.. ومن التأكيد على الابتعاد عن الروح الانفعالية التي تنطلق إلى العمل من خلال الأسلوب الانفعالي الذي يتّجه في خطواته إلى ما يشبه ردود الفعل للواقع بعيداً عن أيّة خطوة، في موقع الفعل المستقلّ.. وقد يجب علينا ـــ في هذا المجال ـــ ألاَّ نستسلم للضغوط العاطفية التي تريد منّا التحرُّك بأيّ ثمن، وبدون تفكير في العواقب والنتائج، انطلاقاً من الزهو الذاتي بالمواقف الجهادية، أو تخلُّصاً من اتّهامات الآخرين لنا بالبُعد عن روح الإسلام في الجهاد (من دون تفكير منهم بطبيعة هذا التشريع الإسلامي من خلال ظروفه وأساليبه) وبكلمة مختصرة: إنَّ علينا أن نعرف طبيعة الأوضاع السياسية المعقّدة التي يتحرَّك فيها العمل السياسي في المنطقة وفي العالم، لئلا نكون خاضعين في تحرُّكنا ـــ لتأثيرات سياسية مضادّة لِمَا نؤمن به أو نعمل له، من دون وعي أو شعور، وذلك بدراسة الخلفيات السياسية للموقف والتطلُّعات المستقبليّة للحركة المطروحة على صعيد الواقع.
إنَّ علينا أن نواجه الحقيقة الحاسمة في نظرتنا إلى العمل وأساليبه، وهي أنَّ الإسلام لا يريد للحياة أن تعيش الفراغ من جهة حكم الله في أيّة مرحلة من مراحلها فلا يجوز لنا أن ننتظر زمناً طويلاً لنطبّقه، فنبقي الحياة فارغة من الرسالة في مجالها العملي، بل لا بدّ لها من أنْ تتحرّك مع الإنسان في جميع مجالاته، وبهذا كان الإسلام أمانة الأفراد المسلمين والمجتمع المسلم من جيل إلى جيل، حيث يحملونه بالكلمة والفكرة والعبادة والعمل، لتفرز الكلمة كلمة جديدة تنطلق من وعي الأُمّة على امتداد الطريق، ولتتحرَّك الفكرة في عمل الإنسان من أجل أن تبدع الفكرة على صورتها ومثالها، ولتنطلق العبادة إلى جانب العمل لتشهد الله على أنّ عبوديّة الإنسان لله وخضوعه له لا يحدَّها زمان ولا مكان، ولتحقّق هذه الأمور كلّها الفكرة التي تقول: إنَّ الإنسان إذا لم يستطع أن يحلّ المشكلة على نطاقٍ واسع، فإنّه يستطيع أن يقترب، ولو قليلاً من روحيّة الحلّ أو من الأجواء التي تساهم في الإعداد له.
إنَّنا نرفض الفكرة التي تدعونا إلى الامتناع عن الأعمال الإسلامية الوعظية التي يراد منها صنع الفرد المسلم على قاعدة روحية، وربطه بالله من خلال العبادة والعمل، لأنَّنا نعتقد ـــ كما ألمحنا إلى ذلك في بداية الحديث ـــ أنَّ الحكم الإسلامي ـــ عندما يكون هدفاً ـــ لا يراد به إلاَّ تحقيق رضا الله، وفي هدى ذلك نقرِّر... أنّ تحويل الإنسان إلى إنسان يؤمن بالله، هو هدف من أجل رضاه وإنّ تربية الإنسان على العبادة هو هدف من أجل رضاه، وإنَّ عمل الإنسان المسلم من أجل تعليم الناس كيف يصلّون لربّهم، وكيف يمارسون العمل على أساس قوانين الإسلام، في العمل، وكيف يتحرَّكون في السوق على الخطّ الإسلامي في التجارة، وكيف ينطلقون في الحياة العامّة ليعبروا بالتطبيقات الإسلامية الجزئية عن المفاهيم الإسلامية الكليّة كنموذج حيّ للفكرة... إنَّ هذا كلّه هو هدف من أجل رضا الله.
إنَّنا لا نتعامل مع المصطلحات السياسية التي تطرح القضية على أساس المفاضلة بين الثورة والإصلاح، بل نتعامل مع حكم الله أينما كان، ومع كلمات الله التي عبّرت عن الفكرة الشاملة بكلمة التغيير التي تتحرَّك في حياة الفرد والمجتمع والدولة، ولهذا نختارها بدلاً عن كلمة الثورة... وليس معنى ذلك أنَّنا لا نملك أو لا نريد أن نضع خطّة عمل شاملة تجعل لكلّ عمل موقعه الطبيعي فإنَّ ذلك هو دور الروّاد الذين يتحرّكون من أجل تحريك طاقات الأُمّة وتفجيرها في كلّ اتّجاه تقتضيه مصلحتها، ويظلُّون يفكِّرون ويخطِّطون من أجل أن تتحوَّل الطاقات إلى خطوات عملية تسير في طريف الهدف الكبير الذي يحقّق حكم الله على الأساس الشامل.
إنَّها فكرة أحببتُ أن أُثيرها أمامكم من أجل أن نفكِّر فيها بهدوء لئلا نبقى مشدودين إلى أجواء الآخرين من خلال مصطلحاتهم السياسية وغير السياسية، لأنّها انطلقت من طريقتهم في التفكير، في الوقت الذي نملك فيه مصطلحاتنا التي ترتبط بتفكيرنا وبأحكامنا الشرعية، وذلك هو الأساس في الأصالة الفكرية والعملية... أن تكون أصيلاً في مفاهيمك ومصطلحاتك وكلماتك، وفي فهمك لقضايا الحياة، وفي أسلوبك للتعامل معها على أساس التفكير الإسلامي الأصيل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لِكُلِّ سؤالٍ جواب
• الدِّين والسياسة والاقتصاد وغيرهما
• التبشير وخطره في المجال التربوي
• الشباب أمام الأفكار الوافدة
• شبهات حول المرأة، تعدُّد الزوجات، الحجاب، قيمومة الرجل على المرأة، جعل الطلاق بيد الرجل، ونصيبها في الميراث
• تفسير آية: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ...}
• المرأة المسلمة وموقفها أمام تطوُّر الأزياء
سؤالان أدبيّان:
• ما هي رسالة الأديب في الحياة اليوم؟
• ما هي مؤهّلات الطالب ليكون أدبيّاً؟
أجرت مجلّة المواقف التي تصدر في البحرين حواراً مع سماحة السيّد محمد حسين فضل الله حول كثير من المواضيع الإسلامية والسياسية، ونحن نقتطف منها بعض الأسئلة والأجوبة التي تتناسب مع الطبيعة الثقافية الإسلامية لهذه الحلقات.
الدِّين والسياسة والاقتصاد
س ـــ البعض يقول بفصل أو انفصال الدّين عن السياسة والاقتصاد أو غيرهما من مجالات الحياة.. فما هو ردُّكم على ما يقولون؟
ج ـــ إنَّني أعتقد أنّ الرأي كان منطلقاً من النظرة إلى الدّين في إطار الممارسات التي عاشها الدّين في بعض المناطق الأوروبيّة.
ولا أعتقد أنّ الإسلام يسمح بهذه النظرة... لأنَّنا نعتقد أنّ الإسلام يحتضن فكرة الدولة في مفهومه للحياة وفي تشريعه الذي يتّسع ـــ في إطار الفقه الإسلامي ـــ لمختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية فإنَّ أقلَّ قراءة واعية للمواد الفقهية القانونية تدفع الإنسان إلى الاقتناع بهذه الحقيقة... وإذا كان بعض المفكّرين المسلمين يناقشون في وجود نظريّات إسلامية للحكم أو عدم وجود مثل هذه النظريّات فإنَّ الكثرة الأخرى لا ترى هذا الرأي بل تعتبر قضية الحكم أساسية في مفهوم الإسلام للحياة.
إنَّنا نعتقد أنّ مشكلة الكثيرين ممّن يطرحون هذه الشعارات حول الدّين، أنّهم لم يقرأوا الإسلام قراءة واعية من خلال تشريعه ومن خلال ممارسته العلمية عندما كان يقود الحياة في جميع مجالاتها حيث لم يترك أيّ فراغ فكريّ أو تشريعيّ يشعر الناس معه بحاجتهم إلى غيره، ولذا فإنَّنا ندعوهم إلى قراءة الإسلام من جديد، وندعوهم ـــ بكلّ محبّة ـــ إلى الحوار حول هذه الشعارات بالأسلوب الفكري الذي يحترم وجهة نظر الآخرين، كما يريد من الآخرين أن يحترموا تفكيره ولا نريد لهذه القضايا أن تعيش في ظلّ المزايدات السياسية التي يريد فيها كلّ طرف أن يسجّل نقطة ضدّ الفريق الآخر ليتحوَّل الموضوع إلى ما يشبه "حوار الشيطان".
إنَّنا نجد في الإسلام كلّ الغنى الروحي والفكري والاجتماعي والسياسي، وإنْ كنّا نشعر بالحاجة إلى دراسة فقهية جديدة تضع في حسابها صياغة الفقه الإسلامي بأسلوب قانوني على أساس لغة العصر وحاجاته لأنَّ مثل هذه الدراسة تسهّل مهمّة الدارسين والباحثين الذين يريدون أن يعرفوا الحقيقة من أقرب طريق.
إنَّنا نعتقد أنّ الإسلام لا ينفصل عن السياسة ولا عن غيرها من مجالات الحياة لأنّه لا ينفصل عن الحياة في مختلف نشاطاتها العامّة والخاصّة، على هدى الآية الكريمة التي تحدِّد الأهداف الكبرى لبعثة الأنبياء بالحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وذلك هو قوله تعالى:
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة : 213]
التبشير في المجال التربوي
س ـــ المدارس التبشيريّة أصبحت منتشرة في كثير من البلاد الإسلامية، والإقبال عليها من قِبَل بعض المسلمين صار ملحوظاً فما رأيكم بهذه الظاهرة؟ وما هي أبعادها؟ وما العلاج؟
ج ـــ إنَّنا نشعر بالخطر الكبير الداهم على الإسلام والمسلمين في انتشار المدارس التبشيريّة نظراً إلى أنّ المخطَّط التبشيري يعتمد الأساليب التربوية ـــ ضمن خطّة شاملة ـــ في إبعاد المسلمين عن دينهم الحقّ وربطهم بدينٍ آخر، أو تشكيكهم في دينهم، ولعلَّ الأخير هو الحاصل فعلاً.. ويحاول أن يثير في وعي الناس وفكرهم الشعور بالمستوى الكبير الذي تمثّله هذه المدارس من ناحية علمية، الأمر الذي يدفع الكثيرين من المسلمين إلى إدخال أبنائهم في هذه المدارس لرفع مستواهم العلمي.
ونحن ـــ في الوقت الذي نسجّل فيه تحفُّظنا على ما يثار من المستوى الكبير العلمي عنها ـــ نشعر بالحاجة إلى إنشاء مدارس علمية إسلامية في مستوى جيّد، لتسدّ هذا الفراغ، وتمنع هذا الخطر على عقائد أبناء المسلمين، ولا يقتصر الأمر ـــ في هذا ـــ على الخطر التبشيري بل يمتد ـــ في مدارس أخرى ـــ إلى الخطر الإلحادي وغيره... ونعتقد أنّ ذكرنا هو العلاج الطبيعي لهذه الحالات... أمّا أبعاد هذه الظاهرة فهي كثيرة... ولعلَّ أهمّها إفساح المجال للمخطَّطات السياسية وغير السياسية التي تتستَّر وراء التبشير من أجل السيطرة على الإنسان المسلم وثرواته الطبيعيّة والاقتصادية وننصح ـــ في هذا المجال ـــ بقراءة كتاب "التبشير والاستعمار".
إنَّنا لا ننطلق ـــ في حديثنا هذا ـــ من موقع التشنُّج الطائفي السياسي، بل كلّ ما نريد أن نقوله، هو أنّ المؤسّسات التبشيرية كانت منسجمة مع نفسها في إنشاء هذه المدارس... فلماذا لا نكون منسجمين مع مصلحتنا الإسلامية والوطنية في رفض هذه المدارس وإنشاء مدارس جديدة نعرف خلفيّاتها ومنطلقاتها، لأنَّنا نحن الذين نقوم بصناعتها من خلال خلفيّاتنا ومنطلقاتنا التي نعرفها جيّداً لأنّنا نعرف أنفسنا كما لا يعرفها الآخرون.
الشباب أمام الأفكار الوافدة
س ـــ في خضم الأفكار الوافدة من هنا وهناك التي تجلّى خطرها في بلبلة وضياع مَن انساقوا وراءها وانجرافهم في تيّارها، بماذا تنصحون شبابنا وشابّاتنا وهم يصارعون هذه الأفكار أو تصرعهم؟
ج ـــ ربّما لا أريد أن أتّخذ لنفسي صفة الواعظ والناصح الذي يريد أن يقدّم المواعظ والنصائح لشبابنا من موقع فوقيّ... لأنَّ كلمات الوعظ والنصيحة قد استهلكت حتّى لم تعد تمثِّل شيئاً لدى القائل والسامع، ولكنّي أريد أن أقف لأفكِّر معهم في قضية أساسية، وهي أنّ موضوع الإيمان بفكرة والارتباط بها، أو الدعوة إليها لا تمثّل شيئاً ذاتياً يتّصل بالحالة الفردية للإنسان، ليملك أمر الوقوف موقف اللامبالاة منها تارّة، أو موقف التنقُّل من موقع إلى موقعٍ آخر، تارّةً أخرى، أو المسامحة في ملاحقة جوانبها الفكرية والعلمية في كثيرٍ من المجالات، بل هو من القضايا التي تمثّل قضية المصير للفرد وللأُمّة فإنّنا عندما ندعو إلى أيّ فكر، فمعنى ذلك أنّنا ندفع مصير الأُمّة في هذا الاتجاه، وأنَّنا نتحمّل مسؤوليّته في كلّ نتائجه أمام الله وأمام التاريخ، ممّا يجعل القضية في مركز الخطورة في الدُّنيا والآخرة... ولهذا فإنّني أعتقد أنّ علينا جميعاً ـــ أن نقف ـــ من موقع المسؤولية، وقفة هادئة عميقة، لنقارن ونوازن وندرس ونحلِّل كلّ ما يقدّم إلينا من تيّارات وأفكار، لنختار الأصلح من بينها أو الأسلم لنا في كلّ خطوات المصير، لأنّه لا يكفي أن يعيش الإنسان المشكلة ليندفع وراء أيّ حلّ لأنَّ بعض الحلول المطروحة قد تطرح مشاكل جديدة أكثر ضخامة من المشاكل القديمة، ممّا يجعلنا نعيش في دوّامة فكرية وحياتية.
وقد يقرّبنا من هذا الموقف معرفتنا بالطبيعة الذكيّة المخادعة التي تتحرّك فيها أجهزة الإعلام الفكرية والسياسية في العالم، عندما تسخّر كلّ ما تملكه من قوى العلم والضغط الفكري والمادي في سبيل تركيز مبادئها وأفكارها، الأمر الذي يجعلنا نواجه أساليب الإعلام السياسية والحزبية والفكرية بحذر علمي وروحي دقيق، لئلا نقع في الهوّة دون وعي.
وفي نهاية المطاف أرجو أن ينفتحوا على الإسلام بكلّ ما فيه من غنى روحيّ وفكريّ وتشريعيّ في جميع جوانب الحياة، وألاَّ يحكموا على الإسلام من خلال الكلمات غير المسؤولة أو غير المدروسة من التي تنطلق من رجاله أو غير رجاله، بل يعلمون على دراسته من خلال دراسة مشاكل الحياة، أو من طبيعة الحلول التي يقدّمها في ينابيعه الأصلية، لنحصل من خلال ذلك على النتيجة الحاسمة التي تجعل منه دين الحياة الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولتقف بنا ـــ في نهاية المطاف ـــ على الخطّ المستقيم الذي يجعلنا نتطلَّع إلى رضا الله في كلّ شيء، لأنَّ مَن عَرَفَ ربّه عَرَفَ نفسه، ومَن أوصى ربّه فقد قادَ حياته في الاتّجاه السليم، حيث سعادة الدّنيا وسعادة الآخرة.
س ـــ دار نقاش حول ما يُثار بين آونة وأخرى من شبهات حول المرأة، لأكثر من قصد، هذه الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام تارةً، وبعض أبناء المسلمين تارّةً أخرى ـــ إمّا جهلاً أو عناداً لإشعار المرأة بأنَّها "مظلومة" وبالتالي جعلها تتطلَّع وتنخدع بما يصدره لها أعداؤها في كلّ مكان من أفكار لا تتّفق ومكانتها السامية التي وضعها الله فيها وكرَّمها بها.
والسؤال هو: ما أكثر الذين اتّهموا الإسلام ـــ ولا يزالون ـــ بأنّه "رجعي" بالنسبة للمرأة ويستدلّون على ذلك بتعدُّد الزوجات، الحجاب، والطلاق بيد الرجل، وقيمومة الرجل على المرأة، ونصيب الرجل المضاعف في الميراث... وعلى هذا فإنَّ الإسلام قد "ظلم" المرأة في نظرهم، فما هو ردّكم على مثل هذه التّهم؟؟
ج ـــ لعلَّ مشكلة الكثيرين الذين يتّهمون الإسلام بالرجعية والظلم للمرأة، أو غير ذلك من النعوت.. أنّهم لا يملكون دراسة عميقة للآفاق التي يتحرّك فيها التشريع الإسلامي، أو تعيش فيها مفاهيم الإسلام.. ولذلك فإنَّنا سنحاول أن نتحدَّث بإيجاز عن بعض هذه الآفاق الإسلامية للتشريع في موضوع المرأة بالذّات.
في البداية هناك سؤال يفرض نفسه... لماذا يكون التشريع؟ هل هو لحلّ المشكلة من جوانبها الواسعة، أو هو مجرّد تجربة في ملامسة بعض جوانبها..؟
وفي الجواب على هذا السؤال نختار الطرف الأول منه الذي يفرض في التشريع أن ينظر إلى المشكلة بعينين مفتوحتين، لا بعينٍ واحدة.. وهنا يأتي دور التشريع الإسلامي لتعدُّد الزوجات لنضعه في إطاره الواقعي في الحياة لنسأل من جديد...
لماذا العلاقة الزوجية بين الرّجل والمرأة في الدوافع الطبيعيّة للإنسانية؟
وتبرز أمامنا ـــ في الجواب ـــ عدّة دوافع:
1 ـــ مواجهة متطلّبات الغريزة الجنسية في إشباعها بصورة طبيعيّة.
2 ـــ مواجهة حاجة الإنسان إلى الشعور بامتداد حياته في أولاده.
3 ـــ مواجهة الحاجة الروحية إلى الطمأنينة النفسية والسكن الروحي الذي يدفعه إلى أن يعيش بهدوء وانفتاح كلّي مع إنسانٍ آخر من دون أيّ حواجز أو حدود تقف بينه وبينه حتّى في الجوانب الحسيّة.
لعلَّ هذه هي أبرز الدوافع التي يتحرَّك من خلالها الإنسان ـــ الرجل والمرأة ـــ ليرتبط بإنسانٍ آخر.
ويعود السؤال ليطرح نفسه من جديد...
ما هو الحلّ في الحالات التي لا يتوفّر فيها إشباع الغريزة الجنسية في الزواج الواحد، بسبب السعار الغريزي، أو بسبب الأوضاع النفسية التي تفرض نفسها على العلاقة الواحدة في حركة سلبية، من خلال المؤثّرات الداخلية أو الخارجية في الإنسان... هل يطلب من الإنسان الانحراف في علاقة غير شرعية، أو يطلب منه كبت الأوضاع الخاصّة التي تتحرّك في داخله أو يفتح له مجال الممارسة الطبيعيّة لعلاقة زوجية أخرى في إطار من التنظيم الدقيق الذي يلتقي فيه بالإيجابيات في هذه العلاقة... ماذا يطلب منه أمام هذه التساؤلات؟
إنَّ السماح له بالانحراف يمثّل انهزام التشريع أمام المشكلة، كما أنّ مواجهة المشكلة بتجميد أسبابها أو بتخديرها لا يعتبر حلاًّ واقعياً يحترم فيه التشريع نفسه... فلا يبقى إلاَّ الحلّ الثالث الذي يواجهها بشجاعة وواقعيّة... فهو الذي يفرض نفسه في نهاية المطاف.
ولعلَّ النظرة إلى واقع العلاقات الجنسية في العالم يضع أيدينا على أنَّ تعدُّد هذه العلاقات يُعتبر ظاهرة عامّة تدلّ على طبيعة الدوافع التي تدفع الإنسان إلى أن يتجاوز العلاقة الواحدة ويبحث عن مجال لذلك فينحرف عن الخطّ الصحيح، بينما يقف الإسلام ليضع له خطواته في الطريق المستقيم.
وقد يظنّ البعض أنّ قضية الجنس لا تبعث على هذا الاهتمام الكبير... ولكنَّ الرأي خاطئ، لأنَّ واقع الحياة أثبت لنا أنّها تتدخّل في كثير من المشاكل العميقة التي تقود إلى الانحراف في أكثر من جانب من جوانب الحياة على ما نستوحيه من الحديث النبويّ المشهور.
"مَنْ تَزَوَّجَ فَقَد أحْرَزَ نِصْفَ دِينِهِ؛ (أو ثلثي دينه) فَلْيَتَّقِ اللهَ فِي النِّصْفِ الآخر (أو في الثلث الأخير)"، فإنّه يوحي بأنَّ الاكتفاء الجنسي للإنسان يخلق لدى الإنسان المناعة ضدّ الانحراف في الكثير من نوازع الانحراف أو في أكثرها نظراً لِمَا لها من التأثير الكبير على جوانح الإنسان وجوارحه.
وقد يقول قائل: لماذا نحرم المرأة من هذا "التعدُّد" ما دامت الحاجة الغريزية مساوية لحاجة الرجل؟
ولكنّنا نعرف من خلال الواقع، ومن خلال دراسة الجانب الغريزي في المرأة والرجل... أنّ طبيعة الحاجة التي تقود إلى الانحراف في إطار العلاقة الواحدة لا تصل في المرأة إلى هذا المستوى في الحالات العامّة التي ينطلق منها التشريع.. وقد نستطيع التعرُّف إلى هذه النقطة عند القيام بإحصائية عامّة في الحالات التي تشعر فيها المرأة بالحاجة إلى تعدُّد العلاقة مع أكثر من رجل، كنتيجة للحاجة إلى الإشباع الجنسي، فإنَّنا سنكتشف أنّ هذه الحالات لا تخرج عن الحالات القليلة الشاذّة التي لا تخلق ما يشبه الظاهرة العامّة التي يتحرّك التشريع لمعالجتها... وقد نقترب من هذا الجانب... إذا عرفنا أنّ الغريزة الجنسية معقَّدة لدى المرأة بحيث تحتاج إثارتها إلى إعداد جنسي وجسدي طويل، بينما نجدها لدى الرجل ليست محتاجة إلاَّ إلى بعض الإثارات العابرة في أغلب الحالات... ممّا يجعل حركة الغريزة لدى الرجل سريعة طاغية تجتاح كيانه ونزواته في كلّ وقت... ولسنا هنا في معرض التحليل الشامل لهذه النقطة، بل نحن هنا من أجل إعطاء فكرة سريعة حول هذا الموضوع.
ويعود السؤال ليطرح نفسه من جديد، في موضوع تشريع تعدُّد الزوجات...
قد لا ينجح الزواج في تلبيّة الحاجة إلى الأُبوّة نتيجة عقم الزوجة، فهل نطلب منه الصبر على هذا الحرمان، أو نطلب منه طلاق المرأة، أو نوحي له بتعدُّد العلاقة؟
إنَّنا نعتقد أنّ الحلّ الأخير يحفظ للمرأة حياتها الزوجية، ويلبّي للرجل حاجته ممّا لا يشعر الزوجان معه بالإحراج أمام هذه الحاجة، بينما يبتعد الحلّ الأوّل عن الإطار الواقعي للمشكلة... ويُسيءُ الحلّ الثاني للعلاقة الحميمة الروحية التي قد تشدّ أحدهما إلى الآخر ممّا يجعل من الطلاق مشكلة روحية وحياتيه لكلا الزوجين.
وقد نجد في الزواج المتعدّد حلاًّ لمشكلة المرأة في الحالات التي تفقد فيها الأُمّة رجالها في الحروب وفي غيرها، باعتبار أنّ الرجل هو الذي يمارس صناعة الحرب في أغلب الأحيان... ممّا يسبِّب وجود الكثيرات من النساء من دون زوج نتيجة قلّة عدد الرجال، الأمر الذي يخلق جوّاً من الانحراف إذا لم نسمح بالزواج المتعدِّد.
إنَّ هذه القضايا وغيرها قد تصلح تفسيراً لهذا التشريع في انطلاقته الأولى من أجل أن يواجه الإسلام المشكلة من منطلق الواقع لا من منطلق المثاليّات البعيدة عن الواقع.
ولم يترك التشريع الإسلامي لهذه العلاقة المتعدِّدة أن تنفلت وتتحرَّك في جوّ غير مسؤول، بل حاول أن يحدِّدها بحدود العدل في النفقة والمعاشرة، ليخفِّف الكثير من السلبيات الناشئة من التعدُّد، التي لا يمكن أن يخلو منها أيّ تشريع... لأنّنا لن نستطيع أن نجد تشريعاً إلزامياً أو ترخيصاً خالياً من السلبيات، أو تشريعاً تحريمياً خالياً من الإيجابيات، بل القضية كلّ القضية هي زيادة نسبة السلبيات على الإيجابيات ليفرض التحريم أو الكراهية أو زيادة نسبة الإيجابيات على السلبيات ليفرض الإيجاب والإباحة والاستحباب... وهذا هو ما نستوحيه في الآية الكريمة التي تتحدَّث عن الخمر والميسر..
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة : 219]
ولعلَّ المجال لا يتّسع لأكثر من هذا الحديث حول موضوع تعدُّد الزوجات فليطلب التوسُّع في الكتب الواسعة التي عرضت للجانب التحليلي والأخلاقي لهذا التشريع.
أمّا قضية الحجاب التي تمثّل الاحتشام المتزن في الثياب التي تلبسها المرأة فتستر بها جميع أجزاء فيما عدا الوجه والكفّين... فإنَّها تمثّل التشريع الذي أراد الإسلام من خلاله أن يوحي باحترام المرأة لدى نفسها ولدى الآخرين عندما يريد لها أن تخرج في المجتمع كإنسانة لا تثير الغرائز، بل تثير الاحترام، ممّا يجعل صورة المرأة تتحوَّل في وعي الآخرين، من كائن جنسي لا وظيفة له إلاَّ إثارة الرجل وإشباع شهوته، إلى كائن يتفاعل مع الحياة في فكره ونشاطه وعلاقاته العامّة... ونحن نعلم أنّ طبيعة التبرُّج، لا سيّما في الأجواء التي نواجهها في هذا العصر، يجعل النظرة العامّة تتحرَّك في إطار الجنس لا في إطارٍ آخر... ولسنا نقول هذا بدافع ذاتي تقليدي يراد منه تبرير النظرة الإسلامية في هذا التشريع، بل من موقع الإحصائيّات العامّة في هذا المجال.
وبكلمة واحدة... إنَّ الإسلام يريد لعلاقة الرجل بالمرأة في المجتمع أن تعيش في جوّ نظيف طاهر، ولا بدّ للتشريع من أن يعمل على حماية هذا الجوّ في كثير من مجالات الواقع ولهذا تتحوَّل القضية إلى جانب العدل بدلاً من أن تقف في جانب الظلم، لأنَّ قضية العدل والظلم تعيش في إطار إنسانيّة الإنسان ومصلحته العامّة، لا في إطار شهوته الحيوانيّة ومصلحته الذاتية.
ونأتي إلى موضوع "قيمومة" الرجل على المرأة، لنتساءل هل القيمومة بمعنى "السيطرة" أو بمعنى الإدارة والرعاية؟..
ثمّ... هل هي في إطار علاقة الرجل والمرأة بصورة مطلقة، أو هي في إطار العلاقة الزوجية فقط؟
الجواب: إنَّ "القيمومة" ليست السيطرة والسِّيادة التي تجعل الرجل مطلق الصلاحية في كلّ شيء، بل بمعنى الإدارة والرعاية التي تمنحه الحقّ في تطبيق الحقوق الزوجية وإدارة شؤون البيت الزوجي من دون أن يكون له أيّة صلاحية خارج هذا النطاق مع زوجته أو مع أيّة امرأة أخرى حتّى لو كانت ابنته... فليس له أن يتصرَّف في مالها أو في أيّ شأن من شؤون حياتها الخاصّة والعامّة فيما لا يتعرَّض مع حقوقه الزوجية الخاصّة وليس له أن يلزمها بأيّ عملٍ من أعمال البيت أو أعمال الرعاية المباشرة لأولادها حتّى في الإرضاع... وليس له أن يعتدي عليها بالضرب أو بالكلام أو بأيّ شيءٍ آخر إلاّ في بعض الحالات التي تتمرَّد فيها على حقوقه الخاصّة، وتتحوَّل إلى إنسانة تعمل على تهديم البيت الزوجي فإنَّ للزوج أن يمارس بعض الأعمال التأديبيّة التي يراد منها إرجاعها إلى الصواب... وهكذا نجد أنَّ القيمومة لا تعطيه أيّة صلاحية ذاتية أو مزاجية فيما يتنافى مع قيمة المرأة كإنسانة مستقلّة حقوقيّاً وإنسانيّاً، فيما عدا القيود التي تفرضها طبيعة العلاقة الزوجية الخاصّة... أمّا منطلق هذه القيمومة فقد جعلها الله في نقطتين أساسيتين أشار إليهما الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد:
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ...} [النساء : 34]
أحدهما: تفضيل الله الرجل ببعض الخصائص التي تجعله أقدر على ممارسة هذه الإدارة، وربّما يكون من بينها قوّة الجانب العاطفي لدى المرأة، وربّما يكون من بينها عنصر الأمومة في حالات الحمل والإرضاع وغيرها من الأمور التي تمنعها من ممارسة ذلك، وربّما يكون هناك شيء آخر لا نعلمه.
ثانيهما: إنفاق الرجل على البيت كمسؤولية ممّا يجعل له الحقّ في الإشراف عليه، وبكلمة واحدة... الزواج شركة حياة فمن الذي يدير الشركة ما دامت لا تقبل أن تتمثّل برأسين، هما الرجل والمرأة... إنَّ الإسلام يطرح الرجل كمدير ومدبّر ومشرف، لأنَّ المرأة لا تستطيع ممارسة ذلك بشكلٍ كامل من خلال وضعها الجسدي، ومسؤوليّة الأمومة... ولا يمنع هذا من أن تكون لها بعض الجوانب التي تملك فيها الحريّة خارج نطاق الحقّ الزوجي سواء في ذلك جانب العمل أو جانب التملُّك أو جانب العلاقات العامّة... أو في امتناعها عن القيام بخدمات البيت المعتادة... حتّى الإرضاع وتربية الأولاد ـــ كما ألمحنا إليه آنفاً ـــ فإنَّ التشريع الإسلامي يجعل هذه الأعمال في دائرة الأعمال التي تستحقّ عليها المرأة الأجرة، كأيّ عاملٍ آخر في أيّ حقلٍ من حقول العمل، إلاَّ في الحالات التي تدخل فيها هذه الخدمات في ضمن العقد كشرط من الشروط الضمنية أو الصريحة... لأنَّ المؤمنين عند شروطهم إلاَّ شرطاً أحلّ حراماً أو حرَّم حلالاً.
أمّا جعل الطلاق بيد الرجل فيمكن أن يخضع تفسيره لعاملين:
الأوّل: إنَّ الرجل هو الذي يتحمّل المسؤولية المالية للعلاقة الزوجية سواء لجهة دفع المهر أو للقيام بالنفقة... وهو الذي يتضرَّر من خلال إنهاء هذه العلاقة "بعيداً عن الواقع الاجتماعي الذي يضع المرأة في ظروف غير مستقرّة اقتصادياً" وبهذا كان له الحقّ في إبقاء هذه العلاقة وإنهائها.
الثاني: إنَّ قوّة الجانب العاطفي لدى المرأة قد يجعلها تسيء استعمال هذا الحقّ في أغلب الحالات لاسيّما إذا كانت لا تخسر شيئاً مالياً من خلال ذلك... وقد تكون هناك عوامل أخرى.
وقد جعل الإسلام للحاكم الشرعي الحقّ في إنهاء العلاقة الزوجية من دون رضا الزوج في بعض الحالات القاسية، كما إذا امتنع الرجل من الطلاق، والإنفاق، فإنَّ للحاكم الشرعي الحقّ في طلاقها إذا طلبت إليه ذلك، ويمكن له أن يطلّقها في بعض الحالات الضرورية الصعبة التي تخاف ـــ معها ـــ على نفسها الانحراف والوقوع في الحرام كنتيجة للامتناع عن معاشرتها الجنسية مِن قِبَل الزوج للإضرار بها، في رأي بعض المجتهدين مع تحفُّظ البعض الآخر في هذه النقطة بالذّات ـــ كما أنَّ لها الحقّ ـــ، في رأي الكثيرين من المجتهدين ـــ أن تشترط لنفسها ـــ في ضمن العقد الزوجي ـــ الوكالة عن زوجها في طلاق نفسها منه في بعض الحالات الطارئة التي يتّفقان على تحديدها، أو في كلّ الحالات، ولا يملك الزوج أمر عزلها عن هذه الوكالة بعد ذلك، وإنْ كان الوكيل صالحاً للانعزال في غير هذه الحالة وبهذا نعرف أنَّ القضية لا تعيش في نطاقٍ ضيّق، بل تتّسع للحلول العلمية التي تحرِّر المرأة من كثير من قيودها.
أمّا مضاعفة نصيب الرجل في الميراث، واعتباره ضعف نصيب المرأة على ما هو منطق الآية الكريمة:
{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ...} [النساء : 11]
فليس انتقاصاً من كرامة المرأة، لأنَّ الإسلام عندما أعطى الرجل هذا النصيب الزائد، حمَّله ـــ لمصلحة المرأة ـــ مسؤولية دفع المهر والنفقة لها وللأولاد... وعندما أخذ من المرأة هذه الحصّة أعفاها من كلّ المسؤوليات المالية نحو زوجها وأولادها في داخل البيت الزوجي فمن يكون الأوفر حظّاً في مجال الحقّ، المرأة، أو الرجل؟... ربّما يعلِّق بعض الظرفاء... إنَّ مثل هذا التشريع يوحي للرجل بطلب المساواة بالمرأة لأنَّ قيمة الربح والخسارة تتحدَّد بحدود المسؤوليات التي يحملها التشريع للإنسان، فربّما يكون صاحب الحصّة القليلة التي لا تقابلها أيّة مسؤولية، أوفر حظّاً من صاحب الحصّة الكبيرة التي تستنزفها المسؤوليات.
وبكلمة واحدة، إنّ على الذين يتّهمون الإسلام بالرجعية والتخلُّف والظلم للمرأة أن لا يؤخذوا بظواهر الأمور لو أرادوا أن يسيروا على خطّ العدل عند الحكم على الأشياء، بل يجب عليهم ـــ من جهة الحقّ والعدل ـــ أن يقفوا وقفة طويلة عميقة ليقارنوا بين التشريعات الإسلامية التي يكمل بعضها البعض، وليوازنوا بين الإسلام وبين غيره في هذا المجال، وأن يفهموا الحقيقة التي تفرض نفسها على كلّ تشريع، وهي أنَّ التشريع يخضع لقاعدة فكرية تنطلق منها كلّ المواد القانونية فلا يمكن فهم التشريع إلاَّ بوعي تلك القاعدة.
أجل... هذه نظرة الإسلام للمرأة، وهذا هو موقعها التشريعي في الإسلام فهل ستبقى هذه الشبهات قائمة، وهل ستظلّ المرأة أداة ولعبة للشيطان تسيِّرها الأصابع والأهواء الخبيثة لتحقيق الأغراض التي لا تتّفق ورسالتها المقدَّسة.
إنَّني واثق أنَّ المرأة المعاصرة عندنا ـــ رغم ما يثار عنها وباسمها ـــ قد أدركت سرّ اللّعبة، ولم تعد دمية في يد الآخرين.
أليس كذلك؟
س ـــ ما هو تفسير قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور : 4]
ج ـــ لقد عالجت هذه الآية الكريمة قضية حماية الإنسان في المجتمع الإسلامي من الأحاديث غير المسؤولة التي يتحدَّث بها الناس في مجالاتهم الخاصّة والعامّة ممّا يتعلَّق بنسبة الزنا إلى بعض النساء المحصنات "وهنَّ اللّاتي أحصن بالزواج عن الانحراف"... فقد دأب البعض على إطلاق التُّهم على أساس الظنّ والشبهة، لخبر سمعه، أو ملاحظة عابرة لاحظها، أو حالة مشبوهة شاهدها مع احتمالها لأكثر من وجه... الأمر الذي قد يحطِّم سمعة المرأة وكرامتها ويعرّضها للسقوط في المركز الاجتماعي وربّما يؤدّي بها إلى القتل في بعض المجتمعات التي يتصرَّف أفرادها من خلال مفهومهم للشرف الذي قد يتمرَّغ بالوحل إذا أُثيرت بعض الكلمات التي تتّهم المرأة بالزّنا من دون تحقيق أو تثبيت، لأنَّ القضية عندهم ليست قضية حصول الانحراف في الواقع أو عدم حصوله، بل القضية هي غسل العار الذي أصابهم من خلال انتشار السمعة السيّئة لدى الناس وإنْ كانت بغير حقّ، تماماً، كأيّة حالة اجتماعية يتعرَّض لها الأفراد في مركزهم الاجتماعي من خلال الإشاعات المتنوِّعة التي تنطلق ضدّهم بغير حقّ، فيحكم عليها المجتمع على أساس ذلك من دون تحقيق، كما قال أحد الشعراء، وهو يعبّر عن هذه الظاهرة الاجتماعية.
"قد قيل ذلك إن صدقاً وإنْ كذباً فما اعتذارك من قول إذا قيلا"
وقد أراد الإسلام للمرأة، أو للرجل أن يعيش حالة الأمن والطمأنينة على حياته وسمعته، فلم يسمح لأحد أن يتحدّث عن أيّ أحد في الإطار الأخلاقي إلاَّ إذا كان لديه البيّنة العادلة التي تثبت الجريمة على أساس المشاهدة الحسيّة للفعل الجنسي من دون شكّ ولم يكتفِ ـــ في هذا الموضوع ـــ بشاهدين عدلين كما اكتفى بهما في أغلب الأمور، بل اعتبر أربعة شهود، إمعاناً في التثبّت وحماية للإنسان من عبث العابثين في إطلاق التّهمة بشكلٍ غير مؤكّد وقد جعل الله على هؤلاء الذين يرمون المحصنات من دون أن يملكوا الحجّة الشرعية على إثبات التّهمة، عقوبة الجلد بمقدار ثمانين جلدة، وحكم عليهم بالفسق ومنع المسلمين من قبول شهادتهم لأنّهم فقدوا ـــ بذلك ـــ صفة العدالة التي تعتبر أساساً في قبول الشهادة، وقد لعنهم الله في الدُّنيا والآخرة تأكيداً للقيمة الأخلاقية الإسلامية التي تتمثّل في احترام الإنسان المسلم في ماله ودمه وعرضه، وحمايته من كلّ اعتداء وذلك في قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 23 ـــ 24]
وقد احتاط الإسلام للموضوع احتياطاً شديداً فاشترط في رفع العقوبة عن الشاهد أن يكون معه ثلاثة شهود يشهدون بما يشهد به ويثبتون على شهادتهم وإلاَّ اعتبر قاذفاً يترتَّب عليه ما يترتَّب على القاذف من أحكام، انطلاقاً من الآية الكريمة التي اعتبرت الجلد عقوبة لكلّ مَن لم يأتِ بأربعة شهداء فيشمل مثل هذا الشاهد.
وقد نستطيع أن نفهم من ذلك أنَّ الإسلام لا يجيز للإنسان أن يرمي الناس في أعراضهم إلاَّ في الحالات التي يراد فيها إثبات الزنا لدى السلطة الشرعية بالبيّنة التي تجمع كلّ شروط الإثبات، لأنَّ الشهادة ـــ بدون ذلك ـــ تتحوّل إلى عملية قذف وتشهير لا تحقِّق إلاَّ النتائج السلبية من دون إيجابيّات تذكر لمصلحة العدالة.
وقد لا يكون هذا التشريع بدعاً في حركة التشريع الإسلامي في الحياة الاجتماعية، بل هو جزء من خطّة عامّة متكاملة تضع الحدود الرادعة في الدُّنيا والآخرة، لتعين الإنسان المسلم على نفسه عندما تستيقظ نوازعه الذاتيّة الشرّيرة لتسيء إلى الناس الآمنين المطمئنّين الغافلين بالكلمات التي تدمّر كرامتهم وتخرِّب علاقاتهم وتزيف الواقع الداخلي والخارجي لديهم، وتشوِّه الحقيقة في وجدانهم فكانت التشريعات التي تحاسب الإنسان على كلماته، كما تحاسبه على أفعاله، وتوحي له بمسؤولية الكلمة، كما توحي له بمسؤوليّة الفعل لأنَّهما يلتقيان في عملية صنع المجتمع الخيّر أو المجتمع الشرّير ويتحرّكان من موقع النّفس الخيّرة التي تحبّ الله في ذاته وتحبّ الله في الناس، أو من موقع النّفس الخبيثة التي لا تحبّ الله، ولا تراقبه في الناس.
ولسنا هنا في معرض الدراسة الشاملة لكلّ هذه الخطّة، بل نحن في مجال الإشارة إلى موقع هذا التشريع من الخطّة، لئلا نقع في الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون في النظر إلى كلّ تشريع بصورة منفردة، فإنَّ التشريعات الإسلامية مرتبطة بشكلٍ عضوي في تنظيمها للحياة، وفي تخطيطها لعملية صنع الإنسان من الداخل، من أجل أن يمارس الحياة من موقع القاعدة الأخلاقية الروحيّة... ولعلَّنا نستوحي علاقة ارتباط الداخل بالخارج في قضية بناء الإنسان من الآية الكريمة التي أشارت إلى إشاعة الفاحشة بالكلمة، بأسلوب محبّة إشاعة الفاحشة، باعتبار الكلمة منطلقة من نوازع الإنسان ودوافعه الذاتية، وذلك هو قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]
فقد ذكر بعض المفسّرين أنَّ الآية تتحدّث عمّن يشيعون الفاحشة بالحديث عنها بين الناس، ولكنَّ الله عبَّر عنه بكلمة (يحبّون) للإيحاء بأنَّ التشريع يتحرّك لحماية الإنسان من الانحراف الداخلي باعتباره أساساً لجميع الانحرافات العمليّة الصادرة عنه.
ونرجو من الله التوفيق للتخطيط لدراسة كاملة حول هذا الجانب من التشريع الإسلامي للحياة الاجتماعية وهو حسبنا ونِعْمَ الوكيل.
س ـــ هل يمكن للفتاة المسلمة أن تواكب حركة التطوُّر العصرية فيما يتعلَّق بالأزياء التي تتغيَّر بين وقتٍ وآخر لتفرض على العرف الاجتماعي وضعاً جديداً يجعل التقييم خاضعاً لمقاييسه، ممّا يؤدّي بالفتاة إلى أن تواجه الحرج الشديد في الخروج عن الطريقة المألوفة لدى رفيقاتها ويخلق لديها واقعاً نفسياً مرهقاً عندما تحسّ بالانفصال عن مجتمعها في طبيعة الزيّ التي تمثّل شيئاً أساسياً في مجتمع المرأة... وقد يتعاظم الأمر في الحالات التي تضطر فيها إلى الحياة في أوروبا وأميركا مثلاً؟؟
ج ـــ ربّما يكون للجواب على هذا السؤال أكثر من جانب في النظرة الإسلامية لحركة التطوُّر في الأزياء فيما يتعلَّق بالرجل أو بالمرأة:
فقد تطرح القضية من ناحية الحديث عن وجود زيٍّ إسلامي معيّن لا يجوز للإنسان تجاوزه كما يخيّل لبعض الناس الذين يستنكرون الخروج عن المألوف في استحداث الأزياء بالشكل الذي تتجاوز فيه الأشكال القديمة.
والجواب عن ذلك، أنَّ الإسلام لم يحدِّد للرجل وللمرأة شكلاً معيّناً للثياب التي يلبسانها بل كلّ ما هناك أنّه أراد للرجل أن يستر بعض أجزاء جسمه، وأراد للمرأة أن تسترّ كلّ أجزاء جسمها ما عدا الوجه والكفّين، وترك لها الحريّة فيما عدا ذلك، بل قد نجد في بعض أحاديث الإمام جعفر الصادق أنّه قال لأصحابِهِ: "خير لباس الزّمان لباس أهله" وقد نجد بعض التحفُّظات لدى بعض الفقهاء حول "لباس الشهرة" الذي يتمثّل في الخروج عن الزيّ المألوف في المجتمع بحيث يجلب الشهرة والاستغراب لدى الناس، بين قائل بالحريّة وبين قائل بالكراهة.. ولكنّ هذا لا يرتبط بقضيّة التطوُّر في الأزياء.
وقد تطرح القضية من ناحية اعتبار السير مع الاتجاه العام في الأزياء مظهراً من مظاهر التقدّم الاجتماعي انطلاقاً من الفكرة التي ترى في تطوُّر الأزياء انسجاماً مع حركة التطوّر المعاصرة، وتعتبر الإنسان الذي يلتحق بها إنساناً متطوّر الفكر تقدّمي الاتّجاه لأنَّ المقياس في تقدّم الإنسان هو إيمانه بقضايا التقدُّم ومواجهته للحياة بروح عصرية منفتحة.
وأمّا تعليقنا بالنسبة لذلك، فهو أنَّ تطوّر الأزياء ليس خاضعاً لفلسفة اجتماعية مستوحاة من روح العصر، بل هو خاضع للعوامل التجارية، وللنوازع المنحرفة، وللمخطَّطات الشيطانية، التي يمليها المزاج الذاتي، والمصالح الشخصية لأصحاب دور أزياء في العالم، هؤلاء الذين يطلقون عليهم في الصحف اسم "ملوك الموضة" فيخطِّطون الأزياء في كلّ عام بطريقةٍ خاصّة لا يراعى فيها أيّ جانب من جوانب الأخلاق الأساسية للإنسان، ثمّ يفسحون المجال للانتشار من خلال دور العرض التي تقوم فيها عارضات الأزياء، بعرض هذه الصرعات أو "التقاليع" بأسلوب لا يخلو من عاصر الإثارة التي توحي للنساء بالأجواء الجمالية التي يمنحها الزيّ الجديد لحياتهنَّ من حيث الفتنة والجمال والإغراء، ويجيء بعد ذلك دور الممثّلات، أو المشهورات من نساء العالم اللاتي كانت شهرتهن باعث تقليدهن في كلّ شيء من شؤون الأزياء والزينة، وتتعاون الأجهزة الإعلامية من السينما والراديو والتلفزيون والصحف ومجلات الخياطة، في إكمال البقيّة الباقية من الانتشار والازدهار لهذه التقاليع الجديدة فتتحوَّل إلى تيَّار اجتماعي.
وقد عرفنا من خلال "بروتوكولات حكماء صهيون" كيف كانت المخطَّطات اليهودية تعمل على إفساد العالم بإثارة الشهوات وتشجيع الانحلال من خلال الوسائل التي تساهم في تهيّئة هذه الأجواء في كلّ أنحاء العالم بمختلف الأجهزة، وهكذا نرى أنّ القضية لا تنطلق من أساس فكريّ، ولا ترتبط بأيّة قاعدة من قواعد التقدُّم والتطوّر الاجتماعيين، بل تتحرَّك من خلال أُناس لا يحملون مسؤولية الحياة بل يعيشون أجواء الرّبح والخسارة على أساس تجاريّ يرى في كلّ شيء سلعة تجارية بما في ذلك الأخلاق والدّين والحياة والمصير.
وعلى ضوء ذلك فلا نجد في الانسجام معها انسجاماً مع روح التقدُّم وحركة التطوّر بل نجد ـــ بدلاً من ذلك ـــ خضوعاً للقوى الشرّيرة في العالم، واستسلاماً لمخطَّطاتها المزاجية والانحرافية، ووقوعاً في حبائل الشيطان، وخسارة للشخصية الإنسانية المرتكزة على أساس الأخلاق الواقعية المثلى التي أراد الإسلام للإنسان أن يسير عليها في كلّ مجالات حياته الصاعدة أبداً نحو الله.
وقد تطرح القضية من ناحية اعتبارها مظهراً من مظاهر حريّة المرأة، وتمرُّداً على القيود التي حملتها في روحها وجسدها مئات السنين. لأنَّ الجسد إذا تحرَّر في ثيابه تحرَّر في روحه بنفس المساحة التي تتحرّك فيها حريّته العملية في الحياة لأنَّ ممارسة الحريّة في الجسد تؤدّي إلى انفتاح النوافذ الداخلية على الكون لاستقبال الشعاع القادم من بعيد.
أمّا جوابنا على ذلك فيتمثَّل في مناقشة فكرة الحريّة، لأنَّ قصّة الحريّة لا تتحرّك في إطار الانفلات في مجاهل الفوضى، بل تتحرّك في دائرة المسؤولية الفكرية والمصيرية التي تحكم كيان الإنسان ووجوده.. وبذلك نفهم معنى الحريّة في الجسد وفي الروح لنتساءل مع المرأة التي تطالِب بحريّة اللّباس في مختلف أشكاله إلى حدّ العري... ما هي نظرة المرأة إلى نفسها... هل هي مجرّد أنثى تنطلق إلى الحياة من خلال اعتبار الطبيعة الأنثوية قيمة حياتيّة مقدّسة، ولذا فإنّها تعمل على إعطاء هذا الجانب كلّ اهتمامها وتقديسها، وترى في ارتفاع عنصر الإثارة والفتنة والإغراء مفتاحاً للشعور بالأهمية ومجالاً للتباهي ولتفاخر الأمر الذي يجعلها تعبد جسدها وتقدّس كلّ جوانب الإغراء فيه، وتتعبَّد له أمام المرأة كما تعبد إلى صنم ساحر... أو هي إنسانة تحمل في داخل شخصيّتها عناصر الشخصية الإنسانية التي تجمع إلى جانب جمال الجسد، جمال الفكر والروح والشعور، وترى أنَّ الجمال هبة من الله سبحانه وتعالى، فهو الذي أعطاه، وهو القادر على أن يزيله، وعلى الإنسان أن يشكره على هذه النعمة كما يشكره على بقيّة نعمه باستخدامها فيما يرضيه لا فيما يسخطه.. وبذلك تتحرّك اهتمامات الإنسان إلى السموّ الروحي والفكري والاجتماعي من خلال قدراته الروحية والفكرية والاجتماعية.
ثمّ ما هي الفكرة التي تحكم حياتنا لنتحرّك في الحياة العملية من خلالها هل هي الإسلام أم هي الكفر؟
فإنْ كان الإسلام هو ديننا الذي ندين الله به عن قناعة واطمئنان، وإذا كان هذا الدّين لا يعتبر المرأة إلاّ من خلال إنسانيّتها ولا يرى الجانب الأنثوي في مفهومه الجنسي إلاَّ جانباً خاصّاً يحكم المرأة في إطار العلاقات الزوجية المشروعة التي يمكن للمرأة أن تلبّي حاجاتها بحريّة وإشباع... فإنَّ من الواجب عليها أن تدرس التخطيط لحريّتها في إطار هذا الدّين بكلّ ما فيه من قيود المسؤولية... لأنَّ القضية لا تكون قيداً يحدِّد حريّة الإنسان بل تتحوّل إلى ممارسة للإيمان الحرّ في أن يعبّر عن نفسه بقوّة واقتناع وهذا هو ما ينبغي للمرأة أن تواجه فيه الدعوة إلى الحريّة الجسدية التي تفجّر لها حريّتها الروحية فيما يزعمون، لأنَّ حريّة الروح لا يمكن أن تنسجم مع عبودية الجسد لشهواته وشهوات الآخرين... وهذا هو ما يريد التوجيه المنحرف أن يدعو المرأة إليه حتّى تكون ضحيّة الغرائز والعواطف ليؤكّد عبودية المرأة ولكن بطريقة عصرية على العكس من الطريقة السابقة للرقّ التي كانت تمارسه بأسلوب مختلف في أجواء الحريم، وقد استطاع هذا التوجيه أن يبلغ غايته من خلال المجلّات النسائية التي تحاول أن تجعل المرأة مشدودة إلى جسدها في الحديث عن أجمل الأزياء، وأحدث وسائل الزينة وأحلى أنواع العطر... فهذا يزيدها جمالاً، وذاك يزيدها سحراً وذلك يجعلها تسبح في أجواء العبير... أمّا الفكر... أمّا الحياة في جانبها الآخر... أمّا الدّين... أمّا الأخلاق فتلك أحاديث قد تثور في حياتها ولكنّها لا تلامس الجانب الحميم من شخصيّتها واهتماماتها... وهذه هي مأساة المرأة العصرية التي تلهث وراء الطويل والقصير، وتضحّي بكلّ شيء من أجل كلمة حبّ، وعرش جمال وتستسلم لكلّ خيالات الشعراء، التي تطوف بالنّفس في أجواء غزليّة ساحرة عابقة بالخداع الشيطاني الحلو اللّذيذ.
إنَّنا نرفض هذا التشويه لشخصية المرأة "المرأة ـــ الإنسان" بتشويه فكرة الحريّة في مفهومها المنفتح على النور من خلال الإيمان بالله.
إنَّنا نريد للمرأة أن تكون حرّة باسم الله... ولا نريدها أن تكون رقيقاً يوحى إليه بالحريّة باسم الشيطان... وبذلك يمكن لها أن تحدِّد موقفها من الأزياء على أساس شريعة الله أو شريعة الشيطان.
سؤالان ... أدبيّان
وجّهت مجلة البذرة الصادرة عن ثانوية منتدى النشر في النجف الأشرف ـــ العراق سؤالين حول رسالة الأديب في الحياة، ومؤهّلات الطالب من أجل أن يكون أديباً، إلى سماحة السيّد محمد حسين فضل الله في عددها المزدوج الثاني والثالث في سنة 1385 هجرية فأحببت أن نقتطفهما في هذا الباب لِمَا لهما من الفائدة.
س ـــ ما هي رسالة الأديب في الحياة اليوم؟
ج ـــ ربّما كان من السّمات الظاهرة للأديب الحقّ، هو، هذا الإحساس المرهف بالجمال والنظرة النافذة إلى الحياة، والعاطفة الصافية التي تجيش بالأحاسيس الخيِّرة والمشاعر الرقيقة... وأخيراً، هذا الغنى الروحي التوَّاق أبداً إلى العطاء والتطلُّع الواعي المتوثّب دوماً نحو المجهول.
ربّما كانت هذه السّمات هي ما يميِّز الأديب عن غيره، ويجعل منه إنساناً آخر يعيش إنسانيّته في نطاق الحقّ والخير والجمال باعتبارها من المعاني التي تمثّل في حياة الإنسان روعة القِيَم.
ذلك هو واقع الأديب الحقّ ـــ في داخله ـــ كإنسان.
أمّا طبيعة صفته ـــ كأديب ـــ فقد تجد فيه الإنسان الذي يستطيع أن يجسّد هذه المعاني في الكلمة ليجعل من الكلمة كائناً حيّاً يتحرّك بالفكرة وينبض بالعاطفة.
وإذا استطعنا أن نُكَوِّن لأنفسنا الصورة الواضحة عن الأديب الحقّ، التي تتلخَّص في كلمتين إحساسه بالقِيَم، وقدرته على التعبير عنها بصدق وإبداع، فقد نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام رسالته كأديب، لأنَّ ذلك هو الذي يحدِّد لنا ما يمكن أن يقدِّمه للإنسانية من عطاء فيما تملك من ثروة... وهذا ما يجعلنا نقرِّر أنّ رسالة الأديب في الحياة، هي أن يثير في الحياة الإحساس الواعي بالحقّ، والإيمان العميق بالقِيَم الروحية المثلى، ويوجّه الإنسان نحو المعاني المبدعة المبتكرة والحلوة الجميلة في الحياة من أجل أن نجعل منها رحلة طيّبة في دروب الله حيث السلام والمحبّة والصفاء الروحي تهيمن كلّها على قلوب الناس وتنساب في مشاعرهم في خدر لذيذ.
وقد نستطيع ـــ بهذه المناسبة ـــ أن نقرِّر: أنَّ كثيراً ممّا نشكو منه من مشاكل ومتاعب في حياتنا المعاصرة، هو أنَّنا بدأنا نفقد الإحساس بالقِيَم أو بالأحرى بدأنا نتطلَّع إلى قِيَم مادية لا تنبع من داخل ذواتنا بل تنطلق من حاجاتنا المادية الجامدة، ممّا جعل علاقاتنا وارتباطاتنا الذاتية تأخذ هذا الطابع، فأفقدها ذلك حرارة الحبّ وأبعدها عن الإحساس بالإخلاص فأصبحت مجرّد شيء آلي لا يمثِّل إلاَّ التغيير الجامد عن واقع مادي... وهكذا فقدنا التصوُّر الصحيح للأشياء وتحوَّلت المبادئ ـــ من جرَّاء ذلك ـــ إلى نظريات محنَّطة نستبدلها ونستوردها كما نستورد المعلَّبات وأصبح الإنسان مجرَّد شيء من الأشياء الماديّة، ولم يعد الحبّ والجمال يمثّل في حياتنا إلاَّ التغيير عن نداء الغريزة وواقع الجنس، وعلى ضوء إدراكنا لهذا الواقع ووعينا للأدب شعوراً وفكراً وتعبيراً، ولما يستطيع أن يقدِّمه للإنسان من عطاء خيِّر... نستطيع أن نجيب على السؤال المتقدِّم فنقول:
إنَّ رسالة الأديب في الحياة هي أن يرجع الإنسان إلى إنسانيّته وذلك بأن يثير في حياته الشعور بالقِيَم والإيمان بالمعاني الروحية الخالدة التي تحوِّل الحياة إلى جنان من النعيم وذلك بأنْ يجعل من أدبه التعبير الحيّ الصادق عن هذه المعاني السامية.
هذه رسالة الأديب بوجهٍ عام، أمّا رسالة الأديب المسلم الذي يحيا إسلامه في ذاته ويعيش قيمه في روحه، فنحسب أنّ من أولى مهمّاته الرسالية هي أن يجعل من أدبه الصورة الحيّة المعبّرة عن تصوّرات الإسلام وتطلُّعاته في مجال الحياة والإنسان، حيث يعمل الإنسان المسلم من أجل أن يجعل من حياة البشر صورة مصغّرة عن حياة الآخرة ونعيمها، ويحوِّل الإنسان من كيان قلق ضائع متشائم، إلى كيان واثق بالله، معتمد على نفسه، متفائل حتّى أبعد حدود الإمكان انسجاماً مع الفكرة الإسلامية التي تقول على لسان النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنِّي أحبّ الفأل وأكره الطيرة"، ومن هنا كان باستطاعتنا أن نقرِّر في هذه اللّمحة الخاطفة، أنّ الأدب المتشائم ليس أدباً إسلامياً لأنّه لا يمثّل الخطّ الإسلامي المتفائل للإنسان المسلم في الحياة، وهكذا يتحوَّل الأدب من وسيلة الترف الفنّي إلى أداة نافعة في سبيل الله والعقيدة والإنسان.
س ـــ ما هي مؤهّلات الطالب ليكون أديباً؟
ج ـــ أحسب أنّ أوّل شيء يجب أن يتوفَّر في الإنسان الذي يخطو خطواته الأولى في الاتّجاه الأدبي هو أن يملك الموهبة الأدبية التي تعتمد على الإحساس المرهف والعاطفة الرقيقة، وقد تكون هذه الموهبة فطرة في داخل الإنسان. وقد تحصل بالممارسة والتأمُّل في الفنون الأدبية المتنوِّعة.
وإذا استقامت له هذه الموهبة، فينبغي له أن يصقلها وينمّيها بالمطالعة الدّائبة والقراءة المستمرّة للآثار الأدبيّة الخالدة، القديمة منها والحديثة، ليحصل على ثقافة عميقة تمكّنه من التفاعل بتجارب الأدباء الآخرين، والانسجام الفنّي مع خطواتهم، الأمر الذي يبعده عن السطحية والضحالة ويجعل تجاربه الأدبيّة ذات أصالة وعمق. ولا بدّ له بعد ذلك من أن يكون وثيق الصّلة بحياته وحياة الآخرين من أجل أن يعيش التجربة الحيّة في إطارها الطبيعي ليكون أدبه غنيّاً بالتجارب والأفكار الحياتية، لا مجرَّد صورة ساذجة لا تملك المضمون الحيّ العميق، وإنَّما تدور في نطاق فكرة ضيّقة لا تستطيع الانطلاق بل تتعثَّر في تفاهات الألفاظ ومتاهات الضياع.
أصل الصحّة بين العدالة والسذاجة
بسم الله الرحمن الرحيم
لعلَّ من أهم الأُسس التي يرتكز عليها بناء الشخصية الإنسانية هي القواعد العامّة التي تحكم فكر الإنسان وسلوكه، لأنَّ ذلك هو الذي يحقِّق الوحدة لنشاطاته الفكرية والعملية فيوحِّد نظرته للواقع وتقييمه لأوضاعه في ضمن إطار فكري متكامل، ويحقِّق لتطلُّعاته المستقبليّة الخطّة المتوازنة الشاملة التي تجمع خطوط السير في منعطفاته ومنعرجاته في نقطة واحدة واسعة... ويحكم علاقاته العامّة والخاصّة منهج فكري وعملي يضع لكلّ علاقة إطارها الطبيعي المستمدّ من الفكرة الواحدة(1).
ولذلك، فإنَّ علينا أن نبحث عن الفكرة الواحدة التي تحكم فروع التشريع، وعن الخطّ الواحد الذي تنطلق فيه أساليبه العملية، وعن الهدف الواحد الذي تتّجه إليه الوسائل في الممارسات المتنوّعة التي يمارسها العاملون... ذلك هو السبيل لفهم مفردات التشريع ومعرفة أبعاد الشخصية التي تنمو في أجوائه وتنطلق من جذوره.
وليست الشخصية الإسلامية للإنسان المسلم إلاَّ لوناً من ألوان الشخصية الإنسانية التي تختلف ألوانها تبعاً لاختلاف القاعدة التي تنطلق منها وتتحرَّك في إطارها... فلا بدّ من أن نتلمَّس ملامح هذه الشخصية في القواعد الفكرية التي يرتكز عليها الإسلام في عملية صنع الإنسان على صورته ومثاله، وفي القواعد العملية التي تحرّك حياة الإنسان في وسائله وأهدافه، من خلال الخطوط العملية لمسيرته العامّة... ليتسنّى لنا ـــ من خلال ذلك ـــ التخلُّص من الازدواجية القلقة التي نعيش معها التمزُّق الذاتي بين مدلول الشعار وممارسة الواقع... انطلاقاً من حركة الواقع في خطّة بعيدة عن طبيعة المضمون الذي يوحيه الشعار... كنتيجة طبيعيّة لفقدان النظرة الموحّدة التي تحكم الواقع من خلال الشعار لتوزّعها بين فروع عديدة من الأحكام الشرعية التي لا نحاول توحيدها في ضمن دائرة واحدة تحقِّق الترابط بين مجالاتها. بل كلّ ما هنالك، إنَّنا نحصل من خلال الانسجام معها عملياً على (الخروج عن عهدة التكليف) أو (إبراء الذمّة) كما يعبّر علماء الأصول من دون أن يكون هناك أيّ مدلول نفسي لكلّ ما نقوم به أو نتحرّك فيه... وربّما كان ذلك هو السبب في بقاء الإنسان المسلم خاضعاً لتقلُّبات المزاج المستمدّة من حركة الواقع حوله، في نظرته إلى الأشياء وتقييمه للآخرين، وعلاقته بالأحداث، في الوقت الذي لا نجده فيه بعيداً من ناحية عملية عن مفردات الشريعة، لأنّه انطلق في فهمه للإسلام من خلال المفردات المتناثرة، لا من خلال الكلّ الموحّد المترابط الأجزاء... ممّا جعل الإسلام يتحوّل في حياته إلى ممارسة خارجية لا إلى شخصية مستقلّة تحكم الداخل في تفكيره ودوافعه لتحرّك الواقع من هذا الموقع... حيث نواجه في هذا الجوّ مسلمين طائعين... ولكن بروحيّات كافرة في نظرتها إلى الواقع وتقييمها للحياة.
وعلى ضوء هذا نريد أن يتّجه الباحثون الإسلاميون إلى دراسة القواسم المشتركة التي تجمع بين الأحكام الشرعية في مجالاتها المختلفة من أجل اكتشاف جانب القاعدة فيها، لنستعين بها على ربط الإنسان المسلم بالحكم الشرعيّ من خلال القاعدة العامّة التي تحكم موارده.. ليظلّ الحكم مرتبطاً بقاعدته من أجل أن يعيش المسلم شخصيّته في أجواء الإسلام ومنطلقاته.
وقد أثار الفقهاء في أبحاثهم الفقهية كثيراً من القواعد التي تعالج الموضوعات الأساسية المتنوّعة في الحياة من خلال الأدلّة العامّة التي تطلق الحكم على أساس الموضوع الشامل... فكان لنا من ذلك القواعد المتنوّعة في أبواب العبادات والمعاملات والحدود وغيرها... ممّا يجده الإنسان في الكتب الفقهية التي صنّفت للبحث في القواعد الفقهية، مثل قاعدة "لا حرج" و"لا ضرر" والوفاء بالعقود والوفاء بالشروط، و"تبعيّة الأحكام للأسماء" وتبعيّة العقود القصود... وغير ذلك.
وقد تحدَّثوا عن نوعٍ آخر من القواعد الفقهية التي تعالج حالات الشكّ التي تعرض للإنسان أمام كثير من الأوضاع والمواضيع والأشخاص، وأطلقوا عليها اسم "الأصول" كمصطلح أصولي يحدّد للإنسان كيف يواجه نوازع الشكّ في نفسه عندما يعيش حياته، مع نفسه ومع الآخرين فكان لنا من ذلك "أصل البراءة" الذي يعبّر عن الحكم ببراءة المكلّف من التكليف الملزم عندما يفتقد الإنسان الحجّة على الإلزام، "وأصل الإباحة" أو "أصل الحلّ" الذي يتضمّن الحكم بحليّة كلّ شيء لا يعلم أنّه حرام و"أصل التخيير" الذي يفيد الحكم بالتخيير بين الفعل والترك عند تردّد الحكم بين موقفين لا يمكن فيهما الاحتياط، و"أصل الاحتياط" الذي يفرض على الإنسان الأخذ بعنصر الإلزام في العمل إذا توفّرت عناصر التنجيز للتكليف.. وكذا يضع الفقه لكلّ حالة من حالات الشكّ... قاعدة يختلف حالها في الرّخصة والإلزام تبعاً لاختلاف طبيعة الموقف في قيام الحُجّة على التكليف وعدمه.
أمّا إذا اقتربنا إلى جانب الشكّ في إطار الواقع التطبيقي للفعل، فهناك "أصل الصحّة" الذي يحكم بصحّة العمل عند الشكّ في ترك جزء أو شرط بعد تجاوز المحل، ويطلقون عليه مصطلح "قاعدة التجاوز" أو الذي يحكم فيه بالصحّة عند حصول الشكّ في ذلك بعد الفراغ من العمل، ويطلقون عليه مصطلح "قاعدة الفراغ" ويمتدّ هذا الأصل إلى المعاملات التي يقوم بها الناس فيشكّ الإنسان في صحّتها وفسادها فيحكم فيها بالصحّة... ولكلّ من هذه القواعد شروط، ولكلّ منها أحكام ليس مجالها هذا الحديث، بل مجالها علم الفقه وأصوله وهنك مجال آخر يتحرّك فيه "أصل الصحّة" وهو مجال الأعمال التي يقوم بها الإنسان، ممّا يحمل وجهين للصورة، يمثّل أحدهما جانب القبح ويمثّل الآخر جانب الحسن، فهل نحكم عليه بالحَسَن أو بالقبح أو بالصحّة والفساد، باعتبار أنّ الصحّة تنسجم مع حسن الشيء، والفساد يتمثّل في قبحه... ويقرِّر الفقهاء الرجوع ـــ هنا ـــ "إلى أصل الصحّة" وحمل الأفعال على الوجه الحسن بدلاً من الوجه القبيح... ونحن هنا، في محاولة تحليليّة لهذا الأصل في مجاله الاجتماعي المتعلّق بالحكم على الآخرين أمام وجهي الصورة... من أجل الوصول إلى وضوع في الصورة، لنبتعد بها عن المعاني الساذجة التي لا تتناسب مع واقية التشريع الإسلامي وعدالته، ليكون استعمالنا لها في علاقاتنا العامّة، مرتبطاً بالخطوط المستقيمة للإسلام.
1 ـــ ما هو أصل الصحّة
لا بدّ لنا في الجواب عن هذا السؤال من طرح الحالة على صعيد الواقع لنرى كيف يتجسَّد الأصل في الحياة في المجال الديني... قد يتصدَّق الإنسان بصدقة في مشروع خيري، أو اجتماعي، ويطلب إعلان اسمه، أو يقوم بإعلان ذلك بنفسه، ممّا يوحي بأنّه يقوم به على أساس من الرّياء والشهرة والمباهاة... وربّما يخطر بالبال، بشكلٍ خفيف، أنه يقصد من خلال ذلك تشجيع الآخرين على التصدُّق لأنّهم يقلِّدونه فيما يعمل، أو يسابقونه في ذلك، ولربّما كان من قصده دفع التهمة عنه أمام مَن يتّهمه بالبخل... وفي هذه الحال يفرض أصل الصحّة إفساح المجال للجوانب الخيِّرة، لتكون تفسيراً للصورة الحقيقيّة للعمل.
وفي المجال الاجتماعي، ربّما يقف الإنسان ضدّ بعض المشاريع الإنسانية والاجتماعية والتربوية فيعطّلها، أو يثير حولها الكثير من الضوضاء والضجيج الذي يبعدها عن أجوائها العامّة أو يؤخّرها عن وقتها الطبيعي، فيخيَّل للإنسان أنّه يقصد من ذلك تحطيم الأُسس الثابتة لعملية البناء الاجتماعي فيما يحتاجه من مقوِّمات البقاء، انطلاقاً من فكرة حاقدة مدمّرة، ولكن ربّما كان لهذه التصرُّفات بعض العذر من محاولته لإبعاد الهيئة المشرفة على هذه المشاريع، لأنّها هيئات مستغلّة، أو لنقله إلى مكانٍ آخر، أو مجالٍ آخر أكثر نفعاً وأعمق أثراً كما نشاهده لدى بعض الأشخاص أو المجموعات الذين يعارضون مشروع المسجد في القرية أو البلد، لأنّهم لا يرون هذا المشروع في المستوى الكبير من الأهمية إزاء مشروع المدرسة، فهم يعارضون ذاك المشروع من أجل إفساح المجال لإقامة المشروع الثاني، لأنَّ الميزانية المالية لا تتّسع لهما معاً... وربّما كانت بعض الأعذار الأخرى التي تتّصل باختلاف وجهات النظر فيما هو الأكثر صلاحاً للنّاس... وفي هذا المجال يتّجه أصل الصحّة للإيحاء بهذه الجوانب في إعطاء المعارضة صفتها الصحيحة المبرّرة.
وفي المجال السياسي... قد يقف بعض الناس، أو بعض الجهات في موقعٍ معيّن من مواقع السياسة المتنوّعة، كما نجده في الأشخاص الذين يقفون إلى جانب اليمين في بعض المراحل السياسية من حياة الأُمّة، أو يؤيِّدون اليسار، في مرحلةٍ أخرى، فيخيَّل لبعض الناس أنّه يقف موقف المتذبذب الذي ينتقل من موقع سياسي إلى موقع سياسي آخر انطلاقاً من الانتهازية والوصولية العملية في الحياة... ولكن قد تكون القضية في الجانب الآخر للرؤية خاضعة لتقييم سياسيّ واعٍ للمصلحة العليا للبلد ممّا يجعل الموقف في كلّ مرحلة مختلفاً عن الموقف في المرحلة الأخرى تبعاً لاختلاف الظروف السياسية التي تفرض التحرُّك اليميني هنا، والتحرُّك اليساري هناك... وقد تكون القضية اكتشافاً للخطأ من جانبه في تقييم الموقف سابقاً، ممّا يجعل من قضية التراجع عن الموقف السابق، قضية تراجع عن الخطأ في نظره.
وقد تتنوَّع المجالات التي يخوض فيها العاملون اجتهادات تجعل الموقف مرتبطاً بالمصلحة العليا، بينما تقف الاجتهادات الأخرى لتربطه بالمصالح الأساسية للعدوّ، فتنشأ من خلال ذلك الاتهامات بالخيانة والعمالة للعدوّ، وغير ذلك من كلمات التقييم المضادّ الذي يؤدّي إلى تصرُّفات غير مسؤولة... وفي مثل هذه الحالات ينطلق أصل الصحّة ليجعل الموقف أو العمل في الإطار السليم الذي يفرض جانب الخير في الإنسان، حتّى في التصرُّفات المنافية للموقف الحقّ لأنَّ هناك فرقاً بين الخيانة التي ينطلق فيها العمل من موقع الوعي للانحراف والإصرار على السير في طريقة وبين الخطأ الذي يسير معه العمل على أساس اعتبار الخطأ صواباً نتيجة اجتهاد خاطئ معيَّن.
وقد يلتقي الإنسان بكثير من النماذج العملية التي يتحرّك فيها أصل الصحّة ليغلِّب جانب الخير على جانب الشرّ، ويقوِّي فرضية الصحّة على فرضية الفساد.
2 ـــ لماذا هذا الأصل
قد يتساءل الإنسان أمام المجالات التي يتحرّك فيها هذا الأصل أو غيره من الأصول، لماذا هذا الأصل... أو بالأحرى ما هو الجانب الذي يجعل منه قضية حيويّة تتّصل بالطمأنينة الروحية للحياة الفردية والاجتماعية للإنسان، سواء في ذلك الأصل الذي يتّصل بالعمل الذاتي للإنسان في واجباته الفردية في صلاته وحجّه وسائر عباداته، أو الأصل الذي يتّصل بالعلاقات الشخصية والمعاملية التي تربطه بالآخرين أو الأصل الذي يتّصل بالأحكام التي يصدرها على الآخرين من خلال أفعالهم.
أمّا الجواب عن ذلك... فقد نجده في الفكرة العامّة التي انطلقت منها التشريعات الإسلامية في مواجهة الإنسان لحالات الشك... فقد نفهم من بعض الأحاديث التي تنهى عن الاستسلام للشكّ في ركعات الصلاة بما يؤدّي إلى إبطالها وإعادتها من جديد، أنَّ القضية تتّصل بالبناء النفسي للإنسان المسلم الذي لا يريد له الإسلام أن يمتدّ بالشكّ إلى آفاق حياته فيتحوّل إلى إنسان يشكّ في كلّ شيء حتّى لا يسلم له عمل، ولا يستقرّ له طريق وذلك كما ورد في بعض الأحاديث المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام) "لاَ تُعَوِّدُوا الخَبِيثَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ بِنَقْضِ الصّلاةِ فَتُطْمِعوهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ خَبِيثٌ يَعْتَادُ لِمَا عُوِّدَ، فَلْيَمْضِ أَحَدُكُمْ فِي الوَهْمِ، وَلاَ يُكْثِرَنَّ نَقْضَ الصَّلاَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذلِكَ مَرّاتٍ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ الشَّكُّ". ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا يُريدُ الخَبيثُ أَنْ يُطاعَ، فَإِذَا عُصِيَ لمْ يَعُدْ إِلَى أَحَدِكُمْ"(1).. وقد نظّم الإسلام للشكّ الواقع في الصلاة ومقدّماتها تشريعات متنوّعة تنقذ الإنسان من الاستسلام لهذه الحالة بما يحوّله إلى شخص معقَّد، وذلك بأن أبعدته عن الاعتناء بالشكّ وساعدته على اتّخاذ الموقف الذي لا يضطر معه إلى تخريب عمله، وتشويه روحه وقد جاءت الأحاديث المأثورة لتؤكّد الموقف بما يشبه الإيحاء الذي يريد أن يجعل من الإنسان الذي يتمّ عمله بشكلٍ طبيعي ولا يلتفت إلى حالة الشكّ، إنساناً ذا قيمة روحية وفقهية كما ورد في الحديث... عن أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام) ما أعاد الصلاة فقيه قطّ يحتال لها ويدبّرها حتّى لا يعيدها(1)، فنحن نلاحظ في هذا الحديث الإيحاء بأنَّ الإنسان الذي يعمل على إعادة صلاته على أساس الشكّ هو إنسان غير متفقّه، أمّا الإنسان الذي يدبّرها ويوجّهها في اتّجاه الصحّة فهو الفقيه في دينه.
3 ـــ الاستسلام للشكّ
ونجد في حديثٍ آخر، التأكيد على اعتبار الاستسلام للشكّ دليلاً على ضعف العقل انطلاقاً من إطاعته لنوازع الشكّ التي هي من إطاعة الشيطان، فقد جاء في الكافي عن عبد الله بن سنان قال: ذكرت لأبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام) رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة(2) وقلت: هو رجل عاقل فقال أبو عبد الله وأيّ عقل له وهو يطيع الشيطان. فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟ فقال: سله الذي يأتيه من أيّ شيء هو؟ فإنّه يقول لك: من عمل الشيطان(3). وقد نفهم من بعض الأحاديث المأثورة، أنَّ البناء على وقوع الشيء المشكوك فيه ينطلق من حالة واقعية لا من مجرَّد الرغبة في إبعاد الإنسان عن التعقيد... وذلك لأنَّ الإنسان الذي ينطلق إلى العمل من موقع الوعي الكامل لأبعاده، يكون واعياً لكلّ جوانبه في حالة العمل أكثر من حالة الشكّ، التي قد تنطلق من خروج الإنسان عن الأجواء الطبيعيّة... فقد ورد في الحديث الذي رواه بكير بن أعين عن أحد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) قال: قلت له الرجل يشكّ بعدما يتوضّأ قال: هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ(1) وقد نجد في بعض الأحاديث التأكيد على جانب إقامة النظام الاجتماعي للحياة الإسلامية في مبرّرات التشريع الذي يعالج حالة الشكّ، كما في موضوع الشكّ في ملكية الإنسان لِما بيده من المال، انطلاقاً من إمكانية أن يكون لغيره ممّا حصل في يده بسرقة أو خيانة أو غير ذلك... فقد أقرَّ الإسلام قاعدة اليد. لتكون دليلاً للملكية في حالة الشكّ، ومستنداً للشهادة بالملكية، فقد جاء في الحديث الذي رواه حفص بن غياب عن أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام) قال: قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يديّ رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له فلعلَّه لغيره فقال أبو عبد الله أفيحلّ الشّراء منه قال: نعم. فقال أبو عبد الله فلعلَّه لغيره فمن أينَ جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك ثمّ تقول بعد الملك هو لي تحلف عليه ولا يجوز أن تنبّه إلى من صارَ ملكه من قبله إليك ثمّ قال أبو عبد الله: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق(2).
وقد اعتبر بعض الفقهاء الأصوليّين هذا التعليل لقاعدة اليد أساساً لقاعدة الصحّة، أو أصل الصحّة فيما يتعلَّق بالمعاملات المالية أو الشخصية من قضايا البيع والشراء والزواج والطلاق، فيما يشكّ في صحّته وفساده منها، لأنَّ الوقوف عند حالة الشكّ، يعطّل الواقع العملي للنّاس، تماماً كما في تلك القاعدة بل قد يرجع الشكّ في قاعدة اليد إلى الشكّ في طبيعة المعاملات التي كانت مصدراً لليد، فيما كان مصدره المعاملة المعيّنة في البيع والشّراء، وقد ذكر بعض المحقّقين أنَّ الاحتلال الحاصل من ترك العمل بهذا الأصل أزيد من الاختلال الحاصل من ترك العمل بيد المسلم(1). أمّا أصل الصحّة في سلوك الناس وأفعالهم العامّة، فإنّه ينطلق من الفكرة التي ترتبط بالعدالة من جهة وبدراسة الواقع من جهةٍ أخرى، لأنَّ العدالة تفرض ملاحقة كلّ الاحتمالات القريبة أو البعيدة التي هي في مصلحة المتّهم، كما أنّ دراسة الواقع تؤدّي إلى العثور على الكثير من الأمور الخفيّة التي تنشر الصورة المبهمة للسلوك الإنساني.
وخلاصة الفكرة، أنَّ الإسلام يريد من خلال هذه الأصول العملية أن يبنيَ شخصية الإنسان المسلم على أساس مواجهة حالات القلق أو الشكّ أمام قضايا التشريع العملية في حياته وحياة الآخرين ليحقِّق له الاستقرار الروحي، والطمأنينة الشرعية ويأمَن من الاهتزاز النفسي الذي يخلِّف في داخله الكثير من العقد النفسية المتأصّلة.
4 ـــ في إطار أصل الصحّة
قد نشعر بالحاجة إلى التوقُّف أمام الأدلّة الفقهية لنأخذ منها الإطار الذي يتحرَّك فيه هذا الأصل لنرى هل يختصّ بالعلاقات العامّة بين المسلمين، أو يشمل غيرهم.
الظاهر من الفقهاء أنّ الأصل يختصّ بالمسلمين، ولذا ذكروا في عنوان المسألة "أصل الصحّة في فعل المسلم" وقد يؤدّي ذلك استدلالهم له بالأحاديث التي ذكر فيها كلمة الأخ باعتبار أنَّ غير المسلم ليس بأخ، لاختصاص الأخوة بالمسلمين، وذلك كما في الحديث المروي عن الإمام عليّ (عليه السلام): "ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ مَا لَمْ يَأْتِكَ مَا يَغْلِبُكَ، وَلا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ شَرًّا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهُ فِي الْخَيْرِ مَحْمَلاً". وما ورد مستفيضاً: "أنّ المؤمن إذا اتّهم أخاه إنماث الإيمان في قلبه كانمياث الملح في الماء وأنَّ من اتّهم أخاه فلا حرمة بينهما وأنَّ من اتّهم أخاه فهو ملعون ملعون"(1).
ولكن ذلك لا يوجب الاختصاص، فيما نرى، لأنَّ القضية ليست قضية تكريميّة تعبُّديّة لتنحصر في دائرة ألفاظ الحديث، بل هي "قضية عقلائيّة" تستند إلى واقع الحياة من جهة، وطبيعة العدالة من جهةٍ أخرى، كما ألمحنا إليه آنفاً، ولذلك فلا يمكن لها أن تعيش في نطاق ضيِّق لأنَّ العدالة في الإسلام تتّسع لكلّ الناس. القريب والبعيد، المؤمن والكافر، فلا يجوز للإنسان المؤمن أن يعتدي على حقوق الآخرين المشروعة حتّى لو كانوا كافرين، وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة:
{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى...} [المائدة : 8]
أمّا واقع الحياة الذي يحمل في كلّ عمل جوانب خفيّة تفسِّر الكثير من جوانب الغموض فيه، فمن الطبيعي أن يعيش في الأجواء العامّة للناس... ولعلَّ بناء العقلاء الذي يستند إليه الأصوليون في تشريع هذا الأصل، في المعاملات المالية والشخصية، لا يضيق عن هذا الجانب من الأصل الذي يمتنع الإنسان فيه من الحكم على الآخرين ما دام هناك جانب معقول يصلح أساساً للتفكير والمناقشة والتبرير، وقد نلاحظ في سلوكهم أنّهم يبادرون إلى لوم الإنسان الذي يحكم على الآخرين بالسوء ما دام هناك وجهٌ حَسَن يمكن أن يحملهم عليه. وعلى ضوء هذا فنحن نجد في هذا الأصل قاعدة عامّة تحكم السلوك في كلّ أعمالهم من دون فرق بين المسلم وغير المسلم انطلاقاً من المبادئ العامّة التي ترتكز عليها ممّا يدخل في البناء الداخلي للشخصية الإسلامية لدى الإنسان المسلم.
5 ـــ في خطى هذا الأصل
إنَّ ما نريده من هذا الحديث هو إعطاء صورة حقيقيّة عن أصل الصحّة في فعل الإنسان وقوله لئلا تضيع خطوطها التفصيليّة في غمار التيه، فنحن نواجه أمامنا هذه القاعدة من موقع النظرة الواقعية للإنسان المسلم في حكمه على الآخرين وتعامله معهم، وعلاقاته بهم، وفي غير ذلك ممّا يجعل القضية جانباً كبيراً من الخطورة، لاسيّما عندما تتّصل بحياة الكثيرين من الناس الذين يتَّقنون فنّ التمثيل، فيستطيعون إخفاء جرائمهم وانحرافاتهم في أساليب ضبابيّة كثيفة لا تستطيع أن تبصر من خلالها أيّ شيء... فما هو المطلوب منّا في هذا الأصل العملي؟
هل يُطلب منّا أن نلغي من أفكارنا كلّ تصوُّر واقعي لحالات الانحراف، لنستقبل الفكرة التي تمنحهم كلّ الثقة ما دامت الاحتمالات المضادّة غير واردة في هذا المجال؟
ربّما يتصوَّر البعض أنّ القاعدة تطرح نفسها كأساس من أُسس تأكيد الثقة بالإنسان ورفض كلّ الأفكار التي توحي بعدم الثقة لتكون النتيجة، من خلال ذلك، أنَّ كلّ إنسان مؤمن طيّب وصالح وخيِّر، لا يرتكب القبيح ولا يفعل إلاَّ الحَسَن... إنَّه الحكم الذي ينبغي لك أن تسير عليه في حياتك، فلا تتوقَّف ولا تتردَّد في إنشاء ما تريد من علاقات، أو القيام بما يفرضه عليك العمل من معاملات، إزاء بعض الشكوك التي تطوف في فكرك أو الكلمات التي تسمعها من الآخرين... فاغمض عينيك عن كلّ ما هناك، واغلق سمعك من كلّ ما يُقال واحبس فكرك عن كلّ ما يظنّ كما ورد في بعض الأحاديث، كذِّب سمعك وبصرك عن أخيك، وإن شهد عندك خمسون قسامه أنّه قال، وقال لم أقل فصدِّقه وكذِّبهم... وقد يؤكّد هذه الفكرة الدليل الذي أقامه البعض على أنّها حجّة مثبتة للواقع، وليست أصلاً عملياً في مقام الشكّ، وهو أنَّ هذه القاعدة تستند إلى ظاهر فعل المسلم، لأنَّ من طبيعة صفة الإسلام لديه أن يخضع كلّ أفعاله وأقواله للخطّ الإسلامي فلا ينحرف عنه إلى غيره، إلاَّ في الحالات الطارئة الضاغطة.
ولكن...
أليست هذه هي السذاجة بعينها؟
أليس في هذا دعوة إلى رفض الحذر أمام حالات الشكّ؟
إذن، كيف يحمي الإنسان نفسه من النوايا الخبيثة الشرّيرة التي يتَّقن أصحابها طريقة إخفائِها عن الآخرين ما دامت قاعدة الصحّة تحمي هؤلاء من نتائج حالات الشكّ والتردُّد والقلق.
ولكنَّنا نرى، في هذه القاعدة، وجهاً من وجوه العدالة التي تحكم نظرتنا للإنسان، في نطاق يبتعد بها عن السذاجة الغارقة في الضباب.. فهي تريد حماية الآخرين من خطر الأحكام السريعة التي لا تعتمد على أساس ثابت، ولكنّها في الوقت نفسه لا تريد للإنسان أن يخضع لخطر الوقوع في حبائل الأشخاص الذين يخفون ما يفكِّرون به، ويمارسون أساليب التمثيل على أكثر من وجه.
أمّا كيف نفهم ذلك من هذا الأصل فهذا ما نريد التحدّث عنه في عدّة نقاط:
1 ـــ في حياة كلِّ واحدٍ منّا وجهان للحقيقة مظلم ومضيء... فنحن نمارس الأعمال الخيّرة من خلال دوافع الخير، كما نمارس الأعمال الشرّيرة من خلال دوافع الشرّ، وقد يعجبنا الحسن في بعض المجالات، وقد يغرينا القبيح في مجالاتٍ أخرى.. وقد تبدو أعمالنا للآخرين في خلفيّاتها الخيّرة أو الشرّيرة، وقد تختفي عنهم فلا تفصح عن أيّ معنى، ممّا يدفع إلى الحيرة في الوجه الحقيقي للعمل.
2 ـــ ولكن... قد يسبق إلى الظنّ ـــ بادئ ذي بدء القبح بدلاً من الحَسَن، والشرّ بدلاً من الخير، فنحن ميّالون، في داخل ذواتنا، إلى أن ننظر إلى الآخرين نظرة سوداء، فتغلب الجوانب التي تدينهم على الجوانب التي تبرّؤهم، حبّاً منّا باحتكار صفة الخير والحسن والطيبة لأنفسنا ممّا يبعث في أعماقنا الشعور بالزهو والغرور عندما نكون في المستوى الذي ننظر فيه إلى الآخرين من أعلى كما ينظر الكبار إلى الصغار.
وقد نحاول تبرير ذلك بالآية الكريمة التي توحي بأنَّ الأصل في أفعال النّفس هو السُّوء، وهي قوله تعالى في سورة يوسف على لسان امرأة العزيز:
{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} [يوسف : 53]
وقد نحاول الاستشهاد على ذلك بقول المتنبّي:
والظلمُ مِنْ شِيَمِ النُّفوسِ فإنْ تَجِدْ ذا عِفَّةٍ، فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ
وربّما تجعلنا هذه النظرة في موقف الحاكم الذي يصدر الحكم على المتّهم، في البداية، ثمّ يحاول أن يبحث عن حيثيات حكمه، ممّا يسبّب له المزيد من التعسُّف في الاجتهادات التي تدعوه إلى تأويل ما لا يقبل التأويل، واستظهار ما لا يتّفق معه الظهور في القول وفي العمل.
3 ـــ وكان الإسلام شريعة العدل التي أنزلها الله، كما أنزل بقيّة رسالاته، على أساس الحكم بالعدل، والقيام بالقسط على ما جاءت به الآيات الكريمة:
قال تعالى:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...} [الحديد : 25]
{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [صـ : 26]
فأراد أن يجعل للإنسان المواقف العلمية التي تنقذه من الوقوع تحت رحمة إغراءات الظلم الذاتية والخارجية، في الحالات التي يريد أن يُنَصّب فيها نفسه حاكماً على تصرُّفات الآخرين. وذلك من خلال التأكيد على المناعة الشعورية ضدّ الانحراف بالعوامل الطارئة التي تميل بالإنسان إلى ما لا يرضاه الله ولا ينسجم مع خطّ العدل.
4 ـــ وكانت قاعدة الصحّة في أفعال المسلمين وأقوالهم، إحدى الوسائل العملية التي انطلق الإسلام منها في عملية البناء الداخلي الذي يحقِّق المناعة الشعورية ضدّ الانحراف ليمارس الإنسان المسلم من خلالها عملية التقاط الأنفاس في تجربة للموقف الهادئ الذي يبعث الإنسان على التفكير في الموضوع من جميع جوانبه، لا من جانبٍ واحد، ليواجه الموقف بنظرة موضوعية بعيدة عن الانفعال.
5 ـــ ولعلَّ من أُوْليات هذا الاتّجاه ـــ الذي يريد الإسلام من خلاله أن يقود الإنسان إلى موقف العدل ـــ أن لا يجعل الحكم خاضعاً لانفعالٍ جديد يطلب البراءة على أساس الظنّ في بعض الحالات، أو الوهم في بعضٍ آخر. ولهذا، فإنَّنا لا نستطيع اعتبار هذا الأصل حكماً بالحسن، أو بالخير على أساس ما يمثّلان من مدلولٍ ذاتي، وآثار عملية لأنّه يفتقر إلى الحيثيّات القطعيّة المبرّرة لذلك تماماً، كما كان الحكم بالقبح أو الشرّ اللّذين رفضناهما أمام الاحتمال، مفتقراً إلى ذلك.
بل إنَّ القضية ربّما تأخذ طابع ترجيح المرجوح على الراجح فيما إذا كانت ظواهر العمل تلتقي مع فكرة اعتباره قبيحاً، ممّا يجعل الاحتمال، في هذا الجانب، أقوى من الاحتمال في الجانب الآخر، أعني جانب الحَسَن، وقد تأخذ طابع الترجيح بلا مرجّح فيما إذا كان الجانبان متساويين في حساب الاحتمال، فكيف يمكن للشريعة أنْ تتّخذ هذا الموقف، هل هذا إلاَّ القرار من قبح الحكم على الإنسان ممّا لم يثبت، للوقوع في قبح ترجيح المرجوح على الراجح أو الترجيح من غير مرجّح.
6 ـــ إنَّ القضية في رأينا تتّجه اتّجاهاً آخر يحاول أن يقود الإنسان إلى التفكير في الجانب المضيء من الموضوع عندما يتّجه تفكيره إلى الجانب المظلم، فهو يريد أن يقول للإنسان إنَّ هناك منطلقات خفيّة للخير في أيّ عملٍ يقوم به الشخص، فعليك أن تبحث عنها، قبل أن تصدر حكمك اعتماداً على ظواهر الأمور، لأنَّ عمل الحاكم، في أيّة قضية، أن يلاحظ الاحتمالات الواردة في الموضوع، حتّى البعيدة منها، فقد تكون الحقيقة كامنة في واحدةٍ منها ممّا يجعل من عملية إهمالها، عملية إهمال للحقيقة بالذّات.
وقد يتعاظم الموقف في الحالات التي تنسجم فيها احتمالات الخير مع ما يؤمن به الإنسان من قِيَم دينية أو مبادئ أخلاقية، فإنَّ ذلك قد يقرِّب الفكرة الطيّبة بطريقةٍ أفضل لأنَّ الطبيعة الخيِّرة للإنسان المؤمن لا بدّ أن تفرض نفسها على سلوكه وموقفه في الأوضاع الطبيعيّة ممّا يجعل من الانحراف استثناءً خارجاً عن القاعدة، ولهذا انطلق الفقهاء ليحصروا هذه المسألة في فعل المسلم على أساس الانسجام بين الإيمان بالإسلام وبين صحّة العمل، بينما لا نجد ذلك في فعل غيره.
وعلى ضوء ما قدَّمناه فإنَّ القاعدة تتحرّك لإثارة الاحتمال في جانب الخير ليملك على الإنسان موقفه قبل أن يحكم، ولكنّها لا تتحرَّك لإعطاء الحكم الإيجابي، كما ذكرنا.
7 ـــ وبهذا نستطيع أن نقرِّر أنّها تحاول التعرُّض للجانب السلبي للقضية، تاركة الجانب الإيجابي للحيثيّات التي تحقّق لصاحبها قناعة الرأي، وسلامة الموقف، فهي لا تقول للإنسان إنَّ عليك أن تحكم بالخير بل تطلب منه أن لا يحكم بالشرّ مع وجود احتمال الخير، أو أن يفكِّر في حيثيّات الاحتمال إذا لم يكن موجوداً ليثيره في نفسه من جديد.
وهذا هو ما قرَّره الفقهاء في فتاواهم الشرعية في المسألة فهم يقولون إنّه لا يجب على الإنسان القيام بالنتائج الشرعية للجانب الخيِّر في الموضوع بل يقتصرون على التأكيد على عدم إثارة النتائج في الجانب الشرّير، ويمثّلون لذلك بالحالة التي يمرّ عليك فيها أحد إخوانك أو معارفك، فيتكلَّم بكلام لا تدري نوعه، هل هو شتيمة يمتهن بها كرامتك، أو هو تحيّة يحترم فيها مقامك، فإنَّ القاعدة لا تقول لك لا تحكم عليه بأنّه شتمك، ولا تواجهه بالنتائج السيّئة للشتيمة ولكنّها في الوقت ذاته، لا تلزمك بالنتائج الشرعية للتحيّة التي يفترض أنّها الجانب المضيء في المسألة فلا يجب عليك أن تردّ السلام عليه في هذه الحالة، كما يجب ذلك في أيّة تحيّة أخرى لأنَّ القضية تقف عند حدود عدم الحكم بالجانب السلبي فلا تتعدَّاه إلى الجانب الإيجابي.
8 ـــ ولعلَّ الحديث المأثور عن عليّ (عليه السلام) في هذا المجال يؤكّد لنا هذه الفكرة التي تفسِّر بها قاعدة الصحّة.
"ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ مَا لَمْ يَأْتِكَ مَا يَغْلِبُكَ ، وَلا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ شَرًّا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهُ فِي الْخَيْرِ مَحْمَلا". فقد نلاحظ في الفقرة الثانية أنّها تتّجه نحو الابتعاد عن الحكم بالجانب السيّئ ما دام هناك مجال للاحتمال المضادّ، ولو بنسبة واحدة بالمائة، وبهذا تكون مفسرة للحمل على الأحسن الذي تفيده الفقرة الأولى.
9 ـــ وقد تنطلق بعض الأحاديث في معالجة الموضوع في مجالٍ آخر، وهو الحالة التي تتكوَّن لدى الإنسان فيها القناعة بالثقة بالآخرين، من خلال الأُسس العلمية التي توحي بذلك في سلوكهم في الحياة... ثمَّ تحدث بعض الظواهر الطارئة التي تثير في النّفس مشاعر مضادّة وتخلق لديها الظنّ بالسُّوء في هؤلاء، وذلك هو حديث الإمام عليّ (عليه السلام) في احدى كلماته القصار في نهج البلاغة:
"لَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ الْقَضَاءُ عَلَى الثِّقَةِ بِالظَّنِّ".
فإنَّ هذه القاعدة تدعو إلى إبقاء الثقة في موقعها، وعدم المبادرة بالحكم المضادّ لمجرَّد بعض الظواهر التي توحي بالظنّ السيّئ من دون استناد إلى برهان صحيح. ونلاحظ ـــ في الحديث ـــ أنَّ التأكيد على اعتبار القضية تعيش في إطار العدل والظلم، يجعلها تتّجه إلى موضوع الحكم على الشخص بإعطائه الثقة، أو حرمانه منها، لا على أساس نفسي، بل على أساس التعامل معه في كلّ ما يشترط فيه الثقة، فليس لكَ أن تسلبه ثقتك به ما دامت مقوِّمات الثقة موجودة، لأنَّ من العدالة أن يصدر الحاكم في حكمه من المنطلقات الأساسية للحكم التي لا يجوز لنا الخروج عليها إلاَّ بمنطلقات أخرى مماثلة لها أو أقوى منها ممّا يفسح المجال لحكمٍ جديد، أمّا الشبهات، أو الظنّون الطارئة فلا تصلح أساساً لنقص الحكم الثابت، كما لا يصلح لإثبات حكم جديد.
10 ـــ ولا تقف القضية عند هذا الحدّ، بل تتعدَّاه إلى الجانب الذي تتأكّد فيه من صدور الفعل السيّئ في ظاهره، ولكنّك لن تصدر حكمك على فاعله بالانحراف، أو المعصية، لأنَّ هناك بعض المبرّرات التي قد تعطي الفعل صورة أخرى تضعه في حالة الرّخصة بدلاً عن حالة المنع، فلا بدّ من مراعاتها عند الحكم عليه. وربّما يصدر من إنسان قول يخالِف الواقع ويبتعد عن الحقّ، فتحدّثك نفسك أن تتّهمه بالكذب أو بالباطل لتعطيه صفة الكاذب الذي يتعمَّد الكذب أو المبطل الذي يدعو إلى الباطل وهو يعرف الحقّ ولكنَّ الإسلام يقول لك: إنَّ هناك وجهاً آخر للمسألة وهو أن يكون هذا الإنسان معتقداً لصدق ما يخبر عنه أو لصحّة ما يدعو إليه لأنَّ هناك مرحلة بين الكاذب وبين المخطئ، وبين المبطل والمشتبه... وقد حدَّد لنا الإمام عليّ (عليه السلام) لنا هذين النموذجين من الناس، وذلك فيما ورد عنه في نهج البلاغة: "لَا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ".
وعلى ضوء هذا تنطلق قاعدة الصحّة أمام الإنسان الذي يحكم على الآخرين من خلال ظواهر أفعالهم وأقوالهم لتثير لديه احتمال وجود العذر فيما يفعل، فتترك له مجال الدفاع عن نفسه على هذا الأساس، فلعلَّ له المبرِّرات في اعتقاده الخطأ صواباً أو الباطل حقّاً، دون أنْ يتعمَّد إلى هذا أو ذاك من قريب أو من بعيد.
ويمثل الفقهاء لذلك بالإنسان الذي تراه مفطراً في شهر رمضان (والإفطار معصية في نفسه، ولكنّها لغير المرضى والمسافرين من أُولي الأعذار) فعليك أن تمنح لنفسك فرصة من التأنّي والهدوء لتفحص عن طبيعة هذا الإفطار، وقد روى المجلس في كتابه بحار الأنوار عن الإمام عليّ (عليه السلام)، (في قضاياه المعروفة) أنّه ورد عليه قوم يأكلون في نهار رمضان فسألهم عن السفر والمرض ونحو ذلك من الأعذار، فلمّا أقرُّوا بانتفاء الكلّ حدّهم.
11 ـــ وربّما كان من الضروري لنا أن نعلم طبيعة تشريع هذا الأصل، فإنّه لم ينطلق من فكرة مثالية تريد أن تفرغ نفس الإنسان من ظنون السُّوء بما تغرسه في داخله من الإيمان بسلامة منطلقات الآخرين وسموّ أنفسهم وارتفاعهم عن مستوى الشبهة والتّهمة. ولم تنطلق هذه القاعدة من هذا كلّه، لأنَّ الإسلام لا يتعامل في تشريعه مع الخيال، أو المثال البعيد عن الواقع بل يبقى منطلقاً من قاعدة الواقع في حركته مع الحياة. ولذا فإنَّه يعلم أنَّ ظنون السّوء لا يمكن أن تغيب عن فكر الإنسان إذا واجهت أعمال الآخرين وتصرُّفاتهم، لأنَّ الآخرين، في واقعهم العملي، لا يرتفعون إلى المستوى الرفيع من الطهارة والبراءة والسُّمو والعظمة... وقد أكَّد هذا المعنى الحديث الشريف المأثور عن النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "ثَلَاثَةٌ لَا يَنْجُو مِنْهُنَّ أَحَدٌ: الظَّنُّ وَالْحَسَدُ وَالطِّيَرَةُ... إِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقْ وَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ".
لقد أراد الإسلام أن يركّز هذه القاعدة على أساس الواقع، فإنَّنا نعلم أنَّ كثيراً منّا قد يصدر في كثيرٍ من أعماله عن نيّة طيّبة لا تظهر آثارها على طبيعة العمل، وقد يتكلَّم كلاماً لا يطابق الواقع ولكنّه يعتقد مطابقته أو يدعو إلى فكرة باطلة وهو يعتقد أنّها حقّ، كنتيجة طبيعيّة لبعض القناعات الخاطئة، إنَّنا نعلم أنَّ كثيراً منها قد يصدر منّا دون أن ينتبه الآخرون إلى منطلقات أعمالنا وأقوالنا فيصدرون علينا الحكم ونتألَّم منه ونبرِّر أَلَمَنا من ذلك كلّه، بأنَّ على هؤلاء الذين حكموا بما حكموا به أن يتريَّثوا قبل إصدار الحكم لأنَّ للعمل أكثر من منطلق وللكلمة أكثر من وجه، وللدعوة أكثر من صورة... ونضيف إلى ذلك... أنَّ عليهم ألاَّ ينظروا إلى القضية من وجهٍ واحد، بل من جميع وجوهها لينطلق الحكم العادل من الدراسة الموضوعية الشاملة.
أَلَمْ يحدث معنا، في بعض الحالات، أنّنا نسير في الطريق إلى أعمالنا، ونحن خاضعون للتفكير الطويل العميق الذي يشغلنا عن رؤية أيّ شيء أمامنا فنشعر أنَّنا نسير ونتحرَّك بطريقةٍ آليّة.. حتّى إنَّنا نلتقي بالكثيرين من الناس من إخواننا أو معارفنا فلا نبصرهم، ونحن نحدّق بهم، ولا نمدّ إليهم أيدينا بالتحيّة، أو يحيُّوننا فلا نردّ إليهم التحيّة، فإذا وصفنا هؤلاء ـــ إزاء هذا التصرُّف ـــ بالتكبُّر وعدم اللّياقة ـــ اعتبرنا هذا الحكم ظالماً لا نستحقّه فنطالبهم بتعرّف أوضاعنا النفسية والفكرية التي شغلتنا عن ذلك كلّه.
إنَّ الإسلام يرى أنَّ هذه القضايا غير بعيدة عن واقع الإنسان وعن طبيعة الحياة الاجتماعية، ولهذا فإنّه يريد منّا أن نلاحق هذه القضايا عندما نفكِّر بالناس الذين حولنا، وبما يصدر عنهم من تصرُّفات وأقوال، لنمتنع عن التسرُّع في الحكم نتيجة فكرة سريعة طارئة، أو عقدة نفسية تبحث عن مبرِّرات الحكم بعد إصداره.
إنَّ العدل هو هاجس الإسلام في تشريعه بحياة الناس، ولذا فإنّه يريد من الناس الذين يمارسون إصدار الحكم سواء منهم الذين يعيشون في منبر الحكم الرسمي، أو في منبر الحكم الاجتماعي، أن يلاحقوا خطوات العدالة فيما يأخذون وفيما يدعون، وبهذا نعرف أنَّ المنع عن الظنّ السيّئ في كلّ ما ورد فيه المنع عن العمل من آيات وأحاديث، يتحرّك في اتجاه العمل الذي يدعو إليه الظنّ بشكلٍ أساسي، فلا يتصرَّف الإنسان على أساس الظنّ... كخطوة عملية لإلغاء الظنّ على مستوى الهدف البعيد في الحياة، لو أمكن للإنسان أن يبلغه، من خلال التفكير الهادئ والتحليل الواسع العميق.
12 ـــ ولكن ليس معنى ذلك كلّه، أن يستسلم الإنسان للأحاسيس الخيِّرة بعدم اتّهام الآخرين فيسلم قيادة لهؤلاء الذين نريد حملهم على المحمل الحَسَن، فيقع في قبضة الجانب السيّئ من طبيعتهم... ليس معنى ذلك كلّه، أن يترك الإنسان جانب الحذر على أساس الشعور بالطيبة لتكون العملية انطلاقاً في أجواء السذاجة الأخلاقية، لأنَّ القضية لا ترتكز على الإحساس بالطيبة أو إثارة مشاعر الخير في داخل النّفس، بل ترتكز ـــ كما ألمحنا إليه ـــ على قضية العدالة في الحكم والرأي والنظرة التي تفسح المجال لاحتمالات البراءة لدى المتّهم، عندما يُحاصِرُه عناصر الاتّهام، ولذا فإنَّ الأمر لا يعدو أن يكون توقُّفاً في الحكم، أو حكماً بالبراءة من الجانب السلبي أو إيماناً بالرصيد الطيّب في ذات الإنسان المسلم، تماماً، كما هي القاعدة التي تقول: (إنَّ المتَّهم بريء حتّى تثبت إدانته).. فإنّها تنطلق من زاوية إعطاء الفرصة التي تجعل الدفاع ينطلق في عملية البحث عن أدلّة البراءة، وتمنح الفرصة للحكم من أجل أن يفكِّر طويلاً قبل الأخذ بأدلّة الاتّهام.
وعلى ضوء هذا... فإنَّ على الإنسان أن يأخذ جانب الحذر عندما تعيش القضية في الظروف السيّئة التي تقضي بالحذر ليحفظ الإنسان نفسه من مفاجآت الواقع المختبئة وراء أقنعة الطيبة والبراءة والخير الظاهرية.
وقد وردت الأحاديث الشريفة التي تؤكّد على هذا الجانب في حديث الإمام عليّ (عليه السلام) في نهج البلاغة في كلماته القصار مثل قوله المأثور:
"لاَ تَثِقَنَّ بِأَخِيكَ كُلَّ اَلثِّقَةِ فَإِنَّ صَرْعَةَ اَلاِسْتِرْسَالِ لاَ تُسْتَقَالُ".
فإنَّنا نجد في هذه الكلمة النظرة الواقعية التي ترى في كلّ إنسان نقاط ضعف خفيّة موجودة في الجانب الخفيّ من حياته أو نقاط ضعف محتملة قد يُثيرها أو يصنعها ما يواجه الإنسان من عناصر الإثارة، ممّا يفرض على الإنسان أن يترك مجالاً للحذر، يختبئ خلفه، ويسمح له بالتراجع في الحالات التي تثور فيها العوامل الخفيّة ضدّه لتلتقي به في الهاوية، فإنَّ الاسترسال في مجال الثقة المطلقة يدع الإنسان تحت رحمة المفاجأة التي لن يكشفها إلاَّ بعد فوات الأوان، أمّا السير بحذر فإنّه يفسح المجال باكتشاف المفاجأة قبل الوقوع في الخطر. ولعلَّ ممّا يوضح لنا الصورة، أن نستحضر ـــ في وعينا ـــ صورة الإنسان الذي يلهث بالسير خلف إنسانٍ آخر بسرعة ودون توقُّف، من دون أن تكون هناك مساحة كافية تفصل بين خطواته وخطوات ذلك الإنسان، فإذا انطلق ذلك الإنسان في طريق الهاوية، فلا بدّ أن يجذب الآخر معه فيقع فيها بشكلٍ أكيد... أمّا إذا كانت هناك مساحة تفصل بين الخطوات فإنَّ بإمكانه أن يجنِّب نفسه عناء الوقوع في ذلك باكتشافها قبل الوصول إليه، أو يتجنَّب الصدمة القاسية فيما لو كان أمر وقوعه فيها شيئاً لا مفرَّ منه.
وقد يتأكَّد هذا التحفُّظ أمام الثقة بالآخرين في كلمةٍ أخرى من كلمات الإمام عليّ (عليه السلام) القصار في نهج البلاغة: "إِذَا اِسْتَوْلَى اَلصَّلاَحُ عَلَى اَلزَّمَانِ وَأَهْلِهِ ثُمَّ أَسَاءَ رَجُلٌ اَلظَّنَّ بِرَجُلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ حَوْبَةٌ فَقَدْ ظَلَمَ، وَإِذَا اِسْتَوْلَى اَلْفَسَادُ عَلَى اَلزَّمَانِ وَأَهْلِهِ فَأَحْسَنَ رَجُلٌ اَلظَّنَّ بِرَجُلٍ فَقَدْ غَرَّرَ ـــ أوقع نفسه في الخطر".
فقد اعتبر إساءة الظنّ، ظلماً في الجانب الذي يغلب فيه جانب الخير من خلال طبيعة الأجواء العامّة وذلك أنّها تمثّل الأسلوب العملي الذي يجسّد الظنّ السيّئ في السلوك، لأنَّ مجرَّد الظنّ الداخلي الذي لا يتجسَّد في السلوك العملي للإنسان لا يعتبر ظلماً من قريب أو بعيد انطلاقاً من عدم خضوع النيّة الداخلية الذاتيّة لحساب المسؤولية، لأنّها، في أغلب الحالات، غير خاضعة للإرادة الإنسانية. أمّا في الجانب الثاني الذي يغلب فيه جانب الشرّ تبعاً للأجواء العامّة الشرّيرة، فإنَّ حسن الظنّ الذي يبتعد به الإنسان عملياً عن جانب الحذر، يعتبر تغريراً للإنسان نفسه، لأنَّ طبيعة تلك الأجواء المحيطة بالبيئة التي عاش فيها هذا الرجل، تجعل الإنسان يشعر بضرورة الحذر وتغليب الجانب السيّئ من حيث الواقع العملي للتصرّف معه.
وقد نجد في بعض كلمات أئمّة أهل البيت ما يوضح لنا هذه الفكرة بطريقة جديدة تجمع بين حسن الظنّ بمعنى عدم الإسراع بالاتّهام أو بالحكم عليه بالسّوء، وقبول عذره أو زعمه البراءة، فيما إذا ادّعاها الإنسان وبين قبول قول الناس عنه، بمعنى اعتبار كلامهم أساساً للحذر منه، وتجنّب الوقوع في خطر الواقع السيّئ المفروض. فقد ورد في حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في خطابه لأحد أصحابه:
"يا أبا محمَّد كَذِّب سمعك وبصرك عن أخيك فإنْ شهد عندك خمسون قسامة أنَّه قال، وقال: لم أقل فصدّقه".
وقد علَّق الشيخ مرتضى الأنصاري في كتابه فرائد الأصول على هذا الحديث بقوله: "إنَّ تكذيب القسامة مع كونهم أيضاً مؤمنين لا يراد منه إلاَّ عدم ترتيب آثار الواقع على كلامهم لا ما يقابل تصديق الشهود عليه فإنَّه ترجيح بلا مرجّح بل ترجيح المرجوح"(1).
وخلاصة الفكرة أنّ عليك أن تقبل قوله بمعنى ألاَّ تحكم عليه بحسب كلامهم بل تترك هناك مجالاً لاحتمالات الصحّة، ما كان إلى ذلك سبيل، ولكن ليس معناها أن تحكم بكذبهم لمجرّد قوله.
وقد ورد في حديثٍ آخر للإمام جعفر الصادق في حديثه مع ولده اسماعيل، ما يلقي الضوء على الجانب الآخر للفكرة وهو لزم الحذر في مثل الحالة السابقة في الحديث المتقدّم، فقد كان لإسماعيل دنانير وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن فقال له أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): "يا بنيّ أما بلغك أنّه يشرب الخمر قال: سمعت الناس يقولون. فقال: يا بنيّ إنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول: يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين. يقول: يصدق الله ويصدق المؤمنين فإذا شهد عندك المسلمون فصدقهم(1). فإنَّ الإمام الصادق يريد من خلال كلامه، فيما يبدو، أن يثير جانب الحذر لدى ولده من خلال كلام المؤمنين بقرينة استشهاده بالآية التي تريد من تصديق المؤمنين ـــ حسب الظاهر ـــ عدم رفض كلامهم مع العمل على ما يقتضيه جانب الحذر. ويعلِّق الشيخ مرتضى الأنصاري على ذلك بأنَّ معنى تصديق المخبر في الآية هو إظهار القبول وعدم تكذيبه وطرح قوله رأساً مع العمل في نفسه بما يقتضيه الاحتياط التّام بالنسبة إلى المخبر عنه فإنْ كان المخبر به ممّا يتعلَّق بسوء حاله لا يؤذيه في الظاهر لكي يكون على حذر منه في الباطن كما هو مقتضى المصلحة في حكاية إسماعيل(2).
وهكذا نصل إلى نهاية المطاف، حيث استطعنا أن نرى في قاعدة الصحّة أساساً خلقيّاً يقترب بالإنسان من العدالة فلا يحكم بمجرَّد الظنّ بل يحاول إثارة احتمال الخير من أجل إفساح المجال للتبيّن وإعطاء الحكم العادل، ولكنّه في الوقت نفسه، يبتعد به عن السذاجة لأنّه لا يريد للإنسان أن يستسلم لاحتمالات الخير في عمله بل يوحى له بأنْ يراقب احتمالات الشرّ في احتياط شديد.
المعطيات العلمية لأصل الصحّة
قد نستطيع أن نتلمَّس من خلال بحثنا هذا، في أصالة الصحّة عدّة معطيات كبيرة تساهم في بناء شخصيّتنا الإسلامية على أُسس ثابتة، وتمنحنا القدرة على مواجهة الواقع بوعي واتّزان:
1 ـــ العقلية الموضوعيّة... إنَّ هذا الأصل يمنح الإنسان عقليّة موضوعية تدرس الواقع من خلال خصائصه الذاتية وظروفه العامّة والخاصّة، وتمتنع عن التأثُّر بالانفعالات الطارئة الملتهبة التي تعطي الواقع صورة المزاج في علاقته بالأشياء... وبذلك يستطيع الإنسان أن يفهم الواقع في سلبيّاته وإيجابيّاته بطريقةٍ سليمة، ليساهم في علاج مشاكله بوعيٍ كبير، لأنَّ الإنسان كلّما اقترب من فهم الواقع بموضوعية، كلّما اقترب من معالجة الواقع بواقعية، وكلَّما استطعنا أن نجرِّد أنفسنا من النظرة الانفعالية، كلّما استطعنا أن نخفِّف من مشاكلنا، أو نخفِّف من اندفاع هذه المشاكل في اتّجاه الهاوية.
2 ـــ إنَّ أصل الصحّة تربطنا بالجانب المضيء في الحياة ويدفعنا إلى اكتشاف الجوانب المضيئة في حياة الناس لنتمكَّن من التعامل مع هذه الجوانب عندما تدفعنا الحاجة إلى ذلك باعتبارها طاقات حيّة يمكننا أن نستثمرها في بناء المستقبل... ولعلَّ هذا الجانب يحقِّق لنا نقطتين:
النقطة الأولى: الإحساس العميق بالثقة فيما حولنا من الناس باعتبار الجانب المضيء شيئاً طبيعياً في حركة الواقع، وليس شيئاً استثنائياً خارجاً عن القاعدة ممّا يجعلنا نبادر إلى إثارته أمامنا في كلّ ظاهرة عملية من حياة الناس.
النقطة الثانية: القدرة على اكتشاف الجوانب المضيئة لدى أعدائنا الذين نختلف معهم في كثير من قضايا الحياة كالدّين والسياسة والاجتماع والاقتصاد وغيرها، وبذلك نستطيع اكتشاف المواقع الطيّبة الموجودة لديهم، وننطلق إليهم من خلالها لنبحث عن إمكانيات اللّقاء التي تقرّبهم من مفاهيمنا وقضايانا، أو ندخل في عملية مقارنة بين الجوانب الطيّبة والجوانب الشرّيرة، لندرس نسبة القوّة في هذه أو تلك لنقوّي هذه أو نضعف تلك، أمّا إذا انطلقنا من موقع النظرة السوداء التي لا ترى في الأعداء إلاَّ الجانب المظلم، فإنَّنا سنبتعد عن فهمنا الحقيقي لهم، وسنتحوّل إلى أُناس سلبيّين أمام الواقع، ولا يبقى أمامنا إلاَّ الاندفاع الأعمى الذي لا يبصر طريقه جيّداً، وإلاَّ المزيد من بعثرة الطاقات، أو تجميدها وخنقها، من دون الاستفادة منها في عملية صنع الحياة وبنائِها... وربّما كانت هذه النقطة من أروع النقاط البارزة في حياة الأُمم عندما تتحرّك في مواقع القوّة من منطلق الفهم الواعي للواقع في حياة الأعداء والأصدقاء، إذ لا قوّة بدون وعي شامل لمواطن التحرّك في كلّ الاتجاهات.
3 ـــ إنَّ أصل الصحّة يدرِّب الإنسان على أن يمارس الحكم العادل في القضايا الصغيرة والكبيرة من خلال شخصية الحاكم العادل الذي يشعر بمسؤولية الحكم في الموقع الاجتماعي العادي، وبنفس القوّة التي يشعر فيها بالمسؤولية في الموقع القضائي الرسمي، وبذلك تحوّل الحياة الاجتماعية في سلوك المواطنين إلى مسؤولية متحرِّكة، تنطلق إلى أهدافها العملية بهدوء العدالة ووعي الواقع، الأمر الذي يرفع من المستوى الاجتماعي الحضاري للأُمّة من خلال عدالة النظرة والفكرة والممارسة في العلاقات العامّة.
4 ـــ التخلُّص من فوضى التقييم للأوضاع والأشياء عندما يرتبط بالأُسس القويّة الثابتة في مجال الاتّهامات والأحكام، بينما يتحوّل الواقع إلى فوضى مدمّرة، إذا ارتبط الواقع العلمي للحكم الاجتماعي بالمزاج الذاتي والعاطفة المتغيِّرة الملتهبة.
5 ـــ الحصول على الشخصية الطيّبة الواعية التي لا تدفعها الطيبة إلى السذاجة، بل تقودها إلى العدالة، ويدفعها الوعي إلى الحذر والسعي الهادئ الدائب إلى مواجهة الحياة من منطق الواقع ولا يجرّها إلى الظلم في الحكم والاتّهام. وتلك هي الشخصية الإسلامية القويّة التي لا تتحوَّل قوّتها إلى طغيان، ولا تمنعها من العدالة... لأنّها تنطلق من الرحمة النابضة بالوعي والإيمان والشدّة المرتبطة بالحقّ والعدالة.
خاتمة المطاف
هذه هي بعض اللّمحات التي أردت أن أُوجِّهها إلى هذا الأصل الرّحب الشامل الذي يتّسع لكلّ الجوانب العامّة في حياتنا في أيّ موقع من مواقع السلوك الاجتماعي ونرجو أن تكون خطوة أُولى في سبيل التحليل الإسلامي الواعي لهذه القواعد العملية والأصول العامّة... كما نأمل أن تكون نقطة انطلاق للسير في طريق الإسلام الطويل نحو الأهداف الكبرى في الحياة التي تنتظر الإسلام فكراً وشعوراً وعقيدة للحياة، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وهو حسبنا ونِعْمَ الوكيل.
لِكُلِّ سؤالٍ جواب
• ما هو موقف الإنسان المسلم عند تعرُّضه للاستهزاء؟
• هل يجوز للإنسان المسلم الدخول في المجتمعات الفاسدة من أجل الإسلام؟
• إذا شكَّ الإنسان في عبادته وإيمانه فهل يحكم بالصحّة؟
• ما الفرق بين الذي يصلّي ويكذب وبين مَن لا يصلّي ولا يكذب؟
• ما هي طبيعة التكوين السياسي للمجتمع الإسلامي؟
• ما هي القاعدة الأساسيّة للتعايش السلمي بين المجتمع المؤمن وغيره؟
• ما هي طبيعة العلاقات القائمة بين المجتمع الإسلامي والمجتمعات الأخرى؟
• هل المجتمع الإسلامي مجتمع محارب، وهل انتشَرَ الإسلام بالسيف؟
• هل الوفاء بالعهود في الإسلام، قضية أخلاقية أو قانون شرعي؟
مناقشات وأسئلة
هذه بعض المناقشات التي دارت بعد الفراغ من المحاضرة في نطاق الموضوع وفي خارجه.
س ـــ ما هو موقف الإنسان عند تعرّضه للاستهزاء من قِبَل الكافر، أو الجاهل؟
ج ـــ لا بدّ له أن يدرس الموقف من خلال طبيعة الجوّ الاجتماعي الذي يحيط بالمتكلِّم والكلام فربّما يطلق هذا الإنسان الساخر، سخريته، في مجتمع لا يملك موقفاً مضادّاً للمفاهيم الإسلامية، ولا يملك معرفة كاملة للإسلام، ممّا يجعله في الموقع العملي الذي يمكن للدعوة الإسلامية أنْ تتحرَّك في اتّجاه الوصول إلى فكره ووجدانه... وفي هذه الحال قد يفرض الموقف أن نستثمر هذا الموقف الساخر، لتحويله إلى مجال لإثارة القضايا الإسلامية بعيداً عن ردود الفعل الذاتية، وذلك باستعمال الأساليب الحكيمة المرنة في عرض الفكرة بهدوء واتّزان، وتغيير الجوّ الساخر إلى جوّ حادّ عاقل يسمح للمجتمع بالتفكير والمناقشة من أجل أن نقلب الموقف ضدّه من جهة، ونغيِّر تفكير أفراد المجتمع، أو نفتح لهم المجال للبدء في عملية التفكير من جهةٍ أخرى... ومن الطبيعي أن ينطلق ذلك كلّه من موقع المرونة واللّباقة والإيمان.
وربّما تنطلق السخرية، في جوّ لا يوحي بأنّه فرصة للمناقشة والتفكير، بل يتحرّك في مهاجمة الفكرة والشخص بالأساليب التي تحطّم المقاومة وتضعف الموقف، وتحوّل القضية إلى مجال للضحك والتندُّر.. وفي هذه الحال، لا بدّ من مقابلة السخرية بالسخرية، والتندُّر بالتندُّر، وملاحقة كلّ نقاط الضعف الموجودة لدى الإنسان الساخر، وإثارتها بأسلوب يوحي بالضحك ويستثير الهزء عليه لأنّه لا يمكن مقابلته بالفكرة الجادّة في موقف يعتبر الجدّ نفسه منطلقاً للسخرية، فإنَّ أيّة فكرة، مهما عظمت، لا يمكن أن تثبت أمام أجواء الاستهزاء، فلا يبقى إلاَّ أن ينتصر المؤمن لها بالوسائل العملية التي تهزم المعتدين، وتحطّم عدوانهم، تماماً كما صنعه نوح فيما حكاه الله عنه... {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود : 38]
وقد يكون الإنسان الساخر خاضعاً لفكرة مضلّلة توحي له بذلك، وتدفعه إلى استعمال هذه الأساليب من موقع خاطئ لا يملك سبيلاً لاكتشافه... وفي هذه الحال لا بدّ لنا من ملاحظة الموقف من ناحية الحاجة إلى هداية هذا الإنسان وإنقاذه من ضلاله، فنحاول البحث عن أفضل السبل التي تخرجه من هذا الجوّ إلى الجوّ الذي يستثير في وعيه المعاني الطيّبة والنوازع الخيّرة التي تفتح عينيه على طريق الحقّ، وتخرجه من الظلمات إلى النور... وقد تمسّ الحاجة في هذا الجوّ إلى بعض من الأساليب الضاحكة التي لا تثير ولا تعقد، وبعض من الأساليب الجادّة التي تمنع تحوّل الموقف إلى الانحلال والميعان.
س ـــ هل يجوز للإنسان أن يدخل إلى المجتمعات الفاسدة من أجل مصلحة العمل الإسلامي؟
ج ـــ لا يجوز الدخول فيها إلاَّ على أساس خطّة عمل متحرِّكة شاملة جماعية، تضع كلّ إنسان في موقعه الطبيعي من الخطّة، وتحميه من عوامل الانحراف الطارئة بما تحيطه به أساليب الرقابة، وبما تثيره حوله من وسائل الدعم والقوّة، لأنَّ الإنسان الذي يدخل في هذه المجتمعات انطلاقاً من موقع الشعور الذاتي الانفعالي، قد يُستهلك من قبلها من دون أن يحقِّق النتائج المطلوبة لأنَّ الأعمال الفردية التي لا تخضع للخطّة العامّة لا تحقِّق إلاَّ بعض النفع القليل الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.. هذا في الحالات الطبيعيّة... أمّا في الحالات النادرة التي يشعر فيها الفرد بالثقة الكبيرة بنفسه، وبأنَّ بإمكانه أن يحوِّل المجتمع الفاسد إلى مجتمع خيِّر، من خلال انسجامه مع ذلك المجتمع، فيمكن للإنسان أن يخوض التجربة.. ولكنَّنا نعتقد أنّ الجهد الكبير الذي يصرفه هذا الإنسان في طريق التجربة، ينبغي أن يصرف في بناء مجتمع الإيمان ليكون قوياً وذلك بالتعاون مع العاملين من إخوانه في سبيل بناء القاعدة الصلبة التي تنطلق منها طلائع المستقبل المؤمن، التي تنطلق إلى أهدافها في تغيير المجتمعات الفاسدة إلى مجتمعات خيِّرة، من مركز قوّة لا من مركز ضعف.
هذا كلّه في الحالات التي لا يفرض الدخول في هذه المجتمعات الوقوع في الانحراف عن طريق الله، والممارسة لبعض المحرَّمات انسجاماً مع الجوّ العام الذي يحكمها، كمحاولة للحصول على ثقتها واحترامها، أمّا إذا استلزم ذلك تركاً لواجب أو ارتكاباً لحرام فإنَّ الدخول فيها محرَّم لأنَّه لا يطاع الله من حيث يعصى، إلاَّ في الحالات الشرعية الحاسمة التي ترفع حرمة الحرام، أو وجوب الواجب، كما في موارد التزاحم بين الواجبات والمحرَّمات، أو بين الواجبات أنفسها، والمحرَّمات أنفسها ممّا يجعل الحكم على المورد الذي يرقى إلى المستوى الكبير من الأهمية عند الله... ولكن تحديد الأهم من حيث المصلحة الواقعية أو المفسدة الواقعية للأشياء تحتاج إلى مزيد من الإحاطة بمعرفة الأحكام وإلى الدقّة في ملاحظة الواقع ودراسته، وهذا ما لا يتحقَّق إلاَّ للقلائل من الناس.
س ـــ إذا شكَّ الإنسان في عبادته لربّه وإيمانه به، فهل يمكن له أن يأخذ بالجانب المضيء ويجزم بالصحّة؟
ج ـــ ربّما كانت المحاضرة جواباً كافياً على هذا السؤال، ولكنَّنا نحاول أن نلقي الضوء على بعض الجوانب التفصيليّة للموضوع... فإذا كان السؤال يتّجه إلى التأكيد على الشكّ الطارئ المتعلِّق بعبادات الإنسان السابقة، لأنّه لا يدري هل وقعت على نحوٍ صحيح أو فاسد فيمكن الحكم بالصحّة انطلاقاً من قاعدة الفراغ التي أشرنا إليها في بداية المحاضرة، وإذا كان السؤال متعلِّقاً بالعبادات التي يريد أن يمارسها حاضراً ومستقبلاً لأنّه لا يعرف وجه الصحّة والفساد من ناحية الحكم الشرعي فيجب عليه تعلُّم أحكامه الشرعية المتعلِّقة بصلاته، لأنَّ أصل الصحّة لا يصحّح العبادة المنطلقة من موقع الجهل بالحكم الشرعي.
أمّا الإنسان الذي يتحوَّل الشكّ في حياته إلى عقدة متأصّلة متأزّمة بحيث أصبح يشكّ في كلّ شيء حوله ابتداء من حياته الفردية في عباداته ومعاملاته وصحّته وطبيعة إيمانه أو حياته الاجتماعية في حياته العائلية أو الإخوانيّة أو علاقاته العامّة للآخرين... فقد عالجه الإسلام معالجة حاسمة من ناحية عملية فطلب منه أن لا يعتني بالشكّ في أيّة جهة من جهات العمل الفردية والاجتماعية العبادية منها وغير العبادية... وهذا ما تحدَّث عنه الفقهاء في مصطلح (كثير الشكّ) و"الوسواسي".
ولعلَّ هذه المعالجة الإسلامية لهذا الموضوع تدخل في صميم المعالجات الواقعية التي تؤمن بأنَّ إلغاء الحالة المرضية الخاضعة لعقدة داخلية، يساهم إلى حدٍّ ما في تجميدها ثمّ في زوالها نهائياً لأنَّ العقدة تتأكَّد بالممارسة المنطلقة من الشعور العميق بالمسؤولية فإذا ألغى التشريع المسؤولية فلا يبقى هناك أيّ أساس شرعي في وهم الشّاك لتعاظم هذا الشعور أو زيادة هذه الحالة.
وقد نحتاج، إلى جانب هذه المعالجة العملية، أن نواجه حالات الشكّ بطريقة تحليليّة واعية ترصد خطوات الحالة في داخل النفس لتبحث كلّ خطوة من أين بدأت وإلى أين تتّجه، وتحلِّل كلّ جانب من جوانب الشكّ، فإذا شكّ الإنسان في إيمانه، كان عليه أن يواجه مسألة الإيمان في أصوله، وفروعه، ثمّ ينطلق إلى داخل نفسه ليبحث كيف تتجسَّد الصورة فيها... ليحلّ المشكلة على أساس دراسة الصورة كما هي في التشريع مقارنة بانعكاساتها في الواقع، وإذا شكّ في الطهارة والنجاسة، كما يحدث للوسواسي أمكنه أن يدرس أسبابهما وطريقة تأثيرهما على جسده وثيابه وغيرهما.
إنَّ كثيراً من الأزمات النفسية التي يعيشها الإنسان في داخل ذاته، فتتحوَّل بفعل الممارسة الخائفة إلى عقدة متأصّلة، ومرض مزمن، تنطلق من الهروب الذي يواجهه الإنسان في حركة المشكلة في حياته، فلا يحاول أن يدقِّق في المسؤولية، ولا يجرّب أن يتأمَّل في حركتها في الواقع فتكون النتيجة أن تطغى عليه كما يطغى الفيضان الذي يجتاح أمامه كلّ شيء، ما لم نفتح له الثغرات التي تخفّف من اندفاعه.
إنَّ على الإنسان الذي يعيش الشكّ كعقدة ألاَّ يهرب من الأسئلة التي تواجهه بل يواجهها بكلّ شجاعة، ويلاحقها بالأجوبة الحاسمة حتّى لا يبقى هناك مجال للشكّ في قرار الأعماق. وبذلك يستطيع أن يضع المشكلة في إطار الحلّ الصحيح.
س ـــ ما الفرق بين مَنْ يصلّي ويكذب وبين الذي لا يصلّي ولا يكذب، أليس حالهما واحداً إن لم يكن الثاني أفضل من الأوّل؟
ج ـــ هناك في مثل هذه المقارنة سؤالان:
1 ـــ هل للصلاة قيمة دينية إذا تجرَّدت عن المعاني الروحية، والجوانب العملية في شخصية الإنسان المسلم؟
2 ـــ هل للصلاة قيمة عملية في حياة المسلم في حال تجرُّدها عن الالتزام بالفضائل، في مقابل الالتزام ببعض الفضائل وترك الصلاة؟
أمَّا الجواب عن السؤال الأوّل فتحدِّده الآية الكريمة:
{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت : 45]
والحديث النبوي الشريف:
"مَنْ لَم تَنْهَهُ صَلاتُه عَنِ الفَحْشَاء والمنكر لم يَزْدَدْ مِنَ الله إلا بعداً".
والحديث المأثور:
"رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنْ صَوْمِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ وَالنَّصَبُ، يَا حَبَّذَا، نَوْمُ الأَكْيَاسِ وَإِفْطَارُهُمْ".
فقد دلَّت هذه النصوص الدينية على أنَّ الهدف من تشريع الصلاة والفائدة منها، هو أنّها تحقِّق الانضباط العملي للإنسان أمام الفحشاء والمنكر، فلا قيمة للصلاة بدون ذلك لأنّها تكون عملاً بدون فائدة وبدون روح.
أمّا السؤال الثاني، فالجواب عنه أنَّ الصلاة وإن لم يكن لها قيمة دينيّة في حساب الله إذا تجرَّدت الالتزام بالخطّ المستقيم في الارتباط بالمعاني الروحية، ولكنّها لا تخلو من قيمة عملية في هذا المجال، فإنَّ الذي يصلّي ويكذب يؤمل فيه الخير لأنَّ ارتباطه بالصلاة يجعله قادراً على أن يكشف نفسه في بعض اللّحظات فيرجع عن الكذب وعن غيره من الرذائل.. وبذلك يمكن للصلاة أن تقوم بدورٍ كبير في عملية التراجع عن الانحراف، لأنّها تحقِّق للإنسان الارتباط اليومي بالله، فإنّه وإن كان ارتباطاً بدون وعي إلاَّ أنَّ الارتباط الرسمي بشكل يومي قد يفسح المجال لبعض الانفتاحات الروحية الطيّبة التي يكتشف من خلالها الجانب الطيّب في الحياة، فيبدأ عملية التراجع بطريقة تدريجيّة.
أمّا الذي لا يصلّي ولا يكذب، فإنّه وإن ارتبط بفضيلة الصدق أو بغيرهما من الفضائل إلاَّ إنَّ هذا الارتباط لا ينطلق من قاعدة ثابتة في الأعماق، بل ينطلق من حالة طارئة كالتربية العملية أو المصلحة الذاتية أو العوامل الخارجية المتنوِّعة... وفي مثل ذلك لا يكون هناك أيّة ضمانة تحميه من الانحراف في حال وجود ظروف أقوى من الظروف العادية التي هيَّأت له جانب الاستقامة... وبذلك يختلف حال الإنسان الذي يرتبط بالقاعدة التي تمدّه بالخير وإنْ عاش في نفسه بعض لحظاته بشكلٍ عابر. ومن هنا ندرك أهمية التدريب على الصلاة والتأكيد على الالتزام بها والصبر عليها، واعتبارها في الحديث النبويّ الشريف عمود الدّين، لأنَّها القاعدة الروحية التي تجعل لكلّ الأفعال الدينيّة معنى عندما تمدّه بالروح المتدفّق من وحي الله.
حوار حول السلام في الإسلام
جاء في مجلّة صوت الشبيبة المسلمة، الصادرة عن اللّجنة الثقافية الإسلامية في الغبيري، في عددها العاشر الصادر في جمادى الثاني سنة 1398 هــ: (السلام في الإسلام) من المواضيع التي يتطرَّق إليها البحث قليلاً، وبشكلٍ جزئي غير مكتمل. في هذا الصدد سنحاول أن نلقي الضوء على هذا المفهوم، مفهوم "السلام في الإسلام" حتّى تتّضح كثير من الأمور الغامضة وتزال بعض الشوائب والمغالطات العالقة في أذهان الكثير من الناس حول موقف الإسلام من بعض القضايا المطروحة على السّاحة. فكان لقاؤنا مع سماحة العلامة السيّد محمّد حسين فضل الله، وببضعة أسئلة حاولنا قدر الإمكان أن نتناول فيها أهم جوانب الموضوع، ونسدّ بعض الثغرات المفتوحة نتيجة التشويه والتحريف ونرد بعض الاتّهامات الموجّهة نتيجة الفهم المغلوط.
س ـــ هل يمكن أن تشرحوا لنا طبيعة التكوين السياسي للمجتمع الإسلامي. هل هو تكوين قائم على أساس قومي أو عرقي أو طبقي أو ماذا؟
ج ـــ لعلَّ الخلفية الفكرية، وراء مثل هذا الطرح للإسلام تتمثَّل في إطارين فكريين الأوّل: الفكرة التي تعتبر أنّ العوامل القومية والعرقية والطبقيّة هي العوامل الأصلية المؤثّرة في وحدة المجتمع وتكوينه... بينما ترى في الأديان والمبادئ عناصر طارئة على كيان الأُمة وغريبة عن شخصيّتها الذاتية، فلا تصلح أن تكون دافعاً للوحدة فضلاً عن أن تكون العنصر الأساسي فيها، وعلى ضوء هذا يمكن للسؤال أن يطرح نفسه عن طبيعة التكوين السياسي للمجتمع الإسلامي من حيث انطلاقه من هذه العوامل الثلاث وغيرها ممّا هو خارج النطاق الإسلامي. الثاني: الفكرة التي ترى في الأديان، ومنها الإسلام، نتاجاً قومياً أو عرقياً أو طبقياً يتحرَّك في اتجاه تحقيق المصالح القومية والعرقية والطبقيّة باعتباره منطلقاً من حاجة الجماعات التي تعيش الشعور القومي أو العرقي أو الطبقي إلى نظام يحمي أوضاعها ويحقِّق مفاهيمها ويحلّ مشاكلها الحاضرة والمستقبلة وعلى الأساس يمكن للباحث أن يبحث عن الأُسس التي ارتكز عليها الإسلام في نشوئه وحركته... فهل هو وليد آلام العروبة ومشاكلها كقومية، أو نتاج الإحساس بقيمة عنصر معيّن أو عرق خاص، أو كان صورة للواقع الطبقي الذي كان متمثّلاً في مجتمع مكّة والمدينة؟
أمّا نحن كمسلمين ـــ فإنَّنا نرفض الإطارين معاً من خلال فهمنا للإسلام ووعينا للأُسس التي يمكن أن تقوم عليها المجتمعات الإنسانية في وجودها وحركتها، فالإسلام ـــ في وعينا لمصادره الأصلية ـــ دين سماوي أنزله الله على رسوله لِيَقومَ الناس بالقسط، وليخرجهم من الظلمات إلى النور، وليحلَّ لهم الطيّبات ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وليزكّيهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد. وبهذا كان رسوله رحمةً للعالمين وخاتماً للسلسلة المباركة من الأنبياء والمرسلين الذين يعتبر الاعتراف بهم جزءاً من العقيدة الإسلامية... وهكذا أنزله الله من أجل أن يحلّ للإنسان مشاكله على مدى الحياة، من دون أن يكون منبعثاً عن أيّ عامل من العوامل المحدودة التي يختلف فيها الناس ألواناً وأنساباً وأعراقاً وطبقات. أمّا الأُسس التي تقوم عليها المجتمعات، فإنَّنا لا نستطيع إغفال التأثيرات العاطفية والشعورية التي تنتجها تلك العوامل الآنفة الذكر، ولكنَّنا نعتقد أنّ الجانب العقيدي والروحي والعملي الذي يتجمَّع في المنهج الرسالي للحياة يعتبر عنصراً حيوياً وفاعلاً في تكوين المجتمع وتوحيد أفراده، انطلاقاً من دراسة النَّفس الإنسانية التي ترتبط علاقاتها بركائزها الفكرية أكثر من أن ترتبط بعواملها القوميّة والطبقيّة والعرقيّة، ولهذا نجد العاملين في سبيل هذه العوامل يجعلون دعواتهم في إطار فكري وروحي يحقّق للعلاقات المطلوبة أساساً فكرياً وروحياً يربط العاملين بالقومية أو بالطبقيّة أو العرقية من خلال الفكرة... حتّى إنَّنا نلاحظ تباعداً بين الذين يؤمنون بالفكرة وبين الذين يرفضونها أو لا يؤمنون بها، على الأقلّ، في الوقت الذي نراهم يرتبطون معهم برابطة واحدة من خلال هذه العوامل، ولسنا الآن في مجال البحث عن الأُسس التي توحِّد المجتمعات من ناحية موضوعية لأنَّ ذلك يحتاج إلى مناقشة واسعة للفكرة ولكنَّنا في سبيل الإشارة إلى موقفنا من الخلفيات التي اقتضت مثل هذا الأسلوب في طرح السؤال.
ثم... نقف الآن لنواجه السؤال في مضمونه ومحتواه من نقطتين: النقطة الأولى: في معالجة الإسلام للفوارق المذكورة ومدى تأثيرها في حركة التقييم الإنساني للحياة. النقطة الثانية في النظرة الإسلامية العامّة لطبيعة التكوين السياسي للمجتمع في نظر الإسلام.
أمَّا النقطة الأولى: فإنَّ الإسلام لم يغفل وجود الفروق العرقيّة والقوميّة والطبقيّة، في حياة الإنسان كواقع طبيعي يفرض نفسه، بل واجهها في بعض الآيات القرآنية كمظاهر طبيعيّة تشهد على عظمة الخلق التي توحي بعظمة الخالق، كما في قوله تعالى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} [الروم : 22]
فقد جعل النظرة إليها نظرة طبيعيّة لا تبحث عن الفوارق كونها مقياساً للتفاضل، بل من حيث إنّها دليل على تنوُّع العناصر الطبيعيّة المودعة في الكون مع وحدة المصدر الأساسي للوجود، تماماً كما هو الحال في تنوُّع الثِّمار التي تنتجها الأرض مع إنّها تسقى بماءٍ واحد، وذلك في قوله تعالى:
{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد : 4]
وقوله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ*وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27 ـــ 28]
وقد يتجسَّد الإيحاء في الآية الأخيرة باعتبار الفوارق الدينيّة في الإنسان مظهراً طبيعياً تتكامل فيه صورة الطبيعة المختلفة ألوانها في كلّ مظاهرها، الجامدة والحيّة، من دون أن يمثّل ذلك أيّة قيمة تفضيلية في هذا المجال بل هي الخصائص التي تتنوَّع في طبيعة الأشياء ممّا يجعل لكلّ شيء قيمة ومعنى يميِّزه عن الآخر... ولكلٍّ فضل.
وقد نلاحظ في بعض الآيات الإيحاء بوجود الفوارق الطبيعيّة في حياة الناس كواقع حيٍّ ناشئ عن طبيعة اختلاف القدرات الفكرية والعضليّة والظروف الموضوعيّة المحيطة بالناس والأشياء، كما في قوله تعالى:
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} [الأنعام : 165]
وفي قوله تعالى:
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف : 32]
فقد نجد في هاتين الآيتين الكريمتين التركيز على أنَّ اختلاف الدرجات في الرزق والمعيشة الناشئ من ظروف طبيعيّة ليس ناتجاً من اعتبار ذلك قيمة دينيّة تجعل المرتبة العليا في مستوى القيمة، وتجعل المرتبة الدنيا في مستوى ضدّ القيمة، ليكون ذلك من تكريم الله للغنيّ وعدم تكريمه للفقير بل من أجل أن يكون ذلك اختباراً للوقوف مع المبادئ الأساسية للحياة التي تجعل الإيمان الثابت يصمد أمام التجربة في الوقت الذي ينهار الإيمان المتزلزل أمام الاختبار الصعب أو من أجل أن يكون اختلاف الدرجات موجباً لتنوّع الحاجات الموجب لتبادل الخدمات باعتبار تبادل الشعور بالحاجة من جهة، والاكتفاء من جهةٍ أخرى فيما بين أفراد الإنسان، ممّا يجعل كلّ إنسان محتاجاً لتقديم خدماته للآخرين في مقابل ما يقدِّمونه له من خدمات، وهكذا لا نلمح أيّة إشارة لاعتبار هذه الفوارق، التي أُريد للمجتمعات أن تقوم عليها، أساساً للتقييم أو التوحيد، بل كلّ ما هناك، أنَّ هذه الفوارق قد تمنح كلّ فئة بعض الخصائص دون فئةٍ أخرى ممّا يجعل من الحياة مجمعاً للخصائص المتبادلة بين الأفراد، وهذا ما ركَّزت عليه الآية الكريمة:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات : 13]
فقد توحي هذه الآية بشكلٍ واضح بأنَّ اختلاف الخصائص النسبيّة والقوميّة لا يصلح أساساً للتفاضل بل منطلقاً للتعارف الذي يتمثَّل في تبادل الخدمات والخصائص المتنوِّعة، ولعلَّنا نجد في الحديث النبويّ الشريف أوضح الشواهد على الفكرة التي نعالجها.
"لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى"، "كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ".
وهكذا نخلص، من هذا العرض الموجز، إلى أنَّ هذه الأمور لا تصلح أساساً للتقييم لتنطلق وحدة المجتمعات على أساسها إذ لا معنى لأن يكون لهذه العناصر قيمة في التوحيد من دون أن يكون له أساس في التقييم، وليس معنى ذلك أنَّ الإسلام يريد من الناس أن يفقدوا المشاعر الطبيعيّة إزاء العلاقات الخاصّة التي ترتقي بهذه الأمور، بل كلّ ما هناك أنّه يريد أن لا يجعلهم خاضعين في علاقاتهم العامّة لها بحيث ينطلق القرب والبعد في حياتهم على أساسها، كما ورد في الحديث المأثور عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) وهو يتحدَّث عن العصبيّة التي تتأثّر بهذه العوامل:
"إِنَّ الْعَصَبِيَّةُ الَّتِي يَأْثَمُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا، أَنْ يَرَى الرَّجُلُ شِرَارَ قَوْمِهِ خَيْراً مِنْ خِيَارِ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَلَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبُّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ، وَلَكِنْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُعِينَ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ".
وقد وردت أحاديث كثيرة في ذمّ العصبية التي تعني الارتباط الروحي بالنسب أو بالدم أو بغيرهما ممّا يبعد الإنسان عن الارتباط بالمبادئ التي تحكم علاقته بالآخرين وبهذا نخلص إلى النتيجة الحاسمة... وهي أنّ الإسلام لا ينظر إلى هذه العوامل إلاَّ كروابط طبيعيّة تشارك في ولادة المشاعر العاطفية ولكنّه لا ينظر إليها كأُسس للتقييم والتوحيد لأنّها لا تحمل في داخلها عناصر الثبات والعمق والامتداد.
أمّا النقطة الثانية: وهي النظرة الأساسية العامّة للتكوين السياسي للمجتمع، فقد يمكن الجواب عنها، باعتماد الأساس الإيماني في التكوين السياسي، إذا أردنا أن ننظر إلى الموضوع من جانب الإطار الذي يتحرّك فيه الإسلام ليتحرّك في داخله المجتمع الإسلامي، لا من جانب الإطار الذي يكتفي بالناحية الإنسانية بعيداً عن الناحية العملية.
أمّا إذا أردنا أن ننظر إليه في الإطار الذي يحكم العلاقات العامّة التي تربط بين أفراد المجتمع لتكون منهم وحدة سياسية ذات مبادئ وأهداف ومصالح مشتركة، فإنَّ بإمكاننا الاعتماد على الأساس العقيدي الذي ينطلق من العقيدة الإسلامية كرابط عميق يمتد من الجانب الفكري مروراً بالجانب الشعوري إلى الجانب العملي ليكون ذلك أساساً لوحدة المجتمع أو تعدُّده... وفي كلتا الحالتين يقف الإسلام في نظرته إلى الإنسان والحياة، وفي تشريعه المتحرِّك في كلّ اتجاه ليرفض الوحدة التي تقوم على أساس آخر من اللّون والدم والنّسب والطبقة بالمستوى الذي يعتبر فيه الفكر والتشريع هذه العوامل قيمة إنسانية وفكرية واجتماعية تمنح على أساسها الحقوق وتفرض الواجبات ويعيش الإنسان في ظلّها حركة مشاعره وعواطفه ونصرة مواقفه وخذلانها، ولهذا لا نجد في التشريعات الإسلامية أيّ تركيز على التمييز في الحقوق والواجبات من خلال الطبقة أو اللّون أو الدم سواء في ذلك واقع الدُّنيا وواقع الآخرة، كما لاحظناه فيما قدَّمناه من أحاديث في معالجتنا للنقطة الأولى... وقد نلتقي بهذه الروح في الحديث الشريف المأثور عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا".
والحديث الآخر المروي عن الإمام عليّ (عليه السلام):
"الذّليلُ عِندِي عَزِيزٌ حَتّى آخُذَ الحَقَّ لَهُ، وَالقَويُّ عِندي ضَعِيفٌ حَتى آخُذَ الحَقَّ مِنه".
وقد نلتقي بهذا الجوّ في الآيتين الكريمتين:
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ...} [التوبة : 71]
في مقابل الآية الكريمة:
{وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ...} [الأنفال : 73]
{لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ...} [المجادلة : 22]
ونلتقي ـــ في الجوّ نفسه ـــ بالحديث الشريف المأثور عن النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
"مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى".
فإنَّ هذه النصوص الدينية تجعلنا نشعر بعمق الرابطة الإيمانية في تأثيرها على العلاقات الإنسانية التي تكوِّن وحدة المجتمع من خلال وحدة العقيدة والعاطفة والعمل... وكلّ هذا لا يمنع من الاعتراف بوجود عقائد أخرى في المجتمع ينطلق الإسلام ليحدِّد علاقة المسلمين باتّباعها في نظام تعاقدي شامل يعطي للإسلام مجاله في السيادة ويعطي للعقائد الأخرى مجالها في ممارسة أفكارها وعملها في نطاقٍ محدود.
س ـــ ما هي القاعدة الأساسية التي انطلق منها الإسلام لإيجاد حالة تعايش سلمي بين المجتمع المؤمن به والمجتمعات الأخرى؟
ج ـــ هناك قاعدة أساسية تحكم حالة التعايش بين المجتمع المسلم والمجتمعات الأخرى، وهي قاعدة التعامل مع الواقع الحياتي الذي يفرض وجود قوى أخرى تختلف مع الإسلام في فكره وشريعته ونظام حياته، وتفرض ضرورة التعامل معها، ولو في نطاق المرحلة التي قد تطول وقد تقصر تبعاً لحركة الإسلام في الحياة، ممّا يجعل من قضية التعايش السلمي قضية حيويّة لاستقرار المجتمع الإسلامي وأمنه وواقعيّته لأنَّ لقضايا الصراع، في كلّ مراحل الحياة للرسالة وللفكرة، ظروفاً موضوعية قد لا تتّسع للحرب أو لا تتّسع للحصول على النتائج العملية الحاسمة من خلال الحرب ممّا قد يقتضي الوصول إلى حلول للمشاكل المتّصلة بحركة العقيدة، أو بحركة الواقع في نطاق المجتمعات الأخرى التي قد نلتقي بها في بعض المبادئ العامّة وإن اختلفت التفاصيل عمقاً وامتداداً، وربّما نلتقي معها في المصالح العامّة بطبيعة وحدة الأرض التي نعيش عليها أو وحدة الظروف الموضوعية التي تحكم مسيرتنا في الحياة، ولهذا وجدنا خطوات الإسلام العملية تختلف في بداية الدعوة ونهايتها مع المشركين من موقف المهادنة إلى الحرب إلى الصلح الذي انتهى بفتح مكّة الذي أنهى كلّ المواقف السلمية فيما يتعلَّق بوجود المشركين في المنطقة الإسلامية كما رأيناه في موقفه من أهل الكتاب وتمييزه بين النصارى واليهود من خلال المواقف العملية التي وقفها الفريقان من الدعوة الإسلامية فيما عبَّرت عنه الآية الكريمة:
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ*وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 82 ـــ 83]
وقد نلتقي ببعض الآيات القرآنية التي تفرِّق بين الفريقين اللذين يختلف حال كلّ منهما مع المسلمين من حيث الموقف العدواني أو السلمي وذلك هو قوله تعالى:
{عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ*لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ*إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 7 ـــ 9].
وبقدرِ ما نستطيع استيحاء هذه الآية فيما يتعلَّق بالموقف الإسلامي من المحايدين الكافرين الذين لا يقومون بأيّ عمل عدواني ضدّ المسلمين بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، فإنَّ الرّخصة القرآنية بتولي المسلمين لهم لا يتناسب مع اعتبار الحرب أساساً للعلاقة العامّة بهم... ولا بدّ لنا من التأكيد في هذا المجال، على أنَّ هذا كلّه خاضع لاعتبارات المصلحة الإسلامية العليا في قضايا السّلم والحرب، أو في الخطّة العامّة لحركة الإيمان في مواجهة الكفر.
وخلاصة الفكرة التي نشير إليها، في هذا الجواب، أنَّ الإسلام يؤمن بالتعايش السلمي بينه وبين الأديان الأخرى، أو العقائد الأخرى في نطاق حاجة الواقع بالمستوى الذي لا يمسّ سعيه الدائب من أجل الوصول إلى سيطرته على نظام الحياة من جهة، ولا يسيء إلى مفاهيمه العامّة من جهةٍ أخرى. وبذلك كانت أساليب التعايش السلمي في التشريع الإسلامي وفي التطبيق العملي في حياة النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي تعتبر سيرته العملية شريعة للمسلمين في واقعهم العملي، مثالاً للمرونة وتجسيداً للحكمة التي انطلقت الدعوة في خطّها المستقيم سواء في ذلك مجال التبليغ أو مجال الواقع المتحرّك الذي جاء الإسلام من أجل أن يعلِّم الناس كيف يتعاملون معه بالحكمة.
س ـــ هناك عدّة وضعيات للمجتمعات اللاإسلامية بالنسبة إلى المجتمع الإسلامي فهل لكم أن تحدِّدوا لنا هذه الوضعيات مع تبيان لطبيعة العلاقات القائمة بين المجتمع الإسلامي وبين كلّ وضعية على حدة؟
ج ـــ هناك نوعان من العلاقات الموضوعية التي تحدِّد وضعية المجتمع المسلم من المجتمعات غير الإسلامية، أحدهما عام والآخر خاص:
أمّا الخاص، فهو نظام الذمّة الذي يحدِّد طريقة التعايش الدائم مع أهل الكتاب وينظّم الحياة العامّة التي تحكم علاقتهم بحياة المسلمين. ونحن واجدون في هذا النظام نموذجاً للنظام الأمثل الذي يعطي الآخرين حريّة ممارستهم وعقيدتهم في ظلّ النظام الإسلامي، من دون إساءة للعقيدة الإسلامية وشعاراتها، مع الالتزام الإسلامي بحمايتهم من كلّ اعتداء، وإعفائِهم من مسؤوليات الحماية العامّة للمسلمين بالدفاع الحربي عنهم، ومع ذلك كلّه، فإنَّ للسلطة الشرعية صلاحيات في مجال التطبيق تحتفظ للنظام بمرونة نادرة رائعة.
وأمّا العام فهو نظام التعاهد الذي يحدِّد علاقات المسلمين بغيرهم على أساس عقد المعاهدات التي تجعل للحقوق والواجبات المتبادلة وضعاً قانونياً تعاقدياً ينطلق من الالتزام العقدي المتمثّل بطرفي العقد، وقد يلاحظ بعض الفقهاء، أنَّ مثل هذا النظام يسري على أهل الكتاب كما يسري على غيرهم، كما أنَّ هناك بعضاً آخر منهم، يرى أنَّ نظام التعاهد لا يحتاج إلى وجود سلطة شرعية إسلامية تنشئ هذا العقد مع سلطة الآخرين بل يمكن أن يحدث ذلك حتّى في نطاق فقدان السلطة الشرعية، مع التزام المجتمع المسلم بمعاهدات السلطة غير الشرعية التي تحكم المسلمين، كما في ميثاق الأمم المتّحدة الذي تلتزم به كلّ الشعوب تلقائياً (فيما لا يناقض أو ينافي التشريع الإسلامي طبعاً). ولسنا في مجال مناقشة هذا الرأي أو ذاك أو تأييدهما ولكنّنا في مجال عرض السعة الفكرية للاجتهاد الإسلامي في هذه الموضوعات وغيرها.
والحمد لله ربّ العالمين
واللهُ من وراء القصد