الشريعة والعبادات والفقه





    
    
    

    
    


جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولى

1433 هـ ـ 2012م




    

دار الملاك للطباعة والنشر والتوزيع

___________________________________________________________

بيروت - لبنان – حارة حريك ــ قرب مستشفى الساحل.

 هاتف: 755200/03- فاكس: 450769/01 ص.ب. 25/158 الغبيري











                              


موسوعة الفكر الإسلامي


العلامة المرجع

السيد محمد حسين فضل الله(رض)

الشَّريعة والعبادات والفِقه

المجلد الثالث



دار الملاك




    






بسم الله الرحمن الرحيم




    






المحتويات


مقدمة............................................................................................................. 9

مقاصد الشريعة............................................................................................... 11

أولاً: علم المقاصد في عصرنا 17

ثانياً: الاجتهاد وحركة الوعي. 20

ثالثاً: ضرورة تجديد المنهج. 23

رابعاً: الشريعة ومنظومة المصالح والمفاسد 26

خامساً: أسباب عدم الاشتغال بالمقاصد 27

سادساً: خصوصيات المقاصد 32

سابعاً: بدايات واعدة 34

العبادات.. 37

أولاً: مفهوم التقوى.. 42

1- شمولية الإسلام 42

2- شمولية العبادة 44

3- البعد العملي للعبادة 45

4- موقع التقوى في حركة العبادة 46



5- تقوى الجوارح أم تقوى العقل؟. 49

6- بين التقوى والعرفان. 50

7- موقع الدعاء في حركة العبادة 52

8- العبادة وإخلاص النية. 59

9- خصائص العبادات المشتركة. 62

ثانياً: الصلاة معراج المؤمن. 62

2- التنوّع الغني. 66

3- الإيمان والصّلاة 67

4- الصلاة تنزيه عن الكبر. 72

5- البعد التربوي للصلاة 73

6- اقتران الصلاة بالصبر. 75

7- حضور المساجد وصلاة الجماعة. 78

8- قصر  الصلاة 80

9- فضل قيام الليل. 83

ثالثاً: الصوم وصناعة التقوى.. 84

1- تقوى الصوم 84

2- أنواع الصَّوم 85

3- الزمان الصائم 88

4- الليلة الأعظم 90

5- فوائد الصَّوم 91

6- الخشية من تضييع الأهداف.. 96

7- شبهة حول فوائد الصوم 98

8- معاني عيد الفطر 100

رابعاً: الحج وفادة على الله... 102

1- العبادة الفريدة 102

2- نظرة شمولية لمناسك الحج. 105

3- الإيمان والصّلاة 107

4- الصلاة تنزيه عن الكبر. 109

5- البعد التربوي للصلاة 112

6- اقتران الصلاة بالصبر. 116

7- حضور المساجد وصلاة الجماعة. 117

خامساً: مسؤولية المال وعبادة العطاء. 118

1- العبادة الفريدة 102

2- نظرة شمولية لمناسك الحج. 105

3- الإيمان والصّلاة 107

4- الصلاة تنزيه عن الكبر. 109

5- البعد التربوي للصلاة 112

6- اقتران الصلاة بالصبر. 116

7- حضور المساجد وصلاة الجماعة. 117

خاتمة. 142

المراجع. 143

المنهج الفقهي. 147

أولاً: تكوين الشخصية الفقهية والمؤثرات العامة وخصائصها. 151

2- البعد الواقعي. 152

2- البعد العلمي. 154

3- البُعد المجتمعي. 155

ثانياً: الشخصية الفقهية ــ علامات فارقة. 157

1- شخصية ناقدة 157

2- شخصية جريئة. 170

3- شخصيَّة معاصرة 181

4- الدليل اللفظي. 191

5- دليل السيرة 194

6- إذن الحاكم الشرعي. 198

ثالثاً: مصادر السيد في الدرس الفقهي. 199

رابعاً: ملامح المنهج الفقهي. 212

1- النزعة العرفية في فهم النصوص الشرعية. 212

2- الرؤية التوحيدية. 215

3- فقه إسلامي. 238

4- مرجعية القرآن. 245

5- النزعة التاريخية. 257

فهرس... 265



مقدمة

يتضمن المجلد الثالث ثلاث دراسات عن مقاصد الشريعة، ومضامين العبادات، والمنهج الفقهي الذي اعتمده السيّد في فتاويه ودراساته.

ثمّة توجه إسلامي حديث العهد عند بعض الدارسين للاشتغال بمقاصد الشريعة، وهو توجه رائد وضروري لتجديد الفكر الإسلامي والفقه الإسلامي في مجالات الحياة. فما هي مساهمة السيّد في هذا المضمار؟

وفي العبادات، نقرأ عن التقوى وعلاقتها بالعرفان، وأهمية الصلاة في أبعادها وآثارها، وكيف يرتبط الصوم بالتقوى، وعبادة الحجّ من حيث الإيمان والاجتماع. إضافة إلى فريضتي الزكاة والخمس.

أما المنهج الفقهي، فإنّ السيّد اعتمد منهجاً علمياً في فهم النصوص الشرعية، في إطار مبتكرات الفقه الإسلامي، وبالاستناد الدائم إلى مرجعية القرآن الكريم. وتبيّن دراسة المنهج الفقهي مقومات الشخصية الفقهية، والمؤثّرات العامة التي تحوطها في غير مجال.






    




مقاصد الشريعة


حسن جابر

كاتب لبناني، أستاذ جامعي في التاريخ

أولاً: علم المقاصد في عصرنا

ثانياً: الاجتهاد وحركة الوعي

ثالثاً: ضرورة تجديد المنهج

رابعاً: الشريعة ومنظومة المصالح والمفاسد

خامساً: أسباب عدم الاشتغال بالمقاصد

سادساً: خصوصيات المقاصد

سابعاً: بدايات واعدة







    




احتاج علم المقاصد الكليّة للشرع، تاريخياً، إلى البيئة السياسية والاجتماعية التي تنتجه، تماماً كأيّ علم آخر يتفتّق به العقل الإنساني، لأنّ الأفكار لا تنضج إلاّ في أتون نار التحديات الواقعية التي تواجه المجتمعات، وغالباً ما تأتي الحلول على قَدْرِ المعضلات والأسئلة المطروحة، وكلّما كان العقل مهموماً بالقضايا والمشكلات المعيوشة، كانت علاجاته مُبْتَلّةً برذاذ أمواجها. والمرء لا يستطيع إدراك المُعضلات إلاّ إذا كان متفاعلاً معها ومنفعلاً بها، لأنّ عالم التصوّر هو انعكاس لما يُدْرَك من الواقع، وبما أنّ المُدْرَكَات نسبية ومتفاوتة، فالتصورات البشرية، بالطبع، هي كذلك.

والعقل الفقهي الإسلامي الشيعي الذي تشكّل على هوامش الحياة السياسية في جُلّ التاريخ الإسلامي، لا يُتوقَّع منه أن يكون فاعلاً، وبالتالي منتجاً، فبقدر الاهتمامات تكون الأفكار والإبداعات. لقد حملت المعاناة والمآسي والإخفاقات العقل الإسلامي الشيعي على صوغ علم كلامه على صورة التجربة والواقع المأزومين، وخصوصاً فيما يتعلّق بالسلطة، فكان أن استقرَّ الرأي على عدم مشروعية المشاركة في السلطة، فضلاً عن عدم جواز الخروج على الحاكم قبل ظهور الإمام المهدي(عج). هذا الموقف الكلامي لم تقف ارتداداته عند حدود الانكفاء والعزلة، وإنّما تعدَّته إلى مستوى الاهتمام والتفاعل، إذ تراجع منسوب المتابعة من القضايا الكبرى إلى دائرة الهموم الفردية المباشرة، الأمر الذي انعكس على الفقه وأحكامه، وهو ما يفسّر ظاهرة تَشَبُّع الرسائل العملية بالمسائل الجزئية.

ومن نافل القول، تأكيد حقيقة مفادها أنّ الاستغراق في الجزئيات

يحول دون التفكير في الكليات، الأمر الذي منع العقل الاجتهادي الإسلامي الشيعي من تحسّس فكرة المقاصد الكلية، وتالياً المساهمة في تأسيسها، ولاحقاً تطويرها.

أمّا المذاهب الإسلامية الأخرى التي كانت منخرطة، بصورة أو أخرى، بالنظام السياسي الذي كان يسود البلاد الإسلامية في القرون الأربعة الممتدة من الخامس إلى الثامن الهجريين، فكانت مطالبةً بأن تقدّم إجابات عن المسائل المُستجدة، والتي تمثّل تهديداً فعلياً للنظام العام. أمّا المذهب الإسلامي الشيعي، الذي شهد حالاً من الانتعاش في القرنين الرابع والخامس الهجريين، فهو لم يكن معنياً بتقديم حلول، إن لم تكن مصلحته كامنةً، فعلاً، بتفاقم الأمور، وذلك استدعاءً للفرج ولخروج إمام العصر.

في القرنين الخامس والسابع الهجريين، عصفت أحداث خطيرة بالعالم الإسلامي كانت الواحدة منها كفيلةً بتغيير الواقع، بل بحرف مسار الأمور إلى اتجاهات أخرى.

الحدث الأول؛ تمثّل بدخول السلاجقة إلى بغداد في عام 447هـ/1055م، والذي قلب الواقع رأساً على عقب، لجهة إشاعة مناخات التعصّب في المنطقة، وإغراقها بشلاّل من الصراعات والتناحرات، لم يتوقف دفقها إلاّ على وقع حوافر خيل الصليبيين في نهايات القرن الخامس الهجري والحادي عشر الميلادي، حين انهارت دفاعات السلاجقة سريعاً أمام الغزاة، من "نيقيه" على مضيق الدردنيل، إلى القدس الشريف فعسقلان.

أمّا الحدث الثاني؛ فقد تمثّل بغزو المغول للعالم الإسلامي، والذي كاد ينهي الواقع السياسي للمسلمين، لولا يقظة المماليك بقيادة "قطز"، الذي تجرّأ، دون سواه، على منازلة المغول وهزيمتهم في معركة عين جالوت الشهيرة.

هذان الحدثان المفصليان أرخيا بظليهما على المشهد العام، فبرزت

على السطح أعراضٌ وظواهر من سنخ الواقع المأزوم لم يألفها العالم الإسلامي، كانتشار الفتاوى، وتراجع دور العقل، وغلبة التقليد، وانتعاش الخرافات وغيرها، الأمر الذي استدعى موقفاً مسؤولاً من بعض الفقهاء لوضع حدٍ لفوضى الأحكام والفتاوى. وليس مصادفةً أن يبدأ العقل المقاصدي بالتبلور لدى إمام الحرمين الجويني الذي تُوفّي سنة 470هـ، أو لدى تلميذه الإمام الغزالي المتوفى سنة 505هـ، أو لدى سلسلة من العلماء المبدعين في القرن السابع الهجري، من القرافي (684هـ)، إلى العِز بن عبد السلام (ت660هـ)، إلى الطوفي (716هـ) وسواهم، وقد وضع كلّ واحدٍ من هؤلاء لبنةً في العمارة المقاصدية التي كانت، حينها، تستجيب لتحديات الواقع المأزوم الذي كان يرخي بظلّه على المشهد برمته، إلى أن تمكّن الشاطبي في نهاية القرن التاسع الهجري (890هـ) من تقديم هندسة متكاملة لما عُرِف فيما بعد بالمقاصد الكلية للشرع، والتي تعدُّ، بحق، إنجازاً إبداعياً لا يمكن إغفاله إذا ما قيس بعصره، إلا أنّ ذلك لا يجوز فصله عن هموم الحياة وتحدياتها، ومنها التحدي السياسي.

في المقابل، لم يكن العقل الفقهي الإمامي مستنفّراً بالدرجة عينها في القرون الثلاثة المُشار إليها سابقاً، لاعتبارات، منها: أنّه كان منكفئاً على نفسه بعد سيطرة السلاجقة على بغداد وبلاد الشام في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وفي القرن السادس، حتى إنّ الحوزات العلمية كانت في حال شلل شبه كاملٍ طيلة هذه المدّة الطويلة، والتاريخ لا يحدثنا عن فقهاء إماميين برزوا في هذه المرحلة، باستثناء ابن إدريس(ت590هـ)، الذي تُوفّي في نهاية القرن السادس الهجري، ولذلك لم يوفّق العقل الفقهي في متابعة التأسيسات الأولى لعلم المقاصد، لغياب الحوافز، كما سلفت الإشارة، وعدم الإحساس بالحاجة إلى تأسيسات جديدة، لوجود الشيعة، ليس خارج السلطة فحسب، بل وخارج الحياة السياسية برمَّتها.

والإنجاز المقاصدي الذي رعفت به العقول المتحفّزة في المدى الزمني الممتد من النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، إلى نهايات
القرن الثامن الهجري، لم يفلح في إضفاء مذاقٍ جديد على علمي الفقه والأصول، إذ لم يُؤْثَر، أنّ أحداً قدّم إضافات جديدة في المقاصد، فضلاً عن العلوم الأخرى، الأمر الذي يشي باستثنائية المنجز، وبالتالي فشله في اقتحام السائد والمألوف.

وبما أنّ العالم الإسلامي دخل في خلال العصرين المملوكي والعثماني في نفق الاضطرابات والفوضى، فإنّ علوم الشريعة، في المقابل، حذت حذوه، ولم يسجل طيلة تلك المرحلة الطويلة التي امتدت من القرن التاسع الهجري حتى القرن الثالث عشر الهجري أيّ إنجاز يذكر.

الجديد في الأمر، أنّ المنطقتين العربية والإسلامية دخلتا في طور جديد في مطلع القرن الماضي، تمثّل في انهيار السلطنة العثمانية، ودخول الاستعمار الغربي كلاعب رئيس في المنطقة، ومن ثمّ بروز ظاهرة الكيانات الوطنية التي قلبت الكثير من المعايير، ما استدعى مراجعةً شاملةً للموروث الفقهي والكلامي شرع بها غير واحدٍ من النخب الفكرية والدينية، من دون أن ترتقيَ تلك المراجعة إلى مستوى إحداث انقلاب في المفاهيم، أو الشعور العام بضرورة التعامل مع التحدي الجديد بأدوات منهجية مختلفة، الأمر الذي أبقى المراجعات مجرّد حالات معزولة، فيما بقيت المعاهد الدينية والحوزات على حالها من دون زحزحة تذكر. وهذه المُفارقة الغريبة لم يألفها العقل الفقهي الذي أحسن التفاعل مع التحولات في العهدين السلجوقي والمغولي.

فقوّة الصدمة وحجم التحدّي اللذان اقتحما رتابة الحياة الإسلامية في القرن الماضي، كان يؤمّل منهما أن يحدثا تموّجات وارتدادات غير مسبوقة في عالمي الفقه والأصول فضلاً عن المقاصد، وهو الذي لم يحصل، باستثناء ما قدّمه الطاهر بن عاشور، (ت 1393هـ)، من إضافة متواضعة في علم المقاصد، وما طرأ من تبدّل، في الشكل، في بعض العلوم الإسلامية، من دون أن يصل التطور إلى البنية المنهجية لتلك العلوم.

أولاً: علم المقاصد في عصرنا

في العقود الثلاثة الأخيرة، شهدت الساحة الفكرية حراكاً غير مسبوق باتجاه علم المقاصد، تمثّل في عدد، غير قليل، من المؤلفات، تفاوتت مضامينها بين المُؤرِّخ للعلم والشارح له والناقد، والقليل القليل الذي آثر الزحزحة والتجاوز للمعهود، وقد لعبت التحوّلات في الساحة الإسلامية دوراً إيجابياً في تحريك الراكد، وهذا ما يؤكّد ما سبقت الإشارة إليه، من تأثير المناخات العامة والعوامل التاريخية والسياسية في نشأة العلم المقاصدي نفسه وتطوره. لقد غطَّ علم المقاصد في سبات عميق مئات السنين، فضلاً عن بقائه معزولاً عن علمي الفقه والأصول، مع أنّ الصيرورة الطبيعية كانت تفترض التفاعل وتبادل التأثير. ما حصل خلال العقود القليلة الماضية، أنّ الإسلام عاد ليتسنّم موقعه في قلوب الناس وعقولها، بعدما غشيه نوع من الانكفاء والتواري في مرحلة صراع الإيديولوجيات التي غطّت جلّ سنوات القرن الرابع عشر الهجري والعشرين الميلادي، إلاّ أنّ هذه العودة لم تخلُ من شوائب أملتها الظروف التي تمرّ بها المنطقتان العربية والإسلامية؛ فالاحتلال الأجنبي، بوجهيه المباشر وغير المباشر، مضافاً إليه انسداد الأُفق السياسي داخل الأُطر الوطنية المحدثة، وغياب الحريّات السياسية، فضلاً عن استخدام العنف المُفرط ضدّ كلّ أشكال الحراك السلمي، وفشل مشروعات التنمية، وما نتج منها من عطالة وفقر وخيبات أمل، كلّ ذلك ولّد شعوراً عميقاً بالإحباط، يمكن للمراقب ملاحظته في وجوه الشرائح الشابة والمتعلمة، وخصوصاً خريجي الجامعات.

انعكس هذا الواقع المأزوم على الأجيال المُسلمة الجديدة التي آثرت البحث في التراث عن النصوص والفتاوى والمواقف التي تُحاكي حالها وواقعها، وبما أنّ التاريخ الإسلامي مليء بالتناقضات والمواقف المُلتبسة، فإنّ الأجيال الجديدة لم تجد صعوبةً في انتقاء ما يستجيب لحال بؤسها، فاغترفت من مراحل تاريخها المأزوم كمّاً من الفتاوى والمواقف والممارسات، كانت كافيةً لتعميق المأزق بدلاً من حلّه، ولتكريس الحال
ومفاقمته بدل تجاوزه. هذه الحال من الفوضى في التفكير والممارسة، قلبت الصورة في المنطقة، فبدلاً من أن تحمل الصحوة الإسلامية، التي تعاظمت بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، نفحات أمل وخير، جلبت على المنطقة الويلات، باستثناء حالات خاصة وساحات محدودة نجحت في استيعاب الواقع والتكيّف معه، وبالتالي تقديم صورة أجلى من مثيلاتها في الساحات الأخرى.

هذا الواقع حمل عدداً غير قليل من المتخصصين بالفكر الإسلامي على التصدّي لعلم المقاصد، مشفوعين بهميّن رئيسين:

الأول: محاولة وضع حدّ لفوضى الفتاوى والمواقف، تماماً، كما كانت إحدى وظائف نشأة العلم في القرون الخامسة والسادسة حتى الثامنة، لقدرة هذا العلم على تحديد سقف أعلى لغايات الدين يحول دون خرقه وتجاوزه، وبالتالي ضبط المواقف والممارسات.

الثاني: إحساس المتصدين للفكر الديني بقصور الموروث الفقهي والأصولي، وحتى المقاصدي المحمول إلينا من السلف، عن استيعاب المستجدات العلمية والاجتماعية، والذي يفترض البحث عن منظومة مقاصدية جديدة قادرة على تقديم إجابات شافية عن أسئلة الواقع، وتنطوي على دينامية تفكير قادرة على تكييف ما يطرأ في قابل الأيام، أقلّه في المدى المنظور.

ما يجدر ذكره، هنا، أنّ المذاهب الإسلامية كلّها، تقريباً، باتت تشعر بضرورة الاهتمام بالمقاصد كعلمٍ لرفد الواقع بما يحتاجه من رؤى وتصورات، في ضوء التجربة، بعدما كانت المساهمات المقاصدية تقتصر على مذاهب محدّدة، أما السبب، فيمكن إرجاعه إلى شمول الصحوة الإسلامية المدارس الفقهية كافةً، خلافاً للمرحلة السابقة التي تأسس فيها علم المقاصد، يوم كان بعض المسلمين في السلطة، والبعض الآخر ليس خارجها فحسب، بل مستقيلاً منها، لذا نُلاحظ وجود جهود علمية من الجميع لبلورة فهم جديد للمقاصد، الأمر الذي سيوفّر روافد مختلفة لا شكّ في أنّها ستثري هذا العلم.

غير أنّ المنتَج، حالياً، لم يصل، في معظمه، إلى المستوى المرجوّ، لأنّ جُلَّ من كتب في المقاصد، لم يشأ القفز فوق منظومة "الموافقات" للشاطبي، وقصر معالجته على الشرح والتعليق، وأحياناً التأويل، من دون أن يملك الجرأة على التجاوز، كالريسوني والصغير وغيرهما من الكتّاب المعاصرين. أمّا المجدّدون الذين لم يهابوا سطوة السلف، أو يُخدعوا بوهم كمال المُنجز لدى السابقين، فقد عقدوا العزم على تفكيك المنظومة المتوارثة، والبحث فيما تنطوي عليه من عيوب منهجية، كطه جابر العلواني([1]) وسواه([2])، والإقدام، تالياً، على وضع منظومة مقاصدية جديدة مرصوفة بحجارة منهجية مختلفة.

وما نريد قوله، هنا، أنّ رحلة المراكمة في الحقل المقاصدي قد بدأت، وأنّ التفاعل بين الفكر والواقع، إن حصل، سيفضي إلى نتائج عميقة لن تقف ثمرتها على العلم نفسه، بل ستتجاوزه إلى مختلف العلوم ذات الصلة، شرط انخراط طلاب العلوم الدينية في هذا الجهد وتفاعلهم مع الواقع، لأنّ الأفكار التي تخرج من رؤوس النخب غير المنتمية إلى المؤسّسات المعنية بتخريج الفقهاء والمجتهدين، ستبقى محدودة التأثير مهما علا كعب منتجيها.

انطلاقاً مما تقدّم، سنحاول في هذه الدراسة الإحاطة ما أمكن بالفكر المقاصدي لأحد رموز الحوزة العلمية السيِّد محمد حسين فضل الله، والتي ستؤشّر نتيجتها إلى مدى تفاعل بعض القيادات الدينية العاملة والفاعلة مع التفكير المقاصدي في اللحظة الراهنة.

ما يحسن التوقف عنده، ابتداءً، أنّ مصطلح "المقاصد" كعلم، لم يعرف طريقه إلى مؤلفات السيِّد فضل الله الكثيرة، قبل العقدين السابقين، كما أنّه لم يتحدّث عن علم رديف يتقاطع مع مضمون مقاصد الشاطبي في الفترة المُشار إليها، وإن كانت قد وردت ألفاظ أو عبارات قد توصل إلى المضمون المقاصدي، كالكلام عن الغايات العامة، روح النصوص، الكليات والعموميات وغيرها.

غير أنّ الذي يرصد كتابات السيِّد فضل الله ومقابلاته في العقدين الأخيرين، يستطيع معاينة المُصطلح "المقاصدي" في غير مكان، وهذا يدلّ بوضوح على دينامية جديدة في التفكير، اقتضتها المواكبة الدائمة للسيِّد فضل الله للحراك العلمي فضلاً عن الواقع المعاش، اللذين يُشكّلان شرطين لازمين للاجتهاد والتَجدُّد، وفق تصوّر السيِّد نفسه([3]).

ثانياً: الاجتهاد وحركة الوعي

 يرتبط الاجتهاد، عادةً، بالأفق الذي يحكم تفكير المشتغل بعالم الاستنباط، تماماً كما يحكم تفكير أيّ مبدعٍ في الحقول الأخرى، وكلّما اتَّسع أفق المجتهد، كانت مقاربته للمسائل والقضايا المبحوث عنها أدقّ وأمتن. والحديث عن الأفق يكتنفه الكثير من الغموض، فهو نسبيٌّ بامتياز، لجهة تداخل العناصر وكثرتها، بل وغموض بعضها، فهي تبدأ بالاستعدادات الفردية، والاهتمامات والبيئة المحيطة، ومستوى التفاعل العملي مع الواقع، ومدى القرب أو البعد من نبض الحياة والدّربة على التفكير والتجريد، فضلاً عن الحدس والقدرة على التوقع وتقدير الأمور، والأهمّ من ذلك كلّه، المهارة في اكتشاف العلاقات بين العناصر، أو البحث الدائم عن علاقات جديدة بين المعاني والمعطيات والأفكار، وملكة تركيب وإعادة تركيب الرؤى، كلما طرأ طارئ، أو تسلل عنصر جديد لم يكن ملحوظاً في التصوّر السابق.

وعندما يقول السيِّد فضل الله إنّ "الثقافة قد تتغيّر"([4])، وعندها يتغيّر فهم نصوص الكتاب([5])، فهو يُشير إلى حيوية التفكير أو حركة التفكير لدى كلّ من يبقى على استعداد للمراجعة بعد كلّ تبدّل أو تطوّر في البنية التصورية العامة. فالمرء، في الواقع، وما يدرك، لأنّ ما يحكمه هو عالم التصوّر، لا الواقع كما هو، وحين يقترب التصوّر من الواقع، يكون المرء قد لامس الحقيقة. فتصوّر الشجرة فرع لمعرفتها، وبمقدار ما يلمّ الإنسان بها أكثر، يكون إدراكه لها أصوب، ولذلك لا نستطيع مقارنة تصور الجاهل للشجرة مع العالم المختص بعلم النبات، مع أنّ المُدرَك في كلتا الحالتين واحد. والأمر عينه يمكن ملاحظته في فهم نصوص الكتاب والسُّنة، فالقدماء تركوا لنا ما فهموه من النصوص بحسب ما لديهم من ثقافة([6])، وعلى المتأخّرين أن يقدّموا آراءً وتصورات مختلفة، لأنّ الثقافة، وبالتالي الإدراك، اختلفا، وعند طروء تبدّل من هذا النوع، فالنتيجة المنطقية أن نتوقّع تغيّراً في الفتاوى، ولهذا لا يرى السيِّد فضل الله مسوِّغاً للحديث عن حُجّية الإجماع أو الشهرة([7]).

وثمّة علاقة بين الفهم المتين للنّص وجملة الروابط التي تُحكِم الصلة بالعناصر الضرورية المطلوبة للفهم، وأي تراخٍ أو ارتفاع لرابط ما، قد يضعف وثاقة الوصل بين المُدْرِك والمُدْرَك، لذلك، يفترض وعيُ المعنى التثبت من وجود مختلف الصلات، وتالياً وثاقة العلاقة، وإلاّ فإنّ خللاً ما سيظهر عاجلاً أو آجلاً. وعندما يتحدث المرء عن سعة الثقافة وضيقها، فإنّه يشي بالحرص المطلوب في تحسس ما أمكن من علائق وصلات بالمعنى؛ من هنا، يفهم المُراد من تأثير خصوصية الفقيه الثقافية في سبر غور معنى ما للنص، خلافاً للآخرين الذين لم يوفقوا في إدراك العمق المماثل للمعنى([8]). في هذا الإطار، يحسن البعض تسمية ذلك تطوّراً، وهو ليس كذلك، وإنّما توافر شروط أفضل للفهم، تماماً كدراسة الواقع وتقديم فهمٍ أدقّ له([9]).

بناءً على ما تقدّم، يُعدّ الاجتهاد من المهام الدقيقة والخطيرة، فهو الذي يرسم خريطة السلوك للمسلمين المكلّفين، والتي على أساسها يصدر الآخرون أحكامهم المعيارية، وهذا يفترض وضع أُسس للاجتهاد، وتحديد مرجعيات يعود إليها حصراً مهام تصنيف المشتغلين في حقل الاستنباط، كي لا يترك الحبل على غاربه، كما هو حاصل اليوم. فالاجتهاد، الذي يعني بذل الجهد والسعة لاستخراج الأحكام الكلية من مصادر التشريع، هو عمل إبداعي، بمعنى البحث عن الجديد، لا مجرد تكرار لآراء من سلف وأقواله، فالاجتهاد في طبيعته، ينطوي على زحزحة أو كشف لعلاقات جديدة للمعنى، وهذا الضابط هو الذي يسمح للخبير أو المختص بالحكم على المتصدّي بأنّه حائز على الأهلية، أو أنّه يرفل في أغلال القصور والتخلّف([10]).

ومعضلة ما يُسمّى "المجتهدون القاصرون"، أنّ وزر جمودهم لا تحمله أشخاصهم حصراً، وإنّما يرتدُّ سلباً على الإسلام نفسه، الأمر الذي يستدعي المزيد من الحرص والمسؤولية من الجهات المعنية، وبما أنّ سعة الأفق والانفتاح على الواقع والخوض فيه، إلى جانب الأهلية والاستعدادات الذاتية، تسمح لمن يحوزها بالاقتراب من الحقيقة، فإنّ المطلوب من المعاهد الشرعية السهر على الطاقات الواعدة، وتوجيهها لِتولِّي مسؤولية الاجتهاد، بدلاً من إشاعة الأمر وتسييبه، كما هو حاصل في أيامنا.

في مضمار الوعي وإرادة التجاوز، لا يتأتّى الوعي لدى الناس من الفراغ، بل من تراكم معرفي يفضي إلى شعور داخلي بالنضج، وثقة بالنفس يتيح لها الحكم على الآراء والأفكار والمواقف من دون تردد أو خوف، لأنّ الخوف والتوجّس ليسا من صفات المتمرّس - المتمكّن، وبوضوح أكثر، ليس في وسع من آنس من نفسه قوّة الحُجّة وسعة الأُفق، أن يذعن للرأي الذي يخاله ضعيفاً وغير متماسك. فالمسألة، في هذه الحالة، لا تقبل المساومة، لأنّها نابعة من شعور جارف ويقين مكين، وهذان الإحساسان يولِّدان، في العادة، إرادةً قويّةً في تجاوز آراء الخصم، لا يقوى المرء إزاءها على قهر الاقتناعات الذاتية، مهما كانت شهرة الخصم واسعة.

بناءً على ما تقدّم، يُضحي الالتزام بالمشهور أو تقديسه تعبيراً عن التردّد وعدم الثقة بالنفس، وهذا ما يأنفه الممتلئ، أي صاحب الرؤية المتماسكة، أمّا غير الممتلئ، فيجد في الالتزام بالمشهور أو الإجماع لوناً من ألوان تغليف الجهل، وصورةً من صور الضعف، وليس، كما يُقال، نوعاً من الورع والاحتياط، إذ كيف يمكن اعتبار تجاوز الاقتناعات ورعاً([11])، مع القول إنّ القطع حُجّة يحتجّ بها القاطع أمام الله سبحانه وتعالى. وهل من التقوى في شيء أن يُغادر المرء اقتناعاته ويقينه إلى ما يعتقده باطلاً؟

ثالثاً: ضرورة تجديد المنهج

يرسم السيِّد فضل الله مساراً واضحاً للمراجعة الفكرية والفقهية، تقوم على ضابطة تحديد المنهج، لأنّ هذا التحديد هو الذي يسمح للقارئ بتلمّس السمات العامة للعمارة الفكرية أو الفقهية. والعمل العلمي الجاد والرصين لا ينجز دون منهج واضح، كما أنّ النقد الذي يُمارس ينبغي ألا يغفل السبيل الذي سلكه الباحث، أي المنهج، وإذا كان لا بُدّ من مراجعة جديّة لفكر ما، فالمدخل السليم لها لا يجوز أن يحيد عن المنهج المُستخدم في صوغ الفكر وبنائه.

والمنهج في أحد معانيه الأساسية، يدلّ على المنطق الذي يستبطنه الباحث والكيفية التي يشتغل بهديها العقل، وإذا كان ثمّة خلل ما في المؤدَّى، فإنّ عناية الناقد يجب أن تتوجه إلى ذلك المنطق وتلك الكيفية، لأنّهما قِوام الشخصية العلمية، فهما يستبطنان المخزون المعرفي للباحث، ومستوى النضج الذي آلت إله حياته العلمية، ولذلك كانت "خطورة التقليد في المنهج، لا تقل عن خطورة التقليد في المفهوم أو العقيدة"([12])، على حد تعبير السيِّد فضل الله.

وإذا كان المنهج ليس للتقليد، كما سلفت الإشارة، فإنّ ذلك يقتضي، بالضرورة، أن ينهمَّ المجتهد، ابتداءً، وقبل مزاولة صناعة الاستنباط، بنحت منهجه الخاص، ليكون نبراساً له يستضيء بنوره ويهتدي بهديه، لأنّ السبيل الآخر لن يكون سوى التقليد الأعمى للآخر أو التخبّط والضياع. والمنهج لدى الباحث ليس سوى مرآة تعكس مستوى وعيه ونضجه، وبما أنّ هذا المستوى نسبيٌّ ومتحرّك، فلا حرج في مبادرة المرء بمراجعته في كلّ مرحلة يرتقي فيها وعيه، وكما أن سُلّم الوعي محكوم بسنّة التطوّر والتحوّل، فإنّ المنطق يفترض، أيضاً، تطوّر المنهج بإزائه.

ومنافحة الباحث عن منهجه في مرحلة معيّنة من حياته، لا تعني عدم مشروعية التخلّي عنه في مرحلة أخرى، بل قد يكون الجمود على منهج معيّن هو الذي يزعزع مشروعية المنهج الذي يتمسّك به، لأنّ الأصل هو التطوّر في الوعي لا المراوحة والجمود.

تأسيساً على ما تقدّم، يقيم السيِّد فضل الله جملةً من العلامات ـ الدعائم لمنهج قراءة النصين القرآني والنبوي، التي قد تُشكِّل مجتمعةً إطاراً عاماً للمنطق الذي يلتزمه في صناعة الاستنباط أو في عملية صوغ المفاهيم الإسلامية العامة؛ ويمكن إجمال هذه العلامات بالآتي:

أ- رفض الطريقة الحرفية في فهم القرآن الكريم، التي أدّى اعتمادها إلى جمود في الفكر الإسلامي، وإلى أسر المضامين المُنفتحة في قوالب محدّدة لا تبارحها([13]).

ب- حاكمية القرآن: ثمّة مشكلة تواجه الفقهاء والباحثين في الفكر

الإسلامي، تتمثّل بوجود كمّ هائلٍ من الأحاديث النبويّة التي في جزءٍ منها تتعارض مع القرآن الكريم، كما أنَّ بعض الأحاديث لها مناسباتها الزمانية والمكانية ولا تتّسم بالإطلاق، فضلاً عن بعض ثالث يشوبه الضعف، لجهة عدم وثاقة الرواة، إلى آخر ما تناقله علماء الحديث والفقهاء في هذا الشأن. ومع ذلك، يُصار إلى الاستعانة بهذه الأحاديث في إطار الاستنباط، من دون مراعاة للتعارضات مع كتاب الله، وأحياناً يتطرّف البعض، فيتبنّى مقولات تضعف من القرآن الكريم، كالقول بأنّ الحديث ينسخ القرآن الكريم وغيره. وقد وصل الأمر لدى البعض إلى حدّ الاكتفاء بالأحاديث في عملية الاستنباط من دون العرض على الكتاب. إزاء هذا الواقع، يبرز موقف السيِّد فضل الله المتمثّل بضرورة عرض الأحاديث، بما تنطوي عليه من مضامين، على القرآن الكريم، كمعيارٍ للقبول أو الرفض، يدعو إلى عرض الحديث على الكتاب وأخذ ما يوافقه ورفض ما يخالفه([14]).

ج- اعتماد المنهج الموضوعي: استكمالاً لموقف السيِّد فضل الله من التفسير الحرفي لكلّ نصٍ قرآنّي أو نبويّ على حدة، يعرض لمنهجه البديل المتمثل بمتابعة كل النصوص ذات الصلة بموضوعٍ معيّن، ليلملم أجزاء الصورة، ويدخل على المعالجة من باب التصوّر الكامل والشامل، فيستخلص الموقف والرأي بعد إحكام الصلة بالعناصر، ومتابعة مختلف الروابط والقرائن([15])، لأنّ المجتهد لا يستطيع "معرفة الحكم الشرعي من خلال نص جزئي"([16])، بل لا بدَّ من أن يأخذ الموقف من مجموع النصوص القرآنية والنبوية([17])، التي تمكِّن الفقيه من الإحاطة بكامل التفاصيل، خلافاً لما كان سائداً قبل بلورة هذا المنهج، حين كان الباحث يواجه عثرات يعجز، في بعض الأحيان، عن جسرها. وكلام السيِّد فضل الله، كما يحتمل الالتزام بالمنهج الموضوعي، يحتمل، أيضاً، الأخذ بالمنهج البنوي أو الكلّي، أي اعتبار النصوص - القرآنية والنبوية ـ منظومةً معرفيةً وتشريعيةً واحدةً تتبادل الإشعاع، وتقيم فيما بينها شكلاً من أشكال التناسج.

رابعاً: الشريعة ومنظومة المصالح والمفاسد

يَعْبُر الكلام عن المصالح والمفاسد بقائله إلى العلم الأكثر خصوبةً، أي علم المقاصد الكلية للشرع، وهو المدخل الذي اختاره أوائل من تحدّث عن المقاصد، عندما اتكأوا في تأسيساتهم على مقولة دوران الأحكام الشرعية مدار المصالح والمفاسد، وهذا ما تخيّره السيِّد فضل الله كمدخل للحديث عن المقاصد.

وقد تتبّع السيّد فضل الله المنتّج من الأحكام لدى الفقهاء، ليستخرج ما قرّ في وعيهم حول تلك العلاقة، وخصوصاً في موارد التزاحم، حين يواجه المكلف حكمين فعليين في آن واحد، ويُطالب باختيار واحد منهما، فحينئذٍ لا بُدّ من أن يقدّم واحداً ويؤخر آخر وفق معيار المصلحة الأهم، كوجوب إنقاذ الغريق إذا تزاحم مع حكم وجوب أداء الصلاة، أو إطفاء حريق قد يأتي بضرر كبير مقابل حرمة هدم جدار منزل الغير من دون إذنه ليعبر منه إلى مكان الحريق...إلخ.

إزاء هذا التزاحم بين الحكمين، يقف الإنسان متأملاً في المصلحة الأرجح، وهنا اختلف الفقهاء والمذاهب، وتحديداً في علم الكلام، حول إمكان أن يلعب العقل دوراً في الترجيح، وخصوصاً في المسائل غير العبادية؛ فالبعض ذهب إلى الإمكانية، والبعض الآخر رفضها استناداً إلى مقولة "الحسن هو ما حسّنه الشرع والقبيح هو ما قبّحه". إلاّ أن السيِّد فضل الله انحاز إلى الرأي الأول في صورة صريحة، عندما قال إنّ على الإنسان أن يستنطق عقله([18])، بناءً على المبنى الكلامي([19]) الذي

يلتزمه السيِّد القائل: "إنّ الله قد فرض الأحكام من أجل المصالح والمفاسد"([20]).

لأول وهلة، قد يبدو الحديث عن المصالح والمفاسد ضرباً من الكلام عن البديهيات، غير أنّ من يتتبّع المعضلات التي تواجه الفقهاء وولاة الأمر فيما يخصّ الأحكام الولايتية، يدرك حيوية البتّ في هذا المبنى الكلامي، وإمكان الأخذ بحكم العقل في مسائل تغليب المصالح الأهمّ على المصالح الأقلّ أهميةً، أو درء المفاسد الأخطر مقابل تلك الأقلّ خطراً([21])؛ كقضية تترّس الكفّار بأسرى المسلمين، وتوقف النصر على تعريض الأسرى لخطر الموت، أو شق طريق، تفيد في التيسير والتسهيل، في أرض الغير من دون إذنه أو رضاه... وغيرها من المسائل. وقد يعترض البعض على هذا الترجيح لجهة صلاحية من يبتّ في الأمر، وأنّه هل يحقّ للفرد أن يحسم أمر المصلحة أو المفسدة؟ ومن يضمن عدم تسلل الهوى الشخصي والميل الذاتي في عملية الترجيح؟

ومع وجاهة التساؤل السابق وواقعيته، إلاّ أنّ الفقهاء، ومنهم السيِّد فضل الله، أجابوا بأنّ الجهة الصالحة للبتّ ليس الفرد المعني بالموضوع، وإنما أهل الخبرة الذين يعود إليهم حصراً حقّ تشخيص المصالح والمفاسد([22]).

                        خامساً: أسباب عدم الاشتغال بالمقاصد

ثمّة أسباب كثيرة، حالت دون اهتمام العقل الأصولي الإمامي بعلم المقاصد؛ ففضلاً عن العامل التاريخي، الذي سبقت الإشارة إليه في بداية البحث، الذي يفسّر سبب غياب أيّ حديث عن المقاصد في التراث الفقهي الشيعي، والذي أرجعناه إلى انسحابهم من حياة العامة ونأيهم عن السلطة وتحدياتها، نرى أنّ للسيِّد فضل الله قراءته الخاصة في هذا الأمر، إذ هو يرجع الغياب إلى ما يسميه "عقدة القياس"([23])، باعتبار أنّ الفقه الإمامي يرفض القول بمشروعية القياس "جملةً وتفصيلاً"([24]). غير أنّ السيِّد فضل الله تمكّن من إحداث خرق، في هذا الإطار، عندما وضع إصبعه على العقدة الخفيّة في موضوع القياس، فبادر إلى حلِّها وكشفِ الجانب الملتبس فيها.

فتوهّم القول بمشروعية القياس مطلقاً عند المذاهب الأربعة، حمل المذهب الإمامي على التطرف في رفضه، مع العلم أنّ المذاهب كلّها لا تقول بجواز العمل بالقياس في العبادات، وهو ما يحوّل الخلاف بين المذاهب إلى مجرّد سوء فهم ليس إلاّ، فضلاً عن إضافةٍ ينفرد بها السيِّد فضل الله، حين يعيد المشكلة إلى "فهم النصوص ومواردها"([25])، فعندما تكون الموارد مجرّد نماذج لفكرة، فإنّ مجرّد تحديد الفكرة العامة، يُسهِّل على الفقيه إمكان تطبيقها على الموارد الخاصة والجزئية، فإذا استطاع الفقيه انتزاع العنوان العام من الموارد الخاصة، فلا يبقى ثمّة موجب لاستخدام القياس وغيره، وتضحي الآلية المعتمدة هي تطبيق القاعدة العامّة([26]) على الموارد الخاصة، وهذا لا يعدُّ قياساً، وإنّما تطبيق للكلّي على الجزئيات. والمفتاح الآخر الذي أمسك به السيِّد فضل الله، وهو من المداخل المفصليَّة، يتمثّل بالتّمييز، منهجياً، بين العبادات والمعاملات، فإذا كانت "عقدة القياس" تنحصر بالعبادات، فإنّ المعاملات، وهي المساحة الأكبر التي تتصل بحياة النّاس، وفقاً لرأيٍ فقهيٍّ "يستقربه"([27]) السيِّد، هي الدائرة التي يلعب الناس والعقلاء دوراً في رسم حدودها وشروطها، ودور الشرع فيها لا يتجاوز مسألة الإمضاء والتأييد، إلاّ في حال وجود نص يُخالف رأساً ما تسالم عليه الناس. فالشرع، في الإجمال، لم يتدخل إلاّ في الجوانب العبادية أو في بعض التشريعات "التي لم يكن للناس عهد بها"([28])، أو مما " اعترض فيه العقلاء كما في الربا"([29])، وفيما عدا ذلك، فقد أطلق الشارع الحريّة في التعامل بالشؤون التدبيرية على نطاق واسع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ}([30]). وبما أنّ دائرة اشتغال المعاملات واقعة في نطاق المعقول، فإنّ عللها ليست عصيّةً على الكشف، وبمقدور العقل أن يُدركها، ما دام منشأها النّاس وما جرى عليه عُرْفُهم. وعليه، يُضحي القياس في هذه الدائرة مسوّغاً ومقبولاً، بل أكثر من ذلك، يُصبح أمر صوغ الكليات واستخراجها، من المهام المُتاحة، من دون أيّ محذور جرى الكلام فيه في دائرة العبادات.

إذاً، لا يتساوى الكلام في العبادات مع الكلام عن المعاملات، فلكلّ دائرة من الدائرتين خصوصيتها، وإذا كانت الأولى ليست مسرحاً للعقول، وهي من الأمور التوقيفية([31])، وتقتصر معرفة عللها على المنصوص عليه، فإنّ الدائرة الثانية على خلافها لجهة إمكان تعقّل عللها.

ومعضلة العقل الفقهي الإسلامي، تكمن في الخلط بين الدائرتين، وتسرية ما ينطبق على الأولى إلى الثانية، وهذا الخلط هو الذي أوهم البعض بتعطّل دور العقل، وبالتالي الركون إلى التقليد والاتباع.

وكي لا يبقى الكلام السالف أسير الإجمال والغموض، يمكن تعقّل مشتملات الدائرة التدبيرية (أي المعاملات)؛ فهي تتضمن السياسات والعقود والعلاقات التجارية والعلوم والحِرف والإدارة والتربية وغيرها الكثير، حتى إنّ البعض قدّر نسبة حضور هذه الدائرة في حياة الناس بما يُقارب التسعين في المئة.

وإماطة اللثام عن الفروق بين دائرتي التشريع والتدبير، أو بين العبادي والمعاملاتي حصل في زمن مُبكر، نسبيّاً، فقد وضَعَهُ القرافي، في القرن السابع الهجري، تحت دائرة الضوء منذ ذلك الوقت، إلاّ أنّ الفقهاء والمتخصصين لم يحسنوا، إلى يومنا، تثمير هذه الفروق، بدليل استمرار الخلط والغموض، وهو ما ترك آثاره على علم المقاصد، الذي تعامل معه البعض بحذر شديد، اعتقاداً منه (أي من هذا البعض) أنّ المقاصد غير قابلة للتعقّل والإدراك.

قد يوحي الكلام السابق بأنّ المقاصد الكليّة محصورة بالشأن التدبيري، لإمكان تعقّلها، وأنّه لا يجوز الخوض في الدائرة العبادية لخفاء عللها ومناطاتها، مع العلم أنّ القرآن الكريم يتحدّث صراحةً عن التزكية([32]) والهداية([33]) والاستقامة([34])، وهي مقاصد صريحة تناولها النصّ القرآني في غير سورة، وكذلك الأحاديث والروايات. بل أكثر من ذلك، لم يترك القرآن الكريم مفردات العبادات من دون ذكر لمقاصدها؛ فالصلاة، مثلاً، شرّعت لتنهى النّاس عن الفحشاء والمنكر([35])، والصوم ابتغاء التقوى([36])، وهي تتضمّن النهي عن الفحشاء والمنكر، إلى غير ذلك من التكاليف العبادية التي ذكرت مقاصدها بصورة واضحة وصريحة. إذاً، ليس ثمّة معوّقات تحول دون التأسيس لعلم المقاصد في الدائرة العبادية، وهي الأكثر تحفّظاً، فضلاً عن إمكان التأسيس في الدائرة التدبيرية، التي يسهل تتبّع مقاصدها، لوقوعها في مجال المعقول البشري، كما أشرنا سابقاً.

نعم، قد يقع التوهّم في إمكان معرفة المقاصد الجزئية والتفصيلية لكلّ حكم شرعي عبادي، كأن يُسأل عن مقصد جعل صلاة الصبح ركعتين والظهر أربعاً، أو أن تكون الصلاة بهذه الكيفية لا بكيفية أخرى، وأن يكون الطواف حول الكعبة في الحجّ سبعاً وليس أقلّ أو أكثر، وترتيب مناسك الحجّ بالصورة التي يعرفها المكلّفون، وكذلك الأمر في الصيام وانبساطه من الفجر إلى الغروب، أو أن تكون أيّامه بعدد أيّام الشهر القمري، إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة التي يَعْسُر حصرها.

ومنشأ التوهّم يعود إلى الخلط بين المقاصد الكليّة والمقاصد الجزئية، إذ لا يزعم أحدٌ من المقاصديين أنّه قادر على تقصّي المقاصد الجزئية من النصوص الشرعيّة، بل الجميع متفقون على أنّ علل الأحكام التفصيلية توقيفية، بمعنى توقّف معرفتها على إرادة الشارع وحده، وأنّ المكلّف يتعبّد بما صرّحت به النصوص من علل، وفي الوقت عينه، يلتزم بالتكاليف غير المعلّلة، من دون أن يجرؤ أحدٌ على القطع بعلّةٍ ما على نحو استنسابي أو اجتهادي، لأنّ هذه الأحكام وعللها ليست مسرحاً للعقول، كما صرّح بذلك السواد الأعظم من الفقهاء.

بعدما جلا السيِّد فضل الله الغموض اللاحق بالقياس الذي تحوّل لدى البعض إلى ما يُشبه "العقدة" التي حالت دون انبساط البحث والتفكير في المقاصد، وولج باب المعاملات التي حُمِّلَت أثقال العبادات، وقام ببلورة الفروق بين الدائرتين (أي العبادات والمعاملات)، ووقف على الحقل المترامي للتدبيرات، وهما المانعان الأساسيان لظهور علم المقاصد في التفكير الفقهي والأصولي عند الإمامية، باتت الطريق معبّدةً أمام العقل الأصولي للتفكير في العلم الذي خاضت فيه المذاهب الأربعة طويلاً، أي علم المقاصد الكلية للشرع. ومن يتأمّل في المسار التاريخي، يُدرك أنّ ثمّة عاملاً آخر كان وراء عدم اشتغال العقل الشيعي بالمقاصد، وهو ابتعاد الإمامية عن الحياة السياسية التي، عادةً، ما تولِّد الدوافع والحوافز للإجابة عن تحديّات الواقع.

إزاء هذه القراءة لظاهرة عدم اشتغال العقل بالمقاصد، تاريخياً، والصحوة المتأخرة لبعض الفقهاء والباحثين الإماميين، يأمل الكثيرون أن تفضيَ هذه الاستفاقة إلى معالجات جديدة، غير مسكونة بالتهيّب من الماضي، ومتحرّرة من قداسة المُنجز تاريخياً، الأمر الذي يؤهّلها لممارسة النقد من جهة، وتقديم منظومات مقاصدية معاصرة تنطوي على خبرات علمية جديدة، وتجارب عميقة في السياسة وإدارة الشأن العام. ومن يُراجع ما كُتب خلال العقد الأخير، يمكنه التنبّؤ بما سترعف به الأيام من مساهمات في هذا الحقل الجليل.

سادساً: خصوصيات المقاصد

 هناك مائز أساسي، تجدر الإشارة إليه، بين العناوين المقاصدية والفتاوى والأحكام الشرعيّة، هو أنّ المقاصد الشرعيّة لا تُبنى على الظنيّات، بل هي تأبى الانزياح عن اليقينيات، لأنّها لا تتعلّق بحكم شرعيّ جزئيّ، محدود التأثير، وإنّما تقع في دائرة العناوين الكليّة التي يُستهدى بها في عملية الاستنباط، تماماً كعلاقة الدستور بالقانون، فالأول هو بمثابة الروح للثاني، فمنه تتناسل التشريعات الجزئية، وبه تضبط حدودها، وبالتالي درجة صدقيتها ووثاقة قوّتها.

وبناءً على ما تقدّم، أولى السيِّد فضل الله أهميةً خاصةً للمقاصد في المعاملات وفي الدائرة التدبيرية، لسببٍ وحيد، هو إمكان معرفة "الكثير من علل الأحكام"([37])، ومجرّد معرفة سرّ الحكم، بصورة توحي بالاطمئنان، يُصبح في مقدور الفقيه "تسرية الحكم من موضوعٍ إلى موضوعٍ آخر"([38])، بمعنى إجراء القياس، وإن كان المورد، هنا، ليس مورداً للقياس، وإنّما من باب تطبيق الكلّي على الجزئي، لأنّ المقاصد ترنو إلى التقاط الكليات واستنباطها، خلافاً للقياس الذي ينشغل في متابعة أو ملاحقة العلل الجزئية للأحكام لتسرية الحكم من موضوع إلى آخر.

وبما أنّ المقاصد في الأساس شغوفة بالكليات، فإنّ إمكان إدراك عناوينها في العبادات لا تقلُّ حظوظها عن التدبيريات أو المعاملات، كما مرّت الإشارة إلى ذلك، اللّهمّ إلاّ إذا كان قصد السيِّد فضل الله هو الوقوف على المقاصد الجزئية، لكن ذلك لا يُصار إلى معالجته قبل البتِّ بالكلّيات.

والمتابعة الدقيقة لآراء السيِّد، توحي بأنّه ينشد المقاصد الجزئية، كأن يقول "بإمكان التسرية من موضوع إلى موضوع"، أو "عندما يكون هناك قطع، فالقطع حُجّة"، وإذا ارتقى الفقيه في متابعته إلى مستوى القطع، فعندها لا مانع من القول بالمقاصد([39]) أو الإيمان بها. وهذا الانشداد إلى الجزئيات لا ينفرد به السيد فضل الله، فهو يؤكّد السِّمة العامة المُشتركة التي حكمت العقل الفقهي الإسلامي الشيعي طوال قرون كأصلٍ منطقيّ أملته ظروف بقائهم خارج السلطة. والمثير للاهتمام، أن الفقه الشيعي لم ينجح، إلى الآن، في تجاوز العطب التاريخي، على الرغم من وصول أطروحته (الفقه) إلى السلطة منذ ما يزيد على الثلاثة عقود، وهي مدة كافية، لمن واكبها وعايشها بكلّ تفاصيلها، لتحدث لديه صدمة معرفية تفضي إلى مراجعة منهجية، يرقبها المهتمون والمتابعون، علَّها تعيد صوغ الأحكام بما يتناسب والتحوّلات العميقة، وتفتح أبواباً جديدةً لم يكن العقل الفقهي قادراً على تصوّرها قبل هذا التاريخ، كفقه السلطة، والأقليات، والشورى والديمقراطية، وفقه المال، وفقه المآلات، وفقه الأولويات، وفقه المواطنة، وفقه الجهاد والدفاع وغيرها الكثير. قد يقول البعض إنّ الكثير من هذه الأبواب قد عُولِجت بصورة بحوث مُستقلة، وهو على الحقّ فيما يقول، لكن هذه البحوث لم يجرِ تسييلها على هيئة أحكام شرعية جزئية، كما هو حال الفقه في الرسائل العملية التي عادةً ما يلتزم بها المكلَّفون ويقرأونها ويحفظونها عن ظهر قلب.

سابعاً: بدايات واعدة

 تؤشِّر بعض النصوص والأقوال المنشورة في غير مكان، إلى أنّ فكرة المقاصد الكليّة قد بدأت تأخذ طريقها إلى كتابات السيِّد فضل الله، بما يتجاوز "القياس" أو العلل الجزئية، الأمر الذي يشي بإمكان تعميق الفكرة وتوسّعها، لترتسم في هيئة منهج جديد لم يكن مألوفاً لدى الفقهاء، بمن فيهم السيِّد نفسه.

فإذا أخذنا قول السيِّد فضل الله، بأنّ "العدل بمفهومه الشامل في القرآن الكريم فكرة مفادها أنّ العدل قاعدة"([40])، فبإمكاننا التأسيس عليه لجهة الانتقال من الجزئي إلى الكلّي، وبالتالي الانطلاق من قيمة العدل لمحاكمة الكثير من الأحكام التدبيرية، وخصوصاً عندما يُشير إلى دور العقلاء في تشخيص الموارد التي ينطبق عليها العدل، أو في رسم خطوط تلك القيمة التشريعية على نحو تفصيلي([41])، ذلك أنّ العدل، الذي يعني إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، يحتاج إلى مرجعية عقلائية تتولى دراسة الوقائع والموارد بصورة موضوعية، بعيداً من الذاتية، لتكون منحازةً، ما أمكن، إلى الحقّ. وقد وضع القرآن الكريم بعض الضوابط التي يأمر بالأخذ بها كي لا يميل المرء عن الحقّ، كقوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}([42])، وقوله {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا...}([43])، وقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى...}([44]). وهذه الآيات وغيرها الكثير، تنهى عن اتّباع الهوى المتضمن معنى العصبية الرَحَمِيَّة، وبإزائها السياسية وغيرها. ولما كان الإنسان، في غالب الأحيان، يُصاب بالضعف أمام الأهواء والعصبيات وروح العداوة، فإنّ أمر حصحصة الحقّ وتشخيصه يترك لذوي العدل من الناس، الذين تؤوب إليهم النّاس في المواقف الحرجة التي تفترض الحلول المُنصفة، ولذلك أمرَ الله الناس بالعودة إلى العدول، كي لا تضيع الحقوق في تلافيف الأهواء والمصالح الشخصية.

إلاّ أنّ القول بالعدل كمقصدٍ، لم يُقاربه العقل الفقهي الشيعي في الأحكام والتكاليف، وأبقاه أسير المجادلات الكلامية، التي اشتغلت بالعدل الإلهي عن العدل في العلاقات الإنسانية، ولذلك لا نعثر على أثرٍ لمقصد العدل في البحوث الأصولية التي ترفد، عادةً، الفقه بالقواعد التي تقع نتيجتها في طريق الاستنباط([45]).

لم يكتفِ السيِّد فضل الله بمقصد العدل وإنّما خطا خطوةً أخرى باتجاه بلورة منظومة مقاصدية، حين تحدّث عن مقصد الأمن الاجتماعي من خلال القصاص والعقوبات {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ...}([46])، والتي لاحظ فيها عنصر الديمومة والاستمرار لحيوية المقصد الذي يحكم القصاص في الدنيا([47]).

والأمر عينه نلمسه لدى معالجة السيِّد فضل الله للمسألة السياسية، ولبداية وجود وليّ أمر يدبّر شؤون الأمّة، لا من موقعه الذاتي، وإنّما من خلال الاستهداء بالخطّ الإسلامي العام الذي يفرض عليه الاستعانة "بأهل الخبرة في تحديد الموضوعات"([48])، في إطار ما يُعرف بمنطقة الفراغ التشريعي([49]).

غير أنّ الحديث عن مقصدٍ هنا ومقصد هناك، لا يروي ظمأ من يتوق إلى معرفة الهندسة الإسلامية الكاملة للمقاصد، ومع ذلك، فإنّ مجرّد الحديث عن المقاصد ومبارحة اللغة الإجمالية إلى التفصيل، ينبئان بوجود تحوّل في التفكير الأصولي والفقهي، يؤمل منه أن يرتفع إلى مستوى وضع أطروحة خاصة بالسيِّد فضل الله، تكون قاعدةً تشحذ همم الطلبة والباحثين لتقديم المزيد، وبالتالي المراكمة، وإن استلزم ذلك النقد، لأنّ البدايات الأولى لأيّ علم، تفترض مثل هذه الحيوية التي تولِّد طاقةً جديدةً وهكذا...

ما يمكن قوله، بعد هذه المتابعة لآراء السيِّد فضل الله، هو أنّ ثمّة إرهاصاً ينبئ بإمكان كسر رتابة البحوث الأصولية والفقهية، التي لم يعرض عليها التطوّر منذ قرون، وخصوصاً إذا كانت المحاولة صادرة من مجتهد مخضرم، عايش مرحلتي ما قبل قيام الدولة الإسلامية المعاصرة، وما بعدها، وهو ما كان الكثيرون يراهنون عليه، لأنّ الإضافة العلمية لا يتوقّع حصولها ممن يعيش الغربة عن الواقع، وإنّما ممن يُنظِّم خفقان قلبه على إيقاع نبض الحياة. فالتطوّر العلمي لا يتأتى من فراغ، وإنّما من حرارة الأحداث ولسعات التحدّيات، والخبز ما كان لينضج لولا نار التنّور الملتهبة، هذه سنَّة الحياة في الأشياء، والأفكار والرؤى لا تحيد عن هذه السُّنَّة، بل هي في أُسِّها.



العبادات

محسن عطوي

عالم دين لبناني، مواكب للسيّد



أولاً: مفهوم التقوى

ثانياً: الصلاة معراج المؤمن

ثالثاً: الصوم وصناعة التقوى

رابعاً: الحجّ وفادة الله

خامساً: مسؤولية المال وعبادة العطاء





    




ترتكز علاقة الإنسان بالله على المعرفة التي يمتلئ بها العقل إقراراً له تعالى بمطلق الكمال وجليل الصفات ومقام الربوبية والمالكية، والتي يتبدّى منها معرفة الإنسان بضآلته أمام عظمته تعالى، وبعجزه أمام قدرته، وبحاجته أمام غناه، فهي تلك المعرفة المزدوجة المتعاكسة الجدلية، (فمن عرف نفسه فقد عرف ربَّه)([50])، لأنّها أوّل الأشياء حضوراً لدى العقل، وأكثرها وضوحاً، فينتقل من معرفته بنفسه الفريدة التكوين، والجاهلة الواهنة المخلوقة، إلى التعرّف إلى الخالق المبدع القويّ العالم، فتنعكس معرفته بربّه عزّ وجلّ مرتدةً على النفس، لتزيدها سطوعاً بالمعرفة بحالها، وذلك بما سيعرّف اللهُ الإنسانَ عليه من خلال الوحي وتراكم المعلومات والتجارب.

إذاً، فإنَّه حين يعرف الله عظيماً جليلاً كاملاً، بل الأعظم والأجلّ والأكمل، دون شريك ولا شبيه ولا منازع، سينحني أمامه تعبيراً عن امتلاء نفسه بالإقرار له بالكمال والعظمة، والاندهاش من هيبته وجلاله، والانتشاء بمشاعر التَّواجد في ساحة قدسه، وذلك مثلما يعجب وينبهر وينتشي، وربّما ينحني، أمام العبق الرَّائع لأريج زهرةٍ وبديع تكوينها، أو أمام تناسق مشهدٍ ربيعيٍّ لوادٍ تحيط به الخضرة، وينساب فيه الماء، وتغرِّد فيه الطيور، أو أمام كلمةٍ بليغة يَسحَرُك تناسقُ ألفاظها وجمالُ معانيها ورنين جرْسها، إذ رغم اختلاف طرق التعبير عن تقدير العقل، أو النفس، للوردة والوادي والكلمة والله تعالى، وذلك بالتلطّف بلمس الوردة ثمّ شمّها بعمق وشوق، وبالانبهار بمنظر الوادي والرّغبة في البقاء الدّائم فيه، وبالطّرب والتّلذّذ باستماع الكلمة، وبالانحناء حتّى درجة السّجود لله تعالى، فإنّ معدن ذلك التّقدير وجوهره واحد، فلولا تلك المعرفة بقيمة الوردة والوادي والكلمة، لما كان قدّرها، ولولا تلك المعرفة بمقام الله تعالى وعظيم منـزلته لَمَا انحنى أَمامه تقديراً واحتراماً، لذا كان "أوّل الدين معرفته"([51]) تعالى.

إنَّ الانحناء أمام الله تعالى هو الَّذي سُمّي (عبادةً)، لأنّ فاعل الانحناء يشعر بالصَّغار والذِّلّة والاستكانة والضعف والحاجة إلى الله الكبير العزيز القويّ الغنيّ، فالإنسان (عبدٌ) مملوكٌ لا يقدر على شيء، والله (الملك) الذي بيده كلُّ شيء، فهو (يعبده)، أي يبدي ضعفه أمامه وحاجته إليه، ويقرّ بعظمته وشكره له، ويلْهَج بآلائه وجميل صفاته، وذلك بعقله وبمشاعره أوَّلاً، ثم بجوارحه التي حرّكها انفعال العقل والمشاعر ثانياً، ليصير كلُّ كيان الإنسان ظاهراً وباطناً مشغولاً بحالة العبودية الواعية هذه، وليكون في عبادته جزءاً من كونٍ (يسبّح) كلُّه لله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}(الإسراء:44).

ولكنّ (العبد) يسمو بالعبادة ويكبر، لأنّه إنّما يتعبّد لله تعالى، فكما يشعر أحدنا بالزَّهو والأهميَّة حين يتعرّف إلى من هو أغنى وأعلى مقاماً وأكثر جاهاً وأعظم نفوذاً من بني البشر، ويزداد زهواً وشعوراً بالأهميَّة كلَّما كان من يتقرَّب إليه أعلى درجةً فيها، فإنّ الإنسان سيكون أشدَّ زهواً واعتداداً وسعادةً حين يتقرَّب إلى الله تعالى، ربّ الأرباب، وملك الملوك، والإله الذي لا مثيل له ولا شريك، بل إنّ غاية خلق الإنسان عاقلاً مدركاً، هو أن يعرف الله تعالى، فيسعد ويلتذّ بالمعرفة له والقرب منه، إذ {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذّاريات:56)، أي ليعرفوه فيعبدوه، لأنَّ المعرفة تفضي إلى العبادة التي هي طريق القرب من المعبود، وباب الوصول إلى الحبيب والتنعّم برضوانه والسّعادة بقربه.

والعابد، في الحقيقة، ليس هو هذا (الفرد) منفصلاً عن (الجماعة) التي لا غنى له عنها، فلا بدَّ من أن تكون الجماعة عابدةً، فيكون كمال الإنسان في العبادة فرداً وجماعةً، فيسعى إليه تعالى، ويكدح للقائه في مختلف جوانب نشاطه، في نفسه يجاهدها ويهذّبها ويحملها على الطاعة والمحبَّة للآخرين، وفي أسرته يديرها ويتَّجه بها نحو الخير ويقوم بمسؤوليّتها، وفي أمَّته يتكامل معها ويقيم فيها العدل والصَّلاح والفضيلة، ذلك أنَّه تعالى يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(التوبة:71).

ولئن كانت العبادة (ذِكراً) لله تعالى واستحضاراً له في النَّفس، فإنّه يجبّ أن يترتَّب على ذلك مهابته والخشية منه، والحرص على التزام طاعته واتقاء غضبه واستجلاب رضاه، لذا تعاونت جميع (العبادات) على تعزيز جانب التّقوى في النّفس، والورع عن المحارم، والانتهاء عن الفحشاء والمنكر، والعمل على جعل التقوى ممتدّةً تطال مختلف جوانب النشاط الإنساني الفرديّ والاجتماعيّ، سواء في ذلك الطهارة والصلاة والصوم والحجّ والزكاة، بما لها من عناصر مشتركة، أو بما لكلّ منها من خصائص يتميَّز بها.

إنّنا في البحوث التالية قد واكبنا سماحة سيّدنا الإمام محمّد حسين فضل الله، دام ظلّه الوارف، في سياحةٍ فكريّةٍ رائعة، قدّم لنا فيها ما انقدح من فكره من معاني هذه العبادات الجليلة وفوائدها، مما استنبطه من مصادره الأصيلة، ووعاه في عقله النيّر ونظرته الثاقبة وتجربته الحكيمة، وكتبه بقلمه أو ألقاه على سامعيه.

وقد كان دوري في هذه البحوث أنَّي جمعت ما تناثر من كلام سماحته المبثوث في كتبه الكثيرة، ممّا له علاقة بموضوع واحد، ونسَّقته ورتبته وعنونته بالنحو الذي ترونه أمامكم، مضيفاً فقرات هنا وهناك، هي ضرورية لربط النصوص المنتقاة من كلامه أو التقديم لها، مع شيءٍ من التصرّف في بعض النصوص اقتضاه كون ذلك النص في أساسه موعظةً كان قد استرسل سماحته في التعبير عنها.

وفي ختام هذا التّصدير، أرى لزاماً عليَّ أن أعبِّر عن سروري بالتشرُّف بالقيام بهذا العمل الذي أحاول به أن أوفيَ سماحته بعض حقّه في توجيهي وتعليمي والتشرّف بصحبته والاستفادة منه على مدى يزيد عن أربعين سنةً، كما أرى لزاماً عليّ أن أشكر إخواني في إدارة هذه الموسوعة على ثقتهم بي حين اختاروني لإعداد هذه البحوث في موضوع العبادات، داعياً لهم بدوام التوفيق لكلّ خير.

والله تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

أولاً: مفهوم التقوى

    شمولية الإسلام

رغم أنّ العبادة هي الجانب الأهمّ من النشاط الإنساني الذي يراد به - أساساً - إظهار الخضوع لله تعالى والتعبير عن تعظيمه وشكره، فإنّها لم تكن هي (كلّ) الدين، ليكتفيَ بها الدين فيما أراد من هدف، أو رسمه من منهج، لأنّه حين يكون الهدف إعمار الحياة بمجالاتها كافّة، وحين توكل هذه المهمّة إلى الإنسان استخلافاً لله وتولية من الله تعالى، وحين يجب أن يتجلّى هذا الإعمار سعادةً في النفوس، وعدلاً في الحكم، واستقراراً في المجتمع، ونقاءً في البيئة، ومودّة بين الناس، وازدهاراً في الموارد، وانتظاماً في الحركة، وأصالةً في الفكر، وشيوعاً للفضيلة، وكرامةً في الأوطان، فإنَّ على الدين أن يواكب ذلك كلّه، فيشرّع له، ويقود الناس نحوه، ويختار لهم أكمل الخلق لينجزوا مهمّة التبليغ والتشريع والقيادة، وهو إعمار لن يتمّ إلا إذا تناغم هذا الكلّ في نسيج متجانس متكامل.

ولقد تحدّث السيّد عن هذا الدور وهذه الشمولية للدّين، حين رفض (النظرة التجزيئية التي حاولت أن تنظر إلى كلّ جزء في الإسلام بعيداً عن الأجزاء الأخرى، فتقرأ لأولئك المفكّرين المسلمين التجزيئيين عن البعد الروحي، وعن البعد الاجتماعي، وعن البعد السياسي، وعن البعد الاقتصادي، كما لو كان كلّ واحد منها موضوعاً مستقلاً في طبيعته؛ ما أدّى إلى بعض الانعكاسات السلبية على واقع التصوّر الإسلامي، بل والممارسة العملية للمسلم في التزامه ببعضٍ من هذا الدين دون بعضه الآخر.

إنّ هذه النظرة تبعدنا عن الفهم الشمولي للإسلام، لأنّه يختزن في كلّ جانب جانباً آخر، فنحن مثلاً عندما ندرس الناحية الاقتصادية في الإسلام، لا نجد فيها جوّاً مادياً يتحدّث عن العلاقات الاقتصادية وطريقة تحركها في علاقات الإنتاج والتوزيع وما إلى ذلك فقط، بل نجد  -إلى جانب ذلك - عمقاً روحياً، ومنهجاً أخلاقياً، وحركةً اجتماعيةً وسياسيةً، في نطاق حركة الفرد والمجتمع، ما يوحي إلينا أنّ هذه الأبعاد كلّها تتكامل لتكوّن البعد الاقتصادي الذي يتغذّى منها جميعاً. وفي ضوء ذلك، فإنّنا لا نستطيع أن نفصل الجانب الذاتي عن الجانب الموضوعي في المسألة الاقتصادية.

وإذا أردنا أن ندرس البعد الأخلاقي في الإسلام، فإنّنا لن نستطيع دراسته في نطاق النظرية الأخلاقية من الجانب الفلسفي، بل لا بدّ من استحضار المجالات الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، حتى نقف على الجانب العبادي، لنجد الخطوط الأخلاقية تمتدّ إليها من جهة، وتنطلق منها من جهةٍ أخرى.

وهكذا، لن تجد الجانب الروحي مفصولاً عن الجانب المادي، بل تجد هنا لوناً من التزاوج الواقعي والعملي والتفاعل النظري بينهما على مستوى التصوّر في تركيز النظرية الإسلامية في تفسير الكون والحياة والإنسان). (رسالة الحج، العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله ، 70-72).

(وعلى هذا الأساس، نستطيع أن ندخل إلى الواقع الإسلامي للإنسان المسلم من خلال الحالة التكاملية، لنوجّه السلوك العملي من هذا المنطلق، ولنتخلّص من كثيرٍ من الخطط التي أثارها الكفر في وعي الأمة، وحرَّكها الاستعمار في حياتها، عندما فصل الإسلام عن الواقع، من خلال الفصل بين أجزاء الواقع ومفرداته، فجعل القضية المطروحة، أنّ هناك ديناً ودنيا، وأنّ للدين دائرته، وللدنيا دائرتها، فآفاق الدين هي آفاق الغيب والروح والمثال، التي تنطلق معها العبادة في أجواء الصلاة والصوم والحجّ والدعاء والابتهال والتصوف وغيبوبة الذات عن الواقع. أمّا آفاق الدنيا، فهي آفاق الحياة العامة والخاصة في أجوائها المادية، في اجتماعياتها وذاتياتها، وسياستها واقتصادها، وحربها وسلمها، وشهواتها وملذاتها، وأنّ للدين ربّه، وللدنيا ربّها؛ والله هو ربّ الدين، وقيصر هو ربّ الدنيا، فليس لله أن يتدخل في صلاحيات القيصر وشؤونه، وليس للقيصر أن يدخل إلى ملكوت الله وساحته. وهكذا أُدِخلَ الإسلام في هذه الدائرة فقط، وبقيت الدوائر الأُخرى تنتظر الفكر الآخر، والقوّة الأُخرى التي لا مكان فيها للإسلام). (رسالة الحج: 72-73).

    شمولية العبادة

ولئن كان الإسلام مزيجاً رائعاً بين الشريعة والعقيدة، ومزاوجةً فريدةً بين العقل والعاطفة، ونظاماً شاملاً ومستوعباً لمختلف جوانب النشاط الإنساني المتشابك مع حاجات الذات وسموّ الدور وأهمية الموقع، فهو في نظامه العبادي وسيرورته من خلالها بالإنسان نحو التقوى، قد انسجم مع هذه الطبيعة الشموليّة (فيما يريد أن يحقّقه من غايات في تنمية شخصيته، وفي مسيرة حياته، انطلاقاً من الفكرة الواقعيّة التي تنظر إلى الإنسان ككائنٍ ذي أبعاد تلتقي فيها الشخصية الفردية بالشخصية الاجتماعيّة، من دون أن تسمح إحداهما - في خصائصها الذاتيّة - بالانفصال عن الأخرى، كما يمتزج في داخلها الجانب الروحي بالجانب المادي، فليس هناك عنصر مادي تختنق فيه النفس في داخل الأسوار المادّية، وليس هناك عنصر روحي تحلّق فيه النفس بعيداً عن المادة، بل هي المادة النابضة بالروح، أو الروح المنطلقة في حركة المادة.

وفي ضوء ذلك، أكّد الإسلام ممارسة الإنسان للحياة بشكل طبيعي، واعتبر الانحراف عن

ذلك خروجاً عن التوازن والاستقامة، فقد جاء في بعض الكلمات المأثورة: «ليس منّا من ترك دنياه لآخرته، ومن ترك آخرته لدنياه»([52]).

كما أكَّد بهذه النظرة الشمولية، أنّه يريد لأيّة قضيّة من قضايا الإنسان، ولأيّة ممارسة من ممارساته، أن تتحرك في خطّ القضايا والممارسات الأخرى، بحيث تكمل نقصاً فيه، أو تسدّ فراغاً في وجوده، وبحيث يكون الكمال الفردي للإنسان مفتاحاً للكمال الاجتماعي). (رسالة الحجّ: 43-45).

    البعد العملي للعبادة

وأخطر ما قد يصيب هذه الشمولية البانية للإنسان الكامل، هو أن يساء فهمها ويحرَّف مسارها، فقد يخطر في بال القاصرين وفكرهم الواهن، أنّ العبادة ليست إلا استغراقاً في علاقة مثالية مع الله تعالى تجعله أكثر سمّواً كلَّما فارق علائق الدنيا وزخارفها، وقهر حاجات الجسد ونوازعه، وابتعد عن متع الدنيا وطيباتها، وقد أكّد السيّد هذا الجانب قائلاً:

(لقد أراد الإسلام أن يثير هذه النظرة الشمولية في تشريعه للعبادات، حين رفض النظرة الروحية التي تعتبر العبادة شأناً من شؤون السماء ولا علاقة له بالأرض، حيث زعم القائلون بها أنْ ليس مفروضاً للعبادة في قيمتها الروحيّة أن تحقّق هدفاً كبيراً تتحرّك على أساسه في شؤونها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، بل كلّ دورها ومهمّتها أن ترتفع بالروح الإنسانيّة إلى الله في غيبوبة روحيّة خالصة، يعيش فيها الإنسان روحانيّة الخشوع والخضوع والعبودية لخالقه، فيحسّ معها بالسعادة والنشوة والامتداد في أجواء المطلق والقرب من الله، وبذلك كانت الرهبانية مظهر السموّ في الروح، والإخلاص في العبادة، لأنّها تعزل الإنسان عن كلّ زخارف الحياة وشهواتها ومشاكلها وقضاياها الصغيرة، وتربطه بالله!!

لقد رفض الإسلام هذا الزعم، وعمل على تغيير هذه النظرة للعبادة من خلال تغييره للنظرة إلى دور الإنسان في الحياة؛ فإذا كان الإنسان خليفة الله في الأرض، وإذا كانت الأرض هي الساحة التي يريد الله لعباده أن يحققوا فيها إنسانيتهم في خطّ السموّ الذي ترسمه لهم رسالاته، وأن يخططوا في جوانبها برامجهم في شؤون النّمو والتقدّم والازدهار على أساس سنن الله في الأرض، فإنّ معنى ذلك، أنّ الدور الإنساني في رعاية حركة الحياة وإدارة شؤونها وتخطيط مراحلها وبرمجة أهدافها، ليس بعيداً عن إرادة الله ومحبته ورضاه، بل ربّما كان في قرب الإنسان من الله، وتأكيد عمق عبوديته له - فيما تمثله العبادة - باعثاً على تحقيق هذه المعاني في نفسه وحياته بطريقةٍ أفضل، وبإخلاص أكمل.

وقد أعطى الإسلام العبادة - في هذا الاتجاه - معناها الجديد، وطابعها المميّز، ودورها العملي، فلم تعد مجرّد حالة وجدانيّة روحية ذاتية يعيش فيها الإنسان مع ربّه، بل تحوّلت إلى قاعدة من قواعد التربية التي تتنوَّع فيها الممارسة لتحقّق للإنسان أهدافاً عمليةً، في حركة شخصيته، وفي مجرى حياته العامّة والخاصة). (رسالة الحج: 46-47).

    موقع التقوى في حركة العبادة

وحين نريد أن نستشرف آفاق هذه الأبعاد العملية للعبادات، نلتقي مع التقوى التي تبلورها هذه العبادة في شخصية المؤمن، فنجد أنّه يكاد يكون بين العبادة والتقوى علاقة تفاعل متبادلة وعميقة؛ فالتقوى التي تعمر قلب المؤمن، هي التي تستحثّه على الالتزام بما أمره به الله تعالى، وعلى رأسها العبادات، إضافةً إلى حثّها له على تجنّب ما نهى عنه. والعبادات لن يكون لها قيمة إذا ظلّت مجرّد حركات ظاهرية تنشط بها الجوارح دون أن يطال أثرها داخل الإنسان، ليعزّز فيه الشعور بالمسؤولية، ورقابة الله له، وخشيته منه، وحرصه على رضاه. ولئن كان المعنى اللغوي للتقوى هو ما يفيد معنى الحذر والصون وتوقّي الأذى والتستّر منه، فهي كحالة إيمانية، نجد أنّها ترتكز على معرفة الله تعالى، والتصديق بما أنزل من شرائع، واليقين بيوم المعاد، وبما أُعِدّ فيه للمطيع من نعيم، وللعاصي من عقوبة، وحينئذٍ، يدفع إيمان الإنسان وتصديقه بالشريعة والمعاد إلى الحرص على الطاعة، رغبةً في النعيم، وخوفاً من العقاب. وبما أنّ خوف العقاب هو الدافع الأشدّ للطاعة، فقد غلب اسم التقوى عليها، فسميّت حالةُ الطاعةِ هذه بـ (التقوى)، وسمّيَ المطيع (تقيّاً)، وصار لفظ التقيّ يرادف في معناه لفظ المؤمن والمطيع والعابد، كما أنّ لفظ التقوى صار يرادف لفظ الإيمان والطاعة والعبادة، وذلك رغم أنَّ حالة التعبّد لله تعالى بالفرائض، هي نتيجة للتقوى وناجمة عنها.

وقد يطول بنا الحديث ويتوسَّع إن استغرقنا في فذلكة لغوية، هي نافعة لكنّها غير ضرورية، ما دمنا سنُسْلم قيادنا للسيد الذي تجاوز ذلك حين ركَّز على مفهوم التقوى الناجز، ولا سيّما حين رآه يذوب في معنى العبادة ويرفدها، فلم يرها إلا ذلك المزيج الذي يصوغ شخصيّة المؤمن ويبني داخله. فحول مفهوم التقوى ومعناها، يرى السيّد أن (التقوى هي أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، بحيث تلتزم أوامر الله ونواهيه في كلّ أمورك). (الندوة، ج2، ص:558). و(المتقون، هم الذين حاسبوا أنفسهم ووقفوا في خطّ الانضباط أمام أمر الله تعالى ونهيه، عاملين على التوازن في حياتهم بين مسؤوليات الدنيا ومسؤوليات الآخرة، فلم تلغ آخرتهم دنياهم، كما لم تلغ دنياهم آخرتهم، فأطاعوا الله في كلّ ما أمرهم به ونهاهم عنه)(م.ن.، ص: 28).

(فالتقوى هي العنوان الذي يريد الله للإنسان أن يعيشه في حياته، ليكون الإنسان التقيّ اجتماعياً وسياسياً وعسكرياً، وفي جميع مجالات الحياة، لأنّ لكلّ شيء تقواه، فللسياسة تقواها، وللحرب تقواها، ولحالة السّلم تقواها، ولسائر مجالات الحياة الأخرى تقواها أيضاً(...) فما دام لكلّ شيء تشريع، فإنّ التقوى تكون حيث يكون الأمر الإلهيّ والنهيّ الإلهيّ) (الجمعة منبر ومحراب، ص: 184).

وحين نقرأ قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}(البقرة:197)، نعيش حالاً من الخوف على المصير تستحثّنا على الحرص على أن نصطحب في وفادتنا على الله تعالى زاد الأعمال الصالحة الذي يضمن لنا راحة المستقرّ ورضوان الحبيب الذي نشتاق إلى لقائه. هنا يقول السيّد: (وقد لا تكون قيمة هذه الأعمال فيما يتمثّل في صورها الظاهرة، بل فيما توحي به من التقوى الداخلية في إحساسها بالرقابة الإلهية الدائمة التي تطلّ على المنطقة الخفيّة من شخصيّة الإنسان من حيث كونه هو الذي يرفع درجته عند الله، بل إنّه تعالى في الآية الكريمة يخاطب الناس بأن يتَّقوه من خلال صفة العقل المغروز في كيانهم، لأنّ العاقل هو الذي يتطلَّب لنفسه الصلاح). (رسالة الحج، ص: 33).

وحول مفهوم العبادة، يرى السيّد فيه معنًى قريباً من مفهوم التقوى، حين يقول: (كلمة العبادة تعني غاية الخضوع لله تعالى بكلّ ما أراده من خلقه من الجنّ والإنس، بحيث تكون إرادتهم خاضعةً لإرادته، وحركتهم خاضعةً لأمره ونهيه، وتكون كلُّ حياتهم في الدنيا منطلقةً من خلال ما أراده لهم في تحمَّل مسؤوليّة خلافة الإنسان على الأرض. فالعبادة تتَّسع لكلّ ما يتَّسع له أمر الله تعالى ونهيه، ولكلّ ما تتَّسع له محبة الله ورضاه في الحياة، وهذا ما نستوحيه من الأحاديث التي تقول: "العبادة سبعون جزءاً، أفضلها طلب الحلال"([53])، أو "أفضل العبادة العفاف"([54])، أو "ما عبد الله بشيء أفضل من عفّة بطن وفرج"([55])، أو الأحاديث التي تتحدث عن أنّ طلب العلم عبادة، وأنّ "تفكّر ساعة خير من عبادة سنة"([56]) (دنيا الشباب، ص: 61).

(ويريد الإسلام من خلال العبادات، أن يصنع الإنسان التقيّ الذي يرتقي في حياته إلى درجة لا يحتاج فيها إلى سلطة تفرض عليه النظام والالتزام والاستقامة، بل إنّ شعوره بسلطة الله عليه وعلى الحياة كلّها، يجعله يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الناس، ويحاكم نفسه قبل أن يحاكمها الناس، وهو يمنع نفسه ويجاهدها كي لا تعتدي ولا تظلم قبل أن يمنعها الناس) (تقوى الصوم، ص: 117).

    تقوى الجوارح أم تقوى العقل؟

ولئن كانت التقوى بهذه المثابة من الأهمية في بناء الفرد وإصلاح المجتمع، وتطال آثارها مختلف مجالات النشاط الإنساني، فإنّه يُخشى أن يساء فهمها من حيث هي حالة وعي للنفس وللحياة وعلاقتهما بالله تعالى، وضرورة الانقياد لأمره في مختلف المجالات، لتكون تجلياتها المتنوعة في العبادات والأخلاق والسياسة والاقتصاد وغيرها، نابعةً من ذلك الوعي، ومشيرةً أيضاً إليه. وإذا فقد المؤمن هذا الوعي، فإنّ التقوى ستصير مظهراً خاوياً، يجعل العبادة طقوساً لا ينفعل بها العقل، ولا تسري عميقةً في الوجدان، ويجعل الأخلاق أعمالاً متكلفةً يحرص عليها الإنسان بتأثير التقاليد والاعتياد ومخافة العيب والملامة، بدل أن تكون عامرةً بالإقبال على الآخر والمحبّة له والتواضع أمامه، وهكذا سائر المجالات. ولقد التفت السيد إلى خطر هذه السطحيَّة في فهم الدين، فحذَّر منها ونبّه إليها، فقال:

(لقد تحوّلت الأحكام الشرعيَّة عند بعض الناس إلى تقاليد جامدة، حين تراهم يلتزمون بمنتهى الدقة في بعض العبادات، كالصلاة والصوم وأفعال الحجّ، فيسأل عن حكم الشعرة إذا سقطت من رأسه أو لحيته حال الإحرام في الحجّ وعن كفارتها، أو يستغرق في السؤال عن أحكام الطهارة والنجاسة والشكّ والسّهو في الصّلاة، ليشغل كلَّ وقته في السؤال عن تكليفه أمامها، وبذلك قد تصيبك الدَّهشة أمام هذا الورع العملي والتقوى الروحية الظاهرين عليهم، ولكنّك عندما تنطلق معهم بعيداً في العلاقات المالية والسياسية والاجتماعية مع الناس، حيث يتحرك العمل في خطّ الظلم والعدل، والحرية والاستعباد، والتواضع والتكبّر، والخير والشرّ، والأمانة والخيانة، فإنّك ستجد الذي كان يسأل عن حكم دم البعوضة، لا يتورّع عن قتل الإنسان المؤمن لغضب طارىء، أو لنـزوةٍ ذاتيةٍ، وتجد الذي يسألك عن حكم الشكّ في العبادة، لا يتوقّف أمام حالات الشكّ في السياسة أو في المال، فيما تتحرك به الشبهات الحكمية التي لا يُعرف فيها مواقع حكم الله في حلاله وحرامه، فلا يحتاط فيها كما يحتاط في عبادته، ولا هو يعمل على تركيز مواقع الاستقامة في الحياة عند حالات الاهتزاز والانحراف، بل ينطلق فيها من خلال مصالحه وشهواته، لأنّه استغرق في مفردات العبادات كطقوس جامدة، ولم يستغرق في المعنى الكلّي الكامن في داخلها وفي إيحاءاتها(...) ليتعمّق الحضور الإلهي في وعي الإنسان، إضافةً إلى حضوره في حركة الواقع، ليجتمع له تقوى القلب وتقوى الجسد، فيتكامل الموقف من خلالها في تقوى الحياة كلّها(...)، وذلك هو سرّ العبادة في معناها العميق في داخل الذات، فلا قيمة لعبادة لا تجذّر في نفس صاحبها إسلام القلب والوجه واليد واللّسان، ليتحرك من حيث يريد الله له أن يتحرك، ويقف من حيث يريد الله له أن يقف). (رسالة الحجّ، ص16-18).

    بين التقوى والعرفان

وكما يُخشى على التقوى من إفراغها من مضمونها الروحي والتربوي، وتحويلها إلى طقوس جوفاء، وحالةٍ من الورع الزائف والعشوائي، فإنّه يخشى عليها من الإفراط فيها، بحيث تصير الهمّ الوحيد للمؤمن، فيصير يبالغ فيها بإلحاحٍ ينهك قواه، ويَحجِزُها عن الاستمتاع بطيبات الحياة التي أحلّها الله تعالى لها، ويستطيب (التعبّد) الذي يجعله أسير ذاته وأسير سعيه نحو الآخرة، فتغلب عليه الغيبية والتضخيم واتهام الظواهر والولع في الباطنية حتى درجة الخرافة، وهو ما برز في ظاهرة (التصوف) في المجتمعات السنيَّة، وصارت تتضخّم في وعي الناس، وصار لها فلسفتها ولغتها وطرائقها المجانبة لمألوف الشريعة وفطرة الناس، ثم هو أيضاً ما برز في ما سمّي بـ (العرفان) في الوسط الشيعي، وهو التصوّف نفسه، لكنّه لم تخالطه الزهادة والعزلة كما حدث في التصوّف، ورغم أنّه كان أكثر معقوليةً منه، فقد انبنى على الاستغراق في الحالة الذاتية للإيمان، وتضخّم في وعي الناس، ودَخَلَتْه الفلسفة، وخالطَتْه الخرافة، وكان أخطر ما فيه أنْ ظنَّ الناس أنّ هذا المستوى من الإيمان هو المطلوب، بنحوٍ كاد يصيبهم الإحباط أمام قصور معظم الناس عن الوصول إليه. وكما حذر السيد من التقوى الزائفة، فإنّه حذَّر من تقوى العرفان هذه، ولكن بعدما أكّد أنّ العرفان قد (انطلق في الدائرة الروحية الإسلامية كفكرٍ وممارسةٍ، من أجل أن يكون أسلوباً متقدماً في صنع الشخصية الإسلامية المتحررة من كلّ القيود التي تثقل حركتها في سبيل الأهداف الكبيرة، ليرتبط الإنسان بالحياة من خلال الحرية الداخلية المنفتحة على الله، والمتحركة في الحياة من خلاله؛ ليكون إنسان الحياة، الحرّ في فكره وفي إرادته وفي حركة الحياة من حوله.

ولكن عندما دخلت الفلسفة اليونانية والهندية وغيرهما في «العرفان»، جعلت منه في وعي الكثيرين في الساحة الإسلامية فكراً منفصلاً عن الحياة، بحيث يستغرق في هواجسه وتأملاته وابتهالاته مع الله، من دون أن ينفتح من خلال ذلك على الحياة.

وقد رأينا في تاريخنا وفي حاضرنا الكثيرين ممن أخذوا بالعرفان كفلسفةٍ وكسلوكٍ وكاتجاهٍ، قد ابتعدوا عن الحياة، وعن قضاياها وهمومها ومشاكلها وحركتها في ساحة الصراع، واستغرقوا في الفكرة الانعزالية التي تعتبر ذلك كله شأناً مادياً لا يتناسب مع الانطلاقة الروحية المجرّدة التي يعيشها العارف؛ لأنها تشغله عن الله.

وقد لاحظنا في بعض هؤلاء، أنّهم لا يدقّقون في قضايا الشرع فيما يمارسونه من أساليب الرياضة الروحية فيما يفعلون وفيما يتركون، ممّا قد يعيش الإنسان فيه الابتعاد عن التكليف الشرعي فيما يحلّ الله وفيما يحرّمه، وربما وصل ذلك بالبعض إلى اعتبار الشرع حالةً في الظاهر لا ترتفع في زعمه إلى مستوى العرفان الذي هو عمق الوعي الروحي في الباطن.

ولكننا نعرف أنّ أصول «العرفان الإسلامي» قد انطلقت من خلال مفاهيم القرآن التي تلحظ في الإنسان ارتباطه بالله، والّتي تحثّه على أن يطلّ به على مسؤوليته في الحياة، من خلال المنهج الفكري الذي أقامه الإسلام للحياة، والخطّ التشريعي الذي أراد للناس أن يسيروا عليه. وبذلك، يفترض بالعرفان أن يمثّل الإعداد الفكري والعملي للدخول إلى ساحة الإسلام في الحياة من خلال الله تعالى، دون أن يكون له خلفيّة فلسفيّة ينتمي إليها، أو ينطلق منها بعيداً عن المفاهيم القرآنية الإسلامية التي أكدت أن يكون الإنسان المسلم خليفة الله في الأرض، ليبنيَ الكون في دائرة قدرته، على النهج الذي يحبّه الله، ليكون الإنسان الحرّ من الداخل، من أجل أن يؤكّد حريته في الخارج). (رسالة الحج، ص:74-76).

    موقع الدعاء في حركة العبادة

تكاد لا تنفكّ فريضة من الفرائض العبادية عن الدعاء، فهو مطلوب في الصلاة والصوم والحجّ والاعتكاف وزيارة مقامات المعصومين المشرفة(ع) والأولياء، بل هو مطلوب بنفسه ومستقلّ عن سائر العبادات، وذلك من حيث هو العبادة الأولى التي انطلق بها العقل كلاماً في اللسان، يعبّر فيه الإنسان العارف بالله تعالى عن إقراره أمامه بالعقائد الحقّة، وعن معرفته به وبصفاته، وعن حاجته إليه واستجارته به، فكان الدعاء أوّل عبادة، وكان اللسان أوّل الجوارح عبادةً، وما أظنّ عالماً فقيهاً قد مارس الدعاء وعاش أجواءه وحلّق في آفاقه وانفعل به وأجاد قوله مثلما فعل السيّد، وها هو يتحدّث عن طبيعة الدعاء، فيقول:

(لقد كان الدّعاء في شرائع السّماء القديمة صلاة المؤمنين الّتي تربطهم باللّه، دون أن يصاحبها شيءٌ من الحركات التي نعرفها الآن، حتى ارتبطت كلمة الصلاة بمفهومه في اللغة العربية. والدعاء حاجة ذاتية طبيعية للإنسان المؤمن باللّه عزّ وجلّ، يحسّ بها في داخله، تماماً كما يحسّ بلذعة الجوع عند حاجته إلى الطَّعام، وحرارة العطش عند حاجته إلى الماء، حيث يشعر الإنسان أمام قسوة الحياة، وضغط المشاكل، وتراكم الأزمات الداخلية والخارجيّة، أنّه بحاجة إلى التعبير عن الآلام التي تمزّق ذاته، والمشاعر التي تجيش بها نفسه، من دون أن يجرح كبرياءه، أو يهدر كرامته، فيجد الإنسان في الدعاء فرصةً ليفتح قلبه على ربّه، ولتغفو روحه على هدهدات الأمل ولفتات الرّحمة... حين يبكي ويشكو ويتألم، ويطلب ويستعطف، بل ويلحّ في الطلب والاستعطاف، ويبرز ضعفه الإنساني وحاجته وانكساره وتذلّله، ولكنَّه مع ذلك يبقى يحسّ بلذة هذا الضعف الذي يربطه بمصدر القوّة المطلقة، ليستمدَّ منه القوّة لمواجهة عقبات الحياة، ويبقى هذا الضَّعف الوحيد الذي يشعر معه بالاعتزاز. إنَّ الدعاء عامل تجديد لقوّة الحياة في الإنسان، لئلا يختنق بين قسوة مشاكله وضغط كبريائه، فيتحوّل إلى إنسان منهارٍ أو معقّد أو مربك) (قضايانا على ضوء الإسلام، ص: 301-302).

ثم إنّ السيد يحاول مقاربة الدوافع التي تلحّ على الإنسان كي يلجأ إلى الله تعالى ويدعوه ويتحدث إليه، كما يحاول مقاربة فوائد الدعاء وأهدافه. هنا يبدو لنا أنّ الرغبة في التوبة والاعتراف بالذنب أقرب هذه الدوافع وأكثرها إلحاحاً، وهو ما قد يوحي به توقّف السيد كثيراً أمام هذه الرغبة التي سمّاها (الاعتراف الإيجابي)، فقال: (قد يستسلم الإنسان في حياته إلى رغبة ملحَّة تضغط عليه وتدفعه تحت عبء الضمير المثقل إلى الاعتراف بنواياه السيئة، وأفعاله الشريرة، وخططه الشيطانية تجاه نفسه وتجاه الآخرين، كوسيلةٍ من وسائل تجسيد الإحساس بالذنب في داخل النفس، ليتعاظم بذلك الشعور بالندم.

وهنا يقف الإنسان بين الاعتراف للخالق، والاعتراف للمخلوق، فيأتي دور الدعاء ليحقّق للإنسان اختيار الاعتراف للّه لعدّة أسباب:

أ ـ أنّه باعترافه للّه لا يكشف سرّه لأحد؛ فهو مع اللّه مكشوف بكلّ أعماله ونواياه، فلا يزيده الاعتراف انكشافاً أمام من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، بينما يمثّل الاعتراف للمخلوقين انسحاق شخصيته أمام افتضاح سرّه.

ب ـ أنّ الغاية من الاعتراف هي الوصول إلى تصحيح الخطأ وفتح صفحة جديدة، وهذا ما
 يكفله الدعاء الذي يمثّل الاعتراف للّه الذي هو الملاذ والمرجع للمغفرة والعفو والرضوان. أمّا الإنسان - أيّ إنسان كان - فلا يملك أيَّ شيءٍ من هذا، وحتى الأنبياء والأوصياء الذين لا يملكون الشفاعة إلاَّ لمن ارتضى اللّه، ولهذا فلا يحقّق الاعتراف للإنسان أيَّ هدف.

ج ـ أنّه باعترافه للّه أقدر على تحليل ذاته ودوافعه، وتفصيل أعماله وأحواله، بكلّ جوانبها ومظاهرها، لأنه يشعر بحرية الاعتراف بعيداً عن الملابسات الذاتية والاجتماعية، بينما يشعر الإنسان أمام الإنسان الآخر بكثيرٍ من الملابسات التي تحول بينه وبين الإفاضة بكلّ شيء، مما قد لا يتحمّل الآخر سماعه أو لا يرضى المعترف بإظهاره لأحد.

د ـ تحقيق عملية النقد الذاتي بشكلٍ أفضل، فالإنسان يشعر - مع الدعاء - بأنَّ إرادة التغيير نابعة من داخل الذات، لا من ضغوطات خارجية تمارس المواعظ والنصائح والتهديدات.

إنَّ الدعاء يوحي إلى الإنسان أنه هو ـ وحده ـ يريد أن ينقد ذاته ليغيرها إلى الأفضل، وهذا ما يجعل المهمة أكثر انسجاماً مع النفس، وأكثر التقاءً بالأهداف.

وقد حفلت الأدعية المأثورة عن أئمة الهدى(ع) بالكثير من أساليب الاعتراف التي يبرز فيها الإنسان بكلّ مخاوفه وخطاياه أمام اللّه تعالى، في محاولةٍ للانطلاق منها إلى عالم من الفضيلة جديد)(قضايانا على ضوء الإسلام: 303-304).

أما الجوانب الأخرى التي ينتفع فيها الإنسان بالدّعاء، فهي متنّوعة تنّوع أحوال الإنسان وعلاقاته، فتراه ينبعث من خلال الدعاء لتكريسها في نفسه قيماً فاضلةً وقضايا مهمةً وأعمالاً ناجزةً، وقد استعرض السيّد هذه الجوانب كما يلي:

1. تحمّل المسؤولية: ونريد به الشعور بالمسؤولية تجاه الجانب السلبي من تصرّفات الإنسان،

تماماً كما هو الجانب الإيجابي منه. وقد نلمح ذلك واضحاً في بعض فقرات دعاء الإمام زين العابدين في الاعتذار عن تبعات العباد والتقصير في حقوقهم:

"اللّهم إنّي أعتذرُ إليك من مظلومٍ ظُلمَ بحضرتي فلم أنصره، ومن معروف أُسدِي إليّ فلم أشكره، ومن ذي فاقة سألني فلم أُثِرهُ، ومن عيب مؤمنٍ ظهر لي فلم أستره، ومن كلّ إثمٍ عرض لي فلم أهجُره، أعتذرُ إليك يا إلهي منهنّ اعتذار ندامةٍ يكون واعظاً لما بين يديَّ من أشباههن".

إنّنا نجد من خلال هذه الفقرات، في الموقف السلبي تجاه حالات الظلم والحرمان والمعروف ونحوها، خطيئةً ينبغي للإنسان أن يعتذر منها كما يعتذر من سائر خطاياه، لأنَّ الموقف السلبي يتحوّل إلى موقف إيجابي لمصلحة الظالم ضدّ مصلحة المظلوم، ويؤدّي إلى زهد أهل المعروف بالمعروف، وإلى غير ذلك من الحالات التي لا يجوز للإنسان أن يقف فيها موقف الحياد أو اللامبالاة في أيِّ مظهر من مظاهر الحياة التي تتمثّل في معركة الصراع بين الخير والشرّ.

2 ـ استمداد العون الإلهي: وذلك بالاستعانة باللّه على محاربة غريزة الظلم والاعتداء على الآخرين، بالروح نفسها التي يطلب فيها الاستعانة به على دفع ظلامة الآخرين. وقد نلمح ذلك في فقرات متفرقة من الصحيفة السجادية:

"اللّهم فكما كرهتَ لي أن أَظْلِم فَقِني من أن أُظْلَم".

"اللّهمَّ اكسر شهوتي عن كلّ مَحرَمٍ، وازْوِ حرصي عن كلّ مَأثَمٍ، وامنعني عن أذى كلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ، ومسلمٍ ومسلمةٍ".

"ولا أُظْلَمَنَّ وأنتَ مطيقٌ للدفع عني، ولا أَظْلِمَنَّ وأنتَ القادرُ على القبضِ منّي".

فهو(ع) يستعدي قدرة اللّه على نفسه، ويستعطفها أن تحمي الآخرين من نزوات قوَّته ومن نزعات أنانيته؛ إنَّه يبلغ قمة السموّ الإنساني عندما يرفض الظلم من نفسه كما يرفضه من الآخرين، انسجاماً مع الفكرة التي ترفض الظلم كمبدأ من دون النظر إلى طبيعة الظالم أو شخصية المظلوم، ومع الفكرة الدينية التي تقول: "أحببْ لأخيكَ ما تحبُّ لنفسِكَ، واكرهْ له ما تكره لها، فلا تَظلِم كما لا تحبّ أن تُظلَم".

3 ـ مواجهة العقد: وذلك من خلال التركيز على حقيقة إنسانية ترى الظلم نتيجة طبيعية لعقدة ضعف تتحكّم في الظالم، فتدفعه إلى التنفيس بالانتقام من المظلوم، الأمر الذي يجرّد الظالم من وهم العظمة الذي يحاول أن يحيط به نفسه، ليغطّيَ عوامل الضعف داخلها. وقد نلمح ذلك في دعاء ليلة الجمعة:

"يا ربّ، وقد علمت أنَّه ليس في حكمك ظلمٌ، ولا في نَقَمِتكَ عجلةٌ، وإنّما يَعْجَلُ مَنْ يخافُ الفوتَ، وإنّما يحتاجُ إلى الظلمِ الضَّعيفُ، وقد تعاليتَ يا إلهي عن ذلك عُلُوّاً كبيراً".

فاللّه لا يظلم لأنّه قويّ. أمّا الآخرون، فإنّهم يظلمون لأنّهم يخافون النّاس ويخافون الحقّ، فيبادرون إلى البغي والاعتداء لتغطية هذا الضَّعف والتمويه على الباطل.

4 ـ روحية العطاء: وذلك بالارتفاع بالأخلاق إلى المستوى الذي يجعلها تنطلق من داخل الإنسان عفوياً، كما هو النور من الشمس، والماء من الينبوع، من دون مقابل، لئلا تتحوّل المسألة إلى مبادلة تجارية.

إننا نلاحظ في بعض الأدعية، كدعاء مكارم الأخلاق، فقرات تُشعِر الإنسان بالجذور الأصيلة للخير تمتد في داخل نفسه، وتدفعه إلى الخير من أجل الخير، من دون تفكير في حساب الربح والخسارة على المستوى المادي، انسجاماً مع الفكرة الإسلامية التي تقول: "صِلْ من قطعكَ، واعفُ عمّن ظلمكَ، وأعطِ من حرمك"، ومنها قوله(ع):

 "اللّهم وسدِّدني لأن أعارض من غشّني بالنُّصْحِ، وأجزيَ من هجرني بالبرِّ، وأثيبَ من حرمني بالبذل، وأكافيَ من قطعني بالصّلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأن أشكر الحسنة وأُغضيِ عن السيئة...".

5 ـ الاندماج الروحي: ونريد به بعض الأدعية التي تحثُّ على ضرورة الاندماج الروحي

بالطبقات المحرومة من الفقراء والمساكين، والتعاطف معهم كخُلُق ذاتي، تنطلق فيه الممارسة من محبّة النفس الذاتية، لا من طبيعة الواجب المفروض من أعلى، ثُمَّ الانسجام معهم بالسيطرة الدائمة الواعية على الانفعالات النفسية التي تحدث للإنسان من خلال اصطدامه بإطارهم الضيّق الذي يجعلهم يفقدون الكثير من أصول اللياقة واللباقة تبعاً لقسوة ظروفهم وخشونة واقعهم.

وهذا ما تعبّر عنه هذه الفقرة من أدعية الصحيفة السجادية:

"اللّهم حبِّبْ إليَّ صُحْبَةَ الفقراءِ، وأَعِنِّي على صحبتِهم بحسن الصَّبْرِ...".

6 ـ محاربة الكسل: وذلك من خلال الإيحاء الذاتي للمؤمن بأنَّ البيئة التي يسودها الكسل، وتنتشر فيها البطالة، تبعده عن اللّه، كما تبعده عن الحياة الجادّة الهادفة، الأمر الذي ينبغي له معه أن يرفض تلك البيئة، ويتحوّل إلى بيئة أخرى يسودها العمل والجدّ والاجتهاد، كما نجده في دعاء شهر رمضان في معرض تعداد الأسباب التي تبعد عن اللّه:

"أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطَّالين فبيني وبينهم خلّيتني".

    7 ـ مكارم الأخلاق: وذلك بالتركيز على تغيير الانحراف في أخلاق الإنسان، سواء أكان الانحراف في داخل النية، فيتمثّل في التغيير في تحوّلها إلى نيات طيبة، أم كان في طبيعة الكلمة، فيتمثّل في تحويلها إلى كلمات خيّرة، أم كان في طبيعة العلاقات الإنسانية التي ترتكز على الرغبة والرهبة، فيتمثّل في تغييرها إلى علاقاتٍ ترتكز على أساس الكفاءة الذاتية والقيمة الواقعية. وسنجد كلّ ذلك متمثلاً في دعاء مكارم الأخلاق:

"اللّهمَّ واجعل ما يلقي الشيطان في روعي من التمنّي والتظنّي والحسد ذكراً لعظمتك، وتفكّراً في قدرتك، وتدبيراً على عدوّك، وما أجري على لساني من لفظة فحش أو هجر أو شتم عرض، أو شهادة باطل، أو اغتياب مؤمن غائب، أو سبّ حاضر، وما أشبه ذلك، نطقاً بالحمد لك، وإغراقاً في الثناء عليك، وذهاباً في تمجيدك، وشكراً لنعمتك، واعترافاً بإحسانك، وإحصاءً لمننك".

"اللّهمَّ وصُنْ وجهي باليسار، ولا تبتذل جاهي بالإقتار، فأسترزق أهل رزقك، وأستعطي شرار خلقك، فأُبتلى بحمد من أعطاني، وذمِّ من منعني، وأنت من دونهم وليُّ الإعطاء والمنع".

8 ـ التوازن الذاتي: وذلك بالإلحاح على مراقبة النوازع الداخلية في النفس، لإبقائها على طبيعة التوازن الذاتي، وعدم السماح بطغيان العوامل الخارجية التي تتمثّل بالمدح الذي يكال للإنسان من دون حساب، وبالجاه الذي يحصل عليه، أو العزّة التي ينالها نتيجة أعماله وأخلاقه:

"اللّهم لا ترفعني في النّاس درجةً، إلاَّ حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً، إلاَّ أحدثت لي ذلةً باطنةً عند نفسي بقدرها".

9 ـ خطّ الاستقامة: وهو المتمثل بالإصرار على المحافظة على الحقّ مع الأولياء والأعداء، وعدم الانجراف مع تيار العاطفة، في إخضاع السلوك للعواطف والأغراض الشخصية والنزعات الطارئة:

"اللّهمَّ وارزقني التحفظ من الخطايا، والاحتراس من الزلل في الدنيا والآخرة، في حال الرضى والغضب، حتى أكون بما يرد عليّ منهما بمنـزلة سواء، عاملاً لطاعتك، مؤثراً لرضاك على ما سواهما في الأولياء والأعداء، حتى يأمن عدوي من ظلمي وجوري، وييأس وليي من ميلي وانحطاط هواي".

وبعد، فهذه نماذج من الأدعية الإسلامية التي أراد منها النبيّ(ص) وآله الأبرار(ع) أن يوثقوا علاقتهم بالله تعالى، وأن يرشدونا إلى ذلك، وأن يؤكّدوا للمسلم مدى صلة الدعاء بالحياة، وأن يرشدوه إلى المجالات التي يستطيع أن ينتبه فيها إلى مواضع الخطأ فيصلحها، وإلى مواطن الانحراف فيصححها، وإلى زيغ النيات فيخلّصها من الشوائب، الأمر الذي يجعلنا نستوحي منها الفكرة التي تقول: إنَّ الإسلام يريد من المسلم أن لا يصرف بوجهه عن حياته حتى وهو بين يدي اللّه، بل يريد منه أن يندمج في الحياة بكلّ قوّة، يجسّد فيها إرادة الله وتعاليمه التي تغدو الأرض معها جنةً مصغّرةً، نتعلّم فيها كيف نمارس نعيم اللّه في الدنيا، قبل أن نعيش معه في الآخرة) (قضايانا على ضوء الإسلام، ص: 304-309).

    العبادة وإخلاص النية

النية هي لمعة الإرادة في الفكر التي يتلوها التحرك نحو المراد، ولذا عرفها الفقهاء بأنّها (قصد العمل)، وهي حتماً لا يخلو منها أيُّ عمل من أعمال الإنسان الواعي الملتفت العاقل، مهما كان نوع العمل وأهميته، وكثيراً ما يصدر العمل من الإنسان دون أن يلتفت إلى انسباقه بالقصد والنية وصدوره عنها، وهذا أمر عادي وطبيعي. كما أنّه من الطبيعي أن يولي الفكر الإسلامي النية الأهمية التي تستحقها ما دامت هي المحرك الأساس لنشاط المكلف، والتي تمازج حتى عقيدته، لتكون أساساً في تأكيد صدق العلاقة مع الله تعالى، ولتكون ركناً في العبادة يميزها عن سائر الأعمال. ورغم أنه من الجيد اقتران كلّ عمل من أعمال الخير بنية التقرّب إلى الله تعالى، فإنّ هذه النية واجبة في العبادة وركن فيها لا تصحّ بدونها، وكلّما أخلص العبد نية العبادة لله تعالى، سمي بها وكثر ثوابه وعلا مقامه عنده عزّ وجلّ. لذا، فإنّه لا تكتمل عناصر حديث السيد عن العبادة والتقوى ما لم يتحدث عن النية ولزوم الإخلاص فيها، وهذا ما قاله:

(ولعلّ اهتمام الإسلام بالنية في أكثر من مفردة من مفردات التراث الإسلامي، ينطلق من أنّ الواقع الداخلي للإنسان هو الذي يصوغ شخصيّته، وهو الذي يعطي لكلّ حياته الخارجية عنوانها الكبير. فالعمل - أيّ عمل كان - هو صورة نفسك وصورة فكرك وصورة قلبك وصورة أحاسيسك ومشاعرك. لهذا أراد الإسلام للإنسان أن يركّز داخله من خلال عقله، ليرتب له عقله كلّ علاقاته برّبه وبنفسه وبالناس من حوله، وكلَّ تطلّعاته وتوجّهاته في الحياة، إنْ في خطوطه الفكرية أو في حركته العاطفية والعملية.

ولذلك، فإنّ القيمة التي يمنحها الله سبحانه وتعالى للإنسان تتحدَّد بمقدار ما يعيش الله داخله، فإنّ الله سبحانه وتعالى ينظر إلى قلوب الناس، كما ورد في بعض الأحاديث([57])، ولا ينظر إلى أجسامهم، باعتبار أن قلب الإنسان هو صورته الحقيقية التي تطبع شخصيته، والتي تحرك كلّ قضاياه. ففي البداية - مثلاً - لا بدَّ للإنسان في علاقته مع ربّه من أن يعيش الإخلاص له، بحيث لا ينطلق في أيّ عمل ولا في أيّة علاقة ولا في أيِّ وضعٍ من أوضاعه إلاّ على أساس علاقة تلك الأمور برضا ربّه، لأنَّ الإخلاص لله سبحانه وتعالى ليس مجرّد إحساس تحسّه، ولكنّه يمثّل عقيدتك وإحساسك بمعنى وجودك.

فالله يريد من عبده أن يكون تعالى - بكلّ معانيه - كلَّ شيء عنده، بحيث لا يكون هناك أي شيء لغير الله إلاّ من خلال الله، فإذا أردت أن تدخل أي إنسان في قلبك وفي عقلك وفي حياتك، فلا بدّ من أن تدخله من خلال الله، فحتى الأنبياء إنما نعتقد بهم ونحبّهم ونتبعهم ونخلص لهم، لا من خلال أشخاصهم، بل من خلال أنّهم رسل الله، وأنّهم حاملو رسالته، وبذلك تفقد الصلة بكلّ الناس، حتى أرفعهم في القيمة الروحية، معناها الشخصي، لتنطلق بحسب قربهم من الله سبحانه وتعالى)(الندوة، ج4، ص:361-362).

ثم يتابع السيّد تعمقه في فلسفة علاقة العمل بالنية، وعلاقة النية بالإخلاص، والتوجه بجميع ذلك إلى الله تعالى، فيقول:

(وإذا أردنا أن نفلسف المسألة بطريقة وجدانية، نقول: إنّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أعمالنا من ناحية ذاتية، فهو الغنيّ عن طاعتنا وعن وجودنا، ولكنّه تعالى جعل الشريعة وسيلةً من وسائل إصلاح الإنسان، ليكون الإنسان الملتصق بالله تعالى والمنتمي إليه. ولذلك فإنّ قيمة الأعمال أنّها تعمّق في الإنسان علاقته بالله أكثر، وتجعله أقرب إلى الله. ومن الطبيعي أنّ العمل يمثّل مجرّد حركات يقوم بها الإنسان، سواء فيما يتكلّم به أو فيما يحرّك به أعضاءه، وليس هناك فرق بين هذا العمل وأيّ عمل آخر إلاّ النيّة، فالنيّة هي التي تعطي العمل معناه، وهي التي تعطيه دلالته، ولذلك نجد أن التعليم الإلهي في كلّ العبادات هو أن تأتي بالعبادة قربةً إلى الله؛ فأنت تصلّي قربةً إلى الله، وتصوم وتحجّ وتدعو وتعتمر قربةً إلى الله تعالى. إنَّ هذا التعليم الإلهي، خصوصاً في الصلاة اليومية، يجعلك تعيش قلق القرب من الله سبحانه وتعالى، لأنّ هذه عملية تدريبية يومية وسنوية في كلّ صلواتك وعباداتك، فليست النيّة في الصلاة أو في الصوم أو في الحج مجرد شرط جامد يشترطه الإسلام في صحّة العبادة، ولكنَّه عملية إيحائية، بحيث توحي إلى نفسك، عندما يقبل الصباح فتصلّي الصبح، أنّي أريد أن أكون قريباً من الله سبحانه وتعالى، وإذا عشت هذا الإيحاء النفسي، فإنَّ نفسك تمتدُّ معك من خلال هذا الإيحاء إلى القيام بجولة في كلّ ما يقرّبك إلى الله سبحانه وتعالى، وفي كلّ ما يبعدك عنه. وبهذا، لا بدَّ من أن لا تكون النية عندنا في صلاتنا وفي صومنا وفي حجّنا مجرّد حالة تقليدية جامدة لا تنفذ إلى أعماقنا ولا تتحرك في إيحاءاتها لتغيّرنا من الداخل، بل ليعيش الإنسان حياته في قلق متحرك، متسائلاً: هل رضي الله عنه أم لم يرضَ؛ هذا القلق هو الذي يعبّر عنه القرآن الكريم بقوله: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}(المؤمنون:60)، بحيث يعيش قلق الحاجة إلى رضوان الله عنه وقربه منه سبحانه وتعالى. وربما نجد في بعض الأحاديث، أنّ الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن تكون له نيّة تقرّبه إلى الله في كلّ شيء، حتى عندما يريد أن يمارس حياته اليومية بكلّ تفاصيلها، ففي الحديث عن النبي(ص)، أنّه وصّى أبا ذر فقال له: "يا أبا ذرّ، ليكن لك في كلّ شيء نيّة، حتى في النوم والأكل"([58]) (الندوة،ج4، ص: 365 – 366).

ثم يختم السيد مقاربته مع الأحاديث الشريفة التي ذكر العديد منها، فيقول: (إنّ المسألة ليست في أن نكثّر أعمالنا، بل في أن نخلص نيَّاتنا، وأن يشرق الله سبحانه وتعالى في عقولنا ليشرق الحقُّ فيها من خلال ذلك، وأن يشرق الله في حياتنا ليشرق الصَّلاح والإصلاح منها، وأن يكون الله كلَّ شيءٍ عندنا، وأن تكون أعمالنا باتجاه رضاه، لا لشيءٍ إلا رضاه)(م.ن.، ص: 370).

    خصائص العبادات المشتركة

لن يخفى على الباحث العارف بالعبادات، أنّ فيها عناصر مشتركة رغم اختلاف طبيعة كلّ عبادة وشكلها وأعمالها وأذكارها وأوقاتها، فالصلاة في ركوعها وسجودها وأذكارها ومقدماتها وشروطها وأوقاتها، تختلف تماماً عن عبادة الصوم الذي هو الامتناع عن تناول المفطرات في شهر معين من السنة، وهما معاً يختلفان عن الحجّ الذي هو وفادة إلى الأماكن المقدَّسة لأداء شعائر وأعمال خاصَّة، وهذه الثلاثة تختلف عن عبادة الاعتكاف، وعن عبادتي الخمس والزكاة. لكن ورغم ذلك، فإنّ أموراً عديدةً تتشارك فيها هذه العبادات، إذ إنّها جميعها تعزّز العلاقة بالله تعالى من حيث وجوب نية التقرّب بها إليه، وهي جميعها تقوّي الإرادة وتزيدها مضاءً ورسوخاً في طريق الهدى والصلاح، وهي جميعها تتعاون على تعزيز التضامن الاجتماعي وتوثيق الأخوة بين المسلمين وإشاعة الألفة والمودة والرحمة، وهي تحرك عجلة الاقتصاد الناجم عن حاجات معينة تستلزمها العبادة حين الحضور إليها والقيام بمراسمها، وهي أخيراً تعزّز جانب التقوى والورع والخشية من الله تعالى، بما يترتّب عليها من نهي عن الفحشاء والمنكر. إنّ كثيراً من هذه المعاني سوف تظهر جليةً فيما سيعرض له السيد في حديثه الغنّي عن العبادات، أحببنا أن نلفت إليها في ختام هذا البحث الذي يعتبر بمثابة المدخل إلى الحديث المفصّل عن كلّ عبادة.

ثانياً: الصلاة معراج المؤمن

    الطهارة والعبادة

الطهارة اسم لعمل خاص بكيفية خاصة، يتمثّل في الوضوء والغسل وبديلهما التيمم، إذا أريد به التطهر من الحدث، وهو أيضاً اسم لإزالة نجاسة معينة عن البدن أو غيره بالماء أو غيره، إذا أريد به التطهّر من الخبث. وكلا الطهارتين واجبة في العديد من العبادات، مثل الطواف والصلاة، وبعضها واجب في البعض الآخر، مثل الصوم. وهذا التطهر، إضافةً إلى أنّه من أسباب صحَّة الجسد وجمال المظهر، فإنّه نوعٌ من الأدب الذي يجب أن يلتزمه العابد حينما يقبل على الله تعالى ويقف بين يديه. وقد ورد تشريع الطهارة في القرآن الكريم في عدّة آيات، وفي مئات الأحاديث الشريفة، وقد توقَّف السيّد عند مفهوم الطهارة حينما عرض لتفسير آية الوضوء والغسل، وهي الآية السادسة من آيات سورة المائدة، فقال:

]وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ[ في أجسادكم وأرواحِكُم بالطهارات المتنوّعة في الوضوء والغسل والتيمم، الّتي تمثّل لوناً من التدريب على نظافة البدن اليوميّة كالوضوء، أو شبه اليوميّة كالغسل، بحيث توحي بأهميّة هذه المسألة في التخطيط الإسلامي للتربية في حياة الإنسان، بحيث تلزم الإنسان بغسل الأعضاء الحيويّة المتصلة بحاجاته اليوميّة، كالوجه الَّذي يُقابل به النّاس وتتحرّك به أجهزة البصر والشمّ، إضافةً إلى الفم الَّذي يرتبط به أكثر من مسألة في الطعام والشراب والكلام وغير ذلك مما يحتاجهُ الإنسان في حياته الخاصة، وكاليدين اللّتين هما الوسيلتان لأكثر من حاجةٍ في أعماله الخاصة به وبالنّاس، ويبقى للمسح معنى الإيحاء بضرورة التوفر على الرأس والرِّجلين بين وقت وآخر.

هذا في الوضوء، أمَّا في الغسل الَّذي تحدّثت الآية عن سببيّة الجنابة له، فإنَّ هناك أكثر من سببٍ له، من غسل الحيض والاستحاضة والنفاس للنساء، وغسل مسّ الميّت، إلى جانب الأغسال المستحبّة، كغسل الجمعة ونحوه، ممّا يتمثّل بتطهير البدن كلّه، باعتبار أنَّ المناسبات قد تتصل ببعض الآثار الماديّة المنفتحة على بعض الحالات النفسيّة في استقذار الحدث الَّذي يترك تأثيره على الجسد كلّه من ناحية معنويّة أو شعوريّة، أو في إزالة الخوف عند مسِّ الميّت نتيجة الوهم الذاتي الَّذي قد يوحي بانتقال الموت إلى جسد الإنسان الماسّ، الأمر الَّذي قد يزيل الغسل إيحاءاته السلبيّة بالحيويّة الّتي يمنحها للجسد لجهة تجدّد الحياة فيه، وهكذا ينفتح الغسل على الجانب الذاتي والاجتماعي في المناسبات العامّة الّتي يلتقي فيها بالنّاس، كالجمعة والعيدين وغيرها، بما يفرض عليه أن يخرج إليهم نظيفاً طاهراً، ما يجعل من الطهارة البدنية سلوكاً عامّاً متحرّكاً في الحياة الخاصة والعامّة للإنسان.

هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ اشتراط قصد القربة في الغسل، يوحي بأنَّ القضيّة لا تتصل بالجانب الماديّ الجسديّ، بل تمتدُّ إلى الجانب الروحي الَّذي يتمثّل فيه المعنى الإيحائيّ بأنَّ الطهارة البدنيّة تقرِّب الإنسان إلى اللّه، وترتفع بمكانته عنده، فلا تبقى مجرّد حاجة جسديّة للنظافة، بل تتحوّل إلى حاجةٍ روحيّةٍ توحي بالطهارة الروحيّة الَّتي تمتزج بالممارسة الماديّة، بحيث تمثّل لوناً من ألوان التربية المتحركة الإيجابيّة التي توحي إلى الإنسان بأنَّه كُلَّما ازداد نظافةً ازداد قرباً إلى اللّه، وهذا ما توحي به الأحاديث الواردة في استحباب تجديد الوضوء، ومنها:

1 ـ «الوضوء على الوضوء نور على نور»(1).

2 ـ وعن محمَّد بن يحيى، وأحمد بن إدريس، عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه(ع)، قال: «الطهر على الطهر عشر حسنات»(2).

3 ـ وعن محمَّد بن موسى بن المتوكّل، عن عليّ بن الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبد اللّه البرقيّ، عن أبيه، عن محمَّد بن سنان، عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد اللّه(ع) قال: «من جدّد وضوءه لغير حدث، جدّد اللّه توبته من غير استغفار»(3).

وهكذا في استحباب النوم على طهارة، أو الكون على طهارة، كغايةٍ مستقلّةٍ في ذاتها، بعيداً عن أيّة غايةٍ خاصة، إضافةً إلى كثيرٍ من المناسبات المستحبّة شرعاً.

إنَّنا نفهم من ذلك كلّه، أنَّ الإسلام الَّذي جعل الطهارة عبادةً تتحرّك في الجوّ الصلاتي وفي كلّ الأجواء المتّصلة باللّه، يؤكّد أنّ للنظافة في تخطيطه التشريعي الدور الحيويّ الَّذي يمتدُّ حتّى في نظافة كلّ ما يتَّصل بالإنسان في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه وشهوته وغير ذلك.

وهذه من مميزات الإسلام في تخطيطه التشريعي الَّذي يؤكّد حماية الإنسان من كلّ قذارة ماديّة تسيء إلى روحه وبدنه وحياة النّاس من حوله، أو قذارة روحيّة تسيء إلى روحه وأخلاقيته وسلوكه الفرديّ والمجتمعيّ، الأمر الَّذي يوحي بأنَّ الإنسان القذر بعيد عن اللّه في بدنه وروحه.

أمّا التيمم، فإنَّه يمثّل البديل الإيحائيّ من الوضوء والغسل عند عدم وجود الماء أو عدم التمكّن من استعماله، حتَّى لا يبقى المكلَّف من دون بديل، فكان التراب أو الأرض هو الواجب الجديد الَّذي يوحي بالمعنى الروحيّ العباديّ، على أساس مسح الجبهة بالتراب، وكذلك الكفين، ما يدلّ على الخضوع للّه والتواضع له، مع ما يمثّله اشتراط طهارة التّراب من إيحاءات الطهارة، واشتراط نيّة القربة فيه الذي يجعل الإنسان يفكّر في أنَّ اللّه خلقه من تراب ليتعبّد للّه في خلقه، ليعبّر ذلك عن إيحاءٍ روحيّ ينساب في وجدانه، ليدخل إلى الصلاة في طهارةٍ ترابيّةٍ عباديّةٍ تنفتح به على سرِّ وجوده، ليتكامل في موقفه بين يدي ربِّه في إحساسه الروحيّ بالأرض الّتي جاء الحديث النبويّ الشريف فيها:

«جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»(1)، ما يعني أنّها رمز الطهارة كما هي موضع السجود. واللّه العالم.

وهكذا شرَّع اللّه هذه الطهارات الّتي لم يرد لكم أن تقفوا من خلالها في حرج، بل ليطهّركم في أبدانكم وأرواحكم، ]وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ[، لما يحقّقه لكم من المصالح المتصلة بحياتكم الروحيّة والماديّة، بحيث تحصلون من خلال ذلك على السعادة والطمأنينة والاستقرار في كلّ أموركم العامّة والخاصَّة، من خلال التشريع الإلهي الكامل الشامل، ]لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[ اللّه على ذلك كلّه، ليزيدكم من نعمه الوافرة بمقتضى وعده: ]لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ[)(إبراهيم:7). (من وحي القرآن، ج 8، ص: 65-68).

    التنوّع الغني

يتمثّل في صورة الصلاة أعلى أشكال الخضوع لله تعالى، وذلك حين ينتقل المصلي متدرِّجاً فيه من القيام مطأطئ الرأس إلى الركوع ثم إلى السجود، ليقع جميعه أمام الباري الأعظم والأعلى، مقرّاً به خلال ذلك، حامداً له، مردِّداً لأنواعٍ من الذكر في تعظيمه وتمجيده وشكره ووصفه والتذلل له وطلب التوفيق والعفو منه، بآياتٍ من كتابه المجيد، وأذكارٍ منصوصٍ عليها في قيامه وركوعه وسجوده وتشهّده وتسليمه.

ثم إنّه تتنوَّع فروضها لتمتّد في أوقاتها وأسبابها وأشكالها على مدى أرحب ومساحة أوسع في حركة النشاط الإنساني، وفي الأهداف الَّتي يراد تحقيقها لصالحه. فثمة صلاة يومية ونوافلها الّتي تغطي ليل الإنسان ونهاره. وثمّة صلاة الجمعة الأسبوعية التي يلتقي فيها المسلمون على ذكر الله وعلى قضاياهم وعلى أولي الأمر منهم، وثمّة صلاة العيدين الموسمية، حين يلتقي المسلمون في العيد الأول على فطرهم، ثم يلتقون في العيد الثاني على أضحاهم، وذلك في أعظم مناسبتين سنويّتين. وثمّة صلاة الآيات التي تجب عند مفاجأة الطبيعة للإنسان بآية كونية بديعة، كسوفاً أو خسوفاً، أو مفاجأته بمخوف أرض أو سماوي يرتجف له قلبه وتضطرب بسببه حياته، من زلزالٍ أو إعصار أو فيضان وما أشبهها، فيجتمعون في صلاة فيها عشر ركوعات تميّزها عن غيرها، لتركّز في قلب المؤمن المزيد من مخافة الله تعالى أمام المفاجئ من آيات صنعه. وثمة صلاة الاستقساء التي لها مهابتها المناسبة لما يراد بها حينما يضرب الجفاف الأرض، ويخشى الناس المجاعة. وثمة صلاة الميت والوحشة والهدية، وصلاة جعفر الطيار، وصلاة الحاجة والتوبة والإحرام والزيارة... وصلوات أخرى، وجميعها يمارس فيها العبد ألوان الذكر والخضوع، ويتسامى بها في علاقته بالله تعالى، راغباً في تحقيق أهدافها في نفسه وحياته ومجتمعه.

وها هو السيد يخوض بنا عباب بحر الصلاة، مبيّناً تلك الأهداف، وشارحاً ما تحمله من معانٍ، وذلك من موقعه فقيهاً، وممارسته عابداً. وسنتتبع أقواله وأحاديثه فيها من خلال العديد من العناوين التي وردت في تلك الأحاديث فيما يأتي من بحوث.

    الإيمان والصَّلاة

لقد تحدَّث السيد تحت هذا العنوان فقال:

(لقد جعل الإسلام الصلاة أساساً للإيمان، لأنّها هي التي تجعلك من خلال الحضور بين يدي الله، تستحضر إيمانك كلَّه في صلوات مع نوافلها ترافق صباحك وظهرك وعصرك ومغربك وعشاءك، في انسجام روحيّ يجذبك إلى الله عندما يحاول الشيطان أن يجذبك إليه، بحيث تعيش صلاتك في يومك كلّه.

وهي صلاة فيها كلّ وسائل التعبير عن العبودية له - جلّ شأنه -، فالأذان والإقامة يدخلانك في مناخ الصلاة من خلال تكبير الله وتوحيده، ثمّ تأتي شهادتك لمحمد(ص) بالنبوّة والرسوليّة، ودعوتك نفسك أن تقبل على الصلاة، ثم تبدأ صلاتك بالتكبير، وتشرع بالفاتحة وسورة من بعدها، لتعيش أجواء القرآن بكلّ القواعد الفكرية الإسلامية التي تشتمل عليها آيات القرآن، بحيث تكون الصلاة مدرسةً ثقافيةً تستحضر فيها مفاهيم القرآن، ثم هذا الإسبال في الصلاة الذي هو مظهرٌ من مظاهر التسليم لله، ثم الرّكوع والسّجود اللّذان يعبّران عن غاية الخضوع للخالق العظيم). (الندوة، ج9، ص: 172)

ويتابع السيد توصيفه للصَّلاة فيقول: (إنَّ الصَّلاة بحسب أوقاتها وأفعالها وأقوالها تمثّل حركةً ثقافيةً يوميةً تؤكّد لك مفردات عقيدتك، وتفتح عقلك وقلبك على رحمة ربّك ورعايته، وعلى كلِّ ما تتّصل به حياتك في مسؤوليتها وفي نتائج المسؤولية، وتجعلك تشعر وأنت بين يدي ربّك بمعنى العبودية التي تتمثّل في ركوعك وسجودك، لتتجسد العظمة في نفسك سلوكاً مادياً، ولتتجسَّد النعمة في نفسك حركةً في كلّ واقعك.

ومن هنا، أكّد القرآن الكريم حقيقةً بيّنها قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ}(العنكبوت:45)، لأنّ الصلاة تثقّفك من خلال مفرداتها، سواءٌ في التكبير أو فيما تقرأ من فاتحة الكتاب وما بعدها، أو فيما تثيره في نفسك بالتسبيح والتحميد والمفردات التي تدخل في ركوعك وسجودك، فتعزّز فيك حضور ربّك الأكبر، ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الذي يُعبَد ولا يُعبد سواه، والذي يُستعان به ولا يستعان بسواه، والذي يهدي الإنسان إلى الطريق العظيم الأعلى، فتقوى بذلك إرادتك ومخافة الله في نفسك، فتتورّع عن الفحشاء، والمنكر). (الندوة: ج 4، ص: 195).

ثم يتابع السيد بيانه لمعاني أعمال الصلاة وأقوالها، فيقول:

(إنّ كلمة (الله أكبر) لا يمكنها أن تجعلك تعيش في حالة تجريدية مع الله دون عباده، بل تجعلك تعيش في مقارنة بين الله وعباده، لتتصوَّر أنّ الأكبر لا بدَّ من أن يقف أمامه الأصغر، وإذا كان للأكبر معنى في واقع الإنسان من حيث وجوده، فإنّ للأصغر معنى في داخل مسؤوليته؛ فإذا ابتعد الأصغر عن مسؤوليته وأراد أن يأخذ دور الأكبر، عند ذلك حاول أن تستحضر معنى الأكبر أمام الأصغر، كي لا تخضع لمن هو أصغر، فيما يحاول أن يثيره في داخل حياتك من تهاويل تجعله يستعرض عضلات العظمة الخارجية أمامك، وعند ذلك تدخل ثقافة اجتماعية سياسية مع هذا البعد الروحي الأخلاقي الذي يدخل في أعماق نفسك، وتكون عقيدتك عقيدةً تنطلق من ثقافة مقارنة، لو أحسنت أن تثقف نفسك بالكلمتين اللتين لا تمثلان ظروفاً تتحرك في الإنسان، ولكنهما تمثلان كوناً يضجّ بالحياة.

وهكذا عندما تدخل في صلاتك، فإنّك تمارس فيها حركة عقيدتك في موقفك، فالكلّ منّا قد ينحرف به الناس عن خطِّ الاستقامة بالعقيدة، ويندفع إلى الحياة في متاهات الطرق المنحرفة الأخرى، لكنّك حين تقرأ سورة الفاتحة (أم الكتاب)، فإنّك تختصر فيها كلّ الكتاب وكلّ مفردات العقيدة؛ فأنت مع الله ربِّ العالمين، تشعر بالوحدة الإنسانية والوحدة الكونية في ربوبية الله، ثم تنطلق لتتصوّر هذه العظمة في موضع الرحمة في ذات الله والرحمة في علاقته بعباده، وتذهب بك إلى يوم القيامة، لتعرف أنّه وحده مالكه، فلا تتصور أنّ أحداً يملك يوم القيامة غيره. ولذلك لا بدَّ من أن تخلص توحيدك له، لأنّه حتى الشفاعة لا تكون إلاّ بإذنه، وحتى الشفعاء لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى.

ثم تنطلق بعد ذلك مع قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(الفاتحة:5)، رافضاً إنساناً وضع نفسه في موقع عبادة، أو وضعه الناس في موقع عبادة، وذلك بالخضوع والانسحاق أمامه؛ انسحاق العقل أمام عقل الآخر، وانسحاق الروح أمام روح الآخر، وانسحاق الإرادة أمام إرادة الآخر، وانسحاق الكيان أمام كيان الآخر. لقد أراد الله للإنسان أن يعيش توحيده في العبادة حين يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، حيث نلاحظ أنّ دعوة الأنبياء لم تكن دعوة توحيد بالمعنى الفكري التجريدي فقط، بل كانت، إلى جانب ذلك، دعوةً لتوحيده في العبادة أيضاً، فلا تعبد سواه. كذلك فإنّك حين تقول: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فإنّك لا تنطلق إلى حاجاتك وتستعين بهذا وتستعين بذاك، بل توحّد الله بالاستعانة ليكون الأفراد كلّهم أدوات.

والصلاة دائماً تقول لك: أيّها المسلم، حدّد التيارات التي تتحرّك في الحياة؛ فهناك أُناس يعيشون تيار التّيه، ويتقلّبون في المتاهات، وهم ضالون، وهم الناس الذين ينطلقون في تيارات الانحراف، وهم المغضوب عليهم، وهناك أناس يعيشون الهدى، وهم الذين عرفوا الله. فالصّلاة هي دعوة دائمة للإنسان لكي يبلغ الرؤية الواضحة لطريقه أمام الطرق الأخرى، لأنّك لا تستطيع أن تعرف طرق الهدى إلاّ إذا وعيت طرق الضلال، لأنّ الآخرين يضلّونك من خلال جهلك، لأنّهم قد يوحون إليك بالضّلال على أنّه هدى، وقد يوحون إليك بالانحراف على أنّه استقامة.

ثمّ إننّا نجد في حركة الصّلاة الوقوف بين يدي الله، والركوع أمامه، والسجود بين يديه، فنجد فيها حركية العبادة في كلِّ أشكالها التي يعيشها الإنسان في حياته، ليقول الإنسان لنفسه من خلال إيحاءات صلاته: لا تقم بين يدي أحد إلاّ بين يدي الله، لا تركع إرادتُك، لا يركع موقفك، لا يركع موقعك، لا يركع خطّك، لا تركع أمام أحد، بل عليك فقط أن تركع أمام العظيم، ولا عظيم بالمعنى المطلق إلاّ الله. فلا تطلقوها على غير الله لأنّها امتلأت بالله، وأخشى عندما نطلقها على غير الله أن تمتلئ نفوسنا من خلالها بغير الله. كذلك فإنّ معنى كلمة الأعلى هو أن تسجد لله، وأن لا يسجد شيء منك لغير الله، ثمّ إنّ سجود الجبهة التي هي مظهر العنفوان، يعني سجود الذات في الفكر والروح والحركة والموقف والموقع لله سبحانه). (رسالة الحج، ص: 108-112).

وفي هذا السياق، يؤكد السيّد في موضع آخر أهمية سورة الفاتحة في الصلاة، فيقول:

(جاء في عيون أخبار الرّضا للصّدوق عن الإمام الرضا(ع)، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) قال: لقد سمعت رسول اللّه(ص) يقول: قال اللّه عزَّ وجلَّ: «قسَمتُ فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد: ]بِسْمِ اللّه الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ[، قال اللّه جلّ جلاله: بدأ عبدي باسمي وحقٌّ عليَّ أن أتمّم له أموره، وأبارك له في أحواله، فإذا قال: ]الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَـالَمِينَ[، قال اللّه جلّ جلاله: حمدني عبدي، وعلم أنَّ النعم التي له من عندي، وأنّ البلايا التي دفعت عنه بتطوّلي، أشهدكم أنّي أضيف له إلى نِعم الدنيا نِعم الآخرة، وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، وإذا قال: ]الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ[، قال اللّه جلّ جلاله: شهد لي عبدي أنّي الرحمن الرحيم، أشهدكم لأوفرنّ من رحمتي حظّه، ولأجزلنّ من عطائي نصيبه، فإذا قال: ]مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[، قال اللّه تعالى: أشهدكم، كما اعترف بأنّي أنا المالك يوم الدين، لأسّهلنّ يوم الحساب حسابه، ولأتقبلنّ حسناته، ولأتجاوزنّ عن سيئاته، فإذا قال: ]إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[، قال اللّه عزَّ وجلّ: صدق عبدي، إيّاي يعبد، أشهدكم لأثيبنّه على عبادته ثواباً يغبطه كلّ من خالفه في عبادته لي، فإذا قال: ]وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[، قال اللّه تعالى: بي استعان عبدي وإليّ التجأ، أشهدكم لأعيننّه على أمره، ولأغيثنّه في شدائده، ولآخذنّ بيده يوم نوائبه، فإذا قال: ]اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[ إلى آخر السورة، قال اللّه عزَّ وجلّ: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل، قد استجبتُ لعبدي وأعطيتُه ما أمل، وآمنته ممّا منه وَجِلَ»([59]).

وفي هذا الحديث إشارة إلى الأجواء التي تمثّلها السورة في علاقة العبد بربّه، وعطف الربّ على عبده. وحركة الآيات في وعي الإنسان - في ذلك كلّه - أنّه يعيش مع اللّه في كلّ آفاقه المنفتحة على الدنيا والآخرة، وفي كلّ مواقع حركة النّاس في خطّ الاستقامة أو في خطّ الانحراف، ليكون الرزق من اللّه، ولتكون الهداية منه، فيشعر بالنعمة المادية في حياته الجسدية، وبالنّعمة المعنوية في حياته العقلية والروحية.

وبذلك كانت سورة الفاتحة أمّ الكتاب، ونقطة الوعي، ومفتاح العقيدة في كلّ مواقع الإنسان في الحياة، وهذا هو الذي جعلها أساساً لكلّ صلاة، حتى جاء أنّه «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»([60])). (من وحي القرآن، ج1، ص: 91).

ثم يعرض السيّد الفائدة الإيمانية التي يجنيها المصلي من تعدد أوقات الفرائض، وقيامه بأدائها أناء الليل وأطراف النهار، فيقول:

(تريد الصلاة أن تطوّق الإنسان من جميع الجهات، سواء أراد أن يجمع في الصّلاة، أو أن يفرّق، كما على رأي بعض المذاهب، لأنّ التفريق لديهم إلزامي، أو على رأي الشيعة بأنّ التفريق هو الأفضل، وإن صار الالتزام بالجمع؛ فإنّك عندما تستفيق من النوم، يقول الله لك إنّ عليك أن تقابلني أولاً، قف أمامي وقدّم حساب يومك، فتقف وتصلي قربةً إلى الله تعالى، ومعنى ذلك، أن تقول لله إني أريد أن أصلي وأكون قريباً منك بعقلي وبقلبي وبروحي وبعملي، فأنت تقرأ صلاتك وتنطلق إلى الحياة من منطلق الصلاة بعد أن تكون قد أعطيت الله عهداً على أن يكون يومك يوم التقرّب له، وأعلنت له أنّه الأكبر، وأنّه ربُّ العالمين، وأنّه العظيم، وأنّه الأعلى، فالمفروض أن يسير يومك في هذا الطريق.

فالصّلاة تمثّل العمل العبادي الذي يلاحق الإنسان ويربطه بالله، بحيث يحسّ بوجوده سبحانه وتعالى كما لو كان أمامه, وأن يربطه بالناس على نحو يتحمل مسؤوليته إزاءهم في ذلك كلّه، فكلما أراد الشيطان أن يبعدك عن ربك، جاءت الصلاة لتقرّبك إليه. وبذلك، فإنّ مسألة التربية هي مسألة مجاهدة النفس، وهي من المسائل اليومية، بل تدور على مدار الساعة، ولذا أريد لها أن تُعالَج بالعبادة التي تحيط بالإنسان في كلّ يومه، ليلاً ونهاراً، حتى يعيش حزاماً روحياً يجعله دائماً في دائرة الله سبحانه وتعالى). (الندوة، ج5، ص: 257 – 258).

    الصلاة تنـزيه عن الكبر

هنا يستوحي السيد كلاماً مروياً عن السيدة الزهراء(ع)، تستعرض فيه عدداً من الفرائض من حيث ما يرجى منها من نفع وفائدة، فقالت(ع) تصف الصلاة: "... ففرض الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنـزيهاً من الكبر،..."([61]) حيث قال السيد معقبّاً على ذلك:

(تعتبر الصلاة وسيلةً من وسائل إحساس الإنسان بحجم ذاته أمام ربه، وإحساسه بحجم ذاته أمام الناس الذين يعيش معهم، وأمام الوجود الذي يتحرّك فيه، فهو عندما يبدأ صلاته بنداء (الله أكبر)، يتحسَّس معنى العظمة المطلقة التي تجعله تعالى الأكبر الذي لا يدانيه ولا يماثله شيء في حجم الذات وحجم الصفات، وهو يجسد هذا التواضع لله تعالى عندما يقف أمامه باستسلام مطلق، وعندما يركع ليتحدّث مع مواقع عظمة الله في قوله: «سبحانه ربي العظيم وبحمده»، ليتصوّر نفسه في موقع الصغار أمام عظمة الله، وعندما يمارس الانسحاق في سجوده، ليتصور الله على أنّه الأعلى في كلّ شيء، وأن هذا العبد الساجد أمامه تعالى هو الأسفل الضعيف والصغير في كلّ شيء). (الندوة، ج5، ص: 254).

    البعد التربوي للصلاة

ولئن كان الوصف الأهمّ للصلاة في القرآن الكريم هو أنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإنّه لا بدَّ من وقفة متأنية أمامها. قال السيد:

(تعتبر الصلاة في القرآن الكريم وسيلةً من وسائل تنمية الشخصية في خطّ الخير والصلاح والسموّ الإنساني، والابتعاد عن خطّ الفحشاء والمنكر، وذلك ما ورد في قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ...}(العنكبوت:45)، وفيما يوحي به الحديث الشريف عن النبي(ص): «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعداً...» ([62])، وفي ما عبّر عنه قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}(الماعون:4 ـ 7)، ما يوحي بأنّ الصلاة تدخل في قيمتها الدينية في عمق الحياة الفردية والاجتماعية، بقدر ما يتعلّق الأمر بالقيم الإيجابية والسلبية التي تحقّقها الصلاة في ما يمارسه الإنسان في حقله الفردي، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو السياسي، انطلاقاً من شمول كلمة الفحشاء والمنكر لكلّ الأوضاع السلبية التي يريد الإسلام للإنسان الابتعاد عنها، فلا قيمة لصلاة الطغاة والمستكبرين والظالمين والمتعاونين معهم، والخائنين لأمتهم ولدينهم، كما لا قيمة لصلاة السارقين والكذابين والزناة والمغتابين والنمّامين والآكلين للحرام من مال أو طعام، لأنّ الصلاة لم تحقّق للإنسان شيئاً عملياً في خطّ الاستقامة أو البعد عن الانحراف.

إنّ وعي هذه الفكرة، يجعل الناس لا يُخدعون بصلاة المنحرفين عن الإسلام في قيمته وشريعته، فيبتعدون بذلك عن السذاجة والبساطة في تقديرهم للأمور عند مواجهتهم الواقع، فإذا رأوا إنساناً مسؤولاً يؤدِّي صلاته في خشوع، فعليهم أن ينتظروه ليخرج من المسجد وينفصل عن أجواء الصلاة، وينتقل إلى مجالات الحكم والسياسة والإدارة، ليعرفوا - من خلال ذلك - كيف تمتدّ الصلاة إلى داخل حياته في هذه المجالات، أو كيف تبتعد عنها تماماً، ليحدّدوا موقفهم على أساس ذلك، وهذا هو ما ورد في الحديث المأثور عن أئمة أهل البيت(ع)، الذي يرفض أن يكون طول الركوع والسجود مقياساً لمعرفة الرجل؛ لأنّ ذلك ربما يكون جارياً مجرى العادة التي يستوحش الإنسان إذا تركها، واعتبر المقياس - بدلاً من ذلك - صدق الحديث وأداء الأمانة([63])؛ لأنّهما يدخلان في عمق الشخصية الإسلامية). رسالة الحجّ، ص: 48-50).

وفي هذا السياق، يجيب السيد عن سؤال طريف يطيب للناس أن يوجِّهوه، وهو: هل الإنسان الصادق الذي لا يصلي أفضل، أم الإنسان الذي يصلي ويكذب؟ فيقول:

(إنّ الصلاة وإن لم يكن لها قيمة دينية في حساب الله إذا تجردت عن الالتزام بالخطّ المستقيم في الارتباط بالمعاني الروحية، ولكنّها لا تخلو من قيمة عملية؛ فإنّ الذي يصلي ويكذب يؤمل فيه الخير، لأنّ ارتباطه بالصلاة يجعله قادراً على أن يكشف نفسه في بعض اللحظات، فيرجع عن الكذب وعن غيره من الرذائل. وبذلك يمكن للصلاة أن تقوم بدور كبير في عملية التراجع عن الانحراف، لأنّها تحقق للإنسان الارتباط اليومي بالله، فإنّه وإن كان ارتباطاً بدون وعي، إلا أنّ الارتباط الرسمي بشكل يومي قد يفسح في المجال لبعض الانفتاحات الروحية الطيّبة التي يُكتشف من خلالها الجانب الطّيب في الحياة، فيبدأ عملية التراجع بطريقة تدريجية.

أما الذي لا يصلي ولا يكذب، فإنّه وإن ارتبط بفضيلة الصدق أو بغيرها من الفضائل، إلا أنّ هذا الارتباط لا ينطلق من قاعدة ثابتة في الأعماق، بل ينطلق من حالة طارئة، كالتربية العملية أو المصلحة الذاتية أو العوامل الخارجية المتنوعة، وفي مثل ذلك، لا يكون هناك أيّة ضمانة تحميه من الانحراف في حال وجود ظروف أقوى من الظروف العادية التي هيّأت له جانب الاستقامة، وبذلك يختلف حاله عن حال الإنسان الذي يرتبط بالقاعدة التي تمدّه بالخير وإن عاش في نفسه بعض لحظاته بشكل عابر. ومن هنا، ندرك أهمية التدريب على الصلاة التأكيد على الالتزام بها والصبر عليها، واعتبارها في الحديث النبوي الشريف عمود الدين، لأنّها القاعدة الروحية التي تجعل لكلّ الأفعال الدينية معنى عندما تمدّه بالروح المتدفق من وحي الله). (آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله، مفاهيم إسلاميّة عامة، ص: 500 – 501).

وفي عودة إلى أثر الصلاة التربوي لجهة نهيها عن الفحشاء والمنكر، يقول السيد:

(وليس معنى نهي الصلاة للمصلي عن الفحشاء والمنكر، أنّها تُحدث ذلك الأثر بشكلٍ فعليٍّ حاسمٍ، ليتساءل متسائل: كيف يصدق هذا في الوقت الذي نرى الكثيرين من المصلين الذين يمارسون الفحشاء ويرتكبون المنكر؟! بل إنّ المعنى الصحيح هو اقتضاء الصلاة لذلك بحسب طبيعتها العبادية، وإيحاءاتها الروحية، ومفاهيمها العملية، بحيث لو عاش المصلي ذلك كلّه بوعي وتوجّهٍ قلبيٍّ، وخشوعٍ روحيٍّ وجسديٍّ، لحصل على ذلك). (من وحي القرآن، ج18، ص: 60).

    اقتران الصلاة بالصبر

وممّا يلفت النظر، عناية القرآن الكريم في حديثه عن الصلاة بذكرها مقترنةً بالصبر، وذلك في عدّة آيات كريمة، وهو اقترانٌ له دلالته البالغة على تزاوج دور الصلاة الفعّال والمؤثر من حيث هي علاقة عميقة ووثيقة مع الله تعالى، مع دور الصبر الأساس في صمود المؤمن أمام التحديات، فيتعاونان على النهوض بالمؤمن في مسيرة كفاحه في الدنيا وكدحه ليلقى الله تعالى مرضياً عنه في الآخرة. وقد رصد السيد هذا المعنى حين عرض لهذه الآيات في تفسيره (من وحي القرآن)، ومنها قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ{(البقرة:45-46)، فقال:

(قد يواجه الإنسان في حياته العملية ضغط الشهوة التي تلّح عليه في ما يشبه الحريق الداخلي، كي يستسلم لنداء الغريزة، ويترك نداء اللّه، وقد يقع تحت ضغط الطمع، الذي يدعوه إلى أن يترك إيمانه ومبادئه للحصول على مال أو جاه، وقد يواجه الضغوط الخارجية التي تقتحم حياته لتهدّد وجوده، فيستسلم لتأثيراتها المنحرفة بعيداً عن خطّ اللّه، فكيف يواجه ذلك كلّه؟

إنَّ هاتين الآيتين تستثيران في الإنسان إيمانه باللّه من خلال الوسائل العملية للإيمان، ليثبت الإنسان على خطّ الحقّ في المنحدر الخطر. ويتحدّث اللّه عن وسيلتين هما: الصبر والصلاة.

أمّا الصبر، فيمثّل الموقف القويّ الذي يحكم الإنسان فيه نفسه انطلاقاً من إرادته وإيمانه، وهو من الأخلاق الإيجابية الإسلامية التي تبني للإنسان القاعدة النفسية القوية المتماسكة التي تمنعه من الانهيار والانسحاق تحت وطأة نوازع الضعف البدنية والنفسية والخارجية، فيقوده ذلك إلى الالتزام بكلّ متطلبات الإيمان ومسؤولياته، لأنَّ الانحراف ينطلق غالباً من فقدان القوّة الذاتية للإرادة، وقد ورد في الحديث المأثور: «إنَّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا جسد لمن لا رأس له، ولا إيمان لمن لا صبر له»([64]).

أمّا الصلاة، فهي معراج المؤمن إلى ربّه، تعرج فيها روحه وضميره وقلبه وفكره، فتلتقي باللّه في لحظات ابتهال وانفتاح، وتتصل بالمعاني الكبيرة الممتدة في رحاب اللّه. إنَّ الإنسان إذا اتصل قلبه باللّه، انفتحت روحه على أخلاقه العظيمة التي أرادنا أن نتخلّق بها في الحياة؛ ومتى تحقّق للإنسان هذا الانفتاح، وعاش في هذه الأجواء الفسيحة، انخفض عنده مستوى الاهتمام بالقضايا الصغيرة، وعندها، لن تثير في نفسه أيَّ شيء مما اعتاد النّاس أن يستثيروا به وجدانهم وحياتهم.

وقد جاء في مجمع البيان، «أنَّ النبيّ(ص) كان إذا أحزنه أمر، استعان بالصلاة والصوم»([65])، باعتبار أنَّ الصوم مظهر للصبر. وجاء في الكافي عن الإمام جعفر الصادق(ع): «كان عليّ(ع) إذا هاله أمر فزع إلى الصلاة، ثُمَّ تلا هذه الآية: ]وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ[»([66])... إننّا نستفيد من الآية الأولى، تأكيد الجوانب العبادية كالصلاة والصوم، والعناصر النفسية الأخلاقية كالصبر ونحوه في بناء شخصية الإنسان المسلم، من أجل إبعاده عن أجواء الانحراف الفكري والعملي، لأنَّ ذلك هو ما يحقّق له قوّة الاندفاع في الجانب العملي، ويعينه على مواصلة السير في الطريق المستقيم.

كذلك، فإننّا نشعر بالحاجة إلى الإلحاح على ذلك في أساليبنا التوجيهية، وعدم الاكتفاء بالأساليب الفكرية التي تدفع الإنسان إلى الدخول في متاهات الجدل الفكري من دون أن يتحرّك في الاتجاه العملي، لأنَّ ذلك قد يفيد بالنسبة إلى الأشخاص الذين يختلفون معك في أسس الإيمان، أمّا المؤمنون الذين انحرفوا عن الخطّ ولم ينحرفوا عن الإيمان، فإنّهم يحتاجون إلى التربية العملية التي تهيّئ لهم سبل الانضباط في نطاق تقوية إيمانهم. ولا فرق في ذلك بين المؤمنين التقليديين الذين يعيشون الإيمان الفطري، والمؤمنين الذين يحملون الإيمان المشوب ببعض الانحرافات الطارئة، فالأسلوب الأفضل معهم هو أسلوب التربية العملية التي تعمِّق ملكة الصبر والخشوع التي تربطهم باللّه. أمّا أسلوب إثارة القضايا الفكرية التي يُراد من خلالها تعميق الجانب الفكري من الإيمان، فقد يعطي عكس النتيجة عندما يؤدّي ذلك إلى إثارة مشاكل جديدة في الإيمان، مما لم يكن داخلاً في الحسبان. ولذلك، لا بُدَّ من الانتظار ريثما يقوِّي المؤمن ارتباطه باللّه، فلا يزلزله عن الخطّ شيء من شبهة أو مشكلة فكرية). (من وحي القرآن، ج2، ص: 22-27).

ثم إنّ السيد يعقِّب على قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}(البقرة:45)، فيقول:

(لعلّ المراد أنّها ثقيلة على النّاس الذين لا يعيشون روح الخشوع للّه والخضوع لربوبيته، لأنَّ صلاتهم تتحوّل إلى عبء ثقيل لا يدركون معناه ولا يرتفعون إلى آفاقه، بل يمارسونها - لو مارسوها -كواجب جامدٍ وضريبةٍ مفروضة عليهم. أمّا الخاشعون الذين تخشع قلوبهم لذكر اللّه، وتتلذَّذ به، وترتاح إليه، فإنّهم يقبلون عليها بكلّ ما في قلوبهم من حبّ وطمأنينة وانفتاح، وبكلّ ما في نفوسهم من التطلّعات الروحية التي يحملونها إلى اللّه سبحانه في أمر دنياهم وآخرتهم، وبكلّ ما في ضمائرهم من شعور بالمسؤولية أمام اللّه في ما يفكّرون فيه ويقومون به من عمل، وذلك عندما يعيشون الإيمان باليوم الآخر في عمق الإحساس بالعقيدة وروعة الإيمان بقضية المصير، فيتمثّل ذلك في انضباطهم العملي، لأنّهم ]الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ[). (من وحي القرآن، ج2، ص:24).

    حضور المساجد وصلاة الجماعة

لا يخفى ما للمسجد من أهمية هي نابعة من أهمية الصلاة نفسها هي في الفكر الإسلامي، فهو يخرج بالصلاة عن أن تكون علاقة فردية وشخصية بالله تعالى، يقتصر أثرها على المكلف نفسه، لتكون حالةً اجتماعيةً يتلاقى عليها المؤمنون، ليصير تواصلهم وتعارفهم وتعاونهم أقوى وأشدّ. وحول قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}(البقرة:238)، يتحدّث السيد في هذا الموضوع فيقول:

(أخرج أحمد، والنسائي، وابن جرير الطبري عن زيد بن ثابت «أنّ النبيّ(ص) كان يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قابلتهم وتجارتهم، فأنزل الله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}(البقرة:238)، فقال رسول الله(ص): لينتهينَّ رجال أو لأحرقنَّ بيوتهم»([67]). وفي روايته - كما في المجمع - فقال رسول الله(ص): «لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصَّلاة، بيوتهم»([68]).

ونلاحظ تعليقاً على هذه الرِّواية، أنَّ النبيّ(ص) كان يؤكّد حضور صلاة الجماعة، حتى في الحالات التي يكون الحضور فيها ثقيلاً على المصلين، لشدّة الحر أو لانشغالهم عنها بأعمالهم وتجاراتهم، بحيث يتمثّل هذا التأكيد في تهديد المتخلّفين بإحراق بيوتهم عليهم.

ونستفيد من ذلك، قيمة صلاة الجماعة في الإسلام وأثرها في حياة المسلمين؛ فإنَّ الإسلام يعطي أهميةً للجانب الاجتماعي في الواقع الإسلامي، ليتشاور المسلمون فيما بينهم في كلّ أمورهم، وليتعاونوا على البر والتقوى، وليتحرّكوا في خطّ الجهاد في سبيل اللّه؛ فذلك ما يمنحهم صفة «المجتمع الإسلامي» في مرحلةٍ، و «الأمّة الإسلامية» في مرحلةٍ أخرى.

وقد تكون صلاة الجماعة من أقوى المناسبات التي تحقّق هذا الهدف، وتؤكد هذا العنوان، وتقوِّي هذه الروح؛ لأنّها تجسّد الاجتماع بين المسلمين أمام اللّه في الأجواء الروحية التي توحي بها الصلاة التي أراد اللّه لها أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأن تكون معراج المؤمن - بروحه - إلى اللّه؛ وبذلك يتحسَّس المسلمون الجانب الاجتماعي في دينهم من خلال استحضار اللّه في مضمون صلاتهم، كما يتمثّلون من نظام الإمامة في الصلاة والمأمومين فيها معنى القيادة التي لا بُدَّ للمسلمين من أن يطيعوها، فيتحرّكون عندما تتحرّك، ويقفون عندما تقف، كما تتمثّل القيادة معنى أتباعها لتحفظ لهم أوضاعهم، فلا يطيل الإمام صلاته رحمةً بالمأمومين.

وهذا ما ينبغي للمسلمين أن يحافظوا عليه في جميع صلواتهم، لأنّه هو الذي يمثّل الإيحاء اليومي الدائم بالمعنى العميق للرابطة الاجتماعية بينهم، ويدفعهم إلى الاستفادة من هذه المناسبة العفوية العبادية للتشاور في أمورهم، وللتعاون في ما بينهم، في ما يتصل بقضاياهم العامة أو الخاصة، وليستمعوا إلى الإمام الواعي للإسلام وللواقع بما يحدّثهم عن مشاكل الواقع الإسلامي وأخطاره، ليكون لهم وعي المسؤولية في ذلك. وربّما كان هذا هو السرّ في زيادة ثواب صلاة الجماعة على صلاة الفرادى، حتى ورد في بعض الأحاديث: «أنّها إذا زادت على العشرة، لا يحصي ثوابها إلاَّ اللّه تعالى»([69]). (من وحي القرآن، ج4، ص: 357 – 358).

    قصر الصلاة

لقد انبنت الشريعة المطهَّرة على السماحة واليسر، ونظراً إلى ما يصيب الإنسان من العناء عند سفره عن بلده ومفارقته داره وأهله، وخصوصاً عندما كان ينتقل ماشياً أو راكباً دابةً، وهو الأمر الذي رافق الإنسان على مدى تاريخه وإلى زمن قريب، فإنّ الله تعالى قد تلطَّف بعبده وأمره بقصر الصلاة الرباعية عندما يقطع مسافة السفر الشرعية بشروطها المعتبرة. ورغم اختلاف المذاهب في كونه رخصةً أو عزيمةً، فإنّهم متفقون على تشريعه وجواز فعله حال السفر، رغم أهمية الصلاة وعظيم فوائدها، وذلك تخفيفاً على المكلف وتسهيلاً عليه. وقد عرض السيد جوانب هذا الموضوع عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا}(النساء:101)، فقال:

(هل الآية دالة على وجوب قصر الصلاة للمسافر، بحيث تتضمن تشريع الحكم بقول مطلق، أو هي مختصّة بحال الخوف من حيث منطوقها؟ ربّما يذهب البعض إلى الوجه الأول، على أساس أن يكون ذكر الخوف من الأعداء وارداً مورد الغالب، بلحاظ أنَّ الأعمّ الأغلب في أسفارهم الخوف من العدّو، لأنّهم كانوا مستهدفين من كلّ الواقع الكافر المشرك في تلك المرحلة. وعلى ضوء ذلك، يكون القيد في قوله تعالى: ]إِنْ خِفْتُمْ أن يَفْتِنَكُمُ...[ وارداً مورد الغلبة، وربما يؤكّد ذلك ما ورد عن الإمام محمَّد الباقر(ع) في الاحتجاج على تعين القصر في صلاة المسافر بهذه الآية، وتفسيره كلمة ]فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ[ بورودها في مقام توهّم الحرمة([70]).

وربما يرى البعض أنَّ الآية واردة في مورد الحديث عن صلاة الخوف بقرينة التفصيل في الحديث عنها مع عدم التحدّث بتفصيل عن صلاة المسافر، أمّا الرِّواية عن الإمام الباقر(ع)، فهي واردة في تفسير صلاة القصر ولو في هذا المورد.

وعلى كلّ حال، فإنَّ مثل هذا البحث يبقى في جانب الثقافة التفسيرية، أمّا في مسألة الحكم الكلّي في صلاة المسافر، فإنَّ الأمر فيها ثابت بالسنة النبوية بلا إشكال، مع الخلاف الفقهي المذهبي بين الإلزام والتخيير.

وما دام الحديث منفتحاً على القصر في صلاة المسافر، فقد يثير البعض ضرورة إلغاء هذا الحكم في الوقت الحاضر، لأنَّ الأساس فيها - حسب الظاهر - هو المشقّة اللازمة في السفر في العصور السابقة، لأنَّ وسائل السفر عندهم كانت البغال والحمير والجمال ونحوها، مما يعاني معها المسافر مشقّةً كبرى، أمّا الآن، فيمكن للمؤمن قطع المسافة المعتبرة في تحديد مقدار السفر بوقت قصير من دون أيّة مشقة من خلال الوسائل الحديثة، كالسيارة والطائرة والباخرة ونحوها! والجواب، أنَّ المسألة تنطلق من طبيعة التسهيل، باعتبار أنَّ السفر يمثّل حالةً من حالات عدم الاستقرار؛ الأمر الذي يُطلَب فيه التخفيف، ولذلك وجب التمام عند الإقامة عشرة أيام، أو إذا كان عمل الإنسان السفر، بحيث يكون السفر أمراً عادياً له، أو نحو ذلك، وقد ورد الحديث عن النبيّ(ص) أنّه قال في موضوع قصر الصلاة: «صدقة تصدّق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته»(1)، وقد روي عن الإمام جعفر الصادق(ع) أنّه قال: «قال رسول اللّه(ص): إنَّ اللّه عزَّ وجلّ تصدّق على مرضى أمتي ومسافريها بالتقصير والإفطار، أيسرُّ أحدكم إذا تصدّق بصدقةٍ أن تُردَّ عليه؟»(2).

وقد روي عن أبي عبد اللّه(ع) قال: «الصّائم في السّفر في شهر رمضان كالمفطر فيه في الحضر، ثُمَّ قال: إنَّ رجلاً أتى النبيّ(ص) فقال: يا رسولَ اللّه، أصوم شهر رمضان في السفر؟ فقال: لا، فقال: يا رسول اللّه، إنّه عليَّ يسير، فقال رسول اللّه(ص): إنَّ اللّه - عزَّ وجلّ - تصدّق على مرضى أمتي ومسافريها بالإفطار في شهر رمضان، أيحبّ أحدكم لو تصدّق بصدقةٍ أن تُردَّ عليه؟»(3).

وهكذا نلاحظ أنَّ المسألة لا تنطلق من حالةٍ اختياريةٍ تابعةٍ لسهولة السفر وصعوبته، ومشقّة الصوم ويسره، بل هي هدية إلهية في التشريع من أجل التخفيف على المسافر بطريقةٍ إلزامية. واللّه العالم). (من وحي القرآن، ج7، ص: 432-434).

    فضل قيام الليل

لا تقتصر أهمية الصلاة على فرائضها الواجبة رغم ما لها من فوائد جليلة، بل تشاركها في ذلك النوافل عموماً، والراتبة منها خصوصاً، إن لم تزد عليها، وبخاصة قيام الليل، لأنّ فيها، إضافةً إلى ما في الصلاة من فوائد، زيادة حبّ الله تعالى والرغبة في التقرّب منه والحضور في ساحة قدسه، مدفوعاً بمحض الاختيار، مبادراً إليها بروح التطوّع، وهو ما يكشف عن درجة أعلى في الإيمان، ومرتبة أسمى في التذلّل والطاعة لربِّ العالمين. وقد كثرت الأحاديث والآيات التي تحثُّ على ذلك، وتبين ما لهذا العمل من ثواب، ومنها قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}(الإسراء:79)، ومنها ما روي عن النبيّ(ص)، أنّه قال: «عليكم بقيام اللّيل فإنّه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربةٌ إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم»([71]).

أما السيد، فإنّه يتوقف عند قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}(المزمل:6)، فيقول:

(الظاهر أنّ المراد بكلمة {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ}، ما ينشأ من الليل بعد العشاء، كما قيل، وهي كنايةٌ عن صلاة الليل التي تندمج في الزمن لتحمل للإنسان معناها الروحي والعملي، نتيجة الجهد الكبير والمشقّة الشديدة بسبب سهر الليل، والتمرّد على حاجة النفس إلى النّوم والراحة والاسترخاء الهادئ، وبذلك كانت أشدّ وطئاً وتأثيراً في الجسد من أيّة صلاةٍ أخرى ومن أيّ عمل آخر. وإذا كان اللّيل هو زمن الصفاء والهدوء عندما تخلد كلّ الموجودات الحيّة إلى الرّاحة، ويُبسَط الظلام كلّه على الأرض ليمنحها الاستغراق في الاسترخاء الهادئ، فإنّ الكلمة عندما تتحرّك فيه من بين الشفتين، تمثّل العذوبة والحلاوة والروحانية والصفاء والنقاء التي تفتح النفس على الحقيقة، فلا يشوبها غموض ولا تعقيد، ولا يقترب منها الباطل، وبذلك تكون أقوم في المعنى، وفي الجوّ والحركة، لأنّها لا تنطلق من بين الضجيج، بل تتحرّك من عمق الهدوء الذي يمنح الفكر انطلاقه وانفتاحه وعمق امتداده في الحياة.

وهكذا يريد الله لنبيه وللدعاة معه ومن بعده، أن يستغرقوا في قيام الليل، لتوحيَ إليهم الصلاة بالروح القوية التي تثبّت الإنسان في مواقف الاهتزاز، وفي مواقع التحديات، ولتفتح لهم الفكر القويم من خلال الشخصية القوية التي تواجه الضعف من قاعدة الإيمان). (من وحي القرآن، ج23، ص: 182 – 183).

ثالثاً: الصوم وصناعة التقوى

    تقوى الصوم

لقد اقترنت التقوى بعبادة الصوم بوضوح وحسم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة:183)، من حيث إنَّ التقوى هي الحالة الأكمل المطلوبة لطاعة العبد لله تعالى، لذا فإنّ (الله أراد للناس أن يصوموا حتى يستطيعوا من خلال الصوم أن يحصلوا على التقوى، ليكون الصوم طاعةً لله في نفسه، باعتباره امتثالاً لأمره تعالى، وليكون طاعةً لله من خلال أنّه يحقّق للإنسان روح التقوى في روحه، وعقلية التقوى في فكره، وحركة التقوى في حياته، ليكون من خلال الصّوم الإنسان التقي الذي يخاف الله في نفسه، فيراقبها في ما يعيش في نفسه من أفكار، وفي ما يتحرّك به من أعمال ومشاريع)(تقوى الصوم/ ص:117).

ثمّ يستمرّ السيد في إبراز علاقة الصوم بالتقوى فيقول: (إنّ التقوى هي زاد الصوم (...) ومن صام واستطاع أن يحصل على التقوى، فقد استطاع أن يحصل على عمق الصوم في شخصيته، أما من صام ولم يحصل على التقوى، فإنّه يصدق عليه القول الشريف المأثور المرويّ عن رسول الله(ص): «رُبّ صائمٍ حظَّهُ من صيامه الجوع والعطش، وربَّ قائم حظُّه من قيامه السّهر»)([72]) (م.ن.، ص: 118).

(ولهذا، لا بدّ من أن نعيش هذا الصوم من خلال ما نتحرك فيه في حياتنا اليومية، فقد ورد أنّ الإنسان الذي يمارس الغيبة والكذب وأمثالهما من المساوئ لا صوم له، وهذا يعني أنّه بعمله السيئ ذاك يفقد معنى الصَّوم وروحيته، لأنَّه لم يستفد من الصوم ما يعزّز فيه جانب الخوف من الله تعالى الذي يجعله يمنع نفسه من الأفكار السيئة والنّوايا السيّئة والدوافع السيئة، لأنّ أفكارنا هي التي تصنع لنا مواقفنا، ولأنّ نوايانا هي التي تتحرّك في خطّ علاقاتنا. ولهذا إذا أردت أن تكون الصَّائم التقي المنفتح على الله تعالى، فالمفروض أن تكون أفكارك ومشاعرك ونياتك صائمةً) (م.ن.، ص: 120).

    أنواع الصَّوم

ورغم أنَّ الصّوم هو في أبرز مظاهره الكفّ عن الطعام والشراب وسائر المفطرات طوال النهار، وبه يتأدّى الواجب، فإنّه في مضمونه الحقيقي أسمى من ذلك وأعمق، بحيث يجب أن تصوم الجوارح عن المحرَّمات، وخصوصاً في إطار ما يهمُّ الإنسان من قضايا اجتماعية وسياسية. وهنا ينوّع السيّد الصّوم ويعطيه عدّة عناوين، (فهناك مثلاً الصوم المادي في دائرة الجسد، وهو الذي يظهر في قوله تعالى: }وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ{(البقرة:187)، وهو الصوم الجسدي، أو جسد الصوم. وهذا اللون من الصوم يصومه التقيّ وغير التقيّ، والنية هي التي تعطي صوم الجسد معنًى روحياً، وذلك حين تترك المفطرات قربةً إلى الله تعالى، وتجعله يصعد إلى اللّه لتصعد معه من خلال نيّة القرب إلى اللّه عزّ وجلّ، ولذلك نسب اللّه تعالى الصوم إلى نفسه، كما ورد في الحديث القدسي: «الصوم لي وأنا أجزي به»([73])، لأنّه ليس مجرّد حركة مادّية، بل هو يختصر معنى الإخلاص لله تعالى، ولأنّ نيّة التقرّب به إلى الله هي التي تمنح هذا الصوم الماديّ نبض الروح) (الندوة، ج8، ص: 320).

ثم يتابع السيّد ذكر أنواع الصوم فيقول: (وهناك الصوم الروحي الذي تعيش فيه حالةً من الحرص على تطهير روحك من الأقذار التي تبعدك عن الله تعالى، ومن ذلك أن تخرج نفسك من الغفلة ونسيان الله، كي لا تكون من الفاسقين الّذين قال الله تعالى فيهم: }وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّه فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ{(الحشر:19). بحيث يساهم الصوم في أن تذكر الله في قلبك، وتعيش معه في السرّء والضرّاء، وفي كلّ خطوة تخطوها، وقد ورد في الدعاء: «واشغل قلوبنا بذكرك عن كلّ ذكر»(م.ن.، ص: 320).

ومن أنواعه ما سمّاه السيّد «الصوم الاجتماعي»، فقال: (فللمجتمع تقواه وضوابطه وقضاياه، ومسؤولية الصائم تجاهها تفرض عليه أن لا يحدث فتنةً تخلّ بوحدة المجتمع المسلم، ولو بكلمة تصدر منه تثير فتنةً أو حقداً أو عداوةً، أو بفعلٍ يضرُّ بالناس ويفقد المجتمع سلامته وأمنه، ومسؤوليته تفرض عليه أيضاً أن يبتعد عن العصبيّات كلّها، لأنّ التعصّب لا خير فيه، فإنّ الإخلاص للفكر لا يكون بالتعصّب له، بل بالتزامه، وفرق كبير بين التعصّب الذي هو انغلاق، والالتزام الذي هو ثباتٌ على المبدأ وانفتاح على الآخر. وقد ورد في الحديث، أنّ النبيّ(ص) قال لجابر بن عبد الله(رض): «يا جابر! هذا شهر رمضان، من صام نهاره، وقام ورداً من ليله، وعفّ بطنه وفرجه، وكفّ لسانه، خرج من ذنوبه كخروجه من الشّهر. فقال جابر: يا رسول اللّه، ما أحسن هذا الحديث، فقال رسول اللّه: يا جابر، وما أشدّ هذه الشروط»([74]) (الندوة، ج8، ص: 321).

ثم يختم السيّد حديثه عن أنواع الصوم بالحديث عن الصّوم السياسي، فيقول: (أما الصوم السياسي، فهو أن تمتنع عن الركون إلى الظالم وعن مساعدته والدفاع عنه، وأن لا تعمل على خذلان الحاكم العادل، وأن تمتنع عن التجسّس على الأبرياء لمصلحة الظلمة والمستكبرين، وأن تحرص على إضعاف المستكبرين من خلال مقاطعة بضائعهم ما أمكن ذلك، وأن تقاطع أوضاعهم ما أمكن ذلك، وأن تخذلهم. وقد ورد هذا المعنى في حديث الإمام الكاظم(ع) مع صاحبه صفوان الجمّال، عندما نهاه عن تأجير جماله لهارون الرشيد، فقال(ع) له: "ألا تحبّ بقاءهم حتى يخرج إليك كراؤك"؟ قال صفوان: بلى، فقال(ع): «من أحبّ بقاءهم فهو منهم»([75]). بحيث يريد(ع) أن يؤكِّد لنا أن الله تعالى يحاسب حتى على نبضات القلب الإيجابية مع الظالم). (م.ن.، ص: 323).

ويتابع السيد توضيحه لهذا الجانب السياسي، فيقول في موقع آخر: (صم الصوم السياسي، أرفض بضاعة العدّو حتى لو كانت تتلاءم مع أوضاعك الاقتصادية، أرفض الضغط، الذي يضغط فيه العدّو عليك لتفشي أسرار أمتك وأسرار الناس من حولك، لأنّك عندما تسقط تحت تأثير هذا الضغط، فإنّ معنى ذلك أنّك توازن بين طعامك وشرابك وبين أمتك، وتقدّم طعامك وشرابك على أمتك. كذلك فإنّنا من خلال قوة الإرادة التي يبعثها فينا الصوم، قد نضطر إلى أن نضغط على أنفسنا عندما تحتاج الأمة إلى مشاريع، فنتخلّى عن كمالياتنا لنساعد الأمة عندما تحتاج إلى المياتم أو إلى المستشفيات أو إلى أيّ شيء يكفل لها الحياة الكريمة. إنّني أتصوّر أنّ هذا الصوم الإسلامي هو الذي جعل المسلمين الأوائل يتحركون في خطّ الدعوة وفي خطّ الجهاد، وهم جياع وعطاشى، وينجزون تلك الإنجازات الكبرى) (الندوة، ج4، ص: 198).

وهكذا يرى السيد شمولية الصوم من حيث هو عبادة لا يقتصر أثرها على مجرّد ترك بعض الملذات، بل إنّ ترك تلك الملذات ليس إلا فرصةً لتدريب النفس على ترك كلّ ما لا يرضي الله تعالى مما يضرُّ بالإنسان ويفسد المجتمع.

    الزمان الصائم

كما سائر العبادات، فإنّ عبادة الصوم قد اقترنت بالزمان، بل كان الأبرز فيها والأطول، فهي لا تنفكّ عن شهر رمضان المبارك ولا هو ينفك عنها، رغم أنّ الصوم قد شرِّع إلزاماً لأسباب عديدة طارئة، أهمّها ما يكون كفّارةً عن خطأ أو ذنب، وجعل مستحبّاً على مدى العمر ما عدا العيدين، وذلك لأنَّ الأصل والأساس هو الصوم في شهر رمضان المبارك، ولأنّ لزمانيّته سرّاً عميقاً وميزةً على سائر الشهور، (فقد جعل الله تعالى له من الحرمات الكاملة التي توحي بقداسته في ما يلتزمه الناس من حدود الله فيه، ومن الفضائل المشهورة، في ما جعل له من الخصائص الروحية والعملية على مستوى النتائج الكبيرة التي يبلغها العاملون فيه من علوّ الدرجة عند الله. وهكذا حرَّم فيه المآكل والمشارب واللذات التي لم يحرِّمها في غيره، إيحاءً بعظمته، وإكراماً له فيما أراد للناس أن يتعبدوا له فيه بالصلاة والدعاء وقراءة القرآن، وعيّن له وقتاً لا يتسع للتقديم والتأخير، لأنّ الله أراد للزمن العملي أن يخضع للنظام العام الذي يريده الله للحياة، حتى يتعرف الناس في علامات الزمان علامات الطريق إلى الله عزَّ وجلَّ) (آفاق الروح، ج2، ص: 369).

ولقد أفاضت النصوص الشريفة من آيات وأحاديث وأدعية في وصف هذا الشهر الكريم بأوصاف عديدة وعظيمة، ولا سيّما أنّه (سبيل الله الذي أراد للإنسان أن يبدأ رحلته إليه فيما أثاره من أجواء، أو شرّع فيه من شرائع، وقد منحه الله شرف الانتماء إليه ليعيش الناس الشعور بالمضمون الروحي الذي يجعل الزمن إلهياً يحمل في داخله سموّ المعنى الإلهيّ فيما يختزنه من رحمة وعافية ولطف ورضوان، وفيما يمكن للعباد أن يحصلوا منه على المزيد من ذلك كلّه) (م.ن.، ص: 363).

ومن هذه الأوصاف أنّه («شهر الصيام» الذي أراد الله فيه للإنسان أن يقوم بأداء هذه الفريضة من أجل أن يؤكِّد له إنسانيته في مواقع السموّ عن الأجواء المادية التي تشدّه إلى الأسفل، لأنّ المطلوب أن يرتفع إلى الأعلى؛ بأن يكون روحاً يحركه الجسد في روحيته لينال رضى الله، ليعيش القرب منه تعالى أكثر) (آفاق الروح، ج2، ص: 365).

ومنها: أنّه (شهر الإسلام، والظَّاهر من إضافة الشهر إلى الإسلام، أنَّ للشّهر علاقةً بالإسلام بمجمله، ما قد يوحي بأنّ ذلك مرتبط بنـزول القرآن فيه، من حيث إنّه يمثل الوجه البارز للإسلام في عقيدته وشريعته، وبالحشد الروحي من الصيام والصلاة والدعاء وتلاوة القرآن، وهي الأمور التي أريد لها أن تقوم بدور كبير في إعداد الإنسان المسلم في هذا الشهر ليمتدَّ أثره على مدار السنة، من خلال ما يمكن أن يحقّقه البرنامج الرمضاني من تعبئة فكرية وروحية، الأمر الذي يجعل منه شهر الإسلام الذي يتحرّك فيه الإسلام بكلّ أبعاده) (م.ن.، ص: 366).

ومنها: أنّه شهر الطهور، وذلك (من خلال وسائل التطهر الروحي الذي يبلغه الإنسان فيه من نقاء الروح والفكر والقلب، من خلال الأجواء الطاهرة التي يعيش فيها روحية التقوى وحركتها بين يدي الله تعالى، فيتخفف بها من قذارات المعاصي وأرجاس الانحراف، ما يوحي بأنّ للطهارة موقعاً في حسابات الإسلام) (م.ن.، ص: 366).

ومنها: أنّه شهر التمحيص، والتمحيص (هو تخليص الشيء مما فيه من عيب، وربما أريد منه التطهير والتزكية، أو الابتلاء والاختبار. وفي ضوء هذا، يكون الشهر المبارك مدخلاً للنفاذ إلى داخل الإنسان ليقتلع جذور الفساد فيه، ليحصل على خلاصه الروحي من كلّ ذلك، أو يكون حركةً في الفكر والمراقبة والمحاسبة في ما يحركه الإنسان من نوازع ذاتية ترهق روحه وتنحرف به إلى سبل الضلال، ليعود الإنسان في شهر رمضان متحرراً من الأغلال ومتوازناً في الخطّ المستقيم) (م.ن.، ص: 367).

ومنها: أنّه شهر القيام، (والمراد به القيام للصلاة في الليل والتهجد فيه، ليكون له الطابع العبادي التهجدي الذي يمنح التخطيط الروحي لبناء الشخصية الإسلامية فيه بعداً واسعاً متنوعاً، في ما تتمازج فيه العناصر العبادية في الليل والنهار، لتتحقق النتائج المطلوبة منه في أكثر من موقع) (آفاق الروح، ج2، ص: 367-368).

وهكذا يمكننا أن نسميّه شهر المغفرة، وشهر الصبر، وشهر القضاء والقدر، وشهر التزاور وصلة الرحم، وشهر القرآن، وربما غيرها أيضاً، فهو لكثرة بركاته وخيراته يتسع لأمور كثيرة هي أساسٌ في بناء المسلم فكرياً وسلوكياً، وأساس في سعادته في الدنيا ونجاحه في الآخرة.

ثم يستكمل السيد إشادته بشهر رمضان، بأسلوبه الشاعري البليغ، فيقول: (في شهر رمضان، نعيش عمرنا في واحة طيبة خضراء، نستروح جوّها النديّ المنعش، ونتفيّأ ظلالها الوارفة المخضلة، في نشوة روحية طاهرة، ونتنفس في أسحارها الطيبة أنفاس الهدوء والطمأنينة، عندما ينطلق الإنسان مع ربّه في مناجاة شاعرية عذبة، واقفة بين الخوف والرجاء، واثقة بعفو اللّه ورحمته (...) فتطمئن نفسه وتهدأ، ويتحول قلقها من مصيرها المجهول إلى اطمئنان وثقة بعفو اللّه ورحمته ورضوانه، وتشيع فيها المحبّة والوداعة والصفاء، لتنسكب في مجتمعها أخوةً ومودةً وإخلاصاً، وتستريح من عناء المادة، ويسترجع بها الإنسان أنفاسه من سيره الطويل المجهد) (قضايانا على ضوء الإسلام، ص: 53-54).

    الليلة الأعظم

وربما تأكيداً لأهمية الزمن في العبادة عموماً، وفي الصوم خصوصاً، وتأكيداً للزوم التفاعل مع ما يجري في ليلة القدر من تقديرٍ للأرزاق وتدبيرٍ للأمور على مدى هذا الكون الرهيب، (فقد فضَّل الله ليلةً من هذا الشهر على سائر لياليه، فجعل لها ميزةً كبيرةً تتصل بالنظام المنفتح على حياة الناس في التخطيط الإلهي لما يقضي لهم ويقدر لحركتهم في الحياة في مختلف مجالاتها وشتى جوانبها، مما يمكن أن نصطلح عليه ببداية السنة الإلهية التي يتحرّك فيها البرنامج التنفيذي للنظام التقديري لحركة الحياة والإنسان). (م.س.، ص: 369-370).

لكن هذا التقدير الإلهي العظيم والحيوي الممتدّ، يجب أن لا يتمّ بصمت، بل على الخلائق أن تصدح أثناءه بالتهليل والتسبيح، وخصوصاً أنّه سينـزل فيها القرآن الكريم معلناً بدء انطلاقة أعظم دعوة. لذا كانت ليلة القدر هي (الكرامة الكبرى لهذا الشهر عندما اختصرت الألف شهر فجعلتها في ليلة، وجعلت حجمها أكبر من حجم ذلك الزمن الطويل في فضلها وثوابها ونتائجها الروحية فيما يحصل عليه الإنسان من مضمونها العبادي، ما يؤكّد أنّ القيمة للنوعية وليست للكمية، فقد لا تكون الألف شهر الفارغة من عمق الحركة الروحيّة في مستواها العبادي ذات قيمة عند الله، فيما تكون الليلة الواحدة في جهدها وسرّها ذات قيمة كبيرة في حركة الفكر والروح، فيما تنتجه من أفكار ومشاعر، وفيما تنفتح عليه من آفاق الخير) (آفاق الروح، ج2، ص: 414).

إضافةً إلى ذلك، فإنّ ميزة اجتماع الناس للعبادة فيها، ستجعل الناس يعيشون (معها تجربة الروح الخالية من العناصر السلبية التي توحي بالعداوة والبغضاء، عندما يتفرغون لعبادة الله في دعائهم وابتهالاتهم وصلاتهم، فيتحوَّل الإنسان من شخصٍ يعيش نوازع الأنانية في ذاته، إلى شخص يعيش رحابة الإنسانية في حياته، كما يتطلَّع إلى العبودية لله، ليطلع الفجر في يوم جديد، من أجل البدء بحياة جديدة خالية من التخطيط السلبي للعلاقات بين الناس، مليئة بالتَّخطيط الإيجابي في تلك الدائرة) (م.ن.، ص: 370).

    فوائد الصَّوم

تتنوع فوائد الصوم بين ما يطال الروح فيعزّز فيها علاقتها بالله تعالى وخشيتها منه، وما يطال الجسد فيزيده صحةً وقوّةً، وهي مما ينبغي التوقف أمامها واستعراضها كما يلي:

أ- تعزيز الروح الإيمانية وقوة الإرادة:

ذلك أنّ قدرة الإنسان خلال الصوم على الامتناع لفترة طويلة عما اعتاده من ملذات الطعام والشراب وغيرهما قربةً إلى الله تعالى، رغم كثرة اعتياده عليها وطلبه لها، سوف (تخفّف ثقل الضغط الجسدي على مواقع الإرادة، فلا تثقل الرغبة في تلك الملذات حركتك نحو هدفك، ولا يسحقك الحرمان الذي تعيشه في بعض ساحات التحدي لتسقط أمامه، فتفقد طهرك، وتموت قضاياك، وتنسحق إنسانيتك) (م.ن.، ص: 365).

(إنّ مواجهة إلحاح العادة علينا من خلال الصوم، هو أول درس نستفيده حتّى نتمرد عليها ولا نكون عبيداً لها، ونجعل ذلك أساساً للانتصار على عاداتنا المحرَّمة أو المحلَّلة إذا كانت سيئةً) (الجمعة منبر ومحراب، ص: 187 – 188).

والإرادة الحرّة والقوية تقوم بـ(وظيفة الضابط الذي يكبح جماح الغريزة، ويخفّف من غلواء الحيوانية النّهمة التي تعيش في عروقنا ودمائنا، فتستثير شهواتنا وغرائزنا. وكان لا بدّ للإسلام من تربية هذه الإرادة، فكان الصوم إحدى هذه الوسائل، لأنّ فيه حدّاً من طغيان الجسم على الروح، والمادية على الإنسانية، والعبودية على الحرية) (تقوى الصوم، ص: 146-147).

وهو جانبٌ مهم وأساس في طاعة الله تعالى والتزام شريعته، (من حيث هو يقظة روحية متحركة في داخل الإرادة، وإرادة ثابتة قوية في حركة الروح، حين يوحي إلى الإنسان بالمراقبة الدائمة لخطواته العملية، ومشاعره الذاتية، وأفكاره الخاصَّة، من خلال ما تحقّقه المراقبة اليومية في مسألة الملذات العادية التي يريد أن يحفظ نفسه من ممارستها، وأخذ نفسه بالكفّ عنها قربةً إلى الله تعالى، ما يعمّق في الذات معنى القرب من الله كعنصرٍ أساس من العناصر الحية لغايات الإنسان في الحياة، وينعكس إيجاباً على كلّ جوانب شخصيته ومجالات نشاطه، وهذا ما تعمل التربية الإسلامية الهادفة على تحقيقه، عندما توجه اهتماماته نحو الله تعالى من حيث إنّه غاية الغايات). (تقوى الصوم: 141-142).

ب- تعزيز التَّضامن الاجتماعي          

يعتبر التضامن الاجتماعي من الركائز المهمَّة في بناء المجتمع المسلم والمستقرّ والسعيد، وقد حرص الإسلام في تشريعه وتعاليمه الأخلاقية على إغناء هذا الجانب والحثّ عليه، وقد ظهر ذلك في العديد من العبادات، إن لم يكن فيها جميعها؛ في الصلاة والصوم والحجّ والخمس والزكاة. وهو في الصوم يتجلَّى في الحثّ على التصدّق فيه وعلى صلة الرحم، والعطف على الأيتام، وتفطير الصائمين، وأمور أخرى. والصّائم إنما يعطف على الفقراء ويتصدَّق عليهم (من خلال بعض المشاعر الذاتية التي يعيش فيها الشعور بالجوع والحرمان في ظروف اقتصادية صعبة، لتثير في نفسه الإحساس بالمسؤولية في الخروج من هذا الواقع، فيتحرّك من أجل المواجهة العملية للواقع، بالجهد الفردي أو الجماعي، وبمختلف الوسائل، ولو بالتحرك السياسي المتمادي حتى تغيير النظام القائم المسؤول عن ذلك) (م.ن.، ص: 142).

ج- تعزيز القدرة على الصبر:

ذلك أنّ الصبر من السجايا الأخلاقية الأساس في تكامل شخصيّة المؤمن، فبه سيصمد أمام الصّعاب، وبه سيتحمَّل الآلام، وبه سيقهر نوازعه ليبتعد عن المعاصي ويلتزم الطاعة، وبه سيكظم غيظه ويضبط انفعالاته ويحسن معاشرة النّاس ومداراتهم ويتحمّل أذاهم، ولا غرو في أن يساهم الصوم بتعزيز الصبر وتقويته، لما فيه من قهر للنوازع والرغبات، وتحمل لحرمان النفس والجسد من عادات مستحكمة وملحّة، فإنّ الصائم الذي سيقدر على ذلك، يفترض به أن يكون قادراً على فعل الطاعات وترك المعاصي وتحمّل ما قد يجرّه ذلك من عنت ومجاهدة، كما أنّه يفترض به أن يكون قادراً على كظم الغيظ وضبط انفعالاته ولجم غضبه، فلا يسوقه ذلك إلى قول أو فعل ما لا يرضي الله تعالى، ولا إلى أن يسيء إلى من حوله من أهل وأصدقاء. وما حسن الخلق المطلوب في شهر رمضان أكثر من غيره، إلا هذا الصبر الذي هو من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد، كما ورد في الحديث الشريف([76])، خصوصاً أنّ بعض الصائمين قد يزعجهم امتناعهم عن عاداتهم ويستفزُّ عصبيتهم، فيضيقون ذرعاً بمن حولهم، ويغضبون لأتفه الأسباب. إنّ أخذ النفس بالصبر يفترض أن يكون نتاجاً للصوم الصحيح الذي يعيش المؤمن خلاله معانيه السامية.

د- تعزيز سلامة الجسد:

وهو من فوائد الصوم المباشرة والحتمية والواضحة، فبالصوم تتجدّد الرغبة للطعام والشراب، وبالصوم ترتاح المعدة من عناء العمل الدائم، وبالصوم يتخلّص الجسم من الكثير من المواد الضارّة. ومن جهة أخرى، قد يُظهر الجوع والعطش أمراضاً خفيةً أو هي في بدايتها، فيلتفت إليها الصائم ويعالجها قبل استفحالها وتعاظم خطرها، وتفصيل ذلك هو من اختصاص العارفين بالطبّ، مكتفين بما أجمله الحديث المشهور: «صوموا تصحّوا»([77]) بدلالته البالغة ومعانيه السامية.

ه- تعزيز حضور القرآن:

أكّدت الآيات الكريمة نزول القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك في ليلة القدر، إذ قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}(البقرة: 185)، وقال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}(الدخان: 1-4). ولا غرو أن لا يمرّ حدث استثنائي بفرادته وعظمته دون أن يكون له مكانته وأهميته في حركة المؤمن الصائم العبادية، وفي طبيعة احتفائه وقيامه بحقوق هذا الشَّهر الكبير. من هنا يؤكّد السيد أنّ (قراءة القرآن تختلف في تأثيرها في النفس تبعاً لاختلاف الجو الذي تعيش فيه القراءة، فإذا كانت القراءة في جو فكري ينطلق من موقع استيحاء المفاهيم الفكرية منه، فإنّها حينئذٍ توحي بالتأمل الهادئ والمناقشة العلمية الوقورة والجادَّة، وإذا كانت القراءة في الجوّ الروحي الذي يعرج بروح المؤمن إلى الله، فإنّ تأثيراتها حينئذٍ ستتمثّل في أنّها انطلاقة روحية ممتزجة بالفكر في جوّ إيماني رائع. ولعلَّ هذا هو ما أراده الإسلام في ما استحبَّه وحثَّ عليه من قراءة القرآن خلال شهر رمضان المبارك، لأنَّ الإيحاءات الروحية التي تبعثها هذه القراءة في شخصية المسلم، تختلف كثيراً عمّا تولّده في نفسه إذا كانت بعيدةً عن هذه الأجواء؛ إنّ هذه القراءة المتأنية ستساعد على نمّو الشخصية الإسلامية حتّى تتمكَّن من الانطلاق إلى أهدافها من قاعدة فكرية روحية عميقة، وتصل بجدارة إلى النتائج المرجوة. أمَّا الطريقة التقليدية التي تعتني بالكم دون الكيف في قراءة القرآن، فإنّها لا تستطيع أن تضيف شيئاً إلى مشاعر الإنسان وأفكاره، والتي تبقي القرآن في نفس القارئ ووعيه مجرَّد كلماتٍ جامدة. وربما كان من مظاهر هذا الفهم الخاطئ، هو التسابق في عدد الختمات التي تهدى إلى الموتى في هذا الشهر، دون تدّبر في المعاني، ولا عيش في آفاقه الروحية السامية) (في رحاب دعاء الافتتاح، ص: 10-11).

و- تعزيز أهمية الدعاء:

يزداد اهتمام الصَّائم بالدعاء في شهر رمضان، لما يجد في وقته من فراغ، وفي روحه من صفاء، وفي نفسه من توجّه، الأمر الذي من أجله سُمّي هذا الشّهر شهر الدّعاء، والذي من أجله أيضاً صار تعزيز الاهتمام بالدعاء من جملة فوائد فريضة الصوم المباركة، التي لا يقتصر أثرها من هذه الجهة على هذا المعنى. قال السيد: (قد يكون الدعاء من أبرز الأعمال العبادية الظاهرة في شهر رمضان، فهناك دعاء للأيام، ويقابله دعاء للّيالي، وهناك أدعية للصباح وللسحر ولأوقات الصلاة والفطور والسحور وغيرها، وقد تنوَّعت أساليب الدعاء ومضامينه، سواء ما جاء في حديث مأثور، أو ما وضعه العلماء وأنشأوه.

فهناك الأدعية التي يقرّ فيها الإنسان بذنوبه بين يدي الله تعالى، ويعبّر فيها عن محبته له وخوفه منه، ويثير أمام نفسه الكثير من تفاصيل العقيدة فيما يعتقده من توحيد الله ورسالة رسوله والإيمان باليوم الآخر، ليؤكّد معانيها التفصيلية في نفسه.

وهناك الأدعية الاجتماعية التي تثير في داخل الإنسان الشعور بمشاكل من حوله من الناس، وذلك في عملية إيحاء روحية بأنَّ عليه أن لا يبتعد عن الحياة في نطاق مسؤوليته عندما يلتقي بالله تعالى ويجلس بين يديه، ليعرف أنّ الحياة كلّها، في مشاكلها وحلولها، مشدودة إليه تعالى في عملية البقاء والامتداد، كما هي مشدودة إليه في عملية الخلق، وليتأكّد له أنّ العبادة لا تعزل الإنسان عن الحياة، بل تربطه بها بطريقة فعَّالة ومثيرة.

وهناك الأدعية التي تعمق في نفسه الوعي السياسي في ما يلتقي به من المشاكل العامة في الحكم والحاكمين، وقضايا العدل والظلم، لتتحوَّل إلى دعوات ورغبات وأمنيات يطرحها بين يدي الله سبحانه وتعالى، ليكون ذلك سبيلاً من سبل الوعي الذي يختزنه في أجواء العبادة.

وهكذا يجد الإنسان في هذه الأدعية ركائز تكوين الشخصية الإسلامية، فيلتقي فيه الجانب الروحي الفردي بالجانب الاجتماعي والسياسي، وتتحرك المفاهيم الصغيرة والكبيرة في ما يحمله الإنسان من مشاعر وأفكار، حتى يدخل في دورة تربوية روحية تثقيفية يعيش فيها آفاق مسؤوليته الواسعة بين يدي الله تعالى، وبذلك فإنّه يعيش تكامله روحياً وفكرياً على أساس الانطلاق بالدعاء في فكره وشعوره قبل الانطلاق به في لسانه، ويصل به إلى فوائده المرجوّة) (في رحاب دعاء الافتتاح، ص: 11-12).

    الخشية من تضييع الأهداف

ولئن كانت هذه الفوائد الجليلة جديرة بأن يحرص الصائم عليها ويرغب فيها، فإنّ من المؤسف أن تجد كثيراً من الصائمين تغيب عنهم جميع هذه الأهداف أو معظمها، ونجد السيد قد رصدها بدقة في إطار تصويبه لكيفية القيام بحقِّ هذه الفريضة، فقال: (يجرّنا الحديث عن شهر رمضان إلى الحديث عن بعض النماذج الحيّة، وكيف تعيش في شهر رمضان حياتها العملية التي ضيَّعت بها فوائد الصوم الجليلة.

ومن ذلك ما يمكن تسميته (ازدواج الشخصية)، حيث نلمح الكثيرين يحيون اللهو والعربدة والخلاعة في سائر أيام السنة، حتى إذا جاء شهر رمضان، لبسوا المسوح، واتجهوا إلى العبادة والاستغفار والدعاء. فإذا أقبل العيد، عادوا إلى حياتهم الأولى ومنشدهم ينشد:

رمضانُ ولَّى هاتها يا ساقي

    


    

مشتاقةً تسعى إلى مشتاقِ


كأنَّ للعبادة موسماً خاصاً كبقية الأشياء التي يكون لها مواسم، ثُم تفقد معناها في خارج وقت الموسم. هؤلاء النّاس يفهمون الدِّين مجرّد طقوس وتقاليد وعادات مؤقّتة بأوقات معينة، ونستطيع أن نلمح في حالتهم الصورة الحيّة للشخصية المزدوجة.

ومن ذلك، صرف الوقت في أمور لا نفع منها، حيث يعود شهر رمضان عند الكثيرين منّا مجالاً للسهر والسمر واللهو البريء وغير البريء، فلا تشعر ـ وأنت في هذا الجوّ ـ أنَّك تعيش في هذا الشهر العظيم الذي أعدّه اللّه تعالى ليكون مجالاً لتركيز الشخصية الإسلامية، هؤلاء النّاس لا يعيشون حياتهم إلاَّ على سبيل اللهو والهزل، ولا يطيقون السير على الأسس الجدية العملية.

ومن ذلك، الإسراف في الأكل، والتفنّن في تصنيعه وتنويعه، حيث يصوم الكثيرون، ويمسكون طيلة النهار عن الأكل والشرب واللذات الأخرى، فإذا جاء وقت الإفطار، اندفعوا يعبّون من تلك اللذات التي يحسبون أنّهم حرموا منها طيلة النهار، فيحاولون التعويض عمّا فاتهم منها، غير مدركين لمغزى الصوم أو الإمساك؛ هؤلاء النّاس لا يصومون لما في الصوم من ارتفاع بإنسانيتهم، وتطهير لأجسامهم، وتحريرٍ لإرادتهم، بل إنّهم يصومون لإسقاط الواجب الذي لا يدركون فائدته ولا وجه الحاجة إليه، تماماً كما يمتنع النّاس عن الزّنى مثلاً لأنَّ القانون يحرّم ذلك، لا لأنَّ قيمهم ومثلهم ووعيهم لمفاسده تفرض عليهم ذلك.

ومن ذلك، أنّه عندما يحلُّ هذا الشَّهر العظيم، تتعدَّد الموائد إكراماً للصائمين، ولكنَّها لا تستقرّ إلاَّ في بطون الوجهاء والأغنياء والمفطرين الذين يجدون في هذا الشهر فرصةً طيّبةً للأكل وملء البطون والجاه والشهرة، في حين أنّ الصّائمين والفقراء والمغمورين من عباد اللّه الصالحين، لا ينالهم منه إلاَّ القليل القليل.

هذه بعض النماذج نعرضها ونقدمها "هديةً" إلى من يعلّقون على ما يكتب عن الصوم وفوائده بأنّهم لا يلمسون هذه الفوائد في حياتهم عندما يصومون) (قضايانا على ضوء الإسلام، ص: 56-57).

    شبهة حول فوائد الصوم

حيث عرض السيد لحديث مروي في كتيب الحديث يذكر سبباً غريباً لتشريع الصوم هو أنّه عقوبة لآدم(ع) على أكله من الشجرة، فكان لا بدّ من أن يبيّن السيد تهافت هذا الحديث وعدم صحته فقال:

(روي عن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) أنّه قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله(ص)، فسأله أعلمهم عن مسائل، فكان فيما سأله أنّه قال له: لأيّ شيء فرض الله عزّ وجلّ الصوم على أمتك بالنَّهار ثلاثين يوماً، وفرض الله على الأمم أكثر من ذلك؟ فقال النبي(ص): "إنّ آدم لمّا أكل من الشجرة، بقي في بطنه ثلاثين يوماً، ففرض الله على ذريته ثلاثين يوماً الجوع والعطش، والذي يأكلونه بالليل تفضّلٌ من الله عزّ وجلّ عليهم، وكذلك كان على آدم(ع)، ففرض الله ذلك على أمتي"، ثمّ تلا هذه الآية: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيّاماً مَعْدُودات}(البقرة:183-184). قال اليهودي: صدقت يا محمّد، فما جزاء من صامها؟ فقال النبيّ(ص): "ما من مؤمن يصوم شهر رمضان احتساباً، إلا أوجب الله تبارك وتعالى له سبع خصال، أولها: يذوب الحرام في جسده، والثانية: يقرب من رحمة الله عزّ وجلّ، والثالثة: يكون قد كفَّر عن خطيئة آدم أبيه...")، إلى آخر الحديث([78]).

إنّ من يقرأ هذا الحديث سوف يخرج بنتيجة واحدة، هي أنّ قضية الصوم ليست مرتبطةً في تشريعها بالمصالح النفسية والاجتماعية والصحية والروحية التي تكمن في الصوم وتنطلق منه، وإنما هي مرتبطة بخطيئة آدم(ع) ومعصيته، فهي عقوبة على هذه المعصية، وتكفير عن هذه الخطيئة، ولكنّها عقوبة لم يتحمَّلها آدم وحده، بل تحمَّلتها ذريته، وتكفير لم يفرض على المذنب وحده، وإنما فرض على أولاده من بعده إلى أن تقوم القيامة، لا لذنب جنوه، ولا لخطيئة ارتكبوها. ولما كانت الكفارة عن الذنب تقتضي الاتحاد في الكمّ والكيف بينها وبين الذنب، كما يفرض الحديث، فقد كان لا بدّ للبشر انسجاماً مع هذا الواقع أن يصلوا الليل بالنهار، ما دام الطعام قد بقي في جوف آدم ثلاثين يوماً ليلاً ونهاراً، لولا أنّ الله تفضَّل عليهم وخفَّف عنهم، فجعلهم في سعة أن يأكلوا في الليل.

تلك هي الصورة التي نخرج بها عند قراءتنا لهذا الحديث، صورة التشريع الذي يستهدف عقوبة البشر في الدنيا على ذنب لم يجنوه، وإلزامهم بالتكفير عن خطيئةٍ لم يرتكبوها، ولا بأس بأن نعرض هذا الحديث على المفاهيم الصحيحة التي نؤمن بها ونعتمد عليها، لنرى مدى ملاءمته لها وانسجامه معها، فنقول:

أولاً: لا تلتزم الإمامية بصدور المعصية عن الأنبياء مطلقاً، ومنهم آدم(ع)، أما ما ذكره القرآن عنهم، فلا يرونه من قبيل المعصية، وإنما يوجهونه بتوجيهات تبعده عن ذلك.

وثانياً: إنّ القرآن يقرّر في الآية الكريمة: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(النَّجم:38)، أنّ الإنسان وحده يتحمل مسؤولية عمله، فلا يحاسب أيّ إنسان على ما ارتكبه الآخرون من أعمال، ولا يؤاخذ إنسان بما فعله آخر، وإنما يعاقب ويؤاخذ بما فعله وما ارتكبه فحسب.

وثالثاً: ما دام الغرض من التشريع هو التكفير، فلماذا خصَّ الله بذلك أمة النبيّ محمّد(ص) ولم يكن شاملاً لجميع البشر؟!

ثم إنّ الملحوظ أنَّ النبي لم يُجب عن الشقّ الآخر من السؤال الذي سأله إيّاه اليهودي، وهو

عن السرّ في زيادة فريضة الصّوم في سائر الأمم على الفريضة التي فرضت على المسلمين. (آفاق إسلامية، ص: 110-112).

    معاني عيد الفطر

تنتهي عبادة الصوم بعيد الفطر، الّتي هي إحدى الفرحتين الكبريين التي يعادلها لقاء الله تعالى، لما ورد في الحديث الشريف: «للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربّه»، وهو ما يؤكّد أنّ سبب الفرحة في الفطر ليست هي لأنَّ الإنسان سيعود إلى ما اعتاده من طعام وشراب وعادات مباحة، لأنّها بهذا المعنى لا تعادل في سموّها لقاء الله تعالى، بل لأنّ فيها تحقيقاً لإنجاز، وربحاً لفوائد جليلة. من هنا، وفي إطار المعاني التي يثيرها العيد، يقول السيد: (لا نجد أمةً من الأمم إلاّ ولها أعيادها الدينية والسياسية والاجتماعية، وقد أصبح لدينا تقليد جديد، وهي الأعياد الشخصية، كعيد ميلاد الإنسان، وعيد زواجه، وما إلى ذلك. وعندما نريد أن ندرس فكرة العيد، نرى أنّها تنطلق من مناسبة حيوية مهمَّةً، يعيش فيها الإنسان الفرح الكبير، ويحاول أن يمدَّ هذا الفرح من خلال ما يمدُّ به المناسبة في الذّكرى تارةً وفي الممارسة تارةً أخرى. ولقد جاءت كلمة العيد في القرآن في الحوار بين نبي الله عيسى وأصحابه حول المائدة التي يمنحها الله لهم، ليعيشوا الفرح في معنى الكرامة الإلهية، ولتكون مناسبةً يتذكّرونها ويخلّدونها مع الأجيال التي تلتزم نهجهم، وتعيش سرّ الكرامة في حركتهم، ولذلك طلبوا منه أن ينـزّل الله عليهم مائدةً من السماء {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا}(المائدة:114)، أي تكون عيداً يحتفل به أوّلنا الّذي عاش الكرامة، ويحتفل به آخرنا الّذي يعيش من بركة هذه الكرامة.

ولعلّ أفضل كلمة قيلت في معنى العيد، هي كلمة عليّ(ع): «إنّما هو عيد لمن قبل الله من صيامه، وشكر وقيامه»([79])؛ فلقد جاء في نهاية حركة مسؤولة عاشت في موسم معين أن يرتفع بالإنسان في عملية روحية إنسانية داخلية وخارجية، فشهر رمضان هو شهر الله الذي يفتح الله فيه باب رحمته ومغفرته ولطفه وعفوه وغفرانه للصائمين، وللقائمين، وللمجاهدين، وللعاملين في مواقع رضاه؛ فهو شهر التوبة والمغفرة والرَّحمة، وهو شهر القبول، كما جاء عن الإمام زين العابدين(ع) في دعائه، وهو شهر الإسلام، ولذلك فقد حشد الله في هذا الشهر ما وزَّعه على بقية الشهور؛ فهو حمّام روحي يدخله الإنسان ليغسل فيه عقله فلا يبقى فيه إلا الحقّ، وليغسل فيه قلبه فلا يبقى منه إلاّ الخير والمحبة، وليغسل فيه حياته فلا يبقى فيها إلا ما يرضي الله في مواضع طاعته، وليغسل فيه أحلامه لتكون أحلاماً لا تبتعد عن إنسانيته في مواقع العبودية لله، وليغسل فيه أهدافه فلا تكون إلا الأهداف التي تنفتح على الغايات التي وضعها الله للإنسان ليستهدفها في حياته. وهكذا جعل الله الصيام وسيلةً من وسائل تقوية الشخصية الإسلامية الإنسانية، وتقوية الإرادة المنفتحة على وعي المسؤولية.

وحين ينتهي شهر رمضان على المؤمن الذي حاول جهده الاستفادة من بركات هذا الشهر الكريم، فإنّ نداءه البليغ يهتف به قائلاً:

أيُّها الإنسان، إذا نجحت في مسؤوليتك، فإنّ هذه المسؤولية الرمضانية لا بدَّ من أن تتحرّك لتكون مسؤولية العام كلّه والعمر كلّه. أيّها الإنسان، إذا التقيت بالله في شهر رمضان في مواقع القرب إليه، فحاول أن لا يبعدك الشيطان عنه، وإذا اقتربت من مواضع التعاون على البرّ والتقوى مع الآخرين، فلا تسمح للشيطان بأن يدفعك بعيداً لتتعاون على الإثم والعدوان.

وهكذا نجد أنّه شهر المسؤولية وشهر القرب إلى الله، وشهر الرجوع إليه تعالى. ولذلك، إذا كنت الإنسان الجادَّ في صيامك وقيامك، فإنّها السعادة كلّ السعادة عندما يقبلك الله، وإذا قبلك الله وأحسست بقبوله لك من خلال عقلك المنفتح عليه، وقلبك الخاشع بين يديه، وحياتك المتحركة في دربه، فهو العيد كلّ العيد: «إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وقيامه»، وإذا أردت أن لا تجعل العيد يوماً في الزمن، فبإمكانك أن تعطي الزمن في كلّ أيامه وفي كلِّ لحظاته معنى العيد، فإذا كنت تحتفل في يومِ الفطر بأنّك أطعت الله، فاليوم الثاني الذي تعيش فيه الطاعة وتبتعد فيه عن المعصية، هو يوم يمكن أن تحتفل به كعيد.

وبذلك يرتفع معنى العيد في وجداننا وحياتنا، ليكون العيد طاعة الله، ولتكون مناسبة العيد مناسبة طاعة، عند ذلك يمكن أن نعيش العيد في امتداد الزَّمن، ولا يبقى يوماً في السنة، بل يمتدُّ ليكون سنةً في العمر، وعمراً في الوجود كلّه. وقد ورد في حديث مرويّ عن الإمام الحسين(ع) - وقد يروى عن غيره، والنبع واحد - أنّه(ع): «نظر إلى ناس في يوم فطر يلعبون ويضحكون، فقال لأصحابه: إنّ الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى رضوانه، فسبق فيه قومٌ ففازوا، وتخلّف قومٌ فخابوا. فالعجب كلُّ العجب من الضَّاحك اللاّهي في اليوم الذي يُثاب فيه المحسنون، ويخسر فيه المقصّرون»)([80]). (الندوة، ج1، ص: 141-145).

رابعاً: الحجّ وفادة على الله

    العبادة الفريدة

لقد حرصت الشّريعة المطهّرة فيما فرضته من عبادات، على استنهاض المكلَّف للخروج من منـزله ومغادرته استجابةً لبعض مضامينها، فأشادت بأهمية أداء الفرائض الخمس في المسجد، وأهمية الصّلاة فيه جماعة، وحثَّت على إحياء ليالي شهر رمضان في المسجد، وخصوصاً ليالي القدر، بل إنّها أوجبت أن يكون الاعتكاف في المسجد، وأوجبت الحضور لصلاة الجمعة على جميع الرجال المتواجدين في دائرةٍ شعاعها أحد عشر كيلو متراً من جميع جوانبها. وقد تلمح شيئاً من هذا في فريضة الصوم في إطار ما طلب فيها من صلة الرحم والتداعي للإفطار، إضافةً إلى حثّها على إحياء ليالي شهر رمضان وليالي القدر، وتلمحها أيضاً في فريضتي الخمس والزكاة في إطار السعي لدفعها إلى المستحقّين، وهي تبلغ الذروة في فريضة الحجّ، حيث انبنى أداؤها على قطع المسافات، مهما طالت، للوصول إلى البيت الحرام وما حوله من مناسك، استجابةً لنداء إبراهيم(ع) الصَّادح في أجيال الموحّدين، والمتناغم مع جهاد وجهود الأنبياء في دعوتهم إلى توحيد الله تعالى ونبذ عبادة الأصنام والتحرّر من إسار الطواغيت، وذلك إضافةً إلى الجهاد وزيارة المقامات المشرَّفة.

إنّنا هنا أمام عبادة فريدة تمتزج فيها عبادة العقل المتسامي في علاقته بالله تعالى وحسن الاعتقاد به، بعبادة المشاعر حين تعركها المعاناة خلال وفادتها على البيت الحرام جرّاء مشاق السفر وآلام الغربة وخوف المفاجآت، وأيضاً بعبادة الجوارح في حركتها عبر المناسك المتنوعة، متنقّلةً من الإحرام إلى الطواف، وصلاة الطواف، والسعي، والتوجّه نحو عرفات، ثمّ نحو المزدلفة، ثم نحو منى، وفي منى يتنقَّل من أجل الرمي بين الجمرات، ثم من أجل الذبح، ثمّ نحو الطواف والسعي من جديد، ثم يختم بطواف النساء وصلاته. ولكن رغم هذه الحركة الدائبة من منسك إلى منسك، فإنّنا نلحظ أنّ الشريعة المطهَّرة لم تطلب في العديد من المناسك سوى التواجد فيها لمدة معينة، أو مجرّد التحرك فيها دون قول شيء، وقد توقّف السيد عند هذه الميزة، فقال:

(في الحج وقفات ملفتةٌ للنظر، لأنّها لم تحدّد للمسلم الحاجّ أيّ عمل متحرك فيما تفرضه العبادة من أعمال إلزامية، بل تركت الحرية له فيما يفعل، مع بعض الإيحاءات الروحية أو التعليمات غير الإلزامية التي يملك فيها أن لا يقوم بشيء، أيّ شيء، من دون أن يؤثّر ذلك في سلامة فريضته.

فلو لاحظنا وقوف عرفة، ووقوف المشعر الحرام، والمبيت في منى، لوجدنا أنّ التشريع لم يلحظ فيها أيّ مضمون حركيّ إلزاميّ، بل اكتفى من الإنسان تحقيق الكون في هذه الأماكن، كما لو كان وجوده فيها هو القضية، ما قد يوحي إلينا بأنّ المطلوب هو الاستغراق الروحي في معنى وجود الإنسان أمام خالقه، فيما يوحي به الوقوف هناك على قاعدة العبادة، لأنّ العبادة تعني انفتاح الإنسان على الله في مواقع القرب منه للحصول على ذلك لديه، من دون أن تُفرض عليه كلمات معينة يقولها، أو أفعال خاصة يقوم بها، بل تركت له الحرية ليطوف بفكره في رحاب الله في آفاق المعرفة التي توسّع له آفاق وعيه الإيماني، فيما يكتشفه من عظمة ربّه، وفيما ينفتح عليه من نعمه، ليسبّحه في وعي العمق الإيماني للتسبيح، وليحمده في معنى الإمداد المطلق لصفات الله في حركة التحميد، وليهلّله في سرّ التوحيد الخالص في معنى الألوهية في حركة العبودية الإنسانية في إحساس التهليل، وليكبّره فيما هو حجم العظمة المطلقة في عملية المقارنة بين الله وعباده في آفاق التكبير، وليتحدّث الإنسان إلى الله في كلِّ أموره، في جزئياتها وكلياتها، بعفوية المؤمن الطيب الملهوف الذي يعيش طفولة الروح بين يدي ربّه، فلا يجد أيّ حاجزٍ يحجزه عنه، ولا يشعر بأيّة حالة تحجبه عن رحاب رحمته، حتى إنّ المكان لا يمثّل الضيق الذي يخنق بعض آفاقه الروحية بفعل الحدود المكانية، لأنَّ المكان - هناك - هو الأرض الواسعة المنبسطة في سهولها وجبالها، فلا شيء إلّا الأرض والسماء، فيخرج الجوّ بذلك عن الجوّ التقليدي الذي قد يُفرغ العبادة من بعض عناصرها المنفتحة الحيّة.

وهكذا يمكن للتَّربية الإسلاميَّة الواعية أن تفتح قلب المسلم المؤمن الحاجّ على كلِّ الآفاق التي يستشعر فيها مقام ربه، كما يعيش الإحساس فيها بمعنى العبودية في ذاته، من خلال الإيحاءات التي تدلّه على منهج الدعاء، ونوعية المسائل، وطبيعة الابتهالات، وخطّ التأملات الفكرية والروحية، وذلك بالوسائل المتنوعة التي تثير في داخله الجوّ الروحيّ الحميم المسؤول، فيما يمكن أن يتأمل للوصول إلى أفق جديد في المعرفة، وفيما يمكن أن يدعو به للانفتاح على وحي الله في سبحات الروح، وفيما يمكن أن يخشع به من سكناتٍ وحركات للقرب من الله في معارج المحبّة، ليكون الموقف كلّه حضوراً إنسانياً في موقع العبودية، أمام الحضور الإلهي في مقام الربوبية، فيتحوّل ذلك إلى نوعٍ من التفاعل بين الحضورين، فلا يعيش الإنسان حضور ذاته في عناصر ماديته ليتحسَّس ذاته في عملية استغراق داخلي ينسى معه كلّ شيء، ولا يكون الحضور الإلهيّ مجرّد حالةٍ عقلية فيما هي العقيدة في جانبها الفكري بعيداً عن الإيمان في جانبه الشعوري). (رسالة الحج، ص: 7-10).

    نظرة شمولية لمناسك الحج

ولئن كانت فريضة الحجّ هي مجموعة المناسك التي يؤدّيها الحاج في أيام معدودات، فإنّ من المهمّ أن نعاين هذه المناسك واحداً بعد واحد، لنتفهم المنسك من حيث هو عمل واجب بذاته، وجزء من كلِّ هذه الفريضة التي يراد منها تحقيق أهداف كبيرة على صعيد الإنسان والمجتمع والأمة. يقول السيد:

 (والحجّ من هذه العبادات الإسلامية التي أرادها الله للناس، ليحقّقوا من خلالها النظرة الشاملة لقضية الإنسان في الحياة، فقد جعله الله فريضةً على كلّ من استطاع إليه سبيلاً، واعتبر تركها خروجاً على عمق الالتزام الإسلامي، حتى جعل التارك لها في حكم الخارج عن الإسلام.

وقد تعبّد الله بالحجّ عباده منذ النبيّ إبراهيم(ع)، وجاء الإسلام فأضاف إليه شروطاً وأحكاماً، وحدّد له أهدافاً، ورسم له خطوطاً، من أجل أن يحقّق للإسلام الدور الكبير في الحياة، في فاعلية وامتداد؛ فلم يقتصر فيه على جانب واحد من جوانب التربية، بل استوعب المعاني التي تنطلق من العبادات الأُخرى، الأمر الذي يبدو لنا من المناسك التالية:

أ- الإحرام:

فقد شرّع الله الإحرام في كلِّ التزاماته وتروكه، ليحقّق للإنسان أهداف الصَّوم، ولكن بأسلوب متحرّك متنوّع، لا يخاطب في الإنسان جوع الجسد وظمأه، ولكنّه يخاطب فيه جوانب أُخرى، تهذِّب فيه نزعة القوّة فتوحي إليه بالانضباط والتوازن، ونزعة الترف فتقوده إلى الخشونة، ونزعة الكبرياء فتوجّهه إلى التواضع، وتعلّمه كيف يحرّك الفكر والمعرفة في اتجاه الحقّ، لتبقى المعرفة سبيله الوحيد في حركة الكلمة والفكرة.

ب- الطواف:

وشرّع الطواف حول البيت وجعله بمنـزلة الصلاة، ليعيش معه الإنسان آفاق الصلاة وروحيتها، ذلك البيت الذي أراده الله رمزاً للوحدة بين الناس، في معناه الروحي المتصل بالله، لا في مدلوله المادي المتمثّل بالحجارة، وللإيحاء بأنّ الحياة لا بدَّ من أن تتحوَّل إلى طوافٍ حول إرادة الله، فيما يتمثَّل في بيته من مشاعر الطهارة والنقاء والخير والبركة والرحمة والمحبّة، لتكون الحياة حركةً في طريق الأهداف التي يحبّها الله ويرضاها، والتي يريد لعباده أن ينطلقوا معها في رساليّة ومسؤوليّة.

ج - السعي:

وفرض السعي بين الصفا والمروة، ليعيش الإنسان معه الشعور الواعي بأنّ خطواته لا بدّ من أن تتَّجه إلى المجالات الخيّرة، ليكون سعيه سعياً في سبيل الخير، وابتعاداً عن طريق الشرّ، فهو يسعى هنا لا لشيء إلا لأنّ الله أراد منه ذلك ليحصل على القرب منه، ما يوحي بأنّ السعي هنا إذا كان للحصول على مرضاة الله فيما تعبَّدنا الله به من أمره ونهيه، فينبغي لنا أن نطلق السعي في مجالات الحياة الأُخرى، في كلّ آفاقها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في الاتجاه نفسه، لنحصل على رضاه في كلّ أمورنا.

د – الوقوف بالمشاعر:

أمّا الوقفات التي أرادها الله في عرفات والمشعر ومنى، فإنّها وقفات تأمّل وحساب وتدبّر وانطلاق؛ ليستعيد فيها الإنسان مبادئه التي قد تضيع في غمرات الصراع في سبيل لقمة العيش، أو في سبيل تحقيق رغباته ومطامعه المشروعة وغير المشروعة، فإنّ الإنسان قد يفقد الكثير من قيمهِ الكبيرة، تحت تأثير النوازع الذاتية من جهة، والتحديات المضادّة التي قد تخلق لديه ردود فعل متوترة، من جهةٍ أُخرى، فينسى في غمرة ذلك كلّه الكثير الكثير مما يؤمن به أو يدعو له، الأمر الذي يجعله بحاجةٍ إلى مزيد من التأمل والمحاسبة ليرجع فيها إلى فكره وعقيدته وخطّه المستقيم في الحياة.

هـ - الأضحية:

وجعل الأضحية رمزاً حيّاً للتضحية والعطاء، فيما ترمز إليه من تاريخ إبراهيم وإسماعيل(ع)، عندما أسلما لله الأمر، وانتصرا على نوازع الأبوّة في عاطفتها تجاه البنوّة، وعلى حبّ الذات في إحساس الإنسان بحياته، وانتهى الأمر إلى أن فداه الله بذبح عظيم. كما جعل الأضحية رمزاً للتضحية فيما يريد أن يثيره في حياة الإنسان في كلّ زمان ومكان من السير على هدى هذه الروح، ليكون ذلك خطّاً عملياً تسير عليه الحياة في كلّ مرحلة تحتاج إلى التضحية والعطاء.

و – الرجم:

وكان رجم الشيطان إيحاءً بما يريد الله للإنسان أن يعيشه في حياته كهمٍّ يومي يواجه فيه خطوات الشيطان، في فكره وعاطفته وقوله وفعله، وانتماءاته وعلاقاته العامة والخاصة. وربما كان في هذا التكرار للرجم الذي يرمز إلى أنّ قضية محاربة الإنسان للشيطان ليست قضية حالة واحدة يعيشها الإنسان ويتركها، بل هي قضية متجددة في كلّ يوم. (رسالة الحج، ص: 51-55).

    التلبية استنهاض للطاعة

ولئن كانت هذه النظرة العموميّة للمناسك كافيةً لإعطاء فكرة جيّدة عن أثرها العميق في إيمان المسلم وأخلاقيته، فإنّ التلبية التي هي ركن من الإحرام، تعبّر عن عهد الطاعة المنعقد بين العبد وربّه تعالى، وذلك حين التزم شريعته وآمن به إيماناً عميقاً جازماً. ومن أجل بيان موقعها في فريضة الحج، وبيان معناها، يقول السيد:

((إنّ كلمة «لبيَّك» تعني أنّنا يا ربّ نلتزم في موقفنا هذا، بكلّ نداءاتك بالإسلام كلّه، في عباداته، وفي أخلاقه، وفي جهاده، وفي سياسته واقتصاده، وفي مواجهة كلّ التحديات التي يواجهها الإنسان من الشيطان الداخلي في عمق نفسه، أو من الشيطان الخارجي في عمق واقعه وفيما يحيط بحياته.

إنّها الحركة الصارخة، في النداء الذي تنطلق به كلّ حناجر الحجّاج؛ لتؤكّد موقفهم الذي يريد أن يلتزم بالإسلام من جديد، في مسيرتهم إلى مركز الدعوة الإسلامية الأُولى في مكّة، لتكون مسيرة الحجّاج من سائر أقطار العالم هي مسيرة الإسلام التي تقول من خلال تلك الكلمات الخاضعة الهادرة: يا ربّ، إذا كان الناس قد تركوا الإسلام، فلم يؤمنوا به، ولم يرتبطوا به، وإذا كان المسلمون قد انحرفوا عن خطّه، وتركوا الكثير من تعاليمه، وانتموا إلى الاتجاهات الأُخرى التي تختلف عن خطّه المستقيم، إذا كان الواقع هو ذلك، فها نحن قادمون إلى بيتك المحرّم، لنقول لك، من كلِّ قلوبنا، ومن كلِّ عقولنا، ومن كلِّ مواقعنا ومواقفنا وتطلّعاتنا: «لبّيك اللّهمّ لبّيك»، فقد جعلت الإسلام لنا بكلِّ عمقه وامتداده رسالة الحياة، ونحن نريد أن ننطلق إلى الحياة من خلاله.

ومن هنا، قد نفهم كيف أنَّ التشريع لم يقتصر على كلمة «لبيك»، بل أضاف كلمة «وحدك لا شريك لك»؛ ليؤكِّد الإنسان فيها أنّ التلبية التي تتوجه إلى الله سبحانه، لا يمكن أن تتوجه إلى أيّ إنسانٍ آخر، فنحن في الحياة عندما نريد أن نستجيب لنداءٍ من أيّ منادٍ، أو لأيّ مبدأ أو قانونٍ من أيّ مشرّعٍ أو مفكّر، أو لأيّة علاقة بالناس، فلا بدَّ من أن يكون ذلك منطلقاً من استجابتنا لله، وعلاقتنا به؛ لتكون علاقاتنا بالحياة كلّها منطلقةً من ذلك، فلا شيء ولا أحد مع الله، فهو وحده الذي نتوجَّه إليه بكلّ ما في قلوبنا من محبّة وإخلاص وعبودية، حتى إنّ علاقتنا برسول الله(ص)، وبكلِّ رسل الله(ع) وبالأئمة(ع) والأولياء، هي من خلال أنّهم عباد الله الّذين أطاعوه بما يجب، وعبدوه كما يريد.

«لبيك لا شريك لك» لن نجيب غيرك، ولن نستمع إلى أيّ نداءٍ غير ذلك، سواء انطلق من حاكم، أو من حكومة، أو من حزبٍ، أو من محور إقليميٍّ أو دوليٍّ، أنت وحدك المحور الذي نتحرّك في ساحته؛ لأنَّ ذلك هو الذي يجعلنا ننسجم مع عقيدتنا إذا أجبناك.

«لبيك لا شريك لك»، وتعود الكلمة من جديدٍ، لتتضاعف، ولتعمِّق المشاعر في نفس الإنسان، ثم لتُطلّ على كلّ ما في الحياة من جبابرةٍ وطغاة، وما تحتويه من نعم وثروات، فنجد المدّاحين الذين يمدحون هذا، ويحمدون ذاك؛ ليؤكّد الإنسان في موقف الحجّ، أنّ الملك لله وحدَهُ، وأنّ الحمد له وحدَهُ، وأنَّ النعمة له وحدَهُ، فكل حمدٍ مستمدٌّ من حمده، وكلّ نعمةٍ مستمدّةٌ من نعمته، وكلّ ملك فهو ظلّ لملكه، فهو وحدَهُ صاحب الحمد والملك والنعمة، وهو وحده الجدير بالمدح. وبذلك يحسُّ الإنسان بالانفصال عن كلّ شيءٍ من خلال ما يرتبط به الناس بالناس، ويتأكّد موقف الإنسان هناك، أمام الله وحده، بعيداً عن كلّ أحدٍ غير الله سبحانه وتعالى.

وبهذا تلتقي الحرية والعبودية في عمق الإنسان، فتتعمَّق حريتك بمقدار ما تتعمّق عبوديتك لله، فأنت من موقع عبوديتك لله تأخذ حريتك، أما الآخرون، فإنّهم يمارسون عبوديتهم للنّاس وللشهوات وللمطامع من موقع حريتهم المطلقة أمام الله). (رسالة الحج، ص: 81-84).

    الطواف وتعزيز فكرة الأمة

تعتبر الكعبة الشريفة الأساس الأهم لفريضة الحجّ، لأنّ الوفادة إنما هي عليها، والزيارة لها، ولأنّ الطواف حولها والصّلاة فيها هي أهمّ مناسك الحجّ، إضافةً إلى السعي بين الصفا والمروة المجاورين لها. ولئن كان الطواف رمزاً لجعل الله تعالى كلّ شيء في حياة الإنسان، وهو المبتدأ والمنتهى، وأنّه هو الواحد الذي تهفو إليه القلوب وتطوف حول إرادته وتلتزم دائرة طاعته، فإنّ البيت الحرام هو مجمع المؤمنين والموحّدين الذين التزموا هذا الدين ورغبوا في تجسيد هذه الطاعة، متوحّدين على ما يحبّه الله تعالى لهم، وبخاصة أن يكونوا أمةً متعاونةً تجتمع على عزتها وقضاياها وإيمانها. يقول السيد:

(لم يكن المسجد الحرام مسجداً عادياً في طبيعته وفي خصوصيته، ولم يكن الذي بناه خاضعاً لرغبة ذاتية في بناء مسجد للعبادة كما يفعل المؤمنون ذلك من خلال رغباتهم الإيمانية، بل كان أمراً من الله لنبيّه إبراهيم(ع)، أن يبنيَ هذا البيت ليكون بيتاً لله، في مستوى العالم البشري، ليتعبّد الناس إليه جميعاً من كلّ بقاع الأرض في دعوةٍ إلهية شاملة، من أجل تحقيق المنافع الدنيوية والأخروية، المادية والمعنوية، لينطلق الناس من خلاله، ومن خلال الأعمال المتنوّعة التي شرّعها لهم في رحابه وفي أجوائه ليخلصوا لله العبادة من موقع التوحيد، ولينفتحوا على عمق التوحيد في صفائه ونقائه، في ما تعيشه أفكارهم، وتختزنه مشاعرهم، وتتحرّك فيه أوضاعهم في أقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم ومواقفهم من خطّ يبدأ من الله وينتهي إليه، فلا يمرّ بالناس إلاّ من خلاله، ولا يلتقي بخصوصيات الحياة إلاّ في دائرة رضاه). (رسالة الحجّ، ص: 98-99).

إننا - كمسلمين - قد نصنع لله بيتاً في مدننا وقُرانا؛ فهذا مسجدٌ للقبيلة، وذاك مسجد للمحلة، وآخر مسجد البلد، وتتنوّع الصفات المحدودة لتدخل فيها دوائرنا العائلية والقبلية، ونحاول في مساجدنا أن نحافظ على كلّ الحدود التي تفصل بعضنا عن البعض الآخر، وتبعدنا عن ساحتنا الإنسانية الواسعة؛ لنؤكِّد فيها عصبياتنا العائلية والإقليمية والقومية، أو لنبقى في الدائرة الضيّقة المحدودة التي تحجب عنا رؤية الدائرة الواسعة للحياة وللإنسان، ولكنّ الكعبة - البيت الحرام - هي التي جعلها الله قياماً للناس، كلّ الناس، بعيداً عن كلّ صفاتهم اللونية والعرقية والجغرافية؛ لتكون بيتاً لله في حجم العالم، البيت الإلهيّ العالمي، ليشعر كلّ مسلمٍ أنّه بيته، ورمزه، ومنطلقه؛ ولهذا أراد الله لهم أن يتوجهوا إليه أينما كانوا، فقال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}(البقرة:144)، وأن لا يتوجهوا إلى غيره، ليكون قاعدة وحدتهم، ومنطلق عالميتهم، وموقع إنسانيتهم.

وهنا تأتي عبادة الطواف لتكون العبادةُ حول البيت الإلهي العالمي في حجم الأمة كلّها، عندما يشترك فيها المسلمون من سائر أقطار العالم، ليعبدوا الله كأُمةٍ، يتمثّل فيها العربّي والفارسي والهندي والأمريكي والأفريقي والأوروبي وغيرهم، وليتفاعلوا بهذه الشخصية الجديدة التي تؤكّد في داخلهم معنى الامتداد الإنساني في روحيه العبادة بين يدي الله، فيتخلّصون بذلك مما اعتادوه في حياتهم، بعد أن مارسوا فكرهم وعبادتهم ومسؤولياتهم في النطاق الضيّق، وعاشوا في حالةٍ نفسيةٍ ضيّقة مخنوقة في الدائرة المحدودة، ونسوا صفتهم كجزء من الأُمة الواسعة، بينما توحي العبادة في داخل التنوع الإنساني للأُمة المسلمة بالبعد العالمي للشخصية، وهي بين يدي الله ربّ العالمين، ليتمثل من خلال ذلك الهدف التربوي للحجّ، وهو صنع الإنسان المسلم العالمي، الذي يتحرر من ذاتيته وعائليته وإقليميته وقوميته عندما يطوف بالبيت العالمي لله.

وتلك هي القضية التي قد نحتاج إلى أن نتمثّلها ونعيشها في واقعنا الاجتماعي والسياسي، لندخل في نشاطاتنا في دور جديد وساحةٍ جديدةٍ، لأنّ من مشاكلنا، أنّ المسلمين قد يغلب عليهم الاهتمام بقضاياهم الخاصة التي قد تتطوَّر من الحالة الذاتية إلى حالة البلد الذي ينتمي إليه الإنسان المسلم.

فنجد أنّ هناك قضيةً إقليميةً إسلاميةً في هذا البلد، وأنّ هناك قضيةً قوميةً في ذاك المحيط الجغرافي، وأنّ المسلمين هنا وهناك يتحركون في حجم هذه القضايا تبعاً لمواقعهم المحلية، ولا يحاولون الاهتمام بقضايا الآخرين إلا من خلال علاقتها بهذه القضية، كما لو كانت قضيةً أجنيبةً يلامسونها كما لا يلامسون أيّة قضية بعيدة عن ساحتهم، وقد يسجلّون على الآخرين نقطة سوداء إذا انشغلوا عن هذه القضية بقضيتهم، حتى لو كانت قضيةً إسلاميةً.

وقد يقول البعض: إنّني أهتمّ بهذه القضية الخاصة؛ لأنّها قضية إسلامية، ولأنَّ طبيعة الموقع الذي أمثله في هذه الساحة يفرض عليّ الحركة في هذه الدائرة؛ لأنّي أعرف منها ما لا يعرفه الآخرون، ولأنّي أملك من مواقعها ما لا يملكه الآخرون، في نوعية الحركة، وفي طبيعة النتائج؛ ولأنّ قيمتها قد تفوق قيمة كثيرٍ من القضايا الإسلامية الأُخرى، بالنظر إلى أهميتها السياسية، وقيمتها الإستراتيجيّة فيما هو الواقع الإسلامي في حركة الصراع.

وقد يكون هذا الكلام معقولاً ومقبولاً. ولكنّ هناك نقطةً مهمّة، وهي أنّ العقلية الإسلامية الشاملة تفرض على الإنسان المسلم الذي يتحرك في قضية بلده أو منطقته كقضيةٍ إسلامية، أن يدرس موقعها من المسألة الإسلامية في العالم، من حيث طبيعتها السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية، ليعرف كيف يكون حجم حركته، وكيف يكون موقفه من هذا الوضع أو ذاك، في هذا البلد أو في ذاك، فهناك فرقٌ بين أن تفكّر في أن تنتصر قضية بلدك حتى لو انهزمت كلّ قضايا الإسلام في العالم، وبين أن تفكّر في بلدك كجزءٍ من قضايا الإسلام الكبرى.

إنّنا لا نقول: لا تتحمسوا لقضاياكم الخاصّة، بل إنّ علينا أن نهتمّ بقضايانا على أساس أنها جزءٌ من كلٍّ، لا على أساس أنّها قضيّةٌ منفصلةٌ عن الجسم الإسلامي). (رسالة الحجّ، ص: 86-90).

    البعد الاجتماعي للحجّ

إن تَقلُّب الحاج بين هذه المناسك يوماً بعد يوم، وساعةً بعد ساعة، هو ما يصعِّد فيه روحيّاً وجسديّاً حالاً من التوهّج الإيماني، فيتطوَّع فيها جسده على قوّة التحمّل وهمود الغرائز والأهواء، وتتطوّع فيها روحه ونفسه على التعلّق بالله تعالى والتذلّل له، وعلى الحبّ لعباده والتواضع لهم والاعتزاز بهم، وهي حالة يبدو وكأنّه يراد توظيفها في تأكيد الأخوة الإسلامية، وبعث روح الجماعة، وتعزيز حضور الأمّة في نفس الفرد المسلم، وهو الجانب الذي توقف عنده السيد ملياً فيما استوحاه من قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}(الحج:27-29)، وفيما استوحاه من الحديث الشريف المروي عن هشام بن الحكم، قال: سألت أبا عبد الله «جعفر الصادق» فقلت له: ما العلّة التي من أجلها كلّف الله العباد الحجّ والطواف بالبيت؟ فقال: إنّ الله خلق الخلق... (إلى أن قال) وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا، ولينـزع كلّ قوم من التجار من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول الله(ص)، وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى، ولو كان كلّ قوم إنما يتكلون على بلادهم وما فيها، هلكوا وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح، وعَميتْ الأخبار ولم يقفوا على ذلك، فذلك علّة الحجّ"([81]).

كما ورد عن الفضل بن شاذان عن الإمام عليٍّ الرضا(ع) أنّه قال: "إنما أُمروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى الله عزَّ وجلَّ، وطلب الزيادة والخروج من كلّ ما اقترف العبد تائباً ممّا مضى، مستأنفاً لما يستقبل، مع ما فيه من إخراج الأموال وتعب الأبدان والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس عن اللذات، شاخصاً في الحرّ والبرد، ثابتاً على ذلك دائماً، مع الخضوع والاستكانة والتذلّل، مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في البرّ والبحر، مِمّن يحجّ وممّن لم يحجّ، من بين تاجر وجالب وبائع ومشترٍ وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف من المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقُّه ونقل أخبار الأئمة إلى كلّ صقعٍ وناحية، كما قال الله عزَّ وجلَّ : {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}"([82]) (التوبة 122).

قال السيد بعد ما ذكر الآية الكريمة وهذين الحديثين الشريفين:

(إننا نستوحي من هذين الحديثين، أنّ الإسلام أراد للحجّ أن يكون ملتقى للمسلمين جميعاً، من شرق الأرض وغربها، من أجل تحقيق التعارف والتواصل بينهم، وتحصيل المنافع الاقتصادية والاجتماعية لمن حجّ ولمن لم يحجّ، وتبادل التجارب والخبرات المتنوّعة، التي يملكها كلّ فريق من خلال أوضاعه العامة والخاصّة، وتسهيل حركة الدعوة إلى الله بالانطلاق من موسم الحجّ للاتصال بكلّ المناطق الإسلاميّة التي تتمثّل بأفرادها الذين يقصدون بيت الله الحرام لأداء الفريضة، وخصوصاً أولئك الذين يصعب عليهم التلاقي في مكان آخر، فيما يتعلّمونه من ثقافة الإسلام وشريعته، وفيما يتعاونون فيه من مشاريع وأعمالٍ وخططٍ على أساس المصلحة الإسلاميّة العليا، لينطلق العمل الإسلامي من قاعدة مركزيّةٍ واسعة، في أجواء الإسلام التاريخية التي شهدت مولد الدعوة وعاشت حركيّتها، وحقّقتْ أهدافها الكبيرة في جهادها المرير الصعب، فيكون التحرك في الخطّ من موقع الفكرة والجوّ والخبرة المتبادلة والمعاناة الحاضرة.

وفي ضوء ذلك، نفهم أنّ اللقاءات التي يخطّط لها الإسلام من خلال هذه الفريضة العباديّة، لا بدّ من أن تعيش الهدف الكبير في تحقيق لقاء إسلاميّ شامل؛ ليستهدف إلغاء كلّ الفوارق الطبقية واللونية والعرقية والإقليمية، في جوٍّ من التفاعل الإنساني الروحي يستشعر فيه الجميع القيمة الإسلاميّة على هدى الممارسة في وحدة الموقف واللباس والشعار والتحرّك، فيلغي المشاعر الطارئة المضادّة التي يمكن أن يتعامل من خلالها الاستكبار لتفتيت طاقاتهم وتدمير وحدتهم، حتى إذا نجح في بعض خطواته، فيما يستغلّه من بعض الأوضاع السلبيّة، كان الحجّ له بالمرصاد، ليبعثر تلك الخطوات الشريرة، ويفوّت عليه عمليّة الاستغلال هذه، بما يثيره من مشاعر طاهرة وأفكارٍ واعية، وخطواتٍ إيمانية متحركة يقظة.

لذا فإنّ علينا العمل على تحويل موسم الحجّ إلى موسم إسلاميّ كما أراده الله، ليكون مجمعاً للمسلمين يلتقي فيه المفكرون في حوار فكري إسلاميّ سليم، من أجل أن يتبادلوا الأفكار والخبرات، ويتعارفوا فيما يحملون من تطلعات وأهداف، وفيما يرتكزون عليه من منطلقات، فيكتشفون ما يختلفون فيه ليبحثوا كيف يحوّلونه إلى قناعات مشتركة، وما يتفقون عليه ليستزيدوا منه في الجوانب الأُخرى ويحوّلوه إلى خطوات عملية للتعاون، وذلك من أجل تكامل العمل الإسلاميّ وتوحيد الطاقات الفاعلة في سبيل حلّ مشاكل المسلمين، وليبحثوا سُبُل التحرر من الاستعمار، والخروج من سيطرة الضغوط السياسية والاقتصادية، ليتحرك الجهاد الإسلامي في حياة المسلمين من موقع الفكر الإسلامي الذي يستهدف عزّة المسلمين وكرامتهم في دولة إسلامية هادفة مظفّرة، يسعون إليها على أساس الوسائل الإسلاميّة المشروعة والخطط الواقعية المدروسة.

إنّنا نؤكد أهميّة مثل هذه اللقاءات، لأنّ قيام العاملين والدعاة في تواصلهم بالاعتماد على المراسلة والقراءة الفكرية، يمنح الموقف الإسلامي وضوحاً في الصورة، بحيث تزيل الشبهات العالقة في أذهان القائمين على الحركات ضدّ بعضهم البعض، والتي كثيراً من فرص اللقاء على الأسس الإسلاميّة المشتركة.

كذلك، فإنّ علينا العمل على لقاء المسلمين بعضهم بالبعض الآخر، في أجواء إسلامية حميمة، يتحادثون فيها فيما بينهم، في كلّ ما يهمّهم من قضايا؛ وذلك بالزيارات الفردية والجماعيّة لجمعيات الحجاج وأماكن تجمعهم، ليتحسَّسوا الشعور بالوحدة من خلال اكتشاف الهموم المشتركة، والقضايا الواحدة، والأهداف الكبيرة التي يلتقون فيها على اسم الله، ليحقّق ذلك رفضاً لكلّ الخطط والمشاعر التي يعمل الكافرون من خلالها على عزل المسلمين بعضهم عن بعض، من خلال الشعور القومي أو الإقليمي أو غير ذلك.

إنّ علينا أن نستفيد من هذا الموسم حتى لا يتحوّل إلى جهد ضائع، ليبقى لنا كقاعدةٍ للعبادة المتحركة في اتجاه حياة الإنسان المسلم في كلّ زمان ومكان، وذلك من خلال حركتها الروحية الممتزجة بالواقع الاجتماعي والسياسي والتربوي، المنطلقة في الآفاق العليا بين يدي الله تعالى). (رسالة الحجّ، ص: 63-69).

    الحج وحركة التغيير

أمّا أثر الحجّ في الّذين لم يكونوا في المستوى المطلوب في التزامهم بشريعة الله تعالى، وفي خوفهم منه، وتورّعهم عن محارمه، فهو أثرٌ واضحٌ وسريع. يقول السيّد:

(وإذا كان الحجّ من حيث هو عبادة ذات مضمون عملي وروحي، يحقّق للإنسان هذا الارتفاع الرّوحي، فإنّه يساعد على تغيير الواقع من خلال تغييره للإنسان، انطلاقاً من قوله تعالى الذي يعتبر الإنسان أساس التَّغيير: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرعد:11).

وبذلك، تدخل العبادة في عمق حركة الحياة، ولا تبقى حالةً طارئةً طافيةً على السطح. وبناءً على ذلك، وعلى هدى تعاليم الإسلام الحنيف، فإنّه يمكن للعاملين للإسلام - في أساليبهم التربوية العملية - أن يشجّعوا الناس على ممارسة هذه الفريضة؛ لتحقيق هذا المستوى من التغيير الداخلي في حياة الإنسان، كوسيلةٍ روحيّةٍ متقدّمةٍ من وسائل التغيير الخارجي لحركة الحياة؛ فإنَّ ما يختزنه الفرد من الطاقات الروحية الجديدة في أجواء الحجّ، هو أعظم من كثيرٍ من الأساليب الخطابية التي اعتاد الناس ممارستها في عملية التربية.

وقد رأينا الكثيرين الذين كانوا لا يعيشون المشاعر الروحية في منطلقاتهم، في الوقت الذي كانوا يمارسون الالتزام الإسلامي في بعض مبادئ الإسلام وأحكامه، قد تغيّروا كثيراً بعد قيامهم بهذه الفريضة بطريقة واعية، بحيث استطاعت أن تغيّر مجرى تفكيرهم وشعورهم، وتحوّلوا إلى عناصر فاعلة واعية في حركة الإسلام في الدعوة والعمل). (رسالة الحجّ، ص: 57-58).

    الحصاد الوافر الغني

هذه هي فريضة الحجّ بمناسكها وأهدافها، وها هو الحاج يرجع من رحلته الإيمانية التي وفد فيها على ربّه الكريم، وعاش خلالها في ربوع الدعوة الإبراهيمية، ثمّ المحمدية، الممتدة عبر الزمن، والصادحة بها حناجر الأجيال، وتقلّب في مناسك العبادة والطاعة. فهل تراه يرجع كما ذهب، أم هو رجوع عامر بالفوائد، وحصاد وافر غني. إذاً دعونا نقرأ ما يقوله السيد:

(لا ريب في أنّ الحجّ يساهم في إيحاءاته ورموزه وأجوائه الروحيّة، في تنمية الشخصية الإنسانية من الجانب التأملي والعملي والروحي، فيما إذا عاش الإنسان هذه الفريضة من موضع الوعي المسؤول. وبذلك، لا يبقى الحجّ مجرّد عبادة يهرب فيها الإنسان من الواقع ليغيب في مشاعره الذاتية في جوٍّ مشبعٍ بالضباب، كما يحاول البعض أن يصوّر العبادة.

وفي هذه الأجواء الروحية الواعية المتحركة في خطِّ المسؤوليّة، يمكن أن يعود الإنسان الفرد - من رحلة الحج - إنساناً جديداً في أهدافه ومنطلقاته وخطواته، من خلال ما عاشه من دروس وعبر ومواقف وتأمّلات، حيث الطهر والخير والمحبّة والحنان.

ولعلّ هذا هو ما يريد الإسلام أن يوحيه إلى «الحاجّ» فيما ورد في الأحاديث من أنّ الإنسان يخرج من الحجّ من ذنوبه «كيوم ولدته أمّه»([83])، وأنّه يقال له: «استأنف العمل»([84]) وذلك في نطاق المضمون الداخلي للحجّ، لا من خلال الشكل الخارجي الذي يؤدّيه الكثيرون من دون روح ولا معنى، ممن يعيشون الحجّ عادةً وتقليداً وسياحةً وتجارةً، فينطبق عليهم ما ورد عن أحد أئمة أهل البيت(ع)، عندما نظر إلى الجموع فقال: «ما أكثر الضجيج والعجيج وأقلّ الحجيج»([85])، إذ لا قيمة للعدد إذا لم يكن متحرّكاً في عمق القيم الروحية في الحياة، فرُبَّ رقم صغير يحقق للإنسانية معنى كبيراً، هو أفضل من رقم كبير لا يحقّق شيئاً للحياة إلا زيادةً في المساحة والحجم على صعيد الأرض، من هؤلاء الذين يكونون عبئاً على الحياة بدلاً من أن يكونوا قوّةً لها). (رسالة الحجّ، ص: 56 – 57).

خامساً: مسؤولية المال وعبادة العطاء

ما برح الإنسان منذ وجد على هذه الأرض، يسعى كادحاً من أجل تحقيق حاجاته المختلفة، والتي ما يزال أهمّها حاجة السكن واللباس والطعام والأمن، فكان ينتج بالحيازة أو بغيرها ما تلُحّ الحاجة إليه، فينفق منه على نفسه وعلى من يعنيه أمره، ثم يبادل ما يزيد من نتاجه بشيءٍ آخر أنتجه غيرُه ليسدّ حاجةً أخرى لم يتمكن أن يُشبعها من نتاجه، وقد ظلّ الحال على هذا النحو على مدى القرون، رغم تطوّر الحياة الإنسانية.

وحيث إنّ في المجتمع عَجَزَةً عن تحقيق حاجاتهم، لصغرٍ أو مرضٍ أو فقرٍ، فإنّ تحقيق حاجاتهم هو مسؤوليّة المجتمع والدولة المنبثقة منه، حيث لا بدّ من وجود ما يُعرف بالتكافل الاجتماعي الذي هو عنوانٌ لمسؤوليّة الإنسان القادر تجاه العاجز.

وقد اهتمت الشريعة المطهَّرة بهذا الجانب من نشاط الإنسان الذي هو على قدر كبير من الحيوية والامتداد، فأكّدتْ أنّ إعمار الأرض وإشاعة الازدهار فيها وتسخير ثرواتها في خدمة حاجات الإنسان المتنوّعة، هو أمر راجح ومقبول عند الله تعالى، بل هو مطلوب وواجب، ونَبّهت الإنسان إلى أنّ قواه التي ينتج بها، والطيبات التي يحوزها، والأموال التي يجنيها، هي جميعها هبة من الله تعالى، ما دام كلُّ ما في هذا الوجود هو منه وله وحده تعالى، وأمرتْه بأن ينتجه وفقاً لقانون معيّن يرتكز على قيم المودة والرحمة والعدل والاعتراف بحقّ الآخر، كما أمرته بأن ينفقه في حاجته دون شرهٍ ولا كنْزٍ ولا تبذيرٍ ولا إسرافٍ ولا رياءٍ ولا منّةٍ، ومن أجل ذلك، فإنّها وسّعتْ مسؤوليّة الإنسان عن الإنفاق على آخرين لا يقفون عند حدود عائلته المباشرين من زوجة وولد، بل أوجبت عليه الإنفاق على الوالدين، وعلى الفقراء، وعلى كلِّ سبيلٍ من سبل الخير هو ضرورةٌ لقيام المجتمع المدني وتحقيق حاجاته في الأمن والصّحة والازدهار، بل أوجبتْ عليه الإنفاق في البهيمة ولو لم تكن له، وذلك حين يجدها ضالّةً عن صاحبها، ويخشى عليها من السباع أو الموت جوعاً.

إذاً نحن أمام عنوانٍ كبيرٍ له أحكامه الكثيرة ومجاله الواسع وآثاره الرَّحبة، وحيث إن معظمها هو أحكام شرعيَّة تتناول التَّفاصيل، فإنَّ السيّد قد تناول عدداً من الأمور التي هي أشبه بالإطار العام أو الركائز. وفيما يلي، سوف نتلمس مواضع إفاضات السيّد حول ذلك، ونذكرها في عناوين على النَّحو التَّالي:

    المال فتنة ومسؤوليَّة

لئن كان المال فتنةً، لأنّه عزيز بما يبذل فيه من جهد، فيبخل به الإنسان ويضنّ به عندما يُطلب منه إنفاقه، فإنّ الله تعالى قد ربّى المسلم على الاعتقاد بأنّه لا يملك ما أنتجه، بل هو مستخلف فيه ومؤتمن عليه، كذلك فإنّه قد شجّعه على الإنفاق ليذهَبَ ما في النفس من شُحّ، وليكون لصاحب المال دور في تعزيز التكافل الاجتماعي. وفي هذا المعنى يقول السيد عند تفسيره لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}(البقرة:3):

(فهذه الآية تؤكّد أنَّ على الإنسان أن يعيش العطاء، فيعطي مما رزقه اللّه، لأنَّ كلّ ما في الكون هو للّه تعالى، وكلّ ما يقع تحت يديه هو للّه تعالى، لأنّه إنما كان له بقدرته تعالى، وبما هيّأ له من الأسباب والوسائل، وبما رفعه من طريقه من العقبات والموانع، ولذا عليه أن يشعر بأنَّ العطاء وظيفة ومسؤولية لا تفضّل ومنّة، وأنّه مؤتمن على ما ملّكه اللّه تعالى ومكَّنه منه، وبالتالي، عليه أن يدبّره ويديره ويتصرّف فيه وفق مشيئة مالكه الحقّ، أي اللّه سبحانه وتعالى.

وبذلك يتصاعد الإيحاء، في لفتة رائعة، تنسب المال إلى مصدره الأساس وهو اللّه، ليدرك الإنسان أنّه لا ينفق مما يختصّ به، أو يملكه ملكاً ذاتياً حتى يعيش أنانية العطاء، وليعتبر أنّه مسؤول عن كلّ ما رزقه اللّه من رزقٍ ليعطيه وينفق منه على أساس المسؤولية، فليس حرّاً في أن يفعل به ما يريد كما يريد) (من وحي القرآن، ج1، ص: 117-118).

وفي موضعٍ آخر يقول السيد حول هذا المعنى:

(فليس المال الذي تملكونه فيما بين أيديكم من النوع الثابت والمتحرك، مما تملكون فيه حرية التحرك من ناحيةٍ ذاتية على أساس أنّه شأنكم الذاتي الذي لا يحمل أيَّة مسؤوليةٍ في حسابات العطاء الإنساني، بل هو ملك الله الذي يملك منكم ما لا تملكونه من أنفسكم، فهو من موقع خلقه للوجود كلّه، يملككم ويملك ما تملكون، وقد حدّد لكم الوظيفة في تصرّفكم فيه، فحلّل بعض الأشياء وحرّم بعضها، وأراد لكم أن تنفقوا منه على كثير من موارد الإنفاق في سبيله، في ما يحتاجه المحرومون بجميع فئاتهم، ويحتاجه الجهاد بجميع مواقعه، وتحتاجه الحياة العامَّة بكلِّ جوانبها، وذلك من صفة خلافتكم على المال، ووكالتكم بالتصرّف فيه ضمن الحدود التي حدَّدها لكم، ما يجعل من الملكية وظيفةً شرعيةً، لا حالةً ذاتيةً مطلقة في ما يملكه الإنسان من امتيازات. وإذا كانت المسألة في هذا النطاق الشرعي، فليس لكم حرية الامتناع عن الإنفاق في ما يريده الله لكم من موارده، لأنّ ذلك يعني خيانة الوكيل للموكِّل في ما حدَّده له من الحرية في التصرّف في ماله، فكيف إذا كان الله هو الموكّل، وكان الإنسان الَّذي هو عبد لله، هو الوكيل؟) (من وحي القرآن، ج22، ص: 16-17).

وفي إطار التأكيد أنّه ما دام المال أمانةً في يد الإنسان، وهو مستخلف عليه من الله تعالى، فلا معنى لأن يبخل به ما دام إنفاقه سيرضي الله تعالى ويعزّز مكانة العبد عنده، إذاً لماذا يبخل؟ وفي مقام الجواب، يلمح السيّد شيئاً منه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}(النساء: 36-37)، فيقول: (ربما كان تعقيب الآية بهذه الفقرة إيحاءً للإنسان بأنّ الانسجام مع خطّ الله في السلوك يفرض عليه التواضع بين يدي الله، فيحسّ بإنسانية الناس من حوله؛ فلا يتكبّر عليهم، ولا يأخذه الزهو والغرور والشعور بالخيلاء، بسبب ما رزقه الله من مال وجاه، أو يفخر بذلك فيحسّ بالاستعلاء عليهم، ويمنعه ذلك من الإحسان إليهم بالكلمة والنظرة والممارسة؛ فإنّ الله هو الذي أعطاه كلّ ما لديه من النِّعَم، وهو القادر على أن يسلبه إياها، وهو الذي جعل من نعمته عليه حاجة الآخرين إليه، فليسلك السبيل التي يحبّها الله، ليحبّه من خلال ذلك؛ فإن الله يحبّ المتواضعين الطيّبين، ولا يحبُّ من كان مختالاً فخوراً.

إذاً، فإنّ هاتين الصفتين الذميمتين تمنعان الإنسان من الانفتاح على الفئات المحرومة في المجتمع التي هي أقلّ منه مالاً وجاهاً، وتوحيان إليه بالحرص على ما عنده من المال الذي أوصله إلى هذه المكانة، ورفعه إلى هذه الدرجة؛ ويتنامى لديه هذا الشعور الأنانيّ الضيِّق الذي يسجنه في داخل ذاته، فيخيّل إليه أنّ الدنيا تتجمّع في شخصه، فلا وجود إلا له، ولا مصلحة إلا مصلحته؛ فالمهمّ عنده أن يعيش ويشبع ويرتوي ويستمتع بالحياة، ولا قيمة لحياة الآخرين ولحاجاتهم المعيشية، فلماذا يهتمُّ بهم أو يعتني بأمرهم، ما دامت حياتهم غير مرتبطة بحياته؟ بل ربما يمتدُّ به الأمر إلى الإحساس بالخوف على ماله منهم، وذلك لما يخيّل إليه من شعورهم بالحسد ضدّه. وهكذا تتحول الأنانية في نفسه إلى عقدة مرضيَّة، تمنعه من العطاء والمشاركة والامتداد في حياة الآخرين؛ وهذا هو سرُّ البخل الذي يتحكّم في سلوكه، في ما يحتاج الناس إليه من العطاء، لأنّ الكرم خلقٌ رفيعٌ يتحرك في داخل النفس المنفتحة الممتدة في حياة الناس، على أساس إحساسها العميق بإنسانيتها التي تتَّصل بإنسانيتهم، وانطلاقها الواسع في رحاب الإيمان الذي يجد في العطاء تأكيداً للثقة بالله الذي منه العطاء، وإليه يرجع؛ فهو صاحب الفضل في ما يعطي، وما يأخذ، وهو الذي يفيض على الإنسان نعمه في البداية وفي النَّهاية، فلماذا البخل، ولماذا الحرص؛ إذا كانت خزائن الله لا تنفد، وكرمه لا يضيق عن أحد؟

وهكذا أراد الله أن يعطينا ملامح هؤلاء المختالين الفخورين، من خلال سلوكهم في مواقع العطاء؛ فهم لا يكتفون بالبخل، بل يتنكَّرون للعطاء من قِبَل الآخرين الذين يعيشون العطاء كقيمة إنسانية روحية كبيرة، فيأمرونهم بالبخل، ويخوّفونهم بالفقر، ويصوّرون لهم الواقع الذي تعيشه الفئات المحرومة بغير صورته الحقيقية؛ فيقولون: (هذا الإنسان لا يستحقُّ العطاء لكذا، وذاك لا يستحقّ الإكرام لكذا)، وهكذا يستمرّون في إثارة الشكوك، وتفويت الفرص، وإضعاف الهمم، وتجفيف منابع الخير في قلوب الناس، لأنّهم لا يريدون أن يحرجهم الآخرون في ما يعطون، ولا يحبّون للعطاء أن يمتدَّ أثره في الناس، لأنّه ينعكس سلباً على مواقعهم الاجتماعية، بما يكشفه من أنانياتهم وضعفهم وصغارهم في أنفسهم، عندما يبدأ الناس المقارنة بينهم وبين الكرماء الطيبين من الأمّة.

ثم ذكر لنا أنهم يكتمون ما آتاهم الله من فضله، في ما أنعم به عليهم من نعمه التي أراد لهم أن يبذلوها للناس، سواء كان ذلك مالاً أو علماً أو جاهاً، فلكلِّ نعمة من هذه النّعم مسؤولية لا بدَّ من أن يقوم بها الإنسان في نفسه وفي الآخرين، ولكنّهم يكتمونها، لأنّ إظهارها لا يلتقي مع طبيعة الأنانية المتحكمة في نفوسهم؛ وقد يبرز ذلك في أساليبهم المتنوعة التي يحاولون أن يظهروا بها أنّهم فقراء لا يملكون شيئاً؛ خشية أن يطالبهم الناس بالعطاء)(من وحي القرآن، ج7، ص: 264-266).

    الإنفاق في سبيل الله

رغم أنّ وجوه إنفاق المال لا تكاد تنحصر، وفيها الكثير من المصارف الشخصية لسدّ الحاجات العاديّة، فإنّ أعلى هذه الوجوه شأناً، وأكثرها ثواباً، هو ما أريد به وجه الله تعالى وصالح الناس، بل إنّ سبيل الله تعالى يتَّسع ليشمل كلّ وجوه الإنفاق، بما فيها الشخصية، إذا قصد به التقرب إلى الله تعالى ونيل الزلفى لديه. وحول هذا المعنى، يفيض السيد في حديثه عنه، فيقول في مقدمة تفسيره لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ...) إلخ (البقرة: 261 وما بعدها):

(للإنفاق في سبيل اللّه دورٌ كبير في مفاهيم الإسلام وتشريعاته، من حيث قيمته الكبرى في الحياة وثوابه العظيم عند اللّه. وقد تنوّعت الآيات الكريمة في أكثر من سورة في تصوير أهميته، والحديث عن أبعاده وحدوده، ودعوة الإنسان إلى الإقبال عليه كما يُقبل على قيمةٍ روحيةٍ وعبادةٍ إسلاميةٍ في ما فرضه الإسلام من عبادات، لأنَّ اللّه لم يقتصر في العبادة على ما يؤدّيه الإنسان من صلاةٍ في ما يقوم به من حركات، أو يتكلّم به من أذكار وابتهالات، بل انطلق ليجعل الإنفاق عبادةً مفروضةً في ما افترضه من خمس وزكاة وصدقة، بحيث لا بُدَّ من أن يؤدّيها الإنسان بقصد القربة كما يؤدِّي صلاته، وذلك في نطاق التخطيط الشامل للعبادة التي تتَّسع حتى تشمل الحياة كلّها في خضوعها للّه تعالى.

وقد يبدو لنا أن نتساءل عن المعنى الذي يمثّله الإنفاق في سبيل اللّه في تخطيط حركة الإنسان في الحياة؛ فهل هي القيمة الذاتية التي تتمثّل في الدوافع والأجواء النفسية التي يعيشها المنفق، ليكون الثواب جزاءً على ما يجسده العمل من معنى روحي إنساني، بعيداً عن أيّة حالة إنسانية عامة تتصل بالواقع الاجتماعي للمجتمع ككلّ، أو هي القيمة الاجتماعية في ما يحقّقه الإنفاق من رعاية المجتمع في حاجاته العامة والخاصة؟

والجواب عن ذلك، أنَّ التشريع الإسلامي الذي أنزله اللّه للحياة، لا ينحصر في جانب واحد، بل يشمل الجوانب كلّها، لأنَّ الحياة لا تمثّل في مسيرتها الإنسانية جوانب منفصلةً عن بعضها البعض، بل تمثّل التشابك والارتباط بين مختلف الجهات، فلا نتصوّر الجانب الذاتي الروحي منعزلاً عن الجانب الاجتماعي، لأنَّ قوّة الروح الاجتماعيَّة في الإنسان تكمن في القيمة الروحيَّة الذاتيَّة لشخصيّته، كما أنَّ للأعمال المنطلقة من خلال الدوافع الروحية في حركة الإنسان في المجتمع تأثيراً كبيراً في نموّها وسلامتها وتطويرها، وهذا ما نلاحظه في الصلاة التي هي عبادة روحية؛ فإنّها تشتمل على بُعْدٍ ذاتي روحي يحقّق معنى العبودية للّه في أعماق النفس، وعلى بُعدٍ أخلاقي اجتماعي يحقّق إبعاد الإنسان عن الفحشاء والمنكر في ما يعنيه من قيمةٍ فرديةٍ واجتماعية، بل قد يكون للبُعد الأول أثرٌ كبيرٌ في تعميق البُعد الثاني، باعتبار أنَّ عبودية الإنسان للّه تمثّل مسؤوليته العملية في الانضباط أمام إرادة اللّه في ما يحبّه وفي ما لا يحبّه، في حياة الفرد والمجتمع، ونلاحظه في الصَّوم الذي أريد له أن يحقّق للإنسان معنى العبودية للّه الذي يلتقي بالإرادة الصلبة المبنية على التقوى، كما يلتقي بالروح الإنسانية في مشاعرها الطاهرة إزاء مظاهر البؤس والجوع والعطش في حياة النّاس الآخرين، بما يثيره الصوم من هذه المشاعر من خلال إثارته للجوع والعطش والحرمان في داخل النفس والجسد، فتلتقي فيه القيمة الفردية والاجتماعية.

ومن خلال ذلك، نستطيع أن نقرّر الفكرة التالية، وهي أنَّ التشريعات الإسلامية - بما فيها التشريعات العبادية - قد لاحظت جميع الأبعاد الإنسانيَّة في ما تشتمل عليه من جوانب روحيّة ومادية في آفاق الفرد والمجتمع، انطلاقاً من أنّ الإنسان كلٌّ مترابط الأجزاء في ما ينطلق فيه من إيجابيات وسلبيات. وعلى ضوء ذلك، نجد أنَّ الإنفاق يمثّل النموذج الحيّ لهذا الخطّ في التشريع، فإنَّ القيمة فيه لا تتمثَّل في الحجم المادّي له، بل تتمثّل في ما يعيشه الإنسان من روح العطاء الذي تنساب معه المشاعر الإنسانية التي تلتقي بالهموم الكبيرة للإنسان في الحالات الفردية الصَّعبة التي يعاني فيها الفرد آلام الحرمان، وفي الحالات الاجتماعية القاسية التي يفقد فيها المجتمع عوامل الكفاية والاستقرار الاقتصادية والحياتية، وفي الحالات العامة التي تعيش فيها الأمّة الاهتزاز السياسي والأمني، وفي الأمور الأخرى التي تتصل بالعناصر التي تمنح الإنسان قوّته واستقراره وكرامته الإنسانية. وبذلك يتحرّك الإنفاق، من خلال روح العطاء، في بُعدين: البُعد الروحي الذاتي الذي يدخل في تكوين شخصية الإنسان في دوافعه وحركاته، من موقع القيمة الروحية الفردية في ما تمثّله من خصائص الذات في حساب التقويم الإنساني، والبُعد الاجتماعي، في ما تحقّقه من عناصر الاستقرار والأمن والقوّة للمجتمع وللأمّة.

إنَّ القرآن الكريم - في منهاجه التربوي للإنسان - يريد أن يصنع الإنسان الذي يعيش هموم المجتمع، بحيث يشعر بأنّها همومه الذاتية، وبحيث يتحمّل مسؤوليته، في قضاياه الاجتماعية، على أساس أنّها مسؤوليته في قضاياه الخاصة، ليتمّ الاندماج بين الشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية في عملية تكامل إنساني روحي عملي. ولهذا كان العطاء الذي يتمثّل في روح الإنفاق، يحقّق للإنسان هذه الشخصية، الأمر الذي يجعل القيمة للمبدأ بدلاً من أن يجعلها للمقدار، وهذا ما نفهمه من الآيات التي تحدّثت عن الثواب من خلال المبدأ والنوعية في الإنفاق، ولم تتحدّث عنه من حيث المقدار والكمية، كما أثارت موضوع المضاعفة للثواب من دون تحديد، للإيحاء بتصاعد القيمة النوعية للإنفاق الذي يستوجب التصاعد في الثواب والقرب من اللّه.

وإذا كانت قيمة الإنفاق تتمثّل في هذا الجوّ الروحي والعبادي والاجتماعي، فلا بُدَّ من أن يكون متحرّكاً في خطّ المفاهيم الإسلاميَّة التي يعيشها الإنسان المسلم في حياته العامة، لأنَّ ذلك هو الذي يحقّق الهدف في تربية الشخصية الإسلامية ونموّها الروحي والعملي. ولهذا أكّدت الآيات خطّ سبيل اللّه الذي يمثّل الأعمال والأجواء والأهداف التي يحبّها اللّه ويرضاها ويريد للإنسان أن يحقّقها ويحياها؛ فالإنفاق في الجهاد سبيلٌ من سبل اللّه، لأنَّ الجهاد فرضٌ فرضه اللّه على عباده، والإنفاق في سبيل رفع المستوى الثقافي والصحي والاجتماعي والديني لعباد اللّه سبيل من سبل اللّه، لأنَّ اللّه أراد للإنسان أن ينفع عباده في ما يملكه من طاقات، والإنفاق في سبيل إعانة السائل والمحروم واللّهفان، هو سبيلٌ من سبل اللّه، لأنَّ اللّه أراد للإنسان أن يحمل همَّ الضَّعيف والمحروم والملهوف. وهكذا يتَّسع سبيل اللّه ليشمل كلّ عملٍ خيّر ينفع البلاد والعباد في شؤون الدنيا والآخرة.

إنَّ التأكيد على خطّ سبيل اللّه، يمثّل الفكرة التي تربط القيمة الإنسانية في العمل الإنساني بالخطّ الذي يتحرّك فيه العمل، لا في العمل ذاته بعيداً عن حركة الخطّ الرسالي. ومن هنا، نفهم الأحاديث التي تتحدّث عن الكرم والسخاء من حيث تمثيلها لروح العطاء التي تصبّ في مجرى الحياة الاجتماعية في ما تسدّ به خلّةً أو تقضي به حاجةً أو تغيث به ملهوفاً أو تطعم به جائعاً أو تكسو به عرياناً، وما إلى ذلك من قضايا الإنسان المحروم أو الضَّعيف. فليست هناك قيمٌ مطلقةٌ في حساب الإسلام، بل كلّ ما هناك، هو انطلاق القيمة من المواقع الإسلاميَّة في حياة الإنسان.

وفي هذا الإطار، نعرف أنَّ الإنفاق من أجل الحاجات الذاتية؛ المادية والمعنوية، أو من أجل العصبيات الفردية الضيّقة، تتحوّل إلى عمل تجاري يبحث فيه الإنسان عن العوض لما يقدّمه للآخرين، ولا يعيش الروح الإلهي في ما يعطيه، وبذلك يبتعد عن سبيل اللّه الذي يريد للإنسان أن ينفق طلباً لمرضاته ولما عنده من ثواب.

وإذا كان الإنفاق في سبيل اللّه، فلا معنى للمنّ والأذى على الإنسان المنفق عليه، لأنَّ ذلك هو شأن الإنفاق الشخصي الذي ينطلق من عوامل ذاتيةٍ تتعلّق به، أمّا سبيل اللّه، فيجعل العمل من أجل اللّه، بحيث لا يكون للشخص دخلٌ فيه إلاَّ على أساس ارتباطه بالفكرة العامة والعنوان العام، من حيث هو مسؤوليةٌ وفريضةٌ وحقٌّ للآخرين عليه، في ما يطرحه الإسلام من مفهوم المال بأنَّه مال اللّه الذي آتاه للإنسان واستخلفه عليه وأمره بأن ينفق منه على نفسه وعلى الآخرين، ما يبعد الإنفاق عن معنى المبادرة الذاتية، ويحوّله إلى وكالةٍ عن صاحب المال في إيصاله إلى مستحقّيه، الأمر الذي يرفع القضية عن دائرة المنّ في الأساس. وقد أفاضت هذه الآيات بأكثر من أسلوبٍ في اعتبار ذلك مبطلاً للصدقة في معناها وفي ثوابها، تماماً كصدقة المرائي الذي لا يستهدف من صدقته إلاَّ رضا النّاس عنه، لأنَّ القضية واحدة في النتيجة في كلتا الحالين)(من وحي القرآن، ج5، ص: 81-87).

    فريضتا الزكاة والخمس

الزكاة ضريبة مالية يختلف مقدارها باختلاف نوع المال، فهي واجبة في مذهبنا الإمامي في النقدين الذهب والفضة، ومنها النقود المستحدثة حسبما يراه السيد في فتواه من باب الاحتياط الوجوبي، وواجبة أيضاً في المواشي الثلاث: الجمال والبقر والغنم، ومنه الجاموس والماعز، وواجبة في الغلّات الأربع: القمح والشعير والتمر والزبيب، ومنه، في رأي السيد، عامة أنواع الحبوب، كالعدس والحمص ونحوهما من باب الاحتياط الوجوبي، ولها شروط وأحكام واضحة ومدوّنة في كتب الفقه. أما الخمس، فهو ضريبة مالية تجب في غنائم الحرب مهما كان نوعها، وفي الكنـز والمعدن والغوص، وفي الأرض التي يشتريها الذمي من المسلم، وفي المال المختلط بالحرام، وفي فاضل المؤنة آخر السنة، وفي مال التجارة، ومقدارها في الجميع الخمس، أي (20%) من الشيء، نقداً كان أو عقاراً أو غيرهما من سائر الأعيان.

ونظراً إلى أنّ معظم ما يمكن أن يقال فيهما هو من نوع الأحكام الفقهية التفصيلية، فإنّ السيّد لم يتعرّض لهما بخصوصهما في أحاديثه التوجيهية، بل من حيث هما صورة من صور الإنفاق الواجب. وقد توقف في تفسيره حول مصارف الزكاة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]}( التوبة:60)، فقال:

({إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ} الذين لا يجدون الفرصة الذاتية للعيش الكريم، فيضطرهم ذلك إلى الاقتراض، أو إلى سؤال الناس الآخرين، وربما كانت الفئة الثانية تمثّل المعنى الذي يجعل المساكين أردأ حالاً من الفئة الأولى، {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} الجباة لها من المكلّفين {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} الذين يراد تقريبهم إلى أجواء الإسلام، أو تثبيتهم في مواقفه، وذلك من خلال الرعاية الماليّة لهم، ليتحوّل ذلك إلى شعور حميم تجاه الإسلام وأهله، فيزداد اهتمامهم بالتفكير فيه، وبتعلّم أحكامه وشرائعه، وبالالتزام بخطّه المستقيم، {وَفِى الرِّقَابِ}، وذلك بصرف الصدقة في عتق العبيد الذين هم تحت الشدّة، أو مطلق العبيد، باعتبار أن تحريرهم هو من أولى الأهداف الإسلامية التي يدعو الله المسلمين إليها، أو يوحي إلى وليّ الأمر أن يقوم بها من خلال الميزانية المالية للدولة، {وَالْغَارِمِينَ} الَّذين أطبقت عليهم الديون فلم يستطيعوا إلى الوفاء بها سبيلاً، {وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ} في خطّ الجهاد من أجل إعلاء كلمته في الأرض، وفي خطّ الخير العام الذي يراد به رفع مستوى الحياة على أساس الغايات التي يريد الله للحياة أن تصل إليها في حركة الإنسان في الأرض، {وَابْنِ السَّبِيلِ} الذي انقطع في سفره، فلم يجد ما ينفق به على نفسه، أو يرجع به إلى بلده {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ}، وليست مجرّد عمل خيري ذاتيّ، يملك الناس الحريّة في ممارسته وعدم ممارسته، بل هو فريضةٌ لازمةٌ يلتزم بها الناس على أساس العقاب والثواب {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، فهو العالم بحاجات الناس وبمواقعها، الذي يشرّع لهم الحلول لمشاكلهم من مواقع الحكمة).(من وحي القرآن، ج11، ص: 143-144).

ثم يعقب السيّد في موضع آخر على تفسيره لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا...}(التوبة:106)، فيقول:

(وهذا حديثٌ في ما يريد الله أن يثيره من الاستقامة على الخطّ المستقيم الذي يتحرك فيه المؤمنون ليعيشوا روح العطاء والتضحية في سبيل الله بالأموال والأنفس، ليؤكّد على الصدقات الواجبة، كالزكاة، في ما تعبّر عنه من مضمونٍ روحيٍّ يتصل بالواقع التربويّ الداخليّ للإنسان إلى جانب الواقع الاجتماعي، وذلك هو أسلوب الإسلام في عملية التغيير، فهو يعمل على أن لا يتحوّل التشريع إلى مجرَّد تقليدٍ عاديٍّ، تقتصر مهمته على الجانب المادي في سدّ حاجة المحرومين من الناس، بل يريده حركةً تتصل بالعمق الروحيّ للإنسان، ليتغيّر الوجه الخارجي للمجتمع من موقع تغيير الداخل، ولهذا اعتبر الفقهاء الضرائب المالية كالزكاة، عبادةً لا بدَّ للإنسان من أن يقصد بها التقرب إلى الله، كما هي الصلاة، ما يوحي بأنَّ الإسلام يؤكّد عباديّة العطاء، كعملٍ يتحرك في الحياة الاجتماعية باسم الله). (م.ن.، ص: 200-201).

ثم يعرض السيّد لموضوع الخمس عند تفسيره لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ...}(الأنفال:41)، فيقول: {وَاعْلَمُوا} أيُّها المؤمنون {أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ} من غنائم الحرب، على قول فريقٍ من المفسّرين من أهل السنّة، ومن كلَّ الغنائم والفوائد والأرباح، من التجارة والصناعة والزراعة والغوص والكنـز والمعادن وغير ذلك، في ما جاء في التفسير عن أئمة أهل البيت(ع)، وتبعهم في ذلك المفسّرون من المسلمين الشيعة، وربّما كانت وجهة النظر الأولى، تنطلق من سياق الآية الواقعة في أجواء معركة بدر، ما يوحي بأنها تتحدث عن قضايا المعركة وأحكامها، أمَّا وجهة النظر الثانية، فتنطلق من القاعدة التي تقول إنّ المورد لا يخصّص الوارد، وإنَّ المناسبة لا تخصِّص الآية. وكلمة الغنيمة مطلقة في الآية، وعلى هذا الأساس، كان مذهب أهل البيت في أنّ الخمس يشمل الفوائد والأرباح من كلّ المداخيل المالية {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ}، بعد توزيع الأربعة أخماس على المقاتلين، أو إبقائها لصاحب المال.

ولكن ما معنى أن يكون لله سهم وهو المالك لكلّ شيءٍ في السموات والأرض؟ وقد أجاب البعض بأنّه قد ذكر للتبرّك، أو لما يشبه ذلك. ولكن ربما كان الأقرب إلى الجوّ التشريعي في الآية، أن يكون سهم الله من أجل الغايات التي ترتبط باسم الله، كسبيل الله ونحوه، ولعلّ السياق يبعد عن موضوع التبرّك، لأنّه ذكر بالطريقة نفسها التي ذكرت فيها بقيّة الأصناف، {وَلِلرَّسُولِ} في ما يحتاجه في شؤونه العامة المتعلقة بشخصيته الرسولية، لا بلحاظ ذاته بصفته الشخصية، لأنّ الله - سبحانه - قد جعلها له بصفة المسؤولية العامة، ما يوحي بدور المسؤولية في قضية هذه الضريبة.

{وَلِذِي الْقُرْبَى} وهو الإمام المعصوم، في تفسير أهل البيت(ع) - ولذا أفرده بالذكر -، وقرابة الرسول بقولٍ مطلقٍ، في أقوال المفسّرين الآخرين، {وَالْيَتَامَى} الذين فقدوا آباءهم، {وَالْمَسَاكِينِ} الذين لا يملكون العيش الكريم الذي يكفيهم في سنتهم، أو من هم أكثر بؤساً من ذلك، {وَابْنِ السَّبِيلِ} الذي انقطعت به الطريق، فلم يكن لديه المال الذي يستعين به للرجوع إلى بلده.

وتضافرت الأحاديث عن أئمة أهل البيت(ع) بتخصيص هذه الأصناف بأيتام آل بيت الرسول(ص) ومساكينهم وأبناء سبيلهم، ولكنَّ جمهور المفسّرين أطلقوا ذلك. وربما استوحى بعضهم من بعض الأحاديث، أنّ هذا التقسيم على سبيل المورد والمصرف لا على سبيل التخصيص، ولذا فإنّ وليّ الأمر يعطيهم ما ينقص عن حاجتهم، كما يأخذ منهم ما يزيد عليها.

وهناك عدّة أسئلة يوجّهها بعض الباحثين حول السرّ في تأخّر تطبيق هذا التشريع عن زمن الرسول(ص) حتى عهد الأئمة(ع)، مع أنّه يتَّسع لما لا تتسع له الزكاة، لشموله لبعض الموارد التي لا تجب فيها الزكاة، كما أن كمِّيته أكثر منها؟! وأجاب بعض المحققين عن ذلك، بأنّنا نلاحظ في بعض رسائل الرسول(ص) إلى القبائل التي دخلت في الإسلام، أنّه يأمرهم فيها بالخمس، في الوقت الذي لم تكن لديهم أيّة ظروفٍ حربيةٍ تسمح بوجود الغنائم([86])، وقد أثار بعض آخر عدم التحدّث في القرآن عن الخمس إلاّ في هذه الآية، مع أنّه تحدّث عن الزكاة في أكثر من مرة؟! وأجيب عنه، بأنّ المقصود بالزكاة في القرآن ليس معناها الفقهي المصطلح، بل معناها اللغوي الذي يجعلها تشمل كلّ الضرائب الماليّة حتى الخمس، باعتبار أنّها تزكِّي المال وتنميّه. وهناك أبحاثٌ أُخر تتكفَّل بها كتب الفقه، فليراجعها من أراد الاطلاع عليها.

{إِن كُنتُمْ آمَنْتُم بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} من آيات في شأن الغنائم. وربما كانت إشارة إلى آية الأنفال في ما توحي به من إيكال الأمر إلى الله وإلى الرسول، ليتصرّف المسلمون من خلال ما يصدر إليهم من تعليمات، فهذا هو مظهر الإيمان الحقّ في خطّ النظرية والتطبيق. {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} الذي ظهر فيه الحدّ الفاصل بين الحقّ والباطل. {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} جمع الكفر والإسلام. وربما كان ذلك إشارة إلى معركة بدر. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} في ما ينصر به عباده المؤمنين، ويسلِّطهم على أعدائهم، ليفتحوا، وليغنموا من الأموال ما شاء الله لهم ذلك). (من وحي القرآن، ج10، ص: 383-385).

    الصَّدقة المستحبَّة

غالباً ما يندفع المكلَّف إلى التزام الإنفاق الواجب عليه خوفاً من العقاب وطمعاً بالثواب، بحيث لو خُلِّي ونفسه وتُرك له الخيار ما كان لينفق شيئاً، منسجماً في ذلك مع غريزة الحرص على المال وبخله به ورغبته في كنـزه وحبّه لنفسه، أمَّا إذا نُدب إلى الإنفاق ودُعي إليه طوعاً وجُعل عليه مستحبّاً، فإنّه حين يتصدّق ويبذل شيئاً من فُضول ماله، أو يؤثر بعزيز ماله غيره رغم حاجته إليه، فإنّه يبدي بذلك حبّاً لله تعالى، وعطفاً صادقاً على الفقراء، وحبّاً خالصاً لهم. ولذلك أشاد الإسلام بالمتصدّقين، وخصوصاً المتصدقين بالسرّ، كي لا يخالط نيّتهم شيءٌ من الاعتداد والرياء، وهو جانب جدير بالبيان والتحليل، حيث يقول السيد في تفسير قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ}(آل عمران:92):

(العطاء هو إحدى القيم الإنسانية التي أراد اللّه للإنسان أن يعيشها في حياته كخُلق أصيل من سمات الشخصية التي يتصف بها، بحيثُ تصدر عنه المواقف بشكلٍ عفوي، فيُعطي الإنسان لأنَّه يحسّ بالحاجة إلى ذلك من خلال إنسانيته التي تدفعه إلى ذلك، وإذا أعطى، فإنَّه لا يختار الأشياء التي تعافها نفسه ويكرهها طبعه فيمنحها للآخرين، لأنَّ ذلك ليس مظهراً للعطاء، بل هو وسيلة من وسائل التخلّص من هذه الأشياء باسم العطاء، بل يختار الأشياء التي يحبّها ويريدها مما هو أثيرٌ عنده وقريب إلى حاجاته وضروراته، فإنَّ ذلك يحمل معنى التضحية التي تتمثّل فيها روح العطاء السمح بأعلى مظاهرها.

وقد جاء في مجمع البيان، أنَّ عليّاً(ع) اشترى ثوباً فأعجبه، فتصدّق به وقال: "سمعت رسول اللّه (ص) يقول: من آثر على نفسه آثره اللّه يوم القيامة بالجنّة، ومن أحبّ شيئاً فجعله للّه، قال اللّه تعالى يوم القيامة: قد كان العباد يكافأون فيما بينهم بالمعروف، وأنا أكافيك اليوم بالجنّة»([87]). ويروى عن الحسين بن عليّ والصادق(ع)، أنَّهما كانا يتصدَّقان بالسكر ويقولان: إنَّه أحبّ الأشياء إلينا، وقد قال اللّه تعالى: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ}([88]) (آل عمران:92).

والإنفاق لا يقتصر على المال - وإن كان الظاهر من الآية المال خاصّةً - بل يريد اللّه للإنسان أن ينفق من كلّ ما يحتاجه النَّاس مما عنده، من مال أو جاه أو علم أو قوّة أو غير ذلك، فإنَّ السرّ في عظمة الإنفاق في الإسلام، هو تحقيق التكافل الاجتماعي بين النَّاس في جميع المجالات من موقع المسؤولية والرغبة في القرب من اللّه. وقد أراد اللّه سبحانه أن يعرِّف الإنسان أنَّ للبرّ طريقاً رئيساً هو أن ينفق مما يحبّ، كما عرّفه أنَّ اللّه عليمٌ بما ينفقه في السرّ والعلانية، وبالتالي، لا يجب عليه أن يقف في الإنفاق عند حدّ الأشياء الظاهرة، بل ينبغي له أن يراعي طبيعة الحال في ما تستلزمه من إسرار أو إعلان، فإنَّ الجزاء يصل إليه ممن عنده علم السرّ والعلانية، إنَّه أرحم الراحمين.

 {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ} الذي يمنحه اللّه عباده من الرضوان ونعيم الجنّة. وربَّما كان المراد بالفقرة، أنَّ الإنسان لا يصل إلى درجة البِرّ بحيث يكون من الأبرار، أو إلى مستوى البرّ باللّه، وهو الطاعة والتَّقوى الدالان على عمق الإيـمان والإخلاص للّه في نفسه وحياته، {حتَّى تنفقوا مما تُحبُّونَ} من المال الطيب الَّذي تفضّلونه وتحبّونه وتميّزونه عن غيره بكلّ درجاته، بحيث لا تنفقون قدر الحاجة، بل ما يزيد عليها أيضاً، كما في قوله تعالـى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ}(البقرة:219)، ومن اختيار الطيب في مقابل الخبيث، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}(البقرة:267)، حتّى تصل المسألة إلى درجة الإيثار، بأن يعطيَ الإنسان من نفسه بما قد يؤدّي إلى تفضيل الآخر على نفسه، كما جاء في قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}(الحشر:9)، وقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ}(الإنسان:8)، أي مع حاجتهم إليه وحبّهم له. وهذا ما يمثِّل أعلى درجات البرّ، لأنَّه يوحي بأنَّ الإنسان قد وصل إلى درجة فقدانه الإحساس بحاجته، واستغراقه في حاجة الآخرين من أجل رضوان اللّه، وذلك في عملية مقارنةٍ بين حاجة الدُّنيا إلى المال، وحاجة الآخرة إلى رضوان اللّه، وهذا يتمثّل في الشهادة التي هي أعلى درجات البرّ. وقد ورد في الحديث: «فوق كلّ ذي برٍّ برٌّ حتّى يقتل الرّجل في سبيل اللّه فليس فوقه برّ»([89]). {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ} سرّاً وعلانيةً {فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ}، لأنَّه الذي يستوي لديه السرّ والعلن، فكلّ الأشياء مكشوفة عنده، بارزة في علمه الذي لا يغيب عنه شيء، وفي ذلك إيحاء بأنَّ اللّه لا يضيع إنفاقكم، بل يجزيكم عليه، لأنَّه يعلمه بكلّ تفاصيله). (من وحي القرآن، ج6، ص: 149-151).

ثم يعرض السيّد لصدقة السرّ في قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(البقرة:271)، فيقول:

(أمّا إسرار الصدقات وإعلانها، فلا مانع منه في أيّ جانب كان، إذا كانت هناك مصلحة في ذلك، فقد تكون المصلحة في الإعلان إذا كان ذلك موجباً لتشجيع الآخرين على الإنفاق، وذلك من خلال طبيعة المنافسة الموجودة لدى بعض الأشخاص الذين لا يقومون بأعمال الخير إلا إذا قام بها أحد من نظرائهم، أو من جهات أخرى تتصل بالمنفق أو بالمنفق عليه أو بالآخرين، وقد تكون المصلحة في الإسرار، إذا كان المنفق عليه من أهل الستر والعفّة الذين قد لا يريدون الظهور بمظهر المحتاج، لما في ذلك من إساءة إلى كرامتهم ومكانتهم، فلا بدّ في مثل هذه الحال من حفظ هذا الجانب من شخصيتهم في حالات العطاء. وربما كان في الإسرار جانب تربوي يتصل بشخصية المنفق، لما في ذلك من الدلالة على إخلاصه وقربه من المعنى العميق للقيمة الروحية البعيدة عن كلّ ما يشوبها من الرياء، بابتعادها عن كلّ شيء يوحي بمعرفة الآخرين. وقد رجّح الله تعالى في نهاية الآية جانب السرّ، فإنّه الأصل في الصدقة من حيث هي عبادة مقرّبة إلى الله، ما يجعل جانب الإخلاص فيها مرتبطاً بالبعد عن كلّ ما يربطها بالمعاني الذاتية للإنسان.

{إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ} وتعلنوها أمام الناس لتكونوا قدوةً لهم في الإنفاق، ليكون سنّةً اجتماعيةً من خلال تكاثر الذين يتحركون في هذا المجال، {فَنِعِمَّا هِي} أي فنعم الشيء هو الصدقات الظاهرة البارزة للعيان التي تحمل معنى الخير في مضمونها، وسرّ الإظهار لها في النتائج الإيجابية الاجتماعية، {وَإِن تُخْفُوهَا} وتستروها عن الأنظار والأسماع، لتكون من صدقة السرّ التي هي الرسالة الخفيَّة التي يوجّهها العبد إلى خالقه بالإحسان إلى بعض عباده لحلّ مشكلتهم بطريقة سرّية تحفظ لهم ماء وجوههم، وتخفّف عنهم الإحراج في الإعلان عن فقرهم وحاجتهم بما يتنافى مع كرامتهم، وهكذا تنطلقون بالمسألة في أجواء الكتمان لتحرّكوها في سلوككم العمليّ {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأنّه الأقرب إلى إخلاص النية بالبعد عن أجواء الرّياء التي قد تتحرَّك في حال الأعمال العلنية التي قد تثير في الإنسان الوساوس الشيطانية التي توحي إليه بالرغبة في إظهار النفس بالطريقة التي يعبر فيها عن حبّه للخير ورغبته في الإحسان، ليمدحه الناس على ذلك، وليرفعوا مكانته لديهم، لترتفع درجته الاجتماعية عندهم، فيفقد إخلاصه لله، وتتحول القضية لديه إلى ما يشبه الشرك الخفيّ الذي يدفع العمل ليكون للناس من دون الله، وهكذا يكون الخفاء وسيلةً من وسائل تهيئه الأجواء الرّوحية التي تجعل العمل خالصاً لله، لأنّه هو الذي يطّلع عليه من دون الناظرين، وهذا هو الذي يؤدّي إلى محبّة الله لكم وقربكم إليه، لتكونوا في موقع الحظوة عنده، فيغفر لكم {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ}، فإنّه لا شيء يوجب تكفير السيئات أقرب من الصدقة على الفقراء، لأنها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير، ما يجعل منها إحساناً إلى ربّه كما هي إحسان إلى الفقير، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، فهو الخبير بكلّ ما تفيضون فيه مما تبدونه وتكتمونه، وهو الذي يملك الثواب الذي يقدّمه لعباده المحسنين. فلتكن النظرة إلى رضاه، ولتكن الرغبة في الحصول على موقع القرب عنده، فإنّه غاية الغايات لعباده المؤمنين.

وقد جاء في الحديث عن الإمام الصادق(ع) ما رواه أبو بصير عنه في قول الله عزّ وجلّ: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِي وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} قال: ليس من الزكاة، وصلتك قرابتك ليس من الزكاة([90]).

وفي رواية العياشي بسنده عن الحلبي عن أبي عبد الله(ع) في قول الله عزَّ وجلَّ: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} فقال: هي سوى الزكاة، إنّ الزكاة علانيةً غير سرّ([91])). (من وحي القرآن، ج5، ص: 111-113).

    المذموم من الإنفاق

بقدر ما في الإنفاق من سموّ ونبلٍ يرتفع بصاحبه إلى درجات الكمال الرفيعة في الأخلاق والتقوى، فإنّه قد تعرض فيه على صاحب المال خصال مذمومة تكاد تبلغ الغاية في النقص الأخلاقي والبعد عن ساحة القرب الإلهي، وقد عرض القرآن الكريم لبعضها في العديد من الآيات، فذكر منها البخل والمِنّة والمراءاة والتبذير والإسراف، وهي نقائص خطيرة تنعكس وهناً على التكافل الاجتماعي، بل إنّها تكاد تُقوِّض أساسه القائم على الرحمة والمودة والإيثار، ممّا هو ضدٌّ كاملٌ للبخل والمراءاة والمنَّة، في حين يدلُّ التبذير والإسراف على الاستهانة بالمال والتهوّر وعدم المبالاة بطوارق الأيام وتبدّل الأحوال ولزوم التحسُّب لمصائبها وآلامها. وقد رصد السيّد ذلك في مواضعه من تفسيره الكبير، وسبق منّا ذكر حديثه عن البخل في إطار التأكيد أنّ المال لله تعالى، وأنّ الإنسان مستخلف فيه، وحينئذٍ لا معنى لأن يبخل به، وذلك حين عرض لتفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبُخْلِ...}(النساء: 36-37)، كما أنّه عرض لصفة المنّة والرياء عند تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ...}(البقرة:264)، فقال حول الآية الأولى:

(هؤلاء الذين ينفقون من موقع مسؤولية العطاء أمام اللّه، ويشعرون بأنّهم قاموا بواجبهم الملقى عليهم، فلا مجال عندهم للمنّ على أحد ممن أنفقوا عليه، لأنّ القضية لا تتعلّق بهم كأشخاص، بل كمورد من موارد الإنفاق الواجب والمستحبّ، كما أنَّ القضية لا تمثّل موقفاً شخصياً يرتبط بالذات ليتحوّل إلى موقف من مواقفها الخاصة. وبذلك يريدون لعملهم أن يستمرّ في روحه المنطلقة من محبّة اللّه، فلا يسمحون لأنفسهم بأيّة كلمةٍ تؤذي مشاعر من أنفقوا عليه، هؤلاء الذين يعيشون القيم الروحية والعملية التي أراد اللّه للإنسان أن يعيشها في برنامج حياته اليومية كخطّ عمليٍّ مستقيم، هم الآمنون عند اللّه، الفرحون بما أفاض عليهم من قربه ورضاه، المنقلبون في نعمائه يوم القيامة، بما أغدقه عليهم من نعمه وألطافه). (من وحي القرآن، ج5، ص: 91).

ويتابع بيان ما له علاقة بذلك في قوله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَلِيمٌ}(البقرة:263) فيقول:

(إنَّ اللّه يقول لأولئك الذين يتصدّقون وتتحوّل صدقتهم إلى عقدةٍ ذاتيةٍ في أنفسهم تجاه الإنسان الذي أعطوه، وتنطلق العقدة لتلاحقه بالكلمة التي تسيء إلى كرامته في ما يثيرونه معه من الإيحاء بالفوقيّة في إحساسهم تجاهه، ومن التذكير الدائم له بحال الحرمان التي كان يعيشها، وبفضلهم عليه في إنقاذه من نتائجها الوخيمة، ما يجعله مسحوقاً من الناحية النفسية أمام ذلك كلّه. إنَّ اللّه يقول لأولئك: إنَّ هناك من يعيش حسّ الكرامة في نفسه بالمستوى الذي يفضل فيه أن يجوع بدلاً من أن يشبع على حساب كرامته، ويحب أن يعاني الحرمان المادي الذي يشعر معه بالكرامة بدلاً من أن يتقلب في الرخاء على حساب عزّته ومكانته. فإذا كنتم تريدون أن تهدروا كرامته بالعطاء من خلال كلمة المنّ والأذى، فوفّروا عليه ذلك، واحملوا إليه الكلمة الطيبة والقول المعروف والمغفرة الروحية، فإنَّ ذلك أفضل من صدقاتكم التي يتبعها الأذى، {وَاللَّهُ غَنِيٌّ} عنكم، لا يحتاج إلى أعمالكم التي تسيء إلى الآخرين، {حَلِيمٌ} لا يعجّل للمذنب عقوبته، بل ربما يغفر له إذا استقام على الخطّ المستقيم).(من وحي القرآن: ج5، ص: 92).

ثم يعقّب على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى...} إلى آخر الآية الكريمة، فيقول:

(إنَّ الفكرة تتحوّل إلى نداء إلهي يستثير صفة الإيمان في نفوس المؤمنين، ليعرّفهم أنَّ المنّ والأذى لا يتناسب مع طبيعة هذه الصفة التي توحي إلى المؤمن بأن يحفظ لعمله روحانيته ومعناه، ويصون لأخيه المؤمن كرامته، ويحذّرهم من أنَّ ذلك يبطل صدقاتهم في ما يريدونه من ثواب، لأنّه يكشف عن طبيعة الدوافع الكامنة في داخل النفس، البعيدة عن خطّ التقرّب إلى اللّه في العمل، تماماً كما هو عمل المرائي في إنفاقه لماله على النّاس من أجل أن يحصل على مدحهم له ورضاهم عن سيرته، ما يجعل عمله بعيداً عن المنطلقات الخيّرة التي تربطه باللّه.

إنَّ الإنفاق يفقد قيمته، في هذه الحال، كقيمة روحيةٍ ترتفع بالإنسان إلى خطّ السموّ الروحي، في أجواء القرب من اللّه، ويتحوّل إلى عمل مادّيٍ يستهدف الإنسان فيه الحصول على عوض مادّيٍ مماثل أو مضاعف، أو التنفيس عن عقدةٍ مرضيّةٍ ذاتيةٍ ضدّ الآخرين.

ونلاحظ في هذه الآية الكريمة، أنّ الله تعــــــــــالى يصف هؤلاء المتصدّقين المنّانين المرائين، بأنّهم

لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر، لأنَّ الإيمان ليس مجرّد كلمةٍ يقولها، أو عملٍ يعمله، بل هو موقفٌ يستمدُّ حركته من الإيمان باللّه كحقيقةٍ تحرّك كيانه بالدوافع الروحيّة، وتدفع خطواته إلى الآفاق الرحبة في مجالات القرب من اللّه، فلا قيمة للكلمة الحلوة الخاشعة إذا لم تنطلق من قاعدة الإخلاص في أعماق النفس، ولا قيمة للعمل الكبير أو الصغير إذا لم يكن ممتداً في الخطّ المستقيم الذي يحبّه اللّه ويرضاه مما يحقّق للحياة سلامتها وكرامتها وانطلاقها في الأهداف العظيمة الكبيرة. وبذلك يفقد الإنسان حركة الإيمان في داخله، فلا تكون أعماله صدىً لنداء الإيمان هناك، لأنّها تحرّكت من موقع الإخلاد إلى الدنيا، ولم تتحرّك من موقع الرغبة في الآخرة من خلال ثواب اللّه). (م.ن.، ص: 92-94).

أما حول آفة الرياء، فيخصها السيد بكلام مباشر في تفسيره لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ...}(النساء:38)، فيقول:

(وهذه صفة بعض النماذج المنحرفة من هؤلاء المختالين الفخورين الأنانيين، فقد تمرّ بهم بعض حالات العطاء، ولكن لا لتكون مظهراً من مظاهر النفس الطيّبة الكريمة، بل لتكون مفتاحاً لحركة الذات في خطّ المصالح الشخصية الأنانية، فهم ينفقون أموالهم رياءً، ليراهم النّاس، وليمدحوهم، وليرضوا بذلك غرورهم وكبرياءهم، ويظهروا بمظهر المحسنين الكرماء الكبار الذين يقفون في الدرجة العليا من السلَّم الاجتماعي الكبير؛ فهم يتصدّقون على المحتاجين من أموالهم من موقع الرفعة والعظمة والكبرياء، وليحصلوا من خلال ذلك على بعض الامتيازات الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، عندما يوظفون هذا العطاء في مجال الدعاية والإعلام، لخدمة تلك المواقع والامتيازات، وللقفز منها إلى مواقع جديدة متقدّمة. وبذلك، لا يكون الإنفاق عمليةً أخلاقيةً، بل يتحوّل إلى عملية تجارية تبحث عن البدل لما تدفعه، وتفتش عن الربح في ما تنفقه. وهذا ما نراه في بعض البلاد التي يندفع فيها بعض الأغنياء للإنفاق بمستوى الملايين على المؤسسات الخيرية والتربوية، لأنَّ ذلك يعفيهم من دفع الضرائب التي تزيد كثيراً على ما ينفقون، ويحقّق لهم - بالتالي - وضعاً اجتماعياً مميزاً، ويثير حولهم هالةً كبيرةً من المدح والثناء الذي لا يستحقّونه)(من وحي القرآن، ج7، ص: 268).

أمّا التبذير، فإنّ السيد يَعرُض له عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ }(الإسراء:27).

(يمثّل التبذير نوعاً من صرف المال بطريقة غير متوازنة في الكمّ والنوع، بحيث لا يستفيد منه الإنسان، على مستوى النتائج، بشكل طبيعي، بل قد يؤدّي إلى لونٍ من ألوان فقدان التوازن الفكري والعملي في وظيفة المال في الحياة، التي تتلخّص في تلبية حاجات الإنسان العامة والخاصة بحجمها المحدود، دون أيّة زيادةٍ مفرطةٍ، وبذلك يمثّل التبذير المالي حالةً مزاجيةً تنطلق من الهوى النفسي الخاضع لبعض المؤثرات الذاتية المرضية التي تلتقي بالفساد والإفساد بعيداً عن أية مصلحة معقولة للحياة.

ومن خلال هذا التفسير للتبذير، نعرف أن طبيعته تلتقي بالصرف اللاّمسؤول الذي يعني العبث بالمال والانحراف به عن دوره الوظيفي في حياة الإنسان، فيشمل - من حيث الإيحاء - إنفاق المال في غير حقّه وإن كان قليلاً، ولا يشمل إنفاق جميع ماله في الحقّ، لأنّ خسرانه لماله يتضمن تعويضاً مماثلاً من خلال ما حصل عليه من منفعة للحقّ وللإنسان.

وهذا ما يريد الإسلام للإنسان أن يمتنع عنه، لأنّه يؤكّد عدم ذهاب شيءٍ في الحياة بدون مقابلٍ، وهو ما يمثّل مصلحة للحياة.

{إِنَّ الْمُبَذرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّياطِين}، لأنّهم يلتقون بهم في الأساس الذي يرتكز عليه سلوكهم من اتباع الهوى ورفض العقل، في ما يحركونه من طاقاتهم، وما يخضعون له من شهواتهم، الأمر الذي يبعدهم عن الله، بابتعادهم عن خط الإيمان به وبتوحيده والاعتراف برسله ورسالاته، وهذا ما يريدهم الشيطان أن يثيروه كخطٍّ شاملٍ لكلّ جوانب الحياة عندهم. {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} فهو يتحرك في مسار التمرّد على الله، وجحود نعمه، والانحراف بالإنسان عن خطّ الالتزام العملي بطاعة الله. وهكذا يريد الله أن يوحي بأنّ الانحراف العملي في أيّ موردٍ من الموارد حتَّى المالية، يمثل انحرافاً عن خطّ الإيمان، وليس مجرَّد حالةٍ جزئيةٍ ٍطارئةٍ، فهناك في السلوك العملي خطّان: خطّ الله، وخطّ الشيطان، فإذا ابتعد عن خطّ الله، ارتبط بخطّ الشَّيطان، الأمر الذي يفرض على الإنسان المؤمن التدقيق في خطواته العملية، ليعرف إلى أيّ الخطّين تنتمي من خلال المدلول الإيماني للعمل، وما يتضمنه من نقاط القوة والضعف).(من وحي القرآن، ج14، ص: 92-93).

    تكامل دور الدولة ودور الفرد

لقد رأينا الأهمية الكبيرة التي أولاها الإسلام لموضوع الإنفاق، واستعرضنا بعض أهمّ ما قاله السيّد حول ذلك، رغم كثرة ما ورد فيه من نصوص شريفة، وكثرة ما فصّل له الفقهاء من أحكام، ولذا فإنّه لا ينبغي إنهاء الحديث حوله إلا بما التفت إليه السيد حول توازن دور الدولة في التكافل الاجتماعي مع دور الفرد وهيئاته الاجتماعية، وتكامل الدورين وتضافر جهودهما للدفع بالتكافل الاجتماعي ليحقق أكبر قدرٍ ممكن من أغراضه في معالجة العديد من مشاكل المجتمع. يقول السيد:

(ربما يُطرح سؤال في أجواء الحثّ القرآني والنبوي على الإنفاق في سبيل اللّه، والتشجيع الأخلاقي على الصدقات: هل هذا هو الحلّ الإسلامي للمشكلة الاقتصادية، بحيث تكون حركةً في المسألة الاجتماعية في خطّ التعاليم الدينية، أو أنَّ للمسألة وجهاً آخر؟ والجواب: إنَّ الاقتصاد في حياة النّاس ليس عنواناً بسيطاً يمكن تحريكه في المبادرات الفردية أو الاجتماعية في تقديم العطاءات المادية الخيرية للفئات المحرومة في المجتمع على أساس مسؤولية النّاس بعضهم عن البعض الآخر في مسألة التكافل الاجتماعي، لأنَّ ذلك لن يساهم في أيّ حلٍّ متوازن للمشكلة الاقتصادية التي تتمثّل في تعقيدات عملية الإنتاج والتوزيع والتنظيم الدقيق لحركة تداول الثروة وتحريكها في الداخل والخارج، وما يتفرّع عنها من النظرة الواقعية العادلة في دراسة المسألة الطبقية على مستوى التقارب بين الطبقات أو إلغاء الفوارق بينها، وغير ذلك من العناوين الكلّية والجزئية في الساحة الاقتصادية.

وفي ضوء ذلك، فإنَّ المشروع الإسلامي الاجتماعي في استحباب الإنفاق على أساس نظام الصدقات الفردية أو المبادرات التطوعية في هذا النشاط الاجتماعي أو ذاك، لا يمثّل الخطّة الاقتصادية التي لا بُدَّ فيها من شمولية النظرة إلى الواقع لتحديد نوع المشكلة وحجمها وامتداداتها فيه، ومن التخطيط العملي للحلول العملية من خلال القوانين التفصيلية الموضوعة لتحقيق الهدف الكبير، بل يمثّل نوعاً من أنواع الحركة الاجتماعية التي يتداخل المجتمع فيها في علاقات أفراده بعضهم بالبعض الآخر، من أجل إيجاد البنية الاجتماعية القويّة الصلبة التي تمثّل القاعدة الإنسانية الواسعة في تكوين الهيكلية الشعبية في حلّ المشاكل الطارئة السريعة، وفي مواجهة الحالات المعقدة التي لا تملك الدولة معالجتها في نطاق مرحلي، أو في المستوى الخاص الذي قد لا يحقّق للفرد حاجاته الخاصة والعامة، بحيث لا تقف الدولة حائرةً أمام ذلك، كما لا يواجه النّاس المشكلة من دون الحصول على حلّ. وبهذا، يتميّز التنظيم الإسلامي للمجتمع عن ألوان التنظيم الأخرى التي تعطي الدولة مركزيّةً مطلقةً في المسألة الاقتصادية، لتكون للدولة دائرتها القانونية في التخطيط العام للمشكلة من خلال الحلول العمليّة التي تقدمها في التقنين التشريعي، وليكون للمجتمع دوره في مسؤوليته الأخلاقية الدينية عن الحالات الكثيرة التي يتداولها الواقع الاجتماعي للناس، ولتنطلق الخطّة العامة في عملية تنسيق متحرّك بين الدولة والمجتمع الأهلي، لا يتجمد في الصيغ القانونية، ولا يضيع في متاهات الأوضاع العامة الباحثة عن الحدود المتوازنة للأشياء.

وفي ضوء هذا، يمكن للواقع الإسلامي أن يعيش من خلال المبادرة الفردية، ذهنية الدولة في المسؤوليات المحدودة في الدوائر الصغيرة حتى في غياب الدولة، ليكون التكافل الاجتماعي عنواناً من عناوين وجوده الحركيّ، كما تشعر الدولة بأنّها لا يمكن أن تترك القاعدة الشعبية غارقةً في مشاكلها المعقَّدة عندما تتعقد الحلول، بل تعمل على التكامل معها في المسألة الاجتماعية والاقتصادية كما في المسألة السياسية والأمنية.

وهكذا يتحوّل المجتمع إلى قوّة تعيش روحية الدولة في مسؤولياتها، كما تنطلق الدولة لتكون عنوان المجتمع في تطلّعاته وخططه وأهدافه. وهذا ما يبتعد بالمسؤولية عن حال الجمود القانوني، ويدفع الإنسان، فرداً، ومجتمعاً، إلى أن يكون عنصراً حيّاً في التفاعل مع الآخرين، من أهله وأبناء أمته، من موقع الحالة الإيمانية التي تتحرّك في الجانب الشعوري كي تتمثّل في الجانب العملي، ليلتقي الجميع على صعيد توفير الخير للإنسان كلّه في الساحة كلّها). (من وحي القرآن، ج5، ص: 97-99).

خاتمة

إلى هنا، لا بدَّ من أن ننهي سياحتنا مع هذا الفيض من الأفكار التي تناول فيها سماحته جوانب مهمّةً وعديدةً من مختلف العبادات، وكما رأيتم، فإنَّه لم يكن حين تحدث فيها أو كتب عنها، بصدد استيعاب جوانبها كافّةً، بل هو قد استوحاها من مضامين النصوص الشَّريفة، وصار يبيّنها ويتصيّد معانيها من دلالات النص، وأيضاً مما عاشه خلال قيامه بتلك العبادات، أو ممّا عاينه من آثارها في حياة النَّاس، ورغم ما قدّمناه منها، فإنَّ فيها الكثير الذي يمكن قوله لمن يريد استيعاب جميع جوانب الموضوع، لكن ما قاله سماحته كاف في تقديم فكرة   عميقة، تساعد المؤمن على القيام بعبادةٍ واعية، وتساعد المثقَّف على فهمٍ أفضل وأعمق لهذا الجانب من الفكر الإسلاميّ ونمطه السّلوكي.

داعين الله تعالى أن ينفعنا بما علّمنا، إنّه سميع الدعاء، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.


المراجع:

(1) العلامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله، من وحي القرآن، 24 مجلداً، دار الملاك، ط3، 1428هـ/2007م.

(2) دنيا الشباب في حوار مع العلامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله، أجراه أحمد أحمد وعادل القاضي، مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، ط1، 1415هـ/1995م.

(3) العلّامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله، قضايانا على ضوء الإسلام، دار الملاك، ط8، 1425هـ/2004م.

(4) اخترنا لك، آفاق إسلاميّة، العلامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله، دار الزهراء، ط3، 1427هـ/2006م.

(5) العلّامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله، رسالة الحجّ، دار الملاك، ط1/ 1423هـ/2003م.

(6) العلّامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله، مفاهيم إسلاميّة عامة، دار الملاك، ط3، 1422هـ/2001م.

(7) العلامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله، آفاق الروح، جزآن، دار الملاك، ط1، 1420هـ/2000م.

(8) الجمعة منبر ومحراب، توثيق لخطب الجمعة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله للعام 1998، إعداد المركز الإسلامي الثقافي، دار الملاك، ط2، 1428هـ/1997م.

(9) العلّامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله، تقوى الصوم، إعداد وتنسيق علي رفعت مهدي، دار الملاك، ط1، 1423هـ/2003م.

(10) العلامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله، في رحاب دعاء الافتتاح ودُعاءي استقبال ووداع شهر رمضان المبارك، دار الملاك، ط3، 1424هـ/2003م.

(11) العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله، الندوة، محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة، سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق العلامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله، 19 جزءاً، إعداد عادل القاضي، دار الملاك، ط2، 1421هـ/2000م.

(12) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط6، 1412هـ/1991م؛ (مؤسسة آل البيت، قم، 1414هـ).

(13) محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، ط1، 1411هـ/1991م.

(14) محمَّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1421هـ/1992م؛ (مؤسسة الوفاء، بيروت، ط2، 1983؛ دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1983).

(15) مجمع البيان في تفسير، الشيخ الطبرسي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط1، 1415هـ/1995م.

(16) لبيب بيضون، تصنيف نهج البلاغة، قم، إيران، 1417هـ.

(17) صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3.

(18) القطب الرواندي، الدعوات، الناشر مدرسة الإمام المهدي ـ قم، ط1، 1407م.

(19) السيد مرتضى العسكري، معالم المدرستين، مؤسسة النعمان، بيروت، لا.ط.، 1990.

(20) الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامي، طهران، 1367ش.هـ.

(21) الريشهري، ميزان الحكمة، دار الحديث، ط1، 1416هـ.

(22) المحدث النوري، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت، ط2، بيروت، 1988.

(23) البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، مطبعة مهر أستوار، لا.ط.، لا.ت.

(24) الصدوق، علل الشرائع، منشورات المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1966.

(25) الشريف الرضي، نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمّد عبده، دار الذخائر، قم، 14125هـ.

(26) تفسير العياشي، المكتبة العلمية، طهران، لا.ط.، لا.ت.

(27) الصفار، بصائر الدرجات، منشورات الأعلمي، طهران، 1404هـ.

(28) الفيض الكاشاني، التفسير الصافي، مكتبة الصدر، طهران، 1416هـ.






    




المنهج الفقهي



محمّد طاهر الحسيني

كاتب عراقي، متخصص في القانون العام


أولاً: تكوين الشخصية الفقهية والمؤثرات العامة وخصائصها

ثانياً: الشخصية الفقهية – علامات فارقة

ثالثاً: مصادر السيّد في الدرس الفقهي

رابعاً: ملامح المنهج الفقهي







    






تُعنى هذه الدراسة بالسيد فقيهاً، ولذلك تكرِّس البحث في (المنجز) الفقهي الذي أصدره، وهو عبارة عن محاضرات في الفقه كتبها طلابه وتلاميذه، أو حوارات في قضايا إنسانية وموضوعات تهمّ الفرد والمجتمع من وجهة نظر فقهية، جمعها باحثون ومهتمّون بهذا الشأن.

وقد صدرت للسيد أبحاث فقهية تندرج تحت عنوان (التقريرات)، وهي كما أسلفت محاضراته في الفقه، وقد تصدّى لكتابتها عدد من تلاميذه، وهي:

1ـ رسالة في الرضاع، بقلم الشيخ محمد أديب قبيسي، ط 1995.

2ـ اليمين والعهد والنذر، المركز الإسلامي الثقافي، ط 1996.

3ـ كتاب الجهاد، بقلم السيد علي فضل الله، ط 1996.

4ـ كتاب النكاح، بقلم الشيخ جعفر الشاخوري، ط 1996.

5ـ القرعة والاستخارة، المركز الإسلامي الثقافي، ط 1997.

6ـ الوصية، المركز الثقافي، ط 1997.

7ـ فقه الإجارة، بقلم محمّد الحسيني (كاتب السطور)، ط 1998.

8ـ الصيد والذباحة، المركز الإسلامي الثقافي، ط 1998.

9ـ قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" بقلم الشيخ محمد أديب قبيسي، ط 2000.

10ـ فقه الفرائض والمواريث، بقلم الدكتور خنجر حميّة، ط 2000.

11ـ فقه الشركة، بقلم محمد الحسيني، ط 2000.

12ـ فقه القضاء، بقلم الشيخ حسين الخشن، ط 2004.

13ـ البلوغ، بقلم السيد جعفر فضل الله، ط 2006.

14ـ الإثبات القضائي، كتاب الشهادة، بقلم محمد الحسيني، ط 2007.

15ـ فقه الأطعمة والأشربة، بقلم الشيخ محمّد قبيسي، ط 2007.

16ـ فقه الطلاق وتوابعه، بقلم الشيخ محمد قبيسي، ط 2007.

17ـ فقه الحجّ، بقلم الشيخ جهاد فرحات، ط 2007.

18ـ حكم الحاجب واللاصق في الوضوء والغسل، ط 2009.

19ـ ثمار البحر، نظرة فقهية جديدة، ط 2010.


كما صدرت للسيد كتب فقهية مجرَّدة عن الاستدلال، وهي التي تعرف بالرسائل العملية، وهي:

1ـ المسائل الفقهية.

2ـ الفتاوى الواضحة، تعليق على متن الفتاوى الواضحة للشهيد محمّد باقر الصدر.

3ـ فقه الشريعة.

4ـ الأحكام الشرعية.

كما صدرت للسيد كتب حوارات عامة عنت بالجانب الفقهي للأفراد والمجتمع، أهمّها:

1ـ فقه الحياة، إعداد: أحمد أحمد، وعادل القاضي.

2ـ دنيا الشباب، إعداد: عادل القاضي.

3ـ دنيا المرأة، إعداد: منى بليبل وحوار سهام حميّة.

4ـ للإنسان والحياة، إعداد: السيد شفيق الموسوي.

وتحسن الإشارة إلى أنّ هذه الدراسة عنت بهذا المنجز الفقهي كلّه، وإن كانت ركّزت على البحث الفقهي الخاص، كما أنّها عنت بأبحاث غير منشورة للسيد في دروس فقهية عديدة حضرها (كاتب السطور)، وكتبها في فترات سابقة، ولم يُقدّر لها النشر، كما أنّه سمع من السيد الشيء الكثير من الاستدلال والنقد والتعليق.

وأُنبّه إلى أنّ هذه الدراسة لا تكشف عن فتاوى السيّد بقدر ما تعنى بطريقة تفكيره ومنهجه الفقهي، كما أنّها كرّست البحث عن الفقه ومنهج السيّد في الفقه، وأغفلت بحثه الأصولي الذي يفتقر إلى بحث تفصيلي في دراسة تفصيلية أخرى.

كما أُنبِّه إلى أنّ منهج الدراسة هو منهج وصفي تقريري، فلم يتجاوز إلى منهج المقارنة أو النقد، حيث ترك ذلك إلى مناسبة أخرى، وقد جاء البحث في فصول:

1ـ تكوين الشخصية الفقهية، والمؤثرات العامة وخصائصها.

2ـ مصادر السيّد في الدرس الفقهي.

3ـ ملامح المنهج الفقهي عند السيّد.

أولاً: تكوين الشخصية الفقهية والمؤثرات العامة وخصائصها

ينتمي الفقيه - أيّ فقيه - إلى عصره، وهو حصيلة تفاعلات تاريخية وحاضرة من جهة، وحصيلة تفاعلات اجتماعية وبيئية داخلية وخارجية من جهة أخرى، وهي بمجموعها تؤثّر في صياغة الشخصية الفقهية وتكوينها.

ومعلوم أنّ السيّد ينتمي إلى مدرسة النّجف الأشرف العلمية، حيث ولد ونشأ فيها، ودرس وتعلّم على كبّارها وأفذاذها، في حلقةٍ علمية متواصلة، توارثت فيه هذه المدرسة التركة العلمية الضخمة، التي وقف السيّد عليها من خلال أساتذته وشيوخه، من أمثال: السيّد أبو القاسم الخوئي، والشيخ حسين الحلّي، والسيّد حسن البجنوردي، والسيد محمّد الروحاني، والشيخ عباس الرميثي، وآخرين.

ومن جانب آخر، فقد عاش السيّد مجتمعاً آخر، في الوقت الذي عاش مجتمع أمثال هؤلاء الشيوخ، فقد لازم نخبةً من شباب الفقهاء والعلماء، جمعوا بين قديم النجف وحديث العصر الوافد، وفي مقدمهم، السيّد محمّد باقر الصدر، وهو ما أعطى السيّد بُعداً آخر في تكوين شخصيته؛ فهو الفقيه التقليدي نسبةً إلى الفقه المعروف بآلياته ووسائله، وهو الفقيه الذي تشبّع برؤيةٍ جديدة للفقه دونما فصلٍ له عن مناخه الإسلامي والرؤية الشاملة لهذا الدين.

وقد تشكّلت هذه الرؤية من خلال تراكم المنجز الثقافي/الفكري، وحجم المنجز العلمي وتطور الحياة من جهة، وضغط الواقع المتغيّر، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي عموماً، من جهة أخرى، وهو ما طبع فقه السيد ورؤيته بأبعاد مهمّة عديدة، لعلّ من أهمّها:

    البعد الواقعي

يتَّسم فقه السيد بالواقعيَّة في النظر إلى المسائل الفقهية، بعيداً عن النظرة التجريدية أو الافتراضية التي لا واقع لها، كما دأب على ذلك بعض الفقهاء، حيث سادت الفقه أجوبة جاهزة (معلّبة)، لا مبرر لها إلا كونها صحيحةً فنيّاً وصناعيّاً.

ويمكن أن نشير إلى مورد فقهي يتراءى منه بوضوح هذا الحسّ، إذ اعتبر جماعة من الفقهاء، أنّ الحاجّ يجب عليه أن يأكل شيئاً من الهدي ويهدي ثلثه إلى بعض الناس، ويتصدَّق بثلثه على بعض الفقراء، مع اشتراط أن يكون الفقير والمهدى إليه مؤمناً، مع ندرة هذا الفرد، إذ كيف يمكن للحاج العثور على هذا الفرد في ذلك المكان، فذكروا أنّ بالإمكان أن يتوكّل الحاجّ عن فقير ولو في بلده، فيقبض الحاج ثلثه نيابةً عنه، وبذلك يؤدّي الوظيفة الشرعية.

وبغضِّ النظر عن المناقشة في أصل الحكم بالوجوب، أو المناقشة في شرط الإيمان في الفقير، فإنّه كيف يتعقّل انطباق عنوان الإطعام الوارد في القرآن عرفاً على هذا الفرض، بحيث يتقبّل الحاج الثلث المذكور نيابةً عن الفقير، وهو لا يحصل على شيء منه؟

إذ إنّ الوارد في القرآن الكريم هو عنوان الإطعام، لا مجرّد الإنشاء ليحصل التمليك به، ولو على نحو الافتراض ومحاولة التصحيح فنياً، وإن كان ذلك بعيداً عن الواقع، وهو من الموارد التي يلتقي عليها الشهيد الصدر والسيد فضل الله.

ومن الموارد التي يغفل فيها بعض الفقهاء البعد الواقعي للمسألة، ما أفتى به البعض من صحّة تزويج الصغيرة من الولي، لغرض رفع الكلفة وتحليل النظر إلى أمها، ثم تطلّق من الزوج المفترض، لتكون أمهّا حراماً على الأخير الذي أنشأ القبول بالزواج لهذا الغرض بينه وبين الولي.

وقد لاحظّ السيد على مثل هذا الزواج أنّه غير صحيح، لأنّه لم ينظر إلى واقع الحال، حيث إنّ مثل هذه الزيجات زيجات غير جادة، ولم يقصد فيها الزواج فعلاً، مع أنّه لم ينفِ أن يكون هناك قصد جدّي في بعض الحالات، إلاّ أنّ معظم هذه الحالات لا تتوافر على هذا القصد الجدّي.

وثمّة مورد فقهي تبرز فيه هذه الإشكالية بوضوح، وهو مورد ما إذا أقدم عدد من الشركاء على تأسيس (بنك ربوي)، فإنّه لا إشكال في أنّه عمل غير مشروع، ولكن بعض الفقهاء، كما عن السيّد الخوئي، أجاز شراء أسهم هذه الشركة (البنكية) التي أسست لغرض العمل بالحرام، لأنّها لم تعمل بالحرام فعلاً، وذلك ربما بدعوى أنّ الأسهم وزانها وزان البضاعة أو السلعة التي يجوز التعامل بها وتداولها، من حيث هي بضاعة وسلعة وأموال حلال، ولذلك فيجوز بيع هذه الأسهم وتداولها في السوق قبيل الشروع في العمل الحرام.

وقد لاحظّ السيد على فتوى أستاذه الخوئي، أنّه لاحظّ طبيعة السهم من حيث إنّه مال نظير أيّة سلعة أو بضاعة، إلاّ أنّه لحاظ لا ينسجم مع واقع الحال، لأنّ السهم المذكور لا قيمة له إلاّ من جهة كونه حصّة الشركة المذكورة، وليس وزانه وزان أيّة سلعة أو بضاعة في السوق، فيكون شراء السهم عبارةً عن الاشتراك في تأسيس الشركة أو البنك الربوي، وعندئذٍ، لا يبقى فرق بين التأسيس والشراء، فإذا كان التأسيس محظوراً، فكذلك يكون الشراء محظوراً أيضاً، ويكون جواز شراء سهم شركة ما فرع صحّة هذه الشركة، إذ لا قيمة لهذا السهم ما لم تكن ثمة شركة، فإذا كانت الشركة باطلةً، فأي معنى للتفكيك بين جواز شراء السَّهم، وعدم جواز الاشتراك بقاءً في الشركة التي تتعامل في المستقبل بما هو محظور شرعاً. (فقه الشركة، تقريراً لأبحاث السيّد فضل الله، بقلم محمّد الحسيني، ص55 وما بعدها).

    البعد العلمي

في ظلّ التطور العلمي والتقني في العالم، تقفز إلى ساحة البحث العلمي الفقهي عدّة مسائل تفتقر إلى أجوبة شرعية شافية وواضحة، وسيكون الفقيه ملزماً بتقديم الحلول الشرعية تجاه هذه الصيغ والأوضاع المستجدَّة، التي لا يمكن تجاوزها والقفز إليها، لأنهّا أوضاع بدأت تفرض هيمنتها على حياة المسلمين.

وهناك عددٌ كبير من المسائل المستجدَّة التي طرحت على بساط البحث الفقهي، من قبيل: التلقيح الصناعي، أطفال الأنابيب، تنظيم الأسرة عن طريق بعض الوسائل الطبية، مثل اللولب وعقد الرحم، والتشريح، ومني المرأة، والاستنساخ، وثبوت الهلال بالوسائل الفلكية...

وللسيد حضور كبير فاعل في بحث هذه المسائل ومتابعتها ومحاولة الإفادة منها، ولعلّ دوره الأساس في (بحث مسألة ثبوت الهلال بالوسائل الفلكية)، مما لا يخفى، إذ إنّه، وإن لم يكن الأوّل في طرح هذه المسألة، إذ كان للشهيد محمّد باقر الصدر إسهام في الإشارة إليها مطلع السبعينيات، إلاّ أنّه لم يُعرف فقيه - خصوصاً في المدرسة الشيعية الإمامية - طرح المسألة بهذا العمق والوضوح كما طرحها السيّد، على مستوى النظرية وعلى مستوى التطبيق.

أنوّه من خلال ما سمعته من السيّد نفسه، وربما سمعه كثيرون غيري، بدورٍ للسيّد المغيّـب

السيد موسى الصدر، في محاولة إثارة البحث الفقهي حول (ثبوت الهلال فلكياً)، عبر توجيه الاستفتاء إلى مرجعية السيد محسن الحكيم في النجف الأشرف يومذاك.

    البُعد المجتمعي

ينظر السيد إلى الفقه الإسلامي كإطار تشريعي منظِّم للفرد والمجتمع، وهو بذلك يتجاوز الفرد إلى الاجتماع الإنساني، ما يجعل هذا الإطار التشريعي صالحاً للوفاء بمتطلبات هذا الاجتماع، وهو ما يغفل عنه عدد من الفقهاء، أو على الأقلّ لا يشعرون بضرورته. ولذلك، دعا السيد في جملة عدد من الفقهاء المتنورين، إلى ضرورة إعادة النظر في مناهج الفقيه في مقام استنباط الحكم الشرعي، والكشف عنه من أدلّته المعتبرة شرعاً، وهي مناهج تتحدد أساساً طبقاً لهدف الاجتهاد نفسه الذي يمكن تلخيصه برفد حركة المسلمين أفراداً ومجتمعاً ودولةً.

وربّما تساعد هذه الرؤية على حلِّ بعض الإشكاليات القائمة لفهم بعض النصوص، وفي المجالات الحيوية تحديداً. وعلى سبيل المثال، نشير إلى مسألة حصر الزكاة في (الغلاّت الأربع)، وهي مسألة خطيرة جدّاً، إذ تستثني الغلاّت الأخرى على أهميتها، ودورها الاقتصادي والمالي في رفد الميزانية العامة.

والموقف الفقهي السائد في مدرسة أهل البيت(ع)، يميل إلى حصر الزكاة في هذه الغلات الأربع دونما تعدّ إلى غيرها إلا بالعناوين الثانوية، فيما ينظّر السيد فضل الله لموقفٍ آخر يقوم على قراءة النصوص الواردة في الحصر بالغلاّت الأربع على أنّها أحكام ولايتية، بقرينة ما ورد في بعضها بقوله: "وعفا رسول الله(ص) عما سوى ذلك"، على نحوٍ يفيد أنّ كلمة (العفو) في الروايات ظاهرة في أنّها حكم مؤقّت على خلاف التشريع العام، ما يعطي القوة والرجحان للروايات المعارضة، والتي تؤكّد شمول الزكاة لغير الغلات الأربع.

وعلى هذا الأساس، حذّر السيد من محاولات تقزيم الشريعة تبعاً للاتجاه النفسي للفقيه، عندما يتّجه نفسياً نحو الأحكام التي تتصل بالسلوك الخاص للأفراد، على حساب الجانب الاجتماعي وما يتصل بالدولة. وفي غمرة هذا الاتجاه، سادت النظرة التغليبية للطابع العبادي للموارد الفقهية، وإنْ خارج المسائل العبادية، لتتعدّى إلى الجانب الاجتماعي والمالي والاقتصادي، في وقتٍ يبعد أن يتصدّى الشارع لتنظيم حياة الناس وفقاً لمقولاتٍ ملغّزة وأسرار لا يمكن للإنسان الوقوف عليها.

فأيُّ معنى، من وجهة نظر السيد، لقصر حكمٍ شرعي على الموارد التي تعرّضت لها الروايات في موارد المعاملات العرفية، فإذا كانت الروايات، مثلاً، تعرَّضت في موضوع الإجارة للنهي عن إجارة العين المستأجرة بأجرةٍ أكبر من الأجرة التي دفعها المستأجر، ما لم يكن قد أحدث فيها حدثاً ما، وقد ورد ذلك بخصوص السفينة والرحى... فهل يقتصر الفقهاء على هذه الأمثلة، بدعوى أنّها موارد خاصة ولا يمكن التعدي إلى غيرها إلا بدليل خاص؟!

وفي موضوع الإجارة أيضاً، يلتزم الفقهاء بثبوت حقِّ المشتري الجاهل بالفسخ أو الإمضاء، في حال ما إذا كان قد أقدم على إجارة العين دون أن يعلم أنّ العين مسلوبة المنفعة، دون أن يثبت له التعويض، وذلك بدعوى أنّ التعويض كحكم شرعي ثبت بدليل شرعي، وبالتحديد في العيوب الحقيقية، وكون العين مسلوبة المنفعة لا يبرر التعويض، لأنّه عيبٌ غير حقيقي.

وقد لاحظ السيد على هذا الموقف أنّه يميل إلى التجزئة، وأنّ دعوى الفقهاء ثبوت التعويض في العيوب الحقيقية بدليل خاص محلّ تأمل، إذ إنّ الروايات الواردة، وإن اختصّت بالعيوب الحقيقية دون الحكمية، فلأنّها مورد أسئلة المستفتين، ولذلك تقتضي مناسبات الحكم والموضوع التعدي منها إلى العيوب الحكمية، لأنّ الارتكاز العقلائي لا يجد فرقاً بينهما.

وفي غمرة غلبة النظرة الفردية للفقه والشريعة، شاع الموقف الاحتياطي على نحوٍ أصبح الفقيه أقرب إلى الإفتاء بالاحتياط منه إلى الموقف الحقيقي، دونما التفاتٍ إلى الآثار السلبية التي يتركها هذا الموقف على المستوى الفردي، عبر خلق أحكامٍ شرعية لا واقع لها، سينظر إليها الفرد على أنّها أحكام الله، وعلى المستوى الاجتماعي الإنساني، وهي، أي الأحكام، قد تتصل بالناس على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، فيتحمل الإسلام عبء هذه الآثار، دون أن يلتفت الفقيه إلى هذا المردود السلبي الذي أفرزه منهجه الفقهي الفردي. ولعلّ في مقدَّم هذه الأحكام، ما يتصّل بالطهارة والنجاسة، وبالتحديد، في مسألة التعاطي مع غير المسلمين.


ثانياً: الشخصية الفقهية - علامات فارقة

تميَّزت شخصيّة السيّد بعلامات فارقة رئيسة، يمكن الإشارة إليها في هذه الدراسة، كونها تمثّل المدخل الأساس للتعرّف على ملامح المنهج الفقهي عند سماحته، والوقوف على تأثير هذه الخصائص في تفكيره الفقهي، وآليات عمله المعرفي في حقل الاجتهاد والاستنباط.

ولعلّ أهمّ العلامات الفارقة التي يلمسها الباحث - ودونما عناء أحياناً كثيرة - في شخصيّة السيّد الفقهية، علامات ثلاث، قلّما يجدها الباحث في شخصيات فقهية أخرى تعيش في محيطه الاجتماعي، أو في المقطع الزمني الذي يعيش فيه، وهي كونه الشخصية الناقدة، والجريئة، والمعاصرة، وهو ما يشكّل موضوعاً لدراستنا هذه.

1- شخصية ناقدة:

تتميّز شخصية السيّد الفقهية - كما هي في نواحٍ أخرى - بأنّها شخصية ناقدة، وذلك لأنّه دائم التفكّر في موضوعات بحثه، ولا يكفّ عن التأمل فيها، وإنْ كانت مسائل ربما يعتقد البعض أنّها من المتسالم عليها، ولا تثير تساؤلات أو تجتذب شيئاً من الإشكاليات، فهي - أي هذه المسائل - عند السيد محلٌّ للتأمل والتفكير والفحص والنقد، سواءٌ على مستوى مقدّماتها، أو على مستوى مضامينها.

وهو في هذا الميدان، يمتلك قدرةً هائلةً على التشكيك الإيجابي، دون أن يذعن أو يستسلـــــم

لضغوط ما هو شائع أو سائد أو مهيمن.

وهو - أي السيِّد - ناقدٌ على مستوى المنهج، أو على مستوى التفاصيل وتطبيقات هذا المنهج، إذ لم يُخفِ السيّد امتعاضه الشديد من شيوع مناهج أو تطبيقات مناهج رأى أنّها أثقلت الفقه تارةً، وقزَّمته تارةً أخرى.

على مستوى المنهج، يمكن أن نشير إلى عدّة ملاحظات نقدية للسيد سجّلها بوضوح وقوة على ما هو سائد، ربما، في الأوساط الفقهية، ومن ذلك، موقفه من تأثيرات المدرسة الفلسفية في الفقه وفي دراسة الفقه وعمل الفقيه، إذ لم يرَ السيد مصلحةً في تسرّب الفلسفة إلى عملية الاستنباط عموماً، وإلى الفكر الأصولي - نسبةً إلى أصول الفقه - بل رأى أنّ هذا التسرّب عكّر الذوق الفقهي للكثيرين من الفقهاء، مع أنَّ السيد نفسه لا يرى بأساً في التعمّق في فهم النص والدقة في استيحائه، إلاّ أنّه لا يجد مكاناً مكيناً للفلسفة في ميدان الفقه وساحته. (المنهج الاستدلالي عند السيّد فضل الله، محاضرة ألقاها السيد في «المعهد الشرعي الإسلامي» في بيروت بئر حسن بتاريخ: 8/11/1995، نشرت في مجلة المرشد، العددان الثالث والرابع، 1995/ 1996، ص265).

وما يعنيه بالتأثير الفلسفي، استحواذ المفردات والمقولات الفلسفية على أدوات الاستنباط وعملياته، دون أن يكون ذلك مانعاً من تحليل النص وقراءته، بطريقةٍ تستند إلى مقولات معيارية وقواعد شبه ثابتة.

فإذا كان السيّد ينأى بنفسه عن تأثير المنهج الفلسفي في الفقه، فإنَّ ذلك لا يعني أن يرى الفقه مجرّد أحكام وفتاوى، فإنَّ صناعة الفقه تقوم على رؤيةٍ يستند إلى قواعد وأصول، وهو ما يعني بالضرورة أن تكون للسيد صناعته الفقهية الخاصة، وفلسفته التي يستند إليها في التفكير الفقهي.

ولأنَّ للسيد رؤيته وفلسفته في هذا المجال، فإنّه يختلف مع الفقهاء، وفي كثيرٍ من الأحيان، في تكييف بعض الأحكام الفقهية، ومن ذلك - مثلاً - موقفه من مسألة وجوب قصد العنوان الذي يؤخذ موضوعاً للحكم، كما في صوم رمضان وصوم القضاء وصوم الكفَّارة والنذر، إذ لا بدَّ للمكلّف - من وجهة نظر الفقهاء - من أن يقصد ما يأتي به من هذه العناوين، ليكون ما يأتي به مصداقاً لما تعلّق به الواجب. ولذلك، وجب على من أفطر في شهر رمضان عمداً، أن يقصد صوم الكفَّارة في حال صيامه، تكفيراً عن تعمّده الإفطار، وذلك تمييزاً بينه وبين الصوم المستحبّ، وهو ما ينطبق على غيره من أفراد الصوم الأخرى.

وفي هذه المسألة، يرى الفقهاء أنّ وجوب قصد العنوان لازم لجهة اختلاف الحقائق، وذلك لأنَّ صوم الكفَّارة وصوم القضاء ليسا واحداً، بل هناك طبيعتان، ولذلك اختلفت حقائقهما، حيث تكون لصوم الكفَّارة حقيقة غير حقيقة صوم القضاء، ويدلُّ على ذلك - من وجهة نظرهم - اختلاف الأحكام والآثار لكلٍّ من الصومين، وهو يكشف عن أن الحقائق مختلفة، إذ لولا اختلاف الأحكام والآثار، لما كان ثمّة اختلاف في الحقائق.

وأما السيد، فإنّه يُكيّف المسألة بوجه آخر، ذلك لأنّه لا يتعقّل أن يكون لصوم رمضان ولصوم الكفَّارة وللقضاء حقائق مختلفة، فإنّ الصوم هو الإمساك وكفّ النفس عن المفطّرات المخصوصة. ولذلك، لا يرى العرف فرقاً بين الإمساك بهذا العنوان، أو الإمساك بعنوانٍ آخر، لأنّ الطبيعة واحدة، والحقيقة واحدة كذلك.

لكن مع ذلك، فإنَّ للسيِّد تكييفه الخاص للمسألة، وذلك تفسيراً لضرورة قصد العنوان الخاص في الصوم ووجوبه، وذلك تمييزاً لصوم الكفَّارة عن صوم القضاء وغير ذلك، إذ يرى السيد أنَّ للصوم أسبابه، ولكلّ فردٍ من هذه الأفراد سبب، وهو ما يعني ضرورة قصد العنوان الخاص به، ففي رمضان، يقصد الصائم الصوم في الزمان الخاص به، وهو صوم شهر رمضان، وإذا كان ترك الصوم في ظرفه - كما لو أفطر في شهر رمضان - فإنّ ذلك سبب من أسباب وجوب القضاء، والأمر ذاته في صوم الكفَّارة، لأنّ تعمّد الإفطار في شهر رمضان، سببٌ للصّوم كفّارةً للتعمد. وعليه، فإنّ حقيقة الصوم واحدة، غير أنّ هذه العناوين المتعدّدة، تنتزع من الأسباب التي تعلِّق الأمر بالصوم بلحاظها، ولا دخل لذلك باختلاف الطبائع والحقائق، كما يقول بعض الفقهاء، وليس ثمة - عندئذٍ - حقائق متعدّدة للصوم، بقدر ما هناك حقيقة واحدة، وأفراد لهذا الصوم، وذلك بلحاظ القيود والخصوصيات التي أخذت في جعل الحكم الشرعي، الذي أوجب تعدّد هذه الأحكام وتعدّد هذه الأفراد (بحوث فقهية، كتاب الصوم، بحوث غير منشورة، بقلم محمد الحسيني).

وهذا البحث جارٍ في مسألة الغسل الواجب، وأنّه هل هو حقيقة واحدة، أم حقائق متعددة، وكذلك في مسألة الوضوء.

وفي سياق الحديث عن ملاحظاته النقدية على المنهج السائد لدى الفقهاء، نذكِّر بموقفه من النظرة السائدة لدى الفقهاء إلى النصوص المتعارضة بدواً، ومحاولة إضفائهم علاقة التقييد أو التخصيص عليها في الأعمّ الأغلب، إذ إنّه في الوقت الذي يصحّح مثل هذه العلاقة، إلاّ أنّه يتحفّظ عن المبالغة في تطبيق هذه القاعدة، والتعاطي مع الروايات بهذه الروح على نحو التعميم، في وقتٍ قد لا تكون هذه العلاقة بين عددٍ من النصوص المتعارضة صحيحةً. ومن ذلك، موقف المشهور من مسألة جواز أو عدم جواز زواج أبي المرتضع من أولاد صاحب اللبن ولادةً ورضاعاً، حيث ورد ذلك في رواياتٍ عن الأئمة المتأخّرين، حيث وردت روايات تنهى عنه عن الإمام الرضا والإمام الجواد والإمام العسكري(ع)، وهي روايات متأخّرة عن حكم عام بالحليّة؛ فكيف يمكن تخصيص الحكم العام برواياتٍ صدرت عن الأئمة المتأخّرين في مسألةٍ هي من أكثر المسائل ابتلاءً، إذ يرى السيّد، أن تخصيصاً أو تقيـيداً من هذا القبيل، مما لا يتقبّله العرف، ولا ينسجم مع طريقة العقلاء، فكيف يمكن تعميم هذه العلاقة بين الروايات المتعارضة على هذا النحو؟!

وعلى أيّة حال، فقد لاحظ السيد على مشهور الفقهاء، أنّهم درجوا على الالتزام بالتقييد أو التخصيص في كل موردٍ كان فيه تعارض بين دليلين، أحدهما أخصّ من الآخر، بدعوى أنّ ذلك هو ما يقتضيه التفاهم العرفي في هذا المجال.

وهو - أي السيّد - مع تسليمه بالقاعدة، إلاّ أنّه يشكّك في تطبيقات هذه القاعدة، حيث جرى الفقهاء على تطبيقها في موارد لا يلتزم المتفاهم العرفي بذلك.

ويجد المتابع والباحث عدداً من الاعتراضات المهمَّة، وقد سجّلها السيد على ما درج عليه مشهور الفقهاء أو معظمهم، أُشير إلى واحدةٍ من هذه الموارد، حيث روي في مسألة جواز تأخير إحرام الحاج من ميقات الشجرة إلى ميقات الجحفة، روايات مطلقة، كما في رواية أبي بصير: «قال: قلت لأبي عبد الله(ع): خصالٌ عابها عليك أهل مكة، قال: وما هي؟ قلت: قالوا: أحرم من الجحفة ورسول الله(ص) أحرم من الشجرة، قال: الجحفة أحد الوقتين، فأخذت بأدناهما، وكنت عليلاً» (الوسائل، باب 6 من أبواب المواقيت، حديث رقم 4)، وروايات خصَّت ذلك بالمرض والضعف، كما في رواية أبي بكر الحضرمي، «قال: قال أبو عبد الله(ع): إني خرجت بأهلي ماشياً، فلم أهلّ حتى أتيت الجحفة، وقد كنت شاكياً، فجعل أهل المدينة يسألون عنّي، فيقولون: لقيناه وعليه ثيابه، وهم لا يعلمون، وقد رخّص رسول الله(ص) لمن كان مريضاً أو ضعيفاً أن يحرم من الجحفة». (الوسائل، باب6 من أبواب المواقيت، حديث رقم 5)، فقد تمسك المشهور بهذه الرواية، لاختصاص جواز التأخير في الإحرام إلى الحجفة بحال المرض والضعف، وبذلك تم الجمع ـ عرفاً ـ بين الروايات المطلقة والمعارضة لها، وذلك بتقييد المطلقات بما دلّ على اختصاص الإحرام من الجحفة بالمرض أو الضعف.

غير أنَّ للسيد رأياً آخر، وفقاً لرؤيته في الجمع العرفي في مثل هذه المسائل، وتحديداً في هذه المسألة، حيث يأبى العرف - من وجهة نظر السيّد - أن يُقيِّد رواية أبي بصير برواية الحضرمي، لأنّ قوله(ع) في رواية أبي بصير: «الجحفة أحد الوقتين»، يأبى عن التخصيص عرفاً، إذ إنَّ الإمام(ع) في جوابه، ذكر أمرين اثنين؛ الأول: «أنّ الجحفة أحد الوقتين»، وهو يختلف عمّا لو قال: «الجحفة ميقات أيضاً». إذ إنَّ الإمام(ع) يفيد في كلامه، أنّ لأهل المدينة ابتداءً وقتين. والثاني: أنّه برَّر تأخيره إحرامه إلى الميقات الأدنى، وهو الجحفة، وعدم تأسّيه بالنبي(ص)، بأنّه كان عليلاً، فلم يرد أن يشقَّ على نفسه، وإلاّ لتأسّى بجدّه النبيّ(ص)، لأنّه أحقّ من أن يتأسّى به. (فقه الحج، تقريراً لأبحاث السيد فضل الله، بقلم الشيخ جهاد عبد الهادي فرحات،ج2، ص 147 ـ 148).

ومهما يكن من أمر، فإنَّ اعتراض السيد على مشهور الفقهاء في مقام التقييد والتخصيص للمطلقات والعموم، ليس لجهة اعتراضه على قاعدة تخصيص العام أو تقييد المطلق، في حالات تعارض الخاص والعام والمطلق والمقيَّد، بل لجهة أنّ ما جرى عليه الفقهاء في تطبيق هذه القاعدة، مما يأباه العرف في أحيانٍ كثيرة.

وفي سياق تحفظ السيّد عمّا دأب عليه الفقهاء في مجال تعارض الروايات، نشير إلى موردٍ آخر.

فمن الموارد التي وقع الخلاف فيها، مسألة أثر إحياء الأراضي في الملكية أو الأحقية، إذ وردت الروايات في هذه المسألة، على طائفتين:

الأولى: ما دلَّ صريحاً على بقاء ملكيتها للإمام، وليس للمحيي إلا الحقّ بالانتفاع بها، ودفع الأجرة للإمام. وذلك كما في رواية عمر بن يزيد: «قال: سمعت رجلاً من أهل الجبل يسأل أبا عبد الله(ع) عن رجل أخذ أرضاً مواتاً تركها أهلها، فعمّرها وكرى (وأكرى) أنهارها، وبنى فيها بيوتاً، وغرس فيها نخلاً وشجراً؟ قال: فقال أبو  عبد الله(ع): كان أمير المؤمنين(ع) يقول: من أحيا أرضاً من المؤمنين فهي له، وعليه طسقها يؤدّيه إلى الإمام في حال الهدنة، فإذا ظهر القائم، فليوطّن نفسه على أن تؤخذ منه». (الوسائل، كتاب الخمس، باب «4» من أبواب الأنفال، حديث رقم «13»).

والثانية: ما دلّ من الروايات على تملّك المحيي للأرض التي أحياها، وهذه الروايات على دلالتين:

الأولى: كما في رواية محمّد بن مسلم: «وأيمّا قومٍ أحيوا شيئاً من الأرض أو عمروه، فهم

أحقُّ بها وهي لهم» (الوسائل، باب 1 من أبواب إحياء الموات، حديث رقم 1، 3، 4).

والثانية: كما في رواية عبد الله سنان عن الصادق(ع): «قال: سُئِلَ وأنا حاضر عن رجل أحيا أرضاً مواتاً، فكرى فيها نهراً، وبنى فيها بيوتاً، وغرس نخلاً وشجراً، فقال: هي له وله أجر بيوتها، وعليه فيها العشر» (الوسائل، كتاب إحياء الأموات، باب 1 حديث رقم 8). وهي صريحة في نفي الخراج وثبوت الزكاة (العشر) فيها، على نحوٍ لا حقَّ للإمام فيها بعد افتراض انتقال ملكيتها إليه بالإحياء.

وقد وقع الخلاف بين الفقهاء في مسألة حلّ التعارض بين هاتين الطائفتين من الروايات، بعد افتراض عدم سقوط الطائفة الأولى الدالة على بقاء ملكية الأرض المحياة للإمام، وكان من بين هذه التكييفات، ما ذكره الشهيد محمّد باقر الصدر، بناءً على ما قرَّره نظرياً في علم الأصول، من قيام النص والأظهر في التصرّف في الظاهر. وعليه، فلا يكون الظاهر معارضاً للصريح ولا الأظهر، فلا يقع طرفاً للمعارضة أصلاً، ولذلك قرّر، ووفقاً لهذا الوجه، سقوط الطائفة الدّالة بالصراحة على بقاء ملكيّة الإمام، مع الطائفة الدالة على ارتفاع ملكيّة الإمام وتملك المحيي، وذلك للتعارض، وتنتهي النوبة إلى الروايات الدّالة بظاهرها على ارتفاع ملكية المحيي وتملّكه.. وذلك للإطلاق وعدم معارضتها لأية طائفة من الطوائف المتقدمة.

وتنحصر المعارضة - في المقام - بين الروايات الدّالة صراحةً على بقاء ملكية الإمام، والروايات الدالَّة صراحةً على ارتفاعها، فتكون الروايات الدّالة بالظهور الإطلاقي على ارتفاع ملكية الإمام، بمثابة العام الفوقاني الذي يرجع إليه عند التعارض.

ولكن هذا الوجه، وإن كان صحيحاً من وجهة نظر الشهيد الصدر، إلاّ أنّه  لا يلتزم به، لوجود المرجِّح بين الطائفتين المتعارضتين، فلا يصار إلى التساقط. (اقتصادنا، ص702 وما بعدها، «وإحياء الموات»  تقريراً لأبحاث الشهيد محمّد باقر الصدر، بقلم إبراهيم الأنصاري، ص38، وما بعدها).

ولكن، وبغضِّ النظر عن النتيجة التي اختارها الشهيد محمّد باقر الصدر، فقد ناقش السيّد في النظرية الأصولية وتطبيقاتها، وذلك لجهة أنّ عالم التعارض هو عالم عرفي عقلائي، ولا نجد العقلاء يفرِّقون بين حالات التعارض فيما إذا كان الكلام صريحاً في نفي شيء، وكان ثمّة كلام آخر صريح في إثبات هذا الشيء، وكان كلام آخر ظاهراً في نفي ذاك الشيء، فإنّهم يحكمون بوقوع التعارض بين هذه المداليل بدرجة واحدة، ولا يصار ـ عندهم - إلى إثبات التعارض بين الصريح في النفي، والصريح في الإثبات، وأيلولتهما إلى السقوط، وبقاء الظاهر بعد ذلك.

وما يذكره الشهيد الصدر في تبرير القاعدة - أصولياً - لجهة أنّ العام لا يقع طرفاً في المعارضة بعد تساقط الخاصّين، وكذلك في المقام، فإنّ ذلك صحيح إذا كان العام في مقابل الخاص، والأظهر في مقابل الظاهر، لأنّهما يتصرفان في الخاص والظاهر، أي تصحُّ القاعدة في حال الانفراد، ولا تصحّ في أمثال المقام. (كتاب إحياء الموات، بحوث غير منشورة، بقلم محمّد الحسيني).

وفي سياق الحديث عن ملاحظات السيّد النقدية على المستوى المنهجي، نشير إلى ما أسماه السيّد بمتاهات الاحتمالات التي تشيع في البحث الفقهي / الأصولي دون أن يبلغ شيئاً حاسماً في الموضوع.

وفي ضوء هذه الملاحظة، لاحظ السيد على مشهور الفقهاء، المبالغة في احتمال الخصوصيات لعددٍ كبير من الأحكام، وعدم تعميمها إلى موارد أخرى، خشية الوقوع في محذور القياس والاستحسان. (الاجتهاد وإمكانيات التجديد في منهج التفكير، مقابلة مع السيّد فضل الله، مجلّة المنطلق العدد /111/ لسنة 1995، ص76 وما بعدها). ولذلك، استغرب السيّد من الفقهاء القول بوجوب التعدّد في غسل موضع البول ولو بالماء الكثير، على نحوٍ يكفي غسل الموضع منه بقطرتين، ولا يكفي بإبريق مرة واحدة، وذلك بدعوى احتمال الخصوصية. (م.ن، ص68).

وقد اعتبر السيد أنّ المبالغة في دعوى وجود أسرار في التشريع، قد تضرّ بالعملية الاجتهــاديـة

وتقزّم الشريعة، وإلاّ فكيف أمكن التعميم ببركة ما يعرف بمناسبات الحكم والموضوع؟!

مع التذكير بأنَّ السيِّد لا ينفي أن تكون ثمّة أسرار تشريعية، وخصوصاً في مجال العبادات المحضة، ولكنّه يرفض تعميم هذه الرؤية على المساحة الفقهية كلّها (الاجتهاد وإمكانيات التجديد في منهج التفكير، مقابلة مع السيد محمّد حسين فضل الله، مجلة المنطلق، العدد 111، ص69). ومن هذا المنطلق، دعا إلى التفكير في مسألة اهتمام الشارع (الشريعة) بالمعاملات وسعة هذا التشريع، حيث احتمل أن يكون الشّارع قد ترك للنّاس حرية التعامل واختراع المعاملات وفقاً لطريقة العقلاء، مع تحديد الخطوط العامة لحركة هذه المعاملات، من دون الدخول في التفاصيل، كما هو الشأن العبادي والأخلاقي والتنظيمي العام. (م.ن، ص 69).

وإذا كان السيّد قد سجّل ملاحظاته النقدية المنهجية، وقد أشرت إلى عيّنات منها، من دون توسعٍ لضرورات بحثيّة، فإنّه سجّل ملاحظاته النقدية على ما يمكن أن نسميّه بالتطبيقات الفقهية، وذلك عبر الممارسة اليومية للفقهاء، من خلال قراءة النصوص الشرعية ومراجعة الأدلّة، وتحديد الوظائف الشرعية، وهي مهمات جديرة بالتأمل، وتستأهل الفحص والدراسة، وهو ما يبدو للفقيه، أيّ فقيه، ما يجعل كلّ مورد من هذه الموارد محلاً للخلاف والاختلاف.

وفي هذا السياق، سجّل السيّد ملاحظاته النقدية، وفي مواضع عديدة من أبواب الفقه، ونشير هنا إلى عددٍ من التطبيقات:

1- فقد سجّل السيد ملاحظةً أساسيةً على طريقة الفقهاء في توجيه الروايات، والتي تكاد لا تخلو من غرابة، لأنّه بعد عدم تماميّة ما يمنع من التمسك بمضمونها، يتمّ ارتكاب التوجيه بمحامل بعيدة عن طبيعة مضمون الرواية وموردها، مع أنّ مقتضى القواعد هو إمّا الأخذ بالرواية أو طرحها. وهو يرى أنّ هذه الطريقة تربك الفكر الاجتهادي، وقد تجعل فهم النص غير منسجم مع قواعد الفهم العرفي، بل قد يصطدم أحياناً ببديهيات اللغة وأسس التخاطب. (حكم اللاّصق في الوضوء والغسل، تقرير بحث العلامة المرجع السيد محمّد حسين فضل الله، دار الملاك، ط1، 1430هـ/2009، ص33).

ولذلك، ردَّ تأويل صحيحة محمّد بن مسلم عن الصادق(ع): «في الرجل يحلق رأسه ثم يطليه بالحنّاء ثم يتوضَّأ للصلاة، قال: لا بأس أن يمسح رأسه والحنّاء عليه» (الوسائل، كتاب الطهارة، باب 37 من أبواب الوضوء، حديث 4). وصحيحة عمر بن يزيد، قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن الرجل يخضب رأسه بالحناء، ثم يبدو له في الوضوء، قال: يمسح فوق الحنّاء» (الوسائل كتاب الطهارة، باب 37 من أبواب الوضوء، حديث رقم 3). وأنكر على مؤلّف (الوسائل) الحر العاملي تفسيره، وذلك بحمل رواية ابن مسلم على إرادة لون الحنّاء، أو إمكانية حملها على حصول الضرر بكشفه، وهو حملٌ يرى السيد أنّه غير مبرّر، حيث من الواضح - في الرواية - أنّ الحنّاء يمثِّل جرماً يمنع من وصول الماء إلى البشرة، والصحيحتان حكمتا بجواز المسح عليه، ولا سيّما صحيحة عمر بن يزيد، فإنّ الفوقيّة واضحة في إرادة السماكة المانعة من مماسة الماء للشعر أو البشرة. ولا قرينة تدل على وجود ضررٍ في المقام (حكم الحاجب اللاصق في الوضوء والغسل، ص35).

2- ولذلك، يرفض السيد محاولات التكييف الفقهي الاعتباطية - إنْ صحّ التعبير - التي يلجأ إليها بعض الفقهاء لإثبات حكم شرعي وتأكيده من وجهة نظرهم.

ففي مسألة مفطرية الغبار  - مثلاً - استدلَّ بعض الفقهاء بما رواه سليمان بن جعفر المروزي، «قال: سمعته يقول: إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان، أو استنشق متعمّداً، أو شمَّ رائحةً غليظةً، أو كنس بيتاً فدخل في أنفه وحلقه غبار، فعليه صوم شهرين متتابعين، فإنَّ ذلك له مفطر مثل الأكل والشرب والنكاح» (الوسائل، كتاب الصوم، باب 22 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، حديث رقم 1).

وقد رجَّح السيد الخوئي أن يكون الراوي سليمان بن جعفر المروزي هو سليمان بن حفص، لأنّه لا وجود لسليمان بن جعفر بتاتاً، ويحتمل ورود جعفر للتصحيف الذي يقع كثيراً في الكتابة، مع أن الراوي عن ابن حفص هو محمّد بن عيسى بن عبيد في هذه الرواية، وهو يروي عن ابن حفص كثيراً، وهو موثوق لجهة وروده في توثيقات (كامل الزيارات). وأما من جهة الدلالة، فقد اعتبر السيد الخوئي: «أنّ اشتمال الرواية على بعض ما يثبت فيه إرادة الاستحباب لقرينة قطعية خارجية، لا يستوجب رفع اليد عن ظهور غيره في الوجوب، فالأمر بالكفَّارة في هذه الرواية، محمول على الاستحباب، فيما عدا الغبار من المضمضة ونحوها، للعلم الخارجي بعدم البطلان كما ذكر، أما فيه، فيحمل على ظاهره من الوجوب الكاشف عن البطلان، ولا مانع من التفكيك في رواية واحدة بعد قيام القرينة». (مستند العروة الوثقى، تقريرات بحث الخوئي، كتاب الصوم، ج1، ص147).

ولكنَّ للسيد رأياً آخر، إذ يرى أنَّ مثل هذا التفكيك غير مقبول، لرفع اليد عن ظهور فقرة، والاحتفاظ بظهور فقرة أخرى من الرواية الواحدة، وذلك لأنّ ظاهر الرواية يأبى ذلك، فإنّ قول الإمام(ع): (فإنّ ذلك مفطر)، لا يمكن أن يراد منه الاستحباب تارةً والوجوب تارةً أخرى، وهو تعليل شامل لما تقدَّم كله، فكيف يحمل على هذا الوجه مرّةً وعلى ذاك الوجه مرّةً أخرى، وذلك مما لا يمكن، لأنّه من استعمال اللفظ في أكثر من معنى. وعليه، فإنّه لا بدَّ من حمله على الإفطار المعنوي في الفقرات كلّها، ولا يمكن - عندئذٍ - التفكيك بين هذه الفقرة وتلك، وإعطاء كلّ واحدة منها حكماً مختلفاً عن الحكم للأخرى. (كتاب الصوم، بحوث غير منشورة، بقلم محمّد الحسيني).

3- وقد ذكر بعض الفقهاء، أن لا دلالة من النصوص على وجوب رمي الجمار في منى، إذ إنّ عمدة ما سيق على إثبات الوجوب، هو ما ورد في المرأة أو الخائف الذي يفيض قبل الفجر من الأمر بالرمي الظاهر في الوجوب، كرواية سعيد الأعرج، قال: «قلت لأبي عبد الله(ع): جعلت فداك، معنا نساء، قال: أفضْ بهنَّ بليل، ولا تفض بهنَّ حتى تقف بهنَّ بجمع، ثمّ أفض بهنَّ حتى تأتي الجمرة العظمى فيرمين الجمرة». (الوسائل، كتاب الحجّ، باب 1 من أبواب رمي جمرة العقبة، حديث 1).

ورأى - هذا البعض - أنّ هذه النصوص - كما لا يخفى على حدّ تعبيره - لا تدلُّ على الوجوب، إذ الأمر بها إرشادي إلى ما هو المشروع، وجواز إتيانه بالليل، فهو أمر في مقام بيان الجواز، لأنّه في مورد توهّم الحظر، لاحتمال عدم مشروعية الرمي إلا ّفي يوم النحر. ولذلك ناقش في مجمل الروايات الواردة في باب رمي الجمرات، وكذلك نفى الاستدلال بالتأسي، وذلك لأنّ الاستدلال بالتأسي على الوجوب، فيه ما لا يخفى - على حدِّ تعبيره - لأنَّ التأسّي لا يدلُّ على أكثر من الرجحان. ولذلك يرى أن لا دلالة لما ذكر - من أدلة - على وجوب رمي الجمرات، وقوّى أن يكون ذلك ندبياً، للروايات الدالَّة على الثواب، ولعدم وقوع السؤال عن حكمٍ تركه بالمرَّة عمداً أو نسياناً، ما يقرِّب أنّه غير لازم، وإلاّ لسُئِل عن حكم تركه، ولعدم كون تركه مما يترتب عليه شيء من كفارة أو غيرها. (المرتقى إلى الفقه الأرقى، كتاب الحجّ، تقريراً لأبحاث السيّد محمّد الروحاني، بقلم السيّد عبد الصاحب الحكيم، ج2، ص 325 - 326).

ويبدو من السيد تحفظه عن هذه الطريقة في الاستدلال، لأنّ تسالم المسلمين على رمي الجمرات، ومنذ عهد رسول الله(ص) وعهد الأئمة(ع)، وعلى اختلاف مذاهب المسلمين، ومن دون أن يُثار تحفظ تجاه هذا المنسك، يدلُّ على أنّه قد تم تلّقي المسلمين له كفعلٍ يجب الإتيان به، وعندئذٍ، لا يُصار إلى مناقشة حرفية للنصوص في هذا المجال. (فقه الحج، بحوث غير منشورة، بقلم محمد الحسيني).

4 - ونظراً إلى منهج السيد في النأي بنفسه عن القراءة الحرفية للنصوص الشرعية، فقد خرج عن القراءة السائدة والمشهورة لنصوص الردة، وتحديداً في ما يتعلق بتحديد المرتدِّ الفطري، حيث فسَّر مشهور الفقهاء، أنّ المرتدّ الفطري هو من تولّد من أبوين مسلمين. إلاّ أنَّ للسيد تفسيراً آخر، حيث يرى أنّ الرواية: «كلّ مسلم بين مسلمين ارتدَّ عن الإسلام وجحد محمّداً نبوّته وكذّبه، فإنَّ دمه مباح لمن سمع ذلك منه»، لا تعني مجرّد الانتساب إلى أبوين مسلمين. وعليه، فإنَّ ما يستفاد من الخبر (الرواية)، وخصوصاً من لفظ (بين مسلمين)، عدم كفاية التولّد بين مسلمين في صدق عنوان المرتد الفطري، بل لا بدَّ معه من أن ينشأ الشخص في كنفهما، ويتربّى منذ طفولته في مجتمع مسلم، ويمارس حياته ضمنه منسجماً معه في عاداته وتقاليده. (فقه المواريث والفرائض، تقريراً لأبحاث السيد فضل الله، بقلم خنجر حميّة، ج1، ص 270 وما بعدها). وبذلك، يتجاوز السيد معطيات القراءة الحرفية لهذا الدليل، وإنّ كنت أعتقد أن القراءة الحرفية للنص المشار إليه يفترض أن لا تبتعد عن تفسير السيد، لأنّ التعبير بـ (بين مسلمين) يدلُّ على النشأة والعيش في ظلِّ أبوين مسلمين، وفي بيئة مسلمة يتغذَّى فيها الوليد من المجتمع المسلم مفاهيمه وقيمه وأخلاقه، ويتشرّب بها، ولا يكفي الانتساب إلى هذين الأبوين، لأنّ تعبير (بين مسلمين)، يدلُّ على ذلك من حيث التركيب وصياغة الجملة كلّها.

ولكن، قد يكون السيد حرفياً - إذا جاز التعبير - إذا اقتضى الأمر التوقف عند القيود اللفظية والحالية للنصّ، وهو ما قد يلاحظه الباحث عند السيد في موقفه تجاه رواياتٍ بالإحرام من مكانٍ ما، ولو قبل الميقات بالنذر، ذلك أنّ هذه الروايات جُعلت دليلاً من قبل بعض الفقهاء أو مشهورهم - ربما - على جواز النذر من غير الميقات، وتمَّ التخلُّص بهذه الروايات من إشكالية عدم الإحرام من الميقات المحدّد في روايات المواقيت، ولذلك جاز للحاج _من وجهة نظرهم _ أن ينذر الإحرام من مطار جدّة – مثلاً- أو الطائرة، وعدم الرجوع إلى الميقات مثل الجحفة، مع أنّ جدّة تقع دون الميقات إلى مكة.

وقد تحفّظ السيد عن هذا الموقف الفقهي، بلحاظ أنّ واقع حال الحاج زمن صدور الروايات، يختلف عن واقع حال الحاج اليوم، وذلك أنّ ما ورد في رواية الحلبي: «قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن رجل جعل لله عليه شكراً أنّ يحرم من الكوفة، قال: فليحرم من الكوفة، وليفِ لله بما قال» (الوسائل، كتاب الحج، باب 13 من أبواب المواقيت، حديث رقم 1). وفي رواية أبي بصير: «عن أبي عبد الله(ع) قال: سمعته يقول: لو أنَّ عبداً أنعم الله عليه نعمةً أو ابتلاه ببليَّة، فعافاه من تلك البليَّة، فجعل على نفسه أن يحرم بخراسان، كان عليه أن يتمّ» (م.ن، حديث رقم 3). وفي رواية علي بن أبي حمزة، ((قال: كتبت إلى أبي عبد الله(ع) أسأله عن رجلٍ جعل لله عليه أن يحرم من الكوفة؟ قال: يحرم من الكوفة)). (م.ن، حديث رقم2)، يدلُّ على أنَّ النذر في هذه كان من باب إلزام الحاج نفسه بأزيد مما يلزمه به التكليف الأوَّلي، وذلك شكراً لله على ارتفاع بليّةٍ أصابت هذا الإنسان، ولا تشمل حالة النذر بداعي التخفّف وإراحة النفس، وعدم الرجوع إلى ميقات الجحفة فيما لو نزل بمطار جدّة، ولذلك تحفّظ السيد عن هذا النذر، وتوقّف في القول بصحته. ولذلك، فلو كان السيّد لم يصحِّح الإحرام من جدّة - لمن نزل مطارها، كما هو رأيه، وذلك لجهة أنّ الإحرام من المواقيت المحدَّدة مختصة بمن مرّ عليها -، فإنّه يلزم الحاج من وجهة نظر السيّد - بعد افتراض عدم صحة النذر بالإحرام من جدةـ الرجوع إلى الجحفة والإحرام منها (فقه الحج، تقريراً لأبحاث السيد حسن فضل الله، بقلم الشيخ جهاد فرحات، ج2، ص172 وما بعدها).

2ـ شخصية جريئة:

تميَّز السيد على المستوى الفقهي - كما على المستويات الأخرى - بجرأة علمية فريدة، دفعت به إلى خوض غمار البحث في مسائل يتجنَّب أمثاله من الفقهاء - عادةً - البحث فيها، مع أنَّ عدداً منهم لا يخفي رغبته في نقد ما أصبح من المسلَّمات أو الضرورات.

ولم يجد السيّد بأساً في إثارة ما اعتبرت إثارته مدخلاً للخصومة والاحتراب، طالما وجد في التفكير في هذه المسائل شأناً علمياً، وهو حق الفقيه والمفكِّر، إذ لا يمكن تصور أن يذعن الفقيه أو المفكِّر لرغبات العامة وسيادة ما هو شائع ومشهور.

ومن هذا المنطلق، عالج السيّد مسائل فقهيةً ذات علاقة بالمرأة وحقوقها وشؤونها، وأخرى تتعلق بالطهارات والعبادات، وثالثة تتصل بالتجارات، ورابعة ما كان فيها من شؤون تنظيم المجتمع عموماً والشّأن العام، لأنّه افترض أن يكون الفقيه معنياً بهذه المسائل، وليس من حقّه التخلّي عن وظائفه لمجرّد الخوف من سلطة العامة، وغضب الحرس القديم، إنْ صحّ مثل هذا التعبير.

ولعلّ من المستحسن أن نشير إلى عددٍ من هذه المسائل:

* ناقش السيد - بجرأة - اشتراط الإيمان - بالمعنى الأخص - في القاضي. وهو شرط ادّعى البعض دلالة الإجماع عليه، واعتبره آخرون من ضرورات المذهب، واستظهر السيّد من الروايات التي استدلَّ بها على الشرط المذكور، أن ليس ثمّة دليل على اعتبار شرط الإيمان في القاضي، لأنّ هذه الروايات إمّا أنّها ناظرة إلى القاضي الذي يتخذ تجاه أهل البيت(ع) موقفاً عدائياً سلبياً، فيتنكَّر لدورهم، ولا يعتمد على ما يتبنّونه من أسس القضاء وقواعده، بل يعتمد في قضائه وحكمه على جملة مدارك لا يصحُّ الركون إليها، كالقياس والاستحسان، أو أنّها ناظرة إلى القاضي الذي كان منخرطاً في خدمة السلطة السياسية القائمة، ويشارك فيما تمارسه من جورٍ، ويساهم في تطبيق سياساتها وأهدافها، ويفضي عليها الشرعية، وقد كان موقف الأئمَّة(ع) من مثل هؤلاء القضاة، يندرج في إطار الموقف من السلطة السياسية وتوجّهاتها الفكرية. (فقه القضاء، تقريراً لأبحاث السيّد محمّد حسين فضل الله، بقلم الشيخ حسين الخشن، ج1، ص112).

* كما ناقش السيّد في اشتراط الذكورة في القاضي، فلا يقبل ولا يصح قضاء المرأة، وذلك بدعوى الإجماع على ذلك، فضلاً عن الأدلة اللفظية من الكتاب والسنّة، وهو ما شاع إلى درجة أصبح القول بخلافه مستنكراً. ولكن للسيّد تحفّظه، إذ يرى أنّ مسألة عدم تولّي المرأة للقضاء، وعدم نفوذ قضائها، محلّ تحفّظ علمي، ولا يعضدها الدليل، وما ذكر من أدلّة، لا ينهض لإثبات المطلوب، لعدم تمامية الاستدلال به، سواء لجهة عدم صحته سنداً، أو لعدم وضوح دلالتة. (م.ن، ص 133).

* وقد ناقش السيد – مطوَّلاً- في ما اشتهر عند الفقهاء من عدم إنشاء العقد بالكتابة، وأنّها تجربة في قرطاس - على حدّ تعبيرهم - وذلك لاحتمال العبث بالكتابة، وعدم كونها صادرةً عن جدٍّ، فلا تكون صريحةً في إفادة المعاني، ولذا لا يجوز - عندهم - إنشاء العقد بها.

وقد علَّق السيد على هذه الدعوى بقوله: «إنَّ الكتابة اليوم تعتبر من أهم الوسائل التي تنعقد بها المعاملات، ويُنشأ بها التمليك ونقل المنفعة وغير ذلك، وذلك لجهة الظهور العرفي، وجريان العقلاء وبنائهم على ذلك. وما يقال من أنّ الكتابة مجرّد تجربة في قرطاسٍ، فإنّه جارٍ في اللفظ أيضاً، إذ قد يكون لغواً وغير مقصودٍ للمتلفّظ، وما جعل اللفظَ آلةً للإنشاء، فهو جارٍ في الكتابة أيضاً، وذلك لأنّ القرينة الحالية هي التي تُعيِّن القصد الجدي للمتعاملين. وإلاّ، فإنَّ لفظ (بعت) ونحوها ليست من الإنشاء في شيء، لأنّها ظاهرة في الإخبار، وما جعلها ظاهرةً في الإنشاء، هو القرينة الحالية والعرف العام. وعليه، فإذا قامت القرينة الحالية والعرف العام على اعتبار الكتابة في الانعقاد، كفى ذلك، على خلاف ما هو المشهور». (فقه الشركة، تقريراً لأبحاث السيّد محمّد حسين فضل الله، بقلم محمّد الحسيني، ص 19 وما بعدها).

وقد استغرب السيّد من الفقهاء (أو بعضهم)، قبولهم الوصية المكتوبة إذا ظهر كون ما كتب بعنوان الوصية، بل استغرب منهم الغفلة عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}(البقرة:282)، فإن الأمر بالكتابة إرشاد إلى التوثيق، باعتباره وثيقةً يعتمد عليها عند الإنكار والجحود، وإلّا فلا فائدة منها، ولا معنى للأمر بها. وهو ما يتجاوز توثيق الدَّين، كما استدلَّ السيد على ذلك بروايات الوصية في هذا الخصوص، وهي صريحة في الإنشاء، فضلاً عن روايات مكاتبة العبيد. (فقه القضاء، تقريراً لأبحاث السيّد محمّد حسين فضل الله، بقلم الشيخ حسين الخشن، ج2، ص262 وما بعدها).

وقد توقَّف السيد طويلاً أمام ما هو سائد وشائع بخصوص الكتابة كوسيلة من وسائل التعبير عن الصيغ القانونية، أو لإنشاء عقد أو معاملة بلغة الفقهاء، عند أكثر الموارد حساسيةً، وهو مورد الطلاق، فتساءل: هل التلفّظ بلفظ الطلاق شرط في وقوعه بحيث لا تجزي الكتابة مطلقاً، إلا للأخرس إذا عجز عن الإشارة المفهمة، أو للغائب، أو أنّ المعتبر هو إبراز القصد النفساني الداخلي بمبرز ما، سواء كان اللفظ أو الكتابة، وخصوصاً أنّ الكتابة في عصرنا الراهن، ومن الناحية القانونية، أصبحت أقوى دلالةً من اللفظ، فكل العقود والمعاملات تتمّ من خلال الكتابة والتوقيع عليها؟

وبعبارة أخرى، هل يمكن إنشاء الطلاق بالكتابة كما يمكن إنشاؤه باللفظ؟

من وجهة نظر السيّد، فإنّ مقتضى القاعدة، وبصرف النظر عن الأخبار والروايات، أنّه يصحُّ الإنشاء بالكتابة كما يصحُّ باللفظ، لأنّ الإطلاقات شاملة لكلّ أسلوب إنشائي يدلُّ على إرادة الطلاق بشكل صريح أو على نحو الكناية، ولكن بالنحو الذي تقدَّمت الإشارة إليه، حيث قد تعارف العقلاء على أن يعبِّروا عمّا في أنفسهم، وأن ينشئوا العقود والمعاهدات الجارية بينهم بواسطة الكتابة، كما ينشئون ذلك بواسطة اللفظ، حتى إنّ ذلك كان يتمّ بين العرب أنفسهم، كما في حلف الفضول، أو المعاهدات التي كان النبيّ(ص) ينشئها مع اليهود، أو حتى بين المهاجرين والأنصار، أو بين الأنصار أنفسهم. ولذلك، لو فرضنا كنّا نحن وأنفسنا، ولم تكن هناك أخبار خاصَّة، لقلنا بجواز ذلك من دون أدنى تأمّل، لكون ذلك جارياً على طبق الطريقة العقلائية، قديماً وحديثاً، بل لا يبعد شمول قوله(ع): «أن يقول لها: أنت طالق» لمثل الكتابة أيضاً، للصدق العرفيّ أيضاً، فيقال: قال فلان كذا... مع أنّه لم يقل ذلك مباشرةً، بل ورد من خلال كتابته بجريدة أو نحوها مما هو متعارف عليه في عصرنا الراهن.

نعم، القول بحسب الوضع اللغوي دلَّ على التلفّظ، ولكن كثر استعماله في التعبير عن المعنى، سواء كان ذلك باللفظ أو الكتابة، بل بالإشارة في بعض الحالات، حيث صار للَّفظ ظهور ثانوي في ذلك.

وبالرغم من أنّ المشهور بين الفقهاء، أنّه لا بدَّ من إنشاء الطلاق باللفظ، وإنْ خالف الشيخ الطوسي في النهاية، وإن كان يرى بخصوص الغائب جوازه بغير اللفظ، بعد أن منع من وقوعه بالنسبة إلى الحاضر، ووافقه على ذلك ابن حمزة في الوسيلة، وربّما نسب إلى ابن البرَّاج أيضاً، مع ذهاب الشهيد الثاني والفاضل السبزواري والمحدث الكاشاني إلى الجواز، فقد ناقش السيّد في أدلّة المشهور.

وقد فسَّر السيّد بعض ما استدلَّ به المشهور على عدم صحّة الطلاق بالكتابة، على خلاف تفسيرهم، كما في رواية عن زرارة، قال: "قلت لأبي جعفر(ع): رجل كتب بطلاق امرأته، أو بعتق غلامه، ثمّ بدا له فمحاه، قال: ليس ذلك بطلاق، ولا عتاق حتى يتكلَّم به". (الوسائل، الباب 14 من أبواب مقدمات الطلاق، حديث رقم 1).

ويرى السيّد أنّ ما يظهر من هذه الرواية بدواً، أنّه لا بدَّ من إنشاء الطلاق بالتلفظ والنطق بالصيغة الخاصَّة، ولا يجوز إنشاؤه بالكتابة، ولكن التدقيق فيها يعطي خلاف ذلك، فتكون الرواية غير ظاهرة في ذلك، وذلك من جهة أنّ السائل ليس عازماً على الطلاق، لأنّه كتب ذلك ثم محاه، ومن المعلوم أنّ الكتابة لا تصير فعليّةً إلاَّ إذا صارت خطاباً ووجِّهت إلى الطرف الثاني، لأنّ مجرّد الكتابة لا يكون من مصاديق إنشاء الطلاق ما لم يبلغ ذلك إلى الزوجة، مع مراعاة الشروط الأخرى، ولذلك فإن العقلاء لا يرتِّبون الأثر على مجرّد الكتابة التي لم تصل إلى مرحلة الفعلية. (فقه الطلاق وتوابعه، تقريراً لأبحاث السيد محمّد حسين فضل الله، بقلم الشيخ محمّد قبيسي، ج1، ص156 وما بعدها).

وقد احتمل السيد، أنّ ما ورد في صحيح البيزنطي عن الإمام الرضا(ع): "أنّه سأله عن الرجل تكون عنده المرأة، يصمت ولا يتكلّم، قال: أخرس هو؟ قلت: نعم، ويعلم منه بغضٌ لامرأته وكراهةٌ لها، أيجوز أن يطلِّق عنه وليُّه؟ قال: لا، ولكن يكتب ويشهد على ذلك، قلت: أصلحك الله، فإنّه لا يكتب، ولا يسمع، كيف يطلّقها؟ قال: بالذي يعرف به من أفعاله، مثل ما ذكرت من كراهته وبغضه لها". (الوسائل، باب 19 من أبواب مقدّمات الطلاق، حديث1)، دالٌّ على مساواة الكتابة لغيرها من لفظٍ أو إشارةٍ في التعبيرات عن القصد، فالإمام يبيِّن أنّ الأخرس إذا لم يكن قادراً على أن يطلِّق بالطريقة الطبيعية، وهي التلفظ بصيغة الطلاق، فهو قادر على كتابة الصيغة عندئذٍ، لأنّ الكتابة من وسائل إنشاء الطلاق كما هو التلفّظ، وإلا كان اللازم هو الانتقال إلى الإشارة، والتي تمثل حالة الاضطرار، ما يعني أنّ الكتابة أيضاً بمثابة أحد فردي التخيير، فإن عجز عن أحدهما أتى بالآخر.

ولذلك، يرى السيِّد أن ضمّ هذه الرواية بحسب هذا الظهور الذي استفاده إلى الروايات الأخرى، يبيِّن أنّه لا مانع من إنشاء الطلاق بالكتابة، تماماً كما هو إنشاؤه بالتلفّظ، ولا سيّما إذا تحوَّل العرف العام إلى اعتبار الكتابة هي الطريقة الطبيعية للإنشاء أكثر من اللَّفظ، لا من باب الإثبات، بل من باب الإنشاء، كما هو الأمر بالنسبة إلى المعاهدات والمواثيق الموجودة بين الناس.

ولا يرى السيّد ضرورة الإصغاء إلى ما يقال: إنّ هذا معّرضٌ عنه أو أنّه شاذّ، ولا ينبغي العدول عمّا عليه المشهور إلى المعرض عنه، فإنّ ذلك ليس من دأب الفقهاء، وقد قيل: إن العالم والفقيه هو الذي يعرف كيف يدافع عن نظريات المشهور وليس الذي يخالف المشهور. وذلك: لأنّ مخالفة المشهور بدواً من دون تأمّل في أدلّة المشهور، ليس من دأب الفقهاء والعلماء، ولكن إذا اكتشف الفقيه أو العالم خطأً لدى المشهور، فكيف يتأتَّى له عندئذٍ أن يدافع عن هذا الخطأ؟ إذ إنَّ المشهور هم مجموعة من العلماء الأعلام، وهم ليسوا معصومين، وإنما هم علماء كبقية العلماء، قد نجد الحقّ في كلامهم، فلا بدَّ من أن يُتَّبع ويدافع عنه دفاعاً عن الحقَّ وأهله، وقد لا نجد الحقّ في جانبهم وفي كلامهم، فلا بدّ من تصحيح ذلك من خلال الحُجّة الواضحة والبيّنة، وقد قيل: اعرف الحقّ تعرف أهله.

والعجب هنا، أنَّ الشَّيخ الطوسي، وهو أحد أهمّ أركان المشهور بحسب العادة، نرى له رأياً في المبسوط والخلاف يوافق فيه المشهور، ورأياً آخر في النهاية يخالف فيه المشهور، بل وقد تبعه

بعض تلامذته أيضاً فيما خالف فيه المشهور.

ولا يبعد أن يكون رأيه في النهاية هو رأيه الأخير، وذلك من جهة تبعية تلامذته له والأخذ بهذا الرأي، ما يعني أنَّه عدل عمَّا هو عليه المشهور.

ومال إلى الجواز في هذه المسألة الشهيد الثاني أيضاً، والمحقِّق السبزواري، والفيض الكاشاني من متأخّري المتأخّرين وخالفوا المشهور. ولذلك، فقد يقال بأنّ المسألة ليست على خلاف المشهور بالمعنى الدقيق، بل المشهور مختلفون في ذلك، وحينئذٍ فالمتَّبع هو الدليل. ولا ينبغي الحمل على الآخرين لمجرد المخالفة، كما هو حال الجواهري، حيث حمل على الشهيد الثاني في هذا المجال، حيث يقول: «فمن الغريب ما في المسالك من الإطناب في ترجيح مضمون الخبر المزبور، لمكان صحّة سنده، وكونه مقيِّداً والمعارض له مطلق، لكن لا عجب بعد أن كان منشأ ذلك اختلال طريقة الاستنباط كما وقع له، وتسمع مثل ذلك غير مرّة، ونسأل الله العفو لنا وله من أمثال ذلك، وأغرب من ذلك، تأييده القول بالصّحة بالاعتبارات المذكورة في كتب العامة، فلاحظ وتأمل». (جواهر الكلام، ج32، ص 263).

وإذ تعرف أن قيمة الشهيد الأول والثاني من وجهة نظر السيد، هي في الانفتاح الذي كانا يعيشانه في مختلف الجوانب الفكرية، ولعلَّ كثرة الأسفار التي قام بها الشهيد الثاني، وكثرة من أخذ عنهم العلم في مختلف جوانبه، هي التي أدّت إلى مثل هذا الانفتاح الفكري، والذي يستحقُّ المدح عليه، خلافاً لما قاله صاحب الجواهر.

وهذا بخلاف الأجواء التي يعيشها بعض الفقهاء والعلماء، والتي تكون منغلقةً ومنكمشةً على نفسها، بحيث يؤثّر بعضهم في بعض، وتكون الذهنية لدى الجميع واحدةً، وهذا غالباً ما يؤدّي إلى القمع الفكري، وذلك لأنّ الاتجاه الفكري واحد، ولا يجوز الخروج عنه أبداً، مع أنّ فهم الأخبار يحتاج إلى كثيرٍ من الأحيان إلى الانفتاح على الناس وخوض بعض تجاربهم. ويرى السيد أنّ بعض العلماء، والذين خرجوا من هذا الجوّ وعاشوا الانفتاح الفكري، صار فهمهم للأخبار والقضايا أوسع وأرحب، لأنّه كلّما تحرَّر الإنسان من الأجواء الضاغطة التي يعيشها في جوّ معيَّن، تحرَّر فكره وصار أكثر رحابةً وانفتاحاً، وهذا ما لوحظ من مثل السيد محسن الحكيم والإمام الخميني، فإنّ السيّد الحكيم عندما أفتى بطهارة أهل الكتاب، ثارت عليه الحوزة العلمية، والتي لم يكن يدور في خلدها غير القول بالنجاسة، وكذلك الإمام الخميني عندما أطلق القول بحلّية وإباحة اللعب بالشطرنج، فاضطرَّ وهو الفقيه العظيم، أن يدافع عن فتواه، وأن يبيّن وجه القول بالحلّية، ومع ذلك، لم يسلم من الانتقاد الشديد، كلّ ذلك لأنّ مجتمع الحوزة كان يعيش جوّ الذهنية الواحدة، بالنحو الذي لا يمكن تصوّر خلاف ما عليه الجماعة، وإن كان الأمر ممكناً من الناحية الفكرية والعلمية.

والعجب أنّ هؤلاء الفقهاء، لم يكونوا يواجهون بالمنطق العلمي والرّد الاستدلالي على فتواهم، بل الأمر لم يكن أكثر من حرب أعصاب، بحيث يقف المرء عاجزاً عن مواجهة ذلك، فالمنطق العلمي لا يعرف مثل هذه الأساليب، ولا يمكن له مجاراتها. فكل ما يملكه الآخرون هو: هذا مخالف للمشهور، وهذا مخالف للشيعة، ونحو ذلك من التعابير التي يعرفها من يعيش أجواء العقلية والذهنية الواحدة.

ويخلص السيد إلى أنّ الواجب هو أن نحترم العلماء القدامى، ولكنَّنا نعرف أنّ ما يصدر عن هؤلاء العلماء من فتاوى، لا يصدر من خلال معلومات خفيت علينا، بل كلّ ما كان لديهم مما وصلهم من الأئمة(ع) وصل إلينا، بل هم الذين نقلوه إلينا، ولذلك فهم يختلفون فيما بينهم كما نختلف نحن الآن فيما بيننا، وقد بيَّنَّا أنّ للشيخ الطوسي رأياً بعدم وقوع الطلاق بالكتابة، ورأياً آخر بوقوعه، وهكذا. فهم مجتهدون ينطلقون من خلال القواعد التي أرساها لنا الأئمة(ع).

فالروايات يرويها الشيخ في التهذيب والاستبصار، ويذكرها الشيخ المفيد في كتبه الفقهية، والسيــد المـرتضى، فهم يفهمون من كـلام المعصوم شيئاً قد نوافقهـم فيه، وقد نختلف معهم مـن

خلال وسائل الاجتهاد المعمول بها.

فلا يوجد عندنا قداسة للقديم، وبالتالي لا يوجد عندنا رفض للقديم، ولا احتقار له أيضاً، بل ما دامت وسائله هي وسائلنا، فلنا الحقّ في الموافقة والمخالفة، تبعاً للدليل والعملية الاجتهادية.

وقد يتَّفق أن يخضع جيلٌ واحدٌ لتأثير مدرسة فكرية معينة، كما هو الأمر بالنسبة إلى تلامذة الميرزا النائيني في عصرنا الحاضر، حيث إنّ الجميع في حاشيته على العروة الوثقى يحذو حذوه، بالنحو الذي لا نرى أيَّ مغايرة أو اختلاف، فحاشية السيد جمال الكلبيكاني هي حاشية الميرزا النائيني، وحاشية الشيخ الآراكي هي حاشية السيد محمّد تقي الخونساري نفسها، وهذا لا يعني أنّ اللاحق يقلِّد السابق، بل يعني ثقة الثاني بمباني الأول، وهكذا...

والحاصل، أنّ علينا كعلماء وفقهاء دراسة الرأي المشهور، فلا يجوز رمي رأي المشهور بعيداً عن دراسته ونقده نقداً علمياً، وإخضاعه لكلِّ أساليب النقد العلمي، فلا تعصّب للقديم، ولا رفض له، بل التعصّب هو للدليل  نميل معه حيث يميل. (فقه الطلاق وتوابعه، ج1، ص 160 وما بعدها).

وانتهى السيد إلى جواز تقليد غير الأعلم من الفقهاء، بناءً على السيرة العقلائية الجارية على الرجوع إلى غير الأعلم في كافَّة ميادين الحياة، وإنما يختصُّ الرُّجوع إلى الأعلم في الحالات التي يطلب فيها إدراك الواقع، ومسألة التقليد من المسائل التي يراد منها المعذريَّة. هذا فضلاً عن مناقشة إطلاقات وجوب التقليد المدَّعاة في المقام، والتي يدَّعى عدم شمولها لصورة اختلاف الفقهاء، فيصار إلى التمييز بين الأعلم وغيره، فيحكم العقل بتقليد الأعلم لإبراء الذمة، فإنّ السيد يرى أنّ ظاهر هذه الإطلاقات، أنّها واردة على سبيل العموم البدلي الذي يفيد التخيير في الرجوع إلى أيّ من المجتهدين، ولا شكّ في شرعية التخيير في موارد الاختلاف بين الأحكام إذا دلّ عليه دليل، وقد التزم الفقهاء بذلك في موارد الأحكام وفي موارد الحُجّية في حال التعارض.

كما رأى جواز تقليد الميت، بناءً على شمول الأدلّة العامة في مسألة رجوع الجاهل إلى العالم لمورد الرجوع إلى الميت، فضلاً عن البناء العقلائي والسيرة العقلائية. وما يدَّعى من الإجماع، فهو إن تمّ، فإنّه محتمل المدركية، مع أنّه غير مسلّم، لأنّ المسألة غير محررة في كتب الأقدمين.

ورأى أيضاً جواز تقليد المجتهد المتجزئ في فتواه، وجواز التبعيض في التقليد.

ومن رأيه أيضاً، جواز إعلان الفقيه الجهاد الابتدائي، وأنّه ليس من مختصَّات الإمام المعصوم(ع) وفاقاً للسيد الخوئي.

وأفتى السيد بطهارة الإنسان مطلقاً، بناءً على مناقشة الإجماع المدّعى في المسألة، وهو وجه فقهي احتمله الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر، ومنعه من الإفتاء به الإجماع! وممن أفتى بالاحتياط في الكافر غير الكتابي، السيد محمّد سعيد الحكيم.

وأفتى أيضاً بطهارة الخمر وكلّ مسكر، جامداً أو كان مائعاً، إذ إنّ حرمة التناول والشرب لا تساوق النجاسة.

وقوَّى عدم وجوب الغسل على المرأة في غير حال الجماع، اعتماداً على شهادة الأطباء بخلو المرأة من المني.

ورجّح بلوغ الأنثى بالحيض دون تحديده بسن التاسعة، بناءً على الروايات المفسرة للروايات الأخرى، فتكون ناظرةً إليها.

* ونظَّر لجواز التعويل في معرفة ولادة الهلال على الحسابات الفلكية، إذا كانت تؤدّي إلى الاطمئنان أو العلم، لأنّ الرؤية ليس لها موضوعية في الروايات الواردة عن النبيّ(ص) وأهل بيته(ع)، ولكن منعه من الإفتاء بذلك، بعض الأدلّة التي ربما يقال إِنَّ العرف يفهم منها أنّ الملحوظ هو الهلال المرئي أو الممكن رؤيته.

وقد ناقش في مسألة بطلان الصوم بالتدخين، وذلك اعتمادا ًعلى الرواية الصريحة، ورأى عدم مفطريته، وكذلك ناقش في بطلان الصوم بالارتماس.

وأفتى بأنّه يجوز للمرأة وضع (اللولب) لمنع الحمل، من قبل الطبيبة، ويجوز أيضاً مراجعتها للفحص الدوري أو العلاج، بناءً على عدم ثبوت حرمة نظر المرأة إلى عورة المرأة، وقد يحرم النظر لجهة العناوين الثانوية.

لكن يجب أن نشير إلى أنّ مسألة الاتفاق مع المشهور أو مخالفته، ليست مسألة اعتباطيةً أو مزاجيةً تنبع من عقدة خاصة عند الفقيه، وإنمّا هي مسألة علمية تتوقف على مدى اقـتناع الفقيه وقطعه بنتائج بحثه وتفكيره الفقهي، فقد يقطع بالمشهور، وقد يقطع بخلاف ذلك، ولذلك تأتي النتائج متّفقةً تارةً، ومختلفةً تارةً أخرى. والاحتياط قد يكون سهلاً على الفقيه أو على بعض المؤمنين في ظروف خاصة، ولكنّه ليس العلاج الشرعي والموقف السليم دائماً.

أمّا مسألة وجوب الاحتياط في هذه المسائل، فهي تابعة هي الأخرى لمبنى الفقيه ومدى ثقته باجتهاده وقدراته العلمية، وفيما إذا كان قادراً على تحمل المسؤولية وواعياً لها ولثقلها. ولذلك توقف السيد عند مسائل عديدة ناقش فيها، ولكنّه لم يكن ليتجرَّأ على حسمها، بالرغم من وجود مبرِّرات علمية يعتبرها كافيةً للمناقشة في هذه المسائل. ومن هذه المسائل، عدم ردّ باقي الإرث على الزوجة زيادةً على ربع التركة عند عدم الوارث.

فإنّه - أي السيّد - بالرغم من مناقشته في ذلك، فإنّه لم يحسم رأيه في الاعتراض على ذلك، ورأى أنّ طرح الأخبار المعارضة، أولى من تأويل مستند هذا الرأي، وخصوصاً مع إعراض المشهور عن هذه الروايات وعملهم بخلافها. (فقه المواريث، المرجع السابق، ج2، ص 232).

وننبِّه إلى أنَّ عدداً كبيراً من المسائل الفقهيَّة التي خالف فيها السيد المشهور، هي مما لها سوابق وجذور تاريخية عند الأقدمين أو متأخري المتأخرين أو المتأخرين كما المعاصرين، فالسيّد ليس بدعاً من الفقهاء، بل هو واحد منهم، وإذا تميَّز عنهم بملامح خاصَّة في منهجه، فإنّه لا يخرج على الأصول والقواعد الضرورية عندهم.

وفضلاً عن ذلك، أشير إلى صفة علمية يتميَّز بها السيد قلَّما تجدها عند غيره، وهي انفتاحه على الرأي الآخر ومناقشته باحترام وتوقير شديدين، وإن تبنّى رأياً، فهو إن اقتنع به، فإنّه لا يصرّ عليه كأنّه حقيقة مطلقة وصيغة نهائية غير قابلة للنقاش.

 3 ـ شخصيَّة معاصرة:

لعلّ من أهمّ خصائص الشَّخصيَّة الفقهيَّة للسيِّد، هي كونه معنيّاً بالعصر ومسائله وقضاياه، وهو لا يكاد ينفكُّ عن التَّفكير في متطلّبات الناس ومشاكلهم اليومية، وما يواجهونه في هذه الحياة، على المستوى الفردي والمستوى العام، لأنّه يعتقد أنّ من مسؤوليات الفقيه، الإجابة عن هذه التساؤلات، ومحاولة تذليل الصعوبات التي تواجه الناس، بغية تكييفها مع الشريعة من جهة، ولئلا تشكِّل الشريعة قيداً وعبئاً على الناس من دون مبرّر، كما هو حال بعض الفقهاء الذين لا يعنيهم من الأمر شيئاً، ولو كان على حساب الشريعة نفسها، بدعوى أنّ ما تقتضيه الشريعة هو ذلك، وهو ما يظهر في عبء الاحتياطات التي سجّلها بعض الفقهاء، بحيث أصبحت شريعةً بديلةً.

وعلى أيّة حال، فإنّ ما يميّز مدرسة السيد الفقهية، أنّه دائم التفكير في قضايا الناس وشؤونهم، ومحاولة الوفاء بمتطلبات العصر الذي يعيشونه، وهو أمر لا يعني تطويع الشريعة لرغبات الناس، كما يتصوّر البعض، والالتفاف عليها، بل يعني تكييف الشريعة مع الواقع الذي يعيشه الناس، كونها الشريعة التي تنظّم حياتهم وشؤونهم، إذ في الوقت الذي لا يمكن تمييع الشريعة بذريعة العصرنة، فإنّه  لا يمكن - أيضاً - التحجّر عند قراءات تاريخية تمثِّل وجهات نظر فقهاء عاشوا قبل قرون عديدة.

انفتـاح السـيّد على معطيات العصر، دفعـه إلى التواصـل مع فاعليّات المجتمع العـلمية ومــراكز

البحث المتقدّمة، ومحاولة التعرّف إلى موضوعاتٍ جديدة وحقائق علمية مكتشفة حديثاً، وخصوصاً تلك التي تكون على تماسٍ مع الشريعة، كونها موضوعات لأحكامٍ شرعية.

ويلاحظ على السيد، أنّه لم يتعاط مع موضوعاتٍ جديدة وحقائق علمية باستعلاءٍ أو بلا مبالاة، كما قد يتعاطى عدد من الفقهاء، فيفوت عليهم تأثير هذه المعطيات العلمية في مدى دقة استنتاجاتهم في ما يتصل بهذه الموضوعات والحقائق، كما أنّ انفتاحه على هذه العوالم، وفّر له ثقافةً عاليةً بموضوعات عددٍ من الأحكام لم يتيسَّر التوفر عليها عادةً لغيره من الفقهاء.

* ومن بين المسائل التي تعاطى معها السيد بروحٍ عالية وبموضوعية شديدة، موقفه من مسألة (الاستنساخ)، إذ وقف على تفاصيل هذه المسألة، واطّلع من المختصين على جوانب عديدة تتصل بهذه التفاصيل، ولذلك اختلف موقفه  عن مواقف عدد من الفقهاء الذين تعجّلوا في اتخاذ مواقف يمكن وصف بعضها بالعدائية، فضلاً عن السلبية.

ويمكن تلخيص موقف السيد تجاه (الاستنساخ)، بأنَّه لا يرى من الناحية الفكرية ما يمنع من شرعية هذه التجربة من حيث طبيعتها العلمية، لأنها لا تمثّل من وجهة نظر السيد تحدياً لإرادة الله، بل تحركاً داخل إرادته، وفي إطار قانون الخلق الذي أبدعه الله تعالى. ورأى السيد أنَّ على علماء الدين أن لا يتنكّروا للاكتشافات العلمية، بل عليهم أن يدرسوا طبيعة أي اكتشاف علمي، وطريقة الاستفادة منه، وما يحمله من خيرٍ لمصلحة الإنسان. ولا يمكن لعالم الدين إنكار الحقائق العلمية، بل يرى السيد ضرورة تأويل النصوص الدينية إذا تصادمت مع العلم القطعي، ولذلك لا يجوز الوقوف بسلبيةٍ أمام أي نتائج علمية. وعليه، يرى السيد أنّ من المبكِّر إصدار فتوى تفصيلية فيما يتصل بالاستنساخ، ولذلك، لا بدّ من مراقبة نتائج التجارب، وما يمكن أن تؤدّي إليه من سلبيات أو إيجابيات. (الاستنساخ بين العلم والفلسفة والدين، د.حسام الدين شحادة، ص131 وما بعدها) و(الأخلاقيات الطبية وأخلاقيات الحياة، محاضرة للسيد فضل الله، ص20 وما بعدها).

* ولا تبتعد مسألة (زرع الأعضاء) عن مسألة (الاستنساخ)، حيث يرى السيّد جواز استئصال عضوٍ من أعضاء الميت وزرعه في جسم حيّ، بناءً على قاعدة (التزاحم) المعروفة عن أصوليي المسلمين الشيعة، أو بناءً على (المصالح المرسلة) لدى المسلمين من أهل السنَّة، فصحيح أنّ السنة النبويَّة الشَّريفة ذكرت أنّ للجسد احترامه، لكن إذا دار الأمر بين أن نمنح هذا الميت الاحترام المعنوي الذي لا يُقدّم ولا يؤخِّر بالنسبة إليه شيئاً، وبين أن ننقذ حياة إنسان، فإنَّ من الطبيعي أن إنقاذ حياة الإنسان الذي يمكن أن يموت لو لم تُعْطهِ هذا العضو من الميت، هو أهمّ في نظر الشرع من أنّ نحفظ حرمة هذا الميت، وهو مما لا إشكال فيه عند الفقهاء جميعاً، إذا ما توقف إنقاذ حياة إنسان على أن نأخذ عضواً من أعضاء الميت، هذا فضلاً عن (الوصية) التي قد تبرِّر ذلك، في ما إذا أوصى الإنسان قبل موته بنقل أعضائه بعد موته إلى آخرين، فإنّه يكون قد أهدر احترام نفسه، وسمح بنقل هذه الأعضاء إلى آخرين والتصرّف فيها. (للإنسان والحياة - حوارات، إعداد وتنسيق السيد شفيق الموسوي، ص168 وما بعدها). و(فقه الحياة، إعداد أحمد أحمد وعادل القاضي، ص162).

* وربما يظهر انفتاح السيّد بشكلٍ أوضح على معطيات العلم الحديث ومنجزاته، في مسائل تتَّصل بتنظيم الأسرة وشؤون المرأة، ولذلك كان على اتّصالٍ مستمرّ مع المختصّين بهذا الشَّأن، فأولى اهتماماً بتقاريرهم العلمية، وخصوصاً القطعي منها، ولذلك رجّح روايات عدم وجوب الغسل على المرأة في حالات غير المعاشرة الجنسية الكاملة على روايات وجوب الغسل، وذلك لجهة الحقيقة العلمية التي لا ترى للمرأة (منيّاً) كما هو حال الرجل. (فقه الحياة، ص213 وص281).

ويظهر كذلك في موقفه من قضايا تنظيم الأسرة ومنع الحمل، إذ لم يجد بأساً في لجوء المرأة إلى وضع (اللولب)، لجهة عدم القطع بكونه وسيلةً من وسائل الإجهاض. (م.ن، ص283).

ويجدر أن أُشير إلى موقف السيد من الإثبات بالقرائن الطبية في قضايا القضاء، مثل فحص الحمض النووي (DNA)، إذ اعتبر السيد أنّ هذه القرينة قطعية، ولذلك جاز الإثبات بها، وذلك بتوسعة (البنية) في الأدلّة الشرعية إلى كلّ ما يفيد البيان والوضوح. (فقه القضاء، ج2/ 270 وما بعدها).  

* كما نشير إلى قضايا مهمة شغلت المجتمع المعاصر، وكانت موضع اهتمام السيد، وخصوصاً تلك التي تتعلّق بعالم القضاء، سواء كانت من المسائل الحديثة، مثل ما يعرف بتدرج الأحكام القضائية وتعدد المحاكم، أو قضاء التحكيم، أو قضاء المرأة وتولّيها هذا المنصِب، أو غيرها من المسائل.

ولم يجد السيد بأساً في ما عرف بتدرج الأحكام القضائية وتعدّد المحاكم، ولذلك أجاز استئناف الحكم القضائي في محكمة الاستئناف بعد صدور حكم من المحكمة البدائية، كما هو حال المحاكم اليوم، ولم يعتبر السيّد ذلك نقضاً للحكم القضائي الذي يحرم نقضه، وذلك بناءً على تفسيره روايات تحريم النقض، إذ اعتبر أنّ الظاهر من الرّد المنهي عنه في الروايات، هو رفض الحكم من أساسه، إما لاعتقاده بعدم شرعيته وحجيته رغم كونه صادراً وفقاً للموازين الشرعية، وإما لتنكّره ورفضه الانصياع له عصياناً وتعنّتاً، وهو لا يشمل حالة ما لو استأنف الحكم لاعتقاد بخطأ مستند القاضي الأوّل، وهو ما يسمح بمراجعة القضية، ومعرفة ما إذا كان قد صدر الحكم بها وفقاً للموازين القضائية الشرعية. (فقه القضاء، المرجع السابق، ج1، ص 222 وما بعدها).

وأما موقفه من قضاء المرأة وتولّيها منصب القضاء، فقد جاء منسجماً مع تحرّره من الرؤية التقليدية والتراث الذكوري السائد الذي ينظر بدونية إلى المرأة عموماً، والذي سمح بتأصيل فقه يتناسب مع هذه الرؤية. ولذلك ناقش السيد مستندات هذه الرؤية، ولم يجد فيها ما يصلح لأن يكون مستنداً لحكم من هذا القبيل. (م.ن، ج1، ص 123 وما بعدها).

وأما بخصوص قضاء التحكيم، وهو ما يسميه السيد بالقضاء الشعبي، فقد ناقش السيد

الأدلّة التي قيل إنّها تدلّ على عدم شرعية هذا القضاء، وخصوصاً في عصر غيبة الإمام(ع)، ويجد السيد شرعيته في سيرة العقلاء، والتي تمتد منذ ما قبل الإسلام وإلى ما بعدها، وهي سيرة لم يردع عنها الشارع، وبما يتناسب مع رسوخها وعمقها التأريخي. ولكن يقصر السيد في شرعية هذا القضاء على ما أسماه القدر المتيقّن، وذلك بأن يتَّصف قاضي التحكيم بمقدارٍ من العلم والخبرة بأسس القضاء الإسلامي، وإن لم يشترط اجتهاده، وذلك لئلا يكون قضاؤه مخالفاً للأحكام الإسلامية، وأن يتحلّى بمقدار من النزاهة والتجرّد وحسن السمعة وما يبعث على الثقة به والرُّكون إلى رأيه. (م.ن، ج1، ص 184 وما بعدها).

ومهما يكن من أمر، فإنّ ما يميّز السيد، هو انفتاحه على عصره، والتفكير الدؤوب والجاد في قضايا الناس، ومدى تأثر حياتهم بالتطورات والمنجزات العلمية والإدارية والتنظيمية، وهي تطورات لا يمكن تجاهل تأثر الدرس الفقهي بها، وضرورة الاستجابة الفقهية لها.

وربما يُسهم التعرف إلى موقف السيد من المنجزات العلمية في علم الفلك من جهه، وتطور الحياة الاقتصادية والتجارية من جهة أخرى، وتعاطيه مع مسائل الفقه التي تتأثر بها، في تأكيد البُعد التنويري في حياة السيد عموماً، والجانب الفقهي خصوصاً، وهو ما نشير إليه في معالجاته الفقهية لمسألة ثبوت الهلال وفقاً لمعطيات علم الفلك، ومعالجاته الفقهية لما يعرف بالشخصية المعنوية في القانون، ومدى اعتراف الشريعة بهذه الشخصية.

1- ومن المسائل العلمية التي أولاها السيد اهتماماً بالغاً، مسألة دور علم الفلك في إثبات أول الشهور، إذ إنَّ المعروف أن الرؤية هي الأساس في ثبوت هلال شهر رمضان، وفقاً لما هو المرويّ من طرق العامّة والخاصّة، ولكن وقع أخيراً البحث في إمكانية ثبوت هلال شهر رمضان بغير الرؤية وعدمها، كما لو ثبت علمياً وبشكل قطعي ولادة الهلال، فهل يجوز التعويل على ذلك أو لا؟

ومن وجهة نظر السيّد - في وقتٍ من الأوقات - فإنّ الرؤية لم تؤخذ قيداً في الموضوع، وإنما

الطرق الأخرى الظنية التي لا يمكن التعويل عليها، بخلاف الرؤية، باعتبارها الطريق اليقيني الوحيد يومذاك. ولذا قامت البيِّنة والشياع المفيد للعلم مقام الرؤية، ولو كانت مأخوذةً كقيد في الموضوع، لما أمكن قيام ذلك مقامها.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لا يمكن أن نستفيد من الأخبار، اعتبار فعلية الرؤية أو إمكانية الرؤية، على اختلاف بين العلماء، لأنّ الأخبار التي أناطت ثبوت الهلال بالرؤية ليست في مقام الحصر، وإنما هي في مقام اعتبار الرؤية طريقاً لإحراز الشهر مقابل الشكّ والظنّ. وعليه، فإذا ثبت بطريق قطعي أنّ الهلال خرج من تحت الشعاع، كفى ذلك الحكم بثبوت الهلال، ما دام الجميع متّفقاً على أنّ الفرق بين بداية الشهر ونهايته، هو دخول القمر، في مرحلة المحاق، وخروجه من المحاق.

وقد عمد السيد إلى تفسير الروايات التي أناطت بثبوت شهر الرؤية بما لا يتنافى مع المعطيات العلمية للفلك، لأنّ روايات الرؤية لا تنفي ذلك.

- ففي الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله(ع) قال: "إنّه سُئل عن الأهلّةِ؟ فقال: هي أهلّة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر". (الوسائل، كتاب الصوم، باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، حديث رقم 1).

- وفي الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر(ع) قال: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظني، ولكن بالرؤية..." الحديث. (م.ن، حديث رقم 2).

- وعن القاسم بن عروة بن أبي العباس عن أبي عبد الله(ع) قال: "الصوم للرؤية والفطر للرؤية، وليس الرؤية أن يراه واحد، ولا اثنان ولا خمسون". (المرجع السابق نفسه، حديث رقم 4).

- وفي الصحيح عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله(ع) أنّه قال: "صم لرؤية الهلال،

وأفطر لرؤيته، فإن شهد عندك شاهدان مرضيان بأنّهما رأياه، فأقضه". (م.ن، حديث رقم 8).

- وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن هلال شهر رمضان يغمُّ علينا في تسع وعشرين من شعبان؟ فقال: "لا تصم إلاّ أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه". (م.ن، حديث رقم 9).

- وعن الفضيل بن عثمان عن أبي عبد الله(ع) أنّه قال: "ليس على أهل القبلة إلاّ الرؤية، وليس على المسلمين إلاّ الرؤية". (الوسائل، كتاب الصوم، باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، حديث رقم 12).

وعن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله(ع) أنّه قال: "في كتاب علي(ع): صم لرؤيته وأفطر لرؤيته، وإيّاك والشكّ والظنّ، فإن خفي عليكم فأتموا الشهر الأول ثلاثين". (م.ن، حديث رقم 11).

- وعن سماعة قال: "صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظنّ". (م.ن، حديث رقم 6).

- وعن عليّ بن القاساني قال: كتبت إليه وأنا بالمدينة، أسأله عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان، هل يصام أم لا؟ فكتب: "اليقين لا يدخل فيه الشكّ، صم للرؤية وأفطر للرؤية". (م.ن، حديث رقم 13).

- وعن هارون بن حمزة عن أبي عبد الله(ع) قال: سمعته يقول: "إذا صمت لرؤية الهلال، وأفطرت لرؤيته، فقد أكملت صيام شهر رمضان". (م.ن، حديث رقم 15).

- وعن أبي أيوب إبراهيم بن عثمان الخزّاز عن أبي عبد الله(ع) في حديث ـ قال: "إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض الله، فلا تؤدّوا بالتظنّي". (م.ن، حديث رقم 16).

ـ وعن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن الأهلّة؟ فقال: "هي أهلة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر". (م.ن، حديث رقم 21).

ـ وعن عمر بن الربيع البصري قال: سئل الصادق(ع) عن الأهلّة؟ قال: "هي أهلّة

الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر"... (الوسائل، كتاب الصوم، باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، حديث رقم 22).

- وعن الفضيل بن شاذان عن الرضا(ع) - في حديث - أنّه كتب إلى المأمون: "وصيام شهر رمضان فريضة، يصام للرؤية ويفطر للرؤية". (م.ن، حديث رقم 26).

- وعن أبي بصير عن أبي عبد الله(ع) قال: سألته عن الأهلّة؟ فقال: "أهلّة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر". (م.ن، حديث رقم 27).

- عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله(ع) قال: "لا تصم إِلاّ للرؤية، أو يشهد شاهدا عدل". (م.ن، رقم الحديث 28).

- وعن علي بن جعفر أنه سأل أخاه موسى بن جعفر(ع) عن الرجل يرى الهلال في شهر رمضان وحده لا يبصره غيره، أله أن يصوم؟ قال: "إذا لم يشكّ فليفطر، وإلاّ فليصم مع الناس". (م.ن، باب 4 من أبواب أحكام شهر رمضان، حديث رقم 1).

وعليه، فمن وجهة نظر السيد، فإنّ الروايات جميعها أخذت الرؤية كطريق من طرق ثبوت الهلال يمكن الركون إليها والاطمئنان بها، باعتبارها طريقاً يقينياً، بخلاف غيرها من الطرق، ولو كانت الرؤية مأخوذةً قيداً في الموضوع، لم يصلح أن يقوم مقامها شيء، إذ قامت شرعاً مقامها البيّنة، إذ اعتبرت بعض الأخبار الرؤية حُجّةً من المكلّف، والبيّنة حُجّة من غيره، طالما كانت دليلاً على الرؤية وأمكن الاطمئنان إليها.

ولو صحَّ خبر القاسم بن عروة المتقدم: "الصوم للرؤية والفطر للرؤية، وليس الرؤية أن يراه الواحد ولا اثنان ولا خمسون"، فهو في مقام الإشارة إلى اعتبار الرؤية بما هي طريق يقيني. ولذا استبعدت الأخبار الاعتماد على الوسائل الظنية، لأنّ الصوم فريضة، ولا تؤدّى بالشكّ والتظنّي، كما في ألسنة بعض الروايات.

وعليه، فلو قامت وسيلة علمية قطعية يقينية، قامت مقام الرؤية، لأنّ الرؤية ليست قيداً في الموضوع، ولم تؤخذ إلاّ كطريق يقيني وحيد متاح للمسلمين يومذاك. ولعلّ رواية الفضيل بن عثمان إشارة إلى ذلك: "ليس على أهل القبلة إلاّ الرؤية، وليس على المسلمين إلاَّ الرؤية".

والمتحصل من وجهة نظر السيد: أنّ الأخبار هي في مقام تأكيد الرؤية، بما هي من المسائل الطريقية التي يتوصل بواسطتها إلى معرفة ثبوت هلال شهر رمضان أو ثبوت هلال شهر شوّال، في مقابل الوسائل الظنية مسلوبة الحُجّية.

ونتيجة ما تقدَّم: فإنّ الصحيح هو أن بداية الشهر ونهايته بعد فرض تحقّقه بدخول القمر مرحلة المحاق وخروجه منها، إنّما هو حقيقة كونية وليس حقيقةً عرفيةً. ولذلك، إذا ثبت دخول القمر هذه المرحلة أو خروجه منها بوسيلة علمية قطعية تنبئ عن هذه الحقيقة الكونية، كفى ذلك في ثبوت بداية الشهر أو نهايته، ولا يحتاج بعد ذلك إلى اعتبار إمكانية الرؤية، إذ ليس ثمة ظهور في الأدلة السابقة يدلُّ عليه.

وفي ضوء هذه النظرية، يرى السيد وحدة الأفق لكلّ البلدان، وذلك بناءً على كفاية خروج القمر من مرحلة المحاق، أو دخوله المحاق، وهو ما يسمى (بالولادة)، من دون حاجةٍ إلى إمكانية الرؤية، ولذلك يكفي القطع بهذه الولادة، وعليه، تتساوى البلدان جميعها في ثبوت هلال شهر رمضان، أو ثبوت هلال شهر شوال للفطر. وبناءً على ذلك، لا حاجة إلى القيد الذي وضعه بعض الفقهاء - مع فرض وحدة الآفاق وعدم تعددها - بحيث تكون متَّفقةً ولو في جزء من الليل، إذ شرطية مثل هذا القيد، إنما هي بناءً على شرطية إمكانية الرؤية التي قال بها هؤلاء الفقهاء.

ولكن، يجب التذكير بأنّ السيد قد توقَّف عند هذه النظرية على نحو الفتوى، وأبقى الباب مفتوحاً للمناقشة والتأمّل. وأما فتوائياً، فهو يميل إلى الأخذ برأي الفلكيين في مسألة إثبات إمكانية رؤية الهلال وعدمها، وبذلك يقترب من رأي أستاذه السيد أبو القاسم الخوئي والشهيد السيد محمد باقر الصدر.

2- وقد وقع البحث عند الفقهاء في أصل مشروعية الشخصية المعنوية والاعتراف بها، فضلاً عن البحث في النتائج التي تترتب على الاعتراف بهذه الشخصية.

والوجه في تردّد الفقهاء، بل الجزم في عدم الاعتراف بهذه الشخصية، هو أنّ الأصل في المعاملات أن تقع بين الأشخاص الحقيقيين، فالإنسان - مثلاً - يبيع ويؤجّر ويهب... ولذلك نظمت الشريعة هذه المعاملات وحدَّدت موقفها منها. وهذا ما لا إشكال فيه.

ولذلك، فالكلام هو في الشخصية الاعتبارية (الحكمية)، من حيث إمكانية العثور على تخريج فقهي، يمكن معه وفي ضوئه الاعتراف بها، وترتيب آثارها المشار إليها سابقاً.

ولما كان فقهاء القانون يرجعون إلى مرتكزاتهم العقلائية بعيداً عن الشريعة، وإلى تلبية حاجات الناس من خلال التعقيدات الطارئة في الحياة، فإنّهم لا يجدون حرجاً كبيراً في الاعتراف بالشخصية الاعتبارية، ما دام هذا الاعتراف يحلّ مشكلةً قائمةً عندهم.

أما فقهاء الشريعة، فالأمر عندهم مختلف، لأنّهم نظراً إلى انتسابهم إلى الشريعة، يلزم عليهم الرجوع إليها ومعرفة موقفها.

وعند الرجوع إلى الشريعة، نعثر - من وجهة نظر السيد - على اعترافها - في الجملة - بوجودٍ مؤسّسي خارج إطار الشخصيات الطبيعية، ومن ذلك (المسجد)، الذي توفَّر على وجود مستقل، بعيداً عن أشخاص الناس، وله حقوق، ويترتب على وجوده المستقلّ آثار، من قبيل الملكية وغير ذلك.

وكذلك (الوقف)، فله من وجهة النظر الفقهية وجود مستقل، ويترتب على ذلك الوجود آثار - أيضاً - بعيداً عن الأشخاص الطبيعيين، ولذلك يثبت حقّ الملكية والاستدانة، ويكون للوقف نائب هو عبارة عن الولي أو الناظر.

وربما يصحّ ذلك بالنسبة إلى (بيت المال)، فيقال (الدية على بيت المال)، و(الإمام وارث من لا وارث له). هذا بعيداً عن أصل الخلاف في فكرة ملكية الإمام، وهل هي ملكية تابعة لشخصه الشريف أو للمنصب. وربما لا تبتعد (الصدقات) للفقراء - من وجهة نظر السيد - عن ذلك، إذا قلنا إنَّ (اللام) للجهة لا للمصرف.

وهنا، إذا ثبتت الشخصية المستقلة الاعتبارية من وجهة نظر الشريعة لما ذكره السيد، فهل يمكن تعميم هذا الاعتراف إلى غير ما أشير إليه في النصوص الشرعية، أو لا يمكن ذلك؟ وخصوصاً أنّ ما ذكر من قبيل المسجد والوقف وبيت المال، وإن كانت من قبيل الشخصيات الاعتبارية، إلاّ أنَّ وجودها قائم في الواقع بنحوٍ من الأنحاء، وترتبط بحياة الناس بنحوٍ من الارتباط الواقعي. أمّا (الشركة)، وهي محلّ البحث، فهي شخصية لا واقع لها، لأنَّ قوامها الاعتبار المحض، وما هو قائم بالفعل، هو الأشخاص الذين أسهموا واشتركوا بغية التوفّر على الربح مثلاً، ولا وجود لما وراء الأشخاص الطبيعيين وأموالهم المشتركة. نعم، انتزع مفهوم الشركة من ذلك الواقع انتزاعاً، فلو لم يعترف بالشركة كشخصية مستقلّة، فلا وجود لها إلاّ بالأشخاص والأموال التي أصبحت بمقتضى الاشتراك مشاعاً بينهم، فيحق لكلّ منهم التصرف في هذه الأموال بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين، وذلك انسجاماً مع الأدلّة الفقهية العامّة، في حين أنّ الاعتراف بوجود مستقلّ للشركة، يقضي بانتقال هذه الأموال عن الشركاء إلى ذمّة مستقلّة هي ذمّة الشركة.

وعليه، فكيف يتسنى للفقيه رفع اليد عن الأدلّة العامة، وترتيب الآثار الخاصة بعنوان الشركة، والتي يشير إليها السنهوري. ويمكن أن يستدلّ على وجود الشخصية الاعتبارية واعتراف الشريعة بهذا بعدّة أدلّة، عمد السيد إلى مناقشتها والوقوف عند دلالتها لإثبات المطلوب:

4. الدليل اللفظي:

- وقد يستدلُّ بما روي عن رسول الله(ص): «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم».

وتقريب الاستدلال: أنَّ النبيّ اعتبر ما يعطيه أحد المسلمين للمحارب طالب الأمان من

ذمةٍ وتأمين، سارياً على جماعتهم وملزماً لهم، كما لو صدر عن المسلمين جميعاً. ولذلك، لا يجوز التعرض للمحارب بقتلٍ ولا قتالٍ بحُجّة، أنّ معطي الأمان ليس بصاحب سلطانٍ ولا صلاحية، أو بحُجّة أن الإمام إذا رأى أنّ الأمان ليس في مصلحة المسلمين، نقضه وأدَّب معطيه، بل إنّ الحكم هو نفاذ هذا الأمان، لأنّ معطيه إنما تصرف بحكم نيابته عن المسلمين.

والحديث - كما عن الشيخ مصطفى الزرقاء - صريح في اعتبار مجموع الأمة شخصيةً واحدةً، يمثِّلها في بعض النواحي كلُّ فردٍ منها. (المدخل الفقهي العام، ج3، ص 257).

وعليه، يمكن تعقّل شخصية اعتبارية من هذا القبيل، وهو يعني اعتراف الشريعة بشخصية وراء الشخصية الطبيعية، وتكون - عندئذٍ - لكلّ شركة شخصية مستقلة عن الشركاء أنفسهم.

وقد رُدَّ الاستدلال المذكور - كما عن بعض الفقهاء المعاصرين - بأنَّ الرواية غير واضحة في فرض الشخصية المعنوية للمسلمين، «بل يمكن تفسيره، بأنَّ شخصية كل مسلم، مهما تفترض دانية، يجب على الآخرين مواساتها فيما أعطاها بالنيابة عن الكلّ من الأمان. وإن شئت فقل: إنَّ التفسير الذي فرضه الأستاذ الزرقاء في المقام، يعني - في الحقيقة - الالتزام بأمرين، كلُّ منهما في نفسه خلاف الأصل، أحدهما افتراض شخصية معنوية للمسلمين، والثاني: افتراض نيابة كلّ واحد منهم عن تلك الشخصية المعنوية في إعطائه للأمان، بينما يكفي لتفسير هذا الالتزام بالأمر الثاني فقط، وهو النيابة دون الأمر الأول، وهو فرض الشخصية المعنوية، وذلك بأن نفترض أنّ الإسلام أعطى لكلّ فرد من المسلمين الحقّ في إعطاء الذمة والأمان عن كلّ المسلمين، من دون أن نفترض شخصيةً معنويةً للمسلمين يكون كلُّ فرد نائباً عنها». (كاظم الحائري: ملكية الشخصيات المعنوية والقانونية، بحث منشور في مجلّة الفكر الإسلامي، عدد 11، ص53).

ولكنَّ النقض على الزرقاء بما ذُكر آنفاً خلاف الظاهر، كما يرى السيد، لأنَّ ظاهر الحديث أنّ هناك ذمّةً للمسلمين، لا ذمّةً لكلّ واحدٍ منهم، أي الذمّة ذمّتهم، وهو يسعى بذمتهم، والسعي بذمتهم يعني النيابة، فلو كان لكلّ واحد منهم بما هو مسلم ذمة، فإنّه لا يسعى – حينئذٍ- بذمتهم، بل هو في مقام العمل بذمته وما تقتضيه ذمته.

- وقد يُستدلُّ - كما عن الزرقاء - بما دلَّ من النصوص على حقِّ كلِّ فردٍ من المسلمين في أن يخاصم ويدّعي في الحقوق العامة، من عقوبات الحدود وسائر أمور الحسبة، كإزالة الأذى عن الطريق، وقمع الغش، والتفريق بين الزوجين المستمرين على الحياة الزوجية بعد البينونة بالطلاق، وغير ذلك، وإن لم يكن للمدعي في شيء من ذلك علاقة بالموضوع، أو ضرر منه يدفعه عن نفسه، مما يشترط في صحة الخصومات والدعاوى في الحقوق الفردية. فهذا، وكلّ ما تتجلّى به فكرة الحق العام في الأحكام الإسلامية، يدلّ على تصوّر شخصية حكمية لتلك المصلحة العامة التي يمارس حقَّ الادعاء باسمها.

غير أنَّ ما ذكره الزرقاء في هذا الصَّدد غير مسلَّم -كما يرى السيد - ولا دليل عليه في فقه أهل البيت(ع) وما روي عنهم، إذ المعروف في باب الدعاوى - عندهم - أن تكون الدعوى مما تجلب له نفعاً أو تدفع عنه ضرراً. وما ذكره من الدعاوى الحسبية لا يتصل بنظام الدعاوى والقضاء، بل يتصل بالنظام العام، فيكون من حقّ كلّ مسلم إطلاع من له الأمر لترتيب الأثر والحكم الشرعي المناسب، فيكون دور الفرد في ما ذُكر، دور الدالّ للسلطات والأجهزة المعنيّة على التجاوز الذي يمكن أن يكون مضراً بالمصلحة العامة، ولا علاقة له بالقضاء والدعاوى مطلقاً.

وقد يتمسَّك بإطلاق قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(البقرة: 275)، إذ يشمل بإطلاقه مورد ما إذا دخلت الشركة في معاملةٍ ما مع الآخرين، إذ إنّ بيعها بيع عرفي بلا ريب، فيكون مشمولاً بالآية، فيكون ذلك بمثابة الاعتراف بشخصية الشركة.

ويمكن أن يرد لجهة أنّ التمسك بالإطلاق - في المقام ـ فرع ثبوت الموضوع، وفي المقام نشك في الموضوع نفسه، فيكون الشك في مشروعية أصل البيع، إذ لم يسلّم أنَّ هناك بائعاً، وذلك لجهة أنّ بيع الشركة ليس بيعاً في نظر الشارع، فكيف يمكن التمسك بالإطلاق المذكور؟!

5. دليل السيرة:

وقد يقال: إِنَّ ثمة عدّة مصاديق يظهر معها اعتراف الشريعة بالشخصية المعنوية، كما في (بيت المال) و(الوقف) و(الدولة).

أما (بيت المال)، فهو جهة ذات قوام حقوقي مستقل، يمثِّل مصالح الأمَّة في الأموال العامة، فهو يملك ويُملك منه وعليه، ويستحقّ التركات الخالية عن إرث أو وصية، ويكون طرفاً في الخصومات والدعاوى. ويمثِّل (بيت المال) أمين خاص بالنيابة عن السلطان، ولا يُصرف من (بيت المال) شيء إلاّ بحقٍ ومسوِّغ شرعي. بل يدَّعي الدكتور الزرقاء، أنّ الشخصية الحقوقية لا تظهر في (بيت المال) كجهة حقوقية مستقلة وحسب، بل يظهر ذلك في الأقسام والفروع التي يضمّها (بيت المال)، فيبدو كلّ قسم من هذه الأقسام شخصيةً حكميةً منفصلةً عن شخصية الأقسام الأخرى، لأنَّ لكلّ قسم منها استحقاقات وأحكاماً خاصّةً بعيداً عن الأقسام الأخرى.

وأما (الوقف)، فقد يكون المعنى الحقوقي فيه أكثر وضوحاً، فهو بلا شكّ جهة ذات قوام مستقل حتى عن الواقف نفسه، وإن كان هو نفسه القيِّم على وقفه. ومعلوم أنّ الوقف ملك مرصود لما وقف عليه، وهو يستحقّ ويستحقّ عليه، وتجري العقود الحقوقية بينه وبين أفراد الناس، من إيجارٍ وبيع، وفقاً لما هو منصوص عليه شرعاً، ويمثله في ذلك الناظر أو الولي.

وأما (الدولة) كشخصية مستقلة عن الحاكم أو الخليفة أو الإمام، فقد يُستدلُّ لإثباتها بما ثبت من الأحكام، فقد تقرر - فقهياً - على المستوى الخارجي، أنَّ المعاهدات والإجراءات التي يجيزها الإمام ويجريها، محترمة وملزمة للأمة وللإمام - أيضاً - ولا تجوز مخالفتها، ما لم يكن ثمّة دليل على خلاف ذلك. وقد تقرر على المستوى الداخلي، عدم جواز عزل الموظفين والعمال والقضاة الذين يعيّنهم السلطان ثم يموت، وذلك لأنه عيّنهم بمقتضى ولايته وإمارته، لا بمقتضى شخصيته الخاصة التي تنتهي بموته أو انتهت، بينما لم تنته ولايته من قبل جماعة الأمة، وهي ولاية لمصلحتهم، وهي باقية، بل تبرز الشخصية المعنوية للدولة، في ضمانها خطأ القضاة، في حال الخطأ في حقوق الله مما لا يمكن تلافيه، كما في قطع يد السارق - مثلاً - فيكون الضمان على الدولة في بيت المال.

وإذا كان (الوقف) مما لا إشكال فيه ولا ريب، فإنّه قد يناقش في كون (بيت المال) شخصيةً معنويةً مستقلّة، لأنّه - كما يرى السيد، ومما لا يبعد - شأن من شؤون الدولة، أو من شؤون المسلمين، إذ الفرض أنّ بيت المال هو مال الدولة، أو مال المسلمين، فلا يكون ثمة أمر زائد على شخصية الدولة، إن كان ثمة شخصية معنوية، وقد يكون تصور تعدّد الشخصية المعنوية لأقسام بيت المال غايةً في البعد، لأنّها لا تعدو أن تكون في المحصّلة جهةً واحدة، تمَّ تقسيمها لضروراتٍ قد تكون فنيةً، من قبيل تنظيم الحسابات عند التجار، أو لجهة الصرف وفقاً لما هو منصوص عليه شرعاً.

كما قد يناقش في اعتبار (الدولة) شخصيةً مستقلّةً، لمجرَّد أنَّ من عيَّنه الحاكم من الموظفين والقضاة لا يعزل بموته، فإنّه قد يقال: إنَّ ما ذُكر، قد يكون له من التفسير ما هو مستند إلى الفرق بين الولاية والوكالة، فإن كان مستنداً إلى الوكالة انتفى بالموت، وإن كان مستنداً إلى الولاية لم يكن لاغياً بالموت. ولكنّه بعيد، كما يرى السيد، لأنَّ الظاهر في إسناد هذه الوظائف مما لا يتعلق بشخص الإمام، بل مما يتعلَّق بالجهة والمنصب، فيكون فيه إشعار بالشخصية المستقلة لهذا المنصب على أقلّ تقدير.

ومهما يكن من أمر، وبغضِّ النظر عن هذه المناقشات الجانبية، فإنَّ المهم هو ما يمكن  معه تبرير التعدي من هذه المصاديق إلى غيرها، على نحوٍ يمكن أن يكون معها إمضاء هذه

المصاديق لما هو أعمّ، فيشمل الشركة، فتكون لها ما للشخصيّة المعنوية المستقلة عن الشركاء.

ومن المعلوم أنَّ التعدي المذكور أمر يسير عند أهل السنَّة، بناءً على جواز القياس وحجيته، كما الاستحسان والمصالح المرسلة. أما عندنا، فالأمر مختلف، إذ ليس ثمة ما يُجيز اللجوء إلى هذه المصادر، لأنّها ليست بحُجّة، فيلزم التماس دليل شرعي. وهو في المقام دليل الإمضاء، إذ يمكن أن يقال، وفقاً لتنظير السيد: إنَّ قيام هذه الشخصيات هو من قبيل (الوقف) و(الدولة) و(بيت المال)، وهي أمور عقلائية، ولا شكّ في أنَّ الشارع أمضاها واعترف بوجودها، لأنّها كانت على مرأى ومسمع منه، فيكون عدم ردعه عنها، إمضاءً منه لوجودها ومشروعيتها. بل الأدلّة قائمة على شرعيتها أيضاً.

إلاَّ أن إمضاءً من هذا القبيل، لا يكفي لإثبات الشخصية المعنوية لما عدا هذه العناوين، لأنّ غيرها -كما هو الشركة - لم يكن معروفاً على عهد النبيّ(ص)، ولا عهد الأئمة(ع)، لتمكن دعوى الإمضاء لها، لأنّ من شرط الإمضاء، أن يكون الممضى معروفاً ومعهوداً في زمن النص، والمقام ليس من هذا القبيل. ولذلك، لا بدَّ من تتميمه بدعوى أنَّ الإمضاء الصادر عن الشارع لهذه العناوين الثلاثة، هو إمضاء يتعدّى الفعل نفسه، إلى النكتة المركوزة لدى العقلاء، التي دفعتهم إلى السّيرة هذه واعتبارهم هذه العناوين، فيمكن عندئذٍ التعدي من هذه العناوين إلى غيرها من العناوين، نظير إمضاء الشارع لأصل التملّك بالحيازة، فإنّه كما يمكن التعدي من الحيازة المعهودة - يومذاك - والقائمة على أدوات متواضعة، إلى الحيازة بأدوات أخرى لم تكن معهودةً، فإنّه يمكن التعدي من هذه العناوين الثلاثة إلى غيرها بالاعتبار نفسه، لأنّه لا فرق بين هذه العناوين الثلاثة وغيرها، لأنّها سواء من حيث اعتبار العقلاء الشخصية المستقلة لها.

إلاّ أنّ إمضاءً من هذا القبيل لا يخلو من إشكال، لأنَّ الطريق المذكور الذي يوسِّع من دائرة الإمضاء، فرع ثبوت الممضى نفسه. فإنَّ الممضى لا بدَّ من أن يكون في زمن المعصوم، وإن اختلفت صورته في العصور اللاحقة، لاختلاف وتباين أساليب الحياة وتطورها، وهذا ما ليس ثابتاً في المقام، لأنّ الشركة بشكلها الحالي، لم تكن معهودةً - أصلاً - في ذلك الزمن، وهي تختلف كليةً عن العناوين الثلاثة الممضاة، بل يمكن أن يقال: إن هذه الشخصيات المعاصرة -كالشركة - ليس من قبيل الأوقاف والمعابد مما يتصل بالبناء العقلائي، بل هي من المبتكرات التي دعت إليها الحاجة الاقتصادية، ولذا ألزم القانون تنظيمها على نحوٍ يخدم الصالح العام.

نعم، يمكن افتراض الإمضاء بشكلٍ آخر، وذلك بناءً على أصل إمضاء هذه العناوين الثلاثة والاعتراف بها، وهي، لا إشكال، شخصيات حقوقية قائمة ومستقلّة عن الأشخاص الطبيعيين، ولبعضها - شرعاً - البيع، ولبعضها الآخر الهبة، أو الاقتراض، وعندئذٍ يمكن التعدّي من هذه العناوين إلى غيرها، بناءً على ما هو مركوز عقلائياً، من عدم تعقل جواز البيع ومنع غيره وغير ذلك. وعليه، فإذا ثبت أنَّ لهذه العناوين الثلاثة ما يمكن معه افتراض الشخصية الحقوقية كاملةً، فإنّه يمكن التعدي إلى غيرها، لوجود النكتة نفسها في غيرها كما في الشركة.

ويطرح السيد احتمالاً آخر للإمضاء، وهو: أنَّ ما عرف في الأوساط الفقهية بالإمضاء، لا شاهد له في الأدلَّة الشرعيَّة، وليس ثمة ما يوحي فيها بهذه الفكرة، إذ ليس للشارع طريقة خاصَّة في المعاملات، وهو إن تحدَّث عنها، فهو جارٍ على ما عند العقلاء، ولم يصدر عنه ما صدر عنه في هذا المجال، إلاَّ بما هو واحد من العقلاء، وليس بصفته التشريعية، ليُدَّعى أنَّ ذلك من قبيل الإمضاء، فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(البقرة: 275) ليس إمضاءً من الشارع  للبيوع القائمة عند العرف، بل الآية في مقام آخر، وهو نفي كون الربا من البيع، كما يدَّعي المتاجرون به وتصنيفه على البيع، فنفى الكتاب أن يكون الربا من البيوع. ولذلك، فقد ترك الشارع للناس أمر تدبير شؤونهم من خلال حاجاتهم، إلاّ أن يكون ذلك من التعدّي والأكل بالباطل. وربما يؤكِّد هذه الفكرة، (أنَّ الإسلام بني على خمس)، وهو بناء يقوم على غير المعاملات، بل على تأصيل المجتمع عبادياً أو أخلاقياً، وتنظيم شؤونهم في المجتمع من حيث الحقوق الشخصية والاجتماعية، على المستوى المالي والأسري والفردي والسياسي... وليس من هذا القبيل التصدي لطرائق تلبية الحاجات، مثل كيفية اللبس والأكل والنوم والسير والبيع والشراء... نعم، له خطوط عامة تضبط هذه المعاملات على نحوٍ لا يصدق عليها التعدي والأكل بالباطل كما ذكرنا.

6. إذن الحاكم الشرعي:

وقد يُستدلُّ على شرعية الشركة بما لها من شخصية حقوقية مستقلة عن الشركاء بإذن الفقيه (الحاكم الشرعي)، إذا وجد ثمة ضرورةً لإنشاء مثل هذه الشخصية. ولكنَّ دعوى من هذا القبيل، لا تخلو من المجازفة كما يرى السيد، لأنَّ منصب ولاية الفقيه منصب تنفيذي، وهو يفترض في مرتبة سابقة، أنَّ ثمة أحكاماً يتصدى لتطبيقها الفقيه أو يشرف على تطبيقها، وليس أن يشرِّع، أو يعتبر ما ليس ثمة دليل شرعي على اعتباره. والشركة كشخصية معنوية من هذا القبيل.

كما طرح السيد وجهاً آخر، وذلك من خلال فكرة: «منطقة الفراغ» التي تمثل المساحة التشريعية، مما يتصل بالحاجات الإنسانية المتجدّدة في المعاملات والعلاقات، والأوضاع التنظيمية الإدارية التي لم تكن في زمن الشرع، ولهذا لم يشملها التشريع... وبما أنّ منطقة الفراغ هذه تسمح لوليّ الأمر في الدولة الإسلامية بإصدار تشريعات جديدة تعالج هذه الموارد لتلبية حاجات النظام العام إلى ذلك، في نطاق الشروط العامة للمعاملات. وفي ضوء هذا، يمكن معالجة مسألة الشركة المعنوية، باعتبار أنّ شركة الأشخاص ربّما تصبح معقّدةً بتفاصيلها بحسب الأوضاع الاقتصادية المتجددة، ما يفرض ترتيب وضع معيَّن للشركة يتناسب مع هذه الأوضاع. ولعلَّ السرّ في ذلك، أنّ تجدّد العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في خصوصياتها المتحرّكة، لا يمكن أن يخضع لتشريع مسبّق يعالج ذلك كلّه، فلا بدَّ من إيكال الأمر إلى الواقع العقلائي المتجدّد، أو إلى الجهات الشرعية التي تتولّى الإشراف على إدارة النظام العام في المجتمع.


ثالثاً: مصادر السيد في الدرس الفقهي

ينتمي السيّد إلى مدرسة فقهية عريقة، وهي مدرسة النجف الأشرف، التي قرأ فيها الدرس الفقهي وتعلّمه، وهي مدرسة معروفة الانتماء، تشهر انتسابها إلى فقه أهل البيت(ع)، ولذلك تفصح عن نفسها من حيث الهُويّة، ومن حيث الآليات والوسائل والمرجعيات المشروعة من وجهة نظرها.

وبانتماء السيد إلى هذه المدرسة، نكتشف فهمه وطريقة تعاطيه مع النصوص الشرعية، وتلك الآليات المعروفة في مذهب أهل البيت(ع)، بتمسكها بالكتاب والسنَّة، ودونما اعتبارٍ للوسائل الظنيّة بلحاظ ضعفها على إحراز الحكم الشرعي، ولذلك جاءت آليات السيد هي نفسها آليات الفقيه الشيعي - أي فقيه - فلم يعبأ بالأدلّة الظّنية التي لم يحرز إمضاؤها من الشارع، واعتبارها حجّةً في الكشف عن الحكم الشرعي. (راجع: نظرات في مسألة القياس الفقهي، بقلم محمد الحسيني، مجلة فقه أهل البيت، العدد 26، ص 57)

وحال السيد حال أي فقيه إسلامي يعتبر القرآن الكريم المصدر (الدليل) الأول في جملة مصادره الفقهية، وذلك باعتباره الأساس التشريعي الأول عند المسلمين كافّةً. ولذلك، لا نذيع سرّاً إذا قلنا إنّ دليله الأول في ممارسة الاجتهاد والاستنباط هو القرآن الكريم، لأنّ ذلك من تحصيل الحاصل.

ولكن مع ذلك، فإنَّ للسيد منهجه الخاص ورؤيته المتميّزة، ولذلك لاحظ على الأسلوب الاجتهادي تأخّره عن مواكبة الكتاب الكريم في الجانب التشريعي، على خلفية الاعتماد - في هذا المجال - على الآيات القرآنية التي عالجت جوانب تشريعية بشكلٍ مباشرٍ دون غيرها، إلى درجة حصر الفقهاء آيات الأحكام في خمسمائة آية فقط، وهو منهجٌ لا يوافق عليه السيّد، لأن القرآن في نظره "انطلق في حركة الدعوة ليواصل القواعد في دائرتها الواسعة" (الاجتهاد وإمكانيات التحديد، حوار مع السيد محمّد حسين فضل الله، مجلة المنطلق، العدد 111، ص 66).

وعندئذٍ، لا يجوز - من وجهة نظر السيد - الاقتصار على هذه الآيات القرآنية المباشرة، وغضّ النظر عن الآيات القرآنية الأخرى، وإن لم تكن بصدد التشريع بشكل مباشر، وذلك لأنَّ هذه الآيات القرآنية، وإن كانت لا تتصل بالتشريع مباشرةً، إلاَّ أنها تشكّل مُناخاً قرآنياً لا يمكن تجاهله، ولذلك، "يمكننا - من وجهة نظر السيد - من خلال الرجوع إلى القرآن، أن نحصل على جملة قواعد فقهية عامة قد تغطّي مساحات واسعة من حياة المسلمين" (م.ن، ص67)، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}(النساء:29) قاعدة قرآنية ترسم حدود التعامل بالمال، في عملية نقله وتملّكه والتصرف فيه. وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}(البقرة:219) قاعدة قرآنية، مفادها أنّ كلّ ما كان ضرره أكثر من نفعه فهو حرام. وقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}(البقرة:229) قاعدة قرآنية تضبط علاقة الرجل (الزوج) بالمرأة (الزوجة)، وأنّه لا يملك أن يجمِّد حياتها كما يحلو له ذوقه ومزاجه (رسالة في الرضاع، ص31).

ولكن المشكلة - كما يراها السيد - أنَّ الفقهاء لم يتعاملوا إلاّ مع الآيات القرآنية المباشرة، ليدّعوا أن غيرها ليس سوى قواعد أخلاقية أو ما أشبه ذلك، ولا تشير إلاّ إلى الحكمة أو الفكرة العامة، دون أن ترتقي إلى مستوى القاعدة التشريعية.

وفي ضوء المنهج الذي رسمه السيد لنفسه، رأى أنّ قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}(البقرة:219) قاعدة يمكن تعميمها إلى غير الخمر والميسر، فكلُّ ما كان ضرره أكبر من نفعه فهو حرام، ولذلك حرَّم التدخين، بالرغم من أنَّ الآية الكريمة ليست واردةً في التدخين بشكل مباشر، إلاّ أنّه لا يمكن تجاهل تأسيسها لقاعدة عامة - وفقاً لرؤية السيد - يمكن من خلالها استكشاف حكم الشريعة في قضايا أخرى.

كما لاحظ السيد من جهةٍ أخرى على المنهج الفقهي، تفويت السموّ القرآني - إن جاز

التعبير - لحساب الروايات، وهو منهجٌ لا يرى السيد صحته وانسجامه مع اعتبار القرآن المرجع الأول للتشريع، وهو ما سنشير إليه في فصلٍ لاحق حول العلاقة بين القرآن الكريم والسنة الشريفة، وتطبيقات هذه العلاقة.

وأما المصدر الثاني لدى السيِّد، فهو السُنَّة الشريفة، كما هي المصدر الثاني لدى كلّ فقيه إسلامي، وهو ما لا نتوقّف عند حجيته والدليل عليه، لأنّه موضوع خارج عن حدود الدراسة والبحث، وهي من تحصيل الحاصل، بعد أن أشبع الفقهاء حُجية السنَّة دراسةً، وفي مقدّم ذلك السنَّة القولية (الروايات)، في الدراسات الأصولية.

ولا نزيد القارئ شيئاً إذا قلنا إنّ المصدر الثاني عند السيد هو السنَّة الشريفة، إنما نزيده أشياء إنْ لاحقنا طريقة تعاطيه مع هذه السنَّة، والتطبيقات اليومية التي يتوقف عندها الفقيه، وهو في مقام الاستظهار والتحليل والفحص والتدقيق، وهو ما يختلف فيه الفقهاء بعد افتراض إجماعهم على حجية هذه السنَّة، وكونها المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد القرآن الكريم.

ولعلَّ من أهمّ ما لاحظه السيّد - وقد لاحظه فقهاء آخرون - أنّ السنَّة الشريفة "وردت في غالبيتها لتحاكي تطبيقات ولتجيب عن أسئلة" (مجلة المنطلق، العدد 111، ص66)، ولذلك لا بدَّ من التعاطي معها بما يضعها في إطارها الصحيح، وخشية النظر إلى هذه الروايات كأشلاء متفرقة لا ترجع إلى ضابط، بحيث يجعل نصّ في مورد خاص، على أنَّ له شخصية خاصة تختلف عن شخصية النص الآخر الوارد في مورد آخر، ولذلك تبنّى النظرة العامة للسنَّة والروايات بما هي قواعد ناظر بعضها إلى البعض الآخر، دونما تجزئة أو تفكيك ما لم تقم قرائن على خلاف ذلك. وفي ضوء هذه النظرة، عالج موضوعات مهمة، من ذلك، موقفه من مسألة جواز نظر الرجل إلى من يريد التزوّج بها، حيث إنّ بعضها يخصِّص ذلك بالوجه والكفين، والبعض الآخر يوسّع الدائرة إلى الشعر والمحاسن، وثالث يوسعها إلى ما هو أوسع بكثير، إذ لم ير تناقضاً بينهما، وذلك من خلال النظر إلى المجموع من هذه الروايات (كتاب النكاح، ج1، ص 54).

ولأنّ السيد لا يتعاطى مع الروايات وكأنّها أشلاء موزَّعة، ما يجعل الأحكام الشرعية أحكاماً متفرقةً دونما مرجعية تشريعية محدَّدة، إذ مع اعتراف السيد بحقيقة أنّ للطابع التعبدي خصوصيته، فإنّه يُنظِّر لأن تكون ثمّة مرجعية واحدة للأحكام المؤتلفة، وإن لم يكن القياس جائزاً، وذلك لأنّ ائتلاف الأحكام يؤشّر إلى حقيقةٍ ما لا يمكن إنكارها وتجاهلها.

وفي هذا الإطار، يمكن أن نشير إلى موقف السيد من اعتبار مقارنة النية في كلّ فعلٍ عبادي، على نحوٍ لا بدَّ من أن يؤتى بهذا الفعل أو الواجب عن نيةٍ في كلّ جزءٍ من أجزائه، بحيث لا يخلو أيّ جزء من أجزائه من النية، سواء النية المقارنة أو السابقة على الواجب. وعليه، فلا بدّ من أن تكون النية مقارنةً للصلاة في كلّ جزءٍ منها، وكذلك الغسل والوضوء، والصوم أيضاً. وقد سلّم السيد كون القاعدة الفقهية تقضي ذلك، ما لم تكن ثمة قرائن على خلاف ذلك، فإنّه - أي السيد - لا يستبعد أن يكون الصوم غير مشمول بهذه القاعدة، فإذا كانت القاعدة تقتضي أنّ يأتي المكلّف بالصلاة عن نية مقارنة لكلّ جزءٍ على نحو لا يخلو منها جزء عن نية، فإنّ حال الصوم ليس حال الصلاة، وذلك لورود روايات يمكن أن يُتصيَّد منها معنى آخر، فقد روي عن الصّادق(ع): "إنّ رجلاً أراد أن يصوم ارتفاع النهار، أيصوم؟ قال: نعم". وهي رواية لا تختص بمورد معين، وإن كان بعض الفقهاء يحملها على صورة عدم تعيّن الصوم. وروي عن الكاظم(ع): "... قلت: رجل جعل لله عليه الصيام شهراً، فيصبح وهو ينوي الصوم، ثم يبدو له فيفطر، ويصبح وهو لا ينوي الصوم، فيبدو له فيصوم. فقال: هذا كله جائز". وعن الباقر(ع) أنّه قال: "إذا لم يفرض الرجل على نفسه صياماً، ثم ذكر الصيام قبل أن يطعم طعاماً أو يشرب شراباً ولم يفطر، فهو بالخيار، إن شاء صام، وإن شاء أفطر". وهناك عدد آخر من الروايات يلتقي بهذا المضمون.

وقد حاول السيد في البحث العلمي أن يستنتج من هذه الروايات، أنّ من الممـكن تصحيـح

الصوم - عموماً - ولو فرض تأخر نيّة الصوم عن أول زمان الصوم، على نحوٍ تكون القاعدة في الصوم على خلاف القاعدة في العبادات الأخرى، ولا يجمد على الموارد التي ذكرت في بعض الروايات، كما في قضاء شهر رمضان مثلاً، وذلك لعدم الخصوصية لهذه الموارد. وعليه، فلو أنَّ مسلماً كان عاصياً ولم ينو الصوم، ولكنَّه اقتنع بالصوم في نهار اليوم ولم يفطر بعد، فإنَّ له أن يصوم ويمكن أن يحتسب له.

وعليه، فإنّ النّظر في الروايات على نحوٍ يضمُّ بعضها إلى بعض، يدعو إلى استنتاجٍ من هذا القبيل، وهو ما دعا السيد إلى التأمل فيه ودراسته، وذلك بعد افتراض أن لا تكون ثمة خصوصية لهذا الفرد من الصوم أو لذاك الفرد. (بحوث فقهية، كتاب الصوم، بقلم محمّد الحسيني).

كما أنَّ للسيد ملاحظاته النقدية على تطبيقاتٍ فقهية لقواعد أصولية ألّفها الفقهاء، ودأبوا على جعلها سيّالةً في موارد كثيرة، في وقتٍ يلاحظ السيد على ذلك أنّه غير صحيح لجهاتٍ عديدة وقرائن كثيرة.

ومن القواعد التي دأب الفقهاء على تطبيقها في مجال علاقة النصوص بعضها ببعض، وتحديداً بين المطلق منها والمقيَّد، أنّهم يحملون المطلق على المقيَّد في غالب الأحوال، وهو ما لا يناقش فيه السيد بشكل عامٍ، إذ نجده - مثلاً - لا يمانع من أن يحمل المطلق على المقيد في روايات الإحرام من ميقات (ذي الحليفة)، إذ ورد في بعض هذه الروايات، أنّ الإحرام هو من ذي الحليفة، وفي بعضها أنّه من (مسجد الشجرة) الذي يقع في هذه المنطقة، وذلك لأنّ من نظر إلى هذه الروايات من باب المطلق والمقيَّد، فإنّه نظر إلى أنّ الإحرام من ذي الحليفة عندما ينسب إلى كلّ مواقعه، فإنّ له أفراداً، فقد يحرم من المسجد، وقد يحرم من هذه الجهة، وقد يحرم من تلك الجهة الأخرى، وحينئذٍ، فإنّ (ذو الحليفة) يشمل المسجد وغيره، باعتبار انطباق العنوان عليه، فتكون من المكلَّف، ويكون المسجد من المقيَّد أيضاً بهذا اللحاظ. ولذلك احتاط بعض الفقهاء في هذه المسألة، فأفتى بوجوب الإحرام من المسجد خاصةً. (فقه الحج، تقريراً لأبحاث السيد محمّد حسين فضل الله، بقلم الشيخ جهاد فرحات، ج2، ص 140).

ومع أنّ السيد لم يوافق على هذه الفتوى، ولا يرى وجهاً لهذا الاحتياط، لعدّةٍ وجوه، ومنها أنّ رواية الإحرام من المسجد مرسلة، فإنّه لا يناقش في أصل القاعدة الأصولية وتطبيقها في المقام لو كانت ثمة روايات صحيحة ومعتدّ بها، ولكنّه لا يوافق على تطبيق هذه القاعدة في موارد أخرى يجد أنّ من غير المقبول حمل المطلق على المقيَّد فيها.

وقد ذكر السيد في بعض تقريرات أبحاثه الفقهية: "... نحن نسجّل تحفظنا عن المنهج الذي يسير عليه الفقهاء، من أنّه كلّما ورد عندنا عام وخاص، أو مطلق ومقيد، فلا بدّ من حمل العام على الخاص، وحمل المطلق على المقيَّد. وندّعي أنّ ذلك ليس بتلك المثابة من الوضوح في نظر العرف، وأنّ ذلك لا يمكن الأخذ به بشكل مطلق، لأنّه في بعض الأحيان، يكون المطلق أو العام أقوى ظهوراً من المقيَّد أو الخاص، بحيث تكاد تكون المسألة تصريحاً بعدم التقييد أو التخصيص..." (كتاب النكاح، تقريراً لبحث السيد محمّد حسين فضل الله، بقلم الشيخ جعفر الشاخوري، ج2، ص 237).

ومن تطبيقات هذه الملاحظة النقدية، مسألة ما إذا تزوَّج الرجل المرأة في عدّتها، إذ ورد في بعض الروايات أنّه ينفصل عنها وتحرم عليه مؤبّداً، وورد في روايات أخرى فصَّلت بين حالتي الجهل والعلم، وأخرى فصَّلت بين حالتي الدخول وعدم الدخول.

وقد علّق السيد على هذه المسألة: "... وقد تحدثنا عن التحفظات في إعطاء قاعدة كلّية في مسألة الجمع بين العام والخاص وبين المطلق والمقيَّد، باعتبار أنّنا لا نجد أنّ التفاهم العرفي فيما جرى عليه العقلاء في طريقة التفهيم والتفاهم متحركة في هذا الاتجاه، لأنّ حمل المطلق على المقيَّد، أو العام على الخاص، إنما يكون عندما تطلق القاعدة لتتبعها التفصيلات بعد ذلك في المواقع التي يكون من ديدن الشارع أو المتكلّم ذلك، بحيث تكون المسألة منطلقةً في الجوِّ العام الذي يراد فيه القاعدة، ثم التخطيط للتفاصيل بعد ذلك، وأما إذا كانت الأخبار متحرّكةً في أسئلة الناس فيما يبتلون به من قضاياهم، ونجد أن هناك اختلافاً في الإجابة عن المسألة التي هي محلّ الابتلاء، فتارةً يكون الجواب بلفظ عام، وتارةً يكتفى فيه بتقييد معين، وثالثة بتقييد آخر، وبالجمع بين التقييدين في مورد آخر، فإنّنا لا نجد أنّ بناء العقلاء جارٍ على الجمع في هذا المورد، بل يرون أنّ الإنسان في هذا يناقض نفسه، باعتبار أن المسألة عندما تكون محلّاً للابتلاء، فلا بدّ من الجواب عنها بكلّ تحفظاتها، وبكلّ قيودها. والاكتفاء في الجواب عنها ببعض القيود دون بعض، أو بالإطلاق، بعيداً عن القيود، مع فرض كون السائل يريد معرفة حكمه الشرعي الفعلي، هو أمر لا يمكن أن ينطبق على الطريقة العقلائية في التفاهم" (م.ن، ج2، ص241 وما بعدها).

ومن الموارد التي وقعت موضوعاً لملاحظة السيد الآنفة الذكر، مسألة زواج أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن، حيث وردت روايات بالتحريم على خلاف القاعدة، (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وقد ناقش السيد القول بالتحريم من جهات عديدة، وما يعنينا في هذه المناقشة هو ما يتصل بهذه الملاحظة، وذلك لأنّه لا توجد رواية واحدة بالتحريم عن الأئمة المتقدمين، كالباقر(ع) والصادق(ع)، إذ وردت روايات التحريم عن الأئمة المتأخرين: الرضا(ع) والعسكري(ع)، مع أنّ المسألة هي من المسائل التي يكثر الابتلاء بها. (رسالة في الرضاع، ص119).

ولذلك، فقد سجّل السيد ملاحظته على طريقة الجمع بين روايات خاصة صدرت في وقتٍ متأخر جدّاً عن روايات عامة، وذلك بحمل العام على الخاص، بحيث يكون هذا الخاص قرينةً على ذلك العام، مع أنّه من تأخير البيان عن وقت الحاجة. كما لم يقبل ما لجأ إليه الفكر الأصولي من اختراع ما يعرف بفعلية الأحكام وعدمها، فيقال عن صدور البيان مع عدم فعليته، بحيث يمكن تأخير بيانه إلى وقت آخر. (المنهج الاستدلالي عند السيد محمد حسين فضل الله، محاضرة في المعهد الشرعي، مجلة المرشد، العددان، 3-4، 1416، ص248).

ومن ملاحظات السيد النقدية فيما يتَّصل بالمصدر الثاني، ما يشاع بين الفقهاء في طريقة الجمع بين الروايات المتعارضة، وذلك بحمل إحداها على التقية، وهو إجراء طالما يلجأ إليه الفقهاء كلما عَسُر عليهم الجمع بين الطوائف المتعارضة من الروايات.

وقد سجّل السيد على الفقه الشيعي، أن الفقهاء طالما استسهلوا حمل طائفة من الروايات على التقية للتخلص من التعارض، مع أن لسان هذه الروايات آبية عن حملٍ من هذا القبيل، كما في رواية محمد بن مسلم عن الباقر(ع): أنه سئل عن سباع الطير والوحش، حتى ذُكر له القنافذ والوطواط والحمر والبغال والخيل، فقال: ليس الحرام إلاَّ ما حرَّم الله في كتابه، وقد نهى رسول الله(ص) يوم خيبر عنها، وإنما نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوها، وليست الحمر بحرام، ثم قال: إقرأ هذه الآية: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}(الأنعام: 145) (الوسائل، باب 5 من أبواب الأطعمة المحرمة، حديث 6). وما روي عن حمّاد بن عثمان عن الصادق(ع) قال: كان رسول الله(ص) عزوف النفس، وكان يكره الشيء ولا يحرِّمه، فأُتي بالأرنب، فكرهها ولم يحرِّمها، (م.ن، باب 2، حديث 21).

وبخصوص ألسنةٍ للروايات من هذا القبيل، كيف يمكن حملها على التقية من وجهة نظر السيد، وذلك لأنّ موقف التقية هو موقف ضرورة، ولا بدّ من أن لا يصار إليه إلاّ لضرورة ومصلحة، وهو ما يكفي فيه ببيان الحكم الموافق للآخر دون الاستدلال عليه وإسناده إلى القرآن، وذلك لأنّ مسلك تعليل الحكم، ينافي كون الإمام(ع) في مقام التقية، كما أنّ حمل الروايات على التقية، خيار يتمّ اللجوء إليه إذا كان ثمة تعارض مستقرّ، ولم يكن بالإمكان الجمع بينها عرفاً. ولذلك، فإنّ ما ورد من الروايات في التحريم، يحمل على الكراهة جمعاً مع الروايات التي نفت التحريم عن الموضوع نفسه، مضافاً إلى أنّ حمل الروايات على التقية، إنما يُعقل بالنسبة إلى المقامات التي يكتنفها مثل هذا الظرف، ولا يتناسب مع كون الراوي من كبار الرواة وأصحاب الأئمة المقربين إليهم جدّاً. (فقه الأطعمة والأشربة، تقريراً لأبحاث السيد محمّد حسين فضل الله، بقلم الشيخ محمّد قبيسي، ص73 وما بعدها).

كما ردّ السيد احتمال أن يكون الإمام(ع) في مثل هذه المقامات في التقية من جهة الاستدلال، وكأنّه في مقام تقية في التقية، وذلك ليعطي انطباعاً لدى الخصم لإيهامه بأنّ المسألة هي لبيان الحكم الواقعي، وذلك لأنّ الظاهر - من وجهة نظر السيد - من أيِّ استدلال، أنّ المستدلّ يكون عادةً في مقام تأسيس القناعات الحقيقية، ولا دليل على أنّ هناك تقيةً في تقية، لأنّ احتمالاً من هذا القبيل، وإن كان ممكناً ثبوتاً، إلاّ أنَّ سيرة الأئمة(ع) لا تؤكّد مثل هذا الأسلوب. (ثمار البحر: نظرة فقهية جديدة، تقريراً لبحث السيد محمّد حسين فضل الله، ص81 وما بعدها).

وأما بالنسبة إلى المصدر الثالث، وهو الإجماع، فقد توقّف السيد عنده على مستوى القاعدة تارةً، وعلى مستوى التفاصيل تارةً أخرى، وهو يرى عموماً أنّ "الإجماع ليس دليلاً أصلاً، وإنما ذكره علماؤنا الأوائل تبعاً للعامّة، ثم انفتح البحث، ولا يزال، في الدليل على حُجّيته، وطرحت النظريات المختلفة، والتي هي في الحقيقة من قبيل التعليل بعد الوقوع" (فقه الحجّ، تقريراً لبحث السيد محمّد حسين فضل الله، بقلم الشيخ جهاد فرحات، ج1، ص 211).

وقد رفض السيد الأسس النظرية الشائعة التي تبنّاها أصوليو الشيعة قديماً، مما يعرف بقاعدة اللطف ودخول المعصوم في المجمعين، وتساءل عن الكيفية التي يكشف فيها عن رأي الإمام، كما ادّعي في الكشف عن قوم المعصوم؟ إذ إنّ ذلك يستدعي العلم برأيه، إما من سيرته، أو أنّهم سمعوا ذلك منه أو ما أشبه، وهو ما يستدعي بشكل طبيعي الإشارة إلى المستند، وخصوصاً أنّ الكثير مما يدّعى فيه الإجماع، يعدُّ من المسائل العامة التي يكثر فيها الابتلاء، فكيف نفسر شدة اعتناء الرواة بنقل أمور كثيرة غير ذات أهمية عادةً، ولا ينقلون ما يتصل بالمسائل المهمة التي تتصل بحياة الناس ويكثر ابتلاؤهم بها، ولو برواية واحدة؟! (فقه الحج، ج1، ص 211).

وهو - أي السيد - في الوقت الذي يرفض هذه النظريات لتفسير الإجماع وحجّيته، فإنّه يؤيد - بقوةٍ - نظرية الشهيد محمّد باقر الصدر في تفسير حجّية الإجماع، وذلك بناءً على حساب الاحتمال، ولكنّه في الوقت الذي يعتبر أنها نظرية متينة جداً، فإنّه لا يرى لها شاهداً في واقع الفقه، إذ من البعيد جداً - من وجهة نظر السيد - إجماع المتشرّعة على أمرٍ، في وقتٍ لا يظهر مدركه على الإطلاق مع عدم توفّر أي داعٍ من دواعي إخفائه، في وقتٍ كان يُعنى الرواة بأخبار الأئمة حتى في الآداب والسنن وغير ذلك.

وأما بخصوص ما قيل عن العقل مصدراً من مصادر التشريع، فإنّه لا يرى العقل دليلاً في عرض الأدلّة الأخرى، بمعنى أنّه يشرِّع، بل بمعنى أنّه كاشف عن ملاكات الأحكام، فإذا كشف عن ملاك للحكم الملزم من مصلحة أو مفسدة، كشفاً قطعياً، فإنه يكتشف من ذلك أنّ هناك حكماً شرعياً على طبق هذه المصلحة أو المفسدة الملزمة التي أدركها العقل، وهو ما يتصل بقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، ولا يتعدى إلى غير ذلك على نحو الاستقلال.

ومما تقدّم، نخلص إلى القول في مصادر السيد من حيث هو فقيه: إنّه يعتبر ما اعتبره الفقيه الشيعي - عموماً - مصدراً، ولذلك لم يعتبر، كما لم يلجأ إلى ما اعتبر في أصول الفقه الشيعي أدلّةً ظنيةً، مثل القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، مما يعتبر أدلّةً عند الأصوليين من أهل السنة.

ولكنّه مع ذلك، لاحظ شدَّة الحساسية الفقهية لدى فقهاء الشيعة تجاه القياس - مثلاً - في وقت يفترض أن يصار إلى ضابط دقيق للتمييز بين ما هو من القياس وما هو ليس منه، بحيث يمكن معه التعدّي من مورد إلى آخر في مقام، وعدم التعدي في مقام آخر (مجلة المنطلق، ص68 وما بعدها)، حذراً من الوقوع في الاشتباه بما أسماه الشيخ محمد حسن النجفي (صاحب الجواهر) "القياس الجائز والقياس الممتنع" (جواهر الكلام، ج29، ص 324)، وهو محذور يقع فيه فقهاء كبار، كما لاحظه الشيخ محمّد حسن على الشيخ الكركي، الذي استغرب منه وقوعه في القياس، مع شدَّة حذره ومحافظته عن الوقوع فيه (م.ن، ج29، ص320). وعندئذٍ، يكون السيد على حقٍ في الدعوة إلى التوفر على ضابط ينقذ من هذا المحذور، مع كثرة الموارد التي يقال إنّها خاصة لا يجوز التعدّي منها إلى غيرها، في وقتٍ لا يعتبرها فقهاء آخرون موارد خاصّةً، بل مختلفاً فيها، إذ يمكن أن نشير إلى مسألة جواز دفع الخراج إلى الفقيه أو عدمه، إذ ورد في الروايات، جواز دفع الخراج إلى الحاكم الجائر وبراءة ذمة الدافع، فوقع الخلاف بين الفقهاء في التعدّي إلى مسألة دفع الخراج إلى الفقيه، فاعتبر بعضهم أنّ التعدّي من القياس الممنوع، لأنّ ما ورد من الجواز مخصوص بالدّفع إلى الحاكم الجائر، ومنهم من اعتبر التعدّي إلى الفقيه مما يقطع به الفقيه بأدنى نظر وتأمل، كما عن الشيخ صاحب الجواهر. (م.ن، ج22، ص 195).

ولأنّ ثمة من حاول تسويق محاولة السيد تمرير القياس في عملية الاستنباط، أنقل النص التالي عنه: "هنا، قد تستوقفني بعض الموضوعات الأصولية المختلف حولها، كالقياس والاستحسان والعقل، والخلاف فيها يتفرع إلى شقين:

الأوّل: وهو حجية هذه العناوين، لأنّ أيّ عنوان من العناوين التي تأخذ موقع البرهان والحجة، لا بدّ من أن يقوم الدليل القاطع على حجيتها، إمّا من خلال العقل، وإمّا من خلال الشرع، حتى يمكن للحكم الشرعي المستنبط منها أن يكون معذّراً أمام الله سبحانه وتعالى، وبالتالي، ليصحَّ أن ننسب الحكم الشرعي إلى مصدره، فإذا لم يكن معتبراً، فكيف يمكن لنا أن نحقّق هذه النسبة؟ عند ذلك تكون المسألة داخلة فيما يصطلح عليه بالتشريع الذي هو إدخال ما ليس في الدين فيه، أو إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين، وهذا ما تعبّر عنه الآية الكريمة: {آَللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ}(يونس:59)، فلا بدّ من أن يأذن الله لنا في نسبة أيّ حكم إليه وإلى رسوله من خلال الوسائل الدليلية التي تؤكد كون هذا الحكم حكماً شرعيّاً. ولهذا كان الجدل، وهو لم يكن في القياس بشكل مطلق، أو في الاستحسان كذلك وفي العقل أيضاً. كان الجدل ينطلق من القياس الظني والاستحسانات الظنية والعقل الظني، لأنّ الأصل في الظن، بحسب حكم العقل وبحسب أدلّة النصوص القرآنية، عدم الحجية، لأنّ الظن يلتقي مع احتمال الخلاف، فلا بدّ لنا من أساسٍ يلغي احتمال الخلاف، حتى تكون المسألة واضحةً بشكل حاسم، لأنّه عندما تحتمل وجود الخطأ أو الكذب، أو أيّ احتمال يبتعد بالمسألة عن دائرة الحقيقة، فكيف يمكن لك أن تسقط هذا الاحتمال؟ إنّ الطريقة الأصولية تقول إنّه لا بدّ من إسقاط هذا الاحتمال، إمّا بِحُجّة عقلائية مألوفة من الشارع، أو غير مردوعة من الشارع، وإمّا بجعل شرعي يجعل هذا الدليل حُجّةً، فتكون نتيجة إلغاء احتمال الخلاف شرعاً هنا، أو إلغاء احتمال الخلاف عقلائيةً هناك. ولذلك، بدأ الحديث في حجية القياس الظّني، على أساس أنَّ نقل حكم من موضوع إلى موضوع آخر لمجرّد المشاكلة والمشابهة بينهما في بعض الخصوصيات، ليس حُجّةً، ولا يرتكز على حُجّة، وذلك من جهة أنّنا لا نستطيع أن نعتبر أنّ الأساس في هذا الحكم الذي ثبت لهذا الموضوع، هو هذه الخصوصية الموجودة فيه، لننقل الحكم بلحاظ الخصوصية الموجودة فيه، وربما كانت هناك خصوصيات أُخرى لم نطلع عليها مثلاً، وربما لم تكن هذه هي الخصوصية، وربما كانت هذه الخصوصية منضمّةً إلى خصوصية أخرى، وليست بمفردها، وهذه الخصوصيات ليست موجودةً في الموضوع الآخر. وهكذا المسألة في الاستحسان، فإنّ الاستحسانات الظنية تندرج تحت عنوان الظن الذي لا يغني من الحقّ شيئاً. وهكذا بالنسبة إلى حكم الظن العقلي". (مجلة المنطلق، العدد111، ص 74 وما بعدها).

وقال أيضاً: "وفي هذا الإطار، لا بدّ من الالتفات إلى أحد محفزات العمل بالقياس عند بعض المذاهب، وهو انطلاقه من ضرورة معرفة الأحكام مع قلة الأحاديث الصحيحة، فلجأ هذا البعض إلى القياس لملء الفراغ، كما حصل مع الإمام أبي حنيفة، الذي كان أوّل من نظّر للقياس وعمل به، إذ لم يصح عنده من أحاديث النبيّ(ص) إلاّ ثمانية عشر حديثاً حسب ما أذكر، بمعنى أنّه لا يملك أي مصدر لاستنباط الحكم الشرعي، وهذا ما نعبّر عنه بدليل انسداد باب العلم والعلمي، ومن الطبيعي أنّه إذا انسدَّ باب العلم بالأحكام أو باب الحجج الخاصة، أي ما يعبّر عنه بالعلمي، فإنّنا لا بدّ من أن نرجع إلى حجية الظن على بعض المباني، كمبنى الكاشفية... ومن خلال هذا، نفهم أنّ رفض القياس لدى أئمة أهل البيت(ع)، قد يكون منطلقاً من أنّ هناك أحاديث في السنَّة الشريفة واردة بشكل واسع جداً لا يحتاج فيه إلى القياس، لأنّ باب العلم مفتوح من جميع الجهات مثلاً، سواء أكان من خلال القواعد العامة، أم من خلال النصوص الخاصة.

بتصوري، إنّ المشكلة تكمن في فهم النصوص ومواردها، وفي أغلب الأحيان، تكون الموارد مجرّد نماذج للفكرة، وهذا ما لم ينتبه إليه الفقهاء، لأنّنا إذا انتزعنا العنوان العام من الموارد الخاصة، فإنّنا قد نحصل على عناوين كلية، وبالتالي، قد لا نحتاج إلى القياس ولا إلى غيره، باعتبار أنّنا نحصل من خلال ذلك على قواعد عامة في أغلب الموارد الخاصة..." (مجلة المنطلق، العدد 111، ص78 وما بعدها).

وقال أيضاً: "ومن جهة أُخرى، فإنّ علينا أن نؤصِّل، أو نحدِّد - في تعبير أصح - مسألة القياس، التي تنطلق من الحالات التي لا يكون فيها المعنى الذي يجمع بين الموردين، اللذين ورد النص في أحدهما ولم يرد في الآخر، واضحاً ومشتركاً، وبالتالي، هل إنّ المضمون الوارد في أحدهما هو مضمون خصوصية أم مضمون شامل؟

وهكذا نلاحظ في أكثر من مورد من موارد الفقه، بحيث إنّ علينا أن نحاول استيحاء المسألة مما قد يسمى في بعض التعابير الفقهية مناسبة الحكم للموضوع، التي هي حالة ظهورية من مصاديق الظهور... بالطبع، ثمة أُمور لا يملك الإنسان مثلاً أن يعرفها، كما في قضيّة وجوب قضاء الصوم في العادة الشهرية للمرأة وعدم قضاء الصلاة مثلاً..." (م.ن، ص68 وما بعدها).

كما يمكن استيضاح الأمر من خلال مراجعة المقال الذي كتبته في هذا الصدد، ونشر في

مجلة (فقه أهل البيت(ع) الصادرة عن دائرة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت(ع)، بعنوان (نظرات في مسألة القياس الفقهي، العدد26).

رابعاً: ملامح المنهج الفقهي

من خلال متابعة البحث الفقهي للسيد، وملاحظاته النقدية، ورؤاه وطريقته في تكييف الحكم الشرعي، أو تعاطيه مع النص الشرعي من حيث قراءته وفحصه وتحليله، وكذلك الجمع بين المتعارض منه والمتنافي، يمكن تحديد ملامح المنهج الفقهي عنده في عدّة نقاط:

    النزعة العرفية في فهم النصوص الشرعية:

يتعاطى الفقيه مع الأدلة الشرعية، التي يفترض أنّها صادرة عن الشارع المقدّس، في محاولةٍ منه لفهمها واقتناص المدلول الشرعي منها. ولا إشكال في أنّ قراءة الفقيه للنص الشرعي، لا تختلف عن قراءة النصوص الأخرى الصادرة باللغة العربية، ولا يختلف فهم النص الشرعي عن فهم أيّة وثيقةٍ مكتوبةٍ باللّغة العربية، وذلك لجهة أنّ الشارع في أسلوبه البياني اللغوي، يجري وفقاً لأصول المحاورات وقواعدها عند العرف. ولذلك دأب الفقهاء على فهم هذه النصوص وفقاً لما عليه العرف، إِلى درجة يمكن أنّ تكون معها مرتكزات العرف قرائن للتعميم تارةً، وللتخصيص تارةً أخرى، كما هو الحال في ما يعرف بقاعدة «مناسبات الحكم والموضوع» مثلاً. ولكن مع ذلك، نجد هناك اتجاهاً لا يستهان به، أخذ يميل إلى قراءة النصوص الشرعية بطريقة فلسفية، ودخلت معها، ليس لغة الفلسفة والمنطق فحسب، بل وآلياتهما وقواعدهما أيضاً.

وقد لاحظ السيّد على هذا الاتجاه، أنّه استغرق، وبغيبوبة طويلة، في ضباب الألفاظ، وبمزيدٍ من الحذلقة والمماحكة اللفظية، فيما هيمن الأسلوب الفلسفي والطريقة العقلية المحضة على طريق الاستدلال الفقهي.

وإزاء هذا الاتجاه، لا يخفي السيد امتعاضه من هكذا طريقة في التفكير وطغيانها في المدرسة الفقهية، وهو غالباً ما يلاحظ على أكابر الفقهاء، دقّتهم العلمية وتكييفاتهم الفنية الصناعية، ويثني على مقدرتهم الفذَّة في هذا المجال، إلا أنّه مع ذلك، لا يجد مبرراً لمجاراتهم في هذا الاتجاه، لأنّه يؤكّد أنّ فهم (النصوص) يجب أن يتمّ بعيداً عن الطريقة العقلية، بل إنّ الاستغراق فيها قد يورّط الفقيه بنتائج بعيدة تماماً عن الفقه والشريعة.

وقد يكون من الطريف الإشارة إلى موقف عددٍ من الفقهاء وتعليقهم على مسألة فقهية ذكرها السيد كاظم اليزدي في كتابه (العروة الوثقى) من باب الإجارة، إذ ورد التالي: «إذ قال: إن خطت هذا الثوب فارسياً، أي بدرزٍ، فلك درهم، وإن خطته رومياً بدرزين فلك درهمان»، والموقف الفقهي تجاه هذه المسألة هو البطلان، وذلك للجهالة، إذ اشترط الفقهاء أن يكون العوضان معلومين، وليس الأمر كذلك في الفرض.

والطّريف هو في توجيه البطلان بطريقة فلسفية، كما ذكره السيد الخوئي، موافقاً لأستاذه الفيلسوف الشيخ محمّد حسين الأصفهاني، فيقول: «إنّ هذه الإجارة قد يفرض انحلالها إلى إجارتين متقاربتين على عملين بأجرتين، كلٌّ منهما في عرض الأخرى، ولا ينبغي الشكّ حينئذٍ في بطلان كلتا الإجارتين، لعدم قدرة الأجير على الجمع بين هاتين المنفعتين في وقتٍ واحد. وعليه، فوجوب الوفاء بهما متعذّر، ومعه، لا يمكن الحكم بصحّتهما معاً، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر. وقد يفرض تعلّقهما بأحد هذين العملين مردّداً بينهما، والظاهر بطلان مثل هذه الإجارة، لأجل أنّ أحدهما المردّد، لا تعيّن له لدى التَّحليل، لا بحسب الواقع، ولا في علم الله سبحانه وتعالى، وذلك لأنّ من الجائز أنّ الخياط لا يخيط هذا الثوب أصلاً، ولا يصدر العمل في الخارج بتاتاً...».

وقد علّق السيد على رأي أستاذه (الخوئي) بالقول: «إنّ عالم المعاملات هو عالم العقلاء، والعقلاء يجرون معاملاتهم على حسب حاجاتهم، سواء من خلال الخصوصيات التي تختلف فيها الرغبات أو من دونها، فقد يحدِّد المتعامل الخصوصيات بشكلٍ لا يحتمل أيَّ تردّد، وقد لا يهمّه مثل هذا التحديد، ويكتفي بأصل موضوع المعاملة، تاركاً للأجير بحسب خبرته تحديد هذه الخصوصيات، إذ قد لا تكون مثل هذه الخصوصيات ضروريةً إلى حدّ كبير، بحيث لا يقدم على المعاملة لولاها، فإذا كانت المسألة كذلك تكون المعاملة صحيحةً...». (فقه الإجارة، تقريراً لأبحاث السيد محمد حسين فضل الله، بقلم محمّد الحسيني، ص61 وما بعدها).

ونظير هذا التكييف العقلي / الفلسفي، ما ورد على لسان السيد الخوئي في مورد فقهي آخر، وبالتحديد، في شرطية الطهارة في الصلاة والطواف، حيث وقع البحث بين الفقهاء في مدى اشتراط هذه الطهارة في تمام الصلاة والطواف أو  عدم اشتراطها على هذا النحو، بحيث ذكر السيد الخوئي تكييفاً أقرب ما يكون إلى عالم الفلسفة منه إلى عالم الفقه والتشريع، حيث ذكر أنّ غاية ما يستفاد من أدلّة الاشتراط، هو اقتران أجزاء الصلاة والطواف بالطهارة، وأما الأكوان المتخللة بين هذه الأجزاء، فلا يشترط فيها الطهارة ما لم يدلّ دليل على خلاف ذلك. (شرح المناسك للسيد الخوئي، ج7، ص29).

وقد لاحظ السيد على أستاذه الخوئي، أنّ ما ذكره خلاف الفهم العرفي جدّاً، وما ورد في دليل اشتراط الطهارة، لا يمكن أن يفهم بمثل هذا الفهم الدقي الذي لا يلتفت إليه المخاطب العرفي، حيث إنّ ما يفهمه، هو أن يكون متطهراً حال الصلاة والطواف، بحيث تكون صلاته وطوافه عن طهور أو  معه، بلا فرق بين أجزائه وأكوانه، فيكون المناخ الذي يكون فيه المصلِّي أو  الطائف مناخ التطهر، وهو عملٌ مركَّب واحد، لا يمكن التفكيك بين أجزائه وأكوانه بهذه الطريقة. (فقه الحج، تقريراً لأبحاث السيد فضل الله، بقلم محمّد الحسيني، بحوث غير منشورة).

وعلى خلفية هذه الذهنية، اخترع ما ادّعي من عدم فعلية بعض الأحكام، على نحوٍ تكون صادرةً في زمن النبيّ(ص)، مع عدم فعليتها وتنجّزها في ذمّة المكلَّف، وبذلك يفسّر صدور بعض الروايات التي تشكل تقييداً أو تخصيصاً، كما في روايات تحريم زواج أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن، مما اعتبره السيد على خلاف الطريقة العرفية، حيث لا دليل على عدم فعلية بعض الأحكام، بل الدليل على خلاف ذلك.

وهناك العديد من الشواهد على تأكيد السيد التعاطي مع النصوص الشرعية وفقاً للفهم العرفي، وقد ذكرنا بعضها في مطاوي البحث، ويأتي بعضها أيضاً.

    الرؤية التوحيدية:

ونعني بالرؤية التوحيدية، أنّه يتعاطى مع النصوص الشرعية عبر عملية توحيد وتأليف للنصوص، باعتبارها ترجع إلى جهة تشريعية واحدة، وكونها تعبِّر عن مناخٍ تشريعي واحد، إذ إنّه لا يمكن فهم النصوص بعيداً عن بعضها البعض، في وقتٍ تنتمي إلى مرجعية واحدة.

ومن الموارد التي شكَّلت مظهراً من مظاهر الرؤية التوحيدية للأدلة الشرعيّة عند السيد فضل الله، موقفه من مسألة السبب الباعث على الجهاد من وجهة نظر الإسلام؛ حيث نشب خلاف وتعارض بين الفقهاء حول الباعث على الجهاد القتالي في الإسلام؛ أهو الكفر بقطع النظر عن الحرابة، أم هي الحرابة بقطع النظر عن الكفر وعدمه؟

وقد ذهب الجمهور، وهم الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، إلى أنّ علَّة الجهاد القتالي هي درء الحرابة، وذهب الشافعي، على الأظهر، إلى أنَّ العلَّة هي الكفر. وهو مذهب ابن حزم أيضاً.

وظاهر ما ذهب إليه الشيعة، من عدم جواز قتل الشيخ الفاني والنساء والصبيان والمجنون... إلخ، كما سوف يتبين لاحقاً، هو القول بأنّ الجهاد هو لدرء الحرابة، وليس للكفر، وإن بدا من خلال ما ذهب إليه السيد الخوئي، أنّ الباعث على الجهاد القتالي هو الكفر لا الحرابة، لقوله بأنّ نفس الكافر غير محترمة لذاتها، وليس فقط لكونها في حال الحرابة.

وفي مطلق الأحـوال، فإنّ سبب الخـلاف يعود على وجـه الـدقـة والتحديد، إلى مجموع الأدلّـــة

من الكتاب والسنّة، التي بنى عليها كلّ من أصحاب الرّأيين حكمه.

ومن وجهة نظر السيد، فإنّ موجب قتال المسلمين لغيرهم، إنما هو العدوان الصادر عنهم لا كفرهم، وقد استدلَّ بآياتٍ كثيرة نزلت في مناسبات وأوقات متفرقة، وأحاديث كثيرة منعت من قتال من لا يواجهون المسلمين بأيّ عدوان، أو من لا يتأتى منهم القتال.

فمن الآيات قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}(البقرة: 190).

وقوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ...}(التوبة: 13).

و قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(الممتحنة: 8 ـ 9).

وقوله عزَّ وجلّ: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً...}(التوبة: 3)، حيث عدّت الكاف في قوله: (كما) للتعليل.

فهذه الآيات، كما يرى السيد، صريحة الدلالة على كون علة الجهاد هي الحرابة. وهي في مجموعها، قد نزلت في أوقات متباينة من العهد المدني، بل إنّ منها ما قد نزل قبيل وفاة رسول الله(ص) بأشهر فقط.

كما استدلَّ السيد بعددٍ من الروايات على رؤيته. ومن تلك الروايات، ما رواه جميل بن دراج ومحمد بن حمران، عن أبي عبد الله(ع)، قال:

«كان رسول الله(ص) إذا أراد أن يبعث سريةً، دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثم يقول: سيروا بسم الله، وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله(ص)، لا تغلوا، ولا تمثّلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبياً، ولا امرأةً، ولا تقطعوا شجرةً، إِلا أن تضطروا إليها».

كما روى أبو داود من حديث أنس بن مالك، شبيهاً به، أنّ رسول الله(ص) قال: «انطلقوا بسم الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأةً، ولا تغلوا، وضمّوا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين».

وقد رُوي، أيضاً، عن طريق مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله(ع)، قال: «إنّ النبي(ص) كان إذا بعث أميراً على سرية، أمره بتقوى الله تعالى...».

إلى أن يقول: «اغزوا بسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلُّوا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً، ولا متبتّلاً في شاهق».

وملاك الاستشهاد - عند السيد - في هذه الأحاديث، أنّ رسول الله(ص) نهى عن مقاتلة غير الذين يواجهون المسلمين بالعدوان والقتال، وإن كانوا كافرين.

ومن وجهة نظره، فإنّ المتتبّع لسنّة رسول الله(ص) في غزواته وحروبه، وحتى في العهود التالية لوفاته، يجد أن هذه الوصايا بقيت خُلُقاً إسلامياً يلتزم به المسلمون في القتال مع غيرهم.

وقد ناقش السيد في أدلّة من يدّعي من الفقهاء بأنَّ علّة الجهاد الكفر، كما قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(التوبة: 5).

وقوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}(التوبة: 29).

وقوله تعالى: {وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}(التوبة: 5)، وأنّهم شرّ الدواب، أي الكفّار، وأشدّهم أذيّةً.

أو ما ورد في الرّوايات، كما في الرّواية عن النبي(ص): «أنّه نصب على أهل الطائف

منجنيقاً، وكان فيهم نساء وصبيان، وخرّب حصون بني النضير وخيبر وهدم دورهم».

أو ما ورد في خبر حفص بن غياث: «كتب بعض أخواني  إِليَّ أن أسأل أبا عبد الله(ع) عن مدينةٍ من مدائن أهل الحرب؛ هل يجوز أن يرسل عليهم الماء، أو تحرق بالنار، أو ترمى بالمنجنيق، حتى يقتلوا وفيهم النساء والصبيان والشيخ الكبير والأسارى من المسلمين والتجار؟ فقال: يفعل ذلك، ولا يمسك عنهم لهؤلاء، ولا دية عليهم للمسلمين ولا كفّارة».

أو ما رواه أبو داود والترمذي من حديث سمرة بن جندب عن النبي(ص)، أنّه قال: «اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم»، أي صغارهم.

أو ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك أنّ رجلاً جاء، فقال لرسول الله(ص) بعد أن دخل مكة يوم الفتح: «ابن خطل متعلّق بأستار الكعبة، فقال: اقتله. قلت: وقد كان رسول الله(ص) أهدر دماء ستّة رجال وأربع نسوة، من المشركين يوم الفتح».

وقد رأى أصحاب هذا المذهب، أنّ الآيتين، الأولى والثانية، دلَّتا على أنّ ملاك وجوب قتل الكافرين هو الكفر لا الحرابة، بدليل أنّه جعل غاية هذا الحكم في الآية الأولى الإيمان والتوبة، والخضوع والجزية في الآية الثانية.

وأما ما استفادوه من الأحاديث، فهو أن أمر رسول الله(ص) بقتل شيوخ المشركين، ما كان ليكون لو أنّ علَّة الجهاد هي الحرابة، لأنّ الشيوخ لا يتأتّى منهم المبادرة بالعدوان، وكذلك الأمر فيمن أمر بقتلهم(ص) بعد أن أهدر دمهم، فلا محالة إذاً أن ملاك الحكم هنا أيضاً هو الكفر لا الحرابة.

وقد ناقش السيد في ما ادّعاه أصحاب هذه الرؤية، وقد رأى أنّ قوله تعالى:

{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(التوبة: 5)، لا يدلُّ على مطلوبهم، وذلك لأنّ القارئ إذا أوقف نفسه عند منطوق هذه الآية، بمعزلٍ عن سياقها الذي وردت فيه، سواء بما جاء قبلها، أو بما ورد بعدها، خصوصاً ما ورد بعدها، لن يستنتج إلا ما استنتجه أصحاب هذا المذهب، من أنّ علَّة القتال في الإسلام هي الكفر لا الحرابة. ولكن إذا ما أخذنا الآيات التي تليها بالاعتبار، وهي قوله عزَّ وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}(التوبة: 6 - 8). فالمتأمّل في هذه الآيات الثلاث، يظهر له نقيض ما ذهب إليه أصحاب المذهب الثاني، وذلك من خلال التالي:

أولاً: في أمره تعالى بإجارة المشرك إذا ما طلب ذلك، حتى يسمع كلام الله، وبإبلاغه مأمنه بعد أن يسمع، إذ لو كان الباعث على القتال هو الكفر، وكان جائزاً إجارته حتى يسمع كلام الله تعالى، فأيُّ معنى يبقى لإبلاغه مأمنه ما دام بقي على كفره متلبّساً به؟ وبكلام آخر، ألا يستوجب بقاؤه على كفره قتله في الحال عند من يقول بأنّ الباعث على القتال هو الكفر. وبالتالي، ما الدافع لإبلاغه مأمنه، أو ما السبب الكامن وراء ذلك؟

في الحقيقة، لا يمكن - من وجهة نظر السيد - فهم السبب، إلا بأنّ هذا المشرك عندما يطلب الإجارة، ليسمع كلام الله تعالى، إنما ينـزع عن نفسه صفة الحربي، ليتلبّس صفة الإنسان المسالم، والدخول في أمان المسلمين، والبقاء على هذه الحال طيلة مدّة الإجارة إلى حين بلوغه مأمنه، ما يسقط وجوب قتاله، وبالتالي قتله، فهو لم يدخل ديار المسلمين محارباً، وإنما مستطلعاً، وما دامت هذه صفته أو حاله، فلا موجب لقتاله بالمقتضى الأخلاقي، وبمقتضى مبدأ المعاملة بالمثل.

ثانياً: في الاستثناء الوارد في قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ...)(التوبة:7). فلو كان الكفر بحد ذاته موجباً للقتال، فكيف يمكن أن تسوّغ معاهدة من أمرنا الله تعالى بقتالهم؟ ولا يستقيم هنا الردّ بأنّ هذه المعاهدات، إنما كانت قبل نزول ما يسمى بآية السيف،لأنّه بموجب هذا القول، من المفروض حينئذٍ أن تكون هذه الآية بمثابة إلغاء لهذه المعاملات. كما لا يستقيم معها القول بأنَّ الله تعالى، إنما أمرنا بالاستمرار ببرِّ المشركين الذين «لم يقاتلونا في الدين ولم يقاتلونا بأيِّ عدوان...». إذاً، فمقتضى ذلك أن يسري النسخ إلى المعاهدات التي بين المسلمين والمشركين في ظلّ ذلك، الحكم المنسوخ، ذلك لكون الخطاب الإلهي يأمرنا صراحةً بأن نستقيم في برّنا للمشركين ما استقاموا في برّهم لنا، وهذا الأمر يأتي مباشرةً بعد آية السيف، ما يعني أن الحكم باستمرار شرعية هذه المعاهدة، إنما هو بمقتضى الخطاب الجديد، وليس بمقتضى استمرار الحكم السابق.

ثالثاً: في بيان العلَّة التي أظهرها الله تعالى لاستنكاره أن يكون للمشركين عهد عنده تعالى وعند رسوله(ص)، وذلك في قوله عزَّ وجلَّ: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}(التوبة:8). فهؤلاء إنما لا عهد لهم لأنَّ هذه هي حالهم، أي إِنّهم ما إن يشعروا بالتفوّق والغلبة، حتى يطيحوا بكلّ العهود والذمم التي أخذوا على أنفسهم الالتزام بها ابتداءً، وما ذلك، إلا لنفاقهم وعنادهم، حيث تكذّب ألسنتهم ما في قلوبهم، وتكذّب قلوبهم ما تبديه ألسنتهم.

وما يريد قوله السيد، هنا، إنّ هذا البيان، ما كان ليضيف شيئاً أو ليقول شيئاً جديداً، لو كان سبب استنكار قيام العهد بين المسلمين والمشركين هو الكفر بحدّ ذاته، إذ سيكون الأمر عندها سيّان. وبكلامٍ أوضح، إذا كان الكفر هو علة القتال والقطيعة، فإنّ الأمر سيكون سيّان بعدها، سواء كان هؤلاء أمناء على العهد أو مضيعين وخائنين له، وبالتالي، لا معنى لهذا البيان الذي أتت به الآية، ولن يغدو عندها إلا حشواً لا مبرر له.

ثم يذكر السيد ملاحظةً أخيرةً، وهي أنّ هذه الشواهد التي ذكرها، إنما وردت مباشرةً عقب الآية التي كانت عمدة استدلالهم على ما ذهبوا إليه.

وكذلك ناقش السيد استدلالهم بقوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}(التوبة: 29). إذ إنّه - في رأيه - ليس بأحسن حظّاً من استدلالهم السابق، ذلك لإمكان تفنيده من وجوه عدّة، أبرزها:

أوّلاً: لقد جعل الله تعالى، كما هو بيّن من نصّ الآية، غاية القتال هي الدخول في نظام الجزية والخضوع له.

ونظام الجزية، كما هو معروف، لا يستوجب التنازل عن الديانة السابقة والالتحاق بديانة الإسلام، هذا الالتحاق الذي هو الشرط الأساس لوقف القتال، لو كان الباعث عليه هو الكفر بحدّ ذاته. في حين نرى، أنّ الآية قيّدت القتال بالخضوع لنظام الجزية فقط، وهذا النظام لا يقوم مقام الإسلام كما هو واضح، وبالتالي، إذا كان الإسلام ليس شرطاً، فهذا يعني أنّ الكفر ليس هو الباعث على القتال.

بيد أنّ نظام الجزية، وإن لم يُنهِ مشكلة الكفر، فإنّه بالتأكيد قد أنهى مشكلةً أخرى هي مشكلة الحرابة، ما دام القتال في تصوّر الفقهاء يدور مدار هذين الباعثين: الكفر أو الحرابة. وبموجب هذا النظام، ارتفعت مشكلة الحرابة، ليحلّ السلم وينتشر.

هذا في جانبٍ، وفي جانبٍ آخر، فإنّ الآية لم تأمر بالقتل - من وجهة نظر السيد - وإنما أمرت بالقتال، وثمة فارق كبير في الدلالة اللغوية بين الاثنين، وبيان ذلك، أنّ كلمة (قاتل) على وزن فاعل تدلُّ على المشاركة. وبالتالي، هي تستلزم وجود طرفين يتشاركان فعلاً واحداً، وهو القتال في فرضنا الحالي. بل أكثر من ذلك، إنّ هذا اللّفظ لا ينطبق إلا تعبيراً عن مقاومةٍ لبادئٍ سبق إلى قصد القتال. فالمقاوم للبادئ هو الذي يسمّى مقاتلاً. أما البادئ، فهو أبعد من أن يسمّى، عرفاً، مقاتلاً، بل هو في الاستخدام الشائع والمتداول، معتدياً وقاتلاً، ولا يمكن تسميته مقاتلاً. من هنا - فمن وجهة نظره - فالمقاتلة، بما هي من أفعال المشاركة، إنما تقوم مع فرض تصوّر معتدٍ أو قاتلٍ ينهض للتصدي له مقاتلٌ، وإلا لما كان هناك من معنى للمشاركة.

وعليه، ففي رأيه، فإنّ الآية إنما تتحدَّث عن وضعٍ يكون فيه الكتابيون، أو غيرهم، إمّا متلبسين بحال القتال، أو متوثّبين إليه يخطّطون ويهيّئون له عدته، عندها من الطبيعي أن ينهض المسلمون لقتالهم.

فالباعث لقتالهم هنا، هو درء العدوان وردّ القتل وإحباط الخطط الخاصة بذلك، وصولاً إلى إعادة فرض الهدوء والسلام عن طريق نظامٍ خاصٍّ هو نظام الجزية.

وكما ناقش السيد في أدلّتهم من الكتاب الكريم، فقد ناقش في أدلتهم من الروايات، حيث ناقش فيما استندوا إليه من حديث رسول الله(ص): «أمرت أن أقاتل النّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك، عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّ الإسلام وحسابهم على الله». وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، وهو مروي أيضاً عن طريق الشيخين مرفوعاً إلى ابن عمر.

حيث أورد السيد على هذا الخبر إشكالين؛ الأول: من جهة إسناده، حيث إنّ إسناده ضعيف وغريب، واستشهد السيد على ذلك بأنّ أحمد بن حنبل لم يروه في مسنده، وهو المعروف عنه توسّعه وتساهله في رواية الصحيح وغيره من الأخبار.

كما أنّ الحافظ بن حجر ذكر أنَّ هناك من العلماء من استبعد صحته، مستدّلاً بأنّ ابن عمر لو كان عنده علم بهذا الحديث، لما ترك أباه ينازع أبا بكر في قتال مانعي الزكاة. (فتح الباري، ج1، ص57).

وقد لاحظ السيد على الحديث، أنّ موضع الإشكال والشبهة في هذا الحديث، هو عدم تبيّن الفارق الدقيق بين كلمة (أقتل) و(أقاتل)، كما أشار إلى ذلك من قبل. إذ لو أنّ الحديث ورد في هذه الصيغة مثلاً: «أمرت أن أقتل الناس حتّى...»، لكان مشكلاً حقاً، وذلك لتناقضه مع الكثير من الآيات والأحاديث التي تحضّ على عدم القسر والإكراه.

لكن استخدام كلمة (أقاتل)، هو ما يجعل الحديث منسجماً مع أجواء هذه الآيات والرّوايات، وبالتالي منسجماً مع روح القرآن في هذا الخصوص.

وقد قال السيد سابقاً، إنّ كلمة (قاتَلَ) هي على وزن فاعل، وهي من الأوزان التي تفيد المشاركة، وهي لا تصدق إلا تعبيراً عن مقاومة لبادئٍ سبق إلى الضّرب والقتل. فالمقاوم للمعتدي هو الذي يسمى مقاتلاً، بينما المعتدي يسمّى قاتلاً. وفي ضوء هذا التوضيح، يصبح حمل دلالة هذا الحديث على أنّ علّة الجهاد القتالي في الإسلام هي الكفر، ساقطاً، إذ يصبح بالإمكان صياغة مضمونه وفق التالي: أمرت أن أدفع أيَّ اعتداء أو عدوانٍ على دعوتي الناس إلى الالتزام بوحدانية الله تعالى، وإذا لم يتحقّق دفع العدوان هذا إلا بقتال المعتدين والمعادين والمتربصين، فلا محيص منه، لأنّ ذلك تكليف إلهي.

كما ناقش السيد - أيضاً - في حديث: «اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم».

إذ يمكن معارضة هذا الحديث - في رأيه - من جملة أوجه، أبرزها التالي:

أولاً، إنّ كلمة شيخ في اللغة ليست حكراً على من انقطعت عنه أسباب القوَّة ولم يَعُد يتأتّى منه قتال أو دفاع، بل إنّ المعنى اللغوي لهذه الكلمة أعمّ من ذلك بكثير.

ففي اللسان: «الشيخ هو الذي استبانت فيه السنّ، وظهر عليه الشيب...»، وأكثر اللغويين على أن الرجل يسمى شيخاً إذا استكمل الخمسين من العمر.

ويظهر ممّا تقدَّم، أنّ كلمة (شيخ) ليست موقوفةً على من ذهبت قوَّته وبان ضعفه، وإنما يراد منها الإشارة إلى وضعٍ خاصّ يقتضي الاحترام والتقدير والتبجيل. وما يرجّح هذا المعنى، هو نفس ما ذكره صاحب اللسان، حيث قال: «وشيّخته، دعوته شيخاً للتبجيل».

من هنا، فمن وجهة نظر السيد، فإنّ مفاد معنى كلمة (الشيخ)، هي بلوغ مرحلة النضج والكمال العقلي من العمر، ومن الواضح، أنه ليس لهذا علاقة بمظاهر القوة أو الضعف، إذ إنّ التبجيل والاحترام اللاّزمين للشيخ، هما مظهر هذين الكمالين فيه، لا لاعتبارٍ آخر.

هذا في جانب، وفي جانب آخر، فإنّ الحديث بُنِيَ على نوع من التقابل الحادّ بين (الشيخ) و(الشرخ) على حدّ تعبير الحديث. والشرخ، كما قلنا، هو الصغير الذي دون سن القتال والكيد له.

وهذا التقابل يعني، ضمناً، أنّ دائرة الشيوخ باتت تشمل كلّ ما لم يكن في مرحلة (الشرخ)، أي باتت تشمل الشباب أيضاً. وهذا دليل إضافي، على أنّ المراد من كلمة شيخ، ليس من تقادمت به السنّ وذهبت منه القوة وبان فيه الضعف، وإنما المراد كلّ من هو قادر على القتال والقتل والعدوان، إمّا بالكيد والحيلة والمخادعة وفنون المكر، وإمّا بالسلاح وسواه.

ثانياً: فإنّه يمكن - في رأي السيد- معارضة هذا الحديث بالأحاديث الأخرى التي تنهى عن قتل الشيوخ والأطفال والنساء... كما في قوله(ص) عن أبي عبد الله(ع)، إنّه إذا أراد أن يبعث سريةً دعاهم... إلى أن قال: «... ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأةً...»، ففي هذا الحديث وسواه من الأحاديث، التي سبق ذكرها، نهيٌ صريحٌ عن قتلهم. وليس تقييد رسول الله(ص) لكلمة الشيخ هنا بالفاني، إلا ما يؤكّد المعنى الذي ذكره السيد لكلمة الشيخ عندما تأتي مطلقةً عن هذا القيد.

والدليل على ذلك، أنَّ الفقهاء عرّفوا الشَّيخ الفاني بأنَّه «الذي لا رأي له ولا قتال»، وكأنَّ المراد بوصف الفناء هنا، هو الإشارة إلى زوال القدرات العقلية والجسدية، هذا الزوال الّذي هو من علامات أفول العمر، ولذلك استعيد وصف الفناء للإشارة إليه، وهو وصفٌ دقيقٌ كما هو واضح وبيّن.

ولذلك يخلص السيد إلى القول بأنَّ الجهاد مشروعٌ في نطاق شروطه الشرعية، ولذا، فإنّنا لا نستطيع اعتباره أصلاً يحتاج تركه إلى الرخصة، بل ربما يبدو لنا أن الأصل في علاقات المسلمين بغيرهم هو السلم، أمّا في الظروف التي لا يمكن للسلم أن يحقّق النتائج المطلوبة للإسلام والمسلمين، فإنّ الحرب تكون هي السبيل المشروع لمواجهة حاجات الموقف ومشاكله، ولعلّ هذا هو الذي تشهد به الآيات القرآنية الكريمة، التي جاء في بعضها {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا...}(الحج: 39). وفي بعضها الآخر: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ...}(البقرة: 190)... وغيرها، حيث جاءت هذه الآيات لتبرر تشريع الجهاد بالأسلوب المعلّل. الذي يفلسف التشريع بالحالات الطبيعية التي تفرضه وتبرّره، ما يجعل القضية تبحث عن وجود الحالة المبرّرة، بدلاً من العكس.

ولعلَّ هذا ما توحي به - إلى جانب ذلك - الآيات التي تدعو إلى السلم، عندما يخلد الآخرون إلى نداء الإسلام أو يطلبوه ابتداءً، كما في قوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(البقرة: 208).

{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}(الأنفال: 61). وهو ما يمكن أن يستوحى من قوله تعالى:

{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(الممتحنة: 8 ـ 9).

ومن قوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً}(النساء: 90).

أما الاستدلال لترجيح القول بالجهاد لجهة الكفر بالمطلقات، فمن وجهة نظر السيّد، فإنّه لا يخضع للحسابات الدقيقة، لأنّ الأسلوب يطرح القضية في إطار معين، كما في الآية التي تطلق الأمر بعد انسلاخ الأشهر الحرم، فإنّها تتحدث عن المشركين الذين نكثوا العهد ولم يحفظوه، وترشد المسلمين إلى التوقف عن القتال في الأشهر الحرم، لتطلق لهم الحرية في معاودته بعد انقضائها، فهي واردة في قتالٍ يجد مبرراته في واقع الحرب المعلنة آنذاك بين الإسلام والشرك.

ولذلك، لا يمكن الاستدلال بقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً}(التوبة: 36) وغيرها من المطلقات، فإنها توجِّه المسلمين إلى كيفية القتال وشموله، أو أنّها واردة في أصل التشريع لا في تفاصيله، كما في آية قتال أهل الكتاب. وعليه، فلا مانع من  أن يترك القرآن  بيان التفاصيل إلى آيات أخرى أو أحاديث نبوية، كما هي طريقة التشريع الإسلامي في إطلاق الفكرة أوّلاً لتقر المبدأ، ثم يتمّ الدّخول في التفاصيل من خلال الكتاب والسنة.

ومهما يكن من أمر، فإنَّ ما نقلناه عن السيد من استدلال مطوَّل في مسألة مهمّة، يصلح شاهداً على المنهج التوحيدي للسيد في قراءة النصوص وتفسيرها، ولذلك ينبّه السيد إلى الخطأ الذي يقع فيه كثير من الباحثين والفقهاء والمفسرين، أنهم ينظرون إلى كلّ آية بمفردها، ويعتمدون في صرف ظواهرها على أخبار غير موثوقة، ويتحدَّثون عن نسخ بعضها ببعض، في ما لا مجال فيه للنسخ لاختلاف الموضوع والجهة، استناداً إلى أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا ظنّاً، ما يجعل الإنسان يفقد الجوّ القرآني المتكامل في التشريع، في ما يقرؤه من آيات، لأنّه يضيع عن المعنى الأصيل، أمام هذا الركام الهائل من الوجوه أو الأحاديث.

ويؤكّد السيد أن قيمّة القرآن الكريم في القضايا التي يثيرها، هي في هذا التناسق الرائع الذي يمثل وحدة القضايا، في كلّ التفاصيل التي تثيرها الآيات، لتكون كلّ واحدة منها جزءاً من كلّ، لا قطعةً منفردةً قد تلتقي بالأخرى وقد لا تلتقي، ولن نستطيع فهم القرآن إلا على هذا الأساس، وبهذه الروح التي أرادها القرآن أن نتدبَّر فيها آياته وأحكامه. (الجهاد، تقريراً لأبحاث السيد محمّد حسين فضل الله، بقلم السيد علي فضل الله، ص205 وما بعدها).

ولذلك رفض السيد القراءات المبتسرة، وكذلك القراءات الحرفية.

ومن هذه القراءات الحرفية، قراءة عدد كبير من الفقهاء،  وفي مسائل عديدة ومهمة، ومنها مسألة عدم جواز الفرار من المعركة إذا كان العدّو على الضعف أو أقلّ، وهو مشهور القدماء، بل والحكم نفسه نجده، أيضاً، عند فقهاء معاصرين، مثل السيّد الخوئي، الذي رأى أنّه «إذا كان الكفّار المحاربون على ضعفٍ من المسلمين، بأن يكون واحد منهم في مقابل اثنين من هؤلاء الكفَّار، وجب عليهم أن يقاتلوهم»..

وقد استدلّوا على هذا الحكم من القرآن الكريم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}(الأنفال: 65 - 66).

كما استدلوا عليه بالرّوايات، كما في موثّقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله(ع)، قال: «إِنّ الله عزّ وجلّ فرض على المؤمن في أوّل الأمر أن يقاتل عشرة من المشركين، ليس له أن يولّي وجهه عنهم، ومن ولاّهم يومئذٍ دبره فقد تبوّأ مقعده من النار، ثم حوّلهم عن حالهم رحمةً منه لهم، فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين، تخفيفاً من الله عزّ وجلّ، فنسخ الرجلان العشرة». (الوسائل، باب 27 من أبواب جهاد العدّو، الحديث 1).

وكما روي عن أبي عبد الله(ع) أنّه قال: «من فرّ من رجلين في القتال في الزحف فقد فرَّ، ومن فرَّ من ثلاثة في القتال فلم يفر».

ومنها أيضاً، ما رواه علي بن الحسين المرتضى في رسالة (المحكم والمتشابه)، نقلاً عن تفسير النعماني، بإسناده الآتي: عن علي(ع) في بيان الناسخ والمنسوخ، قال: «إن الله عزّ وجلّ لمّا بعث محمداً(ص)، أمره من بدو أمره أن يدعو بالدعوة فقط، وأنزل عليه: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ}»(الأحزاب: 48).

فلما أرادوا ما همّوا به من تبييته، أمره الله بالهجرة، وفرض عليه القتال، فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}(الحجّ: 39)، ثم ذكر بعض آيات القتال - إلى أن قال - فنسخت آية القتال آية الكف، ثم قال: ومن ذلك أن الله فرض القتال على الأمة، فجعل على الرجل الواحد أن يقاتل عشرةً من المشركين، فقال: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ...}(الأنفال: 65)، ثم نسخها سبحانه، فقال: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ}(الأنفال: 66)، فنسخ بهذه الآية ما قبلها، فصار فرض المؤمنين في الحرب، إذا كان عدة المشركين أكثر من رجلين لرجل لم يكن فارّاً من الزحف، وإن كان العدة رجلين لرجل كان فارّاً من الزحف». (الوسائل، باب 27 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1).

وقد فرّع السيد الخوئي على هذا الأصل قائلاً: «نعم، إذا حصل العلم بالشهادة لفردٍ من المسلمين المقاتلين، إذا ظلّ على القتال مع الاثنين منهم، جاز له الفرار، إذا لم يترتب فائدة عامة على شهادته، لانصراف الآية المزبورة عن هذا الفرض.

وأمّا إذا كان الكفّار أكثر من الضعف، فلا يجب عليهم الثبات في القتال معهم، إلا إذا كانوا مطمئنين بالغلبة عليهم، وإذا ظنّوا بالغلبة، لم يجب عليهم الثبات أو البدء في القتال معهم، ولكن لا شبهة في مشروعية الجهاد في هذا الفرض في الشريعة المقدَّسة، وذلك لإطلاق الآيات المتضمنة ترغيب المسلمين فيه. وأمّا إذا ظنّوا بغلبة الكفّار عليهم، فهل الجهاد مشروع في هذا النص؟ قيل بعدم المشروعية ووجوب الانصراف، وقيل بالمشروعية ومرغوبية الجهاد، والظاهر هو الثاني لإطلاق الآيات». (منهاج الصالحين، السيد الخوئي، ج1، ص370).

ولصاحب الجواهر موقف مماثل، لجهة عدم وجوب الثبات، فيما لو كان المسلمون أقلّ من النسبة المفترضة، وهي واحد لاثنين، معتبراً أنّ هذا ما «صرَّح به غير واحد، للأصل بعد انتفاء شرط الوجوب المستفاد من الكتاب والسنَّة والفتاوى، المقتضي لانتفاء المشروط». إلا أنّه سجّل إشكالاً على هذا الموقف، قائلاً: «نعم، قد يشكل ذلك في نحو زيادة الواحد والاثنين مثلاً، مع الضعف والجبن في الكفَّار، والشجاعة والقوة في المسلمين، بإطلاق أدلّة الثبات، بعد انسياق اعتبار كون العدّو على الضعف فأقلّ، إلى ما هو الغالب من غير الفرض، وكذا الكلام في صورة العكس، ومن هنا، قال الفاضل: وفي جواز فرار مئة بطل من المسلمين من مئتين وواحد من ضعفاء الكفّار إشكال، من مراعاة العدد، ومن المقاومة لو ثبتوا، والعدد مراعى مع تقارب الأوصاف، وكذا الإشكال في عكسه، وهو فرار مئة من ضعفاء المسلمين في مئة وتسع وتسعين من أبطال الكفّار، فإن راعينا صورة العدد لم يجز، وإِلاّ جاز، بل في القواعد الأقرب المنع في الأول، لأنّ العدد معتبر مع تقارب الأوصاف، لكن قد يقال بخروج ذلك عن محلّ البحث الذي هو مجرّد زيادة العدّو بالعدد، من غير ملاحظة حيثية أخرى، ولذا قال المصنف: «ولو غلب على الظن السلامة استحبّ»، أي الثبات، وإن زاد الكفّار على الضعف، لما فيه من إظهار القوة وزيادة العزم، خصوصاً بعد ما يستفاد من قوله تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ}(البقرة: 249)، وغيره من الترغيب فيه، وفي إدراك الشهادة وعدم الاكتراث بزيادة العدد، لأنّ النصر من عند الله».

ويرى السيد أنّ الفقهاء نظروا إلى الجانب الكمي في موازين القوى، باعتباره ملاك حكم الثبات في المواجهة أو عدمه، وبالتالي، فإنّ العامل الكمي في صورته الأخيرة التي قدَّمها القرآن الكريم، في نظرهم، أي نسبة الواحد لاثنين، هي المحددة لوجوب الثبات أو عدمه، ولئن تنبّه البعض منهم إلى الجانب الكيفي في الموضوع، إلا أنّهم لم يعمموه ليطال أصل المسألة، بل بدا منهم في صورة الاستثناء - المشكل الذي يمكن أن يعرض في أثناء التطبيق، كما يبدو واضحاً من خلال العرض الآنف الذي قدَّمه صاحب الجواهر.

وفي مطلق الأحوال، لقد بنى عموم هؤلاء الفقهاء استدلالهم، بناءً على كون الآيتين الواردتين في هذا الخصوص، هو لبيان حجم القوة اللازمة للثبات أو عدمه من ناحية تشريعية، أي إنّهم أنزلوا هاتين الآيتين منـزلة الآيات المبينة لحكم شرعي، ولذا جعلوا مدار بحثهم في أصله وفروعه، يدور مدار وجود الحد المفترض، الذي يمكن استفادته من الآية (66) من سورة الأنفال، أي نسبة الواحد لاثنين.

ولكن للسيد وجهة نظره، حيث إنّ الآيتين لو كانتا في هذا الوارد، لكان معناه اختزال عناصر موازين القوّة، بل عناصر القوة نفسها، في جانبٍ واحد، وفي هذا تبسيط واختزال ساذج، سواء لمفهوم القوة، أو لعناصرها المقوّمة لماهيتها، وبالتالي لمعادلات موازين القوى.  كما لا يخفى ما في هذه النظرة من تجميد تاريخي لمفهوم القوة وعناصرها ولوازمها ومعادلاتها في حقبة زمنية قد تصلح فيها، إلا أنّها لا تصلح في غيرها، إذ لا يخفى، أيضاً، ما تتمتّع به القوة وموازينها من مرونة وطواعية، وذلك لتداخلها وتشابكها مع أكثر من عامل، ليس أقلّها العامل العلمي والتقني والتنظيمي والإداري، وليس أدلّ، على ذلك، من عصرنا الحالي، الذي يشهد باستمرار تطوراً مذهلاً في صناعات الأسلحة ذات المردود النوعي، كالأسلحة الكيميائية والبيولوجيّة والنووية، هذا فضلا ً عن التطور الكيفي والكمي في مختلف أنواع الأسلحة، كالطيران والصواريخ والبوارج البحرية والغواصات، إلى جانب عوامل التجهيز والإعداد والتدريب على رفع مستوى الأداء القتالي. فاليوم مثلاً، لا تقاس القوة بالعدد الكمي للجيوش فقط، وإنما تقاس أكثر، بحجم قدرات الجيش العسكرية التسلحية، من استراتيجية وتكتيكية...

ويعتقد السيد، وفقاً لمنهجه في التفسير، أنّ الذي استفاده الفقهاء من الآيتين الآنفتين، لا يمكن أن يكون هو المراد، لمخالفته مقتضى السنن الطبيعية الخاصة بتطور حركة موازين القوى، فضلاً عن معنى القوة نفسه، من عصرٍ إلى عصر، ومن حقبةٍ تاريخية إلى حقبةٍ تاريخية أخرى. ولئن صحَّ القياس التقليدي للقوة، أي القياس الكمي، في زمنٍ من الأزمنة، فلا يمكن أن يصحَّ في زمنٍ آخر، إلا إذا افترضنا، أن لا تغيير هناك، ولا حركة، ولا تطور في المسار التاريخي للإنسانية.

ويقول السيد: إنّنا لا نخال اختلاف اثنين في أنّه عندما يتواجه العامل الكيفي مع العامل الكمي، فإنّ الغلبة ستكون حتماً للعامل الكيفي، ولذلك كانت الآيتان صريحتين في تبيان هذا الجانب، إذ لم تذكرا العامل العددي مجرداً عن العامل الكيفي، بل على العكس من ذلك تماماً، فلقد قيدتا الجانب العددي بوصف الصبر لمصلحة المؤمنين، في حين نزعت هذه الصفة عن الكافرين، لأن لا صبر لهم بالمعنى الإيماني والحقيقي للصبر، كما علّلت الغلبة في جانب آخر، بكون الكفّار قوماً لا يفقهون. وهنا يمكن عكس السبب والنتيجة معاً، بمعنى أنّه يمكننا القول، إنّ ثبوت الإيمان في المؤمنين، هو الموجب لأن يعادل الواحد من العشرين من المؤمنين، أكثر من العشرة من المائتين من الذين كفروا، حتى يغلب العشرون من هؤلاء المائتين من أولئك، فإنّ المؤمنين إنما يقدمون في ما يقدمون عليه، من منطلق وعي الإيمان.. وقوة الثقة بالله، وبما عنده من الثواب، ما يجعل الإنسان يقابل الموت بدون اكتراث، ويجابه الأعداء بكلّ قوةّ، ولا ريب، أن هذا الإيمان هو كلّ سجية نفسانية فاضلة، كالشجاعة والشهامة والجرأة والاستقامة والوفاء والطمأنينة والثقة بالله، واليقين بأنّه على إحدى الحسنيين: إما النصر أو الشهادة.

إذاً، ليس الجانب العددي هو المرجّح بنفسه - وفقاً لرأي السيد -، وإنما المرجح هو الجانب الكيفي المتمثل بخصلتين أساسيتين: الفقه (الإيمان)، والصبر. ولأنّ هذه الأمور تقبل الشدّة والضعف في الإنسان، كان التخفيف الذي هبط بالنسبة، في الآية الثانية، من واحد لعشرة، إلى واحد لاثنين على مستوى النتيجة.

وبكلام آخر، إنّ الآيتين قد لا تكونان في مورد بيان حكم العدد في موازين القوى، وبالتالي الثبات أو الفرار أثناء القتال، وإنما في مورد بيان المرجح في عوامل الفوز والنصر، والتي تتمثّل بالصبر والفقه، ولا سيّما في الموارد الاعتقادية الأساسية، كالإيمان بالله والثقة به، واعتباره القوة التي لا تعادلها ولا تقاومها قوة، الأمر الذي يضخُّ في الإنسان شعوراً وطاقةً وقدرةً لا تعرف الانكسار أو التراجع، لأنّها تسري به من قوة الله تعالى التي لا تقهر، على العكس تماماً من الكفَّار الذي يتَّكئون على هوى النفس، وما يوسوس لهم الشيطان. وهذه القوى تبقى مشتّتةً لا تعرف الاتفاق والوئام لتعارض أهدافها ورغباتها، وهي إن اتّفقت، إلا أنّها سرعان ما تفترق عندما يلوح لها الموت ببيرقه.

والخلاصة التي يؤكِّدها السيد: أنّ الآيتين ليستا في مورد بيان حكم النسبة في موازين القوى، التي يجب أن يحتكم إليها المسلمون في ثباتهم وصمودهم، أو فرارهم وتراجعهم حين الزحف والمقاتلة، وإنما في معرض بيان أهمية العامل الإيماني - الاعتقادي، المتجسّد في خصلتين أساسيتين: الصبر والفقه في تعويض النقص المحتمل في الجانب العددي، وفي ضمان الغلبة والنصر. وفي هذا تأكيد ضمني لأهميّة الجانب الكيفي في النصر، وترجيحه على العامل الكمي.

وإذا كانت هاتان الآيتان تشعران بأهمية الجانب الكيفي، فليس من باب الحصر، وإنما من باب الجري والمصداق، بحيث تحضّان بطريقة ضمنية على توفير كلّ العناصر الكيفية والنوعية اللازمة لتأمين رجحان القوة والنصر والغلبة لمصلحة المؤمنين.

هذا في جانب، وفي جانب آخر، فإنّ ظاهر الآيتين، من وجهة نظر السيد، يوحي وكأنّهما في مقام رفع المعنويات، بحيث لا تستطيع أن تستفيد منهما، أنّ القضية واردة في الجانب التشريعي الذي يحدّد المقدار العددي. فمطلع الآية (65) من سورة الأنفال، والذي يشكّل العنوان الأولي للآية موضوع البحث، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}(الأنفال:65)، يوضح المدلول المعنوي لها. فالمقام مقام تحريض على القتال، بما يعنيه التحريض من حضّ وترغيب؛ ولا يخفى ما تكتنـزه هذه المفردات من أبعاد تعبوية - معنوية. وهي في ذلك شبيهة بآيات أخرى تؤدّي الغرض نفسه والدلالة نفسها، كقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}(التوبة: 111). وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}(التوبة: 52).

والغرض من هذا كلّه، بناء الروح الجهادية العالية. ولا ريب، أنّ شعور الإنسان بالتفوّق والنَّصر والغلبة، من الأمور الهامَّة في عمليَّة المواجهة والثبات، وبالتالي النصر. ولذا جاء توكيد الآيتين بصيغة القضايا الشَّرطية، لما تفيده هذه القضايا من لزوم ترتّب النتائج على مقوّماتها، الأمر الذي يحضُّ المؤمنين على توفير الشروط اللازمة بغية الحصول على المشروط، وهو النصر في الآيتين، أي كأنّ الآيتين تقولان: ليكن كلّ واحد منكم بمنـزلة عشرة قبل التخفيف، وليكن كلّ واحد منكم بمنزلة اثنين بعد التخفيف، وبالتالي، ليعمل كلّ واحد منكم دائماً ليكون أقوى ضعفين من عدوّه.

فالنبيّ هنا، إنما يقوم بدورٍ حاسمٍ في حثِّ المؤمنين على القتال.. ولا سيّما أنّ القوة التي يملكها المسلمون قليلة في العدد والعدّة، في مقابل كثرة العدد والعدة لدى المشركين.. وقد أراد الله لنبيّه أن يدعوهم إلى النّصر، الذي يدفعهم إلى مواجهة الآلام والمشاكل والتحديات التي تفرضها المعركة، بروحٍ قوية راضية مطمئنة للجهد الذي تقدِّمه أمام الله... ليستنفروا كلّ طاقاتهم، ويحولوها إلى طاقة واحدة مضاعفة، بحيث يتحرك الواحد منهم في مقابل عشرة رجال، قبل أن يخفّف عنهم ليجعل طاقة الواحد منهم في مقابل رجلين، ولا بدّ في ذلك من جهدٍ عظيم في المعاناة، وفي الاستعداد النفسي الداخلي، المنطلق من وعي الإيمان وقوة الثِّقة بالله، وبما عنده من الثواب، ما يجعل الإنسان يقابل الموت بدون اكتراثٍ، ويجابه الأعداء بكلِّ قوَّة. (الجهاد، تقرير أبحاث السيد فضل الله، بقلم السيد علي فضل الله، ص 180 وما بعدها).

وما لم يكن للسيد منهجه في قراءة النصوص، ومحاولاته في النأي بمنهجه عن القراءات الحرفية، لم يكن بوسعه استنتاج ما هو خلاف المشهور، غير أنّ منهجه التوحيدي في قراءة النصوص، في ضمِّ بعضها إلى بعضٍ، أسهم في نجاحه وقدرته على اقتناص نتيجة أقرب ما تكون إلى المراد.

وإذا كان السيد قد اتَّبع هذا المنهج في التعاطي مع النص القرآني، فإنّه لم يبتعد عنه في قراءاته للنصوص الأخرى، وهي الأخبار والروايات، فإنّه يرى أنّ من اللازم قراءة الروايات من غير تفريقٍ بينها، بحيث تقرأ وكأنّها أشلاء متفرقة، بل لا بدَّ من أن تقرأ في سياقٍ واحد. ومن تطبيقات منهج السيد في التعاطي مع الروايات على نحو موضوعيّ وتوحيديّ يجمع بعضها إلى بعض، ما نجده في موقفه من مسألة الوجوب الفوري للحجّ في حال توفر الاستطاعة، حيث استفاد بعض الفقهاء ذلك من القرآن الكريم، كما هو السيد الخوئي، حيث استفاد الفورية من الآية الكريمة: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}(آل عمران: 97)، وذلك لأنّ الآية تدلُّ على تعلّق الحجّ بذمة المستطيع، فيصير حاله حال أيّ دَيْن يتعلَّق بذمّة الشخص، فيلزمه أن يفرغ ذمّته في أول أوقات الاستحقاق، لأنّ مقتضى الأوامر المطلقة غير المؤقتة، المبادرة إلى امتثالها في أول أوقاتها، إِلاّ إذا دلَّ الدليل على الترخيص، ولذلك جاز للدائن مطالبة مدينه في أول أوقات الاستحقاق. وعليه، فيلزم على المستطيع المبادرة إلى الحجّ في عام الاستطاعة، وذلك لتفريغ الذمة بعد تحقق الشرائط. نعم، في حال الاطمئنان بقدرة المكلف على الإتيان بالتكليف في آخر الوقت، لم تجب المبادرة، كما في عدم وجوب المبادرة إلى الصلاة في هذه الحالة، وذلك لجهة قصر وقت الصلاة الذي لا يحتمل الفوت في هذه المدة القصيرة غالباً، وهو ما لم يحصل في الحجّ، لأنّ الفصل طويل، والموانع كثيرة. (المعتمد، ج3، 13).

وقد علّق السيد على رأي أستاذه، بأنّه صحيح كبروياً، إذ كلّ واجب لا يحصل الوثوق والاطمئنان بامتثاله إلاّ فورياً، فإنّ العقل يحكم بوجوب امتثاله على هذا النحو ولزوم تفريغ الذمَّة، ولكن للمناقشة في الصغرى مجالٌ واسع، إذ إنّ ما ذكره من التفرقة - بحكم العقل - بين الوقت القصير والوقت الطويل، فلا تجب المبادرة في القصير، وليس كذلك في الطويل، محلُّ تأمّل، لأنّ الناس في الغالب لا يفرِّقون بين الوقت القصير والطويل، ولذلك جرت معاملاتهم على عدم التفرقة بين الوقت القصير والوقت الطويل، مع عدم الأسباب الموجبة للخطر، ولذلك يتعاقد الناس في ظلِّ شيوع الأمل في حياتهم، من دون أن يلزم العقل أو البناء العقلائي الناس بوجوب تفريغ الذمم فورياً في المعاملات ذات الأجل الطويل.

وعليه، فلا دلالة للآية الكريمة على الوجوب الفوري، ولزوم الإتيان بالحجّ في عام الاستطاعة.

ولذلك يرى السيد، أنّه لا بدَّ من البحث في الروايات الخاصة مما ادّعيت دلالتها على الفورية، وهي عدّة روايات استدلَّ بها مشهور الفقهاء على الوجوب الفوري للحجّ. ففي صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله(ع) قال: «قال الله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}(آل عمران: 97)، قال: هذه لمن كان عنده مال وصحّة، وإن كان سوّفه للتجارة فلا يسعه، وإن مات على ذلك، فقد ترك شريعةً من شرائع الإسلام إذا هو يجد ما يحجّ به.." (الوسائل، كتاب الحج، باب 6 من أبواب وجوب الحجّ وشرائعه، حديث 1).

وربما يستفاد من هذه الرواية الفورية، وذلك لقوله: وإن كان سوّفه للتجارة فلا يسعه، والتسويف عبارة عن التأخير، ولكن دراسة الرواية بشكل أشمل، قد تلغي ظهورها في الفورية، لأنّ التسويف المراد -كما هو الظاهر - في الرواية هو المؤدّي إلى الترك، ولذلك فرّعت الرواية على ذلك بالقول: "وإن مات على ذلك، فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام"، وعليه، فهي في  مقام حرمة التسويف المستمر، بحيث يموت ولا يفعل الحجّ ولم يأت به، لأنّ صدق الترك لا يتوقف على أن يموت ولم يفعل.

وعن معاوية بن عمار - أيضاً - قال: "سألت أبا عبد الله(ع) عن رجل له مال ولم يحجّ قطّ؟ قال: هو ممن قال الله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى}(طه:124)، قال: قلت: سبحان الله، أعمى؟! قال: أعماه الله عن طريق الحقّ". (م.ن، حديث 2).

ومن وجهة نظر السيد، فإنّ الظاهر من الرواية، أنّ موردها مورد من لم يحجّ قطّ، ولا علاقة لها بالفورية.

وعن أبي بصير في معتبره، قال: "سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: من مات وهو صحيح موسر لم يحجّ، فهو ممن قال الله عز وجل: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى}(طه:124)، قال: قلت: سبحان الله، أعمى؟! قال: أعماه الله عن طريق الحقّ". (الوسائل، كتاب الحجّ، باب 6 من أبواب الحج وشرائطه، حديث 7).

والرواية، في رأي السيد، ليست ظاهرةً في الفورية، وخصوصاً بلحاظ قوله: من مات، فهي ظاهرة في التسويف والترك الكلّي، ولا أقلّ من الإجمال.

وعن زيد الشحّام قال: قلت لأبي عبد الله(ع): "التاجر يسوّف الحجّ؟ قال: ليس له عذر، فإن مات فقد ترك شريعةً من شرائع الإسلام".

والرواية ضعيفة بأبي جميلة، وليست ظاهرةً في الفورية، وذلك لجهة التسويف، وهو الترك الكلّي، كما قلنا. (م.ن، حديث 6).

وعليه، فظاهر الرواية وأشباهها، أنها في مقام بيان حرمة الترك الكلّي المعبَّر عنه بالتسويف، وهو شامل للواجب الفوري وغيره، وذلك بلحاظ حرمة التسويف المؤدّي إلى ترك الواجب كلّيةً، مع احتمال الموت أو وقوعه فعلاً.

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن قول الله عزّ وجلّ: {وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}(الإسراء: 72). قال: "ذلك الذي يسوّف الحجّ - يعني - حجّة الإسلام - حتى يأتيه الموت". (م.ن، حديث 5).

ومن وجهة نظر السيّد، فإنّ الرواية، بغضِّ النظر عن سندها، لوقوع عليّ بن أبي حمزة في طريقها، واضحة الدلالة على التسويف والترك الكلّي، ولا تدلّ على الفورية بوجه.

وعن محمّـد بن الفضيل قـال: "سـألـت أبا الحسـن(ع) عن قول الله عـزّ وجــلّ: {وَمَن كَانَ

فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}(الإسراء: 72)، فقال: نزلت في من سوّف الحجّ، حجّة الإسلام - وعنده ما يحج به، فقال: العام أحجّ، والعام أحجّ، حتى يموت قبل أن يحج". (الوسائل، كتاب الحج، باب 6 من أبواب الحج وشرائطه، حديث 8).

والرواية ظاهرة - كما يرى السيد - في حرمة التسويف، وذلك بدلالة قوله: العام أحجّ، والعام أحجّ، بحيث أدى إلى الترك.

وعن أبي الصباح الكناني، في صحيحه عن أبي عبد الله(ع) قال: قلت له: "أرأيت الرجل ذا المال حين يسوّف الحجّ كلّ عام، وليس يشغله عنه إلاّ التجارة أو الدَّين؟ فقال: لا عذر له يسوّف الحجّ، إن مات وقد ترك الحجّ، فقد ترك شريعةً من شرائع الإسلام". (م.ن، حديث 4).

والرواية لا تدلُّ على الفورية بوجه، بل تدلُّ على حرمة التَّسويف، وذلك بقرينة قوله: ... حين يسوّف الحجّ كلَّ عام...

وعن عليّ بن أبي حمزة عن أبي عبد الله(ع)، أنّه قال: "من قدر على ما يحجّ به، وجعل يدفع ذلك، وليس له عنه شغل يعذره الله فيه، حتى جاءه الموت، فقد ضيَّع شريعةً من شرائع الإسلام". (م.ن، حديث 9).

وهي، من وجهة نظر السيد، تدلُّ على حرمة التسويف - أيضاً - بقرينة: فقد جعل يدفع ذلك حتى جاء الموت...

وعن الحلبي في صحيحه عن أبي عبد الله(ع) قال: "إذا قدر الرجل على ما يحجُّ به، ثم رفع ذلك وليس له شغل يعذره به، فقد ترك شريعةً من شرائع الإسلام". (م.ن، حديث رقم 3).

ويرى السيد أنّه، وإن كان يتوهَّم فيها الإطلاق، لكن كلمة (دفع) ظاهرة في الترك على نحو التَّسويف، ولا تكون الرواية ظاهرةً في الدلالة على الفورية.

ويخلص السيد إلى أنَّ هذه الروايات، لو ضُمّ بعضها إلى بعض، فـإنّها لا تدلّ على أزيـد مـن

حرمة التسويف، لأنّها في مقام بيان حرمة التسويف المؤدي إلى الترك، وليست في مقام بيان حكم التأخير لسنة الاستطاعة.

وعليه، فإنّ كانت رواية ما - على حدة - أظهر من غيرها في الدلالة على الفورية، فإنّ الروايات الأخرى كفيلة بتفسيرها، في ضوء مجمل ما تفيده هذه الروايات بمجموعها، لأنّ قراءة الروايات على نحو المجموع، هو المنهج الأصح - من وجهة نظره - لكونها صادرةً عن الأئمة (ع)، بما يمثّلونه من المصدر التشريعي المسمّى بالسنَّة. (بحوث فقهية، غير منشورة، بقلم محمّد الحسيني).

3 ـ فقه إسلامي:

يعتقد السيد، أنّ الفقيه وهو يخوض غمار البحث الفقهي، يجب أن يكون عابراً للدوائر المذهبية الخاصة، ويتعالى على الأسس المذهبية، وأن لا يحمل شوائب مذهبية تدفعه إلى استنتاجات مضلِّلة، لأنّ الإسلام أوسع من هذه الدوائر، وخصوصاً الفقيه الذي ينتسب إلى أهل البيت(ع)، لأنّه يعتقد أنّ مدرستهم لا تمثّل مذهباً بقدر ما تمثّل الإسلام نفسه. ومن المعروف أنّ الأطر المذهبية أفرزت فقهاً مذهبياً لهذه المدرسة، ربما يختلف عن الفقه الذي تفرزه مدرسة فقهية أخرى، وخصوصاً في عصور الانغلاق العلمي، وتباعد أرباب المذاهب وعلماء الإسلام بعضهم عن البعض الآخر.

ولعلّ من أهم تطبيقات المرجعية الفقهية الإسلامية - عند السيد - بعيداً عن الإطار المذهبي، موقفه من مسألة اشتراط إذن الإمام(ع) في إحياء الأراضي في تملّكها أو الأحقية بها، إذ نفى السيد ذلك، واستدلّ بعدد من الروايات، ومن تلك الروايات، صحيح محمّد بن مسلم: «قال: سألته عن الشراء من أرض اليهود والنصارى؟ قال: ليس به بأس - إلى أن قال -: وأيما قوم أحيوا شيئاً من الأرض، أو عملوه، فهم أحقّ بها، وهي لهم». (الوسائل، باب 1، من أبواب إحياء الموات، حديث 1 وحديث رقم 3 و 4).

إذ يرى السيد، أنَّ ظاهر الرواية: أنّ الإحياء سبب للأحقية، ولا يتوقف على الإذن، وإن لم تكن الرواية ظاهرة في الملك بل الأعمّ منه.

«وعن أبي جعفر وأبي عبد الله(ع) قالا: قال رسول الله(ص): من أحيا أرضاً مواتاً فهي له». (الوسائل، باب 1، حديث رقم 5، وبسند آخر رقم 6، وبلفظ آخر رقم 7).

ومن وجهة نظر السيد، فإنَّ ظاهر الرواية، أنّ مجرّد الإحياء كاف في الأحقية، ولا يشترط إذن الإمام، وربما هي في الملك أظهر من الأحقية، (فهي له)، وهذا التعبير ظاهر في الملكية، إما بالوضع، أو لكثرة الاستعمال.

«وعن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله(ع): قال: قال رسول الله(ص): من غرس شجراً، أو حفر وادياً بديّاً لم يسبقه إليه أحد، وأحيا أرضاً ميتةً، فهي له قضاء من الله ورسوله». (م.ن، باب2، حديث رقم 1). وظاهرها أنّ الإحياء لا يتوقّف على الإذن، وظاهرها الملك.

وقد وردت روايات أخرى من طرق العامة أيضاً تراجع في مظانها، كما في صحيح البخاري وغيره، تتطابق مع هذه الروايات في الدلالة.

وظاهر هذه الروايات، أنّ الإحياء هو حكم شرعي بأصل الشرع، ولا يتوقف على إذن الإمام، ولذلك ردّ السيد ما يستدلُّ به على اشتراط الإذن، والذي أرجع إلى الإجماع، وإلى قاعدة حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه، ولصحيح الكابلي، وهو ما أكّده الشيخ محمّد حسن النجفي في الجواهر، قال: «وأما أنّ إذنه شرط في تملّك المحيي، فظاهر التذكرة الإجماع، بل عن الخلاف دعواه صريحاً، بل عن جامع المقاصد، لا يجوز لأحد الإحياء من دون إذن الإمام(ع)، وأنّه إجماعي عندنا. وفي التنقيح، الإجماع على أنّها تملك إذا كان الإحياء بإذن الإمام(ع). وفي المسالك: لا شبهة في اشتراط إذنه في إحياء الموات، فلا يملك بدونه اتفاقاً. مضافاً إلى قاعدة حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه، وفي البنيوي: ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه. بل تقدم في كتاب الخمس ما يدلُّ على ذلك أيضاً». (الجواهر، ج38، ص11).

وقد ناقش السيد هذه الأدلة كلّها، وذلك لأنّ الإجماع لا تحرز تعبديته ليكون حجّةً، ولأنّ الأصحاب ربما اعتمدوا على الوجوه السابقة، فيكون مدركياً. كما ردّ الاستدلال بقاعدة حرمة التصرف في مال الغير، لأنّها لا تفي بالمطلوب، ولأنّ مثل هذه القاعدة إنما تجري إذا بنينا على أن أرض الموات ملك للإمام ملكاً شخصياً. وعليه، فلا بدّ من الاستدلال بغيرها ليتمَّ الاستدلال على المطلوب، ولا دليل على كونه ملكاً شخصياً للإمام. نعم، هو مؤتمن عليه باعتباره ممثّل الدولة الإسلامية ورأسها وإمامها، ولم يصدر عنه لا الإذن العام ولا الخاصّ، فضلاً عن قيام السيرة على عدم الاستئذان مع دواعي النقل، لو كان ثمّة استئذان أو افتراض لزومه.

وأما رواية الكابلي، حيث روى: «عن أبي جعفر(ع) قال: وجدنا في كتاب عليّ(ع): أنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الأرض، ونحن المتقون، والأرض كلّها لنا، فمن أحيا أرضاً من المسلمين فليعمرها، وليؤدِّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها، فإن تركها وأخرجها، فأخذها رجل من المسلمين من بعده، فعمرها وأحياها، فهو أحقّ بها من الذي تركها، فليؤدِّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها حتى يظهر القائم(ع) من أهل بيتي بالسيف، فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها كما حواها رسول الله(ص) ومنعها، إلاّ ما كان في أيدي شيعتنا، فإنّه يقاطعهم على ما في أيديهم، ويترك الأرض في أيديهم». (الوسائل، كتاب إحياء الموات، باب 3، حديث رقم 2).

وقد استدلّ بها بعض الفقهاء على اشتراط إذن الإمام في الإحياء، وقد ناقش فيها السيد بعدة وجوه:

الوجه الأول: في سندها، حيث اختلف في توثيق الكابلي، والظاهر - في رأي السيد - عدم ما يدلّ على توثيقه، سوى ما أشار إليه أستاذه السيد الخوئي، من وقوعه في إسناد كامل الزيارات لابن قولويه، الذي شهد بوثاقة جميع من في إسناد كتابه. (معجم رجال الحديث، ج 14، ص 133) وهو ما تراجع عنه السيد الخوئي نفسه.

والوجه الثاني: في دلالتها من جهات، حيث:

1- لم تذكر رسول الله(ص) فيمن أورث الأرض.

2- أنّها ظاهرة في أنّ الأرض كلَّها لهم منذ خلقها الله، فهي ملكهم قبل خلقهم، ولا يقال إنّ فعلية تمليكها لهم معلّق على وجودهم، لعدم الفائدة من ذلك، فأيّ اعتبار بعد فرض عدم وجودهم؟!

الوجه الثالث: كونها منافيةً لما في الكتاب من أنّ الأرض خلقها الله تعالى للأنام، وأنّها مسخَّرة لهم، ولهم أن يستعمروها وأن يسخّروها ويمشوا في مناكبها. {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ}(الرَّحمن:10).

الوجه الرابع: ما معنى أنّ القائم(ع) يحوزها ويمنعها عند قيامه وظهوره، وأنّه يحوزها كما حازها رسول الله(ص)، ويمنعها كما منعها رسول الله(ص)، فإنّه لم يثبت أن رسول الله(ص) حازها على هذا الوجه أو منعها؟ وقد ردّ السيد علم هذه الرواية إلى أهلها، كما يقال. (كتاب إحياء الموات، بحوث غير منشورة، بقلم محمد الحسيني).

وقد نجد معالم النـزعة المذهبية لدى فقهاء المسلمين عموماً، ومنهم فقهاء الشيعة، في مسائل فقهية عديدة، ومن بين هذه المسائل الفقهية، ما اشترط في الشاهد، ومنها: في أن يكون الشاهد مؤمناً بالمعنى الأخص، ويراد به، من كان معتقداً بإمامة الأئمة الاثني عشر(ع)، وإن كان معظم الحديث يشير إلى العامة، ولكنّه - من وجهة نظر السيد - شامل للشيعي الذي يؤمن ببعض الأئمة(ع) ولا يؤمن بالبعض الآخر، كما هو حال الزيدية والواقفية.

ويرى السيد أنّ معظم ما استدلَّ به من أدلّة على شرطية الإيمان، لا يجد مستنداً حقيقياً له في الشريعة بقدر ما هو رؤية مذهبية، وكان من جملة ما استدلّ به الإجماع، حيث ادّعى البعض الإجماع على اشتراط الإيمان في الشاهد، بل ادَّعى الشيخ صاحب الجواهر، أنّه من ضروريات المذهب في هذا الزمان، ويقصد به زمانه وما بعده من الأزمان. (جواهر الكلام، ج41، 16).

وقد ردَّه السيد: بأنّه إجماع مدركي، ويكفي كونه محتمل المدركية، وليس تعبدياً، لأنّه ناشئ من الوجوه التي استدلّ بها الفقهاء من تطبيق بعض العناوين، ولذلك فهو ليس حجةً، ولا ينفع في مقام الاستدلال.

كما استدلّ لهذا الشرط، بأنّ غير المؤمن ظالم، فلا تقبل شهادته، وأنّ غير المؤمن بالمعنى الأخص ظالم لنفسه بعدم إيمانه بالحق، أو ظالم لغيره ممن يؤمن بالحقّ.

وقد ناقش فيه السيد: بأنّ تطبيق عنوان الظلم على غير المؤمن على نحو مطلق، غير صحيح، لأنّ الظلم هو معاندة الحقّ، وهو لا يصدق إلاّ على من كان عالماً به وعارفاً فيجحده، وليس جميع من كان مخالفاً على هذه الحال، لأن الفروض المتصوَّرة فيهم هي:

1 - أن يكون عالماً بالحقِّ وجاحداً له ومعانداً، فهو مقصِّر في ذلك قطعاً ومعاند للحقّ، فيكون ظالماً.

2- أن يكون غافلا ًعن الحق لجهة ما يعتقده مما هو خلاف الحقّ، وإن كانت هذه الغفلة لجهة الشبهات العلمية، أو النشأة والأنس بالأدلة الشائعة والمتداولة، كما هو عند العلماء والمتعلمين، بحيث لا يعتقد أنه على خلاف الحق وأنه معاند له. ومن كانت هذه حاله، فهو لا يصدق عليه أنّه ظالم.

3- أن يكون قاصراً، لا ينهض به استعداده وما عليه من ثقافة لتعرّف الحق وتمييزه، ويكتفي بالتلقّي، كما هو شأن أكثر الناس، وهذا ممن لا يصدق عليه أنّه ظالم أيضاً.

وهذا الصنف - وفقاً لرأي السيد - مورد إطلاقات عدة، وروايات تفيد قبول شهادته، كما هو صحيح ابن مسلم عن الباقر(ع) أنّه قال: «لو كان الأمر إلينا، لأجزنا شهادة الرجل إذا علم منه خير، مع يمين الخصم في حقوق الناس». (الوسائل، كتاب الشهادات، باب 41، حديث رقم 8).

كما استدلَّ على الشرط المشار إليه آنفاً: بأنّ غير المؤمن فاسقٌ، فلا تُقبَلُ شهادته، وأنّ «غير المؤمن إذا كان مقصِّراً فيما اختاره من المذهب، فلا إشكال في أنّه فاسق أشدّ الفسق، وتارك لأهم الواجبات الإلهية بغير عذر، فلا يكون خيِّراً ومرضياً وعادلاً كي تقبل شهادته». (مباني تكملة المنهاج، السيد الخوئي، ج41، ص 97 - 98).

وناقش السيد في هذا الاستدلال: بأنَّ الفسق إن كان في العقائد، وذلك لجهة كونه من الخروج على الحقّ والعناد له، فهو رجوعٌ إلى ما قرَّرناه في عنوان الظلم، وأن الظالم لا يصدق إلاّ على العارف بالحق والجاحد له، ولا يشمل لا القاصر ولا المقصِّر الذي يكون له شبهة علمية أو أنس بمحيطه الاجتماعي والديني الذي يعيش فيه على نحوٍ لا يرى أنه على خلاف الحقّ.

وأما في الفروع، كما هو الغالب، فإنّ المخالف لا يكون فاسقاً وفقاً لما يرى أنّه تكليفه، بل إنّه بالتزامه ما يراه تكليفه، يكون عادلاً، وهو نظير الاختلاف على مستوى الفروع في المذهب الواحد، حيث يرى مقلِّد فقيهٍ أن تكليفه الحلّية، كما في حلق اللحية، ويرى المقلد لفقيهٍ آخر أن تكليفه الحرمة، فلا يكون مقلد القائل بالجواز فاسقاً لمجرد مخالفته فقيهاً يرى الحرمة.

وقد نبّه السيد إلى ملاحظة مهمّة، وهي عدم ورود روايات صريحة لمعالجة هذا الموضوع والنصّ على شرطية الإيمان، مع ملاحظة أن هذه المسائل هي من أكثر المسائل ابتلاءً، حيث كان المؤمنون بالمعنى الأخص، يعيشون على هامش المجتمع المسلم العام، فلو كان ذلك شرطاً، لأُشير إليه في الروايات، ولصدر عن الأئمة(ع) تنبيهٌ إليه، بل لوحظ خلوّ الروايات عنهم(ع) من شرطٍ من هذا القبيل.

ويدلُّ على ذلك - من وجهة نظر السيد - عدول الفقهاء في الاستدلال من الروايات على الاشتراط المذكور، إلى محاولة تطبيق العناوين التي أُشير إليها، من عنوان الظلم أو عنوان الفسق، بل ادَّعى بعضهم الإجماع، أو كونه من ضروريات المذهب في الأزمان المتأخرة، كما هو مدَّعى الشيخ صاحب الجواهر، حيث حاول الاستدلال عليه بالروايات، ومنها ما ورد من الروايات في إطلاق الكفر عليهم. (جواهر الكلام، ج41، ص 17).

وقد ردّه السيِّد: بأنّه خلاف البداهة، وذلك لأنَّ ما ورد من النصوص، فهو وزان قولهم: (من جحَدَنَا فهو كافر)، وهو مخصوص بحال العناد للحقّ، ولذلك أُشير إليه بالجحود.

ثم إِنَّ عنوان الكفر المقابل للإسلام، مفهوم قرآني واضح من خلال مراجعة الآيات الكريمة، وهو يعني عدم الإيمان بالله ووحدانيَّته وبرسله وملائكته واليوم الآخر وبما هو من ضروريات الدين، بل إِنَّ الكفر - كما عن بعضهم، ومنهم السيد الخوئي - لا يتحقَّق بإنكار الضروري، ما لم يكن منكره ملتفتاً إلى الملازمة بين إنكاره وتكذيب الرسول.

وعندئذٍ، لا يصحُّ انطباق عنوان الكفر على المخالف، لأنّ ما ينكرونه من حقائق المذهب، ينكرونه بدعوى عدم ثبوته عندهم، أو لاختلاف فهم دلالة الدليل عليه.

وإِلاّ، فكيف يمكن دعوى انطباق الكفر عليهم، مع تطبيق عنوان الإسلام عليهم، وخصوصاً في ظلِّ حكومة أمير المؤمنين(ع) وتوزيع الزكاة عليهم، بل وتزويج ابنته من عمر بن الخطاب.

وناقش السيد كذلك، ما استدلّ به أستاذه السيد الخوئي من بعض الروايات، مما يكون شاهداً على صدق عنوان الفسق على المخالف إن كان قاصراً، كما في معتبرة السكوني مما رواه عن الصَّادق(ع): «أنّ أمير المؤمنين(ع) كان لا يقبل شهادة فحّاش ولا ذي مخزية في الدين». فإنّه مردود من جهة أنّ ظاهر الروايات الإشارة إلى الفسق في السلوك، لأنّ الخزي في الدين لا يكون عرفاً إلاّ في ما كان مرتبطاً بالسلوك الديني، وربما يؤكّده سياق الرواية من ذكر الفحّاش.

ثم لاحظ السيد على أستاذه الخوئي، اعترافه بأنّ المسألة محلُّ ابتلاء المسلمين، وأنّه لم يشر إلى مثل هذا الشرط في الروايات، ولذلك خصَّ هذا الشرط بحالة ما إذا كان المشهود عليه من المؤمنين. وأما إذا كان المشهود عليه غير مؤمن، فالظاهر قبول شهادته في حقّه من باب قاعدة الإلزام. وهو يدلّ - في رأي السيد - على أنّ هذه الأدلة غير سليمة، وهي باب تطبيق بعض المفاهيم الخاصة التي شاعت في المدرسة الفقهية تجاه مسألةٍ ما.

ويخلص السيد إلى: أنّ شرطاً من هذا القبيل، لو كان مطلوباً، لورد في الروايات بشكل صريح أو ما يقرب منه، لأنّ الشهادة لم تكن حاجةً كمالية، بل كانت مورداً من موارد الإثبات والنفي، مما يكثر الابتلاء به، فكيف لا يرد ما يشير إلى شرط من هذا القبيل، وخصوصاً أنّ الشهادة خبر أيضاً، ويكفي فيه الوثوق، ولا دخل للاعتقاد فيه، ولذلك قبلت أخبار المخالفين إن كانوا ثقاةً، مع خطورة ذلك، وهي تتضمّن أحكاماً شرعيةً يتعبَّد بها. (الإثبات القضائي - تقريراً لأبحاث السيد محمّد حسين فضل الله، بقلم محمّد الحسيني، ص125 وما بعدها).

وعموماً، فإنَّ رؤية السيد، تستند إلى مرجعية الإسلام، بعيداً عن الأُطر الضيقة للمذاهب، وخصوصاً أنّه يرى في التشيُّع كونه ينتسب إلى أهل البيت(ع)، وهم المرآة للإسلام وفكره وقيمه وتشريعاته. ولذلك، لم يقبل تبريراتٍ مصطنعةٍ لإثبات وجهات نظر ونسبتها إلى المذهب.

4 - مرجعية القرآن:

من المسائل المهمة التي لم يبلغ البحث فيها مداه، مسألة تحكيم مرجعية الكتاب الكريم، ولا نعني به كونه المصدر الأساس للتشريع، فإنّ ذلك مما لا ريب فيه عند المسلمين جميعهم، بل نعني به، مرجعية الكتاب الكريم في فهم الأخبار والروايات. وبمعنى آخر، فإنّ السنَّة الشريفة من وجهة نظر السيد، ينبغي أن تفهم وتحدّد دلالاتها في إطار المنظومة القرآنية، إذ لا يمكن فهم السنَّة بمعزل عن المرجعية الأساسية للقرآن، وخصوصاً أنّ هناك سياقاً واضحاً لبعض الروايات، يتصدّى فيها (المعصوم) للإشارة إلى العناوين القرآنية، كما سنشير إليه.

ويلاحظ الباحث على منهج السيد، الحضور الفاعل لهذه المرجعية، وفي موارد فقهية

عديدة، ومنها موارد حرجة، وتشكّل إشكاليات على مستوى الروايات، في وقتٍ يمكن تجاوزها مع تحكيم المرجعية القرآنية، ومن هذه الموارد:

1ـ يلاحظ الباحث على الفقه التقليدي، أنَّ هناك إشكاليات واضحة بصدد صياغة العلاقة الزوجية ومفاعيلها، ويبرز ذلك بوضوح، في مسألة سلطة (الرجل/الزوج) على (المرأة/الزوجة)، وطبيعة الوفاء بحقوق كلٍّ منهما تجاه الآخر، بل وتبرز الإشكالية بشكل أعمق في مسألة حلِّ الخلافات وبلوغها الذّروة، حيث تصل إلى النهاية.

وبتحديدٍ أكبر، يمكن الإشارة إلى حقِّ الزوجة الجنسي، الذي لا يرى بعض الفقهاء أنّ لها حقاً أكثر من أن يكون مرةً واحدةً كلَّ أربعة أشهر، وذلك تبعاً لروايات في هذا المجال، في وقتٍ لا يمكن - من وجهة نظر السيد -  قبول هذه الروايات وفق الرؤية القرآنية، كما في قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(النساء: 19)، وقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}(البقرة: 228). وقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}(البقرة: 229).

وفي ضوء هذه الآيات الكريمة، عالج السيد مسائل شديدة الحراجة، كما في طلاق المرأة التي يغيب عنها زوجها، إذ يرى السيد إمكان طلاقها في ضوء المفهوم القرآني، وإن أنفق عليها وليُّ الزوج، لأنّ مثل هذا الإنفاق لا يفي بحاجات الزوجة الأخرى. (رسالة في الرضاع، السيّد محمد حسين فضل الله، ص31).

2- ومن الموارد التي وقع فيها الجدل، مسألة إرث الزوجة من العقار، حيث إنّ المشهور عند الإمامية، حرمانها من الأرض - على تفصيل  - وأخذها قيمة العقار من غير الأرض، وذلك لعددٍ من الروايات، إِلاّ أن السيد لاحظ على ذلك، أنّ مثل هذه الروايات مخالفة للقرآن الكريم، بل إنّ ما ورد في خبر ابن أبي يعفور، من كونها ترث من الزوج من أيِّ شيء - كما يرث منها - هو الموافق للقرآن الكريم، فيكون مقدّماً على الأخبار الأخرى، بل لا يمكن الإذعان لروايات الحرمان، في وقتٍ لم يشر القرآن الكريم إلى شيء من ذلك، ولو كان ثّمة تخصيص للقرآن، لكان صدر عن النبيّ(ص). وليس هناك ما يشير إليه، وخصوصاً أنّ المسألة ابتلائية جدّاً. والدواعي كثيرة على النقل. (فقه المواريث، ج2، 261 - 270).

3- ولعلَّ من أهمّ الموارد الفقهية التي حاول السيّد أن يعالجها في ضوء المنهج القرآني، مسألة الخلع، وكونه واجباً على الرجل عندما تبذل الزوجة أو لا؟ ومن الجدير ذكره، أنّ هناك عدداً من فقهاء الإمامية، وفي مقدّمهم الشيخ الطوسي، اختاروا وجوب الخلع، واستدلُّوا له بأنّ النهي عن المنكر واجب، وإنما يتمّ بهذا الخلع، فيجب. (مختلف الشيعة، العلاّمة الحلي، ج7، ص382).

أما السيد، فقد حاول التنظير له بعيداً عن استدلال الشيخ الطوسي وأمثاله، وردّه إلى المنهج القرآني، وذلك استناداً إلى قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}(البقرة: 229)، بمعنى أن الحلّ هو مما يريده الله على كلِّ حال في حالةٍ من هذا القبيل، بحيث يخشى ألا يقيما حدود الله، ويتم تجاوزها أو انتهاكها، ولو ترك للرجل أن يمتنع على نحوٍ يكون كالطلاق، فعندئذٍ يكون الأمر عديم الفائدة، هذا فضلاً عن أنّ روايات شروط البذل، يمكن أن يستفاد منها أنّها تؤكِّد أنّ الطلاق واقع على كلّ حال.

4 - ومن التطبيقات الفقهية لما نسمّيه بالمرجعية القرآنية، موقف السيد من روايات وجوب الحجّ مرةً أو أكثر، في كلّ عام على المستطيع، حيث وردت روايات متعارضة في هذه المسألة.

ففي بعض الروايات، ما دلّ على وجوب الحج مرّةً واحدةً، ومن تلك الروايات، ما روي عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله(ع)، قال: «ما كلَّف الله العباد إِلاّ ما يطيقون، إنما كلَّفهم في اليوم والليلة خمس صلوات. إلى أن قال: وكلَّفهم حجةً واحدةً وهم يطيقون أكثر من ذلك». (الوسائل، كتاب الحجّ، باب 3 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، حديث رقم 1). وما عن الفضل بن شاذان عن الرضا(ع) قال: «إنما أُمروا بحجة واحدة لا أكثر من ذلك، لأنّ الله وضع الفرائض على أدنى القوة، كما قال: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ}(البقرة:196) يعني: شاة، ليسع القوي والضعيف، وكذلك سائر الفرائض، إنما وضعت على أدنى القوم قوّةً، فكان من تلك الفرائض، الحجّ المفروض واحداً، ثم رغَّب (بعد أهل القوة بقدر طاقتهم)». (الوسائل، كتاب الحجّ، باب 3 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، حديث رقم 2).

وعن محمّد بن سنان، أنَّ أبا الحسن علي بن موسى الرضا(ع)، كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله، قال: «علّة فرض الحجّ مرةً واحدةً، لأنّ الله تعالى وضع الفرائض على أدنى القوم قوةً، فمن تلك الفرائض، الحجّ المفروض واحداً، ثم رغَّب أهل القوّة على قدر طاقتهم». (الوسائل، كتاب الحجّ، باب 3 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، حديث رقم 3).

وفي هذه الطائفة من الأخبار ما هو صحيح، ومنه، وإن لم يسلم سنده، كما في رواية محمّد بن سنان، فإنّه قد يصحَّح - عند السيّد - لجهة عدم الداعي للكذب، ومطابقته للأخبار الصحيحة، فيكون شاهداً، وهي تدلّ بوضوح على عدم وجوب الحجّ أكثر من مرّة في العمر، ولكنّها معارضة بما ورد من الأخبار مما ادعي دلالته على وجوب الحجّ أكثر من مرة، كما في صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى(ع) قال: «إنَّ الله عزّ وجلّ فرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام، وذلك قوله عزّ وجل: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}(آل عمران: 97). قال: قلت: فمن لم يحجّ منَّا فقد كفر؟ قال: لا، ولكن من قال: ليس هذا هكذا، فقد كفر». (الوسائل، كتاب الحجّ، باب 2 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، حديث رقم 1).

وفي صحيح أبي جرير القمّي، عن أبي عبد الله(ع)، قال: الحجّ فرض على أهل الجدة في كلّ عام. (م.ن، حديث رقم 1).

وما تقدَّم من الأخبار الدالَّة على وجوب الحجّ على أهل الجدّة في كلّ عام، يُنافي ما سبق من الأخبار، مما دلَّ على كفاية المرة، وأنَّ الحجّ لا يجب في العمر على المكلَّف أكثر من مرة، وإن كان ذلك مما يطيقه المكلَّف، لأنّ الواجبات وضعت على من هو أدنى قوّةً من المكلَّفين، ولذلك وقع البحث عند العلماء في طريقة الجمع بين هذه الأخبار المتعارضة.

وثمّة عدة طرق للجمع (نقل بعضها الحرّ العاملي، اثنين منها عن الشيخ الطوسي، واختار الطريق الثالث).

الطريق الأول: وذلك بحمل الطائفة الثانية على الاستحباب، وقد نقل ذلك عن الشيخ الطوسي، كما في وسائل الشيعة، وذلك لظهور الطائفة الثانية على الوجوب، وكون الأولى نصاً فيه.

وقد لاحظ السيد على هذا الطريق، أنّ الحمل على الاستحباب، إنما يجوز (ويصحّ) إذا كانت الروايات الأخرى مما يصلح قرينةً على تفسير الروايات المتنافية ظاهراً، أما إذا لم تكن كذلك في نظر العرف، بحيث يرون أنّها من المتعارض، فلا يصحّ مثل هذا الجمع بين المتعارضين.

الطريق الثاني: وهو ما نقله الشّيخ الحرّ العاملي عن الشيخ الطوسي، وذلك بحمل الطائفة الثانية من الروايات على إرادة الوجوب على طريق البدل، على نحوٍ يجب فيه الحجّ على كلّ مكلف أخلَّ بواجب الإتيان به في عام الاستطاعة السابق، فمن وجب عليه الحجّ في السنة الأولى ولم يفعل، فإنّه يجب عليه الحجّ في السنة الثانية، وهكذا.

وسجَّل عليه السيد أنّه خلاف الظاهر، فإنّ ظاهر الروايات وجوب الحجّ في كلّ عام على نحو الشمولية لا البدل، ولا قرينة على البدلية.

الطريق الثالث: ما عليه الشيخ الحر العاملي من كونه واجباً كفائياً في كلّ عام، فلا يقع التنافي بين الطائفتين، وذلك لكون الطائفة الأولى في الوجوب العيني، والثانية في الكفائي. فهي في مقام بيان حكم عدم جواز خلوّ الكعبة من كلّ حاج، بلحاظ ما دلّ على عدم جواز ذلك، وما دلّ على حمل الحاكم الشرعي المكلّفين على الحجّ في مثل هذه الحالات. (الوسائل، كتاب الحجّ، باب 4، حديث رقم 2 و 5 من أبواب الحجّ وشرائطه، حديث رقم 1).

وقد ردَّ السيّد هذا الوجه، بأنَّ هذه النصوص شاملة لأهل الجدة وغيرهم، وقد أخذ في لسان الروايات هذه قيد التعطيل، وليس كذلك في هذه النصوص الواردة التي مرَّ ذكرها في الطائفة الثانية.

الطريق الرابع: ما ذكره السيد الخوئي. قال: «فالصحيح أن يقال في وجه الجمع، إنّ هذه الطائفة من الروايات ناظرة إلى ما كان يصنعه أهل الجاهلية، فإنهم كانوا لا يحجّون في بعض السنين القمرية، وكان يعدُّون الأشهر بالحساب الشمسي، ويؤخّرون الأشهر عمّا رتَّبها الله تعالى، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}(التوبة:37)، فربما يمر عام قمري ولا يحجون فيه، فأنزل الله تعالى آية الحجّ، رداً عليهم بأنّ الحجّ يجب الإتيان به في كلّ شهر ذي الحجة، فالمنظور في الآية والروايات، أن كلّ سنة قمرية لها حجّ يجب الإتيان به، لا أنّه يجب الحجّ على كلّ أحد في كلّ عام». (المعتمد في شرح المناسك، كتاب الحجّ، تقرير السيد رضا الخلخالي، قم، ط1، 1409هـ، ج3، ص12).

وقد علّق السيّد على رأي  أستاذه بأنّه غريب - مع جلالة قدره - لأنّ الآية الكريمة في مقام الاستنكار على ما هو عليه الجاهليون يومذاك من عدم احترام خصوصية الأشهر الحرام، إذ لا يحترمون خصوصية التوقيت فيها، ولذلك يعمدون إلى احترام أشهر بديلة، لتتمَّ المواطأة مع الأشهر الحرم، ولا علاقة للآية الكريمة بما ذكره من التداخل بين الحساب الشمسي والقمري.

وقد استظهر السيّد، أنَّ الروايات في الطائفة الثانية على وزان قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}(آل عمران: 97)، وسياقها سياقها، فكما أنّ الآية في مقام بيان وجوب الحجّ متى ما تحقَّق المستطيع والقادر، وأنَّ الحجَّ واجبٌ على المسلمين مع تحقّق الشَّرائط، فالروايات في مقام بيان عدم توقيت الحجّ بوقت، فالحجّ واحد واجب شرعي في كلّ سنة إن وجد المستطيع، فتكون الروايات في مقام بيان استمرار وجوب الفريضة، من قبيل قوله: «حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمّد حرام إلى يوم القيامة»، وخصوصاً أنّ الإمام، وهو في مقام الحديث عن وجوب الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام، استشهد بالآية الكريمة المشار إليها آنفاً، ما يوجب بأنّ الحكم على وزان الحكم فيها.

وعليه - من وجهة نظره - فأقرب وجوه الجمع بلحاظ الاستشهاد بالآية الكريمة من حديثالإمام(ع) ما ذكره هو، وإن كان على خلاف الظاهر، فإنّ العدول عن الظاهر جائز، وذلك لجهة مخالفة هذه الروايات لما هو ضروري عند المسلمين، من عدم وجوب الحجّ أكثر من مرة واحدة في العمر.

وقد فسَّرها بهذه الطريقة استيحاءً بالمنهج القرآني مما ورد في حديث الإمام(ع) نفسه. (بحوث غير منشورة، بقلم محمّد الحسيني).

5 - وفي بحثه مسألة ما أسماه السيد (الصوم القرآني)، توقَّف عند الاختلاف بين ما ورد في القرآن الكريم من ذكر لعددٍ من المفطرات، وبين ما ورد في الأخبار من مفطِّرات لم ترد في القرآن الكريم ولو على نحو الإشارة، ولذلك ارتأى أن تكون للقرآن الكريم إطلالة مرجعية على نحو تفهّم الأخبار في ضوء هذه المرجعية، لا بمعزلٍ عنها.

ولذلك، ينأى السيد بنفسه عن الفهم السائد والمنهج الحرفي لفهم هذه الأدلة، وهو إذ يؤكّد أنَّ ما ورد في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}(البقرة:187). وإن لم يكن في مقام الحصر اصطلاحاً، لأنّ إهمال غير ما ذكر من المفطرات في النص، لا يعني نفي عدم مفطريته، إلاّ أنَّ واقع الحال يؤكّد الحصر في المقام، وذلك لأنّ دراسة المسألة من الناحية التاريخية، كفيلة بإثبات ذلك، أو الإشعار به على أقلّ تقدير. والوجه فيه: أنّ الآية لم ترد لتشريع أصل الصوم -كما في الصلاة مثلاً والزكاة - بعيداً عن التفاصيل، بل وردت في سياق التفاصيل والنص على المفطِّرات، فضلاً عمّا ذكر من شروطٍ للتكليف بالصوم، من قبيل خلوّ المكلف من المرض والسفر، وغير ذلك من التفاصيل التي تتَّصل بالعجز عن الصيام، وما فرض بديلاً منه.

ولذلك، يرى السيد أنّ الآية في مقام بيان الحكم الشرعي للمفطِّرات، ولذلك يمكن نفي عدا ما ذكر من مفطِّرات في القرآن الكريم بالإطلاق المقامي، لا الإطلاق اللفظي، عدا عن المناقشة في الروايات التي ورد فيها ذكر مفطِّرات لم ترد في القرآن الكريم، وذلك لجهة الإشكال في أسانيد هذه الروايات أو دلالتها على المفطرية. (كتاب الصوم - بحوث غير منشورة، بقلم محمّد الحسيني).

6 - ومن تطبيقات قاعدة حاكمية المرجعية القرآنية وسموّها على الروايات، موقف السيد من مسألة اشتراط الفلس في السمك لحليّة أكله، حيث ورد ذلك في طائفةٍ من الروايات معارضةً بروايات أخرى لم تشترط ذلك.

وقد جمع السيد بين هذه الروايات على نحوٍ يكون مرجعها الكتاب الكريم، فيكون ما ورد من رواياتٍ من اشتراط الفلس في حلية أكل السمك، محمولاً على الكراهة، وذلك لأن عدداً من الروايات، وبعضها نقله أكابر رواتنا وفقهائنا من أصحاب الأئمة(ع)، ممّا تضمّن الإشارة إلى القرآن الكريم، فقد روى زرارة بن أعين قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن الجرّيث؟ فقال: وما الجرّيث؟ فنعتّه له، فقال: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}(الأنعام:145)، إلى آخر الآية. ثم قال: لم يحرّم الله شيئاً من الحيوان في القرآن إلاّ الخنـزير بعينه، ويكره كلّ شيء من البحر ليس له قشر مثل الورق، وليس بحرام، إنما هو مكروه.. (الوسائل، كتاب الأطعمة والأشربة، باب 9 من أبواب الأطعمة المحرَّمة، حديث رقم 19). وروى ذلك محمّد بن مسلم الطائفي - وهو من أكابر أصحاب الصادق(ع) - قال: «سألت أبا عبد الله(ع) عن الجريّ والمارماهي والزمير - وما ليس له قشر - من السمك، أحرام هو؟ فقال لي: يا محمّد، اقرأ هذه الآية التي في الأنعام {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً}(الأنعام:145)، قال: فقرأتها حتى فرغت منها، فقال: إنما الحرام ما حرَّم الله ورسوله في كتابه، ولكنّهم قد كانوا يعافون أشياء فنحن نعافها». (الوسائل، كتاب الأطعمة والأشربة، باب 9 من أبواب الأطعمة المحرَّمة، حديث رقم 20).

والروايتان ظاهرتا الدلالة في نفي الحرمة، سواء في رواية زرارة التي قابلت بين الحرمة والكراهة، في إشارة واضحة إلى الكراهة بالمعنى الاصطلاحي، أو في رواية محمّد بن مسلم التي نفت الحرمة بلسانٍ واضح لا لبس فيه، وذلك بالإشارة إلى التنـزّه عن أكل ما سأل عنه الرّاوي، وأنّه ليس حراماً، فضلاً عن استدلال الإمام(ع) بالقرآن الكريم، وجعله المرجع في ذلك. وعليه، كان لزاماً أن يكون القرآن الفيصل في فهم الروايات والجمع بين المتعارض منها، وهو ما اختاره السيد في هذه المسألة، ولذلك ردّ السيد محاولات بعض الفقهاء في ترجيح روايات الحرمة على الروايات الأخرى، بدعوى حمل الروايات المجوّزة على التقية، وذلك لجهة أنَّ الحمل على التقية متأخر رتبةً عن العرض على الكتاب، فضلاً عن أنَّ حمل بعض الروايات على التقية مما يأباه الذَّوق السليم، وخصوصاً بالنسبة إلى روايات أمثال زرارة ومحمّد بن مسلم، إذ إنّهم من أكابر الأصحاب أولاً، ولجهة افتراض أن يكون مقام التقية مقتصراً على الضرورات، وهي تقدَّر بقدرها، فكيف يسهب الإمام(ع) في الجواب، ويستدلُّ بالقرآن الكريم، دون أن يكون مضطراً إلى ذلك. (بحوث فقهية، بقلم محمّد الحسيني).

ولذلك، يقرِّر السيد أنّه: «لا يكفي في صحة حمل خبر ما  على التقية، أن يكون موافقاً لما اشتهر العمل به عند العامة، أو شاع من رأي أو مذهب أو فتوى، بل لا بدَّ من دراسة طبيعة الخبر الموافق، ذلك أنّ التقية تتأدّى بأقلّ قدر ممكن من البيان، والخبر لكي يكون في مقام بيان الحكم على وجه التقية، لا بدَّ من أن يتعرض لبيان أصل الحكم الموافق، من دون الدّخول في التفاصيل، وخصوصاً ما يعضد الحكم ويؤكده من الأدلة والحجج، وما يدعمه من المؤيّدات والشواهد». (فقه المواريث والفرائض، تقريرات بحث السيد محمّد حسين فضل الله، بقلم خنجر حمية، ج1، 353).

7 - ومن تطبيقات ما أسميناه بالمرجعية القرآنية كمبدأ أساسٍ في المنهج الفقهي عند السيد، قراءته للأدلة الشرعية المتعلقة بموضوع البلوغ، وتكليف الأنثى من وجهة نظر الشريعة، وتوجّه الخطابات الشرعية إليها، ما يجعلها موضوعاً للأحكام الشرعية.

والمعروف والمشهور عند فقهائنا - المسلمين الشيعة - أنّ الأنثى تبلغ إذا أتمَّت التاسعة الهجرية من عمرها، بالرغم من ورود روايات أخرى، بعضها يفيد أنّها مكلّفة ببلوغها السنّ العاشرة، أو بلوغها ثلاث عشرة سنة، أو عندما ترى الدم وتحيض، حيث رُجِّحت روايات البلوغ بالتسع على غيرها، لجهات فنية قد يختلف عليها الفقهاء.

أما السيد، فقد جعل الكتاب الكريم مرجعيته في ترجيح طائفة على أخرى، لأنّ القرآن هو المرجع في ذلك، وما ورد في السُنَّة الشريفة، محكوم بالعنوان القرآني، وهو وارد مورد القاعدة، ما يعني أنّ دائرة إطلاق تلك العناوين الواردة في السنَّة، ينبغي أن تُقيّد بالعنوان القرآني. (البلوغ - تقرير بحث سماحة السيد محمّد حسين فضل الله، بقلم السيد جعفر فضل الله، ص 175)، حيث ورد في القرآن الكريم ما يشير إلى عنوان البلوغ في قوله تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ}(النساء: 6)، وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(النور: 58 ـ 59).

وظاهر الآية الأولى، أنّها تشير إلى بلوغ النكاح، وهو قابلية النكاح من حيث طبيعة الجسد، وهو ما يعبّر عنه بالنضوج الجنسي، حيث ينتقل الإنسان معه من مرحلة الطفولة إلى مرحلة أخرى، وهي مرحلة الشباب، حيث تكون للطاقة الجسدية معنى آخر من خلال ممارسة العملية الجنسية. وأما الآية الثانية، فإنّها بصدد تنويع الخطاب بلحاظ بلوغ الحلم، وهو معنى واضح عند العرب، حيث تشير الآية الكريمة إلى الحُلُم، كنايةً عن النضج الجنسي الذي يقطع مرحلة الصبا الجسدي، وتبدأ معه الرجولة الجسدية بالنحو الذي يصبح فيه البالغ معرَّضاً لإثارة الشهوة والوطء وخروج المني وما إلى ذلك.

وفي ضوء ما أسميناه بالمرجعية القرآنية، يعالج السيد مسألة اختلاف الروايات وتعارضها، سواء في مسألة البلوغ أو في المسائل الأخرى، وفي مسألة البلوغ تحديداً، وجد السيد من اللازم جعل الكتاب الكريم، المرجع الأساس في ترجيج الروايات التي تشير إلى حصول البلوغ بالحيض عند الأنثى والاحتلام عند الذكر، ما لم يكن ثمة عوارض.

مع الإشارة إلى أنَّ السيِّد يرجِّح - بغضِّ النظر عن حاكمية المرجعية القرآنية على الروايات - روايات البلوغ بالحيض  على غيرها، لجهة التعليل الذي ورد في بعض الروايات: «... وإذا بلغت الجارية تسع سنين، فكذلك، لأنّها تحيض لتسع سنين» (الوسائل، كتاب الوصايا، باب 44 من أحكام الوصايا، حديث رقم 12).

كما رفض السيد محاولات بعض الفقهاء ردّ الروايات المعارضة للبلوغ بالتسع في الأُنثى لجهة التقية، لأنّها محاولات غير صحيحة تاريخياً، وذلك لأنّ أهل السنة مطبقون على أنّ البلوغ بالتسع.

8 - وفي ضوء ما أسماه السيد بالمرجعية القرآنية، يُحدِّد موقفه من مسألة الغناء وحرمته، وأنه حرام في ذاته، أو لجهة ما يعرض عليه من عناوين قد تكون محرَّمةً؟

ويرى السيد أنْ ليس ثمة آية في الكتاب الكريم تدلُّ على تحريم الغناء بعنوانه، كما في تحريم الخمر أو الميسر مثلاً، وما استدلَّ به من روايات بهذا الصدد مما روي عن أهل البيت(ع)، فإنّه يشير إلى القرآن الكريم، ويجعله مرجعاً في المسألة.

نشير إلى أنَّ الآيات القرآنية التي جعلت مرجعاً في مسألة الغناء، هي قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}(الحج: 30). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}(الفرقان: 72). وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(لقمان: 6)، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}(الأنبياء: 16 - 18).

وإلى هذه الآيات أشارت بعض الروايات، فقد روي «عن زيد الشحَّام قال: سألت أبا عبد الله(ع): عن قوله عزَّ وجلّ: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}(الحجّ: 30) قال: قول الزور: الغناء». (الوسائل، كتاب التجارة، باب 99 من أبواب ما يكتسب به، حديث 2). و«عن أبي علي الأشعري عن محمّد بن عبد الجبار عن صفوان عن أبي أيوب الخزاز عن محمّد بن مسلم عن أبي الصباح عن أبي عبد الله(ع) قال: في قوله عزَّ وجلّ: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}(الفرقان:72)، قال: الغناء». (م.ن، ص3).

و«عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر(ع) قال: سمعته يقول: الغناء مما وعد الله عليه النار، وتلا هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(لقمان: 6)، (م.ن، حديث 6). و«عن عبد الأعلى قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن الغناء وقلت: إنّهم يزعمون أنّ رسول الله(ص) رخَّص في أن يقال: جئناكم جئناكم، حيّونا حيونا نحييكم، فقال: كذبوا، إنَّ الله عزّ وجلّ يقول: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}(الأنبياء: 16 ـ 18)، ثم قال: «ويل لفلان مما يصف». رجل لم يحضر المجلس. (م.ن، حديث 15).

و«عن عبدالله بن أبي بكر محمّد بن عمرو بن حزم - في حديث - قال: دخلت على أبي عبد الله(ع) فقال: الغناء، اجتنبوا الغناء، اجتنبوا قول الزور، فما زال يقول: اجتنبوا الغناء اجتنبوا، فضاق بي المجلس، وعلمت أنّه يعنيني». (م.ن، حديث 24).

وعلى أيّة حال، يرى السيد أنَّ الأصل في حرمة الغناء هو الآيات القرآنية، وما ورد من

 الروايات فهو في مقام التطبيق، وهي تشير إلى هذا الأصل، ولذلك لا يمكن فهمها بمعزلٍ عن الآيات القرآنية.

وفي ضوء هذا الأصل، يرى السيد أنّ حرمة الغناء لم تكن لجهة عنوانه بنفسه وبذاته، وإنما حرمته لجهة صدق عنوان قول الزور عليه، أو لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله تعالى، وكلّ ما ورد في الروايات منعاً، فهو ناظر إلى مداليل هذه الآيات. وعليه، فإذا كانت هذه الروايات ظاهرةً في معانٍ معينة، فلا بدَّ من حمل هذه الروايات على تلك المعاني الظاهرة في الآيات الشريفة، فتكون الحرمة مختصةً بما كان يصدُّ عن سبيل الله ويشغل الناس عنه، دون ما لم يكن كذلك. (بحوث فقهية غير منشورة، بقلم محمّد الحسيني).

وبناءً على ما تقدّم، لم يجد السيد حاجة لإخراج ما كان مضمونه حقّاً من الغناء من الغناء الحرام،كما هو موقف مشهور الفقهاء، حيث اضطروا لتخصيص الحرمة بغير ما كان مضمونه حقّاً، كما هو حال التعازي والإنشاد في الموالد وغير ذلك. بل إنّ السيد أشكل عليهم لهذه الجهة، مع إصرارهم على اعتبار الحرام مرتبطاً بالكيف لا بالمضمون، وهو عندئذٍ يشمل ما كان مضمونه حقّاً أو باطلاً، وهو ما لا يرد على السيد، لأنّه اعتبر أنّ ما كان مضمونه باطلاً فهو حرام، لأنّه يصدُّ عن سبيل الله، ويشغل الناس عن ذكره، أو يكون مصداقاً للزور والباطل، وغير ذلك من العناوين، وما عداه يكون حلالاً.

5 ـ النـزعة التاريخية:

وثمة نزعة تاريخية طبعت المنهج الفكري للسيد عموماً، والمنهج الفقهي بشكل خاص، وهي نزعة ليست علميةً على المستوى المنهجي وحسب، بل يمكن أن تلقي بظلالها على النتائج موضوع البحث التي يصبو إليها الفقيه - أي فقيه - فقد تبدو للفقيه نتائج قد يقتنع بها، إلاّ أنّها لا تثبت أمام النقد من وجهة نظر تاريخية، أو ما يمكن تسميته بالمناسبات التاريخية، على حدِّ تعبير الشهيد الصدر.

هنا، يمكن أن نلفت النظر إلى أنّ غياب البعد التاريخي في التفكير الفقهي، قد يؤدّي إلى نتائج وخيمة، وقد تقلب النتائج المرجوة فقهياً وتبدو بصورة مغايرة تماماً لما هو الواقع.

ومن تطبيقات الرؤية التاريخية عند السيّد، وأثرها في فهم الروايات والأدلة عموماً، قراءته لأدلّة مسألة وجوب دفع الجاهل الكفَّارة في حال ما إذا جامع في الحجّ زوجته بعد السعي وقبل التقصير، جاهلاً بالحكم، فإنّه حسب القواعد لا شيء عليه، لأنّ الكفَّارة لا تجب إلاّ على العالم، فكيف تجب على الجاهل. ولكن وردت رواية عن الحلبي، استظهر منها وجوب الكفَّارة، إذ روي عنه أنه قال: قلت لأبي عبد الله(ع): «جعلت فداك، إنّي لما قضيت نسكي للعمرة، أتيت أهلي ولم أقصر. قال: عليك بدنة، قال، قلت: إني لما أردت ذلك منها، ولم يكن قصَّرت، امتنعت، فلما غلبتها، قرضت بعض شعرها بأسنانها، فقال: رحمها الله، كانت أفقه منك، عليك بدنة وليس عليها شيء». (وسائل الشيعة، كتاب الحج، باب 3 من أبواب التقصير، الحديث رقم 2).

وقيل إنّها كالصريحة في أنّ الحلبي كان جاهلاً بالحكم، لقوله(ع): «هي أفقه منك»، بمعنى أنّها عالمة بالحكم، وأما هو فكان جاهلاً به، ولذلك فتكون هذه الرواية مخصَّصةً ومقيّدةً للعمومات والمطلقات التي تدل على عدم وجوب شيء من الكفارات على الجاهل. (السيد الخوئي، المعتمد في شرح المناسك، ج5، ص111).

وقد سجّل السيّد على ما أفاده أستاذه السيد الخوئي، عدّة ملاحظات تكشف عن ضرورة ملاحظة القرائن التاريخية التي تحفّ بالرواية، حيث أفاد السيد هذه الملاحظات:

أولاً: يبعد أن يكون الحلبي، وهو من كبار الصحابة والرواة، ومن بيت علمي مشهور، جاهلاً بالحكم، وتكون امرأته عالمةً بالحكم وهي تعيش معه، وخصوصاً بلحاظ أنّ الحكم المذكور مما يعرفه عامة الناس من الحجاج، بحيث لا يمكن افتراض خفائه على أمثال الحلبي.

ثانياً: أنّه لو سُلِّم جهل الحلبي بالحكم ابتداءً، فإنّ امتناع الزوجة عليه بحيث اضطر إلى مغالبتها، يكفي لإشعاره بالحكم، وهي تعمد إلى قرض بعض شعرها للتقصير، إذ يبعد أن لا يحرك فيه هذا الفعل أي تساؤل حول هذا الامتناع. ولذلك، فإنّ افتراض تعمّده - من باب غلبة الشهوة - أولى من افتراض جهله بالحكم في صورة يفترض أنّها كفيلة بإعلامه بالحكم.

ثالثاً: إن جملته (هي أفقه منك)، ليس من الضروري أن تكون ناظرةً إلى الحكم الشرعي من حيث الجهل والعلم، بحيث يستفاد منها أنّه جاهل بالحكم وهي عالمة به، بل الملحوظ بها أنّها أفقه منه، لأنّها استطاعت أن تتخلص من المأزق الشرعي، بحيث عمدت إلى قرض بعض شعرها لتحقق التقصير وإنهاء حالة الإحرام، في وقتٍ عجز الحلبي عن ذلك.

وعليه، فإنّه لا يبعد أن يقال: إنّ الرواية ظاهرة في العمد لا الجهل، وبذلك تكون منسجمةً مع القاعدة التي تفيد أن لا كفَّارة مع الجهل، ولا تشكِّل استثناءً لها.

رابعاً: كما أنّه يبعد الالتزام بالتخصيص والتقييد على هذا النحو، كما ذكره السيد مراراً، لأنه تخصيص على خلاف الذوق العرفيّ وعلى خلاف بناء الفقهاء.

وعندئذٍ يقال: إنّ رواية معاوية بن عمار، والتي روى فيها عن الصادق(ع) أنّه قال: «سألت أبا عبد الله(ع) عن متمتّعٍ وقع على امرأته ولم يقصّر، قال: ينحر جزوراً، وقد خشيت أن يكون قد ثلم حجّه إن كان عالماً، وإن كان جاهلاً فلا شيء عليه» (الوسائل، كتاب الحجّ، باب 13 من أبواب كفارات الاستمتاع، الحديث 4، والباب 9، الحديث رقم 1)، وإن كانت مخدوشةً سنداً، إلاّ أنّها موافقة للقاعدة، ولا تعارض رواية الحلبي، كما أفاده السيّد من ظاهرها الذي هو أقرب إلى صورة العمد منه إلى صورة الجهل. السيد الأستاذ.

وعلى أيّة حال، فكيف يمكن تصوّر أن تكون امرأة الحلبي أكثر معرفةً منه بالفقه، وفي مسألة من هذا القبيل. ولذلك، فإنَّ القرينة التاريخية هذه، وهي منـزلة الحلبي العلمية، تدفع باتجاه تفسيرٍ للرواية مغاير للتفسير الذي فهم منه السيد الخوئي، ولم يُعن فيه بمعطى تاريخي، وهو منـزلة الحلبي العلمية، كما هو معروف في التاريخ العلميّ.

وفي ضوء النـزعة التاريخية التي تشرَّب بها منهج السيد، عالج مسألة مواقيت الإحرام للحجّ، حيث إنّه لا إشكال في أنَّ النبي(ص)، جعل مواضع معينة للإحرام سميت بالمواقيت، فوقَّت لأهل المدينة (ذا الحليفة)، ولأهل الشام (الجحفة)، ولأهل نجد (العقيق)، ولأهل الطائف (قرن المنازل)، ولأهل اليمن (يلملم).

وبغضِّ النظر عن الاختلاف في عدد هذه المواقيت، لجهة اختلاف كلمات الفقهاء، بل واختلاف الروايات، فإنَّ البحث المنظور - عند الفقهاء - في مدى إطلاق هذه الروايات، على نحوٍ تكون شاملةً لمن مرَّ عليها، ومن لم يمرّ عليها، بحيث يلزم الأخير الإحرام منها، مما هو واقع فعلاً، كما لو وصل الحاج إلى (جدة) وهي ليست من المواقيت، فإنّه بناءً على دعوى الإطلاق في هذه الروايات، يلزمه الرجوع إلى الجحفة والإحرام منها للحجّ، وإلاّ فلا يجب عليه الرجوع. نعم، لا يلزمه ذلك على الأوَّل في بعض الحالات، كما لو نذر الإحرام في الطائرة، حيث جعله بعض الفقهاء طريقاً للخروج من إشكال عدم الإحرام من المواقيت المحدَّدة، وأذكّر هنا أنّ للسيد رأياً في هذا الطريق وهذا الخيار يختلف به مع مشهور الفقهاء.

وعلى أيّة حال، فقد وردت عدة روايات استند إليها الفقهاء في وجوب الإحرام للحجّ والعمرة، من المواقيت المحدَّدة. ومن هذه الروايات:

ما ورد عن أبي أيوب الخراز قال: «قلت لأبي عبد الله(ع): «حدثني عن العقيق، أَوَقت وقّته رسول الله(ص)، أو شيء صنعه الناس؟ فقال: إنَّ رسول الله(ص)، وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ووقَّت لأهل المغرب الجحفة، وهي عندنا مكتوبة مهيعة، ووقَّت لأهل اليمن يلملم، ووقَّت لأهل الطائف قرن المنازل، ووقَّت لأهل نجد العقيق وما أنجدت». (الوسائل، كتاب الحجّ، باب 1 من أبواب المواقيت، حديث 1).

وعن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله(ع) قال: «من تمام الحجّ والعمرة أن تحرم من المواقيت التي وقَّتها رسول الله(ص)، لا تجاوزها إلاّ وأنت محرم، فإنّه وقَّت لأهل العراق، ولم يكن يومئذٍ عراق، بطن العقيق من قبل أهل العراق، ووقَّت لأهل اليمن يلملم، ووقَّت لأهل الطائف قرن المنازل، ووقَّت لأهل المغرب الجحفة، وهي مهيعة، ووقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ومن كان منـزله خلف هذه المواقيت مما يلي مكّة، فوقته منـزله». (الوسائل، كتاب الحجّ، باب 1 من أبواب المواقيت، حديث 2).

وروي عن الحلبي أنّه قال: قال أبو عبد الله(ع): الإحرام من مواقيت خمسة وقَّتها رسول الله(ص)، لا ينبغي لحاج ولا لمعتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها، ووقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، وهو مسجد الشجرة، يصلّي فيه ويفرض الحجّ، ووقَّت لأهل الشَّام الجحفة، ووقَّت لأهل النجد العقيق، ووقَّت لأهل الطائف قرن المنازل، ووقَّت لأهل اليمن يلملم، ولا ينبغي لأحد أن يرغب عن مواقيت رسول الله(ص)، (الوسائل، كتاب الحجّ، باب 1 من أبواب المواقيت، حديث 3).

وعن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(ع) قال: «سألته عن إحرام أهل الكوفة وأهل خراسان وما يليهم، وأهل الشام ومصر، من أين هو؟ فقال: أما أهل الكوفة وخراسان وما يليهم، فمن العقيق، وأهل المدينة من ذي الحليفة والجحفة وأهل الشام ومصر من الجحفة، وأهل اليمن من يلملم، وأهل السند من البصرة، يعني من ميقات أهل البصرة». (م.ن، حديث 5).

وعن عليّ بن جعفر أيضاً عن أخيه(ع) قال: «سألته عن المتعة في الحجّ، من أين إحرامها وإحرام الحجّ؟ قال: وقَّت رسول الله(ص) لأهل العراق من العقيق، ولأهل المدينة ومن يليها من الشجرة، وأهل الشام ومن يليها من الجحفة، ولأهل الطائف من قرن المنازل، ولأهل اليمن من يلملم، فليس لأحد أن يعدو من هذه المواقيت إلى غيرها». (م.ن، حديث 9).

وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله(ع) قال: «من أقام بالمدينة شهراً وهو يريد الحجّ، ثم بدا له أن يخرج من غير طريق أهل المدينة الذي يأخذ، فليكن إحرامه من مسيرة ستّة أميال، فيكون حذاء الشجرة من البيداء». (م.ن، حديث 1 و 3).

وعن الفضيل بن يسار قال: «سألت أبا عبد الله(ع) عن رجلٍ اشترى بدنةً قبل أن ينتهي إلى الوقت الذي يحرم فيه، فأشعرها وقلَّدها، أيجب عليه حين فعل ذلك ما يجب على المحرم؟ قال: لا، ولكن إذا انتهى إلى الوقت فليحرم، ثم ليشعرها وليقلدها، فإنَّ تقليده الأول ليس بشيء». (م.ن، باب 9 من أبواب المواقيت، حديث 1).

وعن إبراهيم الكرخي قال: «سألت أبا عبد الله(ع) عن رجل أحرم بحجّة في غير أشهر الحجّ دون الوقت الذي وقَّته رسول الله(ص)، قال: ليس إحرامه بشيء، إن أحبَّ أن يرجع إلى منـزله فليحرم، ولا أرى عليه شيئاً، فإنّ أحبّ أن يمضي فليمضِ، فإذا انتهى إلى الوقت، فليحرم منه، وليجعلها عمرةً، فإنّ ذلك أفضل من رجوعه، لأنه أعلن الإحرام بالحجّ». (م.ن، حديث 2).

وعن عبد الله بن عطاء قال: قلت لأبي جعفر(ع): «إنّ الناس يقولون إنَّ عليّ بن أبي طالب(ع) قال: إنَّ أفضل الإحرام أن يحرم من دويرة أهله، قال: فأنكر ذلك أبو جعفر(ع) فقال: إنّ رسول الله(ص) كان من أهل المدينة، ووقته من ذي الحليفة، وإنما كان بينهم ستة أميال، ولو كان فضلاً، لأحرم رسول الله(ص) من المدينة، ولكن عليّ بن أبي طالب(ع) يقول: تمتعوا من ثيابكم إلى وقتكم». (م.ن، حديث 5).

وعن أبي جعفر(ع) قال: من أحرم من دون الوقت الذي وقَّته رسول الله(ص)، فأصاب من النساء والصيد، فلا شيء عليه. (م.ن، حديث 1).

وإذا كان ثّمة دليل على إطلاقات الروايات - موضوع البحث - فإنّه قد يلتمس من أحد أمور، وهو مما استند إليه مشهور الفقهاء.

أوّلاً: من قوله(ع) - كما في خبر معاوية بن عمار - «من تمام الحجّ والعمرة أن تحرم من المواقيت التي وقَّتها رسول الله(ص)، لا تجاوزها إلاّ وأنت محرم...»، إذ افترض أنّ تمام الحجّ ومشروعيته، مما يقع بالإحرام من هذه المواقيت التي وقَّتها رسول الله(ص)، فلا يشرع الحجّ بغير الإحرام منها.

ثانياً: من قوله(ع) - كما في خبر الحلبي - «ولا ينبغي لأحد أنّ يرغب عن مواقيت رسول الله(ص)، فيكون قوله دالاً على لزوم الإحرام من هذه المواقيت على نحوٍ يلزم المرور عليها وإن لم يكن طريقه عليها».

ثالثاً: من قوله(ع)، كما في خبر عليّ بن جعفر: «فليس لأحد أن يعدو من هذه المواقيت إلى غيرها»، بدلالة قوله: «يعدو» الظاهرة في «الترك»، فيكون قوله: ليس لأحد أنّ يعدو ظاهراً في وجوب الإحرام من المواقيت المذكورة وعدم ترك الإحرام منها، على نحوٍ لا يصحُّ الإحرام من غيرها.

وقد ناقش السيِّد في جميع هذه الوجوه، وذلك لجهة أنّ قوله(ع) في خبر معاوية بن عمار، ظاهر في النَّهي عن تجاوز الميقات وقطعه على نحوٍ يكون خلف الحاج، وهو ما يعني مرور الحاج عليه، والتجاوز - على أقلِّ التقادير - ليس ظاهراً في الترك. وخصوصاً أنّ معنى جاز واجتياز، بمعنى قطع وسلك الطريق وتعدَّى الموضع وخلّفه وراءه. وعندئذٍ، لا يكون مفاد قوله(ع): «من تمام الحج والعمرة أن تحرم من المواقيت التي وقَّتها رسول الله(ص)..» مطلقاً وشاملاً لمن مرّ على الميقات ومن لم يمرّ عليه، ويكون من تمام الحجّ والعمرة لمن مرّ على الميقات، أن يحرم منها، على نحوٍ لا يشرع الحجّ والعمرة مع عدم الإحرام منها، لعدم تماميتهما في هذا الفرض.

كما أنّ قوله(ع) -كما في خبر الحلبي - «ولا ينبغي أن يرغب عن مواقيت رسول الله(ص)، ليس مطلقاً، وذلك لأنّه ورد في ذيل قوله(ع): «الإحرام من مواقيت خمسة وقَّتها رسول الله(ص) لا ينبغي لحاجٍ ولا لمعتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها...»، وهو ظاهر في الاختصاص بمن مرّ على هذه المواقيت، لعدم صدق القبلية والبعدية في فرض عدم المرور على المواقيت كليةً.

ولا تختلف دلالة ما ورد في خبر عليّ بن جعفر، وقوله(ع): «فليس لأحد أن يعدو من هذه المواقيت إلى غيرها»، إذ إنّها ليست ظاهرةً في الترك على أقل تقدير، إن لم تكن ظاهرةً في التجاوز والقطع، ما يفترض المرور، وخصوصاً بلحاظ الروايات الأخرى.

وعليه، فليس ثمة إطلاق - من وجهة نظر السيد - في هذه الروايات، يمكن التمسك به لإثبات لزوم الإحرام من هذه المواقيت في حال عدم المرور عليها.

وعليه، فالروايات الدالة على وجوب الإحرام من الميقات، مختصّة بفرض المرور عليها، وإن لم يمرّ عليها وكان محاذياً لها، أحرم من المحاذي لها - على تفصيل بين اختصاصه بمسجد الشجرة، أو شموله لجميع المواقيت، وإلاّ فإنّه لا يلزمه لا الرجوع إلى المواقيت، ولا إلى المحاذي لها، كما يرى السيد.

بل يمكن من وجهة نظر السيّد، أن يستدلَّ على جواز الإحرام للحاج الذي لم  يمرّ على ميقات من مكانه، بما رواه الشيخ الكليني عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله(ع) أنّه قال: «اعتمر رسول الله(ص) ثلاث عمر متفرقات: عمرة في ذي القعدة، أهلَّ من عسفان، وهي عمرة الحديبية، وعمرة أهَلَّ من الجحفة، وهي عمرة القضاء، وعمرة أهلَّ من الجعرانة بعدما رجع من الطائف من غزوة حنين». (الكليني، الكافي، الفروع، كتاب الحج، باب 153 حجّ النبي(ص)، حديث 10).

ورواه الشيخ الصدوق مرسلاً مع اختلاف يسير، إذ ورد فيه: «وعمرة القضاء أحرم فيها من الجحفة»، وقد مرَّ ما عن الكافي التعبير بـ «أهلَّ من الجحفة».

والعمدة رواية الشيخ الكليني، وهي صحيحة لا غبار عليها سنداً، كما لا غبار على دلالتها، وأنّها ظاهرة - بل صريحة - في جواز الإحرام من «عسفان»، وليست من المواقيت، فلا يلزم الحجاج - ممن لم يمرّ على الميقات - الرجوع عليه، بل يحرم من مكانه، كما هو فرض الوصول إلى جدة، والكون بين الميقات ومكة.



فهرس

-أ-

آدم: 98- 99

الآراكي، محسن (آية الله): 178

الابتهالات: 44، 104

إبراهيم الخليل (النبي): 103، 105، 107، 110

إبراهيم الكرخي: 262

ابن أبي العباس، القاسم بن عروة: 186، 188

ابن أبي عبد الله، عبد الرحمن: 187، 247

ابن البراج: 174

ابن حزم، عبد الله بن أبي بكر محمد بن عمرو: 256: 215

ابن عبيد، محمد بن عيسى: 167

ابن عمر: 222

ابن الفضيل، محمد: 236

ابن القاساني، علي: 187

ابن قولويه: 240

أبو أيوب الخزاز: 187، 256، 260

أبو بصير: 135، 161، 170، 188، 236

أبو بكر الصديق: 222

أبو جرير القمّي: 248

أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين (الشيخ الصدوق): 70، 174، 186، 239- 240، 256، 264، 262

أبو جميلة: 236

أبو حنيفة: 210

أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني: 217- 218

أبو الصباح الكناني: 237، 256

أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (الإمام): 64، 77، 82، 113، 132، 135، 161، 163، 166- 167، 169- 170، 186- 188، 202، 206، 216- 217، 224، 227، 235- 237، 239، 244، 247- 248، 252، 256، 258- 262، 264

أبو علي الأشعري: 256

أبو هريرة: 222

الإثبات بالقرائن الطبية في قضايا القضاء: 184

الإجارة: 156، 213، 219

الاجتهاد: 20، 22، 155، 157، 165، 178، 199

الإجماع: 207

الإحرام: 105، 108

الإحرام من المسجد: 204

الإحرام من المواقيت المحددة: 169- 170، 203

الأحكام الشرعية:32 – 33، 202

أحمد، أحمد: 150

أحمد بن إدريس: 15، 64

أحمد بن إسحاق: 64

أحمد بن حنبل: 222

إخلاص النية: 59- 61

الأدلة الشرعية: 212

الأدلة الظنية: 199، 208

إذن الحاكم الشرعي: 198

أرض الموات: 240

الاستحسان: 171، 208

الاستحسانات الظنية: 210

الاستدانة: 190

الاستدلال الفقهي: 212

الاستقامة: 30، 58

استمداد العون الإلهي: 55

الاستنباط: 22، 24- 25، 32، 35، 157- 158، 199، 209

الاستنساخ: 182- 183

إسحاق بن عمار: 187

إسماعيل (النبي): 107

اشتراط الفلس في السمك لحلية أكله: 252

الأشهر الحرام: 250

الأصفهاني، محمّد حسين: 213

أصول الفقه الشيعي: 208

الأضحية: 107

الإطعام: 153

أطفال الأنابيب: 154

الاعتراف بالذنب: 53

الاعتراف للخالق: 53- 54

الاعتراف للمخلوق: 53

الاعتكاف: 52، 62

الأقليات: 33

الإمام المعصوم: 129، 179

الإمضاء: 197

الأمن الاجتماعي: 35

أمور الحسبة: 193

الاندماج الروحي: 56

أنس بن مالك: 217- 218

الإنفاق: 132، 135، 137، 140- 141

إنفاق المال: 122

الإنفاق الواجب: 127

الانفتاح الفكري: 176- 177

انهيار السلطنة العثمانية: 16

أهل البيت: 238، 245، 255

أهل الكتاب: 177

الأولويات: 33

الإيمان: 67، 218، 231

أئمة أهل البيت: 74، 118، 129- 130، 211

-ب-

الباطنية: 50

الباقر، أبو جعفر محمّد (الإمام): 81، 202، 205- 206، 242

البجنوردي، حسن: 151

البخاري، محمّد بن إسماعيل: 218، 222، 239

البرقي، أحمد بن أبي عبد الله: 64

البطلان: 213

بطلان الصوم بالارتماس: 180

بطلان الصوم بالتدخين: 180

البعد الأخلاقي في الإسلام: 43

البعد الاقتصادي في الإسلام: 43

بغداد: 15

بلاد الشام: 15

البلوغ: 253- 255

بليبل، منى: 150

بنو خيبر: 218

بنو النضير: 218

بيت المال: 190، 194- 196

                                          -ت-         

تأويل النصوص الدينية: 182

التبذير: 139

التجارات: 171

تحريم التدخين: 200

تحريم الخمر: 255

تحريم الميسر: 255

تحريم النقض: 184

تحمّل المسؤولية: 54

تدرّج الأحكام القضائية: 184

التربية الإسلامية الواعية: 104

التراث الفقهي الشيعي: 27

الترمذي، محمّد بن عيسى بن سورة: 218

التزكية: 30

تزويج الصغيرة من الولي: 153

التسويف: 235- 238

التشيّع: 245

التصوّف: 44، 50

التضامن الاجتماعي: 62، 92

تعدّد المحاكم: 184

التعصّب: 86، 178

التفسير الحرفي للقرآن: 25

التقوى: 41- 42، 44، 46- 50، 62، 84

التقوى الزائفة: 51

تقوى الجسد: 50

تقوى الجوارح: 49

تقوى العرفان: 51

تقوى العقل: 49

تقوى القلب: 50

التقية: 206- 207، 253، 255

التكافل الاجتماعي: 119، 132، 140- 141

التكاليف العبادية: 30

التكفير: 99

تكليف الأنثى: 253

التلبية: 107

التلقيح الصناعي: 154

تنظيم الأسرة: 183

تنظيم الأسرة عن طريق بعض الوسائل الطبية: 154

تنظيم المجتمع: 171

التوازن الذاتي: 58

التوبة: 53، 218

التيمم: 62- 63، 65

-ث-

ثبوت الهلال بالوسائل الفلكية: 154- 155

الثواب: 125

الثورة الإسلامية في إيران (1979): 18

-ج-

جابر بن عبد الله: 86

جابر، حسن: 11

الجزية: 218، 221- 222

جميل بن دراج: 216

الجهاد: 87، 103، 215- 218، 223، 225- 226، 229

الجهاد القتالي: 215

الجواد، محمّد بن علي (الإمام): 160

جواز الإحرام للحاج الذي لم يمرّ على ميقات من مكانه: 264

جواز إعلان الفقيه الجهاد الابتدائي: 179

جواز التبعيض في التقليد: 179

جواز التعويل في معرفة ولادة الهلال على الحسابات الفلكية: 179

جواز تقليد غير الأعلم من الفقهاء: 178

جواز تقليد المجتهد المتجزىء في فتواه: 179

جواز تقليد الميت: 179

جواز نظر الرجل إلى من يريد التزوّج بها: 201

الجواهري: 176

الجويني، أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله يوسف: 15

-ح-

الحافظ بن حجر: 222

حاكمية القرآن: 24

الحجّ: 41، 44، 49، 52، 62، 93، 102- 103، 105، 108- 109، 112، 116- 117، 234- 235، 237، 248- 251، 258، 262

حجية الإجماع: 208

حجية القياس الظنّي: 210

الحدث: 62

الحر العاملي، محمّد بن الحسن بن علي: 166، 249

الحرابة: 215- 216، 218- 219

الحرمة: 253

حرمة نظر المرأة إلى عورة المرأة: 180

الحسن بن عليّ بن أبي طالب: 98

الحسين بن عليّ بن أبي طالب: 102، 132

الحسيني، محمّد طاهر: 147، 149، 150

الحضرمي، أبو بكر: 161

حفص بن غياث: 218

حقّ الفقيه والمفكّر: 170

حقّ الملكية: 190

حقوق المرأة: 171

حكم الشكّ في العبادة: 50

الحكيم، محسن (آية الله): 155، 177

الحكيم، محمّد سعيد: 179

الحلبي: 135، 169، 186، 237، 258- 259، 261، 263

حلف الفضول: 173

الحلّي، حسين: 151

حمّاد بن عثمان: 206

حمية، خنجر: 149

حمية، سهام: 150

الحنابلة: 215

الحنفية: 215

الحوزات العلمية: 15

-خ-

الخراج: 209

الخشن، حسين: 149

الخشية من تضييع الأهداف: 96

الخضوع: 218- 219

الخمس: 62، 93، 123، 127، 129- 130

الخميني، آية الله الموسوي (الإمام): 177

الخونساري، محمّد تقي: 178

الخوئي، أبو القاسم الموسوي (الإمام): 151، 153، 166- 167، 179، 189، 213- 214، 227- 228، 234، 240، 242، 250، 258- 259

-د-

دخول السلاجقة إلى بغداد (447 هـ/1055 م): 14

دخول المعصوم في المجمعين: 207

الدعاء: 44، 52- 54، 89، 95- 96، 104

الدعاء الاجتماعي: 95

دعاء الإمام زين العابدين: 55

دعاء شهر رمضان: 57

دعاء الصحيفة السجادية: 57

دعاء ليلة الجمعة: 56

دعاء مكارم الأخلاق: 56

الدعاوى: 193

الدعاوى الحسبية: 193

دليل الإمضاء: 196

دليل السيرة: 194

دور علم الفلك في إثبات أول الشهور: 185

الدولة: 194- 196

الديمقراطية: 33

-ر-

الربا: 197

الربوبية: 39، 105

الرجم: 107

الرضا، أبو الحسن علي بن موسى (الإمام): 70، 113، 160، 174، 188، 205، 248

رمي الجمرات: 168

الرميثي، عباس: 151

الرهبانية: 45

الروحاني، محمّد صادق: 151

روحية العطاء: 56

الرؤية التوحيدية: 215

الرياء: 138

الريسوني: 19

-ز-

زرارة بن أعين: 174، 252، 253

زرع الأعضاء: 183

الزرقاء، مصطفى: 192- 194

الزكاة: 41، 62، 93، 123، 127- 128، 130، 135، 155، 222، 244، 251

الزمان الصائم: 88

زواج أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن: 205، 215

زيارة مقامات المعصومين والأولياء: 52، 103

زيد بن ثابت: 79

زيد الشحام: 236، 256

الزيدية: 241

زين الدين الجبعي: 174، 176

زين العابدين بن علي: 101

-س-

سعدان: 64

السعي: 106، 109

سعيد الأعرج: 167

السكوني، إسماعيل بن أبي زياد: 239

السلاجقة: 14- 15

سماعة: 187

سمرة بن جندب: 218

السنّة: 129، 183، 196، 208

-ش-

الشاخوري، جعفر: 149

الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى: 15، 19

الشافعي، أبو عبد الله محمد بن إدريس: 215

الشخصية المعنوية في القانون: 185، 196

شرط الإيمان في القاضي: 171

شرط الذكورة في القاضي: 171

شرطية الطهارة في الصلاة والطواف: 214

الشريعة: 181، 190

شهر رمضان: 88- 90، 95- 98، 101- 102

شمولية الإسلام: 42- 43

شمولية العبادة: 44

الشورى: 33

الشيعة: 129، 177، 183، 207، 215، 249

الشيعة الإمامية: 246- 247

-ص-

الصبر: 75- 78، 93- 94، 231- 232

الصحوة الإسلامية: 18

الصدر، محمد باقر: 150، 152- 154، 163- 164، 176، 179، 189

الصدر، موسى: 154

الصدقة: 123، 126، 128، 135، 141، 191

صدقة السرّ: 133- 134

الصدقة الظاهرة: 134

الصدقة المستحبة: 131

الصراع بين الخير والشر: 55

صفوان الجمال: 87، 256

الصلاة: 31، 41، 44، 49، 52، 62- 63، 66- 80، 83-84، 89، 102، 106، 214، 251

صلاة الجماعة: 78- 80

صلاة الخوف: 81

صلاة الفرادى: 80

صلاة الليل: 83

صلاة المسافر: 81

صلاة المنحرفين: 74

الصوم: 31، 41، 44، 49، 52، 62- 63، 77، 84- 85، 87- 89، 91- 95، 97- 101، 105، 124، 159- 160، 188، 202- 203، 251

الصوم الاجتماعي: 86

صوم رمضان: 159

الصوم الروحي: 86

الصوم السياسي: 86- 87

الصوم القرآني: 251

صوم القضاء: 159

صوم الكفارة: 159

الصوم المادي: 85- 86

الصوم المستحبّ: 159

-ط-

الطاعة: 107- 108

الطاهر بن عاشور: 16

الطبري، أبو جعفر محمّد بن جرير: 79

الطريقة الحرفية في فهم القرآن: 24

الطلاق: 173- 175، 247

الطلاق بالكتابة: 173- 175، 177

الطهارة: 41، 62- 63، 65- 66، 157، 171، 214

طهارة الإنسان مطلقاً: 179

طهارة الخمر: 179

الطواف: 31، 63، 106، 109، 111، 214

الطوسي، أبو جعفر محمّد بن الحسن: 174- 175، 177، 247، 249

-ظ-

الظنيات: 32

-ع-

العام والخاص: 204- 205

العبادات: 31، 33، 37، 40- 42، 44- 46، 48- 50، 52، 59، 61- 63، 70، 88، 97، 105، 116، 142، 165، 171

العبادات المشتركة: 62

عبادة الأصنام: 103

عبد الأعلى: 256

عبد الله بن أبي يعفور: 246

عبد الله بن سنان: 163، 187- 188، 261

عبد الله بن عطاء: 262

عدم إنشاء العقدة في الكتابة: 172

عدم الحجية: 210

العرف: 161، 215

العرفان: 50- 52

العزّ بن عبد السلام: 15

عسقلان: 14

العسكري، أبو محمّد الحسن بن علي: 160، 205

العصبيات: 34

العصبية الرحمية: 34

عصر غيبة الإمام: 185

العصرنة: 181

العطاء: 118، 120، 124

عطوي، محسن: 37

عقدة القياس: 28

العقوبات: 35

عقوبات الحدود: 193

العلاقة الزوجية: 246

علم الأصول: 16

علم الفقه: 16

علم الفلك: 185

علم الكلام: 26

علم المقاصد الكلّية للشرع: 13، 15- 18، 26- 27، 30- 31

العلواني، طه جابر: 19

عليّ بن أبي حمزة: 170، 236- 237

عليّ بن أبي طالب (الإمام): 70، 77، 131، 228

عليّ بن جعفر: 188، 248، 261، 263

عليّ بن الحسين السعد آبادي: 64

عمر بن الخطاب:244

عمر بن الربيع البصري: 187

عمر بن يزيد: 162، 166

العهد السلجوقي: 16

العهد المغولي: 16

عيد الفطر: 100- 101

-غ-

الغزالي، أبو حامد محمّد بن محمد: 15

الغسل: 62- 65، 179، 183، 202

الغنائم: 130

غيبوبة الذات عن الواقع: 44

-ف-

الفاضل السبزواري: 174، 176

فاضل المؤونة: 127

فاطمة الزهراء (بنت الرسول): 72

الفراغ التشريعي: 35

الفرائض الخمس: 102

الفرائض العبادية: 52، 70، 72، 102

فضل الله، جعفر: 150

فضل الله، علي: 149

الفضل بن شاذان: 113، 188

فضل قيام الليل: 83- 84

الفضيلبن عثمان: 187، 189

الفضيل بن يسار: 262

الفقه الإسلامي: 155، 158، 212، 238

فقه أهل البيت: 193، 199، 212

فقه الجهاد والدفاع: 33

فقه السلطة: 33

الفقه الشيعي: 33، 206، 241

فقه المال: 33

فقه المآلات: 33

فقه المواطنة: 33

الفكر الديني: 18

فكرة "منطقة الفراغ": 198

الفلسفة اليونانية: 51

الفلسفة الهندية: 51

الفهم العرفي: 165

فهم النص: 165

الفيض الكاشاني، محمد محسن: 174، 176

-ق-

القاسم بن عروة: 188

قاعدة الإلزام: 245

قاعدة التزاحم: 183

قاعدة حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه: 239- 240

قاعدة اللطف: 207

قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع: 208

قاعدة مناسبات الحكم والموضوع: 212

القاضي، عادل: 150

قبيسي، محمّد أديب: 149- 150

القدر المتيقن: 185

القدس الشريف: 14

القراءات الحرفية: 227، 233

قراءة القرآن خلال شهر رمضان: 95

القرافي، شهاب الدين: 15، 30

القصاص: 35

قصر الصلاة: 80- 82

القضاء الإسلامي: 185

قضاء التحكيم: 184

قضاء المرأة: 171، 184

قطز: 14

القمع الفكري: 176

قوم المعصوم: 207

القياس: 32، 171، 208، 211

-ك-

الكابلي: 239

الكاظم، موسى بن جعفر (الإمام): 87، 202

الكتابة: 172، 175

الكراهة: 253

الكعبة الشريفة: 109- 110، 249

الكفارة: 167، 258- 259

الكفر: 215، 217- 221، 223، 226، 244

الكلبيكاني، جمال:178

الكليني: 264

-ل-

ليلة القدر: 90، 94، 102

-م-

المالكية: 215

المأمون (الخليفة): 188

مبدأ المعاملة بالمثل: 220

المجتهدون القاصرون: 22

محاربة الكسل: 57

المحقّق الكركي، نور الدين علي بن الحسين بن عبد العالي: 209

محمّد بن حمران: 216

محمّد بن سنان: 64، 248

محمّد بن عبد الجبار: 256

محمّد بن مسلم: 162، 166، 186، 206، 238، 252- 253، 256

محمّد بن موسى بن المتوكل: 64

محمّد بن يحيى: 64

المدرسة الشيعية الإمامية: 154

مدرسة النجف الأشرف العلمية: 151، 199

المذهب الإمامي: 28، 31، 99

المذهب الشيعي: 14- 15، 72

المذهب المالكي: 39

المرتد الفطري: 168- 169

المرتضى، علي بن الحسين: 228

المرجعية القرآنية: 253، 255

المروزي، سليمان بن حفص: 166- 167

المساجد: 78، 102، 190

مسألة إرث الزوجة من العقار: 246

مسألة اشتراط إذن الإمام في إحياء الأراضي في تملكها أو الأحقيّة بها: 238

مسألة التعاطي مع غير المسلمين: 157

مسألة حرمة الغناء: 255- 257

مسألة الخلع: 247

مسألة سلطة الرجل على المرأة: 246

مسألة طلاق المرأة التي يغيب عنها زوجها: 246

مسألة عدم جواز الفرار من المعركة إذا كان العدّو على الضعف أو أقلّ: 227

مسألة وجوب دفع الجاهل الكفارة: 258

مسعدة بن صدقة: 217، 227

مسلم بن الحجاج: 222، 242

مسؤولية المال: 118- 121

المشهور: 23، 160- 162، 164، 168، 174- 178، 180، 234- 235، 262

مصارف الزكاة: 127

المصالح المرسلة: 183، 208

المصالح والمفاسد: 27

المصداق: 232

المطلق والمقيد: 203- 204

المعابد: 197

المعاملات: 31- 33، 165، 197، 213

المعاملات العرفية: 156

معاوية بن عمار: 235، 259- 260، 262- 264

معركة بدر: 131

معركة عين جالوت: 14

المعصية: 99، 102

المغول: 14

المفضل بن عمر: 64

المفطرات: 251- 252

مفهوم الشركة: 191، 196- 197

المقاصد الجزئية: 30- 31، 33

المقاصد الكلية: 30- 31، 33

مكارم الأخلاق: 57

ملكية الإمام: 191

المماليك: 14

مناسك الحجّ: 31، 103، 105، 107، 109، 117

منصور بن حازم: 186

منع الحمل: 183

المنهج التوحيدي في قراءة النصوص: 234

المنهج الفقهي: 147، 151، 200، 212

المنهج الموضوعي: 25

المهدي (الإمام) (عج): 13

مواجهة العقد: 56

مواقيت الإحرام للحجّ: 260

الموسوي، شفيق: 150

موسى بن جعفر: 188، 248، 261

الميقات بالنذر: 169

ميقات الجحفة: 161- 162، 170

ميقات الشجرة: 161

-ن-

النائيني، محمد حسين: 178

النجاسة: 157، 177، 179

النجف الأشرف: 152، 155

النجفي، محمّد حسن (آية الله): 209، 239

النذر: 159، 170

النزعة العرفية في فهم النصوص الشرعية: 212

النسائي، أحمد بن شعيب بن علي: 79

نظام الإمامة في الصلاة: 80

النعمان، محمّد بن محمّد (الشيخ المفيد): 177

النعماني: 228

النقد العلمي: 178

النوفلي: 239

نيقيه: 14

-ه-

هارون بن حمزة: 174، 187

هارون الرشيد (الخليفة): 87

الهداية: 30

هشام بن الحكم: 113

هشام بن سالم: 247

-و-

الواقعية: 152

الواقفية: 241

وجوب الحجّ مرة أو أكثر: 247

الوصية: 172، 183

الوصية المكتوبة: 172

الوضوء: 62- 65، 202

الوقف: 190، 194- 197

الوقوف بالمشاعر: 106

ولاية الفقيه: 198

-ي-

اليزدي، كاظم: 213

اليقينيات: 32

يوم المعاد: 46







[1])) أنظر العلواني، طه جابر، مقاصد الشريعة، دار الهادي، ط1، بيروت2001.

([2]) جابر، حسن محمد، المقاصد الكلية للشرع والاجتهاد المعاصر، دار الحوار، ط1، بيروت 2001.

([3]) فضل الله، السيِّد محمد حسين، الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت 2009، ص 82.

(([4] فضل الله، السيد محمد حسين، ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق، دار الملاك، ج10، بيروت 2002م، ص 22.

(([5] (م.ن).

(([6] (م.ن).

([7]) فضل الله، السيد محمد حسين، الاجتهاد المقاصدي، قضايا معاصرة، دار الهادي، بيروت 2008، ص51.

([8]) فضل الله، الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل، (م.س، ص88).

([9]) (م.ن).

([10]) (م.ن).

(([11] فضل الله، الاجتهاد المقاصدي، قضايا إسلامية معاصرة، (م.س)، ص 51.

([12]) فضل الله، الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل...(م.س)، ص 90-91.

(([13] (م.ن).

([14]) فضل الله، الاجتهاد المقاصدي، قضايا إسلامية معاصرة، (م.س)، ص 49.

([15]) فضل الله، الاجتهاد بين أسر الماضي..(م.س)، ص 219.

(([16] (م.ن)..

(([17] (م.ن)..

([18]) (م.س)، ص 82.

(([19] المبنى الكلامي: أي "علم الكلام".

(([20] فضل الله، الاجتهاد بين أسر الماضي.. (م.س)، ص 82.

([21]) (م.ن).

(([22] (م.ن).

([23]) (م.س)، ص 209.

([24]) (م.ن).

([25]) (م.س)، ص 275.

([26]) (م.ن)..

(([27] (م.س)، ص 213.

([28]) (م.ن)..

(([29] سورة المائدة، الآية1.

(([30] سورة المائدة، الآية1.

([31]) أي تتوقف معرفة عللها على الشارع وحده.

(([32] وردت كلمة التزكية أكثر من عشرين مرّةً في القرآن الكريم. راجع سورتي الشمس والأعلى.

([33]) {ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} سورة البقرة، الآية1و2، وردت كلمة هداية ومشتقاتها عشرات المرّات في القرآن الكريم.

(([34] {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} سورة التكوير، الآية 28 و29.

(([35] سورة البقرة، الآية 183.

([36]) وردت كلمة تقوى ومشتقاتها عشرات المرّات في الكتاب العزيز.

([37]) فضل الله، الندوة، سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق، (م.س)، ص 614.

([38]) (م.ن).

([39]) (م.س)، ص20.

([40]) فضل الله، الاجتهاد بين أسر الماضي... (م.س)، ص 277.

([41]) (م.ن)..

([42]) سورة المائدة، الآية8.

(([43] سورة النساء، الآية 135.

(([44] سورة الأنعام، الآية 152.

(([45] فضل الله: الاجتهاد بين أسر الماضي...(م.س)، ص 276.

([46]) سورة البقرة، الآية 178.

(([47] فضل الله، الاجتهاد بين أسر الماضي..(م.س)، 87.

([48]) فضل الله، الاجتهاد المقاصدي، قضايا إسلامية...(م.س)، 57.

([49]) (م.ن).

    ([50]) بيضون، لبيب، تصنيف نهج البلاغة، قم-1417هـ، ص 66.

    ([51]) مصدر سابق، ص: 74.

    ([52]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج17، ص: 76، مؤسسة آل البيت، قم، 1414هـ.

    ([53]) الريشهري، ميزان الحكمة، ج3، الباب: 2494، ص: 1799، ط1، دار الحديث، 1416هـ.

    ([54]) م.ن.، الباب: 2497، ص: 1801,

    ([55]) م.ن.، ص: 1802.

    ([56]) المحدث النوري، مستدرك الوسائل، ج11، ص: 183، ط2، مؤسسة آل البيت، بيروت، 1988,

    ([57]) الريشهري، ميزان الحكمة، ج4، ص: 3411.

    ([58]) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج1، ص: 34، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1983.

    (1) الحرّ العاملي، محمَّد بن الحسن، وسائل الشيعة، باب 8، استحباب تجديد الوضوء لغير حدث لكلّ صلاة، وخصوصاً المغرب والعشاء والصبح، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط6، 1412هـ/1991م، رواية8، ص:265.نقلاً عن كتاب "من وحي القرآن"، آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله، ج8، ص: 65-67.

    (2) م.ن.، ج1، رواية 3: 264، نقلاً عن من وحي القرآن، ج8: 67.

    (3) (م.ن)، رواية 7: 264، نقلاً من وحي القرآن، ج8: 67.

    (1) الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، جواز التيمم بالتراب والحجر وجميع أجزاء الأرض دون المعادن ونحوها، ج2، باب7، رواية2، ص:970، نقلاً عن من وحي القرآن، ج8: 68.

    ([59]) نقلاً عن: تفسير الميزان، ج1، ص:41ـ42.

    ([60]) المحدث النوري، مستدرك الوسائل، ج4، ص: 158، حديث: 4365/5.

    ([61]) المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص: 107، مؤسسة الوفاء، بيروت، ط2، 1983.

    ([62]) النوري، مستدرك الوسائل، ج4، ص: 114، مؤسسة أهل البيت، بيروت.

    ([63]) الكليني، الكافي، ج2، ص: 106، باب الصدق وأداء الأمانة، الحديث 12.

    ([64]) المجلسي، محمَّد باقر، بحار الأنوار، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1412هـ ـ 1992م، م28، ج79، باب62، رواية22، ص:539.

    ([65]) مجمع البيان، ج1، ص:217.

    ([66]) الطباطبائي، محمَّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، ط1، 1411هـ ـ 1991م، ج1، ص:153.

    ([67]) السيوطي، الدر المنثور، ج 1، ص: 270، دار المعرفة، بيروت.

    ([68]) الطبرسي، مجمع البيان، ج 2، ص: 599، ص: 599.

    ([69]) المجلسي، بحار الأنوار، ج85، ص: 14، باب فضل الجماعة وعللها، الحديث: 26، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1983.

    ([70]) البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج7، ص: 20، الحديث: 5953، مطبعة مهر أستوار، بدون تاريخ.

    (1) صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، ج5، ص:196.

    (2) وسائل الشيعة، م7، باب1، رواية4، ص:124.

    (3) (م.ن)، م7، باب1، رواية5، ص:124،.

    ([71]) الريشهري، ميزان الحكمة، ج2، ص: 1654، دار الحديث، ط1، 1416هـ.

    ([72]) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج1، ص: 53، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

    ([73]) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج7، ص: 209، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

    ([74]) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج7، ص: 117، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

    ([75]) م.ن.، ج12، ص: 132.

    ([76]) الكليني، الكافي، ج2، ص: 88.

    ([77]) القطب الراوندي، الدعوات، ص: 76

    ([78]) الصدوق، علل الشرائع، ج2، ص: 378، منشورات المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1966.

    ([79]) الشريف الرضي، نهج البلاغة، ج4، ص: 100، دار الذخائر، قم، 14125هـ، (تحقيق الشيخ محمد عبده).

    ([80]) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج5، ص: 140، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

    ([81]) الصدوق، علل الشرائع، ج2، ص: 405.

    ([82]) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج11، ص: 13، طبعة مؤسسة آل البيت، قم، 1414.

    ([83]) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج8، ص: 41، (مؤسسة آل البيت).

    ([84]) تفسير العياشي، ج1، ص: 100، المكتبة العلمية، طهران.

    ([85]) الصفار، بصائر الدرجات، ص: 291، منشورات الأعلمي، طهران، 1404هـ.

([86]) انظر: العسكري، السيد مرتضى، معالم المدرستين، ج2، ص: 167 وبعدها.

([87]) مجمع البيان، ج2، ص: 792. (نقلاً عن «من وحي القرآن»، ج6، ص: 149).

    ([88]) الفيض الكاشاني، التفسير الصافي، ج1، ص: 355، ط2، مكتبة الصدر، طهران، 1416هـ.

    ([89]) البحار، م26، ج71، باب2، رواية 25، ص: 42. (نقلا عن «من وحي القرآن»، ج6، ص: 151).

([90]) الكافي، الكليني، ج3، رواية9، ص: 499. (نقلاً عن «من وحي القرآن»، ج5، ص: 113).

([91]) م. ن، ج3، رواية17، ص: 502.