المتّقون هم المنفتحون على الحق
أما "المتقون", فهم أولئك الذين انفتحت عقولهم على فكر الحقّ من خلال التّأمّل والمعاناة الوجدانية, حتى عاش في وجدانهم قناعة واطمئناناً, واندمجت أرواحهم في لقاء الله, حتى شعروا بحضوره معهم في يقظتهم ومنامهم, فلا يواجهون شيئاً في الحياة إلا ويواجهون الله معه, باعتبار أن الأشياء تفقد استقلالها وذاتيتها في داخلهم, لأنها المظهر الحي لوجود الله وقدرته وحكمته ورحمته. وهم الذين تحركت حياتهم في الصراط المستقيم حتى لتحسّ بخطواتهم تتنقّل في ثبات واتّزان, كأنها تعيش وعي الطّريق في كل أبعاده واتجاهاته, فلا تغيب عنها أية انعطافة من منعطفات الطريق التي تدعو للانحراف, بل هي الاستقامة الباحثة أبداً عن النور في طريق الله.
وهنا يواجهنا سؤال مثير, كيف يكون القرآن هُدًى للمتقين ولا يكون هُدًى للمتقين ولا يكون هدًى لكل الناس؟ وهل يحتاج المتقون الذين يعيشون الهُدى في كيانهم إلى هداية ليكون القرآن هادياً لهم؟
والجواب: هو أن المتّقين هم الذين يشعرون بمسؤوليتهم الفكرية والاجتماعية تجاه العقيدة والحياة, فهم الذين يعيشون تقوى الفكر التي توحي بالتأمّل والتفكير العميق, فيطلبون الهداية من موقع المواجهة الحادة للمشاكل الصعبة التي تعترضهم في قضايا الصّراع, فيقفون أمامها موقف الجادّ الذي لا يعيش حالة اللامبالاة والاسترخاء الفكري, بل يحاول أن يدخل عملية الصدام الفكري ليفكّر في ما يُعرض عليه ليناقشه, فإمّا أن يقتنع به وإمّا أن يرفضه على أساسٍ من الوعي, ثم إن المتّقين هم الذين يخافون الله ويحبونه بإخلاص وإيمان, فيشعرون من خلال ذلك بالمسؤولية التي تتحول إلى مراقبة ومحاسبة في الفكر والعمل, فيندفعون في عملية ملاحقةٍ للأسس التي يرتكز عليها الهدى من أجل أن تكون موضع تفكير ومناقشة.
أما الآخرون من غير المتّقين, فهم الذين لا يشعرون بالمسؤولية تجاه أنفسهم, وتجاه ربهم, بل وتجاه الحياة كلها. إنهم يواجهون الحياة مواجهة اللامبالاة والهروب من كل شيء يتعب الفكر والوجدان, فلا يحاولون أن يهتدوا, ولا يريدون أن يفكروا بالهدى, فلا يمكن للكتاب أن يكون هدى لهم, لأن الهدى لا بد له من عقل مفتوح ووجدان سليم, ولكنه يظل يطرق أسماعهم منتظراً حالة الوعي الجديدة التي تربطهم بالإرادة الواعية ليهديهم من موقع إرادتهم للهداية, في آفاق الله الرحبة الممتدّة بالإيمان.
من وحي القرآن, ج1, ص 106-107.