تفسير (من وحي القرآن)
منهجه ومعالمه


عبد السّلام زين العابدين
كاتب وعالم دين عراقي

-    القرآن هو الميزان
-    الروايات ودورها في التفسير
-    عصمة الأنبياء والرسل
-    معالم التفسير
-    مصادر البحث
 
المقدّمة
ينطلق تفسير «من وحي القرآن» في قراءة النص القرآني، واستكشاف المعاني والدلالات والدروس والإيحاءات، من حقيقة كبرى، ألا وهي: أنّ القرآن الكريم عربيّ مبين بلسانه ولغته ومفرداته وأساليب تعبيره، وقد أكّد القرآن نفسه هذه الحقيقة في أكثر من آية مباركة.
ولهذا يثير السيّد المفسر في الفقرة الأولى من مقدمة تفسيره، العديد من الأسئلة:
"كيف يمكن لنا أن نفهم القرآن؟ وهل ثمة أسلوب خاص بالقرآن يميزه، بحيث لا يمكن مقاربته بدون استيعابه؟
وهل القرآن كتاب مستغلق اللغة والمفاهيم، بحيث يحتاج إلى أهل خبرة واختصاص لجلاء معانيه وسبر أغواره؟ أم هو كتاب موضوع للنّاس كافةً، بحيث يمكن لكلّ إنسان أن يقاربه وفق قدراته وإمكاناته الثقافية، فيرى فيه العامة مآربهم والعلماء تطلعاتهم؟
ومن ثمّ، ما هي قصّة المحكم والمتشابه، والظّاهر والباطن، وغيرها من المصطلحات ذات الارتباط الوثيق بمقاربة القرآن قراءةً وتفسيراً؟"( ).
يرى السيّد المفسّر أنّ "هذه أسئلة توقّف عندها الكثيرون في حركة التفسير، وأثاروا الكثير من الجدل حولها، حتى خيّل إلى البعض أنّ القرآن كتاب رمزي لا يعلمه إلّا الفئة التي جعل الله لها الميزة في فهم وحيه، فأنكروا حجيّة ظواهره إلّا بالرجوع إلى أئمة أهل البيت(ع)".
لذا، فإنّ "من الضروري جلاء هذه المسألة المهمّة في الفكر الإسلامي، لأنّ أيّة مسألة تتصل بطبيعة القرآن وسلامته، من الزيادة والنقصان، وطريقة فهمه، ودوره الأصيل في استلهام وحي الله، هي على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة في وعي الإسلام، لأنّ القرآن الكريم هو القاعدة الإسلامية الأساس للمفاهيم، والأحكام، والمناهج، والوسائل، والغايات، الأمر الذي يجعل من الارتباك والانحراف والغموض في فهمه، مسألةً سلبيةً تنسحب على ذلك كلّه".
من هذا المنطلق، "كان من البديهيّ استنطاق القرآن الكريم في حديثه عن نفسه في الآيات التي تؤكّد عربيّته، وذلك في الآيات التالية:
{إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(يوسف: 2).
{كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(فصلت: 3).
{قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(الزمر: 28).
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}(الشعراء: 193- 195) ( ).
ولا ينحصر الأمر بالمسألة اللغوية، "بل يمتدّ ليكون عنواناً للمنهج العام للقواعد التفصيلية، في أساليب اللغة في البيان والفهم والأجواء، من حيث الخصائص الفنّية التي قد تحمل في داخلها الإيحاء والإيماء واللفتة والإشارة، مما يتجاوز المدلول الحرفي للكلمات، على أساس أنّ الجانب التاريخي للاستعمال، قد يضيف إليها الكثير من ظلال المعاني وخصوصيتها التي قد تمنحها جوّاً جديداً"( ).
ولهذا، فإنّه على صعيد حركة التفهيم والتفهّم، وإيصال المفاهيم والأفكار والمبادئ والأحكام والتشريعات إلى النّاس، "لا مجال للتعقيد اللفظي والمعنوي في أساليب الاستعارة أو الكناية أو طريقة التركيب، بحيث تكون المسافة بين اللازم والملزوم، أو بين المضمون الحرفي للكلمة والغاية التي يقصدها المتكلم، بعيدةً جداً بما تستلزمه من الجهد الذهني في الربط بين الأشياء، لأنّ ذلك يبتعد عن المنهج البياني الذي تفرضه مسألة التفاهم التي ترتكز عليها قضية اللغة في طبيعتها الحركية".
يستوحي المفسر كلّ ذلك من الآيات التي تؤكّد صفة التبيين والتفصيل والهداية:
{لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ واللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}(النور: 46).
{وكَذلِكَ نُفَصِّلُ الآيات ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}(الأنعام: 55).
{يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ويَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}(النساء: 26).
"فإنّ من الظاهر، أنّ الآيات تتحدّث عن الوضوح الذي يستلزم الهدى والهداية واستبانة الطريق المضادّ الذي يتحرك فيه المجرمون"( ).
 على ضوء هذه النصوص القرآنية، "لا نجد هناك مجالاً للحديث عن القرآن ككتاب رموز ومصطلحات بعيدة في أسلوبها عن السياق العام لأساليب اللغة العربية، بحيث يقف النّاس أمامها حائرين لا يجدون لديهم النور الذي يوضح لهم طبيعة المعاني، لأنّهم يخافون أن يكون المراد من الآية معنى آخر غير المعنى الظاهر منها، من دون أيّة قرينة في داخل الكلام، أو في أجوائه، ما يلغي الهدف الكبير للقرآن الذي يرتكز على أساس اعتبار الآيات النازلة على النّاس طريقاً للانفتاح على حركة العقل والتفكير والاهتداء، ولتحقيق التذكّر والتقوى من خلال ذلك، في عملية الوعي والاستيحاء، كما جاء في قوله تعالى:
{كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}(البقرة: 266).
{كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(البقرة: 242)
{كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران: 103)
{كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(البقرة: 187)
{ويُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(البقرة: 221)"( ).
ولهذا، يرى السيّد المفسّر أنّ "مسألة حجيّة ظواهر القرآن هي من القضايا البيّنة الواضحة التي أجمع عليها العلماء من خلال حجيّة الظواهر كلّها".
ومن باب دفع دخْلٍ قد يرِد، يلتفت إلى ما في القرآن من متشابهات إلى جانب المحكمات {مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}(آل عمران: 7)، قد تكون مثار سؤالٍ فيما تملكه من غموض ورموز، ينفي المفسّر عنها معنى الغموض الذي لا مجال لفهم شيء منه، لأنّه يرى أنّ معنى التشابه يتعلّق بأمرين أساسين:
الأوّل: احتمال أكثر من وجه في مدلوله وإيحاءاته، على صعيد العلاقة بين اللفظ والمعنى.
الثاني: التشابه في الجانب التطبيقي، على صعيد العلاقة بين المعنى والمصداق في أرض الواقع.
 "وبذلك، يكون دور الراسخين في العلم - من خلال بعض القراءات - هو تحديد الخطوط الواقعية التي يتحرّك فيها مدلول الآية، من خلال الأجواء العربية، في قضيّة التفهيم والتفاهم"( ).
وما يؤكّد معنى عدم التعقيد اللفظي والمعنوي أو الإشارة الرمزية التي لا تفهم، ما ورد عن بعض أئمة أهل البيت(ع)، جواباً عن سؤال حول ما أثاره بعض النّاس من أنّ المقصود بالصلاة والزكاة ونحوهما رجال معيّنون، قال(ع): "إنّ الله لا يخاطب عباده بما لا يفهمون".
(من وحي القرآن) سرّ التّسمية
أعطى السيّد المفسر لتفسيره اسماً له دلالاته وأبعاده: (من وحي القرآن)، فإنّه يحدثنا في مقدمته عن سرّ هذه التسمية، بقوله: "حاولت في هذا التفسير أن أعيش القرآن في عقلي وقلبي وحياتي، في فهم آياته، واستيحاء أفكاره، وتحريكه في كلّ مسيرتنا الإسلامية الصاعدة إلى كلّ الآفاق الباحثة عن الله في كلّ مواقع عظمته، وامتدادات نعمه، وأسرار أحكامه، وفي الخطّ المستقيم المنفتح على كلّ حركة السعادة في الإنسان"( ).
"ورأيت أنّ من الضروري، استيحاء القرآن في ذلك كلّه، على مستوى النظرية والتطبيق، لنستهديَ به في متاهات الواقع، ونستضي‏ءَ به في ظلمات الطريق، ونطلّ به على المستقبل في كلّ قضاياه، لنشعر بأنّ القرآن يعالج لنا كلّ أوضاعنا الحياتية، فنكون قرآنيين في أفكارنا وحركاتنا، تماماً كما كان المسلمون السابقون، الذين كان القرآن يتحرك معهم، فيطلّ على مشكلاتهم الصعبة، ليقدم لهم الحلول الصحيحة التي تبعث فيهم السكينة والثبات. وإذا كنّا نعرف أنّ معالجات القرآن في الماضي انطلقت من خلال سنن الله في الكون والإنسان، لا من خلال خصوصية في الزمان والمكان والأشخاص، فلذلك نستطيع أن نأخذ بها في الحالات المماثلة، ما يجعلنا نتحرّك بها في الحاضر والمستقبل، لأنّ سُنَّة الله لا تتبدَّل ولا تتحول {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا}(فاطر: 43)" ( ).
"وإذا كانت الجوانب المعنوية تلتقي مع الجوانب المادية في أكثر من معنى، فإنّنا يمكن أن نستوحيَ المعنوي من المادي، كما نستوحي العام من الخاصّ، إذا كانت الخصوصية لا تمثّل شيئاً حيوياً في الفكرة أو في الحكم أو في الواقع"( ).
وفي المقدمة ذاتها، يؤكّد فكرة الاستيحاء بقوله: "وقد حاولنا في هذه الدروس التفسيرية، أن نستوحيَ القرآن في مفاهيمه الأصلية الحيّة لنجعل حياتنا تتحرك في إطاره في ما نواجهه من قضايا ومشاكل وأوضاع جديدة، وذلك من خلال استيحاء المعاني القرآنية في الجانب الأعمق والأوسع للفكرة"( ).
من خلال هذه النصوص، ندرك ما المقصود من معنى (الوحي) و(الاستيحاء) التي هي من أكثر الكلمات وروداً في هذا التفسير، وما هي مجالاته:
أوّلاً: استيحاء الأفكار الفاعلة والمفاهيم الحيّة من الآيات المباركة، لمعالجة إشكالات الواقع وقضايا العصر، ومواكبة متطلباته.
ثانياً: استيحاء المعنوي من المادي، والعام من الخاصّ، والقواعد الكليّة والمبادئ العامة، من المصاديق الجزئية.
ثالثاً: استيحاء المواقف والمناهج وأساليب العمل والدعوة والمواجهة من حركة الأنبياء والمرسلين.
رابعاً: استيحاء العبر والدروس وسنن الدفع والتدافع وقوانين الاجتماع، من قصص الماضين وأحداث التاريخ.
خامساً: استيحاء النماذج الحاضرة والمعاصرة، الصالحة والطالحة، من النماذج التاريخية الماضية.
لذا، فإنّ كلّ ما كان يرجوه السيّد المؤلف من تفسيره، أن يحقّق "بعضاً من جدّة العرض والأسلوب، وبعضاً من حركية التفسير في واقعنا المعاصر الذي تحتاج الدعوة الإسلامية فيه إلى أن تحرك القرآن في حياتها، في كلّ مجالاتها العملية في الطريق وفي الهدف"؛ لإيمانه بديمومة القرآن على العطاء والفاعلية التي لا تعرف الانقطاع، وسيبقى في كلّ عصر وجيل في وحي مستمرّ، وغضاضة دائمة، "يوحي ما دامت للحياة مسيرة نحو الله، وما دامت الإنسانية تبحث عن الهدف الأسمى الذي يحقق لها التكامل في السعادة التي تربط الدنيا بالآخرة، والروح بالمادة، والفرد بالمجتمع، وذلك هو الإسلام في معناه الكبير"( ).
إنّ من ديدن تفسير من وحي القرآن، الوقوف على الآيات بعد تفسيرها، وإعطاء دلالاتها ومعانيها، لذا نراه يعقد فصلاً بعنوان: (الاستيحاءات والدروس)، أو (استيحاء الدروس)، أو (الدروس والإيحاءات، النماذج المعاصرة)، أو (وقفة استيحاء للآيات)، أو (استيحاء الآية في حركة الواقع)، أو (استيحاء الآيات في حركة الإسلام المعاصرة)، أو (الآيات في حركة الواقع المعاصر)، أو (التاريخ في خطى الحاضر)، أو (الأسلوب والممارسة المعاصرة)... وغيرها من التعبيرات التي يزخر بها التفسير.
والإصرار على استيحاء آيات القرآن، نابعٌ عند السيّد المفسّر من نظرته إلى القرآن ككتاب هداية وتغيير، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور في كل زمان ومكان، وأنّه الكتاب المصدّق للكتب السماوية والمهيمن عليها، وأنه الكتاب القيّم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
نستمع إلى السيّد المفسر وهو يحدثنا عن بداية الانطلاقة في هذا التفسير، بقوله:
"انطلقت هذه الدروس في خطّ عمليّ متحرّك، يركّز على استيحاء أجواء القرآن من أجل أن نعيش تلك الأجواء في حياتنا الإسلامية الصاعدة، لأنّ القرآن ليس كلمات لغوية تتجمّد في معناها اللغويّ، بل هو كلمات تتحرك في أجواء روحية وعلمية. ولهذا، فإنّنا لا نتعامل مع آياته كتعاملنا مع النصوص الأدبية المجرّدة التي تتحرك مع الفكرة بعيداً عن أجواء الواقع، بل إنّنا نشعر بأنّه حياة تتحرّك وتعطي وتوحي وتهدي وتقود إلى الصراط المستقيم"( ).
"فقد كانت آياته تتنـزّل في أجواء حركة الدعوة الإسلامية، لتراقب نقاط ضعفها وقوتها في خطوات الداعية وفي تحديات الواقع، لتضع لها القواعد الحيّة التي تقوّي جوانب الضعف، وتحمي القوة من عوامل الانهيار، وتوجه الخطوات إلى أهدافها، وتواجه تحديات الواقع بإصرار... وبذلك كانت تتحرك في جوّ الرسالة، لتخلق من خلاله جوّاً جديداً لها في داخل حركة المجتمع الإسلامي".
"وقد نجد - في هذه الرؤية للأسلوب القرآني - أنّ علينا أن نفهم القرآن ككتاب رسالة ودعوة، وذلك من خلال استحضار أجواء الدعوة والرسالة في نفوسنا، لنعيش حيويته وحركيته وروحانيته الرسالية كما عاشها المسلمون الأولون، للوصول إلى الهدف الكبير، وهو صنع الشخصية القرآنية المنفتحة الواعية التي كان يجسدها الرسول الأعظم في سيرته أصدق تمثيل، ولذا كانت سيرته رسالةً عمليةً، كما كانت أقواله رسالة، فالتقت في حياته الأسوة والقدوة بجانب الدعوة، وذلك قوله تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ والْيَوْمَ الْآخِرَ}(الأحزاب: 21)"( ).
الطّابع الفريد للهدى القرآني‏
يؤكّد السيّد المفسّر أنّ أساليب القرآن في التّغيير والهداية وإخراج النّاس من الظلمات إلى النور، هي أساليب فريدة من نوعها؛ "لأنّه لا يقف في منطقة الفكر ليشير إلى العقل أن يتفلسف ويحلّل، ويبدع الفكر من موقع الفلسفة والتحليل، ولكنّه يتحرّك في أبعاد النفس الإنسانية ليثير فيها الفكر الممزوج بالعاطفة، والعقل المتحرّك بالوجدان، والروحية المتّصلة بالواقعية، فليس هناك جفاف فكري تشعر معه بأنّك تعيش ضمن قوالب جاهزة جامدة تقدّم إليك من خارج ذاتك، بل هناك الحيويّة النابضة بالروح التي تنساب في مشاعرك وعواطفك وفكرك ووجدانك، فتشعر معها بأنّك تمارس فكرك من موقع النور المتفجّر من أعماقك في رحاب الله، ما يجعل من قضيّة الفكر شيئاً يشبه العبادة ويصنع الحياة"( ).
مراحل كتابة التّفسير
مرَّ تفسير (من وحي القرآن) بثلاث مراحل من الكتابة والتدوين:
المرحلة الأولى: كتابة الدروس التفسيرية التي ألقيت على شكل محاضرات أسبوعية في بيروت، في عقد السبعينيّات من القرن العشرين. صدرت الطبعة الأولى عام 1399 هجرية.
المرحلة الثّانية: إعادة كتابة الطبعة الأولى بإضافة الكثير من الفقرات في التفسير إلى النص الأصلي، ابتداءً من سورة الفاتحة إلى سورة الأعراف، واستحداث مبحثين قبل الشروع في البيان والتفسير، تحت عنوان "معاني المفردات" وعنوان "مناسبة النـزول"، فليس كلّ ما يذكره في أسباب النـزول يرتضيه ويوافق عليه، بل كثيراً ما يمارس عملية النقد إزاءه، وقد يرفضه جملةً وتفصيلاً تارةً، أو يرفض بعض فقراته تارةً أخرى، أو يعدُّه من أسباب النـزول التطبيقية لا الحقيقية. صدرت الطبعة 2، عام 1419 هجرية (1998 م).
المرحلة الثّالثة: وهي لم ترَ النور بعد، تتضمن إضافات مهمّة من سورة الأعراف إلى سورة الناس، مع إعادة صياغة ما استجدَّ من آراء ابتداءً من سورة الفاتحة.
 في مقدمته للطبعة الثانية، يقول السيّد المؤلف: "وهذا الكتاب قد صدر قبل أكثر من عشرين سنة، وطبعت أجزاؤه عدّة طبعات، ونفد من الأسواق منذ زمن، وكثرت الحاجة إليه من قبل القرَّاء والدارسين.. فعزمنا على إصداره في طبعة جديدة، بعد أن أعدنا النظر في بعض أبحاثه، مبدين بعض الملاحظات حولها، ومناقشين بعض الأفكار الواردة في بعض الدراسات التفسيرية والفكرية، ولا سيّما ما ورد في تفسير الميزان للعلامة الكبير السيّد محمّد حسين الطباطبائي; الذي هو من أفضل التفاسير الحديثة ثراءً وتنوّعاً فكرياً وتفسيرياً، ولذا فقد حاولت درس بعض أبحاثه درساً نقدياً بنّاءً على مستوى أسلوب التفسير أو موادّ الفكر. وقد وصلنا بهذه الزيادات إلى أوائل سورة الأعراف، ومع الابتهال إلى الله، أرجو من السميع القدير أن يحالفني التوفيق في استكمال تلك الزيادات إلى آخر القرآن في طبعة جديدة"( ).
وفي مقدمة طبعته الأولى يقول: "إنّنا لم نكتب هذه الأبحاث في البداية كمحاولة تفسيرية جديدة، بل كانت دروساً قرآنيةً تلقى على مجموعة من الطلاب المؤمنين المثقفين، من أجل خلق وعي قرآني يركّز الوعي الإسلاميّ على قواعد ثابتة لا مجال فيها للاهتزاز وللانحراف‏"( ).
بلغت الطبعة الثانية (24) مجلداً، من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، بيد أنّ المجلدات متفاوتة في حجمها، حتى إنك تجد بعضها يربو على (550) صفحةً، فيما لا يزيد بعضها على المئتين!
ومن المقرر أن تأتي الطبعة الثالثة - بإذن الله - بحجم أكبر، على أن تكون متقاربةً في عدد صفحاتها، لما فيها من إضافات مهمّة تركها السيد المفسر (رحمه الله)، وكان يتمنّى أن ترى النور في حياته.
ومن دون شكّ، فإنّ تفسير (من وحي القرآن) من أهمّ آثار السيد، والّذي سيبقى من صدقاته الجارية؛ لما فيه من مراعاة للثقلين بموجب الحديث النبوي المتواتر: "إنّي مخلف فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض"، ومن محاولات في جعل النصوص تشعُّ على واقعنا المعاصر بدلالاتها المتعدّدة، ومصاديقها المتجدّدة، وآفاقها الاجتماعية، وأبعادها السياسية، ودروسها الحركيّة.
 
الفصل الأوّل: القرآن هو الميزان
ينطلق تفسير (من وحي القرآن) من حقيقة تشكل المنهج الأساس في تفسير القرآن، وقراءة النص وتدبّره، واستكشاف دلالاته وأبعاده ومعانيه ومقاصده، وهي قاعدة: القرآن ميزان وغيره موزون، فهو المصدر الأول المعصوم للعقيدة والأفكار والمفاهيم والأحكام والتشريعات، وإنّ كلّ ما جاء من روايات وأحاديث ونظريات وعقائد ونظرات، ينبغي أن تعرض على القرآن، مهما كان مصدرها.
وقد أمرنا أهل البيت(ع) أن نعرض كلّ ما جاء عنهم من روايات ومقولات على كتاب الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ليس لأنّهم يقولون ما يخالف القرآن، كيف، وهم الثقل الأصغر الذي لا يفارق الثقل الأكبر بحال من الأحوال: "إنّي مخلف فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض"، بل لتمييز ما صدر عنهم حقيقةً، وما تقوِّل عليهم ونسب إليهم زخرفاً.
ولذا، فإنّ روايات العرض، في الوقت الذي تعدُّ من أكبر الأدلّة على عصمة القرآن، تعدُّ كذلك دليلاً ساطعاً على عصمتهم(ع)، فلا يمكن بأيّ حال أن يصدر عنهم كلام يخالف كتاب الله ويتنافـى مع حكمٍ من أحكامه أو تشريعٍ من تشريعاته.

روايات العرض
في الكافي، بإسناده عن السكوني، عن أبي عبدالله(ع) قال: قال رسول الله(ص): "إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه".
وفيه بإسناده عن أيوب بن الحر قال: "سمعت أبا عبدالله(ع) يقول: كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنَّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف.
وفيه بإسناده عن أيوب بن راشد، عن أبي عبدالله(ع) قال: "ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف".
وبإسناده عن هشام بن الحكم وغيره، عن أبي عبدالله(ع) قال: "خطب النبيّ(ص) بمنى، فقال: أيّها الناس، ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله".
والزخرف هو الكلام الكاذب المموَّه المزوّر والمزين بنسبته إلى جهة مقدسة وشخصية معصومة، لكي يصدِّق به الناس ويأخذوه.
يرى السيد المفسّر أنّه لا يكفي أن ندقّق في أسانيد الروايات والنصوص الواردة عن النبيّ وأهل بيته، بل "لا بدَّ إلى جانب ذلك، من المقارنة بين النصوص في دلالاتها الفكرية، وخصوصاً مسألة العرض علىّ القرآن الذي هو كتاب الله الذي {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ}(فصلت: 42)، للتعرّف إلى ملاءمة المفهوم الحديثي في مضمونه الفكري مع المفهوم القرآني في دلالاته، من خلال الأصول الدقيقة للبحث العلمي، وعدم الاقتصار على الأساليب الأصولية التقليدية في طريقة البحث والمقارنة"( ).
عصمة القرآن وروايات التّحريف المادّي
يلاحق تفسير (من وحي القرآن) روايات التحريف المنسوبة إلى أئمة أهل البيت(ع)، لأنّه يؤمن أنّ القرآن مصان من أيّ لونٍ من ألوان التحريف المادي {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر:9)، فكلّ روايةٍ تنصّ على هذا النّحو من التّحريف لا قيمة لها، لأنّها مخالفة للكتاب، وقد استفاضت روايات أهل البيت(ع) برفضها وضربها عرض الجدار، واعتبارها زخرفاً، أي منسوبة إليهم زوراً.
جاء في تفسير (من وحي القرآن)، في تفسير الآية الكريمة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}(الحجر: 9)، "من الضّياع ومن التّحريف، ليبقى وثيقةً إلهيةً معصومةً يرجع الناس إليها في كلّ جيل عندما تشتبه الأمور، وتضطرب الأفكار، وتختلط المفاهيم، وتتحرك التيارات المضادة أو التحريفيّة، وتكثر الأكاذيب على صاحب الرسالة، فإنّ القرآن يبقى المرجع المعصوم الذي يمثلّ الحقيقة الإلهيّة في كلّ آياته، والميزان الصّادق الّذي يمكن للنّاس من خلاله أن يحددوا الحديث الصادق من الكاذب، عند عرض التركة الكبيرة من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول(ص) عليه، لأنّ ما خالفه زخرف، كما جاء في الحديث عن أئمة أهل البيت(ع)، بحيث يستطيع العارف بخصائص أسلوبه، أن يكتشف زيف كلّ كلمة تضاف إليه، في ما يضعه الوضّاعون، أو يحرّفه المحرّفون، فلا تقترب الكلمة من الآية إلا لتبتعد عنها، فلا تؤثّر على سلامة النصّ القرآني في وعي المسلمين.
وهذا ما نلاحظه في إجماع المسلمين، إلا شاذاً منهم، على أنّ النصّ القرآني الموجود بين يدي الناس، هو كلّ ما أنزله الله على رسوله دون زيادة أو نقصان وأنّ الباطل لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه"( ).
وفي تفسيره لآية 42 من سورة فصّلت: {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ}، يقول: "فهو الحقّ الخالص من شائبة الباطل، لا ينفذ إليه الباطل من قريب أو بعيد من أيّة جهة كان، وقد نستوحي من ذلك أنّ التّحريف لا يدخله، إذا ما كان المقصود به مجموع الكتاب، فلا يمكن لأحدٍ أن يزيد فيه شيئاً، لأنّ كلّ زيادةٍ هي من الباطل، وأيّ تحريفٍ يغيّر بعض الحروف وبعض الكلمات لا يدخله"( ).


بطلان التّحريف
تحت هذا العنوان، جاء في تفسير (من وحي القرآن) بمناسبة آية الحفظ في سورة الحجر:
"تنقل بعض كتب الحديث، أحاديث تشير إلى زيادة كلمة هنا، أو نقصان كلمة هناك، أو سورة كاملة في موضع آخر، ولكن الذين ينقلونها يلاحظون دائماً أنّ مثل هذه الكلمات لم تذكر بعنوان الإضافة إلى النص القرآني، بل بعنوان التفسير الذي يتناول المعنى المصداقي لها كما لو كان جزءاً منها، كما يلاحظون أنّ الكثير من هذه الأحاديث موضوع من قبل بعض الكذابين الذين يريدون إرباك العقيدة الإسلامية، أو الرؤية الإسلامية للحياة فكراً وتشريعاً، أو الذين يريدون تأكيد بعض الخلافات الفكرية بين المسلمين من خلال القرآن.
وفي ضوء ذلك، نلاحظ أنّ أيّ فريق يتحدث عن مثل هذه التحريفات زيادةً أو نقصاناً، لم يستطع مسّ النص القرآني وسلامته على مستوى الواقع في حياة الناس، فلم يحدث في شرق البلاد الإسلامية أو غربها، أن وجدت ولو نسخة واحدة، تحمل أيّة زيادة أو نقصان في الكلمات المنسوبة إلى النصّ القرآني، ما يدلّ على عبثيّة هذا النوع من النقل أو الاعتقاد، وعدم قدرته على النفاذ إلى واقع المسلمين، فقد بقي ذاك الادّعاء مجرد رواية في هذا الكتاب أو ذاك، ككثيرٍ من الروايات التي تتناقلها الكتب، دون إحداث أيّ تأثير إيجابي في المسيرة الفكرية والعملية العامة"( ).
والنصُّ الآنف واضحٌ في نظرته إلى ما ذكر من كلماتٍ في روايات التّحريف المادّي بالنقصان، فإنّها على قسمين:
الأوّل: روايات تذكر تفسيراً على نحو التّأويل والمصداق لبعض النصوص القرآنية، وليست نصاً قرآنياً على الإطلاق.
الثاني: روايات موضوعة وكاذبة، وقد كثرت الكذّابة على النبيّ(ص) وأهل بيته، وقد حذّرنا النبي في عهده منهم بقوله: "كثرت عليّ الكذّابة"، كما حذّرنا أهل البيت من روايات (الزّخرف) التي تنسب إليهم لتمويه الناس بصحتها، إذ تنسب إلى رجال يقدّرهم الناس ويجلّونهم.
وموقف السيّد المفسّر من عصمة القرآن، يؤكّده في كتبه وخطاباته ولقاءاته مع العلماء والباحثين والمفكّرين، لأنّه مطّلعٌ على ما يثار في بعض الأوساط، أنّ علماء الشيعة يعتقدون بتحريف القرآن الكريم، ولا سيّما في مواقع الإنترنت التي تجعل من مقولة التحريف عند الشيعة مقولةً سائدة!!
في تأبينه للسيّد المفسّر، استذكر الدكتور محمد سليم العوّا - الأمين العام السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين - موقفه من مقولة التحريف، بقوله: "وأنا لا زلت أتذكّر للراحل الكريم، أنّه عندما سألوه عمّا يقوله البعض بأنّ القرآن محرَّف، ردَّ قائلاً: والمتسالم عليه عند علماء المسلمين الشيعة، كما هو عند علماء السنة، أنّ القرآن هو كتاب الله المعصوم الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ}(فصّلت: 42)، وأنّ الله نصّ على ذلك بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر: 9)؛ لذلك، فإننا نعتبر أنّ كلّ من يلتزم بتحريف القرآن، هو إنسانٌ ينحرف عن النصّ القرآني والتسالم بين المسلمين، ثمّ إنّنا عندما ندرس بعض هذه النصوص لكونها قرآناً وليست قرآناً، فإنّنا نجد أنّها لا تنسجم مع القرآن في بلاغته وإعجازه، بل إنّ الإنسان الذي يملك الثقافة البلاغية يرفض أن تنسب إليه، فكيف يمكن أن تنسب إلى الله؟ إنّنا نؤكّد أنّ القرآن هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنّ كلّ من ذهب إلى التحريف هو منحرف عن الخطّ الأصيل للعصمة القرآنية"( ).
 وما جاء في ظاهر الروايات من التحريف، إنّما هو على صعيد التحريف المعنوي الذي صرَّح به القرآن، والذي سعى - ولا زال - الذين في قلوبهم زيغ إلى تحريف الآيات عن مواضعها، فكانت معارك التأويل بعد معارك التنـزيل، تسفك في ساحتها الدماء، وتزهق فيها الأرواح وتهتك الأعراض، ولا زال القرآن يرفع على رؤوس الرماح، ويؤوّل بتأويلات ما أنزل الله بها من سلطان، ليكون في خدمة الطغاة، إذ يجعلونهم مصداقاً لأولي الأمر الذين تجب طاعتهم كطاعة الله ورسوله، حتى لو كانت قلوبهم (قلوب شياطين في جثمان إنس)!! وحتى لو قتلوا سيّد شباب أهل الجنة وريحانة الرسول، وسبوا عياله وأرعبوا أطفاله، لأنّه ألقى نفسه في التهلكة، لخروجه على إمام زمانه!!
حفظ الله للقرآن.. في مستوى الحقيقة
وتحت هذا العنوان، أكّد السيّد المفسّر أمراً هامّاً يصلح أن يكون دليلاً عملياً على مدى خواء تهمة التحريف وهزالها، ألا وهو "استمرار القرآن لدى جميع المسلمين، في صيغة واحدة، في ما يلتزمونه كمصدر للتشريع، وفي ما يقرأونه في الصلاة وفي غيرها، وفي ما يثيرونه على ضوئه في حياتهم من مفاهيم وعقائد... فليس هناك في العالم الإسلاميّ كلّه، ولا في غيره، صيغة أخرى أو نسخة أخرى يختلف فيها القرآن لدى مذهب عنه لدى مذهب آخر، بالرغم من وجود كلمات شاذّة هنا أو هناك، فإنّ مثل هذه الكلمات لم تستطع أن تنفذ إلى مستوى العقيدة العامة.
 وإذا كان بعض الذين ذهبوا إلى القول بالتحريف، يملكون موقعاً متقدّماً من حيث العلم والوثاقة لدى أهل مذهبهم، فإنّهم لم يتمكنوا من النفاذ إلى واقع الناس العقيدي والعملي، كما أنّهم لا يملكون الوعي الّذي يستطيعون به إدراك خطورة هذا الاتجاه على مستوى العقيدة الإسلامية، عندما يتسرّب الخلل إلى النص القرآنيّ.
 هذا إلى جانب أنّ هؤلاء لا يملكون الذوق الفني الذي يعينهم على فهم أسرار اللغة العربية، ليقارنوا بين هذه الكلمات التحريفية، وبين الأسلوب القرآني المعجز، فبقي كلامهم لغواً وجدلاً عقيماً لا قاعدة ثابتة له، غرضه تسجيل النقاط على غيرهم من الفرق لحسابات مذهبية أو سياسية، لذا لا بدَّ من الابتعاد عنه عند تناول القرآن"( ).
مصحف الزّهراء
تحت هذا العنوان، نبَّه تفسير (من وحي القرآن) إلى ما يثار من ضجة التحريف بوجود كتاب اسمه "مصحف الزهراء"، انطلاقاً من بعض الأحاديث المأثورة عن أهل البيت(ع) التي قد توحي لدى البعض بأنّه يمثل "قرآناً آخر" أو شيئاً من القرآن، فقد فهم البعض ما جاء في مضمون بعضها: "إنّه ثلاثة أمثال قرآنكم"، "وما فيه حرف من القرآن". وفي بعض الروايات كما ورد عن الإمام جعفر الصادق(ع): "عندي الجفر الأبيض... ومصحف فاطمة... أما واللَّه ما فيه حرف من القرآن، ولكنّه إملاء رسول الله وخطّ عليّ"، بأنّه قرآن خاص بالشيعة، بينما يرى السيّد أنّ هذه الروايات وأمثالها، توحي بأنّه "ليس مصحفاً كبقية المصاحف لجهة ما توحيه كلمة المصحف، ولكنه كتاب حديث يشتمل على أحكام الشرع ونحوها، مما أملاه رسول الله على عليّ(ع)‏، وفي بعض الأحاديث، أن فيه وصية فاطمة". وإنّ مجيء الروايات ضمن باب: أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلا الأئمة، كما جاء في الكافي، لا يعني الجمع بمعناه المادي، وأنّه بديل من المصحف الذي جمعه الصحابة، كما يذهب إليه البعض، بل بمعنى الاستيعاب والفهم والوعي، وروايات الباب ذاته تؤكّد ذلك، كرواية: "ما يستطيع أحد أن يدَّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء". ورواية: "إنّ من علم ما أوتينا تفسير القرآن وأحكامه"، ورواية: "والله، إنّي لأعلم كتاب الله من أوّله إلى آخره".( )
يقول السيد المفسّر: "ولعلَّ الملاحظ في مثل هذا الموضوع الذي يثير مثل هذه الضجَّة لدى كثيرٍ من الكتّاب، أنّه يتحرَّك ضمن خطةٍ إعلاميةٍ تستهدف تسجيل نقطة سلبيّة ضدّ بعض المذاهب الإسلامية دون نقدٍ أو تمحيص. وفي الواقع، أنَّ أيّ مسلم مخلص يستطيع أن يعرف كذب مثل هذه الإثارة، من خلال ملاحظة واقعية، وهي أنّه لو فتش في شرق الأرض وغربها على نسخة واحدة من مصحف فاطمة، لن يجدها، لعدم وجود المصحف أساساً في كلّ الأوساط، حتى بطريقة خفيّة، كما أنّ أحداً لا يعتقد بوجوده"( ).
مناقشة روايات التّحريف
ويمكن أن نذكر بعض الموارد التي وقف عندها تفسير (من وحي القرآن) ليناقش روايات التحريف فيها، مناقشةً علميةً هادئة:
 أمّة أم أئمّة؟
في تفسيره لآية: {كنتم خير أمّة أخرجت للناس}(آل عمران 110)، وقف على بعض روايات التحريف التي تدّعي كلمة الأئمة بدلاً من كلمة الأمّة:
الرواية الأولى - علي بن إبراهيم قال: حدثني أبي عن ابن أبي عمير، عن ابن سنان، عن أبي عبدالله(ع)، قال: "قرئت عند أبي عبدالله(ع): {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...}، فقال أبو عبدالله(ع): خير أمّة تقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين ابني عليّ(ع)؟
 فقال القارئ: جعلت فداك، كيف نزلت؟
 قال: نزلت: "كُنْتُمْ خَيْرَ أئمّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ"، ألا ترى مدح الله لهم: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}(آل عمران:110).
الرواية الثّانية - في تفسير العياشي عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبي عبدالله(ع) قرأ في قراءة عليّ: "كنتم خير أئمّة أخرجت للنّاس"، قال: هم آل محمّد.
يلاحظ تفسير (من وحي القرآن) على هاتين الروايتين ملاحظات نقدية عديدة:
أوّلاً: سند الروايتين، فإنّ المراد في الأولى بابن سنان - على الظاهر - محمد بن سنان، الذي لا يعتمد الأكثر على روايته، أما في الثانية، فهي مرسلة.
ثانياً: أنّ إسناد ضمير "أُخْرِجَتْ" إلى الأئمة قد يكون خطأً من الناحية اللّغويّة، لأنّ الجمع المذكر لا بدَّ من أن يسند إليه الضمير في الفعل بنحو المذكّر لا بنحو المؤنث، فلا بدَّ من أن يقول: "أخرجوا"، وإنما يجوز الإسناد إليه بنحو التأنيث إذا كان إسناد الفعل إلى الظاهر، كما تقول جاء الأئمة بتقدير كلمة "جمع"، وجاءت الأئمة بتقدير كلمة "جماعة"، وإذا لم يكن ذلك، فليس بليغاً على الأقلّ.
ثالثاً: إنّه وردت الرواية المتقدمة عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله الصّادق بالتأكيد على القراءة المشهورة: {خَيْرَ أُمَّةٍ}، وتفسيرها بأنّها الأمّة الوسطى، ما يعارض القراءة المذكورة في الروايتين بكلمة "أئمّة".
رابعاً: أنّ الرواية الأولى ضعيفة الدلالة، لأن استنكار الصادق - على‏ تقدير صدق الرواية - أنّ يكون الذين قتلوا علياً والحسنين(ع) مشمولين بهذه الآية، وذلك من خلال ورود الصفات الثلاثة التي لا تنطبق عليهم، لا يعني عدم ملاءمة ورود كلمة "الأمة" في الآية، لأن المفروض أن هذه الصفات توحي بانحصار الأمة المفضَّلة بالأمة الواجدة لهذه الصفات، ولا تشمل كل المسلمين، لأن الوصف يوحي بالتقييد، فالتعليل لا ينطبق على التبديل.
وفي ضوء هذا، فقد تكون المسألة في الرواية واردةً على سبيل التفسير بأنَّ المراد بهم الأئمة(ع)، ومن يماثلهم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمؤمنين باللّه، بمعنى التفسير بالمصداق، ولكن التعبير ورد على هذا الشكل.
ويناقش السيد المفسّر ما ادَّعاه المستشرق اليهودي "جولد تسيهر" الذي حاول أن يفسّر مثل هذا التبديل للأمة بالأئمة، بأنّ الشيعة - من خلال أئمتهم - لا يوافقون على أن يكون للأمّة دور في القرآن، فلذلك عمدوا إلى تبديل كلّ كلمة للأمة بالأئمة.
ويردّ عليه بثلاث ملاحظات:
أوّلاً: أنّ الرواية الواردة بهذا المضمون قد تكون واحدةً أو اثنتين، وليست بهذا الشمول الذي يدَّعيه هذا المستشرق.
ثانياً: أنّ الشيعة لم يعترفوا بهـذه الروايات، ولم يلتزموها في المصاحف التي كتبوها، لأنّهم - بأجمعهم - لا يرون صحّة نسبة التّحريف إلى القرآن، بل يرون أنّه هو القرآن الموجود بين الدفتين الذي يتداوله المسلمون من دون أية زيادة أو نقصان، لأنّه الكتاب الذي: {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ}(فصلت: 42)، لأنّ الله قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}(الحجر: 9)
وإذا كان بعض علمائهم، وهو الشيخ حسين النوري، قد ألّف كتاباً في إثبات التحريف، فإن العلماء المتأخرين من بعده قد ردّوا عليه أبلغ ردّ، ومنهم السيد أبو القاسم الخوئي(قده) في كتابه "البيان في تفسير القرآن"، وقد تحدّث فيه أنّ الرّوايات الواردة في هذا المجال، بين ضعيفة السند أو ضعيفة الدلالة، أو محمولة على التفسير لا على التنـزيل.
ثالثاً: أنّ أبلغ دليل على رفض المسلمين الشيعة وأئمتهم للتحريف أمران:
الأوّل: أنّ الأحاديث تواترت عن أئمّة أهل البيت(ع) بإرجاع النّاس إلى كتاب الله في توثيق الرّوايات من حيث المضمون، فقالوا: "ما خالف كتاب الله فهو زخرف"، وفيه توجيه إلى أن لا نقبل عليهم ما خالف كتاب الله، وكانوا يشيرون إلى الكتاب الموجود بين أيدي المسلمين، فإنّه ليس لدى الشيعة في كلّ عصورهم كتاب قرآني من نوع آخر.
الثاني: أنّ الشيعة الذين كتبوا نسخ القرآن في الماضي، أو طبعوه فيما بعد، لم يختلفوا في كتابتهم وفي طباعتهم عن المسلمين، ولذلك فإنَّ أيّ إنسان يملك أيّة قوة أو سيطرة في الاطلاع على أسرار الواقع الداخلي للشّيعة، في عملية هجوم أو اقتحام، لم يجد ولا يجد أيّة نسخة قرآنية مختلفة عمَّا هو لدى الناس.( )
التأويل والتفسير
انطلاقاً من آية المحكم والمتشابة (آل عمران: 7)، وروايات أسباب النـزول، يرى السيّد المفسر أنّه لا مانع من أن نذهب إلى أنّ تأويل المتشابهات يكون على صعيد العلاقة بين اللفظ والمعنى، وليس على صعيد علاقة المعنى بالمصاديق الخارجية فحسب؛ لأنّ "ذكر التأويل السلبي لدى الذين في قلوبهم مرض، إلى جانب الحديث عن المتشابه، واستغلالهم التشابه الذي قد يحتمل معنى آخر، إضافةً إلى ذكر المحكمات اللاتي هُنَّ أمّ الكتاب، باعتبارها القاعدة التي يرجع إليها كلّ ما في الكتاب حتى المتشابه، إنّ هذا يوحي بأنّ تأويل الآية يتصل بإرجاعها إلى معناها الحقيقي الذي قد يتمثل بالمقارنة بينها وبين الآيات المحكمة التي تصرف اللفظ عن ظاهره الأوّل، ليتخذ لنفسه ظهوراً ثانوياً في معناه المجازي الوارد على سبيل الاستعارة، وهذا ما يظهر من الروايات الواردة في أسباب النـزول، من محاولة النّصارى تأويل الآيات النازلة في عيسى لمصلحة عقائدهم، أو محاولة المجسّمة حمل الآيات الظّاهرة، بدواً، في التّجسيم، على ما يعتقدونه، بعيداً عن المقارنة بالآيات الأخرى.
وخلاصة الملاحظة، أنّ التأويل الحقّ الذي يعلمه الله والراسخون في العلم، هو في سياق التأويل الذي حاول الذين في قلوبهم مرض الاستفادة منه لمصلحة عقائدهم، من حيث حمل اللفظ عليه.
أما علاقة ذلك بالواقع، فمن جهة أنّ الواقع يدلّ على صدق الآية في معناها عندما يكون الحديث عن قضايا خفية أو مستقبلية"( ).
معنى التأويل
يرى السيّد المفسّر أنَّ كلَّ النصوص القرآنية التي جاءت فيها لفظة التأويل، ترجع بالكلمة إلى معناها اللغوي الأصيل، وهو "الرجوع"، لأنّها مأخوذة من "الأول"، أي الرجوع إلى الأصل، وذلك بإرجاع الأمور إلى حقيقتها، والكلمات إلى مقاصدها، والأحداث إلى واقعها، والأعمال إلى أسرارها وخلفياتها.
ولهذا فإنّها تعني ما تتضمّنه الكلمة من حقائق وخلفيات وأسرار خفية في النفس أو في الواقع، حاضراً أو مستقبلاً. وهذا معنى تأويل الرؤيا أو تأويل الأحداث أو تأويل الأنباء، وتأويل كلّ شيء بحسبه.
"وفي ضوء ذلك، يكون المقصود من تأويل هؤلاء الذين في قلوبهم مرض، هو إرجاع الأمور إلى غير حقيقتها، وتحويلها عن مصادرها الحقيقية في النفس وفي الواقع، وتحريف النصّ عن مساره الطبيعي في الإنسان والحياة".
وعلى هذا المعنى للتأويل، تكون (الواو) عاطفةً لا استئنافية، في قوله تعالى: {والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(آل عمران:7)، ليكون الوقف على (العلم) لا على (الله)، فيكون الراسخون في العلم يعلمون تأويل ما تشابه من القرآن الكريم.
وبذلك يكون التأويل في آية المحكم والمتشابه على نحوين، سلبيّ وإيجابيّ، من قبل الذين في قلوبهم زيغ والراسخين في العلم.
وقد ذكر السيد المفسر العديد من الشواهد والقرائن على ما ذهب إليه من معنى التأويل:
أوّلاً: استقراء مفردة (التأويل) في مواردها المختلفة في القرآن الكريم:
"في قصة موسى(ع) مع صاحبه الذي يقال إنّه "الخضر" في حديثه معه حول ما استغربه موسى(ع) واحتجّ عليه من أفعال صاحبه في السفينة التي خرقها، والغلام الذي قتله، والجدار الذي أقامه من دون أن يأخذ عليه عوضاً، فقد قال له ـ تفسيراً لذلك ـ {قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتأويل ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}(الكهف: 78). وقال له ـ بعد فراغه من حديثه معه ـ {ذلِكَ تأويل ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}(الكهف: 82)".
 "في قصة يوسف(ع) مع أبيه يعقوب {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}(يوسف: 100)، وهي إشارة إلى رؤياه في بداية القصة، وذلك قوله تعالى: {إذ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشَّمْسَ والْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ}(يوسف: 4)"( ).
"مع صاحبي السجن عندما طلبا منه تأويل رؤياهما، وحديث الملك - عزيز مصر - عن تأويل رؤياه، وتذكر الذي نجا من السجن ليوسف ومجيئه ليطلب منه تأويل رؤيا الملك التي فتحت له - من خلال تأويله - الباب إلى حكم مصر".
"في الحديث عن هذا العلم ـ تأويل الأحلام ـ الذي أطلق عليه تأويل الأحاديث، مما وهبه الله ليوسف في قوله تعالى: {وكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ويُعَلِّمُكَ مِنْ تأويل الْأَحادِيثِ}(يوسف: 6)، وقوله تعالى: {ولِنُعَلِّمَهُ مِنْ تأويل الْأَحادِيثِ}(يوسف: 21)، وقوله تعالى: {وعَلَّمْتَنِي مِنْ تأويل الْأَحادِيثِ}(يوسف: 101)".
"في الحديث عن يوم القيامة في قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ولَمَّا يَأْتِهِمْ تأويلُهُ}(يونس: 39) وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تأويلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تأويلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ}(الأعراف: 53)"( ).
ثانياً: وصف الرسوخ في العلم يدلُّ على التسليم العقلي الواعي في الإيمان، وليس تسليماً إيمانياً مجرداً، ولذلك يحرصون على تأويل المتشابه على ضوء المحكم، لأنّه الأصل والأم.
إنّ الراسخين في العلم "يواجهون المتشابه من موقع إيمانهم بأنَّ الكتاب من عند الله، في محكمه ومتشابهه، فلا تختلف آياته، ولا تتنافر معانيه، ما يجعل بعضه يفسّر البعض الآخر. ولذلك فإنّهم يستخدمون علمهم من أجل أن يؤكّدوا إيمانهم وإيمان الناس به، فيعلنونه في موقع حاسم لا مجال للشكّ فيه، ليقولوا: {آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}(آل عمران:7) الذي جعل المحكم، الذي {هو أمّ الكتاب} ومصدره ومرجعه، دليلاً على المتشابه، وجعلهما معاً نوراً وهدى للناس، فليست مسألة تسليم إيمانيّ مجرّد، بل هو تسليم عقليّ واع في الإيمان"( ).
إنّ المراد من الراسخين في العلم: {وما يَعْلَمُ تأويلَهُ إِلَّا اللهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(آل عمران:7) "الذين يملكون رسوخاً في العلم بالمستوى الذي يستطيعون به أن يفهموا كتاب الله ودينه وشريعته، وحقائق الحياة الدالة على وجوده وتوحيده، وحركة الحكمة في تجربتهم العملية في الحياة، وقد ورد هذا التعبير في آية أخرى، وهي قوله تعالى: {لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ والْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}(النساء: 162)".
يؤكِّد السيد المفسِّر أنَّ "هذه الصفة (الرسوخ في العلم) لا دور لها إذا لم يكن للراسخين في العلم من دور إلا الإعلان بأنَّ المحكم والمتشابه من عند الله تعالى... أمّا إذا كانت معطوفةً على كلمة الله، بحيث تدلّ على أنهّم يعلمون تأويل القرآن في ما تشابه من آياته، فإنّها توحي بأنّ رسوخهم في العلم جعلهم يتدبرون القرآن، فيفهمون التناسب بين آياته في ما تمثّله من حقائق العقيدة والحياة، وبذلك لا يجدون في آية واحدة منها ما يبتعد عن المعنى الذي توحيه الأخرى، وبهذا يكون للإيمان بأنها - جميعاً - من عند الله، معنى مناسب للتدقيق في معرفة طبيعة المعنى هنا وهناك"( ).
وهذا ما أشار إليه ابن أبي الحديد في شرح النهج، بقوله: "إنّ من الناس من وقف على قوله: إِلاَّ الله، ومنهم من لم يقف على ذلك، وهذا القول أقوى من الأول، لأنّه إذا كان لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله، لم يكن في إنزاله ومخاطبة المكلَّفين به فائدة، بل يكون كخطاب العربي بالزنجية، ومعلوم أنّ ذلك عيب قبيح"( ).
ثالثاً: طبيعة القرآن ومقاصده، وكونه منهج حياة، يؤيدّ أنّ الآيات المتشابهة يمكن فهمها وإدراك معانيها ودلالاتها.
يقول السيّد: "إنّ القرآن قد جاء هدى للناس، يفتح قلوبهم على المعرفة الحقّة التي يريدها الله للحياة، فلا بدَّ من أن يكون - بطبيعته - هادياً للوصول إلى الحقيقة، بحيث يكون أساساً للحجة والبرهان على الحقّ من دون حاجة إلى وسائل غير عاديّة. وهذا مما لا يتناسب مع اختصاص العلم بالله، ليكون حاله حال العلم بالغيب الذي لا يستطيع الإنسان أن يصل إليه إلا من قبل الله، فلا يملك أيّة وسيلة ذاتية إليه. وهذا لا يتناسب مع طبيعة القرآن ودوره في هداية الناس إلى التصوّر الصحيح، في ما يريد الله لهم أن يؤمنوا به أو يرفضوه"( ).
رابعاً: روايات أهل البيت(ع)، تؤكّد أنّهم هم الراسخون في العلم، وأنّها وإن كانت واردةً على سبيل المصداق، بيد أنّهم المصداق الأكمل والأفضل، لأنّ "علمهم مستمدّ من علم النبيّ(ص)"( ).
وقد جاء في حديث النبيّ محمّد(ص): "أنا مدينة العلم وعليّ بابها".
وفي حديث الإمام عليّ(ع) قال: "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، يفتح لي في كلّ باب ألف باب"( ).
وما رواه العياشي في تفسيره، عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر محمّد الباقر(ع) عن هذه الرواية: "ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن، وما فيه حرف إلّا، وله حدّ ولكلّ حدّ مطلع. ما يعني بقوله: لها ظهر وبطن؟ قال: ظهره وبطنه، تأويله، منه ما مضى، ومنه ما لم يكن بعد، يجري كما تجري الشمس والقمر، كلّما جاء منه شي‏ء وقع، قال الله تعالى: {وما يَعْلَمُ تأويلَهُ إِلَّا اللهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(آل عمران7)"( ).
يقول السيّد: "نستطيع الوقوف مع الروايات الكثيرة الواردة عن الأئمة(ع)، والمفسرة لبعض آيات القرآن بأهل البيت(ع)، لنجد أنّ البعض منها كان مختصاً بهم، "كآية التطهير" و"المودّة في القربى"، بينما كانت الآيات الأخرى منطلقةً في الخطّ العام الذي يمثّل أهل البيت(ع) النموذج الأكمل له، كآية {والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(آل عمران:7)، و{لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ}(الرعد:7)، و{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}(النحل:43)، و{مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ}(الرعد:43)، و{كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، و{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا}(فاطر:32)"( ).  
وقد روي عن أبي جعفر(ع) أنّه قال: "كان رسول الله أفضل الراسخين في العلم، قد علم جميع ما أنزل الله عليه من التأويل والتنـزيل، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله، وهو وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه".
والظاهر أنّ الإمام الباقر(ع) كان في مقام تطبيق الآية على الرسول والأئمة، وكان ابن عباس يقول: أنا من الراسخين في العلم، في إشارة إلى انطباق الآية عليه"( ).
وقد ذكرت التفاسير الروائية، كتفسير نور الثقلين، العديد من الروايات عن أهل البيت(ع)، تؤكّد أنّ الراسخين في العلم هم النبيّ(ص) وأهل بيته(ع).
عن أبى بصير عن أبي عبدالله(ع) قال: نحن الراسخون في العلم، ونحن نعلم تأويله.
وعن بريد بن معاوية، عن أحدهما في قول الله عزّ وجلّ: {وما يَعْلَمُ تأويلهُ إِلَّا الله والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}: "فرسول الله(ص) أفضل الراسخين في العلم، قد علَّمه الله عزَّ وجلَّ جميع ما أنزل عليه من التنـزيل والتأويل، وما كان الله لينـزل عليه شيئاً لم يعلمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه، والذين لا يعلمون تأويله، إذا قال العالم فيهم بعلم، فأجابهم الله بقوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا}، والقرآن خاص وعام، ومحكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه".
وعن عبد الرحمن ابن كثير عن أبي عبدالله(ع) قال: الراسخون في العلم أمير المؤمنين والأئمة من بعده(ع).
وبإسناده إلى أبي جعفر الباقر(ع) حديث طويل يقول فيه(ع): "فإن قالوا: مِنَ الراسخون في العلم؟ فقل: من لا يختلف في علمه، فإن قالوا: فمن هو ذاك؟ فقل: كان رسول الله(ص) صاحب ذلك، فهل بلَّغ أو لا؟ فإن قالوا: قد بلَّغ، فقل: هل مات(ص) والخليفة من بعده يعلم علماً ليس فيه اختلاف؟
فإن قالوا: لا، فقل: إنَّ خليفة رسول الله(ص) مؤيّد، ولا يستخلف رسول الله(ص) إلا من يحكم بحكمه، وإلا من يكون مثله إلا النبوَّة، وإن كان رسول الله(ص) لم يستخلف في علمه أحداً، فقد ضيَّع من في أصلاب الرجال ممن يكون بعده"( ).
في عيون الأخبار في باب مجلس الرضا(ع) عند المأمون مع أهل الملل والمقالات، وما أجاب به عليّ بن جهم في عصمة الأنبياء: حديث طويل يقول فيه(ع) لعليّ بن الجهم: "ويحك يا عليّ، اتقِ الله، ولا تنسب إلى أولياء الله الفواحش وتتأوَّل كتاب الله برأيك، فإن الله عزّ وجل يقول: {وما يَعْلَمُ تأويلَهُ إِلَّا اللهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، أما قوله عزَّ وجلّ في آدم‏...".( )
وجاء في نهج البلاغة: "أَيْنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ دُونَنَا كَذِباً وبَغْياً عَلَيْنَا أَنْ رَفَعَنَا الله ووَضَعَهُمْ، وأعْطَانَا وحَرَمَهُمْ، وأدْخَلَنَا وأخْرَجَهُمْ، بِنَا يُسْتَعْطَى اَلْهُدَى، ويُسْتَجْلَى الْعَمَى" ( ).
بيد أنّنا نجد خطبةً أخرى قد يفهم منها معنى آخر: "فَانْظُرْ أَيُّهَا اَلسَّائِلُ، فَمَا دَلَّكَ القرآن عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ، فَائْتَمَّ بِهِ، وَاسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ، ومَا كَلَّفَكَ اَلشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي اَلْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ، ولاَ فِي سُنَّةِ اَلنَّبِيِّ(ص) وأَئِمَّةِ اَلْهُدَى أَثَرُهُ، فَكِلْ عِلْمَهُ إلى الله سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ الله عَلَيْكَ، واِعْلَمْ أَنَّ اَلرَّاسِخِينَ فِي اَلْعِلْمِ هُمُ اَلَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اِقْتِحَامِ السُّدَدِ اَلْمَضْرُوبَةِ دُونَ اَلْغُيُوبِ، اَلْإِقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ اَلْغَيْبِ اَلْمَحْجُوبِ، فَمَدَحَ الله اِعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً، وسَمَّى تَرْكَهُمُ اَلتَّعَمُّقَ فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ اَلْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً، فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ، ولاَ تُقَدِّرْ عَظَمَةَ الله سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ فَتَكُونَ مِنَ اَلْهَالِكِينَ" ( ).
وقد علّق ابن أبي الحديد على هذا المقطع من الخطبة بقوله: "واعلم أن هذا الفصل يمكن أن تتعلّق به الحشوية المانعون من تأويل الآيات الواردة في الصفات، القائلون بالجمود على الظواهر، ويمكن أيضاً أن يتعلق به من نفى النظر وحرَّمه أصلاً، ونحن قبل أن نحقّقه ونتكلّم فيه، نبدأ بتفسير قوله تعالى {وما يَعْلَمُ تأويلَهُ إِلاَّ الله واَلرَّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ}(آل عمران:7)، فنقول إنّ من الناس من وقف على قوله: "إِلّا الله"، ومنهم من لم يقف على ذلك، وهذا القول أقوى من الأول، لأنّه إذا كان لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله، لم يكن في إنزاله ومخاطبة المكلفين به فائدة، بل يكون كخطاب العربي بالزنجية، ومعلوم أنّ ذلك عيب قبيح"( ).
وفصَّل بعد ذلك بشرح المقصود من الغيب المحجوب: "هو ما لم يأتِ الكتاب والسنّة فيه بشيء، فهو الذي حرم وحظر على المكلفين الفكر فيه"( ).
فيما شرح العلامة الشيخ محمّد جواد مغنية تلك الفقرة بقوله: "وكلام الإمام(ع) هنا يدلُّ بصراحة على أنّ الراسخين في العلم هم الذين يعرفون ويميّزون بين ما يمكن العلم به، وبين ما لا يمكن، ويقفون عند هذا الغيب المحجوب، ويعترفون بجهلهم به، ولا يتكلَّفون معرفته ويتعسفون، وفي الوقت نفسه، يحاولون جهدهم أن يعرفوا ما أنزل الله على نبيّه"( ).
معنى التشابه‏
يرى تفسير (من وحي القرآن)، أنّ (التشابه) في الآيات المتشابهة لا يعني التشابه على صعيد العلاقة بين اللفظ والمعنى، فإنَّ للمتشابه ظهوراً لفظياً، بيد أنّ المقصود هو غير ما يتبادر من الظهور، ولذا يقول: "إنّ التشابه لا يعني المجمل الذي لا يملك أيّ ظهور للفظ في المعنى، كالألفاظ المشتركة وضعاً، أو المحاطة بقرائن مجملة توجب إجمالها، بل المراد به اللفظ الظّاهر في معنى معين في الظهور الأوّلي، الذي يراد به معنى آخر، ببركة القرينة الواضحة التي تمنحه ظهوراً ثانوياً، بحيث لا يشكّ السامع أو القارئ في مدلوله الحقيقي بعد ذلك، تماماً كما هي قرينة المجاز التي تلحق الكلام، فتؤدّي إلى ظهوره في المعنى المجازي الجديد‏"( ).
وإذا أرجعنا الآيات المتشابهات إلى المحكمات، استطعنا فهم المتشابه فهماً سليماً، لأنّ القرآن يفسِّر بعضه بعضاً، لندرك المعنى المقصود من الآية المتشابهة، لتكون محكمةً بصورة غير مباشرة.( )
يرى السيّد المفسّر، أنّ "الدراسة الواعية الدقيقة للقرآن في كلّ موضوعاته الفكرية والعقيدية والتشريعية، ومفاهيمه العامة المنفتحة على حقائق الكون والحياة والإنسان وعالم الغيب والشهادة، توحي إلى القارئ الباحث بأن آيات القرآن تتكامل في بناء الفكر الإسلامي، فإذا كانت هذه الآية توحي بمعنى في بادئ الأمر، فإنّ الآية الأخرى تفسّرها لتلتقيَ بها في معنى واحد، وإذا جاء الحكم الشرعي في بعضها عاماً أو مطلقاً، فإنّنا نلتقي في بعضها الآخر بما يخصصه أو يقيده، فلا يجد الإنسان فيه اختلافاً بين أفكاره، أو تنافراً بين آياته، أو غموضاً في معانيه، بل هو الوضوح الذي يستمدّ طبيعته من طبيعة الألفاظ في معانيها الموضوعة، ومن عمق التدبّر في أغوارها العميقة، ومن المقارنة الموضوعية بينها، في عملية التكامل في حركة الأفكار في بنيتها الأساسية"( ).
وهذا هو معنى التدبّر في قوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القرآن ولَو كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}(النساء: 82).
المحكمات هنّ أمّ الكتاب
الآيات المحكمات هنّ أم الكتاب، "أي القاعدة التي ترجع إليها كلّ الآيات في معناها، باعتبارها تمثّل الحقيقة الحاسمة التي لا ريب فيها ولا التباس يمكن لأصحاب القلوب الزائغة استغلاله لحرف الناس عن جادة الحقّ والصواب.
فعند هذه الآيات الأصل تلتقي كلّ حقائق المعرفة، وإليها ترجع كلّ الاحتمالات".
أمّا الآيات المتشابهات، فإنّها "لا تملك من الوضوح في الدلالة على معناها ما تملكه الآيات المحكمات، فقد يتردد معناها بين نوعين من المعاني، من حيث تبادر المعنى الحقيقي من اللفظ عند إطلاقه، فيخيّل إلى السّامع أنّه المراد منه، ومن حيث وجود بعض القرائن الموحية بالمعنى المجازي أو الكنائي"( ).
ويضرب السيّد مصاديق للآيات المتشابهة بسبب حديثها عن أمور غيبية في وصف الله تعالى، أو بسبب كونها من الآيات المنسوخة التي لا يعمل بها:
1- قوله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى}(طه: 5)، "فإنّ كلمة الاستواء على العرش، قد توحي بالجلوس عليه والاستقرار فوقه بالمعنى المادي، بما يدلّ على التجسيم للذات الإلهية، تماماً كبقية الأجسام التي يعرض عليها القيام والقعود.
وقد يكون المراد به الاستواء المعنويّ، بمعنى السيطرة والهيمنة على الملك، من حيث استعارته كلمة العرش للملك، وكلمة الاستواء للسيطرة، فيدور الأمر بينهما، فنرجع إلى الآية المحكمة التي لا مجال فيها لأيّ تأويل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(الشورى: 11)، التي تنفي عن الله - بكلّ وضوحٍ وصراحة - كلّ مماثل في الذات، فتنفي عنه مماثلته للمخلوقات في الجسد، فيتعين المعنى الثاني الذي يبدو واضحاً محكماً بلحاظ هذه الآية"( ).
2- قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إلى رَبِّها ناظِرَةٌ}(القيامة: 22- 23)، "فإنّها توحي - في البداية - من خلال معنى الإبصار المنفتح على الله بشكل حسيّ، تماماً كما لو كان جسماً يرى، لأنّ معنى اللفظ - بحسب الوضع - هو ذلك، ولكنّنا إذا قارناه بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وهُو يُدْرِكُ الْأَبْصارَ}(الأنعام: 103)، التي تدلّ دلالةً واضحةً على امتناع إدراك الأبصار له، كانت مفسرةً لتلك الآية بأنَّ المراد بالنظر إلى الله، النظر العقلي أو الروحي، لا الحسي، أو النظر إليه من خلال النظر إلى مواقع عظمته، فيرتفع اللبس، وتتضح الصورة كأيّ لفظٍ تحيط به القرينة اللفظية أو العقلية على إرادة خلاف ظاهره، ليتخذ اللفظ لنفسه ظهوراً ثانوياً ينبثق معناه إلى الذّهن، تماماً كما هو المعنى الحقيقي"( ).
3- الآيات المنسوخة من الآيات المتشابهة على اختلاف العلماء في موارد الناسخ والمنسوخ، لأنّ الآية المنسوخة ظاهرة "في امتداد الحكم إلى آخر الزمان، كحكم حاسم شاملٍ لكلّ امتدادات الزمن، فإذا جاءت الآية الناسخة، كانت دليلاً على إرادة الحكم المحدود من تلك الآية، ولكن الله أخَّر تحديدها إلى زمن نزول الآية الأخرى، بحيث تؤدّي المقارنة بينهما إلى وضوح الدلالة، فتتحوَّل الآية المتشابهة في ذاتها إلى آية محكمة بلحاظ الآية المحكمة الأخرى"( ).
أهل البيت(ع) أفضل مصاديق الراسخين وأكملها
يؤكّد تفسير (من وحي القرآن)، من خلال ما تقدَّم من الروايات الواردة عن أهل البيت(ع)، وهي من الروايات المصداقية التطبيقية التي تحدّد بعض مصاديق الراسخين في العلم، أنّ الأئمة(ع)، وعلى رأسهم عليّ بن أبي طالب(ع)، يمثلون المصداق الأفضل والأكمل لمفهوم الراسخين في العلم، على أن تبقى هذه الصفة شاملةً لآخرين وإن كانت بدرجات متفاوتة، شدّةً وضعفاً، شأنها شأن كلّ المفاهيم المشككة غير المتواطئة، كالإيمان والتقوى والإحسان .
روي عن أبي جعفر(ع) أنّه قال: "كان رسول الله أفضل الراسخين في العلم، قد علم جميع ما أنزل الله عليه من التأويل والتنـزيل، وما كان الله لينـزل عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله، وهو وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه"( ).
يقول السيّد المفسّر: "وإذا كانت بعض الأحاديث قد تحدّثت عن النبيّ محمّد(ص) والأئمة(ع)، فإنّ ذلك وارد على سبيل أنّهم أفضلُ المصاديق، لأنّ علم النبيّ مستمدّ من وحي الله وإلهامه، كما أنّ علمهم مستمدّ من علم النبيّ(ص).
وقد جاء في حديث النبيّ محمّد(ص): "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"( ).
وفي حديث الإمام عليّ(ع) قال: "علّمني رسولُ الله  ألف باب من العلم، يفتح لي من كلّ باب ألف باب".
وقال الإمام جعفر الصّادق(ع) في ما روي عنه ما مضمونه: "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث‏ الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله(ص)، وحديث رسول الله(ص) قول الله عزّ وجلّ".
وهؤلاء هم الصفوة العليا من الراسخين في العلم، وممن أخذوا من العلم بقدر واسع"( ).
وإذا كانت الروايات في تشخيص الراسخين في العلم تؤكّد على أهل البيت(ع)، لأنّهم أكمل المصاديق، فلا مانع من أن يكون ابن عباس مثلاً من الراسخين، باعتباره تلميذ عليّ(ع)، ولذا يروى عنه قوله: أنا من الراسخين في العلم، "في إشارةٍ إلى انطباق الآية عليه"( ).
من هم أهل الذّكر المسؤولون؟
{وما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}(النّحل: 43).
{وما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* وما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وما كانُوا خالِدِينَ}[الأنبياء: 7-8].
مع أنّ القرآن من الذّكر، وأنّ أهل البيت(ع) هم أهل الذّكر، ومع استفاضة الروايات في ذلك، بيد أن المقصود من أهل الذّكر في الموردين، هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولا سيّما اليهود؛ لما تربطهم من علاقة حميمة مع المشركين لمواجهة المسلمين، لأنّه سؤال عن الطبيعة البشرية للأنبياء التي كان يشكك بها المشركون، ويرفضون أن يكون الرسول الأكرم(ص) مبعوثاً ومرسلاً من عند الله عزَّ وجل، لأنه رجل وبشر، وليس ملكاً أو مخلوقاً خارقاً يختلف عن الرّجال والبشر. وليس من المعقول أن ندعو من لم يعترف بنبوَّة النبي(ص) إلى أن يسأل أهل بيته (ع) عن صحة دعواه في نبوته ورسالته.
من هذا المنطلق، ذهب تفسير (من وحي القرآن) إلى أنّ المورد والسياق يحتِّم علينا أن نفسر أهل الذكر بأهل الكتاب. قال في التّفسير: "كان من الضّروري للّذين يؤمنون بالنبوّة من حيث المبدأ، وبالأنبياء في التاريخ الذي سبقهم، ويثيرون الشك في نبوّة محمّد(ص)، لأنه لم يقم بما اقترحوه عليه من معجزات، ولأنّه ليس ملكاً من الملائكة، أن يسألوا أهل الذكر، ممن اختصوا بالعلم في الكتب السماويّة، وعرفوا تاريخ الأديان وتاريخ الرسل، ليعلموهم ما لم يعلموا من خصائص الرسول الذاتية، ليعرفوا أنّ محمّداً(ص) لم يكن بدعاً من الرسل، فلماذا يطلبون منه ما لم يكن في غيره، إذا كانت طبيعة الرسالة لا تفرض ذلك، ولم يكن الرسل السابقون قد فعلوا ذلك؟"( ).
ولهذا، فإنّ أهل الذكر، بحسب المورد في آيتي النحل والأنبياء - والخطاب للمشركين - هم "من العلماء بالكتاب الذي أنزل على النبيين، ممن تعتمدون عليهم، في علمهم واطلاعهم ومعرفتهم بالرسالات، فذلك هو سبيل العلم بما يجهله الناس، وذلك بالرجوع إلى أهل الخبرة في ما يختلفون فيه، ليكونوا الحكم الذي يحسم الخلاف، وستجدون أنّ كلّ هؤلاء متفقون على أنّ أنبياء الله لم يكونوا ملائكة، ولا طينة مميزة عن البشر، بل كانوا بشراً كبقية البشر في حياتهم وموتهم، وضعفهم وقوتهم، فلم تنقل لنا أيّة حقبة زمنية من التاريخ نبياً ليس ببشر"( ).
ولم يكن ما ذهب إليه السيِّد المفسِّر بدعاً في عالم التفسير والتأويل، كما يظنّ البعض، الذي لا يميّز بين المعنى السياقي للأمر بالسّؤال في الآية وموردها، وبين المعنى الشّامل الّذي يتجاوز المورد إلى مصاديق عديدة يتحقّق فيها العنوان، ليكون الأمر بسؤال أهل الذّكر إرشاداً إلى أصلٍ عامّ عقلائيّ، بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم، فإنّ المورد لا يخصّص الوارد، وإنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب.
"إنّ الأمر بالسّؤال في الآية ليس ظاهراً في الأمر المولوي لكي يستفاد منه ذلك، لأنّه وارد في سياق الحديث مع المعاندين والمتشكّكين في النبوة من الكفار، ومن الواضح أنّ هذا السياق لا يناسب جعل الحجيّة التعبديّة، وإنما يناسب الإرشاد إلى الطرق التي توجب زوال التشكك، ودفع الشبهة بالحجة القاطعة، لأنّ الطرف ليس ممن يتعبد بقرارات الشريعة"( ).
أعلام التفسير
وهذا ما ذهب إليه تفسير الميزان في تحديد أهل الذكر في المورد، بقوله: "والمراد بالذكر الكتاب السماوي، وبأهل الذكر أهل الكتاب، فإنّهم كانوا يشايعون المشركين في عداوة النبيّ(ص)، وكان المشركون يعظّمونهم، وربّما شاوروهم في أمره، وسألوهم عن مسائل يمتحنونه بها، وهم القائلون للمشركين على المسلمين: {هؤُلاءِ أَهْدى‏ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}(النّساء:51)، والخطاب، في قوله: {فَاسْأَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمونَ} للنبي(ص) وكلّ من يقرع سمعه هذا الخطاب، عالماً كان أو جاهلاً، وذلك لتأييد القول، وهو شائع في الكلام"( ).
والقرآن الكريم وإن كان ذكراً، وأهل القرآن هم أهل الذكر قطعاً، "لكن المشركين المخاطبين بمثل قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}، لما كانوا لا يسلمون للنبيّ(ص) النبوة، ولا يصدقونه في دعواه، ويستهزئون بالقرآن ذي الذكر كما يذكره تعالى في قوله: {وقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}(الحجر: 6) لم ينطبق قوله: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} بحسب المورد إلا على أهل التوراة، وخصوصاً من حيث كونهم أعداء للنبيّ(ص) رادّين لنبوته، وكانت نفوس المشركين طيبةً بهم لذلك، وقد قالوا في المشركين: {هؤُلاءِ أهْدى‏ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}(النساء: 51)"( ).
من هنا ردَّ العلامة الطباطبائي ما قاله بعض المفسِّرين، من أنَّ "المراد بأهل الذكر أهل القرآن، لأنّ الله سماه ذكراً، وأهله النبي(ص) وأصحابه وخاصة المؤمنين"، بقوله: "وفيه أنّ كون القرآن ذكراً وأهله أهله لا ريب فيه، لكن إرادة ذلك من الآية خاصة لا تلائم تمام الحُجة، فإنّ أولئك لم يكونوا مسلمين لنبّوة النبيّ(ص)، فكيف يقبلون من أتباعه من المؤمنين؟"( ).
وإلى هذا الملحظ السياقي أشار السيِّد الخوئي; في درس الخارج، بقوله: "مورد هذه الآية هو النبوة، والمأمورون بالسؤال هم عوام اليهود"( ).
ومن قبله، أشار أستاذه ضياء العراقي، بظهور قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}(النحل:43) "بمقتضى السياق في إرادة علماء أهل الكتاب، والسؤال منهم فيما يرجع إلى علائم النبوة المكتوبة في كتبهم السماوية"( ).
وقد أشار إلى ذلك من قبل الفيض الكاشاني في تفسيره (الصافي)، بقوله: "وأما أمر المشركين بسؤال أهل البيت عن كون الرسل رجالاً لا ملائكةً، مع عدم إيمانهم بالله ورسوله، فمما لا وجه له، إلا أن يسألوهم عن بيان وجه الحكمة فيه، وفيه ما فيه"( ).
كيف نفهم الروايات؟
والسؤال المهمّ هنا هو: كيف نفهم تلك الروايات المستفيضة التي تؤكّد أنّ أهل الذكر هم أئمة أهل البيت(ع)؟
والإجابة عن هذا السؤال بسيطة جدّاً، فيما إذا فرّقنا بين المورد وغيره، فإنّ الأمر الرباني بسؤال أهل الذكر إن كان شاملاً لجميع المسائل والموارد التي نجهلها أو نختلف فيها مع الآخر، فهذا يعني أن يكون مرجعنا عند الجهل والاختلاف في توضيح الأمور والحقائق هم اليهود والنصارى!! ولا شك، فإنّهم سيدعوننا والحال هذه إلى دينهم، وتكون إجاباتهم وفق كتبهم ومعتقداتهم.
وهذا ما أجاب به الإمام الباقر(ع) أحد تلامذته (محمّد بن مسلم)، إذ سأله: إن من عندنا يزعمون أنّ قول الله تعالى: {فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أنّهم اليهود والنصارى؟
فقال(ع): إذاً يدعونكم إلى دينهم!!
ثم أشار(ع) بيده إلى صدره، وقال: "نحن أهل الذكر، ونحن المسؤولون... الذكر القرآن".
وعن الإمام الصادق(ع): "قال جلّ ذكره: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} الكتاب الذكر، وأهله آل محمّد(ص)، أمر الله عزَّ وجلَّ بسؤالهم ولم يأمر بسؤال الجهال، وسمّى الله عزَّ وجلّ القرآن ذكراً، فقال تبارك وتعالى: {وأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(النحل:44)، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}(الزُّخرف:44)".
يعلّق العلامة الطباطبائي على هاتين الروايتين وغيرهما، انطلاقاً من ضرورة التفريق بين المورد وغيره، بقوله: "وقد مرّ أنّ الخطاب في الآية على ما يفيده السياق للمشركين من الوثنيين المحيلين للرسالة، أمروا أن يسألوا أهل الذكر، وهم أهل الكتب السماوية: هل بعث الله للرسالة رجالاً من البشر يوحى إليهم؟ ومن المعلوم أنّ المشركين لما كانوا لا يقبلون من النبيّ(ص)، لم يكن معنى لإرجاعهم إلى غيره من أهل القرآن، لأنّهم لم يكونوا يقرون للقرآن أنّه ذكر من الله، فتعين أن يكون المسؤول عنه بالنظر إلى مورد الآية هم أهل الكتاب، وخاصةً اليهود"( ).
وفي موردٍ آخر يقول: "لكن المشركين المخاطبين بمثل قوله: {فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}، لما كانوا لا يسلّمون للنبي(ص) النبوّة، ولا يصدّقونه في دعواه، ويستهزئون بالقرآن ذي الذكر كما يذكره تعالى في قوله: {وقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}(الحجر:6)، لم ينطبق قوله: {فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} بحسب المورد إلا على أهل التوراة، وخاصة من حيث كونهم أعداء للنبي(ص)، رادّين لنبوته، وكانت نفوس المشركين طيبة بهم لذلك، وقد قالوا في المشركين: {هؤُلاءِ أَهْدى‏ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}(النّساء: 51)"( ).
"وأما إذا أخذ قوله: {فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} في نفسه، مع قطع النظر عن المورد، ومن شأن القرآن ذلك - ومن المعلوم أنّ المورد لا يخصص بنفسه - كان القول عاماً من حيث السائل والمسؤول والمسؤول عنه ظاهراً، فالسائل كلّ من يمكن أن يجهل شيئاً من المعارف حقيقية والمسائل من المكلَّفين، والمسؤول عنه جميع المعارف والمسائل التي يمكن أن يجهله جاهل، وأما المسؤول، فإنّه وإن كان بحسب المفهوم عاماً، فهو بحسب المصداق خاص، وهم أهل بيت النبيّ(ع)"( ).
"وذلك أنّ المراد بالذكر، إن كان هو النبي(ص) كما في آية الطلاق، فهم أهل الذكر، وإن كان هو القرآن كما في آية الزخرف، فهو ذكر للنبي(ص) ولقومه - وهم قومه أو المتيقّن من قومه - فهم أهله وخاصته، وهم المسؤولون ـ وقد قارنهم(ص) بالقرآن‏، وأمر الناس بالتمسّك بهما في حديث الثقلين المتواتر قائلاً: "إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض"‏. ومن الدليل على أنّ كلامهم من الجهة التي ذكرناها، عدم تعرّضهم لشي‏ء من خصوصيات مورد الآية".
"ومما قدمناه، يظهر فساد ما أورده بعضهم على الأحاديث، أنَّ المشركين الذين أمروا بالسؤال ما كانوا يقبلون من النبي(ص)، فكيف يقبلون من أهل بيته؟"( ).
وقد نبّه إلى هذه الملاحظة المنهجيّة المرجع السيّد الخوئي في دروسه في البحث الخارج، كما في تقريرات تلميذه في مصباح الأصول، بقوله: "إنّ مورد هذه الآية أيضاً هي النبوة، والمأمورون بالسؤال هم عوام اليهود... ولا ينافى ذلك ما في الأخبار من أنّ المراد بأهل الذكر هم الأئمة(ع) لأنّ أهل الذكر عنوان عام يشمل الجميع، ويختلف باختلاف الموارد، ففي مقام إثبات النبوة الخاصة بما وصف الله نبيه في الكتب السماوية، يكون المراد من أهل الذكر علماء اليهود والنّصارى، ولا يصحُّ أن يراد في هذا المقام الأئمة(ع) لأنّ الإمامة فرع النبوة، فكيف يمكن إثبات النبوة بالسؤال عن الإمام الذي تثبت إمامته بنصّ من النبي(ص). نعم، بعد إثبات النبوة والإمامة، يكون الأئمة(ع) أهل الذكر، فلا بدّ من السؤال منهم فيما يتعلّق بالأحكام الشرعية، كما أنّ أهل الذكر في زمان الغيبة هم الرواة بالنسبة إلى الفقهاء، والفقهاء بالنسبة إلى العوام، والمعنى واحد في الجميع، إنّما الاختلاف في المصاديق بحسب الموارد"( ).
ومن قبله -كما ذكرنا - نبّه أستاذه العراقي، بمقتضى الظهور السياقي في "إرادة علماء أهل الكتاب، والسؤال منهم فيما يرجع إلى علائم النبوّة المكتوبة في كتبهم السماوية"، وهذا لا ينافي ما ورد "من النصوص في تفسير أهل الذكر بالأئمة المعصومين، كخبر الوشاء، سألت الرضا(ع) عن قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(النحل:43). فقال(ع): "نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون. فقلت: فأنتم المسؤولون ونحن السائلون؟ فقال: نعم..."( ).
وقد أشار إلى روايات أهل البيت(ع) صاحب كتاب منتقى الأصول، بقوله: "إنّ التفسير بمثل ذلك يرجع إلى بيان المصاديق، لا بيان المعنى المراد على سبيل الحصر، ففي زمانهم (ع)، يكونون هم مصداق أهل الذكر الذي ينبغي السؤال منهم. ومثل ذلك كثير في تفسير الآيات الوارد في النصوص، فراجع"( ).
كما نبّه إلى ذلك كتاب دراسات في علم الأصول، بقوله: "الصّحيح أنّ الآيتين نزلتا في علماء اليهود. وقد وردت روايات في تفسير أهل الذكر بالأئمة الطاهرين(ع)، ولا يبعد أن يقال: إن أهل الذكر عنوان عام يشمل الجميع، ويختلف باختلاف الموارد، فأهل الذكر في مقام إثبات النبوة، وما وصف الله به نبيه(ص) في الكتب السماوية هم علماء اليهود والنصارى، وفي هذا المقام، لا يراد الأئمة من أهل الذكر، لأنّ إثبات كونهم من أهل الذكر فرع ثبوت النبوة، فكيف يمكن إثباتها بالسؤال عنهم. نعم، بعد إثبات النبوة، لا بدّ لمن يريد القرب والزلفى من المولى سبحانه أن يسأل الأئمة(ع)، فهم أهل الذكر في هذا المقام، كما أنّ أهل الذكر في عصر الغيبة هم الرواة بالقياس إلى الفقهاء، والفقهاء بالإضافة إلى عامة الناس، فالمعنى واحد، والاختلاف في المصاديق باختلاف الموارد"( ).
أمران أساسيّان
من هنا، يتبين لنا جيّداً أمران أساسيّان:
الأمر الأول: من الخطأ أن نفسِّر أهل الذكر بحسب المورد والسياق بأهل البيت(ع)، لأنّ الأمر بالسؤال موجّه إلى المشركين الذين لا يؤمنون بالنبي(ص)، ولأنّ المسألة عن بشرية الأنبياء. لذا، فإنّ أهل الذكر في المقام هم أهل الكتاب، "بل لم ينطبق قوله: {فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} بحسب المورد إلا على أهل التوراة"، على حدِّ تعبير تفسير الميزان.
الأمر الثاني: من الخطأ أن نرفض الروايات التي تفسر أهل الذكر بأهل البيت(ع)، بحجة أنّ المقصود من أهل الذكر في المورد والسياق هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى. فإنّ أكبر وأكمل وأزكى مصداق لأهل الذكر هم العترة الطاهرة، الذين هم أهل القرآن بحقّ، لأنهم الثقل الآخر الذي لا يفترق عنه. وقد جاء في السياق بعد ذلك قوله: {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}(الأنبياء: 10)، وقوله: {وهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}(الأنبياء: 50).
وهناك العديد من الآيات التي تركِّز على صفة الذكر في القرآن الكريم:
{إِنْ هو إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ * ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}(ص: 87-88).
{وما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هو إِلاَّ ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُبِينٌ}(يس: 69).
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}(الحجر: 9).
{ص والقرآن ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وشِقاقٍ}(ص: 1-2).
ولا شكّ، فإنّ أهل البيت(ع) هم المصداق الأكمل لأهل الذكر (القرآن)، وقد كان عليّ(ع) المرجع بعد رسول الله(ص) في التفسير والحكم والقضاء، ويكفي حديث الثقلين المتواتر دليلاً على ذلك. وقد كان الإمام الباقر(ع) يقول: "لا يسعكم فيما ينـزل بكم مّما لا تعلمون، إلا الكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى أئمة الهدى، حتى يحملوكم فيه على القصد، ويجلوا عنكم فيه العمى، ويعرفوكم فيه الحقّ، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(النحل:43)".
وفي الكافي، بإسناده عن زيد الشحام قال: "دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر(ع) فقال: يا قتادة، إنّك فقيه أهل البصرة؟ فقال: هكذا يزعمون، فقال أبو جعفر(ع): بلغني أنّك تفسّر القرآن؟ قال له قتادة: نعم، فقال أبو جعفر(ع): فإن كنت تفسّره بعلم فأنت أنت، وإن كنت فسّرت من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، ويحك يا قتادة، إنّما يعرف القرآن من خوطب به"( ).
وقد عقد الكليني في الكافي باباً بعنوان: أهل الذكر هم الأئمة(ع)، وقد اختلفوا في النظر إلى هذه الروايات إلى ثلاثة مواقف:
الموقف الأوّل: التفسير الباطني في مقابل الظاهري، فإنّ للقرآن ظهراً وبطناً.
الموقف الثاني: تطبيق الكلي على مصداقه، فلا ينافي شموله لغيره، وقد ورد عنهم(ع)، أنّه لو ماتت الآية بموت من نزلت فيه لمات القرآن، وأنّ القرآن يجري مجرى الشمس والقمر.
الموقف الثالث: اختصاصها بهم(ع)؛ لأنّه لا يظهر من النصوص محض تطبيق أهل الذكر عليهم، ولا نزولها فيهم، وأنّ أهل البيت(ع) هم أهل القرآن حقيقةً، وبالمعنى الشامل والمتكامل.
وعلى أيّ حال، فإنّه لا تعارض بين المقصود من "أهل الذكر" بحسب المورد والسياق، وهم أهل الكتاب، والمقصود منه، بحسب الجري والانطباق، أهل البيت(ع)، فإنّ المورد لا يخصص الوارد، ليشمل الوارد كلَّ من ينطبق عليه عنوان "أهل الذكر"، وإنْ تفاوت الانطباق من مصداقٍ إلى مصداق، باختلاف معنى الذكر وأهله، والموضوع الذي يُسأل عنه.
القرآن: الظاهر والباطن
يؤكّد تفسير (من وحي القرآن) ضرورة فهم واستنطاق الروايات الواردة عن مدرسة أهل البيت(ع) - التي تعطينا صفات القرآن - فهماً منسجماً مع القرآن المبين، ودوره في عملية الصراع والتغيير، الذي تنـزَّل ليكون دستور حياة، {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ}(البقرة:185).
ومن هذه الروايات، روايات الظاهر والباطن، لما لها من دور كبير وخطير في عملية قراءة النص والتأويل والتفسير.
والقرآن من دون شك نص عميق، بل من أعمق النصوص على الإطلاق، فإنّه "البحر الذي لا يدرك قعره"، فمن البديهي أن يكون له بطون وظهور، ومستويات وأعماق، وأبعاد وآفاق، ووجوه مختلفة، ومصاديق متجددة، وقراءات متعددة، ومعانٍ ودلالات للآية الواحدة، ولوازم وتطبيقات، وإيحاءات مستمرة وإشارات.
ولذا، فلا أحد من المسلمين، فضلاً عن المفسّرين، ينفي هذه الحقيقة التي تعدّ من البدهيات، فإنّ القرآن تنزل ليكون منهاج حياة إلى يوم القيامة، يخاطب جميع المستويات والعقول والأفهام، فلا غرابة أن يكون هذا الكتاب العزيز "نُوراً لاَ تُطْفَأ مَصَابِيحُهُ، وسِرَاجاً لاَ يَخْبُو تَوَقُّدُهُ، وبَحْراً لاَ يُدْرَكُ قَعْرُهُ، ومِنْهَاجاً لاَ يُضِلُّ نَهْجُهُ، وشُعَاعاً لاَ يُظْلِمُ ضَوْؤهُ، وفُرْقَاناً لاَ يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ، وتِبْيَاناً لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وشِفَاءً لاَ تُخْشَى أَسْقَامُهُ، وعِزّاً لاَ تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ، وحَقّاً لاَ تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ".
"فَهُو مَعْدِنُ الإيمان وبُحْبُوحَتُهُ، ويَنَابِيعُ اَلْعِلْمِ وبُحُورُهُ، ورِيَاضُ اَلْعَدْلِ وغُدْرَانُهُ، وأَثَافِيُّ اَلْإِسْلاَمِ وبُنْيَانُهُ، وأَوْدِيَةُ اَلْحَقِّ وغِيطَانُهُ، وبَحْرٌ لاَ يَنْزِفُهُ اَلْمُسْتَنْزِفُونَ، وعُيُونٌ لاَ يُنْضِبُهَا اَلْمَاتِحُونَ، ومَنَاهِلُ لاَ يَغِيضُهَا اَلْوَارِدُونَ، ومَنَازِلُ لاَ يَضِلُّ نَهْجَهَا اَلْمُسَافِرُونَ، وأَعْلاَمٌ لاَ يَعْمَى عَنْهَا اَلسَّائِرُونَ، وَآكَامٌ لاَ يَجُوزُ عَنْهَا اَلْقَاصِدُونَ".( )
وقد توهّم البعض أنّ السيّد المفسّر لا يؤمن بحقيقة الظهور والبطون في القرآن، ومنشأ هذا الوهم من قراءة خاطئة لبعض العبارات التي تنفي بعض تفسيراتها ومعانيها، كالتفسير الذي يرى أنّ البطون أسرار لا يمكن أن يطَّلع عليها إلا المعصوم، أو أنّ للفظ معنى ظاهراً يختلف عن معناه الباطن ولا علاقة بين المعنيين.
إنّ رفض بعض التفسيرات أو التأويلات لمعنى الظاهر والباطن، لا يعني رفض وجودهما وعدم الاعتراف بهما، فقد اختلف الأعلام في المراد من الحديث: "ما نزل من القرآن من آية إلا ولها ظهر وبطن"، أو الحديث: "إنّ للقرآن بطناً وللبطن بطن، وله ظهر وللظهر ظهر"، على وجوه وأقوال.
بل إنّ تفسير (من وحي القرآن) يدعو في مقدمته إلى ضرورة إعطاء تفسيرات صحيحة لهذه الظاهرة القرآنية التي أكّدتها روايات أهل البيت(ع) - والتي تنسجم مع طبيعة القرآن ورسالته وإعجازه - ليكون الفهم والتفسير منطلقاً من الروايات ذاتها أوّلاً، ومن علاقة معنوية بين الباطن والظاهر ثانياً، ومن "استنطاق هذا المصطلح على أساس إرادة المعنى الواحد الذي تختلف طريقة فهمه تبعاً لاختلاف ثقافة الإنسان الذي يعيه في معرفته بخصائص الأشياء، تماماً كما يتصور بعض النّاس الشمس، من خلال شكلها البارز، بشكل سطحي، بينما يتصورها بعض آخر، من خلال عمق تكوينها وطبيعتها وآثارها، بشكل عميق شامل بالمقدار الذي توصّل العلم إلى معرفته، ما قد يخيّل إلينا أنّ هناك معنيين مختلفين من جهة اختلاف حجم الصورة أو طبيعتها المنطبعة في الوعي الفكري للإنسان‏"( ).
ومن خلال استقراء روايات الظاهر والباطن، يمكن أن يكون له معان متعددة:
الأوّل: المعنى الجزئي والمعنى الكلّي
قد يكون معنى الظاهر والباطن على مستوى "المعنى الجزئي الذي تمثّله الآية في مواردها المتحركة في الواقع في عصر النـزول، أو في مواقع النـزول، والمعنى الكلّي الذي يطلّ على كلّ المفردات التي تختزن مفهومه وخصوصيته الشاملة، في الماضي والحاضر والمستقبل، ليكون المعنى الظاهر هو المعنى الجزئي المنفتح على الحاضر، أمّا المعنى الباطن، فهو المعنى المنفتح على الصورة الكلّية المفتوحة على المستقبل، حتى لا يتجمد القرآن في الموارد التي نزل فيها، بل يمتدّ، على مستوى القاعدة الكلية، إلى كلّ الموارد المماثلة، في الحوادث المتجددة، في مستقبل الحياة والإنسان".
وهذا هو ما تحدّث عنه الإمام محمّد الباقر(ع) في أكثر من حديث:
الصدوق بإسناده عن حمران بن أعين، قال: "سألت أبا جعفر(ع) عن ظهر القرآن وبطنه؟ فقال: ظهره الذين نزل فيهم القرآن، وبطنه الذين عملوا بأعمالهم، يجري فيهم ما نزل في أولئك"( ).
العياشي في تفسيره، عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر محمّد الباقر(ع) عن هذه الرواية: "ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن، وما فيه حرف إلاّ وله حدّ، ولكلّ حدّ مطلع. ما يعني بقوله: لها ظهر وبطن؟
 قال: "ظهره وبطنه تأويله، منه ما مضى، ومنه ما لم يكن بعد، يجري كما تجري الشمس والقمر، كلّمـا جـاء منه شـي‏ء وقـع، قـال الله تعالى: {وما يَعْلَمُ تأويلهُ إِلَّا الله والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(آل عمران: 7)"( ).
الإمام(ع): "إنّ القرآن حيّ لم يمت، وإنّه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر"( ).
"ومن الواضح أنّ الحديث الأول، يريد التأكيد أنّ الخصوصية التي تمثّل مورد الآية، تستبطن في داخلها المعنى الكلّي العام، الذي يتجدّد عبر الزمن كلّه كلّما تجددت الموارد المماثلة في امتداده، وهذا ما عبّر عنه في حديث آخر، في أنّ القرآن يموت إذا نزل في قوم مخصوصين يغيبون في الزمن، ولكنّه يجري مجرى الشمس والقمر واللّيل والنّهار، لتكون القضية قضية النموذج الذي يجسّد الفكرة العامة التي استهدفها النصّ القرآني، ونزلت من خلالها الآية، فليس هناك معنيان للّفظ، بل هناك معنى واحد يتحرك في‏ خطّ الزمن، من الماضي إلى الحاضر، ليطلّ على المستقبل في خطّ الخصوصية التي تتجسَّد في جميع المراحل والأفراد".
يرى السيّد المفسّر أنّ "قيمة القراءة القرآنية وطبيعة الوعي القرآني، لا تتمثل في الفهم الحرفي والتاريخي لآياته فقط، بل في معرفتنا للجانب التطبيقي الذي يمثل حركة الوعي القرآني في حياة الناس المستقبلية، التي تتنوع مظاهرها وأشكالها ونماذجها في إطار وحدة القضايا الأساسية التي تبقى وتعيش في جميع المراحل، لأننّا نريد أن نتحرك مع القرآن، والقرآن يتحرك مع الحياة في اتجاه الأهداف الكبيرة التي أراد الله من الإنسان بلوغها وتحقيقها. وهذا ما يجب أن يحكم قراءتنا للقرآن وفهمنا له، ليكون القرآن هو المرآة الصافية التي نكتشف فيها أنفسنا وحياتنا، انطلاقاً من آياته التي نعتبرها نوراً ورحمةً للعالمين.
فإنّ الحياة تتجدد، ولكنّ الليل والنهار يبقيان فيحكمان حركة الحياة، كما أنّ الكون يتجدد، ولكنّ الشمس والقمر يظلان في مدد دائم للحياة بالنور والإشعاع والدف‏ء"( ).
وهكذا ينظر إلى أسباب النـزول، كونها "المنطلق الذي تحركت الفكرة من خلاله بعيداً عن كلّ ما يحدّدها ويقيّدها في دائرته، ولذلك عاشت الآيات الكريمة لتتّسع وتمتدّ مع الزمان والمكان في كلّ مجال يتّسع للفكرة وللمفهوم من خلال النموذج الأول، فكان من جراء ذلك أن أصبحت الآيات تعيش معنا صراعنا مع الكفر والشرك والظلم والطغيان، تماماً كما كانت تعيش مع نماذجها الأولى صدقاً والتزاماً وإرادةً حرة تتحدى الواقع المنحرف بكلّ ما تملكه من خطوات الحرية في الفكر والعمل. وهذا هو ما وردت فيه الكلمات المأثورة عن أئمة أهل البيت(ع): إنّ القرآن يجري كما تجري الشمس والقمر"( ).
يؤكّد المفسر هذا المعنى من الباطن في مناسبات عديدة من تفسيره، كقوله: "وربما أطلق التأويل والباطن على استيحاء المعنى الذي نزلت الآية فيه، إلى أجواء شاملة يمتد بها إلى كلّ ما يماثله في حركة المستقبل في حقائق الحياة. وبهذا كثرت الأحاديث عن هذا الموضوع بأسلوب أنّ القرآن يجري مجرى الشمس والقمر واللّيل والنّهار"( ).
الثاني: اختلاف آفاق النظرة ومجالاتها وأبعادها
قد يكون معنى الظاهر والباطن نابعاً من تعدّد الآفاق واختلاف النظرة وجوانبها للآية الواحدة، إذ يتنوع المعنى بحسب تنوع الرؤية واختلاف مجالاتها.
وهذا ما نتلمَّسه في رواية الصدوق بإسناده عن جابر بن يزيد الجعفي قال: "سألت أبا جعفر(ع) عن شي‏ء من التفسير فأجابني، ثمّ سألته عنه ثانيةً فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك، كنت أجبتني في هذه المسألة بجوابٍ غير هذا قبل اليوم؟
 فقال: يا جابر، إنّ للقرآن بطناً وللبطن بطن، وله ظهر وللظهر ظهر، يا جابر: ليس شي‏ء أبعد عن عقول الرجال من تفسير القرآن، إنّ الآية يكون أولها في شي‏ء وآخرها في شي‏ء، وهو كلام متصل متصرف على وجوه"( ).
يعلّق السيّد المفسّر على هذا الحديث بقوله: "إنّ هذا الحديث قد يوحي لأول وهلة بالتعدد في المعنى للكلمة الواحدة، من خلال دلالته على تعدد التفسير، والتأكيد أنّ لظاهر الكلمة ظهراً ولباطنها بطناً، ولكنّ التدقيق فيه يدلّ على أنّه يريد معالجة الآية في مدلولها لا في كلماتها، فنحن نلاحظ أنّ بعض الآيات قد تنطلق في الحديث عن عدّة جوانب للفكرة، بحيث تتكامل في الخطّ الواحد الذي تتعدّد آفاقه وجوانبه، فقد تجد للمسألة الواحدة جانباً يتصل بالأخلاق، وجانباً آخر يتصل بالاجتماع، وثالثاً يتصل بالسياسة، وهكذا، ما يجعل من الممكن أن يتحدث عنها الإنسان الباحث من عدّة جوانب، بحيث يبدو الحديث عن كلّ جانب كما لو كان مدلولاً لآية بشكل مستقل".
"ولعلّ هذا هو مراد الإمام (ع) في اتصال الكلام من خلال وحدة مضمونه، وتصرّفه على وجوه من خلال تعدّد جوانبه، فيمكن للمعنى الذي نزل به القرآن أن يجتذب معنى آخر، كما يمكن للإيحاءات التي توحي بها الآية أن تجتذب إيحاءً آخر"( ).    

الثّالث: المعنى المادّي والمعنى المعنويّ
قد لا يكون المقصود من التأويل والباطن "إرادة غير المعنى الظاهر من اللفظ، بل استيحاء معنى من خلال المعنى المقصود من اللفظ، بحسب الوضع الذي انطلق من خلال الاستعمال". وهذا ما نتلمسه في العديد من الروايات:
1. الإحياء المعنوي
عن الإمام الباقر(ع) في قوله تعالى: {ومَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}(المائدة: 32)، قال: "من حرَق أو غرق"، قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟ فقال: "ذلك تأويلها الأعظم"( ).
ومن الواضح أنّ الإمام(ع) يريد أن يلفت أنظارنا في قوله: "ذلك تأويلها الأعظم"، إلى مسألة مهمة قد يغفل عنها الكثير من الناس في قراءة النص، وهي "أنّ التعمّق في قيمة الهدى الذي يتحرّك فيه الدعاة إلى اللَّه، لينقلوا النّاس إليه من مواقع الضلال، لا يقلّ أهميةً عن قيمة الحياة التي ينقذها النّاس من الموت، لأنّ نتائج الهدى في روحيّة الإنسان وفي مصيره الأبدي تمثّل نتائج الحياة الحقيقيّة، فهي مسألة استيحائيّة لا مدلوليّة، أو ربما يقرب من مفهوم الموافقة"( ).
"إنّ الآيات قد تتحرَّك في نطاق مضمون فكري معيّن، ولكنّها توحي لنا بشكل آخر، باعتبار علاقة المعنى الذي تتضمنه الآية بالمعنى الآخر، من حيث طبيعة النتائج العملية، ومن حيث وحدة المسار، وهذا هو ما عبّرت عنه بعض الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت(ع) بالتأويل، الذي لا يقصد فيه إعطاء اللفظ مدلولًا ثانياً غير المدلول الذي يظهر فيه بحسب وضعه اللغوي، بل يقصد استيحاء المعنى الحقيقي، ومن أجل الإيحاء بمعنى آخر".
"والظاهر أنّ المراد من التأويل الأعظم هنا هو المفهوم الأعمق بما يتسع له إيحاء الآية، لأنّ قيمة الحياة تتمثل في ما تحققه من الارتباط بالله والسير على هداه، فلا قيمة لها إذا كانت سائرةً في خبطٍ عشوائيّ في الضلال"( ).
2. الطّعام المعنوي
الإمام الباقر(ع) في تفسير قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإنسان إلى طَعامِهِ}(عبس: 24) "قال: قلت: ما طعامه؟ قال: علمه الذي يأخذه ممّن يأخذه"( ).
يرى السيّد المفسّر "أنّ العلم لا يمكن أن يكون مدلولاً لكلمة الطعام في هذه الآية، حتى مع تصورنا أنّ هناك طعاماً للعقل بالإضافة إلى طعام الجسد، لأنّ الآيات الأخرى تؤكّد أنّ المراد به الغذاء المادي الذي ينطلق من النبات، وهي قوله تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا * وعِنَباً وقَضْباً * وزَيْتُوناً ونَخْلًا * وحَدائِقَ غُلْباً * وفاكِهَةً وأَبًّا * مَتاعاً لَكُمْ ولِأَنْعامِكُمْ}(عبس: 25-32)، فإنّ هذا كلّه لا ينسجم مع مدلول العلم كما هو واضح، لكنّ الإمام(ع) أراد أن يستوحي من هذه الكلمة "الطعام" معنى العلم، باعتبار أنّ الكلمة، في إيحاءاتها، تجتذب الجانب المعنوي للطعام الذي هو نعمة إلهية تزيد أهميتها على النعم الإلهية المادية المغذية للجسد"( ).
ويقول في موضع آخر: "ومن المعلوم أنّ هذا ليس تفسيراً لكلمة الطعام - حتى بنحو المجاز - لأنّ السياق في الآيات التي بعدها لا تتناسب مع ذلك، ولكنّه استيحاء لفضل الله على الإنسان بالعلم بالدرجة العليا التي يتقدم بها على الغذاء المادي‏"( ).
وانطلاقاً من هذا النمط من الروايات التفسيرية الصادرة عن مدرسة أهل البيت(ع)، وهي كثيرة، يرى صاحب (من وحي القرآن) "ضرورة دراسة هذا الأسلوب الاستيحائي القرآني في التفسير، لأنّه الأسلوب الذي يجعل الإنسان ينطلق من الآية إلى عوالم أخرى، من خلال طبيعة الغايات التي تتحرّك إليها، مما تلتقي به في أكثر من أفق، في نطاق القواعد الإسلامية والعربية العامة.
وهذا هو الذي يجعلنا ننتقل من الصورة المادية إلى الصورة المعنوية، ومن التجربة التاريخية للمجتمع الذي نزل القرآن فيه وعالج مشاكله وتحدياته وقضاياه، إلى التجربة الجديدة التي نواجه فيها تحديات الواقع ومشاكله، الأمر الذي يجعل للقرآن صفته الحركية، إلى جانب الصفة التشريعية والتوجيهية والوعظية ونحو ذلك".
3. الأبواب المعنويّة
عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر(ع) - في كتاب المحاسن للبرقي - في قوله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}(البقرة:189) قال: "يعني أن يأتي الأمر من وجهه، أيّ الأمور كان‏"( ).
يحتمل السيّد المفسّر أن تكون هذه الرواية "على سبيل الاستيحاء أو التطبيق لا على سبيل التفسير. ولعلّ هذا هو الأقرب إلى الأجواء القرآنية العامة، وهو الذي يجب أن نستوحيه في حياتنا العملية، عندما نريد أن ننطلق في أيّ مجال للدعوة، فنتحرك معه بالأسلوب الذي يمكن أن يؤدّي إلى الغاية، ويوصل إلى المطلوب، من خلال دراسة الواقع‏ الفكري والعملي، والمؤثرات التي تساهم في طبيعة الشخص أو الحالة، أو عندما نريد أن نعمل في أيّة حركة ثقافية أو سياسية أو اجتماعية أو عسكرية.. فإنّ علينا أن نواجه القضايا من بابها الذي ندخل من خلاله إلى كلّ المجالات التي تخلق من التحرك حالة واقعيةً تساهم في تحقيق فرص النجاح، وتبتعد عن كلّ أسباب الفشل، سواء في ذلك جانب الفكرة، أو الوسيلة، أو الأسلوب، أو القيادة، أو طبيعة الساحة التي تنطلق فيها الحركة، أو الظروف الموضوعية التي تحيط بها، أو الخلفيات التي تكمن وراءها، وهكذا في كلّ العناصر الحية التي تجعلنا نواجه الموقف من وجهه لا من ظهره. وذلك هو سبيل التقوى الذي يجعلنا نحسب حساب كلّ خطوة نخطوها على أساس رضا الله، الذي هو سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة"( ).
4. إنفاق العلم والجاه والخبرة
عن أبي بصير، عن أبي عبدالله(ع) قال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}(البقرة:3) قال: "مما علّمناهم يبثّون (ينبئون)، ومما علَّمناهم من القرآن يتلون".( )
ومن الواضح - كما يرى السيّد - أنّ الرواية من روايات التطبيق، بذكر بعض المصاديق الخفية التي قد لا تتبادر إلى الذهن لأول وهلة، لتعطي "الفكرة التي تمتد بالإنفاق إلى ما هو أبعد من المال، فتتسع المسؤولية لتشمل كلّ طاقة يملكها الإنسان مما يحتاج إليه الآخرون".
"ومن الطبيعي أنّ الإمام الصادق(ع) لا يريد أن يحصر مدلول الآية في إنفاق العلم، لأنّ مجالها اللغوي أوسع من ذلك، ولأنّ الآيات القرآنية الكثيرة الواردة في أمثال هذا السياق ظاهرة في المال أو في ما هو أوسع من المال، ولكن الظاهر أنّه يريد الإيحاء، للذين يفهمون منها المال، أنّها تشمل العلم كأسلوب من أساليب التوجيه والتنبيه للآخرين الذين يملكون العلم ولا يبثونه في من يحتاج إليه، على اعتبار أنّ هذه الصفة من السمات البارزة للشخصية الإيمانية، وهذا ما استوحيناه من سعة المدلول القرآني.
ونحن نستطيع أن نستوحي منها، أيضاً، الإنفاق في مجالات أخرى، كإنفاق الجاه والجهد والخبرة وغيرها من الطاقات، لنطلب من الآخرين الذين يملكون أمثال ذلك أن لا يحتكروه لأنفسهم، بل أن يبذلوه لمن يحتاجه من الناس"( ).
ولذا جاء في رواية تفسير العسكري(ع): يعني {ومما رزقناهم} من الأموال، والقوى في الأبدان والجاه، والمقدار... ويؤدّون الحقوق من الجاه بأن يدفعوا به عن عرض من يظلم بالوقيعة فيه، أو يطلبوا حاجةً بجاههم لمن عجز عنها بمقداره. فكلّ هذا إنفاق مما رزقه الله تعالى ( ).
المال والعلم
ومن دون شك، فإنّ إنفاق العلم يكون في أغلب الأحوال أفضل وأعزّ من إنفاق المال، وقد بين الإمام عليّ(ع) من خلال المقارنة بينهما، وجوه أفضلية العلم على المال، في وصيته الشهيرة إلى تلميذه كميل بن زياد (رضوان الله عليه)، بقوله:
"يَا كُمَيْلُ، اَلْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ اَلْمَالِ: اَلْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وأَنْتَ تَحْرُسُ اَلْمَالَ.. واَلْمَالُ تَنْقُصُهُ اَلنَّفَقَةُ واَلْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى اَلْإِنْفَاقِ، وصَنِيعُ اَلْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ. يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ، مَعْرِفَةُ اَلْعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ؛ بِهِ يَكْسِبُ الإنسان اَلطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وجَمِيلَ اَلْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، واَلْعِلْمُ حَاكِمٌ واَلْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ هَلَكَ خُزَّانُ اَلْأَمْوَالِ وهُمْ أَحْيَاءٌ، واَلْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ اَلدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وأَمْثَالُهُمْ فِي اَلْقُلُوبِ مَوْجُودَة".( )
5. الأئمة(ع) أبواب الله
وبهذه المناسبة، يلفت السيّد المفسّر أنظارنا إلى الكثير من الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت(ع) في عالم التأويل والتفسير، التي تفسّر أو تؤوّل العديد من الآيات بهم، ليقسمها إلى نمطين:
الأوّل: ما كان مختصاً بهم، "كآية التطهير" و"المودة في القربى".
الثاني: ما كان منطلقاً في الخطّ العام الذي يمثّل أهل البيت(ع) النموذج الأكمل له، كآية {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، و{لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ}، و{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}، و{مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ}، و{كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، و{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا}( ).
"وإذا كانت بعض الآيات قد نزلت فيهم، في مواردها الخاصة، في أسباب النـزول، فإنّها انطلقت لتمتدّ في الخطّ العام للقضية المطروحة فيها، كما في آية المباهلة التي كان موردها أهل البيت، وهم الحسن والحسين(ع) في عنوان "أَبْناءَنا"، والزهراء(ع) في عنوان "نِساءَنا"، والإمام عليّ أمير المؤمنين(ع) في عنوان "أَنْفُسَنا"، وذلك قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ ونِساءَنا ونِساءَكُمْ وأَنْفُسَنا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ الله عَلَى الْكاذِبِينَ}(آل عمران: 61). ولكنّها رسمت خطّاً عاماً للمباهلة في كلّ الموارد التي يحتاج المسلمون إليها".
"وهكذا نجد هذه الفكرة في قوله تعالى: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهُمْ راكِعُونَ}(المائدة: 55)، فإنّ المعروف المرويّ بأسانيد متعددة، أنّها نزلت في الإمام عليّ(ع)، ولكنّها في الوقت نفسه أطلقت الفكرة، في العناوين الكبرى، للذين يتولون الولاية للمسلمين، في طبيعتها العالية التي توحي بها الصفات المذكورة فيها، ولهذا ذكرت بأسلوب الجمع لا المفرد، بحيث تشمل الأئمة(ع) من ولده"( ).
يؤكّد السيّد المفسّر أنّ آية الإطعام: {ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ مِسْكِيناً ويَتِيماً وأَسِيراً * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً ولا شُكُوراً}(الإنسان: 8-9). "قد نزلت في عليّ وفاطمة(ع)، ولكنّها انطلقت من خلالهما، لترسم الخطّ العريض للذين يتحرّكون في هذا الاتجاه، وبهذه الروح في الإخلاص لله، والخوف منه والحبّ له، والإيثار لعباده من اليتامى والمساكين والأسرى".
إنّ القرآن الكريم لا يتوقف عند الخصوصيات التاريخية التي كانت المنطلق لنـزوله، "بل يمتدّ إلى كلّ النماذج الحيّة في الزمن كلّه، كما أنّه - في مفاهيمه العامة - يتحرّك من أجل أن يشير إلى حركة الواقع، في قضايا الحقّ والباطل، والشرعية واللاشرعية، ليكون دليلاً على خطوط الاستقامة والانحراف في الواقع الإسلامي، الذي جاء عقب مدّة طويلة من وقت نزوله، ليتحدّث عن كلّ مرحلة جديدة من خلال حديثه عن المرحلة السابقة المماثلة، وليوجه النّاس إلى رموز الحقّ في المستقبل، ويبعدهم عن رموز الباطل فيه، من خلال توجيهه وإبعاده عن الرموز المماثلة في الماضي، لأنّ القرآن يمثّل الحقيقة الواسعة التي تشمل الزمن كلّه وترتفع فوقه"( ).
وفي الوقت الذي يؤكّد تفسير (من وحي القرآن) ضرورة تفهّم روايات البطون، والعمل على استيحائها في قراءة النص، وضرورة تفعيلها في عملية التفسير والتأويل، لأنها تسهم في تلمس المصاديق المعاصرة والمتجددة عبر الزمن، والامتداد مع أبعاد القرآن المتنوعة، والغوص في أعماقة ومستوياته بقدر الطاقة البشرية والوسع الإنساني، يحذّرنا من جانب آخر من بعض روايات البطون التي لا علاقة لها بالظهور لا من قريب ولا من بعيد، والتي تجعل القرآن رموزاً لا ضابط لها، وإشارات لا دليل عليها.
 يذكر في هذه المناسبة ما رواه العياشي عن هشام عن الثقة رفعه عن أبي عبدالله الصادق(ع)، أنّه قيل له: روي عنكم أنّ الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجال، فقال: "ما كان ليخاطب الله خلقه بما لا يعقلون"( ).
يستفيد من هذه الرّواية - إن صحّت -  "أنّ التفسير القرآني الّذي يتضمّن المعنى الّذي لا يفهمه القارئ من اللفظ بحسب المتبادر منه عرفاً، سواء كان من قبيل التفسير الباطني أو غيره، ليس صحيحاً"( ).
الرابع: اختلاف مستويات الفهم ومراتب العلم
لا شكّ في اختلاف الناس في فهم معاني الآيات المباركة ومدى عمق هذا الفهم، لاختلاف مراتبهم العلمية وخلفياتهم الثقافية، واختصاصاتهم في علوم الحياة المتنوعة، ومستويات إدراكهم للحقائق التي تطرحها النصوص في مجالات شتّى وميادين مختلفة. فإنّ القرآن "يستبطن استيحاءات كثيرة، ولوازم كثيرة، وعلى الإنسان أن لا يفهمه فهماً حرفياً، بل أن يفهمه فهماً إبداعياً، من خلال مستوى الأسلوب الذي يوحي بالكثير مما تحمله الكلمة في قاموسها، مما لا يعطيه المعنى في حرفيته"( ).
لذلك يرى السيّد المفسّر في مقدمة تفسيره، أنّه "لا بدّ من استنطاق هذا المصطلح (الظاهر والباطن) على أساس إرادة المعنى الواحد الذي تختلف طريقة فهمه تبعاً لاختلاف ثقافة الإنسان الذي يعيه في معرفته بخصائص الأشياء، تماماً كما يتصوّر بعض النّاس الشمس، من خلال شكلها البارز، بشكل سطحي، بينما يتصورها بعض آخر، من خلال عمق تكوينها وطبيعتها وآثارها، بشكل عميق شامل بالمقدار الذي توصّل العلم إلى معرفته"( ).
ولعلّ هذا المعنى تعطيه رواية تفسير العياشي عن جابر الجعفي: قال: سألت أبا جعفر(ع) عن شيء في تفسير القرآن فأجابنى، ثم سألته ثانية فأجابنى بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك، كنت أجبت في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم؟
 فقال(ع) لي: "يا جابر، إنّ للقرآن بطناً، وللبطن ظهراً. يا جابر، وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن؛ إنّ الآية لتكون أولها في شيء، وآخرها في شيء، وهو كلام متصل يتصرف على وجوه"( ).
إنّ اللّفظ القرآنيّ "ليس مدلولاً لغوياً يتجمّد المعنى عنده، بل هو إيحاء عميق ممتد في رحاب الحياة، يتسع ويشمل كلّ ما يتصل به من أجواء ومواقف وأشياء"( ).
لذا، لا بدَّ من أن ننطلق مع القرآن إلى آفاق المعرفة، وأن نلاحق كلّ مفردات القضايا الفكرية والعملية، لنحصل  علـى الأجوبة الشافية من خلال القـراءة الواعيـة: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتاب‏ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ}(البقرة:121)، في فهمٍ عميقٍ للمضمون الفكري، وفي استيحاء للمشاعر الروحية، "فلا يقتصرون على الأداء اللفظي الذي يشغل البعض من الناس، أو على العنصر الأدبي البلاغي، بل يتحركون معه ككتاب عملٍ ووعيٍ وحركةٍ ومنهجٍ للحياة، كما جاء في الإرشاد للديلمي، عن الإمام الصّادق(ع): "يرتلون آياته، ويتفقهون به، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده، ويخافون وعيده، ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأوامره، وينتهون بنواهيه، ما هو والله حفظ آياته، ودرس حروفه، وتلاوة سوره، ودرس أعشاره وأخماسه، حفظوا حروفه، وأضاعوا حدوده، وإنما هو تدبّر آياته، والعمل بأركانه، قال الله تعالى: {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ}(ص: 29)"( ).
القرآن تبيان لكلّ شيء
انطلاقاً من قوله تعالى: {ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ}(النحل: 89)، ندرك أنّ في القرآن كلّ ما "يحتاجه الناس في حياتهم العامة، في ما يتعلق بنظامهم العقيدي والشّرعيّ والأخلاقيّ، على مستوى المفردات والمنهج، وليس من الضّروري أن يكون المراد بكلّ شي‏ء، ما يشمل العلوم بكلّ تفاصيلها، والأشياء والموجودات بكلّ جزئياتها، لأنّ ذلك ليس من شأن الرسالة، ولا من مهمة الأنبياء، ولم ينقل في تاريخهم الطويل أيّ عمل أو دعوة تشير إلى ذلك"( ).
لا يخفى دور الزَّمان والمكان في تطوّر الحياة، وتعقّد القضايا والمشكلات، وتغير الأحوال والموضوعات،  وقد يكون التغيير على نحوٍ كلّيّ إلى درجة لا يصدق الموضوع السابق على الموضوع الجديد، وذلك فيما إذا تغيرت شرائط الموضوع وأحواله. وقد تستحدث موضوعات جديدة لم تكن موجودةً في السابق، فلا بدّ من اتخاذ الموقف الشرعي تجاهها من خلال عملية الاجتهاد، على ضوء الكليات والمبادئ القرآنية العامة. وبذلك يستطيع المفسر الفقيه أن يستجيب لمتطلبات العصر ويجيب على إشكالاته، لإيمانه بهيمنة القرآن وقيمومته، وأنّه تبيان لكلّ شيء.
وقد جاء في الكافي للكليني العديد من الروايات في باب الردّ إلى الكتاب والسنة، تصرّح بهذه الحقيقة التي ينبغي أن نجعلها نصب أعيننا ونحن نتصدَّى لتفسير كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه:
عن الإمام الصّادق(ع): "ما من أمرٍ يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله عزّ
 وجلّ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال".
وعنه(ع): "إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء، حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن؟ إلا وقد أنزله الله فيه".
وعن الإمام الباقر(ع): "إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمّة إلا أنزله في كتابه وبيَّنه لرسوله(ص)، وجعل لكلّ شيء حدّاً، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حداً".
وعنه(ع): "إذا حدّثتكم بشيءٍ فاسألوني من كتاب الله... إنّ رسول الله(ص) نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السّؤال".
فقيل له: يا بن رسول الله، أين هذا من كتاب الله؟
قال: إنّ الله عزّ وجلّ يقول: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أو مَعْرُوفٍ أو إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}(النّساء: 114).
وقال: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا}(النّساء: 5).
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}(المائدة: 101).
في تفسيره لآية: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ والْمَيْسِرُ والْأَنْصابُ والْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(المائدة: 90)، ذكر السيّد المفسّر العديد من الروايات التي تفسّر الميسر، كرواية الكافي عن الباقر(ع) قال: "لما أنزل الله عزّ وجلّ على رسول الله(ص): {يَسْأَلُونَكَ}، قيل: يا رسول الله: ما الميسَّر؟ فقال: كل ما تقومر به، حتّى الكعاب والجوز"( ).
ورواية العياشي عن أبي عبدالله الصادق(ع)، قال: "الشّطرنج ميسر والنّرد ميسر".
ورواية ابن مسعود: "قال رسول الله(ص): وإياكم وهاتين الكعبتين الموسومتين، فإنّهما من ميسر العجم".
ورواية ياسر الخادم عن الرضا(ع) قال: "سألته عن الميسر قال: الثقل من كل شي‏ء، قال الحسين: والثقل ما يخرج بين المتراهنين من الدرهم وغيره".
يستوحي صاحب تفسير ((من وحي القرآن)) من هذه الروايات وغيرها، الأمور الثلاثة التالية:
أوّلاً: أنّ مضمون القمار داخل في مفهوم الميسر.
ثانياً: أنّ تطبيق الميسر على النرد والشطرنج اللذين كانا من أدوات القمار، يعين اختصاص التحريم بصورة ما إذا كان اللعب بهما على سبيل القمار، لأنّ صدق العنوان على شي‏ء، لا بدّ فيه من أن يكون العنوان ثابتاً فيه، لا أن يكون على نحو التنـزيل من دون حقيقة.
ثالثاً: لعلّ الإشارة إلى أنّهما ميسر العجم، من أجل توضيح المصداق للعرب الّذين كانوا لا يتعاملون بهما في القمار، بل كانوا يتعاملون بآلات أخرى، فأريد بيان وحدة العنوان في الجميع. غاية ما هناك، أنّ أدوات الميسر في العادات العربيّة، تختلف عن أدوات الميسر لدى العجم.
 وعلى ضوء ذلك، يرى السيد "أنّ اقتصار التحريم في القرآن الكريم على الميسر، الّذي يختزن معنى القمار في مفهومه، يوحي بأنّ اللعب بأدوات القمار، سواء كان ذلك في الشطرنج أو النرد أو ورق اللعب، على نحو التسلية لا على نحو القمار، جائز شرعاً، لأنّ‏ دليل التحريم لا يشمله، واللّه العالم"( ).
وهذا الموقف يذكرنا بموقف الإمام الخميني في فتواه الشهيرة بجواز لعب الشطرنج، التي أغضبت بعض الأوساط في الحوزة العلمية بقم، وكانت جواباً عن سؤال مدى حرمة الشطرنج فيما لو تغيرت النظرة إليه من ربح وخسارة (قمار وميسر) إلى رياضة فكرية، فإنّ تغيّر الشروط يستوجب تغيّر الموضوع، وبالتالي تغيّر الحكم، لأنّ الحكم بمثابة المعلول، والموضوع بمثابة العلة.
وقد سئل السيّد علي الخامنئي: ما هو حكم الشطرنج في المجالات التالية:
1- صناعة وبيع وشراء آلة الشطرنج؟
2- اللعب بالشطرنج مع الشرط وبدونه؟
3- افتتاح مراكز لتعليمه واللعب به في المحافل العامة وغيرها، والتشجيع على اللعب به؟
فكان جوابه: "إذا كان المكلَّف يرى بنظره أنّ أحجار الشطرنج لا تعدّ حالياً من آلات القمار، فلا مانع شرعاً من صناعتها، ولا من بيعها وشرائها، ولا من اللعب بها من دون رهان، كما لا مانع من تعليمه على هذا الفرض"( ).
القرآن والحديث: تفسير متبادل
في الوقت الذي يؤمن السيّد المفسّر بتفسير السنّة للقرآن، يؤمن بالعكس تماماً، إذ يكون القرآن مفسّراً للسنّة، لتكون الروايات مفسَّرةً بالآيات، وتكون الآيات مقيدة لمطلقاتها ومخصّصة لعموماتها، أو تكون الآيات حاكمةً على الروايات، بمعنى الحكومة في علم الأصول، بتضييق دائرة الموضوع أو توسعتها.
في بحثه (تأملات قرآنية في المنهج)، يرى أنّ هذه "نقطة مهمّة لا بدّ من إثارتها في المنهج، وهي أنّ الآية قد تفسر الحديث وتحصره في دائرتها المحدودة، بدلاً من أن يجذبها إلى دائرته الواسعة التي تتجاوز مدلولها الظاهر، وذلك إذا ورد حديث يدلّ على الاستدلال بالآية على موضوع واسع، في الوقت الذي تضيق الآية في مضمونها عنه، فإننا نرى أنّ الآية تضيّق دائرته بدلاً من توسيع الحديث لمدلول الآية".
ولتوضيح هذه الملاحظة المنهجية في التفسير، يضرب مثالين قرآنيين:
المثال الأول:  الغناء، لهو الحديث وقول الزور
جاء في الأحاديث المأثورة، في تفسير قوله تعالى: {واجتنبوا قول الزور}(الحج: 30)، قال: "الغناء".
 وفي قوله تعالى: {والّذين لا يشهدون الزّور}(الفرقان:72)، قال: "الغناء".
وفي قوله تعالى: {ومن النّاس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً}(لقمان: 6)، قال: "الغناء".
يقول السيّد المفسّر: "فإننا نلاحظ في مدلول (قول الزور) و(لهو الحديث)، أنّه ظاهر في الغناء المشتمل على كلام باطل، أو حديث يؤدّي إلى اللهو الذي يضلّ عن سبيل الله، وبذلك تكون الآية دليلاً على حرمة الغناء في هذه الدائرة المحدودة، فلا تشمل الغناء المشتمل على كلام الحقّ، كالمناجاة أو المدائح النبوية، أو القضايا السياسية والاجتماعية والوجدانية المعبّرة عن مضمونٍ مفيدٍ للإنسان ومنسجمٍ مع الخطّ الإسلامي الأصيل، كما يوحي الاستدلال بالآية، من خلال هذا المفهوم، على حرمة الغناء، أنّه ليس محرَّماً بذاته، بل بلحاظ انطباق هذه العناوين القرآنية عليه.
ولكن بعض الفقهاء حاولوا أن يركِّزوا على الصوت اللّهويّ أو اللحن الباطل بعيداً عن المضمون، بحيث جعلوا سعة مفهوم الغناء حاكمةً على مدلول الآية، ولذلك حكموا بحرمة الغناء مطلقاً، حتى في الكلام الذي يقرّب الإنسان من الله، ويجعل من اللحن وسيلةً من وسائل تعميقه في النفس.
ولكنّنا لا نجد هذا الفهم منسجماً مع ظاهر الآية، إذا كانوا يركِّزون على اللهو والباطل صفتين للحن، لأنّه هو الذي يمثّل الفرق بين كون الكلام غنائياً أو غير غنائي، فإن الردّ على ذلك، أن التأكيد القرآني هو في المضمون الباطل الذي يزيده اللحن، بل تتحرك من خلال المضمون الذي يدخل إلى الوجدان، فيشغله عن الله ويضلّه عن سبيله، وذلك من خلال دور اللحن في استقبال الإنسان للفكرة بطريقة أسرع وأكثر تأثيراً".
المثال الثّاني: الميسر والشّطرنج
في قوله تعالى: {إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}(المائدة:90)، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}(المائدة: 91)، ورد في الأحاديث أنّ "الشطرنج ميسر"، وأنّ "النّرد ميسر"، وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(ع)، الذي سأله شخص: ما الميسر؟ قال: "الشطرنج"، قال: قلت، إنهم يقولون إنّها النرد، وقال "النرد أيضاً".
"فقد ذهب الفقهاء إلى حرمة النرد والشطرنج مطلقاً، حتى لو لم يكن اللعب مشتملاً على العوض الذي يوجب صدق القمار عليه، من خلال الأحاديث الواردة في النّهي عنهما مطلقاً، وقد رأوا أن تطبيق الميسر عليهما يدلُّ على توسعة مفهوم الميسر لما يشمل اللعب بدون عوض، أو أنّ المراد به آلات الميسر، حتى لو لم يلعب بها بالطريقة القماريّة.
ولكننا نرى أنّ للميسر ظهوراً في اللغة في لعب القمار الذي يختزن في مضمونه مفهوم العوض، وهذه هي القرينة على أنّ إطلاق كلمة الميسر على الشطرنج والنرد يطلق من هذه الملاحظة، على أساس أنّ تطبيق العنوان على شيءٍ، يدلُّ على أنّ المراد بالشيء ما يتناسب مع العنوان وليس العكس، ولذلك ذهب بعض الفقهاء، ومنهم الإمام الخميني، إلى حليّة اللّعب بالشّطرنج والنرد إذا خرجا عن عنوان آلة القمار".
الفصل الثّاني: الرّوايات ودورها في التّفسير
تضطلع السنَّة بدورٍ كبيرٍ في عالم التفسير، لقوله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر:7)، فإنَّ "سنّة رسول الله(ص)، المتمثِّلة في قوله وفعله وتقريره، الوجه التفصيلي والتطبيقي للمفاهيم القرآنية العامّة، فلا مجال للأخذ بالقرآن بشكل دقيق، إلا بالرجوع إلى السنّة، لنعرف من خلالها تفصيل ما أجمله القرآن، وإيضاح ما أبهمه، وتخصيص ما أطلقه، فقد أوكل الله إلى رسوله أمر ذلك كلّه، كما أوكل إليه القيام بإدارة شؤون الرسالة وقيادة الأمة، وذلك بما أوكله إليه من شؤون الحاكمية، بالإضافة إلى الرسالة، عندما جعله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، واعتبره حكماً وحاكماً في كلّ ما اختلفوا فيه، لتسير الحياة على خطين: خطّ الرسالة، وخط القيادة، لتكتمل لها شروط الثبات والتقدم والنجاح. ولهذا كان التأكيد في أكثر من آية على إطاعة الرسول، إلى جانب إطاعة الله، لئلا يستقلّ الناس في قضايا التطبيق والتخطيط، بعيداً عن القيادة الأولى الرسولية، التي تعرف من عمق المفاهيم وامتدادها، المدى الذي يمكن أن تتحرّك فيه وتصل إليه"( ).
وهذا ما يعطيه قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله والرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تأويلاً}(النساء: 59).
والمراد من أولي الأمر "الأئمة الاثنا عشر المعصومون، لأنّهم الذين ثبت عن رسول الله(ص) الأثر في ولايتهم، كما دلّت آية التطهير على عصمتهم، بعد أن كانت الآية دليلاً على وجوب عصمة أولي الأمر، لإطلاق الأمر بالطاعة... وقد وردت أحاديث كثيرة مستفيضة في إرادة هذا المعنى من الآية"( ).
وما جاءت به العترة الطاهرة، لا يخرج عن دائرة السنة النبوية، ولا يفارق القرآن بحال من الأحوال، بموجب حديث الثقلين: "إنّي تاركٌ فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض‏"، والذي لا يفارق القرآن في حالٍ من الأحوال، لا بدَّ من أن يكون معصوماً.
ولهذا، فانّ أهل البيت(ع) عدل القرآن، وهم المصداق الأكمل للراسخين في العلم، في آية: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ}(آل عمران:7).
ومن خلال استقراء ما جاء في تفسير (من وحي القرآن)، وتعامله مع السنة بالمعنى الأعمّ، الشاملة لأقوال أئمة لأهل البيت(ع) في عالم التفسير والتأويل، نتلمّس منهج المفسّر بوضوح.

الدّور الأوّل: تفسير المجمل وبيانه
كثيرة هي الآيات المجملة في القرآن، والتي تركت إلى السنَّة تفسيرها وبيان المقصود منها، من خلال أسباب نزولها، أو ما روي عن النبي (ص) وأهل بيته (ع) في تبيان تأويلها. ويمكن أن نذكر موارد عديدة في تفسير (من وحي القرآن) كان للروايات دورٌ حاسمٌ في إعطاء الدلالات، وتشخيص المصاديق الخارجية التي أشارت إليها تلكم الآيات.
المورد الأوّل: معنى المودة في القربى
يذكر تفسير (من وحي القرآن) العديد من الوجوه والأقوال التي احتملها المفسرون في المقصود من (القربى)، ومعنى مودتهم في قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏}(الشورى: 23).
الوجه الأوّل: الخطاب لقريش، والأجر المسؤول‏ هو مودتهم للنبي (ص) لقرابته منهم، وذلك لأنهم كانوا يكذّبونه ويبغضونه، لتعرّضه لآلهتهم على ما في بعض الأخبار .. فكانت هذه الآية نداءً لهم بأن يستشعروا المودّة العميقة التي تشدُّ الإنسان إلى قرابته، ليمحضوه الحبّ من خلال ذلك، فلا يتعقدوا في مشاعرهم نحوه.
يلاحظ السيّد المفسّر على هذا الوجه التفسيري ملاحظتين نقديتين:
أوّلاً: "إنّ المحبّة الذاتيّة ليست هدفاً للنبي(ص)، إلا إذا كانت وسيلةً من وسائل الوصول إلى المحبة لرسالته.. وهذا غير وارد لدى الكافرين الذين كانوا ينطلقون في موقفهم الشعوري من عقدة ذاتية من رسالته التي تلغي كلَّ عقائدهم وتقاليدهم وأوضاعهم".
ثانياً: "لا معنى - في هذه الحالة - لأن يطلب منهم أجراً على رسالته المرفوضة من قبلهم، والتي يعتبرونها نقمةً عليهم لا نعمة، وإذا كان يحدُّثهم - بعد إيمانهم - فكيف يمكن أن تكون مشاعرهم نحوه، هي مشاعر البغض والعداوة"( ).
الوجه الثّاني: المراد مودَّة الأقرباء، في داخل قريش، أو في حياة الناس كافّة.
"ونلاحظ على هذا، أنَّ مودة الأقرباء قد تكون موضع تشجيع الإسلام ورعايته في نطاق صلة الرحم، ولكنّها لا تمثل قيمةً "إسلاميّةً روحيّةً" في ذاتها بالحجم الّذي يجعلها أجراً للرسالة، أو في الأجواء التي تقترب من ذلك، بل ما يفيده سياق الآية، أنّ الحبّ في الله والبغض في الله، مما قد يفرض على الإنسان المسلم رفض مودة الآباء والأبناء والإخوان وجميع الأقرباء إذا كانوا معادين للَّه ولرسوله"( ).
الوجه الثّالث: المراد بالمودَّة في القربى، هو قرابة النبيّ(ص)، وهم أهل بيته.
يرى السيّد المفسِّر أنَّ هذا الوجه من التأويل هو المقصود، "وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في كتب أهل السنّة والشيعة التي تؤكِّد ذلك، بما قد يصل إلى مستوى التواتر أو الاستفاضة"( ).
وهنا يسجَّل ملاحظة منهجية في التعامل مع المجملات في الآيات المباركة، وهي الكلمات التي تحتمل أكثر من معنى ومصداق في ذاتها، "فلا بدّ لاكتشاف معناها التفصيلي من قرينة، داخلية أو خارجية، تعيّن ذلك بالطريقة التي تحقق الانسجام بينها وبين الآيات المماثلة لها.
وقد يلاحظ القارئ أنَّ المودَّة في القربى هي أجر الرسالة، أو المعنى الذي يقترب من هذا الجوّ، ولكن لا معين للمصداق، ما يجعل الرجوع إلى الروايات الواردة في هذا المجال، هو الحلّ للمشكلة".
"وقد وردت هناك أخبار كثيرة حول تعيين أهل البيت(ع)، بحيث ترجح على الأخبار الأخرى من ناحية كثرتها وانسجامها مع الجوّ الرساليّ، باعتبار أنهم يمثلون الامتداد الروحي والعملي في خطِّ القيادة الرساليّ.. مما لا يجعل من المسألة حالةً ذاتيةً في الشخصية النبوية، بل حالةً رسالية.. وهذا بالإضافة إلى أنَّ هذا التفسير كان مشهوراً في عهد أئمّة أهل البيت(ع)، بحيث تحدَّثوا عنه في أكثر من موقع، حتى جرى على لسان الشعراء، كما ورد في قصيدة الكميت في قوله:
وجدنا لكم في آلِ حَاميمَ آية                تأوّلها منّا تقـــيٌّ ومعربُ‏ُُ
 ما يجعلنا نطمئنّ إلى ذلك"( ).
من هنا، ندرك مدى أهمّية الروايات الواردة عن أهل البيت(ع) في المنهج التفسيري، في تفسير (من وحي القرآن)، لأنّهم أدرى بما فيه، وأعلم من غيرهم بمعرفة دلالاته ومقاصده وتفسير مجملاته، الأمر الذي يجعل من رواياتهم أولى بالاعتماد من روايات غيرهم من الصحابة والتابعين.
المورد الثّاني: آية المباهلة: أبناءنا ونساءنا وأنفسنا
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ ونِساءَنا ونِساءَكُمْ وأَنْفُسَنا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ الله عَلَى الْكاذِبِينَ}(آل عمران: 61).
بعد أن يذكر تفسير (من وحي القرآن) شأن نزول آية المباهلة، وأنّها نزلت في قصّة مباهلة النبي(ص) لنصارى نجران، وقول رؤسائهم السدّ والعاقب والأهتم: "إن باهلنا بقومه باهلناه فإنّه ليس نبيّاً، وإن باهلنا بأهل بيته خاصةً لم نباهله، فإنّه لا يقدّم أهل بيته إلا وهو صادق". فلمّا أصبحوا، جاؤوا إلى رسول الله(ص) ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين(ع)، فقال النصارى: من هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابن عمّه ووصيّه وختنه عليّ بن أبي طالب(ع)، وهذه ابنته فاطمة(ع)، وهذان ابناه الحسن والحسين(ع)، "ففرقوا، فقالوا لرسول الله(ص): نعطيك الرضى فاعفنا من المباهلة، فصالحهم رسول الله(ص) على الجزية وانصرفوا". وبعد أن يفسر تطبيقياً "أبناءنا" بالحسن والحسين(ع)، و"نساءنا" بفاطمة الزهراء(ع)، و"أنفسنا" بعلي بن أبي طالب(ع)، ويرى أن هذا ما أجمع عليه المفسرون، وقول صاحب التفسير الكبير الفخر الرازي: "واعلم أن هذه الرواية - أي رواية المباهلة - كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث"( ).
يعقد السيّد المفسّر بحثاً بعنوان: (علامة استفهام حول نزول الآية)، يردّ فيه على ما أثاره بعض المفسّرين من علامة استفهام حول نزول آية المباهلة في أهل البيت(ع)، "بلحاظ صيغة الجمع الواردة في {أَبْناءَنا ونِساءَنا وأَنْفُسَنا} التي لا تصدق إلا على ما زاد عن اثنين، فكيف تنطبق الأولى على الحسن والحسين(ع)، والثانية على سيدتنا فاطمة الزهراء(ع)، والثالثة على أمير المؤمنين علي(ع)؟".
ويمكننا أن نذكر باختصار جواب السيّد المفسّر من خلال النقاط التالية:
أوّلاً: "إن القيمة التكريميّة المميزة كانت من خلال تطبيق الجمع على هؤلاء واقتصاره عليهم، في الوقت الذي يمكن للكلمة - في ذاتها - أن تنطبق على أكثر من ذلك، فلم تكن الكلمات المذكورة واردةً في هؤلاء على نحو اختصاص المضمون اللّغويّ بهم، بل من خلال اختصاص الاختيار النّبويّ - بوحي الله - بهم، وهذا أمرٌ واردٌ في أكثر من آية، حيث تأتي الآية بصيغة الجمع، لتأكيد المبدأ العام الشّامل لكلّ الأفراد من حيث القاعدة، مع أنّ المصداق واحد"( ).
ثانياً: إنَّ الله تعالى أراد للنّبيّ(ص) "أن يؤكِّد المباهلة في خطّ التحدّي الكبير، في موقع الاستعداد لتعريض أعزّ النّاس عليه للخطر الآتي من النّتائج السلبيّة المطروحة في ساحة المباهلة بهلال الكاذب، وأطلق الحديث عن الأبناء والنساء والأنفس ممن يختص به لإطلاق المبدأ في هذه العناوين، فكأنّه يريد أن يقول لهم إنّه على استعداد لدعوة هؤلاء بكلّ ما يمثلونه من عمق عاطفي في نفسه إلى المباهلة، للتدليل على صدق دعوته، من دون التحديد في عنوان الدعوة، ولكنّهم كانوا محدّدين في نفسه بأشخاص معيّنين، لأنّهم هم المفضلون لديه، القريبون إليه، الأثيرون عنده"( ).
ثالثاً: "ولهذا، أدرك القوم الموضوع وأبعاده، فاهتزّت أعماقهم بالخوف من الخوض في هذه التجربة التي تستتبع اللعنة الفعلية التي تتجسَّد في عذاب الله وعقابه، فأقلعوا عن الأمر، وقبلوا الصّلح"( ).
وفي رواية ابن إسحاق والثعلبي والكشاف والرازي وأبي السعود وغيرهم في تفاسيرهم، والمالكي في الفصول المهمّة، أنّ أسقف نجران قال: "إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا"( ).
رابعاً: "وقد طبّق النبيّ(ص) هذا العنوان على عليّ بن أبي طالب (ع)، فلا أحد يدّعي دخول غيره مع زوجته وولديه"( ).
قال صاحب التّفسير الكبير الفخر الرّازي: "واعلم أنّ هذه الرّواية - أي رواية المباهلة -كالمتّفق على صحّتها بين أهل التفسير والحديث"( ).
وقال صاحب تفسير مجمع البيان: "أجمع المفسرون على أنّ المراد بأبنائنا الحسن والحسين(ع)، قال أبو بكر الرازي: هذا يدلّ على أنّ الحسن والحسين ابنا رسول الله(ص)، وأنّ ولد الابنة ابن في الحقيقة"( ).
وأكد الزمخشري في تفسير الكشاف قوله: "وفيها دليل لا شي‏ء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء (ع)"( ).
وقد نقل تفسير (من وحي القرآن) أقوال هؤلاء الأعلام، ليؤكّد أنّ تطبيق الآية محسوم في عالم التفسير والتأويل بأصحاب الكساء، وهم أهل البيت الذين نزلت بحقّهم آية التطهير في سورة الأحزاب.
ولهذا جاء تفسيره واضحاً في تحديد (أبناءنا ونساءنا وأنفسنا) بقول:
1-    (أَبْناءَنا):
 "الذين يجسّدون أعمق علاقة حميمة يعيشها الإنسان في علاقته بالناس، بحيث تتصل حياته بامتداد حياتهم، وعاطفته بالمعنى العميق لوجودهم، فيتعب ليرتاحوا، ويجوع ليشبعوا، ويظمأ ليرتووا، ويضحيّ بحياته ليعيشوا بعده.. وها أنا أقدِّم بين يديّ للمباهلة، ولديّ الحسن والحسين(ع)، اللذين يمثّلان كلّ حبي في العاطفة، وكلّ شعوري في المحبّة، وأملي بمستقبل الرسالة، فهما سيّدا شباب أهل الجنة، وريحانتاي في الدنيا"( ).
2-    (ونِساءَنا):
"اللاتي يمثلن أقرب موقع للانتماء الإنساني الروحي من النساء في حياتنا الخاصة، وها أنا أقدم بين يديَّ ابنتي فاطمة، سيّدة نساء العالمين، التي هي بضعة مني، يُريبني ما رابها، ويغضب الله لغضبها، ويرضى لرضاها، لأنّ غضبها في مواقع غضب الله، ورضاها في مواقع رضاه. إنني أقدمها في هذا التحدي الكبير، للدلالة على أننّي على يقين من صدق دعوتي، لأنّ الإنسان لا يقدم أحبّ الناس لديه في مواقع احتمال الخطر، إلا إذا كان واثقاً من النجاة"( ).
3-    (وأَنْفُسَنا):
"ممن هم في موقع النفس، من حيث المنزلة والمحبة والإعزاز، وهو عليّ (ع)، لأنّه يمثّل الصورة الحيّة الصّادقة لكلّ الكمالات والتطلّعات والسلوكيّات والملكات التي أمثّلها، لأنني ربيته وأنشأته منذ طفولته على صورتي في أخلاقي وروحيّتي وأقوالي وأمثالي، فكان منّي بمنزلة النفس من النفس، والذات من الذات، والروح من الروح، والعقل من العقل... وليس هناك في الساحة غير عليّ(ع) الذي عاش معي كما لم يعش أحد غيره معي، وكان منّي "بمنـزلة هارون من موسى، إلا أنّه لا نبيّ بعدي"( ).
روايات أسباب النـزول
جاء في تفسير الدّر المنثور للسيوطي: "وأخرج الحاكم وصحَّحه وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن جابر، قال:... فدعاهما إلى الملاعنة، فوعداه إلى الغد، فغدا رسول الله(ص)، وأخذ بيد عليّ وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيباه، وأقرا له، فقال: والذي بعثني بالحقّ، لو فعلا لأمطر الوادي عليهما ناراً.
 قال جابر: فيهم نزلت {تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ...} قال جابر: "أَنْفُسَنا وأَنْفُسَكُمْ" رسول الله(ص) وعليّ(ع)، "وأَبْناءَنا" الحسن والحسين(ع)، "ونِساءَنا" فاطمة"( ).
وفيه : "وأخرج مسلم والترمذي وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن سعد بن أبى وقاص، قال: لما نزلت هذه الآية {فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ}، دعا رسول الله(ص) عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: اللّهم هؤلاء أهلي‏"( ).
ومن عجائب الرّوايات في أسباب النـزول هذه الرواية الشاذّة: "وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمّد عن أبيه في هذه الآية {تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا} الآية، قال: فجاء بأبي بكر وولده! وبعمر وولده! وبعثمان وولده! وبعليّ وولده‏!!"( ).
المورد الثّالث: أهل البيت(ع) هم أصحاب الكساء وليس النّساء
في تفسيره لآية التطهير {إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(الأحزاب: 33)، يناقش تفسير (من وحي القرآن) القول الشاذّ الّذي يذهب إلى أنَّ المراد بأهل البيت في الآية أزواج النبيّ(ص)، روى ذلك الطّبري في تفسيره عن علقمة قال: "كان عكرمة ينادي في السّوق {إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، قال: نزلت في نساء النبيّ(ص) خاصّةً"( ).
وقد يقال إن ما يؤيدّه هو سياق الآية التي وردت في أجواء الآيات المتعلقة بهن، في ما قبلها وبعدها، ما يجعل الظهور بيّناً في هذا المعنى: {وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى‏ وأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكاةَ وأَطِعْنَ الله ورَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * واذْكُرْنَ ما يُتْلى‏ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ الله والْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً}(الأحزاب: 33-34).
يسجل السيّد المفسّر على هذا الاتجاه في التفسير الذي جاء في رواية علقمة عن عكرمة، ملاحظات نقدية عديدة:
الملاحظة الأولى: الرواية شاذّة وشخصيّة
"إنّ الرواية التي رواها عكرمة لم يسندها إلى رسول الله(ص) في ما سمعه الراوي أو المسلمون منه، فربما كانت رأياً شخصياً له على أساس اجتهاد خاص، لم يأت عليه بدليل واضح لننظر فيه، فلا يلزم غيره"( ).
الملاحظة الثّانية: الروايات متواترة بنـزولها في أصحاب الكساء
 "وإذا لاحظنا المسألة من جانب كثرة الأحاديث ووثاقتها، فإنّنا نجد أنّ هذه الروايات تزيد على السبعين حديثاً، من طرق المسلمين من أهل السنة، أو من طرق المسلمين من الشيعة، وربما زاد المرويّ منها عن طريق أهل السنة على ما ورد منها من طرق الشيعة، فقد روتها كتب أهل السنة بطرقٍ كثيرةٍ عن أم سلمة وعائشة وأبي سعيد الخدري وسعد وواثلة بن الأسقع وأبي الحمراء وابن عباس وثوبان مولى النبي وعبد الله بن جعفر وعليّ والحسن بن عليّ في قريب من أربعين حديثاً"( ).
"وروتها الشيعة عن عليّ والسجّاد والباقر والصّادق والرّضا وأم سلمة وأبي ذرّ وأبي ليلى وأبي الأسود الدؤلي وعمرو بن ميمون الأودي وسعد بن أبي وقّاص في بضع وثلاثين طريقاً"( ).
الملاحظة الثّالثة: انفصال مقطع التّطهير
"أمّا مسألة السياق الظاهر في اختصاصها بنساء النّبيّ، فيردّها أنّ هذه الأحاديث الكثيرة لم تتحدّث من قريب أو من بعيد عن نزول هذه الآية مع الآيات الأخرى الواردة في خطاب أزواج النبي، ولم يذكر ذلك أحد من القائلين بالاختصاص، بل كانت الأحاديث دالةً على نزول الآية وحدها، ما يجعلها منفصلةً عن السياق بطبيعتها، ولكنّها وضعت في ضمنه للمناسبة"( ).
الملاحظة الرّابعة: الروايات تنفي شمول الآية لأزواج النبيّ
إنّ الروايات التي ذكرها الطبري في تفسيره وغيره، عن أمّ سلمة، فيها إثبات ونفي، فهي في الوقت الّذي تثبت نزولها بأصحاب الكساء الخمسة، فإنّها تنفي أن تكون نساء النبي داخلةً في أهل البيت المقصودين في الآية المباركة.
"عن أمّ سلمة قالت: كان النبيّ(ص) عندي، وعليّ وفاطمة والحسن والحسين، فجعلت لهم خزيرةً، فأكلوا وناموا، وغطى عليهم عباءة أو قطيفة، ثم قال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً".
وفي رواية أخرى عنها، أن هذه الآية نزلت في بيتها، "قالت: وأنا جالسة على باب البيت، فقلت: أنا يا رسول الله، ألست من أهل البيت؟ قال: إنّك على خير، أنت مع أزواج النبي. قالت: وفي البيت رسول الله(ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين‏"( ).
وكانت رواية الطبري الأولى عن أبي سعيد الخدري واضحةً في التّخصيص، وهذا نصّها: "قال رسول الله(ص): نزلَت هَذِهِ الآية فِي خَمْسَةٍ: فِيَّ وَفِي عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنْهُ وَحَسَنٍ رَضِيَ الله عَنْهُ وَحُسَيْنٍ رَضِيَ الله عَنْهُ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ الله عَنِهَا: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}".
ومن الجدير بالذّكر، أنّ الطّبري يذكر في تفسيره تأويلين لمعنى "أهل البيت" في آية التّطهير:
الأوّل: عُني به رسول الله(ص) وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم.
ويذكر خمس عشرة روايةً تؤكّد هذا المعنى دون غيره.
منها رواية أمّ سلمة الآنفة، ورواية أخرى عن أَبي سعيد الخدري، عن أمّ سلمة قالت: "لما نزلت هذه الآية: {إِنَّمَا يَرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، دعا رسول الله(ص) عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فجلّل عليهم كساءً خيبريّاً، فقال: "اللَّهُمَّ هَؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتِي، اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا. قالت أم سلمة: ألست منهم؟ قال: أَنْتِ إلى خَيْرٍ".
وفي رواية ثالثة عن أمّ سلمة كذلك: "فقلت: يا رسول الله وأنا؟ قالت: فوالله ما أنعم، وقال: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ"( ).
وقولها: "فوالله ما أنعم"، أي لم يقل نعم.
ثم قال الطبري في التأويل الثاني: "وقال آخرون: بل عنى بذلك أزواج النبي(ص)". ولم يذكر هنا إلا روايةً واحدةً، وهي رواية علقمة عن عكرمة! ( )
الملاحظة الخامسة: مصطلح أهل البيت(ع)
"كلمة أهل البيت تحوّلت إلى مصطلح خاصّ بهؤلاء الأشخاص على لسان النبيّ(ص) ولسان المسلمين من بعده، حتّى أصبحت تنصرف إليهم بشكل سريع من دون أيّ التباس، حتى إنها لا تشتمل بقية أقربائه مع شمول الكلمة لهم بحسب العرف العام".
"وقد جاء في صحيح مسلم بإسناده عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله(ص): "ألا إنّي تاركٌ فيكم ثقلين، أحدهما كتاب الله عزّ وجلّ، هو حبل الله، من اتّبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة"، فقلنا: من أهل بيته؛ نساؤه؟ قال: "لا وأيم الله، إنّ المرأة تكون مع الرّجل العصر من الدّهر، ثم يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الّذين حرموا الصّدقة بعده"( ).
الملاحظة السّادسة: الإرادة التكوينيّة في العصمة
يرى السيّد المفسِّر، أنّ الإرادة الإلهيّة لإذهاب الرّجس والتطهير في الآية: "هي الإرادة التكوينية التي تتدخل في تكوين الخصائص الذاتية في داخل الذات، مما يحقق للشخصية ملكات روحية ثابتة متحركة في اتجاه إيجاد الجوّ الفكري والروحي، الذي يدفع إلى اختيار الحقّ في القول والفكر والعمل، لا الإرادة التشريعية التي تقتصر على توجيه التكاليف"( ).
الإرادة التشريعية، تعني أنّ الله يضع لعباده من التشريعات الإلزامية وغير الإلزامية ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، ومثال ذلك قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ}(البقرة: 185)، فإرادته لليسر إرادة تشريعيّة، لأنّ الشّريعة التي كلّفنا بها هي سهلة سمحاء {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(الحج: 78) وعدم إرادته للعسر أيضاً، تعني أنّه أراد أن يخفّف عنكم من خلال ما رخّصه لكم.
"ربما يذكر البعض أنّ المراد هو تعلق الإرادة الإلهية بالاستقامة على خطّ التقوى، في ما يريده لكلّ الناس، أو التشديد في التكاليف، ما يجعل المسألة مربوطةً بالالتزام، لا بالعصمة، فإنّ الله جعل شريعته وسيلةً لتطهير الناس وإذهاب الرجس عنهم، فلا تكون لها أيّة خصوصية في هذا المجال"( ).
ولكنَّ السيّد يرى أنّ الإرادة في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33)، هي إرادة تكوينيّة خاصَّة بأهل البيت المعصومين، لا تشريعية عامة لجميع المسلمين.
ولهذا، فإنّ الآية فيها دلالة واضحة "على عصمة أهل البيت(ع)"؛ "لأن اللام في الكلمة للجنس، ما يجعلها شاملةً لكلّ ما يوجب الخلل في الشخصية مما يوجب النفور منها، في ما تنحرف به، وتخطئ فيه، فتكون دالةً على تعلّق إرادة الله بإزالة كلّ الجذور العميقة التي تقود إلى الانحراف، أو تدفع إلى الخطأ"( ).
 
تبريرات تفسير التّحرير والتّنوير
ومع كلّ هذه الروايات والأدلّة، يأتي صاحب تفسير التحرير والتنوير ليدَّعي أنّ تفسير أهل البيت بنساء النبي هو التفسير المشهور، بل الوحيد، منذ عصر الصحابة والتابعين، بقوله: "وأهل البيت(ع) أزواج النبي‏(ص)، والخطاب موجَّه إليهن، وكذلك ما قبله وما بعده، لا يخالط أحداً شكٌّ في ذلك، ولم يفهم منها أصحاب النبي‏(ص) والتابعون إلا أنّ أزواج النبيّ‏(ص) هنَّ المراد بذلك، وأنّ النـزول في شأنهنّ"( )!!
 ثم يقول: "وأمّا ما رواه الترمذي عن عطاء بن أبي رباح عن عمر بن أبي سملة قال: لما نزلت على النبيّ: {إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} في بيت أمّ سلمة، دعا فاطمة وحسناً وحسيناً، فجلّلهم بكساء وعليّ خلف ظهره، ثم قال: "اللّهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً"... وفي "صحيح مسلم" عن عائشة: "خرج رسول الله غداةً وعليه مرط مرحّل، فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء عليّ فأدخله، ثم قال: {إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}". وهذا أصرح من حديث التّرمذي.
فمحمله أنّ النبيّ‏ّّّّ (ص)‌ ألحق أهل الكساء بحكم هذه الآية وجعلهم أهل بيته، كما ألحق المدينة بمكّة في حكم الحرمية، بقوله: "إنّ إبراهيم حرّم مكّة، وإنّي أحرّم ما بين لابتيها"( )!!
ويدَّعي صاحب تفسير التّحرير والتّنوير، أنّ تفسير أهل البيت بأصحاب الكساء توهّم وقع منذ عصر التّابعين، لأنّهم لم يتفطّنوا إلى سياق الآية، بقوله: "ويظهر أنّ هذا التوهّم من زمن عصر التّابعين، وأنّ منشأه قراءة هذه الآية على الألسن، دون اتّصالٍ بينها وبين ما قبلها وما بعدها"( ).
ويجعل قول عكرمة دليلاً على ادّعائه، بقوله: "ويدلّ لذلك ما رواه المفسرون عن عكرمة أنّه قال: من شاء باهلته أنّها نزلت في أزواج النبي(ص). وأنّه قال أيضاً: ليس بالذي تذهبون إليه، إنما هو نساء النبي‏(ص)، وأنّه كان يصرخ بذلك في السوق".
ثم يقول: "وأمّا ما وقع من‏ قول عمر بن أبي سلمة: أن أم سلمة قالت: وأنا معهم يا رسول الله؟ ... فقال: "أنت على مكانك وأنت على خير"، فقد وهم فيه الشيعة، فظنوا أنّه منعها من أن تكون من أهل بيته، وهذه جهالة، لأنّ النبي‏(ص)، إنّما أراد أنّ ما سألته من الحاصل، لأنّ الآية نزلت فيها وفي ضرائرها، فليست هي بحاجة إلى إلحاقها بهم، فالدعاء لها بأنّ يذهب الله عنها الرجس ويطهّرها دعاء بتحصيل أمر حصل، وهو مناف لآداب الدعاء... فكان جواب النبي(ص) تعليماً لها. وقد وقع في بعض الروايات‏ أنّه قال لأمّ سلمة: "إنّك من أزواج النبي‏". وهذا أوضح في المراد بقوله: "إنّك على خير". ولما استجاب الله دعاءه، كان النبي(ص) يطلق أهل البيت على فاطمة وعليّ وابنيهما، فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك أن رسول الله(ص) كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر، يقول: "الصلاة يا أهل البيت {إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}"( ).
إنّ صاحب تفسير التحرير والتنوير، في الوقت الذي يدّعي - في الصفحة 246 - أنّ تفسير "أهل البيت" بنساء النبي كان هو التفسير الوحيد في عصر الصحابة والتابعين: "ولم يفهم منها أصحاب النبي‏ (ص) والتابعون إلا أن أزواج النبي(ص) هن المراد بذلك، وأنّ النـزول في شأنهنّ"، يدّعي - في الصفحة 248 - توهّم التابعين في فهم الآية، بقوله: "ويظهر أنّ هذا التوهّم من زمن عصر التابعين"!!
إنّه اتهم التابعين بوقوعهم في الوهم، واتهم أعلام الشيعة بالوهم والجهالة، بقوله: "فقد وهم فيه الشيعة، فظنوا أنّه منعها من أن تكون من أهل بيته، وهذه جهالة"، وحاول أن يؤول الروايات تأويلاتٍ لا تخطر إلا في عالم الخيالات والأوهام، ولذا لم تكن تخطر في أذهان التابعين جميعاً، إلا على ذهن عكرمة!!
إنّ هذا الذي ذهب إليه المفسّر المعاصر العلامة ابن عاشور، لا يقلُّ غرابةً عن تأويلاته وتبريراته لحرب الجمل في تفسيره لمطلع الآية: {وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}(الأحزاب: 33)، بقوله: "وقد أشكل على النَّاس خروج عائشة إلى البصرة في الفتنة التي تدعى: وقعة الجمل، فلم يغير عليها ذلك كثير من جلّة الصحابة، منهم طلحة والزبير. وأنكر ذلك عليها بعضهم مثل: عمار بن ياسر، وعليّ بن أبي طالب، ولكلّ نظر في الاجتهاد. والذي عليه المحققون مثل أبي بكر بن العربي، أنّ ذلك كان منها عن اجتهاد، فإنّها رأت أنّ في خروجها إلى البصرة مصلحة للمسلمين، لتسعى بين فريقي الفتنة بالصلح. فإنّ الناس تعلّقوا بها وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة، ورجوا بركتها أن تخرج فتصلح بين الفريقين، وظنّوا أنّ الناس يستحيون منها، فتأوَّلت لخروجها مصلحةً تفيد إطلاق القرار المأمور به في قوله تعالى: {وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} يكافئ الخروج للحج. وأخذت بقوله تعالى: {وإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما}(الحجرات: 9)، ورأت أنّ الأمر بالإصلاح يشملها وأمثالها ممن يرجون سماع الكلمة، فكان ذلك منها عن اجتهاد. وقد أشار عليها جمع من الصحابة بذلك، وخرجوا معها، مثل طلحة والزبير، وناهيك بهما"( )!!
ثم قال: "وهذا من مواقع اجتهاد الصحابة التي يجب علينا حملها على أحسن المخارج، ونظنّ بها أحسن المذاهب، كقولنا في تقاتلهم في صفّين، وكاد أن يصلح الأمر ولكن أفسده دعاة الفتنة، ولم تشعر عائشة إلا والمقاتلة قد جرت بين فريقين من الصحابة يوم الجمل. ولا ينبغي تقلد كلام المؤرّخين على علاّته، فإنّ فيهم من أهل الأهواء ومن تلقّفوا الغثّ والسمين. وما يذكر عنها رضي الله عنها: أنّها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى يبتلّ خمارها، فلا ثقة بصحة سنده، ولو صحّ، لكان محمله أنّها أسفت لتلك الحوادث التي ألجأتها إلى الاجتهاد في تأويل الآية"( )!!
المورد الرّابع: من هم أولو الأمر؟
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله والرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تأويلاً}(النساء: 59)
يطرح تفسير (من وحي القرآن) العديد من الأقوال في عالم التفسير في تأويل أولي الأمر الذين أمرتنا الآية بطاعتهم إلى جنب طاعة الله وطاعة الرسول:
القول الأول: المتصدّون للحكم واقعاً   
"هم الذين يتصدّون لولاية الأمر بطريقة واقعية، انطلاقاً من الوسائل التي يملكونها، ما يهيّئ لهم الإمكانات العملية للسيطرة والاستيلاء على الحكم، بعيداً عن الشرعية الإسلامية، وذلك من خلال قوّة السلاح والمال والرجال".
القول الثاني: الأمّة
أولي الأمر هم "الأمَّة، فهي التي تمثل السلطة الشرعية الصالحة للحكم. وخلاصة فكرتهم، أنّ إطلاق الأمر بالطاعة لشخص أو لجماعة يفرض العصمة فيه، لأنّه إذا كان ممن يجوز عليه الخطأ، كان الأمر بإطاعته - بشكل مطلق - أمراً بالسير على وفق أوامره ونواهيه، حتى في حالات الانحراف عن الحقّ، وهو غير جائز. وقد دلّ الدليل على عصمة الأمة، في رأي هذا القائل، بالحديث المعروف لدى كثير من المسلمين: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"( ).
القول الثالث: الأئمّة(ع)
"وقال علماء الشيعة الإمامية: إنّ المراد بهم الأئمة الإثنا عشر المعصومون، لأنهم الذين ثبت عن رسول اللَّه(ص) الأثر في ولايتهم، كما دلّت آية التطهير على عصمتهم، بعد أن كانت الآية دليلاً على وجوب عصمة أولي الأمر لإطلاق الأمر بالطاعة، كما ألمحنا إليه آنفاً. وقد وردت أحاديث كثيرة مستفيضة في إرادة هذا المعنى من الآية"( ).
القول الرّابع: صحابة النبي (ص)
القول الخامس: أمراء السرايا
"إنهم أمراء السرايا والجيوش والعمّال الّذين كان يستعملهم رسول الله (ص) على النّاس"( ).
يرى السيّد المفسّر، أنّ مسألة تحديد المراد من أولي الأمر "لا تنطلق من بحثٍ في المفهوم، فهو واضحٌ تمام الوضوح، بل البحث في المصداق، في ما يختلف فيه المسلمون من شؤون الولاية ممن يملك السّلطة في أمور المسلمين"، أي إنّ المشكلة ليست في التفسير ومعاني الكلمات، لأنّ تفسير أولي الأمر واضح بمعنى أصحاب القرار أو الشأن في الأمة، وإنّما المشكلة هنا تكمن في التأويل وتشخيص المصداق الخارجي الذي يكون تجسيداً صادقاً لأولي الأمر في الآية التي قرنت طاعتهم بطاعة الله وطاعة رسوله.
ردّ القول الأوّل
يرى السيّد المفسّر، أنَّ كلّ مصائب المسلمين عبر تاريخهم الطويل وحتى هذه الساعة، تكمن في هذا الوهم الخطير الذي يجعل من الطّغاة والمستكبرين والمفسدين أولياء أمر المسلمين، تجب طاعتهم مهما كان حالهم!
وفي ردّه على القول الأوّل، يتساءل عن المقصود من أولي الأمر في الآية: "هل هم الذين يتصدّون لولاية الأمر بطريقة واقعية، انطلاقاً من الوسائل التي يملكونها، مما يهيّئ لهم الإمكانات العملية للسيطرة والاستيلاء على الحكم، بعيداً عن الشرعية الإسلامية، وذلك من خلال قوة السلاح والمال والرجال؟"
ويجيب بقوله: "هذا ما توهَّمه البعض، ممن يسيرون في حياتهم وراء الحكام، مهما كان لونهم ووضعهم وطريقتهم في الحكم، ويطلبون من أتباعهم أن يخضعوا لهم ولا يثوروا في وجوههم مهما فعلوا أو ظلموا، لأن الله أمرنا بإطاعة أولي الأمر، ولم يحدد لنا صفتهم لنحدّد نحن ذلك في المجال العملي. وقد استطاع هذا المفهوم أن يمكّن الظالمين والمنحرفين والمستكبرين من السيطرة على مقدّرات الأمور، ويجمّد كلّ إمكانات الثورة ضدّهم من قبل الشعوب المسلمة المضطهدة. ونحن نعلم أنّ الله قد أقام الولاية على أساس العدل، وركَّز السلطة على أساس الإيمان والتقوى والسير على الصراط المستقيم، من خلال ما جاءت به الآيات والأحاديث والروايات، مما يمكن أن يكون أساساً لتقييد هذا المفهوم بذلك كلّه"( ).
ومن الواضح أنَّ السيِّد المفسِّر يرفض نظريّة الأمر الواقع التي ترى أنَّ كلّ من استلم السلطة أو الدَّولة هو حاكم شرعيّ يجب طاعته، حتى ولو كان شيطاناً في جثمان إنس، ما دام يدّعي الإسلام، وقد وضعت روايات في ذلك من أجل تبرير حكم هؤلاء الطغاة على مرَّ التَّاريخ.
منها رواية: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنّون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جُثمان إنس"، قال قلت: كيف أصنع  يا رسول الله إنْ أدركتُ ذلك؟ قال: "تسمعُ وتطيعُ للأمير، وإنْ ضُرِب ظهرُك وأخِذ مالُك، فاسمعْ وأطعْ"( ).
بينما نرى في مدرسة أهل البيت(ع) الحسين(ع)، الّذي كان بيانه الأوّل في ثورته حديث النبيّ الأكرم(ص): "أيّها الناس، إنَّ رسولَ اللَّهِ(ص) قالَ: مَن رأى منكُم سُلطاناً جائِراً، مُستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعَهدِه، مُخالِفاً لسنَّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يُغيّر عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه".
ردّ القول الثّاني
يردّ السيّد المفسّر هذا الرأي القائل بالأمّة، فهي التي تمثّل السلطة الشرعية الصالحة للحكم:
أوّلاً: أنّه "لا يرجع إلى قاعدة مركّزة واضحة، لأنّ هذا الحديث موضع جدلٍ بين العلماء في صحّته وعدم صحّته".
ثانياً: "لأنّ إجماع الأمّة كلّها لم يتحقّق في أيّ وقتٍ على أيّ فردٍ أو جماعةٍ في ولاية الأمر".
ثالثاً: "وأما اعتبار قول أهل الحلّ والعقد، فهو قابلٌ للأخذ والرّد، في تعيينهم، وفي الحكم بإصابتهم في الرأي، وفي غير ذلك من الأمور التي يمكن أن تقع محلّاً للنقاش، مما لا يتسع المجال لبحثه"( ).
أولو الأمر هم أئمّة أهل البيت(ع)
من دون شكّ، فإنّ أهل البيت(ع) هم عدل القرآن، ولا يمكن بحالٍ من الأحوال أن نتجاهل أقوالهم في عالم التفسير والتأويل، وقد استفاضت رواياتهم في تحديد المراد من أولي الأمر في هذه الآية، ولذا لا محيص من "السير مع الأحاديث التي تنصّ على أنّ المراد من أولي الأمر، الأئمة المعصومون، مع الالتزام بسعة المفهوم، وذلك على أساس الأسلوب الذي جرت عليه أحاديث أئمة أهل البيت(ع)، في الإشارة إلى التطبيق بعنوان التفسير، للتأكيد على حركة القرآن المستقبلية في القضايا الفكرية والعمليّة الممتدّة بامتداد الحياة، لأنّ ذلك هو السبيل الأفضل لوعي الإنسان المسلم للفكرة، على أساس التطبيق الواضح، من أجل أن يرتبط بالواقع بشكلٍ مؤكّد. وإنّ هذا الاحتمال الذي يؤكّده إطلاق الآية، يجعلنا قادرين على التمسك بالآية، في ما يثار فيه الجدل كثيراً من أمر الولاية في حال غيبة الإمام، في ولاية الفقيه، أو في ولاية أهل الشورى من المسلمين، وذلك في الحالة التي يصدق عليهم أنّهم أولو الأمر من ناحية واقعية"( ).
رواية الإمام الصادق(ع)
ومن الأحاديث المستفيضة التي أشار إليها السيد المفسِّر، حديث الإمام الصادق(ع) الآتي:
عن أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله(ع) عن قول الله عزّ وجلّ: {أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}.
فقال: "نزلت في عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين(ع)".
فقلت له: إنّ النّاس يقولون: فما له لم يسمّ عليّاً وأهل بيته(ع) في‏ كتاب الله عزّ وجلّ؟
فقال: "قولوا لهم: إنّ رسول الله(ص) نزلت عليه الصّلاة، ولم يسمّ الله لهم ثلاثاً ولا أربعاً، حتّى كان رسول الله(ص) هو الّذي‏ فسّر ذلك لهم. ونزلت عليه الزّكاة، ولم يسمّ لهم من كلّ أربعين درهماً درهم، حتّى كان رسول الله(ص) هو الّذي فسّر ذلك لهم. ونزل الحجّ، فلم يقل لهم: طوفوا أسبوعاً، حتّى كان رسول الله(ص) هو الّذي فسّر ذلك لهم. ونزلت: {أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}. ونزلت في عليّ والحسن والحسين. فقال رسول الله(ص) في عليّ(ع): من كنت مولاه فعليّ مولاه. وقال: أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي، فإنّي سألت الله أن لا يفرّق بينهما حتّى يوردهما عليّ الحوض، فأعطاني ذلك. وقال: لا تعلّموهم، فإنّهم أعلم منكم. وقال: إنّهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ضلالة. فلو سكت رسول الله(ص) ولم يبيّن من أهل بيته، لادّعاها آل فلان وآل فلان. ولكنّ الله عزّ وجلّ أنزله في كتابه تصديقاً لنبيّه(ص): {إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}. فكان عليّ والحسن والحسين وفاطمة(ع). فأدخلهم رسول الله(ص)تحت الكساء في بيت أمّ سلمة. ثمّ قال: اللّهمّ إنّ لكلّ نبيّ أهلاً وثقلاً، وهؤلاء أهل بيتي وثقلي.
فقالت أمّ سلمة: ألست من أهلك؟
فقال: إنّك إلى خير، ولكنّ هؤلاء أهل بيتي وثقلي"( ).
عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ
روى القندوزي في "ينابيع المودَّة" عن فاطمة الزّهراء(ع) أنَّها قالت: "سمعت أبي رسول الله(ص) في مرضه الّذي قبض فيه يقول وقد امتلأت الحجرة من أصحابه ـ لم يقله همساً ولا سرّاً، بل علانيةً أمام أصحابه ـ: أيّها النّاس، يوشك أن أقبض قبضاً يسيراً، وقد قدّمت إليكم القول معذرةً إليكم، ألا إنّي مخلّف فيكم كتاب ربي عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي، ثم أخذ بيد عليّ(ع) فقال: هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ، لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض، فأسألكم ما تخلّفوني فيهما؟"( ).
أي سوف أسألكم: كيف حفظتم كتاب الله، وكيف حفظتم علياً الذي يجسّد كتاب الله ويحمله كما حملته، لأنّه: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيّ بعدي"( ).
قال القندوزي بعد أن روى الحديث الآنف: "وفي الصواعق المحرقة، روى هذا الحديث ثلاثون صحابياً، وإنّ كثيراً من طرقه صحيح حسن"( ).
"وعلى ضوء هذا الحديث، يتَّضح أنَّ النبي(ص) لم يكتف بالتنصيص على أمير المؤمنين(ع) في غدير خمّ، بل إنّه نصّ عليه كعدْلٍ للقرآن وقدوة وقائد للأمة في آخر لحظةٍ من لحظات حياته، فإنّ هذا الموقف يمثل خاتمة المواقف التي كان رسول الله(ص) يقدِّم فيها علياً وأهل البيت(ع) على أنّهم سفن النجاة التي تنجي الأمّة من الضلالة وتعصمها من الانحراف. لماذا؟
لأنّ عليّاً مع القرآن والقرآن مع عليّ، لا يفترقان حتّى يردا على النبي(ص) الحوض، ولأنّ عليّاً(ع) مع الحقّ والحقّ معه، فليس هناك مسافة بينه وبين الحقّ، بل إنّه يمثّل التجسيد الواقعي للحقّ، كما يمثل الحقّ التجسيد الواقعي لكلّ منطلقات عليّ(ع)، ولذا فإنّ حارب عليٌّ(ع) فالحقّ يحارب، وإن سالم علي(ع) فالحقّ يسالم، وإن نطق عليّ(ع) فالحق ينطق"( ).
ولهذا خاطبت فاطمة الزهراء(ع) بعض الصّحابة، وهي تطالبه بفدك: "أفخصّكم الله بآيةٍ (من القرآن) أخرج أبي محمداً (ص) منها؟ أم تقولون: إنّ أهل ملّتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من أهل ملّةٍ واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟ فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحَكَم الله، والزَّعيم محمَّد (ص)، والموعد القيامة، وعند السّاعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم ما قلتم إذ تندمون، ولكلّ نبأٍ مستقرّ، وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم"( ).
ومما جاء في خطبتها الشهيرة: "هذا والعهد قريب، والكَلم رحيب، والجرح لمّا يندمل، والرسول لمّا يُقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة، ألا في الفتنة سقطوا، وإنَّ جهنم لمحيطة بالكافرين، فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنّى تؤفكون وكتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لايحة، وأوامره واضحة، (و)قد خلّفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلاً، ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"( ).
الدّور الثّاني: ترجيح الوجوه والأقوال والاتجاهات
كثيراً ما يكون للآية الواحدة معان محتملة ووجوه من التفسير ممكنة، والقرآن حمّال ذو وجوه، كما ورد في وصية عليّ(ع) لابن عباس حينما بعثه لمجادلة الخوارج، بقوله: "لاَ تُخَاصِمْهُمْ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ القرآن حَمَّالٌ ذُو وُجُوهٍ تَقُولُ ويَقُولُونَ.. ولَكِنْ حَاجِجْهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصاً"( ).
يقول ابن أبي الحديد: "هذا الكلام لا نظير له في شرفه وعلوّ معناه".
وقد دأب تفسير (من وحي القرآن) على الاستعانة بالسنّة في ترجيح وجوه التفسير المحتملة، ولا سيّما في ميدان الفقة والتشريع، لما فيه من خصوصية من حيث الشروط المتوفرة في السند:
المورد الأوّل: القصر رخصة أم عزيمة؟
{وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}(النساء 101).
هناك اتجاهان في عالم التفسير في النظرة إلى ما تقرره الآية من حكم القصر في السفر:
الاتجاه الأوّل: أنّ القصر رخصة لمكان نفي الجناح، فيكون المسافر مخيراً بين القصر والتمام.
الاتجاه الثاني: أنّ القصر عزيمة لا رخصة، فعلى المسافر أن يقصر في صلاته، ولا يجوز له أن يصلي تماماً.
يقول السيد المفسر: "ربما يبدو من التعبير بنفي الجناح، أنها في معرض الرخصة لا الإلزام، ولكن التدقيق في المسألة، يوحي بأنّ مثل هذا التعبير قد يأتي للإيحاء برفع توهم الحرمة، في ما يتوهم المكلَّفون ذلك، فلا تنافي الإلزام، كما جاءت به الأحاديث"( ).
 ويستشهد برواية الإمام محمد الباقر(ع)، كما رواها محمد بن مسلم وزرارة، أنهما قالا: قلنا لأبي جعفر(ع): ما تقول في صلاة السفر، كيف هي، وكم هي؟
فقال: "إن الله عزّ وجلّ يقول: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}، فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في الحضر".
 قالا: قلنا: إنما قال الله عزّ وجل: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ} ولم يقل افعلوا، كيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟
فقال: "أوليس قد قال الله: {إِنَّ الصَّفا والْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أو اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما}(البقرة: 158)، ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض، لأنّ الله عزّ وجلّ ذكره في كتابه وصنعه نبيه، وكذلك التّقصير في السّفر شي‏ء صنعه النبيّ (ص) وذكره الله تعالى في كتابه"( ).
المورد الثّاني: طهارة أهل الكتاب وحليّة ذبائحهم
{الْيَوْمَ اُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وطَعامُ الَّذِينَ اُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ والْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ والْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ اُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ اُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ولا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ ومَنْ يَكْفُرْ بِالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وهُو فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ}(المائدة: 5).
وقد وقف تفسير (من وحي القرآن) هنا على مسألتين فقهيتين بخصوص أهل الكتاب:
المسألة الأولى: طهارة أهل الكتاب.
المسألة الثانية: حليّة ذبائحهم.
الآية ظاهرة في طهارتهم الذاتية، "فقد يتوقف النّاس في أمر الطعام الّذي يلامسونه بأيديهم لاحتمال نجاسته بمباشرتهم إيّاه، فكانت هذه الآية إعلاناً تشريعيّاً بطهارتهم، فتكون الآية دالةً على أنّه لا مانع من أكل طعام أهل الكتاب الّذي يباشرونه بأيديهم من هذه الجهة، لأنّهم طاهرون في ذواتهم".
"ولعلّ هذا ما نستوحيه من الأحاديث الكثيرة الواردة عن أئمة أهل البيت(ع)، بأنّ المراد بالطعام الحبوب وأشباهها، في مقابل القول بأنّ المراد به الذبائح، فليس المقصود الحبوب اليابسة لتحمل على مسألة التعاطي بالبيع والشراء، لأنّ مثل هذه المسألة لم تكن واردةً في حساب التحريم، ولم تكن مشكلةً في الواقع الإسلامي الّذي كان المسلمون يتعاملون فيه مع أهل الكتاب في المدينة بشكل طبيعي، بل المقصود به الطعام المطبوخ الّذي يقدمونه للنّاس"( ).
"وقد ذهب فقهاء المسلمين السنّة، وبعض فقهاء الشيعة الإماميّة، إلى طهارة أهل الكتاب في ذواتهم، وهو الّذي نرتئيه ونفتي به في نطاق الرأي الفقهي العام الّذي نفتي به، وهو طهارة كلّ إنسان".
أمّا في المسألة الثانية، وهي "مسألة حليّة ذبائحهم، بلحاظ اشتراط إسلام الذابح في حليّة الذبيحة، كما هو المشهور الّذي كاد يكون إجماعاً لدى فقهاء الشيعة الإماميّة، وربّما استوحى البعض ذلك من الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت(ع) في تفسير الطعام بالحبوب وأشباهها، وفي مقابل التفسير المعروف عند أهل السنّة بأنّ المراد به ذبائحهم"( ).
يعتمد السيّد المفسّر في هذه المسألة على روايات أهل البيت المفسرة، فيرى "أنّ الحديث المفصَّل في هذه الرّوايات، هو ما رواه الكليني محمّد بن يعقوب - في الكافي - عن أبي علي الأشعري، عن محمّد بن عبد الجبّار، عن محمّد بن إسماعيل، عن عليّ بن النعمان، عن ابن مسكان، عن قتيبة الأعشى، قال: "سأل رجل أبا عبدالله(ع) وأنا عنده، فقال: له: الغنم يرسل فيها اليهودي والنصراني، فتعرض فيها العارضة، فتذبح، أنأكل ذبيحته؟ فقال أبو عبدالله(ع): لا تدخل ثمنها في مالك، ولا تأكلها، فإنّما هي الاسم، ولا يؤمن عليها إلّا مسلم. فقال له الرّجل: قال الله تعالى: {الْيَوْمَ اُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وطَعامُ الَّذِينَ اُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ}، فقال له أبو عبدالله(ع): كان أبي(ع) يقول: إنّما هو الحبوب وأشباهها"( ).
في قراءته لهذا الحديث، يرى السيد المفسِّر أنّه (ظاهر) بعدم حرمة ذبائحهم بقول مطلق، "بل بلحاظ أنّه لا بدّ في حلّ الذبيحة من إحراز التسمية ـ الّتي هي الشرط الأساس كما في القرآن ـ ولا مجال لإحرازها في ذبيحة الكتابي الّذي لا يرى شرطيّتها، فلا يوثق بتوفرها لديه في الذبح. فلو أحرزنا التسمية مع شروط التذكية، كانت الذبيحة حلالاً"( ).
"وهذا ما يُفهم من التأكيد في أحاديث أئمة أهل البيت(ع) على الاسم الّذي لا بدّ من إحرازه في الذبح وحليّة الذبيحة، وهذا ما استقربه الشهيد الثاني في المسالك، وأفتى به الصدوق وابن أبي عقيل وابن الجنيد وبعض الفقهاء المعاصرين، وهو الّذي نفتي به مع بعض التحفظات"( ).
المورد الثالث: زواج المتعة
في سياق تفسيره لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ولا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ الله كانَ عَلِيماً حَكِيماً}(النساء: 24)، يتساءل تفسير (من وحي القرآن): "هل هذه الفقرة مجرّد تأكيد لمعنى المهر ووجوب دفعه، أو هي بيان لزواجٍ من نوعٍ آخر عرفه المسلمون في عصر الدعوة، ثم اختلفوا بعد ذلك في حلّيته وحرمته، وهو "زواج المتعة" الذي هو الزواج إلى أجلٍ مسمَّى ضمن شروط معينة، تلتقي مع الزواج الدائم في بعضها، وتختلف عنه في بعضها الآخر؟".
 يرى السيّد المفسّر، أنّ "المعروف بين المفسرين من علماء الشيعة وبعض علماء السنة، أنّ المقصود بها زواج المتعة"، ثم يقتبس فقرات طويلة من تفسير الميزان.
 "والمراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المتعة بلا شكّ، فإنّ الآية مدنيّة نازلة في سورة النساء في النصف الأول من عهد النبي (ص) بعد الهجرة، على ما يشهد به معظم آياتها، وهذا النكاح - أعني نكاح المتعة - كانت دائرةً بينهم، معمولةً عندهم في هذه البرهة من الزمان من غير شكّ - وقد أطبقت الأخبار على تسلّم ذلك - سواء كان الإسلام هو المشرّع لذلك، أو لم يكن، فأصل وجوده بينهم بمرأى من النبي ومسمع منه لا شكّ فيه، وكان اسمه هذا الاسم، ولا يعبّر عنه إلا بهذا اللفظ، فلا مناص من كون قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} محمولاً عليه، مفهوماً منه هذا المعنى"( ).
وجملة الأمر،كما يرى العلامة الطباطبائي، "أنّ المفهوم من الآية حكم نكاح المتعة، وهو المنقول عن القدماء من مفسري الصحابة والتابعين، كابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة ومجاهد والسدي وابن جبير والحسن وغيرهم، وهو مذهب أئمة أهل البيت(ع).
ومنه يظهر فساد ما ذكره بعضهم في تفسير الآية، أنّ المراد بالاستمتاع هو النكاح، فإنّ إيجاد علقة النكاح طلب للتمتع منها، هذا وربما ذكر بعضهم أنّ السين والتاء في "استمتعتم للتأكيد"، والمعنى: تمتعتم، وذلك لأنّ تداول نكاح المتعة (بهذا الاسم) ومعروفيته بينهم، لا يدع مجالاً لخطور هذا المعنى اللغوي لذهن المستمعين"( ).
يؤيدّ السيّد المفسّر ما قرَّره صاحب تفسير الميزان، ثم يقول: "وهكذا نجد في هذا الاتجاه، في تفسير هذه الفقرة من الآية، ارتكازاً على الكلمة - المصطلح "الاستمتاع"، من خلال ما توحيه كلمة "زواج المتعة" في مفهوم الصحابة آنذاك، الذي تنقله الروايات التي تحدثت عن هذا النوع من الزواج، وما فهمه منه المفسِّرون من الصحابة وغيرهم، ولا سيّما ما جاءت به القراءة المروية: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى"، ما يعيّن هذا المعنى، فإنّ هذه الكلمة إذا لم تكن جزءاً من النص، فإنّها تعتبر تفسيراً له. وهذا ما يجعل القوة في جانب هذا التفسير، إذا كان الأمر دائراً بين المعنيين بحسب طبيعة النص في ذاته"( ).
يرفض السيّد المفسّر مقولة النسخ في هذا المورد، "لأنّ الآيات التي ذكرت في هذا المجال لا تصلح للنسخ، إما من جهة عدم منافاتها لهذه الآية، لأنّ نسبتها إليها نسبة الخاص إلى العام، ما يجعل الموضوع في نطاق تخصيص العام، لا في نطاق نسخ العام للخاص، وإما من جهة تأخّر هذه الآية، المدَّعى كونها منسوخةً، عن الآيات التي اعتبرت ناسخةً، مما لا يترك مجالا لتوهم نسخ المتقدم للمتأخر".
"أمّا الأخبار التي ادّعي كونها ناسخةً، فقد يناقش بإسنادها أولاً، وباضطرابها ثانياً، لأنها تختلف في تاريخ التحريم، وبأنّها أخبار آحاد ثالثاً. ولا بدّ في ثبوت النسخ، لا سيما نسخ القرآن، بالخبر المتواتر".
ويؤكّد أنّ الأخبار قد استفاضت "بأنَّ الخليفة الثاني عمر بن الخطاب هو الذي نهى عنها، من دون أن ينسب التحريم إلى الرسول(ص)، ما يدلّ على أنّه من التوجيهات الإدارية التي كان يصدرها انطلاقاً من اجتهاده الخاص، مما لا يكون ملزماً للمسلمين في السير عليه من ناحية شرعية، بعد أن كان ثابتاً بأصل الشريعة، ولهذا رأينا بعض كبار المسلمين من الصحابة وغيرهم من قبله ومن بعده، يمارسون هذا الزواج ويفتون به، من دون أن يجدوا حرجاً في ذلك"( ).
ثم يقول: "وقد أجمع أئمة أهل البيت (ع) على استمرار إباحته، وتشجيع أتباعهم على ممارسته، من أجل بقاء هذه السنّة حيّةً في حياة الأمة، وقد روى الكثيرون من الثقات قول الإمام عليّ(ع): "لولا ما فعل عمر بن الخطّاب في المتعة، ما زنى إلا شفا"، أي إلا قليل من الناس، وروي: "إلا شقي"( ).
ثم يحيل القارئ إلى مصدرين أساسين في هذا الموضوع؛ الأول تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي، والثاني مقدمة كتاب (مرآة العقول) للعلامة العسكري.
وأخيراً، يعقد بحثاً بعنوان: "المتعة في الجانب الاجتماعي للمشكلة الجنسية"، يتحدث فيه عن مدى انسجام هذا اللون من الزواج مع واقعية الإسلام في أحكامه وتشريعاته وفقاً لمدرسة أهل البيت(ع)( ).
المورد الرابع: معنى (العُرضة)
في تفسيره لقوله تعالى: {ولا تَجْعَلُوا الله عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(البقرة: 224)، يذكر ثلاثة أقوال من تفسير مجمع البيان في معنى أن يكون القسم بالله (عُرْضَةً) للبرّ والتقوى والإصلاح:
أحدها: المانع والحاجز من الاعتراض بين الأشياء، فتكون نهياً عن جعل اليمين حاجزاً بين الإنسان وبين البرّ والتقوى والإصلاح.
ثانيها: الحجّة والمبرّر عن الامتناع عن هذه الأمور، باعتبار اضطرار الإنسان إلى الالتزام بيمينه.
وثالثها: المعرض، بمعنى أنّ اليمين عادةً تجعل الله معرضاً للحلف به دائماً في الحقّ والباطل. وقد قيل إنَّ من أكثر ذكر شي‏ء، فقد جعله عرضةً له.
ثم يقول في مقام الموازنة بين الوجوه والأقوال: "وقد يبدو لنا أنّ الآية لا تبتعد عن الأجواء الثلاثة، من خلال اختيار المعنى الثالث، الذي يوحي بأنّ الابتذال والإكثار من اليمين في كلّ شي‏ء، قد يؤدّي إلى المنع من البّر والتقوى والإصلاح بين الناس، لأنّ العادة قد تجعله‏ يحلف على ترك هذه الأمور في بعض الأوضاع الانفعالية التي يمرّ بها، فيجعل ذلك حجةً للانحراف عن خطّ البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس، ومانعاً عن السير في هذا الاتجاه. ولا يبعد أن لا تكون هذه المعاني التي يذكرها المفسرون مدلولاً للفظ، بل هي استيحاء من جوّ الكلمة ومعناها"، ويرى "أنّ المعنى الثاني يرجع إلى الأول، لأنّ كونه حُجّةً في المنع يجعله حاجزاً عن البّر والتقوى"( ).
ثم يذكر تفسير (من وحي القرآن) روايتين عن مدرسة أهل البيت(ع):
الرواية الأولى: في ما رواه أبو أيوب الخزاز، عن أبي عبدالله الصادق(ع) قال: سمعت أبا عبدالله(ع) يقول: "لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين، فإنّه عزّ وجلّ يقول: {ولا تَجْعَلُوا الله عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ}‏"( ).
الرواية الثّانية: عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبدالله الصادق(ع) في قوله عزّ وجلّ: {ولا تَجْعَلُوا الله عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} قال: "إذا دعيت لصلح بين اثنين، فلا تقل عليّ يمين ألاّ أفعل‏"( ).
ومن الواضح أنّ الرواية الأولى  تؤيِّد القول الثالث المتقدِّم، أما الرواية الثانية، فإنها تؤيِّد القولين الأول والثاني، وهما بمعنى واحد، كما أشار السيّد المفسّر.
في تفسير العياشي عن منصور بن حازم عن أبى عبدالله(ع) ومحمّد بن مسلم عن أبى جعفر(ع) في قول الله: {ولا تَجْعَلُوا الله عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ} قال: "يعنى الرجل يحلف أن لا يكلّم أخاه وما أشبه ذلك، أو لا يكلّم أمه"( ).
وهذه الرواية تؤيّد المعنى الأول والثاني، إذ تكون اليمين مانعةً من صلة الرحم، بل من أقرب المقربين، وهي في هذه الحالة لا تنعقد؛ لأنّها قطع لما أمر الله به أن يوصل.
الدور الثالث: تقييد المطلق وتخصيص العام
لا شكَّ، فإنّ للسنّة دوراً في عالم التفسير على صعيد تقييد المطلق من الآيات وتخصيص العام، كما لها دور في تبيين المجملات وتحديد المشتركات. وهذا ما التزم به تفسير (من وحي القرآن) في موارد كثيرة، وفقاً لمدرسة أهل البيت(ع) ومنهجهم في التفسير.
في تفسيره لقوله: {ولِلّهِ الْمَشْرِقُ والْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ الله واسِعٌ عَلِيمٌ}(البقرة: 115)، ومع تأكيده ورود الآية في مقام التعبير عن حقيقة توحيدية عامّة، بيد أنّه يرى على ضوء الروايات الواردة، أنّ الآية مطلقة في التوجه إلى أيِّ جهةٍ، وعدم اشتراط التوجه إلى القبلة إلا ما خرج بدليل معتبر، إذ يقول: "إنّ الآية مطلقة في جواز التوجّه إلى الله في أيِّ مكان وفي كلّ مورد من الموارد التي يشترط فيها التوجه إليه، إلا ما دلّ الدليل على اختصاصه بجهة معينة، كصلاة الفريضة مثلاً. فيبقى الباقي، كصلاة التطوّع ونحوها في مجرى الإطلاق، وبهذا تفسّر الروايات الواردة في اختصاصها بصلاة التطوّع أو بحالة الشك"( ).
لذا، فإنّ الروايات التي تمتلك الحُجّيّة في عالم الفقه، قد تخصّص العام وتقيد المطلق من الآيات المباركة، ولكثرة ورود المخصصات والمقيدات قيل: ما من عام إلا وقد خُصَّ.
ولكنّ المشكلة تكمن فيما يدَّعى من روايات مخصّصة أو مقيّدة لا يعلم بصدورها من النبي(ص) حتى أقرب المقربين إليه، وهي ابنته الزهراء(ع)، وبأمر شرعيّ يخصّها، ذلك فيما أخبرها به بعض الصحابة، نقلاً عن الرّسول(ص): "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة"! وبذلك يكون هذا الحديث مخصّصاً لعموم الآية: {لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ}(النساء: 7).
وقد سلّط تفسير (من وحي القرآن) الضوء على هذه القضية المهمّة في سياق تفسيره لآيات الإرث في سورة النساء، بقوله: "وهناك نقطة لا بدّ من إثارتها، لأنها وقعت موضعاً للجدل بين المسلمين بعد وفاة النبي (ص)، وهي أنّ ظاهر إطلاق الآية، عدم الفرق في نظام الإرث بين النبي(ص) وسائر الناس، فلم يرد فيها ولا في غيرها من الآيات أيّ تقييد يؤدّي إلى خروج النبي عن هذا الحكم، بحيث لا يرثه أقرباؤه، فإنّ هذه الآية تلتقي في هذا الإطلاق والعموم بقوله تعالى: {لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ}"(النساء: 7).
"وربما قيل إنَّ آيات القرآن العامة لا تشمل النبي، لأنها جرت على لسانه، ولكن هذا ليس صحيحاً، لأنّنا نلاحظ أنّ النبيّ كان مخاطباً بكلّ الأحكام الإسلامية العامّة في القرآن، من الواجبات والمحرّمات، وهو أمر واضح باعتباره "أوّل المسلمين". وقد جرى جدال بين أبي بكر والسيدة فاطمة الزهراء (ع) حول هذا الموضوع عند مطالبتها له بإرثها من أبيها في قصّة فدك، فروى روايةً تقول: "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة" وقد أنكرت السيدة الزهراء صحة هذه الرواية، لأنّ النبيّ لم يبلغها ذلك، مع أنّ القضية في هذا الحكم سلباً أو إيجاباً محصورة بها، لأنّها الوارث الوحيد للنبيّ محمّد (ص)"( ).
وقد بحث السيّد المفسّر هذه القضية بالتفصيل في مواطن عديدة من كتبه ومحاضراته، وما قالته الزهراء لأبي بكر: "أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي، لقد جئت شيئاً فرياً؛ أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}(النّمل: 16)، وقال في ما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا(ع) إذ قال: {وَإِنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ}(مريم: 5-6)، وقال: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ}(الأنفال:75)، وقال: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}(النّساء:11)، وقال: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ}(البقرة:180)"( ).
وقد كان ردّ الزهراء قرآنياً خالصاً بذكرها للآيات القرآنية في خطبتها الارتجالية، وعلى الصعيدين الخاص والعام، باستشهادها بآيتين مباركتين في الأوّل فيما يخصُّ ميراث الأنبياء، وبثلاث آيات في الثاني فيما يعمّ الناس جميعاً في ميراث الأولاد من الآباء( ).
ما نريد تأكيده، هو أنّ المشكلة لا تكمن في الكبرى، كون السنّة وروايات النبي(ص) تخصص عموم القرآن وتقيّد مطلقاته، وإنما تكمن في الصّغرى، أي مدى اطمئناننا بصدور ذلك الحديث واقعاً منه.
الدّور الرّابع: تحديد أسباب النـزول الواقعيّة
إنّ القول بأغلبيّة أسباب النـزول الاجتهادية التطبيقية، لا يعدم وجود أسباب نزول حقيقية، تعدُّ قرائن سياقيّة حالية ضرورية لمعرفة دلالات الآيات المباركة، ووضع عملية التأويل، التي هي بمعنى ما تؤول إليه في الواقع، وما تشخصه من مصاديق في مسارها الصحيح بعيداً عما يريده الذين في قلوبهم زيغ ويسعون إليه.
وإذا كانت المساحة الواسعة مما يروى من أسباب نزول هي روايات ضعيفة سنداً أو مرسلة، فانّ ذلك لا يتنافى مع وجود روايات مستفيضة، بل متواترة في طرقها، إلى درجة تجعلنا على يقين من أحداثها ووقائعها ونزول الآيات بشأنها وعلى إثرها.
وقد أكّد تفسير (من وحي القرآن)، وفقاً لمدرسة أهل البيت ورواياتهم، العديد من هذا النمط من أسباب النـزول، التي أريد لها أن تضيع وسط ما أبدع من أسباب نزول وهمية، لا علاقة لها  بمناسبات النـزول ولو من بعيد.
ويمكن أن نذكر أهمّ تلكم الأسباب التي تعد من المتواترات أو قريبةً منها بما تمتلك من قرائن وشواهد، في تفسير (من وحي القرآن):
النموذج الأوّل: آية إكمال الدين
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}(المائدة:3).
يتساءل السيّد المفسّر عمّا أنزله الله على رسوله فكمل به الدّين، ورضيه للمسلمين ديناً، وتّمت به النعمة؟
ويذكر مدى اختلاف المفسرين في ذلك:
فمنهم من قال: إنَّه فرائض الله وحدوده وحلاله وحرامه، الّتي أكملها الله للمسلمين في ذلك الوقت، بتنـزيل آخر حكمٍ شرعيّ.
ومنهم من قال: إنّه إكمال الحجّ وتخصيصهم بالبلد الحرام، بعد أن كان مشتركاً بينهم وبين المشركين.
ومنهم من قال: إنَّه إكمال الدين بإكمال قوَّته وسلطته وكفايته الأعداء..
بعد ذلك، يذكر المفسّر الروايات عن الفريقين التي تؤكّد نزولها في غدير خم بمناسبة ولاية الإمام علي، لندرك أنّ المقصود  هي الولاية التي أكمل بها الدين وتمّت بها النعمة.
والروايات في سبب النـزول مستفيضة - كما يؤكّد السيّد - بحيث لا يمكن تجاهلها، أو اعتبارها أخبار آحاد، كما يحاول البعض مناقشة المسألة في هذا الاتجاه.
والمروي عن الإمام الصادق(ع) أنَّه قال: "آخر فريضة أنزلها الله تعالى الولاية، ثمَّ لم ينزل بعدها فريضة، ثمَّ نزل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بكراع الغميم، فأقامها رسول الله بالجحفة، فلم ينزل بعدها فريضة".
وعن أبي سعيد الخدري، كما نقلها الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتاب "نزول القرآن"، "أنَّ النبي(ص) أعطى في غدير خمّ عليّاً منصب الولاية، وأنَّ النّاس في ذلك اليوم لم يكادوا ليتفرّقوا حتّى نزلت آية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، فقال له النبي(ص) في تلك اللحظة: "الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الربّ برسالتي، وولاية عليّ بن أبي طالب من بعدي"، وقال: "من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله"( ).
 "وما يجاري صدقيّة هذه الرِّوايات، ما رواه ابن جرير الطبري في كتاب الولاية عن زيد بن أرقم - الصحابي المعروف - أنَّ هذه الآية نزلت في يوم غدير خم بشأن عليّ بن أبي طالب(ع).
وما رواه‏ الخطيب البغدادي في تاريخه عن أبي هريرة، "عن النبي(ص)، أنَّ آية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}، نزلت عقيب حادثة غدير خم والعهد بالولاية لعليّ(ع)، وفي هذه المناسبة، قال عمر بن الخطاب: بخٍ بخٍ لك يا بن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم".
وجاء في كتاب الغدير، إضافةً إلى الرِّوايات الثلاث المذكورة، ثلاث عشرة رواية أخرى في هذا المجال.
وورد في تفسير البرهان وتفسير نور الثقلين عشر روايات مختلفة حول نزول الآية في حقّ عليّ(ع).
وهكذا نلاحظ استفاضة هذه الرِّوايات، بحيث لا يمكن تجاهلها، أو اعتبارها أخبار آحاد، كما يحاول البعض مناقشة المسألة في هذا الاتجاه"( ).
إشكال سياقيّ
يشير تفسير (من وحي القرآن) إلى إشكال سياقي قد أثاره ويثيره بعض المفسرين، وخلاصته أنّ مسألة ولاية عليّ بن أبي طالب لا علاقة لها بسياق الآية، ولا بالفقرات السابقة عليها واللاحقة لها التي تتحدَّث عمّا يحلّ ويحرم من اللحوم، الأمر الَّذي يبعد هذا التفسير لمصلحة التفسير الآخر، بأنَّه إشارة إلى إكمال الفرائض والحدود والحلال والحرام بالتنـزيل في الوحي.
والجواب عن ذلك، يمكن تلخيصه بنقاط عديدة:
الأولى: أنَّ الآيات القرآنية لم تجمع على أساس النـزول التاريخي، فقد نجد بعض الآيات المكيّة واردةً في بعض السور المدنية، بل كانت تابعةً للمناسبات الّتي لاحظها النبيّ (ص) الَّذي جمع القرآن بإشرافه، وربَّما كانت المناسبة في الموضوع، أنَّ الآية تتحدث عمّا شرعه الله في تفاصيل الأحكام الممثلة للدين، ولهذا، من المناسب التحدث عن إتمام الدين الَّذي بدأ بالنبوّة، بقضيّة الولاية.
 الثانية: أنّ قضيّة الولاية من القضايا المهمّة المصيريّة في مستقبل الإسلام وقوّته، ما يؤكّد ويؤيّد اعتبارها إكمالاً للدّين الّذي يحتاج إلى الرّعاية من الشخص الّذي عاش فكره وشعوره وجهاده للإسلام، حتّى لم يعد هناك - في داخل ذاته - أيّ نوع من الفراغ الَّذي يحتضن اهتمامات غير إسلامية.
الثالثة: لا يمكن للنبي، وهو القائد الربّاني الحكيم، أن يترك قضيّة الولاية من بعده للاجتهادات المختلفة، الّتي قد تختلف على أسسٍ ذاتيّةٍ أو تقليديّةٍ، باعتبار أنَّها لا تخضع لبرنامجٍ إسلاميٍّ تشريعيٍّ محدّد. فالدّين الَّذي قد تعرّض لكلّ شي‏ء في أحكامه وتشريعاته، حتّى أدقّ التفاصيل، لا يتصوَّر فيه أن يترك أمر الخلافة الكبير في أهميّته ونتائجه، ولا سيّما لجهة استمرار خطّ الرّسالة والنبوّة، حيث، وكما هو معلوم تاريخياً، لم يكن الوضع الإسلاميّ قد وصل إلى مستوى النّضوج الكامل بفعل الأحداث الصّعبة، ما يجعل تركيز مسألة الخلافة والولاية وتأكيدها أمراً أساسيّاً في حركة التّشريع.
ويؤكّد السيّد المفسّر، أنّ للأدلّة والحجج والنّصوص الشرعيّة الدّور الأكبر الأساس في الحكم على ما حدث بعيداً عن كلّ اجتهادٍ ذاتي، أو انتماء مذهبي، لأنَّ القضيّة قضيّة إيمان وعلم، فلا بدّ للمسلمين من الارتفاع في خلافاتهم إلى هذا المستوى الَّذي يقودهم إلى الحقيقة الدينيّة والتاريخيّة من أقرب طريق، ويعلمهم كيف يمارسون هذا الخلاف بالأسلوب الإسلامي للحوار الَّذي يعتمد على الإخلاص للحقيقة، من خلال الإخلاص لله تعالى ( ).
يتساءل ابن أبي الحديد المعتزلي عن وصية عليّ(ع) لابن عباس حين بعثه إلى الخوارج: "ولَكِنْ حَاجِجْهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصاً"، بقوله: "فإن قلت: فما هي السنَّة التي أمره أن يحاجّهم بها؟ قلت: كان لأمير المؤمنين(ع) في ذلك غرض صحيح، وإليه أشار، وحوله كان يطوف ويحوم، وذلك أنّه أراد أن يقول لهم: قال رسول الله(ص): "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ، يدور معه حيثما دار"، وقوله: "اللّهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله"، ونحو ذلك من الأخبار التي كانت الصّحابة قد سمعتها من فلق فيه(ص)، وقد بقي ممن سمعها جماعة تقوم الحجة وتثبت بنقلهم، ولو احتج بها على الخوارج في أنّه لا يحلّ مخالفته والعدول عنه بحال، لحصل من ذلك غرض أمير المؤمنين في محاجتهم، وأغراض أخرى أرفع وأعلى منهم، فلم يقع الأمر بموجب ما أراد، وقضي عليهم بالحرب حتى أكلتهم عن آخرهم وكان أمر الله مفعولاً"( ).
النّموذج الثّاني: آية التّبليغ
{يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ}(المائدة: 67)
يناقش تفسير (من وحي القرآن) أسباب نزول الآية التي أوصلها الرازي في تفسيره إلى عشرة، وكان عاشرها أنّها نزلت بغدير خم في عليّ بن أبي طالب، وكان نقاشه على مستويين:
المستوى الأوّل: البحث عن سبب النـزول الحقيقي في زحمة أسباب النـزول الاجتهادية.
المستوى الثاني: مناقشة تأويل حديث الغدير وكلمة (مولاه) في قول النبي(ص): "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه"، فقد أوّلت بالصّديق أو غيره بعيداً عن الولاية السياسية والخلافة.
يقول الرازي بعد ذكره الأسباب التسعة:
"العاشر: نزلت الآية في فضل عليّ بن أبي طالب(ع)، ولما نزلت هذه الآية، أخذ بيده وقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه"، فلقيه عمر فقال: "هنيئاً لك يابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة". وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمّد بن عليّ".
ثم يقول: "واعلم أنّ هذه الرّوايات وإن كثرت، إلا أنّ الأولى حمله على أنّه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم، وذلك لأنّ ما قبل هذه الآية بكثير، وما بعدها بكثير، لما كان كلاماً مع اليهود والنصارى، امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبيةً عمّا قبلها وما بعدها"( ).
يمارس السيّد المفسّر نقده بإسهابٍ على ما ذكره الرازي من أسباب نزول تسعة لآية التبليغ وترجيحه لأحدها، وتأويل بعضهم لكلمة المولى في حديث الغدير: "من كنت مولاه فعليّ مولاه" بولاية المودَّة والنصرة، دون ولاية القيادة والخلافة، وخلاصته:
أوّلاً: إنّ "أكثرها مما لا يتناسب مع جوّ الآية الذي يوحي بأنّ هناك أمراً مهماً يتعلّق بسلامة الرسالة، بحيث يعادل الامتناع عن تبليغه الامتناع عن تبليغ الرسالة من الأساس"( ).
ثانياً: إنّ بعضها يتنافى مع "شخصية الرسول(ص) وموقفه الصلب في أداء الرسالة، منذ عهد الدعوة حتى مرحلة الهجرة التي نزلت الآية في آخرها"( ).
ثالثاً: قوله تعالى: {وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ}، يدلّ على مدى خطورة هذا الأمر، "أي فكأنّك لم تبلّغ الرسالة التي بلَّغتها، لأنّ النتيجة ستكون بهذه المثابة من حيث الخطورة"( ).
رابعاً: الروايات المتواترة في واقعة الغدير، ونزول الآية في شأن الولاية، وقول النبي(ص): "من كنت مولاه فعلي مولاه"، فإن "المتعيّن هو تفسير كلمة (المولى) بالولاية في خطّ القيادة، بقرينة قوله(ص): "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم"، فإنّها ظاهرة في أنّ‏ قوله "من كنت مولاه فعليّ مولاه"، يعني من كنت أولى به من نفسه، فعليٌّ أولى به من نفسه، لأنّه أراد أن يثبت له ما هو ثابت لنفسه مما أخذ اعترافهم به، وهو كناية عن القيادة، لا المحبّة والنصرة، كما يقول صاحب تفسير المنار"( ).
"ومن الواضح، أنّ مسألةً بهذه الأهمية، يؤدّي إهمالها إلى أن تبقى حركة الرسالة في مهبّ الرياح، كما لاحظناه في اهتزاز المسيرة الإسلامية في كثير من جوانبها، لعدم انطلاقها من قاعدة صلبة في طبيعتها وموضوعها"( ).
خامساً: قوله تعالى: {واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، فيه دلالة على ما سيحصل من معارضة لهذا الأمر، "لأنّ قرب عليّ(ع) من رسول الله(ص) من ناحية النسب والمصاهرة، يفتح المجال للكثير من أقاويل السوء التي تربط الموقف بالعاطفة في قضية الولاية، مما يحتاج إلى الدفاع الإلهي الذي يتمثّل في عصمة الله له عن ذلك كلّه، ولأنّ قضية الولاية تمثّل امتداد وجود القيادة المسؤولة الكفوءة في الإمام، بالمستوى الذي يملك فيه التفوق والأفضلية على غيره من صحابة رسول الله(ص)، ولا سيما في الجانب المتصل بالوعي الفكري التشريعي للرسالة الإسلامية"( ).
سادساً: "إن إعلان مودّة عليّ ومحبّة الناس له، لا تحمل أيّ أساس للنقد وللكلام غير المسؤول من الناس ليكون ذلك سبباً في الحديث عن عصمة الله له منه، لأنّ من الطبيعي أن يدعو الإنسان الناس إلى مودّة أقرب الناس إليه وإلى نصرته، ولا سيّما إذا كان في مثل مستوى عليّ(ع)، الذي يعرفه كلّ المسلمين بالقرابة القريبة من رسول الله(ص) نسباً ومصاهرةً وتقوى وجهاداً، مما لا يثير أيّة مشكلة في الواقع، ولا يسمح لليهود بأن يصطادوا في الماء العكر، بينما تمثّل الولاية - الإمامة - القيادة، الكثير من الحديث السلبي ضدّ النبيّ محمّد(ص) الذي وعده الله بأن يعصمه منه‏"( ).
لم يرتضِ السيّد المفسّر بما ذهب إليه تفسير المنار من معنى المولى في حديث الغدير "من كنت مولاه فهذا علي مولاه"، بولاية المودّة والنصرة، بقوله: "وأمّا الحديث فنهتدي به: نوالي عليّاً المرتضى، ونوالي من والاهم، ونعادي من عاداهم، ونعدّ ذلك كموالاة رسول الله(ص)، ونؤمن بأنّ عترته (ص) لا تجتمع على مفارقة الكتاب الذي أنزله الله عليه، وأنّ الكتاب والعترة خليفتا الرسول، فقد صحَّ الحديث بذلك في غير قصّة الغدير، فإذا أجمعوا على أمر قبلناه واتَّبعناه، وإذا تنازعوا في أمر رددناه إلى الله والرسول"( ).
أقول: رضينا بهذا المستوى من التفسير لولاية عليّ بن أبي طالب(ع)، بمعنى ولاية المودة والنصرة، فإنّها لو حصلت، لما حصل كلّ ما حصل، من أحداثٍ داميةٍ ووقائع حامية، في الجمل وصفين والنهروان، حروب خاضوها ضدّه، بكلّ حماسة وشراسة، راح ضحيّتَها ما يقرب من (100,000) قتيل من المسلمين!!
 ففي صفين وحدها (70,000) قتيل من المعسكرين!! وقد شهد مع عليّ(ع) ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان، قتل منهم ثلاثة وستون رجلاً منهم عمّار بن ياسر، وفي الجمل (20,000) قتيل، وفي النهروان (5,000) قتيل( ).
  والسؤال الذي يطرح في المقام: مَن الذي يتحمل تبعات أنهار من الدماء جرت في ميادين الحروب الثلاث، ولا تزال تجري إلى يومنا هذا، في ساحات الفتن الطائفية، والصراعات المذهبية، التي يذبح فيها المسلم أخاه المسلم على الهوية، وهو يحسب أنّه يقوم بمهمةٍ مقدّسةٍ ربّانية، وأنّه بعمله هذا - الذي غالباً ما يكون انتحارياً - سيذهب شهيداً، تتلقّفه الحور العين، وتبارك له الملائكة المقرّبون، ليستقرّ في مقعد صدق عند مليك مقتدر؟! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
النموذج الثّالث: آية الولاية والتصدق
{إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهُمْ راكِعُونَ * ومَنْ يَتَوَلَّ الله ورَسُولَهُ والَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْغالِبُونَ}(المائدة: 55-56)
يؤكّد تفسير (من وحي القرآن)، أنّ الروايات قد استفاضت في نزول الآية الأولى في قصّة تصدّق عليّ(ع) بالخاتم أثناء صلاته، وبالتّالي، فهي من الآيات التي أكَّدت ولايته في امتداد ولاية الله والرسول. ويعقد بحثاً بعنوان (مناسبة النـزول)، يذكر فيه العديد من الروايات عن تفاسير أهل السنة، كالدرّ المنثور للسيوطي:
أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن عمّار بن ياسر، قال: "وقف بعليّ سائل وهو راكع في صلاة تطوّع، فنزع خاتمه فأعطاه السائل، فأتى رسول الله(ص) فأعلمه ذلك، فنـزلت على النبي(ص) هذه الآية: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهُمْ راكِعُونَ}، فقرأها رسول الله(ص) على أصحابه، ثمّ قال: "من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه"( ).
وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، أنّه لما "نزلت هذه الآية على رسول الله(ص): {إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهُمْ راكِعُونَ}، ونودي بالصلاة، صلاة الظهر، وخرج رسول الله(ص) إلى المسجد، والنّاس بين قائم وراكع، فنظر سائلاً فقال: هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم، قال: من؟ قال: ذلك الرّجل القائم، قال: على أيّ حال أعطاكه؟ قال: وهو راكع، قال: وذلك عليّ بن‏ أبي طالب، فكبّر رسول الله عند ذلك وهو يقول: {ومَنْ يَتَوَلَّ الله ورَسُولَهُ والَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْغالِبُونَ}"( ).
"وقد جاء من طرق أهل السنّة أربع وعشرون روايةً تتفق ومضمون هذا الحديث، وتسع عشرة رواية من طرق أهل الشيعة"( ).
الدور الخامس: الروايات التفسيرية والتطبيقية
يرى السيذد المفسّر أنّ الروايات في عالم التفسير تنقسم إلى قسمين:
الأوّل: روايات تفسيرية.
الثاني: روايات تطبيقية.
وإذا كان القسم الأول يحدِّد مفهوماً يمكن أن يخصّص العام، ويقيّد المطلق، ويبيّن المجمل، فإنّ القسم الثاني من الروايات، وهي الأغلب، يطرح مصاديق ونماذج، قد تكون الأكمل أو الأخطر أو الأظهر أو الأخفى أو غير ذلك.
مع أنّ السيّد المفسّر كثيراً ما يردّد عدم ثقته فيما يذكر في الكثير من روايات أسباب النـزول، ويسجّل تحفّظاته عليها.
ولكن هذا لا يعني أن تكون هناك العديد من أسباب النـزول الحقيقية التي نزلت على أثرها الآيات المباركة، والتي تشكل قرائن سياقية حالية، لا بدَّ من تفسير أو تأويل الآيات على ضوئها.
ولتوضيح منهجه في التعامل مع الروايات في عالم التفسير، لا بدَّ من ذكر الأمثلة المختلفة التي جاءت في تفسير (من وحي القرآن):
المورد الأوّل: اليهود مصداق لا تفسير
في تفسيره للمغضوب عليهم والضالّين في سورة الحمد، يذكر تفسير (من وحي القرآن) الرواية التي تفسّرهما باليهود والنصارى، ويعد ذلك على سبيل عد المصاديق لا التفسير، إذ يقول:
"ولكن ذلك لا يحصر مداليل السورة في هذين النموذجين من الناس، لأنّ ذلك قد يكون على نحو المثال، كما هي طريقة القرآن في مواقع النـزول للآيات، في ما تتحدث عنه روايات أسباب النـزول. وقد ورد أنّ القرآن يجري مجرى الشمس والقمر، فلا يتحدّد في المنطقة التي ينـزل فيها، ولا في الشخص الذي ترد فيه".
ويحاول أن يذكر سبب التّركيز على اليهود كمثالٍ للمغضوب عليهم دون النصارى، بأنّه ربما يكون "ناشئاً عن الصورة المتكرّرة التي أبرزها القرآن لهؤلاء الناس في نقضهم الميثاق، وقتلهم الأنبياء بغير حقّ، وكتمانهم لما أنزله الله من الحقّ على رسوله في كتابه، ونحو ذلك من القضايا التي تجعلهم يستحقّون غضب الله عليهم، بينما كان النصارى متميّزين بالصفات الطيّبة، باعتبار أنّهم أقرب الناس مودّةً للذين آمنوا {ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ورُهْباناً وأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}(المائدة: 82)، وأنّهم {وإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرى‏ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}(المائدة: 83) حزناً، ولكن مشكلتهم أنّهم انحرفوا عن الرسول، فلم يؤمنوا به، وأنّهم قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة، ونحو ذلك من التصورات الخاطئة في العقيدة، ولم يتحدث عنهم بطريقة قاسية كالطريقة التي تحدّث بها عن اليهود الذين هم أشدّ عداوةً للذين آمنوا، بالإضافة إلى المشركين"( ).
"ومن خلال ذلك، نستطيع أن ننفتح على التيارات الفكرية المضادة للإسلام التي يمكن إدراجها تحت عناوين دوائر المغضوب عليهم والضالين، تبعاً لنوعية الحالة النفسية، والسلوك العدواني، إضافةً إلى الخطأ والانحراف في العقيدة.
وهذا ما ينبغي للدّعاة إلى الله أن يواجهوه في خطّ التربية في توعية الناس حول النّماذج المضادّة للتفكير الإسلامي، فلا يكون الموقف واحداً، بل لا بدّ من أن نفرّق بين الحالات العدوانية التي تتحول - في بعض الأحوال - إلى حالة عنصرية، وبين الحالات العادية في الخلاف الفكري التي يمكن أن تتحوّل إلى حالة من اللقاء القائم على مواطن الاتفاق، ليكون ذلك مدخلاً إلى الحوار في مواطن الخلاف، الذي يفضي بدوره إلى نوع من الوفاق في غياب الحالة النفسية المتشنّجة المعقَّدة"( ).
المورد الثاني: النبوة أفضل مصاديق الخير
في تفسيره لقوله تعالى: {ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ولَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ واللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ واللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم}(البقرة 105)، فقد ورد في بعض الروايات تفسير الخير بالنبوة. يقول:
"ولكننا نعتبر ذلك من التفسير التطبيقي الذي يراد به الإيحاء بأفضل المصاديق أو أبرزها في الدلالة على المعنى، فإنّ من البديهي هنا، اعتبار النبوّة من أبرز مجالات الخير النازل من الله عليهم، إن لم يكن أبرزها، لأنّها تمثّل المركز الأسمى الذي يعتبر فيه الإنسان - الرسول صلة الوصل الروحي والرسالي بين الله وعباده، كما تتحول الجماعة المؤمنة - من خلاله - إلى قائدة للمجتمعات الأخرى وشاهدة على الناس. أمّا في مجال الحياة الواسع، فإنها تجمع للإنسان كلّ خطوات الخير ووسائله وموارده ومصادره، مما يحقّق له السعادة في الدنيا والآخرة، وهذا ما لا يريده الكفّار للمسلمين بفعل حقدهم وعداوتهم وحسدهم، ولكنّ الله لا يتّبع أهواءهم في ما يريد وفي ما لا يريد، بل هو الحكيم الرحيم الذي يجري الأمور على وفق الحقّ، ويختص برحمته من يشاء، فلا ينسى عباده المؤمنين من فضله، والله ذو الفضل العظيم"( ).
المورد الثالث: إجمال (الكلمات)، والروايات
في قوله تعالى: {وإِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ ومِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(البقرة: 124)، يؤكّد السيّد المفسّر على إجمال (الكلمات) التي ابتلي بها إبراهيم(ع)، ويحاول استقراء الآيات في قصة إبراهيم(ع)، ويذكر رواية الإمام الصادق(ع) التي تفسرها بما "ابتلاه الله به في نومه من ذبح ولده إسماعيل - أبي العرب- فأتمّها إبراهيم وعزم عليها، وسلّم لأمر الله، فلما عزم قال الله ثواباً له لما صدّق وعمل بما أمره: {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماما}"( ).
كما يذكر روايةً أخرى: "عن محمّد بن سنان، عن زيد الشحام، قال: سمعت أبا عبدالله(ع) يقول: "إنّ الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم(ع) عبداً قبل أن يتخذه نبياً، وإن الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، وإنّ الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وإن الله اتخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً، فلما جمع له الأشياء قال: {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً}، قال: فمن عظمها في عين إبراهيم(ع) {قال ومِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}. قال: لا يكون السفيه إمام التقي"( ).
يرى السيد أنّنا قد نحتاج إلى زيادة تأمّل في هذه الأحاديث ـ بعد التأكد من صحتها، وهي ضعيفة بمحمّد بن سنان المجهول في الرواية الثانية، وسهل بن زياد في الأولى ـ "فإنها جارية على أساس الترتيب بين الصفات المجعولة لإبراهيم(ع)"، فتكون مرحلة الإمامة هي آخر مرحلة مرَّ بها إبراهيم(ع)، بعد أن خرج بنجاح من كلّ الابتلاءات الصعبة في ساحة الصراع وميدان المواجهة.
بيد أنّه يحتمل أن تكون بصدد الحديث عن "تعدد جوانب الشخصية في شخصية إبراهيم، في ما أولاه الله من ألطاف وامتيازات نابعة من امتداد المعاني الروحية في حياته، وعلى ضوء ذلك، يكون الترتيب بينها منطلقاً من طبيعة العلاقة التي تجعل بعضها متوقّفاً على توفّر البعض الآخر، من دون أن يكون هناك ضرورة لوجود فترة زمنية بين هذه الأمور".
ويحتمل وجها آخر في قراءة الرواية لمعنى إمامة إبراهيم(ع) التي جاءت بعد النبوّة، في ما تدلّ عليه الروايات التي تفسّر الابتلاء بقضية ذبح إسماعيل، وهو أنّ "إمامة إبراهيم ليست محدودةً بزمنه كبقية الأنبياء الآخرين، بل هي إمامة تتعداه إلى ما بعد ذلك من المراحل الزمنية التي عاش فيها الأنبياء الآخرون، حتى إنّ الشرائع المتأخرة عنه كانت مطبوعةً بطابع الشريعة الإبراهيمية، وقد نستوحي ذلك من الآية الكريمة: {وتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلى‏ إِبْراهِيمَ * كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}(الصافات: 108-110).
وخلاصة الفكرة، أنّ الإمامة تعتبر الصفة المتحركة للنبيّ في حياته، فكانت النبوّة والرسالة تنطلقان في اتجاه المهمة التي كلَّفه الله بها، بينما كانت الإمامة تتحرك في اتجاه اعتباره قدوةً وقاعدةً لمن أراد الاقتداء به والانطلاق من القاعدة الإيمانية المتجسّدة، وبذلك يظهر كيف تتأخّر الإمامة عن النبوّة، عندما يعبّر النبي عن طاقاته وملكاته في خطواته العملية في الحياة، في جهاده من أجل الرسالة، وفي صبره أمام التحديات الداخلية والخارجية"( ).
المورد الرابع: الروايات تؤيّد ظهور عزيمة الإفطار
في تفسيره لقوله تعالى: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أو عَلى‏ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}(البقرة:184)، يعقد بحثاً بعنوان: الإفطار في السفر رخصة أم عزيمة؟
فقد ذهب جمع من الصحابة، كعبد الرحمن بن عوف، وعمر بن الخطاب، وعبدالله بن عمر، وأبي هريرة، وعروة بن الزبير، إلى أنّه عزيمة، وهو المروي عن أئمة أهل البيت(ع).
يرى السيّد المفسّر أنّ الظاهر من قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، "هو أنّ صيام الأيام المعدودات فرض غير المسافر والمريض، أما هما، فإنّ فرضهما هو أيام أخر، في غير شهر رمضان، لأنّ السياق جرى مجرى العزيمة والفرض.
وذهب أكثر أهل السنَّة، إلى أنّه رخصة، وقدّروا في الآية كلمة: فأفطر، فقالوا، إنّ تقديرها: فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدّة من أيّام أُخَر.
 ولكن هذا ضعيف، بأنَّ التقدير خلاف الظاهر، ولا يصار إليه إلاّ بدليل، ولا دليل في الآية عليه، وبأن هذا التقدير لا يمنع من العزيمة، لأنّ الحديث عن الإفطار لا يعني إلا جوازه في مقابل التحريم، ولا يعني ذلك في مقابل الإلزام"( ).
ويذكر تفسير (من وحي القرآن) في الهامش العديد من الروايات التي تؤيدّ عزيمة الإفطار، منها رواية تفسير العياشي بإسناده مرفوعا إلى محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله(ع) قال: "لم يكن رسول الله يصوم في السفر تطوّعاً ولا فريضةً، حتى نزلت هذه الآية بكراع الغميم عند صلاة الهجير، فدعا رسول الله بإناء فيه ماء فشرب وأمر الناس أن يفطروا، فقال قوم: قد توجه النهار، ولو تممنا يومنا هذا، فسماهم رسول الله العصاة، فلم يزالوا يسمّون بذلك الاسم حتى قبض رسول الله‏".
المورد الخامس: التفسير بمصاديق العنوان العام
في معنى أكل الأموال بالباطل في آية: {لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ}(البقرة:188)، يذكر تفسير (من وحي القرآن) ثلاث روايات:
في الكافي عن الصادق(ع) في الآية: "كانت قريش تقامر الرجل بأهله وماله، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك".
1.    في الكافي عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله (جعفر الصادق(ع)) قول الله - عزَّ وجلّ - في كتابه: {ولا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وتُدْلُوا بِها إلى الْحُكَّامِ}؟ فقال: "يا أبا بصير، إن الله - عزّ وجلّ - قد علم أن في الأمة حكاما يجورون، إلّا أنّه لم يعن حكام أهل العدل، ولكنّه عنى حكام الجور. يا أبا محمد أنّه لو كان لك على رجل حق، فدعوته إلى حكام أهل العدل، فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له، لكان ممن حاكم إلى الطاغوت، وهو قول الله عزّ وجلّ: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ}"(النساء: 60).
2.    وفي المجمع: روي عن أبي جعفر محمد الباقر(ع): "يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقتطع بها الأموال".
ثم يشير إلى أنّ "هذا المنهج في التفسير جاء وفق الأسلوب الذي اتَّبعه أئمة أهل البيت(ع) في التفسير بالمصداق، للإشارة إلى المفردات التي ينطبق عليها العنوان العام، من دون تخصيص الآية بهذا المورد أو ذاك. وهذا ما نلاحظه في هذه الروايات التي فسرت الباطل بالقمار تارةً، واليمين الكاذبة أخرى، كما استوحت الرواية الثانية من الآية قضية التحاكم إلى حكام الجور، والامتناع عن التحاكم إلى حكام العدل، لأنّ أولئك قد يحكمون بغير الحقّ، بالرشوة التي قد يطلبها الحاكم ويقدمها المرتشي إليه"( ).
المورد السادس: مصاديق الشرك ومجالاته
في تفسيره لقوله تعالى: {وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ}(يوسف: 106)، والتي جاءت في سياق التعقيبات القرآنية على قصّة يوسف الصدّيق، وما مرّ به من محن ومصاعب، يأتي (من وحي القرآن) بالعديد من الروايات المصداقية التي تعطي معنى الشرك الذي يجتمع مع الإيمان، "ولكنّه الإيمان الذي يمثّل حالة فكرية، لا تلامس الشعور، أو حالة نظرية لا تتحرك في الواقع، أو حالة عاطفية لا تؤكدها الإرادة، ولهذا فإنَّ الإيمان عندهم لا يتحوَّل إلى موقفٍ يحدّد موقعهم من كلّ الحالات المحيطة بهم، بل هو مجرّد شبحٍ في الذاكرة وصورةٍ في الذهن. أما الواقع، فإنّه يحتضن الكثير من أوضاع الشرك في الطاعة، عندما يعصون اللَّه، ويطيعون غيره، رغبةً أو رهبة، أو حينما يستغرقون في تعظيم ذات بشريّة، حتى يصلوا بها إلى مستوى التأليه، أو ما يقرب منها، ويتوجهوا إليها في ابتهالاتهم كما يتوجهون إلى اللَّه، وينسبوا إليها الأفعال التي تنسب إلى الله"( ).
الرواية الأولى: عن أبي جعفر الباقر(ع) في تفسير هذه الآية قال: "شرك طاعة ليس بشرك عبادة، والمعاصي التي يرتكبون، فهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان، فأشركوا بالله في الطاعة لغيره، وليس بإشراك عبادة أن يعبدوا غير الله"( ).
الرواية الثّانية: عن أبي عبد الله "جعفر الصادق(ع)" في تفسير الآية، قال: "هو قول الرجل: لولا فلان لهلكت، لولا فلان لأصبت كذا وكذا ولولا فلان لضاع عيالي، ألا ترى أنّه جعل شريكا في ملكه يرزقه ويدفع عنه؟ قال: قلت: فيقول: لولا أنّ الله منّ عليّ بفلان لهلكت؟ قال: نعم لا بأس بهذا"( ).
الرواية الثّالثة: عن زرارة قال: سألت أبا جعفر(ع) عن قول الله تعالى {وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ} قال: "من ذلك قول الرجل: لا وحياتك"( ).
وعلى ضوء هذه الروايات التي تحدد المصاديق الخفية للشرك، "نعرف أنّ مسألة الإيمان التوحيدي بالله، لا بدَّ أن تخضع لحسابات دقيقة، على مستوى الالتزام الفكري بالنظر إلى الأشياء، فلا يمكن أن ترى مع الله أحداً، أو تجعل أيّ مخلوق قريباً في نظرتك إليه من مستوى نظرتك إلى الله، وألّا تعطي أحداً من العباد موقعاً أعطاه الله لنفسه، ولا تتكلّم عنه بأسلوب أراد الله أن نتكلّم به عنه.
وهكذا يجب أن يمتد الأمر إلى العمل، فلا طاعة إلا لله، ولا التزام إلّا بالخطّ الذي يرضاه وينتهي إليه، ولا حركة إلا في آفاق شريعته، حيث يلتقي التوحيد العبادي الذي يريد الله لنا أن نلتزمه بخطّ التوحيد العقيدي"( ).
"وبذلك نعرف كيف نعيش الشرك في كثيرٍ من مواقعنا الفكرية والعملية، التي تتحرك في خطّ الغلوّ تارة، أو في ما يقترب منه، أو في خطّ الانحراف عن الخط الشرعي بالالتزام في طاعة غير اللَّه، الذي يتمثّل في أكثر من مظهر من مظاهر عبادة الشخصية التي يكون الشخص فيها هو الأساس في القيمة، ويكون الدين مجرّد موقع من مواقع عظمته، فلا تنطلق عظمته، في وعينا، من دوره الديني، بل تنطلق عظمة الدين من دوره هو. وهكذا نجد الإسلام يتأطّر بالشخص، بدلاً من أن يتأطّر الشخص بالإسلام"( ).
الدور السادس: تحديد الأصول والأدلة
من ديدن أئمة أهل البيت(ع) إعطاء الأصول والمبادئ في قراءة النص القرآني، واستنباط الأحكام والتشريعات، حتى ورد عنهم: "عَلَيْنَا إِلْقَاءُ الْأُصُولِ وعَلَيْكُمُ التَّفْرِيع".
هناك العديد من الروايات الواردة عن النبيّ وأهل بيته، تعطينا قواعد التفسير ومبادئ القراءة الصحيحة للنص، وتحذرنا من بعض الآليات الخاطئة. وقد أشار تفسير (من وحي القرآن) إلى هذه الروايات، وجعلها من مفردات منهجه في استكشاف المعاني والدلالات، وفي استنباط الأحكام والتشريعات.
رفض القياس: أول من قاس إبليس ‏
جاء في الدرّ المنثور: "أخرج أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر بن محمد عن جده، أنّ رسول الله(ص) قال: أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس، قال الله تعالى له: اسجد لآدم، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}(الأعراف:12) قال جعفر(ع): فمن قاس أمر الدين برأيه، قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنّه اتبعه بالقياس"( ).
وجاء في الكافي بإسناده عن عيسى بن عبدالله القرشي "قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبدالله الصادق(ع)، فقال له: يا أبا حنيفة بلغني أنّك تقيس، قال: نعم. قال: لا تقس فإن أول من قاس إبليس حين قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}"( ).
وجاء في كتاب علل الشَّرائع: "دخل أبو حنيفة على الإمام أبي عبدالله(ع) فقال له: يا أبا حنيفة، بلغني أنك تقيس؟ قال: نعم، قال: لا تقس، فإن أول من قاس إبليس حين قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}، فقاس ما بين النار والطين، ولو قاس نورية آدم بنورية النار، عرف فضل ما بين النورين، وصفاء أحدهما على الآخر"( ).
لقد وقف أئمة أهل البيت (ع) موقفاً حاسماً من القياس كدليل من أدلّة الأحكام الشرعية، انطلاقاً من عدم وجود أساس يقيني له في مسألة الحجيّة، فالقياس هو عبارة عن تسرية حكم من موضوع إلى موضوع آخر بلحاظ وجود خصوصية مشتركة بينهما، على أساس اعتبار هذه الخصوصية هي العلّة للحكم الشرعي في الموضوع الأول، مما يجعل الحكم في الموضوع الثاني خاضعاً لوجود علته، ولكن الملاحظة الدقيقة، هي أنّ استنباط العلّة - في أغلب الموارد - لا يخضع لليقين بها، بل يحصل من حالة ظنيّة تلتقي مع احتمال الخلاف، لأنّ من الممكن أن تكون هناك خصوصية أخرى في الموضوع الأول هي التي أنتجت الحكم، وربما يكون لاجتماع الخصوصيات الأخرى إلى جانب الخصوصية المشتركة دخل في جعل الحكم، بل ربما تكون هناك خصوصية خفيّة لم يدركها الباحث هي الأساس في الحكم، فيكون إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر حاصلاً من الظنّ الذي "لا يغني من الحقّ شيئاً"، ولا دليل على حجّيته من ناحية خاصة. وربما يذكر البعض مثالاً لابتعاد القياس عن الصواب، مثال "البول" و"العرق"، فقد حكم على بول الإنسان بالنجاسة، وحكم على العرق بالطهارة، مع أنّهما متشابهان في خروج كلّ منهما من داخل جسم الإنسان، فهل يحكم على العرق بالنجاسة لأجل ذلك، في الوقت الذي يفترقان بأنّ أحدهما أرقّ والآخر أغلظ، وأنّ الاجتناب عن‏ أحدهما - وهو البول - أسهل، بينما الاجتناب عن العرق أصعب.
وإذا كان القياس متعارفاً عند الناس في بعض أمورهم، فإنّ السبب في ذلك هو اكتشافهم العلّة الكامنة وراء الحكم العرفي، بلحاظ معرفتهم بالأسس العقلائية التي ارتكز عليها من خلال ما يعرفونه من مرتكزاتهم بشكل يقيني، ولكنّهم يتوقفون في الحالات التي لا يحيطون بخصوصياتها الذاتية، وهذا ما قد نلاحظه في الأطباء الذين لا يبادرون إلى إعطاء دواء مريض لمريض آخر يشبهه في بعض المواصفات، لإمكان أن يكون مختلفاً عنه في صفات مرضية أخرى، ما يجعل من الدواء عنصراً ضاراً له بلحاظ تلك الخصوصية المنفردة.
وربّما كان الأساس في ذهاب أبي حنيفة للقياس، قلّة الأحاديث الصحيحة الواردة عن النبيّ محمّد(ص) - كما نقل عنه - مما يجعل من الواقع الفقهي واقعاً يشبه ما ذكره الأصوليون من علماء الشيعة في موضوع انسداد باب العلم والحجج الخاصة، الأمر الذي ذهب فيه بعضهم إلى حجيّة الظنّ المطلق، ولكنّه أمر غير واقعي، لورود الكثير من الأحاديث عن النبي محمّد(ص) وأئمة أهل البيت(ع) الذين يتحدثون عن النبي(ص) في كلّ أحاديثهم، إضافةً إلى نصوص القرآن، الأمر الذي لا يجعل هناك فراغاً فقهياً أو حاجةً استنباطيةً تفرض اللجوء إلى القياس أو إلى الظنون الأخرى، في الوقت الذي يصعب فيه معرفة علل الأحكام الشرعية بشكل دقيق، ما يجعل من القياس وسيلةً من وسائل الابتعاد عن الحقيقة في الحكم الشرعي، من خلال الظنون المتنوعة التي قد تختلف باختلاف الأشخاص.
وتبقى هناك حالة واحدة، وهي صورة "منصوص العلّة"، بأن يأتي ذكر العلّة في الحديث نفسه الدالّ على الحكم الشرعي، كما إذا قال: لا تشرب الخمر لأنّه مسكر، فإننا نستوحي من ظاهر الكلام عليَّة الإسكار للحرمة، مما يجعل عنوان المسكر هو عنوان الموضوع للحرمة، لأنّ العلة تؤدّي إلى سعة الموضوع ليشمل كلَّ مسكر، ففي هذه الحال، لا مانع من إسراء حكم الخمر في الحرمة إلى كلّ مسكر.
وقد شدّد أهل البيت(ع) على رفض القياس، كما شدد عليه ابن حزم الظاهري، لحماية الأحكام الشرعية من الانحراف عن خط الحقيقة التشريعية، وقد اتّبعوا جدهم رسول الله(ص)، حسب الرواية المتقدمة، باعتبار إبليس هو الذي بدأ القياس، عندما اعتبر أنّ السبب في التكريم لا بد من أن ينطلق من قوّة العنصر، فهو الأساس في التفضيل، ولذلك اعترض على تفضيل الله لآدم، قال: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}(ص:76)، باعتبار أن النار أقوى من التراب لأنّها تفنيه، ولكنّه لم يلتفت إلى الخصوصيات الروحية والمعنوية المتناسبة مع الدور الذي أوكله الله لآدم، إضافةً إلى خصائص التراب في عملية الإنتاج الزراعي، وفي بناء الأبنية ونحو ذلك، وهكذا كانت غوايته منطلقةً من عدم وعيه للخصائص الخفية الحقيقية التي تكمن وراء التفضيل الإلهي لآدم.
وبكلمةٍ واحدة، إنّ اليقين هو الأساس الوحيد للحجيّة، ولا بدَّ لكلّ حُجّة من الانتهاء إلى اليقين، حتى لو كان ذلك بلحاظ تنصيص الشارع على حجيّتها، باعتبار أنَّ الأمر يرجع إليه، وأما الظنّ، فإنّه "لا يغني من الحق شيئاً"، فكيف نعتمد عليه - بدون دليل - ليكون القياس حجةً! وقد حاول أصوليو السنّة أن يستدلوا على حجيّة القياس بأدلة متنوعة من الكتاب والسنّة، ولكنّها لا تثبت أمام النقد العلمي.
قاعدة: القرآن يفسر بعضه بعضاً
يؤكّد تفسير (من وحي القرآن) هذه القاعدة التي جاءت في روايات أهل البيت(ع) بألسنة متعددة، وممارسات عملية شتى.
يصف الإمام عليّ(ع) القرآن بقوله: "كِتابُ اللَّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ، وَتَنْطِقُونَ بِهِ، وَتَسْمَعُونَ بِهِ، وَيَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ"( ).
وعن النبي الأكرم (ص) في صفة القرآن: "يصدق بعضه بعضاً"( ).
يقول السيّد المفسّر في سياق تفسيره لآية المحكم والمتشابه {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}(آل عمران: 7): "الدراسة الواعية الدقيقة للقرآن في كلّ موضوعاته الفكرية والعقيدية والتشريعية، ومفاهيمه العامة المنفتحة على حقائق الكون والحياة والإنسان وعالم الغيب والشهادة، توحي للقارئ الباحث بأنّ آيات القرآن تتكامل في بناء الفكر الإسلامي، فإذا كانت هذه الآية توحي بمعنى في بادئ الأمر، فإنّ الآية الأخرى تفسرها لتلتقي في معنى واحد، وإذا جاء الحكم الشرعي في بعضها عاماً أو مطلقاً، فإنّنا نلتقي في بعضها الآخر بما يخصصه أو يقيده، فلا يجد الإنسان فيه اختلافاً بين أفكاره أو تنافراً بين آياته، أو غموضاً في معانيه، بل هو الوضوح الذي يستمدّ طبيعته من طبيعة الألفاظ في معانيها الموضوعة، ومن عمق التدبر في أغوارها العميقة، ومن المقارنة الموضوعية بينها، في عملية التكامل في حركة الأفكار في بنيتها الأساسية"( ).
يرى السيّد أنّ هذا المعنى هو الذي تعطيه آية التدبر: {أفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ولَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}(النساء: 82)، "فإنّ إدراك هذه الحقيقة، تفرض على الإنسان أن يدرس القرآن كلَّه - في جميع آياته وموضوعاته - ليأخذ الفكرة الكاملة، وأن يتعمق في دراسته بعيداً عن القراءة السطحية، ليعرف كيف يجعل الآية هنا، مفسّرةً للآية هناك، أو يأخذ من هذه الآية جانباً من المعنى، ويأخذ من الأخرى جانباً آخر، وذلك من خلال الثقافة الواسعة العميقة في اللغة العربية التي تربي له ذوقه اللغوي، بحيث يفهم المعاني من الألفاظ من خلال أسرار اللغة في دقائقها وتنوعاتها، ومن خلال الذهنية المنفتحة على حقائق الكون والحياة والإنسان، الأمر الذي يملك معه فهم القرآن في الجانب اللغوي والفكري والعملي معاً في كلّ آياته المحكمة والمتشابهة"( ).
إنّ القرآن "يصدق بعضه بعضاً، ويفسّر بعضه بعضاً، ويبين أوله آخره، وآخره أوله... فلم تختلف فيه آية عن أخرى، ولا مفهوم عن آخر، ما يدلّنا على أنّه كلام الله الواحد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولكن لا بدّ من التدبر فيه والتعمق في مداليله، لئلا يتوهم القارئ الاختلاف في ما ليس فيه اختلاف، كما يحدث للإنسان الذي يقرأ بعض الآيات التي ظاهرها الجبر، في مقابل بعض الآيات التي يظهر منها حرية الاختيار، أو الذي يقرأ الآيات التي يستفاد من ظاهرها التجسيم، بإزاء الآيات التي يظهر منها عدمه"( ).
وهذا ما أكّده صاحب تفسير الميزان، بقوله: "البيان القرآني... كلام موصول بعضه ببعض في حين أنّه مفصول، ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، كما قاله عليّ (ع)، فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة بإعمال القواعد المقررة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها، دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها، ويجتهد في التدبر فيها، كما يظهر من قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}(النساء: 82)"( ).
ويرى الطباطبائي أنّ الآيات القرآنية سميت مثاني، "لأنّ بعضها يوضح حال البعض، ويلوي وينعطف عليه، كما يشعر به قوله تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ}(الزُّمر:23)، حيث جمع بين كون الكتاب متشابهاً يشبه بعض آياته بعضاً، وبين كون آياته مثاني. وفي كلام النبي(ص) في صفة القرآن: "يصدق بعضه بعضاً"، وعن عليّ(ع) فيه: "ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض"، أو هي جمع مثنى بمعنى التكرير والإعادة، كنايةً عن بيان بعض الآيات ببعض"( ).
ويشير تفسير (من وحي القرآن) إلى هذا المعنى في تفسيره لآية المثاني: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً}(الزمر: 23)، بقوله: "يشبه بعض أجزائه بعضاً في أسلوبه، ووضوح الحقّ في معانيه، وبلاغة التعبير في آياته، فلا تتنافر أفكاره، ولا تختلف آفاقه، فهو على نسق واحد.
و (مَثانِيَ) جمع مثنى أو مثنية، قيل: إنّه بمعنى المعطوف، لانعطاف بعضه على بعض، ورجوعه إليها بتبين بعضها ببعض، وتفسير بعضها ببعض‏"( ).
قصة الكندي مع الإمام العسكري(ع)
يذكر السيّد المفسّر في هذا المقام قصَّة الفيلسوف أبي إسحاق الكندي - فيلسوف العراق - مع الإمام العسكري(ع)، "قيل إنّه كتب كتاباً في إثبات تناقض القرآن في آياته، وشغل نفسه به، وتفرَّد به في منـزله، وعرف الإمام الحسن بن علي العسكري - الإمام الحادي عشر من أئمة الشيعة الإمامية الإثني عشرية - بذلك، وإنّ بعض تلامذته دخل على الإمام العسكري(ع)، فقال له: أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟
فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا وفي غيره؟ فقال له أبو محمّد (وهي كنية الإمام العسكري(ع)): أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟ قال: نعم. قال: فصر إليه، وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الانسة في ذلك، فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنّه يستدعي منك ذلك، فقل له: إنّ هذا المتكلم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم به غير المعاني التي قد ظننت أنّك ذهبت إليها؟ فإنه سيقول لك: إنّه من الجائز، لأنّه رجل يفهم، فقل له: فما يدريك، لعلّه قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فتكون واضعاً لغير معانيه؟
فصار الرجل إلى الكندي، وتلطّف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة، فقال له:
أعد عليّ. ففكَّر في نفسه، ورأى ذلك محتملاً في اللغة، وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت عليك إلّا أخبرتني من أين لك هذا. فقال: إنّه شي‏ء عرض بقلبي فأوردته عليك. فقال: كلا، ما مثلك من اهتدى إلى هذا، ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرّفني من أين لك هذا. فقال: أمرني به أبو محمّد. فقال:الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت. ثم إنّه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه.( )
قاعدة: إيَّاكِ أعني واسمعي يا جارة
هذه قاعدة مهمة في التفسير أكَّدتها روايات أهل البيت(ع)، في موارد عديدة، لتفسير بعض الآيات المباركة التي لا يمكن أن تفسر تفسيراً سليماً إلا وفقها وعلى ضوئها.
في سياق تفسيره لآيات سورة الإسراء المباركة: {وإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * ولَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شيئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً}(الإسراء: 73-75)، يذكر تفسير (من وحي القرآن) رواية الإمام الرضا (ع) التي تقرأ هذه الآيات على ضوء قاعدة: (إيّاك أعني واسمعي يا جارة)، ليكون  الخطاب للنبي (ص) والمقصود غيره.
 عن كتاب عيون أخبار الرضا، بإسناده عن عليّ بن محمّد بن الجهم، عن أبي الحسن الرضا(ع)، أنَّ المأمون سأله: أخبرني عن قول اللَّه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}(التوبة: 43)، قال الرضا(ع): "هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة، خاطب اللَّه بذلك نبيه، وأراد به أمته، وكذلك قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ}(الزمر: 65) وقوله تعالى: {ولَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شيئاً قَلِيلًا}"، قال: صدقت يا بن رسول الله‏.
يقول السيّد فضل الله: "وعلى ضوء هذا، فإنَّ الجواب عن المشكلة، أنَّ النبي(ص) ليس هو المعنيّ بالأمر الذي تضمَّنته الآيات، بل المعني به هو المسلمون، في ما يواجههم من أساليب الكفار بالانحراف عن الخطّ المستقيم للحصول على محبتهم وصداقتهم".
ولا يكتفي بطرح الرواية، بل يحاول أن يحلّل طبيعة هذا الأسلوب القرآني، ووجوه الخطابات الشديدة للنبي الأكرم(ص)، وهو المعصوم الذي لا يكاد يركن إلى الظالمين المترفين، فضلاً عن أن يركن فعلاً، وهو يتحدى هؤلاء الطغاة والمستكبرين في ساحة الصراع وميدان المواجهة، مهما كانت أساليب الترهيب والترغيب.
بيد أنّ هذا الأسلوب له من الدلالات والإيحاءات ما فيه، لتصوير مدى الضغوطات التي يتعرّض لها النبي(ص)، لندرك ضرورة الثبات في مواجهتها، ومدى خطورة الاستجابة لمطالب الطغاة، ولو كان ركوناً قليلاً وميلاً يسيراً، فإن المسألة لا تحتمل شيئاً من المساومة.  
ولهذا يقول السيّد المفسر: "ولكن لا بدَّ لنا من التأمّل في هذه الآيات، لندرس طبيعة الأسلوب الذي جاءت به، للوصول إلى هذا الخطاب للأمة من خلال النبي، فنلاحظ أنّ الآية الأولى قد أثارت وجود أساليب مؤثّرة، لفتنة النبي (ص) عمّا أوحى الله إليه، وهي أساليب توحي بقوّتها وتأثيرها، بالمستوى الذي يمكن له أن يضغط على المشاعر والأفكار التي لا تعيش الالتزام العميق بالرسالة، والثبات الصلب على المبدأ، والوعي المنفتح على الأساليب الملتوية المحيطة به، لذا يمكن أن تكون واردةً في مقام تصوير الحالة في ذاتها، من خلال طبيعة العناصر الموجودة في داخلها، بقطع النظر عن خصوصية الشخص الذي توجّه إليه، في‏ ما يملك من قوّة ذاتية مميّزة، وذلك للتنبيه على أنّ الكفار يمكن أن يثيروا أمام الداعية إلى الله بعض الأساليب الساحرة المثيرة، التي تضغط على مشاعره وأفكاره بطريقة لا شعورية، ما يفرض عليه أن يحترس من ذلك باللجوء إلى إيمانه وعقله، ليأخذ منهما الوعي الذي ينفتح على المسألة من موقع العمق لا من موقع السطح. فهي تعالج الحالة من مواقع النظر إلى الإنسان في طبيعة مواجهته للأسلوب في ذاته، ولذلك تحدثت عن تثبيت الله للنبي، الذي لولاه لتأثّر بتلك الأساليب"( ).
"ومن الطبيعي أنّ التثبيت لم يكن حالةً طارئة، كما توحي به الروايات التي تضمنت نزول الآية للتحذير من هذه الحالة، مع أنّ الظاهر هو أنّها جاءت إخباراً عن حالة سابقة، بل كان التثبيت ناشئاً من قوّة الإيمان في شخصيته التي أودعها الله فيه من خلال لطفه ورعايته له، الأمر الذي يوحي للداعية المسلم أن يكون حذراً في مواجهة أساليب الإغراء والتخويف التي تمارس معه أو ضده، لئلا يسقط أمامها بطريقة غير إراديّة"( ).
ولذا يفسر قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ}(الإسراء:74-75) بقوله: "إنها العصمة الإلهية التي وضعت في شخصيتك الخصائص الفكرية والعملية التي تمنعك من التأثّر بأيّة حالة من حالات الخديعة والإغراء والانحراف... ولولاها، لكان لهذه الأساليب التي أثاروها أمامك، تأثير كبير في شخصيتك كإنسان، لأنّ الإنسان يتأثّر بالأساليب العاطفية التي تخاطب فيه العاطفة، وتثير لديه حالات الانفعال. ونلاحظ أنّ الآية عبّرت بكلمة "كدت" التي تعني القرب والدنوّ، ما يوحي بأنّ الثبات سابق عليها، وأنّ المسألة تتصل بالأسلوب في قرب التأثير"( ).
ويظهر من روايات أهل البيت(ع): "نزل القرآن بإياكِ أعني واسمعي يا جارة"، مدى كثرة استعمال هذا الأسلوب في الخطابات القرآنية. وأصله مثلٌ سائرٌ لسهل بن مالك الفزاري، وله قصة طويلة، خلاصتها أنه زار حارثة بن لام الطائي، فوجده غائباً، فأنزلته أخته وأكرمته، فأعجبه جمالها وشخصيتها، فقال مخاطباً لأخرى غيرها ليسمعها هي:
يا أختَ خير البدو والحضاره    كيفَ تَرَيـْنَ في فتى فزاره
أَصبحَ يهوى حـّرةً معطاره    إيّاكِ أعني واسمعي يا جاره
وقد فسر (من وحي القرآن) العديد من الآيات المباركة وفق هذه القاعدة:
1-    {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}(البقرة:147).
"والظاهر أنّ الخطاب - كما ذكرنا - موجه لرسول الله الذي جاء بالصدق وصدّق به، وهو جار على أسلوب خطاب الأمّة من خلال خطاب الرسول، ما يوحي بأنّ على الأمّة أن لا تقع تحت تأثير عناصر الشكّ التي يحاول الكافرون من أعداء الإسلام إثارتها في وجدانهم الفكري"( ).
2-    {وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}(الأنعام: 68).
"الخطاب موجه إلى النبي(ص) والمقصود به غيره، على حدّ قولهم: إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة"( ).
3-    {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا واتَّبَعَ هَواهُ وكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}(الكهف: 28)
4-    {عَبَسَ وتَوَلَّى * أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى‏ * وما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أو يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى‏ * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى‏ * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى‏ * وهُوَ يَخْشى‏ * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}(عبس: 1-10)
"وربّما كان ذلك على طريقة "إيّاك أعني واسمعي يا جارة"، ليكون الخطاب للأمة، من خلال النبي(ص)، ليكون ذلك أكثر فاعليةً وتأثيراً إيحائياً في أنفسهم، لأنَّ النبيّ (ص) إذا كان يخاطب بهذه الطريقة في احتمالات الانحراف، فكيف إذا كان الخطاب يراد به غيره"( ).
5-    {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}(الحاقة: 48)
"وهكذا كانت الآيات حاسمةً في مسألة تحريف القرآن بالزيادة عليه، بحيث لو كان النبي محمّد(ص) هو الذي يقوم بذلك، لتعرض لجزاء الله، ولكنّه (ص) الصادق في كلامه، لا يقول إلا حقّاً وصدقاً، الأمين على كلّ شي‏ء، ولا سيّما على وحي الله، فلا يزيد فيه شيئاً، ولا يخون أمانة الله في كتابه، بل يقدّمه إلى الأمة كلّها كما أنزله الله مصوناً من أيّة زيادة ومن أي نقصان"( ).
الروايات في عالم التفسير: اتجاهان متعاكسان
من أهمّ وأخطر إحالات القرآن الكريم، هي إحالته إلى سنَّة الرسول قولاً وفعلاً وتقريراً، بقوله: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر:7)، بيد أنّ المشكلة في عالم التفسير، تكمن في الأحاديث الموضوعة التي زخرفت بنسبتها إلى جهة مقدسة، وقد كثرت على الرسول(ص) أمثال هذه الأحاديث في عهده، حتى حذَّر المسلمين منها بقوله: "كثرت عليَّ الكذّابة"!! كما كثرت على العترة الطاهرة، التي لا يمكن أن تفارق القرآن لمكان عصمتها: "وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض"، حتى حذَّرنا أهل البيت(ع) من التلقي الساذج للأحاديث، وضرورة عرضها على القرآن الكريم، فيما يعرف بروايات العرض: "فما خالف كتاب الله فهو زخرف"، أو "فاضربوا به عرض الحائط"، أو "لم نقله".
ومن جهة أخرى، فإنّ هناك الماكينة الروائية لكعب الأحبار ووهب بن منبه ومن على شاكلتهما، التي راحت تتكلم بالقرآن وتتصدّى لتفسيره، بعدما رأت المجال مفتوحاً أمامها، ولا سيّما قصصه التاريخية، فكثرت بذلك (الإسرائيليات)، حتى إنّك ترى بعض كتب التفسير مليئةً بهذه المرويات التي تحطّ من قدر الأنبياء والمرسلين، وتفصّل - وفقاً لكتب العهدين - ما أجمله القرآن من أحداث التاريخ ووقائعه!!
من هذا المنطلق، عقد تفسير (من وحي القرآن) بحثاً بعنوان: (اتجاهان متعاكسان في التفسير)، ليلفت أنظارنا إلى التعامل الحذر مع عالم الروايات، حتى لا نسير معها بدون وعي وتدبّر، وحتى لا نتخذ الموقف السلبي تجاهها بحجة وجود تزوير في مساحة غير صغيرة فيها، وذلك في سياق تفسيره لآية: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ الله مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}(البقرة: 243)، والروايات مختلفة في طبيعة هؤلاء القوم وما هو سبب الموت الذي كانوا يحذرون وكيفية إماتتهم وإحيائهم؛ من هم؟ وفي أيّ أرض كانوا؟ وفي أيّ زمان خرجوا؟ وقد أجملت الآية كلّ ذلك، والإجمال عادةً ما يثير السؤال لمعرفة التفاصيل، وقد يثير فضول البعض ليبحث عن أمور أراد الله لها أن تكون مجملةً، لأنها لا تزيد شيئاً في العبرة. وقد رفض بعض المفسرين جميع الروايات الواردة في تفسير الآية، ورأى أنها واردة مورد المثل. "وحاول بعضهم أن يوجه الحياة والموت إلى الجانب المعنوي منهما، بما يقرب من العزّ المتمثّل في مواجهة الأعداء، والذلّ الذي يتمثل في الوقوع تحت سيطرتهم. واعتبر الأحاديث الواردة في هذا الباب من الإسرائيليات التي لا يعتمد عليها في تفسير القرآن، أو في تقرير أيّة حقيقة من حقائق الإسلام"( ).
يقول السيّد المفسّر: "من المناسب ـ في هذا السياق ـ أن نشير إلى قضية حيوية في التفسير القرآني المشتمل على قصص التاريخ، في ما يتحدَّث لنا به عن الأمم السابقة التي عاشت في إطار النبوّات وفي غيرها.. وهي أنَّ البعض يحاول أن يندفع إلى الأخذ بكلّ أقاصيص الرواة، من دون تمييز بين الصحيح والفاسد منها، ولا بين المعقول وغير المعقول، ولا بين الموضوع وغير الموضوع؛ لأنّه يعتقد أنّ مجال ذلك هو الأحكام الشرعية التي تتمثل بالحلال والحرام، فلا بدَّ فيها من التدقيق في الروايات من خلال سند الرواية ومضمونها، لئلا نحكم بحليّة ما حرَّمه اللّه، أو بحرمة ما أحلَّه اللّه، فنستحق بذلك عقاب الله، عندما ننسب إلى الله ورسوله شيئاً لم يقله أو لم يشرعه.
أما الأقاصيص، فإنها لا تمثّل أيّ جانب سلبي من هذه الجهة، لأنها مما لا يترتب عليها أيّ أثر في الشرع وفي الحياة، كما في هذه القصة التي رواها المفسرون في تفسير هذه الآية، فما الذي يترتب من الأثر السلبي على مثل هذا التفسير ـ سواء أكان خطأ أم كان صواباً ـ فالفكرة هي الفكرة من حيث العبرة والإيحاء، فلا ضرورة للتدقيق والأخذ والردّ من المناقشات التي قد ترد في هذا الباب.
وهناك من يحاول أن يقف في الخطّ المعاكس لهذا الاتجاه، فيرى أن علينا أن نثير الكثير من علامات الاستفهام أمام ما ورد من روايات القصص القرآني في التفسير، لأنّ الإسرائيليات قد اقتحمت علينا الساحة، بما أثاره الرواة الذين تتلمذوا على كعب الأحبار ووهب بن منبه، من قضايا أراد اليهود أن يدخلوها في الفكر الإسلامي، في ما يتصورونه للحياة وللتشريع وللتاريخ من تصورات لا تتفق مع المفاهيم الأصيلة للتصور الإسلامي الصحيح..
ولذلك، فإنّ علينا أن نواجه الموقف بطريقة الرصد الواعي لكلّ رواية نحتمل فيها السير في هذا الاتجاه ولو من بعيد.
وقد يؤكِّد هذا البعض رفض الروايات التي تدخل عنصر الغيب في القصص والأحداث، فتكثر من ربط الحياة بالغيب، من خلال التفسير الغيبـي للمفاهيم القرآنية التي لا تبتعد كثيراً عن الواقع في طبيعتها الواقعية الأصيلة. وقد يحاول مثل هؤلاء أن يفسروا هذه الغيبـيات تفسيراً مادياً خالصاً، لأنهم يستبعدون الغيب كفكرة، وإن كانوا لا يكفرون به كعقيدة، وبذلك اعتبروا كثيراً من التعابير القرآنية أدباً رمزياً يعتمد على الرمز في ما يريده، ولا يرتكز على الوضوح والبيان.
أما نحن، فنقف موقفاً وسطاً بين هذين الاتجاهين، فلا نوافق الاتجاه الأول في الأخذ بكلّ الأقاصيص، والتخفيف من خطورة السلبيات الناشئة من الأقاصيص التي قد تكون مكذوبةً، (وذلك لسببين أساسين):
أوّلاً: المسؤولية الشرعية
لأنّ ذلك يمثل مسؤوليةً شرعيةً في القول في القرآن بغير علم، بل ربما كان ذلك أعظم إثماً من تفسير القرآن بالرأي الذي رفضته الأحاديث الشريفة المتواترة.
ثانياً: التأثيرات السلبية
إنّ طبيعة التصور الذي تحدثه القصة في النفس، يخلق لدى الإنسان مفهوماً معيناً من خلال القصة، الأمر الذي قد يترك تأثيراتٍ سلبيةً على طبيعة الممارسة العملية لكثير من قضايا الواقع والحياة. ولعلّ الأثر الذي تحدثه القصة في تربية المفاهيم السلبية أو الإيجابية في عمق الشخصية، أكثر من الأثر الذي يحصل من خلال أسلوب فكري أو تحليلي مجرد، وهذا ما نعرفه في مهمّة الأسلوب القصصي في التربية العامة والخاصة"( ).
ضرورة التدقيق سنداً ومتناً
وفي ضوء ذلك، يؤكّد السيّد المفسّر "ضرورة التدقيق في سند القصة التفسيرية ومضمونها، من أجل أن نعرف صحيح الحديث من فاسده على أساس الموازين العلمية الصحيحة، فلا نأخذ بحديثٍ إلا بعد أن تثبت لنا صحته وواقعيته وأصالته، وبهذا نستطيع أن نكتشف زيف الإسرائيليات الموضوعة التي لا أساس لها في كتب الله ورسالاته. وقد نتعرف في بعض هذه الإسرائيليات التي رواها علماء اليهود، ما قد يكون صحيحاً في فكرته وأسلوبه، لأنّ وجود الوضع والدسّ والافتراء، لا يعني أنّه يمثل ظاهرةً شاملةً في كلّ هذه الأحاديث.
أما وجود الغيب في بعض القصص والأحاديث، فلا يكون دليلاً على الضعف، لأنّنا لا نستطيع أن نمنع ما في الغيب من أصالة الإيمان والحقيقة، فإنّ الإيمان بالغيب عقيدة إسلامية إيمانية أصيلة. ولَكِنَّنا لا نوافق - في الوقت نفسه - على أنّ الغيب ظاهرة شاملة في كلّ الواقع، فإنّ الله قد أقام الحياة على أساس القوانين الطبيعية المودعة في الكون، وأراد منّا أن نفهم الحياة من خلالها، من خلال ربط المسببات بأسبابها، مع إعطاء فسحة للغيب في بعض المجالات.
ولهذا، فإننا قد نقبل التفسير الغيبـي في بعض الموارد التي لا نجد لها أساساً معقولاً للتفسير الطبيعي للأشياء، ونتحفظ في بعض الموارد التي نجد لها أسساً واقعيةً تربط القضية بالقوانين الطبيعية للأشياء، فنستبعد الجانب الغيبـي، لأنّه لا يقدم لنا تبريراً لإنكار السبب الواقعي واستبداله بالسبب الغيبـي، من دون أن يضرّ ذلك بقضية الإيمان بالغيب، لأنّه لا يرفض الغيب كعقيدة تعيش في الحياة وفي الإيمان، ولكنّه يتحفظ فيه كظاهرة شاملة ترفض الأسباب الواقعية للأشياء"( ).
روايات القضايا الغيبـية
يوافق تفسير (من وحي القرآن) ما حذَّر منه "تفسير الميزان"، في رفض الروايات التي تتحدث عن القضايا الغيبـية بقوله: "وإياك أن ترمي أمثال هذه الأحاديث الشريفة المأثورة عن معادن العلم، ومنابع الحكمة، بأنّها من اختلاقات المتصوّفة وأوهامهم، فللخلقة أسرار، وهو ذا العلماء من طبقات أقوام الإنسان، لا يألون جهداً في البحث عن أسرار الطبيعة، منذ أخذ البشر في الانتشار، وكلما لاح لهم معلوم واحد بأنَّ لهم‏ مجاهيل كثيرة، وهي عالم الطبيعة أضيق العوالم وأخسها، فما ظنّك بما وراءها، وهي عوالم النور والسعة"( ).
إذ يقول: "ونحن نتفق مع العلامة الطباطبائي في القاعدة العلمية التي أسسها، وهي عدم المبادرة إلى رفض ما لا تقبله الأفكار من خلال ابتعاده عن المألوف ممّا يعرفه الناس، أو يقع في نطاق تجاربهم الذهنيّة وانفعالاتهم الشعوريّة، لأنّ عالم الغيب يختلف في موازينه عن عالم الحسّ، لعدم خضوعه للتجربة الحسيّة، الأمر الذي يجعل المقياس في معقوليته وعدم معقوليته، هو انطلاق القضية في أبعادها من دائرة الإمكان المنطلقة من دراسة الفكرة وقدرة الله المطلقة، فلا يجوز لنا أن نرفض الغيب في طبيعته ومفرداته لمجرد ابتعاده عن دائرة المألوف لدينا، لأنّ المألوف ليس هو الصيغة النهائية للحقيقة حتى في ساحة الحسّ، فكم من الأمور التي كانت فوق مستوى المألوف مما يعقله الناس، في قضايا الحياة وأسرار الكون، أصبحت عاديةً ومألوفةً لديهم بعد اكتشافها من قبل العلماء ووضوحها لديهم، وكم من الأمور المألوفة لديهم بفعل السير التاريخي للأفكار والعقائد، تحوّلت إلى أشياء مستنكرة بعد ثبوت زيفها وخرافيتها، وكم من الأشياء التي كانت غيباً في وعي الناس عادت حسّاً من خلال الاكتشافات العلمية".
"لذلك، فإنّ طريقة البحث في الأمور الغيبـية تختلف عن الطريقة في الأمور الحسية، ففي الغيب متّسعٌ للفكر التأملي والعقل النظري، وفي الحسّ منطلقٌ للتجربة الواقعية والعقل العملي، بالإضافة إلى دائرة التأمل فيه"( ).
بيد أنّ السيّد المفسِّر يسجِّل ملاحظاته على طرق توثيق المعلومات في شؤون الغيب، وإحراز صدورها عن "المصادر المعصومة التي لا تخطئ في نقل الأشياء وفي تصوّرها، وتركيز الفهم الدقيق للنصوص من خلال القواعد والأصول المتّبعة في ذلك، وهذا ما ينبغي البحث فيه قبل الالتزام بالنص كوثيقة علميّة، ولا سيّما إذا عرفنا دخول الكثير من الأحاديث الموضوعة في تراثنا من خلال اليهود في إسرائيلياتهم التي أريد لها أن تشوّه المفاهيم الإسلامية في الخطوط العامة والتفصيلية، أو من خلال الكذابين الذين كانوا يضعون الأحاديث ويدسّونها في كتب الثقات من أصحاب الأئمة (ع)، كما ورد ذلك في حديث الإمام الصادق(ع) عن أبي الخطاب وجماعته، مما يتضمن الكفر والزندقة والخرافة".
 ولذا يرى أنّه "لا بدَّ لنا من التدقيق في السند والمتن - كما يعبّر القدماء - قبل القبول بها وتحويلها إلى ثقافة عامة للناس، ولا سيّما في الأمور المتصلة بالعقيدة، بحيث يبادر الناس إلى إنكار الحقائق الثابتة، أو تأويل النصوص المعتمدة لمصلحتهم".
كما يرى أنّه "لا بدّ، إلى جانب ذلك، من المقارنة بين النصوص في دلالاتها الفكرية، وخصوصاً مسألة العرض على القرآن الذي هو كتاب الله الذي {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ}(فصلت: 42)، للتعرّف إلى ملاءمة المفهوم الحديثي في مضمونه الفكري مع المفهوم القرآني في دلالاته، من خلال الأصول الدقيقة للبحث العلمي، وعدم الاقتصار على الأساليب الأصولية التقليدية في طريقة البحث والمقارنة.
إنّ المسألة ليست مسألة استبعاد الغيب في مفرداته، مهما كانت غريبةً عن المألوف، ولكنّها مسألة التأكيد على صدور هذا الغيب ممن يملك أمر الحديث عن الغيب في قضايا العقيدة والحياة"( ).
الروايات: بين الرفض والقبول والتحفظ
يتحفظ تفسير (من وحي القرآن) على الكثير من الروايات في عالم التفسير التي لا تمتلك الحجيّة في سندها، أو القوة في مضمونها، لأنها لا تنسجم مع طبيعة الأشياء، أو مع شخصية الرسول، أو مع سياق الآيات، أو وقائع الأحداث، أو ما إلى ذلك من الأمور التي تجعلنا نقف من الروايات الواردة في أسباب النـزول أو في التفسير، موقفاً حذراً في بعض الموارد، ورافضاً رفضاً صارماً في موارد أخرى.
يقول السيد: "إنّنا نحاول التدقيق في روايات أسباب النـزول، لأنّها تمثل تصوراً ثقافياً قد يخطئ في إعطاء الصورة الدقيقة الحقيقية للتصور الإسلامي وللمضمون القرآني، لأنّ الكثير من هذه الروايات ليس موثقاً بما يضمن الوثوق بها، كما أنّ البعض منها يعبّر عن اجتهاد الرواة والمفسرين، من خلال ذهنياتهم المحدودة الخاضعة لبعض المؤثرات الثقافية المتخلفة، الأمر الذي يفرض علينا مناقشة ذلك كلّه، لأننا نخشى أن تفرض هذه الروايات - بما فيها من التصورات - نفسها على المفاهيم القرآنية، لتبتعد بها عن صفاء الفكرة، وإشراقة الصورة، وانفتاح التصور".
الخبر الموثوق
يتبنّى تفسير (من وحي القرآن) حجيّة الخبر الموثوق، لأنّه يرى أنّ الدليل الأساس على حجيّة الخبر هو السيرة العقلائية، وهي جارية على اعتماده، مع أنّه كان يتبنى حجيّة خبر الثقة.
لذا، فقد يعتمد على رواية مرسلة، فيما إذا كان "مضمونها يتناسب مع مضمون الآيات، مما يبعث على الثقة بصدورها، فتكون حجةً على أساس المبنى الذي قررناه في علم أصول الفقه، وهو أنّ السيرة العقلائية - التي هي الأساس في حجيّة الأخبار - جارية على اعتبار الخبر الموثوق به، لا خبر الثقة بالخصوص، بل إنّ اعتباره من أجل كونه سبباً للوثوق"( ).
ويقول في موضع آخر: "وإذا كان الحديث ضعيف السند، فإنه لا يخلو من إيحاء بالمضمون في الآية، مع ملاحظة أننا لا نقتصر في حجيّة الخبر على خبر الثقة، بل نضيف إلى ذلك الخبر الموثوق به نوعاً، لأنّ سيرة العقلاء أو بناءهم هو الأساس في حجيته، وربما كان ضعف احتمال الكذب، لعدم وجود أساس لرغبة الناقل في تعمّده، هو القرينة الطبيعية على وثاقة الحديث"( ).
وبعد أن يشير إلى ما رواه الكفعمي في كتابيه (البلد الأمين) و(المصباح) من الأدعية اليومية السبعة عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع)، وأنها مرسلة، ولم يشر الكفعمي إلى مصدرها، ولا المجلسي في البحار لأنّه أخذها عنه، يقول السيّد: "فلا يبعد الوثوق بصحة النسبة إلى الإمام(ع)، ولا سيما أنّ هذه الأدعية تتفق في أسلوبها مع أسلوب أدعية الصحيفة السجادية، وتلتقي في مضامينها مع الحقائق الإسلامية القرآنية الروحية".
ثم يقول: "وبقطع النظر عن صحة النسبة إليه(ع)، فإنّ مضامينها الموافقة لمضامين الإسلام، تجعل من الأخذ بها، في ابتهالات الدعاء، منهجاً روحياً ثقافياً يومياً، يوحي للمؤمن بالكثير من المعاني والأفكار المنفتحة على تطلعاته وحاجاته الروحية والمادية، ويرتفع به إلى السموّ الروحي والمعنوي"( ).
وعلى ضوء هذا المنهج، يرى - مثلاً - أنّ رواية الكافي التي تذكر تدرج تحريم الخمر بآيات أربع أقرب من غيرها؛ لأنّها تنسجم مع الظهور القرآني، مع أنّها رواية مرسلة، إذ تعدّ "أول ما نزل في تحريم الخمر، قول الله عزّ وجل: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ومَنافِعُ لِلنَّاسِ وإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما}(البقرة:219)، فلما نزلت هذه الآية، أحسّ القوم بتحريمها وتحريم الميسر، وعلموا أنّ الإثم مما ينبغي اجتنابه، ولا يحمل الله عزَّ وجلّ عليهم من كلّ طريق، لأنّه قال: {ومَنافِعُ لِلنَّاسِ}.
 ثم أنزل الله عزَّ وجلّ آيةً أخرى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ والْمَيْسِرُ والْأَنْصابُ والْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(المائدة:90)، فكانت هذه الآية أشدّ من الأولى، وأغلظ في التحريم.
ثم تلت آية أخرى، فكانت أغلظ من الأولى والثانية وأشدّ، فقال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ والْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ ويَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ  مُنْتَهُونَ‏}(المائدة: 91) فأمر عزَّ وجلَّ باجتنابها، وفسّر عللها التي لها ومن أجلها حرّمها.
ثم بيَّن الله - عزّ وجلّ - تحريمها، وكشفه في الآية الرابعة، مع ما دلّ عليه في هذه الآية المذكورة المتقدمة، بقوله عزَّ وجلَّ: {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ والْإِثْمَ والْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}(الأعراف: 33)، وقال الله عزَّ وجلَّ في الآية الأولى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ومَنافِعُ لِلنَّاسِ}، ثم قال في الآية الرابعة: {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ}، فخبَّر الله عزَّ وجلّ أنّ الإثم في الخمر وغيرها، وأنّه حرام، وذلك أنّ الله عزّ وجلّ إذا أراد أن يفترض فريضةً، أنزلها شيئاً بعد شي‏ء، حتى يوطّن الناس أنفسهم عليها، ويسكنوا إلى أمر الله - عزّ وجلّ - ونهيه فيها، وكان ذلك من فعل الله عزّ وجلّ على وجه التدبير فيهم، أصوب وأقرب لهم إلى الأخذ بها، وأقلّ لنفارهم منها"( ).
بينما يرى تفسير الميزان، أنَّ آية الأعراف سابقة في النـزول على آيتي البقرة وآيتي المائدة، فإنهما تدلان على النهي الخاص بعد ورود النهي المطلق، على أنّه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات، فإنَّ التدريج سلوك من الأسهل إلى الأشقّ لا بالعكس.( )
ومع أنّ السيّد المفسّر كان يتبنى العمل بخبر الثقة، وليس الموثوق، بيد أنّه كان يرى في غير مجال التشريع في عالم التفسير، أنَّه لا بدَّ  من وجود قرائن وشواهد لكي يكون الخبر معتمداً عليه في المجالات الأخرى.
في قصّة موسى(ع) مع السامري، وردت بعض الروايات أنّ العجل كان حيّاً، وليس جسداً فحسب، وهذا لا ينسجم مع الظهور القرآني الذي "لا يوحي بانبعاث الحياة والروح في العجل المصنوع، لأنّ التعبير القرآني يصفه جسداً له خوار، ما يعني جسداً خالياً من الروح، ولكنّه يحمل صوت العجل. ولو كانت المسألة كما تقول الروايات، لكان من المفروض التعبير عنه بالعجل".
ثم يقول السيد: "وعلى أيّ حال، فهي أخبار آحاد لا تقوم بها حجّة في التفسير، لأنّ حجيّة خبر الواحد، في ما لم يفد القطع والاطمئنان، لا تعني إلا ترتيب الأثر الشرعي على مضمونه، في ما كان له أثر شرعي. أما الأمور التي تتضمن أخباراً عن قضايا كونية في السماء أو في الأرض، أو عن أحداث تاريخية، فلا مجال للاعتماد على الخبر الواحد فيها بنفسه، بل يتبع القطع أو الاطمئنان، من باب حجيّتهما بعيداً عن الخبر. فلنترك الموضوع لعلم اللّه، كالكثير مما أجمله القرآن ولم نصل فيه إلى يقين، ولا سيما إذا كان الأمر مما لا يتعلّق به خطّ العقيدة في ما يجب اعتقاده، أو خطّ العمل، في ما يجب الالتزام به"( ).
مع أنّ الرواية الواردة عن الإمام الصادق(ع) في تفسير القمي التي تصرح بأنّ السامري ألقى التراب الذي أخذه على جسد العجل، "فلما وقع التراب في جوفه، تحرك وخار، ونبت عليه الوبر والشعر، فسجد له بنو إسرائيل"‏، إنما هي  "رواية مرسلة مضمرة"( ).
من هذا المنطلق، فإن عدم اعتماد بعض الروايات الواردة في عالم التفسير عن أئمة أهل البيت(ع)، لا يعني أنّ المفسر لا يؤمن بأنّهم عدل القرآن، وأنهم المصداق الأكمل للراسخين في العلم، الذين يعلمون تأويل المتشابهات فضلاً عن المحكمات، بل إن القضية تتعلق بمنهج المفسر في الروايات التي تعتمد في تفسير الآيات وتكون حجةً، سواء في مجال الأحكام والتشريعات، أو في مجالات أخرى، كالعقائد والتاريخ وقصص الأنبياء والمرسلين.
إننا في مواطن عديدة، نجد العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان، لا يعتمد على الرواية الواردة عن أهل البيت(ع) في المجالات الأخرى، حتى ولو كانت صحيحة السند، لأنّه يتبنّى منهج حجيّة روايات الآحاد في ميدان الفقه والأحكام فحسب، فكيف إذا كانت الرواية مرسلةً وغير معتبرة؟ وقد صرّح برأيه هذا في مواطن عديدة من تفسيره.
ففي تعليقه على إحدى الروايات عن الإمام الصادق(ع)، والتي تصرّح بأنّ "شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الأمم قبلنا، فقلت له: فقول الله عزَّ وجلَّ: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}{البقرة:183} ، قال إنما فرض الله شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم، ففضَّل الله هذه الأمَّة، وجعل صيامه فرضاً على رسول الله(ص) وعلى أمته‏"، يقول العلامة: "والرواية ضعيفة بإسماعيل بن محمّد في سنده، وقد روي هذا المعنى مرسلاً عن العالم(ع)، وكأنّ الروايتين واحدة. وعلى أيّ حال، فهي من الآحاد، وظاهر الآية لا يساعد على كون المراد من قوله تعالى: {كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الأنبياء خاصة، ولو كان كذلك، والمقام مقام التوطئة والتمهيد والتحريض والترغيب، كان التصريح باسمهم أولى من الكناية وأوقع، والله العالم"( ).
ويقول في مورد آخر: "ومن المعلوم أنّ الاعتصام بعصمة أهل العصمة (ع)، إنما يحصل فيما أيقنا من كلامهم بصدوره والمراد منه معاً يقيناً صادقاً، وأنّى يحصل ذلك في أخبار الآحاد التي هي ظنية صدوراً ودلالة؟"( ).
ويقول في مورد ثالث: "إنّ محصَّل الاستدلال، أنّ الإنسان إذا تمسك بذيل أهل العصمة والطهارة، لم يقع في خطأ، ولازمه ما تقدَّم أنّ الرأي المأخوذ من المعصوم فيما سمعه منه سمعاً يقينياً، وعلم بمراده علماً يقينياً لا يقع فيه خطأ، وهذا مما لا كلام فيه لأحد.
وفي الحقيقة، المسموع من المعصوم أو المأخوذ منه مادةً، ليس هو عين التذكر ولا الفكر المنطقي، ثم يعقبه هو أنّ هذا ما يراه المعصوم، وكلّ ما يراه حقّ فهذا حقّ، وهذا برهان قطعي النتيجة، وأما غير هذه الصورة من مؤديات أخبار الآحاد أو ما يماثلها، مما لا يفيد إلا الظنّ، فإنّ ذلك لا يفيد شيئاً، ولا يوجد دليل على حجيّة الآحاد في غير الأحكام، إلا مع موافقة الكتاب، ولا الظنّ يحصل على شي‏ء مع فرض العلم على خلافه من دليل علمي"( ).
وفي موضع رابع، يعلّق على رواية تتحدث عن قضية تاريخية في أسباب النـزول، بقوله: "وبعد هذا كلّه، فالرواية من الآحاد، وليست من المتواترات، ولا مما قامت على صحتها قرينة قطعية، وقد عرفت من أبحاثنا المتقدمة أنَّا لا نعوّل على الآحاد في غير الأحكام الفرعية، على طبق الميزان العام العقلائي الذي عليه بناء الإنسان في حياته"( ).
ويعلّق في موضع خامس على بعض الروايات بقوله: "على أنّها لو صحّت، لم تكن إلا من الآحاد التي لا يعتمد عليها في غير الأحكام"( ).
وفي موطن سادس يقول: "إنَّ الآحاد من الروايات لا تكون حجةً عندنا، إلا إذا كانت محفوفةً بالقرائن المفيدة للعلم، أعني الوثوق التام الشخصي، سواء كانت في أصول الدين أو التاريخ أو الفضائل أو غيرها، إلا في الفقه، فإنّ الوثوق النوعي كافٍ في حجيّة الرواية. كلّ ذلك بعد عدم مخالفة الكتاب، والتفصيل موكولٌ إلى فنّ أصول الفقه"( ).
ويقول في موطن سابع وهو يعلّق على بعض المفسرين: "وأما ما ذكره من أنّه "يشترط في قبول الرواية أن تكون منقولةً بالتواتر عن المعصوم، أو بسند صحيح متصل الإسناد لا شذوذ فيه ولا علة"، فمسألة أصولية، والذي استقرّ عليه النظر اليوم في المسألة، أنّ الخبر إن كان متواتراً أو محفوفاً بقرينة قطعية، فلا ريب في حجيته، وأما غير ذلك فلا حجيّة فيه، إلا الأخبار الواردة في الأحكام الشرعية الفرعية، إذا كان الخبر موثوق الصدور بالظنّ النوعي، فإنّ لها حجيّة.
وذلك أنّ الحجيّة الشرعية من الاعتبارات العقلائية، فتتبع وجود أثر شرعي في المورد يقبل الجعل، والاعتبار الشرعي والقضايا التاريخية والأمور الاعتقادية، لا معنى لجعل الحجيّة فيها، لعدم أثر شرعي، ولا معنى لحكم الشارع بكون غير العلم علماً وتعبيد الناس بذلك، والموضوعات الخارجية، وإن أمكن أن يتحقق فيها أثر شرعي، إلا أنّ آثارها جزئية، والجعل الشرعي لا ينال إلا الكليات، وليطلب تفصيل القول في المسألة من علم الأصول"( ).
ويؤكّد هذا المنهج في موطن ثامن، بقوله: "لا معنى لجعل حجيّة أخبار الآحاد في غير الأحكام الشرعية، فإنّ حقيقة الجعل التشريعي، إيجاب ترتيب أثر الواقع على الحجة الظاهرية، وهو متوقف على وجود أثر عملي للحُجّة، كما في الأحكام، وأما غيرها، فلا أثر فيه حتى يترتب على جعل الحجيّة. مثلاً، إذا وردت الرواية بكون البسملة جزءاً من السورة، كان معنى جعل حجيتها وجوب الإتيان بالبسملة في القراءة في الصلاة، وأما إذا ورد مثلاً أنّ السامري كان رجلاً من كرمان، وهو خبر واحد ظنّي، كان معنى جعل حجّيته أن يجعل الظنّ بمضمونه قطعاً، وهو حكم تكويني ممتنع، وليس من التشريع في شي‏،ء وتمام الكلام في علم الأصول"( ).
وفي كتابه (القرآن في الإسلام)، يميز العلامة في الحجيّة بين الأحاديث قطعية الصدور وغير قطعية الصدور، المسماة بأخبار الآحاد، فقد ثبت في مدرسة أهل البيت(ع) "في علم أصول الفقه، حُجيّة الخبر الواحد الموثوق الصدور في الأحكام الشرعية، ولا يعتبر في غيرها"( ).
ولهذا نرى صاحب تفسير الميزان في العديد من المواطن، مع ذكره للرواية في البحث الروائي، يرجّح على صعيد البيان اتجاهاً آخر في تفسير الآية، لأنّه يراه أوفق بالسياق والظهور.
وفي تفسيره لقوله تعالى: {ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها لَولا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ}(يوسف:24)، يذهب إلى وحدة الهمّين، "والمراد بهمّه بها نظير همّها به"، وهو القصد إلى المعصية، بيد أنّ همّه بها داخل تحت الشرط، فإنّ همَّ يوسف الصديق لم يقع لرؤيته برهان ربّه، بينما يذكر بعد ذلك في حقل البحث الروائي الذي يعقده بعد التفسير روايةً عن الإمام الرضا(ع)، تذهب إلى غير ذلك، ويرى أنّ ما جاء في الرواية احتمال في التفسير، فلا يلزم نفسه به فيما إذا رأى أنّ الظهور لا يساعد عليه.
في عيون أخبار الرضا، بإسناده عن أبي الصلت الهروي قال: "... قام إليه عليّ بن محمّد بن الجهم، فقال: يا بن رسول الله، أتقول بعصمة الأنبياء؟ فقال: نعم. فقال له: فما تقول في قوله عزّ وجلّ في يوسف: {ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها}؟ فقال له: أما قوله تعالى في يوسف: {ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها}، فإنّها همّت بالمعصية وهمَّ يوسف بقتلها - إن أجبرته لعظيم ما تداخله - فصرف الله عنه قتلها والفاحشة، وهو قوله عز وجل: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والْفَحْشاءَ} والسوء القتل، والفحشاء الزنا"( ).
من هذا المنطلق، ينبغي التفريق بين المبنى الكبروي وتطبيقاته، وهذا ما أشار إليه كتاب (مطارحات في قضايا قرآنية)، بقوله: "وإذا كانت أخبار التفسير حُجّةً عند السيّد فضل الله كما هي الأخبار الشرعيّة، فإنّ ذلك لا يعني التعويل عليها مطلقاً، لأنّ المشكلة وإن نقِّحت على مستوى (الكبرى)، فإنّها على مستوى (الصغرى) تبقى ماثلةً، وذلك لأنّ الوثوق أمر يختلف من حقل إلى آخر، ومن مورد إلى مورد، خاصة مع احتمال الدسِّ والوضع الذي طال (أخبار التفسير) - ربّما - أكثر من غيرها، وهو ما يعني عدم إضفاء الحجيّة على مثل هذه الأخبار، لا شرعية ولا عقلائية"( ).
معايير الردّ في مضمون الروايات
ويمكن أن نسجِّل أسباب الرفض أو التحفظ من خلال استقراء مواقف  تفسير (من وحي القرآن) من الروايات في عالم التفسير:
السبب الأوّل: الإساءة إلى عصمة القرآن (روايات التحريف المادي)
يلاحق تفسير (من وحي القرآن) روايات التحريف المنسوبة إلى أئمة أهل البيت(ع)، لأنّه يؤمن بأنّ القرآن مصان من أيّ لون من ألوان التحريف المادي {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر:9)، فكلّ رواية تنصُّ على هذا النحو من التحريف، لا قيمة لها، لأنها مخالفة للكتاب، وقد استفاضت روايات أهل البيت (ع) برفضها وضربها عرض الجدار، وأنّها زخرف، أي منسوبة إليهم زوراً.
وقد تحدَّثنا عن صيانة القرآن من التحريف في الفصل الأوّل، وقلنا: إنّ روايات التحريف بنظر السيد المفسر، لا بدَّ من أن نقف إزاءها بموقفين:
الأوّل: روايات تذكر تفسيراً على نحو التأويل والمصداق لبعض النصوص القرآنية، وليست نصاً قرآنياً على الإطلاق.
الثاني: روايات موضوعة وكاذبة، وقد كثرت الكذّابة على النبي (ص) وأهل بيته (ع)، وقد حذّرنا النبي في عهده منهم بقوله: "كثرت عليّ الكذّابة"، كما حذَّرنا أهل البيت (ع) من روايات (الزخرف) التي تنسب إليهم، لتمويه الناس بصحتها، إذ تنسب إلى رجال يقدّرهم الناس ويجلّونهم.
يرى السيّد المفسّر أنّ أبلغ دليل على رفض المسلمين الشيعة وأئمتهم للتحريف، هو الأحاديث المتواترة بإرجاع الناس إلى كتاب الله في توثيق الروايات من حيث المضمون، حيث قالوا: "ما خالف كتاب الله فهو زخرف"، وفيه توجيه إلى أن لا نقبل عليهم ما خالف كتاب الله، وكانوا يشيرون إلى الكتاب الموجود بين أيدي المسلمين، فإنّه ليس لدى الشيعة في كلّ عصورهم كتاب قرآني من نوع آخر( ).
السبب الثاني: التنافي مع القرآن وروحه
يرى السيّد المفسّر أنّ من أهمّ الملاحظات المنهجيّة في عملية التفسير، هي "اعتبار القرآن - في مفهومه الفكري - حاكماً على الأحاديث في مدلولها، فلا بدَّ من أن يكون موافقاً للمفهوم القرآني على مستوى القيمة، أو الفكرة، أو الخطّ، فإذا استطعنا أن نؤصّل أيّ مفهوم قرآني في مورد من الموارد، فلا بدَّ من أن نطرح الأحاديث الدالة على ما ينافي هذا المفهوم، ولا سيّما إذا كان أبياً، بطبيعته، عن التخصيص والتقييد"( ).
وقد أكّدت مدرسة أهل البيت (ع) هذه القاعدة التي ينبغي أن يراعيها المفسرون، ليكون القرآن هو الأساس، وذلك من خلال روايات العرض التي تأمرنا بعرض الروايات على كتاب الله، فما خالف كتاب الله فهو زخرف.
القرآن ميزان والروايات موزون
في بحثه (تأملات في منهج التفسير)، يؤكّد السيّد المفسّر عصمة القرآن ومركزيته في الثقافة الإسلامية، وأنّه هو الميزان والروايات موزون، إذ يقول:
"للقرآن - في ثقافتنا الإسلامية - الدور الأساس، من حيث هو المصدر المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقد أجمع المسلمون على أنّ التحريف لم يقترب منه، وإذا كان البعض يتحدث عن بعض ألوان الزيادة أو النقصان، انطلاقاً من بعض الأحاديث التي لا يثبت سندها أمام النقد، ولا يصمد مضمونها أمام المحاكمة، فإنّه لم يستطع أن يفرض رأيه على الواقع القرآني. فليس هناك، في شرق العالم وغربه، نسخة أخرى للقرآن غير هذه النسخة المتداولة، مع اختلاف الطوائف الإسلامية، ما يجعل من الحديث عن ذلك حديثاً لا يتصل بالواقع الإسلامي من قريب أو بعيد.
وإذا كانت بعض الكلمات تنسب هذا الاتجاه إلى مذهب أهل البيت (ع)، فإنّ الأحاديث المتواترة عن الأئمة من أهل البيت(ع) تصرِّح بأنّ "كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"، "وإنّ على كلّ حقّ حقيقة، وإنّ على كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه"، الأمر الذي يدلّ على أنّ منهجهم في توثيق الأحاديث عن النبي (ص) وعنهم، هو العرض على الكتاب، وليس المقصود به إلا الكتاب الموجود بين أيدي المسلمين، فكيف يمكن أن يكون المرجع محرفاً، وهل يمكن أن تؤخذ الحقيقة الأصلية ما لا يملك وثاقتها؟"( ).
"إنّ القرآن هو النور الذي يضيء غيره، وهو الذي أنزله الله ليخرجنا من الظلمات إلى النور، وهو الهدى الذي يهدينا إلى الحقيقة الإلهية الحاسمة. وفي ضوء ذلك، لا بدّ لنا من الانفتاح عليه بكلّ فكرنا، والمحافظة على نصوصه وظواهره بطريقة علمية دقيقة، فلا يجوز لنا أن نفرض عقائدنا واتجاهاتنا وأوهامنا عليه، بل لا بدَّ من أن نرجع إليه من أجل تصحيح مفاهيمنا من عناصر التخلّف، ومن ركام الأضاليل والأوهام التي فرضت نفسها على الذهنية الإسلامية العامة، فهو المرجع الذي نرجع إليه، وهو النور الذي نستضيء به، وهو المصدر المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقد تكفَّل الله بحفظه في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر:9)"( ).
 
توثيق السنّة ضرورة إسلامية
ويؤكّد السيّد المفسّر "أنّنا في تركيزنا على هذا المنهج في فهم النص القرآني، لا نريد إغفال السنّة التي هي المصدر الثاني المعصوم في وعي الحقيقة الإسلامية، لأنّها صادرة عن النبيّ الذي {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النَّجم:3-4)، ولأنّ الله خاطب عباده في كتابه بقوله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر: 7).
ولكن المشكلة في السنّة، هي مشكلة توثيقها، من حيث إثبات صدور الحديث عن النبي (ص) وعدم صدوره، ولا سيّما إذا عرفنا أنّ السنّة لم تدوّن في عهد النبي وعهد الصحابة، بل كانت مخزنةً في صدور الرواة الذين قد يكونون - مع امتداد الزمن - عرضةً للخطأ والنسيان، إضافةً إلى التعقيدات الواقعية في المجتمع الإسلامي التي دفعت بالوضع والدسّ في الأحاديث إلى الواجهة، كما نجده في الإسرائيليات وفي الأحاديث المتضمنة للكثير من المفاهيم التي كانت حاجةً لبعض الأوضاع السياسية المتحددة في الواقع الإسلامي، في تقويم هذا الشخص أو ذاك بشكل إيجابي أو سلبي، ليكون ذلك حجةً في ساحة الصراع، الأمر الذي جعل مسألةً الاستيثاق مسألة صعبة، ولهذا بذل العلماء جهداً كبيراً في عملية التوثيق للسنَّة، من خلال التدقيق في أحوال الروايات ومضمون الرواية، بحيث تحوّل ذلك إلى علومٍ جديدةٍ، مثل علم الرجال وعلم الدراية وعلم الحديث"( ).
ويضرب السيّد المفسِّر أمثلةً على روايات لا يمكن أن تقبل من منظور قرآني، فلا بدّ من رفضها إذا لم يكن هناك مجال لتأويلها بما يوافق كتاب الله، أو نردُّ علمها إلى أهلها:

المثال الأوّل: قوم من الجنّ!
جاء في بعض الروايات عن بعض الأقوام "أنّهم قوم من الجنّ كشف عنهم الغطاء"، وهذا ما يتنافى مع العديد من الآيات المباركة، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(الإسراء: 70)، فإنّها تدلُّ على مفهوم "تكريم الإنسان" بشكل مطلق في مضمونه الإنساني، فإذا ورد هناك حديث يدلّ على خصوصية سلبية في بعض الشعوب، بحيث يوحي بعدم الكرامة، فإنّ الآية ترفضه، لأنّ تكريم الله لبني آدم لا يتناسب مع هذا المضمون السلبي.
المثال الثاني: الإمكانات الخارقة
يرى السيّد المفسّر أنّ الفكرة القرآنية تؤكّد "بشرية الأنبياء وقدراتهم الذاتية التي لا تبتعد عن طاقة البشر، فلا يملكون القيام بأيِّ شيء في حركة الكون من حولهم مما لا يملكه البشر، ولا يعلمون الغيب، إلا بما قدَّرهم الله عليه في حالات طارئة، كما في حالات التحدي التي تفرض المعجزة الخارقة للعادة، كانقلاب العصا ثعباناً، أو إحياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص، أو تحويل النار إلى شيء بارد لا يحرق صاحبها، أو الإخبار بالغيب في بعض الحالات، مما تفرضه حركة الرسالة في مواقع التحدي، من دون أن يكون ذلك شيئاً متجذّراً في الذات المقدَّسة للنبي أو للوليّ، بحيث تكون له القوة على تغيير الكون وإدارته وتحويله من حال إلى حال، لأنّ ذلك ليس دوره الرسالي".
"إنّ القرآن الذي يتحدث عن طاقة الأنبياء المحدودة، ودورهم الخاص في ما عبّر عنه الله في حديثه عن جواب الرسول للمشركين الذين أرادوا منه أن يفجر الينبوع من الأرض، وأن يكون له بيت من الذهب، أو يرقى إلى السماء بطريقة عادية أو نحو ذلك، فقال لهم: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}(الإسراء: 93)".
على ضوء هذه الحقائق القرآنية، يرى السيّد أنّه "إذا ورد عندنا حديث يدلّ على (الولاية التكوينية) بالمعنى الذي ذكرناه، فإنّ الكتاب يدلّ على خلاف ذلك، فإنّ المسألة ليست مسألة استحالة، ذلك لأنّ الله الذي أقدر الأنبياء على المعجزة الخارقة للعادة، قادرٌ على أن يمنحهم القدرة على ذلك، ولكن المسألة أنّ القرآن يدلّ على خلاف ذلك".
يؤكِّد السيِّد المفسِّر أنّ هذا الموقف الرافض أو المتحفّظ من بعض الروايات والآراء، لم  يكن نابعاً من شكذ في قدرة الله تعالى على منح أنبيائه ورسله وأوليائه قوى وإمكانات استثنائية، كما لم يكن نابعاً من شكّ في حقائق الغيب التي هي من حقائق الإيمان الأصلية، بالنسبة إلى ما يروى عن علم أولياء الله بالغيب بصورة مطلقة، بل إنّه يأتي من أمرين أساسين:
الأمر الأول: "الاستغراق في استنطاق الحديث، مع الطريقة العقلية التجريدية التي تتحدث عن الاستحالة والإمكان، بعيداً عن دراسة الأمور على صعيد تبرير الفكرة على أساس الدور أو حاجة الواقع"، فإنّ "الله لم يجعل الغيب قاعدةً للحياة وللكون وللإنسان، ولكنّه أقامها على السنن الكونية والاجتماعية التي تخضع لها حركة الوجود والإنسان، وإذا كان الغيب قد يخرق العادة في دائرة السنن، فإنّه يمثل حالةً محدودةً في دائرة الحاجة الضرورية التي تفرضها حركة الرسالات في تحديات الواقع".
الأمر الثاني: "المقارنة بين مضمون الحديث ومضمون القرآن، حتى إنّ البعض منهم يحاول تأويل القرآن لمصلحة الحديث، من دون ضمانة لصحة الحديث في نفسه"، إلى درجة "قد ترتفع به فوق القرآن بطريقة لا شعورية، على أساس الذهنية التي تختزن في داخلها أنّ القرآن قابل للتأويل أكثر من الحديث، لتتحرك بها بطريقة عفوية، مع عدم إقراراها بذلك في الكلام المعلن"، لإيماننا جميعاً بروايات العرض التي تجعل القرآن الكريم هو المقياس والميزان( ).
السبب الثالث: الإساءة إلى عصمة الأنبياء والمرسلين والأئمة(ع)
هناك العديد من الموارد التي يرفض فيها تفسير (من وحي القرآن) الروايات رفضاً قاطعاً، سواء كانت في أسباب النـزول أو في التفسير، لمنافاتها عصمة النبيّ أو الرسول أو الإمام المعصوم، لأنّ قرينة العصمة لديه هي قرينة عقليّة قطعية قبل أن تكون نقليّةً.
لا نستطيع أن نستوعب كلّ الموارد التي اتخذ فيها موقف الرافض أو المتحفظ، ونكتفي ببعضها:
المورد الأول: رواية الدفاع عن الخائنين
{إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ الله ولا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً * واسْتَغْفِرِ الله إِنَّ الله كانَ غَفُوراً رَحِيماً * ولا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً}(النساء: 105-107)
ذكر في تفسيره لهذا المقطع من الآيات روايتين في أسباب النـزول، الأولى عن كتاب أسباب النـزول للواحدي، والثانية عن تفسير مجمع البيان للطبرسي، ومع اختلاف الروايتين في اسم السارق، بيد أنهما تدوران حول سرقة أحد الصحابة لدرعٍ من جار له، وأودعه عند يهودي، ثم اتهموه بالسرقة، فجاء وفد من عشيرة السارق ليقنع الرسول بالدفاع عن السارق، على حساب اليهودي، وأوشك الرسول أن يتأثّر بكلمات الوفد ليدافع عن السارق، وقد صدرت عنه بعض الأمور، حتى همّ أن يفعل ـ وكان هواه معهم ـ وأن يعاقب اليهودي، حتى أنزل الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ}(النساء:105)‏، كما في الرواية الأولى. وفي الرواية الثانية: "لما أتى قتادة - وهو عم المسروق - رسول الله بعد ذلك ليكلمه، جبهه جبهاً شديداً (أي ردَّه عن حاجته ردّاً عنيفاً) وقال: عمدت إلى أهل بيت حسب ونسب تأتيهم بالقبيح وتقول لهم ما لا ينبغي؟!
قال: فقام قتادة من عند رسول الله(ص)، ورجع إلى عمّه‏ وقال: يا ليتني متّ ولم أكن كلَّمت رسول الله (ص)، فقد قال لي ما كرهت، فقال عمَّه رفاعة: الله المستعان، فنـزلت الآيات {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ} إلى قوله: {إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}.
فبلغ بشيراً ما نزل فيه من القرآن، فهرب إلى مكة، وارتدَّ كافراً".
وقد سجّل السيّد المفسّر ملاحظته النقدية على الروايتين معاً، بعدم انسجامهما مع عصمة النبيّ (ص) وحكمته وأخلاقيته، بقوله: "إنهما لا تنسجمان مع أخلاقية النبيّ (ص) وعصمته وعدالته وابتعاده عن النطق عن الهوى".
ثم فصل الأمر في نقده لكلا الروايتين:
أوّلاً: "فقد ذكرت الرواية الأولى، أنّ النبيّ (ص)‌ قد استجاب لأهل السارق المسلم الذين كلّموه في الدفاع عن صاحبهم، خوفاً من ثبوت الحكم عليه وافتضاحه، وخوفاً من تبرئة اليهودي الذي يعلمون ببراءته، فهمّ رسول الله (ص) أن يفعل، لأنّ هواه كان معهم، وصمَّم أن يعاقب اليهودي انسجاماً مع هواه، على حسب إيحاء الرواية، لولا أنّ الله سبحانه أنقذه من هذا الموقف الظالم الذي يسي‏ء إلى موقعه الرسالي.
إنّ الصورة هي صورة النبي (ص) الذي لا يدقق في الدعوى ولا يطلب عليها شهوداً، بل يستجيب لكلام هؤلاء الناس الذين يهواهم - كما تقول الرواية - من دون أن يسألهم عن طبيعة الدعوى وعن الأساس في اتهام اليهودي الذي لا تمنع عداوته للَّه ورسوله أن يعدل النبي محمّد (ص) معه، فيسأله عن دفاعه عن نفسه وعن طبيعة اتهام الآخرين له، والله يقول:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى‏ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هو أَقْرَبُ لِلتَّقْوى}(المائدة: 8)".
ثانياً: "أما الرواية الثانية، فإنّها تصوّر النبيّ لنا في الوهلة الأولى - عندما أخبره قتادة بالحادث وقال: انظروا في شأنكم - بأنّه يدقّق في طبيعة القضايا والبحث عن وسائل الإثبات، ما يجعله في موقع المنتظر للنتائج من حيث الشهود، ولكنّه عندما جاءه الرجل الذي هو من بطنهم، وشكا له قتادة وعمّه، لم يتثّبت من صحّة الحديث، ولم يتأكّد من طبيعة المسألة التي سبق لقتادة أن حدَّثه عنها، فوبَّخ قتادة على كلامه مع هؤلاء، كما لو كانوا أبرياء، من دون أن يسأله عن ظروف الحديث وطبيعته، ما جعل قتادة يتمنى موته، وجعل عمه يلجأ إلى الله ليستعين به، لأنّه لم يجد هناك من يثبت له حقّه، حتى رسول الله(ص)، حسب الرواية".
ثالثاً: يحذِّر تفسير (من وحي القرآن) من أسلوب كهذا  في أسباب النـزول، ويرى أنّه "يخضع لاجتهادات المفسرين أكثر مما يخضع للروايات الموثقة المباشرة التي تتحدث عن سماع ذلك، ما يجعلنا نتصور أنهم استنطقوا الآية في مدلولها الحرفي، ففهموا منها أنّ الله كان يعاتب نبيّه على دفاعه عن الخائنين وجداله عنهم، ولا سيّما أنّه أمره بالاستغفار كما لو كان قد صدر عنه ذنب في الانحراف عن خطّ العدالة والتعاطف مع المنحرفين، ولكنّهم لم ينفتحوا على الأسلوب القرآني الذي يخاطب الأمة من خلال مخاطبته للنبيّ محمّد(ص)، تماماً كما لو كان هو الذي تتمثل في سلوكه المفردات".
رابعاً: يؤكّد السيّد المفسّر مراراً، في مثل هذه المواقف، قضيةً مهمةً وخطيرة، ألا وهي "أنّ الرواة، أو المفسرين، لم يدرسوا شخصية النبيّ الأخلاقية وعدالته الرسالية التي لا يمكن أن تنجذب إلى أيّ شخص وضدّ أيّ شخص، من خلال عاطفة ذاتية متصلة بالنوازع النفسية الخاصة، وهو صاحب الخلق العظيم، ورسول العدل والإحسان، فكيف يبتعد عن خطّ العدل وروحية الإحسان!"( ).
 
المورد الثّاني: روايات نزول الوحي الأول
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ ورَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسان ما لَمْ يَعْلَمْ}(علق: 1-5)
يسجّل تفسير (من وحي القرآن) خمس ملاحظات نقدية على الروايات التي وردت في أسباب نزول سورة اقرأ، والتي ذكرتها كتب التفسير والحديث، كرواية عروة بن الزبير عن عائشة، التي تصرّح أنّ النبي رجع بعد الوحي إلى زوجته الكبرى، خديجة، فقال: "زمّلوني زمّلوني! فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبداً، إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ.
فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان امرأً قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا بن أخي، ما ذا ترى؟ فأخبره رسول الله(ص) خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني أكون فيها جذعاً، يا ليتني أكون فيها حيّاً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله(ص): أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي!"( ).
وفي رواية أخرى عن عبدالله بن الزبير، أنّ النبيّ قال في نفسه: "إنّ الأبعد - يعني نفسه- لشاعر أو مجنون، لا تحدّث بها عني قريش أبداً، لأعمدنّ إلى حالق من الجبل، فلأطرحنّ نفسي منه، فلأقتلنّها، فلأستريحنّ، قال: فخرجت أريد ذلك، حتى إذا كنت في وسط الجبل، سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمّد، أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا جبريل في صورة رجل صافّ قدميه في أفق السماء يقول: يا محمّد، أنت رسول الله وأنا جبريل"!!‏
يرى تفسير (من وحي القرآن)، أنّ هاتين الروايتين لا تنسجمان مع شخصية النبي ووعيه الرسالي وطبيعة الوحي،  لذا جاء نقده حيالها بالملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى: اختلاف الروايات
"إنّ الروايات مختلفة في نقل صورة البداية للبعثة النبوية، لأنّ هناك روايات أخرى مختلفة المضمون عن هذين الخبرين، ما يجعلنا لا نثق بأيّ مضمون منها، وقد نلاحظ في الخبر الأول، أنّ لقاء جبريل به كان في اليقظة، بينما هو في الخبر الثاني يتحدث عن أنّه كان في حالة النوم".
الملاحظة الثانية: الشخصية المهزوزة الخائفة
"... ما هو معنى أن تترك هذه المسألة تأثيرها السلبي على نفسه ليقرر أن يلقي نفسه من حالق ليستريح، من دون وجود أيّ شي‏ء حقيقيّ في الواقع، لولا نداء جبريل له، وإرسال خديجة في طلبه؟ وكيف هي صورة الشخصية النبوية التي اختارها الله لرسالته، في هذه الصورة المهزوزة الخائفة التي لا تملك التماسك والثبات!".
الملاحظة الثالثة: خديجة أكثر وعياً بحقيقة الوحي
"إنّ حديث النبيّ (ص) مع خديجة في خشيته على نفسه من الجنون، وجوابها له في تعداد صفاته التي لا بدَّ من أن يحبّه الله من خلالها، يدلّ على أنّها كانت أكثر وعياً للمسألة منه، وأكثر معرفةً بالله في رعايته لعباده الصالحين، وهذا مما يتنافى مع شخصية النبيّ المعروفة بالمستوى الكبير من المعرفة التي اكتسبها من تأملاته الروحية في غار حراء، ومن ألطاف الله المحيطة به في رعايته له".
الملاحظة الرابعة: النبيّ يأخذ الثقة من نوفل النصراني
"إنّ النبيّ(ص) كان بحاجة إلى أن يأخذ الثقة برسالته من ورقة الذي هو رجل نصرانيّ، ليؤكّد له أنّ هذا هو الناموس الذي جاء به موسى(ع)، ولا ندري كيف عرف هذا الرجل هذا الموضوع من خلال حديث النبي له عن تجربته الرسالية التي لا تشبه شيئاً مما حدث لموسى(ع) ...".
الملاحظة الخامسة: الوحي والبراهين النيرة
"ما ذكره صاحب مجمع البيان تعليقاً على هذه الأجواء التي ورد ما يشبهها في تفسير سورة المدثر، قال: "لأن الله تعالى لا يوحي إلى رسوله إلا بالبراهين النيّرة، والآيات البيّنة الدالة على أنّ ما يوحى إليه إنما هو من الله تعالى، فلا يحتاج إلى شي‏ء سواها، ولا يفزع ولا يفرق"( ).
وجاء في تفسير الميزان - للعلاّمة الطباطبائي - تعليقاً على هذه الرواية قال: "والقصة لا تخلو من شي‏ء، وأهون ما فيها من الإشكال، شكّ النبيّ (ص) في كون ما شاهده وحياً إلهياً من ملك سماويّ ألقى إليه كلام الله، وتردّده، بل ظنّه أنّه من مسّ الشياطين بالجنون، وأشكل منه سكون نفسه في كونه نبوّة إلى قول رجل نصرانيّ مترهّب، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}(الأنعام: 57)، وأيّ حجة بيّنة في قول ورقة؟ وقال تعالى: {قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي}(يوسف: 108). فهل بصيرته (ص) هي سكون نفسه إلى قول ورقة؟ وبصيرة من اتبعه سكون أنفسهم إلى سكون نفسه إلى ما لا حجّة فيه قاطعة؟ وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إلى نُوحٍ والنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}(النساء: 163)، فهل كان اعتمادهم في نبوّتهم على مثل ما تقصه هذه القصة؟
والحقّ أنّ وحي النبوّة والرسالة يلازم اليقين من النبيّ والرسول بكونه من الله تعالى، على ما ورد عن أئمة أهل البيت (ع)"( ).
وأخيراً، نبَّه تفسير (من وحي القرآن) إلى ما استفاده المستشرقون من هذه القصة المختلقة في الشك بمصدر الوحي الرباني، من خلال حديثهم عن دور ورقة بن نوفل النصراني، ليجعلوها "شاهداً على أنّ رسالة الإسلام كانت من إيحاء ورقة الذي لا بدَّ من أن يكون حدّث النبيّ ببعض أحاديث التوراة والإنجيل، بالمستوى الذي استطاع فيه أن يحصل على استيعاب كبير لثقافة النصرانية واليهودية، ليبدأ نشاطه الرسالي في دين الإسلام من خلال ذلك. وبذلك اعتبر الإسلام بدعةً نصرانيةً في حركة تحريف وابتداع".
كما نبَّه إلى مخاطر ما تسطّره "خيالات القصّاصين والرواة الذين أرادوا أن يضعوا على لسان الصحابة أو زوجات النبيّ، بعض ما يرضي خيالات الناس لهذا الحدث العظيم، من دون التفات إلى ملامح الكذب في مثل هذه القصة. مع ملاحظةٍ مهمّة، وهي أنّ اختلاف هذه الروايات بشكلٍ واضحٍ، يوحي بالخلفيات التي تكمن وراء ذلك، والله العالم"( ).
المورد الثّالث: رواية عبس وتولى
يرفض تفسير (من وحي القرآن) ما جاء في رواية أسباب النـزول التي ينقلها تفسير مجمع البيان للطبرسي، لما فيها من مسٍّ بعصمة النبي وأخلاقيته، كفقرة: "وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد: إنما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه، وأقبل على القوم الذين كان يكلّمهم‏". ويسجل عليها الملاحظات النقدية التالية:
الملاحظة الأولى: "إنها تنقل عن تصورات النبيّ للانطباعات التي يمكن أن تحصل لدى هؤلاء الصناديد بأنّ أتباعه هم العميان والعبيد، وهذا مما لا يمكن أن يكون صحيحاً، لأنّ هذه المسألة ليست مسألةً خفيّةً لدى مجتمع الدعوة، فإنّ أتباع النبيّ (ص) كانوا يمثلون الطبقة المستضعفة من المجتمع، إلا القليل ممن كانوا في طبقة الأغنياء أو الوجهاء، فكيف يمكن أن يخاف النبيّ من هذا الانطباع الذي يفرض نفسه من خلال الواقع؟!"
 الملاحظة الثّانية: "إنّ النبيّ (ص) هو الأوعى والأعرف بالقيمة الروحية التي يمثلها الإسلام في تقييم الأشخاص على أساس التقوى التي تجمع الإيمان والعمل، فلا يجوز أن ينسب إليه احتقاره للمؤمنين في مسألة الانتماء إلى مجتمع الدعوة التابع له، وهل كان النبيّ (ص) يجتمع بالمؤمنين سرّاً، ليدفع عنه هذا الانطباع، حتى يكون مجي‏ء الأعمى إلى مجلسه مفاجأةً له؟!"( ).
 ويرى أنّ قبولنا لرواية أسباب النزول في هذا الموضوع الخطير، وإمكان نسبة القصة إلى النبي الأكرم (ص)، يتوقّف على عدم منافاتها لأمرين أساسين:
الأمر الأوّل: خلقه العظيم {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم:4).
الأمر الثاني: عصمته في عمله وسلوكه {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ}(آل عمران:159).
ويذكر تفسير (من وحي القرآن) ستّ نقاط يمكن على أساسها أن نفسّر العبوس فيما إذا قلنا إنّ الخطاب موجه إلى النبيّ (ص):
منها: "ربّما كان ذلك على طريقة "إيّاك أعني واسمعي يا جارة"، ليكون الخطاب للأمة من خلال النبيّ (ص)، ليكون ذلك أكثر فاعليةً وتأثيراً في أنفسهم، لأنّ النبيّ (ص) إذا كان يخاطب بهذه الطريقة في احتمالات الانحراف، فكيف إذا كان الخطاب يراد به غيره"( ).
ليكون الخطاب شأنه شأن الخطابات العديدة الموجهة إلى النبيّ، ولكن المقصود بها غيره، ليبين مدى خطورة الموضوع وأهميته:
{واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا واتَّبَعَ هَواهُ وكانَ أَمْرُهُ فُرُطا}(الكهف: 28).
{وإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * ولَولا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شيئاً قَلِيلًا * إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً}(الإسراء: 73-75).
{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}(الزمر: 65).
"وغير ذلك من الآيات، لأنّ القضية ترقى إلى المستوى الكبير من الأهمية، بحيث لولاها لانحرفت مسيرة الرسالة بانحراف الرسول أو القائد، للإيحاء بأنّ هذه القضية لا تقبل التهاون حتى في الموارد المستبعدة منها، وذلك من أجل أن يفهم الدعاة من بعد النبيّ (ص)، بأنّ عليهم أن يقفوا في خطّ الاستقامة، حتى بالمستوى الذي لا يمثّل تصرفهم عملاً غير أخلاقيّ، لأنّ الغفلة عن الخطوط الدقيقة في المسألة، قد تجرّ إلى الانحراف بطريقة لا شعوريّة"( ).
وقد فرض الطبرسي احتمال نزولها في النبيّ (ص)، بشرط أن تؤوَّل تأويلاً لا يمسّ أخلاقه العظيمة، بقوله: "فإن قيل: فلو صحّ الخبر الأول؛ هل يكون العبوس ذنباً أم لا؟ فالجواب أنّ العبوس والانبساط مع الأعمى سواء، إذ لا يشقّ عليه ذلك، فلا يكون ذنباً، فيجوز أن يكون عاتب الله سبحانه بذلك نبيّه (ص)، ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق، وينبهه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد، ويعرّفه أنّ تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه، أولى من تأليف المشرك طمعاً في إيمانه‏"( ).
ويرى العلامة الشيخ محمّد مغنيّة العاملي في تفسيره المختصر (المبين)، أنّ الخطاب في الآيات للنبيّ، ولكن المقصود غيره، ولذا يقول: "لا نرى فيها شائبة عتاب أو لوم على النبي، والذي نفهمه، أنها توبيخ واحتقار للمشركين الذين كانوا عند النبيّ، وتقول له أعرض عن هؤلاء الأرجاس وأغلظ لهم، إنهم أحقر من أن ينصر الله بهم الدين، وأقبل على هذا الأعمى الطيب المؤمن، ولا خوف على الإسلام، فإنّ الله سيظهره على الدين كلّه، ويذلّ أعداءه مهما بلغوا من الجاه والمال"( ).
وفي تفسيره، الكاشف، يقول: "لا لوم ولا عتاب على النبيّ ولا على الأعمى في هذه الآيات، وإنّما هي في واقعها تحقير وتوبيخ للمشركين الذين أقبل عليهم النبي بقصد أن يستميلهم ويرغّبهم في الإسلام‏... فهذه الآيات قريبة في معناها من قوله تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ}(فاطر: 8)"( ).
وبذلك تكون هذه الآيات مصداقاً لما جاء في روايات الأئمة(ع): "نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة". وهي من قواعد التفسير التي لها هدفان أساسان:
الأول: بيان أهمية الأمر وخطورته.
الثاني: التأنيب والتبكيت للمقصود بالخطاب.

المورد الرابع: رواية شرب الخمر
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ والْمَيْسِرُ والْأَنْصابُ والْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(المائدة‏: 90).
أهمل تفسير (من وحي القرآن) - في طبعته الأولى - الرواية التي يذكرها بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية، والتي تدسُّ الإمام عليّاً(ع) في جملة الصحابة الذين سكروا في تلك الليلة الحمراء في بيت عبد الرحمن بن عوف؛ لأنّها رواية أتفه من أن تذكر، وكان يقول: "حدِّث العاقل بما لا يعقل، فإن صدَّق فلا عقل له".
بيد أنّه في الطبعة الثانية، ذكر الرواية، ومارس عملية النقد تجاهها، وأثبت أنّها رواية تافهة حقّاً، ولا ينبغي إضاعة الوقت في نقدها، حتى قال عنها أخيراً معتذراً إلى القراء بذكرها: "ولولا أنّنا رأينا مثل هذه الرّواية متداولةً في بعض كتب المتأخرين، كسيد قطب في "ظلال القرآن"، لما تحدثنا عنها، لأنّها أسخف من أن تقع مجالاً للنقاش"( ).
والقصة قد رويت بطريقتين:
الطريقة الأولى: روي عن عليّ بن أبي طالب(ع) قوله: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منّا وحضرت الصلاة، فقدموني فقرأت: "قل يا أيّها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون"، فأنزل الله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى‏ حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ}(النساء: 43).
الطريقة الثانية: قال عكرمة: نزلت في أبي بكر وعمر وعليّ وعبد الرحمن، صنع عليّ لهم طعاماً وشراباً، فأكلوا وشربوا، ثم صلّى عليّ بهم المغرب، فقرأ: {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ} حتى خاتمتها، فقال: "ليس لي دين وليس لكم دين"، فنـزلت: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى}‏.
وقد أخرج الحديث الأول "عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والحاكم وصحّحه عن عليّ بن أبي طالب"، كما يذكر السيوطي في تفسيره الدّر المنثور. وقد نقلت هذه الرواية - مع الأسف الشديد - العشرات من كتب التفسير السنيّة القديمة والمعاصرة، كالثعالبي والقرطبي والشوكاني في فتح القدير، وابن الجوزي في زاد المسير، وابن عاشور في التحرير والتنوير، وحاولوا تصحيح سندها وتحسين طريقها، ليلبس على المسلمين البسطاء أمرها، ولتزخرف بأسماء لامعة كابن عبد الرحمن السلمي، بل عليّ بن أبي طالب نفسه، ليجعل هو الراوي الأول لقصتها، مع أنّ هؤلاء لم يرووا في عالم التفسير عن عليّ إلا هذه الرواية  تقريباً!!
ومع أنّهم نقلوا القصة ذاتها عن غيره (ع) وعن الصحابة الذين كانوا مشهورين في شرب الخمر، أمثال عبد الرحمن بن عوف وعمرو بن العاص، فقد اكتفى ابن العربي في "أحكام القرآن" بذكر رواية عمرو، ونصها:
"فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَمْرٍو أَنَّهُ صَلَّى بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَرَجُلٍ آخَرَ فَقَرَأَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فَخَلَطَ فِيهَا، وَكَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ الْخَمْرِ؛ فَنَزَلَتْ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا، فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنْ الْخَمْرِ، فَأَخَذَتِ الْخَمْرُ مِنَّا، وَحَضَرْت الصَّلَاةَ، فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْت: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ.
قَالَ: فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}(النساء:43) الآية. خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ"( ).
وهكذا استبدلوا عمرو بن العاص بعليّ بن أبي طالب الذي لم يذق الخمر في حياته المقدَّسة!! ولهذا لم يذكر الرواية عدد كبير من المفسّرين من أهل السنة كالفخر الرازي.
يقول السيّد المفسِّر: والمتأمّل المتدبّر في هاتين الرّوايتين وأمثالهما (عن عليّ(ع) ، لا يسعه إلّا أن يخلص إلى كونهما مختلقتين موضوعتين، وذلك لجملة أسباب تأخذ بعنق بعضها البعض:
أوّلاً: إنّ التضارب ظاهر بين عناصر الرّوايتين، ففي الوقت الّذي تنسب الرّواية الأولى إلى عليّ (ع) وصنع الطعام والصلاة إلى عبد الرحمن، تنسب الرّواية الثانية إلى عكرمة وصنع الطعام والصلاة إلى عليّ(ع).
وفي جانب آخر، تجعل الرّواية الأولى الاختلاق على الشكل التالي: "ونحن نعبد ما تعبدون"، فيما تجعله الرّواية الثانية بشكل آخر وهو: "ليس لي دين وليس لكم دين".
ثانياً: ثمة رواية أخرى على النقيض تماماً من هاتين الرّوايتين مضموناً، وأوثق سنداً ومتناً وواقعاً، وهي‏ الرّواية المروية عن ابن شهر آشوب عن القطان في تفسيره عن عمر بن حمران، عن سعيد بن قتادة، عن الحسن البصري، قال: "اجتمع عليّ وعثمان بن مظعون وأبو طلحة وأبو عبيدة ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء وأبو دجانة الأنصاري في منزل سعد بن أبي وقاص، فأكلوا شيئاً، ثم قدم إليهم شيئاً من الفضيخ (شراب يتخذ من البسر المفضوخ)، فقام عليّ وخرج من بينهم قائلاً: لعن الله الخمر، والله لا أشرب شيئاً يذهب عقلي، ويضحك بي من رآني، وأزوج كريمتي من لا أريد. وخرج من بينهم، فأتى المسجد، وهبط جبرائيل بهذه الآية: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يعني هؤلاء الّذين اجتمعوا في منـزل سعد، {إِنَّمَا الْخَمْرُ والْمَيْسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عملِ الشيطانِ فاجتنبوهُ لعلَّكم ترحمون}.
فقال عليّ(ع): يا رسول الله، لقد كان بصري فيها نافذاً منذ كنت صغيراً. قال الحسن البصري: والله الّذي لا إله إلّا هو، ما شربها قبل تحريمها ولا ساعة قطّ".( )
وهذه الرّواية أوشج ارتباطاً وتعلقاً بواقع شخصية عليّ(ع) من الرّوايتين السابقتين، وذلك لأنّه (ع) تربىّ في أحضان رسول الله(ص) وتخلَّق بأخلاقه، وأخذ بعاداته، حتى كان صورةً منه في خلقه وهديه وعقله والتزامه السلوك المستقيم.
ومن الطبيعيّ جداً أنّ رسول الله(ص) كان بعيداً عن الخمر الّتي تسي‏ء إلى العقل والروح والاتزان، مما لا يمكن للإنسان الّذي يتميّز بالسموّ الروحيّ والصفاء العقليّ والطهارة السلوكية أن يمارسه، ولم يعهد منه ذلك حتى في حديث أعدائه، فكيف يمكن‏ لعليّ(ع) الّذي كان يقول: "كنتُ أَتِّبعُهُ اتّباَعَ الفَصيلِ أَثَرَ أُمّه"، أن يشرب الخمر فتغلبه على صلاته؟
ثالثاً: ينقل التاريخ عن أخيه جعفر بن أبي طالب أنّه كان لا يعاقر الخمرة لأنّها تفقد الإنسان عقله، وعليّ كما هو معروف أفضل من جعفر، للسبب الآنف، ولغيره من الأسباب، فكيف يمكن لجعفر أن يترك شرب الخمر بعيداً عن مسألة تحريمها، ويمارسها عليّ (ع) بهذه الطريقة؟!
رابعاً: إنّ هناك روايات أخرى، ذكرها صاحب تفسير الميزان، تؤكّد ما سلف، ومما ورد فيها، أنّ عليّاً وعثمان بن مظعون كانا قد حرّما الخمر على أنفسهما قبل نزول التحريم.( )
 وقد ذكر في "الملل والنحل" رجالاً من العرب حرّموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية، منهم عامر بن الظرب العدواني، ومنهم قيس بن عامر التميمي... ومنهم صفوان بن أمية بن محرث الكناني، وعفيف بن معدي كرب الكندي، والأسلوم اليامي، قد حرّم الزنى والخمر معاً.( )
وبعدما قدم تفسير (من وحي القرآن) هذه الملاحظات النقدية، قال :"ومن هنا، وبناءً على ما تقدم، نستطيع الجزم بأنّ الرّوايتين مدار البحث، هما من الأحاديث الموضوعة للنيل من علي(ع) ومنـزلته ومقامه من رسول الله(ص) خاصة، والمسلمين عامة.
ويمكن تفسير وضعهما بالصراعات الشديدة الّتي تمحورت حول قضية الخلافة، وما تناسل عنها من مشاكل وأوضاع وعصبيات وأحقاد.
ولولا أنّنا رأينا مثل هذه الرّواية متداولة في بعض كتب المتأخرين، كسيد قطب في "ظلال القرآن"، لما تحدثنا عنها، لأنّها أسخف من أن تقع مجالاً للنقاش"( ).
المورد الخامس: فتنة داود (ع) والخصمين
{وهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إذ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ * إذ دَخَلُوا عَلى‏ داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى‏ بَعْضُنا عَلى‏ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ ولا تُشْطِطْ واهْدِنا إلى سَواءِ الصِّراطِ * إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً ولِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وعَزَّنِي فِي الْخِطابِ * قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعاجِهِ وإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وقَلِيلٌ ما هُمْ وظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وخَرَّ راكِعاً وأَنابَ * فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى‏ وحُسْنَ مَآبٍ}(ص: 21-25)
وقد فسّر قضاء داود(ع) في الخصمين بتفسيرين:
الأوّل: القضاء المنجّز في عالم التمثل، لأنّ الخصمين من الملائكة، وقد تمثلا على هيئة بشر.
الثاني: القضاء التقديري، فيما إذا كان المتخاصمان من البشر، وفي عالم التكليف والواقع
وبهذين التفسيرين، يمكن أن نفهم موقف داود (ع) على ضوء عصمته كونه نبيّاً من أنبياء الله الصالحين، وإن اختلف أعلام التفسير في ترجيح أحدهما، وفقاً للسياق والروايات الواردة عن أهل البيت (ع).
ذكر تفسير (من وحي القرآن) الاتجاهين، ويبدو أنّه يرجح التفسير الأوّل الذي يرى أنّ الحادثة وقعت في عالم التمثل الملائكي، لقرائن عديدة سياقية وغير سياقية،كما أنّه لا يتنافى مع العصمة، التي هي من القرائن العقلية القطعية بالنسبة إلى الأنبياء والمرسلين.
يتساءل السيّد في تفسيره (من وحي القرآن): هل هذان الخصمان من الملائكة كما يتحدث بعض المفسرين، أو من غيرهم؟
ويجيب على ذلك بقوله: "قد يطرح الاحتمال الأول من خلال ظهور خصوصيات القصة في ذلك، كتسوّرهم المحراب، ودخولهم عليه دخولاً غير عاديّ بحيث أفزعوه، مما لا يعهد حصوله من البشر، وكذا تصوّره بأنّ ما حدث كان فتنةً من الله له لا واقعةً عاديةً، ما قد يوحي بأنّه لم يجدهما أمامه بعد الحكم، فقد غابا عنه بشكل غير طبيعيّ، وقد نفهم ذلك من قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الْهَوى‏}(ص:26) الظاهر في أنّ الله ابتلاه لينبهه ويسدّده في خلافته وحكمه بين الناس، كلّ ذلك يؤيدّ كونهم من الملائكة، وقد تمثلوا له في صورة رجال من الإنس.
وقد لا يرى البعض في ذلك كلّه دليلاً على ما تقدَّم، فيعتبر ما حدث شيئاً عادياً قد يحدث لأيّ واحد من الناس"( ).
ثم يتساءل ثانيةً بقوله: "كيف نفهم المسألة في دائرة فكرة عصمة الأنبياء، أمام تصريح الآية بالاستغفار والرجوع إلى الله بعد الفتنة التي لم يستطع أن يتجاوزها بنجاح، فأخطأ في إدارة مسألة الحكم في الجانب الإجرائي منه؟".
ويجيب: "ربما تطرح القضية، على أساس أنَّ الخصمين إذا كانا من الملائكة، فإنها لا تكون تكليفاً حقيقياً، بل هي قضية تمثيلية على سبيل التدريب العملي، ليتفادى التجارب المستقبلية على صعيد ممارسته الحكم بين الناس، تماماً كما هي قضية آدم التي كانت قضيّةً امتحانيّةً لا تكليفاً شرعيّاً، فلم تكن هناك معصية بالمعنى المصطلح، وبذلك يكون الاستغفار مجرد تعبير عن الانفتاح على الله والمحبّة له، والخضوع له في ما يمكن أن يكون قد صدر عنه من صورة الخطيئة، لا من واقعها، وأمّا إذا كان الخصمان من البشر، فقد يقال بأنّ القضاء الصادر من داود لم يكن قضاء فعليّاً حاسماً، بل كان قضاء تقديريّاً، بحيث يكون قوله سبحانه: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعاجِهِ}، بتقدير قوله: لو لم يأتِ خصمك بحجة بيّنة.
ولكن هذا الطرح لا يمنع صدور الخطأ عنه، فإنّه لم ينتبه إلى أنّ الخصمين ملكان، بل كان يمارس القضاء بالطريقة الطبيعية على أساس أنهما من البشر... وفي هذا الإطار، لا بدّ من الاعتراف بأن مثل هذه الأخطاء لا تتنافى مع مقام النبوّة"( ).
ويرى السيد المفسر أنّ رواية الإمام الرضا (ع) تؤكّد هذا المعنى، بما روي عنه في عيون أخبار الرضا.
"قال الراوي وهو يسأله عن خطيئة داود(ع): يا بن رسول الله، ما كانت خطيئته؟
فقال: ويحك، إنّ داود (ع) إنما ظنّ أنّه ما خلق الله خلقاً هو أعلم منه، فبعث الله إليه عزّ وجلّ الملكين، فتسوّرا المحراب، فقال: {خَصْمانِ بَغى‏ بَعْضُنا عَلى‏ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ ولا تُشْطِطْ واهْدِنا إلى سَواءِ الصِّراطِ * إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً ولِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وعَزَّنِي فِي الْخِطابِ}، فعجّل داود على المدَّعى عليه، فقال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعاجِهِ}، ولم يسأل المدّعي البينة على ذلك، ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه"( ).
رفض الإسرائيليات والروايات الموضوعة
من ديدن تفسير (من وحي القرآن) التعرض للإسرائيليات، لينبّه إلى مدى خطورتها، ولا سيّما في عالم القصص القرآني، فقد دخل هذا اللون من المرويات من هذا المجال، إذ يقول: "لقد تحدثت التوراة عن قصّة داود(ع) بطريقة مثيرة تتنافى مع أخلاقيته، وتصوره بصورة رجل لا يتورّع عن ارتكاب الجريمة في سبيل شهواته"( ).
ثم ذكر ما جاء في التوراة نقلاً عن تفسير الميزان: "وكان في وقت المساء، أنّ داود قام عن سريره، وتمشّى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأةً تستحمّ، وكانت المرأة جميلة المنظر جداً، فأرسل داود، وسأل عن المرأة، فقيل: إنها بتشبع امرأة أوريا الحثي، فأرسل داود رسلاً وأخذها، فدخلت عليه، فاضطجع معها وهي مطهَّرة من طمثها، ثم رجعت إلى بيتها، وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود أنّها حبلى.
وكان أوريا في جيش لداود يحاربون بني عمون، فكتب داود إلى يوآب أمير جيشه يأمره بإرسال أوريا إليه، ولما أتاه وأقام عنده، كتب مكتوباً إلى يوآب وأرسله بيد أوريا، وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب‏ الشديدة، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت، ففعل به ذلك، فقتل وأخبر داود بذلك.
فلما سمعت امرأة أوريا بأنّه قد مات، ندبت بعلها، ولمّا مضت المناحة، أرسل داود وضمها إلى بيته، وصارت له امرأةً وولدت له ابناً، وأما الأمر الذي فعله داود، فقبح في عين الربّ...".
ثم ذكر تفسير (من وحي القرآن) رواية الإمام الرضا(ع) في حواره مع عليّ بن الجهم، فقد سأله الإمام(ع): "وأمّا داود، فما يقول من قبلكم فيه؟ قال: يقولون: إنّ داود كان يصلّي في محرابه، إذ تصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور، فقطع داود صلاته، وقام يأخذ الطير إلى الدار، فخرج في إثره، فطار الطير إلى السطح، فصعد في طلبه، فسقط الطير في دار أوريا بن حيان.
فاطلع داود في إثر الطير، فإذا بامرأة أوريا تغتسل، فلما نظر إليها هواها، وكان قد أخرج أوريا في بعض غزواته، فكتب إلى صاحبه أن قدّم أوريا أمام التابوت، فقدم فظفر أوريا بالمشركين، فصعب ذلك على داود، فكتب إليه ثانيةً أن قدّمه أمام التابوت، فقدم فقتل أوريا وتزوج داود بامرأته.
قال: فضرب الرضا(ع) يده على جبهته وقال: إنَّا للّه وإنَّا إليه راجعون، لقد نسبتم نبياً من أنبياء الله إلى التهاون في صلاته حتى خرج في إثر الطير، ثم بالفاحشة ثم بالقتل...
فقال: يا بن رسول الله، فما قصته مع أوريا؟ قال الرضا(ع): إنّ المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل، لا تتزوج بعده أبداً، فأوّل من أباح الله عزَّ وجلَّ له أن يتزوَّج بامرأةٍ قتل بعلها، داود(ع)، فتزوج بامرأة أوريا لمّا قتل وانقضت عدّتها، فذلك الذي شقَّ على الناس من قتل أوريا".
ومن خلال ذلك، يلاحظ السيّد المفسّر "في رواية التوراة المزعومة، أن بعض المفسرين درجوا على إخضاع مسألة الخصمين لهذه القصة، لتكون الخصومة التمثيلية بمثابة تنبيه لداود على ما فعله في علاقته بهذه المرأة بمشابهة القصة الواقعة. وقد حفلت كتب التفسير بالكثير من هذه الإسرائيليات المخالفة لأبسط قواعد الأخلاق في حياة النبي داود، مما لا يتناسب مع الصفات التي ذكرها القرآن، من جهة روحيته العالية، وتسبيحه للّه، وكونه أواباً، وإيتائه الحكمة وفصل الخطاب"( ).
مقولة التشبيه بين داود وآدم(ع)
حسب بعضهم، فإنّ ما قاله السيّد المفسّر من مقولة التشبيه بين فتنة داود وفتنة آدم في الجنّة، من المقولات التي تسيء إلى عصمته(ع)، مع أنّها لا تمس العصمة بشيء، بل إنّها تأويل أو تفسير ينسجم مع العصمة، وهي، كما هو واضح، على الاتجاه الأوّل في عالم التفسير الذي يرى أنّ الواقعة قد حصلت في عالم التمثل الملائكي.
ولقد سبق أنّ استشهدنا بنص ورد في تفسير (من وحي القرآن) جاء فيه: "بل هي قضية تمثيلية على سبيل التدريب العملي، ليتفادى التجارب المستقبلية على صعيد ممارسته الحكم بين الناس، تماماً كما هي قضية آدم التي كانت قضيّةً امتحانيةً لا تكليفاً شرعيّاً"( ).
وهذه المقولة جاءت على الاتجاه التفسيري السائد الذي يرى أنّ القضاء وإن كان ناجزاً، بيد أنّه كان في ظرف الاختبار، وأنّ الخصمين كانا من الملائكة، فلا نعجة ولا نعاج في الواقع، بل لا خصمين بشريين أصلاً.
ولم يكن تشبيه قضية داود بقضية آدم بدعاً في عالم التفسير، فقد صرَّح بها العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان، وهو بصدد تفسير قضاء داود {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ}(ص:24)، بقوله: "وكان قوله(ع) ـ لو كان قضاءً منجزاً ـ حكماً منه في ظرف التمثل، كما لو كان رآهم فيما يرى النائم، فقال لهم ما قال، وحكم فيهم بما حكم. ومن المعلوم أن لا تكليف في ظرف التمثل، كما لا تكليف في عالم الرؤيا، وإنما التكليف في عالمنا المشهود، وهو عالم المادة، ولم تقع الواقعة فيه، ولا كان هناك، متخاصمان ولا نعجة ولا نعاج، إلا في ظرف التمثل، فكانت خطيئة داود(ع) في هذا الظرف من التمثل، ولا تكليف هناك، كخطيئة آدم(ع) في الجنة من أكل الشجرة قبل الهبوط إلى الأرض وتشريع الشرائع وجعل التكاليف، واستغفاره وتوبته مما صدر منه، كاستغفار آدم وتوبته مما صدر منه، وقد صرح الله بخلافته في كلامه، كما صرح بخلافة آدم(ع) في كلامه"( ).
السبب الرابع: الإساءة إلى شخصية النبي (ع) الرسالية والإنسانية
وقد لا تكون الروايات تمس عصمة النبيّ، بيد أنّها تمس أخلاقه الرفيعة، وإنسانيته الرقيقة، وسلوكه المنطلق من العفو والصفح والرحمة، ما يجعل المفسر يقف موقف الرافض أو المتحفظ إزاء روايات من هذا القبيل، سواء كانت في أسباب النـزول، أو في التفسير والتأويل. ويمكن أن نسجل موارد عديدة عند استقرائنا لتفسير (من وحي القرآن):
المورد الأول: رواية ميل النبي على ذراري المشركين
يؤكّد تفسير (من وحي القرآن) ضرورة "التدقيق في الروايات التي تتحدث عن مشاورة رسول الله(ص) للمسلمين، من حيث توثيق رواتها ودراسة مضمونها، لأنّ بعض هذه الروايات تسي‏ء إلى صورة وعي النبيّ (ص) للرسالة وإنسانيته في نظرته إلى الناس، كما جاء في رواية أنّ النبيّ (ص) شاور أصحابه في يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين، فقال له أبو بكر: إنّا لم نجئ لقتال أحد، وإنما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال".
يسجّل السيد ملاحظتين نقديتين على مضمون هذه الرواية التي يذكرها العديد من المفسرين بمناسبة آية المشورة {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ ولَو كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(آل عمران: 159):
الملاحظة الأولى: إنّ هذه الرواية توحي بأنّ أبا بكر كان أكثر وعياً للمهمة التي جاء المسلمون لتنفيذها من رسول الله (ص)، في الوقت الذي نعرف أنّ النبيّ هو الذي قادهم على أساس القيام بالعمرة لا على أساس القتال، ولذلك لم يجى‏ء مقاتلاً في حال استعداد شامل للقتال، لأنّه كان يهيّئ الظروف والأسباب لفتح مكة.
الملاحظة الثّانية: كيف يفكّر رسول الله (ص) في الإجهاز على الذراري، في الوقت الذي لم يبدأ القتال مع المشركين المعاندين؟!
 وكيف يمكن لنا أن نقدّم صورة النبي (ص) الذي يفكّر في قتل النساء والأطفال الصغار قبل الدخول في حرب، في الوقت الذي تتمثل صورة النبيّ - الإنسان في القرآن وفي السنة، في كلّ أقواله وأفعاله؟!
 وهذا يفرض علينا أن ندرس شخصية الرواة الذين رووا هذه الرواية قبل الأخذ بها، وندقق في مفرداتها التي لا تتناسب مع صورة النبي الحقيقية الرسالية في إنسانيته وأخلاقيته وحكمته وعدالته، في النظر إلى الأشياء من مواقع المسؤولية العملية مع الناس( ).

المورد الثّاني: رواية الأمر بحبس الماء    
في قوله: {فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(النساء: 65)، يسجل السيّد المفسّر تحفظه عمّا روي من أسباب النـزول في أمر رسول الله (ص) الزبير بأن يحبس الماء عن الأنصاري.
وخلاصة الرواية، أنّ الزبير خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً إلى النبيّ (ص) في شراج الحرّة، كانا يسقيان بها كلاهما، فقال النبيّ (ص) للزبير: اسق، ثمّ أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك، فتلوّن وجه رسول الله(ص)، ثم قال للزبير: اسق، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، فاستوفى رسول الله(ص) للزبير حقّه، وكان قبل ذلك أشار على الزبير برأيٍ أراد فيه سعةً للأنصاري وله، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله (ص)، استوفى للزبير حقّه في صريح الحكم.
وسبب التحفظ عن هذه الرواية، لا يكمن في منافاتها عصمة النبي(ص)، لأنّه - إن صحّت - لم يفعل شيئاً على خلاف الحقّ في ردّ فعله، وإنّما يكمن في طبيعة الأسلوب النبوي بأخلاقه العالية الذي يرتكز على الدفع بالتي هي أحسن، بحيث يحوّل العدوّ إلى صديق، وعدم خضوعه لسلطان الغضب وهو نبيّ العفو والرحمة، ما يجعلنا نشكّ بما روي عن الزبير، لأنّه لا يتناسب مع طبيعة الواقع الأخلاقي الرفيع للشخصية النبوية العظيمة. مع التنبيه إلى أنّ الزبير - في هذه الرواية - يتحدث عن اجتهاد شخصي في نزول الآية لتأكيد هذه القصة في قوله: والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك( ).
المورد الثّالث: رواية ذهاب النبيّ إلى بنيّ قريظة
في قوله: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إذ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ واتَّقُوا الله وعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(المائدة: 11)، يتحفظ المفسّر عمّا جاء في أسباب النـزول، من أنّ النبيّ (ص) ذهب إلى بني النضير "يستعينهم في عقلٍ أصابه، ومعه أبو بكر وعمر وعليّ، فقال: أعينوني في عقل أصابني، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجةً، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا، فجلس رسول الله(ص) وأصحابه ينتظرونه، وجاء حيي بن أخطب وهو رأس القوم، وهو الذي قال لرسول الله(ص) ما قال. فقال حيي بن أخطب لأصحابه: لا ترونه أقرب منه الآن، اطرحوا عليه حجارةً فاقتلوه، ولا ترون شرّاً أبداً، فجاؤوا إلى رحى لهم عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم"( ).
يقف السيد المفسّر موقف المتحفّظ عن هذه الرواية في نزول الآية، وذلك للقرائن التالية:
الأولى: إنّ سياق الآية وارد في التحدّيات الّتي كانت تواجه المسلمين جميعاً في محاولات الأعداء بالهجوم عليهم، بينما تتحدّث الرّوايات عن محاولة العدوان على النبيّ (ص) وحده، ما يفرض أن يكون الخطاب للنبيّ (ص) كما ورد في سورة الأنفال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أو يَقْتُلُوكَ أو يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ الله واللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ}(الأنفال: 30).
الثانية: كيف لنا أن نتصوّر النبيّ محمّداً(ص) يذهب إلى اليهود - كما في الرّواية الأولى - ليساعدوه في بعض ما ترتب عليه من الدّية، باعتبار أنّه أحد أفراد العاقلة، وهم المعروفون بعداوتهم للإسلام والمسلمين؟
وكيف يجلس النبي(ص) في انتظار ما يتصدّقون به عليه، وهو الموقف الّذي يجعله في موقع الذلّ من خلال حاجته المادّية إليهم؟
وكيف يمكن أن يعرّض نفسه للخطر بهذه الطريقة الساذجة؟( )
يرى السيد "أنّ هذه الرّوايات الّتي ذكرت في أسباب النـزول، تسي‏ء إلى مقام النبيّ (ص)، وتبتعد عن سياق الآية، الأمر الّذي يجعلنا نتحفظ في الاستفادة منها في التفسير"( ).
السبب الخامس: التنافي مع الحقائق التاريخية
تمثّل الحقائق التاريخية المحكّ لروايات أسباب النـزول، فإنّ عدداً مما ذكر منها يتنافى مع ما هو معروف من الوقائع والأحداث التاريخية، وقد اتخذ تفسير (من وحي القرآن) موقف الرافض أو المتحفظ.
والمثال الصَّارخ على هذا اللَّون من الروايات، ما زعموا من سبب نزول قوله تعالى: {وهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ وإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وما يَشْعُرُونَ}(الأنعام: 26).
جاء في أسباب النـزول - للواحدي - بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {وهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ} قال: نزلت في أبي طالب، كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله(ص) ويتباعد عما جاء به.
قال مقاتل: وذلك أنّ النبيّ (ص) كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يردون سؤال النبي(ص)، فقال أبو طالب:
واللهِ لا وصلـوا إليـــك بجمعـِـهِم    حتّى أوسّــدَ في التـّـرابِ دفينــا
فـاصـدعْ بأمـرِكَ لا عليكَ غـضاضـةً    وابـشر وقرّ بــذاك منـك عيونــا
وعرضـتَ ديـنــاً لا محـالةَ أَنــّه    منْ خيـــرِ أديــانِ البريـّةِ دينـا
لـولا الملامــةُ أو حـذاري سـبّـَةً    لـوجدتنـي سمحـاً بـذاكَ مُبينــا
فأنزل الله تعالى: {وهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ...}.
يورد تفسير (من وحي القرآن) هذه الروايات بأمرين أساسين:
الأمر الأول: عدم انسجامها مع السياق الذامّ للكفَّار المعاندين، الذين {يَنْهَوْنَ عَنْهُ}، أي: نهي الناس عن اتباع النبي(ص)، {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي: يتباعدون عنه في موقف الرفض له ولرسالته، فلا تنسجم مع واقع أبي طالب - حسب الرواية - الذي كان ينهى الناس عنه من خلال حمايته له من قريش، أمّا ينأون عنه، فلا تتناسب مع الفكرة التي يريدون تأكيدها عنه، وهي النأي عن الإيمان به وبرسالته، لعدم صحة نسبة النأي عنه إليه بالذات.
الأمر الثاني: إنّ الدراسة الموضوعية لشخصية أبي طالب ورعايته للنبيّ (ص)، ووعيه الفكري، ورجاحة عقله، ومستوى درجته الرفيعة في السلم الاجتماعي المكي في زعامته لقريش أو لبني هاشم، وأشعاره المرويّة عنه، كلُّ ذلك لا يتناسب مع رفضه للإيمان برسول الله(ص) وبقائه على الشرك، لو كان مشركاً من الأساس، وهو أمر مشكوك فيه، انطلاقاً من الجوّ العائلي الإيماني الذي كان يحيط ببيت أبيه عبد المطلب.
أمّا الحديث عن خوف الملامة أو محاذرة السبّة، فهو حديث لا يثبت أمام النقد، لأنّ القضية ليست قضيةً مربوطةً بالواقع الاجتماعي، بل هي مربوطة بالمصير الأخروي عند الله، مما لا يمكن للإنسان الذي يعيش الإيمان بقلبه وعقله أن يبتعد عن الانتماء إليه.
إنّ هذا كلّه يوحي بأنّ الإيمان ليس بعيداً عن عقل أبي طالب وقلبه، ولكن إذا كان هناك من كلام يمكن إثارته في هذا المجال، فهو أنّه كان يكتم إيمانه حمايةً للرسول(ص)، ليستطيع الدفاع عنه أمام قريش التي لم تكن تعتبره مسلماً.
قال صاحب الميزان (قدس سره): والعمدة في مستند من قال بعدم إسلامه، بعض روايات واردة من طريق الجمهور في ذلك، وفي الجانب الآخر، إجماع أهل البيت (ع) وبعض الروايات من طريق الجمهور، وأشعاره المنقولة عنه، ولكلّ امرئ ما اختار( ).
وأخيراً، يتساءل تفسير (من وحي القرآن): "هل يملك إنسان يحترم عقله ورؤيته المتّزنة للأمور، ووعيه لمفردات التاريخ، أن يقول: إنّ أبا طالب كان كافراً؟
إنّ أبا طالب قد أحرق كلّ أوراقه مع قريش، بإصراره على الدفاع عن‏ النبي محمّد (ص) وحمايته، فهل نتصور أنّه يجاملهم في مسألة الإيمان بدينه الذي اقتنع بأنّه "من خير أديان البريّة ديناً"؟!"( ).
السبب السادس: التنافي مع روايات العترة الطاهرة
لا شكّ في أنّ العترة هي المصدر الثاني بعد القرآن، وهي الثقل الآخر الذي لا يفارق القرآن ولا يفترق عنه بموجب حديث الثقلين المتواتر: "إني تاركٌ فيكم الثقلين ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وأنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".
وعدم الافتراق يدلُّ على عصمة العترة الطاهرة، لأن الذي لا يفترق عن المعصوم معصوم، كما يدلّ على أنّهم المفسر الحقيقي الذي لا يخطئ المعاني الواقعية لآيات الله، وما تعطيه من أفكار ومفاهيم وأحكام وتشريعات. هذا فيما إذا علمنا أنّها قد صدرت عنهم(ع).
من هنا، يؤكّد السيّد المفسّر "ضرورة التأكّد من صحة الأحاديث المروية عن النبيّ محمّد (ص) وعن الأئمة من أهل البيت (ع)، من حيث السند والمتن، بالطريقة التي تتجاوز الشروط المعروفة في حجيّة الأخبار، في عملية الاستنباط الاجتهادي للأحكام الشرعية"( ).
ويتأكد هذا المعنى، فيما إذا عرفنا مدى الأحاديث الموضوعة التي نسبت زوراً إلى النبيّ: وأهل بيته (ع)، حتى قال النبيّ (ص) نفسه: "كثرت عليَّ الكذابة".
في الكافي، بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي، قال: قلت لأمير المؤمنين(ع): إنيّ سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذرّ شيئاً من تفسير القرآن، وأحاديث عن نبيّ الله(ص) غير ما في أيدي الناس، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن، وأحاديث عن نبي الله (ص) أنتم تخالفونهم فيها، وتزعمون أنّ ذلك كلّه باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول الله (ص) متعمدين، ويفسّرون القرآن بآرائهم؟ قال: فأقبل عليّ ثم قال: "قد سألت فافهم الجواب: إنّ في أيدي الناس حقّاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، وقد كذب على رسول الله(ص) على عهده، حتى قام خطيباً، وقال: أيّها الناس! قد كثرت عليّ الكذابة، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. ثم كذب عليه من بعده. وإنما أتاكم الحديث من أربعة، ليس لهم خامس...".
وهؤلاء الأربعة هم:
الأوّل: رجل منافق يظهر الإيمان، متصنع بالإسلام، لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله(ص) متعمداً، فلو علم الناس أنّه منافق كذاب، لم يقبلوا منه ولم يصدقوه، ولكنّهم قالوا هذا قد صحب رسول الله(ص) ورآه وسمع منه، وأخذوا عنه، وهم لا يعرفون حاله، وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره، ووصفهم بما وصفهم، فقال عزَّ وجلّ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}(المنافقون:4)، ثمّ بقوا بعده، فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان، فولّوهم الأعمال، وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله، فهذا أحد الأربعة.
الثاني: ورجل سمع من رسول الله شيئاً لم يحمله على وجهه ووهم فيه، ولم يتعمّد كذباً فهو في يده، يقول به ويعمل به ويرويه، فيقول: أنا سمعته من رسول الله(ص)، فلو علم المسلمون أنّه وهم لم يقبلوه، ولو علم هو أنّه وهم لرفضه.
الثالث: ورجل ثالث سمع من رسول الله(ص) شيئاً أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ، ولو علم أنّه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه.
الرابع: وآخر رابع لم يكذب على رسول الله(ص)، مبغض للكذب خوفاً من الله وتعظيماً لرسول الله(ص)، لم ينسه، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به كما سمع، لم يزد فيه ولم ينقص منه، وعلم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ، فإنَّ أمر النبيّ (ص) مثل القرآن ناسخ ومنسوخ، (وخاص وعام)، ومحكم ومتشابه، قد كان يكون من رسول الله(ص) الكلام له وجهان: كلام عام وكلام خاص مثل القرآن، وقال الله عزَّ وجلّ في كتابه: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر:7)، فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله(ص)، وليس كلّ أصحاب رسول الله(ص) كان يسأله عن الشيء فيفهم، وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه، حتى إنّ كانوا ليحبّون أن يجيء الأعرابي والطاري فيسأل رسول الله (ص) حتى يسمعوا".
ثم قال(ع): "وقد كنت أدخل على رسول الله(ص) كلّ يوم دخلةً، وكلّ ليلة دخلةً، فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله(ص) أنّه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري، فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله(ص) أكثر ذلك في بيتي، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله، أخلاني وأقام عنّي نساءه، فلا يبقى عنده غيري، وإذا أتاني للخلوة معي في منـزلي، لم تقم عنّي فاطمة ولا أحد من بنيّ، وكنت إذا سألته أجابني، وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت على رسول الله(ص) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها عليّ، فكتبتها بخطي، وعلَّمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصَّها وعامَّها، ودعا الله أن يعطيني فهمها وحفظها، فما نسيت آيةً من كتاب الله، ولا علماً أملاه عليَّ وكتبته، منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك شيئاً علمه الله من حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون، ولا كتاب منـزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته، فلم أنسَ حرفاً واحداً، ثم وضع يده على صدري، ودعا الله لي أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكماً ونوراً، فقلت: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، منذ دعوت الله لي بما دعوت، لم أنسَ شيئاً، ولم يفتني شيء لم أكتبه، أفتتخوف عليَّ النسيان فيما بعد؟ فقال: لا، لست أتخوف عليك النسيان والجهل"( ).
من هذا المنطلق، يحرص تفسير (من وحي القرآن) على تفسير الآيات وفق مدرسة أهل البيت العقائدية والفقهية، ويجيب عن الإشكالات التي يمكن أن تطرح في عالم التفسير:
1-    في تفسيره لقوله: {خَتَمَ الله عَلى‏ قُلُوبِهِمْ}(البقرة:7) يطرح السؤال التالي: كيف نفسر إسناد الفعل إلى الله في قوله سبحانه وتعالى؟ وهل يتّفق هذا مع فكرة الاختيار التي نؤمن بها في مقابل فكرة الجبر التي يقول أصحابها: إنّ العباد مجبورون على الكفر والإيمان وعلى نتائجهما في الطاعة والعصيان؟
ويجيب على ذلك باتجاهين: الأوَّل؛ الاتجاه الذي يجعل القضية واردةً مورد التشبيه المجازي، كما جاء في الكشّاف للزمخشري، من أنّ إسناد الختم إلى الله عزَّ وجلَّ، لينبِّه إلى أنَّ هذه الصّفة في فرط تمكنها وثبات قدمها، كالشي‏ء الخلقي غير العرضي، ألا ترى إلى قولهم: فلان مجبول على كذا ومفطور عليه: يريدون أنّه بليغ في الثبات عليه...
"الاتجاه الثاني: الذي يرتكز على الفكرة الإسلامية التي أوضحها أئمة أهل البيت(ع) في القول المأثور عنهم: "لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين"... الذي يجعل أفعال العباد منسوبةً إليهم من جهة، باعتبار صدورها عنهم بالمباشرة والإرادة والاختيار، ومنسوبةً إلى الله من جهة، باعتبار أنَّ الله هو السبب الأعمق في كلّ شي‏ء، لأنّه هو الذي يهب العباد القدرة، ويستطيع أن يمنعها عنهم، وهو الذي سخَّر لهم كلّ ما لديهم وما حولهم مما يستخدمونه في المعصية أو في الطاعة، من دون أن يتدخل في عملية الاختيار.
وبذلك تصحُّ نسبة الفعل إلى الله، لأنَّ له مدخليةً في حصوله، ولو بلحاظ كثير من مقدماته، ففي مثل هذا المورد، يمكن أن يقال إنّ الله قد ركّب الإنسان على وضع معين، بحيث إذا اختار الإنسان الكفر وأصرّ عليه، أغلق قلبه وسمعه عن سماع أيّة كلمة للإيمان، وأغشى بصره عن الرؤية... فالفعل يبدأ من اختيار الإنسان، وينتهي إلى هذه النتيجة من موقع الاختيار، ولكن عملية التسبب خاضعة للقوانين التي أودعها الله في وجود الإنسان الذي ترتبط فيها النتائج بمقدّماتها".
يرى السيّد المفسّر "أنّ مثل هذه النسبة لا تدخلنا في دائرة الجبر، ولا تسلبنا عملية الاختيار، لأنها تنطلق من موقع حرية الإرادة التي تتحرك ضمن القوانين الطبيعية للحياة والإنسان، وبالتالي، لا تستلزم نسبة القبح إلى الله من قريب أو من بعيد"( ).
2-    وعلى أساس هذه القاعدة المنهجية: "لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين"، يفسر (من وحي القرآن) نسبة الضلال والهدى إلى الله من خلال ضربه المثل بقوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً ويَهْدِي بِهِ كَثِيراً وما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ‏}(البقرة: 26).
"إنّ علاقة الله بالضلالة والهدى، لا تعطَّل الإرادة الإنسانية في الاختيار المسؤول، كما أنّ حركة الإنسان في المسألة، لا تبعد الله عن حياة عباده في أقوالهم وأفعالهم"( ).
3-    في تفسيره لقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}(البقرة:31)، يتساءل تفسير الوحي عن ماهية الأسماء التي علَّمها الله لآدم؟
"لقد استفاضت النصوص الدينية في الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت(ع) وعن غيرهم، في أنّ المراد منها هي أسماء الموجودات الكونية، سواء منها الموجودات العاقلة أو غيرها".
ثم يقول: "ولعلّ هذا ما توحي به طبيعة الجوّ الذي يحكم الموقف في هذه الآيات، وينسجم مع مهمة الخلافة عن الله في الأرض التي أعدَّ لها الإنسان، وهي تفرض المعرفة الكاملة بكلّ متطلباتها ومجالاتها".
"جاء في تفسير العياشي: عن أبي العباس، عن أبي عبد الله جعفر الصادق(ع) قال: سألته عن قوله الله: {وعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها} ماذا علمه؟ قال: الأرضين والجبال والشعاب والأودية".
"وجاء في تفسير الطبري عن ابن عباس، قال: علَّم الله آدم الأسماء كلَّها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها".
بينما يضعف الاتجاه الآخر الذي يفسّر الأسماء بأسماء الملائكة وأسماء ذريته دون سائر أجناس الخلق، وهو الذي اختاره الطبري في تفسيره، ويرى أنّ هذا الاتجاه "لا يتناسب مع طبيعة الخلافة، ولا سيما إذا فهمنا من الآية أنّ آدم لم يكن هو الخليفة بشخصه، بل بسبب تجسيده للنوع الإنساني كما استقربناه آنفاً، فإن معرفة أسماء الذرية والملائكة لا تقدّم شيئاً ولا تؤخّر في الموضوع"( ).
"وقد ورد عن بعض أئمة أهل البيت (ع)، جواباً عن سؤال حول ما أثاره بعض النّاس من أنّ المقصود بالصلاة والزكاة ونحوهما رجال معيّنون، قال: "إنّ الله لا يخاطب عباده بما لا يفهمون"( ).
أسباب نزول اجتهادية تطبيقية لا حقيقية
يقف تفسير (من وحي القرآن) من بعض روايات أسباب النـزول موقفاً لا ينسجم مع ما تطرحه من أحداث كسبب للنزول، لأسباب متعددة، منها عدم انسجامها مع طبيعة النصوص القرآنية التي ظاهرها التأسيس لثقافة، والتأصيل لبناء عقائدي، ولم تتنـزل لمعالجة مشكلة أو للردّ على إشكال، كما هو شأن الآيات التي تنزلت على إثر أسباب نزول حقيقية.
ولذا، فإنّه يعتبر العديد من أسباب النـزول التي جاءت بها الروايات هي أسباب اجتهادية تطبيقية لا حقيقية، وهذا الموقف نقرأه عند العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان، إذ يصرّح في موارد عديدة، أنَّ أغلب أسباب النـزول المذكورة هي أسباب تطبيقية تسعى إلى تطبيق الحوادث الواقعة في عصر النـزول على الآيات المباركة.
ومن علامات الاجتهاد والتطبيق في أسباب النـزول، اختلافها في آية واحدة، حين لا تملك القرائن على صحة بعضها دون الآخر، ولذا ينبّه السيّد المفسّر إلى هذه العلامة في موارد عديدة من تفسيره، بقوله: "اختلاف الروايات الذي يوحي باختلاف الأشخاص والمواقع، ما يضعف اعتماد إحداها كتفسيرٍ لنـزول الآية، لتكون بمثابة اجتهادٍ استيحائيّ من قبل المفسّرين الرواة"( ).
المورد الأول: الحبّ والاتبّاع
في تفسيره لقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(آل عمران: 31)، يذكر عدداً من الروايات في الآية عن كتاب أسباب النـزول للواحدي:‏
1- قال الحسن وابن جريج: زعم أقوام على عهد رسول الله(ص) أنّهم يحبّون الله، فقالوا: يا محمّد، إنّا نحبّ ربّنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
2- وروى جويبر عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: وقف النبي(ص) على قريش وهم في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم وعلَّقوا عليها بيض النعام، وجعلوا في آذانها الشنوف، وهم يسجدون لها، فقال: يا معشر قريش، لقد خالفتم ملّة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كانا على الإسلام، فقالت قريش: يا محمّد، إنما نعبد هذه حباً لله ليقربونا إلى الله زلفى، فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله}، فأنا رسوله إليكم وحجّته عليكم، وأنا أولى بالتعظيم من أصنامكم.
3- وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، أنّ اليهود لما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، أنزل الله تعالى هذه الآية، فلما نزلت، عرضها رسول الله(ص) على اليهود، فأبوا أن يقبلوها.
4 - وروى محمّد بن إسحاق بن يسار عن محمّد بن جعفر بن الزبير قال: نزلت في نصارى نجران، وذلك أنهم قالوا: إنما نعظم المسيح ونعبده حبّاً لله وتعظيماً له، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردّاً عليهم.
هذه الروايات على اختلافها، تصرِّح بأنّها أسباب نزولٍ نزلت على إثرها الآية، بيد أنَّ السيّد المفسّر يرى "أنّ هذه الروايات التي تنوعت في الحديث عن المناسبة التي رافقت نزول هذه الآية، قد تمثل بعض الوقائع التي تتناسب في طبيعتها المضمونيّة مع الموقف الذي تؤكده الآية في إعطاء الميزان الدقيق للحبّ للَّه في معناه العملي، ولكن من الصعب أن نطمئنَّ لها كمنطلقٍ لنـزول الآية، لأنّ مثل هذا الخطّ الفكري المتصل بقضية التوحيد في دلالاته الفكرية والعملية، ينطلق من الأفق الواسع للعقيدة في كلّ تفاصيلها الفكرية والروحية والشعورية، في عملية تثقيف الناس بالجذور العميقة لحركة الإيمان في العقل والروح والشعور.
ومن الطبيعي أن تكون العلاقة بالله هي الأساس الذي ترتكز عليه الثقافة القرآنية، الأمر الذي يفرض أن تكون منطلقةً من موقع التأسيس الثقافي، لا من موقع ردّة الفعل المناسبة التي تجعل للظرف الموضوعي دور المنطلق لحركة الفكرة التي تنتظره لتنـزل وحياً على الناس.
ثم إنّ هذه المفردات المذكورة في الروايات لا تمثل حالةً غير عادية، بل هي أمر طبيعيّ في عقيدة اليهود أو النصارى أو المشركين أو غيرهم"( ).
وهي ملاحظة منهجية في التعامل مع ما يروى من أسباب نزول في عالم التفسير، ترتبط بطبيعة التربية القرآنية للفرد والأمة، وهي على نمطين:
النمط الأول: التربية الابتدائية والتثقيف الابتدائي، من خلال إعطاء الأفكار العقائدية والمفاهيم الأساسية في صياغة الإنسان الرسالي، الذي يتحمّل أعباء المسؤولية تجاه نفسه وتجاه أمته.
النمط الثاني: التربية من خلال الوقائع والأحداث، لتكون مناسبات تربوية قيّمة في صقل الشخصية وهي تعيش المواقف الصعبة وإشكاليات الواقع وهموم الجهاد والدعوة.
من هنا ندرك أنّه ليس لكلّ الآيات القرآنية أسباب نزول حقيقية بالمعنى المتعارف في علوم القرآن، بل هناك ما يمكن أن نعبِّر عنه بأجواء نزول أو متطلبات نزول.
المورد الثّاني: ليس لك من الأمر شيء
في تفسيره لقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ أو يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أو يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ}(آل عمران: 128)، يعقد بحثاً تحت عنوان: مناسبة النـزول، يذكر فيه العديد من الروايات التي ذكرها المفسرون سبباً لنـزول الآية، منها:
الرواية الأولى: "روي عن أنس بن مالك، وابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع، أنّه لما كان من المشركين يوم أحد ما كان من كسر رباعيّة الرسول(ص) وشجّه حتى جرت الدماء على وجهه، قال: كيف يفلح قوم نالوا هذا من نبيّهم(ص)، وهو مع ذلك حريص على دعائهم إلى ربهم؟ فأعلمه الله أنّه ليس إليه فلاحهم، وأنّه ليس إليه إلا أن يبلّغ الرسالة ويجاهد حتى يظهر الدين، وإنما ذلك إلى الله تعالى...
الرواية الثّانية: "أنّه استأذن ربّه في يوم أحد في الدعاء عليهم، فنـزلت الآية، فلم يدع عليهم بعذاب الاستئصال، وإنما لم يؤذن له فيه، لما كان في المعلوم من توبة بعض"، عن أبي علي الجبائي.
الرواية الثّالثة: أراد رسول الله(ص) أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد، فنهاه الله عن ذلك وتاب عليهم، ونزلت الآية: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ} أي: ليس لك أن تلعنهم وتدعو عليهم، عن عبد الله بن مسعود.
الرواية الرابعة: لما رأى رسول الله(ص) والمسلمون ما فعل بأصحابه وبعمه حمزة من المثلة، من جدع الأنوف والآذان...، قالوا: لئن أدالنا الله منهم لنفعلنَّ بهم مثل ما فعلوا بنا، ولنمثلنّ بهم مثلةً لم يمثلها أحد من العرب بأحد قطّ، فنـزلت الآية، عن محمّد بن إسحاق والشعبي.
الرواية الخامسة: نزلت في أهل بئر معونة، وهم سبعون رجلاً من قرّاء أصحاب رسول الله(ص)، وأميرهم المنذر بن عمرو، بعثهم رسول الله(ص) إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلّموا الناس القرآن والعلم، فقتلهم جميعاً عامر بن الطفيل...، فوَجَد رسول(ص) من ذلك وَجْداً شديداً، وقنت عليهم شهراً، فنـزل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ}، عن مقاتل".
يسجل السيّد المفسّر على هذه الروايات الواردة في أسباب النـزول ملاحظةً منهجيةً مهمة، يمكن أن تكون ساريةً في العديد مما يعدُّ من أسباب النـزول في عالم التفسير، وهي أنها كانت "اجتهادات تفسيرية من أصحابها"، لأنّ الآية في "مقام بيان حقيقة إيمانية كليّة في سنَّة الله في الكافرين الظالمين، وفي قدرته الشاملة التي تجعل له السلطة الكاملة عليهم في المغفرة أو العذاب، للتأكيد أنّ النبيّ (ص) - في ذاته وفي دوره - لا يملك من الأمر في ذلك شيئاً، لأنّ الأشياء في نتائجها الحاسمة تنطلق من إرادة اللّه، فلا دور للأنبياء إلا تهيئة الأجواء الملائمة للهداية، أو المتحركة في مواقع التحدي، من أجل تنفيذ أوامر الله في الأخذ بالوسائل التي يملكونها، مما أعطاهم الله القدرة فيه، لأنّ النتائج مربوطة بالحركة العامة للأوضاع والوسائل التي قد يملك الناس بعض القدرة على تحريكها بإرادة الله، ولكنّهم لا يملكون كلّ شي‏ء فيها من الداخل والخارج، واللّه العالم"( ).
المورد الثّالث: انفعالات النبي
في قوله تعالى: {ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ ولِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * ولِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَمْحَقَ الْكافِرِينَ}(آل عمران: 139-141)
يعقد تفسير (من وحي القرآن) كعادته بحثاً بعنوان (مناسبة النـزول)، يذكر فيه العديد مما روي كأسباب نزولٍ للآيات المباركة التي نزلت إثر معركة أحد التي انكسر فيها المسلمون لأنّهم لم يوفروا شروط النصر.
منها: لما انصرف رسول الله كئيباً حزيناً يوم أحد، جعلت المرأة تجي‏ء بزوجها وابنها مقتولين وهي تلدم. فقال رسول الله: أهكذا يفعل برسولك؟ فأنزل الله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ ...}.
ومنها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما أبطأ على النساء الخبر، خرجن يستخبرن، فإذا رجلان مقتولان على دابة أو على بعير، فقالت امرأة من الأنصار: من هذان؟ قالوا: فلان وفلان. أخوها وزوجها، أو زوجها وابنها، فقالت: ما فعل رسول الله؟ قالوا: حيّ، قالت: فلا أبالي، يتخذ الله من عباده الشهداء. ونزل القرآن على ما قالت: {ويَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ}.
يؤكّد السيّد مّرةً أخرى ملاحظته حول أسباب النـزول، من أنّها قد تكون "اجتهاداً من رواتها"، وذلك لعدة شواهد، على صعيدي السند والمتن:
أوّلاً: أَنّ الغالب منها غير نقيّ السند، وغير واضح الحجيّة.
ثانياً: لأنّنا نتحفظ حول انفعال رسول الله(ص)، وهو العارف بسنن الله في قضايا الهزيمة والنصر، وحكمة الله في ابتلاء المؤمنين، ومدى المصلحة في ذلك، لمجّرد سماعه امرأةً تلدم، ليقول مناجياً: ربّه أهكذا يفعل برسولك؟! وهكذا نلاحظ على نزول القرآن على ما قالت المرأة، واللّه العالم.( )
المورد الرابع: تمييز الخبيث من الطيب
وبمناسبة تفسيره لآية {ما كانَ الله لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى‏ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وما كانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ولكِنَّ الله يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ وإِنْ تُؤْمِنُوا وتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(آل عمران: 179) يذكر بعض أسباب النـزول من كتاب الواحدي، ثم يلاحظ على هذه الروايات وأمثالها من أسباب النـزول، الأمور التالية:
أوّلاً: أنّها لا تستند إلى رواية متصلة بالرسول أو ببعض الصحابة الموثوقين، ما يغلب على الظنّ أنها كانت اجتهادات شخصية، أو قريبة من ذلك، الأمر الذي يجعلنا لا نملك أساساً للانفتاح على أجواء الآية من خلال هذه الروايات.
ثانياً: ضرورة التأكيد والاستيثاق من كلّ الروايات الواردة في هذا المجال بدراسة سندها، لتوثيق النص في مسألة صدوره، وللتأمّل في دلالته ومدى انسجامها مع جو الآيات ومع المفاهيم الثابتة في الخطّ الفكريّ الإسلاميّ، لأنّ اختلاط الأمور من خلال الروايات غير الموثوقة، أو الاجتهادات غير المدروسة، قد يؤدّي إلى الابتعاد عن صفاء الآية في إيحاءاتها الفكرية ودلالاتها المفهومية.
وينبِّه السيد المفسِّر إلى "ضروة التأكيد والاستيثاق" من كلّ الروايات المتصلة بالتفسير، "لأنّ فقدان الحجيّة في سندها ودلالتها يؤدّي إلى إرباك الفهم القرآني، وبالتالي إلى ضياع المفاهيم الإسلامية، باعتبار أنّ القرآن هو الأساس - بالإضافة إلى السنّة - في تقرير الجانب المفهومي الفكري للإسلام في كلِّ قضايا العقيدة والشريعة والمنهج"( ).
المورد الخامس: طرد الفقراء والمساكين
{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ وما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}(الأنعام: 52)
يرى السيّد المفسّر أنّ ما جاء في أسباب نزولها، لا يعدو أن يكون اجتهادات تطبيقية، كالرواية التي يذكرها تفسير الدر المنثور "أخرج ابن أبي شيبة، وابن ماجة، وأبو يعلى، وأبو نعيم في الحلية، وابن جرير... والبيهقي في الدلائل عن خباب، قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدا النبيّ (ص) قاعداً مع بلال، وصهيب، وعمّار، وخباب، في أناس ضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقروهم، فأتوه فخلوا به.
 فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلنا، فإنّ وفود العرب ستأتيك، فنستحي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنّا، فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت.
قال: نعم. قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً، فدعا بالصحيفة ودعا علياً ليكتب، ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبرائيل بهذه الآية {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ} إلى قوله: {فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، فألقى رسول الله الصحيفة من يده، ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، فكنّا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله سبحانه:
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ...}(الكهف: 28).
قال: فكان رسول الله(ص) يقعد معنا بعد، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها، قمنا وتركناه حتى يقوم"( ).
يكتفي تفسير (من وحي القرآن) بما ورد في تفسير الميزان من ملاحظة نقدية على هذه الرواية وأمثالها: "الرجوع إلى ما تقدّم في أول السورة من استفاضة الروايات على نزول سورة الأنعام دفعة، ثم التأمّل في سياق الآيات، لا يبقي ريباً أنّ هذه الروايات إنما هي من قبيل ما نسميه تطبيقاً، بمعنى أنّهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الانطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبيّ (ص)، فعدّوا القصة سبباً لنـزول الآية، لا بمعنى أنّ الآية إنما نزلت وحدها ودفعةً لحدوث تلك الواقعة ورفع الشبهة، كما ترتفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة ونظائرها، كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله تعالى: {ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ...}، فإن الغرض فيها واحد، لكن القصص مختلفة في عين أنها متشابهة، فكأنّهم جاؤوا إلى النبي (ص) واقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرّةً بعد كرّة، وعنده في كلّ مرة عدة من ضعفاء المؤمنين، وفي مضمون الآية انعطاف إلى هذه الاقتراحات أو بعضها.
وعلى هذه الوتيرة، كانوا يذكرون أسباب نزول الآيات بمعنى القصص والحوادث الواقعة في زمنه (ص)، مما لها مناسبة ما مع مضامين الآيات الكريمة، من غير أن تكون للآية مثلاً نظر إلى خصوص القصة والواقعة المذكورة، ثم شيوع النقل بالمعنى في الأحاديث، والتوسّع البالغ في كيفية النقل، أوهم أن الآيات نزلت في خصوص الوقائع الخاصة، على أن تكون أسباباً منحصرة، فلا اعتماد في أمثال هذه السورة من السور التي نزلت دفعةً على أزيد من أنّها تكشف عن نوع ارتباط للآيات بالوقائع التي كانت في زمنه (ص)، ولا سيّما بالنظر إلى شيوع الوضع والدسّ في هذه الروايات، والضعف الذي فيها، وما سامح به القدماء في أخذها ونقلها"( ).
المورد السّادس: التمنّي المتبادل
وفي تفسيره لآية النهي عن التمني المتبادل بين الرجال والنساء:
{وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وسْئَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ الله كانَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً}(النساء: 32) يذكر ثلاثة أسباب نزول عن الواحدي، في الأولى - عن مجاهد - أنَّ أمَّ سَلَمة قالت: يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله تعالى: {ولا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ}. وفي الثانية - عن عكرمة - أنّ النساء سألن الجهاد، فقلن: وددنا أنّ الله جعل لنا الغزو، فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال، فأنزل الله الآية.
يرى السيّد المفسّر أنَّ هذه الروايات قد تكون "ناشئة من اجتهاد شخصي في فهم الآية، من حيث ما توحيه للنساء من الاحتجاج الخفيّ على ما تميّز به الرجال من الجهاد والإرث، أو ما توحيه للرجال من الشعور بالتفوق والامتياز على النساء في الدنيا، ما يفرض امتيازهم عليهنَّ في الآخرة، باعتبار فهمهم للمسألة بأنّ ذلك ناشئ من تفوّقهم الذاتي عند الله، ولا سيما أنّ الروايات المذكورة عن هؤلاء مرسلة وليست متصلةً بعهد نزول القرآن"( ).
"وقد يكون هذا التمني عاماً، وقد يكون خاصاً، كما هو ظاهر السياق، في التنافس بين الرجال والنساء، فللمرأة طاقاتها وخصائصها وعناصر قوتها، وللرجل طاقاته وخصائصه وعناصر قوته، وإذا اختلفت الطاقات، اختلفت الأدوار والساحات"( ).
 
الفصل الثالث: عصمة الأنبياء والمرسلين
"إنّ النبوّة حدث غير عادي في معنى الرسالة، لأنّها حركة إلهية في هداية البشرية إلى الله، وتغيير الحياة على صورة أخلاق الله، ما يفرض إنساناً يعيش الرسالة في عمقه الروحي، وتأمله الفكري، وأخلاقيته العظيمة في صدقه مع ربّه ونفسه ومع الناس، وأمانته في ماله ودينه ومسؤوليته وإنسانيته، بحيث تكون الرسالة التي يحملها منسجمةً مع الروح التي يتجسّد فيها، لتكون الرسالة جسداً يتحرك، ويكون الجسد رسالةً تنفتح على الله وعلى الإنسان والحياة في اتجاه التغيير"( ).
هكذا يرى تفسير (من وحي القرآن) فلسفة العصمة، ليكون التماهي بين الرسالة والرسول بأرقى صوره وأرفع درجاته، الأمر الذي لا مجال معه لفرقة بينهما أو تخلّف واختلاف، ذلك لأنّ "هذا الدور التغييري، الذي يستهدف تغيير الإنسان بالكلمة والقدوة، بحاجةٍ إلى الإنسان - الصدمة الذي يصدم الواقع الفاسد بكلّ قوة، الأمر الذي ينفتح فيه اللطف الإلهي على إعطاء المزيد من القوة الروحية والأخلاقية والفكرية والعصمة العملية لهذا الإنسان، سواء أكان ذلك بالطريقة التي يبقى فيها عنصر الاختيار له لسلوك الاتجاه المضاد، أم كان بطريقة أخرى لا يبقى فيها له ذلك العنصر، لأنّ القضية هي حاجة البشرية إليه"( ).
وهذا الفهم ينطلق من اعتقاد المفسر "أنّ العصمة ترتبط في طبيعتها بالدور الذي تتمثّل فيه النبوة في حركة الإنسان والحياة"( ).
بيد أنّ العصمة لا تنافي البشرية، ولا تخرج النبيّ عن كونه بشراً يحمل في ذاته نقاط الضعف البشرية، ولكن العصمة تكون مانعاً من أن تكون مؤثرة لخطئه المنافي لها، فإنّ "مظاهر الضعف البشري" لدى الأنبياء "لا تنافي العصمة"( ).
"إنّ القرآن يؤكّد وجود عناصر الضعف البشري في ذات الرسول، ولكن في المستوى الذي لا ينافي العصمة"( ).
"إنّ العصمة تضادّ الانحراف الفكري والعملي، ولا تنافي الحالات المرتبطة بالتركيب النفسي العصبي الذي يهتز للمفاجأة بفعل الصدمة غير المنتظرة، ولكنّه يرجع إلى القاعدة الإيمانية من خلال الألطاف الإلهية التي تحيط به‏"( ).
على هذا الأساس، يفسر المواقف النبوية التي يطرحها القرآن بقرينة العصمة القطعية التي تؤمن ببشرية الأنبياء وبملكاتهم الروحية التي تسمو بهم عن أيّ لون من ألوان الانحراف والخطأ والضلال الذي يخلّ بمهمتهم التغييرية ومسؤولياتهم الرسالية، وبالتالي، فلا تنافي بين مقولة (البشرية) ومقولة (العصمة).
وهذا هو المنهج الأساس في تفسير (من وحي القرآن)، في التعامل مع الظهورات القرآنية في قصص الأنبياء والمرسلين، ذلك التعامل الحذر الذي يرى حجيّة الظهور ما لم ينافِ قرينة قطعية، عقلية أو نقلية، ولا شكّ، فإنّ عصمة الأنبياء والمرسلين من أكبر القرائن العقلية في عالم التفسير وقراءة النص، وتأتي مباشرةً بعد قرينة عدم التجسيم لله سبحانه، فترى المفسّر يسعى إلى تأويل كلّ ظهور مخالف لهما، تأويلاً منطلقاً من حقائق علمية، لا من عصبيات مذهبية وأفكار مسبقة ومزاجية، وهذا هو ديدنه في تفسيره.
ولا يسع المجال لاستعراض كلّ الموارد التي كانت فيها قرينة العصمة سبباً للتأويل، والذي يختلف بطبيعته من مفسّر إلى آخر، بل قد يختلف عند مفسّر واحد، إذ يلجأ إلى تأويلٍ آخر وقراءةٍ أخرى للنّص، عندما يكتشف معطيات جديدة، ويتفطن إلى قرائن سياقيَّة حالية أو لفظية، ليرى أنّ ما قدمه قبل سنوات، لا ينسجم كثيراً مع قرينة العصمة التي يؤمن بها ويفسر الآيات على ضوئها، الأمر الذي يجعله يحذف من طبعات كتابه الجديدة ما كان يعتزّ به، وربما (يشجب) من يقول بما كان يقول به من قبل!!
المورد الأوّل: معصية آدم الإرشادية
يؤكّد تفسير (من وحي القرآن) أنّ النهي في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}(البقرة: 35)، كان إرشادياً لا مولوياً، وأنّ ذلك لا يتعارض مع ظواهر الآيات القرآنية التي تنسب المعصية والغواية والظلم إلى آدم:
{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}(طه: 121).
{قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(الأعراف: 23).
{وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}(البقرة: 35).
وذلك لأنّ "كلمة المعصية لا تختصّ بالمعصية القانونية المستتبعة للعقاب، فيصحّ لنا أن نطلق على التمرد على أوامر الطبيب كلمة العصيان، فتقول: عصيت أمر الطبيب.
أما كلمة الغواية، فإنهّا ضدّ الرشد كما ذكر، ولكن الرشد قد يكون في جانب المصلحة الدنيوية أو الذاتية، وقد يكون في إطار المصلحة الأخروية.
وكذلك كلمة التوبة، فإنها تعبِّر عن الرجوع عن الخطأ، سواء كان في ما يتعلّق بالأمور الدنيوية أو الأخروية، فيقال: تاب فلان عن العمل المضرّ، من دون أن يكون محرّماً في نفسه.
أما الظلم، فقد يظلم الإنسان نفسه إذا منعها من الفرص الطيبة التي تجلب لها الراحة الذاتية، وقد يطلق الظلم على تعريضها للعقاب الأخروي.
أما طلب المغفرة والرحمة، فإنّه قد ينطلق من الشعور بالإساءة إلى مقام الله في ترك اتباع نصائحه، وبمنافاة ذلك لحقّ العبودية للخالق"( ).
إنّ آدم(ع) أُسكن الجنة مع أنّه خُلق للأرض: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}(البقرة:30)، كمرحلة تمهيدية إعدادية تأهيلية، ليكون مستعداً لتحمل أعباء الخلافة الربانية بتوفير عنصري العلم والعزم، ولذا "لم تكن عملية الهبوط عقوبةً لهذا الانحراف عن أوامر الله، ولا يراد منها الإبعاد والإقصاء عن مجال رحمته - تعالى -، بل هي تخطيط لكون جديد يتحرك فيه الإنسان على أساس هدى الله في ما يوجه إليه من خلال رسالاته، ويمارس على أساسه دوره الطبيعي في خلافته عن الله في الأرض"( ).
ويعبّر المرجع الشهيد محمّد باقر الصدر عن جنة آدم (ع) بأنها "دار حضانة استثنائية، يجد فيها التنمية والتوعية التي تؤهله لممارسة دور الخلافة على الأرض، من ناحية فهم الحياة ومشاكلها المادية، ومن ناحية مسؤولياتها الخلقية والروحية"، لأنها كانت بمثابة "مرحلة الطفولة" البشرية.( )
المورد الثاني: الميل الطبعي لا ينافي العصمة
في سياق تفسيره لقوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}(يوسف:24)، يقول السيّد المفسّر: "نعتقد أنّ العصمة، أو المناعة الروحية، أو القوة الأخلاقية، لا تتنافى مع الحالة الإنسانية التي تخضع لعوامل التأثر الطبيعيّ الإنسانيّ بالرغبة والرهبة، بل إنّ كلّ ما تؤمنه، هو الالتزام الفكري والروحي والعملي بالخطّ المستقيم، فلا ينحرف في موقف، ولا يسقط في تجربة، أما التهاويل والخطرات والمشاعر، فهي أمور طبيعية. لذلك، فلا مجال لإثارة الشبهة حول موقف يوسف(ع)، كما يظهر في الآية، مما يدفع إلى كثير من التأويل والتكلّف الذي يبتعد عن المضمون الحقيقي لها"( ).
ولذا يذهب إلى اتجاه الميل الطبعي اللاقصدي في تفسير الهمّ اليوسفي، الذي يكون بعيداً عن أيِّ لون من ألوان القصد والعزم، بقوله: "فقد أحسّ بالانجذاب نحوها لا شعورياً، وهمّ بها استجابة لذلك الإحساس، كما همّت به، ولكنّه توقّف وتراجع، ورفض الحالة بحزم وتصميم، لأنّ موقفه ليس متعمداً، كما هو موقفها"( ).
وقد ذهب إلى الميل الطبعي الشريف المرتضى - بعد أن ذكر معاني الهم الأربعة في اللغة (العزم، الخطور، المقاربة، الشهوة وميل الطباع) - بقوله: "فإذا كانت وجوه هذه اللفظة مختلفة متسعة على ما ذكرناه، نفينا عن نبيّ الله ما لا يليق به، وهو العزم على القبيح، وأجزنا باقي الوجوه، لأنّ كلّ واحد منها يليق بحاله"( ).
وقد حذا الشيخ الطوسي حذو الشريف المرتضى بذكره للمعاني الأربعة للهمّ، بقوله: "وإذا احتمل الهم هذه الوجوه، نفينا عنه(ع) العزم على القبيح وأجزنا باقي الوجوه، لأنّ كلّ واحد منها يليق بحاله"( ).
وهكذا فعل الشيخ الطبرسي، وكعادته، بذكره للمعاني الأربعة، وبقوله: "وإذا كانت معاني الهمّ في اللغة مختلفة، يجب أن ينفي عن نبيّ الله يوسف (ع) ما لا يليق به، وهو العزم على القبيح، لأنّ الدليل قد دلّ على أنّ الأنبياء لا تجوز المعاصي والقبائح عليهم، وأجزنا عليهم ما سواه من معاني الهمّ، لأنّ كل واحد من ذلك يليق بحاله"( ).
ومن الواضح أنّ هؤلاء الأعلام بقولهم هذا - الذي يكاد يكون متطابقاً معنىً ولفظاً - كانوا بصدد إعطاء المعنى السياقي التركيبـي للهمّ اليوسفي في الآية: {وهَمَّ بِها لَولا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ}، بعد أن ذكروا المعنى اللغوي الإفرادي لكلمة الهمّ المشتركة في معان أربعة.
وقد فهم البعض من بعض تعبيرات تفسير (من وحي القرآن)، أنّه يذهب إلى أكثر من الميل الطبيعي الذي ارتضاه أعلام التفسير، كتعبير: "فقد أحسّ بالانجذاب نحوها لا شعورياً، وهمّ بها استجابةً لذلك الإحساس، كما همّت به، ولكنّه توقّف وتراجع، ورفض الحالة بحزم وتصميم‏، لأنّ موقفه ليس متعمداً، كما هو موقفها، ليندفع به نحو النهاية كما اندفعت هي، ولكن انجذابه الجسدي كان يشبه التقلص الطبيعي، والاندفاع الغريزيّ"، وتعبير: "كمن تتحرك غريزة الجوع في نفسه بكلّ إفرازاتها الجسدية عندما يشمّ رائحة الطعام"( ).
بيد أنّ المفسر يراها لا تخرج عن مقولة الميل الطبعي، وإنما هي توضيح لها وتقريب وتشبيه، لأنّها تصرِّح بعدم التعمد والقصدية والانجذاب اللاشعوري، ولأنّها وقعت في سياق يؤكّد أنّها في مستوى الطبع الإنساني، وقد عبر العديد من المفسرين، القدماء والمعاصرين، بأكبر منها وأشدّ في وصف خطوط الضغط التي تعرض يوسف الصديق في موقف المراودة.
تعبير تفسير الأمثل: "ممّا لا شكّ فيه، أنّ يوسف (ع) كان شابّاً يحمل جميع الأحاسيس التي في الشباب، وبالرغم من أنّ غرائزه كانت طوع عقله وإيمانه، إلّا أنّ مثل هذا الإنسان - بطبيعة الحال - يهيج طوفان في داخله، لما يشاهده من مثيرات في هذا المجال، فيصطرع العقل والغريزة، وكلّما كانت أمواج المثيرات أشدّ، كانت كفّة الغرائز أرجح، حتّى إنّها قد تصل في لحظة خاطفة إلى أقصى مرحلة من القوّة، بحيث لو تجاوز هذه المرحلة خطوةً لهوى في مزلق مهول، ولكنّ قوّة الإيمان والعقل ثارت في نفسه فجأةً، وتسلّمت زمام الأمور في انقلاب عسكري سريع، وكبحت جماح الشهوة.
والقرآن يصوّر هذه اللحظة الخاطفة الحسّاسة والمتأزّمة التي وقعت بين زمانين هادئين - في الآية المتقدّمة - فيكون المراد من قوله تعالى: {وهَمَّ بِها لَولا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ}، أنّ يوسف انجرّ إلى حافّة الهاوية في الصراع بين الغريزة العقل، ولكن فجأةً ثارت قوّة الإيمان والعقل وهزمت طوفان الغريزة.. لئلاّ يتصوّر أحد أنّ يوسف(ع) عندما استطاع أن يخلّص نفسه من هذه الهاوية، فلم يقم بعمل مهمّ، لأنّ أسباب الذنب والهياج الجنسي كانت فيه ضعيفة.. كلاّ أبداً.. فهو في هذه اللحظة الحسّاسة جاهد نفسه أشدّ الجهاد"( ).
تعبير ملا صدرا: "فإنّ شريف النفس، بحسب الجوهر، طيّب الأصل، قلّما يهمّ بشي‏ء خسيس مما ليس في فطرته ولم يقدر له من الفواحش والرذائل لعدم المناسبة، وإذا همّ نادراً لغلبة صفة من صفات نفسه وقواه، واستيلاء هواه، وهيجان شهوة أو غضب فيه، بأمر قبيح، ينـزجر بأقلّ زاجر من عقله وهداه، وربما يعود قبل صدور الفعل وإمضاء الهمّ النفساني إلى عقله وتقواه من غير عزم على الفعل، كما قال تعالى في يوسف (ع): {ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها لَولا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ}(يوسف: 24)"( ).
تعبير الطبرسي: "والمراد في قوله: {وهَمَّ بِها}: أنّ نفسه مالت إلى المخالطة، ونازعت إليها عن شهوة الشّباب ميلاً يشبه الهمّ بها والقصد إليها، ولو لم يكن ذلك الميل الشّديد المسمّى همّاً لشدّته، لما كان صاحبه ممدوحاً عند الله بالامتناع، ولو كان همّه كهمّها لما مدحه الله بأنّه: {مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ}"( ).
إنّ هذه النماذج التفسيرية، وإن اختلفت في تعبيراتها وأساليب بيانها، ومهما كانت ملاحظاتها على بعض كلماتها وتشبيهاتها، كـ(طوفان الغريزة) و(هيجان الشهوة)، بيد أنّ أصحابها يعتقدون أنّهم لا يبتعدون عن اتجاه الميل الطبيعي الذي لا ينافي عصمة يوسف الصدّيق، ومدى إبائه واستعصامه، حتى غدا مثلاً للعفة والحياء والنبل والنزاهة والطهارة والإباء.
مقولة العزم المفتراة!
أما ما نسب إلى السيّد المفسّر من مقولة: "عزم على أن ينال منها ما تريد نيله منه"، فهي مقولة مقتطعة من سياق محاضرة، بطريقة ظالمة مبتسرة، ما أعطت معنى مغايراً تماماً لما يريده المتكلم، فقد حذفت (لولا) الامتناعية وأبقي جوابها المقدم!! مع أنّه كان بصدد استعراض الرأي الذي يوافق على تقديم جواب (لولا) عليها، ليكون المعنى انتفاء الهمّ أصلاً لوجود رؤية البرهان، لأنّ (لولا) حرف امتناع لوجود، ليمتنع الجزاء (وهو الهمّ) لوجود الشرط (وهو الرؤية).
 والجملة الكاملة هكذا: "عزم على أن ينال منها ما تريد نيله منه، لولا أن رأى برهان ربّه... يعني لولا أن رأى برهان ربّه، لهمَّ بالاندفاع نحوها... فعندما رأى برهان ربّه، لم يحصل منه ذلك الهمّ أو ذلك العزم"( ).
ولو أنّ أحداً مارس الأسلوب التقطيعي ذاته مع الآية المباركة بحذف (لولا) الامتناعية وشرطها، لغدت تدين يوسف الصدّيق وتذمّه، لا تزكّيه وتبرئه، ليكون الهمّ متبادلاً بينه وبينها، إذ تقرأ هكذا: {ولقد همّت به وهمّ بها}!!
المورد الثالث: إباق يونس(ع)
{وإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إذ أَبَقَ إلى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وهُو مُلِيمٌ * فَلَولا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وهُو سَقِيمٌ * وأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وأَرْسَلْناهُ إلى مِائَةِ أَلْفٍ أو يَزِيدُونَ}(الصافات: 139-147)
{وذَا النُّونِ إذ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى‏ فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنا لَهُ ونَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}(الأنبياء: 87-88)
يورد تفسير (من وحي القرآن) ما جاء في بعض التفاسير، من أنّ يونس(ع) انفعل من رفع العذاب عن قومه، فذهب مغاضباً، لأنّ ذلك قد يسقط موقعه من قومه، لأنّ ما وعدهم به من العذاب لم يتحقق، فكأنّ المسألة، بالنسبة إليه، انفعال ثأريّ للذات. ويرى أنّ هذا الرأي "لا يتناسب مع العمق الإيمانيّ الذي يتميّز به هذا الرسول الصالح في حركة الدعوة إلى الله، وفي ابتهالاته الروحية في حالة الشدّة، وفي حديث الله عنه بأنّه من المؤمنين الذين يستجيب الله لهم".
وينبّه إلى ما قد يتبادر إلى الذهن من قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}، أنه (ع) انطلق في غضبه من حالة تمرّد في الذات، وهروب انفعاليّ يستغرق فيه الإنسان، حتى ليخيّل إليه أنّه يملك القدرة المطلقة على الذهاب إلى أيّ مكان شاء، بعيداً عن قدرة الله التي تحيط بكلّ شي‏ء. وهكذا يبدو، لأوّل وهلة، أنّه كان يظنّ في غفلة من الذات أنّه حرّ في حركته، وفي هروبه، وبذلك انحرف عن خطّ العقيدة والإيمان وظلم نفسه.
 "ولكن المراد هنا من كلمة (نَقْدِرَ) المعنى الذي يلتقي بالتضييق أو بالتحديد، كما في قوله تعالى: {وأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ}(الفجر: 16)، وهكذا يكون معنى الآية، أنّ هذا العبد الصالح خرج مغاضباً لقومه، وهو يظنّ أنّه قد ملك حريته، بعد أن انتهت مهمّته باستنفاد كلّ تجاربه في الدعوة إلى الله، وعدم تجاوب قومه معه، واستحقاقهم العذاب على ذلك، وقرب نزوله عليهم، فلم يفكّر في المرحلة الجديدة من عمله، ولم ينتظر عودتهم إلى الإيمان من خلال التجربة الأخيرة التي قد تحقق نتائج كبيرة على هذا الصعيد، وهي مسألة تهديدهم بالعذاب، الذي ثبت - بعد ذلك - أنّه كان الصدمة القوية التي أرجعتهم إلى عقولهم، فانفتحت قلوبهم على الإيمان بالله وبرسالاته من جديد. كما حدثنا الله عن ذلك في آية أخرى..
لقد كانت لحظة انفعال تختزن الغضب لله، ولكنّها لم تنطلق للتفكير في المستقبل في آفاق الدعوة إلى اللّه، التي تعمل على أن تطلّ على الآفاق الواسعة من عقل الإنسان وروحه وقلبه، لتنتظر منه انفتاحة إيمان، ويقظة روح، وخفقة قلب"( ).
أمّا قوله: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فقد فسّرها بظلم نفسه في تحركه وخروجه من دون إذن من ربّه، "فخرج مغاضباً، احتجاجاً على ذلك، من دون أن يتلقى أيّة تعليمات من الله تدعوه للخروج، اقتناعاً منه بأنّ الساحة لا تحتاج لبقائه، فقد قام بدوره كما يجب، ولم يدّخر جهداً في الدعوة إلى الله بكلّ الأساليب والوسائل، ولم يبق هناك شي‏ء مما يمكن عمله، ولكن الله اعتبر عمله نوعاً من الهروب في ما يمثله ذلك من معنى الإباق، تماماً كما هو إباق العبد من مولاه"( ).
 وهذا التفسير نابع من تدبرٍ في كلمة (الإباق) التي عبَّرت عن الهروب والذهاب مغاضباً، لأنّ إباق العبد أخصّ من هروبه، إذ يكون من دون عذر ولا كدّ عمل. وهذا ما أكّده أهل اللغة وأهل التفسير، من أنّ للإباق دلالتين، الأولى الهروب من المولى، والثانية أنّ هذا الهروب بلا خوف ولا كدّ عمل من قبل السيّد.
جاء في كتاب العين للفراهيدي: "الإباق: ذهاب العبد من غير خوف ولا كدّ عمل".
وفي لسان العرب: "الإباق: هرب العبيد وذهابهم من غير خوف ولا كدّ عمل".
وفي كليات أبي البقاء: "الأبق: وهو هرب العبد من السيّد خاصةً، ولا يقال للعبد أبق إلا إذا استخفى وذهب من غير خوف ولا كدّ عمل، وإلا فهو هارب".
وفي المصباح المنير: "إذا هرب العبد من سيّده من غير خوف ولا كدّ عمل".
من هذا المنطلق، شَّبه بعض المفسرين إباق يونس(ع) بإباق العبد من مولاه، لخروجه من دون إذنٍ من ربّه.
نقرأ في تفسير الميزان: "الإباق: هرب العبد من مولاه. والمراد بإباقه إلى الفلك، خروجه من قومه معرضاً عنهم. وهو(ع) وإن لم يعصِ في خروجه ذلك ربّه، ولا كان هناك نهي من ربّه عن الخروج، لكن خروجه إذ ذاك كان ممثلاً لإباق العبد من خدمة مولاه، فأخذه الله بذلك"( ).
ويقول: "إنّ يونس(ع) استخبر عن حالهم، فوجد العذاب انكشف عنهم - وكأنّه لم يعلم بإيمانهم وتوبتهم - فلم يعد إليهم، وذهب لوجهه على ما به من الغضب والسخط عليهم، فكان ظاهر حاله حال من يأبق من ربّه مغاضباً عليه، ظانّاً أن لا يقدر عليه، وركب البحر في فلك مشحون"( ).
وفي مورد ثالث يقول: "ويمكن أن يكون قوله: {إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} وارداً مورد التمثيل، أي كان ذهابه هذا ومفارقة قومه، ذهاب من كان مغاضباً لمولاه، وهو يظنّ أنّ مولاه لن يقدر عليه، وهو يفوته بالابتعاد منه، فلا يقوى على سياسته"( ).
ويلتفت تفسير الأمثل إلى تعبير الإباق في قوله تعالى: {إذ أَبَقَ إلى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} فيقول: "كلمة (أبق) مشتقّة من (إباق)، والتي تعني فرار العبد من سيّده؛ إنّها لعبارة عجيبة، إذ تبيّن أنّ ترك العمل بالأولى من قبل الأنبياء العظام ذوي المقام الرفيع عند اللّه، مهما كان بسيطاً، فإنّه يؤدّي إلى أن يتّخذ الباري عزّ وجلّ موقفاً معاتباً ومؤنّباً للأنبياء، كإطلاق كلمة (الآبق) على نبيّه"( ).
ولهذا فسَّر المفسّرون تعبيرات {وَهُوَ مُلِيمٌ} و{ذَهَبَ مُغَاضِبًا} و{وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} بأنَّه(ع) خرج من دون إذنٍ من ربّه، أو قبل أن يأذن له الله تعالى، وأنّه لذلك مستحقٌّ للوم، أو صار ذا ملامة، أو أتى بما يلام عليه أو يلوم نفسه، وهو، على حدِّ تعبير الشيخ الطبرسي: "لوم العتاب لا لوم العقاب". يقول الشيخ الطوسي في التبيان: "وعندنا قد يلام على ترك الندب"( ).
يفسّر (من وحي القرآن) (مليم) بلوم النفس، بقوله: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وهُو مُلِيمٌ‏} "أي ذو ملامة يعيش لوم نفسه على ما فعله‏"( ).
كما فسّر الإباق بلحاظ دلالته اللغوية، بقوله: "فخرج مغاضباً، احتجاجاً على ذلك من دون أن يتلقّى أيّة تعليمات من الله تدعوه للخروج، اقتناعاً منه بأنّ الساحة لا تحتاج لبقائه، فقد قام بدوره كما يجب، ولم يدّخر جهداً في الدعوة إلى الله بكلّ الأساليب والوسائل، ولم يبق هناك شي‏ء مما يمكن عمله، ولكن الله اعتبر عمله نوعاً من الهروب، في ما يمثله ذلك من معنى الإباق، تماماً، كما هو إباق العبد من مولاه"( ).
فيما احتمل بعض المفسرين معاني أخرى، تأخذ في الاعتبار دلالة (مليم) مادةً وهيئة، فاختار الطوسي معنى "أتى بما يلام عليه"، والطبرسي "مستحقّ للّوم" في مجمع البيان، و"داخل في الملامة" في تفسيره المختصر جوامع الجامع، بينما احتمل الفيض الكاشاني في تفسيره الصافي أحد معاني ثلاثة محتملة: "داخل في الملامة، أو آت بما يلام عليه، أو مليم"( ).
وهكذا فعل العلامة المشهدي في تفسيره (كنـز الدقائق)، فذكر المعاني الثلاثة مصدرةً بكلمة: قيل، ومعنى ذلك، أنّه يوافق على هذه الأقوال الثلاثة، ولا يملك الدليل على ترجيح أحدها. ولا تدلّ كلمة (قيل) على التضعيف في أمثال هذا الموقف الذي لم يقدم فيه المفسِّر معنى ( ).
المورد الرابع: سليمان(ع) والصافنات الجياد
{ووَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إذ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ * فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ * رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ والْأَعْناقِ}(ص: 30-33)
اختلف المفسرون في تحديد الضميرين (التاء) و(الهاء) في كلمتي (توارت) و(ردوها)؛ فهل هما عائدان إلى الخيل أو إلى الشمس؟ هناك أربعة احتمالات: الضميران عائدان إلى الصافنات، أو إلى الشمس، أو الأوَّل إلى الشمس والثاني إلى الصافنات، أو العكس. ولكلّ احتمال تفسيره ومعناه الذي يراعي العصمة ولا ينافي مقام النبوة.
ولعلّ هناك من يعترض على احتمال الشمس، سواء في {رُدُّوهَا} أو في {تَوَارَتْ}، لأنّه يرى أنّ الضمير لا بدَّ من أن يعود إلى شيء مذكور أو بمثابة المذكور، وكلاهما لا يتوفران في السياق!
وهذا الإشكال يرجع إلى عدم التمييز بين (العشاء) و(العشي)، فإنّ الأولى تطلق على الزمن بعد غروب الشمس، أما الثانية، فتطلق على الزمن قبل الغروب.
كتاب العين للفراهيدي: "العشي آخر النهار، والعشاء أوّل الظلام".
لسان العرب: "إذا زالت الشمس دعي ذلك الوقت العشي، فتحوَّل الظل شرقيّاً، وتحولت الشمس غربية".
فقه اللغة للثعالبي: "سَاعَاتُ النَّهارِ: الشُرُوقُ ثُمَّ البكورُ ثُمَّ الغُدْوَةُ ثُمَّ الضُّحَى ثُمَّ الهاجِرَةُ ثُمَّ الظَهِيرَةُ ثُمَّ الرَّوَاحُ ثُمَّ العَصْرُ ثُمَّ القَصْرُ ثُمَّ الأصِيلُ ثُمَّ العَشِيُّ ثُمَّ الغُروبُ".
تفسير التبيان: "العشي آخر النهار".
تفسير مجمع البيان: "العشي: آخر النهار بعد زوال الشمس".
ولهذا قال الزجاج: "في الآية دليل يدلّ على الشمس، وهو قوله: {إذ عُرِضَ عَلَيْهِ}، فهو في معنى عرض عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب، قال: وليس يجوز الإضمار، إلا أن يجري ذكر أو دليل بمنـزلة الذكر"( ).
وقال الزمخشري: "والذي دلَّ على أنّ الضمير للشمس، مرور ذكر العشي، ولا بُدَّ للمضمر من جري ذكر أو دليل ذكر"( ).
وهكذا نبه العلامة المشهدي بقوله: "أي غربت الشمس... وإضمارها من غير ذكر، لدلالة (العشي) عليه"( ).
كما نبّه إلى ذلك العلامة الطباطبائي، بقوله: "وقوله: {حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ} الضمير على ما قالوا للشمس، والمراد بتواريها بالحجاب، غروبها واستتارها تحت حجاب الأفق، ويؤيّد هذا المعنى ذكر العشي في الآية السابقة إذ لولا ذلك، لم يكن غرض ظاهر يترتب على ذكر العشي"( ).
من هذا المنطلق، ندرك مدى الخطأ في قول من قال: "وإذا رجعنا إلى الآيات نفسها، نجدها تصرِّح بأنّ عرض الخيل على سليمان قد كان بالعشي، ولا دلالة فيها على أنّ العرض قد حصل في حين كانت الشمس ظاهرة"!!
حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ‏
يفسّرها (من وحي القرآن) بغياب الشمس، وفوت صلاة العصر، بسبب استعراضه لخيل الجهاد، ويرى أنّ "هذا هو المشهور بين المفسرين، من أنّ استعراض الخيل أمامه امتدّ بحيث شغله عن الإقبال على صلاته".
ثم يقول: "وقد أثار بعض المفسرين احتمال أن يكون انشغاله بحبّ الخير عن ذكر ربّه منطلقاً من أمر الله، ليكون استعراضه وحبّه لها عملاً عبادياً، ليتهيأ بها للجهاد في سبيل الله، وبذلك يكون الشاغل له عن عبادة اللَّه، عملاً يختزنها - أي العبادة لله تعالى - في داخله.
ولعل الأساس في هذا التوجيه التفسيري، هو الخروج بعمل سليمان عن كونه مخالفاً لموقعه الرسالي، في انشغاله باستعراض الخيل عن عبادة الله الواجبة في وقت معيّن".
ويرى أنّ "ما تقدم ليس بحجة قوية، لا سيّما إذا كانت الصلاة موقتة، بوقت معيّن في ذلك العصر، بحيث يذهب وقتها بغروب الشمس وتواريها بالحجاب، كما يظهر من بعض الروايات، لذا فإنّ الانشغال عنها المؤدّي إلى تركها، بعمل آخر مرضٍ لله، موسع في وقته، غير مبرّر شرعاً.
ولهذا، فقد يكون من الأقرب إبقاء الآية على ظاهرها الذي يوحي بأنّ سليمان كان في مقام توبيخ نفسه أو الاعتذار إلى الله عما حدث، وهو ما لا يتناسب بالتأكيد مع التوجيه المذكور الذي قد لا يكون له معنى، إلا أن يقال: إنّ ذلك بلحاظ أهميّة الصلاة، وبذلك يكون قد قدّم المهمّ على الأهمّ في الوقت الذي يتَّسع للعملين معاً، مع كون تقديم الصلاة أفضل، بلحاظ الوقت"( ).
وتحت عنوان: كيف نفهم حدود العصمة؟ يقول: "وقد نلاحظ في هذا المجال، أنّ مسألة حدود العصمة، في ما يراد من خلاله تأكيد القيمة الأخلاقية المنفتحة على الله في القيام بما يحقق رضاه في أفق محبته، لا يكفي فيها التركيز على ترك المعصية، بل لا بدّ من الانفتاح على العمق الروحي الذي يتناسب مع قيمة النبوّة في جانب القدوة الرسالية منها.
وقد ينبغي دراسة الأسس التي يحاول الكلاميون من خلالها تبنّي مسألة عصمة الأنبياء بالشكل المطلق، لنتعرّف كيف يمكن لنا أن نواجه الظواهر القرآنية التي تمنح الجانب الإنساني قيمةً واقعيةً في تقييم شخصية النبي، بالمستوى الذي لا يبتعد عن الإخلاص والصدق الواعي في خطّ الرسالة، مع إفساح المجال لبعض نقاط الضعف الإنساني أن تنفذ إلى حياته، بشكل جزئيّ طبيعيّ"( ).
شغلته عبادة عن عبادة
وقد ذهب أعلام التفسير إلى هذا الاتجاه في التفسير، لأنّه لا يتنافى مع العصمة:
1-    الشيخ الطوسي: "وقوله: {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي}، معناه أنّ هذا الخيل شغلني عن صلاة العصر حتى فات وقتها، وهو قول عليّ (ع) وقتادة والسدي، وروى أصحابنا أنه فاته الوقت الأول، وقال الجبائي: إنّه لم يفته الفرض، وإنما فاته نفل كان يفعله آخر النهار، ففاته لاشتغاله بالخيل"( ).
2-    الشيخ الطبرسي: "والمراد بالخير الخيل هنا، فإنّ العرب تسمي الخيل الخير، عن قتادة والسدي. فالمعنى: آثرت حبّ الخيل من ذكر ربّي، أي على ذكر ربّي. قال الفراء: كلّ من أحبّ شيئاً فقد آثره. وفي قراءة ابن مسعود: حبّ الخيل، وسمى النبي (ص) زيد الخيل زيد الخير... وقيل إنّ هذه الخيل كانت شغلته عن صلاة العصر حتى فات وقتها، عن عليّ(ع) وقتادة والسدي. وفي روايات أصحابنا أنّه فاته أول الوقت. وقال الجبائي: لم يفته الفرض، وإنما فاته نفل كان يفعله آخر النهار لاشتغاله بالخيل"( ).  
3-    العلامة الطباطبائي: "فمحصل معنى الآية، أنّي شغلني حبّ الخيل - حين عرض الخيل علي - عن الصلاة، حتى فات وقتها بغروب الشمس، وإنما كان يحبّ الخيل في الله ليتهيأ به للجهاد في سبيل الله فكان الحضور للعرض عبادةً منه، فشغلته عبادة عن عبادة، غير أنّه يعدُّ الصلاة أهمّ"( ).
المورد الخامس: فتنة سليمان(ع) بالجسد الملقى
{ولَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وأَلْقَيْنا عَلى‏ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ * قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ * والشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وغَوَّاصٍ * وآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ * هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أو أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ * وإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى‏ وحُسْنَ مَآبٍ}(ص: 34-40)
بلا شكّ، فإنّ التعبير عن طبيعة الفتنة تعبير مجمل، لا يبين لنا ما هي طبيعة هذه الفتنة وما علاقة الجسد الملقى بها، ولكنّه كما هو واضح، جاء في سياق المدح والثناء.
لذا يرى تفسير (من وحي القرآن) أنّ هذه الآية: {ولَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وأَلْقَيْنا عَلى‏ كُرْسِيِّهِ جَسَداً} "توحي بوجود فتنة واختبار في حياة سليمان، لتوجيه بعض أوضاعه التي يريد الله له أن يركّزها على أساس من الاستقامة في الفكر والعمل، في ما يبتلي الله به عباده ورسله، من أجل أن يربّيهم على الثبات في مواقع الاهتزاز، من خلال حركة التجربة في حياتهم العملية التي يراد لها أن تطلّ على حياة الآخرين من موقع القيادة الرسالية، وربما توحي الآية من خلال قوله: {ثُمَّ أَنابَ}، بأنّه ابتعد عن الخطّ قليلاً، في ما هو القرب السلوكي من الله، ثم عاد إليه بعد أن ابتلاه الله فعلياً"( ).
ويمارس السيّد المفسّر - كعادته - نقده للروايات في عالم التفسير التي يشمّ منها رائحة الإسرائيليات، والتي لا تنسجم مع موقع النبوة، فيقول: "وقد اختلفت الروايات في تصوير المراد بالفتنة، فذكر بعضها أنه كان يشعر بالقوّة الكبيرة في جسده بما تمنحه من القوّة الجنسية التي يواقع فيها عدداً كبيراً من نسائه، لتلد له كلّ واحدة منهن ولداً، فولد له ولد غير متكامل الخلقة، وأماته الله وألقاه على كرسيه جسداً لا روح فيه، ليدلّل له أنّ الأمور كلّها بيده.
وقيل: إنّ الله ابتلاه بمرض فألقاه على كرسيه كجسد لا روح فيه.
إلى غير ذلك من الروايات التي لا أساس فيها للحجيّة، ولا سيما أنّ الكثير منها لا يتناسب مع أخلاقية الأنبياء أو المؤمنين مما روته المصادر الإسرائيلية"( ).
ويقف السيد المفسر موقف المتحفظ الحذر من بعض الروايات المنسوبة إلى أئمة أهل البيت(ع)، بقوله: "فلنردّ علم ذلك إلى أهله، ولنقف عند إيحاءات الآية في حصول نوع من البلاء الذي أنزله الله على سليمان، ليكون بمثابة الصدمة الروحية التي تثير لديه الكثير من الأفكار حول القضايا المتصلة بموقعه من الله ورجوعه إليه، وطاعته والانقياد له في كلّ الأمور"( ).
وقد ذكر العديد من المفسّرين الرواية الأولى ولم يمارسوا النقد إزاءها، كالشريف المرتضى في كتابه القيم "تنـزيه الأنبياء"، لأنّها تقتضي "معصية صغيرة، على ما ظنّه بعضهم، حتى نسب الاستغفار والإنابة إلى ذلك، وذلك لأنّ محبّة الدنيا على الوجه المباح ليس بذنب، وإن كان غيره أولى منه"( ).
فيما يرى العلامة الطباطبائي أنّها من الروايات التي "لا يعبأ بها... وإنّما هي ممّا لعبت بها أيدي الوضع"( ).
ومن هذه الروايات، ما روي أنّه (ع) قال يوماً: لأطوفن الليلة بمائة امرأة من نسائي - تلد لي كلّ واحدة منهن لي فارساً يجاهد في سبيل الله - ولم يستثن، فلم تحمل منهن إلا واحدة بشق من ولد.
ومنها: ما ذكره تفسير القمّي من قصة الخاتم، منسوباً إلى الإمام الصادق(ع)!!
يرى تفسير (من وحي القرآن)، أنّ هذه الروايات وأمثالها "لا أساس فيها للحجيّة، ولا سيّما أنّ الكثير منها لا يتناسب مع أخلاقية الأنبياء"( ).
وكان ينبغي على تفسير الأمثل أن يحذّر من أمثال هذه الروايات، كما حذَّر منها تفسير أستاذه العلامة، بدلاً من أن يعتبر تلك القصة "أفضل وأوضح" التفسيرات في الآية!! مع أنّه قد حذّر في هذا المقام ذاته، ما أسماهم بـ "ناسجي قصص الخيال" الذين يستغلّون إجمال القصص القرآني، لينسجوا "قصصاً خياليةً وهميةً أخرى، ويلصقوا التّهم بهذا النّبي الكبير ما لا يليق بالنّبوة، ويتنافى مع مقام العصمة، ويتنافى أساساً مع المنطق والعقل، وهذا بحدّ ذاته امتحان للمحقّقين في علوم القرآن، فلو أنّنا اكتفينا بما تطرحه آيات القرآن، لما بقيت ثغرة لنفوذ الخرافات والأباطيل"( ).
المورد السادس: إبراهيم(ع) (هذا ربّي)، النظر والمناظرة
{وكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والْأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى‏ كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والْأَرْضَ حَنِيفاً وما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(الأنعام: 75-79)
يطرح تفسير (من وحي القرآن) اتجاهين في تفسير مقولة إبراهيم(ع): {هذا رَبِّي} للكوكب والقمر والشمس:
التفسير الأوّل: التأمّل والنظر.
التفسير الثاني: المجاراة والمناظرة.
بعد أن يتحدث عن الظهور الأولي للقصة، كما نقرأها في المقطع الآنف، وكما يتبادر منها لأول وهلة، يعقد بحثاً تحت عنوان: رحلة الإيمان‏، يتساءل فيه قائلاً:
"هل هي الرحلة الأولى في طريق الإيمان لدى إبراهيم، أو هي محاكاة استعراضيّة للأجواء المحيطة به، في ما يعتقده الناس من ألوهية الكواكب والقمر والشمس، في محاولة إيحائية لمن حوله بسخافة هذه العقائد وتفاهتها وضعفها أمام المنطق الوجداني الصافي، وذلك من موقع ابتعاده عنها بعد اقترابه منها، ما يعطي لموقفه بعض القوّة في الإيحاء، باعتباره الموقف الذي عاش التجربة وعاناها، ثم تمرّد عليها؟"
يرجّح السيّد المفسّر التفسير الثاني (المحاكاة الاستعراضيّة) لقرائن عديدة، بقوله: "إننا نعتقد أنّ هذا هو الرأي الأقرب"( ).
ثم يذكر القرائن السياقية الخاصة والعامة، والقرائن الخارجية لأقربيّة الاتجاه الثاني في التفسير:
القرينة الأولى: شخصية إبراهيم المتمرّدة على البيئة
إنّ هذا التفسير "يلتقي مع شخصية إبراهيم(ع) في ما حدَّثنا القرآن عن حياته، فنحن لم نلمح - في غير هذه الآية - حالة تأثره بالجوّ المحيط به، بل ربّما نرى الأمر - بالعكس من ذلك - حالة تمرّد على البيئة، حتى في ما يتعلق بالجو العائلي المتمثل بأبيه الذي نقل لنا القرآن موقف إبراهيم(ع) منه، وقد نستطيع استيحاء الآية السابقة التي حدثنا القرآن فيها عن كلام إبراهيم لأبيه حول الأصنام التي يعبدها، أن هذا الموقف سابق لموقفه من هذه العقائد"( ).
القرينة الثانية: رؤية الملكوت
 وهي قرينة سياقية كذلك، فإنّ القصة جاءت في سياق رؤية ملكوت السماوات والأرض، وهذه "الرؤية التي حدَّثنا الله عنها لملكوت السّموات والأرض، لا بدّ من أن تكون الرؤية الوجدانية الواعية التي تحاول أن تثير التفكير من خلالها، وليست الرؤية البصرية الساذجة، لأنها تبدأ مع الإنسان منذ اللحظة التي يفتح فيها عينيه على الحياة ليتطلع إلى ما فيها من موجودات يدركها البصر.
وربّما كانت كلمة {ولِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} إشارة إلى ذلك، لتلتقيَ بكلمة {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏ قالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى‏ وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}(البقرة: 260)، ما يوحي بأنّ إبراهيم كان يعيش حركة الفكر الذي يريد أن ينمي من خلاله أفكاره وإيمانه، بكلّ الأشياء التي تركز للفكرة قوّتها وفاعليتها وثباتها وحركتها أمام التحديات التي تواجهها، حتى في ما يشبه الأوهام، ليواجه الصراع الذي يعيشه، بانفتاح وقناعة وقوّة لا تعرف الضعف ولا التراجع في كلّ المجالات"( ).
ثم يقول السيّد المفسّر بخصوص الاتجاه الآخر، وهو اتجاه التأمّل والنظر: "أمّا الاحتمال الأوّل، فقد يقرّبه القائلون، أن تكون الحادثة قد حصلت في بداية طفولته، عندما بدأ يتطلع إلى الأشياء، ويتأمل في الخلق".
ثم يقول: "ولعلّ هذا هو الذي نستوحيه من الجوّ النفسي الساذج الذي توحي به الآية. فهذا هو إبراهيم يواجه الكوكب البعيد في السماء، ولكنّه يشرق في قلب الظلام، فيشعر بالرهبة والروعة، فيصرخ - في هذه مثل اللهفة - {هذا رَبِّي}، انطلاقاً مما كان يسمعه بأنّ الإله بعيد عن الإنسان، فلمّا أفل، أحسَّ بالانقباض وقال: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}، فقد نجد في كلمة {لا أُحِبُّ} بعض كلمات الطفولة البريئة، التي تحبّ أو لا تحبُّ من خلال مشاعرها الساذجة إزاء الأشياء، وتتكرر التجربة مع القمر، وتنطلق الصرخة الطفولية من جديد، تماماً كمثل الهتاف الذي يهتف به الطفل عندما يجد شيئاً قد أضاعه، أو شيئاً قد طلبه.. وتتكرر خيبة الأمل من جديد.
ولكن الوعي يتنامى هنا، فلا نجد ردّ الفعل طفولياً، بل نلاحظ في ردّ الفعل حالة حيرة وذهول وتوسّل إلى هذا الربّ المجهول الذي يتمثله في وعيه هاديا لعباده، أن يهديه إلى الحقّ لئلا يكون من القوم الضالين .."( ).
ثم يقول أخيراً، مرجّحاً الاتجاه الثاني: "ولكننا قدّمنا أنّ الاحتمال الثاني أقرب؛ لأنّ حديث القرآن عن إبراهيم(ع) لا يوحي بشي‏ء من هذا القبيل، ما يدلّ على أنّه كان موحداً بالفطرة منذ البداية"( ).
ومن المفارقات، أنّ بعض الناقدين لتفسير (من وحي القرآن) سجّل نقاطاً عديدةً على ما قدّمه من تفسير آخر احتمله، وإن لم يرجّحه، باعتباره ينافي العصمة ولا ينسجم مع مقام إبراهيم الخليل(ع)، مع أنّه تفسير احتمله أعلام مدرسة أهل البيت(ع)، ولم يرفضوه، وقد جاءت به روايات عديدة عنهم (ع)، كما سنرى.
تفسير الميزان: سنّة التدرج من النقص إلى الكمال
ومن أعلام التفسير المعاصرين العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان، ارتضى هذا النمط من التفسير، بقوله: "فالذي يعطيه ظاهر الآيات، أنّه (ع) سلَّم أنّ لجميع الأشياء إلهاً فاطراً واحداً لا شريك له في الفطر والإيجاد، وهو الله تعالى، وأنّ للإنسان ربّاً يدبّر أمره لا محالة، وإنما يبحث عن أنّ هذا الربّ المدبر للأمر، أهو الله سبحانه وإليه يرجع التدبير كما إليه يرجع الإيجاد، أم أنّه بعض خلقه أخذه شريكاً لنفسه وفوّض إليه أمر التدبير"( ).
"وفي إثر ذلك، ما كان منه (ع) من افتراض الكوكب الذي كانوا يعبدونه ثم القمر ثم الشمس، والنظر في أمر كلّ منها؛ هل يصلح لأنّ يتولى أمر التدبير وإدارة شؤون الناس؟
وهذا الافتراض والنظر، وإن كان بحسب طبعه قبل العلم اليقيني بالنتيجة، فإنّ النتيجة فرع يتأخر طبعاً عن الحجة النظرية، لكنّه لا يضرُّ به(ع)، فإنّ الآيات كما استفدناه فيما تقدم، تقص أول أمر إبراهيم، والإنسان في أول زمن يأخذ بالتمييز ويصلح لتعلق التكليف الإلهي بالنظر في أمر التوحيد وسائر المعارف الأصلية، كاللوح الخالي عن النقش والكتابة، غير مشغول بنقش مخالف، فإذا أخذ في الطلب، وشرع يثبت شيئاً وينفي شيئاً لغاية الحصول على الاعتقاد الحق والإيمان الصحيح، فهو بعد في سبيل الحقّ لا بأس عليه في زمن يمّر عليه بين الانتزاع من قصور التمييز وبين الاعتصام بالمعرفة الكاملة والعلم التامّ بالحقّ"( ).
ويرى العلامة الطباطبائي أنّ "من ضروريات حياة الإنسان، أن يمّر عليه لحظة هي أول لحظة ينتقل فيها من قصور الجهل بواجب الاعتقاد، إلى بلوغ العلم، بحيث يتعلق به التكليف العقلي بالانتهاض إلى الطلب والنظر، وهذه سنَّة عامَّة في الحياة الإنسانية المتدرجة من النقص إلى الكمال، لا يختلف فيها إنسان وإنسان، وإن أمكن أن يظهر من بعض الأفراد بعض ما يخالف ذلك من أمارات الفهم والعلم قبل المتعارف من سنّ التمييز والبلوغ، كما يحكيه القرآن عن المسيح ويحيى(ع)، فإنما ذلك من خوارق العادة الجارية، وما كلّ إنسان على هذا النعت، ولا كلّ نبيّ فعل به ذلك"( ).
روايات أهل البيت(ع)
وردت العديد من الروايات، ظاهرها الاتجاه الأول في التفسير (النظر)، وليس (المناظرة) التي ذكرتها رواية الإمام الرضا(ع):
الرواية الأولى: تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أحدهما(ع) قال: "في إبراهيم إذ رأى كوكباً قال: إنما كان طالباً لربّه ولم يبلغ كفراً، وأنّه من فكر من الناس في مثل ذلك فإنه بمنـزلته".
الرواية الثّانية: تفسير القمي، قال: وسئل أبو عبدالله(ع) عن قول إبراهيم: {هذا رَبِّي}، هل أشرك في قوله: هذا رَبِّي؟ فقال: "من قال هذا اليوم فهو مشرك، ولم يكن من إبراهيم شرك، وإنما كان في طلب ربّه، وهو من غيره شرك".
يعلق العلامة الطباطبائي على الروايتين بقوله: "ويقابل الذي هو طالب، من تمّ له البيان وقامت له الحُجّة الواضحة فهو غير طالب، وليس لغير الطالب أن يفترض ما فيه شرك".
الرواية الثّالثة: تفسير العياشي، عن حجر قال: أرسل العلاء بن سيابة يسأل أبا عبدالله(ع)، عن قول إبراهيم: {هذا رَبِّي}، وأنّه من قال هذا اليوم فهو عندنا مشرك، قال: "لم يكن من إبراهيم شرك، إنما كان في طلب ربّه، وهو من غيره شرك".
ويظهر من هذه الروايات أنّها على الاتجاه الأوّل (النظر)، لا الثاني (المجادلة والمناظرة).
الرواية الرابعة: في العيون، بإسناده إلى علي بن محمّد بن الجهم، عن الإمام الرضا(ع) قال: "هذا رَبِّي على الإنكار والاستخبار، فلما أفل قال: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}‏، فلما أصبح رأى الشمس بازغةً قال: {هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ} من الزهرة والقمر - على الإنكار والاستخبار لا على الإخبار والإقرار - فلما أفلت قال للأصناف الثلاثة - من عبدة الزهرة والقمر والشمس -: {يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والْأَرْضَ حَنِيفاً وما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
وإنما أراد إبراهيم بما قال، أن يبين لهم بطلان دينهم، ويثبت عندهم أنّ العبادة لا يحقّ لما كان بصفة الزهرة والقمر والشمس، وإنما يحقّ العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض، وكان ما احتجّ به على قومه، مما ألهمه الله عزّ وجلّ وآتاه، كما قال عزّ وجل: {وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى‏ قَوْمِهِ}. فقال المأمون: لله درُّك يا بن رسول الله".
يعلق صاحب تفسير الميزان على الرواية الرابعة، وهي واضحة في اتجاه المناظرة، بقوله: "وأمّا ما في الرواية من كون قول إبراهيم(ع): {هذا رَبِّي} واقعاً على سبيل الإنكار والاستخبار دون الإخبار والإقرار، فوجه من الوجوه التي تقدمت في تفسير الآيات أورده (ع) في قطع حجّة المأمون، ولا ينافي صحّة غيره من الوجوه لو كان هناك وجه كما سيأتي"( ).
ويقصد بما سيأتي، الروايات الثلاث الأولى التي على اتجاه النظر، كما هو واضح، فقد ذكرها بعد الرواية الرابعة في تفسيره الميزان، وبذلك يعتبر العلامة أنّ اتجاه المناظرة ليس هو التفسير الوحيد، وإنما لجأ إليه الإمام الرضا (ع) في مجلس المأمون على سبيل قطع حجّة الخصم، علماً أنّ الراوي الأول هو عليّ بن محمّد بن الجهم‏.
وعلى أيّ حال، فإنّ تفسير (من وحي القرآن)، وإن ارتضى اتجاه النظر، كما ارتضاه أعلام التفسير، بيد أنّه يرجح اتجاه المناظرة، كما هو واضح وبيّن من تفسيره، ومن كتبه الأخرى (الحوار في القرآن) و(الندوة)، والتي لم يذكر فيهما إلا اتجاه المحاكاة والمناظرة( ).
 المورد السابع: ذنب النبي(ص)
{إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ويَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً * ويَنْصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً}(الفتح: 1-3).
تحت عنوان: (علاقة الفتح بغفران الذنب‏)، يعقد تفسير (من وحي القرآن) بحثاً يقدم له بسؤالين:
الأول: ما هي علاقة الفتح بغفران الذنب، ليكون الأول تعليلاً للثاني بلحاظ ظهور "اللام" في التعليل؟
الثاني: ما معنى غفران ذنب النبي، وهو المعصوم في أقواله وأفعاله؟ ثم، ما هو المعنى لغفران الذنب قبل حدوثه؟
"وقد أجيب عن ذلك بأجوبة متعدّدة:
منها: أنّ الذنب ليس ذنب النبي مع اللّه، ولكنّه ذنبه مع أهل مكّة، في ما يعتقدونه من أنّ انطلاقته في الدعوة التي أدّت إلى الصراع العسكري وغير العسكري، يمثّل الذنب الكبير، باعتبارها الحركة التي قتلت الكثير من رجالهم، ودمّرت الكثير من هيبتهم. وبذلك كان الفتح، الذي بدأ بصلح الحديبية معنوياً، وانتهى بفتح مكّة فعلياً، ووقف بعده النبي ليعفو عن المشركين بعد السيطرة عليهم أساساً لغفرانهم لما سلف، ولما يأتي من ذنوبه بحقهم، لأنّ عظمة عفو النبي عنهم في ظروفه الموضوعية، تلغي كلّ مواقع الذنب في ماضيه ومستقبله، وبذلك تكون كلمة الفتح منسجمةً مع التعليل بالمغفرة.
أما نسبة المغفرة إلى الله، فلأنّه كان السبب في ذلك كلّه، على نحو المجاز.
ومنها: أنّ المراد ذنب أمته، باعتبار أنّه يمثّل قيادة الأمة التي تتحمل معنوياً مسؤولية أعمال أتباعها.
ومنها: أنّ المراد ذنب أبويه آدم وحواء ببركته.
ومنها: أنّ المسألة قائمة على الفرضيّة الطبيعية، باعتبار أنّه بشر يمكن أن يخطئ في المستقبل، كما كان ذلك ممكناً في الماضي. ولهذا، فإنّ التعبير يعالج المسألة على أساس أنّه لو كان الأمر كذلك لغفر الله له، لأنّ مثل هذا الفتح المبين الذي قام به، يمثّل العمل الأفضل الذي تسقط أمامه كلّ الذنوب، بحيث يكون هو الحسنة التي لا تضرّ معها سيّئة"( ).
يلاحظ السيّد المفسّر "أنّ كلّ هذه التفاسير كانت تحاول الهروب من المعنى الظاهر فيها، يعني أنّ للنبي ذنباً متقدماً ومتأخراً، وأنّ الله جعل الفتح سبباً في مغفرته، لأنّ هذا المعنى لا يتناسب مع عصمة النبي، أو كماله، أو شخصيته النبوية التي تمثل النموذج القدوة، فقد تكون بشريته محكومةً لنقاط الضعف في طبيعتها، ولكن رسالته، التي انطلقت من الوحي، لا بدَّ من أن تمنح إنسانيته نقاط القوّة، ولا بدَّ من أن تكون قد درست مؤهّلاته التي عاشها مدّة أربعين سنةً قبل الرسالة، ليبني على أساسها شخصيته بالمستوى الذي لم يستطع الناس الذين عاشوا معه من أهله وأصحابه، أن يسجّلوا عليه أيّة نقطة سوداء في ما يروونه عن ماضيه الشخصي، ولهذا فإنّ مسألة الذنب تتنافى مع هذا الماضي الطاهر المشرق الذي زاده حاضر الرسالة حركيّةً وقوّةً وإشراقاً وصفاء"( ).
"وعلى ضوء ذلك، فلا بدَّ من تجاوز هذا المعنى إلى ما يختزنه من‏ إيحاءات تتناسب مع صفاء العمق الروحي للشخصية النبوية".
لذا يرى أنّ "الأقرب إلى الجوّ، أن نستوحيَ من المغفرة معنى الرضوان والمحبّة والرحمة، باعتبار أنها تمثل نتائج المغفرة، ليكون المعنى، هو أنّ الله يمنحك رضوانه ومحبته، في ما يوحي به من معنى إيجابي يستلزم انتفاء المعنى السلبي، باعتبار أنّ الفتح، في ما يمثله، هو الانطلاقة التي تفتح للإسلام باب الحياة الواسع الذي يدلّ الناس على الطريق إلى الله. وقد جاهد النبي(ص) أقسى الجهاد، حتى وصل إلى هذه النتيجة بتوفيق الله ورعايته، ومن هنا، كان ذلك سبباً في محبّة الله له، التي تشمل أوّل الجهاد قبل الفتح، وآخره بعد الفتح"( ).
وقد سئل الإمام الرضا(ع) في مجلس المأمون عن هذه الآية: {لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ} وعلاقة ذلك بالفتح.
في عيون الأخبار بإسناده إلى عليّ بن محمّد بن الجهم قال: "حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا (ع) فقال المأمون: يا بن رسول الله، أليس من قولك إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، قال: ... فأخبرني عن قول الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ}؟
قال الرضا(ع): لم يكن أحد عند مشركي مكّة أعظم ذنباً من رسول الله (ص)، لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنماً، فلما جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص، كبر ذلك عليهم وعظم {وقالوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ عُجابٌ وانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا واصْبِرُوا عَلى‏ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ يُرادُ ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ}، فلما فتح الله تعالى على نبيّه (ص) مكّة، قال له: يا محمّد {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ} عند مشركي أهل مكة، بدعائك توحيد الله فيما تقدَّم وما تأخّر، لأنّ مشركي مكّة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكّة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم، فقال المأمون: لله درُّك يا أبا الحسن"( ).
وإلى ما جاء في مضمون الرواية، يذهب العلامة الطباطبائي في تفسيره لذنب النبيّ (ص) وعلاقة مغفرته بالفتح، بقوله: "ليس المراد بالذنب في الآية هو الذنب المعروف، وهو مخالفة التكليف المولوي، ولا المراد بالمغفرة معناها المعروف، وهو ترك العقاب على المخالفة المذكورة، فالذنب في اللغة على ما يستفاد من موارد استعمالاته، هو العمل الذي له تبعة سيئة كيفما كان، والمغفرة هي الستر على الشي‏ء، وأما المعنيان المذكوران المتبادران من لفظي الذنب والمغفرة إلى أذهاننا اليوم، أعني مخالفة الأمر المولوي المستتبع للعقاب، وترك العقاب عليها، فإنما لزماهما بحسب عرف المتشرعين".
"وقيام النبيّ (ص) بالدعوة ونهضته على الكفر والوثنية فيما تقدَّم على الهجرة، وإدامته ذلك، وما وقع له من الحروب والمغازي مع الكفَّار والمشركين فيما تأخَّر عن الهجرة، كان عملاً منه (ص) ذا تبعة سيئة عند الكفّار والمشركين، وما كانوا ليغفروا له ذلك ما كانت لهم شوكة ومقدرة، وما كانوا لينسوا زهوق ملّتهم وانهدام سنتّهم وطريقتهم، ولا ثارات من قتل من صناديدهم، دون أن يشفوا غليل صدورهم بالانتقام منه، وإمحاء اسمه، وإعفاء رسمه، غير أنّ الله سبحانه رزقه (ص) هذا الفتح، وهو فتح مكّة، أو فتح الحديبية المنتهي إلى فتح مكّة، فذهب بشوكتهم، وأخمد نارهم، فستر بذلك عليه ما كان لهم عليه (ص) من الذنب وآمنه منهم".
وعلى ضوء ما تقدَّم، يرى العلامة الطباطبائي أنّ "المراد بالذنب - والله أعلم - التبعة السيئة التي لدعوته(ص) عند الكفار والمشركين، وهو ذنب لهم عليه، كما في قول موسى لربّه: {ولَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}(الشعراء: 14)، وما تقدّم من ذنبه، هو ما كان منه (ص) بمكّة قبل الهجرة، وما تأخّر من ذنبه، هو ما كان منه بعد الهجرة، ومغفرته تعالى لذنبه، هي ستره عليه بإبطال تبعته بإذهاب شوكتهم وهدم بنيتهم، ويؤيّد ذلك ما يتلوه من قوله: {ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ... ويَنْصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً}(الفتح:2-3)"( ).
وربما لم يكن هذا المذهب من التأويل ينقدح في ذهن صاحب تفسير الميزان لولا رواية الإمام الرضا(ع)، وضرورة تفسير الآية على ضوء عصمة النبي الأكرم وطهارته، والتي هي قرينة عقليّة قطعيّة قبل أن تكون قرينةً نقليةً وحقيقةً تاريخية، وما نعرفه عن شخصية النبي التي اضطرت حتى المشركين إلى أن يلقبوه في شبابه بالصادق الأمين، وما اتّهامهم له بعد بعثته بعكس ذلك، إلا لقيامه بمسؤولية الإصلاح والتغيير، فإن أعدى أعداء الطغاة والمستكبرين المترفين هم الصالحون المصلحون.
المورد الثامن: أمر النبيّ (ص) بالاستغفار
{إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ الله ولا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً * واسْتَغْفِرِ الله إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً * ولا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً}(النساء: 105-107).
يتساءل تفسير (من وحي القرآن) في أجواء هذا المقطع من سورة النساء، قائلاً: "كيف يوجّه القرآن الخطاب إلى الرسول بالاستغفار، وهو المعصوم الذي لا تخطر بباله المعصية، فضلاً عن ارتكابها"؟.
ويرى أنّ الجواب يمكن أنْ يكون بتفسيرين على ضوء قرينة العصمة:
الأول: أسلوب إياك أعني واسمعي يا جارة
يوحي الأسلوب القرآني "بالخطاب للأمة من خلال خطاب النبي(ص)، إمعاناً في تأكيد الأهمية للموضوع".
الثاني: أسلوب التعبير عن النتائج بالمقدمات
"وربما يخطر في البال، أنّ الاستغفار لا يراد منه معناه الحرفي الذي يدلّ على وقوع الإنسان في الذنب أو حضوره في أجوائه، بل يقصد منه الابتهال إليه تعالى، ليسدّد الإنسان بالابتعاد عن ذلك، من باب التعبير عن عصمة الله للإنسان، بتوفيقه للبعد عن الذنب، بطريقة الطلب إلى الله أن يغفر له ذلك، كأسلوب من أساليب التعبير عن النتائج بالمقدمات، والله العالم"( ).
وعلى أساس عصمة النبي (ص) وأخلاقه الرفيعة، يسجل تفسير (من وحي القرآن) ملاحظاته النقدية لروايتي أسباب النـزول التي ذكرها الواحدي في كتابه، فيعقد بحثاً تحت عنوان: (ملاحظات حول روايات النـزول‏)، يرى فيه "أنهما لا تنسجمان مع أخلاقية النبي (ص) وعصمته وعدالته وابتعاده عن النطق عن الهوى، فقد ذكرت الرواية الأولى، أنّ النبي (ص) قد استجاب لأهل السارق المسلم الذين كلَّموه في الدفاع عن صاحبهم خوفاً من ثبوت الحكم عليه وافتضاحه، وخوفاً من تبرئة اليهودي الذي يعلمون ببراءته، فهمّ رسول الله(ص) أن يفعل، لأنّ هواه كان معهم، وصمم أن يعاقب اليهودي انسجاماً مع هواه، على حسب إيحاء الرواية، لولا أنّ الله سبحانه أنقذه من هذا الموقف الظالم الذي يسي‏ء إلى موقعه الرسالي".
"إنّ الصورة هي صورة النبيّ (ص) الذي لا يدقق في الدعوى ولا يطلب عليها شهوداً، بل يستجيب لكلام هؤلاء الناس الذين يهواهم - كما تقول الرواية - من دون أن يسألهم عن طبيعة الدعوى وعن الأساس في اتهام اليهودي الذي لا تمنع عداوته لله ورسوله أن يعدل النبي محمّد(ص) معه، فيسأله عن دفاعه عن نفسه وعن طبيعة اتهام الآخرين له، والله يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى‏ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هو أَقْرَبُ لِلتَّقْوى}(المائدة: 8)"( ).
"أما الرواية الثانية، فإنّها تصور النبيّ لنا في الوهلة الأولى - عندما أخبره قتادة بالحادث وقال: انظروا في شأنكم - بأنّه يدقّق في طبيعة القضايا والبحث عن وسائل الإثبات، ما يجعله في موقع المنتظر للنتائج من حيث الشهود، ولكنّه عندما جاءه الرجل الذي هو من بطنهم، وشكا له قتادة وعمّه، لم يتثبت من صحّة الحديث ولم يتأكّد من طبيعة المسألة التي سبق لقتادة أن حدثه عنها، فوبّخ قتادة على كلامه مع هؤلاء، كما لو كانوا أبرياء، من دون أن يسأله عن ظروف الحديث وطبيعته، ما جعل قتادة يتمنّى موته، وجعل عمّه يلجأ إلى الله ليستعين به، لأنّه لم يجد هناك من يثبت له حقّه، حتى رسول الله(ص)، حسب الرواية"( ).
وبعد أن يمارس عملية النقد على الروايتين، ينبِّه إلى ملاحظة منهجية في التعامل مع الكثير من أسباب النـزول الاجتهادية، التي لا تأخذ بعين الاعتبار طبيعة الأساليب القرآنية في الخطاب، بقوله: "إنّ مثل هذا النوع من الروايات، يخضع لاجتهادات المفسرين أكثر مما يخضع للروايات الموثقة المباشرة التي تتحدث عن سماع ذلك، ما يجعلنا نتصور أنهم استنطقوا الآية في مدلولها الحرفي، ففهموا منها أنّ الله كان يعاتب نبيّه على دفاعه عن الخائنين وجداله عنهم، ولا سيما أنّه أمره بالاستغفار، كما لو كان قد صدر عنه ذنب في الانحراف عن خطّ العدالة والتعاطف مع المنحرفين، ولكنّهم لم ينفتحوا على الأسلوب القرآني الذي يخاطب الأمة، من خلال مخاطبته للنبي محمد(ص)، تماماً كما لو كان هو الذي تتمثّل في سلوكه المفردات‏"( ).
ويختم السيّد المفسّر ملاحظاته النقدية المبتنية على ضرورة تفسير المواقف النبوية وفق قرينة العصمة القطعيّة والشخصيّة الرساليّة، بقوله: "إنّ القضية هي أنّ الرواة، أو المفسّرين، لم يدرسوا شخصية النبيّ الأخلاقية وعدالته الرسالية التي لا يمكن أن تنجذب إلى أيّ شخص، وضدّ أيّ شخص، من خلال عاطفة ذاتية متصلة بالنوازع النفسية الخاصة، وهو صاحب الخلق العظيم، ورسول العدل والإحسان، فكيف يبتعد عن خطّ العدل وروحية الإحسان!"( ).
المورد التاسع: عفا الله عنك!!
فسَّر أغلب المفسرين المؤمنين بعصمة الأنبياء والمرسلين قوله تعالى: {عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ}(التوبة: 43)، بأنّه عتاب بترك الأولى، فقد كان من الأولى للنبّي أن لا يأذن للمنافقين بالتخلّف عن ركب المجاهدين في غزوة تبوك، وترك الأولى لا ينافي العصمة.
وقد ذهب إلى هذا المعنى أعلام التفسير، كالسيّد المرتضى في كتابه تنـزيه الأنبياء، والشيخين الطوسي والطبرسي في تفسيريهما التبيان ومجمع البيان، فإنّه ليس بواجب حمل الخطاب على الإنكار، فإنّ غاية ما يقتضيه، دلالته "على ترك الأولى والأفضل، وقد بيّنا أنّ ترك الأولى ليس بذنب"( ).
يرى الشيخ الطوسي أنّ قوله تعالى: {عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} "إنّما هو كلمة عتاب له(ص) لما فعل ما الأولى أن لا يفعله؛ لأنّه وإن كان له فعله من حيث لم يكن محظوراً، فإن الأولى أن لا يفعله"( ).
وقد ذهب الشيح الطبرسي إلى مقولة العتاب كذلك، إذ رأى أنّ الآية خطاب للنبيّ (ص) "فيه بعض العتاب"( ).
وإلى ذلك ذهب تفسير (من وحي القرآن)، فرأى أنّ قوله: {عَفَا الله عَنْكَ} "أسلوب في العتاب لا يعنف في المواجهة، بل يرقّ ليخفّف من وقع الخطأ، انطلاقاً من عدم اطّلاعه على مواقفهم الحقيقيّة، ما يؤدّي إلى تصديقهم في ما يقولون، أو حملهم على الصحة، أو من سعة صدره التي تدفعه إلى عدم إحراج هؤلاء في موقفهم".
ثم عالج هذا الأمر وفق قرينة العصمة بقوله: "وقد يثار في هذا المجال موضوع العصمة، لأنّ العفو، في ما توحي به الكلمة، يفرض أنّ هناك ذنباً يحتاج صاحبه إلى العفو عنه"( ).
فكان جوابه: "ولكن الموضوع ليس كذلك، لأنّ مثل هذه الكلمة تستعمل في مقام العتاب الخفيف الذي يكشف عن طبيعة الخطأ غير المقصود للتصرّف، كما أنّ الحادثة لا تحمل في داخلها أيّة حالة من حالات الذنب، فالنبيّ يملك أمر الحرب، فيأذن لمن يشاء بالخروج أو لا يأذن، فليس للمسألة واقع خارج نطاق إرادته، وليست هناك أوامر إلهيّة في مسألة خروج هؤلاء وعدم خروجهم، ليكون تصرّفه (ع) مخالفةً لها، بل كلّ ما هناك، أنّ الله أراد أن يضع القضية في نصابها الصحيح، من المصلحة الغالبة في ترك الإذن لهم، ليفتضح أمرهم، ويتبيّن زيفهم بشكل واضح، فيتعرّف المسلمون إلى حقيقتهم، فيرفضوهم من موقع الحقيقة الداخلية التي تنكشف من خلال تصرّفاتهم".
وعلى ضوء هذا التفسير، يرى أنّ "المسألة تدخل في دائرة مخالفة ما هو الأولى في التصرّف، وليس في ذلك انتقاص من عصمته وانسجامه مع الخطّ الذي يريد الله له أن يسير فيه، فقد ترك الله للنبي (ص) مساحةً يملك فيها حريّة الحركة، من خلال ما يدبّر به أمر الأمة بالوسائل العادية المألوفة التي قد تخطئ في بعض مجالاتها، لا بالوسائل الغيبـية التي لا يملكها بطريقة ذاتيّة لم يكشفها الله له بشكل مطلق، تماماً كما هي الحال في ممارسته القضاء بين الناس، حيث‏ قال: "إنما أقضي بينكم بالإيمان والبيّنات"( ).
ويعقد بحثاً بعنوان: (معنى خطأ النبي‏)، يرى فيه أنّه "ليست هناك مشكلة أن يقع الخطأ، في ما هو الواقع في رصد الأشياء الخفيّة، من خلال غموض الموضوع لعدم وضوح وسائل المعرفة لديه، ما دام الغيب محجوباً عنه، إلّا في ما أوحى به الله إليه من أسرار علمه. وهذا ما أراد القرآن تأكيده في أكثر من آية، في توضيحه لكثير من حقائق الأمور بعد وقوعها وتحرّكها في دائرة خلاف الأولى، في ما كان وجه الصلاح غامضاً فيه من جهة ظواهر الأشياء، كما في هذه المسألة التي أراد الله أن يوحيَ من خلالها بالحقيقة إلى نبيّه، الذي أذن لهم في عدم الخروج، انطلاقاً من سموّ أخلاقه وسعة صدره، ومواجهته الحالة بالرفق واللين، من خلال ما حدَّثنا الله به عن أسلوبه في الحياة. ولكن القوم لم يكونوا بالموقع الذي يستحقون فيه ذلك".
ولهذا يرى أنّ خطاب الله تعالى لنبيّه كان "بأسلوب العتاب المحبّب: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} في ترك الخروج، فقد اعتبروا ذلك حجّةً لهم أمام المسلمين الآخرين في تأكيد صدقهم في الإيمان، وانسجامهم مع خطّ الطاعة لله وللرسول، فهم عندما يتخلّفون، لا ينطلقون في ذلك من موقف ضعف في الإيمان، بل من موقف رخصة لهم في ذلك. وفي ضوء هذا، لم يكن هناك مجال لظهور نفاقهم - في مواقع التمايز بين الصادقين والكاذبين - أمام الملأ كافة، {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ}(التوبة:43) من موقع التجربة الحيّة أمام الأوامر الحاسمة التي لا عذر لأحد في مخالفتها في ما توحي به من الشمول والإلزام"( ).
وهكذا نرى التقاء تفسير (من وحي القرآن) بما سبقه من تفسير التبيان ومجمع البيان، بفهم الخطاب على أسلوب العتاب المحبب على ترك الأولى والأفضل.
بيد أنَّ هذا التأويل أو التفسير، وإن كان ينسجم مع العصمة، إلا أنّه لا ينسجم مع السياق، الذي يدلّ دلالةً واضحةً على أنّ النبي لم يترك الأولى بإذنه للمنافقين الذين استأذنوه بالتخلّف عن ركب المجاهدين، بل إنّه فعل ما هو الأفضل والأولى.
نقرأ بعد ثلاث آيات، قوله تعالى: {لَو خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً ولَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}(التوبة: 47).
من هذا المنطلق السياقي، يتبين لنا وبوضوح، أنّ الخطاب: {عفا الله عنك} لم يكن من باب ترك الأولى، وإنّما من باب (إياكِ أعني واسمعي يا جارة)، أي إنّ الخطاب للنبي والمقصود غيره، وهم هنا المنافقون المتخلفون.
وقد أكّدت هذا المعنى روايات أهل البيت (ع)، التي اعتبرت هذه الآية من مصاديق أسلوب: إياك أعني واسمعي يا جارة.
وقد التفت إلى هذا المعنى العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان، فقال: "والآية -كما ترى وتقدّمت الإشارة إليه - في مقام دعوى ظهور كذبهم ونفاقهم، وأنّهم مفتضحون بأدنى امتحان يمتحنون به، ومن مناسبات هذا المقام، إلقاء العتاب إلى المخاطب وتوبيخه والإنكار عليه، كأنّه هو الذي ستر عليهم فضائح أعمالهم وسوء سريرتهم، وهو نوع من العناية الكلامية، يتبيّن به ظهور الأمر ووضوحه، لا يراد أزيد من ذلك، فهو من أقسام البيان على طريقة: إيّاك أعني واسمعي يا جارة"( ).
ولذا يرى العلامة أنّ "المراد بالكلام إظهار هذه الدعوى، لا الكشف عن تقصير النبي(ص) وسوء تدبيره في إحياء أمر الله، وارتكابه بذلك ذنباً ـ حاشاه ـ وأولوية عدم الإذن لهم، معناها كون عدم الإذن أنسب لظهور فضيحتهم، وأنهم أحق بذلك، لما بهم من سوء السريرة وفساد النية، لا لأنّه كان أولى وأحرى في نفسه وأقرب وأمس بمصلحة الدين".
"والدليل على هذا الذي ذكرنا، قوله تعالى بعد ثلاث آيات: {لَو خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا ولَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ...}(التوبة:47)  إلى آخر الآيتين، فقد كان الأصلح أن يؤذن لهم في التخلف، ليصان الجمع من الخبال وفساد الرأي وتفرّق الكلمة، والمتعين أن يقعدوا، فلا يفتنوا المؤمنين بإلقاء الخلاف بينهم، والتفتين فيهم، وفيهم ضعفاء الإيمان ومرضى القلوب، وهم سمّاعون لهم، يسرعون إلى المطاوعة لهم. ولو لم يؤذن لهم، فأظهروا الخلاف لكانت الفتنة أشدّ، والتفرّق في كلمة الجماعة أوضح وأبين".
"ويؤكّد ذلك قوله تعالى بعد آيتين: {ولَو أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ولكِنْ كَرِهَ الله انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ}(التوبة:46)، فقد كان تخلّفهم ونفاقهم ظاهراً لائحاً من عدم إعدادهم العدّة، يتوسّمه في وجوههم كلّ ذي لب، ولا يخفى مثل ذلك على مثل النبيّ (ص)، وقد نبَّأه الله بأخبارهم قبل نزول هذه السورة مراراً فكيف يصحّ أن يعاتب ها هنا عتاباً جدياً بأنّه لِم لم يكّف عن الإذن ولم يستعلم حالهم، حتى يتبين له نفاقهم ويميّز المنافقين من المؤمنين، فليس المراد بالعتاب إلا ما ذكرناه"( ).
وقد التفت تفسير (من وحي القرآن) إلى مدى خطورة خروج هؤلاء المنافقين فيما لو خرجوا مع ركب المجاهدين المقاتلين، في تفسيره لقوله: {لَو خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا}، فقد جعل العنوان: (خروج المنافقين يسبب الاضطراب في صفوف المسلمين‏)، يقول فيه: "وهكذا أبقاهم الله في دائرة التثبيط، فلم يخرجهم منها بطريقة غير عاديّة، لما في ذلك من مصلحة الإسلام والمسلمين، لأنّهم يمثّلون في مواقع عقدة النفاق في نفوسهم، الخطر الداخلي على المجتمع الإسلامي الذي يعملون على الكيد له بمختلف الوسائل في الحالة العاديّة في أوقات السلم، فكيف يكون الأمر في الحالات الشديدة الاستثنائية، في أوقات الحرب، فإنّ الخطر - عندئذٍ - يزداد أضعافاً، نظراً إلى خطورة النتائج على مستقبل الأمّة في حالة الحرب أكثر من حالة السلم. وهذا ما صوّره الله في الآية الكريمة: {لَو خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا} وفساداً واضطراباً في الرأي، وارتباكاً في الموقف {ولَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} والإيضاع الإسراع في الشرّ، وذلك بما يثيرونه من عوامل الفتنة بين المسلمين، وما يستغلونه من الحساسيات التي تثير المشاعر وتعقّد العلاقات {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} ليمزّقوا وحدة الصّف، ويحطّموا قوّة الموقف {وفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} يتأثرون بأساليبهم وأقوالهم وحركاتهم {واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} الذين يبغون في الأرض بغير الحقّ، ويثيرون الفتن، ويبثّون الدسائس والمؤامرات"( ).
فإذا كان خروجهم يسبب كلّ هذه الفتن والاضطرابات والشرور والمفاسد في صفوف المقاتلين، فكيف يكون إذن النبي(ص) لهم بالقعود في دائرة الخطأ بترك الأولى والأفضل؟ وإن كنَّا نؤمن بأنّ الخطأ في هذه الدائرة لا ينافي العصمة، ولا يمسّ الحكمة.
الرواية المؤيدة
جاء في عيون أخبار الرضا: عنه(ع) بإسناده إلى عليّ بن محمّد بن الجهم قال: "حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا(ع). فقال له المأمون: يا بن رسول الله، أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى. قال: فما معنى قول اللَّه - عزّ وجلّ - إلى أن قال: فأخبرني عن قوله - تعالى -: {عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}.
قال الرّضا(ع): هذا ممّا نزل بإيّاك أعني واسمعي يا جارة. خاطب الله بذلك نبيّه(ص) وأراد به أمّته. وكذلك قول الله - عزّ وجلّ -: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ}(الزمر: 65). وقوله: {لَولا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شيئاً قَلِيلًا}(الإسراء: 74). قال: صدقت، يا بن رسول الله"( ).
مع تفسير الكشاف
ومن عجبٍ أن يغفل عن هذا النحو من التفسير مفسرون كبار من غير مدرسة أهل البيت(ع)، فذهبوا إلى أنّ النبي في إذنه للمنافقين ارتكب جنايةً وأنّه بئس ما فعل!!
يقول الزمخشري في تفسيره الكشاف: {عَفَا الله عَنْكَ} كناية عن الجناية، لأنّ العفو رادف لها. ومعناه: أخطأت وبئس ما فعلت"( )!!
وبدلاً من أن يعتبر قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}(التوبة:47) قرينةً في تفسير الخطاب، راح يقول: "فإن قلت: فلم خطّأ رسول الله (ص) في الإذن لهم فيما هو مصلحة؟ قلت: لأنّ إذن رسول الله(ص) لهم لم يكن للنظر في هذه المصلحة، ولا علمها إلا بعد القفول بإعلام الله تعالى، ولكن لأنهم استأذنوه في ذلك واعتذروا إليه، فكان عليه أن يتفحّص عن كنه معاذيرهم ولا يتجوّز في قبولها، فمن ثم أتاه العتاب"( )!
البشرية والعصمة
في الوقت الذي يؤكّد تفسير (من وحي القرآن) بشرية الأنبياء ومظاهر الضعف التي لديهم كبشر، يؤكّد "أنهم المعصومون عن الخطأ والانحراف من خلال المستوى الأرفع للإيمان والطهارة والعصمة، ما يجعلهم بشراً يرتفعون بملكاتهم الروحية العملية عن البشر"( ).
المورد الأول: الإسراء 90-93: {وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً * أو تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً * أو تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أو تَأْتِيَ بِاللَّهِ والْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أو يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أو تَرْقى‏ فِي السَّماءِ ولَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا}.
لم يكتف النبيّ (ص) - في جوابه - بكونه رسولاً ليس من مهمّته ما اقترحوا عليه، وأنّ ذلك لا علاقة له بمهمته الرسالية، وأنّه "ليس من شأن الرسالة أن تغيّر الكون في نظامه الكوني، بل إنّ دورها أن تغيّره في نظامه الإنساني العملي‏"( )، بل إنّه أشار أولاً إلى بشريته التي تختزن في داخلها الضعف البشري، فلا يملك معها هذه القدرات الخارقة، بقوله: {سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا}.( )
يقول العلامة الطباطبائي في هذا المقام: "فإن أرادوا منه (ص) ذلك بما أنّه بشر، فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية المحيطة حتى بالمحال الذاتي، وإن أرادوا منه ذلك بما أنّه يدَّعي الرسالة، فالرسالة لا تقتضي إلا حمل ما حمله الله من أمره وبعثه، لتبليغه بالإنذار والتبشير، لا تفويض القدرة الغيبـية إليه وإقداره أن يخلق كلّ ما يريد، ويوجد كلّ ما شاؤوا، وهو(ص) لا يدَّعي لنفسه ذلك، فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الأمر من عجيب الاقتراح"( ).
ويرى العلامة الطباطبائي أنّ الجواب أولاً بالتسبيح: {سُبْحانَ رَبِّي}، يمكن أن يكون للتعجب أو للتنزيه، لأنّ المقام صالح لكليهما، فإنّه يقول لهم: "إن كنتم اقترحتم عليّ هذه الأمور وطلبتموها مني بما أنا محمّد، فإنما أنا بشر، ولا قدرة للبشر على شي‏ء من هذه الأمور، وإن كنتم اقترحتموها لأنّي رسول أدَّعي الرسالة، فلا شأن للرسول إلا حمل الرسالة وتبليغها، لا تقلد القدرة الغيبـية المطلقة".
"وقد ظهر بهذا البيان أنَّ كلاً من قوله: {بَشَراً} و{رَسُولًا} دخيل في استقامة الجواب عن اقتراحهم، أما قوله: {بَشَراً}، فليردَّ به اقتراحهم عليه أن يأتي بهذه الآيات عن قدرته في نفسه، وأما قوله: {رَسُولًا}، فليرد به اقتراح إيتائها عن قدرة مكتسبة من ربّه"( ).
المورد الثاني: الحجر 51- 56: {ونَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ * إذ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى‏ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ * قالَ ومَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}.
يرى تفسير (من وحي القرآن)، أنّ إبراهيم(ع) "يخضع لعنصر المفاجأة الغريبة في طبيعة مضمونها الذاتي بطريقة عفوية، من خلال الضعف البشري العادي، ليعود - في يقظة الوعي الشعوري - إلى الانفتاح على القدرة الإلهية التي تجعل الأمل حيّاً حتى في المورد الذي يكون الشي‏ء فيه مستحيلاً عادياً، فلا يستسلم لأيّ يأس، لأنّ الذين يخضعون للقنوط هم الضالون لا المهتدون، فإنهم يقفون مع الله في ما يقوله ويفعله في شؤون عباده، من دون أن يكون في ذلك أيّة منافاة للعصمة وللدرجة العالية في نبوّته"( ).
المورد الثالث: آل عمران 38-41: {هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ * فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وهُو قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ الله يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى‏ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ الله وسَيِّداً وحَصُوراً ونَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ الله يَفْعَلُ ما يَشاءُ * قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً واذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ والْإِبْكارِ}.
يرى السيّد المفسّر أنّ هذه الصدمة - المفاجأة - التي هزّت أعماق النبي زكريا (ع) بالبشارة بالولد، وقد بلغا هو وامرأته ما بلغا من الكبر، "انطلقت بطريقة عفوية كأيّة حالة إنسانية في الظروف المماثلة، في الوقت الذي كان يعيش الثقة بالله من خلال إيمانه، عندما دعاه أن يرزقه وليّاً يرثه ويرث من آل يعقوب، لكنّها الحالات الإنسانية اللاشعورية، تماماً كما هي التقلّصات الجسدية التي تحدث للإنسان عند حصول أيّة حالة من الخوف أو الضعف أو الرغبة أو الرهبة، من دون اختيار له، ثم ينطلق الوعي الفكري أو الروحي أو الشعوري لينظّم حركة هذا الشعور، وليعالج الصدمة، ويستكين للإيمان الواعي الذي يفلسف الأمور، ليرجعها إلى أسبابها وطبيعتها في قدرة الله في الأشياء التي تملك في ذاتها قابلية حركة القدرة فيها".
"ولعلّ هذا هو تفسير العجب الذي استولى على زكريا، مع إيمانه العميق بالقدرة الإلهية التي لا يعجزها شي‏ء، والذي كان وراء الدعاء الخاشع الصادر عنه لله"( ).
لذا، فإنّ موقفه التعجبي المستفسر هذا، "ربما كان من مظاهر الضعف البشري الذي لا ينافي العصمة"( ).
من هذا المنطلق، لم يكن السيّد المفسّر يؤمن بـ(الولاية التكوينية) بمعناها المتعارف اليوم لدى بعض العلماء الأعلام، لأنّه يرى أنّ استقراء حياة الأنبياء في القرآن ومواقفهم، وما يعتمل في صدورهم من معاناة وآلام، وتعجب واستفهام، وتوجس خيفة، وعجز عن فعل الأمور الخارقة، لا يعطي لنا ما ذهبوا إليه من تلك الولاية، التي تجعلهم فوق البشرية وحدودها. وهذا ما كان يحذر منه أئمة أهل البيت (ع) أنفسهم، بقدر ما كانوا يحذرون من التقصير، بل أشدّ وأكبر.
وهذا لا ينفي على الإطلاق ما يأتي به الأنبياء والأولياء من معاجز وأمور خارقة للعادة، فيما تحتاج إليه الرسالة من إثبات وتأكيد ونصرة، لينفلق البحر بضربة عصا، ويتمخض الجبل عن ناقة، وتجري في موج كالجبال بأمان واطمئنان سفينة، ويبرأ بلمسة يد حانية أكمه وأبرص، وينطق شاهداً بالحق ذيل حيوان، وتكون طيراً طينة بنفخة إنسان، ويحيي الموتى بشر، وتردّ الشمس بعد تواريها بأمرٍ منه، ويؤتى عرش من مئات الأميال بطرفة عين.
التركيز القرآني على بشرية الأنبياء
يرى تفسير (من وحي القرآن) أنّ من أسرار التركيز القرآني على بشرية الأنبياء والمرسلين هو:
أوّلاً: الحذر من الغلوّ
إنّ النظرة فوق البشرية إلى الأنبياء، تجعلنا نقع في الغلو من دون أن نشعر، ونحن نحسب أننا نحسن صنعاً.
وفي تفسيره لقوله تعالى: {إذ قالَ الله يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ الله قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ولا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}(المائدة: 116)، يؤكّد السيّد المفسّر مدى الحاجة إلى "استيحاء هذا الأسلوب التربوي في دراستنا وأبحاثنا التي ندرس فيها حياة الأنبياء والأئمة والأولياء، فنستغرق في الجوانب العملية من حركة الإسلام في حياتهم الشخصية والعامة، لنبقى في خطّ الارتباط بالشخص من خلال الفكرة والرسالة والعمل، فيزيدنا ذلك ارتباطاً بالخطّ الصحيح، وابتعاداً عن مواطن الخطأ والضلال في الطريق، ولا نستغرق في الأسرار الخفيّة الغامضة التي يثيرها البعض في حديثه عن هذه الشخصية أو تلك، ممن نعظّم من شخصيات الأنبياء والأولياء، لأنّ الاستغراق في الجوانب الضبابية الغامضة التي لا نستطيع فهمها ولا تعقّلها، قد يؤدّي بنا إلى الانحراف في التصوّر، أو الوصول إلى درجة الغلوّ"( ).
ثانياً: انتفاء اتخاذ الأسوة والقدوة
"إنّ الفكرة القائلة بأنّ سيرة الأنبياء والأولياء لا تعتبر أساساً للدعوة إلى القدوة لأنّهم فوق مستوانا غير صحيحة، لأنّ الأنبياء في ممارساتهم الروحيّة والعملية لا يتحركون من مستوى فوق مستوى البشر، بل يعيشون في الحياة بالطاقات البشرية العادية التي تتكامل وتتصاعد بالوعي والمعاناة"( ).

 
الفصل الرابع: معالم التفسير
الذي يقرأ تفسير ((من وحي القرآن)) يجد العديد من المعالم التي يتمتّع بها، وتبدو واضحةً جليّة في أجزائه المتعدّدة، وقراءته للآيات المباركة.
ولا نستطيع أنْ نذكر جميع معالم التفسير، بَيْد أنّنا سنذكر أهمّها وأبرزها:
المعلم الأوّل: طرح ما يُثار من إشكالات معاصرة.
المعلم الثاني: مناقشة تفسير الميزان.
المعلم الثالث: استعراض وجوه التفسير والترجيح.
المعلم الرابع: فلسفة التشريعات والأحكام.
المعلم الخامس: الاستيحاء (المبادئ والنماذج والدروس)

المعلم الأوّل: طرح ما يثار من إشكالات معاصرة
طرح الإشكالات على الأحكام والتشريعات القرآنية التي يطرحها الآخر، ومحاولة مناقشتها الهادئة، والإجابة عن علامات الاستفهام المشككة في مدى حكمتها ومعاصرتها لواقعنا، مع كلّ ما حصل من تطورات ومتغيرات:
المورد الأوّل: إشكالية الثابت والمتغير
هذه من أكبر الإشكاليات المعاصرة، وخلاصتها أنّ الإسلام والتشريعات القرآنية والأحكام، وحتى المفاهيم والعقائد والأفكار، ثابتة لا تتبدَّل، بينما الحياة وأساليبها في تطوّر مستمرّ وتغيّر دائم، فكيف يمكن للثابت أن يواكب، بل يكون مهيمناً على المتغير والمتطور؟
وقد عالج تفسير (من وحي القرآن) هذه الإشكالية في مناسبات عديدة ومواطن شتى بصورة مجملة تارة، ومفصّلة أخرى.
في سياق تفسيره لآية: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(الأنعام: 115)، عقد بحثاً بعنوان: (موقفنا من الدعوة إلى تطوير الإسلام‏)، طرح فيه هذه الإشكالية التي تعتقد أن "الإسلام وليد مرحلة زمنية معينة، تختلف حاجاتها عن حاجاتنا، وطريقة التفكير فيها عن طريقتنا، وكان التشريع فيها خاضعاً لتلك الحاجات، وكانت أساليب التفكير لديه منطلقة من تلك الطريقة، فلا بدّ لنا من أن ننفض عنه غبار السنين، ونأخذ أهدافه، ونطوّر وسائله، ونستوحيه في ما نتحرك فيه، ولا نتجمّد أمام حروفه، فقد تحوّل الإسلام عندنا من فكر تفصيليّ إلى فكر عام، ومن شريعة شاملة إلى شريعة موحية. وهكذا يشعر الإنسان بأنّ الدين ليس قيداً يقيّد خطواته في طريق التقدّم، بل هو حركة منطلقة شاملة توحي له بأن يأخذ حريته في نطاق الوحي، الذي لا تزيد مهمته، عن الإيحاء، ولا تفرض عليه شيئاً غير ذلك"( ).
يرى السيّد أنّ هذا "كلام جميل يداعب أحلام الحرّية في الإنسان، ولكنّ الحقيقة أجمل وأوثق"، وذلك:
أوّلاً: أنّ الإسلام ليس حكايةً من حكايات التاريخ، ليقف في موقعه محدداً لنا نقطة الانطلاق، ثم يغيب في الضباب، ولكنّه وحي الله الأخير بكلماته وأحكامه ومفاهيمه التي لا تتبدّل.
ثانياً: ما معنى خضوع الإسلام لحركة التطوّر؟ هل معناه أن يخضع الإسلام للأفكار التي فرضت نفسها على واقع الحياة من خلال القوّة، أو من خلال ظروف معيّنة ضاغطة؟ وكيف نلزم فكراً ما بأن يتغيَّر لمصلحة فكر آخر بعيداً عن قناعاته؟
إنّ القضية المطروحة في الساحة، هي أن يتطور الإسلام على هدى الأفكار الأخرى التي يعيش معها حركة الصراع في المفاهيم، وفي التشريع، وفي أساليب العمل، ونحن نعرف أنّ ذلك غير واقعيّ، لأنّه يمثّل الهزيمة أمامها، لا الانسجام معها.
"إنّ معنى انطلاقة الإسلام مع الحياة، هو أنّه يستجيب لحاجاتها، فيضع لها التشريعات التي تمتد مع هذه الحاجات وتحتويها، ويلتقي مع مشاكلها، فيضع لها الحلول، على حسب مفاهيمه التي يراها صالحةً لكلّ زمان ومكان"( ).
ثالثاً: "أنّ الإسلام هو الذي يطوّر الحياة ويغيّرها ويحرّكها في اتجاه الخطوات والأهداف التي ترفع من مستواها ومستوى الإنسان فيها، فهو الذي يستجيب لحاجات التطور في ما يخطّط من مناهج وأساليب للتفكير، ويدفع بالعلم خطوات واسعة إلى الأمام، ويهيب بالإنسان أن يندفع نحوه ويتعامل معه من موقع الحاجة الباحثة عن أسرار الكون الذي سخّره الله له، ليعرف من خلال ذلك ربّه ونفسه وحركة حياته كلّها"( ).
‏رابعاً: الاجتهاد الذي فتح الإسلام كلّ أبوابه على مدى الزمن ولم يغلقه على نفسه، فهو الباب الذي يمكن أن ينفذ منه التبديل والتغيير والتطوير، "لا يعني الرأي الذي ينطلق من ثقافة الإنسان ومزاجه الخاص في ما يرتئيه من مصالح ومفاسد للحياة، ولا يعني التشريع المستقلّ الذي يتحرّك من التجارب المحدودة التي تفرض لهذه المرحلة تشريعاً، يمكن أن نتجاوزه إلى تشريع آخر في مرحلة أخرى، تماماً كما يفعل المشرّعون الذي يضعون القوانين في المجالس النيابية، في الدول الحاضرة القائمة على أساس أنّ التشريع للأمة من خلال ممثّليها، بل إنّه يعني الرأي المستمدّ من القواعد الشرعية في فهم النصوص الدينيّة في الكتاب والسنّة، في ما يفهمه المجتهد منها، وفي ما يستوحيه مما ينسجم مع أجواء النص وإيحاءاته. فلا يمكن له أن يعطي رأياً في مقابل النص، أو يضع حكماً لم يرد به نص، ولم تفرضه قاعدة فقهية مستمدّة من الكتاب والسنّة، حتى العقل الذي اعتبره بعض المجتهدين دليلاً من أدلّة الأحكام، لا بدّ له من أن يتحرك في نطاق الأفكار القطعيّة التي لا يقترب إليها الشكّ في ما يستفيده من ملاكات الأحكام، فلا مكان للحكم العقلي الظني في ذلك من قريب أو بعيد".
"إنّ الاجتهاد الإسلامي هو اجتهاد في فهم الإسلام، وليس اجتهاداً ذاتياً يستمد أفكاره من حركة الواقع، ولا مانع من أن يتغيّر الحكم الشرعي تبعاً لتغيّر الاجتهاد، ولكنّ تغيّر الاجتهاد لا يخضع للتغييرات الحاصلة من الخارج، بل من خلال اكتشاف خطأ في الاجتهاد السابق، أو خلل في فهم النصّ أو في تطبيقه، أو في قاعدة شرعيّة لا يكون لها مجال في هذا المورد أو ذاك، لأنّ قاعدةً شرعيةً أخرى هي الأولى في هذا الموضع أو ذاك"( ).
المورد الثاني: إشكالية التبعيض
وخلاصة هذه الإشكالية، "أنَّ بإمكاننا أنَّ نأخذ من الإسلام الجانب الروحي والأخلاقي في المفاهيم والتشريعات المتعلّقة بالحياة، ولا سيّما ما يتعلق منها بالجانب العبادي أو الأحوال الشخصية، أمّا التنظيم الاقتصادي والسياسي والتخطيط الاجتماعي، فلا بدَّ لنا فيه من الرجوع إلى الفكر الأوروبي، لأنّ هذا الفكر يرتكز على قواعد علمية مبنية على دراسة الواقع من خلال المعطيات العامة التي أفرزها"، وأنّ "التشريعات الإسلامية التي تتصل بهذه الجوانب، لا تفي بحاجة الحياة إلى التنظيم والتخطيط"( ).
يلاحظ السيّد المفسّر أنَّ هذا اللّون من التفكير "محكوم بعقلية الانبهار بالفكر الأوروبي الذي قد يعتبره فوق مستوى النقد، بل هو باعث الحياة المتطورة على صورته"، وكان من الأجدر بأصحابه، من منطلق الإخلاص للتفكير العلمي، "أن يدققوا في القواعد الإسلامية العامة التي تضمَّنتها نصوص الكتاب والسنّة، وفصّلتها أبحاث الفقهاء المسلمين المستمدة من المصادر الأصيلة للتشريع، ليطّلعوا على الإمكانات الفكرية والقانونية التي تستطيع أن تدفع بحياة المجتمع إلى الأمام".
ولا يكون اختلاف الشكل العملي للأوضاع الإدارية والسياسية والاقتصادية التي كانت في الماضي - عندما كان الإسلام يحكم الحياة - مع الشكل الموجود الآن، مبرراً لتبني عملية التبعيض، "لأنّ من الممكن للاجتهاد الإسلامي أن يلاحظ وجود بدائل من قلب التشريع مما يملأ هذا الفراغ"( ).
إنّ الاعتقاد بوجود حكم شرعي في كلّ واقعة من وقائع الحياة، وإن كان صحيحاً إجمالاً، بيد أنّه لا يتعارض "وإمكان وجود فراغ يمارس فيه وليّ الأمر حرية التحرك في بعض المجالات العملية العامة، كما يفرض على المفكرين المسلمين متابعة البحث عن الأحكام الشرعية، في كلّ ما استحدثه الإنسان من أوضاع الحياة وشؤونها وأساليبها، في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لئلا يبقى الإنسان المسلم في حيرة أمام حركة التطور العام في الحياة، إذ يبقى هذا البحث خاضعاً للمبادئ العامة والتصورات الكلية للشريعة، لا مجرد اجتهاد آخر خالٍ من أيّ ضوابط مقررة. من هنا، فإننا لا نبرر اختيار أساليب الفكر المضادّ في بعض الجوانب، والأخذ بالإسلام في البعض الآخر، لأنّنا نكون مصداقاً لقول الله سبحانه في حديثه عن اليهود: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}(البقرة:85)"( ).
المورد الثالث: الشورى ونظام الحكم
في تفسيره لآية الشورى: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ولَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(آل عمران: 159) يعقد بحثاً بعنوان (الآية وعلاقتها بالشورى في الحكم‏)، يناقش فيه ما أثاره ويثيره الكثير من المفكرين الإسلاميين في حديثهم عن فقرة {وشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} من الآية، موضوع الشورى، وعلاقتها بشرعيتها كأساس للحكم الإسلامي، فرأوا فيها "قاعدة التشريع التي توحي للرسول(ص) وللأمّة من خلاله، بأن يعتمد الشورى كأساس للقضايا العامة، ليكون ذلك دستوراً عملياً شاملاً، حتى في الحالات التي لا تحتاج فيها القيادة إلى ذلك، كما في حالة وجود إمام معصوم".
ويرى السيّد المفسّر أنّنا "لا نستطيع أن نوافق على إخضاع الآية لهذه الفكرة"، وذلك لأمرين أساسين:
الأمر الأوّل: "أنّنا لا نلمح فيها مثل هذا الجوّ، فقد وردت في الحديث عن السلوك العملي للرسول(ص) مع المسلمين، كوجه للصورة الإنسانية الإسلامية التي تتمثّل فيها إنسانيّة الرسالة وواقعيتها، في ما يعيشه الرسول(ص) مع أصحابه من الرحمة في رقّة القلب ولين الكلمة، وفي ما يريد اللّه له أن يعيشه معهم من العفو عنهم والاستغفار لهم إذا أخطأوا، ومن استشارتهم في الأمر كأسلوبٍ من أساليب تأكيد اهتمامه بهم وتقديره لهم، وإعدادهم من خلال ذلك للمستقبل، ليعتادوا على التفكير في الأمور".
الأمر الثاني: أنّ الآية لا تتحدث "عمّا تفرضه الاستشارة من مسؤوليات على المستشير إذا لم يقتنع بالرأي المشار به، كما هو المفروض في ما تقتضيه فكرة الشورى في اعتبارها قاعدةً لشرعية الحكم في الدولة الإسلامية، من حيث الإلزام للأمة بما تفرضه من قرارات وما تستتبعه من التزامات، بل ربما نستوحي من الفقرة التالية {فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، أنّ الاستشارة لا تفرض شيئاً، بل القضية هي إرادة الإنسان وعزمه المنطلق من قناعته بعد الاستشارة، سواء كانت منسجمةً معها أو غير منسجمة"( ).
الأمر الثالث: ويؤكّد معنى عدم فرض الاستشارة، أو يوحي به، الأحاديث الواردة في هذا المجال.
منها: لما نزلت {وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، قال رسول الله(ص): "أما إنّ الله ورسوله لغنيّان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمةً لأمّتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غيّاً".
ومنها: عن علي بن مهزيار، قال: كتب إليّ أبو جعفر - الإمام محمد الباقر(ع) - أن "سل فلاناً أن يشير عليّ ويتخيّر لنفسه، فهو يعلم ما يجوز في بلده، وكيف يعامل السلاطين، فإنّ المشورة مباركة، قال اللّه تعالى لنبيه في محكم كتابه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}، فإن كان ما يقول ممّا يجوز كنت أصوّب رأيه، وإن كان غير ذلك، رجوت أن أضعه على الطريق الواضح إن شاء الله"( ).
ومنها: عن الإمام عليّ بن موسى الرضا(ع) لبعض أصحابه، "أنّ رسول الله(ص) كان يستشير أصحابه، ثم يعزم على ما يريد"( ).
وكان الرسول(ص) في تربيته الناس على الشورى، يحضُّهم على التمييز، في كلّ مورد يريدون أن يدلوا إليه برأيهم في بعض مسائل الحرب والسلم، بين ما هو تكليف إلهي شرعي، وما هو تدبير بشري صادر عن شخص النبي، ليشيروا عليه بآرائهم فيما لو كان رأيه(ص) رأياً خاصّاً. وهذا ما رواه كتّاب السيرة في يوم بدر، إذ قال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله: أرأيت هذا المنـزل؛ أمنـزلاً أنزله الله ليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخّر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال(ص): بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
وربما كان النبيّ (ص) يقوم بالعمل، ليستثير رأي أصحابه بالمناقشة فيه، ليفكروا في الرأي البديل، فيدرّبهم على التفكير في الأمور، ويوجه القيادات من بعده إلى الاستماع إلى آراء القاعدة الشعبية في قرارات القيادة، من أجل تسديد الرأي، وتعميق العلاقة بين القيادة والقاعدة على أساس المسؤولية المشتركة في التقرير والتنفيذ، مع الحفاظ على الموقع القيادي للقيادة، لأنّ مسألة الشورى تتحرك في المرحلة التي تسبق القرار الحاسم في الموقف أو في المعركة.( )
المورد الرابع: إشكالية قسوة بعض التشريعات
بمناسبة تفسيره لآية عقوبة المفسدين في الأرض: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أو يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ولَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ}(المائدة: 33)، عقد بحثاً بعنوان: كيف نفسّر "قسوة" هذا التشريع؟ يجيب على ما يثار من "فكرة قسوة هذا التشريع، بما لا يتناسب مع صفة الرحمة الّتي يتحدّث عنها الإسلام كصفة لازمة لتشريعاته". ويرى أنّ هذه الإشكالية قائمة على عدم التفريق بين الرحمة الشاملة للمجتمع بحياته الآمنة المطمئنة، وعاطفة الشفقة على الفرد المفسد في المجتمع، فلا بدّ من النظرة الحكيمة التي تحقق المصالح العليا للأمة، ولذا يدعو إلى "ضرورة دراسة "الرحمة" ضمن نطاق تحديد المصلحة الواقعيّة لحياة الإنسان العامة والخاصة، لا نطاق العاطفة المتمثلة في الشفقة كإحساس ذاتي عاطفي، الأمر الَّذي يجعلنا ندخل في عمليّة توازن ومقارنة بين حجم الجريمة الّتي يقوم بها هؤلاء المحاربون للّه ولرسوله، المفسدون في الأرض، وتأثيرها على سلامة المجتمع الَّذي يتعرض للخطر من قبل هؤلاء، وبين حجم العقاب الَّذي يراد منه أن يكون عنصر ردع للآخرين، لئلا يتكرّر ظهور مثل هذه النماذج البشريّة المجرمة المنحرفة، الّتي تُسي‏ء إلى النّاس عندما تُسي‏ء إلى حدود اللّه الّتي تنظّم السلامة العامة للمجتمع".
"ومن هنا، كان التشريع الإسلامي في تناوله للمشكلة من جذورها، يعيش ويتحرك في الواقع الإنساني، بحيث لا يحلّ جانباً من المشكلة دون آخر، بل يضع حدّاً للمعاناة الدّائمة الّتي تنتج عن مثل هذه المشكلات من خلال استئصالها، فيعيش المجتمع بذلك في راحة ووئام"( ).
ولهذا وضع التشريع القرآني الرباني وسائل حاسمة وصارمة "لحفظ الأمن، ومنع النفوس الشريرة من الاندفاع بعيداً عن نوازعها الذاتيّة المنحرفة، الّتي تندفع نحو القتل والنهب وقطع الطريق وتدبير المكائد للإسلام والمسلمين، وإشاعة الفوضى والخراب والفساد في حياة النَّاس‏"( ).
المورد الخامس: شبهات حول عقوبة الإعدام
عقد تفسير (من وحي القرآن) بحثاً رائعاً تحت عنوان: (شبهات حول تشريع الإعدام للقاتل)‏، بمناسبة آية القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة: 179)، أجاب فيه عن الإشكالات المعاصرة التي يطرحها الكثير من المنظّرين والباحثين، ومن أهمّها:
الشبهة الأولى: لا يجوز أن نعالج الجريمة بجريمة مماثلة، أو نحلّ المشكلة بمشكلة مثلها، بإعدام حياة ثانية، وفقدان المجتمع لفرد آخر من أفراده.
الشبهة الثّانية: إنّ عقوبة القصاص لا تنسجم مع النتيجة التي نخرج بها في دراستنا لشخصية المجرم، فإنّ الجريمة لا تنشأ من عقدة متأصلة ذاتية في نفسه، بل تنشأ من خلال ظروف داخلية وخارجية طارئة في محيط حياته، فتشكّل لديه عقدةً نفسيةً تتحكم في سلوكه، وتضغط على واقعة الفردي والاجتماعي... فلا بدّ للمشترع من مواجهتها وعلاجها، بقتل المرض لا بقتل المريض، وذلك باتباع الأساليب التي تشفيه من مرضه، ليتحوّل إلى عنصر صحيح فاعل يشارك في خدمة المجتمع.
الشبهة الثّالثة: إنّ هذه الرحمة التي تعبّر عن عمق المعاني الإنسانية للشريعة، لا تتناسب مع عقوبة الإعدام للقاتل، بل المناسب أن يفتح أمامه باب العفو والتسامح والتراجع عن الخطأ( ).
يجيب السيد المفسر عن هذه الإشكالات الثلاثة بسبع نقاط، نذكر - باختصار - خمساً منها، ونحيل القارئ إلى مراجعة التفسير، إن أراد التفصيل:‏
1- إنّ الكثير من هذه الأفكار كان نتيجةً للتربية الفردية الخاضعة للفكر الرأسمالي الذي يستغرق في الفرد ليعتبره كلَّ شي‏ء، فهو الأساس الذي يحصل المجتمع على سلامته وتطوره من خلاله...
2- إنّ احترام الفرد هو في المجالات التي لا تهّدد المجتمع في سلامته، لأنّ سلامة المجتمع أكثر أهميةً من سلامة الفرد في حالات التزاحم، وبذلك، كان إعدام القاتل عقوبةً ذات اتجاهين، فهي من جهة ترتبط بحصر المشكلة في إطارها المحدود بالنسبة إلى أولياء المقتول، لأنّها تنفّس عنهم المشاعر الحادة التي يمكن أن تنفجر في مساحة أكبر، وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة في قوله تعالى: {ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ومَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً}(الإسراء: 33)، وهي من جهة أخرى، تمثّل عنصراً رادعاً للآخرين الذين يفكرون في القيام بجريمة القتل ضدّ أفراد آخرين...
3- إنّ التركيز على العقلية الفردية في العمل وفي التشريع، يجعلنا نعيد النظر في كثير من المبادئ التي يسير عليها الناس في مختلف أوضاعهم، فنحن نرى أنّ الأمة تضحّي بالآلاف من الجنود من أجل الحفاظ على عزتها وكرامتها وسلامتها، وذلك في الحالات التي تتعرض فيها للخطر من القوى الظالمة الغاشمة التي تريد أن تستعبدها وتستعمرها...
أمّا السلبيات التي تحدث من خلال ذلك، فإنها طبيعية في كلّ تشريع تتقدم فيه الإيجابيات على السلبيات، لأننا لا نجد أيّ حلّ لأيّة مشكلة، إلا ونجد هناك مشاكل صغيرة تتجمع في طريق الحل.
إنّ إعدام القاتل قد يفقدنا عدّة أفراد من المجتمع، ولكنّه يحمي لنا حياة المجتمع كلّه في الحاضر والمستقبل، سواء منهم الذين يفكرون في القتل، أو الذين يفكّر الآخرون في أن يقتلوهم، ما يجعل المعادلة سليمةً من ناحية العدالة. وهذا ما عبّرت عنه الآية تعبيراً دقيقاً في قوله تعالى: {ولَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ}.
4- إن الفكرة التي تقول: إن إعدام القاتل يضيف إلى الجريمة جريمة ثانية... مغلوطة، لسبب بسيط جداً، وهو أن القاتل قد أعدم حياة المقتول بغير حق، لأن هذا هو المفروض في موضوع القصاص، فقد كانت تلك الحياة وديعةً مسالمةً بريئة، فهي حياة محترمة تبعث على الاحترام، أما حياة القاتل، فهي حياة باغية ظالمة معتدية.
ولعل من الطريف أن ننقل في هذا المجال الحوار الذي دار بين شاعر مشكك وشاعر مؤمن حول موضوع قطع يد السارق، وقطع يد غير السارق، فإن الأولى تقطع بسرقة ربع دينار، بينما تدفع دية الأخرى خمسمائة دينار.
قال الأول:
يدٌ بخمس مئـين عسجـد وديــت
    مـا بالـها قطعـت في ربـع دينـار

تحكّمٌ مـا لنــا إلا السكـوت لـه    وأن نعــوذ بمـولانـا مـن النّــار

فأجابه الثاني:
عزّ الأمــانة أغلاهــا، وأرخصها
    ذلّ الخيــانة فانظر حكـمـة البـاري
5- إنّ الرحمة التي يثيرها الإسلام في مفهومه الروحي والعملي، لا تعني الانفعال الذي يرتبط بالشفقة، بل تعني مواجهة الواقع بما يحقّق مصلحة الإنسان في المستوى الشامل، تماماً كما هي الحال عندما يضطر الجرّاح إلى بتر أحد الأعضاء لحماية الحياة للجسد كلّه، فإنّ ذلك يمثّل الرحمة للإنسان المريض. إنّ الرحمة للذين يعيشون الحياة من موقع الرحمة لحركة الحياة، لا للذين يقضون على الحياة ويطعنونها في الصميم.
إنّ التشريع لا يتعامل مع العاطفة، بل يتعامل مع المصلحة العامة للإنسان، ولهذا جاءت الآية لتقرر الحقيقة الشاملة في قوله تعالى: {ولَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
ولعلّ في الإشارة إلى أُولي الألباب دعوة إلى العقل لكي يتحرك في داخل ذوي العقول، ليعرف كيف يحفظ التشريع حياة الناس على أساس من التقوى والإيمان، بعيداً عن كلّ عاطفة وانفعال ذاتي( ).
المورد السادس: إشكاليّة الأكثريّة العدديّة
وبمناسبة قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}(الأنعام: 116)، طرح تفسير (من وحي القرآن) إشكالية الأكثرية العددية في النظم الديمقراطية المعاصرة التي تعتقد أنّ "الأكثرية تمثل الحقيقة، أو الفكر الأقرب إليها، وبذلك اعتبرت أساساً للتنظيم في جميع المؤسسات التي تحتاج إلى وضع القوانين وإصدار القرارات، عندما يختلف الأعضاء بين رأي موافق ورأي مخالف، فيكون رأي الأكثرية، ولو بزيادة واحد، هو الخطّ الفاصل بين الحقّ والباطل، سواء في ذلك على مستوى الجمعيات أو الأحزاب أو الشركات أو الحكومات، أو على مستوى الأمة كلّها، والاتجاه يرتكز على هذه القاعدة".
يسجّل تفسير (من وحي القرآن) ملاحظات نقدية عديدة على هذا الاتجاه, ومن منظور قرآني:
الملاحظة الأولى: أنّ القرآن الكريم "لا يوافق على هذا الاتجاه، بل يعمل - بدلاً من ذلك - على الإيحاء للإنسان بأنّ الحقيقة هي في الجانب المقابل، أي عند الأقليّة، ولذلك كثرت الأحاديث في الآيات الكريمة عن ذلك {ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}(هود: 17)، أو {ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}(الأعراف: 187)، أو {وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ}(التوبة: 8)، لأنّ الأكثرية - عادةً - تمثّل التيار الذي يحكم الحياة من جانبها السهل الذي يقف مع الرغبات الحسيّة وغير الحسيّة التي تنادي بها النفس الأمّارة بالسوء، أمّا الأقليّة، فهم الذين يتعاملون مع الحياة من موقع المسؤولية الصعبة، ويمثلون الطليعة في كلّ مجتمع، ولهذا كانوا هم أتباع الدعوات الرساليّة والثوريّة والإصلاحيّة، الذين حملوا الأعباء الكبيرة، وتحمّلوا الجهد العظيم، وعاشوا في مواكب الشهادة، بينما كانت الأكثرية في الجانب المقابل من الرسالة والثورة والإصلاح"( ).
الملاحظة الثّانية: "إن القرآن لا يعتبر الكثرة العددية أساساً للنتائج الإيجابية على مستوى الحقيقة، لأن للحقيقة أساساً ينطلق من الوحي الإلهي من جهة، ومن الفكر الهادئ الموضوعي العميق من جهة أخرى، ولن يكون للأرقام الكثيرة أيّ تأثير في هذا المجال، لأنها لا تستطيع أن تتقدم خطوةً واحدةً إلى الأمام، ما لم تنطلق من موقع فكر ينضمّ إلى فكر، لتكون القضية قضيّة شورى يتداول فيها الناس الأفكار في جولة فكريّة تتحرك في خطّ الحوار، لتقدم - في نهاية المطاف - الرأي الأفضل، الذي لا يفرض نفسه على القيادة، بل يمنحها فرصة الاقتراب من الخط السليم، ولترى رأيها النهائي حول الموضوع سلباً أو إيجاباً"( ).
الملاحظة الثّالثة: "لا بدّ من التمييز بين الأكثرية الواعية المفكّرة المخلصة، والأكثرية الساذجة المنفعلة المزيّفة، ولا بدَّ لنا - في نطاق ذلك - من تحديد المسألة التي تعيش فيها الأكثرية روح الشورى من أجل الوصول إلى الحقيقة، في مقابل الأكثرية التي تعيش روح التنافس والصراع من أجل الحصول على موقع ما بعيداً عن قضيّة الحقّ والباطل في ساحة الصراع"( ).
المورد السابع: إشكالية الطلاق
 بمناسبة آيات الطلاق، لا ينسى السيد المفسر ما يثيره البعض من إشكالات حول جدوى مشروعية الطلاق، تحت عنوان (موقع الطلاق من التشريع الإسلامي‏)، لأنّه يسي‏ء إلى استقرار الحياة الزوجية عندما يفسح المجال لفسخها في أيّة لحظة، ولو من دون مبررات معقولة، ما يسبب الكثير من المشاكل الاجتماعية للزوجة، وللأولاد بشكل خاص.. ولا يزال علماء الاجتماع يتابعون الحديث عن المشاكل الصعبة الناتجة من ذلك، من تعقيدٍ لأولاد الطلاق في نطاق الإحصائيات الكثيرة البالغة الدلالة على النتائج الوخيمة للطلاق.
ويجيب السيّد على هذه الإشكالية، بتأكيده انسجام تشريع الطلاق "مع طبيعة الأشياء، ومع طبيعة العلاقات الإنسانية التي تمثّل العلاقة الزوجية إحدى مظاهرها، لأنّها مثل العلاقات التي تجمع الناس مع بعضهم البعض تحت تأثير أيّ عنصر من العناصر المتنوعة: اجتماعية، وفكرية، وعاطفية، واقتصادية، ودينية، وسياسية... وقد يكون من الطبيعي أن يخضع استمرارها وامتدادها للظروف النفسية والحياتية التي يعيشها الطرفان، فإنّ من الصعب بقاء أية علاقة بشكل طبيعي ومعقول في حالة فقدان العناصر التي تكفل الاستمرار".
ويضرب مثلاً بشريكين في علاقة مادية، "اختلّت ثقتهما ببعضهما البعض، أو اكتشفا اختلاف أفكارهما أو مزاجهما بالمستوى الذي تتحوّل فيه الشركة إلى مشاكل وحوادث يومية، فإنّ الحلّ المعقول لذلك، أن تفسخ الشركة، لئلا تتحول الحياة بينهما إلى جحيم لا يطاق لكلٍّ من الطرفين".
"فإذا انتقلنا إلى العلاقة الزوجية، رأيناها ترتكز على عنصري المودّة والرحمة، وذلك في قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(الروم: 21)، فإذا استمّرت الحياة بينهما على هذا الأساس، أمكن لها أن تكون طبيعيةً مستمرة، سواء كان الاستمرار ناشئاً من التعاون بينهما في تحقيق ذلك، أو من تضحية أحدهما بمزاجه وسلوكه لمصلحة الفريق الآخر. أما إذا تحطم هذا الأساس، فحدثت العداوة بدلاً من المحبة، والقسوة بدلاً من الرحمة، أو اكتشف أحد الطرفين أو كلاهما أنّ الانسجام مفقود في أكثر من جهة.. فإنّ أمامنا أحد حلين:
إما أن نقول لهما: استمرا على هذه العلاقة، وليصبر كلّ منكما على صاحبه، وليضحّ كلّ منكما بمزاجه وذوقه وطريقته في الحياة..
وهذا حلٌّ غير عملي، لأنّ الزواج من العلاقات المستمرة المتصلة بكلّ جوانب الحياة اليومية للإنسان بشكل متداخل، فليس من الطبيعي أن يفرض على الإنسان الاستمرار في الخضوع للضغط النفسي إلى ما لا نهاية، بل قد يؤدّي ذلك إلى الانفجار - ولو بعد حين - كنتيجة للحياة الرتيبة التي تخلق المزيد من المشاكل على أساس حالة التماس الدائم.
ولعلّ من أوضح الدلائل على صعوبة هذا الحلّ وعدم واقعيته، أنّ الفئات التي حرمت الطلاق، لجأت إلى حلّ الانفصال الجسدي والهجران، لإدراكها أنّ الاستمرار غير عملي. ولكنّها وقعت في مشكلة أخرى، وهي الإحساس بالارتباط الذي لا يمثّل أيّ شي‏ء للطرفين، في الوقت الذي لا يستطيعان معه التخلص منه، ليتفرغا لعلاقة جديدة ناجحة بدلاً من العلاقة القديمة الفاشلة، ما يجعل الحياة لديهما جحيماً لا يطاق، أو طريقاً للانحراف..
 فلم يبقَ إلا الحلّ الثاني، وهو أن نقول لهما: إنّ بإمكانهما أن ينفصلا ويبحثا عن تجربة جديدة، باعتبار ذلك ضرورةً حياتية، فيكون أبغض الحلال إلى الله، تماماً كما هي العملية الجراحية عند استفحال المرض"( ).
ويستشهد السيد المفسر بأحد الأطباء النفسيين الفرنسيين، الدكتور بروتللي، الذي يرى أنه "لا يوجد ما يسمى ابن الطلاق.. فإنّ ذلك مجرد عذر سهل وتبرير غير واع لكلّ حماقات سوء التربية، ولعدم كفاية النصح والعجز عن التفتح، ولكن ما يوجد حقاً، هو الصراع بين أبوين متنافرين، فالطلاق إذاً لا يخلق حالة، ولكنّه يعمل على تسوية مشكلة. والصراع هو الذي لا يتحمله الطفل، فحين يتفتح الطفل، يكون محتاجاً إلى الدف‏ء والحنان والاستقرار والأمان، وكلّها مستوحاة من الأب والأمّ معاً..".
ويلفت النظر في ختام الجواب إلى ملاحظة مهمة سارية في كلّ الإشكالات المطروحة على التشريعات القرآنية، وهي:
 "أنّ أيّ تشريع في جانب السلب والإيجاب، لا يمكن أن يكون حلاً مطلقاً للمشكلة، بل كلّ ما هناك، أنّه يمثل الحل النسبي الذي يجمع إلى الإيجابيات بعض السلبيات. ففي جانب الإلزام بالفعل، لا بدّ من أن تكون إيجابيات الفعل أكثر من سلبياته، وفي جانب الإلزام بالترك، يكون الأمر بالعكس، فتكون إيجابيات الترك أكثر من سلبياته..
 وهكذا تكون النتيجة الحاسمة في موضوعنا هذا، وهي أنّ الطلاق يعتبر عملاً إيجابياً في حركة العلاقة الزوجية في الحياة، ولكنه - في الوقت نفسه - لا يخلو من بعض السلبيات في نتائجه العملية بالنسبة إلى الزوجين والأولاد وإلى المجتمع بشكل عام.."( ).
المورد الثامن: إشكالية المساواة بين الرجل والمرأة
في أجواء القراءة الإجمالية لسورة النساء، يتحدث السيد المفسر عن إشكالية التماهي بين الرجال والنساء في المجتمع تحت شعار المساواة، فقد حاولت المدنية الحديثة "أن تُماهيَ بالمطلق بين الرجل والمرأة من خلال فكرة المساواة، التي حصرت همّها بالإطار الإنساني العام الجامع للمرأة والرجل، من دون التفاتٍ إلى الجوانب الخاصة المميزة لكلّ منهما، ما أبعدها، أيضاً، عن مبدأ التوازن". لذا "نهضت على مفهوم المساواة بينها وبين الرجل، على ضوء فكرة الحريات، فقالوا بأنّ المرأة إنسانة مستعبدة ومقهورة ومظلومة في البيت وفي العمل وفي علاقات الحياة، فلا بدّ لها من أن تأخذ حريتها، كجزء من حركة الحرية في حياة الإنسان، لكي تفجِّر طاقاتها في بناء الحياة والإنسان"( ).
يسجل تفسير (من وحي القرآن) على هذه الإشكالية النقاط التالية:
أوّلاً: أنّ هذه النظرة هي "بمثابة ردّ فعل على الواقع القاسي الذي كانت تعاني منه المرأة، وهي كأيّ ردّ فعل، تفتقد الاتزان والهدوء، فكان أن منحت المرأة الحرية في كلّ مجال، وطالبت لها بالمساواة في كلّ شي‏ء، وبدأ السير في اتجاه الخطأ من هذا الموقع، الذي ساهم في إلغاء خصوصية كلّ من الرجل والمرأة، فأبعد كلاً منهما عن أن يكون إنساناً من نوع خاص، لتتكامل الإنسانية، في نموذجها الإنساني، في جوانب اللقاء وفي جوانب الافتراق، فانطلقت المرأة في محاولة الاسترجال، وانطلق الرجل في محاولات التأنّث أو التّخنّث، فباتت المرأة غريبةً عن نفسها، وبات الرجل غريباً عن نفسه أيضاً"( ).
ثانياً: لا يمكن إنكار وجود عبقريات نسائيّة استطاعت فرض نفسها في كثير من مجالات المعرفة والتحرك، وأنّ للمرأة طاقات يمكن أن تبدع فيها في أكثر من موقع، "ولكن ذلك لا يمنع من بقاء حالة فراغ في داخل المرأة وفي داخل الرجل، أبقت المشكلة قائمةً في مجال الحرية والمساواة. ولا نزال نسمع الأصوات التي تنطلق بين حين وآخر، من قبل مجموعات كبيرة من النساء، في أكثر من بلد، للعودة إلى الأجواء العائلية المنزلية الحميمة التي فقدتها المرأة بفعل صرعة المساواة، ما يدلّ على أنّ التطور الجديد لم يحلّ مشكلةً للمرأة، إلا بخلق مشكلة أخرى"( ).
ثالثاً: أراد الإسلام للمرأة أنّ تكون (الإنسان - المرأة)، وللرجل أن يكون (الإنسان ـ الرجل)، من خلال النظرة الواقعية التي تجمع بين الخصوصية والشمول.
المورد التاسع: إشكالية قوامة الرجال على النساء
أثار تفسير (من وحي القرآن) هذه الإشكالية في سياق تفسيره لآية القوامة: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِم}(النساء: 34)، "فقد يخيّل لبعض الناس أنها تعني السيادة والسيطرة، فليس للمرأة كلمة مقابل كلمة الزوج، وليس لها موقف أمام موقفه، سواء في ذلك في قضاياها الخاصة أو في القضايا العامّة، وليس لها اختيار في إدارة أمورها المالية والحياتية، وبذلك تتحوّل إلى كميّة مهملة خالية من كلّ سمات الشخصية الإنسانية المستقلّة، لتكون الإنسان التابع، لا المستقلّ"( ).
ولكن هذا بعيدٌ عن الجوّ الإسلامي في التشريعات الخاصة بالأسرة، وذلك لعدّة أمور:
الأمر الأوّل: أنّ الزواج "لا يلغي شخصية المرأة في جميع الأمور التي لا يشملها العقد الزوجي، من خلال ما تلتزم به المرأة من شؤون الحياة، بل كلّ ما يلزمها به من ناحية قانونية، هو الجانب الذي تلزم به نفسها، فإن لعقد الزواج - في طبيعته - مفهوماً محدوداً من خلال ما يفرضه من التزامات، لا بدَّ لكلّ منهما من الوقوف عندها تبعاً للالتزام بالعقد، وهو المفهوم الذي يفرض على الزوجة الاستجابة لزوجها في نطاق حاجته الجنسية كلما رغب إليها في ذلك، فليس لها أن تمنعه من ذلك، أو تقيم الحواجز المادية والمعنوية التي تحول بينه وبين تلبية حاجاته ـ في غير الحالات الطارئة التي تمثل مانعاً شرعياً أو صحياً، أو غير ذلك مما يخرج عن نطاق إرادتها الطبيعية. وليس لها على هذا الأساس أن تخرج من بيته بغير إذنه في الحالات الطبيعية، إذا كان ذلك منافياً لحقّه في هذا المجال، وعلى الزوج أن يلبي رغبة زوجته في ذلك، وهو ما يلتقي مع مفهوم المعاشرة بالمعروف وحمايتها من الانحراف"( ).
"وعلى الزوج أن يكفل لزوجته النفقة في المعروف بحسب إمكاناته، في ما تقتضيه حاجاتها المادية بحسب حالها".
الأمر الثاني: إنّ لكلٍّ من الزوجين "الحرية في كلّ القضايا الذاتية المتعلقة بالأعمال الأخرى، في شؤون العمل المنزلي، وفي حدود الشخصية المالية والاجتماعية لكلّ منهما، مما لا يتنافى مع الالتزامات الزوجية الخاصة، فليس للرجل أن يفرض على زوجته القيام بإدارة البيت الزوجي، إلا على أساس التزامها بذلك في ضمن شرط شخصيّ بينهما، حتى في موضوع حضانة الأولاد ورعايتهم، فإنّها ليست مسؤولية الزوجة من ناحية شرعية قانونية، بل هي مسؤولية الزوج، ولها الحقّ في أن تطلب أجراً على ذلك، باعتبار أنّ الإسلام يحترم عملها في نطاق قيمته الإنسانية والمادية".
الأمر الثالث: الزواج من منظور قرآني إسلامي "علاقة روحية متحركة على أساس إنسانيّ يجعل من شخصية كلّ منهما امتداداً روحياً لشخصية الآخر، فأراد لهما أن ينطلقا من خلال المودّة التي تعبر عن العاطفة الصحيحة الحميمة في شعور كلّ منهما تجاه الآخر، ومن خلال الرحمة التي تعبّر عن وعي كلّ منهما لظروف الآخر في أحاسيسه وأفكاره وعلاقاته وتصرّفه معه - على هذا الأساس - انطلاقاً من الإرادة الإلهية.
وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: {ومِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورَحْمَةً}(الروم: 21)، وقوله تعالى: {هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ}(البقرة: 187)"( ).
الأمر الرابع: التفضيل في قوله: {بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}(النساء:34)، ربما يكون وارداً في "قوّة الرصيد العاطفي لدى المرأة الذي أودعه اللَّه فيها وتأثيره في شخصيتها كأنثى وكأمّ. وقد يكون لذلك أثر كبير في انفعالها بالأحداث المأساوية، أو بالقضايا العاطفية، ما يوجب انحرافها عن الخطّ المتوازن في النظرة الهادئة للأشياء، ولا سيّما في ما يتصل بالمشاكل التي قد تحدث في داخل الحياة الزوجية. وهذا هو ما تمثله الآية الكريمة التي تحدثت عن عدم قبول شاهدة واحدة في مقابل قبول شهادة رجل واحد في قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى}(البقرة: 282)، ما يوحي بإمكانية الانحراف، فكان الاحتياط للعدالة يفرض ضمَّ امرأة أخرى إليها لتذكّرها وتهديها سواء السبيل"( ).
"ويمكن أن تكون المسألة متّصلةً بالحالات الجسدية التي تتعرض لها المرأة الأمّ، من الحمل والإرضاع والتربية ونحوها، مما لا يترك لها المجال للتفرّغ والتركيز لإدارة شؤون الحياة الزوجية، وبذلك يكون التفضيل بمعنى الخصائص الذاتية التي تجعل قدرة الرجل على مواجهة الموقف بهدوء أكثر من المرأة في قضايا الطلاق والحاجات الذاتية الخاصة، ويمكن أن يكون هناك أشياء خفية لم نحط بعلمها، مما هي عند الله في تكوين الرجل والمرأة"( ).
الأمر الخامس: اختصاص الرجل بمسؤولية الإنفاق، "ربما يكون مرتبطاً بما خطط له الإسلام من تنظيم الأسرة، في اعتبار دور الأمومة أساسيّاً في حياتها، ما يفقد المرأة الفرص الواسعة الكفيلة بتحقيق الاكتفاء الذاتي للأسرة، لأنّ الإسلام قد يرى أنّ الأسرة تحصل على المكاسب الكبيرة من خلال رعاية المرأة للبيت، أكثر مما تحصل عليه من ابتعادها عنه للعمل، بل ربما كان عمل المرأة - من خلال ما نشاهده من تجارب في واقعنا المعاصر - موجباً لكثير من النتائج السلبيّة الروحيّة والماديّة للأسرة، ولا سيّما للأطفال الذين يفقدون رعاية الأمّ، لتتلقفهم الخادمات ودور الحضانة"( ).
المورد العاشر: إشكالية العمليات الاستشهادية
في تفسيره لآية التهلكة: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ وأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(البقرة: 195)، يطرح السيّد المفسّر إشكالية العمليات الاستشهادية التي يعبر عنها البعض بالعمليات الانتحارية، لما وصلت إليه الأمة من هزيمة نفسيّة في صراعها مع القوى الظالمة أو المحتلة في الداخل والخارج، سقطت فيها عناوين الجهاد، والحرية، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حتى استطاع الكفر والاستكبار العالمي السيطرة على البلاد الإسلامية كلّها.
يقول السيّد: "هناك مسألة لا بدّ من الإشارة إليها في هذا السياق، لكثرة الجدل حولها من خلال تطبيق هذه الآية عليها، وهي العمليات الاستشهادية التي قام بها بعض المجاهدين في عصرنا الحاضر في مواجهتهم للصهيونية وللاستكبار العالمي، حيث يقوم أحد المجاهدين بتفجير نفسه من خلال ربط جسده بحزام من المتفجرات، أو الانطلاق بسيارة مملوءة بالقنابل المتفجرة، فيفجّر نفسه بمركز من مراكز العدّو، أو بمجموعة من جنوده، فقد أخذ بعض الفقهاء أو المتفقهين يصدر الفتاوى بحرمة هذا العمل، لأنّه انتحار وإلقاء للنفس بالتهلكة"( ).
"ولكننا لا نرى فرقاً بينه وبين اقتحام المجاهد ساحة الحرب الجهادية، مع علمه أو غلبة ظنّه بالقتل، إلا في أنّ القتل هناك بيد العدّو، وفي هذه القضية بيده، ولكن هذا الفرق ليس بفارق من حيث الحكم الشرعي، ما دامت خطّة الجهاد تفرض ذلك، من خلال حاجة المعركة للوصول إلى النتائج الإيجابية على مستوى المرحلة في خطّ الاستراتيجية والهدف النهائي الكبير. وماذا يقول هؤلاء في حاجة الحرب إلى اقتحام المجاهدين للأرض المزروعة بالألغام التي تتفجر بالأشخاص الذين يمرون عليها؟ فإنّه قد يجوز لهم، أو يجب عليهم القيام بذلك، إذا توقف النصر عليه.
وربما كانت مشكلة هؤلاء، أنّهم لا يؤمنون بالجهاد من حيث المبدأ في هذه المرحلة من عمر الإسلام، ويرون أنّ التكليف الشرعي يفرض عليهم القعود والانتظار إلى ظهور الإمام المهدي(عج)، ليبرروا لأنفسهم الابتعاد عن ساحة المعركة، وليثيروا النكير على المجاهدين في كلّ ساحات الصراع"( ).
المورد الحادي عشر: خرافة مأساة إبليس
تحت هذا العنوان، عقد تفسير (من وحي القرآن) بحثاً يردُّ فيه على محاولة "بعض المتفلسفين تصوير إبليس في قضية إيمانه بصورة المأساة، فصوروه بصورة الموحد الخالص في توحيده، المؤمن العميق في إيمانه، لأنّه رفض السجود لآدم انطلاقاً من رغبته في توحيده العبادة للّه، فلا يريد أن يشرك أحداً في السجود له، وإن كان ذلك بأمر من الله، فهو مستعد لتقبل عذاب الله في سبيل الإخلاص لمحبته له وإيمانه به"( ).
يبدو أنّ السيّد المفسّر يشير إلى كتاب (نقد الفكر الديني) الذي يتضمن محاضرةً للمؤلف بعنوان: (مأساة إبليس)، يسجِّل فيها دفاعه عن إبليس، ويبرر إباءه السجود لآدم بالأمور التالية:
1- "لا شكّ أنَّ إبليس خالف الأمر الإلهي عندما رفض السجود لآدم، غير أنّه كان منسجماً كلّ الانسجام مع المشيئة الإلهية ومع واجبه المطلق نحو ربّه"!!( )
"ولو شاء الله لإبليس أن يقع ساجداً لتوه، إذ لا حول ولا قوة للعبد على ردّ المشيئة الإلهية"( ).
2- "لو وقع إبليس ساجداً لآدم، لخرج عن حقيقة التوحيد، وعصى واجبه المطلق نحو معبوده"( )!!
3- "برّر إبليس رفضه السجود لآدم تبريراً منطقياً واضحاً، إذ قال: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}(ص:76)"( )!!
علما أنّ صاحب كتاب (نقد الفكر الديني)، يعتبر قصة إبليس من الأساطير والخرافات، وأنها برّمتها من "التفكير الميثولوجي - الديني الناتج عن خيال الإنسان الأسطوري وملكاته الخرافية"، وأنّ شخصية إبليس "شخصية ميثولوجية أبدعتها ملكة الإنسان الخرافية، وطوَّرها وضخمها خياله الخصب"( )!!
مع أنّ صاحب الكتاب يأتي بفقرات عديدة من الآيات القرآنية من سورة البقرة (30-34)، وسورة الحجر (28-41)، وسورة الأعراف (10-17)، ومعنى ذلك، أنّه يعتبر أنّ هذه الآيات تقصّ علينا أساطير وخرافات وخيالات!
ولا شكّ، فإنّ المؤلف يخلط بين الإرادتين التشريعيّة والتكوينيّة، كما كان يقول بعض الكافرين المشركين: {وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ نَحْنُ ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}(النحل: 35).
يرى السيد المفسِّر أنّ محاولة هؤلاء المتفلسفين تفسير امتناع إبليس عن السّجود لآدم، بأنّه كان الموحد الخالص في توحيده، المؤمن العميق في إيمانه، "لا ترتكز على أيّ أساس منطقي أو ديني"، وذلك لأمرين:
الأمر الأوّل: الإباء عن كبرياء
"إنّ امتناع إبليس عن السجود لآدم كان بفعل الكبرياء، لا بفعل التوحيد والمحبة لله، وسنجد في شخصيته - في ما يأتي من حديث إبليس في القرآن - صفة الحاقد الذي يدفعه حقده إلى أن يمارس كلّ ما يستطيع من الأعمال الشريرة في سبيل تحطيم هذا الكائن في ذاته وفي ذريته، كسبيلٍ من سبل التنفيس عن حقده المكبوت في أعماقه، ولذا فإنّه يطلب الخلود من أجل تحقيق هذه الغاية الشريرة في نفسه".
"وإذا كانت الصورة القرآنية هي هذه، فمن أين تأتي لنا صورة الموحّد لله، الفاني في ذاته، الذي يريد أن يحرق نفسه من أجل الاحتفاظ بصفاء حبّه وإيمانه؟! إننّا لا نستطيع أن نضع ذلك إلا في أجواء الخيالات الشعريّة التي تعيش في آفاق الشعراء الحالمين الذين يحاولون أن يمنحوا جو المأساة للمجرمين، انطلاقاً من الاستغراق الذاتي في مشاعر المجرم أمام مصيره، بعيداً عن دوافع الجريمة ونتائجها الشريرة في تأثيرها على البلاد والعباد، تماماً كالكثيرين الذين يشجبون قانون القصاص للقاتل على أساس المشاعر العاطفية الساذجة، بعيداً عن التخطيط الواعي للتشريع في حياة الإنسان"( ).
 الأمر الثاني: السجود لآدم طاعة لله وليس شركاً
"إنّ قضية السجود لا تمثّل شكلاً من أشكال عبادة آدم ليتعارض مع الإيمان بالله وتوحيد عبادته، وكيف يأمر الله عباده بالإشراك به، وهو الذي لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، ولكنّها تحية وتكرمة لآدم من جهة، كما حدث من يعقوب وأهله عند مقابلته لولده يوسف، في ما حدثنا الله عنه في قوله تعالى: {ورَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّداً}(يوسف: 100)، وهي من جهة أخرى، طاعة للّه في امتثال أوامره، وفي تعظيم خلقه، كمظهرٍ من مظاهر عظمته"( ).
المورد الثاني عشر: حقيقة السَّحر
يتناول تفسير (من وحي القرآن) موضوع السحر، ومدى حقيقته وواقعية تأثيره، في سياق تفسيره لقصة الملكين هاروت وماروت في سورة البقرة، والتي جاءت في سياق الحديث عن ممارسات اليهود الإفساديّة التخريبيّة: {وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى‏ مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ ولكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ ومارُوتَ وما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وزَوْجِهِ وما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ويَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ ولا يَنْفَعُهُمْ ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ولَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}(البقرة: 102).
يرى صاحب تفسير الميزان، أنّ المفسرين قد اختلفوا في تفسير هذه الآية "اختلافاً عجيباً لا يكاد يوجد نظيره في آية من آيات القرآن المجيد"( ).
وذكر الكثير من الاحتمالات في تفسير الكلمات وعودة الضمائر ومعاني الحروف، ثم قال: "وإذا ضربت بعض الأرقام التي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر، ارتقى الاحتمالات إلى كمية عجيبة، وهي ما يقرب من ألف ألف ومائتين وستين ألف احتمال!"( ).
تحت عنوان: (هاروت وماروت وتعليم السحر)، يرى تفسير (من وحي القرآن) أنّ الملكين هاروت وماروت "كانا يعلّمان الناس السِّحر للمعرفة والثقافة ودفع الضرر، لا لاستلام زمام المبادرة العملي فيه".
"ولهذا كانا يرشدان الإنسان الذي يتعلم منهما، إلى أنّهما فتنة للناس وامتحان لهم على الانضباط والالتزام الديني في عدم الإضرار من موقع القدرة والمعرفة، لا من موقع العجز، لأنّ هناك فرقاً بين أن تلتزم بترك الشي‏ء لأنّك لا تعرف حدوده وقواعده التي تملك من خلالها إمكانية التصرف، وبين أن تتركه وأنت تعرف كيف تتلاعب به وتوجهه الوجهة التي تريدها في طريق الخير والشرّ".
"ولكن الناس - ومنهم اليهود - لا ينجحون في الامتحان غالباً، فيوجّهون المعرفة التي يكسبونها في طريق الإضرار بالناس {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وزَوْجِهِ}"( ).
والظاهر أنّ المراد من هذا التفريق - كما يرى السيّد المفسّر - ما يستعمل لهذا الهدف، لا ما يحدث منه ذلك بشكل حتمي، وذلك بقرينة قوله تعالى: {وما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، أي بحسب "الظروف والأسباب الطبيعية التي أودعها اللّه في خصائص الأشياء، مما يساهم في حدوث الظاهرة في حركة الوجود الإنساني والكوني"( ).
هل للسّحر حقيقة؟
يعقد تفسير (من وحي القرآن) بحثاً تحت هذا العنوان، يتساءل فيه عن السّحر: ما هي حقيقته؟ وما هو تأثيره؟ وهل له أساس من الحقّ يركن إليه؟
يمكن تلخيص الإجابة عن هذه الأسئلة من منظور قرآني، بالنقاط التالية:
1- السّحر تخييل لا حقيقة له
إنّ السّحر "عملية تخييل ولعب على الأعين والحواس الأخرى، وذلك في قوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ واسْتَرْهَبُوهُمْ وجاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}(الأعراف: 116)، وقوله تعالى في حديث موسى معهم: {ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ}(يونس: 81)، كدلالة على أنّه لا يرتكز على أساس من الحقّ الذي يمكن له أن يتماسك، وقوله: {إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ ولا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى‏}(طه: 69)، لأنّ عمله لا يؤدّي إلى نتيجة حاسمة، بل ينتهي إلى الخيبة والخسران والفشل الذريع.. وقد نجد هذا المعنى في ما كان الكفار يواجهون به الأنبياء من اتهامهم بالسحر، باعتبار أنّهم يفقدون الإنسان قدرته على مواجهة الدعوة بحرية الإرادة والاختيار، بما يملكون من وسائل السّحر"( ).
2- السّاحر كافر
وقد وردت الأحاديث الكثيرة في التنديد بالسّاحر والسّحر، والتشديد على عقوبة الساحر في الدنيا والآخرة: "الكاهن كالسّاحر، والسّاحر كالكافر، والكافر في النار"، و"ساحر المسلمين يقتل، وساحر الكفار لا يقتل، فقيل: يا رسول الله، ولم ذاك؟ قال: لأنّ الشرك والسحر مقرونان"( ).
وهذا الموقف الشديد من السحر، هو لمدى خطورته في "ربط الناس بالخرافة والتضليل والتمويه، والابتعاد عن طبيعة الأشياء تحت ستار الأسرار الغامضة المقدّسة، أو الاعتقاد ببعض المؤثرات في خصائص الأشياء بالمستوى الذي يتنافى مع وحدانية اللّه وعظمته"( ).
3- التحفظ نابع من عدم الدليل
إنّ التحفظ في موضوع اعتبار السّحر شيئاً حقيقياً، لا ينطلق من فكرة استبعاد علاقة الأشياء غير الملموسة أو غير المادية بالتأثير بالواقع، لأنّنا لا نؤمن إلا بالجانب الحسّي في قضايا الحياة الواقعية، "بل لأننا لا نملك أدلةً وجدانيةً أو شرعيةً - في ما نعرفه من أدلة - على ذلك، فتبقى القضية في طور الاحتمال الذي يحتاج في جميع تفاصيله إلى دليل"( ).
4- الاختلاف في ماهية السحر
وقد اختلف في ماهية السحر على أقوال:
فقيل: إنّه ضرب من التخييل وصنعة من لطيف الصنائع، وقد أمر الله بالتعوذ منه، وجعل التحرز بكتابته وقايةً منه، وأنزل فيه سورة الفلق، وهو قول الشيخ المفيد...
وقيل إنّه خدع ومخاريق وتمويهات لا حقيقة لها يخيل إلى المسحور أنّ لها حقيقة.
وقيل إنّه يمكن للسّاحر أن يقلب الإنسان حماراً ويقلبه من صورة إلى صورة، وينشئ الحيوان على وجه الاختراع.. وهذا لا يجوز.
5- الروايات موضوعة
إنّ ما روي من الأخبار أنّ النبيّ (ص) سُحِر، فكان يرى أنّه فعل ما لم يفعله، أو أنّه لم يفعل ما فعله، فإنما هي "أخبار مفتعلة لا يلتفت إليها، وقد قال الله سبحانه وتعالى - حكايةً عن الكفار -: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً}(الإسراء: 47). حاشا النبيّ (ص) من كلّ صفة نقص تنفر عن قبول قوله، فإنّه خيرة الله من خليقته وصفوته من بريته".
6- النفاثات في العقد
يعقب السيّد المفسّر على ما استفاده الشيخ المفيد من سورة الفلق، في قوله تعالى: {ومِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ}(الفلق: 4)، بأنّ الاستعاذة قد تكون "أسلوباً من أساليب التخلص من الحالات النفسية التي يعيشها الإنسان من خوف أو قلق إزاء هذه الحالات، وذلك بسبب العقلية الشعبية التي درجت على اعتقاد وجود آثار حقيقية لمثل هذه الأمور، وقد يكون قريباً من هذا الجوّ، الأحاديث الواردة في الاستعاذة باللّه من أسباب الطيرة والتشاؤم إذا حدث في النفس شي‏ء بسببها، ما يوحي بأنّ المعالجة ليست معالجةً لشي‏ء حقيقيٍ يخاف من خطره، بل هي معالجة لحالة نفسية تحدث من خلال العقائد الموروثة"( ).
وقريب من هذا القول، ذهب في تفسيره لسورة الفلق، في جوابه على ما أثاره من سؤال: هل آية: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ}(الفلق:4) تدلّ على أنّ النفث في العقد الذي يعتبر مظهراً من مظاهر السحر - في ما يقولون - يمثّل حقيقةً تأثيريةً في الإنسان الآخر، بحيث تنتج الشرّ الذي يستعيذ الإنسان منه بالله، أم أنّها تمثّل حالةً تخييليّةً تترك تأثيراتها في المشاعر بطريقة الإيحاء الذاتي أو بما يشبه ذلك؟
 قد لا يكون الشرّ "حاصلاً من خلال النفث في العقد، بل من خلال الأجواء التي يثيرها ذلك في الوعي الداخلي للإنسان، بحيث يترك آثاره من خلال الإيحاءات الخفية التي يتقنها هؤلاء بوسائلهم الخاصة"( ).
"وربما كان هذا الوضع التخييلي الإيحائي مشابهاً للوضع التخييلي الذي يسحر أعين الناس، في ما حدثنا الله عن السحرة من قوم فرعون، في ما قدّموه من السّحر الذي أرادوا أن يتحدّوا به موسى، وذلك في قوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ واسْتَرْهَبُوهُمْ وجاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}(الأعراف: 116)، وقوله تعالى حكايةً عن ردّ موسى عليهم: {ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ}(يونس: 81)، وقوله تعالى حكايةً عن حالة موسى الشعورية في مواجهة سحر السحرة: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى‏}(طه: 66)، الأمر الذي يؤكّد أنّ المسألة السحرية ليست مسألةً حقيقيةً في تغيير الواقع، بل هي مسألة تخييليّة تمثل نوعاً من أنواع إثارة الخيالات والتهاويل والإيحاءات الخفية"( ).
وقد جاء في مجمع البيان للطبرسي، ما يؤكّد هذه الفكرة ويوضحها بشكل آخر: "وإنما أمر بالتعوّذ من شرّ السحرة، لإيهامهم أنهم يمرضون ويصحّون ويفعلون شيئاً من النفع والضرر والخير والشرّ، وعامة الناس يصدقونهم، فيعظم بذلك الضرر في الدين، ولأنهم يوهمون أنهم يخدمون الجن ويعلمون الغيب، وذلك فساد في الدين ظاهر، فلأجل هذا الضرر أمر بالتعوذ من شرّهم"( ).
وقد ذكروا هناك معنى آخر للنفاثات في العقد، وهو ما نقله مجمع البيان عن أبي مسلم، قال: "النفاثات: النساء اللاتي يملن آراء الرجال، ويصرفنهم عن مرادهم، ويرددنهم إلى آرائهن، لأنّ العزم والرأي يعبّر عنهما بالعقد، فعبّر عن حلّها بالنفث، فإنّ العادة جرت أنّ من حلّ عقداً نفث فيه"( ).
ويمكن أن نضيف إلى ما قاله السيّد المفسّر، أنّ {النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ}(الفلق:4) لا علاقة لها بالسحر، وإنّ ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني يمثل مصداقاً من مصاديق النفاثات في العقد، ليشمل مصاديق أكبر وأخطر، منها القوى الكبرى المستكبرة التي تنفث في عزائم الشعوب المستضعفة، ولا سيما إذا عرفنا بحسب مناسبات الحكم والموضوع، أنّ النفاثات في العقد لها دور خطير على مسيرة الإسلام والمسلمين، حتى عُدّت من أكبر ثلاثة مخاطر وشرور أمرنا أن نستعيذ منها بربّ الفلق، لما في الفلق من دلالة على فلق نور الفجر لظلام الليل، أو فلق الوجود للعدم.
وقد التفت إلى ملحظ الاستعاذة بربّ الفلق، السيّد المفسر نفسه، على المعنى الأوّل للفلق؛ لتنطلق "الاستعاذة من وحي القدرة الإلهية التي تفلق الظلام لتحوّل الكون إلى النور، وبذلك تفلق كلّ مواقع الشرّ، لتحوّل الإنسان إلى مواقع الخير، في ما يثيره في النفس من الانفتاح، كما يحدث للنور أن يثير الانفتاح في الكون"( ).
7- الحذر من المشعوذين
وأخيراً، يحذّر السيّد المفسّر، من أن تكون مسألة تأثير السحر والتخلص منه ببعض الأذكار "مساحةً مفتوحةً للجميع، بل هي من صلاحيات أهل المعرفة الدينية الواعية الذين يميزون بين الخرافة والحقيقة، ويعرفون صحيح الحديث من فاسده، فلا يأخذون من هذه القضايا إلا ما ثبت لهم صحته مما لا يخالف المنطق وطبيعة الأشياء، ولا يمكن الاستسلام فيها إلى أشباه الأميين الذين لا يملكون من المعرفة إلا قليلاً، فيعتمدون على الصدفة في ربح ثقة الناس، مما لم يكن لهم فيه أيّ دخل من معرفة أو تأثير، فيتبعهم الناس لذلك، ويعتذرون عنهم في غير ذلك مما يخطئون فيه، لأنّ شأن الناس أن يحبوا التصديق السهل في الأمور، فذلك يجعلهم في حالة استسلام للحلّ السهل الذي لا يكلّفهم عناءً في مواجهة الأشياء"( ).
المورد الثالث عشر: إشكالية الغيب والشهادة
من الإشكاليات التي حاول تفسير (من وحي القرآن) معالجتها، العديد من الثنائيات التي لم يستطع المسلمون، بفعل ابتعادهم عن القرآن ومنهجه في الحياة، أن يتعاملوا معها تعاملاً سليماً ومتكاملاً، فأصبحت في أذهان العامة من الثنائيات المتضادة.
ومن أبرز هذه الثنائيات، ثنائية الغيب والشهادة، حتى صار الإيمان بالغيب بديلاً من عالم الشهادة والعمل والسعي والطلب وتوفير الأسباب واتباعها.
في سياق تفسيره لمطلع سورة البقرة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ}(البقرة:3)، أثار السيد المفسّر سؤالاً: هل الدين غيب كلّه؟ تحدث فيه عن فحوى هذه الإشكالية، وما يتوهمه البعض وهو يقرأ تركيز القرآن على الغيب، في تفسير الأحداث والوقائع والظواهر الكونية والاجتماعية، من نصر وهزيمة، وانتصار وانكسار، وتقدّم وتخلّف، ونشوء حضارة واندثارها، وقيام دولة وسقوطها، فيكتفي "بإرجاع ذلك إلى عوامل غيبية، أو إلى الله، من دون أن يبحث عن القوانين الطبيعية التي أودعها اللّه في الكون، ليقوم عليها نظامه ونظام الحياة في نطاق مبدأ السببية الطبيعية في الأشياء".
"لقد وقع في هذه الشبهة بعض المؤمنين الساذجين، فوقفوا موقف المنكر لكثير من نتائج العلم، لاصطدامها بالذهنيّة الغيبـيّة التي لا تألف مثل هذه النتائج، والبعض منهم تطرّف في موقفه إلى درجة تكفير الإنسان الذي يؤمن بوجود قوانين طبيعية تحتكم إليها الظواهر الطبيعية والكونية، لأنّهم يحسبون الفارق بين الإيمان والكفر هو الاعتقاد بغيبية الأسباب في جانب الإيمان، وبواقعيتها أو ماديتها في جانب الكفر"( ).
"وقد نشأت في هذا الجوّ - ولفترات - فكرة تركيز الوعظ على الجانب الغيبـي في كلّ مجالات الحياة، من دون توضيح للقوانين الطبيعية التي أودعها الله في الكون، ما أدّى إلى ربط كلّ الظواهر الطبيعية باللّه بشكل مباشر".
ويرى السيد المفسّر أن هذه النظرة المتضادة إلى عالم الغيب والشهادة، التي جعلت العقل يستغرق في عالم الغيب بعيداً عن عالم الشهادة وما يزخر به من أسباب وعلل، هي "أحد الأسباب التي أقعدت الإنسان المسلم في العصور الماضية عن التقدّم في اتجاه فهم الكون من خلال فهم القوانين المتحكّمة في مسيرته، وساهمت في تكوين الشخصية الغيبـية، ذات العقل الغيبـي والمشاعر الغيبـيّة، التي تبحث في الماضي والحاضر عن خطوات الغيب، وتواجه المستقبل بتطلعات غيبيّة، تفسح في المجال للكهان والمتنبئين للّعب بعواطف الناس ومشاعرهم من خلال عمليات "فتح الفال" وغيرها. حتى إنّنا رأينا الكثيرين من السياسيين وغيرهم ممن يهمّهم أمر معرفة مستقبلهم السياسي والعاطفي، يتَّجهون إلى العجائز أو الفلكيين الذين يدّعون معرفة الغيب ويتاجرون بها، ليعرفوا منهم تطورات المستقبل"( ).
من هذا المنطلق يسجل النقاط التالية:
1-    "إنّنا لا نؤمن بحركة الإيمان بالغيب في مثل هذه المساحة الواسعة من حياة الناس العامة والخاصة، بل نؤمن بالغيب الذي يربطنا باللّه في مجال محدود، ولذا نرى الإسلام يشنّ حملةً شديدةً على الكهّان والكهانة والتنجيم والمنجمين، لإبعاد العقلية الغيبـية عن واقع الفكر والحياة...".
2-    "إننا قد نؤمن بالغيب بشكل جري‏ء في كثير من الحالات التي لا نفهمها، أو ربما نتمرّد - في وعينا - على بعض القوانين الطبيعية التي قد يكون لها جانب غيبـي، لأنّنا نعتقد أن الحياة لا تخضع دائماً للتفسيرات المادية، فقد تحدث في حياة كلّ منا أشياء غيبية في عالم الرزق أو الصّحة أو غير ذلك، فيشفى بعض المرضى نتيجة التوسل لله، بنبيّ أو وليّ، أو بسبب دعاء أو عمل عبادي، في جوّ نفسي معين قد لا ينسجم مع التفسير النفسي العملي"( ).
3-    "إننا لا ننكر وجود جانب روحي يرعى الإنسان ويتدخل في حياته، ولكنّ المبدأ الأساس في الحياة من وجهة نظر إسلامية، هو أنّ الحياة تخضع في جميع أسرارها ومظاهرها، سواء كانت سياسيةً، أو اجتماعيةً، أو اقتصاديةً، لقوانين طبيعية أودعها اللّه في الكون، وهذا ما نجده في القرآن في أكثر من آية، في حديث الله عن سننه في الكون: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ}(الأحزاب: 38)، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}(فاطر: 43)"( ).
4-    "ولذلك، فإنّ إيماننا بالغيب، لا يمنعنا من الوقوف أمام كلّ ظاهرة كونية أو حياتية لنفهم أسبابها وأسرارها، بل الملحوظ أنّ القرآن يدعونا في كلّ آيات التفكر والتدبر، للنظر في الكون، وفي التاريخ، لنعرف أسبابها وأسرارها، ولنكتشف من خلالها عظمة اللّه تعالى. وبذلك، يحتضن الفكر الإسلامي كلّ علوم الحياة والإنسان، التي تحاول البحث عن القواعد العلمية التي تحكم الكون والسلوك والتفكير في ضمن كيان متكامل متوازن، ويتّجه إلى الواقع ليفسّره تفسيراً ينسجم مع الدور الكبير الذي أعدَّ الله له الإنسان في الحياة"( ).
وقد عالج السيّد المفسّر هذه الإشكالية في مواطن عديدة من تفسيره، لمدى أهميتها ودورها في تخلّف المسلمين وتأخرهم عن الركب الحضاري، بعد أن كانوا في دور الشهادة على الناس.
هل نشأت الأديان من جهل الإنسان؟
تحت هذا العنوان، يعقد بحثاً ينتقد فيه بعض الباحثين في تاريخ نشأة الأديان، الذين يحاولون أن يرجعوا بتاريخها إلى بدايات وجود الإنسان، ويعودوا بأسبابها إلى "الجهل بقانون السببية في الكون، الذي يرجع كلّ ظاهرة إلى أسبابها الطبيعية، ما دعا الإنسان الأوّل إلى أن يخترع في وهمه، وجود قوى غير منظورة خارج نطاق الطبيعة، فيعتبرها السبب الأعمق لوجود الكون، وأدّى هذا الاتجاه إلى اعتبار القوى الخفية أساساً لكلّ ظاهرة من الظواهر".
"وخلاصة هذه الفكرة: أنّ فكرة اللّه انطلقت من الجهل بالأسباب الطبيعة للكون. ويرون، من خلال ذلك، أنّ الاكتشافات التي توصّل إليها الإنسان، فاستطاع أن يعرف من خلالها القوانين الطبيعية التي تحكم الأشياء، تلغي مبدأ الحاجة إلى هذه الفكرة، لأنها أجابت عن كثير من الأسئلة الغامضة التي كانت تشغل تفكير الإنسان وتدعوه إلى فرضيات ما وراء الطبيعة، فلا حاجة إلى جواب الغيب بعد أن حصل الإنسان على جواب الحسّ والواقع"( ).
يردُّ تفسير من وحي القرآن هذه الفكرة الخاطئة في قراءة تاريخ الأديان ونشوئها، والتي تعدّ الدين من صنع الجاهلين بالطبيعة وأسرارها، الخائفين من أحداثها وظواهرها، فلا محيص لهم إلا اللجوء إلى قوى غيبية، وعوامل خيالية، لا وجود لها إلا في أذهان أصحابها الخاوية!
وكان الردّ على هذه النظرية الخاطئة على ثلاثة أصعدة:
الأوّل: الصعيد التاريخي
إنّ الوحدانية التي تتمثل في عقيدة التوحيد، "سابقة على الوثنية في ما يوحيه تاريخ الديانات من جهة، وفي ما يراه بعض الباحثين في نشأة الدين من جهة أخرى". وإنّ الإنسان في "مراحله المتقدمة، كان لا يجهل كلّ أسرار الكون، بل كان يعرف بعضها في ما استطاع أن يخوضه من تجارب عملية وأفكار عقلية، فلم يمنعه ذلك من الإيمان بالله، أو السير بعيداً في خطى هذا الإيمان، ثم نلاحظ مراحل نموّ المعرفة الإنسانية، وازدهار عصر الفلسفة، وتقدم الفكر الإنساني في مجالات الحياة، فنجد أن قضية الإيمان كانت تتقدّم تبعاً لتقدم الفكر وتطوّر المعرفة، وهو ما يعني أن القضية لا تتعامل مع الجهل، بل تتحرك في مواكب العلم".
وهكذا الحال في عصر الاكتشافات العلمية، التي استطاعت أن تضع أقدام الإنسان على سطح الكواكب، فقد بقي "الإيمان يفرض نفسه على تفكير كثير من هؤلاء العلماء الذين سجّلوا الكثير من الاكتشافات العلميّة، أو ساعدت نظرياتهم على هذه الاكتشافات، ما يعني أن اتّساع نطاق التجربة، وسعة أفق المعرفة، لا يغلق على الفكر باب الإيمان، بل يفتحه على أوسع آفاقه، لدرجة نستطيع معها تقرير فكرة حاسمة محددة، وهي أن تحوّل الجهل إلى علم، قد يرفع قيمة الإيمان ومستواه وإمكانياته لدى العلماء، لأنّه يمنحهم وسائل جديدة وأدوات جديدة للتجربة الحيّة والفكر الواسع"( ).
الثاني: الصعيد الفكري
إننا نلاحظ أنّ الإلهيين الذين قالوا بوجود قوة وراء الطبيعة، "انطلقوا من الأدلّة العقلية القطعية المرتكزة على أساس أنّ الأسباب الطبيعية للوجود لا يمكن أن تكون نهائية، بل لا بدّ من أن تنتهيَ إلى السبب الأعمق، لأنها لا تحمل بذور الحتمية في داخلها، بل تتصارع فيها قابلية الوجود والعدم، من دون وجود مرجحٍ ذاتيّ لأحدهما على الآخر، الأمر الذي يجعلها بحاجة إلى علّة خارجة عنها من أجل أن ترجّح جانب الوجود على العدم، ويظلّ عنصر الحاجة هو الأساس الذي يحكم قانون تسلسل العلل والمعلولات، حتى ينتهيَ إلى العلّة التي تحمل بذور الحتمية في الداخل، وهي التي نعبّر عنها بـ (واجب الوجود)"( ).
وفي ضوء ذلك، نفهم أنّ العلماء الذين آمنوا بالألوهية في ما وراء الطبيعة، لم يغفلوا عن قانون السببية في الكون، ولم يجهلوا طبيعة الأسباب المباشرة التي تستند إليها الأشياء، ولكنّهم كانوا يتساءلون عن السبب الأوّل الذي أعطى للأشياء المباشرة قوّة السببية، فلم تكن القضية لديهم منطلقةً من مشاهدات ساذجة، أو حالات جهل بسيط، أو انفعالات طارئة، بل انطلقت من دراسة فكرية عميقة، وتأملات ذاتية دقيقة"( ).
الثالث: الصعيد الأسلوبي
إنّ أسلوب القرآن في معالجة الإيمان، وفي حديثه عن ظواهر الكون، "ينسب الفعل إلى الله، ولا يغفل دور الإنسان في النسبة في ما يتعلق بالأفعال التي تتصل بإرادته بشكل مباشر، وذلك بالتعبير نفسه، كما في قوله تعالى: {واللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ}(الصافات: 96)، فقد أسند العمل إلينا بالأسلوب نفسه الذي أسند فيه الخلق إلى ذاته المقدَّسة، فنحن الذين قمنا بالعمل، وبذلك صحَّت نسبة العمل إلينا، أمّا نسبته إلى الله، فلأنّه أعطانا الحياة والقوة والأدوات التي يحتاجها العمل، ومنحنا الإرادة التي تتحرك نحو العمل بشكل مباشر، للإيحاء بأنّه السبب الأعمق الذي تنتهي إليه الأشياء في سلسلة الأسباب، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ اللَّهَ رَمى‏ ولِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(الأنفال: 17)، فهو ينفي عن الإنسان استقلاله بالفعل بالمستوى الذي يرجع إليه كلّ شي‏ء، ولا ينفي عنه قيامه بالفعل"( ).
من هذه النقاط الثلاث، يتضح مدى "خطأ الفكرة التي تربط الإيمان بجهل الإنسان بالأسس الطبيعية التي يرتكز عليها نظام الكون، ليكون الإلحاد منطلقاً من وعي الكائن للطبيعة. ونصل إلى النتيجة الصحيحة، وهي أنّ القضية ليست قضية خوف يجعل الإنسان يتعلَّق بأيّ شي‏ء، ولكنّها قضية فكر يحاول أن يواجه الظواهر والمشاكل والقضايا بالفكر الذي يتساءل ويفتش عن جواب للسؤال، حتى يصل إلى السؤال الذي لا يحتاج إلى سؤال مثله. ولهذا نذهب إلى أنّ قضية الإيمان لا تنفصل عن السببية المودعة في الكون، وعن تطور العلم وتقدمه، بل إنّنا نرى في كلّ اكتشاف علمي جديد دليلاً جديداً على وجود الله، لأنّ العلم لا يكتشف شيئاً إلا ليكتشف وراءه حكمة ونظاماً وقانوناً يتصل بالظواهر الأخرى للكون، ويوحي لنا بوحدته التي نكتشف من خلالها حكمة الخالق ووحدته، لأنّها، وإن اختلفت في مظاهرها وأشكالها، إلا أنها تتحد في قوانينها الأساسية التي تحكم الكون كلّه، وهذا ما تثيره أمامنا هذه الآيات الكريمة، لتخطّط لنا المنهج التأمّلي للعقيدة والإيمان، كما توحي به الآية الكريمة في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(فصلت: 53)"( ).
التفسير القرآني والتفسير اللاهوتي
من أكبر الأخطاء التي وقع فيها بعض الباحثين الغربيين في نظرتهم إلى الطابع الغيبـي في القرآن، اعتبارهم إيّاه بأنّه طابع لاهوتي يتجاوز العلل والأسباب ويربطها بالغيب مباشرةً، ما أدّى بهم إلى مقولة التضاد بين الغيب والشهادة، مع أنّ هناك فرقاً كبيراً بين الاتجاه القرآني والاتجاه اللاهوتي، فإنّ الثاني يتناول الحادثة نفسها ويربطها بالله سبحانه وتعالى، "قاطعاً صلتها وروابطها مع بقية الحوادث، فهو يطرح الصلة مع الله بديلاً عن العلاقات والارتباطات التي تزخر بها الساحة التاريخية، والتي تمثّل السنن والقوانين الموضوعية لهذه الساحة، بينما القرآن الكريم لا يسبغ الطابع الغيبـي على الحادثة بالذات، ولا ينتزع الحادثة التاريخية من سياقها ليربطها مباشرةً بالسماء، ولا يطرح صلة الحادثة بالسماء كبديل عن أوجه الانطباق والعلاقات والأسباب والمسببات على هذه الساحة التاريخية، بل إنّه يربط السنة التاريخية بالله، ويربط أوجه العلاقات والارتباطات بالله، فهو يقرر أولاً، ويؤمن بوجود روابط وعلاقات بين الحوادث التاريخية، إلا أنّ هذه الروابط والعلاقات هي في الحقيقة تعبير عن حكمة الله سبحانه وتعالى، وحسن تقديره وبنائه التكويني للساحة التاريخية"( ).
 ويستعين المرجع الشهيد الصدر بمثال توضيحي من الظواهر الطبيعية، ليبين الفرق بين الاتجاهين، وهو ظاهرة نزول المطر، فالاتجاه اللاهوتي يربطها بإرادة الله تعالى، بينما الاتجاه العلمي يرى أنّ ظاهرة المطر لها أسبابها وعلاقاتها، وأنها مرتبطة بالدورة الطبيعية للماء، و"هذه العلاقات المتشابكة بين الظواهر الطبيعية، هي تعبير عن حكمة الله وتدبيره وحسن رعايته"( ).
هل الدعاء وسيلة تخدير؟
في موطن آخر، يعقد تفسير "من وحي القرآن" بحثاً حول إشكالية الدعاء، وكونه كما يدعي البعض "وسيلة من وسائل التخدير الذاتي، الذي يدفع الإنسان إلى الكسل والتواكل والابتعاد عن الأخذ بالأسباب الطّبيعيّة في الأشياء، وعن الانفتاح على حركة الحياة من أجل تنميتها وتقويتها وتطويرها، ويبتعد بالإنسان عن عالم الحسّ إلى عالم الغيب، ليكون غيبياً في وعيه للحياة، إضافةً إلى كونه غيبياً في ما وراءها".
وقد أجاب عن هذه الإشكالية بما خلاصته:
إنَّ الدعاء "ليس بديلاً من الأخذ بالأسباب الطبيعية المقدورة للإنسان في الوصول إلى أهدافه وحاجاته، لأنّ مورده هو الحالات التي لا يملك فيها الوسائل الطبيعية لتحقيق غاياته".
وهذا ما جاءت به الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت(ع):
فقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع)، مما رواه الوليد بن صبيح عنه، كما في الكافي، قال: "صحبته بين مكة والمدينة، فجاءه سائل فأمر أن يعطى، ثم جاء آخر فأمر أن يعطى، ثم جاء آخر فأمر أن يعطى، ثم جاء الرابع، فقال أبو عبدالله(ع): يشبعك الله. ثم التفت إلينا فقال: أما إن عندنا ما نعطيه، ولكن أخشى أن نكون أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم دعوة: رجل أعطاه الله مالاً فأنفقه في غير حقّه، ثم قال: اللهم ارزقني فلا يستجاب له، ورجل يدعو على امرأته أن يريحه منها، وقد جعل اللّه عزّ وجلّ أمرها إليه، ورجل يدعو على جاره، وقد جعل الله له السبيل إلى أن يتحوّل عن جواره ويبيع داره"( ).
وفي رواية أخرى عنه مما رواه عنه جعفر بن إبراهيم قال: "أربعة لا تستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب، ورجل كان له امرأة فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك، ورجل كان له مال فأفسده، فيقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد، ألم آمرك بالإصلاح. ثم قال: {والَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً}(الفرقان: 67)، ورجل كان له مال، فأدان بغير بينة، فيقال له: ألم آمرك بالشهادة"( ).
وجاء عن النبيّ (ص) قوله: "لتأمرن بالمعروف، ولتنهنّ عن المنكر، أو ليسلطن اللّه شراركم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم"( ).
يلاحظ السيّد المفسّر في الحديثين الأولين تأكيداً على "عدم استجابة الدعاء ممن يملك الوصول إلى غايته وتحقيق مراده بالوسائل الموجودة عنده، ولكنّه‏ يهملها ويلجأ إلى الدعاء، الأمر الذي يدلّ على أنّ الدعاء يمثّل الوسيلة التي يلجأ إليها الإنسان حيث لا وسيلة لديه، لأنّ الله لا يريد للإنسان أن يجعل من إيمانه بربّه سبيلاً للابتعاد عن سنن الله في الحياة، التي جعلها أساساً للعلاقة بين الأسباب والمسببات في الواقع الإنساني، في شؤونه وحاجاته وأوضاعه الاختياريّة".
"وهذا ما يمثّله معنى التوكّل في توكّل الإنسان على الله، بعد استنفاد كافة الوسائل التي تحقِّق له غرضه، فلا يسقط أمام حالة العجز، بل يترك أمره إلى الله الرحمن الرحيم القادر على كلّ شي‏ء، والذي يحبُّ عباده المتوكلين عليه"( ).
ويلاحظ في الحديث الثّالث، مدى العلاقة بين سعي الإنسان في عملية التغيير واستجابة الدعاء، فإنّه "يؤكّد أنّ التخلص من الأشرار، يفرض القيام بمواجهتهم بالوسائل الموجودة ثم الدعاء، لا إهمال الواقع الفاسد ثم الدعاء"( ).
إنّ تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من موانع استجابة الدعاء، فلا يستجيب الله عزّ وجلّ لأمة لا تقوم بواجبها الاجتماعي والسياسي، وتستسلم للظالمين والجائرين.
ويكفي حكمة واحدة لرسول الله(ص) لاستجلاء العلاقة بين الجهد الإنساني واستجابة الدعاء، وهي: "الداعي بلا عمل، كالرامي بلا وتر"!( )
ولا يسع المجال لاستعراض شروط الاستجابة، بيد أنّنا سنكتفي بشرط واحد، لنعرف العلاقة الحميمة بين الغيب والشهادة.
قال أحد الصحابة للنبي: أحبّ أن يستجاب دعائي، فقال له(ص): "طهِّرْ مأكلَك، ولا تُدخِل بطنَك الحرام"( ).
وعنه(ص): "أطِبْ كسبَك تُستجبْ دعوتُك، فإنّ الرجلَ يرفع اللقمةَ إلى فيه (حراماً)، فما تُستجاب له دعوةٌ أربعين يوماً"( ).
وعن الإمام الصادق(ع): "من سرّه أن يُستجاب دعاؤه، فليطيِّب كسبَه".( )
وعنه(ع): "إذا أراد أحدُكم أن يُستجاب له، فلْيطيِّبْ كسبَه، ولْيخرجْ من مظالم الناس، وإنّ الله لا يرفعُ دعاءَ عبد وفي بطنه حرام، أو عنده مظلمة لأحد من خلقه"( ).
روي أنّ موسى(ع) رأى رجلاً يتضرع تضرعاً عظيماً، ويدعو رافعاً يديه و(يبتهل)، فأوحى الله إلى موسى(ع): لو فعل كذا وكذا لما استجيب دعاؤه، لأنّ في بطنه حراماً، وعلى ظهره حراماً، وفي بيته حراماً( ).
المعلم الثاني: مناقشة تفسير الميزان
من معالم تفسير (من وحي القرآن)، الرجوع إلى تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي، والاستعانة بآرائه القيّمة، والاقتباس من فقراته الرائعة، والاعتزاز بنظراته الثاقبة في المجالات المتعددة؛ المفردات والسياق والروايات، سواء كانت على صعيد المنهج وآليات قراءة النص، أو على صعيد الممارسة التفسيرية والتأويلية.
بيد أنَّ تفسير (من وحي القرآن) كثيراً ما يناقش الآراء التي يطرحها تفسير الميزان، ويحاول ممارسة النقد حيالها، باعتباره "من أفضل التفاسير الحديثة ثراءً وتنوعاً فكرياً وتفسيرياً"، وما يمتلك من سمعة كبيرة وشهرة عظيمة تجعله التفسير الأوّل في عمقه وفرادته وآرائه، وما يتمتّع به من عرض لوجوه التفسير وأقوال المفسرين القدماء والمعاصرين، ومحاولة الموازنة بينها في عملية نقدية رائعة، تبين معالم الضعف والقوة فيها، بكلّ أدب الحوار وأخلاقية النقد والجدال. ولذا غدا التفسير اسماً على مسمى، كما أراد له صاحبه بتسميته: (الميزان في تفسير القرآن).
يقول السيّد المفسّر في مقدمة الطبعة الثانية: "وهذا الكتاب قد صدر قبل أكثر من عشرين سنةً، وطبعت أجزاؤه عدة طبعات، ونفد من الأسواق منذ زمن، وكثرت الحاجة إليه من قبل القراء والدارسين. فعزمنا على إصداره في طبعة جديدة، بعد أن أعدنا النظر في بعض أبحاثه، مبدين بعض الملاحظات حولها، ومناقشين بعض الأفكار الواردة في بعض الدراسات التفسيرية والفكرية، ولا سيما ما ورد في تفسير الميزان للعلامة الكبير السيّد محمّد حسين الطباطبائي - رحمه الله - الذي هو من أفضل التفاسير الحديثة ثراءً وتنوعاً فكرياً وتفسيرياً، ولذا فقد حاولت درس بعض أبحاثه درساً نقدياً بناءً على مستوى أسلوب التفسير أو موادّ الفكر"( ).
ولا يسع المجال لاستعراض مواطن النقاش، ونكتفي ببعضٍ منها:
الموطن الأوّل: السبع المثاني‏
في قوله: {ولَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي والْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}(الحجر: 87). ذكر تفسير (من وحي القرآن) ما طرحه المفسرون في معنى (المثاني) في الآية المباركة، من أنها مشتقّة من التثنية أو الثني، بمعنى التكرير أو الإعادة، لتكرّر المعاني في آيات القرآن، أو لتثنية قراءة الحمد في الصلاة، أو لأنها تجمع بين الربوبية والعبودية، أو لغير ذلك من المعاني المستوحاة من طبيعة الكلمة على أساس هذا الاشتقاق.
ثم ذكر رأي (الميزان) الذي يرى أن "المثاني جمع مثنية، اسم مفعول من الثني، بمعنى اللّيّ والعطف والإعادة، قال تعالى: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ}(هود: 5). وسميت الآيات القرآنية مثاني، لأنّ بعضها يوضح حال البعض، ويلوي وينعطف عليه، كما يشعر به قوله: {كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ}(الزمر: 23)، حيث جمع بين كون الكتاب متشابها يشبه بعض آياته بعضاً، وبين كون آياته مثاني. وفي كلام النبي(ص) في صفة القرآن: "يصدّق بعضه بعضاً"، وعن عليّ (ع) فيه: "ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض"، أو هي جمع مثنى، بمعنى التكرير والإعادة، كناية عن بيان بعض الآيات ببعض"( ).
ويقف السيّد المفسّر على الحياد من ترجيح أحد الآراء بقوله: "وقد لا يستطيع الإنسان الجزم بوجه معيّن من هذه الوجوه المحتملة، ما يجعل من الكلمة كلمةً محمّلة، لا سيّما إذا أردنا تطبيقها على سورة الفاتحة، أو على السور السبع الطوال، فلنترك أمرها لله"( ).
الموطن الثاني: معنى (المقتسمين)
في قوله تعالى: {كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا القرآن عِضِينَ}(الحجر:90-91). يقتبس تفسير (من وحي القرآن) ما طرحه تفسير الميزان، بقوله: "الظاهر - كما ورد في الميزان - أن المراد بالمقتسمين، هم الذين يصفهم قوله بعد الَّذِينَ جَعَلُوا القرآن عِضِينَ، وهم على ما وردت به الرواية، قومٌ من كفّار قريش، جزّؤوا‏ القرآن أجزاء، فقالوا: سحر، وقالوا: أساطير الأوّلين، وقالوا: مفترى، وتفرّقوا في مداخل طرق مكّة أيام الموسم يصدون الناس الواردين عن رسول الله، فأنزل الله عليهم العذاب.
وقد جاء في الدّر المنثور: "أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: سأل رجل رسول الله(ص) قال: أرأيت قول الله: {كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ}، قال: اليهود والنصارى. قال: {الَّذِينَ جَعَلُوا القرآن عِضِينَ}، قال: {آمنوا ببعض وكفروا ببعض}".
وقد علّق صاحب الميزان على ذلك فقال: وفيه أنّ السورة مكية نازلة في أوائل البعثة، ولم يبتلِ الإسلام يومئذٍ باليهود والنصارى ذاك الابتلاء"( ).
ويردّ على ما ذكره تفسير الميزان، بقوله: "ولكن تبقى في التفسير مسألة تفسير الإنزال بإنزال العذاب على قوم من قريش، وهو أمر لم تنقله لنا السورة، ولا سيّما إذا عرفنا أنّ الله لم ينزل على أمّة الرسول ما كان قد أنزله على الأمم الأخرى من عذاب، وهذا يقرب احتمال أن يكون المراد بالإنزال هو إنزال الكتاب، وهو التوراة عند اليهود، والإنجيل عند النصارى، والله العالم"( ).
الموطن الثالث: آزر أبوه أم والده؟
من خلال استقرائه للآيات المباركة في قصّة إبراهيم في السياق القرآني العام، والقرآن يفسّر بعضه بعضاً، يصل العلامة الطباطبائي إلى نتيجة حاسمة، وهي أنّ آزر لم يكن والد إبراهيم، بل كان أباه بالمعنى الأعم للأبوَّة التي تشمل العمّ والجدّ والمربي.
يذكر العلامة ستّ مراحل مرَّ بها إبراهيم (ع) في علاقته مع أبيه ووالده، وكان الموقف السادس والأخير الاستغفار لوالده، بعد أن وعد أباه بالاستغفار له، ثم أنجز وعده بقوله: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}(الشعراء:86)، ثم تبرأ منه لما تبيَّن له مدى إصراره على شركه {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبراهيم لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إبراهيم لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}(التوبة: 114). وكان آخر موقف من إبراهيم بعد أن هاجر من العراق ورزقه الله الذرية من خلال إسماعيل وإسحاق، هو استغفاره لوالده، قال تعالى على لسان إبراهيم: {الحَمْدُ للهِ الَذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء... رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}(إبراهيم: 39-41)، ولا سيما إذا عرفنا أن آية {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ}(التوبة:114) جاءت قي سياق الآية التي قبلها: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى‏ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ}(التوبة: 113)( ).
يرى صاحب تفسير الميزان أنَّ الوالد هنا غير الأب هناك قطعاً، بقوله: "والآية بما لها من السياق، وما احتفّ بها من القرائن، أحسن شاهد على أنّ والده الذي دعا له فيها غير الذي يذكره سبحانه بقوله: {لِأَبِيهِ آَزَرَ}، فإنّ الآيات - كما ترى - تنص على أنّ إبراهيم (ع) استغفر له وفاءً بوعده، ثم تبرأ منه لما تبيَّن له أنّه عدوٌّ لله، ولا معنى لإعادته (ع) الدعاء لمن تبرأ منه ولاذ إلى ربّه من أن يمسه، فآزر غير والده الصلبي الذي دعا له ولأمّه معاً في آخر دعائه"( ).
ثم يقول: "ومن لطيف الدلالة في هذا الدعاء، ما في قوله (ولوالديّ)، حيث عبّر بالوالد، والوالد لا يطلق إلا على الأب الصّلبي، وهو الذي يلد ويولّد الإنسان، مع ما في دعائه الآخر {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}(الشعراء:86)، والآيات الأخرى المشتملة على ذكر أبيه آزر، فإنها تعبّر عنه بالأب، والأب ربما تطلق على الجدّ والعمّ وغيرهما".
يسجل تفسير (من وحي القرآن) ملاحظات عديدة على ما جاء في تفسير الميزان:
أوّلاً: أنّ التأكيد على كلمة "الأب" في القرآن بشكل متكرر في كلام الله عنه، وفي كلام إبراهيم في خطابه ودعائه له، يوحي بأنّ الإشارة إلى الجانب الأبوي في معنى النسب المباشر كما هو المتبادر من الكلمة.
ولا مجال للاستدلال على إطلاق كلمة الأب على العمّ بقوله تعالى: {قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وإِلهَ آبائِكَ إبراهيم وإِسْماعِيلَ وإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً}(البقرة: 133)، فإنّ الإطلاق وارد على سبيل التغليب. أما إطلاقه على الجدّ، فهو منسجم مع انتسابه إليه بالولادة بشكل غير مباشر، ولم يعهد استعمال كلمة "الأب" في غير الوالد والجد إلا على نحو المجاز، ولذلك فإنّه لا شاهد على الحمل المذكور في السياق القرآني.
ثانياً: أمّا ما ذكره من الشاهد على دعواه، بأنَّ إبراهيم استغفر لوالديه في آخر أمره، ما يدلُّ على أن المقصود به غير آزر الذي تبرأ منه لما تبين له أنّه عدوٌّ لله، فيردّ عليه أنّ براءة إبراهيم من أبيه من حيث كفره وضلاله، كانت منذ البداية، حتى في حال وعده له بالاستغفار، عندما قال له: {وأَعْتَزِلُكُمْ وما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}(مريم: 48).
كما أنّه كان يؤكّد ضلاله عندما استغفر له في قوله: {واغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ}(الشعراء: 86).
ثالثاً: أمَّا الآية الكريمة المستشهد بها: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ ولِلْمُؤْمِنِينَ}، فقد تكون واردةً في السياق العام للاستغفار، وربما يؤكّد ذلك أنَّه ابتدأ بالغفران لنفسه، مع أنّه معصوم بلحاظ مقام النبوّة أوّلاً، وبلحاظ واقع سيرته المعصومة، فإنَّه لم يرد فيها أيّ ذنب أو خطأ، بل إنّ حديث الله عنه يدلُّ على هذه العصمة المتحرّكة في كلّ حياته.
رابعاً: أنّ تكرار كلمة الأب في القرآن والتركيز على ذكر اسمه، يوحيان بأنّ إبراهيم(ع) كان يتكلَّم مع والده الذي كان يتكلم معه من الموقع الفوقي الذي يتكلم فيه الأب مع ولده، والله العالم( ).
خامساً: ينقل الطبري في جامع البيان عن مجاهد أنّه قال: إنّ آزر لم يكن والد إبراهيم. (تفسير الطبري، م5 / ج7 / ص316). وقال الآلوسي في روح المعاني: إنّ الشيعة ليسوا وحدهم الذين يعتقدون أنّ آزر لم يكن والد إبراهيم، بل إنّ كثيراً من علماء المذاهب الأخرى، يرون أنّ آزر عمّ إبراهيم. وينقل السيوطي عن الفخر الرازي في كتابه "أسرار التنـزيل": أنّ والدي رسول الله موحِّدون، ولم يكونوا مشركين أبداً، وينقل أن هناك روايات تقول: إنّ آباء رسول الله (ص) موحدون، وكانوا حتى آدم كان كلّ واحد منهم أفضل زمانه.
وهناك رواية عن أبي بصير عن أبي عبدالله جعفر الصادق(ع) عمّا قال: آزر عم إبراهيم، فإذا صحّ ذلك كلّه، فإنّنا نلتزم بالمسألة من خلال الروايات، لا من خلال القرآن الكريم كما جاء في الميزان( ).
وقفة نقدية مع تفسير (من وحي القرآن)
ولكن ما قاله تفسير (من وحي القرآن) يتنافـى مع ما ذهب إليه في تفسير آية سورة التوبة، حيث عقد بحثاً بعنوان: استغفار إبراهيم لأبيه‏، تساءل فيه:
"ولكن كيف نفسّر موقف النبيّ إبراهيم(ع)، الذي حدثنا القرآن عنه في آية أخرى عندما قال لأبيه: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا}(مريم: 47)؛ هل هو استسلام للعاطفة على حساب العقيدة، وهل يمكن أن نقبل هذا التفسير في حالة إبراهيم الذي لا يمثّل مجرد إنسان صاحب عقيدة، بل هو - إلى جانب ذلك - نبيّ صاحب رسالة، يريد أن يغيّر الإنسان في الحياة على أساس انتصار الفكر والعقيدة في ذاته، على الحسّ والعاطفة في شعوره؟".
ثم يجيب عليه بقوله: "إنّ القرآن يجيب عن هذا السؤال: {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبراهيم لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ}(التوبة:114)، فقد كان يأمل أن يستقيم أبوه على الصراط ويرجع إلى الله، لأنّه كان يعتبر حالة الانحراف التي يمرُّ بها حالةً طارئةً لا تعقيد فيها، ولا عمق لها ولا امتداد في شخصيته، فيمكن لها أن تزول، وينطلق إبراهيم في استغفاره له من هذا الموقع الذي يطلب فيه الهداية له، لينفتح قلبه، ويصفو فكره، وترقّ مشاعره، وتشرق حياته، فيلتقي بالله من أقرب طريق. ربما كان يفكّر في هذا الاتجاه، من موقع الرغبة في أن تربح العقيدة إنساناً جديداً، ومن موقع العاطفة التي تتحرك في خدمة الرسالة، من أجل أن توحيَ لهؤلاء الذين تتعاطف معهم، بأنّ المشاعر تحتضنهم بالحبّ والرحمة... وبقي هذا الأمل ينمو في روحه وضميره وعقله، حتى استنفد كلّ تجربة وأسلوب وشعور، ولكنّه تضاءل وتضاءل حتى سقط في التراب وانكشفت له الحقيقة؛ أنّ هذا الإنسان ليس مجرد حالة طارئة، بل هو عقدة مستعصية مستحكمة؛ إنه الكفر المتجسد في وحشية الفكر في الإنسان، إنّه عدوّ الله في فكره وفي عمله... {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}، لأنّ الله أقرب إليه من كلّ إنسان، لأنّه الخالق الذي أمدّه بالحياة، ومن خلال كلّ هذه القوانين، التي كان منها قانون ولادته من أبيه، فهو الأوّل والآخر في وجوده وحركة حياته. {إِنَّ إبراهيم لَأَوَّاهٌ} يعيش التأوّه أمام الله في أجواء الخشوع والخضوع له، {حَلِيمٌ}(التوبة:114) في قلبه المفتوح وروحه الكبيرة، يعفو عند المقدرة، ويفتح قلبه للناس"( ).
إذا كان الأمر كذلك، فكيف نتصوَّر أن يستغفر له بعدما تبرأ منه وثبت لإبراهيم عناده وإصراره، بقوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ}(إبراهيم:41)؟!
واقتران المؤمنين بالاستغفار، وذكر زمان الاستغفار يوم يقوم الحساب، يؤيدّ أنّ الاستغفار لم يكن لأبيه المشرك الكافر، "عدوّ الله في فكره وفي عمله"، الذي تبرأ منه.
وشبيه من هذا، دعاء نوح (ع) وتركيزه على المؤمنين، فيما حكى الله عنه: {وقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ ولا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً * رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ ولِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً}(نوح: 26-28).
وفي دعاء نوح(ع) هذا دلالة على إيمان والديه، وأنهما لم يكونا من الكافرين والظالمين، وأنّه لا يمكن أن يدعو لهما مع كفرهما وظلمهما، ولا سيما إذا استحضرنا سؤاله على ابنه بقوله: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ}(هود: 45)، فهو لم يسأله نجاة ابنه تأدباً، ومع ذلك جاءه الجواب: {يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ * قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ}(هود: 46-47)
ولذا يظهر من آية استغفار إبراهيم(ع) لوالديه أنهما ليسا بمشركين، ولو كانا كذلك لما استغفر لهما؛ لعلمه أنّ الله عزَّ وجلّ لا يغفر للمشركين الكافرين المعاندين: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى‏ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ}(التوبة: 113).
وقد أكّد الشيخان الطوسي والطبرسي هذا الأمر، في ربطهما بين الآيات في السور المباركة، وهذا لون من ألوان تفسير القرآن بالقرآن، والقرآن ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض. وقد استدلَّ أعلام الإمامية من هذا الدعاء الإبراهيمي، أنَّ والدي إبراهيم (ع) لم يكونا كافرين.
وإنّ ما ذكره السيّد من أنّ هذا الاستغفار كان لنفسه كذلك وهو المعصوم، يؤكد أن الاستغفار للوالد لم يكن لشركه وإصراره وعناده، فهو قرينة على ما ذهب إليه العلامة الطباطبائي، ولا يصلح ردّاً عليه!
ولماذا لا نجعل الروايات قرينةً على أنّ آزر لم يكن والد إبراهيم، ما دامت كلمة أب يمكن أن تستعمل لغير الأب الصّلبي، ليراد منها العمّ مثلاً، ولو على نحو المجاز؟
وقد فرَّق بعض أعلام اللغة بين الأب والوالد:
الفروق اللغوية: الفرق بين الوالد والأب: أنّ الوالد لا يطلق إلا على من أولدك من غير واسطة. والأب: قد يطلق على الجدّ البعيد، قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}(الحج:78).
المعجم الوسيط: (الأب) الوالد والجدّ، ويطلق على العمّ وعلى صاحب الشيء وعلى من كان سبباً في إيجاد شيء أو ظهوره أو إصلاحه... وفي التنـزيل العزيز: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي}(يوسف:38).
وقد ركَّزت روايات أهل البيت(ع) على الأب، وعلى دعاء إبراهيم لأبيه، ولم تذكر دعاءه لوالديه، مع أنّه كان من الأولى أن يتوجَّه الاعتراض على دعائه الأخير لوالديه الذي جاء في آخر حياته المباركة، بعد أن وهبه الله الذرية الطيبة، ما يعني أنّ هناك ارتكازاً عند السائل على اختلاف الاستغفارين. وإليك بعضها:
الرواية الأولى: "عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمَذَانِيِّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: صَلَّى رَجُلٌ إلى جَنْبِي، فَاسْتَغْفَرَ لِأَبَوَيْهِ وكَانَا مَاتَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقُلْتُ: تَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْكَ وقَدْ مَاتَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ قَدِ اسْتَغْفَرَ إبراهيم لِأَبِيهِ، فَلَمْ أَدْرِ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِ . فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ(ص)، فَأَنْزَلَ الله: {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبراهيم لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}(التوبة:114) قَالَ: لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ فَلَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُ"( ).
الرواية الثّانية: {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبراهيم لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ}، قَالَ إبراهيم لِأَبِيهِ: إِنْ لَمْ تَعْبُدِ الْأَصْنَامَ اسْتَغْفَرْتُ لَكَ، فَلَمَّا لَمْ يَدَعِ الْأَصْنَامَ تَبَرَّأَ مِنْه"ُ( ).
تؤكّد هاتان الروايتان عدم جواز استغفار المؤمنين لمن يتيقّنون عداوته لله ولدينه ولم يرجع منها، وأبو إبراهيم(ع) أكبر مصداق على ذلك، إذ تبين له بموته أو بعناده أنّه عدّو لله، ما أدّى إلى أن يغير موقفه منه إلى البراءة. فكيف يمكن أن نتصور رجوع إبراهيم عن موقف الرفض والبراءة، والعودة من جديد إلى موقف الاستغفار الذي هو نحو من أنحاء الانتصار والولاء؟!
ولا أدري ما المقصود من (الاستغفار في السياق العام) في قول السيّد المفسّر: "أما الآية الكريمة المستشهد بها {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ ولِلْمُؤْمِنِينَ}، فقد تكون واردةً في السياق العام للاستغفار؟".
فهل الاستغفار في السياق العام جائز ويخرج من القاعدة التي تقررها الآية المباركة: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى‏ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ}(التوبة: 113)؟
فهل هذا نهي عن الاستغفار الخاص دون الاستغفار العام؟
أما ما ذكره من مؤيدّ للاستغفار العام بقوله: "وربما يؤكد ذلك، أنَّه ابتدأ بالغفران لنفسه مع أنّه معصوم، بلحاظ مقام النبوّة أوّلاً، وبلحاظ واقع سيرته المعصومة، فإنّه لم يرد فيها أيّ ذنب أو خطأ، بل إنّ حديث الله عنه يدلُّ على هذه العصمة المتحرّكة في كلّ حياته"، فهو مؤيّد للرأي المضاد كما ذكرنا.
الموطن الرابع: معنى الحياة الطيبة
في قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثى‏ وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}(النحل: 97). يتساءل تفسير (من وحي القرآن) عن ماهية الحياة الطيبة، وهل هي في الدنيا أو في الآخرة؟ وإذا كانت في الدنيا، فكيف نفسّر المشاكل والصعوبات المادية والمعنوية التي تجعل من الحياة سجناً للمؤمن، في مقابل الرفاهية والنعيم والغنى والقوّة التي يعيشها الكافر، لتكون الدنيا جنّة له، على ما ورد: "إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"؟
بعد أن يذكر رأي تفسير "في ظلال القرآن"، بأنّ المقصود بالحياة ليست هي الحياة المادية التي يعيشها الإنسان بموازين الحسّ والغريزة، بل هي الحياة الروحية المعنوية المطمئنة المفعمة برعاية الله وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة وسكن البيوت ومودات القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الحياة... وليس المال إلا عنصراً واحداً يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله، يقول السيّد المفسّر: "ويؤكّد صاحب الميزان هذا المعنى بطريقة أخرى، فيقول: "الجملة بلفظها دالة على أنّ الله سبحانه يكرم المؤمن الذي يعمل صالحاً بحياة جديدة، غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامة، وليس المراد به تغيير صفة الحياة فيه وتبديل الخبيثة من الطيبة مع بقاء أصل الحياة على ما كانت عليه، ولو كان كذلك لقيل: فَلْنُطّيَبَنَّ حياته. فالآية نظير قوله: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}(الأنعام: 122)، وتفيد ما يفيده من تكوين حياة ابتدائية جديدة"( ). ويرى أنّ الله يعطيه من العلم والقدرة ما ليس لغيره، وهما "يمهدان له أن يرى الأشياء على ما هي عليه، فيقسّمها قسمين: حقّ باقٍ، وباطل فانٍ، فيعرض بقلبه عن الباطل الفاني الذي هو الحياة الدنيا بزخارفها الغارّة الفتّانة، ويعتزُّ بعزة الله، فلا يستذلّه الشيطان بوساوسه، ولا النفس بأهوائها وهوساتها، ولا الدنيا بزهرتها، لما يشاهد من بطلان أمتعتها وفناء نعمتها. ويتعلّق قلبه بربّه الحقّ الذي هو يحقّ كلّ حقّ بكلماته، فلا يريد إلا وجهه، ولا يحبّ إلا قربه، ولا يخاف إلا سخطه وبعده، يرى لنفسه حياةً طاهرةً دائمةً مخلّدةً، لا يدبّر أمرها إلا ربّه الغفور الودود، ولا يواجهها في طول مسيرها إلا الحسن الجميل، فقد أحسن كلّ شي‏ء خلقه، ولا قبيح إلا ما قبحه الله من معصيته. فهذا الإنسان يجد في نفسه من البهاء والكمال والقوة والعزة واللذة والسرور ما لا يقدّر بقدر، وكيف لا، وهو مستغرق في حياة دائمة لا زوال لها، ونعمة باقية لا نفاد لها ولا ألم فيها ولا كدورة تكدرها، وخير وسعادة لا شقاء معها" (الميزان، 12 / 342)"( ).
يرى السيّد المفسّر أنّ ما قاله العلامة الطباطبائي في معنى الحياة الطيبة "تفسير جميل، وتحليل جيد للمعاني الروحية التي يختزنها الإيمان في نفس المؤمن العامل بالصالحات، ويثيرها في مشاعره وأجوائه".
 ثم يسجل ملاحظته النقدية على التفسيرين (الميزان وفي ظلال القرآن)، بعدم انسجام التفسير "مع سياق الآية التي وردت لبيان الجزاء الذي يمنحه الله للإنسان الذي يعمل الصالحات وهو مؤمن، ما يوحي بأنّ هذه الحياة التي يمنحها الله له، مفصولة عن الواقع الذي يعيشه الآن، وليست حالةً وجدانيةً أو عمليةً في دائرته".
ثم يقول: "وقد نلاحظ أنّ ما ذكره هذان المفسران الجليلان وغيرهما، هو من آثار الإيمان، بينما تعتبر الآية، أنَّ الحياة الطيبة جزاء العمل الذي ينطلق من الإنسان المؤمن، والله العالم، ولعلّ الأقرب، هو أن يكون المراد منها الدار الآخرة، أو الجنة، أو ما أشبه ذلك"( ).
الموطن الخامس: المحرَّمات بين القرآن والسنة
في قوله تعالى: {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الْخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(النحل: 115)، يرى تفسير (من وحي القرآن) ما يراه تفسير الميزان من حصر المحرَّمات من اللحوم بالأربعة، فيقول: "وهناك ملاحظة ذكرها صاحب الميزان (رحمه الله) حول سرّ التأكيد على هذه المحرّمات الأربع، حتى كرَّرها في أكثر من سورة مما نزل في مكة ومما نزل في المدينة، فقد نستطيع القول بأنّ هذه هي المحرمات التي حرمها الله في كتابه، ولم يحرم غيرها... أما بقية الأمور، فقد أوكل الله أمر تحريمها إلى النبي(ص)، الذي حرّم أشياء كثيرة موجودة في السنة الشريفة، ثم دعا الأمة إلى أن تأخذ بها، في قوله تعالى: {وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر: 7). (الميزان، 12 / 365)"( ).
ثم يقول: "وهي ملاحظة جيدة تستحقّ الدراسة والاهتمام".
الموطن السادس: اليهود والإفساد في الأرض مرتين
{وقَضَيْنا إلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً}(الإسراء: 4)
ينقل تفسير (من وحي القرآن) رأي تفسير الميزان في تحديد القضاء الرباني بالإفسادين المدمّرين في تاريخ اليهود، بالحادثتين البارزتين، إذ يقول: "والذي يظهر من تاريخ اليهود، أنَّ المبعوث أوّلاً لتخريب بيت المقدس، هو بخت نصر، وبقي خراباً سبعين سنة، والمبعوث ثانياً هو قيصر الروم إسبيانوس، سيّر إليهم وزيره طوطوز، فخرّب البيت، وأذلّ القوم قبل الميلاد بقرن تقريباً"( ).
 ثم يقول: ولا يستبعد صاحب الميزان - في تفسيره - "أن تكون الحادثتان هما المرادتين في الآيات"، ولكنّه يناقش الأمر بالقول: "إنّ فيها - في الآيات - إشعاراً بأنّ المبعوث إلى بني إسرائيل في المرة الأولى والثانية قوم بأعيانهم..."، ثم يرفض ذلك على أساس أنّه مجرد "إشعار من غير دلالة ظاهرة".
وربما كان هذا الاستبعاد الذي أشار إليه صاحب الميزان، هو الذي دعا بعض المتأخرين إلى القول بأنّها تحمل في داخلها الإيحاء بأنّ الآيات قد تتحدث عن معركة بين المسلمين واليهود في العصر الحاضر، ينتصر فيها المسلمون عليهم، ثم يعود اليهود إلى النصر، ثم إلى الهزيمة التي تدمرهم تدميراً. وهذا هو الجوّ الذي يتحرك فيه الصراع الدامي بين العرب والمسلمين وبين إسرائيل.
ولكن مثل هذه الأمور لا تحمل في داخلها شاهداً على التحديد، ما يجعل المسألة خاضعةً للاستنتاج الذاتي، لا للشواهد العلمية( ).
الموطن السابع: الحروف المقطَّعة
في تفسيره للآية الأولى من سوره البقرة {ألم}، يطرح تفسير (من وحي القرآن) العديد من الآراء حول تفسير أسلوب الحروف المقطَّعة في القرآن، التي تبتدئ بها العديد من السور المباركة، المكية والمدنية، وكان الرأي الثالث الّذي يطرحه هو للعلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان، وخلاصته: "إنّ بين هذه الحروف المقطّعة وبين مضامين السور المفتتحة بها ارتباطاً خاصاً، ويؤيّد ذلك ما نجد أنّ سورة الأعراف المصدرة بـ{المص} في مضمونها، كأنّها جامعة بين مضامين الميمات وص. وكذا سورة الرعد المصدّرة بـ{المر} في مضمونها، كأنّها جامعة بين مضامين الميمات والراءات.
 ويستفاد من ذلك، أنّ هذه الحروف رموز بين الله سبحانه ورسوله (ص)، خفيت عنا، لا سبيل لأفهامنا العادية إليها، إلّا بمقدار أن نستشعر أنّ بينها وبين المضامين المودعة في السورة ارتباطاً خاصاً"( ).
يلاحظ تفسير (من وحي القرآن) على هذا الرأي، أنّه "لا يملك أيّ وضوح للمضمون الذاتي لهذه الحروف، لأنّ الارتباط الذي يتحدث عنه، لا دليل عليه إلا بالاستشعار الذي لا يوحي بأيّة فكرة معيّنة. وقد نتساءل: ما هي الحكمة في تنزّل رموز خفيّة بين الله ورسوله، لا يملك الناس أن يفهموها، ولا يعمل النبيّ (ص) على‏ أن يشرحها لهم، في الوقت الذي كان القرآن منـزّلاً على النبيّ (ص) وعلى الناس، لأنّه ذكر له ولقومه وللعالمين؟!"( ).
ويختار السيّد المفسِّر الرأي الرابع، وخلاصته: أنَّ هذه الحروف المقطَّعة هي للتحدي، ليبين لهم تعالى "أنّ هذا القرآن الذي أعجزهم الإتيان بسورة من مثله، لم يكن مؤلفاً من حروف يجهلونها، لأنَّ المادة الخام التي صنع منها القرآن موجودة بين أيديهم، وهي هذه الحروف المتنوّعة المعلومة لديهم، فإذا كانت عندهم القدرة على صنع مثل هذا القرآن، فهذه هي الموادّ الخام جاهزة عندهم".
 "ولعلّ هذا من أبلغ أنواع التحدّي، تماماً كما تواجه إنساناً واقفاً أمام مبنـى ذي شكل هندسي متقن، فتقول له: هل تستطيع أن تبني مثل هذا؟ ثم تعقب على ذلك بأنّ المواد جاهزة إذا كنت تملك الفكر الهندسي والممارسة الفنيّة. إنّه سيقف عاجزاً من موقع عظمة هذه الهندسة وجهله بأصولها الفنية".
"وقد يكون هذا التفسير أقرب التفاسير إلى الفهم، وينسب إلى الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت(ع)، الإمام الحسن العسكري(ع)، برغم أنّه لم تثبت صحّة نسبته إليه، لعدم وثاقة رواته، ولكن من الممكن أن ينسجم مع طبيعة الموقع الذي وردت فيه هذه الكلمات في القرآن الكريم، ففي هذه السورة عندما تلتقي بكلمة: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ}(البقرة:1-2)، فربما تفهم منها أنّ هذا الكتاب الكامل في كلّ شي‏ء، مصنوع ومؤلف من هذه الحروف، فإذا كنتم ترون في أنفسكم القدرة على مجاراته، فهذه الحروف أمامكم، فاصنعوا منها ولو سورة ممّا تشاؤون".
ولكن هذا التفسير لا يجيب على ظاهرة الحروف المقطَّعة التي وردت في تسع وعشرين سورةً افتتح بعضها بحرف واحد، وهي "ص" و"ق" و"ن"، وبعضها بحرفين، وهي سور طه وطس ويس وحم، وبعضها بثلاثة أحرف، كما في سورتي "ألم" و"ألر" و"طسم"، وبعضها بأربعة أحرف كما في سورتي "ألمص" و"ألمر"، وبعضها بخمسة أحرف كما في سورتي "كهيعص" و"حم عسق".
وتختلف هذه الحروف أيضاً من حيث إنّ بعضها لم يقع إلا في موضع واحد، مثل "ن"، وبعضها واقعة في مفتتح عدة من السور، مثل "ألم"، و"ألر"، و"طس"، و"حم".
فإذا كان هذا أسلوباً من أساليب التحدي، فلماذا نجد الحروف المقطعة في بعض السور ولا نجدها في أكثرها؟
 ولماذا يبتدئ بعضها بحرف وبعضها الآخر بحرفين أو ثلاثة؟ ولماذا تفتتح بعض السور بـ(ألم) وبعضها الآخر بـ(ألر) أو بـ(كهيعص)؟
وهكذا يمكن أن نسجلّ علامات استفهام أخرى لا يمكن أن يجيب عليها الاتجاه الذي اختاره تفسير (من وحي القرآن) واعتبره التفسير الأقرب إلى الفهم.
ولعلّ لهذا السبب يعترف بأنّ الأمر أعقد من ذلك، بقوله: "وقد يتأمّل المتأمل في هذا الرأي، فلا يجد في بعض المواضع القرآنية ما ينسجم معه، أو لا يلمح مثل هذا التوجيه في ما قدمناه من تفسير، ولكنّ المهمّ أنّ التفسير يتحرّك في مثل هذه الأجواء، فإن استطعنا أن نقرّبها إلى أذواقنا، وإلا فحسبنا أن نُرجع علمها إلى الله والراسخين في العلم، فتكون مما استأثر الله بحقيقة علمه‏"( ).
وهنا يأتي السؤال ذاته الذي استشكل به تفسير (من وحي القرآن) على تفسير الميزان، لنقول: ما هي الحكمة في تنزّل رموز خفيّة استأثر الله بحقيقة علمها، ولا يملك الناس أن يفهموها ويطَّلعوا على أسرارها ومعانيها؟
مع أنّ العلامة الطباطبائي يدرك أنّ ما ذهب إليه من تفسير، لا يمنع من التدبر في هذه الحروف المقطَّعة وعلاقتها بالسور التي افتتحت بها ليستكشف بعض أسرارها، إذ يقول: "ويمكن أن يحدس من ذلك، أن بين هذه الحروف المقطَّعة وبين مضامين السور المفتتحة بها ارتباطاً خاصاً، ويؤيّد ذلك، ما نجده أنّ سورة الأعراف المصدرَّة بـ (ألمص) في مضمونها، كأنّها جامعة بين مضامين الميمات وص، وكذا سورة الرعد المصدَّرة بـ (ألمر) في مضمونها، كأنها جامعة بين مضامين الميمات والراءات.
ويستفاد من ذلك، أنّ هذه الحروف رموز بين الله سبحانه وبين رسوله (ص) خفيت عنا، لا سبيل لأفهامنا العادية إليها إلا بمقدار أن نستشعر أنّ بينها وبين المضامين المودعة في السور ارتباطاً خاصاً.
ولعلّ المتدبر لو تدبّر في مشتركات هذه الحروف، وقايس مضامين السور التي وقعت فيها بعضها إلى بعض، تبين له الأمر أزيد من ذلك"( ).
الموطن الثامن: شمولية النسخ
{ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أو نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أو مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ}(البقرة: 106)
تحت عنوان (مع صاحب الميزان) في تفسير الآية، يرى تفسير (من وحي القرآن)، أنّ ما ذهب إليه العلامة الطباطبائي من شمولية النسخ للجانب التشريعي والتكويني والإنساني، "معنى طريف في ذاته"، لأنّه يذهب إلى أنّ "كون الشي‏ء آيةً يختلف باختلاف الأشياء والحيثيات والجهات، فالبعض من القرآن آية لله سبحانه، باعتبار عجز البشر عن إتيان مثله، والأحكام والتكاليف الإلهية آيات له تعالى، باعتبار حصول التقوى والقرب بها منه تعالى، والموجودات العينيّة آيات له تعالى، باعتبار كشفها بوجودها عن وجود صانعها، وبخصوصيات وجودها عن خصوصيات صفاته وأسمائه سبحانه، وأنبياء الله وأولياؤه تعالى آيات له تعالى، باعتبار دعوتهم إليه بالقول والفعل، وهكذا، ولذلك كانت الآية تقبل الشدّة والضعف، قال اللّه تعالى: {لَقَدْ رَأى‏ مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى}(النجم: 18)...
وهذا الذي استظهرناه من عموم معنى النسخ، هو الذي يفيده عموم التعليل المستفاد من قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والْأَرْضِ}(البقرة:106-107)"( ).
ومع أنّ السيّد المفسِّر يرى أنّ هذا "المعنى طريف في ذاته"، بيد أنّه يرى أنّ "إرادته من هذه الآية غير ظاهر، لأنّها واردة في الأشياء التي هي في معرض النسخ والإزالة مما يتعلّق بحياة الناس، بالمستوى الذي يثير الجدل فيما بينهم، كما جاء الحديث به عن اليهود في حركة التشريع، أو في تأكيد قدرة اللّه في خلقه، بحيث لا تجري الحياة على شكل واحد، بل يمكن أن تتغير وتتبدل، لتتحرك ظاهرة في مرحلة معينة، لتحلَّ محلّها ظاهرة أخرى مماثلة لها أو أفضل منها انطلاقاً من قدرة الله.
وقد لا نجد مناسبةً للتعبير عن الأشخاص بالآية من خلال نشاطهم ودعوتهم أو الحديث عنهم بعنوان النسخ ونحوه.
إنها - والله العالم - إشارة إلى ما يكون في معرض الثبات والاستمرار، ليكون النسخ مفاجئاً للناس، فيحتاج إلى إزالة مضمون المفاجأة من أذهانهم، لأنّ الله الذي يملك القدرة على الإيجاد، قادر على التبديل، ولا دلالة في التعليل على ما ذكره، لأنّ الحديث عن قدرة الله، يكفي في مناسبته وجود موضوع له في مسألة التشريع أو التكوين"( ).
الموطن التاسع: معنى الوسطيّة والشهادة للأمة
يتفق تفسير (من وحي القرآن) مع ما ذهب إليه العلامة الطباطبائي في ملاحظته على التفسير المشهور للوسطيّة وعلاقتها بالشهادة، في قوله تعالى: {وكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}(البقرة: 143).
لم يرتضِ صاحب تفسير الميزان التفسير المشهور للوسطية في الآية - وإن كان في نفسه صحيحاً ولا يخلو من دقة - والذي يفسرها بمعنى العدل والتوازن، على أساس ما تمثله الشريعة الإسلامية من الوسطية بين الاتجاه الروحي المتطرف الذي يمثله النصارى، وبين الاتجاه المادي المتطرف الذي يمثله المشركون واليهود، والتوازن بين الاتجاه الجماعي المتطرف الذي يلغي دور الفرد، والاتجاه الفردي المطلق الذي يلغي دور المجتمع، والتوازن بين الدنيا والآخرة، والتوازن في مختلف جوانب الحياة من حيث العاطفة والعقل، ومن حيث التفكير العقلي والطرق التجريبيّة..
وفي ضوء ذلك، يرى التفسير المشهور، أنّه يمكن للأمّة أن تؤدّي دور الشهادة على الناس، باعتبارها تقف في نقطة التوازن التي ترجع إليها بقية الأطراف، كما يكون النبي شهيداً على الأمة، لأنّه المثال الأكمل الذي يوزن به حال الآحاد من الأمة.
يعلّق صاحب تفسير الميزان على هذا التفسير للآية، بأنّ هذا المعنى "هو في نفسه معنى صحيح لا يخلو من دقة، إلا أنّه غير منطبق على لفظ الآية، فإنّ كون الأمة وسطاً، إنما يصحح كونها مرجعاً يرجع إليه الطرفان، وميزاناً يوزن به الجانبان، لا كونها شاهدةً تشهد على الطرفين أو تشاهد الطرفين، فلا تناسب بين الوسطيّة بذلك المعنى والشهادة، وهو ظاهر على أنّه لا وجه حينئذٍ للتعرض بكون رسول الله شهيداً على الأمة، إذ لا يترتب شهادة الرسول على الأمة على جعل الأمة وسطاً، كما يترتب الغاية على المغيّا والغرض على ذيّه"( ).
يقول السيّد المفسّر: "إننا نتفق مع صاحب الميزان في هذه الملاحظة، لأنّ قضية التفسير هي أن يدرس المفسّر الكلمة من خلال الجوّ الذي تعيش فيه، ليتحقق الترابط بين الآيات في كلماتها وأجوائها".
"ونحن نرى أنّ هذه الآيات تتحرك في نطاق الإيحاء للمسلمين بأصالة موقعهم في الحياة، من خلال الدور الذي أعدّه الله لهم في قيادة البشرية إلى الأهداف الكبيرة التي تتمثل بالإسلام، الأمر الذي يجعلهم يتحركون في الحياة من هذا الموقع، ليكونوا شهداء على الناس في أفكارهم وأعمالهم، باعتبار أنهم يدخلون في ضمن مسؤوليتهم، كما كان الرسول شهيداً على المسلمين من خلال مسؤوليته الرسالية عنهم، في ما بلّغهم إيّاه وفي ما أرشدهم إليه"( ).
ثم يقول: "وقد ذكر صاحب تفسير الميزان في معنى (الوسط): "أن كون الأمة وسطاً، إنما هو بتخلّلها بين الرسول وبين الناس". ولكنّنا قدمنا أنّ الوسطية هنا لا يراد بها ذلك،  بل يراد بها - في ما نفهمه - الموقع الأفضل الذي وضع اللّه فيه الأمة بالنسبة إلى الناس، واللّه العالم بحقائق آياته"( ).
الموطن العاشر: معنى التطوع
في معنى التطوع في قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أو عَلى‏ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ آخر وعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(البقرة: 184)، يرجِّح تفسير (من وحي القرآن) أن يكون "المقصود منه التطوع بالزيادة على الفدية، بأن يعطي الزيادة على ما وجب عليه، كما ورد في بعض الأحاديث، أنَّ الأفضل مدَّان من الطعام‏"، وليس ما ذهب إليه تفسير الميزان من معنى إيتاء الصوم عن رضا ورغبة، إذ يقول: "التطوع تفعُّل من الطوّع مقابل الكره، وهو إتيان الفعل بالرضا والرغبة، ومعنى باب التفعّل، الأخذ والقبول، فمعنى التطوّع التلبس في إتيان الفعل بالرضا والرغبة، من غير كره واستثقال، سواء كان فعلاً إلزامياً أو غير إلزامي، وأما اختصاص التطوع استعمالاً بالمستحبات والمندوبات، فمما حدث بعد نزول القرآن بين المسلمين، بعناية أنّ الفعل الذي يؤتى به بالطوع هو الندب، وأما الواجب، ففيه بعض الكره، لمكان الإلزام الذي فيه.
وبالجملة، التطوّع كما قيل: لا دلالة فيه مادةً وهيئةً على الندب. وعلى هذا، فالفاء للتفريع، والجملة متفرعة على المحصل من معنى الكلام السابق، والمعنى والله أعلم: الصوم مكتوب عليكم، مرعيّاً فيه خيركم وصلاحكم، مع ما فيه من استقراركم في صفّ الأمم التي قبلكم، والتخفيف والتسهيل لكم، فأتوا به طوعاً لا كرهاً، فإنّ من أتى بالخير طوعاً، كان خيراً له من أن يأتيَ به كرهاً"( ).
يرى السيّد المفسّر أنّ هذا التفسير للتطوّع "خلاف الظاهر؛ لظهور كلمة التطوع في الفعل الذي يأتي به الإنسان من دون إلزام، باعتبار أنّ الإلزام يوحي بالضغط والكره، بينما الاستحباب لا يوحي إلا بالتوسعة والتخفيف. وأما ما ذكره، من أنّ استعمال الكلمة في الفعل المستحبّ اصطلاح جديد، فهو غير دقيق، لأنّ القضية ليست قضية استعمال الكلمة في المعنى، بل استيحاء المعنى من معنى الكلمة، في ما يفهم من مدلوله الواجب والمستحبّ"( ).
الموطن الحادي عشر: تدبر السياق
جاءت الإشارة إلى اختلاف أتباع الرسل واقتتالهم، في سياق الحديث عن تفضيل الرسل بعضهم على بعض، في قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ورَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ولَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ولكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ ومِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ولَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ولكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ}(البقرة: 253)، والتي جاءت - بدورها - بعد قصّة طالوت وجالوت.
يرى تفسير (من وحي القرآن) أنّ ما قدّمه تفسير الميزان من توجيهٍ للسياق متين، فإنّه يرى أنّ "الآية في مقام دفع ما ربما يتوهَّم أن الرسالة، وخاصة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البينات الدالة على حقية الرسالة، ينبغي أن يختم بها بلية القتال: إمّا من جهة أنّ الله سبحانه لما أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيوية والأخروية بإرسال الرسل وإيتاء الآيات البينات، كان من الحريّ أن يصرفهم عن القتال، ويجمع كلمتهم على الهداية...
وإما من جهة أن إرسال الرسل وإيتاء بينات الآيات للدعوة إلى الحقّ، لغرض الحصول على إيمان القلوب، والإيمان من الصفات القلبية التي لا توجد في القلب عنوةً وقهراً، فماذا يفيده القتال بعد استقرار النبوة؟ وهذا هو الإشكال الذي تقدّم تقريره والجواب عنه في الكلام على آيات القتال.
والذي يجيب تعالى به: أنّ القتال معلول الاختلاف الذي بين الأمم، إذ لولا وجود الاختلاف، لم ينجرّ أمر الجماعة إلى الاقتتال، فعلة الاقتتال هي الاختلاف الحاصل بينهم، ولو شاء الله لم يوجد اختلاف، فلم يكن اقتتال رأساً، ولو شاء لأعقم هذا السبب بعد وجوده، لكن الله سبحانه يفعل ما يريد، وقد أراد جري الأمور على سنّة الأسباب، فوجد الاختلاف، فوجد القتال، فهذا إجمال ما تفيده الآية".
ويقول في سياق الحديث: "وعلى هذا، فصدر الآية، لبيان أنَّ مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسل، مقام تنمو فيه الخيرات والبركات، وينبع منه الكمال والسعادة ودرجات القربى والزلفى، كالتكليم الإلهي، وإيتاء البيّنات، والتأييد بروح القدس، وهذا المقام على ما فيه من الخير والكمال، لم يوجب ارتفاع القتال، لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم"( ).
يقول السيّد المفسّر معلقاً على ما ذكره العلامة الطباطبائي من تفسير سياقي: "وهو توجيه متين، ولكن قد نستوحي من الآيات، أنَّ الله قد أرسل الرسل ليبلّغوا الناس رسالات الله، التي ترجع - في عمق مضمونها - إلى رسالة واحدة، وهي الإسلام لله، فلم تختلف رسالاتهم مع اختلاف خصائصهم التي يفضل بعضهم على بعض بها، سواء كانت متصلةً بالذات في عناصرها المميزة أو بالدور، أو بالمعجزة، أو بالصلة المباشرة باللّه، أو نحلة الله له، أو بشمولية الرسالة وخاتميتها، ليكون الرسول خاتم النبيين الذي يجمع الكتاب كلّه والرسالة كلّها في رسالته... الأمر الذي يفرض التكامل والتواصل... ‏فكان من المفروض لأتباعهم أن يستجيبوا لهم في حركة الوحدة الإنسانية على خطّ الرسالات التي جاء بها الرسل، وأن تكون وحدة الأتباع من خلال وحدة المتبوعين. ولكنّ المشكلة أنّ اللّه لم يخلق الناس على طريقة واحدة ومزاج واحد وذهنيّة واحدة، لأنّ طبيعة اختلافهم في مواقعهم ومؤثراتهم وأوضاعهم، تؤدّي إلى اختلاف الأفكار، وتنوّع المصالح، وانحراف السلوك، وطغيان المنافع والمطامع، فلا تكون الرسالة هي العنوان الكبير لالتزاماتهم، بل تكون الذات هي الخلفية اللاشعورية أو الشعورية لتصرفاتهم، فيجعلون الدين وسيلةً من وسائل تحقيق مآربهم، فتشتدُّ الحساسيات، وتصطدم المصالح، وتضرى الأنانيات التي تطلّ بهم على ساحة القتال الذي يتحرك بضراوة"( ).
الموطن الثاني عشر: الشفاعة التشريعية والتكوينية
يرى العلامة الطباطبائي أنّ الشفاعة في آية الكرسي شاملة للشفاعة التشريعية والتكوينية ولا تختص بالتشريعية: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ ولا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والْأَرْضَ ولا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}(البقرة: 255)، ولذا يقول: "الشفاعة هي التوسط المطلق في عالم الأسباب، والوسائط أعمّ من الشفاعة التكوينيّة، وهي توسّط الأسباب في التكوين، والشفاعة التشريعيّة، أعني التوسط في مرحلة المجازاة التي يثبتها الكتاب والسنة في يوم القيامة...
وذلك أنّ الجملة، أعني قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} مسبوقة بحديث القيومية والملك المطلق الشاملين للتكوين والتشريع معاً، بل المتماسّين بالتكوين ظاهراً، فلا موجب لتقييدهما بالقيومية والسلطنة التشريعيتين، حتى يستقيم تذييل الكلام بالشفاعة المخصوصة بيوم القيامة".
وإنّ مساق آية الكرسي في عموم الشفاعة، "مساق قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}(يونس: 3)، وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ وما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ولا شَفِيعٍ}(السجدة: 4)، وقد عرفت في البحث عن الشفاعة، أنّ حدّها كما ينطبق على الشفاعة التشريعيّة، كذلك ينطبق على السببيّة التكوينيّة، فكلّ سبب من الأسباب يشفع عند الله لمسبّبه بالتمسك بصفات فضله وجوده ورحمته، لإيصال نعمة الوجود إلى مسببه، فنظام السببيّة بعينه ينطبق على نظام الشفاعة، كما ينطبق على نظام الدعاء والمسألة"( ).
بينما يرى تفسير (من وحي القرآن) أنّ الشفاعة تختصّ بالشفاعة التشريعية؛ لأنَّ "حمل الشفاعة على ما يشمل السببيّة التي عبر عنها بالشفاعة التكوينية، خلاف ظاهر الكلمة من الناحية اللغوية في معنى المصطلح، لأنّها ظاهرة في حركة الإنسان في التوسط لإنسان آخر، لإيصال الخير إليه، أو دفع الشرّ عنه، من خلال استحقاقه للمنع عن الخير، وللوقوع في الشرّ جزاءً لعمله، وبهذا يكون دور الشفيع الذي يتمتع بالاستقلال في حركته مع المشفوع عنده، أنّه يملك التأثير عليه من ناحية مادية أو معنوية، بحيث لا يملك ذاك ردّه، أو يصعب عليه دفعه عمَّا يريده أو يطلبه، وذلك إمّا لكونه في الموقع الذي يساويه، أو يتقدم عليه في المنـزلة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية في مدارج السلطة، أو في الموقع العاطفي الذي ينفذ من خلاله إلى مشاعره العاطفية التي لا يستطيع معها أن يتنكّر لمطالبه.
وهذا هو المعنى الذي يريد الله أن ينفيه عن نفسه، لأنّه يتنافى مع قيوميته في ذاته على الوجود كلّه وعلى الناس كلهم، فليس كمثله شي‏ء حتى يساويه أو يتقدّم عليه ليفرض إرادته على إرادته، وليس موقعاً للانفعالات العاطفية أو غيرها ليتأثر بها، فهو الغني بذاته عن كلّ خلقه، فلا يملك أحد عنده أيّ شي‏ء، بل هو المالك لهم في كلّ وجودهم، فلا معنى للشفاعة بالمعنى الذاتي للشفيع".
ويؤكّد أنّ هذا لا يعني "نفي اعتبار السببيّة التكوينيّة في ارتباط الأشياء بأسبابها، على أساس ما أودعه الله فيها من خصائص في داخل وجودها، ما يعني سرّ السببية أو العلّية، لتكون حركتها بإذنه في الجانب الوجودي المتحرك بقدرته التي تحرّك السبب في اتجاه المسبب، مما يمكن التعبير عنه بالأول التكويني، ولكن هذا لا علاقة له بمصطلح الشفاعة كما بيّنّاه"( ).
الموطن الثالث عشر: فاعل التزيين
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ والْبَنِينَ والْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ والْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ والْأَنْعامِ والْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا واللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}(آل عمران: 14).
وقد أثير بين المفسرين جدل كثير حول فاعل "زيّن"، فإنها جاءت مبنية للمجهول. فهل هو اللَّه، أو هو الشيطان؟
هناك اتجاهان في عالم التفسير:
الاتجاه الأوّل: فاعل التزيين هو الله.
الاتجاه الثاني: فاعل التزيين هو الشيطان.
وسرّ الاختلاف بين هذين الاتجاهين إلى درجة التعارض، هو طبيعة هذه الشهوات؛ فهل هي الشهوات الطبيعية فيما جُبلت عليه طبائع الإنسان، أو هي الشهوات المفرطة التي ينساق وراءها الإنسان بعيداً عن سيطرة العقل؟
يذهب العلامة الطباطبائي إلى الاتجاه الثاني، بينما يذهب السيّد المفسّر إلى الاتجاه الأوّل، فيرى أنّ "الظاهر من الآية أنها واردة في ما جبلت عليه طبائع الإنسان من حيث حاجته إلى مثل هذه الأمور التي تدعوه إلى الإقبال عليها في مجال الزيادة، تماماً كبقية الأشياء التي تحدَّث عنها الله في ما زيّنه للإنسان، كما في قوله تعالى: {كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}(الأنعام: 108)، فإنَّ الناس مجبولون على أن يرى أيّ واحد منهم العمل الصادر عنه عن قناعة حسناً، لأنّ ذلك هو لازم قناعته به. ولعلّ هذا الذي ذكر في الآية من طبيعة الجانب المادي في الإنسان الذي يستدعي الحركة نحو هذه الأمور، وليس في ذلك أيّ سوء يتنافى مقتضاه مع العدالة، لأنّ حبّ هذه الأمور لا يفرض المعصية في ممارستها، بل يمكن للإنسان أن يمارسها في موقع الطاعة، كما يمكن أن يمارسها من موقع المعصية".
"فالآية ليست واردةً في مورد الرفض المطلق لهذه الشهوات، بل هي واردة في مورد الموازنة بينها وبين شهوات الآخرة الدينية والروحية، في مجال الحاجة إلى إقامة التفاضل فيما بينها، والله العالم بحقائق آياته"( ).
وقد أثار صاحب تفسير الميزان عدة قرائن وشواهد للاستدلال على رأيه في أنّ فاعل "زيِّن" هو "الشيطان" لا "الله":
الشاهد الأوّل: السياق، فإنّ "المقام مقام ذمّ الكفَّار بركونهم إلى هذه المشتهيات من المال والأولاد، واستغنائهم بتزينها لهم عن الله سبحانه، والأليق بمثل هذه الزينة الصارفة عن الله، الشاغلة عن ذكره، أن لا ينسب إليه تعالى"( ).
الشاهد الثاني: كلمة الناس، فـ "لو كان هذا هو التزيين المنسوب إليه تعالى، لكان المراد به الميل الغريزي الذي للإنسان إلى هذه الأمور، فكان الأنسب في التعبير أن يقال: زيِّن للإنسان أو لبني آدم ونحوها، كقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ}(التين: 4-5)، وقوله تعالى: {ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ...}(الإسراء: 70). وأمّا لفظ الناس، فالأعرف منه أن يستعمل في الموارد التي فيها شي‏ء من إلغاء الميز أو حقارة الشخص ودناءة الفكر، نحو قوله: {فَأَبى‏ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً}(الإسراء:89)، وقوله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثى}(الحجرات: 13)، وغير ذلك"( ).
الشاهد الثالث: كلمات النساء والبنين والقناطير المقنطرة، فلو كانت الآية تتحدث عن التزيين الفطري الغريزي، "كان الأنسب عليه أن يبدّل لفظ النساء بما يؤدّي معنى مطلق الزوجية، ولفظ البنين بالأولاد، ولفظ القناطير المقنطرة بالأموال..."( ).
الشاهد الرابع: "كون التزيين هو المنسوب إلى الله سبحانه، لا يلائم قوله تعالى في آخر الآية: {ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا واللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ}، فإنّ ظاهره أنّه كلام موضوع لصرفهم عن هذه الشهوات الدنيوية، وتوجيه نفوسهم إلى ما عند الله من الجنان والأزواج والرضوان، ولا معنى للصرف عن المقدمة إلى ذي المقدمة، فإنّ في ذلك مناقضة ظاهرة، وإبطالاً للأمرين معاً، كالذي يريد الشبع ويمتنع عن الأكل..."( ).
يسجّل تفسير (من وحي القرآن) ملاحظاته النقدية على هذه الشواهد الأربعة التي قدّمها تفسير الميزان.
فيرى على الشاهد الأوّل السياقي، ثلاث نقاط:
1- "لا ظهور للآية في هذا المعنى، بل هي - على الظاهر - واردة في مقام المقارنة بين نعيم الحياة الدنيا مما يتَّصل بالحاجات الحسيّة للناس، ونعيم الحياة الأخرى، والتأكيد على ما تتميز به لذّات الآخرة عن لذّات الدنيا، والحثّ على التقوى وطلب ما عند الله‏، باعتبار أنّ ذلك هو السبيل للحصول على الجنّة ونعيمها التي لا تقاس بها مواقع الشهوات في الدنيا، ولذلك لم يذكر في هذه الآية كيف يمارس الناس هذه الشهوات في خطّ الانحراف"( ).
2- وسياق الحديث عن الكفار "لا يوجب مثل هذا الظهور المدّعى، لأنّ للقرآن أساليبه التي ينتقل فيها من موضوعٍ إلى موضوع، من أجل عرض الخطوط العامة في ميزان القيمة الروحية، ليعرف الناس فيها موازين الأمور، فيأخذوا بالأفضل منها".
3- "ومما يؤيّد ذلك، أنَّ حبّ الشهوات ليس شيئاً يختص به الكفار، بل هو من خصائص الإنسان بجميع أصنافه في وجوده الغريزي، فقد كان الحديث حديثاً عن الطبيعة الإنسانية المادية التي يريد الله للإنسان أن يرتفع ويسمو بها في آفاق الروح، عندما يحركها في الخطّ المستقيم الذي أراده الله لعباده المتقين".
ويرى على الشاهد الثاني، "أنّ الإتيان بكلمة "الناس"، قد يكون بملاحظة الحديث عن الخصائص المتحركة في الإنسان، بحيث تتوزّع بين أفراده، باعتبارها من الأمور الغريزية الأكثر إلحاحاً في حركة وجوده، لاتصالها بأفعاله وأقواله، بينما تنطلق حكمة "الإنسان" أو "بني آدم" من الخصائص الذاتية التي تتصل بالنوع، مما قد لا يشمل كلّ الأفراد من الناحية الفعلية..."( ).
أما على الشاهد الثالث، فيرى تفسير (من وحي القرآن)، "أنّ ما ذكره (تفسير الميزان) لا يصلح مؤيداً لتفسيره"، لأنّ الإشكال في تعبير النساء "وارد على كلا الاحتمالين"، وتعبير البنين، قد يراد به "الأعمّ على أساس التغليب، وربما تكون الرغبة الغريزية للبنين أكثر، كما هي الحالة النوعية لدى الناس"، وأما تعبير "القناطير المقنطرة بدلاً من الأموال، فلعلّ الوجه فيها، أنّ الرغبة في المال تجتذب - طبيعياً - الرغبة في المال الكثير"( ).
وعلى الشاهد الرابع، وهو شاهد سياقي كذلك، فيرد عليه "أنّ سياق الآية - كما ذكرناه - هو الحديث عن ضرورة عدم الاستغراق في هذه الشهوات، واعتبارها قيمةً نهائيةً وغايةً للحياة، لأنّها لا تزيد عن كونها حاجةً ومتاعاً لا دوام لها، والالتفات إلى الحياة الآخرة باعتبارها هي الغاية، الأمر الذي يجعل الإنسان ينظر إلى متع الدنيا لا كأمر لذاته، وإنما كأمر يتوسل به إلى معاشه وحاجاته المتنوعة. ولذلك فهي ليست واردةً مورد الرفض لها والصرف عنها، بل في مورد التنبيه على ما في الآخرة من متع تتجاوز هذه المتع الفانية إلى المتع الخالدة، ليعرف الإنسان كيف يحرك خطواته في الطريق إلى الآخرة من خلال ما يملكه في الدنيا.
إنّ الآية تتجه إلى بيان شهوات الدنيا التي خلقها الله في الإنسان من خلال خصوصيته الغريزية، مقارنةً بما عند الله، من حيث كون ما في الدنيا فانياً محدوداً في إيجابياته التي تحمل في داخلها السلبيات بطريقة وبأخرى"( ).
الموطن الرابع عشر: دائرة قوامة الرجال على النساء
هناك اتجاهان في تحديد دائرة قوامة الرجال على النساء:
الاتجاه الأوّل: قبيل الرجال على قبيل النساء (دائرة المجتمع).
الاتجاه الثاني: الأزواج على الزوجات (دائرة الأسرة).
يذهب تفسير (من وحي القرآن) إلى الاتجاه الثاني، فيما يذهب تفسير الميزان إلى الاتجاه الأوّل، والسبب في هذا الاختلاف، هو طبيعة فهم السببين المذكورين في آية القوامة: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِم}(النساء: 34):
السبب الأوّل: بما فضل الله بعضهم على بعض.
السبب الثّاني: بما أنفقوا من أموالهم.
فإذا كان السبب الأوّل هو الأساس، والثاني متفرع عليه، كانت القوامة شاملةً للحياة الزوجية ولغيرها، "ولكنَّنا لا نجد ذلك مفهوماً من الآية التي يوحي جوّها العام بالحديث عن البيت الزوجي، وذلك من خلال التفريع الذي لا يعتبر مجرّد تفريع جزئي لأمر عام شامل، بل يمثّل - بحسب الظهور العرفي - تفريعاً ذا دلالة على نطاق الشمول في الحكم. ولولا ذلك، لكان الحديث عن القضاء والحكم والجهاد أولى من الحديث عن فرض النظام في البيت".
"ومن جهة أخرى، فإنّ الآية تتحدث عن القوامة في الدور الذي يقوم به الرجل إزاء المرأة، لتكون القضية في كلّ جزئياتها التطبيقيّة قضية رجل وامرأة، وهذا ما لا تتكفل به قضية القوامة في موضوع الحكم والقضاء، فإنّ الهيمنة فيهما على كلّ الناس الذين يتعلق بهم الحكم والقضاء، ولكن من غير الجوّ الذي تعيش فيه الآية بحسب مدلولها اللفظي"( ).
المعلم الثالث: استعراض وجوه التفسير والترجيح بينها
من معالم تفسير (من وحي القرآن)، استعراض الوجوه والآراء والأقوال في عالم التفسير للآية، ومحاولة الترجيح بينها، أو إعطاء وجه آخر قد يكون قريباً منها أو من بعضها، وقد يكون بعيداً، فيما يراه المفسر من معانٍ أو دلالات بحسب ما يمتلك من آليات القراءة وأدوات التفسير. لذا، فإنك ترى العديد من الآراء والوجوه التي طرحها علماء التفسير السابقون والمعاصرون، كما تلتقي مع الكثير من وقفات النقد لبعض الآراء التي يراها بعيدةً عن المفردات والسياق الخاص والعام والعترة الطاهرة التي هي عدل القرآن، وإن كان القرآن هو الميزان وهي الموزون، بموجب روايات العرض المستفيضة. وقد لا يرى المفسّر ضرورةً في ذكر الأقوال والوجوه، فيكتفي بذكر ما يراه من تفسير، ويعقبه أحياناً بقوله: "وهناك وجوه أخرى لتفسير الآية لا مجال لذكرها"( ).
وقد لا يرى دليلاً أو شاهداً، من عقل أو نقل، على الترجيح، فيشير إلى بعض الوجوه، ثم يقول: "ذهب إلى كلّ منها جمع، ولكن لا طريق لنا إلى معرفة ذلك، لأنّ اللّه أجمل لنا ذلك، ولم تفصله لنا السنّة في ما صحّ منها"( )، أو يقول: "وهناك وجوه أخرى في تفسيرها"( )، أو: "وهناك وجوه أخرى، ولكنَّا لا نجد وجهاً واضحاً لهذه الاحتمالات، فهي لم ترتكز إلى دليل واضح"( ).
وينبّه السيّد إلى ضرورة الحذر من سلطة الأفكار المذهبية المسبقة في قراءة النص التي قد تهيمن على عقل المفسر، ليفسّر الآيات وفق آرائه، وينتقي منها ما يوافق مذهبه التشريعي أو العقائدي، ويحاول "كلّ فريق أن يستفيد من بعض الآيات القرآنية التي قد تفسّر على هذا النحو أو ذاك في ما يلائم اللفظ من تفسير. وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ(ع) في بعض كلامه: "لا تخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه"( )"( ).
ولا بدّ من ذكر بعض الموارد من تفسير (من وحي القرآن)، لنرى كيف يتعامل مع الوجوه والأقوال، وما هي آلياته في الترجيح والاختيار والقبول.
المورد الأوّل: وجوه التفسير في معنى {بِغَيْرِ حِسابٍ}
{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}(آل عمران: 27).
يتوقف تفسير (من وحي القرآن) عند كلمة {بِغَيْرِ حِسابٍ} في الآية المباركة، لتوهّم أنّه قد يفهم منها غير ما يفهم من آية {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً}(الطلاق: 2-3)، ويستعرض أهم الآراء التي قيلت في معناها:
1- بغير تقتير، كما يقال: ينفق بغير حساب، لأنّ من عادة المقتر أن لا ينفق إلا بحساب.
2- بغير مخافة نقصان لما عنده، فإنّه لا نهاية لمقدوراته...
3- بغير حساب، "إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض ولا استحقاق، لكون ما عندهم من استدعاء وطلب أو غير ذلك مملوكاً له تعالى محضاً، فلا يقابل عطيته منهم شي‏ء، فلا حساب لرزقه تعالى... فالرزق منه تعالى عطية بلا عوض، لكنّه مقدر على ما يريده تعالى"( ).
بعد ذلك، يعطي السيّد المفسّر رأيه كوجهٍ ممكن من وجوه التفسير، بقوله: "ولعلّ الأقرب إلى جوّ الآية، أن تكون الكلمة كنايةً عن عدم محدودية رزقه من حيث عدم محدودية ملكه، فإنّه يعطي كلّ موجود حاجاته مهما كثرت واتسعت، فكلما تطورت حاجاته ازداد رزقه، فلا حاجة به إلى الحساب، لأنّه شأن المحدود الذي قد تختل موارده باتساع الأمور والحاجات في عطائه، أمّا الله - سبحانه - فهو المطلق في ذاته، والمطلق في غناه، فلا ينفد ما عنده بالإنفاق والعطاء، لأنّه لا حدّ له في ملكه".
"وربما يلتقي هذا المعنى‏ بالمعنى الثاني وببعض إيحاءات المعنى الأوّل".
ثم ينبّه إلى محذور الفهم الخاطئ، فيقول: "ولا ينافي ذلك تقدير الله للأمور - ومنها الرزق - فإن تقدير كلّ شي‏ء بحسبه من خلال طبيعة الحاجات في تطوراتها تبعاً لتطور الحياة والإنسان، فهو الذي يقدّر رزقه بحسب الحاجات المتطورة والمتغيرة، ليلاحق ذلك بحكمته ورحمته".
ثم يقول: "أمّا ما ذكره العلامة الطباطبائي، فإننّا لا نجد له وجهاً، لأنّ مسألة العوضية ليست مطروحةً في الجانب العقيدي، ولا في المدلول السياقي، إذ لا معنى للحديث عن أنّ الله يعطي الإنسان بدون عوض ولا استحقاق، لأنها من بديهيات الأمور، من حيث إنّ الله هو الخالق والرّازق، وإنّ الإنسان لا يملك شيئاً ذاتياً أمام الله، ولكن الحديث هو عن سعة عطاء الله وشمولية كرمه وعدم نفاد رزقه"( ).
المورد الثّاني: وجوه التفسير في {ولا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا}
يطرح تفسير (من وحي القرآن) رأيه أولاً في معنى النصيب الذي نهى المؤمنون قارون عن نسيانه، بقولهم: {وابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ولا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا}(القصص: 77)، وهو الحاجات الحيوية الطبيعيّة والاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا، "فمن حقّك أن تستعمل مالك في حاجاتك الخاصة وشهواتك ولذاتك الذاتية، فليس معنى ابتغاء الدار الآخرة في مالك أن تنسى حقوق نفسك، كإنسان يريد أن يعيش في الدنيا ويستمتع بطيباتها، لأنّ طبيعة مادية جسدك، أن تحصل له على ما يحفظ له حياته ويحقق له راحته. وبذلك يقف التوجيه الإسلامي في خطّ التوازن في حركة الممارسة الاقتصادية، بين الجانب المادي الذي يمثل حاجة الإنسان كجسد، للاكتفاء الذاتي من متع الحياة، وبين الجانب الروحي الذي يمثل حاجة الإنسان كروح ترغب في الحصول على الاستقرار في الدار الآخرة ونعيمها في رضى الله".
ثم يذكر الأقوال الأخرى في التفسير، ويعلّق عليها مقارناً بينها وبين ما قدّمه من رأي:
وقيل: إنّ "معناه: لا تنسَ أنّ نصيبك من الدنيا - وقد أقبلت عليك - شي‏ء قليل مما أوتيت، وهو ما تأكله وتشربه وتلبسه مثلاً، والباقي فضل ستتركه لغيرك، فخذ منها ما يكفيك".
ويعلّق عليه بقوله: "ولكن هذا ـ مع وجود بعض ملامح التفسير السابق فيه ـ بعيد عن مساق الآية، لأنها لم تتحدث عن قيمة نصيبه، بل عن طبيعة ما يرخصه الله له من نصيبه في الدنيا"( ).
بينما استجوده العلامة الطباطبائي، بقوله: "وهذا وجه جيد"( ).
وقيل - كما في تفسير الميزان - "أي لا تترك ما قسم الله لك ورزقك من الدنيا ترك المنسي، واعمل فيه لآخرتك، لأنّ حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا، هو ما يعمل به لآخرته، فهو الذي يبقى له"( ).
وعلّق عليه بقوله: "وهو خلاف الظاهر، إلا أن يكون راجعاً إلى ما ذكرناه"( ).
المورد الثّالث: وجوه العلاقة السياقية بين الفتح ومغفرة الذنب
يقف تفسير (من وحي القرآن) عند قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}(الفتح:1-2) على أمرين أساسين:
الأول: ما هي علاقة الفتح بغفران الذنب، ليكون الأوّل تعليلاً للثاني، بلحاظ ظهور "اللام" في التعليل؟
الثاني: ما معنى غفران ذنب النبيّ، وهو المعصوم في أقواله وأفعاله؟ ثم، ما هو المعنى لغفران الذنب قبل حدوثه؟
ثم يذكر - بأسلوبه الخاص - الأقوال في عالم التفسير، الذي يؤمن بعصمة النبيّ الأكرم(ص) حتى من الذنوب الصغيرة، بعد النبوة وقبلها:
القول الأول: إنّ الذنب ليس ذنب النبي مع الله، ولكنّه ذنبه مع أهل مكة، في ما يعتقدونه من أنّ انطلاقته في الدعوة التي أدّت إلى الصراع العسكري وغير العسكري، يمثّل الذنب الكبير، باعتبارها الحركة التي قتلت الكثير من رجالهم، ودمّرت الكثير من هيبتهم. وبذلك كان الفتح، الذي بدأ بصلح الحديبيّة معنوياً، وانتهى بفتح مكة فعلياً، ووقف بعده النبي ليعفو عن المشركين بعد السيطرة عليهم أساساً لغفرانهم لما سلف، ولما يأتي من ذنوبه بحقّهم، لأنّ عظمة عفو النبيّ عنهم في ظروفه الموضوعية، تلغي كلّ مواقع الذنب في ماضيه ومستقبله، وبذلك تكون كلمة الفتح منسجمةً مع التعليل بالمغفرة.
أما نسبة المغفرة إلى اللّه، فلأنّه كان السبب في ذلك كلّه، على نحو المجاز.
القول الثّاني: إنّ المراد ذنب أمَّته، باعتبار أنّه يمثل قيادة الأمة التي تتحمل معنوياً مسؤولية أعمال أتباعها.
القول الثالث: إنّ المراد ذنب أبويه آدم وحواء ببركته.
القول الرابع: إنّ المسألة قائمة على الفرضية الطبيعية، باعتبار أنّه بشر يمكن أن يخطئ في المستقبل، كما كان ذلك ممكناً في الماضي، ولهذا، فإنّ التعبير يعالج المسألة على أساس أنّه لو كان الأمر كذلك، لغفر اللّه له، لأنّ مثل هذا الفتح المبين الذي قام به، يمثّل العمل الأفضل الذي تسقط أمامه كلّ الذنوب، بحيث يكون هو الحسنة التي لا تضرّ معها سيّئة.
القول الخامس: غفران ذنوب شيعة عليّ (ع) ما تقدم منها وما تأخّر.
كما جاء في بعض الروايات عن الإمام الصادق(ع): "ما كان له ذنب، ولا همّ بذنب، ولكنّ الله حمّله ذنوب شيعته ثم غفرها له"، أو أنّ ‏"الله ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة عليّ (ع) ما تقدم من ذنبهم وما تأخر".
يسجل السيّد المفسّر ملاحظتين نقديتين على هذه الوجوه:
الملاحظة الأولى: بالنسبة إلى القول الأخير، يقول: "ولكننا لا نعتقد صحة هذه الروايات، لأنها لا تنسجم مع الأسس الفكرية الإسلامية، فإنّه لا معنى للقول بما جاء، لأنّه لا معنى لتحميله تلك الذنوب، كما لا معنى لاعتبار الفتح أساساً لذلك، في الوقت الذي لم يكن للشيعة أيّ وجود واقعي في المجتمع الإسلامي، وكيف يمكن للقرآن أن يتحدث عن نتيجة للفتح لا تتصل به؟!".
الملاحظة الثّانية: هذه الأقوال الخمسة "تحاول الهروب من المعنى الظاهر" في الآية، من أنّ للنبيّ ذنباً متقدّماً ومتأخّراً، وأنّ الله جعل الفتح سبباً في مغفرته، "لأنّ هذا المعنى لا يتناسب مع عصمة النبيّ، أو كماله، أو شخصيته النبوية التي تمثل النموذج القدوة، فقد تكون بشريته محكومةً لنقاط الضعف في طبيعتها، ولكن رسالته، التي انطلقت من الوحي، لا بدَّ من أن تمنح إنسانيته نقاط القوّة، ولا بدَّ من أن تكون قد درست مؤهلاته التي عاشها مدّة أربعين سنة قبل الرسالة، ليبنيَ على أساسها شخصيته بالمستوى الذي لم يستطع الناس الذين عاشوا معه من أهله وأصحابه، أن يسجّلوا عليه أيّة نقطة سوداء في ما يروونه عن ماضيه الشخصي، ولهذا فإنّ مسألة الذنب تتنافى مع هذا الماضي الطاهر المشرق الذي زاده حاضر الرسالة حركيّةً وقوّةً وإشراقاً وصفاءً".
"وعلى ضوء ذلك، فلا بدَّ من تجاوز هذا المعنى إلى ما يختزنه من إيحاءات تتناسب مع صفاء العمق الروحي للشخصية النبوية"( ).
الملاحظة الثّالثة: ثمّ يعطي رأيه في تفسير العلاقة السياقيّة بين الفتح والمغفرة، بما ينسجم مع العصمة، بقوله: "ولعلّ الأقرب إلى الجوّ، أن نستوحيَ من المغفرة معنى الرضوان والمحبة والرحمة، باعتبار أنها تمثل نتائج المغفرة، ليكون المعنى، أنّ الله يمنحك رضوانه ومحبته، في ما يوحي به من معنى إيجابي يستلزم انتفاء المعنى السلبي، باعتبار أنّ الفتح، في ما يمثله، هو الانطلاقة التي تفتح للإسلام باب الحياة الواسع الذي يدلّ الناس على الطريق إلى الله. وقد جاهد النبيّ (ص) أقسى الجهاد حتى وصل إلى هذه النتيجة بتوفيق الله ورعايته، ومن هنا كان ذلك سبباً في محبة الله له التي تشمل أوّل الجهاد قبل الفتح، وآخره بعد الفتح"( ).
المورد الرّابع: وجوه التشبيه
بعد أن يقدم تفسير (من وحي القرآن) ما يراه من تفسير للتشبيه في قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماء}(الأنعام: 125)، يقول: "وقد اختلف المفسّرون في تفسير هذه الفقرة: {كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ} على وجوه ثلاثة:
(الأول): أنّ معناه، كأنّه قد كلّف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه، أو كأنّ قلبه يصعد في السماء نبوّاً عن الإسلام والحكمة، عن الزَّجَّاج.
(الثاني): أنّ معنى يصعّد، كأنّه يتكلَّف مشقَّةً في ارتقاء صعود، وعلى هذا قيل: عقبة عنوت وكؤود، عن أبي علي الفارسي، قال: ولا يكون السماء في هذا القول المظلّة للأرض، ولكن قال سيبويه: القيدود الطويل في غير سماء، أي: في غير ارتفاع صعداً، وقريب منه ما روي عن سعيد بن جبير، أنّ معناه كأنّه لا يجد مسلكاً إلا صعداً.
(الثالث): أنّ معناه كأنّه ينزع قلبه إلى السماء لشدّة المشقة عليه في مفارقة مذهبه"( ).
ثم يقول: "وربما كان الوجه الذي أشرنا إليه، مما اكتشفه العلم بالتجربة في الحالة التي يكون عليها الصاعد إلى الفضاء في ارتفاعه البعيد، أقرب إلى تصوير الحالة الضاغطة على الإنسان في حالته الحسية، للإيحاء بالمشقة التي يواجهها في حالته الذهنيّة والمعنويّة عندما يريد الابتعاد عن انتمائه الفكري وخطّه العملي. وهذا ربما ينسجم مع القول بأنّ القرآن يفسره الزمان، فكلُّ جيلٍ يفهمه بطريقة أخرى من خلال ما يتوصل إليه العقل البشري من اكتشافات علمية توضح للإنسان الكثير من مصاديق المفاهيم التي تدلّ عليها الآيات القرآنية، لأنّ كلّ مفسّر يفهم المسألة بحسب التجربة التي عاشها في زمانه، أو بحسب المعلومات المتوفرة لديه، والله العالم"( ).
وكان قد قدّم للآية تفسيراً علمياً معاصراً لظاهرة ضيق النفس في الطبقات العليا، ثم قال: "وقد ذكر في سبب هذه الظاهرة الاختناقية للصاعد إلى السماء، أنّ الهواء المحيط على الأرض صالح لتنفّس الإنسان، ولكن الإنسان كلما ارتفع في الفضاء، قلّت كثافة الهواء ونسبة وجود الأوكسجين فيه، بحيث إنّنا إذا ارتفعنا أكثر بضع كيلومترات، أصبح من الصَّعب أن نتنفّس بغير قناع الأوكسجين، وإذا ما واصلنا صعودنا، ازداد ضيق تنفّسنا وأصبنا بالإغماء"( ).
 يتَّضح جيداً من خلال هذا المورد، أنّ الزمان له دوره في عملية التفسير، لما يوفّره من آليات القراءة وأفكار ومفاهيم وحقائق في عالم التكوين، تجعلنا نقترب أكثر فأكثر من آفاق القرآن الكريم، واستكشاف بعض أسراره وإشاراته وتلميحاته وتشبيهاته. ورواية (القرآن يفسره الزمان)، جاءت عن ابن عباس، ولعلّه أخذها من أستاذه علي بن أبي طالب، ويمكننا عدّها من قواعد التفسير المهمة في استجلاء معاني النص القرآني ومعرفة دلالاته. ولعلّ بعض الآيات تشير إليها، كقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ} "في ما يظهر لهم حقائق القرآن وأسراره مما يكشفه الله في الكون، {وفِي أَنْفُسِهِمْ} مما يواجههم من الحوادث التي تؤكّد أخباره ومفاهيمه {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} الذي لا مجال فيه لأيّ شك أو شبهة"( ).
المورد الخامس: وجوه تفسير رؤيا النبي(ص)
في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ والشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القرآن ونُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً}(الإسراء: 60)، اختلف المفسرون في المقصود من الرؤيا التي رآها النبي الأكرم(ص)، ومن الشجرة الملعونة في القرآن، لأنها وإن كانت واضحةً في المعنى مفهوماً، بيد أنها غامضة تطبيقاً، أي على صعيد التطبيق وتشخيص المصداق.
رؤيا النبي(ص)
نقل تفسير (من وحي القرآن) عن مجمع البيان الوجوه التفسيرية والأقوال في طبيعة الرؤيا التي رآها النبي(ص):
أحدها: رؤيا العين (رحلة الإسراء والمعراج).
إنّ المراد بالرؤيا رؤية العين، وهي ما ذكره في أوّل السورة من إسراء النبيّ (ص) من مكّة إلى بيت المقدس وإلى السموات في ليلة واحدة، إلا أنّه لما رأى ذلك ليلاً وأخبر بها حين أصبح، سمّاها رؤيا.
وهذا الوجه "خلاف ظاهر الكلمة التي تدل - بحسب إطلاقها - على ما يراه الإنسان في المنام"( ).
ثانيها: رؤيا نوم (دخول الكعبة)
إنّها رؤيا نوم رآها أنّه سيدخل مكّة، وهو بالمدينة، فقصدها، فصدّه المشركون في الحديبيّة عن دخولها، حتى شكّ قوم ودخلت عليهم الشبهة... فنـزل: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ}(الفتح:27).
وهذا الوجه "لا ينسجم مع الطبيعة المكيّة للسورة، مما لا يتفق مع رؤيا دخول مكة التي كانت في المدينة، حيث كانت متأخرةً عن مورد نزول الآية"( ).
ثالثها: رؤيا نوم (قرود تنـزل على منبره)
وهي رؤيا رآها النبيّ (ص)، أنّ قروداً تصعد منبره وتنـزل، فساءه ذلك واغتمّ به. روى سهل بن سعد عن أبيه أنّ النبيّ (ص) رأى ذلك، وقال له(ص): لم يستجمع بعد ذلك ضاحكاً حتى مات... وهو المروي عن أبي جعفر (الباقر) وأبي عبد الله (الصادق(ع)).
رابعها: رؤيا نوم (مصارع المشركين)
ما رآه النبيّ (ص) من مصارع المشركين في بدر، قبل المعركة..
الشجرة الملعونة
الرأي الأوّل: اليهود.
الرأي الثاني: شجرة الزقوم.
الرأي الثالث: بنو أميّة.
يرى تفسير (من وحي القرآن)، أنّ "التفسير الثالث (رؤيا القرود) أقرب إلى الذهن وإلى جوّ الآية من خلال" القرائن التالية:
الأولى: "ما توحي به كلمة الإحاطة من الانفتاح على الأشياء المستقبلية، المتصلة بحركة الإسلام في المستقبل، في ما يريد الله أن يعرّف به رسوله، بما ينتظر دينه من تطورات على صعيد التطبيق في حركة الواقع"( ).
الثانية: الانسجام بين الرؤيا والشجرة الملعونة التي تبين المضمون الواقعي للرؤيا، أما الفتنة، فمن جهة المراكز التي يتبوأونها، من خلال الخلافة التي قد تخدع الكثيرين من الناس، فتوحي إليهم بشرعية تصرفاتهم الطاغية المستكبرة والمنحرفة عن خطّ الإسلام.
الثالثة: "أنّ مفهوم الفتنة يلتقي بالواقع المنحرف الذي يقود إلى الارتباك، أكثر مما يلتقي بما يختلف الناس حوله من الأخبار".
الرابعة: "التقاء روايات أئمة أهل البيت(ع) الذين هم الحجّة في تفسير القرآن، بروايات غيرهم من أهل السنة".
وقد روي في أسباب النـزول ما يؤكّد ذلك، ففي الدّر المنثور للسيوطي ستّ روايات في هذا المعنى:
الرواية الأولى: أخرج ابن جرير، عن سهل بن سعد قال: رأى رسول الله(ص) بني فلان ينـزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك. فما استجمع ضاحكاً حتى مات. فأنزل الله: {وما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ والشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ}(الإسراء:60).
نجد في تفسير الطبري: بني فلان بدلاً من بني أمية، والحال أنّ العديد من المفسرين يصرّحون بالاسم، كما في تفسير الكشف والبيان للثعلبي عن سهل بن سعد عن أبيه عن جدّه تصريح ببني أمية بدلاً من بني فلان( ).
وقد صرَّح تفسير القرطبي بالاسم كذلك في ذكره رواية سهل بن سعد( ).
الرواية الثّانية: وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر، أنَّ النبي قال: رأيت ولد الحكم ابن أبي العاص على المنابر كأنّهم القردة. وأنزل الله في ذلك: {وما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ والشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ}(الإسراء:60)،  يعني الحكم وولده‏.
الرواية الثالثة: وأخرج ابن أبي حاتم، عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله(ص) أريت بني أمية على منابر الأرض، وسيتملكونكم فتجدونهم أرباب سوء، واهتمّ رسول الله(ص) لذلك، فأنزل الله: {وما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ‏}.
الرواية الرابعة: وأخرج ابن مردويه، عن الحسن بن علي، أنّ رسول اللّه أصبح وهو مهموم، فقيل: ما لك يا رسول الله؟ فقال: إنيّ أريت في المنام كأنّ بني أمية يتعاورون منبري هذا. فقيل: يا رسول الله، لا تهتم، فإنها دنيا تنالهم. فأنزل الله: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}‏.( )
الرواية الخامسة: وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر، عن سعيد بن المسيب(رض) قال: رأى رسول الله(ص) بني أمية على المنابر، فساءه ذلك، فأوحى الله إليه: إنما هي دنيا أعطوها، فقرَّت عينه وهي قوله: {وما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}(الإسراء:60).
الرواية السادسة: وأخرج ابن مردويه، عن عائشة "أنها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول الله(ص) يقول: لأبيك وجدك: إنّكم الشجرة الملعونة في القرآن( ).
وقد ذكر أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط: "وقيل بنو أمية، حتى إنّ من المفسرين من لا يعبر عنهم إلاّ بالشجرة الملعونة، لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة، وأخذ الأموال من غير حلّها، وتغيير قواعد الدين وتبديل الأحكام، ولعنها في القرآن {أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}(هود:18)، إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة"( ).
من هنا نعرف مدى (صحة) ما قاله بعض المفسرين المعاصرين: "ويوجد في بعض التفاسير، أنّ ابن عباس قال: في الشجرة الملعونة بنو أمية . وهذا من الأخبار المختلقة عن ابن عباس، ولا أخالها إلا مما وضعه الوضّاعون في زمن الدعوة العباسية، لإكثار المنّفرات من بني أمية، وأنّ وصف الشجرة بأنها الملعونة في القرآن صريح في وجود آيات في القرآن ذكرت فيها شجرة ملعونة، وهي شجرة الزقوم كما علمت. ومثل هذا الاختلاق خروج عن وصايا القرآن في قوله: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمان}(الحجرات: 11)"( )!!
كما نعرف مدى (دقة) ما قاله الذهبي في "التفسير والمفسرون": "تأوَّل متعصّبو الشيعة الشجرة المباركة، والشجرة الملعونة، فحملوا الأُولى على آل البيت، والثانية على أعدائهم من بني أمية"( )!!
وكأنّ السيوطي والثعلبي وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر وابن أبي حاتم والأندلسي والقرطبي وابن عمر وعائشة من الشيعة وليسوا من أعلام السنة!
المورد السّادس: وجوه التفسير في معنى (الإمام)
{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتابَهُمْ ولا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}(الإسراء: 71)
اختلف المفسرون في تفسير كلمة "الإمام" في الآية في وجوه عديدة - كما في مجمع البيان -:
الأول: أنّ المراد به النبيّ، باعتبار أنّ كلّ نبيّ هو الإمام لأمته ولأتباعه.
الثاني: الكتاب المنـزّل من الله، كالتوراة والإنجيل والقرآن والزبور، باعتبار أنّ المؤمنين به يتبعونه في أوامره ونواهيه وجميع تعاليمه.
الثالث: الشخص الذي يؤتمُّ به من الأئمة والعلماء.
ويجمع هذه الأقوال - في ما ذكره‏ في المجمع - ما رواه الخاص والعام عن الرضا عليّ بن موسى(ع) بالأسانيد الصحيحة، أنّه روى عن آبائه: عن النبيّ (ص) أنّه قال فيه: "يدعى كلّ أناس بإمام زمانهم، وكتاب ربّهم، وسنّة نبيّهم".
وروي عن الصَّادق(ع) أنّه قال: "ألا تحمدون الله، إذا كان يوم القيامة فدعا كلّ قوم إلى من يتولونه، ودعانا إلى رسول الله(ص)، وفزعتم إلينا، فإلى أين ترون يذهب بكم؟ إلى الجنّة وربّ الكعبة". (قالها ثلاثاً).
الرابع: أنّ معناه: بكتابهم الذي فيه أعمالهم( ).
بعد أن يستعرض تفسير (من وحي القرآن) وجوه التفسير في المعنى السياقي لكلمة (الإمام) في الآية، يحاول أن يوازن بينها، من خلال النقاط التالية:
1- لعلّ المنصرف إلى الذهن في فهم الآية - لأوّل وهلة - هو المعنى الأخير، بقرينة ما بعده من تفصيل الكلمة من حيث طبيعة الكتاب ومضمونه.
2- ولكننا نعتقد أن الأقوال الثلاثة لا تبتعد عن ذلك من حيث المضمون، أو من حيث الالتزام والإيحاء، لأنّ من الطبيعي أنّ الأعمال التي يتضّمنها الكتاب، هي الصورة الملائمة أو المخالفة لتعليمات النبيّ، وللكتاب الذي جاء به، ولكلمات الإمام أو العالم أو المرشد، باعتبارهم يتحدثون بكلام الله وكلام نبيّه.
3- وعلى ضوء هذا، فإنّ مفهوم هذه الفقرة من الآية، أنّ الله ينادي كلّ قوم بالرمز الذي كانوا ينتمون إليه، ويأتمّون به في الحياة، من نبيّ وكتاب ومرشد، في ما يتضمنه من خطوط وتعاليم وإرشادات، ليكون ذلك حجّةً لهم أو عليهم، في ما يشتمل عليه كتاب الأعمال من خير أو شرّ.
4- وربما كانت كلمة الإمام أوفق بالوجوه الثلاثة، بقطع النظر عن القرينة التي ذكرناها، لأنها مأخوذة من الموقع المتقدم الذي يتبعه الإنسان ويسير خلفه، أمّا إطلاقه على كتاب الأعمال، فعلى أساس العناية التشبيهية، باعتبار أنّه يمثل حركة المصير الأخروي الذي يسير الإنسان وراءه، لأنّه هو الذي يحدّد له خطّ السير هناك( ).
المورد السّابع: أصحاب الكهف وأصحاب الرقيم
هناك اتجاهان في عالم التفسير في التفريق بين أصحاب الكهف وأصحاب الرقيم في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ والرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً}(الكهف:9).
الاتجاه الأوّل: أنهما جماعتان مختلفتان.
الاتجاه الثاني: أنهما جماعة واحدة والفرق في العنوان.
يرجّح تفسير (من وحي القرآن) الاتجاه الثاني، بقوله: "والظاهر أنّ هؤلاء جماعة واحدة، وإن ذكروا باسمين، فهم أصحاب الكهف، لدخولهم فيه، وحدوث ما حدث لهم في داخله، وهم أصحاب الرقيم، لأنّ قصتهم - كما يقال - كانت مكتوبةً في لوح منصوب هناك، أو في خزانة الملوك. وهناك وجوه أخرى، يقول بعضها إنّ الرقيم اسم الجبل الذي فيه الكهف، أو الوادي الذي فيه الجبل، أو البلد الذي خرجوا منه"( ).
أما الاتجاه الأوّل الذي يذهب إلى أنهما جماعتان، فصّل الله قصة جماعة، ولم يفصّل قصة الأخرى، فإنّه "بعيد عن طبيعة الجوّ وحركة القصة في القرآن، لأنّ إهمال قصّة أصحاب الرقيم، بعد التعرض لذكرهم، يبتعد عن جانب البلاغة في القرآن، لأنّ طريقة التفاهم بين الناس في أبسط مواقعها، لا تسمح بأن يهمل الإنسان الحديث عن شي‏ء أو شخص أو جماعة.. بعد أن يكون قد ذكرها بالاسم في بداية الكلام، لأنّ ذكر ذلك يثير الاهتمام بالمعرفة، ويدعو المتكلم إلى الاستجابة إلى ذلك"( ).
وما يؤيّد ذلك، رواية الإمام الصادق(ع) كما في تفسير القمي، قال: "إنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملك جبّار عاتٍ، وكان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام، فمن لم يجبه قتله، وكان هؤلاء قوماً مؤمنين يعبدون الله عزّ وجلّ، ووكل الملك بباب المدينة، ولم يدع أحداً يخرج حتى يسجد للأصنام، فخرج هؤلاء بعلّة الصيد، وذلك أنّهم مرّوا براعٍ في طريقهم، فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم، وكان مع الرّاعي كلب، فأجابهم الكلب وخرج معهم...".
المورد الثّامن: الأمر التشريعي والأمر التكويني
ذكر تفسير (من وحي القرآن) اتجاهين في تفسير (الأمر) في آية سورة الإسراء: {وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً}(الإسراء: 16):
الاتجاه الأوّل: التشريعي، ليكون متعلق الأمر هو الطاعة والصلاح والإصلاح.
الاتجاه الثاني: التكويني، ليكون متعلق الأمر هو الفسق والإفساد.
يرى السيّد المفسّر أن لا إشكالية على الاتجاه الأول، لأنّ الله سبحانه لا يأمر بالفسق، بل يأمر بالعدل والإحسان، ليكون المعنى: "أمرنا مترفيها بالطاعة فلم يمتثلوا، بل فسقوا". وإنما يأتي الإشكال على الاتجاه الثاني، لأنّ معناه: أمرنا مترفيها بالفسق ففسقوا فيها، كما يقال: أمرته فأكل. والإشكال هو: "كيف ينسجم هذا مع الخطّ السليم للعقيدة، فكيف يأمر الله بالفسق، كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}(الأعراف: 28)"( ).
"وقد ذكر في الجواب عن ذلك، أنّ الأمر بالفسق ليس أمراً تشريعياً، بل المقصود به الأمر التكويني الذي يرادف الإرادة التكوينيّة التي تتعلق بأفعال العباد بشكل غير مباشر، وذلك بتهيئة الأسباب الواقعيّة التي لا يستطيع المترفون الفسق بدونها؛ من القوة البدنية والفكرية والمال والسلاح والجاه والشهوات، ولكن ذلك لا يجعل من الفسق أمراً حتمياً، لأنّ بإمكانهم أن يسخّروها في الطاعة والخير، وفق ما أراد الله لهم بالالتزام بالتشريع"( ).
وفي مقام الترجيح بين الاتجاهين، يرجّح تفسير (من وحي القرآن) الاتجاه الثاني لقرائن سياقية، بقوله: "ولعلّ التفسير الثاني هو الأقرب إلى ظاهر الآية، كما نلاحظ ذلك في دراسة هذا التعبير، من خلال التعبيرات المماثلة التي حذف فيها متعلق الأمر للدلالة عليه بالفعل المسبوق بالفاء، الذي يوحي بانفعال الفاعل بتحقيق الأمر المتوجه إليه، بينما نجد التفسير الأوّل بعيداً عن الفهم العرفي، بالإضافة إلى أنّه لا وجه لاختصاص المترفين بتوجيه التكليف إليهم وعصيانهم له؛ والله العالم".
ولهذا يرى أنَّ (القول) في الآية: {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ}، هو التعبير عن القول "الإلهي الذي تفرضه سننه الكونية، {فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً} وأهلكناها بكلّ مظاهر الهلاك الروحي والفكري والاجتماعي والسياسي، جزاءً لها على ذلك كلّه".
"وخلاصة الفكرة، التي تريد أن توحي بها الآية، أنّ الله لا يريد إهلاك أيّة قرية إلا بعد أن يتحرك فيها المترفون الذين يستغلّون النّعم التي أغدقها الله عليهم في الفساد والإفساد اللّذين يؤدّيان إلى الدمار الشامل"( ).
والآية التالية قرينة كذلك على دور الأمة في هلاكها، إذ توفّر هي بسوء اختيارها عوامل سقوطها وتسلّط الظالمين عليها: {وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وكَفى‏ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}(الإسراء: 17)، والاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وإن نافاه خطاباً!
المورد التّاسع: معنى شهداء في آية التداول
اختلف في معنى (شهداء) في آية التداول على اتجاهين:
الأوّل: شهداء الحرب، وهم القتلى الذين تراق دماؤهم في ساحات الحرب وميادين الجهاد مع أعداء الله من الطواغيت والمستكبرين.
والذي يؤيّد هذا المعنى، سياق الآية في سورة آل عمران الذي يتحدث عن معركة أحد وملابساتها. ويرى أصحاب هذا الاتجاه، أنَّ التعبير في الآية {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}(آل عمران:140)، "هو تعبير عجيب عن معنى عميق بأنّ الشهداء لمختارون، يختارهم الله من بين المجاهدين، ويتخذهم لنفسه - سبحانه - فما هي رزية إذاً ولا خسارة أنّ يستشهد في سبيل الله من يستشهد، إنما هو اختيار وانتقاء وتكريم واختصاص.. إنّ هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة، ليستخلصهم لنفسه - سبحانه - ويخصّهم بقربه"( ).
الثاني: شهداء الأمّة، بمعنى القادة الذين تمحّصهم الأيام بتداولها، من انتصار وانكسار، وسراء وضراء، وآمال وآلام، وخير وشرّ، ونفع وضرّ.
يذهب تفسير (من وحي القرآن) إلى الاتجاه الثاني، ويجعل من الشواهد عليه الآيات الأخرى، كقوله تعالى: {وكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}(البقرة: 143)، فقد "حدثنا في القرآن في أكثر من آية عن الشهداء على الناس، من دون أن يتحدث عن الشهيد بهذا التعبير في آية واحدة، بل لم يعهد استعماله في القرآن، وإنما هو من الألفاظ المستحدثة الإسلامية ـ كما يقول صاحب الميزان ـ مع ملاحظة أخرى، وهي أن كلمة {ويَتَّخِذَ} لا تتناسب مع الشهداء بمعنى قتلى المعركة، فقد لا يكون من المألوف أن يقال: اتخذ اللّه فلاناً مقتولاً في سبيله أو شهيداً، كما يقال: اتخذ الله إبراهيم خليلاً، أو اتخذ الله‏ موسى كليماً، ومحمداً شهيداً يشهد على أمّته يوم القيامة"( ).
ويرى أنّ هذا المعنى لا يبتعد عن أجواء الحرب والقتال والصراع والدفع والتدافع، ولذا يقول: "أمّا علاقة ذلك بالمعركة - التجربة - الامتحان، فهي تعميق الإيمان وتصفيته وتنميته في نفس الإنسان المؤمن، ما يجعله في مستوى الشهادة التي تحتاج إلى عمق وصفاء وامتداد في الإيمان.
وربما تنطلق التجربة الصعبة التي تتنوع فيها المشاكل، وتتكرر فيها الحلول، وتشتد فيها المعاناة، لتعمل - بأجمعها - على صنع الإنسان القيادي، والمؤمن الصلب الواعي المتحدّي الفاعل، لأنّ مسألة القيادة ليست مسألة متصلة بالجانب الفكري للإنسان، بل هي - إلى جانب ذلك - مسألة مرتبطة بالتجربة الحيّة التي تتحرك في وعي الإنسان في ساحة المعاناة ومواقع الصراع، وهذا واقع دور الشهادة الذي يطلّ بالإنسان على واقع الأمّة، ليرصد كلَّ حركتها الإيجابية أو السلبية في خطّ الاستقامة أو الانحراف، من خلال وعيه الحركي للجانبين معاً، ومعاناته في الإصرار على الموقف الحقّ في صراع الحقّ والباطل"( ).

المعلم الرابع: فلسفة التشريعات والأحكام
من معالم تفسير (من وحي القرآن)، تناول الأحكام والتشريعات لاستجلاء مقاصدها وأسرارها وأبعادها الفردية والاجتماعية، وهو ما يعبّر عنه بفلسفة الحكم، لأنّه يرى أنّ من مهمة التفسير أن يبحث في هذا المجال الحيوي، لما فيه من نفع كبير في الاطلاع على أهمية التشريع ودوره ومدى حكمته وعناصر قوته ومواكبته للتطورات والمتغيرات، والإجابة عن الإشكالات والشبهات المعاصرة التي قد تنظر إليه نظرة ازدراء وتخلف وتشكيك في قدرته على معالجة قضايا النفس والمجتمع..
وفي الوقت ذاته، يحذّر السيّد المفسّر من الاستغراق في الحديث عن علل الأحكام ومقاصدها وفلسفتها، "لأنَّ اللّه تعالى لم يمنعنا من محاولة فهم أسرار شريعته، لكن شريطة أن يظلّ ذلك في نطاق التأمل الذاتي الّذي يحتفظ به الإنسان لنفسه، كما يحتفظ بالكثير من الانطباعات والتأملات الشخصيّة من دون أن تترك تأثيراً على المسار العملي في ما يفعله أو يتركه. فإنَّ الإيمان يفرض على المؤمن من موقع إحساسه بالعبوديّة، أن يسلّم أمره للَّه تعالى، وأن يطيعه إطاعة عمياء في كلّ أوامره ونواهيه، سواء عرف سرّ التشريع في موارد الطاعة والمعصية أو لم يعرفها، فإنَّ ذلك لا دخل له بالموضوع، وبالتالي يجب أن يكون شعار المؤمن دائماً: عليّ إطاعة الله من منطلقات الله، لا سيما في ما لم أحط به علماً من مصالح وأسرار"( ).
لذا، فإنّ محاولة استكشاف حكم التشريعات وملاكاتها، لا يكون على حساب الإذعان لها من باب التعبد والإيمان بضرورة الالتزام بها والسعي إلى تجسيدها، سواء كانت وجوه الحكمة واضحةً أو غامضة، لإيماننا بملاكات الأحكام مصلحةً أو مفسدة.
في أجواء قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيا والْآخِرَة}(البقرة: 219-220)، يقول: "إنّ الدعوة إلى التفكير التي تشمل العمل على أساس الوصول إلى معرفة حكمة التشريع وعلل الأحكام، توحي بأنّ الإسلام لا يريد للإنسان أن يبتعد عن السعي للتعرف إلى المفاهيم الإسلامية والعقائد الإيمانية والأحكام الشرعية، وذلك كي يصل إلى حقائقها وأسرارها بالفكر العميق، ليزداد بذلك إيماناً وهدى"( ).
وتحت عنوان: (القرآن والموازنة بين الإيجابيات والسلبيات‏)، يؤكد المنهج القرآني في طرح التشريعات وملاكاتها، في عملية موازنة "بين الإيجابيات والسلبيات، فيحضرهما في وعي الناس في البداية، ثم يرشدهم إلى الحقيقة الموضوعية، وهي زيادة نسبة الجوانب السلبية في ممارستهما على الجوانب الإيجابية، ويترك للعقل الواعي عملية استخلاص النتيجة التي ستكون إلى جهة التحريم، لأنّ العقل لا يقبل للإنسان أن يرتكب الفعل الذي يضره بنسبة كبيرة، لتحصيل منفعة ليست بذاك المستوى من الأهمية"( ).
"وهكذا تنتهي عملية التوازن بين الربح والخسارة، إلى انخفاض نسبة الربح بشكل كبير جداً، بإزاء ارتفاع نسبة الخسارة بشكل مماثل أو أكبر، ليضع القرآن الناس أمام الحقيقة الكبيرة التي غفلوا عنها، تماماً كما يفعل الذين يتذوقون حلاوة السمّ، فينشغلون بلذّة الحلاوة عما في السمّ من خطر مميت على الحياة. ثم يوحي - من خلال ذلك - إليهم، بأنّ التشريع، في ما يخطط من تحريم وتحليل، لا ينطلق من نقطة العبث والالتذاذ بتقييد حرية الآخرين، بل تبدأ انطلاقته وتنتهي في حدود مصلحة الإنسان الخاصة والعامة، فلا تحريم إلا عندما تكون المفسدة أقوى من المصلحة، ولا تحليل إلا عندما تكون القضية على العكس، سواء في ذلك ما اعتاده الناس وما لم يعتادوه، لأنّ الحرية في التشريع الإلهي ليست مزاجيةً تخضع لانفعالات المزاج في حالات اللذة والألم، بل هي واقعية أساسية تخضع للمصالح والمفاسد الحيوية للإنسان في حركة الحياة وقاعدتها الرئيسية"( ).
ويمكن أن نستعرض بعض الوقفات لاستكشاف فلسفة بعض الأحكام والتشريعات:
أوّلاً: فلسفة القصاص
قبل أن يطرح تفسير (من وحي القرآن) الإشكالات والشبهات حول عقوبة (الإعدام)، عقد بحثاً بعنوان (فلسفة التشريع في القصاص) بمناسبة آية القصاص (البقرة: 179)، لما للموضوع من أهمية كبيرة في واقعنا المعاصر الذي تحاول فيه العديد من الدول في العالم أن تلغيَ عقوبة قتل القاتل.
ويرى السيّد المفسّر أن هذا البحث لا يخرج عن مهمّة عملية التفسير القرآني، بل هو في صميم (حركة التفسير) التي توسع مسؤولية المفسّر ليتناول التشريعات القرآنية تناولاً يستجلي فلسفتها ومقاصدها وأبعادها، حتى لا يتجمد التفسير في دائرة ضيقة تجعله بعيداً عن واقع الحياة وما يزخر فيها من إشكالات وشبهات.
يسجِّل السيّد المفسّر ملاحظةً منهجيةً مهمةً في التعامل مع التشريعات الإسلامية، ألا وهي نزعتها الواقعية التي تواجه الإنسان في نقاط ضعفه وقوته، لذا فإنّها "لا تتحرك من قاعدة القيم التي تعيش في السماء، بعيداً عن الأرض، لأنّ الإسلام ليس ديناً مثالياً يطرح القيم العليا والأهداف الكبيرة التي يتطلع إليها الناس وهم مسحورون بها، من دون أن يستطيعوا الاقتراب منها فضلاً عن الوصول إليها... بل هو دين يتحرك من قاعدة القيم التي تعيش في ساحة الواقع الإنساني الذي يتعامل مع الإنسان كبشر يملك في داخله الكثير من الغرائز والشهوات والعناصر المتضادة، لا كملاك يحلّق في أجواء الروح المتحركة في نطاق التجريد والمجردات...
فلا بدّ للتشريع من أن يكون للأرض لا للسماء، وبذلك فلا بدّ له من أن يتأثر في طبيعة تكوينه بمراعاة النوازع الأرضية في طبيعتها المادية، وملاحظة الأساليب الواقعية في الوصول بالإنسان إلى القيم الروحية"( ).
وتحت عنوان: (عقوبة الإعدام ودورها في تخفيف الجريمة)، يرى السيّد المفسّر بنظرة استقرائية، تفاقم جرائم القتل في الدول التي أقدمت على إلغاء عقوبة الإعدام، كنتيجة واقعية لشعور المجرم بالأمن، فلا يستطيع إنسان التجول في بعض الساعات في بلد مثل أميركا، إلا إذا كان مسلحاً أو خاضعاً لحراسة مشددة، بينما نجده يشعر بالأمن المطلق في بلدان متخلّفة، بيد أنها تطبق عقوبة الإعدام بنسبة جيدة( ).
ثانياً: فلسفة نظام الإرث
من المباحث القيمة في تفسير (من وحي القرآن)، مبحث الميراث وأبعاده الإنسانية والاقتصادية، وما أثير حوله من إشكالات. فقد بحث ذلك في محاور ثلاثة:
المحور الأوّل: دور الميراث في توطيد علاقات القربى والتماسك العائلي والأسري. وهنا طرح إشكالية أن يكون الميراث للدولة، لما تملكه من إمكانات التخطيط والتنفيذ.
المحور الثاني: دور الميراث في تفتيت الثروة وعدم ذهابها إلى شخص واحد من خلال التوزيع المنسجم مع طبيعة النفوس وحبها للأزواج والأولاد والآباء.
المحور الثالث: نظام الإرث على أساس التخطيط للمسؤوليات وللحقوق في المجتمع، وهنا يمكن أن نفهم فلسفة اختلاف الحصة بين الذكور والإناث.
وقد جاء في المعاني بإسناده إلى محمد بن سنان: أنّ أبا الحسن الرضا(ع) كتب إليه، في ما كتب، من جواب مسائله، علة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث: "لأنّ المرأة إذا تزوجت أخذت والرجل يعطي، فلذلك وفرَّ على الرجال. وعلّة أخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطى الأنثى، لأنّ الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت، وعليه أن يعولها وعليه نفقتها، وليس على المرأة أن تعول الرجل، ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج، فوفّر على الرجال لذلك، وذلك قول الله عزّ وجلّ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}(النساء:34).
وفي الكافي بإسناده عن الأحوال قال: "قال لي ابن أبي العوجاء: ما بال المرأة المسكينة الضّعيفة تأخذ سهماً واحداً ويأخذ الرّجال سهمين؟ قال فذكر بعض أصحابنا لأبي عبدالله الصادق(ع)، فقال: إنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة، وإنّما ذلك على الرّجال، ولذلك جعل للمرأة سهماً واحداً، وللرجل سهمين"( ).
ثالثاً: فلسفة الهجرة والهجرة إلى الغرب
في سياق تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وساءَتْ مَصِيراً}(النساء: 97) وقوله سبحانه: {وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وسَعَةً ومَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}(النساء: 100)، يعقد بحثاً تحت عنوان (فلسفة الهجرة في الإسلام)، يتضمن النقاط التالية:
أوّلاً: الهجرة إلى الله ورسوله، وتتمثّل في كلّ رحلة يقوم بها الإنسان في خدمة الإسلام والمسلمين، وفي القيام بواجب شرعي من عبادة ونحوها، وفي إنقاذ أيّة فئة محرومة أو مضطهدة، من الفئات التي أوجب الله علينا إنقاذها. فمن خرج ليطلب العلم من أجل أن يرفع مستوى المعرفة لدى الناس، من خلال ما يقربهم من الله ويبعدهم عن الشيطان، وينمّي لديهم القدرات العلمية التي تفتح آفاقهم على العزة والحرية والكرامة التي يحبّها الله لعباده المؤمنين، فقد خرج مهاجراً إلى الله ورسوله، ومن خرج ليجاهد في سبيل الله، أو ليقضيَ حاجة مؤمن، أو ليغيث ملهوفاً، أو ليقوّي مستضعفاً، أو ليهديَ ضالاً، أو ليقوم بعملية إصلاح بين الناس، أو ليدخل السرور على الناس، أو ليشارك في حكم عدل، أو ليقوم بأيّ عمل من الأعمال التي يحبّها الله ورسوله، أو ليحجّ بيت الله ونحو ذلك، فهو من المهاجرين إلى الله ورسوله. وهكذا تكون حياة الإنسان في سبيل كلّ الأهداف الرسالية الكبيرة هجرةً إلى الله ورسوله.( )
ثانياً: وجوب الهجرة من كلّ بلد يضعف فيه الإنسان دينياً، ما قد يؤدّي به - في نهاية المطاف - إلى خروجه من الدين، لأنّ مسألة ضغط المستكبرين لا خصوصية له إلا من حيث النتيجة السلبية التي قد تترتب على البقاء في مواقع سلطتهم، ولا سيّما إذا عاش الإنسان في بلد تنطلق فيه قوّة الكفر في امتداد فكره، وسيطرة قيمه وأخلاقه وعاداته، بالمستوى الذي يضغط فيه على المؤمن وعلى أهله، ويحاصره في أوضاعه الخاصة والعامة، بحيث لا يملك التخلص من التأثر به - ولو بشكل لا شعوري - ما قد يؤدّي - في نهاية المطاف - إلى ما يشبه الكفر، إذا لم يؤدّ به إلى الكفر المباشر، وذلك في استسلامه الثقافي لثقافة الكفر وضعفه الروحي أمام روحيته، وانحرافه الأخلاقي أمام أخلاقه. وإذا كان يمكن أن يحفظ نفسه بعض الشي‏ء من سيطرة الواقع الكافر على شخصيته، فإنّه لا يملك أن يحفظ أولاده وأهله من ذلك، لأنهم لا يملكون أيّة مناعة ذاتية ضدّ السقوط تحت تأثير هذا الواقع الكافر أو الضال، ما يجعل من بقائه في هذا البلد أو ذاك سبباً في السقوط الفردي أو العائلي إسلامياً، وانحرافاً عن مدلول الآية {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ والْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ}(التحريم: 6).
يرى السيّد المفسّر أنّ "هذا هو ما نشاهده في هجرة الكثيرين من المسلمين إلى بلاد الغرب الذي يخضع في حضارته وقيمه وأوضاعه لفكر يختلف كثيراً عن فكر الإسلام، ولعادات وتقاليد ومناهج مضادة للإسلام في المبدأ والتفاصيل، وقد انحرف الكثيرون منهم فكرياً وأخلاقياً وروحياً، بحيث عادوا مسلمين من دون إسلام في واقع الآباء الذي بقي الانتماء حيّاً في أشخاصهم بطريقة تقليدية، أمّا الأبناء، فقد ابتعدوا ابتعاداً تاماً عن الإسلام، حتى لم يبقَ لهم من الإسلام شي‏ء، إلا ما يرددونه من بعض الكلمات في دائرتهم العائلية، بفعل المجتمع الذي يتحركون فيه، والمدارس التي يتعلمون فيها، والأوضاع التي يعيشون في داخلها ويتأثرون بتفاصيلها"( ).
لذا، فإنّه يوافق ما ذهب إليه الفقهاء من وجوب الهجرة من البلاد التي يضعف فيها الدين، "لأن قضية الهجرة الواجبة في مورد الآية، لا خصوصية لها إلا من خلال الضعف الذي يعيش فيه المستضعفون تحت تأثير المستكبرين بما يؤدّي إلى ضلالهم، فتشمل كلّ حالة مماثلة من حيث العيش في دائرة الاستكبار الثقافي والتربوي والاجتماعي والأخلاقي والسياسي، بما لا يملك الإنسان المؤمن الثبات على دينه في ساحاته، وهذا هو الذي أشار إليه‏ الحديث المأثور: "لا تعرّب بعد الهجرة".
باعتبار أنّ التعرب يمثِّل حالة البعد عن مصادر الثقافة الإسلامية، والقوة الروحية، والمجتمع العاصم من الانحراف، فيتحول الإنسان - بفعله - إلى شخص يشبه الأعراب الجاهليين الذين لا يملكون الوعي الإسلامي الثقافي، والالتزام الديني، والاستقامة الأخلاقية"( ).
ثالثاً: من الضروري أن يبادر المسلمون من خلال قياداتهم، إلى القيام بالمشاريع الإسلامية الثقافية والتربوية وإنشاء مساجد العبادة وغيرها في بلدان الغرب أو غيره من البلدان غير الإسلامية، لأنّ الحاجة قد أصبحت ملحّةً، لسكن المسلمين فيه من خلال حاجاتهم الاقتصادية والثقافية التي تفرض الهجرة إليها، بحيث تحوّل الوجود الإسلامي العددي في بعض البلاد الغربية إلى قوّة من الدرجة الثانية بالنسبة إلى الموقع الديني مقارناً بالدين الآخر.
هذا مع ملاحظة أنّ التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية أصبحت تفرض على المسلمين الانفتاح على العالم كلّه، من أجل تجميع عناصر القوة في كلّ أوضاعهم العامة والخاصة، ما يجعل انتقالهم إلى بلدان العالم ضرورةً حضاريةً على جميع المستويات، لأنّ بعض الحالات الضاغطة في مجتمعات الكفر، قد تؤدّي إلى عزلة المسلمين عن العالم إذا أرادوا أن يخضعوا لبعض التحفظات التي يمكن إزالتها بالتخطيط لإيجاد الأجواء الإسلامية التي تؤكّد حماية الواقع الإسلامي من الانحراف( ).
المعلم الخامس: الاستيحاء
معلم استيحاء الآيات المباركة من المعالم البارزة في تفسير (من وحي القرآن)، حتى جاء في اسم التفسير (من وحي القرآن)؛ فإنّه يحدثنا في مقدمته عن سرّ هذه التسمية، بقوله: "حاولت في هذا التفسير أن أعيش القرآن في عقلي وقلبي وحياتي، في فهم آياته، واستيحاء أفكاره، وتحريكه في كلّ مسيرتنا الإسلامية الصاعدة إلى كلّ الآفاق الباحثة عن الله في كلّ مواقع عظمته، وامتدادات نعمه، وأسرار أحكامه، وفي الخطّ المستقيم المنفتح على كلّ حركة السعادة في الإنسان"( ).
وقد ذكرنا في المقدمة أنواعاً عديدةً من الاستيحاءات اهتمّ بها السيّد المفسّر، وسنركّز هنا على نمطين من الاستيحاء:
أولاً: استيحاء المبدأ والقاعدة
يزخر تفسير (من وحي القرآن) باستيحاء المبادئ من الآيات المباركة، ليعطي قواعد كلية تتجاوز المورد، لتعمّم الآية على الكثير من المصاديق المعاصرة التي تدخل تحت العنوان العام.
1- مبدأ لا تَسبّوا فتُسبّوا
في تفسيره لقوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ}(الأنعام: 108)، يرى أنّ الآية وإن كانت قد تعرضت لموضوع سبّ المشركين وآلهتهم، "فإنّنا نستوحي منها المبدأ الذي يدعو إلى الكف عن أيّ نوع من أنواع السباب الذي يؤدّي إلى ردود فعل سلبيّة، في أيّ موقع من مواقع الصراع الفكري والديني والسياسي والاجتماعي، للحيثيات نفسها التي تفرض النهي في مورد الآية"( ).
ليشمل "الشخصيات الإسلامية التاريخية أو المعاصرة، بين من يحترمها ويعظّمها، وبين من لا يحترمها ولا يعظّمها"( ).
تحت عنوان: (القاعدة القرآنية في أسلوب الدعوة إلى الله‏)، يقول: "وهذه قاعدة قرآنية إسلامية للسلوك في حركة الدعوة في الحياة، وهي القاعدة التي تريد إبعاد الجوّ العملي للدعاة عن أساليب السباب والشتائم، في ما يخوضون فيه من صراع الفكر والفكر المضاد، سواء في ما يختلفون فيه من تقييمٍ للمبادئ وللمواقف، أو في ما يتنازعون فيه من تقييم لرموز أو أشخاص، فلم ترد لهم أن يتحدثوا بهذه اللغة، لأنّ ذلك يجرّ إلى ردود فعل تضع الموقف في نطاق المهاترات، وتبعده عن أجواء الحوار الهادئ الموضوعيّ الذي يوحي للفكر بالتأمل، وللقلب بالانفتاح، وللمشاعر بالصفاء، وينتهي الأمر بهم إلى الفراغ والضياع"( ).
ينبِّه السيّد المفسّر إلى أن الآية تحدثت عن هذه القاعدة "من خلال نموذج حيٍّ، مما كان يبتلى به المسلمون الأولون، عندما تتعقد في داخلهم الأزمات النفسية، في ما كانوا يواجهونه من حقد المشركين وعداوتهم وطغيانهم، فيجدون السبيل الوحيد للتنفيس أن يسبّوهم ويشتموهم، كتعبير عن الرفض لكلّ ما يعبدون وما يشركون بالله، وربّما أدّى ذلك إلى أن يخلق في داخل المشركين لوناً من ألوان الإثارة التي توحي بردّ فعل عنيف، يحاول أن يتحدّى السابّ بأقدس ما لديه، فلا يوجّهون الشتائم إليه شخصياً، بل يوجّهون الشتائم إلى ما يقدّسه في عقيدته ودينه، مما لا طاقة للمؤمن على احتماله، فيتحوّل إلى صدمة قاسية تّهز كيانه، وتستدرجه إلى الهزيمة والإحباط، فيشعر المشركون بأنّهم قد استطاعوا أن يثأروا لأنفسهم، وينتقموا لكيانهم"( ).
وانطلاقاً من قوله: {فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}(الأنعام:108)، يؤكّد "أنّ القضية ليست في كون المشركين وآلهتهم يستحقون السبّ أو لا يستحقونه، لندخل في نزاع وجدال حول ذلك، بل القضية هي أنّ على الإنسان عندما يقوم بعمل ما، أن يحدّد هدفه من خلاله في ما يتحرك فيه من أهداف تتعلق بمصلحته الذاتية أو العقيدية أو الحياتية بشكل عام. فذلك هو ما يحقّق للإنسان مصداقيته الإنسانية، ومعناه الحقيقي. ولا يجوز للإنسان الذي يحترم نفسه ومصيره، أن يخضع لحالة انفعاليّة طارئة، فتكون تصرفاته ردّ فعل عصبيّاً لتلك الحالة"( ).
"وهذا ما جاء في بعض كلمات الإمام عليّ (ع)، في ما كتبه لعبد الله بن عباس: "فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذّة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل أو إحياء حقّ"( ).
"وعلى هذا، فإنّ السبّ الذي يستتبع مثل هذه النتيجة السيئة، لن يشارك في إحياء الحقّ وإطفاء الباطل، بل يمثل مجرد حالة ذاتية من بلوغ لذّة أو شفاء غيظ، فلا يجوز للمسلم أن يبادر إلى ذلك، لأنّه يسي‏ء إلى الهدف، في ما يثيره من سلبيات ضد قضية الإيمان، وفي ما يحققه من إيجابيات لقضايا الكفر"( ).
إثارة الفتن المذهبية
وتحت عنوان: من وحي الآية، يتجاوز المورد والسياق، وفق قاعدة (المورد لا يخصص الوارد)، ويستوحي المبدأ العام لكلّ مورد يحقق الموضوع، بقوله: "وإذا كانت الآية قد تعرضت لموضوع سبّ المشركين وآلهتهم، فإنّنا نستوحي منها المبدأ الذي يدعو إلى الكفّ عن أيّ نوع من أنواع السباب الذي يؤدّي إلى ردود فعل سلبيّة، في أيّ موقع من مواقع الصراع الفكري والديني والسياسي والاجتماعي، للحيثيات نفسها التي تفرض النهي في مورد الآية"( ).
"وفي ضوء ذلك، نحبُّ التأكيد على ما قد يحدث عند الخلافات الدائرة بين المسلمين حول تقييم بعض الشخصيات الإسلامية التاريخية أو المعاصرة، بين من يحترمها ويعظّمها، وبين من لا يحترمها ولا يعظمها، فقد نجد الخلاف يحمل في طريقة ممارسته بعض ألوان السبّ لهذه الجهة أو تلك، على أساس وجود حيثية في هذه الجهة أو تلك، ما يوجب مزيداً من العداوة والبغضاء والتمزّق والعصبية العمياء التي قد تؤدّي بالحياة الإسلامية إلى الضياع، كما قد يفرض على الساحة الإسلامية وضعاً منحرفاً يعيش المسلمون معه أجواء المهاترات والكلمات غير المسؤولة"( ).
ويستشهد المفسّر بما جاء في نهج البلاغة، في ما يروى عن الإمام عليّ (ع)، أنّه سمع قوماً من أهل العراق يسبّون أهل الشام، عندما كان يخوض المعركة في صفين ضدّ معاوية، فوقف فيهم خطيباً قائلاً:
"إنّي أكرهُ لكم أَنْ تكونوا سبّابينَ، ولكنّكم لو وصفتم أعمالَهُمْ، وذكرتم حالَهُمْ، لكان أصوبَ في القول، وأبلغَ في العُذْر، وقلتم مكانَ سبّكم إيّاهم: اللَّهمَّ احِقنْ دماءنا ودماءَهم، وأَصلِحْ ذات بينِنَا وبينِهِمْ، واهدِهِم منْ ضلالتِهِمْ، حتى يعرفَ الحقّ من جهله، ويرعويَ عن الغيّ والعدوانِ من لهِجَ به"( ).
وفي سياق تفسيره للآية، وما استوحاه منها من مبدأ عام، ليشمل حتى العلاقة بين المذاهب الإسلامية التي يؤمن أصحابها بقدسية رجالها وأعمالها: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}(الأنعام:108)، يقول: "إنّنا نريد للمسلمين أن يرتفعوا إلى هذا المستوى الذي يعيشون من خلاله روحية الإسلام، وانفتاحه ورحمته، ومسؤوليته وواقعية أحكامه في الحياة، ليتمكنوا، في ذلك، من الوصول إلى النتائج الإيجابية الكبيرة على مستوى الوحدة، وعلى مستوى سلامة المصير، وسلامة الدين"( ).

2- مبدأ حرمة ما كان ضرره أكبر من نفعه
في تفسيره لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسَرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثْمُهُمَا أكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}(البقرة: 219).
تحت عنوان: (الآية في مستوى القاعدة الفقهية)، يرى السيّد المفسّر أنّنا "قد نستطيع استيحاء هذه الفقرة {وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما}، لتكون قاعدةً فقهيةً تقتضي تحريم كلّ ما كان ضرره أكبر من نفعه، حتى لو لم يرد فيه نصّ، باعتبار أنّ القضية قد تكون عقليةً يحكم العقل بها، ويدرك وجود الملاك الشرعي للتحريم في مواردها، لقبح ارتكاب ما يكون ضرره أكثر من نفعه، لأنّه ظلم للنفس على مستوى الحالة الفردية، وقد يكون ظلماً للمجتمع بما يحدثه من الأضرار الاجتماعية، كما أنّها عقلائية من خلال السيرة العقلائية الجارية في أمورهم العامة على الخاصة، على ترك ما كان ضرره أكثر من نفعه"( ).
"فإذا كان ما يحكم به العقل يحكم به الشرع، وإذا كانت السيرة العقلائية محترمةً لدى الشارع في القضايا العامة التي لا تخضع للتعبد من خلال الخصوصيات الخفية التي لا يدركها الناس، بل تخضع للمصالح والمفاسد المعروفة لديهم، وإذا كانت الآية قد أكّدت المسألة، بحيث يمكن القول بأنّها تؤكّد حكم العقل، وتمضي سيرة العقلاء وبناءهم، فإنّ النتيجة لا بدَّ من أن تكون في مستوى القاعدة، لا في مستوى الحكم الخاص"( ).
وقد يطرح في المقام إشكال التفريق بين علة الحكم وحكمته، على أساس أنّ فقرة: {وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما} واردة في الآية على نحو الحكمة لا على نحو العلة، والحكم يدور مدار علته وجوداً وعدماً، سعةً وضيقاً، ولا يدور مدار حكمته.
 فيردّ عليه بأنّ "الحكمة النوعية تمثل علّةً للتشريع العام، على أساس تحقيق المصالح الكبرى للإنسان، وإبعاد المفاسد النوعية المهمّة عن الواقع، بحيث تنعدم المصالح أو المفاسد الصغيرة أمام ذلك"( ).
حرمة التدخين
وبموجب تلك القاعدة، يرى السيّد المفسّر أنّنا "يمكن الحكم بتحريم التدخين الذي ثبت علمياً، أنّ ضرره أكثر من نفعه، بل ربّما يكون مما لا نفع فيه، وقد يتحدث الأطباء الاختصاصيون بأنّه، في المسألة النوعية، يؤدّي إلى التهلكة، لعلاقته بالسرطان أو ببعض أمراض الرئة ونحوها، بالدرجة التي يغلب فيها الموت"( ).
ويرى كذلك أنّه "يمكن الحكم بتحريم المخدرات، كالأفيون والحشيشة والهيروين ونحوها، مما ثبت علمياً وحسياً أنها تدمّر حياة الإنسان، لأنّها تقود إلى الإدمان الذي يتحول فيه الإنسان في أغلب الحالات إلى إنسان مشلول الفكر والحركة والإنتاج، وقد نجد أنّ أضراره من الناحية النفسية والعملية والاجتماعية أكبر من أضرار الخمر بكثير".
"وهكذا نستطيع - بفضل هذه القاعدة - أن نحكم بتحريم الكثير من الأشياء والأفعال التي تشتمل على هذه الخصوصية التي قررها القرآن في هذه الآية"( ).
من هنا، أفتى السيّد المفسّر على الصعيد الفقهي بحرمة التدخين، لما فيه من أضرار بالغة على الصحة، وذلك بشهادات أهل الخبرة التي تفيد بشكل قاطع أنّ شرب الدخان مضرٌّ بصحة الإنسان ضرراً بالغاً، ما يوجب حرمته مطلقاً.
فتوى التحريم
"يحرم التدخين ابتداءً وبقاءً، لأنّه لا يجوز للإنسان أن يضرّ بنفسه من خلال ذلك، وخصوصاً أنّ التدخين يعتبر من الأسباب الرئيسية لبعض أنواع السرطانات الرئوية".
وسئل عن التدخين فقال: "هناك قاعدة إسلامية تقول إنّ كلّ مضرّ للجسد ضرراً بالغاً، على مستوى الحاضر أو المستقبل أو الاحتمال المعقول، يؤدّي إلى الحرام، لأنّ الإضرار بالنفس حرام، ولا سيّما إذا أدّى إلى التهلكة، فكلّ ما كان ضرره أكبر من نفعه فهو حرام".
"وكما أصدرنا فتوى تحريم التدخين للمدخّن بما يتصل بإضراره بنفسه، فإنّنا عمَّمنا ذلك إلى إضراره بغيره، وهو ما يسمونه التدخين السلبي، ولذلك فإنّ المدخن يرتكب جريمتين؛ جريمة إضراره بنفسه، وجريمة إضرار غيره. ونقول لكلّ الناس: إنّ عليكم ألا تقتلوا أنفسكم لخدمة مزاجكم، بل إنّ عليكم أن تخدموا حياتكم بالامتناع عن كلّ العادات التي تقتل الحياة وتربكها".
وحينما سئل: أرجو منك ذكر الدليل الشرعي على حرمة التدخين؟
أجاب: دليل الحرمة ما يسببه التدخين من الأضرار البالغة بشهادة أهل الخبرة وإقرار العقلاء، وما كان ضرره أكثر من نفعه فهو محرم، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسَرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثْمُهُمَا أكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}(البقرة: 219)( ).
فتوى المراجع بحرمة التدخين لضرره البالغ
وقد حوّل بعض الفقهاء فتواه في تحريم التدخين من صيغة شرطية إلى ناجزة، كما حصل للمرجع الشيخ مكارم الشيرازي، فقد كانت فتواه السابقة: تدخين السجائر وسائر أنواع التدخين، إذا كان ينطوي على ضرر مهمّ بشهادة أهل الخبرة، حرام، فأصبحت: التدخين حرام لأنّه مضرّ ضرراً بالغاً.
وحينما سئل عن سبب تغييره لصيغة الفتوى، أجاب سماحته:
"لقد أوردت هذه الفتوى سابقاً مشروطة، وهي مذكورة في رسالة توضيح المسائل في حرمة التدخين (السجائر وما شابهه)، إن شهد أهل الاختصاص والخبرة بضرره. وبالالتفات إلى الشهادة الأخيرة التي قدمها طائفة من الأطباء من ذوي الاختصاص والملتزمين من أساتذة الجامعات، وبالنظر إلى الإحصاءات المرعبة التي وصلتنا، وهي تتحدث عن الوفيات الناشئة عن التدخين إلى جانب ما يؤدّي إليه من أمراض خطيرة، فقد أصبحت مخاطر التدخين من الحقائق المسلَّمة التي لا يمكن إنكارها، بل إنّ الضرر ليعمّ حتى أبناء المدخنين ومن يجالسهم. ومن هنا أفتينا بالحرمة المطلقة".
وأضاف سماحته: "وأسأل الله سبحانه أن يحفظ كافة مسلمي العالم، ولا سيما الشباب الأعزاء، الذين يذهبون ضحية هذه المصيبة الأليمة، من شرّ هذا الخطر العظيم، وأن يجدُّوا في مراقبة أنفسهم ويحذروا من أصدقائهم. سنشهد - إن شاء الله - اليوم الذي يطهر فيه مجتمعنا الإسلامي من هذا التلوث الخطير"( ).
نشير هنا بصورة إجمالية إلى أدلّة الفتوى بسبب كثرة طلبات الأخوة الفضلاء.
1-    صرحت الآية 195 من سورة البقرة قائلة: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ}، وقد كشفت التقارير الطبية، أنَّ عدد الوفيات الناشئة عن دخان السجائر، قد بلغ خمسة ملايين شخص سنوياً، أما الإحصاءات التي تحدثت عن الأمراض الخطيرة التي تصيب القلب وجهاز التنفس بسبب التدخين فكثيرة جداً. وعليه، فالتدخين مصداق لإلقاء النفس في التهلكة.
2-    قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) في الإسلام. فالذي يستفاد من مختلف الروايات، أنّ مناسبة القاعدة وإن كان الإضرار بالآخرين، إلا أنّنا نعلم أنّ شأن الورود لا يحدّد المفهوم العام للقاعدة، فهي تشمل الإضرار بالنفس أيضاً.
3-    جاء في الحديث المعروف في فقه الإمام الرضا(ع): "كلّ أمر يكون فيه الفساد مما قد نهى عنه... فحرام ضارّ للجسم وفساد للنفس". كما ورد شبيه هذا الحديث في تحف العقول.
وطبق هذه الروايات، يحرم كلّ شيء يضرّ بالبدن (طبعاً الأضرار الجزئية الكائنة في كلّ الأشياء ولا يمكن اجتنابها، هي خارجة عن هذه القاعدة، والمراد الأضرار الكلّية).
4-    اعتاد البعض أكل الطين، وهو ما عبَّرت عنه بعض الروايات الإسلامية بنوع من الوسواس، وقد ورد النهي عنه بشدّة، لأنّه يضرّ بالإنسان. حيث ورد في الرواية: "إنّ الطين يورث السقم في الجسد ويهيج الداء".
ومن هنا، ذكر المرحوم الشهيد الثاني زين الدين الجبعي في كتاب المسالك من جملة أدلّة التحريم: "بما فيه من الأضرار الظاهرة للبدن". وكلّ ذلك يدلُّ على أنّ حرمة الأشياء الضارة من المسلَّمات. حتى قيل بوجوب ترك الصوم إن كان فيه الضرر، كما يستبدل الغسل والوضوء بالتيمم إن كان فيه ضرر.
5-    لو أغضضنا النظر عن كلّ ما سبق، فطبق القاعدة الأصولية المسلمة: "كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع"، ليس هنالك من مجال للتردّد في مسألة حرمة التدخين في عصرنا الحاضر، بعد أن أثبت الأطباء وذوو الخبرة والاختصاص أضراره التي تصيب الجميع، وهذا ما دعا كافة المراجع للإفتاء بحرمة المخدرات.
آراء المختصّين بشأن أضرار التدخين
لما كانت وظيفة الفقيه هي تشخيص الحكم وتعيين الموضوع لأهل الخبرة، نترك الحديث لجمعية مكافحة التدخين التي تضم فريقاً من الأطباء من ذوي التجربة وأساتذة الجامعات وأهل الخبرة والاختصاص:
* التدخين هو العامل الرئيسي أو المساعد في ظهور أكثر من 50 نوعاً من الأمراض و20 نوعاً من السرطان.
* بلغت عدد الوفيات خمسة ملايين نسمة سنوياً بسبب التدخين، (يعني ما يفوق خسائر الحرب العالمية الأولى! حيث أودت تلك الحرب التي دامت عشر سنوات بحياة عشرة ملايين نسمة، أما ضحايا التدخين، فقد بلغ عشرين مليون في العالم خلال أربع سنوات).
* يبلغ عدد الوفيات عام 2002م ما يقارب عشرة ملايين شخص في السنة بسبب الأمراض الناشئة عن التدخين، مع الإشارة إلى أنّ سبعة ملايين منهم نصيب الدول النامية، وثلاثة ملايين في البلدان المتقدمة.
* بالنظر إلى ما تدرُّه صناعة الدخان من أرباح للشركات المنتجة المتعددة الجنسية، وخصوصاً الشركات الأمريكية، إلى جانب القيود الجدية التي تفرضها البلدان الغربية، وأمريكا بالذات، على العرض والاستهلاك بالنسبة إلى السّجائر، فإنّ ميزان الاستهلاك آخذ بالانخفاض في هذه البلدان، ومن هنا، فهي ترتكب مختلف الحيل والألاعيب، وبشكل رسمي وغير رسمي (التهريب)، لإيجاد أسواق استهلاكية في البلدان الفقيرة والنامية.
* يصل المبلغ الذي ينفقه الإيرانيون فقط كلّ يوم على السجائر إلى ما يربو على ثلاث مليارات تومان، أي ما يقارب عشرة ملايين مدخّن، (أي إنّ المبلغ المصروف سنوياً أكثر من ألف مليار تومان).
* عادةً ما تنفق الدول أكثر من ضعف مبلغ استهلاك السجائر لعلاج الأمراض والعوارض الناشئة عن التدخين، حيث يبلغ هذا المقدار في إيران ستة مليارات تومان يومياً (وأكثر من ألفي مليار تومان سنوياً).
* يدخَّن سنوياً في إيران 54 مليارد سيجارة، حيث يتمّ إنتاج 12 مليار منها محلّياً، والباقي عن طريق التهريب، (أي إنّ 70% من أموال السجائر تذهب إلى الخارج).
* هنالك استهداف للفتية وشباب البلاد ممن تتراوح أعمارهم بين العاشرة إلى الخامسة عشرة للتدخين والإدمان.
* التدخين عند الشباب نافذة على الإدمان وسائر الانحرافات الاجتماعية.
* يتعرض الأفراد غير المدخنين، ولا سيما أطفال المدخنين وأزواجهم للأضرار ذاتها التي تصيب المدخنين بفعل الدخان، حيث يجبر هؤلاء الأفراد على فقدان سلامتهم وصحتهم.
* تنتج الشركات الأمريكية سنوياً ما يقارب 6.000.000.000.000 سيجارة، يستهلك 3% منها في أمريكا، بينما يتجه 97% منها إلى سائر البلدان، ولا سيما البلدان الفقيرة والنامية. ومن هنا، تربح هذه الشركات الأمريكية سنوياً ما يربو على 300 مليار دولار عن هذا الطريق، أي ما يعادل عشرين سنة من المبيعات النّفطيّة لإيران.
فقهاء آخرون
سئل السيّد المرجع السيستاني: هل التدخين حرام؟
فأجاب: "يحرم التدخين إذا كان يلحق به ضرراً بليغاً ولو في المستقبل، سواء أكان الضرر البليغ معلوماً أم مظنوناً أم محتملاً بدرجة يصدق معه الخوف عند العقلاء، وأمّا مع الأمن من الضرر البليغ، ولو من جهة عدم الإكثار منه، فلا بأس به"( ).
وسئل سماحته: هل يجوز شرب السّجائر ابتداءً؟
الجواب: لا يجوز مع احتمال الضرر البليغ ولو في المستقبل، إذا كان الاحتمال قوياً موجباً للخوف عند العقلاء، ولا فرق بين الابتداء وغيره.
وسئل ثالثةً: هل التدخين حرام؟
الجواب: يحرم التدخين، إذا كان يلحق به ضرراً بليغاً ولو في المستقبل، سواء أكان الضرر البليغ معلوماً أم مظنوناً أم محتملاً بدرجة يصدق معه الخوف عند العقلاء، وأمّا مع الأمن من الضرر البليغ ولو من جهة عدم الإكثار منه، فلا بأس به.
وسئل: ما حكم التدخين قرب المؤمنين (في السيارة والبيت والعمل) إذا علم المدخّن بحصول الأذى عليهم وتضررهم وتضايقهم من تدخينه؟
فأجاب: يحرم التدخين في هذا الفرض.
وسئل: ما هو حكم الناركيلة؟ هل يجوز شربها وهل حكمها حكم السّجائر؟
الجواب: لا يجوز إذا احتمل الإضرار به ضرراً بليغاً ولو في المستقبل وكان الاحتمال قوياً موجباً للخوف لدی العقلاء.
3- مبدأ التركيز على اليهود
لماذا هذا التركيز في القرآن الكريم بالكلام على اليهود وبني إسرائيل، على نحوٍ لا نجده مع عموم أهل الكتاب؟ هذا السؤال طرحه تفسير (من وحي القرآن) في تفسيره لسورة البقرة، حيث العشرات من الآيات تتحدَّث عن اليهود وأساليبهم وطبيعة نفوسهم وقسوة قلوبهم.. ابتداءً من قوله تعالى: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}(البقرة: 40).
وقد ذكر الجواب أربعة أسباب أساسية لهذه الظاهرة، كما يراها المفسر:
الأوّل: اليهود القوة الدينية الكبرى المضادة
"إنّ اليهود كانوا يمثلون القوة الدينية الكبرى المتحركة التي وقفت ضدّ الإسلام منذ انطلق كقوّة في حياة الناس في المدينة. أما النصارى من أهل الكتاب، فلم يكن لهم دور كبير في مواجهة الإسلام من ناحية عملية، بل ربما كان لهم دور إيجابي في بداية عهد الدعوة، إذا لاحظنا هجرة المسلمين الأولين إلى الحبشة، واحتضان ملكها النجاشي المسيحي لهم ...".
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا ولَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى‏ ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ورُهْباناً وأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}(المائدة: 82).
الثاني: اعرف عدّوك (الحاضر والمستقبل)
"إنّ المستقبل الذي سيتحرك فيه الواقع اليهودي، يمثل الخطر السياسي والاجتماعي والأمني والثقافي على واقع المسلمين، من خلال أطماعهم في الأرض الإسلامية من جهة، وفي الثروات الإسلامية من جهة أخرى، لأنّ طريقتهم في التفكير والحركة سوف تؤدّي إلى الكثير من المشاكل الصعبة للعالم الإسلامي، الأمر الذي يفرض على المسلمين التفكير في عناصر الشخصية اليهودية الاستعلائية وخططها العدوانية". فلا بدّ من "تعرية هؤلاء اليهود، من خلال كشف الواقع العملي الذي يعيشون فيه، وذلك بفضح أساليبهم الملتوية، وتوضيح انحرافهم عن الخطّ الذي يدعون الناس إليه ويهملونه في سلوكهم العملي"( ).
الثالث: الحذر من التطبيع والموالاة
"التأكيد على المسلمين رفض موالاة اليهود بالمعنى الروحي والسياسي، واعتبار ذلك بمثابة ارتداد عملي عن الإسلام يوحي بتراخي الالتزام العقيدي الداخلي للمسلمين، بما من شأنه أن يؤسس لتمكين اليهود من إسقاطه في الواقع"( ).
وقد جاءت آية الارتداد: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ}(المائدة: 54)، في سياق التحذير من موالاة اليهود.
 الرابع: الحذر من الاتصاف بصفاتهم
تحذير المسلمين "من الاتصاف بصفاتهم، كما في قوله تعالى: {وإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وذِي الْقُرْبى‏ والْيَتامى‏ والْمَساكِينِ وقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ * وإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ ولا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}(البقرة: 83-84)"( ).
ومن صفات اليهود السلبية التي أكّد عليها القرآن، لنعرف عدوّنا اللدود جيداً، وننأى بأنفسنا عنها:
1-    نقض المواثيق والعهود: {أَو كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * ولَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}(البقرة: 100-101).
2-    إيقاد الحروب وإثارة الفتن: {كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ويَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً واللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(المائدة: 64).
{وَقَضَيْنا إلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً}(الإسراء: 4).
3-    الجبن والرعب والذلَّة والمسكنة: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أو مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}(الحشر: 13-14).
{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ}(آل عمران: 111-112)
والتعبير بالضرب تعبير له دلالاته وإيحاءاته، لما في الضرب من ثبات وإحكام وشمول!
4-    أساليب التضليل والتعتيم: {يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(آل عمران: 71).
{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وتَكْتُمُوا الْحَقَّ وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(البقرة: 42).
أسلوب اللبس هو التعبير القرآني عن التضليل الإعلامي وتزييف الحقائق، وأسلوب الكتمان هو التعبير عن التعتيم الإعلامي، وهما أسلوبان من أخطر أساليب الإعلام الصهيوني المعاصر وأبشعها.
تحت عنوان: (بنو إسرائيل والإفساد في الأرض‏) أكّد السيّد المفسّر أنّ القضاء الرباني الحاسم إلى بني إسرائيل في الإفساد: {وَقَضَيْنا إلى بَنِي إِسْرائِيلَ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}(الإسراء: 4)، يتحرك "من خلال الأسباب الطبيعية الموجودة في الواقع الزمني المقبل"، لعلمه تعالى بهؤلاء القوم وطبيعة نفوسهم المستكبرة، وما ستؤول إليه مسيرتهم في مستقبل حياتهم.
"{لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}، أي لتفسدنَّ حياة الناس بالكذب والنفاق والغشّ والخداع والظلم والكبرياء والبغي بغير الحقّ، على مستوى الاجتماع والاقتصاد والفكر والعقيدة والسياسة والسلوك... {ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً}، من خلال الشعور المعقّد بالتفوق على الناس، المرتكز على أسطورة شعب الله المختار التي تغذّي لديهم الشعور بالاستكبار والعلوّ الذاتي على الآخرين، الأمر الذي يؤسس لاستضعاف كلّ من عداهم، وإهدار كراماتهم، وتدمير أوضاعهم على جميع المستويات.
إنّها نبوءة المستقبل التي توحي إليهم بأنّهم سينحرفون عن تعاليم الكتاب، الذي يريد لهم أن يتخذوا مفاهيمه وشريعته قاعدةً لبناء الحياة على أسس ثابتة لا على أسس مهتزة، ومنهجاً لإصلاحها لا لإفسادها، ولكنّها شهوات اللحم والدم التي تبتعد بالناس عن خطّ التوازن في النظرة إلى الأشياء، ثم هناك انفعالات الفكرة الشوهاء التي تثير فيهم الغرور، وتدفعهم إلى العصبية، وتقودهم إلى العدوان.. وهكذا عاشوا لعنة المستقبل الذي سيصنعون شروره بأيديهم، وسيسقطون في هزائمه بتصرفاتهم، وسينتظرون أن تحلّ بهم اللعنة مرتين، لأنّ الفساد الأكبر سيتكّرر بهذا المستوى"( ).
ضرورة الحذر من دعوات التسامح
وفي ضوء آيات القرآن، يرى السيّد المفسّر أنّه "ينبغي لنا أن نواجه بحذر الدعوات المؤكّدة على التسامح في هذا المجال، في ما يرفع من شعارات التسامح الديني، ورفض التعصّب، وما إلى ذلك. فقد يكون المقصود من ذلك كلّه، تخفيف حالة التوتر الفكريّ والروحيّ والعمليّ الّتي يعيشها الإنسان المؤمن المسلم، للمحافظة على خطّ الثبات في مواقعه الإسلامية، وعدم إفساح المجال للاهتزاز والتزلزل أمام هجمات الأعداء، لأنّ الإنسان كلّما اقترب من حال الاسترخاء في مواقع التحدي، اقترب من الهزيمة أمام مخططات الأعداء".
ويرى ضرورة المحافظة "على نسبة عالية من درجات التوتر والالتزام بالخطّ، لئلا يستغلّ العدّو حالة الاسترخاء الّتي يعمل لإيجادها، فيهزمنا بالضربة القاضية".
ثم يستدرك قائلاً: "ولكن ليس معنى ذلك أنّنا نواجه الموقف بأساليب الانفعال المثيرة الّتي تملأ الجوّ بكلّ عناصر الإثارة، لتخلق حرباً هنا، وحرباً هناك، وتثير الفوضى والخلافات الطائفيّة الحاقدة في كلّ مكان، لأنّنا لا نجد في ذلك مصلحة للمسيرة الإسلامية، بل معنى كلّ ذلك، أنّنا نواجه الموقف بأساليب الوعي الّتي تتحرّك في الساحة بطريقة واقعيّة تتعامل مع المعطيات والظروف الموضوعيّة من موقع المحافظة على الوجود أمام الآخرين الّذين يعملون لتصفية هذا الوجود أو هزيمته"( ).
"وقد يفرض علينا الواقع أن ندخل مع هؤلاء في علاقات تجاريّة وسياسيّة وعلميّة، فلا نجد في ذلك أيّ حرج، في حدود المصلحة العليا للإسلام والمسلمين، لأنّ الإنسان قد يجد من الخير أن يتعامل مع عدوّه في حالات الهدنة، مع الاحتفاظ بالحيطة والحذر في مختلف الظروف والأوقات والمظاهر"( ).
قصيدة بالمناسبة
ينطلق تحذير السيّد المفسّر من تطبيع العلاقات مع اليهود الغاصبين، من كونهم العدوّ الألدّ للإسلام والمسلمين، تحت شعار: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}(الأنفال:61)!! مع أنّ العدوّ أبعد ما يكون عن الجنوح للسّلم، بل يزداد إمعاناً في العدوان وتحدّي المقدَّسات يوماً بعد يوم. وإذا كانت مسيرة التطبيع العلنيّة قد بدأت مع أحد الرؤساء العرب في السبعينات، فإنّ شاعرنا البصري أحمد مطر قد قرأ ذلك التداعي ببصيرته النافذة، وترجمه بأسلوبه الساخر، فكتب لافتةً من لافتاته بعنوان: (الثور والحظيرة):
الثور فرّ من حظيرة البقر
    الثور فَرّ
    فثارت العجولُ في الحظيرةْ
    تبكي فرار قائد المسيرةْ
    فَشُكَّلَتْ على الأثرْ
    محكمةٌ ومؤتمرْ
    فقال قائلٌ: قضاءٌ وقدرْ
    وقائلٌ: لقد كَفَرْ
    وقائلٌ: إلى سَقَرْ
    وبعضُهم قال: امنحوه فرصة أخيرة
    لعلّه يعودُ للحظيرةْ
    وفي ختام المؤتمرْ
    تقاسموا مِربطَهُ وجمّدوا شعيَرهْ
    وبعدَ عام وَقَعَتْ حادثةٌ مثيرةْ
    لم يرجَعِ الثّورُ ولكِنْ …
    ذهبت وراءَه الحظيرة!!
وكتب لافتةً أخرى لها المغزى ذاته، بعنوان: (صلاة الجماعة):
اسمعوني قبل أن تفتقدوني
    يا جماعةْ
    لستُ كذّاباً فما كان أبي حزباً
    ولا أمّي إذاعةْ
    كلُّ ما في الأمرِ
    أنّ العبدَ صلَّى مفرداً بالأمسِ في القدسِ،
    ولكنّ الجماعةْ
    سيصلّونَ جماعةْ!!
اليهود: الهزيمة النفسية والسيطرة الدولية!
يعقد تفسير (من وحي القرآن) بحثاً بعنوان: (بين ضرب الذلّة على اليهود وسيطرتهم على مقدّرات العالم‏)، في سياق تفسيره لآية سورة المائدة: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}(المائدة: 112)، يؤكّد فيه نقطتين مهمتين في سيطرة اليهود اليومَ على مقدرات العالم السياسية والمالية، وغلبتهم على العرب والمسلمين البالغ عددهم أكثر من مليار ونصف المليار، مع حقيقة الذلّ والهوان الذي يعيشونه في ذاتهم:
الأولى: تأثيرهم بشتى أساليب المكر في "مراكز القوى في مختلف أنحاء العالم، الأمر الذي أدّى إلى سيطرتهم على أرض فلسطين وتشريدهم أهلها منها، فإنّ ذلك كان من خلال المعادلات السياسية العالمية التي تمكّنوا من استغلالها واللعب على تناقضاتها بمختلف أساليب اللف والدوران، التي كانت تصل بهم إلى أهدافهم من مواقع إثارة حال الاضطهاد التي عانوها، ما جعل العالم الأوروبي يعيش عقدة الذنب تجاه مشكلتهم".
الثانية: "ضعف المسلمين وانسحابهم من الساحة، وتخاذلهم وابتعادهم عن القاعدة الفكرية التي تمنحهم قوّة الروح والموقف، ما جعل كلّ فئة تعيش مشاكلها الخاصة بعيداً عن مشاكل بقية المسلمين، وذلك من خلال الحدود والشخصيات المصطنعة التي وضعت لكلّ جماعة منهم، فلم يواجهوا المخططات اليهودية بوجه واحد قويّ، بل واجهوها بالأساليب المهزومة الضعيفة. وربما حاول الكثيرون منهم أن يشاركوا في دعم تلك المخططات لحساب القوى الاستعمارية الكافرة التي يرتبطون بها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً".
خلاصة الفكرة القرآنية، كما يراها المفسّر، هي: "أنّ اليهود شعب معقَّد معزول عن العالم، من خلال العقد التاريخية والجرائم الكثيرة التي قام بها تجاه الحياة في مقدساتها وقضاياها... فلا يمكن له أن يستقلَّ ويتقدَّم ويأخذ بأسباب العزّة من ناحية ذاتية، بل لا بدّ في ذلك من وجود ظروفٍ للآخرين تسهّل لهم مهمة القفز إلى المواقع التي تركها الآخرون، أو سهَّلوا لهم أمر السيطرة عليها"( ).
لقد عاش اليهود في مختلف العصور مع سائر الأمم "هاجس الخوف من الآخرين، ما جعلهم يعيشون العزلة، ويوحون لغيرهم - من خلال ذلك - باضطهادهم، نتيجة فقدان روح المقاومة التي تتحدّى الموت عندهم. وهكذا كانت القضية في التاريخ، ولكنّ ذلك لا يمنع من أن يملكوا بعض زمام القوّة في مراحل أخرى من الحاضر والمستقبل، لأنّ الظروف الموضوعية التي تحيط بحركة الحياة، ربما تفسح المجال للذليل أن يكون عزيزاً، وللضعيف أن يكون قويّاً، لا من جهة العزة والقوة الداخليّتين، بل من جهة ضعف الآخرين، ووقوفهم في مواقع الذلّة، وبذلك تمتد لهؤلاء الفرصة {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ} في ما تقدّره من ارتباط المسبّبات بأسبابها، {وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} في ما يهيّئونه لهم من وسائل القوّة الخارجية السياسية والعسكرية وغير ذلك"( ).
ومن الواضح تفسيره ضرب الذلة بأنّه ضرب تكوينيّ وليس تشريعياً، كما ذهب إليه بعض المفسرين، وذلك بحسب طبيعة نفوس اليهود المريضة، وما يمارسونه من جرائم بحقّ الإنسانية:
آل عمران: 112: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}.
البقرة 61: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ}.
المائدة 78: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ لِسانِ داوُدَ وعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ}.
4- مبدأ وحدة الأمّة في عمود الزمن
في سياق تفسيره لآيات من سورة البقرة (57-61) الَّتي تخاطب اليهود المتواجدين في عصر النبيّ (ص) ونزول القرآن، وكأنّهم هم المسؤولون عن مواقف أجدادهم قبل ألفي عام، ابتداءً من قوله تعالى: {وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ والسَّلْوى‏ كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وما ظَلَمُونا ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} إلى قوله: {وإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏ لَنْ نَصْبِرَ عَلى‏ طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وقِثَّائِها وفُومِها وعَدَسِها وبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى‏ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ}(البقرة: 61)، يلفت تفسير (من وحي القرآن) النظر إلى طبيعة الخطاب الذي يحمّل الجيل اليهودي المخاطب مواقف الجيل الذي كان في زمن موسى الكليم(ع).
تحت عنوان: (اليهود المعاصرون للنبيّ امتداد لمن سبقهم) يقول: "إنّ الله يخاطب بهذه الآيات اليهود الذين كانوا معاصرين للنبيّ محمّد (ص)، مع أنَّ هذه القضايا التي أثارتها الآيات حدثت مع القوم الذين كانوا معاصرين لموسى، فكيف يخاطب اللّه بها غير أصحابها؟! والجواب على ذلك: أنّ الجماعة التي عاصرت النبي محمّداً (ص) كانت امتداداً لتلك الجماعة في مفاهيمها وقناعاتها وتمردها وبغيها، لأنها مارست الأساليب التي مارسها أولئك مع موسى، من اللفّ والدوران وارتباك المواقف".
"وعلى ضوء هذا، نستفيد الفكرة التالية: أنّ كلَّ فئة من الفئات التي تكون امتداداً لتأريخ معيّن تتبناه وترضى به، تعتبر شريكةً للفئات التي مارست ذلك التاريخ. وعلى هذا الأساس، نستطيع أن نحاسب أيّة فئة في مجتمعنا مشدودةً إلى أيّ تاريخ انشداداً نفسياً أو فكريّاً أو عمليّاً، ونخاطبها تماماً بكلّ السلبيات المتحركة فيه، لأنّ الرّضا والانتماء يجعلانها في الموقف نفسه، وفي الاتجاه ذاته، ما يجعل الماضي قاعدةً للمستقبل في مركز الوحدة الفكرية والروحية للفكرة وللحركة"( ).
وهذه الوحدة في عمود الزمن، تكون حينما تتشابه القلوب والنفوس والأعمال، ويعيش الجيل اللاحق الرضا عن أعمال الجيل السابق، في السلب والإيجاب، أي في حال كفر السابقين وتمرّدهم، أو في حال إيمانهم واستسلامهم للحقّ والحقيقة.
إبراهيم(ع) من شيعة نوح(ع)
يعبّر القرآن تعبيراً له دلالته وإيحاءاته في العلاقة بين النبي إبراهيم الخليل والنبيّ نوح(ع)، وهو تعبير (الشيعة) بقوله: {وإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ * إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ * أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ}(الصافات: 83-87).
يستوحي تفسير (من وحي القرآن) هذا التعبير: {وإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ}، فيقول: "أي من شيعة نوح وأتباعه، بما يمثّله التوافق في الخطّ الرسالي الملتزم باللّه فكراً وعملاً، باعتبار أنّ كلّ من وافق غيره في طريقته فهو من شيعته، سواء تقدّم أو تأخّر. وقد يكون في هذا الحديث عن إبراهيم من بعد نوح، واعتباره شيعةً له، بعض الإيحاء بوحدة الخطوط العامة للرسولين وللرسالتين، وبالانفتاح على الحياة كلّها في الخطّ العملي"( ).
5- مبدأ وحدة الأمة أفقياً
إذا كان الرضا وتشابه القلوب والنفوس والسلوك يوحِّد الأجيال في عمود الزمن، فإنها كذلك توحّد الأمة في أفق الحاضر، لتصبح الأمة نسيجاً واحداً، يتحمل الأبرياء جرائم الظالمين فيما إذا رضوا أو سكتوا، ووقفوا متفرجين على ساحة الجريمة.
يستوحي السيّد المفسّر من قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها * فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وسُقْياها * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها * وَلا يَخافُ عُقْباها}(الشمس: 11- 15)، وحدة الأمة بالعقاب، بقوله: "وإذا كان بعضهم قد قام بالعقر، فإنّ البعض الآخر قد قام بالإعداد والتأييد والرضا، الأمر الذي جعل التبعة الاجتماعية مشتركةً بينهم، لأنّهم أعطوا الجريمة قوّتها وفعاليتها من خلال هذا الشمول في الموقف العملي المتحرك. وهذا ما تؤكّده هذه الآية التي اعتبرت العقر عملاً منسوباً إليهم جميعاً، وأكّدت شمولية الذنب لهم"( ).
وهذا ما أشار إليه الإمام عليّ (ع) لأول مرة في إحدى خطبه، ولذا قال السيّد: "وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ(ع) في قوله المرويّ عنه في نهج البلاغة":
"أيّها النّاس، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله، فإنّ النّاس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير، وجوعها طويل. أيّها النّاس، إنّما يجمع النّاس الرّضا والسّخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم اللّه بالعذاب لمّا عمّوه بالرّضا، فقال سبحانه: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ}، فما كان إلاّ أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السّكّة المحماة في الأرض الخوّارة . أيّها النّاس، من سلك الطّريق الواضح ورد الماء، ومن خالف وقع في التّيه"( ).
وقال: "الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كلّ داخل في باطل إثمان: إثم العمل به، وإثم الرّضى به"( ).
وقد اكتفى السيّد المفسّر بهاتين الحكمتين عن أمير المؤمنين(ع) من نهج البلاغة، ويمكن أن نتلمّس المزيد من حكمه(ع) الّتي توضح المبدأين معاً؛ مبدأ وحدة الأمة في عمود الزمن، ووحدة نسيجها في آفاق الحاضر، ودور الرضا والسخط في ذلك.
أَهَوَى أَخيكَ مَعَنَا؟
لما أظفره الله بأصحاب الجمل، وقَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: وَدِدْتُ أَنَّ أَخِي فُلاَناً كَانَ شَاهِدَنَا لِيَرَى مَا نَصَرَكَ اَللَّهُ بِهِ عَلَى أَعْدَائِكَ.
 فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ(ع): "أَهَوَى أَخِيكَ مَعَنَا؟".
فَقَالَ: نَعَمْ.
قَالَ(ع): "فَقَدْ شَهِدَنَا! وَلَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا أَقْوَامٌ فِي أَصْلاَبِ اَلرِّجَالِ وأَرْحَامِ اَلنِّسَاءِ، سَيَرْعَفُ بِهِمُ اَلزَّمَانُ، ويَقْوَى بِهِمُ الإيمان!!"( ).
يرعف بهم الزمان؛ أي يجود بهم ويخرجهم، كما يرعف أنفُ الإنسان بالدم، وفي الرعاف دلالة على الكثرة والفجأة.
وفي قوله(ع): "فقد شهِدنا"، أشار إلى مبدأ وحدة الأمة أفقياً، لأنَّ الرضا يحقق وحدة الموقف، وقوله: "ولقد شهِدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء" إشارة إلى وحدة الأمة في عمود الزمن.
لذا نقرأ في زيارة الحسين(ع): "فلعن الله أمّة قتلتك، ولعن الله أمّة ظلمتك، ولعن الله أمّة سمعت بذلك فرضيت به".( )
"فلعن الله من قتلك، ولعن الله من ظلمك، ولعن الله أمّةً سمعت بذلك فرضيت به. اللهم إنّي أشهدك أنّي وليّ لمن والاه، وعدوّ لمن عاداه".( )
ومن الواضح أن موقف البراءة هذا يجسد المبدأين معاً، الأفقي والعمودي، فإنّ الذي يسمع بقتل الحسين(ع)، سيّد شباب أهل الجنة، وريحانة النبي(ص)، وسبي أهل بيته، يكون من الشاهدين في كربلاء مع معسكر يزيد سنة 61 هجرية، وإنْ كان يعيش في واقعنا المعاصر عام 1431 هجرية!
6- مبدأ: الفتنة التي تعمّ
يؤكّد السيّد المفسّر هذا المبدأ في مناسبات عديدة، ففي تفسيره لقوله: {واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}(الأنفال:25)، يعقد بحثاً تحت عنوان: (تحذير للمسلمين من التساهل في أمر المنازعات الداخليّة)، يقول فيه: "إنّها الدّعوة لأن يواجه المؤمنون المشاكل الفردية والاجتماعية الناشئة من بعض الانحرافات الفكريّة والعمليّة التي تؤدّي إلى نتائج سلبية في حركة الحياة، وذلك بالتعامل معها من موقع المسؤولية العامة الواعية للقاعدة الاجتماعية التي تحكم مسيرة المجتمع في سلبيّاته وإيجابيّاته، فلا تقتصر في تأثيراته على الناس الذين يقومون بها، بل تمتد إلى كلّ أفراد المجتمع، لأنّ علاقات الناس ومصالحهم متشابكة. ولهذا، فإنّنا نجد الخلافات التي تحدث في دائرة ضيقة من دوائر المجتمع، لا تقتصر على تلك الدائرة، بل تتعداها إلى بقية الدوائر التي تتصل بها، أو تتأثر بها شعورياً أو فكرياً، ما قد يدخل في نطاق العدوى، أو التفاعل اللاشعوري، بحكم الترابط الوثيق بين أفراده"( ).
"ولهذا، كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الطابع الحركيّ للمجتمع الإسلامي، في ما يدفع إليه من تحمّل مسؤولية الآخرين في ما ينحرفون به، حتى في المجالات البعيدة عن واقع الآمرين والناهين، لأنّ القضية لا تخصّ الفاعلين المنحرفين، بل تمتد إلى بقية قطاعات المجتمع بطريقة وبأخرى، فلا يمكن لأفراده أن يواجهوه مواجهة اللامبالاة تحت شعار تقييد حرية الآخرين الفردية، لأنّ هناك نوعاً من أنواع حرية الأفراد قد يلغي حرية المجتمع كلّه. وهذا ما عبّرت عنه‏ الحكمة المأثورة: "لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهنّ عن المنكر، أو ليسلّطنّ الله شراركم على خياركم، فيدعو خياركم، فلا يستجاب لهم".
"وهذا ما أرادت هذه الفقرة من الآية أن تشير إليه، فتحذّر المؤمنين من الفتنة التي إذا انطلقت، فإنّها لا تصيب الذين أثاروها وأوقدوا نارها من هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الناس، بل تتعداهم إلى غيرهم، كنتيجة طبيعية لترابط القضايا والمشاكل الاجتماعية، ووحدة مصير أفراد المجتمع"( ).
وهناك العديد من الروايات التي تؤكّد هذا المبدأ، منها ما جاء في نهج البلاغة من وصية عليّ (ع)، وهو على فراش الشهادة: "لا تتركوا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم، ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم"( ).
ومن الواضح أنّ فاعل التولي هو الله عزّ وجلّ، وبذلك يكون التولّي بقرينة السياق ليس تشريعياً، بل هو تولي التكوين، بحسب منطق سنن التاريخ، فإنّ لترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تداعيات تكوينيّة سننيّة، منها أن يتولّى الظالم الجائر أمر الأمّة ليسومها سوء العذاب، يذبِّح أبناءها، ويستحيي نساءها، وفي ذلكم بلاء من ربّها عظيم.
أمَرنا مُترفيها!
وقد أوضح السيّد المفسّر حقيقة تداعيات مخالفة السنن الاجتماعية في سياق تفسيره لقوله تعالى: {وإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً}(الإسراء: 16)، على الاتجاه التكويني في تفسير الأمر الرباني بالفسق، الذي يراه أقرب سياقاً من التفسير التشريعي، ليكون المعنى: أمرنا مترفيها بالفسق ففسقوا، وإن كان يحتمل التفسير التشريعي، بمعنى: أمرنا مترفيها بالعدل والإحسان والصلاح والإصلاح فخالفوا وفسقوا.
يقول السيّد المفسّر: "ولعلَّ التفسير الثاني هو الأقرب إلى ظاهر الآية، كما نلاحظ ذلك في دراسة هذا التعبير من خلال التعبيرات المماثلة التي حذف فيها متعلّق الأمر للدلالة عليه بالفعل المسبوق بالفاء، الذي يوحي بانفعال الفاعل بتحقيق الأمر المتوجه إليه، بينما نجد التفسير الأوّل بعيداً عن الفهم العرفي، بالإضافة إلى إنّه لا وجه لاختصاص المترفين بتوجيه التكليف إليهم وعصيانهم له، والله العالم".
وينبّه إلى ما قد يُشكل على التفسير التكويني من أنّه يؤدّي إلى الجبر، وشلِّ الإرادة الإنسانية في ساحة الصراع وميدان المواجهة، بأنّ "المقصود به الأمر التكويني الذي يرادف الإرادة التكوينيّة التي تتعلق بأفعال العباد بشكل غير مباشر، وذلك بتهيئة الأسباب الواقعيّة التي لا يستطيع المترفون الفسق بدونها، من القوة البدنية والفكرية والمال والسلاح والجاه والشهوات، ولكنّ ذلك لا يجعل من الفسق أمراً حتمياً، لأنّ بإمكانهم أن يسخّروها في الطاعة والخير، وفق ما أراد الله لهم بالالتزام بالتشريع. فإذا استعملوها في طريق الفسق، كان الفعل مرتبطاً بالله من ناحية أنّه السبب الأعمق الذي ترتبط به الأعمال، وأنّه الذي ربط بين السبب والمسبب، غير أنّ الإنسان هو الذي يحرّك السّبب نحو المسبّب، فيكون هو العنصر المباشر الذي يتحمّل المسؤولية، لأنّ الله جعل له الحرية بين الفعل وعدمه. وهذا أسلوب قرآنيٌّ، أشرنا إليه في كلّ مورد أسند فيه الفعل الصادر من الإنسان مباشرةً إلى الله"( ).
7- مبدأ: القيمة بالإيمان لا بالعمران
وفي تفسيره لآية سورة التوبة: {أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ وجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ واللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(التوبة: 19)، يستوحي السيّد المفسّر مبدأً مهّماً في تقييم الناس ومدى عظمتهم وخدمتهم للرسالة والدين، وهو أنّ القيمة بالإيمان لا بالعمران، حتى نميِّز بين قيم العظمة الحقيقية في الشخصيّة، والقيم الشكليّة التي لا علاقة لها إلاّ بمظاهر الدين وطقوسه.
"فلا يمكن أن يساوى بين الإنسان الذي يعيش الأفق الضيق في الأعمال الجزئية المحدودة، وبين الإنسان الذي يعيش الأفق الواسع في أجواء الحياة كلّها. فكيف تساوون بين هذين النموذجين من الناس، أو تحاولون تفضيل الفريق الأوّل على الفريق الثاني؟! إنّه الظلم للحقيقة وللمجاهدين في سبيله"( ).
وإذا رجعنا إلى أسباب النـزول، لوجدنا أنّ التاريخ يعيد نفسه، وأنّ الآية كأنّها نزلت اليوم وفي واقعنا المعاصر، الذي أصبحت فيه الخدمات الشكليّة للأماكن المقدسة من القيم الكبرى، بغضّ النظر عن طبيعة هؤلاء القائمين عليها.
"وذكر المفسّرون أنّ هذه الآيات نزلت في عليِّ بن أبي طالب (ع) والعبّاس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة، وذلك أنّهم افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب البيت وبيدي مفتاحه، ولو أشاء بتّ فيه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، وقال عليّ (ع): ما أدري ما تقولان، لقد صلَّيت إلى القبلة ستّة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد"، "وقد تعددت الروايات في ذلك بأساليب مختلفة"( ).
 وقد أشار السيّد المفسّر أكثر من مرّة، إلى أنّ "أسباب النـزول تمثّل النماذج الحيّة للفكرة العامة التي تريد الآيات أن تثيرها في الناس من خلال حركة الواقع الذي عاشت الآية في أجوائه، ما يجعل للآية الامتداد في نطاق الفكرة العامة"( ).
إنّ الآية تعطي مبدأً يؤكّد القيمة الروحيّة الإنسانيّة، وعدم اعتبار الأعمال الاستعراضية أساساً للقيمة، حتى لا نغتر بالذين "يريدون تأكيد إيمانهم وروحيتهم من خلال القيام بأعمال عمرانيّة للمساجد أو للمؤسسات الخيرية أو توزيع الصدقات، ويحاولون من خلال ذلك أن يتخذوا لأنفسهم موقعاً متقدماً في الساحة الاجتماعيّة، وربما يعملون، أو يعمل أتباعهم، على تفضيلهم على العاملين في خط التغيير الفكري والاجتماعي والسياسي"( ).
"وقد نستوحي من هذا الخطّ القرآني، النهج العملي الذي يمنع الكثيرين من هؤلاء الاستعراضيين أن يخدعوا المجتمع عن واقعهم المزيّف بالمشاريع الخيرية البارزة، وذلك عندما يفهم المجتمع القرآني أنّ مثل هذه الأمور لا تمثّل قيمةً في نفسها إلا بمقدار ما تكشف عنه من روحٍ طيّبةٍ ونيّةٍ صالحة"( ).
عمارة المساجد مسؤولية المؤمنين
فلا يمكن للذين يعيشون الترف أن يعمروا مساجد الله تعالى: {إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ وأَقامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكاةَ ولَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ}(التوبة: 18)، لأنّ رسالة المسجد "ليست في هذه الأحجار الجامدة التي تمثّل سقفه وحيطانه، وليست في هذه الأشكال المزخرفة التي توحي بعظمة الفن وروعة الإبداع، بل هي في الإنسان الذي يعمر المسجد بالعبادة المنطلقة من الفكر الإيماني، والشعور الروحي، والممارسة الخيّرة، إذ يتحوّل المسجد إلى ساحةٍ للانطلاق الإنساني من أجل بناء الحياة على قواعد الحقّ والقوّة والعدل، من خلال ما يثيره من عمق الروحيّة الواقعية التي تصنع الإنسان المسؤول الفاعل، الذي يعطي الحياة من نفسه وطاقاته أكثر مما يأخذ منها، لأنّه لا يجد فيها الفرصة السانحة للعبث واللهو وممارسة الشهوات، بل يجد فيها الموقع المتقدّم الذي يمارس فيه مسؤوليته كعبادة خالصة بين يدي الله"( ).
حذار من مسجد ضرار
ولعلّ آية: {أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ وجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ}(التوبة: 19)، تلتقي مع آية مسجد ضرار في سورة التوبة ذاتها: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وكُفْراً وتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ ورَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ولَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى‏ واللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ}(التوبة: 107)، كونهما يؤكّدان ضرورة الوعي في تقييم الآخرين، وعدم الانخداع بما يتستّرون به من مقدَّسات، ومساهمتهم في بنائها وإعمارها، بعيداً عن روح الإيمان والإخلاص.
يقول السيّد المفسّر: "إنّ قيمة المسجد في الإسلام، في ما يمثّله بناؤه من قيمة روحية، لا تنطلق من الشكل من حيث هو جهد ماليّ وبدنيّ وعمرانيّ كبير، بل من المضمون من حيث الدوافع الخيّرة التي تدفع إليه، والأجواء التي تحيط به، والنتائج التي تتحقّق من خلاله، وذلك هو مقياس العمل الصالح. فليست القضيّة قضيّة حجم العمل وكميته، بل هي قضيّة روح العمل ونوعيته، فإنّ الله قد يتقبّل العمل القليل من عبده المؤمن، إذا كان منبعثاً من إخلاص قلبيّ وعبوديّة مخلصة، ويرفض العمل الكثير إذا كان أساسه الرياء والمباهاة والإضرار بالآخرين"( ).
"وهذا هو الذي ينبغي للمسلمين أن يستوحوه في تقييم الأشخاص والجماعات التي تقوم بأعمال خيريّة، من بناء المساجد والمدارس والمياتم ونحو ذلك، لتكون القيمة للشخصية من الداخل، لا للعمل من الخارج، لئلا يصعد إلى الدرجة العليا في المجتمعات الإسلامية، بعض الأشخاص الذين لا يعيشون طهر الفكرة التي تمثلها المؤسسات، فيستغلّون ذلك في سبيل الإساءة إلى الأهداف الكبرى للإسلام، باسم الجانب الشكلي من مؤسسات الإسلام، عندما يحصلون على ما يريدونه لأشخاصهم أو لارتباطاتهم المشبوهة أو الشرّيرة من خلال ذلك"( ).
8- مبدأ النقاط المشتركة في الحوار
من المجالات القرآنية الحيوية التي اهتمّ بها تفسير (من وحي القرآن) اهتماماً بالغاً، هو موضوع الحوار والجدال، حتى أفرد له كتاباً بعنوان: الحوار في القرآن، ذلك لأن السيد المفسر يرى أنّ مسألة الحوار مع الآخر المختلف عنا بدينه أو بمذهبه أو بآرائه، في المذهب الواحد، هي من أهمّ المسائل التي ينبغي تفعيلها في ساحتنا الإسلامية، والتي فقدت شروطها الموضوعيّة وأخلاقيتها الإسلامية، مع أنّ القرآن الكريم زاخر بالحوار وآدابه وضوابطه.
ينطلق السيّد المفسّر في الحوار مع الآخر من مبدأ النقاط المشتركة، والتي يعبّر عنها القرآن بكلمة السواء: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ}(آل عمران: 64)، وهي الكلمات المشتركة بين المتحاورين، حيث "يقف الجميع أمامها على قاعدة واحدة، من حيث طبيعة الفكرة التي ترتبط بالخطوط التي يلتزم بها الجميع"( ).
ولا يهمّ السيّد المفسّر ما ورد في شأن نزول الآية بأهل الكتاب الذين نزلت فيهم، سواء كانوا نصارى نجران أو يهود المدينة أو الفريقين معاً، وإنْ "كان هذا أولى لشموله لكلّ الذين يلتقي الإسلام معهم في القاعدة التوحيدية، من دون اختصاص بفريق دون فريق"، لأنّ الآية تعطي "للإنسان الداعية منهجاً للحوار والعمل في كلّ مواقفه العملية في الحياة"، فإنّ القرآن عندما يطرح أيّة قضية في أيّ مجال من مجالات الحوار مع الآخرين، سواء أكانوا من المشركين أم كانوا من أهل الكتاب، يطرحها من منطلق اللّقاء على قاعدة مشتركة"، "لنتمكّن من خلال ذلك من اكتشاف وجود لغة وقناعات مشتركة ومشاعر قريبة إلى بعضها البعض، ما يوحي بوجود أساس واقعي للتفاهم، لأنّ القضايا المسلّمة لدى كلّ فريق، يمكن أن تتدخل لتحسم الخلاف في القضايا المتنازع فيها، فهي تدعونا إلى {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}(آل عمران:64)، فنحن نؤمن بالوحدانية كما تؤمنون، وبذلك نلتقي معاً في نطاق عبادة اللّه الواحد، فلا نشرك في العقيدة، ولا نشرك في العبادة. وعلى ضوء ذلك، نلتقي على عدم اتخاذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللّه؛ لأنّ ذلك يعني الشرك باللّه في خلقه، فلا مجال لأن نحلّ ما حرَّمه اللّه علينا، أو نحرّم ما أحلّه الله لنا، إذا أمرنا هؤلاء بذلك، فإنّ ذلك يعني الخضوع والعبادة اللذين يؤدّيان إلى الشرك في نهاية المطاف".
"وهذا ما استوحاه أحد أئمة أهل البيت (ع) في هذه الفقرة، في ما يروى عنه في الجواب عن سؤالٍ قدّم إليه، وخلاصته: أنّ اليهود لا يتخذون بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، فكيف يطرح عليهم هذه الصيغة التي تشعر بوجود شي‏ء لديهم من هذا القبيل، فيريد اللّه أن يخلصهم منه ويفرض عليهم منهجه الحقّ؟
وكان الجواب يتلخَّص في التأكيد على هذا الجانب، فإنّهم أحلّوا لهم حراماً وحرّموا حلالاً، فاتبعوهم في ذلك، فكانت تلك ربوبية عملية"( ).
وهنا إشارة إلى ما رواه الكافي، بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله(ع) قال: قلت له: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ}(التوبة:31)، فقال: "أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً، فعبدوهم من حيث لا يشعرون".
"وهذا ما نواجهه، في ساحة العمل المنحرف، في التزامنا بما تصدره بعض المؤسسات أو الحكومات من قوانين تتنافى مع قوانين الإسلام ومفاهيمه، فإنّ ذلك يمثل إشراكاً في جانب العمل، وإن لم يكن إشراكاً في خط العقيدة"( ).
مواطن اللقاء
لم تكن دعوة {تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} تكتيكاً في استدراج الآخر والقبول به، ثم الانقضاض عليه وضربه في مواطن مقتله، كما يفعل بعض السياسيين اليوم، بل "إنّها الدعوة إلى مواطن اللقاء في الحوار والعمل‏، لأنّنا نؤمن بالكتاب كلّه، فلا نفرِّق بين كتاب وكتاب، باعتبار أنّه كلمة اللّه، ولا بين رسول ورسول، لأنّ الجميع رسل الله"، وشعارنا: لا نفرق بين أحد من رسله، وإن تفاضل الرسل فيما بينهم فيما يعرف بتكامل ما بعد العصمة، فلا توجد من منظور قرآني أديان سماوية، بل رسالات سماوية يصدق بعضها بعضاً، ويشهد بعضها على بعض.
ولهذا، فإنّ مبدأ {تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ} مبدأ قرآني رسالي، يعترف بالآخر وبخصوصياته، ولا بدّ من البحث أولاً على ما نتفق عليه من مبادئ ومنطلقات، ونؤجّل الأمور التفصيلية الخلافية، فإنّ الشيطان -كما يقال - يكمن في التفاصيل، "لتكون قاعدة اللقاء على الأرض الفكرية العقيدية المشتركة التي نلتزمها معاً، على أساس وحدة المبدأ، من دون الدخول في التفاصيل التي تثير النزاع في الجزئيات هنا وهناك. وإذا شئتم المبدأ العام في اللقاء، فإنّه قد يحدث جوّاً نفسياً إيجابياً ملائماً، يفسح المجال للانفتاح على الآخر من موقع الإيحاء بأنّ هناك فرصةً للقاء في ما يختلف فيه، على أساس واقعية اللقاء من خلال ما اتفق عليه، ليكون الحوار من مواقع اللقاء أقرب إلى حلّ المشكلة الفكرية والعملية من الانطلاق من مواقع الاختلاف"( ).
الأسلوب والممارسة المعاصرة    
تحت هذا العنوان، يؤكّد السيّد المفسّر على المتصدّين الإسلاميين أنْ "يتلّمسوا بأيديهم وأفكارهم المجالات المشتركة في العقيدة والأسلوب والحياة، التي تربط المسلم بالآخرين وتربطهم به، لتقرّبهم إليه، ولتوحيَ لهم بأنّ هناك مرحلة من الطريق يمكن أن تمثّل وحدة السبل في المرحلة الأولى أو الثانية، فإنّ ذلك كفيل بإلغاء الكثير من التعقيدات، وتجميد الكثير من الحساسيات، وتقريب الكثير من الأفكار.. حتى إذا انتهى الأمر إلى نقطة الافتراق، كانت الطريق ممهّدةً أمام الطرفين للوصول إليها كمقدّمة للسير عليها من موقع القناعات المشتركة التي تصنع الأرض المشتركة"( ).
ولهذا، فإنّ "من الضروري أن يتحرّك العاملون في هذا الاتجاه، على أساس صنع شخصيتهم الإسلامية، بحيث تلتقي المواقف لديهم من خلال الطَّابع الذي يميّز شخصيتهم، لا كحالة طارئة يمكن أن تأتيَ وتزول من دون قاعدة ثابتة. فيتحرّك المسلم في هذا الجوّ ويمارسه مع اختلاف الأديان الموجودة في الساحة الدينية، واختلاف المذاهب التي تعيش في الساحة الإسلامية، واختلاف المبادئ والأفكار السياسية والاجتماعية والفلسفية في الساحة الفكرية العامة، ليصل إلى النتائج الحاسمة بأفضل طريق وأروع أسلوب"( ).
الحوار بين المذاهب الإسلامية
ويضرب مثلاً بالخلافات في الساحة الإسلامية، "كما في الخلافات بين السنّة والشيعة، فقد لا يكون من الحكمة أن نبادر إلى طرح قضايا الاختلاف بينهما في بداية الحوار، سواء ما يتعلّق منها بتفاصيل العقيدة، أو بموضوع الخلافة، أو بمفردات الشريعة، بل علينا أن نعمل على طرح موارد الوفاق، لأنّنا إذا اتَّبعنا الأسلوب الأول، فإنّنا نوحي إلى الطرف الآخر بأنّ الموقف هو موقف صراع، يبحث فيه كلّ طرف عن أدواته التي يحارب بها الطرف الآخر، أو عن الكلمات والمواقف التي يحاول أن يسجّل من خلالها نقطةً على حساب الفريق الثاني، فتكون الرّوح التي تحكم الساحة هي روح المعركة الحادّة"( ).
الجدال بالتي هي أحسن
في تفسيره لآية الجدال في سورة العنكبوت: {وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(العنكبوت: 46)، يتحدّث السيّد المفسّر عن أخلاقية الجدال الذي هو أصعب من الحوار، لما فيه من مغالبة المتحاورين، ويلتفت إلى ملحظ لغوي في معنى مفردة الجدال لا نجده في كلمة الحوار، فإنّ "أصل الجدال من جدلت الحبل، أي أحكمت فتله، فكأنّ المتجادلين يفتل كلّ واحد الآخر عن رأيه"، ومحاولة إقناعه بفكرته في جوٍّ عادةً ما يكون محموماً، فلا بدَّ هنا من توفير الدرجة القصوى من ضبط النفس، ومراعاة مشاعر الآخر، وتجنّب أيّ لون من ألوان الاستفزاز والاستخفاف، لتوفير أجواء "الحوار العقلاني الهادئ‏ القائم على النظرة الموضوعية للمضمون الفكري الذي تمثّله العقيدة، في ما يسمعه أو يتحدث به".
 وهنا يؤكّد السيّد المفسّر أيضاً على كلمة السواء ونقاط الاشتراك، وتحري "سبيل الحوار الذي يبحث في البداية عن مواطن اللقاء معهم، ليبدأوا بعد ذلك الحديث في الخلافات، من هذا الموقع، بروحية الوحدة، والرغبة في اللقاء على أرض مشتركة في نهاية المطاف"( ).
فلا بدّ من تلمّس "الكلمة الحلوة الهادئة المعبّرة الواضحة، والأسلوب الحكيم الذي يرصد المشاعر والأحاسيس ليحترمها، ويدرس الذهنيّة لدى الطرف الآخر للحوار، ليتعامل معها من خلال نقاط الضعف والقوّة، والجوّ الملائم الذي يدرس الظروف المحيطة بالمسألة، ليحشد فيه كلّ ما يمكن أن يثير التفكير، ويبعد الانفعال، ويقرّب من الاقتناع الهادئ العميق، لتكون المسألة فكراً يصارع فكراً، في أجواء الرغبة في الوصول إلى الحقيقة التي تسمح بالتراجع عن الخطأ، وتقود للانفتاح على الصواب، بعيداً عن مسألة تأكيد الذات، كما هو الحال عند مجتمعات التخلّف التي تفهم الخلاف في الرأي، قضيّة ذات تصارع ذاتاً، ما يجعل الانفعال هو طابع الحوار"( ).
"فهذا هو الأسلوب الأحسن الذي يقود الآخرين إلى احترام فكر الإسلام، ويقرّبهم من أجواء الوصول إلى النتائج الإيجابية السليمة، ويحوّل الأعداء إلى أصدقاء. أمّا الأسلوب الذي هو الأسوأ، فإنّ الإسلام يرفضه مع كلّ الناس، لأنّه يعقّد الأمور بدلاً من أن يحلّ مشاكلها، وذلك مثل السباب والاتهامات الظالمة، والافتراءات الباطلة، والكلمات الخشنة، والأساليب المتشنّجة، والأجواء الانفعالية، والتأكيد على مواطن الخلاف بدلاً من مواطن اللقاء، وغير ذلك مما يثير التعقيد والتشنج والارتباك على أكثر من صعيد، ويحوّل الساحة إلى ساحة قتال بدلاً من ساحة سلام".
هذا كلّه يكون مع أهل الكتاب، من اليهود والنصارى "الذين يريدون الحوار ويتفهمونه، دون الذين يريدون أن يفرضوا إرادتهم على الناس بالقوّة، ويمنعوهم من التحرك بحرّية في إبداء وجهة نظرهم في مجالات الفكر، فهؤلاء لا بدّ من التعامل معهم بطريقتهم إذا لم يرجعوا إلى الأسلوب الفكري الذي يريد أن يصل إلى نتيجة فكرية من خلال الحوار، وهؤلاء هم الذين استثناهم اللّه بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}(العنكبوت:46)، فقد يكون من الأفضل استعمال أسلوب المواجهة معهم، بالقوّة التي تواجه قوّة، وبالعنف الذي يضغط على العنف"( ).
قاعدة: الشكّ في طريق اليقين
وفي تفسيره لآية: {وَإِنَّا أو إِيَّاكُمْ لَعَلى‏ هُدىً أو فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(سبأ: 24)، وهو خطاب النبيّ (ص) مع المشركين، يلاحظ السيّد المفسّر أنَّ "النبي - كما علّمه الله - لم يعط في أسلوبه هذا لنفسه صفة الهدى، ولم يدمغ خصمه بصفة الضلال، مع إيمانه العميق بأنّ المسألة في واقعها الأصيل لا تبتعد عن ذلك، ليترك الحوار يأخذ مجراه دون تعقيد، وصولاً إلى النتيجة الحاسمة من موقع الحرية الفكرية المنطلقة مع الحوار في الخطّ الصحيح"( ).
إنّه "الأسلوب الإنساني الرائع في تحريك أجواء الحوار في خطّ الحياد الفكري، حيث يطلق المحاور المؤمن الفكرة في دائرة الاحتمال الذي يساوي بين فرضية الخطأ والصواب، أو الهدى والضلال، ليتقدم إلى الآخرين بروحية الباحث عن الحقّ في نطاق الفكرة، فيطرح المسألة في ساحة الشكّ، كما لو كان يعيش الاهتزاز الإيمانيّ، باحثاً عن الكلمات التي توضح له موقع الخطأ من موقع الصواب الذي يلتزمه، أو يلتزمه الآخرون"( ).
"وفي ضوء ذلك، نفهم أنّ حركة الحوار في الإسلام، ترتكز على أساس القاعدة العلمية التي ترى في الشكّ طريقاً إلى اليقين، وترفض القناعات القائمة على أساس إهمال الحوار، وإغفال الفكر والإصرار على العناد، ما يجعل من الحوار الفكري حركةً إيجابيةً في الجواب عن علامات الاستفهام المنفتحة على كلّ آفاق الحرية في المعرفة، بما يثيره العقل من قضايا ومشاكل وآراء"( ).
ويرى أنّ هذه الآية تؤكّد القاعدة الفكريّة الحواريّة التي تستند إلى قاعدة "الشكّ في طريق اليقين" وأنّ "الأسلوب العملي السليم هو الذي يعتمد على تفريغ الموقف من الأفكار المسبقة التي تحوّل الموقف إلى عقدة تفرض نفسها على كلّ مواطن الحوار، وتشكّل حاجزاً يمنع الأطراف من الشعور بحريّة الحركة في ما يقبلون ويرفضون، ويتمثّل ذلك في اعتبار الشكّ في الفكرة موقفاً مشتركاً بين الطرفين، يوحي لكلّ منهما بضرورة إعادة النظر في القضية، ومحاولة مواجهتها من جديد كما لو لم يواجهها من قبل، فليس هناك حكم سابق من أيّ من الطرفين على الخصم بالهدى أو بالضلال، بل هو الموقف المشترك الذي يريد أن يصل إلى الحقيقة من خلال الحوار الإيجابي القائم على الوعي والشعور العميق بالحاجة إلى الوقوف مع خطّ الإيمان بالنتائج أيّا كانت".
"وقد تكون قيمة هذا الأسلوب، أنه يجرد الموقف من أيّة حساسيات إيحائية في النظرة إلى الذات، وإلى الآخرين، حيث يترك الفكرة بعيدةً عن الالتزامات المؤيِّدة في جانب صاحبها، أو المضادَّة في الجانب الآخر، خلافاً للطريقة المعروفة في الأسلوب المطروح علمياً للحوار، الذي يقول: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، بينما الطرح القرآني البديل الذي يبلغ القمة في إنسانية الطرح وحياديته، يرفع شعار "رأيي ورأي غيري يحتمل الخطأ والصواب في درجة واحدة"( ).
وقد التفت إلى سياق الآية من قبل بعض أعلام التفسير، كالعلامة الطباطبائي، وأعطى الدرس ذاته في توفير أخلاقية الجدال مع الآخر، مع اليقين بصحة ما أنا عليه وخطأ ما عليه الآخر.
يقول صاحب تفسير الميزان: "قوله: {وَإِنَّا أو إِيَّاكُمْ لَعَلى‏ هُدىً أو فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، تتمة قول النبي(ص)، وهذا القول، بعد إلقاء الحجة القاطعة ووضوح الحقّ في مسألة الألوهية، مبني على سلوك طريق الإنصاف، ومفاده، أنّ كلّ قول إما هدى أو ضلال لا ثالث لهما نفياً وإثباتاً، ونحن وأنتم على قولين مختلفين لا يجتمعان، فإما أن نكون نحن على هدى وأنتم في ضلال، وإما أن تكونوا أنتم على هدى ونحن في ضلال، فانظروا بعين الإنصاف إلى ما ألقي إليكم من الحُجّة، وميزوا المهدي من الضال، والمحق من المبطل"( ).
كما يلتفت إلى اختلاف التعبيرين (الإجرام) و(العمل) في قوله تعالى: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(سبأ:25)، بقوله: "في التعبير عن عمل أنفسهم بالإجرام، وفي ناحية المشركين بقوله: "تَعْمَلُونَ"، ولم يقل تجرمون، أخذ بحسن الأدب في المناظرة"( ).
وقد أشار إلى هذا الأسلوب الحواري الرائع الذي يعطي أدب الحوار وأخلاقية الجدال، المفسرون عبر قرون:
قال الشيخ الطوسي في القرن الخامس الهجري: "وقيل: إنما قال: {وَإِنَّا أو إِيَّاكُمْ} على وجه الإنصاف في الحجاج دون الشكّ، كما يقول القائل لغيره: أحدنا كاذب، وإنْ كان هو عالماً بالكاذب"( ).
وتبعه الطبرسي، بقوله: "وهذا من كلام المنصف الّذي كلّ من سمعه قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك"( ).
ورأى بعضهم أنّ "الإبهام إنصاف مع الخصم، وتلطّف به مُسْكِتٌ له، وهو أبلغ من التصريح بمن هو على هدى ومن هو في ضلال".
"وفي قوله تعالى: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فيه زيادة إنصاف، إذ أسند الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى الخصم"( ).
ورآه آخر أنّه "أبلغ من التّصريح، لأنّه في صورة الإنصاف المسكت للخصم المشاغب"، وكذا في الآية: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، لأنّه "أدخل في الإنصاف وأبلغ في الإخبات، حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم، والعمل إلى المخاطبين"( ).
وعدّه مفسر معاصر "أحد أفضل أساليب المناظرة والبحث، بأن يضع الطرف الآخر في حالة من التفكّر التفاعلي، وما يتوهّمه البعض أنّ ذلك نوع من التقيّة، فهو منتهى الاشتباه"( ).
استيحاء الدروس الحاضرة والمصاديق المعاصرة
كثيراً ما عقد تفسير (من وحي القرآن)، بعد تفسيره لآية أو مجموعة من الآيات، وقفات بعنوان (استيحاء ودروس)، يذكر فيه عدداً من الدروس المستوحاة في واقعنا المعاصر، النظرية والعملية، من أجل جعل الآيات متحركةً في حياة العاملين والدعاة إلى الله، الذين يخوضون الصراع مع شياطين الإنس والجن.
وتتنوع هذه الدروس في ساحات الصراع المتنوعة، وميادين الدفع والتدافع المختلفة، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والحركية والتاريخية، في عملية تفعيل للآيات يجعلها متجسدةً على الأرض، تهدي العاملين، وترسم معالم الطريق للكادحين المجاهدين، الذين لا يكلُّون ولا يكدُّون.
كما تدعوهم إلى تلمس النماذج المعاصرة من النماذج التاريخية التي تطرحها الآيات المباركة، لأنّها نماذج مكرورة، فإنّ القرآن يجري على آخرنا كما جرى على أولنا، ويسري في الباقين كما سرى في الماضين.
وحتى تتضح الفكرة، لا بدّ من ذكر بعض موارد هذه الوقفات في استيحاء الدروس، من خلال الفهم الواعي الحركي للآيات المباركات:
في تفسيره لقوله تعالى: {فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ واللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ومَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}(النساء: 88)، يستوحي بعض الملامح العامة لمواقفنا العملية في ساحة الدعوة إلى الله، وكان الدرس الأوّل، هو الحذر من السذاجة البريئة في الموقف من المنافقين، فلا بدَّ من أن "يتعمّق العاملون في دراسة النماذج البشرية الموجودة في الساحة من الفئات المنافقة، ولا يستسلموا للأجواء الحميمة وتقديم التنازلات، لمجرّد أنّ هناك هدفاً لهداية الناس ينبغي للمسلم أن يستهدفه، بل لا بدَّ من دراسة تاريخ هؤلاء في سلوكهم العملي، والتعرف إلى حركتهم في الحاضر، لنعرف - من خلال ذلك - ما هي الفرص التي قدّمت إليهم في هذا السبيل، وما هي الظروف التي منعت من إقبالهم على انتهازها، وما هي الإمكانات الحاضرة والمستقبلة التي يمكننا من خلالها خلق ظروف جديدة لهدايتهم؟"( ).
ومن قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ والرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ واتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الْوَكِيلُ}(آل عمران: 172-173)، يستوحي درساً في أجواء الانكسار والهزيمة التي قد تصيب المسلمين في ساحة الصراع، "فلا تصرعهم الهزيمة، بل تزيدهم قوةً واستعداداً للحصول على النصر من خلال اختزان دروس الهزيمة في داخلهم، وتحويلها إلى تجربة رائدة في خطّ السير، ليتابعوا الطريق ويستشعروا بالقوة المتجددة بقدر ما يتجدد الإيمان في نفوسهم".
"وبذلك تتحول هذه القصة إلى درس نتعلمه في مواقفنا، عندما نقود معركتنا في صراعنا مع الكفر والظلم والاستعمار، فيحاول الأعداء أن يستغلّوا الأوضاع الشاذة في مجتمعاتنا ليثيروا فينا مشاعر الخوف من خلالها. فإنّ المؤمن ينظر بنور اللّه، فيدرس الواقع، لا على أساس حدوده الضيّقة، بل على أساس المعطيات المستقبلية التي يمكن أن يقدّمها للمستقبل، في ما يوحي به من عملية حشد القوة في الداخل والخارج من خلال الارتباط باللّه، فإنّ الحياة بيد اللّه، فلا يملك أحد أن يسلب الحياة ممن يريد اللّه له ذلك. وهذا هو سرّ القوّة النفسية التي يواجه بها المؤمن الحرب النفسية التي يشنها الأعداء ضدّه، فيتزايد لديه الشعور بأنّه يقف على أرض صلبة، وأنَّ رأسه مرفوع إلى السماء في اتجاه النور المتحرك في آفاق الله"( ).
 ويستوحي من الآيات التي تتحدث عن اليهود في عصر الرسالة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ويَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ وما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ}(آل عمران: 21-22)، ضرورة تلمس النماذج الحيّة والمصاديق المعاصرة لهؤلاء القوم:
"منهم اليهود الذين اغتصبوا أرض المسلمين وشرَّدوا أهلها، وعاثوا في الأرض فساداً، وما زالوا يقتلون الذي يأمر بالعدل وينهى عن الظلم..
 ومنهم الحاكمون الذين ينتسبون إلى الإسلام بالاسم، ولكنّهم يحملون مبادئ وشعارات غير إسلامية، فيحكمون الناس بغير ما أنزله الله طغياناً وظلماً، ويقتلون الدعاة إلى الله من دون أيّ أساس للعدل، وإذا قيل لهم اتقوا الله، أخذتهم العزّة بالإثم.
 ومنهم الفئات التي تملك بعض وسائل القوة التي تمكّنها من فرض السيطرة على منطقة معينة، وتتحرك من موقع شعارات كافرة لا تتصل بالإسلام من قريب أو من بعيد، فتحاول أن تعتديَ على العاملين للإسلام..".
ولهذا يرى السيد المفسر، أنّه "ينبغي للمؤمن أن يتلمّس في النماذج الواقعية الموجودة على الساحة السياسية والاجتماعية والدينية، الأفق الواسع للآية في حركة الحياة، فلا تبقى مجرّد حدث يعيش في التاريخ، بل تكون، كما هو القرآن في آياته، حدثاً متجدداً يمتدّ مع الحياة في المستقبل كما عاش في الماضي. وبذلك يظلّ الوحي مشيراً بيده إلى الإنسان في عملية تجدّد وانطلاق"( ).
التفسير وفقه الحياة
لقد حرص السيّد المفسّر أن يكون تفسيره مواكباً لحاجات العصر ومتطلباته، ناظراً إلى مشاكله وإشكالاته، معالجاً لقضاياه، ممتداً مع آفاقه الرحبة ومجالاته، متطلعاً إلى مقاصده وأهدافه، حاملاً هموم القرآن ومسؤولياته، متلمساً نماذجه الحية ومصاديقه المعاصرة، مستلهماً دروس آياته، مستوحياً معاني كلماته ودلالاتها.
لذا كان يسعى أن يحقّق كتابه (من وحي القرآن) "بعضاً من حركية التفسير في واقعنا المعاصر، الذي تحتاج الدعوة الإسلامية فيه إلى أن تحرك القرآن في حياتها، في كلّ مجالاتها العملية في الطريق وفي الهدف".
وبهذا الصدد يقول المؤلف: "وقد حاولنا في هذه الدروس التفسيريّة أن نستوحيَ القرآن في مفاهيمه الأصلية الحيّة، لنجعل حياتنا تتحرك في إطاره في ما نواجهه من قضايا ومشاكل وأوضاع جديدة، وذلك من خلال استيحاء المعاني القرآنية في الجانب الأعمق والأوسع للفكرة"( ).
الموطن الأول: العلماء الملعونون
في تفسيره لقوله: {لَولا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ والْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ}(المائدة:63)، يتساءل المفسر: "ما قيمة الربانية في داخل الإنسان إذا لم تتحوّل إلى ممارسة عمليّة ضاغطة، ضدّ كلّ الّذين يعملون بعيداً عن الله؟! وما دور العلم الّذي يحمله صاحبه إذا لم يتحرّك في خطّ التوعية الفكرية والعملية الّتي ترفع مستوى النّاس وتقربهم إلى الله وتبعدهم عن خطّ الشيطان في الضلال والفساد؟!".
ويتساءل أيضاً: "هل هذه قصة اليهود في ملامحهم الذاتية في التاريخ، أو هي قصة كلّ هؤلاء المنحرفين عن خطّ الله، الّذين يتلونون في كلّ يوم بألف لون انطلاقاً من مطامعهم وشهواتهم، ويسارعون في الإثم والعدوان في كلّ عصر وكلّ مكان، ويأكلون الحرام بمختلف الأساليب والحجج القانونيّة الّتي يلعبون فيها على الشرائع والقوانين، ويتعقّدون من النّاس الّذين يؤمنون بالله وبرسالاته، وينقمون عليهم هذا الإيمان لأنّه يكشف خداعهم وزيفهم وفسقهم وفجورهم؟"( ).
وهو يرى أنّ هذه الآيات تمتد إلى "جميع العلماء الّذين يملكون العلم الّذي يمكن له أن يفتح عقول النّاس على الحقّ، ويتحرك ليواجه تحديات الباطل وانحرافات الواقع، ولكنّهم يتقاعسون عن ذلك، ويتثاقلون خوفاً على بعض دنياهم، أو رغبةً في الحصول على بعض دنيا المنحرفين الّذين قد يملكون المال أو الجاه أو السلطة، أو حبّاً بالراحة الّتي يبتعدون بها عن التعب والجهد الّذي يثقل حياتهم ويرهق أوضاعهم، فإنّ مسؤوليّة الساكتين عن الحقّ كمسؤوليّة الناطقين بالباطل، لأنّ النتيجة معهما سواء، في إفساح المجال للضلال في زيادة النموّ والامتداد في الحياة العامّة والخاصة"( ).
ثم يذكر بعض الأحاديث المأثورة التي تحذّر العلماء من مخاطر الموقف المتفرج في ميدان الدفع والتدافع في ساحة الصراع، كالحديث النبوي الشريف: "إذا ظهرت البدع في أمتي، فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله"( ).
وعن الإمام عليّ(ع)، قوله: "فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم، إلّا لتركهم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. فلعن الله السّفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك التّناهي"( ).
ولعلَّ هذا إشارة - كما يرى السيّد - إلى قوله تعالى: {لُعِنَ الّذِينَ كفَرُوا مِن بَني إِسرائيلَ عَلى لِسانِ دَاوُدَ وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِك بِمَا عَصوا وكانُوا يَعْتَدُونَ * كانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مّنكرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْس مَا كانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلّوْنَ الّذِينَ كفَرُوا لَبِئْس مَا قَدّمَت لَهُمْ أَنفُسهُمْ أَن سخِط الله عَلَيْهِمْ وفي الْعَذَابِ هُمْ خَلِدُونَ}(المائدة: 78-80).
الموطن الثّاني: النماذج المعاصرة
في تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ الله عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وعَلى‏ سَمْعِهِمْ وعَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ولَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ}(البقرة: 6-7)، يعقد بحثاً بعنوان: (الآيتان في حركة الواقع المعاصر)، انطلاقاً من اعتقاده "أنّ واقع الكفر والانحراف اليوم، لا يختلف عن الواقع بالأمس من حيث طبيعة النماذج العامة لجماعات الكفر"( ).
النموذج الأوّل هو الذي "يعيش حالة القلق النفسي، والتطلّع الروحي للمعرفة التي تدفعه إلى الموقف الثابت المطمئن في قضية الكفر والإيمان، لكنّ الأخطاء الفكرية، والانحرافات العقيدية، تحوّل الكفر إلى قناعة ذاتية تحت عنوان "العلم" أو "العقل"، أو نحو ذلك، في غفلة عن العناصر الأخرى في فكر الإيمان، التي يمكن أن تفتح للعقل آفاقاً جديدة تطلّ على معرفة الله، وهؤلاء هم الكافرون الغافلون الذين يطّلعون على مواقع المعرفة من زاوية واحدة".
والنموذج الثاني "يعيش حالة العناد والمكابرة والإصرار على الانحراف، انطلاقاً من التركيب الداخلي الذي يحكم وجوده، فهو يواجه الحياة بعقلية المصالح والأطماع والشهوات الذاتية، بحيث تكون هي التي تحدد له خطوط سيره الملتوية أو المستقيمة، بعيداً عن مسؤوليته تجاه ربّه ونفسه وحياته".
والنموذج الثالث "يخضع أفكاره لمزاجه ولعاطفته، فيحدّد طريقه على أساس ما يدفعه إليه مزاجه، أو توحي به عاطفته من قضايا الحياة، وعلى ضوء ذلك، يحكم على قضايا الكفر والإيمان، من دون أن يسمح بالمناقشة فيها مباشرةً، ما يجعله ينظر إليها فرعاً من أصل، لا أصلاً لفرع كما هو الواقع.
وهذا النموذج يتمثل في الفئات التي تنطلق في حركتها من خلال القضايا السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الشهوانية.. فتتبنى المواقف العقائدية التي تكمن وراء التيارات التي تدفع الحياة في اتجاه معالجة هذه القضايا العامة والخاصة".
وفي هذا الاتجاه، يرى السيّد المفّسر أنّه "لا بدَّ للإنسان المسلم من دراسة المجتمعات التي تحيط به دراسةً واعية، يحدّد فيها نوعية الأفراد الذين يعيشون فيها في إطار ما حدّدناه من نماذج، ليتخذ الموقف القرآني الذي يعتبر الحوار جهداً ضائعاً مع الفئات التي تنطلق من موقف العناد في مواقعها الفكرية والعملية، أو الفئات التي ليست مستعدةً لفتح حوار مباشر في قضايا العقيدة من خلال الفكر، بل من خلال قضايا الحياة. وبذلك، يفتش عن وسيلة أخرى يحطم فيها الحاجز النفسي الذي وضعوه بينهم وبين الإيمان، لينفذ بعد ذلك من جديد إلى قضية الحوار، بعد إزالة كلّ الحواجز التي تقف بين الإنسان والتفكير"( ).
الموطن الثّالث: اليهود، التاريخ في خطى الحاضر
وفي الآيات التي تستعرض طبيعة بني إسرائيل، من قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أو أَشَدُّ قَسْوَةً...} إلى قوله سبحانه: {وقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً...}(البقرة: 79-80)، يعقد (من وحي القرآن) بحثاً بعنوان (التاريخ في خطى الحاضر)، يرى أنّ علينا التطلع في مسارنا العملي إلى "النماذج الحيّة المتمثّلة في واقعنا المعاصر، ممن يقفون ضدّ المؤمنين والمصلحين الذين يدعون الناس إلى السير في الحياة على الخطّ المستقيم، وضدّ الشعوب التي تطالب بالعدل والحقّ والحرية، فيضطهدونهم ويواجهونهم بالقتل والتشريد والسجن والتعذيب، لا لشي‏ء إلا لأنّهم يخافون على امتيازاتهم وأطماعهم واستغلالهم من الدعوات الإصلاحية والثورية، سواء في ذلك الفئات الحاكمة الطاغية التي تقف في مراكز الحكم، أو الفئات المترفة التي تملك زمام الثروة في المجتمع، فتمنعها عن الطبقات المحرومة الضعيفة، أو الفئات الكافرة الضالّة التي تملك قوّة النفوذ والسلاح".
ويؤكّد المفسّر "أننا نستطيع أن نجد في كلّ أساليبهم وتصرفاتهم هذه الصورة التي يقدمها القرآن لبني إسرائيل، وبهذا لا يعود التاريخ الإسرائيلي الذي قصَّه علينا القرآن مجرّد مرحلة من مراحل الماضي، بل يتحول - في وعينا - إلى صورة حيّة للإنسان القاسي الموجود في كلّ زمان ومكان".
"أمّا سبيلنا إلى استحضار هذه الصورة في وعي الناس، فهو التركيز على طبيعة السلوك الإسرائيلي في المرحلة التي تحدث عنها القرآن، ودراسة الخصائص الذاتية والعملية في شخصية أولئك الناس، ثم البدء في عملية مقارنة مع النماذج المعاصرة المشابهة لها في طبيعتها وخصائصها وتصرفاتها، لتتعمق الصورة القرآنية من خلال الخطوط العامة، لا من خلال الحالة الخاصة، لئلا نقع في ما يقع فيه الكثيرون ممن يلعنون التاريخ في نماذجه الشريرة، ثم يباركون النماذج نفسها التي تأخذ في الحاضر صورة أشخاص ذلك التاريخ، انطلاقاً من الاستغراق في الشخص، بعيداً عن العوامل الذاتية التي تثير فينا الشعور معه أو ضدّه".
"إنّها قصة الوعي القرآني المتحرك الذي يجعل الآية تتحرك في مدى الزمن في صورها الحيّة، وتطلعاتها الواسعة، وخطواتها التي تطبع الخير والرحمة والبركة في كلّ مكان وزمان"( ).
وفي تفسيره لقوله تعالى: {وإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏ لَنْ نَصْبِرَ عَلى‏ طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وقِثَّائِها وفُومِها وعَدَسِها وبَصَلِها...}(البقرة: 61)، وغيرها من الآيات التي تخاطب اليهود المعاصرين للنبي(ص) بأمور ارتكبها القوم المعاصرون لموسى(ع)، فكيف نفسّر ذلك؟
يقول المفسّر: "إنّ الجماعة التي عاصرت النبيّ محمّداً (ص) كانت امتداداً لتلك الجماعة في مفاهيمها وقناعاتها وتمردها وبغيها، لأنها مارست الأساليب التي مارسها أولئك مع موسى من اللفّ والدوران وارتباك المواقف".
"وعلى ضوء هذا، نستفيد الفكرة التالية: إنّ كلّ فئة من الفئات التي تكون امتداداً لتاريخ معيّن تتبنَّاه وترضى به، تعتبر شريكةً للفئات التي مارست ذلك في التاريخ. وعلى هذا الأساس، نستطيع أن نحاسب أيّة فئة في مجتمعنا مشدودة إلى أيّ تاريخ انشداداً نفسيّاً أو فكريّاً أو عمليّاً، ونخاطبها تماماً بكلّ السلبيات المتحركة فيه، لأنّ الرّضا والانتماء يجعلانها في الموقف نفسه وفي الاتجاه ذاته، ما يجعل الماضي قاعدةً للمستقبل في مركز الوحدة الفكرية والروحية للفكرة وللحركة"( ).
وهكذا نرى تفسير (من وحي القرآن) يسعى إلى تلمس المصاديق الحيّة الحاضرة المعاصرة لما يطرحه القرآن من نماذج نجدها في كلّ زمان ومكان، ويحذِّرنا من أن نكون من الذين يلعنون النماذج الشريرة في الماضي، ويباركون للسائرين على نهجها والمتصفين بصفاتها في الحاضر!!
فإنّ الرضا والسخط يجمعان الناس مهما اختلفت أماكنهم وابتعدت أجيالهم: "أيّها النّاس، إنّما يجمع النّاس الرّضا والسّخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم الله بالعذاب لمّا عمّوه بالرّضا، فقال سبحانه: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ}(الشعراء:157)"( ).
وجاء في نهج البلاغة كذلك: "لما أظفره الله بأصحاب الجمل، وقَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: وَدِدْتُ أَنَّ أَخِي فُلاَناً كَانَ شَاهِدَنَا لِيَرَى مَا نَصَرَكَ الله بِهِ عَلَى أَعْدَائِكَ.
فَقَالَ لَهُ(ع): أَهَوَى أَخِيكَ مَعَنَا؟
 فَقَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَقَدْ شَهِدَنَا! ولَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا أَقْوَامٌ فِي أَصْلاَبِ اَلرِّجَالِ وأَرْحَامِ اَلنِّسَاءِ سَيَرْعَفُ بِهِمُ اَلزَّمَانُ ويَقْوَى بِهِمُ الإيمان!!"( ).
إنّ قوله(ع): "فقد شَهِدَنا" يمثّل امتداد المشاركة الأفقيّة في المكان، بينما يمثّل قوله: "ولقد شهدنا في عسكرنا"، وحدة الأمة في عمود الزمن.
الموطن الرّابع: تلمس النماذج الواقعية
في سياق قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ الله ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ويَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ}(آل عمران: 21)، يدعو السيّد المفسّر إلى ضرورة جريان هذه الآية وما تطرحه من نماذج في واقعنا المعاصر، بقوله: "ينبغي للمؤمن أن يتلمّس في النماذج الواقعية الموجودة على الساحة السياسية والاجتماعية والدينية، الأفق الواسع للآية في حركة الحياة، فلا تبقى مجرّد حدث يعيش في التاريخ، بل تكون، كما هو القرآن في آياته، حدثاً متجدداً يمتد مع الحياة في المستقبل، كما عاش في الماضي. وبذلك يظلّ الوحي مشيراً بيده إلى الإنسان في عملية تجدد وانطلاق، ويبقى لنا أن نحتفظ بمشاعرنا المضادة لهؤلاء الذين يصنعون مأساة الناس الذين يأمرون بالقسط في الحاضر والمستقبل، لنستطيع من خلال ذلك أن نمنع وقوع المأساة بالمزيد من الضغوط التي نملك إمكاناتها العاطفية والواقعية"( ).
والآية الآنفة وإن تحدثت عن يهود الماضي، بيد أنّنا نرى يهود الحاضر يجسدون مضمونها بممارسة قتل الأبرياء واغتصاب الأراضي، بل إنّ الآية تشمل حتى النماذج في أوساط المسلمين، "ومنهم الحاكمون الذين ينتسبون إلى الإسلام بالاسم، ولكنّهم يحملون مبادئ وشعارات غير إسلامية، فيحكمون الناس بغير ما أنزله الله طغياناً وظلماً، ويقتلون الدعاة إلى الله من دون أيّ أساس للعدل، وإذا قيل لهم اتقوا الله أخذتهم العزة بالإثم. ومنهم الفئات التي تملك بعض وسائل القوة التي تمكّنها من فرض السيطرة على منطقة معينة، وتتحرك من موقع شعارات كافرة لا تتصل بالإسلام من قريب أو من بعيد، فتحاول أن تعتديَ على العاملين للإسلام"( ).
الموطن الخامس: رصد أساليب التشكيك المماثلة في واقعنا
{وقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ واكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(آل عمران: 72)، في سياق هذه الآية، جاء العنوان: (الآية في حركة الدعوة إلى الله‏)، ليستوحيَ منها ضرورة "التحرك الواعي من أجل رصد النماذج المماثلة في الساحة الدينيّة والاجتماعية والسياسية، فقد يحاول الكثيرون أن يخلقوا الارتباك والتشويش والبلبلة في صفوف المسلمين بالأساليب المماثلة لهذا الأسلوب، فلا بدّ لنا من الوقوف أمام ذلك كلّه بالمنطق القرآني الذي يبعث الثقة في نفوس المؤمنين، ويوجههم إلى الاعتماد على الله في ذلك كلّه، ويوحي إليهم بأنّ هذه الأساليب لا تضرّ أحداً إذا كان على بيّنة من أمره، ويدفعنا إلى التأكيد على أسلوب التوعية للمسلمين في عقائدهم ومفاهيمهم لئلا يضلّوا من حيث لا يعلمون"( ).
يرى السيّد المفسّر أنّ ما جاء في أسباب النـزول، من تواطؤ عدد من أحبار اليهود هو "الأقرب إلى جو الآية"، بقول بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمّد أوّل النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا به في آخر النهار، وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمّداً ليس بذلك، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك، شكّ أصحابه في دينهم، وقالوا: إنّهم أهل كتاب وهم أعلم به منّا، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.( )
"وهذا أسلوب جديد من أساليب التضليل والتشكيك التي كان بعض أهل الكتاب يمارسونها ضدّ الإسلام والمسلمين، فقد طلبوا من بعض جماعتهم أن يدخلوا في الإسلام في أوّل النهار، ليحرزوا الثقة لدى المسلمين بذلك، لأنّه يدلّ على عدم التعصّب لليهودية، بل يوحي بالحياد الفكري الذي يجعل الإنسان مستعداً للانتماء إلى غير دينه وفكره من موقع الحجّة والقناعة...
فإذا حصلوا على هذه الثقة وأحرزوها، وضمنوا لأنفسهم امتداداً روحيّاً وجوّاً حميماً في علاقتهم بالمسلمين، قاموا بتغيير الموقف في آخر النهار، فرجعوا إلى ما كانوا عليه من رفضٍ للإسلام، للإيحاء للمسلمين بأنّهم اطّلعوا على عقيدة الإسلام من خلال دخولهم فيه، فظهر لهم - بحسب دعواهم - ما فيه من نقائص ومفاسد وقضايا باطلة، لم يكونوا مدركين لها من قبل، ولهذا كفروا به بعد أن آمنوا به، لأنّهم طلاب حقّ وصدق، ولولا ذلك، لما انحازوا إلى خطّ المؤمنين في البداية، ليدفع ذلك المؤمنين إلى التراجع عن الإسلام، أو يدعوهم إلى الشكّ فيه على أبعد التقادير"( ).
الموطن السّادس: رصد النماذج المماثلة
في سياق تفسيره لقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ ولا يُحِبُّونَكُم‏...}(آل عمران: 118-119)، ينبّهنا إلى ضرورة التفريق بين نموذجين من الناس في الطرف الآخر؛ الأشخاص الذين يعيشون الخلاف الفكري والعملي كمبدأ، والأشخاص الذين يعيشونه كعقدة، لنتابع مواقفهم ومواقعهم في الساحة العامّة على المستوى الاجتماعي والسياسي والفكري، لئلا نقع تحت تأثير "الأوضاع العاطفية"، لنثق بالآخر من موقع السذاجة، في الوقت الذي لا ينفكّ عن حبك المؤامرات وتحين الفرص للانقضاض علينا وإسقاطنا.
ويرى السيّد المفسّر أنّ المسلمين قد عاشوا "في تاريخهم الماضي وفي تاريخهم المعاصر، كثيراً من الحالات العاطفية التي تحوّلت إلى نكسات وهزائم اجتماعية وسياسية، لأنهم خضعوا للأجواء السطحية، فانقادوا في خطوات المجاملة، وتخلّوا عن كثير من مواقعهم، انطلاقاً من المحافظة على علاقات مشبوهة وصداقات كاذبة. فأساؤوا بذلك إلى أنفسهم وإلى الإسلام بشكل عام.. كما واجهنا ذلك في الركض وراء حملة الشعارات الغائمة التي يثيرها البعض تحت ستار وحدة الأديان، أو وحدة الإنسانية، أو الوحدة الوطنية والقومية، وربما الإسلامية، من أجل أن يحققوا من خلال ذلك لأنفسهم ولمخططاتهم الفرص الكثيرة التي تتيح لهم القفز على المواقع، لأنهم يملكون في هذه الساحة قوّةً لا يملكها أهل الحقّ، ولأنهم يرسمون هنا خطّةً خفيّةً لا يعرف أسرارها الطيبون من المسلمين، فينفّذون لهم ما يريدون باسم الوحدة، مما لا يتيسر لهم الحصول عليه بدون ذلك"( ).
ويعتقد السيّد أنَّ الخطط الماكرة لا تزال تتقدّم "في كثيرٍ من المظاهر التي تخفي في داخلها الكثير من سياسة اللفّ والدوران واللعب على الحبال الكثيرة المطروحة في الساحة في حقل الدين والسياسة والاجتماع".
قد يرى البعض أنَّ هذا الكلام ليس له علاقة بالتفسير، فيما يعتقد السيّد المفسّر أنّ هذا "ما يجب أن نستوحيه من الآيات، لننطلق من خلالها إلى الأفق الرحب للعلاقات الإنسانية في الحياة، فلا نتجمد معها في نماذجها الخاصة، بل نعتبر الموضوع مجرد نموذج يفتح الطريق إلى مواجهة الواقع - من خلالها - في كلّ نموذج مماثل يحمل الخصائص والسمات نفسها، لينطلق المسلمون من نقطة الانفتاح الواعي الذي يستوعب كلّ التجارب، ويرصد كلّ النماذج، ليأخذوا منها الفكرة القائدة الرائدة التي تقود الحياة إلى الله على خطّ الرسالة والإسلام"( ).
فلا بد من "وعي راصد بعيد عن السّذاجة"، لنحذر من "الاستسلام للثقة الساذجة بالفئات الأخرى التي تكيد للإسلام والمسلمين، وتحمل في داخلها الحقد والعداوة من موقع العقدة الحاقدة، وذلك بالكشف عن الخصائص الذاتية لهؤلاء في مواقفهم السلبية ضد الإسلام وأتباعه. والظّاهر أنّ المراد بهم اليهود، فهم يعملون على الإضرار بالمسلمين، ويجتهدون في إثارة كلّ عوامل الفساد والنقصان التي تحجب عنهم الرؤية الواضحة للأشياء، ويتمنون لهم التعب والمشقة في مواجهة قضايا الحياة، وتتفجر صدورهم بالحقد الكبير الذي يتجه نحو التدمير، وتنطلق ألسنتهم بكلمات البغضاء والعداوة التي يوجهونها للمسلمين عندما يتحدثون عنهم... ولا بدّ للمسلمين من أن يعوا ذلك كلّه، في حركة وعي عميق راصد للواقع، بعيد عن السذاجة في تقييمه للأشخاص والأشياء، فلا يفوته شي‏ء من‏ الملاحظة، ولا يغيب عنه صفة من الصفات السلبية فيمن حوله، فإنّ الله قد بيّن لهم الآيات التي يتمكنون من خلالها التمييز بين الأشياء التي تنفعهم والتي تضرّهم، من أجل أن يركّز أقدامهم على الأرض الصلبة، ويواجهوا الواقع من منطق العقل الذي يرصد ويتأمّل ويفكر"( ).
الموطن السّابع: نموذج النفاق هو الأخطر
يسلط المفسّر الضوء على نموذج النفاق في المجتمع، بمناسبة تفسيره لقوله تعالى: {ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أو ادْفَعُوا قالُوا لَو نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ واللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وقَعَدُوا لَو أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}(آل عمران: 167-168)، لأنّهم يشكلون الفئة الأخطر في المجتمع، التي تسعى إلى إثارة "الفتنة والخوف والتردد"، و"تشوّه وجه الصورة الحقيقيّة للأشياء، وتعطّل كثيراً من طاقاته وخطواته العمليّة السائرة نحو الهدف".
"وقد جاء القرآن ليكشف لنا عن هؤلاء، في ما يذكره لنا من كلماتهم ومواقفهم، لنتعرّف من خلال ذلك إلى ملامحهم، لنرصد تحركاتهم في ما نعيش الآن من حركة الحاضر، وما نريد أن نعايشه من أوضاع المستقبل، لأنّ أسلوب القرآن من خلال ما يقدّمه إلينا من نماذج، يثير أمامنا التجربة في الماضي، لنتعلّم من وحيها كيف نتجاوز سلبياتها ونحتوي إيجابياتها في ما نستقبل من تجارب الحياة المماثلة"( ).
مصادر البحث
1-    الشيخ الصدوق، محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 هـ)، معاني الأخبار، إنتشارات إسلامي، قم ـ إيران، 1379 هـ.
2-    العياشي، محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي (ت 320 هـ)، تفسير العياشي، تحقيق هاشم الرسولي المحلاتي، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران ـ إيران، (د ت).
3-    البرقي، أحمد بن محمد بن خالد (ت 274 هـ)، المحاسن، دار الكتب الإسلامية، طهران ـ إيران، (د ت).
4-    الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب بن إسحاق الرازي (ت 328 هـ)، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران ـ إيران، 1375 هـ ش.
5-    الصفار، أبو جعفر محمد بن الحسن بن فروخ (ت 290 هـ)، بصائر الدرجات الكبرى، مؤسسة الأعلمي، طهران ـ إيران، 1404 هـ.
6-    السيّد الخوئي، أبو القاسم (ت 1411 هـ)، البيان في تفسير القرآن، دار الزهراء، بيروت ـ لبنان، 1975 م ـ 1395 هـ.
7-    الشيخ الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن (ت 460 هـ)، مصباح المتهجد، ط 1، مؤسسة فقه الشيعة، بيروت ـ لبنان، (د ت).
8-    الشيخ الطوسي، تهذيب الاحكام في شرح المقنعة، دار الكتب الإسلامية، طهران ـ إيران، 1390 هـ.
9-    ابن قدامة، عبد الله بن محمد (ت 620 هـ)، المغني، دار الكتاب العربي، (د ت).
10-     الحاكم النيسابوري، أبو عبدالله (ت 405 هـ)، المستدرك على الصحيحين، دار المعرفة، بيروت ـ لبنان، (د ت).
11-     مسلم النيسابوري، أبو الحسين ابن الحجاج (ت 261 هـ)، الجامع الصحيح، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، (د ت).
12-     ابن شعبة الحراني، أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين (ت القرن4 هـ)، تحف العقول عن آل الرسول(ص)، ط 2، مؤسسة النشر الإسلامي، قم ـ إيران، 1404 هـ.
13-     نهج البلاغة، شرح محمد عبده، دار المعرفة، بيروت ـ لبنان، (د ت).
14-     الصحيفة السجادية الكاملة، مؤسسة النشر الإسلامي، قم ـ إيران، 1404 هـ.
15-     الراغب الاصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد (ت 502 هـ)، المفردات في غريب القرآن، دفتر نشر الكتاب، 1404 هـ.
16-     تفسير العسكري، مدرسة الإمام المهدي(عج)، قم ـ إيران، (د ت).
17-     الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ط 1، مؤسسة الأعلمي، بيروت ـ لبنان، 1404 هـ ـ 1984 م.
18-     السيد الطباطبائي، محمد حسين (ت 1412 هـ)، الميزان في تفسير القرآن، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم ـ إيران، (د ت).
19-     أبو نصر الطبرسي، الحسن بن الفضل (ت 548 هـ)، مكارم الاخلاق، ط 6 منشورات الشريف الرضي، 1392 هـ ـ 1972 م.
20-     الفخر الرازي، محمد بن علي بن الحسين (ت 606 هـ)، مفاتيح الغيب في تفسير القرآن، ط 3، (د ن)، (د ت).
21-     الشيخ الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن (ت 548 هـ)، مجمع البيان في تفسير القرآن، ط 1، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، 1415 هـ ـ 1995 م.
22-     الواحدي النيسابوري، أبو الحسن علي بن أحمد (ت 468 هـ)، أسباب النزول، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، القاهرة ـ مصر، 1388 هـ ـ 1968 م.
23-     الراوندي، قطب الدين سعيد بن هبة الله (ت 573 هـ)، قصص الأنبياء، ط 1، مؤسسة الهادي، قم ـ إيران،1418 هـ.
24-     الطبري، أبوجعفر محمد بن جرير (ت 310 هـ)، جامع البيان عن تأويل القرآن، ضبط وتوثيق وتخريج صدقي جميل العطار، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1415 هـ ـ 1995 م.
25-     أبو منصور الطبرسي، أحمد بن علي بن أبي طالب (ت 620 هـ)، الاحتجاج على أهل اللجاج، دار النعمان للطباعة والنشر، النجف الأشرف، 1368 هـ ـ 1966 م.
26-     السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر(ت 911هـ)، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، (د ت).
27-     الشيخ الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن (ت 460 هـ)، الإقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، منشورات مكتبة جامع جهلستون، طهران ـ إيران،1400
28-     الشيخ المفيد، محمد بن محمد بن النعمان ابن المعلم (ت 413 هـ)، أوائل المقالات، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، 1414 هـ ـ 1993 م.
29-     الشيخ المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، ط 2، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، (د ت).
30-     الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ط 1، تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، 1409 هـ.
31-     ابن النديم، أبو الفرج محمد بن أبي يعقوب إسحق الوراق (ت 438 هـ)، الفهرست، تحقيق رضا علي تجدد ابن علي بن زين العابدين الحائري المازندراني، (د ن) ، (د ت).
32-     الشهرستاني، أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر (ت 548 هـ)، المِلَل والنِّحَل،تحقيق محمد سيد الكيلاني، دار المعرفة، بيروت ـ لبنان، (د ت).
33-     الواحدي، ابو الحسن علي بن أحمد النيسابوري (ت 468 هـ)،الوجيز في تفسير كتاب الله العزيز، ط 1، تحقيق صفوان عدنان داوودي، دار القلم، بيروت ـ لبنان، 1415 هـ.
34-     القرطبي، أبو عبدالله محمد بن أحمد الانصاري (ت 671 هـ)، الجامع لأحكام القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، 1405 هـ ـ 1985 م.
35-     ابن الجوزي، أبو الفرج جمال الدين عبدالرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي (ت 597 هـ)، زاد المسير في علم التفسير، ط 1، حققه محمد عبدالرحمن عبدالله، خرّجى أحاديثه السعيد بن بسيوني زغلول، دار الفكر بيروت ـ لبنان، 1407 هـ ـ 1978 م.
36-    الشيخ الطوسي، الخلاف، تحقيق السيد علي الخراساني والسيد جواد الشهرستاني والشيخ مهدي طه نجف، المشرف الشيخ مجتبى العراقي، مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين بقم، قم ـ إيران، 1414 هـ.
37-     العلامة الحلي، جمال الدين الحسن بن يوسف بن مطهر (ت 726 هـ)، تذكرة الفقهاء، منشورات المكتبة الرضوية لإحياء الآثار الجعفرية، (د ت).
38-     مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي المخزومي (ت 104 هـ)، تفسير مجاهد، تحقيق عبدالرحمن الطاهر بن محمد السورتي، (د ن)، (د ت).
39-     الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد (ت 360 هـ)، المعجم الكبير، ط 2، حققه وخرّج أحاديثه حمدي عبدالمجيد السلفي، دار إحياء التراث العربي، (د ت).
40-     الشيخ الصدوق، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 هـ)، الأمالي، تحقيق ونشر مؤسسة البعثة، طهران ـ إيران، 1417 هـ.
41-     الشيخ الصدوق، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 هـ)، علل الشرائع، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها، النجف الأشرف ـ العراق، 1386 هـ ـ 1966 م.
42-     القمي، علي بن إبراهيم بن هاشم (ت القرن4هـ)، تفسير القمي، ط 3، مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر، قم ـ إيران، 1404 هـ.
43-     الفراهيدي، أبو عبدالرحمن الخليل بن أحمد (ت 175 هـ)، كتاب العين، ط 2، تحقيق الدكتور مهدي مخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي، مؤسسة دار الهجرة، 1410 هـ.
44-     الزمخشري، جار الله محمود بن عمر (ت 538 هـ)،الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي وأولاده بمصر، 1385 هـ ـ 1966 م.
45-     أحمد بن حنبل (ت 241 هـ)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، دار صادر، بيروت ـ لبنان، (د ت).
46-     ابن أبي شيبة، عبد الله بن محمد (ت 235 هـ)، المصنف، ط 1، تحقيق محمد سعيد اللحام، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1409 هـ ـ 1989 م.
47-     البرقي، أحمد بن محمد بن خالد (ت 274 هـ)، المحاسن، دار الكتب الإسلامية، طهران ـ إيران، (د ت).
48-     الأردبيلي، أحمد بن محمد (ت 993 هـ)، زبدة البيان في احكام القرآن، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، طهران ـ إيران، (د ت).
49-     الشيخ الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن (ت 460 هـ)، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية ـ مؤسسة البعثة، ط 1، دار الثقافة، قم ـ إيران، 1414 هـ.
50-     الشيخ الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، (د ن)، (د ت).
51-     الصحيفة السجادية الكاملة، ط 1، مؤسسة الإمام المهدي ومؤسسة الأنصاريان ، قم ـ إيران، 1411 هـ.
52-     فضل الله، السيد محمد حسين، الحوار في القرآن، ط 6، دار الملاك، بيروت لبنان، 1421 هـ ـ  2001 م، ص 258.
53-     النوري، ميرزا حسين(ت 1320 هـ)، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ط 2، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، بيروت ـ لبنان، 1408 هـ  ـ 1988 م.
54-     الشيخ مغنية، محمد جواد (ت 1400 هـ)، التفسير الكاشف، ط 1، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، 1424 هـ ـ 2003 م.
55-     ابن أبي حاتم الرازي (ت 327 هـ)، تفسير ابن أبي حاتم، تحقيق أسعد محمد الطيب، المكتبة العصرية، صيدا ـ لبنان، (د ت).
56-     السيد ابن طاووس، علي بن موسى بن جعفر (ت 664 هـ)، اللهوف في قتلى الطفوف، ط 1، أنوار الهدى، قم ـ  إيران، 1417 هـ.
57-     الشيخ الصدوق، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 هـ)، من لا يحضره الفقيه، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة، ط 2، قم ـ إيران، (د ت).
58-     ابن الأثير الجزري، علي بن محمد الشيباني (ت 630 هـ)، الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت ـ لبنان، 1385 هـ ـ 1965 م.
59-     ابن منظور، جمال الدين، محمد بن مكرم (ت 711هـ)، لسان العرب، نشر أدب الحوزة، قم ـ إيران، 1405 هـ.
60-     الحميري، أبو العبّاس جعفر بن عبدالله (ت 300 هـ)، قرب الإسناد، ط 1، تحقيق نشر مؤسسة آل البيت i لإحياء التراث، قم ـ إيران، 1414 هـ.
61-     الشيخ الصدوق، الخصال، منشورات جماعة المدرسين بالحوزة العلمية بقم المشرفة، قم ـ إيران، 1403 هـ.
62-     ابن شهرآشوب، محمد بن علي (ت 588 هـ)، مناقب آل أبي طالب، المطبعة الحيدرية، النجف ـ  العراق، 1375 هـ ـ 1956 م.
63-     الخوئي، السيد أبو القاسم (ت 1411 هـ)،مستند العروة الوثقى كتاب الزكاة، ط 1، منشورات مدرسة دار العلم، قم ـ إيران،1413 هـ.
64-     مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ)، تفسير مقاتل بن سليمان، ط 1، تحقيق أحمد فريد، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، 1424 هـ ـ 2003 م.
65-     النحاس، أبو جعفر أحمد بن محمد (ت 338 هـ)، معاني القرآن الكريم، ط 1، تحقيق الشيخ محمد علي الصابوني، جامعة أم القرى، مكة المكرمة ـ المملكة العربية السعودية، 1408 هـ، 1988 م.
66-     ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل القرشي الدمشقي (ت 774 هـ)، تفسير القرآن العظيم، تحقيق وتقديم يوسف عبد الرحمن المرعشلي، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، 1412 هـ ـ 1992 م.
67-     الثعلبي، أحمد بن محمد بن إبراهيم (ت 427 هـ)، الكشف والبيان عن تفسير القرآن، ط 1، تحقيق الإمام محمد بن عاشور، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، 1422 هـ ـ 2002 م.
68-     النعماني، محمد بن إبراهيم بن جعفر الكاتب (ت 360 هـ)، الغيبة، ط 1، منشورات أنوار الهدى، قم ـ  إيران، 1422 هـ.
69-     القرطبي، أبو عبدالله محمد بن أحمد الانصاري (ت 671 هـ)، الجامع لأحكام القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، 1405 هـ ـ 1985
70-     الشيخ الصدوق، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 هـ)، التوحيد، تصحيح وتعليق السيد هاشم الحسيني الطهراني، منشورات جماعة المدرسين في قم المقدسة، (د ت).
71-     ابن شعبة الحراني، أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين (ت القرن4 هـ)، تحف العقول عن آل الرسول(ص)، ط 2، مؤسسة النشر الإسلامي، قم ـ إيران، 1404 هـ.
72-     الجصّاص، أبو بكر أحمد بن علي الرازي (ت 370 هـ)، أحكام القرآن، دار الكتب العلمية، ط 1، بيروت ـ لبنان، 1415 هـ  ـ  1994 م.
73-     العلامة الحلي، جمال الدين الحسن بن يوسف بن مطهر (ت 726 هـ)، مختلف الشيعة، ط 1، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقمّ المشرفة، قم ـ إيران، 1419 هـ.
74-     الشيخ الطوسي، الخلاف، تحقيق السيد علي الخراساني والسيد جواد الشهرستاني والشيخ مهدي طه نجف، المشرف الشيخ مجتبى العراقي، مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين بقم، قم ـ إيران، 1414 هـ.
75-     ابن إدريس الحلي، أبو جعفر محمد بن منصور بن أحمد (ت 598 هـ)، كتاب السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، قم ـ إيران، ط 4، 1417 هـ .
76-     البلاغي، محمد جواد، آلاء الرحمن في تفسير القرآن،
77-    الشيخ النجفي، محمد حسن (ت 1266 هـ)، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، دار الكتب الإسلامية، طهران ـ إيران، 1365 هـ ش.
78-    مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي المخزومي (ت 104 هـ)، تفسير مجاهد، تحقيق عبدالرحمن الطاهر بن محمد السورتي، (د ن)، (د ت).
79-    ابن الجوزي، أبو الفرج جمال الدين عبدالرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي (ت 597هـ)، زاد المسير في علم التفسير، ط 1، حققه محمد عبدالرحمن عبدالله، خرّجى أحاديثه السعيد بن بسيوني زغلول، دار الفكر بيروت ـ لبنان، 1407 هـ ـ 1978 م.
80-    الطبراني ، الحافظ سليمان بن أحمد (ت 360 هـ)، المعجم الأوسط، تحقيق قسم التحقيق بدار الحرمين، دار الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة ـ مصر، 1415 هـ ـ 1995 م.
81-    المتّقي الهندي،علي بن حسام الدين (ت 975 هـ)، كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، مؤسسة الرسالة، بيروت ـ لبنان، 1409 هـ ـ 1989 م.
82-    الترمذي، محمد بن عيسى (ت 279 هـ)، سنن الترمذي، ط 2، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1403 هـ ـ  1983 م.
83-    الزبيدي، السيد محمد مرتضى الحسيني (ت 1205 هـ)، تاج العروس من جواهر القاموس، دراسة وتحقيق علي شيري، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1994 م ـ 1414 هـ.
84-     الخوئي، السيد أبو القاسم (ت 1411 هـ)، معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة، ط 5، (د ن)، 1413 هـ ـ 1992 م.
85-     ابن حجر، شهاب الدين احمد بن علي العسقلاني (ت 852 هـ)، لسان الميزان، ط 2، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، 1390 هـ ـ 1971 م.
86-     أبو حنيفة، القاضي النعمان بن محمد المغربي (ت 363 هـ)، دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام عن أهل بيت رسول الله عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، ط 2، تحقيق آصف بن علي أصغر فيضي، دار المعارف، القاهرة ـ مصر، 1385 هـ ـ 1965 م.
87-     الجوهري، إسماعيل بن حمّاد (ت 339 هـ)، تاج اللغة وصحاح العربية، ط 4، تحقيق احمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين، بيروت ـ لبنان، 1407 هـ ـ 1987 م.
88-     الزحيلي، أ.د. وهبة، الفقه الإسلامي وأدلته، دار الفكر، دمشق ـ سوريا، 1427 هـ.
89-     الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ط 2، منشورات الشريف الرضي، قم ـ إيران، 1368 هـ ش.
90-     ابن فهد الحلي، أبو العباس أحمد بن محمد (ت 841 هـ)، عدّة الدّاعي ونجاح الساعي، مكتبة وجداني، قم ـ إيران، (د ت).
91-     البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي (ت 458 هـ)، السنن الكبرى، دار الفكر، ( د ت).
92-     ابن شهرآشوب، محمد بن علي (ت 588 هـ)، مناقب آل أبي طالب، المطبعة الحيدرية، النجف ـ العراق، 1375 هـ ـ 1956 م.
93-     السيد ابن طاووس، علي بن موسى بن جعفر (ت 664 هـ)، اللهوف في قتلى الطفوف، ط 1، أنوار الهدى، قم ـ إيران، 1417 هـ.
94-    ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ط 2، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، 1378 هـ ـ 1967 م.
95-    النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب (ت 303 هـ)، السنن الكبرى، ط 1، دار الكتب العلميّة، بيروت ـ لبنان، 1411 هـ ـ 1991 م.
96-    النووي، أبو زكريا محيي الدين بن شرف (ت 676 هـ)، المجموع، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، (د ت).
97-    أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 257 هـ)، سنن أبي داود، ط 1، تحقيق وتعليق سعيد محمد اللحام، دار الفكر،  بيروت ـ لبنان، 1410 هـ ـ 1990 م.
98-    الشيخ المجلسي، محمد باقر (ت 1111 هـ)، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ط 2، تحقيق يحيى العابدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، 1403 هـ ـ 1983 م.
99-    الحرّ العاملي، الشيخ محمد بن الحسن (ت 1104 هـ)، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، ط 2، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم ـ إيران، 1414 هـ.
100-    البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي (ت 256هـ)، الجامع الصحيح، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1401 هـ ـ 1981 م.
101-    الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي (ت 463 هـ)، تاريخ بغداد، ط 1، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، 1417 هـ ـ 1997 م.
102-    السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ)، الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، ط 1، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1401 هـ ـ 1981 م.
103-    السيوطي، لباب النقول في أسباب النزول، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، (د ت).
104-    النووي، أبو زكريا محيي الدين بن شرف (ت 676 هـ)، المجموع، دار الفكر، (د ت).
105-    ابن حزم، علي بن أحمد بن سعيد (ت 456 هـ)، المحلّى، دار الفكر، (د ت).
106-    أبو داود الطيالسي، سليمان بن داود بن الجارود (ت 204 هـ)، مسند أبي داود الطيالسي، دار المعرفة، بيروت ـ لبنان.
107-    الشريف المرتضى ، علي بن الحسين الموسوي البغدادي (ت 436 هـ)، الانتصار، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم ـ إيران، 1415 هـ.
108-    الشوكاني، محمد بن علي بن محمد (ت 1255 هـ)، نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار، دار الجيل، بيروت ـ لبنان، 1973 م.
109-    القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري (ت 671 هـ)، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق إبراهيم أطفيش، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، 1405 هــ1985 م.
110-    ابن سلامة، القاضي أبو عبدالله محمد القضاعي (ت 454 هـ)، مسند الشهاب، ط 1، حققه وخرّج أحاديثه حمدي عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت ـ  لبنان، 1405 هـ ـ 1985 م.
111-    مجموعة من المؤلفين، قاموس الكتاب المقدس، تقديم د. فيليب حتّي، مكتبة المشعل الإنجيلية، بيروت ـ لبنان، (د ت).
112-    الشيخ الطوسي، المبسوط في فقه الإمامية، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، 1351 هـ ش.
113-    ابن إدريس الحلي، أبو جعفر محمد بن منصور بن أحمد (ت 598 هـ)، كتاب السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي ، ط 4، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، قم ـ إيران، 1417هـ.
114-    ابن عدي، أبو أحمد عبد الله الجرجاني (ت 365 هـ)، الكامل في ضعفاء الرجال، ط 3، تدقيق يحيى مختار الغزاوي، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1409 هـ ـ 1988 م.
115-    ابن هشام، أبو محمد عبد الملك الحميري (ت 218 هـ)، السيرة النبوية، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، مصر، 1383 هـ ـ 1963 م.
116-    الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (ت 310 هـ)، تاريخ الأمم والملوك، ط 4، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، 1403 هـ ـ 1983 م.
117-    الشيخ الصدوق، الاعتقادات، ط 2، تحقيق عصام عبد السيد، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، 1414 هـ ـ 1993 م.
118-    القاضي النعمان المغربي، أبو حنيفة ابن محمد التميمي (ت 363 هـ)، شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار، تحقيق السيد محمد الحسيني الجلالي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقمّ المشرفة، قمّ ـ إيران، (د ت).
119-    ابن ماجة، الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (ت 273 هـ)‍، سنن ابن ماجة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، (د ت).
120-    الشهيد الثاني، زين الدين بن علي العاملي (ت 965 هـ)، مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، ط 1، تحقيق ونشر مؤسسة المعارف الإسلامية، قم ـ إيران، 1418 هـ.
الشيخ الشربيني، محمد بن أحمد ( ت 977 هـ)، مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، 1377 هـ ـ 1958.